- القرآن الكريم
- سور القرآن الكريم
- 1- سورة الفاتحة
- 2- سورة البقرة
- 3- سورة آل عمران
- 4- سورة النساء
- 5- سورة المائدة
- 6- سورة الأنعام
- 7- سورة الأعراف
- 8- سورة الأنفال
- 9- سورة التوبة
- 10- سورة يونس
- 11- سورة هود
- 12- سورة يوسف
- 13- سورة الرعد
- 14- سورة إبراهيم
- 15- سورة الحجر
- 16- سورة النحل
- 17- سورة الإسراء
- 18- سورة الكهف
- 19- سورة مريم
- 20- سورة طه
- 21- سورة الأنبياء
- 22- سورة الحج
- 23- سورة المؤمنون
- 24- سورة النور
- 25- سورة الفرقان
- 26- سورة الشعراء
- 27- سورة النمل
- 28- سورة القصص
- 29- سورة العنكبوت
- 30- سورة الروم
- 31- سورة لقمان
- 32- سورة السجدة
- 33- سورة الأحزاب
- 34- سورة سبأ
- 35- سورة فاطر
- 36- سورة يس
- 37- سورة الصافات
- 38- سورة ص
- 39- سورة الزمر
- 40- سورة غافر
- 41- سورة فصلت
- 42- سورة الشورى
- 43- سورة الزخرف
- 44- سورة الدخان
- 45- سورة الجاثية
- 46- سورة الأحقاف
- 47- سورة محمد
- 48- سورة الفتح
- 49- سورة الحجرات
- 50- سورة ق
- 51- سورة الذاريات
- 52- سورة الطور
- 53- سورة النجم
- 54- سورة القمر
- 55- سورة الرحمن
- 56- سورة الواقعة
- 57- سورة الحديد
- 58- سورة المجادلة
- 59- سورة الحشر
- 60- سورة الممتحنة
- 61- سورة الصف
- 62- سورة الجمعة
- 63- سورة المنافقون
- 64- سورة التغابن
- 65- سورة الطلاق
- 66- سورة التحريم
- 67- سورة الملك
- 68- سورة القلم
- 69- سورة الحاقة
- 70- سورة المعارج
- 71- سورة نوح
- 72- سورة الجن
- 73- سورة المزمل
- 74- سورة المدثر
- 75- سورة القيامة
- 76- سورة الإنسان
- 77- سورة المرسلات
- 78- سورة النبأ
- 79- سورة النازعات
- 80- سورة عبس
- 81- سورة التكوير
- 82- سورة الانفطار
- 83- سورة المطففين
- 84- سورة الانشقاق
- 85- سورة البروج
- 86- سورة الطارق
- 87- سورة الأعلى
- 88- سورة الغاشية
- 89- سورة الفجر
- 90- سورة البلد
- 91- سورة الشمس
- 92- سورة الليل
- 93- سورة الضحى
- 94- سورة الشرح
- 95- سورة التين
- 96- سورة العلق
- 97- سورة القدر
- 98- سورة البينة
- 99- سورة الزلزلة
- 100- سورة العاديات
- 101- سورة القارعة
- 102- سورة التكاثر
- 103- سورة العصر
- 104- سورة الهمزة
- 105- سورة الفيل
- 106- سورة قريش
- 107- سورة الماعون
- 108- سورة الكوثر
- 109- سورة الكافرون
- 110- سورة النصر
- 111- سورة المسد
- 112- سورة الإخلاص
- 113- سورة الفلق
- 114- سورة الناس
- سور القرآن الكريم
- تفسير القرآن الكريم
- تصنيف القرآن الكريم
- آيات العقيدة
- آيات الشريعة
- آيات القوانين والتشريع
- آيات المفاهيم الأخلاقية
- آيات الآفاق والأنفس
- آيات الأنبياء والرسل
- آيات الانبياء والرسل عليهم الصلاة السلام
- سيدنا آدم عليه السلام
- سيدنا إدريس عليه السلام
- سيدنا نوح عليه السلام
- سيدنا هود عليه السلام
- سيدنا صالح عليه السلام
- سيدنا إبراهيم عليه السلام
- سيدنا إسماعيل عليه السلام
- سيدنا إسحاق عليه السلام
- سيدنا لوط عليه السلام
- سيدنا يعقوب عليه السلام
- سيدنا يوسف عليه السلام
- سيدنا شعيب عليه السلام
- سيدنا موسى عليه السلام
- بنو إسرائيل
- سيدنا هارون عليه السلام
- سيدنا داود عليه السلام
- سيدنا سليمان عليه السلام
- سيدنا أيوب عليه السلام
- سيدنا يونس عليه السلام
- سيدنا إلياس عليه السلام
- سيدنا اليسع عليه السلام
- سيدنا ذي الكفل عليه السلام
- سيدنا لقمان عليه السلام
- سيدنا زكريا عليه السلام
- سيدنا يحي عليه السلام
- سيدنا عيسى عليه السلام
- أهل الكتاب اليهود النصارى
- الصابئون والمجوس
- الاتعاظ بالسابقين
- النظر في عاقبة الماضين
- السيدة مريم عليها السلام ملحق
- آيات الناس وصفاتهم
- أنواع الناس
- صفات الإنسان
- صفات الأبراروجزائهم
- صفات الأثمين وجزائهم
- صفات الأشقى وجزائه
- صفات أعداء الرسل عليهم السلام
- صفات الأعراب
- صفات أصحاب الجحيم وجزائهم
- صفات أصحاب الجنة وحياتهم فيها
- صفات أصحاب الشمال وجزائهم
- صفات أصحاب النار وجزائهم
- صفات أصحاب اليمين وجزائهم
- صفات أولياءالشيطان وجزائهم
- صفات أولياء الله وجزائهم
- صفات أولي الألباب وجزائهم
- صفات الجاحدين وجزائهم
- صفات حزب الشيطان وجزائهم
- صفات حزب الله تعالى وجزائهم
- صفات الخائفين من الله ومن عذابه وجزائهم
- صفات الخائنين في الحرب وجزائهم
- صفات الخائنين في الغنيمة وجزائهم
- صفات الخائنين للعهود وجزائهم
- صفات الخائنين للناس وجزائهم
- صفات الخاسرين وجزائهم
- صفات الخاشعين وجزائهم
- صفات الخاشين الله تعالى وجزائهم
- صفات الخاضعين لله تعالى وجزائهم
- صفات الذاكرين الله تعالى وجزائهم
- صفات الذين يتبعون أهواءهم وجزائهم
- صفات الذين يريدون الحياة الدنيا وجزائهم
- صفات الذين يحبهم الله تعالى
- صفات الذين لايحبهم الله تعالى
- صفات الذين يشترون بآيات الله وبعهده
- صفات الذين يصدون عن سبيل الله تعالى وجزائهم
- صفات الذين يعملون السيئات وجزائهم
- صفات الذين لايفلحون
- صفات الذين يهديهم الله تعالى
- صفات الذين لا يهديهم الله تعالى
- صفات الراشدين وجزائهم
- صفات الرسل عليهم السلام
- صفات الشاكرين وجزائهم
- صفات الشهداء وجزائهم وحياتهم عند ربهم
- صفات الصالحين وجزائهم
- صفات الصائمين وجزائهم
- صفات الصابرين وجزائهم
- صفات الصادقين وجزائهم
- صفات الصدِّقين وجزائهم
- صفات الضالين وجزائهم
- صفات المُضَّلّين وجزائهم
- صفات المُضِلّين. وجزائهم
- صفات الطاغين وجزائهم
- صفات الظالمين وجزائهم
- صفات العابدين وجزائهم
- صفات عباد الرحمن وجزائهم
- صفات الغافلين وجزائهم
- صفات الغاوين وجزائهم
- صفات الفائزين وجزائهم
- صفات الفارّين من القتال وجزائهم
- صفات الفاسقين وجزائهم
- صفات الفجار وجزائهم
- صفات الفخورين وجزائهم
- صفات القانتين وجزائهم
- صفات الكاذبين وجزائهم
- صفات المكذِّبين وجزائهم
- صفات الكافرين وجزائهم
- صفات اللامزين والهامزين وجزائهم
- صفات المؤمنين بالأديان السماوية وجزائهم
- صفات المبطلين وجزائهم
- صفات المتذكرين وجزائهم
- صفات المترفين وجزائهم
- صفات المتصدقين وجزائهم
- صفات المتقين وجزائهم
- صفات المتكبرين وجزائهم
- صفات المتوكلين على الله وجزائهم
- صفات المرتدين وجزائهم
- صفات المجاهدين في سبيل الله وجزائهم
- صفات المجرمين وجزائهم
- صفات المحسنين وجزائهم
- صفات المخبتين وجزائهم
- صفات المختلفين والمتفرقين من أهل الكتاب وجزائهم
- صفات المُخلَصين وجزائهم
- صفات المستقيمين وجزائهم
- صفات المستكبرين وجزائهم
- صفات المستهزئين بآيات الله وجزائهم
- صفات المستهزئين بالدين وجزائهم
- صفات المسرفين وجزائهم
- صفات المسلمين وجزائهم
- صفات المشركين وجزائهم
- صفات المصَدِّقين وجزائهم
- صفات المصلحين وجزائهم
- صفات المصلين وجزائهم
- صفات المضعفين وجزائهم
- صفات المطففين للكيل والميزان وجزائهم
- صفات المعتدين وجزائهم
- صفات المعتدين على الكعبة وجزائهم
- صفات المعرضين وجزائهم
- صفات المغضوب عليهم وجزائهم
- صفات المُفترين وجزائهم
- صفات المفسدين إجتماعياَ وجزائهم
- صفات المفسدين دينيًا وجزائهم
- صفات المفلحين وجزائهم
- صفات المقاتلين في سبيل الله وجزائهم
- صفات المقربين الى الله تعالى وجزائهم
- صفات المقسطين وجزائهم
- صفات المقلدين وجزائهم
- صفات الملحدين وجزائهم
- صفات الملحدين في آياته
- صفات الملعونين وجزائهم
- صفات المنافقين ومثلهم ومواقفهم وجزائهم
- صفات المهتدين وجزائهم
- صفات ناقضي العهود وجزائهم
- صفات النصارى
- صفات اليهود و النصارى
- آيات الرسول محمد (ص) والقرآن الكريم
- آيات المحاورات المختلفة - الأمثال - التشبيهات والمقارنة بين الأضداد
- نهج البلاغة
- تصنيف نهج البلاغة
- دراسات حول نهج البلاغة
- الصحيفة السجادية
- تصنيف الصحيفة السجادية
- تصنيف الصحيفة بالموضوعات
- الباب السابع : باب الاخلاق
- الباب الثامن : باب الطاعات
- الباب التاسع: باب الذكر والدعاء
- الباب العاشر: باب السياسة
- الباب الحادي عشر:باب الإقتصاد
- الباب الثاني عشر: باب الإنسان
- الباب الثالث عشر: باب الكون
- الباب الرابع عشر: باب الإجتماع
- الباب الخامس عشر: باب العلم
- الباب السادس عشر: باب الزمن
- الباب السابع عشر: باب التاريخ
- الباب الثامن عشر: باب الصحة
- الباب التاسع عشر: باب العسكرية
- الباب الاول : باب التوحيد
- الباب الثاني : باب النبوة
- الباب الثالث : باب الإمامة
- الباب الرابع : باب المعاد
- الباب الخامس: باب الإسلام
- الباب السادس : باب الملائكة
- تصنيف الصحيفة بالموضوعات
- أسماء الله الحسنى
- أعلام الهداية
- النبي محمد (صلى الله عليه وآله)
- الإمام علي بن أبي طالب (عليه السَّلام)
- السيدة فاطمة الزهراء (عليها السَّلام)
- الإمام الحسن بن علي (عليه السَّلام)
- الإمام الحسين بن علي (عليه السَّلام)
- لإمام علي بن الحسين (عليه السَّلام)
- الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السَّلام)
- الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السَّلام)
- الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السَّلام)
- الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السَّلام)
- الإمام محمد بن علي الجواد (عليه السَّلام)
- الإمام علي بن محمد الهادي (عليه السَّلام)
- الإمام الحسن بن علي العسكري (عليه السَّلام)
- الإمام محمد بن الحسن المهدي (عجَّل الله فرَجَه)
- تاريخ وسيرة
- "تحميل كتب بصيغة "بي دي أف
- تحميل كتب حول الأخلاق
- تحميل كتب حول الشيعة
- تحميل كتب حول الثقافة
- تحميل كتب الشهيد آية الله مطهري
- تحميل كتب التصنيف
- تحميل كتب التفسير
- تحميل كتب حول نهج البلاغة
- تحميل كتب حول الأسرة
- تحميل الصحيفة السجادية وتصنيفه
- تحميل كتب حول العقيدة
- قصص الأنبياء ، وقصص تربويَّة
- تحميل كتب السيرة النبوية والأئمة عليهم السلام
- تحميل كتب غلم الفقه والحديث
- تحميل كتب الوهابية وابن تيمية
- تحميل كتب حول التاريخ الإسلامي
- تحميل كتب أدب الطف
- تحميل كتب المجالس الحسينية
- تحميل كتب الركب الحسيني
- تحميل كتب دراسات وعلوم فرآنية
- تحميل كتب متنوعة
- تحميل كتب حول اليهود واليهودية والصهيونية
- المحقق جعفر السبحاني
- تحميل كتب اللغة العربية
- الفرقان في تفسير القرآن -الدكتور محمد الصادقي
- وقعة الجمل صفين والنهروان
الجزء
السابع عشرباب
المختار من الخطب والأوامر - ابن ابي الحديد
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
من كتاب له إلى بعض عماله
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
أما بعد فإنك ممن أستظهر به على إقامة الدين، وأقمع به نخوة الأثيم، وأسد به
لهاة الثغر المخوف.
قوله:
وآس بينهم في اللحظة، أي اجعلهم أسوة، وروي: "وساو بينهم في اللحظة"؛
والمعنى واحد. والضغث في الأصل:
قبضة حشيش مختلط يابسها بشيء من الرطب، ومنه"
أضغاث الأحلام" للرؤيا المختلطة التي لايصح تأويلها، فاستعار اللفظة
ههنا، والمراد: امزج الشدة بشيء من اللين فاجعلهما كالضغث، وقال تعالى: "وخذ بيدك ضغثاً" . قوله:" فاعتزم بالشدة" أي إذا جد بك
الجد فدع اللين، فإن في حال الشدة لا تغني إلا الشدة، قال الفند الزماني:
قوله:"
حتى لا يطمع العظماء في حيفك"، أي حتى لا يطمع العظماء في أن تمالئهم على
حيف الضعفاء، وقد تقدم مثل هذا فيما سبق. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن وصية له رضي الله عنه للحسن والحسين رضي الله
عنهما لما ضربه ابن ملجم لعنه الله
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: أوصيكما
بتقوى الله، وألا تبغيا الدنيا وإن بغتكما، ولا تأسفا على شيء منها زوي عنكما،
وقولا بالحق، واعملا للأجر، وكونا للظالم خصماً، وللمظلوم عوناً. وعليكم
بالتواصل والتباذل؛ وإياكم والتدابر والتقاطع، لا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر؛ فيولى عليكم أشراركم، ثم تدعون فلا يستجاب لكم.
وذات
ههنا زائدة مقحمة. وحكى أبو علي في التكملة: كميء وأكماء، ولا يسمى
الصبي يتيماً إلا إذا كان دون البلوع وإذا بلغ زال اسم اليتيم عنه. واليتامى
أحد الأصناف الذين عينوا في الخمس بنص الكتاب العزيز. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
بعض ما ورد في حقوق الجار
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ثم
أوصى بالجيران، واللفظ الذي ذكره رضي الله عنه قد
ورد مرفوعاً في رواية عبد الله بن عمر لما ذبح
شاة، فقال: أهديتم لجارنا اليهودي؟ فإني سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"ما زال جبرائيل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه
سيورثه"، وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: "من
كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره "، وعنه رضي الله عنه:
جار السوء في دار المقامة قاصمة
الظهر، وعنه رضي الله عنه: من جهد البلاء جار سوء معك في دار
مقامة إن رأى حسنة دفنها، وإن رأى سيئة أذاعها وأفشاها.
وقال الأصمعي:
جاور أهل الشام الروم فأخذوا
عنهم خصلتين: اللؤم وقلة الغيرة، وجاور أهل
البصرة الخزر، فأخذوا عنهم خصلتين: الزنا وقلة الوفاء، وجاور أهل
الكوفة السواد، فأخذوا عنهم خصلتين: السخاء والغيرة. فبلغ ذلك سعيداً فبعث
إليه مائة ألف درهم، وقال: هذا ثمن دارك، ودارك لك.
ثم
تعلم منه أبو دواد، وكان يفعل لجاره فعل كعب به.
استعرض أبو مسلم صاحب الدولة فرساً محضيراً، فقال
لأصحابه: لماذا يصلح هذا؟ فذكروا سباق الخيل، وصيد الحمر والنعام، واتباع
الفار من الحرب، فقال: لم تصنعوا شيئاً يصلح للفرار من
الجار السوء.
وفي الحديث المرفوع أيضاً من رواية جابر: "الجيران ثلاثة: فجار له حق،
وجار له حقان، وجار له ثلاثة حقوق، فصاحب الحق الواحد جار مشرك لا رحم له، فحقه
حق الجوار، وصاحب الحقين جار مسلم لا رحم له، وصاحب الثلاثة جار مسلم ذو رحم،
وأدنى حق الجوار ألا تؤذي جارك بقتار قدرك، إلا أن تقتدح له منها". |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وكتب إلى معاوية
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: فإن البغي
والزور يوتغان المرء في دينه ودنياه، ويبديان خلله عند من يعيبه، وقد علمت أنك
غير مدرك ما قضي فواته، وقد رام أقوام أمراً بغير الحق، فتألوا على الله
فأكذبهم، فاحذر يوماً يغتبط فيه من أحمد عاقبة عمله، ويندم من أمكن الشيطان من
قياده فلم يجاذبه، وقد دعوتنا إلى حكم القرآن ولست من أهله، ولسنا إياك أجبنا،
ولكنا أجبنا القرآن في حكمه، والسلام. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وكتب إلى معاوية أيضاً
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: أما بعد فإن
الدنيا مشغلة عن غيرها، ولم يصب صاحبها منها شيئاً إلا فتحت له حرصاً عليها،
ولهجاً بها، ولن يستغني صاحبها بما نال فيها عما لم يبلغه منها، ومن وراء ذلك
فراق ما جمع، ونقض ما أبرم، ولو اعتبرت بما مضى، حفظت ما بقي؛ والسلام. وقد ذكر نصر بن مزاحم هذا الكتاب وقال :
إن أمير المؤمنين رضي الله عنه كتبه إلى عمرو بن العاص، وزاد فيه
زيادة لم يذكرها الرضي: أما بعد؛ فإن
الدنيا مشغلة عن الآخرة، وصاحبها منهوم عليها، لم يصب شيئاً منها قط إلا فتحت
عليه حرصاً، وأدخلت عليه مؤنة تزيده رغبة فيها؛ ولن يستغني صاحبها بما نال عما
لم يدرك، ومن وراء ذلك فراق ما جمع؛ والسعيد من وعظ بغيره، فلا تحبط أجرك أبا عبد الله ولا تشرك معاوية في باطله؛
فإن معاوية غمص الناس، وسفه الحق . والسلام. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وكتب إلى أمرائه على الجيوش
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
من عبد الله علي بن أبي طالب أمير المؤمنين رفعه
إلى أصحاب المسالح: أما بعد، فإن حقاً على الوالي ألا يغيره على رعيته
فضل ناله، ولا طول خص به، وأن يزيده ما قسم الله له من نعمه دنوا من عباده،
وعطفاً على إخوانه. قال: إلا في حرب، وذلك لأن الحرب يحمد
فيها طي الأسرار، والحرب خدعة.
أي
متى تعين الحكم حكمت به وقطعت ولا أقف، ولا أتحبس. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وكتب إلى عماله على الخراج
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: من
عبد الله علي أمير المؤمنين إلى أصحاب الخراج: أما
بعد؛ فإن من لم يحذر ما هو سائر إليه، لم يقدم لنفسه ما يحرزها. وقال ابن الأعرابي: حشمته: أخجلته، وأحشمته: أغضبته، والاسم الحشمة، وهي
الاستحياء والغضب.
قوله رضي الله عنه: قد اصطنع عندنا وعندكم أن نشكره، أي لأن نشكره، بلام
التعليل وحذفها، أي أحسن إلينا لنشكره، وحذفها أكثر نحو قوله تعالى: "
لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم". |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وكتب إلى أمراء البلاد في معنى الصلاة.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: أما بعد
فصلوا بالناس الظهر حتى تفيء الشمس مثل مربض العنز، وصلوا بهم العصر والشمس
بيضاء حية في عضو من النهار حين يسار فيها فرسخان، وصلوا بهم المغرب حين يفطر
الصائم، ويدفع الحاج إلى منى، وصلوا بهم العشاء حين يتوارى الشفق إلى ثلث الليل،
وصلوا بهم الغداة والرجل يعرف وجه صاحبه، وصلوا بهم صلاة أضعفهم، ولا تكونوا
فتانين. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
اختلاف الفقهاء في أوقات الصلاة.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الشرح: قد اختلف
الفقهاء في أوقات الصلاة، فقال أبو حنيفة: أول
وقت الفجر إذا طلع الفجر الثاني؛ وهو المعترض في الأفق، وآخر وقتها ما لم تطلع
الشمس. وأول وقت الظهر إذا زالت الشمس، وآخر وقتها إذا صار ظل كل شيء مثليه سوى
الزوال. وقال أبو يوسف ومحمد:
آخر وقتها إذا صار الظل مثله. قال أبو حنيفة:
وأول وقت العصر إذا خرج وقت الظهر؛ وهذا على
القولين، وآخر وقتها ما لم تغرب الشمس، وأول وقت المغرب إذا غربت الشمس،
وآخر وقتها ما لم يغب الشفق؛ وهو البياض الذي في الأفق بعد الحمرة. وقال أبو يوسف ومحمد:
هو الحمرة. قال الشافعي:
وأول وقت الظهر إذا زالت الشمس. وحكى أبو الطيب الطبري من الشافعية أن من الناس من قال: لا
تجوز الصلاة حتى يصير الفيء بعد الزوال مثل الشراك. قال قد حكي
هذا عنهم. ولا يساوي الحكاية، ولم تذهب الشيعة إلى
هذا، وسنذكر قولهم فيما بعد. وحكى أبو ثور عن الشافعي
أن لها وقتين، وآخر وقتها إذا غاب الشفق. وليس بمشهور عنه، والمشهور القول
الأول، وقد ذكرنا قول أبي حنيفة فيما تقدم،
وهو امتداد وقتها إلى أن يغيب الشفق، وبه قال أحمد
وداود. وقال أبو سعيد الإصطخري:
لا يبقى وقت الجواز بعد نصف الليل، بل يصير قضاء. وبذلك تعرف أيضاً القبلة،
فإن قرص الشمس يقف فيها وسط النهار، ويصير عن يسارها ويمين المتوجه إليها بعد
وقوفها وزوالها عن القطب، فإذا صارت مما يلي حاجبه الأيمن من بين عينيه علم أنها
قد زالت، وعرف أن القبله تلقاء وجهه؛ ومن سبقت معرفته بجهة القبلة فهو يعرف زوال
الشمس إذا توجه إليها، فرأى عين الشمس مما يلي حاجبه الأيمن؛ إلا أن ذلك لا يبين
إلا بعد زوالها بزمان، ويبين الزوال من أول وقته بما ذكرناه من الإصطرلاب وميزان
الشمس والدائرة الهندية والعمود الذي وصفناه، ومن لم يحصل له معرفة ذلك، أو فقد
الآلة توجه إلى القبلة فاعتبر صيرورة الشمس على طرف حاجبه الأيمن وقت العصر من
بعد الفراغ من الظهر، إذا صليت الظهر في أول
أوقاتها أعني بعد زوال الشمس بلا فصل ويمتد إلى أن يتغير لون الشمس باصفرارها
للغروب، وللمضطر والناسي إلى مغيبها بسقوط القرص عما تبلغه أبصارنا من السماء،
وأول وقت المغرب مغيب الشمس، وعلامة مغيبها عدم الحمرة في المشرق المقابل للمغرب
في السماء؛ وذلك أن المشرق في السماء مطل على المغرب، فما دامت الشمس
ظاهرة فوق أرضنا فهي تلقي ضوءها على المشرق في السماء، فيرى
حمرتها فيه، فإذا ذهبت الحمرة منه علم أن القرص قد سقط وغاب. وآخره أول وقت
العشاء الآخرة، وأول وقتها مغيب الشمس
وهو الحمرة في المغرب، وآخره مضي الثلث الأول من
الليل، وأول وقت الغداة اعتراض الفجر،
وهو البياض في المشرق يعقبه الحمرة في مكانه؛ ويكون مقدمة لطلوع الشمس على الأرض
من السماء؛ وذلك أن الفجر الأول، وهو البياض الظاهر في المشرق يطلع طولاً ثم
ينعكس بعد مدة عرضاً ثم يحمر الأفق بعده للشمس. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وكتب الى للأشتر النخعي رحمه الله لما ولاه على مصر
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لما ولاه على مصر وأعمالها حين اضطرب أمر
أميرها محمد بن أبي بكر وهو أطول عهد كتبه وأجمعه للمحاسن. الأصل: بسم الله
الرحمن الرحيم هذا ما أمر به عبد الله علي أمير المؤمنين مالك بن الحارث الأشتر
في عهده إليه حين ولاه مصر جباية خراجها، وجهاد عدوها، واستصلاح أهلها، وعمارة
بلادها. أمره بتقوى الله وإيثار طاعته، واتباع ما أمر به في
كتابه من فرائضه وسننه التي لا يسعد أحد إلا باتباعها، ولا يشقى إلا مع جحودها
وإضاعتها، وأن ينصر الله سبحانه بيده وقلبه ولسانه؛ فإنه جل اسمه قد تكفل بنصر
من نصره، وإعزاز من أعزه. ولا تندمن
على عفو، ولا تبجحن بعقوبة، ولا تسرعن إلى بادرة وجدت عنها مندوحة. ولا تقولن
إني مؤمر آمر فأطاع، فإن ذلك إدغال في القلب، ومنهكة للدين، وتقرب من الغير. والغرب.
حد السيف، ويستعار للسطوة والسرعة في البطش والفتك.
وقال آخر:
وفي الخبر المرفوع: "دعوا الناس بغفلاتهم يعيش بعضهم مع
بعض". وقال الشاعر:
وقال
آخر:
وقال
آخر:
فأما قوله رضي الله عنه:
أطلق عن الناس عقدة كل حقد، فقد استوفى هذا المعنى زياد
في خطبته البتراء فقال: وقد كانت بيني وبين أقوام إحن، وقد جعلت ذلك دبر
أذني وتحت قدمي، فمن كان منكم محسناً فليزدد إحساناً، ومن كان منكم مسيئاً
فلينزع عن إساءته، إني لو علمت أن أحدكم قد قتله السلال من بغضي لم أكشف عنه
قناعاً، ولم أهتك له ستراً، حتى يبدي لي صفحته، فإذا فعل لم أناظره، ألا فليشمل كل
امرىء منكم على ما في صدره، ولا يكونن لسانه شفرة تجري على ودجه. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
بعض ما ورد في النهي عن سماع السعاية.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
فأما قوله: ولا تعجلن إلى تصديق ساع، فقد ورد في هذا المعنى كلام حسن، قال ذو الرياستين : قبول
السعاية شر من السعاية لأن السعاية دلالة،
والقبول إجازة، وليس من دل على شيء كمن قبله
وأجازه، فامقت الساعي على سعايته؛ فإنه لو كان
صادقاً كان لئيماً، إذ هتك العورة، وأضاع الحرمة.
وقال آخر:
وقال عبد الملك بن صالح لجعفر بن يحيى وقد خرج يودعه لما شخص إلى
خراسان:
أيها الأمير، أحب أن تكون لي كما قال الشاعر:
قال: بل أكون كما قال:
وقال
العباس بن الأحنف:
قوله رضي الله عنه: ولا تدخلن في مشورتك بخيلاً يعدل بك عن الفضل، ويعدك الفقر، مأخوذ من قول الله
تعالى: "الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء
والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً"؛ قال المفسرون: الفحشاء ههنا البخل: ومعنى "يعدكم الفقر"،
يخيل إليكم أنكم إن سمحتم بأموالكم افتقرتم فيخوفكم فتخافون فتبخلون. وجاء في الخبر
المرفوع: "ينادى يوم القيامة: أين من برى لهم أي
الظالمين قلماً". أتي الوليد بن عبد الملك برجل من الخوارج، فقال له: ما
تقول في الحجاج؟ قال: وما عسيت أن أقول فيه! هل
هو إلا خطيئة من خطاياك، وشرر من نارك؟ فلعنك الله ولعن الحجاج معك!
وأقبل يشتمهما، فالتفت الوليد إلى عمر بن عبد العزيز فقال: ما تقول في هذا؟ قال: ما
أقول فيه! هذا رجل يشتمكم، فإما أن تشتموه كما شتمكم،
وإما أن تعفوا عنه. فغضب الوليد وقال
لعمر: ما أظنك إلا خارجياً! فقال عمر: وما أظنك
إلا مجنوناً؛ وقام فخرج مغضباً، ولحقه خالد بن الريان صاحب
شرطة الوليد، فقال له ما دعاك إلى ما كلمت به أمير
المؤمنين! لقد ضربت بيدي إلى قائم سيفي أنتظر
متى يأمرني بضرب عنقك؛ قال: أو كنت فاعلاً لو
أمرك؟ قال: نعم. فلما استخلف عمر جاء خالد بن الريان فوقف على رأسه متقلداً سيفه، فنظر إليه وقال: يا خالد، ضع
سيفك فإنك مطيعنا في كل أمر نأمرك به وكان بين يديه كاتب كان للوليد، فقال له: ضع
أنت قلمك، فإنك كنت تضر به وتنفع، اللهم إني قد
وضعتهما فلا ترفعهما، قال: فو الله ما زالا وضيعين مهينين حتى ماتا. وروى الغزالي في كتاب إحياء علوم الدين، قال لما خالط الزهري السلطان كتب أن
له في الدين إليه: عافانا الله وإياك أبا بكر من الفتن، فقد أصبحت بحال ينبغي
لمن عرفك أن يدعو الله لك ويرحمك، فقد أصبحت شيخاً كبيراً، وقد أثقلتك نعم الله
عليك بما فهمك من كتابه، وعلمك من سنة نبيه، وليس كذلك أخذ الله الميثاق على
العلماء، فإنه تعالى
قال: "لتبيننه
للناس ولا تكتمونه". واعلم أن أيسر ما ارتكبت، وأخف ما احتملت، أنك
آنست وحشة الظالم، وسهلت سبيل الغي بدنوك إلى من لم يؤد حقاً، ولم يترك باطلاً
حين أدناك، اتخذوك أبا بكر قطباً تدور عليه رحا ظلمهم، وجسراً يعبرون عليه إلى
بلائهم ومعاصيهم، وسلماً يصعدون فيه إلى ضلالتهم، يدخلون بك الشك على العلماء،
ويقتادون بك قلوب الجهلاء، فما أيسر ما عمروا لك في جنب ما خربوا عليك، وما أكثر
ما أخذوا منك في جنب ما أفسدوا من حالك ودينك! وما يؤمنك أن تكون ممن قال الله
تعالى فيهم "فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة
واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً".
فقال عمر بن عبد العزيز: لقد أعطي صاحبكم هذا مقولاً، وحرم معقولاً. وأمره أن يجلس. فقال معاوية: أوسعت يا أبا أمية فاجلس، فإنما
أردنا بعض هذا.
وكان يقال:
قضاء حق المحسن أدب للمسيء، وعقوبة المسيء جزاء للمحسن. فليكن منك في ذلك أمر يجتمع لك به حسن الظن
برعيتك، فإن حسن الظن يقطع عنك نصباً طويلاً، وإن أحق من حسن ظنك به لمن حسن
بلاؤك عنده، وإن أحق من ساء ظنك به لمن ساء بلاؤك عنده. ولا تنقض سنة صالحة عمل بها صدور هذه الأمة،
واجتمعت بها الألفة، وصلحت عليها الرعية. ومما جاء في معنى الأول:
قال رجل لإياس بن معاوية : من أحب الناس إليك؟ قال: الذين يعطوني، قال: ثم من؟
قال: الذين أعطيهم. الشرح: قالت
الحكماء: الإنسان مدني بالطبع؛ ومعناه أنه خلق
خلقة لا بد معها من أن يكون منضماً إلى أشخاص من
بني جنسه، ومتمدناً في مكان بعينه، وليس المراد بالمتمدن ساكن
المدينة ذات السور والسوق، بل لا بد أن
يقيم في موضع ما مع قوم من البشر؛ وذلك لأن الإنسان مضطر إلى ما يأكله ويشربه
ليقيم صورته، ومضطر إلى ما يلبسه، ليدفع عنه أذى الحر والبرد، وإلى مسكن يسكنه
ليرد عنه عادية غيره من الحيوانات، وليكون منزلاً له ليتمكن من التصرف والحركة
عليه، ومعلوم أن الإنسان وحده لا يستقل بالأمور التي عددناها، بل لا بد من جماعة
يحرث بعضهم لغيره الحرث، وذلك الغير يحوك للحراث الثوب، وذلك الحائك يبني له
غيره المسكن، وذلك البناء يحمل له غيره الماء، وذلك السقاء يكفيه غيره أمر تحصيل
الآلة التي يطحن بها الحب ويعجن بها الدقيق، ويخبز بها العجين، وذلك المحصل لهذه
الأشياء يكفيه غيره الاهتمام بتحصيل الزوجة التي تدعو إليها داعية الشبق، فيحصل
مساعدة بعض الناس لبعض، لولا ذلك لما قامت الدنيا، فهذا
معنى قوله رضي الله عنه: إنهم طبقات لايصلح بعضها إلا ببعض، ولاغناء ببعضها عن
بعض. ولا تحقرن
لطفاً تعاهدتهم به وإن قل؛ فإنه داعية لهم إلى بذل النصيحة لك، وحسن الظن بك. ولا تصح
نصيحتهم إلا بحيطتهم على ولاة أمورهم، وقلة استثقال دولهم، وترك استبطاء انقطاع
مدتهم. الشرح: هذا الفصل
مختص بالوصاة فيما يتعلق بأمراء الجيش، أمره أن يولي أمر الجيش من جنوده من كان
أنصحهم لله في ظنه، وأطهرهم جيباً، أي عفيفاً أمينا؛ ويكنى عن العفة والأمانة
بطهارة الجيب، لأن الذي يسرق يجعل المسروق في جيبه. ولا يثيره العنف: لا يهيج غضبه عنف وقسوة. ولا يقعد به الضعف، أي ليس عاجزاً. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
رسالة الإسكندر إلى أرسطو وجواب أرسطو له.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
و ينبغي أن نذكر في هذا
الموضع رسالة أرسطو إلى الإسكندر في معنى المحافظة على أهل البيوتات وذوي
الأحساب، وأن يخصهم بالرئاسة والإمرة؛ ولا يعدل عنهم إلى العامة والسفلة، فإن في ذلك تشييداً لكلام أمير المؤمنين رضي الله عنه،
ووصيته. عليك أيها الحكيم منا السلام، أما بعد فإن الأفلاك
الدائرة، والعلل السمائية؛ وإن كانت أسعدتنا بالأمور التي أصبح الناس لنا بها
دائبين، فإنا جد واجدين لمس الاضطرار إلى حكمتك، غير
جاحدين لفضلك والإقرار بمنزلتك، والإستنامة إلى مشورتك والإقتداء برأيك؛
والاعتماد لأمرك ونهيك، لما بلونا من جدا ذلك علينا، وذقنا من جنا منفعته،
حتى صار ذلك بنجوعه فينا وترسخه في أذهاننا
وعقولنا كالغذاء لنا، فما ننفك نعول عليه،
ونستمد منه استمداد الجداول من البحور، وتعويل الفروع على الأصول، وقوة الأشكال
بالأشكال. وقد كان مما سيق إلينا من النصر والفلج، وأتيح لنا من الظفر، وبلغنا
في العدو من النكاية والبطش ما يعجز القول عن وصفه، ويقصر شكر المنعم عن موقع
الإنعام به، وكان من ذلك أنا جاوزنا أرض سورية والجزيرة
إلى بابل وأرض فارس، فلما حللنا بعقوة أهلها وساحة بلادهم، لم يكن إلا
ريثما تلقانا نفر منهم برأس ملكهم هدية إلينا، وطلبا للحظوة عندنا، فأمرنا بصلب من جاء به وشهرته لسوء بلائه، وقلة ارعوائه
ووفائه؛ ثم أمرنا بجمع من كان هناك من أولاد ملوكهم وأحرارهم وذوي الشرف
منهم؛ فرأينا رجالاً عظيمة أجسامهم وأحلامهم، حاضرة ألبابهم وأذهانهم، رائعة
مناظرهم ومناطقهم، دليلاً على أن ما يظهر من روائهم ومنطقهم أن وراءه من قوة
أيديهم، وشدة نجدتهم وبأسهم ما لم يكن ليكون لنا سبيل إلى غلبتهم وإعطائهم
بأيديهم، لولا أن القضاء أدانهم، وأظفرنا بهم، وأظهرنا
عليهم، ولم نر بعيداً من الرأي في أمرهم أن نستأصل شأفتهم، ونجتث أصلهم،
ونلحقهم بمن مضى من أسلافهم، لتسكن القلوب بذلك الآمن إلى جرائرهم وبوائقهم؛ فرأينا ألا نعجل بإسعاف بادىء الرأي في قتلهم دون الإستظهار
عليهم بمشورتك فيهم. فارفع إلينا رأيك فيما استشرناك فيه بعد صحته عندك،
وتقليبك إياه بجلي نظرك، وسلام أهل السلام، فليكن علينا وعليك . فكتب إليه أرسطو:
لملك الملوك، وعظيم العظماء، الإسكندر المؤيد بالنصر على الأعداء، المهدى له الظفر بالملوك، من أصغر عبيده وأقل
خوله؛ أرسطو طاليس البخوع بالسجود والتذلل في السلام، والإذعان في الطاعة: أما بعد، فإنه لا قوة بالمنطق وإن احتشد الناطق
فيه، واجتهد في تثقيف معانيه، وتأليف حروفه ومبانيه على الإحاطة بأقل ما تناله
القدرة من بسطة علو الملك وسمو ارتفاعه عن كل قول، وإبرازه على كل وصف، واغترافه
بكل إطناب. وقد كان تقرر عندي من مقدمات أعلام فضل الملك في صهلة سبقه، وبروز
شأوه، ويمن نقيبته، مذ أدت إلي حاسة بصري صورة شخصه، واضطرب في حس سمعي صوت
لفظه، ووقع وهمي على تعقيب نجاح رأيه، أيام كنت أؤدي إليه من تكلف تعليمي إياه
ما أصبحت قاضياً على نفسي بالحاجة إلى تعلمه منه. ومهما يكن مني إليه في ذلك،
فإنما هو عقل مردود إلى عقله، مستنبطة أواليه وتواليه من علمه وحكمته. وقد جلا إلي كتاب الملك ومخاطبته إياي ومسألته لي عما لا
يتخالجني الشك في لقاح ذلك وإنتاجه من عنده، فعنه صدر وعليه ورد؛ وأنا فيما أشير
به على الملك وإن اجتهدت فيه واحتشدت له، وتجاوزت حد الوسع والطاقة مني في
استنطاقه واستقصائه كالعدم مع الوجود، بل كما لا يتجزأ في جنب معظم الأشياء،
ولكني غير ممتنع من إجابة الملك إلى ما سأل، مع علمي ويقيني بعظيم غناه عني،
وشدة فاقتي إليه، وأنا راد إلى الملك ما اكتسبته منه، ومشير عليه بما أخذته منه،
فقائل له: إن لكل تربة لا محالة قسماً من الفضائل، وإن لفارس قسمها من
النجدة والقوة، وإنك إن تقتل أشرافهم تخلف الوضعاء على أعقابهم، وتورث سفلتهم
على منازل عليتهم، وتغلب أدنياءهم على مراتب ذوي أخطارهم؛ ولم يبتل الملوك قط
ببلاء هو أعظم عليهم وأشد توهيناً لسلطانهم من غلبة السفلة، وذل الوجوه، فاحذر الحذر كله أن تمكن تلك الطبقة من الغلبة والحركة، فإنه
إن نجم منهم بعد اليوم على جندك وأهل بلادك ناجم دهمهم منه ما لا روية فيه، ولا
بقية معه؛ فانصرف عن هذا الرأي إلى غيره، واعمد إلى من قبلك من أولئك
العظماء والأحرار، فوزع بينهم مملكتهم، وألزم اسم الملك كل من وليته منهم
ناحيته، واعقد التاج على رأسه وإن صغر ملكه، فإن المتسمى بالملك لازم لإسمه،
والمعقود التاج على رأسه لا يخضع لغيره، فليس ينشب ذلك أن يوقع كل ملك منهم بينه
وبين صاحبه تدابراً وتقاطعاً وتغالباً على الملك؛ وتفاخراً بالمال والجند، حتى
ينسوا بذلك أضغانهم عليك وأوتارهم فيك، ويعود حربهم لك حرباً بينهم، وحنقهم عليك
حنقاً منهم على أنفسهم، ثم لا يزدادون في ذلك بصيرة إلا أحدثوا لك بها استقامة؛
إن دنوت منهم دانوا لك، وإن نأيت عنهم تعززوا بك، حتى يثب من ملك منهم على جاره
باسمك، ويسترهبه بجندك، وفي ذلك شاغل لهم عنك، وأمان لإحداثهم بعدك، وإن كان لا
أمان للدهر، ولا ثقة بالأيام. قوله:
ولا يتمادى في الزلة، أي إن ذل رجع وأناب، والرجوع إلى
الحق خير من التمادي في الباطل.
وقال عروة بن أذينه:
والمعنى: ولا
تشفق نفسه، وتخاف من فوت المنافع والمرافق. والإطراء:
المدح. والإغراء:
التحريض. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
بعض ما ورد في القضاة ونوادرهم،
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قد جاء في الحديث المرفوع: "لا يقضي القاضي وهو غضبان". وجاء في الحديث المرفوع أيضاً: "من ابتلي بالقضاء بين المسلمين فليعدل بينهم في لحظه
وإشارته ومجلسه ومقعده". فقال
سليمان: إن الناس ليغروننا عن ديننا.
وتقدمت كلثم بنت سريع مولى عمرو بن حريث وكانت جميلة وأخوها الوليد بن سريع إلى عبد الملك بن عمير؛ وهو قاض بالكوفة،
فقضى لها على أخيها، فقال هذيل الأشجعي:
وكان عبد الملك بن عمير يقول: لعن الله الأشجعي، والله
لربما جاءتني السعلة والنحنحة وأنا في المتوضأ فأردهما
لما شاع من شعره.
فقال: بل نغطيك يا أبا دلامة ولا نبحثك؛ وصرفه راضياً، وأعطى المشهود
عليه من عنده قيمة ذلك الشيء. وجاء في الخبر المرفوع من رواية عبد الله بن عمر: "لا قدست أمة لا يقضى فيها
بالحق"؛ومن الحديث المرفوع من رواية أبي هريرة: "ليس أحد يحكم بين الناس إلا
جيء به يوم القيامة مغلولة يداه إلى عنقه، فكه العدل، وأسلمه الجور". واستعدى رجل على علي بن أبي طالب رضي الله عنه عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعلي جالس،
فالتفت عمر إليه، فقال: قم يا أبا الحسن فاجلس مع خصمك،
فقام فجلس معه وتناظرا، ثم انصرف الرجل ورجع علي رضي الله عنه إلى محله، فتبين عمر التغير في وجهه،
فقال: يا أبا الحسن، ما لي أراك متغيًرا! أكرهت ما كان؟ قال: نعم، قال: وما ذاك؟
قال: كنيتني بحضرة خصمي، هلا قلت: قم يا علي فاجلس مع
خصمك! فاعتنق عمر علياً، وجعل يقبل وجهه، وقال
بأبي أنتم! بكم هدانا الله، وبكم أخرجنا من الظلمة إلى النور.
كان ببغداد
رجل يذكر بالصلاح والزهد يقال له رويم، فولي القضاء،
فقال الجنيد: من أراد أن يستودع سره من لا
يفشيه فعليه برويم، فإنه كتم حب الدنيا أربعين سنة إلى
أن قدر عليها.
وكان
الحجاج يسم أيدي النبط بالمشراط والنيل.
فقبض الشعبي عليه وضربه ثلاثين سوطاً.
ولاتحفظ تتمة البيت، فوقف عليها ولقنها، وقال:
ثم ضحك وقال: أبعده الله! والله ما قضينا لها إلا بالحق. قال أبو ذر رضي
الله عنه: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا ذر، اعقل ما أقول
لك؛ جعل يرددها علي ستة أيام، ثم قال لي في
اليوم السابع: أوصيك بتقوى الله في سريرتك وعلانيتك،
وإذا أسأت فأحسن، ولا تسألن أحداً شيئاً ولو سقط سوطك، ولا تتقلدن أمانة، ولا
تلين ولاية، ولا تكفلن يتيماً، ولا تقضين بين اثنين. وقد ذكر الفقهاء في آداب القاضي
أموراً، قالوا: لا يجوز أن يقبل هدية في أيام القضاء إلا ممن كانت له عادة يهدي
إليه قبل أيام القضاء، ولا يجوز قبولها في أيام القضاء ممن له حكومة وخصومة، وإن
كان ممن له عادة قديمة، وكذلك إن كانت الهدية أنفس وأرفع مما كانت قبل أيام
القضاء لا يجوز قبولها. ويجوز أن يحضر القاضي الولائم، ولا يحضر عند قوم دون
قوم؛ لأن التخصيص يشعر بالميل، ويجوز أن يعود المرضى، ويشهد الجنائز، ويأتي مقدم
الغائب. ويكره له مباشرة البيع والشراء. ولا يجوز أن يقضي وهو غضبان ولا جائع
ولا عطشان، ولا في حال الحزن الشديد، ولا الفرح الشديد، ولا يقضي والنعاس يغلبه،
والمرض يقلقه، ولا وهو يدافع الأخبثين، ولا في حر مزعج، ولا في برد مزعج. وينبغي أن يجلس للحكم في موضع بارز
يصل إليه كل أحد، ولا يحتجب إلا لعذر. ويستحب أن يكون مجلسه فسيحاً لا يتأذى
بذلك هو أيضاً. ويكره الجلوس في المساجد للقضاء، فإن احتاج إلى وكلاء جاز أن
يتخذهم ويوصيهم بالرفق بالخصوم. ويستحب أن يكون له حبس، وأن يتخذ كاتباً إن
احتاج إليه، ومن شرط كاتبه أن يكون عارفاً بما يكتب به عن القضاء. كان أبو الحسن بن الفرات يقول: الأعمال للكفاة من أصحابنا،
وقضاء الحقوق على خواص أموالنا. وقد تقدم شرح مثل هذه اللفظة، والمعنى أن ذلك يجمع ضروباً من الجور والخيانة. أما الجور فإنه يكون قد عدل عن المستحق إلى غير
المستحق، ففي ذلك جور على المستحق، وأما الخيانة
فلأن الأمانة تقتضي تقليد الأعمال الأكفاء، فمن لم يعتمد ذلك فقد خان من ولاه. الأصل: وتفقد أمر
الخراج بما يصلح أهله، فإن في صلاحه وصلاحهم صلاحاً لمن سواهم، ولا صلاح لمن
سواهم إلا بهم، لأن الناس كلهم عيال على الخراج وأهله. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
بعض ما جاء في عهد سابور بن أردشير إلى ابنه
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وقد وجدت في عهد سابور بن أردشير إلى
ابنه كلاماً يشابه كلام أمير المؤمنين
رضي الله عنه في هذا العهد، وهو قوله:
واعلم أن قوام أمرك بدرور الخراج، ودرور الخراج بعمارة البلاد، وبلوغ الغاية في
ذلك استصلاح أهله بالعدل عليهم، والمعونة لهم، فإن بعض الأمور لبعض سبب، وعوام
الناس لخواصهم عدة، وبكل صنف منهم إلى الآخر حاجة، فاختر لذلك أفضل من تقدر عليه
من كتابك، وليكونوا من أهل البصر والعفاف والكفاية، واسترسل إلى كل امرىء منهم
شخصاً يضطلع به ويمكنه تعجيل الفراغ منه، فإن اطلعت على أن أحداً منهم خان أو
تعدى فنكل به، وبالغ في عقوبته، واحذر أن تستعمل على الأرض الكثير خراجها إلا
البعيد الصوت، العظيم شرف المنزلة، ولا تولين أحداً من قواد جندك الذين هم عدة
للحرب، وجنة من الأعداء، شيئاً من أمر الخراج، فلعلك تهجم من بعضهم على خيانة في
المال، أو تضييع للعمل، فإن سوغته المال، وأغضيت له على التضييع، كان ذلك هلاكاً
وإضرارا بك وبرعيتك، وداعية إلى فساد غيره، وإن أنت كافأته فقد استفسدته، وأضقت
صدره، وهذا أمر توقيه حزم، والإقدام عليه خرق، والتقصير فيه عجز. ثم قال: ما توفر علي
من تهالك غيرهم على العمارة وأمنهم جوري أضعاف ما وضعت عن هؤلاء الآن، والذي
وضعته بقدر ما يحصل من ذاك، وثواب عموم العمارة وأمن الرعية أفضل ربح. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
في آداب مصاحبة الملك
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الشرح: لما فرغ من
أمر الخراج، شرع في أمر الكتاب الذين يلون أمر الحضرة، ويترسلون عنه إلى عماله
وأمرائه، وإليهم معاقد التدبير وأمر الديوان، فأمره أن يتخير الصالح منهم، ومن
يوثق على الإطلاع على الأسرار والمكائد والحيل والتدبيرات، ومن لا يبطره الإكرام
والتقريب، فيطمع فيجترىء على مخالفته على ملأ من الناس والرد عليه، ففي ذلك من
الوهن للأمير وسوء الأدب الذي انكشف الكاتب عنه ما لا خفاء به. وفي آداب ابن المقفع:
لا تكونن صحبتك للسلطان إلا بعد رياضة منك! لنفسك على طاعتهم في المكروه عندك
وموافقتهم فيما خالفك، وتقدير الأمور على أهوائهم دون
هواك، فإن كنت حافظاً إذا ولوك، حذراً إذا قربوك، أميناً إذا ائتمنوك،
تعلمهم وكأنك تتعلم منهم، وتؤدبهم وكأنك تتأدب بهم، وتشكر لهم ولا تكلفهم الشكر،
ذليلاً إن صرموك، راضياً إن أسخطوك، وإلا فالبعد منهم كل البعد، والحذر منهم كل
الحذر. وإن وجدت عن السلطان وصحبته غنى فاستغن عنه،
فإنه من يخدم السلطان حق خدمته يخلى بينه وبين لذة الدنيا وعمل الأخرى، ومن
يخدمه غير حق الخدمة فقد احتمل وزر الآخرة، وعرض نفسه للهلكة والفضيحة في
الدنيا. فإذا صحبت السلطان فعليك بطول الملازمة من غير إملال، وإذا نزلت منه
بمنزلة الثقة فاعزل عنه كلام الملق، ولا تكثر له من الدعاء، ولا تردن عليه
كلاماً في حفل وإن أخطأ، فإذا خلوت به فبصره في رفق، ولا يكونن طلبك ما عنده
بالمسألة، ولا تستبطئه وإن أبطأ، ولا تخبرنه أن لك عليه حقاً، وأنك تعتمد عليه
ببلاء، وإن استطعت ألا تنسى حقك وبلاءك بتجديد النصح والإجتهاد فافعل، ولا
تعطينه المجهود كله من نفسك في أول صحبتك له، وأعد موضعاً للمزيد. وإذا سأل غيرك
عن شيء فلا تكن المجيب. قال: وأن
يكون عارفاً بنفسه، فمن لم يعرف قدر نفسه لم يعرف قدر غيره. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
في آداب الكتاب
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
واعلم
أن الكاتب الذي يشير أمير المؤمنين رضي الله عنه إليه هو الذي يسمى الآن في الإصطلاح العرفي وزيراً، لأنه
صاحب تدبير حضرة الأمير، والنائب عنه في أموره، وإليه تصل مكتوبات العمال وعنه
تصدر الأجوبة، وإليه العرض على الأمير، وهو المستدرك على العمال، والمهيمن
عليهم، وهو على الحقيقة كاتب الكتاب، ولهذا يسمونه:
الكاتب المطلق.
وكان
يقال: إذا لم يشرف الملك على أموره، صار أغش الناس إليه
وزيره. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
بعض ما ورد من نصائح للوزراء.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وكان يقال:
لا شيء أذهب بالدول من استكفاء الملك الأسرار. وقال أبرويز لكاتبه:
اكتم السر، واصدق الحديث، واجتهد في النصيحة، وعليك بالحذر، فإن لك علي ألا أعجل
عليك حتى أستأني لك، ولا أقبل فيك قولاً حتى أستيقن، ولا أطمع فيك أحداً فتغتال،
واعلم أنك بمنجاة رفعة فلا تحطنها، وفي ظل مملكة فلا تستزيلنه. قارب الناس
مجاملة من نفسك، وباعدهم مسامحة عن عدوك، واقصد إلى الجميل ازدراعاً لغدك، وتنزه
بالعفاف صوناً لمروءتك، وتحسن عندي بما قدرت عليه. احذر لا تسرعن الألسنة عليك،
ولا تقبحن الأحدوثة عنك، وصن نفسك صون الدرة الصافية، واخلصها إخلاص الفضة
البيضاء، وعاتبها معاتبة الحذر المشفق، وحصنها تحصين المدينة المنيعة. لا تدعن
أن ترفع إلي الصغير فإنه يدل على الكبير، ولا تكتمن عني الكبير فإنه ليس بشاغل
عن الصغير. هذب أمورك ثم القني بها، وأحكم أمرك ثم راجعني فيه،
ولا تجترئن علي فأمتعض، ولا تنقبضن مني فأتهم، ولا تمرضن ما تلقاني به ولا
تخدجنه، وإذا أفكرت فلا تعجل، وإذا كتبت فلا تعذر، ولا تستعن بالفضول فإنها
علاوة على الكفاية، ولا تقصرن عن التحقيق فإنها هجنة بالمقالة، ولا تلبس كلاما
بكلام، ولا تبعدن معنى عن معنى. وأكرم لي كتابك عن ثلاث:
خضوع يستخفه، وانتشار يهجنه، ومعان تعقد به. واجمع الكثير مما تريد في القليل
مما تقول وليكن بسطة كلامك على كلام السوقة كبسطة الملك الذي تحدثه على الملوك.
لا يكن ما نلته عظيماً، وما تتكلم به صغيراً، فإنما كلام الكاتب على مقدار الملك،
فاجعله عالياً كعلوه، وفائقاً كتفوقه، فإنما جماع
الكلام كله خصال أربع: سؤالك الشيء، وسؤالك عن الشيء، وأمرك بالشيء،
وخبرك عن الشيء، فهذه الخصال دعائم المقالات، إن التمس إليها خامس لم يوجد، وإن
نقص منها واحد لم يتم، فإذا أمرت فأحكم، وإذا سألت فأوضح، وإذا طلبت فأسمح، وإذا
أخبرت فحقق. فإنك إذا فعلت ذلك أخذت بجراثيم القول كله، فلم
يشتبه عليك واردة، ولم تعجزك صادرة. أثبت في دواوينك ما أخذت، وأحص فيها ما أخرجت،
وتيقظ لما تعطي، وتجرد لما تأخذ، ولا يغلبنك النسيان عن الإحصاء، ولا الأناة عن
التقدم، ولا تخرجن وزن قيراط في غير حق، ولا تعظمن إخراج الألوف الكثيرة في
الحق، وليكن ذلك كله عن مؤامرتي. ثم قال له:
قد يكون في كثير منهم نوع من الشح والبخل فيدعوهم ذلك إلى الإحتكار في الأقوات،
والحيف في البياعات. والإحتكار ابتياع الغلات في أيام رخصها، وادخارها
في المخازن إلى أيام الغلاء والقحط. والحيف:
تطفيف في الوزن والكيل، وزيادة في السعر، وهو الذي عبر عنه بالتحكم، وقد نهى
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
الإحتكار، وأما التطفيف وزيادة التسعير فمنهي عنهما في نص الكتاب . والمعتر: الذي يعرض لك ولا يسألك، وهما من ألفاظ الكتاب
العزيز. ويمكن أن يريد به:
لا تصرف غلات ما كان من الصوافي في بعض البلاد إلى مساكين ذلك البلد خاصة، فإن
حق البعيد عن ذلك البلد فيها كمثل حق المقيم في ذلك البلد. وأشخصت زيداً
من موضع كذا، أخرجته عنه. وفلان يصعر خده للناس، أي يتكبر عليهم. وأعط ما أعطيت هنيئاً، وامنع في إجمال وإعذار. ثم أمور من أمورك لا بد لك من مباشرتها، منها إجابة
عمالك بما يعيا عنه كتابك، ومنها إصدار حاجات الناس عند ورودها عليك بما تحرج به
صدور أعوانك. وأمض لكل يوم عمله، فإن لكل يوم ما فيه. وروي: ثم
احتمل الخرق منهم والغي. وهو الجهل أيضاً، والرواية الأولى أحسن. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
والقول في الحجاب كثير:
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
حضر باب عمر جماعة من الأشراف: منم سهيل بن عمرو وعيينة بن حصن والأقرع بن حابس، فحجبوا، ثم خرج الآذن فنادى: أين عمار؟ أين سلمان؟ أين
صهيب؟ فأدخلهم فتمعرت وجوه القوم، فقال سهيل بن
عمرو: لم تتمعر وجوهكم، دعوا ودعينا فأسرعوا وأبطأنا، ولئن حسدتموهم على
باب عمر اليوم لأنتم غداً لهم أحسد. وإذا ورد كتاب عامل من عمالي فلا تحبسه عني
طرفة عين إلا أن أكون على حال لا تستطيع الوصول إلي فيها، وإذا أتاك من يدعي
النصيحة لنا فلتكتبها سراً ثم أدخله بعد أن تستأذن له، حتى إذا كان مني بحيث
أراه فادفع إلي كتابه، فإن أحمدت قبلت، وإن كرهت رفضت. وإن أتاك عالم مشتهر بالعلم والفضل يستأذن،
فأذن له، فإن العلم شريف وشريف صاحبه، ولا تحجبن عني أحداً من أفناء الناس، إذا
أخذت مجلسي مجلس العامة، فإن الملك لا يحجب إلا عن
ثلاث: عي يكره أن يطلع عليه منه، أو بخل يكره أن يدخل عليه من يسأله، أو
ريبة هو مصر عليها فيشفق من إبدائها، ووقوف الناس عليها، ولا بد أن يحيطوا بها
علماً، وإن اجتهد في سترها. وقد أخذ هذا المعنى الأخير محمود الوراق فقال:
أقام عبد العزيز بن زرارة الكلابي على باب معاوية سنةً في شملة
من صوف لا يأذن له،
ثم أذن له وقربه وأدناه، ولطف محله عنده حتى ولاه مصر، فكان
يقال: استأذن أقوام لعبد العزيز بن زرارة، ثم صار يستأذن لهم، وقال في ذلك:
ويقال:
إنه قال له لما دخل عليه أمير المؤمنين: دخلت إليك بالأمل، واحتملت جفوتك
بالصبر، ورأيت ببابك أقواماً قدمهم الحظ، وآخرين أخرهم الحرمان، فليس ينبغي للمقدم أن يأمن عواقب الأيام، ولا للمؤخر أن
ييئس من عطف الزمان. وكان
يقال: لم يلزم باب السلطان أحد فصبر على ذل الحجاب، وكلام البواب، وألقى الأنف،
وحمل الضيم، وأدام الملازمة، إلا وصل إلى حاجته أو إلى معظمها. قال: لقد وفيت بما عليك، ولكن إن صدقت ذلك
بفعلك. وقال دعبل وقد حجب عن باب مالك بن طوق.
وقال
آخر:
وكتب
أبو العتاهية إلى أحمد بن يوسف الكاتب وقد حجبه:
يعني
ليله ونهاره.
وقال
آخر يهجو:
وكتب
بعضهم إلى جعفر بن محمد بن القاسم بن عبيد الله بن سليمان بن وهب:
ومن
جيد ما مدح به بشر بن مروان قول القائل:
وقال
بشار:
وقال
إبراهيم بن هرمة:
وقال
آخر:
وقال
عبد الله بن محمد بن عيينة:
وقال
آخر:
الأصل:
ثم إن للوالي خاصة وبطانة، فيهم استئثار وتطاول، وقلة إنصاف في معاملة، فاحسم
مئونة أولئك بقطع أسباب تلك الأحوال، ولا تقطعن لأحد من حاشيتك وحامتك قطيعة،
ولا يطمعن منك في أعتقاد عقدة تضر بمن يليها من الناس في شرب أو عمل مشترك،
يحملون مؤونتة على غيرهم، فيكون مهنأ ذلك لهم دونك، وعيبه عليك في الدنيا
والآخرة. الشرح: نهاه رضي الله عنه عن أن يحمل أقاربه وحاشيته وخواصه على رقاب الناس، وأن يمكنهم من
الاستئثار عليهم والتطاول والإذلال، ونهاه من أن
يقطع أحداً منهم قطيعة، أو يملكه ضيعة تضر بمن يجاورها من السادة والدهاقين في
شرب يتغلبون على الماء منه، أو ضياع يضيفونها إلى ما ملكهم إياه، وإعفاء لهم من
مؤونة، أو حفر وغيره، فيعفيهم الولاة منه مراقبة لهم، فيكون مؤونة ذلك الواجب
عليهم قد أسقطت عنهم، وحمل ثقلها على غيرهم. والمهنأ مصدر هنأه كذا. ومغبة الشيء: عاقبته. والإعذار:
إقامة العذر. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
في ما روي حول نزاهة الخليفة عمر بن عبد العزيز.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
رد عمر بن عبد العزيز المظالم التي
احتقبها بنو مروان فأبغضوه وذموه،
وقيل: إنهم سموه فمات. فقالت: بل أختارك عليه
وعلى أضعافه لو كان لي، وأمرت به فحمل إلى بيت
المال، فلما هلك عمر واستخلف يزيد بن عبد الملك قال
لفاطمة أخته: إن شئت رددته عليك، قالت: فإني لا
أشاء ذلك، طبت عنه نفساً في حياة عمر، وأرجع فيه بعد موته، لا والله أبداً.
فلما رأى يزيد ذلك قسمه بين ولده وأهله. وروى سهيل بن يحيى المروزي عن أبيه،
عن عبد العزيز، عن عمر بن عبد العزيز، قال: لما دفن
سليمان صعد عمر على المنبر فقال: إني قد خلعت ما في رقبتي من بيعتكم. فصاح الناس
صيحة واحدة: قد اخترناك، فنزل ودخل وأمر بالستور فهتكت، والثياب التي كانت تبسط للخلفاء
فحملت إلى بيت المال، ثم خرج ونادى مناديه:
من كانت له مظلمة من بعيد أو قريب من أمير المؤمنين رضي الله عنه فليحضر،
فقام رجل ذمي من أهل حمص أبيض الرأس واللحية، فقال:
أسألك كتاب الله، قال: ما شأنك، قال: العباس بن الوليد
بن عبد الملك أغصبني ضيعتي، والعباس جالس فقال
عمر: ما تقول يا عباس، قال: أقطعنيها أمير المؤمنين رضي الله عنه الوليد،
وكتب لي بها سجلاً. فقال عمر: ما تقول أنت أيها
الذمي، قال: يا أمير المؤمنين، أسألك كتاب الله، فقال
عمر: إيهاً لعمري إن كتاب الله لأحق أن يتبع من
كتاب الوليد، اردد عليه يا عباس ضيعته، فجعل لا
يدع شيئاً مما كان في أيدي أهل بيته من المظالم إلا ردها مظلمة مظلمة. وكانت
أمراً عظيماً لها غلة عظيمة كثيرة، إنما عيشه وعيش أهله منها، فلما ولي الخلافة
قال لمزاحم مولاه، وكان فاضلاً: إني قد عزمت أن أرد السهلة إلى بيت مال
المسلمين، فقال، مزاحم: أتدري كم ولدك، إنهم كذا وكذا، قال: فذرفت عيناه، فجعل
يستدمع ويمسح الدمعة بأصبعه الوسطى، ويقول: أكلهم إلى الله، أكلهم إلى الله، فمضى مزاحم فدخل على عبد الملك بن عمر، فقال له: ألا تعلم ما
قد عزم عليه أبوك، إنه يريد أن يرد السهلة، قال: فما قلت له، قال: ذكرت له ولده
فجعل يستدمع ويقول: أكلهم إلى الله. فقال عبد الملك: بئس وزير الدين أنت،
ثم وثب وانطلق إلى أبيه فقال للاذن: استأذن
لي عليه، فقال: إنه قد وضع رأسه الساعة
للقائلة، فقال: استأذن لي عليه، فقال: أما ترحمونه، ليس له من الليل والنهار إلا
هذه الساعة. قال: استأذن لي عليه لا أم لك، فسمع عمر كلامهما، فقال: ائذن لعبد الملك، فدخل فقال: على ماذا عزمت، قال:
أرد السهلة قال: فلا تؤخر ذلك قم الآن. قال: فجعل عمر يرفع يديه ويقول: الحمد
الله الذي جعل لي من ذريتي من يعينني على أمر ديني. قال:
نعم يا بني أصلي الظهر، ثم أصعد المنبر فأردها علانية على رؤوس الناس، قال: ومن لك أن تعيش إلى الظهر، ثم من لك أن تسلم
نيتك إلى الظهر إن عشت إليها، فقام عمر فصعد المنبر، فخطب
الناس ورد السهلة. قالوا: فكتب عمر جوابه:
أما بعد، فقد قرأت كتابك، وسوف أجيبك بنحو منه، أما أول
أمرك يابن الوليد فإن أمك نباتة أمة السكون، كانت تطوف في أسواق حمص، وتدخل
حوانيتها، ثم الله أعلم بها، اشتراها ذبيان بن
ذبيان من فيء المسلمين، فأهداها لأبيك، فحملت بك، فبئس الحامل وبئس المحمول،
ثم نشأت فكنت جباراً عنيداً. وتزعم أني من الظالمين لأني حرمتك وأهل بيتك فيء الله الذي هو حق
القرابة والمساكين والأرامل، وإن أظلم مني وأترك لعهد الله من استعملك
صبياً سفيهاً على جند المسلمين تحكم فيهم برأيك، ولم يكن له في ذاك نية إلا حب
الوالد ولده، فويل لك وويل لأبيك، ما أكثر خصماء
كما يوم القيامة، وإن أظلم مني وأترك لعهد الله مني
استعمل الحجاج بن يوسف على خمسي العرب، يسفك الدم الحرام، ويأخذ المال الحرام.
