- القرآن الكريم
- سور القرآن الكريم
- 1- سورة الفاتحة
- 2- سورة البقرة
- 3- سورة آل عمران
- 4- سورة النساء
- 5- سورة المائدة
- 6- سورة الأنعام
- 7- سورة الأعراف
- 8- سورة الأنفال
- 9- سورة التوبة
- 10- سورة يونس
- 11- سورة هود
- 12- سورة يوسف
- 13- سورة الرعد
- 14- سورة إبراهيم
- 15- سورة الحجر
- 16- سورة النحل
- 17- سورة الإسراء
- 18- سورة الكهف
- 19- سورة مريم
- 20- سورة طه
- 21- سورة الأنبياء
- 22- سورة الحج
- 23- سورة المؤمنون
- 24- سورة النور
- 25- سورة الفرقان
- 26- سورة الشعراء
- 27- سورة النمل
- 28- سورة القصص
- 29- سورة العنكبوت
- 30- سورة الروم
- 31- سورة لقمان
- 32- سورة السجدة
- 33- سورة الأحزاب
- 34- سورة سبأ
- 35- سورة فاطر
- 36- سورة يس
- 37- سورة الصافات
- 38- سورة ص
- 39- سورة الزمر
- 40- سورة غافر
- 41- سورة فصلت
- 42- سورة الشورى
- 43- سورة الزخرف
- 44- سورة الدخان
- 45- سورة الجاثية
- 46- سورة الأحقاف
- 47- سورة محمد
- 48- سورة الفتح
- 49- سورة الحجرات
- 50- سورة ق
- 51- سورة الذاريات
- 52- سورة الطور
- 53- سورة النجم
- 54- سورة القمر
- 55- سورة الرحمن
- 56- سورة الواقعة
- 57- سورة الحديد
- 58- سورة المجادلة
- 59- سورة الحشر
- 60- سورة الممتحنة
- 61- سورة الصف
- 62- سورة الجمعة
- 63- سورة المنافقون
- 64- سورة التغابن
- 65- سورة الطلاق
- 66- سورة التحريم
- 67- سورة الملك
- 68- سورة القلم
- 69- سورة الحاقة
- 70- سورة المعارج
- 71- سورة نوح
- 72- سورة الجن
- 73- سورة المزمل
- 74- سورة المدثر
- 75- سورة القيامة
- 76- سورة الإنسان
- 77- سورة المرسلات
- 78- سورة النبأ
- 79- سورة النازعات
- 80- سورة عبس
- 81- سورة التكوير
- 82- سورة الانفطار
- 83- سورة المطففين
- 84- سورة الانشقاق
- 85- سورة البروج
- 86- سورة الطارق
- 87- سورة الأعلى
- 88- سورة الغاشية
- 89- سورة الفجر
- 90- سورة البلد
- 91- سورة الشمس
- 92- سورة الليل
- 93- سورة الضحى
- 94- سورة الشرح
- 95- سورة التين
- 96- سورة العلق
- 97- سورة القدر
- 98- سورة البينة
- 99- سورة الزلزلة
- 100- سورة العاديات
- 101- سورة القارعة
- 102- سورة التكاثر
- 103- سورة العصر
- 104- سورة الهمزة
- 105- سورة الفيل
- 106- سورة قريش
- 107- سورة الماعون
- 108- سورة الكوثر
- 109- سورة الكافرون
- 110- سورة النصر
- 111- سورة المسد
- 112- سورة الإخلاص
- 113- سورة الفلق
- 114- سورة الناس
- سور القرآن الكريم
- تفسير القرآن الكريم
- تصنيف القرآن الكريم
- آيات العقيدة
- آيات الشريعة
- آيات القوانين والتشريع
- آيات المفاهيم الأخلاقية
- آيات الآفاق والأنفس
- آيات الأنبياء والرسل
- آيات الانبياء والرسل عليهم الصلاة السلام
- سيدنا آدم عليه السلام
- سيدنا إدريس عليه السلام
- سيدنا نوح عليه السلام
- سيدنا هود عليه السلام
- سيدنا صالح عليه السلام
- سيدنا إبراهيم عليه السلام
- سيدنا إسماعيل عليه السلام
- سيدنا إسحاق عليه السلام
- سيدنا لوط عليه السلام
- سيدنا يعقوب عليه السلام
- سيدنا يوسف عليه السلام
- سيدنا شعيب عليه السلام
- سيدنا موسى عليه السلام
- بنو إسرائيل
- سيدنا هارون عليه السلام
- سيدنا داود عليه السلام
- سيدنا سليمان عليه السلام
- سيدنا أيوب عليه السلام
- سيدنا يونس عليه السلام
- سيدنا إلياس عليه السلام
- سيدنا اليسع عليه السلام
- سيدنا ذي الكفل عليه السلام
- سيدنا لقمان عليه السلام
- سيدنا زكريا عليه السلام
- سيدنا يحي عليه السلام
- سيدنا عيسى عليه السلام
- أهل الكتاب اليهود النصارى
- الصابئون والمجوس
- الاتعاظ بالسابقين
- النظر في عاقبة الماضين
- السيدة مريم عليها السلام ملحق
- آيات الناس وصفاتهم
- أنواع الناس
- صفات الإنسان
- صفات الأبراروجزائهم
- صفات الأثمين وجزائهم
- صفات الأشقى وجزائه
- صفات أعداء الرسل عليهم السلام
- صفات الأعراب
- صفات أصحاب الجحيم وجزائهم
- صفات أصحاب الجنة وحياتهم فيها
- صفات أصحاب الشمال وجزائهم
- صفات أصحاب النار وجزائهم
- صفات أصحاب اليمين وجزائهم
- صفات أولياءالشيطان وجزائهم
- صفات أولياء الله وجزائهم
- صفات أولي الألباب وجزائهم
- صفات الجاحدين وجزائهم
- صفات حزب الشيطان وجزائهم
- صفات حزب الله تعالى وجزائهم
- صفات الخائفين من الله ومن عذابه وجزائهم
- صفات الخائنين في الحرب وجزائهم
- صفات الخائنين في الغنيمة وجزائهم
- صفات الخائنين للعهود وجزائهم
- صفات الخائنين للناس وجزائهم
- صفات الخاسرين وجزائهم
- صفات الخاشعين وجزائهم
- صفات الخاشين الله تعالى وجزائهم
- صفات الخاضعين لله تعالى وجزائهم
- صفات الذاكرين الله تعالى وجزائهم
- صفات الذين يتبعون أهواءهم وجزائهم
- صفات الذين يريدون الحياة الدنيا وجزائهم
- صفات الذين يحبهم الله تعالى
- صفات الذين لايحبهم الله تعالى
- صفات الذين يشترون بآيات الله وبعهده
- صفات الذين يصدون عن سبيل الله تعالى وجزائهم
- صفات الذين يعملون السيئات وجزائهم
- صفات الذين لايفلحون
- صفات الذين يهديهم الله تعالى
- صفات الذين لا يهديهم الله تعالى
- صفات الراشدين وجزائهم
- صفات الرسل عليهم السلام
- صفات الشاكرين وجزائهم
- صفات الشهداء وجزائهم وحياتهم عند ربهم
- صفات الصالحين وجزائهم
- صفات الصائمين وجزائهم
- صفات الصابرين وجزائهم
- صفات الصادقين وجزائهم
- صفات الصدِّقين وجزائهم
- صفات الضالين وجزائهم
- صفات المُضَّلّين وجزائهم
- صفات المُضِلّين. وجزائهم
- صفات الطاغين وجزائهم
- صفات الظالمين وجزائهم
- صفات العابدين وجزائهم
- صفات عباد الرحمن وجزائهم
- صفات الغافلين وجزائهم
- صفات الغاوين وجزائهم
- صفات الفائزين وجزائهم
- صفات الفارّين من القتال وجزائهم
- صفات الفاسقين وجزائهم
- صفات الفجار وجزائهم
- صفات الفخورين وجزائهم
- صفات القانتين وجزائهم
- صفات الكاذبين وجزائهم
- صفات المكذِّبين وجزائهم
- صفات الكافرين وجزائهم
- صفات اللامزين والهامزين وجزائهم
- صفات المؤمنين بالأديان السماوية وجزائهم
- صفات المبطلين وجزائهم
- صفات المتذكرين وجزائهم
- صفات المترفين وجزائهم
- صفات المتصدقين وجزائهم
- صفات المتقين وجزائهم
- صفات المتكبرين وجزائهم
- صفات المتوكلين على الله وجزائهم
- صفات المرتدين وجزائهم
- صفات المجاهدين في سبيل الله وجزائهم
- صفات المجرمين وجزائهم
- صفات المحسنين وجزائهم
- صفات المخبتين وجزائهم
- صفات المختلفين والمتفرقين من أهل الكتاب وجزائهم
- صفات المُخلَصين وجزائهم
- صفات المستقيمين وجزائهم
- صفات المستكبرين وجزائهم
- صفات المستهزئين بآيات الله وجزائهم
- صفات المستهزئين بالدين وجزائهم
- صفات المسرفين وجزائهم
- صفات المسلمين وجزائهم
- صفات المشركين وجزائهم
- صفات المصَدِّقين وجزائهم
- صفات المصلحين وجزائهم
- صفات المصلين وجزائهم
- صفات المضعفين وجزائهم
- صفات المطففين للكيل والميزان وجزائهم
- صفات المعتدين وجزائهم
- صفات المعتدين على الكعبة وجزائهم
- صفات المعرضين وجزائهم
- صفات المغضوب عليهم وجزائهم
- صفات المُفترين وجزائهم
- صفات المفسدين إجتماعياَ وجزائهم
- صفات المفسدين دينيًا وجزائهم
- صفات المفلحين وجزائهم
- صفات المقاتلين في سبيل الله وجزائهم
- صفات المقربين الى الله تعالى وجزائهم
- صفات المقسطين وجزائهم
- صفات المقلدين وجزائهم
- صفات الملحدين وجزائهم
- صفات الملحدين في آياته
- صفات الملعونين وجزائهم
- صفات المنافقين ومثلهم ومواقفهم وجزائهم
- صفات المهتدين وجزائهم
- صفات ناقضي العهود وجزائهم
- صفات النصارى
- صفات اليهود و النصارى
- آيات الرسول محمد (ص) والقرآن الكريم
- آيات المحاورات المختلفة - الأمثال - التشبيهات والمقارنة بين الأضداد
- نهج البلاغة
- تصنيف نهج البلاغة
- دراسات حول نهج البلاغة
- الصحيفة السجادية
- تصنيف الصحيفة السجادية
- تصنيف الصحيفة بالموضوعات
- الباب السابع : باب الاخلاق
- الباب الثامن : باب الطاعات
- الباب التاسع: باب الذكر والدعاء
- الباب العاشر: باب السياسة
- الباب الحادي عشر:باب الإقتصاد
- الباب الثاني عشر: باب الإنسان
- الباب الثالث عشر: باب الكون
- الباب الرابع عشر: باب الإجتماع
- الباب الخامس عشر: باب العلم
- الباب السادس عشر: باب الزمن
- الباب السابع عشر: باب التاريخ
- الباب الثامن عشر: باب الصحة
- الباب التاسع عشر: باب العسكرية
- الباب الاول : باب التوحيد
- الباب الثاني : باب النبوة
- الباب الثالث : باب الإمامة
- الباب الرابع : باب المعاد
- الباب الخامس: باب الإسلام
- الباب السادس : باب الملائكة
- تصنيف الصحيفة بالموضوعات
- أسماء الله الحسنى
- أعلام الهداية
- النبي محمد (صلى الله عليه وآله)
- الإمام علي بن أبي طالب (عليه السَّلام)
- السيدة فاطمة الزهراء (عليها السَّلام)
- الإمام الحسن بن علي (عليه السَّلام)
- الإمام الحسين بن علي (عليه السَّلام)
- لإمام علي بن الحسين (عليه السَّلام)
- الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السَّلام)
- الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السَّلام)
- الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السَّلام)
- الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السَّلام)
- الإمام محمد بن علي الجواد (عليه السَّلام)
- الإمام علي بن محمد الهادي (عليه السَّلام)
- الإمام الحسن بن علي العسكري (عليه السَّلام)
- الإمام محمد بن الحسن المهدي (عجَّل الله فرَجَه)
- تاريخ وسيرة
- "تحميل كتب بصيغة "بي دي أف
- تحميل كتب حول الأخلاق
- تحميل كتب حول الشيعة
- تحميل كتب حول الثقافة
- تحميل كتب الشهيد آية الله مطهري
- تحميل كتب التصنيف
- تحميل كتب التفسير
- تحميل كتب حول نهج البلاغة
- تحميل كتب حول الأسرة
- تحميل الصحيفة السجادية وتصنيفه
- تحميل كتب حول العقيدة
- قصص الأنبياء ، وقصص تربويَّة
- تحميل كتب السيرة النبوية والأئمة عليهم السلام
- تحميل كتب غلم الفقه والحديث
- تحميل كتب الوهابية وابن تيمية
- تحميل كتب حول التاريخ الإسلامي
- تحميل كتب أدب الطف
- تحميل كتب المجالس الحسينية
- تحميل كتب الركب الحسيني
- تحميل كتب دراسات وعلوم فرآنية
- تحميل كتب متنوعة
- تحميل كتب حول اليهود واليهودية والصهيونية
- المحقق جعفر السبحاني
- تحميل كتب اللغة العربية
- الفرقان في تفسير القرآن -الدكتور محمد الصادقي
- وقعة الجمل صفين والنهروان
الجزء
السادس عشرباب المختار من الخطب والأوامر - ابن ابي
الحديد
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن
كتاب له إلى أهل البصرة
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: وقد كان من انتشار حبلكم وشقاقكم ما لم تغبوا عنه، فعفوت عن
مجرمكم، ورفعت السيف عن مدبركم، وقبلت من مقبلكم، فإن خطت بكم الأمور المردية،
وسفه الأراء الجائرة، إلى منابذتي وخلافي، فهأنذا قد قربت جيادي، ورحلت ركابي.
كلعقة لاعق، مثل يضرب للشيء الحقير التافه، ويروى بضم اللام،
وهي ما تأخذه الملعقة. خطب زياد بالبصرة
الخطبة الغراء المشهورة، وقال فيها: والله لآخذن البريء بالسقيم، والبر
باللئيم، والوالد بالولد، والجار بالجار، أو تستقيم إلي قناتكم. فقام أبو بلال
مرداس بن أدية يهمس، وهو حينئذ شيخ كبير، فقال:
أيها الأمير، أنبأنا الله بخلاف ما قلت، وحكم بغير
ما حكمت، قال سبحانه: "ولا تزر وازرة
وزر أخرى"، فقال زياد: يا أبا
بلال: إني لم أجهل ما علمت، ولكنا لا نخلص إلى الحق منكم حتى نخوض إليه الباطل
خوضاً. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن
كتاب له إلى معاوية.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
فاتق الله فيما لديك، وأنظر في حقه عليك، وارجع إلى معرفة ما لا تعذر بجهالته،
فإن للطاعة أعلاماً واضحة، وسبلاً نيرة، ومحجةً نهجة، وغآية مطلبة، يردها أكياس،
ويخالفها الآنكاس، من نكب عنها جار عن الحق، وخبط في التيه، وغير الله نعمته،
وأحل به نقمته. قال الراوندي: مطلبة بمعنى
متطلبة، يقال: طلبت كذا وتطلبته، وهذا ليس بشيء، ويخرج الكلام
عن أن يكون له معنى. الأصل:
من الوالد الفان، المقر للزمان، المدبر العمر، المستسلم للدهر، الذام للدنيا،
الساكن مساكن الموتى، الظاعن عنها غداً. الشرح: قال الزبير بن بكار في كتاب أنساب قريش: ولد الحسن بن
علي رضي الله عنه للنصف من شهر رمضان سنة ثلاث من الهجرة، وسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم حسناً،
وتوفي لليال خلون من شهر ربيع الأول سنة خمسين. قال
أبو الحسن المدائني: وكانت وفاته في سنة تسع وأربعين، وكان
مرضه أربعين يوماً، وكانت سنه سبعاً وأربعين سنة، دس
إليه معاوية سماً على يد جعدة بنت الأشعث بن قيس زوجة الحسن، وقال لها:
إن قتلتيه بالسم فلك مائة ألف، وأزوجك يزيد ابني. فلما مات وفى لها بالمال، ولم
يزوجها من يزيد. قال: أخشى أن تصنع بابني
كما صنعت بابن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال
أبو جعفر: وروى ابن عباس، قال:
دخل الحسن بن علي رضي الله عنه على
معاوية بعد عام الجماعة وهو جالس في مجلس ضيق، فجلس عند رجليه، فتحدث معاوية بما
شاء أن يتحدث، ثم قال: عجباً لعائشة! تزعم أني في غير ما أنا أهله. وأن الذي
أصبحت فيه ليس لي بحق، ما لها ولهذا! يغفر الله لها، إنما كان ينازعني في هذا
الأمر أبو هذا الجالس، وقد استأثر الله به، فقال الحسن: أو عجب ذلك يا معاوية؟
قال: أي والله، قال: أفلا أخبرك بما هو أعجب من هذا، قال: ما هو، قال: جلوسك في
صدر المجلس وأنا عند رجليك، فضحك معاوية، وقال: يا بن أخي، بلغني أن عليك ديناً،
قال: إن لعلي ديناً، قال: كم هو، قال: مائة ألف، فقال: قد أمرنا لك بثلاثمائة
ألف، مائة منها لدينك، ومائة تقسمها في أهل بيتك، ومائة لخاصة نفسك، فقم مكرماً،
واقبض صلتك. فلما خرج الحسن رضي الله عنه، قال يزيد بن معاوية
لأبيه: تالله ما رأيت رجلاً استقبلك بما استقبلك به، ثم
أمرت له بثلاثمائة ألف! قال: يا بني، إن الحق حقهم، فمن أتاك منهم فاحث له. وروى أبو جعفر محمد بن حبيب، قال: قال علي رضي الله عنه: لقد تزوج الحسن وطلق حتى خفت أن يثير عداوة، قال أبو جعفر: وكان الحسن إذا أراد أن يطلق امرأة
جلس إليها، فقال: أيسرك أن أهب لك كذا وكذا،
فتقول له ما شئت، أو نعم، فيقول: هو لك،
فإذا قام أرسل إليها بالطلاق، وبما سمى لها. قال الحسن رضي الله عنه : فاذكرني لها، فأتاها أبو
هريرة، فخبرها الخبر، فقالت: اختر لي، فقال: أختار لك الحسن. فتزوجته، فقدم عبد الله بن عامر المدينة فقال للحسن: إن لي
عند هند وديعة، فدخل إليها والحسن معه، فخرجت حتى جلست بين يدي عبد الله بن
عامر، فرق لها رقة عظيمة، فقال الحسن: ألا
أنزل لك عنها؟ فلا أراك تجد محللاً خيراً لكما مني! قال: لا، ثم قال لها:
وديعتي، فأخرجت سفطين فيهما جوهر، ففتحهما وأخذ من أحدهما قبضة وترك الآخر
عليها، وكانت قبل ابن عامر عند عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد، فكانت تقول: سيدهم
جميعاً الحسن، وأسخاهم ابن عامر، وأحبهم إلي عبد الرحمن بن عتاب. وروى المدائني عن يحيى بن
زكريا، عن هشام بن عروة، قال:
قال الحسن عند وفاته: ادفنوني عند قبررسول
الله صلى الله عليه وسلم
الله، إلا أن تخافوا أن يكون في ذلك شر،
فلما أرادوا دفنه، قال مروان بن الحكم: لا
يدفن عثمان في حش كوكب، ويدفن الحسن ههنا، فاجتمع
بنو هاشم وبنو أمية، وأعان هؤلاء قوم وهؤلاء قوم، وجاؤوا بالسلاح، فقال أبو هريرة لمروان: أتمنع الحسن أن يدفن في هذا
الموضع، وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة"! قال
مروان: دعنا منك، لقد ضاع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ كان لا يحفظه غيرك وغير أبي سعيد الخدري! وإنما أسلمت أيام خيبر، قال أبو هريرة: صدقت، أسلمت أيام خيبر، ولكنني لزمت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم أكن أفارقه، وكنت اسأله، وعنيت بذلك حتى علمت من أحب ومن
أبغض، ومن قرب ومن أبعد، ومن أقر ومن نفى، ومن لعن ومن دعا له، فلما رأت عائشة السلاح والرجال، وخافت أن يعظم الشر
بينهم، وتسفك الدماء، قالت: البيت بيتي، ولا آذن لأحد أن يدفن فيه، وأبى
الحسين رضي الله عنه أن
يدفنه إلا مع جده، فقال له محمد بن الحنفية:
يا أخي، إنه لو أوصى أن يدفنه لدفناه أو نموت قبل ذلك، ولكنه قد استثنى، وقال: إلا أن تخافوا الشر، فأي شر يرى أشد مما نحن
فيه! فدفنوه في البقيع.
وروى أبو الحسن المدائني: قال: خرج على معاوية قوم من الخوارج
بعد دخوله الكوفة وصلح الحسن رضي الله عنه
له فأرسل معاوية إلى الحسن رضي الله عنه يسأله أن يخرج فيقاتل الخوارج، فقال
الحسن: سبحان الله! تركت قتالك وهو لي حلال لصلاح الأمة وألفتهم، أفتراني
أقاتل معك! فخطب معاوية أهل الكوفة، فقال: يا أهل الكوفة، أتروني قاتلتكم على الصلاة والزكاة
والحج، وقد علمت أنكم تصلون وتزكون وتحجون، ولكنني
قاتلتكم لأتأمر عليكم وعلى رقابكم، وقد آتاني الله ذلك، وأنتم كارهون،
إلا إن كل مال أو دم أصيب في هذه الفتنة فمطلول، وكل شرط شرطته فتحت قدمي هاتين،
ولا يصلح الناس إلا ثلاث: إخراج العطاء عند محله،
وإقفال الجنود لوقتها، وغزو العدو في داره، فإنهم إن لم تغزوهم غزوكم. ثم نزل. فقال: يا مسيب، إني لو أردت بما فعلت الدنيا لم
يكن معاوية بأصبر عند اللقاء، ولا أثبت عند الحرب مني، ولكني أردت صلاحكم، وكف
بعضكم عن بعض، فارضوا بقدر الله وقضائه، حتى يستريح بر، أو يستراح من فاجر. فتغير وجه الحسن، وغمز الحسين رضي الله عنه حجراً، فسكت، فقال الحسن رضي الله عنه : يا حجر، ليس كل الناس يحب ما تحب ولا
رأيه كرأيك، وما فعلت إلا إبقاءً عليك، والله كل يوم في شأن. قال المدائني: ودخل عليه سفيان بن أبي ليلى
النهدي، فقال له: السلام عليك يا مذل المؤمنين! فقال الحسن: اجلس يرحمك الله، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع
له ملك بني أمية، فنظر إليهم يعلون منبره واحداً فواحداً، فشق ذلك عليه، فأنزل
الله تعالى في ذلك قرآناً قال له: "وما جعلنا
الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن". وسمعت علياً أبي رحمه الله يقول: سيلي أمر هذه
الأمة رجل واسع البلعوم، كبير البطن، فسألته:
من هو، فقال: معاوية. وقال لي: إن القرآن قد
نطق بملك بني أمية ومدتهم، قال تعالى: "ليلة
القدر خير من ألف شهر"، قال أبي: هذه
ملك بني أمية. فقال أخوه الحسين رضي الله عنه : لقد كنت كارهاً لما كان طيب النفس على سبيل أبي حتى عزم علي
أخي، فأطعته، وكأنما يجذ أنفي بالمواسي، فقال
المسيب: إنه والله ما يكبر علينا هذا الامر إلا أن تضاموا وتنتقصوا، فأما
نحن، فإنهم سيطلبون مودتنا بكل ما قدروا عليه، فقال
الحسين: يا مسيب، نحن نعلم أنك تحبنا، فقال!
الحسن رضي الله عنه :
سمعت أبي يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أحب قوماً كان
معهم "، فعرض له المسيب وظبيان بالرجوع، فقال: ليس لي إلى ذلك سبيل،
فلما كان من غد خرج، فلما صار بدير هند نظر إلى الكوفة، وقال:
ثم سار إلى المدينة.
وروى المدائني، عن إبراهيم بن محمد، عن زيد بن
أسلم، قال:
دخل رجل على الحسن رضي الله عنه بالمدينة،
وفي يده صحيفة، فقال له الرجل: ما هذه، قال: هذا كتاب معاوية، يتوعد فيه على أمر
كذا، فقال الرجل: لقد كنت على النصف، فما
فعلت؟ فقال له الحسن رضي الله عنه : أجل، ولكني خشيت أن يأتي يوم القيامة سبعون ألفاً أو ثمانون
ألفاً، تشخب أوداجهم دماً، كلهم يستعدي الله فيم هريق دمه! قال أبو الحسن: وكان الحصين بن المنذر الرقاشي يقول: والله ما وفى معاوية للحسن بشيء مما أعطاه،
قتل حجراً وأصحاب حجر ، وبايع لابنه يزيد، وسم الحسن. قال
أبو الحسن: طلب زياد رجلاً من أصحاب الحسن، ممن كان في كتاب
الأمان، فكتب إليه الحسن: من الحسن بن علي
إلى زياد، أما بعد، فقد علمت ما كنا أخذنا من الأمان لأصحابنا، وقد ذكر لي فلان
أنك تعرضت له، فاحب ألا تعرض له إلا بخير. والسلام.
فلما أتاه الكتاب، وذلك بعد إدعاء معاوية
إياه غضب حيث لم ينسبه إلى
أبي سفيان، فكتب إليه: من زياد بن أبي سفيان
إلى الحسن، أما بعد، فإنه أتاني كتابك في
فاسق تؤويه الفساق من شيعتك وشيعة أبيك، وايم الله لأطلبنه بين جلدك ولحمك، وإن
أحب الناس إلي لحماً أن آكله للحم أنت منه والسلام. قال
أبو الحسن المدائني: وكان الحسن كثير
التزوج، تزوج خولة بنت منظور بن زبان الفزارية، وأمها مليكة بنت خارجة بن
سنان، فولدت له الحسن بن الحسن، وتزوج أم
إسحاق بنت طلحة بن عبيد الله، فولدت له ابناً سماه طلحة، وتزوج أم بشر بنت أبي مسعود الأنصاري - واسم أبي مسعود عقبة بن عمر - فولدت
له زيد بن الحسن، وتزوج جعدة بنت الأشعث بن
قيس، وهي التي سقته السم، وتزوج هنداً بنت
سهيل بن عمرو، وحفصة ابنة عبد الرحمن بن أبي بكر، وتزوج
امرأة من كلب، وتزوج امرأة من بنات عمرو بن أهتم المنقري، و امرأة من ثقيف،
فولدت له عمراً، وتزوج امرأة من بنات علقمة
بن زرارة، و امرأة من بني شيبان من آل همام بن مرة،
فقيل له: إنها ترى رأي الخوارج، فطلقها، وقال: إني
أكره أن أضم إلى نحري جمرة من جمر جهنم. فكتب عبد الله بن العباس بذلك إلى الحسن رضي الله عنه فخطب
الناس ووبخهم، وقال: خالفتم أبي حتى حكم وهو كاره، ثم دعاكم إلى قتال أهل الشام
بعد التحكيم، فأبيتم حتى صار إلى كرامة الله، ثم بايعتموني على أن تسالموا من
سالمني، وتحاربوا من حاربني، وقد أتاني أن أهل الشرف منكم قد أتوا معاوية،
وبايعوه، فحسبي منكم، لا تغروني من ديني ونفسي. واعلم
أن عليًا إنما رغب الناس عنه إلى معاوية، أنه أساء بينهم في الفيء، وسوى بينهم
في العطاء، فثقل عليهم، واعلم أنك تحارب من حارب الله ورسوله
في ابتداء الإسلام، حتى ظهر أمر الله، فلما وحد الرب، ومحق الشرك، وعز الدين،
أظهروا الإيمان وقرأوا القرآن، مستهزئين بآياته، وقاموا إلى الصلاة وهم كسالى،
وأدوا الفرائض وهم لها كارهون، فلما رأوا أنه لا يعز في الدين إلا الأ تقياء
الأبرار، توسموا بسيما الصالحين، ليظن المسلمون بهم خيراً، فما زالوا بذلك حتى
شركوهم في أماناتهم، وقالوا: حسابهم على الله، فإن كانوا صادقين فإخواننا في
الدين، وإن كانوا كاذبين كانوا بما اقترفوا هم الأخسرين، وقد منيت بأولئك
وبأبنائهم وأشباههم، والله ما زادهم طول العمر إلا غياً، ولا زادهم ذلك لأهل
الدين إلا مقتاً، فجاهدهم ولا ترض دنية، ولا تقبل خسفاً ، فإن علياً لم يجب إلى
الحكومة حتى غلب على أمره فأجاب، وإنهم يعلمون أنه أولى بالأمر إن حكموا بالعدل،
فلما حكموا بالهوى، رجع إلى ما كان عليه حتى أتى عليه أجله، ولا تخرجن من حق أنت
أولى به، حتى يحول الموت دون ذلك. والسلام. قال:
ثم قال للحارث وجندب: ارجعا فليس
بيني وبينكم إلا السيف، فرجعا وأقبل إلى العراق في ستين ألفاً، استخلف
على الشام الضحاك بن قيس الفهري والحسن مقيم بالكوفة، لم يشخص حتى بلغه أن
معاوية قد عبر جسر منبج، فوجه حجر بن عدي يأمر العمال بالأحتراس، ويذب الناس،
فسارعوا. فعقد لقيس بن سعد بن عبادة على اثني عشر ألفاً، فنزل دير عبد الرحمن،
واستخلف على الكوفة المغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، وأمر قيس بن سعد
بالمسير، وودعه وأوصاه، فأخذ على الفرات وقرى الفلوجة، ثم إلى مسكن. وارتحل الحسن رضي الله عنه متوجهاً نحو المدائن، فأتى ساباط
فأقام بها أياماً، فلما أراد أن يرحل إلى المدائن قام فخطب الناس، فقال: أيها
الناس، إنكم بايعتموني على أن تسالموا من سالمت وتحاربوا من حاربت، وإني والله
ما أصبحت محتملاً على أحد من هذه الأمة ضغينة لا شرق ولا غرب، ولما تكرهون في
الجماعة والألفة والأمن، وصلاح ذات البين خير مما تحبون في الفرقة، والخوف
والتباغض والعداوة، وإن علياً أبي كان يقول: لا
تكرهوا إمارة معاوية، فإنكم لو فارقتموه لرأيتم الرؤوس تندر عن كواهلها كالحنظل.
ثم نزل. وروى
أبو الحسن المدائني قال: سأل معاوية الحسن بن علي بعد الصلح أن
يخطب الناس، ف امتنع، فناشده أن يفعل، فوضع له كرسي، فجلس عليه، ثم قال: الحمد لله الذي توحد في ملكه، وتفرد في
ربوبيته، يؤتي الملك من يشاء، وينزعه عمن يشاء. والحمد لله الذي أكرم بنا
مؤمنكم، وأخرج من الشرك أولكم، وحقن دماء آخركم، فبلاؤنا عندكم قديماً وحديثاً
أحسن البلاء، إن شكرتم أو كفرتم. أيها الناس، إن رب علي كان أعلم بعلي حين قبضه
إليه، ولقد أختصه بفضل لم تعتادوا مثله، ولم تجدوا مثل سابقته، فهيهات هيهات! طالما قلبتم له الأمور حتى أعلاه
الله عليكم وهو صاحبكم، وعدوكم في بدر وأخواتها، جرعكم رنقاً ، وسقاكم علقاً،
وأذل رقابكم، وأشرقكم بريقكم، فلستم بملومين على بغضه. وأيم الله لا
ترى أمة محمد خفضاً ما كانت سادتهم وقادتهم في بني أمية، ولقد وجه الله إليكم فتنة لن تصدوا عنها حتى تهلكوا،
لطاعتكم طواغيتكم، وانضوائكم إلى شياطينكم، فعند الله أحتسب ما مضى وما ينتظر من
سوء دعتكم، وحيف حكمكم. ثم
قال:
يا أهل الكوفة لقد فارقكم بالأمس سهم من مرامي الله، صائب على أعداء الله، نكال
على فجار قريش، لم يزل آخذاً بحناجرها، جاثماً على أنفاسها، ليس بالملومة في أمر
الله، ولا بالسروقة لمال الله، ولا بالفروقة في حرب أعداء الله، أعطى الكتاب
خواتمه وعزائمه، دعاه فأجابه، وقاده فاتبعه، لا تأخذه في الله لومة لائم، فصلوات
الله عليه ورحمته. ثم نزل. فأما
أبو الفرج علي بن الحسين الأصفهاني، فإنه قال: كان في لسان
أبي محمد الحسن رضي الله عنه ثقل
كالفأفأة، حدثني بذلك محمد بن الحسين الأشناني، قال:
حدثني محمد بن إسماعيل الأحمسي، عن مفضل بن صالح، عن جابر، قال: كان في لسان الحسن رضي الله عنه رتة، فكان
سلمان الفارسي رحمه الله يقول: أتته من قبل عمه موسى بن عمران رضي الله عنه . وكتب الحسن إلى معاوية: أما بعد، فإنك دسست إلي الرجال، كأنك
تحب اللقاء، لا أشك في ذلك فتوقعه إن شاء الله. وبلغني أنك شمت بما
لم يشمت به الحجى ، وإنما مثلك في ذلك كما قال الأول:
فأجابه معاوية: أما بعد، فقد وصل كتابك، وفهمت ما
ذكرت فيه، ولقد علمت بما حدث فلم أفرح ولم أحزن، ولم أشمت ولم آس، وإن علياً
أباك لكما قال أعشى بني قيسر بن ثعلبة:
قال أبو الفرج: وكتب عبد الله بن العباس من البصرة إلى معاوية: أما بعد، فإنك ودسك أخا بني القين إلى البصرة،
تلتمس من غفلات قريش بمثل ما ظفرت به من يمانيتك، لكما قال
أمية بن أبي الأسكر:
فأجابه معاوية: أما بعد، فإن الحسن بن علي، قد كتب إلي بنحو مما كتبت به،
وأنبأني بما لم يحقق سوء ظن ورأي في، وإنك لم تصب مثلي ومثلكم، وإنما مثلنا كما
قال طارق الخزاعي يجيب أمية عن هذا الشعر:
قال أبو الفرج: وكان أول شيء أحدثه الحسن رضي الله عنه أنه زاد المقاتلة مائة مائة، وقد كان علي رضي الله عنه فعل
ذلك يوم الجمل، وفعله الحسن حال الأستخلاف، فتبعه الخلفاء من بعده في ذلك. فلما توفي تنازعت سلطانه العرب، فقالت قريش: نحن قبيلته
وأسرته وأولياؤه، ولا يحل لكم أن تنازعونا سلطان محمد وحقه، فرأت العرب أن القول
ما قالت قريش، وأن الحجة في ذلك لهم على من نازعهم أمر محمد، فأنعمت لهم، وسلمت
إليهم. ثم حاججنا نحن قريشاً بمثل ما حاججت به العرب، فلم تنصفنا قريش إنصاف
العرب لها، إنهم أخذوا هذا الأمر دون العرب بالآنتصاف والأحتجاج، فلما صرنا أهل
بيت محمد وأولياءه إلى محاجتهم، وطلب النصف منهم باعدونا واستولوا بالإجماع على
ظلمنا ومراغمتنا والعنت منهم لنا، فالموعد الله، وهو الولي النصير. إن علياً لما
مضى لسبيله - رحمة الله عليه يوم قبض ويوم من الله عليه بالإسلام، ويوم يبعث
حياً - ولاني المسلمون الأمر بعده، فأسأل الله ألا يؤتينا في الدنيا الزائلة
شيئاً ينقصنا به في الآخرة مما عنده من كرامة، وإنما حملني على الكتاب إليك
الأعذار فيما بيني وبين الله عز وجل في أمرك، ولك في ذلك إن فعلته الحظ الجسيم،
والصلاح للمسلمين، فدع التمادي في الباطل، وادخل فيما دخل فيه الناس من بيعتي،
فإنك تعلم أني أحق بهذا الأمر منك عند الله وعند كل أواب حفيظ، ومن له قلب منيب. واتق الله ودع البغي، واحقن دماء المسلمين، فو
الله ما لك خير في أن تلفى الله من دمائهم بأكثر مما أنت لاقيه به، وادخل في
السلم والطاعة، ولا
تنازع الأمر أهله ومن هو أحق به منك، ليطفىء الله النائرة بذلك، ويجمع الكلمة،
ويصلح ذات البين، وإن أنت أبيت إلا التمادي في غيك سرت إليك بالمسلمين فحاكمتك،
حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين. أما بعد، فإن الله يفعل في عباده ما يشاء، لا معقب لحكمه وهو
سريع الحساب، فاحذر أن تكون منيتك على أيدي رعاع من الناس، وآئيس من أن تجد فينا
غميزة، وإن أنت أعرضت عما أنت فيه وبايعتني وفيت لك بما وعدت، وأجريت لك ما
شرطت، وأكون في ذلك كما قال أعشى بني قيس بن ثعلبة:
ثم الخلافة لك من بعدي، فأنت أولى الناس بها،
والسلام. فإني أحمد إليكم
الله الذي لا إله إلا هو، فالحمد لله الذي كفاكم
مؤونة عدوكم وقتل خليفتكم، إن الله بلطفه، وحسن صنعه، أتاح لعلي بن أبي
طالب رجلاً من عباده، فاغتاله فقتله. فترك أصحابه متفرقين
مختلفين، وقد جاءتنا كتب أشرافهم وقادتهم يلتمسون
الأمان لأنفسهم وعشائرهم، فأقبلوا إلي حين يأتيكم كتابي هذا بجهدكم وجندكم وحسن
عدتكم، فقد أصبتم بحمد الله الثأر، وبلغتم الأمل، وأهلك الله أهل البغي
والعدوان. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. ثم مضى لوجهه، فخرج من المسجد ودابته بالباب، فركبها ومضى
إلى النخيلة، وأمر غلامه أن يلحقه بما يصلحه. وكان عدي بن حاتم أول الناس عسكر. وسار
الحسن رضي الله عنه في عسكر عظيم وعدة حسنة. حتى نزل دير
عبد الرحمن، فأقام به ثلاثاً حتى اجتمع الناس، ثم دعا
عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب، فقال له: يا بن عم، إني باعث إليك
اثني عشر ألفاً من فرسان العرب وقراء المصر، الرجل منهم يزيد الكتيبة، فسر بهم،
وألن لهم جانبك، وابسط لهم وجهك، وافرش لهم جناحك، وأدنهم من مجلسك، فإنهم بقية
ثقات أمير المؤمنين، وسر بهم على شط الفرات حتى تقطع بهم الفرات، ثم تصير إلى
مسكن، ثم امض حتى تستقبل بهم معاوية، فإن أنت لقيته فاحبسه حتى آتيك، فإني على
أثرك وشيكاً، وليكن خبرك عندي كل يوم، وشاور هذين - يعني قيس بن سعد وسعيد بن قيس - وإذا لقيت معاوية فلا تقاتله حتى يقاتلك، فإن فعل فقاتله، وإن أصبت فقيس بن سعد على الناس، وإن أصيب قيس بن سعد فسعيد
بن قيس على الناس. أما
بعد، فوالله إني لأرجو أن أكون قد أصبحت بحمد الله ومنه وأنا أنصح خلقه لخلقه، وما أصبحت محتملاً على مسلم ضغينة، ولا مريد له بسوء ولا
غائلة. ألا وإن ما تكرهون في الجماعة خير لكم مما تحبون في الفرقة، ألا وإني
ناظر لكم خيراً من نظركم لأنفسكم، فلا تخالفوا أمري، ولا تردوا علي رأي. غفر
الله لي ولكم، وأرشدني وإياكم لما فيه محبته ورضاه، إن شاء الله! ثم نزل. فقال
لهم قيس بن سعد: اختاروا إحدى اثنتين: أما القتال مع غير إمام، وإما أن تبايعوا بيعة ضلال،
فقالوا: بل نقاتل بلا إمام، فخرجوا فضربوا أهل الشام حتى ردوهم إلى مصافهم. فكتب إليه
معاوية حينئذ لما يئس منه: أما بعد، فإنك يهودي ابن يهودي، تشقي نفسك وتقتلها
فيما ليس لك، فإن ظهر أحب الفريقين إليك نبذك وغدرك، وإن ظهر أبغضهم إليك نكل بك
وقتلك، وقد كان أبوك أوتر غير قوسه، ورمى غير غرضه، فأكثر الحز وأخطأ المفصل،
فخذله قومه، وأدركه يومه، فمات بحوران طريداً غريباً. والسلام. فأجاب إلى
ذلك، وانصرف قيس بن سعد فيمن معه إلى الكوفة، وانصرف الحسن أيضاً إليها، وأقبل
معاوية قاصداً نحو الكوفة، واجتمع إلى الحسن رضي
الله عنه وجوه الشيعة وأكابر أصحاب أمير
المؤمنين رضي الله عنه يلومونه، ويبكون إليه جزعاً مما فعله. قال
أبو الفرج: وحدثني به أيضاً محمد بن الحسين الأشنانداني، وعلي
بن العباس المقانعي، عن عباد بن يعقوب، عن عمرو بن ثابت، عن الحسن بن الحكم، عن
عدي بن ثابت، عن سفيان بن أبي ليلى، قال:
أتيت الحسن بن علي حين بايع معاوية، فوجدته بفناء داره، وعنده رهط، فقلت: السلام عليك يا مذل المؤمنين، قال: وعليك السلام يا
سفيان، ونزلت فعقلت راحلتي، ثم أتيته فجلست إليه، فقال: كيف قلت يا سفيان، قلت:
السلام عليك يا مذل المؤمنين! فقال: لم جرى
هذا منك إلينا، قلت: أنت والله بأبي وأمي
أذللت رقابنا حيث أعطيت هذا الطاغية البيعة، وسلمت الأمر إلى اللعين ابن آكلة
الأكباد، ومعك مائة ألف كلهم يموت دونك، فقد جمع الله عليك أمر الناس. فقال: يا
سفيان، إنا أهل بيت إذا علمنا الحق تمسكنا به، وإني
سمعت علياً يقول: سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول:
"لا تذهب الليالي والأيام حتى يجتمع أمر هذه الأمة على رجل واسع السرم، ضخم
البلعوم، يأكل ولا يشبع، لا ينظر الله إليه، ولا يموت حتى لا يكون له في السماء
عاذر، ولا في الأرض ناصر"، وإنه لمعاوية، وإني عرفت أن الله بالغ أمره. فإن
قلت: قوله: "وإنه لمعاوية" من الحديث المرفوع، أو من
كلام علي رضي الله عنه ،
أو من كلام الحسن رضي الله عنه ، قلت: الظاهر أنه من كلام الحسن رضي الله عنه ،
فإنه قد غلب على ظنه أن معاوية صاحب هذه الصفات، وإن كان القسمان الأولان غير
ممتنعين. قال أبو الفرج: وقد روي أن الحسن لما صالح معاوية اعتزل قيس بن سعد في
أربعة ألاف فارس فأبى أن يبايع، فلما بايع الحسن أدخل قيس ليبايع، فأقبل على
الحسن، فقال: أفي حل أنا من بيعتك، فقال: نعم، فألقى له كرسي، وجلس معاوية على
سرير والحسن معه، فقال له معاوية: أتبايع يا قيس! قال: نعم، ووضع يده على فخذه،
ولم يمدها إلى معاوية فجاء معاوية من سريره، وأكب على قيس حتى مسح يده على يده
وما رفع إليه قيس يده. قال
أبو الفرج:
وحدثني أحمد بن عون، عن عمران بن إسحاق، قال: كنت مع الحسن والحسين رضي الله عنهما في الدار، فدخل الحسن المخرج، ثم خرج،
فقال: لقد سقيت السم مراراً، ما سقيت مثل
هذه المرة، لقد لفظت قطعة من كبدي فجعلت أقلبها بعود معي. فقال الحسن: ومن سقاك، قال:
وما تريد منه، أتريد أن تقتله! إن يكن هو، فالله - أشد نقمة منك، وإن لم
يكن هو فما أحب أن يؤخذ بي بريء.
يدفن عثمان في البقيع، ويدفن الحسن في بيت النبي صلى الله عليه وسلم
والله لا يكون
ذلك أبداً وأنا أحمل السيف، وكادت الفتنة تقع، وأبى الحسين رضي الله عنه أن يدفنها إلا مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال له عبد الله بن جعفر: عزمت عليك يا أبا عبد الله بحقي
ألا تكلم بكلمة! فمضوا به إلى البقيع، وانصرف مروان.
قلت: وليس في روآية يحيى بن الحسن ما يؤخذ على عائشة، لأنه لم
يرو أنها استنفرت الناس لما ركبت البغل، وإنما المستنفرون هم بنو أمية، ويجوز أن
تكون عائشة ركبت لتسكين الفتنة، لا سيما وقد روي عنها أنه لما طلب منها الدفن
قالت: نعم، فهذه الحال والقصة منقبة من مناقب عائشة. قال: قيل لأبي إسحاق السبيعي: متى ذل الناس، فقال: حين مات الحسن،
وادعى زياد، وقتل حجر بن عدي.
ثم نرجع إلى تفسير ألفاظ الفصل، أما قوله: كتبها إليه بحاضرين، فالذي
كنا نقرؤه قديماً، كتبها إليه بالحاضرين على صيغة التثنيه، يعني حاضر حلب وحاضر
قنسرين، وهي الأرباض والضواحي المحيطة بهذه البلاد، ثم قرأناه بعد ذلك على جماعة
من الشيوخ بغير لام، ولم يفسروه، ومنهم من يذكره بصيغة الجمع لا بصيغة التثنية،
ومنهم من يقول بخناصرين، يظنونه تثنية خناصرة أو جمعها، وقد طلبت هذه الكلمة في
الكتب المصنفة، سيما في البلاد والأرضين فلم أجدها، ولعلي أظفر بها فيما بعد
فالحقها في هذا الموضع.
ويجوز أن يريد بالرهينة واحدة الرهائن، يقال للأسير أو للزمن
أو للعاجز عند الرحيل: إنه لرهينة، وذلك لأن الرهائن محتبسة عند مرتهنها. قوله: وعبد الدنيا، وتاجر الغرور، وغريم المنايا، لأن الإنسان طوع
شهواته، فهو عبد الدنيا، وحركاته فيها مبنية على غرور لا أصل له، فهو تاجر
الغرور لا محالة، ولما كانت المنايا تطالبه بالرحيل عن هذه الدار كانت غريماً له
يقتضيه ما لا بد له من أدائه.
كان أسيراً له لا محالة، ولما كان لا بد لكل إنسان من الهم
كان حليف الهموم، وكذلك لا يخلو ولا ينفك من الحزن، فكان قريناً له، ولما كان
معرضاً للآفات كان نصباً لها، ولما كان إنما يهلك بشهواته كان صريعاً لها.
ومن الشعر القديم الجيد في هذا المعني قول سالم بن عونة
الضبي:
أنا أستفصح قوله: ما اقتات من سنة ومن شهر جعل الزمان كالقوت
له، ومن اقتات الشيء فقد أكله، والأكل سبب المرض، والمرض سبب الهلاك.
وأول هذه القصيدة وهو داخل له في هذا المعنى أيضاً:
قوله: تفرد بي دون هموم الناس هم نفسي أي دون الهموم التي قد
كانت تعتريني لأجل أحوال الناس. قوله: وصرفني عن هواي أي عن هواي وفكري في تدبير الخلافة وسياسة
الرعية والقيام بما يقوم به الأئمة. قوله رضي الله عنه
وصرح لي محض أمري يروى بنصب محض
ورفعه، فمن نصب فتقديره: عن محض أمري، فلما حذف الجار نصب، ومن رفع جعله فاعلاً.
وصرح: كشف أو انكشف.
أي أفضى بي هذا الهم إلى أن صدقتني الدنيا حربها، كأنه جعل
نفسه محارباً للدنيا، أي صدقتني الدنيا حربها ولم تكذب، أي لم تجبن ولم تخن.
وغضب معاوية على ابنه يزيد، فهجره، فاستعطفه له
الأحنف،
قال له: يا أمير المؤمنين، أولادنا ثمار قلوبنا، وعماد ظهورنا، ونحن لهم سماء
ظليلة، وأرض ذليلة، فإن غضبوا فأرضهم، وإن سألوا فأعطهم، فلا تكن عليهم قفلاً
فيملوا حياتك، ويتمنوا موتك.
وفي الحديث المرفوع: "إن ريح الولد من ريح الجنة".
وفي الحديث المرفوع: "من كان له صبي فليستصب له ".
الأصل: فإني أوصيك بتقوى الله - أي بني - ولزوم أمره، وعمارة قلبك
بذكره، والإعتصام بحبله، وأي سبب أوثق من سبب بينك وبين الله، إن أنت أخذت به!
أحي قلبك بالموعظة، وأمته بالزهادة، وقوه باليقين، ونوره بالحكمة، وذلله بذكر
الموت، وقرره بالفناء، وبصره فجائع الدنيا، وحذره صولة الدهر وفحش تقلب الليالي
والأيام، وأعرض عليه أخبار الماضين، وذكره بما أصاب من كان قبلك من الأولين. قوله رضي الله عنه: واعرض عليه أخبار الماضين معنى قد
تداوله الناس، قال الشاعر:
قوله رضي الله عنه: ودع القول فيما لا تعرف من قول رسول الله
صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو بن العاص: "يا عبد الله، كيف بك إذا
بقيت في حثالة من الناس، مرجت عهودهم وأماناتهم وصار الناس هكذا"! - وشبك
بين أصابعه -، قال عبد الله: فقلت: مرني يا رسول الله، فقال: "خذ ما تعرف،
ودع ما لا تعرف، وعليك بخويصة نفسك ". الأصل: وأمر بالمعروف تكن من أهله، وأنكر
المنكر بيدك ولسانك، وباين من فعله بجهدك، وجاهد في الله حق جهاده، ولا تأخذك في
الله لومة لائم. قوله رضي الله عنه : أو أن انقص في رأي هذا يدل على بطلان
قول من قال: إنه لا يجوز أن ينقص في رأيه، وإن الإمام معصوم عن أمثال ذلك، وكذلك
قوله للحسن: أو يسبقني إليك بعض غلبات الهوى وفتن الدنيا يدل على أن الإمام لا
يجب أن يعصم عن غلبات الهوى، ولا عن فتن الدنيا.
ومثل هو رضي الله عنه قلب الحدث بالأرض الخالية، ما ألقي
فيها من شيء قبلته، وكان يقال: التعلم في الصغر كالنقش في الحجر، والتعلم في
الكبر كالخط في الماء. قوله رضي الله عنه: حيث عناني من امرك أي أهمني، قال:
عناني من صدودك ما عنا قوله: وأجمعت عليه أي عزمت. ومقتبل الدهر، يقال: اقتبل الغلام فهو مقتبل بالفتح وهو من
الشواذ، ومثله أحصن الرجل إذا تزوج فهو محصن، وإذا عف فمحصن أيضاً، وأسهب إذا
أطال الحديث فهو مسهب، وألفج إذا افتقر فهو ملفج، وينبغي أن يكون له من قوله:
تنبيهك له بمعنى عليه، أوتكون على أصلها، أي ما كرهت تنبيهك لأجله. ثم ردهم آخر ذلك إلى الأخذ بما عرفوا، و الإمساك عما لم
يكلفوا، فإن أبت نفسك أن تقبل ذلك دون أن تعلم كما علموا، فليكن طلبك ذلك بتفهم
وتعلم، لا بتورط الشبهات، وعلق الخصومات.
ويجوز
أن يقال: كما علموا الآن بعد موتهم، فإنهم بعد الموت يكونون
عالمين بجميع ما يشتبه علمه على الناس في الحياة الدنيا، لأن المعارف ضرورية بعد
الموت، والنفوس باقية على قول كثير من المسلمين وغيرهم. واعلم أنه قد
أوصاه إذا هم بالشروع في النظر بمحض ما ذكره المتكلمون، وذلك أمور: منها أن يرغب إلى الله في توفيقه وتسديده. الشرح:
قد تعلق بهذه اللفظة وهو قوله: أوما شاء مما لا تعلم، قوم من التناسخية، وقالوا:
المعني بها الجزاء في الهياكل التي تنتقل النفوس إليها. وليس ما قالوه
بظاهر، ويجوز أن يريد رضي الله عنه أن
الله تعالى قد يجازي المذنب في الدنيا بنوع من العقوبة، كالأسقام والفقر
وغيرهما، والعقاب وإن كان مفعولاً على وجه الأستحقاق والإهانة فيجوز لمستحقه وهو
الباري أن يقتصر منه على الإ يلام فقط، لأن الجميع حقه، فله أن يستوفي البعض
ويسقط البعض، وقد روي أو بما شاء بالباء الزائدة، وروي بما لا يعلم. و اما
الثواب فلا يجوز أن يجازي به المحسن في الدنيا، لأنه على صفة لا يمكن أن تجامع
التكليف، فيحمل لفظ الجزاء على جزاء العقاب خاصة. ثم
قال له: إنما خلقت في مبدأ خلقتك جاهلاً، فلا تطلبن نفسك غآية من العلم لا وصول لها إليها، أو لها
إليها وصول بعد أمور صعبة، ومتاعب شديدة، فمن خلق جاهلاً حقيق أن يكون
جهله مدة عمره أكثر من علمه استصحاباً للأصل. وقوله: لم
آلك نصحا لم أقصر في نصحك، إلى الرجل في كذا يألو. أي قصر فهو آل والفعل لازم،
ولكنه حذف اللام فوصل الفعل إلى الضمير فنسبه، وكان
أصله لا آلو لك نصحاً، منصوب على التمييز، وليس
كما قاله الراوندي إن انتصابه على أنه مفعول ثان، فإنه إلى مفعول واحد لا يتعدى،
فكيف إلى اثنين! ويقول هذه امرأة آلية أي مقصرة وجمعها أوال، وفي المثل: الأحظية فلا ألية، أصله في المرأة تصلف
عند بعلها، فتوصى حيث فاتتها الحظوة إلا تألوه في التودد إليه والتحبب إلى قلبه. أحدهما
أنه لوكان في الوجود ثان للبارىء تعالى لما كان القول بالوحدانية حقاً، بل كان
الحق هو القول بالتثنية، ومحال ألا يكون ذلك الثاني حكيماً، ولو كان الحق هو
إثبات ثان حكيم لوجب أن يبعث رسولاً يدعو المكلفين إلى التثنية، لأن الأنبياء
كلهم دعوا إلى التوحيد، لكن التوحيد على هذا الفرض ضلال، فيجب على الثاني الحكيم
أن يبعث من ينبه المكلفين على ذلك الضلال ويرشدهم إلى الحق وهو إثبات الثاني،
وإلا كان منسوباً في إهمال ذلك إلى السفه واستفساد المكلفين، وذلك لا يجوز،
ولكنا ما أتانا رسول يدعو إلى إثبات ثان في الألهية فبطل كون القول بالتوحيد
ضلالأ، وإذا لم يكن ضلالأ كان حقاً، فنقيضه وهو القول بإثبات الثاني باطل. أما إثبات الثاني من مجرد الفعل فباطل، لأن الفعل إنما
يدل على فاعل ولا يدل على التعدد، و أما صفات أفعاله وهي كون أفعاله محكمة متقنة، فإن الأحكام الذي نشاهده
إنما يدل على عالم ولا يدل على التعدد، وأما صفات ذات البارىء فالعلم بها فرع
على العلم بذاته، فلو أثبتنا ذاته بها لزم الدور.
ومنها:
ومنها:
ومنها:
ومنها:
ومنها:
ومنها:
الأصل: يا بني، إني قد أنباتك عن الدنيا وحالها، وزوالها وانتقالها،
وأنبأتك عن الآخرة وما أعد لأهلها، وضربت لك فيهما الأمثال، لتعتبر بها، وتحذو
عليها. الشرح:
جاء في الحديث المرفوع: "لا يكمل إيمان عبد
حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ويكره لأخيه ما يكره لنفسه ". وقال
بعض الأسارى لبعض الملوك: إفعل معي ما تحب أن يفعل الله معك،
فاطلقه، وهذا هومعنى قوله رضي الله عنه: ولا
تظلم كما لا تحب أن تظلم. فقال: إن
بين يديك طريقاً بعيد المسافة، شديد المشقة ومن سلك طريقاً فلا غنى له عن أن
يرتاد لنفسه، ويتزود من الزاد قدر ما يبلغه الغآية، وأن يكون خفيف الظهر في سفره
ذلك، فإياك أن تحمل من المال ما يثقلك، ويكون وبالأ عليك، وإذا وجدت من الفقراء
والمساكين من يحمل ذلك الثقل عنك فيوافيك به غداً وقت الحاجة فحمله إياه، فلعلك
تطلب مالك فلا تجده. جاء في الحديث المرفوع:
"خمس من أتى الله بهن أو بواحدة منهن أوجب له الجنة: من سقى هامة صادية، أو
أطعم كبداً هافية، أو كسا جلدةً عارية، أو حمل قدماً حافية، أو أعتق رقبةً
عانية". الأصل: واعلم
أن الذي بيده خزائن السموات والأرض قد أذن لك في الدعاء، وتكفل لك بالأجابة، و
امرك أن تسأله ليعطيك، وتسترحمه ليرحمك، ولم يجعل بينه وبينك من يحجبك عنه، ولم
يلجئك إلى من يشفع لك إليه ولم يمنعك إن أسأت من التوبة، ولم يعاجلك بالنقمة،
ولم يفضحك حيث تعرضت للفضيحة، ولم يشدد عليك في قبول الآنابة، ولم يناقشك
بالجريمة، ولم يؤيسك من الرحمة، بل جعل نزوعك عن الذنب حسنة، وحسب سيئتك واحدة،
وحسب حسنتك عشراً. وفتح لك باب
المتاب، وباب الأستعتاب، فإذا ناديته سمع نداك، وإذا ناجيته علم نجواك، فأفضيت
إليه بحاجتك، وأبثثته ذات نفسك، وشكوت إليه همومك، واستكشفته كروبك، واستعنته
على امورك وسألته من خزائن رحمته ما لا يقدر على إعطائه غيره، من زيادة الأعمار،
وصحة الأبدان، وسعة الأرزاق. وربما سألت
الشيء فلا تعطاه، وأوتيت خيراً منه عاجلاً أو أجلاً، أو صرف عنك لما هو خير لك،
فلرب أمر قد طلبته فيه هلاك دينك لوأوتيته، فلتكن مسألتك فيما يبقى لك جماله،
وينفى عنك وباله، فالمال لا يبقى لك، ولا تبقى له. الشرح: قد تقدم القول في الدعاء، قوله: بل جعل نزوعك عن الذنب
حسنة، هذا متفق عليه بين أصحابنا، وهو أن
تارك القبيح لأنه قبيح يستحق الثواب.
