- القرآن الكريم
- سور القرآن الكريم
- 1- سورة الفاتحة
- 2- سورة البقرة
- 3- سورة آل عمران
- 4- سورة النساء
- 5- سورة المائدة
- 6- سورة الأنعام
- 7- سورة الأعراف
- 8- سورة الأنفال
- 9- سورة التوبة
- 10- سورة يونس
- 11- سورة هود
- 12- سورة يوسف
- 13- سورة الرعد
- 14- سورة إبراهيم
- 15- سورة الحجر
- 16- سورة النحل
- 17- سورة الإسراء
- 18- سورة الكهف
- 19- سورة مريم
- 20- سورة طه
- 21- سورة الأنبياء
- 22- سورة الحج
- 23- سورة المؤمنون
- 24- سورة النور
- 25- سورة الفرقان
- 26- سورة الشعراء
- 27- سورة النمل
- 28- سورة القصص
- 29- سورة العنكبوت
- 30- سورة الروم
- 31- سورة لقمان
- 32- سورة السجدة
- 33- سورة الأحزاب
- 34- سورة سبأ
- 35- سورة فاطر
- 36- سورة يس
- 37- سورة الصافات
- 38- سورة ص
- 39- سورة الزمر
- 40- سورة غافر
- 41- سورة فصلت
- 42- سورة الشورى
- 43- سورة الزخرف
- 44- سورة الدخان
- 45- سورة الجاثية
- 46- سورة الأحقاف
- 47- سورة محمد
- 48- سورة الفتح
- 49- سورة الحجرات
- 50- سورة ق
- 51- سورة الذاريات
- 52- سورة الطور
- 53- سورة النجم
- 54- سورة القمر
- 55- سورة الرحمن
- 56- سورة الواقعة
- 57- سورة الحديد
- 58- سورة المجادلة
- 59- سورة الحشر
- 60- سورة الممتحنة
- 61- سورة الصف
- 62- سورة الجمعة
- 63- سورة المنافقون
- 64- سورة التغابن
- 65- سورة الطلاق
- 66- سورة التحريم
- 67- سورة الملك
- 68- سورة القلم
- 69- سورة الحاقة
- 70- سورة المعارج
- 71- سورة نوح
- 72- سورة الجن
- 73- سورة المزمل
- 74- سورة المدثر
- 75- سورة القيامة
- 76- سورة الإنسان
- 77- سورة المرسلات
- 78- سورة النبأ
- 79- سورة النازعات
- 80- سورة عبس
- 81- سورة التكوير
- 82- سورة الانفطار
- 83- سورة المطففين
- 84- سورة الانشقاق
- 85- سورة البروج
- 86- سورة الطارق
- 87- سورة الأعلى
- 88- سورة الغاشية
- 89- سورة الفجر
- 90- سورة البلد
- 91- سورة الشمس
- 92- سورة الليل
- 93- سورة الضحى
- 94- سورة الشرح
- 95- سورة التين
- 96- سورة العلق
- 97- سورة القدر
- 98- سورة البينة
- 99- سورة الزلزلة
- 100- سورة العاديات
- 101- سورة القارعة
- 102- سورة التكاثر
- 103- سورة العصر
- 104- سورة الهمزة
- 105- سورة الفيل
- 106- سورة قريش
- 107- سورة الماعون
- 108- سورة الكوثر
- 109- سورة الكافرون
- 110- سورة النصر
- 111- سورة المسد
- 112- سورة الإخلاص
- 113- سورة الفلق
- 114- سورة الناس
- سور القرآن الكريم
- تفسير القرآن الكريم
- تصنيف القرآن الكريم
- آيات العقيدة
- آيات الشريعة
- آيات القوانين والتشريع
- آيات المفاهيم الأخلاقية
- آيات الآفاق والأنفس
- آيات الأنبياء والرسل
- آيات الانبياء والرسل عليهم الصلاة السلام
- سيدنا آدم عليه السلام
- سيدنا إدريس عليه السلام
- سيدنا نوح عليه السلام
- سيدنا هود عليه السلام
- سيدنا صالح عليه السلام
- سيدنا إبراهيم عليه السلام
- سيدنا إسماعيل عليه السلام
- سيدنا إسحاق عليه السلام
- سيدنا لوط عليه السلام
- سيدنا يعقوب عليه السلام
- سيدنا يوسف عليه السلام
- سيدنا شعيب عليه السلام
- سيدنا موسى عليه السلام
- بنو إسرائيل
- سيدنا هارون عليه السلام
- سيدنا داود عليه السلام
- سيدنا سليمان عليه السلام
- سيدنا أيوب عليه السلام
- سيدنا يونس عليه السلام
- سيدنا إلياس عليه السلام
- سيدنا اليسع عليه السلام
- سيدنا ذي الكفل عليه السلام
- سيدنا لقمان عليه السلام
- سيدنا زكريا عليه السلام
- سيدنا يحي عليه السلام
- سيدنا عيسى عليه السلام
- أهل الكتاب اليهود النصارى
- الصابئون والمجوس
- الاتعاظ بالسابقين
- النظر في عاقبة الماضين
- السيدة مريم عليها السلام ملحق
- آيات الناس وصفاتهم
- أنواع الناس
- صفات الإنسان
- صفات الأبراروجزائهم
- صفات الأثمين وجزائهم
- صفات الأشقى وجزائه
- صفات أعداء الرسل عليهم السلام
- صفات الأعراب
- صفات أصحاب الجحيم وجزائهم
- صفات أصحاب الجنة وحياتهم فيها
- صفات أصحاب الشمال وجزائهم
- صفات أصحاب النار وجزائهم
- صفات أصحاب اليمين وجزائهم
- صفات أولياءالشيطان وجزائهم
- صفات أولياء الله وجزائهم
- صفات أولي الألباب وجزائهم
- صفات الجاحدين وجزائهم
- صفات حزب الشيطان وجزائهم
- صفات حزب الله تعالى وجزائهم
- صفات الخائفين من الله ومن عذابه وجزائهم
- صفات الخائنين في الحرب وجزائهم
- صفات الخائنين في الغنيمة وجزائهم
- صفات الخائنين للعهود وجزائهم
- صفات الخائنين للناس وجزائهم
- صفات الخاسرين وجزائهم
- صفات الخاشعين وجزائهم
- صفات الخاشين الله تعالى وجزائهم
- صفات الخاضعين لله تعالى وجزائهم
- صفات الذاكرين الله تعالى وجزائهم
- صفات الذين يتبعون أهواءهم وجزائهم
- صفات الذين يريدون الحياة الدنيا وجزائهم
- صفات الذين يحبهم الله تعالى
- صفات الذين لايحبهم الله تعالى
- صفات الذين يشترون بآيات الله وبعهده
- صفات الذين يصدون عن سبيل الله تعالى وجزائهم
- صفات الذين يعملون السيئات وجزائهم
- صفات الذين لايفلحون
- صفات الذين يهديهم الله تعالى
- صفات الذين لا يهديهم الله تعالى
- صفات الراشدين وجزائهم
- صفات الرسل عليهم السلام
- صفات الشاكرين وجزائهم
- صفات الشهداء وجزائهم وحياتهم عند ربهم
- صفات الصالحين وجزائهم
- صفات الصائمين وجزائهم
- صفات الصابرين وجزائهم
- صفات الصادقين وجزائهم
- صفات الصدِّقين وجزائهم
- صفات الضالين وجزائهم
- صفات المُضَّلّين وجزائهم
- صفات المُضِلّين. وجزائهم
- صفات الطاغين وجزائهم
- صفات الظالمين وجزائهم
- صفات العابدين وجزائهم
- صفات عباد الرحمن وجزائهم
- صفات الغافلين وجزائهم
- صفات الغاوين وجزائهم
- صفات الفائزين وجزائهم
- صفات الفارّين من القتال وجزائهم
- صفات الفاسقين وجزائهم
- صفات الفجار وجزائهم
- صفات الفخورين وجزائهم
- صفات القانتين وجزائهم
- صفات الكاذبين وجزائهم
- صفات المكذِّبين وجزائهم
- صفات الكافرين وجزائهم
- صفات اللامزين والهامزين وجزائهم
- صفات المؤمنين بالأديان السماوية وجزائهم
- صفات المبطلين وجزائهم
- صفات المتذكرين وجزائهم
- صفات المترفين وجزائهم
- صفات المتصدقين وجزائهم
- صفات المتقين وجزائهم
- صفات المتكبرين وجزائهم
- صفات المتوكلين على الله وجزائهم
- صفات المرتدين وجزائهم
- صفات المجاهدين في سبيل الله وجزائهم
- صفات المجرمين وجزائهم
- صفات المحسنين وجزائهم
- صفات المخبتين وجزائهم
- صفات المختلفين والمتفرقين من أهل الكتاب وجزائهم
- صفات المُخلَصين وجزائهم
- صفات المستقيمين وجزائهم
- صفات المستكبرين وجزائهم
- صفات المستهزئين بآيات الله وجزائهم
- صفات المستهزئين بالدين وجزائهم
- صفات المسرفين وجزائهم
- صفات المسلمين وجزائهم
- صفات المشركين وجزائهم
- صفات المصَدِّقين وجزائهم
- صفات المصلحين وجزائهم
- صفات المصلين وجزائهم
- صفات المضعفين وجزائهم
- صفات المطففين للكيل والميزان وجزائهم
- صفات المعتدين وجزائهم
- صفات المعتدين على الكعبة وجزائهم
- صفات المعرضين وجزائهم
- صفات المغضوب عليهم وجزائهم
- صفات المُفترين وجزائهم
- صفات المفسدين إجتماعياَ وجزائهم
- صفات المفسدين دينيًا وجزائهم
- صفات المفلحين وجزائهم
- صفات المقاتلين في سبيل الله وجزائهم
- صفات المقربين الى الله تعالى وجزائهم
- صفات المقسطين وجزائهم
- صفات المقلدين وجزائهم
- صفات الملحدين وجزائهم
- صفات الملحدين في آياته
- صفات الملعونين وجزائهم
- صفات المنافقين ومثلهم ومواقفهم وجزائهم
- صفات المهتدين وجزائهم
- صفات ناقضي العهود وجزائهم
- صفات النصارى
- صفات اليهود و النصارى
- آيات الرسول محمد (ص) والقرآن الكريم
- آيات المحاورات المختلفة - الأمثال - التشبيهات والمقارنة بين الأضداد
- نهج البلاغة
- تصنيف نهج البلاغة
- دراسات حول نهج البلاغة
- الصحيفة السجادية
- تصنيف الصحيفة السجادية
- تصنيف الصحيفة بالموضوعات
- الباب السابع : باب الاخلاق
- الباب الثامن : باب الطاعات
- الباب التاسع: باب الذكر والدعاء
- الباب العاشر: باب السياسة
- الباب الحادي عشر:باب الإقتصاد
- الباب الثاني عشر: باب الإنسان
- الباب الثالث عشر: باب الكون
- الباب الرابع عشر: باب الإجتماع
- الباب الخامس عشر: باب العلم
- الباب السادس عشر: باب الزمن
- الباب السابع عشر: باب التاريخ
- الباب الثامن عشر: باب الصحة
- الباب التاسع عشر: باب العسكرية
- الباب الاول : باب التوحيد
- الباب الثاني : باب النبوة
- الباب الثالث : باب الإمامة
- الباب الرابع : باب المعاد
- الباب الخامس: باب الإسلام
- الباب السادس : باب الملائكة
- تصنيف الصحيفة بالموضوعات
- أسماء الله الحسنى
- أعلام الهداية
- النبي محمد (صلى الله عليه وآله)
- الإمام علي بن أبي طالب (عليه السَّلام)
- السيدة فاطمة الزهراء (عليها السَّلام)
- الإمام الحسن بن علي (عليه السَّلام)
- الإمام الحسين بن علي (عليه السَّلام)
- لإمام علي بن الحسين (عليه السَّلام)
- الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السَّلام)
- الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السَّلام)
- الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السَّلام)
- الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السَّلام)
- الإمام محمد بن علي الجواد (عليه السَّلام)
- الإمام علي بن محمد الهادي (عليه السَّلام)
- الإمام الحسن بن علي العسكري (عليه السَّلام)
- الإمام محمد بن الحسن المهدي (عجَّل الله فرَجَه)
- تاريخ وسيرة
- "تحميل كتب بصيغة "بي دي أف
- تحميل كتب حول الأخلاق
- تحميل كتب حول الشيعة
- تحميل كتب حول الثقافة
- تحميل كتب الشهيد آية الله مطهري
- تحميل كتب التصنيف
- تحميل كتب التفسير
- تحميل كتب حول نهج البلاغة
- تحميل كتب حول الأسرة
- تحميل الصحيفة السجادية وتصنيفه
- تحميل كتب حول العقيدة
- قصص الأنبياء ، وقصص تربويَّة
- تحميل كتب السيرة النبوية والأئمة عليهم السلام
- تحميل كتب غلم الفقه والحديث
- تحميل كتب الوهابية وابن تيمية
- تحميل كتب حول التاريخ الإسلامي
- تحميل كتب أدب الطف
- تحميل كتب المجالس الحسينية
- تحميل كتب الركب الحسيني
- تحميل كتب دراسات وعلوم فرآنية
- تحميل كتب متنوعة
- تحميل كتب حول اليهود واليهودية والصهيونية
- المحقق جعفر السبحاني
- تحميل كتب اللغة العربية
- الفرقان في تفسير القرآن -الدكتور محمد الصادقي
- وقعة الجمل صفين والنهروان
الجزء الرابع عشر باب
المختار من الخطب والأوامر - ابن ابي الحديد
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
باب الكتب والرسائل
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الحمد لله الواحد العدل باب المختار من كتب مولانا أمير المؤمنين
عليه السلام ورسائله إلى أعدائه وأولياء بلاده ويدخل في ذلك ما اختير من
عهوده إلى عماله ووصاياه لأهله وأصحابه. وقد أورد في هذا الباب ما هو بالباب الأول أشبه، نحو كلامه عليه السلام لشريح القاضي لما اشترى داراً، وكلامه لشريح بن هانىء لما جعله على مقدمته إلى الشام. وسمي
ما يكتب للولاة عهداً
اشتقاقاً من قولهم: عهدت إلى فلان، أي أوصيته. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
من
كتاب له إلى أهل الكوفة عند مسيره من المدينة إلى البصرة
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: من عبد الله
علي أمير المؤمنين إلى أهل الكوفة، جبهة الأنصار وسنام العرب. وكان طلحة والزبير
أهون سيرهما فيه الوجيف، وأرفق حدائهما العنيف. وكان من عائشة فيه فلتة غضب،
فأتيح له قوم قتلوه، وبايعني الناس غير مستكرهين،
ولا مجبرين بل طائعين مخيرين. وقال الراوندي: المراد
بدار الهجرة هاهنا الكوفة التي هاجر أمير
المؤمنين عليه السلام إليها،
وليس بصحيح، بل المراد المدينة، وسياق الكلام يقتضي ذلك، ولأنه كان حين كتب هذا الكتاب إلى أهل الكوفة بعيداً
عنهم، فكيف يكتب إليهم يخبرهم عن أنفسهم. الإمام
علي عليه السلام في طريقه إلى البصرة وروى محمد بن
إسحاق عن عمه عبد الرحمن بن يسار القرشي، قال: لما
نزل علي عليه السلام الربذة متوجهاً
إلى البصرة بعث إلى الكوفة محمد بن جعفر بن أبي طالب ومحمد بن أبي بكر الصديق،
وكتب إليهم هذا الكتاب، وزاد في آخره: فحسبي بكم
إخواناً، وللدين أنصاراً، فانفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في
سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون !. أما
بعد، فإني قد بعثت إليك هاشم بن عتبة لتشخص إلي
من قبلك من المسلمين ليتوجهوا إلى قوم نكثوا بيعتي،
وقتلوا شيعتي، وأحدثوا في الإسلام هذا الحدث العظيم، فاشخص بالناس إلي
معه حين يقدم عليك، فإني لم أولك المصر الذي أنت فيه، ولم أقرك عليه إلا لتكون من أعواني على الحق، وأنصاري على هذا الأمر،
والسلام. وبلغ ذلك المحمدين،
فأغلظا لأبي موسى، فقال أبو موسى: والله إن بيعة
عثمان لفي عنق علي وعنقي وأعناقكما، ولو أردنا قتالاً ما كنا لنبدأ بأحد قبل
قتلة عثمان، فخرجا من عنده، فلحقا بعلي عليه السلام،
فأخبراه الخبر. قال السائب: فأتيت هاشماً فأخبرته برأي أبي موسى، فكتب إلى علي عليه السلام: لعبد الله علي أمير
المؤمنين من هاشم بن عتبة. أما بعد يا أمير
المؤمنين، فإني قدمت بكتابك على امرىء مشاق بعيد
الود، ظاهر الغل والشنآن، فتهددني بالسجن، وخوفني بالقتل، وقد
كتبت إليك هذا الكتاب مع المحل بن خليفة، أخي
طيىء، وهو من شيعتك وأنصارك، وعنده علم ما قبلنا، فاسأله عما بدا لك، واكتب إلي
برأيك والسلام. والله يا
أمير المؤمنين لنجاهدنهم معك في كل موطن، حفظاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم في
أهل بيته، إذ صاروا أعداء لهم بعده. من عبد الله علي أمير المؤمنين
إلى عبد الله بن قيس، أما بعد يا بن الحائك، يا عاض أير
أبيه، فوالله إني كنت لأرى أن بعدك من هذا الأمر الذي لم يجعلك الله له أهلاً،
ولا جعل لك فيه نصيباً، سيمنعك من رد أمري والانتزاء علي. وقد بعثت إليك ابن
عباس وابن أبي بكر فخلهما والمصر وأهله، واعتزل عملنا مذموماً مدحوراً. فإن فعلت وإلا فإني قد أمرتهما أن ينابذاك على
سواء، إن الله لا يهدي كيد الخائنين. فإذا ظهرا عليك قطعاك إرباً إرباً، والسلام على من شكر النعمة، ووفى بالبيعة، وعمل برجاء
العاقبة. قال: فلما دخل الحسن وعمار الكوفة، اجتمع إليهما
الناس، فقام الحسن، فاستنفر الناس، فحمد الله وصلى على
رسوله، ثم قال: أيها الناس، إنا جئنا ندعوكم إلى
الله وإلى كتابه وسنة رسوله، وإلى أفقه من تفقه من المسلمين، وأعدل من تعدلون،
وأفضل من تفضلون، وأوفى من تبايعون، من لم يعبه
القرآن، ولم تجهله السنة ولم تقعد به السابقة، إلى من قربه الله تعالى
إلى رسوله قرابتين: قرابة الدين وقرابة الرحم، إلى
من سبق الناس إلى كل مأثرة، إلى من كفى الله به رسوله والناس متخاذلون فقرب منه وهم متباعدون، وصلى معه وهم مشركون،
وقاتل معه وهم منهزمون، وبارز معه وهم محجمون، وصدقه وهم
يكذبون. إلى من لم ترد له رواية ولا تكافأ له سابقة، وهو يسألكم النصر،
ويدعوكم إلى الحق، ويأمركم بالمسير إليه، لتوازروه وتنصروه على قوم نكثوا بيعته، وقتلوا أهل الصلاح من
أصحابه، ومثلوا بعماله، وانتهبوا بيت ماله. فاشخصوا إليه رحمكم الله، فمروا بالمعروف وانهوا عن
المنكر، واحضروا بما يحضر به الصالحون. قال أبو مخنف: حدثني جابر بن يزيد، قال: حدثني تميم بن حذيم الناجي، قال: قدم
علينا الحسن بن علي عليه السلام وعمار
بن ياسر، يستنفران الناس إلى علي عليه السلام، ومعهما كتابه، فلما فرغا من قراءة كتابه، قام الحسن- وهو فتى حدث، والله إني لأرثي له من حداثة سنه
وصعوبة مقامه- فرماه الناس بأبصارهم وهم يقولون: اللهم سدد منطق ابن
نبينا! فوضع
يده على عمود يتساند إليه، وكان عليلاً من شكوى به، فقال!:
الحمد لله العزيز الجبار، الواحد القهار، الكبير المتعال،"سواة منكم من أصر
القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار". أحمده
على حسن البلاء، وتظاهر النعماء، وعلى ما أحببنا وكرهنا من شدة ورخاء. وأشهد أن
لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، امتن علينا بنبوته،
واختصه برسالته، وأنزل عليه وحيه، واصطفاه على جميع خلقه، وأرسله إلى الإنس
والجن، حين عبدت الأوثان وأطيع الشيطان، وجحد الرحمن، فصلى الله عليه وعلى آله
وجزاه أفضل ما جزى المسلمين. أما بعد فإني لا
أقول لكم إلا ما تعرفون، إن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب- أرشد الله أمره، وأعز
نصره- بعثني إليكم يدعوكم إلى الصواب، وإلى العمل بالكتاب، والجهاد
في سبيل الله، وإن كان في عاجل ذلك ما تكرهون، فإن في
آجله ما تحبون إن شاء الله. ولقد
علمتم أن علياً صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده، وأنه يوم صدق به لفي
عاشرة من سنه، ثم شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جميع مشاهده. وكان من
اجتهاده في مرضاة الله وطاعة رسوله وآثاره الحسنة في الإسلام ما قد بلغكم، ولم
يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم راضياً عنه، حتى غمضه بيده وغسله وحده،
والملائكة أعوانه، والفضل ابن عمه ينقل إليه الماء، ثم أدخله حفرته، وأوصاه
بقضاء دينه وعداته، وغير ذلك من أموره، كل ذلك من من الله عليه. ثم والله ما دعا إلى نفسه، ولقد تداك الناس عليه تداك الإبل الهيم
عند ورودها، فبايعوه طائعين، ثم نكث منهم ناكثون بلا حدث أحدثه، ولا خلاف أتاه
حسداً له وبغياً عليه.
فعليكم
عباد الله بتقوى الله وطاعته، والجد والصبر والاستعانة بالله والخفوف إلى ما
دعاكم إليه أمير المؤمنين. عصمنا
الله وإياكم بما عصم به أولياءه وأهل طاعته، وألهمنا وإياكم تقواه، وأعاننا
وإياكم على جهاد أعدائه. واستغفر الله العظيم لي ولكم. ثم
مضى إلى الرحبة، فهيأ منزلاً لأبيه أمير المؤمنين. قال:
ولما نزل علي عليه السلام ذا قار، كتبت عائشة إلى حفصة
بنت عمر: أما بعد، فإني أخبرك أن علياً قد نزل ذا قار، وأقام بها مرعوباً
خائفاً لما بلغه من عدتنا وجماعتنا، فهو بمنزلة الأشقر، إن تقدم عقر، وإن تأخر
نحر، فدعت حفصة جواري لها يتغنين ويضربن بالدفوف،
فأمرتهن أن يقلن في غنائهن: ما الخبر ما الخبر، علي في السفر، كالفرس
الأشقر، إن تقدم عقر، وإن تأخر نحر. فبلغ
أم كلثوم بنت علي عليه السلام، فلبست جلابيبها، ودخلت عليهن في نسوة متنكرات، ثم أسفرت عن وجهها، فلما عرفتها
حفصة خجلت، واسترجعت، فقالت أم كلثوم: لئن تظاهرتما عليه منذ اليوم، لقد تظاهرتما على أخيه
من قبل، فأنزل الله فيكما ما أنزل! فقالت حفصة:
كفى رحمك الله! وأمرت بالكتاب فمزق، واستغفرت الله. وذكر الواقدي مثل ذلك، وذكر المدائني أيضاً مثله، قال: فقال
سهل بن حنيف في ذلك هذه الأشعار:
قال: فحدثنا الكلبي، عن أبي صالح أن
علياً عليه السلام لما نزل ذا قار في قلة من عسكره، صعد الزبير منبر البصرة، فقال: ألا ألف فارس أسير بهم
إلى علي، فأبيته بياتاً، وأصبحه صباحاً، قبل أن يأتيه المدد! فلم يجبه أحد، فنزل واجماً، وقال: هذه والله الفتنة
التي كنا نحدث بها! فقال له بعض مواليه: رحمك
الله يا أبا عبد الله! تسميها فتنة ثم نقاتل فيها! فقال: ويحك! والله إنا لنبصر ثم لا نصبر. فاسترجع المولى ثم خرج في الليل فاراً
إلى علي عليه السلام فأخبره، فقال: اللهم عليك به! قال أبو مخنف:
ولما فرغ الحسن بن علي عليه السلام من خطبته، قام بعده
عمار، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على رسوله، ثم قال: أيها الناس، أخو
نبيكم وابن عمه يستنفركم لنصر دين الله، وقد بلاكم الله
بحق دينكم، وحرمة أمكم، فحق دينكم أوجب، وحرمته أعظم. أيها الناس، عليكم بإمام لا يؤدب، وفقيه لا يعلم،
وصاحب بأس لا ينكل، وذي سابقة في الإسلام ليست لأحد، وإنكم لو قد حضرتموه بين
لكم أمركم إن شاء الله. إن علياً إنما يستنفركم لجهاد أمكم عائشة وطلحة والزبير
حواري رسول الله ومن معهم من المسلمين، وأنا أعلم بهذه الفتن أنها إذا أقبلت
شبهت، وإذا أدبرت أسفرت، إني أخاف عليكم أن يلتقي غاران منكم فيقتتلا ثم
يتركا كالأحلاس. الملقاة بنجوة من الأرض، ثم يبقى رجرجة من الناس، لا يأمرون
بالمعروف، ولا ينهون عن منكر. إنها قد جاءتكم فتنة كافرة لا يدرى من أين تؤتى!
تترك الحليم حيران! كأني أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمس يذكر الفتن، فيقول:"أنت فيها
نائماً خير منك قاعداً، وأنت فيها جالساً خير منك قائماً، وأنت فيها قائماً خير
منك ساعياً". فثلموا سيوفكم وقصفوا رماحكم، وانصلوا سهامكم، وقطعوا
أوتاركم، وخلوا قريشاً ترتق فتقها، وترأب صدعها، فإن فعلت فلأنفسها ما فعلت، وإن
أبت فعلى أنفسها ما جنت، سمنها في أديمها. استنصحوني ولا تستغشوني، وأطيعوني ولا تعصوني،
يتبين لكم رشدكم، ويصلى هذه الفتنة من جناها. قال أبو جعفر:
فأول من بعثه علي عليه السلام من الربذة إلى الكوفة محمد بن أبي بكر ومحمد بن
جعفر، فجاء أهل الكوفة إلى أبي موسى، وهو الأمير عليهم ليستشيروه في الخروج إلى
علي بن أبي طالب عليه السلام، فقال لهم: أما سبيل
الآخرة فأن تقعدوا، وأما سبيل الدنيا فأن تخرجوا.
قال أبو جعفر:
ثم أجمع علي عليه السلام على المسير من الربذة إلى البصرة، فقام إليه رفاعة ابن
رافع، فقال!: يا أمير المؤمنين، أي شيء
تريد؟ وأين تذهب بنا؟ قال:
أما الذي نريد وننوي فإصلاح، إن قبلوا منا وأجابوا إليه، قال، فإن لم يقبلوا، قال:
ندعوهم ونعطيهم من الحق ما نرجو أن يرضوا به، قال: فإن لم يرضوا! قال: ندعهم ما
تركونا: قال: فإن لم يتركونا، قال: نمتنع منهم، قال: فنعم إذاً. ثم قال:
ولله
لننصرن الله عز وجل كما سمانا أنصاراً. فتلقاه
بفيد غلام من بني سعد بن ثعلبة، يدعى مرة، فقال:
من هؤلاء؟ قيل: هذا أمير المؤمنين، فقال: سفرة قانية،
فيها دماء من نفوس فانية. فسمعها علي عليه السلام فدعاه، فقال: ما اسمك؟
قال: مرة، قال أمر الله عيشك! أكاهن سائر اليوم؟ قال:
بل عائف، فخلى سبيله. ونزل
بفيد فأتته أسد وطيىء، فعرضوا عليه أنفسهم، فقال: الزموا قراركم، ففي المهاجرين
كفاية. وقدم رجل من الكوفة فيداً، فأتى علياً عليه السلام، فقال له: من الرجل؟ قال:
عامر بن مطرف، قال!: الليثي؟ قال: الشيباني، قال: أخبرني عما وراءك؟ قال: إن أردت الصلح فأبو موسى صاحبك، وإن أردت القتال فأبو موسى ليس لك بصاحب. فقال عليه السلام: ما أريد إلا الصلح إلا أن يرد علينا. ثم قال:
أيها الناس، إن طلحة والزبير بايعاني، ثم نكثاني بيعتي، وألبا علي الناس، ومن العجب انقيادهما لأبي بكر وعمر وخلافهما علي،
والله إنهما ليعلمان أني لست بدونهما. اللهم فاحلل ما عقدا، ولا تبرم ما قد
أحكما في أنفسهما، وأرهما المساءة فيما قد عملا. فذهب عبد الله بن عباس حتى قدم
الكوفة، فلقي أبا موسى، واجتمع الرؤساء من أهل الكوفة. فقام أبو موسى فخطبهم، وقال: إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم صحبوه في مواطن كثيرة، فهم أعلم بالله ممن لم يصحبه، وإن لكم
علي حقاً، وأنا مؤديه إليكم، أمر ألا تستخفوا بسلطان الله، وألا تجترئوا على
الله أن تأخذوا كل من قدم عليكم من أهل المدينة في هذا الأمر، فتردوه إلى
المدينة، حتى تجتمع الأمة على إمام ترتضي به، إنها فتنة صماء، النائم فيها خير
من اليقظان، واليقظان خير من القاعد، والقاعد خير من القائم، والقائم خير من
الراكب، فكونوا جرثومة من جراثيم العرب، أغمدوا سيوفكم، وأنصلوا أسنتكم، واقطعوا
أوتار قسيكم، حتى يلتئم هذا الأمر، وتنجلي هذه الفتنة. قال أبو جعفر رحمه الله:
فرجع ابن عباس إلى علي عليه السلام،
فأخبره، فدعا الحسن ابنه عليه السلام وعمار
بن ياسر، وأرسلهما إلى الكوفة، فلما قدماها كان أول من أتاهما مسروق بن الأجدع،
فسلم عليهما، وأقبل على عمار، فقال: يا أبا اليقظان، علام قتلتم أمير المؤمنين،
قال: على شتم أعراضنا، وضرب أبشارنا. قال:
فوالله ما عاقبتم بمثل ما عوقبتم به، ولئن صبرتم لكان خيراً للصابرين. ثم خرج أبو موسى فلقي الحسن عليه
السلام فضمه إليه، وقال لعمار:
يا أبا اليقظان، أغدوت فيمن غدا على أمير المؤمنين، وأحللت نفسك مع الفجار؟ قال:
لم أفعل، ولم تسوءني؟ فقطع عليهما الحسن، وقال لأبي موسى: يا أبا موسى. لم تثبط الناس عنا، فوالله ما أردنا إلا الإصلاح،
وما مثل أمير المؤمنين يخاف على شيء، قال أبو موسى:
صدقت بأبي وأمي! ولكن المستشار مؤتمن، سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول:"ستكون فتنة.." وذكر تمام
الحديث. فغضب عمار وساءه ذلك، وقال: أيها
الناس، إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك له خاصة، وقام رجل من بني
تميم فقال لعمار: اسكت أيها العبد! أنت أمس مع الغوغاء، وتسافه أميرنا اليوم! وثار زيد بن صوحان وطبقته، فانتصروا
لعمار، وجعل أبو موسى يكف الناس ويردعهم عن الفتنة. ثم انطلق حتى صعد المنبر،
وأقبل زيد بن صوحان ومعه كتاب من عائشة إليه خاصة،
وكتاب منها إلى أهل الكوفة عامة، تثبطهم عن نصرة
علي، وتأمرهم بلزوم الأرض، وقال: أيها الناس، انظروا إلى هذه، أمرت أن تقر في بيتها، وأمرنا نحن أن نقاتل، حتى لا تكون
فتنة، فأمرتنا بما أمرت به، وركبت ما أمرنا به، فقام
إليه شبث بن ربعي، فقال له: وما أنت وذاك أيها العماني الأحمق! سرقت أمس
بجلولاء فقطعك الله، وتسب أم المؤمنين! فقام زيد،
وشال يده المقطوعة وأومأ بيده إلى أبي موسى وهو على المنبر، وقال له: يا عبد الله بن قيس، أترد الفرات عن
أمواجه! دع عنك ما لست تدركه، ثم قرأ:"آلم
أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا..." الآيتين، ثم نادى: سيروا
إلى أمير المؤمنين وصراط سيد المرسلين، وانفروا إليه أجمعين. وقام الحسن بن علي عليه السلام،
فقال:
أيها الناس، أجيبوا دعوة إمامكم، وسيروا إلى إخوانكم، فإنه سيوجد لهذا الأمر من
ينفر إليه، والله لأن يليه أولو النهى أمثل في العاجلة، وخير في العاقبة،
فأجيبوا دعوتنا، وأعينونا على أمرنا، أصلحكم الله! وقام عبد خير فقال:
يا أبا موسى، أخبرني عن هذين الرجلين، ألم يبايعا
علياً! قال: بلى، قال: أفأحدث علي حدثاً يحل بعه نقض بيعته؟ قال: لا أدري، قال: لا دريت ولا أتيت! إذا كنت لا تدري فنحن
تاركوك حتى تدري. أخبرني: هل
تعلم أحداً خارجاً عن هذه الفرق الأربع: علي بظهر الكوفة، وطلحة والزبير
بالبصرة، ومعاوية بالشام، وفرقة رابعة بالحجاز قعود لا يجبى بهم فيء، ولا يقاتل
بهم عدو! فقال أبو موسى: أولئك خير الناس،
قال عبد خير: اسكت يا أبا موسى، فقد غلب عليك غشك. قال أبو جعفر:
فروى أبو مريم الثقفي، قال!: والله إني لفي
المسجد يومئذ إذ دخل علينا غلمان أبي موسى يشتدون ويبادرون أبا موسى: أيها
الأمير، هذا الأشتر قد جاء، فدخل القصر، فضربنا وأخرجنا. فنزل أبو موسى من المنبر، وجاء حتى دخل القصر، فصاح به الأشتر: اخرج من قصرنا لا أم لك، أخرج
الله نفسك! فوالله إنك لمن المنافقين قديماً. قال: أجلني
هذه العشية، قال: قد أجلتك، ولا تبيتن في القصر الليلة. ودخل الناس ينتهبون متاع أبي موسى، فمنعهم الأشتر، وقال: إني قد أخرجته وعزلته عنكم. فكف
الناس حينئذ عنه. قال أبو جعفر: فروى الشعبي، عن أبي الطفيل، قال: قال!
علي عليه السلام: يأتيكم من الكوفة اثنا عشر
ألف رجل ورجل واحد، فوالله لقعدت على نجفة ذي قار، فأحصيتهم واحداً واحداً، فما
زادوا رجلاً، ولا نقصوا رجلاً. وينبغي أن نذكر في هذا الموضع طرفاً من نسب عائشة
وأخبارها، وما يقوله أصحابنا المتكلمون فيها، جرياً على عادتنا في ذكر مثل ذلك
كلما مررنا بذكر أحد من الصحابة. قلت: قرىء هذا
الكلام على بعض الناس، فقال: كيف رأت الحال
بينها وبين أحمائها وأهل بيت زوجها! وروى أبو عمر بن عبد البر، في الكتاب المذكور أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم توفى عنها وهي بنت ثماني عشرة سنة، فكان سنها
معه تسع سنين، ولم ينكح بكراً غيرها، واستأذنت
رسول الله صلى الله عليه وسلم في
الكنية، فقال لها: أكتني بابنك عبد الله بن
الزبير-يعني ابن أختها- فكانت كنيتها أم عبد الله، وكانت فقيهة
عالمة بالفرائض والشعر والطب. واعتزل!
رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه
كلهن، واعتزلهما معهن ثم
صالحهن، وطلق حفصة ثم راجعها، وجرت بين عائشة وفاطمة إبلاغات، وحديث يوغر الصدور، فتولد بين عائشة
وبين علي عليه السلام نوع ضغينة، وانضم إلى ذلك
إشارته على رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة الإفك بضرب الجارية
وتقريرها وقوله:"إن النساء كثير". وزعم معظم المحدثين أن ذلك كان عن أمر رسول الله صلى
الله عليه وسلم وقوله، ثم اختلفوا،
فمنهم من قال: نحاه وصلى هو بالناس، ومنهم
من قال: بل ائتم بأبي بكر كسائر الناس،
ومنهم من قال: كان الناس يصلون بصلاة أبي بكر، وأبو بكر يصلي لصلاة
رسول الله. وقال قوم من هؤلاء:
بل نقول: أصحاب الجمل أخطأوا، ولكنه خطأ مغفور، وكخطأ المجتهد في بعض مسائل الفروع عند
من قال بالأشبه، وإلى هذا القول يذهب أكثر
الأشعرية. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن
كتاب له إليهم بعد فتح البصرة
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: وجزاكم الله
من أهل مصر عن أهل بيت نبيكم أحسن ما يجزي العاملين بطاعته، والشاكرين لنعمته،
فقد سمعتم وأطعتم، ودعيتم فأجبتم. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن
كتاب له كتبه لشريح بن الحارث قاضيه
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: روي أن شريح
بن الحارث قاضي أمير المؤمنين عليه السلام اشترى
على عهده داراً بثمانين ديناراً، فبلغه ذلك، فاستدعى شريحاً، وقال له:
بلغني أنك ابتعت داراً بثمانين ديناراً، وكتبت لها كتاباً، وأشهدت فيه شهوداً. فقال له شريح:
قد كان ذلك يا أمير المؤمنين، قال: فنظر إليه نظر المغضب، ثم قال له: يا شريح، أما إنه سيأتيك من لا ينظر في
كتابك، ولا يسألك عن بينتك، حتى يخرجك منها شاخصاً، ويسلمك إلى قبرك خالصاً.
فانظر يا شريح لا تكون ابتعت هذه الدار من غير مالك، أو نقدت الثمن من غير حلالك،
فإذاً أنت قد خسرت دار الدنيا ودار الآخرة. فعلى مبلبل أجسام الملوك، وسالب نفوس الجبابرة،
ومزيل ملك الفراعنة، مثل كسرى وقيصر، وتبع وحمير، ومن جمع المال على المال
فأكثر، ومن بنى وشيد، وزخرف ونجد، وادخر واعتقد، ونظر بزعمه للولد- إشخاصهم
جميعاً إلى موقف العرض والحساب، وموضع الثواب والعقاب، إذا وقع الأمر بفصل
القضاء،"وخسر هنالك المبطلون". شهد
على ذلك العقل إذا خرج من أسر الهوى، وسلم من علائق الدنيا". نبذة
من حياة شريح ونسبه الشرح: هو شريح بن
الحارث بن المنتجع بن معاوية بن جهم بن ثور بن عفير بن عدي بن الحارث بن مرة بن
أدد الكندي، وقيل: إنه حليف لكندة من بني الرائش. والصحيح أنه شريح بن
الحارث، ويكنى أبا أمية. استعمله عمر بن الخطاب على القضاء بالكوفة، فلم يزل
قاضياً ستين سنة، لم يتعطل فيها إلا ثلاث سنين في فتنة ابن الزبير، امتنع فيها
من القضاء، ثم استعفى الحجاج من المعمل فأعفاه، فلزم منزله إلى أن مات، وعمر
عمراً طويلا، قيل: إنه
عاش مائة سنة وثمانياً وستين، وقيل مائة سنة، وتوفي سنة سبع وثمانين. وقال أبو عمر بن عبد البر في كتاب
"الاستيعاب": أدرك شريح الجاهلية، ولا يعد من الصحابة، بل من التابعين، وكان شاعراً
محسناً، وكان سناطاً لا شعر في وجهه. وموضع الاستحسان من هذا الفصل- وإن
كان كله حسناً- أمران: أحدهما: أنه عليه
السلام نظر إليه نظر مغضب، إنكاراً لابتياعه داراً
بثمانين ديناراً، وهذا يدل على زهد شديد في الدنيا واستكثار للقليل منها، ونسبه
هذا المشتري إلى الإسراف، وخوف من أن يكون ابتاعها بمال حرام. ومنه شروع باب هذه الدار، وطريقها اشترى هذا
المشتري المذكور من البائع المذكور جميع الدار المذكورة بثمن مبلغه كذا وكذا
ديناراً، أو درهماً، فما أدرك المشتري المذكور من درك فمرجوع به على من يوجب
الشرع الرجوع به عليه". ثم تكتب الشهود في آخر الكتاب. شهد فلان ابن فلان
بذلك، وشهد فلان ابن فلان به أيضاً، وهذا يدل على أن
الشروط المكتوبة الآن قد كانت في زمن الصحابة تكتب مثلها أو نحوها، إلا
أنا ما سمعنا عن أحد منهم أنه نقل صيغة الشرط الفقهي
إلى معنى آخر كما قد نظمه هو عليه السلام، ولا غرو فما زال سباقاً إلى
العجائب والغرائب! فإن قلت: لم جعل الشيطان المغوي في الحد الرابع؟ قلت: ليقول: وفيه
يشرع باب هذه الدار، لأنه إذا كان الحد إليه ينتهي كان أسهل لدخوله إليها ودخول
أتباعه وأوليائه من أهل الشيطنة والضلال. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن
كتاب له كتبه إلى بعض أمراء جيشه
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: فإن عادوا
إلى ظل الطاعة، فذاك الذي ندب، وإن توافت الأمور بالقوم إلى الشقاق والعصيان
فانهد بمن أطاعك إلى من عصاك، واستغن بمن انقاد معك، عمن تقاعس عنك، فإن
المتكاره مغيبه خير من مشهده، وقعوده أغنى من نهوضه. وتقاسى، أي أبطأ وتأخر، والمتكاره: الذي يخرج إلى
الجهاد من غير نية وبصيرة، !إنما يخرج كارهاً مرتاباً. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن
كتاب له إلى لأشعث بن قيس وهو عامل أذربيجان
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
وإن عملك ليس لك بطعمة، ولكنه في عنقك أمانة، وأنت مسترعى لمن فوقك، ليس لك أن
تفتات في رعية، ولا تخاطر إلا بوثيقة، وفي يديك مال من مال الله تعالى، وأنت من
خزانه حتى تسلمه إلي، ولعلي ألا أكون شر ولاتك لك. والسلام. قال
حبيب:
وقال
الشماخ:
والنسبة
إليه أذري بسكون الذال، هكذا القياس، ولكن المروي عن أبي بكر في الكلام الذي
قاله عند موته:"ولتألمن النوم على الصوف الأذري" بفتح الذال. أما
بعد، فلولا هنات وهنات كانت منك، كنت المقدم في هذا الأمر قبل الناس، ولعل أمراً
كان يحمل بعضه بعضاً إن اتقيت الله عز وجل، وقد كان من بيعة الناس إياي ما قد
علمت، وكان من أمر طلحة والزبير ما قد بلغك، فخرجت إليهما، فأبلغت في الدعاء،
وأحسنت في البقية، وإن عملك ليس لك بطعمة..."، إلى آخر الكلام، وهذا الكتاب كتبه إلى الأشعث بن قيس بعد انقضاء الجمل. والمروي
بعد قوله:"ولاه الله بعد ما تولى"،"وأصلاه
جهنم وساءت مصيراً، وإن طلحة والزبير بايعاني ثم نقضا
بيعتي، فكان نقضهما كردتهما، فجاهدتهما على ذلك
حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون، فادخل فيما دخل
فيه المسلمون، فإن أحب الأمور إلي فيك العافية، إلا أن تتعرض للبلاء، فإن
تعرضت له قاتلتك، واستعنت بالله عليك، وقد أكثرت في
قتلة عثمان، فادخل فيما دخل الناس فيه، ثم حاكم القوم إلي أحملك وإياهم
على كتاب الله، فأما تلك التي تريدها فخدعة
الصبي عن اللبن، ولعمري يا معاوية إن نظرت بعقلك..." إلى آخر الكلام. قلت: هذا غير وارد هاهنا، لأن النهي عن المنكر إنما يجب قبل وقوع المنكر، لكيلا يقع، فإذا وقع
المنكر، فأي نهي يكون عنه! وقد نهى علي عليه السلام أهل مصر وغيرهم
عن قتل عثمان قبل قتله مراراً، ونابذهم بيده
ولسانه وبأولاده فلم يغن شيئاً، وتفاقم الأمر حتى قتل، ولا يجب بعد القتل إلا القصاص، فإذا امتنع أولياء الدم
من طاعة الإمام لم يجب عليه أن يقتص من
القاتلين، لأن القصاص حقهم، وقد سقط ببغيهم على الإمام وخروجهم عن طاعته. وقد قلنا نحن
فيما تقدم: إن القصاص إنما يجب على من باشر
القتل، والذين باشروا قتل عثمان قتلوا يوم قتل عثمان في دار عثمان، والذين كان معاوية يطالبهم بدم عثمان لم يباشروا
القتل، وإنما كثروا السواد وحصروا عثمان في الدار،
وأجلبوا عليه وشتموه وتوعدوه، ومنهم من
تسور عليه داره ولم ينزل إليه، ومنهم من نزل
فحضر محضر قتله ولم يشرك فيه، وكل هؤلاء لا يجب عليهم القصاص في الشرع. وذكر الزبير بن بكار في"الموفقيات"
أن علياً عليه السلام لما بعث جريراً إلى
معاوية، خرج وهو لا يرى أحداً قد سبقه إليه، قال:
فقدمت على معاوية فوجدته يخطب الناس وهم حوله يبكون حول
قميص عثمان وهو معلق على رمح مخضوب بالدم، وعليه
أصابع زوجته نائلة بنت الفرافصة مقطوعة، فدفعت إليه كتاب علي عليه السلام، وكان معي في الطريق رجل يسير بسيري،
ويقيم بمقامي، فمثل بين يديه في تلك الحال وأنشده:
وقد ذكرنا تمام هذه الأبيات فيما تقدم.
الأبيات
التي ذكرنا فيما تقدم، قال: فقال لي معاوية: أقم فإن
الناس قد نفروا عند قتل عثمان حتى يسكنوا. فأقمت أربعة أشهر، ثم جاءه كتاب آخر من الوليد بن عقبة، أوله:
قال:
فلما جاءه هذا الكتاب وصل بين طومارين أبيضين، ثم طواهما وكتب عنوانهما. ثم دفع إلى علي عليه السلام كتاباً من معاوية ففتحه فوجد فيه:
وقد ذكرنا هذا الشعر فيما تقدم. ومن كتاب منه عليه السلام إليه أيضاً الأصل:
أما بعد فقد أتتني منك موعظة موصلة، ورسالة محبرة، نمقتها
بضلالك، وأمضيتها بسوء رأيك. وكتاب
امرىء ليس له بصر يهديه، ولا قائد يرشده، قد دعاه الهوى
فأجابه، وقاده الضلال فاتبعه، فهجر لاغطاً، وضل خابطاً. ""من عبد الله معاوية بن أبي سفيان إلى
علي بن أبي طالب، أما بعد، فإن الله تعالى يقول في محكم كتابه:"ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك
ولتكونن من الخاسرين"، وإني أحذرك الله أن
تحبط عملك وسابقتك بشق عصا هذه الأمة وتفريق جماعتها، فاتق الله واذكر موقف
القيامة، وأقلع عما أسرفت فيه من الخوض في دماء المسلمين، وإني سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول:"لوتمالأ
أهل صنعاء وعدن على قتل رجل واحد من المسلمين لأكبهم الله على مناخرهم في
النار"، فكيف يكون حال من قتل أعلام المسلمين
وسادات المهاجرين، بله ما طحنت رحا حربه من أهل القرآن، وذي العبادة والإيمان،
من شيخ كبير، وشاب غرير، كلهم بالله تعالى مؤمن، وله مخلص، وبرسوله مقر عارف! فإن كنت
أبا حسن إنما تحارب على الإمرة والخلافة، فلعمري لو صحت
خلافتك لكنت قريباً من أن تعذر في حرب
المسلمين، ولكنها ما صحت لك، أنى بصحتها وأهل الشام لم يدخلوا فيها، ولم يرتضوا بها! وخف الله وسطواته، واتق بأسه، ونكاله، وأغمد سيفك
عن الناس، فقد والله أكلتهم الحرب، فلم يبق منهم إلا كالثمد في قرارة الغدير. والله المستعان". من عبد الله علي أمير
المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان:"أما
بعد فقد أتتني منك موعظة موصلة، ورسالة محبرة، نمقتها بضلالك، وأمضيتها بسوء
رأيك، وكتاب امرىء ليس له بصر يهديه، ولا قائد يرشده، دعاه الهوى فأجابه، وقاده
الضلال فاتبعه، فهجر لاغطاً، وضل خابطاً، فأما أمرك لي بالتقوى فأرجو أن أكون من
أهلها، وأستعيذ بالله من أن أكون من الذين إذا أمروا بها أخذتهم العزة بالإثم. وأما تحذيرك إياي أن يحبط عملي وسابقتي
في الإسلام، فلعمري لو كنت الباغي عليك، لكان لك أن تحذرني ذلك، ولكني وجدت الله
تعالى يقول:"فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء
إلى أمر الله"، فنظرنا إلى الفئتين، أما الفئة الباغية فوجدناها الفئة التي أنت فيها، لأن بيعتي
بالمدينة لزمتك وأنت بالشام، كما لزمتك بيعة عثمان بالمدينة وأنت أمير لعمر على
الشام، وكما لزمت يزيد أخاك بيعة عمر وهو أمير لأبي بكر على الشام، وأما
شق عصا هذه الأمة، فأنا أحق أن أنهاك عنه، فأما
تخويفك لي من قتل أهل البغي، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني بقتالهم وقتلهم، وقال لأصحابه:"إن فيكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على
تنزيله"، وأشار إلي وأنا أولى من اتبع
أمره. فاربع على
ظلعك، وانزع سربال غيك، واترك ما لا جدوى له عليك، فليس
لك عندي إلا السيف، حتى تفيء إلى أمر الله صاغراً، وتدخل في البيعة راغماً.
والسلام". ولا يستأنف فيها الخيار: ليس بعد عقدها خيار لمن
عقدها ولا لغيرهم، لأنها تلزم غير العاقدين كما تلزم العاقدين، فيسقط الخيار
فيها، الخارج منها طاعن على الأمة، لأنهم اجمعوا على أن الاختيار طريق الإمامة. والمداهن: المنافق. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن
كتاب له إلى جرير بن عبد الله البجلي لما أرسله إلى معاوية
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
أما بعد، فإذا أتاك كتابي فاحمل معاوية على الفصل، وخذه بالأمر الجزم، ثم خيره
بين حرب مجلية، أوسلم مخزية، فإن اختار الحرب فانبذ إليه، وإن اختار السلم فخذ
بيعته. والسلام. وسلم مخزية،
أي فاضحة، وإنما جعلها مخزية لأن معاوية امتنع أولاً من البيعة، فإذا دخل في
السلم فإنما يدخل فيها بالبيعة، وإذا بايع بعد الامتناع، فقد دخل تحت الهضم ورضي
بالضيم، وذلك هو الخزي. ومن كتاب له عليه
السلام إلى معاوية الأصل:
فأراد قومنا قتل نبينا، واجتياح أصلنا، وهموا بنا الهموم، وفعلوا بنا الأفاعيل،
ومنعونا العذب، وأحلسونا الخوف، واضطرونا إلى جبل وعر، وأوقدوا لنا نار الحرب. والحلس:
كساء رقيق يكون تحت برذعة البعير. وأحلاس
البيوت: ما يبسط تحت حر الثياب، وفي الحديث:"كن حلس بيتك"، أي لا تخالط الناس واعتزل عنهم، فلما كان الحلس ملازماً ظهر البعير،
وأحلاس البيوت ملازمة لها، قال:"وأحلسونا الخوف"، أي جعلوه لنا كالحلس
الملازم. قوله:"خلو
مما نحن فيه"، أي خال. والحلف: العهد. والله يعلم كل
شيء قبل وجوده، وإنما معناه: حتى نعلم جهادهم
موجوداً، وليست هذه الكلمة من الآية بسبيل لتجعل
مثالاً لها، ولكن الراوندي يتكلم بكل ما يخطر له من
غير أن يميز ما يقول!. والضمير
في"أره" ضمير الشأن والقصة، و"أره" من الرأي لا من الرؤية، كقولك: لم أر الرأي الفلاني. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قريش وبنو هاشم
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
فأما
الكلام في الفصل الأول فنذكر منه ما ذكره محمد بن إسحاق بن يسار في كتاب"السيرة" والمغازي، فإنه كتاب معتمد عند أصحاب الحديث والمؤرخين، ومصنفه شيخ الناس
كلهم. فقال:"أي
عم، هذا دين الله ودين ملائكته ورسله، ودين أبينا إبراهيم- أو كما قال عليه السلام - بعثني الله به رسولاً إلى
العباد، وأنت أي عم أحق من بذلت له النصيحة، ودعوته إلى الهدى، وأحق من أجابني إليه، وأعانني
عليه". أو كما قال. فقال أبو طالب: إني لا أستطيع يا
ابن أخي أن أفارق ديني ودين آبائي وما كانوا عليه، ولكن والله لا يخلص إليك شيء
تكرهه ما بقيت. فزعموا أنه قال لعلي: أي بني، ما هذا الذي تصنع؟ قال: يا
أبتاه، آمنت بالله ورسوله وصدقته فيما جاء به، وصفيت إليه، واتبعت قول نبيه، فزعموا أنه قال له: أما إنه لا يدعوك- أو لن يدعوك-
إلا إلى خير، فالزمه. قال: فلما رأت قريش محاماة أبي طالب عنه وقيامه
دونه، وامتناعه من أن يسلمه،
مشى إليه رجال من أشراف قريش، منهم عتبة بن ربيعة، وشيبة أخوه، وأبو سفيان بن
حرب، وأبو البختري بن هشام، والأسود بن المطلب، والوليد بن المغيرة، وأبو جهل
عمرو بن هشام، والعاص بن وائل، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج، وأمثالهم من رؤساء قريش. فقالوا: يا أبا طالب، إن ابن أخيك قد سب آلهتنا، وعاب ديننا،
وسفه أحلامنا، وضلل آراءنا، فإما أن تكفه عنا، وإما أن تخلن بيننا وبينه. فقال لهم أبو طالب قولاً رفيقاً، وردهم رداً جميلاً، فانصرفوا
عنه، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على
ما هو عليه، يظهر دين الله، ويدعو إليه، ثم شرق الأمر بينه وبينهم، تباعداً
وتضاغناً، حتى أكثرت قريش ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بينها، وتذامروا فيه، وحض بعضهم بعضاً عليه، فمشوا إلى أبي طالب مرةً ثانية، فقالوا: يا أبا طالب، إن لك سناً وشرفاً ومنزلة فينا، وإنا قد استنهيناك من ابن
أخيك فلم تنهه عنا، وإنا والله لا نصبر على شتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وعيب
آلهتنا، فإما أن تكفه عنا أو ننازله وإياك حتى يهلك أحد الفريقين. ثم انصرفوا،
فعظم على أبي طالب فراق قومه وعداوتهم، ولم تطب نفسه بإسلام ابن أخيه لهم
وخذلانه، فبعث إليه ققال: يا بن أخي، إن قومك قد
جاؤوني، فقالوا لي كذا وكذا- للذي قالوا- فأبق علي وعلى نفسك، ولا تحملني من
الأمر ما لا أطيقه. قال: فظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد بدا لعمه فيه بداء، وأنه خاذله ومسلمه،
وأنه قد ضعف عن نصرته والقيام دونه، فقال: يا عم، والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على
أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك. ثم استعبر باكياً
وقام، فلما ولى ناداه أبو طالب: أقبل يا بن أخي،
فأقبل راجعاً، فقال له: اذهب يا بن أخي فقل ما أحببت،
فوالله لا أسلمك لشيء أبداً.