وان أظلم مني وأترك لعهد الله من استعمل قرة بن شريك، أعرابياً جافياً على مصر،
وأذن له في المعازف والخمر والشرب واللهو. وإن أظلم مني وأترك لعهد الله
من استعمل عثمان بن حيان على الحجاز، فينشد الأشعار على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، و من جعل
للعالية البربرية سهماً في الخمس، فرويداً يابن نباتة،
ولو التقت حلقتا البطان ورد الفيء إلى أهله، لتفرغت لك ولأهل بيتك فوضعتكم على
المحجة البيضاء، فطالما تركتم الحق، وأخذتم في بنيات الطريق، ومن وراء هذا من
الفضل ما أرجو أن أعمله، بيع رقبتك، وقسم ثمنك بين الأرامل واليتامى والمساكين،
فإن لكل فيك حقاً، والسلام علينا، ولا ينال سلام الله الظالمين. فلما اجتمعوا قال: يا بني مروان، إنكم قد أعطيتم حظاً وشرفاً وأموالاً، إني لأحسب شطر
أموال هذه الأمة أو ثلثيها في أيديكم، فسكتوا، فقال: ألا تجيبوني، فقال رجل
منهم: فما بالك، قال: إني أريد أن أنتزعها منكم، فأردها إلى بيت مال المسلمين. فقال رجل منهم: والله لا يكون ذلك حتى يحال بين رؤوسنا وأجسادنا، والله لا نكفر
أسلافنا، ولا نفقر أولادنا. فقال عمر: والله لولا أن تستعينوا علي بمن أطلب هذا الحق له لأضرعت خدودكم، قوموا عني. وروى عبد الله بن محمد التيمي، قال:
كان بنو أمية ينزلون عاتكة بنت مروان بن الحكم على أبواب قصورهم، وكانت جليلة
الموضع عندهم، فلما ولي عمر قال: لا يلي إنزالها أحد غيري، فأدخلوها على دابتها
إلى باب قبته، فأنزلها، ثم طبق لها وسادتين، إحداهما على الأخرى، ثم أنشأ يمازحها، ولم يكن من شأنه ولا من شأنها المزاح
فقال: أما رأيت الحرس الذين على الباب، فقالت: بلى، وربما رأيتهم عند من هو خير
منك، فلما رأى الغضب لا يتحلل عنها ترك المزاح وسألها أن تذكر حاجتها، فقالت: إن قرابتك يشكونك، ويزعمون أنك أخذت منهم خير غيرك،
قال: ما منعتهم شيئاً هو لهم، ولا أخذت منهم حقاً يستحقونه، قالت: إني أخاف أن يهيجوا عليك يوماً عصيباً، وقال: كل
يوم أخافه، دون يوم القيامة، فلا وقاني الله شره. ثم دعا بدينار ومجمرة وجلد فألقى الدينار في النار،
وجعل ينفخ حتى احمر، ثم تناوله بشيء فأخرجه فوضعه على الجلد، فنشق وفتر، فقال: يا عمة، أما تأوين لابن أخيك، من مثل هذا، فقامت
فخرجت إلى بني مروان فقالت: تزوجون في آل عمر بن
الخطاب، فإذا نزعوا إلى الشبه جزعتم، اصبروا له. فخرج عنبسة، فلما صار إلى الباب ناداه:
أبا خالد، أبا خالد، فرجع فقال: أكثر ذكر الموت فإن كنت
في ضيق من العيش وسعه عليك، وإن كنت في سعة من العيش ضيقه عليك. قال: أنشدكما الله الذي إليه تعودان، لو أن رجلاً
هلك وترك بنين أصاغر وأكابر، فغر الأكابر الأصاغر بقوتهم، فأكلوا أموالهم، ثم
بلغ الأصاغر الحلم فجاء وكما بهم وبما صنعوا في أموالهم ما كنتما صانعين، قالا: كنا نرد عليهم حقوقهم حتى يستوفوها. قال: فإني وجدت كثيراً ممن كان قبلي من الولاة غر الناس بسلطانه
وقوته، وآثر بأموالهم أتباعه وأهله ورهطه وخاصته،
فلما وليت أتوني بذلك، فلم يسعني إلا الرد على الضعيف
من القوي، وعلى الدنيء من الشريف. فقالا: يوفق الله أمير المؤمنين. فخذ بالحزم، واتهم في ذلك حسن الظن. واجعل نفسك جنةً دون ما أعطيت، فإنه ليس من فرائض
الله تعالى شيء الناس أشد عليه اجتماعاً مع تفرق أهوائهم، وتشتت آرائهم، من
تعظيم الوفاء بالعهود، وقد لزم ذلك المشركون فيما بينهم دون المسلمين، لما
استوبلوا من عواقب الغدر. والصواب أن شيء، اسم ليس، وجاز ذلك وإن كان نكرةً
لاعتماده على النفي، ولأن الجار والمجرور قبله لا موضع الحال كالصفة، فتخصص بذلك
وقرب من المعرفة، والناس: مبتدأ، وأشد: خبره، وهذه الجملة المركبة من مبتدأ وخبر
في موضع رفع لأنها صفة شيء، وأما خبر المبتدأ الذي هو شيء، فمحذوف، وتقديره في
الوجود، كما حذف الخبر في قولنا: لا إله إلا الله، أي في الوجود. وليس يصح ما قال الراوندي من أن أشد مبتدأ ثان، و من
تعظيم الوفاء خبره، لأن حرف الجر إذا كان خبراً لمبتدأ تعلق بمحذوف،
وههنا هو متعلق بأشد نفسه، فكيف يكون خبراً عنه، وأيضاً
فإنه لا يجوز أن يكون أشد من تعظيم الوفاء خبراً عن الناس، كما زعم الراوندي، لأن
ذلك كلام غير مفيد، ألا ترى أنك إذا أردت أن تخبر بهذا الكلام عن المبتدأ الذي
هو الناس، لم يقم من ذلك صورة محصلة تفيدك شيئاً، بل يكون كلاماً مضطرباً. ولا مدالسة، أي لا خديعة، يقال:
فلان لا يوالس ولا يدالس، أي لا يخادع ولا يخون، وأصل الدلس الظلمة، والتدليس في
البيع: كتمان عيب السلعة عن المشتري. ونهاه إذا عقد العقد بينه وبين العدو أن ينقضه
معولاً على تأويل خفي أو فحوى قول، أو يقول:
إنما عنيت كذا، ولم أعن ظاهر اللفظة، فإن العقود إنما تعقد على ما هو ظاهر في
الاستعمال متداول في الإصطلاح والعرف لا على ما في الباطن. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
بعض ما جاء في الحذر من كيد العدو والنهي عن الغدر.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قد جاء في الحذر من كيد
العدو والنهي عن التفريط في الرأي والسكون إلى ظاهر السلم أشياء كثيرة، وكذا في النهي عن الغدر والنهي عن طلب
تأويلات العهود وفسخها بغير الحق. فزوجوه بامرأة منهم، فقال لهم: إني لا أقيم فيكم
حتى أخبركم بأخلاقي، أنا فخور غيور أنف، ولست أفخر حتى أبتلى، ولا أغار حتى أرى،
ولا آنف حتى أظلم. فرضوا أخلاقه، فأقام فيهم حتى ولد له، ثم أراد أن يتحول عنهم،
فقال: يا معشر النمر، إن لكم حقاً علي في مصاهرتي فيكم، ومقامي بين أظهركم، وإني
موصيكم بخصال آمركم بها، وأنهاكم عن خصال: عليكم بالأناة فإن بها تدرك الحاجة،
وتنال الفرصة، وتسويد من لا تعابون بتسويده، والوفاء بالعهود فإن به يعيش الناس،
وعطاء ما تريدون إعطاءه قبل المسألة، ومنع ما تريدون منعه قبل الإنعام، وإجارة
الجار على الدهر، وتنفيس البيوت عن منازل الأيامى، وخلط الضيف بالعيال. وأنهاكم
عن الغدر، فإنه عار الدهر، وعن الرهان فإن به ثكلت مالكاً أخي، وعن البغي فإن به
صرع زهير أبي، وعن السرف في الدماء، فإن قتلي أهل الهباءة أورثني العار. ولا تعطوا في الفضول فتعجزوا عن الحقوق، وأنكحوا
الأيامى الأكفاء فإن لم تصيبوا بهن الأكفاء فخير بيوتهن القبور. وأعلموا أني
أصبحت ظالماً ومظلوماً، ظلمني بنو بدر بقتلهم مالكاً، وظلمتهم بقتلي من لا ذنب
له. ثم رحل
عنهم إلى غمار فتنصر بها، وعف عن المآكل حتى أكل الحنظل إلى أن مات. والخطأ
على
وجهين: خطأ في القصد، وهو أن يرمي شخصاً يظنه
صيداً، فإذا هو آدمياً، وخطأ في الفعل، وهو أن
يرمي غرضاً فيصيب آدمياً، وموجب النوعين جميعاً الكفارة والدية على العاقلة، ولا
مأثم فيه. وكان
بعض الصالحين يقول إذا أطراه إنسان: ليسألك الله
عن حسن ظنك. وقال أبو مقاتل الضرير: قلت لأعرابي: قد أكثر الناس في المواعيد؛ فما قولك
فيها؟ فقال: بئس الشيء! الوعد مشغلة للقلب
الفارغ، متعبة للبدن الخافض، خيره غائب، وشره حاضر. وفي الحديث المرفوع: عدة المؤمن كأخذٍ باليد، فأما أمير المؤمنين رضي الله عنه فقال: إنه يوجب
المقت، واستشهد عليه بالآية. والمقت: البغض.
ومنها نهيه عن اللجاجة في الحاجة إذا تعذرت؛ كان يقال: من لاج الله فقد جعله
خصماً، ومن كان الله خصمه فهو مخصوم، قال الغزي:
ومنها نهيه له عن الوهن فيها إذا استوضحت، أي وضحت وانكشفت، ويروى: واستوضحت،
فعل ما لم يسم فاعله، والوهن فيها إهمالها وترك انتهاز الفرصة فيها، قال الشاعر:
ومنها نهيه عن الاستئثار، وهذا هو الخلق النبوي، غنم رسول الله صلى الله عليه وسلم، غنائم خيبر، وكانت ملء الأرض نعماً،
فلما ركب راحلته وسار تبعه الناس يطلبون الغنائم وقسمها، وهو ساكت لا يكلمهم،
وقد أكثروا عليه إلحاحاً وسؤالاً، فمر بشجرة فخطفت رداءه، فالتفت فقال: ردوا علي
ردائي، فلو ملكت بعدد رمل تهامة مغنماً لقسمته بينكم عن آخره ثم لا تجدونني
بخيلاً ولا جباناً، ونزل وقسم ذلك المال عن آخره عليهم
كله، لم يأخذ لنفسه منه وبرةً. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
بعض ما ورد من وصايا العرب.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وينبغي أن يذكر في هذا الموضع وصايا من كلام قوم من رؤساء العرب
أوصوا بها أولادهم ورهطهم، فيها آداب حسان، وكلام فصيح، وهي مناسبة لعهد أمير
المؤمنين رضي الله عنه هذا، ووصاياه المودعة فيه، وإن كان كلام أمير المؤمنين
رضي الله عنه أجل وأعلى من أن يناسبه كلام، لأنه قبس من نور الكلام الإلهي، وفرع
من دوحة المنطق النبوي. يا مالك، المنية ولا الدنية، والعتاب قبل
العقاب، والتجلد لا التبلد، وأعلم أن القبر خير من الفقر، ومن لم يعط قاعداً حرم
قائماً، وشر الشرب الاشتفاف وشر الطعم الاقتفاف، وذهاب البصر، خير من كثير من
النظر، ومن كرم الكريم الدفع عن الحريم، ومن قل ذل، وخير الغنى القناعة، وشر
الفقر الخضوع. الدهر صرفان: صرف رخاء، وصرف بلاء؛ واليوم
يومان: يوم لك ويوم عليك، فإذا كان لك فلا تبطر، وإذا كان عليك فاصطبر،
وكلاهما سينحسر وكيف بالسلامة، لمن ليست له إقامة، وحياك ربك. كونوا جميعاً، ولا تفرقوا فتكونوا شيعاً، وبزوا قبل أن تبزوا، فموت في عز،
خير من حياة في ذل وعجز، وكل ما هو كائن كائن، وكل جمع إلى تباين، والدهر صرفان:
صرف بلاء، وصرف رخاء، واليوم يومان: يوم حبرة،
ويوم عبرة، والناس رجلان: رجل لك، ورجل عليك.
زوجوا النساء الأكفاء، وإلا فانتظروا بهن القضاء، وليكن أطيب طيبهن الماء،
وإياكم والورهاء، فإنها أدوا الداء، وإن ولدها إلى أفن يكون. لا راحة لقاطع
القرابة. وإذا اختلف القوم أمكنوا عدوهم، وآفة العدد اختلاف الكلمة، والتفضل بالحسنة يقي السيئة، والمكافأة
بالسيئة دخول فيها، وعمل السوء يزيل
النعماء، وقطيعة الرحم تورث الهم، وانتهاك الحرمة يزيل النعمة، وعقوق
الوالدين يعقب النكد، ويخرب البلد، ويمحق العدد، والإسراف في النصيحة، هو الفضيحة، والحقد
منع الرفد، ولزوم الخطيئة يعقب البلية، وسوء الدعة يقطع أسباب المنفعة، والضغائن تدعو إلى التباين، يا بني إني قد أكلت مع
أقوام وشربت، فذهبوا وغبرت، وكأني بهم قد لحقت، ثم قال:
وصى أكثم بن صيفي بنيه ورهطه فقال: يا بني تميم، لا يفوتنكم وعظي، إن فاتكم الدهر بنفسي، إن
بين حيزومي وصدري لكلاماً لا أجد له مواقع إلا أسماعكم ولا مقار إلا قلوبكم، فتلقوه بأسماع مصغية، وقلوب واعية، تحمدوا مغبته: الهوى يقظان، والعقل راقد، والشهوات مطلقة، والحزم معقول،
والنفس مهملة، والروية مقيدة، ومن جهة التواني وترك الروية يتلف الحزم، ولن يعدم
المشاور مرشداً، والمستبد برأيه موقوف على مداحض الزلل، ومن سمع سمع به، ومصارع
الرجال تحت بروق الطمع، ولو اعتبرت مواقع المحن ما وجدت إلا في مقاتل الكرام،
وعلى الاعتبار طريق الرشاد، ومن سلك الجدد أمن العثار، ولن يعدم الحسود أن يتعب
قلبه، ويشغل فكره، ويورث غيظه، ولا تجاوز مضرته نفسه. يا بني تميم، الصبر على
جرع الحلم أعذب من جنا ثمر الندامة، ومن جعل عرضه دون ماله استهدف للذم، وكلم
اللسان أنكى من كلم السنان، والكلمة مرهونة ما لم تنجم من الفم، فإذا نجمت مزجت،
فهي أسد محرب، أو نار تلهب، ورأي الناصح اللبيب دليل لا يجوز، ونفاذ الرأي في
الحرب، أجدى من الطعن والضرب.
وانظر هذا الحي من ربيعة فإنهم شيعتك وأنصارك، فاقض حقوقهم، وانظر هذا الحي من تميم
فأمطرهم ولا تزه لهم، ولا تدنهم فيطمعوا، ولا تقصهم فيقطعوا، وانظر هذا الحي من
قيس فإنهم أكفاء قومك في الجاهلية، ومناصفوهم المآثر في الإسلام، ورضاهم منك
البشر. يا بني إن لأبيك صنائع فلا تفسدها، فإنه كفى بالمرء نقصاً أن يهدم ما بنى
أبوه، وإياك والدماء فإنه لا تقية معها، وإياك وشتم
الأعراض فإن الحر لا يرضيه عن عرضه عوض، وإياك وضرب الأبشار فإنه عار
باقي، ووتر مطلوب، واستعمل على النجدة والفضل دون الهوى، ولا تعزل إلا عن عجز أو
خيانة. ولا ممنعك من اصطناع الرجل أن يكون غيرك قد سبقك إليه، فإنك إنما تصطنع
الرجال لفضلها. وليكن صنيعك عند من يكافئك عنه العشائر. احمل
الناس على أحسن أدبك يكفوك أنفسهم. وإذا
كتبت كتاباً فأكثر النظر فيه، وليكن رسولك فيما بيني وبينك من يفقه عني وعنك،
فإن كتاب الرجل موضع عقله، ورسوله موضع سره. وأستودعك الله، فلا بد للمودع أن
يسكت، وللمشيع أن يرجع. وما
عفت من المنطق وقل من الخطيئة أحب إلى أبيك. وإياكم ومعصية الله وقطيعة الرحم، وتمسكوا
بطاعة أمرائكم فإنهم من رفعوا ارتفع، ومن وضعوا اتضع. وعليكم بهذا المال فأصلحوه،
فإنه منبهة للكريم، وجنة لعرض اللئيم. وإياكم والمسألة فإنها آخر كسب الرجل، وإن
أحداً لم يسأل إلا ترك الكسب، وإياكم والنياحة، فإني
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عنها، وادفنوني في ثيابي التي كنت أصلي
فيها وأصوم، ولا يعلم بكر بن وائل بمدفني فقد كانت بيني وبينهم مشاحنات في الجاهلية والإسلام، وأخاف
أن يدخلوا عليكم بي عاراً. وخذوا عني ثلاث خصال: إياكم وكل عرق لئيم أن تلابسوه فإنه إن يسرركم اليوم يسؤكم غداً،
واكظموا الغيظ، واحذروا بني أعداء آبائكم فإنهم على
منهاج آبائهم، ثم قال:
قال ابن الكلبي: فيحكي الناس هذا البيت سابقاً للزبير، وما هو إلا
لقيس بن عاصم. وأوصى عمرو بن كلثوم التغلبي بنيه فقال:
يا بني؛ إني قد بلغت من العمر ما لم يبلغ أحد من آبائي وأجدادي، ولا بد من أمر
مقتبل، وأن ينزل بي ما نزل بالأباء والأجداد والأمهات والأولاد، فاحفظوا عني ما أوصيكم به. إني والله ما عيرت رجلاً قط
أمراً إلا عيرني مثله؛ إن حقاً فحق، وإن باطلاً فباطل، ومن سب سب، فكفوا عن
الشتم فإنه أسلم لأعراضكم. وصلوا أرحامكم تعمر داركم، وأكرموا جاركم بحسن
ثنائكم، وزوجوا بنات العم بني العم فإن تعديتم بهن إلى الغرباء فلا تألوا بهن عن
الأكفاء. وأبعدوا بيوت النساء من بيوت الرجال، فإنه أغض للبصر، وأعف للذكر؛ ومتى
كانت المعاينة واللقاء، ففي ذلك داء من الأدواء، ولا خير فيمن لا يغار لغيره كما
يغار لنفسه، وقل من انتهك حرمةً لغيره إلا انتهكت حرمته. وامنعوا القريب من ظلم
الغريب، فإنك تدل على قريبك، ولا يجمل بك ذل غريبك، وإذا تنازعتم في الدماء فلا
يكن حقكم الكفاء، فرب رجل خير من ألف، وود خير من خلف، وإذا حدثتم فعوا، وإذا
حدثتم فأوجزوا، فإن مع الإكثار يكون الإهذار، وموت عاجل خير من ضنًى آجل، وما
بكيت من زمان إلا دهاني بعده زمان، وربما شجاني من لم يكن أمره عناني، وما عجبت
من أحدوثة إلا رأيت بعدها أعجوبة. واعلموا أن أشجع القوم العطوف، وخير الموت تحت
ظلال السيوف، ولا خير فيمن لا روية له عند الغضب، ولا فيمن إذا عوتب لم يعتب،
ومن الناس من لا يرجى خيره، ولا يخاف شره، فبكوءه خير من دره، وعقوقه خير من
بره، ولا تبرحوا في حبكم فإن من أبرح في حب آل ذلك إلى قبيح بغض، وكم قد زارني
إنسان وزرته، فانقلب الدهر بنا فقبرته. واعلموا أن الحليم سليم، وأن السفيه كليم، إني لم
أمت ولكن هرمت، ودخلتني ذلة فسكت، وضعف قلبي فأهترن، سلمكم ربكم وحياكم! ومن كتاب أردشير بن بابك إلى بنيه
والملوك من بعده: رشاد الوالي خير للرعية من خصب
الزمان، الملك والدين توءمان لا قوام لأحدهما إلا بصاحبه، فالدين أس الملك
وعماده، ثم صار الملك حارس الدين، فلا بد للملك من أسه، ولا بد للدين من حارسه، فأما
ما لا حارس له فضائع، وما لا أس له فمهدوم إن رأس ما أخاف عليكم مبادرة السفلة
إياكم إلى دراسة الدين وتأويله والتفقه فيه، فتحملكم الثقة بقوة الملك على
التهاون بهم، فتحدث في الدين رياسات منتشرات سراً فيمن قد وترتم وجفوتم، وحرمتم
وأخفتم، وصغرتم من سفلة الناس والرعية وحشو العامة، ثم لا تنشب تلك الرياسات أن
تحدث خرقاً في الملك ووهناً في الدولة. واعلموا أن سلطانكم إنما هو على أجساد
الرعية لا على قلوبها، وإن غلبتم الناس على ما في أيديهم فلن تغلبوهم على ما في
عقولهم وآرائهم ومكايدهم. واعلموا أن العاقل المحروم سال عليكم لسانه، وهو
أقطع سيفيه، وإن أشد ما يضر بكم من لسانه ما صرف الحيلة فيه إلى الدين، فكان
للدنيا يحتج، وللدين فيما يظهر يتعصب، فيكون للدين بكاؤه، وإليه دعاؤه، ثم هو
أوحد للتابعين والمصدقين والمناصحين والمؤازرين، لأن تعصب الناس موكل بالملوك،
ورحمتهم ومحبتهم موكله بالضعفاء المغلوبين، فاحذروا هذا المعنى كل الحذر. وكان إفساده أمرنا، وتفرقته جماعتنا، وتخريبه عمران
مملكتنا أبلغ له فيما أراد من سفك دمائنا، فلما أذن الله عز وجل في جمع مملكتنا،
وإعادة أمرنا، كان من بعثه إيانا ما كان. وبالاعتبار يتقى العثار، والتجارب الماضية دستور
يرجع إليه من الحوادث الآتية. أخوف ما يكون العامة آمن ما يكون
الوزراء، وآمن ما يكون العامة أخوف ما يكون الوزراء. ويتولد من
جبن الملك عن الرعية استعجالهم عليه، وهم أقوى عدو له وأخلقه بالظفر، لأنه حاضر
مع الملك في دار ملكه، فمن أفضى إليه الملك بعدي فلا يكونن بإصلاح جسده أشد
اهتماماً منه بهذه الحال، ولا تكونن لشيء من الأشياء أكره وأنكر لرأسٍ صار
ذنباً، وذنبٍ صار رأساً، ويد مشغولة صارت فارغةً، أو غني صار فقيراً، أو عامل
مصروف، أو أمير معزول. واعلموا أن سياسة الملك وحراسته ألا يكون ابن
الكاتب إلا كاتباً، وابن الجندي إلا جندياً، وابن التاجر إلا تاجراً، وهكذا في
جميع الطبقات، فإنه يتولد من تنقل الناس عن حالاتهم أن يلتمس كل امرىء منهم فوق
مرتبته، فإذا أنتقل أوشك أن يرى شيئاً أرفع مما انتقل إليه، فيحسد أو ينافس، وفي
ذلك من الضرر المتولد ما لا خفاء به، فإن عجز ملك منكم عن إصلاح رعيته كما
أوصيناه فلا يكون للقميص القمل أسرع خلعاً منه لما لبس من قميص ذلك الملك. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وكتب إلى طلحة والزبير مع عمران بن الحصين الخزاعي،
وذكر هذا الكتاب أبو جعفر الإسكافي في كتاب المقامات.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: أما بعد، فقد
علمتما، وإن كتمتما، أني لم أرد الناس حتى أرادوني، ولم أبايعهم حتى بايعوني؛
وإنكما ممن أرادني وبايعني، وإن العامة لم تبايعني لسلطا نٍ غالبٍ ، ولا لحرصٍ
حاضرٍ، فإن كنتما بايعتماني طائعين فارجعا وتوبا إلى
الله من قريبٍ، وإن كنتما بايعتماني كارهين فقد
جعلتما لي عليكما السبيل بإظهاركما الطاعة وإسراركما المعصية. ولعمري ما كنتما بأحق المهاجرين بالتقية والكتمان. وإن دفعكما هذا الأمر قبل أن تدخلا فيه كان أوسع
عليكما من خروجكما منه بعد إقراركما به. وقد زعمتما أني قتلت عثمان، فبيني وبينكما من
تخلف عني وعنكما من أهل المدينة، ثم يلزم كل امرىءٍ بقدر ما احتمل. فارجعا أيها
الشيخان عن رأيكما؛ فإن الآن أعظم أمركما العار، من قبل أن يجتمع العار والنار
والسلام. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
عمران بن الحصين ونسبه.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الشرح: هو عمران بن
الحصين بن عبيد بن خلف بن عبد بن نهم بن سالم بن غاضرة بن سلول بن حبشية بن سلول
بن كعب بن عمرو الخزاعي. يكنى أبا بجيد بابنه بجيد
بن عمران. أسلم هو وأبو هريرة عام خيبر،
وكان من فضلاء الصحابة وفقهائهم، يقول أهل البصرة عنه:
إنه كان يرى الحفظة، وكانت تكلمه حتى اكتوى. واستقضاه عبد الله بن عامر بن كريز على البصرة فعمل له
أياماً، ثم استعفاه فأعفاه، ومات بالبصرة سنة
اثنتين وخمسين في أيام معاوية. قال: ولم يبايعني
العامة والمسلمون لسلطانٍ غصبهم وقهرهم على ذلك، ولا لحرص حاضر، أي مال موجود
فرقته عليهم. ثم قسم عليهما الكلام، فقال:
إن كنتما بايعتماني طوعاً عن رضا فقد وجب عليكما
الرجوع، لأنه لا وجه لانتقاض تلك البيعة، وإن كنتما بايعتماني مكرهين
عليها فالإكراه له صورةٌ، وهي أن يجرد السيف ويمد
العنق، ولم يكن قد وقع ذلك، ولا يمكنكما أن تدعياه، وإن كنتما بايعتماني
لا عن رضاً ولا مكرهين بل كارهين، وبين المكره
والكاره فرقٌ بين، فالأمور الشرعية إنما تبنى على
الظاهر، وقد جعلتما لي على أنفسكما السبيل بإظهاركما
الطاعة، والدخول فيما دخل فيه الناس، ولا اعتبار بما أسررتما من كراهية ذلك. على أنه لو كان عندي ما يكرهه المسلمون لكان المهاجرون في كراهية ذلك سواء؛ فما الذي جعلكما أحق المهاجرين كلهم بالكتمان والتقية!
ثم قال: وقد كان امتناعكما عن البيعة في مبدأ الأمر أجمل
من دخولكما فيها ثم نكثها. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وكتب إلى معاوية.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: أما بعد فإن
الله سبحانه جعل الدنيا لما بعدها، وابتلى فيها أهلها، ليعلم أيهم أحسن عملاً،
ولسنا للدنيا خلقنا، ولا بالسعي فيها أمرنا، وإنما وضعنا فيها لنبتلى بها، وقد
ابتلانى الله بك وابتلاك بي، فجعل أحدنا حجة على الآخر، فعدوت على طلب الدنيا
بتأويل القرآن، وطلبتني بما لم تجن يدي ولا لساني، وعصبته أنت وأهل الشام بي،
وألب عالمكم جاهلكم، وقائمكم قاعدكم. ثم ذكر أن كل واحد منه ومن معاوية مبتلى بصاحبه، وذلك كابتلاء
آدم بإبليس وإبليس بآدم. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن كلام له رضي الله عنه وصى به شريح بن هانئ لما
جعله علي مقدمته إلى الشام
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: اتق الله في
كل مساء وصباح، وخف على نفسك الدنيا الغرور، ولا تأمنها على حال. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
شريح بن هانئ.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الشرح:
هو شريح بن هانئ بن يزيد بن نهيك بن دريد بن سفيان بن الضباب، وهو سلمة بن
الحارث بن ربيعة بن الحارث بن كعب المذحجي. كان هانئ يكنى في
الجاهلية أبا الحكم، لأنه كان يحكم بينهم، فكناه
رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي تشريح، إذ وفد عليه، وابنه تشريح هذا من جلة أصحاب علي رضي الله عنه، شهد معه المشاهد كلها، وعاش حتى قتل
بسجستان في زمن الحجاج، وشريح جاهلي إسلامي، يكنى
أبا المقدام، ذكر ذلك كله أبو عمر بن عبد البر في كتاب الاستيعاب. والرادع:
الكاف المانع. والنزوات:
الوثبات. والحفيظة: الغضب. والواقم:
فاعل من وقمته أي رددته أقبح الرد وقهرته. يقول رضي الله عنه: إن لم تردع نفسك عن كثير من شهواتك أفضت بك إلى كثير من
الضرر، ومثل هذا قول الشاعر:
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وكتب إلى أهل الكوفة عند مسيره من المدينة إلى
البصرة.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: أما بعد،
فإني خرجت عن حيي هذا إما ظالماً وإما مظلوماً، وإما باغياً وإما مبغياً عليه،
وأنا أذكر الله من بلغه كتاكي هذا لما نفر إلي، فإن كنت محسناً أعانني، وإن كنت
مسيئاً استعتبني. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
من كتاب له إلى أهل الأمصار يقص فيه ما جرى بينه
وبين أهل صفين.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
وكان بدء أمرنا أنا التقينا بالقوم من أهل الشام، والظاهر أن ربنا واحد، ونبينا
واحد، ودعوتنا في الإسلام واحدة، ولا نستزيدهم في الإيمان بالله والتصديق برسوله
ولا يستزيدوننا، والأمر واحد إلا ما اختلفنا فيه من دم عثمان، ونحن منه براء،
فقلنا: تعالوا نداوي ما لا يدرك اليوم بإطفاء النائرة، وتسكين العامة، حتى يشتد
الأمر ويستجمع، فنقوى على وضع الحق في مواضعه، فقالوا: بل نداويه بالمكابرة،
فأبوا، حتى جنحت الحرب وركدت، ووقدت نيرانها وحمشت.
ومن
لم يروها بالواو فقد استراح من التكلف. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قوله:
والظاهر أن ربنا واحد، كلام من لم يحكم لأهل صفين من جانب معاوية حكماً قاطعاً
بالإسلام، بل قال: ظاهرهم الإسلام، ولا خلف بيننا وبينهم فيه، بل الخلف في دم
عثمان. وران بمعنى غلب وغطى، وروي فهو الراكس الذي رين على
قلبه. قال: وصارت دائرة السوء على رأسه، من ألفاظ القرآن العزيز، قال الله
تعالى: "عليهم دائرة السوء"، والدوائر: الدول. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وكتب إلى الأسود بن قطبة صاحب جند حلوان.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: أما بعد، فإن
الوالي إذا اختلف هواه منعة ذلك كثيراً من العدل، فليكن أمر الناس عندك في الحق
سواء، فإنه ليس في الجور عوض من العدل، فاجتنب ما تنكر أمثاله، وابتذل نفسك فيما
افترض الله عليك، راجياً ثوابه، ومتخوفاً عقابه. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأسود بن قطبة.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الشرح: لم أقف إلى
الآن على نسب الأسود بن قطبة، وقرأت في كثير من النسخ أنه حارثي من بني الحارث
بن كعب، ولم أتحقق ذلك، والذي يغلب على ظني أنه الأسود بن زيد بن قطبة بن غنم
الأنصاري من بني عبيد بن عدي. ذكره أبو عمر بن عبد البر
في كتاب الاستيعاب، وقال: إن موسى بن عقبة عده فيمن شهد بدراً. وقوله: إلا كانت
فرغته كلمة فصيحة، وهي المرة الواحدة من الفراغ، وقد
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن
الله يبغض الصحيح الفارغ لا في شغل الدنيا ولا في شغل الآخرة"، ومراد أمير
المؤمنين رضي الله عنه ههنا الفراغ من عمل
الآخرة خاصة. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وكتب إلى العمال الذين بطأ عملهم الجيوش.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: من عبد الله
علي أمير المؤمنين إلى من مر به الجيش من جباة الخراج وعمال البلاد: أما بعد،
فإني قد سيرت جنوداً هي مارة بكم إن شاء الله، وقد أوصيتهم بما يجب لله عليهم من
كف الأذى، وصرف الأذى، وأنا أبرأ إليكم وإلى ذمتكم من معرة الجيش، إلا من جوعة
المضطر لا يجد عنها مذهباً إلى شبعه، فنكلوا من تناول منهما ظلماً عن ظلمهم،
وكفوا أيدي سفهائكم عن مضادتهم، والتعرض لهم فيما استثنيناه منهم، وأنا بين أظهر
الجيش، فارفعوا إلي مظالمكم، وما عراكم مما يغلبكم من أمرهم ولا تطيقون دفعه إلا
بالله وبي، أغيره بمعونة الله. إن شاء الله. وجباة
الخراج: الذين يجمعونه، جبيت الماء في الحوض، أي جمعته. والشذى:
الضرب والشر، تقول: لقد أشذيت وآذيت. وإلى ذمتكم، أي إلى اليهود والنصارى الذين بينكم،
قال رضي الله عنه: من آذى ذمياً فكأنما آذاني،
وقال: إنما بذلوا الجزية لتكون دماؤهم كدمائنا، وأموالهم كأموالنا، ويسمى هؤلاء
ذمة، أي أهل ذمة، بحذف المضاف. والمعرة:
المضرة، قال: الجيش ممنوع من أذى من يمر به من المسلمين وأهل الذمة إلا من سد
جوعة المضطر منهم خاصة، لأن المضطر تباح له الميتة فضلاً عن غيرها. وعن في قوله: عن ظلمهم، يتعلق بنكلوا، لأنها في
معنى اردعوا، لأن النكال يوجب الردع. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وكتب إلى كميل بن زياد النخعي وهو عامله على هيت
ينكر عليه تركه دفع من يجتاز به من جيش العدو طالباً للغارة.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: أما بعد، فإن
تضييع المرء ما ولي، وتكلفه ما كفي، لعجز حاضر، ورأي متبر. وإن تعاطيك
الغارة على أهل قرقيسيا، وتعطيلك مسالحك التي وليناك، ليس لها من يمنعها، ولا
يرد الجيش عنها، لرأي شعاع، فقد صرت جسراً لمن أراد الغارة من أعدائك على
أوليائك، غير شديد المنكب، ولا مهيب الجانب، ولا ساد ثغرة، ولا كاسر لعدو شوكة،
ولا مغن عن أهل مصره، ولا مجز عن أميره. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
كميل بن زياد.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الشرح: هو كميل بن
زياد بن سهيل بن هيثم بن سعد بن مالك بن الحارث بن صهبان بن سعد بن مالك بن
النخع بن عمرو بن وعلة بن خالد بن مالك بن أدد. كان من أصحاب علي رضي الله عنه وشيعته وخاصته، وقتله
الحجاج على المذهب فيمن قتل من الشيعة. وكان كميل بن زياد عامل
علي رضي الله عنه على هيت، وكان ضعيفاً، يمر
عليه سرايا معاوية تنهب أطراف العراق ولا يردها، ويحاول أن يجبر ما عنده من
الضعف بأن يغير على أطراف أعمال معاوية مثل قرقيسيا وما يجري مجراها من القرى
التي على الفرات، فأنكر رضي الله عنه ذلك من فعله، وقال: إن من العجز الحاضر أن يهمل الوالي ما وليه،
ويتكلف ما ليس من تكليفه. ومجز: كاف ومغن، والأصل مجزىء بالهمز، فخفف. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وكتب إلى أهل مصر مع مالك الأشتر رحمه الله لما
ولاه إمارتها.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
أما بعد، فإن الله سبحانه بعث محمداً صلى الله عليه وأله وعلى صحبه وسلم نذيراً للعالمين، ومهيمناً على المرسلين،
فلما مض صلى الله عليه وأله وصحبه تنازع
المسلمون الأمر من بعده، فو الله ما كان يلقى في روعي، ولا يخطر ببالي أن العرب
تزعج هذا الأمر من بعده صلى الله عليه وأله وصحبه عن أهل بيته، ولا أنهم منحوه
عني من بعده، فما راعني إلا انثيال الناس على فلان يبايعونه، فأمسكت بيدي حتى
رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام، يدعون إلى محق دين محمد صلى الله عليه وأله وصحبه، فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو
هدماً، تكون المصيبة به علي أعظم من فوت ولايتكم، التي إنما هي متاع أيام قلائل،
يزول منها ما كان، كما يزول السراب، وكما يتقشع السحاب، فنهضت في تلك الأحداث
حتى زاح الباطل وزهق، واطمأن الدين وتنهنه. الشرح:
المهيمن: الشاهد، قال الله تعالى: "إنا
أرسلناك شاهداً ومبشراً"، أي تشهد بإيمان من آمن وكفر من كفر. وقيل:
تشهد بصحة نبوة الأنبياء قبلك. تنهنه: سكن، وأصله الكف، تقول: نهنهت السبع فتنهنه، أي كف عن حركته
وإقدامه، فكأن الدين كان متحركاً مضطرباً فسكن وكف عن ذلك الاضطراب. روى أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في التاريخ الكبير
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما مات اجتمعت أسد وغطفان وطيء على طليحة بن
خويلد إلا ما كان من خواص أقوام في الطوائف الثلاث، فاجتمعت أسد بسميراء، وغطفان
بجنوب طيبة وطيىء في حدود أرضهم، واجتمعت ثعلبة بن أسد ومن يليهم من قيس بالأبرق
من الربذة، وتأشب إليهم ناس من بني كنانة، ولم تحملهم البلاد، فافترقوا فرقتين: أقامت
إحداهما بالأبرق، وسارت الأخرى إلى
ذي القصة، وبعثوا وفوداً إلى أبي بكر يسألونه أن يقارهم
على إقامة الصلاة ومنع الزكاة، فعزم الله لأبي بكر على الحق، فقال: لو
منعوني عقالاً لجاهدتهم عليه. ورجع الوفود إلى قومهم فأخبروهم بقلة من أهل
المدينة، فأطمعوهم فيها وعلم أبو بكر والمسلمون بذلك،
وقال لهم أبو بكر: أيها المسلمون، إن الأرض كافرة، وقد
رأى وفدهم منكم قلة، وإنكم لا تدرون أليلاً تؤتون أم نهاراً، وأدناهم منكم على
بريد، وقد كان القوم يأملون أن نقبل منهم ونوادعهم، وقد أبينا عليهم، ونبذنا
إليهم، فأعدوا واستعدوا. فخرج علي رضي
الله عنه بنفسه، وكان على نقب من أنقاب
المدينة، خرج الزبير وطلحة وعبد الله بن مسعود وغيرهم فكانوا على الأنقاب
الثلاثة، فلم يلبثوا إلا قليلاً حتى طرق القوم المدينة غارة مع الليل، وخلفوا
بعضهم بذي حسى ليكونوا ردءاً لهم، فافوا الأنقاب وعليها المسلمون، فأرسلوا إلى أبي بكر بالخبر، فأرسل إليهم أن الزموا
مكانكم، ففعلوا، وخرج أبو بكر في جمع من أهل المدينة
على النواضح، فانتشر العدو بين أيديهم، واتبعهم المسلمون على النواضح حتى
بلغوا ذا حسى، فخرج عليهم الكمين بأنحاء قد نفخوها،
وجعلوا فيها الحبال، ثم دهدهوها بأرجلهم في وجوه الإبل، فتدهده كل نحي
منها في طوله فنفرت إبل المسلمين، وهم عليها، ولا تنفر الإبل من شيء نفارها من
الأنحاء، فعاجت بهم لا يملكونها حتى دخلت بهم المدينة، ولم يصرع منهم أحد ولم
يصب، فبات المسلمون تلك الليلة يتهيئون، ثم خرجوا على تعبية، فما طلع الفجر إلا وهم والقوم على صعيد واحد، فلم يسمعوا
للمسلمين حساً ولا همسأ حتى وضعوا فيهم السيف، فاقتتلوا أعجاز ليلتهم، فما ذر
قرن الشمس إلا وقد ولوا الأدبار وغلبوهم على عامة ظهرهم، ورجعوا إلى المدينة
ظافرين. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الرد علي الشيعة في طعنهم في إمامة أبي بكر.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وينبغي حيث جرى ذكر أبي بكر في كلام
أمير المؤمنين رضي
الله عنه أن
نذكر ما أورده قاضي القضاة في المغني، من المطاعن التي طعن بها فيه وجواب قاضي القضاة عنها، واعتراض المرتضى في الشافي على قاضي القضاة، ونذكر ما عندنا في ذلك، ثم نذكر مطاعن أخرى لم يذكرها قاضي القضاة. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الطعن الأول.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال قاضي القضاة بعد أن ذكر ما طعن
به فيه في أمر فدك، وقد سبق القول فيه. أجاب قاضي القضاة فقال: إن شيخنا أبا علي قال: لو كان ذلك
نقص، فيه لكان قول الله في آدم وحواء: "فوسوس
لهما الشيطان"، وقوله: "فأزلهما
الشيطان". وقوله: "وما
أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته"،
يوجب النقص في الأنبياء، وإذا لم يجب ذلك، فكذلك ما وصف به أبو بكر نفسه، وإنما
أراد أنه عند الغضب يشفق من المعصية ويحذر منها، ويخاف أن يكون الشيطان يعتريه
في تلك الحال فيوسوس إليه، وذلك منه على طريق الزجر لنفسه عن المعاصي، وقد روي عن أمير المؤمنين رضي
الله عنه أنه ترك مخاصمة الناس في حقوقه إشفاقاً
من المعصية، وكان يولي ذلك عقيلاً، فلما أسن عقيل كان يوليها عبد الله بن جعفر. فأما
ما روي في إقالة البيعة فهو خبر ضعيف، وإن صح فالمراد به التنبيه على أنه لا
يبالي لأمر يرجع إليه أن يقيله الناس البيعة، وإنما يضرون بذلك أنفسهم، وكأنه
نبه بذلك على أنه غير مكره لهم، وأذ قد خلاهم وما يريدون إلا أن يعرض ما يوجب
خلافه. وقد روي أن أمير المؤمنين رضي الله عنه أقال عبد الله بن عمر البيعة حين استقاله، والمراد بذلك أنه تركه وما
يختار. اعترض المرتضى رضي الله عنه فقال:
أما قول أبي بكر: وليتكم ولست بخيركم، فإن استقمت
فاتبعوني، وإن اعوججت فقوموني، فإن لي شيطاناً يعتريني عند غضبي، فإذا رأيتموني
مغضباً فاجتنبوني لا أؤثر في أشعاركم وأبشاركم، فإنه
يدل على أنه لا يصلح للإمامة من وجهين: أحدهما أن هذا صفة من ليس بمعصوم،
ولا يأمن الغلط على نفسه من يحتاج إلى تقويم رعيته له إذا وقع في المعصية، وقد بينا
أن الإمام لا بد أن يكون معصوماً موفقاً مسدداً، والوجه
الآخر أن هذه صفة من لا يملك نفسه، ولا يضبط غضبه، ومن هو في نهاية الطيش
والحدة والخرق والعجلة. ولا خلاف
أن الإمام يجب أن يكون منزهاً عن هذه الأوصاف، غير حاصل عليها وليس يشبه قول أبي
بكر ما تلاه من الآيات كلها. لأن أبا بكر خبر عن نفسه بطاعة الشيطان عند الغضب،
وأن عادته بذلك جارية، وليس هذا بمنزلة من يوسوس إليه الشيطان ولا يطيعه، ويزين
له القبيح فلا يأتيه، وليس وسوسة الشيطان بعيب على الموسوس له إذا لم يستزله ذلك
عن الصواب، بل هو زيادة في التكليف، ووجه يتضاعف معه الثواب، وقوله تعالى: "ألقى الشيطان في أمنيته"، قيل: معناه
في تلاوته، وقيل: في فكرته، على سبيل
الخاطر، وأي الأمرين كان، فلا عار في ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم ولا
نقص، وإنما العار والنقص على من يطيع الشيطان ويتبع ما يدعو إليه. وليس لأحد أن يقول: هذا إن سلم لكم في جميع الآيات
لم يسلم في قوله تعالى: "فأزلهما
الشيطان"، لأنه قد خبر عن تأثير غوايته ووسوسته بما كان منهما من
الفعل. وذلك أن المعنى الصحيح في هذه الآية
أن آدم وحواء كانا مندوبين إلى اجتناب الشجرة وترك التناول منها، ولم يكن ذلك
عليهما واجباً لازماً، لأن الأنبياء لا يخلون بالواجب، فوسوس لهما الشيطان حتى
تناولا من الشجرة، فتركا مندوباً إليه، وحرما بذلك أنفسهما الثواب، وسماه
إزلالاً، لأنه حط لهما عن درجة الثواب وفعل الأفضل، وقوله تعالى في موضع آخر: "وعصى آدم ربه فغوى"، لا ينافي هذا
المعنى، لأن المعصية قد يسمى بها من أخل بالواجب والندب معاً. قوله: فغوى
أي خاب من حيث لم يستحق الثواب على ما ندب إليه. على أن صاحب الكتاب يقول:
إن هذه المعصية من آدم كانت صغيرة لا يستحق بها عقاباً ولا ذماً، فعلى مذهبه
أيضاً تكون المفارقة بينه وبين أبي بكر ظاهرة، لأن أبا بكر خبر عن نفسه أن
الشيطان يعتريه حتى يؤثر في الأشعار والأبشار، ويأتي ما يستحق به التقويم، فأين
هذا من ذنب صغير لا ذم ولا عقاب عليه، وهو يجري من وجه من الوجوه مجرى المباح،
لأنه لا يؤثر في أحوال فاعله وحط رتبته، وليس يجوز أن يكون ذلك منه على سبيل الخشية
والإشفاق على ما ظن، لأن مفهوم خطابه يقتضي خلاف ذلك، ألا ترى أنه قال: إن لي
شيطاناً يعتريني وهذا قول من قد عرف عادته، ولو كان على سبيل الإشفاق والخوف
لخرج عن هذا المخرج، ولكان يقول: فإني لا آمن من كذا وإني لمشفق منه. فأما ترك أمير المؤمنين رضي الله عنه مخاصمة
الناس في حقوقه فكأنه إنما كان تنزهاً وتكرماً، وأي نسبة بين ذلك وبين من صرح
وشهد على نفسه بما لا يليق بالأئمة، وأما خبر استقالة البيعة وتضعيف صاحب الكتاب
له فهو أبداً يضعف ما لا يوافقه من غير حجة يعتمدها في تضعيفه. وقوله: إنه ما
استقال على التحقيق، وإنما نبه على أنه لا يبالي بخروج الأمر عنه، وأنه غير فكره
لهم عليه، فبعيد من الصواب، لأن ظاهر قوله أقيلوني أمر بالإقالة، وأقل أحواله أن
يكون عرضاً لها وبذلاً، وكلا الأمرين قبيح. ولو أراد ما ظنه لكان له في غير هذا القول مندوحة، ولكان يقول: إني ما أكرهتكم ولا حملتكم على
مبايعتي، وما كنت أبالي ألا يكون هذا الأمر في ولا إلي، وإن مفارقته لتسرني لولا
ما ألزمنيه الدخول فيه من التمسك به، ومتى عدلنا عن ظواهر الكلام بلا دليل، جر
ذلك علينا ما لا قبل لنا به. وأما أمير
المؤمنين رضي الله عنه فإنه
لم يقل ابن عمر البيعة بعد دخوله فيها وإنما استعفاه من أن يلزمه البيعة ابتداء
فأعفاه قلة فكر فيه، وعلماً بأن إمامته لا تثبت بمبايعة من يبايعه عليها، فأين
هذا من استقالة بيعة قد تقدمت واستقرت. قلت: أما قول، أبي بكر:
وليتكم ولست بخيركم فقد صدق عند كثير من أصحابنا، لأن
خيرهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومن لا
يقول بذلك يقول بما قاله الحسن البصري: والله
إنه ليعلم أنه خيرهم، ولكن المؤمن يهضم نفسه. ولم يطعن
المرتضى فيه بهذه اللفظة لنطيل القول فيها. وأما قول المرتضى عنه إنه قال:
فإن لي شيطاناً يعتريني عند غضبي، فالمشهور في
الرواية: فإن لي شيطاناً يعتريني، قال
المفسرون: أراد بالشيطان الغضب وسماه شيطاناً على طريق الاستعارة، وكذا ذكره شيخنا أبو الحسين في الغرر. قال معاوية لإنسان غضب في حضرته فتكلم بما لا يتكلم
بمثله في حضرة الخلفاء: أربع على ظلعك أيها الإنسان، فإنما الغضب شيطان، وإنا لم
نقل إلا خيراً. أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله
ورسوله فلا طاعة لي عليكم، قوموا إلى صلاتكم رحمكم الله. ألا وإن لي شيطاناً يعتريني،
فإذا غضبت فاجتنبوني لا أؤثر في أشعاركم وأبشاركم. ألا وإنكم تغدون وتروحون في أجل قد غيب عنكم علمه،
فإن استطعتم ألا يمضي هذا الأجل إلا وأنتم في عمل صالح فافعلوا، ولن تستطيعوا
ذلك إلا بالله. فسابقوا في
مهل آجالكم من قبل أن تسلمكم آجالكم إلى إنقطاع الأعمال، فإن قوماً نسوا آجالهم،
وجعلوا أعمالهم لغيرهم، فأنهاكم أن تكونوا أمثالهم. الجد الجد، الوحا الوحا، فإن
وراءكم طالباً حثيثاً، أجل مره سريع. احذروا الموت، واعتبروا بالآباء والأبناء والإخوان،
ولا تغبطوا الأحياء إلا بما يغبط به الأموات. وأين الملوك الذين أثاروا الأرض وعمروها، قد بعدوا
بسيىء ذكرهم، وبقي ذكرهم وصاروا كلا شيء. ألا إن
الله قد أبقى عليهم التبعات، وقطع عنهم الشهوات ومضوا والأعمال أعمالهم، والدنيا
دنيا غيرهم، وبقينا خلفاً من بعدهم، فإن نحن اعتبرنا بهم نجونا، وإن اغتررنا كنا
مثلهم. أين الوضاء الحسنة وجوههم، المعجبون بشبابهم، صاروا تراباً، وصار ما
فرطوا فيه حسرة عليهم، أين الذين بنوا المدائن وحصنوها بالحوائط، وجعلوا فيها
العجائب، وتركوها لمن خلفهم، فتلك مساكنهم خاوية، وهم في ظلم القبور، "هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزاً"، أين
من تعرفون من آبائكم وإخوانكم، قد انتهت بهم آجالهم فوردوا على ما قدموا عليه،
وأقاموا للشقوة وللسعادة. ألا إن الله لا شريك له، ليس بينه وبين أحد من خلقه
سبب يعطيه به خيراً، ولا يصرف عنه به شر: إلا بطاعته واتباع أمره، واعلموا أنكم
عباد مدينون، وأن ما عنده لا يدرك إلا بتقواه وعبادته. ألا وإنه
لا خير بخير بعده النار ولا شر بشر بعده الجنة. فهذه خطبتا أبي بكر يوم السقيفة،
واليوم الذي يليه، إنما قال: إن لي شيطاناً يعتريني، وأراد
بالشيطان الغضب، ولم يرد أن له شيطاناً من مردة
الجن يعتريه إذا غضب فالزيادة فيما ذكره المرتضى في قوله: إن لي شيطاناً
يعتريني عند غضبي، تحريف لا محالة، ولو كان له شيطان من الجن يعتاذه وينوبا لكان
في عداد المصروعين من المجانين، وما ادعى أحد على أبي بكر هذا لا من أوليائه ولا
من أعدائه، وإنما ذكرنا خطبته على طولها والمراد منها كلمة واحدة، لما فيها من
الفصاحة والموعظة على عادتنا في الاعتناء بإيداع هذا الكتاب ما كان ذاهباً هذا
المذهب، وسالكاً هذا السبيل. وليس قوله:
فاجتنبوني لا أؤثر في أشعاركم وأبشاركم محمول على ظاهره، وإنما أراد به المبالغة
في وصف القوة الغضبية عنده، وإلا فما سمعنا ولا نقل
ناقل من الشيعة ولا من غير الشيعة أن أبا بكر في أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في الجاهلية ولا في أيام خلافته أحتد على إنسان فقام إليه فضربه
بيده ومزق شعره. وليس بجيد قول المرتضى: إنه لو كان يريد العرض
والبذل لكان قد قال كذا وكذا، فإن هذه
مضايقة منه شديدة للألفاظ، ولو شرعنا في مثل هذا لفسد أكثر ما يتكلم به الناس. على أنا لو سلمنا أنه استقالهم
البيعة حقيقةً، فلم قال
المرتضى: إن ذلك لا يجوز، أليس يجوز للقاضي
أن يستقيل من القضاء بعد توليته إياه، ودخوله فيه، فكذلك يجوز للأمام أن
يستقيل من الإمامة إذا أنس من نفسه ضعفاً عنها، أو أنس من رعيته نبوة عنه، أو
أحس بفساد ينشأ في الأرض من جهة ولايته على الناس، ومن يذهب إلى أن الإمامة تكون
بالاختيار كيف يمنع من جواز استقالة الإمام وطلبه إلى الأمة أن يختاروا غيره
لعذر يعلمه من حال نفسه، وإنما يمنع من ذلك المرتضى
وأصحابه القائلون بأن الإمامة بالنص، وإن الإمام محرم عليه ألا يقوم
بالإمامة، لأنه مأمور بالقيام بها لتعينه خاصة دون كل أحد من المكلفين. وأصحاب الاختيار يقولون: إذا لم يكن زيد إماماً كان
عمرو إماماً عوضه، لأنهم لا يعتبرون الشروط التي يعتبرها الإمامية من العصمة، وأنه أفضل أهل عصره وأكثرهم ثواباً وأعلمهم وأشجعهم، وغير ذلك
من الشروط التي تقتضي تفرده وتوحده بالأمر، على أنه إذا جاز عندهم أن يترك
الإمام الإمامة في الظاهر كما فعله الحسن، وكما فعله غيره من الأئمة بعد
الحسين رضي الله عنه
للتقية، جاز للإمام على مذهب أصحاب الاختيار أن يترك الإمامة ظاهراً وباطناً
لعذر يعلمه من حال نفسه أو حال رعيته. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الطعن الثاني
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال قاضي القضاة بعد أن ذكر قول عمر:
كانت بيعة أبي بكر فلتة، وقد تقدم منا القول في ذلك
في أول هذا الكتاب: ومما طعنوا به على أبي بكر أنه قال، عند موته: ليتني كنت سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثلاثة، فذكر في
أحدها: ليتني كنت سألته: هل للأنصار في هذا الأمر حق؟ قالوا،
وذلك يدل على شكه في صحة بيعته، وربما قالوا: قد
روي أنه قال في مرضه: ليتني كنت تركت بيت فاطمة لم أكشفه، وليتني في ظلة
بني ساعدة كنت ضربت على يد أحد الرجلين، فكان هو الأمير، وكنت الوزير. قالوا: وذلك يدل على ما روي من إقدامه على بيت فاطمة عليها
السلام عند اجتماع علي رضي الله عنه والزبير وغيرهما فيه، ويدل على أنه كان يرى الفضل لغيره لا لنفسه. ثم حمل تمنيه على أنه أراد سماع شيء مفصل، أو أراد:
ليتني سألته عند الموت، لقرب العهد، لأن ما قرب عهده لا ينسى ويكون أردع للأنصار
على ما حاولوه. ثم قال: على أنه ليس في ظاهره أنه تمنى أن يسأل: هل
لهم حق في الإمامة أم لا، لأن الإمامة قد يتعلق بها حقوق سواها. ثم دفع
الرواية المتعلقة ببيت فاطمة مللي، وقال: فأما
تمنيه أن يبايع غيره، فلو ثبت لم يكن ذماً لأن من اشتد التكليف عليه فهو يتمنى
خلافه. اعترض المرتضى رحمه الله هذا الكلام
فقال:
ليس يجوز أن يقول أبو بكر: ليتني كنت سألت عن كذا. إلا مع الشك والشبهة، لأن مع العلم
واليقين لا يجوز مثل هذا القول، هكذا يقتضي الظاهر، فأما قول إبراهيم عليه السلام، فإنما ساغ أن يعدل
عن ظاهره لأن الشك لا يجوز على الأنبياء، ويجوز على
غيرهم، على أنه عليه السلام قد
نفى عن نفسه الشك بقوله: "بلى ولكن ليطمئن قلبي"،
وقد قيل: إن نمرود قال له: إذا كنت تزعم أن
لك رباً يحيى الموتى فاسأله أن يحيي لنا ميتاً إن كان على ذلك قادراً، فإن لم
تفعل ذلك قتلتك، فأراد بقوله: "ولكن ليطمئن
قلبي"، أي لآمن توعد عدوك لي بالقتل. وقد يجوز أن يكون طلب ذلك لقومه وقد سألوه أن يرغب
إلى الله تعالى فيه فقال: ليطمئن قلبي إلى إجابتك
لي، وإلى إزاحة علة قومي، ولم يرد:
ليطمئن قلبي إلى أنك تقدر على أن تحيي الموتى، لأن
قلبه قد كان بذلك مطمئناً، وأي شيء يريد أبو
بكر من التفصيل أكثر من قوله: إن هذا الأمر لا يصلح إلا لهذا الحي من
قريش، وأي فرق بين ما يقال عند الموت وبين ما يقال قبله إذا كان محفوظاً
معلوماً، لم ترفع كلمة ولم تنسخ. وأي حق يجوز أن يكون للأنصار في الإمامة غير أن
يتولاها رجل منهم حتى يجوز أن يكون الحق الذي تمنى أن يسأل عنه غير الإمامة، وهل هذا إلا تعسف وتكلف، وأي شبهة تبقى بعد قول أبي بكر:
ليتني كنت سألته: هل للأنصار في هذا الأمر حق فكنا لا ننازعه أهله، ومعلوم أن
التنازع لم يقع بينهم إلا في الإمامة نفسها، لا في حق آخر من حقوقها. قوله:
إن إبراهيم قد نفى عن نفسه الشك بقوله: "بلى
ولكن ليطمئن قلبي"، قلنا: إن
أبا بكر قد نفى عن نفسه الشك بدفع الأنصار عن الإمامة وإثباتها في قريش خاصة،
فإن كانت لفظة بلى دافعة لشك إبراهيم الذي يقتضيه قوله: "ولكن ليطمئن قلبي"، ففعل أبي بكر وقوله يوم السقيفة
يدفع الشك الذي يقتضيه قوله: ليتني سألته، ولا فرق في دفع الشك بين أن يتقدم
الدافع أو يتأخر أو يقارن. ثم يقال للمرتضى ألست في هذا الكتاب،
وهو الشافي، بينت أن قصة السقيفة لم يجر فيها ذكر نص
في رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الأئمة من قريش، وأنه لم يكن هناك إلا احتجاج أبي بكر وعمر لأن
قريشاً أهل النبي صلى الله عليه وسلم وعشيرته، وأن العرب لا تطيع غير قريش، وذكرت عن الزهري وغيره أن
القول الصادر عن أبي بكر: إن هذا الأمر لا يصلح إلا لهذا الحي
من قريش، ليس نصاً مروياً عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم، وإنما هو قول قاله أبو بكر من تلقاء
نفسه، ورويت في ذلك الروايات، ونقلت من الكتب من تاريخ
الطبري وغيره صورة الكلام والجدال الدائر بينه وبين الأنصار، فإذا كان هذا قولك
فلم تنكر على أبي بكر قوله: ليتني كنت سألت رسول الله صلى
الله عليه وسلم: هل للأنصار في هذا الأمر حق، لأنه لم يسمع النص ولا رواه ولا روي له، وإنما
دفع الأنصار بنوع من الجدل، فلا جرم بقي في نفسه شيء من ذلك، وقال عند موته: ليتني كنت سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وليس ذلك مما يقتضي شكه في بيعته كما زعم الطاعن،
لأنه إنما يشك في بيعته لو كان قال قائل أو ذهب ذاهب إلى أن الإمامة ليست إلا في
الأنصار، ولم يقل أحد ذلك، بل النزاع كان في هل الإمامة مقصورة على قريش خاصة،
أم هي فوضى بين الناس كلهم، وإذا كانت الحال هذه لم يكن شاكاً في إمامته وبيعته
بقوله: ليتني سألت رسول الله صلى الله عليه
وسلم هل
للأنصار في هذا حق؟ لأن بيعته على كلا التقديرين تكون صحيحة. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الطعن الثالث.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قالوا:
إنه ولى عمر الخلافة، ولم يوله رسول الله صلى
الله عليه وسلم شيئاً من
أعماله البتة إلا ما ولاه يوم خيبر، فرجع منهزماً وولاه الصدقة، فلما شكاه
العباس عزله. اعترض المرتضى رحمه الله فقال:
قد علمنا بالعادة أن من ترشح الكبار الأمور لا بد من أن يدرج إليها بصغارها، لأن
من يريد بعض الملوك تأهيله للأمر من بعده لا بد من أن ينبه عليه بكل قول وفعل
يدل على ترشيحه لهذه المنزلة، ويستكفيه من أمور ولاياته ما يعلم عنده أو يغلب
على ظنه صلاحه لما يريده له. وإن من يرى الملك مع حضوره وامتداد الزمان وتطاوله
لا يستكفيه شيئاً من الولايات، ومتى ولاه عزله، وإنما يولي غيره ويستكفي سواه،
لا بد إن يغلب في الظن أنه ليس بأهل للولاية، وإن جوزنا أنه لم يوله لأسباب
كثيرة سوى أنه لا يصلح للولاية، إلا أن مع هذا التجويز لا بد أن يغلب على الظن
بما ذكرناه. فأما خالد وعمرو فإنما لم يصلحا للإمامة لفقد شروط
الإمامة فيهما، وإن كانا يصفحان لما ولياه من الإمارة، فترك الولاية مع امتداد
الزمان وتطاول الأيام، وجميع الشروط التي ذكرناها تقتضي غلبة الظن لفقد الصلاح،
والولاية لشيء لا تدل على الصلاح لغيره إذا كانت الشرائط في القيام بذلك الغير
معلوماً فقدها. وقد نجد
الملك يولي بعض أموره من لا يصلح للفلك بعده لظهور فقد الشرائط فيه، ولا يجوز أن
يكون بحضرته من يرشحه للملك بعده، ثم لا يوليه على تطاول الزمان شيئاً من
الولايات. فبان الفرق بين الولاية وتركها فيما ذكرناه. فأما قوله:
إنه لم يعثر على عمر بتقصير في الولاية، فمن سلم بذلك، أو ليس يعلم أن مخالفته
تعد تقصيراً كثيراً، ولو لم يكن إلا ما اتفق عليه من خطئه في الأحكام ورجوعه من
قول إلى غيره، واستفتائه الناس في الصغير والكبير، وقوله: كل الناس أفقه من عمر،
لكان فيه كفاية. وليس كل النهوض بالإمامة يرجع إلى حسن التدبير
والسياسة الدنياوية ورم الأعمال والاستظهار في جباية الأموال وتمصير الأمصار
ووضع الأعشار، بل حظ الإمامة من العلم بالأحكام والفتيا بالحلال والحرام، والناسخ
والمنسوخ، والمحكم والمتشابه أقوى، فمن قصر في هذا لم ينفعه أن يكون كاملاً في
ذلك. فأما قوله:
فهلا دل ما روي من قوله رضي الله عنه: فإن
وليتم عمر وجدتموه قوياً في أمر الله قوياً في بدنه، فهذا لوثبت لدل، وقد تقدم
القول عليه، وأقوى ما يبطله عدول أبي بكر عن ذكره، والاحتجاج به لما أراد النص
على عمر، فعوتب على ذلك وقيل له: ما تقول لربك إذ وليت علينا فظاً غليظاً، فلو كان صحيحاً لكان يحتج به ويقول: وليت عليكم من شهد
النبي صلى الله عليه وسلم بأنه
قوي في أمر الله، قوي في بدنه. وقد قيل في الطعن على صحة هذا الخبر: إن
ظاهره يقتضي تفضيل عمر على أبي بكر، والإجماع بخلاف
ذلك، لأن القوة في الجسم فضل، قال الله تعالى: "إن
الله اصطفاه عليكم وزاده بسطةً في العلم والجسم". وبعد، فكيف يعارض ما اعتمدناه من عدوله رضي الله عنه عن
ولايته، وهو أمر معلوم، بهذا الخبر المردود المدفوع، قلت: أما ما ادعاه من عادة
الملوك، فالأمر بخلافه، فإنا قد وقفنا على سير الأكاسرة وملوك الروم وغيرهم فما
سمعنا أن أحداً منهم رشح ولده للملك بعده باستعماله على طرف من الأطراف، ولا جيش
من الجيوش، وإنما كانوا يثقفونهم بالآداب والفروسية في مقار ملكهم لا غير، والحال
في ملوك الإسلام كذلك، فقد سمعنا بالدولة الأموية، ورأينا الدولة العباسية، فلم
نعرف الدولة التي ادعاها المرتضى، وإنما قد يقع في الأقل النادر شيء مما أشار
إليه، والأغلب الأكثر خلاف ذلك. على أن أصحابنا لا يقولون إن عمر كان
مرشحاً للخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه
وسلم، ليقال لهم: فلو كان قد رشحه للخلافة بعده
لاستكفاه كثيراً من أموره، وإنما عمر مرشح عندهم في أيام أبي بكر للخلافة بعد
أبي بكر، وقد كان أبو بكر استعمله على القضاء مدة خلافته، بل كان هو الخليفة في
المعنى، لأنه فوض إليه أكثر التدبير، فعلى هذا يكون قد سلمنا أن ترك استعمال
النبي صلى الله عليه وسلم لعمر يدل على أنه
مرشح في نظره للخلافة بعده، وكذلك نقول: ولا
يلزم من ذلك ألا يكون خليفة بعد أبي بكر، على أنا لا نسلم أنه ما استعمله، فقد ذكر الواقدي وابن إسحاق أنه بعثه في سرية. سنة سبع من
الهجرة إلى الوادي المعروف ببرمة، بضم الباء وفتح الراء، وبها جمع من هوازن،
فخرج ومعه دليل من بني هلال، وكانوا يسيرون الليل ويكمنون النهار، وأتى الخبر
هوازن فهربوا، وجاء عمر محالهم، فلم يلق منهم أحداً، فانصرف إلى المدينة. وأما قوله: لا يغني حسن
التدبير والسياسة ورم الأمور، مع القصور في الفقه، فأصحابنا يذهبون إلى
أنه إذا تساوى اثنان في خصال الإمامة إلا أنه كان أحدهما أعلم
والآخر أسوس، فإن الأسوس أولى بالإمامة، لأن
حاجة الإمامة إلى السياسة وحسن التدبير
آكد من حاجتها إلى العلم والفقه. ولعله كنى عن هذا النص بقوله:
إذا سألني ربي قلت له: استخلفت عليهم خير أهلك، على أنا متى فتحنا باب هلا احتج
فلان بكذا جر علينا ما لا قبل لنا به. وقيل:
هلا احتج علي رضي الله عنه
على طلحة وعائشة والزبير بقول رسول الله
صلى الله عليه وسلم: من كنت مولاه فهذا علي مولاه، وهلا
احتج عليهم بقوله: أنت مني بمنزلة هارون من موسى، ولا يمكن الشيعة أن يعتذروا