ويروى: من يحجبه عنك. وروي: حيث الفضيحة أي حيث الفضيحة موجودة
منك. الشرح: يقول: هذا منزل قلعة، بضم القاف وسكون اللام، أي ليس
بمستوطن، ويقال: هذا مجلس قلعة، إذا كان صاحبه يحتاج إلى أن يقوم مرة بعد مرة. ويقال أيضاً: هم على قلعة، أي على رحلة، والقلعة أيضاً: هو المال
العارية، وفي الحديث: بئس المال القلعة، وكله يرجع إلى معنى واحد. والعاهة: الأفة، أعاه القوم أصابت ماشيتهم العاهة. واستقرأني أبو الفرج محمد بن عباد رحمه الله وأنا يومئذ حدث هذه الوصية
فقرأتها عليه من حفظي، فلما وصلت إلى هذا الموضع صاح صيحة شديدة، وسقط - وكان
جباراً قاسي القلب. في وصف الدنيا وفناء
الخلق. واعلم أنا قدمنا في
وصف الدنيا والفناء والموت من محاسن كلام الصالحين والحكماء ما فيه الشفاء،
ونذكر الآن أشياء أخر. وقال بعضهم: لا وجه لمقاساة الهموم لأجل الدنيا ولا الأعتداد بشيء من
متاعها، ولا التخلي منها، أما ترك الأهتمام لها، فمن جهة أنه لا سبيل إلى دفع
الكائن من مقدورها، وأما ترك الأعتداد بها، فإن مرجع كل أحد إلى تركها، وأما ترك
التخلي عنها فإن الآخرة لا تدرك إلا بها.
الأصل: واعلم يا بني أن من كانت مطيته الليل والنهار، فإنه يسار به
وإن كان واقفاً، ويقطع المسافة وإن كان مقيماً وادعاً. وما خير خير لا ينال
إلا بشر، ويسر لا ينال إلا بعسر. وقال الشاعر:
وقال آخر:
وقال آخر:
وقال أبو محمد اليزيدي في المأمون:
وقال آخر:
وقال آخر:
وكان يقال: ما استغنى أحد بالله إلا افتقر الناس إليه.
أبو العتاهية:
وأوصى بعض الأدباء ابنه فكتب إليه:
أبوالعتاهية:
وأوصى زياد ابنه عبيد الله عند موته، فقال: لا تدنسن عرضك، ولا تبذلن وجهك، ولا
تخلقن جدتك بالطلب إلى من إن ردك رده عليك عيباً، وإن قضى حاجتك جعلها عليك
مناً، واحتمل الفقر بالتنزه عما في أيدي الناس، والزم القناعة بما قسم لك، فإن
سوء عمل الفقير يضع الشريف، ويخمل الذكر، ويوجب الحرمان. والعقل حفظ التجارب،
وخير ما جربت ما وعظك. بادر الفرصة، قبل أن تكون غصةً، ليس كل طالب يصيب، ولا كل
غائب يئوب، ومن الفساد إضاعة الزاد، ومفسدة المعاد. ولكل أمر عاقبة. سوف يأتيك
ما قدر لك. الشرح: هذا الكلام قد اشتمل على أمثال كثيرة
حكمية، أولها قوله: تلافيك ما فرط من صمتك
أيسر من إدراكك ما فات من منطقك. وهذا مثل قولهم: أنت قادر على أن تجعل صمتك كلاماً،
ولست بقادر على أن تجعل كلامك صمتاً، وهذا حق، لأن الكلام يسمع وينقل، فلا
يستطاع إعادته صمتاً، والصمت عدم الكلام، فالقادر على الكلام قادر على أن يبدله
بالكلام، وليس الصمت بمنقول ولا مسموع فيتعذر إستدراكه.
وثالثها قوله: مرارة اليأس خير من
الطلب إلى الناس، من هذا أخذ الشاعر قوله:
وقال البحتري:
ورابعها قوله: الحرفة مع العفة خيرمن الغنى مع الفجور، والحرفة بالكسر مثل
الحرف بالضم، وهو نقصان الحظ وعدم المال. ومنه قوله: رجل محارف، بفتح الراء، يقول: لأن يكون المرء هكذا وهو عفيف
الفرج واليد، خير من الغنى مع الفجور، وذلك لأن ألم الحرفة مع العفة ومشقتها
إنما هي في أيام قليلة وهي أيام العمر، ولذة الغنى إذا كان مع الفجور، ففي مثل
تلك الأيام يكون، ولكن يستعقب عذاباً طويلاً، فالحال الأولى خير لا محالة، وأيضاً ففي الدنيا خير أيضاً للذكر الجميل فيها، والذكر
القبيح في الثانية، وللمحافظة على المروءة في الأولى وسقوط المروءة في
الثانية.
وسادسها قوله: رب ساع فيما يضره، قال عبد
الحميد الكاتب في كتابه إلى أبي مسلم: لو أراد الله بالنملة صلاحاً، لما
أنبت لها جناحاً.
وهذا مثل قولهم: من كثر كلامه كثر سقطه. وقالوا أيضاً: قلما سلم مكثار، أو
أمن من عثار.
وعاشرها قوله: بئس الطعام الحرام، هذا من قوله تعالى: "إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون
في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً.
فأمرت بمحوه، قال: يا أمير المؤمنين، كان ولقد كان نبياً فأمرت بإزالته، فقال: كذبت كانت القاف أصح من عينك الصحيحة، ثم قال: والله لولا أن أقيم لك عند العامة سوقاً
لأحسنت تأديبك، قال: يا أمير المؤمنين، قد
ترى ما أنا عليه من الضعف والزمانة والهرم وقلة البصر، فإن عاقبتني مظلوماً فاذكر قول ابن عمك علي رضي الله عنه: ظلم الضعيف أفحش الظلم، وإن عاقبتني
بحق، فاذكر أيضاً قوله: لكل شيء رأس، والحلم رأس السؤدد. فنهض المأمون من مجلسه وأمر برده إلى البصرة، ولم يصله بشيء،
ولم يحضر أحد قط مجلس المأمون إلا وصله عدا الخطابي، وليس هذا هو المحدث الحافظ
المشهور، ذاك أبو سليمان أحمد بن محمد بن أحمد البستي، كان في أيام المطيع
والطائع، وهذا قاص بالبصرة كان يقال له أبو زكريا
سليمان بن محمد البصري.
وفي المثل: إن الحديد بالحديد يفلح، وقال زهير:
وقال أبوالطيب:
وثالث عشرها قوله: وربما كان الدواء داء، والداء دواء، هذا مثل قول أبي الطيب:
ومثله قول أبي نواس:
ومثل قول الشاعر:
ورابع عشرها قوله: ربما نصح غير الناصح، وغش
المستنصح. كان المغيرة بن شعبة يبغض علياً رضي الله عنه منذ أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتأكدت بغضته إلى أيام أبي بكر
وعثمان وعمر، وأشار عليه يوم بويع بالخلافة أن يقر معاوية على الشام مدة يسيرة،
فإذا خطب له بالشام وتوطأت دعوته دعاه إليه كما كان عمر وعثمان يدعوانه إليهما،
وصرفه فلم يقبل، وكان ذلك نصيحة من عدو كاشح.
ومن كلامهم: ثلاثة تخلق العقل، وهو أوضح دليل على
الضعف: طول التمني وسرعة الجواب، والإستغراب في الضحك. وكان يقال: التمني
والحلم سيان. وقال آخر: وشرف
الفتى ترك المنى.
ويكرر ذلك، فأوجس عبيد الله خيفة ونهض، فعاد إلى قصر
الإمارة، وفات مسلماً منه ما كان يؤمله بإضاعة الفرصة، حتى صار أمره إلى ما صار.
والثانية كقول عبيد:
العشرون قوله: من الفساد، إضاعة الزاد، ومفسدة المعاد، ولا ريب أن من كان
في سفر وأضاع زاده، وأفسد الحال التي يعود إليها فإنه أحمق، وهذا مثل ضربه
للإنسان في حالتي دنياه وآخرته. وقال الفرزدق:
وقال أبو عثمان الجاحظ: رأينا بالبصرة أخوين، كان أبوهما يحب أحدهما ويبغض الآخر، فأعطى محبوبه
يوم موته كل ماله - وكان أكثر من مائتي درهم - ولم يعط الآخر شيئاً، وكان يتجر
في الزيت، ويكتسب منه ما يصرفه في نفقة عياله، ثم رأينا أولاد الأخ الموسر بعد
موت الأخوين من عائلة ولد الأخ المعسر يتصدقون عليهم من فواضل أرزاقهم. ولن لمن غالظك فإنه يوشك أن يلين لك، وخذ على عدوك بالفضل
فإنه أحد الظفرين، وإن أردت قطيعة أخيك فاستبق له من نفسك بقيةً يرجع إليها إن
بدا له ذلك يوماً ما. ومن ظن بك خيراً فصدق ظنه، ولا تضيعن حق أخيك إتكالأ على ما
بينك وبينه، فإنه ليس لك بأخ من أضعت حقه. ولا يكن أهلك أشقى الخلق بك. ولا ترغبن فيمن زهد عنك، ولا
يكونن أخوك أقوى على قطيعتك منك على صلته، ولا تكونن علىالإساءة أقوى منك على
الإحسان. ولا يكبرن عليك ظلم
من ظلمك، فإنه يسعى في مضرته ونفعك، وليس جزاء من سرك أن تسؤه.
ومن الكلمة الثانية أخذ الشاعر قوله:
وثانيها قوله: ساهل الدهر ما ذل لك قعوده، هذا استعارة، والقعود البكر حين
يمكن ظهره من الركوب إلى أن يثني، ومثل هذا المعنى قولهم في المثل: من ناطح
الدهر أصبح أجم.
ومثله:
وثالثها قوله: لا تخاطر بشيء رجاء أكثر منه، هذا مثل
قولهم: من طلب الفضل، حرم الأصل. وكان يقال: اللجاج من القحة، والقحة من قلة الحياء، وقلة الحياء من قلة
المروءة، وفي المثل: لج صاحبك فحج. وروي عن اللطف وهو الرفق للأمر، والمعنى أنه أوصاه إذا قطعه
أخوه أن يصله، وإذا جفاه أن يبره، وإذا بخل عليه أن يجود عليه، إلى آخر الوصاة.
وقال الشاعر:
وسادسها قوله: لا تتخذن عدو صديقك صديقا فتعادي صديقك، قد قال الناس في
هذا المعنى فأكثروا، قال بعضهم:
وقال آخر:
وقال آخر:
وسابعها قوله: و امحض أخاك النصيحة، حسنة كانت أو قبيحة، ليس يعني رضي الله عنه بقبيحة ههنا القبيح الذي يستحق به الذم والعقاب، وإنما يريد
نافعة له في العاجل كانت أو ضارة له في الأجل، فعبر عن النفع والضرر بالحسن
والقبيح، كقوله تعالى: "وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم
يقنطون".
وكنت كاتباً بديوان الخلافة، والوزير حينئذ نصير الدين أبو
الأزهر أحمد بن الناقد رحمه الله،
فوصل إلى حضرة الديوان في سنة اثنتين وثلاثين وستمائة
محمد بن محمد أمير البحرين على البر، ثم وصل بعده الهرمزي صاحب هرمز في دجلة
بالمراكب البحرية - وهرمز هذه فرضة في البحر نحو عمان - و امتلأت بغداد
من عرب محمد بن محمد وأصحاب الهرمزي - وكانت تلك الأيام أياماً غراء زاهرة لما
أفاض المستنصر على الناس من عطاياه، والوفود تزدحم من أقطار الأرض على أبواب
ديوانه - فكتبت يوم دخول الهرمزي إلى الوزير أبياتاً سنحت على البديهة، وأنا
متشاغل بما كنت فيه من مهام الخدمة، وكان رحمه الله
لا يزال يذكرها وبنشدها ويستحسنها:
وحادي عشرها قوله: إن أردت قطيعة أخيك فاستبق له من نفسك بقية يرجع إليها إن
بدا ذلك له يوماً، هذا مثل قولهم: أحبب
حبيبك هوناً ما، عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هوناً ما عسى أن يكون
حبيبك يوماً ما، وما كان يقال: إذا هويت فلا
تكن غالياً، وإذا تركت فلا تكن قالياً. وثاني عشرها قوله: من ظن بك خيراً فصدق ظنه، كثير من أرباب الهمم يفعلون هذا،
يقال لمن قد شدا طرفاً من العلم: هذا عالم، هذا فاضل، فيدعوه ما ظن فيه من ذلك
إلى تحقيقه، فيواظب على الأشتغال بالعلم حتى يصير عالماً فاضلاً حقيقة وكذلك
يقول الناس: هذا كثير العبادة، هذا كثير الزهد، لمن قد شرع في شيء من ذلك،
فتحمله أقوال الناس على الإلتزام بالزهد والعبادة.
وكان يقال: إضاعة الحقوق، داعية العقوق.
وقد قال الشعراء المتقدمون والمتأخرون فأكثروا، نحو قولهم:
وقول تأبط شراً:
وخامس عشرها قوله: لا يكونن أخوك أقوى على قطيعتك منك على صلته، ولا تكونن على
الإساءة أقوى منك على الإحسان. هذا أمر له بأن يصل من قطعه، وأن يحسن إلى من أساء إليه. وقوله رضي الله عنه :وليس جزاء من سرك أن تسوءه، يقول: لا
تنتقم ممن ظلمك فإنه قد نفعك في الآخرة بظلمه لك، وليس جزاء من ينفع إنساناً أن
يسيء إليه. وهذا مقام جليل لا يقدر عليه إلا الأفراد من الأولياء الأبرار. وقبض بعض الجبابرة على صالحين، فحبسهم وقيدهم، فلما طال
عليهم الأمر زفر بعضهم زفرة شديدة، ودعا على ذلك الجبار، فقال له بعض أولاده -
وكان أفضل أهل زمانه في العبادة. وكان مستجاب الدعوة: لا تدع عليه فتخفف من
عذابه، قالوا: يا فلان، ألا ترى ما بنا وبك! لا يأنف ربك لنا! قال: إن لفلان
مهبطاً في النار لم يكن ليبلغه إلا بما ترون، وإن لكم لمصعداً في الجنة لم
تكونوا لتبلغوه ألا بما ترون. قالوا: فقد نال منا العذاب والحديد، فادع الله لنا أن يخلصنا وينقذنا مما نحن فيه، قال:
إني لأظن أني لو فعلت لفعل، ولكن والله لا أفعل حتى أموت هكذا، فألقى الله فأقول
له: أي رب سل فلاناً لم فعل بي هذا، ومن الناس من يجعل قوله رضي الله عنه : ليس جزاء من سرك أن تسوءه، كلمة مفردة مستقلة بنفسها، ليست
من تمام الكلام الأول، والصحيح ما ذكرناه. ما أقبح الخضوع عند الحاجة، والجفاء عند الغنى! إنما لك من
دنياك، ما أصلحت به مثواك، وإن كنت جازعاً على ما تفلت من يديك، فاجزع على كل ما
لم يصل إليك. استدل على ما لم يكن بما قد كان، فإن الأمور أشباه، ولا
تكونن ممن لا تنفعه العظة إلا إذا بالغت في إيلامه، فإن العاقل يتعظ بالأداب،
والبهائم لا تتعظ إلا بالضرب. والصاحب مناسب،
والصديق من صدق غيبه، والهوى شريك العمى، ورب بعيد أقرب من قريب، وقريب أبعد من
بعيد، والغريب، من لم يكن له حبيب. ومن لم يبالك فهو عدوك، قد يكون اليأس إدراكاً، إذا كان
الألمع. دخل عماد الدولة أبو الحسن بن بويه شيراز بعد
أن هزم ابن ياقوت عنها،
وهو فقير لا مال له، فساخت إحدى قوائم فرسه في الصحراء في الأرض، فنزل عنها
وابتدرها غلمانه فخلصوها، فظهر لهم في ذلك الموضع نقب وسيع، فأمرهم بحفره،
فوجدوا فيه أموالأ عظيمة، وذخائر لابن ياقوت، ثم استلقى يوماً آخر على ظهره في
داره بشيراز التي كان ابن ياقوت يسكنها، فرأى حية في السقف، فأمر غلمانه بالصعود
إليها وقتلها، فهربت منهم، ودخلت في خشب الكنيسة فأمر أن يقلع الخشب وتستخرج
وتقتل، فلما قلعوا الخشب وجدوا فيه أكثر من خمسين ألف دينار ذخيرة لابن ياقوت.
ومنها قوله: إنما لك من دنياك، ما أصلحت به مثواك، هذا من كلام رسول
الله صلى الله عليه وسلم : "يابن آدم، ليس لك من مالك إلا ما أكلت فافنيت، أو
لبست فأبليت، أو تصدقت فأبقيت".
ومنها قوله: وإن كنت جازعاً على ما تفلت من يديك، فاجزع على كل ما لم
يصل إليك، يقول: لا ينبغي أن تجزع على ما ذهب من مالك، كما لا ينبغي أن تجزع على
ما فاتك من المنافع والمكاسب، فإنه لا فرق بينهما، إلا أن هذا حصل، وذاك لم يحصل
بعد، وهذا فرق غير مؤثر، لأن الذي تظن أنه حاصل لك غير حاصل في الحقيقة، وإنما
الحاصل على الحقيقة ما أكلته ولبسته، وأما القنيات والمدخرات فلعلها ليست لك،
كما قال الشاعر:
ومنها قوله: استدل على ما لم يكن بما كان، فإن للأمور أشباها يقال: إذا
شئت أن تنظر للدنيا بعدك فانظرها بعد غيرك، وقال
أبو الطيب في سيف الدولة:
ومنها قوله: ولا تكونن ممن لا تنفعه العظة، إلى قوله: إلا بالضرب، هو قول الشاعر:
وكان يقال: اللئيم كالعبد، والعبد كالبهيمة عتبها ضربها. هذا كلام شريف فصيح عظيم النفع والفائدة، وقد أخذ عبد الله بن الزبير بعض هذه الألفاظ فقال في خطبته
لما ورد عليه الخبر بقتل مصعب أخيه: لقد جاءنا
من العراق خبر أحزننا وسرنا، جاءنا خبر قتل مصعب، فأما سرورنا فلأن ذلك كان له شهادة، وكان لنا إن شاء الله خيرة،
وأما الحزن فلوعة يجدها الحميم عند فراق حميمه، ثم
يرعوي بعدها ذو الرأي إلى حسن الصبر وكرم العزاء.
ومنها قوله: الصديق من صدق غيبه، من ههنا أخذ أبو نواس قوله في
المنهوكة:
ومنها قوله: الهوى شريك العمى، هذا مثل قولهم: حبك الشيء يعمي ويصم قال
الشاعر:
ومنها قوله: رب بعيد أقرب من قريب، وقريب أبعد من بعيد، هذا معنى مطروق،
قال الشاعر:
وقال الأحوص:
وقال البحتري:
ومنها قوله: والغريب من لم يكن له حبيب، يريد بالحبيب ههنا المحب لا
المحبوب. قال الشاعر:
ومنها قوله: من تعدى الحق ضاق مذهبه، يريد بمذهبه ههنا طريقته، وهذه
استعارة، ومعناه أن طريق الحق لا مشقة فيها لسالكها، وطرق الباطل فيها المشاق
والمضار، وكأن سالكها سالك طريقة ضيقة يتعثر فيها، ويتخبط في سلوكها.
ومنها قوله: أوثق سبب أخذت به، سبب بينك وبين الله سبحانه، هذا من قول الله تعالى: "فمن
يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا أنفصام لها". ومنها قوله: فمن لم يبالك فهو عدوك، أي لم يكترث بك، وهذه الوصاة خاصة
بالحسن رضي الله عنه
و امثاله من الولاة وأرباب الرعايا،
وليست عامة للسوقة من أفناء الناس، وذلك لأن الوالي إذا أنس من بعض رعيته أنه لا
يباليه ولا يكترث به، فقد أبدى صفحته، ومن أبدى لك صفحته فهو عدوك، و اما غير
الوالي من أفناء الناس، فليس أحدهم إذا لم يبال الآخر
بعدو له.
والمعنى: ربما كان بلوغ الأمل في الدنيا والفوز بالمطلوب منها سبباً
للهلاك فيها، وإذا كان كذلك، كان الحرمان خيراً من الظفر. ومن الأمثال الحكمية: أبدأ بالحسنة قبل السيئة، فلست
بمستطيع للحسنة في كل وقت وأنت على الإساءة متى شئت قادر.
وقالوا: احذر الدنيا ما استقامت لك. ومن الأمثال الحكمية: من أمن
الزمان ضيع ثغراً مخوفاً". ومثل الكلمة الثانية قولهم: الدنيا كالأمة اللئيمة
المعشوقة، كلما ازددت لها عشقاً وعليها تهائكاً ازدادت لك إذلالأ، وعليك
شطاطاً".
ومنها قوله: ليس كل من رمى أصاب هذا معنى مشهور، قال أبو الطيب:
ومنها قوله: إذا تغير السلطان، تغير الزمان، في كتب الفرس أن أنوشروان
جمع عمال السواد وبيده درة يقلبها، فقال: أي
شيء أضر بارتفاع السواد وأدعى إلى محقه، أيكم قال ما في نفسي جعلت هذه الدرة في
فيه، فقال بعضهم: انقطاع الشرب، وقال بعضهم:
احتباس المطر، وقال بعضهم: استيلاء الجنوب
وعدم الشمال، فقال لوزيره: قل أنت فإني أظن
عقلك يعادل عقول الرعية كلها أو يزيد عليها، قال:
تغير رأي السلطان في رعيته، وإضمار الحيف لهم، والجور عليهم، فقال: لله أبوك! بهذا العقل أهلك آبائي وأجداًدي
لما أهلوك له. ودفع إليه الدرة فجعلها في فيه. وإياك والتغاير في غير موضع غيرة، فإن ذلك يدعو الصحيحة إلى
السقم، والبريئة إلى الريب، واجعل لكل إنسان من خدمك عملاً تأخذه به، فإنه أحرى
ألا يتواكلوا في خدمتك، وأكرم عشيرتك، فإنهم جناحك الذي به تطير، وأصلك الذي
إليه تصير، ويدك التي بها تصول، استوح الله دينك ودنياك، وأسأله خير القضاء لك
في العاجلة والآجلة، والدنيا والآخرة. والسلام.
ونحن معه نجري إلى غاية إن قصرنا عنها ذممنا، وإن اجتهدنا في
بلوغها انقطعنا، وإنما نحن شعب من أصل، إن قوي قوينا، وإن ضعف ضعفنا، إن هذا
الرجل قد ألقى بيده إلقاء الأمة الوكعاء، يشاور النساء، ويعتزم على الرؤيا، قد
أمكن أهل الخسارة واللهو من سمعه، فهم يمتونه الظفر، ويعدونه عقب الأيام،
والهلاك أسرع إليه من السيل إلى قيعان الرمل. قوله رضي الله عنه: فإن رأيهن إلى أفن، الأفن بالسكون: النقص، والمتأفن: المتنقص،
يقال: فلان يتأفن فلاناً، أي يتنقصه ويعيبه. ومن رواه إلى أفن بالتحريك فهو ضعف
الرأي، أفن الرجل يأفن أفناً أي ضعف رأيه، وفي
المثل: إن الرقين تغطي أفن الأفين، والوهن: الضعف. كان لبعضهم بنت حسناء، فحج بها، وكان يعصب عينيها،
ويكشف للناس وجهها، فقيل له في ذلك، فقال: إنما الحذر
من رؤيتها الناس، لا من رؤية الناس لها. وروى الزبير بن بكار، قال: كانت الخيزران كثيراً ما تكلم موسى ابنها -
لما استخلف - في الحوائج، وكان يجيبها إلى كل ما
تسأل، حتى مضت أربعة أشهر من خلافته وتتالى الناس عليها، وطمعوا فيها،
فكانت المواكب تغدو إلى بابها، وكلمته يوماً في أمر فلم يجد إلى إجابتها سبيلاً،
واحتج عليها بحجة فقالت: لا بد من إجابتي، فقال:
لا أفعل، قالت: إني قد ضمنت هذه الحاجة لعبد
الله بن مالك، فغضب موسى وقال: ويلي على ابن
الفاعلة! قد علمت أنه صاحبها، والله لا قضيتها لك ولا له! قالت: والله لا أسألك
حاجة أبداً، قال: إذن والله لا أبالي، فقامت مغضبة، فقال: مكانك تستوعبي كلامي،
وأنا والله برىء من قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لئن بلغني أنه وقف أحد من قوادي
وخاصتي وخدمي وكتابي على بابك لأضربن عنقه، ولأقبضن ماله، فمن شاء فليلزم ذلك، ما هذه المواكب التي تغدو إلى بابك كل يوم! اما لك مغزل
يشغلك، أو مصحف يذكرك، أو بيت يصونك! إياك ثم إياك أن تفتحي فاك في حاجة لملي أو
ذمي، فانصرفت وما تعقل ما تطأ عليه، وتنطق عنده بحلوة ولا مرة بعدها حتى هلك. فلما دخل الوليد عليها أخبرها وهو يمازحها بمقالة
الحجاج، فقالت:
يا أمير المؤمنين، حاجتي أن تأمره غداً أن يأتيني
مسلماً، ففعل ذلك، فأتاها الحجاج فحجبته، فلم يزل قائماً، ثم أذنت له،
فقالت: يا حجاج، أنت الممتن على أمير المؤمنين بقتلك
ابن الزبير وابن الأشعث! أما والله لولا أن الله
علم أنك شر خلقه ما ابتلاك برمي الكعبة الحرام
ولا بقتل ابن ذات النطاقين، أول مولود في دار هجرة الإسلام! وأما نهيك
أمير المؤمنين عن مفاكهة النساء وبلوغ لذاته وأوطاره، فإن كن ينفرجن عن مثلك فما أحقه بالأخذ منك! وإن كن ينفرجن عن مثله فهو غير قابل لقولك، أما والله لقد نقض نساء
أمير المؤمنين الطيب من غدائرهن فبعنه في أعطية أهل الشام حين كنت في أضيق من
قرن، قد أظلتك رماحهم، وأثخنك كفاحهم، وحين كان أمير المؤمنين أحب إليهم من
أبنائهم وآبائهم، فأنجاك الله من عدو أمير المؤمنين بحبهم إياه، قاتل الله القائل حين ينظر إليك، وسنان غزالة بين كتفيك:
قم فاخرج، فقام فخرج. أقوال الشعراء في الغيرة. فأما قوله
رضي الله عنه:
إياك والتغاير في غير موضع غيرة، فقد قيل هذا المعنى، قال بعض المحدثين:
وكان مسكين الدارمي أحد من
يستهجن الغيرة، ويستقبح وقوعها في غير محلها، فمن شعره
في هذا المعنى:
وقال أيضاً:
وقال أيضاً:
فأما قوله: واجعل لكل إنسان من خدمك عملاً تأخذه له، فقد قالت الحكماء هذا المعنى، قال أبرويز في وصيته
لولده شيرويه: وانظر إلى كتابك، فمن كان منهم ذا ضياع قد أحسن عمارتها فوله
الخراج، ومن كان منهم ذا عبيد قد أحسن سياستهم وتثقيفهم فوله الجند، ومن كان
منهم ذا سراري وضرائر قد أحسن القيام عليهن فوله النفقات والقهرمة، وهكذا فاصنع
في خدم دارك، ولا تجعل أمرك فوضى بين خدمك فيفسد عليك ملكك.
فقال سليمان: هذ المدح لي أم لك! قال: لي
ولك يا أمير المؤمنين، فغضب سليمان وقال: قم فأتمم، ولا تنشد بعده إلا قائماً، فقال الفرزدق: لا والله أو يسقط إلىالأرض أكثري شعراً.
فقال سليمان: ويلي على الأحمق ابن الفاعلة! لا
يكني، وارتفع صوته، فسمع الضوضاء بالباب، فقال سليمان:
ما هذا، قيل: بنو تميم على الباب، قالوا: لا
ينشد الفرزدق قائماً وأيدينا في مقابض سيوفنا، قال: فلينشد قاعداً. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وفود
الوليد بن جابر على معاوية.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وروى أبو عبيد الله محمد بن موسى بن عمران
المرزباني، قال:
كان الوليد بن جابر بن ظالم الطائي ممن وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم، ثم صحب عليا رضي الله عنه، وشهد معه صفين، وكان من رجاله المشهورين،
ثم وفد على معاوية في الإستقامة، وكان معاوية لا يثبته، معرفة بعينه، فدخل عليه
في جملة الناس، فلما انتهى إليه استنسبه ، فانتسب له، فقال:
أنت صاحب ليلة الهرير، قال: نعم، قال: والله ما
تخلو مسامعي من رجزك تلك الليلة، وقد علا صوتك أصوات الناس، وأنت تقول:
قال:
نعم، أنا قائله. قال: فلماذا قلتها، قال: لأنا كنا مع رجل لا نعلم خصلة توجب الخلافة، ولا
فضيلة تصير إلى التقدمة، إلا وهي مجموعة له، كان أول
الناس سلماً، وأكثرهم علماً، وأرجحهم حلماً، فات الجياد فلا يشق غباره، يستولي
على الأمد فلا يخاف عثاره، وأوضح منهج الهدى فلا يبيد مناره، وسلك القصد فلا
تدرس آثاره، فلما ابتلانا الله تعالى بافتقاده، وحول الأمر إلى من يشاء
من عباده، دخلنا في جملة المسلمين فلم ننزع يداً عن
طاعة، ولم نصدع صفاة جماعة، على أن لك منا ما ظهر، وقلوبنا بيد الله، وهو
املك بها منك، فاقبل صفونا، وأعرض عن كدرنا، ولا تزكوا
من الأحقاد، فإن النار تقدح بالزناد . قال
معاوية: وإنك لتهددني يا أخا طيىء بأوباش العراق أهل النفاق، ومعدن
الشقاق! فقال:
يا معاوية هم الذين أشرقوك بالريق، وحبسوك في المضيق، وذادوك عن سنن الطريق، حتى
لذت منهم بالمصاحف، ودعوت إليها من صدق بها وكذبت، و امن بمنزلها وكفرت، وعرف من
تأويلها ما أنكرت. فغضب معاوية وأدار طرفه فيمن حوله فإذا جلهم من مضر ونفر قليل من اليمن، فقال: أيها
الشقي الخائن، إني لإخال أن هذا آخر كلام تفوه به
- وكان عفير بن سيف بن ذي يزن بباب معاوية حينئذ -
فعرف موقف الطائي ومراد معاوية، فخافه عليه، فهجم عليهم الدار، أقبل على اليمانية، فقال: شاهت
الوجوه ذلاً وقلاً، وجدعاً وفلاً، كشم الله هذه الآنف كشماً مرعباً. ثم
التفت إلى معاوية، فقال: إني والله يا معاوية ما أقول قولي هذا
حباً لأهل العراق، ولا جنوحاً إليهم، ولكن الحفيظة تذهب الغضب، لقد رأيتك بالأمس، خاطبت أخا ربيعة - يعني صعصعة بن صوحان.
وهو أعظم جرماً عندك من هذا، وأنكأ لقلبك، وأقدح في صفاتك، وأجد في عداوتك، وأشد
انتصاراً في حربك، ثم أثبته وصحته، وأنت الآن مجمع على قتل هذا - زعمت - استصغاراً لجماعتنا! فإنا لا نمر
ولا نحلي، ولعمري لو وكلتك أبناء قحطان إلى قومك لكان جدك العاثر، وذكرك الداثر،
وحدك المفلول، وعرشك المثلول، فأربع على ظلعك ، واطونا على بلالتنا، ليسهل لك
حزننا، ويتطامن لك شاردنا، فإنا لا نرام بوقع الضيم،
ولا نتلمظ جرع الخسف، ولا نغمز بغماز الفتن، ولا نذر على الغضب. فقال معاوية: الغضب شيطان، فاربع نفسك أيها الإنسان، فإنا لم نأت إلى صاحبك
مكروهاً، ولم نرتكب منه مغضباً، ولم ننتهك منه محرماً، فدونكه فإنه لم يضق عنه
حلمنا ويسع غيره. فأخذ عفير بيد الوليد، وخرج به إلى منزله، وقال له: والله لتؤوبن بأكثر مما آب به معدي من
معاوية. وجمع من بدمشق من اليمانية، وفرض على كل رجل دينارين في عطائه، فبلغت
أربعين ألفاً، فتعجلها من بيت المال، ودفعها إلى
الوليد، ورده إلى العراق. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن
كتاب له إلى معاوية
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
وأرديت
جيلاً من الناس كثيراً، خدعتهم بغيك، وألقيتهم في موج بحرك، تغشاهم الظلمات،
وتتلاطم بهم الشبهات، فجاروا عن وجهتهم، ونكصوا على أعقابهم، وتولوا على
أدبارهم، وعولوا على أحسابهم، إلا من فاء من أهل البصائر، فإنهم فارقوك بعد معرفتك،
وهربوا إلى الله من موازرتك، إذ حملتهم على الصعب، وعدلت بهم عن القصد، فاتق
الله يا معاوية في نفسك، وجاذب الشيطان قيادك. فإن الدنيا منقطعة عنك، والآخرة
قريبة منك، والسلام. الكتب
المتبادلة بين علي علته السلام ومعاوية. وأول
هذا الكتاب: من عبد الله علي أمير المؤمنين رضي الله عنه إلى
معاوية بن أبي سفيان، أما بعد، فإن الدنيا دار تجارة، وربحها أو خسرها الآخرة،
فالسعيد من كانت بضاعته فيها الأعمال الصالحة، ومن رأى الدنيا بعينها، وقدرها
بقدرها! وإني لأعظك مع علمي بسابق العلم فيك مما لا مرد
له دون نفاذه، ولكن الله تعالى أخذ على العلماء أن
يؤدوا الأمانة، وأن ينصحوا الغوي والرشيد، فاتق الله، ولا تكن ممن لا يرجو لله
وقاراً، ومن حقت عليه كلمة العذاب، فإن الله بالمرصاد. وإن دنياك ستدبر
عنك، وستعود حسرة عليك، فأقلع عما أنت عليه من الغي
والضلال. على كبر سنك وفناء عمرك،
فإن حالك اليوم كحال الثوب المهيل الذي لا يصلح من جانب
إلا فسد من آخر، وقد أرديت جيلً من الناس كثيراً، خدعتهم بغيك. إلى آخر
الكتاب. ولعمري ليتمن
النور على كرهك، ولينفذن العلم بصغارك، ولتجازين بعملك، فعث في دنياك المنقطعة
عنك ما طاب لك، فكأنك بباطلك وقد انقضى، وبعملك وقد
هوى، ثم تصير إلى لظى، لم يظلمك الله شيئاً، وما ربك بظلام للعبيد! قال: فكتب إليه
معاوية: أما بعد، فما أعظم الرين على قلبك، والغطاء على بصرك! الشره من
شيمتك، والحسد من خليقتك، فشمر للحرب، واصبر للضرب، فوالله ليرجعن الأمر إلى ما
علمت، والعاقبة للمتقين. هيهات هيهات! أخطأك
ما تمنى، وهوى قلبك مع من هوى، فاربع على ظلعك، وقس شبرك بفترك، لتعلم
أين حالك من حال من يزن الجبال حلمه، ويفصل بين أهل الشك علمه. والسلام. قال: فكتب إليه علي رضي الله عنه : أما بعد،
فإن مساوئك مع علم الله تعالى فيك حالت بينك
وبين أن يصلح لك أمرك، وأن يرعوي قلبك، يابن
الصخر اللعين! زعمت أن يزن الجبال حلمك، ويفصل بين أهل الشك علمك، وأنت الجلف المنافق، الأغلف
القلب، القليل العقل، الجبان الرذل، فإن كنت
صادقاً فيما تسطر، ويعينك عليه أخو بني سهم، فدع الناس جانباً، وتيسر لما
دعوتني إليه من الحرب، والصبر على الضرب، واعف الفريقين
من القتال، ليعلم أينا المرين على قلبه، المغطى على بصره، فأنا أبو الحسن، قاتل جدك وأخيك وخالك، وما أنت منهم ببعيد،
والسلام! قلت: وأعجب وأطرب ما جاء به الدهر - وإن كانت عجائبه وبدائعه جمة - أن يفضي أمر علي رضي الله عنه إلى أن يصير معاوية نداً له ونظيراً مماثلاً، يتعارضان الكتاب والجواب، ويتساويان
فيما يواجه به أحدهما صاحبه، ولا يقول له علي رضي الله عنه كلمة
إلا قال مثلها، وأخشن مساً منها، فليت محمداً صلى الله عليه وسلم كان شاهد ذلك، ليرى عياناً
لا خبراً أن الدعوة التي قام بها، وقاسى أعظم المشاق في تحملها، وكابد الأهوال
في الذب عنها، وضرب بالسيوف عليها لتأييد دولتها، وشيد أركانها، وملأ الأفاق
بها، خلصت صفواً عفواً لأعدائه الذين
كذبوه، لما دعا إليها، وأخرجوه عن أوطانه لما حض عليها، وأدموا وجهه، وقتلوا عمه
وأهله، فكأنه كان يسعى لهم، ويدأب لراحتهم، كما قال أبو
سفيان في أيام عثمان، وقد مر بقبر حمزة، وضر به برجله، وقال: يا أبا عمارة! إن
الأمر الذي اجتلدنا عليه بالسيف أمسى في يد غلماننا اليوم يتلعبون به! ثم
آل الأمر إلى أن يفاخر معاوية علياً، كما يتفاخر الأكفاء والنظراء.
ثم أقول ثانياً لأمير المؤمنين رضي الله عنه: ليت شعري، لماذا
فتح باب الكتاب والجواب بينه وبين معاوية! وإذا كانت الضرورة قد قادت إلى
ذلك، فهلا اقتصر في الكتاب إليه على الموعظة من غير
تعرض للمفاخرة والمنافرة! وإذا كان لا بد منهما فهلا
اكتفى بهما من غير تعرض لأمر آخر يوجب المقابلة والمعارضة بمثله، وبأشد منه:
"ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا
الله عدواً بغير علم" وهلا دفع هذا الرجل
العظيم الجليل نفسه عن سباب هذا السفيه الأحمق، هذا مع أنه القائل: من واجه الناس بما يكرهون قالوا فيه ما لا يعلمون!
أي افتروا عليه وقالوا فيه الباطل.
وهكذا جرى في القنوت واللعن،
قنت بالكوفة على معاوية، ولعنه في الصلاة وخطبة الجمعة،
وأضاف إليه عمرو بن العاص وأبا موسى وأبا الأعور السلمي
وحبيب بن مسلمة، فبلغ ذلك معاوية بالشام، فقنت
عليه، ولعنه بالصلاة، وخطبة الجمعة، وأضاف إليه الحسن والحسين وابن عباس والأشتر
النخعي، ولعله رضي الله عنه
قد كان يظهر له من المصلحة
حينئذ ما يغيب عنا الآن،
ولله أمر هو بالغه! |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن
كتاب له إلى قثم بن العباس وهو عامله على مكة.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
أما بعد، فإن عيني بالمغرب كتب إلي يعلمني أنه وجه إلى الموسم أناس من أهل الشام،
العمي القلوب، الصم الأسماع، الكمه الأبصار، الذين يلبسون الحق بالباطل، ويطيعون
المخلوق في معصية الخالق، ويحتلبون الدنيا درهاً بالدين، ويشترون عاجلها بآجل
الأبرار المتقين، ولن يفوز بالخير إلا عامله، ولا يجزى جزاء الشر إلا فاعله. الشرح: كان معاوية قد بعث إلى مكة دعاة في
السر يدعون إلى طاعته، ويثبطون العرب عن نصرة
أمير المؤمنين، ويوقعون في أنفسهم أنه إنما قاتل لعثمان أو خاذل، وأن
الخلافة لا تصلح فيمن قتل أو خذل، وينشرون عندهم محاسن معاوية بزعمهم وأخلاقه
وسيرته، فكتب أمير المؤمنين رضي الله عنه هذا الكتاب إلى عامله بمكة،
ينبهه على ذلك
ليعتمد فيه بما تقتضيه السياسة، ولم يصرح في هذا الكتاب
بما يأمره أن يفعل إذا ظفر بهم. ودرهاً منصوب بالبدل
من الدنيا وروي: الذين يلتمسون الحق بالباطل أي يطلبونه، أي يتبعون معاوية وهو
على الباطل إلتماساً وطلباً للحق، ولا يعلمون أنهم قد ضلوا.
من أخبار قثم بن العباس. فأما قثم بن العباس، فأمه أم إخوته، وروى ابن عبد البر في كتاب الأستيعاب عن عبد الله بن جعفر،
قال: كنت أنا وعبيد الله وقثم ابنا العباس نلعب،
فمر بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم راكباً،
فقال: "ارفعوا إلي هذا الفتى" -يعني
قثم - فرفع اليه! فأردفه خلفه، ثم جعلني بين يديه،
ودعا لنا، فاستشهد قثم بسمرقند. قال: وكان قثم يشبه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفيه يقول داود بن مسلم:
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن
كتاب له إلى محمد ابن أبي بكرلما بلغه توجده من عزله بالأشتر عن مصر، ثم توفي
الأشتر قبل وصوله إليها.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
أما بعد، فقد بلغني موجدتك من تسريح الأشتر إلى عملك. وإني لم أفعل ذلك استبطاء لك في الجهد، ولا
ازدياداً لك في الجد، ولو نزعت ما تحت يدك من سلطانك، لوليتك ما هو أيسر عليك
مؤونة، وأعجب إليك ولآية. الشرح: ام محمد رحمه الله أسماء بنت عميس
الخثعمية: وهي أخت
ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ،
وأخت لبابة أم الفضل وعبد الله زوج العباس بن عبد
المطلب، وكانت من المهاجرات إلى أرض الحبشة،
وهي إذ ذاك تحت جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، فولدت له هناك محمد بن جعفر وعبد
الله وعوناً، ثم هاجرت معه إلى المدينة،
فلما قتل جعفر يوم مؤتة تزوجها أبو بكر، فولدت له محمد بن
أبي بكر هذا، ثم مات عنها فتزوجها علي رضي الله عنه،
وولدت له يحيى بن علي، لا خلاف في ذلك. وقال ابن عبد البر في الأستيعاب: ذكر ابن الكلبي أن عون بن علي أسم أمه أسماء بنت عميس، ولم يقل ذلك
أحد غيره.
فأما في الحزن فلا يقال إلا وجدت أنا بالفتح لا
غير. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن
كتاب له إلى عبد الله بن العباس بعد مقتل محمد بن أبي بكر.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
أما بعد، فإن مصر قد افتتحت، ومحمد بن أبي بكر رحمه الله قد استشهد، فعند الله
نحتسبه ولداً ناصحاً، وعاملاً كادحاً، وسيفاً قاطعاً، وركناً دافعاً. الشرح:
انظر إلى الفصاحة كيف تعطي هذا الرجل قيادها، وتملكه زمامها، وأعجب لهذه الألفاظ
المنصوبة، يتلو بعضها بعضاً كيف تواتيه وتطاوعه، سلسة سهلة، تتدفق من غير تعسف
ولا تكلف، حتى انتهى إلى آخر الفصل فقال: يوماً واحداً، ولا ألتقي بهم أبداً،
وأنت وغيرك من الفصحاء إذا شرعوا في كتاب أوخطبة، جاءت القرائن والفواصل تارة مرفوعة، وتارة مجرورة، وتارة منصوبة، فإن
أرادوا قسرها بإعراب واحد ظهر منها في التكلف أثر بين، وعلامة واضحة، وهذا الصنف من البيان أحد أنواع الإعجاز في القرآن، ذكره عبد
القاهر، قال: انظر إلى سورة النساء
وبعدها سورة المائدة، الأولى منصوبة الفواصل، والثانية ليس
فيها منصوب أصلاً، ولو مزجت إحدى السورتين بالأخرى لم تمتزجا، وظهر أثر التركيب والتأليف بينهما. ثم إن فواصل كل واحد منهما تنساق سياقة بمقتفى
البيان الطبيعي لا الصناعة التكلفية. ثم
انظر إلى الصفات والموصوفات في هذا الفصل، كيف قال:
ولداً ناصحاً، وعاملاً كادحاً، وسيفاً قاطعاً، وركناً دافعاً، لو قال: ولداً كادحاً وعاملاً ناصحاً، وكذلك ما بعده لما كان صواباً، ولا في الموقع واقعاً، فسبحان من منح
هذا الرجل هذه المزايا النفيسة والخصائص الشريفة! أن
يكون غلام من أبناء عرب مكة، ينشأ بين أهله، لم يخالط الحكماء، وخرج أعرف
بالحكمة ودقائق العلوم الإلهية من أفلاطون وأرسطو! ولم يعاشر أرباب الحكم
الخلقية والأداب النفسانية، لأن قريشاً لم يكن أحد منهم مشهوراً بمثل ذلك، وخرج
أعرف بهذا الباب من سقراط! ولم يرب بين الشجعان، لأن أهل مكة كانوا ذوي تجارة،
ولم يكونوا ذوي حرب، وخرج أشجع من كل بشر مشى على الأرض، قيل لخلف
الأحمر: أيهما أشجع عنبسة وبسطام ام علي بن أبي
طالب، فقال: إنما يذكر عنبسة وبسطام مع البشر
والناس، لا مع من يرتفع عن هذه الطبقة، فقيل له:
فعلى كل حال. قال: والله
لو صاح في وجوههما لماتا قبل أن يحمل عليهما. وخرج أفصح من سحبان وقس، ولم تكن قريش بأفصح العرب، كان غيرها
أفصح منها، قالوا: أفصح العرب جرهم وإن لم تكن
لهم نباهة. وخرج أزهد الناس في الدنيا، وأعفهم، مع
أن قريشاً ذوو حرص ومحبة للدنيا، ولا غرو فيمن كان محمد
صلى الله عليه وسلم مربيه ومخرجه، والعنآية الإلهية تمده وترفده أن يكون منه ما كان! يقال: احتسب ولده، إذا مات كبيراً، وافترط
ولده، إذا مات صغيراً. والمعنى
أن حاله كانت مناسبة لحال النبي صلى
الله عليه وسلم،
ومن تذكر أحوالهما وسيرتهما، وما جرى لهما إلى أن قبضا، علم تحقيق ذلك. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن
كتاب له إلى أخيه عقيل بن أبي طالب في ذكر جيش أنفذه إلى بعض الأعداء، وهو جواب
كتاب كتبه إليه عقيل.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
فسرحت إليه جيشاً كثيفاً من المسلمين، فلما بلغه ذلك شمر هارباً، ونكص نادماً،
فلحقوه ببعض الطريق وقد طفلت الشمس للإياب، فاقتتلوا شيئاً كلا ولا، فما كان إلا
كموقف مساعة حتى نجا جريضاً، بعد ما أخذ منه بالمخنق، ولم يبق معه غير الرمق،
فلأياً بلأي ما نجا. ولا تحسبن ابن أبيك - ولو أسلمه الناس - متضرعاً متخشعاً،
ولا مقراً للضيم واهناً، ولا سلس الزمام للقائد، ولا وطىء الظهر للراكب المقتعد،
ولكنه كما قال أخو بني سليم:
الشرح: قد تقدم ذكر هذا الكتاب في
اقتصاصنا ذكر حال بسر بن أرطأة وغارته على اليمن في أول الكتاب. وهذا الخطاب إنما هو على قدر أفهام العرب، كانوا
يعتقدون أن الشمس منزلها ومقرها تحت الأرض، وأنها
تخرج كل يوم فتسير على العالم، ثم تعود إلى منزلها، فتأوي
إليه كما يأوي الناس ليلاً إلى منازلهم.
وفي شعر الكميت كلا وكذا تغميضة.
قال الأصمعي: ويقال: هو يجرض بنفسه، أي يكاد يموت، ومنه قول امرىء القيس:
وأجرضه الله بريقه: أغصه. قوله:
فدع عنك قريشاً إلى قوله:
على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا الكلام حق، فإن قريشاً
اجتمعت على حربه منذ يوم بويع بغضاً له وحسداً وحقداً عليه، فأصفقوا كلهم يداً
واحدة على شقاقه وحربه، كما كانت حالهم في ابتداء الإسلام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم تخرم حاله من حاله أبداً إلا ن
ذاك عصمه الله من القتل، فمات موتاً طبيعياً، وهذا اغتاله إنسان فقتله. قوله: فجزت قريشا عني الجوازي، فقد قطعوا رحمي، وسلبوني سلطان ابن
أمي، هذه كلمة تجري مجرى المثل، تقول لمن يسيء
إليك وتدعو عليه: جزتك عني الجوازي! يقال جزاه
الله بما صنع، وجازاه الله بما صنع! ومصدر الأول جزاء، والثاني
مجازاة، وأصل الكلمة أن الجوازي جمع جازية
كالجواري جمع جارية، فكأنه يقول: جزت
قريشاً عني بما صنعت لي كل خصلة من نكبة أو شدة أو مصيبة أو جائحة، أي جعل الله هذه الدواهي كلها جزاء قريش بما صنعت بي. وسلطان ابن أمي، يعني به الخلافة، وابن أمه هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنهما
ابنا فاطمة بنت عمرو بن عمران بن عائد بن مخزوم، أم عبد الله وأبي طالب،
ولم يقل سلطان ابن أبي، لأن غير أبي طالب من الأعمام
يشركه في النسب إلى عبد المطلب.
أي من لا ذمة له ومن له ذمة، وكذلك قول خالد بن
يزيد بن معاوية في زوجته رملة بنت الزبير بن العوام:
أي ناقضة العهد أخت المحارب في الحرم، أو أخت ناقض بيعة بني
أمية. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن
كتاب له عليه السلام إلى معاوية.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
فسبحان الله! ما أشد لزومك للأهواء المبتدعة، والحيرة المتبعة، مع تضييع
الحقائق، واطراح الوثائق، التي هي لله تعالى طلبة، وعلى عباده حجة، فإما إكثارك
الحجاج على عثمان وقتلته، فإنك إنما نصرت عثمان حيث كان النصر لك، وخذلته حيث
كان النصر له. والسلام. وعزل عثمان من كان عمر ولاه ولم ينصب للناس
إمام إلا ليرى من صلاح الأمة إماماً قد كان ظهر لمن قبله، أو أخفى عنهم عيبه، و
الأمر يحدث بعده الأمر، ولكل وال رأي واجتهاد. فسبحان الله! ما أشد لزومك للأهواء المبتدعة، والحيرة المتبعة.. إلى آخر
الفصل. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن
كتاب له إلى أهل مصر لما ولى عليهم الأشتر.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
من عبد الله علي أمير المؤمنين، إلى القوم الذين غضبوا لله حين عصي في أرضه،
وذهب بحقه، فضرب الجور شرادقه على البر والفاجر، والمقيم والظاعن، فلا معروف
يستراح إليه، ولا منكر يتناهى عنه. يبقى
أن يقال: هب أن الأمر كما تأولت، فهؤلاء الذين غضبوا لله إلى
ماذا الأمرهم، أليس الأمر آل إلى أنهم قطعوا المسافة من مصر إلى المدينة فقتلوا
عثمان! فلا تعدو حالهم أمرين، أما أن يكونوا أطاعوا
الله بقتله فيكون عثمان عاصياً مستحقاً للقتل، أو يكونوا أسخطوا الله تعالى
بقتله فعثمان إذاً على حق، وهم الفساق العصاة، فكيف
يجوز أن يبجلهم أو يخطبهم خطاب الصالحين! ويمكن أن يجاب عن ذلك بأنهم
غضبوا لله، وجاؤوا من مصر، وأنكروا على عثمان تأميره الأمراء الفساق، وحصروه في
داره طلباً أن يدفع إليهم مروان ليحبسوه، أو يؤدبوه على ما كتبه في أمرهم، فلما حصر طمع فيه مبغضوه وأعداؤه من أهل المدينة وغيرها،
وصار معظم الناس إلباً عليه، وقل عدد المصريين بالنسبة إلى ما اجتمع من الناس
على حصره ومطالبته بخلع نفسه، وتسليم مروان وغيره من بني أمية إليهم، وعزل
عماله، والأستبدال بهم، ولم يكونوا حينئذ يطلبون نفسه، ولكن
قوماً منهم ومن غيرهم تسوروا داره، فرماهم بعض عبيده بالسهام فجرح بعضهم، فقادت
الضرورة إلى النزول والأحاطة به، وتسرع إليه واحد منهم فقتله. ثم إن ذلك
القاتل قتل في الوقت، وقد ذكرنا ذلك فيما تقدم،
وشرحناه، فلا يلزم من فسق ذلك القاتل وعصيانه أن يفسق الباقون، لأنهم ما
أنكروا إلا المنكر، و أما القتل فلم يقع
منهم، ولاراموه ولا أرادوه، فجاز أن يقال: إنهم
غضبوا لله، وأن يثني عليهم ويمدحهم.
ثم أمرهم أن يطيعوه فيما يأمرهم به مما يطابق الحق، وهذا من
شدة دينه وصلابته رضي الله عنه،
لم يسامح نفسه في حق أحب الخلق إليه أن يهمل هذا القيد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق
". وجاز أن يقول: إنه لا يفعل شيئاً إلا عن أمري، وإن كان لا يراجعه في الجزئيات على عادة العرب في مثل ذلك،
لأنهم يقولون فيمن يثقون له نحو ذلك، وقد ذهب كثير من الأصوليين إلى أن
الله تعالى قال لمحمد صلى الله عليه وسلم: احكم مما شئت في الشريعة، فإنك لا تحكم إلا بالحق،
وإنه كان يحكم من غير مراجعته لجبرائيل، وإن الله تعالى قد قال في حقه: "وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى"،
وإن كان رضي الله عنه قال هذا القول عن الأشتر،
لأنه قد قرر معه بينه وبينه ألا يعمل شيئاً قليلاً ولا كثيراً إلا بعد مراجعته، فيجوز. ولكن هذا بعيد، لأن المسافة طويلة بين العراق ومصر، وكانت الأمور هناك تقف
وتفسد. ثم ذكر أنه آثرهم على نفسه، وهكذا قال عمر لما
أنفذ عبد الله بن مسعود إلى الكوفة في كتابه إليهم: قد آثرتكم به على
نفسي، وذلك أن عمر كان يستفتيه في الأحكام، وعلي
رضي الله عنه كان يصول على الأعداء بالأشتر، ويقوي أنفس جيوشه بمقامه
بينهم، فلما بعثه إلى مصر كان مؤثراً لأهل مصر به على نفسه. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن
كتاب له إلى عمرو بن العاص
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: فإنك
قد جعلت دينك تبعاً لدنيا امرىء ظاهر غيه، مهتوك ستره، يشين الكريم بمجلسه،
ويسفه الحليم بخلطته، فاتبعت أثره، وطلبت فضله، اتباع الكلب للضرغام يلوذ
بمخالبه، وينتظر ما يلمى إليه من فضل فريسته. فأذهبت دنياك وآخرتك، ولو بالحق
أخذت أدركت ما طلبت. الشرح:
كل ما قاله فيهما هو الحق الصريح بعينه، لم يحمله بغضه لهما، وغيظه منهما، إلى
أن بالغ في ذمهما به، كما يبالغ الفصحاء عند سورة الغضب، وتدفق الألفاظ على
الألسنة، ولا ريب عند أحد من العقلاء ذوي الآنصاف
أن عمراً جعل دينه تبعاً لدنيا معاوية، وأنه ما بايعه وتابعه إلا على جعالة
جعلها له، وضمان تكفل له بإيصاله، وهي ولآية مصر مؤجلة، وقطعة وافرة من المال
معجلة، ولولديه وغلمانه ما ملأ أعينهم. أما مهتوك ستره، فإنه
كان كثير الهزل والخلاعة، صاحب جلساء وسمار، ومعاوية لم يتوقر، ولم يلزم
قانون الرياسة إلا منذ خرج على أمير المؤمنين،
واحتاج إلى الناموس والسكينة، وإلا فقد كان في أيام
عثمان شديد التهتك، موسوماً بكل قبيح، وكان في
أيام عمر يستر نفسه قليلاً خوفاً منه، إلا أنه
كان يلبس الحرير والديباج، ويشرب في آنية الذهب والفضة، ويركب البغلات
ذوات السروج المحلاة بها، وعليها جلال الديباج والوشي،
وكان حينئذ شاباً، وعنده نزق الصبا، وأثر الشبيبة، وسكر
السلطان و الأمرة، ونقل الناس عنه في كتب السيرة
أنه كان يشرب الخمر في أيام عثمان في الشام، و أما بعد وفاة أمير
المؤمنين واستقرار الأمر له فقد اختلف فيه، فقيل: إنه شرب الخمر في ستر، وقيل:
إنه لم يشربه. ولا خلاف في أنه سمع الغناء وطرب عليه، وأعطى ووصل عليه أيضاً. فقال: مهلاً، فإن الكريم طروب! أما قوله: يشين الكريم
بمجلسه، ويسفه الحليم بخلطته: فالأمر كذلك، فإنه
لم يكن في مجلسه إلا شتم بني هاشم وقذفهم، والتعرض بذكر الإسلام، والطعن عليه،
وإن أظهر الآنتماء إليه. و أما طلب عمرو فضله
واتباعه أثره أتباع الكلب للأسد فظاهر، ولم يقل: الثعلب، غضاً من قدر عمرو، وتشبيهاً له
بما هو أبلغ في الإهانة والاستخفاف. وكتب علي رضي الله عنه إلى عمرو بن العاص: من عبد الله
علي أمير المؤمنين إلى الأبتر عمرو بن العاص بن وائل،
شانىء محمد وآل محمد في الجاهلية والإسلام، سلام
على من اتبع الهدى، أما بعد، فإنك تركت مروءتك
لامرىء فاسق مهتوك ستره، يشين الكريم بمجلسه، ويسفه الحليم بخلطته، فصار قلبك
لقلبه تبعاً، كما قيل: وافق شن طبقة
فسلبك دينك و أمانتك ودنياك وآخرتك، وكان علم الله
بالغاً فيك، فصرت كاالذئب يتبع الضرغام
إذا ما الليل دجى، أو أتى الصبح يلتمس فاضل سؤره ، وحوايا فريسته، ولكن لا نجاة من القدر، ولو بالحق أخذت لأدركت ما رجوت، وقد
رشد من كان الحق قائده، فإن يمكن الله منك ومن ابن آكلة
الأكباد، ألحقتكما بمن قتله الله من ظلمة قريش على عهد رسول الله صلى
الله عليه وسلم، وإن تعجزا
وتبقيا بعد، فالله حسبكما، وكفى بانتقامه انتقاماً، وبعقابه عقاباً والسلام. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن
كتاب له إلى بعض عماله
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
أما بعد، فقد بلغني عنك أمر إن كنت فعلته فقد أسخطت ربك، وعصيت إمامك، وأخزيت
أمانتك. بلغني أنك
جردت الأرض فأخذت ما تحت قدميك، وأكلت ما تحت يديك، فارفع إلي حسابك، وأعلم أن
حساب الله أعظم من حساب الناس، والسلام. فقضى عمر
عليه، ثم قام فخطب الناس، وحرم الهدايا على الولاة والقضاة. قال أنس بن أبي إياس الدؤلي لحارثة بن بدر الغداني - وقد ولي
سرق - ويقال إنها لأبي الأسود:
فيقال: إنها بلغت حارثة بن بدر فقال: أصاب الله به الرشاد،
فلم يعد بإشارته ما في نفسي! |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن
كتاب له إلى بعض عماله
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
أما بعد، فإني أشركتك في أمانتي، وجعلتك شعاري وبطانتي، ولم يكن في أهلي رجل
أوثق منك في نفسي، لمواساتي وموازرتي، وأداء الأمانة إلي، فلما رأيت الزمان على ابن عمك قد كلب، والعدو قد حرب، وامانة
الناس قد خزيت، وهذه الأمة قد فتكت وشغرت،
قلبت لابن عمك ظهر المجن، ففارقته مع المفارقين، وخذلته
مع الخاذلين، وخنته مع الخائنين، فلا ابن عمك أسيت، ولا الأمانة أديت. فاتق
الله واردد إلى هؤلاء القوم أموالهم، فإنك إن لم تفعل ثم أمكنني الله منك،
لأعذرن إلى الله فيك، ولأضربنك بسيفي الذي ما ضربت به إحداً إلا دخل النار، ووالله لو أن الحسن والحسين فعلا مثل الذي فعلت، ما كانت لهما
عندي هوادة، ولا ظفرا مني بإرادة، حتى أخذ الحق منهما، وأزيح الباطل عن
مظلمتهما. الشرح: أشركتك في
أمانتي: جعلتك شريكاً فيما قمت فيه من الأمر، وائتمنني الله عليه من سياسة
الأمة، وسمى الله تعالى التكليف أمانة في قوله: "إنا عرضنا الأمانة". فأما
قوله:
وأداء الأمانة إلي فأمر آخر، ومراده بالأمانة الثانية
ما يتعارفه الناس من قولهم: فلان ذو أمانة، أي لا يخون فيما سند إليه. وقد
اختلف الناس في المكتوب إليه هذا الكتاب، فقال الأكثرون: إنه عبد الله بن
العباس رحمه الله، ورووا في ذلك روايات،
واستدلوا عليه بألفاظ من ألفاظ الكتاب كقوله: أشركتك في أمانتي، وجعلتك
بطانتي وشعأري ، وأنه لم يكن في أهلي رجل أوثق منك، وقوله:
على ابن عمك قد كلب، ثم قال ثانياً: قلبت لابن
عمك ظهر المجن ثم قال ثالثاً: ولابن عمك آسيت، وقوله: لا أبا لغيرك، وهذه
كلمة لا تقال إلا لمثله، فإما غيره من أفناء الناس، فإن علياً رضي الله
عنه كان يقول: لا أبا لك. وإن صرفته إلى عبد الله بن عباس صدني عنه ما أعلمه من ملازمته لطاعة أمير المؤمنين رضي الله عنه في
حياته وبعد وفاته. وان صرفته إلى غيره لم
أعلم إلى من أصرفه من أهل أمير المؤمنين رضي الله عنه،
والكلام يشعر بأن الرجل المخاطب من أهله وبني عمه،
فأنا في هذا الموضع من المتوقفين! |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن
كتاب له إلى عمر بن أبي سلمة المخزومي وكان عامله علي البحرين، فعزله واستعمل
النعمان بن عجلان الزرقي مكانه.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: أما بعد، فإني وليت النعمان بن عجلان الزرقي على البحرين، ونزعت يدك بلا ذم لك، ولا تثريب عليك،
فلقد أحسنت الولآية، وأديت الأمانة، فأقبل غير ظنين ولا
ملوم، ولا متهم ولا مأثوم، فقد أردت المسير إلى ظلمة أهل الشام، وأحببت أن تشهد معي، فإنك ممن أستظهر به على جهاد
العدو، وإقامة عمود الدين، إن شاء الله.