قال محمد بن إسحاق:
ثم إن قريشاً حين عرفت أن أبا طالب قد أبى خذلان رسول الله صلى الله عليه وسلم وإسلامه إليهم ورأوا إجماعه على مفارقتهم
وعداوتهم، مشوا إليه بعمارة بن الوليد بن المغيرة
المخزومي- وكان أجمل فتىً في قريش- فقالوا له: يا أبا طالب، هذا عمارة بن
الوليد، أبهى فتىً في قريش وأجمله، فخذه إليك، فاتخذه ولداً فهو لك، وأسلم لنا
هذا ابن أخيك الذي قد خالف دينك ودين آبائك، وفرق جماعة قومك لنقتله، فإنما هو
رجل برجل. فقال أبو طالب: والله ما أنصفتموني! تعطوني ابنكم أغذوه لكم، وأعطيكم ابني تقتلونه! هذا والله ما
لا يكون أبداً. فقال له المطعم بن عدي بن نوفل-
وكان له صديقاً مصافياً- والله يا أبا طالب ما أراك تريد أن تقبل من قومك شيئاً!
لعمري قد جهدوا في التخلص مما تكره وأراك لا تنصفهم! فقال
أبو طالب: والله ما أنصفوني ولا أنصفتني، ولكنك قد أجمعت على خذلاني
ومظاهرة القوم علي! فاصنع ما بدا لك! قال: فعند
ذلك تنابذ القوم وصارت الأحقاد، ونادى بعضهم بعضاً، وتذامروا بينهم على من في
القبائل من المسلمين الذين اتبعوا محمداً صلى الله عليه وسلم. فوثبت كل قبيلة على من فيها منهم، يعذلونهم
ويفتنونهم عن دينهم، ومنع الله رسوله منهم بعمه أبي طالب، وقام في بني هاشم وبني
عبد المطلب حين رأى قريشاً تصنع ما تصنع، فدعاهم إلى ما هو عليه من منع رسول
الله صلى الله عليه وسلم، والقيام دونه، فاجتمعوا إليه، وقاموا
معه، وأجابوه إلى ما دعاهم إليه من الدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ما كان من أبي لهب، فإنه لم يجتمع معهم على ذلك، فكان
أبو طالب يرسل إليه الأشعار، ويناشده النصر، منها القطعة التي أولها:
ومنها
القطعة التي أولها:
ومنها
القطعة التي أولها:
قال محمد بن إسحاق: فلم يؤثر عن أبي لهب خير قط إلا ما يروى أن أبا سلمة بن عبد
الأسد المخزومي، لما وثب عليه قومه ليعذبوه ويفتنوه عن الإسلام هرب منهم،
فاستجار بأبي طالب، وأم أبي طالب مخزومية، وهي أم عبد الله والد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجاره، فمشى إليه رجال من بني مخزوم، وقالوا له: يا أبا طالب، هبك منعت منا ابن أخيك
محمداً، فما لك ولصاحبنا تمنعه منا! قال: إنه استجار بي وهو ابن أختي، وإن أنا
لم أمنع ابن أختي لم أمنع ابن أخي، فارتفعت أصواتهم وأصواته، فقام أبو لهب ولم ينصر أبا طالب قبلها ولا بعدها، فقال:
يا معشر قريش، والله لقد أكثرتم على هذا الشيخ، لا تزالون تتوثبون عليه في جواره
من بين قومه! أما والله لتنتهن عنه أو لنقومن معه فيما قام فيه حتى يبلغ ما
أراد. فقالوا: بل ننصرف عما تكره يا أبا عتبة. فقاموا فانصرفوا، وكان ولياً لهم
ومعيناً على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي طالب، فاتقوه وخافوا أن تحمله الحمية على الإسلام، فطمع فيه أبو طالب حيث سمعه قال ما قال، وأمل أن يقوم معه في
نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال يحرضه على ذلك:
وقال
يخاطب أبا لهب أيضاً:
قال محمد بن إسحاق:
فلما طال البلاء على المسلمين والفتنة والعذاب، وارتد
كثير عن الدين باللسان لا بالقلب، كانوا إذا عذبوهم يقولون: نشهد أن هذا
الله. وأن اللات والعزى هي الآلهة، فإذا خلوا عنهم عادوا إلى الإسلام، فحبسوهم
وأوثقوهم بالقد، وجعلوهم في حر الشمس على الصخر والصفا، وامتدت أيام الشقاء
عليهم ولم يصلوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم لقيام أبي طالب دونه، فأجمعت قريش على أن يكتبوا بينهم وبين بني هاشم صحيفة
يتعاقدون فيها ألا يناكحوهم ولا يبايعوهم، ولا يجالسوهم، فكتبوها وعلقوها
في جوف الكعبة تأكيداً على أنفسهم، وكان كاتبها منصور بن عكرمة بن هاشم بن عبد
مناف بن عبد الدار بن قصي. فلما فعلوا ذلك انحازت هاشم والمطلب، فدخلوا كلهم مع
أبي طالب في الشعب، فاجتمعوا إليه، وخرج منهم أبو لهب إلى قريش فظاهرها على
قومه. والله
لا تبرح أنت وطعامك حتى أفضحك بمكة! فجاءه أبو البختري
العاص بن هشام بن الحارث بن أسد بن عبد العزى، فقال: ما لك وله! قال: إنه
يحمل الطعام إلى بني هاشم، فقال أبو البختري: يا
هذا، إن طعاماً كان لعمته عنده بعثت إليه فيه، أفتمنعه أن يأتيها بطعامها! خل
سبيل الرجل، فأبى أبو جهل حتى نال كل منهما من صاحبه،
فأخذ له أبو البختري قي بعير ففر به به فشجه ووطئه وطأً
شديداً. فانصرف وهو يكره أن يعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وبنو هاشم بذلك،
فيشمتوا، فلما أراد الله تعالى من إبطال الصحيفة، والفرج عن بني هاشم من الضيق
والأزل الذي كانوا فيه، قام هشام بن عمرو بن الحارث
بن حبيب بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي في ذلك
أحسن قيام، وذلك أن أباه عمرو بن الحارث كان أخاً لنضلة بن هاشم بن عبد مناف بن قصي من أمه، فكان هشام بن عمرو
يحسب لذلك واصلاً ببني هاشم، وكان ذا شرف في قومه بني عامر بن لؤي، فكان
يأتي بالبعير ليلاً وقد أوقره طعاماً، وبنو هاشم وبنو المطلب في الشعب، حتى إذا
أقبل به فم الشعب فمنع بخطامه من رأسه، ثم يضربه على جنبه، فيدخل الشعب عليهم ثم
يأتي به مرة أخرى، وقد أوقره تمراً، فيصنع به مثل ذلك. ثم إنه مشى إلى زهير بن أبي أمية بن المغيرة المخزومي، فقال: يا زهير، أرضيت أن تأكل الطعام وتشرب
الشراب وتلبس الثياب، وتنكح النساء، وأخوالك حيث قد علمت لا يبتاعون ولا يبتاع
منهم، ولا ينكحون ولا ينكح إليهم، ولا يواصلون ولا يزارون! أما إني أحلف لو كان
أخوال أبي الحكم بن هشام ودعوته إلى مثل ما دعاك إليه منهم ما أجابك أبداً قال: ويحك يا هشام! فماذا أصنع! إنما أنا رجل واحد، والله لو
كان معي رجل آخر لقمت في نقض هذه الصحيفة القاطعة. قال:
قد وجدت رجلاً، قال: من هو؟ قال: أنا، قال زهير: ابغنا ثالثاً، فذهب إلى المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف، فقال له: يا
مطعم، أرضيت أن يهلك بطنان من عبد مناف جوعاً وجهداً وأنت شاهد على ذلك موافق
لقريش فيه! أما والله لئن أمكنتموهم من هذا لتجدن قريشاً إلى مساءتكم في
غيره سريعة. قال: ويحك! ماذا أصنع! إنما أنا رجل واحد، قال
قد وجدت ثانياً، قال: من هو؟ قال: أنا، قال: ابغني
ثالثا، قال: قد وجدت، قال: من هو؟ قال: زهير بن أمية، قال: ابغنا رابعاً، فذهب إلى أبي
البختري بن هشام، فقال له نحو ما قال للمطعم، قال: وهل من أحد يعين على
هذا؟ قال: نعم وذكرهم، قال: فابغنا خامساً، فمضى
إلى زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى
فكلمه، فقال: وهل يعين على ذلك من أحد؟ قال: نعم، ثم سمى له القوم، فاتعدوا خطم الحجون ليلاً بأعلى مكة، فأجمعوا أمرهم، وتعاقدوا
على القيام في الصحيفة حتى ينقضوها. وقال
زهير: أنا أبدؤكم وأكون أولكم يتكلم، فلما أصبحوا غدوا
إلى أنديتهم، وغدا زهير بن أبي أمية، عليه
حلة له. فطاف بالبيت سبعاً، ثم أقبل على الناس، فقال: يا أهل مكة، أنأكل الطعام،
ونشرب الشراب، ونلبس الثياب وبنو هاشم هلكى!
والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة! وكان
أبو جهل في ناحية المسجد، فقال: كذبت والله لا تشق! فقال زمعة بن الأسود
لأبي جهل: والله أنت أكذب، ما رضينا والله بها حين كتبت. فقال أبو البختري معه: صدق والله زمعة، لا نرضى بها
ولا نقر بما كتب فيها! فقال المطعم بن عدي: صدقا
والله، وكذب من قال غير ذلك، نبرأ إلى الله منها ومما كتب فيها. وقال هشام بن عمرو مثل قولهم، فقال أبو جهل: هذا أمر قضي بليل، وقام مطعم
بن عدي إلى الصحيفة فحطها وشقها، فوجد الأرضة قد
أكلتها، إلا ما كان من"باسمك اللهم" قالوا: وأما كاتبها منصور بن عكرمة فشلت يده فيما يذكرون. فلما مزقت الصحيفة خرج
بنو هاشم من حصار الشعب.
ومن
ذلك قوله:
وروى عبد الله بن مسعود، قال: لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قتلى بدر، وأمر
بطرحهم في القليب، جعل يتذكر من شعر أبي طالب بيتاً فلا يحضره، فقال له أبو بكر: لعله قوله يا رسول الله:
فسر
بظفره بالبيت، وقال: إي لعمر الله، لقد التبست، ومن شعر أبي طالب قوله:
قلت:
كان صديقنا علي بن يحيى البطريق رحمه الله، يقول:
لولا خاصة النبوة وسرها لما كان مثل أبي طالب- وهو شيخ قريش ورئيسها وذو شرفها، يمدح ابن أخيه محمداً، وهو شاب قد ربي في حجره وهو يتيمه
ومكفوله، وجار مجرى أولاده بمثل قوله:
ومثل
قوله:
فإن
هذا الأسلوب من الشعر لا يمدح به التابع والذنابى من الناس، وإنما هو من مديح
الملوك والعظماء، فإذا تصورت أنه شعر أبي طالب، ذاك الشيخ المبجل العظيم في محمد
صلى الله عليه وسلم، وهو شاب مستجير به، معتصم بظله من قريش، قد رباه في حجره
غلاماً، وعلى عاتقه طفلاً، وبين يديه شاباً، يأكل من زاده، ويأوي إلى داره، علمت
موضع خاصية النبوة وسرها، وأن أمره كان عظيماً، وأن الله تعالى أوقع في القلوب
والأنفس له منزلة رفيعة ومكاناً جليلاً.
فأجاب
علي عليه السلام، فقال له:
الفصل الثاني:
في تفسير قوله عليه السلام"مؤمننا يبغي بذلك الأجر، وكافرنا يحامي عن
الأصل، ومن أسلم من قريش خلو مما نحن فيه لحلف يمنعه، أو عشيرة تقوم دونه فهم من
القتل بمكان آمن"، فنقول: إن بني هاشم لما حصروا في الشعب بعد أن منعوا
رسول الله صلى الله عليه وسلم من قريش، كانوا صنفين:
مسلمين وكفاراً، فكان علي عليه السلام وحمزة بن عبد
المطلب ملسمين.
واختلف الناس في إيمان أبي طالب، فقالت الإمامية وأكثر
الزيدية: ما مات إلا مسلماً. قالوا:
وأما ما ذكر في القرآن من إبراهيم وأبيه آزر، وكونه كان ضالاً مشركاً، فلا يقدح في مذهبنا، لأن آزر كان عم إبراهيم، فأما
أبوه فتارخ بن ناحور، وسمي العم أباً، كما قال:"أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما
تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك"، ثم عد فيهم إسماعيل وليس من
آبائه، ولكنه عمه. وروي أن أبا بكر
جاء بأبي قحافة إلى النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح يقوده، وهو شيخ كبير أعمى، فقال رسول الله: ألا تركت الشيخ حتى نأتيه! فقال: أردت
يا رسول الله أن يأجره الله! أما والذي بعثك بالحق لأنا كنت أشد فرحاً بإسلام عمك
أبي طالب مني بإسلام أبي، ألتمس بذلك قرة عينك، فقال:
صدقت. قالوا: وخطبة النكاح مشهورة، خطبها أبو طالب عند نكاح محمد صلى الله عليه وسلم خديجة، وهي قوله:"الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم
وزرع إسماعيل، وجعل لنا بلداً حراماً وبيتاً محجوجاً، وجعلنا الحكام على الناس. ثم
إن محمد بن عبد الله أخي من لا يوازن به فتى من قريش إلا رجح عليه براً وفضلاً،
وحزماً وعقلاً، ورأياً ونبلاً، وإن كان في المال قل فإنما المال ظل زائل، وعارية
مسترجعة، وله في خديجة بنت خويلد رغبة، ولها فيه مثل ذلك، وما أحببتم من الصداق
فعلي، وله والله بعد نبأ شائع وخطب جليل". والخبر مشهور أن أبا طالب
عند الموت قال كلاماً خفياً، فأصغى إليه أخوه العباس، ثم رفع رأسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا بن أخي، والله لقد
قالها عمك، ولكنه ضعف عن أن يبلغك صوته. وروي عن علي عليه
السلام أنه قال: ما مات أبوطالب حتى أعطى رسول الله صلى الله
عليه وسلم من نفسه الرضاء قالوا: وأشعار أبي طالب تدل
على أنه كان مسلماً، ولا فرق بين الكلام المنظوم والمنثور إذا تضمنا
إقراراً بالإسلام، ألا ترى أن يهودياً لو توسط جماعة من المسلمين، وأنشد شعراً
قد ارتجله ونظمه يتضمن الإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، لكنا نحكم بإسلامه
كما لو قال: أشهد أن محمداً رسول الله! فمن تلك الأشعار قوله:
ومن
شعر أبي طالب في أمر الصحيفة التي كتبتها قريش في قطيعة بني هاشم:
ومن
ذلك قوله:
ومن
ذلك قوله: وقد غضب لعثمان بن مظعون الجمحي، حين عذبته قريش ونالت منه:
قالوا:
وقد جاء في الخبر أن أبا جهل بن هشام جاء مرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
وهو ساجد وبيده حجر يريد أن يرضخ به رأسه، فلصق الحجر بكفه فلم يستطع ما أراد،
فقال أبو طالب في ذلك من جملة أبيات:
ومنها:
قالوا:
وقد اشتهر عن عبد الله المأمون رحمه الله أنه كان يقول: أسلم أبو طالب والله
بقوله:
قالوا:
وقد جاء في السيرة، وذكره أكثر المؤرخين، أن عمرو بن العاص لما خرج إلى بلاد
الحبشة ليكيد جعفر بن أبي طالب وأصحابه عند النجاشي، قال:
قالوا:
فكان عمرو يسمى الشانىء ابن الشانىء، لأن أباه كان إذا مر عليه رسول الله صلى
الله عليه وسلم بمكة يقول له: والله إني لأشنؤك، وفيه أنزل:"إن شانئك هو
الأبتر". قالوا: فكتب أبو طالب إلى النجاشي شعراً يحرضه فيه على إكرام جعفر
وأصحابه والإعراض عما يقوله عمرو فيه وفيهم، من جملته:
في
أبيات كثيرة.
ومن
شعره المناسب لهذا المعنى قوله:
قالوا:
وقد جاءت الرواية أن أبا طالب لما مات جاء علي عليه السلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فآذنه بموته، فتوجع عظيماً وحزن
شديداً، ثم قال له: امض فتول غسله، فإذا رفعته على سريره فأعلمني، ففعل، فاعترضه
رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محمول على رؤوس الرجال، فقال: وصلتك رحم يا عم، وجزيت
خيراً! فلقد ربيت وكفلت صغيراً، ونصرت وآزرت كبيراً، ثم تبعه الى حفرته، فوقف
عليه، فقال: أما والله لأستغفرن لك ولأشفعن فيك شفاعة
يعجب لها الثقلان.
قالوا:
ومن شعره المشهور:
قالوا:
ومن شعره المشهور أيضاً قوله يخاطب محمدا، ويسكن جأشه، ويأمره بإطهار الدعوة:
ومن
ذلك قوله، ويقال إنها لطالب بن أبي طالب:
ومن
ذلك قوله:
وقوله
أيضاً، وقد يروى لعلي عليه السلام:
قالوا:
فكل هذه الأشعار قد جاءت مجيء التواتر، لأنه إن لم تكن آحادها متواترة، فمجموعها
يدل على أمر واحد مشترك، وهو تصديق محمد صلى الله عليه وسلم، ومجموعها متواتر،
كما أن كل واحدة من قتلات علي عليه السلام الفرسان منقولة آحاداً، ومجموعها
متواتر، يفيدنا العلم الضروري بشجاعته، وكذلك القول فيما روي من سخاء حاتم، وحلم
الأحنف ومعاوية، وذكاء إياس وخلاعة أبي نواس، وغير ذلك، قالوا: واتركوا هذا كله جانباً، ما قولكم في القصيدة اللامية التي شهرتها
كشهرة"قفا نبك" وإن جاز الشك فيها أو في شيء من أبياتها، جاز الشك
في"قفا نبك" وفي بعض أبياتها، ونحن نذكر منها هاهنا قطعة وهي قوله:
وورد في السيرة والمغازي أن عتبة بن ربيعة أو شيبة لما قطع رجل عبيدة بن الحارث بن
المطلب يوم بدر أشبل عليه علي وحمزة فاستنقذاه منه
وخبطا عتبة بسيفيهما حتى قتلاه، واحتملا صاحبهما من المعركة إلى العريش،
فألقياه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن مخ ساقه ليسيل، فقال: يا رسول الله، لو كان أبو طالب حياً لعلم أنه قد
صدق في قوله:
فقالوا:
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم استغفر له ولأبي طالب
يومئذ، وبلغ عبيدة مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى الصفراء فمات فدفن
بها.
فقام النبي صلى الله عليه وسلم يجر رداءه، حتى صعد المنبر، فحمد
الله وأثنى عليه، وقال:"اللهم
اسقنا غيثاً مغيثاً، مريئاً هنيئاً، مريعاً سحاً سجالاً، غدقاً طبقاً قاطباً
دائماً، دراً تحيي به الأرض، وتنبت به الزرع، وتدر به الضرع، واجعله سقياً
نافعاً عاجلاً غير رائث". فوالله،
ما رد رسول الله صلى الله عليه وسلم يده إلى نحره حتى ألقت السماء أرواقها، وجاء
الناس يضجون: الغرق الغرق يا رسول الله! فقال:
اللهم حوالينا ولا علينا، فانجاب السحاب عن المدينة حتى استدار حولها كالإكليل. فضحك رسول الله حتى بدت نواجذه، ثم قال: لله در أبي طالب! لوكان حياً لقرت
عينه. من ينشدنا قوله؟ فقام علي فقال: يا رسول الله، لعلك أردت:
قال:
أجل، فأنشده أبياتاً من هذه القصيدة، ورسول الله يستغفر لأبي طالب على المنبر، ثم قام رجل من كنانة فأنشده:
فقال رسول الله: إن يكن شاعر أحسن فقد أحسنت.
فوفيته
حقه من التعظيم والإجلال، ولم أجزم بأمر عندي فيه وقفة. في غزوة بدر الفصل الثالث: في شرح القصة في غزاة بدر،
ونحن نذكر ذلك من كتاب"المغازي"، لمحمد بن عمر الواقدي، ونذكر ما عساه
زاده محمد بن إسحاق في كتاب"المغازي"، وما زاده أحمد بن يحيى بن جابر
البلاذري في"تاريخ الأشراف". فيقول:
أعوذ بالله، وأنى لمحمد عيون بالنخبار! فلما راحت العير باتا حتى أصبحا ثم خرجا،
وخرج معهما كشد خفيراً، حتى أوردهما المروة، وساحلت العير فأسرعت، وسار بها
أصحابها ليلاً ونهاراً، فرقاً من الطلب، وقدم طلحة وسعيد المدينة في اليوم الذي
لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً ببدر، فخرجا يعترضان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقياه بتربان- وتربان بين ملل
والسالة على المحجة، وكانت منزل عروة بن أذينة الشاعر- وقدم كشد بعد ذلك على
النبي صلى الله عليه وسلم، وقد
أخبر طلحة وسعيد رسول الله صلى الله عليه وسلم بما
صنع بهما، فحباه وأكرمه، وقال: ألا أقطع لك ينبع ؟ قال: إني كبير، وقد نفد عمري
ولكن أقطعها لابن أخي، فأقطعها له. قالوا: وندس
رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين،
وقال: هذه عير قريش، فيها أموالهم: لعل الله أن
يغنمكموها. فأسرع من أسرع، حتى إن كان الرجل ليساهم أباه في الخروج، فكان
ممن ساهم أباه سعد بن خيثمة، فقال سعد لأبيه: إنه لو كان غير الجنة آثرتك به،
إني لأرجو الشهادة في وجهي هذا، فقال خيثمة: آثرني وقر مع نسائك، فأبى سعد، فقال
خيثمة: إنه لا بد لأحدنا من أن يقيم، فاستهما، فخرج سهم سعد، فقتل ببدر. وأبطأ
عن النبي صلى الله عليه وسلم بشر كثير من أصحابه، وكرهوا خروجه، وكان في ذلك كلام كثير واختلاف، وبعضهم تخلف من أهل النيات
والبصائر، لم يظنوا أنه يكون قتال، إنما هو الخروج للغنيمة، ولو ظنوا أنه يكون
قتال لما تخلفوا، منهم أسيد بن حضير، فلما
قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال أسيد: الحمد لله الذي سرك وأظهرك على عدوك، والذي بعثك بالحق ما
تخلفت عنك رغبة بنفسي عن نفسك، ولا ظننت أنك تلاقي عدواً، ولا ظننت إلا أنها
العير! فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدقت. قال: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى انتهى
إلى المكان المعروف بالبقع وهي بيوت السقيا، وهي متصلة ببيوت المدينة، فضرب
عسكره هناك، وعرض المقاتلة، فعرض عبد الله بن عمر، وأسامة بن زيد، ورافع بن
خديج، والبراء بن عازب، وأسيد بن ظهير، وزيد بن أرقم، وزيد بن ثابت، فردهم ولم
يجزهم. قال: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد
غير اسمه، وسماه السقيا. قال: فكانت في نفسي أن أشتريها، حتى اشتراها سعد بن
أبي وقاص ببكرين، ويقال بسبع أواق، فذكر للنبي صلى
الله عليه وسلم أن سعداً
اشتراها، فقال: ربح البيع! قال الواقدي:
فراح رسول الله صلى الله عليه وسلم من
بيوت السقيا، لاثنتي عشرة ليلة مضت من رمضان، وخرج المسلمون معه ثلاثمائة وخمسة،
وتخلف ثمانية، ضرب لهم بسهامهم وأجورهم، فكانت الإبل سبعين بعيراً، وكانوا
يتعاقبون الإبل: الاثنين، والثلاثة، والأربعة، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي
بن أبي طالب عليه السلام ومرثد
بن أبي مرثد- ويقال زيد بن حارثة مكان مرثد- يتعاقبون بعيراً واحداً، وكان حمزة
بن عبد المطلب، وزيد بن حارثة وأبو كبشة وأنسة، موالي النبي صلى الله عليه وسلم على
بعير، وكان عبيدة بن الحارث والطفيل والحصين ابنا الحارث، ومسطح بن أثاثة على
بعير لعبيدة بن الحارث ناضح ابتاعه من أبي داود المازني، وكان معاذ وعوف ومعوذ
بنو عفراء ومولاهم أبو الحمراء على بعير، وكان أبي بن كعب وعمارة بن حزام وحارثة
بن النعمان على بعير، وكان خراش بن الصمة وقطبة بن عامر بن حديدة وعبد الله بن
عمرو بن حزام على بعير، وكان عتبة بن غزوان وطليب بن عمير على جمل لعتبة بن
غزوان يقال له العبس، وكان مصعب بن عمير وسويبط بن حرملة ومسعود بن ربيع على جمل
لمصعب، وكان عمار بن ياسر وعبد الله بن مسعود على بعير، وكان عبد الله بن كعب
وأبو داود المازني وسليط بن قيس على جمل لعبد الله بن كعب، وكان عثمان بن عفان
وقدامة بن مظعون وعبد الله بن مظعون والسائب بن عثمان على بعير يتعاقبون، وكان
أبو بكر وعمر وعبد الرحمن بن عوف على بعير، وكان سعد بن معاذ وأخوه وابن أخيه
الحارث بن أوس والحارث بن أنس على جمل لسعد بن معاذ ناضح يقال له الذيال، وكان
سعيد بن زيد، وسلمة بن سلامة بن وقش وعباد بن بشر ورافع بن يزيد على ناضح لسعيد
بن زيد، ما تزودوا إلا صاعاً من تمر. قال الواقدي:
فكان سعد بن أبي وقاص، يقول: لما كنا بتربان، قال لي رسول الله صلى
الله عليه وسلم:
يا
سعد، انظر إلى الظبي، فأفوق له بسهم، وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضع
رأسه بين منكبي وأذني، ثم قال: اللهم سدد رميته- قال: فما أخطأ سهمي عن نحره،
فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرجت أعدو
فأخذته وبه رمق فذكيته، فحملناه حتى نزلنا قريباً، وأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقسم بين
أصحابه. قال الواقدي:
وكان عمرو بن العاص يحدث بعد ذلك فيقول: لقد رأيت كل هذا، ولقد رأيت في دارنا فلقة
من الصخرة التي انفلقت من أبي قبيس، ولقد كان ذلك عبرة، ولكن الله لم يرد أن
نسلم يومئذ، لكنه أخر إسلامنا إلى ما أراد. قلت: كان بعض أصحابنا يقول: لم يكف عمراً أن يقول:
رأيت الصخرة في دور مكة عياناً، فيخرج ذلك مخرج الاستهزاء باطناً على وجه النفاق
واستخفافه بعقول المسلمين زعم، حتى يضيف إلى ذلك القول بالخبر الصراح فيقول: إن الله تعالى لم يكن أراد منه الإسلام يومئذ. قال: فقال العباس: إن هذه لرؤيا، فخرج مغتماً، حتى لقي
الوليد بن عتبة بن ربيعة- وكان له صديقاً- فذكرها لى واستكتمه، ففشا الحديث في
الناس، قال العباس: فغدوت أطوف بالبيت، وأبو جهل في رهط من قريش يتحدثون برؤيا
عاتكة، فقال أبو جهل: ما رأت عاتكة هذه؟ فقلت: وما ذاك؟ فقال:
يا بني عبد المطلب، أما رضيتم بأن تتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم! زعمت عاتكة
أنها رأت في المنام كذا وكذا للذي رأت- فسنتربص بكم ثلاثاً، فإن يكن ما قالت
حقاً فسيكون، وإن مضت الثلاث ولم يكن، نكتب عليكم أنكم أكذب أهل بيت في العرب! فقال له العباس: يا مصفر أسته، أنت أولى بالكذب
واللؤم منا! فقال أبو جهل:
إنا استبقنا المجد وأنتم، فقلتم: فينا
السقاية، فقلنا: لا نبالي،"سقون الحجاج، ثم
قلتم: فينا الحجابة، فقلنا: لا نبالي
تحجبون البيت، ثم قلتم: فينا الندوة، قلنا: لا نبالي يكون الطعام فتطعمون الناس. ثم قلتم: فينا
الرفادة، فقلنا: لا نبالي، تجمعون عندكم ما
ترفدون به الضعيف، فلما أطعمنا الناس وأطعمتم، وازدحمت الركب واستبقنا المجد،
فكنا كفرسي رهان، قلتم: منا نبي، ثم قلتم: منا نبية! فلا واللات والعزى لا كان هذا
أبداً! قلت: لا أرى كلام
أبي جهل منتظماً، لأنه إذا سلم للعباس أن هذه الخصال كلها فيهم، وهي الخصال التي
تشرف بها القبائل بعضها على بعض، فكيف يقول:
لا نبالي لا نبالي! وكيف يقول: فلما أطعمنا للناس وأطعمتم، وقد كان الكلام
منتظماً، لو قال: ولنا بإزاء هذه المفاخر
كذا وكذا، ثم يقول بعد ذلك: استبقنا المجد فكنا
كفرسي رهان، وازدحمت الركب، ولم يقل شيئاً ولا عد مآثره، ولعل أبا جهل قد قال ما لم ينقل. قال العباس:
وغدوت في اليوم الثالث، وأنا حديد مغضب، أرى أن قد فاتني منه أمراً أحب أن
أدركه، وأذكر ما أحفظني به النساء من مقالتهن، فوالله إني لأمشي نحوه- وكان
رجلاً خفيفاً حديد الوجه حديد اللسان حديد النظر - إذ خرج نحو باب بني سهم يشتد،
فقلت: ما باله لعنه الله! أكل هذا فرقاً من
أن أشاتمه! فإذا هو قد سمع صوت ضمضم بن عمرو وهو
يقول: يا معشر قريش، يا آل لؤي بن غالب، اللطيمة قد عرض لها محمد في أصحابه!
الغوث الغوث! والله ما أرى أن تدركوها، وضمضم ينادي بذلك في بطن الوادي،
وقد جدع أذني بعيره وشق قميصه قبلاً ودبراً، وحول رحله، وكان يقول: لقد رأيتني قبل أن أدخل مكة وإني لأرى في النوم وأنا
على راحلتي كأن وادي مكة يسيل من أسفله إلى أعلاه دماً، فاستيقظت فزعاً مذعوراً،
فكرهتها لقريش، ووقع في نفسي أنها مصيبة في أنفسهم. قال الواقدي:
فجهز الناس وشغل بعضهم عن بعض، وكان الناس بين
رجلين: إما خارج وإما باعث مكانه رجلاً، وأشفقت قريش لرؤيا عاتكة، وسر
بنو هاشم. وقام زمعة بن الأسود، فقال:
إنه واللات والعزى ما نزل بكم أمر أعظم من أن طمع محمد وأهل يثرب أن يعرضوا
لعيركم فيها خزائنكم، فأوعبوا ولا يتخلف منكم أحد، ومن كان لا قوة له فهذه قوة،
والله لئن أصابها محمد وأصحابه لا يروعكم منهم إلا وقد دخلوا عليكم بيوتكم. وقال طعيمة بن عدي: يا معشر قريش، والله ما نزل
بكم أمر أجل من هذه! أن يستباح عيركم، ولطيمة قريش فيها أموالكم وخزائنكم، والله
ما أعرف رجلاً ولا امرأة من بني عبد مناف له نش فصاعداً، إلا وهو في هذه العير،
فمن كان لا قوة به فعندنا قوة نحمله ونقويه. فحمل على عشرين بعيراً وقوى بهم،
وخلفهم في أهلهم بمعونة. وقام حنظلة بن أبي سفيان وعمرو بن أبي سفيان فحضا الناس
على الخروج، ولم يدعوا إلى قوة ولا حملان، فقيل لهما: ألا تدعوان إلى ما
دعا إليه لومكما من الحملان؟ قالا: والله ما لنا مال، وما المال إلا لأبي سفيان.
ومشى نوفل بن معاوية الديلمي إلى أهل
القوة من قريش، وكلمهم في
بذل النفقة والحملان لمن خرج، فكلم عبد الله
بن أبي ربيعة، فقال: هذه خمسمائة دينار تضعها حيث رأيت، وكلم حويطب بن عبد العزى، فأخذ منه مائتي دينار أو
ثلاثمائة، ثم قوى بها في السلاح والظهر. وخاف أبو جهل أن يسلم أبو لهب، فسكت أبو لهب ولم
يخرج ولم يبعث، وما منع أبا لهب أن يخرج إلا الإشفاق من رؤيا عاتكة، كان يقول: إنما رؤيا عاتكة أخذ باليد، ويقال إنه
بعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة وكان له عليه دين، فقال: اخرج وديني عليك
لك، فخرج عنه. وقال الآخر: أما وجد الله أحداً أرسله غيرك! وقال الثالث: والله
لا أكلمك كلمة أبداً، لئن كنت رسولاً من الله كما تقول، لأنت أعظم خطراً من أن
أرد عليك الكلام، ولئن كنت كاذباً على الله ما ينبغي أن أكلمك. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندهم، وقد يئس من
خير ثقيف، واجتمع عليه صبيانهم وسفهاؤهم، وصاحوا به وسبوه وطردوه، حتى
اجتمع عليه الناس يعجبون منه، والجأوه بالحجارة والطرد والشتم إلى حائط لعتبة بن
ربيعة وشيبة بن ربيعة، وهما يومئذ في الحائط، فلما
دخل الحائط رجع عنه سفهاء ثقيف، فعمد إلى ظل حبلة لم منه فجلس فيه، وابنا
ربيعة ينظران ويريان ما لقي من سفهاء ثقيف. فأكب عداس على يديه ورجليه ورأسه يقبلها، قال: يقول ابنا ربيعة
أحدهما لصاحبه: أما غلامك فقد أفسده عليك، فلما
جاءهما قالا: ويلك يا عداس! مالك تقبل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه! قال: يا سيدي، ما في الأرض خير من هذا، فقد أخبرني
بأمر لا يعلمه إلا نبي. قال الواقدي:
وحدثني محمد بن عبد الله، عن الزهري، عن أبي بكر بن سليم بن أبي خيثمة، قال: سمعت حكيم بن حزام يقول: ما توجهت وجهاً قط
كان أكره إلي من مسيري إلى بدر، ولا بان لي في وجه قط ما بان لي قبل أن أخرج، ثم قال: قدم ضمضم، فصاح بالنفير فاستقسمت
بالأزلام، كل ذلك يخرج الذي أكره، ثم خرجت على ذلك حتى نزلنا مر الظهران، فنحر
ابن الحنظلية جزوراً منها بها حياة، فما بقي خباء من أخبية العسكر إلا أصابه من
دمها، فكان هذا بين، ثم هممت بالرجوع، ثم أذكر ابن
الحنظلية وشؤمه، فيردني حتى مضيت لوجهي. وكان حكيم يقول:
لقد رأينا حين بلغنا الثنية البيضاء- وهي الثنية التي تهبطك على فخ وأنت مقبل من
المدينة- إذا عداس جالس عليها، والناس يمرون، إذ مر علينا ابنا ربيعة، فوثب
إليهما، فأخذ بأرجلهما في غرزهما، وهو يقول:
بأبي أنتما وأمي! والله إنه لرسول الله صلى الله عليه
وسلم،
وما
تساقان إلا الى مصارعكما! وإن عينيه لتسيل دمعاً على خديه، فأردت أن أرجع
أيضاً، ثم مضيت. ومر به العاص بن منبه بن الحجاج، فوقف
عليه حين ولى عتبة وشيبة، فقال: ما يبكيك؟ قال: يبكيني سيدي- أو سيدا أهل
الوادي- يخرجان إلى مصارعهما، ويقاتلان رسول الله صلى
الله عليه وسلم!
فقال
العاص: وإن محمداً لرسول الله! فانتفض عداس انتفاضة واقشعر جلده، ثم بكى، وقال:
إي والله، إنه لرسول الله إلى الناس كافة. قال: فأسلم العاص
بن منبه، ومضى وهو على الشك، حتى قتل مع المشركين على شك وارتياب. ويقال: رجع عداس ولم يشهد بدراً، ويقال: شهد بدراً
وقتل. قال الواقدي: والقول الأول أثبت عندنا. قال سعد بن معاذ: وأنت تقول ذلك يا أمية؟ أما
والله لسمعت محمداً يقول: لأقتلن أمية بن خلف، قال أمية: أنت سمعته؟ قال سعد بن
معاذ: فقلت: نعم، قال: فوقع في نفسه، فلما جاء
النفير أبى أمية أن يخرج معهم إلى بدر، فأتاه عقبة بن أبي معيط وأبو جهل، ومع
عقبة مجمرة فيها بخور، ومع أبي جهل مكحلة ومرود، فأدخلها عقبة تحته، فقال:
تبخر، فإنما أنت امرأة، وقال أبو جهل: اكتحل فإنما أنت امرأة. فقال أمية:
ابتاعوا لي أفضل بعير في الوادي، فابتاعوا له جملاً بثلاثمائة دينار من نعم بني
قشير، فغنمه المسلمون يوم بدر، فصار في سهم خبيب بن يساف. فأجمعوا المسير، وقالت قريش: لا
تدعوا أحداً من عدوكم خلفكم. قال الواقدي:
ومما استدل به على كراهة الحارث بن عامر للخروج وعتبة وشيبة، أنه ما عرض رجل
منهم حملاناً، ولا حملوا أحداً من الناس، وإن كان الرجل ليأتيهم حليفاً أو عديداً،
ولا قوة له، فيطلب الحملان منهم، فيقولون:
إن كان لك مال وأحببت أن تخرج فافعل وإلا فأقم، حتى كانت قريش تعرف ذلك منهم. قلت: سرية نخلة
سرية قبل بدر، وكان أميرها عبد الله بن جحش قتل
فيها عمرو بن الحضرمي، حليف بني عبد شمس، قتله واقد بن عبد الله التميمي، رماه
بسهم فقتله، وأسر الحكم بن كيسان وعثمان بن عبد الله بن المغيرة، واستاق
المسلمون العير، وكانت خمسمائة بعير فخمسها رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وقسم أربعمائة فيمن شهدها من المسلمين، وهم مائتا رجل، فأصاب كل رجل بعيران. قال الواقدي:
وأقبل أبو سفيان بالعير، وخاف هو وأصحابه خوفاً شديداً حين دنوا من المدينة،
واستبطأوا ضمضماً والنفير، فلما كانت الليلة التي يصبحون فيها على ماء بدر، جعلت
العير تقبل بوجوهها إلى ماء بدر، وكانوا باتوا من وراء بدر آخر ليلتهم، وهم على
أن يصبحوا بدراً، إن لم يعترض لهم، فما أقرتهم العير حتى ضربوها بالعقل على أن
بعضها ليثنى بعقالين، وهي ترجع الحنين، توارداً إلى ماء بدر، وما إن بها إلى
الماء من حاجة، لقد شربت بالأمس، وجعل أهل العير يقولون: إن هذا شيء ما صنعته
الإبل منذ خرجنا، قالوا: وغشينا تلك الليلة ظلمة شديدة حتى ما نبصر شيئاً. فقال مجدي: والله ما
رأيت أحداً أنكره، ولا بينك وبين يثرب من عدو، ولو كان بينك وبينها عدو لم يخف
علينا، وما كنت أخفيه عنك، إلا أني قد رأيت راكبين أتيا إلى هذا المكان- وأشار
إلى مناخ عدي وبسبس- فأناخا به، ثم استقيا بأسقيتهما، ثم انصرفا. فجاء أبو سفيان
مناخهما، فأخذ أبعاراً من أبعار بعيريهما ففتها، فإذا فيها نوىً، فقال: هذه والله علائف يثرب! هذه والله عيون محمد
وأصحابه، ما أرى القوم إلا قريباً، فضرب وجه عيره، فساحل بها، وترك بدراً يساراً
وانطلق سريعاً، وأقبلت قريش من مكة ينزلون كل منهل يطعمون الطعام من أتاهم،
وينحرون الجزور، فبينا هم كذلك في مسيرهم إذ تخلف
عتبة وشيبة، وهما يترددان، قال أحدهما لصاحبه: ألم تر إلى رؤيا عاتكة بنت
عبد المطلب! لقد خشيت منها، قال الآخر:
فاذكرها، وذكرها، فأدركهما أبو جهل، فقال:
ما تتحادثون به؟ قالا: نذكر رؤيا عاتكة، قال يا
عجباً من بني عبد المطلب! لم يرضوا أن تتنبأ علينا رجالهم حتى تنبأت
علينا النساء! أما والله لئن رجعنا إلى مكة لنفعلن
بهم ولنفعلن! قال عتبة: إن لهم أرحاماً وقرابة قريبة. ثم قال أحدهما لصاحبه:
هل لك أن ترجع؟ قال أبو جهل: أترجعان بعد ما
سرنا فتخذلان قومكما، وتقطعان بهم بعد أن رأيتم ثأركم بأعينكم! أتظنان أن محمداً وأصحابه يلاقونكما! كلا والله، إن معي
من قومي مائة وثمانين كلهم من أهل بيتي يحلون إذا أحللت، ويرحلون إذا رحلت،
فارجعا إن شئتما. قالا: والله لقد هلكت وأهلكت قومك. قال الواقدي: فقال شيبة: والله تكون علينا سبة يا أبا الوليد أن
نرجع الآن بعد ما سرنا فمضينا. ثم انتهى
إلى الجحفة عشاء، فنام جهيم بن الصلت بن مخرمة
بن عبد المطلب بن عبد مناف، فقال:
إني لأرى بين النائم واليقظان، أنظر إلى رجل أقبل على فرس معه بعير له، حتى وقف
علي، فقال: قتل
عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة وزمعة بن
الأسود، وأمية بن خلف، وأبو البختري، وأبو الحكم، ونوفل بن خويلد، في رجال سماهم
من أشراف قريش! وأسر سهيل بن عمرو،
وفر الحارث بن هشام عن أخيه، قال: وكأن
قائلاً يقول: والله إني لأظنهم الذين يخرجون إلى مصارعهم. ثم قال:
أراه ضرب في لبة بعيره فأرسله في العسكر، فقال أبو
جهل: وهذا نبي آخر من بني عبد مناف! ستعلم غداً من المقتول، نحن أو محمد
وأصحابه! وقالت قريش لجهيم: إنما يلعب بك الشيطان في منامك،
فسترى غداً خلاف ما رأيت! يقتل أشراف محمد ويؤسرون.
قال: فخلا عتبة بأخيه شيبة، فقال له:
هل لك في الرجوع؟ فهذه الرؤيا مثل رؤيا عاتكة، ومثل قول عداس، والله ما كذبنا
عداس، ولعمري لئن كان محمد كاذباً إن في العرب لمن يكفيناه، ولئن كان صادقاً إنا
لأسعد العرب به للحمته. فقال شيبة:
هو على ما تقول، أفنرجع من بين أهل العسكر؟ فجاء أبو جهل وهما على ذلك فقال:
ما تريدان؟ قالا: الرجوع، ألا ترى إلى رؤيا عاتكة، وإلى رؤيا جهيم بن الصلت مع قول
عداس لنا! فقال: لا تخذلان والله
قومكما وتقطعان بهم. قالا: هلكت والله وأهلكت قومك! فمضيا على ذلك. فإن أبوا عليك فلا يأبون خصلة واحدة، يردون القيان.
فعالج قيس بن امرىء القيس قريشاً، فأبت الرجوع.
قالوا: أما القيان فسنردهن، فردوهن من الجحفة. قال الواقدي: ولحق الرسول أبا سفيان بالهدة-
والهدة على سبعة أميال من عقبة عسفان، على نسعة وثلاثين ميلاً من مكة- فأخبره
بمضي قريش، فقال: واقوماه! هذا عمل عمرو بن
هشام، يكره أن يرجع لأنه قد ترأس على الناس وبغى، والبغي منقصة وشؤم، والله لئن
أصاب أصحاب محمد النفير ذللنا إلى أن يدخل مكة علينا. قال الواقدي:
وقال الأخنس بن شريق- واسمه أبي، وكان حليفاً لبني زهرة: يا بني زهرة، قد نجى
الله عيركم، وخلص أموالكم، ونجى صاحبكم مخرمة بن نوفل، وإنما خرجتم لتمنعوه
وماله، وإنما محمد رجل منكم، ابن أختكم، فإن يك نبياً فأنتم أسعد به، وإن يك
كاذباً يلي قتله غيركم خير من أن تلوا قتل ابن أختكم، فارجعوا واجعلوا خبثها لي،
فلا حاجة لكم أن تخرجوا في غيرما يهمكم، ودعوا ما يقوله هذا الرجل- يعني أبا
جهل- فإنه مهلك قومه، سريع في فسادهم، فأطاعته بنو زهرة، وكان فيهم مطاعاً،
وكانوا يتيمنون به، فقالوا: فكيف نصنع بالرجوع حتى نرجع؟ فقال الأخنس: نسير مع القوم، فإذا أمسيت سقطت عن
بعيري، فيقولون: نحل الأخنس، فإذا أصبحوا فقالوا: سيروا، فقولوا: لا نفارق صاحبنا، حتى نعلم
أحي هو أم ميت، فندفنه، فإذا مضوا رجعنا إلى مكة. ففعلت بنو زهرة ذلك، فلما أصبحوا بالأبواء راجعين
تبين للناس أن بني زهرة رجعوا فلم يشهدها زهري البتة، وكانوا مائة، وقيل: أقل من مائة وهو أثبت. وقال قوم: فزحف الأسود ليبر قسمه زعم، حتى وقف في
الحوض فهدمه برجله الصحيحة، وشرب منه، وأتبعه حمزة، فضربه في الحوض فقتله،
والمشركون ينظرون ذلك على صفوفهم. فقام حمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب وعبيدة
بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف، فمشوا إليهم،
فقال عتبة: تكلموا نعرفكم- وكان عليهم
إلبيض، فأنكروهم- فإن كنتم أكفاءنا قاتلناكم. فلو لم يكن قد كلمهم بنو عفراء وكلموهم وردوهم، لما
نادى مناديهم بذلك. ويدل على ذلك قول بعض القرشيين لبعض الأنصار في فخر فخر به
عليه: أنا من قوم لم يرض مشركوهم أن يقتلوا مؤمني قومك. قالوا في تفسيرهما:
أراد أنا سيد أهل الحلف المطيبين، وكان الذين حضروه بني عبد مناف وبني أسد بن
عبد العزى وبني تيم وبني زهرة وبني الحارث بن فهر، خمس
قبائل. ورد قوم هذا التأويل، فقالوا: إن المطيبين لم يكن يقال لهم: الحلفاء ولا الأحلاف، وإنما ذلك لقب خصومهم وأعدائهم الذين وقع التحالف لأجلهم،
وهم بنو عبد الدار، وبنو مخزوم، وبنو سهم، وبنو جمح، وبنو عدي بن كعب، خمس قبائل. وقال قوم في
تفسيرهما: إنما عنى حلف الفضول، وكان بعد حلف المطيمين لزمان، وشهد حلف
الفضول رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صغير في دار ابن جدعان، وكان سببه أن رجلاً من اليمن قدم
مكة بمتاع، فاشتراه العاص بن وائل السهمي ومطله
بالثمن حتى أتعبه، فقام بالحجر وناشد قريشاً ظلامته، فاجتمع بنو هاشم وبنو أسد
بن عبد العزى وبنو زهرة، وبنو تميم، في دار ابن جدعان، فتحالفوا، وغمسوا أيديهم
في ماء زمزم، بعد أن غسلوا به أركان البيت، أن ينصروا كل مظلوم بمكة، ويردوا
عليه ظلامته، ويأخذوا على يد الظالم، وينهوا عن كل منكر، ما بل بحر صوفة؟ فسفي
حلف الفضول لفضله، وقد ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"شهدته وما أحب أن لي به
حمر النعم، ولا يزيده الإسلام إلا شدة"، وهذا
التفسير أيضاً غير صحيح، لأن بني عبد شمس لم يكونوا في حلف الفضول،
فقد بان أن
ما ذكره الواقدي أصح وأثبت.
ونزلت
فيهم هذه الآية:"هذان خصمان اختصموا في
ربهم". ويقول في موضع
آخر: قد عرفت مواقع نصالها في أخيك وخالك وجدك، وما هي من الظالمين
ببعيد. وأيضاً
فإن عتبة كان أمثل الثلاثة، فمقتضى القياس أن يكون قرنه أمثل الثلاثة، وهو حمزة
إذ ذاك، لأن علياً عليه السلام لم
يكن قد اشتهر أمره جداً، وإنما اشتهر الشهرة التامة
بعد بدر. ولمن روى أن حمزة بارز شيبة- وهي رواية ابن إسحاق- أن ينتصر
بشعر هند بنت عتبة ترثي أباها:
فإذا كانت قد قالت إن عتبة أباها أذاقه بنو هاشم وبنو المطلب حر
أسيافهم، فقد ثبت أن المبارز لعتبة إنما هو عبيدة لأنه من بني المطلب جرح عتبة،
فأثبته ثم ذفف عليه حمزة وعلي عليه السلام. فأما الشيعة، فإنها تروي أن حمزة بادر عتبة فقتله، وأن
اشتراك علي وحمزة إنما هو في دم شيبة
بعد أن جرحه عبيدة بن الحارث، هكذا ذكر محمد بن
النعمان في كتاب"الإرشاد"، وهو
خلاف ما تنطق به كتب أمير المؤمنين عليه السلام إلى معاوية، والأمر عندي مشتبه في هذا
الموضع. قال أبو داود المازني: فلحقته يوم بدر، فقلت له: إن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قد نهى
عن قتلك إن أعطيت بيدك، قال: وما تريد إلي! إن كان قد نهى عن قتلي، فقد كنت
أبليته ذلك، فأما أن أعطي بيدي، فواللات والعزى لقد علمت نسوة بمكة أني لا أعطي
بيدي، وقد عرفت أنك لا تدعني، فافعل الذي تريد. فرماه أبو داود
بسهم، وقال: اللهم سهمك، وأبو البختري عبدك، فضعه في مقتله، وأبو البختري
دارع، ففتق السهم الدرع فقتله. وارتجز أبو البختري
فقال:
ثم اقتتلا، فقتله المجذر، وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره، وقال:
والذي بعثك بالحق لقد جهدت أن يستأسر فآتيك به، فأبى إلا القتال فقاتلته فقتلته. قال الواقدي:
ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن
قتل الحارث بن عامر بن نوفل، وقال: ائسروه
ولا تقتلوه، وكان كارهاً للخروج إلى بدر، فلقيه خبيب بن يساف فقتله ولا يعرفه،
فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك،
ففال: لو وجدته قبل أن يقتل لتركته لنسائه. ونهى عن
قتل زمعة بن الأسود فقتله ثابت بن الجذع، ولا يعرفه.
يعني درعه.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من عدي؟ فقال رجل من القوم: أنا يا رسول الله، قال: وماذا؟
قال: ابن فلان، قال: لست أنت عدياً، فقال عدي بن
أبي الزغباء: أنا يا رسول الله عدي، قال: وماذا؟ قال:"والسحل، أمشي بها مشي الفحل"، قال
النبي صلى الله عليه وسلم: وما السحل، قال: درعي،
فقال صلى الله عليه وسلم نعم العدي، عدي بن أبي
الزغباء".
فبلغ
قوله النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:"اللهم
أكبه لمنخره واصرعه" فجمح به فرسه يوم بدر بعد أن ولى الناس، فأخذه عبد الله بن سلمة العجلاني أسيراً، وأمر النبي صلى
الله عليه وسلم عاصم بن أبي الأقلح، فضرب عنقه صبراً.