ههنا بالتقية، لأن السيوف كانت قد سلت من الفريقين، ولم يكن مقام تقية. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الطعن الرابع.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قالوا: إن أبا بكر كان في جيش أسامة، وإن رسول الله
صلى الله عليه وسلم كرر حين موته
الأمر بتنفيذ جيش أسامة، فتأخره يقتضي مخالفة الرسول. فإن قلتم: إنه لم يكن في الجيش، قيل لكم: لا شك أن عمر بن الخطاب كان في الجيش،
وأنه حبسه ومنعه من النفوذ مع القوم. وهذا كالأول
في أنه معصية، وربما قالوا: إنه صلى الله عليه وسلم جعل هؤلاء
القوم في جيش أسامة ليبعدوا بعد وفاته عن المدينة، فلا يقع منهم توثب على
الإمامة، ولذلك لم يجعل أمير المؤمنين رضي الله عنه
في ذلك الجيش، وجعل فيه أبا بكر وعمر وعثمان وغيرهم، وذلك من أوكد الدلالة على
أنه لم يرد أن يختاروا للإمامة. ثم قال: إن خطابه
بتنفيذ الجيش يجب أن يكون متوجهاً إلى القائم بعده، لأنه من خطاب الأئمة، وهذا
يقتضي ألا يدخل المخاطب بالتنفيذ في الجملة، ثم
قال: وهذا يدل على أنه لم يكن هناك إمام منصوص عليه، لأنه لو كان لأقبل
بالخطاب عليه، وخصه بالأمر بالتنفيذ دون الجميع ثم ذكر أن أمر رسول الله صلى
الله عليه وسلم
لا
بد أن يكون مشروطاً بالمصلحة وبأن لا يعرض ما هو أهم منه، لأنه لا يجوز أن
يأمرهم بالنفوذ، وإن أعقب ضرراً في الدين، ثم قوى ذلك بأنه لم ينكر على أسامة
تأخره، وقوله: لم أكن لأسأل عنك الركب، ثم قال: لو كان الإمام منصوصاً عليه لجاز أن يسترد
جيش أسامة أو بعضه لنصرته، وكذلك إذا كان بالاختيار، ثم
حكى عن الشيخ أبي في أستدلاله على أن أبا بكر لم يكن في جيش أسامة بأنه
ولاه الصلاة في مرضه، مع تكريره أمر الجيش بالنفوذ والخروج. ثم ذكر أن
الرسول صلى الله عليه وسلم إنما يأمر
بما يتعلق بمصالح الدنيا من الحروب ونحوها عن اجتهاده، وليس بواجب أن يكون ذلك
عن وحي، كما يجب في الأحكام الشرعية، وأن اجتهاده يجوز أن يخالف بعد وفاته، وإن
لم يجز في حياته، لأن اجتهاده في الحياة أولى من اجتهاد غيره، ثم ذكر أن العلة
في احتباس عمر عن الجيش حاجة أبي بكر إليه، وقيامه بما لا يقوم به غيره، وأن ذلك
أحوط للدين من نفوذه. وذكر تولية أبا
موسى، وتولية الرسول، خالد بن الوليد مع ما جرى منهما وأن
ذلك يقتضي الشرط. ثم ذكر أن ولاية أسامة عليهما لا تقتضي فضله
وأنهما دونه، وذكر ولاية عمرو بن العاص عليهما وإن
لم يكونا دونه في الفضل، وأن أحداً لم يفضل أسامة عليهما. ثم لو لم يثبت كل ذلك لكان قول أسامة
:
لم أكن لأسأل عنك الركب، أوضح دليل على أنه عقل من الأمر الفور، لأن سؤال الركب
عنه رضي الله عنه بعد
وفاته لا معنى له. وإذا سلمنا
أن أمره رضي الله عنه
كان متوجهاً إلى القائم بعده بالأمر لتنفيذ الجيش بعد الوفاة لم يلزم ما ذكره من
خروج المخاطب بالتنفيذ عن الجملة، وكيف يصح ذلك وهو من جملة الجيش، والأمر متضمن
تنفيذ الجيش، فلا بد من نفوذ كل من كان في جملته، لأن تأخر بعضهم يسلب النافذين اسم
الجيش على الإطلاق. أو ليس من
مذهب صاحب الكتاب أن الأمر بالشيء أمر بما لا يتم إلا معه، وقد اعتمد على هذا في
مواضع كثيرة، فإن كان خروج الجيش ونفوذه لا يتم إلا بخروج أبي بكر، فالأمر بخروج
الجيش أمر لأبي بكر بالنفوذ والخروج، وكذلك لو أقبل عليه على سبيل التخصيص، وقال: نفذوا جيش أسامة، وكان هو من جملة الجيش، فلا بد أن
يكون ذلك أمراً له بالخروج. واستدلاله على أنه لم يكن هناك إمام
منصوص عليه بعموم الأمر بالتنفيذ، ليس بصحيح، لأنا قد بينا
أن الخطاب إنما توجه إلى الحاضرين، ولم يتوجه إلى الإمام بعده، على أن هذا لازم،
له، لأن الإمام بعده لا يكون إلا واحداً، فلم عمم
الخطاب ولم يفرد به الواحد فيقول: لينفذ القائم من بعدي بالأمر جيش
أسامة، فإن الحال لا يختلف في كون الإمام بعده واحداً بين أن يكون منصوصاً عليه
أو مختاراً. وأما ما ادعاه أن الشرط في أمره رضي الله عنه لهم بالنفوذ فباطل، لأن إطلاق
الأمر يمنع من إثبات الشرط، وإنما يثبت من الشروط ما يقتضي الدليل إثباته من
التمكن والقدرة، لأن ذلك شرط ثابت في كل أمر ورد من حكيم، والمصلحة بخلاف ذلك، لأن الحكيم لا يأمر بشرط المصلحة، بل إطلاق
الأمر منه يقتضي ثبوت المصلحة وانتفاء المفسدة، وليس كذلك التمكن، وما يجري
مجراه، ولهذا لا يشترط أحد في أوامر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم بالشرائع
المصلحة وانتفاء المفسدة. وشرطوا في ذلك التمكن ورفع التعذر، ولو كان الإمام
منصوصاً عليه بعينه واسمه لما جاز أن يسترد جيش أسامة، بخلاف ما ظنه، ولا يعزل
من ولاه مثله ولا يولي من عزله للعلة التي ذكرناها. وليس يجري
ذلك مجرى أكله وشربه ونومه، لأن ذلك لا تعلق له بالدين، فيجوز أن يكون عن رأيه،
ولو جاز أن تكون مغازيه وبعوثه مع التعلق القوي لها بالدين عن اجتهاد لجاز ذلك
في الأحكام. فكل علة
تمنع من أحد الأمرين هي مانعة من الآخر. فأما الاعتذار له عن حبس عمر عن الجيش بما ذكره
فباطل، لأنا قد قلنا: إن ما يأمر به رضي الله عنه لا
يسوغ مخالفته مع الإمكان، ولا مراعاة لما عساه يعرض فيه من رأي غيره، وأي حاجة
إلى عمر بعد تمام العقد، واستقراره ورضا الأمة به، على طريق المخالف وإجماعها
عليه، ولم يكن هناك فتنة ولا تنازع ولا اختلاف يحتاج فيه إلى مشاورته وتدبيره،
وكل هذا تعلل باطل. وليس كذلك
القول في جيش أسامة، لأن تأخر من تأخر عنه كان مع القدرة والتمكن. فأما تولية أبي موسى فلا ندري كيف يشبه ما نحن فيه،
لأنه إنما ولاه بأن يرجع إلى كتاب الله تعالى فيحكم فيه وفي خصمه بما يقتضيه، وأبو موسى فعل خلاف ما جعل إليه، فلم يكن ممتثلاً
لأمر من ولاه، وكذلك خالد بن الوليد إنما
خالف ما أمره به الرسول صلى الله عليه وسلم فتبرأ
من فعله، وكل هذا لا يشبه أمره رضي الله عنه بتنفيذ جيش أسامة أمراً مطلقاً،
وتأكيده ذلك وتكراره له، فأما جيش أسامة فإنه
لم يضم من يصلح للإمامة، فيجوز تأخرهم ليختار أحدهم على ما ظنه صاحب الكتاب. على
أن ذلك لو صح أيضاً لم يكن عذراً في التأخر، لأن من خرج في الجيش يمكن أن يختار
وإن كان بعيداً، ولا يمنع بعده من صحة الاختيار، وقد صرح صاحب الكتاب بذلك. ثم
لو صح هذا العذر لكان عذراً في التأخر قبل العقد، فأما بعد إبرامه فلا عذر فيه،
والمعاضدة التي ادعاها قد بينا ما فيها. فأما ولاية
أسامة على من ولي عليه، فلا بد من اقتضائها لفضله على الجماعة فيما كان والياً
فيه، وقد دللنا فيما تقدم من الكتاب على أن ولاية المفضول على الفاضل فيما كان
الفاضل منه فيه قبيحة، فكذلك القول في ولاية عمرو بن العاص عليهما فيما تقدم،
والقول في الأمرين واحد. ذكر الواقدي في كتاب المغازي
أن أبا بكر لم يكن في جيش أسامة، وإنما كان عمر،
وأبو عبيدة، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وقتادة بن
النعمان، وسلمة بن أسلم، ورجال كثير من المهاجرين، والأنصار، قال: وكان المنكر لإمارة أسامة عياش بن أبي ربيعة
وغير الواقدي يقول: عبد الله بن عياش، وقد قيل: عبد الله بن أبي ربيعة أخو عياش. وقال الواقدي: وجاء عمر بن الخطاب فودع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليسير
مع أسامة. وقال: وجاء أبو بكر فقال: يا رسول
الله، أصبحت مفيقاً بحمد الله، واليوم يوم ابنة خارجة، فأذن لي، فأذن له، فذهب
إلى منزله بالسنح وسار أسامة في العسكر، وهذا تصريح بأن
أبا بكر لم يكن في جيش أسامة. فأما أبو
جعفر محمد بن جرير الطبري فلم يذكر أنه كان في جيش أسامة إلا عمر. وقال أبو جعفر: حدثني السدي
بإسناد ذكره أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم
ضرب قبل وفاته بعثاً على أهل المدينة ومن حولهم وفيهم
عمر بن الخطاب، وأمر عليهم أسامة بن زيد، فلم يجاوز آخرهم الخندق حتى قبض رسول
الله صلى الله عليه وسلم فوقف أسامة بالناس ثم قال لعمر: ارجع إلى
خليفة رسول الله صلى
الله عليه وسلم فاستأذنه يأذن لي أرجع
بالناس، فإن معي وجوه الصحابة، ولا آمن على خليفة رسول
الله صلى الله عليه وسلم، وثقل
رسول صلى الله عليه وسلم وأثقال
المسلمين أن يتخطفهم المشركون حول المدينة، وقالت
الأنصار لعمر سراً: فإن أبى إلا أن يمضي فأبلغه عنا، واطلب إليه أن يولي
أمرنا رجلاً أقدم سناً من أسامة، فخرج عمر بأمر أسامة
فأتى أبا بكر فأخبره بما قال أسامة، فقال أبو بكر: لو تخطفتني الكلاب
والذئاب لم أرد قضاء قضى به رسول الله صلى الله عليه
وسلم. قال: فإن الأنصار
أمروني أن أبلغك أنهم يطلبون إليك أن تولي أمرهم رجلاً أقدم سناً من أسامة،
فوثب أبو بكر، وكان جالساً، فأخذ بلحية عمر وقال:
ثكلتك أمك يا بن الخطاب، أيستعمله رسول، الله صلى الله عليه وسلم وتأمرني أن أنزعه، فخرج عمر إلى الناس، فقالوا
له: ما صنعت؟ فقال:
امضوا ثكلتكم أمهاتكم، ما لقيت في سيلكم اليوم من خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم خرج أبو بكر حتى أتاهم فأشخصهم وشيعهم، وهو ماش
وأسامة راكب، وعبد الرحمن بن عوف يقود دابة أبي بكر،
فقال له أسامة بن زيد: يا خليفة رسول الله،
لتركبن أو لأنزلن، فقال: والله لا تنزل ولا أركب، وما علي أن أغبر قدمي في سبيل
الله ساعة، فإن للغازي بكل خطوة يخطوها سبعمائة حسنة تكتب له، وسبعمائة درجة
ترفع له، وسبعمائة خطيئة تمحى عنه، حتى إذا انتهى قال
لأسامة: إن رأيت أن تعينني بعمر فافعل، فأذن له، ثم قال: أيها الناس، قفوا حتى أوصيكم بعشر فاحفظوها عني: لا تخونوا
ولا تغدروا ولا تغلوا ولا تمثلوا ولا تقتلوا طفلاً صغيراً، ولا شيخاً كبيراً،
ولا امرأة، ولا تعقروا نخلاً ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة فثمرة، ولا تذبحوا شاة
ولا بعيراً ولا بقرة إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم للعبادة في
الصوامع، فدعوهم فيما فرغوا أنفسهم له، وسوف تقدمون على أقوام يأتونكم بصحاف
فيها ألوان الطعام، فلا تأكلوا من شيء حتى تذكروا اسم
الله عليه، وسوف تلقون أقواماً قد حصوا أوساط رؤوسهم وتركوا حولها مثل العصائب
فاخفقوهما بالسيوف خفقاً، أفناهم الله بالطعن والطاعون، سيروا على اسم الله. وقول
المرتضى: هذا اعتراف بأن الأمر بتنفيذ الجيش كان في الحال دون ما بعد الوفاة، وهذا ينقض ما بنى
عليه قاضي القضاة أمره، فلقائل أن يقول: إنه لا
ينقض ما بناه، لآن قاضي القضاة ما قال: إن الأمر بتنفيذ الجيش ما كان إلا بعد
الوفاة، بل قال: إنه أمر، والأمر على التراخي،
فلو نفذ الجيش في الحال لجاز، ولو تأخر إلى بعد الوفاة لجاز. ويمكن
أن يكون زمان هذه السكتة قد امتد يوماً أو يومين،
وهذا الموضع من المواضع المشتبهة عندي. فأما قول المرتضى:
الأمر على الفور إما لغة عند من قال به، أو شرعاً لإجماع الكل على أن الأوامر
الشرعية على الفور إلا ما خرج بالدليل، فالظاهر في
هذا الموضع صحة ما قاله المرتضى، لأن قرائن الأحوال عند من يقرأ السير
ويعرف التواريخ تدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يحثهم على الخروج، والمسير،
وهذا هو الفور. ومنها قول قاضي القضاة: إن مخالفة أمره صلى
الله عليه وسلم في النفوذ مع الجيش أو في إنفاذ الجيش لا يكون معصية، وبين ذلك من
وجوه: أحدها: إن أمره رضي الله عنه بذلك لا بد أن يكون مشروطاً
بالمصلحة، وألا يعرض ما هو أهم من نفوذ الجيش، لأنه لا يجوز أن يأمرهم بالنفوذ
وإن أعقب ضرراً في الدين، فأما قول المرتضى:
الأمر المطلق يدل على ثبوت المصلحة، ولا يجوز أن يجعل الأمر المطلق مقيداً بشرط
المصلحة كما نقول في التمكين من الفعل إنه مشروط وإن لم يصرح به لأن الحكيم لا
يأمر إلا بالمصلحة، فقول جيد إذا اعترض به على
الوجه الذي أورده قاضي القضاة، فأما إذا أورده أصحابنا على وجه آخر فإنه يندفع كلام المرتضى، وذلك أنه يجوز تخصيص عمومات النصوص بالقياس الجلي عند كثير من أصحابنا، على ما هو مذكور في أصول الفقه،
فلم لا يجوز لأبي بكر أن يخص عموم قوله: أنفذوا بعث أسامة المصلحة غلبت على ظنه
في عدم نفوذه نفسه، ولمفسدة غلبت على نفسه في نفوذه نفسه مع البعث. فأما قول المرتضى:
إن للدين تعلقاً قوياً بأمثال ذلك، وإنها ليست من الأمور الدنياوية المحضة نحو
أكله وشربه ونومه، فإنه يعود على الإسلام بفتوحه عز وقوة وعلو كلمة فيقال له:
وإذا أكل اللحم وقوي مزاجه بذلك ونام نوماً طبيعياً يزول عنه به المرض والإعياء،
اقتضى ذلك أيضاً عز الإسلام وقوته، فقل إن ذلك أيضاً عن وحي. وأيضاً
فإن الصحابة كانوا يراجعونه في الحروب وآرائه التي يدبرها بها
ويرجع رضي الله عنه إليهم في كثير منها بعد أن قد
رأى غيره، وأما الأحكام فلم يكن يراجع فيها أصلاً، فكيف
يحمل أحد البابين على الآخر. فإن قلت: الإشكال عليكم
إنما هو من قبل الاستخلاف، كيف جاز لأبي بكر أن يتأخر عن المسير، وكيف جاز له أن
يرجع إلى المدينة وهو مأمور بالمسير، وهلا نفذ لوجهه ولم يرجع، وإن بلغه موت
رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالوا: وذلك كالوكيل
تبطل وكالته بموت الموكل، قالوا: ويفارق الوصي
لأن ولايته لا تثبت إلا بعد موت الموصي، فهو كعهد الإمام إلى غيره لا يثبت إلا
بعد موت الإمام، ثم فرع أصحابنا على هذا الأصل
مسألة وهي: الحاكم هل ينعزل بموت الإمام أم لا، قال
قوم من أصحابنا: لا ينعزل وبنوه على أن التولي من غير جهة الإمام يجوز،
فجعلوا الحاكم نائباً عن المسلمين أجمعين، لا عن الإمام، وإن وقف تصرفه على
اختياره، وصار ذلك عندهم بمنزلة أن يختار المسلمون واحداً يحكم بينهم، ثم يموت
من رضي بذلك، فإن تصرفه يبقى على ما كان عليه، وقال
قوم من أصحابنا: ينعزل، وإن هذا النوع من التصرف لا يستفاد إلا من جهة
الإمام، ولا يقوم به غيره، وإذا ثبت أن أسامة قد بطلت ولايته لم تبق تبعة على
أبي بكر في الرجوع من بعض الطريق إلى المدينة. وقد اعترض المرتضى على هذا بأنه يقبح تقديم
المفضول على الفاضل فيما هو أفضل منه، وأن تقديم
عمرو بن العاص عليهما في الإمرة يقتضي أن يكون أفضل منهما فيما يرجع إلى الإمرة
والسياسة، ولا يقتضي أفضليته عليهما في غير ذلك، وكذلك
القول في أسامة. وقد اعترضه المرتضى فقال:
هذا شيء لم نسمعه من راو، ولا قرأناه في كتاب، وصدق
المرتضى فيما قال، فإن هذا حديث غريب لا يعرف. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الطعن الخامس
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قالوا:
إنه صلى الله عليه وسلم لم يول أبا بكر الأعمال وولى غيره، ولما
ولاه الحج بالناس وقراءة سورة براءة على الناس، عزله
عن ذلك كله، وجعل الأمر إلى أمير المؤمنين رضي الله عنه ، وقال: لا يؤدي عني إلا أنا أو رجل مني، حتى يرجع أبو بكر إلى
النبي صلى
الله عليه وسلم. أجاب قاضي القضاة فقال:
لو سلمنا أنه لم يوله، لما دل على نقص، ولا على أنه لم يصلح للإمارة والإمامة، بل لو قيل: إنه لم يوله لحاجته إليه بحضرته، إن ذلك
رفعة له لكان أقرب، لا سيما، وقد روي عنه ما يدل
على أنهما وزيراه، و أنه كان صلى
الله عليه وسلم محتاجاً إليهما وإلى
رأيهما، فلذلك لم يولهما، ولو كان للعمل على تركه فضل لكان عمرو بن العاص وخالد بن
الوليد وغيرهما أفضل من أكابر الصحابة، لأنه رضي
الله عنه ولاهما وقدمهما،
وقد قدمنا أن توليته هي بحسب الصلاح، وقد يولى المفضول
على الفاضل تارةً والفاضل أخرى، وربما ولي الواحد لاستغنائه عنه بحضرته،
وربما ولاه لاتصال بينه وبين من يولى عليه، إلى غير ذلك. ثم ادعى أنه ولى أبا بكر على الموسم والحج فقد ثبت بلا خلاف بين أهل الأخبار ولم يصح أنه عزله، ولا يدل رجوع أبي بكر إلى النبي صلى
الله عليه وسلم مستفهماً عن القصة على
العزل، ثم جعل إنكار من أنكر حج أبي بكر في تلك السنة بالناس، كإنكار عباد
وطبقته أخذ أمير المؤمنين رضي الله عنه سورة براءة من أبي بكر. وحكى عن أبي علي أن المعنى كان في أخذ السورة من أبي بكر أن من عادة العرب أن سيداً من سادات قبائلهم إذا عقد
عقد القوم، فإن ذلك العقد لا ينحل إلا أن يحله هو أو بعض سادات قومه، فلما كان هذا عادتهم وأراد النبي صلى
الله عليه وسلم أن ينبذ إليهم عقدهم، وينقض ما كان بينه وبينهم،
علم أنه لا ينحل ذلك إلا به أو بسيد من سادات رهطه،
فعدل عن أبي بكر إلى أمير المؤمنين رضي
الله عنه المقرب في النسب. ثم ادعى أنه صلى الله عليه
وسلم ولى أبا بكر في
مرضه الصلاة، وذلك أشرف الولايات، وقال
في ذلك: يأبى الله ورسوله والمسلمون إلا أبا بكر. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
اعترض المرتضى فقال:
قد بينا أن تركه صلى الله عليه وسلم الولاية
لبعض أصحابه مع حضوره وإمكان ولايته والعدول عنه إلى غيره، مع تطاول الزمان
وامتداده، لا بد من أن تقتضي غلبة الظن بأنه لا يصلح للولاية، فأما ادعاؤه أنه
لم يوله لافتقاره إليه بحضرته وحاجته إلى تدبيره ورأيه، فقد بينا أنه رضي الله عنه ما
كان يفتقر إلى رأي أحد لكماله ورجحانه على كل أحد، وإنما كان يشاور أصحابه على
سبيل التعليم لهم والتأديب، أو لغير ذلك مما قد ذكر. وبعد، فكيف استمرت هذه الحاجة، واتصلت منه إليهما
حتى لم يستغن في زمان من الأزمان عن حضورهما فيوليهما، وهل
هذا إلا قدح في رأي رسول الله صلى الله عليه
وسلم ونسبته إلى أنه كان ممن
يحتاج إلى أن يلقن ويوقف على كل شيء، وقد نزهه الله تعالى عن ذلك،
فأما ادعاؤه أن الرواية قد وردت بأنهما وزيراه فقد كان يجب أن يصحح ذلك قبل أن
يعتمده ويحتج به، فإنا ندفعه عنه أشد دفع. فأما ولاية
عمرو بن العاص وخالد بن الوليد فقد تكلمنا عليها من قبل، وبينا أن ولايتهما تدل
على صلاحهما لما ولياه، ولا تدل على صلاحهما للإمامة، لأن شرائط الإمامة لم
تتكامل فيهما، وبينا أيضاً أن ولاية المفضول على
الفاضل لا تجوز، فأما تعظيمه وإكباره قول من
يذهب إلى أن أبا بكر عزل عن أداء السورة والموسم جميعاً، وجمعه بين ذلك
في البعد وبين إنكار عباد أن يكون أمير المؤمنين رضي الله عنه ارتجع
سورة براءة من أبي بكر، فأول ما فيه أنا لا ننكر أن
يكون أكثر الأخبار واردة بأن أبا بكر حج بالناس في تلك السنة، إلا أنه قد روى قوم من أصحابنا خلاف ذلك، وأن أمير المؤمنين
رضي الله عنه كان أمير الموسم في تلك السنة، وأن عزل
الرجل كان عن الأمرين معاً. واستكبار ذلك. وفيه خلاف لا معنى له،
فأما ما حكاه عن عباد فإنا لا نعرفه، وما نظن أحداً يذهب إلى مثله، وليس يمكنه بإزاء ذلك جحد مذهب أصحابنا الذي حكيناه، وليس
عباد لو صحت الرواية عنه بإزاء من ذكرناه، فهو مليء بالجهالات ودفع الضرورات. وبعد، فلو سلمنا أن
ولاية الموسم لم تفسخ لكان الكلام باقياً، لأنه إذا كان ما ولي مع تطاول الزمان
إلا هذه الولاية، ثم سلب شطرها، والأفخم الأعظم منها،
فليس ذلك إلا تنبيها على ما ذكرناه. وأجاب فقال:
إنه ما سلم السورة إلى أبي بكر إلا بإذنه تعالى، إلا
أنه لم يأمره بأدائها، ولا كلفه قراءتها على أهل الموسم، لأن أحداً لم
يمكنه أن ينقل عنه رضي الله عنه في
ذلك لفظ الأمر والتكليف، فكأنه سلم سورة براءة إليه
لتقرأ على أهل الموسم، ولم يصرح بذكر القارىء
المبلغ لها في الحال، ولو نقل عنه تصريح لجاز أن يكون مشروطاً بشرط لم
يظهر. قلت: قد
ذكرنا فيما تقدم القول في تولية الملك بعض أصحابه، وترك تولية بعضهم، وكيفية
الحال في ذلك، على أنه قد روى أصحاب المغازي أنه أمر أبا بكر في شعبان من سنة
سبع على سرية بعثها إلى نجد فلقوا جمعاً من هوازن فبيتوهم، فروى إياس بن سلمة عن
أبيه، قال: كنت في ذلك البعث، فقتلت بيدي سبعة منهم،
وكان شعارنا: أمت أمت، وقتل من أصحاب النبي صلى الله عليه
وسلم
قوم، وجرح أبو بكر وارتث وعاد إلى المدينة، على أن أمراء السرايا الذين كان
يبعثهم صلى
الله عليه وسلم
كانوا
قوماً مشهورين بالشجاعة ولقاء الحروب، كمحمد بن مسلمة، وأبي دجانة، وزيد بن
حارثة ونحوهم، ولم يكن أبو بكر مشهوراً بالشجاعة ولقاء
الحروب، ولم يكن جباناً ولا خواراً وإنما كان رجلاً مجتمع القلب عاقلاً، ذا رأي
وحسن تدبير، وكان رسول الله صلى الله عليه
وسلم يترك
بعثه في السرايا، لأن غيره أنفع منه فيها، ولا
يدل، ذلك على أنه لا يصلح للإمامة، وأن الإمامة
تحتاج أن يكون صاحبها من المشهورين بالشجاعة، وإنما يحتاج إلى ثبات القلب، وألا
يكون هلعاً طائر الجنان. وكيف يقول المرتضى: إنه
صلى الله عليه وسلم لم
يكن محتاجاً إلى رأي أحد، وقد نقل الناس كلهم رجوعه من
رأي إلى رأي عند المشورة، نحو ما جرى يوم بدر من تغير المنزل لما أشار عليه
الحباب بن المنذر، ونحو ما جرى يوم الخندق من فسخ رأيه في دفع ثلث تمر المدينة
إلى عيينة بن حصن ليرجع بالأحزاب عنهم، لأجل ما رآه سعد بن معاذ وسعد بن عبادة
من الحرب، والعدول عن الصلح، ونحو ما جرى في تلقيح النخل بالمدينة وغير ذلك،
فأما ولاية أبي بكر الموسم فأكثر الأخبار على ذلك، ولم يرو عزله عن الموسم إلا قوم من الشيعة. وأما ما أنكره المرتضى
من حال عباد بن سليمان ودفعه أن يكون على
أخذ براءة من أبي بكر واستغرابه ذلك عجب، فإن قول عباد
قد ذهب إليه كثير من الناس، ورووا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يدفع براءة إلى أبي بكر، وأنه بعد أن نفذ أبو بكر بالحجيج
أتبعه علياً ومعه تسع آيات من براءة، وقد أمره
أن يقرأها على الناس ويؤذنهم بنقض العهد وقطع الدنية، فانصرف
أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم،
فأعاده على الحجيج، وقال له: أنت الأمير، وعلي المبلغ،
فإنه لا يبلغ عني إلا أنا أو رجل مني، ولم ينكر عباد أمر براءة بالكلية، وإنما
أنكر أن يكون النبي دفعها إلى أبي بكر ثم انتزعها منه، وطائفة عظيمة من المحدثين
يروون ما ذكرناه، وإن كان الأكثر الأظهر أنه
دفعها إليه ثم أتبعه بعلي رضي
الله عنه فانتزعها
منه،
والمقصود أن المرتضى قد تعجب مما لا يتعجب من مثله، فظن أن عباداً أنكر
حديث براءة بالكلية، وقد وقفت أنا على ما ذكره عباد
في هذه القضية في كتابه المعروف بكتاب الأبواب، وهو الكتاب الذي نقضه شيخنا أبو هاشم، فأما عذر شيخنا
أبي علي، وقوله: إن عادة العرب ذلك، واعتراض
المرتضى عليه، فالذي قاله المرتضى أصح
وأظهر، وما نسب إلى عادة العرب غير معروف،
وإنما هو تأويل تأول به متعصبو أبي بكر لانتزاع
براءة منه، وليس بشيء. ولست أقول ما قاله المرتضى
من أن غرض رسول صلى الله عليه وسلم إظهار أن أبا بكر لا يصلح للأداء عنه، بل أقول: فعل ذلك لمصلحة رآها، ولعل السبب في ذلك أن علياً من بني عبد
مناف وهم جمرة قريش بمكة، وعلي أيضاً شجاع لا يقام له، وقد حصل في صدور قريش منه الهيبة الشديدة والمخافة
العظيمة، فإذا حصل مثل هذا الشجاع البطل وحوله من بني عمه وهم أهل العزة والقوة
والحمية، كان أدعى إلى نجاته من قريش، وسلامة
نفسه وبلوغ الغرض من نبذ العهد على يده، ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة الحديبية بعث عثمان بن عفان إلى مكة يطلب منهم الإذن له في الدخول، وإنما بعثه لأنه من بني عبد مناف، ولم يكن بنو عبد مناف، وخصوصاً بني عبد شمس، ليمكنوا من قتله، ولذلك حمله بنو سعيد بن العاص على بعير يوم دخل مكة وأحدقوا
به مستلئمين بالسلاح، وقالوا له: أقبل وأدبر، ولا تخف أحداً، بنو سعيد أعزة الحرم.
وأما القول في تولية رسول الله صلى
الله عليه وسلم أبا بكر الصلاة،
فقد تقدم، وما رامه قاضي القضاة من الفرق بين صلاة
أبي بكر بالناس وصلاة عبد الرحمن بهم، مع كون رسول الله صلى
الله عليه وسلم خلفه ضعيف، وكلام
المرتضى أقوى منه. فأما السؤال الذي سأله المرتضى من نفسه فقوي،
والجواب الصحيح أن بعث براءة مع أبي بكر كان باجتهاد من
الرسول، ولم يكن عن وحي ولا من جملة الشرائع التي تتلقى عن جبرائيل عليه السلام،
فلم يقبح نسخ ذلك قبل تقضي وقت فعله، وجواب المرتضى
ليس بقوي، لأنه من البعيد أن يسلم سورة براءة إلى
أبي بكر ولا يقال له: ماذا تصنع بها؟ بل يقال: خذ هذه معك لا غير. والقول بأن الكلام مشروط بشرط لم يظهر خلاف الظاهر، وفتح هذا
الباب يفسد كثيراً من القواعد. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الطعن السادس.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إن أبا بكر لم يكن يعرف الفقه وأحكام
الشريعة، فقد قال في الكلالة
: أقول فيها برأي، فإن يكن صواباً فمن الله، وإن يكن خطأ فمني، ولم يعرف ميراث
الجد، ومن حاله هذه لا يصلح للإمامة. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الطعن السابع.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قصة خالد بن الوليد وقتله مالك بن
نويرة ومضاجعته امرأته من ليلته، وأن أبا بكر
ترك إقامة الحد عليه، وزعم أنه سيف من سيوف الله سله الله على أعدائه، مع أن الله تعالى قد أوجب القود وحد الزنا عموماً، وأن عمر نبهه وقال له: اقتله، فإنه قتل مسلماً. فإن قيل: فلم أنكر
عمر؟ قيل: كان الأمر إلى أبي بكر، فلا وجه لإنكار عمر،
وقد يجوز أن يعلم أبو بكر من الحال ما يخفى على
عمر. فإن قيل: فما معنى ما
روي عن أبي بكر من أن خالداً تأول فأخطأ، قيل: أراد عجلته عليه
بالقتل، وقد كان الواجب عنده على خالد أن يتوقف للشبهة. واستدل أبو علي على ردتة بأن أخاه متمم بن نويرة لما أنشد عمر
مرثيته أخاه قال له: وددت أني أقول الشعر فأرثي أخي زيداً بمثل ما رثيت به أخاك،
فقال متمم: لو قتل أخي على مثل ما قتل عليه أخوك
ما رثيته، فقال عمر: ما عزاني أحد بمثل تعزيتك، فدل هذا على أن مالكاً لم يقتل على الإسلام كما قتل زيد. اعترض المرتضى فقال: أما منع خالد قتل مالك بن نويرة واستباحة امرأته وأمواله لنسبته إياه إلى ردة لم تظهر منه، بل كان الظاهر خلافها من الإسلام، فعظيم. ويجري مجراه في العظم تغافل
من تغافل عن أمره، ولم يقم فيه حكم الله تعالى، وأقره على الخطأ الذي شهد هو به
على نفسه، ويجري مجراهما من أمكنه أن يعلم الحال فأهملها ولم يتصفح ما روي من
الأخبار في هذا الباب وتعصب لأسلافه ومذهبه.
وكيف يجوز عند خصومنا على مالك وأصحابه جحد الزكاة مع المقام على الصلاة، وهما
جميعاً في قرن، لأن العلم الضروري بأنهما من دينه رضي الله عنه وشريعته على حد واحد، وهل نسبة مالك إلى الردة مع ما ذكرناه إلا قدح في أصول ونقض،
لما تضمنته من الزكاة معلومة ضرورة من دينه رضي الله عنه. وأعجب من كل عجيب قوله: وكذلك سائر أهل الردة، يعني أنهم
كانوا يصلون ويجحدون الزكاة، لأنا قد بينا أن ذلك مستحيل غير ممكن، وكيف
يصح ذلك، وقد روى جميع أهل النقل أن أبا بكر لما وصى
الجيش الذين أنفذهم بأن يؤذنوا ويقيموا، فإن أذن القوم كأذانهم وإقامتهم كفوا
عنهم، وإن لم يفعلوا أغاروا عليهم، فجعل أمارة الإسلام والبراءة من الردة الأذان
والإقامة، وكيف يطلق في سائر أهل الردة ما أطلقه من أنهم كانوا يصلون،
وقد علمنا أن أصحاب مسيلمة وطليحة وغيرهما ممن كان ادعى النبوة وخلع الشريعة ما كانوا يرون الصلاة ولا شيء مما جاءت به شريعتنا.
وقصة مالك معروفة عند من تأمل كتب السير والنقل، لأنه
كان على صدقات قومه بني يربوع والياً من قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما بلغته وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أمسك عن أخذ الصدقة من قومه
وقال لهم:
تربصوا بها حتى يقوم قائم بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وننظر ما يكون من أمره، وقد صرح بذلك في شعره حيث يقول:
فصرح
كما ترى أنه استبقى الصدقة في أيدي قومه رفقاً بهم
وتقرباً إليهم، إلى أن يقوم بالأمر من يدفع ذلك إليه. وقد روى جماعة عن أهل السير، وذكره الطبري في تاريخه أن مالكاً نهى قومه عن الاجتماع على
منع الصدقات وفرقهم، وقال: يا بني يربوع،
إنا كنا قد عصينا أمراءنا إذ دعونا إلى هذا الدين، وبطأنا الناس عنه، فلم نفلح
ولم ننجح، وإني قد نظرت في هذا الأمر فوجدت الأمر يتأتى لهؤلاء القوم بغير
سياسة، وإذا أمر لا يسوسه الناس، فإياكم ومعاداة
قوم يصنع لهم
فتفرقوا على ذلك إلى أموالهم، ورجع مالك إلى منزله، فلما
قدم خالد البطاح بث السرايا وأمرهم بداعية الإسلام وأن يأتوه بكل من لم يجب،
وأمرهم إن امتنع أن يقاتلوه، فجاءته الخيل بمالك بن نويرة في نفر من بني يربوع،
واختلف السرية في أمرهم، في السرية أبو قتادة الحارث بن ربعي، فكان ممن شهد أنهم
أذنوا وأقاموا وصلوا، فلما اختلفوا فيهم أمر بهم خالد فحبسوا وكانت ليلة باردة لا
يقوم لها شيء، فأمر خالد منادياً ينادي: أدفئوا أسراءكم، فظنوا أنهم أمروا بقتلهم، لأن
هذه اللفظة تستعمل في لغة كنانة للقتل، فقتل ضرار بن الأزور مالكاً،
وتزوج خالد زوجته أم تميم بنت المنهال. وفي خبر آخر أن السرية التي بعث بها خالد لما غشيت
القوم تحت الليل راعوهم، فأخذ القوم السلاح، قال:
فقلنا: إنا المسلمون، فقالوا: ونحن المسلمون، قلنا: فما بال السلاح معكم، قلنا:
فضعوا السلاح، فلما وضعوا السلاح ربطوا أسارى فأتوا بهم خالداً. فحدث أبو قتادة خالد بن
الوليد أن القوم نادوا بالإسلام، وأن لهم أماناً، فلم يلتفت خالد إلى
قولهم وأمر بقتلهم، وقسم سبيهم، وحلف أبو قتادة ألا يسير تحت لواء خالد في جيش أبداً، وركب فرسه
شاداً إلى أبي بكر، فأخبره الخبر، وقال له: إني نهيت خالداً عن قتله، فلم يقبل قولي، وأخذ بشهادة الأعراب الذين غرضهم الغنائم،
وإن عمر لما سمع ذلك تكلم فيه عند أبي بكر فأكثر
وقال: إن القصاص قد وجب عليه. ولما أقبل خالد بن الوليد
قافلاً دخل المسجد وعليه قباء له عليه صدأ الحديد، معتجراً بعمامه له قد
غرز في عمامته أسهماً، فلما دخل المسجد قام إليه عمر
فنزع الأسهم عن رأسه فحطمها، ثم قال له: يا عدو نفسه،
أعدوت على امرىء مسلم فقتلته، ثم نزوت على امرأته، والله لنرجمنك بأحجارك.
وخالد لا يكلمه، ولا يظن إلا أن رأي أبي بكر مثل
رأيه حتى دخل إلى أبي بكر واعتذر إليه بعذره وتجاوز
عنه، فخرج خالد وعمر جالس في المسجد فقال:
هلم إلي يا بن أم شملة، فعرف عمر أن أبا بكر قد رضي عنه
فلم يكلمه، ودخل بيته. وقيل: إنه ارتجع بعض نسائهم من
نواحي دمشق، وبعضهن حوامل، فردهن على أزواجهن. فالأمر ظاهر في خطأ خالد، وخطأ من تجاوز
عنه. وقول صاحب الكتاب: إنه يجوز أن يخفى عن عمر ما يظهر لأبي
بكر ليس بشيء، لأن الأمر في قصة خالد لم يكن مشتبهاً،
بل كان مشاهداً معلوماً لكل من حضره، وما تأول به في
القتل لا يعذر لأجله، وما رأينا أبا بكر حكم فيه بحكم المتأول ولا غيره،
ولا تلافى خطأه وزلله، وكونه سيفاً من سيوف الله على ما ادعاه لا يسقط عنه
الأحكام، ويبرئه من الآثام. وأما قول متمم: لو قتل أخي على ما قتل عليه أخوك لما
رثيته، لا يدل على أنه كان مرتداً، فكيف يظن عاقل أن
متمماً يعترف بردة أخيه وهو يطالب أبا بكر بدمه والاقتصاص من قاتليه، ورد سبيه، وأنه
أراد في الجملة التقرب إلى عمر بتقريظ أخيه، ثم لو كان ظاهر هذا القول كباطنه لكان إنما يقصد تفضيل
قتلة زيد على قتلة مالك، والحال في ذلك أظهر، لأن زيداً
قتل في بعث المسلمين ذاباً عن وجوههم، ومالك قتل
على شبهة، وبين الأمرين فرق. وأما قوله في النبي صلى الله عليه وسلم: صاحبك فقد
قال أهل العلم: إنه أراد القرشية لأن خالداً
قرشي. وبعد، فليس في ظاهر إضافته إليه دلالة على نفيه له عن نفسه، ولو كان علم
من مقصده الاستخفاف والإهانة على ما ادعاه صاحب الكتاب
لوجب أن يعتذر خالد بذلك عند أبي بكر وعمر ويعتذر به أبو بكر لما طالبه عمر
بقتله، فإن عمر ما كان يمنع من قتل قادح في نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان
الأمر على ذلك فأي معنى لقول أبي بكر: تأول فأخطأ، وإنما تأول فأصاب إن كان الأمر على ما ذكر. قلت: أما تعجب المرتضى من كون قوم منعوا الزكاة وأقاموا على
الصلاة ودعواه أن هذا غير ممكن ولا صحيح، فالعجب منه كيف ينكر وقوع ذلك، وكيف ينكر إمكانه، أما
الإمكان فلأنه لا ملازمة بين العبادتين إلا من
كونهما مقترنتين في بعض المواضع في القرآن، وذلك لا
يوجب تلازمهما في الوجود، أو من قوله:
إن الناس يعلمون كون الزكاة واجبة في دين الإسلام ضرورة، كما تعلمون كون الصلاة
في دين الإسلام ضرورة، وهذا لا يمنع اعتقادهم سقوط
وجوب الزكاة لشبهة دخلت عليهم. فإنهم قالوا:
إن الله تعالى قال لرسوله: "خذ من أموالهم
صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم". قالوا: فوصف الصدقة المفروضة بأنها صدقة من
شأنها أن يطهر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس ويزكيهم لأخذها منهم، ثم عقب
ذلك بأن فرض عليه مع أخذ الزكاة منهم أن يصلي عليهم صلاة تكون سكناً لهم. قالوا: وهذه الصفات لا تتحقق في غيره، لأن
غيره لا يطهر الناس ويزكيهم بأخذ الصدقة، ولا إذا صلى على الناس كانت صلاته
سكناً لهم، فلم يجب علينا دفع الزكاة إلى غيره. وهذه
الشبهة لا تنافي كون الزكاة معلوماً وجوبها ضرورة من دين محمد صلى الله عليه
وسلم، لأنهم ما جحدوا وجوبها، ولكنهم قالوا: إنه وجوب مشروط، وليس يعلم
بالضرورة انتفاء كونها مشروطة، وإنما يعلم ذلك بنظر وتأويل، فقد بان أن ما ادعاه
من الضرورة ليس بدال على أنه لا يمكن أحداً اعتقاد نفي وجوب الزكاة بعد موت
الرسول صلى الله عليه وسلم، ولو عرضت مثل هذه الشبهة في
صلاة لصح لذاهب أن يذهب إلى أنها قد سقطت عن الناس، فأما الوقوع فهو
المعلوم ضرورة بالتواتر، كالعلم بأن أبا بكر ولي الخلافة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم ضرورة بطريق التواتر، ومن أراد الوقوف على ذلك فلينظر
في كتب التواريخ فإنها تشتمل من ذلك على ما يشفي
ويكفي. وقال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في التاريخ
الكبير بإسناد ذكره: إن أبا بكر أقام بالمدينة بعد وفاة
رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوجيهه أسامة في جيشه إلى حيث قتل أبوه زيد بن
حارثة لم يحدث شيئاً، وجاءته وفود العرب مرتدين يقرون بالصلاة ويمنعون الصدقة،
فلم يقبل منهم وردهم، وأقام حتى قدم أسامة بعد أربعين يوماً من شخوصه، ويقال:
بعد سبعين يوماً.
وروى أبو جعفر قال:
لما قدمت العرب المدينة على أبي بكر فكلموه في إسقاط الزكاة، نزلوا على وجوه
الناس بالمدينة فلم يبق أحد إلا وأنزل عليه ناساً منهم، إلا العباس بن عبد
المطلب، ثم اجتمع إلى أبي بكر المسلمون، فخوفوه بأس العرب واجتماعها. قال ضرار بن الأزور:
فما رأيت أحداً، ليس رسول الله، أملأ بحرب شعواء من أبي بكر فجعلنا نخوفه
ونروعه، وكأنما إنما نخبره بما له لا ما عليه، واجتمعت كلمة المسلمين على إجابة
العرب إلى ما طلبت، وأبى أبو بكر أن يفعل إلا ما كان يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يأخذ إلا ما كان يأخذ، ثم أجلهم
يوماً وليلة، ثم أمرهم بالانصراف، وطاروا إلى عشائرهم. وروى أبو جعفر، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عمرو بن العاص إلى عمان قبل موته، فمات وهو بعمان، فأقبل قافلاً إلى المدينة، فوجد العرب قد منعت الزكاة،
فنزل في بني عامر على قرة بن هبيرة، وقرة يقدم رجلاً
ويؤخر أخرى، وعلى ذلك بنو عامر كلهم إلا الخواص. ثم قدم المدينة، فأطافت به قريش، فأخبرهم أن
العساكر معسكرة حولهم، فتفرق المسلمون، وتحلقوا حلقاً، وأقبل
عمر بن الخطاب، فمر بحلقة وهم يتحدثون فيما سمعوا من عمرو، وفي تلك الحلقة علي وعثمان وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف
وسعد، فلما دنا عمر منهم سكتوا، فقال: في أي شيء أنتم، فلم يخبروه، فقال:
ما أعلمني بالذي خلوتم عليه، فغضب طلحة وقال:
الله يا بن الخطاب، إنك لتعلم الغيب، فقال: لا يعلم الغيب إلا الله، ولكن أظن قلتم: ما أخوفنا على قريش من العرب وأخفقهم
ألا يقروا بهذا الأمر. قالوا: صدقت، فقال: فلا تخافوا
هذه المنزلة، أنا والله منكم على العرب أخوف مني عليكم من العرب.
فلما
أرسل أبو بكر إلى قيس العلاء بن الحضرمي أخرج الصدقة، فأتاه بها وقدم معه إلى
المدينة. فأما قوله: وكيف يطلق قاضي القضاة في سائر أهل الردة ما أطلقه
من أنهم كانوا يصلون ومن جملتهم أصحاب مسيلمة وطلحة، فإنما أراد قاضي القضاة
بأهل الردة ههنا مانعي الزكاة لا غير، ولم يرد من جحد الإسلام بالكلية. لا يدل على
ردته، فصحيح، ولا ريب أنه قصد تقريظ زيد بن
الخطاب وأن يرضي عمر أخاه بذلك. ونعما قال المرتضى، إن بين القتلتين فرقاً ظاهراً، وإليه
أشار متمم لا محالة. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الطعن الثامن.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قولهم: إن مما يؤثر
في حاله وحال عمر دفنهما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته، وقد منع الله تعالى الكل من ذلك في حال حياته، فكيف بعد
الممات، بقوله تعالى: "لا تدخلوا بيوت
النبي إلا أن يؤذن لكم". أجاب قاضي القضاة بأن
الموضع كان ملكاً لعائشة، وهي حجرتها التي كانت معروفة
بها، والحجر كلها كانت أملاكاً لأزواج النبي صلى
الله عليه وسلم، وقد نطق
القرآن بذلك في قوله: "وقرن في بيوتكن"، وذكر أن عمر استأذن عائشة في أن يدفن في ذلك الموضع، وحتى قال: إن لم تأذن لي
فادفنوني في البقيع، وعلى هذا الوجه يحمل ما روي
عن الحسن رضي الله عنه أنه
لما مات أوصى أن يدفن إلى جنب رسول الله صلى
الله عليه وسلم، وإن لم يترك
ففي البقيع، فلما كان من مروان وسعيد بن العاص
ما كان دفن بالبقيع. وإنما أوصى بذلك بإذن عائشة، ويجوز أن يكون علم من
عائشة أنها جعلت الموضع في حكم الوقف، فاستباحوا ذلك لهذا الوجه، قال: وفي دفنه رضي الله عنه في ذلك الموضع ما يدل على فضل أبي
بكر، لأنه رضي الله عنه لما مات اختلفوا في موضع
دفنه، وكثر القول حتى روى أبو بكر عنه،
أنه قال ما يدل على أن الأنبياء إذا ماتوا دفنوا حيث ماتوا، فزال الخلاف في ذلك. وإن كان صدقة فقد كان يجب
أن يرضي عنه جماعة المسلمين ويبتاعه منهم، هذا إن جاز الابتياع لما يجري
هذا المجرى، وإن كان انتقل في حياته فقد كان يجب أن
يظهر سبب انتقاله والحجة فيه، فإن فاطمة رضي
الله عنها لم يقنع منها في
انتقال فدك إلى ملكها بقولها، ولا بشهادة من شهد.
فأما تعلقه بإضافة البيوت إليهن في قوله: "وقرن في بيوتكن"، فمن ضعيف الشبهة، لأنا قد بينا فيما مضى من هذا الكتاب أن هذه الإضافة لا تقتضي
الملك، وإنما تقتضي السكنى، والعادة في استعمال هذه اللفظة فيما ذكرناه
ظاهرة، قال تعالى: "لا تخرجوهن من بيوتهن"، ولم يرد الله تعالى إلا حيث يسكن وينزلن دون حيث
يملكن وما أشبهه، وأظرف من كل شيء تقدم قوله: إن
الحسن رضي الله عنه استأذن عائشة في أن يدفن في
البيت حتى منعه مروان وسعيد بن العاص، لأن هذه
مكابرة منه ظاهرة، فإن المانع للحسن رضي الله عنه من ذلك لم
يكن إلا عائشة، ولعل من ذكره من مروان وسعيد
وغيرهما أعانها واتبع في ذلك أمرها، وروي أنها خرجت في ذلك اليوم على بغل حتى قال ابن عباس:
يوماً على بغل ويوماً على جمل، فكيف تأذن عائشة في ذلك،
وهي مالكة الموضع على قولهم، ويمنع منه مروان وغيره ممن
لا ملك له في الموضع ولا شركة ولا يد، وهذا من قبيح ما يرتكب. وأي فضل
لأبي بكر في روايته عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث
الدفن، وعملهم بقوله إن صح فمن مذهب صاحب الكتاب وأصحابه العمل بخبر الواحد العدل في أحكام الدين العظيمة، فكيف لا يعمل بقول أبي بكر في الدفن وهم يعملون بقول من هو دونه
فيما هو أعظم من ذلك. قلت: أما أبو بكر،
فإنه لا يلحقه بدفنه مع الرسول صلى الله عليه
وسلم،
لأنه ما دفن نفسه، وإنما دفنه الناس وهو ميت،
فإن كان ذلك خطأ فالإثم والذم لاحقان بمن فعل به ذلك،
ولم يثبت عنه بأنه أوصى أن يدفن مع رسول الله صلى الله
عليه وسلم، وإنما قد يمكن أن يتوجه هذا الطعن
إلى عمر، لأنه سأل عائشة أن يدفن في الحجرة مع
رسول الله وأبي بكر. والقول عندي شبه في أمر حجر الأزواج: هل
كانت على ملك رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن
توفي، أم ملكها نساؤه، والذي تنطق به
التواريخ أنه لما خرج من قباء ودخل المدينة وسكن منزل أبي أيوب، اختط المسجد
واختط حجر نسائه وبناته، وهذا يدل على أنه كان المالك
للمواضع، وأما خروجها عن ملكه إلى الأزواج والبنات فمما لم أقف عليه. ويجوز أن
تكون الصحابة فهمت من قرائن الأحوال ومما شاهدوه منه،
أنه قد أقر كل بيت منها في يد زوجة من الزوجات على سبيل
الهبة والعطية، وإن لم ينقل عنه في ذلك صيغة لفظ
معين، والقول في بيت فاطمة، رضي
الله عنها كذلك، لأن فاطمة رضي الله عنها
لم تكن تملك مالاً، وعلي رضي الله عنه بعلها
كان فقيراً في حياة رسول الله صلى الله عليه
وسلم،
حتى إنه كان يستقي الماء ليهود بيده، يسقي
بساتينهم لقوت يدفعونه إليه، فمن أين كان له ما يبتاع به حجرة يسكن فيها هو وزوجته، والقول في كثير
من الزوجات كذلك أنهن كن فقيرات مدقعات، نحو صفية بنت حيي
بن أخطب، وجويرية بنت الحارث، وميمونة، وغيرهن، فلا وجه يمكن أن يتملك
منه هؤلاء النسوة والبنت الحجر، إلا أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم وهمها لهن، هذا إن ثبت أنها خرجت عن ملكيته رضي
الله عنه، وإلا فهي لاقية على ملكيته باستصحاب الحال.
والقول في حجرة زينب بنت رسول الله صلى
الله عليه وسلم كذلك، لأنه
أقدمها من مكة مفارقة لبعلها أبى العاص بن الربيع، فأسكنها بالمدينة في حجرة
منفردة خالية عن بعل، فلا بد أن تكون تلك الحجرة بمقتضى ما يتغلب على الظن ملكاً له، فيستدام الحكم بملكه لها إلى أن نجد دليلاً ينقلنا عن ذلك. وأما رقية وأم كلثوم
زوجتا عثمان، فإن كان مثرياً ذا مال فيجوز أن
يكون ابتاع حجرة سكنت فيها الأولى منهما، ثم الثانية
بعدها. وأما القول في الحسن وما جرى من
عائشة وبني أمية فقد تقدم، وكذلك القول في الخبر المروي في
دفن الرسول صلى الله عليه وسلم فكان أبو
المظفر هبة الله بن الموسوي صدر المخزن المعمور، كان في أيام الناصر لدين الله
إذا حادثته حديث وفاة رسول الله صلى الله عليه
وسلم
ورواية أبي بكر ما رواه من قوله رضي الله عنه: الأنبياء يدفنون حيث يموتون، يحلف أن أبا بكر افتعل هذا
الحديث في الحال والوقت، ليدفن النبي في حجرة ابنته، ثم يدفن هو معه عند موته،
علماً أنه لم يبق من عمره إلا مثل ظمء الحمار، وأنه إذا
دفن النبي صلى الله عليه وسلم في حجرة ابنته فإن ابنته
تدفنه لا محالة في حجرتها عند بعلها، وأن دفن
النبي صلى الله عليه وسلم في موضع آخر فربما لا يتهيأ له أن يدفن عنده، فرأى أن هذا الفوز بهذا الشرف العظيم،
وهذا المكان الجليل، مما لا يقتضي حسن التدبير فوته،
وأن انتهاز الفرصة فيه واجب، فروى لهم الخبر، فلا
يمكنهم بعد روايته ألا يعملوا به، لا سيما وقد صار هو
الخليفة، وإليه السلطان والنفع والضرر، وأدرك ما كان في نفسه، ثم نسج عمر على
منواله، فرغب إلى عائشة في مثل ذلك، وقد
كان يكرمها ويقدمها على سائر الزوجات في العطاء وغيره،
فأجابته إلى ذلك، وكان مطاعاً في حياته وبعد مماته، وكان يقول: واعجباً للحسن وطمعه في أن يدفن في حجرة
عائشة، والله لو كان أبوه الخليفة يومئذ لما تهيأ له ذلك، ولا تم لبغض عائشة
لهم، وحسد الناس إياهم، وتمالؤ بني أمية وغيرهم من قريش عليهم، ولهذا قالوا: يدفن عثمان في
حش كوكب، ويدفن الحسن في حجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف والخليفة معاوية والأمراء بالمدينة بنو أمية، وعائشة صاحبة الموضع، والناصر لبني هاشم قليل، والشانىء كثير. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الطعن التاسع.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قولهم: إنه نص على عمر بالخلافة، فخالف
رسول الله على زعمه، لأنه كان يزعم هو ومن قال لقوله، أن رسول الله لم يستخلف. فإن قالوا: ركوب الفيل فيه منفعة ولا مضرة فيه ولم يرد
نص بتحريمه، فوجب أن يحسن قيل لهم: والاستخلاف مصلحة، ولا مضرة فيه، وقد أجمع المسلمون أنه طريق إلى الإمامة، فوجب كونه طريقاً
إليها، وقد روي عن عمر أنه قال: إن
أستخلف فقد استخلف من هو خير مني، يعني أبا بكر، وإن أترك فقد ترك من هو خير
مني، يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم
فأما الاجتماع المشار إليه فهو أن الصحابة أجمعوا على أن عمر إمام بنص أبي بكر
عليه، وأنفذوا أحكامه، وأنفذوا إليه لأجل نص أبي بكر لا لشيء سواه، فلو لم يكن
ذلك طريقاً إلى الإمامة لما أطبقوا عليه. وقد اختلف الشيخان أبو علي وأبو هاشم في أن نص الإمام على
إمام بعده، هل يكفي في انعقاد إمامته، فقال
أبو علي: لا يكفي، بل لا بد من أن يرضى به أربعة
حتى يجري عهده إليه مجرى عقد الواحد برضا أربعة، فإذا قارنه رضا أربعة صار بذلك
إماماً، ويقول في بيعة عمر: إن أبا بكر أحضر
جماعة من الصحابة لما نص عليه، ورجع إلى رضاهم بذلك، وقال أبو هاشم: بل يكفي نصه عليه، ولا يراعى في ذلك رضا غيره به، ولو
ثبت أن أبا بكر فعله لكان على طريق التبع للنص، لا أنه
يؤثر في إمامته مع العهد، ولعل أبا بكر إن كان فعل ذلك فقد استطاب به
نفوسهم، ولهذا لم يؤثر فيه كراهية طلحة حين قال:
وليت علينا فظاً غليظاً. ويبين ذلك أنه لم ينقل استئناف العقد من الصحابة لعمر
بعد موت أبي بكر ولا اجتماع جماعة لعقد البيعة له، والرضا به، فدل على أنهم
اكتفوا بعهد أبي بكر إليه. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الطعن العاشر.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قولهم: إنه سمى نفسه بخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم،
لاستخلافه إياه بعد موته، مع اعترافه أنه لم يستخلفه. والجواب أن الصحابة سمته
خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم لاستخلافه إياه على الصلاة عند موته، والاستخلاف على
الصلاة عند الموت له مزية على الاستخلاف على الصلاة حال
الحياة، لأن حال الموت هي الحال التي تكون فيها
العهود والوصايا وما يهتم به الإنسان من أمور الدنيا والدين، لأنها حال
المفارقة. وأيضاً فإن رسول الله صلى الله عليه
وسلم ما استخلف أحداً على الصلاة بالمدينة وهو حاضر، وإنما
كان يستخلف على الصلاة قوماً أيام غيبته عن المدينة،
فلم يحصل الاستخلاف المطلق على الصلاة بالناس كلهم، وهو
صلى الله عليه وسلم حاضر بين الناس حي إلا لأبي بكر، وهذه مزية ظاهرة على سائر الإستخلافات في أمر الصلاة، فلذلك
سموه خليفة رسول الله صلى الله عليه
وسلم،
و بعد فإذا ثبت أن الإجماع على كون الاختيار طريقاً إلى الإمامة
وحجة، وثبت أن قوماً من أفاضل الصحابة اختاروه للخلافة، فقد ثبت أنه خليفة رسول
الله صلى الله عليه وسلم،
لأنه لا فرق بين أن ينص الرسول صلى الله عليه وسلم على
شخص معين، وبين أن يشير إلى قوم فيقول: من
اختار هؤلاء القوم فهو الإمام، في أن كل واحد منهما يصح
أن يطلق عليه خليفة رسول الله صلى
الله عليه وسلم. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الطعن الحادي عشر.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قولهم: إنه حرق الفجاءة السلمي بالنار،
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يحرق أحد بالنار. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الطعن الثاني عشر.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قولهم: إنه تكلم في الصلاة قبل التسليم،
فقال: لا يفعلن خالد ما أمرته، قالوا، ولذلك جاز عند
أبي حنيفة أن يخرج الإنسان من الصلاة بالكلام
وغيره من مفسدات الصلاة من دون تسليم، وبهذا
احتج أبو حنيفة. وما يذكره القوم من
سبب كلام أبي بكر في الصلاة أمر بعيد، ولو كان
أبو بكر يريد ذلك لأمر خالداً أن يفعل ذلك الفعل بالشخص المعروف وهو نائم ليلاً
في بيته، ولا يعلم أحد من الفاعل. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الطعن الثالث عشر.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قولهم: إنه كتب إلى خالد بن الوليد وهو على الشام يأمره أن يقتل سعد
بن عبادة، فكمن له هو وآخر معه ليلاً، فلما مر بهما رمياه فقتلاه، وهتف صاحب خالد في ظلام الليل بعد أن
ألقيا سعداً في بئر هناك فيها ماء ببيتين:
يوهم أن ذلك شعر الجن، وأن الجن قتلت سعداً، فلما أصبح الناس فقدوا سعداً، وقد سمع قوم منهم ذلك الهاتف فطلبوه، فوجدوه بعد ثلاثة أيام في تلك البئر، وقد اخضر، فقالوا: هذا مسيس الجن، وقال شيطان الطاق لسائل سأله: ما منع علياً أن يخاصم
أبا بكر الخلافة؟ فقال: يا بن أخي، خاف أن تقتله الجن. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الطعن الرابع عشر.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قولهم: إنه لما استخلف قطع لنفسه على بيت المال أجرةً كل يوم ثلاثة دراهم،
قالوا: وذلك لا يجوز، لأن مصارف أموال بيت المسلمين لم يذكر فيها أجرة للإمام. والجواب أنه تعالى جعل
في جملة مصرف أموال الصدقات العاملين عليها، وأبو بكر من العاملين. واعلم أن الإمامية لو أنصفت لرأت أن هذا الطعن
بأن يكون من مناقب أبي بكر أولى من أن يكون من مساويه ومثالبه، ولكن العصبية لا
حيلة فيها. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الطعن الخامس عشر.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قولهم: إنه لما استخلف صرخ مناديه في المدينة: من كان عنده شىء من
كلام الله فليأتنا به، فإنا عازمون على جمع القرآن، ولا يأتنا بشيء منه إلا ومعه
شاهدا عدل، قالوا: وهذا خطأ، لأن القران قد بان
بفصاحته عن فصاحة البشر، فأي حاجة إلى شاهدي عدل. وأيضاً
فإنه لو أحضر إنسان آية أو آيتين ولم يكن معه شاهد، فربما
تختلف العرب: هل هذه في الفصاحة بالغة مبلغ الإعجاز الكلي، أم هي ثابتة
من كلام العرب بثبوته، غير بالغة إلى حد الإعجاز؟ فكان
يلتبس الأمر ويقع النزاع، فاستظهر أبو بكر بطلب الشهود تأكيداً، لأنه إذا
انضمت الشهادة إلى الفصاحة الظاهرة ثبت أن ذلك الكلام من القرآن. وإني
إلى لقاء الله لمشتاق، ولحسن ثوابه لمنتظر راج، ولكنني آسى أن يلي هذه الأمة
سفهاؤها وفجارها، فيتخذوا مال الله دولاً، وعباده خولاً، والصالحين حرباً،
والفاسقين حزباً، فإن منهم الذي شرب فيكم الحرام، وجلد حداً في الإسلام. وإن
منهم من لم يسلم حتى رضخت له على الإسلام الرضائخ، فلولا ذلك ما أكثرت تأليبكم
وتأنيبكم، وجمعكم وتحريضكم، ولتركتكم إذ أبيتم وونيتم. وتقروا بالخسف: تعترفوا بالضيم وتصبروا له. وتبوءوا
بالذل: ترجعوا به. والأرق:
الذي لا ينام. ومثل قوله رضي الله عنه: من
نام لم ينم عنه قول الشاعر:
فأما
الذي رضخت له على الإسلام الرضائخ، فمعاوية، والرضيخة:
شيء قليل يعطاه الإنسان يصانع به عن شيء يطلب منه كالأجر، وذلك لأنه من المؤلفة
قلوبهم الذين رغبوا في الإسلام والطاعة بجمال وشاء دفعت إليهم، وهم قوم معروفون كمعاوية وأخيه يزيد، وأبيهما أبي سفيان،
وحكيم بن حزام، وسهيل بن عمرو، والحارث بن هشام بن المغيرة، وحويطب بن عبد
العزى، والأخنس بن شريق، وصفوان بن أمية، وعمير بن وهب الجمحي، وعيينة بن حصن،
والأقرع بن حابس، وعباس بن مرداس وغيرهم. وكان
إسلام هؤلاء للطمع والأغراض الدنياوية، ولم يكن عن أصل ولا عن يقين وعلم. وقال الراوندي: عنى بقوله:
رضخت لهم الرضائخ، عمرو بن العاص، وليس بصحيح، لأن
عمراً لم يسلم بعد الفتح، وأصحاب الرضائخ كلهم أسلموا بعد الفتح، صونعوا على الإسلام بغنائم حنين. ولعمري إن إسلام عمرو كان مدخولاً أيضاً، إلا أنه
لم يكن عن رضيخة، وإنما كان لمعنى آخر. فأما الذي
شرب الحرام، وجلد في حد الإسلام، فقد قال الراوندي:
هو المغيرة بن شعبة، وأخطأ فيما قال، لأن
المغيرة إنما اتهم بالزنا ولم يحد ولم يجر للمغيرة ذكر في شرب الخمر، وقد تقدم خبر
المغيرة مستوفىً، وأيضاً فإن المغيرة لم يشهد صفين مع
معاوية ولا مع علي رضي الله عنه، له وما
للراوندي ولهذا، إنما يعرف هذا الفن أربائه. والذي عناه
علي رضي الله عنه الوليد
بن عقبة بن أبي معيط، وكان أشد الناس عليه وأبلغهم تحريضاً لمعاوية وأهل
الشام على حربه. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أخبار الوليد بن عقبة.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ونحن نذكر خبر الوليد وشربه الخمر منقولاً من كتاب الأغاني لأبي
الفرج علي بن الحسين الأصفهاني، قال أبو الفرج: كان سبب إمارة الوليد بن عقبة الكوفة لعثمان
ما حدثني به أحمد بن عبد العزيز الجوهري، قال: حدثنا عمر بن شبة، قال: حدثني عبد
العزيز بن محمد بن حكيم، عن خالد بن سعيد بن عمرو بن سعيد، عن أبيه، قال: لم يكن يجلس مع عثمان على سريره إلا العباس بن عبد
المطلب، وأبو سفيان بن حرب، والحكم بن أبي العاص، والوليد بن عقبة، ولم يكن
سريره يسع إلا عثمان وواحداً منهم، فأقبل الوليد يوماً فجلس، فجاء الحكم بن أبي العاص فأومأ عثمان إلى الوليد، فزحل له
عن مجلسه، فلما قام الحكم قال الوليد: والله يا
أمير المؤمنين رضي الله عنه لقد تلجلج في صدري بيتان قلتهما حين رأيتك آثرت ابن
عمك على ابن أمك، وكان الحكم عم عثمان،
والوليد أخاه لأمه، فقال عثمان: إن الحكم شيخ قريش، فما البيتان، فقال:
يعني
عمراً وخالداً ابني عثمان. قال: فرق له عثمان وقال: قد وليتك
الكوفة، فأخرجه إليها. فسكت سعد طويلاً، ثم قال: لا والله ما
أدري أصلحت بعدنا أم فسدنا بعدك، ثم قال:
فقال الوليد:
أما والله لأنا أقول للشعر منك، وأروى له، ولو شئت
لأجبتك، ولكني أدع ذاك لما تعلم. نعم والله لقد
أمرت بمحاسبتك، والنظر في أمر عمالك. ثم
بعث إلى عمال سعد فحبسهم وضيق عليهم، فكتبوا إلى سعد يستغيثون به، فكلمه فيهم فقال له: أو للمعروف عندك موضع؟ قال: نعم، فخلى
سبيلهم. فقال سعد: أراكم
والله ستجعلونه ملكاً.