قوله: ولا تثريب عليك، فالتثريب الاستقصاء
في اللوم، ويقال: ثربت عليه، وعربت عليه، إذا ًقبحت عليه والظنين:
المتهم، والظنة التهمة، والجمع الظنن، يقول: قد أظن زيد عمراً، و الألف ألف وصل،
والظاء مشددة والنون مشددة أيضاً، وجاء بالطاء المهملة أيضاً، أي اتهمه. وفي حديث ابن سيرين: لم يكن علي رضي الله عنه يظن في قتل عثمان، الحرفان مشددان وهو يفتعل من يظنن وأدغم، قال الشاعر:
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن
كتاب له عليه السلام إلى مصقلة بن هبيرة الشيباني وكان عامله علي أردشير خرة.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
بلغني عنك أمر إن كنت فعلته فقد أسخطت إلهك، وعصيت إمامك، إنك تقسم فيء المسلمين
- الذي حازته رماحهم وخيولهم، وأريقت عليه دماؤهم - فيمن اعتامك من أعراب قومك.
فوالذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، لئن كان ذلك حقأ. لتجدن
لك علي هواناً، ولتخفن عندي ميزاناً، فلا تستهن بحق ربك،
ولا تصلح دنياك بمحق دينك. فتكون من الأخسرين أعمالاً. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن
كتاب له عليه السلام إلى زياد بن أبيه، وقد بلغه أن معاوية كتب إليه يريد خديعته
باستلحاقه.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: وقد عرفت أن معاوية كتب إليك يستزل لبك، ويستفل غربك،
فاحذره فإنما هو الشيطان يأتي المرء من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله،
ليقتحم غفلته، ويستلب غرته. وقد كان من أبي سفيان في زمن عمر بن الخطاب فلتة من حديث
النفس، ونزغة من نزغات الشيطان، لا يثبت بها نسب، ولا يستحق بها إرث، والمتعلق
بها كالواغل المدفع، والنوط المذبذب. قال
الرضي رحمه الله تعالى: قوله عليه
السلام: الواغل، هو الذي يهجم على الشرب ليشرب
معهم وليس منهم، فلا يزال مدفعاً محاجزاً. والنوط
المذبذب: هو ما يناط برحل الراكب من قعب أو قدح،
أو ما أشبه ذلك، فهو أبداً يتقلقل إذا حث ظهره،
واستعجل سيره. ويستفل
غربك:
يحاول أن يفل حدك، أي عزمك، وهذا من باب المجاز.
ثم أمره أن
يحذره، وقال: إنه - يعني معاوية - كالشيطان يأتي المرء من كذا ومن كذا، وهو
مأخوذ من قول الله تعالى: "ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم
وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين"، قالوا في تفسيره: من بين أيديهم:
يطمعهم في العفو ويغريهم بالعصيان، ومن خلفهم: يذكرهم مخلفيهم، ويحسن لهم جمع
المال وتركه لهم، وعن أيمانهم: يحبب إليهم الرياسة والثناء، وعن شمائلهم: يحبب
إليهم اللهو واللذات. وقال
شفيق البلخي: ما من صباح إلا قعد لي الشيطان على أربعة مراصد:
من بين يدي، ومن خلفي، وعن يميني، وعن شمالي، أما من
بين يدي فيقول: لا تخف فإن الله غفور رحيم، فأقرأ: "وإني لغفاز لمن تاب و آمن وعمل صالحاً ثم
اهتدى"، وأما من خلفي فيخوفني الضيعة على مخلفي، فأقرأ: "وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها"،
و أما من قبل يميني فيأتيني من جهة الثناء، فأقرأ: "والعاقبة
للمتقين"، و أما من قبل شمالي فيأتيني من قبل الشهوات، فأقرأ:
"وحيل بينهم وبين ما يشتهون". من
جهة الآخرة، "وعن أيمانهم"، الحسنات، "وعن
شمائلهم"، أي يحثهم على طلب الدنيا، ويؤيسهم من الآخرة، ويثبطهم عن الحسنات، ويغريهم
بالسيئات. أخبار زياد بن أبيه.
وروى أبو عمر بن عبد البر في كتاب الأستيعاب عن
هاشم بن محمد بن السائب الكلبي عن أبيه، عن أبي صالح، عن ابن عباس، أن عمر بعث
زيادأ في إصلاح فساد واقع باليمن، فلما رجع من وجهه خطب عند عمر خطبة لم يسمع
مثلها - وأبو سفيان حاضر وعلي رضي الله عنه وعمرو بن العاص - فقال عمرو بن العاص: لله أبو هذا الغلام! لوكان قرشياً
لساق العرب بعصاه، فقال أبو سفيان: إنه لقرشي،
وإني لأعرف الذي وضعه في رحم أمه. فقال علي رضي الله عنه: ومن هو، قال: أنا، فقال: مهلاً يا
أبا سفيان، فقال أبو سفيان:
عنى بقوله: لولا خوف شخص: عمر بن
الخطاب.
فلما ورد الكتاب على زياد قام فخطب الناس، وقال: العجب من ابن آكلة الأكباد ، ورأس
النفاق! يهددني وبيني وبينه ابن عم رسول الله رضي الله عنه وزوج سيدة نساء العالمين،
وأبو السبطين، وصاحب الولآية والمنزلة و الأخاء في مائة ألف من المهاجرين
والأنصار والتابعين لهم بإحسان! أما والله لو تخطى هؤلاء أجمعين إلي لوجدني أحمر نحشاً
ضراباً بالسيف، ثم كتب إلى علي رضي الله عنه، وبعث بكتاب معاوية في
كتابه. وروى أبو جعفر محمد بن حبيب قال: كان علي رضي الله عنه، قد ولى زياداً قطعة من أعمال فارس،
واصطنعه لنفسه، فلما قتل علي رضي الله عنه بقي زياد في عمله، وخاف معاوية جانبه، وعلم صعوبة
ناحيته، وأشفق من ممالأته الحسن بن علي رضي الله
عنه. فكتب إليه: من أمير المؤمنين معاوية
بن أبي سفيان إلى زياد بن عبيد، أما بعد، فإنك
عبد قد كفرت النعمة، واستدعيت النقمة، ولقد كان الشكر أولى بك من الكفر، وإن
الشجرة لتضرب بعرقها، وتتفرع من أصلها، إنك - لا أم لك بل لا أب لك
- قد هلكت وأهلكت، وظننت أنك تخرج من قبضتي، ولا ينالك سلطاني،
هيهات! ما كل ذي لب يصيب رأيه، ولا
كل ذي رأي ينصح في مشورته.
أمس عبد واليوم أمير! خطة ما ارتقاها مثلك يابن
سمية، وإذا أتاك كتابي هذا فخذ الناس بالطاعة والبيعة، وأسرع الأجابة، فإنك إن تفعل فدمك حقنت، ونفسك تداركت، وإلا اختطفتك
بأضعف ريش ، ونلتك بأهون سعي، وأقسم قسماً مبروراً
ألا أوتى بك إلا في زمارة ، تمشي حافياً من أرض فارس إلى الشام حتى أقيمك في السوق، وأبيعك عبداً، وأردك إلى حيث كنت فيه
وخرجت منه. والسلام. دونه
الكلام اليوم، والجمع غداً، والمشورة بعد ذلك إن شاء الله. ثم نزل. فأما سبك لي فلولا حلم ينهاني عنك، وخوفي أن ادعى
سفيهاً، لأثرت لك مخازي لا يغسلها الماء. وأما تعييرك لي بسمية، فإن كنت ابن
سمية فأنت ابن جماعة، وأما زعمك أنك تختطفني بأضعف ريش، وتتناولني بأهون
سعي، فهل رأيت بازياً يفزعه صغير القنابر، أم هل
سمعت بذئب أكله خروف! فامض الآن لطيتك، واجتهد
جهدك، فلست أنزل إلا بحيث تكره، ولا أجتهد إلا فيما يسوءك، وستعلم أينا الخاضع لصاحبه. الطالع إليه. والسلام. قال: يا مغيرة، إن زياداً قد أقام بفارس يكش لنا كشيش الأفاعي، وهو رجل ثاقب الرأي، ماضي
العزيمة، جوال الفكر، مصيب إذا رمى، وقد خفت منه الآن
ما كنت آمنه إذ كان صاحبه حياً وأخشى ممالأته حسنًا، فكيف السبيل إليه، وما الحيلة في إصلاح رأيه، قال المغيرة: أنا له إن لم أمت، إن زياداً رجل يحب الشرف والذكر وصعود المنابر، فلو لاطفته
المسألة، وألنت له الكتاب، لكان لك أميل، وبك أوثق، فاكتب إليه وأنا الرسول.
وقد رأيت أن أعطف عليك، ولا أؤاخذك بسوء سعيك، وأن أصل رحمك،
وأبتغي الثواب في أمرك، فاعلم أبا المغيرة،
أنك لو خضت البحر في طاعة القوم فتضرب بالسيف حتى انقطع متنه لما ازددت منهم إلا
بعداً، فإن بني عبد شمس أبغض إلى بني هاشم من الشفرة
إلى الثور الصريع وقد أوثق للذبح - فارجع - رحمك الله - إلى أصلك، واتصل بقومك، ولا تكن
كالموصول بريش غيره ، فقد أصبحت ضال النسب. ولعمري ما فعل بك ذلك إلا
اللجاج، فدعه عنك، فقد أصبحت على بينة من أمرك، ووضوح من حجتك، فإن أحببت جانبي، ووثقت بي، فإمرة، وإن كرهت جانبي، ولم تثق بقولي، ففعل جميل لا علي ولا لي. والسلام. قال زياد: إني رجل صاحب أناة، ولي في أمري روية،
فلا تعجل علي، ولا تبدأني بشيء حتى أبدأك. ثم جمع الناس بعد يومين أو ثلاثة، فصعد المنبر فحمد الله
وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس: ادفعوا
البلاء ما اندفع عنكم، وارغبوا إلى الله في دوام العافية لكم، فقد نظرت في أمور الناس منذ قتل عثمان، وفكرت فيهم فوجدتهم
كالأضاحي، في كل عيد يذبحون، ولقد أفنى هذان اليومان - يوم الجمل وصفين - ما
ينيف على مائة ألف، كلهم يزعم أنه طالب حق، وتابع إمام، وعلى بصيرة من أمره،
فإن كان الأمر هكذا فالقاتل والمقتول في الجنة، كلا ليس
كذلك، ولكن أشكل الأمر، والتبس على القوم، وإني
لخائف أن يرجع الأمر كما بدأ، فكيف لامرىء بسلامة دينه! وقد نظرت في أمر الناس فوجدت أحد العاقبتين العافية،
وسأعمل في أموركم ما تحمدون عاقبته ومغبته، فقد حمدت
طاعتكم إن شاء الله ثم نزل.
فأعطاه معاوية جميع ما سأله، وكتب
إليه بخط يده ما وثق به، فدخل إليه الشام، فقربه وأدناه، وأقره على ولايته، ثم
استعمله على العراق. وروى علي بن محمد المدائني، قال: لما أراد معاوية استلحاق زياداً وقد
قدم عليه الشام جمع الناس وصعد المنبر، وأصعد زياداً معه فأجلسه بين يديه على
المرقاة التي تحت مرقاته، وحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
أيها الناس، إني قد عرفت نسبنا أهل البيت في زياد، فمن كان عنده شهادة فليقم
بها. فقام ناس فشهدوا أنه ابن أبي سفيان، وأنهم سمعوا ما أقر به قبل موته،
فقام أبو مريم السلولي - وكان خماراً في الجاهلية - فقال:
أشهد يا أمير المؤمنين أن أبا سفيان قدم علينا بالطائف، فأتاني فاشتريت له لحماً
وخمراً وطعاماً، فلما أكل قال: يا أبا مريم، اصب
لي بغياً، فخرجت فأتيت بسمية، فقلت لها: إن أبا
سفيان ممن قد عرفت شرفه وجوده، وقد أمرني أن أصيب له بغياً، فهل لك، فقالت: نعم،
يجيء الآن عبيد بغنمه - وكان راعياً - فإذا تعشى، ووضع رأسه أتيته. فرجعت إلى أبي سفيان فأعلمته، فلم نلبث أن جاءت تجر
ذيلها، فدخلت معه، فلم تزل عنده حتى أصبحت، فقلت له لما
انصرفت: كيف رأيت صاحبتك، قال: خير صاحبة، لولا ذفر في إبطيها. ثم مر به زياد من الغد في موكبه، فوقف عليه فسلم، وبكى أبو العريان، فقيل له: ما يبكيك، قال: عرفت صوت أبي لسفيان في صوت زياد.
فبلغ ذلك معاوية، فكتب إلى أبي العريان:
فلما قرىء كتاب معاوية على أبي العريان قال: اكتب جوابه يا غلام:
وروى أبو عثمان أيضاً، قال: كتب زياد إلى معاوية ليستأذنه في
الحج، فكتب إليه: إني قد أذنت لك واستعملتك
على الموسم، وأجزتك بألف ألف درهم. فبينا هو يتجهز إذ بلغ ذلك أبا بكرة أخاه - وكان
مصارماً له منذ لجلج في الشهادة على المغيرة بن شعبة أيام عمر لا يكلمه قد لزمته
أيمان عظيمة ألا يكلمه أبداً - فأقبل أبو بكرة يدخل القصر يريد زياداً، فبصر به الحاجب، فأسرع إلى زياد قائلاً: أيها الأمير، هذا أخوك أبو بكرة قد
دخل القصر، قال: ويحك، أنت رأيته! قال ها
هوذا قد طلع، وفي حجر زياد بني يلاعبه، وجاء أبو بكرة
حتى وقف عليه، فقال للغلام: كيف أنت يا غلام؟ إن
أباك ركب في الإسلام عظيماً زنى أمه، وانتفى من أبيه، ولا والله ما علمت سمية
رأت أبا سفيان قط، ثم أبوك يريد أن يركب ما هو أعظم من ذلك، يوافي الموسم
غداً، ويوافي أم حبيبة بنت أبي سفيان، وهي من أمهات المؤمنين، فإن جاء يستأذن
عليها فأذنت له، فاعظم بها فرية على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومصيبة! وإن هي منعته فأعظم بها على أبيك فضيحة! ثم انصرف، فقال جزاك الله يا أخي عن النصيحة خيراً، ساخطاً كنت أو
راضياً. ثم كتب إلى معاوية: إني قد اعتللت عن الموسم فليوجه إليه أمير المؤمنين من أحب، فوجه
عتبة بن أبي سفيان. فأما أبو عمر بن عبد البر في كتاب الأستيعاب
فإنه قال:
لما ادعى معاوية زياداً في سنة أربع وأربعين
وألحقه به أخا زوج ابنته من ابنه محمد بن زياد ليؤكد
بذلك صحة الأستلحاق، وكان أبو بكرة أخا زياد أمه، أمهما جميعاً سمية، فحلف ألا يكلم زياداً أبداً وقال: هذا زنى أمه، وانتفى من أبيه، ولا والله ما علمت لسمية
رأت أبا لسفيان قبل، ويله ما يصنع بأم حبيبة! أيريد أن يراها، فإن حجبته فضحته، وإن رأها فيا
لها مصيبة! يهتك من رسول الله حرمةً عظيمة! وحج زياد مع معاوية، ودخل المدينة فأراد الدخول
على أم حبيبة ثم ذكر قول أبي بكرة، فانصرف عن ذلك، وقيل: إن أم
حبيبة حجبته ولم تأذن له في الدخول عليها، وقيل: إنه حج ولم يرد المدينة من أجل قول أبي بكرة، وإنه قال: جزى الله أبا بكرة
خيراً فما يدع النصيحة في حال. فأقبل معاوية على مروان وقال: أخرج عنا هذا الخليع، فقال مروان: إي والله إنه لخليع ما يطاق، فقال معاوية: والله لولا حلمي وتجاوزي لعلمت أنه يطاق،
ألم يبلغني شعرة في وفي زياد! ثم قال مروان:
أسمعنيه، فأنشد:
ثم قال: والله لا أرضى عنه حتى يأتي
زياداً فيترضاه ويعتذر إليه، فجاء عبد الرحمن
إلى زياد معتذراً يستأذن عليه، فلم يأذن له، فأقبلت
قريش إلى زياد تكلمه في أمر عبد الرحمن، فلما دخل سلم، فتشاوس له زياد بعينه -
وكان يكسر عينه - فقال له زياد: أنت القائل ما قلت، قال عبد الرحمن: ما الذي قلت، قال: قلت ما لا يقال، قال: أصلح الله الأمير! إنه لا ذنب لمن أعتب، وإنما الصفح عمن أذنب، فاسمع مني
ما أقول، قال: هات، فانشده:
فقال زياد: أراك أحمق صرفاً شاعراً ضيع اللسان، يسوغ لك ريقك ساخطاً
ومسخوطاً، ولكنا قد سمعنا شعرك، وقبلنا عذرك، فهات
حاجتك، قال: تكتب إلى أمير المؤمنين بالرضا عني، قال: نعم، ثم دعا كاتبه
فكتب له بالرضا عنه، فأخذ كتابه ومضى حتى دخل على معاوية، فلما قرأه قال: لحا
الله زياداً، لم يتنبه لقوله:
ثم رضي عن عبد الرحمن ورده إلى حالته، و أما أشعار يزيد بن مفرغ الحميري وهجاؤه عبيد الله وعباداً، ابني
زياد بالدعوة فكثيرة مشهورة، نحو قوله:
ونحو قوله:
ونحو قوله:
كان عبيد الله بن زياد يقول: ما شجيت بشيء أشد علي من قول
ابن مفرغ:
ويقال: إن الأبيات النونية المنسوبة إلى عبد الرحمن بن أم
الحكم ليزيد بن مفرغ وإن أولها:
ونحو قوله، وقد باع برد غلامه لما حبسه عباد بن زياد
بسجستان:
ونحو قوله:
وروى ابن الكلبي أن عباد استلحقه زياد كما استلحق
معاوية زياداً، كلاهما لدعوة. قال: لما أذن لزياد في الحج تجهز، فبينا هو يتجهز وأصحاب
القرب يعرضون عليه قربهم، إذ ثقدم عباد - وكان خرازاً - فصار يعرض عليه ويحاوره
ويجيبه، فقال زياد: ويحك، من أنت، قال: أنا ابنك، قال،
ويحك، وأي بني، قال: قد وقعت على أمي فلانة، وكانت من بني كذا، فولدتني، وكنت في بني قيس بن ثعلبة
وأنا مملوك لهم، فقال: صدقت والله، إني لأعرف ما
تقول. فبعث فاشتراه، وادعاه وألحقه، وكان يتعهد بني قيس بن ثعلبة بسببه
ويصلهم، وعظم أمر عباد حتى ولاه معاوية سجستان بعد موت
زياد، وولى أخاه عبيد الله البصرة، فتزوج عباد
الستيرة، ابنة أنيف بن زياد الكلبي، فقال الشاعر يخاطب أنيفاً - وكان سيد كلب في زمانه:
وقال الحسن البصري: ثلاث كن في معاوية لو لم تكن فيه إلا واحدة منهن لكانت موبقة: انتزاؤه على هذه
الأمة بالسفهاء حتى ابتزها أمرها، واستلحاقه زياداً مراغمة لقول رسول الله "الولد للفراش وللعاهر الحجر"، وقتله حجر بن عدي، فيا ويله من حجر وأصحاب حجر! وروى الشرقي بن القطامي، قال!: كان سعيد بن
أبي سرح مولى حبيب بن عبد شمس شيعة لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: فلما قدم زياد الكوفة طلبه وأخافه،
فأتى الحسن بن علي رضي الله عنه
مستجيراً به، فوثب زياد على أخيه وولده و امرأته فحبسهم، وأخذ ماله، ونقض داره،
فكتب الحسن بن علي رضي الله عنه
إلى زياد: أما بعد، فإنك عمدت إلى رجل
من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم، فهدمت داره، وأخذت ماله، وحبست أهله
وعياله، فإن أتاك كتابي هذا فابن له داره، واردد عليه
عياله وماله، وشفعني فيه، فقد أجرته. والسلام. أما بعد، فإن الحسن بن علي بعث إلي بكتابك إليه جواباً عن
كتاب كتبه إليك في ابن أبي سرح، فأكثرت العجب
منك، وعلمت أن لك رأيين: أحدهما من أبي سفيان، والأخر من
سمية، فأما الذي من أبي سفيان فحلم وحزم،
و أما الذي من سمية، فما
يكون من رأي مثلها! من ذلك كتابك إلى الحسن تشتم
أباه، وتعرض له بالفسق، ولعمري إنك الأولى
بالفسق من أبيه. فأما أن الحسن بدأ بنفسه ارتفاعاً
عليك، فإن ذلك لا يضعك لو عقلت، و أما
تسلطه عليك بالأمر فحق لمثل الحسن أن يتسلط، وأما
تركك تشفيعه فيما شفع فيه إليك، فحظ دفعته عن نفسك إلى
من هو أولى به منك. فإذا ورد عليك كتابي
فخل ما في يديك لسعيد بن أبي سرح، وابن له داره، واردد
عليه ماله، ولا تعرض له، فقد كتبت إلى الحسن أن يخيره، إن شاء أقام عنده،
وإن شاء رجع إلى بلده، ولا سلطان لك عليه لا بيد ولا
لسان. و أما كتابك إلى الحسن باسمه واسم
أمه، ولا تنسبه إلى أبيه، فإن الحسن ويحك! من لا يرمى به الرجوان ، وإلى أيام
وكلته لا أم لك! أما علمت أنها فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذاك أفخر له لوكنت تعلمه
وتعقله! وكتب
في أسفل الكتاب شعراً، من جملته:
وروى الزبير بن بكار في الموفقيات
أن عبد الملك أجرى خيلاً، فسبقه عباد بن زياد، فأنشد عبد الملك:
فشكى عباد قول عبد الملك إلى خالد بن يزيد بن
معاوية،
فقال له: أما والله لأنصفنك منه بحيث يكره. فزوجه أخته،
فكتب الحجاج إلى عبد الملك: يا أمير المؤمنين، إن مناكح آل أبي سفيان قد ضاعت. فأخبر عبد الملك خالداً بما كتب به
الحجاج، فقال خالد: يا أمير المؤمنين، ما أعلم
امرأة منا ضاعت ونزلت إلا عاتكة بنت يزيد بن معاوية، فإنها عندك، ولم يعن الحجاج غيرك، قال عبد الملك: بل عنى الدعي ابن
الدعي عباداً، قال خالد: يا أمير المؤمنين، ما
أنصفتني، أدعي رجلاً ثم لا أزوجه! إنما كنت
ملوماً لو زوجت دعيك، فأما دعي فلم لا أزوجه!
فأما أول ما ارتفع به زياد
فهو استخلاف ابن عباس له على البصرة في خلافة علي رضي الله عنه، وبلغت علياً عنه هنات، فكتب إليه
يلومه ويؤنبه، فمنها الكتاب الذي ذكر الرضي رحمه الله
بعضه، وقد شرحنا فيما تقدم ما ذكر الرضي منه،
وكان علي رضي الله عنه أخرج إليه سعداً مولاه يحثه على حمل مال البصرة إلى
الكوفة، وكان بين سعد وزياد ملاحاة ومنازعة، وعاد سعد
وشكاه إلى علي رضي الله عنه وعابه، فكتب علي عليه السلام إليه: أما بعد، فإن سعداً ذكر أنك
شتمته ظلماً، وهددته وجبهته تجبراً وتكبراً، فما دعاك إلى التكبر وقد قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "الكبر رداء الله، فمن نازع الله رداءه
قصمه "،
وقد أخبرني أنك تكثر من الألوان المختلفة في الطعام في
اليوم الواحد، وتدهن كل يوم، فما عليك لو صمت لله أياماً، وتصدقت ببعض ما عندك
محتسباً، وأكلت طعامك مراراً قفاراً، فإن ذلك شعار الصالحين! أفتطمع وأنت متمرغ في النعيم، تستأثر به على الجار والمسكين
والضعيف والفقير والأرملة واليتيم، أن يحسب لك أجر
المتصدقين! وأخبرني أنك تتكلم بكلام الأبرار، وتعمل عمل الخاطئين، فإن كنت تفعل ذلك فنفسك ظلمت، وعملك أحبطت، فتب إلى ربك يصلح
لك عملك، واقتصد في أمرك، وقدم إلى ربك الفضل ليوم حاجتك، وأدهن غباً،
فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ادهنوا غباً ولا تدهنوا رفهاً" . وأما قوله: إني أصف العدل وأخالفه إلى غيره، فإني إذن من الأخسرين. فخذ يا أمير المؤمنين بمقال قلته في مقام قمته، الدعوى بلا بينة، كالسهم بلا
نصل، فإن أتاك بشاهدي. عدل، و إلا تبين لك كذبه وظلمه. ومن
كلام زياد: تأخير جزاء المحسن لؤم، وتعجيل
عقوبة المسيء طيش. قال
زياد: صدق، وسأخبرك بما ينفعه عندي من خاصته ومودته، وإن
يكن له الحق عليك آخذك به أخذاً عنيفاً، وإن يكن الحق لك قضيت عليه، ثم قضيت
عنه. والثاني:
المحسن مجازى بإحسانه، والمسيء يكافأ بإساءته. والثالث:
العطيات و الأرزاق في إبانها وأوقاتها. والرابع:
لا احتجاب عن صاحب ثغر، ولا عن طارق ليل. وقال: ما قرأت كتاب رجل قط إلا عرفت عقله منه. قال: بلى، أما زياد فلما قدم البصرة حمد الله وأثنى عليه ثم قال:
أما بعد، فإن معاوية غير مخوف على قومه، ولم يكن ليلحق بنسبه من ليس منه، وقد
شهدت الشهود بما قد بلغكم، والحق أحق أن يتبع، والله حيث وضع البينات كان أعلم،
وقد رحلت عنكم وأنا أعرف صديقي من عدوي، ثم قدمت عليكم
وقد صار العدو صديقاً مناصحاً، والصديق عدواً مكاشحاً، فليشتمل كل مرىء على ما
في صدره، ولا يكونن لسانه شفرة تجري على أوداجه ، وليعلم أحدكم إذا خلا بنفسه
أني قد حملت سيفي بيدي، فإن أشهره لم أغمده، وإن أغمده لم أشهره. ثم نزل. و اما الحجاج فإنه
قال: من أعياه داؤه، فعلي دواؤه، ومن استبطأ أجله، فعلي أن أعجله، ألا إن
الحزم والعزم استلبا مني سوطي، وجعلا سوطي سيفي، فنجاده في عنقي، وقائمه بيدي،
وذبابه قلادة لمن اغتربي. وقال:
ما أتيت مجلساً قط إلا تركت منه ما لوأخذته لكان لي، وترك ما لي أحب إلي من أخذ
ما ليس لي. وأنا
اقسم بالله لآخذن الولي بالولي، والظاعن بالظاعن، والمقبل بالمدبر، والصحيح منكم
في نفسه بالسقيم، حتى يلقى الرجل أخاه فيقول: انج سعد فقد هلك سعيد ، أتستقيم لي
قناتكم. من نقب عليه منكم فأنا ضامن لما ذهب منه. فإياكم
ودلج الليل، فإني لا أوتى بمدلج إلا سفكت دمه. وقد أجلتكم
بقدر ما يأتي الخبر الكوفة، ويرجع إليكم. أسال الله أن
يعين كلاً على كل. وإذا رأيتموني
أنفذ فيكم الأمر، فأنفذوه على أذلاله. وايم الله إن لي فيكم لصرعى كثيرة، فليحذر
كل امرىء منكم أن يكون من صرعاي. فقام
عبد الله بن الأهتم فقال: أشهد أيها الأمير، لقد أوتيت الحكمة وفصل الخطاب. فقال: كذبت، ذاك نبي الله داود. وروى الشعبي أيضاً، قال:
لما خطب زياد خطبته البتراء بالبصرة ونزل سمع
تلك الليلة أصوات الناس يتحارسون، فقال: ما هذا،
قالوا: إن البلد مفتونة، وإن المرأة من أهل
المصر لتأخذها الفتيان الفساق فيقال لها: نادي
ثلاث أصوات، فإن أجابك أحد و إلا فلا لوم علينا فيما نصنع. فغضب فقال: ففيم أنا، وفيم قدمت! فلما
أصبح أمر فنودي في الناس، فاجتمعوا فقال: أيها الناس، إني قد نبئت بما أنتم فيه وسمعت ذرواً منه، وقد أنذرتكم وأجلتكم
شهراً مسير الرجل إلى الشام، ومسيره إلى خراسان، ومسيره إلى الحجاز، فمن وجدناه بعد شهر خارجاً من منزله بعد العشاء الآخرة فدمه
هدر. فانصرف
الناس يقولون: هذا القول كقول من تقدمه من الأمراء، فلما كمل الشهر دعا صاحب شرطته عبد الله بن حصين اليربوعي -
وكانت رجال الشرطة معه أربعة آلاف - فقال له: هيىء خيلك ورجلك، فإذا صليت
العشاء الآخرة، وقرأ القارىء مقدار سبع من القرآن، ورفع الطن القصب من القصر، فسر ولا تلقين أحداً، عبيد الله بن زياد فمن دونه، إلا جئتني برأسه، وإن راجعتني في أحد ضربت عنقك. ثم لم يجىء بعدها
بشيء، وكان الناس إذا صلوا العشاء الآخرة أحضروا إلى منازلهم شداً
حثيثاً، وقد يترك بعضهم نعاله. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن
كتاب له إلى عثمان بن حنيف الأنصاري عامله على البصرة، وقد بلغه أنه دعي إلى
وليمة قوم من أهلها فمضى إليها -
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
أما بعد يا بن حنيف، فقد بلغني أن رجلاً من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدبة
فأسرعت إليها. تستطاب لك الألوان، وتنقل إليك الجفان. وما ظننت أنك تجيب إلى طعام قوم عائلهم مجفو،
وغنيهم مدعو. فانظر
إلى ما تقضمه من هذا المقضم، فما أشتبه عليك علمه فالفظه، وما أيقنت بطيب وجهه
فنل منه.
ويقال أيضاً: آدبهم إلى طعامه يؤدبهم إيداباً، ويروى: وكزت عليك الجفان
فكرعت وأكلت أكل ذئب نهم، أو ضبع قرم.
ثم أمره بأن يترك ما فيه شبهة إلى مالأ شبهة فيه، وسمي ذلك
قضماً ومقضماً وإن كان مما لا يقضم لاحتقاره له، وازدرائه إياه، وأنه عنده ليس
مما يستحق أن يسمى بأسماء المرغوب فيه، المتنافس عليه، وذلك
لأن القضم يطلق على معنيين: أحدهما على أكل الشيء اليابس، والثاني على
ما يؤكل ببعض الفم، وكلاهما يدلان على أن ذلك
المقضم المرغوب عنه، لا فيه.
الأصل: بلى كانت في أيدينا فدك من كل ما أظلته السماء، فشحت عليها
نفوس قوم، وسخت عنها نفوس آخرين، ونعم الحكم الله. وما أصنع بفدك وغير فدك،
والنفس مظانها في غد جدث تنقطع في ظلمته أثارها وتغيب أخبارها، وحفرة لو زيد في
فسحتها، وأوسعت يدا حافرها، لأضغطها الحجر والمدر، وسد فرجها التراب المتراكم،
وإنما هي نفسي أروضها بالتقوى لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر، وتثبت على جوانب
المزلق.
يقول: لا مال لي، ولا اقتنيت فيما مضى مالأ، وإنما كانت في أيدينا
فدك فشحت عليها نفوس قوم، أي بخلت وسخت عنها نفوس آخرين، أي سامحت وأغضت. وليس يعني ههنا
بالسخاء إلا هذا، لا السخاء الحقيقي، لأنه رضي الله عنه وأهله
لم يسمحوا بفدك إلا غصباً وقسراً، وقد قال هذه الألفاظ في موضع آخر فيما تقدم،
وهو يعني الخلافة بعد وفاه رسول الله صلى الله عليه وسلم. اللهم إلا أن يقول قائل: إن الميت يحس في قبره، فإذا قيل ذلك فالجاعل له إحساساً بعد عدم الحس هو الذي
يوسع الحفرة، وإن كان الحافر قد جعلها ضيقة، فإذن هذا
الكلام جيد لخطاب العرب خاصة، ومن يحمل الأمور
على ظواهرها. ثم
قال:
وإنما هي نفس أروضها بالتقوى، يقول: تقللي واقتصاري من المطعم والملبس على الجشب
والخشن رياضة لنفسي، لأن ذلك إنما أعمله خوفاً من الله أن أنغمس في الدنيا، فالرياضة بذلك هي رياضة في الحقيقة بالتقوى، لا بنفس التقلل
والتقشف، لتأتي نفسي آمنة يوم الفزع الأكبر، وتثبت في مداحض الزلق. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
فدك في السير و الأخبار.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
واعلم
أنا نتكلم في شرح هذه الكلمات بثلاثة فصول: الفصل الأول فيما ورد في الحديث
والسير من أمر فدك ، والفصل
الثاني في هل النبي صلى
الله عليه وسلم يورث أم لا، والفصل الثالث في أن فدك،
هل صح كونها نحلة من رسول الله صلى الله عليه
وسلم لفاطمة أم لا؟ الفصل
الأول: فيما ورد من الأخبار والسير المنقولة من أفواه أهل الحديث وكتبهم، لا من كتب الشيعة ورجالهم، لأنا مشترطون على أنفسنا ألا
نحفل بذلك، وجميع ما نورده في هذا الفصل من كتاب
أبي بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري في السقيفة وفدك وما وقع من الأختلاف و
الأضطراب عقب وفاة النبي صلى
الله عليه وسلم، وأبو بكر
الجوهري هذا عالم محدث كثير الأدب، ثقة ورع، اثنى عليه
المحدثون ورووا عنه مصنفاته. قال: وقد روى أنه صالحهم عليها كلها، الله
أعلم أي الأمرين كان. قال أبو بكر: فحدثني محمد بن زكريا قال: حدثني
جعفر بن محمد بن عمارة الكندي قال: حدثني أبي، عن الحسين بن صالح بن حي، قال: حدثني رجلان من بني هاشم، عن زينب بنت علي بن أبي طالب رضي الله عنه. قال: وقال جعفر
بن محمد بن علي بن الحسين عن أبيه، قال أبو بكر: وحدثني عثمان بن عمران العجيفي، عن نائل بن نجيح بن عمير بن شمر، عن جابر
الجعفي، عن أبي جعفر محمد بن علي رضي الله عنه. قال أبو بكر: وحدثني أحمد بن محمد
بن يزيد، عن عبد الله بن محمد بن سليمان، عن أبيه، عن عبد الله بن حسن بن الحسن.
قالوا جميعاً: لما بلغ فاطمة رضي الله عنها إجماع
أبي بكر على منعها فدك، لاثت خمارها، وأقبلت في لمة من
حفدتها ونساء قومها، تطأ في ذيولها، ما تخرم مشيتها مشية رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى دخلت على أبي بكر وقد
حشد الناس من المهاجرين و الأنصار، فضرب بينها وبينهم ريطةً بيضاء - وقال بعضهم:
قبطية، وقالوا: قبطية بالكسر والضم - ثم أنت أنة أجهش لها القوم بالبكاء، ثم
أمهلت طويلاً حتى سكنوا من فورتهم، ثم قالت: أبتدىء بحمد من هو أولى بالحمد والطول والمجد،
الحمد لله على ما أنعم وله الشكر بما ألهم. وذكر خطبةً طويلةً جيدة قالت في آخرها: فاتقوا الله حق
تقاته، وأطيعوه فيما أمركم به، فإنما يخشى الله من عباده العلماء، واحمدوا الله
الذي لعظمته ونوره يبتغي من في السموات و الأرض إليه الوسيلة، ونحن وسيلته في
خلقه، ونحن خاصته، ومحل قدسه، ونحن حجته في غيبه، ونحن ورثة أنبيائه، ثم قالت: أنا فاطمة ابنة محمد، أقول عوداً على بدء،
وما أقول ذلك سرفاً ولا شططاً، فاسمعوا بأسماع واعية، وقلوب راعية، ثم قالت: "لقد جاءكم
رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم"
فإن تعزوه تجدوه أبي دون آبائكم، وأخا ابن عمي دون رجالكم، ثم ذكرت كلاماً طويلاً سنذكره فيما بعد في الفصل الثاني، تقول في آخره: ثم أنتم الآن
تزعمون أن لا إرث لي، "أفحكم الجاهلية يبغون
ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون"، إيهاً
معاشر المسلمين، ابتز إرث أبي! أبى الله أن ترث يابن أبي قحافة أباك ولا أرث
أبي، لقد جئت شيئاً فرياً! فدونكها مخطومة مرحولة تلقاك يوم حشرك، فنعم الحكم الله،
والزعيم محمد، والموعد القيامة، وعند الساعة يخسر المبطلون، ولكل نبأ مستقر وسوف
تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم! ثم
التفتت إلى قبر أبيها فتمثلت بقول هند بنت أثاثة:
قال:
ولم ير الناس أكثر باك ولا باكية منهم يومئذ. ثم عدلت
إلى مسجد الأنصار فقالت: يا معشر البقية، وأعضاد الملة، وحضنة الإسلام،
ما هذه الفترة عن نصرتي، والونية عن معونتي، والغمزة في حقي، والسنة عن ظلامتي! أما كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول: "المرء يحفظ في
ولده "! سرعان ما أحدثتم، وعجلان ما أتيتم. الآن
مات رسول الله صلى الله عليه وسلم أمتم
دينه! ها
إن موته لعمري خطب جليل آستوسع وهنه، واستبهم فتقه، وفقد راتقه، وأظلمت الأرض
له، وخشعت الجبال، وأكدت الأمال. اضيع بعده الحريم، وفتكت الحرمة، وأذيلت
المصونة، وتلك نازلة أعلن بها كتاب الله قبل موته، وأنبأكم بها قبل وفاته، فقال: "وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات
أو قتل أنقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله
الشاكرين" إيهاً بني قيلة! اهتضم تراث أبي.
وأنتم بمرأى ومسمع، تبلغكم الدعوة، ويشملكم الصوت، وفيكم العدة والعدد، ولكم
الدار والجنن وأنتم نخبة الله التي انتخب، وخيرته التي اختار! باديتم العرب،
وبادهتم الأمور، وكافحتم البهم حتى دارت بكم رحى الإسلام، ودر حلبه، وخبت نيران
الحرب، وسكنت فورة الشرك، وهدأت دعوة الهرج، واستوثق نظام الدين، أفتأخرتم بعد
الأقدام، ونكصتم بعد الشدة، وجبنتم بعد الشجاعة، عن قوم نكثوا أيمانهم من بعد
عهدهم وطعنوا في دينكم! فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم
ينتهون. ألا وقد أرى أن قد أخلدتم إلى الخفض، وركنتم
إلى الدعة، فجحدتم الذي وعيتم، وسغتم الذي سوغتم، وإن تكفروا أنتم ومن في الأرض
جميعاً فإن الله لغني حميد، ألا وقد قلت لكم ما قلت على معرفة مني بالخذلة التي
خامرتكم، وخور القناة، وضعف اليقين، فدونكموها فاحتووها مدبرة الظهر، ناقبة
الخف، باقية العار، موسومة الشعار، موصولة بنار الله الموقدة، التي تطلع على
الأفئدة، فبعين الله ما تعملون "وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب
ينقلبون". أما بعد، فقد
دفعت آلة رسول الله ودابته، وحذاءه إلى علي رضي
الله عنه، وأما ما سوى ذلك
فأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"إنا معاشر الأنبياء لا نورث ذهباً ولا فضةً ولا
أرضاً ولا عقاراً ولا داراً، ولكنا نورث الإيمان والحكمة والعلم والسنة"،
فقد عملت بما أمرني، ونصحت له، وما توفيقي إلا
بالله عليه توكلت وإليه أنيب. قال
أبو بكر: وروى هشام بن محمد، قال: قالت فاطمة لأبي بكر:
إن ام أيمن تشهد لي أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم أعطاني فدك،
فقال لها: يا ابنة رسول الله، والله ما خلق الله أحب الي من رسول الله صلى
الله عليه وسلم
أبيك،
ولوددت أن السماء وقعت على الأرض يوم مات أبوك، والله
لأن تفتقر عائشة أحب إلي من أن تفتقري، أتراني أعطي الأحمر والأبيض حقه وأظلمك
حقك، وأنت بنت رسول الله صلى
الله عليه وسلم! إن هذا المال
لم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم،
وإنما كان مالأ من أموال المسلمين يحمل النبي به الرجال، وينفقه في سبيل الله، فلما توفي رسول الله وليته كما كان يليه. قالت: والله لا كلمتك أبداً! قال: والله
لا هجرتك أبداً، قالت: والله لأدعون الله عليك، قال: والله لأدعون الله لك، فلما حضرتها الوفاة أوصت ألا يصلي
عليها، فدفنت ليلاً، وصلى عليها عباس بن عبد المطلب، وكان
بين وفاتها ووفاة أبيها اثنتان وسبعون ليلة. قال
أبو بكر: وحدثني محمد بن زكريا، قال: حدثنا جعفر بن محمد بن عمارة بالإسناد
الأول قال: فلما سمع أبو بكر
خطبتها شق عليه مقالتها فصعد المنبر وقال: أيها
الناس، ما هذه الرعة إلى كل قالة! أين كانت هذه الأماني في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا من سمع
فليقل، ومن شهد فليتكفم، إنما هو ثعالة شهيده ذنبه، مرب لكل فتنة، هو الذي يقول:
كروها جذعة بعدما هرمت، يستعينون بالضعفة، ويستنصرون بالنساء، كأم طحال أحب
أهلها إليها البغي. ألا إني لو أشاء أن أقول لقلت ولو قلت لبحت،
إني ساكت ما تركت، ثم التفت إلى الأنصار فقال:
قد بلغني يا معشر الأنصار مقالة سفهائكم، وأحق من لزم عهد رسول الله صلى الله
عليه وسلم أنتم. فقد جاءكم
فآويتم ونصرتم، ألا إني لست باسطاً يداً ولا لساناً على من لم يستحق ذلك منا. ثم
نزل، فانصرفت فاطمة عليها السلام إلى منزلها. قلت:
لوصرح لم أسألك. فضحك وقال: بعلي
بن أبي طالب رضي الله عنه، قلت: هذا الكلام كله لعلي يقوله! قال: نعم، إنه الملك يا بني، قلت: فما
مقالة الأنصار؟ قال: هتفوا بذكر علي فخاف من اضطراب الأمر عليهم، فنهاهم فسألته عن غريبه، فقال: أما
الرعة بالتخفيف، أي الأستماع و الأصغاء، والقالة:
القول، وثعالة: اسم
الثعلب علم غير مصروف، ومثل ذؤالة للذئب،
وشهيده ذنبه، أي لا شاهد له على ما يدعي إلا بعضه وجزء
منه، وأصله مثل، قالوا: إن الثعلب أراد أن يغري
الأسد بالذئب، فقال: إنه قد أكل الشاة التي كنت قد أعددتها لنفسك، وكنت حاضراً،
قال: فمن يشهد لك بذلك، فرفع ذنبه وعليه دم، وكان الأسد قد افتقد الشاة. فقبل شهادته،
وقتل الذئب، ومرب: ملازم، أرب بالمكان. وكروها جذعة: أعيدوها إلى الحال الأولى، يعني الفتنة والهرج. وأم طحال: امرأة بغي في الجاهلية،
ويضرب بها المثل فيقال، أزنى من أم طحال. قال: الله لأفعلن، قالت: اللهم اشهد، وكان أبو بكر يأخذ غلتها فيدفع إليهم منها ما يكفيهم،
ويقسم الباقي، وكان عمر كذلك، ثم كان عثمان كذلك، ثم
كان علي كذلك، فلما ولي الأمر معاوية بن أبي
سفيان أقطع مروان بن الحكم ثلثها، وأقطع عمرو بن عثمان بن عفان ثلثها، وأقطع يزيد بن معاوية ثلثها، وذلك بعد موت
الحسن بن علي رضي الله عنه،
فلم يزالوا يتداولونها حتى خلصت كلها لمروان بن الحكم
أيام خلافته. فوهبها لعبد العزيز ابنه، فوهبها عبد
العزيز لابنه عمر بن عبد العزيز، فلما ولي عمر
بن عبد العزيز الخلافة، كانت أول ظلامة ردها،
دعا حسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي
الله عنه - وقيل: بل دعا علي بن الحسين رضي الله عنه فردها عليه، وكانت بيد أولاد فاطمة رضي الله عنها مدة
ولآية عمر بن عبد العزيز، فلما ولي يزيد بن عاتكة قبضها
منهم، فصارت في أيدي بني مروان كما كانت يتداولونها، حتى انتقلت الخلافة عنهم،
فلما ولي أبو العباس السفاح ردها على عبد الله بن الحسن
بن الحسن، ثم قبضها أبو جعفر لما حدث من بني حسن ما حدث، ثم ردها المهدي
ابنه على ولد فاطمة رضي
الله عنها، ثم قبضها موسى بن المهدي
وهارون أخوه، فلم تزل في أيديهم حتى ولي المأمون، فردها على الفاطميين. قال أبو بكر: حدثني محمد بن زكريا قال: حدثني مهدي بن سابق، قال: جلس المأمون للمظالم، فأول رقعة وقعت في يده نظر فيها
وبكى، وقال للذي على رأسه: ناد أين وكيل فاطمة، فقام شيخ عليه دراعة وعمامة وخف ثغرى، فتقدم فجعل يناظره في
فدك والمأمون يحتج عليه وهو يحتج على المأمون، ثم أمر أن يسجل لهم بها، فكتب
السجل وقرىء عليه، فانفذه، فقام دعبل إلى المأمون
فأنشده الأبيات التي أولها:
فلم تزل في أيديهم حتى كان في أيام المتوكل، فأقطعها عبد الله بن عمر البازيار،
وكان فيها إحدى عشرة نخلة غرسها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، فكان بنو فاطمة يأخذون ثمرها،
فإذا قدم الحجاج أهدوا لهم من ذلك التمر فيصلونهم، فيصير إليهم من ذلك مال جزيل
جليل، فصرم عبد الله بن عمر البازيار ذلك التمر،
ووجه رجلاً يقال له بشران بن أبي أمية الثقفي إلى
المدينة فصرمه، ثم عاد إلى البصرة ففلج. قلت:
في هذا الحديث عجب، لأنها قالت له: أنت ورثت رسول الله صلى الله عليه وسلم أم أهله، قال: بل أهله، وهذا تصريح لأنه صلى الله عليه وسلم موروث
يرثه أهله، وهو خلاف قوله: "لا نورث". وأيضاً
فإنه يدل على أن أبا بكر استنبط من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أن
الله أطعم نبياً طعمة أن يجري رسول الله
صلى الله عليه وسلم عند وفاته مجرى ذلك النبي، أو يكون قد فهم أنه عنى بذلك النبي المنكر لفظاً نفسه،
كما فهم من قوله في خطبته، إن عبداً خيره الله بين الدنيا وما عند ربه، فاختار
ما عند ربه، فقال أبو بكر: بل نفديك بأنفسنا. قال
أبو بكر: وأخبرنا أبو زيد قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن الزبير قال: حدثنا
فضيل بن مرزوق قال: حدثنا البحتري بن حسان قال: قلت لزيد بن علي أنا أريد أن
أهجن أمر أبي بكر، إن أبا بكر انتزع فدك من فاطمة رضي الله عنها ، فقال: إن ابا بكر كان رجلاً رحيماً، وكان يكره أن يغير شيئاً
فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فأتته فاطمة فقالت: رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاني
فدك، فقال لها: هل لك على هذا بينة، فجاءت بعلي رضي
الله عنه، فشهد لها، ثم
جاءت أم أيمن فقالت: ألستما تشهدان أني من أهل
الجنة قالأ: بلى - قال أبو زيد يعني أنها قالت لأبي بكر وعمر - قالت: فأنا أشهد
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاها
فدك، فقال أبو بكر: فرجل آخر أو امرأة أخرى لتستحقي بها القضية. ثم قال أبو زيد: وأيم
الله لو رجع الأمر إلي لقضيت فيها بقضاء أبي بكر. قال: "لا يقسم ورثتي ديناراً ولا درهماً، ما تركت بعد نفقة
نسائي ومؤونة عيالي فهو صدقة". وقال
أبو بكر: وحدثنا أبو زيد، عن الحزامي، عن ابن وهب، عن يونس عن ابن شهاب، عن عبد
الرحمن الأعرج أنه سمع أبا هريرة يقول: سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"والذي نفسي بيده لا يقسم ورثتي شيئا، ما تركت صدقة"، قال: وكانت هذه
الصدقة بيد علي رضي الله عنه،
غلب عليها العباس، وكانت فيها خصومتهما، فأبى
عمر أن يقسمها بينهما حتى أعرض عنها العباس، وغلب عليها علي رضي
الله عنه، ثم كانت بيد حسن وحسين ابني علي رضي الله عنه، ثم
كانت بيد علي بن الحسين رضي الله عنه والحسن
بن الحسن، كلاهما يتداولانها، ثم بيد زيد بن علي رضي الله عنه. قال
أبو بكر: وأخبرنا أبو زيد قال: حدثنا عثمان بن عمر بن فارس، قال: حدثنا يونس، عن
الزهري، عن مالك بن أوس بن الحدثان، أن عمر بن
الخطاب دعاه يوماً بعدما ارتفع النهار، قال: فدخلت عليه وهو جالس على سرير رمال
ليس بينه وبين الرمال فراش، على وسادة آدم ، فقال: يا مالك، إنه قد قدم من قومك
أهل أبيات حضروا المدينة، وقد أمرت لهم برضخ فاقسمه بينهم، فقلت: يا أمير
المؤمنين، مر بذلك غيري، قال: اقسم أيها المرء. قال
أبو بكر: وحدثنا أبو زيد قال: حدثنا إسحاق بن إدريس، قال: حدثنا عبد الله بن
المبارك قال: حدثني يونس، عن الزهري قال: حدثني مالك بن أوس بن الحدثان بنحوه،
قال فذكرت ذلك لعروة فقال: صدق مالك بن أوس، أنا سمعت عائشة تقول:
أرسل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عثمان
بن عفان إلى أبي بكر يسأل لهن ميراثهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم مما
أفاء الله عليه حتى كنت أردهن عن ذلك، فقلت: ألا تتقين
الله، ألم تعلمن أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم كان يقول: "لا نورث، ما
تركناه صدقة"، يريد بذلك نفسه، إنما يأكل آل محمد من هذا المال،
فانتهى أزواج النبي إلى ما أمرتهن به. قلت:
هذا مشكل، لأن الحديث الأول يتضمن
أن عمر أقسم على جماعة فيهم عثمان، فقال: نشدتكم الله، ألستم تعلمون أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا نورث ما تركناه صدقة"، يعني نفسه!
فقالوا: نعم، ومن جملتهم عثمان، فكيف يعلم بذلك فيكون مترسلاً لأزواج النبي: يسأله
أن يعطيهن الميراث! اللهم إلا أن يكون عثمان
وسعد وعبد الرحمن والزبير صدقوا عمر على سبيل التقليد لأبي بكر فيما رواه وحسن
الظن، وسموا ذلك علماً، لأنه قد يطلق على الظن
اسم العلم. وأيضاً فإنه إذا كان صلى الله عليه وسلم لا يورث، فقد أشكل دفع آلته ودابته وحذائه إلى علي رضي الله عنه، لأنه غير وارث في
الأصل، وإن كان أعطاه ذلك لأن زوجته بعرضة أن ترث، لولا الخبر، فهو
أيضاً غير جائز، لأن الخبر قد منع من أن يرث منه شيئاً قليلاً كان أو
كثيراً. قيل:
فإذا كان يتصرف فيها تصرف الأب في مال ولده، لا يخرجه ذلك عن كونه مال ولده،
فإذا مات الأب لم يجز لأحد أن يتصرف في مال ذلك الولد، لأنه ليس بأب له فيتصرف
في ماله تصرف الأباء في أموال أولادهم، على أن الفقهاء أو معظمهم لا يجيزون للأب
أن يتصرف في مال الأبن. قال
أبو بكر: وأخبرنا أبو زيد قال: حدثني يحيى بن كثير أبو غسان قال: حدثنا شعبة عن
عمر بن مرة، عن أبي البختري قال: جاء العباس
وعلي إلى عمر وهما يختصمان، فقال عمر لطلحة والزبير وعبد الرحمن وسعد: أنشدكم
الله، أسمعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"كل مال نبي فهو صدقة، إلا ما أطعمه أهله، إنا لا
نورث "! فقالوا: نعم، قال: وكان رسول الله يتصدق به، ويقسم فضله، ثم توفي فوليه أبو بكر سنتين يصنع فيه ما كان يصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنتما تقولان: إنه كان بذلك خاطئاً، وكان
بذلك ظالماً، وما كان بذلك إلا راشداً، ثم وليته بعد
أبي بكر فقلت لكما: إن شئتما قبلتماه على عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده الذي
عهد فيه، فقلتما: نعم، وجئتماني الآن تختصمان، يقول
هذا: أريد نصيبي من ابن أخي، ويقول هذا: أريد نصيبي من امرأتي! والله لا أقضي بينكما إلا بذلك. وقال
شيخنا أبو علي: لا تقبل في الروآية إلا روآية اثنين
كالشهادة، فخالفه المتكلمون والفقهاء كلهم،
واحتجوا عليه بقبول الصحابة روآية أبي بكر وحده:
"نحن معاشر الأنبياء لا نورث "، حتى إن بعض أصحاب أبي علي تكلف لذلك جواباً، فقال: قد روي أن أبا بكر يوم حاج فاطمة رضي الله عنها قال:
أنشد الله أمراً سمع من رسول الله صلى
الله عليه وسلم في هذا شيئاً!
فروى مالك بن أوس بن الحدثان، أنه سمعه من رسول الله صلى
الله عليه وسلم، وهذا الحديث ينطق بأنه استشهد عمر
وطلحة والزبيروعبد الرحمن وسعداً، فقالوا: سمعناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأين كانت هذه الروايات أيام أبي بكر! ما نقل أن أحداً من هؤلاء يوم خصومة فاطمة رضي الله عنها! وأبي بكر روى من
هذا شيئاً. قال
أبو بكر: وحدثنا أبو زيد قال: حدثنا عمرو بن مرزوق، عن شعبة، عن عمرو بن مرة، عن
أبي البختري قال: قال لها أبو بكر لما طلبت فدك: بأبي
أنت وأمي! أنت عندي الصادقة الأمينة، إن كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم عهد إليك في ذلك عهداً، أو
وعدك به وعداً، صدقتك، وسلمت إليك! فقالت: لم يعهد إلي في ذلك بشيء ولكن الله تعالى يقول: "يوصيكم
الله في أولادكم"، فقال: أشهد لقد سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن معاشر
الأنبياء لا نورث ". فقاما
وتركا الخصومة و أمضيت صدقة. وهو سهم ذوي القربى. قال أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري:
أخبرني أبو زيد عمر بن شبة، قال: حدثني هارون بن عمير: قال: حدثنا الوليد بن مسلم،
قال: حدثني صدقة أبو معاوية، عن محمد بن عبد الله، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي
بكر، عن يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالك، أن فاطمة رضي الله عنها
أتت أبا بكر فقالت: لقد علمت الذي
ظلمتنا عنه أهل البيت من الصدقات، وما أفاء الله علينا
من الغنائم في القرآن من سهم ذوي القربى! ثم قرأت عليه قوله تعالى: "واعلموا أنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه وللرسول
ولذي القربى"، فقال لها أبو بكر: بأبي أنت
وأمي ووالد ولدك! السمع والطاعة لكتاب الله ولحق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحق قرابته، وأنا أقرأ من
كتاب الله الذي تقرئين منه، ولم يبلغ علمي منه أن هذا السهم من الخمس يسلم إليكم
كاملاً،
قالت: أفهل هو ولأقربائك، قال: لا، بل أنفق عليكم منه، وأصرف
الباقي في مصالح المسلمين قالت: ليس هذا حكم
الله تعالى، قال: هذا حكم الله، فإن كان رسول الله عهد إليك في هذا عهداً
أو أوجبه لكم حقاً صدقتك وسلمته كله إليك وإلى أهلك،
قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعهد إلي في ذلك شيء، إلا أني سمعته يقول لما أنزلت هذه
الآية: "أبشروا آل محمد فقد جاءكم الغنى"، قال أبو بكر: لم يبلغ علمي من هذه الآية أن أسلم
إليكم هذا السهم كله كاملاً، ولكن لكم الغنى الذي يغنيكم، ويفضل عنكم، وهذا عمر بن الخطاب، وأبو عبيدة بن الجراح فاسأليهم عن ذلك،
وانظري هل يوافقك على ما طلبت أحد منهم! فانصرفت إلى عمر فقالت له مثل ما قالت لأبي بكر، فقال
لها مثل ما قاله لها أبو بكر، فعجبت فاطمة رضي الله عنها من ذلك، وظنت أنهما كانا قد
تذاكرا ذلك واجتمعا عليه.