قال:
ويقبل إليه خبيب بن يساف، فضربه حتى قتله، وقد كان أمية ضرب خبيب بن يساف حتى
قطع يده من المنكب، فأعادها النبي صلى الله عليه وسلم فالتحمت واستوت، فتزوج
خبيب بن يساف بعد ذلك ابنة أمية بن خلف، فرأت تلك الضربة، فقالت: لا يشل الله يد
رجل فعل هذا! فقال خبيب: وأنا والله قد
أوردته شعوب، فكان خبيب يحدث يقول: فأضربه فوق العاتق، فأقطع عاتقه حتى بلغت
مؤتزره، وعليه الدرع، وأنا أقول: خذها وأنا
ابن يساف! وأخذت سلاحه ودرعه، وأقبل علي بن أمية فتعرض له الخباب، فقطع رجله،
فصاح صيحة ما سمع مثلها قط، ولقيه عمار فضربه ضربة فقتله. ويقال!: إن عماراً لاقاه قبل ضربة الخباب، فاختلفا
ضربات، فقتله عمار. والأولى أثبت، أنه ضربه
بعد أن قطعت رجله. قال الواقدي:
وقد سمعنا في قتل أمية غير ذلك، حدثني عبيد بن يحيى، عن معاذ بن رفاعة، عن أبيه،
قال: لما كان يوم بدر وأحدقنا بأ"مية بن خلف، وكان له فيهم شأن، ومعي رمحي،
ومعه رمحه، فتطاعنا حتى سقطت أزجتها، ثم صرنا إلى السيفين فتضاربنا بهما حتى
انثلما، ثم بصرت بفتق في درعه تحت إبطه، فحششت السيف فيه حتى قتلته، وخرج السيف
عليه الودك. قال: فكان عبد
الرحمن بن عوف، يقول: رحم الله بلالاً! أذهب
أدرعي، وفجعني بأسيري! قال الواقدي: وكان الزبير بن العوام يحدث
فيقول: لما كان يومئذ لقيت عبيدة بن سعيد بن العاص على
فرس، عليه لامة كاملة لا يرى منه إلا عيناه، وهو يقول- وكانت له صبية صغيرة،
يحملها وكان لها بطين وكانت مقسمة: أنا أبو
ذات الكرش، أنا أبو ذات الكرش. قال: وفي يدي
عنزة فأطعن بها في عينه ووقع، وأطؤه برجلي على خده، حتى أخرجت العنزة متعقفة،
وأخرجت حدقته، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم
تلك العنزة، فكانت تحمل بين يديه، ثم صارت تحمل بين يدي أبي بكر وعمر وعثمان. قال الواقدي:
ولما كان يومئذ، ورأت بنو مخزوم مقتل من قتل، قالت:
أبو الحكم! لا يخلص إليه، فإن ابني ربيعة عجلاً وبطراً، ولم تحام عنهما
عشيرتهما. فاجتمعت بنو مخزوم، فأحدقوا به،
فجعلوه في مثل الحرجة، وأجمعوا أن يلبسوا لامة أبي جهل رجلاً منهم، فألبسوها عبد الله بن المنذر بن أبي رفاعة، فصمد له علي
عليه السلام، فقتله وهو يراه أبا جهل، ومضى عنه وهويقول: أنا ابن عبد
المطلب! ثم ألبسوها أبا قيس بن الفاكه بن المغيرة، فصمد له حمزة وهو يراه أبا
جهل، فضربه فقتله وهو يقول: خذها وأنا ابن
عبد المطلب! ثم ألبسوها حرملة بن عمرو، فصمد له علي
عليه السلام فقتله، ثم أرادوا أن يلبسوها خالد بن الأعلم، فأبى أن
يلبسها، قال معاذ بن عمرو بن الجموح: فنظرت
يومئذ إلى أبي جهل في مثل الحرجة، وهم يقولون:
أبو الحكم! لا يخلص إليه، فعرفت أنه هو، فقلت:
والله لأموتن دونه اليوم أو لأخلصن إليه، فصمدت له، حتى إذا أمكنتني منه غرة
حملت عليه، فضربته ضربة طرحت رجله من الساق، فشبهتها النواة تنزو من تحت
المراضخ، فأقبل ابنه عكرمة علي فضربني على عاتقي، فطرح يدي من العاتق، إلا أنه
بقيت جلدة، فذهبت أسحب يدي بتلك الجلدة خلفي، فلما آذتني وضعت عليها رجلي، ثم
تمطيت عليها فقطعتها، ثم لاقيت عكرمة وهو يلوذ كل ملاذ، ولو كانت يدي معي لرجوت
يومئذ أن أصيبه. ومات معاذ في زمن عثمان. فأشرت إليه، فالتفت إلي الآخر، وقال لي مثل ذلك،
فأشرت له إليه، وقلت له: من أنتما؟ قالا:
ابنا الحارث، قال:" فجعلا لا يطرفان عن
أبي جهل، حتى إذا كان القتال خلصا إليه فقتلاه
وقتلهما. قال الواقدي:
فلما وضعت الحرب أوزارها، أمر رسول الله صلى
الله عليه وسلم أن يلتمس أبو
جهل، قال ابن مسعود: فوجدته في آخر رمق،
فوضعت رجلي على عنقه، فقلت: الحمد لله الذي
أخزاك! قال: إنما أخزى الله العبد ابن أم
عبد! لقد ارتقيت يا رويعي الغنم مرتقى صعباً! لمن الدبرة؟ قلت: لله ولرسوله، قال ابن مسعود: فأقلع بيضته عن
قفاه، وقلت: إني قاتلك، قال: لست بأول عبد
قتل سيده، أما إن أشد ما لقيته اليوم لقتلك إياي، ألا يكون ولي قتلي رجل من
الأحلاف أو من المطيبين! قال: فضربه عبد الله ضربة وقع رأسه بين يديه، ثم سلبه،
وأقبل بسلاحه ودرعه وبيضته، فوضعها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:
أبشر يا نبي الله بقتل عدو الله أبي جهل! فقال رسول
الله: أحقاً يا عبد الله! فوالذي نفسي بيده لهو أحب إلي من حمر النعم! أوكما قال. ثم قال:
إنه أصابه جحش من دفع دفعته في مأدبة ابن جدعان، فجحشت ركبته فالتمسوه، فوجدوا
ذلك الأثر. ونقلت من غير كتاب الواقدي
أن عثمان بن عفان وسعيد بن العاص حضرا عند عمر في أيام خلافته، فجلس سعيد بن
العاص حجرة فنظر إليه عمر، فقال: ما لي أراك معرضاً كأني قتلت أباك! إني لم
أقتله، ولكنه قتله أبو حسن! وكان علي عليه
السلام حاضراً، فقال: اللهم غفرا! ذهب
الشرك بما فيه، ومحا الإسلام ما قبله، فلماذا تهاج القلوب! فسكت عمر، وقال سعيد: لقد قتله كفء كريم، وهو أحب إلي من أن
يقتله من ليس من بني عبد مناف. قال الواقدي:
وأصاب حارثة بن سراقة، وهو يكرع في الحوض سهم غرب من المشركين فوقع في نحره،
فمات، فلقد شرب القوم آخر النهار من دمه، وبلغ أمه وأخته- وهما بالمدينة مقتله- فقالت أمه: والله لا أبكي عليه، حتى يقدم رسول
الله صلى الله عليه وسلم فأسأله، فإن
كان في الجنة لم أبك عليه، وإن كان في النار بكيته لعمر الله فأعولته! فلما قدم
رسول الله صلى الله عليه وسلم
من بدر جاءت أمه إليه، فقالت: يا رسول الله، قد عرفت موضع حارثة في قلبي، فأردت
أن أبكي عليه، ثم قلت: لا أفعل حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه، فإن كان
في الجنة لم أبكه، وإن كان في النار بكيته فأعولته! فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"هبلت:
أجنة واحدة! إنها جنان كثيرة، والذي نفسي بيده إنه لفي الفردوس الأعلى"،
قالت: فلا أبكي عليه أبداً. قال الواقدي:
كان قباث بن أشيم الكناني يقول: شهدت مع المشركين بدراً، وإني لأنظر إلى قلة
أصحاب محمد في عيني، وكثرة من معنا من الخيل والرجل، فانهزمت فيمن انهزم، فلقد
رأيتني وإني لأنظر إلى المشركين في كل وجه، وإني لأقول في نفسي: ما رأيت مثل هذا
الأمر فر منه إلا النساء! وصاحبني رجل، فبينا هو يسير معي إذ لحقنا من خلفنا، فقلت لصاحبي: أبك نهوض؟ قال: لا والله ما بي! قال
وعقر وترفعت، فلقد صبحت غيقة- قال: وغيقة عن يسار السقيا بينها وبين الفرع ليلة
وبين الفرع والمدينة ثمانية برد- قبل الشمس، كنت هادياً بالطريق، ولم أسلك
المحاج، وخفت من الطلب فتنكبت عنها، فلقيني رجل من قومي بغيقة، فقال: ما وراءك؟
قلت: لا شيء، قتلنا وأسرنا وانهزمنا، فهل عندك من حملان؟ قال: فحملني على بعير،
وزودني زاداً، حتى لقيت الطريق بالجحفة، ثم مضيت حتى دخلت مكة، وإني لأنظر إلى
الحيسمان بن حابس الخزاعي بالغميم، فعرفت أنه تقدم ينعى قريشاً بمكة، فلو أردت
أن أسبقه لسبقته، فتنكبت عنه حتى سبقني ببعض النهار، فقدمت وقد انتهى إلى مكة
خبر قتلاهم، وهم يلعنون الخزاعي، ويقولون: ما جاءنا بخير! فمكثت بمكة، فلما كان
بعد الخندق، قلت: لو قدمت المدينة، فنظرت ما
يقول محمد! وقد وقع في قلبي الإسلام، فقدمت المدينة، فسألت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: هو ذاك في ظل المسجد مع ملأ من أصحابه، فأتيته وأنا
لا أعرفه من بينهم، فشلمت فقال: يا قباث بن أشيم،
أنت القائل يوم بدر: ما رأيت مثل هذا الأمر فر منه إلا النساء! قلت: أشهد
أنك رسول الله، وأن هذا الأمر ما خرج مني إلى أحد قط وما ترمرمت به، إلا شيئاً
حدثت به نفسي، فلولا أنك نبي ما أطلعك الله عليه، هلم حتى أبايعك فأسلمت.
قال الواقدي:
أنشدنيه، ورواه لي عبد الله بن أبي عبيدة، عن محمد بن عمار بن ياسر، قال:
فاستمعوا الصوت، فلا يرون أحداً، فخرجوا في طلبه، فلم يروا أحداً، فخرجوا فزعين،
حتى جازوا الحجر، فوجدوا مشيخةً منهم جلةً سماراً، فأخبروهم الخبر، فقالوا لهم:
إن كان ما تقولون، فإن محمداً وأصحابه يسمون الحنيفية. قال:
فلم يبق أحد من الفتيان الذين كانوا بذي طوى إلا وعك، فما مكثوا إلا ليلتين أو
ثلاثاً، حتى قدم الحيسمان الخزاعي بخبر أهل بدر، ومن قتل منهم، فجعل يخبرهم،
فيقول: قتل عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وقتل ابنا الحجاج وأبو البختري، وزمعة بن
الأسود- قال: وصفوان بن أمية في الحجر جالس يقول: لا يعقل هذا شيئاً مما يتكلم
به! سلوه عني، فقالوا: صفوان بن أمية لك به علم؟
قال: نعم، هوذاك في الحجر، ولقد رأيت أباه وأخاه مقتولين، ورأيت سهيل بن عمرو والنفر بن الحارث أسيرين،
رأيتهما مقرونين في الحبال. فقال بطارقته:
أصلح الله الملك! إن هذا شيء لم تكن تصنعه، يريدون لبس البياض والجلوس على الأرض،
فقال: إن عيسى بن مريم كان إذا حدثت له نعمة ازداد بها تواضعاً. قال الواقدي:
فلما رجعت قريش إلى مكة، قام فيهم أبو سفيان بن حرب، فقال: يا معشر قريش، لا
تبكوا على قتلاكم، ولا تنح عليهم نائحة، ولا يندبهم شاعر، وأظهروا الجلد
والعزاء، فإنكم إذا نحتم عليهم وبكيتموهم بالشعر أذهب ذلك غيظكم فأكلكم ذلك عن
عداوة محمد وأصحابه، مع أن محمداً إن بلغه وأصحابه ذلك شمتوا بكم، فتكون أعظم
المصيبتين، ولعلكم تدركون ثأركم، فالدهن والنساء علي حرام حتى أغزو محمداً.
فمكثت قريش شهراً لا يبكيهم شاعر، ولا تنوح عليهم نائحة.
قال الواقدي:
ومشت نساء من قريش إلى هند بنت عتبة، فقلن:
ألا تبكين على أبيك وأخيك وعمك وأهل بيتك! فقالت:
حلأني أن أبكيهم، فيبلغ محمداً وأصحابه فيشمتوا بنا ونساء بني الخزرج، لا والله
حتى أثأر محمداً وأصحابه، والدهن علي حرام إن دخل رأسي حتى نغزو محمداً! والله
لو أعلم أن الحزن يذهب عن قلبي لبكيت، ولكن لا يذهبه إلا أن أرى ثأري بعيني من
قتلة الأحبة، فمكثت على حالها لا تقرب الدهن، ولا قربت فراش أبي سفيان من يوم
حلفت حتى كانت وقعة أحد. قال الواقدي: وحدثني معاذ بن محمد
الأنصاري، عن عاصم بن عمر بن قتادة، قال: لما رجع
المشركون إلى مكة، وقد قتل صناديدهم وأشرافهم،
أقبل عمير بن وهب بن عمير الجمحي حتى جلس إلى صفوان بن أمية في الحجر، فقال صفوان بن أمية: قبح العيش بعد قتلى بدر! قال
عمير بن وهب: أجل والله، ما في العيش بعدهم خير، ولولا دين علي لا أجد له قضاء،
وعيال لا أدع لهم شيئاً، لرحلت إلى محمد حتى أقتله إن ملأت عيني منه، فإنه بلغني
أنه يطوف في الأسواق، فإن لي عندهم علة، أقول:
قدمت على ابني هذا الأسير. ففرح صفوان بقوله، وقال: يا أبا امية، وهل نراك
فاعلاً؟ قال: إي ورب هذه البنية! قال صفوان:
فعلي دينك، وعيالك أسوة عيالي، فأنت تعلم أنه ليس بمكة رجل أشد توسعاً على عياله
مني. قال عمير:
قد عرفت ذلك يا أبا وهب، قال صفوان: فإن
عيالك مع عيالي، لا يسعني شيء ونعجز عنهم، ودينك علي. فحمله صفوان على بعيره، وجهزه
وأجرى على عياله مثل ما يجري على عيال نفسه، وأمر عمير بسيفه فشحذ وسم، ثم خرج
إلى المدينة، وقال لصفوان: اكتم علي أياماً
حتى أقدمها، وخرج فلم يذكره صفوان، وقدم عمير، فنزل على باب المسجد، وعقل
راحلته، وأخذ السيف فتقلده، ثم عمد نحو رسول الله صلى
الله عليه وسلم، وعمر بن الخطاب في نفر من المسلمين يتحدثون، ويذكرون
نعمة الله عليهم في بدر، فرأى عميراً وعليه السيف، ففزع عمر منه، وقال! لأصحابه: دونكم الكلب! هذا عمير بن وهب عدو الله الذي حرش بيننا يوم بدر، وحزرنا
للقوم، وصعد فينا وصوب، يخبر قريشاً أنه لا عدد لنا ولا كمين. فقاموا إليه فأخذوه، فانطلق عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، هذا عمير
بن وهب، قد دخل المسجد ومعه السلاح، وهو الغادر الخبيث الذي لا يؤمن على شيء، فقال النبي صلى
الله عليه وسلم: أدخله علي،
فخرج عمر فأخذ بحمائل سيفه، فقبض بيده عليها، وأخذ بيده الأخرى قائم السيف، ثم
أدخله على رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فلما رآه، قال: يا عمر، تأخر عنه، فلما دنا عمير
إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: أنعم صباحاً، فقال له النبي صلى الله عليه
وسلم:
قد
أكرمنا الله عن تحيتك، وجعل تحيتنا السلام، وهي تحية أهل الجنة. قال عمير: إن
عهدك بها لحديث، فقال النبي صلى الله عليه
وسلم:
قد
أبدلنا الله خيراً، فما أقدمك يا عمير؟ قال!: قدمت في أسيري عندكم تفادونه
وتقاربوننا فيه، فإنكم العشيرة والأصل! قال النبي صلى الله عليه وسلم: فما بال
السيف! قال عمير: قبحها الله من سيوف! وهل
أغنت من شيء! إنما نسيته حين نزلت وهو في رقبتي، ولعمري إن لي لهما غيره، فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: أصدق يا عمير، ما الذي أقدمك؟ قال: ما
قدمت إلا في أسيري، قال صلى الله عليه وسلم: فما
شرطت لصفوان بن أمية في الحجر؟ ففزع عمير، وقال:
ماذا شرطت له؟ قال: تحملت بقتلي، على أن
يقضي دينك، ويعول عيالك، والله حائل بينك وبين ذلك! قال عمير:
أشهد أنك صادق، وأشهد أن لا إله إلا
الله،
كنا
يا رسول الله نكذبك بالوحي، وبما يأتيك من السماء، وإن هذا الحديث كان بيني وبين
صفوان كما قلت، لم يطلع عليه غيره وغيري، وقد أمرته أن يكتمه ليالي، فأطلعك الله
عليه، فآمنت بالله ورسوله، وشهدت أن ما جئت به حق. الحمد لله الذي ساقني هذا
المساق! وفرح المسلمون حين هداه الله، وقال عمر بن
الخطاب: لخنزير كان أحب إلي منه حين طلع، وهو الساعة أحب إلي من بعض
ولدي. وقال النبي صلى الله عليه
وسلم:"علموا أخاكم القرآن، واطلقوا له أسيره"، فقال عمير: يا رسول الله، إني كنت جاهداً على
إطفاء نور الله، فله الحمد أن هداني، فأذن لي فألحق قريشاً فأدعوهم إلى الله
وإلى الإسلام، فلعل الله يهديهم ويستنقذهم من الهلكة، فأذن له فخرج، فلحق بمكة.
وكان صفوان يسأل عن عمير بن وهب كل راكب يقدم من المدينة، يقول: هل حدث بالمدينة
من حدث؟ ويقول لقريش: أبشروا بوقعة تنسيكم وقعة بدر، فقدم رجل من المدينة، فسأله صفوان عن عمير، فقال: أسلم، فلعنه صفوان
ولعنه المشركون بمكة، وقالوا: صبأ عمير،
وحلف صفوان ألا يكلمه أبداً، ولا ينفعه، وطرح عياله. وقدم عمير، فنزل في أهله، ولم يأت صفوان، وأظهر
الإسلام، فبلغ صفوان. فقال: قد عرفت حين لم
يبدأ بي قبل منزله، وقد كان رجل أخبرني أنه ارتكس، لا أكلمه من رأسي أبداً، ولا
أنفعه ولا عياله بنافعة أبداً، فوقع عليه عمير وهو في الحجر فقال: يا أبا وهب.
فأعرض صفوان عنه، فقال عمير: أنت سيد من
ساداتنا، أرأيت الذي كنا عليه من عبادة حجر، والذبح له! أهذا دين! أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله. فلم
يجبه صفوان بكلمة، وأسلم مع عمير بشر كثير. فكتب بها المهاجرون بالمدينة إلى من كان بمكة
مسلماً، فلما جاءهم الكتاب بما أنزل فيهم، قالوا: اللهم إن لك علينا إن أفلتنا
ألا نعدل بك أحداً، فخرجوا الثانية، فطلبهم أبو سفيان والمشركون، فأعجزوهم هرباً
في الجبال، حتى قدموا المدينة، واشتد البلاء على من ردوا من المسلمين، فضربوهم
وآذوهم وأكرهوهم على ترك الإسلام، ورجع ابن أبي سرح مشركاً، فقال لقريش: ما كان
يعلم محمداً إلا ابن قمطة، عبد نصراني، لقد كنت أكتب له فأحول ما أردت، فأنزل
الله تعالى"ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر..." الآية. فقال الواقدي في
كتاب"المغازي": حدثني عمر بن عقبة، عن شعبة مولى ابن
عباس، قال: سمعت ابن عباس يقول: لما تواقف
الناس أغمي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة،
ثم كشف عنه فبشر المؤمنين بجبرائيل في جند من الملائكة في ميمنة الناس، وميكائيل
في جند آخر في ميسرة الناس، وإسرافيل في جند آخر في ألف، وكان إبليس قد تصور
للمشركين في صورة سراقة بن جعشم المدلجي، يذمر المشركين، ويخبرهم أنه لا غالب
لهم من الناس، فلما أبصر عدو الله الملائكة نكص على عقبيه، وقال:"إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون"،
فتشبث به الحارث بن هشام، وهو يرى أنه سراقة
لما سمع من كلامه، فضرب في صدر الحارث، فسقط الحارث، وانطلق إبليس لا يرى حتى
وقع في البحر، ورفع يديه قائلاً: يا رب موعدك الذي وعدتني! وأقبل أبو جهل على
أصحابه يحضهم على القتال وقال: لا يغرنكم خذلان سراقة بن جعشم إياكم، فإنما كان
على ميعاد من محمد وأصحابه، سيعلم إذا رجعنا إلى قديد ما نصنع بقومه! ولا
يهولنكم مقتل عتبة وشيبة والوليد، فإنهم عجلوا وبطروا حين قاتلوا، وإيم الله لا
نرجع اليوم حتى نقرن محمداً وأصحابه في الحبال، فلا ألفين أحداً منكم قتل منهم
أحداً، ولكن خذوهم أخذاً نعرفهم بالذي صنعوا، لمفارقتهم دينكم ورغبتهم عما كان
يعبد أباؤهم. قال الواقدي: فحدثني أبو إسحاق الأسلمي، عن الحسن بن
عبيد الله، مولى بني العباس، عن عمارة الليثي، قال: حدثني شيخ صياد من الحي-
وكان يومئذ على ساحل البحر- قال: سمعت صياحاً: يا ويلاه! يا ويلاه! قد ملأ
الوادي: يا حرباه يا حرباه! فنظرت فإذا سراقة بن جعشم، فدنوت منه، فقلت: ما لك
فداك أبي وأمي! فلم يرجع إلي شيئاً، ثم أراه اقتحم البحر، ورفع يديه ماداً،
يقول: يا رب ما وعدتني! فقلت في نفسي: جن وبيت الله سراقة! وذلك حين زاغت الشمس،
وذلك عند انهزامهم يوم بدر. قال الواقدي:
وحدثني عبد الرحمن بن الحارث، عن أبيه، عن جده، عبيدة بن أبي عبيدة، عن أبي رهم
الغفاري عن ابن عم له، قال: بينا أنا وابن عم لي على ماء بدر، فلما رأينا قلة من
مع محمد وكثرة قريش، قلنا: إذا التقت
الفئتان عمدنا إلى عسكر محمد وأصحابه فانتهبناه،
فانطلقنا نحو المجنبة اليسرى من أصحاب محمد، ونحن
نقول: هؤلاء ربع قريش، فبينا نحن نمشي في الميسرة إذ جاءت سحابة فغشيتنا،
فرفعنا أبصارنا لها، فسمعنا أصوات الرجال والسلاح، وسمعنا قائلاً يقول لفرسه:"أقدم حيزوم"، وسمعناهم يقولون:"رويداً تتاءم
أخراكم"، فنزلوا على ميمنة رسول الله صلى
الله عليه وسلم، ثم جاءت أخرى مثل تلك فكانت مع النبي
صلى الله عليه وسلم، فنظرنا إلى
أصحاب محمد و إذا هم على الضعف من قريش، فمات ابن عمي، وأما أنا فتماسكت، وأخبرت
النبي صلى الله عليه وسلم بذلك،
وأسلمت. قال الواقدي:
وقد قالوا: إنه لما التحم القتال، ورسول الله صلى
الله عليه وسلم رافع يديه
يسأل الله النصر وما وعده، ويقول: اللهم إن ظهرت علي هذه العصابة، ظهر الشرك،
ولا يقوم لك دين، وأبو بكر يقول: والله
لينصرنك الله وليبيضن وجهك، فأنزل الله تعالى ألفاً من الملائكة مردفين عند
أكتاف العدو، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يا
أبا بكر، أبشر، هذا جبرائيل معتجر بعمامة صفراء، آخذ بعنان فرسه بين السماء
والأرض"، ثم قال: إنه لما نزل الأرض تغيب عني ساعة، ثم طلع على ثناياه
النقع، يقول: أتاك النصر من الله إذ دعوته. وأيضاً فإن الملائكة نزلت وتصورت بصور البشر الذين
يعرفهم المسلمون، وقالوا لهم ما جرت العادة أن يقال مثله من تثبيت القلوب يوم
الحرب، نحو قولهم: ليس المشركون بشيء، لا قوة عندهم، لا قلوب لهم، لو حملتم
عليهم لهزمتموهم... وأمثال ذلك. قال الواقدي: وقد روى عبادة بن
الوليد بن عبادة عن جده عبادة بن الصامت، قال: سلمنا
الأنفال يوم بدر لله وللرسول، ولم يخمس رسول الله صلى الله عليه وسلم بدراً،
ونزلت بعد:"واعلموا أنما غنمتم من شيء"، فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمسلمين
الخمس فيما كان من أول غنيمة بعد بدر، قال الواقدي:
وقد روي عن أبي أسيد الساعدي مثله. قال الواقدي:
فروى محمد بن سهل بن خيثمة، قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ترد
الأسرى والأسلاب، وما أخذوا من لمغنم، ثم أقرع بينهم في الأسرى، وقسم أسلاب
المقتولين الذين يعرف قاتلوهم بين قاتليهم، وقسم ما وجده في العسكر بين جميع
المسلمين عن فراق. قال: وقد قال عبد الله بن سعد بن خيثمة: أخذنا سهم
أبي الذي ضرب له رسول الله صلى الله عليه
وسلم حين
قسم الغنائم، وحمله إلينا عويمر بن ساعدة. قال: وقد روى
السائب بن أبي لبابة، أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم أسهم لمبشر بن
عبد المنذر، قال: وقد قدم بسهمه علينا معن بن عدي. قال الواقدي:
وكانت الإبل التي أصابوا يومئذ مائة وخمسين بعيراً، وكان معه أدم كثير، حملوه
للتجارة، فمنعه المسلمون يومئذ، وكان فيما أصالوا قطيفة حمراء، فقال بعضهم: ما
لنا لا نرى القطيفة! ما نرى رسول الله
صلى الله عليه وسلم إلا أخذها، فأنزل الله تعالى: "وما كان لنبي أن يغل". وجاء رجل إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: يا رسول الله، إن فلاناً غل قطيفة، فسأل
رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل، فقال: لم أفعل، فقال الدال: يا رسول الله،
احفروا هاهنا، فحفرنا فاستخرجت القطيفة، فقال قائل: يا رسول الله، استغفر لفلان
مرتين، أو مراراً، فقال صلى الله عليه وسلم: دعونا
من أبي حر. وخرج بني
له يفعة، فاحتمله الغول، فذهبت به متوركة ظهراً، فقيل لأبي أسيد: وكانت الغيلان
في ذلك الزمان؟ فقال: نعم، ولكنها قد هلكت، فلقي بني الأرقم بن أبي الأرقم، فبهش
إليه باكياً مستجيراً به، فقال: من أنت؟ فأخبره، فقالت الغول: أنا حاضنته، فلها
عنه والصبي يكذبها، فلم يعرج عليه حتى الساعة، فخرج من داري فرس لي، فقطع رسنه،
فلقيه الأرقم بالغابة فركبه، حتى إذا دنا من المدينة أفلت منه فتعذر إلي أنه
أفلت مني، فلم أقدر عليه حتى الساعة. قال الواقدي:
ولما جيء بالأسرى كره ذلك سعد بن معاذ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم
كأنه شق عليك أن يؤسروا! قال: نعم يا رسول الله، كانت أول وقعة التقينا فيها
بالمشركين فأحببت أن يذلهم الله، وأن يثخن فيهم القتل. قال مصعب: إنك كنت تقول في كتاب الله كذا وكذا،
وتقول في نبيه كذا وكذا، قال: يا مصعب، فليجعلني كأحد أصحابي. إن قتلوا قتلت، وإن من عليهم من علي. قال مصعب:
إنك كنت تعذب أصحابه، قال: أما والله لو أسرتك قريش ما قتلت أبداً وأنا حي. قال مصعب:
والله إني لأراك صادقاً، ولكن لست مثلك قطع الإسلام العهود.
قال الواقدي:
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما
وصل إليه شعرها رق له، وقال:"لو كنت سمعت شعرها قبل أن أقتله لما
قتلته" قال الواقدي: ولما أسر سهيل بن
عمرو، قال عمر بن الخطاب: يا رسول الله،
انزع ثنيتيه يدلع لسانه، فلا يقوم عليك خطيباً أبداً، فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا أمثل به فيمثل الله بي وإن كنت نبياً، ولعله يقوم
مقاماً لا تكرهه". فقام سهيل بن عمرو بمكة حين جاءه وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بخطبة أبي بكر بالمدينة، كأنه كان يسمعها، فقال عمر حين بلغه
كلام سهيل: أشهد أنك رسول الله- يريد قوله صلى الله عليه وسلم :"لعله يقوم مقاماً لا
تكرهه". قالوا:
بل نأخذ الفدية ونستعين بها، ويستشهد منا من يدخل الجنة، فقبل منهم الفداء، وقتل
من المسلمين قابلاً عدتهم بأحد. قال الواقدي:
لما حبس الأسرى وجعل عليهم شقران مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم طمعوا في
الحياة، فقالوا: لو بعثنا إلى أبي بكر! فإنه أوصل قريش لأرحامنا! فبعثوا إلى أبي بكر، فأتاهم فقالوا: يا أبا بكر،
إن فينا الآباء والأبناء والإخوان، والعمومة وبني العم، وأبعدنا قريب، كلم صاحبك
فليمن علينا ويفادنا، فقال: نعم إن شاء الله، لا آلوكم خيراً. ثم انصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالوا: وابعثوا إلى عمر بن الخطاب، فإنه من قد
علمتم، ولا يؤمن أن يفسد عليكم لعله يكف عنكم! فأرسلوا إليه، فجاءهم فقالوا له
مثل ما قالوا لأبي بكر، فقال: لا آلوكم شراً! ثم انصرف إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فوجد أبا
بكر عنده، والناس حوله، وأبو بكر يلينه ويغشاه،
ويقول: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي! قومك فيهم الآباء والأبناء والعمومة
والإخوان وبنو العم، وأبعدهم عنك قريب! فامنن عليهم، من الله عليك، أو فادهم قوة
للمسلمين، فلعل الله يقبل بقلوبهم إليك! ثم قام فتنحى ناحيةً، وسكت رسول الله
صلى الله عليه وسلم فلم يجبه، فجاء عمر فجلس مجلس أبي بكر، فقال يا رسول الله،
هم أعداء الله، كذبوك وقاتلوك وأخرجوك، اضرب رقابهم، فهم رؤوس الكفر وأئمة
الضلالة، يوطىء الله بهم الإسلام، ويذل بهم الشرك! فسكت رسول الله صلى الله عليه
وسلم ولم يجبه، وعاد أبو بكر إلى مقعده الأول، فقال: بأبي أنت وأمي! قومك فيهم
الآباء والأبناء والعمومة والإخوان وبنو العم، وأبعدهم منك قريب! فامنن عليهم أو
فادهم. هم عشيرتك وقومك لا تكن أول من يستأصلهم، وأن يهديهم الله خير من أن
يهلكهم. فسكت صلى الله عليه وسلم عنه فلم يرد عليه شيئاً، وقام ناحية. فسكت رسول الله صلى الله عليه
وسلم
فلم
يجبه، فقام ناحية، فجلس وعاد أبو بكر، فكلمه مثل كلامه الأول فلم يجبه، ثم تنحى،
فجاء عمر فكلمه بمثل كلامه الأول فلم يجبه، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل
قبته، فمكث فيها ساعة، ثم خرج، والناس يخوضون في شأنهم، يقول بعضهم: القول ما قال أبو بكر، وآخرون يقولون: القول ما قال عمر. فلما خرج قال للناس: ما
تقولون في صاحبيكم هذين؟ دعوهما فإن لهما مثلاً، مثل أبي بكر في
الملائكة كميكائيل ينزل برضا الله وعفوه على عباده، ومثله في الأنبياء كمثل
إبراهيم كان ألين على قومه من العسل، أوقد له قومه النار فطرحوه فيها، فما زاد
على أن قال:"أف لكم ولما تعبدون من دون الله
أفلا تعقلون"، وقال:"فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور
رحيم"، وكعيسى إذ يقول:"إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت
العزيز الحكيم" ومثل عمر في الملائكة كمثل جبريل ينزل بالسخط من الله
والنقمة على أعداء الله، ومثله في الأنبياء كمثل نوح، كان أشد على قومه من
الحجارة، إذ يقول:"رب لا تذر على الارض من
الكافرين دياراً" فدعا عليهم دعوة أغرق الله بها الأرض جميعاً، ومثل
موسى إذ يقول:"ربنا اطمس على أموالهم واشدد
على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم" وإن بكم عيلة، فلا
يفوتنكم رجل من هؤلاء إلا بفداء أو ضربة عنق. فقال عبد الله بن مسعود: يا رسول الله، إلا سهيل بن
بيضاء. قال الواقدي:
هكذا روى ابن أبي حبيبة، وهذا وهم، سهيل بن بيضاء مسلم من مهاجرة الحبشة، وشهد
بدراً، وإنما هو أخ له. ويقال له سهيل. قال: قال عبد الله بن مسعود:
فإني رأيته يظهر الإسلام بمكة- قال: فسكت النبي صلى
الله عليه وسلم، قال عبد الله: فما مرت علي ساعة قط
كانت أشد علي من تلك الساعة، جعلت أنظر إلى السماء أتخوف أن تسقط علي الحجارة
لتقدمي بين يدي الله ورسوله بالكلام، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه،
فقال:"إلا لسهيل ابن بيضاء"، قال: فما مرت علي ساعة أقر لعيني منها،
إذ قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم
قال:"إن الله عز وجل ليشدد القلب حتى يكون أشد من الحجارة، وإنه ليلين
القلب حتى يكون ألين من الزبد"، فقبل الفداء ثم قال بعد:"لو نزل عذاب
يوم بدر لما نجا منه إلا عمر"، كان يقول: اقتل ولا تأخذ الفداء. وكان سعد بن معاذ يقول:
اقتل ولا تأخذ الفداء. وأما حديث سهيل بن بيضاء
فإنه يوهم مذهب موسى بن عمران في أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحكم في
الوقائع بما يشاء، لأنه قيل له: احكم بما
تشاء، فإنك لا تحكم إلا بالحق، وهو مذهب متروك إلا أنه يمكن أن يقال: لعله لما
سكت صلى الله عليه وسلم عندما قال
ابن مسعود ذلك القول، نزل عليه في تلك السكتة الوحي وقيل له: إلا سهيل بن بيضاء،
فقال حينئذ:"إلا سهيل بن بيضاء"، كما أوحي إليه. قال وكانت لمطعم بن عدي عند النبي صلى الله عليه وسلم يد أجاره حين
رجع من الطائف. وقال أبو عزة: أعطيك موثقاً ألا اقاتلك، ولا أكثر
عليك أبداً. فأرسله رسول الله صلى
الله عليه وسلم، فلما خرجت قريش إلى أحد، جاء صفوان بن
أمية، فقال: اخرج معنا، قال: إني قد أعطيت محمداً موثقاً ألا أقاتله، ولا اكثر
عليه أبداً. وقد من علي ولم يمن على غيري حتى قتله أو أخذ منه
الفداء. فضمن له
صفوان أن يجعل بناته مع بناته إن قتل، وإن عاش أعطاه مالاً كثيراً لا يأكله عياله.
فخرج أبو عزة يدعو العرب ويحشرها، ثم
خرج مع قريش يوم أحد، فأسر ولم يؤسر غيره من قريش، فقال: يا محمد، إنما خرجت
كرهاً ولي بنات، فامنن علي. فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم:"أين ما أعطيتني من العهد والميثاق! لا والله لا تمسح عارضيك بمكة
تقول: سخرت بمحمد مرتين". فقتله. قال الواقدي:
وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر بالقلب أن تغور ثم أمر بالقتلى،
فطرحوا فيها كلهم إلا أمية بن خلف فإنه كان
مسمناً انتفخ من يومه. فلما أرادوا أن يلقوه تزايل
لحمه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اتركوه. فقال أبو بكر: كان والله يا رسول الله أبقى في
العشيرة من غيره، ولقد كان كارهاً لوجهه، ولكن الحين ومصارع السوء. فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم:"الحمد لله الذي جعل خد أبي جهل الأسفل وصرعه
وشفانا منه". فلما توافوا في القليب وقد كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم يطوف عليهم وهم مصرعون، جعل أبو بكر
يخبره بهم رجلاً رجلاً، ورسول الله صلى
الله عليه وسلم يحمد الله ويشكره ويقول: الحمد لله
الذي أنجز لي ما وعدني! فقد وعدني إحدى الطائفتين، ثم
وقف على أهل القليب فناداهم رجلاً رجلاً:"يا
عتبة بن ربيعة، ويا شيبة بن ربيعة، ويا أمية بن خلف، ويا أبا جهل بن هشام! هل
وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقاً! بئس القوم كنتم لنبيكم! كذبتموني
وصدقني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس، وقاتلتموني ونصرني الناس، فقالوا: يا
رسول الله، أتنادي قوماً قد ماتوا! فقال:"لقد
علموا أن ما وعدهم ربهم حق". قال الواقدي:
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى
العصر بالأثيل، فلما صلى ركعة تبسم، فلما سلم سئل عن تبسمه فقال: مر بي ميكائيل
وعلى جناحه النقع، فتبسم إلي، وقال: إني كنت في طلب القوم، وأتاني جبربل على فرس
أنثى معقود الناصية، قد عم ثنيتيه الغبار فقال: يا محمد إن ربي بعثني إليك،
وأمرني ألا أفارقك حتى ترضى، فهل رضيت؟ فقلت: نعم. قال أبو رافع: فرفعت طنب الحجرة، ثم قلت: تلك
والله الملائكة، قال: فرفع أبو لهب يده، فضرب بي الأرض ثم برك علي يضربني، وكنت
رجلاً ضعيفاً، فقامت أم الفضل إلى عمود من عمد الحجرة، فأخذته فضربته على رأسه،
فشجته شجة منكرة، وقالت: استضعفته إذ غاب سيده، فقام مولياً ذليلاً، فوالله ما
عاش إلا سبع ليال، حتى رماه الله بالعدسة فقتلته. قال محمد بن إسحاق:
قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول الوقعة، فنهى أن يقتل أحد من بني
هاشم، قال: حدثني بذلك الزهري، عن عبد الله بن ثعلبة حليف بني زهرة، قال: وحدثني
العباس بن عبد الله بن معبد بن العباس، عن بعض أهله، عن عبد الله بن عباس رحمه
الله، قال: وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه:
إني
قد عرفت أن رجالاً من بني هاشم وغيرهم قد أخرجوا كرهاً، لا حاجة لنا بقتلهم، فمن
لقي منكم أحداً من بني هاشم فلا يقتله ومن لقي أبا البختري فلا يقتله، ومن لقي
العباس بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يقتله، فإنه إنما خرج
مستكرهاً، فقال أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة: أنقتل آباءنا وإخواننا وعشائرنا
ونترك العباس! والله لئن لقيته لالحمنه السيف، فسمعها
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لعمر بن الخطاب: يا أبا حفص. يقول
عمر: والله إنه لأول يوم كناني فيه رسول الله صلى
الله عليه وسلم بأبي حفص-
أيضرث وجه عم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف؟
فقال عمر: يا رسول الله، دعني أضرب عنقه بالسيف، فوالله لقد نافق، قال: فكان أبو
حذيفة يقول: والله ما أنا بآمن من تلك الكلمة التي قلت يومئذ، ولا أزال منها
خائفاً أبداً إلا أن يكفرها الله عني بشهادة، فقتل يوم اليمامة شهيداً. قال الواقدي:
قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأثيل زيد بن حارثة وعبد الله بن
رواحة يبشران الناس بالمدينة فجاء يوم الأحد في الضحى، وفارق عبد الله زيداً
بالعقيق، فجعل عبد الله ينادي عوالي المدينة: يا معشر الأنصار، أبشروا بسلامة
رسول الله وقتل المشركين وأسرهم، قتل ابنا ربيعة، وابنا الحجاج، وأبو جهل، وزمعة
بن الأسود، وأمية بن خلف، وأسر سهيل بن عمرو ذو الأنياب في أسرى كثير. قال عاصم بن عدي:
فقمت إليه فنحوته، فقلت: أحقاً ما تقول يا بن رواحة؟ قال: إي والله، وغدا يقدم
رسول الله إن شاء الله، ومعه الأسرى مقرنين، ثم تتبع دور الأنصار بالعالية
يبشرهم، داراً داراً، والصبيان يشتدون معه، ويقولون: قتل أبو جهل الفاسق، حتى
انتهوا إلى دور بني أمية بن زيد، وقدم زيد بن حارثة على ناقة النبي صلى الله عليه وسلم القصواء، يبشر أهل المدينة، فلما جاء المصلى صاح
على راحلته: قتل عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وابنا الحجاج وأبو جهل، وأبو البختري
وزمعة بن الأسود وأمية بن خلف، وأسر سهيل بن عمرو ذو الأنياب في أسرى كثيرة،
فجعل الناس لا يصدقون زيد بن حارثة، ويقولون: ما جاء زيد إلا فلاً، حتى غاظ
المسلمين ذلك، وخافوا، قال: وكان قدوم زيد حين سووا على رقية بنت رسول الله صلى
الله عليه وسلم
التراب
بالبقيع، فقال رجل من المنافقين لأسامة بن زيد: قتل صاحبكم ومن معه، وقال رجل من
المنافقين لأبي لبابة بن عبد المنذر: قد تفرق أصحابكم تفرقاً لا يجتمعون معه
أبداً، وقد قتل عليه أصحابكم، وقتل محمد، وهذه ناقته نعرفها، وهذا زيد بن حارثة
لا يدري ما يقول من الرعب، وقد جاء فلاً، فقال أبو
لبابة: كذب الله قولك، وقالت يهود: ما جاء زيد إلا فلاً. قال أسامة بن زيد: فجئت حتى خلوت بأبي، فقلت: يا
أبت، أحق ما تقول؟ فقال إي والله حقاً يا بني، فقويت نفسي، فرجعت إلى ذلك
المنافق، فقلت: أنت المرجف برسول الله وبالمسلمين! لنقدمنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا
قدم، فليضربن عنقك، فقال: يا أبا محمد، إنما هو شيء سمعت الناس يقولونه. قال الواقدي:
وكان سهيل بن عمرو لما كان بتنوكة بين السقيا وملل، كان مع مالك بن الدخشم الذي
أسره، فقال له: خل سبيلي للغائط، فقام معه، فقال سهيل: إني أحتشم فاستأخر عني،
فاستأخر عنه، فمضى سهيل على وجهه، انتزع يده من القران، ومضى، فلما أبطأ سهيل
على مالك بن الدخشم، أقبل فصاح في الناس، فخرجوا في طلبه، وخرج النبي صلى الله
عليه وسلم في طلبه بنفسه، وقال: من وجده فليقتله، فوجده رسول الله صلى الله عليه
وسلم بنفسه أخفى نفسه بين شجرات، فأمر به فربطت يداه إلى عنقه، ثم قرنه إلى
راحلته، فلم يركب سهيل خطوة حتى قدم المدينة.
قال: وفيه يقول مالك بن الدخشم، وهو الذي أسره يوم بدر:
أي
على ذي العلم بسكون اللام، ولكنه حركه للضرورة. قال الواقدي: وحدثني محمد بن عبد الله، عن الزهري، قال: قال أبو العاص بن الربيع: كنت
مستأسراً مع رهط من الأنصار جزاهم الله خيراً، كنا إذا تعشينا أو تغدينا آثروني
بالخبز، وأكلوا التمر، والخبز عندهم قليل والتمر زادهم، حتى إن الرجل لتقع في
يده الكسرة فيدفعها إلي، وكان الوليد بن الوليد بن المغيرة يقول مثل ذلك ويزيد. قال: وكانوا يحملوننا ويمشون. وقال محمد بن إسحاق في كتابه:
كان أبو العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس ختن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوج
ابنته زينب، وكان أبو العاص من رجال مكة المعدودين مالاً وأمانة وتجارة، وكان
ابناً لهالة بنت خويلد أخت خديجة بنت خويلد، وكان الربيع بن عبد العزى بعل هذه
فكانت خديجة خالته، فسألت خديجة رسول الله صلى الله
عليه وسلم أن يزوجه زينب، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا
يخالف خديجة، وذلك قبل أن ينزل عليه الوحي، فزوجه إياها، فكان أبو العاص من
خديحة بمنزلة ولدها، فلما أكرم الله رسوله بنبوته آمنت به خديجة وبناته كلهن
وصدقنه وشهدن أن ما جاء به حق ودن بدينه، وثبت أبو العاص على شركه، وكان رسول
الله صلى الله عليه وسلم قد
زوج عتبة بن أبي لهب إحدى ابنتيه رقية أو أم كلثوم، وذلك من قبل أن ينزل عليه
الوحي، فلما أنزل عليه ونادى قومه بأمر الله باعدوه، فقال
بعضهم لبعض: إنكم قد فرغتم محمد من همه، أخذتم عنه بناته وأخرجتموهن من
عياله، فردوا عليه بناته، فاشغلوه بهن فمشوا إلى أبي العاص بن الربيع، فقالوا:
فارق صاحبتك بنت محمد، ونحن نزوجك أي امرأة شئت من قريش، فقال: لاها الله! إذن
لا أفارق صاحبتي، وما أحب أن لي بها امرأة من قريش! فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا
ذكره يثني عليه خيراً في صهره، ثم مشوا إلى الفاسق عتبة بن أبي لهب، فقالوا له: طلق بنت محمد، ونحن ننكحك أي امرأة شئت من قريش، فقال: إن أنتم زوجتموني ابنة
أبان بن سعيد بن العاص، أو ابنة سعيد بن العاص فارقتها، فزوجوه ابنة سعيد بن
العاص، ففارقها ولم يكن دخل بها، فأخرجها الله من يده كرامة لها وهواناً له ثم
خلف عليها عثمان بن عفان بعده، وكان رسول الله صلى
الله عليه وسلم مغلوباً على أمره بمكة
لا يحل ولا يحرم، وكان الإسلام قد فرق بين زينب وأبي العاص،
إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان
لا يقدر وهو بمكة أن يفرق بينهما، فأقامت معه على إسلامها وهو على شركه، حتى
هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى
المدينة، وبقيت زينب بمكة مع أبي العاص، فلما سارت
قريش إلى بدر سار أبو العاص معهم، فصيب في الأسرى يوم بدر، فأتي به النبي صلى الله عليه وسلم،
فكان عنده مع الأسارى، فلما بعث أهل مكة في فداء أساراهم، بعثت زينب في فداء أبي
العاص بعلها بمال، وكان فيما بعثت به قلادة كانت خديجة أمها أدخلتها بها على أبي
العاص ليلة زفافها عليه، فلما رآها رسول صلى
الله عليه وسلم رق لها رقة شديدة، وقال
للمسلمين: إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها، وتردوا عليها ما
بعثت به من الفداء فافعلوا، فقالوا: نعم يا رسول الله، نفديك بأنفسنا وأموالنا،
فردوا عليها ما بعثت به، وأطلقوا لها أبا العاص بغير فداء. فقلت له: قد قال قاضي القضاة أبو الحسن عبد الجبار
بن أحمد نحو هذا، قال: إنهما لم يأتيا بحسن في
شرع التكرم، وإن كان ما أتياه حسناً في الدين. قال محمد بن إسحاق: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما
أطلق سبيل أبي العاص أخذ عليه فيما
نرى أو شرط عليه في إطلاقه، أو أن أبا
العاص وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتداء لأن يحمل زينب إليه إلى المدينة، ولم يظهر ذلك من أبي العاص، ولا من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنه لما خلي سبيله، وخرج إلى مكة بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده زيد بن حارثة ورجلاً
من الأنصار، فقال لهما: كونا بمكان كذا حتى تمر
بكما زينب فتصحبانها حتى تأتياني بها، فخرجا نحو
مكة، وذلك بعد بدر بشهر أو شيعه، فلما قدم أبو
العاص مكة أمرها باللحوق بأبيها، فأخذت تتجهز. قلت: لقائل من
المجبرة أن يقول: أليس هذا نسخ الشيء قبل تقضي وقت فعله، وأهل العدل لا يجيزون
ذلك! وهذا السؤال مشكل، ولا جواب عنه إلا بدفع الخبر إما بتضعيف
أحد من رواته، أو إبطال الاحتجاج به لكونه خبر
واحد، أو بوجه آخر، وهو أن نجيز للنبي الاجتهاد
في الأحكام الشرعية كما يذهب إليه كثير من شيوخنا، وهو مذهب القاضي أبي يوسف صاحب أبي حنيفة، ومثل هذا الخبر حديث براءة وإنفاذها مع أبي بكر، وبعث علي عليه
السلام، فأخذها منه في الطريق، وقرأها على أهل
مكة بعد أن كان أبو بكر هو المأمور بقراءتها
عليهم. قال البلاذري:
فقال الزبير بن العوام: لقد رأيت رسول الله صلى الله
عليه وسلم بعد غلظته على هبار بن الأسود يطأطىء
رأسه استحياء منه وهبار يعتذر إليه، وهو يعتذر
إلى هبار أيضاً. ثم انصرف ودخل على ابنته زينب، فقال:"أي بنية، أكرمي مثواه، وأحسني قراه، ولا يصلن
إليك، فإنك لا تحلين له". ثم بعث إلى تلك السرية الذين كانوا أصابوا مال أبي
العاص، فقال لهم: إن هذا الرجل منا بحيث علمتم، وقد
أصبتم له مالاً، فإن تحسنوا وتردوا عليه الذي له، فإنا نحب ذلك، وإن أبيتم فهو
فيء الله الذي أفاء عليكم، وأنتم أحق به. فقالوا: يا رسول الله، بل نرده عليه، فردوا عليه
ماله ومتاعه، حتى إن الرجل كان يأتي بالحبل، ويأتي الآخر بالإداوة، والآخر
بالشظاظ، حتى ردوا ماله ومتاعه بأسره من عند آخره ولم
يفقد منه شيئاً. ثم احتمل إلى مكة، فلما قدمها أدى إلى كل ذي مال من
قريش ماله ممن كان أبضع معه بشيء، حتى إذا فرغ من ذلك،
قال لهم: يا معشر قريش، هل بقي لأحد منكم عندي مال لم يأخذه؟ قالوا: لا فجزاك الله خيراً، لقد وجدناك وفياً كريماً، قال:
فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، والله
ما منعني من الإسلام إلا تخوف أن تظنوا أني أردت أن آكل أموالكم، وأذهب
بها فإذ سلمها الله لكم، وأداها إليكم، فإني أشهدكم أني قد أسلمت واتبعت دين
محمد.
ثم خرج سريعاً حتى قدم على رسول الله المدينة. قال الواقدي:
فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من
أمر الأسارى، وفرق الله عز وجل ببدر بين الكفر
والايمان، أذل رقاب المشركين والمنافقين واليهود، ولم يبق بالمدينة يهودي ولا
منافق إلا خضعت عنقه. وقالت يهود فيما بينها: هو الذي نجد نعته في كتبنا، والله لا
ترفع له راية بعد اليوم إلا ظهرت.
قال الواقدي: أملاها علي عبد الله بن جعفر ومحمد بن صالح وابن أبي
الزناد. فلما أرسل كعب هذه الأبيات أخذها الناس بمكة
عنه، وأظهروا المراثي- وقد كانوا حرموها كيلا يشمت المسلمون بهم- وجعل
الصبيان والجواري ينشدونها بمكة، فناحت بها قريش على قتلاها شهراً، ولم تبق دار
بمكة إلا فيها النوح- وجز النساء شعورهن، وكان يؤتى براحلة الرجل منهم أو بفرسه،
فتوقف بين أظهرهم، فينوحون حولها، وخرجن الى السكك، وضربن الستور في الأزقة،
وقطعن فخرجن إليها ينحن، وصدق أهل مكة رؤيا عاتكة
وجهيم بن الصلت. ومن بني نوفل بن عبد مناف جبير بن مطعم. ومن بني عبد الدار بن قصي طلحة بن أبي طلحة، ومن بني أسد بن
عبد العزى بن قصي عثمان بن أبي حبيش. ومن بني مخزوم عبد
الله بن أبي ربيعة وخالد بن الوليد وهشام بن الوليد بن المغيرة وفروة بن السائب
وعكرمة بن أبي جهل. ومن بني جمح أبي بن خلف وعمير بن وهب. ومن بني سهم المطلب
بن أبي وداعة وعمرو بن قيس. ومن بني مالك بن حسل مكرز بن حفص بن الأحنف، كل هؤلاء قدموا
المدينة في فداء أهلهم وعشائرهم. وكان جبير بن مطعم يقول: دخل الإسلام في قلبي
منذ قدمت المدينة في الفداء، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في صلاة المغرب:"والطور.
وكتاب مسطور"، فاستمعت قراءته، فدخل الإسلام في قلبي منذ ذلك اليوم.
فمشى
بنو عمرو بن عوف حين بلغهم الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبروه
بذلك، وسألوه أن يعطيهم عمرو بن أبي سفيان ليفكوا به صاحبهم، فأعطاهم إياه،
فبعثوا به إلى أبي سفيان فخلى سبيل سعد. وقال حسان بن ثابت يجيب أبا سفيان:
وأبو
العاص بن الربيع، أسره خراش بن الصمة، فقدم في فدائه عمرو بن أبي الربيع أخوه،
وحليف لهم، يقال له أبو ريشة افتداه عمرو بن الربيع أيضاً. وعمرو
بن الأزرق افتكه عمرو بن الربيع أيضاً، وكان قد صار في سهم تميم مولى خراش بن
الصمة، وعقبة بن الحارث الحضرمي أسره عمارة بن حزم، فصار في القرعة لأبي بن كعب،
افتداه عمرو بن أبي سفيان بن أمية، وأبو العاص بن نوفل بن عبد شمس، أسره عمار بن
ياسر قدم في فدائه ابن عمه. فهؤلاء ثمانية. ومن بني أسد بن عبد العزى بن قصي، السائب بن أبي حبيش بن المطلب بن أسد
بن عبد العزى، أسره عبد الرحمن بن عوف. وعثمان بن الحويرث بن عثمان بن أسد بن
عبد العزى، أسره حاطب بن أبي بلتعة، وسالم بن شماخ أسره سعد بن أبي وقاص، فهؤلاء
ثلاثة قدم في فدائهم عثمان بن أبي حبيش بأربعة آلاف لكل رجل منهم. وعثمان
بن عبد الله بن المغيرة، وكان أفلت يوم نخلة، أسره واقد بن عبد الله التميمي يوم
بدر، فقال له: الحمد لله الذي أمكنني منك،
فقد كنت أفلت يوم نخلة- وقدم في فداء هؤلاء الثلاثة عبد الله بن أبي ربيعة،
افتدى كل واحد منهم بأربعة آلاف- والوليد بن الوليد بن المغيرة، أسره عبد الله
بن جحش، فقدم في فدائه أخواه خالد بن الوليد وهشام بن الوليد، فتمنع عبد الله بن
جحش حتى افتكاه بأربعة آلاف، فجعل هشام بن الوليد يريد ألا يبلغ ذلك- يريد ثلاثة
آلاف فقال خالد لهشام: إنه ليس بابن أمك، والله لو أبى فيه إلا كذا وكذا لفعلت،
فلما افتدياه خرجا به حتى بلغا به ذا الحليفة، فأفلت، فأتى
النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم، فقيل: ألا أسلمت قبل أن تفتدى! قال: كرهت أن أسلم حتى أكون أسوة بقومي.- قال الواقدي:
ويقال إن الذي أسر الوليد بن الوليد سليط بن قيس المازني- وقيس بن السائب، أسره
عبدة بن الحسحاس، فحبسه عنده حيناً، وهو يظن أن له مالاً، ثم قدم في فدائه أخوه
فروة بن السائب، فأقام أيضاً حيناً، ثم افتداه بأربعة آلاف فيها عروض.
وقال محمد بن إسحاق: روي أنه كان أول المنهزمين، أسره الخباب بن المنذر بن
الجموح، وقدم في فدائه عكرمة بن أبي جهل، فهؤلاء
عشرة. ومن
بني مالك بن حسل سهيل بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ود بن
نمر بن مالك، أسره مالك بن الدخشم، وقدم في فدائه مكرز بن حفص بن الأحنف، وانتهى
في فدائه إلى إرضائهم بأربعة آلاف، فقالوا: هات المال، فقال: نعم، اجعلوا رجلاً
مكان رجل، وقوم يروونها:"رجلاً مكان رجل"، فخلوا سبيل سهيل، وحبسوا
مكرز بن حفص عندهم، حتى بعث سهيل بالمال من مكة. وعبد الله بن زمعة بن قيس بن
نصر بن مالك، أسره عمير بن عوف، مولى سهيل بن عمرو. وعبد العزى بن مشنوء بن
وقدان بن قيس بن عبد شمس بن عبد ود سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد إسلامه
عبد الرحمن، أسره النعمان بن مالك. فهؤلاء ثلاثة.