وقال
الحطيئة أيضاً:
قال أبو الفرج:
وأخبرنا محمد بن خلف وكيع قال: حدثنا حماد بن إسحاق، قال:
حدثني أبي قال: قال أبو عبيدة وهشام بن الكلبي والأصمعي: كان الوليد زانياً يشرب الخمر، فشرب بالكوفة وقام ليصلي بهم الصبح
في المسجد الجامع، فصلى بهم أربع ركعات ثم التفت إليهم
فقال: أزيدكم، وتقيأ في المحراب بعد أن قرأ بهم رافعاً صوته في الصلاة:
فشخص أهل الكوفة إلى عثمان فأخبروه بخبره، وشهدوا عليه
بشرب الخمر، فأتي به، فأمر رجلاً من المسلمين أن
يضربه الحد، فلما دنا منه قال: نشدتك الله وقرابتي من أمير المؤمنين،
فتركه، فخاف علي بن أبي طالب أن يعطل الحد، فقام إليه فحده
بيده، فقال الوليد: نشدتك الله والقرابة، فقال أمير المؤمنين رضي الله عنه، اسكت أبا
وهب، فإنما هلك بنو إسرائيل لتعطيلهم الحدود، فلما ضربه وفرغ منه قال: لتدعوني
قريش بعدها جلاداً. قال إسحاق: وحدثني
مصعب بن الزبير قال: قال الوليد بعد ما شهدوا عليه فجلد: اللهم إنهم قد شهدوا علي بزور، فلا ترضهم عن أمير، ولا ترض عنهم
أميراً، قال: وقد عكس الحطيئة أبياته فجعلها مدحاً
للوليد:
قال أبو الفرج:
ونسخت من كتاب هارون بن الرباب بخطه، عن عمر بن شبة، قال: شهد رجل عند أبي
العجاج وكان على قضاء البصرة، على رجل من المعيطيين بشهادة، وكان الشاهد سكران، فقال، المشهود عليه، وهو المعيطي:
أعزك الله أيها القاضي، إنه لا يحسن من السكر أن يقرأ شيئاً من القرآن، فقال
الشاهد: بلى أحسن، قال: فاقرأ، فقال:
يمجن
بذلك، ويحكي ما قاله الوليد في الصلاة، وكان أبو العجاج
أحمق، فظن أن هذا الكلام من القرآن، فجعل يقول:
صدق الله ورسوله، ويلكم، كم تعلمون ولا تعملون. قال:
ولقي أبو زينب وصاحبه عبد الله بن حبيش الأسدي وعلقمة بن يزيد البكري وغيرهما،
فأخبروهم، فقالوا: اشخصوا إلى أمير المؤمنين رضي الله عنه فأعلموه،
وقال بعضهم: إنه لا يقبل قولكم في أخيه، فشخصوا إليه،
فقالوا: إنا جئناك في أمر، ونحن مخرجوه إليك من أعناقنا، وقد قيل: إنك لا تقبله،
قال: وما هو؟ قالوا: رأينا الوليد وهو سكران من خمر شربها، وهذا خاتمه أخذناه من
يده وهو لا يعقل. فأرسل عثمان إلى علي رضي الله عنه فأخبره،
فقال: أرى أن تشخصه، فإذا شهدوا عليه بمحضر منه حددته. فكتب
عثمان إلى الوليد. فقدم عليه، فشهد عليه أبو زينب وأبو مورم وجندب الأزدي
وسعد بن مالك الأشعري، فقال عثمان لعلي رضي الله عنه: قم يا أبا الحسن فاجلده، فقال علي رضي الله عنه للحسن ابنه: قم فاضربه، فقال الحسن: مالك
ولهذا، يكفيك غيرك، فقال علي لعبد الله بن جعفر:
قم فاضربه، فضربه بمخصرة فيها سير له رأسان، فلما بلغ أربعين قال: حسبك.
فقال عدي:
فأين تذهب بنا إذن، فأقم.
قال أبو الفرج:
وحدثني أحمد قال: حدثني عمر قال: لما قدم الوليد بن عقبة الكوفة قدم عليه أبو
زبيد فأنزله دار عقيل بن أبي طالب على باب المسجد، وهي التي تعرف بدار القبطي،
فكان مما احتج به عليه أهل الكوفة أن أبا زبيد كان يخرج إليه من داره وهو نصراني
يخترق المسجد فيجعله طريقاً.
قال:
يقول، إذا أجدبتم فإنا لا نحميها عليكم، وإذا كنتم أسأتم وحميتموها علينا.
قال:
ومن شعر أبي زبيد فيه يذكر نصره له على مري بن أوس بن حارثة:
وقال
أبو زبيد يمدح الوليد ويتألم لفراقه حين عزل عن الكوفة:
وهي طويلة يصف فيها الأسد . قال: هو الوليد بن عقبة، بعثه النبي صلى الله عليه وسلم
مصدقاً إلى بني المصطلق، فلما رأوه أقبلوا نحوه، فهابهم، فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: إنهم ارتدوا عن الإسلام، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد، فعلم علمهم، وأمره
أن يتثبت، وقال له: انطلق ولا تعجل، فانطلق حتى أتاهم ليلاً، وأنفذ عيونه نحوهم،
فلما جاءوه أخبروه أنهم متمسكون بالإسلام وسمع أذانهم وصلاتهم، فلما أصبح أتاهم
فرأى ما يعجبه، فرجع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فأخبره فنزلت هذه الآية. قال: ولا خلاف بين
أهل العلم بتأويل القرآن أن قوله عز وجل: "إن
جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا" أنزلت في الوليد
لما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقاً، فكذب على بني المصطلق وقال: إنهم ارتدوا وامتنعوا من أداء
الصدقة. قال أبو عمر:
وفيه وفي علي رضي الله عنه
نزل: "أفمن
كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون"، في
قصتهما المشهورة. قال: ومن كان صبياً يوم الفتح لا يجيء منه مثل هذا،
فوجب أن ينظر في حديث الخلوق، فإنه رواية جعفر بن
برقان، عن ثابت، عن الحجاج، عن أبي موسى الهمداني، وأبو موسى مجهول لا يصح
حديثه. ثم نعود إلى كتاب أبي الفرج الأصبهاني، قال أبو الفرج: وأخبرني أحمد بن عبد العزيز، عن عمر
بن شبة، عن عبد الله بن موسى، عن نعيم بن حكيم، عن أبي مريم، عن علي رضي الله عنه، أن امرأة الوليد بن عقبة جاءت إلى
النبي صلى الله عليه وسلم تشتكي
إليه الوليد، وقالت: إنه يضربها، فقال لها: ارجعي
إليه وقولي له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد
أجارني، فانطلقت، فمكثت ساعة، ثم رجعت فقالت: إنه ما أقلع عني، فقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم هدبة من ثوبه وقال: اذهبي بها إليه وقولي له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أجارني، فانطلقت فمكثت ساعة ثم رجعت فقالت: ما زادني إلا
ضرباً، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده
ثم قال: "اللهم عليك بالوليد" مرتين أو
ثلاثاً.
فدنا منه أصحابه فقالوا: يا رسول الله، ما ينفعنا سيرنا مخافة أن تنهشك دابة، أو
تصيبك نكبة. فركب ودنوا منه وقالوا: قلت قولاً لا ندري ما
هو، قال: وما ذاك، قالوا: كنت تقول: جندب
وما جندب، والأقطع زيد الخير.
قال أبو الفرج:
وقد روي أن هذا الساحر كان يدخل عند الوليد في جوف بقرة حية، ثم يخرج منها، فرآه
جندب فذهب إلى بيته، فاشتمل على سيف، فلما دخل الساحر في البقرة قال جندب: "أفتاتون السحر وأنتم تبصرون"، ثم ضرب
وسط البقرة فقطعها وقطع الساحر معها، فذعر الناس، فسجنه الوليد، وكتب بأمره إلى
عثمان. قال أبو الفرج:
وكان الوليد أسن من سعيد بن العاص، وأسخى نفساً، وألين جانباً، وأرضى عندهم،
فقال بعض شعرائهم:
وقال
آخر منهم:
قال أبو الفرج:
وحدثنا أحمد، قال: حدثنا عمر، عن المدائني، قال:
قدم الوليد بن عقبة الكوفة في أيام معاوية زائراً للمغيرة بن شعبة، فأتاه أشراف
الكوفة فسلموا عليه. وقالوا: والله ما رأينا بعدك مثلك، فقال: أخيراً أم شراً، قالوا: بل خيراً،
قال: ولكني ما رأيت بعدكم شراً منكم. فأعادوا الثناء عليه، فقال: بعض ما تأتون
به، فو الله إن بغضكم لتلف، وإن حبكم لصلف. قال معاوية:
ما أعلمه إلا قد أحسن السيرة، وبسط الخير، وقبض الشر. قال: فأنت
يا أمير المؤمنين رضي الله عنه
اليوم أقدر على ذلك فافعله، فقال: اسكت لا سكت، فسكت وسكت القوم، فقال معاوية بعد يسير: مالك لا تتكلم يا قبيصة،
قال: نهيتني عما كنت أحب فسكت عما لا أحب.
قيل:
هم إخوته، وقيل: ندماؤه.
وبلغ
معاوية شخوصه إلى الجزيرة فخافه، وكتب إليه: أقبل، فكتب:
ثم
رحل إلى الحجاز، فبعث إليه معاوية بجائزة. قال: وكان الأصمعي وأبو عبيدة وابن الكلبي
وغيرهم يقولون: إنه كان فاسقاً شريب خمر، وكان شاعراً كريماً. قال:
وأخباره في شربه الخمر ومنادمته أبا زبيد الطائي كثيرة مشهورة، ويسمح بنا ذكرها،
ولكنا نذكر منها طرفاً. ثم ذكر ما ذكره أبو الفرج في الأغاني، وقال: إن خبر الصلاة وهو سكران، وقوله: أأزيدكم؟ خبر مشهور
روته الثقات من نقلة الحديث. قال أبو عمر بن عبد البر: وقد ذكر الطبري في رواية أنه تغضب عليه قوم من أهل
الكوفة حسداً وبغياً، وشهدوا عليه بشرب الخمر، وقال: إن عثمان قال له: يا أخي
اصبر، فإن الله يأجرك ويبوء القوم بإثمك. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وكتب إلى أبي موسى الأشعري وهو عامله
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
على الكوفة، وقد بلغه عنه تثبيطه الناس
عن الخروج إليه لما ندبهم لحرب أصحاب الجمل. الأصل: من عبد الله علي أمير المؤمنين رضي الله عنه إلى
عبد الله بن قيس: أما بعد، فقد بلغني عنك قول هو لك وعليك، فإذا قدم عليك رسولي
فارفع ذيلك، واشدد مئزرك، واخرج من جحرك، وانذب من معك، فإن حققت فانفذ، وإن
تفشلت فابعد، وأيم الله لتؤتين من حيث أنت، ولا تترك حتى يخلط زبدك بخاثرك،
وذائبك بجامدك، وحتى تعجل عن قعدتك، وتحذر من أمامك، كحذرك من خلفك، وما هي
بالهوينى التي ترجو، ولكنها الداهية الكبرى، يركب جملها، ويذل صعبها، ويسهل
جبلها. فاعقل عقلك، واملك أمرك، وخذ نصيبك وحظك، فإن كرهت فتنح إلى غير رحب، ولا
في نجاة، فبالحري لتكفين وأنت نائم حتى لا يقال: أين
فلان، والله إنه لحق مع محق وما يبالي ما صنع الملحدون، والسلام. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وكتب إلى معاوية جواباً عن كتابه.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
أما بعد، فإنا كنا نحن وأنتم على ما ذكرت من الألفة والجماعة، ففرق بيننا وبينكم
أمس أنا آمنا وكفرتم، واليوم أنا استقمنا وفتنتم، وما أسلم مسلمكم إلا كرهاً،
وبعد أن كان أنف الإسلام كله لرسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه حرباً.
وعندي السيف الذي أعضضته بجدك وخالك وأخيك في مقام واحد. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
كتاب معاوية إلى علي.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الشرح: أما الكتاب
الذي كتبه إليه معاوية، وهذا الكتاب جوابه، فهو:
من معاوية بن أبي سفيان، إلى علي بن أبي طالب: أما بعد، فإنا بني عبد مناف لم نزل ننزع من قليب
واحد، ونجري في حلبة واحدة، ليس لبعضنا على بعض فضل، ولا لقائمنا على قاعدنا
فخر، كلمتنا مؤتلفة، وألفتنا جامعة، ودارنا واحدة، يجمعنا كرم العرق، ويحوينا
شرف النجار، ويحنو قوينا على ضعيفنا، ويواسي غنينا فقيرنا، قد خلصت قلوبنا من
وغل الحسد، وطهرت أنفسنا من خبث النية، فلم نزل كذلك
حتى كان منك ما كان من الإدهان في أمر ابن عمك، والحسد له، ونصرة الناس عليه،
حتى قتل بمشهد منك، لا تدفع عنه بلسان ولا يد. فليتك أظهرت نصره، حيث أسررت خبره، فكنت كالمتعلق
بين الناس بعذر وإن ضعف، والمتبرىء من دمه بدفع وإن وهن، ولكنك جلست في دارك تدس إليه الدواهي، وترسل إليه الأفاعي،
حتى إذا قضيت وطرك منه، أظهرت شماتة، وأبديت طلاقة، وحسرت للأمر عن ساعدك، وشمرت
عن ساقك، ودعوت الناس إلى نفسك، وأكرهت أعيان المسلمين على بيعتك، ثم كان منك
بعد ما كان، من قتلك شيخي المسلمين أبي محمد طلحة وأبي عبد الله الزبير، وهما من
الموعودين بالجنة، والمبشر قاتل أحدهما بالنار في الآخرة، هذا إلى تشريدك
بأم المؤمنين عائشة وإحلالها محل الهون، مبتذلةً بين أيدي الأعراب وفسقة أهل
الكوفة، فمن بين مشهر لها، وبين شامت بها، وبين ساخر منها. ترى ابن
عمك كان بهذه لو رآه راضياً، أم كان يكون عليك ساخطاً، ولك عنه زاجراً، أن تؤذي
أهله وتشرد بحليلته، وتسفك دماء أهل ملته. ثم تركد دار الهجرة التي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها: "إن المدينة لتنفي خبثها كما ينفي الكير خبث
الحديد"، فلعمري لقد صح وعده وصدق قوله، ولقد نفت خبثها، طردت عنها
من ليس بأهل أن يستوطنها، فأقمت بين المصرين، وبعدت عن بركة الحرمين، ورضيت
بالكوفة بدلاً من المدينة، وبمجاورة الخورنق والحيرة عوضاً عن مجاورة خاتم
النبوة، ومن قبل ذلك ما عبت خليفتي رسول الله صلى
الله عليه وسلم أيام حياتهما، فقعدت عنهما وألبت
عليهما، وامتنعت من بيعتهما، ورمت أمراً لم يرك الله تعالى له أهلاً، ورقيت
سلماً وعراً، وحاولت مقاماً دحضاً، وادعيت ما لم تجد عليه ناصراً، ولعمري لو
وليتها حينئذ لما ازدادت إلا فساداً واضطراباً، ولا أعقبت ولايتكها إلا انتشاراً
وارتداداً، لأنك الشامخ بأنفه، الذاهب بنفسه، المستطيل على الناس بلسانه ويده، وها أنا سائر إليك في جمع من المهاجرين والأنصار تحفهم سيوف
شامية، ورماح قحطانية، حتى يحاكموك إلى الله. فانظر
لنفسك وللمسلمين، وادفع إلي قتلة عثمان، فإنهم خاصتك وخلصاؤك والمحدقون بك، فإن
أبيت إلا سلوك سبيل اللجاج، والإصرار على الغي والضلال، فاعلم أن هذه الآية إنما
نزلت فيك وفي أهل العراق معك: "وضرب الله
مثلاً قرية كانت آمنةً مطمئنةً يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله
فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون". فأما الجواب المفصل فأن يقال:
إن طلحة والزبير قتلا أنفسهما ببغيهما ونكثهما، ولو استقاما على الطريقة لسلما،
ومن قتله الحق فدمه هدر، وأما كونهما شيخين من شيوخ الإسلام فغير مدفوع، ولكن
العيب يحدث، وأصحابنا يذهبون إلى أنهما تابا وفارقا الدنيا نادمين على ما صنعا،
وكذلك نقول نحن، فإن الأخبار كثرت بذلك، فهما من أهل الجنة لتوبتهما، ولولا
توبتهما لكانا هالكين كما هلك غيرهما، فإن الله تعالى لا يحابي أحداً في الطاعة
والتقوى، قال تعالى "ليهلك من هلك عن بينة
ويحيا من حي عن بينة". ولو كانت فعلت بعمر ما فعلت به، وشقت عصا الأمة عليه، ثم ظفر
بها، لقتلها ومزقها إرباً إرباً، ولكن علياً كان
حليماً كريماً. ثم لعلي رضي الله عنه أن يقلب عليه الكلام فيقول له:
وأنت يا معاوية، قد نفتك المدينة أيضاً عنها، فأنت إذا خبث، وكذلك طلحة والزبير
وعائشة الذين تتعصب لهم وتحتج على الناس بهم، وقد خرج عن المدينة الصالحون، كابن
مسعود وأبي ذر وغيرهما، وماتوا في بلاد نائية عنها. فأما ما ذكره من خذلانه عثمان وشماتته به ودعائه
الناس بعد قتله إلى نفسه وإكراهه طلحة والزبير وغيرهما على بيعته فكله دعوى
والأمر بخلافها، ومن نظر كتب السير عرف أنه قد بهته
وادعى عليه ما لم يقع منه. وأما قوله:
التوبت على أبي بكر وعمر، وقعدت عنهما، وحاولت الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن علياً رضي الله عنه لم يكن يجحد ذلك ولا ينكره، ولا ريب أنه كان يدعي الأمر بعد وفاة
رسول الله صلى الله عليه
وسلم
لنفسه على الجملة، إما
لنص كما تقوله الشيعة، أو لأمر آخر كما
يقوله أصحابنا. فأما قوله: لو وليتها حينئذ لفسد الأمر واضطرب الإسلام، فهذا علم غيب لا يعلمه إلا الله، ولعله لو وليها حينئذ
لاستقام الأمر وصلح الإسلام وتمهد، فإنه ما وقع الاضطراب عند ولايته بعد عثمان إلا لأن أمره هان عندهم بتأخره عن الخلافة، وتقدم غيره عليه، فصغر شأنه في النفوس،
وقرر من تقدمه في قلوب الناس أنه لا يصلح لها كل
الصلاحية، والناس على ما يحصل في نفوسهم، ولو كان وليها ابتداء وهو على تلك الحالة التي كان عليها أيام حياة رسول الله
صلى الله عليه وسلم وتلك المنزلة الرفيعة والاختصاص
الذي كان له، لكان الأمر غير الذي رأيناه عند
ولايته بعد عثمان. وأما قوله: لأنك الشامخ
بأنفه، الذاهب بنفسه، فقد أسرف في وصفه بما وصفه به، ولا شك أن علياً رضي الله عنه كان
عنده زهو لكن لا هكذا، وكان رضي الله عنه مع
زهوه ألطف الناس خلقاً. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
خبر فتح مكة.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ويجب أن نذكر في هذا الموضع ملخص ما ذكره الواقدي في كتاب
المغازي في فتح مكة، فإن الموضع يقتضيه، لقوله رضي الله عنه: ما أسلم مسلمكم إلا
كرهاً. وقوله: يوم أسر أخوك.
ثم ذكروا له ما أثار الشر، وقالوا له: إن أنس بن زنيم هجاك، وإن صفوان بن
أمية وفلاناً وفلاناً دسوا إلينا رجال قريش مستنصرين، فبيتونا بمنزلنا بالوتير فقتلونا، وجئناك مستصرخين بك، فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام مغضباً يجر رداءه ويقول: "لا نصرت إن لم أنصر خزاعة
فيما أنصر منه نفسي". وقال أبو سفيان:
قد رأت هند بنت عتبة رؤيا كرهتها وأفظعتها، وخفت من
شرها، قالوا: ما رأت، قال: رأت كأن دماً أقبل من الحجون يسيل حتى وقف
بالخندمة ملياً، ثم كأن ذلك الدم لم يكن، فكره القوم ذلك وقالوا: هذا شر. قالت قريش: قد والله أصبت، وندمت قريش على ما صنعت بخزاعة وعرفت أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم لا
بد أن يغزوها، فخرج أبو سفيان وخرج معه مولى له على
راحلتين، وأسرع السير وهو يرى أنه أول من خرج من مكة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالوا: بنو بكر بن عبد مناة، قال: كلها،
قالوا: لا، ولكن تهمتنا بنو نفاثة قصرة، ورأسهم نوفل بن معاوية النفاثي، فقال:
هذا بطن من بكر، فأنا باعث إلى أهل مكة فسائلهم عن هذا الأمر، ومخيرهم في خصال. فبعث إليهم ضمرة يخيرهم بين إحدى خلال ثلاث: بين أن
يدوا خزاعة، أو يبرءوا من حلف نفاثة، أو ينبذ إليهم على سواء. فأتاهم ضمرة
فخيرهم بين الخلال الثلاث، فقال قريظة بن عبد عمرو
الأعمى: أما أن ندي قتلى خزاعة، فإنا إن وديناهم لم يبق لنا سبد ولا لبد،
وأما أن نبرأ من حلف نفاثة، فإنه ليس قبيلة تحج هذا البيت أشد تعظيماً له من
نفاثة، وهم حلفاؤنا فلا نبرأ من حلفهم، ولكنا ننبذ إليه على سواء. فعاد ضمرة إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، وندمت قريش أن ردت ضمرة بما ردته به. قال الواقدي:
وقد روي غير ذلك، روي أن قريشاً لما ندمت على قتل خزاعة وقالت: محمد غازينا، قال
لهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وهو يومئذ كافر مرتد عندهم -: إن عندي رأياً،
إن محمداً ليس يغزوكم حتى يعذر إليكم ويخيركم في خصال كلها أهون عليكم من غزوه،
قالوا: ما هي، قال: يرسل إليكم أن تدوا قتلى خزاعة، أو تبرءوا من حلف من نقض
العهد وهم بنو نفاثة، أو ينبذ إليكم العهد. فقال القوم: أحر بما قال ابن أبي سرح
أن يكون، فقال سهيل بن عمرو: ما خصلة أيسر
علينا من أن نبرأ من حلف نفاثة، فقال شيبة بن عثمان العبدري: حطت أخوالك خزاعة،
وغضبت لهم، قال سهيل: وأي قريش لم تلد خزاعة، قال شيبة: لا، ولكن ندي قتلى خزاعة
فهو أهون علينا. فقال قريظة بن عبد عمرو:
لا والله لا نديهم ولا نبرأ عن نفاثة أبر العرب بنا، وأعمرهم لبيت ربنا، ولكن
ننبذ إليهم على سواء. فقال أبو سفيان: ما
هذا بشيء، وما الرأي إلا جحد هذا الأمر أن تكون قريش دخلت في نقض العهد، أو قطع
مدة، فإن قطعه قوم بغير هوىً منا ولا مشورة فما علينا، قالوا: هذا هو الرأي، لا
رأي إلا الجحد لكل ما كان من ذلك، فقال: أنا أقسم إني لم أشهد ولم أوامر، وأنا
صادق، لقد كرهت ماصنعتم، وعرفت أن سيكون له يوم غماس، قالت قريش لأبي سفيان:
فاخرج أنت بذلك، فخرج. وقال لبني خزاعة عمرو بن سالم وأصحابه: ارجعوا
وتفرقوا في الأودية، وقام فدخل على عائشة وهو مغضب، فدعا بماء، فدخل يغتسل، قالت عائشة: فأسمعه يقول وهو يصب الماء على رجليه:
"لا نصرت إن لم أنصر بني كعب". قالوا: لا
عهد لنا بها، فعرف أنهم كتموه، فقال: أما معكم من تمر يثرب شيء تطعموناه، فإن
لتمر يثرب فضلاً على تمر تهامة؟ قالوا: لا، ثم أبت نفسه أن تقر، فقال: يا بديل،
هل جئت محمداً؟ قال: لا ولكني سرت في بلاد خزاعة من هذا الساحل في قتيل كان
بينهم حتى أصلحت بينهم. قال: يقول أبو سفيان:
إنك - والله ما علمت - بر واصل. فلما راح بديل وأصحابه جاء أبو سفيان إلى أبعار
إبلهم ففتها فإذا فيها النوى، ووجد في منزلهم نوى من تمر عجوة كأنه ألسنة
العصافير، فقال: أحلف بالله لقد جاء القوم محمداً. وأقبل حتى
قدم المدينة، فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد إني كنت غائباً
في صلح الحديبية، فاشدد العهد وزدنا في المدة، فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: ولذلك قدمت يا أبا سفيان، قال: نعم، قال: فهل كان قبلكم حدث، فقال: معاذ
الله، فقال رسول الله: فنحن على موثقنا وصلحنا يوم الحديبية لا نغير ولا نبدل. فقام من
عنده فدخل على ابنته أم حبيبة، فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه
وسلم طوته دونه، فقال: أرغبت بهذا الفراش عني، أم رغبت بي عنه، فقال: بل هو فراش
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت آمرؤ نجس مشرك. قال: يا بنية، لقد أصابك
بعدي شر، فقالت: إن الله هداني للإسلام،
وأنت يا أبت سيد قريش وكبيرها، كيف يخفى عنك فضل الإسلام، وتعبد حجراً لا يسمع
ولا يبصر، فقال: يا عجباً، وهذا منك أيضاً، أأترك ما كان يعبد آبائي وأتبع دين
محمد، ثم قام من عندها فلقي أبا بكر، فكلمه، وقال: تكلم أنت محمداً، وتجير أنت
بين الناس. فقال: أبو بكر:
جواري جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لقي عمر فكلمه، بمثل ما كلم به أبا
بكر، فقال عمر: والله لو وجدت السنور
تقاتلكم لأعنتها عليكم. قال أبو سفيان:
جزيت من ذي رحم شراً! ثم دخل على عثمان بن عفان فقال له:
إنه ليس في القوم أحد أمس بي رحماً منك، فزدني الهدنة وجدد العهد، فإن صاحبك لا
يرد عليك أبداً، والله ما رأيت رجلاً قط أشد إكراماً لصاحبه من محمد لأصحابه، فقال عثمان: جواري جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء أبو
سفيان حتى دخل على فاطمة بنت رسول الله صلى
الله عليه وسلم، فكلمها، وقال: أجيري بين الناس،
فقالت: إنما أنا امرأة، قال: إن جوارك جائز، وقد أجارت أختك أبا العاص بن
الربيع، فأجاز محمد ذلك. فقالت فاطمة: ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبت عليه،
فقال: مري أحد هذين ابنيك يجيز بين الناس، قالت: إنهما صبيان، وليس يجير الصبي. فلما أبت عليه، أتى علياً رضي الله عنه فقال:
يا أبا حسن، أجر بين الناس وكلم محمداً ليزيد في المدة، فقال علي رضي الله عنه: ويحك يا أبا سفيان، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عزم ألا
يفعل، وليس أحد يستطيع أن يكلمه في شيء يكرهه، قال أبو
سفيان: فما الرأي عندك فتشير لأمري، فإنه قد ضاق علي، فمرني بأمر ترى أنه
نافعي، قال علي رضي الله عنه: والله ما أجد
لك شيئاً مثل أن تقوم فتجير بين الناس، فإنك سيد كنانة، قال: أترى ذلك مغنياً
عني شيئاً، قال علي: إني لا أظن ذلك والله، ولكني لا أجد لك غيره. فقام أبو سفيان بين ظهري الناس فصاح: ألا إني قد أجرت
بين الناس، ولا أظن محمداً يحقرني. ثم دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فقال: يا محمد ما أظن أن ترد جواري، فقال صلى الله عليه وسلم: أنت
تقول ذلك يا أبا سفيان، ويقال: إنه لما صاح لم يأت النبي صلى
الله عليه وسلم وركب راحلته وأنطلق إلى مكة. ويروى أنه أيضاً أتى سعد بن عبادة
فكلمه في ذلك: وقال: يا أبا ثابت، قد عرفت الذي كان
بيني وبينك، وإني كنت لك في حرمنا جاراً، وكنت لي بيثرب مثل ذلك، وأنت سيد هذه
المدرة، فأجر بين الناس، وزدني في المدة. فقال سعد: جواري جوار
رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما يجير أحد
على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما انطلق أبو سفيان إلى مكة، كان طالت
غيبته عن قريش وأبطأ، فاتهموه وقالوا: نراه قد صبأ واتبع محمداً سراً، وكتم
سلامه، فلما دخل على هند ليلاً قالت: قد أحتبست حتى أتهمك قومك، فإن كنت جئتهم
بنجح فأنت الرجل. وقد كان دنا منها ليغشاها، فأخبرها الخبر وقال: لم أجد إلا ما
قال لي علي، فضربت برجلها في صدره وقالت: قبحت من رسول قوم. قال الواقدي:
فحدثني محمد بن عبد الله، عن الزهري، عن محمد بن جبير بن مطعم، قال: لما خرج أبو
سفيان عن المدينة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
لعائشة: جهزينا وأخفى أمرك. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم خذ عن قريش الأخبار والعيون حتى نأتيهم
بغتةً، وروي أنه قال: اللهم خذ على أبصارهم فلا يروني إلا بغتةً، ولا يسمعون بي
إلا فجأةً. قال: وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم عم، الأنقاب وجعل عليها
الرجال، ومنع من يخرج من المدينة، فدخل أبو بكر على عائشة وهي تجهز رسول صلى
الله عليه وسلم، تعمل له قمحاً سويقاً ودقيقاً، وتمراً، فقال لها: أهم رسول الله
صلى الله عليه وسلم بغزو؟ قالت: لا أدري، قال:
إن كان هم بسفر فآذنينا نتهيأ له، قالت: لا أدري لعله أراد بني سليم، لعله أراد
ثقيفاً أو هوازن، فاستعجمت عليه، فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أردت سفراً، قال: نعم،
قال: وأين تريد، قال: قريشاً، وأخف ذلك يا أبا بكر، وأمر رسول الله الناس
فتجهزوا، وطوى عنهم الوجه الذي يريد، وقال له أبو بكر: يا رسول الله، أو ليس
بيننا وبينهم مدة، فقال: إنهم غدروا ونقضوا العهد، فأنا غازيهم، فاطو ما ذكرت
لك، فكان الناس بين ظان يظن أنه يريد سليماً، وظان يظن أنه يريد هوازن، وظان يظن
أنه يريد ثقيفاً، وظان يظن أنه يريد الشام، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم قتادة بن رنعي في نفر إلى بطن ليظن الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم أمامه أولئك الرجال لتوجهه إلى
تلك الجهة، ولتذهب بذلك الأخبار. فلما رأت منهما الجد حلت قرونها، واستخرجت الكتاب فدفعته إليهما، فاقبلا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا حاطباً وقال له: ما حملك على
هذا، فقال: يا رسول الله، والله إني لمسلم مؤمن بالله
ورسوله، ما غيرت ولا بدلت، ولكني كنت امرأ ليس
لي في القوم أصل ولا عشيرة، وكان لي بين أظهرهم أهل وولد، فصانعتهم. فقال عمر: قاتلك الله، ترى
رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ بالأنقاب وتكتب إلى قريش تحذرهم، دعني يا رسول الله أضرب عنقه، فإنه، قد نافق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما يدريك يا عمر لعل الله
قد اطلع على أهل بدر فقال:
اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم، قال الواقدي: فلما
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من
المدينة بالألوية المعقودة والرايات بعد العصر من يوم
الأربعاء لعشر خلون من شهر رمضان لم يحل عقده حتى انتهى إلى الصلصل،
والمسلمون يقودون الخيل، وقد امتطوا الإبل، وقدم أمامه الزبير بن العوام في
مائتين، قال: فلما كان بالبيداء نظر إلى عنان السماء، فقال: إني لأرى السحاب
تستهل بنصر بني كعب، يعني خزاعة.
قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يزد على ذلك، فجعل الناس يقولون: والله ما بين لك
رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً، فلم تزل الناس كذلك حتى نزلوا بمر الظهران. قال الواقدي:
وخرج العباس بن عبد المطلب ومخرمة بن نوفل من مكة يطلبان رسول الله صلى
الله عليه وسلم
ظناً
منهما أنه بالمدينة يريدان الإسلام، فلقياه بالسقيا. فقصها على رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقال: ذهب كلبهم، وأقبل درهم، وهم
سائلونا بأرحامهم، وأنتم لاقون بعضهم، فإن لقيتم أبا سفيان فلا تقتلوه. قال
الواقدي: وإلى أن وصل مر الظهران لم يبلغ قريشاً حرف واحد
من حاله، فلما نزل بمر الظهران أمر أصحابه أن يوقدوا النار، فأوقدوا عشرة آلاف
نار، وأجمعت قريش أن يبعثوا أبا سفيان يتجسس لهم
الأخبار، فخرج هو وحكيم بن حزام وبديل لن ورقاء. قال: وقد كان العباس بن عبد
المطلب قال: واسوء صباح قريش، والله إن دخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم
عنوةً إنه لهلاك قريش آخر الدهر، قال العباس: فأخذت
بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم الشهباء فركبتها، وقلت: ألتمس حطاباً أو إنساناً أبعثه إلى قريش
فيلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يدخلها عليهم عنوةً، فو الله إني
لفي الأراك ليلاً أبتغي ذلك إذ سمعت كلاماً يقول: والله إن رأيت كالليلة ناراً،
قال: يقول بديل بن ورقاء: إنها نيران خزاعة جاشها
الحرب. قال: يقول أبو سفيان: خزاعة أذل من أن
تكون هذه نيرانها وعسكرها، فعرفت صوته، فقلت: أبا
حنظلة، فعرف صوتي، فقال: لبيك أبا الفضل، فقلت: ويحك،
هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في عشرة آلاف، وهو مصبحكم، فقال: بأبي
وأمي، فهل من حيلة، فقلت: نعم، تركب عجز هذه البغلة، فأذهب بك إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم فإنه إن ظفر لك دون ذلك ليقتلنك، قال: والله أنا أرى ذلك، فركب
خلفي، ورحل بديل وحكيم فتوجهت به كلما مررت به على نار من نيران المسلمين قالوا: من هذا، فإذا رأوني قالوا: عم رسول الله صلى
الله عليه وسلم على بغلة رسول الله، حتى مررت بنار عمر
بن الخطاب، فلما رآني قال: من هذا؟ قلت: العباس،
فذهب ينظر فرأى أبا سفيان خلفي، فقال: أبو سفيان عدو الله، الحمد الله
الذي أمكن منك بغير عهد ولا عقد، ثم خرج يشتد نحو رسول
الله صلى الله عليه وسلم، وركضت البغلة حتى اجتمعنا جميعاً على باب قبة رسول
الله صلى الله عليه وسلم، فدخلت ودخل عمر بن الخطاب على أثري، فقال عمر: يا رسول الله، هذا أبو سفيان عدو الله قد أمكن الله
منه بغير عقد ولا عهد، فدعني أضرب عنقه، فقلت: يا رسول الله، إني قد
أجرته، ثم لزمت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: والله لا يناجيه الليلة أحد
دوني، فلما أكثر عمر فيه قلت: مهلاً يا عمر، فإنه لو
كان رجلاً من عدي بن كعب ما قلت هذا، ولكنه أحد بني عبد مناف. فقال عمر: مهلاً يا أبا الفضل، فو الله لإسلامك كان أحب إلي من إسلام الخطاب، أو قال: من
إسلام رجل من ولد الخطاب، لو أسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اذهب به فقد أجرناه، فليبت عندك حتى تغدو له علينا إذا أصبحت.
فلما أصبحت غدوت به، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله؟
قال: بأبي أنت ما أحلمك وأكرمك وأعظم عفوك، قد كان يقع
في نفسي أن لو كان مع الله إله آخر لأغنى، قال:
يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟ قال: بأبي
أنت ما أحلمك وأكرمك وأعظم عفوك، أما هذه فو
الله إن في النفس منها لشيئاً بعد، قال العباس: فقلت
ويحك، تشهد وقل لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن تقتل. فتشهد. وقال العباس:
يا رسول الله، إنك قد عرفت أبا سفيان وفيه الشرف والفخر، فاجعل له شيئاً، فقال: من دخل
دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق داره فهو آمن، ثم قال: خذه فاحبسه بمضيق
الوادي إلى خطم الجبل حتى تمر عليه جنود الله فيراها.
قال العباس: فعدلت به في مضيق الوادي إلى خطم الجبل فحبسته هناك، فقال: أغدراً يا بني هاشم، فقلت له: إن أهل النبوة لا يغدرون، وإنما
حبستك لحاجة، قال: فهلا بدأت بها أولاً فأعلمتنيها، فكان أفرخ لروعي، ثم مرت به
القبائل على قادتها، والكتائب على راياتها، فكان أول من مر به خالد بن الوليد في بني سليم، وهم ألف، ولهم لواءان يحمل أحدهما العباس بن مرداس
والآخر خفاف بن ندبة، وراية يحملها المقداد، فقال أبو سفيان، يا أبا الفضل،
من هؤلاء، قال: هؤلاء بنو سليم، وعليهم خالد بن الوليد، قال: الغلام، قال: نعم، فلما حاذى خالد العباس وأبا سفيان كبر ثلاثاً وكبروا معه، ثم
مضوا. ومر على أثره الزبير بن العوام في خمسمائة،
فيهم جماعة من المهاجرين وقوم من أفناء الناس، ومعه راية سوداء، فلما حاذاهما كبر ثلاثاً وكبر أصحابه فقال من هذا،
قال: هذا الزبير، قال: ابن أختك، قال: نعم، قال: ثم مرت به بنو غفار في ثلاثماثة
يحمل رايتهم أبو ذر، - ويقال: إيماء بن رحضة - فلما حاذوهما كبروا ثلاثاً، قال:
يا أبا الفضل: من هؤلاء، قال: بنو غفار، قال: ما لي ولبني غفار، ثم مرت به أسلم
في أربعمائة يحمل لواءها يزيد بن الخصيب، ولواء آخر مع ناجية بن الأعجم، فلما
حاذوه كبروا ثلاثاً، فسأل عنهم فقال: هؤلاء أسلم، فقال: ما لي ولأسلم، ما كان
بيننا وبينهم ترة قط، ثم مرت بنو كعب بن عمرو بن خزاعة
في خمسمائة يحمل رايتهم بشر بن سفيان، فقال: من
هؤلاء؟ قال: كعب بن عمرو، قال: نعم حلفاء محمد،
فلما حاذوه كبروا ثلاثاً. ثم مرت مزينة في ألف فيها ثلاثة ألوية مع النعمان بن
مقرن، وبلال بن الحارث، وعبد الله بن عمرو، فلما حاذوهما كبروا، قال: من هؤلاء؟
قال: مزينة، قال: يا أبا الفضل، ما لي ولمزينة، قد جاءتني تقعقع من شواهقها. ثم مرت جهينة في ثمانمائة، فيها أربعة ألوية
مع معبد بن خالد، وسويد بن صخر، ورافع بن مكيث، وعبد الله بن بدر، فلما حاذوه
كبروا ثلاثاً فسأل عنهم، فقيل: جهينة. ثم مرت بنو كنانة وبنو ليث وضمرة وسعد بن
أبي بكر في مائتين، يحمل لواءهم أبو واقد الليثي، فلما حاذوه كبروا ثلاثاً، قال:
من هؤلاء؟ قال: بنو بكر. قال: نعم أهل شؤم هؤلاء الذين
غزانا محمد لأجلهم، أما والله ما شوورت فيهم، ولا علمته، ولقد كنت له كارهاً حيث
بلغني، ولكنه أمر حم، قال العباس، لقد خار الله لك في غزو محمد إياكم،
ودخلتم في الإسلام كافة، ثم مرت أشجع، وهم آخر من مر به قبل أن تأتي كتيبة رسول
الله صلى الله عليه وسلم، وهم
ثلاثمائة يحمل لواءهم معقل بن سنان، ولواء آخر مع نعيم بن مسعود فكبروا، قال: من
هؤلاء؟ قال: أشجع، فقال: هؤلاء كانوا أشد العرب على
محمد، قال العباس: نعم، ولكن الله أدخل الإسلام قلوبهم، وذلك من فضل
الله. فسكت وقال: أما مر محمد بعد، قال: لا، ولو رأيت الكتيبة التي هو فيها
لرأيت الحديد والخيل والرجال، وما ليس لأحد به طاقة، فلما
طلعت كتيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم الخضراء طلع سواد شديد وغبرة من سنابك الخيل، وجعل الناس يمرون، كل
ذلك يقول: أما مر محمد بعد، فيقول العباس: لا، حتى مر رسول
الله صلى الله عليه وسلم يسير
على ناقته القصوى بين أبي بكر وأسيد ابن حضير، وهو يحدثهما، وقال له العباس: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبته الخضراء، فانظر، قال: وكان في تلك
الكتيبة وجوه المهاجرين والأنصار، وفيها الألوية
والرايات، وكلهم منغمسون في الحديد لا يرى منهم إلا
الحدق، ولعمر بن الخطاب فيها رجل وعليه الحديد، وصوته عال، وهو يزعها،
فقال: يا أبا الفضل، من هذا المتكلم، قال: هذا عمر بن
الخطاب، قال: لقد أمر أمر بني عدي بعد قلة وذلة، فقال: إن الله يرفع من
يشاء بما يشاء، وإن عمر ممن رفعه الإسلام، وكان في الكتيبة ألفا دارع، وراية رسول الله صلى
الله عليه وسلم مع
سعد بن عبادة، وهو أمام
الكتيبة، فلما حاذاهما سعد نادى: يا أبا سفيان:
اليوم يوم الملحمة اليوم تسبى الحرمة اليوم أذل الله قريشاً، فلما
حاذاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ناداه
أبو سفيان: يا رسول الله، أمرت بقتل قومك، إن سعداً قال: اليوم يوم الملحمة
اليوم تسبى الحرمه اليوم أذل الله قريشاً، وإني أنشدك الله في قومك فأنت أبر
الناس، وأرحم الناس، وأوصل الناس. فقال
عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف: يا رسول
الله، إنا لا نأمن سعداً أن يكون له في قريش صولة، فوقف رسول الله صلى الله عليه
وسلم وناداه، يا أبا سفيان، بل اليوم يوم المرحمة،
اليوم أعز الله قريشاً، وأرسل إلى سعد فعزله عن اللواء. وأختلف فيمن دفع إليه اللواء فقيل: دفعه إلى علي بن
أبي طالب رضي الله عنه، فذهب به حتى دخل مكة، فغرزه عند الركن، وهو قول ضرار بن الخطاب الفهري، وقيل: دفعه إلى قيس بن سعد ابن عمادة، ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لم يخرجه عن سعد حيث دفعه إلى ولده،
فذهب به حتى غرزه بالحجون، قال: وقال أبو سفيان للعباس: ما رأيت مثل هذه الكتيبة
قط، ولا أخبرنيه مخبر، سبحان الله، ما لأحد بهؤلاء طاقة ولا يدان، لقد أصبح ملك ابن أخيك يا عباس عظيماً، قال: فقلت:
ويحك، إنه ليس بملك، وإنها النبوة، قال: نعم. قال الواقدي: قال العباس: فقلت له: انج ويحك، فأدرك قومك قبل أن يدخل
عليهم، فخرج أبو سفيان حتى دخل من كداء وهو ينادي:
من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، حتى انتهى إلى هند
بنت عتبة، فقالت: ما وراءك؟ قال: هذا محمد في عشرة آلاف، عليهم الحديد، وقد جعل
لي أنه من دخل داري فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن ألقى سلاحه فهو
آمن، فقالت: قبحك الله من رسول قوم، وجعلت تقول،
ويحكم، اقتلوا وافدكم قبحه الله من وافد قوم، فيقول أبو
سفيان: ويحكم، لا تغرنكم هذه من أنفسكم، فإني رأيت ما لم تروا: الرجال،
والكراع، والسلاح، ليس لأحد بهذا طاقة، محمد في عشرة
آلاف، فأسلموا تسلموا. وقال المبرد في الكامل: أمسكت هند برأس أبي سفيان وقالت: بئس
طليعة القوم، والله ما خدشت خدشاً، يا أهل مكة، عليكم الحميت الدسم فاقتلوه. قال: الحميت: الزق المزفت.
فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحمد الله، وأمر الزبير بن العوام أن
يدخل من كداء، وأمر خالد بن الوليد أن يدخل من الليط، وأمر قيس بن سعد أن يدخل
من كدى، ودخل هو صلى الله عليه وسلم من أذاخر. قال الواقدي:
ودخلت الجنود كلها، فلم تلق حرباً إلا خالد بن الوليد فإنه وجد جمعاً من قريش
وأحابيشها قد جمعوا له، فيهم صفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمرو،
فمنعوه الدخول، وشهروا السلاح، ورموه بالنبل، وقالوا: لا تدخلها عنوةً أبداً،
فصاح خالد في أصحابه، وقاتلهم، فقتل من قريش أربعة وعشرون، ومن هذيل أربعة،
وانهزموا أقبح إنهزام حتى قتلوا بالحزورة، وهم مولون من كل وجه، وانطلقت طائفة
منهم فوق رؤوس الجبال، واتبعهم المسلمون، وجعل أبو
سفيان بن حرب وحكيم بن حزام يناديان: يا معشر قريش، علام تقتلون أنفسكم؟
من دخل داره فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن وضع السلاح فهو آمن، فجعل
الناس يقتحمون الدور ويغلقون عليهم الأبواب، ويطرحون السلاح في الطرق حتى يأخذه المسلمون.
قال الواقدي:
وحدثني قدامة بن موسى، عن بشير مولى المازنيين، عن جابر بن عبد الله، قال: كنت
ممن لزم رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ، فدخلت معه يوم الفتح من أذاخر،
فلما أشرف نظر إلى بيوت مكة، فحمد الله وأثنى عليه، ونظر إلى موضع قمة بالأبطح
تجاه شعب بني هاشم حيث حصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهله ثلاث سنين، وقال:
يا جابر، إن منزلنا اليوم حيث تقاسمت علينا قريش في كفرها، قال جابر: فذكرت
كلاماً كنت أسمعه في المدينة قبل ذلك، كان يقول: منزلنا غداً إن شاء الله إذا
فتح علينا مكة في الخيف حيث تقاسموا على الكفر. قال الواقدي:
وكانت أم هانىء بنت أبي طالب تحت هبيرة بن أبي
وهب المخزومي فلما كان يوم الفتح دخل عليها حموان لها:
عبد الله بن أبي ربيعة والحارث بن هشام المخزوميان، فاستجارا
بها، وقالا: نحن في جوارك، فقالت: نعم
أنتما في جواري. قالت أم هانىء: فهما عندي إذ دخل علي فارس مدجج في الحديد ولا أعرفه،
فقلت له:
أنا بنت عم رسول الله، فأسفر عن وجهه، فإذا علي أخي،
فاعتنقته، ونظر إليهما فشهر السيف عليهما، فقلت:
أخي من بين الناس تصنع بي هذا، فألقيت عليهما ثوباً، فقال:
أتجيرين المشركين، فحلت دونهما، وقلت: لا والله
ابتدىء بي قبلهما، قالت: فخرج ولم يكد، فأغلقت
عليهما بيتاً، وقلت: لا تخافا، وذهبت إلى خباء
رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبطحاء فلم
أجده، ووجدت فيه فاطمة، فقلت لها: ما لقيت من ابن أمي علي، أجرت حموين لي من
المشركين، فتفلت عليهما ليقتلهما، قالت: وكانت أشد علي
من زوجها، وقالت: لم تجيرين المشركين؟ وطلع رسول
الله صلى الله عليه وسلم وعليه الغبار، فقال: مرحبًا بفاختة - وهو اسم أم
هانىء -، فقلت:
ماذا لقيت من ابن أمي علي ما كدت أفلت منه، أجرت حموين
لي من المشركين، فتفلت عليهما ليقتلهما، فقال:
ما كان ذلك له، قد أجرنا من أجرت وأمنا من أمنت،
ثم أمر فاطمة فسكبت له غسلاً فاغتسل، ثم صلى ثماني ركعات في ثوب واحد ملتحفاً به
وقت الضحى، قالت: فرجعت إليهما وأخبرتهما، وقلت:
إن شئتما فأقيما، وإن شئتما فارجعا إلى منازلكما، فأقاما عندي في منزلي يومين،
ثم انصرفا إلى منازلهما.
فلما
انتهى إلى الكعبة تقدم على راحلته، فاستلم الركن بمحجنه، وكبر فكبر المسلمون
لتكبيره، وعجوا بالتكبير حتى ارتجت مكة، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يشير
إليهم أن اسكتوا، والمشركون فوق الجبال ينظرون، ثم طاف بالبيت على راحلته، ومحمد بن مسلمة آخذ بزمامها، وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً مرصوصةً بالرصاص، وكان هبل أعظمها، وهو تجاه الكعبة على بابها، وإساف ونائلة حيث ينحرون ويذبحون الذبائح، فجعل كلما
يمر بصنم منها يشير بقضيب في يده ويقول: "جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا"، فيقع الصنم لوجهه، ثم أمر بهبل فكسر وهو واقف عليه، فقال الزبير لأبي سفيان: يا أبا سفيان، قد كسر هبل،
أما إنك قد كنت منه يوم أحد في غرور حين تزعم أنه قد أنعم، فقال: دع هذا عنك يا
بن العوام، فقد أرى أن لو كان مع إله محمد غيره لكان غير ما كان. قال الواقدي:
ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم
فجلس ناحية من المسجد وأرسل بلالاً إلى عثمان ابن طلحة يأتيه بالمفتاح، مفتاح
الكعبة، فقال عثمان: نعم، فخرج إلى أمه وهي بنت شيبة، فقال لها والمفتاح عندها
يومئذ: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قد طلب المفتاح، فقالت: أعيذك بالله أن يكون الذي يذهب مأثرة قومه على يده!
فقال: فو الله لتأتيني به أو ليأتينك غيري فيأخذه منك، فأدخلته في حجرتها،
وقالت: أي رجل يدخل يده ههنا، فبينما هما على ذلك وهو يكلمها إذ سمعت صوت أبي
بكر وعمر في الدار، وعمر رافع صوته حين رأى عثمان أبطأ: يا عثمان اخرج، فقالت أمه: خذ المفتاح، فلأن
تأخذه أنت أحب إلي من أن يأخذه تيم وعدي، فأخذه فأتى به رسول الله صلى
الله عليه وسلم، فلما تناوله بسط العباس ابن عبد المطلب
يده وقال: يا رسول الله، بأبي أنت، إجمع لنا بين السقاية والحجابة، فقال:
إنما أعطيكم ما ترضون فيه، ولا أعطيكم ما ترزؤون منه، قالوا: وكان عثمان ابن طلحة قد قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم
مع خالد بن الوليد وعمرو بن العاص مسلماً قبل الفتح. إن الله قد أذهب نخوة الجاهلية وتكبرها
بآبائها، كلكم لآدم، وآدم من تراب. وأكرمكم عند الله أتقاكم. ألا إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض، فهي
حرام بحرم الله، لم تحل لأحد كان قبلي، ولا تحل لأحد يأتي بعدي، وما أحلت لي إلا
ساعة من النهار، قال: يقصدها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده هكذا، لا ينفر
صيدها، ولا يعضد عضاهها، ولا تحل لقطتها إلا لمنشد، ولا يختلى خلاها. فقال العباس:
إلا الإذخر يا رسول الله، فإنه لا بد منه للقبور والبيوت، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة ثم قال إلا الإذخر، فإنه حلال، ولا
وصية لوارث، والولد للفراش، وللعاهر الحجر، ولا يحل لامرأة أن تعطي من مالها إلا
بإذن زوجها، والمسلم أخو المسلم، والمسلمون إخوة، يد واحدة على من سواهم، تتكافأ
دماؤهم، يسعى بذمتهم أدناهم، ويرد عليهم أقصاهم، ولا يقتل مسلم بكافر، ولا ذو
عهد في عهده، ولا يتوارث أهل ملمين مختلفتين، ولا تنكح المرأة على عمتها ولا على
خالتها، والبينة على من ادعى، واليمين على من أنكر، ولا تسافر امرأة مسيرة ثلاث
إلا مع ذي محرم، ولا صلاة بعد العصر، ولا بعد الصبح، وأنهاكم عن صيام يومين: يوم
الأضحى ويوم الفطر. ثم
قال: ادعوا لي عثمان ابن طلحة، فجاء وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له يوماً بمكة قبل الهجرة ومع
عثمان المفتاح: لعلك سترى هذا المفتاح بيدي يوماً أضعه حيث شئت، فقال عثمان: لقد هلكت قريش إذاً وذلت، فقال صلى الله عليه وسلم: بل عمرت وعزت، قال عثمان: فلما دعاني يومئذ والمفتاح
بيده ذكرت قوله حين قال، فاستقبلته ببشر، فاستقبلني بمثله، ثم قال: خذوها يا بني أبي طلحة خالدة تالدة، لا
ينزعها منكم إلا ظالم. يا عثمان، إن الله استأمنكم على بيته، فكلوا بالمعروف، قال عثمان: فلما وليت ناداني فرجعت، فقال: ألم يكن الذي قلت لك، يعني ما كان قاله بمكة
من قبل، فقلت: بلى أشهد أنك رسول الله. فخبطوهم بالسيف ساعة، وهي الساعة التي أحلت
لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الواقدي:
وكانت كلمته هذه قد بلغت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يفتح مكة، فنهنهت عنه، وكلمه يوم الفتح نوفل بن
معاوية الدؤلي، فقال: يا رسول الله، أنت أولى
الناس بالعفو، ومن منا لم يعادك ولم يؤذك، ونحن في جاهلية لا ندري ما نأخذ وما
ندع، حتى هدانا الله بك، وأنقذنا بيمنك من الهلكة، وقد كذب عليه الركب، وكثروا
في أمره عندك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دع الركب عنك، إنا لم
نجد بتهامة أحداً من ذوي رحم ولا بعيد الرحم كان أبر بنا من خزاعة، فاسكت يا
نوفل، فلما سكت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد عفوت عنه فقال نوفل: فداك
أبي وأمي. ليتني مت قبل هذا اليوم قبل أن اسمع
بلالاً ينهق فوق الكعبة، وقال الحكم بن أبي العاص: هذا والله الحدث العظيم، أن يصيح عبد بني جمح، يصيح بما يصيح
به على بيت أبي طلحة، وقال سهيل بن عمرو، إن كان
هذا سخطاً من الله تعالى فسيغيره، وإن كان الله
رضاً فسيقره، وقال أبو سفيان: أما أنا فلا أقول
شيئاً، لو قلت شيئاً لأخبرته هذه الحصباء، قال: فأتى جرائيل عليه السلام رسول
الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره مقالة القوم. ثم قال: قل له: فليخرج، فلعمري
إن سهيلاً له عقل وشرف، وما مثل سهيل جهل
الإسلام، ولقد رأى ما كان يوضع فيه أن لم يكن له تتابع، فخرج عبد الله
إلى أبيه فأخبره بمقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال
سهيل: كان والله براً صغيراً وكبيراً، وكان سهيل يقبل ويدبر غير خائف،
وخرج إلى خيبر مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو على
شركه حتى أسلم بالجعرانة. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
نهايةالجزء السابع عشر |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الجزء الثامن عشر بسم
الله الرحمن الرحيم تتمة خبر فتح مكةتكرر هنا لتكملة السياق ومذكور ايضا في
الجزء التالي ايضا |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال الواقدي: وهرب
هبيرة بن أبي وهب وعبد الله بن الزبعرى جميعاً حتى انتهيا إلى نجران فلم يأمنا
الخوف حتى دخلا حصن نجران، فقيل: ما شأنكما، قالا: أما قريش فقد قتلت ودخل محمد
مكة، ونحن والله نرى أن محمداً سائر إلى حصنكم هذا، فجعلت لحارث بن كعب يصلحون
ما رث من حصنهم، وجمعوا ماشيتهم، فأرسل حسان بن ثابت
إلى ابن الزبعرى:
فلما جاء ابن الزبعرى شعر حسان تهيأ للخروج، فقال هبيرة
بن وهب: أين تريد يا بن عم، قال له: أريد والله محمداً، قال: أتريد أن
تتبعه، قال: أي والله، قال هبيرة: يا ليت أني
كنت رافقت غيرك، والله ما ظننت أنك تتبع محمداً أبداً، قال
ابن الزبعرى: هو ذاك، فعلى أي شيء أقيم مع بني الحارث بن كعب وأترك ابن
عمي وخير الناس وأبرهم، وبين قومي وداري، فانحدر ابن
الزبعرى حتى جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في أصحابه، فلما نظر إليه قال: هذا ابن الزبعرى
ومعه وجه فيه نور الإسلام، فلما وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: السلام عليك يا رسول الله، شهدت أن لا إله إلا الله، وأنك
عبده ورسوله، والحمد الله الذي هداني للإسلام، لقد
عاديتك وأجلبت عليك وركبت الفرس والبعير، ومشيت على قدمي في عداوتك، ثم هربت منك
إلى نجران، وأنا أريد ألا أقرب الإسلام أبداً، ثم أرادني الله منه بخير، فألقاه
في قلبي، وحببه إلي، وذكرت ما كنت فيه من الضلال واتباع ما لا ينفع ذا عقل، من
حجر يعبد، ويذبح له لا يدري من عبده ومن لا يعبده. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحمد الله
الذي هداك للإسلام، أحمد الله، إن الإسلام يجب ما كان قبله. وأقام هبيرة
بنجران، وأسلمت أم هانىء، فقال هبيرة حين بلغه
إسلامها يوم الفتح يؤنبها شعراً من جملته:
فأقام بنجران حتى مات مشركاً قال
الواقدي: وهرب حويطب بن عبد العزى
فدخل حائطاً بمكة، وجاء أبو ذر لحاجته، فدخل
الحائط فرآه، فهرب حويطب، فقال أبو ذر: تعال فأنت آمن، فرجع إليه فقال: أنت
آمن، فاذهب حيث شئت، وإن شئت أدخلتك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن شئت
فإلى منزلك، قال: وهل من سبيل إلى منزلي ألفى فاقتل قبل أن أصل إلى منزلي، أو
يدخل علي منزلي فاقتل، قال: فأنا أبلغ معك منزلك، فبلغ
معه منزله، ثم جعل ينادي على بابه: إن حويطباً آمن فلا يهيج. ثم انصرف
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: أو ليس قد أمنا الناس كلهم إلا من أمرت بقتله. قال الواقدي:
وهرب عكرمة بن أبي جهل إلى اليمن حتى ركب البحر،
قال: وجاءت زوجته أم حكيم بنت الحارث بن هشام إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم في نسوة منهن هند بنت عتمة - وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتلها - والبغوم بنت المعدل الكنانية امرأة
صفوان بن أمية، وفاطمة بنت الوليد بن المغيرة امرأة الحارث بن هشام، وهند بنت
عتبة بن الحجاج أم عبد الله بن عمرو بن العاص، ورسول
الله صلى الله عليه وسلم بالأبطح،
فأسلمن، ولما دخلن عليه دخلن وعنده زوجتاه وابنته فاطمة
ونساء من نساء عبد المطلب وسألن أن يبايعهن، فقال: إني لا أصافح النساء، ويقال:
إنه وضع على يده ثوباً فمسحن عليه، ويقال: كان
يؤتى بقدح من ماء فيدخل يده فيه ثم يرفعه إليهن، فيدخلن أيديهن فيه،
فقالت أم حكيم امرأة عكرمة: يا رسول الله، إن عكرمة هرب
منك إلى اليمن، خاف أن تقتله، فأمنه، فقال: هو
آمن. فخرجت أم حكيم في طلبه، ومعها
غلام لها رومي، فراودها عن نفسها، فجعلت تمنيه
حتى قدمت به على حي، فاستغاثت بهم عليه، فأوثقوه رباطاً، وأدركت عكرمة وقد انتهى إلى ساحل من سواحل تهامة، فركب
البحر، فهاج بهم، فجعل نوتي السفينة يقول له: أن أخلص، قال: أي شيء أقول؟ قال:
قل لا إله إلا الله، قال عكرمة: ما هربت إلا من
هذا، فجاءت أم حكيم على هذا من الأمر فجعلت تلح عليه وتقول: يابن عم، جئتك من
عند خير الناس، وأوصل الناس، وأبر الناس، لا تهلك نفسك، فوقف لها حتى أدركته، فقالت: إني قد استأمنت لك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمنك، قال: أنت فعلت؟ قالت: نعم أنا كلمته، فأمنك، فرجع معها،
فقالت: ما لقيت من غلامك الرومي، وأخبرته خبره، فقتله
عكرمة، فلما دنا من مكة قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم لأصحابه: يأتيكم عكرمة بن أبي جهل مؤمناً، فلا تسبوا أباه، فإن سب الميت يؤذي الحي. ولا يبلغ الميت. فلما وصل
عكرمة ودخل على رسول الله صلى الله عليه
وسلم وثب
إليه صلى الله عليه وسلم وليس
عليه رداء فرحاً له، ثم جلس فوق عكرمة بين يديه ومعه
زوجته منقبة، فقال: يا محمد، إن هذه أخبرتني أنك أمنتني، فقال: صدقت، أنت
آمن، فقال عكرمة: فإلام تدعو؟ فقال: إلى أن
تشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، وأن تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وعد
خصال الإسلام، فقال عكرمة: ما دعوت إلا إلى حق، وإلى حسن جميل، ولقد كنت فينا من قبل أن
تدعو إلى ما دعوت إليه، وأنت أصدقنا حديثاً، وأعظمنا براً. ثم قال:
فإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا
تسألني اليوم شيئاً أعطيه أحداً إلا أعطيتكه، قال: فإني أسألك أن تغفر لي كل
عداوة عاديتكها أو مسير أوضعت فيه، أو مقام لقيتك فيه، أو كلام قلته في وجهك، أو
أنت غائب عنه. فقال: اللهم اغفر له كل عداوة عادانيها، وكل مسير سار فيه إلي
يريد بذلك إطفاء نورك، واغفر له ما نال مني ومن عرضي، في وجهي أو أنا غائب عنه. فقال عكرمة: رضيت بذلك يا رسول الله، ثم قال: أما
والله لا أدع نفقة كنت أنفقها في صد عن سبيل الله إلا أنفقت ضعفها في سبيل
الإسلام وفي سبيل الله، ولأجتهدن في القتال بين يديك
حتى أقتل شهيداً، قال: فرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأته بذلك النكاح الأول. قال الواقدي:
وأما صفوان بن أمية فهرب حتى أتى الشعبة، وجعل يقول
لغلامه يسار، وليس معه غيره: ويحك. انظر من ترى؟ فقال: هذا عمير بن وهب، قال صفوان: ما أصنع بعمير؟ والله ما
جاء إلا يريد قتلي، قد ظاهر محمداً علي، فلحقه، فقال صفوان: يا عمير، مالك؟ ما
كفاك ما صنعت؟ حملتني دينك وعيالك، ثم جئت تريد قتلي، فقال:
يا أبا وهب، جعلت فداك، جئتك من عند خير الناس، وأبر الناس وأوصل الناس، وقد كان
عمير قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، سيد قومي صفوان بن أمية
خرج هارباً ليقذف نفسه في البحر، خاف ألا تؤمنه، فأمنه فداك أبي وأمي،
فقال: قد أمنته، فخرج في أثره، فقال: إن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قد أمنك قال صفوان: لا والله حتى تأتيني بعلامة أعرفها،
فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:
يا رسول الله، جئته وهو يريد أن يقتل نفسه فقال: لا أرجع إلا بعلامة أعرفها، فقال: خذ عمامتي، فرجع عمير إليه بعمامة رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهي البرد الذي دخل فيه رسول الله صلى
الله عليه وسلم مكة معتجراً به - برد حبرة أحمر - فخرج عمير في طلبه الثانية حتى
جاءه بالبرد فقال: يا أبا وهب، جئتك من عند خير الناس
وأوصل الناس وأبر الناس، مجده مجدك، وعزه عزك، وملكه ملكك، ابن أبيك وأمك، أذكرك
الله في نفسك، فقال: أخاف أن أقتل، قال: فإنه دعاك إلى
الإسلام فإن رضيت وإلا سيرك شهرين فهو أوفى الناس وأبرهم، وقد بعث إليك ببرده
الذي دخل به معتجراً، أتعرفه؟ قال: نعم، فأخرجه، فقال: نعم هو هو، فرجع
صفوان حتى انتهى إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم، فوجده يصلي العصر بالناس، فقال: كم
يصلون؟ قالوا: خمس صلوات في اليوم والليلة قال: أمحمد يصلي بهم؟ قالوا: نعم،
فلما سلم من صلاته صاح صفوان: يا محمد، إن عمير بن وهب
جاءني ببردك، وزعم أنك دعوتني إلى القدوم إليك، فإن رضيت أمراً، وإلا سيرتني
شهرين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنزل أبا وهب، فقال: لا والله أو تبين، لي، قال:
بل سر أربعة أشهر. فنزل صفوان وخرج معه إلى حنين وهو كافر، وأرسل إليه يستعير أدراعه، وكانت مائة درع، فقال:
أطوعاً أم كرهاً؟ فقال رضي الله عنه بل طوعاً عاريةً مؤداةً، فأعاره إياها، ثم أعادها إليه بعد إنقضاء
حنين والطائف، فلما كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم بالجعرانة يسير في غنائم هوازن ينظر إليها،
فنظر صفوان إلى شعب هناك مملوء نعماً وشاءً ورعاءً، فأدام النظر إليه ورسول الله
صلى الله عليه وسلم يرمقه، فقال: أبا وهب: يعجبك
هذا الشعب؟ قال: نعم، قال: هو لك وما فيه. فقال
صفوان: ما طابت نفس أحد بمثل هذا إلا نفس نبي، أشهد أن
لا إله إلا الله، وأنك رسول الله. قال الواقدي:
فأما عبد الله بن سعد بن أبي سرح فكان قد أسلم، وكان
يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي، فربما أملى عليه رسول الله صلى
الله عليه وسلم "سميع عليم" فيكتب "عزيز حكيم" ونحو ذلك، ويقرأ
على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: كذلك الله، ويقرأ
فافتتن، وقال: والله ما يدري ما يقول، إني لأكتب له ما شئت فلا ينكر، وإنه ليوحى
إلي كما يوحى، إلى محمد، وخرج هارباً من المدينة إلى مكة مرتداً، فأهدر رسول
الله صلى الله عليه وسلم دمه، وأمر بقتله يوم الفتح، فلما كان
يومئذ جاء إلى عثمان، وكان أخاه من الرضاعة،
فقال: يا أخي، إني قد أجرتك فاحتبسني ههنا واذهب إلى محمد فكلمه في، فإن محمداً إن رآني ضرب عنقي، إن جرمي أعظم الجرم، وقد جئت تائباً، فقال عثمان: قم فاذهب معي إليه، قال:
كلا، والله إنه إن رآني ضرب عنقي ولم يناظرني، قد أهدر دمي وأصحابه يطلبونني في
كل موضع، فقال عثمان: انطلق معي فإنه لا يقتلك
إن شاء الله، فلم يرع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بعثمان آخذاً بيد عبد الله بن سعد واقفين بين يديه،
فقال عثمان: يا رسول الله، هذا أخي من الرضاعة،
إن أمه كانت تحملني وتمشيه وترضعني وتفطمه وتلطفني وتتركه. فهبه لي، فأعرض رسول الله صلى
الله عليه وسلم وجعل عثمان
كلما أعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه استقبله بوجهه، وأعاد عليه هذا الكلام،
وإنما أعرض صلى الله عليه وسلم عنه
إرادةً لأن يقوم رجل فيضرب عنقه، فلما رأى ألا
يقوم أحد وعثمان قد انكب عليه يقبل رأسه ويقول: يا رسول
الله، بايعه فداك أبي وأمي على الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
نعم، فبايعه. ونهى عن التعرض له." قال
الواقدي: قال ابن عباس رضي الله عنه: رأيت رسول الله صلى
الله عليه وسلم وهبار يعتذر إليه وهو يطأطىء رأسه استحياءً مما يعتذر هبار ويقول له: قد عفوت عنك. قال الواقدي:
وأما ابن خطل فإنه خرج حتى دخل بين أستار الكعبة،
فأخرجه أبو برزة الأسلمي منها، فضرب عنقه بين الركن والمقام، ويقال: بل
قتله عمار بن ياسر، وقيل: سعد بن حريث المخزومي، وقيل: شريك
بن عبدة العجلاني، والأثبت أنه أبو برزة،
قال: وكان جرمه أنه أسلم وهاجر إلى المدينة وبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعياً، وبعث معه رجلاً من خزاعة فقتله، وساق ما أخذ من مال
الصدقة، ورجع إلى مكة، فقالت له قريش: ما جاء
بك، قال: لم أجد ديناً خيراً من دينكم، وكانت له
قينتان: إحداهما قرينى، والأخرى قرينة - أو أرنب، وكان ابن خطل يقول الشعر يهجو به رسول الله صلى الله عليه
وسلم، ويغنيان به، ويدخل عليه المشركون بيته فيشربون عنده الخمر، ويسمعون الغناء
بهجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلقيه
نميلة بن عبد الله الليثي وهو من رهطه، فضربه بالسيف حتى قتله، فقالت
أخته ترثيه:
وكان
جرم مقيس من قبل أن أخاه هاشم بن صبابة أسلم
وشهد المريسيع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقتله رجل من رهط عبادة بن الصامت، وقيل: من بني
عمرو بن عوف وهو لا يعرفه، فظنه من المشركين، فمضى له رسول الله صلى الله
عليه وسلم بالدية على العاقلة، فقدم مقيس أخوه المدينة فأخذ ديته، وأسلم، ثم عدا على قاتل أخيه، فقتله، وهرب مرتداً كافراً يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشعر، فأهدر دمه. وزاد محمد بن إسحاق في كتاب المغازي: أن هند بنت عتبة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع
نساء قريش متنكرة متنقبة لحدثها الذي كان في الإسلام، وما صنعت بحمزة حين جدعته
وبقرت بطنه عن كبده، فهي تخاف أن يأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم بحدثها
ذلك، فلما دنت منه، وقال حين بايعته على ألا تشركن
بالله شيئاً قلن: نعم، قال: ولا يسرقن، فقالت هند: والله أنا كنت لاصيب
من مال أب سفيان الهنة والهنيهة فما أعلم أحلال ذلك أم لا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وإنك لهند؟ قالت،
نعم، أنا هند، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله، فاعف عما
سلف عفا الله عنك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ولا يزنين، فقالت هند: وهل تزني الحرة، فقال: لا، ولا
يقتلن أولادهن، فقالت هند: قد لعمري ربيناهم
صغاراً وقتلتهم كباراً ببدر، فأنت وهم أعرف، فضحك عمر بن الخطاب من قولها حتى أسفرت نواجذه، قال: ولا يأتين ببهتان يفترينه، فقالت هند: إن إتيان البهتان لقبيح، فقال: ولا يعصينك في معروف، فقالت: ما جلسنا هذه الجلسة ونحن
نريد أن نعصيك.