قال ابن الصباح: فقال لي أبو الحسن: أتقول: إنه قد
أكفرهما في هذا الشعر! قلت: نعم، قال: كذاك هو. قال أبو بكر: حدثنا أبو زيد، عن هارون بن
عمير، عن الوليد بن مسلم، عن إسماعيل بن عباس، عن محمد بن السائب، عن أبي صالح،
عن مولى أم هانىء، قال: دخلت فاطمة على أبي بكر بعد ما
استخلف، فسألته ميراثها من أبيها، فمنعها، فقالت له: لئن مت اليوم من كان يرثك،
قال: ولدي وأهلي، قالت: فلم ورثت أنت رسول الله صلى
الله عليه وسلم دون ولده
وأهله، قال: فما فعلت يا بنت رسول الله! قالت: بلى، إنك عمدت إلى فدك، وكانت
صافية لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذتها،
وعمدت إلى ما أنزل الله من السماء فرفعته عنا، فقال: يا بنت رسول الله، لم أفعل،
حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن
الله تعالى يطعم النبي الطعمة ما كان حياً، فإذا قبضه الله إليه رفعت، فقالت: أنت ورسول الله أعلم، ما أنا بسائلتك بعد مجلسي. ثم انصرفت. وما
الذي نقموا من أبي حسن! نقموا والله نكير سيفه، وشدة وطأته، ونكال وقعته، وتنمره
في ذات الله، وتالله لوتكافوا عن زمام نبذه إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم لاعتلقه، ولسار إليهم سيراً سجحاً، لا تكلم حشاشته، ولا يتعتع راكبه،
ولأوردهم منهلاً نميراً فضفاضاً يطفح ضفتاه، ولأصدرهم بطاناً قد تحير بهم الرأي،
غير متحل بطائل، إلا بغمر الناهل، وردعه سورة الساغب، ولفتحت عليهم بركات من
السماء و الأرض، وسيأخذهم الله بما كانوا يكسبون. ألا هلم
فاستمع وما عشت أراك الدهر عجبه، وإن تعجب فقد أعجبك الحادث، إلى أي لجأ
استندوا، وبأي عروة تمسكوا! لبئس المولى ولبئس العشير، ولبئس للظالمين بدلا!
استبدلوا والله الذنابى بالقوادم ، والعجز بالكاهل، فرغماً لمعاطس قوم يحسبون
أنهم يحسنون صنعاً، "ألا إنهم هم المفسدون
ولكن لا يشعرون"، ويحهم! "أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن
يهدى فما لكم كيف تحكمون"! أما لعمر الله
لقد لقحت، فنظرة ريثما تنتج، ثم احتلبوها طلاع العقب دماً عبيطاً وذعاقاً ممقراً
هنالك يخسر المبطلون، ويعرف التالون غب ما أسس الأولون، ثم طيبوا عن
أنفسكم نفساً، واطمئنوا للفتنة جأشاً، وأبشروا بسيف صارم، وهرج شامل، واستبداد
من الظالمين يدع فيئكم زهيداً، وجمعكم حصيداً، فيا حسرةً عليكم، وأنى لكم وقد
عميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون! والحمد لله رب العالمين، وصلاته على
محمد خاتم النبيين، وسيد المرسلين. قلت: هذا الكلام
وإن لم يكن فيه ذكر فدك والميراث، ألا أنه من تتمة
ذلك، وفيه أيضاً حلماً كان عندها، وبيان لشدة غيظها وغضبها، فإنه سيأتي فيما بعد ذكر ما يناقض به قاضي القضاة
والمرتضى في أنها هل كانت غضبى أم لا! ونحن لا
ننصر مذهباً بعينه، وإنما نذكر ما قيل، وإذا جرى بحث نظري قلنا ما يقوى في أنفسنا منه. واعلم أنا إنما نذكر في هذا الفصل ما رواه
رجال الحديث وثقاتهم، وما أودعه أحمد بن عبد العزيز الجوهري في كتابه، وهو من
الثقات الأمناء عند أصحاب الحديث، وأما ما يرويه رجال الشيعة و
الأخباريون منهم في كتبهم من قولهم: إنهما
أهاناها وأسمعاها كلاماً غليظاً، وإن أبا بكر رق لها حيث لم يكن عمر حاضراً،
فكتب لها بفدك كتاباً، فلما خرجت به وجدها عمر، فمد يده إليه ليأخذه مغالبة،
فمنعته، فدفع بيده في صدرها وأخذ الصحيفة فخرقها بعد أن تفل فيها فمحاها، وإنها دعت عليه فقالت:
بقر الله بطنك كما بقرت صحيفتي، فشيء لا
يرويه أصحاب الحديث ولا ينقلونه، وقدر الصحابة
يجل عنه، وكان عمر أتقى لله، وأعرف لحقوق الله من ذلك، وقد نظمت الشيعة بعض هذه الواقعة التي يذكرونها شعراً أوله أبيات
لمهيار بن مرزويه الشاعر من قصيدته التي أولها:
وقد ذيل عليها بعض الشيعة وأتمها،
والأبيات:
فانظر إلى هذه البلية التي صبت من هؤلاء على
سادات المسلمين، وأعلام المهاجرين! وليس ذلك بقادح في علو شأنهم، وجلالة مكانهم، كما أن مبغضي
الأنبياء وحسدتهم، ومصنفي الكتب في إلحاق العيب والتهجين لشرائعهم لم تزدد
لأنبيائهم إلا رفعة، ولا زادت شرائعهم إلا انتشاراً في الأرض، وقبولاً في النفس،
وبهجةً ونوراً عند ذوي الألباب والعقول. وقلت لمتكلم من متكلمي الأمامية يعرف بعلي بن
تقي من بلدة النيل : وهل كانت فدك إلا نخلاً يسيراً وعقاراً ليس بذلك الخطير! فقال لي: ليس الأمر كذلك، بل كانت
جليلةً جداً، وكان فيها من النخل نحو ما بالكوفة الآن من النخل، وما قصد أبو بكر وعمر
بمنع فاطمة عنها لأ لا يتقوى علي بحاصلها وغلتها على المنازعة في الخلافة، ولهذا
أتبعا ذلك بمنع فاطمة وعلي وسائر بني هاشم وبني المطلب حقهم في الخمس، فإن الفقير الذي لا مال له
تضعف همته ويتصاغر عند نفسه، ويكون مشغولاً بالأحتراس والأكتساب عن طلب الملك
والرياسة، فانظر إلى ما قد وقر في صدور هؤلاء، وهو داء لا دواء له، وما
أكثر ما تزول الأخلاق والشيم، فأما العقائد الراسخة فلا سبيل إلى زوالها! الفصل الثاني في النظر
في أن النبي صلى الله عليه وسلم هل يورث أم لا. نذكر
في هذا الموضع ما حكاه المرتضى رحمه الله في الشافي عن قاضي القضاة في هذا المعنى، وما
اعترضه به، وإن استضعفنا شيئا ًمن ذلك قلنا ما عندنا، وإلا تركناه على حاله. ولسنا نجعله
مدعياً لأنه لم يدع ذلك لنفسه، وإنما بين أنه ليس بميراث، وأنه صدقة، ولا يمتنع
تخصيص القرآن بذلك، كما يخص في العبد والقاتل وغيرهما، وليس ذلك بنقص في
الأنبياء، بل هو إجلال لهم، يرفع الله به قدرهم عن أن يورثوا المال، وصار ذلك من
أوكد الدواعي ألا يتشاغلوا بجمعه، لأن أحد الدواعي القوية إلى ذلك تركه على
الأولاد والأهلين. ولما
سمعت فاطمة رضي الله عنها ذلك من أبي بكر كفت
عن الطلب فيما ثبت من الأخبار الصحيحة، فلا يمتنع أن
تكون غير عارفة بذلك، فطلبت الإرث، فلما
روى لها ما روى كفت. فأصابت أولاً وأصابت ثانياً. قال: ثم حكى عن أبي علي أنه قال: أتعلمون كذب أبي بكر
في هذه الروآية، أم تجوزون أن يكون صادقاً، قال:
وقد علم أنه لا شيء يقطع به على كذبه، فلا بد من تجويز كونه صادقاً. وإذا
صح ذلك قيل لهم: فهل كان يحل له مخالفة الرسول، فإن قالوا: لوكان صدقاً لظهر واشتهر قيل لهم: إن ذلك من باب العمل، ولا يمتنع أن ينفرد
بروايته جماعة يسيرة، بل الواحد و الأثنان، مثل سائر الأحكام ومثل الشهادات، فإن قالوا نعلم أنه لا يصح لقوله تعالى في كتابه: "وورث سليمان داود". قيل لهم: ومن أين أنه
ورثه الأموال، مع تجويز أن يكون ورثه العلم والحكمة؟ فإن قالوا: إطلاق الميراث لا يكون إلا في الأموال، قيل لهم: إن كتاب الله يبطل قولكم، لأنه قال: "ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا"،
والكتاب ليس بمال، ويقال في اللغة: ما ورثت
الأبناء عن الأباء شيئاً أفضل من أدب حسن،
وقالوا: العلماء ورثة الأنبياء، وإنما ورثوا منهم العلم
دون المال، على أن في آخر الآية ما يدل
على ما قلناه، وهو قوله تعالى حاكياً عنه: "وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من
كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين"، فنبه على
أن الذي ورث هو هذا العلم وهذا الفضل، و الأ لم
يكن لهذا القول تعلق بالأول. فإن قالوا:
فقد قال تعالى: "فهب لي من لدنك ولياً يرثني
ويرث من آل يعقوب"، وذلك يبطل الخبر!
قيل لهم: ليس في ذلك بيان المال أيضاً، وفي
الآية ما يدل على أن المراد النبوة والعلم، لأن
زكريا خاف على العلم أن يندرس، وقوله: "وإني خفت الموالي من ورائي" يدل على ذلك، لأن الأنبياء لا تحرص على الأموال حرصاً يتعلق
خوفها بها، وإنما أراد خوفه على العلم أن يضيع، فسأل الله تعالى ولياً
يقوم بالدين مقامه. وقوله: "ويرث
من آل يعقوب" يدل على أن المراد العلم والحكمة، لأنه لا يرث أموال
يعقوب في الحقيقة، وإنما يرث ذلك غيره. قال: فأما من يقول: إن المراد: إنا معاشر الأنبياء لا
نورث، ما تركناه صدقة، أي ما جعلناه صدقة في حال حياتنا لا نورثه، فركيك من القول، لأن إجماع الصحابة يخالفه، لأن أحداً لم يتأوله على هذا الوجه، لأنه لا
يكون في ذلك تخصيص الأنبياء، ولا مزية لهم، ولأن
قوله: ما تركناه صدقة، جملة من الكلام مستقلة بنفسها، كأنه عليه السلام مع
بيانه أنهم لا يورثون المال، يبين أنه صدقة، لأنه كان
يجوز الأ يكون ميراثاً، ويصرف إلى وجه آخر غير الصدقة. قال:
فأما خبر السيف والبغلة والعمامة وغيرذلك، فقد قال
أبو علي: إنه لم يثبت أن أبا بكر دفع ذلك إلى
أمير المؤمنين رضي الله عنه على جهة الإرث، كيف يجوز ذلك مع الخبر الذي
رواه، وكيف يجوز لو كان وارثاً أن يخصه بذلك ولا إرث له
مع العم لأنه عصبة! فإن كان وصل إلى فاطمة رضي الله عنها فقد
كان ينبغي أن يكون العباس شريكاً في ذلك وأزواج الرسول صلى الله عليه وسلم،
ولوجب أن يكون ذلك ظاهراً مشهوراً ليعرف أنهم أخذوا نصيبهم من ذلك أو بدله، ولا يجب إذا لم يدفع أبو بكر ذلك إليه على جهة الإرث
ألا يحصل ذلك في يده، لأنه قد يجوز أن يكون
النبي صلى الله عليه وسلم نحله ذلك، ويجوز
أيضاً أن يكون أبو بكر رأى الصلاح في ذلك
أن يكون بيده لما فيه من تقوية الدين، وتصدق ببدله بعد التقويم، لأن الأمام له أن يفعل ذلك. ثم قال: نحن نبين أولاً ما يدل على أنه صلى الله عليه وسلم يورث
المال، ونرتب الكلام في ذلك الترتيب الصحيح، ثم
نعطف على ما أورده، ونتكلم عليه. والذي يدل على أن المراد بالميراث المذكور ميراث المال دون
العلم والنبوة على ما يقولون أن لفظة الميراث في اللغة
والشريعة لا يفيد إطلاقها إلا على ما يجوز أن ينتقل على الحقيقة من
الموروث إلى الوارث، كالأموال وما في معناها، ولا
يستعمل في غير المال إلا تجوزاً واتساعاً، ولهذا لا يفهم من قول القائل: لا وارث لفلان إلا فلان، وفلان يرث مع فلان بالظاهر
والإطلاق إلا ميراث الأموال و الأعراض دون العلوم وغيرها. وليس لنا أن
نعدل عن ظاهر الكلام وحقيقته إلى مجازه بغير دلالة.
وأيضاً فإنه تعالى خبر عن نبيه أنه اشترط في وارثه أن يكون
رضياً، ومتى لم يحمل الميراث في الآية على المال دون العلم والنبوة لم يكن للأشتراط معنى، وكان لغوا وعبثاً، لأنه إذا كان
إنما سأل من يقوم مقامه، ويرث مكانه فقد دخل الرضا وما هو أعظم من الرضا في جملة
كلامه وسؤاله، فلا مقتضى لاشتراطه، ألا ترى أنه
لا يحسن أن يقول: اللهم ابعث إلينا نبياً واجعله
عاقلاً، ومكلفاً، فإذا ثبتت هذه الجملة صح أن زكريا موروث ماله، وصح أيضاً
لصحتها أن نبينا صلى الله عليه وسلم ممن يورث المال، لأن الإجماع واقع على أن حال نبينا صلى الله عليه وسلم لا يخالف حال الأنبياء المتقدمين في ميراث المال، فمن مثبت للأمرين
وناف للأمرين. قلت: إن شيخنا أبا الحسين قال في كتاب
الغرر: صورة الخبر الوارد في هذا الباب، وهو الذي رواه أبو بكر: "لا نورث"، ولم يقل: "نحن معاشر الأنبياء لا نورث "،
فلا يلزم من كون زكريا يورث الطعن في الخبر، وتصفحت
أنا كتب الصحاح في الحديث فوجدت صيغة الخبر كما قاله أبو الحسين، وإن كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم عنى
نفسه خاصةً لذلك، فقد سقط احتجاج الشيعة بقصة زكريا
وغيره من الأنبياء، إلا أنه يبعد عندي أن يكون
أراد نفسه خاصة، لأنه لم تجر عادته أن يخبر عن
نفسه في شيء بالنون. قلت: وإن ثبت له هذا الإجماع صح احتجاجه، ولكن ثبوته يبعد،
لأن من نفى كون زكريا رضي الله عنه موروثاً من الأمة إنما
نفاه لاعتقاده أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال:
"نحن معاشر الأنبياء"، فإذا كان لم
يقل هكذا، لم يقل: إن زكريا عليه السلام غير موروث. فإن قيل: هذا
يرجع عليكم في الخوف عن إرث المال لأن ذلك غآية الضن والبخل. قلنا: معاذ
الله أن يستوي الحال، لأن المال قد يصح أن يرزقه الله تعالى المؤمن والكافر
والعدو والولي، ولا يصح ذلك في النبوة وعلومها. وليس من الضن أن يأسى على بني عمه - وهم من أهل الفساد - أن
يظفروا بماله فينفقوه على المعاصي، ويصرفوه في غير وجوهه المحبوبة، بل ذلك غآية الحكمة وحسن التدبير في الدين، لأن الدين
يحظر تقوية الفساق و إمدادهم بما يعينهم على طرائقهم المذمومة، وما يعد ذلك شحاً ولا بخلاً إلا من لا تأمل له. فإن كان الأول فهو
يرجع إلى معنى المال، ويصحح أن الأنبياء يورثون
أموالهم وما في معناها، وإن كان الثاني لم يخل
هذا من أن يكون هو العلم الذي بعث النبي لنشره وأدائه، أو أن يكون علماً مخصوصاً
لا يتعلق بالشريعة، ولا يجب إطلاع جميع الأمة عليه، كعلم
العواقب وما يجري في مستقبل الأوقات، وما جرى مجرى ذلك. والقسم
الأول لا يجوز على النبي أن يخاف من وصوله إلى بني عمه وهم من جملة أمته الذين بعث لإطلاعهم على ذلك، وتأديته إليهم، وكأنه
على هذا الوجه يخاف مما هو الغرض من بعثته. والقسم
الثاني فاسد أيضاً، لأن هذا العلم المخصوص إنما
يستفاد من جهته، ويوقف عليه بإطلاعه وإعلامه، وليس هو مما يجب نشره في جميع
الناس، فقد كان يجب إذا خاف من إلقائه إلى بعض الناس فساداً ألا يلقيه إليه،
فإن ذلك في يده، ولا يحتاج إلى أكثر من ذلك. وقيل:
إنه
رواه معه مالك بن أوس بن الحدثان، و أما
المهاجرون الذين ذكرهم قاضي القضاة فإنما شهدوا
بالخبر في خلافة عمر، وقد تقدم ذكر ذلك. قال: وليس لهم أن يقولوا: إن التخصيص بأخبار
الآحاد يستند أيضاً إلى علم، وإن كان الطريق مظنوناً، ويشيروا إلى ما يدعونه من
الدلالة على وجوب العمل بخبر الواحد في الشريعة، وأنه حجة، لأن ذلك مبني من
قولهم على ما لا نسلمه، وقد دل الدليل على فساده - أعني قولهم: خبر الواحد حجة في الشرع - على
أنهم لو سلم لهم ذلك لاحتاجوا إلى دليل مستأنف على أنه يقبل في تخصيص القرآن،
لأن ما دل على العمل به في الجملة لا يتناول هذا الموضع، كما لا يتناول جواز
النسخ به. ومن
نظر في كتب التواريخ عرف ذلك، فإن كان هذا العدد إنما يفيد
الظن فالقول في آيات الكتاب كذلك وإن كانت آيات الكتاب أثبتت عن علم مستفاد من
روآية هذا العدد ونحوه، فالخبر مثل ذلك. قال
المرتضى رضي الله عنه: وهذا يسقط قول صاحب الكتاب: إن شاهدين
لو شهدا أن في التركة حقاً لكان يحب أن ينصرف عن الإرث،
وذلك لأن الشهادة وإن كانت مظنونة فالعمل بها
يستند إلى علم، لأن الشريعة قد قررت العمل بالشهادة ولم تقرر العمل بخبر الواحد، وليس له أن يقيس خبر الواحد
على الشهادة من حيث اجتمعا في غلبة الظن، لأنا
لا نعمل على الشهادة من حيث غلبة الظن دون ما ذكرناه من تقرير الشريعة العمل
بها، ألا ترى أنا قد نظن بصدق الفاسق والمرأة
والصبي وكثير ممن لا يجوز العمل بقوله! فبان أن المعول في هذا على المصلحة التي
نستفيدها على طريق الجملة من دليل الشرع. أترى أيكون
المتوفر على أبي بكر وشهوده من التركة عشر عشر درهم! ما أظن أنه يبلغ ذلك. وكم
مقدار ما يقلل حصص الشهود على أبي هريرة إذا
شركهم أهله في التركة، لتكون هذه القلة موجبة رفع التهمة، وتلك الزيادة والكثرة
موجبة حصول التهمة! وهذا الكلام لا أرتضيه للمرتضى. فأما
قوله:
وليس ذلك ينقص الأنبياء، بل هو إجلال لهم، فمن الذي
قال له: إن فيه نقصاً! وكما أنه لا نقص فيه، فلا إجلال فيه ولا فضيلة،
لأن الداعي وإن يكن قد يقوي على جمع المال ليخلف على الورثة، فقد يقويه أيضاً
إرادة صرفه في وجوه الخير والبر، وكلا الأمرين يكون
داعياً إلى تحصيل المال، بل الداعي الذي ذكرناه أقوى فيما يتعلق بالدين. ثم اجتمعت الروايتان من ههنا.. ونساء قومها تطأ ذيولها
ما تخرم مشيتها مشية رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخلت على أبي بكر وهو في حشد من المهاجرين
والأنصار وغيرهم،
فنيطت دونها ملاءة ، ثم أنت أنة أجهش لها القوم بالبكاء، وارتج المجلس، ثم أمهلت
هنيهة حتى إذا سكن نشيج القوم وهدأت فورتهم، افتتحت كلامها بالحمد لله عز وجل
والثناء عليه، والصلاة على رسول الله صلى
الله عليه وسلم، ثم قالت:
"لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم
حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم"، فإن تعزوه تجدوه أبي دون آبائكم،
وأخا ابن عمي دون رجالكم، فبلغ الرسالة صادعاً بالنذارة، مائلاً عن سنن
المشركين، ضارباً ثبجهم، يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، آخذاً
بأكظام المشركين، يهشم الأصنام، ويفلق الهام ، حتى انهزم الجمع وولوا الدبر،
وحتى تفرى الليل عن صبحه، وأسفر الحق عن محضه، ونطق زعيم الدين، وخرست شقائق
الشياطين، وتمت كلمة الإخلاص، وكنتم على شفا
حفرة من النار، نهزة الطامع، ومذقة الشارب. وقبسة العجلان، وموطأ الأقدام،
تشربون الطرق، وتقتاتون القد، أذلة خاسئين، يختطفكم الناس من حولكم، حتى أنقذكم الله برسوله صلى الله عليه وسلم بعد اللتيا والتي، وبعد أن مني بهم الرجال وذؤبان العرب
ومردة أهل الكتاب، و "كلما أوقدوا ناراً للحرب
أطفاها الله"، أو نجم قرن الشيطان، أو فغرت فاغرة قذف أخاه في
لهواتها. ولا ينكفي حتى يطأ صماخها بإخمصه ويطفىء عادية لهبها بسيفه -
أو قالت: يخمد لهبها بحده - مكدوداً في ذات
الله، وأنتم في رفاهية فكهون آمنون وادعون. يابن أبي قحافة، أترث أباك ولا أرث أبي، لقد جئت
شيئاً فرياً! فدونكها مخطومة مرحولة، تلقاك يوم حشرك، فنعم الحكم الله، والزعيم
محمد، والموعد القيامة، وعند الساعة يخسر المبطلون! ثم انكفأت إلى قبر أبيها صلى الله عليه وسلم، فقالت:
وروى حرمي بن أبي العلاء مع هذين البيتين بيتاً ثالثاً:
قال: فحمد أبو بكر الله وأثنى عليه وصلى على رسوله صلى الله عليه وسلم وقال: يا خير النساء، وابنة خير الأباء،
والله ما عدوت رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عملت إلا بإذنه، وإن
الرائد لا يكذب أهله، وإني أشهد الله وكفى بالله شهيداً،
أني سمعت رسول الله يقول، "إنا معاشر
الأنبياء لا نورث ذهباً، ولا فضةً ولا داراً ولا عقاراً، وإنما نورث الكتاب
والحكمة والعلم والنبوة ". قال المرتضى: وأخبرنا أبو عبد الله المرزباني: قال: حدثني علي
بن هارون، قال: أخبرني عبيد الله بن أحمد بن أبي طاهر، عن أبيه قال: ذكرت لأبي الحسين زيد
بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كلام فاطمة رضي الله عنها
عند منع أبي بكر إياها فدك، وقلت له: إن هؤلاء يزعمون
أنه مصنوع وأنه من كلام أبي العيناء، لأن الكلام
منسوق البلاغة، فقال لي: رأيت مشايخ آل أبي طالب
يروونه عن آبائهم ويعلمونه أولادهم، وقد حدثني به أبي
عن جدي يبلغ به فاطمة رضي الله عنها
على هذه الحكآية، وقد رواه مشايخ الشيعة وتدارسوه قبل أن يوجد جد أبي
العيناء، وقد حدث الحسين بن علوان، عن عطية العوفي، أنه سمع عبد الله بن
الحسن بن الحسن يذكر عن أبيه هذا الكلام.
قال: فما رأينا يوماً أكثر باكياً أو باكيةً من ذلك اليوم. قلت: ليس في هذا الخبر ما يدل على فساد ما
ادعاه قاضي القضاة، لأنه ادعى أنها نازعت وخاصمت ثم كفت لما سمعت الروآية وانصرفت،
تاركةً للنزاع، راضيةً بموجب الخبر المروي. وما ذكره المرتضى من هذا الكلام لا يدل إلا على سخطها حال حضورها، ولا يدل على أنها بعد روآية الخبر وبعد أن أقسم لها أبو بكر
بالله تعالى أنه ما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ما سمعه منه، انصرفت ساخطة،
ولا في الحديث المذكور والكلام المروي ما يدل على ذلك،
ولست أعتقد أنها انصرفت راضية كما قال قاضي القضاة، بل أعلم أنها انصرفت ساخطة، وماتت وهي على أبي بكر واجدة ، ولكن لا من هذا الخبر، بل
من أخبار أخر، كان الأولى بالمرتضى أن يحتج بها على ما يرويه في انصرافها ساخطة، وموتها
على ذلك السخط، وأما هذا الخبر وهذا الكلام فلا يدل
على هذا المطلوب. وقولهم: ما ورثت الأبناء من الأباء شيئاً أفضل من أدب حسن، وقولهم: العلماء ورثة الأنبياء، فعجيب، لأن كل ما ذكر
مقيد غير مطلق، وإنما قلنا إن مطلق لفظ الميراث من غير قرينة ولا تقييد يفيد
بظاهره ميراث الأموال، فبعد ما ذكره وعارض به لا يخفى
على متأمل. فأما استدلائه
على أن سليمان ورث داود علمه دون ماله بقوله: "يا
أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين"
وأن المراد أنه ورث العلم والفضل، و إلا لم يكن لهذا
القول تعلق بالأول، فليس بشيء يعول عليه، لأنه لا يمتنع أن يريد به أنه ورث المال بالظاهر والعلم بهذا
المعنى من الأستدلال، فليس يجب إذا دلت الدلالة في بعض الألفاظ على معنى المجاز
أن يقتصر بها عليه، بل يجب أن يحملها على الحقيقة التي هي الأصل إذا لم يمنع من
ذلك مانع، على أنه لا يمتنع أن يريد ميراث المال خاصة، ثم يقول مع ذلك: "علمنا منطق الطير"، ويشير ب "الفضل المبين " إلى العلم والمال جميعاً، فله بالأمرين جميعاً فضل على
من لم يكن عليهما، وقوله: "وأوتينا من كل
شيء" يحتمل المال كما يحتمل العلم، فليس بخالص ما ظنه. فإن
قيل:
فهبوا أن الأمر كما ذكرتم من أن زكريا كان يأمن على العلم أن يندرس، أليس لا بد
أن يكون مجوزاً أن يحفظه الله تعالى بمن هو من أهله وأقاربه، كما يجوز حفظه
بغريب أجنبي! فما
أنكرتم أن يكون خوفه إنما كان من بني عمه ألا يتعلموا
العلم ولا يقوموا فيه مقامه، فسأل الله ولداً يجمع فيه هذه العلوم حتى لا يخرج
العلم عن بيته، ويتعدى إلى غير قومه، فيلحقه بذلك وصمة! قلنا: أما إذا رتب السؤال هذا الترتيب، فالجواب
عنه ما أجبنا به صاحب الكتاب، وهو أن الخوف الذي أشاروا إليه ليس من ضرر
ديني، وإنما هو من ضرر دنياوي، والأنبياء إنما بعثوا لتحمل المضار الدنياوية،
ومنازلهم في الثواب إنما زادت على كل المنازل لهذا الوجه، ومن كانت حاله هذه الحال، فالظاهر من خوفه إذا لم يعلم
وجهه بعينه أن يكون محمولاً على مضار الدين، لأنها هي جهة خوفهم، والغرض في
بعثهم تحمل ما سواها من المضار، فإذا قال النبي صلى الله عليه: "أنا خائف"، فلم يعلم جهة خوفه على التفصيل، يجب أن يصرف
خوفه بالظاهر إلى مضار الدين دون الدنيا، لأن أحوالهم
وبعثهم يقتضي ذلك، فإذا كنا لو اعتدنا من بعضنا الزهد في الدنيا وأسبابها،
والتعفف عن منافعها، والرغبة في الآخرة، والتفرد بالعمل لها، لكنا نحمل على ما
يظهر لنا من خوفه الذي لا يعلم وجهه بعينه على ما هو أشبه وأليق بحاله، ونضيفه
إلى الآخرة دون الدنيا، وإذا كان هذا واجباً فيمن
ذكرناه فهو في الأنبياء عليهم السلام أوجب. قلت: ينبغي ألا يقول المعترض: فيلحقه بذلك
وصمة، فيجعل الخوف من هذه الوصمة، بل يقول: إنه خاف ألا يفلح بنو عمه ولا
يتعلموا العلم، لما رأى من الأمارات الدالة على ذلك، فالخوف
على هذا الترتيب يتعلق بأمر ديني لا دنيوي، فسأل الله تعالى أن يرزقه
ولداً يرث عنه علمه، أي يكون عالماً بالدينيات كما أنا عالم بها. وهذا
السؤال متعلق بأمر ديني لا دنيوي. وعلى هذا يندفع ما ذكره المرتضى، على أنه لا يجوز
إطلاق القول بأن الأنبياء بعثوا لتحمل المضار الدنياوية، ولا القول: الغرض في
بعثهم تحمل ما سوى المضار الدينية من المضار، فإنهم ما
بعثوا لذلك، ولا الغرض في بعثتهم ذلك، وإنما بعثوا لأمر آخر. وقد تحصل
المضار في أداء الشرع ضمناً وتبعاً، لا على أنها الغرض، ولا داخلة في الغرض، وعلى أن قول المرتضى: لا يجوز أن يخاف زكريا من
تبديل الدين وتغييره، لأنه محفوظ من الله، فكيف يخاف ما لا يحاف من مثله، غير
مستمر على أصوله! لأن المكلفين الآن قد حرموا بغيبة
الأمام عنده ألطافاً كثيرة الوصلة بالشرعيات كالحدود وصلاة الجمعة والأعياد، وهو
وأصحابه يقولون في ذلك إن اللوم على المكلفين، لأنهم قد حرموا أنفسهم اللطف،
فهلا جاز أن يخاف زكريا من تبديل الدين وتغييره، وإفساد الأحكام الشرعية! لأنه إنما يجب على الله تعالى التبليغ بالرسول إلى المكلفين
فإذا أفسدوا هم الأديان وبدلوها لم يجب عليه أن يحفظها عليهم، لأنهم هم الذين حرموا أنفسهم اللطف. وتقول
له أيضاً: لقد جئت شيئاً فرياً فكان ينبغي إذا لم يؤثر أمير
المؤمنين رضي الله عنه أن يفسر لأبي بكر معنى الخبر أن
يعلم فاطمة رضي الله عنها تفسيره، فتقول لأبي بكر: أنت
غالط فيما ظننت، إنما قال أبي: ما تركناه صدقة، فإنه لا
يورث. قلت:
هذه مخالفة لظاهر الكلام، وإحالة اللفظ عن وضعه، وبين
قوله: ما ننوي فيه الصدقة، وهو بعد في ملكنا ليس بموروث، وقوله: ما نخلفه صدقة ليس بموروث فرق عظيم، فلا يجوز أن يراد أحد المعنيين باللفظ المفيد للمعنى
الأخر، لأنه إلباس وتعمية. وأيضاً، فإن العلماء ذكروا خصائص الرسول في الشرعيات عن أمته
وعددوها، نحو حل الزيادة في النكاح على أربع، ونحو النكاح بلفظ الهبة على قول
فرقة من المسلمين، ونحو تحريم أكل البصل والثوم عليه، وإباحة شرب دمه، وغير ذلك، ولم يذكروا في خصائصه أنه إذا كان قد نوى أن
يتصدق بشيء فإنه لا يناله ورثته، لو قدرنا أنه يورث الأموال، ولا الشيعة قبل المرتضى ذكرت ذلك، ولا رأينا في كتاب من
كتبهم، وهو مسبوق بإجماع طائفته عليه، وإجماعهم عندهم حجة. قال
المرتضى: فأما قوله: إن قوله رضي
الله عنه: ما تركناه صدقة، جملة من الكلام مستقلة بنفسها، فصحيح إذا كانت لفظة ما مرفوعة على الأبتداء، ولم تكن
منصوبة بوقوع الفعل عليها، وكانت لفظة صدقة
أيضاً مرفوعة غير منصوبة، وفي هذا وقع النزاع،
فكيف يدعي أنها جملة مستقلة بنفسها! وأقوى ما يمكن أن
نذكره أن نقول: الروآية جاءت بلفظ صدقة بالرفع، وعلى
ما تأولتموه لا تكون إلا منصوبة، والجواب عن
ذلك أنا لا نسلم الروآية بالرفع، ولم تجر عادة
الرواة بضبط ما جرى هذا المجرى من الأعراب، والأشتباه يقع في مثله، فمن حقق منهم وصرح بالروآية بالرفع يجوز أن يكون اشتبه عليه
فظنها مرفوعة، وهي منصوبة. قال
المرتضى رضي الله عنه في البردة والقضيب: إن كان نحلة،
أو على الوجه الأخر، يجري مجرى ما ذكرناه في وجوب الظهور و الأستشهاد، ولسنا نرى أصحابنا - يعني المعتزلة - يطالبون أنفسهم في
هذه المواضع بما يطالبوننا بمثله إذا ادعينا
وجوهاً وأسباباً وعللاً مجوزة، لأنهم لا يقنعون منا بما يجوز ويمكن، بل يوجبون فيما ندعيه الظهور والأستشهاد، وإذا كان هذا عليهم
نسوه أو تناسوه. قلت: الصحيح أن أمير المؤمنين رضي الله عنه لم ينازع بعد موت فاطمة في الميراث، وإنما نازع في الولآية لفدك
وغيرها من صدقات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجرى بينه وبين العباس في ذلك ما هو مشهور،
وأما أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فما
ثبت أنهن نازعن في ميراثه، ولا أن عثمان كان المرسل لهن، والمطالب عنهن، إلا في
روآية شاذة، و الأزواج لما عرفن أن فاطمة رضي
الله عنها قد دفعت عن الميراث أمسكن، ولم
يكن قد نازعن، وإنما اكتفين بغيرهن، وحديث فدك وحضور
فاطمة عند أبي بكر كان بعد عشرة أيام من وفاة رسول الله صلى
الله عليه وسلم، والصحيح أنه لم ينطق أحد
بعد ذلك من الناس من ذكر أو أنثى بعد عود فاطمة رضي
الله عنها من
ذلك المجلس بكلمة واحدة في الميراث. قلت:
قد مضى أن ترك النكير لا يكون دليل الرضا إلا في هذا
الموضع الذي لا يكون له وجه سوى الرضا، وذكرنا في ذلك قولاً شافياً، وقد أجاب أبو عثمان الجاحظ في كتاب العباسية عن هذا السؤال
جواباً حسن المعنى واللفظ، نحن نذكره على وجهه، ليقابل بينه وبين كلامه في
العثمانية وغيرها. قال:
قال أبو عثمان: وقد زعم أناس أن الدليل على صدق
خبرهما - يعني أبا بكر وعمر - في
منع الميراث وبراءة ساحتهما، ترك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم النكير
عليهما. ثم
قال: قد يقال لهم: لئن كان ترك النكير دليلاً على
صدقهما، ليكونن ترك النكير على المتظلمين والمحتجين عليهما، والمطالبين لهما،
دليلاً على صدق دعواهم، أو استحسان مقالتهم، ولا سيما وقد طالت المناجاة، وكثرت
المراجعة والملاحاة ، وظهرت الشكية، واشتدت الموجدة. وقد
بلغ ذلك من فاطمة رضي الله عنها، حتى إنها أوصت ألا يصلي عليها أبو بكر، ولقد
كانت قالت له حين أتته طالبة بحقها، ومحتجة لرهطها:
من يرثك يا أبا بكر إذا مت، قال: أهلي وولدي، قالت: فما بالنا لا نرث النبي صلى
الله عليه وسلم!
فلما منعها ميراثها وبخسها حقها واعتل عليها وجلح في أمرها،
وعاينت التهضم، وأيست من التورع، ووجدت نشوة الضعف وقلة الناصر، قالت: والله لأدعون الله عليك، قال: والله لأدعون الله لك، قالت:
والله لا أكلمك أبداً، قال: والله لا أهجرك
أبداً. فإن يكن ترك
النكير على أبي بكر دليلاً على صواب منعها، إن
في ترك النكير على فاطمة رضي الله عنها دليلاً على صواب طلبها! وأدنى ما كان
يجب عليهم في ذلك تعريفها ما جهلت، وتذكيرها ما نسيت،
وصرفها عن الخطأ ورفع قدرها عن البذاء، وأن تقول
هجراً، أو تجور عادلاً، أو تقطع واصلاً، فإذا لم تجدهم
أنكروا على الخصمين جميعاً فقد تكافأت الأمور، واستوت الأسباب، والرجوع
إلى أصل حكم الله من المواريث أولى بنا وبكم، وأوجب علينا وعليكم. وكيف جعلتم
ترك النكير حجة قاطعة، ودلالة واضحة، وقد زعمتم أن عمر
قال على منبره: متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى
الله عليه وسلم:
متعة النساء، ومتعة الحج، أنا أنهى عنهما، وأعاقب عليهما،
فما وجدتم أحداً أنكر قوله، ولا استشنع مخرج نهيه، ولا خطأه في معناه، ولا تعجب
منه، ولا استفهمه! وكيف تقضون بترك النكير وقد
شهد عمر يوم السقيفة وبعد ذلك أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال:
"الأئمة من قريش"، ثم قال في
شكاته: لوكان سالم حياً ما تخالجني فيه شك، حين أظهر الشك في استحقاق كل واحد من
الستة الذين جعلهم شورى، وسالم عبد لأمرأة من الأنصار،
وهي أعتقته، وحازت ميراثه ثم لم ينكر ذلك من قوله منكر، ولا قابل إنسان
بين قوله، ولا تعجب منه، وإنما يكون ترك النكير على من لارغبة ولارهبة عنده
دليلاً على صدق قوله، وصواب عمله، فأما ترك النكير على
من يملك الضعة والرفعة، و الأمر والنهي، والقتل و الاستحياء، والحبس و الأطلاق،
فليس بحجة تشفي، ولا دلالة تضيء. قلنا: إنهما لم يجحدا التنزيل، ولم ينكرا
النصوص، ولكنهما بعد إقرارهما بحكم الميراث وما عليه الظاهر من الشريعة ادعيا
روآية، وتحدثا بحديث لم يكن محالأ كونه، ولا ممتنعاً في حجج العقول مجيئه، وشهد
لهما عليه من علته مثل علتهما فيه، ولعل بعضهم كان يرى تصديق الرجل إذا كان
عدلاً في رهطه، مأمونا في ظاهره، ولم يكن قبل ذلك عرفه بفجرة ، ولا جرت عليه
غدرة، فيكون تصديقه له على جهة حسن الظن وتعديل الشاهد، ولأنه لم يكن كثير منهم
يعرف حقائق الحجج، والذي يقطع بشهادته على الغيب، وكان ذلك شبهة على أكثرهم،
فلذلك قل النكير وتواكل الناس، فاشتبه الأمر، فصار لا يتخلص إلى معرفة حق ذلك من
باطله إلا العالم المتقدم، أو المؤيد المرشد، ولأنه لم يكن لعثمان في صدور
العوام وقلوب السفلة والطغام ما كان لهما من المحبة والهيبة ولأنهما كانا أقل
استئثاراً بالفيء، وتفضلاً بمال الله منه، ومن شأن الناس إهمال السلطان ما وفر
عليهم أموالهم، ولم يستأثر بخراجهم، ولم يعطل ثغورهم. ولأن
الذي صنع أبو بكر من منع العترة حقها، والعمومة ميراثها، قد كان موافقاً لجلة قريش وكبراء العرب، ولأن عثمان
أيضاً كان مضعوفاً في نفسه، مستخفاً بقدره، لا يمنع ضيماً، ولا يقمع عدواً، ولقد
وثب الناس على عثمان بالشتم والقذف والتشنيع والنكير، لأمور لو أتى أضعافها وبلغ
أقصاها لما اجترأوا على اغتيابه، فضلاً على مبادأته و الإغراء به ومواجهته، كما
أغلظ عيينة بن حصن له فقال له: أما إنه لو كان عمر
لقمعك ومنعك، فقال عيينة: إن عمر كان خيراً لي منك، أرهبني فاتقاني. الفصل الثالث. في
أن فدك هل صح كونها نحلة رسول الله صلى الله عليه وسلم لفاطمة رضي الله عنها أم
لا. نذكر في هذا الفصل ما حكاه المرتضى عن قاضي
القضاة في المغني، وما اعترض به عليه، ثم نذكر ما عندنا في ذلك. قالوا: ولا شك أن أبا بكر أغضبها، إن لم يصح
كل الذي روي في هذا الباب، وقد كان الأجمل أن يمنعهم التكرم مما ارتكبوا منها
فضلاً عن الدين، ثم ذكروا أنها استشهدت أمير
المؤمنين رضي الله عنه و أم أيمن، فلم يقبل شهادتهما، هذا مع تركه أزواج
النبي صلى الله عليه وسلم في
حجرهن، ولم يجعلها صدقةً، وصدقهن في ذلك أن ذلك لهن ولم يصدقها. قال:
والجواب عن ذلك أن أكثر ما تروون في هذا الباب غير صحيح، ولسنا ننكر صحة ما روي من ادعائها فدك،
فأما أنها كانت في يدها فغير مسلم، بل إن
كانت في يدها لكان الظاهر أنها لها، فإذا كانت في جملة التركة فالظاهر أنها ميراث، وإذا كان كذلك فغير جائز لأبي بكر قبول
دعواها، لأنه لا خلاف في أن العمل على
الدعوى لا يجوز، وإنما يعمل على مثل ذلك إذا علمت صحته بمشاهدة، أو
ما جرى مجراها، أو حصلت بينة أو إقرار، ثم إن البينة
لا بد منها، وإن أمير المؤمنين رضي الله عنه لما خاصمه اليهودي حاكمه، وإن أم سلمة
التي يطبق على فضلها لو ادعت نحلاً ما قبلت دعواها. قال: وقد أنكر أبو علي ما قاله السائل من أنها لما ردت في دعوى النحلة
ادعته إرثاً، وقال: بل كان طلب الإرث قبل ذلك،
فلما سمعت منه الخبر كفت وادعت النحلة. وروي في الأخبار أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم
ما كان له من الحجر على نسائه وبناته. ويبين صحة
ذلك أنه لوكان ميراثاً أو صدقة لكان أمير
المؤمنين رضي الله عنه لما أفضى الأمر إليه يغيره. قال:
ونحن لا نصدق هذه الروايات ولا نجوزها. و أما أمر
الصلاة فقد روي أن أبا بكر هو الذي صلى على فاطمة رضي الله عنها، وكبر عليها أربعاً، وهذا أحد ما استدل به كثير من الفقهاء في التكبير
على الميت، ولا يصح أنها دفنت ليلاً، وإن صح ذلك فقد دفن رسول الله صلى
الله عليه وسلم
ليلاً،
ودفن عمر ابنه ليلاً، وقد كان أصحاب رسول الله صلى
الله عليه وسلم يدفنون
بالنهار ويدفنون بالليل، فما في هذا مما يطعن به، بل الأقرب في النساء أن دفنهن ليلاً أستر وأولى بالسنة. وهل
هذه الروآية إلا كروايتهم على أن علي بن أبي
طالب رضي الله عنه هو
إسرافيل والحسن ميكائيل والحسين جبرائيل وفاطمة ملك الموت، و آمنة أم النبي صلى الله عليه وسلم ليلة
القدر! فإن صدقوا ذلك أيضاً قيل لهم: فعمر بن الخطاب كيف يقدر على ضرب ملك
الموت! وإن قالوا: لا نصدق ذلك، فقد جوزوا
رد هذه الروايات، وصح أنه لا يجوز التعويل على هذا
الخبر وإنما يتعلق بذلك من غرضه الألحاد كالوراق،
وابن الراوندي لأن غرضهم القدح في الإسلام. انتهى
كلام قاضي القضاة. وأيضاً
فيدل على ذلك قوله رضي
الله عنه: فاطمة بضعة مني، من آذاها فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله
عز وجل"، وهذا يدل على عصمتها، لأنها لو كانت ممن تقارف
الذنوب لم يكن من يؤذيها مؤذياً له على كل حال،
بل كان متى فعل المستحق من ذمها أو إقامة الحد عليها، إن كان الفعل يقتضيه ساراً
له ومطيعاً، على أنا لا نحتاج أن ننبه في هذا الموضع
على الدلالة على عصمتها، بل يكفي في هذا الموضع العلم
بصدقها فيما ادعته، وهذا لاخلاف فيه بين
المسلمين، لأن أحداً لا يشك أنها لم تدع ما
ادعته كاذبة، وليس بعد ألا تكون كاذبة إلا أن تكون صادقة، وإنما اختلفوا في هل يجب
مع العلم بصدقها تسليم ما ادعته بغير بينة أم لا يجب ذلك، قال: الذي يدل
على الفصل الثاني أن البينة إنما تراد ليغلب في الظن صدق المدعي، ألا ترى
أن العدالة معتبرة في الشهادات لما كانت مؤثرة في غلبة الظن لما ذكرناه، ولهذا
جاز أن يحكم الحاكم بعلمه من غير شهادة لأن علمه أقوى من الشهادة، ولهذا كان
الإقرار أقوى من البينة، من حيث كان أغلب في تأثير غلبة الظن، وإذا قدم الإقرار
على الشهادة لقوة الظن عنده، فأولى أن يقدم العلم على
الجميع، وإذا لم يحتج مع الإقرار إلى شهادة لسقوط حكم الضعيف مع القوي لا
يحتاج أيضاً مع العلم إلى ما يؤثر الظن من البينات والشهادات. والذي
يدل عل صحة ما ذكرناه أيضاً أنه لا خلاف بين أهل النقل في
أن أعرابياً نازع النبي صلى الله عليه وسلم في
ناقة، فقال صلى الله عليه وسلم: "هذه لي، وقد خرجت إليك من
ثمنها"، فقال
الأعرابي: من يشهد لك بذلك؟ فقال خزيمة بن
ثابت: أنا أشهد بذلك، فقال النبي صلى
الله عليه وسلم: "من
أين علمت وما حضرت ذلك"، قال: لا، ولكن علمت ذلك من حيث علمت أنك رسول الله، فقال:
"قد أجزت شهادتك، وجعلتها شهادتين"، فسمي ذا
الشهادتين. وقد
روي من طرق مختلفة غير طريق أبي سعيد الذي ذكره صاحب الكتاب أنه لما نزل قوله
تعالى: "وآت ذا القربى حقه" دعا النبي صلى الله عليه وسلم فأعطاها فدك! وإذا كان ذلك مروياً فلا
معنى لدفعه بغير حجة. و
أما قوله: إن أمير المؤمنين رضي
الله عنه حاكم يهودياً على الوجه الواجب
في سائر الناس، فقد روي ذلك، إلا أن أمير المؤمنين لم
يفعل من ذلك ما كان يجب عليه أن يفعله، وإنما تبرع به، واستظهر بإقامة
الحجة فيه، وقد أخطأ من طالبه ببينة كائناً من كان.
فأما اعتراضه بأم سلمة فلم يثبت من عصمتها ما ثبت من عصمة فاطمة رضي الله عنها، فلذلك
احتاجت في دعواها إلى بينة. فأما إنكاره
وادعاؤه أنه لم يثبت أن الشاهد في ذلك كان أمير المؤمنين، فلم يرد في ذلك إلا
مجرد الدعوى و الإنكار، والأخبار مستفيضة بأنه رضي الله عنه شهد لها، فدفع ذلك بالزيغ لا يغني شيئا! وقوله: إن الشاهد لها مولىً رسول الله صلى
الله عليه وسلم هو
المنكر الذي ليس بمعروف. وكيف
يجوز ذلك والميراث يشركها فيه غيرها، والنحل تنفرد به! ولا
ينقلب مثل ذلك علينا من حيث طالبت بالميراث بعد النحل، لأنها في الأبتداء طالبت
بالنحل، وهو الوجه الذي تستحق فدك منه، فلما دفعت عنه طالبت ضرورة بالميراث، لأن للمدفوع عن
حقه أن يتوصل إلى تناوله بكل وجه وسبب، وهذا بخلاف
قول أبي علي، لأنه أضاف إليها ادعاء الحق من وجه لا تستحقه منه، وهي مختارة. وقد روى محمد
بن زكريا الغلابي عن شيوخه، عن أبي المقداد هشام بن زياد مولى آل عثمان، قال: لما ولي عمر بن عبد العزيز رد فدك على ولد فاطمة،
وكتب إلى وليه على المدينة أبي بكر بن عمرو بن حزم يأمره بذلك، فكتب إليه: إن فاطمة قد ولدت في آل عثمان، وآل
فلان وفلان، فعلى من أرد منهم، فكتب إليه: أما
بعد، فإني لو كتبت إليك آمرك أن تذبح شاة لكتبت إلي: أجماء أم قرناء ، أو كتبت
إليك أن تذبح بقرة لسألتني: ما لونها، فإذا ورد
عليك كتابي هذا فاقسمها في ولد فاطمة عليه
السلام
من
علي
عليه السلام، والسلام. قال
أبو المقدام: فنقمت بنو أمية ذلك على عمر بن عبد
العزيز وعاتبوه فيه، وقالوا له: هجنت فعل
الشيخين، وخرج إليه عمر بن قيس في جماعة من أهل الكوفة، فلما عاتبوه على فعله
قال: إنكم جهلتم وعلمت، ونسيتم وذكرت، إن أبا بكر محمد بن عمرو بن حزم حدثني عن
أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"فاطمة بضعة مني يسخطها ما يسخطني، ويرضيني ما
أرضاها"، وإن فدك كان صافية على عهد أبي بكر وعمر، ثم صار أمرها إلى
مروان، فوهبها لعبد العزيز أبي، فورثتها أنا وإخوتي
عنه، فسألتهم أن يبيعوني حصتهم منها، فمن بائع وواهب، حتى استجمعت لي، فرأيت أن
أردها على ولد فاطمة. قالوا: فإن أبيت إلا هذا فأمسك الأصل، واقسم
الغله، ففعل. فأما
قوله:
و يصح أنها دفنت ليلاً وإن صح فقد دفن فلان وفلان ليلاً، فقد بينا أن دفنها
ليلاً في الصحة أظهر من الشمس، وأن منكر ذلك كالدافع للمشاهدات، ولم يجعل دفنها
ليلاً بمجرده هو الحجة ليقال: لقد دفن فلان وفلان ليلاً، بل يقع الأحتجاج بذلك على ما وردت به الروايات المستفيضة
الظاهرة التي هي كالتواتر، أنها أوصت بأن تدفن ليلاً حتى لا يصلي الرجلان
عليها، وصرحت بذلك وعهدت فيه عهداً بعد أن كانا استأذنا عليها في مرضها ليعوداها
فأبت أن تأذن لهما، فلما طالت عليهما المدافعة رغبا إلى
أمير المؤمنين رضي الله عنها في أن يستأذن لهما،
وجعلاها حاجة إليه، وكلمها رضي الله عنه في ذلك، وألح عليها، فأذنت
لهما في الدخول، ثم أعرضت عنهما عند دخولهما ولم
تكلمهما، فلما خرجا قالت لأمير المؤمنين رضي
الله عنه: هل صنعت ما أردت؟ قال:
نعم، قالت: فهل أنت صانع ما آمرك به؟ قال نعم،
قالت: فإني أنشدك الله ألا يصليا على جنازتي، ولا يقوما على قبري! وروي أنه عفى
قبرها وعلم عليه، ورش أربعين قبراً في البقيع، ولم يرش قبرها حتى لا يهتدى إليه،
وأنهما عاتباه على ترك إعلامهما بشأنها، وإحضارهما
الصلاة عليها، فمن ههنا احتججنا
بالدفن ليلاً، ولو كان ليس غير الدفن بالليل من غير ما تقدم عليه وماتأخر عنه،
لم يكن فيه حجة. وقوله:
إن جعفر بن محمد وأباه وجده كانوا يتولونهما،
فكيف لا ينكر أبو علي ذلك، واعتقاده فيهما اعتقاده! وقد
كنا نظن أن مخالفينا يقتنعون أن ينسبوا إلى أئمتنا الكف عن القوم، و الإمساك،
وما ظننا أنهم يحملون أنفسهم على أن ينسبوا إليهم الثناء والولاء، وقد
علم كل أحد أن أصحاب هؤلاء السادة المختصين بهم، قد رووا عنهم ضد ما روى شعبة بن
الحجاج وفلان وفلان وقولهم: هما أول من ظلمنا حقنا، وحمل الناس على رقابنا، وقولهم: إنهما أصفيا بإنائنا، واضطجعا بسبلنا،
وجلسا مجلساً نحن أحق به منهما، إلى غير ذلك من فنون التظلم والشكآية، وهو طويل
متسع، ومن أراد استقصاء ذلك فلينظر في كتاب المعرفة
لأبي إسحاق إبراهيم بن سعيد الثقفي، فإنه قد ذكر عن رجل من أهل البيت
بالأسانيد النيرة ما لا زيادة عليه، ثم لو صح ما
ذكره شعبة لجاز أن يحمل على التقية. ثم
إن جماعة من مخالفينا قد غلوا في أبي بكر وعمر، ورووا
روايات مختلفة فيهما تجري مجرى ما ذكره في
الشناعة، ولا يلزم العقلاء وذوي الألباب من المخالفين عيب
من ذلك. و
أما قوله: إنما قصد من يورد هذه الأخبار تضعيف دلالة
الأعلام في النفوس، من حيث أضاف النفاق إلى من شاهدها، فتشنيع
في غير موضعه، واستناد إلى ما لا يجدي نفعاً، لأن من شاهد الأعلام لا
يضعفها ولا يوهن دليلها، ولا يقدح في كونها حجة، لأن الأعلام ليست ملجئة إلى
العلم، ولا موجبة لحصوله على كل حال، وإنما تثمر العلم لمن أمعن النظر فيها من
الوجه الذي تدل منه، فمن عدل عن ذلك لسوء اختياره لا يكون عدوله مؤثراً في
دلالتها، فكم قد عدل من العقلاء وذوي الأحلام الراجحة والألباب الصحيحة عن تأمل
هذه الأعلام وإصابة الحق منها! ولم يكن ذلك عندنا
وعند صاحب الكتاب قادحاً في دلالة الأعلام. على أن هذا القول
يوجب أن ينفي الشك والنفاق عن كل من صحب النبي صلى الله عليه وسلم وعاصره وشاهد أعلامه كأبي سفيان وابنه، وعمرو بن العاص، وفلان وفلان،
ممن قد اشتهر نفاقهم وظهر شكهم في الدين وارتيابهم باتفاق بيننا وبينه، وإن كانت
إضافة النفاق إلى هؤلاء لا ثقدح في دلالة الأعلام، فكذلك القول في غيرهم. وقوله: إنه
يسوغ مثل ذلك، فكيف يسوغ إحراق بيت علي وفاطمة رضي الله عنهما! وهل
في ذلك عذر يصغى إليه أويسمع! وإنما
يكون علي وأصحابه خارقين للإجماع ومخالفين للمسلمين، لوكان الإجماع قد تقرر وثبت، وليس بمتقرر ولا ثابت مع
خلاف علي وحده، فضلاً عن أن يوافقه على ذلك غيره.
وبعد، فلا فرق بين أن يهدد بالإحراق لهذه العلة، وبين أن يضرب فاطمة رضي الله عنها لمثلها،
فإن إحراق المنازل أعظم من ضرب سوط أو سوطين،
فلا وجه لامتعاض المخالف من حديث الضرب إذا كان
عنده مثل هذا الأعتذار. ولا يمتنع أن يكون
غير تلك الصورة مخالفاً لها، وإن كان المدعي لا يكذب، ويبين ذلك أن مذهب
المرتضى جواز ظهور خوارق العادات على أيدي
الأئمة والصالحين، ولو قدرنا أن واحداً من أهل الصلاح والخير ادعى دعوى، وقال بحضرة جماعة من الناس من جملتهم القاضي: اللهم إن
كنت صادقاً فأظهر علي معجزة خارقة للعادة، فظهرت عليه، لعلمنا
أنه صادق، ومع ذلك لا تقبل دعواه إلا ببينة. كما أن الظاهر
يقتضي خلافه، فإنه لم يجب عما ذكره قاضي القضاة، لأن
معنى قوله: إنها لوكانت في يدها، أي متصرفة فيها لكانت اليد حجة في
الملكية، لأن اليد والتصرف حجة لا محالة، فلو
كانت في يدها تتصرف فيها وفي ارتفاقها كما يتصرف الناس في ضياعهم و أملاكهم لما احتاجت إلى الأحتجاج بآية الميراث ولا بدعوى النحل،
لأن اليد حجة، فهلا قالت لأبي بكر: هذه الأرض في
يدي، ولا يجوز إنتزاعها مني إلا بحجة! وحينئذ كان يسقط
إحتجاج أبي بكر بقوله: "نحن معاشر
الأنبياء لا نورث"، لأنها ما تكون قد
ادعتها ميراثاً ليحتج عليها بالخبر. وخبر أبي سعيد
في قوله فأعطاها فدك، يدل على الهبة لا على القبض والتصرف، ولأنه يقال: أعطاني فلان كذا
فلم أقبضه، ولو كان الإعطاء هو القبض والتصرف لكان هذا
الكلام متناقضاً. فأما تعجب المرتضى من قول أبي علي: إن دعوى
الإرث كانت متقدمة على دعوى النحل، وقوله: إنا لا نعرف له غرضاً في ذلك،
فإنه لا يصح له بذلك مذهب، ولا يبطل على مخالفيه مذهب، فإن
المرتضى لم يقف على مراد الشيخ أبي علي في ذلك، وهذا شيء يرجع إلى أصول
الفقه، فإن أصحابنا استدلوا على جواز تخصيص الكتاب
بخبر الواحد بإجماع الصحابة، لأنهم أجمعوا على تخصيص قوله تعالى: "يوصيكم الله في أولادكم" بروآية أبي
بكر عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا
نورث، ما تركناه صدقة"، قالوا: والصحيح في
الخبر أن فاطمة رضي الله عنها
طالبت بعد ذلك بالنحل لا بالميراث، فلهذا قال الشيخ أبو علي: إن دعوى الميراث تقدمت
على دعوى النحل، وذلك لأنه يثبت أن فاطمة انصرفت عن ذلك
المجلس غير راضية ولا موافقة لأبي بكر، فلو كانت دعوى الإرث متأخرة،
وانصرفت عن سخط لم يثبت الإجماع على تخصيص الكتاب بخبر
الواحد، أما إذا كانت دعوى الإرث متقدمة فلما
روى لها الخبر أمسكت وانتقلت إلى النزاع من جهة أخرى، فإنه يصح حينئذ الأستدلال بالإجماع على تخصيص الكتاب بخبر
واحد. وهذا الكلام لا جواب عنه، ولقد كان التكرم ورعآية حق رسول الله
صلى الله عليه وسلم وحفظ عهده يقتضي أن تعوض ابنته بشيء
يرضيها إن لم يستنزل المسلمون عن فدك وتسلم إليها تطييباً لقلبها. وقد يسوغ للإمام أن يفعل ذلك من غير
مشاورة المسلمين إذا رأى المصلحة فيه، وقد بعد العهد الآن بيننا وبينهم، ولا نعلم حقيقة ما كان، وإلى الله ترجع الأمور.
