- القرآن الكريم
- سور القرآن الكريم
- 1- سورة الفاتحة
- 2- سورة البقرة
- 3- سورة آل عمران
- 4- سورة النساء
- 5- سورة المائدة
- 6- سورة الأنعام
- 7- سورة الأعراف
- 8- سورة الأنفال
- 9- سورة التوبة
- 10- سورة يونس
- 11- سورة هود
- 12- سورة يوسف
- 13- سورة الرعد
- 14- سورة إبراهيم
- 15- سورة الحجر
- 16- سورة النحل
- 17- سورة الإسراء
- 18- سورة الكهف
- 19- سورة مريم
- 20- سورة طه
- 21- سورة الأنبياء
- 22- سورة الحج
- 23- سورة المؤمنون
- 24- سورة النور
- 25- سورة الفرقان
- 26- سورة الشعراء
- 27- سورة النمل
- 28- سورة القصص
- 29- سورة العنكبوت
- 30- سورة الروم
- 31- سورة لقمان
- 32- سورة السجدة
- 33- سورة الأحزاب
- 34- سورة سبأ
- 35- سورة فاطر
- 36- سورة يس
- 37- سورة الصافات
- 38- سورة ص
- 39- سورة الزمر
- 40- سورة غافر
- 41- سورة فصلت
- 42- سورة الشورى
- 43- سورة الزخرف
- 44- سورة الدخان
- 45- سورة الجاثية
- 46- سورة الأحقاف
- 47- سورة محمد
- 48- سورة الفتح
- 49- سورة الحجرات
- 50- سورة ق
- 51- سورة الذاريات
- 52- سورة الطور
- 53- سورة النجم
- 54- سورة القمر
- 55- سورة الرحمن
- 56- سورة الواقعة
- 57- سورة الحديد
- 58- سورة المجادلة
- 59- سورة الحشر
- 60- سورة الممتحنة
- 61- سورة الصف
- 62- سورة الجمعة
- 63- سورة المنافقون
- 64- سورة التغابن
- 65- سورة الطلاق
- 66- سورة التحريم
- 67- سورة الملك
- 68- سورة القلم
- 69- سورة الحاقة
- 70- سورة المعارج
- 71- سورة نوح
- 72- سورة الجن
- 73- سورة المزمل
- 74- سورة المدثر
- 75- سورة القيامة
- 76- سورة الإنسان
- 77- سورة المرسلات
- 78- سورة النبأ
- 79- سورة النازعات
- 80- سورة عبس
- 81- سورة التكوير
- 82- سورة الانفطار
- 83- سورة المطففين
- 84- سورة الانشقاق
- 85- سورة البروج
- 86- سورة الطارق
- 87- سورة الأعلى
- 88- سورة الغاشية
- 89- سورة الفجر
- 90- سورة البلد
- 91- سورة الشمس
- 92- سورة الليل
- 93- سورة الضحى
- 94- سورة الشرح
- 95- سورة التين
- 96- سورة العلق
- 97- سورة القدر
- 98- سورة البينة
- 99- سورة الزلزلة
- 100- سورة العاديات
- 101- سورة القارعة
- 102- سورة التكاثر
- 103- سورة العصر
- 104- سورة الهمزة
- 105- سورة الفيل
- 106- سورة قريش
- 107- سورة الماعون
- 108- سورة الكوثر
- 109- سورة الكافرون
- 110- سورة النصر
- 111- سورة المسد
- 112- سورة الإخلاص
- 113- سورة الفلق
- 114- سورة الناس
- سور القرآن الكريم
- تفسير القرآن الكريم
- تصنيف القرآن الكريم
- آيات العقيدة
- آيات الشريعة
- آيات القوانين والتشريع
- آيات المفاهيم الأخلاقية
- آيات الآفاق والأنفس
- آيات الأنبياء والرسل
- آيات الانبياء والرسل عليهم الصلاة السلام
- سيدنا آدم عليه السلام
- سيدنا إدريس عليه السلام
- سيدنا نوح عليه السلام
- سيدنا هود عليه السلام
- سيدنا صالح عليه السلام
- سيدنا إبراهيم عليه السلام
- سيدنا إسماعيل عليه السلام
- سيدنا إسحاق عليه السلام
- سيدنا لوط عليه السلام
- سيدنا يعقوب عليه السلام
- سيدنا يوسف عليه السلام
- سيدنا شعيب عليه السلام
- سيدنا موسى عليه السلام
- بنو إسرائيل
- سيدنا هارون عليه السلام
- سيدنا داود عليه السلام
- سيدنا سليمان عليه السلام
- سيدنا أيوب عليه السلام
- سيدنا يونس عليه السلام
- سيدنا إلياس عليه السلام
- سيدنا اليسع عليه السلام
- سيدنا ذي الكفل عليه السلام
- سيدنا لقمان عليه السلام
- سيدنا زكريا عليه السلام
- سيدنا يحي عليه السلام
- سيدنا عيسى عليه السلام
- أهل الكتاب اليهود النصارى
- الصابئون والمجوس
- الاتعاظ بالسابقين
- النظر في عاقبة الماضين
- السيدة مريم عليها السلام ملحق
- آيات الناس وصفاتهم
- أنواع الناس
- صفات الإنسان
- صفات الأبراروجزائهم
- صفات الأثمين وجزائهم
- صفات الأشقى وجزائه
- صفات أعداء الرسل عليهم السلام
- صفات الأعراب
- صفات أصحاب الجحيم وجزائهم
- صفات أصحاب الجنة وحياتهم فيها
- صفات أصحاب الشمال وجزائهم
- صفات أصحاب النار وجزائهم
- صفات أصحاب اليمين وجزائهم
- صفات أولياءالشيطان وجزائهم
- صفات أولياء الله وجزائهم
- صفات أولي الألباب وجزائهم
- صفات الجاحدين وجزائهم
- صفات حزب الشيطان وجزائهم
- صفات حزب الله تعالى وجزائهم
- صفات الخائفين من الله ومن عذابه وجزائهم
- صفات الخائنين في الحرب وجزائهم
- صفات الخائنين في الغنيمة وجزائهم
- صفات الخائنين للعهود وجزائهم
- صفات الخائنين للناس وجزائهم
- صفات الخاسرين وجزائهم
- صفات الخاشعين وجزائهم
- صفات الخاشين الله تعالى وجزائهم
- صفات الخاضعين لله تعالى وجزائهم
- صفات الذاكرين الله تعالى وجزائهم
- صفات الذين يتبعون أهواءهم وجزائهم
- صفات الذين يريدون الحياة الدنيا وجزائهم
- صفات الذين يحبهم الله تعالى
- صفات الذين لايحبهم الله تعالى
- صفات الذين يشترون بآيات الله وبعهده
- صفات الذين يصدون عن سبيل الله تعالى وجزائهم
- صفات الذين يعملون السيئات وجزائهم
- صفات الذين لايفلحون
- صفات الذين يهديهم الله تعالى
- صفات الذين لا يهديهم الله تعالى
- صفات الراشدين وجزائهم
- صفات الرسل عليهم السلام
- صفات الشاكرين وجزائهم
- صفات الشهداء وجزائهم وحياتهم عند ربهم
- صفات الصالحين وجزائهم
- صفات الصائمين وجزائهم
- صفات الصابرين وجزائهم
- صفات الصادقين وجزائهم
- صفات الصدِّقين وجزائهم
- صفات الضالين وجزائهم
- صفات المُضَّلّين وجزائهم
- صفات المُضِلّين. وجزائهم
- صفات الطاغين وجزائهم
- صفات الظالمين وجزائهم
- صفات العابدين وجزائهم
- صفات عباد الرحمن وجزائهم
- صفات الغافلين وجزائهم
- صفات الغاوين وجزائهم
- صفات الفائزين وجزائهم
- صفات الفارّين من القتال وجزائهم
- صفات الفاسقين وجزائهم
- صفات الفجار وجزائهم
- صفات الفخورين وجزائهم
- صفات القانتين وجزائهم
- صفات الكاذبين وجزائهم
- صفات المكذِّبين وجزائهم
- صفات الكافرين وجزائهم
- صفات اللامزين والهامزين وجزائهم
- صفات المؤمنين بالأديان السماوية وجزائهم
- صفات المبطلين وجزائهم
- صفات المتذكرين وجزائهم
- صفات المترفين وجزائهم
- صفات المتصدقين وجزائهم
- صفات المتقين وجزائهم
- صفات المتكبرين وجزائهم
- صفات المتوكلين على الله وجزائهم
- صفات المرتدين وجزائهم
- صفات المجاهدين في سبيل الله وجزائهم
- صفات المجرمين وجزائهم
- صفات المحسنين وجزائهم
- صفات المخبتين وجزائهم
- صفات المختلفين والمتفرقين من أهل الكتاب وجزائهم
- صفات المُخلَصين وجزائهم
- صفات المستقيمين وجزائهم
- صفات المستكبرين وجزائهم
- صفات المستهزئين بآيات الله وجزائهم
- صفات المستهزئين بالدين وجزائهم
- صفات المسرفين وجزائهم
- صفات المسلمين وجزائهم
- صفات المشركين وجزائهم
- صفات المصَدِّقين وجزائهم
- صفات المصلحين وجزائهم
- صفات المصلين وجزائهم
- صفات المضعفين وجزائهم
- صفات المطففين للكيل والميزان وجزائهم
- صفات المعتدين وجزائهم
- صفات المعتدين على الكعبة وجزائهم
- صفات المعرضين وجزائهم
- صفات المغضوب عليهم وجزائهم
- صفات المُفترين وجزائهم
- صفات المفسدين إجتماعياَ وجزائهم
- صفات المفسدين دينيًا وجزائهم
- صفات المفلحين وجزائهم
- صفات المقاتلين في سبيل الله وجزائهم
- صفات المقربين الى الله تعالى وجزائهم
- صفات المقسطين وجزائهم
- صفات المقلدين وجزائهم
- صفات الملحدين وجزائهم
- صفات الملحدين في آياته
- صفات الملعونين وجزائهم
- صفات المنافقين ومثلهم ومواقفهم وجزائهم
- صفات المهتدين وجزائهم
- صفات ناقضي العهود وجزائهم
- صفات النصارى
- صفات اليهود و النصارى
- آيات الرسول محمد (ص) والقرآن الكريم
- آيات المحاورات المختلفة - الأمثال - التشبيهات والمقارنة بين الأضداد
- نهج البلاغة
- تصنيف نهج البلاغة
- دراسات حول نهج البلاغة
- الصحيفة السجادية
- تصنيف الصحيفة السجادية
- تصنيف الصحيفة بالموضوعات
- الباب السابع : باب الاخلاق
- الباب الثامن : باب الطاعات
- الباب التاسع: باب الذكر والدعاء
- الباب العاشر: باب السياسة
- الباب الحادي عشر:باب الإقتصاد
- الباب الثاني عشر: باب الإنسان
- الباب الثالث عشر: باب الكون
- الباب الرابع عشر: باب الإجتماع
- الباب الخامس عشر: باب العلم
- الباب السادس عشر: باب الزمن
- الباب السابع عشر: باب التاريخ
- الباب الثامن عشر: باب الصحة
- الباب التاسع عشر: باب العسكرية
- الباب الاول : باب التوحيد
- الباب الثاني : باب النبوة
- الباب الثالث : باب الإمامة
- الباب الرابع : باب المعاد
- الباب الخامس: باب الإسلام
- الباب السادس : باب الملائكة
- تصنيف الصحيفة بالموضوعات
- أسماء الله الحسنى
- أعلام الهداية
- النبي محمد (صلى الله عليه وآله)
- الإمام علي بن أبي طالب (عليه السَّلام)
- السيدة فاطمة الزهراء (عليها السَّلام)
- الإمام الحسن بن علي (عليه السَّلام)
- الإمام الحسين بن علي (عليه السَّلام)
- لإمام علي بن الحسين (عليه السَّلام)
- الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السَّلام)
- الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السَّلام)
- الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السَّلام)
- الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السَّلام)
- الإمام محمد بن علي الجواد (عليه السَّلام)
- الإمام علي بن محمد الهادي (عليه السَّلام)
- الإمام الحسن بن علي العسكري (عليه السَّلام)
- الإمام محمد بن الحسن المهدي (عجَّل الله فرَجَه)
- تاريخ وسيرة
- "تحميل كتب بصيغة "بي دي أف
- تحميل كتب حول الأخلاق
- تحميل كتب حول الشيعة
- تحميل كتب حول الثقافة
- تحميل كتب الشهيد آية الله مطهري
- تحميل كتب التصنيف
- تحميل كتب التفسير
- تحميل كتب حول نهج البلاغة
- تحميل كتب حول الأسرة
- تحميل الصحيفة السجادية وتصنيفه
- تحميل كتب حول العقيدة
- قصص الأنبياء ، وقصص تربويَّة
- تحميل كتب السيرة النبوية والأئمة عليهم السلام
- تحميل كتب غلم الفقه والحديث
- تحميل كتب الوهابية وابن تيمية
- تحميل كتب حول التاريخ الإسلامي
- تحميل كتب أدب الطف
- تحميل كتب المجالس الحسينية
- تحميل كتب الركب الحسيني
- تحميل كتب دراسات وعلوم فرآنية
- تحميل كتب متنوعة
- تحميل كتب حول اليهود واليهودية والصهيونية
- المحقق جعفر السبحاني
- تحميل كتب اللغة العربية
- الفرقان في تفسير القرآن -الدكتور محمد الصادقي
- وقعة الجمل صفين والنهروان
الجزء الثالث عشرباب المختار
من الخطب والأوامر - ابن ابي الحديد
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال
في وصف بيعته بالخلافة وقد تقدم مثله بألفاظ مختلفة
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
وبسطتم يدي فكففتها، ومددتموها فقبضتها، ثم تداككتم علي تداك الإبل الهيم على حياضها يوم
وردها، حتى انقطع النعل، وسقط الرداء، ووطىء الضعيف، وبلغ من سرور الناس ببيعتهم
إياي أن أبتهج بها الصغير، وهدج إليها الكبير، وتحامل نحوها العليل، وحسرت إليها
الكعاب. والإبل الهيم: العطاش،
وهدج إليها الكبير: مشى مشياً ضعيفاً مرتعشاً،
والمضارع يهدج، بالكسر، وتحامل نحوها العليل: تكلف
المشي على مشقة. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال
في الوصية بالتقوى
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: فإن تقوى
الله مفتاح سداد، وذخيرة معاد، وعتق من كل ملكة، ونجاة من كل هلكة، بها ينجح
الطالب، وينجو الهارب، وتنال الرغائب. والموت الخالس: المختطف. والطيات:
جمع طية بالكسر، وهي منزل السفر. ونبوته: مصدر نبا السيف، إذا لم يؤثر في الضريبة. وتغشاكم: تحيط بكم. والظلل: جمع ظلة، وهي السحاب. والاحتدام: الاضطرام. والحنادس الظلمات. والندي: القوم يجتمعون في النادي. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال
بذي قار، وهو متوجه إلى البصرة ذكرها الواقدي في كتاب الجمل.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: فصدع بما أمر
به، وبلغ رسالات ربه، فلم الله به الصدع، ورتق به الفتق، وألف به الشمل بين ذوي
الأرحام، بعد العداوة الواغرة في الصدور، والضغائن القادحة في القلوب. ورتق: خاط وألحم،
والعداوة الواغرة: ذات الوغرة، وهي شدة الحر، والضغائن: الأحقاد، والقادحة في
القلوب، كأنها تقدح النار فيها كما تقدح النار بالمقدحة. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن
كلام له كلم به عبد الله بن زمعة وهو من شيعته، وذلك أنه قدم عليه في خلافته
يطلب منه مالا، فقال عليه السلام:
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: إن هذا المال
ليس لي ولا لك، وإنما هو فيء للمسلمين، وجلب أسيافهم، فإن شركتهم في حربهم، كان
لك مثل حظهم، وإلا فجناة أيديهم لا تكون لغير أفواههم. الشرح: هو عبد الله
بن زمعة، بفتح الميم، لا كما ذكره الراوندي، وهو عبد الله بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد بن
عبد العزى بن قصي.
وكان
عبد الله بن زمعة شيعة لعلي عليه السلام. ومن أصحابه ومن ولد
عبد الله هذا أبو البختري القاضي، وهو وهب بن
وهب بن كبير بن عبد الله بن زمعة، قاضي الرشيد هارون ابن محمد المهدي، وكان منحرفاً عن علي عليه السلام، وهو الذي أفتى الرشيد ببطلان
الأمان الذي كتبه ليحيى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام، وأخذه بيده فمزقه. وقال
أمية بن أبي الصلت يرثي قتلى بدر، ويذكر زمعة بن الأسود:
نوفل
بن خويلد من بني أسد بن عبد العزى، ويعرف بابن العدوية، قتله علي عليه السلام، وعمرو أبو جهل بن هشام، قتله عوف بن عفراء، وأجهز
عليه عبد الله بن مسعود. وجناة
الثمر ما يجنى منه، وهذه استعارة فصيحة. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال
في إحجام اللسان عن الكلام
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: ألا وإن
اللسان بضعة من الإنسان، فلا يسعده القول إذا امتنع، ولا يمهله النطق إذا اتسع،
وإنا لأمراء الكلام، وفينا تنشبت عروقه، وعلينا تهدلت غصونه. ولما حصر
عبد الله بن عامر بن كريز على المنبر بالبصرة- وكان خطيبا- شق عليه ذلك، فقال له زياد بن أبيه، وكان خليفته: أيها الأمير لا
تجزع، فلو أقمت على المنبر عامة من ترى أصابهم أكثر مما أصابك. فلما
كانت الجمعة تأخر عبد الله بن عامر وقال
زياد للناس: إن الأمير اليوم موعوك، فقيل
لرجل من وجوه أمراء القبائل: قم فاصعد المنبر،
فلما صعد حصر، فقال: الحمد لله الذي يرزق
هؤلاء. وبقي
ساكتاً، فأنزلوه، وأصعدوا آخر من الوجوه، فلما استوى قائماً قابل بوجهه الناس، فوقعت عينه على صلعة
رجل، فقال: أيها الناس، إن هذا الأصلع قد منعني الكلام، اللهم فالعن هذه الصلعة.
فأنزلوه. وقالوا
لوازع اليشكري: قم إلى المنبر فتكلم، فلما صعد ورأى الناس قال:
أيها الناس إني كنت اليوم كارهاً لحضور الجمعة، ولكن امرأتي حملتني على إتيانها،
وأنا أشهدكم أنها طالق ثلاثاً، فأنزلوه، فقال زياد لعبد الله بن عامر: كيف رأيت؟ قم الآن فاخطب
الناس. فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وجه عمرو، فقال: يا رسول الله، رضيت فقلت أحسن ما علمت، وغضبت فقلت أقبح ما علمت، وما كذبت في الأولى، ولقد صدقت في
الأخرى. فقال عليه السلام: إن من البيان لسحراً.
وقال
أحيحة بن الجلاخ:
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال
عند اختلاف الناس
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: روى ذعلب اليمامي عن أحمد
بن قتيبة، عن عبد الله بن يزيد عن مالك بن
دحية، قال: كنا عند أمير المؤمنين
عليه السلام، فقال وقد ذكر عنده اختلاف
الناس: إنما
فرق بينهم مبادىء طينهم، وذلك أنهم كانوا فلقةً من سبخ أرض وعذبها، وحزن تربة
وسهلها، فهم على حسب قرب أرضهم يتقاربون؟ وعلى قدر اختلافها يتفاوتون، فتام
الرواء ناقص العقل، وماد القامة قصير الهمة. وزاكي
العمل قبيح المنظر، وقريب القعر بعيد السبر، ومعروف الضريبة منكر الجليبة، وتائه
القلب متفرق اللب. وطليق
اللسان حديد الجنان. وهذا الفصل عندي
لا يجوز أن يحمل على ظاهره، وما يتسارع إلى أفهام العامة منه، وذلك لأن قوله:"أنهم كانوا فلقة من سبخ أرض
وعذبها"، إما أن يريد به أن كل واحد من الناس ركب من طين، وجعل صورة بشرية
طينية برأس وبطن ويدين ورجلين، ثم نفخت فيه الروح كما فعل بآدم، أو يريد به أن الطين الذي ركبت منه صورة آدم فقط كان
مختلطاً من سبخ وعذب، فإن أريد الأول فالواقع خلافه،
لأن البشر الذين نشاهدهم، والذين بلغتنا أخبارهم لم يخلقوا من الطين كما خلق
آدم، وإنما خلقوا من نطف آبائهم. وليس لقائل أن يقول: لعل تلك النطف افترقت لأنها تولدت من أغذية مختلفة المنبت
من العذوبة والملوحة، وذلك لأن النطفة لا تتولد من غذاء بعينه، بل من مجموع
الأغذية، وتلك الأغذية لا يمكن أن تكون كلها من أرض سبخة محضة في السبخية، لأن
هذا من الاتفاقات التي يعلم عدم وقوعها، كما يعلم
أنه لا يجوز أن يتفق أن يكون أهل بغداد في وقت بعينه على كثرتهم لا يأكلون ذلك
اليوم إلا السكباج خاصة، وأيضا فإن الأرض السبخة، أو التي الغالب عليها
السبخية، لا تنبت الأقوات أصلاً. وإن أريد الثاني،
وهو أن يكون طين آدم عليه السلام
مختلطاً في جوهره، مختلفاً في طبائعه،
فلم كان زيد الأحمق يتولد من الجزء السبخي وعمرو العاقل يتولد من الجزء العذبي؟
وكيف يؤثر اختلاف طين آدم من ستة آلاف سنة في أقوام يتوالدون الآن. والقول الأول عندي أمثل. والرواء بالهمز والمد: المنظر الجميل، ومن أمثال
العرب:"ترى الفتيان كالنخل وما يدريك ما الدخل"، وقال الشاعر:
وقال أبوالطيب:
وقال
الآخر:
ومن
شعر الحماسة:
ومنه
أيضاً:
قوله عليه السلام:"وماد
القامة قصير الهمة"، قريب من المعنى الأول،
إلا أنه خالف بين الألفاظ، فجعل الناقص بإزاء التام، والقصير بإزاء الماد. ويمكن أن يجعل
المعنيان مختلفين، وذلك لأنه قد يكون الإنسان تام العقل، إلا أن همته
قصيرة، وقد رأينا كثيراً من الناس كذلك، فإذن هذا قسم آخر من الاختلاف غير
الأول.
وقيل لبعض الحكماء:
ما بال القصار من الناس أدهى وأحذق؟ قال: لقرب قلوبهم من أدمغتهم، ومن شعر الحماسة:
ومن شعر الحماسة أيضا وهو تمام البيتين المقدم ذكرهما:
قوله عليه السلام:"ومعروف
الضريبة، منكر الجليبة"، الجليبة هي الخلق الذي يتكلفه الإنسان ويستجلبه،
مثل أن يكون جباناً بالطبع فيتكلف الشجاعة، أو شحيحاً بالطبع فيتكلف الجود. وهذا
القسم أيضاً عام في الناس. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال
وهو يلي غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم وتجهيزه
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
بأبي أنت وأمي يا رسول الله! لقد انقطع
بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك من النبوة والإنباء وأخبار السماء. خصصت حتى صرت مسلياً عمن سواك، وعممت حتى صار
الناس فيك سواءً، ولولا أنك أمرت بالصبر، ونهيت عن الجزع، لأنفذنا عليك ماء
الشؤون، ولكان الداء مماطلاً، والكمد محالفاً، وقلا لك! ولكنه ما لا يملك رده،
ولا يستطاع دفعه، بأبي أنت وأمي! اذكرنا عند ربك، واجعلنا من بالك!. وأخبار السماء:
الوحي.
وقال
أخر:
ولي في هذا المعنى كتبته إلى صديق غاب عني من جملة أبيات:
وقال
إسحاق بن خلف يرثي بنتاً له:
وقال
آخر:
وقال
آخر:
وقال
آخر:
وقال
آخر:
قوله عليه السلام:"ولكن الداء مماطلاً" أي مماطلاً بالبرء، أي لا
يجيب إلى الإقلاع، والإبلال: الإفاقة. ثم
أقبل علي، فقال:"يا أبا مويهبة إني قد أوهبت مفاتيح خزائن الدنيا والخلد
فيها والجنة، فخيرت بينها وبين الجنة، فاخترت الجنة"، فقلت: بأبي أنت وأمي!
فخذ مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها والجنة جميعاً، فقال:"لا يا أبا
مويهبة، اخترت لقاء ربي"، ثم استغفر لأهل البقيع وانصرف، فبدأ بوجعه الذي
قبضه الله فيه. وروى عطاء، عن الفضل بن عباس رحمه الله:
قال:
جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم حين
بدأ به مرضه، فقال: اخرج، فخرجت إليه، فوجدته موعوكاً قد عصب رأسه، فقال: خذ
بيدي، فأخذت بيده حتى جلس على المنبر، ثم قال: ناد في الناس، فصحت فيهم فاجتمعوا
إليه، فقال:"أيها الناس، إني أحمد إليكم الله، إنه قد دنا مني حقوق من بين
أظهركم، فمن كنت جلدت له ظهراً فهذا ظهري فليستقد منه، ومن كنت شتمت له عرضا
فهذا عرضي فليستقد منه، ومن كنت أخذت له مالاً فهذا مالي فليأخذ منه، ولا يقل
رجل: إني أخاف الشحناء من قبل رسول الله. ألا وإن الشحناء ليست من طبيعتي ولا من شأني، ألا
وإن أحبكم إلي من أخذ مني حقاً إن كان له، أو حللني فلقيت الله وأنا طيب النفس،
وقد أراني أن هذا غير مغن عني حتى أقوم فيكم به مراراً". ثم نزل فصلى الظهر. ثم رجع
فجلس على المنبر، فعاد لمقالته الأولى في الشحناء وغيرها، فقام رجل، فقال: يا
رسول الله، إن لي عندك ثلاثة دراهم، فقال: إنا لا نكذب قائلاً ولا نستحلفه على
يمين، فيم كانت لك عندي؟ قال: أتذكر يا رسول الله يوم مر بك المسكين، فأمرتني
فأعطيته ثلاثة دراهم؟ قال: أعطه يا فضل، فأمرته فجلس، ثم
قال:"أيها الناس من كان عنده شيء فليؤده ولا يقل: فضوح الدنيا؟ فإن فضوح
الدنيا أهون من فضوح الآخرة". فقام رجل فقال: يا رسول الله، عندي
ثلاثة دراهم غللتها في سبيل الله، قال: ولم غللتها؟ قال: كنت محتاجاً إليها،
قال: خذها منه يا فضل. ثم قال:"أيها الناس، من خشي من نفسه شيئاً
فليقم أدعو له"، فقام رجل فقال: يا رسول الله، إني لكذاب، وإني لفاحش، وإني
لنؤوم. فقال:"اللهم ارزقه صدقاً وصلاحاً، وأذهب عنه النوم إذا أراد". ثم قام رجل، فقال: يا رسول الله، إني لكذاب، وإني
لمنافق، وما شيء- أو قال: وإن من شيء- إلا وقد جئته. فقام عمر بن الخطاب فقال:
فضحت نفسك أيها الرجل! فقال النبي صلى
الله عليه وسلم:"يا بن
الخطاب: فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة، اللهم
ارزقه صدقاً وإيماناً وصير أمره إلى خير". أوصيكم بتقوى الله،
وأوصي الله بكم، وأستخلفه عليكم، إني لكم منه نذير وبشير، ألا تعلوا على الله في
عباده وبلاده، فإنه قال لي ولكم:"تلك الدار
الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة
للمتقين". فقلنا: يا رسول الله، فمتى أجلك؟ قال:"قد دنا
الفراق، والمنقلب إلى الله وإلى سدرة المنتهى، والرفيق الأعلى وجنة المأوى
والعيش المهنا"، قلنا: فمن يغسلك يا رسول
الله؟ قال:"أهلي الأدنى فالأدنى"، قلنا:
ففيم نكفنك؟ قال:"في ثيابي هذه إن شئتم، أو في بياض مصر، أو حلة
يمنية"، قلنا: فمن يصلي عليك؟ فقال:"إذا غسلتموني وكفنتموني فضعوني على سريري في بيتي هذا،
على شفير قبري، ثم اخرجوا عني ساعة، فإن أول من يصلي علي جليسي وحبيبي وخليلي
جبرائيل، ثم ميكائيل، ثم إسرافيل، ثم ملك الموت مع جنوده من الملائكة، ثم ادخلوا
علي فوجاً فوجاً، فصلوا علي وسلموا ولا تؤذوني بتزكية ولا ضجة ولا رنة، وليبدأ
بالصلاة علي رجال أهل بيتي ثم نساؤهم، ثم أنتم بعد، وأقرئوا أنفسكم مني السلام،
ومن غاب من أهلي فأقرئوه مني السلام، ومن تابعكم بعدي على ديني فأقرئوه مني
السلام، فإني أشهدكم أني قد سلمت على من بايعني على ديني من اليوم إلى يوم
القيامة". قلنا: فمن يدخلك قبرك يا رسول الله؟
قال:"أهلي مع ملائكة كثيرة يرونكم ولا ترونهم." قلت: العجب لهم كيف لم يقولوا له في
تلك الساعة: فمن يلي أمورنا بعدك! لأن ولاية الأمر أهم من السؤال عن الدفن، وعن
كيفية الصلاة عليه، وما أعلم ما أقول في هذا المقام!. قال أبو جعفر الطبري: وروى سعيد بن جبير،
قال: كان ابن عباس رحمه الله يقول: يوم الخميس وما يوم الخميس! ثم يبكي حتى تبل دموعه
الحصباء، فقلنا له: وما يوم الخميس؟ قال: يوم اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه،
فقال: ائتوني باللوح والدواة- أو قال: بالكتف والدواة-"أكتب لكم ما لا
تضلون بعدي، فتنازعوا، فقال: اخرجوا ولا ينبغي عند نبي أن يتنازع، قالوا: ما شأنه، أهجر؟ استفهموه، فذهبوا يعيدون عليه، فقال:"دعوني فما أنا فيه خير مما تدعونني إليه، ثم أوصى بثلاث؟ فقال:"أخرجوا
المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو مما كنت أجيزهم"، وسكت عن
الثالثة عمداً، أو قالها ونسيتها. قال: فلقد لدت
ميمونة وإنها لصائمة لقسم رسول الله صلى
الله عليه وسلم عقوبة لهم بما
صنعوا. قال!:
وقد كانت فاطمة حاضرة في الدار، وابناها معها، أفتراها لدت أيضاً، ولد الحسن والحسين!
كلا، وهذا أمر لم يكن، وإنما هو حديث ولده من
ولده تقربا إلى بعض الناس، والذي كان أن أسماء بنت
عميس أشارت بأن يلد، وقالت: هذا دواء
جاءنا من أرض الحبشة جاء به جعفر بن أبي طالب، وكان بعلها، وساعدتها على تصويب ذلك والإشارة به
ميمونة بنت الحارث، فلد رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فلما أفاق أنكره، وسأل عنه فذكر له كلام أسماء،
وموافقة ميمونة لها، فأمر أن تلد الامرأتان لا غير،
فلدتا ولم يجر غير ذلك. والباطل لا يكاد يخفى على مستبصر. وروى الأرقم بن شرحبيل، قال: سألت ابن عباس رحمه الله: هل أوصى رسول
الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: لا، قلت: فكيف كان؟
فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
في مرضه:"ابعثوا إلى علي فادعوه"،
فقالت عائشة: لو بعثت إلى أبي بكر! وقالت
حفصة: لو بعثت إلى عمر! فاجتمعوا عنده
جميعاً- هكذا لفظ الخبر على ما أورده الطبري في
التاريخ، ولم يقل:"فبعث رسول الله صلى
الله عليه وسلم إليهما"- قال ابن عباس، فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم:"انصرفوا،
فإن تكن لي حاجة أبعث إليكم" فانصرفوا.
وقيل لرسول الله: الصلاة! فقال:"مروا
أبا بكر أن يصلي بالناس"، فقالت عائشة:
إن أبا بكر رجل رقيق فمر عمر، فقال: مروا عمر،
فقال عمر: ما كنت لأتقدم وأبو بكر شاهد، فتقدم أبو بكر،
فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم خفة،
فخرج، فلما سمع أبو بكر حركته تأخر، فجذب
رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوبه
فأقامه مكانه، وقعد رسول الله صلى الله عليه
وسلم، فقرأ من حيث انتهى أبو بكر. وهذا يوهم صحة ما تقوله الشيعة من أن
صلاة أبي بكر كانت عن أمر عائشة، وإن كنت لا
أقول بذلك، ولا أذهب إليه إلا أن تأمل هذا الخبر ولمح
مضمونه يوهم ذلك، فلعل هذا الخبر غير صحيح. وأيضا ففي
الخبر ما لا يجيزه أهل العدل، وهو أن يقول:"مروا
أبا بكر"، ثم يقول عقيبه:"مروا
عمر"، لأن هذا نسخ الشيء قبل تقضي وقت فعله. قال الطبري:
وقد وقع الاتفاق على أنه كان يوم الاثنين من شهر ربيع
الأول، واختلف في أي الأثانين كان؟ فقيل:
لليلتين خلتا من الشهر، وقيل: لاثنتي عشرة خلت من الشهر. واختلف في تجهيزه أي يوم كان!
فقيل: يوم الثلاثاء الغد من وفاته، وقيل: إنما دفن بعد وفاته بثلاثة أيام، اشتغل القوم عنه بأمر
البيعة. قلت: وأنا أعجب من هذا!
هب أن أبا بكر ومن معه اشتغلوا بأمر البيعة،
فعلي بن أبي طالب والعباس وأهل البيت بماذا اشتغلوا
حتى يبقى النبي صلى الله عليه وسلم مسجى بينهم ثلاثة أيام
بلياليهن لا يغسلونه ولا يمسونه!. هكذا روى الطبري في كتابه،
وبين السنح وبين المدينة نصف فرسخ، بل هو
طائفة من المدينة، فكيف يبقى رسول الله صلى الله عليه وسلم ميتاً
يوم الاثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء لا يعلم به أبو بكر،
وبينهما غلوة ثلاثة أسهم! وكيف يبقى طريحاً بين أهله ثلاثة
أيام
لا يجترىء أحد منهم أن يكشف عن وجهه، وفيهم علي بن
أبي طالب وهو روحه بين جنبيه، والعباس عمه القائم مقام أبيه، وابنا فاطمة، وهما
كولديه، وفيهم فاطمة بضعة منه، أفما كان في
هؤلاء من يكشف عن وجهه، ولا من يفكر في جهازه، ولا من يأنف له من انتفاخ بطنه
واخضرارها وينتظر بذلك حضور أبي بكر ليكشف عن وجهه!. والصحيح أن
دخول أبي بكر إليه وكشفه عن وجهه، وقوله ما قال، إنما
كان بعد الفراغ من البيعة، وأنهم كانوا مشتغلين بها كما ذكر في الرواية الأخرى. إذا كان أولئك مشتغلين بالبيعة، فما
الذي شغله هو؟. قال أبو جعفر:
فأما الذين تولوا غسله فعلي بن أبي طالب، والعباس بن عبد المطلب، والفضل ابن
العباس، وقثم بن العباس، وأسامة بن زيد، وشقران مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحضر أوس بن
خولي أحد الخزرج، فقال لعلي بن أبي طالب: أنشدك
الله يا علي وحظنا من رسول الله! وكان أوس من أصحاب
بدر، فقال له: أدخل، فدخل فحضر غسله عليه الصلاة والسلام، وصب الماء عليه
أسامة وشقران، وكان علي عليه السلام يغسله وقد أسنده
إلى صدره، وعليه قميصه يدلكه من ورائه، لا يفضي بيده إلى بدن رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وكان العباس وابناه الفضل وقثم يساعدونه على قلبه من جانب إلى جانب. قلت: وهذا أيضاً من العجائب،
لأنه إذا مات يوم الاثنين وقت ارتفاع الضحى- كما ذكر في الرواية- ودفن ليلة الأربعاء وسط الليل، فلم يمض عليه ثلاثة أيام كما ورد في تلك الرواية. قال الطبري:
ونزل في قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب عليه السلام، والفضل بن عباس، وقثم أخوه،
وشقران مولاهم. وقال أوس بن خولي لعلي عليه السلام:
أنشدك الله يا علي وحظنا من رسول الله صلى
الله عليه وسلم! فقال له:
إنزل، فنزل مع القوم، وأخذ شقران قطيفة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبسها،
فقذفها معه في القبر، وقال: لا يلبسها أحد بعده. ثم انظر إلى كرم علي عليه السلام وسجاحة
أخلاقه وطهارة شيمته، كيف لم يضن بمثل هذه المقامات الشريفة عن أوس؟ وهو رجل غريب من الأنصار، فعرف له حقه وأطلبه بما طلبه!
فكم بين هذه السجية الشريفة، وبين قول من قال:
لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا
نساؤه! ولو كان في ذلك المقام غيره
من أولي الطباع الخشنة، وأرباب الفظاظة والغلظة، وقد
سأل أوس ذلك- لزجر وانتهر ورجع خائباً!. من الناس من يذكر أنها كانت تشوب هذه
الندبة بنوع من التظلم والتألم لأمر يغلبها. والله أعلم بصحة ذلك. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال
في صفة خلق بعض الحيوانات
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: الحمد لله
الذي لا تدركه الشواهد، ولا تحويه المشاهد، ولا تراه النواظر، ولا تحجبه
السواتر، الدال على قدمه بحدوث خلقه، وبحدوث خلقه على وجوده، وباشتباههم على أن
لا شبه له. الذي صدق في ميعاده، وارتفع عن ظلم عباده، وقام بالقسط في خلقه، وعدل
عليهم في حكمه، مستشهد بحدوث الأشياء على أزليته، وبما وسمها به من العجز على
قدرته، وبما أضطرها إليه من الفناء على دوامة. واحد لا بعدد، ودائم لا بأمد، وقائم
لا بعمد، تتلقاه الأذهان لا بمشاعرة، وتشهد له المرائي لا بمحاضرة. لم تحط به
الأوهام، بل تجلى لها بها. وبها امتنع منها، وإليها حاكمها. ليس بذي كبر امتدت
به النهايات فكبرته تجسيماً، ولا بذي عظم تناهت به الغايات فعظمته تجسيداً، بل
كبر شأناً، وعظم سلطاناً. فإن قلت: فهل لهذا الكلام مساغ على
مذهب البغداديين؟ قلت: نعم، إذا حمل على منهج التأويل بأن
يريد بقوله: وبحدوث خلقه على وجوده، أي على صحة إيجاده له فيما بعد، أي إعادته
بعد العدم يوم القيامة، لأنه إذا صح منه تعالى إحداثه ابتداءً صح منه إيجاده
ثانياً على وجه الإعادة، لأن الماهية قابلة للوجود والعدم، والقادر قادر لذاته،
فأما من روى بحدوث خلقه على جوده، فإنه قد سقطت عنه هذه الكلف كلها. والمعنى على
هذا ظاهر، لأنه تعالى دل المكلفين بحدوث خلقه على أنه جواد منعم، ومذهب أكثر المتكلمين أنه خلق العالم جوداً وإنعاماً وإحساناً
إليهم. هذا دليل صحيح، وذلك لأنه إذا ثبت أن جسماً ما
محدث، ثبت أن سائر الأجسام محدثه، لأن الأجسام متماثلة، وكل ما صح على الشيء صح
على مثله، وكذلك إذا ثبت أن سواداً ما أو بياضاً ما محدث، ثبت أن سائر السوادات
والبياضات محدثة، لأن حكم الشيء حكم مثله، والسواد في معنى كونه سواداً غير مختلف،
وكذلك البياض، فصارت الدلالة هكذا الذوات التي عندنا يشبه بعضها بعضاً، وهي
محدثة، فلو كان الباري سبحانه يشبه شيئاً منها لكان
مثلها، ولكان محدثاً لأن حكم الشيء حكم مثله، لكنه تعالى ليس بمحدث، فليس بمشابه لشيء منها، فقد صح إذاً قوله عليه السلام:"وباشتباههم على أن لا شبه له. ثم
قال:"قائم لا بعمد، لأنه لما كان في الشاهد كل قائم فله عماد يعتمد عليه، أبان عليه السلام تنزيهه تعالى عن المكان، وعما يتوهمه الجهلاء من أنه مستقر
على عرشه بهذه اللفظة. ومعنى
القائم ههنا ليس ما يسبق إلى الذهن من أنه المنتصب، بل
ما تفهمه من قولك: فلان قائم بتدبير
البلد، وقائم بالقسط. وأما شهادتها بوجود الباري فليست بهذه الطريق، بل بما ذكرناه. والأولى أن يكون"المرائي ههنا
جمع"مرآة" بفتح الميم، من قولهم: هو حسن في مرآة عيني، يقول: إن جنس الرؤية يشهد بوجود الباري من غير محاضرة منه
للحواس.
ومما
قلته أيضا في قصور العقل عن معرفته سبحانه وتعالى:
ولي
في هذا المعنى:
وقلت
أيضاً في المعنى:
ولي
أيضاً:
ومن شعري أيضاً في المعنى، وكنت أنادي به ليلاً في مواضع مقفرة خالية من الناس، بصوت
رفيع، وأجدح قلبي أيام كنت مالكاً أمري، مطلقاً من
قيود الأهل والولد وعلائق الدنيا:
ومما
قلته في هذا المعنى:
أعجبني
هذا المعنى، فنقلته إلى لفظ آخر فقلت:
ولي
في هذا المعنى أيضاً:
ولي
أيضاً في الرد على الفلاسفة الذين عللوا حركة
الفلك بأنه أراد استخراج الوضع أولاً، ليتشبه بالعقل المجرد في كماله، وأن كل ما
له بالقوة فهو خارج إلى الفعل:
ولي
أيضاً في الرد على من زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى الله سبحانه بالعين، وهو الذي أنكرته عائشة، والعجب لقوم
من أرباب النظر جهلوا ما أدركته امرأة من نساء العرب:
والمقطعات التي نظمتها في إجلال البارىء سبحانه عن أن تحيط به العقول
كثيرة، موجودة في كتبي ومصنفاتي، فلتلمح من مظانها، وغرضنا بإيراد بعضها أن لها
هنا تشييداً لما قاله أمير المؤمنين عليه السلام علي في هذا الباب. وصادعاً
بهما: مظهراً مجاهداً، وأصله الشق. وفلق:
شق وخلق. والبشر: ظاهر الجلد. قال: الذرة تدخر في الصيف للشتاء، وتتقدم في حال
المهلة، ولا تضيع أوقات إمكان الحزم، ثم يبلغ من تفقدها وصحة تمييزها، والنظر في
عواقب أمورها، أنها تخاف على الحبوب التي ادخرتها للشتاء في الصيف، أن تعفن
وتسوس في بطن الأرض فتخرجها إلى ظهرها لتنثرها وتعيد إليها جفوفها، ويمر بها
النسيم فينفي عنها اللخن والفساد. فأما إن كان الحب من الكزبرة فإنها تفلقه أرباعاً،
لأن أنصاف حب الكزبرة تنبت من بين جميع الحبوب، فهي من هذا الوجه مجاوزة لفطنة
جميع الحيوانات، حتى ربما كانت في ذلك أحزم من كثير من الناس، ولها مع لطافة
شخصها وخفة وزنها في الشم والاسترواح ما ليس لشيء، فربما أكل الإنسان الجراد أو
بعض ما يشبه الجراد، فيسقط من يده الواحدة أو صدر واحدة، وليس بقربه ذرة ولا له
عهد بالذر في ذلك المنزل، فلا يلبث أن تقبل ذرة قاصدة إلى تلك الجرادة، فترومها
وتحاول نقلها وجرها إلى جحرها، فإذا أعجزتها بعد أن تبلي عذراً مضت إلى جحرها
راجعة، فلا يلبث ذلك الإنسان أن يجدها قد أقبلت وخلفها كالخيط الأسود الممدود،
حتى يتعاون عليها فيحملنها. فاعجب من صدق الشم لما لا يشمه الإنسان الجائع! ثم
انظر إلى بعد الهمة والجرأة على محاولة نقل شيء في وزن جسمها مائة مرة، وأكثر من
مائة مرة، بل أضعاف أضعاف المائة، وليس شيء من الحيوان يحمل ما يكون أضعاف وزنه
مراراً كثيرة غيرها. قال:
فاتخذت عند ذلك لطعامي منملة وقيرتها، وصببت في خندقها الماء، ووضعت سلة الطعام
على رأسها، فغبرت أياماً أكشف رأس السلة بعد ذلك، وفيها ذر كثير، ووجدت الماء في
الخندق على حاله، فقلت: عسى أن يكون بعض الصبيان أنزلها، وأكل مما فيها! وطال
مكثها في الأرض، وقد دخلها الذر ثم أعيدت على تلك الحال، وتكلمت في ذلك وتعرفت
الحال فيه، فعرفت البراءة في عذرهم، والصدق في خبرهم، فاشتد تعجبي، وذهبت بي الظنون والخواطر كل مذهب، فعزمت على أن أرصدها
وأحرسها، وأتثبت في أمري، وأتعرف شأني، فإذا هي بعد أن رامت الخندق فامتنع عليها
تركته جانباً، وصعدت في الحائط، ثم مرت على جذع السقف، فلما صارت محاذيةً للسلة
أرسلت نفسها فقلت في نفسي: انظر كيف اهتدت إلى هذه الحيلة ولم تعلم أنها تبقى
محصورة!.
وكان في كتاب عبد الحميد إلى أبي
مسلم:
لو أراد الله بالنملة صلاحاً، لما أنبت لها جناحاً، فيقال:
إن أبا مسلم لما قرأ هذا الكلام في أول الكتاب لم يتم قراءته وألقاه في النار،
وقال: أخاف إن قرأته أن ينخب قلبي. قال تعالى:
!وإذا ضربتم في الأرض ! وهذا الكلام
استعارة. والطرق
إليه أربعة: أحدها الاستدلال بحدوث الأجسام، والثاني
الاستدلال بإمكان الأعراض والأجسام، والثالث الاستدلال بحدوث الأعراض، والرابع
الاستدلال بإمكان الأعراض. وكذلك القول في اللغات واختلافها. وإذا كان كل هذا ممكناً فاختصاص الجسم المخصوص
بالصفات والأعراض والصور المخصوصة لا يمكن أن يكون لمجرد الجسمية لتماثل الأجسام
فيها، فلا بد من أمر زائد، وذلك الأمر الزائد هو المعني بقولنا: صانع العالم. ثم قال:"والجناية لا بد لها من جان"،
وهذه كلمة ساقته إليها القرينة، والمراد عموم الفعلية لا خصوص الجناية، أي
مستحيل أن يكون الفعل من غير فاعل، والذين ادعوا الضرورة في هذه المسألة من
المتكلمين استغنوا عن الطرق الأربع التي ذكرناها، وأمير المؤمنين عليه السلام اعتمد
أولاً على طريق واحدة، ثم جنح ثانياً إلى دعوى الضرورة، وكلا الطريقين صحيح. الأصل:
وإن شئت قلت في الجرادة إذ خلق لها عينين حمراوين، وأسرج لها حدقتين قمراوين،
وجعل لها السمع الخفي، وفتح لها الفم السوي، وجعل لها الحس القوي، ونابين بهما
تقرض، ومنجلين بهما تقبض، يرهبها الزراع في زرعهم، ولا يستطيعون ذبها ولو أجلبوا
بجمعهم، حتى ترد الحرث في نزواتها، وتقضي منه شهواتها، وخلقها كله لا يكون إصبعا
مستدقة. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال
في التوحيد، وتجمع هذه الخطبة من أصول العلم ما لا تجمعه خطبة غيرها
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: ما وحده من
كيفه، ولا حقيقتة أصاب من مثله، ولا إياه عنى من شبهه، ولا صمدة من أشار إليه
وتوهمه. كل معروف بنفسه مصنوع، وكل قائم في سواه معلول، فاعل لا باضطراب آلة،
مقدر لا بجول فكرة، غني لا باستفادة، لا تصحبه الأوقات، ولا ترفده الأدوات، سبق
الأوقات كونه، والعدم وجوده، والابتداء أزله. أولها قوله:"ما
وحدة من كيفه"، وهذا حق لأنه إذا جعله مكيفاً جعله ذا هيئة وشكل، أو ذا لون
وضوء، إلى غيرهما من أقسام الكيف، ومتى كان كذلك كان جسماً ولم يكن واحداً، لأن
كل جسم قابل للانقسام، والواحد حقاً لا يقبل الانقسام، فقد ثبت أنه ما وحده من
كيفه. وثالثها قوله عليه السلام:"ولا
صمده من أشار إليه" أي أثبته في جهة، كما تقول الكرامية، الصمد في اللغة
العربية: السيد. والصمد أيضا الذي لا جوف له، وصار التصميد في الاصطلاح العرفي
عبارة عن التنزيه، والذي قال عليه السلام حق،
لأن من أشار إليه- أي أثبته في جهة كما تقوله الكرامية- فإنه ما صمده، لأنه ما
نزهه عن الجهات، بل حكم عليه بما هو من خواص الأجسام، وكذلك من توهمه سبحانه، أي
من تخيل له في نفسه صورة أو هيئة أو شكلاً، فإنه لم ينزهه عما يجب تنزيهه عنه. وتاسعها قوله:"لا تصحبه الأوقات"، هذا بحث شريف جداً، وذلك لأنه سبحانه ليس بزمان ولا قابل
للحركة، فذاته فوق الزمان والدهر، أما المتكلمون
فإنهم يقولون: إنه تعالى كان ولا زمان ولا وقت، وأما الحكماء فيقولون: إن
الزمان عرض قائم بعرض آخر، وذلك العرض الآخر قائم بجسم معلول لبعض المعلولات
الصادرة عنه سبحانه، فالزمان عندهم- وإن كان لم يزل- إلا أن العلة الأولى ليست
واقعة تحته، وذلك هو المراد بقوله:"لا
تصحبه الأوقات" إن فسرناه على قولهم، وتفسيره على قول المتكلمين أولى. الأصل: بتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر له،
وبمضادته بين الأمور عرف أن لا ضد له، وبمقارنته بين الأشياء عرف أن لا قرين له.