قال الواقدي:
وفي يوم الفتح سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل
مكة الذين دخلها عليهم الطلقاء، لمنه عليهم بعد أن أظفره الله بهم، فصاروا أرقاء
له. وقد قيل له يوم الفتح: قد أمكنك الله تعالى فخذ ما شئت من أقمار على غصون -
يعنون النساء - فقال صلى الله عليه وسلم: يأبى ذلك إطعامهم الضيف، وإكرامهم
البيت، ووجؤهم مناحر الهدي. والأغلف القلب: الذي لا بصيرة له، كأن قلبه في
غلاف، قال تعالى: وقالوا قلوبنا غلف". وقد ذكرنا من قتل من بني أمية في حروب
رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما تقدم، وإليهم الإشارة
بالأعمام والأخوال، لأن أخوال معاوية من بني عبد شمس، كما أن أعمامه من بني عبد
شمس. وأما قوله:
ادخل فيما دخل فيه الناس وحاكم القوم، فهي الحجة التي يحتج بها أصحابنا له في
أنه لم يسلم قتله عثمان إلى معاوية، وهي حجة صحيحة،
لأن الإمام يجب أن يطاع، ثم يتحاكم إليه أولياء الدم والمتهمون، فإن حكم بالحق
استديمت حكومته، وإلا فسق وبطلت إمامته. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الفهرس
ج الجزء السابع عشرباب المختار من الخطب والأوامر
- ابن ابي الحديد. 4 بسم
الله الرحمن الرحيم الحمد لله الواحد العدل. 4 ومن وصية له رضي الله عنه للحسن
والحسين رضي الله عنهما لما ضربه ابن ملجم لعنه الله.. 4 وكتب إلى أمرائه على الجيوش.. 8 وكتب إلى أمراء البلاد في معنى الصلاة. 10 اختلاف الفقهاء في أوقات الصلاة. 10 وكتب الى للأشتر النخعي رحمه الله
لما ولاه على مصر... 13 بعض ما ورد في النهي عن سماع السعاية. 17 رسالة الإسكندر إلى أرسطو وجواب
أرسطو له. 23 بعض ما ورد في القضاة ونوادرهم، 25 بعض ما جاء في عهد سابور بن أردشير
إلى ابنه. 31 بعض ما ورد من نصائح للوزراء. 34 في ما روي حول نزاهة الخليفة عمر
بن عبد العزيز. 42 بعض ما جاء في الحذر من كيد العدو
والنهي عن الغدر. 47 ومن كلام له رضي الله عنه وصى به
شريح بن هانئ لما جعله علي مقدمته إلى الشام 58 وكتب إلى أهل الكوفة عند مسيره من
المدينة إلى البصرة. 58 من كتاب له إلى أهل الأمصار يقص
فيه ما جرى بينه وبين أهل صفين. 59 وكتب إلى الأسود بن قطبة صاحب جند
حلوان. 60 وكتب إلى العمال الذين بطأ عملهم
الجيوش. 60 وكتب إلى أهل مصر مع مالك الأشتر
رحمه الله لما ولاه إمارتها. 62 الرد علي الشيعة في طعنهم في إمامة
أبي بكر. 63 وكتب إلى أبي موسى الأشعري وهو عامله. 103 وكتب إلى معاوية جواباً عن كتابه. 105 |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الجزء
السابع عشرباب
المختار من الخطب والأوامر - ابن ابي الحديد
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
من كتاب له إلى بعض عماله
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
أما بعد فإنك ممن أستظهر به على إقامة الدين، وأقمع به نخوة الأثيم، وأسد به
لهاة الثغر المخوف.
قوله:
وآس بينهم في اللحظة، أي اجعلهم أسوة، وروي: "وساو بينهم في اللحظة"؛
والمعنى واحد. والضغث في الأصل:
قبضة حشيش مختلط يابسها بشيء من الرطب، ومنه"
أضغاث الأحلام" للرؤيا المختلطة التي لايصح تأويلها، فاستعار اللفظة
ههنا، والمراد: امزج الشدة بشيء من اللين فاجعلهما كالضغث، وقال تعالى: "وخذ بيدك ضغثاً" . قوله:" فاعتزم بالشدة" أي إذا جد بك
الجد فدع اللين، فإن في حال الشدة لا تغني إلا الشدة، قال الفند الزماني:
قوله:"
حتى لا يطمع العظماء في حيفك"، أي حتى لا يطمع العظماء في أن تمالئهم على
حيف الضعفاء، وقد تقدم مثل هذا فيما سبق. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن وصية له رضي الله عنه للحسن والحسين رضي الله
عنهما لما ضربه ابن ملجم لعنه الله
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: أوصيكما
بتقوى الله، وألا تبغيا الدنيا وإن بغتكما، ولا تأسفا على شيء منها زوي عنكما،
وقولا بالحق، واعملا للأجر، وكونا للظالم خصماً، وللمظلوم عوناً. وعليكم
بالتواصل والتباذل؛ وإياكم والتدابر والتقاطع، لا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر؛ فيولى عليكم أشراركم، ثم تدعون فلا يستجاب لكم.
وذات
ههنا زائدة مقحمة. وحكى أبو علي في التكملة: كميء وأكماء، ولا يسمى
الصبي يتيماً إلا إذا كان دون البلوع وإذا بلغ زال اسم اليتيم عنه. واليتامى
أحد الأصناف الذين عينوا في الخمس بنص الكتاب العزيز. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
بعض ما ورد في حقوق الجار
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ثم
أوصى بالجيران، واللفظ الذي ذكره رضي الله عنه قد
ورد مرفوعاً في رواية عبد الله بن عمر لما ذبح
شاة، فقال: أهديتم لجارنا اليهودي؟ فإني سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"ما زال جبرائيل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه
سيورثه"، وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: "من
كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره "، وعنه رضي الله عنه:
جار السوء في دار المقامة قاصمة
الظهر، وعنه رضي الله عنه: من جهد البلاء جار سوء معك في دار
مقامة إن رأى حسنة دفنها، وإن رأى سيئة أذاعها وأفشاها.
وقال الأصمعي:
جاور أهل الشام الروم فأخذوا
عنهم خصلتين: اللؤم وقلة الغيرة، وجاور أهل
البصرة الخزر، فأخذوا عنهم خصلتين: الزنا وقلة الوفاء، وجاور أهل
الكوفة السواد، فأخذوا عنهم خصلتين: السخاء والغيرة. فبلغ ذلك سعيداً فبعث
إليه مائة ألف درهم، وقال: هذا ثمن دارك، ودارك لك.
ثم
تعلم منه أبو دواد، وكان يفعل لجاره فعل كعب به.
استعرض أبو مسلم صاحب الدولة فرساً محضيراً، فقال
لأصحابه: لماذا يصلح هذا؟ فذكروا سباق الخيل، وصيد الحمر والنعام، واتباع
الفار من الحرب، فقال: لم تصنعوا شيئاً يصلح للفرار من
الجار السوء.
وفي الحديث المرفوع أيضاً من رواية جابر: "الجيران ثلاثة: فجار له حق،
وجار له حقان، وجار له ثلاثة حقوق، فصاحب الحق الواحد جار مشرك لا رحم له، فحقه
حق الجوار، وصاحب الحقين جار مسلم لا رحم له، وصاحب الثلاثة جار مسلم ذو رحم،
وأدنى حق الجوار ألا تؤذي جارك بقتار قدرك، إلا أن تقتدح له منها". |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وكتب إلى معاوية
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: فإن البغي
والزور يوتغان المرء في دينه ودنياه، ويبديان خلله عند من يعيبه، وقد علمت أنك
غير مدرك ما قضي فواته، وقد رام أقوام أمراً بغير الحق، فتألوا على الله
فأكذبهم، فاحذر يوماً يغتبط فيه من أحمد عاقبة عمله، ويندم من أمكن الشيطان من
قياده فلم يجاذبه، وقد دعوتنا إلى حكم القرآن ولست من أهله، ولسنا إياك أجبنا،
ولكنا أجبنا القرآن في حكمه، والسلام. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وكتب إلى معاوية أيضاً
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: أما بعد فإن
الدنيا مشغلة عن غيرها، ولم يصب صاحبها منها شيئاً إلا فتحت له حرصاً عليها،
ولهجاً بها، ولن يستغني صاحبها بما نال فيها عما لم يبلغه منها، ومن وراء ذلك
فراق ما جمع، ونقض ما أبرم، ولو اعتبرت بما مضى، حفظت ما بقي؛ والسلام. وقد ذكر نصر بن مزاحم هذا الكتاب وقال :
إن أمير المؤمنين رضي الله عنه كتبه إلى عمرو بن العاص، وزاد فيه
زيادة لم يذكرها الرضي: أما بعد؛ فإن
الدنيا مشغلة عن الآخرة، وصاحبها منهوم عليها، لم يصب شيئاً منها قط إلا فتحت
عليه حرصاً، وأدخلت عليه مؤنة تزيده رغبة فيها؛ ولن يستغني صاحبها بما نال عما
لم يدرك، ومن وراء ذلك فراق ما جمع؛ والسعيد من وعظ بغيره، فلا تحبط أجرك أبا عبد الله ولا تشرك معاوية في باطله؛
فإن معاوية غمص الناس، وسفه الحق . والسلام. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وكتب إلى أمرائه على الجيوش
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
من عبد الله علي بن أبي طالب أمير المؤمنين رفعه
إلى أصحاب المسالح: أما بعد، فإن حقاً على الوالي ألا يغيره على رعيته
فضل ناله، ولا طول خص به، وأن يزيده ما قسم الله له من نعمه دنوا من عباده،
وعطفاً على إخوانه. قال: إلا في حرب، وذلك لأن الحرب يحمد
فيها طي الأسرار، والحرب خدعة.
أي
متى تعين الحكم حكمت به وقطعت ولا أقف، ولا أتحبس. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وكتب إلى عماله على الخراج
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: من
عبد الله علي أمير المؤمنين إلى أصحاب الخراج: أما
بعد؛ فإن من لم يحذر ما هو سائر إليه، لم يقدم لنفسه ما يحرزها. وقال ابن الأعرابي: حشمته: أخجلته، وأحشمته: أغضبته، والاسم الحشمة، وهي
الاستحياء والغضب.
قوله رضي الله عنه: قد اصطنع عندنا وعندكم أن نشكره، أي لأن نشكره، بلام
التعليل وحذفها، أي أحسن إلينا لنشكره، وحذفها أكثر نحو قوله تعالى: "
لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم". |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وكتب إلى أمراء البلاد في معنى الصلاة.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: أما بعد
فصلوا بالناس الظهر حتى تفيء الشمس مثل مربض العنز، وصلوا بهم العصر والشمس
بيضاء حية في عضو من النهار حين يسار فيها فرسخان، وصلوا بهم المغرب حين يفطر
الصائم، ويدفع الحاج إلى منى، وصلوا بهم العشاء حين يتوارى الشفق إلى ثلث الليل،
وصلوا بهم الغداة والرجل يعرف وجه صاحبه، وصلوا بهم صلاة أضعفهم، ولا تكونوا
فتانين. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
اختلاف الفقهاء في أوقات الصلاة.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الشرح: قد اختلف
الفقهاء في أوقات الصلاة، فقال أبو حنيفة: أول
وقت الفجر إذا طلع الفجر الثاني؛ وهو المعترض في الأفق، وآخر وقتها ما لم تطلع
الشمس. وأول وقت الظهر إذا زالت الشمس، وآخر وقتها إذا صار ظل كل شيء مثليه سوى
الزوال. وقال أبو يوسف ومحمد:
آخر وقتها إذا صار الظل مثله. قال أبو حنيفة:
وأول وقت العصر إذا خرج وقت الظهر؛ وهذا على
القولين، وآخر وقتها ما لم تغرب الشمس، وأول وقت المغرب إذا غربت الشمس،
وآخر وقتها ما لم يغب الشفق؛ وهو البياض الذي في الأفق بعد الحمرة. وقال أبو يوسف ومحمد:
هو الحمرة. قال الشافعي:
وأول وقت الظهر إذا زالت الشمس. وحكى أبو الطيب الطبري من الشافعية أن من الناس من قال: لا
تجوز الصلاة حتى يصير الفيء بعد الزوال مثل الشراك. قال قد حكي
هذا عنهم. ولا يساوي الحكاية، ولم تذهب الشيعة إلى
هذا، وسنذكر قولهم فيما بعد. وحكى أبو ثور عن الشافعي
أن لها وقتين، وآخر وقتها إذا غاب الشفق. وليس بمشهور عنه، والمشهور القول
الأول، وقد ذكرنا قول أبي حنيفة فيما تقدم،
وهو امتداد وقتها إلى أن يغيب الشفق، وبه قال أحمد
وداود. وقال أبو سعيد الإصطخري:
لا يبقى وقت الجواز بعد نصف الليل، بل يصير قضاء. وبذلك تعرف أيضاً القبلة،
فإن قرص الشمس يقف فيها وسط النهار، ويصير عن يسارها ويمين المتوجه إليها بعد
وقوفها وزوالها عن القطب، فإذا صارت مما يلي حاجبه الأيمن من بين عينيه علم أنها
قد زالت، وعرف أن القبله تلقاء وجهه؛ ومن سبقت معرفته بجهة القبلة فهو يعرف زوال
الشمس إذا توجه إليها، فرأى عين الشمس مما يلي حاجبه الأيمن؛ إلا أن ذلك لا يبين
إلا بعد زوالها بزمان، ويبين الزوال من أول وقته بما ذكرناه من الإصطرلاب وميزان
الشمس والدائرة الهندية والعمود الذي وصفناه، ومن لم يحصل له معرفة ذلك، أو فقد
الآلة توجه إلى القبلة فاعتبر صيرورة الشمس على طرف حاجبه الأيمن وقت العصر من
بعد الفراغ من الظهر، إذا صليت الظهر في أول
أوقاتها أعني بعد زوال الشمس بلا فصل ويمتد إلى أن يتغير لون الشمس باصفرارها
للغروب، وللمضطر والناسي إلى مغيبها بسقوط القرص عما تبلغه أبصارنا من السماء،
وأول وقت المغرب مغيب الشمس، وعلامة مغيبها عدم الحمرة في المشرق المقابل للمغرب
في السماء؛ وذلك أن المشرق في السماء مطل على المغرب، فما دامت الشمس
ظاهرة فوق أرضنا فهي تلقي ضوءها على المشرق في السماء، فيرى
حمرتها فيه، فإذا ذهبت الحمرة منه علم أن القرص قد سقط وغاب. وآخره أول وقت
العشاء الآخرة، وأول وقتها مغيب الشمس
وهو الحمرة في المغرب، وآخره مضي الثلث الأول من
الليل، وأول وقت الغداة اعتراض الفجر،
وهو البياض في المشرق يعقبه الحمرة في مكانه؛ ويكون مقدمة لطلوع الشمس على الأرض
من السماء؛ وذلك أن الفجر الأول، وهو البياض الظاهر في المشرق يطلع طولاً ثم
ينعكس بعد مدة عرضاً ثم يحمر الأفق بعده للشمس. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وكتب الى للأشتر النخعي رحمه الله لما ولاه على مصر
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لما ولاه على مصر وأعمالها حين اضطرب أمر
أميرها محمد بن أبي بكر وهو أطول عهد كتبه وأجمعه للمحاسن. الأصل: بسم الله
الرحمن الرحيم هذا ما أمر به عبد الله علي أمير المؤمنين مالك بن الحارث الأشتر
في عهده إليه حين ولاه مصر جباية خراجها، وجهاد عدوها، واستصلاح أهلها، وعمارة
بلادها. أمره بتقوى الله وإيثار طاعته، واتباع ما أمر به في
كتابه من فرائضه وسننه التي لا يسعد أحد إلا باتباعها، ولا يشقى إلا مع جحودها
وإضاعتها، وأن ينصر الله سبحانه بيده وقلبه ولسانه؛ فإنه جل اسمه قد تكفل بنصر
من نصره، وإعزاز من أعزه. ولا تندمن
على عفو، ولا تبجحن بعقوبة، ولا تسرعن إلى بادرة وجدت عنها مندوحة. ولا تقولن
إني مؤمر آمر فأطاع، فإن ذلك إدغال في القلب، ومنهكة للدين، وتقرب من الغير. والغرب.
حد السيف، ويستعار للسطوة والسرعة في البطش والفتك.
وقال آخر:
وفي الخبر المرفوع: "دعوا الناس بغفلاتهم يعيش بعضهم مع
بعض". وقال الشاعر:
وقال
آخر:
وقال
آخر:
فأما قوله رضي الله عنه:
أطلق عن الناس عقدة كل حقد، فقد استوفى هذا المعنى زياد
في خطبته البتراء فقال: وقد كانت بيني وبين أقوام إحن، وقد جعلت ذلك دبر
أذني وتحت قدمي، فمن كان منكم محسناً فليزدد إحساناً، ومن كان منكم مسيئاً
فلينزع عن إساءته، إني لو علمت أن أحدكم قد قتله السلال من بغضي لم أكشف عنه
قناعاً، ولم أهتك له ستراً، حتى يبدي لي صفحته، فإذا فعل لم أناظره، ألا فليشمل كل
امرىء منكم على ما في صدره، ولا يكونن لسانه شفرة تجري على ودجه. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
بعض ما ورد في النهي عن سماع السعاية.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
فأما قوله: ولا تعجلن إلى تصديق ساع، فقد ورد في هذا المعنى كلام حسن، قال ذو الرياستين : قبول
السعاية شر من السعاية لأن السعاية دلالة،
والقبول إجازة، وليس من دل على شيء كمن قبله
وأجازه، فامقت الساعي على سعايته؛ فإنه لو كان
صادقاً كان لئيماً، إذ هتك العورة، وأضاع الحرمة.
وقال آخر:
وقال عبد الملك بن صالح لجعفر بن يحيى وقد خرج يودعه لما شخص إلى
خراسان:
أيها الأمير، أحب أن تكون لي كما قال الشاعر:
قال: بل أكون كما قال:
وقال
العباس بن الأحنف:
قوله رضي الله عنه: ولا تدخلن في مشورتك بخيلاً يعدل بك عن الفضل، ويعدك الفقر، مأخوذ من قول الله
تعالى: "الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء
والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً"؛ قال المفسرون: الفحشاء ههنا البخل: ومعنى "يعدكم الفقر"،
يخيل إليكم أنكم إن سمحتم بأموالكم افتقرتم فيخوفكم فتخافون فتبخلون. وجاء في الخبر
المرفوع: "ينادى يوم القيامة: أين من برى لهم أي
الظالمين قلماً". أتي الوليد بن عبد الملك برجل من الخوارج، فقال له: ما
تقول في الحجاج؟ قال: وما عسيت أن أقول فيه! هل
هو إلا خطيئة من خطاياك، وشرر من نارك؟ فلعنك الله ولعن الحجاج معك!
وأقبل يشتمهما، فالتفت الوليد إلى عمر بن عبد العزيز فقال: ما تقول في هذا؟ قال: ما
أقول فيه! هذا رجل يشتمكم، فإما أن تشتموه كما شتمكم،
وإما أن تعفوا عنه. فغضب الوليد وقال
لعمر: ما أظنك إلا خارجياً! فقال عمر: وما أظنك
إلا مجنوناً؛ وقام فخرج مغضباً، ولحقه خالد بن الريان صاحب
شرطة الوليد، فقال له ما دعاك إلى ما كلمت به أمير
المؤمنين! لقد ضربت بيدي إلى قائم سيفي أنتظر
متى يأمرني بضرب عنقك؛ قال: أو كنت فاعلاً لو
أمرك؟ قال: نعم. فلما استخلف عمر جاء خالد بن الريان فوقف على رأسه متقلداً سيفه، فنظر إليه وقال: يا خالد، ضع
سيفك فإنك مطيعنا في كل أمر نأمرك به وكان بين يديه كاتب كان للوليد، فقال له: ضع
أنت قلمك، فإنك كنت تضر به وتنفع، اللهم إني قد
وضعتهما فلا ترفعهما، قال: فو الله ما زالا وضيعين مهينين حتى ماتا. وروى الغزالي في كتاب إحياء علوم الدين، قال لما خالط الزهري السلطان كتب أن
له في الدين إليه: عافانا الله وإياك أبا بكر من الفتن، فقد أصبحت بحال ينبغي
لمن عرفك أن يدعو الله لك ويرحمك، فقد أصبحت شيخاً كبيراً، وقد أثقلتك نعم الله
عليك بما فهمك من كتابه، وعلمك من سنة نبيه، وليس كذلك أخذ الله الميثاق على
العلماء، فإنه تعالى
قال: "لتبيننه
للناس ولا تكتمونه". واعلم أن أيسر ما ارتكبت، وأخف ما احتملت، أنك
آنست وحشة الظالم، وسهلت سبيل الغي بدنوك إلى من لم يؤد حقاً، ولم يترك باطلاً
حين أدناك، اتخذوك أبا بكر قطباً تدور عليه رحا ظلمهم، وجسراً يعبرون عليه إلى
بلائهم ومعاصيهم، وسلماً يصعدون فيه إلى ضلالتهم، يدخلون بك الشك على العلماء،
ويقتادون بك قلوب الجهلاء، فما أيسر ما عمروا لك في جنب ما خربوا عليك، وما أكثر
ما أخذوا منك في جنب ما أفسدوا من حالك ودينك! وما يؤمنك أن تكون ممن قال الله
تعالى فيهم "فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة
واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً".
فقال عمر بن عبد العزيز: لقد أعطي صاحبكم هذا مقولاً، وحرم معقولاً. وأمره أن يجلس. فقال معاوية: أوسعت يا أبا أمية فاجلس، فإنما
أردنا بعض هذا.
وكان يقال:
قضاء حق المحسن أدب للمسيء، وعقوبة المسيء جزاء للمحسن. فليكن منك في ذلك أمر يجتمع لك به حسن الظن
برعيتك، فإن حسن الظن يقطع عنك نصباً طويلاً، وإن أحق من حسن ظنك به لمن حسن
بلاؤك عنده، وإن أحق من ساء ظنك به لمن ساء بلاؤك عنده. ولا تنقض سنة صالحة عمل بها صدور هذه الأمة،
واجتمعت بها الألفة، وصلحت عليها الرعية. ومما جاء في معنى الأول:
قال رجل لإياس بن معاوية : من أحب الناس إليك؟ قال: الذين يعطوني، قال: ثم من؟
قال: الذين أعطيهم. الشرح: قالت
الحكماء: الإنسان مدني بالطبع؛ ومعناه أنه خلق
خلقة لا بد معها من أن يكون منضماً إلى أشخاص من
بني جنسه، ومتمدناً في مكان بعينه، وليس المراد بالمتمدن ساكن
المدينة ذات السور والسوق، بل لا بد أن
يقيم في موضع ما مع قوم من البشر؛ وذلك لأن الإنسان مضطر إلى ما يأكله ويشربه
ليقيم صورته، ومضطر إلى ما يلبسه، ليدفع عنه أذى الحر والبرد، وإلى مسكن يسكنه
ليرد عنه عادية غيره من الحيوانات، وليكون منزلاً له ليتمكن من التصرف والحركة
عليه، ومعلوم أن الإنسان وحده لا يستقل بالأمور التي عددناها، بل لا بد من جماعة
يحرث بعضهم لغيره الحرث، وذلك الغير يحوك للحراث الثوب، وذلك الحائك يبني له
غيره المسكن، وذلك البناء يحمل له غيره الماء، وذلك السقاء يكفيه غيره أمر تحصيل
الآلة التي يطحن بها الحب ويعجن بها الدقيق، ويخبز بها العجين، وذلك المحصل لهذه
الأشياء يكفيه غيره الاهتمام بتحصيل الزوجة التي تدعو إليها داعية الشبق، فيحصل
مساعدة بعض الناس لبعض، لولا ذلك لما قامت الدنيا، فهذا
معنى قوله رضي الله عنه: إنهم طبقات لايصلح بعضها إلا ببعض، ولاغناء ببعضها عن
بعض. ولا تحقرن
لطفاً تعاهدتهم به وإن قل؛ فإنه داعية لهم إلى بذل النصيحة لك، وحسن الظن بك. ولا تصح
نصيحتهم إلا بحيطتهم على ولاة أمورهم، وقلة استثقال دولهم، وترك استبطاء انقطاع
مدتهم. الشرح: هذا الفصل
مختص بالوصاة فيما يتعلق بأمراء الجيش، أمره أن يولي أمر الجيش من جنوده من كان
أنصحهم لله في ظنه، وأطهرهم جيباً، أي عفيفاً أمينا؛ ويكنى عن العفة والأمانة
بطهارة الجيب، لأن الذي يسرق يجعل المسروق في جيبه. ولا يثيره العنف: لا يهيج غضبه عنف وقسوة. ولا يقعد به الضعف، أي ليس عاجزاً. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
رسالة الإسكندر إلى أرسطو وجواب أرسطو له.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
و ينبغي أن نذكر في هذا
الموضع رسالة أرسطو إلى الإسكندر في معنى المحافظة على أهل البيوتات وذوي
الأحساب، وأن يخصهم بالرئاسة والإمرة؛ ولا يعدل عنهم إلى العامة والسفلة، فإن في ذلك تشييداً لكلام أمير المؤمنين رضي الله عنه،
ووصيته. عليك أيها الحكيم منا السلام، أما بعد فإن الأفلاك
الدائرة، والعلل السمائية؛ وإن كانت أسعدتنا بالأمور التي أصبح الناس لنا بها
دائبين، فإنا جد واجدين لمس الاضطرار إلى حكمتك، غير
جاحدين لفضلك والإقرار بمنزلتك، والإستنامة إلى مشورتك والإقتداء برأيك؛
والاعتماد لأمرك ونهيك، لما بلونا من جدا ذلك علينا، وذقنا من جنا منفعته،
حتى صار ذلك بنجوعه فينا وترسخه في أذهاننا
وعقولنا كالغذاء لنا، فما ننفك نعول عليه،
ونستمد منه استمداد الجداول من البحور، وتعويل الفروع على الأصول، وقوة الأشكال
بالأشكال. وقد كان مما سيق إلينا من النصر والفلج، وأتيح لنا من الظفر، وبلغنا
في العدو من النكاية والبطش ما يعجز القول عن وصفه، ويقصر شكر المنعم عن موقع
الإنعام به، وكان من ذلك أنا جاوزنا أرض سورية والجزيرة
إلى بابل وأرض فارس، فلما حللنا بعقوة أهلها وساحة بلادهم، لم يكن إلا
ريثما تلقانا نفر منهم برأس ملكهم هدية إلينا، وطلبا للحظوة عندنا، فأمرنا بصلب من جاء به وشهرته لسوء بلائه، وقلة ارعوائه
ووفائه؛ ثم أمرنا بجمع من كان هناك من أولاد ملوكهم وأحرارهم وذوي الشرف
منهم؛ فرأينا رجالاً عظيمة أجسامهم وأحلامهم، حاضرة ألبابهم وأذهانهم، رائعة
مناظرهم ومناطقهم، دليلاً على أن ما يظهر من روائهم ومنطقهم أن وراءه من قوة
أيديهم، وشدة نجدتهم وبأسهم ما لم يكن ليكون لنا سبيل إلى غلبتهم وإعطائهم
بأيديهم، لولا أن القضاء أدانهم، وأظفرنا بهم، وأظهرنا
عليهم، ولم نر بعيداً من الرأي في أمرهم أن نستأصل شأفتهم، ونجتث أصلهم،
ونلحقهم بمن مضى من أسلافهم، لتسكن القلوب بذلك الآمن إلى جرائرهم وبوائقهم؛ فرأينا ألا نعجل بإسعاف بادىء الرأي في قتلهم دون الإستظهار
عليهم بمشورتك فيهم. فارفع إلينا رأيك فيما استشرناك فيه بعد صحته عندك،
وتقليبك إياه بجلي نظرك، وسلام أهل السلام، فليكن علينا وعليك . فكتب إليه أرسطو:
لملك الملوك، وعظيم العظماء، الإسكندر المؤيد بالنصر على الأعداء، المهدى له الظفر بالملوك، من أصغر عبيده وأقل
خوله؛ أرسطو طاليس البخوع بالسجود والتذلل في السلام، والإذعان في الطاعة: أما بعد، فإنه لا قوة بالمنطق وإن احتشد الناطق
فيه، واجتهد في تثقيف معانيه، وتأليف حروفه ومبانيه على الإحاطة بأقل ما تناله
القدرة من بسطة علو الملك وسمو ارتفاعه عن كل قول، وإبرازه على كل وصف، واغترافه
بكل إطناب. وقد كان تقرر عندي من مقدمات أعلام فضل الملك في صهلة سبقه، وبروز
شأوه، ويمن نقيبته، مذ أدت إلي حاسة بصري صورة شخصه، واضطرب في حس سمعي صوت
لفظه، ووقع وهمي على تعقيب نجاح رأيه، أيام كنت أؤدي إليه من تكلف تعليمي إياه
ما أصبحت قاضياً على نفسي بالحاجة إلى تعلمه منه. ومهما يكن مني إليه في ذلك،
فإنما هو عقل مردود إلى عقله، مستنبطة أواليه وتواليه من علمه وحكمته. وقد جلا إلي كتاب الملك ومخاطبته إياي ومسألته لي عما لا
يتخالجني الشك في لقاح ذلك وإنتاجه من عنده، فعنه صدر وعليه ورد؛ وأنا فيما أشير
به على الملك وإن اجتهدت فيه واحتشدت له، وتجاوزت حد الوسع والطاقة مني في
استنطاقه واستقصائه كالعدم مع الوجود، بل كما لا يتجزأ في جنب معظم الأشياء،
ولكني غير ممتنع من إجابة الملك إلى ما سأل، مع علمي ويقيني بعظيم غناه عني،
وشدة فاقتي إليه، وأنا راد إلى الملك ما اكتسبته منه، ومشير عليه بما أخذته منه،
فقائل له: إن لكل تربة لا محالة قسماً من الفضائل، وإن لفارس قسمها من
النجدة والقوة، وإنك إن تقتل أشرافهم تخلف الوضعاء على أعقابهم، وتورث سفلتهم
على منازل عليتهم، وتغلب أدنياءهم على مراتب ذوي أخطارهم؛ ولم يبتل الملوك قط
ببلاء هو أعظم عليهم وأشد توهيناً لسلطانهم من غلبة السفلة، وذل الوجوه، فاحذر الحذر كله أن تمكن تلك الطبقة من الغلبة والحركة، فإنه
إن نجم منهم بعد اليوم على جندك وأهل بلادك ناجم دهمهم منه ما لا روية فيه، ولا
بقية معه؛ فانصرف عن هذا الرأي إلى غيره، واعمد إلى من قبلك من أولئك
العظماء والأحرار، فوزع بينهم مملكتهم، وألزم اسم الملك كل من وليته منهم
ناحيته، واعقد التاج على رأسه وإن صغر ملكه، فإن المتسمى بالملك لازم لإسمه،
والمعقود التاج على رأسه لا يخضع لغيره، فليس ينشب ذلك أن يوقع كل ملك منهم بينه
وبين صاحبه تدابراً وتقاطعاً وتغالباً على الملك؛ وتفاخراً بالمال والجند، حتى
ينسوا بذلك أضغانهم عليك وأوتارهم فيك، ويعود حربهم لك حرباً بينهم، وحنقهم عليك
حنقاً منهم على أنفسهم، ثم لا يزدادون في ذلك بصيرة إلا أحدثوا لك بها استقامة؛
إن دنوت منهم دانوا لك، وإن نأيت عنهم تعززوا بك، حتى يثب من ملك منهم على جاره
باسمك، ويسترهبه بجندك، وفي ذلك شاغل لهم عنك، وأمان لإحداثهم بعدك، وإن كان لا
أمان للدهر، ولا ثقة بالأيام. قوله:
ولا يتمادى في الزلة، أي إن ذل رجع وأناب، والرجوع إلى
الحق خير من التمادي في الباطل.
وقال عروة بن أذينه:
والمعنى: ولا
تشفق نفسه، وتخاف من فوت المنافع والمرافق. والإطراء:
المدح. والإغراء:
التحريض. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
بعض ما ورد في القضاة ونوادرهم،
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قد جاء في الحديث المرفوع: "لا يقضي القاضي وهو غضبان". وجاء في الحديث المرفوع أيضاً: "من ابتلي بالقضاء بين المسلمين فليعدل بينهم في لحظه
وإشارته ومجلسه ومقعده". فقال
سليمان: إن الناس ليغروننا عن ديننا.
وتقدمت كلثم بنت سريع مولى عمرو بن حريث وكانت جميلة وأخوها الوليد بن سريع إلى عبد الملك بن عمير؛ وهو قاض بالكوفة،
فقضى لها على أخيها، فقال هذيل الأشجعي:
وكان عبد الملك بن عمير يقول: لعن الله الأشجعي، والله
لربما جاءتني السعلة والنحنحة وأنا في المتوضأ فأردهما
لما شاع من شعره.
فقال: بل نغطيك يا أبا دلامة ولا نبحثك؛ وصرفه راضياً، وأعطى المشهود
عليه من عنده قيمة ذلك الشيء. وجاء في الخبر المرفوع من رواية عبد الله بن عمر: "لا قدست أمة لا يقضى فيها
بالحق"؛ومن الحديث المرفوع من رواية أبي هريرة: "ليس أحد يحكم بين الناس إلا
جيء به يوم القيامة مغلولة يداه إلى عنقه، فكه العدل، وأسلمه الجور". واستعدى رجل على علي بن أبي طالب رضي الله عنه عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعلي جالس،
فالتفت عمر إليه، فقال: قم يا أبا الحسن فاجلس مع خصمك،
فقام فجلس معه وتناظرا، ثم انصرف الرجل ورجع علي رضي الله عنه إلى محله، فتبين عمر التغير في وجهه،
فقال: يا أبا الحسن، ما لي أراك متغيًرا! أكرهت ما كان؟ قال: نعم، قال: وما ذاك؟
قال: كنيتني بحضرة خصمي، هلا قلت: قم يا علي فاجلس مع
خصمك! فاعتنق عمر علياً، وجعل يقبل وجهه، وقال
بأبي أنتم! بكم هدانا الله، وبكم أخرجنا من الظلمة إلى النور.
كان ببغداد
رجل يذكر بالصلاح والزهد يقال له رويم، فولي القضاء،
فقال الجنيد: من أراد أن يستودع سره من لا
يفشيه فعليه برويم، فإنه كتم حب الدنيا أربعين سنة إلى
أن قدر عليها.
وكان
الحجاج يسم أيدي النبط بالمشراط والنيل.
فقبض الشعبي عليه وضربه ثلاثين سوطاً.
ولاتحفظ تتمة البيت، فوقف عليها ولقنها، وقال:
ثم ضحك وقال: أبعده الله! والله ما قضينا لها إلا بالحق. قال أبو ذر رضي
الله عنه: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا ذر، اعقل ما أقول
لك؛ جعل يرددها علي ستة أيام، ثم قال لي في
اليوم السابع: أوصيك بتقوى الله في سريرتك وعلانيتك،
وإذا أسأت فأحسن، ولا تسألن أحداً شيئاً ولو سقط سوطك، ولا تتقلدن أمانة، ولا
تلين ولاية، ولا تكفلن يتيماً، ولا تقضين بين اثنين. وقد ذكر الفقهاء في آداب القاضي
أموراً، قالوا: لا يجوز أن يقبل هدية في أيام القضاء إلا ممن كانت له عادة يهدي
إليه قبل أيام القضاء، ولا يجوز قبولها في أيام القضاء ممن له حكومة وخصومة، وإن
كان ممن له عادة قديمة، وكذلك إن كانت الهدية أنفس وأرفع مما كانت قبل أيام
القضاء لا يجوز قبولها. ويجوز أن يحضر القاضي الولائم، ولا يحضر عند قوم دون
قوم؛ لأن التخصيص يشعر بالميل، ويجوز أن يعود المرضى، ويشهد الجنائز، ويأتي مقدم
الغائب. ويكره له مباشرة البيع والشراء. ولا يجوز أن يقضي وهو غضبان ولا جائع
ولا عطشان، ولا في حال الحزن الشديد، ولا الفرح الشديد، ولا يقضي والنعاس يغلبه،
والمرض يقلقه، ولا وهو يدافع الأخبثين، ولا في حر مزعج، ولا في برد مزعج. وينبغي أن يجلس للحكم في موضع بارز
يصل إليه كل أحد، ولا يحتجب إلا لعذر. ويستحب أن يكون مجلسه فسيحاً لا يتأذى
بذلك هو أيضاً. ويكره الجلوس في المساجد للقضاء، فإن احتاج إلى وكلاء جاز أن
يتخذهم ويوصيهم بالرفق بالخصوم. ويستحب أن يكون له حبس، وأن يتخذ كاتباً إن
احتاج إليه، ومن شرط كاتبه أن يكون عارفاً بما يكتب به عن القضاء. كان أبو الحسن بن الفرات يقول: الأعمال للكفاة من أصحابنا،
وقضاء الحقوق على خواص أموالنا. وقد تقدم شرح مثل هذه اللفظة، والمعنى أن ذلك يجمع ضروباً من الجور والخيانة. أما الجور فإنه يكون قد عدل عن المستحق إلى غير
المستحق، ففي ذلك جور على المستحق، وأما الخيانة
فلأن الأمانة تقتضي تقليد الأعمال الأكفاء، فمن لم يعتمد ذلك فقد خان من ولاه. الأصل: وتفقد أمر
الخراج بما يصلح أهله، فإن في صلاحه وصلاحهم صلاحاً لمن سواهم، ولا صلاح لمن
سواهم إلا بهم، لأن الناس كلهم عيال على الخراج وأهله. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
بعض ما جاء في عهد سابور بن أردشير إلى ابنه
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وقد وجدت في عهد سابور بن أردشير إلى
ابنه كلاماً يشابه كلام أمير المؤمنين
رضي الله عنه في هذا العهد، وهو قوله:
واعلم أن قوام أمرك بدرور الخراج، ودرور الخراج بعمارة البلاد، وبلوغ الغاية في
ذلك استصلاح أهله بالعدل عليهم، والمعونة لهم، فإن بعض الأمور لبعض سبب، وعوام
الناس لخواصهم عدة، وبكل صنف منهم إلى الآخر حاجة، فاختر لذلك أفضل من تقدر عليه
من كتابك، وليكونوا من أهل البصر والعفاف والكفاية، واسترسل إلى كل امرىء منهم
شخصاً يضطلع به ويمكنه تعجيل الفراغ منه، فإن اطلعت على أن أحداً منهم خان أو
تعدى فنكل به، وبالغ في عقوبته، واحذر أن تستعمل على الأرض الكثير خراجها إلا
البعيد الصوت، العظيم شرف المنزلة، ولا تولين أحداً من قواد جندك الذين هم عدة
للحرب، وجنة من الأعداء، شيئاً من أمر الخراج، فلعلك تهجم من بعضهم على خيانة في
المال، أو تضييع للعمل، فإن سوغته المال، وأغضيت له على التضييع، كان ذلك هلاكاً
وإضرارا بك وبرعيتك، وداعية إلى فساد غيره، وإن أنت كافأته فقد استفسدته، وأضقت
صدره، وهذا أمر توقيه حزم، والإقدام عليه خرق، والتقصير فيه عجز. ثم قال: ما توفر علي
من تهالك غيرهم على العمارة وأمنهم جوري أضعاف ما وضعت عن هؤلاء الآن، والذي
وضعته بقدر ما يحصل من ذاك، وثواب عموم العمارة وأمن الرعية أفضل ربح. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
في آداب مصاحبة الملك
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الشرح: لما فرغ من
أمر الخراج، شرع في أمر الكتاب الذين يلون أمر الحضرة، ويترسلون عنه إلى عماله
وأمرائه، وإليهم معاقد التدبير وأمر الديوان، فأمره أن يتخير الصالح منهم، ومن
يوثق على الإطلاع على الأسرار والمكائد والحيل والتدبيرات، ومن لا يبطره الإكرام
والتقريب، فيطمع فيجترىء على مخالفته على ملأ من الناس والرد عليه، ففي ذلك من
الوهن للأمير وسوء الأدب الذي انكشف الكاتب عنه ما لا خفاء به. وفي آداب ابن المقفع:
لا تكونن صحبتك للسلطان إلا بعد رياضة منك! لنفسك على طاعتهم في المكروه عندك
وموافقتهم فيما خالفك، وتقدير الأمور على أهوائهم دون
هواك، فإن كنت حافظاً إذا ولوك، حذراً إذا قربوك، أميناً إذا ائتمنوك،
تعلمهم وكأنك تتعلم منهم، وتؤدبهم وكأنك تتأدب بهم، وتشكر لهم ولا تكلفهم الشكر،
ذليلاً إن صرموك، راضياً إن أسخطوك، وإلا فالبعد منهم كل البعد، والحذر منهم كل
الحذر. وإن وجدت عن السلطان وصحبته غنى فاستغن عنه،
فإنه من يخدم السلطان حق خدمته يخلى بينه وبين لذة الدنيا وعمل الأخرى، ومن
يخدمه غير حق الخدمة فقد احتمل وزر الآخرة، وعرض نفسه للهلكة والفضيحة في
الدنيا. فإذا صحبت السلطان فعليك بطول الملازمة من غير إملال، وإذا نزلت منه
بمنزلة الثقة فاعزل عنه كلام الملق، ولا تكثر له من الدعاء، ولا تردن عليه
كلاماً في حفل وإن أخطأ، فإذا خلوت به فبصره في رفق، ولا يكونن طلبك ما عنده
بالمسألة، ولا تستبطئه وإن أبطأ، ولا تخبرنه أن لك عليه حقاً، وأنك تعتمد عليه
ببلاء، وإن استطعت ألا تنسى حقك وبلاءك بتجديد النصح والإجتهاد فافعل، ولا
تعطينه المجهود كله من نفسك في أول صحبتك له، وأعد موضعاً للمزيد. وإذا سأل غيرك
عن شيء فلا تكن المجيب. قال: وأن
يكون عارفاً بنفسه، فمن لم يعرف قدر نفسه لم يعرف قدر غيره. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
في آداب الكتاب
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
واعلم
أن الكاتب الذي يشير أمير المؤمنين رضي الله عنه إليه هو الذي يسمى الآن في الإصطلاح العرفي وزيراً، لأنه
صاحب تدبير حضرة الأمير، والنائب عنه في أموره، وإليه تصل مكتوبات العمال وعنه
تصدر الأجوبة، وإليه العرض على الأمير، وهو المستدرك على العمال، والمهيمن
عليهم، وهو على الحقيقة كاتب الكتاب، ولهذا يسمونه:
الكاتب المطلق.
وكان
يقال: إذا لم يشرف الملك على أموره، صار أغش الناس إليه
وزيره. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
بعض ما ورد من نصائح للوزراء.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وكان يقال:
لا شيء أذهب بالدول من استكفاء الملك الأسرار. وقال أبرويز لكاتبه:
اكتم السر، واصدق الحديث، واجتهد في النصيحة، وعليك بالحذر، فإن لك علي ألا أعجل
عليك حتى أستأني لك، ولا أقبل فيك قولاً حتى أستيقن، ولا أطمع فيك أحداً فتغتال،
واعلم أنك بمنجاة رفعة فلا تحطنها، وفي ظل مملكة فلا تستزيلنه. قارب الناس
مجاملة من نفسك، وباعدهم مسامحة عن عدوك، واقصد إلى الجميل ازدراعاً لغدك، وتنزه
بالعفاف صوناً لمروءتك، وتحسن عندي بما قدرت عليه. احذر لا تسرعن الألسنة عليك،
ولا تقبحن الأحدوثة عنك، وصن نفسك صون الدرة الصافية، واخلصها إخلاص الفضة
البيضاء، وعاتبها معاتبة الحذر المشفق، وحصنها تحصين المدينة المنيعة. لا تدعن
أن ترفع إلي الصغير فإنه يدل على الكبير، ولا تكتمن عني الكبير فإنه ليس بشاغل
عن الصغير. هذب أمورك ثم القني بها، وأحكم أمرك ثم راجعني فيه،
ولا تجترئن علي فأمتعض، ولا تنقبضن مني فأتهم، ولا تمرضن ما تلقاني به ولا
تخدجنه، وإذا أفكرت فلا تعجل، وإذا كتبت فلا تعذر، ولا تستعن بالفضول فإنها
علاوة على الكفاية، ولا تقصرن عن التحقيق فإنها هجنة بالمقالة، ولا تلبس كلاما
بكلام، ولا تبعدن معنى عن معنى. وأكرم لي كتابك عن ثلاث:
خضوع يستخفه، وانتشار يهجنه، ومعان تعقد به. واجمع الكثير مما تريد في القليل
مما تقول وليكن بسطة كلامك على كلام السوقة كبسطة الملك الذي تحدثه على الملوك.
لا يكن ما نلته عظيماً، وما تتكلم به صغيراً، فإنما كلام الكاتب على مقدار الملك،
فاجعله عالياً كعلوه، وفائقاً كتفوقه، فإنما جماع
الكلام كله خصال أربع: سؤالك الشيء، وسؤالك عن الشيء، وأمرك بالشيء،
وخبرك عن الشيء، فهذه الخصال دعائم المقالات، إن التمس إليها خامس لم يوجد، وإن
نقص منها واحد لم يتم، فإذا أمرت فأحكم، وإذا سألت فأوضح، وإذا طلبت فأسمح، وإذا
أخبرت فحقق. فإنك إذا فعلت ذلك أخذت بجراثيم القول كله، فلم
يشتبه عليك واردة، ولم تعجزك صادرة. أثبت في دواوينك ما أخذت، وأحص فيها ما أخرجت،
وتيقظ لما تعطي، وتجرد لما تأخذ، ولا يغلبنك النسيان عن الإحصاء، ولا الأناة عن
التقدم، ولا تخرجن وزن قيراط في غير حق، ولا تعظمن إخراج الألوف الكثيرة في
الحق، وليكن ذلك كله عن مؤامرتي. ثم قال له:
قد يكون في كثير منهم نوع من الشح والبخل فيدعوهم ذلك إلى الإحتكار في الأقوات،
والحيف في البياعات. والإحتكار ابتياع الغلات في أيام رخصها، وادخارها
في المخازن إلى أيام الغلاء والقحط. والحيف:
تطفيف في الوزن والكيل، وزيادة في السعر، وهو الذي عبر عنه بالتحكم، وقد نهى
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
الإحتكار، وأما التطفيف وزيادة التسعير فمنهي عنهما في نص الكتاب . والمعتر: الذي يعرض لك ولا يسألك، وهما من ألفاظ الكتاب
العزيز. ويمكن أن يريد به:
لا تصرف غلات ما كان من الصوافي في بعض البلاد إلى مساكين ذلك البلد خاصة، فإن
حق البعيد عن ذلك البلد فيها كمثل حق المقيم في ذلك البلد. وأشخصت زيداً
من موضع كذا، أخرجته عنه. وفلان يصعر خده للناس، أي يتكبر عليهم. وأعط ما أعطيت هنيئاً، وامنع في إجمال وإعذار. ثم أمور من أمورك لا بد لك من مباشرتها، منها إجابة
عمالك بما يعيا عنه كتابك، ومنها إصدار حاجات الناس عند ورودها عليك بما تحرج به
صدور أعوانك. وأمض لكل يوم عمله، فإن لكل يوم ما فيه. وروي: ثم
احتمل الخرق منهم والغي. وهو الجهل أيضاً، والرواية الأولى أحسن. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
والقول في الحجاب كثير:
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
حضر باب عمر جماعة من الأشراف: منم سهيل بن عمرو وعيينة بن حصن والأقرع بن حابس، فحجبوا، ثم خرج الآذن فنادى: أين عمار؟ أين سلمان؟ أين
صهيب؟ فأدخلهم فتمعرت وجوه القوم، فقال سهيل بن
عمرو: لم تتمعر وجوهكم، دعوا ودعينا فأسرعوا وأبطأنا، ولئن حسدتموهم على
باب عمر اليوم لأنتم غداً لهم أحسد. وإذا ورد كتاب عامل من عمالي فلا تحبسه عني
طرفة عين إلا أن أكون على حال لا تستطيع الوصول إلي فيها، وإذا أتاك من يدعي
النصيحة لنا فلتكتبها سراً ثم أدخله بعد أن تستأذن له، حتى إذا كان مني بحيث
أراه فادفع إلي كتابه، فإن أحمدت قبلت، وإن كرهت رفضت. وإن أتاك عالم مشتهر بالعلم والفضل يستأذن،
فأذن له، فإن العلم شريف وشريف صاحبه، ولا تحجبن عني أحداً من أفناء الناس، إذا
أخذت مجلسي مجلس العامة، فإن الملك لا يحجب إلا عن
ثلاث: عي يكره أن يطلع عليه منه، أو بخل يكره أن يدخل عليه من يسأله، أو
ريبة هو مصر عليها فيشفق من إبدائها، ووقوف الناس عليها، ولا بد أن يحيطوا بها
علماً، وإن اجتهد في سترها. وقد أخذ هذا المعنى الأخير محمود الوراق فقال:
أقام عبد العزيز بن زرارة الكلابي على باب معاوية سنةً في شملة
من صوف لا يأذن له،
ثم أذن له وقربه وأدناه، ولطف محله عنده حتى ولاه مصر، فكان
يقال: استأذن أقوام لعبد العزيز بن زرارة، ثم صار يستأذن لهم، وقال في ذلك:
ويقال:
إنه قال له لما دخل عليه أمير المؤمنين: دخلت إليك بالأمل، واحتملت جفوتك
بالصبر، ورأيت ببابك أقواماً قدمهم الحظ، وآخرين أخرهم الحرمان، فليس ينبغي للمقدم أن يأمن عواقب الأيام، ولا للمؤخر أن
ييئس من عطف الزمان. وكان
يقال: لم يلزم باب السلطان أحد فصبر على ذل الحجاب، وكلام البواب، وألقى الأنف،
وحمل الضيم، وأدام الملازمة، إلا وصل إلى حاجته أو إلى معظمها. قال: لقد وفيت بما عليك، ولكن إن صدقت ذلك
بفعلك. وقال دعبل وقد حجب عن باب مالك بن طوق.
وقال
آخر:
وكتب
أبو العتاهية إلى أحمد بن يوسف الكاتب وقد حجبه:
يعني
ليله ونهاره.
وقال
آخر يهجو:
وكتب
بعضهم إلى جعفر بن محمد بن القاسم بن عبيد الله بن سليمان بن وهب:
ومن
جيد ما مدح به بشر بن مروان قول القائل:
وقال
بشار:
وقال
إبراهيم بن هرمة:
وقال
آخر:
وقال
عبد الله بن محمد بن عيينة:
وقال
آخر:
الأصل:
ثم إن للوالي خاصة وبطانة، فيهم استئثار وتطاول، وقلة إنصاف في معاملة، فاحسم
مئونة أولئك بقطع أسباب تلك الأحوال، ولا تقطعن لأحد من حاشيتك وحامتك قطيعة،
ولا يطمعن منك في أعتقاد عقدة تضر بمن يليها من الناس في شرب أو عمل مشترك،
يحملون مؤونتة على غيرهم، فيكون مهنأ ذلك لهم دونك، وعيبه عليك في الدنيا
والآخرة. الشرح: نهاه رضي الله عنه عن أن يحمل أقاربه وحاشيته وخواصه على رقاب الناس، وأن يمكنهم من
الاستئثار عليهم والتطاول والإذلال، ونهاه من أن
يقطع أحداً منهم قطيعة، أو يملكه ضيعة تضر بمن يجاورها من السادة والدهاقين في
شرب يتغلبون على الماء منه، أو ضياع يضيفونها إلى ما ملكهم إياه، وإعفاء لهم من
مؤونة، أو حفر وغيره، فيعفيهم الولاة منه مراقبة لهم، فيكون مؤونة ذلك الواجب
عليهم قد أسقطت عنهم، وحمل ثقلها على غيرهم. والمهنأ مصدر هنأه كذا. ومغبة الشيء: عاقبته. والإعذار:
إقامة العذر. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
في ما روي حول نزاهة الخليفة عمر بن عبد العزيز.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
رد عمر بن عبد العزيز المظالم التي
احتقبها بنو مروان فأبغضوه وذموه،
وقيل: إنهم سموه فمات. فقالت: بل أختارك عليه
وعلى أضعافه لو كان لي، وأمرت به فحمل إلى بيت
المال، فلما هلك عمر واستخلف يزيد بن عبد الملك قال
لفاطمة أخته: إن شئت رددته عليك، قالت: فإني لا
أشاء ذلك، طبت عنه نفساً في حياة عمر، وأرجع فيه بعد موته، لا والله أبداً.
فلما رأى يزيد ذلك قسمه بين ولده وأهله. وروى سهيل بن يحيى المروزي عن أبيه،
عن عبد العزيز، عن عمر بن عبد العزيز، قال: لما دفن
سليمان صعد عمر على المنبر فقال: إني قد خلعت ما في رقبتي من بيعتكم. فصاح الناس
صيحة واحدة: قد اخترناك، فنزل ودخل وأمر بالستور فهتكت، والثياب التي كانت تبسط للخلفاء
فحملت إلى بيت المال، ثم خرج ونادى مناديه:
من كانت له مظلمة من بعيد أو قريب من أمير المؤمنين رضي الله عنه فليحضر،
فقام رجل ذمي من أهل حمص أبيض الرأس واللحية، فقال:
أسألك كتاب الله، قال: ما شأنك، قال: العباس بن الوليد
بن عبد الملك أغصبني ضيعتي، والعباس جالس فقال
عمر: ما تقول يا عباس، قال: أقطعنيها أمير المؤمنين رضي الله عنه الوليد،
وكتب لي بها سجلاً. فقال عمر: ما تقول أنت أيها
الذمي، قال: يا أمير المؤمنين، أسألك كتاب الله، فقال
عمر: إيهاً لعمري إن كتاب الله لأحق أن يتبع من
كتاب الوليد، اردد عليه يا عباس ضيعته، فجعل لا
يدع شيئاً مما كان في أيدي أهل بيته من المظالم إلا ردها مظلمة مظلمة. وكانت
أمراً عظيماً لها غلة عظيمة كثيرة، إنما عيشه وعيش أهله منها، فلما ولي الخلافة
قال لمزاحم مولاه، وكان فاضلاً: إني قد عزمت أن أرد السهلة إلى بيت مال
المسلمين، فقال، مزاحم: أتدري كم ولدك، إنهم كذا وكذا، قال: فذرفت عيناه، فجعل
يستدمع ويمسح الدمعة بأصبعه الوسطى، ويقول: أكلهم إلى الله، أكلهم إلى الله، فمضى مزاحم فدخل على عبد الملك بن عمر، فقال له: ألا تعلم ما
قد عزم عليه أبوك، إنه يريد أن يرد السهلة، قال: فما قلت له، قال: ذكرت له ولده
فجعل يستدمع ويقول: أكلهم إلى الله. فقال عبد الملك: بئس وزير الدين أنت،
ثم وثب وانطلق إلى أبيه فقال للاذن: استأذن
لي عليه، فقال: إنه قد وضع رأسه الساعة
للقائلة، فقال: استأذن لي عليه، فقال: أما ترحمونه، ليس له من الليل والنهار إلا
هذه الساعة. قال: استأذن لي عليه لا أم لك، فسمع عمر كلامهما، فقال: ائذن لعبد الملك، فدخل فقال: على ماذا عزمت، قال:
أرد السهلة قال: فلا تؤخر ذلك قم الآن. قال: فجعل عمر يرفع يديه ويقول: الحمد
الله الذي جعل لي من ذريتي من يعينني على أمر ديني. قال:
نعم يا بني أصلي الظهر، ثم أصعد المنبر فأردها علانية على رؤوس الناس، قال: ومن لك أن تعيش إلى الظهر، ثم من لك أن تسلم
نيتك إلى الظهر إن عشت إليها، فقام عمر فصعد المنبر، فخطب
الناس ورد السهلة. قالوا: فكتب عمر جوابه:
أما بعد، فقد قرأت كتابك، وسوف أجيبك بنحو منه، أما أول
أمرك يابن الوليد فإن أمك نباتة أمة السكون، كانت تطوف في أسواق حمص، وتدخل
حوانيتها، ثم الله أعلم بها، اشتراها ذبيان بن
ذبيان من فيء المسلمين، فأهداها لأبيك، فحملت بك، فبئس الحامل وبئس المحمول،
ثم نشأت فكنت جباراً عنيداً. وتزعم أني من الظالمين لأني حرمتك وأهل بيتك فيء الله الذي هو حق
القرابة والمساكين والأرامل، وإن أظلم مني وأترك لعهد الله من استعملك
صبياً سفيهاً على جند المسلمين تحكم فيهم برأيك، ولم يكن له في ذاك نية إلا حب
الوالد ولده، فويل لك وويل لأبيك، ما أكثر خصماء
كما يوم القيامة، وإن أظلم مني وأترك لعهد الله مني
استعمل الحجاج بن يوسف على خمسي العرب، يسفك الدم الحرام، ويأخذ المال الحرام.
وان أظلم مني وأترك لعهد الله من استعمل قرة بن شريك، أعرابياً جافياً على مصر،
وأذن له في المعازف والخمر والشرب واللهو. وإن أظلم مني وأترك لعهد الله
من استعمل عثمان بن حيان على الحجاز، فينشد الأشعار على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، و من جعل
للعالية البربرية سهماً في الخمس، فرويداً يابن نباتة،
ولو التقت حلقتا البطان ورد الفيء إلى أهله، لتفرغت لك ولأهل بيتك فوضعتكم على
المحجة البيضاء، فطالما تركتم الحق، وأخذتم في بنيات الطريق، ومن وراء هذا من
الفضل ما أرجو أن أعمله، بيع رقبتك، وقسم ثمنك بين الأرامل واليتامى والمساكين،
فإن لكل فيك حقاً، والسلام علينا، ولا ينال سلام الله الظالمين. فلما اجتمعوا قال: يا بني مروان، إنكم قد أعطيتم حظاً وشرفاً وأموالاً، إني لأحسب شطر
أموال هذه الأمة أو ثلثيها في أيديكم، فسكتوا، فقال: ألا تجيبوني، فقال رجل
منهم: فما بالك، قال: إني أريد أن أنتزعها منكم، فأردها إلى بيت مال المسلمين. فقال رجل منهم: والله لا يكون ذلك حتى يحال بين رؤوسنا وأجسادنا، والله لا نكفر
أسلافنا، ولا نفقر أولادنا. فقال عمر: والله لولا أن تستعينوا علي بمن أطلب هذا الحق له لأضرعت خدودكم، قوموا عني. وروى عبد الله بن محمد التيمي، قال:
كان بنو أمية ينزلون عاتكة بنت مروان بن الحكم على أبواب قصورهم، وكانت جليلة
الموضع عندهم، فلما ولي عمر قال: لا يلي إنزالها أحد غيري، فأدخلوها على دابتها
إلى باب قبته، فأنزلها، ثم طبق لها وسادتين، إحداهما على الأخرى، ثم أنشأ يمازحها، ولم يكن من شأنه ولا من شأنها المزاح
فقال: أما رأيت الحرس الذين على الباب، فقالت: بلى، وربما رأيتهم عند من هو خير
منك، فلما رأى الغضب لا يتحلل عنها ترك المزاح وسألها أن تذكر حاجتها، فقالت: إن قرابتك يشكونك، ويزعمون أنك أخذت منهم خير غيرك،
قال: ما منعتهم شيئاً هو لهم، ولا أخذت منهم حقاً يستحقونه، قالت: إني أخاف أن يهيجوا عليك يوماً عصيباً، وقال: كل
يوم أخافه، دون يوم القيامة، فلا وقاني الله شره. ثم دعا بدينار ومجمرة وجلد فألقى الدينار في النار،
وجعل ينفخ حتى احمر، ثم تناوله بشيء فأخرجه فوضعه على الجلد، فنشق وفتر، فقال: يا عمة، أما تأوين لابن أخيك، من مثل هذا، فقامت
فخرجت إلى بني مروان فقالت: تزوجون في آل عمر بن
الخطاب، فإذا نزعوا إلى الشبه جزعتم، اصبروا له. فخرج عنبسة، فلما صار إلى الباب ناداه:
أبا خالد، أبا خالد، فرجع فقال: أكثر ذكر الموت فإن كنت
في ضيق من العيش وسعه عليك، وإن كنت في سعة من العيش ضيقه عليك. قال: أنشدكما الله الذي إليه تعودان، لو أن رجلاً
هلك وترك بنين أصاغر وأكابر، فغر الأكابر الأصاغر بقوتهم، فأكلوا أموالهم، ثم
بلغ الأصاغر الحلم فجاء وكما بهم وبما صنعوا في أموالهم ما كنتما صانعين، قالا: كنا نرد عليهم حقوقهم حتى يستوفوها. قال: فإني وجدت كثيراً ممن كان قبلي من الولاة غر الناس بسلطانه
وقوته، وآثر بأموالهم أتباعه وأهله ورهطه وخاصته،
فلما وليت أتوني بذلك، فلم يسعني إلا الرد على الضعيف
من القوي، وعلى الدنيء من الشريف. فقالا: يوفق الله أمير المؤمنين. فخذ بالحزم، واتهم في ذلك حسن الظن. واجعل نفسك جنةً دون ما أعطيت، فإنه ليس من فرائض
الله تعالى شيء الناس أشد عليه اجتماعاً مع تفرق أهوائهم، وتشتت آرائهم، من
تعظيم الوفاء بالعهود، وقد لزم ذلك المشركون فيما بينهم دون المسلمين، لما
استوبلوا من عواقب الغدر. والصواب أن شيء، اسم ليس، وجاز ذلك وإن كان نكرةً
لاعتماده على النفي، ولأن الجار والمجرور قبله لا موضع الحال كالصفة، فتخصص بذلك
وقرب من المعرفة، والناس: مبتدأ، وأشد: خبره، وهذه الجملة المركبة من مبتدأ وخبر
في موضع رفع لأنها صفة شيء، وأما خبر المبتدأ الذي هو شيء، فمحذوف، وتقديره في
الوجود، كما حذف الخبر في قولنا: لا إله إلا الله، أي في الوجود. وليس يصح ما قال الراوندي من أن أشد مبتدأ ثان، و من
تعظيم الوفاء خبره، لأن حرف الجر إذا كان خبراً لمبتدأ تعلق بمحذوف،
وههنا هو متعلق بأشد نفسه، فكيف يكون خبراً عنه، وأيضاً
فإنه لا يجوز أن يكون أشد من تعظيم الوفاء خبراً عن الناس، كما زعم الراوندي، لأن
ذلك كلام غير مفيد، ألا ترى أنك إذا أردت أن تخبر بهذا الكلام عن المبتدأ الذي
هو الناس، لم يقم من ذلك صورة محصلة تفيدك شيئاً، بل يكون كلاماً مضطرباً. ولا مدالسة، أي لا خديعة، يقال:
فلان لا يوالس ولا يدالس، أي لا يخادع ولا يخون، وأصل الدلس الظلمة، والتدليس في
البيع: كتمان عيب السلعة عن المشتري. ونهاه إذا عقد العقد بينه وبين العدو أن ينقضه
معولاً على تأويل خفي أو فحوى قول، أو يقول:
إنما عنيت كذا، ولم أعن ظاهر اللفظة، فإن العقود إنما تعقد على ما هو ظاهر في
الاستعمال متداول في الإصطلاح والعرف لا على ما في الباطن. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
بعض ما جاء في الحذر من كيد العدو والنهي عن الغدر.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قد جاء في الحذر من كيد
العدو والنهي عن التفريط في الرأي والسكون إلى ظاهر السلم أشياء كثيرة، وكذا في النهي عن الغدر والنهي عن طلب
تأويلات العهود وفسخها بغير الحق. فزوجوه بامرأة منهم، فقال لهم: إني لا أقيم فيكم
حتى أخبركم بأخلاقي، أنا فخور غيور أنف، ولست أفخر حتى أبتلى، ولا أغار حتى أرى،
ولا آنف حتى أظلم. فرضوا أخلاقه، فأقام فيهم حتى ولد له، ثم أراد أن يتحول عنهم،
فقال: يا معشر النمر، إن لكم حقاً علي في مصاهرتي فيكم، ومقامي بين أظهركم، وإني
موصيكم بخصال آمركم بها، وأنهاكم عن خصال: عليكم بالأناة فإن بها تدرك الحاجة،
وتنال الفرصة، وتسويد من لا تعابون بتسويده، والوفاء بالعهود فإن به يعيش الناس،
وعطاء ما تريدون إعطاءه قبل المسألة، ومنع ما تريدون منعه قبل الإنعام، وإجارة
الجار على الدهر، وتنفيس البيوت عن منازل الأيامى، وخلط الضيف بالعيال. وأنهاكم
عن الغدر، فإنه عار الدهر، وعن الرهان فإن به ثكلت مالكاً أخي، وعن البغي فإن به
صرع زهير أبي، وعن السرف في الدماء، فإن قتلي أهل الهباءة أورثني العار. ولا تعطوا في الفضول فتعجزوا عن الحقوق، وأنكحوا
الأيامى الأكفاء فإن لم تصيبوا بهن الأكفاء فخير بيوتهن القبور. وأعلموا أني
أصبحت ظالماً ومظلوماً، ظلمني بنو بدر بقتلهم مالكاً، وظلمتهم بقتلي من لا ذنب
له. ثم رحل
عنهم إلى غمار فتنصر بها، وعف عن المآكل حتى أكل الحنظل إلى أن مات. والخطأ
على
وجهين: خطأ في القصد، وهو أن يرمي شخصاً يظنه
صيداً، فإذا هو آدمياً، وخطأ في الفعل، وهو أن
يرمي غرضاً فيصيب آدمياً، وموجب النوعين جميعاً الكفارة والدية على العاقلة، ولا
مأثم فيه. وكان
بعض الصالحين يقول إذا أطراه إنسان: ليسألك الله
عن حسن ظنك. وقال أبو مقاتل الضرير: قلت لأعرابي: قد أكثر الناس في المواعيد؛ فما قولك
فيها؟ فقال: بئس الشيء! الوعد مشغلة للقلب
الفارغ، متعبة للبدن الخافض، خيره غائب، وشره حاضر. وفي الحديث المرفوع: عدة المؤمن كأخذٍ باليد، فأما أمير المؤمنين رضي الله عنه فقال: إنه يوجب
المقت، واستشهد عليه بالآية. والمقت: البغض.