أأقنع من نفسي بأن يقال: هذا أمير المؤمنين، ولا أشاركهم في
مكاره الدهر، أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش! فما خلقت ليشغلني أكل الطيبات،
كالبهيمة المربوطة، همها علفها، أو المرسلة، شغلها تقممها، تكترش من أعلافها،
وتلهو عما يراد بها، أو أترك سدى، أو أهمل عابثاً، أو أجر حبل الضلالة، أو أعتسف
طريق المتاهة! الشرح: قد روي: ولو شئت لاهتديت إلى هذا العسل المصفى، ولباب هذا
البر المنقى، فضربت هذا بذاك، حتى ينضج وقوداً، ويستحكم معقوداً. وبطون غرثى: جائعة،
والبطنة: الكظة: وذلك أن يمتلىء الإنسان من الطعام أمتلاء شديداً، وكان يقال: ينبغي للإنسان أن يجعل وعاء بطنه
أثلاثاً: فثلث للطعام، وثلث للشراب، وثلث للنفس. وفي قوله: لو شئت لاهتديت شبه من قول عمر:
لو نشاء لملأنا هذه الرحاب من صلائق وصناب، وقد
ذكرناه فيما تقدم.
الأصل: وكأني بقائلكم يقول: إذا كان هذا قوت أبن أبي طالب، فقد قعد
به الضعف عن قتال الأقران، ومنازلة الشجعان. ألا وإن الشجرة البرية أصلب عوداً،
والرواتع الخضرة أرق جلوداً، والنابتات العذية أقوى وقوداً، وأبطأ خموداً. وههنا نكتة، وهي أن الضوء الثاني يكون أيضاً علة
لضوء ثالث، وذلك أن الضوء الحاصل على وجه الأرض - وهو الضوء الثاني - إذا أشرق
على جدار مقابل ذلك الجدار قريباً منه مكان مظلم، فإن ذلك المكان يصير مضيئاً
بعد أن كان مظلماً، وإن كان لذلك المكان المظلم باب، وكان داخل البيت مقابل ذلك
الباب جدار كان ذلك الجدار أشد إضاءةً من باقي البيت، ثم ذلك الجدار إن كان فيه
ثقب إلى موضع آخر كان ما يحاذي ذلك البيت أشد إضاءةً مما حواليه، وهكذا لا تزال
الأضواء، يوجب بعضها بعضاً على وجه الإنعكاس بطريق العلية، وبشرط المقابلة، ولا
تزال تضعف درجة درجة إلى أن تضمحل ويرد الأمر إلى الظلمة، وهكذا عالم العلوم، والحكم المأخوذة من أمير المؤمنين رضي الله عنه لا تزال تضعف كلما انتقلت
من قوم إلى قوم إلى أن يعود الإسلام غريباً كما بدأ بموجب الخبر النبوي الوارد
في الصحاح.
فشبه رضي الله عنه
نفسه بالنسبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذراع الذي العضد أصله وأسه والمراد من هذا التشبيه
الأبانة عن شدة الأمتزاج و الأتحاد والقرب بينهما، فإن الضوء الثاني شبيه بالضوء
الأول، والذراع متصل بالعضد إتصالأ بيناً، وهذه المنزلة
قد أعطاه إياها رسول الله صلى الله عليه وسلم في مقامات كثيرة نحو قوله
في قصة براءة:
"قد أمرت أن لا يؤدي عني إلا أنا أو رجل
مني"، وقوله: "لتنتهن يا بني وليعة، أو لأبعثن إليكم رجلاً
مني، أو قال: "عديل نفسي "، وقد سماه الكتاب
العزيز: نفسه فقال: "ونساءنا ونساءكم
وأنفسنا وأنفسكم"، وقد قال له: "لحمك مختلط بلحمي، ودمك مسوط
بدمي، وشبرك وشبري واحداً"، فإن قلت:
أما قوله: لوتظاهرت العرب في لما وليت عنها، فما
الفائدة في قوله: ولو أمكنت الفرصة من رقابها لسارعت إليها، وهل هذا مما
يفخر به الرؤساء ويعدونه منقبة، وإنما المنقبة أن لو أمكنته الفرصة تجاوز وعفا! قلت: غرضه أن يقرر في نفوس أصحابه وغيرهم من العرب أنه
يحارب على حق، وأن حربه لأهل الشام كالجهاد أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن من يجاهد الكفار يجب
عليه أن يغلظ عليهم، ويستأصل شأفتهم، ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما جاهد بني قريظة وظفر لم
يبق ولم يعف، وحصد في يوم واحد رقاب ألف إنسان صبراً في مقام واحد، لما علم في
ذلك من إعزاز الدين وإذلال المشركين، فالعفو له مقام و الانتقام له مقام.
ومضامين اللحود، أي الذين تضمنتهم، وفي الحديث نهى عن بيع
المضامين والملاقيح، وهي ما في أصلاب الفحول وبطون الإناث. ثم قال: لوكنت
أيتها الدنيا إنساناً محسوساً، كالواحد من البشر، لأقمت عليك الحد كما فعلت
بالناس. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الفهرس الجزء السادس عشرباب المختار من الخطب
والأوامر - ابن ابي الحديد. وفود الوليد بن جابر على معاوية. ومن كتاب له إلى قثم بن العباس وهو عامله على مكة. ومن كتاب له إلى عبد الله بن العباس بعد مقتل محمد بن أبي
بكر. ومن كتاب له عليه السلام إلى معاوية. ومن كتاب له إلى أهل مصر لما ولى عليهم الأشتر. ومن كتاب له إلى عمرو بن العاص..... ومن كتاب له عليه السلام إلى مصقلة بن هبيرة الشيباني
وكان عامله علي أردشير خرة. ومن كتاب له عليه السلام إلى زياد بن أبيه، وقد بلغه أن
معاوية كتب إليه يريد خديعته باستلحاقه. |
الجزء
السادس عشرباب المختار من الخطب والأوامر - ابن ابي
الحديد
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن
كتاب له إلى أهل البصرة
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: وقد كان من انتشار حبلكم وشقاقكم ما لم تغبوا عنه، فعفوت عن
مجرمكم، ورفعت السيف عن مدبركم، وقبلت من مقبلكم، فإن خطت بكم الأمور المردية،
وسفه الأراء الجائرة، إلى منابذتي وخلافي، فهأنذا قد قربت جيادي، ورحلت ركابي.
كلعقة لاعق، مثل يضرب للشيء الحقير التافه، ويروى بضم اللام،
وهي ما تأخذه الملعقة. خطب زياد بالبصرة
الخطبة الغراء المشهورة، وقال فيها: والله لآخذن البريء بالسقيم، والبر
باللئيم، والوالد بالولد، والجار بالجار، أو تستقيم إلي قناتكم. فقام أبو بلال
مرداس بن أدية يهمس، وهو حينئذ شيخ كبير، فقال:
أيها الأمير، أنبأنا الله بخلاف ما قلت، وحكم بغير
ما حكمت، قال سبحانه: "ولا تزر وازرة
وزر أخرى"، فقال زياد: يا أبا
بلال: إني لم أجهل ما علمت، ولكنا لا نخلص إلى الحق منكم حتى نخوض إليه الباطل
خوضاً. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن
كتاب له إلى معاوية.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
فاتق الله فيما لديك، وأنظر في حقه عليك، وارجع إلى معرفة ما لا تعذر بجهالته،
فإن للطاعة أعلاماً واضحة، وسبلاً نيرة، ومحجةً نهجة، وغآية مطلبة، يردها أكياس،
ويخالفها الآنكاس، من نكب عنها جار عن الحق، وخبط في التيه، وغير الله نعمته،
وأحل به نقمته. قال الراوندي: مطلبة بمعنى
متطلبة، يقال: طلبت كذا وتطلبته، وهذا ليس بشيء، ويخرج الكلام
عن أن يكون له معنى. الأصل:
من الوالد الفان، المقر للزمان، المدبر العمر، المستسلم للدهر، الذام للدنيا،
الساكن مساكن الموتى، الظاعن عنها غداً. الشرح: قال الزبير بن بكار في كتاب أنساب قريش: ولد الحسن بن
علي رضي الله عنه للنصف من شهر رمضان سنة ثلاث من الهجرة، وسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم حسناً،
وتوفي لليال خلون من شهر ربيع الأول سنة خمسين. قال
أبو الحسن المدائني: وكانت وفاته في سنة تسع وأربعين، وكان
مرضه أربعين يوماً، وكانت سنه سبعاً وأربعين سنة، دس
إليه معاوية سماً على يد جعدة بنت الأشعث بن قيس زوجة الحسن، وقال لها:
إن قتلتيه بالسم فلك مائة ألف، وأزوجك يزيد ابني. فلما مات وفى لها بالمال، ولم
يزوجها من يزيد. قال: أخشى أن تصنع بابني
كما صنعت بابن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال
أبو جعفر: وروى ابن عباس، قال:
دخل الحسن بن علي رضي الله عنه على
معاوية بعد عام الجماعة وهو جالس في مجلس ضيق، فجلس عند رجليه، فتحدث معاوية بما
شاء أن يتحدث، ثم قال: عجباً لعائشة! تزعم أني في غير ما أنا أهله. وأن الذي
أصبحت فيه ليس لي بحق، ما لها ولهذا! يغفر الله لها، إنما كان ينازعني في هذا
الأمر أبو هذا الجالس، وقد استأثر الله به، فقال الحسن: أو عجب ذلك يا معاوية؟
قال: أي والله، قال: أفلا أخبرك بما هو أعجب من هذا، قال: ما هو، قال: جلوسك في
صدر المجلس وأنا عند رجليك، فضحك معاوية، وقال: يا بن أخي، بلغني أن عليك ديناً،
قال: إن لعلي ديناً، قال: كم هو، قال: مائة ألف، فقال: قد أمرنا لك بثلاثمائة
ألف، مائة منها لدينك، ومائة تقسمها في أهل بيتك، ومائة لخاصة نفسك، فقم مكرماً،
واقبض صلتك. فلما خرج الحسن رضي الله عنه، قال يزيد بن معاوية
لأبيه: تالله ما رأيت رجلاً استقبلك بما استقبلك به، ثم
أمرت له بثلاثمائة ألف! قال: يا بني، إن الحق حقهم، فمن أتاك منهم فاحث له. وروى أبو جعفر محمد بن حبيب، قال: قال علي رضي الله عنه: لقد تزوج الحسن وطلق حتى خفت أن يثير عداوة، قال أبو جعفر: وكان الحسن إذا أراد أن يطلق امرأة
جلس إليها، فقال: أيسرك أن أهب لك كذا وكذا،
فتقول له ما شئت، أو نعم، فيقول: هو لك،
فإذا قام أرسل إليها بالطلاق، وبما سمى لها. قال الحسن رضي الله عنه : فاذكرني لها، فأتاها أبو
هريرة، فخبرها الخبر، فقالت: اختر لي، فقال: أختار لك الحسن. فتزوجته، فقدم عبد الله بن عامر المدينة فقال للحسن: إن لي
عند هند وديعة، فدخل إليها والحسن معه، فخرجت حتى جلست بين يدي عبد الله بن
عامر، فرق لها رقة عظيمة، فقال الحسن: ألا
أنزل لك عنها؟ فلا أراك تجد محللاً خيراً لكما مني! قال: لا، ثم قال لها:
وديعتي، فأخرجت سفطين فيهما جوهر، ففتحهما وأخذ من أحدهما قبضة وترك الآخر
عليها، وكانت قبل ابن عامر عند عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد، فكانت تقول: سيدهم
جميعاً الحسن، وأسخاهم ابن عامر، وأحبهم إلي عبد الرحمن بن عتاب. وروى المدائني عن يحيى بن
زكريا، عن هشام بن عروة، قال:
قال الحسن عند وفاته: ادفنوني عند قبررسول
الله صلى الله عليه وسلم
الله، إلا أن تخافوا أن يكون في ذلك شر،
فلما أرادوا دفنه، قال مروان بن الحكم: لا
يدفن عثمان في حش كوكب، ويدفن الحسن ههنا، فاجتمع
بنو هاشم وبنو أمية، وأعان هؤلاء قوم وهؤلاء قوم، وجاؤوا بالسلاح، فقال أبو هريرة لمروان: أتمنع الحسن أن يدفن في هذا
الموضع، وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة"! قال
مروان: دعنا منك، لقد ضاع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ كان لا يحفظه غيرك وغير أبي سعيد الخدري! وإنما أسلمت أيام خيبر، قال أبو هريرة: صدقت، أسلمت أيام خيبر، ولكنني لزمت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم أكن أفارقه، وكنت اسأله، وعنيت بذلك حتى علمت من أحب ومن
أبغض، ومن قرب ومن أبعد، ومن أقر ومن نفى، ومن لعن ومن دعا له، فلما رأت عائشة السلاح والرجال، وخافت أن يعظم الشر
بينهم، وتسفك الدماء، قالت: البيت بيتي، ولا آذن لأحد أن يدفن فيه، وأبى
الحسين رضي الله عنه أن
يدفنه إلا مع جده، فقال له محمد بن الحنفية:
يا أخي، إنه لو أوصى أن يدفنه لدفناه أو نموت قبل ذلك، ولكنه قد استثنى، وقال: إلا أن تخافوا الشر، فأي شر يرى أشد مما نحن
فيه! فدفنوه في البقيع.
وروى أبو الحسن المدائني: قال: خرج على معاوية قوم من الخوارج
بعد دخوله الكوفة وصلح الحسن رضي الله عنه
له فأرسل معاوية إلى الحسن رضي الله عنه يسأله أن يخرج فيقاتل الخوارج، فقال
الحسن: سبحان الله! تركت قتالك وهو لي حلال لصلاح الأمة وألفتهم، أفتراني
أقاتل معك! فخطب معاوية أهل الكوفة، فقال: يا أهل الكوفة، أتروني قاتلتكم على الصلاة والزكاة
والحج، وقد علمت أنكم تصلون وتزكون وتحجون، ولكنني
قاتلتكم لأتأمر عليكم وعلى رقابكم، وقد آتاني الله ذلك، وأنتم كارهون،
إلا إن كل مال أو دم أصيب في هذه الفتنة فمطلول، وكل شرط شرطته فتحت قدمي هاتين،
ولا يصلح الناس إلا ثلاث: إخراج العطاء عند محله،
وإقفال الجنود لوقتها، وغزو العدو في داره، فإنهم إن لم تغزوهم غزوكم. ثم نزل. فقال: يا مسيب، إني لو أردت بما فعلت الدنيا لم
يكن معاوية بأصبر عند اللقاء، ولا أثبت عند الحرب مني، ولكني أردت صلاحكم، وكف
بعضكم عن بعض، فارضوا بقدر الله وقضائه، حتى يستريح بر، أو يستراح من فاجر. فتغير وجه الحسن، وغمز الحسين رضي الله عنه حجراً، فسكت، فقال الحسن رضي الله عنه : يا حجر، ليس كل الناس يحب ما تحب ولا
رأيه كرأيك، وما فعلت إلا إبقاءً عليك، والله كل يوم في شأن. قال المدائني: ودخل عليه سفيان بن أبي ليلى
النهدي، فقال له: السلام عليك يا مذل المؤمنين! فقال الحسن: اجلس يرحمك الله، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع
له ملك بني أمية، فنظر إليهم يعلون منبره واحداً فواحداً، فشق ذلك عليه، فأنزل
الله تعالى في ذلك قرآناً قال له: "وما جعلنا
الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن". وسمعت علياً أبي رحمه الله يقول: سيلي أمر هذه
الأمة رجل واسع البلعوم، كبير البطن، فسألته:
من هو، فقال: معاوية. وقال لي: إن القرآن قد
نطق بملك بني أمية ومدتهم، قال تعالى: "ليلة
القدر خير من ألف شهر"، قال أبي: هذه
ملك بني أمية. فقال أخوه الحسين رضي الله عنه : لقد كنت كارهاً لما كان طيب النفس على سبيل أبي حتى عزم علي
أخي، فأطعته، وكأنما يجذ أنفي بالمواسي، فقال
المسيب: إنه والله ما يكبر علينا هذا الامر إلا أن تضاموا وتنتقصوا، فأما
نحن، فإنهم سيطلبون مودتنا بكل ما قدروا عليه، فقال
الحسين: يا مسيب، نحن نعلم أنك تحبنا، فقال!
الحسن رضي الله عنه :
سمعت أبي يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أحب قوماً كان
معهم "، فعرض له المسيب وظبيان بالرجوع، فقال: ليس لي إلى ذلك سبيل،
فلما كان من غد خرج، فلما صار بدير هند نظر إلى الكوفة، وقال:
ثم سار إلى المدينة.
وروى المدائني، عن إبراهيم بن محمد، عن زيد بن
أسلم، قال:
دخل رجل على الحسن رضي الله عنه بالمدينة،
وفي يده صحيفة، فقال له الرجل: ما هذه، قال: هذا كتاب معاوية، يتوعد فيه على أمر
كذا، فقال الرجل: لقد كنت على النصف، فما
فعلت؟ فقال له الحسن رضي الله عنه : أجل، ولكني خشيت أن يأتي يوم القيامة سبعون ألفاً أو ثمانون
ألفاً، تشخب أوداجهم دماً، كلهم يستعدي الله فيم هريق دمه! قال أبو الحسن: وكان الحصين بن المنذر الرقاشي يقول: والله ما وفى معاوية للحسن بشيء مما أعطاه،
قتل حجراً وأصحاب حجر ، وبايع لابنه يزيد، وسم الحسن. قال
أبو الحسن: طلب زياد رجلاً من أصحاب الحسن، ممن كان في كتاب
الأمان، فكتب إليه الحسن: من الحسن بن علي
إلى زياد، أما بعد، فقد علمت ما كنا أخذنا من الأمان لأصحابنا، وقد ذكر لي فلان
أنك تعرضت له، فاحب ألا تعرض له إلا بخير. والسلام.
فلما أتاه الكتاب، وذلك بعد إدعاء معاوية
إياه غضب حيث لم ينسبه إلى
أبي سفيان، فكتب إليه: من زياد بن أبي سفيان
إلى الحسن، أما بعد، فإنه أتاني كتابك في
فاسق تؤويه الفساق من شيعتك وشيعة أبيك، وايم الله لأطلبنه بين جلدك ولحمك، وإن
أحب الناس إلي لحماً أن آكله للحم أنت منه والسلام. قال
أبو الحسن المدائني: وكان الحسن كثير
التزوج، تزوج خولة بنت منظور بن زبان الفزارية، وأمها مليكة بنت خارجة بن
سنان، فولدت له الحسن بن الحسن، وتزوج أم
إسحاق بنت طلحة بن عبيد الله، فولدت له ابناً سماه طلحة، وتزوج أم بشر بنت أبي مسعود الأنصاري - واسم أبي مسعود عقبة بن عمر - فولدت
له زيد بن الحسن، وتزوج جعدة بنت الأشعث بن
قيس، وهي التي سقته السم، وتزوج هنداً بنت
سهيل بن عمرو، وحفصة ابنة عبد الرحمن بن أبي بكر، وتزوج
امرأة من كلب، وتزوج امرأة من بنات عمرو بن أهتم المنقري، و امرأة من ثقيف،
فولدت له عمراً، وتزوج امرأة من بنات علقمة
بن زرارة، و امرأة من بني شيبان من آل همام بن مرة،
فقيل له: إنها ترى رأي الخوارج، فطلقها، وقال: إني
أكره أن أضم إلى نحري جمرة من جمر جهنم. فكتب عبد الله بن العباس بذلك إلى الحسن رضي الله عنه فخطب
الناس ووبخهم، وقال: خالفتم أبي حتى حكم وهو كاره، ثم دعاكم إلى قتال أهل الشام
بعد التحكيم، فأبيتم حتى صار إلى كرامة الله، ثم بايعتموني على أن تسالموا من
سالمني، وتحاربوا من حاربني، وقد أتاني أن أهل الشرف منكم قد أتوا معاوية،
وبايعوه، فحسبي منكم، لا تغروني من ديني ونفسي. واعلم
أن عليًا إنما رغب الناس عنه إلى معاوية، أنه أساء بينهم في الفيء، وسوى بينهم
في العطاء، فثقل عليهم، واعلم أنك تحارب من حارب الله ورسوله
في ابتداء الإسلام، حتى ظهر أمر الله، فلما وحد الرب، ومحق الشرك، وعز الدين،
أظهروا الإيمان وقرأوا القرآن، مستهزئين بآياته، وقاموا إلى الصلاة وهم كسالى،
وأدوا الفرائض وهم لها كارهون، فلما رأوا أنه لا يعز في الدين إلا الأ تقياء
الأبرار، توسموا بسيما الصالحين، ليظن المسلمون بهم خيراً، فما زالوا بذلك حتى
شركوهم في أماناتهم، وقالوا: حسابهم على الله، فإن كانوا صادقين فإخواننا في
الدين، وإن كانوا كاذبين كانوا بما اقترفوا هم الأخسرين، وقد منيت بأولئك
وبأبنائهم وأشباههم، والله ما زادهم طول العمر إلا غياً، ولا زادهم ذلك لأهل
الدين إلا مقتاً، فجاهدهم ولا ترض دنية، ولا تقبل خسفاً ، فإن علياً لم يجب إلى
الحكومة حتى غلب على أمره فأجاب، وإنهم يعلمون أنه أولى بالأمر إن حكموا بالعدل،
فلما حكموا بالهوى، رجع إلى ما كان عليه حتى أتى عليه أجله، ولا تخرجن من حق أنت
أولى به، حتى يحول الموت دون ذلك. والسلام. قال:
ثم قال للحارث وجندب: ارجعا فليس
بيني وبينكم إلا السيف، فرجعا وأقبل إلى العراق في ستين ألفاً، استخلف
على الشام الضحاك بن قيس الفهري والحسن مقيم بالكوفة، لم يشخص حتى بلغه أن
معاوية قد عبر جسر منبج، فوجه حجر بن عدي يأمر العمال بالأحتراس، ويذب الناس،
فسارعوا. فعقد لقيس بن سعد بن عبادة على اثني عشر ألفاً، فنزل دير عبد الرحمن،
واستخلف على الكوفة المغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، وأمر قيس بن سعد
بالمسير، وودعه وأوصاه، فأخذ على الفرات وقرى الفلوجة، ثم إلى مسكن. وارتحل الحسن رضي الله عنه متوجهاً نحو المدائن، فأتى ساباط
فأقام بها أياماً، فلما أراد أن يرحل إلى المدائن قام فخطب الناس، فقال: أيها
الناس، إنكم بايعتموني على أن تسالموا من سالمت وتحاربوا من حاربت، وإني والله
ما أصبحت محتملاً على أحد من هذه الأمة ضغينة لا شرق ولا غرب، ولما تكرهون في
الجماعة والألفة والأمن، وصلاح ذات البين خير مما تحبون في الفرقة، والخوف
والتباغض والعداوة، وإن علياً أبي كان يقول: لا
تكرهوا إمارة معاوية، فإنكم لو فارقتموه لرأيتم الرؤوس تندر عن كواهلها كالحنظل.
ثم نزل. وروى
أبو الحسن المدائني قال: سأل معاوية الحسن بن علي بعد الصلح أن
يخطب الناس، ف امتنع، فناشده أن يفعل، فوضع له كرسي، فجلس عليه، ثم قال: الحمد لله الذي توحد في ملكه، وتفرد في
ربوبيته، يؤتي الملك من يشاء، وينزعه عمن يشاء. والحمد لله الذي أكرم بنا
مؤمنكم، وأخرج من الشرك أولكم، وحقن دماء آخركم، فبلاؤنا عندكم قديماً وحديثاً
أحسن البلاء، إن شكرتم أو كفرتم. أيها الناس، إن رب علي كان أعلم بعلي حين قبضه
إليه، ولقد أختصه بفضل لم تعتادوا مثله، ولم تجدوا مثل سابقته، فهيهات هيهات! طالما قلبتم له الأمور حتى أعلاه
الله عليكم وهو صاحبكم، وعدوكم في بدر وأخواتها، جرعكم رنقاً ، وسقاكم علقاً،
وأذل رقابكم، وأشرقكم بريقكم، فلستم بملومين على بغضه. وأيم الله لا
ترى أمة محمد خفضاً ما كانت سادتهم وقادتهم في بني أمية، ولقد وجه الله إليكم فتنة لن تصدوا عنها حتى تهلكوا،
لطاعتكم طواغيتكم، وانضوائكم إلى شياطينكم، فعند الله أحتسب ما مضى وما ينتظر من
سوء دعتكم، وحيف حكمكم. ثم
قال:
يا أهل الكوفة لقد فارقكم بالأمس سهم من مرامي الله، صائب على أعداء الله، نكال
على فجار قريش، لم يزل آخذاً بحناجرها، جاثماً على أنفاسها، ليس بالملومة في أمر
الله، ولا بالسروقة لمال الله، ولا بالفروقة في حرب أعداء الله، أعطى الكتاب
خواتمه وعزائمه، دعاه فأجابه، وقاده فاتبعه، لا تأخذه في الله لومة لائم، فصلوات
الله عليه ورحمته. ثم نزل. فأما
أبو الفرج علي بن الحسين الأصفهاني، فإنه قال: كان في لسان
أبي محمد الحسن رضي الله عنه ثقل
كالفأفأة، حدثني بذلك محمد بن الحسين الأشناني، قال:
حدثني محمد بن إسماعيل الأحمسي، عن مفضل بن صالح، عن جابر، قال: كان في لسان الحسن رضي الله عنه رتة، فكان
سلمان الفارسي رحمه الله يقول: أتته من قبل عمه موسى بن عمران رضي الله عنه . وكتب الحسن إلى معاوية: أما بعد، فإنك دسست إلي الرجال، كأنك
تحب اللقاء، لا أشك في ذلك فتوقعه إن شاء الله. وبلغني أنك شمت بما
لم يشمت به الحجى ، وإنما مثلك في ذلك كما قال الأول:
فأجابه معاوية: أما بعد، فقد وصل كتابك، وفهمت ما
ذكرت فيه، ولقد علمت بما حدث فلم أفرح ولم أحزن، ولم أشمت ولم آس، وإن علياً
أباك لكما قال أعشى بني قيسر بن ثعلبة:
قال أبو الفرج: وكتب عبد الله بن العباس من البصرة إلى معاوية: أما بعد، فإنك ودسك أخا بني القين إلى البصرة،
تلتمس من غفلات قريش بمثل ما ظفرت به من يمانيتك، لكما قال
أمية بن أبي الأسكر:
فأجابه معاوية: أما بعد، فإن الحسن بن علي، قد كتب إلي بنحو مما كتبت به،
وأنبأني بما لم يحقق سوء ظن ورأي في، وإنك لم تصب مثلي ومثلكم، وإنما مثلنا كما
قال طارق الخزاعي يجيب أمية عن هذا الشعر:
قال أبو الفرج: وكان أول شيء أحدثه الحسن رضي الله عنه أنه زاد المقاتلة مائة مائة، وقد كان علي رضي الله عنه فعل
ذلك يوم الجمل، وفعله الحسن حال الأستخلاف، فتبعه الخلفاء من بعده في ذلك. فلما توفي تنازعت سلطانه العرب، فقالت قريش: نحن قبيلته
وأسرته وأولياؤه، ولا يحل لكم أن تنازعونا سلطان محمد وحقه، فرأت العرب أن القول
ما قالت قريش، وأن الحجة في ذلك لهم على من نازعهم أمر محمد، فأنعمت لهم، وسلمت
إليهم. ثم حاججنا نحن قريشاً بمثل ما حاججت به العرب، فلم تنصفنا قريش إنصاف
العرب لها، إنهم أخذوا هذا الأمر دون العرب بالآنتصاف والأحتجاج، فلما صرنا أهل
بيت محمد وأولياءه إلى محاجتهم، وطلب النصف منهم باعدونا واستولوا بالإجماع على
ظلمنا ومراغمتنا والعنت منهم لنا، فالموعد الله، وهو الولي النصير. إن علياً لما
مضى لسبيله - رحمة الله عليه يوم قبض ويوم من الله عليه بالإسلام، ويوم يبعث
حياً - ولاني المسلمون الأمر بعده، فأسأل الله ألا يؤتينا في الدنيا الزائلة
شيئاً ينقصنا به في الآخرة مما عنده من كرامة، وإنما حملني على الكتاب إليك
الأعذار فيما بيني وبين الله عز وجل في أمرك، ولك في ذلك إن فعلته الحظ الجسيم،
والصلاح للمسلمين، فدع التمادي في الباطل، وادخل فيما دخل فيه الناس من بيعتي،
فإنك تعلم أني أحق بهذا الأمر منك عند الله وعند كل أواب حفيظ، ومن له قلب منيب. واتق الله ودع البغي، واحقن دماء المسلمين، فو
الله ما لك خير في أن تلفى الله من دمائهم بأكثر مما أنت لاقيه به، وادخل في
السلم والطاعة، ولا
تنازع الأمر أهله ومن هو أحق به منك، ليطفىء الله النائرة بذلك، ويجمع الكلمة،
ويصلح ذات البين، وإن أنت أبيت إلا التمادي في غيك سرت إليك بالمسلمين فحاكمتك،
حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين. أما بعد، فإن الله يفعل في عباده ما يشاء، لا معقب لحكمه وهو
سريع الحساب، فاحذر أن تكون منيتك على أيدي رعاع من الناس، وآئيس من أن تجد فينا
غميزة، وإن أنت أعرضت عما أنت فيه وبايعتني وفيت لك بما وعدت، وأجريت لك ما
شرطت، وأكون في ذلك كما قال أعشى بني قيس بن ثعلبة:
ثم الخلافة لك من بعدي، فأنت أولى الناس بها،
والسلام. فإني أحمد إليكم
الله الذي لا إله إلا هو، فالحمد لله الذي كفاكم
مؤونة عدوكم وقتل خليفتكم، إن الله بلطفه، وحسن صنعه، أتاح لعلي بن أبي
طالب رجلاً من عباده، فاغتاله فقتله. فترك أصحابه متفرقين
مختلفين، وقد جاءتنا كتب أشرافهم وقادتهم يلتمسون
الأمان لأنفسهم وعشائرهم، فأقبلوا إلي حين يأتيكم كتابي هذا بجهدكم وجندكم وحسن
عدتكم، فقد أصبتم بحمد الله الثأر، وبلغتم الأمل، وأهلك الله أهل البغي
والعدوان. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. ثم مضى لوجهه، فخرج من المسجد ودابته بالباب، فركبها ومضى
إلى النخيلة، وأمر غلامه أن يلحقه بما يصلحه. وكان عدي بن حاتم أول الناس عسكر. وسار
الحسن رضي الله عنه في عسكر عظيم وعدة حسنة. حتى نزل دير
عبد الرحمن، فأقام به ثلاثاً حتى اجتمع الناس، ثم دعا
عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب، فقال له: يا بن عم، إني باعث إليك
اثني عشر ألفاً من فرسان العرب وقراء المصر، الرجل منهم يزيد الكتيبة، فسر بهم،
وألن لهم جانبك، وابسط لهم وجهك، وافرش لهم جناحك، وأدنهم من مجلسك، فإنهم بقية
ثقات أمير المؤمنين، وسر بهم على شط الفرات حتى تقطع بهم الفرات، ثم تصير إلى
مسكن، ثم امض حتى تستقبل بهم معاوية، فإن أنت لقيته فاحبسه حتى آتيك، فإني على
أثرك وشيكاً، وليكن خبرك عندي كل يوم، وشاور هذين - يعني قيس بن سعد وسعيد بن قيس - وإذا لقيت معاوية فلا تقاتله حتى يقاتلك، فإن فعل فقاتله، وإن أصبت فقيس بن سعد على الناس، وإن أصيب قيس بن سعد فسعيد
بن قيس على الناس. أما
بعد، فوالله إني لأرجو أن أكون قد أصبحت بحمد الله ومنه وأنا أنصح خلقه لخلقه، وما أصبحت محتملاً على مسلم ضغينة، ولا مريد له بسوء ولا
غائلة. ألا وإن ما تكرهون في الجماعة خير لكم مما تحبون في الفرقة، ألا وإني
ناظر لكم خيراً من نظركم لأنفسكم، فلا تخالفوا أمري، ولا تردوا علي رأي. غفر
الله لي ولكم، وأرشدني وإياكم لما فيه محبته ورضاه، إن شاء الله! ثم نزل. فقال
لهم قيس بن سعد: اختاروا إحدى اثنتين: أما القتال مع غير إمام، وإما أن تبايعوا بيعة ضلال،
فقالوا: بل نقاتل بلا إمام، فخرجوا فضربوا أهل الشام حتى ردوهم إلى مصافهم. فكتب إليه
معاوية حينئذ لما يئس منه: أما بعد، فإنك يهودي ابن يهودي، تشقي نفسك وتقتلها
فيما ليس لك، فإن ظهر أحب الفريقين إليك نبذك وغدرك، وإن ظهر أبغضهم إليك نكل بك
وقتلك، وقد كان أبوك أوتر غير قوسه، ورمى غير غرضه، فأكثر الحز وأخطأ المفصل،
فخذله قومه، وأدركه يومه، فمات بحوران طريداً غريباً. والسلام. فأجاب إلى
ذلك، وانصرف قيس بن سعد فيمن معه إلى الكوفة، وانصرف الحسن أيضاً إليها، وأقبل
معاوية قاصداً نحو الكوفة، واجتمع إلى الحسن رضي
الله عنه وجوه الشيعة وأكابر أصحاب أمير
المؤمنين رضي الله عنه يلومونه، ويبكون إليه جزعاً مما فعله. قال
أبو الفرج: وحدثني به أيضاً محمد بن الحسين الأشنانداني، وعلي
بن العباس المقانعي، عن عباد بن يعقوب، عن عمرو بن ثابت، عن الحسن بن الحكم، عن
عدي بن ثابت، عن سفيان بن أبي ليلى، قال:
أتيت الحسن بن علي حين بايع معاوية، فوجدته بفناء داره، وعنده رهط، فقلت: السلام عليك يا مذل المؤمنين، قال: وعليك السلام يا
سفيان، ونزلت فعقلت راحلتي، ثم أتيته فجلست إليه، فقال: كيف قلت يا سفيان، قلت:
السلام عليك يا مذل المؤمنين! فقال: لم جرى
هذا منك إلينا، قلت: أنت والله بأبي وأمي
أذللت رقابنا حيث أعطيت هذا الطاغية البيعة، وسلمت الأمر إلى اللعين ابن آكلة
الأكباد، ومعك مائة ألف كلهم يموت دونك، فقد جمع الله عليك أمر الناس. فقال: يا
سفيان، إنا أهل بيت إذا علمنا الحق تمسكنا به، وإني
سمعت علياً يقول: سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول:
"لا تذهب الليالي والأيام حتى يجتمع أمر هذه الأمة على رجل واسع السرم، ضخم
البلعوم، يأكل ولا يشبع، لا ينظر الله إليه، ولا يموت حتى لا يكون له في السماء
عاذر، ولا في الأرض ناصر"، وإنه لمعاوية، وإني عرفت أن الله بالغ أمره. فإن
قلت: قوله: "وإنه لمعاوية" من الحديث المرفوع، أو من
كلام علي رضي الله عنه ،
أو من كلام الحسن رضي الله عنه ، قلت: الظاهر أنه من كلام الحسن رضي الله عنه ،
فإنه قد غلب على ظنه أن معاوية صاحب هذه الصفات، وإن كان القسمان الأولان غير
ممتنعين. قال أبو الفرج: وقد روي أن الحسن لما صالح معاوية اعتزل قيس بن سعد في
أربعة ألاف فارس فأبى أن يبايع، فلما بايع الحسن أدخل قيس ليبايع، فأقبل على
الحسن، فقال: أفي حل أنا من بيعتك، فقال: نعم، فألقى له كرسي، وجلس معاوية على
سرير والحسن معه، فقال له معاوية: أتبايع يا قيس! قال: نعم، ووضع يده على فخذه،
ولم يمدها إلى معاوية فجاء معاوية من سريره، وأكب على قيس حتى مسح يده على يده
وما رفع إليه قيس يده. قال
أبو الفرج:
وحدثني أحمد بن عون، عن عمران بن إسحاق، قال: كنت مع الحسن والحسين رضي الله عنهما في الدار، فدخل الحسن المخرج، ثم خرج،
فقال: لقد سقيت السم مراراً، ما سقيت مثل
هذه المرة، لقد لفظت قطعة من كبدي فجعلت أقلبها بعود معي. فقال الحسن: ومن سقاك، قال:
وما تريد منه، أتريد أن تقتله! إن يكن هو، فالله - أشد نقمة منك، وإن لم
يكن هو فما أحب أن يؤخذ بي بريء.
يدفن عثمان في البقيع، ويدفن الحسن في بيت النبي صلى الله عليه وسلم
والله لا يكون
ذلك أبداً وأنا أحمل السيف، وكادت الفتنة تقع، وأبى الحسين رضي الله عنه أن يدفنها إلا مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال له عبد الله بن جعفر: عزمت عليك يا أبا عبد الله بحقي
ألا تكلم بكلمة! فمضوا به إلى البقيع، وانصرف مروان.
قلت: وليس في روآية يحيى بن الحسن ما يؤخذ على عائشة، لأنه لم
يرو أنها استنفرت الناس لما ركبت البغل، وإنما المستنفرون هم بنو أمية، ويجوز أن
تكون عائشة ركبت لتسكين الفتنة، لا سيما وقد روي عنها أنه لما طلب منها الدفن
قالت: نعم، فهذه الحال والقصة منقبة من مناقب عائشة. قال: قيل لأبي إسحاق السبيعي: متى ذل الناس، فقال: حين مات الحسن،
وادعى زياد، وقتل حجر بن عدي.
ثم نرجع إلى تفسير ألفاظ الفصل، أما قوله: كتبها إليه بحاضرين، فالذي
كنا نقرؤه قديماً، كتبها إليه بالحاضرين على صيغة التثنيه، يعني حاضر حلب وحاضر
قنسرين، وهي الأرباض والضواحي المحيطة بهذه البلاد، ثم قرأناه بعد ذلك على جماعة
من الشيوخ بغير لام، ولم يفسروه، ومنهم من يذكره بصيغة الجمع لا بصيغة التثنية،
ومنهم من يقول بخناصرين، يظنونه تثنية خناصرة أو جمعها، وقد طلبت هذه الكلمة في
الكتب المصنفة، سيما في البلاد والأرضين فلم أجدها، ولعلي أظفر بها فيما بعد
فالحقها في هذا الموضع.
ويجوز أن يريد بالرهينة واحدة الرهائن، يقال للأسير أو للزمن
أو للعاجز عند الرحيل: إنه لرهينة، وذلك لأن الرهائن محتبسة عند مرتهنها. قوله: وعبد الدنيا، وتاجر الغرور، وغريم المنايا، لأن الإنسان طوع
شهواته، فهو عبد الدنيا، وحركاته فيها مبنية على غرور لا أصل له، فهو تاجر
الغرور لا محالة، ولما كانت المنايا تطالبه بالرحيل عن هذه الدار كانت غريماً له
يقتضيه ما لا بد له من أدائه.
كان أسيراً له لا محالة، ولما كان لا بد لكل إنسان من الهم
كان حليف الهموم، وكذلك لا يخلو ولا ينفك من الحزن، فكان قريناً له، ولما كان
معرضاً للآفات كان نصباً لها، ولما كان إنما يهلك بشهواته كان صريعاً لها.
ومن الشعر القديم الجيد في هذا المعني قول سالم بن عونة
الضبي:
أنا أستفصح قوله: ما اقتات من سنة ومن شهر جعل الزمان كالقوت
له، ومن اقتات الشيء فقد أكله، والأكل سبب المرض، والمرض سبب الهلاك.
وأول هذه القصيدة وهو داخل له في هذا المعنى أيضاً:
قوله: تفرد بي دون هموم الناس هم نفسي أي دون الهموم التي قد
كانت تعتريني لأجل أحوال الناس. قوله: وصرفني عن هواي أي عن هواي وفكري في تدبير الخلافة وسياسة
الرعية والقيام بما يقوم به الأئمة. قوله رضي الله عنه
وصرح لي محض أمري يروى بنصب محض
ورفعه، فمن نصب فتقديره: عن محض أمري، فلما حذف الجار نصب، ومن رفع جعله فاعلاً.
وصرح: كشف أو انكشف.
أي أفضى بي هذا الهم إلى أن صدقتني الدنيا حربها، كأنه جعل
نفسه محارباً للدنيا، أي صدقتني الدنيا حربها ولم تكذب، أي لم تجبن ولم تخن.
وغضب معاوية على ابنه يزيد، فهجره، فاستعطفه له
الأحنف،
قال له: يا أمير المؤمنين، أولادنا ثمار قلوبنا، وعماد ظهورنا، ونحن لهم سماء
ظليلة، وأرض ذليلة، فإن غضبوا فأرضهم، وإن سألوا فأعطهم، فلا تكن عليهم قفلاً
فيملوا حياتك، ويتمنوا موتك.
وفي الحديث المرفوع: "إن ريح الولد من ريح الجنة".
وفي الحديث المرفوع: "من كان له صبي فليستصب له ".
الأصل: فإني أوصيك بتقوى الله - أي بني - ولزوم أمره، وعمارة قلبك
بذكره، والإعتصام بحبله، وأي سبب أوثق من سبب بينك وبين الله، إن أنت أخذت به!
أحي قلبك بالموعظة، وأمته بالزهادة، وقوه باليقين، ونوره بالحكمة، وذلله بذكر
الموت، وقرره بالفناء، وبصره فجائع الدنيا، وحذره صولة الدهر وفحش تقلب الليالي
والأيام، وأعرض عليه أخبار الماضين، وذكره بما أصاب من كان قبلك من الأولين. قوله رضي الله عنه: واعرض عليه أخبار الماضين معنى قد
تداوله الناس، قال الشاعر:
قوله رضي الله عنه: ودع القول فيما لا تعرف من قول رسول الله
صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو بن العاص: "يا عبد الله، كيف بك إذا
بقيت في حثالة من الناس، مرجت عهودهم وأماناتهم وصار الناس هكذا"! - وشبك
بين أصابعه -، قال عبد الله: فقلت: مرني يا رسول الله، فقال: "خذ ما تعرف،
ودع ما لا تعرف، وعليك بخويصة نفسك ". الأصل: وأمر بالمعروف تكن من أهله، وأنكر
المنكر بيدك ولسانك، وباين من فعله بجهدك، وجاهد في الله حق جهاده، ولا تأخذك في
الله لومة لائم. قوله رضي الله عنه : أو أن انقص في رأي هذا يدل على بطلان
قول من قال: إنه لا يجوز أن ينقص في رأيه، وإن الإمام معصوم عن أمثال ذلك، وكذلك
قوله للحسن: أو يسبقني إليك بعض غلبات الهوى وفتن الدنيا يدل على أن الإمام لا
يجب أن يعصم عن غلبات الهوى، ولا عن فتن الدنيا.
ومثل هو رضي الله عنه قلب الحدث بالأرض الخالية، ما ألقي
فيها من شيء قبلته، وكان يقال: التعلم في الصغر كالنقش في الحجر، والتعلم في
الكبر كالخط في الماء. قوله رضي الله عنه: حيث عناني من امرك أي أهمني، قال:
عناني من صدودك ما عنا قوله: وأجمعت عليه أي عزمت. ومقتبل الدهر، يقال: اقتبل الغلام فهو مقتبل بالفتح وهو من
الشواذ، ومثله أحصن الرجل إذا تزوج فهو محصن، وإذا عف فمحصن أيضاً، وأسهب إذا
أطال الحديث فهو مسهب، وألفج إذا افتقر فهو ملفج، وينبغي أن يكون له من قوله:
تنبيهك له بمعنى عليه، أوتكون على أصلها، أي ما كرهت تنبيهك لأجله. ثم ردهم آخر ذلك إلى الأخذ بما عرفوا، و الإمساك عما لم
يكلفوا، فإن أبت نفسك أن تقبل ذلك دون أن تعلم كما علموا، فليكن طلبك ذلك بتفهم
وتعلم، لا بتورط الشبهات، وعلق الخصومات.
ويجوز
أن يقال: كما علموا الآن بعد موتهم، فإنهم بعد الموت يكونون
عالمين بجميع ما يشتبه علمه على الناس في الحياة الدنيا، لأن المعارف ضرورية بعد
الموت، والنفوس باقية على قول كثير من المسلمين وغيرهم. واعلم أنه قد
أوصاه إذا هم بالشروع في النظر بمحض ما ذكره المتكلمون، وذلك أمور: منها أن يرغب إلى الله في توفيقه وتسديده. الشرح:
قد تعلق بهذه اللفظة وهو قوله: أوما شاء مما لا تعلم، قوم من التناسخية، وقالوا:
المعني بها الجزاء في الهياكل التي تنتقل النفوس إليها. وليس ما قالوه
بظاهر، ويجوز أن يريد رضي الله عنه أن
الله تعالى قد يجازي المذنب في الدنيا بنوع من العقوبة، كالأسقام والفقر
وغيرهما، والعقاب وإن كان مفعولاً على وجه الأستحقاق والإهانة فيجوز لمستحقه وهو
الباري أن يقتصر منه على الإ يلام فقط، لأن الجميع حقه، فله أن يستوفي البعض
ويسقط البعض، وقد روي أو بما شاء بالباء الزائدة، وروي بما لا يعلم. و اما
الثواب فلا يجوز أن يجازي به المحسن في الدنيا، لأنه على صفة لا يمكن أن تجامع
التكليف، فيحمل لفظ الجزاء على جزاء العقاب خاصة. ثم
قال له: إنما خلقت في مبدأ خلقتك جاهلاً، فلا تطلبن نفسك غآية من العلم لا وصول لها إليها، أو لها
إليها وصول بعد أمور صعبة، ومتاعب شديدة، فمن خلق جاهلاً حقيق أن يكون
جهله مدة عمره أكثر من علمه استصحاباً للأصل. وقوله: لم
آلك نصحا لم أقصر في نصحك، إلى الرجل في كذا يألو. أي قصر فهو آل والفعل لازم،
ولكنه حذف اللام فوصل الفعل إلى الضمير فنسبه، وكان
أصله لا آلو لك نصحاً، منصوب على التمييز، وليس
كما قاله الراوندي إن انتصابه على أنه مفعول ثان، فإنه إلى مفعول واحد لا يتعدى،
فكيف إلى اثنين! ويقول هذه امرأة آلية أي مقصرة وجمعها أوال، وفي المثل: الأحظية فلا ألية، أصله في المرأة تصلف
عند بعلها، فتوصى حيث فاتتها الحظوة إلا تألوه في التودد إليه والتحبب إلى قلبه. أحدهما
أنه لوكان في الوجود ثان للبارىء تعالى لما كان القول بالوحدانية حقاً، بل كان
الحق هو القول بالتثنية، ومحال ألا يكون ذلك الثاني حكيماً، ولو كان الحق هو
إثبات ثان حكيم لوجب أن يبعث رسولاً يدعو المكلفين إلى التثنية، لأن الأنبياء
كلهم دعوا إلى التوحيد، لكن التوحيد على هذا الفرض ضلال، فيجب على الثاني الحكيم
أن يبعث من ينبه المكلفين على ذلك الضلال ويرشدهم إلى الحق وهو إثبات الثاني،
وإلا كان منسوباً في إهمال ذلك إلى السفه واستفساد المكلفين، وذلك لا يجوز،
ولكنا ما أتانا رسول يدعو إلى إثبات ثان في الألهية فبطل كون القول بالتوحيد
ضلالأ، وإذا لم يكن ضلالأ كان حقاً، فنقيضه وهو القول بإثبات الثاني باطل. أما إثبات الثاني من مجرد الفعل فباطل، لأن الفعل إنما
يدل على فاعل ولا يدل على التعدد، و أما صفات أفعاله وهي كون أفعاله محكمة متقنة، فإن الأحكام الذي نشاهده
إنما يدل على عالم ولا يدل على التعدد، وأما صفات ذات البارىء فالعلم بها فرع
على العلم بذاته، فلو أثبتنا ذاته بها لزم الدور.
ومنها:
ومنها:
ومنها:
ومنها:
ومنها:
ومنها:
الأصل: يا بني، إني قد أنباتك عن الدنيا وحالها، وزوالها وانتقالها،
وأنبأتك عن الآخرة وما أعد لأهلها، وضربت لك فيهما الأمثال، لتعتبر بها، وتحذو
عليها. الشرح:
جاء في الحديث المرفوع: "لا يكمل إيمان عبد
حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ويكره لأخيه ما يكره لنفسه ". وقال
بعض الأسارى لبعض الملوك: إفعل معي ما تحب أن يفعل الله معك،
فاطلقه، وهذا هومعنى قوله رضي الله عنه: ولا
تظلم كما لا تحب أن تظلم. فقال: إن
بين يديك طريقاً بعيد المسافة، شديد المشقة ومن سلك طريقاً فلا غنى له عن أن
يرتاد لنفسه، ويتزود من الزاد قدر ما يبلغه الغآية، وأن يكون خفيف الظهر في سفره
ذلك، فإياك أن تحمل من المال ما يثقلك، ويكون وبالأ عليك، وإذا وجدت من الفقراء
والمساكين من يحمل ذلك الثقل عنك فيوافيك به غداً وقت الحاجة فحمله إياه، فلعلك
تطلب مالك فلا تجده. جاء في الحديث المرفوع:
"خمس من أتى الله بهن أو بواحدة منهن أوجب له الجنة: من سقى هامة صادية، أو
أطعم كبداً هافية، أو كسا جلدةً عارية، أو حمل قدماً حافية، أو أعتق رقبةً
عانية". الأصل: واعلم
أن الذي بيده خزائن السموات والأرض قد أذن لك في الدعاء، وتكفل لك بالأجابة، و
امرك أن تسأله ليعطيك، وتسترحمه ليرحمك، ولم يجعل بينه وبينك من يحجبك عنه، ولم
يلجئك إلى من يشفع لك إليه ولم يمنعك إن أسأت من التوبة، ولم يعاجلك بالنقمة،
ولم يفضحك حيث تعرضت للفضيحة، ولم يشدد عليك في قبول الآنابة، ولم يناقشك
بالجريمة، ولم يؤيسك من الرحمة، بل جعل نزوعك عن الذنب حسنة، وحسب سيئتك واحدة،
وحسب حسنتك عشراً. وفتح لك باب
المتاب، وباب الأستعتاب، فإذا ناديته سمع نداك، وإذا ناجيته علم نجواك، فأفضيت
إليه بحاجتك، وأبثثته ذات نفسك، وشكوت إليه همومك، واستكشفته كروبك، واستعنته
على امورك وسألته من خزائن رحمته ما لا يقدر على إعطائه غيره، من زيادة الأعمار،
وصحة الأبدان، وسعة الأرزاق. وربما سألت
الشيء فلا تعطاه، وأوتيت خيراً منه عاجلاً أو أجلاً، أو صرف عنك لما هو خير لك،
فلرب أمر قد طلبته فيه هلاك دينك لوأوتيته، فلتكن مسألتك فيما يبقى لك جماله،
وينفى عنك وباله، فالمال لا يبقى لك، ولا تبقى له. الشرح: قد تقدم القول في الدعاء، قوله: بل جعل نزوعك عن الذنب
حسنة، هذا متفق عليه بين أصحابنا، وهو أن
تارك القبيح لأنه قبيح يستحق الثواب.
ويروى: من يحجبه عنك. وروي: حيث الفضيحة أي حيث الفضيحة موجودة
منك. الشرح: يقول: هذا منزل قلعة، بضم القاف وسكون اللام، أي ليس
بمستوطن، ويقال: هذا مجلس قلعة، إذا كان صاحبه يحتاج إلى أن يقوم مرة بعد مرة. ويقال أيضاً: هم على قلعة، أي على رحلة، والقلعة أيضاً: هو المال
العارية، وفي الحديث: بئس المال القلعة، وكله يرجع إلى معنى واحد. والعاهة: الأفة، أعاه القوم أصابت ماشيتهم العاهة. واستقرأني أبو الفرج محمد بن عباد رحمه الله وأنا يومئذ حدث هذه الوصية
فقرأتها عليه من حفظي، فلما وصلت إلى هذا الموضع صاح صيحة شديدة، وسقط - وكان
جباراً قاسي القلب. في وصف الدنيا وفناء
الخلق. واعلم أنا قدمنا في
وصف الدنيا والفناء والموت من محاسن كلام الصالحين والحكماء ما فيه الشفاء،
ونذكر الآن أشياء أخر. وقال بعضهم: لا وجه لمقاساة الهموم لأجل الدنيا ولا الأعتداد بشيء من
متاعها، ولا التخلي منها، أما ترك الأهتمام لها، فمن جهة أنه لا سبيل إلى دفع
الكائن من مقدورها، وأما ترك الأعتداد بها، فإن مرجع كل أحد إلى تركها، وأما ترك
التخلي عنها فإن الآخرة لا تدرك إلا بها.
الأصل: واعلم يا بني أن من كانت مطيته الليل والنهار، فإنه يسار به
وإن كان واقفاً، ويقطع المسافة وإن كان مقيماً وادعاً. وما خير خير لا ينال
إلا بشر، ويسر لا ينال إلا بعسر. وقال الشاعر:
وقال آخر:
وقال آخر:
وقال أبو محمد اليزيدي في المأمون:
وقال آخر:
وقال آخر:
وكان يقال: ما استغنى أحد بالله إلا افتقر الناس إليه.
أبو العتاهية:
وأوصى بعض الأدباء ابنه فكتب إليه:
أبوالعتاهية:
وأوصى زياد ابنه عبيد الله عند موته، فقال: لا تدنسن عرضك، ولا تبذلن وجهك، ولا
تخلقن جدتك بالطلب إلى من إن ردك رده عليك عيباً، وإن قضى حاجتك جعلها عليك
مناً، واحتمل الفقر بالتنزه عما في أيدي الناس، والزم القناعة بما قسم لك، فإن
سوء عمل الفقير يضع الشريف، ويخمل الذكر، ويوجب الحرمان. والعقل حفظ التجارب،
وخير ما جربت ما وعظك. بادر الفرصة، قبل أن تكون غصةً، ليس كل طالب يصيب، ولا كل
غائب يئوب، ومن الفساد إضاعة الزاد، ومفسدة المعاد. ولكل أمر عاقبة. سوف يأتيك
ما قدر لك. الشرح: هذا الكلام قد اشتمل على أمثال كثيرة
حكمية، أولها قوله: تلافيك ما فرط من صمتك
أيسر من إدراكك ما فات من منطقك. وهذا مثل قولهم: أنت قادر على أن تجعل صمتك كلاماً،
ولست بقادر على أن تجعل كلامك صمتاً، وهذا حق، لأن الكلام يسمع وينقل، فلا
يستطاع إعادته صمتاً، والصمت عدم الكلام، فالقادر على الكلام قادر على أن يبدله
بالكلام، وليس الصمت بمنقول ولا مسموع فيتعذر إستدراكه.
وثالثها قوله: مرارة اليأس خير من
الطلب إلى الناس، من هذا أخذ الشاعر قوله:
وقال البحتري:
ورابعها قوله: الحرفة مع العفة خيرمن الغنى مع الفجور، والحرفة بالكسر مثل
الحرف بالضم، وهو نقصان الحظ وعدم المال. ومنه قوله: رجل محارف، بفتح الراء، يقول: لأن يكون المرء هكذا وهو عفيف
الفرج واليد، خير من الغنى مع الفجور، وذلك لأن ألم الحرفة مع العفة ومشقتها
إنما هي في أيام قليلة وهي أيام العمر، ولذة الغنى إذا كان مع الفجور، ففي مثل
تلك الأيام يكون، ولكن يستعقب عذاباً طويلاً، فالحال الأولى خير لا محالة، وأيضاً ففي الدنيا خير أيضاً للذكر الجميل فيها، والذكر
القبيح في الثانية، وللمحافظة على المروءة في الأولى وسقوط المروءة في
الثانية.
وسادسها قوله: رب ساع فيما يضره، قال عبد
الحميد الكاتب في كتابه إلى أبي مسلم: لو أراد الله بالنملة صلاحاً، لما
أنبت لها جناحاً.
وهذا مثل قولهم: من كثر كلامه كثر سقطه. وقالوا أيضاً: قلما سلم مكثار، أو
أمن من عثار.
وعاشرها قوله: بئس الطعام الحرام، هذا من قوله تعالى: "إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون
في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً.
فأمرت بمحوه، قال: يا أمير المؤمنين، كان ولقد كان نبياً فأمرت بإزالته، فقال: كذبت كانت القاف أصح من عينك الصحيحة، ثم قال: والله لولا أن أقيم لك عند العامة سوقاً
لأحسنت تأديبك، قال: يا أمير المؤمنين، قد
ترى ما أنا عليه من الضعف والزمانة والهرم وقلة البصر، فإن عاقبتني مظلوماً فاذكر قول ابن عمك علي رضي الله عنه: ظلم الضعيف أفحش الظلم، وإن عاقبتني
بحق، فاذكر أيضاً قوله: لكل شيء رأس، والحلم رأس السؤدد. فنهض المأمون من مجلسه وأمر برده إلى البصرة، ولم يصله بشيء،
ولم يحضر أحد قط مجلس المأمون إلا وصله عدا الخطابي، وليس هذا هو المحدث الحافظ
المشهور، ذاك أبو سليمان أحمد بن محمد بن أحمد البستي، كان في أيام المطيع
والطائع، وهذا قاص بالبصرة كان يقال له أبو زكريا
سليمان بن محمد البصري.
وفي المثل: إن الحديد بالحديد يفلح، وقال زهير:
وقال أبوالطيب:
وثالث عشرها قوله: وربما كان الدواء داء، والداء دواء، هذا مثل قول أبي الطيب:
ومثله قول أبي نواس:
ومثل قول الشاعر:
ورابع عشرها قوله: ربما نصح غير الناصح، وغش
المستنصح. كان المغيرة بن شعبة يبغض علياً رضي الله عنه منذ أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتأكدت بغضته إلى أيام أبي بكر
وعثمان وعمر، وأشار عليه يوم بويع بالخلافة أن يقر معاوية على الشام مدة يسيرة،
فإذا خطب له بالشام وتوطأت دعوته دعاه إليه كما كان عمر وعثمان يدعوانه إليهما،
وصرفه فلم يقبل، وكان ذلك نصيحة من عدو كاشح.