قال:
يجعله تعالى المشاعر عرف أن لا مشعر له، وذلك لأن الجسم لا يصح منه فعل الأجسام،
وهذا هو الدليل الذي يعول عليه المتكلمون في أنه تعالى ليس بجسم. والعجب من فصاحته في ضمن حكمته، كيف
أعطى كل لفظة من هذه اللفظات ما يناسبها ويليق بها، فأعطى المتباعدات لفظة "مقرب،
لأن البعد بإزاء القرب، وأعطى المتباينات لفظة"مقارن"،
لأن البينونة بإزاء المقارنة، وأعطى المتعاديات لفظة"مؤلف" لأن
الائتلاف بإزاء التعادي. قوله عليه السلام:"بها
تجلى صانعها للعقول، وبها امتنع عن نظر العيون"، أي بهذه الآلات والأدوات
التي هي حواسنا ومشاعرنا، وبخلقه إياها، وتصويره لها، تجلى للعقول وعرف، لأنه لو
لم يخلقها لم يعرف، وبها امتنع عن نظر العيون، أي بها استنبطنا استحالة كونه
مرئياً بالعيون، لأنا بالمشاعر والحواس كملت عقولنا، وبعقولنا استخرجنا الدلالة
على أنه لا تصح رؤيته، فإذن بخلقه الآلات والأدوات لنا عرفناه عقلاً، وبذلك
أيضاً عرفنا أنه يستحيل أن يعرف بغير العقل، وأن قول من قال: إنا سنعرفه رؤيةً
ومشافهة بالحاسة باطل. وأيضاً فإذا كان أحدهما قديماً معه
لم يجز أن يتلوه الآخر، لأن القديم لا يزول بالمحدث. وقوله:"وخرج بسلطان
الامتناع" ليس من المستحيلات عليه، بل هو واجب
له، ومن الأمور الصادقة عليه، فإذا فسد أن يكون معطوفاً عليها وجب أن يكون
معطوفاً على ما كان مدلولاً عليه، وتقدير الكلام:
كان يلزم أن يتحول الباري دليلاً على غيره، بعد أن كان مدلولاً عليه، وبعد أن
خرج بسلطان الامتناع من أن يؤثر فيه ما أثر في غيره، وخروجه بسلطان الامتناع
المراد به وجوب الوجود والتجريد وكونه ليس بمتحيز ولا حال في المتحيز، فهذا هو
سلطان الامتناع الذي به خرج عن أن يؤثر فيه مما أثر في غيره من الأجسام
والممكنات. أولها: أن الباري سبحانه لا يوصف بشيء من الأجزاء، أي
ليس بمركب، لأنه لو كان مركباً لافتقر إلى أجزائه، وأجزاؤه ليست نفس هويته، وكل
ذات تفتقر هويتها إلى أمر من الأمور فهي ممكنة، لكنه واجب الوجود، فاستحال أن
يوصف بشيء من الأجزاء. وسادسها: أنه لا انقطاع
لوجوده، ولا غاية، لأنه لو جاز عليه العدم في المستقبل لكان وجوده الآن متوقفاً
على عدم سبب عدمه، وكل متوقف على الغير فهو ممكن في ذاته، والباري تعالى واجب
الوجود، فاستحال عليه العدم، وأن يكون لوجوده انقطاع، أو ينتهي إلى غاية يعدم
عندها. وأما كونه لا يتحفظ فيحتمل معنيين. أحدهما أنه لا يجوز
أن يطلق عليه أنه يتحفظ الكلام، أي يتكلف كونه حافظاً له، ومحيطاً وعالماً به،
كالواحد منا يتحفظ الدرس ليحفظه، فهو سبحانه حافظ غير متحفظ. والثاني أنه ليس بمتحرز ولا مشفق على نفسه خوفاً
أن تبدر إليه بادرة من غيره. ورابع عشرها:
أنه يريد ولا يضمر، أما كونه مريداً فقد ثبت بالسمع نحو قوله تعالى:"يريد الله بكم اليسر!، وبالعقل لاختصاص
أفعاله بأوقات مخصوصة، وكيفيات مخصوصة، جاز أن تقع على خلافها، فلا بد من مخصص
لها بما اختصت به، وذلك كونه مريداً، وأما كونه لا يضمر فهو إطلاق لفظي لم يأذن
فيه الشرع، وفيه إيهام كونه ذا قلب، لأن الضمير في العرف اللغوي ما استكن في
القلب، والباري ليس بجسم. وأيضاً يقال:
مثل زيد بحضرتي إذا حضر قائماً، ومثلته بين يدي زيد أي أحضرته منتصباً، فلما كان
الله تعالى فعل القرآن واضحاً بيناً كان قد مثله للمكلفين. قال:"وأرساها"،
جعلها راسية على غير قرار تتمكن عليه، بل واقفة بإرادته التي اقتضت وقوفها، ولأن
الفلك يجذبها من جميع جهاتها- كما قيل- أو لأنه يدفعها من جميع جهاتها، أو لأن
أحد نصفيها صاعد بالطبع، والآخر هابط بالطبع، فاقتضى التعادل وقوفها، أو لأنها
طالبة للمركز فوقفت. والأسداد:
جمع سد، وهو الجبل، ويجوز ضم السين، واستفاض عيونها، بمعنى أفاض، أي جعلها
فائضة، وخد أوديتها، أي شقها. فلم يهن ما بناه، أي لم يضعف. وكيف ولو اجتمع جميع حيوانها- من طيرها وبهائمها،
وما كان من مراحها وسائمها، وأصناف أسناخها وأجناسها، ومتبلدة أممها وأكياسها-
على إحداث بعوضة، ما قدرت على إحداثها، ولا عرفت كيف السبيل إلى إيجادها،
ولتحيرت عقولها في علم ذلك وتاهت، وعجزت قواها، ورجعت خاسئة حسيرة، عارفة بأنها
مقفورة، مقرة بالعجز عن إنشائها، مذعنة بالضعف عن إفنائها. الشرح: شرع أولاً في
ذكر إعدام الله سبحانه الجواهر وما يتبعها ويقوم بها من الأعراض قبل القيامة،
وذلك لأن الكتاب العزيز قد ورد به، نحو قوله تعالى:"كما
بدأنا أول خلق نعيده !، ومعلوم أنه بدأه عن عدم، فوجب أن تكون الإعادة عن
عدم أيضاً. وقال تعالى:"هو الأول والآخر!، وإنما كان أولاً لأنه
كان موجوداً، ولا شيء من الأشياء بموجود، فوجب أن يكون آخراً كذلك، هذا هو مذهب جمهور أصحابنا وجمهور المسلمين. ثم إنه سبحانه يبعثهم ويعيدهم ليوصل إلى كل إنسان
ما يستحقه من ثواب أو عقاب، ولا يمكن إيصال هذا المستحق إلا بالإعادة، وإنما لم يذكر أمير المؤمنين عليه السلام هذه
التعليلات، لأنه قد أشار إليها فيما تقدم من كلامه، وهي موجودة في فرش خطبه،
ولأن مقام الموعظة غير مقام التعليل، وأمير المؤمنين عليه السلام في
هذه الخطبة يسلك مسلك الموعظة في ضمن تمجيد الباري سبحانه وتعظيمه، وليس ذلك
بمظنة التعليل والحجاج. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن
خطبة له تختص بذكر الملاحم
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: ألا بأبي
وأمي هم من عدة! أسماؤهم في السماء معروفة، وفي الأرض مجهولة ألا فتوقعوا ما
يكون من إدبار أموركم، وانقطاع وصلكم، واستعمال صغاركم. إنما مثلي بينكم كمثل السراج في الظلمة يستضيء به
من ولجها، فامسمعوا أيها الناس وعوا وأحضروا آذان قلوبكم تفهموا. فإذا أخذه الفقير منه على وجه الصدقة فقد فوت عليه
صرفه في تلك القبائح والمحظورات التي كان بعرضته صرف ذلك القدر فيها لو لم يأخذه
الفقير، فإذاً قد أحسن الفقير إليه بكفه عن ارتكاب القبيح، ومن العصمة ألا يقدر
فكان المعطى أعظم أجراً من المعطي. وروي من غير"إحواج" بالواو، أي من غير
أن يحوجكم إليه أحد. قال:
ذلك إذا عضكم البلاء كما يعض القتب غارب البعير. هذا
الكلام غير متصل بما قبله، وهذه عادة الرضي
رحمه الله يلتقط الكلام التقاطاً، ولا يتلو بعضه بعضاً، وقد ذكرنا هذه
الخطبة أو أكثرها فيما تقدم من الأجزاء الأول، وقبل
هذا الكلام ذكر ما يناله شيعته من البؤس والقنوط ومشقة انتظار الفرج. والأثقال:
المآثم. وإلقاء الأزمة: ترك اعتماد القبيح، فهذا
عمومه، وأما خصوصه فتعريض بما كان عليه أصحابه من الغدر ومخامرة العدو عليه،
وإضمار الغل والغش له، وعصيانه والتلوي عليه، وقد فسره بما بعده فقال:"ولا
تصدعوا عن سلطانكم" أي لا تفرقوا، !فتذموا غب فعالكم"، أي عاقبته.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال
في الوصية بالتقوى
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
أوصيكم أيها الناس بتقوى الله وكثرة حمده على آلائه إليكم، ونعمائه عليكم،
وبلائه لديكم، فكم خصكم بنعمة، وتدارككم برحمة! أعورتم له فستركم، وتعرضتم لأخذه
فأمهلكم!. أوحشوا
ما كانوا يوطنون، وأوطنوا ما كانوا يوحشون، واشتغلوا بما فارقوا، وأضاعوا ما
إليه انتقلوا، لا عن قبيح يستطيعون انتقالاً، ولا في حسن يستطيعون ازدياداً،
أنسوا بالدنيا فغرتهم، ووثقوا بها فصرعتهم.
والأصل فيه قول الله تعالى:"إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب !. وقوله عليه السلام:"ما
أسرع الساعات في اليوم..." إلى آخر الفصل، كلام شريف وجيز بالغ في معناه، والفصل كله
نادر لا نظير له. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال
في الإيمان ووجوب الهجرة
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: فمن الإيمان
ما يكون ثابتاً مستقراً في القلوب، ومنه ما يكون عواري بين القلوب والصدور، إلى
أجل معلوم فإذا كانت لكم براءة من أحد فقفوه حتى يحضره الموت، فعند ذلك يقع حد
البراءة. والهجرة قائمة على حدها الأول، ما كان لله في أهل
الأرض حاجة من مستسر الأمة ومعلنها. لا يقع اسم الهجرة على أحد إلا بمعرفة الحجة
في الأرض، فمن عرفها وأقر بها فهو مهاجر، ولا يقع اسم الاستضعاف على من بلغته
الحجة فسمعتها أذنه، ووعاها قلبه. أولها قوله عليه السلام: فمن الإيمان ما يكون كذا. فنقول: إنه قسم الإيمان إلى ثلاثة أقسام: أحدها: الإيمان
الحقيقي، وهو الثابت المستقر في القلوب بالبرهان
اليقيني. فلا تحل
البراءة من أحد حتى يموت على أمر، فإذا مات على اعتقاد قبيح أو فعل قبيح جازت
البراءة منه، لأنه لم يبق له بعد الموت حالة تنتظر، وينبغي أن تحمل هذه البراءة
التي أشار إليها عليه السلام على
البراءة المطلقة، لا على كل براءة، لأنا يجوز لنا أن نبرأ من الفاسق وهو حي، ومن
الكافر وهو حي، لكن بشرط كونه فاسقاً، وبشرط كونه كافراً، فأما من مات ونعلم ما
مات عليه فإنا نبرأ منه براءة مطلقة غير مشروطة. وقال الراوندي: ما ههنا نافية، أي
لم يكن لله في أهل الأرض من حاجة، وهذا ليس بصحيح،
لأنه إدخال كلام منقطع بين كلامين متصل أحدهما بالآخر. ثم ذكر أنه لا يصح أن يعد الإنسان من المهاجرين إلا
بمعرفة إمام زمانه، وهو معنى قوله:"إلا بمعرفة الحجة في الأرض". قال:"فمن عرف الإمام وأقر به فهو مهاجر". ويجوز أن يكون المعنى
أنه أخلص قلوبهم للتقوى، من قولهم: امتحن الذهب، إذا أذابه فخلص إبريزه من خبثه
ونقاه. وقد تأوله قوم على وجه آخر قالوا: أراد أنا بالأحكام الشرعية والفتاوى الفقهية أعلم مني بالأمور الدنيوية، فعبر عن تلك بطرق السماء، لأنها أحكام إلهية، وعبر عن هذه بطرق الأرض لأنها من الأمور الأرضية. والأول أظهر، لأن
فحوى الكلام وأوله يدل على أنه المراد. وأراد الكزي بتمام الخبر
قوله عليه السلام:"لا يقولها بعدي إلا مدع". فأردا
الواعظ أن يكلمه، فصاح عليه القائم من الجانب الأيمن، وقال: يا سيدي فلان الدين،
محمد بن عبد الله كثير في الأسماء، ولكن ليس فيهم من قال له رب العزة:"ما ضل صاحبكم وما غوى" وما ينطق عن الهوى إن
هو إلا وحي يوحى!. وكذلك علي بن أبي طالب كثير في الأسماء، ولكن
ليس فيهم من قال له صاحب الشريعة:"أنت مني
بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي".
فالتفت إليه الواعظ ليكلمه، فصاح عليه القائم من الجانب الأيسر،
وقال: يا سيدي فلان الدين، حقك تجهله، أنت
معذور في كونك لا تعرفه:
فاضطرب المجلس وماج كما يموج البحر، وافتتن الناس، وتواثبت
العامة بعضها إلى بعض، وتكشفت الرؤوس، ومزقت الثياب، ونزل الواعظ، واحتمل حتى
ادخل داراً أغلق عليه بابها. وحضر
أعوان السلطان فسكنوا الفتنة، وصرفوا الناس إلى منازلهم وأشغالهم، وأنفذ الناصر
لدين الله في آخر نهار ذلك اليوم، فأخذ أحمد بن عبد العزيز الكزي والرجلين
اللذين قاما معه، فحبسهم أياماً لتطفأ نائرة الفتنة. ثم
أطلقهم. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن
خطبة له في الأمر بالتقوى
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: أحمده شكراً
لإنعامه، وأستعينه على وظائف حقوقه، عزيز الجند، عظيم المجد. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، دعا إلى طاعته، وقاهر
أعداءه، جهاداً عن دينه، لا يثنيه عن ذلك اجتماع على تكذيبه، والتماس لإطفاء
نوره. وقبل بلوغ الغاية ما تعلمون من ضيق الألماس، وشدة
الإبلاء، وهول المطلع، وروعاك الفزع، واختلاف الأضلاع، واشتكاك الأسماع، وظلمة
اللحد، وخيفة الوعد، وغم الضريح، وردم الصفيح. وكأنها قد أشرفت بزلازلها، وأناخت بقلاقلها، انصرفت
الدنيا بأهلها، وأخرجتهم من حضنها، فكانت كيوم مضى، وشهر انقضى، وصار جديدها
رثاً، وسمينها غثاً. " وسيق الذين اتقوا ربهم إلى
الجنة زمراً". قد أمن العذاب، وانقطع العتاب، وزحزحوا عن النار،
واطمأنت بهم الدار، ورضوا المثوى والقرار، الذين كانت أعمالهم في الدنيا زاكية،
وأعينهم باكية، وكان ليلهم في دنياهم نهاراً، تخشعاً واستغفاراً، وكان نهارهم
ليلاً، توحشاً وانقطاعاً، فجعل الله لهم الجنة مآباً، والجزاء ثواباً، وكانوا
أحق بها وأهلها، في ملك دائم، ونعيم قائم. استعملنا
الله وإياكم بطاعته وطاعة رسوله، وعفا عنا وعنكم بفضل رحمته. وذروته: أعلاه، وأمهدوا له: اتخذوا مهاداً، وهو
الفراش، وهذه استعارة. والإبلاس مصدر"أبلس"
أي خاب ويئس، والإبلاس أيضاً: الإنكسار والحزن، واستكاك
الأسماع: صممها. والقرن: الحبل. وأشراط الساعة: علاماتها.
وأزلت: قربت. وأفراطها: جمع فرط، وهم المتقدمون السابقون من
الموتى، ومن روى"بإفراطها" فهو مصدر أفرط في الشيء، أي قربت الساعة
بشدة غلوائها وبلوغها غاية الهول والفظاعة، ويجوز
أن تفسر الرواية الأولى بمقدماتها وما يظهر قبلها من خوارق العادات
المزعجة، كالدجال ودابة الأرض ونحوهما، ويرجع ذلك
إلى اللفظة الأولى، وهي أشراطها، إنما يختلف اللفظ. واللجب:
الصوت. ووقودها ها هنا، بضم الواو، وهو
الحدث، ولا يجوز الفتح،
لأنه ما يوقد به كالحطب ونحوه، وذاك لا يوصف بأنه ذاك. واعلم أن هذه الخطبة من أعيان خطبه
عليه السلام، ومن ناصع كلامه ونادره، وفيها من صناعة البديع الرائقة المستحسنة
البريئة من التكلف ما لا يخفى، وقد
أخذ ابن نباتة الخطيب كثيراً من ألفاظها فأودعها خطبه، مثل قوله:"شديد كلبها، عال لجبها، ساطع لهبها، متغيظ زفيرها،
متأجج سعيرها، بعيد خمودها، ذاك وقودها، مخوف وعيدها، عم قرارها، مظلمة أقطارها
حامية قدورها، فظيعة أمورها، فإن هذه الألفاظ
كلها اختطفها، وأغار عليها واغتصبها، وسمط بها خطبه، وشذر بها كلامه. فإن هذه الألفاظ أيضاً تمضي في أثناء خطبه، وفي غضون
مواعظه. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن
خطبة له في وصيته بالزهد
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: الحمد لله
الفاشي في الخلق حمده، والغالب جنده، والمتعالي جده، أحمده على نعمه التؤام،
وآلائه العظام، الذي عظم حلمه فعفا، وعدل في كل ما قضى، وعلم بما يمضي وما مضى،
مبتدع الخلائق بعلمه، ومنشئهم بحكمه، بلا اقتداء ولا تعليم، ولا احتذاء لمثال
صانع حكيم، ولا إصابة خطأ، ولا حضرة ملأ. وتستعينوا بها على الله، فإن التقوى في اليوم الحرز
والجنة، وفي كد الطريق إلى الجنة، مسلكها واضح، وسالكها رابح، ومستودعها حافظ.
لم تبرح عارضةً نفسها على الأمم الماضين منكم، والغابرين لحاجتهم إليها غداً. إذا أعاد الله ما أبدى، وأخذ ما أعطى، وسأل عما
أسدى. فما أقل من
قبلها، وحملها حق حملها! أولئك الأقلون عدداً، وهم أهل صفة الله سبحانه إذ يقول:"وقليل من عبادي لشكور". أيقظوا بها نومكم، وأقطعوا بها يومكم، وأشعروها
قلوبكم، وأرحضوا بها ذنوبكم، وداووا بها الأسقام، وبادروا بها الحمام، واعتبروا
بمن أضاعها، ولا يعتبرن بكم من أطاعها. قوله:"فإنها حق الله عليكم، والموجبة على الله
حقكم" يريد أنها واجبة عليكم، فإن فعلتموها وجب على الله أن يجازيكم عنها
بالثواب، وهذا تصريح بمذهب المعتزلة في العدل، وأن
من الأشياء ما يجب على الله تعالى من باب الحكمة. وقيل في الأخبار والحديث:
إن الله تعالى يجمع الذهب والفضة كل ما كان منه في الدنيا، فيجعله أمثال الجبال،
ثم يقول: هذا فتنة بني آدم، ثم يسوقه إلى جهنم فيجعله مكاوي لجباه المجرمين. وقال مجاهد في قوله تعالى:"إلا
ما دمت عليه قائماً! قال: أي مواكظاً. والنزه: جمع نزيه، وهو المتباعد عما يوجب الذم. والولاه: جمع واله، وهو المشتاق ذو الوجد حتى يكاد
يذهب عقله. وتتصدى لهم: تتعرض. والعنون: المتعرضة أيضاً، عن لي كذا أي عرض. ويجوز أن
يكون الجحود من قولك: رجل جحد وجحد، أي قليل الخير، وعام جحد، أي قليل المطر،
وقد جحد النبت إذا لم يطل. ومادت تميد فهي ميود، أي مالت، فإن كانت عادتها ذلك
سميت الحيود الميود في كل حال. ويروى:"وحالها افتعال"، أي كذب وزور، وهي
رواية شاذة. والزلزال:
الشدة العظيمة، والجمع زلازل. وقال الراوندي في شرحه:
يريد أن بعض أهلها في أثر بعض كقولهم: ولدت فلانة ثلاثة بنين على ساق، وليس ما قاله بشيء، لأنهم يقولون ذلك للمرأة إذا لم يكن بين البنين أنثى، ولا يقال ذلك في مطلع التتابع أين كان. وأعجزت مهاربها: أي أعجزتهم جعلتهم عاجزين، فحذف
المفعول، وأسلمتهم المعاقل: لم تحصنهم، ولفظتهم، بفتح الفاء: رمت بهم وقذفتهم،
وأعيتهم المحاول، أي المطالب. ولحم مجزور، أي قتيل قد صار جزراً للسباع. وفي الحديث:"ائتوني بشلوها الأيمن". وعاض على يديه، أي ندماً، وصافق بكفيه، أي تعسفاً
أوتعجباً، ومرتفق بخديه: جاعل لهما على
مرفقيه فكراً وهماً، وزار على رأيه، أي عائب، أي يرى الواحد منهم رأياً ويرجع
عنه ويعيبه، وهو البداء الذي يذكره المتكلمون. ثم فسره
بقوله:"وراجع عن عزمه". فإن قلت:
فهل يمكن أن يفرق بينهما، ليكون الكلام أكثر فائدة؟. أو
يكون بمعنى الاغتيال، يقال: قتله غيلة، أي خديعة. يذهب به إلى مكان يوهمه أنه
لحاجة ثم يقتله. وقال أبو عبيد:
هي لا، والتاء إنما زيدت في"حين"، لا
في"لا"، وإن كتبت مفردة، والأصل"تحين"
كما قال في"ألان""تلان". فزادوا التاء،
وأنشد لأبي وجزة:
وقال المؤرخ:
زيدت التاء في"لات" كما زيدت في"ربت" و"ثمت". ويكون المناص أيضاً بمعنى الملجأ والمفزع، أي ليس هذا حين تجد
مفزعاً ومعقلاً تعتصم به.
وقد
تبدل الهاء همزة، فيقال"أيهات" مثل هراق وأراق، قال:
قال الكسائي:
فمن كسر التاء وقف عليها بالهاء، فقال:"هيهاه"، ومن فتحها وقف إن شاء
بالتاء وإن شاء بالهاء.
فنفى عنهم ذلك، وقال: ليسوا من يقال فيه مثل هذا القول، وتأولها ابن عباس رضي الله عنه لما قيل له: أتبكي السماء والأرض على أحد؟ فقال: نعم يبكيه
مصلاه في الأرض ومصعد عمله في السماء، فيكون نفي البكاء عنهما كناية عن أنه لم
يكن لهم في الأرض عمل صالح يرفع منها إلى السماء. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن
خطبة له عليه السلام في ذم الكبر
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:"ومن
الناس من يسمي هذه الخطبة بالقاصعة، وهي تتضمن ذم إبليس
لعنه الله، على استكباره وتركه السجود لآدم عليه
السلام، وأنه أول من ظهر العصبية وتبع الحمية،
وتحذير الناس من سلوك طريقته": الحمد لله الذي لبس العز والكبرياء،
واختارهما لنفسه دون خلقه، وجعلهما حمىً وحرماً على غيره، وأصطفاهما لجلاله،
وجعل اللعنة على من نازعه فيهما من عباده. الشرح:
يجوز أن تسمى هذه الخطبة"القاصعة" من قولهم: قصعت الناقة بجرتها، وهو أن تردها إلى جوفها، أو تخرجها من جوفها فتملأ فاها،
فلما كانت الزواجر والمواعظ في هذه الخطبة مرددة من أولها إلى آخرها، شبهها بالناقة التي تقصع الجرة. ويجوز أن تسمى القاصعة، لأنها كالقاتلة لإبليس وأتباعه من أهل العصبية، من
قولهم: قصعت القملة، إذا هشمتها وقتلتها. ويجوز
أن تسمى القاصعة، لأن المستمع لها المعتبر بها يذهب
كبره ونخوته، فيكون من قولهم: قصع الماء عطشه، أي
أذهبه وسكنه، قال ذو الرمة بيتاً في هذا
المعنى:
الصرائر:
جمع صريرة، وهي العطش، ويجوز أن تسمى القاصعة، لأنها تتضمن تحقير إبليس وأتباعه
وتصغيرهم، من قولهم: قصعت الرجل إذا امتهنته وحقرته، وغلام مقصوع، أي قميء لا
يشب ولا يزداد. وجاء في الخبر:"العصبية في الله تورث الجنة، والعصبية في الشيطان تورث
النار". ويجوز أن يكون عرفهم من قبل أن
لفظة"بشر" على ماذا تقع، ثم قال لهم: إني خالق هذا الجسم المخصوص الذي
أعلمتكم أن لفظة"بشر" واقعة عليه من طين. وقد اختلف في ذلك فقال قوم: كان قبلة، كما الكعبة اليوم قبلة، ولا يجوز السجود إلا لله.
وقال آخرون:
بل كان السجود له تكرمةً ومحنة، والسجود لغير الله غير قبيح في العقل إذا لم يكن
عبادة ولم يكن فيه مفسدة. قلت:
أما المرجئة فأكثرهم يقول: كان في الأصل
كافراً، لأن المؤمن عندهم لا يجوز أن يكفر، وأما
أصحابنا فلما كان هذا الأصل عندهم باطلاً توقفوا في حال إبليس، وجوزوا كلا
الأمرين.
وجعله
مدحوراً، أي مطروداً مبعداً، دحره الله دحوراً، أي أقصاه وطرده. والعرف:
الريح الطيبة. وكذلك
الخال والمخيلة، تقول: اختال الرجل وخال أيضاً، أي تكبر. والمتكلمون
يسمون إبطال الثواب إحباطاً وإبطال العقاب تكفيراً. فإن قلت:
فعلى هذا كم تكون مدة عبادة إبليس إذا كانت ستة آلاف سنة من سني الآخرة؟. ولما رأى أمير المؤمنين عليه السلام هذا
المبلغ عظيماً جداً علم أن أذهان السامعين لا تحتمله، فلذلك أبهم القول عليهم، وقال:"لا يدرى أمن سني الدنيا أم من سني
الآخرة". قلت: إن التوبة
أحبطت معصيته فصار كأنه لم يعص. قلت: الباء ههنا
ليست للسببية كما يتوهمه هذا المعترض، بل هي
كالباء في قولهم: خرج زيد بثيابه، ودخل زيد بسلاحه، أي
خرج لابساً، ودخل متسلحاً، أي يصحبه الثياب ويصحبه السلاح، فكذلك قوله عليه السلام:"بأمر أخرج به منها
ملكاً"، معناه أن الله تعالى لا يدخل الجنة بشراً يصحبه أمر أخرج الله به
ملكاً منها. فلعمر الله لقد فخر على أصلكم، ووقع في حسبكم، ودفع
في نسبكم، وأجلب بخيله عليكم، وقصد برجله سبيلكم. يقتنصونكم بكل مكان، ويضربون
منكم كل بنان، لا تمتنعون بحيلة، ولا تدفعون بعزيمة، في حومة ذل، وحلقة ضيق،
وعرصة موت، وجولة بلاء. واعتمدوا
وضع التذلل على رؤوسكم، وإلقاء التعزز تحت أقدامكم، وخلع التكبر من أعناقكم،
واتخذوا التواضع مسلحةً بينكم وبين عدوكم إبليس وجنوده، فإن له من كل أمة جنوداً
وأعواناً، ورجلاً وفرساناً، ولا تكونوا كالمتكبر على ابن أمه من غير ما فضل جعله
الله فيه، سوى ما ألحقت العظمة بنفسه من عداوة الحسب، وقدحت الحمية في قلبه من
نار الغضب، ونفخ الشيطان في أنفه من ريح الكبر، الذي أعقبه الله به الندامة،
وألزمه آثام القاتلين إلى يوم القيامة. وقال الراوندي: يجوز أن يكون مفعولاً ثانياً، وهذا ليس بصحيح لأن"حذر" لا يتعدى إلى
المفعولين، والعدوى: ما يعدي من جرب أو غيره، أعدى فلان فلاناً من خلقه أو من
علته، وهو مجاوزته من صاحبه إلى غيره، وفي
الحديث:" لا عدوى في الإسلام". والخيل: الخيالة، ومنه
الحديث:"يا خيل الله اركبي". والصحيح أنه كلام خرج مخرج المثل،
شبهت حاله في تسلطه على بني آدم بمن يغير على قوم بخيله ورجله فيستأصلهم. وقيل: بصوتك، أي بدعائك إلى القبيح. وخيله ورجله: كل ماش وراكب من أهل الفساد من بني
آدم. وقوله:"وأغرق إليكم بالنزع"، أي استوفى
مد القوس وبالغ في نزعها ليكون مرماه أبعد، ووقع سهامه أشد. وانتصب"قذفاً" على المصدر الواقع موقع
الحال، وكذلك"رجماً". وقال الراوندي:
انتصبا لأنها مفعول له، وليس بصحيح، لأن
المفعول له ما يكون عذراً وعلة لوقوع الفعل، وإبليس ما قال ذلك الكلام لأجل
القذف والرجم، فلا يكون مفعولاً له. قوله:"صدقه به أبناء
الحمية"، موضع"صدقه" جر، لأنه
صفة"ظن"، وقد روي:"صدقه أبناء الحمية" من غير ذكر الجار
والمجرور، ومن رواه بالجار والمجرور كان معناه: صدقه في ذلك الظن أبناء الحمية،
فأقام الباء مقام"في". يقول:
فأصبح الشيطان أضر عليكم وأفسد لحالكم من أعدائكم الذين أصبحتم مناصبين لهم، أي
معادين، وعليهم متألبين، أي مجتمعين. فإن قلت:
أما أعظم في الدين حرجاً فمعلوم، فأي معنى لقوله:"وأورى
في دنياكم قدحاً"، وهل يفسد إبليس أمر الدنيا كما يفسد أمر الدين!. ودفع في نسبكم مثله. ثم نهاهم أن يكونوا كقابيل الذي حسد أخاه هابيل
فقتله، وهما أخوان لأب وأم، و إنما قال:"ابن فمه"، فذكر الأم دون
الأب، لأن الأخوين من الأم أشد حنواً ومحبة والتصاقاً من الأخوين من الأب، لأن
الأم هي ذات الحضانة والتربية. فالله الله في كبر الحمية، وفخر الجاهلية! فإنه
ملاقح الشنآن، ومنافخ الشيطان، التي خدع بها الأمم الماضية، والقرون الخالية،
حتى أعنقوا في حنادس جهالته، ومهاوي ضلالته، ذللاً عن سياقه، سلساً في قياده،
أمراً تشابهت القلوب فيه، وتتابعت القرون عليه، وكبراً تضايقت الصدور به. ومصارحة لله، أي مكاشفة، والمناصبة المعاداة. والصحيح أن ملاقح ههنا جمع ملقح وهو المصدر، من
لقحت كضربت مضرباً وشربت مشرباً. ومنافخ الشيطان: جمع منفخ، وهو مصدر أيضاً، من نفخ، ونفخ الشيطان ونفثه
واحد، وهو وسوسته وتسويله، ويقال للمتطاول إلى ما
ليس له: قد نفخ الشيطان في أنفه. وفي كلامه عليه
السلام،
يقوله لطلحة وهو صريع،
وقد وقف عليه، وأخذ سيفه:"سيف طالما جلى به الكرب عن وجه رسول الله صلى
الله عليه وسلم، ولكن الشيطان نفخ في أنفه!".
والحنادس:
الظلم، والمهاوي: جمع مهواة بالفتح، وهي الهوة يتردى الصيد فيها، وقد تهاوى
الصيد في المهواة، إذا سقط بعضه في أثر بعض. وقال الراوندي أيضاً: ويجوز أن يكون"أمراً" حالاً. وهذا أيضاً ليس بشيء، لأن الحال وصف هيئة الفاعل أو المفعول، و"أمراً" ليس كذلك.
قوله عليه السلام:"وألقوا الهجينة على ربهم" روي" الهجينة"
على"فعيلة"، كالطبيعة والخليقة، وروي" الهجنة"
على"فعلة"، كالمضغة واللقمة، والمراد بهما الاستهجان، من قولك: هو
يهجن كذا، أي يقبحه، ويستهجنه أي يستقبحه. أي نسبوا ما في الأنساب من القبح بزعمهم إلى
ربهم، مثل أن يقولوا للرجل: أنت عجمي ونحن عرب، فإن هذا ليس إلى الإنسان، بل هو
إلى الله تعالى، فأي ذنب له فيه!. الأصل: فلو رخص الله
في الكبر لأحد من عباده لرخص فيه لخاصة أنبيائه، ولكنه سبحانه كره إليهم
التكابر، ورضي لهم التواضع، فألصقوا بالأرض خدودهم، وعفروا في التراب وجوههم،
وخفضوا أجنحتهم للمؤمنين، وكانوا قوماً مستضعفين، قد أختبرهم الله بالمخمصة،
وابتلاهم بالمجهدة، وامتحنهم بالمخاوف، ومحصهم بالمكاره. وعفر وجهه:
ألصقه بالعفر، وخفضوا أجنحتهم: ألانوا جانبهم، والمخمصة:
الجوع. والمجهدة:
المشقة، وأمير المؤمنين عليه السلام كثير الاستعمال لمفعل ومفعلة بمعنى المصدر،
إذا تصفحت كلامه عرفت ذلك. وروى أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في
التاريخ، أن موسى قدم هو وأخوه هارون مصر على فرعون، لما
بعثهما الله تعالى إليه حتى وقفا على بابه يلتمسان الإذن عليه، فمكثا سنين
يغدوان على بابه ويروحان، لا يعلم بهما، ولا يجترىء أحد على أن يخبره بشأنهما- وقد كانا قالا لمن بالباب: إنا رسولا رب العالمين إلى
فرعون- حتى دخل عليه بطال له يلاعبه ويضحكه، فقال له:
أيها الملك إن على الباب رجلاً يقول قولاً عجيباً عظيماً، ويزعم أن له إلهاً غيرك، قال: ببابي! قال: نعم، قال:
أدخلوه، فدخل وبيده عصاه، ومعه هارون أخوه، فقال: أنا رسول رب العالمين إليك... وذكر تمام الخبر. هذا فرض سؤال وجواب عنه، كأنه
قال لنفسه: لم لا يجوز أن يكون إيمانهم على هذا التقدير لوجوبه، ولخوف
ذلك النبي، أو لرجاء نفع ذلك النبي صلى
الله عليه وسلم؟ فقال: لأن النيات تكون حينئذ مشتركة،
أي يكون المكلف قد فعل الإيمان لكلا الأمرين. وكذلك تفسير قوله"والحسنات مقتسمة": قال: ولا يجوز أن
تكون طاعة الله تعالى تعلو إلا لكونها طاعة له لا غير، ولا يجوز أن يشوبها
ويخالطها من غيرها شائبة. ولو أراد سبحانه أن يضع بيته الحرام، ومشاعره
العظام، بين جنات وأنهار، وسهل وقرار، جم الأشجار، داني الثمار، ملتف البنى،
متصل القرى، بين برة سمراء، وروضة خضراء، وأرياف محدقة، وعراص مغدقة، وزروع
ناضرة، وطرق عامرة، لكان قد صغر قدر الجزاء، على حسب ضعف البلاء. من مفاوز قفار" بالإضافة. وقد روى
قوم:"من مفاوز" بفتح الزاء، لأنه لا ينصرف، ولم يضيفوا،
جعلوا"قفار" صفة، والسحيقة: البعيدة، والمهاوي: المساقط، والفجاج: جمع
فج، وهو الطريق بين الجبلين. والمشاعر: معالم النسك. وناضرة: ذات نضارة ورونق وحسن. وروي"يستعبدهم"
و"يتعبدهم"، والثانية أحسن. فقال آدم: إني لست أقوى على بنائه، ولا أهتدي
إليه، فقيض الله تعالى له ملكاً، فانطلق به نحو مكة- وكان آدم في طريقه كلما رأى
روضة أو مكاناً يعجبه سأل الملك أن ينزل به هناك ليبني فيه، فيقول الملك: إنه
ليس ههنا حتى أقدمه مكة- فبنى البيت من خمسة جبال، طور سيناء، وطور زيتون، ولبنان،
والجودي، وبنى قواعده من حراء. فلما فرغ خرج به الملك إلى عرفات، فأراه المناسك
كلها التي يفعلها الناس اليوم، ثم قدم به مكة وطاف بالبيت أسبوعاً، ثم رجع إلى
أرض الهند فمات. الأصل: فالله الله
في عاجل البغي، وآجل وخامة الظلم، وسوء عاقبة الكبر، فإنها مصيدة إبليس العظمى،
ومكيدته الكبرى، التي تساور قلوب الرجال مساورة السموم القاتلة، فما تكدي أبداً،
ولا تشوي أحداً، لا عالماً لعلمه، ولا مقلاً في طمره. وقال
أيضاً: يجوز أن تكون نافية، أي لم يحرس الله عباده عن ذلك إلجاءً وقهراً، بل
فعلوه اختياراً من أنفسهم، والوجه الأول باطل،
لأن"عن! على هذا التقدير تكون من صلة المصدر، فلا يجوز تقديمها عليه،
وأيضاً فإن"لما في ذلك" لو كان هو الخبر، لتعلق لام الجر بمحذوف،
فيكون التقدير: حراسة الله لعباده عن ذلك كائنة لما في ذلك من تعفير الوجوه
بالتراب، وهذا كلام غير مفيد ولا منتظم إلا على تأويل
بعيد لا حاجة إلى تعسفه، والوجه الثاني باطل، لأن سياقة الكلام تدل على فساده،
ألا ترى قوله:"تسكيناً وتخشيعاً!، وقوله:"لما في ذلك من كذا"، وهذا كله تعليل الحاصل الثابت لا تعليل المنفي المعدوم. وكذلك
بالزكاة والصوم ليسكن أطرافهم، ويخشع أبصارهم، فجعل التسكين والتخشيع عذراً وعلة
للحراسة، ونصب اللفظات على أنها مفعول له. وإلصاق كرائم الجوارح بالأرض كاليدين والساقين
تصاغراً يوجب الخشوع والإستسلام، والجوع في الصوم الذي يلحق البطن في المتن
يقتفي زوال الأشر والبطر، ويوجب مذلة النفس وقمعها عن الانهماك في الشهوات، وما
في الزكاة من صرف فواضل المكاسب إلى أهل الفقر والمسكنة يوجب تطهير النفوس
والأموال ومواساة أرباب الحاجات بما تسمح به النفوس من الأموال، وعاصم لهم من
السرقات وارتكاب المنكرات، ففي ذلك كله دفع مكائد الشيطان. والمسكنة: أشد الفقر في أظهر الرأيين، والقمع:
القهر، والنواجم: جمع ناجمة، وهي ما يظهر ويطلع من الكبر وغيره، والقدع، بالدال
المهملة: الكف، قدعت الفرس وكبحته باللجام، أي كففته. والطوالع، كالنواجم. الأصل: ولقد نظرت
فما وجدت أحداً من العالمين يتعصب لشيء من الأشياء إلا عن علة تحتمل تمويه
الجهلاء، أو حجة تليط بعقول السفهاء غيركم، فإنكم تتعصبون لأمر ما يعرف له سبب
ولا علة. أما إبليس فتعصب على آدم لأصله، وطعن عليه في
خلقته، فقال: أنا ناري وأنت طيني. وأما الأغنياء من مترفة الأمم فتعصبوا لآثار مواقع
النعم، فقالوا: نحن أكثر أموالاً وأولاداً وما نحن بمعذبين. هكذا قال ابن السكيت، وقد اعترض عليه بأن المجيد من
صفات الله تعالى، قال سبحانه:"ذو العرش
المجيد"، على قراءة من رفع، والله سبحانه يتعالى عن الآباء، وقد جاء
في وصف القرآن المجيد، قال سبحانه:"بل هو قرآن مجيد". وزاحت الأعداء: بعدت. وله، أي لأجله. وتخاذل الأيدي: ألا ينصر الناس بعضهم بعضاً. الأصل: وتدبروا
أحوال الماضين من المؤمنين قبلكم، كيف كانوا في حال التمحيص والبلاء! ألم يكونوا
أثقل الخلائق أعباءً، وأجهد العباد بلاءً، وأضيق أهل الدنيا حالاً! اتخذتهم
الفراعنة عبيداً فساموهم سوء العذاب، وجرعوهم جرع المرار، فلم تبرح الحال بهم في
ذل الهلكة وقهر الغلبة، لا يجدون حيلةً في امتناع، ولا سبيلاً إلى دفاع، حتى إذا
رأى الله سبحانه جد الصبر منهم على الأذى في محبته، والاحتمال للمكروه من خوفه،
جعل لهم من مضايق البلاء فرجاً، فأبدلهم العز مكان الذل، والأمن مكان الخوف،
فصاروا ملوكاً حكاماً، وأئمةً أعلاماً، وقد بلغت الكرامة من الله لهم، ما لم
تذهب الآمال إليه بهم. والتمحيص:
التطهير والتصفية، والأعباء: الأثقال: واحدها عبء، وأجهد العباد: أتعبهم،
والفراعنة: العتاة، وكل عات فرعون، وساموهم سوء العذاب: ألزموهم إياه، وهذا
إشارة إلى قوله تعالى:"يسومونكم سوء العذاب
يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم"،
والمرار: بضم الميم: شجر مر في الأصل، واستعير شرب المرار لكل من يلقى شديد
المشقة، ورأى الله منهم جد الصبر، أي أشده، وأئمة أعلاماً، أي يهتدى بهم، كالعلم
في الفلاة. البصائر نافذة، يقال: نفذت بصيرتي في هذا الخبر، أي
اجتمع همي عليه، ولم يبق عندي تردد فيه، لعلمي به وتحقيقي إياه. أذل الأمم
داراً، وأجدبهم قراراً، لا يأوون إلى جناح دعوة يعتصمون بها، ولا إلى ظل ألفة
يعتمدون على عزها، فالأحوال مضطربة والأيدي مختلفة، والكثرة متفرقة، في بلاء
أزل، وأطباق جهل، من بنات موءودة، وأصنام معبودة، وأرحام مقطوعة، وغارات مشنونة. ويعلم من فحوى الخطبة أنهم غير مرادين بالكلام،
ولأنه عليه السلام قال:
تركوهم إخوان دبر ووبر، وهؤلاء لم يكونوا من أهل الوبر والدبر، بل من أهل المدر،
لأنهم كانوا ذوي حصون وآطام. والحاصل أن الذين احتازتهم الأكاسرة والقياصرة من
الريف إلى البادية، وصاروا أهل وبر ولد إسماعيل، لا بنو إسحاق وبنو إسرائيل!. والجواب أنه عليه السلام ذكر في هذه الكلمات، وهي قوله:"فاعتبروا بحال ولد إسماعيل وبني إسحاق
وبني إسرائيل المقهورين والقاهرين جميعاً"، أما المقهورون فبنو إسماعيل،
وأما القاهرون فبنو إسحاق وبنو إسرائيل، لأن الأكاسرة من بني إسحاق، ذكر كثير من
أهل العلم أن فارس من ولد إسحاق، والقياصرة من ولد إسحاق أيضاً، لأن الروم بنو
العيص بن إسحاق، وعلى هذا يكون الضمير في"أمرهم"، و"تشتتهم"
و"تفرقهم" يرجع إلى بني إسماعيل خاصة. ويصير تقدير الكلام: فاعتبروا بحال ولد إسماعيل مع بني إسحاق وبني إسرائيل، فجاء
بهم في صدر الكلام على العموم، ثم خصص فقال: الأكاسرة والقياصرة، وهم داخلون في
عموم ولد إسحاق، وإنما لم يخصص عموم بني إسرائيل لأن العرب لم تكن تعرف ملوك ولد
يعقوب، فيذكر لهم أسماء لهم في الخطبة، بخلاف ولد إسحاق فإنهم كانوا يعرفون
ملوكهم من بني ساسان ومن بني الأصفر. وبحر
العراق: دجلة والفرات، أما الأكاسرة فطردوهم عن بحر العراق، وأما القياصرة
فطردوهم عن ريف الآفاق، أي عن الشام وما فيه من المرعى والمنتجع.
نظيره
قائد وقادة، وسائس وساسة. والجدب: المحل. وأطباق
جهل: جمع طبق، أي جهل متراكم بعضه فوق بعض، وغارات مشنونة: متفرقة، وهي أصعب
الغارات.
فوفدت بنو تميم إلى النعمان، واستعطفوه، فرق عليهم، وأعاد عليهم
السبي،
وقال: كل امرأة اختارت أباها ردت إليه، وإن اختارت صاحبها تركت عليه، فكلهن
اخترن آباءهن، إلا ابنة قيس بن عاصم، فإنها
اختارت من سباها، وهو عمرو بن المشمرخ اليشكري، فنذر
قيس بن عاصم المنقري التميمي ألا يولد له بنت إلا وأدها، والوأد أن
يخنقها في التراب ويثقل وجهها به حتى تموت. ثم اقتدى به كثير من
بني تميم، قال سبحانه:"وإذا الموءودة
سئلت. بأي ذنب قتلت"، أي على طريق التبكيت والتوبيخ لمن فعل ذلك أو
أجازه، كما قال سبحانه:"يا عيسى بن مريم أأنت
قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله".