وعتبة
بن ربيعة، قتله حمزة بن عبد المطلب. وشيبة بن ربيعة، قتله عبيدة بن الحارث وحمزة
وعلي، الثلاثة اشتركوا في قتله. والوليد بن عتبة بن ربيعة، قتله علي بن أبي طالب
عليه السلام. وعامر
بن عبد الله حليف لهم من أنمار، قتله علي بن أبي طالب عليه السلام، وقيل: قتله سعد بن معاذ، فهؤلاء اثنا عشر. ومن
بني تيم بن مرة عمير بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة، قتله علي بن
أبي طالب عليه السلام. وعثمان
بن مالك بن عبيد الله بن عثمان، قتله صهيب، فهؤلاء اثنان- ولم يذكر البلاذري عثمان بن مالك. ومن بني مخزوم
بن يقظة ثم من بني المغيرة بن عبد الله بن عمير بن مخزوم، أبو جهل عمرو بن هشام
بن المغيرة، ضربه معاذ بن عمرو بن الجموح، ومعوذ وعوف ابنا عفراء، وذفف عليه عبد
الله بن مسعود. والعاص بن هاشم بن المغيرة، خال عمر بن الخطاب، قتله عمرو بن يزيد بن تميم
التميمي، حليف لهم، قتله عمار بن ياسر، وقيل: قتله علي عليه السلام.
في شرح قصة غزاة أحد. ونحن نذكر ذلك من كتاب الواقدي رحمه الله على عادتنا في ذكر غزاة بدر، ونضيف إليه من الزيادات التي ذكرها ابن
إسحاق والبلاذري ما يقتفي الحال ذكره. قال الواقدي:
لما رجع من حضر بدراً من المشركين إلى مكة وجدوا العير التي قدم بها أبو سفيان
بن حرب من الشام موقوفة في دار الندوة، وكذلك كانوا يصنعون، فلم يحركها أبو
سفيان ولم يفرقها لغيبة أهل العير، ومشت أشراف قريش إلى أبي سفيان: الأسود بن
عبد المطلب بن أسد، وجبير بن مطعم، وصفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل، والحارث
بن هشام، وعبد الله بن أبي ربيعة، وحويطب بن عبد العزى، فقالوا: يا أبا سفيان،
انظر هذه العير التي قدمت بها فاحتبستها، فقد عرفت أنها أموال أهل مكة ولطيمة
قريش، وهم طيبو الأنفس، يجهزون بهذه العير جيشاً كثيفاً إلى محمد، فقد ترى من
قتل من آبائنا وأبنائنا وعشائرنا. فقال أبو سفيان: وقد طابت أنفس قريش بذلك؟
قالوا: نعم، قال: فأنا أول من أجاب إلى ذلك وبنو عبد مناف معي، فأنا والله
الموتور والثائر، وقد قتل ابني حنظلة ببدر وأشراف قومي. فلم تزل العير موقوفة
حتى تجهزوا للخروج، فباعوها فصارت ذهباً عيناً، ويقال:
إنما قالوا: يا أبا سفيان، بع العير ثم اعزل أرباحها، فكانت العير ألف
بعير، وكان المال خمسين ألف دينار، وكانوا يربحون في تجاراتهم للدينار ديناراً،
وكان متجرهم من الشام غزة، لا يعدونها إلى غيرها، وكان أبو سفيان، قد حبس عير
بني زهرة، لأنهم رجعوا من طريق بدر، وسلم ما كان لمخرمة بن نوفل ولبني أبيه وبني
عبد مناف بن زهرة، فأبى مخرمة أن يقبل عيره حتى يسلم إلى بني زهرة جميعاً، وتكلم
الأخنس، فقال: وما لعير بني زهرة من بين عيرات قريش! قال أبو سفيان: لأنهم رجعوا
عن قريش، قال الأخنس: أنت أرسلت إلى قريش أن ارجعوا فقد أحرزنا العير، لا تخرجوا
في غير شيء، فرجعنا، فأخذت بنو زهرة عيرها وأخذ أقوام من أهل مكة أهل ضعف لا
عشائر لهم ولا منعة، كل ماكان لهم في العير. فصثى إليه
صفوان بن أمية فقال: اخرج فأبى، وقال: عاهدت محمداً يوم بدر ألا أظاهر عليه عدوا
أبداً، وأنا أفي له بما عاهدته عليه، من علي ولم يمن على غيري حتى قتله أو أخذ
منه الفداء. فقال
صفوان: اخرج معنا، فإن تسلم أعطك من المال ما شئت، وإن تقتل تكن عيالك مع عيالي.
فأبى
أبو عزة، حتى كان الغد، وانصرف عنه صفوان بن أمية آيساً منه، فلما كان الغد جاءه
صفوان وجبير بن مطعم، فقال له صفوان الكلام الأول فأبى، فقال جبير: ما كنت أظن أني أعيش حتى يمشي إليك أبو
وهب في أمر تأبى عليه! فأحفظه، فقال: أنا أخرج،
قال: فخرج الى العرب يجمعها، ويقول:
وخرج
النفر مع أبي عزة فألبوا العرب وجمعوا، وبلغوا ثقيفاً فأوعبوا. فلما أجمعوا
المسير وتألب من كان معهم من العرب وحضروا، واختلفت قريش في إخراج الظعن معهم، قال صفوان بن أمية: اخرجوا بالظعن فأنا أول من
فعل، فإنه أقمن أن يحفظنكم ويذكرنكم قتلى بدر، فإن العهد حديث، ونحن قوم موتورون
مستميتون،
لا نريد أن نرجع إلى ديارنا حتى ندرك ثأرنا أو نموت دونه. فقال عكرمة بن
أبي جهل: أنا أول من أجاب إلى ما دعوت إليه، وقال عمرو بن العاص مثل ذلك،
فمشى في ذلك نوفل بن معاوية الديلي، فقال: يا معشر قريش، هذا ليس برأي، أن
تعرضوا حرمكم لعدوكم، ولا آمن أن تكون الدبرة لهم فتفتضحوا في نسائكم. فقال
صفوان: لا كان غير هذا أبداً! فجاء نوفل إلى أبي
سفيان بن حرب، فقال له تلك المقالة، فصاحت هند بنت عتبة: إنك والله سلمت
يوم بدر، فرجعت إلى نسائك، نعم نخرج فنشهد القتال، فقد ردت القيان من الجحفة في
سفرهم إلى بدر، فقتلت الأحبة يومئذ. فقال أبو
سفيان: لست أخالف قريشاً، أنا رجل منها، ما فعلت فعلت. فخرجوا بالظعن، فخرخ أبو سفيان بن حرب بامرأتين: هند بنت عتبة بن
ربيعة وأميمة بنت سعد بن وهب بن أشيم بن كنانة، وخرج
صفوان بن أمية بامرأتين: برزة بنت مسعود الثقفي وهي أم عبد الله الأكبر
والبغوم بنت المعذل من كنانة، وهي أم عبد الله الأصغر، وخرج
طلحة بن أبي طلحة بامرأته سلافة بنت
سعد بن شهيد، وهي من الأوس، وهي أم بنيه:
مسافع، والحارث، وكلاب والجلاس بني طلحة بن أبي طلحة، وخرج عكرمة بن أبي جهل
بامرأته أم حكيم بنت الحارث بن هشام، وخرج الحارث بن هشام بامرأته فاطمة بنت
الوليد بن المغيرة، وخرج عمرو بن العاص بامرأته هند بنت منبه بن الحجاج، وهي أم
عبد الله بن عمرو بن العاص- وقال محمد بن إسحاق: اسمها ريطة- وخرجت خناس بنت
مالك بن المضرب إحدى نساء بني مالك بن حسل مع ابنها أبي عزيز بن عمير، أخي مصعب
بن عمير من بني عبد الدار، وخرج الحارث بن سفيان بن عبد الأسد بامرأته رملة بنت
طارق بن علقمة الكنانية، وخرج كنانة بن علي بن ربيعة بن عبد العزى بن عبد شمس بن
عبد مناف بامرأته أم حكيم بنت طارق، وخرج سفيان بن عويف بامرأته قتيلة بنت عمرو
بن هلال، وخرج النعمان بن عمرو وجابر مسك الذئب أخوه، بأ"مهما الدغينة،
وخرج غراب بن سفيان بن عويف بامرأته عمرة بنت الحارث بن علقمة الكنانية، وهي التي رفعت لواء قريش حين سقط حتى تراجعت قريش إلى
لوائها، وفيها يقول حسان:
قالوا: وخرج
سفيان بن عويف بعشرة من ولده، وحشدت بنو كنانة. وكانت الألوية يوم خرجوا من مكة
ثلاثة عقدوها في دار الندوة، لواء يحمله سفيان بن عويف لبني كنانة، ولواء
الأحابيش يحمله رجل منهم، ولواء لقريش يحمله طلحة بن أبي طلحة قال الواقدي: ويقال خرجت قريش ولفها كلهم، من
كنانة والأحابيش وغيرهم على لواء واحد، يحمله طلحة بن أبي طلحة. وهو الأثبت
عندنا. فلما خرح رسول الله صلى الله عليه وسلم من
منزله، خرجت امرأة سعد بن الربيع، فقالت: ما قال لك
رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال:
ما لك ولذاك، لا أم لك! قالت: كنت أستمع عليكم، وأخبرت سعداً الخبر، فاسترجع
سعد، وقال: لا أراك تستمعين علينا وأنا أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم : تكلم بحاجتك! ثم أخذ بجمع لمتها، ثم خرج
يعدو بها حتى أدرك رسول الله علي بالجسر، وقد بلحت، فقال: يا رسول الله، إن
امرأتي سألتني عما قلت فكتمتها، فقالت: قد سمعت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جاءت بالحديث كله- فخشيت
يا رسول الله أن يظهر من ذلك فتظن أني أفشيت سرك-، فقال
صلى الله عليه وسلم: خل سبيلها. وشاع الخبر بين الناس بمسير قريش. وقدم
عمرو بن سالم الخزاعي في نفر من خزاعة ساروا من مكة أربعاً فوافوا قريشاً وقد
عسكروا بذي طوى فأخبروا رسول الله صلى
الله عليه وسلم الخبر، ثم
انصرفوا ولقوا قريشا ببطن رابغ، وهو أربع ليال من المدينة، فنكبوا عن قريش. فصدقوه بما قال، وطمعوا في نصره. فاستشار أبو سفيان بن حرب أهل الرأي
من قريش في ذلك، فقالوا: لاتذكر من هذا شيئاً، فلو فعلنا نبشت
بنو بكر وخزاعة موتانا. قال الواقدي: وكانت
قريش لذي الحليفة يوم الخميس صبيحة عشر من مخرجهم من مكة، وذلك لخمس ليال مضين
من شوال على رأس اثنين وثلاثين من الهجرة، فلما أصبحوا بذي الحليفة خرج فرسان
منهم فأنزلوهم الوطاء، وبعث النبي صلى الله عليه وسلم عينين له، آنساً ومؤنساً
اني فضالة ليلة الخميس، فاعترضا لقريش بالعقيق، فسارا معهم، حتى نزلوا الوطاء،
وأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه، وكان المسلمون قد ازدرعوا العرض-
والعرض ما بين الوطاء بأحد إلى الجرف إلى العرصة، عرصة البقل اليوم، وكان أهله
بنو سلمة وحارثة وظفر وعبد الأشهل، وكان الماء يومئذ بالجرف نشطة لا يريم سائق
الناضح مجلساً واحداً ينفتل الجمل في ساعته، حتى ذهبت بمياهه عيون الغابة التي
حفرها معاوية بن أبي سفيان، وكان المسلمون قد أدخلوا آلة زرعهم ليلة الخميس
المدينة، فقدم المشركون على زرعهم فخلوا فيه إبلهم وخيولهم، وكان لأسيد بن حضير
في العرض عشرون ناضحاً تسقي شعيراً، وكان المسلمون قد حذروا على جمالهم وعمالهم
وآلة حرثهم، وكان المشركون يرعون يوم الخميس، فلما أمسوا جمعوا الإبل وقصلوا
عليها القصيل، وقصلوا على خيولهم ليلة الجمعة، فلما أصبحوا يوم الجمعة خلوا
ظهرهم في الزرع وخيلهم، حتى تركوا العرض ليس به خضراء. قال: هل
رأيت ظعناً؟ قال: نعم رأيت النساء معهن الدفاف والأكبار- وهي الطبول- فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم:
أردن أن يحرضن القوم ويذكرنهم قتلى بدر، هكذا جاءني خبرهم، لا تذكر من شأنهم
حرفاً، حسبنا الله ونعم الوكيل! اللهم بك أحول، وبك
أصول! قال الواقدي:
وخرج سلمة بن سلامة بن وقش يوم الجمعة، حتى إذا كان بأدنى العرض إذا طليعة خيل
المشركين عشرة أفراس ركضوا في أثره، فوقف لهم على نشز من الحرة، فرشقهم بالنبل
مرة، وبالحجارة أخرى حتى انكشفوا عنه، فلما ولوا جاء إلى مزرعته بأدنى العرض،
فاستخرج سيفاً كان له، ودرع حديد كان له، دفنا في ناحية المزرعة، وخرج بهما
يعدو، حتى بني عبد الأشهل، فخبر قومه بما لقي. قال الواقدي:
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: أشيروا علي، ورأى صلى
الله عليه وسلم ألا يخرج من المدينة لهذه الرؤيا،
ورسول الله صلى الله عليه وسلم يحب
أن يوافق على مثل ما رأى، وعلى ما عبر عليه الرؤيا، فقام عبد الله بن أبي، فقال:
يا رسول الله، كنا نقاتل في الجاهلية في هذه المدينة، ونجعل النساء والذراري في
هذه الصياصي، ونجعل معهم الحجارة، والله لربما مكث الولدان شهراً ينقلون
الحجارة، إعداداً لعدونا، ونشبك المدينة بالبنيان فتكون كالحصن من كل ناحية،
وترمي المرأة والصبي من فوق الصياصي والآطام، ونقاتل بأسيافنا في السكك. يا رسول الله إن مدينتنا عذراء ما فضت علينا قط،
وما خرجنا الى عدو قط منها إلا أصاب منا، وما دخل علينا قط إلا أصبناه، فدعهم يا
رسول الله، فإنهم إن أقاموا أقاموا بشر محبس، وإن رجعوا رجعوا خاسرين مغلوبين،
لم ينالوا خيراً. يا رسول الله، أطعني في هذا الأمر، واعلم أني ورثت هذا
الرأي من أكابر قومي وأهل الرأي منهم، فهم كانوا أهل الحرب والتجربة. وقال مالك بن سنان أبو أبي سعيد الخدري: يا رسول الله،
نحن والله بين إحدى الحسنيين، إما يظفرنا الله بهم، فهذا الذي نريد،
فيذلهم الله لنا فتكون هذه وقعة مع وقعة بدر، فلا يبقى منهم إلا الشريد، والأخرى
يا رسول الله يرزقنا الله الشهادة، والله يا رسول الله، ما نبالي أيهما كان، إن
كلاً لفيه الخير. فلم يبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم رجع إليه
قولاً، وسكت. وقال حمزة بن عبد المطلب: والذي
أنزل عليه الكتاب، لا أطعم اليوم طعاماً حتى أجالدهم بسيفي خارجاً من المدينة،
وكان يقال: كان حمزة يوم الجمعة صائماً، ويوم السبت، فلاقاهم وهو صائم. وقام خيثمة، أبو سعد بن خيثمة فقال: يا
رسول الله، إن قريشاً مكثت حولاً تجمع الجموع وتستجلب العرب في بواديها ومن
اتبعها من أحابيشها ثم جاؤونا قد قادوا الخيل، واعتلوا الإبل حتى نزلوا بساحتنا،
فيحصروننا في بيوتنا وصياصينا، ثم يرجعون وافرين لم يكلموا، فيجرئهم ذلك علينا
حتى يشنوا الغارات علينا، ويصيبوا أطلالنا ويضعوا العيون والأرصاد علينا، مع ما
قد صنعوا بحروثنا، ويجترىء علينا العرب حولنا حتى يطمعوا فينا إذا رأونا لم نخرج
إليهم، فنذبهم عن حريمنا، وعسى الله أن يظفرنا بهم، فتلك عادة الله عندنا، أو
تكون الأخرى، فهي الشهادة. لقد أخطأتني وقعة بدر، وقد كنت عليها حريصاً، لقد بلغ
من حرصي أن ساهمت ابني في الخروج، فخرج سهمه، فرزق الشهادة وقد كنت حريصاً على
الشهادة، وقد رأيت ابني البارحة في النوم في أحسن صورة يسرح في ثمار الجنة
وأنهارها، وهو يقول الحق بنا ترافقنا في الجنة، فقد وجدت ما وعدني ربي حقاً، وقد
والله يا رسول الله أصبحت مشتاقاً إلى مرافقته في الجنة، وقد كبرت سني، ودق
عظمي، وأحببت لقاء ربي، فادع الله يا رسول الله أن يرزقني الشهادة، ومرافقة سعد
في الجنة، فدعا له رسول الله بذلك، فقتل بأحد شهيداً. فبينا
القوم على ذلك من الأمر، وبعض القوم يقول: القول ما قال سعد، وبعضهم على البصيرة
على الشخوص، وبعضهم للخروج كاره، اذ خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قد
لبس لأمته، وقد لبس الدرع فأظهرها، وحزم وسطها بمنطقة من حمائل سيف من أدم كانت
بعد عند آل أبي رافع مولى رسول الله صلى
الله عليه وسلم، واعتم، وتقلد السيف فلما خرج رسول
الله صلى الله عليه وسلم ندموا جميعاً
على ما صنعوا، وقال الذين يلحون على رسول الله صلى
الله عليه وسلم: ما كان لنا أن
نخالفك، فاصنع ما بدا لك، وما كان لنا أن نستكرهك والأمر إلى الله ثم إليك، فقال: قد دعوتكم إلى هذا الحديث فأبيتم، ولا ينبغي لنبي إذا
لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين أعدائه- قال: وكانت الأنبياء قبله
إذا لبس النبي لأمته لم يضعها حتى يحكم الله بينه وبين أعدائه- ثم قال لهم:
انظروا ما أمرتكم به فاتبعوه، امضوا على اسم الله، فلكم النصر ما صبرتم. ومن تأمل أيضاً هذه الأحوال، علم أنها ضد الأحوال التي كانت في غزاة بدر،
وأن أحوال قريش لما خرجت إلى بدر كانت مماثلة لأحوال
المسلمين لما خرجوا إلى أحد، ولذلك كانت الدبرة في بدر على قريش. قال الواقدي:
وجاء جعيل بن سراقة إلى النبي صلى الله عليه
وسلم
وهو
متوجه إلى أحد، فقال: يا رسول الله، قيل لي: إنك تقتل غداً- وهو يتنفس مكروباً -
فضرب النبي صلى الله عليه وسلم بيده
إلى صدره، وقال: أليس الدهر كله غداً! قال: ثم دعا بثلاثة أرماح، فعقد ثلاثة ألوية، فدفع لواء الأوس إلى
السيد بن حضير، ودفع لواء الخزرج إلى الحباب بن المنذر بن الجموح- ويقال إلى سعد
بن عبادة- ودفع لواء المهاجرين إلى علي بن أبي طالب عليه السلام- ويقال إلى مصعب
بن عمير- ثم دعا بفرسه، فركبه، وتقلد القوس وأخذ بيده قناة- زج الرمح يومئذ من
شبه- والمسلمون متلبسون السلاح، قد أظهروا الدروع، فهم مائة دارع، فلما ركب صلى
الله عليه وسلم خرج السعدان أمامه يعدوان: سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، كل واحد
منهما دارع، والناس عن يمينه وشماله حتى سلك على البدائع، ثم زقاق الحسى، حتى
أتى الشيخين- وهما أطمان كانا في الجاهلية فيهما شيخ أعمى وعجوز عمياء يتحدثان،
فسمي الأطمان الشيخين- فلما انتهى إلى رأس الثنية، التفت فنظر إلى كتيبة خشناء
لها زجل خلفه، فقال: ما هذه؟ قال: هذه خلفاء ابن أبي من اليهود فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: لا نستنصر بأهل الشرك على أهل الشرك. ومضى رسول الله صلى
الله عليه وسلم وعرض معسكره
بالشيخين، فعرض عليه غلمان، منهم عبد الله بن عمر بن الخطاب، وزيد بن ثابت،
وأسامة بن زيد، والنعمان بن بشير، وزيد بن أرقم، والبراء بن عازب، وأسيد بن
ظهير، وعرابة بن أوس، وأبو سعيد الخدري، وسمرة بن جندب، ورافع بن خديج. فلما أبى على عبد الله بن عمرو أن يرجع، ودخل هو وأصحابه
أزقة المدينة، قال لهم أبو جابر: أبعدكم الله! إن الله سيغني النبي
والمؤمنين عن نصركم. فانصرف ابن أبي وهو يقول: أيعصيني
ويطيع الولدان! وانصرف عبد الله بن عمرو يعدو حتى لحق رسول الله وهو يسوي
الصفوف،، فلما أصيب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سر ابن أبي، وأظهر
الشماتة، وقال: عصاني وأطاع من لارأي له! قال الواقدي:
وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصف أصحابه،
وجعل الرماة خمسين رجلاً على عينين، عليهم عبد الله بن جبير- ويقال: سعد بن أبي وقاص، والثبت أنه عبد الله بن
جبير- قال: وجعل أحداً خلف ظهره، واستقبل المدينة وجعل عينين عن يساره، وأقبل المشركون،
واستدبروا المدينة في الوادي، واستقبلوا أحداً، ويقال: جعل عينين خلف ظهره،
واستدبر الشمس، واستقبلها المشركون. قال: ونهى أن
يقاتل أحد حتى يأمرهم بالقتال، فقال عمارة بن يزيد
بن السكن: أنى نغير على زرع بني قيلة ولما نضارب! وأقبل المشركون قد صفوا
صفوفهم، واستعملوا على الميمنة خالد بن الوليد، وعلى الميسرة عكرمة بن أبي جهل،
ولهم مجنبتان، مائتا فرس، وجعلوا على الخيل صفوان بن أمية- ويقال عمرو بن العاص-
وعلى الرماة عبد الله بن أبي ربيعة، وكانوا مائة رام، ودفعوا اللواء إلى طلحة بن
أبي طلحة- واسم أبي طلحة عبد الله بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصي-
وصاح أبو سفيان يومئذ: يا بني عبد الدار، نحن نعرف أنكم أحق باللواء منا، وأنا
إنما أتينا يوم بدر من اللواء، وإنما يؤتى القوم من قبل لوائهم، فالزموا لواءكم،
وحافظوا عليه، وخلوا بيننا وبينه، فإنا قوم مستميتون موتورون، نطلب ثأراً حديث
العهد. وجعل يقول:
إذا زالت الألوية، فما قوام الناس وبقاؤهم بعدها! فغضبت بنو عبد الدار، وقالوا:
نحن نسلم لواءنا! لا كان هذا أبداً أ وأما المحافظة عليه فسترى. ثم أسندوا
الرماح إليه، وأحدقت به بنو عبد الدار، وأغلظوا لأبي سفيان بعض الإغلاظ، فقال
أبو سفيان: فنجعل لواء آخر، قالوا: نعم، ولا يحمله إلا رجل من بني عبد الدار، لا
كان غير ذلك أبداً. قال: خذ اللواء،
فأخذه مصعب فتقدم به بين يدي رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال البلاذري: أخذه من علي عليه السلام، فدفعه إلى مصعب بن عمير، لأنه من بني عبد الدار. إن الله مع من أطاعه، وإن الشيطان مع من عصاه،
فاستفتحوا أعمالكم بالصبر على الجهاد، والتمسوا بذلك ما وعدكم الله، وعليكم
بالذي آمركم به، فإني حريص على رشدكم. إن الاختلاف والتنازع والتثبيط من أمر
العجز والضعف، وهو مما لا يحبه الله، ولا يعطي عليه النصر والظفر. أيها الناس
إنه قذف في قلبي أن من كان على حرام فرغب عنه ابتغاء ما عند الله غفر الله له
ذنبه، ومن صلى على محمد صلى الله عليه وسلم وملائكته عشراً، ومن أحسن، من مسلم
أو كافر وقع أجره على الله في عاجل دنياه أو في آجل آخرته، ومن كان يؤمن بالله
واليوم الآخر فعليه الجمعة يوم الجمعة، إلا صبياً أو امرأة أو مريضاً أو عبداً
مملوكاً، ومن استغنى عنها استغنى الله عنه، والله غني حميد. ما أعلم من عمل
يقربكم إلى الله إلا وقد أمرتكم به، ولا أعلم من عمل يقربكم إلى النار إلا وقد
نهيتكم عنه، وإنه قد نفث الروح الأمين في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستوفي أقصى
رزقها، لا ينقص منه شيء وإن أبطأ عنها، فاتقوا الله ربكم، وأجملوا في طلب الرزق،
ولا يحملنكم استبطاؤه على أن تطلبوه بمعصية ربكم، فإنه لا يقدر على ما عنده إلا
بطاعته، قد بين لكم الحلال والحرام، غير أن بينهما شبهاً من الأمر لم يعلمها
كثير من الناس إلا من عصم، فمن تركها حفظ عرضه ودينه، ومن وقع فيها كان كالراعي
إلى جنب الحمى أوشك أن يقع فيه ويفعله، وليس ملك إلا وله حمى، ألا وإن حمى الله
محارمه، والمؤمن من المؤمنين كالرأس من الجسد، إذا اشتكى تداعى إليه سائر جسده.
والسلام عليكم. قال الواقدي:
فحدثني ابن أبي سبرة، عن خالد بن رباح، عن المطلب بن عبد الله، قال: أول من أنشب
الحرب بينهم أبو عامر، طلع في خمسين من قومه، معه عبيد قريش فنادى أبو عامر-
واسمه عبد عمرو- يا للأوس! أنا أبو عامر، قالوا: لا مرحباً بك ولا أهلاً، يا
فاسق! فقال: لقد أصاب قومي بعدي شر. قال: ومعه عبيد أهل مكة، فتراموا بالحجارة
هم والمسلمون، حتى تراضخوا بها ساعة إلى أن ولى أبو عامر وأصحابه، ويقال: إن
العبيد لم يقاتلوا، وإنهم أمروهم بحفظ عسكرهم. قال: فلما انكشف المسلمون،
كسر جفن سيفه وجعل يقول: الموت أحسن من الفرار. يا للأوس! قاتلوا على الأحساب،
واصنعوا مثل ما أصنع. قال: فيدخل بالسيف وسط المشركين، حتى يقال: قد قتل، ثم
يطلع فيقول: أنا الغلام الظفري، حتى قتل منهم سبعة، وأصابته الجراحة، وكثرت فيه،
فوقع فمر به قتادة بن النعمان، فقال له: أبا الغيداق، قال قزمان: لبيك؟ قال:
هنيئاً لك الشهادة! قال قزمان: إني والله ما قاتلت يا أبا عمرو على دين، ما
قاتلت إلا على الحفاظ أن تسير قريش إلينا فتطأ سعفنا، قال: فآذته الجراحة فقتل
نفسه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل
الفاجر".
قال الواقدي: وبرز طلحة، فصاح: من يبارز؟ فقال علي عليه السلام
له: هل لك في مبارزتي؟ قال: نعم، فبرزا بين الصفين ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس تحت
الراية، عليه درعان ومغفر وبيضته، فالتقيا، فبدره علي عليه السلام بضربة على
رأسه، فمضى السيف حتى فلق هامته إلى أن انتهى إلى لحيته فوقع، وانصرف علي عليه
السلام، فقيل له: هلا ذففت عليه! قال: إنه لما صرع استقبلني بعورته، فعطفتني
عليه الرحم، وقد علمت أن الله سيقتله، هو كبش الكتيبة. قال الواقدي:
وروي أن طلحة حمل على علي عليه السلام،
فضربه بالسيف، فاتقاه بالدرقة، فلم يصنع شيئاً، وحمل علي عليه السلام وعلى طلحة درع ومغفر، فضربه بالسيف،
فقطع ساقيه، ثم أراد أن يذفف عليه، فسأله طلحة بالرحم ألا يفعل، فتركه ولم يذفف
عليه. قال:
فلما قتل طلحة سر رسول الله صلى الله عليه وسلم
وكبر تكبيراً عالياً وكبر المسلمون،
ثم شد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على كتائب المشركين، فجعلوا يضربون وجوههم، حتى انتقضت
صفوفهم، ولم يقتل إلا طلحة بن أبي طلحة وحده.
فتقدم
باللواء والنسوة خلفه، يحرضن ويضربن بالدفوف، فحمل عليه حمزة بن عبد المطلب رحمه
الله، فضربه بالسيف على كاهله، فقطع يده وكتفه، حتى انتهى إلى مؤتزره فبدا سحره،
ورجع، فقال: أنا ابن ساقي الحجيج، ثم حمل اللواء أخوهما أبو سعد بن أبي طلحة،
فرماه سعد بن أبي وقاص فأصاب حنجرته- وكان دارعاً، وعليه مغفر لا رفرف عليه،
وعلى رأسه بيضته فأدلع لسانه إدلاع الكلب.
قال سعد بن أبي وقاص: فأحمل عليه فأقطع يده اليمنى، فأخذ اللواء باليد اليسرى،
فأضربه على يده اليسرى، فقطعتها، فأخذ اللواء بذراعيه جميعاً وضمه إلى صدره، وحنى
عليه ظهره. قال سعد: فا"دخل سية القوس
بين الدرع والمغفر، فأقلع المغفر، فأرمي به وراء ظهره، ثم ضربته حتى قتلته،
وأخذت أسلبه درعه، فنهض إلي سبيع بن عبد عوف ونفر معه فمنعوني سلبه، وكان سلبه
أجود سلب رجل من المشركين: درع فضفاضة، ومغفر وسيف جيد، ولكن حيل بيني وبينه.
قال الواقدي:
ثم حمل لواء المشركين بعد أبي سعد بن أبي طلحة مسافع بن أبي طلحة، فرماه عاصم بن
ثابت بن أبي الأقلح فقتله، فحمل إلى أمه سلافة بنت سعد بن الشهيد، وهي مع النساء
بأحد، فقالت: من أصابك؟ قال: لا أدري، سمعته
يقول: خذها وأنا ابن الأقلح، فقالت: أقلحي والله! أي هو من رهطي- وكانت من
الأوس. قال الواقدي:
وقالوا: ما ظفر الله تعالى نبيه في موطن قط ما ظفره وأصحابه يوم أحد، حتى عصوا
الرسول، وتنازعوا في الأمر، لقد قتل أصحاب اللواء وانكشف المشركون منهم لا
يلوون، ونساؤهم يدعون بالويل بعد ضرب الدفاف والفرح. قال الواقدي:
وقد روى كثير من الصحابة ممن شهد أحداً، قال كل واحد منهم: والله إني لأنظر إلى
هند وصواحبها منهزمات، ما دون أخذهن شيء لمن أراده، ولكن لا مرد لقضاء الله.
قالوا: وكان خالد بن الوليد كلما أتى من قبل ميسرة
النبي صلى الله عليه وسلم ليجوز حتى يأتيهم من قبل السفح، ترده الرماة، حتى فعل
وفعلوا ذلك مراراً، ولكن المسلمين أتوا من قبل الرماة، إن رسول الله صلى الله
عليه وسلم أوعز إليهم فقال: قوموا على مصافكم هذه فاحموا ظهورنا، فإن رأيتمونا
قد غنمنا فلا تشركونا، وإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا. فلما انهزم المشركون، وتبعهم المسلمون يضعون
السلاح فيهم حيث شاؤوا حتى أجهزوهم عن المعسكر، ووقعوا ينتهبونه. قال بعض الرماة
لبعض: لم تقيمون هاهنا في غير شيء! قد هزم الله العدو، وهؤلاء إخوانكم ينهبون
عسكرهم، فادخلوا عسكر المشركين، فاغنموا مع إخوانكم، فقال بعضهم: ألم تعلموا أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لكم:"احموا ظهورنا، وإن غنمنا فلا تشركونا"،
فقال الآخرون: لم يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا، وقد أذل الله المشركين
وهزمهم، فادخلوا العسكر، فانتهبوا مع إخوانكم. فلما اختلفوا
خطبهم أميرهم عبد الله بن جبير، وكان يومئذ
معلماً بثياب بيض، فحمد الله وأمرهم بطاعة رسوله، وألا يخالف أمره، فعصوه، وانطلقوا
فلم يبق معه إلا نفير ما يبلغون العشرة، منهم الحارث بن
أنس بن رافع، يقول: يا قوم، اذكروا عهد نبيكم إليكم، وأطيعوا أميركم.
فأبوا، وذهبوا إلى عسكر المشركين ينتهبون، وخلوا الجبل، وانتقضت صفوف المشركين،
واستدارت رحاهم، ودارت الريح- وكانت إلى أن انتقض صفهم صباً، فصارت دبوراً -
فنظر خالد بن الوليد إلى خلاء الجبل وقلة أهله، فكر بالخيل، وتبعه عكرمة بالخيل،
فانطلقا إلى موضع الرماة، فحملوا عليهم فرماهم القوم حتى أصيبوا، ورمى عبد الله بن جبير حتى فنيت نبله، ثم طاعن بالرمح
حتى انكسر، ثم كسر جفن سيفه، فقاتل حتى قتل،
وأفلت جعيل بن سراقة وأبو بردة بن نيار بعد أن شاهدا قتل عبد الله بن جبير، وكان آخر من انصرف من الخيل، فلحقا بالمسلمين. قال الواقدي: وكان الشيخان: حسيل بن جابر ورفاعة بن وقش شيخين
كبيرين، قد رفعا الآطام مع النساء، فقال أحدهما لصاحبه: لا أبالك! ما نستبقي من أنفسنا!
فوالله ما نحن إلا هامة اليوم أو غد، وما بقي من أجلنا قدر ظمء دابة، فلو أخذنا
أسيافنا فلحقنا برسول الله صلى الله عليه
وسلم
لعل
الله يرزقنا الشهادة! قال: فلحقا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما رفاعة
فقتله المشركون، وأما حسيل بن جابر فالتفت عليه سيوف المسلمين، وهم لا يعرفونه
حين اختلطوا، وابنه حذيفة يقول: أبي أبي!
حتى قتل، فقال حذيفة: يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين،
ما صنعتم! فزاد له عند رسول الله صلى
الله عليه وسلم خيراً، وأمر
رسول الله بديته أن تخرج، ويقال: إن الذي أصابه عتبة بن مسعود، فتصدق حذيفة ابنه
بدمه على المسلمين. فأقبلوا عنقاً واحداً: لبيك داعي الله،
لبيك داعي الله! فيضرب يومئذ جبار بن صخر ضربة في رأسه مثقلة وما يدري، حتى
أظهروا الشعار بينهم، فجعلوا يصيحون: أمت أمت! فكف بعضهم عن بعض. قال الواقدي:
وروت عميرة بنت عبد الله عن كعب بن مالك، عن أبيها، قالت: قال أبي لما انكشف
الناس: كنت أول من عرف رسول الله صلى الله عليه
وسلم وبشرت
له المسلمين حياً سوياً، عرفت عينيه من تحت المغفر، فناديت: يا معشر الأنصار!
أبشروا، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فأشار إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن اصمت: قال:
ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بكعب،
فلبس لأمته، وألبس كعباً لأمة نفسه، وقاتل كعب يومئذ قتالاً شديداً، جرح سبعة
عشر جرحاً. وجعل أبو
سفيان يطوف بأبي عامر الفاسق في المعركة، هل يرى محمداً بين القتلى! فمر بخارجة
بن زيد بن أبي زهير، فقال: يا أبا سفيان، هل تدري من هذا؟ قال: لا، قال: هذا
خارجة بن زيد، هذا أسيد بني الحارث بن الخزرج، ومر بعباس بن عبادة بن نضلة إلى
جنبه، قال: أتعرفه؟ قال: لا، قال: هذا ابن قوقل؟ هذا
الشريف في بيت الشرف، ثم مر بذكوان بن عبد قيس، فقال: وهذا من ساداتهم، ثم مر
بابنه حنظلة بن أبي عامر، فوقف عليه، فقال أبو سفيان: من هذا؟ قال: هذا أعز من
هاهنا علي، هذا ابني حنظلة. قال أبو سفيان: ما نرى مصرع محمد؟ ولوكان قتل
لرأيناه، كذب ابن قميئة. ولقي خالد بن الوليد، فقال: هل تبين عندك قتل محمد؟
قال: لا، رأيته أقبل في نفر من أصحابه مصعدين في الجبل، فقال أبو سفيان: هذا
حق، كذب ابن قميئة، زعم أنه قتله! قلت: قرأت على النقيب أبي يزيد رحمه الله هذه
الغزاة من كتاب الواقدي، وقلت له: كيف جرى لهؤلاء في هذه الوقعة؟ فإني أستعظم ما
جرى! فقال: وما في ذلك مما تستعظمه! حمل
قلب المسلمين من بعد قتل أصحاب الألوية على قلب المشركين، فكسره فلو ثبتت مجنبتا
رسول الله اللتان فيهما أسيد بن حضير والحباب بن المنذر بإزاء مجنبتي المشركين،
لم ينكسر عسكر الإسلام، ولكن مجنبتا المسلمين أطبقت إطباقاً واحداً على قلب
المشركين، مضافاً إلى قلب المسلمين، فصار عسكر رسول الله صلى
الله عليه وسلم قلباً واحداً، وكتيبة واحدة، فحطمه قلب
قريش حطمة شديدة. فلما رأت مجنبتا قريش أنه ليس بإزائها أحد، استدارت
المجنبتان من وراء عسكر المسلمين، وصمد كثير منهم للرماة الذين كانوا يحمون ظهر
المسلمين، فقتلوهم عن آخرهم، لأنهم لم يكونوا ممن يقومون لخالد وعكرمة، وهما في
ألفي رجل، وإنما كانوا خمسين رجلاً، لا سيما وقد ترك كثير منهم مركزه وشلى
الغنيمة، فأكب على النهب. قلت له: أفيجوز أن يقال: إنه فر؟
فقال: إنما يكون الفرار ممن أمعن في الهرب في الصحراء
والبيداء، فأما من الجبل مطل عليه وهو في سفحه، فلما رأى ما لا يعجبه
أصعد في الجبل، فإنه لا يسمى فاراً. ثم سكت رحمه
الله ساعة، ثم قال: هكذا وقعت الحال، فإن شئت أن تسمي ذلك فراراً فسمه، فقد خرج من مكة يوم الهجرة
فاراً من المشركين، ولا وصمة عليه في ذلك. قال
الواقدي: وقالوا: إن رسول الله لما لحمه القتال، وخلص إليه
وذب عنه مصعب بن عمير وأبو دجانة، حتى كثرت به الجراحة، جعل رسول الله صلى
الله عليه وسلم
يقول:"من
رجل يشري نفسه"؟ فوثب فئة من الأنصار خمسة، منهم غمارة بن زياد بن السكن،
فقاتل حتى أثبت، وفاءت فئة من المسلمين حتى أجهضوا أعداء الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، لعمارة بن
زياد: ادن مني، حتى وسده رسول الله صلى الله عليه وسلم قدمه، وإن به لأربعة عشر
جرحاً حتى مات، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يذمر الناس ويحضهم على
القتال، وكان رجال من المشركين قد أذلقوا المسلمين بالرمي، منهم حيان بن العرقة
وأبو أسامة الجشمي، فجعل النبي صلى
الله عليه وسلم يقول لسعد:"ارم فداك أبي
وأمي"! فرمى حيان بن العرقة بسهم فأصاب ذيل أم أيمن، وكانت جاءت يومئذ تسقي
الجرحى، فقلبها، وانكشف ذيلها عنها، فاستغرب حيان بن العرقة ضحكاً، وشق ذلك على
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدفع إلى سعد بن أبي وقاص سهماً لا نصل له، وقال: ارم به، فرمى فوضع السهم في ثغرة نحر حيان،
فوقع مستلقياً، وبدت عورته. قال سعد، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم ضحك
يومئذ حتى بدت نواجذه، وقال: استقاد لها سعد، أجاب الله
دعوتك، وسدد رميتك، ورمى يومئذ مالك بن زهير
الجشمي أخو أبي أسامة الجشمي المسلمين
رمياً شديداً، وكان هو وريان بن العرقة قد أسرعا في أصحاب رسول الله صلى
الله عليه وسلم، وأكثرا فيهم القتل يستتران بالصخر،
ويرميان، فبينا هم على ذلك أبصر سعد بن أبي وقاص مالك بن زهير يرمي من وراء صخرة
قد رمى، وأطلع رأسه، فيرميه سعد، فأصاب السهم عينه، حتى خرج من قفاه، فترى في
السماء قامة، ثم رجع فسقط، فقتله الله عز وجل.
فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه، فقال: هذا جبرائيل. قال الواقدي:
وأقبل عثمان بن عبد الله بن المغيرة المخزومي
يحضر فرساً له أبلق، يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، عليه لأمة كاملة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم متوجه إلى الشعب وهو يصيح: لا نحوت إن نحوت! فيقف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعثر لعثمان فرسه في بعض تلك الحفر التي حفرها أبو عامر
الفاسق للمسلمين، فيقع الفرس لوجهه، وسقط عثمان عنه، وخرج الفرس غائراً، فيأخذه
بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويمشي إليه
الحارث بن الصمة، فاضطربا ساعة بالسيفين، ثم يضرب الحارث رجله، وكان درعه
مشمرة فبرك، وذفف عليه، وأخذ الحارث يومئذ سلبه:
درعاً جيداً، ومغفراً، وسيفاً جيداً، ولم يسمع بأحد من
المشركين سلب يومئذ غيره، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إلى قتالهما، فسأل عن
الرجل،
قيل: عثمان بن عبد الله بن المغيرة، قال: الحمد لله الذي أحانه، وقد كان عبد الله بن جحش أسره من قبل ببطن نخلة، حتى قدم به
على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فافتدى ورجع إلى قريش، وغزا معهم أحداً، فقتل
هناك، ويرى مصرع عثمان عميد بن حاجز العامري
أحد بني عامر بن لؤي، فأقبل يعدو كأنه سبع، فيضرب حارث
بن الصمة ضربة على عاتقه، فوقع الحارث جريحاً
حتى احتمله أصحابه، ويقبل أبو دجانة على عبيد بن حاجز، فتناوشا ساعة من نهار،
وكل واحد منهما يتقي بالدرقة سيف صاحبه، ثم حمل عليه
أبو دجانة فاحتضنه، ثم جلد به الأرض، وذبحه بالسيف كما تذبح الشاة، ثم انصرف،
فلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الواقدي: وروى الحارث بن عبيد الله بن كعب بن مالك، قال: حدثني من نظر إلى أبي سبرة بن الحارث
بن علقمة، ولقي أحد المشركين، فاختلفا ضربات، كل ذلك يروغ أحدهما عن الآخر، قال: فنظر الناس إليهما كأنهما سبعان ضاريان يقفان مرة
ويقتتلان أخرى، ثم تعانقا، فوقعا إلى الأرض جميعاً، فعلاه أبو سبرة فذبحه بسيفه كما تذبح الشاة، ونهض عنه فيقبل
خالد بن الوليد وهو على فرس أدهم أغر محجل، يجر قناة طويلة، فطعن أبا سبرة من
خلفه، فنظرت إلى سنان الرمح خرج من صدره، ووقع أبو سبرة ميتاً، وانصرف خالد بن
الوليد، يقول: أنا أبو سليمان! قال الواقدي:
وقاتل طلحة بن عبيد الله يومئذ عن النبي صلى
الله عليه وسلم قتالاً شديداً، وكان طلحة يقول:
لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث انهزم أصحابه، وكثر المشركون، فأحدقوا
بالنبي صلى الله عليه وسلم من
كل ناحية، فما أدري أقوم من بين يديه أو من ورائه؟ أم عن يمينه أم عن شماله؟
فأذب بالسيف عنه هاهنا وهاهنا حتى انكشفوا، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لطلحة:"لقد أوجب" وروي:"لقد أنحب" أي قضى
نذره. قال الواقدي:
وحدثني جابر بن سليم عن عثمان بن صفوان، عن غمارة بن خزيمة، قال: حدثني من نظر
إلى الحباب بن المنذر بن الجموح، وإنه ليحوشهم يومئذ كما تحاش الغنم، ولقد اشتملوا
عليه حتى قيل: قد قتل، ثم برز والسيف في يده، وافترقوا عنه، وجعل يحمل على فرقة
منهم، وإنهم ليهربون منه إلى جمع منهم، وصار الحباب إلى النبي صلى
الله عليه وسلم،
وكان
الحباب يومئذ معلماً بعصابة خضراء في مغفره. قال: فيقول خارجة: لا عذر لنا والله عند ربنا ولا
حجة، فأما عباس فقتله سفيان بن عبد شمس السلمي، ولقد ضربه عباس ضربتين، فجرحه
جرحين عظيمين، فارتث يومئذ جريحاً، فمكث جريحاً سنة، ثم استبل. وأخذت خارجة بن
زيد الرماح، فجرح بضعة عشر جرحاً، فمر به صفوان بن أمية، فعرفه فقال: هذا من
أكابر أصحاب محمد، وبه رمق، فأجهز عليه. وقتل أوس بن أرقم، وقال صفوان: من رأى
خبيب بن يساف؟ وهو يطلبه فلا يقدر عليه. ومثل يومئذ بخارجة، وقال: هذا ممن أغرى
بأبي يوم بدر- يعني أمية بن خلف- وقال: الآن شفيت نفسي حين قتلت الأماثل من
أصحاب محمد، قتلت ابن قوقل، وقتلت ابن أبي زهير، وقتلت أوس بن أرقم. قال الواقدي:
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ:
من يأخذ هذا السيف لحقه؟ قالوا: وما حقه يا رسول الله؟ قال: ويضرب به العدو،
فقال عمر: أنا يا رسول الله، فأعرض عنه، ثم عرضه
رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك الشرط، فقام الزبير، فقال: أنا، فأعرض
عنه، حتى وجدا عمر والزبير في أنفسهما، ثم عرضه الثالثة، فقام أبو دجانة، وقال: أنا يا رسول الله آخذه
بحقه، فدفعه إليه، فصدق حين لقي به العدو، وأعطى السيف حقه، فقال أحد الرجلين- إما عمر بن الخطاب أو الزبير: والله
لأجعلن هذا الرجل الذي أعطاه السيف ومنعنيه من شأني، قال: فاتبعته، فوالله ما
رأيت أحداً قاتل أفضل من قتاله، لقد رأيته يضرب به حتى إذا كل عليه وخاف ألا
يحيك عمد به إلى الحجارة، فشحذه، ثم يضرب به العدو، حتى يرده كأنه منجل، وكان
حين أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم السيف مشى بين الصفين، واختال في مشيته،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه يمشي تلك المشية: إن هذه لمشية
يبغضها الله تعالى إلا في مثل هذا الموطن، قال: وكان أربعة من أصحاب النبي صلى
الله عليه وسلم يعلمون في الزحوف، أحدهم أبو دجانة، كان يعصب رأسه بعصابة حمراء،
وكان قومه يعلمون أنه إذا اعتصب بها أحسن القتال، وكان
علي عليه السلام يعلم بصوفة بيضاء، وكان الزبير يعلم بعصابة صفراء، وكان حمزة
يعلم بريش نعامة. قال الواقدي:
فكان أبو هريرة يقول، والناس حوله: أخبروني برجل يدخل
الجنة لم يصل لله تعالى سجدة؟ فيسكت الناس، فيقول
أبو هريرة: هو أخو بني عبد الأشهل عمرو بن ثابت بن وقش. وكان أبو
طلحة يحدث، يقول: نظرت إلى عمرو بن الجموح حين انكشف المسلمون، ثم ثابوا وهو في
الرعيل الأول، لكأني أنظر إلى ظلعه وهو يعرج في مشيته، وهو
يقول: أنا والله مشتاق إلى الجنة، ثم أنظر إلى ابنه يعدو في أثره، حتى قتلا
جميعاً. قال: فقالت لها عائشة: فمن
هؤلاء؟ قالت: أخي وابني وزوجي قتلى، قالت: فأين
تذهبين بهم؟ قالت: إلى المدينة أقبرهم بها، !حل
حل"، تزجر بعيرها، فبرك البعير، فقالت
عائشة: لثقل ما حمل، قالت هند: ما ذاك به، لربما حمل ما يحمله البعيران، ولكني أراه لغير
ذلك، فزجرته فقام، فلما وجهت به إلى المدينة برك، فوجهته راجعة إلى أحد، فأسرع!،
فرجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته
بذلك، فقال: إن الجمل لمأمور، هل قال عمرو شيئاً؟
قالت: نعم، إنه لما وجه إلى أحد استقبل القبلة، ثم قال:
اللهم لا تردني إلى أهلي، وارزقني الشهادة؟ فقال
صلى الله عليه وسلم : فلذلك الجمل لا يمضي، إن منكم يا
معشر الأنصار من لو أقسم على الله لأبره، منهم عمرو بن الجموح، يا هند، ما زالت الملائكة مظلة على أخيك من لدن قتل إلى الساعة،
ينظرون أين يدفن! ثم مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبرهم، ثم قال:
يا هند، قد ترافقوا في الجنة جميعاً، عمرو بن الجموح بعلك، وخلاد ابنك، وعبد
الله أخوك. فقالت هند: يا رسول الله، فادع الله
لي عسى أن يجعلني معهم! قال الواقدي: وكان جابر بن عبد
الله، يقول: اصطبح ناس يوم أحد الخمر، منهم أبي،
فقتلوا شهداء. قال الواقدي: وكانت نسيبة بنت كعب أم عمارة بن غزية بن عمرو قد شهدت
أحداً، وزوجها غزية وابناها عمارة بن غزية وعبد الله بن زيد، وخرجت ومعها شن لها
في أول النهار تريد تسقي الجرحى، فقاتلت يومئذ وأبلت
بلاء حسناً، فجرحت اثني عشر جرحاً بين طعنة برمح أو ضربة بسيف، فكانت أم سعد بنت سعد بن الربيع تحدث، فتقول: دخلت
عليها، فقالت لها: يا خالة، حدثيني خبرك، فقالت: خرجت أول النهار إلى أحد، وأنا
أنظر ما يصنع الناس، ومعي سقاء فيه ماء، فانتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم وهو في الصحابة والدولة والريح للمسلمين، فلما
انهزم المسلمون، انحزت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعلت أباشر القتال، وأذب عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم بالسيف، وأرمي بالقوس، حتى
خلصت إلى الجراح، فرأيت على عاتقها جرحاً أجوف له غور، فقلت: يا أم عمارة، من
أصابك بهذا؟ قالت: أقبل ابن قميئة، وقد ولى الناس عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم يصيح: دلوني على محمد، لا نجوت إن نجا! فاعترض له مصعب بن عمير وناس معه، فكنت فيهم، فضربني هذه
الضربة، ولقد ضربته على ذلك ضربات، ولكن عدو
الله كان عليه درعان. فقلت لها: يدك ما أصابها؟
قالت: أصيبت يوم اليمامة، لما جعلت الأعراب تنهزم
بالناس، نادت الأنصار: أخلصونا. فأخلضت الأنصار، فكنت معهم، حتى انتهينا
إلى حديقة الموت، فاقتتلنا عليها ساعة، حتى قتل أبو
دجانة على باب الحديقة؟ ودخلتها وأنا أريد عدو
الله مسيلمة، فيعرض لي رجل، فضرب يدي فقطعها، فوالله ما كانت ناهية، ولا عرجت
عليها، حتى وقفت على الخبيث مقتولاً، وابني عبد الله بن زيد المازني يمسح سيفه
بثيابه، فقلت: أقتلته؟ قال: نعم، فسجدت شكراً لله عز وجل وانصرفت. قال
الواقدي: وحدثني ابن أبي سبرة، عن عمرو بن يحيى، عن أبيه،
عن عبد الله بن زيد المازني، قال: جرحت يومئذ جرحاً في عضدي اليسرى، ضربني رجل
كأنه الرقل ولم يعرج علي، ومضى عني، وجعل الدم لا يرقأ فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: اعصب جرحك، فتقبل أمي إلي، ومعها عصائب في حقويها قد أعدتها للجراح،
فربطت جرحي والنبي صلى الله عليه وسلم واقف ينظر، ثم قالت: انهض يا بني، فضارب
القوم، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ومن
يطيق ما تطيقين يا أم عمارة! قالت: وأقبل الرجل الذي ضربني، فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: هذا ضارب ابنك، فاعترضت أمي
له، فضربت ساقه، فبرك، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم تبسم حتى بدت نواجذه،
ثم قال: استقدت يا أم عمارة. ثم أقبلنا نعلوه بالسلاح حتى أتينا على نفسه، فقال
النبي صلى الله عليه وسلم: الحمد لله الذي ظفرك وأقر عينك من عدوك، وأراك ثأرك
بعينك! قال
الواقدي: وروى موسى بن ضمرة بن سعيد، عن أبيه، قال: أتى عمر بن الخطاب في أيام خلافته بمروط كان فيها
مرط واسع جيد، فقال بعضهم: إن هذا المرط بثمن
كذا، فلو أرسلت به إلى زوجة عبد الله بن عمر
صفية بنت أبي عبيد، وذلك حدثان ما دخلت على ابن
عمر، فقال: بل أبعث به إلى من هو أحق منها، أم عمارة نسيبة بنت كعب سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يوم أحد يقول: ما التفت يميناً وشمالاً إلا وأنا أراها تقاتل دوني. ثم تزوجها
ثابت بن قيس بعد، فولدت له محمد بن ثابت بن قيس. وأخذ حنظلة بن أبي عامر سلاحه، فلحق
برسول الله صلى الله عليه وسلم بأحد، وهو يسوي الصفوف، فلما
انكشف المشركون، اعترض حنظلة لأبي سفيان بن حرب، فضرب عرقوب فرسه، فاكتسعت الفرس،
ويقع أبو سفيان إلى الأرض، فجعل يصيح: يا معشر قريش،
أنا أبو سفيان بن حرب! وحنظلة يريد ذبحه بالسيف، فأسمع الصوت رجالاً لا
يلتفتون إليه من الهزيمة، حتى عاينه الأسود بن شعوب،
فحمل على حنظلة بالرمح، فأنفذه، ومشى حنظلة إليه في الرمح فضربه ثانية فقتله،
وهرب أبو سفيان يعدو على قدميه، فلحق ببعض قريش،
فنزل عن صدر فرسه، وردف وراءه أبا سفيان، فذلك قول أبي سفيان يذكر صبره ووقوفه وأنه
لم يفر، وذكره محمد بن إسحاق:
قال الواقدي:
مر أبو عامر الراهب على حنظلة ابنه وهو مقتول إلى جنب
حمزة بن عبد المطلب، وعبد الله بن جحش،
فقال: إن كنت لأحذرك هذا الرجل- يعني رسول الله
صلى الله عليه وسلم- من قبل هذا المصرع، والله
إن كنت لبراً بالوالد، شريف الخلق في حياتك، وإن مماتك لمع سراة أصحابك
وأشرافهم، إن جزى الله هذا القتيل- يعني حمزة- خيراً،
أو جزى أحداً من أصحاب محمد خيراً، فليجزك، ثم نادى- يا معشر قريش، حنظلة
لا يمثل به، وإن كان خالفني وخالفكم، فلم يأل لنفسه
فيما يرى خيراً، فمثل بالناس وترك حنظلة فلم يمثل به. قال الواقدي:
وأقبل وهب بن قابوس المزني، ومعه ابن أخيه الحارث بن عقبة بن قابوس بغنم لهما من
جبل مزينة، فوجد المدينة خلواً، فسألا: أين الناس؟ قالوا: بأحد، خرج رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقاتل المشركين من قريش، فقال: لا نبتغي أثراً بعد عين،
فخرجا حتى أتيا النبي صلى الله عليه وسلم بأحد، فيجدان القوم يقتتلون، والدولة
لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه،
فأغارا مع المسلمين في النهب، وجاءت الخيل من ورائهم، خالد بن الوليد وعكرمة ابن
أبي جهل، فاختلط الناس، فقاتلا أشد القتال، فانفرقت فرقة من المشركين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من لهذه الفرقة؟ فقال وهب
بن قابوس: أنا يا رسول الله، فقام فرماهم بالنبل حتى انصرفوا، ثم رجع فانفرقت
فرقة أخرى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من لهذه الكتيبة؟ فقال المزني:
أنا يا رسول الله، فقام فذبها بالسيف حتى ولت، ثم رجع فطلعت كتيبة أخرى، فقال
النبي صلى الله عليه وسلم: من يقوم لهؤلاء؟ فقال المزني: أنا يا رسول الله فقال:
قم وأبشر بالجنة. فقام المزني مسروراً يقول: والله لا أقيل ولا أستقيل، فجعل
يدخل فيهم فيضرب بالسيف ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليه والمسلمون، حتى
خرج من أقصى الكتيبة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم ارحمه
ثم يرجع فيهم، فما زال كذلك وهم محدقون به، حتى اشتملت عليه أسيافهم ورماحهم، فقتلوه فوجد به يومئذ عشرون طعنة بالرماح، كلها قد خلصت إلى
مقتل، ومثل به أقبح المثل يومئذ. ثم قام ابن
أخيه، فقاتل كنحو قتاله، حتى قتل، فكان عمر بن
الخطاب يقول: إن أحب ميتة أموت عليها لما مات
عليها المزني. قال الواقدي:
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد قد خاصم إليه يتيم من الأنصار
أبا لبابة بن عبد المنذر في عذق بينهما، فقضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأبي لبابة،
فجزع اليتيم على العذق، فطلب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم العذق إلى أبي
لبابة لليتيم، فأبى أن يدفعه إليه، فجعل رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم يقول لأبي لبابة: ادفعه إليه ولك عذق في الجنة، فأبى أبو لبابة، وقال ثابت بن أبي الدحداحة: يا
رسول الله؛ أرأيت إن أعطيت اليتيم عذقه من مالي! قال: لك به عذق في الجنة، فذهب
ثابت بن الدحداحة، فاشترى من أبي لبابة ذلك العذق بحديقة نخل، ثم رد العذق إلى
الغلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رب
عذق مذلل لابن الدحداحة في الجنة، فكانت ترجى له الشهادة بذلك القول،
فقتل يوم أحد. فالحمد لله الذي أكرمهم بيدي، ولم يهني بأيديهم. قال الواقدي: وقال علي عليه السلام: لما كان يوم أحد وجال الناس تلك الجولة أقبل أمية بن أبي حذيفة بن المغيرة، وهو دارع مقنع في
الحديد ما يرى منه إلا عيناه، وهو يقول: يوم بيوم بدر!