ومنها نهيه عن اللجاجة في الحاجة إذا تعذرت؛ كان يقال: من لاج الله فقد جعله
خصماً، ومن كان الله خصمه فهو مخصوم، قال الغزي:
ومنها نهيه له عن الوهن فيها إذا استوضحت، أي وضحت وانكشفت، ويروى: واستوضحت،
فعل ما لم يسم فاعله، والوهن فيها إهمالها وترك انتهاز الفرصة فيها، قال الشاعر:
ومنها نهيه عن الاستئثار، وهذا هو الخلق النبوي، غنم رسول الله صلى الله عليه وسلم، غنائم خيبر، وكانت ملء الأرض نعماً،
فلما ركب راحلته وسار تبعه الناس يطلبون الغنائم وقسمها، وهو ساكت لا يكلمهم،
وقد أكثروا عليه إلحاحاً وسؤالاً، فمر بشجرة فخطفت رداءه، فالتفت فقال: ردوا علي
ردائي، فلو ملكت بعدد رمل تهامة مغنماً لقسمته بينكم عن آخره ثم لا تجدونني
بخيلاً ولا جباناً، ونزل وقسم ذلك المال عن آخره عليهم
كله، لم يأخذ لنفسه منه وبرةً. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
بعض ما ورد من وصايا العرب.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وينبغي أن يذكر في هذا الموضع وصايا من كلام قوم من رؤساء العرب
أوصوا بها أولادهم ورهطهم، فيها آداب حسان، وكلام فصيح، وهي مناسبة لعهد أمير
المؤمنين رضي الله عنه هذا، ووصاياه المودعة فيه، وإن كان كلام أمير المؤمنين
رضي الله عنه أجل وأعلى من أن يناسبه كلام، لأنه قبس من نور الكلام الإلهي، وفرع
من دوحة المنطق النبوي. يا مالك، المنية ولا الدنية، والعتاب قبل
العقاب، والتجلد لا التبلد، وأعلم أن القبر خير من الفقر، ومن لم يعط قاعداً حرم
قائماً، وشر الشرب الاشتفاف وشر الطعم الاقتفاف، وذهاب البصر، خير من كثير من
النظر، ومن كرم الكريم الدفع عن الحريم، ومن قل ذل، وخير الغنى القناعة، وشر
الفقر الخضوع. الدهر صرفان: صرف رخاء، وصرف بلاء؛ واليوم
يومان: يوم لك ويوم عليك، فإذا كان لك فلا تبطر، وإذا كان عليك فاصطبر،
وكلاهما سينحسر وكيف بالسلامة، لمن ليست له إقامة، وحياك ربك. كونوا جميعاً، ولا تفرقوا فتكونوا شيعاً، وبزوا قبل أن تبزوا، فموت في عز،
خير من حياة في ذل وعجز، وكل ما هو كائن كائن، وكل جمع إلى تباين، والدهر صرفان:
صرف بلاء، وصرف رخاء، واليوم يومان: يوم حبرة،
ويوم عبرة، والناس رجلان: رجل لك، ورجل عليك.
زوجوا النساء الأكفاء، وإلا فانتظروا بهن القضاء، وليكن أطيب طيبهن الماء،
وإياكم والورهاء، فإنها أدوا الداء، وإن ولدها إلى أفن يكون. لا راحة لقاطع
القرابة. وإذا اختلف القوم أمكنوا عدوهم، وآفة العدد اختلاف الكلمة، والتفضل بالحسنة يقي السيئة، والمكافأة
بالسيئة دخول فيها، وعمل السوء يزيل
النعماء، وقطيعة الرحم تورث الهم، وانتهاك الحرمة يزيل النعمة، وعقوق
الوالدين يعقب النكد، ويخرب البلد، ويمحق العدد، والإسراف في النصيحة، هو الفضيحة، والحقد
منع الرفد، ولزوم الخطيئة يعقب البلية، وسوء الدعة يقطع أسباب المنفعة، والضغائن تدعو إلى التباين، يا بني إني قد أكلت مع
أقوام وشربت، فذهبوا وغبرت، وكأني بهم قد لحقت، ثم قال:
وصى أكثم بن صيفي بنيه ورهطه فقال: يا بني تميم، لا يفوتنكم وعظي، إن فاتكم الدهر بنفسي، إن
بين حيزومي وصدري لكلاماً لا أجد له مواقع إلا أسماعكم ولا مقار إلا قلوبكم، فتلقوه بأسماع مصغية، وقلوب واعية، تحمدوا مغبته: الهوى يقظان، والعقل راقد، والشهوات مطلقة، والحزم معقول،
والنفس مهملة، والروية مقيدة، ومن جهة التواني وترك الروية يتلف الحزم، ولن يعدم
المشاور مرشداً، والمستبد برأيه موقوف على مداحض الزلل، ومن سمع سمع به، ومصارع
الرجال تحت بروق الطمع، ولو اعتبرت مواقع المحن ما وجدت إلا في مقاتل الكرام،
وعلى الاعتبار طريق الرشاد، ومن سلك الجدد أمن العثار، ولن يعدم الحسود أن يتعب
قلبه، ويشغل فكره، ويورث غيظه، ولا تجاوز مضرته نفسه. يا بني تميم، الصبر على
جرع الحلم أعذب من جنا ثمر الندامة، ومن جعل عرضه دون ماله استهدف للذم، وكلم
اللسان أنكى من كلم السنان، والكلمة مرهونة ما لم تنجم من الفم، فإذا نجمت مزجت،
فهي أسد محرب، أو نار تلهب، ورأي الناصح اللبيب دليل لا يجوز، ونفاذ الرأي في
الحرب، أجدى من الطعن والضرب.
وانظر هذا الحي من ربيعة فإنهم شيعتك وأنصارك، فاقض حقوقهم، وانظر هذا الحي من تميم
فأمطرهم ولا تزه لهم، ولا تدنهم فيطمعوا، ولا تقصهم فيقطعوا، وانظر هذا الحي من
قيس فإنهم أكفاء قومك في الجاهلية، ومناصفوهم المآثر في الإسلام، ورضاهم منك
البشر. يا بني إن لأبيك صنائع فلا تفسدها، فإنه كفى بالمرء نقصاً أن يهدم ما بنى
أبوه، وإياك والدماء فإنه لا تقية معها، وإياك وشتم
الأعراض فإن الحر لا يرضيه عن عرضه عوض، وإياك وضرب الأبشار فإنه عار
باقي، ووتر مطلوب، واستعمل على النجدة والفضل دون الهوى، ولا تعزل إلا عن عجز أو
خيانة. ولا ممنعك من اصطناع الرجل أن يكون غيرك قد سبقك إليه، فإنك إنما تصطنع
الرجال لفضلها. وليكن صنيعك عند من يكافئك عنه العشائر. احمل
الناس على أحسن أدبك يكفوك أنفسهم. وإذا
كتبت كتاباً فأكثر النظر فيه، وليكن رسولك فيما بيني وبينك من يفقه عني وعنك،
فإن كتاب الرجل موضع عقله، ورسوله موضع سره. وأستودعك الله، فلا بد للمودع أن
يسكت، وللمشيع أن يرجع. وما
عفت من المنطق وقل من الخطيئة أحب إلى أبيك. وإياكم ومعصية الله وقطيعة الرحم، وتمسكوا
بطاعة أمرائكم فإنهم من رفعوا ارتفع، ومن وضعوا اتضع. وعليكم بهذا المال فأصلحوه،
فإنه منبهة للكريم، وجنة لعرض اللئيم. وإياكم والمسألة فإنها آخر كسب الرجل، وإن
أحداً لم يسأل إلا ترك الكسب، وإياكم والنياحة، فإني
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عنها، وادفنوني في ثيابي التي كنت أصلي
فيها وأصوم، ولا يعلم بكر بن وائل بمدفني فقد كانت بيني وبينهم مشاحنات في الجاهلية والإسلام، وأخاف
أن يدخلوا عليكم بي عاراً. وخذوا عني ثلاث خصال: إياكم وكل عرق لئيم أن تلابسوه فإنه إن يسرركم اليوم يسؤكم غداً،
واكظموا الغيظ، واحذروا بني أعداء آبائكم فإنهم على
منهاج آبائهم، ثم قال:
قال ابن الكلبي: فيحكي الناس هذا البيت سابقاً للزبير، وما هو إلا
لقيس بن عاصم. وأوصى عمرو بن كلثوم التغلبي بنيه فقال:
يا بني؛ إني قد بلغت من العمر ما لم يبلغ أحد من آبائي وأجدادي، ولا بد من أمر
مقتبل، وأن ينزل بي ما نزل بالأباء والأجداد والأمهات والأولاد، فاحفظوا عني ما أوصيكم به. إني والله ما عيرت رجلاً قط
أمراً إلا عيرني مثله؛ إن حقاً فحق، وإن باطلاً فباطل، ومن سب سب، فكفوا عن
الشتم فإنه أسلم لأعراضكم. وصلوا أرحامكم تعمر داركم، وأكرموا جاركم بحسن
ثنائكم، وزوجوا بنات العم بني العم فإن تعديتم بهن إلى الغرباء فلا تألوا بهن عن
الأكفاء. وأبعدوا بيوت النساء من بيوت الرجال، فإنه أغض للبصر، وأعف للذكر؛ ومتى
كانت المعاينة واللقاء، ففي ذلك داء من الأدواء، ولا خير فيمن لا يغار لغيره كما
يغار لنفسه، وقل من انتهك حرمةً لغيره إلا انتهكت حرمته. وامنعوا القريب من ظلم
الغريب، فإنك تدل على قريبك، ولا يجمل بك ذل غريبك، وإذا تنازعتم في الدماء فلا
يكن حقكم الكفاء، فرب رجل خير من ألف، وود خير من خلف، وإذا حدثتم فعوا، وإذا
حدثتم فأوجزوا، فإن مع الإكثار يكون الإهذار، وموت عاجل خير من ضنًى آجل، وما
بكيت من زمان إلا دهاني بعده زمان، وربما شجاني من لم يكن أمره عناني، وما عجبت
من أحدوثة إلا رأيت بعدها أعجوبة. واعلموا أن أشجع القوم العطوف، وخير الموت تحت
ظلال السيوف، ولا خير فيمن لا روية له عند الغضب، ولا فيمن إذا عوتب لم يعتب،
ومن الناس من لا يرجى خيره، ولا يخاف شره، فبكوءه خير من دره، وعقوقه خير من
بره، ولا تبرحوا في حبكم فإن من أبرح في حب آل ذلك إلى قبيح بغض، وكم قد زارني
إنسان وزرته، فانقلب الدهر بنا فقبرته. واعلموا أن الحليم سليم، وأن السفيه كليم، إني لم
أمت ولكن هرمت، ودخلتني ذلة فسكت، وضعف قلبي فأهترن، سلمكم ربكم وحياكم! ومن كتاب أردشير بن بابك إلى بنيه
والملوك من بعده: رشاد الوالي خير للرعية من خصب
الزمان، الملك والدين توءمان لا قوام لأحدهما إلا بصاحبه، فالدين أس الملك
وعماده، ثم صار الملك حارس الدين، فلا بد للملك من أسه، ولا بد للدين من حارسه، فأما
ما لا حارس له فضائع، وما لا أس له فمهدوم إن رأس ما أخاف عليكم مبادرة السفلة
إياكم إلى دراسة الدين وتأويله والتفقه فيه، فتحملكم الثقة بقوة الملك على
التهاون بهم، فتحدث في الدين رياسات منتشرات سراً فيمن قد وترتم وجفوتم، وحرمتم
وأخفتم، وصغرتم من سفلة الناس والرعية وحشو العامة، ثم لا تنشب تلك الرياسات أن
تحدث خرقاً في الملك ووهناً في الدولة. واعلموا أن سلطانكم إنما هو على أجساد
الرعية لا على قلوبها، وإن غلبتم الناس على ما في أيديهم فلن تغلبوهم على ما في
عقولهم وآرائهم ومكايدهم. واعلموا أن العاقل المحروم سال عليكم لسانه، وهو
أقطع سيفيه، وإن أشد ما يضر بكم من لسانه ما صرف الحيلة فيه إلى الدين، فكان
للدنيا يحتج، وللدين فيما يظهر يتعصب، فيكون للدين بكاؤه، وإليه دعاؤه، ثم هو
أوحد للتابعين والمصدقين والمناصحين والمؤازرين، لأن تعصب الناس موكل بالملوك،
ورحمتهم ومحبتهم موكله بالضعفاء المغلوبين، فاحذروا هذا المعنى كل الحذر. وكان إفساده أمرنا، وتفرقته جماعتنا، وتخريبه عمران
مملكتنا أبلغ له فيما أراد من سفك دمائنا، فلما أذن الله عز وجل في جمع مملكتنا،
وإعادة أمرنا، كان من بعثه إيانا ما كان. وبالاعتبار يتقى العثار، والتجارب الماضية دستور
يرجع إليه من الحوادث الآتية. أخوف ما يكون العامة آمن ما يكون
الوزراء، وآمن ما يكون العامة أخوف ما يكون الوزراء. ويتولد من
جبن الملك عن الرعية استعجالهم عليه، وهم أقوى عدو له وأخلقه بالظفر، لأنه حاضر
مع الملك في دار ملكه، فمن أفضى إليه الملك بعدي فلا يكونن بإصلاح جسده أشد
اهتماماً منه بهذه الحال، ولا تكونن لشيء من الأشياء أكره وأنكر لرأسٍ صار
ذنباً، وذنبٍ صار رأساً، ويد مشغولة صارت فارغةً، أو غني صار فقيراً، أو عامل
مصروف، أو أمير معزول. واعلموا أن سياسة الملك وحراسته ألا يكون ابن
الكاتب إلا كاتباً، وابن الجندي إلا جندياً، وابن التاجر إلا تاجراً، وهكذا في
جميع الطبقات، فإنه يتولد من تنقل الناس عن حالاتهم أن يلتمس كل امرىء منهم فوق
مرتبته، فإذا أنتقل أوشك أن يرى شيئاً أرفع مما انتقل إليه، فيحسد أو ينافس، وفي
ذلك من الضرر المتولد ما لا خفاء به، فإن عجز ملك منكم عن إصلاح رعيته كما
أوصيناه فلا يكون للقميص القمل أسرع خلعاً منه لما لبس من قميص ذلك الملك. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وكتب إلى طلحة والزبير مع عمران بن الحصين الخزاعي،
وذكر هذا الكتاب أبو جعفر الإسكافي في كتاب المقامات.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: أما بعد، فقد
علمتما، وإن كتمتما، أني لم أرد الناس حتى أرادوني، ولم أبايعهم حتى بايعوني؛
وإنكما ممن أرادني وبايعني، وإن العامة لم تبايعني لسلطا نٍ غالبٍ ، ولا لحرصٍ
حاضرٍ، فإن كنتما بايعتماني طائعين فارجعا وتوبا إلى
الله من قريبٍ، وإن كنتما بايعتماني كارهين فقد
جعلتما لي عليكما السبيل بإظهاركما الطاعة وإسراركما المعصية. ولعمري ما كنتما بأحق المهاجرين بالتقية والكتمان. وإن دفعكما هذا الأمر قبل أن تدخلا فيه كان أوسع
عليكما من خروجكما منه بعد إقراركما به. وقد زعمتما أني قتلت عثمان، فبيني وبينكما من
تخلف عني وعنكما من أهل المدينة، ثم يلزم كل امرىءٍ بقدر ما احتمل. فارجعا أيها
الشيخان عن رأيكما؛ فإن الآن أعظم أمركما العار، من قبل أن يجتمع العار والنار
والسلام. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
عمران بن الحصين ونسبه.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الشرح: هو عمران بن
الحصين بن عبيد بن خلف بن عبد بن نهم بن سالم بن غاضرة بن سلول بن حبشية بن سلول
بن كعب بن عمرو الخزاعي. يكنى أبا بجيد بابنه بجيد
بن عمران. أسلم هو وأبو هريرة عام خيبر،
وكان من فضلاء الصحابة وفقهائهم، يقول أهل البصرة عنه:
إنه كان يرى الحفظة، وكانت تكلمه حتى اكتوى. واستقضاه عبد الله بن عامر بن كريز على البصرة فعمل له
أياماً، ثم استعفاه فأعفاه، ومات بالبصرة سنة
اثنتين وخمسين في أيام معاوية. قال: ولم يبايعني
العامة والمسلمون لسلطانٍ غصبهم وقهرهم على ذلك، ولا لحرص حاضر، أي مال موجود
فرقته عليهم. ثم قسم عليهما الكلام، فقال:
إن كنتما بايعتماني طوعاً عن رضا فقد وجب عليكما
الرجوع، لأنه لا وجه لانتقاض تلك البيعة، وإن كنتما بايعتماني مكرهين
عليها فالإكراه له صورةٌ، وهي أن يجرد السيف ويمد
العنق، ولم يكن قد وقع ذلك، ولا يمكنكما أن تدعياه، وإن كنتما بايعتماني
لا عن رضاً ولا مكرهين بل كارهين، وبين المكره
والكاره فرقٌ بين، فالأمور الشرعية إنما تبنى على
الظاهر، وقد جعلتما لي على أنفسكما السبيل بإظهاركما
الطاعة، والدخول فيما دخل فيه الناس، ولا اعتبار بما أسررتما من كراهية ذلك. على أنه لو كان عندي ما يكرهه المسلمون لكان المهاجرون في كراهية ذلك سواء؛ فما الذي جعلكما أحق المهاجرين كلهم بالكتمان والتقية!
ثم قال: وقد كان امتناعكما عن البيعة في مبدأ الأمر أجمل
من دخولكما فيها ثم نكثها. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وكتب إلى معاوية.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: أما بعد فإن
الله سبحانه جعل الدنيا لما بعدها، وابتلى فيها أهلها، ليعلم أيهم أحسن عملاً،
ولسنا للدنيا خلقنا، ولا بالسعي فيها أمرنا، وإنما وضعنا فيها لنبتلى بها، وقد
ابتلانى الله بك وابتلاك بي، فجعل أحدنا حجة على الآخر، فعدوت على طلب الدنيا
بتأويل القرآن، وطلبتني بما لم تجن يدي ولا لساني، وعصبته أنت وأهل الشام بي،
وألب عالمكم جاهلكم، وقائمكم قاعدكم. ثم ذكر أن كل واحد منه ومن معاوية مبتلى بصاحبه، وذلك كابتلاء
آدم بإبليس وإبليس بآدم. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن كلام له رضي الله عنه وصى به شريح بن هانئ لما
جعله علي مقدمته إلى الشام
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: اتق الله في
كل مساء وصباح، وخف على نفسك الدنيا الغرور، ولا تأمنها على حال. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
شريح بن هانئ.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الشرح:
هو شريح بن هانئ بن يزيد بن نهيك بن دريد بن سفيان بن الضباب، وهو سلمة بن
الحارث بن ربيعة بن الحارث بن كعب المذحجي. كان هانئ يكنى في
الجاهلية أبا الحكم، لأنه كان يحكم بينهم، فكناه
رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي تشريح، إذ وفد عليه، وابنه تشريح هذا من جلة أصحاب علي رضي الله عنه، شهد معه المشاهد كلها، وعاش حتى قتل
بسجستان في زمن الحجاج، وشريح جاهلي إسلامي، يكنى
أبا المقدام، ذكر ذلك كله أبو عمر بن عبد البر في كتاب الاستيعاب. والرادع:
الكاف المانع. والنزوات:
الوثبات. والحفيظة: الغضب. والواقم:
فاعل من وقمته أي رددته أقبح الرد وقهرته. يقول رضي الله عنه: إن لم تردع نفسك عن كثير من شهواتك أفضت بك إلى كثير من
الضرر، ومثل هذا قول الشاعر:
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وكتب إلى أهل الكوفة عند مسيره من المدينة إلى
البصرة.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: أما بعد،
فإني خرجت عن حيي هذا إما ظالماً وإما مظلوماً، وإما باغياً وإما مبغياً عليه،
وأنا أذكر الله من بلغه كتاكي هذا لما نفر إلي، فإن كنت محسناً أعانني، وإن كنت
مسيئاً استعتبني. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
من كتاب له إلى أهل الأمصار يقص فيه ما جرى بينه
وبين أهل صفين.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
وكان بدء أمرنا أنا التقينا بالقوم من أهل الشام، والظاهر أن ربنا واحد، ونبينا
واحد، ودعوتنا في الإسلام واحدة، ولا نستزيدهم في الإيمان بالله والتصديق برسوله
ولا يستزيدوننا، والأمر واحد إلا ما اختلفنا فيه من دم عثمان، ونحن منه براء،
فقلنا: تعالوا نداوي ما لا يدرك اليوم بإطفاء النائرة، وتسكين العامة، حتى يشتد
الأمر ويستجمع، فنقوى على وضع الحق في مواضعه، فقالوا: بل نداويه بالمكابرة،
فأبوا، حتى جنحت الحرب وركدت، ووقدت نيرانها وحمشت.
ومن
لم يروها بالواو فقد استراح من التكلف. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قوله:
والظاهر أن ربنا واحد، كلام من لم يحكم لأهل صفين من جانب معاوية حكماً قاطعاً
بالإسلام، بل قال: ظاهرهم الإسلام، ولا خلف بيننا وبينهم فيه، بل الخلف في دم
عثمان. وران بمعنى غلب وغطى، وروي فهو الراكس الذي رين على
قلبه. قال: وصارت دائرة السوء على رأسه، من ألفاظ القرآن العزيز، قال الله
تعالى: "عليهم دائرة السوء"، والدوائر: الدول. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وكتب إلى الأسود بن قطبة صاحب جند حلوان.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: أما بعد، فإن
الوالي إذا اختلف هواه منعة ذلك كثيراً من العدل، فليكن أمر الناس عندك في الحق
سواء، فإنه ليس في الجور عوض من العدل، فاجتنب ما تنكر أمثاله، وابتذل نفسك فيما
افترض الله عليك، راجياً ثوابه، ومتخوفاً عقابه. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأسود بن قطبة.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الشرح: لم أقف إلى
الآن على نسب الأسود بن قطبة، وقرأت في كثير من النسخ أنه حارثي من بني الحارث
بن كعب، ولم أتحقق ذلك، والذي يغلب على ظني أنه الأسود بن زيد بن قطبة بن غنم
الأنصاري من بني عبيد بن عدي. ذكره أبو عمر بن عبد البر
في كتاب الاستيعاب، وقال: إن موسى بن عقبة عده فيمن شهد بدراً. وقوله: إلا كانت
فرغته كلمة فصيحة، وهي المرة الواحدة من الفراغ، وقد
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن
الله يبغض الصحيح الفارغ لا في شغل الدنيا ولا في شغل الآخرة"، ومراد أمير
المؤمنين رضي الله عنه ههنا الفراغ من عمل
الآخرة خاصة. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وكتب إلى العمال الذين بطأ عملهم الجيوش.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: من عبد الله
علي أمير المؤمنين إلى من مر به الجيش من جباة الخراج وعمال البلاد: أما بعد،
فإني قد سيرت جنوداً هي مارة بكم إن شاء الله، وقد أوصيتهم بما يجب لله عليهم من
كف الأذى، وصرف الأذى، وأنا أبرأ إليكم وإلى ذمتكم من معرة الجيش، إلا من جوعة
المضطر لا يجد عنها مذهباً إلى شبعه، فنكلوا من تناول منهما ظلماً عن ظلمهم،
وكفوا أيدي سفهائكم عن مضادتهم، والتعرض لهم فيما استثنيناه منهم، وأنا بين أظهر
الجيش، فارفعوا إلي مظالمكم، وما عراكم مما يغلبكم من أمرهم ولا تطيقون دفعه إلا
بالله وبي، أغيره بمعونة الله. إن شاء الله. وجباة
الخراج: الذين يجمعونه، جبيت الماء في الحوض، أي جمعته. والشذى:
الضرب والشر، تقول: لقد أشذيت وآذيت. وإلى ذمتكم، أي إلى اليهود والنصارى الذين بينكم،
قال رضي الله عنه: من آذى ذمياً فكأنما آذاني،
وقال: إنما بذلوا الجزية لتكون دماؤهم كدمائنا، وأموالهم كأموالنا، ويسمى هؤلاء
ذمة، أي أهل ذمة، بحذف المضاف. والمعرة:
المضرة، قال: الجيش ممنوع من أذى من يمر به من المسلمين وأهل الذمة إلا من سد
جوعة المضطر منهم خاصة، لأن المضطر تباح له الميتة فضلاً عن غيرها. وعن في قوله: عن ظلمهم، يتعلق بنكلوا، لأنها في
معنى اردعوا، لأن النكال يوجب الردع. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وكتب إلى كميل بن زياد النخعي وهو عامله على هيت
ينكر عليه تركه دفع من يجتاز به من جيش العدو طالباً للغارة.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: أما بعد، فإن
تضييع المرء ما ولي، وتكلفه ما كفي، لعجز حاضر، ورأي متبر. وإن تعاطيك
الغارة على أهل قرقيسيا، وتعطيلك مسالحك التي وليناك، ليس لها من يمنعها، ولا
يرد الجيش عنها، لرأي شعاع، فقد صرت جسراً لمن أراد الغارة من أعدائك على
أوليائك، غير شديد المنكب، ولا مهيب الجانب، ولا ساد ثغرة، ولا كاسر لعدو شوكة،
ولا مغن عن أهل مصره، ولا مجز عن أميره. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
كميل بن زياد.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الشرح: هو كميل بن
زياد بن سهيل بن هيثم بن سعد بن مالك بن الحارث بن صهبان بن سعد بن مالك بن
النخع بن عمرو بن وعلة بن خالد بن مالك بن أدد. كان من أصحاب علي رضي الله عنه وشيعته وخاصته، وقتله
الحجاج على المذهب فيمن قتل من الشيعة. وكان كميل بن زياد عامل
علي رضي الله عنه على هيت، وكان ضعيفاً، يمر
عليه سرايا معاوية تنهب أطراف العراق ولا يردها، ويحاول أن يجبر ما عنده من
الضعف بأن يغير على أطراف أعمال معاوية مثل قرقيسيا وما يجري مجراها من القرى
التي على الفرات، فأنكر رضي الله عنه ذلك من فعله، وقال: إن من العجز الحاضر أن يهمل الوالي ما وليه،
ويتكلف ما ليس من تكليفه. ومجز: كاف ومغن، والأصل مجزىء بالهمز، فخفف. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وكتب إلى أهل مصر مع مالك الأشتر رحمه الله لما
ولاه إمارتها.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
أما بعد، فإن الله سبحانه بعث محمداً صلى الله عليه وأله وعلى صحبه وسلم نذيراً للعالمين، ومهيمناً على المرسلين،
فلما مض صلى الله عليه وأله وصحبه تنازع
المسلمون الأمر من بعده، فو الله ما كان يلقى في روعي، ولا يخطر ببالي أن العرب
تزعج هذا الأمر من بعده صلى الله عليه وأله وصحبه عن أهل بيته، ولا أنهم منحوه
عني من بعده، فما راعني إلا انثيال الناس على فلان يبايعونه، فأمسكت بيدي حتى
رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام، يدعون إلى محق دين محمد صلى الله عليه وأله وصحبه، فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو
هدماً، تكون المصيبة به علي أعظم من فوت ولايتكم، التي إنما هي متاع أيام قلائل،
يزول منها ما كان، كما يزول السراب، وكما يتقشع السحاب، فنهضت في تلك الأحداث
حتى زاح الباطل وزهق، واطمأن الدين وتنهنه. الشرح:
المهيمن: الشاهد، قال الله تعالى: "إنا
أرسلناك شاهداً ومبشراً"، أي تشهد بإيمان من آمن وكفر من كفر. وقيل:
تشهد بصحة نبوة الأنبياء قبلك. تنهنه: سكن، وأصله الكف، تقول: نهنهت السبع فتنهنه، أي كف عن حركته
وإقدامه، فكأن الدين كان متحركاً مضطرباً فسكن وكف عن ذلك الاضطراب. روى أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في التاريخ الكبير
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما مات اجتمعت أسد وغطفان وطيء على طليحة بن
خويلد إلا ما كان من خواص أقوام في الطوائف الثلاث، فاجتمعت أسد بسميراء، وغطفان
بجنوب طيبة وطيىء في حدود أرضهم، واجتمعت ثعلبة بن أسد ومن يليهم من قيس بالأبرق
من الربذة، وتأشب إليهم ناس من بني كنانة، ولم تحملهم البلاد، فافترقوا فرقتين: أقامت
إحداهما بالأبرق، وسارت الأخرى إلى
ذي القصة، وبعثوا وفوداً إلى أبي بكر يسألونه أن يقارهم
على إقامة الصلاة ومنع الزكاة، فعزم الله لأبي بكر على الحق، فقال: لو
منعوني عقالاً لجاهدتهم عليه. ورجع الوفود إلى قومهم فأخبروهم بقلة من أهل
المدينة، فأطمعوهم فيها وعلم أبو بكر والمسلمون بذلك،
وقال لهم أبو بكر: أيها المسلمون، إن الأرض كافرة، وقد
رأى وفدهم منكم قلة، وإنكم لا تدرون أليلاً تؤتون أم نهاراً، وأدناهم منكم على
بريد، وقد كان القوم يأملون أن نقبل منهم ونوادعهم، وقد أبينا عليهم، ونبذنا
إليهم، فأعدوا واستعدوا. فخرج علي رضي
الله عنه بنفسه، وكان على نقب من أنقاب
المدينة، خرج الزبير وطلحة وعبد الله بن مسعود وغيرهم فكانوا على الأنقاب
الثلاثة، فلم يلبثوا إلا قليلاً حتى طرق القوم المدينة غارة مع الليل، وخلفوا
بعضهم بذي حسى ليكونوا ردءاً لهم، فافوا الأنقاب وعليها المسلمون، فأرسلوا إلى أبي بكر بالخبر، فأرسل إليهم أن الزموا
مكانكم، ففعلوا، وخرج أبو بكر في جمع من أهل المدينة
على النواضح، فانتشر العدو بين أيديهم، واتبعهم المسلمون على النواضح حتى
بلغوا ذا حسى، فخرج عليهم الكمين بأنحاء قد نفخوها،
وجعلوا فيها الحبال، ثم دهدهوها بأرجلهم في وجوه الإبل، فتدهده كل نحي
منها في طوله فنفرت إبل المسلمين، وهم عليها، ولا تنفر الإبل من شيء نفارها من
الأنحاء، فعاجت بهم لا يملكونها حتى دخلت بهم المدينة، ولم يصرع منهم أحد ولم
يصب، فبات المسلمون تلك الليلة يتهيئون، ثم خرجوا على تعبية، فما طلع الفجر إلا وهم والقوم على صعيد واحد، فلم يسمعوا
للمسلمين حساً ولا همسأ حتى وضعوا فيهم السيف، فاقتتلوا أعجاز ليلتهم، فما ذر
قرن الشمس إلا وقد ولوا الأدبار وغلبوهم على عامة ظهرهم، ورجعوا إلى المدينة
ظافرين. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الرد علي الشيعة في طعنهم في إمامة أبي بكر.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وينبغي حيث جرى ذكر أبي بكر في كلام
أمير المؤمنين رضي
الله عنه أن
نذكر ما أورده قاضي القضاة في المغني، من المطاعن التي طعن بها فيه وجواب قاضي القضاة عنها، واعتراض المرتضى في الشافي على قاضي القضاة، ونذكر ما عندنا في ذلك، ثم نذكر مطاعن أخرى لم يذكرها قاضي القضاة. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الطعن الأول.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال قاضي القضاة بعد أن ذكر ما طعن
به فيه في أمر فدك، وقد سبق القول فيه. أجاب قاضي القضاة فقال: إن شيخنا أبا علي قال: لو كان ذلك
نقص، فيه لكان قول الله في آدم وحواء: "فوسوس
لهما الشيطان"، وقوله: "فأزلهما
الشيطان". وقوله: "وما
أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته"،
يوجب النقص في الأنبياء، وإذا لم يجب ذلك، فكذلك ما وصف به أبو بكر نفسه، وإنما
أراد أنه عند الغضب يشفق من المعصية ويحذر منها، ويخاف أن يكون الشيطان يعتريه
في تلك الحال فيوسوس إليه، وذلك منه على طريق الزجر لنفسه عن المعاصي، وقد روي عن أمير المؤمنين رضي
الله عنه أنه ترك مخاصمة الناس في حقوقه إشفاقاً
من المعصية، وكان يولي ذلك عقيلاً، فلما أسن عقيل كان يوليها عبد الله بن جعفر. فأما
ما روي في إقالة البيعة فهو خبر ضعيف، وإن صح فالمراد به التنبيه على أنه لا
يبالي لأمر يرجع إليه أن يقيله الناس البيعة، وإنما يضرون بذلك أنفسهم، وكأنه
نبه بذلك على أنه غير مكره لهم، وأذ قد خلاهم وما يريدون إلا أن يعرض ما يوجب
خلافه. وقد روي أن أمير المؤمنين رضي الله عنه أقال عبد الله بن عمر البيعة حين استقاله، والمراد بذلك أنه تركه وما
يختار. اعترض المرتضى رضي الله عنه فقال:
أما قول أبي بكر: وليتكم ولست بخيركم، فإن استقمت
فاتبعوني، وإن اعوججت فقوموني، فإن لي شيطاناً يعتريني عند غضبي، فإذا رأيتموني
مغضباً فاجتنبوني لا أؤثر في أشعاركم وأبشاركم، فإنه
يدل على أنه لا يصلح للإمامة من وجهين: أحدهما أن هذا صفة من ليس بمعصوم،
ولا يأمن الغلط على نفسه من يحتاج إلى تقويم رعيته له إذا وقع في المعصية، وقد بينا
أن الإمام لا بد أن يكون معصوماً موفقاً مسدداً، والوجه
الآخر أن هذه صفة من لا يملك نفسه، ولا يضبط غضبه، ومن هو في نهاية الطيش
والحدة والخرق والعجلة. ولا خلاف
أن الإمام يجب أن يكون منزهاً عن هذه الأوصاف، غير حاصل عليها وليس يشبه قول أبي
بكر ما تلاه من الآيات كلها. لأن أبا بكر خبر عن نفسه بطاعة الشيطان عند الغضب،
وأن عادته بذلك جارية، وليس هذا بمنزلة من يوسوس إليه الشيطان ولا يطيعه، ويزين
له القبيح فلا يأتيه، وليس وسوسة الشيطان بعيب على الموسوس له إذا لم يستزله ذلك
عن الصواب، بل هو زيادة في التكليف، ووجه يتضاعف معه الثواب، وقوله تعالى: "ألقى الشيطان في أمنيته"، قيل: معناه
في تلاوته، وقيل: في فكرته، على سبيل
الخاطر، وأي الأمرين كان، فلا عار في ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم ولا
نقص، وإنما العار والنقص على من يطيع الشيطان ويتبع ما يدعو إليه. وليس لأحد أن يقول: هذا إن سلم لكم في جميع الآيات
لم يسلم في قوله تعالى: "فأزلهما
الشيطان"، لأنه قد خبر عن تأثير غوايته ووسوسته بما كان منهما من
الفعل. وذلك أن المعنى الصحيح في هذه الآية
أن آدم وحواء كانا مندوبين إلى اجتناب الشجرة وترك التناول منها، ولم يكن ذلك
عليهما واجباً لازماً، لأن الأنبياء لا يخلون بالواجب، فوسوس لهما الشيطان حتى
تناولا من الشجرة، فتركا مندوباً إليه، وحرما بذلك أنفسهما الثواب، وسماه
إزلالاً، لأنه حط لهما عن درجة الثواب وفعل الأفضل، وقوله تعالى في موضع آخر: "وعصى آدم ربه فغوى"، لا ينافي هذا
المعنى، لأن المعصية قد يسمى بها من أخل بالواجب والندب معاً. قوله: فغوى
أي خاب من حيث لم يستحق الثواب على ما ندب إليه. على أن صاحب الكتاب يقول:
إن هذه المعصية من آدم كانت صغيرة لا يستحق بها عقاباً ولا ذماً، فعلى مذهبه
أيضاً تكون المفارقة بينه وبين أبي بكر ظاهرة، لأن أبا بكر خبر عن نفسه أن
الشيطان يعتريه حتى يؤثر في الأشعار والأبشار، ويأتي ما يستحق به التقويم، فأين
هذا من ذنب صغير لا ذم ولا عقاب عليه، وهو يجري من وجه من الوجوه مجرى المباح،
لأنه لا يؤثر في أحوال فاعله وحط رتبته، وليس يجوز أن يكون ذلك منه على سبيل الخشية
والإشفاق على ما ظن، لأن مفهوم خطابه يقتضي خلاف ذلك، ألا ترى أنه قال: إن لي
شيطاناً يعتريني وهذا قول من قد عرف عادته، ولو كان على سبيل الإشفاق والخوف
لخرج عن هذا المخرج، ولكان يقول: فإني لا آمن من كذا وإني لمشفق منه. فأما ترك أمير المؤمنين رضي الله عنه مخاصمة
الناس في حقوقه فكأنه إنما كان تنزهاً وتكرماً، وأي نسبة بين ذلك وبين من صرح
وشهد على نفسه بما لا يليق بالأئمة، وأما خبر استقالة البيعة وتضعيف صاحب الكتاب
له فهو أبداً يضعف ما لا يوافقه من غير حجة يعتمدها في تضعيفه. وقوله: إنه ما
استقال على التحقيق، وإنما نبه على أنه لا يبالي بخروج الأمر عنه، وأنه غير فكره
لهم عليه، فبعيد من الصواب، لأن ظاهر قوله أقيلوني أمر بالإقالة، وأقل أحواله أن
يكون عرضاً لها وبذلاً، وكلا الأمرين قبيح. ولو أراد ما ظنه لكان له في غير هذا القول مندوحة، ولكان يقول: إني ما أكرهتكم ولا حملتكم على
مبايعتي، وما كنت أبالي ألا يكون هذا الأمر في ولا إلي، وإن مفارقته لتسرني لولا
ما ألزمنيه الدخول فيه من التمسك به، ومتى عدلنا عن ظواهر الكلام بلا دليل، جر
ذلك علينا ما لا قبل لنا به. وأما أمير
المؤمنين رضي الله عنه فإنه
لم يقل ابن عمر البيعة بعد دخوله فيها وإنما استعفاه من أن يلزمه البيعة ابتداء
فأعفاه قلة فكر فيه، وعلماً بأن إمامته لا تثبت بمبايعة من يبايعه عليها، فأين
هذا من استقالة بيعة قد تقدمت واستقرت. قلت: أما قول، أبي بكر:
وليتكم ولست بخيركم فقد صدق عند كثير من أصحابنا، لأن
خيرهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومن لا
يقول بذلك يقول بما قاله الحسن البصري: والله
إنه ليعلم أنه خيرهم، ولكن المؤمن يهضم نفسه. ولم يطعن
المرتضى فيه بهذه اللفظة لنطيل القول فيها. وأما قول المرتضى عنه إنه قال:
فإن لي شيطاناً يعتريني عند غضبي، فالمشهور في
الرواية: فإن لي شيطاناً يعتريني، قال
المفسرون: أراد بالشيطان الغضب وسماه شيطاناً على طريق الاستعارة، وكذا ذكره شيخنا أبو الحسين في الغرر. قال معاوية لإنسان غضب في حضرته فتكلم بما لا يتكلم
بمثله في حضرة الخلفاء: أربع على ظلعك أيها الإنسان، فإنما الغضب شيطان، وإنا لم
نقل إلا خيراً. أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله
ورسوله فلا طاعة لي عليكم، قوموا إلى صلاتكم رحمكم الله. ألا وإن لي شيطاناً يعتريني،
فإذا غضبت فاجتنبوني لا أؤثر في أشعاركم وأبشاركم. ألا وإنكم تغدون وتروحون في أجل قد غيب عنكم علمه،
فإن استطعتم ألا يمضي هذا الأجل إلا وأنتم في عمل صالح فافعلوا، ولن تستطيعوا
ذلك إلا بالله. فسابقوا في
مهل آجالكم من قبل أن تسلمكم آجالكم إلى إنقطاع الأعمال، فإن قوماً نسوا آجالهم،
وجعلوا أعمالهم لغيرهم، فأنهاكم أن تكونوا أمثالهم. الجد الجد، الوحا الوحا، فإن
وراءكم طالباً حثيثاً، أجل مره سريع. احذروا الموت، واعتبروا بالآباء والأبناء والإخوان،
ولا تغبطوا الأحياء إلا بما يغبط به الأموات. وأين الملوك الذين أثاروا الأرض وعمروها، قد بعدوا
بسيىء ذكرهم، وبقي ذكرهم وصاروا كلا شيء. ألا إن
الله قد أبقى عليهم التبعات، وقطع عنهم الشهوات ومضوا والأعمال أعمالهم، والدنيا
دنيا غيرهم، وبقينا خلفاً من بعدهم، فإن نحن اعتبرنا بهم نجونا، وإن اغتررنا كنا
مثلهم. أين الوضاء الحسنة وجوههم، المعجبون بشبابهم، صاروا تراباً، وصار ما
فرطوا فيه حسرة عليهم، أين الذين بنوا المدائن وحصنوها بالحوائط، وجعلوا فيها
العجائب، وتركوها لمن خلفهم، فتلك مساكنهم خاوية، وهم في ظلم القبور، "هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزاً"، أين
من تعرفون من آبائكم وإخوانكم، قد انتهت بهم آجالهم فوردوا على ما قدموا عليه،
وأقاموا للشقوة وللسعادة. ألا إن الله لا شريك له، ليس بينه وبين أحد من خلقه
سبب يعطيه به خيراً، ولا يصرف عنه به شر: إلا بطاعته واتباع أمره، واعلموا أنكم
عباد مدينون، وأن ما عنده لا يدرك إلا بتقواه وعبادته. ألا وإنه
لا خير بخير بعده النار ولا شر بشر بعده الجنة. فهذه خطبتا أبي بكر يوم السقيفة،
واليوم الذي يليه، إنما قال: إن لي شيطاناً يعتريني، وأراد
بالشيطان الغضب، ولم يرد أن له شيطاناً من مردة
الجن يعتريه إذا غضب فالزيادة فيما ذكره المرتضى في قوله: إن لي شيطاناً
يعتريني عند غضبي، تحريف لا محالة، ولو كان له شيطان من الجن يعتاذه وينوبا لكان
في عداد المصروعين من المجانين، وما ادعى أحد على أبي بكر هذا لا من أوليائه ولا
من أعدائه، وإنما ذكرنا خطبته على طولها والمراد منها كلمة واحدة، لما فيها من
الفصاحة والموعظة على عادتنا في الاعتناء بإيداع هذا الكتاب ما كان ذاهباً هذا
المذهب، وسالكاً هذا السبيل. وليس قوله:
فاجتنبوني لا أؤثر في أشعاركم وأبشاركم محمول على ظاهره، وإنما أراد به المبالغة
في وصف القوة الغضبية عنده، وإلا فما سمعنا ولا نقل
ناقل من الشيعة ولا من غير الشيعة أن أبا بكر في أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في الجاهلية ولا في أيام خلافته أحتد على إنسان فقام إليه فضربه
بيده ومزق شعره. وليس بجيد قول المرتضى: إنه لو كان يريد العرض
والبذل لكان قد قال كذا وكذا، فإن هذه
مضايقة منه شديدة للألفاظ، ولو شرعنا في مثل هذا لفسد أكثر ما يتكلم به الناس. على أنا لو سلمنا أنه استقالهم
البيعة حقيقةً، فلم قال
المرتضى: إن ذلك لا يجوز، أليس يجوز للقاضي
أن يستقيل من القضاء بعد توليته إياه، ودخوله فيه، فكذلك يجوز للأمام أن
يستقيل من الإمامة إذا أنس من نفسه ضعفاً عنها، أو أنس من رعيته نبوة عنه، أو
أحس بفساد ينشأ في الأرض من جهة ولايته على الناس، ومن يذهب إلى أن الإمامة تكون
بالاختيار كيف يمنع من جواز استقالة الإمام وطلبه إلى الأمة أن يختاروا غيره
لعذر يعلمه من حال نفسه، وإنما يمنع من ذلك المرتضى
وأصحابه القائلون بأن الإمامة بالنص، وإن الإمام محرم عليه ألا يقوم
بالإمامة، لأنه مأمور بالقيام بها لتعينه خاصة دون كل أحد من المكلفين. وأصحاب الاختيار يقولون: إذا لم يكن زيد إماماً كان
عمرو إماماً عوضه، لأنهم لا يعتبرون الشروط التي يعتبرها الإمامية من العصمة، وأنه أفضل أهل عصره وأكثرهم ثواباً وأعلمهم وأشجعهم، وغير ذلك
من الشروط التي تقتضي تفرده وتوحده بالأمر، على أنه إذا جاز عندهم أن يترك
الإمام الإمامة في الظاهر كما فعله الحسن، وكما فعله غيره من الأئمة بعد
الحسين رضي الله عنه
للتقية، جاز للإمام على مذهب أصحاب الاختيار أن يترك الإمامة ظاهراً وباطناً
لعذر يعلمه من حال نفسه أو حال رعيته. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الطعن الثاني
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال قاضي القضاة بعد أن ذكر قول عمر:
كانت بيعة أبي بكر فلتة، وقد تقدم منا القول في ذلك
في أول هذا الكتاب: ومما طعنوا به على أبي بكر أنه قال، عند موته: ليتني كنت سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثلاثة، فذكر في
أحدها: ليتني كنت سألته: هل للأنصار في هذا الأمر حق؟ قالوا،
وذلك يدل على شكه في صحة بيعته، وربما قالوا: قد
روي أنه قال في مرضه: ليتني كنت تركت بيت فاطمة لم أكشفه، وليتني في ظلة
بني ساعدة كنت ضربت على يد أحد الرجلين، فكان هو الأمير، وكنت الوزير. قالوا: وذلك يدل على ما روي من إقدامه على بيت فاطمة عليها
السلام عند اجتماع علي رضي الله عنه والزبير وغيرهما فيه، ويدل على أنه كان يرى الفضل لغيره لا لنفسه. ثم حمل تمنيه على أنه أراد سماع شيء مفصل، أو أراد:
ليتني سألته عند الموت، لقرب العهد، لأن ما قرب عهده لا ينسى ويكون أردع للأنصار
على ما حاولوه. ثم قال: على أنه ليس في ظاهره أنه تمنى أن يسأل: هل
لهم حق في الإمامة أم لا، لأن الإمامة قد يتعلق بها حقوق سواها. ثم دفع
الرواية المتعلقة ببيت فاطمة مللي، وقال: فأما
تمنيه أن يبايع غيره، فلو ثبت لم يكن ذماً لأن من اشتد التكليف عليه فهو يتمنى
خلافه. اعترض المرتضى رحمه الله هذا الكلام
فقال:
ليس يجوز أن يقول أبو بكر: ليتني كنت سألت عن كذا. إلا مع الشك والشبهة، لأن مع العلم
واليقين لا يجوز مثل هذا القول، هكذا يقتضي الظاهر، فأما قول إبراهيم عليه السلام، فإنما ساغ أن يعدل
عن ظاهره لأن الشك لا يجوز على الأنبياء، ويجوز على
غيرهم، على أنه عليه السلام قد
نفى عن نفسه الشك بقوله: "بلى ولكن ليطمئن قلبي"،
وقد قيل: إن نمرود قال له: إذا كنت تزعم أن
لك رباً يحيى الموتى فاسأله أن يحيي لنا ميتاً إن كان على ذلك قادراً، فإن لم
تفعل ذلك قتلتك، فأراد بقوله: "ولكن ليطمئن
قلبي"، أي لآمن توعد عدوك لي بالقتل. وقد يجوز أن يكون طلب ذلك لقومه وقد سألوه أن يرغب
إلى الله تعالى فيه فقال: ليطمئن قلبي إلى إجابتك
لي، وإلى إزاحة علة قومي، ولم يرد:
ليطمئن قلبي إلى أنك تقدر على أن تحيي الموتى، لأن
قلبه قد كان بذلك مطمئناً، وأي شيء يريد أبو
بكر من التفصيل أكثر من قوله: إن هذا الأمر لا يصلح إلا لهذا الحي من
قريش، وأي فرق بين ما يقال عند الموت وبين ما يقال قبله إذا كان محفوظاً
معلوماً، لم ترفع كلمة ولم تنسخ. وأي حق يجوز أن يكون للأنصار في الإمامة غير أن
يتولاها رجل منهم حتى يجوز أن يكون الحق الذي تمنى أن يسأل عنه غير الإمامة، وهل هذا إلا تعسف وتكلف، وأي شبهة تبقى بعد قول أبي بكر:
ليتني كنت سألته: هل للأنصار في هذا الأمر حق فكنا لا ننازعه أهله، ومعلوم أن
التنازع لم يقع بينهم إلا في الإمامة نفسها، لا في حق آخر من حقوقها. قوله:
إن إبراهيم قد نفى عن نفسه الشك بقوله: "بلى
ولكن ليطمئن قلبي"، قلنا: إن
أبا بكر قد نفى عن نفسه الشك بدفع الأنصار عن الإمامة وإثباتها في قريش خاصة،
فإن كانت لفظة بلى دافعة لشك إبراهيم الذي يقتضيه قوله: "ولكن ليطمئن قلبي"، ففعل أبي بكر وقوله يوم السقيفة
يدفع الشك الذي يقتضيه قوله: ليتني سألته، ولا فرق في دفع الشك بين أن يتقدم
الدافع أو يتأخر أو يقارن. ثم يقال للمرتضى ألست في هذا الكتاب،
وهو الشافي، بينت أن قصة السقيفة لم يجر فيها ذكر نص
في رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الأئمة من قريش، وأنه لم يكن هناك إلا احتجاج أبي بكر وعمر لأن
قريشاً أهل النبي صلى الله عليه وسلم وعشيرته، وأن العرب لا تطيع غير قريش، وذكرت عن الزهري وغيره أن
القول الصادر عن أبي بكر: إن هذا الأمر لا يصلح إلا لهذا الحي
من قريش، ليس نصاً مروياً عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم، وإنما هو قول قاله أبو بكر من تلقاء
نفسه، ورويت في ذلك الروايات، ونقلت من الكتب من تاريخ
الطبري وغيره صورة الكلام والجدال الدائر بينه وبين الأنصار، فإذا كان هذا قولك
فلم تنكر على أبي بكر قوله: ليتني كنت سألت رسول الله صلى
الله عليه وسلم: هل للأنصار في هذا الأمر حق، لأنه لم يسمع النص ولا رواه ولا روي له، وإنما
دفع الأنصار بنوع من الجدل، فلا جرم بقي في نفسه شيء من ذلك، وقال عند موته: ليتني كنت سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وليس ذلك مما يقتضي شكه في بيعته كما زعم الطاعن،
لأنه إنما يشك في بيعته لو كان قال قائل أو ذهب ذاهب إلى أن الإمامة ليست إلا في
الأنصار، ولم يقل أحد ذلك، بل النزاع كان في هل الإمامة مقصورة على قريش خاصة،
أم هي فوضى بين الناس كلهم، وإذا كانت الحال هذه لم يكن شاكاً في إمامته وبيعته
بقوله: ليتني سألت رسول الله صلى الله عليه
وسلم هل
للأنصار في هذا حق؟ لأن بيعته على كلا التقديرين تكون صحيحة. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الطعن الثالث.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قالوا:
إنه ولى عمر الخلافة، ولم يوله رسول الله صلى
الله عليه وسلم شيئاً من
أعماله البتة إلا ما ولاه يوم خيبر، فرجع منهزماً وولاه الصدقة، فلما شكاه
العباس عزله. اعترض المرتضى رحمه الله فقال:
قد علمنا بالعادة أن من ترشح الكبار الأمور لا بد من أن يدرج إليها بصغارها، لأن
من يريد بعض الملوك تأهيله للأمر من بعده لا بد من أن ينبه عليه بكل قول وفعل
يدل على ترشيحه لهذه المنزلة، ويستكفيه من أمور ولاياته ما يعلم عنده أو يغلب
على ظنه صلاحه لما يريده له. وإن من يرى الملك مع حضوره وامتداد الزمان وتطاوله
لا يستكفيه شيئاً من الولايات، ومتى ولاه عزله، وإنما يولي غيره ويستكفي سواه،
لا بد إن يغلب في الظن أنه ليس بأهل للولاية، وإن جوزنا أنه لم يوله لأسباب
كثيرة سوى أنه لا يصلح للولاية، إلا أن مع هذا التجويز لا بد أن يغلب على الظن
بما ذكرناه. فأما خالد وعمرو فإنما لم يصلحا للإمامة لفقد شروط
الإمامة فيهما، وإن كانا يصفحان لما ولياه من الإمارة، فترك الولاية مع امتداد
الزمان وتطاول الأيام، وجميع الشروط التي ذكرناها تقتضي غلبة الظن لفقد الصلاح،
والولاية لشيء لا تدل على الصلاح لغيره إذا كانت الشرائط في القيام بذلك الغير
معلوماً فقدها. وقد نجد
الملك يولي بعض أموره من لا يصلح للفلك بعده لظهور فقد الشرائط فيه، ولا يجوز أن
يكون بحضرته من يرشحه للملك بعده، ثم لا يوليه على تطاول الزمان شيئاً من
الولايات. فبان الفرق بين الولاية وتركها فيما ذكرناه. فأما قوله:
إنه لم يعثر على عمر بتقصير في الولاية، فمن سلم بذلك، أو ليس يعلم أن مخالفته
تعد تقصيراً كثيراً، ولو لم يكن إلا ما اتفق عليه من خطئه في الأحكام ورجوعه من
قول إلى غيره، واستفتائه الناس في الصغير والكبير، وقوله: كل الناس أفقه من عمر،
لكان فيه كفاية. وليس كل النهوض بالإمامة يرجع إلى حسن التدبير
والسياسة الدنياوية ورم الأعمال والاستظهار في جباية الأموال وتمصير الأمصار
ووضع الأعشار، بل حظ الإمامة من العلم بالأحكام والفتيا بالحلال والحرام، والناسخ
والمنسوخ، والمحكم والمتشابه أقوى، فمن قصر في هذا لم ينفعه أن يكون كاملاً في
ذلك. فأما قوله:
فهلا دل ما روي من قوله رضي الله عنه: فإن
وليتم عمر وجدتموه قوياً في أمر الله قوياً في بدنه، فهذا لوثبت لدل، وقد تقدم
القول عليه، وأقوى ما يبطله عدول أبي بكر عن ذكره، والاحتجاج به لما أراد النص
على عمر، فعوتب على ذلك وقيل له: ما تقول لربك إذ وليت علينا فظاً غليظاً، فلو كان صحيحاً لكان يحتج به ويقول: وليت عليكم من شهد
النبي صلى الله عليه وسلم بأنه
قوي في أمر الله، قوي في بدنه. وقد قيل في الطعن على صحة هذا الخبر: إن
ظاهره يقتضي تفضيل عمر على أبي بكر، والإجماع بخلاف
ذلك، لأن القوة في الجسم فضل، قال الله تعالى: "إن
الله اصطفاه عليكم وزاده بسطةً في العلم والجسم". وبعد، فكيف يعارض ما اعتمدناه من عدوله رضي الله عنه عن
ولايته، وهو أمر معلوم، بهذا الخبر المردود المدفوع، قلت: أما ما ادعاه من عادة
الملوك، فالأمر بخلافه، فإنا قد وقفنا على سير الأكاسرة وملوك الروم وغيرهم فما
سمعنا أن أحداً منهم رشح ولده للملك بعده باستعماله على طرف من الأطراف، ولا جيش
من الجيوش، وإنما كانوا يثقفونهم بالآداب والفروسية في مقار ملكهم لا غير، والحال
في ملوك الإسلام كذلك، فقد سمعنا بالدولة الأموية، ورأينا الدولة العباسية، فلم
نعرف الدولة التي ادعاها المرتضى، وإنما قد يقع في الأقل النادر شيء مما أشار
إليه، والأغلب الأكثر خلاف ذلك. على أن أصحابنا لا يقولون إن عمر كان
مرشحاً للخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه
وسلم، ليقال لهم: فلو كان قد رشحه للخلافة بعده
لاستكفاه كثيراً من أموره، وإنما عمر مرشح عندهم في أيام أبي بكر للخلافة بعد
أبي بكر، وقد كان أبو بكر استعمله على القضاء مدة خلافته، بل كان هو الخليفة في
المعنى، لأنه فوض إليه أكثر التدبير، فعلى هذا يكون قد سلمنا أن ترك استعمال
النبي صلى الله عليه وسلم لعمر يدل على أنه
مرشح في نظره للخلافة بعده، وكذلك نقول: ولا
يلزم من ذلك ألا يكون خليفة بعد أبي بكر، على أنا لا نسلم أنه ما استعمله، فقد ذكر الواقدي وابن إسحاق أنه بعثه في سرية. سنة سبع من
الهجرة إلى الوادي المعروف ببرمة، بضم الباء وفتح الراء، وبها جمع من هوازن،
فخرج ومعه دليل من بني هلال، وكانوا يسيرون الليل ويكمنون النهار، وأتى الخبر
هوازن فهربوا، وجاء عمر محالهم، فلم يلق منهم أحداً، فانصرف إلى المدينة. وأما قوله: لا يغني حسن
التدبير والسياسة ورم الأمور، مع القصور في الفقه، فأصحابنا يذهبون إلى
أنه إذا تساوى اثنان في خصال الإمامة إلا أنه كان أحدهما أعلم
والآخر أسوس، فإن الأسوس أولى بالإمامة، لأن
حاجة الإمامة إلى السياسة وحسن التدبير
آكد من حاجتها إلى العلم والفقه. ولعله كنى عن هذا النص بقوله:
إذا سألني ربي قلت له: استخلفت عليهم خير أهلك، على أنا متى فتحنا باب هلا احتج
فلان بكذا جر علينا ما لا قبل لنا به. وقيل:
هلا احتج علي رضي الله عنه
على طلحة وعائشة والزبير بقول رسول الله
صلى الله عليه وسلم: من كنت مولاه فهذا علي مولاه، وهلا
احتج عليهم بقوله: أنت مني بمنزلة هارون من موسى، ولا يمكن الشيعة أن يعتذروا
ههنا بالتقية، لأن السيوف كانت قد سلت من الفريقين، ولم يكن مقام تقية. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الطعن الرابع.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قالوا: إن أبا بكر كان في جيش أسامة، وإن رسول الله
صلى الله عليه وسلم كرر حين موته
الأمر بتنفيذ جيش أسامة، فتأخره يقتضي مخالفة الرسول. فإن قلتم: إنه لم يكن في الجيش، قيل لكم: لا شك أن عمر بن الخطاب كان في الجيش،
وأنه حبسه ومنعه من النفوذ مع القوم. وهذا كالأول
في أنه معصية، وربما قالوا: إنه صلى الله عليه وسلم جعل هؤلاء
القوم في جيش أسامة ليبعدوا بعد وفاته عن المدينة، فلا يقع منهم توثب على
الإمامة، ولذلك لم يجعل أمير المؤمنين رضي الله عنه
في ذلك الجيش، وجعل فيه أبا بكر وعمر وعثمان وغيرهم، وذلك من أوكد الدلالة على
أنه لم يرد أن يختاروا للإمامة. ثم قال: إن خطابه
بتنفيذ الجيش يجب أن يكون متوجهاً إلى القائم بعده، لأنه من خطاب الأئمة، وهذا
يقتضي ألا يدخل المخاطب بالتنفيذ في الجملة، ثم
قال: وهذا يدل على أنه لم يكن هناك إمام منصوص عليه، لأنه لو كان لأقبل
بالخطاب عليه، وخصه بالأمر بالتنفيذ دون الجميع ثم ذكر أن أمر رسول الله صلى
الله عليه وسلم
لا
بد أن يكون مشروطاً بالمصلحة وبأن لا يعرض ما هو أهم منه، لأنه لا يجوز أن
يأمرهم بالنفوذ، وإن أعقب ضرراً في الدين، ثم قوى ذلك بأنه لم ينكر على أسامة
تأخره، وقوله: لم أكن لأسأل عنك الركب، ثم قال: لو كان الإمام منصوصاً عليه لجاز أن يسترد
جيش أسامة أو بعضه لنصرته، وكذلك إذا كان بالاختيار، ثم
حكى عن الشيخ أبي في أستدلاله على أن أبا بكر لم يكن في جيش أسامة بأنه
ولاه الصلاة في مرضه، مع تكريره أمر الجيش بالنفوذ والخروج. ثم ذكر أن
الرسول صلى الله عليه وسلم إنما يأمر
بما يتعلق بمصالح الدنيا من الحروب ونحوها عن اجتهاده، وليس بواجب أن يكون ذلك
عن وحي، كما يجب في الأحكام الشرعية، وأن اجتهاده يجوز أن يخالف بعد وفاته، وإن
لم يجز في حياته، لأن اجتهاده في الحياة أولى من اجتهاد غيره، ثم ذكر أن العلة
في احتباس عمر عن الجيش حاجة أبي بكر إليه، وقيامه بما لا يقوم به غيره، وأن ذلك
أحوط للدين من نفوذه. وذكر تولية أبا
موسى، وتولية الرسول، خالد بن الوليد مع ما جرى منهما وأن
ذلك يقتضي الشرط. ثم ذكر أن ولاية أسامة عليهما لا تقتضي فضله
وأنهما دونه، وذكر ولاية عمرو بن العاص عليهما وإن
لم يكونا دونه في الفضل، وأن أحداً لم يفضل أسامة عليهما. ثم لو لم يثبت كل ذلك لكان قول أسامة
:
لم أكن لأسأل عنك الركب، أوضح دليل على أنه عقل من الأمر الفور، لأن سؤال الركب
عنه رضي الله عنه بعد
وفاته لا معنى له. وإذا سلمنا
أن أمره رضي الله عنه
كان متوجهاً إلى القائم بعده بالأمر لتنفيذ الجيش بعد الوفاة لم يلزم ما ذكره من
خروج المخاطب بالتنفيذ عن الجملة، وكيف يصح ذلك وهو من جملة الجيش، والأمر متضمن
تنفيذ الجيش، فلا بد من نفوذ كل من كان في جملته، لأن تأخر بعضهم يسلب النافذين اسم
الجيش على الإطلاق. أو ليس من
مذهب صاحب الكتاب أن الأمر بالشيء أمر بما لا يتم إلا معه، وقد اعتمد على هذا في
مواضع كثيرة، فإن كان خروج الجيش ونفوذه لا يتم إلا بخروج أبي بكر، فالأمر بخروج
الجيش أمر لأبي بكر بالنفوذ والخروج، وكذلك لو أقبل عليه على سبيل التخصيص، وقال: نفذوا جيش أسامة، وكان هو من جملة الجيش، فلا بد أن
يكون ذلك أمراً له بالخروج. واستدلاله على أنه لم يكن هناك إمام
منصوص عليه بعموم الأمر بالتنفيذ، ليس بصحيح، لأنا قد بينا
أن الخطاب إنما توجه إلى الحاضرين، ولم يتوجه إلى الإمام بعده، على أن هذا لازم،
له، لأن الإمام بعده لا يكون إلا واحداً، فلم عمم
الخطاب ولم يفرد به الواحد فيقول: لينفذ القائم من بعدي بالأمر جيش
أسامة، فإن الحال لا يختلف في كون الإمام بعده واحداً بين أن يكون منصوصاً عليه
أو مختاراً. وأما ما ادعاه أن الشرط في أمره رضي الله عنه لهم بالنفوذ فباطل، لأن إطلاق
الأمر يمنع من إثبات الشرط، وإنما يثبت من الشروط ما يقتضي الدليل إثباته من
التمكن والقدرة، لأن ذلك شرط ثابت في كل أمر ورد من حكيم، والمصلحة بخلاف ذلك، لأن الحكيم لا يأمر بشرط المصلحة، بل إطلاق
الأمر منه يقتضي ثبوت المصلحة وانتفاء المفسدة، وليس كذلك التمكن، وما يجري
مجراه، ولهذا لا يشترط أحد في أوامر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم بالشرائع
المصلحة وانتفاء المفسدة. وشرطوا في ذلك التمكن ورفع التعذر، ولو كان الإمام
منصوصاً عليه بعينه واسمه لما جاز أن يسترد جيش أسامة، بخلاف ما ظنه، ولا يعزل
من ولاه مثله ولا يولي من عزله للعلة التي ذكرناها. وليس يجري
ذلك مجرى أكله وشربه ونومه، لأن ذلك لا تعلق له بالدين، فيجوز أن يكون عن رأيه،
ولو جاز أن تكون مغازيه وبعوثه مع التعلق القوي لها بالدين عن اجتهاد لجاز ذلك
في الأحكام. فكل علة
تمنع من أحد الأمرين هي مانعة من الآخر. فأما الاعتذار له عن حبس عمر عن الجيش بما ذكره
فباطل، لأنا قد قلنا: إن ما يأمر به رضي الله عنه لا
يسوغ مخالفته مع الإمكان، ولا مراعاة لما عساه يعرض فيه من رأي غيره، وأي حاجة
إلى عمر بعد تمام العقد، واستقراره ورضا الأمة به، على طريق المخالف وإجماعها
عليه، ولم يكن هناك فتنة ولا تنازع ولا اختلاف يحتاج فيه إلى مشاورته وتدبيره،
وكل هذا تعلل باطل. وليس كذلك
القول في جيش أسامة، لأن تأخر من تأخر عنه كان مع القدرة والتمكن. فأما تولية أبي موسى فلا ندري كيف يشبه ما نحن فيه،
لأنه إنما ولاه بأن يرجع إلى كتاب الله تعالى فيحكم فيه وفي خصمه بما يقتضيه، وأبو موسى فعل خلاف ما جعل إليه، فلم يكن ممتثلاً
لأمر من ولاه، وكذلك خالد بن الوليد إنما
خالف ما أمره به الرسول صلى الله عليه وسلم فتبرأ
من فعله، وكل هذا لا يشبه أمره رضي الله عنه بتنفيذ جيش أسامة أمراً مطلقاً،
وتأكيده ذلك وتكراره له، فأما جيش أسامة فإنه
لم يضم من يصلح للإمامة، فيجوز تأخرهم ليختار أحدهم على ما ظنه صاحب الكتاب. على
أن ذلك لو صح أيضاً لم يكن عذراً في التأخر، لأن من خرج في الجيش يمكن أن يختار
وإن كان بعيداً، ولا يمنع بعده من صحة الاختيار، وقد صرح صاحب الكتاب بذلك. ثم
لو صح هذا العذر لكان عذراً في التأخر قبل العقد، فأما بعد إبرامه فلا عذر فيه،
والمعاضدة التي ادعاها قد بينا ما فيها. فأما ولاية