وفي الحديث: أن صعصعة بن ناجية بن عقال لما وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: يا رسول الله، إني كنت أعمل في الجاهلية عملاً صالحاً، فهل ينفعني ذلك
اليوم؟ قال عليه السلام:
وما عملت؟ قال: ضللت ناقتين عشراوين،
فركبت جملاً ومضيت في بغائهما، فرفع لي بيت حريد، فقصدته، فإذا شيخ جالس بفنائه
فسألته عن الناقتين، فقال: ما نارهما ؟ قلت: ميسم بني دارم، قال: هما عندي، وقد
أحيا الله بهما قوماً من أهلك من مضر، فجلست معه ليخرجهما إلي، فإذا عجوز قد
خرجت من كسم البيت، فقال لها: ما وضعت، إن كان سقباً شاركنا في أموالنا، وإن كان
حائلاً وأدناها، فقالت العجوز: وضعت أنثى، فقلت له: أتبيعها؟ قال: وهل تبيع
العرب أولادها! قلت: إنما أشتري حياتها، ولا أشتري رقها، قال: فبكم؟ قلت: احتكم،
قال: بالناقتين والجمل، قلت: ذاك لك على أن يبلغني الجمل وإياها! قال: بعتك،
فاستنقذتها منه بالجمل والناقتين، وآمنت بك يا رسول الله، وقد صارت لي سنة في العرب أن أشتري كل موؤودة بناقتين عشراوين
وجمل، فعندي إلى هذه الغاية ثمانون ومائتا موؤودة قد أنقذتهن، فقال عليه
السلام:"لا ينفعك ذاك لأنك لم تبتغ به وجه
الله، وإن تعمل في إسلامك عملاً صالحاً تثب عليه". وروي:"والتقت
الملة" بالقاف أي اجتمعت بهم، من اللقاء. والرواية
الأولى أصح. وأصبحوا
في نعمتها غرقين، مبالغة في وصف ما هم فيه من النعمة. وروي"فكهين"
أي أشرين وقد قرىء بهما في قوله تعالى:"ونعمة
كانوا فيها فاكهين"، وقال الأصمعي: فاكهين: مازحين، والمفاكهة
الممازحة، ومن أمثالهم:"لا تفاكه أمة، ولا تبل على أكمة"، فأما قوله
تعالى:"فظلتم تفكهون"، فقيل:
تندمون، وقيل: تعجبون. أفعلت
في هذا المعنى وفعلت واحد، عن أبي زيد. والقناة إذا لم تلن في يد الغامز كانت أبعد عن
الحطم والكسر. فلعن
الله السفهاء لركوب المعاصي، والحلماء لترك التناهي. و"في""من قوله"فيما
عقد"متعلقة بمحذوف، وموضعها نصب على الحال، وهذا إشارة إلى قوله
تعالى:"لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت
بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم".
وقال عثمان لأبي ذر: أخشى أن تصير بعد الهجرة أعرابياً. وروي:"ولا يعقلون من الإيمان". وهذا الخبر من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم ومن أخباره المفصلة بالغيوب. واعترض المرتضى رحمه الله على هذا الاحتجاج
في"الشافي" فقال: من أين قلت: إن الآية نزلت في أبي بكر
وأصحابه؟ فإن قال: لأنهم الذين قاتلوا المرتدين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أحد
قاتلهم سواهم، قيل له: ومن الذي سلم لك ذلك؟ أو ليس أمير المؤمنين عليه السلام قد قاتل الناكثين والقاسطين والمارقين بعد الرسول صلى
الله عليه وسلم وهؤلاء عندنا مرتدون عن
الدين؟ ويشهد بصحة التأويل زائداً على احتمال القول له، ما روي عن أمير المؤمنين عليه
السلام
من
قوله يوم البصرة: والله ما قوتل أهل الآية حتى اليوم،
وتلاها، وقد روي عن عمار وحذيفة وغيرهما مثل ذلك. وقد كان له أيضاً أن يقول:
لم قلت: إن الذين قاتلهم أبو بكر وأصحابه كانوا مرتدين! فإن المرتد من ينكر دين الإسلام بعد أن كان قد تدين به، والذين منعوا
الزكاة لم ينكروا أصل دين الإسلام، وإنما تأولوا فأخطأوا، لأنهم تأولوا قول الله
تعالى:"خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن
لهم"، فقالوا: إنما ندفع زكاة أموالنا إلى
من صلاته سكن لنا، ولم يبق بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم من
هو بهذه الصفة، فسقط عنا وجوب الزكاة، ليس هذا
من الردة في شيء، وإنما سماهم الصحابة أهل الردة على سبيل المجاز، إعظاماً لما قالوه وتأولوه. وأما
المعنى فلأن في مذهبهم أن من ارتد-
وكان قد ولد على فطرة الإسلام- بانت امرأته
منه، وقسم ماله بين ورثته، وكان على زوجته عدة المتوفى عنها زوجها، ومعلوم أن أكثر محاربي أمير المؤمنين عليه السلام كانوا
قد ولدوا في الإسلام، ولم يحكم فيهم بهذه الأحكام.
وقوله:"إن الصفات غير متحققة في
صاحبكم"، فلعمري إن حظ أمير المؤمنين عليه السلام منها هو الحظ الأوفى، ولكن الآية
ما خصت الرئيس بالصفات المذكورة، وإنما أطلقها على المجاهدين، وهم الذين يباشرون
الحرب، فهب أن أبا بكر وعمر ما كانا بهذه الصفات،
لم لا يجوز أن يكون مدحاً لمن جاهد بين أيديهما من
المسلمين، وباشر الحرب، وهم شجعان المهاجرين والأنصار الذين فتحوا
الفتوح، ونشروا الدعوة، وملكوا الأقاليم!. وقد استدل قاضي القضاة أيضاً على صحة
إمامة أبي بكر،- وأسند هذا الاستدلال إلى شيخنا أبي علي- بقوله تعالى:"سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا
فاستغفر لنا يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم". وقال تعالى:"فان
رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا
معي عدواً إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين"، وقال تعالى:"سيقول
المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام
الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل"، يعني قوله تعالى:"لن
تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدواً". ثم قال سبحانه:"قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس
شديد تقاتلونهم أو يسلمون. فإن تطيعوا يؤتكم الله أجراً حسناً وإن تتولوا كما
توليتم من قبل يعذبكم عذاباً أليماً"، فبين
أن الذي يدعو هؤلاء المخلفين من الأعراب إلى قتال قوم أولي بأس شديد غير النبي صلى
الله عليه وسلم، لأنه تعالى قد بين أنهم لا
يخرجون معه، ولا يقاتلون معه عدواً، بآية متقدمة، ولم يدعهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلى قتال الكفار إلا أبو بكر وعمر وعثمان،
لأن أهل التأويل لم يقولوا في هذه الآية غير وجهين من
التأويل، فقال بعضهم: عنى بقوله:"ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد"، بني
حنيفة، وقال بعضهم: عنى فارس والروم، وأبو بكر هو الذي دعا إلى قتال بني حنيفة وقتال آل
فارس والروم، ودعاهم بعده إلى قتال فارس والروم عمر، فإذا كان الله تعالى قد بين
أنهم بطاعتهم لهما يؤتهم أجراً حسناً، وإن تولوا عن طاعتهما يعذبهم عذاباً
أليماً، صح أنهما على
حق، وأن طاعتهما طاعة لله تعالى، وهذا يوجب صحة إمامتهما. والوجه
الثاني أنا لا نعرف من الذين عناهم الله تعالى بهذا من
بقي إلى أيام أمير المؤمنين عليه السلام، كما علمنا أنهم كانوا باقين في أيام
أبي بكر. وليس يجب أن يقال في القرآن بالإرادة، وبما يحتمل
من الوجوه في كل موضع دون الرجوع إلى تاريخ نزول الآي، والأسباب التي وردت
عليها، وتعلقت بها. وبشره النبي صلى الله عليه
وسلم
بأنه
يقاتلهم، وقد كانوا أولي بأس شديد بلا شبهة. ثم إن مذهبنا في محاربي أمير
المؤمنين عليه السلام معروف، لأنهم
عندنا كانوا كفاراً بمحاربته لوجوه: الأول منها: أن من حاربه كان مستحلاً لقتاله، مظهراً
أنه في ارتكابه على حق، ونحن نعلم أن من أظهر استحلال شرب جرعة خمر هو كافر
بالإجماع، واستحلال دماء المؤمنين فضلاً عن أفاضلهم وأكابرهم أعظم من شرب الخمر
واستحلاله، فيجب أن يكونوا من هذا الوجه كفاراً. قلنا: أحكام الكفر تختلف، وإن شملهم اسم"الكفر"، لأن في الكفار من يقتل ولا يستبقى،
وفيهم من يؤخذ منه الجزية ولا يحل قتله إلا بسبب طارىء غير الكفر، ومنهم من لا
يجوز نكاحه على مذهب أكثر المسلمين، فعلى هذا يجوز أن
يكون أكثر هؤلاء القوم كفاراً، وإن لم يسر فيهم بجميع سيرة أهل الكفر،
لأنا قد بينا اختلاف أحكام الكفار، ويرجع في أن حكمهم مخالف لأحكام الكفار إلى
فعله عليه السلام وسيرته فيهم. على أنا لا نجد في
الفساق من حكمه أن يقتل مقبلاً، ولا يقتل
مولياً، ولا يجهز على جريحه، إلى غير ذلك
من الأحكام التي سيرها في أهل البصرة وصفين. ويمكن أيضاً أن يكون قوله تعالى:"ستدعون"، إنما أراد به دعاء الله
تعالى لهم بإيجاب القتال عليهم، لأنه إذا دلهم على وجوب قتال المرتدين، ورفعهم
عن بيضة الإسلام، فقد دعاهم إلى القتال، ووجبت عليهم الطاعة، ووجب لهم الثواب إن
أطاعوا، وهذا أيضاً تحتمله الآية. قيل لك: وكذلك خروجهم
مع أسامة ومحاربة العدو معه، وإن شابه الخروج مع النبي ومحاربة العدو معه، إلا
أنه على الحقيقة ليس معه، وإنما هو مع بعض أمرائه. وقد علمتم موضعي من رسول الله صلى الله عليه وآله،
بالقرابة القريبة، والمنزلة الخصيصة، وضعني في حجره، وأنا وليد يضمني إلى صدره،
ويكنفني في فراشه، ويمسني جسده، ويشمني عرفه، وكان يمضغ الشيء ثم يلقمنيه، وما
وجد لي كذبةً في قول، ولا خطلةً في فعل. والكلاكل: الصدور، الواحد كلكل، والمعنى أني
أذللتهم وصرعتهم إلى الأرض. ونواجم قرون ربيعة ومضر: من نجم منهم وظهر، وعلا
قدره، وطار صيته. ونحن
نذكر ما ذكره أرباب السير من معاني هذا الفصل. روى الطبري في تاريخه، قال: حدثنا ابن
حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق قال: حدثني عبد الله بن نجيح،
عن مجاهد، قال: كان من نعمة الله عز وجل على علي ابن
أبي طالب عليه السلام، وما صنع الله له،
وأراده به من الخير، أن قريشاً أصابتهم أزمة شديدة، وكان أبو طالب ذا عيال كثير،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس-
وكان من أيسر بني هاشم: يا عباس، إن أخاك أبا طالب كثير العيال، وقد ترى ما أصاب
الناس من هذه الأزمة، فانطلق بنا، فلنخفف عنه من عياله، آخذ من بيته واحداً،
وتأخذ واحداً، فنكفيهما عنه. فقال العباس: نعم، فانطلقا حتى أتيا أبا طالب،
فقالا له: إنا نريد أن نخفف عنك من عيالك حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه، فقال
لهما: إن تركتما لي عقيلاً فاصنعا ما شئتما. فأخذ رسول الله صلى
الله عليه وسلم علياً فضمه إليه،
وأخذ العباس جعفراً رضي الله عنه،
فضمه إليه، فلم يزل علي بن أبي طالب عليه السلام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بعثه الله نبياً، فاتبعه
علي عليه السلام، فأقر به وصدقه، ولم يزل جعفر عند العباس حتى أسلم واستغنى عنه. وروى سعيد بن جبير، قال:
سألت أنس بن مالك، فقلت: أرأيت قول عمر عن الستة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات
وهو عنهم راض؟ ألم يكن راضياً عن غيرهم من أصحابه؟ فقال: بلى، مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو
راض عن كثير من المسلمين، ولكن كان عن هؤلاء أكثر رضا، فقلت له: فأي الصحابة كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم له
أحمد؟ أو كما قال- قال: ما فيهم أحد إلا وقد سخط منه فعلاً، وأنكر عليه أمراً، إلا اثنان: علي ابن أبي طالب
وأبو بكر بن أبي قحافة، فإنهما لم يقترفا منذ أتى الله بالإسلام أمراً أسخطا فيه
رسول الله صلى الله عليه وسلم. فخرجت على
أتاني تلك، ولقد أراثت بالركب ضعفاً وعجفاً، حتى شق ذلك عليهم، حتى قدمنا مكة
نلتمس الرضاع فما منا امرأة إلا وقد عرض عليها محمد صلى الله عليه وسلم فتأباه
إذا قيل لها إنه يتيم، وذلك أنا إنما كنا نرجو المعروف من أبي الصبي، فكنا نقول:
يتيم، ما عسى أن تصنع أمه وجده! فكنا نكرهه لذلك، فما بقيت امرأة ذهبت معي إلا
أخذت رضيعاً غيري، فلما اجتمعنا للإنطلاق قلت لصاحبي: والله إني لأكره أن أرجع
من بين صواحبي لم آخذ رضيعاً، والله لأذهبن إلى ذلك اليتيم فلآخذنه، قال: لا
عليك أن تفعلي! وعسى الله أن يجعل لنا فيه بركة، فذهبت إليه فأخذته، وما يحملني
على أخذه إلا أني لم أجد غيره. قالت: فلما أخذته رجعت إلى رجلي، فلما وضعته في
حجري أقبل عليه ثدياي بما شاء من لبن، فرضع حتى روي وشرب معه أخوه حتى روي، وما
كنا ننام قبل ذلك من بكاء صبينا جوعاً، فنام، وقام زوجي إلى شارفنا تلك فنظر
إليها فإذا أنها حافل، فحلب منها ما شرب وشربت حتى انتهينا رياً وشبعاً، فبتنا
بخير ليلة، قالت: يقول صاحبي حين أصبحنا: أتعلمين والله يا حليمة لقد أخذت نسمة
مباركة، فقلت: والله إني لأرجو ذلك، ثم خرجنا وركبت أتاني تلك، وحملته معي
عليها، فوالله لقطعت بالركب ما يقدر عليها شيء من حميرهم حتى إن صواحبي ليقلن
لي: ويحك يا بنت أبي ذؤيب! اربعي علينا، أليس هذه أتانك التي كنت خرجت عليها!
فأقول لهن: بلى والله، إنها لهي، فيقلن: والله إن لها لشأناً. فرجعنا به إلى بلاد بني سعد، فوالله إنه لبعد ما
قدمنا بأشهر مع أخيه في بهم لنا خلف بيوتنا، إذ أتانا أخوه يشتد، فقال لي
ولأبيه: ها هو ذاك أخي القرشي، قد جاءه رجلان عليهما ثياب بياض، فأضجعاه وشقا
بطنه، فهما يسوطانه. قالت:
فخرجت أنا وأبوه نشتد نحوه، فوجدناه قائماً ممتقعاً وجهه، فالتزمته والتزمه
أبوه، وقلنا: مالك يا بني! قال: جاءني رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعاني ثم شقا
بطني، فالتمسا فيه شيئاً لا أدري ما هو!. فلما رأى الصبيان أن القوم لا يحيرون لهم جواباً،
انطلقوا هراباً مسرعين إلى الحي يؤذنونهم ويستصرخونهم على القوم، فعمد أحدهم،
فأضجعني إضجاعاً لطيفاً، ثم شق ما بين مفرق صدري إلى منتهى عانتي، وأنا أنظر
إليه فلم أجد لذلك حساً، ثم أخرج بطني فغسلها بذلك الثلج، فأنعم غسلها، ثم
أعادها مكانها، ثم قام الثاني منهم، فقال لصاحبه: تنح، فنحاه عني، ثم أدخل يده
في جوفي، وأخرج قلبي، وأنا أنظر إليه، فصدعه ثم أخرج منه مضغة سوداء فرماها، ثم
قال بيده: يمنةً منه وكأنه يتناول شيئاً، فإذا في يده خاتم من نور، تحار أبصار
الناظرين دونه، فختم به قلبي، ثم أعاده مكانه فوجدت برد ذلك الخاتم في قلبي
دهراً، ثم قال الثالث لصاحبه: تنح عنه، فأمر يده ما بين مفرق صدري إلى منتهى
عانتي، فالتأم ذلك الشق، ثم أخذ بيدي فأنهضني من مكاني إنهاضاً لطيفاً، وقال
للأول الذي شق بطني: زنه بعشرة من أمته، فوزنني بهم فرجحتهم، فقال: دعوه، فلو
وزنتموه بأمته كلها لرجحهم، ثم ضموني إلى صدرهم، وقبلوا رأسي وما بين عيني،
وقالوا يا حبيب الله، لا ترع، إنك لو تدري ما يراد بك من الخير لقرت عيناك!
فبينا أنا كذلك إذا أنا بالحي قد جاؤوا بحذافيرهم، وإذا أمي- وهي ظئري - أمام
الحي تهتف بأعلى صوتها، وتقول: يا ضعيفاه! فانكب علي أولئك الرهط فقبلوا رأسي
وما بين عيني، وقالوا: حبذا أنت من ضعيف! ثم قالت ظئري: يا وحيداه! فانكبوا علي،
وضموني إلى صدورهم، وقبلوا رأسي وما بين عيني، ثم قالوا: حبذا أنت من وحيد! وما
أنت بوحيد! إن الله وملائكته معك والمؤمنين من أهل الأرض، ثم قالت ظئري: يا يتيماه!
استضعفت من بين أصحابك، فقتلت لضعفك، فانكبوا علي وضموني إلى صدورهم، وقبلوا
رأسي وما بين عيني، وقالوا: حبذا أنت من يتيم! ما أكرمك على الله لو تعلم ما
يراد بك من الخير! قال: فوصل الحي إلى شفير الوادي، فلما بصرت بي أمي-
وهي ظئري- نادت: يا بني، ألا أراك حياً بعد! فجاءت حتى انكبت علي، وضمتني إلى
صدرها، فوالذي نفسي بيده، إني لفي حجرها قد ضمتني إليها، وإن يدي لفي يد بعضهم،
فجعلت ألتفت إليهم، وظننت أن القوم يبصرونهم، فإذا هم لا يبصرونهم، فيقول بعض
القوم: إن هذا الغلام قد أصابه لمم، أو طائف من الجن، فانطلقوا به إلى كاهن بني
فلان، حتى ينظر إليه ويداويه، فقلت: ما بي شيء مما يذكرون، نفسي سليمة، وإن
فؤادي صحيح، ليست بي قلبة. فقال أبي- وهو زوج ظئري-: ألا ترون كلامه صحيحاً!
إني لأرجو ألا يكون على ابني بأس. فاتفق القوم على أن يذهبوا إلى الكاهن بي،
فاحتملوني حتى ذهبوا بي إليه، فقصوا عليه قصتي، فقال: اسكتوا حتى أسمع من
الغلام، فهو أعلم بأمره منكم، فسألني فقصصت عليه أمري، وأنا يومئذ ابن خمس سنين،
فلما سمع قولي وثب وقال: يا للعرب! اقتلوا هذا الغلام فهو واللات والعزى لئن عاش
ليبدلن دينكم، وليخالفن أمركم، وليأتينكم بما لم تسمعوا به قط، فانتزعتني ظئري
من حجره، وقالت: لو علمت أن هذا يكون من قولك ما أتيتك به، ثم احتملوني فأصبحت
وقد صار في جسدي أثر الشق، ما بين صدري إلى منتهى عانتي كأنه الشراك. فقال عليه السلام: يوكل الله تعالى بأنبيائه
ملائكة يحصون أعمالهم، ويؤدون إليه تبليغهم الرسالة، ووكل بمحمد صلى الله عليه
وسلم ملكاً عظيماً منذ فصل عن الرضاع يرشده إلى الخيرات ومكارم الأخلاق، ويصده عن
الشر ومساوىء الأخلاق، وهو الذي كان يناديه: السلام عليك يا محمد يا رسول الله
وهو شاب لم يبلغ درجة الرسالة بعد، فيظن أن ذلك من الحجر والأرض، فيتأمل فلا يرى
شيئاً. وروى الطبري في"التاريخ" عن
محمد بن الحنفية، عن أبيه علي عليه السلام، قال: سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول:"ما هممت بشيء مما كان أهل الجاهلية يعملون به غير مر
تين، كل ذلك يحول الله تعالى بيني وبين ما أريد من ذلك، ثم ما هممت بسوء
حتى أكرمني الله برسالته، قلت ليلة لغلام من قريش كان يرعى معي بأعلى مكة: لو
أبصرت لي غنمي حتى أدخل مكة، فأسمر بها كما يسمر الشباب، فخرجت أريد ذلك، حتى
إذا جئت أول دار من دور مكة، سمعت عزفاً بالدف والمزامير، فقلت: ما هذا؟ قالوا:
هذا فلان تزوج ابنة فلان، فجلست أنظر إليهم، فضرب الله على أذني فنمت، فما
أيقظني إلا مس الشمس، فرجعت إلى صاحبي، فقال: ما فعلت؟ فقلت: ما صنعت شيئاً، ثم
أخبرته الخبر، ثم قلت له ليلة أخرى مثل ذلك، فقال: أفعل، فخرجت فسمعت حين دخلت
مكة مثل ما سمعت حين دخلتها تلك الليلة، فجلست أنظر، فضرب الله على أذني، فما
أيقظني إلا مس الشمس، فرجعت إلى صاحبي، فأخبرته الخبر، ثم ما هممت بعدها بسوء،
حتى أكرمني الله برسالته. ثم التفت إليه، فقال: استمع يا عدو الله، أما والله
لأفرغن لك. وأما خبر الوزارة، فقد ذكره الطبري في
تاريخه، عن عبد الله بن عباس عن علي بن أبي طالب عليه السلام،
قال لما أنزلت هذه الآية:"وأنذر عشيرتك
الأقربين"، على رسول الله صلى
الله عليه وسلم دعاني، فقال:
يا علي، إن الله أمرني أن أنذر عشيرتك الأقربين، فضقت بذلك ذرعاً، وعلمت أني متى
أنادهم بهذا الأمر أر منهم ما أكره، فصمت حتى جاءني جبرائيل عليه السلام، فقال:
يا محمد، إنك إن لم تفعل ما أمرت به يعذبك ربك، فاصنع لنا صاعاً من طعام، واجعل
عليه رجل شاة، واملأ لنا عساً من لبن، ثم اجمع بني عبد المطلب حتى أكلمهم،
وأبلغهم ما أمرت به. ففعلت ما أمرني به، ثم دعوتهم وهم يومئذ أربعون رجلاً،
يزيدون رجلاً أو ينقصونه، وفيهم أعمامه: أبو طالب، وحمزة، والعباس، وأبو لهب،
فلما اجتمعوا إليه دعا بالطعام الذي صنعت لهم، فجئت به، فلما وضعته تناول رسول
الله صلى الله عليه وسلم بضعة
من اللحم فشقها بأسنانه، ثم ألقاها في نواحي الصحفة، ثم قال: كلوا باسم الله،
فأكلوا حتى ما لهم إلى شيء من حاجة، وأيم الله الذي نفس علي بيده، إن كان الرجل
الواحد منهم ليأكل ما قدمته لجميعهم، ثم قال: اسق القوم يا علي، فجئتهم بذلك
العس فشربوا منه، حتى رووا جميعاً، وأيم الله إن كان الرجل منهم ليشرب مثله، فلما
أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكلمهم بدره أبو لهب إلى الكلام، فقال:
لشد ما سحركم صاحبكم! فتفرق القوم، ولم يكلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال من
الغد: يا علي، إن هذا الرجل قد سبقني إلى ما سمعت من القول، فتفرق القوم قبل أن
أكلمهم، فعد لنا اليوم إلى مثل ما صنعت بالأمس، ثم اجمعهم لي. ففعلت ثم جمعتهم، ثم دعاني بالطعام، فقربته لهم،
ففعل كما فعل بالأمس، فأكلوا حتى ما لهم بشيء حاجة، ثم قال: اسقهم، فجئتهم بذلك
العس، فشربوا منه جميعاً، حتى رووا، ثم تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا بني عبد المطلب، إني والله ما أعلم
أن شاباً في العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به، إني قد جئتكم بخير الدنيا
والآخرة، وقد أمرني الله أن أدعوكم إليه، فأيكم يؤازرني على هذا الأمر، على أن
يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم؟ فأحجم القوم عنه جميعاً، وقلت أنا- وإني لأحدثهم
سناً وأرمصهم عيناً، وأعظمهم بطناً، وأحمشهم ساقاً: أنا يا رسول الله أكون وزيرك
عليه، فأعاد القول، فأمسكوا وأعدت ما قلت، فأخذ برقبتي، ثم قال لهم: هذا أخي
ووصيي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا. فقام القوم يضحكون، ويقولون لأبي طالب:
قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع. فقال صلى
الله عليه وآله: وما تسألون؟
قالوا: تدعو لنا هذه الشجرة، حتى تنقلع، بعروقها، وتقف بين يديك. فقال صلى الله عليه وآله: إن
الله على كل شيء قدير، فإن فعل الله لكم ذلك، أتؤمنون وتشهدون بالحق! قالوا:
نعم، قال: فإني سأريكم ما تطلبون، وإني لأعلم أنكم لا تفيئون إلى خير، وأن فيكم
من يطرح في القليب، ومن يحزب الأحزاب. ثم قال صلى الله عليه وآله:
يا أيتها الشجرة، إن كنت تؤمنين بالله واليوم الآخر، وتعلمين أني رسول الله،
فانقلعي بعروقك حتى تقفي بين يدي بإذن الله، والذي بعثه بالحق لانقلعت بعروقها،
وجاءت ولها دوي شديد، وقصف كقصف أجنحة الطير، حتى وقفت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله مرفرفة، وألقت بغصنها الأعلى
على رسول الله صلى الله عليه وآله وببعض
أغصانها على منكبى، وكنت عن يمينه صلى
الله عليه وآله، فلما نظر
القوم إلى ذلك، قالوا علوا واستكبارا، فمرها فليأتك نصفها، ويبقى نصفها، فأمرها
فأقبل إليه نصفها كأعجب إقبال وأشده دوياً، فكادت تلتف برسول الله صلى الله عليه وآله، فقالوا
كفراً وعتواً: فمر هذا النصف فليرجع إلى نصفه كما كان، فأمره صلى الله عليه وآله فرجع،
فقلت أنا: لا إله إلا الله، إني أول مؤمن بك يا رسول الله، وأول من أقر بأن
الشجرة فعلت ما فعلت بأمر الله تعالى تصديقاً بنبوتك، وإجلالاً لكلمتك. فقال
القوم كلهم: بل ساحر كذاب، عجيب السحر خفيف فيه؟ وهل يصدقك في أمرك إلا مثل هذا!
يعنونني- وإني لمن قوم لا تأخذهم في الله لومة لائم، سيماهم سيما الصديقين،
وكلامهم كلام الأبرار، عمار الليل، ومنار النهار، متمسكون بحبل القرآن، يحيون
سنن الله وسنن رسوله، لا يستكبرون ولا يعلون، ولا يغلون ولا يفسدون، قلوبهم في
الجنان، وأجسادهم في العمل. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
في إسلام أبي بكر وعلي عليه السلام
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وينبغي أن نذكر في
هذا الموضع ملخص ما ذكره الشيخ أبو عثمان الجاحظ في كتابه المعروف
بكتاب"العثمانية" في تفضيل إسلام أبي بكر على إسلام علي عليه السلام،
لأن هذا الموضع يقتضيه، لقوله عليه السلام
حكاية عن قريش لما صدق رسول الله صلى الله عليه
وسلم: وهل يصدقك في أمرك إلا مثل هذا لأنهم استصغروا سنه، فاستحقروا أمر
محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث لم
يصدقه في دعواه إلا غلام صغير السن، وشبهة
العثمانية التي قررها الجاحظ من هذه الشبهة نشأت، ومن هذه الكلمة تفرعت، لأن
خلاصتها أن أبا بكر أسلم وهو ابن أربعين سنة، وعلي أسلم ولم يبلغ الحلم، فكان
إسلام أبي بكر أفضل.
وقال أبومحجن:
وقال كعب بن مالك:
وروى
ابن أبي شيبة، عن عبد الله بن إدريس ووكيع، عن شعبة، عن عمرو بن مرة،
قال: قال النخعي: أبو بكر أول من أسلم. وروى عمرو بن إبراهيم
الهاشمي، عن عبد الملك بن عمير، عن أسيد بن صفوان، صاحب النبي صلى الله عليه
وسلم قال: لما قبض أبو بكر جاء علي بن أبي طالب عليه السلام، فقال: رحمك الله
أبا بكر! كنت أول الناس إسلاماً. ثم رأينا جميع
المختلفين قد حاولوا نقض فضائله، ووجهوا الحيل والتأويلات نحوها، من خارجي مارق،
وناصب حنق، وثابت مستبهم، وناشىء معاند، ومنافق مكذب، وعثماني حسود، يعترض فيها
ويطعن، ومعتزلي قد نقض في الكلام، وأبصر علم الاختلاف، وعرف الشبه ومواضع الطعن
وضروب التأويل، قد التمس الحيل في إبطال مناقبه وتأول مشهور فضائله، فمرة
يتأولها بما لا يحتمل، ومرة يقصد أن يضع من قدرها بقياس منتقض، ولا يزداد مع ذلك
إلا قوة ورفعة، ووضوحاً واستنارةً، وقد علمت أن معاوية ويزيد ومن كان بعدهما من
بني مروان أيام ملكهم- وذلك نحو ثمانين سنة-
لم يدعوا جهداً في حمل الناس على شتمه ولعنه وإخفاء فضائله، وستر مناقبه
وسوابقه. روى محمد بن سعيد
الأصفهاني، عن شريك، عن محمد بن إسحاق، عن عمرو بن علي بن الحسين، عن أبيه علي
بن الحسين عليهما السلام، قال: قال لي
مروان: ما كان في القوم أدفع عن صاحبنا من صاحبكم. قلت: فما بالكم تسبونه على
المنابر؟ قال: إنه لا يستقيم لنا الأمر إلا بذلك. وروى
أبو غسان أيضاً، قال: قال عمر بن عبد العزيز:
كان أبي يخطب فلا يزال مستمراً في خطبته، حتى إذا صار إلى ذكر علي وسبه تقطع
لسانه، واصفر وجهه، وتغيرت حاله، فقلت له في ذلك، فقال: أو قد فطنت لذلك؟ إن
هؤلاء لو يعلمون من علي ما يعلمه أبوك ما تبعنا منهم رجل. قال أبو جعفر: وقد
تعلمون أن بعض الملوك ربما أحدثوا قولاً، أو ديناً لهوى فيحملون الناس على ذلك؟
حتى لا يعرفوا غيره، كنحو ما أخذ الناس الحجاج بن يوسف بقراءة عثمان، وترك قراءة
ابن مسعود وأبي بن كعب، وتوعد على ذلك بدون ما صنع هو وجبابرة بني أمية وطغاة
مروان بولد علي عليه السلام وشيعته، وإنما
كان سلطانه نحو عشرين سنة، فما مات الحجاج حتى اجتمع أهل العراق على قراءة
عثمان، ونشأ أبناؤهم ولا يعرفون غيرها، لإمساك الآباء عنها، وكف المعلمين عن
تعليمها، حتى لو قرأت عليهم قراءة عبد الله وأبي ما عرفوها، ولظنوا بتأليفها
الاستكراه والاستهجان، لإلف العادة وطول الجهالة، لأنه إذا استولت على الرعية
الغلبة، وطالت عليهم أيام التسلط، وشاعت فيهم المخافة، وشملتهم التقية، اتفقوا
على التخاذل والتساكت، فلا تزال الأيام تأخذ من بصائرهم، وتنقص من ضمائرهم،
وتنقض من مرائرهم، حتى تصير البدعة التي أحدثوها غامرة للسنة التي كانوا
يعرفونها، ولقد كان الحجاج ومن ولاه، كعبد الملك والوليد ومن كان قبلهما وبعدهما
من فراعنة بني أمية على إخفاء محاسن علي عليه
السلام وفضائله وفضائل ولده وشيعته، وإسقاط أقدارهم، أحرص منهم على إسقاط
قراءة عبد الله وأبي؟ لأن تلك القراءات لا تكون سبباً لزوال ملكهم، وفساد أمرهم،
وانكشاف حالهم، وفي اشتهار فضل علي عليه السلام
وولده وإظهار محاسنهم بوارهم، وتسليط حكم الكتاب المنبوذ عليهم، فحرصوا واجتهدوا
في إخفاء فضائله، وحملوا الناس على كتمانها وسترها، وأبى الله أن يزيد أمره وأمر
ولده إلا استنارة وإشراقاً، وحبهم إلا شغفاً وشدة، وذكرهم إلا انتشاراً وعزة،
وحجتهم إلا وضوحاً وقوة، وفضلهم إلا ظهوراً، وشأنهم إلا علواً، وأقدارهم إلا
إعظاماً، حتى أصبحوا بإهانتهم إياهم أعزاء، وبإماتتهم ذكرهم أحياء، وما أرادوا
به وبهم من الشر تحول خيراً، فانتهى إلينا من ذكر فضائله وخصائصه ومزاياه
وسوابقه ما لم يتقدمه السابقون، ولا ساواه فيه القاصدون، ولا يلحقه الطالبون،
ولولا أنها كانت كالقبلة المنصوبة في الشهرة، وكالسنن المحفوظة في الكثرة، لم
يصل إلينا منها في دهرنا حرف واحد، إذا كان الأمر كما وصفناه. فهذا
قول ابن عباس في سبق علي عليه السلام إلى الإسلام، وهو أثبت من حديث الشعبي
وأشهر، على أنه قد روي عن الشعبي خلاف ذلك
من حديث أبي بكر الهذلي وداود بن أبي هند عن الشعبي، قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم لعلي عليه السلام:"هذا أول من آمن بي وصدقني وصلى
معي". وقد روى هذا الخبر
يحيى بن عبد الحميد وعبد السلام بن صالح، عن قيسر بن الربيع، عن أبي أيوب
الأنصاري، بألفاظه أو نحوها. رواه أبو داود
الطيالسي، عن شعبة، عن سفيان الثوري، عن سلمة بن كهيل، عن حبة بن جوين. وروى
ياسين بن محمد بن أيمن، عن أبي حازم، مولى ابن عباس، عن ابن عباس، قال:
سمعت عمر بن الخطاب وهو يقول: كفوا عن علي بن أبي طالب؟ فإني سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيه خصالاً، لو أن خصلة
منها في جميع آل الخطاب، كان أحب لي مما طلعت عليه الشمس، كنت ذات يوم وأبو بكر
وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة مع نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نطلبه، فانتهينا إلى باب أم
سلمة، فوجدنا علياً متكئاً على نجاف الباب؟ فقلنا: أردنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هو في البيت، رويدكم!
فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فسرنا
حوله، فاتكأ على علي عليه السلام، وضرب بيد
على منكبه، فقال:"أبشر يا علي بن أبي طالب، إنك مخاصم، وإنك تخصم الناس
بسبع لا يجاريك أحد في واحدة منهن، أنت أول الناس إسلاماً، وأعلمهم بأيام الله.."
وذكر الحديث.
وقال خزيمة بن ثابت
في هذا:
وقال أبو سفيان بن
حرب بن أمية بن عبد شمس، حين بويع أبو بكر:
وقال أبو الأسود
الدؤلي يهدد طلحة والزبير:
وقال سعيد بن قيس
الهمداني يرتجز بصفين:
وقال زفر بن يزيد بن
حذيفة الأسدي:
قال: والأشعار
كالأخبار، إذا امتنع في مجيء القبيلين التواطؤ والاتفاق، كان ورودهما حجة. قال أبو جعفر: ويقال
لهم: لسنا نحتاج من ذكر سبق علي عليه السلام إلا مجامعتكم إيانا على أنه أسلم
قبل الناس، ودعواكم أنه أسلم وهو طفل دعوى غير مقبولة إلا بحجة. وقال
لفاطمة:"زوجتك أقدمهم سلماً- أو قال: إسلاماً-" فإن قالوا: إنما دعاه
النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام على
جهة العرض لا التكليف. ومن
العجب قول
العباس لعفيف بن قيس: ننتظر الشيخ وما يصنع! فإذا كان العباس وحمزة
ينتظران أبا طالب، ويصدران عن رأيه، فكيف يخالفه ابنه، ويؤثر القلة على الكثرة،
ويفارق المحبوب إلى المكروه، والعز إلى الذل، والأمن إلى الخوف، عن غير معرفة
ولا علم بما فيه!. القسم الأول: الذين
قالوا: أسلم وهو ابن خمس عشرة سنة، حدثنا بذلك أحمد بن سعيد الأسدي، عن إسحاق بن
بشر القرشي، عن الأوزاعي، عن حمزة بن حبيب، عن شداد بن أوس،. قال: سألت خباب بن الأرت عن إسلام علي، فقال: أسلم
وهو ابن خمس عشرة سنة، ولقد رأيته يصلي قبل الناس مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يومئذ بالغ مستحكم البلوغ.