فيعرض له رجل من المسلمين، فقتله أمية؟ قال علي عليه السلام: وأصمد له، فأضربه بالسيف على هامته،
وعليه بيضة، وتحت البيضة مغفر، فنبا سيفي، وكنت رجلاً قصيراً، ويضربني بسيفه،
فأتقي بالدرقة، فلحج سيفه، فأضربه، وكانت درعه مشمرة، فأقطع رجليه، فوقع وجعل
يعالج سيفه، حتى خلصه من الدرقة، وجعل يناوشني وهو بارك حتى نظرت إلى فتق تحت
إبطه فأحش فيه بالسيف، فمال فمات، وانصرفت.
قال الواقدي:
بينا عمر بن الخطاب يومئذ في رهطٍ من المسلمين قعود،
مر بهم أنس بن النضر بن ضمضم عم أنس بن مالك، فقال: ما
يقعدكم؟ قالوا: قتل رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم، قال: فما تصنعون بالحياة بعده؟
قوموا فموتوا على ما مات عليه، ثم قام، فجالد
بسيفه حتى قتل، فقال عمر بن الخطاب: إني لأرجو أن يبعثه الله أمة وحده يوم القيامة، وجد به سبعون ضربةً في
وجهه ما عرف حتى عرفته أخته.
وقال
ابن الزبعرى أيضاً من قصيدة مشهورة، وهي:
قلت: كثير من الناس يعتقدون أن هذا البيت ليزيد بن معاوية، وهو قوله: ليت أشياخي، وقال من أكره التصريح باسمه: هذا البيت
ليزيد، فقلت له: إنما قاله يزيد متمثلاً لما حمل إليه رأس الحسين عليه
السلام، وهو لابن الزبعرى، فلم تسكن نفسه إلى
ذلك، حتى أوضحته له، فقلت ألا تراه يقول: جزع الخزرج من وقع الأسل، والحسين عليه السلام لم تحارب عنه الخزرج، وكان
يليق أن يقول: جزع
بني هاشم من وقع الأسل؛ فقال بعض من كان حاضراً:
لعله قاله في يوم الحرة! فقلت: المنقول أنه
أنشده لما حمل إليه رأس الحسين عليه السلام؛ والمنقول أنه شعر ابن
الزبعرى، ولا يجوز أن يترك المنقول إلى ما ليس بمنقول.
فقال
باتكين: لا تقل هذا؟ ولكن قل: "ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى
إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعدما أراكم ما تحبون منكم من يريد
الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل
على المؤمنين " وكان باتكين مسلماً، وكان جعفر
سامحه الله مغموصاً عليه في دينه. تم الجزء الرابع عشر من شرج نهج البلاغة لابن أبي
الحديد |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الفهرس الجزء الرابع عشر باب المختار من الخطب والأوامر
- ابن ابي الحديد. 1 من كتاب له إلى أهل الكوفة عند مسيره
من المدينة إلى البصرة 2 ومن كتاب له إليهم بعد فتح البصرة 10 ومن كتاب له كتبه لشريح بن الحارث
قاضيه. 11 ومن كتاب له كتبه إلى بعض أمراء
جيشه. 12 ومن كتاب له إلى لأشعث بن قيس وهو
عامل أذربيجان. 13 ومن كتاب له إلى جرير بن عبد الله
البجلي لما أرسله إلى معاوية. 17 |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الجزء الرابع عشر باب
المختار من الخطب والأوامر - ابن ابي الحديد
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
باب الكتب والرسائل
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الحمد لله الواحد العدل باب المختار من كتب مولانا أمير المؤمنين
عليه السلام ورسائله إلى أعدائه وأولياء بلاده ويدخل في ذلك ما اختير من
عهوده إلى عماله ووصاياه لأهله وأصحابه. وقد أورد في هذا الباب ما هو بالباب الأول أشبه، نحو كلامه عليه السلام لشريح القاضي لما اشترى داراً، وكلامه لشريح بن هانىء لما جعله على مقدمته إلى الشام. وسمي
ما يكتب للولاة عهداً
اشتقاقاً من قولهم: عهدت إلى فلان، أي أوصيته. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
من
كتاب له إلى أهل الكوفة عند مسيره من المدينة إلى البصرة
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: من عبد الله
علي أمير المؤمنين إلى أهل الكوفة، جبهة الأنصار وسنام العرب. وكان طلحة والزبير
أهون سيرهما فيه الوجيف، وأرفق حدائهما العنيف. وكان من عائشة فيه فلتة غضب،
فأتيح له قوم قتلوه، وبايعني الناس غير مستكرهين،
ولا مجبرين بل طائعين مخيرين. وقال الراوندي: المراد
بدار الهجرة هاهنا الكوفة التي هاجر أمير
المؤمنين عليه السلام إليها،
وليس بصحيح، بل المراد المدينة، وسياق الكلام يقتضي ذلك، ولأنه كان حين كتب هذا الكتاب إلى أهل الكوفة بعيداً
عنهم، فكيف يكتب إليهم يخبرهم عن أنفسهم. الإمام
علي عليه السلام في طريقه إلى البصرة وروى محمد بن
إسحاق عن عمه عبد الرحمن بن يسار القرشي، قال: لما
نزل علي عليه السلام الربذة متوجهاً
إلى البصرة بعث إلى الكوفة محمد بن جعفر بن أبي طالب ومحمد بن أبي بكر الصديق،
وكتب إليهم هذا الكتاب، وزاد في آخره: فحسبي بكم
إخواناً، وللدين أنصاراً، فانفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في
سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون !. أما
بعد، فإني قد بعثت إليك هاشم بن عتبة لتشخص إلي
من قبلك من المسلمين ليتوجهوا إلى قوم نكثوا بيعتي،
وقتلوا شيعتي، وأحدثوا في الإسلام هذا الحدث العظيم، فاشخص بالناس إلي
معه حين يقدم عليك، فإني لم أولك المصر الذي أنت فيه، ولم أقرك عليه إلا لتكون من أعواني على الحق، وأنصاري على هذا الأمر،
والسلام. وبلغ ذلك المحمدين،
فأغلظا لأبي موسى، فقال أبو موسى: والله إن بيعة
عثمان لفي عنق علي وعنقي وأعناقكما، ولو أردنا قتالاً ما كنا لنبدأ بأحد قبل
قتلة عثمان، فخرجا من عنده، فلحقا بعلي عليه السلام،
فأخبراه الخبر. قال السائب: فأتيت هاشماً فأخبرته برأي أبي موسى، فكتب إلى علي عليه السلام: لعبد الله علي أمير
المؤمنين من هاشم بن عتبة. أما بعد يا أمير
المؤمنين، فإني قدمت بكتابك على امرىء مشاق بعيد
الود، ظاهر الغل والشنآن، فتهددني بالسجن، وخوفني بالقتل، وقد
كتبت إليك هذا الكتاب مع المحل بن خليفة، أخي
طيىء، وهو من شيعتك وأنصارك، وعنده علم ما قبلنا، فاسأله عما بدا لك، واكتب إلي
برأيك والسلام. والله يا
أمير المؤمنين لنجاهدنهم معك في كل موطن، حفظاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم في
أهل بيته، إذ صاروا أعداء لهم بعده. من عبد الله علي أمير المؤمنين
إلى عبد الله بن قيس، أما بعد يا بن الحائك، يا عاض أير
أبيه، فوالله إني كنت لأرى أن بعدك من هذا الأمر الذي لم يجعلك الله له أهلاً،
ولا جعل لك فيه نصيباً، سيمنعك من رد أمري والانتزاء علي. وقد بعثت إليك ابن
عباس وابن أبي بكر فخلهما والمصر وأهله، واعتزل عملنا مذموماً مدحوراً. فإن فعلت وإلا فإني قد أمرتهما أن ينابذاك على
سواء، إن الله لا يهدي كيد الخائنين. فإذا ظهرا عليك قطعاك إرباً إرباً، والسلام على من شكر النعمة، ووفى بالبيعة، وعمل برجاء
العاقبة. قال: فلما دخل الحسن وعمار الكوفة، اجتمع إليهما
الناس، فقام الحسن، فاستنفر الناس، فحمد الله وصلى على
رسوله، ثم قال: أيها الناس، إنا جئنا ندعوكم إلى
الله وإلى كتابه وسنة رسوله، وإلى أفقه من تفقه من المسلمين، وأعدل من تعدلون،
وأفضل من تفضلون، وأوفى من تبايعون، من لم يعبه
القرآن، ولم تجهله السنة ولم تقعد به السابقة، إلى من قربه الله تعالى
إلى رسوله قرابتين: قرابة الدين وقرابة الرحم، إلى
من سبق الناس إلى كل مأثرة، إلى من كفى الله به رسوله والناس متخاذلون فقرب منه وهم متباعدون، وصلى معه وهم مشركون،
وقاتل معه وهم منهزمون، وبارز معه وهم محجمون، وصدقه وهم
يكذبون. إلى من لم ترد له رواية ولا تكافأ له سابقة، وهو يسألكم النصر،
ويدعوكم إلى الحق، ويأمركم بالمسير إليه، لتوازروه وتنصروه على قوم نكثوا بيعته، وقتلوا أهل الصلاح من
أصحابه، ومثلوا بعماله، وانتهبوا بيت ماله. فاشخصوا إليه رحمكم الله، فمروا بالمعروف وانهوا عن
المنكر، واحضروا بما يحضر به الصالحون. قال أبو مخنف: حدثني جابر بن يزيد، قال: حدثني تميم بن حذيم الناجي، قال: قدم
علينا الحسن بن علي عليه السلام وعمار
بن ياسر، يستنفران الناس إلى علي عليه السلام، ومعهما كتابه، فلما فرغا من قراءة كتابه، قام الحسن- وهو فتى حدث، والله إني لأرثي له من حداثة سنه
وصعوبة مقامه- فرماه الناس بأبصارهم وهم يقولون: اللهم سدد منطق ابن
نبينا! فوضع
يده على عمود يتساند إليه، وكان عليلاً من شكوى به، فقال!:
الحمد لله العزيز الجبار، الواحد القهار، الكبير المتعال،"سواة منكم من أصر
القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار". أحمده
على حسن البلاء، وتظاهر النعماء، وعلى ما أحببنا وكرهنا من شدة ورخاء. وأشهد أن
لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، امتن علينا بنبوته،
واختصه برسالته، وأنزل عليه وحيه، واصطفاه على جميع خلقه، وأرسله إلى الإنس
والجن، حين عبدت الأوثان وأطيع الشيطان، وجحد الرحمن، فصلى الله عليه وعلى آله
وجزاه أفضل ما جزى المسلمين. أما بعد فإني لا
أقول لكم إلا ما تعرفون، إن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب- أرشد الله أمره، وأعز
نصره- بعثني إليكم يدعوكم إلى الصواب، وإلى العمل بالكتاب، والجهاد
في سبيل الله، وإن كان في عاجل ذلك ما تكرهون، فإن في
آجله ما تحبون إن شاء الله. ولقد
علمتم أن علياً صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده، وأنه يوم صدق به لفي
عاشرة من سنه، ثم شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جميع مشاهده. وكان من
اجتهاده في مرضاة الله وطاعة رسوله وآثاره الحسنة في الإسلام ما قد بلغكم، ولم
يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم راضياً عنه، حتى غمضه بيده وغسله وحده،
والملائكة أعوانه، والفضل ابن عمه ينقل إليه الماء، ثم أدخله حفرته، وأوصاه
بقضاء دينه وعداته، وغير ذلك من أموره، كل ذلك من من الله عليه. ثم والله ما دعا إلى نفسه، ولقد تداك الناس عليه تداك الإبل الهيم
عند ورودها، فبايعوه طائعين، ثم نكث منهم ناكثون بلا حدث أحدثه، ولا خلاف أتاه
حسداً له وبغياً عليه.
فعليكم
عباد الله بتقوى الله وطاعته، والجد والصبر والاستعانة بالله والخفوف إلى ما
دعاكم إليه أمير المؤمنين. عصمنا
الله وإياكم بما عصم به أولياءه وأهل طاعته، وألهمنا وإياكم تقواه، وأعاننا
وإياكم على جهاد أعدائه. واستغفر الله العظيم لي ولكم. ثم
مضى إلى الرحبة، فهيأ منزلاً لأبيه أمير المؤمنين. قال:
ولما نزل علي عليه السلام ذا قار، كتبت عائشة إلى حفصة
بنت عمر: أما بعد، فإني أخبرك أن علياً قد نزل ذا قار، وأقام بها مرعوباً
خائفاً لما بلغه من عدتنا وجماعتنا، فهو بمنزلة الأشقر، إن تقدم عقر، وإن تأخر
نحر، فدعت حفصة جواري لها يتغنين ويضربن بالدفوف،
فأمرتهن أن يقلن في غنائهن: ما الخبر ما الخبر، علي في السفر، كالفرس
الأشقر، إن تقدم عقر، وإن تأخر نحر. فبلغ
أم كلثوم بنت علي عليه السلام، فلبست جلابيبها، ودخلت عليهن في نسوة متنكرات، ثم أسفرت عن وجهها، فلما عرفتها
حفصة خجلت، واسترجعت، فقالت أم كلثوم: لئن تظاهرتما عليه منذ اليوم، لقد تظاهرتما على أخيه
من قبل، فأنزل الله فيكما ما أنزل! فقالت حفصة:
كفى رحمك الله! وأمرت بالكتاب فمزق، واستغفرت الله. وذكر الواقدي مثل ذلك، وذكر المدائني أيضاً مثله، قال: فقال
سهل بن حنيف في ذلك هذه الأشعار:
قال: فحدثنا الكلبي، عن أبي صالح أن
علياً عليه السلام لما نزل ذا قار في قلة من عسكره، صعد الزبير منبر البصرة، فقال: ألا ألف فارس أسير بهم
إلى علي، فأبيته بياتاً، وأصبحه صباحاً، قبل أن يأتيه المدد! فلم يجبه أحد، فنزل واجماً، وقال: هذه والله الفتنة
التي كنا نحدث بها! فقال له بعض مواليه: رحمك
الله يا أبا عبد الله! تسميها فتنة ثم نقاتل فيها! فقال: ويحك! والله إنا لنبصر ثم لا نصبر. فاسترجع المولى ثم خرج في الليل فاراً
إلى علي عليه السلام فأخبره، فقال: اللهم عليك به! قال أبو مخنف:
ولما فرغ الحسن بن علي عليه السلام من خطبته، قام بعده
عمار، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على رسوله، ثم قال: أيها الناس، أخو
نبيكم وابن عمه يستنفركم لنصر دين الله، وقد بلاكم الله
بحق دينكم، وحرمة أمكم، فحق دينكم أوجب، وحرمته أعظم. أيها الناس، عليكم بإمام لا يؤدب، وفقيه لا يعلم،
وصاحب بأس لا ينكل، وذي سابقة في الإسلام ليست لأحد، وإنكم لو قد حضرتموه بين
لكم أمركم إن شاء الله. إن علياً إنما يستنفركم لجهاد أمكم عائشة وطلحة والزبير
حواري رسول الله ومن معهم من المسلمين، وأنا أعلم بهذه الفتن أنها إذا أقبلت
شبهت، وإذا أدبرت أسفرت، إني أخاف عليكم أن يلتقي غاران منكم فيقتتلا ثم
يتركا كالأحلاس. الملقاة بنجوة من الأرض، ثم يبقى رجرجة من الناس، لا يأمرون
بالمعروف، ولا ينهون عن منكر. إنها قد جاءتكم فتنة كافرة لا يدرى من أين تؤتى!
تترك الحليم حيران! كأني أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمس يذكر الفتن، فيقول:"أنت فيها
نائماً خير منك قاعداً، وأنت فيها جالساً خير منك قائماً، وأنت فيها قائماً خير
منك ساعياً". فثلموا سيوفكم وقصفوا رماحكم، وانصلوا سهامكم، وقطعوا
أوتاركم، وخلوا قريشاً ترتق فتقها، وترأب صدعها، فإن فعلت فلأنفسها ما فعلت، وإن
أبت فعلى أنفسها ما جنت، سمنها في أديمها. استنصحوني ولا تستغشوني، وأطيعوني ولا تعصوني،
يتبين لكم رشدكم، ويصلى هذه الفتنة من جناها. قال أبو جعفر:
فأول من بعثه علي عليه السلام من الربذة إلى الكوفة محمد بن أبي بكر ومحمد بن
جعفر، فجاء أهل الكوفة إلى أبي موسى، وهو الأمير عليهم ليستشيروه في الخروج إلى
علي بن أبي طالب عليه السلام، فقال لهم: أما سبيل
الآخرة فأن تقعدوا، وأما سبيل الدنيا فأن تخرجوا.
قال أبو جعفر:
ثم أجمع علي عليه السلام على المسير من الربذة إلى البصرة، فقام إليه رفاعة ابن
رافع، فقال!: يا أمير المؤمنين، أي شيء
تريد؟ وأين تذهب بنا؟ قال:
أما الذي نريد وننوي فإصلاح، إن قبلوا منا وأجابوا إليه، قال، فإن لم يقبلوا، قال:
ندعوهم ونعطيهم من الحق ما نرجو أن يرضوا به، قال: فإن لم يرضوا! قال: ندعهم ما
تركونا: قال: فإن لم يتركونا، قال: نمتنع منهم، قال: فنعم إذاً. ثم قال:
ولله
لننصرن الله عز وجل كما سمانا أنصاراً. فتلقاه
بفيد غلام من بني سعد بن ثعلبة، يدعى مرة، فقال:
من هؤلاء؟ قيل: هذا أمير المؤمنين، فقال: سفرة قانية،
فيها دماء من نفوس فانية. فسمعها علي عليه السلام فدعاه، فقال: ما اسمك؟
قال: مرة، قال أمر الله عيشك! أكاهن سائر اليوم؟ قال:
بل عائف، فخلى سبيله. ونزل
بفيد فأتته أسد وطيىء، فعرضوا عليه أنفسهم، فقال: الزموا قراركم، ففي المهاجرين
كفاية. وقدم رجل من الكوفة فيداً، فأتى علياً عليه السلام، فقال له: من الرجل؟ قال:
عامر بن مطرف، قال!: الليثي؟ قال: الشيباني، قال: أخبرني عما وراءك؟ قال: إن أردت الصلح فأبو موسى صاحبك، وإن أردت القتال فأبو موسى ليس لك بصاحب. فقال عليه السلام: ما أريد إلا الصلح إلا أن يرد علينا. ثم قال:
أيها الناس، إن طلحة والزبير بايعاني، ثم نكثاني بيعتي، وألبا علي الناس، ومن العجب انقيادهما لأبي بكر وعمر وخلافهما علي،
والله إنهما ليعلمان أني لست بدونهما. اللهم فاحلل ما عقدا، ولا تبرم ما قد
أحكما في أنفسهما، وأرهما المساءة فيما قد عملا. فذهب عبد الله بن عباس حتى قدم
الكوفة، فلقي أبا موسى، واجتمع الرؤساء من أهل الكوفة. فقام أبو موسى فخطبهم، وقال: إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم صحبوه في مواطن كثيرة، فهم أعلم بالله ممن لم يصحبه، وإن لكم
علي حقاً، وأنا مؤديه إليكم، أمر ألا تستخفوا بسلطان الله، وألا تجترئوا على
الله أن تأخذوا كل من قدم عليكم من أهل المدينة في هذا الأمر، فتردوه إلى
المدينة، حتى تجتمع الأمة على إمام ترتضي به، إنها فتنة صماء، النائم فيها خير
من اليقظان، واليقظان خير من القاعد، والقاعد خير من القائم، والقائم خير من
الراكب، فكونوا جرثومة من جراثيم العرب، أغمدوا سيوفكم، وأنصلوا أسنتكم، واقطعوا
أوتار قسيكم، حتى يلتئم هذا الأمر، وتنجلي هذه الفتنة. قال أبو جعفر رحمه الله:
فرجع ابن عباس إلى علي عليه السلام،
فأخبره، فدعا الحسن ابنه عليه السلام وعمار
بن ياسر، وأرسلهما إلى الكوفة، فلما قدماها كان أول من أتاهما مسروق بن الأجدع،
فسلم عليهما، وأقبل على عمار، فقال: يا أبا اليقظان، علام قتلتم أمير المؤمنين،
قال: على شتم أعراضنا، وضرب أبشارنا. قال:
فوالله ما عاقبتم بمثل ما عوقبتم به، ولئن صبرتم لكان خيراً للصابرين. ثم خرج أبو موسى فلقي الحسن عليه
السلام فضمه إليه، وقال لعمار:
يا أبا اليقظان، أغدوت فيمن غدا على أمير المؤمنين، وأحللت نفسك مع الفجار؟ قال:
لم أفعل، ولم تسوءني؟ فقطع عليهما الحسن، وقال لأبي موسى: يا أبا موسى. لم تثبط الناس عنا، فوالله ما أردنا إلا الإصلاح،
وما مثل أمير المؤمنين يخاف على شيء، قال أبو موسى:
صدقت بأبي وأمي! ولكن المستشار مؤتمن، سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول:"ستكون فتنة.." وذكر تمام
الحديث. فغضب عمار وساءه ذلك، وقال: أيها
الناس، إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك له خاصة، وقام رجل من بني
تميم فقال لعمار: اسكت أيها العبد! أنت أمس مع الغوغاء، وتسافه أميرنا اليوم! وثار زيد بن صوحان وطبقته، فانتصروا
لعمار، وجعل أبو موسى يكف الناس ويردعهم عن الفتنة. ثم انطلق حتى صعد المنبر،
وأقبل زيد بن صوحان ومعه كتاب من عائشة إليه خاصة،
وكتاب منها إلى أهل الكوفة عامة، تثبطهم عن نصرة
علي، وتأمرهم بلزوم الأرض، وقال: أيها الناس، انظروا إلى هذه، أمرت أن تقر في بيتها، وأمرنا نحن أن نقاتل، حتى لا تكون
فتنة، فأمرتنا بما أمرت به، وركبت ما أمرنا به، فقام
إليه شبث بن ربعي، فقال له: وما أنت وذاك أيها العماني الأحمق! سرقت أمس
بجلولاء فقطعك الله، وتسب أم المؤمنين! فقام زيد،
وشال يده المقطوعة وأومأ بيده إلى أبي موسى وهو على المنبر، وقال له: يا عبد الله بن قيس، أترد الفرات عن
أمواجه! دع عنك ما لست تدركه، ثم قرأ:"آلم
أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا..." الآيتين، ثم نادى: سيروا
إلى أمير المؤمنين وصراط سيد المرسلين، وانفروا إليه أجمعين. وقام الحسن بن علي عليه السلام،
فقال:
أيها الناس، أجيبوا دعوة إمامكم، وسيروا إلى إخوانكم، فإنه سيوجد لهذا الأمر من
ينفر إليه، والله لأن يليه أولو النهى أمثل في العاجلة، وخير في العاقبة،
فأجيبوا دعوتنا، وأعينونا على أمرنا، أصلحكم الله! وقام عبد خير فقال:
يا أبا موسى، أخبرني عن هذين الرجلين، ألم يبايعا
علياً! قال: بلى، قال: أفأحدث علي حدثاً يحل بعه نقض بيعته؟ قال: لا أدري، قال: لا دريت ولا أتيت! إذا كنت لا تدري فنحن
تاركوك حتى تدري. أخبرني: هل
تعلم أحداً خارجاً عن هذه الفرق الأربع: علي بظهر الكوفة، وطلحة والزبير
بالبصرة، ومعاوية بالشام، وفرقة رابعة بالحجاز قعود لا يجبى بهم فيء، ولا يقاتل
بهم عدو! فقال أبو موسى: أولئك خير الناس،
قال عبد خير: اسكت يا أبا موسى، فقد غلب عليك غشك. قال أبو جعفر:
فروى أبو مريم الثقفي، قال!: والله إني لفي
المسجد يومئذ إذ دخل علينا غلمان أبي موسى يشتدون ويبادرون أبا موسى: أيها
الأمير، هذا الأشتر قد جاء، فدخل القصر، فضربنا وأخرجنا. فنزل أبو موسى من المنبر، وجاء حتى دخل القصر، فصاح به الأشتر: اخرج من قصرنا لا أم لك، أخرج
الله نفسك! فوالله إنك لمن المنافقين قديماً. قال: أجلني
هذه العشية، قال: قد أجلتك، ولا تبيتن في القصر الليلة. ودخل الناس ينتهبون متاع أبي موسى، فمنعهم الأشتر، وقال: إني قد أخرجته وعزلته عنكم. فكف
الناس حينئذ عنه. قال أبو جعفر: فروى الشعبي، عن أبي الطفيل، قال: قال!
علي عليه السلام: يأتيكم من الكوفة اثنا عشر
ألف رجل ورجل واحد، فوالله لقعدت على نجفة ذي قار، فأحصيتهم واحداً واحداً، فما
زادوا رجلاً، ولا نقصوا رجلاً. وينبغي أن نذكر في هذا الموضع طرفاً من نسب عائشة
وأخبارها، وما يقوله أصحابنا المتكلمون فيها، جرياً على عادتنا في ذكر مثل ذلك
كلما مررنا بذكر أحد من الصحابة. قلت: قرىء هذا
الكلام على بعض الناس، فقال: كيف رأت الحال
بينها وبين أحمائها وأهل بيت زوجها! وروى أبو عمر بن عبد البر، في الكتاب المذكور أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم توفى عنها وهي بنت ثماني عشرة سنة، فكان سنها
معه تسع سنين، ولم ينكح بكراً غيرها، واستأذنت
رسول الله صلى الله عليه وسلم في
الكنية، فقال لها: أكتني بابنك عبد الله بن
الزبير-يعني ابن أختها- فكانت كنيتها أم عبد الله، وكانت فقيهة
عالمة بالفرائض والشعر والطب. واعتزل!
رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه
كلهن، واعتزلهما معهن ثم
صالحهن، وطلق حفصة ثم راجعها، وجرت بين عائشة وفاطمة إبلاغات، وحديث يوغر الصدور، فتولد بين عائشة
وبين علي عليه السلام نوع ضغينة، وانضم إلى ذلك
إشارته على رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة الإفك بضرب الجارية
وتقريرها وقوله:"إن النساء كثير". وزعم معظم المحدثين أن ذلك كان عن أمر رسول الله صلى
الله عليه وسلم وقوله، ثم اختلفوا،
فمنهم من قال: نحاه وصلى هو بالناس، ومنهم
من قال: بل ائتم بأبي بكر كسائر الناس،
ومنهم من قال: كان الناس يصلون بصلاة أبي بكر، وأبو بكر يصلي لصلاة
رسول الله. وقال قوم من هؤلاء:
بل نقول: أصحاب الجمل أخطأوا، ولكنه خطأ مغفور، وكخطأ المجتهد في بعض مسائل الفروع عند
من قال بالأشبه، وإلى هذا القول يذهب أكثر
الأشعرية. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن
كتاب له إليهم بعد فتح البصرة
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: وجزاكم الله
من أهل مصر عن أهل بيت نبيكم أحسن ما يجزي العاملين بطاعته، والشاكرين لنعمته،
فقد سمعتم وأطعتم، ودعيتم فأجبتم. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن
كتاب له كتبه لشريح بن الحارث قاضيه
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: روي أن شريح
بن الحارث قاضي أمير المؤمنين عليه السلام اشترى
على عهده داراً بثمانين ديناراً، فبلغه ذلك، فاستدعى شريحاً، وقال له:
بلغني أنك ابتعت داراً بثمانين ديناراً، وكتبت لها كتاباً، وأشهدت فيه شهوداً. فقال له شريح:
قد كان ذلك يا أمير المؤمنين، قال: فنظر إليه نظر المغضب، ثم قال له: يا شريح، أما إنه سيأتيك من لا ينظر في
كتابك، ولا يسألك عن بينتك، حتى يخرجك منها شاخصاً، ويسلمك إلى قبرك خالصاً.
فانظر يا شريح لا تكون ابتعت هذه الدار من غير مالك، أو نقدت الثمن من غير حلالك،
فإذاً أنت قد خسرت دار الدنيا ودار الآخرة. فعلى مبلبل أجسام الملوك، وسالب نفوس الجبابرة،
ومزيل ملك الفراعنة، مثل كسرى وقيصر، وتبع وحمير، ومن جمع المال على المال
فأكثر، ومن بنى وشيد، وزخرف ونجد، وادخر واعتقد، ونظر بزعمه للولد- إشخاصهم
جميعاً إلى موقف العرض والحساب، وموضع الثواب والعقاب، إذا وقع الأمر بفصل
القضاء،"وخسر هنالك المبطلون". شهد
على ذلك العقل إذا خرج من أسر الهوى، وسلم من علائق الدنيا". نبذة
من حياة شريح ونسبه الشرح: هو شريح بن
الحارث بن المنتجع بن معاوية بن جهم بن ثور بن عفير بن عدي بن الحارث بن مرة بن
أدد الكندي، وقيل: إنه حليف لكندة من بني الرائش. والصحيح أنه شريح بن
الحارث، ويكنى أبا أمية. استعمله عمر بن الخطاب على القضاء بالكوفة، فلم يزل
قاضياً ستين سنة، لم يتعطل فيها إلا ثلاث سنين في فتنة ابن الزبير، امتنع فيها
من القضاء، ثم استعفى الحجاج من المعمل فأعفاه، فلزم منزله إلى أن مات، وعمر
عمراً طويلا، قيل: إنه
عاش مائة سنة وثمانياً وستين، وقيل مائة سنة، وتوفي سنة سبع وثمانين. وقال أبو عمر بن عبد البر في كتاب
"الاستيعاب": أدرك شريح الجاهلية، ولا يعد من الصحابة، بل من التابعين، وكان شاعراً
محسناً، وكان سناطاً لا شعر في وجهه. وموضع الاستحسان من هذا الفصل- وإن
كان كله حسناً- أمران: أحدهما: أنه عليه
السلام نظر إليه نظر مغضب، إنكاراً لابتياعه داراً
بثمانين ديناراً، وهذا يدل على زهد شديد في الدنيا واستكثار للقليل منها، ونسبه
هذا المشتري إلى الإسراف، وخوف من أن يكون ابتاعها بمال حرام. ومنه شروع باب هذه الدار، وطريقها اشترى هذا
المشتري المذكور من البائع المذكور جميع الدار المذكورة بثمن مبلغه كذا وكذا
ديناراً، أو درهماً، فما أدرك المشتري المذكور من درك فمرجوع به على من يوجب
الشرع الرجوع به عليه". ثم تكتب الشهود في آخر الكتاب. شهد فلان ابن فلان
بذلك، وشهد فلان ابن فلان به أيضاً، وهذا يدل على أن
الشروط المكتوبة الآن قد كانت في زمن الصحابة تكتب مثلها أو نحوها، إلا
أنا ما سمعنا عن أحد منهم أنه نقل صيغة الشرط الفقهي
إلى معنى آخر كما قد نظمه هو عليه السلام، ولا غرو فما زال سباقاً إلى
العجائب والغرائب! فإن قلت: لم جعل الشيطان المغوي في الحد الرابع؟ قلت: ليقول: وفيه
يشرع باب هذه الدار، لأنه إذا كان الحد إليه ينتهي كان أسهل لدخوله إليها ودخول
أتباعه وأوليائه من أهل الشيطنة والضلال. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن
كتاب له كتبه إلى بعض أمراء جيشه
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: فإن عادوا
إلى ظل الطاعة، فذاك الذي ندب، وإن توافت الأمور بالقوم إلى الشقاق والعصيان
فانهد بمن أطاعك إلى من عصاك، واستغن بمن انقاد معك، عمن تقاعس عنك، فإن
المتكاره مغيبه خير من مشهده، وقعوده أغنى من نهوضه. وتقاسى، أي أبطأ وتأخر، والمتكاره: الذي يخرج إلى
الجهاد من غير نية وبصيرة، !إنما يخرج كارهاً مرتاباً. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن
كتاب له إلى لأشعث بن قيس وهو عامل أذربيجان
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
وإن عملك ليس لك بطعمة، ولكنه في عنقك أمانة، وأنت مسترعى لمن فوقك، ليس لك أن
تفتات في رعية، ولا تخاطر إلا بوثيقة، وفي يديك مال من مال الله تعالى، وأنت من
خزانه حتى تسلمه إلي، ولعلي ألا أكون شر ولاتك لك. والسلام. قال
حبيب:
وقال
الشماخ:
والنسبة
إليه أذري بسكون الذال، هكذا القياس، ولكن المروي عن أبي بكر في الكلام الذي
قاله عند موته:"ولتألمن النوم على الصوف الأذري" بفتح الذال. أما
بعد، فلولا هنات وهنات كانت منك، كنت المقدم في هذا الأمر قبل الناس، ولعل أمراً
كان يحمل بعضه بعضاً إن اتقيت الله عز وجل، وقد كان من بيعة الناس إياي ما قد
علمت، وكان من أمر طلحة والزبير ما قد بلغك، فخرجت إليهما، فأبلغت في الدعاء،
وأحسنت في البقية، وإن عملك ليس لك بطعمة..."، إلى آخر الكلام، وهذا الكتاب كتبه إلى الأشعث بن قيس بعد انقضاء الجمل. والمروي
بعد قوله:"ولاه الله بعد ما تولى"،"وأصلاه
جهنم وساءت مصيراً، وإن طلحة والزبير بايعاني ثم نقضا
بيعتي، فكان نقضهما كردتهما، فجاهدتهما على ذلك
حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون، فادخل فيما دخل
فيه المسلمون، فإن أحب الأمور إلي فيك العافية، إلا أن تتعرض للبلاء، فإن
تعرضت له قاتلتك، واستعنت بالله عليك، وقد أكثرت في
قتلة عثمان، فادخل فيما دخل الناس فيه، ثم حاكم القوم إلي أحملك وإياهم
على كتاب الله، فأما تلك التي تريدها فخدعة
الصبي عن اللبن، ولعمري يا معاوية إن نظرت بعقلك..." إلى آخر الكلام. قلت: هذا غير وارد هاهنا، لأن النهي عن المنكر إنما يجب قبل وقوع المنكر، لكيلا يقع، فإذا وقع
المنكر، فأي نهي يكون عنه! وقد نهى علي عليه السلام أهل مصر وغيرهم
عن قتل عثمان قبل قتله مراراً، ونابذهم بيده
ولسانه وبأولاده فلم يغن شيئاً، وتفاقم الأمر حتى قتل، ولا يجب بعد القتل إلا القصاص، فإذا امتنع أولياء الدم
من طاعة الإمام لم يجب عليه أن يقتص من
القاتلين، لأن القصاص حقهم، وقد سقط ببغيهم على الإمام وخروجهم عن طاعته. وقد قلنا نحن
فيما تقدم: إن القصاص إنما يجب على من باشر
القتل، والذين باشروا قتل عثمان قتلوا يوم قتل عثمان في دار عثمان، والذين كان معاوية يطالبهم بدم عثمان لم يباشروا
القتل، وإنما كثروا السواد وحصروا عثمان في الدار،
وأجلبوا عليه وشتموه وتوعدوه، ومنهم من
تسور عليه داره ولم ينزل إليه، ومنهم من نزل
فحضر محضر قتله ولم يشرك فيه، وكل هؤلاء لا يجب عليهم القصاص في الشرع. وذكر الزبير بن بكار في"الموفقيات"
أن علياً عليه السلام لما بعث جريراً إلى
معاوية، خرج وهو لا يرى أحداً قد سبقه إليه، قال:
فقدمت على معاوية فوجدته يخطب الناس وهم حوله يبكون حول
قميص عثمان وهو معلق على رمح مخضوب بالدم، وعليه
أصابع زوجته نائلة بنت الفرافصة مقطوعة، فدفعت إليه كتاب علي عليه السلام، وكان معي في الطريق رجل يسير بسيري،
ويقيم بمقامي، فمثل بين يديه في تلك الحال وأنشده:
وقد ذكرنا تمام هذه الأبيات فيما تقدم.
الأبيات
التي ذكرنا فيما تقدم، قال: فقال لي معاوية: أقم فإن
الناس قد نفروا عند قتل عثمان حتى يسكنوا. فأقمت أربعة أشهر، ثم جاءه كتاب آخر من الوليد بن عقبة، أوله:
قال:
فلما جاءه هذا الكتاب وصل بين طومارين أبيضين، ثم طواهما وكتب عنوانهما. ثم دفع إلى علي عليه السلام كتاباً من معاوية ففتحه فوجد فيه:
وقد ذكرنا هذا الشعر فيما تقدم. ومن كتاب منه عليه السلام إليه أيضاً الأصل:
أما بعد فقد أتتني منك موعظة موصلة، ورسالة محبرة، نمقتها
بضلالك، وأمضيتها بسوء رأيك. وكتاب
امرىء ليس له بصر يهديه، ولا قائد يرشده، قد دعاه الهوى
فأجابه، وقاده الضلال فاتبعه، فهجر لاغطاً، وضل خابطاً. ""من عبد الله معاوية بن أبي سفيان إلى
علي بن أبي طالب، أما بعد، فإن الله تعالى يقول في محكم كتابه:"ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك
ولتكونن من الخاسرين"، وإني أحذرك الله أن
تحبط عملك وسابقتك بشق عصا هذه الأمة وتفريق جماعتها، فاتق الله واذكر موقف
القيامة، وأقلع عما أسرفت فيه من الخوض في دماء المسلمين، وإني سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول:"لوتمالأ
أهل صنعاء وعدن على قتل رجل واحد من المسلمين لأكبهم الله على مناخرهم في
النار"، فكيف يكون حال من قتل أعلام المسلمين
وسادات المهاجرين، بله ما طحنت رحا حربه من أهل القرآن، وذي العبادة والإيمان،
من شيخ كبير، وشاب غرير، كلهم بالله تعالى مؤمن، وله مخلص، وبرسوله مقر عارف! فإن كنت
أبا حسن إنما تحارب على الإمرة والخلافة، فلعمري لو صحت
خلافتك لكنت قريباً من أن تعذر في حرب
المسلمين، ولكنها ما صحت لك، أنى بصحتها وأهل الشام لم يدخلوا فيها، ولم يرتضوا بها! وخف الله وسطواته، واتق بأسه، ونكاله، وأغمد سيفك
عن الناس، فقد والله أكلتهم الحرب، فلم يبق منهم إلا كالثمد في قرارة الغدير. والله المستعان". من عبد الله علي أمير
المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان:"أما
بعد فقد أتتني منك موعظة موصلة، ورسالة محبرة، نمقتها بضلالك، وأمضيتها بسوء
رأيك، وكتاب امرىء ليس له بصر يهديه، ولا قائد يرشده، دعاه الهوى فأجابه، وقاده
الضلال فاتبعه، فهجر لاغطاً، وضل خابطاً، فأما أمرك لي بالتقوى فأرجو أن أكون من
أهلها، وأستعيذ بالله من أن أكون من الذين إذا أمروا بها أخذتهم العزة بالإثم. وأما تحذيرك إياي أن يحبط عملي وسابقتي
في الإسلام، فلعمري لو كنت الباغي عليك، لكان لك أن تحذرني ذلك، ولكني وجدت الله
تعالى يقول:"فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء
إلى أمر الله"، فنظرنا إلى الفئتين، أما الفئة الباغية فوجدناها الفئة التي أنت فيها، لأن بيعتي
بالمدينة لزمتك وأنت بالشام، كما لزمتك بيعة عثمان بالمدينة وأنت أمير لعمر على
الشام، وكما لزمت يزيد أخاك بيعة عمر وهو أمير لأبي بكر على الشام، وأما
شق عصا هذه الأمة، فأنا أحق أن أنهاك عنه، فأما
تخويفك لي من قتل أهل البغي، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني بقتالهم وقتلهم، وقال لأصحابه:"إن فيكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على
تنزيله"، وأشار إلي وأنا أولى من اتبع
أمره. فاربع على
ظلعك، وانزع سربال غيك، واترك ما لا جدوى له عليك، فليس
لك عندي إلا السيف، حتى تفيء إلى أمر الله صاغراً، وتدخل في البيعة راغماً.
والسلام". ولا يستأنف فيها الخيار: ليس بعد عقدها خيار لمن
عقدها ولا لغيرهم، لأنها تلزم غير العاقدين كما تلزم العاقدين، فيسقط الخيار
فيها، الخارج منها طاعن على الأمة، لأنهم اجمعوا على أن الاختيار طريق الإمامة. والمداهن: المنافق. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن
كتاب له إلى جرير بن عبد الله البجلي لما أرسله إلى معاوية
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
أما بعد، فإذا أتاك كتابي فاحمل معاوية على الفصل، وخذه بالأمر الجزم، ثم خيره
بين حرب مجلية، أوسلم مخزية، فإن اختار الحرب فانبذ إليه، وإن اختار السلم فخذ
بيعته. والسلام. وسلم مخزية،
أي فاضحة، وإنما جعلها مخزية لأن معاوية امتنع أولاً من البيعة، فإذا دخل في
السلم فإنما يدخل فيها بالبيعة، وإذا بايع بعد الامتناع، فقد دخل تحت الهضم ورضي
بالضيم، وذلك هو الخزي. ومن كتاب له عليه
السلام إلى معاوية الأصل:
فأراد قومنا قتل نبينا، واجتياح أصلنا، وهموا بنا الهموم، وفعلوا بنا الأفاعيل،
ومنعونا العذب، وأحلسونا الخوف، واضطرونا إلى جبل وعر، وأوقدوا لنا نار الحرب. والحلس:
كساء رقيق يكون تحت برذعة البعير. وأحلاس
البيوت: ما يبسط تحت حر الثياب، وفي الحديث:"كن حلس بيتك"، أي لا تخالط الناس واعتزل عنهم، فلما كان الحلس ملازماً ظهر البعير،
وأحلاس البيوت ملازمة لها، قال:"وأحلسونا الخوف"، أي جعلوه لنا كالحلس
الملازم. قوله:"خلو
مما نحن فيه"، أي خال. والحلف: العهد. والله يعلم كل
شيء قبل وجوده، وإنما معناه: حتى نعلم جهادهم
موجوداً، وليست هذه الكلمة من الآية بسبيل لتجعل
مثالاً لها، ولكن الراوندي يتكلم بكل ما يخطر له من
غير أن يميز ما يقول!. والضمير
في"أره" ضمير الشأن والقصة، و"أره" من الرأي لا من الرؤية، كقولك: لم أر الرأي الفلاني. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قريش وبنو هاشم
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
فأما
الكلام في الفصل الأول فنذكر منه ما ذكره محمد بن إسحاق بن يسار في كتاب"السيرة" والمغازي، فإنه كتاب معتمد عند أصحاب الحديث والمؤرخين، ومصنفه شيخ الناس
كلهم. فقال:"أي
عم، هذا دين الله ودين ملائكته ورسله، ودين أبينا إبراهيم- أو كما قال عليه السلام - بعثني الله به رسولاً إلى
العباد، وأنت أي عم أحق من بذلت له النصيحة، ودعوته إلى الهدى، وأحق من أجابني إليه، وأعانني
عليه". أو كما قال. فقال أبو طالب: إني لا أستطيع يا
ابن أخي أن أفارق ديني ودين آبائي وما كانوا عليه، ولكن والله لا يخلص إليك شيء
تكرهه ما بقيت. فزعموا أنه قال لعلي: أي بني، ما هذا الذي تصنع؟ قال: يا
أبتاه، آمنت بالله ورسوله وصدقته فيما جاء به، وصفيت إليه، واتبعت قول نبيه، فزعموا أنه قال له: أما إنه لا يدعوك- أو لن يدعوك-
إلا إلى خير، فالزمه. قال: فلما رأت قريش محاماة أبي طالب عنه وقيامه
دونه، وامتناعه من أن يسلمه،
مشى إليه رجال من أشراف قريش، منهم عتبة بن ربيعة، وشيبة أخوه، وأبو سفيان بن
حرب، وأبو البختري بن هشام، والأسود بن المطلب، والوليد بن المغيرة، وأبو جهل
عمرو بن هشام، والعاص بن وائل، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج، وأمثالهم من رؤساء قريش. فقالوا: يا أبا طالب، إن ابن أخيك قد سب آلهتنا، وعاب ديننا،
وسفه أحلامنا، وضلل آراءنا، فإما أن تكفه عنا، وإما أن تخلن بيننا وبينه. فقال لهم أبو طالب قولاً رفيقاً، وردهم رداً جميلاً، فانصرفوا
عنه، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على
ما هو عليه، يظهر دين الله، ويدعو إليه، ثم شرق الأمر بينه وبينهم، تباعداً
وتضاغناً، حتى أكثرت قريش ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بينها، وتذامروا فيه، وحض بعضهم بعضاً عليه، فمشوا إلى أبي طالب مرةً ثانية، فقالوا: يا أبا طالب، إن لك سناً وشرفاً ومنزلة فينا، وإنا قد استنهيناك من ابن
أخيك فلم تنهه عنا، وإنا والله لا نصبر على شتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وعيب
آلهتنا، فإما أن تكفه عنا أو ننازله وإياك حتى يهلك أحد الفريقين. ثم انصرفوا،
فعظم على أبي طالب فراق قومه وعداوتهم، ولم تطب نفسه بإسلام ابن أخيه لهم
وخذلانه، فبعث إليه ققال: يا بن أخي، إن قومك قد
جاؤوني، فقالوا لي كذا وكذا- للذي قالوا- فأبق علي وعلى نفسك، ولا تحملني من
الأمر ما لا أطيقه. قال: فظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد بدا لعمه فيه بداء، وأنه خاذله ومسلمه،
وأنه قد ضعف عن نصرته والقيام دونه، فقال: يا عم، والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على
أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك. ثم استعبر باكياً
وقام، فلما ولى ناداه أبو طالب: أقبل يا بن أخي،
فأقبل راجعاً، فقال له: اذهب يا بن أخي فقل ما أحببت،
فوالله لا أسلمك لشيء أبداً.
قال محمد بن إسحاق:
ثم إن قريشاً حين عرفت أن أبا طالب قد أبى خذلان رسول الله صلى الله عليه وسلم وإسلامه إليهم ورأوا إجماعه على مفارقتهم
وعداوتهم، مشوا إليه بعمارة بن الوليد بن المغيرة
المخزومي- وكان أجمل فتىً في قريش- فقالوا له: يا أبا طالب، هذا عمارة بن
الوليد، أبهى فتىً في قريش وأجمله، فخذه إليك، فاتخذه ولداً فهو لك، وأسلم لنا
هذا ابن أخيك الذي قد خالف دينك ودين آبائك، وفرق جماعة قومك لنقتله، فإنما هو
رجل برجل. فقال أبو طالب: والله ما أنصفتموني! تعطوني ابنكم أغذوه لكم، وأعطيكم ابني تقتلونه! هذا والله ما
لا يكون أبداً. فقال له المطعم بن عدي بن نوفل-
وكان له صديقاً مصافياً- والله يا أبا طالب ما أراك تريد أن تقبل من قومك شيئاً!
لعمري قد جهدوا في التخلص مما تكره وأراك لا تنصفهم! فقال
أبو طالب: والله ما أنصفوني ولا أنصفتني، ولكنك قد أجمعت على خذلاني
ومظاهرة القوم علي! فاصنع ما بدا لك! قال: فعند
ذلك تنابذ القوم وصارت الأحقاد، ونادى بعضهم بعضاً، وتذامروا بينهم على من في
القبائل من المسلمين الذين اتبعوا محمداً صلى الله عليه وسلم. فوثبت كل قبيلة على من فيها منهم، يعذلونهم
ويفتنونهم عن دينهم، ومنع الله رسوله منهم بعمه أبي طالب، وقام في بني هاشم وبني
عبد المطلب حين رأى قريشاً تصنع ما تصنع، فدعاهم إلى ما هو عليه من منع رسول
الله صلى الله عليه وسلم، والقيام دونه، فاجتمعوا إليه، وقاموا
معه، وأجابوه إلى ما دعاهم إليه من الدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ما كان من أبي لهب، فإنه لم يجتمع معهم على ذلك، فكان
أبو طالب يرسل إليه الأشعار، ويناشده النصر، منها القطعة التي أولها:
ومنها
القطعة التي أولها:
ومنها
القطعة التي أولها:
قال محمد بن إسحاق: فلم يؤثر عن أبي لهب خير قط إلا ما يروى أن أبا سلمة بن عبد
الأسد المخزومي، لما وثب عليه قومه ليعذبوه ويفتنوه عن الإسلام هرب منهم،
فاستجار بأبي طالب، وأم أبي طالب مخزومية، وهي أم عبد الله والد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجاره، فمشى إليه رجال من بني مخزوم، وقالوا له: يا أبا طالب، هبك منعت منا ابن أخيك
محمداً، فما لك ولصاحبنا تمنعه منا! قال: إنه استجار بي وهو ابن أختي، وإن أنا
لم أمنع ابن أختي لم أمنع ابن أخي، فارتفعت أصواتهم وأصواته، فقام أبو لهب ولم ينصر أبا طالب قبلها ولا بعدها، فقال:
يا معشر قريش، والله لقد أكثرتم على هذا الشيخ، لا تزالون تتوثبون عليه في جواره
من بين قومه! أما والله لتنتهن عنه أو لنقومن معه فيما قام فيه حتى يبلغ ما
أراد. فقالوا: بل ننصرف عما تكره يا أبا عتبة. فقاموا فانصرفوا، وكان ولياً لهم
ومعيناً على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي طالب، فاتقوه وخافوا أن تحمله الحمية على الإسلام، فطمع فيه أبو طالب حيث سمعه قال ما قال، وأمل أن يقوم معه في
نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال يحرضه على ذلك:
وقال
يخاطب أبا لهب أيضاً:
قال محمد بن إسحاق:
فلما طال البلاء على المسلمين والفتنة والعذاب، وارتد
كثير عن الدين باللسان لا بالقلب، كانوا إذا عذبوهم يقولون: نشهد أن هذا
الله. وأن اللات والعزى هي الآلهة، فإذا خلوا عنهم عادوا إلى الإسلام، فحبسوهم
وأوثقوهم بالقد، وجعلوهم في حر الشمس على الصخر والصفا، وامتدت أيام الشقاء
عليهم ولم يصلوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم لقيام أبي طالب دونه، فأجمعت قريش على أن يكتبوا بينهم وبين بني هاشم صحيفة
يتعاقدون فيها ألا يناكحوهم ولا يبايعوهم، ولا يجالسوهم، فكتبوها وعلقوها
في جوف الكعبة تأكيداً على أنفسهم، وكان كاتبها منصور بن عكرمة بن هاشم بن عبد
مناف بن عبد الدار بن قصي. فلما فعلوا ذلك انحازت هاشم والمطلب، فدخلوا كلهم مع
أبي طالب في الشعب، فاجتمعوا إليه، وخرج منهم أبو لهب إلى قريش فظاهرها على
قومه. والله
لا تبرح أنت وطعامك حتى أفضحك بمكة! فجاءه أبو البختري
العاص بن هشام بن الحارث بن أسد بن عبد العزى، فقال: ما لك وله! قال: إنه
يحمل الطعام إلى بني هاشم، فقال أبو البختري: يا
هذا، إن طعاماً كان لعمته عنده بعثت إليه فيه، أفتمنعه أن يأتيها بطعامها! خل
سبيل الرجل، فأبى أبو جهل حتى نال كل منهما من صاحبه،
فأخذ له أبو البختري قي بعير ففر به به فشجه ووطئه وطأً
شديداً. فانصرف وهو يكره أن يعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وبنو هاشم بذلك،
فيشمتوا، فلما أراد الله تعالى من إبطال الصحيفة، والفرج عن بني هاشم من الضيق
والأزل الذي كانوا فيه، قام هشام بن عمرو بن الحارث
بن حبيب بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي في ذلك
أحسن قيام، وذلك أن أباه عمرو بن الحارث كان أخاً لنضلة بن هاشم بن عبد مناف بن قصي من أمه، فكان هشام بن عمرو
يحسب لذلك واصلاً ببني هاشم، وكان ذا شرف في قومه بني عامر بن لؤي، فكان
يأتي بالبعير ليلاً وقد أوقره طعاماً، وبنو هاشم وبنو المطلب في الشعب، حتى إذا
أقبل به فم الشعب فمنع بخطامه من رأسه، ثم يضربه على جنبه، فيدخل الشعب عليهم ثم
يأتي به مرة أخرى، وقد أوقره تمراً، فيصنع به مثل ذلك. ثم إنه مشى إلى زهير بن أبي أمية بن المغيرة المخزومي، فقال: يا زهير، أرضيت أن تأكل الطعام وتشرب
الشراب وتلبس الثياب، وتنكح النساء، وأخوالك حيث قد علمت لا يبتاعون ولا يبتاع
منهم، ولا ينكحون ولا ينكح إليهم، ولا يواصلون ولا يزارون! أما إني أحلف لو كان
أخوال أبي الحكم بن هشام ودعوته إلى مثل ما دعاك إليه منهم ما أجابك أبداً قال: ويحك يا هشام! فماذا أصنع! إنما أنا رجل واحد، والله لو
كان معي رجل آخر لقمت في نقض هذه الصحيفة القاطعة. قال:
قد وجدت رجلاً، قال: من هو؟ قال: أنا، قال زهير: ابغنا ثالثاً، فذهب إلى المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف، فقال له: يا
مطعم، أرضيت أن يهلك بطنان من عبد مناف جوعاً وجهداً وأنت شاهد على ذلك موافق
لقريش فيه! أما والله لئن أمكنتموهم من هذا لتجدن قريشاً إلى مساءتكم في
غيره سريعة. قال: ويحك! ماذا أصنع! إنما أنا رجل واحد، قال
قد وجدت ثانياً، قال: من هو؟ قال: أنا، قال: ابغني
ثالثا، قال: قد وجدت، قال: من هو؟ قال: زهير بن أمية، قال: ابغنا رابعاً، فذهب إلى أبي
البختري بن هشام، فقال له نحو ما قال للمطعم، قال: وهل من أحد يعين على
هذا؟ قال: نعم وذكرهم، قال: فابغنا خامساً، فمضى
إلى زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى
فكلمه، فقال: وهل يعين على ذلك من أحد؟ قال: نعم، ثم سمى له القوم، فاتعدوا خطم الحجون ليلاً بأعلى مكة، فأجمعوا أمرهم، وتعاقدوا
على القيام في الصحيفة حتى ينقضوها. وقال
زهير: أنا أبدؤكم وأكون أولكم يتكلم، فلما أصبحوا غدوا
إلى أنديتهم، وغدا زهير بن أبي أمية، عليه
حلة له. فطاف بالبيت سبعاً، ثم أقبل على الناس، فقال: يا أهل مكة، أنأكل الطعام،
ونشرب الشراب، ونلبس الثياب وبنو هاشم هلكى!
والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة! وكان
أبو جهل في ناحية المسجد، فقال: كذبت والله لا تشق! فقال زمعة بن الأسود
لأبي جهل: والله أنت أكذب، ما رضينا والله بها حين كتبت. فقال أبو البختري معه: صدق والله زمعة، لا نرضى بها
ولا نقر بما كتب فيها! فقال المطعم بن عدي: صدقا
والله، وكذب من قال غير ذلك، نبرأ إلى الله منها ومما كتب فيها. وقال هشام بن عمرو مثل قولهم، فقال أبو جهل: هذا أمر قضي بليل، وقام مطعم
بن عدي إلى الصحيفة فحطها وشقها، فوجد الأرضة قد
أكلتها، إلا ما كان من"باسمك اللهم" قالوا: وأما كاتبها منصور بن عكرمة فشلت يده فيما يذكرون. فلما مزقت الصحيفة خرج
بنو هاشم من حصار الشعب.
ومن
ذلك قوله:
وروى عبد الله بن مسعود، قال: لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قتلى بدر، وأمر
بطرحهم في القليب، جعل يتذكر من شعر أبي طالب بيتاً فلا يحضره، فقال له أبو بكر: لعله قوله يا رسول الله:
فسر
بظفره بالبيت، وقال: إي لعمر الله، لقد التبست، ومن شعر أبي طالب قوله:
قلت:
كان صديقنا علي بن يحيى البطريق رحمه الله، يقول:
لولا خاصة النبوة وسرها لما كان مثل أبي طالب- وهو شيخ قريش ورئيسها وذو شرفها، يمدح ابن أخيه محمداً، وهو شاب قد ربي في حجره وهو يتيمه
ومكفوله، وجار مجرى أولاده بمثل قوله:
ومثل
قوله:
فإن
هذا الأسلوب من الشعر لا يمدح به التابع والذنابى من الناس، وإنما هو من مديح
الملوك والعظماء، فإذا تصورت أنه شعر أبي طالب، ذاك الشيخ المبجل العظيم في محمد
صلى الله عليه وسلم، وهو شاب مستجير به، معتصم بظله من قريش، قد رباه في حجره
غلاماً، وعلى عاتقه طفلاً، وبين يديه شاباً، يأكل من زاده، ويأوي إلى داره، علمت
موضع خاصية النبوة وسرها، وأن أمره كان عظيماً، وأن الله تعالى أوقع في القلوب
والأنفس له منزلة رفيعة ومكاناً جليلاً.
فأجاب
علي عليه السلام، فقال له:
الفصل الثاني:
في تفسير قوله عليه السلام"مؤمننا يبغي بذلك الأجر، وكافرنا يحامي عن
الأصل، ومن أسلم من قريش خلو مما نحن فيه لحلف يمنعه، أو عشيرة تقوم دونه فهم من
القتل بمكان آمن"، فنقول: إن بني هاشم لما حصروا في الشعب بعد أن منعوا
رسول الله صلى الله عليه وسلم من قريش، كانوا صنفين:
مسلمين وكفاراً، فكان علي عليه السلام وحمزة بن عبد
المطلب ملسمين.
واختلف الناس في إيمان أبي طالب، فقالت الإمامية وأكثر
الزيدية: ما مات إلا مسلماً. قالوا:
وأما ما ذكر في القرآن من إبراهيم وأبيه آزر، وكونه كان ضالاً مشركاً، فلا يقدح في مذهبنا، لأن آزر كان عم إبراهيم، فأما
أبوه فتارخ بن ناحور، وسمي العم أباً، كما قال:"أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما
تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك"، ثم عد فيهم إسماعيل وليس من
آبائه، ولكنه عمه. وروي أن أبا بكر
جاء بأبي قحافة إلى النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح يقوده، وهو شيخ كبير أعمى، فقال رسول الله: ألا تركت الشيخ حتى نأتيه! فقال: أردت
يا رسول الله أن يأجره الله! أما والذي بعثك بالحق لأنا كنت أشد فرحاً بإسلام عمك
أبي طالب مني بإسلام أبي، ألتمس بذلك قرة عينك، فقال:
صدقت. قالوا: وخطبة النكاح مشهورة، خطبها أبو طالب عند نكاح محمد صلى الله عليه وسلم خديجة، وهي قوله:"الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم
وزرع إسماعيل، وجعل لنا بلداً حراماً وبيتاً محجوجاً، وجعلنا الحكام على الناس. ثم
إن محمد بن عبد الله أخي من لا يوازن به فتى من قريش إلا رجح عليه براً وفضلاً،
وحزماً وعقلاً، ورأياً ونبلاً، وإن كان في المال قل فإنما المال ظل زائل، وعارية
مسترجعة، وله في خديجة بنت خويلد رغبة، ولها فيه مثل ذلك، وما أحببتم من الصداق
فعلي، وله والله بعد نبأ شائع وخطب جليل". والخبر مشهور أن أبا طالب
عند الموت قال كلاماً خفياً، فأصغى إليه أخوه العباس، ثم رفع رأسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا بن أخي، والله لقد
قالها عمك، ولكنه ضعف عن أن يبلغك صوته. وروي عن علي عليه
السلام أنه قال: ما مات أبوطالب حتى أعطى رسول الله صلى الله
عليه وسلم من نفسه الرضاء قالوا: وأشعار أبي طالب تدل
على أنه كان مسلماً، ولا فرق بين الكلام المنظوم والمنثور إذا تضمنا
إقراراً بالإسلام، ألا ترى أن يهودياً لو توسط جماعة من المسلمين، وأنشد شعراً
قد ارتجله ونظمه يتضمن الإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، لكنا نحكم بإسلامه
كما لو قال: أشهد أن محمداً رسول الله! فمن تلك الأشعار قوله:
ومن
شعر أبي طالب في أمر الصحيفة التي كتبتها قريش في قطيعة بني هاشم:
ومن
ذلك قوله:
ومن
ذلك قوله: وقد غضب لعثمان بن مظعون الجمحي، حين عذبته قريش ونالت منه:
قالوا:
وقد جاء في الخبر أن أبا جهل بن هشام جاء مرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
وهو ساجد وبيده حجر يريد أن يرضخ به رأسه، فلصق الحجر بكفه فلم يستطع ما أراد،
فقال أبو طالب في ذلك من جملة أبيات:
ومنها:
قالوا:
وقد اشتهر عن عبد الله المأمون رحمه الله أنه كان يقول: أسلم أبو طالب والله
بقوله:
قالوا:
وقد جاء في السيرة، وذكره أكثر المؤرخين، أن عمرو بن العاص لما خرج إلى بلاد
الحبشة ليكيد جعفر بن أبي طالب وأصحابه عند النجاشي، قال:
قالوا:
فكان عمرو يسمى الشانىء ابن الشانىء، لأن أباه كان إذا مر عليه رسول الله صلى
الله عليه وسلم بمكة يقول له: والله إني لأشنؤك، وفيه أنزل:"إن شانئك هو
الأبتر". قالوا: فكتب أبو طالب إلى النجاشي شعراً يحرضه فيه على إكرام جعفر
وأصحابه والإعراض عما يقوله عمرو فيه وفيهم، من جملته:
في
أبيات كثيرة.
ومن
شعره المناسب لهذا المعنى قوله:
قالوا:
وقد جاءت الرواية أن أبا طالب لما مات جاء علي عليه السلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فآذنه بموته، فتوجع عظيماً وحزن
شديداً، ثم قال له: امض فتول غسله، فإذا رفعته على سريره فأعلمني، ففعل، فاعترضه
رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محمول على رؤوس الرجال، فقال: وصلتك رحم يا عم، وجزيت
خيراً! فلقد ربيت وكفلت صغيراً، ونصرت وآزرت كبيراً، ثم تبعه الى حفرته، فوقف
عليه، فقال: أما والله لأستغفرن لك ولأشفعن فيك شفاعة
يعجب لها الثقلان.
قالوا:
ومن شعره المشهور:
قالوا:
ومن شعره المشهور أيضاً قوله يخاطب محمدا، ويسكن جأشه، ويأمره بإطهار الدعوة:
ومن
ذلك قوله، ويقال إنها لطالب بن أبي طالب:
ومن
ذلك قوله:
وقوله
أيضاً، وقد يروى لعلي عليه السلام:
قالوا:
فكل هذه الأشعار قد جاءت مجيء التواتر، لأنه إن لم تكن آحادها متواترة، فمجموعها
يدل على أمر واحد مشترك، وهو تصديق محمد صلى الله عليه وسلم، ومجموعها متواتر،
كما أن كل واحدة من قتلات علي عليه السلام الفرسان منقولة آحاداً، ومجموعها
متواتر، يفيدنا العلم الضروري بشجاعته، وكذلك القول فيما روي من سخاء حاتم، وحلم
الأحنف ومعاوية، وذكاء إياس وخلاعة أبي نواس، وغير ذلك، قالوا: واتركوا هذا كله جانباً، ما قولكم في القصيدة اللامية التي شهرتها
كشهرة"قفا نبك" وإن جاز الشك فيها أو في شيء من أبياتها، جاز الشك
في"قفا نبك" وفي بعض أبياتها، ونحن نذكر منها هاهنا قطعة وهي قوله:
وورد في السيرة والمغازي أن عتبة بن ربيعة أو شيبة لما قطع رجل عبيدة بن الحارث بن
المطلب يوم بدر أشبل عليه علي وحمزة فاستنقذاه منه
وخبطا عتبة بسيفيهما حتى قتلاه، واحتملا صاحبهما من المعركة إلى العريش،
فألقياه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن مخ ساقه ليسيل، فقال: يا رسول الله، لو كان أبو طالب حياً لعلم أنه قد
صدق في قوله:
فقالوا:
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم استغفر له ولأبي طالب
يومئذ، وبلغ عبيدة مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى الصفراء فمات فدفن
بها.
فقام النبي صلى الله عليه وسلم يجر رداءه، حتى صعد المنبر، فحمد
الله وأثنى عليه، وقال:"اللهم
اسقنا غيثاً مغيثاً، مريئاً هنيئاً، مريعاً سحاً سجالاً، غدقاً طبقاً قاطباً
دائماً، دراً تحيي به الأرض، وتنبت به الزرع، وتدر به الضرع، واجعله سقياً
نافعاً عاجلاً غير رائث". فوالله،
ما رد رسول الله صلى الله عليه وسلم يده إلى نحره حتى ألقت السماء أرواقها، وجاء
الناس يضجون: الغرق الغرق يا رسول الله! فقال:
اللهم حوالينا ولا علينا، فانجاب السحاب عن المدينة حتى استدار حولها كالإكليل. فضحك رسول الله حتى بدت نواجذه، ثم قال: لله در أبي طالب! لوكان حياً لقرت
عينه. من ينشدنا قوله؟ فقام علي فقال: يا رسول الله، لعلك أردت:
قال:
أجل، فأنشده أبياتاً من هذه القصيدة، ورسول الله يستغفر لأبي طالب على المنبر، ثم قام رجل من كنانة فأنشده:
فقال رسول الله: إن يكن شاعر أحسن فقد أحسنت.
فوفيته
حقه من التعظيم والإجلال، ولم أجزم بأمر عندي فيه وقفة. في غزوة بدر الفصل الثالث: في شرح القصة في غزاة بدر،
ونحن نذكر ذلك من كتاب"المغازي"، لمحمد بن عمر الواقدي، ونذكر ما عساه
زاده محمد بن إسحاق في كتاب"المغازي"، وما زاده أحمد بن يحيى بن جابر
البلاذري في"تاريخ الأشراف". فيقول:
أعوذ بالله، وأنى لمحمد عيون بالنخبار! فلما راحت العير باتا حتى أصبحا ثم خرجا،
وخرج معهما كشد خفيراً، حتى أوردهما المروة، وساحلت العير فأسرعت، وسار بها
أصحابها ليلاً ونهاراً، فرقاً من الطلب، وقدم طلحة وسعيد المدينة في اليوم الذي
لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً ببدر، فخرجا يعترضان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقياه بتربان- وتربان بين ملل
والسالة على المحجة، وكانت منزل عروة بن أذينة الشاعر- وقدم كشد بعد ذلك على
النبي صلى الله عليه وسلم، وقد
أخبر طلحة وسعيد رسول الله صلى الله عليه وسلم بما
صنع بهما، فحباه وأكرمه، وقال: ألا أقطع لك ينبع ؟ قال: إني كبير، وقد نفد عمري
ولكن أقطعها لابن أخي، فأقطعها له. قالوا: وندس
رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين،
وقال: هذه عير قريش، فيها أموالهم: لعل الله أن
يغنمكموها. فأسرع من أسرع، حتى إن كان الرجل ليساهم أباه في الخروج، فكان
ممن ساهم أباه سعد بن خيثمة، فقال سعد لأبيه: إنه لو كان غير الجنة آثرتك به،
إني لأرجو الشهادة في وجهي هذا، فقال خيثمة: آثرني وقر مع نسائك، فأبى سعد، فقال
خيثمة: إنه لا بد لأحدنا من أن يقيم، فاستهما، فخرج سهم سعد، فقتل ببدر. وأبطأ
عن النبي صلى الله عليه وسلم بشر كثير من أصحابه، وكرهوا خروجه، وكان في ذلك كلام كثير واختلاف، وبعضهم تخلف من أهل النيات
والبصائر، لم يظنوا أنه يكون قتال، إنما هو الخروج للغنيمة، ولو ظنوا أنه يكون
قتال لما تخلفوا، منهم أسيد بن حضير، فلما
قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال أسيد: الحمد لله الذي سرك وأظهرك على عدوك، والذي بعثك بالحق ما
تخلفت عنك رغبة بنفسي عن نفسك، ولا ظننت أنك تلاقي عدواً، ولا ظننت إلا أنها
العير! فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدقت. قال: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى انتهى
إلى المكان المعروف بالبقع وهي بيوت السقيا، وهي متصلة ببيوت المدينة، فضرب
عسكره هناك، وعرض المقاتلة، فعرض عبد الله بن عمر، وأسامة بن زيد، ورافع بن
خديج، والبراء بن عازب، وأسيد بن ظهير، وزيد بن أرقم، وزيد بن ثابت، فردهم ولم
يجزهم. قال: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد
غير اسمه، وسماه السقيا. قال: فكانت في نفسي أن أشتريها، حتى اشتراها سعد بن
أبي وقاص ببكرين، ويقال بسبع أواق، فذكر للنبي صلى
الله عليه وسلم أن سعداً
اشتراها، فقال: ربح البيع! قال الواقدي:
فراح رسول الله صلى الله عليه وسلم من
بيوت السقيا، لاثنتي عشرة ليلة مضت من رمضان، وخرج المسلمون معه ثلاثمائة وخمسة،
وتخلف ثمانية، ضرب لهم بسهامهم وأجورهم، فكانت الإبل سبعين بعيراً، وكانوا
يتعاقبون الإبل: الاثنين، والثلاثة، والأربعة، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي
بن أبي طالب عليه السلام ومرثد
بن أبي مرثد- ويقال زيد بن حارثة مكان مرثد- يتعاقبون بعيراً واحداً، وكان حمزة
بن عبد المطلب، وزيد بن حارثة وأبو كبشة وأنسة، موالي النبي صلى الله عليه وسلم على
بعير، وكان عبيدة بن الحارث والطفيل والحصين ابنا الحارث، ومسطح بن أثاثة على
بعير لعبيدة بن الحارث ناضح ابتاعه من أبي داود المازني، وكان معاذ وعوف ومعوذ
بنو عفراء ومولاهم أبو الحمراء على بعير، وكان أبي بن كعب وعمارة بن حزام وحارثة
بن النعمان على بعير، وكان خراش بن الصمة وقطبة بن عامر بن حديدة وعبد الله بن
عمرو بن حزام على بعير، وكان عتبة بن غزوان وطليب بن عمير على جمل لعتبة بن
غزوان يقال له العبس، وكان مصعب بن عمير وسويبط بن حرملة ومسعود بن ربيع على جمل
لمصعب، وكان عمار بن ياسر وعبد الله بن مسعود على بعير، وكان عبد الله بن كعب
وأبو داود المازني وسليط بن قيس على جمل لعبد الله بن كعب، وكان عثمان بن عفان
وقدامة بن مظعون وعبد الله بن مظعون والسائب بن عثمان على بعير يتعاقبون، وكان
أبو بكر وعمر وعبد الرحمن بن عوف على بعير، وكان سعد بن معاذ وأخوه وابن أخيه
الحارث بن أوس والحارث بن أنس على جمل لسعد بن معاذ ناضح يقال له الذيال، وكان
سعيد بن زيد، وسلمة بن سلامة بن وقش وعباد بن بشر ورافع بن يزيد على ناضح لسعيد
بن زيد، ما تزودوا إلا صاعاً من تمر. قال الواقدي:
فكان سعد بن أبي وقاص، يقول: لما كنا بتربان، قال لي رسول الله صلى
الله عليه وسلم:
يا
سعد، انظر إلى الظبي، فأفوق له بسهم، وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضع
رأسه بين منكبي وأذني، ثم قال: اللهم سدد رميته- قال: فما أخطأ سهمي عن نحره،
فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرجت أعدو
فأخذته وبه رمق فذكيته، فحملناه حتى نزلنا قريباً، وأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقسم بين
أصحابه. قال الواقدي:
وكان عمرو بن العاص يحدث بعد ذلك فيقول: لقد رأيت كل هذا، ولقد رأيت في دارنا فلقة
من الصخرة التي انفلقت من أبي قبيس، ولقد كان ذلك عبرة، ولكن الله لم يرد أن
نسلم يومئذ، لكنه أخر إسلامنا إلى ما أراد. قلت: كان بعض أصحابنا يقول: لم يكف عمراً أن يقول:
رأيت الصخرة في دور مكة عياناً، فيخرج ذلك مخرج الاستهزاء باطناً على وجه النفاق
واستخفافه بعقول المسلمين زعم، حتى يضيف إلى ذلك القول بالخبر الصراح فيقول: إن الله تعالى لم يكن أراد منه الإسلام يومئذ. قال: فقال العباس: إن هذه لرؤيا، فخرج مغتماً، حتى لقي
الوليد بن عتبة بن ربيعة- وكان له صديقاً- فذكرها لى واستكتمه، ففشا الحديث في
الناس، قال العباس: فغدوت أطوف بالبيت، وأبو جهل في رهط من قريش يتحدثون برؤيا
عاتكة، فقال أبو جهل: ما رأت عاتكة هذه؟ فقلت: وما ذاك؟ فقال:
يا بني عبد المطلب، أما رضيتم بأن تتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم! زعمت عاتكة
أنها رأت في المنام كذا وكذا للذي رأت- فسنتربص بكم ثلاثاً، فإن يكن ما قالت
حقاً فسيكون، وإن مضت الثلاث ولم يكن، نكتب عليكم أنكم أكذب أهل بيت في العرب! فقال له العباس: يا مصفر أسته، أنت أولى بالكذب
واللؤم منا! فقال أبو جهل:
إنا استبقنا المجد وأنتم، فقلتم: فينا
السقاية، فقلنا: لا نبالي،"سقون الحجاج، ثم
قلتم: فينا الحجابة، فقلنا: لا نبالي
تحجبون البيت، ثم قلتم: فينا الندوة، قلنا: لا نبالي يكون الطعام فتطعمون الناس. ثم قلتم: فينا
الرفادة، فقلنا: لا نبالي، تجمعون عندكم ما
ترفدون به الضعيف، فلما أطعمنا الناس وأطعمتم، وازدحمت الركب واستبقنا المجد،
فكنا كفرسي رهان، قلتم: منا نبي، ثم قلتم: منا نبية! فلا واللات والعزى لا كان هذا
أبداً! قلت: لا أرى كلام
أبي جهل منتظماً، لأنه إذا سلم للعباس أن هذه الخصال كلها فيهم، وهي الخصال التي
تشرف بها القبائل بعضها على بعض، فكيف يقول:
لا نبالي لا نبالي! وكيف يقول: فلما أطعمنا للناس وأطعمتم، وقد كان الكلام
منتظماً، لو قال: ولنا بإزاء هذه المفاخر
كذا وكذا، ثم يقول بعد ذلك: استبقنا المجد فكنا
كفرسي رهان، وازدحمت الركب، ولم يقل شيئاً ولا عد مآثره، ولعل أبا جهل قد قال ما لم ينقل. قال العباس:
وغدوت في اليوم الثالث، وأنا حديد مغضب، أرى أن قد فاتني منه أمراً أحب أن
أدركه، وأذكر ما أحفظني به النساء من مقالتهن، فوالله إني لأمشي نحوه- وكان
رجلاً خفيفاً حديد الوجه حديد اللسان حديد النظر - إذ خرج نحو باب بني سهم يشتد،
فقلت: ما باله لعنه الله! أكل هذا فرقاً من
أن أشاتمه! فإذا هو قد سمع صوت ضمضم بن عمرو وهو
يقول: يا معشر قريش، يا آل لؤي بن غالب، اللطيمة قد عرض لها محمد في أصحابه!
الغوث الغوث! والله ما أرى أن تدركوها، وضمضم ينادي بذلك في بطن الوادي،
وقد جدع أذني بعيره وشق قميصه قبلاً ودبراً، وحول رحله، وكان يقول: لقد رأيتني قبل أن أدخل مكة وإني لأرى في النوم وأنا
على راحلتي كأن وادي مكة يسيل من أسفله إلى أعلاه دماً، فاستيقظت فزعاً مذعوراً،
فكرهتها لقريش، ووقع في نفسي أنها مصيبة في أنفسهم. قال الواقدي:
فجهز الناس وشغل بعضهم عن بعض، وكان الناس بين
رجلين: إما خارج وإما باعث مكانه رجلاً، وأشفقت قريش لرؤيا عاتكة، وسر
بنو هاشم. وقام زمعة بن الأسود، فقال:
إنه واللات والعزى ما نزل بكم أمر أعظم من أن طمع محمد وأهل يثرب أن يعرضوا
لعيركم فيها خزائنكم، فأوعبوا ولا يتخلف منكم أحد، ومن كان لا قوة له فهذه قوة،
والله لئن أصابها محمد وأصحابه لا يروعكم منهم إلا وقد دخلوا عليكم بيوتكم. وقال طعيمة بن عدي: يا معشر قريش، والله ما نزل
بكم أمر أجل من هذه! أن يستباح عيركم، ولطيمة قريش فيها أموالكم وخزائنكم، والله
ما أعرف رجلاً ولا امرأة من بني عبد مناف له نش فصاعداً، إلا وهو في هذه العير،
فمن كان لا قوة به فعندنا قوة نحمله ونقويه. فحمل على عشرين بعيراً وقوى بهم،
وخلفهم في أهلهم بمعونة. وقام حنظلة بن أبي سفيان وعمرو بن أبي سفيان فحضا الناس
على الخروج، ولم يدعوا إلى قوة ولا حملان، فقيل لهما: ألا تدعوان إلى ما
دعا إليه لومكما من الحملان؟ قالا: والله ما لنا مال، وما المال إلا لأبي سفيان.
ومشى نوفل بن معاوية الديلمي إلى أهل
القوة من قريش، وكلمهم في
بذل النفقة والحملان لمن خرج، فكلم عبد الله
بن أبي ربيعة، فقال: هذه خمسمائة دينار تضعها حيث رأيت، وكلم حويطب بن عبد العزى، فأخذ منه مائتي دينار أو
ثلاثمائة، ثم قوى بها في السلاح والظهر. وخاف أبو جهل أن يسلم أبو لهب، فسكت أبو لهب ولم
يخرج ولم يبعث، وما منع أبا لهب أن يخرج إلا الإشفاق من رؤيا عاتكة، كان يقول: إنما رؤيا عاتكة أخذ باليد، ويقال إنه
بعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة وكان له عليه دين، فقال: اخرج وديني عليك
لك، فخرج عنه. وقال الآخر: أما وجد الله أحداً أرسله غيرك! وقال الثالث: والله
لا أكلمك كلمة أبداً، لئن كنت رسولاً من الله كما تقول، لأنت أعظم خطراً من أن
أرد عليك الكلام، ولئن كنت كاذباً على الله ما ينبغي أن أكلمك. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندهم، وقد يئس من
خير ثقيف، واجتمع عليه صبيانهم وسفهاؤهم، وصاحوا به وسبوه وطردوه، حتى
اجتمع عليه الناس يعجبون منه، والجأوه بالحجارة والطرد والشتم إلى حائط لعتبة بن
ربيعة وشيبة بن ربيعة، وهما يومئذ في الحائط، فلما
دخل الحائط رجع عنه سفهاء ثقيف، فعمد إلى ظل حبلة لم منه فجلس فيه، وابنا
ربيعة ينظران ويريان ما لقي من سفهاء ثقيف. فأكب عداس على يديه ورجليه ورأسه يقبلها، قال: يقول ابنا ربيعة
أحدهما لصاحبه: أما غلامك فقد أفسده عليك، فلما
جاءهما قالا: ويلك يا عداس! مالك تقبل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه! قال: يا سيدي، ما في الأرض خير من هذا، فقد أخبرني
بأمر لا يعلمه إلا نبي. قال الواقدي:
وحدثني محمد بن عبد الله، عن الزهري، عن أبي بكر بن سليم بن أبي خيثمة، قال: سمعت حكيم بن حزام يقول: ما توجهت وجهاً قط
كان أكره إلي من مسيري إلى بدر، ولا بان لي في وجه قط ما بان لي قبل أن أخرج، ثم قال: قدم ضمضم، فصاح بالنفير فاستقسمت
بالأزلام، كل ذلك يخرج الذي أكره، ثم خرجت على ذلك حتى نزلنا مر الظهران، فنحر
ابن الحنظلية جزوراً منها بها حياة، فما بقي خباء من أخبية العسكر إلا أصابه من
دمها، فكان هذا بين، ثم هممت بالرجوع، ثم أذكر ابن
الحنظلية وشؤمه، فيردني حتى مضيت لوجهي. وكان حكيم يقول:
لقد رأينا حين بلغنا الثنية البيضاء- وهي الثنية التي تهبطك على فخ وأنت مقبل من
المدينة- إذا عداس جالس عليها، والناس يمرون، إذ مر علينا ابنا ربيعة، فوثب
إليهما، فأخذ بأرجلهما في غرزهما، وهو يقول:
بأبي أنتما وأمي! والله إنه لرسول الله صلى الله عليه
وسلم،
وما
تساقان إلا الى مصارعكما! وإن عينيه لتسيل دمعاً على خديه، فأردت أن أرجع
أيضاً، ثم مضيت. ومر به العاص بن منبه بن الحجاج، فوقف
عليه حين ولى عتبة وشيبة، فقال: ما يبكيك؟ قال: يبكيني سيدي- أو سيدا أهل
الوادي- يخرجان إلى مصارعهما، ويقاتلان رسول الله صلى
الله عليه وسلم!
فقال
العاص: وإن محمداً لرسول الله! فانتفض عداس انتفاضة واقشعر جلده، ثم بكى، وقال:
إي والله، إنه لرسول الله إلى الناس كافة. قال: فأسلم العاص
بن منبه، ومضى وهو على الشك، حتى قتل مع المشركين على شك وارتياب. ويقال: رجع عداس ولم يشهد بدراً، ويقال: شهد بدراً
وقتل. قال الواقدي: والقول الأول أثبت عندنا. قال سعد بن معاذ: وأنت تقول ذلك يا أمية؟ أما
والله لسمعت محمداً يقول: لأقتلن أمية بن خلف، قال أمية: أنت سمعته؟ قال سعد بن
معاذ: فقلت: نعم، قال: فوقع في نفسه، فلما جاء
النفير أبى أمية أن يخرج معهم إلى بدر، فأتاه عقبة بن أبي معيط وأبو جهل، ومع
عقبة مجمرة فيها بخور، ومع أبي جهل مكحلة ومرود، فأدخلها عقبة تحته، فقال:
تبخر، فإنما أنت امرأة، وقال أبو جهل: اكتحل فإنما أنت امرأة. فقال أمية:
ابتاعوا لي أفضل بعير في الوادي، فابتاعوا له جملاً بثلاثمائة دينار من نعم بني
قشير، فغنمه المسلمون يوم بدر، فصار في سهم خبيب بن يساف. فأجمعوا المسير، وقالت قريش: لا
تدعوا أحداً من عدوكم خلفكم. قال الواقدي:
ومما استدل به على كراهة الحارث بن عامر للخروج وعتبة وشيبة، أنه ما عرض رجل
منهم حملاناً، ولا حملوا أحداً من الناس، وإن كان الرجل ليأتيهم حليفاً أو عديداً،
ولا قوة له، فيطلب الحملان منهم، فيقولون:
إن كان لك مال وأحببت أن تخرج فافعل وإلا فأقم، حتى كانت قريش تعرف ذلك منهم. قلت: سرية نخلة
سرية قبل بدر، وكان أميرها عبد الله بن جحش قتل
فيها عمرو بن الحضرمي، حليف بني عبد شمس، قتله واقد بن عبد الله التميمي، رماه
بسهم فقتله، وأسر الحكم بن كيسان وعثمان بن عبد الله بن المغيرة، واستاق
المسلمون العير، وكانت خمسمائة بعير فخمسها رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وقسم أربعمائة فيمن شهدها من المسلمين، وهم مائتا رجل، فأصاب كل رجل بعيران. قال الواقدي:
وأقبل أبو سفيان بالعير، وخاف هو وأصحابه خوفاً شديداً حين دنوا من المدينة،
واستبطأوا ضمضماً والنفير، فلما كانت الليلة التي يصبحون فيها على ماء بدر، جعلت
العير تقبل بوجوهها إلى ماء بدر، وكانوا باتوا من وراء بدر آخر ليلتهم، وهم على
أن يصبحوا بدراً، إن لم يعترض لهم، فما أقرتهم العير حتى ضربوها بالعقل على أن
بعضها ليثنى بعقالين، وهي ترجع الحنين، توارداً إلى ماء بدر، وما إن بها إلى
الماء من حاجة، لقد شربت بالأمس، وجعل أهل العير يقولون: إن هذا شيء ما صنعته
الإبل منذ خرجنا، قالوا: وغشينا تلك الليلة ظلمة شديدة حتى ما نبصر شيئاً. فقال مجدي: والله ما
رأيت أحداً أنكره، ولا بينك وبين يثرب من عدو، ولو كان بينك وبينها عدو لم يخف
علينا، وما كنت أخفيه عنك، إلا أني قد رأيت راكبين أتيا إلى هذا المكان- وأشار
إلى مناخ عدي وبسبس- فأناخا به، ثم استقيا بأسقيتهما، ثم انصرفا. فجاء أبو سفيان
مناخهما، فأخذ أبعاراً من أبعار بعيريهما ففتها، فإذا فيها نوىً، فقال: هذه والله علائف يثرب! هذه والله عيون محمد
وأصحابه، ما أرى القوم إلا قريباً، فضرب وجه عيره، فساحل بها، وترك بدراً يساراً
وانطلق سريعاً، وأقبلت قريش من مكة ينزلون كل منهل يطعمون الطعام من أتاهم،
وينحرون الجزور، فبينا هم كذلك في مسيرهم إذ تخلف
عتبة وشيبة، وهما يترددان، قال أحدهما لصاحبه: ألم تر إلى رؤيا عاتكة بنت
عبد المطلب! لقد خشيت منها، قال الآخر:
فاذكرها، وذكرها، فأدركهما أبو جهل، فقال:
ما تتحادثون به؟ قالا: نذكر رؤيا عاتكة، قال يا
عجباً من بني عبد المطلب! لم يرضوا أن تتنبأ علينا رجالهم حتى تنبأت
علينا النساء! أما والله لئن رجعنا إلى مكة لنفعلن
بهم ولنفعلن! قال عتبة: إن لهم أرحاماً وقرابة قريبة. ثم قال أحدهما لصاحبه:
هل لك أن ترجع؟ قال أبو جهل: أترجعان بعد ما
سرنا فتخذلان قومكما، وتقطعان بهم بعد أن رأيتم ثأركم بأعينكم! أتظنان أن محمداً وأصحابه يلاقونكما! كلا والله، إن معي
من قومي مائة وثمانين كلهم من أهل بيتي يحلون إذا أحللت، ويرحلون إذا رحلت،
فارجعا إن شئتما. قالا: والله لقد هلكت وأهلكت قومك. قال الواقدي: فقال شيبة: والله تكون علينا سبة يا أبا الوليد أن
نرجع الآن بعد ما سرنا فمضينا. ثم انتهى
إلى الجحفة عشاء، فنام جهيم بن الصلت بن مخرمة
بن عبد المطلب بن عبد مناف، فقال:
إني لأرى بين النائم واليقظان، أنظر إلى رجل أقبل على فرس معه بعير له، حتى وقف
علي، فقال: قتل
عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة وزمعة بن
الأسود، وأمية بن خلف، وأبو البختري، وأبو الحكم، ونوفل بن خويلد، في رجال سماهم
من أشراف قريش! وأسر سهيل بن عمرو،
وفر الحارث بن هشام عن أخيه، قال: وكأن
قائلاً يقول: والله إني لأظنهم الذين يخرجون إلى مصارعهم. ثم قال:
أراه ضرب في لبة بعيره فأرسله في العسكر، فقال أبو
جهل: وهذا نبي آخر من بني عبد مناف! ستعلم غداً من المقتول، نحن أو محمد
وأصحابه! وقالت قريش لجهيم: إنما يلعب بك الشيطان في منامك،
فسترى غداً خلاف ما رأيت! يقتل أشراف محمد ويؤسرون.
قال: فخلا عتبة بأخيه شيبة، فقال له:
هل لك في الرجوع؟ فهذه الرؤيا مثل رؤيا عاتكة، ومثل قول عداس، والله ما كذبنا
عداس، ولعمري لئن كان محمد كاذباً إن في العرب لمن يكفيناه، ولئن كان صادقاً إنا
لأسعد العرب به للحمته. فقال شيبة:
هو على ما تقول، أفنرجع من بين أهل العسكر؟ فجاء أبو جهل وهما على ذلك فقال:
ما تريدان؟ قالا: الرجوع، ألا ترى إلى رؤيا عاتكة، وإلى رؤيا جهيم بن الصلت مع قول
عداس لنا! فقال: لا تخذلان والله
قومكما وتقطعان بهم. قالا: هلكت والله وأهلكت قومك! فمضيا على ذلك. فإن أبوا عليك فلا يأبون خصلة واحدة، يردون القيان.
فعالج قيس بن امرىء القيس قريشاً، فأبت الرجوع.
قالوا: أما القيان فسنردهن، فردوهن من الجحفة. قال الواقدي: ولحق الرسول أبا سفيان بالهدة-
والهدة على سبعة أميال من عقبة عسفان، على نسعة وثلاثين ميلاً من مكة- فأخبره
بمضي قريش، فقال: واقوماه! هذا عمل عمرو بن
هشام، يكره أن يرجع لأنه قد ترأس على الناس وبغى، والبغي منقصة وشؤم، والله لئن
أصاب أصحاب محمد النفير ذللنا إلى أن يدخل مكة علينا. قال الواقدي:
وقال الأخنس بن شريق- واسمه أبي، وكان حليفاً لبني زهرة: يا بني زهرة، قد نجى
الله عيركم، وخلص أموالكم، ونجى صاحبكم مخرمة بن نوفل، وإنما خرجتم لتمنعوه
وماله، وإنما محمد رجل منكم، ابن أختكم، فإن يك نبياً فأنتم أسعد به، وإن يك
كاذباً يلي قتله غيركم خير من أن تلوا قتل ابن أختكم، فارجعوا واجعلوا خبثها لي،
فلا حاجة لكم أن تخرجوا في غيرما يهمكم، ودعوا ما يقوله هذا الرجل- يعني أبا
جهل- فإنه مهلك قومه، سريع في فسادهم، فأطاعته بنو زهرة، وكان فيهم مطاعاً،
وكانوا يتيمنون به، فقالوا: فكيف نصنع بالرجوع حتى نرجع؟ فقال الأخنس: نسير مع القوم، فإذا أمسيت سقطت عن
بعيري، فيقولون: نحل الأخنس، فإذا أصبحوا فقالوا: سيروا، فقولوا: لا نفارق صاحبنا، حتى نعلم
أحي هو أم ميت، فندفنه، فإذا مضوا رجعنا إلى مكة. ففعلت بنو زهرة ذلك، فلما أصبحوا بالأبواء راجعين
تبين للناس أن بني زهرة رجعوا فلم يشهدها زهري البتة، وكانوا مائة، وقيل: أقل من مائة وهو أثبت. وقال قوم: فزحف الأسود ليبر قسمه زعم، حتى وقف في
الحوض فهدمه برجله الصحيحة، وشرب منه، وأتبعه حمزة، فضربه في الحوض فقتله،
والمشركون ينظرون ذلك على صفوفهم. فقام حمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب وعبيدة
بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف، فمشوا إليهم،
فقال عتبة: تكلموا نعرفكم- وكان عليهم
إلبيض، فأنكروهم- فإن كنتم أكفاءنا قاتلناكم. فلو لم يكن قد كلمهم بنو عفراء وكلموهم وردوهم، لما
نادى مناديهم بذلك. ويدل على ذلك قول بعض القرشيين لبعض الأنصار في فخر فخر به
عليه: أنا من قوم لم يرض مشركوهم أن يقتلوا مؤمني قومك. قالوا في تفسيرهما:
أراد أنا سيد أهل الحلف المطيبين، وكان الذين حضروه بني عبد مناف وبني أسد بن
عبد العزى وبني تيم وبني زهرة وبني الحارث بن فهر، خمس
قبائل. ورد قوم هذا التأويل، فقالوا: إن المطيبين لم يكن يقال لهم: الحلفاء ولا الأحلاف، وإنما ذلك لقب خصومهم وأعدائهم الذين وقع التحالف لأجلهم،
وهم بنو عبد الدار، وبنو مخزوم، وبنو سهم، وبنو جمح، وبنو عدي بن كعب، خمس قبائل. وقال قوم في
تفسيرهما: إنما عنى حلف الفضول، وكان بعد حلف المطيمين لزمان، وشهد حلف
الفضول رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صغير في دار ابن جدعان، وكان سببه أن رجلاً من اليمن قدم
مكة بمتاع، فاشتراه العاص بن وائل السهمي ومطله
بالثمن حتى أتعبه، فقام بالحجر وناشد قريشاً ظلامته، فاجتمع بنو هاشم وبنو أسد
بن عبد العزى وبنو زهرة، وبنو تميم، في دار ابن جدعان، فتحالفوا، وغمسوا أيديهم
في ماء زمزم، بعد أن غسلوا به أركان البيت، أن ينصروا كل مظلوم بمكة، ويردوا
عليه ظلامته، ويأخذوا على يد الظالم، وينهوا عن كل منكر، ما بل بحر صوفة؟ فسفي
حلف الفضول لفضله، وقد ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"شهدته وما أحب أن لي به
حمر النعم، ولا يزيده الإسلام إلا شدة"، وهذا
التفسير أيضاً غير صحيح، لأن بني عبد شمس لم يكونوا في حلف الفضول،
فقد بان أن
ما ذكره الواقدي أصح وأثبت.
ونزلت
فيهم هذه الآية:"هذان خصمان اختصموا في
ربهم". ويقول في موضع
آخر: قد عرفت مواقع نصالها في أخيك وخالك وجدك، وما هي من الظالمين
ببعيد. وأيضاً
فإن عتبة كان أمثل الثلاثة، فمقتضى القياس أن يكون قرنه أمثل الثلاثة، وهو حمزة
إذ ذاك، لأن علياً عليه السلام لم
يكن قد اشتهر أمره جداً، وإنما اشتهر الشهرة التامة
بعد بدر. ولمن روى أن حمزة بارز شيبة- وهي رواية ابن إسحاق- أن ينتصر
بشعر هند بنت عتبة ترثي أباها:
فإذا كانت قد قالت إن عتبة أباها أذاقه بنو هاشم وبنو المطلب حر
أسيافهم، فقد ثبت أن المبارز لعتبة إنما هو عبيدة لأنه من بني المطلب جرح عتبة،
فأثبته ثم ذفف عليه حمزة وعلي عليه السلام. فأما الشيعة، فإنها تروي أن حمزة بادر عتبة فقتله، وأن
اشتراك علي وحمزة إنما هو في دم شيبة
بعد أن جرحه عبيدة بن الحارث، هكذا ذكر محمد بن
النعمان في كتاب"الإرشاد"، وهو
خلاف ما تنطق به كتب أمير المؤمنين عليه السلام إلى معاوية، والأمر عندي مشتبه في هذا
الموضع. قال أبو داود المازني: فلحقته يوم بدر، فقلت له: إن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قد نهى
عن قتلك إن أعطيت بيدك، قال: وما تريد إلي! إن كان قد نهى عن قتلي، فقد كنت
أبليته ذلك، فأما أن أعطي بيدي، فواللات والعزى لقد علمت نسوة بمكة أني لا أعطي
بيدي، وقد عرفت أنك لا تدعني، فافعل الذي تريد. فرماه أبو داود
بسهم، وقال: اللهم سهمك، وأبو البختري عبدك، فضعه في مقتله، وأبو البختري
دارع، ففتق السهم الدرع فقتله. وارتجز أبو البختري
فقال:
ثم اقتتلا، فقتله المجذر، وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره، وقال:
والذي بعثك بالحق لقد جهدت أن يستأسر فآتيك به، فأبى إلا القتال فقاتلته فقتلته. قال الواقدي:
ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن
قتل الحارث بن عامر بن نوفل، وقال: ائسروه
ولا تقتلوه، وكان كارهاً للخروج إلى بدر، فلقيه خبيب بن يساف فقتله ولا يعرفه،
فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك،
ففال: لو وجدته قبل أن يقتل لتركته لنسائه. ونهى عن
قتل زمعة بن الأسود فقتله ثابت بن الجذع، ولا يعرفه.
يعني درعه.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من عدي؟ فقال رجل من القوم: أنا يا رسول الله، قال: وماذا؟
قال: ابن فلان، قال: لست أنت عدياً، فقال عدي بن
أبي الزغباء: أنا يا رسول الله عدي، قال: وماذا؟ قال:"والسحل، أمشي بها مشي الفحل"، قال
النبي صلى الله عليه وسلم: وما السحل، قال: درعي،
فقال صلى الله عليه وسلم نعم العدي، عدي بن أبي
الزغباء".
فبلغ
قوله النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:"اللهم
أكبه لمنخره واصرعه" فجمح به فرسه يوم بدر بعد أن ولى الناس، فأخذه عبد الله بن سلمة العجلاني أسيراً، وأمر النبي صلى
الله عليه وسلم عاصم بن أبي الأقلح، فضرب عنقه صبراً.
قال:
ويقبل إليه خبيب بن يساف، فضربه حتى قتله، وقد كان أمية ضرب خبيب بن يساف حتى
قطع يده من المنكب، فأعادها النبي صلى الله عليه وسلم فالتحمت واستوت، فتزوج
خبيب بن يساف بعد ذلك ابنة أمية بن خلف، فرأت تلك الضربة، فقالت: لا يشل الله يد
رجل فعل هذا! فقال خبيب: وأنا والله قد
أوردته شعوب، فكان خبيب يحدث يقول: فأضربه فوق العاتق، فأقطع عاتقه حتى بلغت
مؤتزره، وعليه الدرع، وأنا أقول: خذها وأنا
ابن يساف! وأخذت سلاحه ودرعه، وأقبل علي بن أمية فتعرض له الخباب، فقطع رجله،
فصاح صيحة ما سمع مثلها قط، ولقيه عمار فضربه ضربة فقتله. ويقال!: إن عماراً لاقاه قبل ضربة الخباب، فاختلفا
ضربات، فقتله عمار. والأولى أثبت، أنه ضربه
بعد أن قطعت رجله. قال الواقدي:
وقد سمعنا في قتل أمية غير ذلك، حدثني عبيد بن يحيى، عن معاذ بن رفاعة، عن أبيه،
قال: لما كان يوم بدر وأحدقنا بأ"مية بن خلف، وكان له فيهم شأن، ومعي رمحي،
ومعه رمحه، فتطاعنا حتى سقطت أزجتها، ثم صرنا إلى السيفين فتضاربنا بهما حتى
انثلما، ثم بصرت بفتق في درعه تحت إبطه، فحششت السيف فيه حتى قتلته، وخرج السيف
عليه الودك. قال: فكان عبد
الرحمن بن عوف، يقول: رحم الله بلالاً! أذهب
أدرعي، وفجعني بأسيري! قال الواقدي: وكان الزبير بن العوام يحدث
فيقول: لما كان يومئذ لقيت عبيدة بن سعيد بن العاص على
فرس، عليه لامة كاملة لا يرى منه إلا عيناه، وهو يقول- وكانت له صبية صغيرة،
يحملها وكان لها بطين وكانت مقسمة: أنا أبو
ذات الكرش، أنا أبو ذات الكرش. قال: وفي يدي
عنزة فأطعن بها في عينه ووقع، وأطؤه برجلي على خده، حتى أخرجت العنزة متعقفة،
وأخرجت حدقته، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم
تلك العنزة، فكانت تحمل بين يديه، ثم صارت تحمل بين يدي أبي بكر وعمر وعثمان. قال الواقدي:
ولما كان يومئذ، ورأت بنو مخزوم مقتل من قتل، قالت:
أبو الحكم! لا يخلص إليه، فإن ابني ربيعة عجلاً وبطراً، ولم تحام عنهما
عشيرتهما. فاجتمعت بنو مخزوم، فأحدقوا به،
فجعلوه في مثل الحرجة، وأجمعوا أن يلبسوا لامة أبي جهل رجلاً منهم، فألبسوها عبد الله بن المنذر بن أبي رفاعة، فصمد له علي
عليه السلام، فقتله وهو يراه أبا جهل، ومضى عنه وهويقول: أنا ابن عبد
المطلب! ثم ألبسوها أبا قيس بن الفاكه بن المغيرة، فصمد له حمزة وهو يراه أبا
جهل، فضربه فقتله وهو يقول: خذها وأنا ابن
عبد المطلب! ثم ألبسوها حرملة بن عمرو، فصمد له علي
عليه السلام فقتله، ثم أرادوا أن يلبسوها خالد بن الأعلم، فأبى أن
يلبسها، قال معاذ بن عمرو بن الجموح: فنظرت
يومئذ إلى أبي جهل في مثل الحرجة، وهم يقولون:
أبو الحكم! لا يخلص إليه، فعرفت أنه هو، فقلت:
والله لأموتن دونه اليوم أو لأخلصن إليه، فصمدت له، حتى إذا أمكنتني منه غرة
حملت عليه، فضربته ضربة طرحت رجله من الساق، فشبهتها النواة تنزو من تحت
المراضخ، فأقبل ابنه عكرمة علي فضربني على عاتقي، فطرح يدي من العاتق، إلا أنه
بقيت جلدة، فذهبت أسحب يدي بتلك الجلدة خلفي، فلما آذتني وضعت عليها رجلي، ثم
تمطيت عليها فقطعتها، ثم لاقيت عكرمة وهو يلوذ كل ملاذ، ولو كانت يدي معي لرجوت
يومئذ أن أصيبه. ومات معاذ في زمن عثمان. فأشرت إليه، فالتفت إلي الآخر، وقال لي مثل ذلك،
فأشرت له إليه، وقلت له: من أنتما؟ قالا:
ابنا الحارث، قال:" فجعلا لا يطرفان عن
أبي جهل، حتى إذا كان القتال خلصا إليه فقتلاه
وقتلهما. قال الواقدي:
فلما وضعت الحرب أوزارها، أمر رسول الله صلى
الله عليه وسلم أن يلتمس أبو
جهل، قال ابن مسعود: فوجدته في آخر رمق،
فوضعت رجلي على عنقه، فقلت: الحمد لله الذي
أخزاك! قال: إنما أخزى الله العبد ابن أم
عبد! لقد ارتقيت يا رويعي الغنم مرتقى صعباً! لمن الدبرة؟ قلت: لله ولرسوله، قال ابن مسعود: فأقلع بيضته عن
قفاه، وقلت: إني قاتلك، قال: لست بأول عبد
قتل سيده، أما إن أشد ما لقيته اليوم لقتلك إياي، ألا يكون ولي قتلي رجل من
الأحلاف أو من المطيبين! قال: فضربه عبد الله ضربة وقع رأسه بين يديه، ثم سلبه،
وأقبل بسلاحه ودرعه وبيضته، فوضعها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:
أبشر يا نبي الله بقتل عدو الله أبي جهل! فقال رسول
الله: أحقاً يا عبد الله! فوالذي نفسي بيده لهو أحب إلي من حمر النعم! أوكما قال. ثم قال:
إنه أصابه جحش من دفع دفعته في مأدبة ابن جدعان، فجحشت ركبته فالتمسوه، فوجدوا
ذلك الأثر. ونقلت من غير كتاب الواقدي
أن عثمان بن عفان وسعيد بن العاص حضرا عند عمر في أيام خلافته، فجلس سعيد بن
العاص حجرة فنظر إليه عمر، فقال: ما لي أراك معرضاً كأني قتلت أباك! إني لم
أقتله، ولكنه قتله أبو حسن! وكان علي عليه
السلام حاضراً، فقال: اللهم غفرا! ذهب
الشرك بما فيه، ومحا الإسلام ما قبله، فلماذا تهاج القلوب! فسكت عمر، وقال سعيد: لقد قتله كفء كريم، وهو أحب إلي من أن
يقتله من ليس من بني عبد مناف. قال الواقدي:
وأصاب حارثة بن سراقة، وهو يكرع في الحوض سهم غرب من المشركين فوقع في نحره،
فمات، فلقد شرب القوم آخر النهار من دمه، وبلغ أمه وأخته- وهما بالمدينة مقتله- فقالت أمه: والله لا أبكي عليه، حتى يقدم رسول
الله صلى الله عليه وسلم فأسأله، فإن
كان في الجنة لم أبك عليه، وإن كان في النار بكيته لعمر الله فأعولته! فلما قدم
رسول الله صلى الله عليه وسلم
من بدر جاءت أمه إليه، فقالت: يا رسول الله، قد عرفت موضع حارثة في قلبي، فأردت
أن أبكي عليه، ثم قلت: لا أفعل حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه، فإن كان
في الجنة لم أبكه، وإن كان في النار بكيته فأعولته! فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"هبلت:
أجنة واحدة! إنها جنان كثيرة، والذي نفسي بيده إنه لفي الفردوس الأعلى"،
قالت: فلا أبكي عليه أبداً. قال الواقدي:
كان قباث بن أشيم الكناني يقول: شهدت مع المشركين بدراً، وإني لأنظر إلى قلة
أصحاب محمد في عيني، وكثرة من معنا من الخيل والرجل، فانهزمت فيمن انهزم، فلقد
رأيتني وإني لأنظر إلى المشركين في كل وجه، وإني لأقول في نفسي: ما رأيت مثل هذا
الأمر فر منه إلا النساء! وصاحبني رجل، فبينا هو يسير معي إذ لحقنا من خلفنا، فقلت لصاحبي: أبك نهوض؟ قال: لا والله ما بي! قال
وعقر وترفعت، فلقد صبحت غيقة- قال: وغيقة عن يسار السقيا بينها وبين الفرع ليلة
وبين الفرع والمدينة ثمانية برد- قبل الشمس، كنت هادياً بالطريق، ولم أسلك
المحاج، وخفت من الطلب فتنكبت عنها، فلقيني رجل من قومي بغيقة، فقال: ما وراءك؟
قلت: لا شيء، قتلنا وأسرنا وانهزمنا، فهل عندك من حملان؟ قال: فحملني على بعير،
وزودني زاداً، حتى لقيت الطريق بالجحفة، ثم مضيت حتى دخلت مكة، وإني لأنظر إلى
الحيسمان بن حابس الخزاعي بالغميم، فعرفت أنه تقدم ينعى قريشاً بمكة، فلو أردت
أن أسبقه لسبقته، فتنكبت عنه حتى سبقني ببعض النهار، فقدمت وقد انتهى إلى مكة
خبر قتلاهم، وهم يلعنون الخزاعي، ويقولون: ما جاءنا بخير! فمكثت بمكة، فلما كان
بعد الخندق، قلت: لو قدمت المدينة، فنظرت ما
يقول محمد! وقد وقع في قلبي الإسلام، فقدمت المدينة، فسألت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: هو ذاك في ظل المسجد مع ملأ من أصحابه، فأتيته وأنا
لا أعرفه من بينهم، فشلمت فقال: يا قباث بن أشيم،
أنت القائل يوم بدر: ما رأيت مثل هذا الأمر فر منه إلا النساء! قلت: أشهد
أنك رسول الله، وأن هذا الأمر ما خرج مني إلى أحد قط وما ترمرمت به، إلا شيئاً
حدثت به نفسي، فلولا أنك نبي ما أطلعك الله عليه، هلم حتى أبايعك فأسلمت.