أسامة على من ولي عليه، فلا بد من اقتضائها لفضله على الجماعة فيما كان والياً
فيه، وقد دللنا فيما تقدم من الكتاب على أن ولاية المفضول على الفاضل فيما كان
الفاضل منه فيه قبيحة، فكذلك القول في ولاية عمرو بن العاص عليهما فيما تقدم،
والقول في الأمرين واحد. ذكر الواقدي في كتاب المغازي
أن أبا بكر لم يكن في جيش أسامة، وإنما كان عمر،
وأبو عبيدة، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وقتادة بن
النعمان، وسلمة بن أسلم، ورجال كثير من المهاجرين، والأنصار، قال: وكان المنكر لإمارة أسامة عياش بن أبي ربيعة
وغير الواقدي يقول: عبد الله بن عياش، وقد قيل: عبد الله بن أبي ربيعة أخو عياش. وقال الواقدي: وجاء عمر بن الخطاب فودع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليسير
مع أسامة. وقال: وجاء أبو بكر فقال: يا رسول
الله، أصبحت مفيقاً بحمد الله، واليوم يوم ابنة خارجة، فأذن لي، فأذن له، فذهب
إلى منزله بالسنح وسار أسامة في العسكر، وهذا تصريح بأن
أبا بكر لم يكن في جيش أسامة. فأما أبو
جعفر محمد بن جرير الطبري فلم يذكر أنه كان في جيش أسامة إلا عمر. وقال أبو جعفر: حدثني السدي
بإسناد ذكره أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم
ضرب قبل وفاته بعثاً على أهل المدينة ومن حولهم وفيهم
عمر بن الخطاب، وأمر عليهم أسامة بن زيد، فلم يجاوز آخرهم الخندق حتى قبض رسول
الله صلى الله عليه وسلم فوقف أسامة بالناس ثم قال لعمر: ارجع إلى
خليفة رسول الله صلى
الله عليه وسلم فاستأذنه يأذن لي أرجع
بالناس، فإن معي وجوه الصحابة، ولا آمن على خليفة رسول
الله صلى الله عليه وسلم، وثقل
رسول صلى الله عليه وسلم وأثقال
المسلمين أن يتخطفهم المشركون حول المدينة، وقالت
الأنصار لعمر سراً: فإن أبى إلا أن يمضي فأبلغه عنا، واطلب إليه أن يولي
أمرنا رجلاً أقدم سناً من أسامة، فخرج عمر بأمر أسامة
فأتى أبا بكر فأخبره بما قال أسامة، فقال أبو بكر: لو تخطفتني الكلاب
والذئاب لم أرد قضاء قضى به رسول الله صلى الله عليه
وسلم. قال: فإن الأنصار
أمروني أن أبلغك أنهم يطلبون إليك أن تولي أمرهم رجلاً أقدم سناً من أسامة،
فوثب أبو بكر، وكان جالساً، فأخذ بلحية عمر وقال:
ثكلتك أمك يا بن الخطاب، أيستعمله رسول، الله صلى الله عليه وسلم وتأمرني أن أنزعه، فخرج عمر إلى الناس، فقالوا
له: ما صنعت؟ فقال:
امضوا ثكلتكم أمهاتكم، ما لقيت في سيلكم اليوم من خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم خرج أبو بكر حتى أتاهم فأشخصهم وشيعهم، وهو ماش
وأسامة راكب، وعبد الرحمن بن عوف يقود دابة أبي بكر،
فقال له أسامة بن زيد: يا خليفة رسول الله،
لتركبن أو لأنزلن، فقال: والله لا تنزل ولا أركب، وما علي أن أغبر قدمي في سبيل
الله ساعة، فإن للغازي بكل خطوة يخطوها سبعمائة حسنة تكتب له، وسبعمائة درجة
ترفع له، وسبعمائة خطيئة تمحى عنه، حتى إذا انتهى قال
لأسامة: إن رأيت أن تعينني بعمر فافعل، فأذن له، ثم قال: أيها الناس، قفوا حتى أوصيكم بعشر فاحفظوها عني: لا تخونوا
ولا تغدروا ولا تغلوا ولا تمثلوا ولا تقتلوا طفلاً صغيراً، ولا شيخاً كبيراً،
ولا امرأة، ولا تعقروا نخلاً ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة فثمرة، ولا تذبحوا شاة
ولا بعيراً ولا بقرة إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم للعبادة في
الصوامع، فدعوهم فيما فرغوا أنفسهم له، وسوف تقدمون على أقوام يأتونكم بصحاف
فيها ألوان الطعام، فلا تأكلوا من شيء حتى تذكروا اسم
الله عليه، وسوف تلقون أقواماً قد حصوا أوساط رؤوسهم وتركوا حولها مثل العصائب
فاخفقوهما بالسيوف خفقاً، أفناهم الله بالطعن والطاعون، سيروا على اسم الله. وقول
المرتضى: هذا اعتراف بأن الأمر بتنفيذ الجيش كان في الحال دون ما بعد الوفاة، وهذا ينقض ما بنى
عليه قاضي القضاة أمره، فلقائل أن يقول: إنه لا
ينقض ما بناه، لآن قاضي القضاة ما قال: إن الأمر بتنفيذ الجيش ما كان إلا بعد
الوفاة، بل قال: إنه أمر، والأمر على التراخي،
فلو نفذ الجيش في الحال لجاز، ولو تأخر إلى بعد الوفاة لجاز. ويمكن
أن يكون زمان هذه السكتة قد امتد يوماً أو يومين،
وهذا الموضع من المواضع المشتبهة عندي. فأما قول المرتضى:
الأمر على الفور إما لغة عند من قال به، أو شرعاً لإجماع الكل على أن الأوامر
الشرعية على الفور إلا ما خرج بالدليل، فالظاهر في
هذا الموضع صحة ما قاله المرتضى، لأن قرائن الأحوال عند من يقرأ السير
ويعرف التواريخ تدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يحثهم على الخروج، والمسير،
وهذا هو الفور. ومنها قول قاضي القضاة: إن مخالفة أمره صلى
الله عليه وسلم في النفوذ مع الجيش أو في إنفاذ الجيش لا يكون معصية، وبين ذلك من
وجوه: أحدها: إن أمره رضي الله عنه بذلك لا بد أن يكون مشروطاً
بالمصلحة، وألا يعرض ما هو أهم من نفوذ الجيش، لأنه لا يجوز أن يأمرهم بالنفوذ
وإن أعقب ضرراً في الدين، فأما قول المرتضى:
الأمر المطلق يدل على ثبوت المصلحة، ولا يجوز أن يجعل الأمر المطلق مقيداً بشرط
المصلحة كما نقول في التمكين من الفعل إنه مشروط وإن لم يصرح به لأن الحكيم لا
يأمر إلا بالمصلحة، فقول جيد إذا اعترض به على
الوجه الذي أورده قاضي القضاة، فأما إذا أورده أصحابنا على وجه آخر فإنه يندفع كلام المرتضى، وذلك أنه يجوز تخصيص عمومات النصوص بالقياس الجلي عند كثير من أصحابنا، على ما هو مذكور في أصول الفقه،
فلم لا يجوز لأبي بكر أن يخص عموم قوله: أنفذوا بعث أسامة المصلحة غلبت على ظنه
في عدم نفوذه نفسه، ولمفسدة غلبت على نفسه في نفوذه نفسه مع البعث. فأما قول المرتضى:
إن للدين تعلقاً قوياً بأمثال ذلك، وإنها ليست من الأمور الدنياوية المحضة نحو
أكله وشربه ونومه، فإنه يعود على الإسلام بفتوحه عز وقوة وعلو كلمة فيقال له:
وإذا أكل اللحم وقوي مزاجه بذلك ونام نوماً طبيعياً يزول عنه به المرض والإعياء،
اقتضى ذلك أيضاً عز الإسلام وقوته، فقل إن ذلك أيضاً عن وحي. وأيضاً
فإن الصحابة كانوا يراجعونه في الحروب وآرائه التي يدبرها بها
ويرجع رضي الله عنه إليهم في كثير منها بعد أن قد
رأى غيره، وأما الأحكام فلم يكن يراجع فيها أصلاً، فكيف
يحمل أحد البابين على الآخر. فإن قلت: الإشكال عليكم
إنما هو من قبل الاستخلاف، كيف جاز لأبي بكر أن يتأخر عن المسير، وكيف جاز له أن
يرجع إلى المدينة وهو مأمور بالمسير، وهلا نفذ لوجهه ولم يرجع، وإن بلغه موت
رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالوا: وذلك كالوكيل
تبطل وكالته بموت الموكل، قالوا: ويفارق الوصي
لأن ولايته لا تثبت إلا بعد موت الموصي، فهو كعهد الإمام إلى غيره لا يثبت إلا
بعد موت الإمام، ثم فرع أصحابنا على هذا الأصل
مسألة وهي: الحاكم هل ينعزل بموت الإمام أم لا، قال
قوم من أصحابنا: لا ينعزل وبنوه على أن التولي من غير جهة الإمام يجوز،
فجعلوا الحاكم نائباً عن المسلمين أجمعين، لا عن الإمام، وإن وقف تصرفه على
اختياره، وصار ذلك عندهم بمنزلة أن يختار المسلمون واحداً يحكم بينهم، ثم يموت
من رضي بذلك، فإن تصرفه يبقى على ما كان عليه، وقال
قوم من أصحابنا: ينعزل، وإن هذا النوع من التصرف لا يستفاد إلا من جهة
الإمام، ولا يقوم به غيره، وإذا ثبت أن أسامة قد بطلت ولايته لم تبق تبعة على
أبي بكر في الرجوع من بعض الطريق إلى المدينة. وقد اعترض المرتضى على هذا بأنه يقبح تقديم
المفضول على الفاضل فيما هو أفضل منه، وأن تقديم
عمرو بن العاص عليهما في الإمرة يقتضي أن يكون أفضل منهما فيما يرجع إلى الإمرة
والسياسة، ولا يقتضي أفضليته عليهما في غير ذلك، وكذلك
القول في أسامة. وقد اعترضه المرتضى فقال:
هذا شيء لم نسمعه من راو، ولا قرأناه في كتاب، وصدق
المرتضى فيما قال، فإن هذا حديث غريب لا يعرف. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الطعن الخامس
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قالوا:
إنه صلى الله عليه وسلم لم يول أبا بكر الأعمال وولى غيره، ولما
ولاه الحج بالناس وقراءة سورة براءة على الناس، عزله
عن ذلك كله، وجعل الأمر إلى أمير المؤمنين رضي الله عنه ، وقال: لا يؤدي عني إلا أنا أو رجل مني، حتى يرجع أبو بكر إلى
النبي صلى
الله عليه وسلم. أجاب قاضي القضاة فقال:
لو سلمنا أنه لم يوله، لما دل على نقص، ولا على أنه لم يصلح للإمارة والإمامة، بل لو قيل: إنه لم يوله لحاجته إليه بحضرته، إن ذلك
رفعة له لكان أقرب، لا سيما، وقد روي عنه ما يدل
على أنهما وزيراه، و أنه كان صلى
الله عليه وسلم محتاجاً إليهما وإلى
رأيهما، فلذلك لم يولهما، ولو كان للعمل على تركه فضل لكان عمرو بن العاص وخالد بن
الوليد وغيرهما أفضل من أكابر الصحابة، لأنه رضي
الله عنه ولاهما وقدمهما،
وقد قدمنا أن توليته هي بحسب الصلاح، وقد يولى المفضول
على الفاضل تارةً والفاضل أخرى، وربما ولي الواحد لاستغنائه عنه بحضرته،
وربما ولاه لاتصال بينه وبين من يولى عليه، إلى غير ذلك. ثم ادعى أنه ولى أبا بكر على الموسم والحج فقد ثبت بلا خلاف بين أهل الأخبار ولم يصح أنه عزله، ولا يدل رجوع أبي بكر إلى النبي صلى
الله عليه وسلم مستفهماً عن القصة على
العزل، ثم جعل إنكار من أنكر حج أبي بكر في تلك السنة بالناس، كإنكار عباد
وطبقته أخذ أمير المؤمنين رضي الله عنه سورة براءة من أبي بكر. وحكى عن أبي علي أن المعنى كان في أخذ السورة من أبي بكر أن من عادة العرب أن سيداً من سادات قبائلهم إذا عقد
عقد القوم، فإن ذلك العقد لا ينحل إلا أن يحله هو أو بعض سادات قومه، فلما كان هذا عادتهم وأراد النبي صلى
الله عليه وسلم أن ينبذ إليهم عقدهم، وينقض ما كان بينه وبينهم،
علم أنه لا ينحل ذلك إلا به أو بسيد من سادات رهطه،
فعدل عن أبي بكر إلى أمير المؤمنين رضي
الله عنه المقرب في النسب. ثم ادعى أنه صلى الله عليه
وسلم ولى أبا بكر في
مرضه الصلاة، وذلك أشرف الولايات، وقال
في ذلك: يأبى الله ورسوله والمسلمون إلا أبا بكر. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
اعترض المرتضى فقال:
قد بينا أن تركه صلى الله عليه وسلم الولاية
لبعض أصحابه مع حضوره وإمكان ولايته والعدول عنه إلى غيره، مع تطاول الزمان
وامتداده، لا بد من أن تقتضي غلبة الظن بأنه لا يصلح للولاية، فأما ادعاؤه أنه
لم يوله لافتقاره إليه بحضرته وحاجته إلى تدبيره ورأيه، فقد بينا أنه رضي الله عنه ما
كان يفتقر إلى رأي أحد لكماله ورجحانه على كل أحد، وإنما كان يشاور أصحابه على
سبيل التعليم لهم والتأديب، أو لغير ذلك مما قد ذكر. وبعد، فكيف استمرت هذه الحاجة، واتصلت منه إليهما
حتى لم يستغن في زمان من الأزمان عن حضورهما فيوليهما، وهل
هذا إلا قدح في رأي رسول الله صلى الله عليه
وسلم ونسبته إلى أنه كان ممن
يحتاج إلى أن يلقن ويوقف على كل شيء، وقد نزهه الله تعالى عن ذلك،
فأما ادعاؤه أن الرواية قد وردت بأنهما وزيراه فقد كان يجب أن يصحح ذلك قبل أن
يعتمده ويحتج به، فإنا ندفعه عنه أشد دفع. فأما ولاية
عمرو بن العاص وخالد بن الوليد فقد تكلمنا عليها من قبل، وبينا أن ولايتهما تدل
على صلاحهما لما ولياه، ولا تدل على صلاحهما للإمامة، لأن شرائط الإمامة لم
تتكامل فيهما، وبينا أيضاً أن ولاية المفضول على
الفاضل لا تجوز، فأما تعظيمه وإكباره قول من
يذهب إلى أن أبا بكر عزل عن أداء السورة والموسم جميعاً، وجمعه بين ذلك
في البعد وبين إنكار عباد أن يكون أمير المؤمنين رضي الله عنه ارتجع
سورة براءة من أبي بكر، فأول ما فيه أنا لا ننكر أن
يكون أكثر الأخبار واردة بأن أبا بكر حج بالناس في تلك السنة، إلا أنه قد روى قوم من أصحابنا خلاف ذلك، وأن أمير المؤمنين
رضي الله عنه كان أمير الموسم في تلك السنة، وأن عزل
الرجل كان عن الأمرين معاً. واستكبار ذلك. وفيه خلاف لا معنى له،
فأما ما حكاه عن عباد فإنا لا نعرفه، وما نظن أحداً يذهب إلى مثله، وليس يمكنه بإزاء ذلك جحد مذهب أصحابنا الذي حكيناه، وليس
عباد لو صحت الرواية عنه بإزاء من ذكرناه، فهو مليء بالجهالات ودفع الضرورات. وبعد، فلو سلمنا أن
ولاية الموسم لم تفسخ لكان الكلام باقياً، لأنه إذا كان ما ولي مع تطاول الزمان
إلا هذه الولاية، ثم سلب شطرها، والأفخم الأعظم منها،
فليس ذلك إلا تنبيها على ما ذكرناه. وأجاب فقال:
إنه ما سلم السورة إلى أبي بكر إلا بإذنه تعالى، إلا
أنه لم يأمره بأدائها، ولا كلفه قراءتها على أهل الموسم، لأن أحداً لم
يمكنه أن ينقل عنه رضي الله عنه في
ذلك لفظ الأمر والتكليف، فكأنه سلم سورة براءة إليه
لتقرأ على أهل الموسم، ولم يصرح بذكر القارىء
المبلغ لها في الحال، ولو نقل عنه تصريح لجاز أن يكون مشروطاً بشرط لم
يظهر. قلت: قد
ذكرنا فيما تقدم القول في تولية الملك بعض أصحابه، وترك تولية بعضهم، وكيفية
الحال في ذلك، على أنه قد روى أصحاب المغازي أنه أمر أبا بكر في شعبان من سنة
سبع على سرية بعثها إلى نجد فلقوا جمعاً من هوازن فبيتوهم، فروى إياس بن سلمة عن
أبيه، قال: كنت في ذلك البعث، فقتلت بيدي سبعة منهم،
وكان شعارنا: أمت أمت، وقتل من أصحاب النبي صلى الله عليه
وسلم
قوم، وجرح أبو بكر وارتث وعاد إلى المدينة، على أن أمراء السرايا الذين كان
يبعثهم صلى
الله عليه وسلم
كانوا
قوماً مشهورين بالشجاعة ولقاء الحروب، كمحمد بن مسلمة، وأبي دجانة، وزيد بن
حارثة ونحوهم، ولم يكن أبو بكر مشهوراً بالشجاعة ولقاء
الحروب، ولم يكن جباناً ولا خواراً وإنما كان رجلاً مجتمع القلب عاقلاً، ذا رأي
وحسن تدبير، وكان رسول الله صلى الله عليه
وسلم يترك
بعثه في السرايا، لأن غيره أنفع منه فيها، ولا
يدل، ذلك على أنه لا يصلح للإمامة، وأن الإمامة
تحتاج أن يكون صاحبها من المشهورين بالشجاعة، وإنما يحتاج إلى ثبات القلب، وألا
يكون هلعاً طائر الجنان. وكيف يقول المرتضى: إنه
صلى الله عليه وسلم لم
يكن محتاجاً إلى رأي أحد، وقد نقل الناس كلهم رجوعه من
رأي إلى رأي عند المشورة، نحو ما جرى يوم بدر من تغير المنزل لما أشار عليه
الحباب بن المنذر، ونحو ما جرى يوم الخندق من فسخ رأيه في دفع ثلث تمر المدينة
إلى عيينة بن حصن ليرجع بالأحزاب عنهم، لأجل ما رآه سعد بن معاذ وسعد بن عبادة
من الحرب، والعدول عن الصلح، ونحو ما جرى في تلقيح النخل بالمدينة وغير ذلك،
فأما ولاية أبي بكر الموسم فأكثر الأخبار على ذلك، ولم يرو عزله عن الموسم إلا قوم من الشيعة. وأما ما أنكره المرتضى
من حال عباد بن سليمان ودفعه أن يكون على
أخذ براءة من أبي بكر واستغرابه ذلك عجب، فإن قول عباد
قد ذهب إليه كثير من الناس، ورووا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يدفع براءة إلى أبي بكر، وأنه بعد أن نفذ أبو بكر بالحجيج
أتبعه علياً ومعه تسع آيات من براءة، وقد أمره
أن يقرأها على الناس ويؤذنهم بنقض العهد وقطع الدنية، فانصرف
أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم،
فأعاده على الحجيج، وقال له: أنت الأمير، وعلي المبلغ،
فإنه لا يبلغ عني إلا أنا أو رجل مني، ولم ينكر عباد أمر براءة بالكلية، وإنما
أنكر أن يكون النبي دفعها إلى أبي بكر ثم انتزعها منه، وطائفة عظيمة من المحدثين
يروون ما ذكرناه، وإن كان الأكثر الأظهر أنه
دفعها إليه ثم أتبعه بعلي رضي
الله عنه فانتزعها
منه،
والمقصود أن المرتضى قد تعجب مما لا يتعجب من مثله، فظن أن عباداً أنكر
حديث براءة بالكلية، وقد وقفت أنا على ما ذكره عباد
في هذه القضية في كتابه المعروف بكتاب الأبواب، وهو الكتاب الذي نقضه شيخنا أبو هاشم، فأما عذر شيخنا
أبي علي، وقوله: إن عادة العرب ذلك، واعتراض
المرتضى عليه، فالذي قاله المرتضى أصح
وأظهر، وما نسب إلى عادة العرب غير معروف،
وإنما هو تأويل تأول به متعصبو أبي بكر لانتزاع
براءة منه، وليس بشيء. ولست أقول ما قاله المرتضى
من أن غرض رسول صلى الله عليه وسلم إظهار أن أبا بكر لا يصلح للأداء عنه، بل أقول: فعل ذلك لمصلحة رآها، ولعل السبب في ذلك أن علياً من بني عبد
مناف وهم جمرة قريش بمكة، وعلي أيضاً شجاع لا يقام له، وقد حصل في صدور قريش منه الهيبة الشديدة والمخافة
العظيمة، فإذا حصل مثل هذا الشجاع البطل وحوله من بني عمه وهم أهل العزة والقوة
والحمية، كان أدعى إلى نجاته من قريش، وسلامة
نفسه وبلوغ الغرض من نبذ العهد على يده، ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة الحديبية بعث عثمان بن عفان إلى مكة يطلب منهم الإذن له في الدخول، وإنما بعثه لأنه من بني عبد مناف، ولم يكن بنو عبد مناف، وخصوصاً بني عبد شمس، ليمكنوا من قتله، ولذلك حمله بنو سعيد بن العاص على بعير يوم دخل مكة وأحدقوا
به مستلئمين بالسلاح، وقالوا له: أقبل وأدبر، ولا تخف أحداً، بنو سعيد أعزة الحرم.
وأما القول في تولية رسول الله صلى
الله عليه وسلم أبا بكر الصلاة،
فقد تقدم، وما رامه قاضي القضاة من الفرق بين صلاة
أبي بكر بالناس وصلاة عبد الرحمن بهم، مع كون رسول الله صلى
الله عليه وسلم خلفه ضعيف، وكلام
المرتضى أقوى منه. فأما السؤال الذي سأله المرتضى من نفسه فقوي،
والجواب الصحيح أن بعث براءة مع أبي بكر كان باجتهاد من
الرسول، ولم يكن عن وحي ولا من جملة الشرائع التي تتلقى عن جبرائيل عليه السلام،
فلم يقبح نسخ ذلك قبل تقضي وقت فعله، وجواب المرتضى
ليس بقوي، لأنه من البعيد أن يسلم سورة براءة إلى
أبي بكر ولا يقال له: ماذا تصنع بها؟ بل يقال: خذ هذه معك لا غير. والقول بأن الكلام مشروط بشرط لم يظهر خلاف الظاهر، وفتح هذا
الباب يفسد كثيراً من القواعد. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الطعن السادس.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إن أبا بكر لم يكن يعرف الفقه وأحكام
الشريعة، فقد قال في الكلالة
: أقول فيها برأي، فإن يكن صواباً فمن الله، وإن يكن خطأ فمني، ولم يعرف ميراث
الجد، ومن حاله هذه لا يصلح للإمامة. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الطعن السابع.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قصة خالد بن الوليد وقتله مالك بن
نويرة ومضاجعته امرأته من ليلته، وأن أبا بكر
ترك إقامة الحد عليه، وزعم أنه سيف من سيوف الله سله الله على أعدائه، مع أن الله تعالى قد أوجب القود وحد الزنا عموماً، وأن عمر نبهه وقال له: اقتله، فإنه قتل مسلماً. فإن قيل: فلم أنكر
عمر؟ قيل: كان الأمر إلى أبي بكر، فلا وجه لإنكار عمر،
وقد يجوز أن يعلم أبو بكر من الحال ما يخفى على
عمر. فإن قيل: فما معنى ما
روي عن أبي بكر من أن خالداً تأول فأخطأ، قيل: أراد عجلته عليه
بالقتل، وقد كان الواجب عنده على خالد أن يتوقف للشبهة. واستدل أبو علي على ردتة بأن أخاه متمم بن نويرة لما أنشد عمر
مرثيته أخاه قال له: وددت أني أقول الشعر فأرثي أخي زيداً بمثل ما رثيت به أخاك،
فقال متمم: لو قتل أخي على مثل ما قتل عليه أخوك
ما رثيته، فقال عمر: ما عزاني أحد بمثل تعزيتك، فدل هذا على أن مالكاً لم يقتل على الإسلام كما قتل زيد. اعترض المرتضى فقال: أما منع خالد قتل مالك بن نويرة واستباحة امرأته وأمواله لنسبته إياه إلى ردة لم تظهر منه، بل كان الظاهر خلافها من الإسلام، فعظيم. ويجري مجراه في العظم تغافل
من تغافل عن أمره، ولم يقم فيه حكم الله تعالى، وأقره على الخطأ الذي شهد هو به
على نفسه، ويجري مجراهما من أمكنه أن يعلم الحال فأهملها ولم يتصفح ما روي من
الأخبار في هذا الباب وتعصب لأسلافه ومذهبه.
وكيف يجوز عند خصومنا على مالك وأصحابه جحد الزكاة مع المقام على الصلاة، وهما
جميعاً في قرن، لأن العلم الضروري بأنهما من دينه رضي الله عنه وشريعته على حد واحد، وهل نسبة مالك إلى الردة مع ما ذكرناه إلا قدح في أصول ونقض،
لما تضمنته من الزكاة معلومة ضرورة من دينه رضي الله عنه. وأعجب من كل عجيب قوله: وكذلك سائر أهل الردة، يعني أنهم
كانوا يصلون ويجحدون الزكاة، لأنا قد بينا أن ذلك مستحيل غير ممكن، وكيف
يصح ذلك، وقد روى جميع أهل النقل أن أبا بكر لما وصى
الجيش الذين أنفذهم بأن يؤذنوا ويقيموا، فإن أذن القوم كأذانهم وإقامتهم كفوا
عنهم، وإن لم يفعلوا أغاروا عليهم، فجعل أمارة الإسلام والبراءة من الردة الأذان
والإقامة، وكيف يطلق في سائر أهل الردة ما أطلقه من أنهم كانوا يصلون،
وقد علمنا أن أصحاب مسيلمة وطليحة وغيرهما ممن كان ادعى النبوة وخلع الشريعة ما كانوا يرون الصلاة ولا شيء مما جاءت به شريعتنا.
وقصة مالك معروفة عند من تأمل كتب السير والنقل، لأنه
كان على صدقات قومه بني يربوع والياً من قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما بلغته وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أمسك عن أخذ الصدقة من قومه
وقال لهم:
تربصوا بها حتى يقوم قائم بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وننظر ما يكون من أمره، وقد صرح بذلك في شعره حيث يقول:
فصرح
كما ترى أنه استبقى الصدقة في أيدي قومه رفقاً بهم
وتقرباً إليهم، إلى أن يقوم بالأمر من يدفع ذلك إليه. وقد روى جماعة عن أهل السير، وذكره الطبري في تاريخه أن مالكاً نهى قومه عن الاجتماع على
منع الصدقات وفرقهم، وقال: يا بني يربوع،
إنا كنا قد عصينا أمراءنا إذ دعونا إلى هذا الدين، وبطأنا الناس عنه، فلم نفلح
ولم ننجح، وإني قد نظرت في هذا الأمر فوجدت الأمر يتأتى لهؤلاء القوم بغير
سياسة، وإذا أمر لا يسوسه الناس، فإياكم ومعاداة
قوم يصنع لهم
فتفرقوا على ذلك إلى أموالهم، ورجع مالك إلى منزله، فلما
قدم خالد البطاح بث السرايا وأمرهم بداعية الإسلام وأن يأتوه بكل من لم يجب،
وأمرهم إن امتنع أن يقاتلوه، فجاءته الخيل بمالك بن نويرة في نفر من بني يربوع،
واختلف السرية في أمرهم، في السرية أبو قتادة الحارث بن ربعي، فكان ممن شهد أنهم
أذنوا وأقاموا وصلوا، فلما اختلفوا فيهم أمر بهم خالد فحبسوا وكانت ليلة باردة لا
يقوم لها شيء، فأمر خالد منادياً ينادي: أدفئوا أسراءكم، فظنوا أنهم أمروا بقتلهم، لأن
هذه اللفظة تستعمل في لغة كنانة للقتل، فقتل ضرار بن الأزور مالكاً،
وتزوج خالد زوجته أم تميم بنت المنهال. وفي خبر آخر أن السرية التي بعث بها خالد لما غشيت
القوم تحت الليل راعوهم، فأخذ القوم السلاح، قال:
فقلنا: إنا المسلمون، فقالوا: ونحن المسلمون، قلنا: فما بال السلاح معكم، قلنا:
فضعوا السلاح، فلما وضعوا السلاح ربطوا أسارى فأتوا بهم خالداً. فحدث أبو قتادة خالد بن
الوليد أن القوم نادوا بالإسلام، وأن لهم أماناً، فلم يلتفت خالد إلى
قولهم وأمر بقتلهم، وقسم سبيهم، وحلف أبو قتادة ألا يسير تحت لواء خالد في جيش أبداً، وركب فرسه
شاداً إلى أبي بكر، فأخبره الخبر، وقال له: إني نهيت خالداً عن قتله، فلم يقبل قولي، وأخذ بشهادة الأعراب الذين غرضهم الغنائم،
وإن عمر لما سمع ذلك تكلم فيه عند أبي بكر فأكثر
وقال: إن القصاص قد وجب عليه. ولما أقبل خالد بن الوليد
قافلاً دخل المسجد وعليه قباء له عليه صدأ الحديد، معتجراً بعمامه له قد
غرز في عمامته أسهماً، فلما دخل المسجد قام إليه عمر
فنزع الأسهم عن رأسه فحطمها، ثم قال له: يا عدو نفسه،
أعدوت على امرىء مسلم فقتلته، ثم نزوت على امرأته، والله لنرجمنك بأحجارك.
وخالد لا يكلمه، ولا يظن إلا أن رأي أبي بكر مثل
رأيه حتى دخل إلى أبي بكر واعتذر إليه بعذره وتجاوز
عنه، فخرج خالد وعمر جالس في المسجد فقال:
هلم إلي يا بن أم شملة، فعرف عمر أن أبا بكر قد رضي عنه
فلم يكلمه، ودخل بيته. وقيل: إنه ارتجع بعض نسائهم من
نواحي دمشق، وبعضهن حوامل، فردهن على أزواجهن. فالأمر ظاهر في خطأ خالد، وخطأ من تجاوز
عنه. وقول صاحب الكتاب: إنه يجوز أن يخفى عن عمر ما يظهر لأبي
بكر ليس بشيء، لأن الأمر في قصة خالد لم يكن مشتبهاً،
بل كان مشاهداً معلوماً لكل من حضره، وما تأول به في
القتل لا يعذر لأجله، وما رأينا أبا بكر حكم فيه بحكم المتأول ولا غيره،
ولا تلافى خطأه وزلله، وكونه سيفاً من سيوف الله على ما ادعاه لا يسقط عنه
الأحكام، ويبرئه من الآثام. وأما قول متمم: لو قتل أخي على ما قتل عليه أخوك لما
رثيته، لا يدل على أنه كان مرتداً، فكيف يظن عاقل أن
متمماً يعترف بردة أخيه وهو يطالب أبا بكر بدمه والاقتصاص من قاتليه، ورد سبيه، وأنه
أراد في الجملة التقرب إلى عمر بتقريظ أخيه، ثم لو كان ظاهر هذا القول كباطنه لكان إنما يقصد تفضيل
قتلة زيد على قتلة مالك، والحال في ذلك أظهر، لأن زيداً
قتل في بعث المسلمين ذاباً عن وجوههم، ومالك قتل
على شبهة، وبين الأمرين فرق. وأما قوله في النبي صلى الله عليه وسلم: صاحبك فقد
قال أهل العلم: إنه أراد القرشية لأن خالداً
قرشي. وبعد، فليس في ظاهر إضافته إليه دلالة على نفيه له عن نفسه، ولو كان علم
من مقصده الاستخفاف والإهانة على ما ادعاه صاحب الكتاب
لوجب أن يعتذر خالد بذلك عند أبي بكر وعمر ويعتذر به أبو بكر لما طالبه عمر
بقتله، فإن عمر ما كان يمنع من قتل قادح في نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان
الأمر على ذلك فأي معنى لقول أبي بكر: تأول فأخطأ، وإنما تأول فأصاب إن كان الأمر على ما ذكر. قلت: أما تعجب المرتضى من كون قوم منعوا الزكاة وأقاموا على
الصلاة ودعواه أن هذا غير ممكن ولا صحيح، فالعجب منه كيف ينكر وقوع ذلك، وكيف ينكر إمكانه، أما
الإمكان فلأنه لا ملازمة بين العبادتين إلا من
كونهما مقترنتين في بعض المواضع في القرآن، وذلك لا
يوجب تلازمهما في الوجود، أو من قوله:
إن الناس يعلمون كون الزكاة واجبة في دين الإسلام ضرورة، كما تعلمون كون الصلاة
في دين الإسلام ضرورة، وهذا لا يمنع اعتقادهم سقوط
وجوب الزكاة لشبهة دخلت عليهم. فإنهم قالوا:
إن الله تعالى قال لرسوله: "خذ من أموالهم
صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم". قالوا: فوصف الصدقة المفروضة بأنها صدقة من
شأنها أن يطهر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس ويزكيهم لأخذها منهم، ثم عقب
ذلك بأن فرض عليه مع أخذ الزكاة منهم أن يصلي عليهم صلاة تكون سكناً لهم. قالوا: وهذه الصفات لا تتحقق في غيره، لأن
غيره لا يطهر الناس ويزكيهم بأخذ الصدقة، ولا إذا صلى على الناس كانت صلاته
سكناً لهم، فلم يجب علينا دفع الزكاة إلى غيره. وهذه
الشبهة لا تنافي كون الزكاة معلوماً وجوبها ضرورة من دين محمد صلى الله عليه
وسلم، لأنهم ما جحدوا وجوبها، ولكنهم قالوا: إنه وجوب مشروط، وليس يعلم
بالضرورة انتفاء كونها مشروطة، وإنما يعلم ذلك بنظر وتأويل، فقد بان أن ما ادعاه
من الضرورة ليس بدال على أنه لا يمكن أحداً اعتقاد نفي وجوب الزكاة بعد موت
الرسول صلى الله عليه وسلم، ولو عرضت مثل هذه الشبهة في
صلاة لصح لذاهب أن يذهب إلى أنها قد سقطت عن الناس، فأما الوقوع فهو
المعلوم ضرورة بالتواتر، كالعلم بأن أبا بكر ولي الخلافة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم ضرورة بطريق التواتر، ومن أراد الوقوف على ذلك فلينظر
في كتب التواريخ فإنها تشتمل من ذلك على ما يشفي
ويكفي. وقال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في التاريخ
الكبير بإسناد ذكره: إن أبا بكر أقام بالمدينة بعد وفاة
رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوجيهه أسامة في جيشه إلى حيث قتل أبوه زيد بن
حارثة لم يحدث شيئاً، وجاءته وفود العرب مرتدين يقرون بالصلاة ويمنعون الصدقة،
فلم يقبل منهم وردهم، وأقام حتى قدم أسامة بعد أربعين يوماً من شخوصه، ويقال:
بعد سبعين يوماً.
وروى أبو جعفر قال:
لما قدمت العرب المدينة على أبي بكر فكلموه في إسقاط الزكاة، نزلوا على وجوه
الناس بالمدينة فلم يبق أحد إلا وأنزل عليه ناساً منهم، إلا العباس بن عبد
المطلب، ثم اجتمع إلى أبي بكر المسلمون، فخوفوه بأس العرب واجتماعها. قال ضرار بن الأزور:
فما رأيت أحداً، ليس رسول الله، أملأ بحرب شعواء من أبي بكر فجعلنا نخوفه
ونروعه، وكأنما إنما نخبره بما له لا ما عليه، واجتمعت كلمة المسلمين على إجابة
العرب إلى ما طلبت، وأبى أبو بكر أن يفعل إلا ما كان يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يأخذ إلا ما كان يأخذ، ثم أجلهم
يوماً وليلة، ثم أمرهم بالانصراف، وطاروا إلى عشائرهم. وروى أبو جعفر، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عمرو بن العاص إلى عمان قبل موته، فمات وهو بعمان، فأقبل قافلاً إلى المدينة، فوجد العرب قد منعت الزكاة،
فنزل في بني عامر على قرة بن هبيرة، وقرة يقدم رجلاً
ويؤخر أخرى، وعلى ذلك بنو عامر كلهم إلا الخواص. ثم قدم المدينة، فأطافت به قريش، فأخبرهم أن
العساكر معسكرة حولهم، فتفرق المسلمون، وتحلقوا حلقاً، وأقبل
عمر بن الخطاب، فمر بحلقة وهم يتحدثون فيما سمعوا من عمرو، وفي تلك الحلقة علي وعثمان وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف
وسعد، فلما دنا عمر منهم سكتوا، فقال: في أي شيء أنتم، فلم يخبروه، فقال:
ما أعلمني بالذي خلوتم عليه، فغضب طلحة وقال:
الله يا بن الخطاب، إنك لتعلم الغيب، فقال: لا يعلم الغيب إلا الله، ولكن أظن قلتم: ما أخوفنا على قريش من العرب وأخفقهم
ألا يقروا بهذا الأمر. قالوا: صدقت، فقال: فلا تخافوا
هذه المنزلة، أنا والله منكم على العرب أخوف مني عليكم من العرب.
فلما
أرسل أبو بكر إلى قيس العلاء بن الحضرمي أخرج الصدقة، فأتاه بها وقدم معه إلى
المدينة. فأما قوله: وكيف يطلق قاضي القضاة في سائر أهل الردة ما أطلقه
من أنهم كانوا يصلون ومن جملتهم أصحاب مسيلمة وطلحة، فإنما أراد قاضي القضاة
بأهل الردة ههنا مانعي الزكاة لا غير، ولم يرد من جحد الإسلام بالكلية. لا يدل على
ردته، فصحيح، ولا ريب أنه قصد تقريظ زيد بن
الخطاب وأن يرضي عمر أخاه بذلك. ونعما قال المرتضى، إن بين القتلتين فرقاً ظاهراً، وإليه
أشار متمم لا محالة. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الطعن الثامن.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قولهم: إن مما يؤثر
في حاله وحال عمر دفنهما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته، وقد منع الله تعالى الكل من ذلك في حال حياته، فكيف بعد
الممات، بقوله تعالى: "لا تدخلوا بيوت
النبي إلا أن يؤذن لكم". أجاب قاضي القضاة بأن
الموضع كان ملكاً لعائشة، وهي حجرتها التي كانت معروفة
بها، والحجر كلها كانت أملاكاً لأزواج النبي صلى
الله عليه وسلم، وقد نطق
القرآن بذلك في قوله: "وقرن في بيوتكن"، وذكر أن عمر استأذن عائشة في أن يدفن في ذلك الموضع، وحتى قال: إن لم تأذن لي
فادفنوني في البقيع، وعلى هذا الوجه يحمل ما روي
عن الحسن رضي الله عنه أنه
لما مات أوصى أن يدفن إلى جنب رسول الله صلى
الله عليه وسلم، وإن لم يترك
ففي البقيع، فلما كان من مروان وسعيد بن العاص
ما كان دفن بالبقيع. وإنما أوصى بذلك بإذن عائشة، ويجوز أن يكون علم من
عائشة أنها جعلت الموضع في حكم الوقف، فاستباحوا ذلك لهذا الوجه، قال: وفي دفنه رضي الله عنه في ذلك الموضع ما يدل على فضل أبي
بكر، لأنه رضي الله عنه لما مات اختلفوا في موضع
دفنه، وكثر القول حتى روى أبو بكر عنه،
أنه قال ما يدل على أن الأنبياء إذا ماتوا دفنوا حيث ماتوا، فزال الخلاف في ذلك. وإن كان صدقة فقد كان يجب
أن يرضي عنه جماعة المسلمين ويبتاعه منهم، هذا إن جاز الابتياع لما يجري
هذا المجرى، وإن كان انتقل في حياته فقد كان يجب أن
يظهر سبب انتقاله والحجة فيه، فإن فاطمة رضي
الله عنها لم يقنع منها في
انتقال فدك إلى ملكها بقولها، ولا بشهادة من شهد.
فأما تعلقه بإضافة البيوت إليهن في قوله: "وقرن في بيوتكن"، فمن ضعيف الشبهة، لأنا قد بينا فيما مضى من هذا الكتاب أن هذه الإضافة لا تقتضي
الملك، وإنما تقتضي السكنى، والعادة في استعمال هذه اللفظة فيما ذكرناه
ظاهرة، قال تعالى: "لا تخرجوهن من بيوتهن"، ولم يرد الله تعالى إلا حيث يسكن وينزلن دون حيث
يملكن وما أشبهه، وأظرف من كل شيء تقدم قوله: إن
الحسن رضي الله عنه استأذن عائشة في أن يدفن في
البيت حتى منعه مروان وسعيد بن العاص، لأن هذه
مكابرة منه ظاهرة، فإن المانع للحسن رضي الله عنه من ذلك لم
يكن إلا عائشة، ولعل من ذكره من مروان وسعيد
وغيرهما أعانها واتبع في ذلك أمرها، وروي أنها خرجت في ذلك اليوم على بغل حتى قال ابن عباس:
يوماً على بغل ويوماً على جمل، فكيف تأذن عائشة في ذلك،
وهي مالكة الموضع على قولهم، ويمنع منه مروان وغيره ممن
لا ملك له في الموضع ولا شركة ولا يد، وهذا من قبيح ما يرتكب. وأي فضل
لأبي بكر في روايته عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث
الدفن، وعملهم بقوله إن صح فمن مذهب صاحب الكتاب وأصحابه العمل بخبر الواحد العدل في أحكام الدين العظيمة، فكيف لا يعمل بقول أبي بكر في الدفن وهم يعملون بقول من هو دونه
فيما هو أعظم من ذلك. قلت: أما أبو بكر،
فإنه لا يلحقه بدفنه مع الرسول صلى الله عليه
وسلم،
لأنه ما دفن نفسه، وإنما دفنه الناس وهو ميت،
فإن كان ذلك خطأ فالإثم والذم لاحقان بمن فعل به ذلك،
ولم يثبت عنه بأنه أوصى أن يدفن مع رسول الله صلى الله
عليه وسلم، وإنما قد يمكن أن يتوجه هذا الطعن
إلى عمر، لأنه سأل عائشة أن يدفن في الحجرة مع
رسول الله وأبي بكر. والقول عندي شبه في أمر حجر الأزواج: هل
كانت على ملك رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن
توفي، أم ملكها نساؤه، والذي تنطق به
التواريخ أنه لما خرج من قباء ودخل المدينة وسكن منزل أبي أيوب، اختط المسجد
واختط حجر نسائه وبناته، وهذا يدل على أنه كان المالك
للمواضع، وأما خروجها عن ملكه إلى الأزواج والبنات فمما لم أقف عليه. ويجوز أن
تكون الصحابة فهمت من قرائن الأحوال ومما شاهدوه منه،
أنه قد أقر كل بيت منها في يد زوجة من الزوجات على سبيل
الهبة والعطية، وإن لم ينقل عنه في ذلك صيغة لفظ
معين، والقول في بيت فاطمة، رضي
الله عنها كذلك، لأن فاطمة رضي الله عنها
لم تكن تملك مالاً، وعلي رضي الله عنه بعلها
كان فقيراً في حياة رسول الله صلى الله عليه
وسلم،
حتى إنه كان يستقي الماء ليهود بيده، يسقي
بساتينهم لقوت يدفعونه إليه، فمن أين كان له ما يبتاع به حجرة يسكن فيها هو وزوجته، والقول في كثير
من الزوجات كذلك أنهن كن فقيرات مدقعات، نحو صفية بنت حيي
بن أخطب، وجويرية بنت الحارث، وميمونة، وغيرهن، فلا وجه يمكن أن يتملك
منه هؤلاء النسوة والبنت الحجر، إلا أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم وهمها لهن، هذا إن ثبت أنها خرجت عن ملكيته رضي
الله عنه، وإلا فهي لاقية على ملكيته باستصحاب الحال.
والقول في حجرة زينب بنت رسول الله صلى
الله عليه وسلم كذلك، لأنه
أقدمها من مكة مفارقة لبعلها أبى العاص بن الربيع، فأسكنها بالمدينة في حجرة
منفردة خالية عن بعل، فلا بد أن تكون تلك الحجرة بمقتضى ما يتغلب على الظن ملكاً له، فيستدام الحكم بملكه لها إلى أن نجد دليلاً ينقلنا عن ذلك. وأما رقية وأم كلثوم
زوجتا عثمان، فإن كان مثرياً ذا مال فيجوز أن
يكون ابتاع حجرة سكنت فيها الأولى منهما، ثم الثانية
بعدها. وأما القول في الحسن وما جرى من
عائشة وبني أمية فقد تقدم، وكذلك القول في الخبر المروي في
دفن الرسول صلى الله عليه وسلم فكان أبو
المظفر هبة الله بن الموسوي صدر المخزن المعمور، كان في أيام الناصر لدين الله
إذا حادثته حديث وفاة رسول الله صلى الله عليه
وسلم
ورواية أبي بكر ما رواه من قوله رضي الله عنه: الأنبياء يدفنون حيث يموتون، يحلف أن أبا بكر افتعل هذا
الحديث في الحال والوقت، ليدفن النبي في حجرة ابنته، ثم يدفن هو معه عند موته،
علماً أنه لم يبق من عمره إلا مثل ظمء الحمار، وأنه إذا
دفن النبي صلى الله عليه وسلم في حجرة ابنته فإن ابنته
تدفنه لا محالة في حجرتها عند بعلها، وأن دفن
النبي صلى الله عليه وسلم في موضع آخر فربما لا يتهيأ له أن يدفن عنده، فرأى أن هذا الفوز بهذا الشرف العظيم،
وهذا المكان الجليل، مما لا يقتضي حسن التدبير فوته،
وأن انتهاز الفرصة فيه واجب، فروى لهم الخبر، فلا
يمكنهم بعد روايته ألا يعملوا به، لا سيما وقد صار هو
الخليفة، وإليه السلطان والنفع والضرر، وأدرك ما كان في نفسه، ثم نسج عمر على
منواله، فرغب إلى عائشة في مثل ذلك، وقد
كان يكرمها ويقدمها على سائر الزوجات في العطاء وغيره،
فأجابته إلى ذلك، وكان مطاعاً في حياته وبعد مماته، وكان يقول: واعجباً للحسن وطمعه في أن يدفن في حجرة
عائشة، والله لو كان أبوه الخليفة يومئذ لما تهيأ له ذلك، ولا تم لبغض عائشة
لهم، وحسد الناس إياهم، وتمالؤ بني أمية وغيرهم من قريش عليهم، ولهذا قالوا: يدفن عثمان في
حش كوكب، ويدفن الحسن في حجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف والخليفة معاوية والأمراء بالمدينة بنو أمية، وعائشة صاحبة الموضع، والناصر لبني هاشم قليل، والشانىء كثير. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الطعن التاسع.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قولهم: إنه نص على عمر بالخلافة، فخالف
رسول الله على زعمه، لأنه كان يزعم هو ومن قال لقوله، أن رسول الله لم يستخلف. فإن قالوا: ركوب الفيل فيه منفعة ولا مضرة فيه ولم يرد
نص بتحريمه، فوجب أن يحسن قيل لهم: والاستخلاف مصلحة، ولا مضرة فيه، وقد أجمع المسلمون أنه طريق إلى الإمامة، فوجب كونه طريقاً
إليها، وقد روي عن عمر أنه قال: إن
أستخلف فقد استخلف من هو خير مني، يعني أبا بكر، وإن أترك فقد ترك من هو خير
مني، يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم
فأما الاجتماع المشار إليه فهو أن الصحابة أجمعوا على أن عمر إمام بنص أبي بكر
عليه، وأنفذوا أحكامه، وأنفذوا إليه لأجل نص أبي بكر لا لشيء سواه، فلو لم يكن
ذلك طريقاً إلى الإمامة لما أطبقوا عليه. وقد اختلف الشيخان أبو علي وأبو هاشم في أن نص الإمام على
إمام بعده، هل يكفي في انعقاد إمامته، فقال
أبو علي: لا يكفي، بل لا بد من أن يرضى به أربعة
حتى يجري عهده إليه مجرى عقد الواحد برضا أربعة، فإذا قارنه رضا أربعة صار بذلك
إماماً، ويقول في بيعة عمر: إن أبا بكر أحضر
جماعة من الصحابة لما نص عليه، ورجع إلى رضاهم بذلك، وقال أبو هاشم: بل يكفي نصه عليه، ولا يراعى في ذلك رضا غيره به، ولو
ثبت أن أبا بكر فعله لكان على طريق التبع للنص، لا أنه
يؤثر في إمامته مع العهد، ولعل أبا بكر إن كان فعل ذلك فقد استطاب به
نفوسهم، ولهذا لم يؤثر فيه كراهية طلحة حين قال:
وليت علينا فظاً غليظاً. ويبين ذلك أنه لم ينقل استئناف العقد من الصحابة لعمر
بعد موت أبي بكر ولا اجتماع جماعة لعقد البيعة له، والرضا به، فدل على أنهم
اكتفوا بعهد أبي بكر إليه. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الطعن العاشر.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قولهم: إنه سمى نفسه بخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم،
لاستخلافه إياه بعد موته، مع اعترافه أنه لم يستخلفه. والجواب أن الصحابة سمته
خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم لاستخلافه إياه على الصلاة عند موته، والاستخلاف على
الصلاة عند الموت له مزية على الاستخلاف على الصلاة حال
الحياة، لأن حال الموت هي الحال التي تكون فيها
العهود والوصايا وما يهتم به الإنسان من أمور الدنيا والدين، لأنها حال
المفارقة. وأيضاً فإن رسول الله صلى الله عليه
وسلم ما استخلف أحداً على الصلاة بالمدينة وهو حاضر، وإنما
كان يستخلف على الصلاة قوماً أيام غيبته عن المدينة،
فلم يحصل الاستخلاف المطلق على الصلاة بالناس كلهم، وهو
صلى الله عليه وسلم حاضر بين الناس حي إلا لأبي بكر، وهذه مزية ظاهرة على سائر الإستخلافات في أمر الصلاة، فلذلك
سموه خليفة رسول الله صلى الله عليه
وسلم،
و بعد فإذا ثبت أن الإجماع على كون الاختيار طريقاً إلى الإمامة
وحجة، وثبت أن قوماً من أفاضل الصحابة اختاروه للخلافة، فقد ثبت أنه خليفة رسول
الله صلى الله عليه وسلم،
لأنه لا فرق بين أن ينص الرسول صلى الله عليه وسلم على
شخص معين، وبين أن يشير إلى قوم فيقول: من
اختار هؤلاء القوم فهو الإمام، في أن كل واحد منهما يصح
أن يطلق عليه خليفة رسول الله صلى
الله عليه وسلم. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الطعن الحادي عشر.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قولهم: إنه حرق الفجاءة السلمي بالنار،
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يحرق أحد بالنار. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الطعن الثاني عشر.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قولهم: إنه تكلم في الصلاة قبل التسليم،
فقال: لا يفعلن خالد ما أمرته، قالوا، ولذلك جاز عند
أبي حنيفة أن يخرج الإنسان من الصلاة بالكلام
وغيره من مفسدات الصلاة من دون تسليم، وبهذا
احتج أبو حنيفة. وما يذكره القوم من
سبب كلام أبي بكر في الصلاة أمر بعيد، ولو كان
أبو بكر يريد ذلك لأمر خالداً أن يفعل ذلك الفعل بالشخص المعروف وهو نائم ليلاً
في بيته، ولا يعلم أحد من الفاعل. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الطعن الثالث عشر.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قولهم: إنه كتب إلى خالد بن الوليد وهو على الشام يأمره أن يقتل سعد
بن عبادة، فكمن له هو وآخر معه ليلاً، فلما مر بهما رمياه فقتلاه، وهتف صاحب خالد في ظلام الليل بعد أن
ألقيا سعداً في بئر هناك فيها ماء ببيتين:
يوهم أن ذلك شعر الجن، وأن الجن قتلت سعداً، فلما أصبح الناس فقدوا سعداً، وقد سمع قوم منهم ذلك الهاتف فطلبوه، فوجدوه بعد ثلاثة أيام في تلك البئر، وقد اخضر، فقالوا: هذا مسيس الجن، وقال شيطان الطاق لسائل سأله: ما منع علياً أن يخاصم
أبا بكر الخلافة؟ فقال: يا بن أخي، خاف أن تقتله الجن. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الطعن الرابع عشر.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قولهم: إنه لما استخلف قطع لنفسه على بيت المال أجرةً كل يوم ثلاثة دراهم،
قالوا: وذلك لا يجوز، لأن مصارف أموال بيت المسلمين لم يذكر فيها أجرة للإمام. والجواب أنه تعالى جعل
في جملة مصرف أموال الصدقات العاملين عليها، وأبو بكر من العاملين. واعلم أن الإمامية لو أنصفت لرأت أن هذا الطعن
بأن يكون من مناقب أبي بكر أولى من أن يكون من مساويه ومثالبه، ولكن العصبية لا
حيلة فيها. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الطعن الخامس عشر.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قولهم: إنه لما استخلف صرخ مناديه في المدينة: من كان عنده شىء من
كلام الله فليأتنا به، فإنا عازمون على جمع القرآن، ولا يأتنا بشيء منه إلا ومعه
شاهدا عدل، قالوا: وهذا خطأ، لأن القران قد بان
بفصاحته عن فصاحة البشر، فأي حاجة إلى شاهدي عدل. وأيضاً
فإنه لو أحضر إنسان آية أو آيتين ولم يكن معه شاهد، فربما
تختلف العرب: هل هذه في الفصاحة بالغة مبلغ الإعجاز الكلي، أم هي ثابتة
من كلام العرب بثبوته، غير بالغة إلى حد الإعجاز؟ فكان
يلتبس الأمر ويقع النزاع، فاستظهر أبو بكر بطلب الشهود تأكيداً، لأنه إذا
انضمت الشهادة إلى الفصاحة الظاهرة ثبت أن ذلك الكلام من القرآن. وإني
إلى لقاء الله لمشتاق، ولحسن ثوابه لمنتظر راج، ولكنني آسى أن يلي هذه الأمة
سفهاؤها وفجارها، فيتخذوا مال الله دولاً، وعباده خولاً، والصالحين حرباً،
والفاسقين حزباً، فإن منهم الذي شرب فيكم الحرام، وجلد حداً في الإسلام. وإن
منهم من لم يسلم حتى رضخت له على الإسلام الرضائخ، فلولا ذلك ما أكثرت تأليبكم
وتأنيبكم، وجمعكم وتحريضكم، ولتركتكم إذ أبيتم وونيتم. وتقروا بالخسف: تعترفوا بالضيم وتصبروا له. وتبوءوا
بالذل: ترجعوا به. والأرق:
الذي لا ينام. ومثل قوله رضي الله عنه: من
نام لم ينم عنه قول الشاعر:
فأما
الذي رضخت له على الإسلام الرضائخ، فمعاوية، والرضيخة:
شيء قليل يعطاه الإنسان يصانع به عن شيء يطلب منه كالأجر، وذلك لأنه من المؤلفة
قلوبهم الذين رغبوا في الإسلام والطاعة بجمال وشاء دفعت إليهم، وهم قوم معروفون كمعاوية وأخيه يزيد، وأبيهما أبي سفيان،
وحكيم بن حزام، وسهيل بن عمرو، والحارث بن هشام بن المغيرة، وحويطب بن عبد
العزى، والأخنس بن شريق، وصفوان بن أمية، وعمير بن وهب الجمحي، وعيينة بن حصن،
والأقرع بن حابس، وعباس بن مرداس وغيرهم. وكان
إسلام هؤلاء للطمع والأغراض الدنياوية، ولم يكن عن أصل ولا عن يقين وعلم. وقال الراوندي: عنى بقوله:
رضخت لهم الرضائخ، عمرو بن العاص، وليس بصحيح، لأن
عمراً لم يسلم بعد الفتح، وأصحاب الرضائخ كلهم أسلموا بعد الفتح، صونعوا على الإسلام بغنائم حنين. ولعمري إن إسلام عمرو كان مدخولاً أيضاً، إلا أنه
لم يكن عن رضيخة، وإنما كان لمعنى آخر. فأما الذي
شرب الحرام، وجلد في حد الإسلام، فقد قال الراوندي:
هو المغيرة بن شعبة، وأخطأ فيما قال، لأن
المغيرة إنما اتهم بالزنا ولم يحد ولم يجر للمغيرة ذكر في شرب الخمر، وقد تقدم خبر
المغيرة مستوفىً، وأيضاً فإن المغيرة لم يشهد صفين مع
معاوية ولا مع علي رضي الله عنه، له وما
للراوندي ولهذا، إنما يعرف هذا الفن أربائه. والذي عناه
علي رضي الله عنه الوليد
بن عقبة بن أبي معيط، وكان أشد الناس عليه وأبلغهم تحريضاً لمعاوية وأهل
الشام على حربه. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أخبار الوليد بن عقبة.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ونحن نذكر خبر الوليد وشربه الخمر منقولاً من كتاب الأغاني لأبي
الفرج علي بن الحسين الأصفهاني، قال أبو الفرج: كان سبب إمارة الوليد بن عقبة الكوفة لعثمان
ما حدثني به أحمد بن عبد العزيز الجوهري، قال: حدثنا عمر بن شبة، قال: حدثني عبد
العزيز بن محمد بن حكيم، عن خالد بن سعيد بن عمرو بن سعيد، عن أبيه، قال: لم يكن يجلس مع عثمان على سريره إلا العباس بن عبد
المطلب، وأبو سفيان بن حرب، والحكم بن أبي العاص، والوليد بن عقبة، ولم يكن
سريره يسع إلا عثمان وواحداً منهم، فأقبل الوليد يوماً فجلس، فجاء الحكم بن أبي العاص فأومأ عثمان إلى الوليد، فزحل له
عن مجلسه، فلما قام الحكم قال الوليد: والله يا
أمير المؤمنين رضي الله عنه لقد تلجلج في صدري بيتان قلتهما حين رأيتك آثرت ابن
عمك على ابن أمك، وكان الحكم عم عثمان،
والوليد أخاه لأمه، فقال عثمان: إن الحكم شيخ قريش، فما البيتان، فقال:
يعني
عمراً وخالداً ابني عثمان. قال: فرق له عثمان وقال: قد وليتك
الكوفة، فأخرجه إليها. فسكت سعد طويلاً، ثم قال: لا والله ما
أدري أصلحت بعدنا أم فسدنا بعدك، ثم قال:
فقال الوليد:
أما والله لأنا أقول للشعر منك، وأروى له، ولو شئت
لأجبتك، ولكني أدع ذاك لما تعلم. نعم والله لقد
أمرت بمحاسبتك، والنظر في أمر عمالك. ثم
بعث إلى عمال سعد فحبسهم وضيق عليهم، فكتبوا إلى سعد يستغيثون به، فكلمه فيهم فقال له: أو للمعروف عندك موضع؟ قال: نعم، فخلى
سبيلهم. فقال سعد: أراكم
والله ستجعلونه ملكاً.
وقال
الحطيئة أيضاً:
قال أبو الفرج:
وأخبرنا محمد بن خلف وكيع قال: حدثنا حماد بن إسحاق، قال:
حدثني أبي قال: قال أبو عبيدة وهشام بن الكلبي والأصمعي: كان الوليد زانياً يشرب الخمر، فشرب بالكوفة وقام ليصلي بهم الصبح
في المسجد الجامع، فصلى بهم أربع ركعات ثم التفت إليهم
فقال: أزيدكم، وتقيأ في المحراب بعد أن قرأ بهم رافعاً صوته في الصلاة:
فشخص أهل الكوفة إلى عثمان فأخبروه بخبره، وشهدوا عليه
بشرب الخمر، فأتي به، فأمر رجلاً من المسلمين أن
يضربه الحد، فلما دنا منه قال: نشدتك الله وقرابتي من أمير المؤمنين،
فتركه، فخاف علي بن أبي طالب أن يعطل الحد، فقام إليه فحده
بيده، فقال الوليد: نشدتك الله والقرابة، فقال أمير المؤمنين رضي الله عنه، اسكت أبا
وهب، فإنما هلك بنو إسرائيل لتعطيلهم الحدود، فلما ضربه وفرغ منه قال: لتدعوني
قريش بعدها جلاداً. قال إسحاق: وحدثني
مصعب بن الزبير قال: قال الوليد بعد ما شهدوا عليه فجلد: اللهم إنهم قد شهدوا علي بزور، فلا ترضهم عن أمير، ولا ترض عنهم
أميراً، قال: وقد عكس الحطيئة أبياته فجعلها مدحاً
للوليد:
قال أبو الفرج:
ونسخت من كتاب هارون بن الرباب بخطه، عن عمر بن شبة، قال: شهد رجل عند أبي
العجاج وكان على قضاء البصرة، على رجل من المعيطيين بشهادة، وكان الشاهد سكران، فقال، المشهود عليه، وهو المعيطي:
أعزك الله أيها القاضي، إنه لا يحسن من السكر أن يقرأ شيئاً من القرآن، فقال
الشاهد: بلى أحسن، قال: فاقرأ، فقال:
يمجن
بذلك، ويحكي ما قاله الوليد في الصلاة، وكان أبو العجاج
أحمق، فظن أن هذا الكلام من القرآن، فجعل يقول:
صدق الله ورسوله، ويلكم، كم تعلمون ولا تعملون. قال:
ولقي أبو زينب وصاحبه عبد الله بن حبيش الأسدي وعلقمة بن يزيد البكري وغيرهما،
فأخبروهم، فقالوا: اشخصوا إلى أمير المؤمنين رضي الله عنه فأعلموه،
وقال بعضهم: إنه لا يقبل قولكم في أخيه، فشخصوا إليه،
فقالوا: إنا جئناك في أمر، ونحن مخرجوه إليك من أعناقنا، وقد قيل: إنك لا تقبله،
قال: وما هو؟ قالوا: رأينا الوليد وهو سكران من خمر شربها، وهذا خاتمه أخذناه من
يده وهو لا يعقل. فأرسل عثمان إلى علي رضي الله عنه فأخبره،
فقال: أرى أن تشخصه، فإذا شهدوا عليه بمحضر منه حددته. فكتب
عثمان إلى الوليد. فقدم عليه، فشهد عليه أبو زينب وأبو مورم وجندب الأزدي
وسعد بن مالك الأشعري، فقال عثمان لعلي رضي الله عنه: قم يا أبا الحسن فاجلده، فقال علي رضي الله عنه للحسن ابنه: قم فاضربه، فقال الحسن: مالك
ولهذا، يكفيك غيرك، فقال علي لعبد الله بن جعفر:
قم فاضربه، فضربه بمخصرة فيها سير له رأسان، فلما بلغ أربعين قال: حسبك.
فقال عدي:
فأين تذهب بنا إذن، فأقم.
قال أبو الفرج:
وحدثني أحمد قال: حدثني عمر قال: لما قدم الوليد بن عقبة الكوفة قدم عليه أبو
زبيد فأنزله دار عقيل بن أبي طالب على باب المسجد، وهي التي تعرف بدار القبطي،
فكان مما احتج به عليه أهل الكوفة أن أبا زبيد كان يخرج إليه من داره وهو نصراني
يخترق المسجد فيجعله طريقاً.
قال:
يقول، إذا أجدبتم فإنا لا نحميها عليكم، وإذا كنتم أسأتم وحميتموها علينا.
قال:
ومن شعر أبي زبيد فيه يذكر نصره له على مري بن أوس بن حارثة:
وقال
أبو زبيد يمدح الوليد ويتألم لفراقه حين عزل عن الكوفة:
وهي طويلة يصف فيها الأسد . قال: هو الوليد بن عقبة، بعثه النبي صلى الله عليه وسلم
مصدقاً إلى بني المصطلق، فلما رأوه أقبلوا نحوه، فهابهم، فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: إنهم ارتدوا عن الإسلام، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد، فعلم علمهم، وأمره
أن يتثبت، وقال له: انطلق ولا تعجل، فانطلق حتى أتاهم ليلاً، وأنفذ عيونه نحوهم،
فلما جاءوه أخبروه أنهم متمسكون بالإسلام وسمع أذانهم وصلاتهم، فلما أصبح أتاهم
فرأى ما يعجبه، فرجع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فأخبره فنزلت هذه الآية. قال: ولا خلاف بين
أهل العلم بتأويل القرآن أن قوله عز وجل: "إن
جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا" أنزلت في الوليد
لما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقاً، فكذب على بني المصطلق وقال: إنهم ارتدوا وامتنعوا من أداء
الصدقة. قال أبو عمر:
وفيه وفي علي رضي الله عنه
نزل: "أفمن
كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون"، في
قصتهما المشهورة. قال: ومن كان صبياً يوم الفتح لا يجيء منه مثل هذا،
فوجب أن ينظر في حديث الخلوق، فإنه رواية جعفر بن
برقان، عن ثابت، عن الحجاج، عن أبي موسى الهمداني، وأبو موسى مجهول لا يصح
حديثه. ثم نعود إلى كتاب أبي الفرج الأصبهاني، قال أبو الفرج: وأخبرني أحمد بن عبد العزيز، عن عمر
بن شبة، عن عبد الله بن موسى، عن نعيم بن حكيم، عن أبي مريم، عن علي رضي الله عنه، أن امرأة الوليد بن عقبة جاءت إلى
النبي صلى الله عليه وسلم تشتكي
إليه الوليد، وقالت: إنه يضربها، فقال لها: ارجعي
إليه وقولي له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد
أجارني، فانطلقت، فمكثت ساعة، ثم رجعت فقالت: إنه ما أقلع عني، فقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم هدبة من ثوبه وقال: اذهبي بها إليه وقولي له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أجارني، فانطلقت فمكثت ساعة ثم رجعت فقالت: ما زادني إلا
ضرباً، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده
ثم قال: "اللهم عليك بالوليد" مرتين أو
ثلاثاً.