ومن كلامهم: ثلاثة تخلق العقل، وهو أوضح دليل على
الضعف: طول التمني وسرعة الجواب، والإستغراب في الضحك. وكان يقال: التمني
والحلم سيان. وقال آخر: وشرف
الفتى ترك المنى.
ويكرر ذلك، فأوجس عبيد الله خيفة ونهض، فعاد إلى قصر
الإمارة، وفات مسلماً منه ما كان يؤمله بإضاعة الفرصة، حتى صار أمره إلى ما صار.
والثانية كقول عبيد:
العشرون قوله: من الفساد، إضاعة الزاد، ومفسدة المعاد، ولا ريب أن من كان
في سفر وأضاع زاده، وأفسد الحال التي يعود إليها فإنه أحمق، وهذا مثل ضربه
للإنسان في حالتي دنياه وآخرته. وقال الفرزدق:
وقال أبو عثمان الجاحظ: رأينا بالبصرة أخوين، كان أبوهما يحب أحدهما ويبغض الآخر، فأعطى محبوبه
يوم موته كل ماله - وكان أكثر من مائتي درهم - ولم يعط الآخر شيئاً، وكان يتجر
في الزيت، ويكتسب منه ما يصرفه في نفقة عياله، ثم رأينا أولاد الأخ الموسر بعد
موت الأخوين من عائلة ولد الأخ المعسر يتصدقون عليهم من فواضل أرزاقهم. ولن لمن غالظك فإنه يوشك أن يلين لك، وخذ على عدوك بالفضل
فإنه أحد الظفرين، وإن أردت قطيعة أخيك فاستبق له من نفسك بقيةً يرجع إليها إن
بدا له ذلك يوماً ما. ومن ظن بك خيراً فصدق ظنه، ولا تضيعن حق أخيك إتكالأ على ما
بينك وبينه، فإنه ليس لك بأخ من أضعت حقه. ولا يكن أهلك أشقى الخلق بك. ولا ترغبن فيمن زهد عنك، ولا
يكونن أخوك أقوى على قطيعتك منك على صلته، ولا تكونن علىالإساءة أقوى منك على
الإحسان. ولا يكبرن عليك ظلم
من ظلمك، فإنه يسعى في مضرته ونفعك، وليس جزاء من سرك أن تسؤه.
ومن الكلمة الثانية أخذ الشاعر قوله:
وثانيها قوله: ساهل الدهر ما ذل لك قعوده، هذا استعارة، والقعود البكر حين
يمكن ظهره من الركوب إلى أن يثني، ومثل هذا المعنى قولهم في المثل: من ناطح
الدهر أصبح أجم.
ومثله:
وثالثها قوله: لا تخاطر بشيء رجاء أكثر منه، هذا مثل
قولهم: من طلب الفضل، حرم الأصل. وكان يقال: اللجاج من القحة، والقحة من قلة الحياء، وقلة الحياء من قلة
المروءة، وفي المثل: لج صاحبك فحج. وروي عن اللطف وهو الرفق للأمر، والمعنى أنه أوصاه إذا قطعه
أخوه أن يصله، وإذا جفاه أن يبره، وإذا بخل عليه أن يجود عليه، إلى آخر الوصاة.
وقال الشاعر:
وسادسها قوله: لا تتخذن عدو صديقك صديقا فتعادي صديقك، قد قال الناس في
هذا المعنى فأكثروا، قال بعضهم:
وقال آخر:
وقال آخر:
وسابعها قوله: و امحض أخاك النصيحة، حسنة كانت أو قبيحة، ليس يعني رضي الله عنه بقبيحة ههنا القبيح الذي يستحق به الذم والعقاب، وإنما يريد
نافعة له في العاجل كانت أو ضارة له في الأجل، فعبر عن النفع والضرر بالحسن
والقبيح، كقوله تعالى: "وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم
يقنطون".
وكنت كاتباً بديوان الخلافة، والوزير حينئذ نصير الدين أبو
الأزهر أحمد بن الناقد رحمه الله،
فوصل إلى حضرة الديوان في سنة اثنتين وثلاثين وستمائة
محمد بن محمد أمير البحرين على البر، ثم وصل بعده الهرمزي صاحب هرمز في دجلة
بالمراكب البحرية - وهرمز هذه فرضة في البحر نحو عمان - و امتلأت بغداد
من عرب محمد بن محمد وأصحاب الهرمزي - وكانت تلك الأيام أياماً غراء زاهرة لما
أفاض المستنصر على الناس من عطاياه، والوفود تزدحم من أقطار الأرض على أبواب
ديوانه - فكتبت يوم دخول الهرمزي إلى الوزير أبياتاً سنحت على البديهة، وأنا
متشاغل بما كنت فيه من مهام الخدمة، وكان رحمه الله
لا يزال يذكرها وبنشدها ويستحسنها:
وحادي عشرها قوله: إن أردت قطيعة أخيك فاستبق له من نفسك بقية يرجع إليها إن
بدا ذلك له يوماً، هذا مثل قولهم: أحبب
حبيبك هوناً ما، عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هوناً ما عسى أن يكون
حبيبك يوماً ما، وما كان يقال: إذا هويت فلا
تكن غالياً، وإذا تركت فلا تكن قالياً. وثاني عشرها قوله: من ظن بك خيراً فصدق ظنه، كثير من أرباب الهمم يفعلون هذا،
يقال لمن قد شدا طرفاً من العلم: هذا عالم، هذا فاضل، فيدعوه ما ظن فيه من ذلك
إلى تحقيقه، فيواظب على الأشتغال بالعلم حتى يصير عالماً فاضلاً حقيقة وكذلك
يقول الناس: هذا كثير العبادة، هذا كثير الزهد، لمن قد شرع في شيء من ذلك،
فتحمله أقوال الناس على الإلتزام بالزهد والعبادة.
وكان يقال: إضاعة الحقوق، داعية العقوق.
وقد قال الشعراء المتقدمون والمتأخرون فأكثروا، نحو قولهم:
وقول تأبط شراً:
وخامس عشرها قوله: لا يكونن أخوك أقوى على قطيعتك منك على صلته، ولا تكونن على
الإساءة أقوى منك على الإحسان. هذا أمر له بأن يصل من قطعه، وأن يحسن إلى من أساء إليه. وقوله رضي الله عنه :وليس جزاء من سرك أن تسوءه، يقول: لا
تنتقم ممن ظلمك فإنه قد نفعك في الآخرة بظلمه لك، وليس جزاء من ينفع إنساناً أن
يسيء إليه. وهذا مقام جليل لا يقدر عليه إلا الأفراد من الأولياء الأبرار. وقبض بعض الجبابرة على صالحين، فحبسهم وقيدهم، فلما طال
عليهم الأمر زفر بعضهم زفرة شديدة، ودعا على ذلك الجبار، فقال له بعض أولاده -
وكان أفضل أهل زمانه في العبادة. وكان مستجاب الدعوة: لا تدع عليه فتخفف من
عذابه، قالوا: يا فلان، ألا ترى ما بنا وبك! لا يأنف ربك لنا! قال: إن لفلان
مهبطاً في النار لم يكن ليبلغه إلا بما ترون، وإن لكم لمصعداً في الجنة لم
تكونوا لتبلغوه ألا بما ترون. قالوا: فقد نال منا العذاب والحديد، فادع الله لنا أن يخلصنا وينقذنا مما نحن فيه، قال:
إني لأظن أني لو فعلت لفعل، ولكن والله لا أفعل حتى أموت هكذا، فألقى الله فأقول
له: أي رب سل فلاناً لم فعل بي هذا، ومن الناس من يجعل قوله رضي الله عنه : ليس جزاء من سرك أن تسوءه، كلمة مفردة مستقلة بنفسها، ليست
من تمام الكلام الأول، والصحيح ما ذكرناه. ما أقبح الخضوع عند الحاجة، والجفاء عند الغنى! إنما لك من
دنياك، ما أصلحت به مثواك، وإن كنت جازعاً على ما تفلت من يديك، فاجزع على كل ما
لم يصل إليك. استدل على ما لم يكن بما قد كان، فإن الأمور أشباه، ولا
تكونن ممن لا تنفعه العظة إلا إذا بالغت في إيلامه، فإن العاقل يتعظ بالأداب،
والبهائم لا تتعظ إلا بالضرب. والصاحب مناسب،
والصديق من صدق غيبه، والهوى شريك العمى، ورب بعيد أقرب من قريب، وقريب أبعد من
بعيد، والغريب، من لم يكن له حبيب. ومن لم يبالك فهو عدوك، قد يكون اليأس إدراكاً، إذا كان
الألمع. دخل عماد الدولة أبو الحسن بن بويه شيراز بعد
أن هزم ابن ياقوت عنها،
وهو فقير لا مال له، فساخت إحدى قوائم فرسه في الصحراء في الأرض، فنزل عنها
وابتدرها غلمانه فخلصوها، فظهر لهم في ذلك الموضع نقب وسيع، فأمرهم بحفره،
فوجدوا فيه أموالأ عظيمة، وذخائر لابن ياقوت، ثم استلقى يوماً آخر على ظهره في
داره بشيراز التي كان ابن ياقوت يسكنها، فرأى حية في السقف، فأمر غلمانه بالصعود
إليها وقتلها، فهربت منهم، ودخلت في خشب الكنيسة فأمر أن يقلع الخشب وتستخرج
وتقتل، فلما قلعوا الخشب وجدوا فيه أكثر من خمسين ألف دينار ذخيرة لابن ياقوت.
ومنها قوله: إنما لك من دنياك، ما أصلحت به مثواك، هذا من كلام رسول
الله صلى الله عليه وسلم : "يابن آدم، ليس لك من مالك إلا ما أكلت فافنيت، أو
لبست فأبليت، أو تصدقت فأبقيت".
ومنها قوله: وإن كنت جازعاً على ما تفلت من يديك، فاجزع على كل ما لم
يصل إليك، يقول: لا ينبغي أن تجزع على ما ذهب من مالك، كما لا ينبغي أن تجزع على
ما فاتك من المنافع والمكاسب، فإنه لا فرق بينهما، إلا أن هذا حصل، وذاك لم يحصل
بعد، وهذا فرق غير مؤثر، لأن الذي تظن أنه حاصل لك غير حاصل في الحقيقة، وإنما
الحاصل على الحقيقة ما أكلته ولبسته، وأما القنيات والمدخرات فلعلها ليست لك،
كما قال الشاعر:
ومنها قوله: استدل على ما لم يكن بما كان، فإن للأمور أشباها يقال: إذا
شئت أن تنظر للدنيا بعدك فانظرها بعد غيرك، وقال
أبو الطيب في سيف الدولة:
ومنها قوله: ولا تكونن ممن لا تنفعه العظة، إلى قوله: إلا بالضرب، هو قول الشاعر:
وكان يقال: اللئيم كالعبد، والعبد كالبهيمة عتبها ضربها. هذا كلام شريف فصيح عظيم النفع والفائدة، وقد أخذ عبد الله بن الزبير بعض هذه الألفاظ فقال في خطبته
لما ورد عليه الخبر بقتل مصعب أخيه: لقد جاءنا
من العراق خبر أحزننا وسرنا، جاءنا خبر قتل مصعب، فأما سرورنا فلأن ذلك كان له شهادة، وكان لنا إن شاء الله خيرة،
وأما الحزن فلوعة يجدها الحميم عند فراق حميمه، ثم
يرعوي بعدها ذو الرأي إلى حسن الصبر وكرم العزاء.
ومنها قوله: الصديق من صدق غيبه، من ههنا أخذ أبو نواس قوله في
المنهوكة:
ومنها قوله: الهوى شريك العمى، هذا مثل قولهم: حبك الشيء يعمي ويصم قال
الشاعر:
ومنها قوله: رب بعيد أقرب من قريب، وقريب أبعد من بعيد، هذا معنى مطروق،
قال الشاعر:
وقال الأحوص:
وقال البحتري:
ومنها قوله: والغريب من لم يكن له حبيب، يريد بالحبيب ههنا المحب لا
المحبوب. قال الشاعر:
ومنها قوله: من تعدى الحق ضاق مذهبه، يريد بمذهبه ههنا طريقته، وهذه
استعارة، ومعناه أن طريق الحق لا مشقة فيها لسالكها، وطرق الباطل فيها المشاق
والمضار، وكأن سالكها سالك طريقة ضيقة يتعثر فيها، ويتخبط في سلوكها.
ومنها قوله: أوثق سبب أخذت به، سبب بينك وبين الله سبحانه، هذا من قول الله تعالى: "فمن
يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا أنفصام لها". ومنها قوله: فمن لم يبالك فهو عدوك، أي لم يكترث بك، وهذه الوصاة خاصة
بالحسن رضي الله عنه
و امثاله من الولاة وأرباب الرعايا،
وليست عامة للسوقة من أفناء الناس، وذلك لأن الوالي إذا أنس من بعض رعيته أنه لا
يباليه ولا يكترث به، فقد أبدى صفحته، ومن أبدى لك صفحته فهو عدوك، و اما غير
الوالي من أفناء الناس، فليس أحدهم إذا لم يبال الآخر
بعدو له.
والمعنى: ربما كان بلوغ الأمل في الدنيا والفوز بالمطلوب منها سبباً
للهلاك فيها، وإذا كان كذلك، كان الحرمان خيراً من الظفر. ومن الأمثال الحكمية: أبدأ بالحسنة قبل السيئة، فلست
بمستطيع للحسنة في كل وقت وأنت على الإساءة متى شئت قادر.
وقالوا: احذر الدنيا ما استقامت لك. ومن الأمثال الحكمية: من أمن
الزمان ضيع ثغراً مخوفاً". ومثل الكلمة الثانية قولهم: الدنيا كالأمة اللئيمة
المعشوقة، كلما ازددت لها عشقاً وعليها تهائكاً ازدادت لك إذلالأ، وعليك
شطاطاً".
ومنها قوله: ليس كل من رمى أصاب هذا معنى مشهور، قال أبو الطيب:
ومنها قوله: إذا تغير السلطان، تغير الزمان، في كتب الفرس أن أنوشروان
جمع عمال السواد وبيده درة يقلبها، فقال: أي
شيء أضر بارتفاع السواد وأدعى إلى محقه، أيكم قال ما في نفسي جعلت هذه الدرة في
فيه، فقال بعضهم: انقطاع الشرب، وقال بعضهم:
احتباس المطر، وقال بعضهم: استيلاء الجنوب
وعدم الشمال، فقال لوزيره: قل أنت فإني أظن
عقلك يعادل عقول الرعية كلها أو يزيد عليها، قال:
تغير رأي السلطان في رعيته، وإضمار الحيف لهم، والجور عليهم، فقال: لله أبوك! بهذا العقل أهلك آبائي وأجداًدي
لما أهلوك له. ودفع إليه الدرة فجعلها في فيه. وإياك والتغاير في غير موضع غيرة، فإن ذلك يدعو الصحيحة إلى
السقم، والبريئة إلى الريب، واجعل لكل إنسان من خدمك عملاً تأخذه به، فإنه أحرى
ألا يتواكلوا في خدمتك، وأكرم عشيرتك، فإنهم جناحك الذي به تطير، وأصلك الذي
إليه تصير، ويدك التي بها تصول، استوح الله دينك ودنياك، وأسأله خير القضاء لك
في العاجلة والآجلة، والدنيا والآخرة. والسلام.
ونحن معه نجري إلى غاية إن قصرنا عنها ذممنا، وإن اجتهدنا في
بلوغها انقطعنا، وإنما نحن شعب من أصل، إن قوي قوينا، وإن ضعف ضعفنا، إن هذا
الرجل قد ألقى بيده إلقاء الأمة الوكعاء، يشاور النساء، ويعتزم على الرؤيا، قد
أمكن أهل الخسارة واللهو من سمعه، فهم يمتونه الظفر، ويعدونه عقب الأيام،
والهلاك أسرع إليه من السيل إلى قيعان الرمل. قوله رضي الله عنه: فإن رأيهن إلى أفن، الأفن بالسكون: النقص، والمتأفن: المتنقص،
يقال: فلان يتأفن فلاناً، أي يتنقصه ويعيبه. ومن رواه إلى أفن بالتحريك فهو ضعف
الرأي، أفن الرجل يأفن أفناً أي ضعف رأيه، وفي
المثل: إن الرقين تغطي أفن الأفين، والوهن: الضعف. كان لبعضهم بنت حسناء، فحج بها، وكان يعصب عينيها،
ويكشف للناس وجهها، فقيل له في ذلك، فقال: إنما الحذر
من رؤيتها الناس، لا من رؤية الناس لها. وروى الزبير بن بكار، قال: كانت الخيزران كثيراً ما تكلم موسى ابنها -
لما استخلف - في الحوائج، وكان يجيبها إلى كل ما
تسأل، حتى مضت أربعة أشهر من خلافته وتتالى الناس عليها، وطمعوا فيها،
فكانت المواكب تغدو إلى بابها، وكلمته يوماً في أمر فلم يجد إلى إجابتها سبيلاً،
واحتج عليها بحجة فقالت: لا بد من إجابتي، فقال:
لا أفعل، قالت: إني قد ضمنت هذه الحاجة لعبد
الله بن مالك، فغضب موسى وقال: ويلي على ابن
الفاعلة! قد علمت أنه صاحبها، والله لا قضيتها لك ولا له! قالت: والله لا أسألك
حاجة أبداً، قال: إذن والله لا أبالي، فقامت مغضبة، فقال: مكانك تستوعبي كلامي،
وأنا والله برىء من قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لئن بلغني أنه وقف أحد من قوادي
وخاصتي وخدمي وكتابي على بابك لأضربن عنقه، ولأقبضن ماله، فمن شاء فليلزم ذلك، ما هذه المواكب التي تغدو إلى بابك كل يوم! اما لك مغزل
يشغلك، أو مصحف يذكرك، أو بيت يصونك! إياك ثم إياك أن تفتحي فاك في حاجة لملي أو
ذمي، فانصرفت وما تعقل ما تطأ عليه، وتنطق عنده بحلوة ولا مرة بعدها حتى هلك. فلما دخل الوليد عليها أخبرها وهو يمازحها بمقالة
الحجاج، فقالت:
يا أمير المؤمنين، حاجتي أن تأمره غداً أن يأتيني
مسلماً، ففعل ذلك، فأتاها الحجاج فحجبته، فلم يزل قائماً، ثم أذنت له،
فقالت: يا حجاج، أنت الممتن على أمير المؤمنين بقتلك
ابن الزبير وابن الأشعث! أما والله لولا أن الله
علم أنك شر خلقه ما ابتلاك برمي الكعبة الحرام
ولا بقتل ابن ذات النطاقين، أول مولود في دار هجرة الإسلام! وأما نهيك
أمير المؤمنين عن مفاكهة النساء وبلوغ لذاته وأوطاره، فإن كن ينفرجن عن مثلك فما أحقه بالأخذ منك! وإن كن ينفرجن عن مثله فهو غير قابل لقولك، أما والله لقد نقض نساء
أمير المؤمنين الطيب من غدائرهن فبعنه في أعطية أهل الشام حين كنت في أضيق من
قرن، قد أظلتك رماحهم، وأثخنك كفاحهم، وحين كان أمير المؤمنين أحب إليهم من
أبنائهم وآبائهم، فأنجاك الله من عدو أمير المؤمنين بحبهم إياه، قاتل الله القائل حين ينظر إليك، وسنان غزالة بين كتفيك:
قم فاخرج، فقام فخرج. أقوال الشعراء في الغيرة. فأما قوله
رضي الله عنه:
إياك والتغاير في غير موضع غيرة، فقد قيل هذا المعنى، قال بعض المحدثين:
وكان مسكين الدارمي أحد من
يستهجن الغيرة، ويستقبح وقوعها في غير محلها، فمن شعره
في هذا المعنى:
وقال أيضاً:
وقال أيضاً:
فأما قوله: واجعل لكل إنسان من خدمك عملاً تأخذه له، فقد قالت الحكماء هذا المعنى، قال أبرويز في وصيته
لولده شيرويه: وانظر إلى كتابك، فمن كان منهم ذا ضياع قد أحسن عمارتها فوله
الخراج، ومن كان منهم ذا عبيد قد أحسن سياستهم وتثقيفهم فوله الجند، ومن كان
منهم ذا سراري وضرائر قد أحسن القيام عليهن فوله النفقات والقهرمة، وهكذا فاصنع
في خدم دارك، ولا تجعل أمرك فوضى بين خدمك فيفسد عليك ملكك.
فقال سليمان: هذ المدح لي أم لك! قال: لي
ولك يا أمير المؤمنين، فغضب سليمان وقال: قم فأتمم، ولا تنشد بعده إلا قائماً، فقال الفرزدق: لا والله أو يسقط إلىالأرض أكثري شعراً.
فقال سليمان: ويلي على الأحمق ابن الفاعلة! لا
يكني، وارتفع صوته، فسمع الضوضاء بالباب، فقال سليمان:
ما هذا، قيل: بنو تميم على الباب، قالوا: لا
ينشد الفرزدق قائماً وأيدينا في مقابض سيوفنا، قال: فلينشد قاعداً. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وفود
الوليد بن جابر على معاوية.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وروى أبو عبيد الله محمد بن موسى بن عمران
المرزباني، قال:
كان الوليد بن جابر بن ظالم الطائي ممن وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم، ثم صحب عليا رضي الله عنه، وشهد معه صفين، وكان من رجاله المشهورين،
ثم وفد على معاوية في الإستقامة، وكان معاوية لا يثبته، معرفة بعينه، فدخل عليه
في جملة الناس، فلما انتهى إليه استنسبه ، فانتسب له، فقال:
أنت صاحب ليلة الهرير، قال: نعم، قال: والله ما
تخلو مسامعي من رجزك تلك الليلة، وقد علا صوتك أصوات الناس، وأنت تقول:
قال:
نعم، أنا قائله. قال: فلماذا قلتها، قال: لأنا كنا مع رجل لا نعلم خصلة توجب الخلافة، ولا
فضيلة تصير إلى التقدمة، إلا وهي مجموعة له، كان أول
الناس سلماً، وأكثرهم علماً، وأرجحهم حلماً، فات الجياد فلا يشق غباره، يستولي
على الأمد فلا يخاف عثاره، وأوضح منهج الهدى فلا يبيد مناره، وسلك القصد فلا
تدرس آثاره، فلما ابتلانا الله تعالى بافتقاده، وحول الأمر إلى من يشاء
من عباده، دخلنا في جملة المسلمين فلم ننزع يداً عن
طاعة، ولم نصدع صفاة جماعة، على أن لك منا ما ظهر، وقلوبنا بيد الله، وهو
املك بها منك، فاقبل صفونا، وأعرض عن كدرنا، ولا تزكوا
من الأحقاد، فإن النار تقدح بالزناد . قال
معاوية: وإنك لتهددني يا أخا طيىء بأوباش العراق أهل النفاق، ومعدن
الشقاق! فقال:
يا معاوية هم الذين أشرقوك بالريق، وحبسوك في المضيق، وذادوك عن سنن الطريق، حتى
لذت منهم بالمصاحف، ودعوت إليها من صدق بها وكذبت، و امن بمنزلها وكفرت، وعرف من
تأويلها ما أنكرت. فغضب معاوية وأدار طرفه فيمن حوله فإذا جلهم من مضر ونفر قليل من اليمن، فقال: أيها
الشقي الخائن، إني لإخال أن هذا آخر كلام تفوه به
- وكان عفير بن سيف بن ذي يزن بباب معاوية حينئذ -
فعرف موقف الطائي ومراد معاوية، فخافه عليه، فهجم عليهم الدار، أقبل على اليمانية، فقال: شاهت
الوجوه ذلاً وقلاً، وجدعاً وفلاً، كشم الله هذه الآنف كشماً مرعباً. ثم
التفت إلى معاوية، فقال: إني والله يا معاوية ما أقول قولي هذا
حباً لأهل العراق، ولا جنوحاً إليهم، ولكن الحفيظة تذهب الغضب، لقد رأيتك بالأمس، خاطبت أخا ربيعة - يعني صعصعة بن صوحان.
وهو أعظم جرماً عندك من هذا، وأنكأ لقلبك، وأقدح في صفاتك، وأجد في عداوتك، وأشد
انتصاراً في حربك، ثم أثبته وصحته، وأنت الآن مجمع على قتل هذا - زعمت - استصغاراً لجماعتنا! فإنا لا نمر
ولا نحلي، ولعمري لو وكلتك أبناء قحطان إلى قومك لكان جدك العاثر، وذكرك الداثر،
وحدك المفلول، وعرشك المثلول، فأربع على ظلعك ، واطونا على بلالتنا، ليسهل لك
حزننا، ويتطامن لك شاردنا، فإنا لا نرام بوقع الضيم،
ولا نتلمظ جرع الخسف، ولا نغمز بغماز الفتن، ولا نذر على الغضب. فقال معاوية: الغضب شيطان، فاربع نفسك أيها الإنسان، فإنا لم نأت إلى صاحبك
مكروهاً، ولم نرتكب منه مغضباً، ولم ننتهك منه محرماً، فدونكه فإنه لم يضق عنه
حلمنا ويسع غيره. فأخذ عفير بيد الوليد، وخرج به إلى منزله، وقال له: والله لتؤوبن بأكثر مما آب به معدي من
معاوية. وجمع من بدمشق من اليمانية، وفرض على كل رجل دينارين في عطائه، فبلغت
أربعين ألفاً، فتعجلها من بيت المال، ودفعها إلى
الوليد، ورده إلى العراق. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن
كتاب له إلى معاوية
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
وأرديت
جيلاً من الناس كثيراً، خدعتهم بغيك، وألقيتهم في موج بحرك، تغشاهم الظلمات،
وتتلاطم بهم الشبهات، فجاروا عن وجهتهم، ونكصوا على أعقابهم، وتولوا على
أدبارهم، وعولوا على أحسابهم، إلا من فاء من أهل البصائر، فإنهم فارقوك بعد معرفتك،
وهربوا إلى الله من موازرتك، إذ حملتهم على الصعب، وعدلت بهم عن القصد، فاتق
الله يا معاوية في نفسك، وجاذب الشيطان قيادك. فإن الدنيا منقطعة عنك، والآخرة
قريبة منك، والسلام. الكتب
المتبادلة بين علي علته السلام ومعاوية. وأول
هذا الكتاب: من عبد الله علي أمير المؤمنين رضي الله عنه إلى
معاوية بن أبي سفيان، أما بعد، فإن الدنيا دار تجارة، وربحها أو خسرها الآخرة،
فالسعيد من كانت بضاعته فيها الأعمال الصالحة، ومن رأى الدنيا بعينها، وقدرها
بقدرها! وإني لأعظك مع علمي بسابق العلم فيك مما لا مرد
له دون نفاذه، ولكن الله تعالى أخذ على العلماء أن
يؤدوا الأمانة، وأن ينصحوا الغوي والرشيد، فاتق الله، ولا تكن ممن لا يرجو لله
وقاراً، ومن حقت عليه كلمة العذاب، فإن الله بالمرصاد. وإن دنياك ستدبر
عنك، وستعود حسرة عليك، فأقلع عما أنت عليه من الغي
والضلال. على كبر سنك وفناء عمرك،
فإن حالك اليوم كحال الثوب المهيل الذي لا يصلح من جانب
إلا فسد من آخر، وقد أرديت جيلً من الناس كثيراً، خدعتهم بغيك. إلى آخر
الكتاب. ولعمري ليتمن
النور على كرهك، ولينفذن العلم بصغارك، ولتجازين بعملك، فعث في دنياك المنقطعة
عنك ما طاب لك، فكأنك بباطلك وقد انقضى، وبعملك وقد
هوى، ثم تصير إلى لظى، لم يظلمك الله شيئاً، وما ربك بظلام للعبيد! قال: فكتب إليه
معاوية: أما بعد، فما أعظم الرين على قلبك، والغطاء على بصرك! الشره من
شيمتك، والحسد من خليقتك، فشمر للحرب، واصبر للضرب، فوالله ليرجعن الأمر إلى ما
علمت، والعاقبة للمتقين. هيهات هيهات! أخطأك
ما تمنى، وهوى قلبك مع من هوى، فاربع على ظلعك، وقس شبرك بفترك، لتعلم
أين حالك من حال من يزن الجبال حلمه، ويفصل بين أهل الشك علمه. والسلام. قال: فكتب إليه علي رضي الله عنه : أما بعد،
فإن مساوئك مع علم الله تعالى فيك حالت بينك
وبين أن يصلح لك أمرك، وأن يرعوي قلبك، يابن
الصخر اللعين! زعمت أن يزن الجبال حلمك، ويفصل بين أهل الشك علمك، وأنت الجلف المنافق، الأغلف
القلب، القليل العقل، الجبان الرذل، فإن كنت
صادقاً فيما تسطر، ويعينك عليه أخو بني سهم، فدع الناس جانباً، وتيسر لما
دعوتني إليه من الحرب، والصبر على الضرب، واعف الفريقين
من القتال، ليعلم أينا المرين على قلبه، المغطى على بصره، فأنا أبو الحسن، قاتل جدك وأخيك وخالك، وما أنت منهم ببعيد،
والسلام! قلت: وأعجب وأطرب ما جاء به الدهر - وإن كانت عجائبه وبدائعه جمة - أن يفضي أمر علي رضي الله عنه إلى أن يصير معاوية نداً له ونظيراً مماثلاً، يتعارضان الكتاب والجواب، ويتساويان
فيما يواجه به أحدهما صاحبه، ولا يقول له علي رضي الله عنه كلمة
إلا قال مثلها، وأخشن مساً منها، فليت محمداً صلى الله عليه وسلم كان شاهد ذلك، ليرى عياناً
لا خبراً أن الدعوة التي قام بها، وقاسى أعظم المشاق في تحملها، وكابد الأهوال
في الذب عنها، وضرب بالسيوف عليها لتأييد دولتها، وشيد أركانها، وملأ الأفاق
بها، خلصت صفواً عفواً لأعدائه الذين
كذبوه، لما دعا إليها، وأخرجوه عن أوطانه لما حض عليها، وأدموا وجهه، وقتلوا عمه
وأهله، فكأنه كان يسعى لهم، ويدأب لراحتهم، كما قال أبو
سفيان في أيام عثمان، وقد مر بقبر حمزة، وضر به برجله، وقال: يا أبا عمارة! إن
الأمر الذي اجتلدنا عليه بالسيف أمسى في يد غلماننا اليوم يتلعبون به! ثم
آل الأمر إلى أن يفاخر معاوية علياً، كما يتفاخر الأكفاء والنظراء.
ثم أقول ثانياً لأمير المؤمنين رضي الله عنه: ليت شعري، لماذا
فتح باب الكتاب والجواب بينه وبين معاوية! وإذا كانت الضرورة قد قادت إلى
ذلك، فهلا اقتصر في الكتاب إليه على الموعظة من غير
تعرض للمفاخرة والمنافرة! وإذا كان لا بد منهما فهلا
اكتفى بهما من غير تعرض لأمر آخر يوجب المقابلة والمعارضة بمثله، وبأشد منه:
"ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا
الله عدواً بغير علم" وهلا دفع هذا الرجل
العظيم الجليل نفسه عن سباب هذا السفيه الأحمق، هذا مع أنه القائل: من واجه الناس بما يكرهون قالوا فيه ما لا يعلمون!
أي افتروا عليه وقالوا فيه الباطل.
وهكذا جرى في القنوت واللعن،
قنت بالكوفة على معاوية، ولعنه في الصلاة وخطبة الجمعة،
وأضاف إليه عمرو بن العاص وأبا موسى وأبا الأعور السلمي
وحبيب بن مسلمة، فبلغ ذلك معاوية بالشام، فقنت
عليه، ولعنه بالصلاة، وخطبة الجمعة، وأضاف إليه الحسن والحسين وابن عباس والأشتر
النخعي، ولعله رضي الله عنه
قد كان يظهر له من المصلحة
حينئذ ما يغيب عنا الآن،
ولله أمر هو بالغه! |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن
كتاب له إلى قثم بن العباس وهو عامله على مكة.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
أما بعد، فإن عيني بالمغرب كتب إلي يعلمني أنه وجه إلى الموسم أناس من أهل الشام،
العمي القلوب، الصم الأسماع، الكمه الأبصار، الذين يلبسون الحق بالباطل، ويطيعون
المخلوق في معصية الخالق، ويحتلبون الدنيا درهاً بالدين، ويشترون عاجلها بآجل
الأبرار المتقين، ولن يفوز بالخير إلا عامله، ولا يجزى جزاء الشر إلا فاعله. الشرح: كان معاوية قد بعث إلى مكة دعاة في
السر يدعون إلى طاعته، ويثبطون العرب عن نصرة
أمير المؤمنين، ويوقعون في أنفسهم أنه إنما قاتل لعثمان أو خاذل، وأن
الخلافة لا تصلح فيمن قتل أو خذل، وينشرون عندهم محاسن معاوية بزعمهم وأخلاقه
وسيرته، فكتب أمير المؤمنين رضي الله عنه هذا الكتاب إلى عامله بمكة،
ينبهه على ذلك
ليعتمد فيه بما تقتضيه السياسة، ولم يصرح في هذا الكتاب
بما يأمره أن يفعل إذا ظفر بهم. ودرهاً منصوب بالبدل
من الدنيا وروي: الذين يلتمسون الحق بالباطل أي يطلبونه، أي يتبعون معاوية وهو
على الباطل إلتماساً وطلباً للحق، ولا يعلمون أنهم قد ضلوا.
من أخبار قثم بن العباس. فأما قثم بن العباس، فأمه أم إخوته، وروى ابن عبد البر في كتاب الأستيعاب عن عبد الله بن جعفر،
قال: كنت أنا وعبيد الله وقثم ابنا العباس نلعب،
فمر بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم راكباً،
فقال: "ارفعوا إلي هذا الفتى" -يعني
قثم - فرفع اليه! فأردفه خلفه، ثم جعلني بين يديه،
ودعا لنا، فاستشهد قثم بسمرقند. قال: وكان قثم يشبه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفيه يقول داود بن مسلم:
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن
كتاب له إلى محمد ابن أبي بكرلما بلغه توجده من عزله بالأشتر عن مصر، ثم توفي
الأشتر قبل وصوله إليها.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
أما بعد، فقد بلغني موجدتك من تسريح الأشتر إلى عملك. وإني لم أفعل ذلك استبطاء لك في الجهد، ولا
ازدياداً لك في الجد، ولو نزعت ما تحت يدك من سلطانك، لوليتك ما هو أيسر عليك
مؤونة، وأعجب إليك ولآية. الشرح: ام محمد رحمه الله أسماء بنت عميس
الخثعمية: وهي أخت
ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ،
وأخت لبابة أم الفضل وعبد الله زوج العباس بن عبد
المطلب، وكانت من المهاجرات إلى أرض الحبشة،
وهي إذ ذاك تحت جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، فولدت له هناك محمد بن جعفر وعبد
الله وعوناً، ثم هاجرت معه إلى المدينة،
فلما قتل جعفر يوم مؤتة تزوجها أبو بكر، فولدت له محمد بن
أبي بكر هذا، ثم مات عنها فتزوجها علي رضي الله عنه،
وولدت له يحيى بن علي، لا خلاف في ذلك. وقال ابن عبد البر في الأستيعاب: ذكر ابن الكلبي أن عون بن علي أسم أمه أسماء بنت عميس، ولم يقل ذلك
أحد غيره.
فأما في الحزن فلا يقال إلا وجدت أنا بالفتح لا
غير. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن
كتاب له إلى عبد الله بن العباس بعد مقتل محمد بن أبي بكر.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
أما بعد، فإن مصر قد افتتحت، ومحمد بن أبي بكر رحمه الله قد استشهد، فعند الله
نحتسبه ولداً ناصحاً، وعاملاً كادحاً، وسيفاً قاطعاً، وركناً دافعاً. الشرح:
انظر إلى الفصاحة كيف تعطي هذا الرجل قيادها، وتملكه زمامها، وأعجب لهذه الألفاظ
المنصوبة، يتلو بعضها بعضاً كيف تواتيه وتطاوعه، سلسة سهلة، تتدفق من غير تعسف
ولا تكلف، حتى انتهى إلى آخر الفصل فقال: يوماً واحداً، ولا ألتقي بهم أبداً،
وأنت وغيرك من الفصحاء إذا شرعوا في كتاب أوخطبة، جاءت القرائن والفواصل تارة مرفوعة، وتارة مجرورة، وتارة منصوبة، فإن
أرادوا قسرها بإعراب واحد ظهر منها في التكلف أثر بين، وعلامة واضحة، وهذا الصنف من البيان أحد أنواع الإعجاز في القرآن، ذكره عبد
القاهر، قال: انظر إلى سورة النساء
وبعدها سورة المائدة، الأولى منصوبة الفواصل، والثانية ليس
فيها منصوب أصلاً، ولو مزجت إحدى السورتين بالأخرى لم تمتزجا، وظهر أثر التركيب والتأليف بينهما. ثم إن فواصل كل واحد منهما تنساق سياقة بمقتفى
البيان الطبيعي لا الصناعة التكلفية. ثم
انظر إلى الصفات والموصوفات في هذا الفصل، كيف قال:
ولداً ناصحاً، وعاملاً كادحاً، وسيفاً قاطعاً، وركناً دافعاً، لو قال: ولداً كادحاً وعاملاً ناصحاً، وكذلك ما بعده لما كان صواباً، ولا في الموقع واقعاً، فسبحان من منح
هذا الرجل هذه المزايا النفيسة والخصائص الشريفة! أن
يكون غلام من أبناء عرب مكة، ينشأ بين أهله، لم يخالط الحكماء، وخرج أعرف
بالحكمة ودقائق العلوم الإلهية من أفلاطون وأرسطو! ولم يعاشر أرباب الحكم
الخلقية والأداب النفسانية، لأن قريشاً لم يكن أحد منهم مشهوراً بمثل ذلك، وخرج
أعرف بهذا الباب من سقراط! ولم يرب بين الشجعان، لأن أهل مكة كانوا ذوي تجارة،
ولم يكونوا ذوي حرب، وخرج أشجع من كل بشر مشى على الأرض، قيل لخلف
الأحمر: أيهما أشجع عنبسة وبسطام ام علي بن أبي
طالب، فقال: إنما يذكر عنبسة وبسطام مع البشر
والناس، لا مع من يرتفع عن هذه الطبقة، فقيل له:
فعلى كل حال. قال: والله
لو صاح في وجوههما لماتا قبل أن يحمل عليهما. وخرج أفصح من سحبان وقس، ولم تكن قريش بأفصح العرب، كان غيرها
أفصح منها، قالوا: أفصح العرب جرهم وإن لم تكن
لهم نباهة. وخرج أزهد الناس في الدنيا، وأعفهم، مع
أن قريشاً ذوو حرص ومحبة للدنيا، ولا غرو فيمن كان محمد
صلى الله عليه وسلم مربيه ومخرجه، والعنآية الإلهية تمده وترفده أن يكون منه ما كان! يقال: احتسب ولده، إذا مات كبيراً، وافترط
ولده، إذا مات صغيراً. والمعنى
أن حاله كانت مناسبة لحال النبي صلى
الله عليه وسلم،
ومن تذكر أحوالهما وسيرتهما، وما جرى لهما إلى أن قبضا، علم تحقيق ذلك. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن
كتاب له إلى أخيه عقيل بن أبي طالب في ذكر جيش أنفذه إلى بعض الأعداء، وهو جواب
كتاب كتبه إليه عقيل.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
فسرحت إليه جيشاً كثيفاً من المسلمين، فلما بلغه ذلك شمر هارباً، ونكص نادماً،
فلحقوه ببعض الطريق وقد طفلت الشمس للإياب، فاقتتلوا شيئاً كلا ولا، فما كان إلا
كموقف مساعة حتى نجا جريضاً، بعد ما أخذ منه بالمخنق، ولم يبق معه غير الرمق،
فلأياً بلأي ما نجا. ولا تحسبن ابن أبيك - ولو أسلمه الناس - متضرعاً متخشعاً،
ولا مقراً للضيم واهناً، ولا سلس الزمام للقائد، ولا وطىء الظهر للراكب المقتعد،
ولكنه كما قال أخو بني سليم:
الشرح: قد تقدم ذكر هذا الكتاب في
اقتصاصنا ذكر حال بسر بن أرطأة وغارته على اليمن في أول الكتاب. وهذا الخطاب إنما هو على قدر أفهام العرب، كانوا
يعتقدون أن الشمس منزلها ومقرها تحت الأرض، وأنها
تخرج كل يوم فتسير على العالم، ثم تعود إلى منزلها، فتأوي
إليه كما يأوي الناس ليلاً إلى منازلهم.
وفي شعر الكميت كلا وكذا تغميضة.
قال الأصمعي: ويقال: هو يجرض بنفسه، أي يكاد يموت، ومنه قول امرىء القيس:
وأجرضه الله بريقه: أغصه. قوله:
فدع عنك قريشاً إلى قوله:
على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا الكلام حق، فإن قريشاً
اجتمعت على حربه منذ يوم بويع بغضاً له وحسداً وحقداً عليه، فأصفقوا كلهم يداً
واحدة على شقاقه وحربه، كما كانت حالهم في ابتداء الإسلام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم تخرم حاله من حاله أبداً إلا ن
ذاك عصمه الله من القتل، فمات موتاً طبيعياً، وهذا اغتاله إنسان فقتله. قوله: فجزت قريشا عني الجوازي، فقد قطعوا رحمي، وسلبوني سلطان ابن
أمي، هذه كلمة تجري مجرى المثل، تقول لمن يسيء
إليك وتدعو عليه: جزتك عني الجوازي! يقال جزاه
الله بما صنع، وجازاه الله بما صنع! ومصدر الأول جزاء، والثاني
مجازاة، وأصل الكلمة أن الجوازي جمع جازية
كالجواري جمع جارية، فكأنه يقول: جزت
قريشاً عني بما صنعت لي كل خصلة من نكبة أو شدة أو مصيبة أو جائحة، أي جعل الله هذه الدواهي كلها جزاء قريش بما صنعت بي. وسلطان ابن أمي، يعني به الخلافة، وابن أمه هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنهما
ابنا فاطمة بنت عمرو بن عمران بن عائد بن مخزوم، أم عبد الله وأبي طالب،
ولم يقل سلطان ابن أبي، لأن غير أبي طالب من الأعمام
يشركه في النسب إلى عبد المطلب.
أي من لا ذمة له ومن له ذمة، وكذلك قول خالد بن
يزيد بن معاوية في زوجته رملة بنت الزبير بن العوام:
أي ناقضة العهد أخت المحارب في الحرم، أو أخت ناقض بيعة بني
أمية. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن
كتاب له عليه السلام إلى معاوية.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
فسبحان الله! ما أشد لزومك للأهواء المبتدعة، والحيرة المتبعة، مع تضييع
الحقائق، واطراح الوثائق، التي هي لله تعالى طلبة، وعلى عباده حجة، فإما إكثارك
الحجاج على عثمان وقتلته، فإنك إنما نصرت عثمان حيث كان النصر لك، وخذلته حيث
كان النصر له. والسلام. وعزل عثمان من كان عمر ولاه ولم ينصب للناس
إمام إلا ليرى من صلاح الأمة إماماً قد كان ظهر لمن قبله، أو أخفى عنهم عيبه، و
الأمر يحدث بعده الأمر، ولكل وال رأي واجتهاد. فسبحان الله! ما أشد لزومك للأهواء المبتدعة، والحيرة المتبعة.. إلى آخر
الفصل. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن
كتاب له إلى أهل مصر لما ولى عليهم الأشتر.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
من عبد الله علي أمير المؤمنين، إلى القوم الذين غضبوا لله حين عصي في أرضه،
وذهب بحقه، فضرب الجور شرادقه على البر والفاجر، والمقيم والظاعن، فلا معروف
يستراح إليه، ولا منكر يتناهى عنه. يبقى
أن يقال: هب أن الأمر كما تأولت، فهؤلاء الذين غضبوا لله إلى
ماذا الأمرهم، أليس الأمر آل إلى أنهم قطعوا المسافة من مصر إلى المدينة فقتلوا
عثمان! فلا تعدو حالهم أمرين، أما أن يكونوا أطاعوا
الله بقتله فيكون عثمان عاصياً مستحقاً للقتل، أو يكونوا أسخطوا الله تعالى
بقتله فعثمان إذاً على حق، وهم الفساق العصاة، فكيف
يجوز أن يبجلهم أو يخطبهم خطاب الصالحين! ويمكن أن يجاب عن ذلك بأنهم
غضبوا لله، وجاؤوا من مصر، وأنكروا على عثمان تأميره الأمراء الفساق، وحصروه في
داره طلباً أن يدفع إليهم مروان ليحبسوه، أو يؤدبوه على ما كتبه في أمرهم، فلما حصر طمع فيه مبغضوه وأعداؤه من أهل المدينة وغيرها،
وصار معظم الناس إلباً عليه، وقل عدد المصريين بالنسبة إلى ما اجتمع من الناس
على حصره ومطالبته بخلع نفسه، وتسليم مروان وغيره من بني أمية إليهم، وعزل
عماله، والأستبدال بهم، ولم يكونوا حينئذ يطلبون نفسه، ولكن
قوماً منهم ومن غيرهم تسوروا داره، فرماهم بعض عبيده بالسهام فجرح بعضهم، فقادت
الضرورة إلى النزول والأحاطة به، وتسرع إليه واحد منهم فقتله. ثم إن ذلك
القاتل قتل في الوقت، وقد ذكرنا ذلك فيما تقدم،
وشرحناه، فلا يلزم من فسق ذلك القاتل وعصيانه أن يفسق الباقون، لأنهم ما
أنكروا إلا المنكر، و أما القتل فلم يقع
منهم، ولاراموه ولا أرادوه، فجاز أن يقال: إنهم
غضبوا لله، وأن يثني عليهم ويمدحهم.
ثم أمرهم أن يطيعوه فيما يأمرهم به مما يطابق الحق، وهذا من
شدة دينه وصلابته رضي الله عنه،
لم يسامح نفسه في حق أحب الخلق إليه أن يهمل هذا القيد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق
". وجاز أن يقول: إنه لا يفعل شيئاً إلا عن أمري، وإن كان لا يراجعه في الجزئيات على عادة العرب في مثل ذلك،
لأنهم يقولون فيمن يثقون له نحو ذلك، وقد ذهب كثير من الأصوليين إلى أن
الله تعالى قال لمحمد صلى الله عليه وسلم: احكم مما شئت في الشريعة، فإنك لا تحكم إلا بالحق،
وإنه كان يحكم من غير مراجعته لجبرائيل، وإن الله تعالى قد قال في حقه: "وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى"،
وإن كان رضي الله عنه قال هذا القول عن الأشتر،
لأنه قد قرر معه بينه وبينه ألا يعمل شيئاً قليلاً ولا كثيراً إلا بعد مراجعته، فيجوز. ولكن هذا بعيد، لأن المسافة طويلة بين العراق ومصر، وكانت الأمور هناك تقف
وتفسد. ثم ذكر أنه آثرهم على نفسه، وهكذا قال عمر لما
أنفذ عبد الله بن مسعود إلى الكوفة في كتابه إليهم: قد آثرتكم به على
نفسي، وذلك أن عمر كان يستفتيه في الأحكام، وعلي
رضي الله عنه كان يصول على الأعداء بالأشتر، ويقوي أنفس جيوشه بمقامه
بينهم، فلما بعثه إلى مصر كان مؤثراً لأهل مصر به على نفسه. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن
كتاب له إلى عمرو بن العاص
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: فإنك
قد جعلت دينك تبعاً لدنيا امرىء ظاهر غيه، مهتوك ستره، يشين الكريم بمجلسه،
ويسفه الحليم بخلطته، فاتبعت أثره، وطلبت فضله، اتباع الكلب للضرغام يلوذ
بمخالبه، وينتظر ما يلمى إليه من فضل فريسته. فأذهبت دنياك وآخرتك، ولو بالحق
أخذت أدركت ما طلبت. الشرح:
كل ما قاله فيهما هو الحق الصريح بعينه، لم يحمله بغضه لهما، وغيظه منهما، إلى
أن بالغ في ذمهما به، كما يبالغ الفصحاء عند سورة الغضب، وتدفق الألفاظ على
الألسنة، ولا ريب عند أحد من العقلاء ذوي الآنصاف
أن عمراً جعل دينه تبعاً لدنيا معاوية، وأنه ما بايعه وتابعه إلا على جعالة
جعلها له، وضمان تكفل له بإيصاله، وهي ولآية مصر مؤجلة، وقطعة وافرة من المال
معجلة، ولولديه وغلمانه ما ملأ أعينهم. أما مهتوك ستره، فإنه
كان كثير الهزل والخلاعة، صاحب جلساء وسمار، ومعاوية لم يتوقر، ولم يلزم
قانون الرياسة إلا منذ خرج على أمير المؤمنين،
واحتاج إلى الناموس والسكينة، وإلا فقد كان في أيام
عثمان شديد التهتك، موسوماً بكل قبيح، وكان في
أيام عمر يستر نفسه قليلاً خوفاً منه، إلا أنه
كان يلبس الحرير والديباج، ويشرب في آنية الذهب والفضة، ويركب البغلات
ذوات السروج المحلاة بها، وعليها جلال الديباج والوشي،
وكان حينئذ شاباً، وعنده نزق الصبا، وأثر الشبيبة، وسكر
السلطان و الأمرة، ونقل الناس عنه في كتب السيرة
أنه كان يشرب الخمر في أيام عثمان في الشام، و أما بعد وفاة أمير
المؤمنين واستقرار الأمر له فقد اختلف فيه، فقيل: إنه شرب الخمر في ستر، وقيل:
إنه لم يشربه. ولا خلاف في أنه سمع الغناء وطرب عليه، وأعطى ووصل عليه أيضاً. فقال: مهلاً، فإن الكريم طروب! أما قوله: يشين الكريم
بمجلسه، ويسفه الحليم بخلطته: فالأمر كذلك، فإنه
لم يكن في مجلسه إلا شتم بني هاشم وقذفهم، والتعرض بذكر الإسلام، والطعن عليه،
وإن أظهر الآنتماء إليه. و أما طلب عمرو فضله
واتباعه أثره أتباع الكلب للأسد فظاهر، ولم يقل: الثعلب، غضاً من قدر عمرو، وتشبيهاً له
بما هو أبلغ في الإهانة والاستخفاف. وكتب علي رضي الله عنه إلى عمرو بن العاص: من عبد الله
علي أمير المؤمنين إلى الأبتر عمرو بن العاص بن وائل،
شانىء محمد وآل محمد في الجاهلية والإسلام، سلام
على من اتبع الهدى، أما بعد، فإنك تركت مروءتك
لامرىء فاسق مهتوك ستره، يشين الكريم بمجلسه، ويسفه الحليم بخلطته، فصار قلبك
لقلبه تبعاً، كما قيل: وافق شن طبقة
فسلبك دينك و أمانتك ودنياك وآخرتك، وكان علم الله
بالغاً فيك، فصرت كاالذئب يتبع الضرغام
إذا ما الليل دجى، أو أتى الصبح يلتمس فاضل سؤره ، وحوايا فريسته، ولكن لا نجاة من القدر، ولو بالحق أخذت لأدركت ما رجوت، وقد
رشد من كان الحق قائده، فإن يمكن الله منك ومن ابن آكلة
الأكباد، ألحقتكما بمن قتله الله من ظلمة قريش على عهد رسول الله صلى
الله عليه وسلم، وإن تعجزا
وتبقيا بعد، فالله حسبكما، وكفى بانتقامه انتقاماً، وبعقابه عقاباً والسلام. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن
كتاب له إلى بعض عماله
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
أما بعد، فقد بلغني عنك أمر إن كنت فعلته فقد أسخطت ربك، وعصيت إمامك، وأخزيت
أمانتك. بلغني أنك
جردت الأرض فأخذت ما تحت قدميك، وأكلت ما تحت يديك، فارفع إلي حسابك، وأعلم أن
حساب الله أعظم من حساب الناس، والسلام. فقضى عمر
عليه، ثم قام فخطب الناس، وحرم الهدايا على الولاة والقضاة. قال أنس بن أبي إياس الدؤلي لحارثة بن بدر الغداني - وقد ولي
سرق - ويقال إنها لأبي الأسود:
فيقال: إنها بلغت حارثة بن بدر فقال: أصاب الله به الرشاد،
فلم يعد بإشارته ما في نفسي! |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن
كتاب له إلى بعض عماله
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
أما بعد، فإني أشركتك في أمانتي، وجعلتك شعاري وبطانتي، ولم يكن في أهلي رجل
أوثق منك في نفسي، لمواساتي وموازرتي، وأداء الأمانة إلي، فلما رأيت الزمان على ابن عمك قد كلب، والعدو قد حرب، وامانة
الناس قد خزيت، وهذه الأمة قد فتكت وشغرت،
قلبت لابن عمك ظهر المجن، ففارقته مع المفارقين، وخذلته
مع الخاذلين، وخنته مع الخائنين، فلا ابن عمك أسيت، ولا الأمانة أديت. فاتق
الله واردد إلى هؤلاء القوم أموالهم، فإنك إن لم تفعل ثم أمكنني الله منك،
لأعذرن إلى الله فيك، ولأضربنك بسيفي الذي ما ضربت به إحداً إلا دخل النار، ووالله لو أن الحسن والحسين فعلا مثل الذي فعلت، ما كانت لهما
عندي هوادة، ولا ظفرا مني بإرادة، حتى أخذ الحق منهما، وأزيح الباطل عن
مظلمتهما. الشرح: أشركتك في
أمانتي: جعلتك شريكاً فيما قمت فيه من الأمر، وائتمنني الله عليه من سياسة
الأمة، وسمى الله تعالى التكليف أمانة في قوله: "إنا عرضنا الأمانة". فأما
قوله:
وأداء الأمانة إلي فأمر آخر، ومراده بالأمانة الثانية
ما يتعارفه الناس من قولهم: فلان ذو أمانة، أي لا يخون فيما سند إليه. وقد
اختلف الناس في المكتوب إليه هذا الكتاب، فقال الأكثرون: إنه عبد الله بن
العباس رحمه الله، ورووا في ذلك روايات،
واستدلوا عليه بألفاظ من ألفاظ الكتاب كقوله: أشركتك في أمانتي، وجعلتك
بطانتي وشعأري ، وأنه لم يكن في أهلي رجل أوثق منك، وقوله:
على ابن عمك قد كلب، ثم قال ثانياً: قلبت لابن
عمك ظهر المجن ثم قال ثالثاً: ولابن عمك آسيت، وقوله: لا أبا لغيرك، وهذه
كلمة لا تقال إلا لمثله، فإما غيره من أفناء الناس، فإن علياً رضي الله
عنه كان يقول: لا أبا لك. وإن صرفته إلى عبد الله بن عباس صدني عنه ما أعلمه من ملازمته لطاعة أمير المؤمنين رضي الله عنه في
حياته وبعد وفاته. وان صرفته إلى غيره لم
أعلم إلى من أصرفه من أهل أمير المؤمنين رضي الله عنه،
والكلام يشعر بأن الرجل المخاطب من أهله وبني عمه،
فأنا في هذا الموضع من المتوقفين! |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن
كتاب له إلى عمر بن أبي سلمة المخزومي وكان عامله علي البحرين، فعزله واستعمل
النعمان بن عجلان الزرقي مكانه.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: أما بعد، فإني وليت النعمان بن عجلان الزرقي على البحرين، ونزعت يدك بلا ذم لك، ولا تثريب عليك،
فلقد أحسنت الولآية، وأديت الأمانة، فأقبل غير ظنين ولا
ملوم، ولا متهم ولا مأثوم، فقد أردت المسير إلى ظلمة أهل الشام، وأحببت أن تشهد معي، فإنك ممن أستظهر به على جهاد
العدو، وإقامة عمود الدين، إن شاء الله.
قوله: ولا تثريب عليك، فالتثريب الاستقصاء
في اللوم، ويقال: ثربت عليه، وعربت عليه، إذا ًقبحت عليه والظنين:
المتهم، والظنة التهمة، والجمع الظنن، يقول: قد أظن زيد عمراً، و الألف ألف وصل،
والظاء مشددة والنون مشددة أيضاً، وجاء بالطاء المهملة أيضاً، أي اتهمه. وفي حديث ابن سيرين: لم يكن علي رضي الله عنه يظن في قتل عثمان، الحرفان مشددان وهو يفتعل من يظنن وأدغم، قال الشاعر:
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن
كتاب له عليه السلام إلى مصقلة بن هبيرة الشيباني وكان عامله علي أردشير خرة.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
بلغني عنك أمر إن كنت فعلته فقد أسخطت إلهك، وعصيت إمامك، إنك تقسم فيء المسلمين
- الذي حازته رماحهم وخيولهم، وأريقت عليه دماؤهم - فيمن اعتامك من أعراب قومك.
فوالذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، لئن كان ذلك حقأ. لتجدن
لك علي هواناً، ولتخفن عندي ميزاناً، فلا تستهن بحق ربك،
ولا تصلح دنياك بمحق دينك. فتكون من الأخسرين أعمالاً. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن
كتاب له عليه السلام إلى زياد بن أبيه، وقد بلغه أن معاوية كتب إليه يريد خديعته
باستلحاقه.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: وقد عرفت أن معاوية كتب إليك يستزل لبك، ويستفل غربك،
فاحذره فإنما هو الشيطان يأتي المرء من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله،
ليقتحم غفلته، ويستلب غرته. وقد كان من أبي سفيان في زمن عمر بن الخطاب فلتة من حديث
النفس، ونزغة من نزغات الشيطان، لا يثبت بها نسب، ولا يستحق بها إرث، والمتعلق
بها كالواغل المدفع، والنوط المذبذب. قال
الرضي رحمه الله تعالى: قوله عليه
السلام: الواغل، هو الذي يهجم على الشرب ليشرب
معهم وليس منهم، فلا يزال مدفعاً محاجزاً. والنوط
المذبذب: هو ما يناط برحل الراكب من قعب أو قدح،
أو ما أشبه ذلك، فهو أبداً يتقلقل إذا حث ظهره،
واستعجل سيره. ويستفل
غربك:
يحاول أن يفل حدك، أي عزمك، وهذا من باب المجاز.
ثم أمره أن
يحذره، وقال: إنه - يعني معاوية - كالشيطان يأتي المرء من كذا ومن كذا، وهو
مأخوذ من قول الله تعالى: "ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم
وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين"، قالوا في تفسيره: من بين أيديهم:
يطمعهم في العفو ويغريهم بالعصيان، ومن خلفهم: يذكرهم مخلفيهم، ويحسن لهم جمع
المال وتركه لهم، وعن أيمانهم: يحبب إليهم الرياسة والثناء، وعن شمائلهم: يحبب
إليهم اللهو واللذات. وقال
شفيق البلخي: ما من صباح إلا قعد لي الشيطان على أربعة مراصد:
من بين يدي، ومن خلفي، وعن يميني، وعن شمالي، أما من
بين يدي فيقول: لا تخف فإن الله غفور رحيم، فأقرأ: "وإني لغفاز لمن تاب و آمن وعمل صالحاً ثم
اهتدى"، وأما من خلفي فيخوفني الضيعة على مخلفي، فأقرأ: "وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها"،
و أما من قبل يميني فيأتيني من جهة الثناء، فأقرأ: "والعاقبة
للمتقين"، و أما من قبل شمالي فيأتيني من قبل الشهوات، فأقرأ:
"وحيل بينهم وبين ما يشتهون". من
جهة الآخرة، "وعن أيمانهم"، الحسنات، "وعن
شمائلهم"، أي يحثهم على طلب الدنيا، ويؤيسهم من الآخرة، ويثبطهم عن الحسنات، ويغريهم
بالسيئات. أخبار زياد بن أبيه.