قال الواقدي:
أنشدنيه، ورواه لي عبد الله بن أبي عبيدة، عن محمد بن عمار بن ياسر، قال:
فاستمعوا الصوت، فلا يرون أحداً، فخرجوا في طلبه، فلم يروا أحداً، فخرجوا فزعين،
حتى جازوا الحجر، فوجدوا مشيخةً منهم جلةً سماراً، فأخبروهم الخبر، فقالوا لهم:
إن كان ما تقولون، فإن محمداً وأصحابه يسمون الحنيفية. قال:
فلم يبق أحد من الفتيان الذين كانوا بذي طوى إلا وعك، فما مكثوا إلا ليلتين أو
ثلاثاً، حتى قدم الحيسمان الخزاعي بخبر أهل بدر، ومن قتل منهم، فجعل يخبرهم،
فيقول: قتل عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وقتل ابنا الحجاج وأبو البختري، وزمعة بن
الأسود- قال: وصفوان بن أمية في الحجر جالس يقول: لا يعقل هذا شيئاً مما يتكلم
به! سلوه عني، فقالوا: صفوان بن أمية لك به علم؟
قال: نعم، هوذاك في الحجر، ولقد رأيت أباه وأخاه مقتولين، ورأيت سهيل بن عمرو والنفر بن الحارث أسيرين،
رأيتهما مقرونين في الحبال. فقال بطارقته:
أصلح الله الملك! إن هذا شيء لم تكن تصنعه، يريدون لبس البياض والجلوس على الأرض،
فقال: إن عيسى بن مريم كان إذا حدثت له نعمة ازداد بها تواضعاً. قال الواقدي:
فلما رجعت قريش إلى مكة، قام فيهم أبو سفيان بن حرب، فقال: يا معشر قريش، لا
تبكوا على قتلاكم، ولا تنح عليهم نائحة، ولا يندبهم شاعر، وأظهروا الجلد
والعزاء، فإنكم إذا نحتم عليهم وبكيتموهم بالشعر أذهب ذلك غيظكم فأكلكم ذلك عن
عداوة محمد وأصحابه، مع أن محمداً إن بلغه وأصحابه ذلك شمتوا بكم، فتكون أعظم
المصيبتين، ولعلكم تدركون ثأركم، فالدهن والنساء علي حرام حتى أغزو محمداً.
فمكثت قريش شهراً لا يبكيهم شاعر، ولا تنوح عليهم نائحة.
قال الواقدي:
ومشت نساء من قريش إلى هند بنت عتبة، فقلن:
ألا تبكين على أبيك وأخيك وعمك وأهل بيتك! فقالت:
حلأني أن أبكيهم، فيبلغ محمداً وأصحابه فيشمتوا بنا ونساء بني الخزرج، لا والله
حتى أثأر محمداً وأصحابه، والدهن علي حرام إن دخل رأسي حتى نغزو محمداً! والله
لو أعلم أن الحزن يذهب عن قلبي لبكيت، ولكن لا يذهبه إلا أن أرى ثأري بعيني من
قتلة الأحبة، فمكثت على حالها لا تقرب الدهن، ولا قربت فراش أبي سفيان من يوم
حلفت حتى كانت وقعة أحد. قال الواقدي: وحدثني معاذ بن محمد
الأنصاري، عن عاصم بن عمر بن قتادة، قال: لما رجع
المشركون إلى مكة، وقد قتل صناديدهم وأشرافهم،
أقبل عمير بن وهب بن عمير الجمحي حتى جلس إلى صفوان بن أمية في الحجر، فقال صفوان بن أمية: قبح العيش بعد قتلى بدر! قال
عمير بن وهب: أجل والله، ما في العيش بعدهم خير، ولولا دين علي لا أجد له قضاء،
وعيال لا أدع لهم شيئاً، لرحلت إلى محمد حتى أقتله إن ملأت عيني منه، فإنه بلغني
أنه يطوف في الأسواق، فإن لي عندهم علة، أقول:
قدمت على ابني هذا الأسير. ففرح صفوان بقوله، وقال: يا أبا امية، وهل نراك
فاعلاً؟ قال: إي ورب هذه البنية! قال صفوان:
فعلي دينك، وعيالك أسوة عيالي، فأنت تعلم أنه ليس بمكة رجل أشد توسعاً على عياله
مني. قال عمير:
قد عرفت ذلك يا أبا وهب، قال صفوان: فإن
عيالك مع عيالي، لا يسعني شيء ونعجز عنهم، ودينك علي. فحمله صفوان على بعيره، وجهزه
وأجرى على عياله مثل ما يجري على عيال نفسه، وأمر عمير بسيفه فشحذ وسم، ثم خرج
إلى المدينة، وقال لصفوان: اكتم علي أياماً
حتى أقدمها، وخرج فلم يذكره صفوان، وقدم عمير، فنزل على باب المسجد، وعقل
راحلته، وأخذ السيف فتقلده، ثم عمد نحو رسول الله صلى
الله عليه وسلم، وعمر بن الخطاب في نفر من المسلمين يتحدثون، ويذكرون
نعمة الله عليهم في بدر، فرأى عميراً وعليه السيف، ففزع عمر منه، وقال! لأصحابه: دونكم الكلب! هذا عمير بن وهب عدو الله الذي حرش بيننا يوم بدر، وحزرنا
للقوم، وصعد فينا وصوب، يخبر قريشاً أنه لا عدد لنا ولا كمين. فقاموا إليه فأخذوه، فانطلق عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، هذا عمير
بن وهب، قد دخل المسجد ومعه السلاح، وهو الغادر الخبيث الذي لا يؤمن على شيء، فقال النبي صلى
الله عليه وسلم: أدخله علي،
فخرج عمر فأخذ بحمائل سيفه، فقبض بيده عليها، وأخذ بيده الأخرى قائم السيف، ثم
أدخله على رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فلما رآه، قال: يا عمر، تأخر عنه، فلما دنا عمير
إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: أنعم صباحاً، فقال له النبي صلى الله عليه
وسلم:
قد
أكرمنا الله عن تحيتك، وجعل تحيتنا السلام، وهي تحية أهل الجنة. قال عمير: إن
عهدك بها لحديث، فقال النبي صلى الله عليه
وسلم:
قد
أبدلنا الله خيراً، فما أقدمك يا عمير؟ قال!: قدمت في أسيري عندكم تفادونه
وتقاربوننا فيه، فإنكم العشيرة والأصل! قال النبي صلى الله عليه وسلم: فما بال
السيف! قال عمير: قبحها الله من سيوف! وهل
أغنت من شيء! إنما نسيته حين نزلت وهو في رقبتي، ولعمري إن لي لهما غيره، فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: أصدق يا عمير، ما الذي أقدمك؟ قال: ما
قدمت إلا في أسيري، قال صلى الله عليه وسلم: فما
شرطت لصفوان بن أمية في الحجر؟ ففزع عمير، وقال:
ماذا شرطت له؟ قال: تحملت بقتلي، على أن
يقضي دينك، ويعول عيالك، والله حائل بينك وبين ذلك! قال عمير:
أشهد أنك صادق، وأشهد أن لا إله إلا
الله،
كنا
يا رسول الله نكذبك بالوحي، وبما يأتيك من السماء، وإن هذا الحديث كان بيني وبين
صفوان كما قلت، لم يطلع عليه غيره وغيري، وقد أمرته أن يكتمه ليالي، فأطلعك الله
عليه، فآمنت بالله ورسوله، وشهدت أن ما جئت به حق. الحمد لله الذي ساقني هذا
المساق! وفرح المسلمون حين هداه الله، وقال عمر بن
الخطاب: لخنزير كان أحب إلي منه حين طلع، وهو الساعة أحب إلي من بعض
ولدي. وقال النبي صلى الله عليه
وسلم:"علموا أخاكم القرآن، واطلقوا له أسيره"، فقال عمير: يا رسول الله، إني كنت جاهداً على
إطفاء نور الله، فله الحمد أن هداني، فأذن لي فألحق قريشاً فأدعوهم إلى الله
وإلى الإسلام، فلعل الله يهديهم ويستنقذهم من الهلكة، فأذن له فخرج، فلحق بمكة.
وكان صفوان يسأل عن عمير بن وهب كل راكب يقدم من المدينة، يقول: هل حدث بالمدينة
من حدث؟ ويقول لقريش: أبشروا بوقعة تنسيكم وقعة بدر، فقدم رجل من المدينة، فسأله صفوان عن عمير، فقال: أسلم، فلعنه صفوان
ولعنه المشركون بمكة، وقالوا: صبأ عمير،
وحلف صفوان ألا يكلمه أبداً، ولا ينفعه، وطرح عياله. وقدم عمير، فنزل في أهله، ولم يأت صفوان، وأظهر
الإسلام، فبلغ صفوان. فقال: قد عرفت حين لم
يبدأ بي قبل منزله، وقد كان رجل أخبرني أنه ارتكس، لا أكلمه من رأسي أبداً، ولا
أنفعه ولا عياله بنافعة أبداً، فوقع عليه عمير وهو في الحجر فقال: يا أبا وهب.
فأعرض صفوان عنه، فقال عمير: أنت سيد من
ساداتنا، أرأيت الذي كنا عليه من عبادة حجر، والذبح له! أهذا دين! أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله. فلم
يجبه صفوان بكلمة، وأسلم مع عمير بشر كثير. فكتب بها المهاجرون بالمدينة إلى من كان بمكة
مسلماً، فلما جاءهم الكتاب بما أنزل فيهم، قالوا: اللهم إن لك علينا إن أفلتنا
ألا نعدل بك أحداً، فخرجوا الثانية، فطلبهم أبو سفيان والمشركون، فأعجزوهم هرباً
في الجبال، حتى قدموا المدينة، واشتد البلاء على من ردوا من المسلمين، فضربوهم
وآذوهم وأكرهوهم على ترك الإسلام، ورجع ابن أبي سرح مشركاً، فقال لقريش: ما كان
يعلم محمداً إلا ابن قمطة، عبد نصراني، لقد كنت أكتب له فأحول ما أردت، فأنزل
الله تعالى"ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر..." الآية. فقال الواقدي في
كتاب"المغازي": حدثني عمر بن عقبة، عن شعبة مولى ابن
عباس، قال: سمعت ابن عباس يقول: لما تواقف
الناس أغمي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة،
ثم كشف عنه فبشر المؤمنين بجبرائيل في جند من الملائكة في ميمنة الناس، وميكائيل
في جند آخر في ميسرة الناس، وإسرافيل في جند آخر في ألف، وكان إبليس قد تصور
للمشركين في صورة سراقة بن جعشم المدلجي، يذمر المشركين، ويخبرهم أنه لا غالب
لهم من الناس، فلما أبصر عدو الله الملائكة نكص على عقبيه، وقال:"إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون"،
فتشبث به الحارث بن هشام، وهو يرى أنه سراقة
لما سمع من كلامه، فضرب في صدر الحارث، فسقط الحارث، وانطلق إبليس لا يرى حتى
وقع في البحر، ورفع يديه قائلاً: يا رب موعدك الذي وعدتني! وأقبل أبو جهل على
أصحابه يحضهم على القتال وقال: لا يغرنكم خذلان سراقة بن جعشم إياكم، فإنما كان
على ميعاد من محمد وأصحابه، سيعلم إذا رجعنا إلى قديد ما نصنع بقومه! ولا
يهولنكم مقتل عتبة وشيبة والوليد، فإنهم عجلوا وبطروا حين قاتلوا، وإيم الله لا
نرجع اليوم حتى نقرن محمداً وأصحابه في الحبال، فلا ألفين أحداً منكم قتل منهم
أحداً، ولكن خذوهم أخذاً نعرفهم بالذي صنعوا، لمفارقتهم دينكم ورغبتهم عما كان
يعبد أباؤهم. قال الواقدي: فحدثني أبو إسحاق الأسلمي، عن الحسن بن
عبيد الله، مولى بني العباس، عن عمارة الليثي، قال: حدثني شيخ صياد من الحي-
وكان يومئذ على ساحل البحر- قال: سمعت صياحاً: يا ويلاه! يا ويلاه! قد ملأ
الوادي: يا حرباه يا حرباه! فنظرت فإذا سراقة بن جعشم، فدنوت منه، فقلت: ما لك
فداك أبي وأمي! فلم يرجع إلي شيئاً، ثم أراه اقتحم البحر، ورفع يديه ماداً،
يقول: يا رب ما وعدتني! فقلت في نفسي: جن وبيت الله سراقة! وذلك حين زاغت الشمس،
وذلك عند انهزامهم يوم بدر. قال الواقدي:
وحدثني عبد الرحمن بن الحارث، عن أبيه، عن جده، عبيدة بن أبي عبيدة، عن أبي رهم
الغفاري عن ابن عم له، قال: بينا أنا وابن عم لي على ماء بدر، فلما رأينا قلة من
مع محمد وكثرة قريش، قلنا: إذا التقت
الفئتان عمدنا إلى عسكر محمد وأصحابه فانتهبناه،
فانطلقنا نحو المجنبة اليسرى من أصحاب محمد، ونحن
نقول: هؤلاء ربع قريش، فبينا نحن نمشي في الميسرة إذ جاءت سحابة فغشيتنا،
فرفعنا أبصارنا لها، فسمعنا أصوات الرجال والسلاح، وسمعنا قائلاً يقول لفرسه:"أقدم حيزوم"، وسمعناهم يقولون:"رويداً تتاءم
أخراكم"، فنزلوا على ميمنة رسول الله صلى
الله عليه وسلم، ثم جاءت أخرى مثل تلك فكانت مع النبي
صلى الله عليه وسلم، فنظرنا إلى
أصحاب محمد و إذا هم على الضعف من قريش، فمات ابن عمي، وأما أنا فتماسكت، وأخبرت
النبي صلى الله عليه وسلم بذلك،
وأسلمت. قال الواقدي:
وقد قالوا: إنه لما التحم القتال، ورسول الله صلى
الله عليه وسلم رافع يديه
يسأل الله النصر وما وعده، ويقول: اللهم إن ظهرت علي هذه العصابة، ظهر الشرك،
ولا يقوم لك دين، وأبو بكر يقول: والله
لينصرنك الله وليبيضن وجهك، فأنزل الله تعالى ألفاً من الملائكة مردفين عند
أكتاف العدو، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يا
أبا بكر، أبشر، هذا جبرائيل معتجر بعمامة صفراء، آخذ بعنان فرسه بين السماء
والأرض"، ثم قال: إنه لما نزل الأرض تغيب عني ساعة، ثم طلع على ثناياه
النقع، يقول: أتاك النصر من الله إذ دعوته. وأيضاً فإن الملائكة نزلت وتصورت بصور البشر الذين
يعرفهم المسلمون، وقالوا لهم ما جرت العادة أن يقال مثله من تثبيت القلوب يوم
الحرب، نحو قولهم: ليس المشركون بشيء، لا قوة عندهم، لا قلوب لهم، لو حملتم
عليهم لهزمتموهم... وأمثال ذلك. قال الواقدي: وقد روى عبادة بن
الوليد بن عبادة عن جده عبادة بن الصامت، قال: سلمنا
الأنفال يوم بدر لله وللرسول، ولم يخمس رسول الله صلى الله عليه وسلم بدراً،
ونزلت بعد:"واعلموا أنما غنمتم من شيء"، فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمسلمين
الخمس فيما كان من أول غنيمة بعد بدر، قال الواقدي:
وقد روي عن أبي أسيد الساعدي مثله. قال الواقدي:
فروى محمد بن سهل بن خيثمة، قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ترد
الأسرى والأسلاب، وما أخذوا من لمغنم، ثم أقرع بينهم في الأسرى، وقسم أسلاب
المقتولين الذين يعرف قاتلوهم بين قاتليهم، وقسم ما وجده في العسكر بين جميع
المسلمين عن فراق. قال: وقد قال عبد الله بن سعد بن خيثمة: أخذنا سهم
أبي الذي ضرب له رسول الله صلى الله عليه
وسلم حين
قسم الغنائم، وحمله إلينا عويمر بن ساعدة. قال: وقد روى
السائب بن أبي لبابة، أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم أسهم لمبشر بن
عبد المنذر، قال: وقد قدم بسهمه علينا معن بن عدي. قال الواقدي:
وكانت الإبل التي أصابوا يومئذ مائة وخمسين بعيراً، وكان معه أدم كثير، حملوه
للتجارة، فمنعه المسلمون يومئذ، وكان فيما أصالوا قطيفة حمراء، فقال بعضهم: ما
لنا لا نرى القطيفة! ما نرى رسول الله
صلى الله عليه وسلم إلا أخذها، فأنزل الله تعالى: "وما كان لنبي أن يغل". وجاء رجل إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: يا رسول الله، إن فلاناً غل قطيفة، فسأل
رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل، فقال: لم أفعل، فقال الدال: يا رسول الله،
احفروا هاهنا، فحفرنا فاستخرجت القطيفة، فقال قائل: يا رسول الله، استغفر لفلان
مرتين، أو مراراً، فقال صلى الله عليه وسلم: دعونا
من أبي حر. وخرج بني
له يفعة، فاحتمله الغول، فذهبت به متوركة ظهراً، فقيل لأبي أسيد: وكانت الغيلان
في ذلك الزمان؟ فقال: نعم، ولكنها قد هلكت، فلقي بني الأرقم بن أبي الأرقم، فبهش
إليه باكياً مستجيراً به، فقال: من أنت؟ فأخبره، فقالت الغول: أنا حاضنته، فلها
عنه والصبي يكذبها، فلم يعرج عليه حتى الساعة، فخرج من داري فرس لي، فقطع رسنه،
فلقيه الأرقم بالغابة فركبه، حتى إذا دنا من المدينة أفلت منه فتعذر إلي أنه
أفلت مني، فلم أقدر عليه حتى الساعة. قال الواقدي:
ولما جيء بالأسرى كره ذلك سعد بن معاذ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم
كأنه شق عليك أن يؤسروا! قال: نعم يا رسول الله، كانت أول وقعة التقينا فيها
بالمشركين فأحببت أن يذلهم الله، وأن يثخن فيهم القتل. قال مصعب: إنك كنت تقول في كتاب الله كذا وكذا،
وتقول في نبيه كذا وكذا، قال: يا مصعب، فليجعلني كأحد أصحابي. إن قتلوا قتلت، وإن من عليهم من علي. قال مصعب:
إنك كنت تعذب أصحابه، قال: أما والله لو أسرتك قريش ما قتلت أبداً وأنا حي. قال مصعب:
والله إني لأراك صادقاً، ولكن لست مثلك قطع الإسلام العهود.
قال الواقدي:
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما
وصل إليه شعرها رق له، وقال:"لو كنت سمعت شعرها قبل أن أقتله لما
قتلته" قال الواقدي: ولما أسر سهيل بن
عمرو، قال عمر بن الخطاب: يا رسول الله،
انزع ثنيتيه يدلع لسانه، فلا يقوم عليك خطيباً أبداً، فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا أمثل به فيمثل الله بي وإن كنت نبياً، ولعله يقوم
مقاماً لا تكرهه". فقام سهيل بن عمرو بمكة حين جاءه وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بخطبة أبي بكر بالمدينة، كأنه كان يسمعها، فقال عمر حين بلغه
كلام سهيل: أشهد أنك رسول الله- يريد قوله صلى الله عليه وسلم :"لعله يقوم مقاماً لا
تكرهه". قالوا:
بل نأخذ الفدية ونستعين بها، ويستشهد منا من يدخل الجنة، فقبل منهم الفداء، وقتل
من المسلمين قابلاً عدتهم بأحد. قال الواقدي:
لما حبس الأسرى وجعل عليهم شقران مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم طمعوا في
الحياة، فقالوا: لو بعثنا إلى أبي بكر! فإنه أوصل قريش لأرحامنا! فبعثوا إلى أبي بكر، فأتاهم فقالوا: يا أبا بكر،
إن فينا الآباء والأبناء والإخوان، والعمومة وبني العم، وأبعدنا قريب، كلم صاحبك
فليمن علينا ويفادنا، فقال: نعم إن شاء الله، لا آلوكم خيراً. ثم انصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالوا: وابعثوا إلى عمر بن الخطاب، فإنه من قد
علمتم، ولا يؤمن أن يفسد عليكم لعله يكف عنكم! فأرسلوا إليه، فجاءهم فقالوا له
مثل ما قالوا لأبي بكر، فقال: لا آلوكم شراً! ثم انصرف إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فوجد أبا
بكر عنده، والناس حوله، وأبو بكر يلينه ويغشاه،
ويقول: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي! قومك فيهم الآباء والأبناء والعمومة
والإخوان وبنو العم، وأبعدهم عنك قريب! فامنن عليهم، من الله عليك، أو فادهم قوة
للمسلمين، فلعل الله يقبل بقلوبهم إليك! ثم قام فتنحى ناحيةً، وسكت رسول الله
صلى الله عليه وسلم فلم يجبه، فجاء عمر فجلس مجلس أبي بكر، فقال يا رسول الله،
هم أعداء الله، كذبوك وقاتلوك وأخرجوك، اضرب رقابهم، فهم رؤوس الكفر وأئمة
الضلالة، يوطىء الله بهم الإسلام، ويذل بهم الشرك! فسكت رسول الله صلى الله عليه
وسلم ولم يجبه، وعاد أبو بكر إلى مقعده الأول، فقال: بأبي أنت وأمي! قومك فيهم
الآباء والأبناء والعمومة والإخوان وبنو العم، وأبعدهم منك قريب! فامنن عليهم أو
فادهم. هم عشيرتك وقومك لا تكن أول من يستأصلهم، وأن يهديهم الله خير من أن
يهلكهم. فسكت صلى الله عليه وسلم عنه فلم يرد عليه شيئاً، وقام ناحية. فسكت رسول الله صلى الله عليه
وسلم
فلم
يجبه، فقام ناحية، فجلس وعاد أبو بكر، فكلمه مثل كلامه الأول فلم يجبه، ثم تنحى،
فجاء عمر فكلمه بمثل كلامه الأول فلم يجبه، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل
قبته، فمكث فيها ساعة، ثم خرج، والناس يخوضون في شأنهم، يقول بعضهم: القول ما قال أبو بكر، وآخرون يقولون: القول ما قال عمر. فلما خرج قال للناس: ما
تقولون في صاحبيكم هذين؟ دعوهما فإن لهما مثلاً، مثل أبي بكر في
الملائكة كميكائيل ينزل برضا الله وعفوه على عباده، ومثله في الأنبياء كمثل
إبراهيم كان ألين على قومه من العسل، أوقد له قومه النار فطرحوه فيها، فما زاد
على أن قال:"أف لكم ولما تعبدون من دون الله
أفلا تعقلون"، وقال:"فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور
رحيم"، وكعيسى إذ يقول:"إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت
العزيز الحكيم" ومثل عمر في الملائكة كمثل جبريل ينزل بالسخط من الله
والنقمة على أعداء الله، ومثله في الأنبياء كمثل نوح، كان أشد على قومه من
الحجارة، إذ يقول:"رب لا تذر على الارض من
الكافرين دياراً" فدعا عليهم دعوة أغرق الله بها الأرض جميعاً، ومثل
موسى إذ يقول:"ربنا اطمس على أموالهم واشدد
على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم" وإن بكم عيلة، فلا
يفوتنكم رجل من هؤلاء إلا بفداء أو ضربة عنق. فقال عبد الله بن مسعود: يا رسول الله، إلا سهيل بن
بيضاء. قال الواقدي:
هكذا روى ابن أبي حبيبة، وهذا وهم، سهيل بن بيضاء مسلم من مهاجرة الحبشة، وشهد
بدراً، وإنما هو أخ له. ويقال له سهيل. قال: قال عبد الله بن مسعود:
فإني رأيته يظهر الإسلام بمكة- قال: فسكت النبي صلى
الله عليه وسلم، قال عبد الله: فما مرت علي ساعة قط
كانت أشد علي من تلك الساعة، جعلت أنظر إلى السماء أتخوف أن تسقط علي الحجارة
لتقدمي بين يدي الله ورسوله بالكلام، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه،
فقال:"إلا لسهيل ابن بيضاء"، قال: فما مرت علي ساعة أقر لعيني منها،
إذ قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم
قال:"إن الله عز وجل ليشدد القلب حتى يكون أشد من الحجارة، وإنه ليلين
القلب حتى يكون ألين من الزبد"، فقبل الفداء ثم قال بعد:"لو نزل عذاب
يوم بدر لما نجا منه إلا عمر"، كان يقول: اقتل ولا تأخذ الفداء. وكان سعد بن معاذ يقول:
اقتل ولا تأخذ الفداء. وأما حديث سهيل بن بيضاء
فإنه يوهم مذهب موسى بن عمران في أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحكم في
الوقائع بما يشاء، لأنه قيل له: احكم بما
تشاء، فإنك لا تحكم إلا بالحق، وهو مذهب متروك إلا أنه يمكن أن يقال: لعله لما
سكت صلى الله عليه وسلم عندما قال
ابن مسعود ذلك القول، نزل عليه في تلك السكتة الوحي وقيل له: إلا سهيل بن بيضاء،
فقال حينئذ:"إلا سهيل بن بيضاء"، كما أوحي إليه. قال وكانت لمطعم بن عدي عند النبي صلى الله عليه وسلم يد أجاره حين
رجع من الطائف. وقال أبو عزة: أعطيك موثقاً ألا اقاتلك، ولا أكثر
عليك أبداً. فأرسله رسول الله صلى
الله عليه وسلم، فلما خرجت قريش إلى أحد، جاء صفوان بن
أمية، فقال: اخرج معنا، قال: إني قد أعطيت محمداً موثقاً ألا أقاتله، ولا اكثر
عليه أبداً. وقد من علي ولم يمن على غيري حتى قتله أو أخذ منه
الفداء. فضمن له
صفوان أن يجعل بناته مع بناته إن قتل، وإن عاش أعطاه مالاً كثيراً لا يأكله عياله.
فخرج أبو عزة يدعو العرب ويحشرها، ثم
خرج مع قريش يوم أحد، فأسر ولم يؤسر غيره من قريش، فقال: يا محمد، إنما خرجت
كرهاً ولي بنات، فامنن علي. فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم:"أين ما أعطيتني من العهد والميثاق! لا والله لا تمسح عارضيك بمكة
تقول: سخرت بمحمد مرتين". فقتله. قال الواقدي:
وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر بالقلب أن تغور ثم أمر بالقتلى،
فطرحوا فيها كلهم إلا أمية بن خلف فإنه كان
مسمناً انتفخ من يومه. فلما أرادوا أن يلقوه تزايل
لحمه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اتركوه. فقال أبو بكر: كان والله يا رسول الله أبقى في
العشيرة من غيره، ولقد كان كارهاً لوجهه، ولكن الحين ومصارع السوء. فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم:"الحمد لله الذي جعل خد أبي جهل الأسفل وصرعه
وشفانا منه". فلما توافوا في القليب وقد كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم يطوف عليهم وهم مصرعون، جعل أبو بكر
يخبره بهم رجلاً رجلاً، ورسول الله صلى
الله عليه وسلم يحمد الله ويشكره ويقول: الحمد لله
الذي أنجز لي ما وعدني! فقد وعدني إحدى الطائفتين، ثم
وقف على أهل القليب فناداهم رجلاً رجلاً:"يا
عتبة بن ربيعة، ويا شيبة بن ربيعة، ويا أمية بن خلف، ويا أبا جهل بن هشام! هل
وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقاً! بئس القوم كنتم لنبيكم! كذبتموني
وصدقني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس، وقاتلتموني ونصرني الناس، فقالوا: يا
رسول الله، أتنادي قوماً قد ماتوا! فقال:"لقد
علموا أن ما وعدهم ربهم حق". قال الواقدي:
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى
العصر بالأثيل، فلما صلى ركعة تبسم، فلما سلم سئل عن تبسمه فقال: مر بي ميكائيل
وعلى جناحه النقع، فتبسم إلي، وقال: إني كنت في طلب القوم، وأتاني جبربل على فرس
أنثى معقود الناصية، قد عم ثنيتيه الغبار فقال: يا محمد إن ربي بعثني إليك،
وأمرني ألا أفارقك حتى ترضى، فهل رضيت؟ فقلت: نعم. قال أبو رافع: فرفعت طنب الحجرة، ثم قلت: تلك
والله الملائكة، قال: فرفع أبو لهب يده، فضرب بي الأرض ثم برك علي يضربني، وكنت
رجلاً ضعيفاً، فقامت أم الفضل إلى عمود من عمد الحجرة، فأخذته فضربته على رأسه،
فشجته شجة منكرة، وقالت: استضعفته إذ غاب سيده، فقام مولياً ذليلاً، فوالله ما
عاش إلا سبع ليال، حتى رماه الله بالعدسة فقتلته. قال محمد بن إسحاق:
قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول الوقعة، فنهى أن يقتل أحد من بني
هاشم، قال: حدثني بذلك الزهري، عن عبد الله بن ثعلبة حليف بني زهرة، قال: وحدثني
العباس بن عبد الله بن معبد بن العباس، عن بعض أهله، عن عبد الله بن عباس رحمه
الله، قال: وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه:
إني
قد عرفت أن رجالاً من بني هاشم وغيرهم قد أخرجوا كرهاً، لا حاجة لنا بقتلهم، فمن
لقي منكم أحداً من بني هاشم فلا يقتله ومن لقي أبا البختري فلا يقتله، ومن لقي
العباس بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يقتله، فإنه إنما خرج
مستكرهاً، فقال أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة: أنقتل آباءنا وإخواننا وعشائرنا
ونترك العباس! والله لئن لقيته لالحمنه السيف، فسمعها
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لعمر بن الخطاب: يا أبا حفص. يقول
عمر: والله إنه لأول يوم كناني فيه رسول الله صلى
الله عليه وسلم بأبي حفص-
أيضرث وجه عم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف؟
فقال عمر: يا رسول الله، دعني أضرب عنقه بالسيف، فوالله لقد نافق، قال: فكان أبو
حذيفة يقول: والله ما أنا بآمن من تلك الكلمة التي قلت يومئذ، ولا أزال منها
خائفاً أبداً إلا أن يكفرها الله عني بشهادة، فقتل يوم اليمامة شهيداً. قال الواقدي:
قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأثيل زيد بن حارثة وعبد الله بن
رواحة يبشران الناس بالمدينة فجاء يوم الأحد في الضحى، وفارق عبد الله زيداً
بالعقيق، فجعل عبد الله ينادي عوالي المدينة: يا معشر الأنصار، أبشروا بسلامة
رسول الله وقتل المشركين وأسرهم، قتل ابنا ربيعة، وابنا الحجاج، وأبو جهل، وزمعة
بن الأسود، وأمية بن خلف، وأسر سهيل بن عمرو ذو الأنياب في أسرى كثير. قال عاصم بن عدي:
فقمت إليه فنحوته، فقلت: أحقاً ما تقول يا بن رواحة؟ قال: إي والله، وغدا يقدم
رسول الله إن شاء الله، ومعه الأسرى مقرنين، ثم تتبع دور الأنصار بالعالية
يبشرهم، داراً داراً، والصبيان يشتدون معه، ويقولون: قتل أبو جهل الفاسق، حتى
انتهوا إلى دور بني أمية بن زيد، وقدم زيد بن حارثة على ناقة النبي صلى الله عليه وسلم القصواء، يبشر أهل المدينة، فلما جاء المصلى صاح
على راحلته: قتل عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وابنا الحجاج وأبو جهل، وأبو البختري
وزمعة بن الأسود وأمية بن خلف، وأسر سهيل بن عمرو ذو الأنياب في أسرى كثيرة،
فجعل الناس لا يصدقون زيد بن حارثة، ويقولون: ما جاء زيد إلا فلاً، حتى غاظ
المسلمين ذلك، وخافوا، قال: وكان قدوم زيد حين سووا على رقية بنت رسول الله صلى
الله عليه وسلم
التراب
بالبقيع، فقال رجل من المنافقين لأسامة بن زيد: قتل صاحبكم ومن معه، وقال رجل من
المنافقين لأبي لبابة بن عبد المنذر: قد تفرق أصحابكم تفرقاً لا يجتمعون معه
أبداً، وقد قتل عليه أصحابكم، وقتل محمد، وهذه ناقته نعرفها، وهذا زيد بن حارثة
لا يدري ما يقول من الرعب، وقد جاء فلاً، فقال أبو
لبابة: كذب الله قولك، وقالت يهود: ما جاء زيد إلا فلاً. قال أسامة بن زيد: فجئت حتى خلوت بأبي، فقلت: يا
أبت، أحق ما تقول؟ فقال إي والله حقاً يا بني، فقويت نفسي، فرجعت إلى ذلك
المنافق، فقلت: أنت المرجف برسول الله وبالمسلمين! لنقدمنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا
قدم، فليضربن عنقك، فقال: يا أبا محمد، إنما هو شيء سمعت الناس يقولونه. قال الواقدي:
وكان سهيل بن عمرو لما كان بتنوكة بين السقيا وملل، كان مع مالك بن الدخشم الذي
أسره، فقال له: خل سبيلي للغائط، فقام معه، فقال سهيل: إني أحتشم فاستأخر عني،
فاستأخر عنه، فمضى سهيل على وجهه، انتزع يده من القران، ومضى، فلما أبطأ سهيل
على مالك بن الدخشم، أقبل فصاح في الناس، فخرجوا في طلبه، وخرج النبي صلى الله
عليه وسلم في طلبه بنفسه، وقال: من وجده فليقتله، فوجده رسول الله صلى الله عليه
وسلم بنفسه أخفى نفسه بين شجرات، فأمر به فربطت يداه إلى عنقه، ثم قرنه إلى
راحلته، فلم يركب سهيل خطوة حتى قدم المدينة.
قال: وفيه يقول مالك بن الدخشم، وهو الذي أسره يوم بدر:
أي
على ذي العلم بسكون اللام، ولكنه حركه للضرورة. قال الواقدي: وحدثني محمد بن عبد الله، عن الزهري، قال: قال أبو العاص بن الربيع: كنت
مستأسراً مع رهط من الأنصار جزاهم الله خيراً، كنا إذا تعشينا أو تغدينا آثروني
بالخبز، وأكلوا التمر، والخبز عندهم قليل والتمر زادهم، حتى إن الرجل لتقع في
يده الكسرة فيدفعها إلي، وكان الوليد بن الوليد بن المغيرة يقول مثل ذلك ويزيد. قال: وكانوا يحملوننا ويمشون. وقال محمد بن إسحاق في كتابه:
كان أبو العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس ختن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوج
ابنته زينب، وكان أبو العاص من رجال مكة المعدودين مالاً وأمانة وتجارة، وكان
ابناً لهالة بنت خويلد أخت خديجة بنت خويلد، وكان الربيع بن عبد العزى بعل هذه
فكانت خديجة خالته، فسألت خديجة رسول الله صلى الله
عليه وسلم أن يزوجه زينب، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا
يخالف خديجة، وذلك قبل أن ينزل عليه الوحي، فزوجه إياها، فكان أبو العاص من
خديحة بمنزلة ولدها، فلما أكرم الله رسوله بنبوته آمنت به خديجة وبناته كلهن
وصدقنه وشهدن أن ما جاء به حق ودن بدينه، وثبت أبو العاص على شركه، وكان رسول
الله صلى الله عليه وسلم قد
زوج عتبة بن أبي لهب إحدى ابنتيه رقية أو أم كلثوم، وذلك من قبل أن ينزل عليه
الوحي، فلما أنزل عليه ونادى قومه بأمر الله باعدوه، فقال
بعضهم لبعض: إنكم قد فرغتم محمد من همه، أخذتم عنه بناته وأخرجتموهن من
عياله، فردوا عليه بناته، فاشغلوه بهن فمشوا إلى أبي العاص بن الربيع، فقالوا:
فارق صاحبتك بنت محمد، ونحن نزوجك أي امرأة شئت من قريش، فقال: لاها الله! إذن
لا أفارق صاحبتي، وما أحب أن لي بها امرأة من قريش! فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا
ذكره يثني عليه خيراً في صهره، ثم مشوا إلى الفاسق عتبة بن أبي لهب، فقالوا له: طلق بنت محمد، ونحن ننكحك أي امرأة شئت من قريش، فقال: إن أنتم زوجتموني ابنة
أبان بن سعيد بن العاص، أو ابنة سعيد بن العاص فارقتها، فزوجوه ابنة سعيد بن
العاص، ففارقها ولم يكن دخل بها، فأخرجها الله من يده كرامة لها وهواناً له ثم
خلف عليها عثمان بن عفان بعده، وكان رسول الله صلى
الله عليه وسلم مغلوباً على أمره بمكة
لا يحل ولا يحرم، وكان الإسلام قد فرق بين زينب وأبي العاص،
إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان
لا يقدر وهو بمكة أن يفرق بينهما، فأقامت معه على إسلامها وهو على شركه، حتى
هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى
المدينة، وبقيت زينب بمكة مع أبي العاص، فلما سارت
قريش إلى بدر سار أبو العاص معهم، فصيب في الأسرى يوم بدر، فأتي به النبي صلى الله عليه وسلم،
فكان عنده مع الأسارى، فلما بعث أهل مكة في فداء أساراهم، بعثت زينب في فداء أبي
العاص بعلها بمال، وكان فيما بعثت به قلادة كانت خديجة أمها أدخلتها بها على أبي
العاص ليلة زفافها عليه، فلما رآها رسول صلى
الله عليه وسلم رق لها رقة شديدة، وقال
للمسلمين: إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها، وتردوا عليها ما
بعثت به من الفداء فافعلوا، فقالوا: نعم يا رسول الله، نفديك بأنفسنا وأموالنا،
فردوا عليها ما بعثت به، وأطلقوا لها أبا العاص بغير فداء. فقلت له: قد قال قاضي القضاة أبو الحسن عبد الجبار
بن أحمد نحو هذا، قال: إنهما لم يأتيا بحسن في
شرع التكرم، وإن كان ما أتياه حسناً في الدين. قال محمد بن إسحاق: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما
أطلق سبيل أبي العاص أخذ عليه فيما
نرى أو شرط عليه في إطلاقه، أو أن أبا
العاص وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتداء لأن يحمل زينب إليه إلى المدينة، ولم يظهر ذلك من أبي العاص، ولا من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنه لما خلي سبيله، وخرج إلى مكة بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده زيد بن حارثة ورجلاً
من الأنصار، فقال لهما: كونا بمكان كذا حتى تمر
بكما زينب فتصحبانها حتى تأتياني بها، فخرجا نحو
مكة، وذلك بعد بدر بشهر أو شيعه، فلما قدم أبو
العاص مكة أمرها باللحوق بأبيها، فأخذت تتجهز. قلت: لقائل من
المجبرة أن يقول: أليس هذا نسخ الشيء قبل تقضي وقت فعله، وأهل العدل لا يجيزون
ذلك! وهذا السؤال مشكل، ولا جواب عنه إلا بدفع الخبر إما بتضعيف
أحد من رواته، أو إبطال الاحتجاج به لكونه خبر
واحد، أو بوجه آخر، وهو أن نجيز للنبي الاجتهاد
في الأحكام الشرعية كما يذهب إليه كثير من شيوخنا، وهو مذهب القاضي أبي يوسف صاحب أبي حنيفة، ومثل هذا الخبر حديث براءة وإنفاذها مع أبي بكر، وبعث علي عليه
السلام، فأخذها منه في الطريق، وقرأها على أهل
مكة بعد أن كان أبو بكر هو المأمور بقراءتها
عليهم. قال البلاذري:
فقال الزبير بن العوام: لقد رأيت رسول الله صلى الله
عليه وسلم بعد غلظته على هبار بن الأسود يطأطىء
رأسه استحياء منه وهبار يعتذر إليه، وهو يعتذر
إلى هبار أيضاً. ثم انصرف ودخل على ابنته زينب، فقال:"أي بنية، أكرمي مثواه، وأحسني قراه، ولا يصلن
إليك، فإنك لا تحلين له". ثم بعث إلى تلك السرية الذين كانوا أصابوا مال أبي
العاص، فقال لهم: إن هذا الرجل منا بحيث علمتم، وقد
أصبتم له مالاً، فإن تحسنوا وتردوا عليه الذي له، فإنا نحب ذلك، وإن أبيتم فهو
فيء الله الذي أفاء عليكم، وأنتم أحق به. فقالوا: يا رسول الله، بل نرده عليه، فردوا عليه
ماله ومتاعه، حتى إن الرجل كان يأتي بالحبل، ويأتي الآخر بالإداوة، والآخر
بالشظاظ، حتى ردوا ماله ومتاعه بأسره من عند آخره ولم
يفقد منه شيئاً. ثم احتمل إلى مكة، فلما قدمها أدى إلى كل ذي مال من
قريش ماله ممن كان أبضع معه بشيء، حتى إذا فرغ من ذلك،
قال لهم: يا معشر قريش، هل بقي لأحد منكم عندي مال لم يأخذه؟ قالوا: لا فجزاك الله خيراً، لقد وجدناك وفياً كريماً، قال:
فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، والله
ما منعني من الإسلام إلا تخوف أن تظنوا أني أردت أن آكل أموالكم، وأذهب
بها فإذ سلمها الله لكم، وأداها إليكم، فإني أشهدكم أني قد أسلمت واتبعت دين
محمد.
ثم خرج سريعاً حتى قدم على رسول الله المدينة. قال الواقدي:
فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من
أمر الأسارى، وفرق الله عز وجل ببدر بين الكفر
والايمان، أذل رقاب المشركين والمنافقين واليهود، ولم يبق بالمدينة يهودي ولا
منافق إلا خضعت عنقه. وقالت يهود فيما بينها: هو الذي نجد نعته في كتبنا، والله لا
ترفع له راية بعد اليوم إلا ظهرت.
قال الواقدي: أملاها علي عبد الله بن جعفر ومحمد بن صالح وابن أبي
الزناد. فلما أرسل كعب هذه الأبيات أخذها الناس بمكة
عنه، وأظهروا المراثي- وقد كانوا حرموها كيلا يشمت المسلمون بهم- وجعل
الصبيان والجواري ينشدونها بمكة، فناحت بها قريش على قتلاها شهراً، ولم تبق دار
بمكة إلا فيها النوح- وجز النساء شعورهن، وكان يؤتى براحلة الرجل منهم أو بفرسه،
فتوقف بين أظهرهم، فينوحون حولها، وخرجن الى السكك، وضربن الستور في الأزقة،
وقطعن فخرجن إليها ينحن، وصدق أهل مكة رؤيا عاتكة
وجهيم بن الصلت. ومن بني نوفل بن عبد مناف جبير بن مطعم. ومن بني عبد الدار بن قصي طلحة بن أبي طلحة، ومن بني أسد بن
عبد العزى بن قصي عثمان بن أبي حبيش. ومن بني مخزوم عبد
الله بن أبي ربيعة وخالد بن الوليد وهشام بن الوليد بن المغيرة وفروة بن السائب
وعكرمة بن أبي جهل. ومن بني جمح أبي بن خلف وعمير بن وهب. ومن بني سهم المطلب
بن أبي وداعة وعمرو بن قيس. ومن بني مالك بن حسل مكرز بن حفص بن الأحنف، كل هؤلاء قدموا
المدينة في فداء أهلهم وعشائرهم. وكان جبير بن مطعم يقول: دخل الإسلام في قلبي
منذ قدمت المدينة في الفداء، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في صلاة المغرب:"والطور.
وكتاب مسطور"، فاستمعت قراءته، فدخل الإسلام في قلبي منذ ذلك اليوم.
فمشى
بنو عمرو بن عوف حين بلغهم الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبروه
بذلك، وسألوه أن يعطيهم عمرو بن أبي سفيان ليفكوا به صاحبهم، فأعطاهم إياه،
فبعثوا به إلى أبي سفيان فخلى سبيل سعد. وقال حسان بن ثابت يجيب أبا سفيان:
وأبو
العاص بن الربيع، أسره خراش بن الصمة، فقدم في فدائه عمرو بن أبي الربيع أخوه،
وحليف لهم، يقال له أبو ريشة افتداه عمرو بن الربيع أيضاً. وعمرو
بن الأزرق افتكه عمرو بن الربيع أيضاً، وكان قد صار في سهم تميم مولى خراش بن
الصمة، وعقبة بن الحارث الحضرمي أسره عمارة بن حزم، فصار في القرعة لأبي بن كعب،
افتداه عمرو بن أبي سفيان بن أمية، وأبو العاص بن نوفل بن عبد شمس، أسره عمار بن
ياسر قدم في فدائه ابن عمه. فهؤلاء ثمانية. ومن بني أسد بن عبد العزى بن قصي، السائب بن أبي حبيش بن المطلب بن أسد
بن عبد العزى، أسره عبد الرحمن بن عوف. وعثمان بن الحويرث بن عثمان بن أسد بن
عبد العزى، أسره حاطب بن أبي بلتعة، وسالم بن شماخ أسره سعد بن أبي وقاص، فهؤلاء
ثلاثة قدم في فدائهم عثمان بن أبي حبيش بأربعة آلاف لكل رجل منهم. وعثمان
بن عبد الله بن المغيرة، وكان أفلت يوم نخلة، أسره واقد بن عبد الله التميمي يوم
بدر، فقال له: الحمد لله الذي أمكنني منك،
فقد كنت أفلت يوم نخلة- وقدم في فداء هؤلاء الثلاثة عبد الله بن أبي ربيعة،
افتدى كل واحد منهم بأربعة آلاف- والوليد بن الوليد بن المغيرة، أسره عبد الله
بن جحش، فقدم في فدائه أخواه خالد بن الوليد وهشام بن الوليد، فتمنع عبد الله بن
جحش حتى افتكاه بأربعة آلاف، فجعل هشام بن الوليد يريد ألا يبلغ ذلك- يريد ثلاثة
آلاف فقال خالد لهشام: إنه ليس بابن أمك، والله لو أبى فيه إلا كذا وكذا لفعلت،
فلما افتدياه خرجا به حتى بلغا به ذا الحليفة، فأفلت، فأتى
النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم، فقيل: ألا أسلمت قبل أن تفتدى! قال: كرهت أن أسلم حتى أكون أسوة بقومي.- قال الواقدي:
ويقال إن الذي أسر الوليد بن الوليد سليط بن قيس المازني- وقيس بن السائب، أسره
عبدة بن الحسحاس، فحبسه عنده حيناً، وهو يظن أن له مالاً، ثم قدم في فدائه أخوه
فروة بن السائب، فأقام أيضاً حيناً، ثم افتداه بأربعة آلاف فيها عروض.
وقال محمد بن إسحاق: روي أنه كان أول المنهزمين، أسره الخباب بن المنذر بن
الجموح، وقدم في فدائه عكرمة بن أبي جهل، فهؤلاء
عشرة. ومن
بني مالك بن حسل سهيل بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ود بن
نمر بن مالك، أسره مالك بن الدخشم، وقدم في فدائه مكرز بن حفص بن الأحنف، وانتهى
في فدائه إلى إرضائهم بأربعة آلاف، فقالوا: هات المال، فقال: نعم، اجعلوا رجلاً
مكان رجل، وقوم يروونها:"رجلاً مكان رجل"، فخلوا سبيل سهيل، وحبسوا
مكرز بن حفص عندهم، حتى بعث سهيل بالمال من مكة. وعبد الله بن زمعة بن قيس بن
نصر بن مالك، أسره عمير بن عوف، مولى سهيل بن عمرو. وعبد العزى بن مشنوء بن
وقدان بن قيس بن عبد شمس بن عبد ود سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد إسلامه
عبد الرحمن، أسره النعمان بن مالك. فهؤلاء ثلاثة.
وعتبة
بن ربيعة، قتله حمزة بن عبد المطلب. وشيبة بن ربيعة، قتله عبيدة بن الحارث وحمزة
وعلي، الثلاثة اشتركوا في قتله. والوليد بن عتبة بن ربيعة، قتله علي بن أبي طالب
عليه السلام. وعامر
بن عبد الله حليف لهم من أنمار، قتله علي بن أبي طالب عليه السلام، وقيل: قتله سعد بن معاذ، فهؤلاء اثنا عشر. ومن
بني تيم بن مرة عمير بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة، قتله علي بن
أبي طالب عليه السلام. وعثمان
بن مالك بن عبيد الله بن عثمان، قتله صهيب، فهؤلاء اثنان- ولم يذكر البلاذري عثمان بن مالك. ومن بني مخزوم
بن يقظة ثم من بني المغيرة بن عبد الله بن عمير بن مخزوم، أبو جهل عمرو بن هشام
بن المغيرة، ضربه معاذ بن عمرو بن الجموح، ومعوذ وعوف ابنا عفراء، وذفف عليه عبد
الله بن مسعود. والعاص بن هاشم بن المغيرة، خال عمر بن الخطاب، قتله عمرو بن يزيد بن تميم
التميمي، حليف لهم، قتله عمار بن ياسر، وقيل: قتله علي عليه السلام.
في شرح قصة غزاة أحد. ونحن نذكر ذلك من كتاب الواقدي رحمه الله على عادتنا في ذكر غزاة بدر، ونضيف إليه من الزيادات التي ذكرها ابن
إسحاق والبلاذري ما يقتفي الحال ذكره. قال الواقدي:
لما رجع من حضر بدراً من المشركين إلى مكة وجدوا العير التي قدم بها أبو سفيان
بن حرب من الشام موقوفة في دار الندوة، وكذلك كانوا يصنعون، فلم يحركها أبو
سفيان ولم يفرقها لغيبة أهل العير، ومشت أشراف قريش إلى أبي سفيان: الأسود بن
عبد المطلب بن أسد، وجبير بن مطعم، وصفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل، والحارث
بن هشام، وعبد الله بن أبي ربيعة، وحويطب بن عبد العزى، فقالوا: يا أبا سفيان،
انظر هذه العير التي قدمت بها فاحتبستها، فقد عرفت أنها أموال أهل مكة ولطيمة
قريش، وهم طيبو الأنفس، يجهزون بهذه العير جيشاً كثيفاً إلى محمد، فقد ترى من
قتل من آبائنا وأبنائنا وعشائرنا. فقال أبو سفيان: وقد طابت أنفس قريش بذلك؟
قالوا: نعم، قال: فأنا أول من أجاب إلى ذلك وبنو عبد مناف معي، فأنا والله
الموتور والثائر، وقد قتل ابني حنظلة ببدر وأشراف قومي. فلم تزل العير موقوفة
حتى تجهزوا للخروج، فباعوها فصارت ذهباً عيناً، ويقال:
إنما قالوا: يا أبا سفيان، بع العير ثم اعزل أرباحها، فكانت العير ألف
بعير، وكان المال خمسين ألف دينار، وكانوا يربحون في تجاراتهم للدينار ديناراً،
وكان متجرهم من الشام غزة، لا يعدونها إلى غيرها، وكان أبو سفيان، قد حبس عير
بني زهرة، لأنهم رجعوا من طريق بدر، وسلم ما كان لمخرمة بن نوفل ولبني أبيه وبني
عبد مناف بن زهرة، فأبى مخرمة أن يقبل عيره حتى يسلم إلى بني زهرة جميعاً، وتكلم
الأخنس، فقال: وما لعير بني زهرة من بين عيرات قريش! قال أبو سفيان: لأنهم رجعوا
عن قريش، قال الأخنس: أنت أرسلت إلى قريش أن ارجعوا فقد أحرزنا العير، لا تخرجوا
في غير شيء، فرجعنا، فأخذت بنو زهرة عيرها وأخذ أقوام من أهل مكة أهل ضعف لا
عشائر لهم ولا منعة، كل ماكان لهم في العير. فصثى إليه
صفوان بن أمية فقال: اخرج فأبى، وقال: عاهدت محمداً يوم بدر ألا أظاهر عليه عدوا
أبداً، وأنا أفي له بما عاهدته عليه، من علي ولم يمن على غيري حتى قتله أو أخذ
منه الفداء. فقال
صفوان: اخرج معنا، فإن تسلم أعطك من المال ما شئت، وإن تقتل تكن عيالك مع عيالي.