فدنا منه أصحابه فقالوا: يا رسول الله، ما ينفعنا سيرنا مخافة أن تنهشك دابة، أو
تصيبك نكبة. فركب ودنوا منه وقالوا: قلت قولاً لا ندري ما
هو، قال: وما ذاك، قالوا: كنت تقول: جندب
وما جندب، والأقطع زيد الخير.
قال أبو الفرج:
وقد روي أن هذا الساحر كان يدخل عند الوليد في جوف بقرة حية، ثم يخرج منها، فرآه
جندب فذهب إلى بيته، فاشتمل على سيف، فلما دخل الساحر في البقرة قال جندب: "أفتاتون السحر وأنتم تبصرون"، ثم ضرب
وسط البقرة فقطعها وقطع الساحر معها، فذعر الناس، فسجنه الوليد، وكتب بأمره إلى
عثمان. قال أبو الفرج:
وكان الوليد أسن من سعيد بن العاص، وأسخى نفساً، وألين جانباً، وأرضى عندهم،
فقال بعض شعرائهم:
وقال
آخر منهم:
قال أبو الفرج:
وحدثنا أحمد، قال: حدثنا عمر، عن المدائني، قال:
قدم الوليد بن عقبة الكوفة في أيام معاوية زائراً للمغيرة بن شعبة، فأتاه أشراف
الكوفة فسلموا عليه. وقالوا: والله ما رأينا بعدك مثلك، فقال: أخيراً أم شراً، قالوا: بل خيراً،
قال: ولكني ما رأيت بعدكم شراً منكم. فأعادوا الثناء عليه، فقال: بعض ما تأتون
به، فو الله إن بغضكم لتلف، وإن حبكم لصلف. قال معاوية:
ما أعلمه إلا قد أحسن السيرة، وبسط الخير، وقبض الشر. قال: فأنت
يا أمير المؤمنين رضي الله عنه
اليوم أقدر على ذلك فافعله، فقال: اسكت لا سكت، فسكت وسكت القوم، فقال معاوية بعد يسير: مالك لا تتكلم يا قبيصة،
قال: نهيتني عما كنت أحب فسكت عما لا أحب.
قيل:
هم إخوته، وقيل: ندماؤه.
وبلغ
معاوية شخوصه إلى الجزيرة فخافه، وكتب إليه: أقبل، فكتب:
ثم
رحل إلى الحجاز، فبعث إليه معاوية بجائزة. قال: وكان الأصمعي وأبو عبيدة وابن الكلبي
وغيرهم يقولون: إنه كان فاسقاً شريب خمر، وكان شاعراً كريماً. قال:
وأخباره في شربه الخمر ومنادمته أبا زبيد الطائي كثيرة مشهورة، ويسمح بنا ذكرها،
ولكنا نذكر منها طرفاً. ثم ذكر ما ذكره أبو الفرج في الأغاني، وقال: إن خبر الصلاة وهو سكران، وقوله: أأزيدكم؟ خبر مشهور
روته الثقات من نقلة الحديث. قال أبو عمر بن عبد البر: وقد ذكر الطبري في رواية أنه تغضب عليه قوم من أهل
الكوفة حسداً وبغياً، وشهدوا عليه بشرب الخمر، وقال: إن عثمان قال له: يا أخي
اصبر، فإن الله يأجرك ويبوء القوم بإثمك. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وكتب إلى أبي موسى الأشعري وهو عامله
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
على الكوفة، وقد بلغه عنه تثبيطه الناس
عن الخروج إليه لما ندبهم لحرب أصحاب الجمل. الأصل: من عبد الله علي أمير المؤمنين رضي الله عنه إلى
عبد الله بن قيس: أما بعد، فقد بلغني عنك قول هو لك وعليك، فإذا قدم عليك رسولي
فارفع ذيلك، واشدد مئزرك، واخرج من جحرك، وانذب من معك، فإن حققت فانفذ، وإن
تفشلت فابعد، وأيم الله لتؤتين من حيث أنت، ولا تترك حتى يخلط زبدك بخاثرك،
وذائبك بجامدك، وحتى تعجل عن قعدتك، وتحذر من أمامك، كحذرك من خلفك، وما هي
بالهوينى التي ترجو، ولكنها الداهية الكبرى، يركب جملها، ويذل صعبها، ويسهل
جبلها. فاعقل عقلك، واملك أمرك، وخذ نصيبك وحظك، فإن كرهت فتنح إلى غير رحب، ولا
في نجاة، فبالحري لتكفين وأنت نائم حتى لا يقال: أين
فلان، والله إنه لحق مع محق وما يبالي ما صنع الملحدون، والسلام. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وكتب إلى معاوية جواباً عن كتابه.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
أما بعد، فإنا كنا نحن وأنتم على ما ذكرت من الألفة والجماعة، ففرق بيننا وبينكم
أمس أنا آمنا وكفرتم، واليوم أنا استقمنا وفتنتم، وما أسلم مسلمكم إلا كرهاً،
وبعد أن كان أنف الإسلام كله لرسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه حرباً.
وعندي السيف الذي أعضضته بجدك وخالك وأخيك في مقام واحد. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
كتاب معاوية إلى علي.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الشرح: أما الكتاب
الذي كتبه إليه معاوية، وهذا الكتاب جوابه، فهو:
من معاوية بن أبي سفيان، إلى علي بن أبي طالب: أما بعد، فإنا بني عبد مناف لم نزل ننزع من قليب
واحد، ونجري في حلبة واحدة، ليس لبعضنا على بعض فضل، ولا لقائمنا على قاعدنا
فخر، كلمتنا مؤتلفة، وألفتنا جامعة، ودارنا واحدة، يجمعنا كرم العرق، ويحوينا
شرف النجار، ويحنو قوينا على ضعيفنا، ويواسي غنينا فقيرنا، قد خلصت قلوبنا من
وغل الحسد، وطهرت أنفسنا من خبث النية، فلم نزل كذلك
حتى كان منك ما كان من الإدهان في أمر ابن عمك، والحسد له، ونصرة الناس عليه،
حتى قتل بمشهد منك، لا تدفع عنه بلسان ولا يد. فليتك أظهرت نصره، حيث أسررت خبره، فكنت كالمتعلق
بين الناس بعذر وإن ضعف، والمتبرىء من دمه بدفع وإن وهن، ولكنك جلست في دارك تدس إليه الدواهي، وترسل إليه الأفاعي،
حتى إذا قضيت وطرك منه، أظهرت شماتة، وأبديت طلاقة، وحسرت للأمر عن ساعدك، وشمرت
عن ساقك، ودعوت الناس إلى نفسك، وأكرهت أعيان المسلمين على بيعتك، ثم كان منك
بعد ما كان، من قتلك شيخي المسلمين أبي محمد طلحة وأبي عبد الله الزبير، وهما من
الموعودين بالجنة، والمبشر قاتل أحدهما بالنار في الآخرة، هذا إلى تشريدك
بأم المؤمنين عائشة وإحلالها محل الهون، مبتذلةً بين أيدي الأعراب وفسقة أهل
الكوفة، فمن بين مشهر لها، وبين شامت بها، وبين ساخر منها. ترى ابن
عمك كان بهذه لو رآه راضياً، أم كان يكون عليك ساخطاً، ولك عنه زاجراً، أن تؤذي
أهله وتشرد بحليلته، وتسفك دماء أهل ملته. ثم تركد دار الهجرة التي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها: "إن المدينة لتنفي خبثها كما ينفي الكير خبث
الحديد"، فلعمري لقد صح وعده وصدق قوله، ولقد نفت خبثها، طردت عنها
من ليس بأهل أن يستوطنها، فأقمت بين المصرين، وبعدت عن بركة الحرمين، ورضيت
بالكوفة بدلاً من المدينة، وبمجاورة الخورنق والحيرة عوضاً عن مجاورة خاتم
النبوة، ومن قبل ذلك ما عبت خليفتي رسول الله صلى
الله عليه وسلم أيام حياتهما، فقعدت عنهما وألبت
عليهما، وامتنعت من بيعتهما، ورمت أمراً لم يرك الله تعالى له أهلاً، ورقيت
سلماً وعراً، وحاولت مقاماً دحضاً، وادعيت ما لم تجد عليه ناصراً، ولعمري لو
وليتها حينئذ لما ازدادت إلا فساداً واضطراباً، ولا أعقبت ولايتكها إلا انتشاراً
وارتداداً، لأنك الشامخ بأنفه، الذاهب بنفسه، المستطيل على الناس بلسانه ويده، وها أنا سائر إليك في جمع من المهاجرين والأنصار تحفهم سيوف
شامية، ورماح قحطانية، حتى يحاكموك إلى الله. فانظر
لنفسك وللمسلمين، وادفع إلي قتلة عثمان، فإنهم خاصتك وخلصاؤك والمحدقون بك، فإن
أبيت إلا سلوك سبيل اللجاج، والإصرار على الغي والضلال، فاعلم أن هذه الآية إنما
نزلت فيك وفي أهل العراق معك: "وضرب الله
مثلاً قرية كانت آمنةً مطمئنةً يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله
فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون". فأما الجواب المفصل فأن يقال:
إن طلحة والزبير قتلا أنفسهما ببغيهما ونكثهما، ولو استقاما على الطريقة لسلما،
ومن قتله الحق فدمه هدر، وأما كونهما شيخين من شيوخ الإسلام فغير مدفوع، ولكن
العيب يحدث، وأصحابنا يذهبون إلى أنهما تابا وفارقا الدنيا نادمين على ما صنعا،
وكذلك نقول نحن، فإن الأخبار كثرت بذلك، فهما من أهل الجنة لتوبتهما، ولولا
توبتهما لكانا هالكين كما هلك غيرهما، فإن الله تعالى لا يحابي أحداً في الطاعة
والتقوى، قال تعالى "ليهلك من هلك عن بينة
ويحيا من حي عن بينة". ولو كانت فعلت بعمر ما فعلت به، وشقت عصا الأمة عليه، ثم ظفر
بها، لقتلها ومزقها إرباً إرباً، ولكن علياً كان
حليماً كريماً. ثم لعلي رضي الله عنه أن يقلب عليه الكلام فيقول له:
وأنت يا معاوية، قد نفتك المدينة أيضاً عنها، فأنت إذا خبث، وكذلك طلحة والزبير
وعائشة الذين تتعصب لهم وتحتج على الناس بهم، وقد خرج عن المدينة الصالحون، كابن
مسعود وأبي ذر وغيرهما، وماتوا في بلاد نائية عنها. فأما ما ذكره من خذلانه عثمان وشماتته به ودعائه
الناس بعد قتله إلى نفسه وإكراهه طلحة والزبير وغيرهما على بيعته فكله دعوى
والأمر بخلافها، ومن نظر كتب السير عرف أنه قد بهته
وادعى عليه ما لم يقع منه. وأما قوله:
التوبت على أبي بكر وعمر، وقعدت عنهما، وحاولت الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن علياً رضي الله عنه لم يكن يجحد ذلك ولا ينكره، ولا ريب أنه كان يدعي الأمر بعد وفاة
رسول الله صلى الله عليه
وسلم
لنفسه على الجملة، إما
لنص كما تقوله الشيعة، أو لأمر آخر كما
يقوله أصحابنا. فأما قوله: لو وليتها حينئذ لفسد الأمر واضطرب الإسلام، فهذا علم غيب لا يعلمه إلا الله، ولعله لو وليها حينئذ
لاستقام الأمر وصلح الإسلام وتمهد، فإنه ما وقع الاضطراب عند ولايته بعد عثمان إلا لأن أمره هان عندهم بتأخره عن الخلافة، وتقدم غيره عليه، فصغر شأنه في النفوس،
وقرر من تقدمه في قلوب الناس أنه لا يصلح لها كل
الصلاحية، والناس على ما يحصل في نفوسهم، ولو كان وليها ابتداء وهو على تلك الحالة التي كان عليها أيام حياة رسول الله
صلى الله عليه وسلم وتلك المنزلة الرفيعة والاختصاص
الذي كان له، لكان الأمر غير الذي رأيناه عند
ولايته بعد عثمان. وأما قوله: لأنك الشامخ
بأنفه، الذاهب بنفسه، فقد أسرف في وصفه بما وصفه به، ولا شك أن علياً رضي الله عنه كان
عنده زهو لكن لا هكذا، وكان رضي الله عنه مع
زهوه ألطف الناس خلقاً. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
خبر فتح مكة.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ويجب أن نذكر في هذا الموضع ملخص ما ذكره الواقدي في كتاب
المغازي في فتح مكة، فإن الموضع يقتضيه، لقوله رضي الله عنه: ما أسلم مسلمكم إلا
كرهاً. وقوله: يوم أسر أخوك.
ثم ذكروا له ما أثار الشر، وقالوا له: إن أنس بن زنيم هجاك، وإن صفوان بن
أمية وفلاناً وفلاناً دسوا إلينا رجال قريش مستنصرين، فبيتونا بمنزلنا بالوتير فقتلونا، وجئناك مستصرخين بك، فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام مغضباً يجر رداءه ويقول: "لا نصرت إن لم أنصر خزاعة
فيما أنصر منه نفسي". وقال أبو سفيان:
قد رأت هند بنت عتبة رؤيا كرهتها وأفظعتها، وخفت من
شرها، قالوا: ما رأت، قال: رأت كأن دماً أقبل من الحجون يسيل حتى وقف
بالخندمة ملياً، ثم كأن ذلك الدم لم يكن، فكره القوم ذلك وقالوا: هذا شر. قالت قريش: قد والله أصبت، وندمت قريش على ما صنعت بخزاعة وعرفت أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم لا
بد أن يغزوها، فخرج أبو سفيان وخرج معه مولى له على
راحلتين، وأسرع السير وهو يرى أنه أول من خرج من مكة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالوا: بنو بكر بن عبد مناة، قال: كلها،
قالوا: لا، ولكن تهمتنا بنو نفاثة قصرة، ورأسهم نوفل بن معاوية النفاثي، فقال:
هذا بطن من بكر، فأنا باعث إلى أهل مكة فسائلهم عن هذا الأمر، ومخيرهم في خصال. فبعث إليهم ضمرة يخيرهم بين إحدى خلال ثلاث: بين أن
يدوا خزاعة، أو يبرءوا من حلف نفاثة، أو ينبذ إليهم على سواء. فأتاهم ضمرة
فخيرهم بين الخلال الثلاث، فقال قريظة بن عبد عمرو
الأعمى: أما أن ندي قتلى خزاعة، فإنا إن وديناهم لم يبق لنا سبد ولا لبد،
وأما أن نبرأ من حلف نفاثة، فإنه ليس قبيلة تحج هذا البيت أشد تعظيماً له من
نفاثة، وهم حلفاؤنا فلا نبرأ من حلفهم، ولكنا ننبذ إليه على سواء. فعاد ضمرة إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، وندمت قريش أن ردت ضمرة بما ردته به. قال الواقدي:
وقد روي غير ذلك، روي أن قريشاً لما ندمت على قتل خزاعة وقالت: محمد غازينا، قال
لهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وهو يومئذ كافر مرتد عندهم -: إن عندي رأياً،
إن محمداً ليس يغزوكم حتى يعذر إليكم ويخيركم في خصال كلها أهون عليكم من غزوه،
قالوا: ما هي، قال: يرسل إليكم أن تدوا قتلى خزاعة، أو تبرءوا من حلف من نقض
العهد وهم بنو نفاثة، أو ينبذ إليكم العهد. فقال القوم: أحر بما قال ابن أبي سرح
أن يكون، فقال سهيل بن عمرو: ما خصلة أيسر
علينا من أن نبرأ من حلف نفاثة، فقال شيبة بن عثمان العبدري: حطت أخوالك خزاعة،
وغضبت لهم، قال سهيل: وأي قريش لم تلد خزاعة، قال شيبة: لا، ولكن ندي قتلى خزاعة
فهو أهون علينا. فقال قريظة بن عبد عمرو:
لا والله لا نديهم ولا نبرأ عن نفاثة أبر العرب بنا، وأعمرهم لبيت ربنا، ولكن
ننبذ إليهم على سواء. فقال أبو سفيان: ما
هذا بشيء، وما الرأي إلا جحد هذا الأمر أن تكون قريش دخلت في نقض العهد، أو قطع
مدة، فإن قطعه قوم بغير هوىً منا ولا مشورة فما علينا، قالوا: هذا هو الرأي، لا
رأي إلا الجحد لكل ما كان من ذلك، فقال: أنا أقسم إني لم أشهد ولم أوامر، وأنا
صادق، لقد كرهت ماصنعتم، وعرفت أن سيكون له يوم غماس، قالت قريش لأبي سفيان:
فاخرج أنت بذلك، فخرج. وقال لبني خزاعة عمرو بن سالم وأصحابه: ارجعوا
وتفرقوا في الأودية، وقام فدخل على عائشة وهو مغضب، فدعا بماء، فدخل يغتسل، قالت عائشة: فأسمعه يقول وهو يصب الماء على رجليه:
"لا نصرت إن لم أنصر بني كعب". قالوا: لا
عهد لنا بها، فعرف أنهم كتموه، فقال: أما معكم من تمر يثرب شيء تطعموناه، فإن
لتمر يثرب فضلاً على تمر تهامة؟ قالوا: لا، ثم أبت نفسه أن تقر، فقال: يا بديل،
هل جئت محمداً؟ قال: لا ولكني سرت في بلاد خزاعة من هذا الساحل في قتيل كان
بينهم حتى أصلحت بينهم. قال: يقول أبو سفيان:
إنك - والله ما علمت - بر واصل. فلما راح بديل وأصحابه جاء أبو سفيان إلى أبعار
إبلهم ففتها فإذا فيها النوى، ووجد في منزلهم نوى من تمر عجوة كأنه ألسنة
العصافير، فقال: أحلف بالله لقد جاء القوم محمداً. وأقبل حتى
قدم المدينة، فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد إني كنت غائباً
في صلح الحديبية، فاشدد العهد وزدنا في المدة، فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: ولذلك قدمت يا أبا سفيان، قال: نعم، قال: فهل كان قبلكم حدث، فقال: معاذ
الله، فقال رسول الله: فنحن على موثقنا وصلحنا يوم الحديبية لا نغير ولا نبدل. فقام من
عنده فدخل على ابنته أم حبيبة، فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه
وسلم طوته دونه، فقال: أرغبت بهذا الفراش عني، أم رغبت بي عنه، فقال: بل هو فراش
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت آمرؤ نجس مشرك. قال: يا بنية، لقد أصابك
بعدي شر، فقالت: إن الله هداني للإسلام،
وأنت يا أبت سيد قريش وكبيرها، كيف يخفى عنك فضل الإسلام، وتعبد حجراً لا يسمع
ولا يبصر، فقال: يا عجباً، وهذا منك أيضاً، أأترك ما كان يعبد آبائي وأتبع دين
محمد، ثم قام من عندها فلقي أبا بكر، فكلمه، وقال: تكلم أنت محمداً، وتجير أنت
بين الناس. فقال: أبو بكر:
جواري جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لقي عمر فكلمه، بمثل ما كلم به أبا
بكر، فقال عمر: والله لو وجدت السنور
تقاتلكم لأعنتها عليكم. قال أبو سفيان:
جزيت من ذي رحم شراً! ثم دخل على عثمان بن عفان فقال له:
إنه ليس في القوم أحد أمس بي رحماً منك، فزدني الهدنة وجدد العهد، فإن صاحبك لا
يرد عليك أبداً، والله ما رأيت رجلاً قط أشد إكراماً لصاحبه من محمد لأصحابه، فقال عثمان: جواري جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء أبو
سفيان حتى دخل على فاطمة بنت رسول الله صلى
الله عليه وسلم، فكلمها، وقال: أجيري بين الناس،
فقالت: إنما أنا امرأة، قال: إن جوارك جائز، وقد أجارت أختك أبا العاص بن
الربيع، فأجاز محمد ذلك. فقالت فاطمة: ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبت عليه،
فقال: مري أحد هذين ابنيك يجيز بين الناس، قالت: إنهما صبيان، وليس يجير الصبي. فلما أبت عليه، أتى علياً رضي الله عنه فقال:
يا أبا حسن، أجر بين الناس وكلم محمداً ليزيد في المدة، فقال علي رضي الله عنه: ويحك يا أبا سفيان، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عزم ألا
يفعل، وليس أحد يستطيع أن يكلمه في شيء يكرهه، قال أبو
سفيان: فما الرأي عندك فتشير لأمري، فإنه قد ضاق علي، فمرني بأمر ترى أنه
نافعي، قال علي رضي الله عنه: والله ما أجد
لك شيئاً مثل أن تقوم فتجير بين الناس، فإنك سيد كنانة، قال: أترى ذلك مغنياً
عني شيئاً، قال علي: إني لا أظن ذلك والله، ولكني لا أجد لك غيره. فقام أبو سفيان بين ظهري الناس فصاح: ألا إني قد أجرت
بين الناس، ولا أظن محمداً يحقرني. ثم دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فقال: يا محمد ما أظن أن ترد جواري، فقال صلى الله عليه وسلم: أنت
تقول ذلك يا أبا سفيان، ويقال: إنه لما صاح لم يأت النبي صلى
الله عليه وسلم وركب راحلته وأنطلق إلى مكة. ويروى أنه أيضاً أتى سعد بن عبادة
فكلمه في ذلك: وقال: يا أبا ثابت، قد عرفت الذي كان
بيني وبينك، وإني كنت لك في حرمنا جاراً، وكنت لي بيثرب مثل ذلك، وأنت سيد هذه
المدرة، فأجر بين الناس، وزدني في المدة. فقال سعد: جواري جوار
رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما يجير أحد
على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما انطلق أبو سفيان إلى مكة، كان طالت
غيبته عن قريش وأبطأ، فاتهموه وقالوا: نراه قد صبأ واتبع محمداً سراً، وكتم
سلامه، فلما دخل على هند ليلاً قالت: قد أحتبست حتى أتهمك قومك، فإن كنت جئتهم
بنجح فأنت الرجل. وقد كان دنا منها ليغشاها، فأخبرها الخبر وقال: لم أجد إلا ما
قال لي علي، فضربت برجلها في صدره وقالت: قبحت من رسول قوم. قال الواقدي:
فحدثني محمد بن عبد الله، عن الزهري، عن محمد بن جبير بن مطعم، قال: لما خرج أبو
سفيان عن المدينة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
لعائشة: جهزينا وأخفى أمرك. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم خذ عن قريش الأخبار والعيون حتى نأتيهم
بغتةً، وروي أنه قال: اللهم خذ على أبصارهم فلا يروني إلا بغتةً، ولا يسمعون بي
إلا فجأةً. قال: وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم عم، الأنقاب وجعل عليها
الرجال، ومنع من يخرج من المدينة، فدخل أبو بكر على عائشة وهي تجهز رسول صلى
الله عليه وسلم، تعمل له قمحاً سويقاً ودقيقاً، وتمراً، فقال لها: أهم رسول الله
صلى الله عليه وسلم بغزو؟ قالت: لا أدري، قال:
إن كان هم بسفر فآذنينا نتهيأ له، قالت: لا أدري لعله أراد بني سليم، لعله أراد
ثقيفاً أو هوازن، فاستعجمت عليه، فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أردت سفراً، قال: نعم،
قال: وأين تريد، قال: قريشاً، وأخف ذلك يا أبا بكر، وأمر رسول الله الناس
فتجهزوا، وطوى عنهم الوجه الذي يريد، وقال له أبو بكر: يا رسول الله، أو ليس
بيننا وبينهم مدة، فقال: إنهم غدروا ونقضوا العهد، فأنا غازيهم، فاطو ما ذكرت
لك، فكان الناس بين ظان يظن أنه يريد سليماً، وظان يظن أنه يريد هوازن، وظان يظن
أنه يريد ثقيفاً، وظان يظن أنه يريد الشام، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم قتادة بن رنعي في نفر إلى بطن ليظن الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم أمامه أولئك الرجال لتوجهه إلى
تلك الجهة، ولتذهب بذلك الأخبار. فلما رأت منهما الجد حلت قرونها، واستخرجت الكتاب فدفعته إليهما، فاقبلا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا حاطباً وقال له: ما حملك على
هذا، فقال: يا رسول الله، والله إني لمسلم مؤمن بالله
ورسوله، ما غيرت ولا بدلت، ولكني كنت امرأ ليس
لي في القوم أصل ولا عشيرة، وكان لي بين أظهرهم أهل وولد، فصانعتهم. فقال عمر: قاتلك الله، ترى
رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ بالأنقاب وتكتب إلى قريش تحذرهم، دعني يا رسول الله أضرب عنقه، فإنه، قد نافق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما يدريك يا عمر لعل الله
قد اطلع على أهل بدر فقال:
اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم، قال الواقدي: فلما
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من
المدينة بالألوية المعقودة والرايات بعد العصر من يوم
الأربعاء لعشر خلون من شهر رمضان لم يحل عقده حتى انتهى إلى الصلصل،
والمسلمون يقودون الخيل، وقد امتطوا الإبل، وقدم أمامه الزبير بن العوام في
مائتين، قال: فلما كان بالبيداء نظر إلى عنان السماء، فقال: إني لأرى السحاب
تستهل بنصر بني كعب، يعني خزاعة.
قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يزد على ذلك، فجعل الناس يقولون: والله ما بين لك
رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً، فلم تزل الناس كذلك حتى نزلوا بمر الظهران. قال الواقدي:
وخرج العباس بن عبد المطلب ومخرمة بن نوفل من مكة يطلبان رسول الله صلى
الله عليه وسلم
ظناً
منهما أنه بالمدينة يريدان الإسلام، فلقياه بالسقيا. فقصها على رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقال: ذهب كلبهم، وأقبل درهم، وهم
سائلونا بأرحامهم، وأنتم لاقون بعضهم، فإن لقيتم أبا سفيان فلا تقتلوه. قال
الواقدي: وإلى أن وصل مر الظهران لم يبلغ قريشاً حرف واحد
من حاله، فلما نزل بمر الظهران أمر أصحابه أن يوقدوا النار، فأوقدوا عشرة آلاف
نار، وأجمعت قريش أن يبعثوا أبا سفيان يتجسس لهم
الأخبار، فخرج هو وحكيم بن حزام وبديل لن ورقاء. قال: وقد كان العباس بن عبد
المطلب قال: واسوء صباح قريش، والله إن دخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم
عنوةً إنه لهلاك قريش آخر الدهر، قال العباس: فأخذت
بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم الشهباء فركبتها، وقلت: ألتمس حطاباً أو إنساناً أبعثه إلى قريش
فيلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يدخلها عليهم عنوةً، فو الله إني
لفي الأراك ليلاً أبتغي ذلك إذ سمعت كلاماً يقول: والله إن رأيت كالليلة ناراً،
قال: يقول بديل بن ورقاء: إنها نيران خزاعة جاشها
الحرب. قال: يقول أبو سفيان: خزاعة أذل من أن
تكون هذه نيرانها وعسكرها، فعرفت صوته، فقلت: أبا
حنظلة، فعرف صوتي، فقال: لبيك أبا الفضل، فقلت: ويحك،
هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في عشرة آلاف، وهو مصبحكم، فقال: بأبي
وأمي، فهل من حيلة، فقلت: نعم، تركب عجز هذه البغلة، فأذهب بك إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم فإنه إن ظفر لك دون ذلك ليقتلنك، قال: والله أنا أرى ذلك، فركب
خلفي، ورحل بديل وحكيم فتوجهت به كلما مررت به على نار من نيران المسلمين قالوا: من هذا، فإذا رأوني قالوا: عم رسول الله صلى
الله عليه وسلم على بغلة رسول الله، حتى مررت بنار عمر
بن الخطاب، فلما رآني قال: من هذا؟ قلت: العباس،
فذهب ينظر فرأى أبا سفيان خلفي، فقال: أبو سفيان عدو الله، الحمد الله
الذي أمكن منك بغير عهد ولا عقد، ثم خرج يشتد نحو رسول
الله صلى الله عليه وسلم، وركضت البغلة حتى اجتمعنا جميعاً على باب قبة رسول
الله صلى الله عليه وسلم، فدخلت ودخل عمر بن الخطاب على أثري، فقال عمر: يا رسول الله، هذا أبو سفيان عدو الله قد أمكن الله
منه بغير عقد ولا عهد، فدعني أضرب عنقه، فقلت: يا رسول الله، إني قد
أجرته، ثم لزمت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: والله لا يناجيه الليلة أحد
دوني، فلما أكثر عمر فيه قلت: مهلاً يا عمر، فإنه لو
كان رجلاً من عدي بن كعب ما قلت هذا، ولكنه أحد بني عبد مناف. فقال عمر: مهلاً يا أبا الفضل، فو الله لإسلامك كان أحب إلي من إسلام الخطاب، أو قال: من
إسلام رجل من ولد الخطاب، لو أسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اذهب به فقد أجرناه، فليبت عندك حتى تغدو له علينا إذا أصبحت.
فلما أصبحت غدوت به، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله؟
قال: بأبي أنت ما أحلمك وأكرمك وأعظم عفوك، قد كان يقع
في نفسي أن لو كان مع الله إله آخر لأغنى، قال:
يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟ قال: بأبي
أنت ما أحلمك وأكرمك وأعظم عفوك، أما هذه فو
الله إن في النفس منها لشيئاً بعد، قال العباس: فقلت
ويحك، تشهد وقل لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن تقتل. فتشهد. وقال العباس:
يا رسول الله، إنك قد عرفت أبا سفيان وفيه الشرف والفخر، فاجعل له شيئاً، فقال: من دخل
دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق داره فهو آمن، ثم قال: خذه فاحبسه بمضيق
الوادي إلى خطم الجبل حتى تمر عليه جنود الله فيراها.
قال العباس: فعدلت به في مضيق الوادي إلى خطم الجبل فحبسته هناك، فقال: أغدراً يا بني هاشم، فقلت له: إن أهل النبوة لا يغدرون، وإنما
حبستك لحاجة، قال: فهلا بدأت بها أولاً فأعلمتنيها، فكان أفرخ لروعي، ثم مرت به
القبائل على قادتها، والكتائب على راياتها، فكان أول من مر به خالد بن الوليد في بني سليم، وهم ألف، ولهم لواءان يحمل أحدهما العباس بن مرداس
والآخر خفاف بن ندبة، وراية يحملها المقداد، فقال أبو سفيان، يا أبا الفضل،
من هؤلاء، قال: هؤلاء بنو سليم، وعليهم خالد بن الوليد، قال: الغلام، قال: نعم، فلما حاذى خالد العباس وأبا سفيان كبر ثلاثاً وكبروا معه، ثم
مضوا. ومر على أثره الزبير بن العوام في خمسمائة،
فيهم جماعة من المهاجرين وقوم من أفناء الناس، ومعه راية سوداء، فلما حاذاهما كبر ثلاثاً وكبر أصحابه فقال من هذا،
قال: هذا الزبير، قال: ابن أختك، قال: نعم، قال: ثم مرت به بنو غفار في ثلاثماثة
يحمل رايتهم أبو ذر، - ويقال: إيماء بن رحضة - فلما حاذوهما كبروا ثلاثاً، قال:
يا أبا الفضل: من هؤلاء، قال: بنو غفار، قال: ما لي ولبني غفار، ثم مرت به أسلم
في أربعمائة يحمل لواءها يزيد بن الخصيب، ولواء آخر مع ناجية بن الأعجم، فلما
حاذوه كبروا ثلاثاً، فسأل عنهم فقال: هؤلاء أسلم، فقال: ما لي ولأسلم، ما كان
بيننا وبينهم ترة قط، ثم مرت بنو كعب بن عمرو بن خزاعة
في خمسمائة يحمل رايتهم بشر بن سفيان، فقال: من
هؤلاء؟ قال: كعب بن عمرو، قال: نعم حلفاء محمد،
فلما حاذوه كبروا ثلاثاً. ثم مرت مزينة في ألف فيها ثلاثة ألوية مع النعمان بن
مقرن، وبلال بن الحارث، وعبد الله بن عمرو، فلما حاذوهما كبروا، قال: من هؤلاء؟
قال: مزينة، قال: يا أبا الفضل، ما لي ولمزينة، قد جاءتني تقعقع من شواهقها. ثم مرت جهينة في ثمانمائة، فيها أربعة ألوية
مع معبد بن خالد، وسويد بن صخر، ورافع بن مكيث، وعبد الله بن بدر، فلما حاذوه
كبروا ثلاثاً فسأل عنهم، فقيل: جهينة. ثم مرت بنو كنانة وبنو ليث وضمرة وسعد بن
أبي بكر في مائتين، يحمل لواءهم أبو واقد الليثي، فلما حاذوه كبروا ثلاثاً، قال:
من هؤلاء؟ قال: بنو بكر. قال: نعم أهل شؤم هؤلاء الذين
غزانا محمد لأجلهم، أما والله ما شوورت فيهم، ولا علمته، ولقد كنت له كارهاً حيث
بلغني، ولكنه أمر حم، قال العباس، لقد خار الله لك في غزو محمد إياكم،
ودخلتم في الإسلام كافة، ثم مرت أشجع، وهم آخر من مر به قبل أن تأتي كتيبة رسول
الله صلى الله عليه وسلم، وهم
ثلاثمائة يحمل لواءهم معقل بن سنان، ولواء آخر مع نعيم بن مسعود فكبروا، قال: من
هؤلاء؟ قال: أشجع، فقال: هؤلاء كانوا أشد العرب على
محمد، قال العباس: نعم، ولكن الله أدخل الإسلام قلوبهم، وذلك من فضل
الله. فسكت وقال: أما مر محمد بعد، قال: لا، ولو رأيت الكتيبة التي هو فيها
لرأيت الحديد والخيل والرجال، وما ليس لأحد به طاقة، فلما
طلعت كتيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم الخضراء طلع سواد شديد وغبرة من سنابك الخيل، وجعل الناس يمرون، كل
ذلك يقول: أما مر محمد بعد، فيقول العباس: لا، حتى مر رسول
الله صلى الله عليه وسلم يسير
على ناقته القصوى بين أبي بكر وأسيد ابن حضير، وهو يحدثهما، وقال له العباس: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبته الخضراء، فانظر، قال: وكان في تلك
الكتيبة وجوه المهاجرين والأنصار، وفيها الألوية
والرايات، وكلهم منغمسون في الحديد لا يرى منهم إلا
الحدق، ولعمر بن الخطاب فيها رجل وعليه الحديد، وصوته عال، وهو يزعها،
فقال: يا أبا الفضل، من هذا المتكلم، قال: هذا عمر بن
الخطاب، قال: لقد أمر أمر بني عدي بعد قلة وذلة، فقال: إن الله يرفع من
يشاء بما يشاء، وإن عمر ممن رفعه الإسلام، وكان في الكتيبة ألفا دارع، وراية رسول الله صلى
الله عليه وسلم مع
سعد بن عبادة، وهو أمام
الكتيبة، فلما حاذاهما سعد نادى: يا أبا سفيان:
اليوم يوم الملحمة اليوم تسبى الحرمة اليوم أذل الله قريشاً، فلما
حاذاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ناداه
أبو سفيان: يا رسول الله، أمرت بقتل قومك، إن سعداً قال: اليوم يوم الملحمة
اليوم تسبى الحرمه اليوم أذل الله قريشاً، وإني أنشدك الله في قومك فأنت أبر
الناس، وأرحم الناس، وأوصل الناس. فقال
عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف: يا رسول
الله، إنا لا نأمن سعداً أن يكون له في قريش صولة، فوقف رسول الله صلى الله عليه
وسلم وناداه، يا أبا سفيان، بل اليوم يوم المرحمة،
اليوم أعز الله قريشاً، وأرسل إلى سعد فعزله عن اللواء. وأختلف فيمن دفع إليه اللواء فقيل: دفعه إلى علي بن
أبي طالب رضي الله عنه، فذهب به حتى دخل مكة، فغرزه عند الركن، وهو قول ضرار بن الخطاب الفهري، وقيل: دفعه إلى قيس بن سعد ابن عمادة، ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لم يخرجه عن سعد حيث دفعه إلى ولده،
فذهب به حتى غرزه بالحجون، قال: وقال أبو سفيان للعباس: ما رأيت مثل هذه الكتيبة
قط، ولا أخبرنيه مخبر، سبحان الله، ما لأحد بهؤلاء طاقة ولا يدان، لقد أصبح ملك ابن أخيك يا عباس عظيماً، قال: فقلت:
ويحك، إنه ليس بملك، وإنها النبوة، قال: نعم. قال الواقدي: قال العباس: فقلت له: انج ويحك، فأدرك قومك قبل أن يدخل
عليهم، فخرج أبو سفيان حتى دخل من كداء وهو ينادي:
من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، حتى انتهى إلى هند
بنت عتبة، فقالت: ما وراءك؟ قال: هذا محمد في عشرة آلاف، عليهم الحديد، وقد جعل
لي أنه من دخل داري فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن ألقى سلاحه فهو
آمن، فقالت: قبحك الله من رسول قوم، وجعلت تقول،
ويحكم، اقتلوا وافدكم قبحه الله من وافد قوم، فيقول أبو
سفيان: ويحكم، لا تغرنكم هذه من أنفسكم، فإني رأيت ما لم تروا: الرجال،
والكراع، والسلاح، ليس لأحد بهذا طاقة، محمد في عشرة
آلاف، فأسلموا تسلموا. وقال المبرد في الكامل: أمسكت هند برأس أبي سفيان وقالت: بئس
طليعة القوم، والله ما خدشت خدشاً، يا أهل مكة، عليكم الحميت الدسم فاقتلوه. قال: الحميت: الزق المزفت.
فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحمد الله، وأمر الزبير بن العوام أن
يدخل من كداء، وأمر خالد بن الوليد أن يدخل من الليط، وأمر قيس بن سعد أن يدخل
من كدى، ودخل هو صلى الله عليه وسلم من أذاخر. قال الواقدي:
ودخلت الجنود كلها، فلم تلق حرباً إلا خالد بن الوليد فإنه وجد جمعاً من قريش
وأحابيشها قد جمعوا له، فيهم صفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمرو،
فمنعوه الدخول، وشهروا السلاح، ورموه بالنبل، وقالوا: لا تدخلها عنوةً أبداً،
فصاح خالد في أصحابه، وقاتلهم، فقتل من قريش أربعة وعشرون، ومن هذيل أربعة،
وانهزموا أقبح إنهزام حتى قتلوا بالحزورة، وهم مولون من كل وجه، وانطلقت طائفة
منهم فوق رؤوس الجبال، واتبعهم المسلمون، وجعل أبو
سفيان بن حرب وحكيم بن حزام يناديان: يا معشر قريش، علام تقتلون أنفسكم؟
من دخل داره فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن وضع السلاح فهو آمن، فجعل
الناس يقتحمون الدور ويغلقون عليهم الأبواب، ويطرحون السلاح في الطرق حتى يأخذه المسلمون.
قال الواقدي:
وحدثني قدامة بن موسى، عن بشير مولى المازنيين، عن جابر بن عبد الله، قال: كنت
ممن لزم رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ، فدخلت معه يوم الفتح من أذاخر،
فلما أشرف نظر إلى بيوت مكة، فحمد الله وأثنى عليه، ونظر إلى موضع قمة بالأبطح
تجاه شعب بني هاشم حيث حصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهله ثلاث سنين، وقال:
يا جابر، إن منزلنا اليوم حيث تقاسمت علينا قريش في كفرها، قال جابر: فذكرت
كلاماً كنت أسمعه في المدينة قبل ذلك، كان يقول: منزلنا غداً إن شاء الله إذا
فتح علينا مكة في الخيف حيث تقاسموا على الكفر. قال الواقدي:
وكانت أم هانىء بنت أبي طالب تحت هبيرة بن أبي
وهب المخزومي فلما كان يوم الفتح دخل عليها حموان لها:
عبد الله بن أبي ربيعة والحارث بن هشام المخزوميان، فاستجارا
بها، وقالا: نحن في جوارك، فقالت: نعم
أنتما في جواري. قالت أم هانىء: فهما عندي إذ دخل علي فارس مدجج في الحديد ولا أعرفه،
فقلت له:
أنا بنت عم رسول الله، فأسفر عن وجهه، فإذا علي أخي،
فاعتنقته، ونظر إليهما فشهر السيف عليهما، فقلت:
أخي من بين الناس تصنع بي هذا، فألقيت عليهما ثوباً، فقال:
أتجيرين المشركين، فحلت دونهما، وقلت: لا والله
ابتدىء بي قبلهما، قالت: فخرج ولم يكد، فأغلقت
عليهما بيتاً، وقلت: لا تخافا، وذهبت إلى خباء
رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبطحاء فلم
أجده، ووجدت فيه فاطمة، فقلت لها: ما لقيت من ابن أمي علي، أجرت حموين لي من
المشركين، فتفلت عليهما ليقتلهما، قالت: وكانت أشد علي
من زوجها، وقالت: لم تجيرين المشركين؟ وطلع رسول
الله صلى الله عليه وسلم وعليه الغبار، فقال: مرحبًا بفاختة - وهو اسم أم
هانىء -، فقلت:
ماذا لقيت من ابن أمي علي ما كدت أفلت منه، أجرت حموين
لي من المشركين، فتفلت عليهما ليقتلهما، فقال:
ما كان ذلك له، قد أجرنا من أجرت وأمنا من أمنت،
ثم أمر فاطمة فسكبت له غسلاً فاغتسل، ثم صلى ثماني ركعات في ثوب واحد ملتحفاً به
وقت الضحى، قالت: فرجعت إليهما وأخبرتهما، وقلت:
إن شئتما فأقيما، وإن شئتما فارجعا إلى منازلكما، فأقاما عندي في منزلي يومين،
ثم انصرفا إلى منازلهما.
فلما
انتهى إلى الكعبة تقدم على راحلته، فاستلم الركن بمحجنه، وكبر فكبر المسلمون
لتكبيره، وعجوا بالتكبير حتى ارتجت مكة، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يشير
إليهم أن اسكتوا، والمشركون فوق الجبال ينظرون، ثم طاف بالبيت على راحلته، ومحمد بن مسلمة آخذ بزمامها، وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً مرصوصةً بالرصاص، وكان هبل أعظمها، وهو تجاه الكعبة على بابها، وإساف ونائلة حيث ينحرون ويذبحون الذبائح، فجعل كلما
يمر بصنم منها يشير بقضيب في يده ويقول: "جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا"، فيقع الصنم لوجهه، ثم أمر بهبل فكسر وهو واقف عليه، فقال الزبير لأبي سفيان: يا أبا سفيان، قد كسر هبل،
أما إنك قد كنت منه يوم أحد في غرور حين تزعم أنه قد أنعم، فقال: دع هذا عنك يا
بن العوام، فقد أرى أن لو كان مع إله محمد غيره لكان غير ما كان. قال الواقدي:
ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم
فجلس ناحية من المسجد وأرسل بلالاً إلى عثمان ابن طلحة يأتيه بالمفتاح، مفتاح
الكعبة، فقال عثمان: نعم، فخرج إلى أمه وهي بنت شيبة، فقال لها والمفتاح عندها
يومئذ: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قد طلب المفتاح، فقالت: أعيذك بالله أن يكون الذي يذهب مأثرة قومه على يده!
فقال: فو الله لتأتيني به أو ليأتينك غيري فيأخذه منك، فأدخلته في حجرتها،
وقالت: أي رجل يدخل يده ههنا، فبينما هما على ذلك وهو يكلمها إذ سمعت صوت أبي
بكر وعمر في الدار، وعمر رافع صوته حين رأى عثمان أبطأ: يا عثمان اخرج، فقالت أمه: خذ المفتاح، فلأن
تأخذه أنت أحب إلي من أن يأخذه تيم وعدي، فأخذه فأتى به رسول الله صلى
الله عليه وسلم، فلما تناوله بسط العباس ابن عبد المطلب
يده وقال: يا رسول الله، بأبي أنت، إجمع لنا بين السقاية والحجابة، فقال:
إنما أعطيكم ما ترضون فيه، ولا أعطيكم ما ترزؤون منه، قالوا: وكان عثمان ابن طلحة قد قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم
مع خالد بن الوليد وعمرو بن العاص مسلماً قبل الفتح. إن الله قد أذهب نخوة الجاهلية وتكبرها
بآبائها، كلكم لآدم، وآدم من تراب. وأكرمكم عند الله أتقاكم. ألا إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض، فهي
حرام بحرم الله، لم تحل لأحد كان قبلي، ولا تحل لأحد يأتي بعدي، وما أحلت لي إلا
ساعة من النهار، قال: يقصدها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده هكذا، لا ينفر
صيدها، ولا يعضد عضاهها، ولا تحل لقطتها إلا لمنشد، ولا يختلى خلاها. فقال العباس:
إلا الإذخر يا رسول الله، فإنه لا بد منه للقبور والبيوت، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة ثم قال إلا الإذخر، فإنه حلال، ولا
وصية لوارث، والولد للفراش، وللعاهر الحجر، ولا يحل لامرأة أن تعطي من مالها إلا
بإذن زوجها، والمسلم أخو المسلم، والمسلمون إخوة، يد واحدة على من سواهم، تتكافأ
دماؤهم، يسعى بذمتهم أدناهم، ويرد عليهم أقصاهم، ولا يقتل مسلم بكافر، ولا ذو
عهد في عهده، ولا يتوارث أهل ملمين مختلفتين، ولا تنكح المرأة على عمتها ولا على
خالتها، والبينة على من ادعى، واليمين على من أنكر، ولا تسافر امرأة مسيرة ثلاث
إلا مع ذي محرم، ولا صلاة بعد العصر، ولا بعد الصبح، وأنهاكم عن صيام يومين: يوم
الأضحى ويوم الفطر. ثم
قال: ادعوا لي عثمان ابن طلحة، فجاء وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له يوماً بمكة قبل الهجرة ومع
عثمان المفتاح: لعلك سترى هذا المفتاح بيدي يوماً أضعه حيث شئت، فقال عثمان: لقد هلكت قريش إذاً وذلت، فقال صلى الله عليه وسلم: بل عمرت وعزت، قال عثمان: فلما دعاني يومئذ والمفتاح
بيده ذكرت قوله حين قال، فاستقبلته ببشر، فاستقبلني بمثله، ثم قال: خذوها يا بني أبي طلحة خالدة تالدة، لا
ينزعها منكم إلا ظالم. يا عثمان، إن الله استأمنكم على بيته، فكلوا بالمعروف، قال عثمان: فلما وليت ناداني فرجعت، فقال: ألم يكن الذي قلت لك، يعني ما كان قاله بمكة
من قبل، فقلت: بلى أشهد أنك رسول الله. فخبطوهم بالسيف ساعة، وهي الساعة التي أحلت
لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الواقدي:
وكانت كلمته هذه قد بلغت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يفتح مكة، فنهنهت عنه، وكلمه يوم الفتح نوفل بن
معاوية الدؤلي، فقال: يا رسول الله، أنت أولى
الناس بالعفو، ومن منا لم يعادك ولم يؤذك، ونحن في جاهلية لا ندري ما نأخذ وما
ندع، حتى هدانا الله بك، وأنقذنا بيمنك من الهلكة، وقد كذب عليه الركب، وكثروا
في أمره عندك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دع الركب عنك، إنا لم
نجد بتهامة أحداً من ذوي رحم ولا بعيد الرحم كان أبر بنا من خزاعة، فاسكت يا
نوفل، فلما سكت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد عفوت عنه فقال نوفل: فداك
أبي وأمي. ليتني مت قبل هذا اليوم قبل أن اسمع
بلالاً ينهق فوق الكعبة، وقال الحكم بن أبي العاص: هذا والله الحدث العظيم، أن يصيح عبد بني جمح، يصيح بما يصيح
به على بيت أبي طلحة، وقال سهيل بن عمرو، إن كان
هذا سخطاً من الله تعالى فسيغيره، وإن كان الله
رضاً فسيقره، وقال أبو سفيان: أما أنا فلا أقول
شيئاً، لو قلت شيئاً لأخبرته هذه الحصباء، قال: فأتى جرائيل عليه السلام رسول
الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره مقالة القوم. ثم قال: قل له: فليخرج، فلعمري
إن سهيلاً له عقل وشرف، وما مثل سهيل جهل
الإسلام، ولقد رأى ما كان يوضع فيه أن لم يكن له تتابع، فخرج عبد الله
إلى أبيه فأخبره بمقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال
سهيل: كان والله براً صغيراً وكبيراً، وكان سهيل يقبل ويدبر غير خائف،
وخرج إلى خيبر مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو على
شركه حتى أسلم بالجعرانة. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
نهايةالجزء السابع عشر |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الجزء الثامن عشر بسم
الله الرحمن الرحيم تتمة خبر فتح مكةتكرر هنا لتكملة السياق ومذكور ايضا في
الجزء التالي ايضا |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال الواقدي: وهرب
هبيرة بن أبي وهب وعبد الله بن الزبعرى جميعاً حتى انتهيا إلى نجران فلم يأمنا
الخوف حتى دخلا حصن نجران، فقيل: ما شأنكما، قالا: أما قريش فقد قتلت ودخل محمد
مكة، ونحن والله نرى أن محمداً سائر إلى حصنكم هذا، فجعلت لحارث بن كعب يصلحون
ما رث من حصنهم، وجمعوا ماشيتهم، فأرسل حسان بن ثابت
إلى ابن الزبعرى:
فلما جاء ابن الزبعرى شعر حسان تهيأ للخروج، فقال هبيرة
بن وهب: أين تريد يا بن عم، قال له: أريد والله محمداً، قال: أتريد أن
تتبعه، قال: أي والله، قال هبيرة: يا ليت أني
كنت رافقت غيرك، والله ما ظننت أنك تتبع محمداً أبداً، قال
ابن الزبعرى: هو ذاك، فعلى أي شيء أقيم مع بني الحارث بن كعب وأترك ابن
عمي وخير الناس وأبرهم، وبين قومي وداري، فانحدر ابن
الزبعرى حتى جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في أصحابه، فلما نظر إليه قال: هذا ابن الزبعرى
ومعه وجه فيه نور الإسلام، فلما وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: السلام عليك يا رسول الله، شهدت أن لا إله إلا الله، وأنك
عبده ورسوله، والحمد الله الذي هداني للإسلام، لقد
عاديتك وأجلبت عليك وركبت الفرس والبعير، ومشيت على قدمي في عداوتك، ثم هربت منك
إلى نجران، وأنا أريد ألا أقرب الإسلام أبداً، ثم أرادني الله منه بخير، فألقاه
في قلبي، وحببه إلي، وذكرت ما كنت فيه من الضلال واتباع ما لا ينفع ذا عقل، من
حجر يعبد، ويذبح له لا يدري من عبده ومن لا يعبده. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحمد الله
الذي هداك للإسلام، أحمد الله، إن الإسلام يجب ما كان قبله. وأقام هبيرة
بنجران، وأسلمت أم هانىء، فقال هبيرة حين بلغه
إسلامها يوم الفتح يؤنبها شعراً من جملته:
فأقام بنجران حتى مات مشركاً قال
الواقدي: وهرب حويطب بن عبد العزى
فدخل حائطاً بمكة، وجاء أبو ذر لحاجته، فدخل
الحائط فرآه، فهرب حويطب، فقال أبو ذر: تعال فأنت آمن، فرجع إليه فقال: أنت
آمن، فاذهب حيث شئت، وإن شئت أدخلتك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن شئت
فإلى منزلك، قال: وهل من سبيل إلى منزلي ألفى فاقتل قبل أن أصل إلى منزلي، أو
يدخل علي منزلي فاقتل، قال: فأنا أبلغ معك منزلك، فبلغ
معه منزله، ثم جعل ينادي على بابه: إن حويطباً آمن فلا يهيج. ثم انصرف
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: أو ليس قد أمنا الناس كلهم إلا من أمرت بقتله. قال الواقدي:
وهرب عكرمة بن أبي جهل إلى اليمن حتى ركب البحر،
قال: وجاءت زوجته أم حكيم بنت الحارث بن هشام إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم في نسوة منهن هند بنت عتمة - وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتلها - والبغوم بنت المعدل الكنانية امرأة
صفوان بن أمية، وفاطمة بنت الوليد بن المغيرة امرأة الحارث بن هشام، وهند بنت
عتبة بن الحجاج أم عبد الله بن عمرو بن العاص، ورسول
الله صلى الله عليه وسلم بالأبطح،
فأسلمن، ولما دخلن عليه دخلن وعنده زوجتاه وابنته فاطمة
ونساء من نساء عبد المطلب وسألن أن يبايعهن، فقال: إني لا أصافح النساء، ويقال:
إنه وضع على يده ثوباً فمسحن عليه، ويقال: كان
يؤتى بقدح من ماء فيدخل يده فيه ثم يرفعه إليهن، فيدخلن أيديهن فيه،
فقالت أم حكيم امرأة عكرمة: يا رسول الله، إن عكرمة هرب
منك إلى اليمن، خاف أن تقتله، فأمنه، فقال: هو
آمن. فخرجت أم حكيم في طلبه، ومعها
غلام لها رومي، فراودها عن نفسها، فجعلت تمنيه
حتى قدمت به على حي، فاستغاثت بهم عليه، فأوثقوه رباطاً، وأدركت عكرمة وقد انتهى إلى ساحل من سواحل تهامة، فركب
البحر، فهاج بهم، فجعل نوتي السفينة يقول له: أن أخلص، قال: أي شيء أقول؟ قال:
قل لا إله إلا الله، قال عكرمة: ما هربت إلا من
هذا، فجاءت أم حكيم على هذا من الأمر فجعلت تلح عليه وتقول: يابن عم، جئتك من
عند خير الناس، وأوصل الناس، وأبر الناس، لا تهلك نفسك، فوقف لها حتى أدركته، فقالت: إني قد استأمنت لك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمنك، قال: أنت فعلت؟ قالت: نعم أنا كلمته، فأمنك، فرجع معها،
فقالت: ما لقيت من غلامك الرومي، وأخبرته خبره، فقتله
عكرمة، فلما دنا من مكة قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم لأصحابه: يأتيكم عكرمة بن أبي جهل مؤمناً، فلا تسبوا أباه، فإن سب الميت يؤذي الحي. ولا يبلغ الميت. فلما وصل
عكرمة ودخل على رسول الله صلى الله عليه
وسلم وثب
إليه صلى الله عليه وسلم وليس
عليه رداء فرحاً له، ثم جلس فوق عكرمة بين يديه ومعه
زوجته منقبة، فقال: يا محمد، إن هذه أخبرتني أنك أمنتني، فقال: صدقت، أنت
آمن، فقال عكرمة: فإلام تدعو؟ فقال: إلى أن
تشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، وأن تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وعد
خصال الإسلام، فقال عكرمة: ما دعوت إلا إلى حق، وإلى حسن جميل، ولقد كنت فينا من قبل أن
تدعو إلى ما دعوت إليه، وأنت أصدقنا حديثاً، وأعظمنا براً. ثم قال:
فإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا
تسألني اليوم شيئاً أعطيه أحداً إلا أعطيتكه، قال: فإني أسألك أن تغفر لي كل
عداوة عاديتكها أو مسير أوضعت فيه، أو مقام لقيتك فيه، أو كلام قلته في وجهك، أو
أنت غائب عنه. فقال: اللهم اغفر له كل عداوة عادانيها، وكل مسير سار فيه إلي
يريد بذلك إطفاء نورك، واغفر له ما نال مني ومن عرضي، في وجهي أو أنا غائب عنه. فقال عكرمة: رضيت بذلك يا رسول الله، ثم قال: أما
والله لا أدع نفقة كنت أنفقها في صد عن سبيل الله إلا أنفقت ضعفها في سبيل
الإسلام وفي سبيل الله، ولأجتهدن في القتال بين يديك
حتى أقتل شهيداً، قال: فرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأته بذلك النكاح الأول. قال الواقدي:
وأما صفوان بن أمية فهرب حتى أتى الشعبة، وجعل يقول
لغلامه يسار، وليس معه غيره: ويحك. انظر من ترى؟ فقال: هذا عمير بن وهب، قال صفوان: ما أصنع بعمير؟ والله ما
جاء إلا يريد قتلي، قد ظاهر محمداً علي، فلحقه، فقال صفوان: يا عمير، مالك؟ ما
كفاك ما صنعت؟ حملتني دينك وعيالك، ثم جئت تريد قتلي، فقال:
يا أبا وهب، جعلت فداك، جئتك من عند خير الناس، وأبر الناس وأوصل الناس، وقد كان
عمير قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، سيد قومي صفوان بن أمية
خرج هارباً ليقذف نفسه في البحر، خاف ألا تؤمنه، فأمنه فداك أبي وأمي،
فقال: قد أمنته، فخرج في أثره، فقال: إن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قد أمنك قال صفوان: لا والله حتى تأتيني بعلامة أعرفها،
فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:
يا رسول الله، جئته وهو يريد أن يقتل نفسه فقال: لا أرجع إلا بعلامة أعرفها، فقال: خذ عمامتي، فرجع عمير إليه بعمامة رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهي البرد الذي دخل فيه رسول الله صلى
الله عليه وسلم مكة معتجراً به - برد حبرة أحمر - فخرج عمير في طلبه الثانية حتى
جاءه بالبرد فقال: يا أبا وهب، جئتك من عند خير الناس
وأوصل الناس وأبر الناس، مجده مجدك، وعزه عزك، وملكه ملكك، ابن أبيك وأمك، أذكرك
الله في نفسك، فقال: أخاف أن أقتل، قال: فإنه دعاك إلى
الإسلام فإن رضيت وإلا سيرك شهرين فهو أوفى الناس وأبرهم، وقد بعث إليك ببرده
الذي دخل به معتجراً، أتعرفه؟ قال: نعم، فأخرجه، فقال: نعم هو هو، فرجع
صفوان حتى انتهى إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم، فوجده يصلي العصر بالناس، فقال: كم
يصلون؟ قالوا: خمس صلوات في اليوم والليلة قال: أمحمد يصلي بهم؟ قالوا: نعم،
فلما سلم من صلاته صاح صفوان: يا محمد، إن عمير بن وهب
جاءني ببردك، وزعم أنك دعوتني إلى القدوم إليك، فإن رضيت أمراً، وإلا سيرتني
شهرين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنزل أبا وهب، فقال: لا والله أو تبين، لي، قال:
بل سر أربعة أشهر. فنزل صفوان وخرج معه إلى حنين وهو كافر، وأرسل إليه يستعير أدراعه، وكانت مائة درع، فقال:
أطوعاً أم كرهاً؟ فقال رضي الله عنه بل طوعاً عاريةً مؤداةً، فأعاره إياها، ثم أعادها إليه بعد إنقضاء
حنين والطائف، فلما كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم بالجعرانة يسير في غنائم هوازن ينظر إليها،
فنظر صفوان إلى شعب هناك مملوء نعماً وشاءً ورعاءً، فأدام النظر إليه ورسول الله
صلى الله عليه وسلم يرمقه، فقال: أبا وهب: يعجبك
هذا الشعب؟ قال: نعم، قال: هو لك وما فيه. فقال
صفوان: ما طابت نفس أحد بمثل هذا إلا نفس نبي، أشهد أن
لا إله إلا الله، وأنك رسول الله. قال الواقدي:
فأما عبد الله بن سعد بن أبي سرح فكان قد أسلم، وكان
يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي، فربما أملى عليه رسول الله صلى
الله عليه وسلم "سميع عليم" فيكتب "عزيز حكيم" ونحو ذلك، ويقرأ
على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: كذلك الله، ويقرأ
فافتتن، وقال: والله ما يدري ما يقول، إني لأكتب له ما شئت فلا ينكر، وإنه ليوحى
إلي كما يوحى، إلى محمد، وخرج هارباً من المدينة إلى مكة مرتداً، فأهدر رسول
الله صلى الله عليه وسلم دمه، وأمر بقتله يوم الفتح، فلما كان
يومئذ جاء إلى عثمان، وكان أخاه من الرضاعة،
فقال: يا أخي، إني قد أجرتك فاحتبسني ههنا واذهب إلى محمد فكلمه في، فإن محمداً إن رآني ضرب عنقي، إن جرمي أعظم الجرم، وقد جئت تائباً، فقال عثمان: قم فاذهب معي إليه، قال:
كلا، والله إنه إن رآني ضرب عنقي ولم يناظرني، قد أهدر دمي وأصحابه يطلبونني في
كل موضع، فقال عثمان: انطلق معي فإنه لا يقتلك
إن شاء الله، فلم يرع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بعثمان آخذاً بيد عبد الله بن سعد واقفين بين يديه،
فقال عثمان: يا رسول الله، هذا أخي من الرضاعة،
إن أمه كانت تحملني وتمشيه وترضعني وتفطمه وتلطفني وتتركه. فهبه لي، فأعرض رسول الله صلى
الله عليه وسلم وجعل عثمان
كلما أعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه استقبله بوجهه، وأعاد عليه هذا الكلام،
وإنما أعرض صلى الله عليه وسلم عنه
إرادةً لأن يقوم رجل فيضرب عنقه، فلما رأى ألا
يقوم أحد وعثمان قد انكب عليه يقبل رأسه ويقول: يا رسول
الله، بايعه فداك أبي وأمي على الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
نعم، فبايعه. ونهى عن التعرض له." قال
الواقدي: قال ابن عباس رضي الله عنه: رأيت رسول الله صلى
الله عليه وسلم وهبار يعتذر إليه وهو يطأطىء رأسه استحياءً مما يعتذر هبار ويقول له: قد عفوت عنك. قال الواقدي:
وأما ابن خطل فإنه خرج حتى دخل بين أستار الكعبة،
فأخرجه أبو برزة الأسلمي منها، فضرب عنقه بين الركن والمقام، ويقال: بل
قتله عمار بن ياسر، وقيل: سعد بن حريث المخزومي، وقيل: شريك
بن عبدة العجلاني، والأثبت أنه أبو برزة،
قال: وكان جرمه أنه أسلم وهاجر إلى المدينة وبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعياً، وبعث معه رجلاً من خزاعة فقتله، وساق ما أخذ من مال
الصدقة، ورجع إلى مكة، فقالت له قريش: ما جاء
بك، قال: لم أجد ديناً خيراً من دينكم، وكانت له
قينتان: إحداهما قرينى، والأخرى قرينة - أو أرنب، وكان ابن خطل يقول الشعر يهجو به رسول الله صلى الله عليه
وسلم، ويغنيان به، ويدخل عليه المشركون بيته فيشربون عنده الخمر، ويسمعون الغناء
بهجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلقيه
نميلة بن عبد الله الليثي وهو من رهطه، فضربه بالسيف حتى قتله، فقالت
أخته ترثيه:
وكان
جرم مقيس من قبل أن أخاه هاشم بن صبابة أسلم
وشهد المريسيع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقتله رجل من رهط عبادة بن الصامت، وقيل: من بني
عمرو بن عوف وهو لا يعرفه، فظنه من المشركين، فمضى له رسول الله صلى الله
عليه وسلم بالدية على العاقلة، فقدم مقيس أخوه المدينة فأخذ ديته، وأسلم، ثم عدا على قاتل أخيه، فقتله، وهرب مرتداً كافراً يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشعر، فأهدر دمه. وزاد محمد بن إسحاق في كتاب المغازي: أن هند بنت عتبة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع
نساء قريش متنكرة متنقبة لحدثها الذي كان في الإسلام، وما صنعت بحمزة حين جدعته
وبقرت بطنه عن كبده، فهي تخاف أن يأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم بحدثها
ذلك، فلما دنت منه، وقال حين بايعته على ألا تشركن
بالله شيئاً قلن: نعم، قال: ولا يسرقن، فقالت هند: والله أنا كنت لاصيب
من مال أب سفيان الهنة والهنيهة فما أعلم أحلال ذلك أم لا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وإنك لهند؟ قالت،
نعم، أنا هند، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله، فاعف عما
سلف عفا الله عنك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ولا يزنين، فقالت هند: وهل تزني الحرة، فقال: لا، ولا
يقتلن أولادهن، فقالت هند: قد لعمري ربيناهم
صغاراً وقتلتهم كباراً ببدر، فأنت وهم أعرف، فضحك عمر بن الخطاب من قولها حتى أسفرت نواجذه، قال: ولا يأتين ببهتان يفترينه، فقالت هند: إن إتيان البهتان لقبيح، فقال: ولا يعصينك في معروف، فقالت: ما جلسنا هذه الجلسة ونحن
نريد أن نعصيك.
قال الواقدي:
وفي يوم الفتح سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل
مكة الذين دخلها عليهم الطلقاء، لمنه عليهم بعد أن أظفره الله بهم، فصاروا أرقاء
له. وقد قيل له يوم الفتح: قد أمكنك الله تعالى فخذ ما شئت من أقمار على غصون -
يعنون النساء - فقال صلى الله عليه وسلم: يأبى ذلك إطعامهم الضيف، وإكرامهم
البيت، ووجؤهم مناحر الهدي. والأغلف القلب: الذي لا بصيرة له، كأن قلبه في
غلاف، قال تعالى: وقالوا قلوبنا غلف". وقد ذكرنا من قتل من بني أمية في حروب
رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما تقدم، وإليهم الإشارة
بالأعمام والأخوال، لأن أخوال معاوية من بني عبد شمس، كما أن أعمامه من بني عبد
شمس. وأما قوله:
ادخل فيما دخل فيه الناس وحاكم القوم، فهي الحجة التي يحتج بها أصحابنا له في
أنه لم يسلم قتله عثمان إلى معاوية، وهي حجة صحيحة،
لأن الإمام يجب أن يطاع، ثم يتحاكم إليه أولياء الدم والمتهمون، فإن حكم بالحق
استديمت حكومته، وإلا فسق وبطلت إمامته. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الفهرس
ج الجزء السابع عشرباب المختار من الخطب والأوامر
- ابن ابي الحديد. 4 بسم
الله الرحمن الرحيم الحمد لله الواحد العدل. 4 ومن وصية له رضي الله عنه للحسن
والحسين رضي الله عنهما لما ضربه ابن ملجم لعنه الله.. 4 وكتب إلى أمرائه على الجيوش.. 8 وكتب إلى أمراء البلاد في معنى الصلاة. 10 اختلاف الفقهاء في أوقات الصلاة. 10 وكتب الى للأشتر النخعي رحمه الله
لما ولاه على مصر... 13 بعض ما ورد في النهي عن سماع السعاية. 17 رسالة الإسكندر إلى أرسطو وجواب
أرسطو له. 23 بعض ما ورد في القضاة ونوادرهم، 25 بعض ما جاء في عهد سابور بن أردشير
إلى ابنه. 31 بعض ما ورد من نصائح للوزراء. 34 في ما روي حول نزاهة الخليفة عمر
بن عبد العزيز. 42 بعض ما جاء في الحذر من كيد العدو
والنهي عن الغدر. 47 ومن كلام له رضي الله عنه وصى به
شريح بن هانئ لما جعله علي مقدمته إلى الشام 58 وكتب إلى أهل الكوفة عند مسيره من
المدينة إلى البصرة. 58 من كتاب له إلى أهل الأمصار يقص
فيه ما جرى بينه وبين أهل صفين. 59 وكتب إلى الأسود بن قطبة صاحب جند
حلوان. 60 وكتب إلى العمال الذين بطأ عملهم
الجيوش. 60 وكتب إلى أهل مصر مع مالك الأشتر
رحمه الله لما ولاه إمارتها. 62 الرد علي الشيعة في طعنهم في إمامة
أبي بكر. 63 وكتب إلى أبي موسى الأشعري وهو عامله. 103 وكتب إلى معاوية جواباً عن كتابه. 105 |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||