وروى عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة، عن الحسن، أن أول من أسلم علي بن أبي طالب،
وهو ابن خمس عشرة سنة. القسم الرابع: الذين
قالوا: إنه أسلم وهو ابن عشر سنين. رواه نوح بن دراج، عن
محمد بن إسحاق، قال: أول ذكر آمن وصدق بالنبؤة علي بن أبي طالب عليه السلام، وهو
ابن عشر سنين، ثم أسلم زيد بن حارثة، ثم أسلم أبو بكر وهو ابن ست وثلاثين سنة فيما
بلغنا. فإن هذا تحكم منه،
ويلزمه مثله في رجل ادعى قبل رجل عشرة دراهم، فأنكر ذلك وقال: إنما يستحق قبلي
أربعة دراهم، فينبغي أن نأخذ الأمر المتوسط ويلزمه سبعة دراهم، ويلزمه في أبي
بكر حيث قال قوم: كان كافراً، وقال قوم: كان إماماً عادلاً أن نقول: أعدل
الأقاويل أوسطها وهو منزلة بين المنزلتين، فنقول: كان فاسقاً ظالماً، وكذلك في
جميع الأمور المختلف فيها. وقيل
ابن ثلاث وستين، وقيل: ابن ستين، وقيل ابن تسع وخمسين. فأما
عند التحقيق، فإنه لا تجويز لمثل
ذلك، لأنه لو كان أسلم، وهو ابن سبع أو ثمان وعرف فضل ما بين الأنبياء والكهنة،
وفرق ما بين الرسل والسحرة، وفرق ما بين خبر النبي والمنجم، وحتى عرف كيد
الأريب، وموضع الحجة، وبعد غور المتنبىء، كيف يلبس على العقلاء، وتستمال عقول
الدهماء، وعرف الممكن في الطبع من الممتنع، وما يحدث بالاتفاق مما يحدث
بالأسباب، وعرف قدر القوى وغاية الحيلة ومنتهى التمويه والخديعة، وما لا يحتمل
أن يحدثه إلا الخالق سبحانه، وما يجوز على الله في حكمته مما لا يجوز، وكيف
التحفظ من الهوى والاحتراس من الخداع، لكان كونه على هذه الحال وهذه مع فرط
الصبا والحداثة وقلة التجارب والممارسة خروجاً من العادة. ومن المعروف مما عليه
تركيب هذه الخلقة، وليس يصل أحد إلى معرفة نبي وكذب متنبىء، حتى يجتمع فيه هذه
المعارف التي ذكرناها، والأسباب التي وصفناها وفصلناها، ولو كان علي عليه السلام
على هذه الصفة ومعه هذه الخاصية لكان حجة على العامة، وآية تدل على النبوة، ولم يكن
الله عز وجل ليخصه بمثل هذه الأعجوبة إلا وهو يريد أن يحتج بها، ويجعلها قاطعة
لعذر الشاهد وحجة على الغائب. ولولا أن الله أخبر عن يحيى بن زكريا أنه آتاه
الحكم صبياً، وأنه أنطق عيسى في المهد ما كانا في الحكم ولا في المغيب، إلا
كسائر الرسل، وما عليه جميع البشر. فإذا لم ينطق لعلي عليه السلام بذلك قرآن، ولا
جاء الخبر به مجيء الحجة القاطعة والمشاهدة القائمة، فالمعلوم عندنا في الحكم أن
طباعه كطباع عميه حمزة والعباس، وهما أمس بمعدن جماع الخير منه، أو كطباع جعفر
وعقيل من رجال قومه، وسادة رهطه. ولو أن إنساناً ادعى مثل ذلك لأخيه جعفر أو
لعميه حمزة والعباس، ما كان عندنا في أمره إلا مثل ما عندنا فيه. فأما
توهمه أن علياً عليه السلام أسلم عن تربية الحاضن، وتلقين القيم، ورياضة السائس،
فلعمري إن محمداً صلى الله عليه وسلم كان
حاضنه وقيمه وسائسه، ولكن لم يكن منقطعاً عن أبيه أبي طالب، ولا عن إخوته طالب
وعقيل وجعفر، ولا عن عمومته وأهل بيته، وما زال مخالطاً لهم، ممتزجاً بهم، مع
خدمته لمحمد صلى الله عليه وسلم، فما باله
لم يمل إلى الشرك وعمادة الأصنام لمخالطته إخوته وأباه وعمومته وأهله، وهم كثير
ومحمد صلى الله عليه وسلم واحد! وأنت تعلم
أن الصبي إذا كان له أهل ذوو كثرة، وفيهم واحد يذهب إلى رأي مفرد، لا يوافقه
عليه غيره منهم، فإنه إلى ذوي الكثرة أميل، وعن ذي الرأي الشاذ المنفرد أبعد،
وعلى أن علياً عليه السلام لم يولد في دار
الإسلام، وإنما ولد في دار الشرك وربي بين المشركين، وشاهد الأصنام، وعاين
بعينيه أهله ورهطه يعبدونها، فلو كان في دار الإسلام لكان في القول مجال، ولقيل
إنه ولد بين المسلمين، فإسلامه عن تلقين الظئر وعن سماع كلمة الإسلام ومشاهدة
شعاره لأنه لم يسمع غيره، ولا خطر بباله سواه، فلما لم يكن ولد كذلك، ثبت أن
إسلامه إسلام المميز العارف بما دخل عليه. ولولا أنه كذلك لما مدحه رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك، ولا أرضى ابنته فاطمة
لما وجدت من تزويجه بقوله لها: زوجتك أقدمهم سلماً، ولا قرن إلى قوله:"وأكثرهم علماً، وأعظمهم حلماً"،
والحلم العقل، وهذان الأمران غاية الفضل، فلولا أنه أسلم إسلام عارف عالم مميز
لما ضم إسلامه إلى العلم والحلم اللذين وصفه بهما! وكيف يجوز أن يمدحه بأمر لم
يكن مثاباً عليه، ولا معاقباً به لو تركه، ولو كان إسلامه عن تلقين وتربية لما
افتخر هو عليه السلام به على رؤوس الأشهاد،
ولا خطب على المنبر، وهو بين عدو محارب، وخاذل منافق، فقال: أنا عبد الله وأخو
رسوله وأنا الصديق الأكبر والفاروق الأعظم، صليت قبل الناس سبع سنين، وأسلمت قبل
إسلام أبي بكر، وآمنت قبل إيمانه! فهل بلغكم أن أحداً من أهل ذلك العصر أنكر ذلك
أو عابه أو ادعاه لغيره، أو قال له: إنما كنت طفلاً أسلمت على تربية محمد صلى الله عليه وسلم ذلك، وتلقينه إياك، كما يعلم
الطفل الفارسية والتركية منذ يكون رضيعاً! فلا فخر له في تعلم ذلك، وخصوصاً في
عصر قد حارب فيه أهل البصرة والشام والنهروان، وقد اعتورته الأعداء وهجته
الشعراء، فقال فيه النعمان بن بشير:
وقال فيه أيضاً بعض
الخوارج:
وقال عمران بن حطان
يمدح قاتله:
فلو وجد هؤلاء سبيلاً
إلى دحض حجة فيما كان يفخر به من تقدم إسلامه، لبدأوا بذلك، وتركوا ما لا معنى
له. فإن قال: نعم، وتجاسر
على ذلك، قيل له: فعلي عليه السلام بذلك أولى من ابن عمر، لأنه أذكى وأفطن بلا
خلاف بين العقلاء، وأنى يشك في ذلك، وقد رويتم أنه لم يميز بين الميزان والعود
بعد طول السن، وكثرة التجارب، ولم يميز أيضاً بين إمام الرشد وإمام الغي، فإنه
امتنع من بيعة علي عليه السلام. وطرق على الحجاج بابه ليلاً ليبايع لعبد الملك،
كيلا يبيت تلك الليلة بلا إمام، زعم. لأنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"من مات ولا إمام له مات ميتة
جاهلية"، وحتى بلغ من احتقار الحجاج له واسترذاله حاله، أن أخرج رجله من
الفراش، فقال: أصفق بيدك عليها، فذلك تمييزه بين الميزان والعود، وهذا اختياره
في الأئمة، وحال علي عليه السلام في ذكائه
وفطنته، وتوقد حسه، وصدق حدسه، معلومة مشهورة، فإذا جاز أن يصح إسلام ابن عمر،
ويقال عنه إنه عرف تلك الأمور التي سردها الجاحظ ونسقها، وأظهر فصاحته وتشدقه
فيها، فعلي بمعرفة ذلك أحق، وبصحة إسلامه أولى. ولا ادعى له أحد ذلك
في عصره، كما لم يدعه لنفسه، حتى يقول إنسان واحد: الدليل على إمامته أن النبي صلى الله عليه وسلم دعاه إلى الإسلام أو كلفه
التصديق قبل بلوغه، ليكون ذلك آية للناس في عمره، وحجة له ولولده من بعده، فهذا
كان أشد على طلحة والزبير وعائشة من كل ما ادعاه من فضائله وسوابقه وذكر قرابته. وكيف
ينكر الجاحظ والعثمانية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه إلى الإسلام وكلفه
التصديق!. ثم لينظر المنصف وليدع
الهوى جانباً، ليعلم نعمة الله على علي عليه السلام
بالإسلام حيث أسلم على الوضع الذي أسلم عليه، فإنه لولا الألطاف التي خص بها،
والهداية التي منحها، لما كان إلا كبعض أقارب محمد صلى
الله عليه وسلم وأهله، فقد كان ممازجاً له كممازجته، ومخالطاً له كمخالطة
كثير من أهله ورهطه، ولم يستجب منهم أحد له إلا بعد حين. ومنهم من لم يستجب له
أصلاً، فإن جعفراً عليه السلام كان ملتصقاً
به، ولم يسلم حينئذ، وكان عتبة بن أبي لهب ابن عمه وصهره زوج ابنته ولم يصدقه،
بل كان شديداً عليه، وكان لخديجة بنون من غيره، ولم يسلموا حينئذ، وهم ربائبه
ومعه في دار واحدة. وكان أبو طالب أباه في الحقيقة وكافله وناصره، والمحامي عنه،
ومن لولاه لم تقم له قائمة، ومع ذلك لم يسلم في أغلب الروايات، وكان العباس عمه
وصنو أبيه، وكالقرين له في الولادة والمنشأ والتربية، ولم يستجب له إلا بعد حين
طويل، وكان أبو لهب عمه، وكدمه ولحمه، ولم يسلم، وكان شديداً عليه، فيكف ينسب
إسلام علي عليه السلام إلى الإلف والتربية
والقرابة واللحمة والتلقين والحضانة، والدار الجامعة، وطول العشرة والأنس
والخلوة! وقد كان كل ذلك حاصلاً لهؤلاء أو لكثير منهم، ولم يهتد أحد منهم إذ
ذاك، بل كانوا بين من جحد وكفر ومات على كفره، ومن أبطأ وتأخر، وسبق بالإسلام
وجاء سكيتاً وقد فاز بالمنزلة غيره. وهل يدل تأمل حال علي
عليه السلام مع الإنصاف إلا على أنه أسلم،
لأنه شاهد الأعلام، ورأى المعجزات، وشم ريح النبوة، ورأى نور الرسالة، وثبت
اليقين في قلبه بمعرفة وعلم ونظر صحيح، لا بتقليد ولا حمية، ولا رغبة ولا رهبة،
إلا فيما يتعلق بأمور الآخرة. أليس إذا تأملتها علمت أنها ألفاظ ملفقة بلا
معنى، وأنها عليها شجىً وبلاء! وإلا فما دمى أن تبلغ حيلة الحاسد ويغني كيد
الكائد الشانىء لمن قد جل قدره عن النقص، وأضاءت فضائله إضاءة الشمس! وأين قول
الجاحظ، من دلائل السماء، وبراهين الأنبياء، وقد
علم الصغير والكبير، والعالم والجاهل، ممن بلغه ذكر علي عليه السلام، وعلم مبعث
النبي صلى الله عليه وسلم أن علياً عليه السلام لم يولد في دار الإسلام، ولا غذي
في حجر الإيمان، وإنما استضافه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى نفسه سنة القحط
والمجاعة، وعمره يومئذ ثماني سنين، فمكث معه سبع سنين حتى أتاه جبرائيل
بالرسالة، فدعاه وهو بالغ كامل العقل إلى الإسلام، فأسلم بعد مشاهدة المعجزة، وبعد
إعمال النظر والفكرة، وإن كان قد ورد في كلامه أنه صلى سبع سنين قبل الناس كلهم،
فإنما يعني ما بين الثمان والخمس عشرة، ولم يكن حينئذ دعوة ولا رسالة، ولا ادعاء
نبوة، وإنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعبد على ملة إبراهيم ودين
الحنيفية، ويتحنث ويجانب الناس، ويعتزل ويطلب الخلوة، وينقطع في جبل حراء، وكان
علي عليه السلام معه كالتابع والتلميذ، فلما بلغ الحلم، وجاءت النبي صلى الله
عليه وسلم الملائكة، وبشرته بالرسالة، دعاه فأجابه عن نظر ومعرفة بالأعلام
المعجزة، فكيف يقول الجاحظ إن إسلامه لم يكن مقتضباً!. وقد غمر الجاحظ في
كتابه هذا أن أبا بكر كان قبل إسلامه مذكوراً، ورئيساً معروفاً، يجتمع إليه كثير
من أهل مكة فينشدون الأشعار، ويتذاكرون الأخبار، ويشربون الخمر، وقد كان سمع
دلائل النبوة وحجج الرسل، وسافر إلى البلدان، ووصلت
إليه الأخبار، وعرف دعوى الكهنة وحيل السحرة، ومن كان كذلك كان انكشاف الأمور
له أظهر والإسلام عليه أسهل، والخواطر على قلبه أقل اعتلاجاً، وكل ذلك عون لأبي
بكر على الإسلام، ومسهل إليه سبيله، ولذلك لما قال النبي صلى الله عليه
وسلم:"أتيت بيت المقدس" سأله أبو بكر عن المسجد ومواضعه، فصدقه وبان
له أمره، وخفت مؤونته لما تقدم من معرفته بالبيت، فخرج إذا إسلام أبي بكر على
قول الجاحظ من معنى المقتضب. وفي ذلك رويتم عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ما دعوت أحداً إلى الإسلام إلا وكان له تردد ونبوة، إلا ما
كان من أبي بكر، فإنه لم يتلعثم حتى هجم به اليقين إلى المعرفة والإسلام،
فأين هذا وإسلام من خلي وعقله، وألجىء إلى نظره، مع
صغر سنه، واعتلاج الخواطر على قلبه ونشأته، في ضد ما دخل فيه، والغالب على
أمثاله وأقرانه حب اللعب واللهو، فلجأ إلى ما ظهر له من دلائل الدعوة، ولم يتأخر
إسلامه فيلزمه التقصير بالمعصية، فقهر شهوته، وغالب خواطره، وخرج من عادته وما
كان غذي به لصحة نظره، ولطافة فكره وغامض فهمه، فعظم استنباطه، ورجح فضله، وشرف
قدر إسلامه، ولم يأخذ من الدنيا بنصيب، ولا تنعم فيها بنعيم حدثاً ولا كبيراً،
وحمى نفسه عن الهوى، وكسر شره حداثته بالتقوى، واشتغل بهم الدين عن نعيم الدنيا،
وأشغل هم الآخرة قلبه، ووجه إليه رغبته، فإسلامه هو السبيل الذي لم يسلم عليه
أحد غيره، وما سبيله في ذلك إلا كسبيل الأنبياء، ليعلم أن منزلته من النبي صلى
الله عليه وسلم كمنزلة هارون من موسى، وأنه وإن لم يكن نبياً، فقد كان في سبيل
الأنبياء سالكاً، ولمنهاجهم متبعاً، وكانت
حاله كحال إبراهيم عليه السلام؟ فإن أهل العلم ذكروا أنه لما كان صغيراً جعلته
أمه في سرب لم يطلع عليه أحد، فلما نشأ ودرج وعقل قال لأمه: من ربي؟ قالت: أبوك،
قال: فمن رب أبي؟ فزبرته ونهرته؟ إلى أن طلع من شق السرب، فرأى كوكباً، فقال: هذا ربي، فلما أفل قال: لا أحب
الآفلين، فلما رأى القمر بازغاً قال: هذا ربي، فلما أفل قال: لئن لم يهدني ربي
لأكونن من القوم الضالين، فلما رأى الشمس بازغةً قال!: هذا ربي هذا أكبر، فلما
أفلت قال: يا قوم إني بريء مما تشركون، إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض
حنيفاً، وما أنا من المشركين، وفي ذلك يقول
الله جل ثناؤه"وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من
الموقنين"، وعلى هذا كان إسلام الصديق الأكبر عليه السلام، لسنا
نقول إنه كان مساوياً له في الفضيلة، ولكن كان مقتديا بطريقه على ما قال الله
تعالى:"إن أولى الناس لإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله
ولي المؤمنين،، وأما اعتلال الجاحظ بأن له ظهراً كأبي طالب وردءاً كبني هاشم،
فإنه يوجب عليه أن تكون محنة أبي بكر وبلال وثوابهما وفضل إسلامهما أعظم مما
لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن أبا طالب ظهره، وبني هاشم ردؤه، وحسبك جهلاً
من معاند لم يستطع حط قدرعلي عليه السلام إلا بحطه من قدر رسول الله صلى الله
عليه وسلم ولم يكن أحد أشد على رسول الله صلى الله عليه وسلم من قراباته، الأدق
منهم فالأدق، كأبي لهب عمه وامرأة أبي لهب، وهي أم جميل بنت حرب بن أمية وإحدى
أولاد عبد مناف، ثم ما كان من عقبة بن أبي معيط، وهو ابن عمه، وما كان من النضر
بن الحارث، وهو من بني عبد الدار بن قصي، وهو ابن عمه أيضاً، وغير هؤلاء ممن
يطول تعداده، وكلهم كان يطرح الأذى في طريقه، وينقل أخباره، ويرميه بالحجارة،
ويرمي الكرش والفرث عليه، وكانوا يؤذون علياً عليه السلام كأذاه، ويجتهدون في
غمه ويستهزئون به، وما كان لأبي بكر قرابة تؤذيه كقرابة علي، ولما كان بين علي
وبين النبي صلى الله عليه وسلم من الإتحاد والإلف والاتفاق، أحجم المنافقون
بالمدينة عن أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم خوفاً من سيفه، ولأنه صاحب الدار
والجيش، وأمره مطاع، وقوله نافذ، فخافوا على دمائهم منه، فاتقوه، وأمسكوا عن
إظهار بغضه، وأظهروا بغض علي عليه السلام وشنآنه، فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم في حقه في الخبر الذي روي في جميع الصحاح:"لا
يحبك إلا مؤمن، ولا يبغضك إلا منافق". وقال كثير من أعلام الصحابة- كما روي
في الخبر المشهور بين المحدثين:"ما كنا نعرف المنافقين إلا ببغض علي بن أبي
طالب". وأين كان ظهر أبي طالب عن جعفر، وقد أزعجه
الأذى عن وطنه، حتى هاجر إلى بلاد الحبشة وركب البحر، أيتوهم الجاحظ أن أبا طالب
نصر علياً، وخذل جعفراً!. ولما سئلت عائشة من
كان أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: أما من الرجال فعلي،
وأما من النساء ففاطمة. قال الجاحظ: وكان أبو
بكر من المفتونين المعذبين بمكة قبل الهجرة، فضربه نوفل بن خويلد المعروف بابن
العدوية مرتين، حتى أدماه وشده مع طلحة بن عبيد الله في قرن، وجعلهما في الهاجرة
عمير بن عثمان بن مرة بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة، ولذلك كانا يدعيان القرينين،
ولو لم يكن له غير ذلك لكان لحاقه عسيراً، وبلوغ منزلته شديداً، ولوكان يوماً
واحداً لكان عظيماً، وعلي بن أبي طالب رافه وادع، ليس بمطلوب ولا طالب، وليس أنه
لم يكن في طبعه الشهامة والنجدة، وفي غريزته البسالة في الشجاعة، لكنه لم يكن قد
تمت أداته، ولا استكملت آلته، ورجال الطلب وأصحاب الثأر يغمصون ذا الحداثة
ويزدرون بذي الصبا والغرارة، إلى أن يلحق بالرجال، ويخرج من طبع الأطفال. وهل ينتهي الواصف وإن أطنب، والمادح وإن أسهب،
إلى الإبانة عن مقدار هذه الفضيلة، والإيضاح بمزية هذه الخصيصة!. فأما قوله: إن أبا
بكر عذب بمكة، فإنا لا نعلم أن العذاب كان واقعاً إلا بعبد أو عسيف، أو لمن لا
عشيرة له تمنعه، فأنتم في أبي بكر بين أمرين: تارة
تجعلونه دخيلاً ساقطاً، وهجيناً رذيلاً مستضعفاً ذليلاً، وتارة تجعلونه رئيساً متبعاً، وكبيراً مطاعاً،
فاعتمدوا على أحد القولين لنكلمكم بحسب ما تختارونه لأنفسكم. ولو كان الفضل في
الفتنة والعذاب، لكان عمار وخباب وبلال وكل معذب بمكة أفضل من أبي بكر، لأنهم
كانوا من العذاب في أكثر مما كان فيه، ونزل فيهم من القرآن ما لم ينزل فيه،
كقوله تعالى:"والذين هاجروا في الله من بعد ما
ظلموا". قالوا: نزلت في خباب وبلال، ونزل في عمار قوله:"إلا من أكره وقلبة مطمئن بالإيمان"،
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمر على عمار وأبيه وأمه، وهم يعذبون، يعذبهم
بنو مخزوم لأنهم كانوا حلفاءهم، فيقول:"صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة،
وكان بلال يقلب على الرمضاء، وهو يقول: أحد أحد! وما سمعنا لأبي بكر في شيء من
ذلك ذكراً، ولقد كان لعلي عليه السلام عنده
يد غراء، إن صح ما رويتموه في تعذيبه، لأنه قتل نوفل بن خويلد وعمير بن عثمان
يوم بدر، ضرب نوفلاً فقطع ساقه، فقال: أذكرك الله والرحم! فقال: قد قطع الله كل
رحم وصهر إلا من كان تابعاً لمحمد، ثم ضربه أخرى ففاضت نفسه، وصمد لعمير بن
عثمان التميمي، فوجده يروم الهرب، وقد ارتج عليه المسلك، فضربه على شراسيف صدره،
فصار نصفه الأعلى بين رجليه، وليس أن أبا بكر لم يطلب بثأره منهما، ويجتهد! لكنه لم يقدرعلى أن يفعل فعل علي عليه السلام، فبان علي
عليه السلام بفعله دونه. فأما
قوله: واعلموا أن العاقبة للمتقين، ففيه إشارة إلى معنى غامض قصده الجاحظ- يعني
أن لا فضيلة لعلي عليه السلام في الجهاد، لأن الرسول كان أعلمه أنه منصور، وأن
العاقبة له- وهذا من دسائس الجاحظ وهمزاته ولمزاته، وليس بحق ما قاله،
لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم
أصحابه جملة أن العاقبة لهم، ولم يعلم واحداً منهم بعينه أنه لا يقتل، لا علياً
ولا غيره، وإن صح أنه كان أعلمه أنه لا يقتل، فلم يعلمه أنه لا يقطع عضو من
أعضائه، ولم يعلمه أنه لا يمسه ألم الجراح في جسده، ولم يعلمه أنه لا يناله
الضرب الشديد. وعلى أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قد أعلم أصحابه قبل يوم بدر- وهو يومئذ بمكة- أن العاقبة لهم، كما
أعلم أصحابه بعد الهجرة ذلك، فإن لم يكن لعلي والمجاهدين فضيلة في الجهاد بعد
الهجرة لإعلامه إياهم ذلك، فلا فضيلة لأبي بكر وغيره في احتمال المشاق قبل
الهجرة لإعلامه إياهم بذلك، فقد جاء في الخبر أنه وعد أبا بكر قبل الهجرة با
لنصر، وأنه قال له: أرسلت إلى هؤلاء بالذبح، وإن الله تعالى يغنمنا أموالهم،
ويملكنا ديارهم، فالقول في الموضعين متساو ومتفق. ثم يقال له: ما بالك
أهملت أمر مبيت علي عليه السلام على الفراش
بمكة ليلة الهجرة! هل نسيته أم تناسيته! فإنها المحنة العظيمة والفضيلة الشريفة
التي متى امتحنها الناظر، وأجال فكره فيها، رأى تحتها فضائل متفرقة ومناقب
متغايرة، وذلك أنه لما استقر الخبر عند المشركين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مجمع على الخروج من بينهم
للهجرة إلى غيرهم قصدوا إلى معاجلته، وتعاقدوا على أن يبيتوه في فراشه، وأن
يضربوه بأسياف كثيرة، بيد كل صاحب قبيلة من قريش سيف منها، ليضيع دمه بين
الشعوب، ويتفرق بين القبائل، ولا يطلب بنو هاشم بدمه قبيلة واحدة بعينها من بطون
قريش، وتحالفوا على تلك الليلة، واجتمعوا عليها، فلما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك من أمرهم، دعا أوثق الناس
عنده، وأمثلهم في نفسه، وأبذلهم في ذات الإله لمهجته، وأسرعهم إجابة إلى طاعته،
فقال له: إن قريشاً تحالفت على أن تبيتني هذه الليلة، فامض إلى فراشي، ونم في
مضجعي، والتف في بردي الحضرمي ليروا أني لم أخرج، وإني خارج إن شاء الله. فمنعه أولاً من
التحرز وإعمال الحيلة، وصده عن الإستظهار لنفسه بنوع من أنواع المكائد والجهات
التي يحتاط بها الناس لنفوسهم، وألجأه إلى أن يعرض نفسه لظبات السيوف الشحيذة من
أيدي أرباب الحنق والغيظة، فأجاب إلى ذلك سامعاً مطيعاً طيبة بها نفسه، ونام على
فراشه صابراً محتسباً، واقياً له بمهجته، ينتظر القتل، ولا نعلم فوق بذل النفس
درجة يلتمسها صابر، ولا يبلغها طالب:"والجود بالنفس أقصى غاية الجود"
ولولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علم
أنه أهل لذلك، لما أهله، ولو كان عنده نقص في صبره أو في شجاعته أو في مناصحته
لابن عمه، واختير لذلك، لكان من اختاره صلى الله
عليه وسلم منقوضاً في رأيه، مضراً في اختياره، ولا يجوز أن يقول هذا أحد
من أهل الإسلام، وكلهم مجمعون على أن الرسول صلى
الله عليه وسلم عمل الصواب، وأحسن في الإختيار. ومنها أنه
وإن كان ثقةً عنده، ضابطاً للسر، شجاعاً محتملاً للمبيت على الفراش، فإنه غير
مأمون أن يذهب صبره عند العقوبة الواقعة، والعذاب النازل بساحته، حتى يبوح بما
عنده، ويصير إلى الإقرار بما يعلمه، وهو أنه أخذ طريق كذا فيطلب فيؤخذ، فلهذا
قال علماء المسلمين، إن فضيلة علي عليه السلام تلك الليلة لا نعلم أحداً من
البشر نال مثلها، إلا ما كان من إسحاق وإبراهيم عند استسلامه للذبح، ولولا أن
الأنبياء لا يفضلهم غيرهم لقلنا إن محنة علي أعظم، لأنه قد روي أن إسحاق تلكأ
لما أمره أن يضطجع، وبكى على نفسه، وقد كان أبوه يعلم أن عنده في ذلك وقفة،
ولذلك قال له:"فانظر ماذا ترى" وحال علي
عليه السلام بخلاف ذلك، لأنه ما تلكأ ولا تتعتع، ولا تغيرلونه ولا اضطربت
أعضاؤه، ولقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يشيرون عليه بالرأي المخالف
لما كان أمر به، وتقدم فيه، فيتركه ويعمل بما أشاروا به، كما جرى يوم الخندق في
مصانعته الأحزاب بثلث تمر المدينة، فإنهم أشاروا عليه بترك ذلك فتركه، وهذه كانت
قاعدته معهم، وعادته بينهم، وقد كان لعلي عليه السلام أن يعتل بعلة، وأن يقف
ويقول: يا رسول الله، أكون معك أحميك من العدو، وأذب بسيفي عنك، فلست مستغنياً
في خروجك عن مثلي، ونجعل عبداً من عبيدنا في فراشك، قائماً مقامك، يتوهم القوم-
برؤيته نائماً في بردك- أنك لم تخرج، ولم تفارق مركزك، فلم يقل ذلك، ولا تحبس
ولا توقف، ولا تلعثم، وذلك لعلم كل واحد منهما عليهما السلام أن أحداً لا يصبر
على ثقل هذه المحنة، ولا يتورط هذه الهلكة إلا من خصه الله تعالى بالصبر على
مشقتها، والفوز بفضيلتها، وله من جنس ذلك أفعال كثيرة، كيوم دعا عمرو بن عبد ود
المسلمين إلى المبارزة، فأحجم الناس كلهم عنه، لما علموا من بأسه وشدته، ثم كرر
النداء، فقام علي عليه السلام، فقال: أنا أبرز إليه، فقال له رسول الله صلى الله
عليه وسلم: إنه عمرو! قال: نعم، وأنا علي! فأمره بالخروج إليه، فلما خرج قال صلى
الله عليه وسلم:"برز الإيمان كله إلى الشرك كله"، وكيوم أحد حيث حمى
رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبطال قريش
وهم يقصدون قتله، فقتلهم دونه، حتى قال جبرائيل عليه السلام:"يا محمد إن
هذه هي المواساة"، فقال"إنه مني وأنا منه"، فقال
جبرائيل:"وأنا منكما". ولو عددنا أيامه ومقاماته التي شرى فيها نفسه
لله تعالى لأطلنا وأسهبنا. قال الجاحظ: وفرق
آخر، وهو أنه لو كان مبيت علي عليه السلام
على الفراش، جاء مجيء كون أبي بكر في الغار، لم يكن له في ذلك كبير طاعة، لأن
الناقلين نقلوا أنه عليه السلام قال له:"نم فلن يخلص إليك شيء تكرهه"،
ولم ينقل ناقل أنه قال لأبي بكر في صحبته إياه وكونه معه في الغار مثل ذلك، ولا
قال له: أنفق وأعتق، فإنك لن تفتقر، ولن يصل إليك مكروه. وأما الصحبة فلا تدل
إلا على المرافقة والاصطحاب لا غير، وقد يكون حيث لا إيمان، كما قال
تعالى:"قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي
خلقك"، ونحن وإن كنا نعتقد إخلاص أبي
بكر وإيمانه الصحيح السليم وفضيلته التامة، إلا أنا لا نحتج له بمثل ما
احتج به الجاحظ من الحجج الواهية، ولا نتعلق بما يجر علينا دواهي الشيعة
ومطاعنها. قال
شيخنا أبو جعفر رحمه الله: كيف كانت بنو
جمح تؤذي عثمان بن مظعون وتضربه، وهو فيهم ذو سطوة وقدر، وتترك أبا بكر يبني
مسجداً يفعل فيه ما ذكرتم، وأنتم الذين رويتم عن ابن مسعود أنه قال:"ما
صلينا ظاهرين حتى أسلم عمر بن الخطاب"، والذي تذكرونه من بناء المسجد كان
قبل إسلام عمر، فكيف هذا!.
فتذكر
الرواة أن جعفراً أسلم منذ ذلك اليوم،
لأن أباه أمره بذلك وأطاع أمره، وأبو بكر لم يقدر على إدخال ابنه عبد الرحمن في
الإسلام حتى أقام بمكة على كفره ثلاث عشرة سنة، وخرج يوم أحد في عسكر المشركين
ينادي: أنا عبد الرحمن بن عتيق، هل من مبارز؟ ثم مكث بعد ذلك على كفره، حتى أسلم
عام الفتح، وهو اليوم الذي دخلت فيه قريش في الإسلام طوعاً وكرهاً، ولم يجد أحد
منها إلى ترك ذلك سبيلاً! وأين كان رفق أبي بكر وحسن احتجاجه عند أبيه أبي قحافة
وهما في دار واحدة! هلا رفق به ودعاه إلى الإسلام فأسلم! وقد علمتم أنه بقي على
الكفر إلى يوم الفتح، فأحضره ابنه عند النبي صلى الله عليه وسلم وهو شيخ كبير
رأسه كالثغامة، فنفر رسول الله صلى الله عليه وسلم منه، وقال: غيروا هذا،
فخضبوه، ثم جاؤوا به مرة اخرى، فأسلم. وكان أبو قحافة فقيراً مدقعاً سيء الحال،
وأبو بكر عندهم مثرياً فائض المال، فلم يمكنه استمالته إلى الإسلام بالنفقة
والإحسان، وقد كانت امرأة أبي بكر أم عبد الله ابنه-
واسمها نملة بنت عبد العزى بن أسعد بن عبد بن ود العامرية- لم تسلم،
وأقامت على شركها بمكة، وهاجر أبو بكر وهي كافرة، فلما نزل قوله تعالى:"ولا تمسكوا بعصم الكوافر"، فطلقها أبو
بكر، فمن عجز عن ابنه وأبيه وامرأته فهو عن غيرهم من الغرماء أعجز، ومن لم يقبل
منه أبوه وابنه وامرأته لا برفق واحتجاج، ولا خوفاً من قطع النفقة عنهم، وإدخال
المكروه عليهم فغيرهم أقل قبولاً منه، وأكثر خلافاً عليه! قال الجاحظ: وقالت أسماء بنت أبي بكر: ما عرفت أبي
إلا وهو يدين بالدين، ولقد رجع إلينا يوم أسلم، فدعانا إلى الإسلام، فما رمنا
حتى أسلمنا، وأسلم أكثر جلسائه، ولذلك قالوا: من
أسلم بدعاء أبي بكر أكثر ممن أسلم بالسيف، ولم يذهبوا في ذلك إلى العدد، بل عنوا
الكثرة في القدر، لأنه أسلم على يديه خمسة من أهل الشورى، كلهم يصلح للخلافة،
وهم أكفاء علي عليه السلام، ومنازعوه الرياسة والإمامة، فهؤلاء أكثر من جميع
الناس. قال
شيخنا أبو جعفر رحمه الله: أخبرونا من
هذا الذي أسلم ذلك اليوم من أهل بيت أبي بكر؟ إذا كانت امرأته لم تسلم وابنه عبد
الرحمن لم يسلم، وأبو قحافة، وأخته أم فروة لم تسلم، وعائشة لم تكن قد ولدت في
ذلك الوقت، لأنها ولدت بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بخمس سنين، ومحمد بن
أبي بكر ولد بعد مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث وعشرين سنة، لأنه ولد
في حجة الوداع، وأسماء بنت أبي بكر التي قد روى الجاحظ هذا الخبر عنها كانت يوم
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بنت أربع
سنين -وفي رواية من يقول: بنت سنتين- فمن الذي أسلم من أهل بيته يوم أسلم! نعوذ
بالله من الجهل والكذب والمكابرة! وكيف أسلم سعد والزبير وعبد الرحمن بدعاء أبي
بكر وليسوا من رهطه ولا من أترابه ولا من جلسائه، ولا كانت بينهم قبل ذلك صداقة
متقدمة، ولا أنس وكيد! وكيف ترك أبو بكر عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، لم
يدخلهما في الإسلام برفقه وحسن دعائه، وقد زعمتم أنهما كانا يجلسان إليه لعلمه
وطريف حديثه! وما باله لم يدخل جبير بن مطعم في الإسلام، وقد ذكرتم أنه أدبه
وخرجه، ومنه أخذ جبير العلم بأنساب قريش ومآثرها! فكيف عجز عن هؤلاء الذين
عددناهم، وهم منه بالحال التي وصفنا، ودعا من لم يكن بينه وبينه أنس ولا معرفة،
إلا معرفة عيان! وكيف لم يقبل منه عمر بن الخطاب، وقد كان شكله، وأقرب الناس
شبهاً به في أغلب أخلاقه! ولئن رجعتم إلى الإنصاف لتعلمن أن هؤلاء لم يكن
إسلامهم إلا بدعاء الرسول صلى الله عليه وسلم لهم، وعلى يديه أسلموا، ولو فكرتم
في حسن التأتي في الدعاء، ليصحن لأبي طالب في ذلك على شركه أضعاف ما ذكرتموه
لأبي بكر، لأنكم رويتم أن أبا طالب قال لعلي عليه السلام: يا بني الزمه، فإنه لن
يدعوك إلا إلى خير، وقال لجعفر: صل جناح ابن عمك، فأسلم بقوله، ولأجله أصفق بنو
عبد مناف على نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة من بني مخزوم، وبني سهم،
وبني جمح، ولأجله صبر بنو هاشم على الحصار في الشعب، وبدعائه وإقباله على محمد صلى الله عليه وسلم أسلمت امرأته فاطمة بنت أسد،
فهو أحسن رفقاً، وأيمن نقيبةً من أبي بكر وغيره، وإنما منعه عن الإسلام أن ثبت
أنه لم يسلم إلا تقية، وأبو بكر لم يكن له إلا ابن واحد، وهو عبد الرحمن، فلم
يمكنه أن يدخله في الإسلام، ولا أمكنه إذ لم يقبل منه الإسلام أن يجعله كبعض
مشركي قريش في قلة الأذى لرسول الله صلى الله عليه
وسلم، وفيه أنزل:"والذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني أن أخرج وقد
خلت القرون من قبلي وهما يستغيثان ألله ويلك أمن إن وعد ألله حق فيقول ما هذا
إلا أساطير الأولين"، وإنما يعرف حسن رفق الرجل وتأتيه بأن يصلح أولاً أمر
بيته وأهله، ثم يدعو الأقرب فالأقرب، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث
كان أول من دعا زوجته خديجة، ثم مكفوله وابن عمه علياً عليه
السلام، ثم مولاه زيداً، ثم أم أيمن خادمته، فهل رأيتم أحداً ممن كان
يأوي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسارع! وهل التاث عليه أحد من هؤلاء!
فهكذا يكون حسن التأتي والرفق في الدعاء! هذا ورسول الله مقل،
وهو من جملة عيال خديجة حين بعثه الله تعالى، وأبو بكر عندكم كان موسراً، وكان
أبوه مقتراً، وكذلك ابنه وامرأته أم عبد الله، والموسر في فطرة العقول أولى أن
يتبع من المقتر، وإنما حسن التأتي والرفق في الدعاء ما صنعه مصعب بن عمير لسعد
بن معاذ لما دعاه، وما صنع سعد بن معاذ ببني عبد الأشهل لما دعاهم وما صنع بريدة
بن الحصيب بأسلم لما دعاهم، قالوا: أسلم بدعائه ثمانون بيتاً من قومه، وأسلم بنو
عبد الأشهل بدعاء سعد في يوم واحد، وأما من لم يسلم ابنه ولا امرأته، ولا أبوه
ولا أخته بدعائه فهيهات أن يوصف ويذكر بالرفق في الدعاء وحسن التأتي والأناة!. ومر بجارية يعذبها
عمر بن الخطاب فابتاعها منه، وأعتقها، وأعتق أبا عيسى فأنزل الله فيه:"فأما من أعطى واتقى. وصدق بالحسنى.فسنيسره
لليسرى..."، إلى آخر السورة. قال
شيخنا أبو جعفر رحمه الله: أما بلال
وعامر بن فهيرة، فإنما أعتقهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، روى ذلك الواقدي
وابن إسحاق وغيرهما، وأما باقي مواليهم الأربعة، فإن سامحناكم في دعواكم لم يبلغ
ثمنهم في تلك الحال لشدة بغض مواليهم لهم إلا مائة درهم أو نحوها، فأي فخر في
هذا! وأما الآية فإن ابن عباس قال في تفسيرها:"فأما
من أعطى واتقى. وصدق بالحسنى. فسنيسره لليسرى"، أي لأن يعود. قال
شيخنا أبو جعفر رحمه الله: إننا لا ننكر
فضل الصحابة وسوابقهم، ولسنا كالإمامية الذين
يحملهم الهوى على جحد الأمور المعلومة، ولكننا ننكر تفضيل أحد من الصحابة على
علي بن أبي طالب، ولسنا ننكر غير ذلك، وننكر تعصب الجاحظ للعثمانية، وقصده إلى فضائل هذا الرجل
ومناقبه بالرد والإبطال. وأما حمزة فهو عندنا
ذو فضل عظيم، ومقام جليل، وهو سيد الشهداء الذين استشهدوا على عهد رسول الله صلى
الله عليه وسلم، وأما فضل عمر فغير منكر، وكذلك الزبير وسعد، وليس فيما ذكر ما
يقتضي كون علي عليه السلام مفضولاً لهم أو
لغيرهم، إلا قوله:"وكل هذه الفضائل لم يكن لعلي عليه السلام فيها ناقة ولا
جمل"، فإن هذا من التعصب البارد، والحيف الفاحش، وقد
قدمنا من آثار علي عليه السلام قبل الهجرة وما له إذ ذاك من المناقب والخصائص، ما هو أفضل وأعظم وأشرف من جميع ما ذكر لهؤلاء،
على أن أرباب السيرة يقولون: إن الشجة التي شجها سعد، وإن السيف الذي سله
الزبير، هو الذي جلب الحصار في الشعب على النبي صلى الله عليه وسلم وبني هاشم،
وهو الذي سير جعفراً وأصحابه إلى الحبشة، وسل السيف في الوقت الذي لم يؤمر
المسلمون فيه بسل السيف غير جائز، قال تعالى:"ألم
تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم
القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله"، فبين أن التكليف له
أوقات، فمنها وقت لا يصلح فيه سل السيف، ومنها وقت يصلح فيه ويجب، فأما قوله
تعالى:"لا يستوي منكم من أنفق"، فقد
ذكرنا ما عندنا من دعواهم لأبي بكر إنفاق المال. وأيضاً فإن الله
تعالى لم يذكر إنفاق المال مفرداً، وإنما قرن به القتال، ولم يكن أبو بكر صاحب
قتال وحرب، فلا تشمله الآية، وكان علي عليه السلام صاحب قتال وإنفاق قبل الفتح،
أما قتاله فمعلوم بالضرورة، وأما إنفاقه فقد كان على حسب حاله وفقره، وهو الذي
أطعم الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً، وأنزلت فيه وفي زوجته وابنيه سورة
كاملة من القرآن، وهو الذي ملك أربعة دراهم فأخرج منها درهماً سرا ودرهماً
علانية ليلاً، ثم أخرج منها في النهار درهماً سرا ودرهماً علانية، فأنزل فيه
قوله تعالى:"الذين ينفقون أموالهم بالليل
والنهار سراً وعلانية"، وهو الذي قدم بين يدي نجواه صدقة دون
المسلمين كافة، وهو الذي تصدق بخاتمه وهو راكع، فأنزل الله فيه:"إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون
الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون". قال
شيخنا أبو جعفر رحمه الله: لقد أعطي أبو
عثمان مقولاً، وحرم معقولاً، إن كان يقول هذا على اعتقاد وجد، ولم يذهب به مذهب
اللعب والهزل، أو على طريق التفاصح والتشادق وإظهار القوة، والسلاطة وذلاقة
اللسان وحدة الخاطر والقوة على جدال الخصوم، ألم يعلم أبو عثمان أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم كان أشجع البشر، وأنه خاض الحروب، وثبت في المواقف التي طاشت
فيها الألباب، وبلغت القلوب الحناجر، فمنها يوم أحد، ووقوفه بعد أن فر المسلمون
بأجمعهم، ولم يبق معه إلا أربعة: علي، والزبير، وطلحة، وأبو دجانة، فقاتل ورمى
بالنبل حتى فنيت نبله، وانكسرت سية قوسه، وانقطع وتره، فأمر عكاشة بن محصن أن
يوترها، فقال: يا رسول الله: لا يبلغ الوتر، فقال: أوتر ما بلغ. قال عكاشة: فوالذي
بعثه بالحق لقد أوترت حتى بلغ، وطويت منه شبراً على سية القوس، ثم أخذها فما زال
يرميهم، حتى نظرت إلى قوسه قد تحطمت. وبارز أبي بن
خلف، فقال له أصحابه: إن شئت عطف عليه بعضنا! فأبى، وتناول الحربة من
الحارث بن الصمة ثم انتقض بأصحابه، كما ينتقض البعير، قالوا: فتطايرنا عنه تطاير
الشعارير، فطعنه بالحربة، فجعل يخور كما يخور الثور، ولو لم يدل على ثباته حين
انهزم أصحابه وتركوه إلا قوله تعالى:"إذ
تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم"، فكونه عليه
السلام في أخراهم وهم يصعدون ولا يلوون، هاربين، دليل على أنه ثبت ولم يفر، وثبت
يوم حنين في تسعة من أهله ورهطه الأدنين، وقد فر المسلمون كلهم والنفر التسعة
محدقون به، العباس آخذ بحكمة بغلته، وعلي بين يديه مصلت سيفه، والباقون حول بغلة
رسول الله صلى الله عليه وسلم يمنة ويسرة، وقد انهزم المهاجرون والأنصار، وكلما
فروا أقدم هو صلى الله عليه وسلم وصمم مستقدماً، يلقى السيوف والنبال بنحره
وصدره، ثم أخذ كفاً من البطحاء، وحصب المشركين، وقال: شاهت الوجوه! والخبر
المشهور عن علي عليه السلام، وهو أشجع البشر:"كنا إذا اشتد البأس، وحمي
الوطيس اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم ولذنا به"، فكيف يقول الجاحظ:
إنه ما خاض الحرب، ولا خالط الصفوف! وأي فرية أعظم من فرية من نسب رسول الله صلى
الله عليه وسلم إلى الإحجام واعتزال الحرب! ثم أي مناسبة بين أبي بكر ورسول الله
صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى ليقيسه وينسبه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
صاحب الجيش والدعوة، ورئيس الإسلام والملة، والملحوظ بين أصحابه وأعدائه
بالسيادة، وإليه الإيماء والإشارة، وهو الذي أحنق قريشاً والعرب، وورى أكبادهم
بالبراءة من آلهتهم، وعيب دينهم وتضليل أسلافهم، ثم وترهم فيما بعد بقتل رؤسائهم
وأكابرهم! وحق لمثله إذا تنحى عن الحرب واعتزلها أن ينتحي ويعتزل، لأن ذلك شأن
الملوك والرؤساء، إذا كان الجيش منوطاً بهم وببقائهم، فمتى هلك الملك هلك الجيش،
ومتى سلم الملك أمكن أن يبقى عليه ملكه، وإن عطب جيشه فإنه يستجد جيشاً آخر،
ولذلك ضهى الحكماء أن يباشر الملك الحرب بنفسه، وخطأوا الإسكندر لما بارز قوسراً
ملك الهند، ونسبوه إلى مجانبة الحكمة ومفارقة الصواب والحزم، فليقل لنا الجاحظ:
أي مدخل لأبي بكر في هذا المعنى؟ ومن الذي كان يعرفه من أعداء الإسلام ليقصده
بالقتل؟ وهل هو إلا واحد من عرض المهاجرين، حكمه حكم عبد الرحمن بن عوف وعثمان
بن عفان، وغيرهما! بل كان عثمان أكثر منه صيتاً، وأشرف منه مركباً، والعيون إليه
أطمح، والعدو إليه أحنق وأكلب، ولو قتل أبو بكر في بعض تلك المعارك، هل كان يؤثر
قتله في الإسلام ضعفاً، أو يحدث فيه وهناً! أو يخاف على الملة لو قتل أبو بكر في
بعض تلك الحروب أن تندرس وتعفى آثارها، وينطمس منارها! ليقول الجاحظ إن أبا بكر
كان حكمه حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجانبة الحروب واعتزالها، نعوذ
بالله من الخذلان! وقد علم العقلاء كلهم ممن له بالسير معرفة، وبالآثار والأخبار
ممارسة، حال حروب رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف كانت، وحاله عليه السلام
فيها كيف كان، ووقوفه حيث وقف، وحربه حيث حارب، وجلوسه في العريش يوم جلس، وإن
وقوفه صلى الله عليه وسلم وقوف رياسة
وتدبير، ووقوف ظهر وسند، يتعرف أمور أصحابه، ويحرس صغيرهم وكبيرهم بوقوفه من
ورائهم، وتخلفه عن التقدم في أوائلهم، لأنهم متى علموا أنه في أخراهم اطمأنت قلوبهم،
ولم تتعلق بأمره نفوسهم، فيشتغلوا بالاهتمام به عن عدوهم، ولا يكون لهم فئة
يلجأون إليها، وظهر يرجعون إليه، ويعلمون أنه متى كان خلفهم تفقد أمورهم، وعلم
مواقفهم، وآوى كل إنسان مكانه في الحماية والنكاية وعند المنازلة في الكر والحملة،
فكان وقوفه حيث وقف أصلح لأمرهم، وأحمى وأحرس لبيضتهم، ولأنه المطلوب من بينهم،
إذ هو مدبر أمورهم، ووالي جماعتهم، ألا ترون أن موقف صاحب اللواء موقف شريف، وأن
صلاح الحرب في وقوفه، وأن فضيلته في ترك التقدم في أكثر حالاته، فللرئيس حالات:
الأولى: حالة يتخلف ويقف آخراً ليكون سنداً وقوة، وردءاً وعدة، وليتولى تدبير
الحرب، ويعرف مواضع الخلل. فمواقف الناس في
الجهاد على أحوال، وبعضهم في ذلك أفضل من بعض، فمن دلف إلى الأقران، واستقبل
السيوف والأسنة، كان أثقل على أكتاف الأعداء، لشدة نكايته فيهم، ممن وقف في
المعركة، وأعان ولم يقدم، وكذلك من وقف في المعركة، وأعان ولم يقدم، إلا أنه
بحيث تناله السهام والنبل أعظم عناء، وأفضل ممن وقف حيث لا يناله ذلك، ولو كان
الضعيف والجبان يستحقان الرياسة بقلة بسط الكف وترك الحرب، وأن ذلك يشاكل فعل
النبي صلى الله عليه وسلم، لكان أوفر الناس
حظاً في الرياسة، وأشدهم لها استحقاقاً حسان بن ثابت، وإن بطل فضل علي عليه
السلام في الجهاد، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان أقلهم قتالاً، كما زعم
الجاحظ ليبطلن على هذا القياس فضل أبي بكر في الإنفاق، لأن رسول الله صلى الله
عليه وسلم كان أقلهم مالاً!. ألا
ترى إلى قول عتبة بن ربيعة يوم بدر، وقد خرج هو وأخوه شيبة وابنه الوليد بن
عتبة، فأخرج إليه الرسول نفراً من الأنصار، فاستنسبوهم فانتسبوا لهم، فقالوا:
ارجعوا إلى قومكم ثم نادوا: يا محمد أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا، فقال النبي
صلى الله عليه وسلم لأهله الأدنين: قوموا يا بني هاشم، فانصروا حقكم الذي آتاكم
الله على باطل هؤلاء، قم يا علي، قم يا حمزة، قم يا عبيدة،
ألا ترى ما جعلت هند بنت عتبة لمن قتله يوم أحد، لأنه اشترك هو وحمزة في قتل
أبيها يوم بدر، ألم تسمع قول هند ترثي أهلها:
وذلك لأنه قتل أخاها
الوليد بن عتبة، وشرك في قتل أبيها عتبة، وأما عمها شيبة، فإن حمزة تفرد بقتله. قال الجاحظ: على أن
مشي الشجاع بالسيف إلى الأقران ليس على ما توهمه من لا يعلم باطن الأمر، لأن معه
في حال مشيه إلى الأقران بالسيف أموراً أخرى لا يبصرها الناس، وإنما يقضون على
ظاهر ما يرون من إقدامه وشجاعته، فربما كان سبب ذلك الهوج، وربما كان الغرارة
والحداثة، وربما كان الإحراج والحمية، وربما كان لمحبة النفخ والأحدوثة، وربما
كان طباعاً كطباع القاسي والرحيم والسخي والبخيل. قال
شيخنا أبو جعفر رحمه الله: هذا راجع على
الجاحظ في النبي صلى الله عليه وسلم، لأن
الله تعالى قال له:"والله يعصمك من
الناس"، فلم يكن له في جهاده كبير طاعة، وكثير طاعة، وكثير من الناس
يروي عنه صلى الله عليه وسلم:"اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر"
فوجب أن يبطل جهادهما، وقد قال للزبير:"ستقاتل علياً، وأنت ظالم له"،
فأشعره بذلك أنه لا يموت في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال في الكتاب
العزيز لطلحة:"وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله
ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده"، قالوا: نزلت في طلحة، فأعلمه بذلك
أنه يبقى بعده، فوجب ألا يكون لهما كبير ثواب في الجهاد، والذي صح عندنا من
الخبر وهو قوله:"ستقاتل بعدي الناكثين"، أنه قال لما وضعت الحرب
أوزارها، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، ووضعت الجزية، ودانت العرب قاطبة.
وقال هبيرة بن أبي
وهب المخزومي، يعتذر من فراره عن علي بن أبي طالب، وتركه عمراً يوم الخندق
ويبكيه:
وقال هبيرة بن أبي
وهب أيضاً، يرثي عمراً ويبكيه:
وقال حسان بن ثابت
الأنصاري يذكر عمراً:
وقال حسان أيضاً:
فهذه الأشعار فيه بل
بعض ما قيل فيه.
لأنه شهد مع المشركين
بدراً، وقتل قوماً من المسلمين. ثم فر مع من فر، ولحق بمكة، وهو الذي كان قال
وعاهد الله عند الكعبة ألا يدعوه أحد إلى واحدة من ثلاث إلا أجابه. وآثاره في أيام الفجار مشهورة تنطق بها كتب
الأيام والوقائع، ولكنه لم يذكر مع الفرسان الثلاثة وهم: عتبة وبسطام وعامر،
لأنهم كانوا أصحاب غارات ونهب، وأهل بادية، وقريش أهل مدينة وساكنو مدر وحجر، لا
يرون الغارات، ولا ينهبون غيرهم من العرب، وهم مقتصرون على المقام ببلدتهم
وحماية حرمهم، فلذلك لم يشتهر اسمه كاشتهار هؤلاء.
فلما برز إليه علي
أجابه، فقال له:
ولعمري لقد سبق
الجاحظ بما قاله بعض جهال الأنصار، لما رجع رسول الله من بدر، وقال فتى من
الأنصار شهد معه بدراً: إن قتلنا إلا عجائز صلعاً! فقال له النبي صلى الله عليه
وسلم:"لا تقل ذلك يا بن أخ، أولئك الملأ"!. قال
شيخنا أبو جعفر رحمه الله: أما ثباته
يوم أحد: فأكثر المؤرخين وأرباب السير ينكرونه، وجمهورهم يروي أنه لم يبق مع
النبي صلى الله عليه وسلم إلا علي وطلحة
والزبير، وأبو دجانة، وقد روي عن ابن عباس أنه قال: ولهم خامس وهو عبد الله بن
مسعود، ومنهم من أثبت سادساً، وهو المقداد بن عمرو، وروى يحيى بن سلمة بن كهيل
قال: قلت لأبي: كم ثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد؟ فقال: اثنان،
قلت: من هما؟ قال: علي وأبو دجانة.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال
لعبد الله بن عباس وقد جاءه برسالة من عثمان
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وهو محصور يسأله الخروج إلى ماله بينبع، ليقل هتف
الناس باسمه للخلافة، بعد أن كان سأله مثل ذلك من قبل الأصل: فقال عليه السلام:
يا بن عباس، ما يريد عثمان إلا أن يجعلني جملاً ناضحاً بالغرب، أقبل
وأدبر! بعث إلي أن أخرج، ثم بعث إلي أن أقدم، ثم هو الآن يبعث إلي أن أخرج! ولله
لقد دفعت عنه حتى خشيت أن أكون آثماً. وهتف
الناس باسمه: نداؤهم ودعاؤهم، وأصله الصوت، يقال: هتف الحمام يهتف هتفاً، وهتف
زيد بعمرو هتافاً، أي صاح به، وقوس هتافة وهتفى، أي ذات صوت، والناضح: البعير
يستقى عليه، وقال معاوية لقيس بن سعد- وقد دخل عليه في
رهط من الأنصار-: ما فعلت نواضحكم، يهزأ به،
فقال: أنصبناها في طلب أبيك يوم بدر، والغرب: الدلو
العظيمة.
قوله:"لقد
دفعت عنه حتى خشيت أن أكون آثما"، يحتمل أن يريد
بالغت واجتهدت في الدفاع عنه، حتى خشيت أن أكون آثما في كثرة مبالغتي واجتهادي
في ذلك، وإنه لا يستحق الدفاع عنه لجرائمه وأحداثه، وهذا تأويل من ينحرف عن عثمان، ويحتمل أن يريد: لقد
دفعت عنه حتى كدت أن القي نفسي في الهلكة، وأن يقتلني الناس الذين ثاروا به، فخفت الإثم في تغريري بنفسي وتوريطها في تلك الورطة العظيمة،
ويحتمل أن يريد: لقد جاهدت الناس دونه ودفعتهم
عنه، حتى خشيت أن أكون آثما بما نلت منهم من الضرب بالسوط، والدفع باليد،
والإعانة بالقول، أي فعلت من ذلك أكثر مما يجب. فإن قلت:
كيف هذا وقد جلس مجلساً أنا به أحق، فقد قاربت! ولكن ذاك بما كسبت يداك، ونكص
عنه عقباك، لأنك بالأمس الأدنى، هرولت إليهم تظن أنهم يحلون جيدك، ويختمون
أصبعك، ويطئون عقبك، ويرون الرشد بك، ويقولون:
لا بد لنا منك، لا معدل لنا عنك، وكان هذا من هفواتي الكبر، وهناتك التي ليس لك
منها عذر، والآن بعد ما ثللت عرشك بيدك، ونبذت رأي عمك في البيداء يتدهده في
السافياء خذ بأحزم مما يتوضح به وجه الأمر، لا تشار هذا الرجل ولا تماره، ولا
يبلغنه عنك ما يحنقه عليك، فإنه إن كاشفك أصاب أنصاراً، وإن كاشفته لم تر إلا
ضراراً، ولم تستلج إلا عثاراً، واعرف من هو بالشام له، ومن ههنا حوله من يطيع
أمره، ويمتثل قوله، لا تغترر بناس يطيفون بك، ويدعون الحنو عليك والحب لك، فإنهم
بين مولى جاهل، وصاحب متمن، وجليس يرعى العين ويبتدر المحضر، ولو ظن الناس بك ما
تظن بنفسك لكان الأمر لك، والزمام في يدك، ولكن هذا
حديث يوم مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم فات، ثم حرم الكلام فيه حين مات،
فعليك الآن بالعزوف عن شيء عرضك له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يتم،
وتصديت له مرةً بعد مرة فلم يستقم، ومن ساور الدهر غلب، ومن حرص على ممنوع تعب،
فعلى ذلك فقد أوصيت عبد الله بطاعتك، وبعثته على متابعتك، وأوجرته محبتك، ووجدت
عنده من ذلك ظني به لك، لا توتر قوسك إلا بعد الثقة بها، وإذا أعجبتك فانظر إلى
سيتها، ثم لا تفوق إلا بعد العلم ولا تغرق في النزع إلا لتصيب الرمية، وانظر لا
تطرف يمينك عينك، ولا تجن شمالك شينك، ودعني بآيات من آخر سورة الكهف، وقم إذا
بدا لك. قلت:
الناس يستحسنون رأي العباس لعلي عليه السلام في ألا
يدخل في أصحاب الشورى وأما أنا فإني أستحسنه إن
قصد به معنى، ولا أستحسنه إن قصد به معنىً آخر، وذلك لأنه إن أجرى بهذا
الرأي إلى ترفعه عليهم، وعلو قدره عن أن يكون مماثلاً لهم، أو أجرى به إلى زهده
في الإمارة، ورغبته عن الولاية، فكل هذا رأي حسن وصواب،
وإن كان منزعه في ذلك إلى أنك إن تركت الدخول معهم، وانفردت بنفسك في دارك، أو
خرجت عن المدينة إلى بعض أموالك، فإنهم يطلبونك، ويضربون إليك آباط الإبل، حتى
يولوك الخلافة، وهذا هو الظاهر من كلامه، فليس هذا
الرأي عندي بمستحسن، لأنه لو فعل ذلك لولوا عثمان أو واحداً منهم غيره،
ولم يكن عندهم من الرغبة فيه عليه السلام ما يبعثهم على طلبه، بل كان تأخره عنه قرة أعينهم، وواقعاً بإيثارهم، فإن
قريشاً كلها كانت تبغضه أشد البغض، ولو عمر عمر
نوح، وتوصل إلى الخلافة بجميع أنواع التوصل، كالزهد فيها تارة، والمناشدة
بفضائله تارة، وبما فعله في ابتداء الأمر من إخراج زوجته وأطفاله ليلاً إلى بيوت
الأنصار، وبما اعتمده إذ ذاك من تخلفه في بيته، وإظهار أنه قد انعكف على جمع
القرآن، وبسائر أنواع الحيل فيها، لم تحصل له إلا
بتجريد السيف، كما فعل في آخر الأمر، ولست ألوم العرب، لا سيما قريشاً في بغضها له، وانحرافها عنه، فإنه
وترها، وسفك دماءها، وكشف القناع في منابذتها، ونفوس العرب وأكبادها كما تعلم.