وروى أبو عمر بن عبد البر في كتاب الأستيعاب عن
هاشم بن محمد بن السائب الكلبي عن أبيه، عن أبي صالح، عن ابن عباس، أن عمر بعث
زيادأ في إصلاح فساد واقع باليمن، فلما رجع من وجهه خطب عند عمر خطبة لم يسمع
مثلها - وأبو سفيان حاضر وعلي رضي الله عنه وعمرو بن العاص - فقال عمرو بن العاص: لله أبو هذا الغلام! لوكان قرشياً
لساق العرب بعصاه، فقال أبو سفيان: إنه لقرشي،
وإني لأعرف الذي وضعه في رحم أمه. فقال علي رضي الله عنه: ومن هو، قال: أنا، فقال: مهلاً يا
أبا سفيان، فقال أبو سفيان:
عنى بقوله: لولا خوف شخص: عمر بن
الخطاب.
فلما ورد الكتاب على زياد قام فخطب الناس، وقال: العجب من ابن آكلة الأكباد ، ورأس
النفاق! يهددني وبيني وبينه ابن عم رسول الله رضي الله عنه وزوج سيدة نساء العالمين،
وأبو السبطين، وصاحب الولآية والمنزلة و الأخاء في مائة ألف من المهاجرين
والأنصار والتابعين لهم بإحسان! أما والله لو تخطى هؤلاء أجمعين إلي لوجدني أحمر نحشاً
ضراباً بالسيف، ثم كتب إلى علي رضي الله عنه، وبعث بكتاب معاوية في
كتابه. وروى أبو جعفر محمد بن حبيب قال: كان علي رضي الله عنه، قد ولى زياداً قطعة من أعمال فارس،
واصطنعه لنفسه، فلما قتل علي رضي الله عنه بقي زياد في عمله، وخاف معاوية جانبه، وعلم صعوبة
ناحيته، وأشفق من ممالأته الحسن بن علي رضي الله
عنه. فكتب إليه: من أمير المؤمنين معاوية
بن أبي سفيان إلى زياد بن عبيد، أما بعد، فإنك
عبد قد كفرت النعمة، واستدعيت النقمة، ولقد كان الشكر أولى بك من الكفر، وإن
الشجرة لتضرب بعرقها، وتتفرع من أصلها، إنك - لا أم لك بل لا أب لك
- قد هلكت وأهلكت، وظننت أنك تخرج من قبضتي، ولا ينالك سلطاني،
هيهات! ما كل ذي لب يصيب رأيه، ولا
كل ذي رأي ينصح في مشورته.
أمس عبد واليوم أمير! خطة ما ارتقاها مثلك يابن
سمية، وإذا أتاك كتابي هذا فخذ الناس بالطاعة والبيعة، وأسرع الأجابة، فإنك إن تفعل فدمك حقنت، ونفسك تداركت، وإلا اختطفتك
بأضعف ريش ، ونلتك بأهون سعي، وأقسم قسماً مبروراً
ألا أوتى بك إلا في زمارة ، تمشي حافياً من أرض فارس إلى الشام حتى أقيمك في السوق، وأبيعك عبداً، وأردك إلى حيث كنت فيه
وخرجت منه. والسلام. دونه
الكلام اليوم، والجمع غداً، والمشورة بعد ذلك إن شاء الله. ثم نزل. فأما سبك لي فلولا حلم ينهاني عنك، وخوفي أن ادعى
سفيهاً، لأثرت لك مخازي لا يغسلها الماء. وأما تعييرك لي بسمية، فإن كنت ابن
سمية فأنت ابن جماعة، وأما زعمك أنك تختطفني بأضعف ريش، وتتناولني بأهون
سعي، فهل رأيت بازياً يفزعه صغير القنابر، أم هل
سمعت بذئب أكله خروف! فامض الآن لطيتك، واجتهد
جهدك، فلست أنزل إلا بحيث تكره، ولا أجتهد إلا فيما يسوءك، وستعلم أينا الخاضع لصاحبه. الطالع إليه. والسلام. قال: يا مغيرة، إن زياداً قد أقام بفارس يكش لنا كشيش الأفاعي، وهو رجل ثاقب الرأي، ماضي
العزيمة، جوال الفكر، مصيب إذا رمى، وقد خفت منه الآن
ما كنت آمنه إذ كان صاحبه حياً وأخشى ممالأته حسنًا، فكيف السبيل إليه، وما الحيلة في إصلاح رأيه، قال المغيرة: أنا له إن لم أمت، إن زياداً رجل يحب الشرف والذكر وصعود المنابر، فلو لاطفته
المسألة، وألنت له الكتاب، لكان لك أميل، وبك أوثق، فاكتب إليه وأنا الرسول.
وقد رأيت أن أعطف عليك، ولا أؤاخذك بسوء سعيك، وأن أصل رحمك،
وأبتغي الثواب في أمرك، فاعلم أبا المغيرة،
أنك لو خضت البحر في طاعة القوم فتضرب بالسيف حتى انقطع متنه لما ازددت منهم إلا
بعداً، فإن بني عبد شمس أبغض إلى بني هاشم من الشفرة
إلى الثور الصريع وقد أوثق للذبح - فارجع - رحمك الله - إلى أصلك، واتصل بقومك، ولا تكن
كالموصول بريش غيره ، فقد أصبحت ضال النسب. ولعمري ما فعل بك ذلك إلا
اللجاج، فدعه عنك، فقد أصبحت على بينة من أمرك، ووضوح من حجتك، فإن أحببت جانبي، ووثقت بي، فإمرة، وإن كرهت جانبي، ولم تثق بقولي، ففعل جميل لا علي ولا لي. والسلام. قال زياد: إني رجل صاحب أناة، ولي في أمري روية،
فلا تعجل علي، ولا تبدأني بشيء حتى أبدأك. ثم جمع الناس بعد يومين أو ثلاثة، فصعد المنبر فحمد الله
وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس: ادفعوا
البلاء ما اندفع عنكم، وارغبوا إلى الله في دوام العافية لكم، فقد نظرت في أمور الناس منذ قتل عثمان، وفكرت فيهم فوجدتهم
كالأضاحي، في كل عيد يذبحون، ولقد أفنى هذان اليومان - يوم الجمل وصفين - ما
ينيف على مائة ألف، كلهم يزعم أنه طالب حق، وتابع إمام، وعلى بصيرة من أمره،
فإن كان الأمر هكذا فالقاتل والمقتول في الجنة، كلا ليس
كذلك، ولكن أشكل الأمر، والتبس على القوم، وإني
لخائف أن يرجع الأمر كما بدأ، فكيف لامرىء بسلامة دينه! وقد نظرت في أمر الناس فوجدت أحد العاقبتين العافية،
وسأعمل في أموركم ما تحمدون عاقبته ومغبته، فقد حمدت
طاعتكم إن شاء الله ثم نزل.
فأعطاه معاوية جميع ما سأله، وكتب
إليه بخط يده ما وثق به، فدخل إليه الشام، فقربه وأدناه، وأقره على ولايته، ثم
استعمله على العراق. وروى علي بن محمد المدائني، قال: لما أراد معاوية استلحاق زياداً وقد
قدم عليه الشام جمع الناس وصعد المنبر، وأصعد زياداً معه فأجلسه بين يديه على
المرقاة التي تحت مرقاته، وحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
أيها الناس، إني قد عرفت نسبنا أهل البيت في زياد، فمن كان عنده شهادة فليقم
بها. فقام ناس فشهدوا أنه ابن أبي سفيان، وأنهم سمعوا ما أقر به قبل موته،
فقام أبو مريم السلولي - وكان خماراً في الجاهلية - فقال:
أشهد يا أمير المؤمنين أن أبا سفيان قدم علينا بالطائف، فأتاني فاشتريت له لحماً
وخمراً وطعاماً، فلما أكل قال: يا أبا مريم، اصب
لي بغياً، فخرجت فأتيت بسمية، فقلت لها: إن أبا
سفيان ممن قد عرفت شرفه وجوده، وقد أمرني أن أصيب له بغياً، فهل لك، فقالت: نعم،
يجيء الآن عبيد بغنمه - وكان راعياً - فإذا تعشى، ووضع رأسه أتيته. فرجعت إلى أبي سفيان فأعلمته، فلم نلبث أن جاءت تجر
ذيلها، فدخلت معه، فلم تزل عنده حتى أصبحت، فقلت له لما
انصرفت: كيف رأيت صاحبتك، قال: خير صاحبة، لولا ذفر في إبطيها. ثم مر به زياد من الغد في موكبه، فوقف عليه فسلم، وبكى أبو العريان، فقيل له: ما يبكيك، قال: عرفت صوت أبي لسفيان في صوت زياد.
فبلغ ذلك معاوية، فكتب إلى أبي العريان:
فلما قرىء كتاب معاوية على أبي العريان قال: اكتب جوابه يا غلام:
وروى أبو عثمان أيضاً، قال: كتب زياد إلى معاوية ليستأذنه في
الحج، فكتب إليه: إني قد أذنت لك واستعملتك
على الموسم، وأجزتك بألف ألف درهم. فبينا هو يتجهز إذ بلغ ذلك أبا بكرة أخاه - وكان
مصارماً له منذ لجلج في الشهادة على المغيرة بن شعبة أيام عمر لا يكلمه قد لزمته
أيمان عظيمة ألا يكلمه أبداً - فأقبل أبو بكرة يدخل القصر يريد زياداً، فبصر به الحاجب، فأسرع إلى زياد قائلاً: أيها الأمير، هذا أخوك أبو بكرة قد
دخل القصر، قال: ويحك، أنت رأيته! قال ها
هوذا قد طلع، وفي حجر زياد بني يلاعبه، وجاء أبو بكرة
حتى وقف عليه، فقال للغلام: كيف أنت يا غلام؟ إن
أباك ركب في الإسلام عظيماً زنى أمه، وانتفى من أبيه، ولا والله ما علمت سمية
رأت أبا سفيان قط، ثم أبوك يريد أن يركب ما هو أعظم من ذلك، يوافي الموسم
غداً، ويوافي أم حبيبة بنت أبي سفيان، وهي من أمهات المؤمنين، فإن جاء يستأذن
عليها فأذنت له، فاعظم بها فرية على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومصيبة! وإن هي منعته فأعظم بها على أبيك فضيحة! ثم انصرف، فقال جزاك الله يا أخي عن النصيحة خيراً، ساخطاً كنت أو
راضياً. ثم كتب إلى معاوية: إني قد اعتللت عن الموسم فليوجه إليه أمير المؤمنين من أحب، فوجه
عتبة بن أبي سفيان. فأما أبو عمر بن عبد البر في كتاب الأستيعاب
فإنه قال:
لما ادعى معاوية زياداً في سنة أربع وأربعين
وألحقه به أخا زوج ابنته من ابنه محمد بن زياد ليؤكد
بذلك صحة الأستلحاق، وكان أبو بكرة أخا زياد أمه، أمهما جميعاً سمية، فحلف ألا يكلم زياداً أبداً وقال: هذا زنى أمه، وانتفى من أبيه، ولا والله ما علمت لسمية
رأت أبا لسفيان قبل، ويله ما يصنع بأم حبيبة! أيريد أن يراها، فإن حجبته فضحته، وإن رأها فيا
لها مصيبة! يهتك من رسول الله حرمةً عظيمة! وحج زياد مع معاوية، ودخل المدينة فأراد الدخول
على أم حبيبة ثم ذكر قول أبي بكرة، فانصرف عن ذلك، وقيل: إن أم
حبيبة حجبته ولم تأذن له في الدخول عليها، وقيل: إنه حج ولم يرد المدينة من أجل قول أبي بكرة، وإنه قال: جزى الله أبا بكرة
خيراً فما يدع النصيحة في حال. فأقبل معاوية على مروان وقال: أخرج عنا هذا الخليع، فقال مروان: إي والله إنه لخليع ما يطاق، فقال معاوية: والله لولا حلمي وتجاوزي لعلمت أنه يطاق،
ألم يبلغني شعرة في وفي زياد! ثم قال مروان:
أسمعنيه، فأنشد:
ثم قال: والله لا أرضى عنه حتى يأتي
زياداً فيترضاه ويعتذر إليه، فجاء عبد الرحمن
إلى زياد معتذراً يستأذن عليه، فلم يأذن له، فأقبلت
قريش إلى زياد تكلمه في أمر عبد الرحمن، فلما دخل سلم، فتشاوس له زياد بعينه -
وكان يكسر عينه - فقال له زياد: أنت القائل ما قلت، قال عبد الرحمن: ما الذي قلت، قال: قلت ما لا يقال، قال: أصلح الله الأمير! إنه لا ذنب لمن أعتب، وإنما الصفح عمن أذنب، فاسمع مني
ما أقول، قال: هات، فانشده:
فقال زياد: أراك أحمق صرفاً شاعراً ضيع اللسان، يسوغ لك ريقك ساخطاً
ومسخوطاً، ولكنا قد سمعنا شعرك، وقبلنا عذرك، فهات
حاجتك، قال: تكتب إلى أمير المؤمنين بالرضا عني، قال: نعم، ثم دعا كاتبه
فكتب له بالرضا عنه، فأخذ كتابه ومضى حتى دخل على معاوية، فلما قرأه قال: لحا
الله زياداً، لم يتنبه لقوله:
ثم رضي عن عبد الرحمن ورده إلى حالته، و أما أشعار يزيد بن مفرغ الحميري وهجاؤه عبيد الله وعباداً، ابني
زياد بالدعوة فكثيرة مشهورة، نحو قوله:
ونحو قوله:
ونحو قوله:
كان عبيد الله بن زياد يقول: ما شجيت بشيء أشد علي من قول
ابن مفرغ:
ويقال: إن الأبيات النونية المنسوبة إلى عبد الرحمن بن أم
الحكم ليزيد بن مفرغ وإن أولها:
ونحو قوله، وقد باع برد غلامه لما حبسه عباد بن زياد
بسجستان:
ونحو قوله:
وروى ابن الكلبي أن عباد استلحقه زياد كما استلحق
معاوية زياداً، كلاهما لدعوة. قال: لما أذن لزياد في الحج تجهز، فبينا هو يتجهز وأصحاب
القرب يعرضون عليه قربهم، إذ ثقدم عباد - وكان خرازاً - فصار يعرض عليه ويحاوره
ويجيبه، فقال زياد: ويحك، من أنت، قال: أنا ابنك، قال،
ويحك، وأي بني، قال: قد وقعت على أمي فلانة، وكانت من بني كذا، فولدتني، وكنت في بني قيس بن ثعلبة
وأنا مملوك لهم، فقال: صدقت والله، إني لأعرف ما
تقول. فبعث فاشتراه، وادعاه وألحقه، وكان يتعهد بني قيس بن ثعلبة بسببه
ويصلهم، وعظم أمر عباد حتى ولاه معاوية سجستان بعد موت
زياد، وولى أخاه عبيد الله البصرة، فتزوج عباد
الستيرة، ابنة أنيف بن زياد الكلبي، فقال الشاعر يخاطب أنيفاً - وكان سيد كلب في زمانه:
وقال الحسن البصري: ثلاث كن في معاوية لو لم تكن فيه إلا واحدة منهن لكانت موبقة: انتزاؤه على هذه
الأمة بالسفهاء حتى ابتزها أمرها، واستلحاقه زياداً مراغمة لقول رسول الله "الولد للفراش وللعاهر الحجر"، وقتله حجر بن عدي، فيا ويله من حجر وأصحاب حجر! وروى الشرقي بن القطامي، قال!: كان سعيد بن
أبي سرح مولى حبيب بن عبد شمس شيعة لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: فلما قدم زياد الكوفة طلبه وأخافه،
فأتى الحسن بن علي رضي الله عنه
مستجيراً به، فوثب زياد على أخيه وولده و امرأته فحبسهم، وأخذ ماله، ونقض داره،
فكتب الحسن بن علي رضي الله عنه
إلى زياد: أما بعد، فإنك عمدت إلى رجل
من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم، فهدمت داره، وأخذت ماله، وحبست أهله
وعياله، فإن أتاك كتابي هذا فابن له داره، واردد عليه
عياله وماله، وشفعني فيه، فقد أجرته. والسلام. أما بعد، فإن الحسن بن علي بعث إلي بكتابك إليه جواباً عن
كتاب كتبه إليك في ابن أبي سرح، فأكثرت العجب
منك، وعلمت أن لك رأيين: أحدهما من أبي سفيان، والأخر من
سمية، فأما الذي من أبي سفيان فحلم وحزم،
و أما الذي من سمية، فما
يكون من رأي مثلها! من ذلك كتابك إلى الحسن تشتم
أباه، وتعرض له بالفسق، ولعمري إنك الأولى
بالفسق من أبيه. فأما أن الحسن بدأ بنفسه ارتفاعاً
عليك، فإن ذلك لا يضعك لو عقلت، و أما
تسلطه عليك بالأمر فحق لمثل الحسن أن يتسلط، وأما
تركك تشفيعه فيما شفع فيه إليك، فحظ دفعته عن نفسك إلى
من هو أولى به منك. فإذا ورد عليك كتابي
فخل ما في يديك لسعيد بن أبي سرح، وابن له داره، واردد
عليه ماله، ولا تعرض له، فقد كتبت إلى الحسن أن يخيره، إن شاء أقام عنده،
وإن شاء رجع إلى بلده، ولا سلطان لك عليه لا بيد ولا
لسان. و أما كتابك إلى الحسن باسمه واسم
أمه، ولا تنسبه إلى أبيه، فإن الحسن ويحك! من لا يرمى به الرجوان ، وإلى أيام
وكلته لا أم لك! أما علمت أنها فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذاك أفخر له لوكنت تعلمه
وتعقله! وكتب
في أسفل الكتاب شعراً، من جملته:
وروى الزبير بن بكار في الموفقيات
أن عبد الملك أجرى خيلاً، فسبقه عباد بن زياد، فأنشد عبد الملك:
فشكى عباد قول عبد الملك إلى خالد بن يزيد بن
معاوية،
فقال له: أما والله لأنصفنك منه بحيث يكره. فزوجه أخته،
فكتب الحجاج إلى عبد الملك: يا أمير المؤمنين، إن مناكح آل أبي سفيان قد ضاعت. فأخبر عبد الملك خالداً بما كتب به
الحجاج، فقال خالد: يا أمير المؤمنين، ما أعلم
امرأة منا ضاعت ونزلت إلا عاتكة بنت يزيد بن معاوية، فإنها عندك، ولم يعن الحجاج غيرك، قال عبد الملك: بل عنى الدعي ابن
الدعي عباداً، قال خالد: يا أمير المؤمنين، ما
أنصفتني، أدعي رجلاً ثم لا أزوجه! إنما كنت
ملوماً لو زوجت دعيك، فأما دعي فلم لا أزوجه!
فأما أول ما ارتفع به زياد
فهو استخلاف ابن عباس له على البصرة في خلافة علي رضي الله عنه، وبلغت علياً عنه هنات، فكتب إليه
يلومه ويؤنبه، فمنها الكتاب الذي ذكر الرضي رحمه الله
بعضه، وقد شرحنا فيما تقدم ما ذكر الرضي منه،
وكان علي رضي الله عنه أخرج إليه سعداً مولاه يحثه على حمل مال البصرة إلى
الكوفة، وكان بين سعد وزياد ملاحاة ومنازعة، وعاد سعد
وشكاه إلى علي رضي الله عنه وعابه، فكتب علي عليه السلام إليه: أما بعد، فإن سعداً ذكر أنك
شتمته ظلماً، وهددته وجبهته تجبراً وتكبراً، فما دعاك إلى التكبر وقد قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "الكبر رداء الله، فمن نازع الله رداءه
قصمه "،
وقد أخبرني أنك تكثر من الألوان المختلفة في الطعام في
اليوم الواحد، وتدهن كل يوم، فما عليك لو صمت لله أياماً، وتصدقت ببعض ما عندك
محتسباً، وأكلت طعامك مراراً قفاراً، فإن ذلك شعار الصالحين! أفتطمع وأنت متمرغ في النعيم، تستأثر به على الجار والمسكين
والضعيف والفقير والأرملة واليتيم، أن يحسب لك أجر
المتصدقين! وأخبرني أنك تتكلم بكلام الأبرار، وتعمل عمل الخاطئين، فإن كنت تفعل ذلك فنفسك ظلمت، وعملك أحبطت، فتب إلى ربك يصلح
لك عملك، واقتصد في أمرك، وقدم إلى ربك الفضل ليوم حاجتك، وأدهن غباً،
فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ادهنوا غباً ولا تدهنوا رفهاً" . وأما قوله: إني أصف العدل وأخالفه إلى غيره، فإني إذن من الأخسرين. فخذ يا أمير المؤمنين بمقال قلته في مقام قمته، الدعوى بلا بينة، كالسهم بلا
نصل، فإن أتاك بشاهدي. عدل، و إلا تبين لك كذبه وظلمه. ومن
كلام زياد: تأخير جزاء المحسن لؤم، وتعجيل
عقوبة المسيء طيش. قال
زياد: صدق، وسأخبرك بما ينفعه عندي من خاصته ومودته، وإن
يكن له الحق عليك آخذك به أخذاً عنيفاً، وإن يكن الحق لك قضيت عليه، ثم قضيت
عنه. والثاني:
المحسن مجازى بإحسانه، والمسيء يكافأ بإساءته. والثالث:
العطيات و الأرزاق في إبانها وأوقاتها. والرابع:
لا احتجاب عن صاحب ثغر، ولا عن طارق ليل. وقال: ما قرأت كتاب رجل قط إلا عرفت عقله منه. قال: بلى، أما زياد فلما قدم البصرة حمد الله وأثنى عليه ثم قال:
أما بعد، فإن معاوية غير مخوف على قومه، ولم يكن ليلحق بنسبه من ليس منه، وقد
شهدت الشهود بما قد بلغكم، والحق أحق أن يتبع، والله حيث وضع البينات كان أعلم،
وقد رحلت عنكم وأنا أعرف صديقي من عدوي، ثم قدمت عليكم
وقد صار العدو صديقاً مناصحاً، والصديق عدواً مكاشحاً، فليشتمل كل مرىء على ما
في صدره، ولا يكونن لسانه شفرة تجري على أوداجه ، وليعلم أحدكم إذا خلا بنفسه
أني قد حملت سيفي بيدي، فإن أشهره لم أغمده، وإن أغمده لم أشهره. ثم نزل. و اما الحجاج فإنه
قال: من أعياه داؤه، فعلي دواؤه، ومن استبطأ أجله، فعلي أن أعجله، ألا إن
الحزم والعزم استلبا مني سوطي، وجعلا سوطي سيفي، فنجاده في عنقي، وقائمه بيدي،
وذبابه قلادة لمن اغتربي. وقال:
ما أتيت مجلساً قط إلا تركت منه ما لوأخذته لكان لي، وترك ما لي أحب إلي من أخذ
ما ليس لي. وأنا
اقسم بالله لآخذن الولي بالولي، والظاعن بالظاعن، والمقبل بالمدبر، والصحيح منكم
في نفسه بالسقيم، حتى يلقى الرجل أخاه فيقول: انج سعد فقد هلك سعيد ، أتستقيم لي
قناتكم. من نقب عليه منكم فأنا ضامن لما ذهب منه. فإياكم
ودلج الليل، فإني لا أوتى بمدلج إلا سفكت دمه. وقد أجلتكم
بقدر ما يأتي الخبر الكوفة، ويرجع إليكم. أسال الله أن
يعين كلاً على كل. وإذا رأيتموني
أنفذ فيكم الأمر، فأنفذوه على أذلاله. وايم الله إن لي فيكم لصرعى كثيرة، فليحذر
كل امرىء منكم أن يكون من صرعاي. فقام
عبد الله بن الأهتم فقال: أشهد أيها الأمير، لقد أوتيت الحكمة وفصل الخطاب. فقال: كذبت، ذاك نبي الله داود. وروى الشعبي أيضاً، قال:
لما خطب زياد خطبته البتراء بالبصرة ونزل سمع
تلك الليلة أصوات الناس يتحارسون، فقال: ما هذا،
قالوا: إن البلد مفتونة، وإن المرأة من أهل
المصر لتأخذها الفتيان الفساق فيقال لها: نادي
ثلاث أصوات، فإن أجابك أحد و إلا فلا لوم علينا فيما نصنع. فغضب فقال: ففيم أنا، وفيم قدمت! فلما
أصبح أمر فنودي في الناس، فاجتمعوا فقال: أيها الناس، إني قد نبئت بما أنتم فيه وسمعت ذرواً منه، وقد أنذرتكم وأجلتكم
شهراً مسير الرجل إلى الشام، ومسيره إلى خراسان، ومسيره إلى الحجاز، فمن وجدناه بعد شهر خارجاً من منزله بعد العشاء الآخرة فدمه
هدر. فانصرف
الناس يقولون: هذا القول كقول من تقدمه من الأمراء، فلما كمل الشهر دعا صاحب شرطته عبد الله بن حصين اليربوعي -
وكانت رجال الشرطة معه أربعة آلاف - فقال له: هيىء خيلك ورجلك، فإذا صليت
العشاء الآخرة، وقرأ القارىء مقدار سبع من القرآن، ورفع الطن القصب من القصر، فسر ولا تلقين أحداً، عبيد الله بن زياد فمن دونه، إلا جئتني برأسه، وإن راجعتني في أحد ضربت عنقك. ثم لم يجىء بعدها
بشيء، وكان الناس إذا صلوا العشاء الآخرة أحضروا إلى منازلهم شداً
حثيثاً، وقد يترك بعضهم نعاله. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن
كتاب له إلى عثمان بن حنيف الأنصاري عامله على البصرة، وقد بلغه أنه دعي إلى
وليمة قوم من أهلها فمضى إليها -
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
أما بعد يا بن حنيف، فقد بلغني أن رجلاً من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدبة
فأسرعت إليها. تستطاب لك الألوان، وتنقل إليك الجفان. وما ظننت أنك تجيب إلى طعام قوم عائلهم مجفو،
وغنيهم مدعو. فانظر
إلى ما تقضمه من هذا المقضم، فما أشتبه عليك علمه فالفظه، وما أيقنت بطيب وجهه
فنل منه.
ويقال أيضاً: آدبهم إلى طعامه يؤدبهم إيداباً، ويروى: وكزت عليك الجفان
فكرعت وأكلت أكل ذئب نهم، أو ضبع قرم.
ثم أمره بأن يترك ما فيه شبهة إلى مالأ شبهة فيه، وسمي ذلك
قضماً ومقضماً وإن كان مما لا يقضم لاحتقاره له، وازدرائه إياه، وأنه عنده ليس
مما يستحق أن يسمى بأسماء المرغوب فيه، المتنافس عليه، وذلك
لأن القضم يطلق على معنيين: أحدهما على أكل الشيء اليابس، والثاني على
ما يؤكل ببعض الفم، وكلاهما يدلان على أن ذلك
المقضم المرغوب عنه، لا فيه.
الأصل: بلى كانت في أيدينا فدك من كل ما أظلته السماء، فشحت عليها
نفوس قوم، وسخت عنها نفوس آخرين، ونعم الحكم الله. وما أصنع بفدك وغير فدك،
والنفس مظانها في غد جدث تنقطع في ظلمته أثارها وتغيب أخبارها، وحفرة لو زيد في
فسحتها، وأوسعت يدا حافرها، لأضغطها الحجر والمدر، وسد فرجها التراب المتراكم،
وإنما هي نفسي أروضها بالتقوى لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر، وتثبت على جوانب
المزلق.
يقول: لا مال لي، ولا اقتنيت فيما مضى مالأ، وإنما كانت في أيدينا
فدك فشحت عليها نفوس قوم، أي بخلت وسخت عنها نفوس آخرين، أي سامحت وأغضت. وليس يعني ههنا
بالسخاء إلا هذا، لا السخاء الحقيقي، لأنه رضي الله عنه وأهله
لم يسمحوا بفدك إلا غصباً وقسراً، وقد قال هذه الألفاظ في موضع آخر فيما تقدم،
وهو يعني الخلافة بعد وفاه رسول الله صلى الله عليه وسلم. اللهم إلا أن يقول قائل: إن الميت يحس في قبره، فإذا قيل ذلك فالجاعل له إحساساً بعد عدم الحس هو الذي
يوسع الحفرة، وإن كان الحافر قد جعلها ضيقة، فإذن هذا
الكلام جيد لخطاب العرب خاصة، ومن يحمل الأمور
على ظواهرها. ثم
قال:
وإنما هي نفس أروضها بالتقوى، يقول: تقللي واقتصاري من المطعم والملبس على الجشب
والخشن رياضة لنفسي، لأن ذلك إنما أعمله خوفاً من الله أن أنغمس في الدنيا، فالرياضة بذلك هي رياضة في الحقيقة بالتقوى، لا بنفس التقلل
والتقشف، لتأتي نفسي آمنة يوم الفزع الأكبر، وتثبت في مداحض الزلق. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
فدك في السير و الأخبار.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
واعلم
أنا نتكلم في شرح هذه الكلمات بثلاثة فصول: الفصل الأول فيما ورد في الحديث
والسير من أمر فدك ، والفصل
الثاني في هل النبي صلى
الله عليه وسلم يورث أم لا، والفصل الثالث في أن فدك،
هل صح كونها نحلة من رسول الله صلى الله عليه
وسلم لفاطمة أم لا؟ الفصل
الأول: فيما ورد من الأخبار والسير المنقولة من أفواه أهل الحديث وكتبهم، لا من كتب الشيعة ورجالهم، لأنا مشترطون على أنفسنا ألا
نحفل بذلك، وجميع ما نورده في هذا الفصل من كتاب
أبي بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري في السقيفة وفدك وما وقع من الأختلاف و
الأضطراب عقب وفاة النبي صلى
الله عليه وسلم، وأبو بكر
الجوهري هذا عالم محدث كثير الأدب، ثقة ورع، اثنى عليه
المحدثون ورووا عنه مصنفاته. قال: وقد روى أنه صالحهم عليها كلها، الله
أعلم أي الأمرين كان. قال أبو بكر: فحدثني محمد بن زكريا قال: حدثني
جعفر بن محمد بن عمارة الكندي قال: حدثني أبي، عن الحسين بن صالح بن حي، قال: حدثني رجلان من بني هاشم، عن زينب بنت علي بن أبي طالب رضي الله عنه. قال: وقال جعفر
بن محمد بن علي بن الحسين عن أبيه، قال أبو بكر: وحدثني عثمان بن عمران العجيفي، عن نائل بن نجيح بن عمير بن شمر، عن جابر
الجعفي، عن أبي جعفر محمد بن علي رضي الله عنه. قال أبو بكر: وحدثني أحمد بن محمد
بن يزيد، عن عبد الله بن محمد بن سليمان، عن أبيه، عن عبد الله بن حسن بن الحسن.
قالوا جميعاً: لما بلغ فاطمة رضي الله عنها إجماع
أبي بكر على منعها فدك، لاثت خمارها، وأقبلت في لمة من
حفدتها ونساء قومها، تطأ في ذيولها، ما تخرم مشيتها مشية رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى دخلت على أبي بكر وقد
حشد الناس من المهاجرين و الأنصار، فضرب بينها وبينهم ريطةً بيضاء - وقال بعضهم:
قبطية، وقالوا: قبطية بالكسر والضم - ثم أنت أنة أجهش لها القوم بالبكاء، ثم
أمهلت طويلاً حتى سكنوا من فورتهم، ثم قالت: أبتدىء بحمد من هو أولى بالحمد والطول والمجد،
الحمد لله على ما أنعم وله الشكر بما ألهم. وذكر خطبةً طويلةً جيدة قالت في آخرها: فاتقوا الله حق
تقاته، وأطيعوه فيما أمركم به، فإنما يخشى الله من عباده العلماء، واحمدوا الله
الذي لعظمته ونوره يبتغي من في السموات و الأرض إليه الوسيلة، ونحن وسيلته في
خلقه، ونحن خاصته، ومحل قدسه، ونحن حجته في غيبه، ونحن ورثة أنبيائه، ثم قالت: أنا فاطمة ابنة محمد، أقول عوداً على بدء،
وما أقول ذلك سرفاً ولا شططاً، فاسمعوا بأسماع واعية، وقلوب راعية، ثم قالت: "لقد جاءكم
رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم"
فإن تعزوه تجدوه أبي دون آبائكم، وأخا ابن عمي دون رجالكم، ثم ذكرت كلاماً طويلاً سنذكره فيما بعد في الفصل الثاني، تقول في آخره: ثم أنتم الآن
تزعمون أن لا إرث لي، "أفحكم الجاهلية يبغون
ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون"، إيهاً
معاشر المسلمين، ابتز إرث أبي! أبى الله أن ترث يابن أبي قحافة أباك ولا أرث
أبي، لقد جئت شيئاً فرياً! فدونكها مخطومة مرحولة تلقاك يوم حشرك، فنعم الحكم الله،
والزعيم محمد، والموعد القيامة، وعند الساعة يخسر المبطلون، ولكل نبأ مستقر وسوف
تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم! ثم
التفتت إلى قبر أبيها فتمثلت بقول هند بنت أثاثة:
قال:
ولم ير الناس أكثر باك ولا باكية منهم يومئذ. ثم عدلت
إلى مسجد الأنصار فقالت: يا معشر البقية، وأعضاد الملة، وحضنة الإسلام،
ما هذه الفترة عن نصرتي، والونية عن معونتي، والغمزة في حقي، والسنة عن ظلامتي! أما كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول: "المرء يحفظ في
ولده "! سرعان ما أحدثتم، وعجلان ما أتيتم. الآن
مات رسول الله صلى الله عليه وسلم أمتم
دينه! ها
إن موته لعمري خطب جليل آستوسع وهنه، واستبهم فتقه، وفقد راتقه، وأظلمت الأرض
له، وخشعت الجبال، وأكدت الأمال. اضيع بعده الحريم، وفتكت الحرمة، وأذيلت
المصونة، وتلك نازلة أعلن بها كتاب الله قبل موته، وأنبأكم بها قبل وفاته، فقال: "وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات
أو قتل أنقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله
الشاكرين" إيهاً بني قيلة! اهتضم تراث أبي.
وأنتم بمرأى ومسمع، تبلغكم الدعوة، ويشملكم الصوت، وفيكم العدة والعدد، ولكم
الدار والجنن وأنتم نخبة الله التي انتخب، وخيرته التي اختار! باديتم العرب،
وبادهتم الأمور، وكافحتم البهم حتى دارت بكم رحى الإسلام، ودر حلبه، وخبت نيران
الحرب، وسكنت فورة الشرك، وهدأت دعوة الهرج، واستوثق نظام الدين، أفتأخرتم بعد
الأقدام، ونكصتم بعد الشدة، وجبنتم بعد الشجاعة، عن قوم نكثوا أيمانهم من بعد
عهدهم وطعنوا في دينكم! فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم
ينتهون. ألا وقد أرى أن قد أخلدتم إلى الخفض، وركنتم
إلى الدعة، فجحدتم الذي وعيتم، وسغتم الذي سوغتم، وإن تكفروا أنتم ومن في الأرض
جميعاً فإن الله لغني حميد، ألا وقد قلت لكم ما قلت على معرفة مني بالخذلة التي
خامرتكم، وخور القناة، وضعف اليقين، فدونكموها فاحتووها مدبرة الظهر، ناقبة
الخف، باقية العار، موسومة الشعار، موصولة بنار الله الموقدة، التي تطلع على
الأفئدة، فبعين الله ما تعملون "وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب
ينقلبون". أما بعد، فقد
دفعت آلة رسول الله ودابته، وحذاءه إلى علي رضي
الله عنه، وأما ما سوى ذلك
فأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"إنا معاشر الأنبياء لا نورث ذهباً ولا فضةً ولا
أرضاً ولا عقاراً ولا داراً، ولكنا نورث الإيمان والحكمة والعلم والسنة"،
فقد عملت بما أمرني، ونصحت له، وما توفيقي إلا
بالله عليه توكلت وإليه أنيب. قال
أبو بكر: وروى هشام بن محمد، قال: قالت فاطمة لأبي بكر:
إن ام أيمن تشهد لي أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم أعطاني فدك،
فقال لها: يا ابنة رسول الله، والله ما خلق الله أحب الي من رسول الله صلى
الله عليه وسلم
أبيك،
ولوددت أن السماء وقعت على الأرض يوم مات أبوك، والله
لأن تفتقر عائشة أحب إلي من أن تفتقري، أتراني أعطي الأحمر والأبيض حقه وأظلمك
حقك، وأنت بنت رسول الله صلى
الله عليه وسلم! إن هذا المال
لم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم،
وإنما كان مالأ من أموال المسلمين يحمل النبي به الرجال، وينفقه في سبيل الله، فلما توفي رسول الله وليته كما كان يليه. قالت: والله لا كلمتك أبداً! قال: والله
لا هجرتك أبداً، قالت: والله لأدعون الله عليك، قال: والله لأدعون الله لك، فلما حضرتها الوفاة أوصت ألا يصلي
عليها، فدفنت ليلاً، وصلى عليها عباس بن عبد المطلب، وكان
بين وفاتها ووفاة أبيها اثنتان وسبعون ليلة. قال
أبو بكر: وحدثني محمد بن زكريا، قال: حدثنا جعفر بن محمد بن عمارة بالإسناد
الأول قال: فلما سمع أبو بكر
خطبتها شق عليه مقالتها فصعد المنبر وقال: أيها
الناس، ما هذه الرعة إلى كل قالة! أين كانت هذه الأماني في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا من سمع
فليقل، ومن شهد فليتكفم، إنما هو ثعالة شهيده ذنبه، مرب لكل فتنة، هو الذي يقول:
كروها جذعة بعدما هرمت، يستعينون بالضعفة، ويستنصرون بالنساء، كأم طحال أحب
أهلها إليها البغي. ألا إني لو أشاء أن أقول لقلت ولو قلت لبحت،
إني ساكت ما تركت، ثم التفت إلى الأنصار فقال:
قد بلغني يا معشر الأنصار مقالة سفهائكم، وأحق من لزم عهد رسول الله صلى الله
عليه وسلم أنتم. فقد جاءكم
فآويتم ونصرتم، ألا إني لست باسطاً يداً ولا لساناً على من لم يستحق ذلك منا. ثم
نزل، فانصرفت فاطمة عليها السلام إلى منزلها. قلت:
لوصرح لم أسألك. فضحك وقال: بعلي
بن أبي طالب رضي الله عنه، قلت: هذا الكلام كله لعلي يقوله! قال: نعم، إنه الملك يا بني، قلت: فما
مقالة الأنصار؟ قال: هتفوا بذكر علي فخاف من اضطراب الأمر عليهم، فنهاهم فسألته عن غريبه، فقال: أما
الرعة بالتخفيف، أي الأستماع و الأصغاء، والقالة:
القول، وثعالة: اسم
الثعلب علم غير مصروف، ومثل ذؤالة للذئب،
وشهيده ذنبه، أي لا شاهد له على ما يدعي إلا بعضه وجزء
منه، وأصله مثل، قالوا: إن الثعلب أراد أن يغري
الأسد بالذئب، فقال: إنه قد أكل الشاة التي كنت قد أعددتها لنفسك، وكنت حاضراً،
قال: فمن يشهد لك بذلك، فرفع ذنبه وعليه دم، وكان الأسد قد افتقد الشاة. فقبل شهادته،
وقتل الذئب، ومرب: ملازم، أرب بالمكان. وكروها جذعة: أعيدوها إلى الحال الأولى، يعني الفتنة والهرج. وأم طحال: امرأة بغي في الجاهلية،
ويضرب بها المثل فيقال، أزنى من أم طحال. قال: الله لأفعلن، قالت: اللهم اشهد، وكان أبو بكر يأخذ غلتها فيدفع إليهم منها ما يكفيهم،
ويقسم الباقي، وكان عمر كذلك، ثم كان عثمان كذلك، ثم
كان علي كذلك، فلما ولي الأمر معاوية بن أبي
سفيان أقطع مروان بن الحكم ثلثها، وأقطع عمرو بن عثمان بن عفان ثلثها، وأقطع يزيد بن معاوية ثلثها، وذلك بعد موت
الحسن بن علي رضي الله عنه،
فلم يزالوا يتداولونها حتى خلصت كلها لمروان بن الحكم
أيام خلافته. فوهبها لعبد العزيز ابنه، فوهبها عبد
العزيز لابنه عمر بن عبد العزيز، فلما ولي عمر
بن عبد العزيز الخلافة، كانت أول ظلامة ردها،
دعا حسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي
الله عنه - وقيل: بل دعا علي بن الحسين رضي الله عنه فردها عليه، وكانت بيد أولاد فاطمة رضي الله عنها مدة
ولآية عمر بن عبد العزيز، فلما ولي يزيد بن عاتكة قبضها
منهم، فصارت في أيدي بني مروان كما كانت يتداولونها، حتى انتقلت الخلافة عنهم،
فلما ولي أبو العباس السفاح ردها على عبد الله بن الحسن
بن الحسن، ثم قبضها أبو جعفر لما حدث من بني حسن ما حدث، ثم ردها المهدي
ابنه على ولد فاطمة رضي
الله عنها، ثم قبضها موسى بن المهدي
وهارون أخوه، فلم تزل في أيديهم حتى ولي المأمون، فردها على الفاطميين. قال أبو بكر: حدثني محمد بن زكريا قال: حدثني مهدي بن سابق، قال: جلس المأمون للمظالم، فأول رقعة وقعت في يده نظر فيها
وبكى، وقال للذي على رأسه: ناد أين وكيل فاطمة، فقام شيخ عليه دراعة وعمامة وخف ثغرى، فتقدم فجعل يناظره في
فدك والمأمون يحتج عليه وهو يحتج على المأمون، ثم أمر أن يسجل لهم بها، فكتب
السجل وقرىء عليه، فانفذه، فقام دعبل إلى المأمون
فأنشده الأبيات التي أولها:
فلم تزل في أيديهم حتى كان في أيام المتوكل، فأقطعها عبد الله بن عمر البازيار،
وكان فيها إحدى عشرة نخلة غرسها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، فكان بنو فاطمة يأخذون ثمرها،
فإذا قدم الحجاج أهدوا لهم من ذلك التمر فيصلونهم، فيصير إليهم من ذلك مال جزيل
جليل، فصرم عبد الله بن عمر البازيار ذلك التمر،
ووجه رجلاً يقال له بشران بن أبي أمية الثقفي إلى
المدينة فصرمه، ثم عاد إلى البصرة ففلج. قلت:
في هذا الحديث عجب، لأنها قالت له: أنت ورثت رسول الله صلى الله عليه وسلم أم أهله، قال: بل أهله، وهذا تصريح لأنه صلى الله عليه وسلم موروث
يرثه أهله، وهو خلاف قوله: "لا نورث". وأيضاً
فإنه يدل على أن أبا بكر استنبط من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أن
الله أطعم نبياً طعمة أن يجري رسول الله
صلى الله عليه وسلم عند وفاته مجرى ذلك النبي، أو يكون قد فهم أنه عنى بذلك النبي المنكر لفظاً نفسه،
كما فهم من قوله في خطبته، إن عبداً خيره الله بين الدنيا وما عند ربه، فاختار
ما عند ربه، فقال أبو بكر: بل نفديك بأنفسنا. قال
أبو بكر: وأخبرنا أبو زيد قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن الزبير قال: حدثنا
فضيل بن مرزوق قال: حدثنا البحتري بن حسان قال: قلت لزيد بن علي أنا أريد أن
أهجن أمر أبي بكر، إن أبا بكر انتزع فدك من فاطمة رضي الله عنها ، فقال: إن ابا بكر كان رجلاً رحيماً، وكان يكره أن يغير شيئاً
فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فأتته فاطمة فقالت: رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاني
فدك، فقال لها: هل لك على هذا بينة، فجاءت بعلي رضي
الله عنه، فشهد لها، ثم
جاءت أم أيمن فقالت: ألستما تشهدان أني من أهل
الجنة قالأ: بلى - قال أبو زيد يعني أنها قالت لأبي بكر وعمر - قالت: فأنا أشهد
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاها
فدك، فقال أبو بكر: فرجل آخر أو امرأة أخرى لتستحقي بها القضية. ثم قال أبو زيد: وأيم
الله لو رجع الأمر إلي لقضيت فيها بقضاء أبي بكر. قال: "لا يقسم ورثتي ديناراً ولا درهماً، ما تركت بعد نفقة
نسائي ومؤونة عيالي فهو صدقة". وقال
أبو بكر: وحدثنا أبو زيد، عن الحزامي، عن ابن وهب، عن يونس عن ابن شهاب، عن عبد
الرحمن الأعرج أنه سمع أبا هريرة يقول: سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"والذي نفسي بيده لا يقسم ورثتي شيئا، ما تركت صدقة"، قال: وكانت هذه
الصدقة بيد علي رضي الله عنه،
غلب عليها العباس، وكانت فيها خصومتهما، فأبى
عمر أن يقسمها بينهما حتى أعرض عنها العباس، وغلب عليها علي رضي
الله عنه، ثم كانت بيد حسن وحسين ابني علي رضي الله عنه، ثم
كانت بيد علي بن الحسين رضي الله عنه والحسن
بن الحسن، كلاهما يتداولانها، ثم بيد زيد بن علي رضي الله عنه. قال
أبو بكر: وأخبرنا أبو زيد قال: حدثنا عثمان بن عمر بن فارس، قال: حدثنا يونس، عن
الزهري، عن مالك بن أوس بن الحدثان، أن عمر بن
الخطاب دعاه يوماً بعدما ارتفع النهار، قال: فدخلت عليه وهو جالس على سرير رمال
ليس بينه وبين الرمال فراش، على وسادة آدم ، فقال: يا مالك، إنه قد قدم من قومك
أهل أبيات حضروا المدينة، وقد أمرت لهم برضخ فاقسمه بينهم، فقلت: يا أمير
المؤمنين، مر بذلك غيري، قال: اقسم أيها المرء. قال
أبو بكر: وحدثنا أبو زيد قال: حدثنا إسحاق بن إدريس، قال: حدثنا عبد الله بن
المبارك قال: حدثني يونس، عن الزهري قال: حدثني مالك بن أوس بن الحدثان بنحوه،
قال فذكرت ذلك لعروة فقال: صدق مالك بن أوس، أنا سمعت عائشة تقول:
أرسل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عثمان
بن عفان إلى أبي بكر يسأل لهن ميراثهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم مما
أفاء الله عليه حتى كنت أردهن عن ذلك، فقلت: ألا تتقين
الله، ألم تعلمن أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم كان يقول: "لا نورث، ما
تركناه صدقة"، يريد بذلك نفسه، إنما يأكل آل محمد من هذا المال،
فانتهى أزواج النبي إلى ما أمرتهن به. قلت:
هذا مشكل، لأن الحديث الأول يتضمن
أن عمر أقسم على جماعة فيهم عثمان، فقال: نشدتكم الله، ألستم تعلمون أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا نورث ما تركناه صدقة"، يعني نفسه!
فقالوا: نعم، ومن جملتهم عثمان، فكيف يعلم بذلك فيكون مترسلاً لأزواج النبي: يسأله
أن يعطيهن الميراث! اللهم إلا أن يكون عثمان
وسعد وعبد الرحمن والزبير صدقوا عمر على سبيل التقليد لأبي بكر فيما رواه وحسن
الظن، وسموا ذلك علماً، لأنه قد يطلق على الظن
اسم العلم. وأيضاً فإنه إذا كان صلى الله عليه وسلم لا يورث، فقد أشكل دفع آلته ودابته وحذائه إلى علي رضي الله عنه، لأنه غير وارث في
الأصل، وإن كان أعطاه ذلك لأن زوجته بعرضة أن ترث، لولا الخبر، فهو
أيضاً غير جائز، لأن الخبر قد منع من أن يرث منه شيئاً قليلاً كان أو
كثيراً. قيل:
فإذا كان يتصرف فيها تصرف الأب في مال ولده، لا يخرجه ذلك عن كونه مال ولده،
فإذا مات الأب لم يجز لأحد أن يتصرف في مال ذلك الولد، لأنه ليس بأب له فيتصرف
في ماله تصرف الأباء في أموال أولادهم، على أن الفقهاء أو معظمهم لا يجيزون للأب
أن يتصرف في مال الأبن. قال
أبو بكر: وأخبرنا أبو زيد قال: حدثني يحيى بن كثير أبو غسان قال: حدثنا شعبة عن
عمر بن مرة، عن أبي البختري قال: جاء العباس
وعلي إلى عمر وهما يختصمان، فقال عمر لطلحة والزبير وعبد الرحمن وسعد: أنشدكم
الله، أسمعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"كل مال نبي فهو صدقة، إلا ما أطعمه أهله، إنا لا
نورث "! فقالوا: نعم، قال: وكان رسول الله يتصدق به، ويقسم فضله، ثم توفي فوليه أبو بكر سنتين يصنع فيه ما كان يصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنتما تقولان: إنه كان بذلك خاطئاً، وكان
بذلك ظالماً، وما كان بذلك إلا راشداً، ثم وليته بعد
أبي بكر فقلت لكما: إن شئتما قبلتماه على عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده الذي
عهد فيه، فقلتما: نعم، وجئتماني الآن تختصمان، يقول
هذا: أريد نصيبي من ابن أخي، ويقول هذا: أريد نصيبي من امرأتي! والله لا أقضي بينكما إلا بذلك. وقال
شيخنا أبو علي: لا تقبل في الروآية إلا روآية اثنين
كالشهادة، فخالفه المتكلمون والفقهاء كلهم،
واحتجوا عليه بقبول الصحابة روآية أبي بكر وحده:
"نحن معاشر الأنبياء لا نورث "، حتى إن بعض أصحاب أبي علي تكلف لذلك جواباً، فقال: قد روي أن أبا بكر يوم حاج فاطمة رضي الله عنها قال:
أنشد الله أمراً سمع من رسول الله صلى
الله عليه وسلم في هذا شيئاً!
فروى مالك بن أوس بن الحدثان، أنه سمعه من رسول الله صلى
الله عليه وسلم، وهذا الحديث ينطق بأنه استشهد عمر
وطلحة والزبيروعبد الرحمن وسعداً، فقالوا: سمعناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأين كانت هذه الروايات أيام أبي بكر! ما نقل أن أحداً من هؤلاء يوم خصومة فاطمة رضي الله عنها! وأبي بكر روى من
هذا شيئاً. قال
أبو بكر: وحدثنا أبو زيد قال: حدثنا عمرو بن مرزوق، عن شعبة، عن عمرو بن مرة، عن
أبي البختري قال: قال لها أبو بكر لما طلبت فدك: بأبي
أنت وأمي! أنت عندي الصادقة الأمينة، إن كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم عهد إليك في ذلك عهداً، أو
وعدك به وعداً، صدقتك، وسلمت إليك! فقالت: لم يعهد إلي في ذلك بشيء ولكن الله تعالى يقول: "يوصيكم
الله في أولادكم"، فقال: أشهد لقد سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن معاشر
الأنبياء لا نورث ". فقاما
وتركا الخصومة و أمضيت صدقة. وهو سهم ذوي القربى. قال أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري:
أخبرني أبو زيد عمر بن شبة، قال: حدثني هارون بن عمير: قال: حدثنا الوليد بن مسلم،
قال: حدثني صدقة أبو معاوية، عن محمد بن عبد الله، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي
بكر، عن يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالك، أن فاطمة رضي الله عنها
أتت أبا بكر فقالت: لقد علمت الذي
ظلمتنا عنه أهل البيت من الصدقات، وما أفاء الله علينا
من الغنائم في القرآن من سهم ذوي القربى! ثم قرأت عليه قوله تعالى: "واعلموا أنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه وللرسول
ولذي القربى"، فقال لها أبو بكر: بأبي أنت
وأمي ووالد ولدك! السمع والطاعة لكتاب الله ولحق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحق قرابته، وأنا أقرأ من
كتاب الله الذي تقرئين منه، ولم يبلغ علمي منه أن هذا السهم من الخمس يسلم إليكم
كاملاً،
قالت: أفهل هو ولأقربائك، قال: لا، بل أنفق عليكم منه، وأصرف
الباقي في مصالح المسلمين قالت: ليس هذا حكم
الله تعالى، قال: هذا حكم الله، فإن كان رسول الله عهد إليك في هذا عهداً
أو أوجبه لكم حقاً صدقتك وسلمته كله إليك وإلى أهلك،
قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعهد إلي في ذلك شيء، إلا أني سمعته يقول لما أنزلت هذه
الآية: "أبشروا آل محمد فقد جاءكم الغنى"، قال أبو بكر: لم يبلغ علمي من هذه الآية أن أسلم
إليكم هذا السهم كله كاملاً، ولكن لكم الغنى الذي يغنيكم، ويفضل عنكم، وهذا عمر بن الخطاب، وأبو عبيدة بن الجراح فاسأليهم عن ذلك،
وانظري هل يوافقك على ما طلبت أحد منهم! فانصرفت إلى عمر فقالت له مثل ما قالت لأبي بكر، فقال
لها مثل ما قاله لها أبو بكر، فعجبت فاطمة رضي الله عنها من ذلك، وظنت أنهما كانا قد
تذاكرا ذلك واجتمعا عليه.
قال ابن الصباح: فقال لي أبو الحسن: أتقول: إنه قد
أكفرهما في هذا الشعر! قلت: نعم، قال: كذاك هو. قال أبو بكر: حدثنا أبو زيد، عن هارون بن
عمير، عن الوليد بن مسلم، عن إسماعيل بن عباس، عن محمد بن السائب، عن أبي صالح،
عن مولى أم هانىء، قال: دخلت فاطمة على أبي بكر بعد ما
استخلف، فسألته ميراثها من أبيها، فمنعها، فقالت له: لئن مت اليوم من كان يرثك،
قال: ولدي وأهلي، قالت: فلم ورثت أنت رسول الله صلى
الله عليه وسلم دون ولده
وأهله، قال: فما فعلت يا بنت رسول الله! قالت: بلى، إنك عمدت إلى فدك، وكانت
صافية لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذتها،
وعمدت إلى ما أنزل الله من السماء فرفعته عنا، فقال: يا بنت رسول الله، لم أفعل،
حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن
الله تعالى يطعم النبي الطعمة ما كان حياً، فإذا قبضه الله إليه رفعت، فقالت: أنت ورسول الله أعلم، ما أنا بسائلتك بعد مجلسي. ثم انصرفت. وما
الذي نقموا من أبي حسن! نقموا والله نكير سيفه، وشدة وطأته، ونكال وقعته، وتنمره
في ذات الله، وتالله لوتكافوا عن زمام نبذه إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم لاعتلقه، ولسار إليهم سيراً سجحاً، لا تكلم حشاشته، ولا يتعتع راكبه،
ولأوردهم منهلاً نميراً فضفاضاً يطفح ضفتاه، ولأصدرهم بطاناً قد تحير بهم الرأي،
غير متحل بطائل، إلا بغمر الناهل، وردعه سورة الساغب، ولفتحت عليهم بركات من
السماء و الأرض، وسيأخذهم الله بما كانوا يكسبون. ألا هلم
فاستمع وما عشت أراك الدهر عجبه، وإن تعجب فقد أعجبك الحادث، إلى أي لجأ
استندوا، وبأي عروة تمسكوا! لبئس المولى ولبئس العشير، ولبئس للظالمين بدلا!
استبدلوا والله الذنابى بالقوادم ، والعجز بالكاهل، فرغماً لمعاطس قوم يحسبون
أنهم يحسنون صنعاً، "ألا إنهم هم المفسدون
ولكن لا يشعرون"، ويحهم! "أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن
يهدى فما لكم كيف تحكمون"! أما لعمر الله
لقد لقحت، فنظرة ريثما تنتج، ثم احتلبوها طلاع العقب دماً عبيطاً وذعاقاً ممقراً
هنالك يخسر المبطلون، ويعرف التالون غب ما أسس الأولون، ثم طيبوا عن
أنفسكم نفساً، واطمئنوا للفتنة جأشاً، وأبشروا بسيف صارم، وهرج شامل، واستبداد
من الظالمين يدع فيئكم زهيداً، وجمعكم حصيداً، فيا حسرةً عليكم، وأنى لكم وقد
عميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون! والحمد لله رب العالمين، وصلاته على
محمد خاتم النبيين، وسيد المرسلين. قلت: هذا الكلام
وإن لم يكن فيه ذكر فدك والميراث، ألا أنه من تتمة
ذلك، وفيه أيضاً حلماً كان عندها، وبيان لشدة غيظها وغضبها، فإنه سيأتي فيما بعد ذكر ما يناقض به قاضي القضاة
والمرتضى في أنها هل كانت غضبى أم لا! ونحن لا
ننصر مذهباً بعينه، وإنما نذكر ما قيل، وإذا جرى بحث نظري قلنا ما يقوى في أنفسنا منه. واعلم أنا إنما نذكر في هذا الفصل ما رواه
رجال الحديث وثقاتهم، وما أودعه أحمد بن عبد العزيز الجوهري في كتابه، وهو من
الثقات الأمناء عند أصحاب الحديث، وأما ما يرويه رجال الشيعة و
الأخباريون منهم في كتبهم من قولهم: إنهما
أهاناها وأسمعاها كلاماً غليظاً، وإن أبا بكر رق لها حيث لم يكن عمر حاضراً،
فكتب لها بفدك كتاباً، فلما خرجت به وجدها عمر، فمد يده إليه ليأخذه مغالبة،
فمنعته، فدفع بيده في صدرها وأخذ الصحيفة فخرقها بعد أن تفل فيها فمحاها، وإنها دعت عليه فقالت:
بقر الله بطنك كما بقرت صحيفتي، فشيء لا
يرويه أصحاب الحديث ولا ينقلونه، وقدر الصحابة
يجل عنه، وكان عمر أتقى لله، وأعرف لحقوق الله من ذلك، وقد نظمت الشيعة بعض هذه الواقعة التي يذكرونها شعراً أوله أبيات
لمهيار بن مرزويه الشاعر من قصيدته التي أولها:
وقد ذيل عليها بعض الشيعة وأتمها،
والأبيات:
فانظر إلى هذه البلية التي صبت من هؤلاء على
سادات المسلمين، وأعلام المهاجرين! وليس ذلك بقادح في علو شأنهم، وجلالة مكانهم، كما أن مبغضي
الأنبياء وحسدتهم، ومصنفي الكتب في إلحاق العيب والتهجين لشرائعهم لم تزدد
لأنبيائهم إلا رفعة، ولا زادت شرائعهم إلا انتشاراً في الأرض، وقبولاً في النفس،
وبهجةً ونوراً عند ذوي الألباب والعقول. وقلت لمتكلم من متكلمي الأمامية يعرف بعلي بن
تقي من بلدة النيل : وهل كانت فدك إلا نخلاً يسيراً وعقاراً ليس بذلك الخطير! فقال لي: ليس الأمر كذلك، بل كانت
جليلةً جداً، وكان فيها من النخل نحو ما بالكوفة الآن من النخل، وما قصد أبو بكر وعمر
بمنع فاطمة عنها لأ لا يتقوى علي بحاصلها وغلتها على المنازعة في الخلافة، ولهذا
أتبعا ذلك بمنع فاطمة وعلي وسائر بني هاشم وبني المطلب حقهم في الخمس، فإن الفقير الذي لا مال له
تضعف همته ويتصاغر عند نفسه، ويكون مشغولاً بالأحتراس والأكتساب عن طلب الملك
والرياسة، فانظر إلى ما قد وقر في صدور هؤلاء، وهو داء لا دواء له، وما
أكثر ما تزول الأخلاق والشيم، فأما العقائد الراسخة فلا سبيل إلى زوالها! الفصل الثاني في النظر
في أن النبي صلى الله عليه وسلم هل يورث أم لا. نذكر
في هذا الموضع ما حكاه المرتضى رحمه الله في الشافي عن قاضي القضاة في هذا المعنى، وما
اعترضه به، وإن استضعفنا شيئا ًمن ذلك قلنا ما عندنا، وإلا تركناه على حاله. ولسنا نجعله
مدعياً لأنه لم يدع ذلك لنفسه، وإنما بين أنه ليس بميراث، وأنه صدقة، ولا يمتنع
تخصيص القرآن بذلك، كما يخص في العبد والقاتل وغيرهما، وليس ذلك بنقص في
الأنبياء، بل هو إجلال لهم، يرفع الله به قدرهم عن أن يورثوا المال، وصار ذلك من
أوكد الدواعي ألا يتشاغلوا بجمعه، لأن أحد الدواعي القوية إلى ذلك تركه على
الأولاد والأهلين. ولما
سمعت فاطمة رضي الله عنها ذلك من أبي بكر كفت
عن الطلب فيما ثبت من الأخبار الصحيحة، فلا يمتنع أن
تكون غير عارفة بذلك، فطلبت الإرث، فلما
روى لها ما روى كفت. فأصابت أولاً وأصابت ثانياً. قال: ثم حكى عن أبي علي أنه قال: أتعلمون كذب أبي بكر
في هذه الروآية، أم تجوزون أن يكون صادقاً، قال:
وقد علم أنه لا شيء يقطع به على كذبه، فلا بد من تجويز كونه صادقاً. وإذا
صح ذلك قيل لهم: فهل كان يحل له مخالفة الرسول، فإن قالوا: لوكان صدقاً لظهر واشتهر قيل لهم: إن ذلك من باب العمل، ولا يمتنع أن ينفرد
بروايته جماعة يسيرة، بل الواحد و الأثنان، مثل سائر الأحكام ومثل الشهادات، فإن قالوا نعلم أنه لا يصح لقوله تعالى في كتابه: "وورث سليمان داود". قيل لهم: ومن أين أنه
ورثه الأموال، مع تجويز أن يكون ورثه العلم والحكمة؟ فإن قالوا: إطلاق الميراث لا يكون إلا في الأموال، قيل لهم: إن كتاب الله يبطل قولكم، لأنه قال: "ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا"،
والكتاب ليس بمال، ويقال في اللغة: ما ورثت
الأبناء عن الأباء شيئاً أفضل من أدب حسن،
وقالوا: العلماء ورثة الأنبياء، وإنما ورثوا منهم العلم
دون المال، على أن في آخر الآية ما يدل
على ما قلناه، وهو قوله تعالى حاكياً عنه: "وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من
كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين"، فنبه على
أن الذي ورث هو هذا العلم وهذا الفضل، و الأ لم
يكن لهذا القول تعلق بالأول. فإن قالوا:
فقد قال تعالى: "فهب لي من لدنك ولياً يرثني
ويرث من آل يعقوب"، وذلك يبطل الخبر!