فأبى
أبو عزة، حتى كان الغد، وانصرف عنه صفوان بن أمية آيساً منه، فلما كان الغد جاءه
صفوان وجبير بن مطعم، فقال له صفوان الكلام الأول فأبى، فقال جبير: ما كنت أظن أني أعيش حتى يمشي إليك أبو
وهب في أمر تأبى عليه! فأحفظه، فقال: أنا أخرج،
قال: فخرج الى العرب يجمعها، ويقول:
وخرج
النفر مع أبي عزة فألبوا العرب وجمعوا، وبلغوا ثقيفاً فأوعبوا. فلما أجمعوا
المسير وتألب من كان معهم من العرب وحضروا، واختلفت قريش في إخراج الظعن معهم، قال صفوان بن أمية: اخرجوا بالظعن فأنا أول من
فعل، فإنه أقمن أن يحفظنكم ويذكرنكم قتلى بدر، فإن العهد حديث، ونحن قوم موتورون
مستميتون،
لا نريد أن نرجع إلى ديارنا حتى ندرك ثأرنا أو نموت دونه. فقال عكرمة بن
أبي جهل: أنا أول من أجاب إلى ما دعوت إليه، وقال عمرو بن العاص مثل ذلك،
فمشى في ذلك نوفل بن معاوية الديلي، فقال: يا معشر قريش، هذا ليس برأي، أن
تعرضوا حرمكم لعدوكم، ولا آمن أن تكون الدبرة لهم فتفتضحوا في نسائكم. فقال
صفوان: لا كان غير هذا أبداً! فجاء نوفل إلى أبي
سفيان بن حرب، فقال له تلك المقالة، فصاحت هند بنت عتبة: إنك والله سلمت
يوم بدر، فرجعت إلى نسائك، نعم نخرج فنشهد القتال، فقد ردت القيان من الجحفة في
سفرهم إلى بدر، فقتلت الأحبة يومئذ. فقال أبو
سفيان: لست أخالف قريشاً، أنا رجل منها، ما فعلت فعلت. فخرجوا بالظعن، فخرخ أبو سفيان بن حرب بامرأتين: هند بنت عتبة بن
ربيعة وأميمة بنت سعد بن وهب بن أشيم بن كنانة، وخرج
صفوان بن أمية بامرأتين: برزة بنت مسعود الثقفي وهي أم عبد الله الأكبر
والبغوم بنت المعذل من كنانة، وهي أم عبد الله الأصغر، وخرج
طلحة بن أبي طلحة بامرأته سلافة بنت
سعد بن شهيد، وهي من الأوس، وهي أم بنيه:
مسافع، والحارث، وكلاب والجلاس بني طلحة بن أبي طلحة، وخرج عكرمة بن أبي جهل
بامرأته أم حكيم بنت الحارث بن هشام، وخرج الحارث بن هشام بامرأته فاطمة بنت
الوليد بن المغيرة، وخرج عمرو بن العاص بامرأته هند بنت منبه بن الحجاج، وهي أم
عبد الله بن عمرو بن العاص- وقال محمد بن إسحاق: اسمها ريطة- وخرجت خناس بنت
مالك بن المضرب إحدى نساء بني مالك بن حسل مع ابنها أبي عزيز بن عمير، أخي مصعب
بن عمير من بني عبد الدار، وخرج الحارث بن سفيان بن عبد الأسد بامرأته رملة بنت
طارق بن علقمة الكنانية، وخرج كنانة بن علي بن ربيعة بن عبد العزى بن عبد شمس بن
عبد مناف بامرأته أم حكيم بنت طارق، وخرج سفيان بن عويف بامرأته قتيلة بنت عمرو
بن هلال، وخرج النعمان بن عمرو وجابر مسك الذئب أخوه، بأ"مهما الدغينة،
وخرج غراب بن سفيان بن عويف بامرأته عمرة بنت الحارث بن علقمة الكنانية، وهي التي رفعت لواء قريش حين سقط حتى تراجعت قريش إلى
لوائها، وفيها يقول حسان:
قالوا: وخرج
سفيان بن عويف بعشرة من ولده، وحشدت بنو كنانة. وكانت الألوية يوم خرجوا من مكة
ثلاثة عقدوها في دار الندوة، لواء يحمله سفيان بن عويف لبني كنانة، ولواء
الأحابيش يحمله رجل منهم، ولواء لقريش يحمله طلحة بن أبي طلحة قال الواقدي: ويقال خرجت قريش ولفها كلهم، من
كنانة والأحابيش وغيرهم على لواء واحد، يحمله طلحة بن أبي طلحة. وهو الأثبت
عندنا. فلما خرح رسول الله صلى الله عليه وسلم من
منزله، خرجت امرأة سعد بن الربيع، فقالت: ما قال لك
رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال:
ما لك ولذاك، لا أم لك! قالت: كنت أستمع عليكم، وأخبرت سعداً الخبر، فاسترجع
سعد، وقال: لا أراك تستمعين علينا وأنا أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم : تكلم بحاجتك! ثم أخذ بجمع لمتها، ثم خرج
يعدو بها حتى أدرك رسول الله علي بالجسر، وقد بلحت، فقال: يا رسول الله، إن
امرأتي سألتني عما قلت فكتمتها، فقالت: قد سمعت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جاءت بالحديث كله- فخشيت
يا رسول الله أن يظهر من ذلك فتظن أني أفشيت سرك-، فقال
صلى الله عليه وسلم: خل سبيلها. وشاع الخبر بين الناس بمسير قريش. وقدم
عمرو بن سالم الخزاعي في نفر من خزاعة ساروا من مكة أربعاً فوافوا قريشاً وقد
عسكروا بذي طوى فأخبروا رسول الله صلى
الله عليه وسلم الخبر، ثم
انصرفوا ولقوا قريشا ببطن رابغ، وهو أربع ليال من المدينة، فنكبوا عن قريش. فصدقوه بما قال، وطمعوا في نصره. فاستشار أبو سفيان بن حرب أهل الرأي
من قريش في ذلك، فقالوا: لاتذكر من هذا شيئاً، فلو فعلنا نبشت
بنو بكر وخزاعة موتانا. قال الواقدي: وكانت
قريش لذي الحليفة يوم الخميس صبيحة عشر من مخرجهم من مكة، وذلك لخمس ليال مضين
من شوال على رأس اثنين وثلاثين من الهجرة، فلما أصبحوا بذي الحليفة خرج فرسان
منهم فأنزلوهم الوطاء، وبعث النبي صلى الله عليه وسلم عينين له، آنساً ومؤنساً
اني فضالة ليلة الخميس، فاعترضا لقريش بالعقيق، فسارا معهم، حتى نزلوا الوطاء،
وأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه، وكان المسلمون قد ازدرعوا العرض-
والعرض ما بين الوطاء بأحد إلى الجرف إلى العرصة، عرصة البقل اليوم، وكان أهله
بنو سلمة وحارثة وظفر وعبد الأشهل، وكان الماء يومئذ بالجرف نشطة لا يريم سائق
الناضح مجلساً واحداً ينفتل الجمل في ساعته، حتى ذهبت بمياهه عيون الغابة التي
حفرها معاوية بن أبي سفيان، وكان المسلمون قد أدخلوا آلة زرعهم ليلة الخميس
المدينة، فقدم المشركون على زرعهم فخلوا فيه إبلهم وخيولهم، وكان لأسيد بن حضير
في العرض عشرون ناضحاً تسقي شعيراً، وكان المسلمون قد حذروا على جمالهم وعمالهم
وآلة حرثهم، وكان المشركون يرعون يوم الخميس، فلما أمسوا جمعوا الإبل وقصلوا
عليها القصيل، وقصلوا على خيولهم ليلة الجمعة، فلما أصبحوا يوم الجمعة خلوا
ظهرهم في الزرع وخيلهم، حتى تركوا العرض ليس به خضراء. قال: هل
رأيت ظعناً؟ قال: نعم رأيت النساء معهن الدفاف والأكبار- وهي الطبول- فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم:
أردن أن يحرضن القوم ويذكرنهم قتلى بدر، هكذا جاءني خبرهم، لا تذكر من شأنهم
حرفاً، حسبنا الله ونعم الوكيل! اللهم بك أحول، وبك
أصول! قال الواقدي:
وخرج سلمة بن سلامة بن وقش يوم الجمعة، حتى إذا كان بأدنى العرض إذا طليعة خيل
المشركين عشرة أفراس ركضوا في أثره، فوقف لهم على نشز من الحرة، فرشقهم بالنبل
مرة، وبالحجارة أخرى حتى انكشفوا عنه، فلما ولوا جاء إلى مزرعته بأدنى العرض،
فاستخرج سيفاً كان له، ودرع حديد كان له، دفنا في ناحية المزرعة، وخرج بهما
يعدو، حتى بني عبد الأشهل، فخبر قومه بما لقي. قال الواقدي:
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: أشيروا علي، ورأى صلى
الله عليه وسلم ألا يخرج من المدينة لهذه الرؤيا،
ورسول الله صلى الله عليه وسلم يحب
أن يوافق على مثل ما رأى، وعلى ما عبر عليه الرؤيا، فقام عبد الله بن أبي، فقال:
يا رسول الله، كنا نقاتل في الجاهلية في هذه المدينة، ونجعل النساء والذراري في
هذه الصياصي، ونجعل معهم الحجارة، والله لربما مكث الولدان شهراً ينقلون
الحجارة، إعداداً لعدونا، ونشبك المدينة بالبنيان فتكون كالحصن من كل ناحية،
وترمي المرأة والصبي من فوق الصياصي والآطام، ونقاتل بأسيافنا في السكك. يا رسول الله إن مدينتنا عذراء ما فضت علينا قط،
وما خرجنا الى عدو قط منها إلا أصاب منا، وما دخل علينا قط إلا أصبناه، فدعهم يا
رسول الله، فإنهم إن أقاموا أقاموا بشر محبس، وإن رجعوا رجعوا خاسرين مغلوبين،
لم ينالوا خيراً. يا رسول الله، أطعني في هذا الأمر، واعلم أني ورثت هذا
الرأي من أكابر قومي وأهل الرأي منهم، فهم كانوا أهل الحرب والتجربة. وقال مالك بن سنان أبو أبي سعيد الخدري: يا رسول الله،
نحن والله بين إحدى الحسنيين، إما يظفرنا الله بهم، فهذا الذي نريد،
فيذلهم الله لنا فتكون هذه وقعة مع وقعة بدر، فلا يبقى منهم إلا الشريد، والأخرى
يا رسول الله يرزقنا الله الشهادة، والله يا رسول الله، ما نبالي أيهما كان، إن
كلاً لفيه الخير. فلم يبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم رجع إليه
قولاً، وسكت. وقال حمزة بن عبد المطلب: والذي
أنزل عليه الكتاب، لا أطعم اليوم طعاماً حتى أجالدهم بسيفي خارجاً من المدينة،
وكان يقال: كان حمزة يوم الجمعة صائماً، ويوم السبت، فلاقاهم وهو صائم. وقام خيثمة، أبو سعد بن خيثمة فقال: يا
رسول الله، إن قريشاً مكثت حولاً تجمع الجموع وتستجلب العرب في بواديها ومن
اتبعها من أحابيشها ثم جاؤونا قد قادوا الخيل، واعتلوا الإبل حتى نزلوا بساحتنا،
فيحصروننا في بيوتنا وصياصينا، ثم يرجعون وافرين لم يكلموا، فيجرئهم ذلك علينا
حتى يشنوا الغارات علينا، ويصيبوا أطلالنا ويضعوا العيون والأرصاد علينا، مع ما
قد صنعوا بحروثنا، ويجترىء علينا العرب حولنا حتى يطمعوا فينا إذا رأونا لم نخرج
إليهم، فنذبهم عن حريمنا، وعسى الله أن يظفرنا بهم، فتلك عادة الله عندنا، أو
تكون الأخرى، فهي الشهادة. لقد أخطأتني وقعة بدر، وقد كنت عليها حريصاً، لقد بلغ
من حرصي أن ساهمت ابني في الخروج، فخرج سهمه، فرزق الشهادة وقد كنت حريصاً على
الشهادة، وقد رأيت ابني البارحة في النوم في أحسن صورة يسرح في ثمار الجنة
وأنهارها، وهو يقول الحق بنا ترافقنا في الجنة، فقد وجدت ما وعدني ربي حقاً، وقد
والله يا رسول الله أصبحت مشتاقاً إلى مرافقته في الجنة، وقد كبرت سني، ودق
عظمي، وأحببت لقاء ربي، فادع الله يا رسول الله أن يرزقني الشهادة، ومرافقة سعد
في الجنة، فدعا له رسول الله بذلك، فقتل بأحد شهيداً. فبينا
القوم على ذلك من الأمر، وبعض القوم يقول: القول ما قال سعد، وبعضهم على البصيرة
على الشخوص، وبعضهم للخروج كاره، اذ خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قد
لبس لأمته، وقد لبس الدرع فأظهرها، وحزم وسطها بمنطقة من حمائل سيف من أدم كانت
بعد عند آل أبي رافع مولى رسول الله صلى
الله عليه وسلم، واعتم، وتقلد السيف فلما خرج رسول
الله صلى الله عليه وسلم ندموا جميعاً
على ما صنعوا، وقال الذين يلحون على رسول الله صلى
الله عليه وسلم: ما كان لنا أن
نخالفك، فاصنع ما بدا لك، وما كان لنا أن نستكرهك والأمر إلى الله ثم إليك، فقال: قد دعوتكم إلى هذا الحديث فأبيتم، ولا ينبغي لنبي إذا
لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين أعدائه- قال: وكانت الأنبياء قبله
إذا لبس النبي لأمته لم يضعها حتى يحكم الله بينه وبين أعدائه- ثم قال لهم:
انظروا ما أمرتكم به فاتبعوه، امضوا على اسم الله، فلكم النصر ما صبرتم. ومن تأمل أيضاً هذه الأحوال، علم أنها ضد الأحوال التي كانت في غزاة بدر،
وأن أحوال قريش لما خرجت إلى بدر كانت مماثلة لأحوال
المسلمين لما خرجوا إلى أحد، ولذلك كانت الدبرة في بدر على قريش. قال الواقدي:
وجاء جعيل بن سراقة إلى النبي صلى الله عليه
وسلم
وهو
متوجه إلى أحد، فقال: يا رسول الله، قيل لي: إنك تقتل غداً- وهو يتنفس مكروباً -
فضرب النبي صلى الله عليه وسلم بيده
إلى صدره، وقال: أليس الدهر كله غداً! قال: ثم دعا بثلاثة أرماح، فعقد ثلاثة ألوية، فدفع لواء الأوس إلى
السيد بن حضير، ودفع لواء الخزرج إلى الحباب بن المنذر بن الجموح- ويقال إلى سعد
بن عبادة- ودفع لواء المهاجرين إلى علي بن أبي طالب عليه السلام- ويقال إلى مصعب
بن عمير- ثم دعا بفرسه، فركبه، وتقلد القوس وأخذ بيده قناة- زج الرمح يومئذ من
شبه- والمسلمون متلبسون السلاح، قد أظهروا الدروع، فهم مائة دارع، فلما ركب صلى
الله عليه وسلم خرج السعدان أمامه يعدوان: سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، كل واحد
منهما دارع، والناس عن يمينه وشماله حتى سلك على البدائع، ثم زقاق الحسى، حتى
أتى الشيخين- وهما أطمان كانا في الجاهلية فيهما شيخ أعمى وعجوز عمياء يتحدثان،
فسمي الأطمان الشيخين- فلما انتهى إلى رأس الثنية، التفت فنظر إلى كتيبة خشناء
لها زجل خلفه، فقال: ما هذه؟ قال: هذه خلفاء ابن أبي من اليهود فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: لا نستنصر بأهل الشرك على أهل الشرك. ومضى رسول الله صلى
الله عليه وسلم وعرض معسكره
بالشيخين، فعرض عليه غلمان، منهم عبد الله بن عمر بن الخطاب، وزيد بن ثابت،
وأسامة بن زيد، والنعمان بن بشير، وزيد بن أرقم، والبراء بن عازب، وأسيد بن
ظهير، وعرابة بن أوس، وأبو سعيد الخدري، وسمرة بن جندب، ورافع بن خديج. فلما أبى على عبد الله بن عمرو أن يرجع، ودخل هو وأصحابه
أزقة المدينة، قال لهم أبو جابر: أبعدكم الله! إن الله سيغني النبي
والمؤمنين عن نصركم. فانصرف ابن أبي وهو يقول: أيعصيني
ويطيع الولدان! وانصرف عبد الله بن عمرو يعدو حتى لحق رسول الله وهو يسوي
الصفوف،، فلما أصيب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سر ابن أبي، وأظهر
الشماتة، وقال: عصاني وأطاع من لارأي له! قال الواقدي:
وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصف أصحابه،
وجعل الرماة خمسين رجلاً على عينين، عليهم عبد الله بن جبير- ويقال: سعد بن أبي وقاص، والثبت أنه عبد الله بن
جبير- قال: وجعل أحداً خلف ظهره، واستقبل المدينة وجعل عينين عن يساره، وأقبل المشركون،
واستدبروا المدينة في الوادي، واستقبلوا أحداً، ويقال: جعل عينين خلف ظهره،
واستدبر الشمس، واستقبلها المشركون. قال: ونهى أن
يقاتل أحد حتى يأمرهم بالقتال، فقال عمارة بن يزيد
بن السكن: أنى نغير على زرع بني قيلة ولما نضارب! وأقبل المشركون قد صفوا
صفوفهم، واستعملوا على الميمنة خالد بن الوليد، وعلى الميسرة عكرمة بن أبي جهل،
ولهم مجنبتان، مائتا فرس، وجعلوا على الخيل صفوان بن أمية- ويقال عمرو بن العاص-
وعلى الرماة عبد الله بن أبي ربيعة، وكانوا مائة رام، ودفعوا اللواء إلى طلحة بن
أبي طلحة- واسم أبي طلحة عبد الله بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصي-
وصاح أبو سفيان يومئذ: يا بني عبد الدار، نحن نعرف أنكم أحق باللواء منا، وأنا
إنما أتينا يوم بدر من اللواء، وإنما يؤتى القوم من قبل لوائهم، فالزموا لواءكم،
وحافظوا عليه، وخلوا بيننا وبينه، فإنا قوم مستميتون موتورون، نطلب ثأراً حديث
العهد. وجعل يقول:
إذا زالت الألوية، فما قوام الناس وبقاؤهم بعدها! فغضبت بنو عبد الدار، وقالوا:
نحن نسلم لواءنا! لا كان هذا أبداً أ وأما المحافظة عليه فسترى. ثم أسندوا
الرماح إليه، وأحدقت به بنو عبد الدار، وأغلظوا لأبي سفيان بعض الإغلاظ، فقال
أبو سفيان: فنجعل لواء آخر، قالوا: نعم، ولا يحمله إلا رجل من بني عبد الدار، لا
كان غير ذلك أبداً. قال: خذ اللواء،
فأخذه مصعب فتقدم به بين يدي رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال البلاذري: أخذه من علي عليه السلام، فدفعه إلى مصعب بن عمير، لأنه من بني عبد الدار. إن الله مع من أطاعه، وإن الشيطان مع من عصاه،
فاستفتحوا أعمالكم بالصبر على الجهاد، والتمسوا بذلك ما وعدكم الله، وعليكم
بالذي آمركم به، فإني حريص على رشدكم. إن الاختلاف والتنازع والتثبيط من أمر
العجز والضعف، وهو مما لا يحبه الله، ولا يعطي عليه النصر والظفر. أيها الناس
إنه قذف في قلبي أن من كان على حرام فرغب عنه ابتغاء ما عند الله غفر الله له
ذنبه، ومن صلى على محمد صلى الله عليه وسلم وملائكته عشراً، ومن أحسن، من مسلم
أو كافر وقع أجره على الله في عاجل دنياه أو في آجل آخرته، ومن كان يؤمن بالله
واليوم الآخر فعليه الجمعة يوم الجمعة، إلا صبياً أو امرأة أو مريضاً أو عبداً
مملوكاً، ومن استغنى عنها استغنى الله عنه، والله غني حميد. ما أعلم من عمل
يقربكم إلى الله إلا وقد أمرتكم به، ولا أعلم من عمل يقربكم إلى النار إلا وقد
نهيتكم عنه، وإنه قد نفث الروح الأمين في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستوفي أقصى
رزقها، لا ينقص منه شيء وإن أبطأ عنها، فاتقوا الله ربكم، وأجملوا في طلب الرزق،
ولا يحملنكم استبطاؤه على أن تطلبوه بمعصية ربكم، فإنه لا يقدر على ما عنده إلا
بطاعته، قد بين لكم الحلال والحرام، غير أن بينهما شبهاً من الأمر لم يعلمها
كثير من الناس إلا من عصم، فمن تركها حفظ عرضه ودينه، ومن وقع فيها كان كالراعي
إلى جنب الحمى أوشك أن يقع فيه ويفعله، وليس ملك إلا وله حمى، ألا وإن حمى الله
محارمه، والمؤمن من المؤمنين كالرأس من الجسد، إذا اشتكى تداعى إليه سائر جسده.
والسلام عليكم. قال الواقدي:
فحدثني ابن أبي سبرة، عن خالد بن رباح، عن المطلب بن عبد الله، قال: أول من أنشب
الحرب بينهم أبو عامر، طلع في خمسين من قومه، معه عبيد قريش فنادى أبو عامر-
واسمه عبد عمرو- يا للأوس! أنا أبو عامر، قالوا: لا مرحباً بك ولا أهلاً، يا
فاسق! فقال: لقد أصاب قومي بعدي شر. قال: ومعه عبيد أهل مكة، فتراموا بالحجارة
هم والمسلمون، حتى تراضخوا بها ساعة إلى أن ولى أبو عامر وأصحابه، ويقال: إن
العبيد لم يقاتلوا، وإنهم أمروهم بحفظ عسكرهم. قال: فلما انكشف المسلمون،
كسر جفن سيفه وجعل يقول: الموت أحسن من الفرار. يا للأوس! قاتلوا على الأحساب،
واصنعوا مثل ما أصنع. قال: فيدخل بالسيف وسط المشركين، حتى يقال: قد قتل، ثم
يطلع فيقول: أنا الغلام الظفري، حتى قتل منهم سبعة، وأصابته الجراحة، وكثرت فيه،
فوقع فمر به قتادة بن النعمان، فقال له: أبا الغيداق، قال قزمان: لبيك؟ قال:
هنيئاً لك الشهادة! قال قزمان: إني والله ما قاتلت يا أبا عمرو على دين، ما
قاتلت إلا على الحفاظ أن تسير قريش إلينا فتطأ سعفنا، قال: فآذته الجراحة فقتل
نفسه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل
الفاجر".
قال الواقدي: وبرز طلحة، فصاح: من يبارز؟ فقال علي عليه السلام
له: هل لك في مبارزتي؟ قال: نعم، فبرزا بين الصفين ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس تحت
الراية، عليه درعان ومغفر وبيضته، فالتقيا، فبدره علي عليه السلام بضربة على
رأسه، فمضى السيف حتى فلق هامته إلى أن انتهى إلى لحيته فوقع، وانصرف علي عليه
السلام، فقيل له: هلا ذففت عليه! قال: إنه لما صرع استقبلني بعورته، فعطفتني
عليه الرحم، وقد علمت أن الله سيقتله، هو كبش الكتيبة. قال الواقدي:
وروي أن طلحة حمل على علي عليه السلام،
فضربه بالسيف، فاتقاه بالدرقة، فلم يصنع شيئاً، وحمل علي عليه السلام وعلى طلحة درع ومغفر، فضربه بالسيف،
فقطع ساقيه، ثم أراد أن يذفف عليه، فسأله طلحة بالرحم ألا يفعل، فتركه ولم يذفف
عليه. قال:
فلما قتل طلحة سر رسول الله صلى الله عليه وسلم
وكبر تكبيراً عالياً وكبر المسلمون،
ثم شد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على كتائب المشركين، فجعلوا يضربون وجوههم، حتى انتقضت
صفوفهم، ولم يقتل إلا طلحة بن أبي طلحة وحده.
فتقدم
باللواء والنسوة خلفه، يحرضن ويضربن بالدفوف، فحمل عليه حمزة بن عبد المطلب رحمه
الله، فضربه بالسيف على كاهله، فقطع يده وكتفه، حتى انتهى إلى مؤتزره فبدا سحره،
ورجع، فقال: أنا ابن ساقي الحجيج، ثم حمل اللواء أخوهما أبو سعد بن أبي طلحة،
فرماه سعد بن أبي وقاص فأصاب حنجرته- وكان دارعاً، وعليه مغفر لا رفرف عليه،
وعلى رأسه بيضته فأدلع لسانه إدلاع الكلب.
قال سعد بن أبي وقاص: فأحمل عليه فأقطع يده اليمنى، فأخذ اللواء باليد اليسرى،
فأضربه على يده اليسرى، فقطعتها، فأخذ اللواء بذراعيه جميعاً وضمه إلى صدره، وحنى
عليه ظهره. قال سعد: فا"دخل سية القوس
بين الدرع والمغفر، فأقلع المغفر، فأرمي به وراء ظهره، ثم ضربته حتى قتلته،
وأخذت أسلبه درعه، فنهض إلي سبيع بن عبد عوف ونفر معه فمنعوني سلبه، وكان سلبه
أجود سلب رجل من المشركين: درع فضفاضة، ومغفر وسيف جيد، ولكن حيل بيني وبينه.
قال الواقدي:
ثم حمل لواء المشركين بعد أبي سعد بن أبي طلحة مسافع بن أبي طلحة، فرماه عاصم بن
ثابت بن أبي الأقلح فقتله، فحمل إلى أمه سلافة بنت سعد بن الشهيد، وهي مع النساء
بأحد، فقالت: من أصابك؟ قال: لا أدري، سمعته
يقول: خذها وأنا ابن الأقلح، فقالت: أقلحي والله! أي هو من رهطي- وكانت من
الأوس. قال الواقدي:
وقالوا: ما ظفر الله تعالى نبيه في موطن قط ما ظفره وأصحابه يوم أحد، حتى عصوا
الرسول، وتنازعوا في الأمر، لقد قتل أصحاب اللواء وانكشف المشركون منهم لا
يلوون، ونساؤهم يدعون بالويل بعد ضرب الدفاف والفرح. قال الواقدي:
وقد روى كثير من الصحابة ممن شهد أحداً، قال كل واحد منهم: والله إني لأنظر إلى
هند وصواحبها منهزمات، ما دون أخذهن شيء لمن أراده، ولكن لا مرد لقضاء الله.
قالوا: وكان خالد بن الوليد كلما أتى من قبل ميسرة
النبي صلى الله عليه وسلم ليجوز حتى يأتيهم من قبل السفح، ترده الرماة، حتى فعل
وفعلوا ذلك مراراً، ولكن المسلمين أتوا من قبل الرماة، إن رسول الله صلى الله
عليه وسلم أوعز إليهم فقال: قوموا على مصافكم هذه فاحموا ظهورنا، فإن رأيتمونا
قد غنمنا فلا تشركونا، وإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا. فلما انهزم المشركون، وتبعهم المسلمون يضعون
السلاح فيهم حيث شاؤوا حتى أجهزوهم عن المعسكر، ووقعوا ينتهبونه. قال بعض الرماة
لبعض: لم تقيمون هاهنا في غير شيء! قد هزم الله العدو، وهؤلاء إخوانكم ينهبون
عسكرهم، فادخلوا عسكر المشركين، فاغنموا مع إخوانكم، فقال بعضهم: ألم تعلموا أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لكم:"احموا ظهورنا، وإن غنمنا فلا تشركونا"،
فقال الآخرون: لم يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا، وقد أذل الله المشركين
وهزمهم، فادخلوا العسكر، فانتهبوا مع إخوانكم. فلما اختلفوا
خطبهم أميرهم عبد الله بن جبير، وكان يومئذ
معلماً بثياب بيض، فحمد الله وأمرهم بطاعة رسوله، وألا يخالف أمره، فعصوه، وانطلقوا
فلم يبق معه إلا نفير ما يبلغون العشرة، منهم الحارث بن
أنس بن رافع، يقول: يا قوم، اذكروا عهد نبيكم إليكم، وأطيعوا أميركم.
فأبوا، وذهبوا إلى عسكر المشركين ينتهبون، وخلوا الجبل، وانتقضت صفوف المشركين،
واستدارت رحاهم، ودارت الريح- وكانت إلى أن انتقض صفهم صباً، فصارت دبوراً -
فنظر خالد بن الوليد إلى خلاء الجبل وقلة أهله، فكر بالخيل، وتبعه عكرمة بالخيل،
فانطلقا إلى موضع الرماة، فحملوا عليهم فرماهم القوم حتى أصيبوا، ورمى عبد الله بن جبير حتى فنيت نبله، ثم طاعن بالرمح
حتى انكسر، ثم كسر جفن سيفه، فقاتل حتى قتل،
وأفلت جعيل بن سراقة وأبو بردة بن نيار بعد أن شاهدا قتل عبد الله بن جبير، وكان آخر من انصرف من الخيل، فلحقا بالمسلمين. قال الواقدي: وكان الشيخان: حسيل بن جابر ورفاعة بن وقش شيخين
كبيرين، قد رفعا الآطام مع النساء، فقال أحدهما لصاحبه: لا أبالك! ما نستبقي من أنفسنا!
فوالله ما نحن إلا هامة اليوم أو غد، وما بقي من أجلنا قدر ظمء دابة، فلو أخذنا
أسيافنا فلحقنا برسول الله صلى الله عليه
وسلم
لعل
الله يرزقنا الشهادة! قال: فلحقا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما رفاعة
فقتله المشركون، وأما حسيل بن جابر فالتفت عليه سيوف المسلمين، وهم لا يعرفونه
حين اختلطوا، وابنه حذيفة يقول: أبي أبي!
حتى قتل، فقال حذيفة: يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين،
ما صنعتم! فزاد له عند رسول الله صلى
الله عليه وسلم خيراً، وأمر
رسول الله بديته أن تخرج، ويقال: إن الذي أصابه عتبة بن مسعود، فتصدق حذيفة ابنه
بدمه على المسلمين. فأقبلوا عنقاً واحداً: لبيك داعي الله،
لبيك داعي الله! فيضرب يومئذ جبار بن صخر ضربة في رأسه مثقلة وما يدري، حتى
أظهروا الشعار بينهم، فجعلوا يصيحون: أمت أمت! فكف بعضهم عن بعض. قال الواقدي:
وروت عميرة بنت عبد الله عن كعب بن مالك، عن أبيها، قالت: قال أبي لما انكشف
الناس: كنت أول من عرف رسول الله صلى الله عليه
وسلم وبشرت
له المسلمين حياً سوياً، عرفت عينيه من تحت المغفر، فناديت: يا معشر الأنصار!
أبشروا، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فأشار إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن اصمت: قال:
ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بكعب،
فلبس لأمته، وألبس كعباً لأمة نفسه، وقاتل كعب يومئذ قتالاً شديداً، جرح سبعة
عشر جرحاً. وجعل أبو
سفيان يطوف بأبي عامر الفاسق في المعركة، هل يرى محمداً بين القتلى! فمر بخارجة
بن زيد بن أبي زهير، فقال: يا أبا سفيان، هل تدري من هذا؟ قال: لا، قال: هذا
خارجة بن زيد، هذا أسيد بني الحارث بن الخزرج، ومر بعباس بن عبادة بن نضلة إلى
جنبه، قال: أتعرفه؟ قال: لا، قال: هذا ابن قوقل؟ هذا
الشريف في بيت الشرف، ثم مر بذكوان بن عبد قيس، فقال: وهذا من ساداتهم، ثم مر
بابنه حنظلة بن أبي عامر، فوقف عليه، فقال أبو سفيان: من هذا؟ قال: هذا أعز من
هاهنا علي، هذا ابني حنظلة. قال أبو سفيان: ما نرى مصرع محمد؟ ولوكان قتل
لرأيناه، كذب ابن قميئة. ولقي خالد بن الوليد، فقال: هل تبين عندك قتل محمد؟
قال: لا، رأيته أقبل في نفر من أصحابه مصعدين في الجبل، فقال أبو سفيان: هذا
حق، كذب ابن قميئة، زعم أنه قتله! قلت: قرأت على النقيب أبي يزيد رحمه الله هذه
الغزاة من كتاب الواقدي، وقلت له: كيف جرى لهؤلاء في هذه الوقعة؟ فإني أستعظم ما
جرى! فقال: وما في ذلك مما تستعظمه! حمل
قلب المسلمين من بعد قتل أصحاب الألوية على قلب المشركين، فكسره فلو ثبتت مجنبتا
رسول الله اللتان فيهما أسيد بن حضير والحباب بن المنذر بإزاء مجنبتي المشركين،
لم ينكسر عسكر الإسلام، ولكن مجنبتا المسلمين أطبقت إطباقاً واحداً على قلب
المشركين، مضافاً إلى قلب المسلمين، فصار عسكر رسول الله صلى
الله عليه وسلم قلباً واحداً، وكتيبة واحدة، فحطمه قلب
قريش حطمة شديدة. فلما رأت مجنبتا قريش أنه ليس بإزائها أحد، استدارت
المجنبتان من وراء عسكر المسلمين، وصمد كثير منهم للرماة الذين كانوا يحمون ظهر
المسلمين، فقتلوهم عن آخرهم، لأنهم لم يكونوا ممن يقومون لخالد وعكرمة، وهما في
ألفي رجل، وإنما كانوا خمسين رجلاً، لا سيما وقد ترك كثير منهم مركزه وشلى
الغنيمة، فأكب على النهب. قلت له: أفيجوز أن يقال: إنه فر؟
فقال: إنما يكون الفرار ممن أمعن في الهرب في الصحراء
والبيداء، فأما من الجبل مطل عليه وهو في سفحه، فلما رأى ما لا يعجبه
أصعد في الجبل، فإنه لا يسمى فاراً. ثم سكت رحمه
الله ساعة، ثم قال: هكذا وقعت الحال، فإن شئت أن تسمي ذلك فراراً فسمه، فقد خرج من مكة يوم الهجرة
فاراً من المشركين، ولا وصمة عليه في ذلك. قال
الواقدي: وقالوا: إن رسول الله لما لحمه القتال، وخلص إليه
وذب عنه مصعب بن عمير وأبو دجانة، حتى كثرت به الجراحة، جعل رسول الله صلى
الله عليه وسلم
يقول:"من
رجل يشري نفسه"؟ فوثب فئة من الأنصار خمسة، منهم غمارة بن زياد بن السكن،
فقاتل حتى أثبت، وفاءت فئة من المسلمين حتى أجهضوا أعداء الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، لعمارة بن
زياد: ادن مني، حتى وسده رسول الله صلى الله عليه وسلم قدمه، وإن به لأربعة عشر
جرحاً حتى مات، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يذمر الناس ويحضهم على
القتال، وكان رجال من المشركين قد أذلقوا المسلمين بالرمي، منهم حيان بن العرقة
وأبو أسامة الجشمي، فجعل النبي صلى
الله عليه وسلم يقول لسعد:"ارم فداك أبي
وأمي"! فرمى حيان بن العرقة بسهم فأصاب ذيل أم أيمن، وكانت جاءت يومئذ تسقي
الجرحى، فقلبها، وانكشف ذيلها عنها، فاستغرب حيان بن العرقة ضحكاً، وشق ذلك على
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدفع إلى سعد بن أبي وقاص سهماً لا نصل له، وقال: ارم به، فرمى فوضع السهم في ثغرة نحر حيان،
فوقع مستلقياً، وبدت عورته. قال سعد، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم ضحك
يومئذ حتى بدت نواجذه، وقال: استقاد لها سعد، أجاب الله
دعوتك، وسدد رميتك، ورمى يومئذ مالك بن زهير
الجشمي أخو أبي أسامة الجشمي المسلمين
رمياً شديداً، وكان هو وريان بن العرقة قد أسرعا في أصحاب رسول الله صلى
الله عليه وسلم، وأكثرا فيهم القتل يستتران بالصخر،
ويرميان، فبينا هم على ذلك أبصر سعد بن أبي وقاص مالك بن زهير يرمي من وراء صخرة
قد رمى، وأطلع رأسه، فيرميه سعد، فأصاب السهم عينه، حتى خرج من قفاه، فترى في
السماء قامة، ثم رجع فسقط، فقتله الله عز وجل.
فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه، فقال: هذا جبرائيل. قال الواقدي:
وأقبل عثمان بن عبد الله بن المغيرة المخزومي
يحضر فرساً له أبلق، يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، عليه لأمة كاملة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم متوجه إلى الشعب وهو يصيح: لا نحوت إن نحوت! فيقف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعثر لعثمان فرسه في بعض تلك الحفر التي حفرها أبو عامر
الفاسق للمسلمين، فيقع الفرس لوجهه، وسقط عثمان عنه، وخرج الفرس غائراً، فيأخذه
بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويمشي إليه
الحارث بن الصمة، فاضطربا ساعة بالسيفين، ثم يضرب الحارث رجله، وكان درعه
مشمرة فبرك، وذفف عليه، وأخذ الحارث يومئذ سلبه:
درعاً جيداً، ومغفراً، وسيفاً جيداً، ولم يسمع بأحد من
المشركين سلب يومئذ غيره، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إلى قتالهما، فسأل عن
الرجل،
قيل: عثمان بن عبد الله بن المغيرة، قال: الحمد لله الذي أحانه، وقد كان عبد الله بن جحش أسره من قبل ببطن نخلة، حتى قدم به
على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فافتدى ورجع إلى قريش، وغزا معهم أحداً، فقتل
هناك، ويرى مصرع عثمان عميد بن حاجز العامري
أحد بني عامر بن لؤي، فأقبل يعدو كأنه سبع، فيضرب حارث
بن الصمة ضربة على عاتقه، فوقع الحارث جريحاً
حتى احتمله أصحابه، ويقبل أبو دجانة على عبيد بن حاجز، فتناوشا ساعة من نهار،
وكل واحد منهما يتقي بالدرقة سيف صاحبه، ثم حمل عليه
أبو دجانة فاحتضنه، ثم جلد به الأرض، وذبحه بالسيف كما تذبح الشاة، ثم انصرف،
فلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الواقدي: وروى الحارث بن عبيد الله بن كعب بن مالك، قال: حدثني من نظر إلى أبي سبرة بن الحارث
بن علقمة، ولقي أحد المشركين، فاختلفا ضربات، كل ذلك يروغ أحدهما عن الآخر، قال: فنظر الناس إليهما كأنهما سبعان ضاريان يقفان مرة
ويقتتلان أخرى، ثم تعانقا، فوقعا إلى الأرض جميعاً، فعلاه أبو سبرة فذبحه بسيفه كما تذبح الشاة، ونهض عنه فيقبل
خالد بن الوليد وهو على فرس أدهم أغر محجل، يجر قناة طويلة، فطعن أبا سبرة من
خلفه، فنظرت إلى سنان الرمح خرج من صدره، ووقع أبو سبرة ميتاً، وانصرف خالد بن
الوليد، يقول: أنا أبو سليمان! قال الواقدي:
وقاتل طلحة بن عبيد الله يومئذ عن النبي صلى
الله عليه وسلم قتالاً شديداً، وكان طلحة يقول:
لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث انهزم أصحابه، وكثر المشركون، فأحدقوا
بالنبي صلى الله عليه وسلم من
كل ناحية، فما أدري أقوم من بين يديه أو من ورائه؟ أم عن يمينه أم عن شماله؟
فأذب بالسيف عنه هاهنا وهاهنا حتى انكشفوا، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لطلحة:"لقد أوجب" وروي:"لقد أنحب" أي قضى
نذره. قال الواقدي:
وحدثني جابر بن سليم عن عثمان بن صفوان، عن غمارة بن خزيمة، قال: حدثني من نظر
إلى الحباب بن المنذر بن الجموح، وإنه ليحوشهم يومئذ كما تحاش الغنم، ولقد اشتملوا
عليه حتى قيل: قد قتل، ثم برز والسيف في يده، وافترقوا عنه، وجعل يحمل على فرقة
منهم، وإنهم ليهربون منه إلى جمع منهم، وصار الحباب إلى النبي صلى
الله عليه وسلم،
وكان
الحباب يومئذ معلماً بعصابة خضراء في مغفره. قال: فيقول خارجة: لا عذر لنا والله عند ربنا ولا
حجة، فأما عباس فقتله سفيان بن عبد شمس السلمي، ولقد ضربه عباس ضربتين، فجرحه
جرحين عظيمين، فارتث يومئذ جريحاً، فمكث جريحاً سنة، ثم استبل. وأخذت خارجة بن
زيد الرماح، فجرح بضعة عشر جرحاً، فمر به صفوان بن أمية، فعرفه فقال: هذا من
أكابر أصحاب محمد، وبه رمق، فأجهز عليه. وقتل أوس بن أرقم، وقال صفوان: من رأى
خبيب بن يساف؟ وهو يطلبه فلا يقدر عليه. ومثل يومئذ بخارجة، وقال: هذا ممن أغرى
بأبي يوم بدر- يعني أمية بن خلف- وقال: الآن شفيت نفسي حين قتلت الأماثل من
أصحاب محمد، قتلت ابن قوقل، وقتلت ابن أبي زهير، وقتلت أوس بن أرقم. قال الواقدي:
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ:
من يأخذ هذا السيف لحقه؟ قالوا: وما حقه يا رسول الله؟ قال: ويضرب به العدو،
فقال عمر: أنا يا رسول الله، فأعرض عنه، ثم عرضه
رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك الشرط، فقام الزبير، فقال: أنا، فأعرض
عنه، حتى وجدا عمر والزبير في أنفسهما، ثم عرضه الثالثة، فقام أبو دجانة، وقال: أنا يا رسول الله آخذه
بحقه، فدفعه إليه، فصدق حين لقي به العدو، وأعطى السيف حقه، فقال أحد الرجلين- إما عمر بن الخطاب أو الزبير: والله
لأجعلن هذا الرجل الذي أعطاه السيف ومنعنيه من شأني، قال: فاتبعته، فوالله ما
رأيت أحداً قاتل أفضل من قتاله، لقد رأيته يضرب به حتى إذا كل عليه وخاف ألا
يحيك عمد به إلى الحجارة، فشحذه، ثم يضرب به العدو، حتى يرده كأنه منجل، وكان
حين أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم السيف مشى بين الصفين، واختال في مشيته،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه يمشي تلك المشية: إن هذه لمشية
يبغضها الله تعالى إلا في مثل هذا الموطن، قال: وكان أربعة من أصحاب النبي صلى
الله عليه وسلم يعلمون في الزحوف، أحدهم أبو دجانة، كان يعصب رأسه بعصابة حمراء،
وكان قومه يعلمون أنه إذا اعتصب بها أحسن القتال، وكان
علي عليه السلام يعلم بصوفة بيضاء، وكان الزبير يعلم بعصابة صفراء، وكان حمزة
يعلم بريش نعامة. قال الواقدي:
فكان أبو هريرة يقول، والناس حوله: أخبروني برجل يدخل
الجنة لم يصل لله تعالى سجدة؟ فيسكت الناس، فيقول
أبو هريرة: هو أخو بني عبد الأشهل عمرو بن ثابت بن وقش. وكان أبو
طلحة يحدث، يقول: نظرت إلى عمرو بن الجموح حين انكشف المسلمون، ثم ثابوا وهو في
الرعيل الأول، لكأني أنظر إلى ظلعه وهو يعرج في مشيته، وهو
يقول: أنا والله مشتاق إلى الجنة، ثم أنظر إلى ابنه يعدو في أثره، حتى قتلا
جميعاً. قال: فقالت لها عائشة: فمن
هؤلاء؟ قالت: أخي وابني وزوجي قتلى، قالت: فأين
تذهبين بهم؟ قالت: إلى المدينة أقبرهم بها، !حل
حل"، تزجر بعيرها، فبرك البعير، فقالت
عائشة: لثقل ما حمل، قالت هند: ما ذاك به، لربما حمل ما يحمله البعيران، ولكني أراه لغير
ذلك، فزجرته فقام، فلما وجهت به إلى المدينة برك، فوجهته راجعة إلى أحد، فأسرع!،
فرجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته
بذلك، فقال: إن الجمل لمأمور، هل قال عمرو شيئاً؟
قالت: نعم، إنه لما وجه إلى أحد استقبل القبلة، ثم قال:
اللهم لا تردني إلى أهلي، وارزقني الشهادة؟ فقال
صلى الله عليه وسلم : فلذلك الجمل لا يمضي، إن منكم يا
معشر الأنصار من لو أقسم على الله لأبره، منهم عمرو بن الجموح، يا هند، ما زالت الملائكة مظلة على أخيك من لدن قتل إلى الساعة،
ينظرون أين يدفن! ثم مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبرهم، ثم قال:
يا هند، قد ترافقوا في الجنة جميعاً، عمرو بن الجموح بعلك، وخلاد ابنك، وعبد
الله أخوك. فقالت هند: يا رسول الله، فادع الله
لي عسى أن يجعلني معهم! قال الواقدي: وكان جابر بن عبد
الله، يقول: اصطبح ناس يوم أحد الخمر، منهم أبي،
فقتلوا شهداء. قال الواقدي: وكانت نسيبة بنت كعب أم عمارة بن غزية بن عمرو قد شهدت
أحداً، وزوجها غزية وابناها عمارة بن غزية وعبد الله بن زيد، وخرجت ومعها شن لها
في أول النهار تريد تسقي الجرحى، فقاتلت يومئذ وأبلت
بلاء حسناً، فجرحت اثني عشر جرحاً بين طعنة برمح أو ضربة بسيف، فكانت أم سعد بنت سعد بن الربيع تحدث، فتقول: دخلت
عليها، فقالت لها: يا خالة، حدثيني خبرك، فقالت: خرجت أول النهار إلى أحد، وأنا
أنظر ما يصنع الناس، ومعي سقاء فيه ماء، فانتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم وهو في الصحابة والدولة والريح للمسلمين، فلما
انهزم المسلمون، انحزت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعلت أباشر القتال، وأذب عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم بالسيف، وأرمي بالقوس، حتى
خلصت إلى الجراح، فرأيت على عاتقها جرحاً أجوف له غور، فقلت: يا أم عمارة، من
أصابك بهذا؟ قالت: أقبل ابن قميئة، وقد ولى الناس عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم يصيح: دلوني على محمد، لا نجوت إن نجا! فاعترض له مصعب بن عمير وناس معه، فكنت فيهم، فضربني هذه
الضربة، ولقد ضربته على ذلك ضربات، ولكن عدو
الله كان عليه درعان. فقلت لها: يدك ما أصابها؟
قالت: أصيبت يوم اليمامة، لما جعلت الأعراب تنهزم
بالناس، نادت الأنصار: أخلصونا. فأخلضت الأنصار، فكنت معهم، حتى انتهينا
إلى حديقة الموت، فاقتتلنا عليها ساعة، حتى قتل أبو
دجانة على باب الحديقة؟ ودخلتها وأنا أريد عدو
الله مسيلمة، فيعرض لي رجل، فضرب يدي فقطعها، فوالله ما كانت ناهية، ولا عرجت
عليها، حتى وقفت على الخبيث مقتولاً، وابني عبد الله بن زيد المازني يمسح سيفه
بثيابه، فقلت: أقتلته؟ قال: نعم، فسجدت شكراً لله عز وجل وانصرفت. قال
الواقدي: وحدثني ابن أبي سبرة، عن عمرو بن يحيى، عن أبيه،
عن عبد الله بن زيد المازني، قال: جرحت يومئذ جرحاً في عضدي اليسرى، ضربني رجل
كأنه الرقل ولم يعرج علي، ومضى عني، وجعل الدم لا يرقأ فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: اعصب جرحك، فتقبل أمي إلي، ومعها عصائب في حقويها قد أعدتها للجراح،
فربطت جرحي والنبي صلى الله عليه وسلم واقف ينظر، ثم قالت: انهض يا بني، فضارب
القوم، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ومن
يطيق ما تطيقين يا أم عمارة! قالت: وأقبل الرجل الذي ضربني، فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: هذا ضارب ابنك، فاعترضت أمي
له، فضربت ساقه، فبرك، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم تبسم حتى بدت نواجذه،
ثم قال: استقدت يا أم عمارة. ثم أقبلنا نعلوه بالسلاح حتى أتينا على نفسه، فقال
النبي صلى الله عليه وسلم: الحمد لله الذي ظفرك وأقر عينك من عدوك، وأراك ثأرك
بعينك! قال
الواقدي: وروى موسى بن ضمرة بن سعيد، عن أبيه، قال: أتى عمر بن الخطاب في أيام خلافته بمروط كان فيها
مرط واسع جيد، فقال بعضهم: إن هذا المرط بثمن
كذا، فلو أرسلت به إلى زوجة عبد الله بن عمر
صفية بنت أبي عبيد، وذلك حدثان ما دخلت على ابن
عمر، فقال: بل أبعث به إلى من هو أحق منها، أم عمارة نسيبة بنت كعب سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يوم أحد يقول: ما التفت يميناً وشمالاً إلا وأنا أراها تقاتل دوني. ثم تزوجها
ثابت بن قيس بعد، فولدت له محمد بن ثابت بن قيس. وأخذ حنظلة بن أبي عامر سلاحه، فلحق
برسول الله صلى الله عليه وسلم بأحد، وهو يسوي الصفوف، فلما
انكشف المشركون، اعترض حنظلة لأبي سفيان بن حرب، فضرب عرقوب فرسه، فاكتسعت الفرس،
ويقع أبو سفيان إلى الأرض، فجعل يصيح: يا معشر قريش،
أنا أبو سفيان بن حرب! وحنظلة يريد ذبحه بالسيف، فأسمع الصوت رجالاً لا
يلتفتون إليه من الهزيمة، حتى عاينه الأسود بن شعوب،
فحمل على حنظلة بالرمح، فأنفذه، ومشى حنظلة إليه في الرمح فضربه ثانية فقتله،
وهرب أبو سفيان يعدو على قدميه، فلحق ببعض قريش،
فنزل عن صدر فرسه، وردف وراءه أبا سفيان، فذلك قول أبي سفيان يذكر صبره ووقوفه وأنه
لم يفر، وذكره محمد بن إسحاق:
قال الواقدي:
مر أبو عامر الراهب على حنظلة ابنه وهو مقتول إلى جنب
حمزة بن عبد المطلب، وعبد الله بن جحش،
فقال: إن كنت لأحذرك هذا الرجل- يعني رسول الله
صلى الله عليه وسلم- من قبل هذا المصرع، والله
إن كنت لبراً بالوالد، شريف الخلق في حياتك، وإن مماتك لمع سراة أصحابك
وأشرافهم، إن جزى الله هذا القتيل- يعني حمزة- خيراً،
أو جزى أحداً من أصحاب محمد خيراً، فليجزك، ثم نادى- يا معشر قريش، حنظلة
لا يمثل به، وإن كان خالفني وخالفكم، فلم يأل لنفسه
فيما يرى خيراً، فمثل بالناس وترك حنظلة فلم يمثل به. قال الواقدي:
وأقبل وهب بن قابوس المزني، ومعه ابن أخيه الحارث بن عقبة بن قابوس بغنم لهما من
جبل مزينة، فوجد المدينة خلواً، فسألا: أين الناس؟ قالوا: بأحد، خرج رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقاتل المشركين من قريش، فقال: لا نبتغي أثراً بعد عين،
فخرجا حتى أتيا النبي صلى الله عليه وسلم بأحد، فيجدان القوم يقتتلون، والدولة
لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه،
فأغارا مع المسلمين في النهب، وجاءت الخيل من ورائهم، خالد بن الوليد وعكرمة ابن
أبي جهل، فاختلط الناس، فقاتلا أشد القتال، فانفرقت فرقة من المشركين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من لهذه الفرقة؟ فقال وهب
بن قابوس: أنا يا رسول الله، فقام فرماهم بالنبل حتى انصرفوا، ثم رجع فانفرقت
فرقة أخرى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من لهذه الكتيبة؟ فقال المزني:
أنا يا رسول الله، فقام فذبها بالسيف حتى ولت، ثم رجع فطلعت كتيبة أخرى، فقال
النبي صلى الله عليه وسلم: من يقوم لهؤلاء؟ فقال المزني: أنا يا رسول الله فقال:
قم وأبشر بالجنة. فقام المزني مسروراً يقول: والله لا أقيل ولا أستقيل، فجعل
يدخل فيهم فيضرب بالسيف ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليه والمسلمون، حتى
خرج من أقصى الكتيبة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم ارحمه
ثم يرجع فيهم، فما زال كذلك وهم محدقون به، حتى اشتملت عليه أسيافهم ورماحهم، فقتلوه فوجد به يومئذ عشرون طعنة بالرماح، كلها قد خلصت إلى
مقتل، ومثل به أقبح المثل يومئذ. ثم قام ابن
أخيه، فقاتل كنحو قتاله، حتى قتل، فكان عمر بن
الخطاب يقول: إن أحب ميتة أموت عليها لما مات
عليها المزني. قال الواقدي:
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد قد خاصم إليه يتيم من الأنصار
أبا لبابة بن عبد المنذر في عذق بينهما، فقضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأبي لبابة،
فجزع اليتيم على العذق، فطلب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم العذق إلى أبي
لبابة لليتيم، فأبى أن يدفعه إليه، فجعل رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم يقول لأبي لبابة: ادفعه إليه ولك عذق في الجنة، فأبى أبو لبابة، وقال ثابت بن أبي الدحداحة: يا
رسول الله؛ أرأيت إن أعطيت اليتيم عذقه من مالي! قال: لك به عذق في الجنة، فذهب
ثابت بن الدحداحة، فاشترى من أبي لبابة ذلك العذق بحديقة نخل، ثم رد العذق إلى
الغلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رب
عذق مذلل لابن الدحداحة في الجنة، فكانت ترجى له الشهادة بذلك القول،
فقتل يوم أحد. فالحمد لله الذي أكرمهم بيدي، ولم يهني بأيديهم. قال الواقدي: وقال علي عليه السلام: لما كان يوم أحد وجال الناس تلك الجولة أقبل أمية بن أبي حذيفة بن المغيرة، وهو دارع مقنع في
الحديد ما يرى منه إلا عيناه، وهو يقول: يوم بيوم بدر!
فيعرض له رجل من المسلمين، فقتله أمية؟ قال علي عليه السلام: وأصمد له، فأضربه بالسيف على هامته،
وعليه بيضة، وتحت البيضة مغفر، فنبا سيفي، وكنت رجلاً قصيراً، ويضربني بسيفه،
فأتقي بالدرقة، فلحج سيفه، فأضربه، وكانت درعه مشمرة، فأقطع رجليه، فوقع وجعل
يعالج سيفه، حتى خلصه من الدرقة، وجعل يناوشني وهو بارك حتى نظرت إلى فتق تحت
إبطه فأحش فيه بالسيف، فمال فمات، وانصرفت.
قال الواقدي:
بينا عمر بن الخطاب يومئذ في رهطٍ من المسلمين قعود،
مر بهم أنس بن النضر بن ضمضم عم أنس بن مالك، فقال: ما
يقعدكم؟ قالوا: قتل رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم، قال: فما تصنعون بالحياة بعده؟
قوموا فموتوا على ما مات عليه، ثم قام، فجالد
بسيفه حتى قتل، فقال عمر بن الخطاب: إني لأرجو أن يبعثه الله أمة وحده يوم القيامة، وجد به سبعون ضربةً في
وجهه ما عرف حتى عرفته أخته.
وقال
ابن الزبعرى أيضاً من قصيدة مشهورة، وهي:
قلت: كثير من الناس يعتقدون أن هذا البيت ليزيد بن معاوية، وهو قوله: ليت أشياخي، وقال من أكره التصريح باسمه: هذا البيت
ليزيد، فقلت له: إنما قاله يزيد متمثلاً لما حمل إليه رأس الحسين عليه
السلام، وهو لابن الزبعرى، فلم تسكن نفسه إلى
ذلك، حتى أوضحته له، فقلت ألا تراه يقول: جزع الخزرج من وقع الأسل، والحسين عليه السلام لم تحارب عنه الخزرج، وكان
يليق أن يقول: جزع
بني هاشم من وقع الأسل؛ فقال بعض من كان حاضراً:
لعله قاله في يوم الحرة! فقلت: المنقول أنه
أنشده لما حمل إليه رأس الحسين عليه السلام؛ والمنقول أنه شعر ابن
الزبعرى، ولا يجوز أن يترك المنقول إلى ما ليس بمنقول.
فقال
باتكين: لا تقل هذا؟ ولكن قل: "ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى
إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعدما أراكم ما تحبون منكم من يريد
الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل
على المؤمنين " وكان باتكين مسلماً، وكان جعفر
سامحه الله مغموصاً عليه في دينه. تم الجزء الرابع عشر من شرج نهج البلاغة لابن أبي
الحديد |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الفهرس الجزء الرابع عشر باب المختار من الخطب والأوامر
- ابن ابي الحديد. 1 من كتاب له إلى أهل الكوفة عند مسيره
من المدينة إلى البصرة 2 ومن كتاب له إليهم بعد فتح البصرة 10 ومن كتاب له كتبه لشريح بن الحارث
قاضيه. 11 ومن كتاب له كتبه إلى بعض أمراء
جيشه. 12 ومن كتاب له إلى لأشعث بن قيس وهو
عامل أذربيجان. 13 ومن كتاب له إلى جرير بن عبد الله
البجلي لما أرسله إلى معاوية. 17 |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||