فأمره
أن يقتل زرارة بن عدس رئيس بني تميم، ولم يكن
قاتلاً أخا الملك ولا حاضراً قتله، ومن نظر في
أيام العرب ووقائعها ومقاتلها عرف ما ذكرناه. ثم قال:
وقد روي أن رجلاً جاء إلى زفر بن الهذيل، صاحب أبي حنيفة، فسأل عما يقول أبو حنيفة في جواز الخروج من
الصلاة بأمر غير التسليم، نحو الكلام والفعل الكثير أو
الحدث! فقال: إنه جائز، قد قال أبو بكر في تشهده
ما قال، فقال الرجل: وما الذي قاله أبو بكر؟
قال: لا عليك، فأعاد عليه السؤال ثانية وثالثة، فقال: أخرجوه أخرجوه، قد كنت أحدث أنه من أصحاب أبي الخطاب. فقلت له: أكان
خالد يقدر على قتله؟ قال: نعم؟ ولم لا يقدر على ذلك،
والسيف في عنقه، وعلي أعزل غافل عما يراد به، قد قتله
ابن ملجم غيلة، وخالد أشجع من ابن ملجم!.
ثم قال:
دعنا من هذا، ما الذي تحفظ في هذا المعنى؟ قلت: قول أبي
الطيب:
فاستحسن ذلك، وقال:
لمن عجز البيت الذي استشهدت به؟ قلت: لمحمد بن
هانىء المغربي، وأوله:
فبارك
علي مراراً، ثم قال: نترك الآن هذا ونتمم ما كنا فيه،
وكنت أقرأ عليه في ذلك الوقت"جمهرة النسب"
لابن الكلبي، فعدنا إلى القراءة، وعدلنا عن
الخوض عما كان اعترض الحديث فيه. فقال في الجواب: لقد
كانوا هموا من النهار بقتله تلك الليلة، وكان إجماعهم
على ذلك، وعزمهم في حقنه من بني عبد مناف، لأن
الذين محصوا هذا الرأي واتفقوا عليه: النفر بن الحارث من بني عبد الدار،
وأبو البختري بن هشام، وحكيم بن حزام، وزمعة بن الأسود بن المطلب، هؤلاء الثلاثة من بني أسد بن عبد العزى، وأبو جهل بن
هشام، وأخوه الحارث، وخالد بن الوليد بن المغيرة، هؤلاء
الثلاثة من بني مخزوم، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج، وعمرو بن العاص، هؤلاء الثلاثة من بني سهم، وأمية بن خلف وأخوه أبي بن
خلف، هذان من بني جمح، فنما هذا الخبر من الليل إلى عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، فلقي منهم قوماً، فنهاهم عنه، وقال: إن بني عبد مناف لا تمسك عن دمه،
ولكن صفدوه في الحديد، واحبسوه في دار من دوركم، وتربصوا به أن يصيبه من الموت
ما أصاب أمثاله من الشعراء. وكان عتبة بن ربيعة سيد بني
عبد شمس ورئيسهم، وهم من بني عبد مناف، وبنو عم الرجل ورهطه، فأحجم أبو جهل وأصحابه تلك الليلة عن قتله إحجاماً، ثم تسوروا
عليه، وهم يظنونه في الدار، فلما رأوا إنساناً مسجىً بالبرد الأخضر الحضرمي لم
يشكوا أنه هو، وائتمروا في قتله، فكان أبو جهل يذمرهم
عليه فيهمون ثم يحجمون. ثم قال بعضهم لبعض: ارموه بالحجارة، فرموه، فجعل
علي يتضور منها، ويتقلب ويتأوه تأوها خفيفاً، فلم
يزالوا كذلك في إقدام عليه وإحجام عنه، لما يريده الله تعالى من سلامته
ونجاته. حتى أصبح وهو وقيذ من رمي الحجارة، ولو لم يخرج رسول الله صلى الله عليه
وسلم إلى المدينة، وأقام لينهم بمكة، ولم يقتلوه تلك الليلة، لقتلوه في الليلة التي تليها، وإن شبت الحرب بينهم
وبين عبد مناف، فإن أبا جهل لم يكن بالذي ليمسك عن قتله، وكان فاقد البصيرة، شديد العزم على الولوغ في دمه!. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال
في المسارعة إلى العمل
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: فاعملوا
وأنتم في نفس البقاء، والصحف منشورة، والتوبة مبسوطة، والمدبر يدعى، والمسيء
يرجى، قبل أن يخمد العمل، وينقطع المهل، وتنقضي المدة، ويسد باب التوبة، وتصعد
الملائكة، فأخذ أمرؤ من نفسه لنفسه، وأخذ من حي لميت، ومن فان لباق، ومن ذاهب
لدائم، أمرؤ خاف الله. وهو معمر إلى أجله، ومنظور إلى عمله، أمرؤ ألجم
نفسه بلجامها، وزمها بزمامها، فأمسكها بلجامها عن معاصي الله، وقادها لزمامها
إلى طاعة الله. والتوبة مبسوطة لكم غير مقبوضة عنكم، ولا مردودة
عليكم إن فعلتم، كما ترد على الإنسان توبته إذا احتضر. والمدبر يدعى، أي من يدبر منكم، ويولي عن الخير
يدعى إليه، وينادى: يا فلان أقبل على ما يصلحك! والمسيء يرجى، أي يرجى عوده
وإقلاعه. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال
في شأن الحكمين وذم أهل الشام
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
جفاة طغام، عبيد أقزام، جمعوا من كل أوب، وتلقطوا من كل شوب، ممن ينبغي أن يفقه
ويؤدب، ويعلم ويدرب، ويولى عليه، ويؤخذ على يديه، ليسوا من المهاجرين والأنصار،
ولا من الذين تبوءوا الدار والإيمان. والطشام: أوغاد الناس، الواحد والجمع فيه
سواء، ويقال للأشرار واللئام: عبيد، وإن كانوا أحراراً.
ولكنه عليه السلام قال:"أقزام" ليوازن بها قوله:"طغام"، وقد
روي:"قزام"، وهي رواية جيدة، وقد نطقت العرب هذه اللفظة وقال الشاعر:
وجمعوا
من كل أوب، أي من كل ناحية، وتلقطوا من كل شوب، أي من فرق مختلطة. ويدرب، أي يعود اعتماد الأفعال الحسنة
والأخلاق الجميلة. وروي:"ويولى
عليه"، بالتخفيف. ويؤخذ على يديه، أي يمنع من التصرف.
ثم ذكر عليه السلام
أن أهل الشام اختاروا لأنفسهم أقرب القوم مما
يحبونه، وهو عمرو بن العاص، وكرر
لفظة"القوم"، وكان الأصل أن يقول: ألا
وإن القوم اختاروا لأنفسهم أقربهم مما يحبون، فأخرجه محرج قول الله تعالى:"واتقوا الله إن الله عليم بذات الصدور".
والذي يحبه أهل الشام هو الانتصار على أهل
العراق والظفر بهم، وكان عمرو بن العاص أقربهم
إلى بلوغ ذلك، والوصول إليه بمكره وحيلته وخدائعه. ثم
قال: أنتم بالأمس، يعني في واقعة الجمل، قد
سمعتم أبا موسى ينهى أهل الكوفة عن نصرتي، ويقول لهم: هذه هي الفتنة التي وعدنا بها، فقطعوا
أوتار قسيكم. وشيموا سيوفكم، أي أغمدوها فإن كان صادقاً فما باله سار إلي، وصار معي معي الصف، وحضر
حرب صفين، وكثر سواد أهل العراق وإن لم يحارب، ولم يسل السيف، فإن من حضر
في إحدى الجهتين وإن لم يحارب كمن حارب، وإن كان كاذباً
فيما رواه من خبر الفتنة فقد لزمته التهمة وقبح
الاختلاف إليه في الحكومة، وهذا يؤكد صحة إحدى
الروايتين في أمر أبي موسى، فإنه قد اختلفت الرواية: هل
حضر حرب صفين مع أهل العراق أم لا؟ فمن قال: حضر، قال: حضر ولم يحارب،
وما طلبه اليمانيون من أصحاب علي عليه السلام ليجعلوه حكماً كالأشعث بن قيس
وغيره إلا وهو حاضر معهم في الصف، ولم يكن منهم على مسافة، ولو كان على مسافة
لما طلبوه، ولكان لهم فيمن حضر غناء عنه، ولو كان على مسافة لما وافق علي عليه
السلام على تحكيمه، ولا كان علي عليه السلام ممن يحكم من لم يحضر معه.
وأصل
ذلك الصخرة الملساء، لا يؤثر فيها السهام ولا يرميها الرامي، إلا بعد أن مهل
غيرها، يقول: قد بلغت غارات أهل الشام حدود الكوفة التي هي دار الملك وسرير
الخلافة، وذلك لا يكون إلا بعد الإثخان في غيرها من الأطراف. قال ابن عبد البر:
هو عبد الله بن قيس بن سليم بن حضارة بن حرب بن عامر بن عنز بن بكر بن عامر بن
عذر بن وائل بن ناجية بن الجماهر بن الأشعر، وهو نبت بن أدد بن زيد بن يشجب بن
عريب بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان. وأمه امرأة من عك، أسلمت وماتت
بالمدينة، واختلف في أنه هل هو من مهاجرة الحبشة أم
لا؟ والصحيح أنه ليس منهم، ولكنه أسلم ثم رجع إلى بلاد قومه، فلم يزل بها حتى
قدم هو وناس من الأشعريين على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوافق قدومهم قدوم
أهل السفينتين جعفر بن أبي طالب وأصحابه من أرض الحبشة، فوافوا رسول الله
صلى الله عليه وسلم بخيبر، فظن قوم أن أبا موسى قدم من الحبشة مع جعفر. قال: وولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم من مخاليف
اليمن زبيد، وولاه عمر البصرة، لما عزل المغيرة عنها، فلم يزل عليها إلى صدر من
خلافة عثمان فعزله عثمان عنها، وولاها عبد الله بن عامر بن كريز، فنزل أبو موسى
الكوفة حينئذ، وسكنها، فلما كره أهل الكوفة سعيد بن العاص ودفعوه عنها، ولوا أبا
موسى، وكتبوا إلى عثمان يسألونه أن يوليه، فأقره على الكوفة، فلما قتل عثمان عزله علي عليه السلام عنها، فلم يزل
واجداً لذلك على علي عليه السلام، حتى جاء منه ما قال حذيفة فيه، فقد روى حذيفة
فيه كلاماً كرهت ذكره والله يغفر له. وأنه قيل له: ألا يجوز أن تكون أحدهما؟ فقال: لا- أو
كلاماً، ما هذا معناه- فلما بلي به، قيل فيه: البلاء موكل بالمنطق، ولم يثبت في
توبته ما ثبت في توبة غيره، وإن كان الشيخ أبو علي قد
ذكر في آخر كتاب الحكمين أنه جاء إلى أمير المؤمنين عليه السلام في مرض الحسن بن علي، فقال له: أجئتنا
عائداً أم شامتاً؟ فقال بل عائداً، وحدث بحديث في فضل العيادة. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن
خطبة له ذكر فيها آل محمد صلى الله عليه وآله
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: هم عيش
العلم، وموت الجهل، يخبركم حلمهم عن علمهم، وظاهر هم عن باطنهم، وصمتهم عن حكم
منطقهم. لا يخالفون الحق، ولا يختلفون فيه، وهم دعائم الإسلام، وولائج الاعتصام،
بهم عاد الحق إلى نصابه، وأنزاح الباطل عن مقامه، وانقطع لسانه عن منبته، عقلوا
الدين عقل وعاية ورعاية، لا عقل سماع ورواية، فإن رواة العلم كثير، ورعاته قليل. لا يخالفون الحق: لا يعدلون عنه، ولا يختلفون فيه
كما يختلف غيرهم من الفرق وأرباب المذاهب، فمنهم من له في المسألة قولان وأكثر،
ومنهم من يقول قولاً ثم يرجع عنه، ومنهم من يرى في أصول الدين رأياً ثم ينفيه
ويتركه. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
يليه الجزء الرابع عشرباب الكتب
والرسائل
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الفهرس الجزء الثالث
عشرباب المختار من الخطب والأوامر - ابن ابي الحديد. قال في
وصف بيعته بالخلافة وقد تقدم مثله بألفاظ مختلفة. قال بذي
قار، وهو متوجه إلى البصرة ذكرها الواقدي في كتاب الجمل. ومن كلام
له كلم به عبد الله بن زمعة وهو من شيعته، وذلك أنه قدم عليه في خلافته يطلب منه
مالا، فقال. قال في
إحجام اللسان عن الكلام. قال وهو
يلي غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم وتجهيزه قال في
صفة خلق بعض الحيوانات.. قال في
التوحيد، وتجمع هذه الخطبة من أصول العلم ما لا تجمعه خطبة غيرها 0 ومن خطبة
له تختص بذكر الملاحم. 0 ومن خطبة
له في الأمر بالتقوى.. ومن خطبة
له عليه السلام في ذم الكبر.. في إسلام
أبي بكر وعلي عليه السلام. قال لعبد
الله بن عباس وقد جاءه برسالة من عثمان.. قال في
شأن الحكمين وذم أهل الشام. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الجزء الثالث عشرباب المختار
من الخطب والأوامر - ابن ابي الحديد
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال
في وصف بيعته بالخلافة وقد تقدم مثله بألفاظ مختلفة
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
وبسطتم يدي فكففتها، ومددتموها فقبضتها، ثم تداككتم علي تداك الإبل الهيم على حياضها يوم
وردها، حتى انقطع النعل، وسقط الرداء، ووطىء الضعيف، وبلغ من سرور الناس ببيعتهم
إياي أن أبتهج بها الصغير، وهدج إليها الكبير، وتحامل نحوها العليل، وحسرت إليها
الكعاب. والإبل الهيم: العطاش،
وهدج إليها الكبير: مشى مشياً ضعيفاً مرتعشاً،
والمضارع يهدج، بالكسر، وتحامل نحوها العليل: تكلف
المشي على مشقة. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال
في الوصية بالتقوى
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: فإن تقوى
الله مفتاح سداد، وذخيرة معاد، وعتق من كل ملكة، ونجاة من كل هلكة، بها ينجح
الطالب، وينجو الهارب، وتنال الرغائب. والموت الخالس: المختطف. والطيات:
جمع طية بالكسر، وهي منزل السفر. ونبوته: مصدر نبا السيف، إذا لم يؤثر في الضريبة. وتغشاكم: تحيط بكم. والظلل: جمع ظلة، وهي السحاب. والاحتدام: الاضطرام. والحنادس الظلمات. والندي: القوم يجتمعون في النادي. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال
بذي قار، وهو متوجه إلى البصرة ذكرها الواقدي في كتاب الجمل.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: فصدع بما أمر
به، وبلغ رسالات ربه، فلم الله به الصدع، ورتق به الفتق، وألف به الشمل بين ذوي
الأرحام، بعد العداوة الواغرة في الصدور، والضغائن القادحة في القلوب. ورتق: خاط وألحم،
والعداوة الواغرة: ذات الوغرة، وهي شدة الحر، والضغائن: الأحقاد، والقادحة في
القلوب، كأنها تقدح النار فيها كما تقدح النار بالمقدحة. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن
كلام له كلم به عبد الله بن زمعة وهو من شيعته، وذلك أنه قدم عليه في خلافته
يطلب منه مالا، فقال عليه السلام:
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: إن هذا المال
ليس لي ولا لك، وإنما هو فيء للمسلمين، وجلب أسيافهم، فإن شركتهم في حربهم، كان
لك مثل حظهم، وإلا فجناة أيديهم لا تكون لغير أفواههم. الشرح: هو عبد الله
بن زمعة، بفتح الميم، لا كما ذكره الراوندي، وهو عبد الله بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد بن
عبد العزى بن قصي.
وكان
عبد الله بن زمعة شيعة لعلي عليه السلام. ومن أصحابه ومن ولد
عبد الله هذا أبو البختري القاضي، وهو وهب بن
وهب بن كبير بن عبد الله بن زمعة، قاضي الرشيد هارون ابن محمد المهدي، وكان منحرفاً عن علي عليه السلام، وهو الذي أفتى الرشيد ببطلان
الأمان الذي كتبه ليحيى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام، وأخذه بيده فمزقه. وقال
أمية بن أبي الصلت يرثي قتلى بدر، ويذكر زمعة بن الأسود:
نوفل
بن خويلد من بني أسد بن عبد العزى، ويعرف بابن العدوية، قتله علي عليه السلام، وعمرو أبو جهل بن هشام، قتله عوف بن عفراء، وأجهز
عليه عبد الله بن مسعود. وجناة
الثمر ما يجنى منه، وهذه استعارة فصيحة. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال
في إحجام اللسان عن الكلام
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: ألا وإن
اللسان بضعة من الإنسان، فلا يسعده القول إذا امتنع، ولا يمهله النطق إذا اتسع،
وإنا لأمراء الكلام، وفينا تنشبت عروقه، وعلينا تهدلت غصونه. ولما حصر
عبد الله بن عامر بن كريز على المنبر بالبصرة- وكان خطيبا- شق عليه ذلك، فقال له زياد بن أبيه، وكان خليفته: أيها الأمير لا
تجزع، فلو أقمت على المنبر عامة من ترى أصابهم أكثر مما أصابك. فلما
كانت الجمعة تأخر عبد الله بن عامر وقال
زياد للناس: إن الأمير اليوم موعوك، فقيل
لرجل من وجوه أمراء القبائل: قم فاصعد المنبر،
فلما صعد حصر، فقال: الحمد لله الذي يرزق
هؤلاء. وبقي
ساكتاً، فأنزلوه، وأصعدوا آخر من الوجوه، فلما استوى قائماً قابل بوجهه الناس، فوقعت عينه على صلعة
رجل، فقال: أيها الناس، إن هذا الأصلع قد منعني الكلام، اللهم فالعن هذه الصلعة.
فأنزلوه. وقالوا
لوازع اليشكري: قم إلى المنبر فتكلم، فلما صعد ورأى الناس قال:
أيها الناس إني كنت اليوم كارهاً لحضور الجمعة، ولكن امرأتي حملتني على إتيانها،
وأنا أشهدكم أنها طالق ثلاثاً، فأنزلوه، فقال زياد لعبد الله بن عامر: كيف رأيت؟ قم الآن فاخطب
الناس. فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وجه عمرو، فقال: يا رسول الله، رضيت فقلت أحسن ما علمت، وغضبت فقلت أقبح ما علمت، وما كذبت في الأولى، ولقد صدقت في
الأخرى. فقال عليه السلام: إن من البيان لسحراً.
وقال
أحيحة بن الجلاخ:
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال
عند اختلاف الناس
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: روى ذعلب اليمامي عن أحمد
بن قتيبة، عن عبد الله بن يزيد عن مالك بن
دحية، قال: كنا عند أمير المؤمنين
عليه السلام، فقال وقد ذكر عنده اختلاف
الناس: إنما
فرق بينهم مبادىء طينهم، وذلك أنهم كانوا فلقةً من سبخ أرض وعذبها، وحزن تربة
وسهلها، فهم على حسب قرب أرضهم يتقاربون؟ وعلى قدر اختلافها يتفاوتون، فتام
الرواء ناقص العقل، وماد القامة قصير الهمة. وزاكي
العمل قبيح المنظر، وقريب القعر بعيد السبر، ومعروف الضريبة منكر الجليبة، وتائه
القلب متفرق اللب. وطليق
اللسان حديد الجنان. وهذا الفصل عندي
لا يجوز أن يحمل على ظاهره، وما يتسارع إلى أفهام العامة منه، وذلك لأن قوله:"أنهم كانوا فلقة من سبخ أرض
وعذبها"، إما أن يريد به أن كل واحد من الناس ركب من طين، وجعل صورة بشرية
طينية برأس وبطن ويدين ورجلين، ثم نفخت فيه الروح كما فعل بآدم، أو يريد به أن الطين الذي ركبت منه صورة آدم فقط كان
مختلطاً من سبخ وعذب، فإن أريد الأول فالواقع خلافه،
لأن البشر الذين نشاهدهم، والذين بلغتنا أخبارهم لم يخلقوا من الطين كما خلق
آدم، وإنما خلقوا من نطف آبائهم. وليس لقائل أن يقول: لعل تلك النطف افترقت لأنها تولدت من أغذية مختلفة المنبت
من العذوبة والملوحة، وذلك لأن النطفة لا تتولد من غذاء بعينه، بل من مجموع
الأغذية، وتلك الأغذية لا يمكن أن تكون كلها من أرض سبخة محضة في السبخية، لأن
هذا من الاتفاقات التي يعلم عدم وقوعها، كما يعلم
أنه لا يجوز أن يتفق أن يكون أهل بغداد في وقت بعينه على كثرتهم لا يأكلون ذلك
اليوم إلا السكباج خاصة، وأيضا فإن الأرض السبخة، أو التي الغالب عليها
السبخية، لا تنبت الأقوات أصلاً. وإن أريد الثاني،
وهو أن يكون طين آدم عليه السلام
مختلطاً في جوهره، مختلفاً في طبائعه،
فلم كان زيد الأحمق يتولد من الجزء السبخي وعمرو العاقل يتولد من الجزء العذبي؟
وكيف يؤثر اختلاف طين آدم من ستة آلاف سنة في أقوام يتوالدون الآن. والقول الأول عندي أمثل. والرواء بالهمز والمد: المنظر الجميل، ومن أمثال
العرب:"ترى الفتيان كالنخل وما يدريك ما الدخل"، وقال الشاعر:
وقال أبوالطيب:
وقال
الآخر:
ومن
شعر الحماسة:
ومنه
أيضاً:
قوله عليه السلام:"وماد
القامة قصير الهمة"، قريب من المعنى الأول،
إلا أنه خالف بين الألفاظ، فجعل الناقص بإزاء التام، والقصير بإزاء الماد. ويمكن أن يجعل
المعنيان مختلفين، وذلك لأنه قد يكون الإنسان تام العقل، إلا أن همته
قصيرة، وقد رأينا كثيراً من الناس كذلك، فإذن هذا قسم آخر من الاختلاف غير
الأول.
وقيل لبعض الحكماء:
ما بال القصار من الناس أدهى وأحذق؟ قال: لقرب قلوبهم من أدمغتهم، ومن شعر الحماسة:
ومن شعر الحماسة أيضا وهو تمام البيتين المقدم ذكرهما:
قوله عليه السلام:"ومعروف
الضريبة، منكر الجليبة"، الجليبة هي الخلق الذي يتكلفه الإنسان ويستجلبه،
مثل أن يكون جباناً بالطبع فيتكلف الشجاعة، أو شحيحاً بالطبع فيتكلف الجود. وهذا
القسم أيضاً عام في الناس. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال
وهو يلي غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم وتجهيزه
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
بأبي أنت وأمي يا رسول الله! لقد انقطع
بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك من النبوة والإنباء وأخبار السماء. خصصت حتى صرت مسلياً عمن سواك، وعممت حتى صار
الناس فيك سواءً، ولولا أنك أمرت بالصبر، ونهيت عن الجزع، لأنفذنا عليك ماء
الشؤون، ولكان الداء مماطلاً، والكمد محالفاً، وقلا لك! ولكنه ما لا يملك رده،
ولا يستطاع دفعه، بأبي أنت وأمي! اذكرنا عند ربك، واجعلنا من بالك!. وأخبار السماء:
الوحي.
وقال
أخر:
ولي في هذا المعنى كتبته إلى صديق غاب عني من جملة أبيات:
وقال
إسحاق بن خلف يرثي بنتاً له:
وقال
آخر:
وقال
آخر:
وقال
آخر:
وقال
آخر:
قوله عليه السلام:"ولكن الداء مماطلاً" أي مماطلاً بالبرء، أي لا
يجيب إلى الإقلاع، والإبلال: الإفاقة. ثم
أقبل علي، فقال:"يا أبا مويهبة إني قد أوهبت مفاتيح خزائن الدنيا والخلد
فيها والجنة، فخيرت بينها وبين الجنة، فاخترت الجنة"، فقلت: بأبي أنت وأمي!
فخذ مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها والجنة جميعاً، فقال:"لا يا أبا
مويهبة، اخترت لقاء ربي"، ثم استغفر لأهل البقيع وانصرف، فبدأ بوجعه الذي
قبضه الله فيه. وروى عطاء، عن الفضل بن عباس رحمه الله:
قال:
جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم حين
بدأ به مرضه، فقال: اخرج، فخرجت إليه، فوجدته موعوكاً قد عصب رأسه، فقال: خذ
بيدي، فأخذت بيده حتى جلس على المنبر، ثم قال: ناد في الناس، فصحت فيهم فاجتمعوا
إليه، فقال:"أيها الناس، إني أحمد إليكم الله، إنه قد دنا مني حقوق من بين
أظهركم، فمن كنت جلدت له ظهراً فهذا ظهري فليستقد منه، ومن كنت شتمت له عرضا
فهذا عرضي فليستقد منه، ومن كنت أخذت له مالاً فهذا مالي فليأخذ منه، ولا يقل
رجل: إني أخاف الشحناء من قبل رسول الله. ألا وإن الشحناء ليست من طبيعتي ولا من شأني، ألا
وإن أحبكم إلي من أخذ مني حقاً إن كان له، أو حللني فلقيت الله وأنا طيب النفس،
وقد أراني أن هذا غير مغن عني حتى أقوم فيكم به مراراً". ثم نزل فصلى الظهر. ثم رجع
فجلس على المنبر، فعاد لمقالته الأولى في الشحناء وغيرها، فقام رجل، فقال: يا
رسول الله، إن لي عندك ثلاثة دراهم، فقال: إنا لا نكذب قائلاً ولا نستحلفه على
يمين، فيم كانت لك عندي؟ قال: أتذكر يا رسول الله يوم مر بك المسكين، فأمرتني
فأعطيته ثلاثة دراهم؟ قال: أعطه يا فضل، فأمرته فجلس، ثم
قال:"أيها الناس من كان عنده شيء فليؤده ولا يقل: فضوح الدنيا؟ فإن فضوح
الدنيا أهون من فضوح الآخرة". فقام رجل فقال: يا رسول الله، عندي
ثلاثة دراهم غللتها في سبيل الله، قال: ولم غللتها؟ قال: كنت محتاجاً إليها،
قال: خذها منه يا فضل. ثم قال:"أيها الناس، من خشي من نفسه شيئاً
فليقم أدعو له"، فقام رجل فقال: يا رسول الله، إني لكذاب، وإني لفاحش، وإني
لنؤوم. فقال:"اللهم ارزقه صدقاً وصلاحاً، وأذهب عنه النوم إذا أراد". ثم قام رجل، فقال: يا رسول الله، إني لكذاب، وإني
لمنافق، وما شيء- أو قال: وإن من شيء- إلا وقد جئته. فقام عمر بن الخطاب فقال:
فضحت نفسك أيها الرجل! فقال النبي صلى
الله عليه وسلم:"يا بن
الخطاب: فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة، اللهم
ارزقه صدقاً وإيماناً وصير أمره إلى خير". أوصيكم بتقوى الله،
وأوصي الله بكم، وأستخلفه عليكم، إني لكم منه نذير وبشير، ألا تعلوا على الله في
عباده وبلاده، فإنه قال لي ولكم:"تلك الدار
الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة
للمتقين". فقلنا: يا رسول الله، فمتى أجلك؟ قال:"قد دنا
الفراق، والمنقلب إلى الله وإلى سدرة المنتهى، والرفيق الأعلى وجنة المأوى
والعيش المهنا"، قلنا: فمن يغسلك يا رسول
الله؟ قال:"أهلي الأدنى فالأدنى"، قلنا:
ففيم نكفنك؟ قال:"في ثيابي هذه إن شئتم، أو في بياض مصر، أو حلة
يمنية"، قلنا: فمن يصلي عليك؟ فقال:"إذا غسلتموني وكفنتموني فضعوني على سريري في بيتي هذا،
على شفير قبري، ثم اخرجوا عني ساعة، فإن أول من يصلي علي جليسي وحبيبي وخليلي
جبرائيل، ثم ميكائيل، ثم إسرافيل، ثم ملك الموت مع جنوده من الملائكة، ثم ادخلوا
علي فوجاً فوجاً، فصلوا علي وسلموا ولا تؤذوني بتزكية ولا ضجة ولا رنة، وليبدأ
بالصلاة علي رجال أهل بيتي ثم نساؤهم، ثم أنتم بعد، وأقرئوا أنفسكم مني السلام،
ومن غاب من أهلي فأقرئوه مني السلام، ومن تابعكم بعدي على ديني فأقرئوه مني
السلام، فإني أشهدكم أني قد سلمت على من بايعني على ديني من اليوم إلى يوم
القيامة". قلنا: فمن يدخلك قبرك يا رسول الله؟
قال:"أهلي مع ملائكة كثيرة يرونكم ولا ترونهم." قلت: العجب لهم كيف لم يقولوا له في
تلك الساعة: فمن يلي أمورنا بعدك! لأن ولاية الأمر أهم من السؤال عن الدفن، وعن
كيفية الصلاة عليه، وما أعلم ما أقول في هذا المقام!. قال أبو جعفر الطبري: وروى سعيد بن جبير،
قال: كان ابن عباس رحمه الله يقول: يوم الخميس وما يوم الخميس! ثم يبكي حتى تبل دموعه
الحصباء، فقلنا له: وما يوم الخميس؟ قال: يوم اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه،
فقال: ائتوني باللوح والدواة- أو قال: بالكتف والدواة-"أكتب لكم ما لا
تضلون بعدي، فتنازعوا، فقال: اخرجوا ولا ينبغي عند نبي أن يتنازع، قالوا: ما شأنه، أهجر؟ استفهموه، فذهبوا يعيدون عليه، فقال:"دعوني فما أنا فيه خير مما تدعونني إليه، ثم أوصى بثلاث؟ فقال:"أخرجوا
المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو مما كنت أجيزهم"، وسكت عن
الثالثة عمداً، أو قالها ونسيتها. قال: فلقد لدت
ميمونة وإنها لصائمة لقسم رسول الله صلى
الله عليه وسلم عقوبة لهم بما
صنعوا. قال!:
وقد كانت فاطمة حاضرة في الدار، وابناها معها، أفتراها لدت أيضاً، ولد الحسن والحسين!
كلا، وهذا أمر لم يكن، وإنما هو حديث ولده من
ولده تقربا إلى بعض الناس، والذي كان أن أسماء بنت
عميس أشارت بأن يلد، وقالت: هذا دواء
جاءنا من أرض الحبشة جاء به جعفر بن أبي طالب، وكان بعلها، وساعدتها على تصويب ذلك والإشارة به
ميمونة بنت الحارث، فلد رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فلما أفاق أنكره، وسأل عنه فذكر له كلام أسماء،
وموافقة ميمونة لها، فأمر أن تلد الامرأتان لا غير،
فلدتا ولم يجر غير ذلك. والباطل لا يكاد يخفى على مستبصر. وروى الأرقم بن شرحبيل، قال: سألت ابن عباس رحمه الله: هل أوصى رسول
الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: لا، قلت: فكيف كان؟
فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
في مرضه:"ابعثوا إلى علي فادعوه"،
فقالت عائشة: لو بعثت إلى أبي بكر! وقالت
حفصة: لو بعثت إلى عمر! فاجتمعوا عنده
جميعاً- هكذا لفظ الخبر على ما أورده الطبري في
التاريخ، ولم يقل:"فبعث رسول الله صلى
الله عليه وسلم إليهما"- قال ابن عباس، فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم:"انصرفوا،
فإن تكن لي حاجة أبعث إليكم" فانصرفوا.
وقيل لرسول الله: الصلاة! فقال:"مروا
أبا بكر أن يصلي بالناس"، فقالت عائشة:
إن أبا بكر رجل رقيق فمر عمر، فقال: مروا عمر،
فقال عمر: ما كنت لأتقدم وأبو بكر شاهد، فتقدم أبو بكر،
فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم خفة،
فخرج، فلما سمع أبو بكر حركته تأخر، فجذب
رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوبه
فأقامه مكانه، وقعد رسول الله صلى الله عليه
وسلم، فقرأ من حيث انتهى أبو بكر. وهذا يوهم صحة ما تقوله الشيعة من أن
صلاة أبي بكر كانت عن أمر عائشة، وإن كنت لا
أقول بذلك، ولا أذهب إليه إلا أن تأمل هذا الخبر ولمح
مضمونه يوهم ذلك، فلعل هذا الخبر غير صحيح. وأيضا ففي
الخبر ما لا يجيزه أهل العدل، وهو أن يقول:"مروا
أبا بكر"، ثم يقول عقيبه:"مروا
عمر"، لأن هذا نسخ الشيء قبل تقضي وقت فعله. قال الطبري:
وقد وقع الاتفاق على أنه كان يوم الاثنين من شهر ربيع
الأول، واختلف في أي الأثانين كان؟ فقيل:
لليلتين خلتا من الشهر، وقيل: لاثنتي عشرة خلت من الشهر. واختلف في تجهيزه أي يوم كان!
فقيل: يوم الثلاثاء الغد من وفاته، وقيل: إنما دفن بعد وفاته بثلاثة أيام، اشتغل القوم عنه بأمر
البيعة. قلت: وأنا أعجب من هذا!
هب أن أبا بكر ومن معه اشتغلوا بأمر البيعة،
فعلي بن أبي طالب والعباس وأهل البيت بماذا اشتغلوا
حتى يبقى النبي صلى الله عليه وسلم مسجى بينهم ثلاثة أيام
بلياليهن لا يغسلونه ولا يمسونه!. هكذا روى الطبري في كتابه،
وبين السنح وبين المدينة نصف فرسخ، بل هو
طائفة من المدينة، فكيف يبقى رسول الله صلى الله عليه وسلم ميتاً
يوم الاثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء لا يعلم به أبو بكر،
وبينهما غلوة ثلاثة أسهم! وكيف يبقى طريحاً بين أهله ثلاثة
أيام
لا يجترىء أحد منهم أن يكشف عن وجهه، وفيهم علي بن
أبي طالب وهو روحه بين جنبيه، والعباس عمه القائم مقام أبيه، وابنا فاطمة، وهما
كولديه، وفيهم فاطمة بضعة منه، أفما كان في
هؤلاء من يكشف عن وجهه، ولا من يفكر في جهازه، ولا من يأنف له من انتفاخ بطنه
واخضرارها وينتظر بذلك حضور أبي بكر ليكشف عن وجهه!. والصحيح أن
دخول أبي بكر إليه وكشفه عن وجهه، وقوله ما قال، إنما
كان بعد الفراغ من البيعة، وأنهم كانوا مشتغلين بها كما ذكر في الرواية الأخرى. إذا كان أولئك مشتغلين بالبيعة، فما
الذي شغله هو؟. قال أبو جعفر:
فأما الذين تولوا غسله فعلي بن أبي طالب، والعباس بن عبد المطلب، والفضل ابن
العباس، وقثم بن العباس، وأسامة بن زيد، وشقران مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحضر أوس بن
خولي أحد الخزرج، فقال لعلي بن أبي طالب: أنشدك
الله يا علي وحظنا من رسول الله! وكان أوس من أصحاب
بدر، فقال له: أدخل، فدخل فحضر غسله عليه الصلاة والسلام، وصب الماء عليه
أسامة وشقران، وكان علي عليه السلام يغسله وقد أسنده
إلى صدره، وعليه قميصه يدلكه من ورائه، لا يفضي بيده إلى بدن رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وكان العباس وابناه الفضل وقثم يساعدونه على قلبه من جانب إلى جانب. قلت: وهذا أيضاً من العجائب،
لأنه إذا مات يوم الاثنين وقت ارتفاع الضحى- كما ذكر في الرواية- ودفن ليلة الأربعاء وسط الليل، فلم يمض عليه ثلاثة أيام كما ورد في تلك الرواية. قال الطبري:
ونزل في قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب عليه السلام، والفضل بن عباس، وقثم أخوه،
وشقران مولاهم. وقال أوس بن خولي لعلي عليه السلام:
أنشدك الله يا علي وحظنا من رسول الله صلى
الله عليه وسلم! فقال له:
إنزل، فنزل مع القوم، وأخذ شقران قطيفة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبسها،
فقذفها معه في القبر، وقال: لا يلبسها أحد بعده. ثم انظر إلى كرم علي عليه السلام وسجاحة
أخلاقه وطهارة شيمته، كيف لم يضن بمثل هذه المقامات الشريفة عن أوس؟ وهو رجل غريب من الأنصار، فعرف له حقه وأطلبه بما طلبه!
فكم بين هذه السجية الشريفة، وبين قول من قال:
لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا
نساؤه! ولو كان في ذلك المقام غيره
من أولي الطباع الخشنة، وأرباب الفظاظة والغلظة، وقد
سأل أوس ذلك- لزجر وانتهر ورجع خائباً!. من الناس من يذكر أنها كانت تشوب هذه
الندبة بنوع من التظلم والتألم لأمر يغلبها. والله أعلم بصحة ذلك. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال
في صفة خلق بعض الحيوانات
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: الحمد لله
الذي لا تدركه الشواهد، ولا تحويه المشاهد، ولا تراه النواظر، ولا تحجبه
السواتر، الدال على قدمه بحدوث خلقه، وبحدوث خلقه على وجوده، وباشتباههم على أن
لا شبه له. الذي صدق في ميعاده، وارتفع عن ظلم عباده، وقام بالقسط في خلقه، وعدل
عليهم في حكمه، مستشهد بحدوث الأشياء على أزليته، وبما وسمها به من العجز على
قدرته، وبما أضطرها إليه من الفناء على دوامة. واحد لا بعدد، ودائم لا بأمد، وقائم
لا بعمد، تتلقاه الأذهان لا بمشاعرة، وتشهد له المرائي لا بمحاضرة. لم تحط به
الأوهام، بل تجلى لها بها. وبها امتنع منها، وإليها حاكمها. ليس بذي كبر امتدت
به النهايات فكبرته تجسيماً، ولا بذي عظم تناهت به الغايات فعظمته تجسيداً، بل
كبر شأناً، وعظم سلطاناً. فإن قلت: فهل لهذا الكلام مساغ على
مذهب البغداديين؟ قلت: نعم، إذا حمل على منهج التأويل بأن
يريد بقوله: وبحدوث خلقه على وجوده، أي على صحة إيجاده له فيما بعد، أي إعادته
بعد العدم يوم القيامة، لأنه إذا صح منه تعالى إحداثه ابتداءً صح منه إيجاده
ثانياً على وجه الإعادة، لأن الماهية قابلة للوجود والعدم، والقادر قادر لذاته،
فأما من روى بحدوث خلقه على جوده، فإنه قد سقطت عنه هذه الكلف كلها. والمعنى على
هذا ظاهر، لأنه تعالى دل المكلفين بحدوث خلقه على أنه جواد منعم، ومذهب أكثر المتكلمين أنه خلق العالم جوداً وإنعاماً وإحساناً
إليهم. هذا دليل صحيح، وذلك لأنه إذا ثبت أن جسماً ما
محدث، ثبت أن سائر الأجسام محدثه، لأن الأجسام متماثلة، وكل ما صح على الشيء صح
على مثله، وكذلك إذا ثبت أن سواداً ما أو بياضاً ما محدث، ثبت أن سائر السوادات
والبياضات محدثة، لأن حكم الشيء حكم مثله، والسواد في معنى كونه سواداً غير مختلف،
وكذلك البياض، فصارت الدلالة هكذا الذوات التي عندنا يشبه بعضها بعضاً، وهي
محدثة، فلو كان الباري سبحانه يشبه شيئاً منها لكان
مثلها، ولكان محدثاً لأن حكم الشيء حكم مثله، لكنه تعالى ليس بمحدث، فليس بمشابه لشيء منها، فقد صح إذاً قوله عليه السلام:"وباشتباههم على أن لا شبه له. ثم
قال:"قائم لا بعمد، لأنه لما كان في الشاهد كل قائم فله عماد يعتمد عليه، أبان عليه السلام تنزيهه تعالى عن المكان، وعما يتوهمه الجهلاء من أنه مستقر
على عرشه بهذه اللفظة. ومعنى
القائم ههنا ليس ما يسبق إلى الذهن من أنه المنتصب، بل
ما تفهمه من قولك: فلان قائم بتدبير
البلد، وقائم بالقسط. وأما شهادتها بوجود الباري فليست بهذه الطريق، بل بما ذكرناه. والأولى أن يكون"المرائي ههنا
جمع"مرآة" بفتح الميم، من قولهم: هو حسن في مرآة عيني، يقول: إن جنس الرؤية يشهد بوجود الباري من غير محاضرة منه
للحواس.
ومما
قلته أيضا في قصور العقل عن معرفته سبحانه وتعالى:
ولي
في هذا المعنى:
وقلت
أيضاً في المعنى:
ولي
أيضاً:
ومن شعري أيضاً في المعنى، وكنت أنادي به ليلاً في مواضع مقفرة خالية من الناس، بصوت
رفيع، وأجدح قلبي أيام كنت مالكاً أمري، مطلقاً من
قيود الأهل والولد وعلائق الدنيا:
ومما
قلته في هذا المعنى:
أعجبني
هذا المعنى، فنقلته إلى لفظ آخر فقلت:
ولي
في هذا المعنى أيضاً:
ولي
أيضاً في الرد على الفلاسفة الذين عللوا حركة
الفلك بأنه أراد استخراج الوضع أولاً، ليتشبه بالعقل المجرد في كماله، وأن كل ما
له بالقوة فهو خارج إلى الفعل:
ولي
أيضاً في الرد على من زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى الله سبحانه بالعين، وهو الذي أنكرته عائشة، والعجب لقوم
من أرباب النظر جهلوا ما أدركته امرأة من نساء العرب:
والمقطعات التي نظمتها في إجلال البارىء سبحانه عن أن تحيط به العقول
كثيرة، موجودة في كتبي ومصنفاتي، فلتلمح من مظانها، وغرضنا بإيراد بعضها أن لها
هنا تشييداً لما قاله أمير المؤمنين عليه السلام علي في هذا الباب. وصادعاً
بهما: مظهراً مجاهداً، وأصله الشق. وفلق:
شق وخلق. والبشر: ظاهر الجلد. قال: الذرة تدخر في الصيف للشتاء، وتتقدم في حال
المهلة، ولا تضيع أوقات إمكان الحزم، ثم يبلغ من تفقدها وصحة تمييزها، والنظر في
عواقب أمورها، أنها تخاف على الحبوب التي ادخرتها للشتاء في الصيف، أن تعفن
وتسوس في بطن الأرض فتخرجها إلى ظهرها لتنثرها وتعيد إليها جفوفها، ويمر بها
النسيم فينفي عنها اللخن والفساد. فأما إن كان الحب من الكزبرة فإنها تفلقه أرباعاً،
لأن أنصاف حب الكزبرة تنبت من بين جميع الحبوب، فهي من هذا الوجه مجاوزة لفطنة
جميع الحيوانات، حتى ربما كانت في ذلك أحزم من كثير من الناس، ولها مع لطافة
شخصها وخفة وزنها في الشم والاسترواح ما ليس لشيء، فربما أكل الإنسان الجراد أو
بعض ما يشبه الجراد، فيسقط من يده الواحدة أو صدر واحدة، وليس بقربه ذرة ولا له
عهد بالذر في ذلك المنزل، فلا يلبث أن تقبل ذرة قاصدة إلى تلك الجرادة، فترومها
وتحاول نقلها وجرها إلى جحرها، فإذا أعجزتها بعد أن تبلي عذراً مضت إلى جحرها
راجعة، فلا يلبث ذلك الإنسان أن يجدها قد أقبلت وخلفها كالخيط الأسود الممدود،
حتى يتعاون عليها فيحملنها. فاعجب من صدق الشم لما لا يشمه الإنسان الجائع! ثم
انظر إلى بعد الهمة والجرأة على محاولة نقل شيء في وزن جسمها مائة مرة، وأكثر من
مائة مرة، بل أضعاف أضعاف المائة، وليس شيء من الحيوان يحمل ما يكون أضعاف وزنه
مراراً كثيرة غيرها. قال:
فاتخذت عند ذلك لطعامي منملة وقيرتها، وصببت في خندقها الماء، ووضعت سلة الطعام
على رأسها، فغبرت أياماً أكشف رأس السلة بعد ذلك، وفيها ذر كثير، ووجدت الماء في
الخندق على حاله، فقلت: عسى أن يكون بعض الصبيان أنزلها، وأكل مما فيها! وطال
مكثها في الأرض، وقد دخلها الذر ثم أعيدت على تلك الحال، وتكلمت في ذلك وتعرفت
الحال فيه، فعرفت البراءة في عذرهم، والصدق في خبرهم، فاشتد تعجبي، وذهبت بي الظنون والخواطر كل مذهب، فعزمت على أن أرصدها
وأحرسها، وأتثبت في أمري، وأتعرف شأني، فإذا هي بعد أن رامت الخندق فامتنع عليها
تركته جانباً، وصعدت في الحائط، ثم مرت على جذع السقف، فلما صارت محاذيةً للسلة
أرسلت نفسها فقلت في نفسي: انظر كيف اهتدت إلى هذه الحيلة ولم تعلم أنها تبقى
محصورة!.