قيل لهم: ليس في ذلك بيان المال أيضاً، وفي
الآية ما يدل على أن المراد النبوة والعلم، لأن
زكريا خاف على العلم أن يندرس، وقوله: "وإني خفت الموالي من ورائي" يدل على ذلك، لأن الأنبياء لا تحرص على الأموال حرصاً يتعلق
خوفها بها، وإنما أراد خوفه على العلم أن يضيع، فسأل الله تعالى ولياً
يقوم بالدين مقامه. وقوله: "ويرث
من آل يعقوب" يدل على أن المراد العلم والحكمة، لأنه لا يرث أموال
يعقوب في الحقيقة، وإنما يرث ذلك غيره. قال: فأما من يقول: إن المراد: إنا معاشر الأنبياء لا
نورث، ما تركناه صدقة، أي ما جعلناه صدقة في حال حياتنا لا نورثه، فركيك من القول، لأن إجماع الصحابة يخالفه، لأن أحداً لم يتأوله على هذا الوجه، لأنه لا
يكون في ذلك تخصيص الأنبياء، ولا مزية لهم، ولأن
قوله: ما تركناه صدقة، جملة من الكلام مستقلة بنفسها، كأنه عليه السلام مع
بيانه أنهم لا يورثون المال، يبين أنه صدقة، لأنه كان
يجوز الأ يكون ميراثاً، ويصرف إلى وجه آخر غير الصدقة. قال:
فأما خبر السيف والبغلة والعمامة وغيرذلك، فقد قال
أبو علي: إنه لم يثبت أن أبا بكر دفع ذلك إلى
أمير المؤمنين رضي الله عنه على جهة الإرث، كيف يجوز ذلك مع الخبر الذي
رواه، وكيف يجوز لو كان وارثاً أن يخصه بذلك ولا إرث له
مع العم لأنه عصبة! فإن كان وصل إلى فاطمة رضي الله عنها فقد
كان ينبغي أن يكون العباس شريكاً في ذلك وأزواج الرسول صلى الله عليه وسلم،
ولوجب أن يكون ذلك ظاهراً مشهوراً ليعرف أنهم أخذوا نصيبهم من ذلك أو بدله، ولا يجب إذا لم يدفع أبو بكر ذلك إليه على جهة الإرث
ألا يحصل ذلك في يده، لأنه قد يجوز أن يكون
النبي صلى الله عليه وسلم نحله ذلك، ويجوز
أيضاً أن يكون أبو بكر رأى الصلاح في ذلك
أن يكون بيده لما فيه من تقوية الدين، وتصدق ببدله بعد التقويم، لأن الأمام له أن يفعل ذلك. ثم قال: نحن نبين أولاً ما يدل على أنه صلى الله عليه وسلم يورث
المال، ونرتب الكلام في ذلك الترتيب الصحيح، ثم
نعطف على ما أورده، ونتكلم عليه. والذي يدل على أن المراد بالميراث المذكور ميراث المال دون
العلم والنبوة على ما يقولون أن لفظة الميراث في اللغة
والشريعة لا يفيد إطلاقها إلا على ما يجوز أن ينتقل على الحقيقة من
الموروث إلى الوارث، كالأموال وما في معناها، ولا
يستعمل في غير المال إلا تجوزاً واتساعاً، ولهذا لا يفهم من قول القائل: لا وارث لفلان إلا فلان، وفلان يرث مع فلان بالظاهر
والإطلاق إلا ميراث الأموال و الأعراض دون العلوم وغيرها. وليس لنا أن
نعدل عن ظاهر الكلام وحقيقته إلى مجازه بغير دلالة.
وأيضاً فإنه تعالى خبر عن نبيه أنه اشترط في وارثه أن يكون
رضياً، ومتى لم يحمل الميراث في الآية على المال دون العلم والنبوة لم يكن للأشتراط معنى، وكان لغوا وعبثاً، لأنه إذا كان
إنما سأل من يقوم مقامه، ويرث مكانه فقد دخل الرضا وما هو أعظم من الرضا في جملة
كلامه وسؤاله، فلا مقتضى لاشتراطه، ألا ترى أنه
لا يحسن أن يقول: اللهم ابعث إلينا نبياً واجعله
عاقلاً، ومكلفاً، فإذا ثبتت هذه الجملة صح أن زكريا موروث ماله، وصح أيضاً
لصحتها أن نبينا صلى الله عليه وسلم ممن يورث المال، لأن الإجماع واقع على أن حال نبينا صلى الله عليه وسلم لا يخالف حال الأنبياء المتقدمين في ميراث المال، فمن مثبت للأمرين
وناف للأمرين. قلت: إن شيخنا أبا الحسين قال في كتاب
الغرر: صورة الخبر الوارد في هذا الباب، وهو الذي رواه أبو بكر: "لا نورث"، ولم يقل: "نحن معاشر الأنبياء لا نورث "،
فلا يلزم من كون زكريا يورث الطعن في الخبر، وتصفحت
أنا كتب الصحاح في الحديث فوجدت صيغة الخبر كما قاله أبو الحسين، وإن كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم عنى
نفسه خاصةً لذلك، فقد سقط احتجاج الشيعة بقصة زكريا
وغيره من الأنبياء، إلا أنه يبعد عندي أن يكون
أراد نفسه خاصة، لأنه لم تجر عادته أن يخبر عن
نفسه في شيء بالنون. قلت: وإن ثبت له هذا الإجماع صح احتجاجه، ولكن ثبوته يبعد،
لأن من نفى كون زكريا رضي الله عنه موروثاً من الأمة إنما
نفاه لاعتقاده أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال:
"نحن معاشر الأنبياء"، فإذا كان لم
يقل هكذا، لم يقل: إن زكريا عليه السلام غير موروث. فإن قيل: هذا
يرجع عليكم في الخوف عن إرث المال لأن ذلك غآية الضن والبخل. قلنا: معاذ
الله أن يستوي الحال، لأن المال قد يصح أن يرزقه الله تعالى المؤمن والكافر
والعدو والولي، ولا يصح ذلك في النبوة وعلومها. وليس من الضن أن يأسى على بني عمه - وهم من أهل الفساد - أن
يظفروا بماله فينفقوه على المعاصي، ويصرفوه في غير وجوهه المحبوبة، بل ذلك غآية الحكمة وحسن التدبير في الدين، لأن الدين
يحظر تقوية الفساق و إمدادهم بما يعينهم على طرائقهم المذمومة، وما يعد ذلك شحاً ولا بخلاً إلا من لا تأمل له. فإن كان الأول فهو
يرجع إلى معنى المال، ويصحح أن الأنبياء يورثون
أموالهم وما في معناها، وإن كان الثاني لم يخل
هذا من أن يكون هو العلم الذي بعث النبي لنشره وأدائه، أو أن يكون علماً مخصوصاً
لا يتعلق بالشريعة، ولا يجب إطلاع جميع الأمة عليه، كعلم
العواقب وما يجري في مستقبل الأوقات، وما جرى مجرى ذلك. والقسم
الأول لا يجوز على النبي أن يخاف من وصوله إلى بني عمه وهم من جملة أمته الذين بعث لإطلاعهم على ذلك، وتأديته إليهم، وكأنه
على هذا الوجه يخاف مما هو الغرض من بعثته. والقسم
الثاني فاسد أيضاً، لأن هذا العلم المخصوص إنما
يستفاد من جهته، ويوقف عليه بإطلاعه وإعلامه، وليس هو مما يجب نشره في جميع
الناس، فقد كان يجب إذا خاف من إلقائه إلى بعض الناس فساداً ألا يلقيه إليه،
فإن ذلك في يده، ولا يحتاج إلى أكثر من ذلك. وقيل:
إنه
رواه معه مالك بن أوس بن الحدثان، و أما
المهاجرون الذين ذكرهم قاضي القضاة فإنما شهدوا
بالخبر في خلافة عمر، وقد تقدم ذكر ذلك. قال: وليس لهم أن يقولوا: إن التخصيص بأخبار
الآحاد يستند أيضاً إلى علم، وإن كان الطريق مظنوناً، ويشيروا إلى ما يدعونه من
الدلالة على وجوب العمل بخبر الواحد في الشريعة، وأنه حجة، لأن ذلك مبني من
قولهم على ما لا نسلمه، وقد دل الدليل على فساده - أعني قولهم: خبر الواحد حجة في الشرع - على
أنهم لو سلم لهم ذلك لاحتاجوا إلى دليل مستأنف على أنه يقبل في تخصيص القرآن،
لأن ما دل على العمل به في الجملة لا يتناول هذا الموضع، كما لا يتناول جواز
النسخ به. ومن
نظر في كتب التواريخ عرف ذلك، فإن كان هذا العدد إنما يفيد
الظن فالقول في آيات الكتاب كذلك وإن كانت آيات الكتاب أثبتت عن علم مستفاد من
روآية هذا العدد ونحوه، فالخبر مثل ذلك. قال
المرتضى رضي الله عنه: وهذا يسقط قول صاحب الكتاب: إن شاهدين
لو شهدا أن في التركة حقاً لكان يحب أن ينصرف عن الإرث،
وذلك لأن الشهادة وإن كانت مظنونة فالعمل بها
يستند إلى علم، لأن الشريعة قد قررت العمل بالشهادة ولم تقرر العمل بخبر الواحد، وليس له أن يقيس خبر الواحد
على الشهادة من حيث اجتمعا في غلبة الظن، لأنا
لا نعمل على الشهادة من حيث غلبة الظن دون ما ذكرناه من تقرير الشريعة العمل
بها، ألا ترى أنا قد نظن بصدق الفاسق والمرأة
والصبي وكثير ممن لا يجوز العمل بقوله! فبان أن المعول في هذا على المصلحة التي
نستفيدها على طريق الجملة من دليل الشرع. أترى أيكون
المتوفر على أبي بكر وشهوده من التركة عشر عشر درهم! ما أظن أنه يبلغ ذلك. وكم
مقدار ما يقلل حصص الشهود على أبي هريرة إذا
شركهم أهله في التركة، لتكون هذه القلة موجبة رفع التهمة، وتلك الزيادة والكثرة
موجبة حصول التهمة! وهذا الكلام لا أرتضيه للمرتضى. فأما
قوله:
وليس ذلك ينقص الأنبياء، بل هو إجلال لهم، فمن الذي
قال له: إن فيه نقصاً! وكما أنه لا نقص فيه، فلا إجلال فيه ولا فضيلة،
لأن الداعي وإن يكن قد يقوي على جمع المال ليخلف على الورثة، فقد يقويه أيضاً
إرادة صرفه في وجوه الخير والبر، وكلا الأمرين يكون
داعياً إلى تحصيل المال، بل الداعي الذي ذكرناه أقوى فيما يتعلق بالدين. ثم اجتمعت الروايتان من ههنا.. ونساء قومها تطأ ذيولها
ما تخرم مشيتها مشية رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخلت على أبي بكر وهو في حشد من المهاجرين
والأنصار وغيرهم،
فنيطت دونها ملاءة ، ثم أنت أنة أجهش لها القوم بالبكاء، وارتج المجلس، ثم أمهلت
هنيهة حتى إذا سكن نشيج القوم وهدأت فورتهم، افتتحت كلامها بالحمد لله عز وجل
والثناء عليه، والصلاة على رسول الله صلى
الله عليه وسلم، ثم قالت:
"لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم
حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم"، فإن تعزوه تجدوه أبي دون آبائكم،
وأخا ابن عمي دون رجالكم، فبلغ الرسالة صادعاً بالنذارة، مائلاً عن سنن
المشركين، ضارباً ثبجهم، يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، آخذاً
بأكظام المشركين، يهشم الأصنام، ويفلق الهام ، حتى انهزم الجمع وولوا الدبر،
وحتى تفرى الليل عن صبحه، وأسفر الحق عن محضه، ونطق زعيم الدين، وخرست شقائق
الشياطين، وتمت كلمة الإخلاص، وكنتم على شفا
حفرة من النار، نهزة الطامع، ومذقة الشارب. وقبسة العجلان، وموطأ الأقدام،
تشربون الطرق، وتقتاتون القد، أذلة خاسئين، يختطفكم الناس من حولكم، حتى أنقذكم الله برسوله صلى الله عليه وسلم بعد اللتيا والتي، وبعد أن مني بهم الرجال وذؤبان العرب
ومردة أهل الكتاب، و "كلما أوقدوا ناراً للحرب
أطفاها الله"، أو نجم قرن الشيطان، أو فغرت فاغرة قذف أخاه في
لهواتها. ولا ينكفي حتى يطأ صماخها بإخمصه ويطفىء عادية لهبها بسيفه -
أو قالت: يخمد لهبها بحده - مكدوداً في ذات
الله، وأنتم في رفاهية فكهون آمنون وادعون. يابن أبي قحافة، أترث أباك ولا أرث أبي، لقد جئت
شيئاً فرياً! فدونكها مخطومة مرحولة، تلقاك يوم حشرك، فنعم الحكم الله، والزعيم
محمد، والموعد القيامة، وعند الساعة يخسر المبطلون! ثم انكفأت إلى قبر أبيها صلى الله عليه وسلم، فقالت:
وروى حرمي بن أبي العلاء مع هذين البيتين بيتاً ثالثاً:
قال: فحمد أبو بكر الله وأثنى عليه وصلى على رسوله صلى الله عليه وسلم وقال: يا خير النساء، وابنة خير الأباء،
والله ما عدوت رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عملت إلا بإذنه، وإن
الرائد لا يكذب أهله، وإني أشهد الله وكفى بالله شهيداً،
أني سمعت رسول الله يقول، "إنا معاشر
الأنبياء لا نورث ذهباً، ولا فضةً ولا داراً ولا عقاراً، وإنما نورث الكتاب
والحكمة والعلم والنبوة ". قال المرتضى: وأخبرنا أبو عبد الله المرزباني: قال: حدثني علي
بن هارون، قال: أخبرني عبيد الله بن أحمد بن أبي طاهر، عن أبيه قال: ذكرت لأبي الحسين زيد
بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كلام فاطمة رضي الله عنها
عند منع أبي بكر إياها فدك، وقلت له: إن هؤلاء يزعمون
أنه مصنوع وأنه من كلام أبي العيناء، لأن الكلام
منسوق البلاغة، فقال لي: رأيت مشايخ آل أبي طالب
يروونه عن آبائهم ويعلمونه أولادهم، وقد حدثني به أبي
عن جدي يبلغ به فاطمة رضي الله عنها
على هذه الحكآية، وقد رواه مشايخ الشيعة وتدارسوه قبل أن يوجد جد أبي
العيناء، وقد حدث الحسين بن علوان، عن عطية العوفي، أنه سمع عبد الله بن
الحسن بن الحسن يذكر عن أبيه هذا الكلام.
قال: فما رأينا يوماً أكثر باكياً أو باكيةً من ذلك اليوم. قلت: ليس في هذا الخبر ما يدل على فساد ما
ادعاه قاضي القضاة، لأنه ادعى أنها نازعت وخاصمت ثم كفت لما سمعت الروآية وانصرفت،
تاركةً للنزاع، راضيةً بموجب الخبر المروي. وما ذكره المرتضى من هذا الكلام لا يدل إلا على سخطها حال حضورها، ولا يدل على أنها بعد روآية الخبر وبعد أن أقسم لها أبو بكر
بالله تعالى أنه ما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ما سمعه منه، انصرفت ساخطة،
ولا في الحديث المذكور والكلام المروي ما يدل على ذلك،
ولست أعتقد أنها انصرفت راضية كما قال قاضي القضاة، بل أعلم أنها انصرفت ساخطة، وماتت وهي على أبي بكر واجدة ، ولكن لا من هذا الخبر، بل
من أخبار أخر، كان الأولى بالمرتضى أن يحتج بها على ما يرويه في انصرافها ساخطة، وموتها
على ذلك السخط، وأما هذا الخبر وهذا الكلام فلا يدل
على هذا المطلوب. وقولهم: ما ورثت الأبناء من الأباء شيئاً أفضل من أدب حسن، وقولهم: العلماء ورثة الأنبياء، فعجيب، لأن كل ما ذكر
مقيد غير مطلق، وإنما قلنا إن مطلق لفظ الميراث من غير قرينة ولا تقييد يفيد
بظاهره ميراث الأموال، فبعد ما ذكره وعارض به لا يخفى
على متأمل. فأما استدلائه
على أن سليمان ورث داود علمه دون ماله بقوله: "يا
أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين"
وأن المراد أنه ورث العلم والفضل، و إلا لم يكن لهذا
القول تعلق بالأول، فليس بشيء يعول عليه، لأنه لا يمتنع أن يريد به أنه ورث المال بالظاهر والعلم بهذا
المعنى من الأستدلال، فليس يجب إذا دلت الدلالة في بعض الألفاظ على معنى المجاز
أن يقتصر بها عليه، بل يجب أن يحملها على الحقيقة التي هي الأصل إذا لم يمنع من
ذلك مانع، على أنه لا يمتنع أن يريد ميراث المال خاصة، ثم يقول مع ذلك: "علمنا منطق الطير"، ويشير ب "الفضل المبين " إلى العلم والمال جميعاً، فله بالأمرين جميعاً فضل على
من لم يكن عليهما، وقوله: "وأوتينا من كل
شيء" يحتمل المال كما يحتمل العلم، فليس بخالص ما ظنه. فإن
قيل:
فهبوا أن الأمر كما ذكرتم من أن زكريا كان يأمن على العلم أن يندرس، أليس لا بد
أن يكون مجوزاً أن يحفظه الله تعالى بمن هو من أهله وأقاربه، كما يجوز حفظه
بغريب أجنبي! فما
أنكرتم أن يكون خوفه إنما كان من بني عمه ألا يتعلموا
العلم ولا يقوموا فيه مقامه، فسأل الله ولداً يجمع فيه هذه العلوم حتى لا يخرج
العلم عن بيته، ويتعدى إلى غير قومه، فيلحقه بذلك وصمة! قلنا: أما إذا رتب السؤال هذا الترتيب، فالجواب
عنه ما أجبنا به صاحب الكتاب، وهو أن الخوف الذي أشاروا إليه ليس من ضرر
ديني، وإنما هو من ضرر دنياوي، والأنبياء إنما بعثوا لتحمل المضار الدنياوية،
ومنازلهم في الثواب إنما زادت على كل المنازل لهذا الوجه، ومن كانت حاله هذه الحال، فالظاهر من خوفه إذا لم يعلم
وجهه بعينه أن يكون محمولاً على مضار الدين، لأنها هي جهة خوفهم، والغرض في
بعثهم تحمل ما سواها من المضار، فإذا قال النبي صلى الله عليه: "أنا خائف"، فلم يعلم جهة خوفه على التفصيل، يجب أن يصرف
خوفه بالظاهر إلى مضار الدين دون الدنيا، لأن أحوالهم
وبعثهم يقتضي ذلك، فإذا كنا لو اعتدنا من بعضنا الزهد في الدنيا وأسبابها،
والتعفف عن منافعها، والرغبة في الآخرة، والتفرد بالعمل لها، لكنا نحمل على ما
يظهر لنا من خوفه الذي لا يعلم وجهه بعينه على ما هو أشبه وأليق بحاله، ونضيفه
إلى الآخرة دون الدنيا، وإذا كان هذا واجباً فيمن
ذكرناه فهو في الأنبياء عليهم السلام أوجب. قلت: ينبغي ألا يقول المعترض: فيلحقه بذلك
وصمة، فيجعل الخوف من هذه الوصمة، بل يقول: إنه خاف ألا يفلح بنو عمه ولا
يتعلموا العلم، لما رأى من الأمارات الدالة على ذلك، فالخوف
على هذا الترتيب يتعلق بأمر ديني لا دنيوي، فسأل الله تعالى أن يرزقه
ولداً يرث عنه علمه، أي يكون عالماً بالدينيات كما أنا عالم بها. وهذا
السؤال متعلق بأمر ديني لا دنيوي. وعلى هذا يندفع ما ذكره المرتضى، على أنه لا يجوز
إطلاق القول بأن الأنبياء بعثوا لتحمل المضار الدنياوية، ولا القول: الغرض في
بعثهم تحمل ما سوى المضار الدينية من المضار، فإنهم ما
بعثوا لذلك، ولا الغرض في بعثتهم ذلك، وإنما بعثوا لأمر آخر. وقد تحصل
المضار في أداء الشرع ضمناً وتبعاً، لا على أنها الغرض، ولا داخلة في الغرض، وعلى أن قول المرتضى: لا يجوز أن يخاف زكريا من
تبديل الدين وتغييره، لأنه محفوظ من الله، فكيف يخاف ما لا يحاف من مثله، غير
مستمر على أصوله! لأن المكلفين الآن قد حرموا بغيبة
الأمام عنده ألطافاً كثيرة الوصلة بالشرعيات كالحدود وصلاة الجمعة والأعياد، وهو
وأصحابه يقولون في ذلك إن اللوم على المكلفين، لأنهم قد حرموا أنفسهم اللطف،
فهلا جاز أن يخاف زكريا من تبديل الدين وتغييره، وإفساد الأحكام الشرعية! لأنه إنما يجب على الله تعالى التبليغ بالرسول إلى المكلفين
فإذا أفسدوا هم الأديان وبدلوها لم يجب عليه أن يحفظها عليهم، لأنهم هم الذين حرموا أنفسهم اللطف. وتقول
له أيضاً: لقد جئت شيئاً فرياً فكان ينبغي إذا لم يؤثر أمير
المؤمنين رضي الله عنه أن يفسر لأبي بكر معنى الخبر أن
يعلم فاطمة رضي الله عنها تفسيره، فتقول لأبي بكر: أنت
غالط فيما ظننت، إنما قال أبي: ما تركناه صدقة، فإنه لا
يورث. قلت:
هذه مخالفة لظاهر الكلام، وإحالة اللفظ عن وضعه، وبين
قوله: ما ننوي فيه الصدقة، وهو بعد في ملكنا ليس بموروث، وقوله: ما نخلفه صدقة ليس بموروث فرق عظيم، فلا يجوز أن يراد أحد المعنيين باللفظ المفيد للمعنى
الأخر، لأنه إلباس وتعمية. وأيضاً، فإن العلماء ذكروا خصائص الرسول في الشرعيات عن أمته
وعددوها، نحو حل الزيادة في النكاح على أربع، ونحو النكاح بلفظ الهبة على قول
فرقة من المسلمين، ونحو تحريم أكل البصل والثوم عليه، وإباحة شرب دمه، وغير ذلك، ولم يذكروا في خصائصه أنه إذا كان قد نوى أن
يتصدق بشيء فإنه لا يناله ورثته، لو قدرنا أنه يورث الأموال، ولا الشيعة قبل المرتضى ذكرت ذلك، ولا رأينا في كتاب من
كتبهم، وهو مسبوق بإجماع طائفته عليه، وإجماعهم عندهم حجة. قال
المرتضى: فأما قوله: إن قوله رضي
الله عنه: ما تركناه صدقة، جملة من الكلام مستقلة بنفسها، فصحيح إذا كانت لفظة ما مرفوعة على الأبتداء، ولم تكن
منصوبة بوقوع الفعل عليها، وكانت لفظة صدقة
أيضاً مرفوعة غير منصوبة، وفي هذا وقع النزاع،
فكيف يدعي أنها جملة مستقلة بنفسها! وأقوى ما يمكن أن
نذكره أن نقول: الروآية جاءت بلفظ صدقة بالرفع، وعلى
ما تأولتموه لا تكون إلا منصوبة، والجواب عن
ذلك أنا لا نسلم الروآية بالرفع، ولم تجر عادة
الرواة بضبط ما جرى هذا المجرى من الأعراب، والأشتباه يقع في مثله، فمن حقق منهم وصرح بالروآية بالرفع يجوز أن يكون اشتبه عليه
فظنها مرفوعة، وهي منصوبة. قال
المرتضى رضي الله عنه في البردة والقضيب: إن كان نحلة،
أو على الوجه الأخر، يجري مجرى ما ذكرناه في وجوب الظهور و الأستشهاد، ولسنا نرى أصحابنا - يعني المعتزلة - يطالبون أنفسهم في
هذه المواضع بما يطالبوننا بمثله إذا ادعينا
وجوهاً وأسباباً وعللاً مجوزة، لأنهم لا يقنعون منا بما يجوز ويمكن، بل يوجبون فيما ندعيه الظهور والأستشهاد، وإذا كان هذا عليهم
نسوه أو تناسوه. قلت: الصحيح أن أمير المؤمنين رضي الله عنه لم ينازع بعد موت فاطمة في الميراث، وإنما نازع في الولآية لفدك
وغيرها من صدقات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجرى بينه وبين العباس في ذلك ما هو مشهور،
وأما أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فما
ثبت أنهن نازعن في ميراثه، ولا أن عثمان كان المرسل لهن، والمطالب عنهن، إلا في
روآية شاذة، و الأزواج لما عرفن أن فاطمة رضي
الله عنها قد دفعت عن الميراث أمسكن، ولم
يكن قد نازعن، وإنما اكتفين بغيرهن، وحديث فدك وحضور
فاطمة عند أبي بكر كان بعد عشرة أيام من وفاة رسول الله صلى
الله عليه وسلم، والصحيح أنه لم ينطق أحد
بعد ذلك من الناس من ذكر أو أنثى بعد عود فاطمة رضي
الله عنها من
ذلك المجلس بكلمة واحدة في الميراث. قلت:
قد مضى أن ترك النكير لا يكون دليل الرضا إلا في هذا
الموضع الذي لا يكون له وجه سوى الرضا، وذكرنا في ذلك قولاً شافياً، وقد أجاب أبو عثمان الجاحظ في كتاب العباسية عن هذا السؤال
جواباً حسن المعنى واللفظ، نحن نذكره على وجهه، ليقابل بينه وبين كلامه في
العثمانية وغيرها. قال:
قال أبو عثمان: وقد زعم أناس أن الدليل على صدق
خبرهما - يعني أبا بكر وعمر - في
منع الميراث وبراءة ساحتهما، ترك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم النكير
عليهما. ثم
قال: قد يقال لهم: لئن كان ترك النكير دليلاً على
صدقهما، ليكونن ترك النكير على المتظلمين والمحتجين عليهما، والمطالبين لهما،
دليلاً على صدق دعواهم، أو استحسان مقالتهم، ولا سيما وقد طالت المناجاة، وكثرت
المراجعة والملاحاة ، وظهرت الشكية، واشتدت الموجدة. وقد
بلغ ذلك من فاطمة رضي الله عنها، حتى إنها أوصت ألا يصلي عليها أبو بكر، ولقد
كانت قالت له حين أتته طالبة بحقها، ومحتجة لرهطها:
من يرثك يا أبا بكر إذا مت، قال: أهلي وولدي، قالت: فما بالنا لا نرث النبي صلى
الله عليه وسلم!
فلما منعها ميراثها وبخسها حقها واعتل عليها وجلح في أمرها،
وعاينت التهضم، وأيست من التورع، ووجدت نشوة الضعف وقلة الناصر، قالت: والله لأدعون الله عليك، قال: والله لأدعون الله لك، قالت:
والله لا أكلمك أبداً، قال: والله لا أهجرك
أبداً. فإن يكن ترك
النكير على أبي بكر دليلاً على صواب منعها، إن
في ترك النكير على فاطمة رضي الله عنها دليلاً على صواب طلبها! وأدنى ما كان
يجب عليهم في ذلك تعريفها ما جهلت، وتذكيرها ما نسيت،
وصرفها عن الخطأ ورفع قدرها عن البذاء، وأن تقول
هجراً، أو تجور عادلاً، أو تقطع واصلاً، فإذا لم تجدهم
أنكروا على الخصمين جميعاً فقد تكافأت الأمور، واستوت الأسباب، والرجوع
إلى أصل حكم الله من المواريث أولى بنا وبكم، وأوجب علينا وعليكم. وكيف جعلتم
ترك النكير حجة قاطعة، ودلالة واضحة، وقد زعمتم أن عمر
قال على منبره: متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى
الله عليه وسلم:
متعة النساء، ومتعة الحج، أنا أنهى عنهما، وأعاقب عليهما،
فما وجدتم أحداً أنكر قوله، ولا استشنع مخرج نهيه، ولا خطأه في معناه، ولا تعجب
منه، ولا استفهمه! وكيف تقضون بترك النكير وقد
شهد عمر يوم السقيفة وبعد ذلك أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال:
"الأئمة من قريش"، ثم قال في
شكاته: لوكان سالم حياً ما تخالجني فيه شك، حين أظهر الشك في استحقاق كل واحد من
الستة الذين جعلهم شورى، وسالم عبد لأمرأة من الأنصار،
وهي أعتقته، وحازت ميراثه ثم لم ينكر ذلك من قوله منكر، ولا قابل إنسان
بين قوله، ولا تعجب منه، وإنما يكون ترك النكير على من لارغبة ولارهبة عنده
دليلاً على صدق قوله، وصواب عمله، فأما ترك النكير على
من يملك الضعة والرفعة، و الأمر والنهي، والقتل و الاستحياء، والحبس و الأطلاق،
فليس بحجة تشفي، ولا دلالة تضيء. قلنا: إنهما لم يجحدا التنزيل، ولم ينكرا
النصوص، ولكنهما بعد إقرارهما بحكم الميراث وما عليه الظاهر من الشريعة ادعيا
روآية، وتحدثا بحديث لم يكن محالأ كونه، ولا ممتنعاً في حجج العقول مجيئه، وشهد
لهما عليه من علته مثل علتهما فيه، ولعل بعضهم كان يرى تصديق الرجل إذا كان
عدلاً في رهطه، مأمونا في ظاهره، ولم يكن قبل ذلك عرفه بفجرة ، ولا جرت عليه
غدرة، فيكون تصديقه له على جهة حسن الظن وتعديل الشاهد، ولأنه لم يكن كثير منهم
يعرف حقائق الحجج، والذي يقطع بشهادته على الغيب، وكان ذلك شبهة على أكثرهم،
فلذلك قل النكير وتواكل الناس، فاشتبه الأمر، فصار لا يتخلص إلى معرفة حق ذلك من
باطله إلا العالم المتقدم، أو المؤيد المرشد، ولأنه لم يكن لعثمان في صدور
العوام وقلوب السفلة والطغام ما كان لهما من المحبة والهيبة ولأنهما كانا أقل
استئثاراً بالفيء، وتفضلاً بمال الله منه، ومن شأن الناس إهمال السلطان ما وفر
عليهم أموالهم، ولم يستأثر بخراجهم، ولم يعطل ثغورهم. ولأن
الذي صنع أبو بكر من منع العترة حقها، والعمومة ميراثها، قد كان موافقاً لجلة قريش وكبراء العرب، ولأن عثمان
أيضاً كان مضعوفاً في نفسه، مستخفاً بقدره، لا يمنع ضيماً، ولا يقمع عدواً، ولقد
وثب الناس على عثمان بالشتم والقذف والتشنيع والنكير، لأمور لو أتى أضعافها وبلغ
أقصاها لما اجترأوا على اغتيابه، فضلاً على مبادأته و الإغراء به ومواجهته، كما
أغلظ عيينة بن حصن له فقال له: أما إنه لو كان عمر
لقمعك ومنعك، فقال عيينة: إن عمر كان خيراً لي منك، أرهبني فاتقاني. الفصل الثالث. في
أن فدك هل صح كونها نحلة رسول الله صلى الله عليه وسلم لفاطمة رضي الله عنها أم
لا. نذكر في هذا الفصل ما حكاه المرتضى عن قاضي
القضاة في المغني، وما اعترض به عليه، ثم نذكر ما عندنا في ذلك. قالوا: ولا شك أن أبا بكر أغضبها، إن لم يصح
كل الذي روي في هذا الباب، وقد كان الأجمل أن يمنعهم التكرم مما ارتكبوا منها
فضلاً عن الدين، ثم ذكروا أنها استشهدت أمير
المؤمنين رضي الله عنه و أم أيمن، فلم يقبل شهادتهما، هذا مع تركه أزواج
النبي صلى الله عليه وسلم في
حجرهن، ولم يجعلها صدقةً، وصدقهن في ذلك أن ذلك لهن ولم يصدقها. قال:
والجواب عن ذلك أن أكثر ما تروون في هذا الباب غير صحيح، ولسنا ننكر صحة ما روي من ادعائها فدك،
فأما أنها كانت في يدها فغير مسلم، بل إن
كانت في يدها لكان الظاهر أنها لها، فإذا كانت في جملة التركة فالظاهر أنها ميراث، وإذا كان كذلك فغير جائز لأبي بكر قبول
دعواها، لأنه لا خلاف في أن العمل على
الدعوى لا يجوز، وإنما يعمل على مثل ذلك إذا علمت صحته بمشاهدة، أو
ما جرى مجراها، أو حصلت بينة أو إقرار، ثم إن البينة
لا بد منها، وإن أمير المؤمنين رضي الله عنه لما خاصمه اليهودي حاكمه، وإن أم سلمة
التي يطبق على فضلها لو ادعت نحلاً ما قبلت دعواها. قال: وقد أنكر أبو علي ما قاله السائل من أنها لما ردت في دعوى النحلة
ادعته إرثاً، وقال: بل كان طلب الإرث قبل ذلك،
فلما سمعت منه الخبر كفت وادعت النحلة. وروي في الأخبار أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم
ما كان له من الحجر على نسائه وبناته. ويبين صحة
ذلك أنه لوكان ميراثاً أو صدقة لكان أمير
المؤمنين رضي الله عنه لما أفضى الأمر إليه يغيره. قال:
ونحن لا نصدق هذه الروايات ولا نجوزها. و أما أمر
الصلاة فقد روي أن أبا بكر هو الذي صلى على فاطمة رضي الله عنها، وكبر عليها أربعاً، وهذا أحد ما استدل به كثير من الفقهاء في التكبير
على الميت، ولا يصح أنها دفنت ليلاً، وإن صح ذلك فقد دفن رسول الله صلى
الله عليه وسلم
ليلاً،
ودفن عمر ابنه ليلاً، وقد كان أصحاب رسول الله صلى
الله عليه وسلم يدفنون
بالنهار ويدفنون بالليل، فما في هذا مما يطعن به، بل الأقرب في النساء أن دفنهن ليلاً أستر وأولى بالسنة. وهل
هذه الروآية إلا كروايتهم على أن علي بن أبي
طالب رضي الله عنه هو
إسرافيل والحسن ميكائيل والحسين جبرائيل وفاطمة ملك الموت، و آمنة أم النبي صلى الله عليه وسلم ليلة
القدر! فإن صدقوا ذلك أيضاً قيل لهم: فعمر بن الخطاب كيف يقدر على ضرب ملك
الموت! وإن قالوا: لا نصدق ذلك، فقد جوزوا
رد هذه الروايات، وصح أنه لا يجوز التعويل على هذا
الخبر وإنما يتعلق بذلك من غرضه الألحاد كالوراق،
وابن الراوندي لأن غرضهم القدح في الإسلام. انتهى
كلام قاضي القضاة. وأيضاً
فيدل على ذلك قوله رضي
الله عنه: فاطمة بضعة مني، من آذاها فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله
عز وجل"، وهذا يدل على عصمتها، لأنها لو كانت ممن تقارف
الذنوب لم يكن من يؤذيها مؤذياً له على كل حال،
بل كان متى فعل المستحق من ذمها أو إقامة الحد عليها، إن كان الفعل يقتضيه ساراً
له ومطيعاً، على أنا لا نحتاج أن ننبه في هذا الموضع
على الدلالة على عصمتها، بل يكفي في هذا الموضع العلم
بصدقها فيما ادعته، وهذا لاخلاف فيه بين
المسلمين، لأن أحداً لا يشك أنها لم تدع ما
ادعته كاذبة، وليس بعد ألا تكون كاذبة إلا أن تكون صادقة، وإنما اختلفوا في هل يجب
مع العلم بصدقها تسليم ما ادعته بغير بينة أم لا يجب ذلك، قال: الذي يدل
على الفصل الثاني أن البينة إنما تراد ليغلب في الظن صدق المدعي، ألا ترى
أن العدالة معتبرة في الشهادات لما كانت مؤثرة في غلبة الظن لما ذكرناه، ولهذا
جاز أن يحكم الحاكم بعلمه من غير شهادة لأن علمه أقوى من الشهادة، ولهذا كان
الإقرار أقوى من البينة، من حيث كان أغلب في تأثير غلبة الظن، وإذا قدم الإقرار
على الشهادة لقوة الظن عنده، فأولى أن يقدم العلم على
الجميع، وإذا لم يحتج مع الإقرار إلى شهادة لسقوط حكم الضعيف مع القوي لا
يحتاج أيضاً مع العلم إلى ما يؤثر الظن من البينات والشهادات. والذي
يدل عل صحة ما ذكرناه أيضاً أنه لا خلاف بين أهل النقل في
أن أعرابياً نازع النبي صلى الله عليه وسلم في
ناقة، فقال صلى الله عليه وسلم: "هذه لي، وقد خرجت إليك من
ثمنها"، فقال
الأعرابي: من يشهد لك بذلك؟ فقال خزيمة بن
ثابت: أنا أشهد بذلك، فقال النبي صلى
الله عليه وسلم: "من
أين علمت وما حضرت ذلك"، قال: لا، ولكن علمت ذلك من حيث علمت أنك رسول الله، فقال:
"قد أجزت شهادتك، وجعلتها شهادتين"، فسمي ذا
الشهادتين. وقد
روي من طرق مختلفة غير طريق أبي سعيد الذي ذكره صاحب الكتاب أنه لما نزل قوله
تعالى: "وآت ذا القربى حقه" دعا النبي صلى الله عليه وسلم فأعطاها فدك! وإذا كان ذلك مروياً فلا
معنى لدفعه بغير حجة. و
أما قوله: إن أمير المؤمنين رضي
الله عنه حاكم يهودياً على الوجه الواجب
في سائر الناس، فقد روي ذلك، إلا أن أمير المؤمنين لم
يفعل من ذلك ما كان يجب عليه أن يفعله، وإنما تبرع به، واستظهر بإقامة
الحجة فيه، وقد أخطأ من طالبه ببينة كائناً من كان.
فأما اعتراضه بأم سلمة فلم يثبت من عصمتها ما ثبت من عصمة فاطمة رضي الله عنها، فلذلك
احتاجت في دعواها إلى بينة. فأما إنكاره
وادعاؤه أنه لم يثبت أن الشاهد في ذلك كان أمير المؤمنين، فلم يرد في ذلك إلا
مجرد الدعوى و الإنكار، والأخبار مستفيضة بأنه رضي الله عنه شهد لها، فدفع ذلك بالزيغ لا يغني شيئا! وقوله: إن الشاهد لها مولىً رسول الله صلى
الله عليه وسلم هو
المنكر الذي ليس بمعروف. وكيف
يجوز ذلك والميراث يشركها فيه غيرها، والنحل تنفرد به! ولا
ينقلب مثل ذلك علينا من حيث طالبت بالميراث بعد النحل، لأنها في الأبتداء طالبت
بالنحل، وهو الوجه الذي تستحق فدك منه، فلما دفعت عنه طالبت ضرورة بالميراث، لأن للمدفوع عن
حقه أن يتوصل إلى تناوله بكل وجه وسبب، وهذا بخلاف
قول أبي علي، لأنه أضاف إليها ادعاء الحق من وجه لا تستحقه منه، وهي مختارة. وقد روى محمد
بن زكريا الغلابي عن شيوخه، عن أبي المقداد هشام بن زياد مولى آل عثمان، قال: لما ولي عمر بن عبد العزيز رد فدك على ولد فاطمة،
وكتب إلى وليه على المدينة أبي بكر بن عمرو بن حزم يأمره بذلك، فكتب إليه: إن فاطمة قد ولدت في آل عثمان، وآل
فلان وفلان، فعلى من أرد منهم، فكتب إليه: أما
بعد، فإني لو كتبت إليك آمرك أن تذبح شاة لكتبت إلي: أجماء أم قرناء ، أو كتبت
إليك أن تذبح بقرة لسألتني: ما لونها، فإذا ورد
عليك كتابي هذا فاقسمها في ولد فاطمة عليه
السلام
من
علي
عليه السلام، والسلام. قال
أبو المقدام: فنقمت بنو أمية ذلك على عمر بن عبد
العزيز وعاتبوه فيه، وقالوا له: هجنت فعل
الشيخين، وخرج إليه عمر بن قيس في جماعة من أهل الكوفة، فلما عاتبوه على فعله
قال: إنكم جهلتم وعلمت، ونسيتم وذكرت، إن أبا بكر محمد بن عمرو بن حزم حدثني عن
أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"فاطمة بضعة مني يسخطها ما يسخطني، ويرضيني ما
أرضاها"، وإن فدك كان صافية على عهد أبي بكر وعمر، ثم صار أمرها إلى
مروان، فوهبها لعبد العزيز أبي، فورثتها أنا وإخوتي
عنه، فسألتهم أن يبيعوني حصتهم منها، فمن بائع وواهب، حتى استجمعت لي، فرأيت أن
أردها على ولد فاطمة. قالوا: فإن أبيت إلا هذا فأمسك الأصل، واقسم
الغله، ففعل. فأما
قوله:
و يصح أنها دفنت ليلاً وإن صح فقد دفن فلان وفلان ليلاً، فقد بينا أن دفنها
ليلاً في الصحة أظهر من الشمس، وأن منكر ذلك كالدافع للمشاهدات، ولم يجعل دفنها
ليلاً بمجرده هو الحجة ليقال: لقد دفن فلان وفلان ليلاً، بل يقع الأحتجاج بذلك على ما وردت به الروايات المستفيضة
الظاهرة التي هي كالتواتر، أنها أوصت بأن تدفن ليلاً حتى لا يصلي الرجلان
عليها، وصرحت بذلك وعهدت فيه عهداً بعد أن كانا استأذنا عليها في مرضها ليعوداها
فأبت أن تأذن لهما، فلما طالت عليهما المدافعة رغبا إلى
أمير المؤمنين رضي الله عنها في أن يستأذن لهما،
وجعلاها حاجة إليه، وكلمها رضي الله عنه في ذلك، وألح عليها، فأذنت
لهما في الدخول، ثم أعرضت عنهما عند دخولهما ولم
تكلمهما، فلما خرجا قالت لأمير المؤمنين رضي
الله عنه: هل صنعت ما أردت؟ قال:
نعم، قالت: فهل أنت صانع ما آمرك به؟ قال نعم،
قالت: فإني أنشدك الله ألا يصليا على جنازتي، ولا يقوما على قبري! وروي أنه عفى
قبرها وعلم عليه، ورش أربعين قبراً في البقيع، ولم يرش قبرها حتى لا يهتدى إليه،
وأنهما عاتباه على ترك إعلامهما بشأنها، وإحضارهما
الصلاة عليها، فمن ههنا احتججنا
بالدفن ليلاً، ولو كان ليس غير الدفن بالليل من غير ما تقدم عليه وماتأخر عنه،
لم يكن فيه حجة. وقوله:
إن جعفر بن محمد وأباه وجده كانوا يتولونهما،
فكيف لا ينكر أبو علي ذلك، واعتقاده فيهما اعتقاده! وقد
كنا نظن أن مخالفينا يقتنعون أن ينسبوا إلى أئمتنا الكف عن القوم، و الإمساك،
وما ظننا أنهم يحملون أنفسهم على أن ينسبوا إليهم الثناء والولاء، وقد
علم كل أحد أن أصحاب هؤلاء السادة المختصين بهم، قد رووا عنهم ضد ما روى شعبة بن
الحجاج وفلان وفلان وقولهم: هما أول من ظلمنا حقنا، وحمل الناس على رقابنا، وقولهم: إنهما أصفيا بإنائنا، واضطجعا بسبلنا،
وجلسا مجلساً نحن أحق به منهما، إلى غير ذلك من فنون التظلم والشكآية، وهو طويل
متسع، ومن أراد استقصاء ذلك فلينظر في كتاب المعرفة
لأبي إسحاق إبراهيم بن سعيد الثقفي، فإنه قد ذكر عن رجل من أهل البيت
بالأسانيد النيرة ما لا زيادة عليه، ثم لو صح ما
ذكره شعبة لجاز أن يحمل على التقية. ثم
إن جماعة من مخالفينا قد غلوا في أبي بكر وعمر، ورووا
روايات مختلفة فيهما تجري مجرى ما ذكره في
الشناعة، ولا يلزم العقلاء وذوي الألباب من المخالفين عيب
من ذلك. و
أما قوله: إنما قصد من يورد هذه الأخبار تضعيف دلالة
الأعلام في النفوس، من حيث أضاف النفاق إلى من شاهدها، فتشنيع
في غير موضعه، واستناد إلى ما لا يجدي نفعاً، لأن من شاهد الأعلام لا
يضعفها ولا يوهن دليلها، ولا يقدح في كونها حجة، لأن الأعلام ليست ملجئة إلى
العلم، ولا موجبة لحصوله على كل حال، وإنما تثمر العلم لمن أمعن النظر فيها من
الوجه الذي تدل منه، فمن عدل عن ذلك لسوء اختياره لا يكون عدوله مؤثراً في
دلالتها، فكم قد عدل من العقلاء وذوي الأحلام الراجحة والألباب الصحيحة عن تأمل
هذه الأعلام وإصابة الحق منها! ولم يكن ذلك عندنا
وعند صاحب الكتاب قادحاً في دلالة الأعلام. على أن هذا القول
يوجب أن ينفي الشك والنفاق عن كل من صحب النبي صلى الله عليه وسلم وعاصره وشاهد أعلامه كأبي سفيان وابنه، وعمرو بن العاص، وفلان وفلان،
ممن قد اشتهر نفاقهم وظهر شكهم في الدين وارتيابهم باتفاق بيننا وبينه، وإن كانت
إضافة النفاق إلى هؤلاء لا ثقدح في دلالة الأعلام، فكذلك القول في غيرهم. وقوله: إنه
يسوغ مثل ذلك، فكيف يسوغ إحراق بيت علي وفاطمة رضي الله عنهما! وهل
في ذلك عذر يصغى إليه أويسمع! وإنما
يكون علي وأصحابه خارقين للإجماع ومخالفين للمسلمين، لوكان الإجماع قد تقرر وثبت، وليس بمتقرر ولا ثابت مع
خلاف علي وحده، فضلاً عن أن يوافقه على ذلك غيره.
وبعد، فلا فرق بين أن يهدد بالإحراق لهذه العلة، وبين أن يضرب فاطمة رضي الله عنها لمثلها،
فإن إحراق المنازل أعظم من ضرب سوط أو سوطين،
فلا وجه لامتعاض المخالف من حديث الضرب إذا كان
عنده مثل هذا الأعتذار. ولا يمتنع أن يكون
غير تلك الصورة مخالفاً لها، وإن كان المدعي لا يكذب، ويبين ذلك أن مذهب
المرتضى جواز ظهور خوارق العادات على أيدي
الأئمة والصالحين، ولو قدرنا أن واحداً من أهل الصلاح والخير ادعى دعوى، وقال بحضرة جماعة من الناس من جملتهم القاضي: اللهم إن
كنت صادقاً فأظهر علي معجزة خارقة للعادة، فظهرت عليه، لعلمنا
أنه صادق، ومع ذلك لا تقبل دعواه إلا ببينة. كما أن الظاهر
يقتضي خلافه، فإنه لم يجب عما ذكره قاضي القضاة، لأن
معنى قوله: إنها لوكانت في يدها، أي متصرفة فيها لكانت اليد حجة في
الملكية، لأن اليد والتصرف حجة لا محالة، فلو
كانت في يدها تتصرف فيها وفي ارتفاقها كما يتصرف الناس في ضياعهم و أملاكهم لما احتاجت إلى الأحتجاج بآية الميراث ولا بدعوى النحل،
لأن اليد حجة، فهلا قالت لأبي بكر: هذه الأرض في
يدي، ولا يجوز إنتزاعها مني إلا بحجة! وحينئذ كان يسقط
إحتجاج أبي بكر بقوله: "نحن معاشر
الأنبياء لا نورث"، لأنها ما تكون قد
ادعتها ميراثاً ليحتج عليها بالخبر. وخبر أبي سعيد
في قوله فأعطاها فدك، يدل على الهبة لا على القبض والتصرف، ولأنه يقال: أعطاني فلان كذا
فلم أقبضه، ولو كان الإعطاء هو القبض والتصرف لكان هذا
الكلام متناقضاً. فأما تعجب المرتضى من قول أبي علي: إن دعوى
الإرث كانت متقدمة على دعوى النحل، وقوله: إنا لا نعرف له غرضاً في ذلك،
فإنه لا يصح له بذلك مذهب، ولا يبطل على مخالفيه مذهب، فإن
المرتضى لم يقف على مراد الشيخ أبي علي في ذلك، وهذا شيء يرجع إلى أصول
الفقه، فإن أصحابنا استدلوا على جواز تخصيص الكتاب
بخبر الواحد بإجماع الصحابة، لأنهم أجمعوا على تخصيص قوله تعالى: "يوصيكم الله في أولادكم" بروآية أبي
بكر عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا
نورث، ما تركناه صدقة"، قالوا: والصحيح في
الخبر أن فاطمة رضي الله عنها
طالبت بعد ذلك بالنحل لا بالميراث، فلهذا قال الشيخ أبو علي: إن دعوى الميراث تقدمت
على دعوى النحل، وذلك لأنه يثبت أن فاطمة انصرفت عن ذلك
المجلس غير راضية ولا موافقة لأبي بكر، فلو كانت دعوى الإرث متأخرة،
وانصرفت عن سخط لم يثبت الإجماع على تخصيص الكتاب بخبر
الواحد، أما إذا كانت دعوى الإرث متقدمة فلما
روى لها الخبر أمسكت وانتقلت إلى النزاع من جهة أخرى، فإنه يصح حينئذ الأستدلال بالإجماع على تخصيص الكتاب بخبر
واحد. وهذا الكلام لا جواب عنه، ولقد كان التكرم ورعآية حق رسول الله
صلى الله عليه وسلم وحفظ عهده يقتضي أن تعوض ابنته بشيء
يرضيها إن لم يستنزل المسلمون عن فدك وتسلم إليها تطييباً لقلبها. وقد يسوغ للإمام أن يفعل ذلك من غير
مشاورة المسلمين إذا رأى المصلحة فيه، وقد بعد العهد الآن بيننا وبينهم، ولا نعلم حقيقة ما كان، وإلى الله ترجع الأمور.
أأقنع من نفسي بأن يقال: هذا أمير المؤمنين، ولا أشاركهم في
مكاره الدهر، أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش! فما خلقت ليشغلني أكل الطيبات،
كالبهيمة المربوطة، همها علفها، أو المرسلة، شغلها تقممها، تكترش من أعلافها،
وتلهو عما يراد بها، أو أترك سدى، أو أهمل عابثاً، أو أجر حبل الضلالة، أو أعتسف
طريق المتاهة! الشرح: قد روي: ولو شئت لاهتديت إلى هذا العسل المصفى، ولباب هذا
البر المنقى، فضربت هذا بذاك، حتى ينضج وقوداً، ويستحكم معقوداً. وبطون غرثى: جائعة،
والبطنة: الكظة: وذلك أن يمتلىء الإنسان من الطعام أمتلاء شديداً، وكان يقال: ينبغي للإنسان أن يجعل وعاء بطنه
أثلاثاً: فثلث للطعام، وثلث للشراب، وثلث للنفس. وفي قوله: لو شئت لاهتديت شبه من قول عمر:
لو نشاء لملأنا هذه الرحاب من صلائق وصناب، وقد
ذكرناه فيما تقدم.
الأصل: وكأني بقائلكم يقول: إذا كان هذا قوت أبن أبي طالب، فقد قعد
به الضعف عن قتال الأقران، ومنازلة الشجعان. ألا وإن الشجرة البرية أصلب عوداً،
والرواتع الخضرة أرق جلوداً، والنابتات العذية أقوى وقوداً، وأبطأ خموداً. وههنا نكتة، وهي أن الضوء الثاني يكون أيضاً علة
لضوء ثالث، وذلك أن الضوء الحاصل على وجه الأرض - وهو الضوء الثاني - إذا أشرق
على جدار مقابل ذلك الجدار قريباً منه مكان مظلم، فإن ذلك المكان يصير مضيئاً
بعد أن كان مظلماً، وإن كان لذلك المكان المظلم باب، وكان داخل البيت مقابل ذلك
الباب جدار كان ذلك الجدار أشد إضاءةً من باقي البيت، ثم ذلك الجدار إن كان فيه
ثقب إلى موضع آخر كان ما يحاذي ذلك البيت أشد إضاءةً مما حواليه، وهكذا لا تزال
الأضواء، يوجب بعضها بعضاً على وجه الإنعكاس بطريق العلية، وبشرط المقابلة، ولا
تزال تضعف درجة درجة إلى أن تضمحل ويرد الأمر إلى الظلمة، وهكذا عالم العلوم، والحكم المأخوذة من أمير المؤمنين رضي الله عنه لا تزال تضعف كلما انتقلت
من قوم إلى قوم إلى أن يعود الإسلام غريباً كما بدأ بموجب الخبر النبوي الوارد
في الصحاح.
فشبه رضي الله عنه
نفسه بالنسبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذراع الذي العضد أصله وأسه والمراد من هذا التشبيه
الأبانة عن شدة الأمتزاج و الأتحاد والقرب بينهما، فإن الضوء الثاني شبيه بالضوء
الأول، والذراع متصل بالعضد إتصالأ بيناً، وهذه المنزلة
قد أعطاه إياها رسول الله صلى الله عليه وسلم في مقامات كثيرة نحو قوله
في قصة براءة:
"قد أمرت أن لا يؤدي عني إلا أنا أو رجل
مني"، وقوله: "لتنتهن يا بني وليعة، أو لأبعثن إليكم رجلاً
مني، أو قال: "عديل نفسي "، وقد سماه الكتاب
العزيز: نفسه فقال: "ونساءنا ونساءكم
وأنفسنا وأنفسكم"، وقد قال له: "لحمك مختلط بلحمي، ودمك مسوط
بدمي، وشبرك وشبري واحداً"، فإن قلت:
أما قوله: لوتظاهرت العرب في لما وليت عنها، فما
الفائدة في قوله: ولو أمكنت الفرصة من رقابها لسارعت إليها، وهل هذا مما
يفخر به الرؤساء ويعدونه منقبة، وإنما المنقبة أن لو أمكنته الفرصة تجاوز وعفا! قلت: غرضه أن يقرر في نفوس أصحابه وغيرهم من العرب أنه
يحارب على حق، وأن حربه لأهل الشام كالجهاد أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن من يجاهد الكفار يجب
عليه أن يغلظ عليهم، ويستأصل شأفتهم، ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما جاهد بني قريظة وظفر لم
يبق ولم يعف، وحصد في يوم واحد رقاب ألف إنسان صبراً في مقام واحد، لما علم في
ذلك من إعزاز الدين وإذلال المشركين، فالعفو له مقام و الانتقام له مقام.
ومضامين اللحود، أي الذين تضمنتهم، وفي الحديث نهى عن بيع
المضامين والملاقيح، وهي ما في أصلاب الفحول وبطون الإناث. ثم قال: لوكنت
أيتها الدنيا إنساناً محسوساً، كالواحد من البشر، لأقمت عليك الحد كما فعلت
بالناس. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الفهرس الجزء السادس عشرباب المختار من الخطب
والأوامر - ابن ابي الحديد. وفود الوليد بن جابر على معاوية. ومن كتاب له إلى قثم بن العباس وهو عامله على مكة. ومن كتاب له إلى عبد الله بن العباس بعد مقتل محمد بن أبي
بكر. ومن كتاب له عليه السلام إلى معاوية. ومن كتاب له إلى أهل مصر لما ولى عليهم الأشتر. ومن كتاب له إلى عمرو بن العاص..... ومن كتاب له عليه السلام إلى مصقلة بن هبيرة الشيباني
وكان عامله علي أردشير خرة. ومن كتاب له عليه السلام إلى زياد بن أبيه، وقد بلغه أن
معاوية كتب إليه يريد خديعته باستلحاقه. |