وكان في كتاب عبد الحميد إلى أبي
مسلم:
لو أراد الله بالنملة صلاحاً، لما أنبت لها جناحاً، فيقال:
إن أبا مسلم لما قرأ هذا الكلام في أول الكتاب لم يتم قراءته وألقاه في النار،
وقال: أخاف إن قرأته أن ينخب قلبي. قال تعالى:
!وإذا ضربتم في الأرض ! وهذا الكلام
استعارة. والطرق
إليه أربعة: أحدها الاستدلال بحدوث الأجسام، والثاني
الاستدلال بإمكان الأعراض والأجسام، والثالث الاستدلال بحدوث الأعراض، والرابع
الاستدلال بإمكان الأعراض. وكذلك القول في اللغات واختلافها. وإذا كان كل هذا ممكناً فاختصاص الجسم المخصوص
بالصفات والأعراض والصور المخصوصة لا يمكن أن يكون لمجرد الجسمية لتماثل الأجسام
فيها، فلا بد من أمر زائد، وذلك الأمر الزائد هو المعني بقولنا: صانع العالم. ثم قال:"والجناية لا بد لها من جان"،
وهذه كلمة ساقته إليها القرينة، والمراد عموم الفعلية لا خصوص الجناية، أي
مستحيل أن يكون الفعل من غير فاعل، والذين ادعوا الضرورة في هذه المسألة من
المتكلمين استغنوا عن الطرق الأربع التي ذكرناها، وأمير المؤمنين عليه السلام اعتمد
أولاً على طريق واحدة، ثم جنح ثانياً إلى دعوى الضرورة، وكلا الطريقين صحيح. الأصل:
وإن شئت قلت في الجرادة إذ خلق لها عينين حمراوين، وأسرج لها حدقتين قمراوين،
وجعل لها السمع الخفي، وفتح لها الفم السوي، وجعل لها الحس القوي، ونابين بهما
تقرض، ومنجلين بهما تقبض، يرهبها الزراع في زرعهم، ولا يستطيعون ذبها ولو أجلبوا
بجمعهم، حتى ترد الحرث في نزواتها، وتقضي منه شهواتها، وخلقها كله لا يكون إصبعا
مستدقة. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال
في التوحيد، وتجمع هذه الخطبة من أصول العلم ما لا تجمعه خطبة غيرها
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: ما وحده من
كيفه، ولا حقيقتة أصاب من مثله، ولا إياه عنى من شبهه، ولا صمدة من أشار إليه
وتوهمه. كل معروف بنفسه مصنوع، وكل قائم في سواه معلول، فاعل لا باضطراب آلة،
مقدر لا بجول فكرة، غني لا باستفادة، لا تصحبه الأوقات، ولا ترفده الأدوات، سبق
الأوقات كونه، والعدم وجوده، والابتداء أزله. أولها قوله:"ما
وحدة من كيفه"، وهذا حق لأنه إذا جعله مكيفاً جعله ذا هيئة وشكل، أو ذا لون
وضوء، إلى غيرهما من أقسام الكيف، ومتى كان كذلك كان جسماً ولم يكن واحداً، لأن
كل جسم قابل للانقسام، والواحد حقاً لا يقبل الانقسام، فقد ثبت أنه ما وحده من
كيفه. وثالثها قوله عليه السلام:"ولا
صمده من أشار إليه" أي أثبته في جهة، كما تقول الكرامية، الصمد في اللغة
العربية: السيد. والصمد أيضا الذي لا جوف له، وصار التصميد في الاصطلاح العرفي
عبارة عن التنزيه، والذي قال عليه السلام حق،
لأن من أشار إليه- أي أثبته في جهة كما تقوله الكرامية- فإنه ما صمده، لأنه ما
نزهه عن الجهات، بل حكم عليه بما هو من خواص الأجسام، وكذلك من توهمه سبحانه، أي
من تخيل له في نفسه صورة أو هيئة أو شكلاً، فإنه لم ينزهه عما يجب تنزيهه عنه. وتاسعها قوله:"لا تصحبه الأوقات"، هذا بحث شريف جداً، وذلك لأنه سبحانه ليس بزمان ولا قابل
للحركة، فذاته فوق الزمان والدهر، أما المتكلمون
فإنهم يقولون: إنه تعالى كان ولا زمان ولا وقت، وأما الحكماء فيقولون: إن
الزمان عرض قائم بعرض آخر، وذلك العرض الآخر قائم بجسم معلول لبعض المعلولات
الصادرة عنه سبحانه، فالزمان عندهم- وإن كان لم يزل- إلا أن العلة الأولى ليست
واقعة تحته، وذلك هو المراد بقوله:"لا
تصحبه الأوقات" إن فسرناه على قولهم، وتفسيره على قول المتكلمين أولى. الأصل: بتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر له،
وبمضادته بين الأمور عرف أن لا ضد له، وبمقارنته بين الأشياء عرف أن لا قرين له.
قال:
يجعله تعالى المشاعر عرف أن لا مشعر له، وذلك لأن الجسم لا يصح منه فعل الأجسام،
وهذا هو الدليل الذي يعول عليه المتكلمون في أنه تعالى ليس بجسم. والعجب من فصاحته في ضمن حكمته، كيف
أعطى كل لفظة من هذه اللفظات ما يناسبها ويليق بها، فأعطى المتباعدات لفظة "مقرب،
لأن البعد بإزاء القرب، وأعطى المتباينات لفظة"مقارن"،
لأن البينونة بإزاء المقارنة، وأعطى المتعاديات لفظة"مؤلف" لأن
الائتلاف بإزاء التعادي. قوله عليه السلام:"بها
تجلى صانعها للعقول، وبها امتنع عن نظر العيون"، أي بهذه الآلات والأدوات
التي هي حواسنا ومشاعرنا، وبخلقه إياها، وتصويره لها، تجلى للعقول وعرف، لأنه لو
لم يخلقها لم يعرف، وبها امتنع عن نظر العيون، أي بها استنبطنا استحالة كونه
مرئياً بالعيون، لأنا بالمشاعر والحواس كملت عقولنا، وبعقولنا استخرجنا الدلالة
على أنه لا تصح رؤيته، فإذن بخلقه الآلات والأدوات لنا عرفناه عقلاً، وبذلك
أيضاً عرفنا أنه يستحيل أن يعرف بغير العقل، وأن قول من قال: إنا سنعرفه رؤيةً
ومشافهة بالحاسة باطل. وأيضاً فإذا كان أحدهما قديماً معه
لم يجز أن يتلوه الآخر، لأن القديم لا يزول بالمحدث. وقوله:"وخرج بسلطان
الامتناع" ليس من المستحيلات عليه، بل هو واجب
له، ومن الأمور الصادقة عليه، فإذا فسد أن يكون معطوفاً عليها وجب أن يكون
معطوفاً على ما كان مدلولاً عليه، وتقدير الكلام:
كان يلزم أن يتحول الباري دليلاً على غيره، بعد أن كان مدلولاً عليه، وبعد أن
خرج بسلطان الامتناع من أن يؤثر فيه ما أثر في غيره، وخروجه بسلطان الامتناع
المراد به وجوب الوجود والتجريد وكونه ليس بمتحيز ولا حال في المتحيز، فهذا هو
سلطان الامتناع الذي به خرج عن أن يؤثر فيه مما أثر في غيره من الأجسام
والممكنات. أولها: أن الباري سبحانه لا يوصف بشيء من الأجزاء، أي
ليس بمركب، لأنه لو كان مركباً لافتقر إلى أجزائه، وأجزاؤه ليست نفس هويته، وكل
ذات تفتقر هويتها إلى أمر من الأمور فهي ممكنة، لكنه واجب الوجود، فاستحال أن
يوصف بشيء من الأجزاء. وسادسها: أنه لا انقطاع
لوجوده، ولا غاية، لأنه لو جاز عليه العدم في المستقبل لكان وجوده الآن متوقفاً
على عدم سبب عدمه، وكل متوقف على الغير فهو ممكن في ذاته، والباري تعالى واجب
الوجود، فاستحال عليه العدم، وأن يكون لوجوده انقطاع، أو ينتهي إلى غاية يعدم
عندها. وأما كونه لا يتحفظ فيحتمل معنيين. أحدهما أنه لا يجوز
أن يطلق عليه أنه يتحفظ الكلام، أي يتكلف كونه حافظاً له، ومحيطاً وعالماً به،
كالواحد منا يتحفظ الدرس ليحفظه، فهو سبحانه حافظ غير متحفظ. والثاني أنه ليس بمتحرز ولا مشفق على نفسه خوفاً
أن تبدر إليه بادرة من غيره. ورابع عشرها:
أنه يريد ولا يضمر، أما كونه مريداً فقد ثبت بالسمع نحو قوله تعالى:"يريد الله بكم اليسر!، وبالعقل لاختصاص
أفعاله بأوقات مخصوصة، وكيفيات مخصوصة، جاز أن تقع على خلافها، فلا بد من مخصص
لها بما اختصت به، وذلك كونه مريداً، وأما كونه لا يضمر فهو إطلاق لفظي لم يأذن
فيه الشرع، وفيه إيهام كونه ذا قلب، لأن الضمير في العرف اللغوي ما استكن في
القلب، والباري ليس بجسم. وأيضاً يقال:
مثل زيد بحضرتي إذا حضر قائماً، ومثلته بين يدي زيد أي أحضرته منتصباً، فلما كان
الله تعالى فعل القرآن واضحاً بيناً كان قد مثله للمكلفين. قال:"وأرساها"،
جعلها راسية على غير قرار تتمكن عليه، بل واقفة بإرادته التي اقتضت وقوفها، ولأن
الفلك يجذبها من جميع جهاتها- كما قيل- أو لأنه يدفعها من جميع جهاتها، أو لأن
أحد نصفيها صاعد بالطبع، والآخر هابط بالطبع، فاقتضى التعادل وقوفها، أو لأنها
طالبة للمركز فوقفت. والأسداد:
جمع سد، وهو الجبل، ويجوز ضم السين، واستفاض عيونها، بمعنى أفاض، أي جعلها
فائضة، وخد أوديتها، أي شقها. فلم يهن ما بناه، أي لم يضعف. وكيف ولو اجتمع جميع حيوانها- من طيرها وبهائمها،
وما كان من مراحها وسائمها، وأصناف أسناخها وأجناسها، ومتبلدة أممها وأكياسها-
على إحداث بعوضة، ما قدرت على إحداثها، ولا عرفت كيف السبيل إلى إيجادها،
ولتحيرت عقولها في علم ذلك وتاهت، وعجزت قواها، ورجعت خاسئة حسيرة، عارفة بأنها
مقفورة، مقرة بالعجز عن إنشائها، مذعنة بالضعف عن إفنائها. الشرح: شرع أولاً في
ذكر إعدام الله سبحانه الجواهر وما يتبعها ويقوم بها من الأعراض قبل القيامة،
وذلك لأن الكتاب العزيز قد ورد به، نحو قوله تعالى:"كما
بدأنا أول خلق نعيده !، ومعلوم أنه بدأه عن عدم، فوجب أن تكون الإعادة عن
عدم أيضاً. وقال تعالى:"هو الأول والآخر!، وإنما كان أولاً لأنه
كان موجوداً، ولا شيء من الأشياء بموجود، فوجب أن يكون آخراً كذلك، هذا هو مذهب جمهور أصحابنا وجمهور المسلمين. ثم إنه سبحانه يبعثهم ويعيدهم ليوصل إلى كل إنسان
ما يستحقه من ثواب أو عقاب، ولا يمكن إيصال هذا المستحق إلا بالإعادة، وإنما لم يذكر أمير المؤمنين عليه السلام هذه
التعليلات، لأنه قد أشار إليها فيما تقدم من كلامه، وهي موجودة في فرش خطبه،
ولأن مقام الموعظة غير مقام التعليل، وأمير المؤمنين عليه السلام في
هذه الخطبة يسلك مسلك الموعظة في ضمن تمجيد الباري سبحانه وتعظيمه، وليس ذلك
بمظنة التعليل والحجاج. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن
خطبة له تختص بذكر الملاحم
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: ألا بأبي
وأمي هم من عدة! أسماؤهم في السماء معروفة، وفي الأرض مجهولة ألا فتوقعوا ما
يكون من إدبار أموركم، وانقطاع وصلكم، واستعمال صغاركم. إنما مثلي بينكم كمثل السراج في الظلمة يستضيء به
من ولجها، فامسمعوا أيها الناس وعوا وأحضروا آذان قلوبكم تفهموا. فإذا أخذه الفقير منه على وجه الصدقة فقد فوت عليه
صرفه في تلك القبائح والمحظورات التي كان بعرضته صرف ذلك القدر فيها لو لم يأخذه
الفقير، فإذاً قد أحسن الفقير إليه بكفه عن ارتكاب القبيح، ومن العصمة ألا يقدر
فكان المعطى أعظم أجراً من المعطي. وروي من غير"إحواج" بالواو، أي من غير
أن يحوجكم إليه أحد. قال:
ذلك إذا عضكم البلاء كما يعض القتب غارب البعير. هذا
الكلام غير متصل بما قبله، وهذه عادة الرضي
رحمه الله يلتقط الكلام التقاطاً، ولا يتلو بعضه بعضاً، وقد ذكرنا هذه
الخطبة أو أكثرها فيما تقدم من الأجزاء الأول، وقبل
هذا الكلام ذكر ما يناله شيعته من البؤس والقنوط ومشقة انتظار الفرج. والأثقال:
المآثم. وإلقاء الأزمة: ترك اعتماد القبيح، فهذا
عمومه، وأما خصوصه فتعريض بما كان عليه أصحابه من الغدر ومخامرة العدو عليه،
وإضمار الغل والغش له، وعصيانه والتلوي عليه، وقد فسره بما بعده فقال:"ولا
تصدعوا عن سلطانكم" أي لا تفرقوا، !فتذموا غب فعالكم"، أي عاقبته.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال
في الوصية بالتقوى
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
أوصيكم أيها الناس بتقوى الله وكثرة حمده على آلائه إليكم، ونعمائه عليكم،
وبلائه لديكم، فكم خصكم بنعمة، وتدارككم برحمة! أعورتم له فستركم، وتعرضتم لأخذه
فأمهلكم!. أوحشوا
ما كانوا يوطنون، وأوطنوا ما كانوا يوحشون، واشتغلوا بما فارقوا، وأضاعوا ما
إليه انتقلوا، لا عن قبيح يستطيعون انتقالاً، ولا في حسن يستطيعون ازدياداً،
أنسوا بالدنيا فغرتهم، ووثقوا بها فصرعتهم.
والأصل فيه قول الله تعالى:"إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب !. وقوله عليه السلام:"ما
أسرع الساعات في اليوم..." إلى آخر الفصل، كلام شريف وجيز بالغ في معناه، والفصل كله
نادر لا نظير له. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال
في الإيمان ووجوب الهجرة
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: فمن الإيمان
ما يكون ثابتاً مستقراً في القلوب، ومنه ما يكون عواري بين القلوب والصدور، إلى
أجل معلوم فإذا كانت لكم براءة من أحد فقفوه حتى يحضره الموت، فعند ذلك يقع حد
البراءة. والهجرة قائمة على حدها الأول، ما كان لله في أهل
الأرض حاجة من مستسر الأمة ومعلنها. لا يقع اسم الهجرة على أحد إلا بمعرفة الحجة
في الأرض، فمن عرفها وأقر بها فهو مهاجر، ولا يقع اسم الاستضعاف على من بلغته
الحجة فسمعتها أذنه، ووعاها قلبه. أولها قوله عليه السلام: فمن الإيمان ما يكون كذا. فنقول: إنه قسم الإيمان إلى ثلاثة أقسام: أحدها: الإيمان
الحقيقي، وهو الثابت المستقر في القلوب بالبرهان
اليقيني. فلا تحل
البراءة من أحد حتى يموت على أمر، فإذا مات على اعتقاد قبيح أو فعل قبيح جازت
البراءة منه، لأنه لم يبق له بعد الموت حالة تنتظر، وينبغي أن تحمل هذه البراءة
التي أشار إليها عليه السلام على
البراءة المطلقة، لا على كل براءة، لأنا يجوز لنا أن نبرأ من الفاسق وهو حي، ومن
الكافر وهو حي، لكن بشرط كونه فاسقاً، وبشرط كونه كافراً، فأما من مات ونعلم ما
مات عليه فإنا نبرأ منه براءة مطلقة غير مشروطة. وقال الراوندي: ما ههنا نافية، أي
لم يكن لله في أهل الأرض من حاجة، وهذا ليس بصحيح،
لأنه إدخال كلام منقطع بين كلامين متصل أحدهما بالآخر. ثم ذكر أنه لا يصح أن يعد الإنسان من المهاجرين إلا
بمعرفة إمام زمانه، وهو معنى قوله:"إلا بمعرفة الحجة في الأرض". قال:"فمن عرف الإمام وأقر به فهو مهاجر". ويجوز أن يكون المعنى
أنه أخلص قلوبهم للتقوى، من قولهم: امتحن الذهب، إذا أذابه فخلص إبريزه من خبثه
ونقاه. وقد تأوله قوم على وجه آخر قالوا: أراد أنا بالأحكام الشرعية والفتاوى الفقهية أعلم مني بالأمور الدنيوية، فعبر عن تلك بطرق السماء، لأنها أحكام إلهية، وعبر عن هذه بطرق الأرض لأنها من الأمور الأرضية. والأول أظهر، لأن
فحوى الكلام وأوله يدل على أنه المراد. وأراد الكزي بتمام الخبر
قوله عليه السلام:"لا يقولها بعدي إلا مدع". فأردا
الواعظ أن يكلمه، فصاح عليه القائم من الجانب الأيمن، وقال: يا سيدي فلان الدين،
محمد بن عبد الله كثير في الأسماء، ولكن ليس فيهم من قال له رب العزة:"ما ضل صاحبكم وما غوى" وما ينطق عن الهوى إن
هو إلا وحي يوحى!. وكذلك علي بن أبي طالب كثير في الأسماء، ولكن
ليس فيهم من قال له صاحب الشريعة:"أنت مني
بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي".
فالتفت إليه الواعظ ليكلمه، فصاح عليه القائم من الجانب الأيسر،
وقال: يا سيدي فلان الدين، حقك تجهله، أنت
معذور في كونك لا تعرفه:
فاضطرب المجلس وماج كما يموج البحر، وافتتن الناس، وتواثبت
العامة بعضها إلى بعض، وتكشفت الرؤوس، ومزقت الثياب، ونزل الواعظ، واحتمل حتى
ادخل داراً أغلق عليه بابها. وحضر
أعوان السلطان فسكنوا الفتنة، وصرفوا الناس إلى منازلهم وأشغالهم، وأنفذ الناصر
لدين الله في آخر نهار ذلك اليوم، فأخذ أحمد بن عبد العزيز الكزي والرجلين
اللذين قاما معه، فحبسهم أياماً لتطفأ نائرة الفتنة. ثم
أطلقهم. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن
خطبة له في الأمر بالتقوى
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: أحمده شكراً
لإنعامه، وأستعينه على وظائف حقوقه، عزيز الجند، عظيم المجد. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، دعا إلى طاعته، وقاهر
أعداءه، جهاداً عن دينه، لا يثنيه عن ذلك اجتماع على تكذيبه، والتماس لإطفاء
نوره. وقبل بلوغ الغاية ما تعلمون من ضيق الألماس، وشدة
الإبلاء، وهول المطلع، وروعاك الفزع، واختلاف الأضلاع، واشتكاك الأسماع، وظلمة
اللحد، وخيفة الوعد، وغم الضريح، وردم الصفيح. وكأنها قد أشرفت بزلازلها، وأناخت بقلاقلها، انصرفت
الدنيا بأهلها، وأخرجتهم من حضنها، فكانت كيوم مضى، وشهر انقضى، وصار جديدها
رثاً، وسمينها غثاً. " وسيق الذين اتقوا ربهم إلى
الجنة زمراً". قد أمن العذاب، وانقطع العتاب، وزحزحوا عن النار،
واطمأنت بهم الدار، ورضوا المثوى والقرار، الذين كانت أعمالهم في الدنيا زاكية،
وأعينهم باكية، وكان ليلهم في دنياهم نهاراً، تخشعاً واستغفاراً، وكان نهارهم
ليلاً، توحشاً وانقطاعاً، فجعل الله لهم الجنة مآباً، والجزاء ثواباً، وكانوا
أحق بها وأهلها، في ملك دائم، ونعيم قائم. استعملنا
الله وإياكم بطاعته وطاعة رسوله، وعفا عنا وعنكم بفضل رحمته. وذروته: أعلاه، وأمهدوا له: اتخذوا مهاداً، وهو
الفراش، وهذه استعارة. والإبلاس مصدر"أبلس"
أي خاب ويئس، والإبلاس أيضاً: الإنكسار والحزن، واستكاك
الأسماع: صممها. والقرن: الحبل. وأشراط الساعة: علاماتها.
وأزلت: قربت. وأفراطها: جمع فرط، وهم المتقدمون السابقون من
الموتى، ومن روى"بإفراطها" فهو مصدر أفرط في الشيء، أي قربت الساعة
بشدة غلوائها وبلوغها غاية الهول والفظاعة، ويجوز
أن تفسر الرواية الأولى بمقدماتها وما يظهر قبلها من خوارق العادات
المزعجة، كالدجال ودابة الأرض ونحوهما، ويرجع ذلك
إلى اللفظة الأولى، وهي أشراطها، إنما يختلف اللفظ. واللجب:
الصوت. ووقودها ها هنا، بضم الواو، وهو
الحدث، ولا يجوز الفتح،
لأنه ما يوقد به كالحطب ونحوه، وذاك لا يوصف بأنه ذاك. واعلم أن هذه الخطبة من أعيان خطبه
عليه السلام، ومن ناصع كلامه ونادره، وفيها من صناعة البديع الرائقة المستحسنة
البريئة من التكلف ما لا يخفى، وقد
أخذ ابن نباتة الخطيب كثيراً من ألفاظها فأودعها خطبه، مثل قوله:"شديد كلبها، عال لجبها، ساطع لهبها، متغيظ زفيرها،
متأجج سعيرها، بعيد خمودها، ذاك وقودها، مخوف وعيدها، عم قرارها، مظلمة أقطارها
حامية قدورها، فظيعة أمورها، فإن هذه الألفاظ
كلها اختطفها، وأغار عليها واغتصبها، وسمط بها خطبه، وشذر بها كلامه. فإن هذه الألفاظ أيضاً تمضي في أثناء خطبه، وفي غضون
مواعظه. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن
خطبة له في وصيته بالزهد
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: الحمد لله
الفاشي في الخلق حمده، والغالب جنده، والمتعالي جده، أحمده على نعمه التؤام،
وآلائه العظام، الذي عظم حلمه فعفا، وعدل في كل ما قضى، وعلم بما يمضي وما مضى،
مبتدع الخلائق بعلمه، ومنشئهم بحكمه، بلا اقتداء ولا تعليم، ولا احتذاء لمثال
صانع حكيم، ولا إصابة خطأ، ولا حضرة ملأ. وتستعينوا بها على الله، فإن التقوى في اليوم الحرز
والجنة، وفي كد الطريق إلى الجنة، مسلكها واضح، وسالكها رابح، ومستودعها حافظ.
لم تبرح عارضةً نفسها على الأمم الماضين منكم، والغابرين لحاجتهم إليها غداً. إذا أعاد الله ما أبدى، وأخذ ما أعطى، وسأل عما
أسدى. فما أقل من
قبلها، وحملها حق حملها! أولئك الأقلون عدداً، وهم أهل صفة الله سبحانه إذ يقول:"وقليل من عبادي لشكور". أيقظوا بها نومكم، وأقطعوا بها يومكم، وأشعروها
قلوبكم، وأرحضوا بها ذنوبكم، وداووا بها الأسقام، وبادروا بها الحمام، واعتبروا
بمن أضاعها، ولا يعتبرن بكم من أطاعها. قوله:"فإنها حق الله عليكم، والموجبة على الله
حقكم" يريد أنها واجبة عليكم، فإن فعلتموها وجب على الله أن يجازيكم عنها
بالثواب، وهذا تصريح بمذهب المعتزلة في العدل، وأن
من الأشياء ما يجب على الله تعالى من باب الحكمة. وقيل في الأخبار والحديث:
إن الله تعالى يجمع الذهب والفضة كل ما كان منه في الدنيا، فيجعله أمثال الجبال،
ثم يقول: هذا فتنة بني آدم، ثم يسوقه إلى جهنم فيجعله مكاوي لجباه المجرمين. وقال مجاهد في قوله تعالى:"إلا
ما دمت عليه قائماً! قال: أي مواكظاً. والنزه: جمع نزيه، وهو المتباعد عما يوجب الذم. والولاه: جمع واله، وهو المشتاق ذو الوجد حتى يكاد
يذهب عقله. وتتصدى لهم: تتعرض. والعنون: المتعرضة أيضاً، عن لي كذا أي عرض. ويجوز أن
يكون الجحود من قولك: رجل جحد وجحد، أي قليل الخير، وعام جحد، أي قليل المطر،
وقد جحد النبت إذا لم يطل. ومادت تميد فهي ميود، أي مالت، فإن كانت عادتها ذلك
سميت الحيود الميود في كل حال. ويروى:"وحالها افتعال"، أي كذب وزور، وهي
رواية شاذة. والزلزال:
الشدة العظيمة، والجمع زلازل. وقال الراوندي في شرحه:
يريد أن بعض أهلها في أثر بعض كقولهم: ولدت فلانة ثلاثة بنين على ساق، وليس ما قاله بشيء، لأنهم يقولون ذلك للمرأة إذا لم يكن بين البنين أنثى، ولا يقال ذلك في مطلع التتابع أين كان. وأعجزت مهاربها: أي أعجزتهم جعلتهم عاجزين، فحذف
المفعول، وأسلمتهم المعاقل: لم تحصنهم، ولفظتهم، بفتح الفاء: رمت بهم وقذفتهم،
وأعيتهم المحاول، أي المطالب. ولحم مجزور، أي قتيل قد صار جزراً للسباع. وفي الحديث:"ائتوني بشلوها الأيمن". وعاض على يديه، أي ندماً، وصافق بكفيه، أي تعسفاً
أوتعجباً، ومرتفق بخديه: جاعل لهما على
مرفقيه فكراً وهماً، وزار على رأيه، أي عائب، أي يرى الواحد منهم رأياً ويرجع
عنه ويعيبه، وهو البداء الذي يذكره المتكلمون. ثم فسره
بقوله:"وراجع عن عزمه". فإن قلت:
فهل يمكن أن يفرق بينهما، ليكون الكلام أكثر فائدة؟. أو
يكون بمعنى الاغتيال، يقال: قتله غيلة، أي خديعة. يذهب به إلى مكان يوهمه أنه
لحاجة ثم يقتله. وقال أبو عبيد:
هي لا، والتاء إنما زيدت في"حين"، لا
في"لا"، وإن كتبت مفردة، والأصل"تحين"
كما قال في"ألان""تلان". فزادوا التاء،
وأنشد لأبي وجزة:
وقال المؤرخ:
زيدت التاء في"لات" كما زيدت في"ربت" و"ثمت". ويكون المناص أيضاً بمعنى الملجأ والمفزع، أي ليس هذا حين تجد
مفزعاً ومعقلاً تعتصم به.
وقد
تبدل الهاء همزة، فيقال"أيهات" مثل هراق وأراق، قال:
قال الكسائي:
فمن كسر التاء وقف عليها بالهاء، فقال:"هيهاه"، ومن فتحها وقف إن شاء
بالتاء وإن شاء بالهاء.
فنفى عنهم ذلك، وقال: ليسوا من يقال فيه مثل هذا القول، وتأولها ابن عباس رضي الله عنه لما قيل له: أتبكي السماء والأرض على أحد؟ فقال: نعم يبكيه
مصلاه في الأرض ومصعد عمله في السماء، فيكون نفي البكاء عنهما كناية عن أنه لم
يكن لهم في الأرض عمل صالح يرفع منها إلى السماء. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن
خطبة له عليه السلام في ذم الكبر
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:"ومن
الناس من يسمي هذه الخطبة بالقاصعة، وهي تتضمن ذم إبليس
لعنه الله، على استكباره وتركه السجود لآدم عليه
السلام، وأنه أول من ظهر العصبية وتبع الحمية،
وتحذير الناس من سلوك طريقته": الحمد لله الذي لبس العز والكبرياء،
واختارهما لنفسه دون خلقه، وجعلهما حمىً وحرماً على غيره، وأصطفاهما لجلاله،
وجعل اللعنة على من نازعه فيهما من عباده. الشرح:
يجوز أن تسمى هذه الخطبة"القاصعة" من قولهم: قصعت الناقة بجرتها، وهو أن تردها إلى جوفها، أو تخرجها من جوفها فتملأ فاها،
فلما كانت الزواجر والمواعظ في هذه الخطبة مرددة من أولها إلى آخرها، شبهها بالناقة التي تقصع الجرة. ويجوز أن تسمى القاصعة، لأنها كالقاتلة لإبليس وأتباعه من أهل العصبية، من
قولهم: قصعت القملة، إذا هشمتها وقتلتها. ويجوز
أن تسمى القاصعة، لأن المستمع لها المعتبر بها يذهب
كبره ونخوته، فيكون من قولهم: قصع الماء عطشه، أي
أذهبه وسكنه، قال ذو الرمة بيتاً في هذا
المعنى:
الصرائر:
جمع صريرة، وهي العطش، ويجوز أن تسمى القاصعة، لأنها تتضمن تحقير إبليس وأتباعه
وتصغيرهم، من قولهم: قصعت الرجل إذا امتهنته وحقرته، وغلام مقصوع، أي قميء لا
يشب ولا يزداد. وجاء في الخبر:"العصبية في الله تورث الجنة، والعصبية في الشيطان تورث
النار". ويجوز أن يكون عرفهم من قبل أن
لفظة"بشر" على ماذا تقع، ثم قال لهم: إني خالق هذا الجسم المخصوص الذي
أعلمتكم أن لفظة"بشر" واقعة عليه من طين. وقد اختلف في ذلك فقال قوم: كان قبلة، كما الكعبة اليوم قبلة، ولا يجوز السجود إلا لله.
وقال آخرون:
بل كان السجود له تكرمةً ومحنة، والسجود لغير الله غير قبيح في العقل إذا لم يكن
عبادة ولم يكن فيه مفسدة. قلت:
أما المرجئة فأكثرهم يقول: كان في الأصل
كافراً، لأن المؤمن عندهم لا يجوز أن يكفر، وأما
أصحابنا فلما كان هذا الأصل عندهم باطلاً توقفوا في حال إبليس، وجوزوا كلا
الأمرين.
وجعله
مدحوراً، أي مطروداً مبعداً، دحره الله دحوراً، أي أقصاه وطرده. والعرف:
الريح الطيبة. وكذلك
الخال والمخيلة، تقول: اختال الرجل وخال أيضاً، أي تكبر. والمتكلمون
يسمون إبطال الثواب إحباطاً وإبطال العقاب تكفيراً. فإن قلت:
فعلى هذا كم تكون مدة عبادة إبليس إذا كانت ستة آلاف سنة من سني الآخرة؟. ولما رأى أمير المؤمنين عليه السلام هذا
المبلغ عظيماً جداً علم أن أذهان السامعين لا تحتمله، فلذلك أبهم القول عليهم، وقال:"لا يدرى أمن سني الدنيا أم من سني
الآخرة". قلت: إن التوبة
أحبطت معصيته فصار كأنه لم يعص. قلت: الباء ههنا
ليست للسببية كما يتوهمه هذا المعترض، بل هي
كالباء في قولهم: خرج زيد بثيابه، ودخل زيد بسلاحه، أي
خرج لابساً، ودخل متسلحاً، أي يصحبه الثياب ويصحبه السلاح، فكذلك قوله عليه السلام:"بأمر أخرج به منها
ملكاً"، معناه أن الله تعالى لا يدخل الجنة بشراً يصحبه أمر أخرج الله به
ملكاً منها. فلعمر الله لقد فخر على أصلكم، ووقع في حسبكم، ودفع
في نسبكم، وأجلب بخيله عليكم، وقصد برجله سبيلكم. يقتنصونكم بكل مكان، ويضربون
منكم كل بنان، لا تمتنعون بحيلة، ولا تدفعون بعزيمة، في حومة ذل، وحلقة ضيق،
وعرصة موت، وجولة بلاء. واعتمدوا
وضع التذلل على رؤوسكم، وإلقاء التعزز تحت أقدامكم، وخلع التكبر من أعناقكم،
واتخذوا التواضع مسلحةً بينكم وبين عدوكم إبليس وجنوده، فإن له من كل أمة جنوداً
وأعواناً، ورجلاً وفرساناً، ولا تكونوا كالمتكبر على ابن أمه من غير ما فضل جعله
الله فيه، سوى ما ألحقت العظمة بنفسه من عداوة الحسب، وقدحت الحمية في قلبه من
نار الغضب، ونفخ الشيطان في أنفه من ريح الكبر، الذي أعقبه الله به الندامة،
وألزمه آثام القاتلين إلى يوم القيامة. وقال الراوندي: يجوز أن يكون مفعولاً ثانياً، وهذا ليس بصحيح لأن"حذر" لا يتعدى إلى
المفعولين، والعدوى: ما يعدي من جرب أو غيره، أعدى فلان فلاناً من خلقه أو من
علته، وهو مجاوزته من صاحبه إلى غيره، وفي
الحديث:" لا عدوى في الإسلام". والخيل: الخيالة، ومنه
الحديث:"يا خيل الله اركبي". والصحيح أنه كلام خرج مخرج المثل،
شبهت حاله في تسلطه على بني آدم بمن يغير على قوم بخيله ورجله فيستأصلهم. وقيل: بصوتك، أي بدعائك إلى القبيح. وخيله ورجله: كل ماش وراكب من أهل الفساد من بني
آدم. وقوله:"وأغرق إليكم بالنزع"، أي استوفى
مد القوس وبالغ في نزعها ليكون مرماه أبعد، ووقع سهامه أشد. وانتصب"قذفاً" على المصدر الواقع موقع
الحال، وكذلك"رجماً". وقال الراوندي:
انتصبا لأنها مفعول له، وليس بصحيح، لأن
المفعول له ما يكون عذراً وعلة لوقوع الفعل، وإبليس ما قال ذلك الكلام لأجل
القذف والرجم، فلا يكون مفعولاً له. قوله:"صدقه به أبناء
الحمية"، موضع"صدقه" جر، لأنه
صفة"ظن"، وقد روي:"صدقه أبناء الحمية" من غير ذكر الجار
والمجرور، ومن رواه بالجار والمجرور كان معناه: صدقه في ذلك الظن أبناء الحمية،
فأقام الباء مقام"في". يقول:
فأصبح الشيطان أضر عليكم وأفسد لحالكم من أعدائكم الذين أصبحتم مناصبين لهم، أي
معادين، وعليهم متألبين، أي مجتمعين. فإن قلت:
أما أعظم في الدين حرجاً فمعلوم، فأي معنى لقوله:"وأورى
في دنياكم قدحاً"، وهل يفسد إبليس أمر الدنيا كما يفسد أمر الدين!. ودفع في نسبكم مثله. ثم نهاهم أن يكونوا كقابيل الذي حسد أخاه هابيل
فقتله، وهما أخوان لأب وأم، و إنما قال:"ابن فمه"، فذكر الأم دون
الأب، لأن الأخوين من الأم أشد حنواً ومحبة والتصاقاً من الأخوين من الأب، لأن
الأم هي ذات الحضانة والتربية. فالله الله في كبر الحمية، وفخر الجاهلية! فإنه
ملاقح الشنآن، ومنافخ الشيطان، التي خدع بها الأمم الماضية، والقرون الخالية،
حتى أعنقوا في حنادس جهالته، ومهاوي ضلالته، ذللاً عن سياقه، سلساً في قياده،
أمراً تشابهت القلوب فيه، وتتابعت القرون عليه، وكبراً تضايقت الصدور به. ومصارحة لله، أي مكاشفة، والمناصبة المعاداة. والصحيح أن ملاقح ههنا جمع ملقح وهو المصدر، من
لقحت كضربت مضرباً وشربت مشرباً. ومنافخ الشيطان: جمع منفخ، وهو مصدر أيضاً، من نفخ، ونفخ الشيطان ونفثه
واحد، وهو وسوسته وتسويله، ويقال للمتطاول إلى ما
ليس له: قد نفخ الشيطان في أنفه. وفي كلامه عليه
السلام،
يقوله لطلحة وهو صريع،
وقد وقف عليه، وأخذ سيفه:"سيف طالما جلى به الكرب عن وجه رسول الله صلى
الله عليه وسلم، ولكن الشيطان نفخ في أنفه!".
والحنادس:
الظلم، والمهاوي: جمع مهواة بالفتح، وهي الهوة يتردى الصيد فيها، وقد تهاوى
الصيد في المهواة، إذا سقط بعضه في أثر بعض. وقال الراوندي أيضاً: ويجوز أن يكون"أمراً" حالاً. وهذا أيضاً ليس بشيء، لأن الحال وصف هيئة الفاعل أو المفعول، و"أمراً" ليس كذلك.
قوله عليه السلام:"وألقوا الهجينة على ربهم" روي" الهجينة"
على"فعيلة"، كالطبيعة والخليقة، وروي" الهجنة"
على"فعلة"، كالمضغة واللقمة، والمراد بهما الاستهجان، من قولك: هو
يهجن كذا، أي يقبحه، ويستهجنه أي يستقبحه. أي نسبوا ما في الأنساب من القبح بزعمهم إلى
ربهم، مثل أن يقولوا للرجل: أنت عجمي ونحن عرب، فإن هذا ليس إلى الإنسان، بل هو
إلى الله تعالى، فأي ذنب له فيه!. الأصل: فلو رخص الله
في الكبر لأحد من عباده لرخص فيه لخاصة أنبيائه، ولكنه سبحانه كره إليهم
التكابر، ورضي لهم التواضع، فألصقوا بالأرض خدودهم، وعفروا في التراب وجوههم،
وخفضوا أجنحتهم للمؤمنين، وكانوا قوماً مستضعفين، قد أختبرهم الله بالمخمصة،
وابتلاهم بالمجهدة، وامتحنهم بالمخاوف، ومحصهم بالمكاره. وعفر وجهه:
ألصقه بالعفر، وخفضوا أجنحتهم: ألانوا جانبهم، والمخمصة:
الجوع. والمجهدة:
المشقة، وأمير المؤمنين عليه السلام كثير الاستعمال لمفعل ومفعلة بمعنى المصدر،
إذا تصفحت كلامه عرفت ذلك. وروى أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في
التاريخ، أن موسى قدم هو وأخوه هارون مصر على فرعون، لما
بعثهما الله تعالى إليه حتى وقفا على بابه يلتمسان الإذن عليه، فمكثا سنين
يغدوان على بابه ويروحان، لا يعلم بهما، ولا يجترىء أحد على أن يخبره بشأنهما- وقد كانا قالا لمن بالباب: إنا رسولا رب العالمين إلى
فرعون- حتى دخل عليه بطال له يلاعبه ويضحكه، فقال له:
أيها الملك إن على الباب رجلاً يقول قولاً عجيباً عظيماً، ويزعم أن له إلهاً غيرك، قال: ببابي! قال: نعم، قال:
أدخلوه، فدخل وبيده عصاه، ومعه هارون أخوه، فقال: أنا رسول رب العالمين إليك... وذكر تمام الخبر. هذا فرض سؤال وجواب عنه، كأنه
قال لنفسه: لم لا يجوز أن يكون إيمانهم على هذا التقدير لوجوبه، ولخوف
ذلك النبي، أو لرجاء نفع ذلك النبي صلى
الله عليه وسلم؟ فقال: لأن النيات تكون حينئذ مشتركة،
أي يكون المكلف قد فعل الإيمان لكلا الأمرين. وكذلك تفسير قوله"والحسنات مقتسمة": قال: ولا يجوز أن
تكون طاعة الله تعالى تعلو إلا لكونها طاعة له لا غير، ولا يجوز أن يشوبها
ويخالطها من غيرها شائبة. ولو أراد سبحانه أن يضع بيته الحرام، ومشاعره
العظام، بين جنات وأنهار، وسهل وقرار، جم الأشجار، داني الثمار، ملتف البنى،
متصل القرى، بين برة سمراء، وروضة خضراء، وأرياف محدقة، وعراص مغدقة، وزروع
ناضرة، وطرق عامرة، لكان قد صغر قدر الجزاء، على حسب ضعف البلاء. من مفاوز قفار" بالإضافة. وقد روى
قوم:"من مفاوز" بفتح الزاء، لأنه لا ينصرف، ولم يضيفوا،
جعلوا"قفار" صفة، والسحيقة: البعيدة، والمهاوي: المساقط، والفجاج: جمع
فج، وهو الطريق بين الجبلين. والمشاعر: معالم النسك. وناضرة: ذات نضارة ورونق وحسن. وروي"يستعبدهم"
و"يتعبدهم"، والثانية أحسن. فقال آدم: إني لست أقوى على بنائه، ولا أهتدي
إليه، فقيض الله تعالى له ملكاً، فانطلق به نحو مكة- وكان آدم في طريقه كلما رأى
روضة أو مكاناً يعجبه سأل الملك أن ينزل به هناك ليبني فيه، فيقول الملك: إنه
ليس ههنا حتى أقدمه مكة- فبنى البيت من خمسة جبال، طور سيناء، وطور زيتون، ولبنان،
والجودي، وبنى قواعده من حراء. فلما فرغ خرج به الملك إلى عرفات، فأراه المناسك
كلها التي يفعلها الناس اليوم، ثم قدم به مكة وطاف بالبيت أسبوعاً، ثم رجع إلى
أرض الهند فمات. الأصل: فالله الله
في عاجل البغي، وآجل وخامة الظلم، وسوء عاقبة الكبر، فإنها مصيدة إبليس العظمى،
ومكيدته الكبرى، التي تساور قلوب الرجال مساورة السموم القاتلة، فما تكدي أبداً،
ولا تشوي أحداً، لا عالماً لعلمه، ولا مقلاً في طمره. وقال
أيضاً: يجوز أن تكون نافية، أي لم يحرس الله عباده عن ذلك إلجاءً وقهراً، بل
فعلوه اختياراً من أنفسهم، والوجه الأول باطل،
لأن"عن! على هذا التقدير تكون من صلة المصدر، فلا يجوز تقديمها عليه،
وأيضاً فإن"لما في ذلك" لو كان هو الخبر، لتعلق لام الجر بمحذوف،
فيكون التقدير: حراسة الله لعباده عن ذلك كائنة لما في ذلك من تعفير الوجوه
بالتراب، وهذا كلام غير مفيد ولا منتظم إلا على تأويل
بعيد لا حاجة إلى تعسفه، والوجه الثاني باطل، لأن سياقة الكلام تدل على فساده،
ألا ترى قوله:"تسكيناً وتخشيعاً!، وقوله:"لما في ذلك من كذا"، وهذا كله تعليل الحاصل الثابت لا تعليل المنفي المعدوم. وكذلك
بالزكاة والصوم ليسكن أطرافهم، ويخشع أبصارهم، فجعل التسكين والتخشيع عذراً وعلة
للحراسة، ونصب اللفظات على أنها مفعول له. وإلصاق كرائم الجوارح بالأرض كاليدين والساقين
تصاغراً يوجب الخشوع والإستسلام، والجوع في الصوم الذي يلحق البطن في المتن
يقتفي زوال الأشر والبطر، ويوجب مذلة النفس وقمعها عن الانهماك في الشهوات، وما
في الزكاة من صرف فواضل المكاسب إلى أهل الفقر والمسكنة يوجب تطهير النفوس
والأموال ومواساة أرباب الحاجات بما تسمح به النفوس من الأموال، وعاصم لهم من
السرقات وارتكاب المنكرات، ففي ذلك كله دفع مكائد الشيطان. والمسكنة: أشد الفقر في أظهر الرأيين، والقمع:
القهر، والنواجم: جمع ناجمة، وهي ما يظهر ويطلع من الكبر وغيره، والقدع، بالدال
المهملة: الكف، قدعت الفرس وكبحته باللجام، أي كففته. والطوالع، كالنواجم. الأصل: ولقد نظرت
فما وجدت أحداً من العالمين يتعصب لشيء من الأشياء إلا عن علة تحتمل تمويه
الجهلاء، أو حجة تليط بعقول السفهاء غيركم، فإنكم تتعصبون لأمر ما يعرف له سبب
ولا علة. أما إبليس فتعصب على آدم لأصله، وطعن عليه في
خلقته، فقال: أنا ناري وأنت طيني. وأما الأغنياء من مترفة الأمم فتعصبوا لآثار مواقع
النعم، فقالوا: نحن أكثر أموالاً وأولاداً وما نحن بمعذبين. هكذا قال ابن السكيت، وقد اعترض عليه بأن المجيد من
صفات الله تعالى، قال سبحانه:"ذو العرش
المجيد"، على قراءة من رفع، والله سبحانه يتعالى عن الآباء، وقد جاء
في وصف القرآن المجيد، قال سبحانه:"بل هو قرآن مجيد". وزاحت الأعداء: بعدت. وله، أي لأجله. وتخاذل الأيدي: ألا ينصر الناس بعضهم بعضاً. الأصل: وتدبروا
أحوال الماضين من المؤمنين قبلكم، كيف كانوا في حال التمحيص والبلاء! ألم يكونوا
أثقل الخلائق أعباءً، وأجهد العباد بلاءً، وأضيق أهل الدنيا حالاً! اتخذتهم
الفراعنة عبيداً فساموهم سوء العذاب، وجرعوهم جرع المرار، فلم تبرح الحال بهم في
ذل الهلكة وقهر الغلبة، لا يجدون حيلةً في امتناع، ولا سبيلاً إلى دفاع، حتى إذا
رأى الله سبحانه جد الصبر منهم على الأذى في محبته، والاحتمال للمكروه من خوفه،
جعل لهم من مضايق البلاء فرجاً، فأبدلهم العز مكان الذل، والأمن مكان الخوف،
فصاروا ملوكاً حكاماً، وأئمةً أعلاماً، وقد بلغت الكرامة من الله لهم، ما لم
تذهب الآمال إليه بهم. والتمحيص:
التطهير والتصفية، والأعباء: الأثقال: واحدها عبء، وأجهد العباد: أتعبهم،
والفراعنة: العتاة، وكل عات فرعون، وساموهم سوء العذاب: ألزموهم إياه، وهذا
إشارة إلى قوله تعالى:"يسومونكم سوء العذاب
يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم"،
والمرار: بضم الميم: شجر مر في الأصل، واستعير شرب المرار لكل من يلقى شديد
المشقة، ورأى الله منهم جد الصبر، أي أشده، وأئمة أعلاماً، أي يهتدى بهم، كالعلم
في الفلاة. البصائر نافذة، يقال: نفذت بصيرتي في هذا الخبر، أي
اجتمع همي عليه، ولم يبق عندي تردد فيه، لعلمي به وتحقيقي إياه. أذل الأمم
داراً، وأجدبهم قراراً، لا يأوون إلى جناح دعوة يعتصمون بها، ولا إلى ظل ألفة
يعتمدون على عزها، فالأحوال مضطربة والأيدي مختلفة، والكثرة متفرقة، في بلاء
أزل، وأطباق جهل، من بنات موءودة، وأصنام معبودة، وأرحام مقطوعة، وغارات مشنونة. ويعلم من فحوى الخطبة أنهم غير مرادين بالكلام،
ولأنه عليه السلام قال:
تركوهم إخوان دبر ووبر، وهؤلاء لم يكونوا من أهل الوبر والدبر، بل من أهل المدر،
لأنهم كانوا ذوي حصون وآطام. والحاصل أن الذين احتازتهم الأكاسرة والقياصرة من
الريف إلى البادية، وصاروا أهل وبر ولد إسماعيل، لا بنو إسحاق وبنو إسرائيل!. والجواب أنه عليه السلام ذكر في هذه الكلمات، وهي قوله:"فاعتبروا بحال ولد إسماعيل وبني إسحاق
وبني إسرائيل المقهورين والقاهرين جميعاً"، أما المقهورون فبنو إسماعيل،
وأما القاهرون فبنو إسحاق وبنو إسرائيل، لأن الأكاسرة من بني إسحاق، ذكر كثير من
أهل العلم أن فارس من ولد إسحاق، والقياصرة من ولد إسحاق أيضاً، لأن الروم بنو
العيص بن إسحاق، وعلى هذا يكون الضمير في"أمرهم"، و"تشتتهم"
و"تفرقهم" يرجع إلى بني إسماعيل خاصة. ويصير تقدير الكلام: فاعتبروا بحال ولد إسماعيل مع بني إسحاق وبني إسرائيل، فجاء
بهم في صدر الكلام على العموم، ثم خصص فقال: الأكاسرة والقياصرة، وهم داخلون في
عموم ولد إسحاق، وإنما لم يخصص عموم بني إسرائيل لأن العرب لم تكن تعرف ملوك ولد
يعقوب، فيذكر لهم أسماء لهم في الخطبة، بخلاف ولد إسحاق فإنهم كانوا يعرفون
ملوكهم من بني ساسان ومن بني الأصفر. وبحر
العراق: دجلة والفرات، أما الأكاسرة فطردوهم عن بحر العراق، وأما القياصرة
فطردوهم عن ريف الآفاق، أي عن الشام وما فيه من المرعى والمنتجع.
نظيره
قائد وقادة، وسائس وساسة. والجدب: المحل. وأطباق
جهل: جمع طبق، أي جهل متراكم بعضه فوق بعض، وغارات مشنونة: متفرقة، وهي أصعب
الغارات.
فوفدت بنو تميم إلى النعمان، واستعطفوه، فرق عليهم، وأعاد عليهم
السبي،
وقال: كل امرأة اختارت أباها ردت إليه، وإن اختارت صاحبها تركت عليه، فكلهن
اخترن آباءهن، إلا ابنة قيس بن عاصم، فإنها
اختارت من سباها، وهو عمرو بن المشمرخ اليشكري، فنذر
قيس بن عاصم المنقري التميمي ألا يولد له بنت إلا وأدها، والوأد أن
يخنقها في التراب ويثقل وجهها به حتى تموت. ثم اقتدى به كثير من
بني تميم، قال سبحانه:"وإذا الموءودة
سئلت. بأي ذنب قتلت"، أي على طريق التبكيت والتوبيخ لمن فعل ذلك أو
أجازه، كما قال سبحانه:"يا عيسى بن مريم أأنت
قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله".
وفي الحديث: أن صعصعة بن ناجية بن عقال لما وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: يا رسول الله، إني كنت أعمل في الجاهلية عملاً صالحاً، فهل ينفعني ذلك
اليوم؟ قال عليه السلام:
وما عملت؟ قال: ضللت ناقتين عشراوين،
فركبت جملاً ومضيت في بغائهما، فرفع لي بيت حريد، فقصدته، فإذا شيخ جالس بفنائه
فسألته عن الناقتين، فقال: ما نارهما ؟ قلت: ميسم بني دارم، قال: هما عندي، وقد
أحيا الله بهما قوماً من أهلك من مضر، فجلست معه ليخرجهما إلي، فإذا عجوز قد
خرجت من كسم البيت، فقال لها: ما وضعت، إن كان سقباً شاركنا في أموالنا، وإن كان
حائلاً وأدناها، فقالت العجوز: وضعت أنثى، فقلت له: أتبيعها؟ قال: وهل تبيع
العرب أولادها! قلت: إنما أشتري حياتها، ولا أشتري رقها، قال: فبكم؟ قلت: احتكم،
قال: بالناقتين والجمل، قلت: ذاك لك على أن يبلغني الجمل وإياها! قال: بعتك،
فاستنقذتها منه بالجمل والناقتين، وآمنت بك يا رسول الله، وقد صارت لي سنة في العرب أن أشتري كل موؤودة بناقتين عشراوين
وجمل، فعندي إلى هذه الغاية ثمانون ومائتا موؤودة قد أنقذتهن، فقال عليه
السلام:"لا ينفعك ذاك لأنك لم تبتغ به وجه
الله، وإن تعمل في إسلامك عملاً صالحاً تثب عليه". وروي:"والتقت
الملة" بالقاف أي اجتمعت بهم، من اللقاء. والرواية
الأولى أصح. وأصبحوا
في نعمتها غرقين، مبالغة في وصف ما هم فيه من النعمة. وروي"فكهين"
أي أشرين وقد قرىء بهما في قوله تعالى:"ونعمة
كانوا فيها فاكهين"، وقال الأصمعي: فاكهين: مازحين، والمفاكهة
الممازحة، ومن أمثالهم:"لا تفاكه أمة، ولا تبل على أكمة"، فأما قوله
تعالى:"فظلتم تفكهون"، فقيل:
تندمون، وقيل: تعجبون. أفعلت
في هذا المعنى وفعلت واحد، عن أبي زيد. والقناة إذا لم تلن في يد الغامز كانت أبعد عن
الحطم والكسر. فلعن
الله السفهاء لركوب المعاصي، والحلماء لترك التناهي. و"في""من قوله"فيما
عقد"متعلقة بمحذوف، وموضعها نصب على الحال، وهذا إشارة إلى قوله
تعالى:"لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت
بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم".
وقال عثمان لأبي ذر: أخشى أن تصير بعد الهجرة أعرابياً. وروي:"ولا يعقلون من الإيمان". وهذا الخبر من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم ومن أخباره المفصلة بالغيوب. واعترض المرتضى رحمه الله على هذا الاحتجاج
في"الشافي" فقال: من أين قلت: إن الآية نزلت في أبي بكر
وأصحابه؟ فإن قال: لأنهم الذين قاتلوا المرتدين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أحد
قاتلهم سواهم، قيل له: ومن الذي سلم لك ذلك؟ أو ليس أمير المؤمنين عليه السلام قد قاتل الناكثين والقاسطين والمارقين بعد الرسول صلى
الله عليه وسلم وهؤلاء عندنا مرتدون عن
الدين؟ ويشهد بصحة التأويل زائداً على احتمال القول له، ما روي عن أمير المؤمنين عليه
السلام
من
قوله يوم البصرة: والله ما قوتل أهل الآية حتى اليوم،
وتلاها، وقد روي عن عمار وحذيفة وغيرهما مثل ذلك. وقد كان له أيضاً أن يقول:
لم قلت: إن الذين قاتلهم أبو بكر وأصحابه كانوا مرتدين! فإن المرتد من ينكر دين الإسلام بعد أن كان قد تدين به، والذين منعوا
الزكاة لم ينكروا أصل دين الإسلام، وإنما تأولوا فأخطأوا، لأنهم تأولوا قول الله
تعالى:"خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن
لهم"، فقالوا: إنما ندفع زكاة أموالنا إلى
من صلاته سكن لنا، ولم يبق بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم من
هو بهذه الصفة، فسقط عنا وجوب الزكاة، ليس هذا
من الردة في شيء، وإنما سماهم الصحابة أهل الردة على سبيل المجاز، إعظاماً لما قالوه وتأولوه. وأما
المعنى فلأن في مذهبهم أن من ارتد-
وكان قد ولد على فطرة الإسلام- بانت امرأته
منه، وقسم ماله بين ورثته، وكان على زوجته عدة المتوفى عنها زوجها، ومعلوم أن أكثر محاربي أمير المؤمنين عليه السلام كانوا
قد ولدوا في الإسلام، ولم يحكم فيهم بهذه الأحكام.
وقوله:"إن الصفات غير متحققة في
صاحبكم"، فلعمري إن حظ أمير المؤمنين عليه السلام منها هو الحظ الأوفى، ولكن الآية
ما خصت الرئيس بالصفات المذكورة، وإنما أطلقها على المجاهدين، وهم الذين يباشرون
الحرب، فهب أن أبا بكر وعمر ما كانا بهذه الصفات،
لم لا يجوز أن يكون مدحاً لمن جاهد بين أيديهما من
المسلمين، وباشر الحرب، وهم شجعان المهاجرين والأنصار الذين فتحوا
الفتوح، ونشروا الدعوة، وملكوا الأقاليم!. وقد استدل قاضي القضاة أيضاً على صحة
إمامة أبي بكر،- وأسند هذا الاستدلال إلى شيخنا أبي علي- بقوله تعالى:"سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا
فاستغفر لنا يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم". وقال تعالى:"فان
رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا
معي عدواً إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين"، وقال تعالى:"سيقول
المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام
الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل"، يعني قوله تعالى:"لن
تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدواً". ثم قال سبحانه:"قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس
شديد تقاتلونهم أو يسلمون. فإن تطيعوا يؤتكم الله أجراً حسناً وإن تتولوا كما
توليتم من قبل يعذبكم عذاباً أليماً"، فبين
أن الذي يدعو هؤلاء المخلفين من الأعراب إلى قتال قوم أولي بأس شديد غير النبي صلى
الله عليه وسلم، لأنه تعالى قد بين أنهم لا
يخرجون معه، ولا يقاتلون معه عدواً، بآية متقدمة، ولم يدعهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلى قتال الكفار إلا أبو بكر وعمر وعثمان،
لأن أهل التأويل لم يقولوا في هذه الآية غير وجهين من
التأويل، فقال بعضهم: عنى بقوله:"ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد"، بني
حنيفة، وقال بعضهم: عنى فارس والروم، وأبو بكر هو الذي دعا إلى قتال بني حنيفة وقتال آل
فارس والروم، ودعاهم بعده إلى قتال فارس والروم عمر، فإذا كان الله تعالى قد بين
أنهم بطاعتهم لهما يؤتهم أجراً حسناً، وإن تولوا عن طاعتهما يعذبهم عذاباً
أليماً، صح أنهما على
حق، وأن طاعتهما طاعة لله تعالى، وهذا يوجب صحة إمامتهما. والوجه
الثاني أنا لا نعرف من الذين عناهم الله تعالى بهذا من
بقي إلى أيام أمير المؤمنين عليه السلام، كما علمنا أنهم كانوا باقين في أيام
أبي بكر. وليس يجب أن يقال في القرآن بالإرادة، وبما يحتمل
من الوجوه في كل موضع دون الرجوع إلى تاريخ نزول الآي، والأسباب التي وردت
عليها، وتعلقت بها. وبشره النبي صلى الله عليه
وسلم
بأنه
يقاتلهم، وقد كانوا أولي بأس شديد بلا شبهة. ثم إن مذهبنا في محاربي أمير
المؤمنين عليه السلام معروف، لأنهم
عندنا كانوا كفاراً بمحاربته لوجوه: الأول منها: أن من حاربه كان مستحلاً لقتاله، مظهراً
أنه في ارتكابه على حق، ونحن نعلم أن من أظهر استحلال شرب جرعة خمر هو كافر
بالإجماع، واستحلال دماء المؤمنين فضلاً عن أفاضلهم وأكابرهم أعظم من شرب الخمر
واستحلاله، فيجب أن يكونوا من هذا الوجه كفاراً. قلنا: أحكام الكفر تختلف، وإن شملهم اسم"الكفر"، لأن في الكفار من يقتل ولا يستبقى،
وفيهم من يؤخذ منه الجزية ولا يحل قتله إلا بسبب طارىء غير الكفر، ومنهم من لا
يجوز نكاحه على مذهب أكثر المسلمين، فعلى هذا يجوز أن
يكون أكثر هؤلاء القوم كفاراً، وإن لم يسر فيهم بجميع سيرة أهل الكفر،
لأنا قد بينا اختلاف أحكام الكفار، ويرجع في أن حكمهم مخالف لأحكام الكفار إلى
فعله عليه السلام وسيرته فيهم. على أنا لا نجد في
الفساق من حكمه أن يقتل مقبلاً، ولا يقتل
مولياً، ولا يجهز على جريحه، إلى غير ذلك
من الأحكام التي سيرها في أهل البصرة وصفين. ويمكن أيضاً أن يكون قوله تعالى:"ستدعون"، إنما أراد به دعاء الله
تعالى لهم بإيجاب القتال عليهم، لأنه إذا دلهم على وجوب قتال المرتدين، ورفعهم
عن بيضة الإسلام، فقد دعاهم إلى القتال، ووجبت عليهم الطاعة، ووجب لهم الثواب إن
أطاعوا، وهذا أيضاً تحتمله الآية. قيل لك: وكذلك خروجهم
مع أسامة ومحاربة العدو معه، وإن شابه الخروج مع النبي ومحاربة العدو معه، إلا
أنه على الحقيقة ليس معه، وإنما هو مع بعض أمرائه. وقد علمتم موضعي من رسول الله صلى الله عليه وآله،
بالقرابة القريبة، والمنزلة الخصيصة، وضعني في حجره، وأنا وليد يضمني إلى صدره،
ويكنفني في فراشه، ويمسني جسده، ويشمني عرفه، وكان يمضغ الشيء ثم يلقمنيه، وما
وجد لي كذبةً في قول، ولا خطلةً في فعل. والكلاكل: الصدور، الواحد كلكل، والمعنى أني
أذللتهم وصرعتهم إلى الأرض. ونواجم قرون ربيعة ومضر: من نجم منهم وظهر، وعلا
قدره، وطار صيته. ونحن
نذكر ما ذكره أرباب السير من معاني هذا الفصل. روى الطبري في تاريخه، قال: حدثنا ابن
حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق قال: حدثني عبد الله بن نجيح،
عن مجاهد، قال: كان من نعمة الله عز وجل على علي ابن
أبي طالب عليه السلام، وما صنع الله له،
وأراده به من الخير، أن قريشاً أصابتهم أزمة شديدة، وكان أبو طالب ذا عيال كثير،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس-
وكان من أيسر بني هاشم: يا عباس، إن أخاك أبا طالب كثير العيال، وقد ترى ما أصاب
الناس من هذه الأزمة، فانطلق بنا، فلنخفف عنه من عياله، آخذ من بيته واحداً،
وتأخذ واحداً، فنكفيهما عنه. فقال العباس: نعم، فانطلقا حتى أتيا أبا طالب،
فقالا له: إنا نريد أن نخفف عنك من عيالك حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه، فقال
لهما: إن تركتما لي عقيلاً فاصنعا ما شئتما. فأخذ رسول الله صلى
الله عليه وسلم علياً فضمه إليه،
وأخذ العباس جعفراً رضي الله عنه،
فضمه إليه، فلم يزل علي بن أبي طالب عليه السلام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بعثه الله نبياً، فاتبعه
علي عليه السلام، فأقر به وصدقه، ولم يزل جعفر عند العباس حتى أسلم واستغنى عنه. وروى سعيد بن جبير، قال:
سألت أنس بن مالك، فقلت: أرأيت قول عمر عن الستة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات
وهو عنهم راض؟ ألم يكن راضياً عن غيرهم من أصحابه؟ فقال: بلى، مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو
راض عن كثير من المسلمين، ولكن كان عن هؤلاء أكثر رضا، فقلت له: فأي الصحابة كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم له
أحمد؟ أو كما قال- قال: ما فيهم أحد إلا وقد سخط منه فعلاً، وأنكر عليه أمراً، إلا اثنان: علي ابن أبي طالب
وأبو بكر بن أبي قحافة، فإنهما لم يقترفا منذ أتى الله بالإسلام أمراً أسخطا فيه
رسول الله صلى الله عليه وسلم. فخرجت على
أتاني تلك، ولقد أراثت بالركب ضعفاً وعجفاً، حتى شق ذلك عليهم، حتى قدمنا مكة
نلتمس الرضاع فما منا امرأة إلا وقد عرض عليها محمد صلى الله عليه وسلم فتأباه
إذا قيل لها إنه يتيم، وذلك أنا إنما كنا نرجو المعروف من أبي الصبي، فكنا نقول:
يتيم، ما عسى أن تصنع أمه وجده! فكنا نكرهه لذلك، فما بقيت امرأة ذهبت معي إلا
أخذت رضيعاً غيري، فلما اجتمعنا للإنطلاق قلت لصاحبي: والله إني لأكره أن أرجع
من بين صواحبي لم آخذ رضيعاً، والله لأذهبن إلى ذلك اليتيم فلآخذنه، قال: لا
عليك أن تفعلي! وعسى الله أن يجعل لنا فيه بركة، فذهبت إليه فأخذته، وما يحملني
على أخذه إلا أني لم أجد غيره. قالت: فلما أخذته رجعت إلى رجلي، فلما وضعته في
حجري أقبل عليه ثدياي بما شاء من لبن، فرضع حتى روي وشرب معه أخوه حتى روي، وما
كنا ننام قبل ذلك من بكاء صبينا جوعاً، فنام، وقام زوجي إلى شارفنا تلك فنظر
إليها فإذا أنها حافل، فحلب منها ما شرب وشربت حتى انتهينا رياً وشبعاً، فبتنا
بخير ليلة، قالت: يقول صاحبي حين أصبحنا: أتعلمين والله يا حليمة لقد أخذت نسمة
مباركة، فقلت: والله إني لأرجو ذلك، ثم خرجنا وركبت أتاني تلك، وحملته معي
عليها، فوالله لقطعت بالركب ما يقدر عليها شيء من حميرهم حتى إن صواحبي ليقلن
لي: ويحك يا بنت أبي ذؤيب! اربعي علينا، أليس هذه أتانك التي كنت خرجت عليها!
فأقول لهن: بلى والله، إنها لهي، فيقلن: والله إن لها لشأناً. فرجعنا به إلى بلاد بني سعد، فوالله إنه لبعد ما
قدمنا بأشهر مع أخيه في بهم لنا خلف بيوتنا، إذ أتانا أخوه يشتد، فقال لي
ولأبيه: ها هو ذاك أخي القرشي، قد جاءه رجلان عليهما ثياب بياض، فأضجعاه وشقا
بطنه، فهما يسوطانه. قالت:
فخرجت أنا وأبوه نشتد نحوه، فوجدناه قائماً ممتقعاً وجهه، فالتزمته والتزمه
أبوه، وقلنا: مالك يا بني! قال: جاءني رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعاني ثم شقا
بطني، فالتمسا فيه شيئاً لا أدري ما هو!. فلما رأى الصبيان أن القوم لا يحيرون لهم جواباً،
انطلقوا هراباً مسرعين إلى الحي يؤذنونهم ويستصرخونهم على القوم، فعمد أحدهم،
فأضجعني إضجاعاً لطيفاً، ثم شق ما بين مفرق صدري إلى منتهى عانتي، وأنا أنظر
إليه فلم أجد لذلك حساً، ثم أخرج بطني فغسلها بذلك الثلج، فأنعم غسلها، ثم
أعادها مكانها، ثم قام الثاني منهم، فقال لصاحبه: تنح، فنحاه عني، ثم أدخل يده
في جوفي، وأخرج قلبي، وأنا أنظر إليه، فصدعه ثم أخرج منه مضغة سوداء فرماها، ثم
قال بيده: يمنةً منه وكأنه يتناول شيئاً، فإذا في يده خاتم من نور، تحار أبصار
الناظرين دونه، فختم به قلبي، ثم أعاده مكانه فوجدت برد ذلك الخاتم في قلبي
دهراً، ثم قال الثالث لصاحبه: تنح عنه، فأمر يده ما بين مفرق صدري إلى منتهى
عانتي، فالتأم ذلك الشق، ثم أخذ بيدي فأنهضني من مكاني إنهاضاً لطيفاً، وقال
للأول الذي شق بطني: زنه بعشرة من أمته، فوزنني بهم فرجحتهم، فقال: دعوه، فلو
وزنتموه بأمته كلها لرجحهم، ثم ضموني إلى صدرهم، وقبلوا رأسي وما بين عيني،
وقالوا يا حبيب الله، لا ترع، إنك لو تدري ما يراد بك من الخير لقرت عيناك!
فبينا أنا كذلك إذا أنا بالحي قد جاؤوا بحذافيرهم، وإذا أمي- وهي ظئري - أمام
الحي تهتف بأعلى صوتها، وتقول: يا ضعيفاه! فانكب علي أولئك الرهط فقبلوا رأسي
وما بين عيني، وقالوا: حبذا أنت من ضعيف! ثم قالت ظئري: يا وحيداه! فانكبوا علي،
وضموني إلى صدورهم، وقبلوا رأسي وما بين عيني، ثم قالوا: حبذا أنت من وحيد! وما
أنت بوحيد! إن الله وملائكته معك والمؤمنين من أهل الأرض، ثم قالت ظئري: يا يتيماه!
استضعفت من بين أصحابك، فقتلت لضعفك، فانكبوا علي وضموني إلى صدورهم، وقبلوا
رأسي وما بين عيني، وقالوا: حبذا أنت من يتيم! ما أكرمك على الله لو تعلم ما
يراد بك من الخير! قال: فوصل الحي إلى شفير الوادي، فلما بصرت بي أمي-
وهي ظئري- نادت: يا بني، ألا أراك حياً بعد! فجاءت حتى انكبت علي، وضمتني إلى
صدرها، فوالذي نفسي بيده، إني لفي حجرها قد ضمتني إليها، وإن يدي لفي يد بعضهم،
فجعلت ألتفت إليهم، وظننت أن القوم يبصرونهم، فإذا هم لا يبصرونهم، فيقول بعض
القوم: إن هذا الغلام قد أصابه لمم، أو طائف من الجن، فانطلقوا به إلى كاهن بني
فلان، حتى ينظر إليه ويداويه، فقلت: ما بي شيء مما يذكرون، نفسي سليمة، وإن
فؤادي صحيح، ليست بي قلبة. فقال أبي- وهو زوج ظئري-: ألا ترون كلامه صحيحاً!
إني لأرجو ألا يكون على ابني بأس. فاتفق القوم على أن يذهبوا إلى الكاهن بي،
فاحتملوني حتى ذهبوا بي إليه، فقصوا عليه قصتي، فقال: اسكتوا حتى أسمع من
الغلام، فهو أعلم بأمره منكم، فسألني فقصصت عليه أمري، وأنا يومئذ ابن خمس سنين،
فلما سمع قولي وثب وقال: يا للعرب! اقتلوا هذا الغلام فهو واللات والعزى لئن عاش
ليبدلن دينكم، وليخالفن أمركم، وليأتينكم بما لم تسمعوا به قط، فانتزعتني ظئري
من حجره، وقالت: لو علمت أن هذا يكون من قولك ما أتيتك به، ثم احتملوني فأصبحت
وقد صار في جسدي أثر الشق، ما بين صدري إلى منتهى عانتي كأنه الشراك. فقال عليه السلام: يوكل الله تعالى بأنبيائه
ملائكة يحصون أعمالهم، ويؤدون إليه تبليغهم الرسالة، ووكل بمحمد صلى الله عليه
وسلم ملكاً عظيماً منذ فصل عن الرضاع يرشده إلى الخيرات ومكارم الأخلاق، ويصده عن
الشر ومساوىء الأخلاق، وهو الذي كان يناديه: السلام عليك يا محمد يا رسول الله
وهو شاب لم يبلغ درجة الرسالة بعد، فيظن أن ذلك من الحجر والأرض، فيتأمل فلا يرى
شيئاً. وروى الطبري في"التاريخ" عن
محمد بن الحنفية، عن أبيه علي عليه السلام، قال: سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول:"ما هممت بشيء مما كان أهل الجاهلية يعملون به غير مر
تين، كل ذلك يحول الله تعالى بيني وبين ما أريد من ذلك، ثم ما هممت بسوء
حتى أكرمني الله برسالته، قلت ليلة لغلام من قريش كان يرعى معي بأعلى مكة: لو
أبصرت لي غنمي حتى أدخل مكة، فأسمر بها كما يسمر الشباب، فخرجت أريد ذلك، حتى
إذا جئت أول دار من دور مكة، سمعت عزفاً بالدف والمزامير، فقلت: ما هذا؟ قالوا:
هذا فلان تزوج ابنة فلان، فجلست أنظر إليهم، فضرب الله على أذني فنمت، فما
أيقظني إلا مس الشمس، فرجعت إلى صاحبي، فقال: ما فعلت؟ فقلت: ما صنعت شيئاً، ثم
أخبرته الخبر، ثم قلت له ليلة أخرى مثل ذلك، فقال: أفعل، فخرجت فسمعت حين دخلت
مكة مثل ما سمعت حين دخلتها تلك الليلة، فجلست أنظر، فضرب الله على أذني، فما
أيقظني إلا مس الشمس، فرجعت إلى صاحبي، فأخبرته الخبر، ثم ما هممت بعدها بسوء،
حتى أكرمني الله برسالته. ثم التفت إليه، فقال: استمع يا عدو الله، أما والله
لأفرغن لك. وأما خبر الوزارة، فقد ذكره الطبري في
تاريخه، عن عبد الله بن عباس عن علي بن أبي طالب عليه السلام،
قال لما أنزلت هذه الآية:"وأنذر عشيرتك
الأقربين"، على رسول الله صلى
الله عليه وسلم دعاني، فقال:
يا علي، إن الله أمرني أن أنذر عشيرتك الأقربين، فضقت بذلك ذرعاً، وعلمت أني متى
أنادهم بهذا الأمر أر منهم ما أكره، فصمت حتى جاءني جبرائيل عليه السلام، فقال:
يا محمد، إنك إن لم تفعل ما أمرت به يعذبك ربك، فاصنع لنا صاعاً من طعام، واجعل
عليه رجل شاة، واملأ لنا عساً من لبن، ثم اجمع بني عبد المطلب حتى أكلمهم،
وأبلغهم ما أمرت به. ففعلت ما أمرني به، ثم دعوتهم وهم يومئذ أربعون رجلاً،
يزيدون رجلاً أو ينقصونه، وفيهم أعمامه: أبو طالب، وحمزة، والعباس، وأبو لهب،
فلما اجتمعوا إليه دعا بالطعام الذي صنعت لهم، فجئت به، فلما وضعته تناول رسول
الله صلى الله عليه وسلم بضعة
من اللحم فشقها بأسنانه، ثم ألقاها في نواحي الصحفة، ثم قال: كلوا باسم الله،
فأكلوا حتى ما لهم إلى شيء من حاجة، وأيم الله الذي نفس علي بيده، إن كان الرجل
الواحد منهم ليأكل ما قدمته لجميعهم، ثم قال: اسق القوم يا علي، فجئتهم بذلك
العس فشربوا منه، حتى رووا جميعاً، وأيم الله إن كان الرجل منهم ليشرب مثله، فلما
أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكلمهم بدره أبو لهب إلى الكلام، فقال:
لشد ما سحركم صاحبكم! فتفرق القوم، ولم يكلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال من
الغد: يا علي، إن هذا الرجل قد سبقني إلى ما سمعت من القول، فتفرق القوم قبل أن
أكلمهم، فعد لنا اليوم إلى مثل ما صنعت بالأمس، ثم اجمعهم لي. ففعلت ثم جمعتهم، ثم دعاني بالطعام، فقربته لهم،
ففعل كما فعل بالأمس، فأكلوا حتى ما لهم بشيء حاجة، ثم قال: اسقهم، فجئتهم بذلك
العس، فشربوا منه جميعاً، حتى رووا، ثم تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا بني عبد المطلب، إني والله ما أعلم
أن شاباً في العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به، إني قد جئتكم بخير الدنيا
والآخرة، وقد أمرني الله أن أدعوكم إليه، فأيكم يؤازرني على هذا الأمر، على أن
يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم؟ فأحجم القوم عنه جميعاً، وقلت أنا- وإني لأحدثهم
سناً وأرمصهم عيناً، وأعظمهم بطناً، وأحمشهم ساقاً: أنا يا رسول الله أكون وزيرك
عليه، فأعاد القول، فأمسكوا وأعدت ما قلت، فأخذ برقبتي، ثم قال لهم: هذا أخي
ووصيي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا. فقام القوم يضحكون، ويقولون لأبي طالب:
قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع. فقال صلى
الله عليه وآله: وما تسألون؟
قالوا: تدعو لنا هذه الشجرة، حتى تنقلع، بعروقها، وتقف بين يديك. فقال صلى الله عليه وآله: إن
الله على كل شيء قدير، فإن فعل الله لكم ذلك، أتؤمنون وتشهدون بالحق! قالوا:
نعم، قال: فإني سأريكم ما تطلبون، وإني لأعلم أنكم لا تفيئون إلى خير، وأن فيكم
من يطرح في القليب، ومن يحزب الأحزاب. ثم قال صلى الله عليه وآله:
يا أيتها الشجرة، إن كنت تؤمنين بالله واليوم الآخر، وتعلمين أني رسول الله،
فانقلعي بعروقك حتى تقفي بين يدي بإذن الله، والذي بعثه بالحق لانقلعت بعروقها،
وجاءت ولها دوي شديد، وقصف كقصف أجنحة الطير، حتى وقفت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله مرفرفة، وألقت بغصنها الأعلى
على رسول الله صلى الله عليه وآله وببعض
أغصانها على منكبى، وكنت عن يمينه صلى
الله عليه وآله، فلما نظر
القوم إلى ذلك، قالوا علوا واستكبارا، فمرها فليأتك نصفها، ويبقى نصفها، فأمرها
فأقبل إليه نصفها كأعجب إقبال وأشده دوياً، فكادت تلتف برسول الله صلى الله عليه وآله، فقالوا
كفراً وعتواً: فمر هذا النصف فليرجع إلى نصفه كما كان، فأمره صلى الله عليه وآله فرجع،
فقلت أنا: لا إله إلا الله، إني أول مؤمن بك يا رسول الله، وأول من أقر بأن
الشجرة فعلت ما فعلت بأمر الله تعالى تصديقاً بنبوتك، وإجلالاً لكلمتك. فقال
القوم كلهم: بل ساحر كذاب، عجيب السحر خفيف فيه؟ وهل يصدقك في أمرك إلا مثل هذا!
يعنونني- وإني لمن قوم لا تأخذهم في الله لومة لائم، سيماهم سيما الصديقين،
وكلامهم كلام الأبرار، عمار الليل، ومنار النهار، متمسكون بحبل القرآن، يحيون
سنن الله وسنن رسوله، لا يستكبرون ولا يعلون، ولا يغلون ولا يفسدون، قلوبهم في
الجنان، وأجسادهم في العمل. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
في إسلام أبي بكر وعلي عليه السلام
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وينبغي أن نذكر في
هذا الموضع ملخص ما ذكره الشيخ أبو عثمان الجاحظ في كتابه المعروف
بكتاب"العثمانية" في تفضيل إسلام أبي بكر على إسلام علي عليه السلام،
لأن هذا الموضع يقتضيه، لقوله عليه السلام
حكاية عن قريش لما صدق رسول الله صلى الله عليه
وسلم: وهل يصدقك في أمرك إلا مثل هذا لأنهم استصغروا سنه، فاستحقروا أمر
محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث لم
يصدقه في دعواه إلا غلام صغير السن، وشبهة
العثمانية التي قررها الجاحظ من هذه الشبهة نشأت، ومن هذه الكلمة تفرعت، لأن
خلاصتها أن أبا بكر أسلم وهو ابن أربعين سنة، وعلي أسلم ولم يبلغ الحلم، فكان
إسلام أبي بكر أفضل.
وقال أبومحجن:
وقال كعب بن مالك:
وروى
ابن أبي شيبة، عن عبد الله بن إدريس ووكيع، عن شعبة، عن عمرو بن مرة،
قال: قال النخعي: أبو بكر أول من أسلم. وروى عمرو بن إبراهيم
الهاشمي، عن عبد الملك بن عمير، عن أسيد بن صفوان، صاحب النبي صلى الله عليه
وسلم قال: لما قبض أبو بكر جاء علي بن أبي طالب عليه السلام، فقال: رحمك الله
أبا بكر! كنت أول الناس إسلاماً. ثم رأينا جميع
المختلفين قد حاولوا نقض فضائله، ووجهوا الحيل والتأويلات نحوها، من خارجي مارق،
وناصب حنق، وثابت مستبهم، وناشىء معاند، ومنافق مكذب، وعثماني حسود، يعترض فيها
ويطعن، ومعتزلي قد نقض في الكلام، وأبصر علم الاختلاف، وعرف الشبه ومواضع الطعن
وضروب التأويل، قد التمس الحيل في إبطال مناقبه وتأول مشهور فضائله، فمرة
يتأولها بما لا يحتمل، ومرة يقصد أن يضع من قدرها بقياس منتقض، ولا يزداد مع ذلك
إلا قوة ورفعة، ووضوحاً واستنارةً، وقد علمت أن معاوية ويزيد ومن كان بعدهما من
بني مروان أيام ملكهم- وذلك نحو ثمانين سنة-
لم يدعوا جهداً في حمل الناس على شتمه ولعنه وإخفاء فضائله، وستر مناقبه
وسوابقه. روى محمد بن سعيد
الأصفهاني، عن شريك، عن محمد بن إسحاق، عن عمرو بن علي بن الحسين، عن أبيه علي
بن الحسين عليهما السلام، قال: قال لي
مروان: ما كان في القوم أدفع عن صاحبنا من صاحبكم. قلت: فما بالكم تسبونه على
المنابر؟ قال: إنه لا يستقيم لنا الأمر إلا بذلك. وروى
أبو غسان أيضاً، قال: قال عمر بن عبد العزيز:
كان أبي يخطب فلا يزال مستمراً في خطبته، حتى إذا صار إلى ذكر علي وسبه تقطع
لسانه، واصفر وجهه، وتغيرت حاله، فقلت له في ذلك، فقال: أو قد فطنت لذلك؟ إن
هؤلاء لو يعلمون من علي ما يعلمه أبوك ما تبعنا منهم رجل. قال أبو جعفر: وقد
تعلمون أن بعض الملوك ربما أحدثوا قولاً، أو ديناً لهوى فيحملون الناس على ذلك؟
حتى لا يعرفوا غيره، كنحو ما أخذ الناس الحجاج بن يوسف بقراءة عثمان، وترك قراءة
ابن مسعود وأبي بن كعب، وتوعد على ذلك بدون ما صنع هو وجبابرة بني أمية وطغاة
مروان بولد علي عليه السلام وشيعته، وإنما
كان سلطانه نحو عشرين سنة، فما مات الحجاج حتى اجتمع أهل العراق على قراءة
عثمان، ونشأ أبناؤهم ولا يعرفون غيرها، لإمساك الآباء عنها، وكف المعلمين عن
تعليمها، حتى لو قرأت عليهم قراءة عبد الله وأبي ما عرفوها، ولظنوا بتأليفها
الاستكراه والاستهجان، لإلف العادة وطول الجهالة، لأنه إذا استولت على الرعية
الغلبة، وطالت عليهم أيام التسلط، وشاعت فيهم المخافة، وشملتهم التقية، اتفقوا
على التخاذل والتساكت، فلا تزال الأيام تأخذ من بصائرهم، وتنقص من ضمائرهم،
وتنقض من مرائرهم، حتى تصير البدعة التي أحدثوها غامرة للسنة التي كانوا
يعرفونها، ولقد كان الحجاج ومن ولاه، كعبد الملك والوليد ومن كان قبلهما وبعدهما
من فراعنة بني أمية على إخفاء محاسن علي عليه
السلام وفضائله وفضائل ولده وشيعته، وإسقاط أقدارهم، أحرص منهم على إسقاط
قراءة عبد الله وأبي؟ لأن تلك القراءات لا تكون سبباً لزوال ملكهم، وفساد أمرهم،
وانكشاف حالهم، وفي اشتهار فضل علي عليه السلام
وولده وإظهار محاسنهم بوارهم، وتسليط حكم الكتاب المنبوذ عليهم، فحرصوا واجتهدوا
في إخفاء فضائله، وحملوا الناس على كتمانها وسترها، وأبى الله أن يزيد أمره وأمر
ولده إلا استنارة وإشراقاً، وحبهم إلا شغفاً وشدة، وذكرهم إلا انتشاراً وعزة،
وحجتهم إلا وضوحاً وقوة، وفضلهم إلا ظهوراً، وشأنهم إلا علواً، وأقدارهم إلا
إعظاماً، حتى أصبحوا بإهانتهم إياهم أعزاء، وبإماتتهم ذكرهم أحياء، وما أرادوا
به وبهم من الشر تحول خيراً، فانتهى إلينا من ذكر فضائله وخصائصه ومزاياه
وسوابقه ما لم يتقدمه السابقون، ولا ساواه فيه القاصدون، ولا يلحقه الطالبون،
ولولا أنها كانت كالقبلة المنصوبة في الشهرة، وكالسنن المحفوظة في الكثرة، لم
يصل إلينا منها في دهرنا حرف واحد، إذا كان الأمر كما وصفناه. فهذا
قول ابن عباس في سبق علي عليه السلام إلى الإسلام، وهو أثبت من حديث الشعبي
وأشهر، على أنه قد روي عن الشعبي خلاف ذلك
من حديث أبي بكر الهذلي وداود بن أبي هند عن الشعبي، قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم لعلي عليه السلام:"هذا أول من آمن بي وصدقني وصلى
معي". وقد روى هذا الخبر
يحيى بن عبد الحميد وعبد السلام بن صالح، عن قيسر بن الربيع، عن أبي أيوب
الأنصاري، بألفاظه أو نحوها. رواه أبو داود
الطيالسي، عن شعبة، عن سفيان الثوري، عن سلمة بن كهيل، عن حبة بن جوين. وروى
ياسين بن محمد بن أيمن، عن أبي حازم، مولى ابن عباس، عن ابن عباس، قال:
سمعت عمر بن الخطاب وهو يقول: كفوا عن علي بن أبي طالب؟ فإني سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيه خصالاً، لو أن خصلة
منها في جميع آل الخطاب، كان أحب لي مما طلعت عليه الشمس، كنت ذات يوم وأبو بكر
وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة مع نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نطلبه، فانتهينا إلى باب أم
سلمة، فوجدنا علياً متكئاً على نجاف الباب؟ فقلنا: أردنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هو في البيت، رويدكم!
فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فسرنا
حوله، فاتكأ على علي عليه السلام، وضرب بيد
على منكبه، فقال:"أبشر يا علي بن أبي طالب، إنك مخاصم، وإنك تخصم الناس
بسبع لا يجاريك أحد في واحدة منهن، أنت أول الناس إسلاماً، وأعلمهم بأيام الله.."
وذكر الحديث.
وقال خزيمة بن ثابت
في هذا:
وقال أبو سفيان بن
حرب بن أمية بن عبد شمس، حين بويع أبو بكر:
وقال أبو الأسود
الدؤلي يهدد طلحة والزبير:
وقال سعيد بن قيس
الهمداني يرتجز بصفين:
وقال زفر بن يزيد بن
حذيفة الأسدي:
قال: والأشعار
كالأخبار، إذا امتنع في مجيء القبيلين التواطؤ والاتفاق، كان ورودهما حجة. قال أبو جعفر: ويقال
لهم: لسنا نحتاج من ذكر سبق علي عليه السلام إلا مجامعتكم إيانا على أنه أسلم
قبل الناس، ودعواكم أنه أسلم وهو طفل دعوى غير مقبولة إلا بحجة. وقال
لفاطمة:"زوجتك أقدمهم سلماً- أو قال: إسلاماً-" فإن قالوا: إنما دعاه
النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام على
جهة العرض لا التكليف. ومن
العجب قول
العباس لعفيف بن قيس: ننتظر الشيخ وما يصنع! فإذا كان العباس وحمزة
ينتظران أبا طالب، ويصدران عن رأيه، فكيف يخالفه ابنه، ويؤثر القلة على الكثرة،
ويفارق المحبوب إلى المكروه، والعز إلى الذل، والأمن إلى الخوف، عن غير معرفة
ولا علم بما فيه!. القسم الأول: الذين
قالوا: أسلم وهو ابن خمس عشرة سنة، حدثنا بذلك أحمد بن سعيد الأسدي، عن إسحاق بن
بشر القرشي، عن الأوزاعي، عن حمزة بن حبيب، عن شداد بن أوس،. قال: سألت خباب بن الأرت عن إسلام علي، فقال: أسلم
وهو ابن خمس عشرة سنة، ولقد رأيته يصلي قبل الناس مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يومئذ بالغ مستحكم البلوغ.
وروى عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة، عن الحسن، أن أول من أسلم علي بن أبي طالب،
وهو ابن خمس عشرة سنة. القسم الرابع: الذين
قالوا: إنه أسلم وهو ابن عشر سنين. رواه نوح بن دراج، عن
محمد بن إسحاق، قال: أول ذكر آمن وصدق بالنبؤة علي بن أبي طالب عليه السلام، وهو
ابن عشر سنين، ثم أسلم زيد بن حارثة، ثم أسلم أبو بكر وهو ابن ست وثلاثين سنة فيما
بلغنا. فإن هذا تحكم منه،
ويلزمه مثله في رجل ادعى قبل رجل عشرة دراهم، فأنكر ذلك وقال: إنما يستحق قبلي
أربعة دراهم، فينبغي أن نأخذ الأمر المتوسط ويلزمه سبعة دراهم، ويلزمه في أبي
بكر حيث قال قوم: كان كافراً، وقال قوم: كان إماماً عادلاً أن نقول: أعدل
الأقاويل أوسطها وهو منزلة بين المنزلتين، فنقول: كان فاسقاً ظالماً، وكذلك في
جميع الأمور المختلف فيها. وقيل
ابن ثلاث وستين، وقيل: ابن ستين، وقيل ابن تسع وخمسين. فأما
عند التحقيق، فإنه لا تجويز لمثل
ذلك، لأنه لو كان أسلم، وهو ابن سبع أو ثمان وعرف فضل ما بين الأنبياء والكهنة،
وفرق ما بين الرسل والسحرة، وفرق ما بين خبر النبي والمنجم، وحتى عرف كيد
الأريب، وموضع الحجة، وبعد غور المتنبىء، كيف يلبس على العقلاء، وتستمال عقول
الدهماء، وعرف الممكن في الطبع من الممتنع، وما يحدث بالاتفاق مما يحدث
بالأسباب، وعرف قدر القوى وغاية الحيلة ومنتهى التمويه والخديعة، وما لا يحتمل
أن يحدثه إلا الخالق سبحانه، وما يجوز على الله في حكمته مما لا يجوز، وكيف
التحفظ من الهوى والاحتراس من الخداع، لكان كونه على هذه الحال وهذه مع فرط
الصبا والحداثة وقلة التجارب والممارسة خروجاً من العادة. ومن المعروف مما عليه
تركيب هذه الخلقة، وليس يصل أحد إلى معرفة نبي وكذب متنبىء، حتى يجتمع فيه هذه
المعارف التي ذكرناها، والأسباب التي وصفناها وفصلناها، ولو كان علي عليه السلام
على هذه الصفة ومعه هذه الخاصية لكان حجة على العامة، وآية تدل على النبوة، ولم يكن
الله عز وجل ليخصه بمثل هذه الأعجوبة إلا وهو يريد أن يحتج بها، ويجعلها قاطعة
لعذر الشاهد وحجة على الغائب. ولولا أن الله أخبر عن يحيى بن زكريا أنه آتاه
الحكم صبياً، وأنه أنطق عيسى في المهد ما كانا في الحكم ولا في المغيب، إلا
كسائر الرسل، وما عليه جميع البشر. فإذا لم ينطق لعلي عليه السلام بذلك قرآن، ولا
جاء الخبر به مجيء الحجة القاطعة والمشاهدة القائمة، فالمعلوم عندنا في الحكم أن
طباعه كطباع عميه حمزة والعباس، وهما أمس بمعدن جماع الخير منه، أو كطباع جعفر
وعقيل من رجال قومه، وسادة رهطه. ولو أن إنساناً ادعى مثل ذلك لأخيه جعفر أو
لعميه حمزة والعباس، ما كان عندنا في أمره إلا مثل ما عندنا فيه. فأما
توهمه أن علياً عليه السلام أسلم عن تربية الحاضن، وتلقين القيم، ورياضة السائس،
فلعمري إن محمداً صلى الله عليه وسلم كان
حاضنه وقيمه وسائسه، ولكن لم يكن منقطعاً عن أبيه أبي طالب، ولا عن إخوته طالب
وعقيل وجعفر، ولا عن عمومته وأهل بيته، وما زال مخالطاً لهم، ممتزجاً بهم، مع
خدمته لمحمد صلى الله عليه وسلم، فما باله
لم يمل إلى الشرك وعمادة الأصنام لمخالطته إخوته وأباه وعمومته وأهله، وهم كثير
ومحمد صلى الله عليه وسلم واحد! وأنت تعلم
أن الصبي إذا كان له أهل ذوو كثرة، وفيهم واحد يذهب إلى رأي مفرد، لا يوافقه
عليه غيره منهم، فإنه إلى ذوي الكثرة أميل، وعن ذي الرأي الشاذ المنفرد أبعد،
وعلى أن علياً عليه السلام لم يولد في دار
الإسلام، وإنما ولد في دار الشرك وربي بين المشركين، وشاهد الأصنام، وعاين
بعينيه أهله ورهطه يعبدونها، فلو كان في دار الإسلام لكان في القول مجال، ولقيل
إنه ولد بين المسلمين، فإسلامه عن تلقين الظئر وعن سماع كلمة الإسلام ومشاهدة
شعاره لأنه لم يسمع غيره، ولا خطر بباله سواه، فلما لم يكن ولد كذلك، ثبت أن
إسلامه إسلام المميز العارف بما دخل عليه. ولولا أنه كذلك لما مدحه رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك، ولا أرضى ابنته فاطمة
لما وجدت من تزويجه بقوله لها: زوجتك أقدمهم سلماً، ولا قرن إلى قوله:"وأكثرهم علماً، وأعظمهم حلماً"،
والحلم العقل، وهذان الأمران غاية الفضل، فلولا أنه أسلم إسلام عارف عالم مميز
لما ضم إسلامه إلى العلم والحلم اللذين وصفه بهما! وكيف يجوز أن يمدحه بأمر لم
يكن مثاباً عليه، ولا معاقباً به لو تركه، ولو كان إسلامه عن تلقين وتربية لما
افتخر هو عليه السلام به على رؤوس الأشهاد،
ولا خطب على المنبر، وهو بين عدو محارب، وخاذل منافق، فقال: أنا عبد الله وأخو
رسوله وأنا الصديق الأكبر والفاروق الأعظم، صليت قبل الناس سبع سنين، وأسلمت قبل
إسلام أبي بكر، وآمنت قبل إيمانه! فهل بلغكم أن أحداً من أهل ذلك العصر أنكر ذلك
أو عابه أو ادعاه لغيره، أو قال له: إنما كنت طفلاً أسلمت على تربية محمد صلى الله عليه وسلم ذلك، وتلقينه إياك، كما يعلم
الطفل الفارسية والتركية منذ يكون رضيعاً! فلا فخر له في تعلم ذلك، وخصوصاً في
عصر قد حارب فيه أهل البصرة والشام والنهروان، وقد اعتورته الأعداء وهجته
الشعراء، فقال فيه النعمان بن بشير:
وقال فيه أيضاً بعض
الخوارج:
وقال عمران بن حطان
يمدح قاتله:
فلو وجد هؤلاء سبيلاً
إلى دحض حجة فيما كان يفخر به من تقدم إسلامه، لبدأوا بذلك، وتركوا ما لا معنى
له. فإن قال: نعم، وتجاسر
على ذلك، قيل له: فعلي عليه السلام بذلك أولى من ابن عمر، لأنه أذكى وأفطن بلا
خلاف بين العقلاء، وأنى يشك في ذلك، وقد رويتم أنه لم يميز بين الميزان والعود
بعد طول السن، وكثرة التجارب، ولم يميز أيضاً بين إمام الرشد وإمام الغي، فإنه
امتنع من بيعة علي عليه السلام. وطرق على الحجاج بابه ليلاً ليبايع لعبد الملك،
كيلا يبيت تلك الليلة بلا إمام، زعم. لأنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"من مات ولا إمام له مات ميتة
جاهلية"، وحتى بلغ من احتقار الحجاج له واسترذاله حاله، أن أخرج رجله من
الفراش، فقال: أصفق بيدك عليها، فذلك تمييزه بين الميزان والعود، وهذا اختياره
في الأئمة، وحال علي عليه السلام في ذكائه
وفطنته، وتوقد حسه، وصدق حدسه، معلومة مشهورة، فإذا جاز أن يصح إسلام ابن عمر،
ويقال عنه إنه عرف تلك الأمور التي سردها الجاحظ ونسقها، وأظهر فصاحته وتشدقه
فيها، فعلي بمعرفة ذلك أحق، وبصحة إسلامه أولى. ولا ادعى له أحد ذلك
في عصره، كما لم يدعه لنفسه، حتى يقول إنسان واحد: الدليل على إمامته أن النبي صلى الله عليه وسلم دعاه إلى الإسلام أو كلفه
التصديق قبل بلوغه، ليكون ذلك آية للناس في عمره، وحجة له ولولده من بعده، فهذا
كان أشد على طلحة والزبير وعائشة من كل ما ادعاه من فضائله وسوابقه وذكر قرابته. وكيف
ينكر الجاحظ والعثمانية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه إلى الإسلام وكلفه
التصديق!. ثم لينظر المنصف وليدع
الهوى جانباً، ليعلم نعمة الله على علي عليه السلام
بالإسلام حيث أسلم على الوضع الذي أسلم عليه، فإنه لولا الألطاف التي خص بها،
والهداية التي منحها، لما كان إلا كبعض أقارب محمد صلى
الله عليه وسلم وأهله، فقد كان ممازجاً له كممازجته، ومخالطاً له كمخالطة
كثير من أهله ورهطه، ولم يستجب منهم أحد له إلا بعد حين. ومنهم من لم يستجب له
أصلاً، فإن جعفراً عليه السلام كان ملتصقاً
به، ولم يسلم حينئذ، وكان عتبة بن أبي لهب ابن عمه وصهره زوج ابنته ولم يصدقه،
بل كان شديداً عليه، وكان لخديجة بنون من غيره، ولم يسلموا حينئذ، وهم ربائبه
ومعه في دار واحدة. وكان أبو طالب أباه في الحقيقة وكافله وناصره، والمحامي عنه،
ومن لولاه لم تقم له قائمة، ومع ذلك لم يسلم في أغلب الروايات، وكان العباس عمه
وصنو أبيه، وكالقرين له في الولادة والمنشأ والتربية، ولم يستجب له إلا بعد حين
طويل، وكان أبو لهب عمه، وكدمه ولحمه، ولم يسلم، وكان شديداً عليه، فيكف ينسب
إسلام علي عليه السلام إلى الإلف والتربية
والقرابة واللحمة والتلقين والحضانة، والدار الجامعة، وطول العشرة والأنس
والخلوة! وقد كان كل ذلك حاصلاً لهؤلاء أو لكثير منهم، ولم يهتد أحد منهم إذ
ذاك، بل كانوا بين من جحد وكفر ومات على كفره، ومن أبطأ وتأخر، وسبق بالإسلام
وجاء سكيتاً وقد فاز بالمنزلة غيره. وهل يدل تأمل حال علي
عليه السلام مع الإنصاف إلا على أنه أسلم،
لأنه شاهد الأعلام، ورأى المعجزات، وشم ريح النبوة، ورأى نور الرسالة، وثبت
اليقين في قلبه بمعرفة وعلم ونظر صحيح، لا بتقليد ولا حمية، ولا رغبة ولا رهبة،
إلا فيما يتعلق بأمور الآخرة. أليس إذا تأملتها علمت أنها ألفاظ ملفقة بلا
معنى، وأنها عليها شجىً وبلاء! وإلا فما دمى أن تبلغ حيلة الحاسد ويغني كيد
الكائد الشانىء لمن قد جل قدره عن النقص، وأضاءت فضائله إضاءة الشمس! وأين قول
الجاحظ، من دلائل السماء، وبراهين الأنبياء، وقد
علم الصغير والكبير، والعالم والجاهل، ممن بلغه ذكر علي عليه السلام، وعلم مبعث
النبي صلى الله عليه وسلم أن علياً عليه السلام لم يولد في دار الإسلام، ولا غذي
في حجر الإيمان، وإنما استضافه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى نفسه سنة القحط
والمجاعة، وعمره يومئذ ثماني سنين، فمكث معه سبع سنين حتى أتاه جبرائيل
بالرسالة، فدعاه وهو بالغ كامل العقل إلى الإسلام، فأسلم بعد مشاهدة المعجزة، وبعد
إعمال النظر والفكرة، وإن كان قد ورد في كلامه أنه صلى سبع سنين قبل الناس كلهم،
فإنما يعني ما بين الثمان والخمس عشرة، ولم يكن حينئذ دعوة ولا رسالة، ولا ادعاء
نبوة، وإنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعبد على ملة إبراهيم ودين
الحنيفية، ويتحنث ويجانب الناس، ويعتزل ويطلب الخلوة، وينقطع في جبل حراء، وكان
علي عليه السلام معه كالتابع والتلميذ، فلما بلغ الحلم، وجاءت النبي صلى الله
عليه وسلم الملائكة، وبشرته بالرسالة، دعاه فأجابه عن نظر ومعرفة بالأعلام
المعجزة، فكيف يقول الجاحظ إن إسلامه لم يكن مقتضباً!. وقد غمر الجاحظ في
كتابه هذا أن أبا بكر كان قبل إسلامه مذكوراً، ورئيساً معروفاً، يجتمع إليه كثير
من أهل مكة فينشدون الأشعار، ويتذاكرون الأخبار، ويشربون الخمر، وقد كان سمع
دلائل النبوة وحجج الرسل، وسافر إلى البلدان، ووصلت
إليه الأخبار، وعرف دعوى الكهنة وحيل السحرة، ومن كان كذلك كان انكشاف الأمور
له أظهر والإسلام عليه أسهل، والخواطر على قلبه أقل اعتلاجاً، وكل ذلك عون لأبي
بكر على الإسلام، ومسهل إليه سبيله، ولذلك لما قال النبي صلى الله عليه
وسلم:"أتيت بيت المقدس" سأله أبو بكر عن المسجد ومواضعه، فصدقه وبان
له أمره، وخفت مؤونته لما تقدم من معرفته بالبيت، فخرج إذا إسلام أبي بكر على
قول الجاحظ من معنى المقتضب. وفي ذلك رويتم عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ما دعوت أحداً إلى الإسلام إلا وكان له تردد ونبوة، إلا ما
كان من أبي بكر، فإنه لم يتلعثم حتى هجم به اليقين إلى المعرفة والإسلام،
فأين هذا وإسلام من خلي وعقله، وألجىء إلى نظره، مع
صغر سنه، واعتلاج الخواطر على قلبه ونشأته، في ضد ما دخل فيه، والغالب على
أمثاله وأقرانه حب اللعب واللهو، فلجأ إلى ما ظهر له من دلائل الدعوة، ولم يتأخر
إسلامه فيلزمه التقصير بالمعصية، فقهر شهوته، وغالب خواطره، وخرج من عادته وما
كان غذي به لصحة نظره، ولطافة فكره وغامض فهمه، فعظم استنباطه، ورجح فضله، وشرف
قدر إسلامه، ولم يأخذ من الدنيا بنصيب، ولا تنعم فيها بنعيم حدثاً ولا كبيراً،
وحمى نفسه عن الهوى، وكسر شره حداثته بالتقوى، واشتغل بهم الدين عن نعيم الدنيا،
وأشغل هم الآخرة قلبه، ووجه إليه رغبته، فإسلامه هو السبيل الذي لم يسلم عليه
أحد غيره، وما سبيله في ذلك إلا كسبيل الأنبياء، ليعلم أن منزلته من النبي صلى
الله عليه وسلم كمنزلة هارون من موسى، وأنه وإن لم يكن نبياً، فقد كان في سبيل
الأنبياء سالكاً، ولمنهاجهم متبعاً، وكانت
حاله كحال إبراهيم عليه السلام؟ فإن أهل العلم ذكروا أنه لما كان صغيراً جعلته
أمه في سرب لم يطلع عليه أحد، فلما نشأ ودرج وعقل قال لأمه: من ربي؟ قالت: أبوك،
قال: فمن رب أبي؟ فزبرته ونهرته؟ إلى أن طلع من شق السرب، فرأى كوكباً، فقال: هذا ربي، فلما أفل قال: لا أحب
الآفلين، فلما رأى القمر بازغاً قال: هذا ربي، فلما أفل قال: لئن لم يهدني ربي
لأكونن من القوم الضالين، فلما رأى الشمس بازغةً قال!: هذا ربي هذا أكبر، فلما
أفلت قال: يا قوم إني بريء مما تشركون، إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض
حنيفاً، وما أنا من المشركين، وفي ذلك يقول
الله جل ثناؤه"وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من
الموقنين"، وعلى هذا كان إسلام الصديق الأكبر عليه السلام، لسنا
نقول إنه كان مساوياً له في الفضيلة، ولكن كان مقتديا بطريقه على ما قال الله
تعالى:"إن أولى الناس لإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله
ولي المؤمنين،، وأما اعتلال الجاحظ بأن له ظهراً كأبي طالب وردءاً كبني هاشم،
فإنه يوجب عليه أن تكون محنة أبي بكر وبلال وثوابهما وفضل إسلامهما أعظم مما
لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن أبا طالب ظهره، وبني هاشم ردؤه، وحسبك جهلاً
من معاند لم يستطع حط قدرعلي عليه السلام إلا بحطه من قدر رسول الله صلى الله
عليه وسلم ولم يكن أحد أشد على رسول الله صلى الله عليه وسلم من قراباته، الأدق
منهم فالأدق، كأبي لهب عمه وامرأة أبي لهب، وهي أم جميل بنت حرب بن أمية وإحدى
أولاد عبد مناف، ثم ما كان من عقبة بن أبي معيط، وهو ابن عمه، وما كان من النضر
بن الحارث، وهو من بني عبد الدار بن قصي، وهو ابن عمه أيضاً، وغير هؤلاء ممن
يطول تعداده، وكلهم كان يطرح الأذى في طريقه، وينقل أخباره، ويرميه بالحجارة،
ويرمي الكرش والفرث عليه، وكانوا يؤذون علياً عليه السلام كأذاه، ويجتهدون في
غمه ويستهزئون به، وما كان لأبي بكر قرابة تؤذيه كقرابة علي، ولما كان بين علي
وبين النبي صلى الله عليه وسلم من الإتحاد والإلف والاتفاق، أحجم المنافقون
بالمدينة عن أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم خوفاً من سيفه، ولأنه صاحب الدار
والجيش، وأمره مطاع، وقوله نافذ، فخافوا على دمائهم منه، فاتقوه، وأمسكوا عن
إظهار بغضه، وأظهروا بغض علي عليه السلام وشنآنه، فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم في حقه في الخبر الذي روي في جميع الصحاح:"لا
يحبك إلا مؤمن، ولا يبغضك إلا منافق". وقال كثير من أعلام الصحابة- كما روي
في الخبر المشهور بين المحدثين:"ما كنا نعرف المنافقين إلا ببغض علي بن أبي
طالب". وأين كان ظهر أبي طالب عن جعفر، وقد أزعجه
الأذى عن وطنه، حتى هاجر إلى بلاد الحبشة وركب البحر، أيتوهم الجاحظ أن أبا طالب
نصر علياً، وخذل جعفراً!. ولما سئلت عائشة من
كان أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: أما من الرجال فعلي،
وأما من النساء ففاطمة. قال الجاحظ: وكان أبو
بكر من المفتونين المعذبين بمكة قبل الهجرة، فضربه نوفل بن خويلد المعروف بابن
العدوية مرتين، حتى أدماه وشده مع طلحة بن عبيد الله في قرن، وجعلهما في الهاجرة
عمير بن عثمان بن مرة بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة، ولذلك كانا يدعيان القرينين،
ولو لم يكن له غير ذلك لكان لحاقه عسيراً، وبلوغ منزلته شديداً، ولوكان يوماً
واحداً لكان عظيماً، وعلي بن أبي طالب رافه وادع، ليس بمطلوب ولا طالب، وليس أنه
لم يكن في طبعه الشهامة والنجدة، وفي غريزته البسالة في الشجاعة، لكنه لم يكن قد
تمت أداته، ولا استكملت آلته، ورجال الطلب وأصحاب الثأر يغمصون ذا الحداثة
ويزدرون بذي الصبا والغرارة، إلى أن يلحق بالرجال، ويخرج من طبع الأطفال. وهل ينتهي الواصف وإن أطنب، والمادح وإن أسهب،
إلى الإبانة عن مقدار هذه الفضيلة، والإيضاح بمزية هذه الخصيصة!. فأما قوله: إن أبا
بكر عذب بمكة، فإنا لا نعلم أن العذاب كان واقعاً إلا بعبد أو عسيف، أو لمن لا
عشيرة له تمنعه، فأنتم في أبي بكر بين أمرين: تارة
تجعلونه دخيلاً ساقطاً، وهجيناً رذيلاً مستضعفاً ذليلاً، وتارة تجعلونه رئيساً متبعاً، وكبيراً مطاعاً،
فاعتمدوا على أحد القولين لنكلمكم بحسب ما تختارونه لأنفسكم. ولو كان الفضل في
الفتنة والعذاب، لكان عمار وخباب وبلال وكل معذب بمكة أفضل من أبي بكر، لأنهم
كانوا من العذاب في أكثر مما كان فيه، ونزل فيهم من القرآن ما لم ينزل فيه،
كقوله تعالى:"والذين هاجروا في الله من بعد ما
ظلموا". قالوا: نزلت في خباب وبلال، ونزل في عمار قوله:"إلا من أكره وقلبة مطمئن بالإيمان"،
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمر على عمار وأبيه وأمه، وهم يعذبون، يعذبهم
بنو مخزوم لأنهم كانوا حلفاءهم، فيقول:"صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة،
وكان بلال يقلب على الرمضاء، وهو يقول: أحد أحد! وما سمعنا لأبي بكر في شيء من
ذلك ذكراً، ولقد كان لعلي عليه السلام عنده
يد غراء، إن صح ما رويتموه في تعذيبه، لأنه قتل نوفل بن خويلد وعمير بن عثمان
يوم بدر، ضرب نوفلاً فقطع ساقه، فقال: أذكرك الله والرحم! فقال: قد قطع الله كل
رحم وصهر إلا من كان تابعاً لمحمد، ثم ضربه أخرى ففاضت نفسه، وصمد لعمير بن
عثمان التميمي، فوجده يروم الهرب، وقد ارتج عليه المسلك، فضربه على شراسيف صدره،
فصار نصفه الأعلى بين رجليه، وليس أن أبا بكر لم يطلب بثأره منهما، ويجتهد! لكنه لم يقدرعلى أن يفعل فعل علي عليه السلام، فبان علي
عليه السلام بفعله دونه. فأما
قوله: واعلموا أن العاقبة للمتقين، ففيه إشارة إلى معنى غامض قصده الجاحظ- يعني
أن لا فضيلة لعلي عليه السلام في الجهاد، لأن الرسول كان أعلمه أنه منصور، وأن
العاقبة له- وهذا من دسائس الجاحظ وهمزاته ولمزاته، وليس بحق ما قاله،
لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم
أصحابه جملة أن العاقبة لهم، ولم يعلم واحداً منهم بعينه أنه لا يقتل، لا علياً
ولا غيره، وإن صح أنه كان أعلمه أنه لا يقتل، فلم يعلمه أنه لا يقطع عضو من
أعضائه، ولم يعلمه أنه لا يمسه ألم الجراح في جسده، ولم يعلمه أنه لا يناله
الضرب الشديد. وعلى أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قد أعلم أصحابه قبل يوم بدر- وهو يومئذ بمكة- أن العاقبة لهم، كما
أعلم أصحابه بعد الهجرة ذلك، فإن لم يكن لعلي والمجاهدين فضيلة في الجهاد بعد
الهجرة لإعلامه إياهم ذلك، فلا فضيلة لأبي بكر وغيره في احتمال المشاق قبل
الهجرة لإعلامه إياهم بذلك، فقد جاء في الخبر أنه وعد أبا بكر قبل الهجرة با
لنصر، وأنه قال له: أرسلت إلى هؤلاء بالذبح، وإن الله تعالى يغنمنا أموالهم،
ويملكنا ديارهم، فالقول في الموضعين متساو ومتفق. ثم يقال له: ما بالك
أهملت أمر مبيت علي عليه السلام على الفراش
بمكة ليلة الهجرة! هل نسيته أم تناسيته! فإنها المحنة العظيمة والفضيلة الشريفة
التي متى امتحنها الناظر، وأجال فكره فيها، رأى تحتها فضائل متفرقة ومناقب
متغايرة، وذلك أنه لما استقر الخبر عند المشركين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مجمع على الخروج من بينهم
للهجرة إلى غيرهم قصدوا إلى معاجلته، وتعاقدوا على أن يبيتوه في فراشه، وأن
يضربوه بأسياف كثيرة، بيد كل صاحب قبيلة من قريش سيف منها، ليضيع دمه بين
الشعوب، ويتفرق بين القبائل، ولا يطلب بنو هاشم بدمه قبيلة واحدة بعينها من بطون
قريش، وتحالفوا على تلك الليلة، واجتمعوا عليها، فلما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك من أمرهم، دعا أوثق الناس
عنده، وأمثلهم في نفسه، وأبذلهم في ذات الإله لمهجته، وأسرعهم إجابة إلى طاعته،
فقال له: إن قريشاً تحالفت على أن تبيتني هذه الليلة، فامض إلى فراشي، ونم في
مضجعي، والتف في بردي الحضرمي ليروا أني لم أخرج، وإني خارج إن شاء الله. فمنعه أولاً من
التحرز وإعمال الحيلة، وصده عن الإستظهار لنفسه بنوع من أنواع المكائد والجهات
التي يحتاط بها الناس لنفوسهم، وألجأه إلى أن يعرض نفسه لظبات السيوف الشحيذة من
أيدي أرباب الحنق والغيظة، فأجاب إلى ذلك سامعاً مطيعاً طيبة بها نفسه، ونام على
فراشه صابراً محتسباً، واقياً له بمهجته، ينتظر القتل، ولا نعلم فوق بذل النفس
درجة يلتمسها صابر، ولا يبلغها طالب:"والجود بالنفس أقصى غاية الجود"
ولولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علم
أنه أهل لذلك، لما أهله، ولو كان عنده نقص في صبره أو في شجاعته أو في مناصحته
لابن عمه، واختير لذلك، لكان من اختاره صلى الله
عليه وسلم منقوضاً في رأيه، مضراً في اختياره، ولا يجوز أن يقول هذا أحد
من أهل الإسلام، وكلهم مجمعون على أن الرسول صلى
الله عليه وسلم عمل الصواب، وأحسن في الإختيار. ومنها أنه
وإن كان ثقةً عنده، ضابطاً للسر، شجاعاً محتملاً للمبيت على الفراش، فإنه غير
مأمون أن يذهب صبره عند العقوبة الواقعة، والعذاب النازل بساحته، حتى يبوح بما
عنده، ويصير إلى الإقرار بما يعلمه، وهو أنه أخذ طريق كذا فيطلب فيؤخذ، فلهذا
قال علماء المسلمين، إن فضيلة علي عليه السلام تلك الليلة لا نعلم أحداً من
البشر نال مثلها، إلا ما كان من إسحاق وإبراهيم عند استسلامه للذبح، ولولا أن
الأنبياء لا يفضلهم غيرهم لقلنا إن محنة علي أعظم، لأنه قد روي أن إسحاق تلكأ
لما أمره أن يضطجع، وبكى على نفسه، وقد كان أبوه يعلم أن عنده في ذلك وقفة،
ولذلك قال له:"فانظر ماذا ترى" وحال علي
عليه السلام بخلاف ذلك، لأنه ما تلكأ ولا تتعتع، ولا تغيرلونه ولا اضطربت
أعضاؤه، ولقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يشيرون عليه بالرأي المخالف
لما كان أمر به، وتقدم فيه، فيتركه ويعمل بما أشاروا به، كما جرى يوم الخندق في
مصانعته الأحزاب بثلث تمر المدينة، فإنهم أشاروا عليه بترك ذلك فتركه، وهذه كانت
قاعدته معهم، وعادته بينهم، وقد كان لعلي عليه السلام أن يعتل بعلة، وأن يقف
ويقول: يا رسول الله، أكون معك أحميك من العدو، وأذب بسيفي عنك، فلست مستغنياً
في خروجك عن مثلي، ونجعل عبداً من عبيدنا في فراشك، قائماً مقامك، يتوهم القوم-
برؤيته نائماً في بردك- أنك لم تخرج، ولم تفارق مركزك، فلم يقل ذلك، ولا تحبس
ولا توقف، ولا تلعثم، وذلك لعلم كل واحد منهما عليهما السلام أن أحداً لا يصبر
على ثقل هذه المحنة، ولا يتورط هذه الهلكة إلا من خصه الله تعالى بالصبر على
مشقتها، والفوز بفضيلتها، وله من جنس ذلك أفعال كثيرة، كيوم دعا عمرو بن عبد ود
المسلمين إلى المبارزة، فأحجم الناس كلهم عنه، لما علموا من بأسه وشدته، ثم كرر
النداء، فقام علي عليه السلام، فقال: أنا أبرز إليه، فقال له رسول الله صلى الله
عليه وسلم: إنه عمرو! قال: نعم، وأنا علي! فأمره بالخروج إليه، فلما خرج قال صلى
الله عليه وسلم:"برز الإيمان كله إلى الشرك كله"، وكيوم أحد حيث حمى
رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبطال قريش
وهم يقصدون قتله، فقتلهم دونه، حتى قال جبرائيل عليه السلام:"يا محمد إن
هذه هي المواساة"، فقال"إنه مني وأنا منه"، فقال
جبرائيل:"وأنا منكما". ولو عددنا أيامه ومقاماته التي شرى فيها نفسه
لله تعالى لأطلنا وأسهبنا. قال الجاحظ: وفرق
آخر، وهو أنه لو كان مبيت علي عليه السلام
على الفراش، جاء مجيء كون أبي بكر في الغار، لم يكن له في ذلك كبير طاعة، لأن
الناقلين نقلوا أنه عليه السلام قال له:"نم فلن يخلص إليك شيء تكرهه"،
ولم ينقل ناقل أنه قال لأبي بكر في صحبته إياه وكونه معه في الغار مثل ذلك، ولا
قال له: أنفق وأعتق، فإنك لن تفتقر، ولن يصل إليك مكروه. وأما الصحبة فلا تدل
إلا على المرافقة والاصطحاب لا غير، وقد يكون حيث لا إيمان، كما قال
تعالى:"قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي
خلقك"، ونحن وإن كنا نعتقد إخلاص أبي
بكر وإيمانه الصحيح السليم وفضيلته التامة، إلا أنا لا نحتج له بمثل ما
احتج به الجاحظ من الحجج الواهية، ولا نتعلق بما يجر علينا دواهي الشيعة
ومطاعنها. قال
شيخنا أبو جعفر رحمه الله: كيف كانت بنو
جمح تؤذي عثمان بن مظعون وتضربه، وهو فيهم ذو سطوة وقدر، وتترك أبا بكر يبني
مسجداً يفعل فيه ما ذكرتم، وأنتم الذين رويتم عن ابن مسعود أنه قال:"ما
صلينا ظاهرين حتى أسلم عمر بن الخطاب"، والذي تذكرونه من بناء المسجد كان
قبل إسلام عمر، فكيف هذا!.
فتذكر
الرواة أن جعفراً أسلم منذ ذلك اليوم،
لأن أباه أمره بذلك وأطاع أمره، وأبو بكر لم يقدر على إدخال ابنه عبد الرحمن في
الإسلام حتى أقام بمكة على كفره ثلاث عشرة سنة، وخرج يوم أحد في عسكر المشركين
ينادي: أنا عبد الرحمن بن عتيق، هل من مبارز؟ ثم مكث بعد ذلك على كفره، حتى أسلم
عام الفتح، وهو اليوم الذي دخلت فيه قريش في الإسلام طوعاً وكرهاً، ولم يجد أحد
منها إلى ترك ذلك سبيلاً! وأين كان رفق أبي بكر وحسن احتجاجه عند أبيه أبي قحافة
وهما في دار واحدة! هلا رفق به ودعاه إلى الإسلام فأسلم! وقد علمتم أنه بقي على
الكفر إلى يوم الفتح، فأحضره ابنه عند النبي صلى الله عليه وسلم وهو شيخ كبير
رأسه كالثغامة، فنفر رسول الله صلى الله عليه وسلم منه، وقال: غيروا هذا،
فخضبوه، ثم جاؤوا به مرة اخرى، فأسلم. وكان أبو قحافة فقيراً مدقعاً سيء الحال،
وأبو بكر عندهم مثرياً فائض المال، فلم يمكنه استمالته إلى الإسلام بالنفقة
والإحسان، وقد كانت امرأة أبي بكر أم عبد الله ابنه-
واسمها نملة بنت عبد العزى بن أسعد بن عبد بن ود العامرية- لم تسلم،
وأقامت على شركها بمكة، وهاجر أبو بكر وهي كافرة، فلما نزل قوله تعالى:"ولا تمسكوا بعصم الكوافر"، فطلقها أبو
بكر، فمن عجز عن ابنه وأبيه وامرأته فهو عن غيرهم من الغرماء أعجز، ومن لم يقبل
منه أبوه وابنه وامرأته لا برفق واحتجاج، ولا خوفاً من قطع النفقة عنهم، وإدخال
المكروه عليهم فغيرهم أقل قبولاً منه، وأكثر خلافاً عليه! قال الجاحظ: وقالت أسماء بنت أبي بكر: ما عرفت أبي
إلا وهو يدين بالدين، ولقد رجع إلينا يوم أسلم، فدعانا إلى الإسلام، فما رمنا
حتى أسلمنا، وأسلم أكثر جلسائه، ولذلك قالوا: من
أسلم بدعاء أبي بكر أكثر ممن أسلم بالسيف، ولم يذهبوا في ذلك إلى العدد، بل عنوا
الكثرة في القدر، لأنه أسلم على يديه خمسة من أهل الشورى، كلهم يصلح للخلافة،
وهم أكفاء علي عليه السلام، ومنازعوه الرياسة والإمامة، فهؤلاء أكثر من جميع
الناس. قال
شيخنا أبو جعفر رحمه الله: أخبرونا من
هذا الذي أسلم ذلك اليوم من أهل بيت أبي بكر؟ إذا كانت امرأته لم تسلم وابنه عبد
الرحمن لم يسلم، وأبو قحافة، وأخته أم فروة لم تسلم، وعائشة لم تكن قد ولدت في
ذلك الوقت، لأنها ولدت بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بخمس سنين، ومحمد بن
أبي بكر ولد بعد مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث وعشرين سنة، لأنه ولد
في حجة الوداع، وأسماء بنت أبي بكر التي قد روى الجاحظ هذا الخبر عنها كانت يوم
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بنت أربع
سنين -وفي رواية من يقول: بنت سنتين- فمن الذي أسلم من أهل بيته يوم أسلم! نعوذ
بالله من الجهل والكذب والمكابرة! وكيف أسلم سعد والزبير وعبد الرحمن بدعاء أبي
بكر وليسوا من رهطه ولا من أترابه ولا من جلسائه، ولا كانت بينهم قبل ذلك صداقة
متقدمة، ولا أنس وكيد! وكيف ترك أبو بكر عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، لم
يدخلهما في الإسلام برفقه وحسن دعائه، وقد زعمتم أنهما كانا يجلسان إليه لعلمه
وطريف حديثه! وما باله لم يدخل جبير بن مطعم في الإسلام، وقد ذكرتم أنه أدبه
وخرجه، ومنه أخذ جبير العلم بأنساب قريش ومآثرها! فكيف عجز عن هؤلاء الذين
عددناهم، وهم منه بالحال التي وصفنا، ودعا من لم يكن بينه وبينه أنس ولا معرفة،
إلا معرفة عيان! وكيف لم يقبل منه عمر بن الخطاب، وقد كان شكله، وأقرب الناس
شبهاً به في أغلب أخلاقه! ولئن رجعتم إلى الإنصاف لتعلمن أن هؤلاء لم يكن
إسلامهم إلا بدعاء الرسول صلى الله عليه وسلم لهم، وعلى يديه أسلموا، ولو فكرتم
في حسن التأتي في الدعاء، ليصحن لأبي طالب في ذلك على شركه أضعاف ما ذكرتموه
لأبي بكر، لأنكم رويتم أن أبا طالب قال لعلي عليه السلام: يا بني الزمه، فإنه لن
يدعوك إلا إلى خير، وقال لجعفر: صل جناح ابن عمك، فأسلم بقوله، ولأجله أصفق بنو
عبد مناف على نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة من بني مخزوم، وبني سهم،
وبني جمح، ولأجله صبر بنو هاشم على الحصار في الشعب، وبدعائه وإقباله على محمد صلى الله عليه وسلم أسلمت امرأته فاطمة بنت أسد،
فهو أحسن رفقاً، وأيمن نقيبةً من أبي بكر وغيره، وإنما منعه عن الإسلام أن ثبت
أنه لم يسلم إلا تقية، وأبو بكر لم يكن له إلا ابن واحد، وهو عبد الرحمن، فلم
يمكنه أن يدخله في الإسلام، ولا أمكنه إذ لم يقبل منه الإسلام أن يجعله كبعض
مشركي قريش في قلة الأذى لرسول الله صلى الله عليه
وسلم، وفيه أنزل:"والذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني أن أخرج وقد
خلت القرون من قبلي وهما يستغيثان ألله ويلك أمن إن وعد ألله حق فيقول ما هذا
إلا أساطير الأولين"، وإنما يعرف حسن رفق الرجل وتأتيه بأن يصلح أولاً أمر
بيته وأهله، ثم يدعو الأقرب فالأقرب، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث
كان أول من دعا زوجته خديجة، ثم مكفوله وابن عمه علياً عليه
السلام، ثم مولاه زيداً، ثم أم أيمن خادمته، فهل رأيتم أحداً ممن كان
يأوي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسارع! وهل التاث عليه أحد من هؤلاء!
فهكذا يكون حسن التأتي والرفق في الدعاء! هذا ورسول الله مقل،
وهو من جملة عيال خديجة حين بعثه الله تعالى، وأبو بكر عندكم كان موسراً، وكان
أبوه مقتراً، وكذلك ابنه وامرأته أم عبد الله، والموسر في فطرة العقول أولى أن
يتبع من المقتر، وإنما حسن التأتي والرفق في الدعاء ما صنعه مصعب بن عمير لسعد
بن معاذ لما دعاه، وما صنع سعد بن معاذ ببني عبد الأشهل لما دعاهم وما صنع بريدة
بن الحصيب بأسلم لما دعاهم، قالوا: أسلم بدعائه ثمانون بيتاً من قومه، وأسلم بنو
عبد الأشهل بدعاء سعد في يوم واحد، وأما من لم يسلم ابنه ولا امرأته، ولا أبوه
ولا أخته بدعائه فهيهات أن يوصف ويذكر بالرفق في الدعاء وحسن التأتي والأناة!. ومر بجارية يعذبها
عمر بن الخطاب فابتاعها منه، وأعتقها، وأعتق أبا عيسى فأنزل الله فيه:"فأما من أعطى واتقى. وصدق بالحسنى.فسنيسره
لليسرى..."، إلى آخر السورة. قال
شيخنا أبو جعفر رحمه الله: أما بلال
وعامر بن فهيرة، فإنما أعتقهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، روى ذلك الواقدي
وابن إسحاق وغيرهما، وأما باقي مواليهم الأربعة، فإن سامحناكم في دعواكم لم يبلغ
ثمنهم في تلك الحال لشدة بغض مواليهم لهم إلا مائة درهم أو نحوها، فأي فخر في
هذا! وأما الآية فإن ابن عباس قال في تفسيرها:"فأما
من أعطى واتقى. وصدق بالحسنى. فسنيسره لليسرى"، أي لأن يعود. قال
شيخنا أبو جعفر رحمه الله: إننا لا ننكر
فضل الصحابة وسوابقهم، ولسنا كالإمامية الذين
يحملهم الهوى على جحد الأمور المعلومة، ولكننا ننكر تفضيل أحد من الصحابة على
علي بن أبي طالب، ولسنا ننكر غير ذلك، وننكر تعصب الجاحظ للعثمانية، وقصده إلى فضائل هذا الرجل
ومناقبه بالرد والإبطال. وأما حمزة فهو عندنا
ذو فضل عظيم، ومقام جليل، وهو سيد الشهداء الذين استشهدوا على عهد رسول الله صلى
الله عليه وسلم، وأما فضل عمر فغير منكر، وكذلك الزبير وسعد، وليس فيما ذكر ما
يقتضي كون علي عليه السلام مفضولاً لهم أو
لغيرهم، إلا قوله:"وكل هذه الفضائل لم يكن لعلي عليه السلام فيها ناقة ولا
جمل"، فإن هذا من التعصب البارد، والحيف الفاحش، وقد
قدمنا من آثار علي عليه السلام قبل الهجرة وما له إذ ذاك من المناقب والخصائص، ما هو أفضل وأعظم وأشرف من جميع ما ذكر لهؤلاء،
على أن أرباب السيرة يقولون: إن الشجة التي شجها سعد، وإن السيف الذي سله
الزبير، هو الذي جلب الحصار في الشعب على النبي صلى الله عليه وسلم وبني هاشم،
وهو الذي سير جعفراً وأصحابه إلى الحبشة، وسل السيف في الوقت الذي لم يؤمر
المسلمون فيه بسل السيف غير جائز، قال تعالى:"ألم
تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم
القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله"، فبين أن التكليف له
أوقات، فمنها وقت لا يصلح فيه سل السيف، ومنها وقت يصلح فيه ويجب، فأما قوله
تعالى:"لا يستوي منكم من أنفق"، فقد
ذكرنا ما عندنا من دعواهم لأبي بكر إنفاق المال. وأيضاً فإن الله
تعالى لم يذكر إنفاق المال مفرداً، وإنما قرن به القتال، ولم يكن أبو بكر صاحب
قتال وحرب، فلا تشمله الآية، وكان علي عليه السلام صاحب قتال وإنفاق قبل الفتح،
أما قتاله فمعلوم بالضرورة، وأما إنفاقه فقد كان على حسب حاله وفقره، وهو الذي
أطعم الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً، وأنزلت فيه وفي زوجته وابنيه سورة
كاملة من القرآن، وهو الذي ملك أربعة دراهم فأخرج منها درهماً سرا ودرهماً
علانية ليلاً، ثم أخرج منها في النهار درهماً سرا ودرهماً علانية، فأنزل فيه
قوله تعالى:"الذين ينفقون أموالهم بالليل
والنهار سراً وعلانية"، وهو الذي قدم بين يدي نجواه صدقة دون
المسلمين كافة، وهو الذي تصدق بخاتمه وهو راكع، فأنزل الله فيه:"إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون
الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون". قال
شيخنا أبو جعفر رحمه الله: لقد أعطي أبو
عثمان مقولاً، وحرم معقولاً، إن كان يقول هذا على اعتقاد وجد، ولم يذهب به مذهب
اللعب والهزل، أو على طريق التفاصح والتشادق وإظهار القوة، والسلاطة وذلاقة
اللسان وحدة الخاطر والقوة على جدال الخصوم، ألم يعلم أبو عثمان أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم كان أشجع البشر، وأنه خاض الحروب، وثبت في المواقف التي طاشت
فيها الألباب، وبلغت القلوب الحناجر، فمنها يوم أحد، ووقوفه بعد أن فر المسلمون
بأجمعهم، ولم يبق معه إلا أربعة: علي، والزبير، وطلحة، وأبو دجانة، فقاتل ورمى
بالنبل حتى فنيت نبله، وانكسرت سية قوسه، وانقطع وتره، فأمر عكاشة بن محصن أن
يوترها، فقال: يا رسول الله: لا يبلغ الوتر، فقال: أوتر ما بلغ. قال عكاشة: فوالذي
بعثه بالحق لقد أوترت حتى بلغ، وطويت منه شبراً على سية القوس، ثم أخذها فما زال
يرميهم، حتى نظرت إلى قوسه قد تحطمت. وبارز أبي بن
خلف، فقال له أصحابه: إن شئت عطف عليه بعضنا! فأبى، وتناول الحربة من
الحارث بن الصمة ثم انتقض بأصحابه، كما ينتقض البعير، قالوا: فتطايرنا عنه تطاير
الشعارير، فطعنه بالحربة، فجعل يخور كما يخور الثور، ولو لم يدل على ثباته حين
انهزم أصحابه وتركوه إلا قوله تعالى:"إذ
تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم"، فكونه عليه
السلام في أخراهم وهم يصعدون ولا يلوون، هاربين، دليل على أنه ثبت ولم يفر، وثبت
يوم حنين في تسعة من أهله ورهطه الأدنين، وقد فر المسلمون كلهم والنفر التسعة
محدقون به، العباس آخذ بحكمة بغلته، وعلي بين يديه مصلت سيفه، والباقون حول بغلة
رسول الله صلى الله عليه وسلم يمنة ويسرة، وقد انهزم المهاجرون والأنصار، وكلما
فروا أقدم هو صلى الله عليه وسلم وصمم مستقدماً، يلقى السيوف والنبال بنحره
وصدره، ثم أخذ كفاً من البطحاء، وحصب المشركين، وقال: شاهت الوجوه! والخبر
المشهور عن علي عليه السلام، وهو أشجع البشر:"كنا إذا اشتد البأس، وحمي
الوطيس اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم ولذنا به"، فكيف يقول الجاحظ:
إنه ما خاض الحرب، ولا خالط الصفوف! وأي فرية أعظم من فرية من نسب رسول الله صلى
الله عليه وسلم إلى الإحجام واعتزال الحرب! ثم أي مناسبة بين أبي بكر ورسول الله
صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى ليقيسه وينسبه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
صاحب الجيش والدعوة، ورئيس الإسلام والملة، والملحوظ بين أصحابه وأعدائه
بالسيادة، وإليه الإيماء والإشارة، وهو الذي أحنق قريشاً والعرب، وورى أكبادهم
بالبراءة من آلهتهم، وعيب دينهم وتضليل أسلافهم، ثم وترهم فيما بعد بقتل رؤسائهم
وأكابرهم! وحق لمثله إذا تنحى عن الحرب واعتزلها أن ينتحي ويعتزل، لأن ذلك شأن
الملوك والرؤساء، إذا كان الجيش منوطاً بهم وببقائهم، فمتى هلك الملك هلك الجيش،
ومتى سلم الملك أمكن أن يبقى عليه ملكه، وإن عطب جيشه فإنه يستجد جيشاً آخر،
ولذلك ضهى الحكماء أن يباشر الملك الحرب بنفسه، وخطأوا الإسكندر لما بارز قوسراً
ملك الهند، ونسبوه إلى مجانبة الحكمة ومفارقة الصواب والحزم، فليقل لنا الجاحظ:
أي مدخل لأبي بكر في هذا المعنى؟ ومن الذي كان يعرفه من أعداء الإسلام ليقصده
بالقتل؟ وهل هو إلا واحد من عرض المهاجرين، حكمه حكم عبد الرحمن بن عوف وعثمان
بن عفان، وغيرهما! بل كان عثمان أكثر منه صيتاً، وأشرف منه مركباً، والعيون إليه
أطمح، والعدو إليه أحنق وأكلب، ولو قتل أبو بكر في بعض تلك المعارك، هل كان يؤثر
قتله في الإسلام ضعفاً، أو يحدث فيه وهناً! أو يخاف على الملة لو قتل أبو بكر في
بعض تلك الحروب أن تندرس وتعفى آثارها، وينطمس منارها! ليقول الجاحظ إن أبا بكر
كان حكمه حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجانبة الحروب واعتزالها، نعوذ
بالله من الخذلان! وقد علم العقلاء كلهم ممن له بالسير معرفة، وبالآثار والأخبار
ممارسة، حال حروب رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف كانت، وحاله عليه السلام
فيها كيف كان، ووقوفه حيث وقف، وحربه حيث حارب، وجلوسه في العريش يوم جلس، وإن
وقوفه صلى الله عليه وسلم وقوف رياسة
وتدبير، ووقوف ظهر وسند، يتعرف أمور أصحابه، ويحرس صغيرهم وكبيرهم بوقوفه من
ورائهم، وتخلفه عن التقدم في أوائلهم، لأنهم متى علموا أنه في أخراهم اطمأنت قلوبهم،
ولم تتعلق بأمره نفوسهم، فيشتغلوا بالاهتمام به عن عدوهم، ولا يكون لهم فئة
يلجأون إليها، وظهر يرجعون إليه، ويعلمون أنه متى كان خلفهم تفقد أمورهم، وعلم
مواقفهم، وآوى كل إنسان مكانه في الحماية والنكاية وعند المنازلة في الكر والحملة،
فكان وقوفه حيث وقف أصلح لأمرهم، وأحمى وأحرس لبيضتهم، ولأنه المطلوب من بينهم،
إذ هو مدبر أمورهم، ووالي جماعتهم، ألا ترون أن موقف صاحب اللواء موقف شريف، وأن
صلاح الحرب في وقوفه، وأن فضيلته في ترك التقدم في أكثر حالاته، فللرئيس حالات:
الأولى: حالة يتخلف ويقف آخراً ليكون سنداً وقوة، وردءاً وعدة، وليتولى تدبير
الحرب، ويعرف مواضع الخلل. فمواقف الناس في
الجهاد على أحوال، وبعضهم في ذلك أفضل من بعض، فمن دلف إلى الأقران، واستقبل
السيوف والأسنة، كان أثقل على أكتاف الأعداء، لشدة نكايته فيهم، ممن وقف في
المعركة، وأعان ولم يقدم، وكذلك من وقف في المعركة، وأعان ولم يقدم، إلا أنه
بحيث تناله السهام والنبل أعظم عناء، وأفضل ممن وقف حيث لا يناله ذلك، ولو كان
الضعيف والجبان يستحقان الرياسة بقلة بسط الكف وترك الحرب، وأن ذلك يشاكل فعل
النبي صلى الله عليه وسلم، لكان أوفر الناس
حظاً في الرياسة، وأشدهم لها استحقاقاً حسان بن ثابت، وإن بطل فضل علي عليه
السلام في الجهاد، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان أقلهم قتالاً، كما زعم
الجاحظ ليبطلن على هذا القياس فضل أبي بكر في الإنفاق، لأن رسول الله صلى الله
عليه وسلم كان أقلهم مالاً!. ألا
ترى إلى قول عتبة بن ربيعة يوم بدر، وقد خرج هو وأخوه شيبة وابنه الوليد بن
عتبة، فأخرج إليه الرسول نفراً من الأنصار، فاستنسبوهم فانتسبوا لهم، فقالوا:
ارجعوا إلى قومكم ثم نادوا: يا محمد أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا، فقال النبي
صلى الله عليه وسلم لأهله الأدنين: قوموا يا بني هاشم، فانصروا حقكم الذي آتاكم
الله على باطل هؤلاء، قم يا علي، قم يا حمزة، قم يا عبيدة،
ألا ترى ما جعلت هند بنت عتبة لمن قتله يوم أحد، لأنه اشترك هو وحمزة في قتل
أبيها يوم بدر، ألم تسمع قول هند ترثي أهلها:
وذلك لأنه قتل أخاها
الوليد بن عتبة، وشرك في قتل أبيها عتبة، وأما عمها شيبة، فإن حمزة تفرد بقتله. قال الجاحظ: على أن
مشي الشجاع بالسيف إلى الأقران ليس على ما توهمه من لا يعلم باطن الأمر، لأن معه
في حال مشيه إلى الأقران بالسيف أموراً أخرى لا يبصرها الناس، وإنما يقضون على
ظاهر ما يرون من إقدامه وشجاعته، فربما كان سبب ذلك الهوج، وربما كان الغرارة
والحداثة، وربما كان الإحراج والحمية، وربما كان لمحبة النفخ والأحدوثة، وربما
كان طباعاً كطباع القاسي والرحيم والسخي والبخيل. قال
شيخنا أبو جعفر رحمه الله: هذا راجع على
الجاحظ في النبي صلى الله عليه وسلم، لأن
الله تعالى قال له:"والله يعصمك من
الناس"، فلم يكن له في جهاده كبير طاعة، وكثير طاعة، وكثير من الناس
يروي عنه صلى الله عليه وسلم:"اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر"
فوجب أن يبطل جهادهما، وقد قال للزبير:"ستقاتل علياً، وأنت ظالم له"،
فأشعره بذلك أنه لا يموت في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال في الكتاب
العزيز لطلحة:"وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله
ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده"، قالوا: نزلت في طلحة، فأعلمه بذلك
أنه يبقى بعده، فوجب ألا يكون لهما كبير ثواب في الجهاد، والذي صح عندنا من
الخبر وهو قوله:"ستقاتل بعدي الناكثين"، أنه قال لما وضعت الحرب
أوزارها، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، ووضعت الجزية، ودانت العرب قاطبة.
وقال هبيرة بن أبي
وهب المخزومي، يعتذر من فراره عن علي بن أبي طالب، وتركه عمراً يوم الخندق
ويبكيه:
وقال هبيرة بن أبي
وهب أيضاً، يرثي عمراً ويبكيه:
وقال حسان بن ثابت
الأنصاري يذكر عمراً:
وقال حسان أيضاً:
فهذه الأشعار فيه بل
بعض ما قيل فيه.
لأنه شهد مع المشركين
بدراً، وقتل قوماً من المسلمين. ثم فر مع من فر، ولحق بمكة، وهو الذي كان قال
وعاهد الله عند الكعبة ألا يدعوه أحد إلى واحدة من ثلاث إلا أجابه. وآثاره في أيام الفجار مشهورة تنطق بها كتب
الأيام والوقائع، ولكنه لم يذكر مع الفرسان الثلاثة وهم: عتبة وبسطام وعامر،
لأنهم كانوا أصحاب غارات ونهب، وأهل بادية، وقريش أهل مدينة وساكنو مدر وحجر، لا
يرون الغارات، ولا ينهبون غيرهم من العرب، وهم مقتصرون على المقام ببلدتهم
وحماية حرمهم، فلذلك لم يشتهر اسمه كاشتهار هؤلاء.
فلما برز إليه علي
أجابه، فقال له:
ولعمري لقد سبق
الجاحظ بما قاله بعض جهال الأنصار، لما رجع رسول الله من بدر، وقال فتى من
الأنصار شهد معه بدراً: إن قتلنا إلا عجائز صلعاً! فقال له النبي صلى الله عليه
وسلم:"لا تقل ذلك يا بن أخ، أولئك الملأ"!. قال
شيخنا أبو جعفر رحمه الله: أما ثباته
يوم أحد: فأكثر المؤرخين وأرباب السير ينكرونه، وجمهورهم يروي أنه لم يبق مع
النبي صلى الله عليه وسلم إلا علي وطلحة
والزبير، وأبو دجانة، وقد روي عن ابن عباس أنه قال: ولهم خامس وهو عبد الله بن
مسعود، ومنهم من أثبت سادساً، وهو المقداد بن عمرو، وروى يحيى بن سلمة بن كهيل
قال: قلت لأبي: كم ثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد؟ فقال: اثنان،
قلت: من هما؟ قال: علي وأبو دجانة.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال
لعبد الله بن عباس وقد جاءه برسالة من عثمان
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وهو محصور يسأله الخروج إلى ماله بينبع، ليقل هتف
الناس باسمه للخلافة، بعد أن كان سأله مثل ذلك من قبل الأصل: فقال عليه السلام:
يا بن عباس، ما يريد عثمان إلا أن يجعلني جملاً ناضحاً بالغرب، أقبل
وأدبر! بعث إلي أن أخرج، ثم بعث إلي أن أقدم، ثم هو الآن يبعث إلي أن أخرج! ولله
لقد دفعت عنه حتى خشيت أن أكون آثماً. وهتف
الناس باسمه: نداؤهم ودعاؤهم، وأصله الصوت، يقال: هتف الحمام يهتف هتفاً، وهتف
زيد بعمرو هتافاً، أي صاح به، وقوس هتافة وهتفى، أي ذات صوت، والناضح: البعير
يستقى عليه، وقال معاوية لقيس بن سعد- وقد دخل عليه في
رهط من الأنصار-: ما فعلت نواضحكم، يهزأ به،
فقال: أنصبناها في طلب أبيك يوم بدر، والغرب: الدلو
العظيمة.
قوله:"لقد
دفعت عنه حتى خشيت أن أكون آثما"، يحتمل أن يريد
بالغت واجتهدت في الدفاع عنه، حتى خشيت أن أكون آثما في كثرة مبالغتي واجتهادي
في ذلك، وإنه لا يستحق الدفاع عنه لجرائمه وأحداثه، وهذا تأويل من ينحرف عن عثمان، ويحتمل أن يريد: لقد
دفعت عنه حتى كدت أن القي نفسي في الهلكة، وأن يقتلني الناس الذين ثاروا به، فخفت الإثم في تغريري بنفسي وتوريطها في تلك الورطة العظيمة،
ويحتمل أن يريد: لقد جاهدت الناس دونه ودفعتهم
عنه، حتى خشيت أن أكون آثما بما نلت منهم من الضرب بالسوط، والدفع باليد،
والإعانة بالقول، أي فعلت من ذلك أكثر مما يجب. فإن قلت:
كيف هذا وقد جلس مجلساً أنا به أحق، فقد قاربت! ولكن ذاك بما كسبت يداك، ونكص
عنه عقباك، لأنك بالأمس الأدنى، هرولت إليهم تظن أنهم يحلون جيدك، ويختمون
أصبعك، ويطئون عقبك، ويرون الرشد بك، ويقولون:
لا بد لنا منك، لا معدل لنا عنك، وكان هذا من هفواتي الكبر، وهناتك التي ليس لك
منها عذر، والآن بعد ما ثللت عرشك بيدك، ونبذت رأي عمك في البيداء يتدهده في
السافياء خذ بأحزم مما يتوضح به وجه الأمر، لا تشار هذا الرجل ولا تماره، ولا
يبلغنه عنك ما يحنقه عليك، فإنه إن كاشفك أصاب أنصاراً، وإن كاشفته لم تر إلا
ضراراً، ولم تستلج إلا عثاراً، واعرف من هو بالشام له، ومن ههنا حوله من يطيع
أمره، ويمتثل قوله، لا تغترر بناس يطيفون بك، ويدعون الحنو عليك والحب لك، فإنهم
بين مولى جاهل، وصاحب متمن، وجليس يرعى العين ويبتدر المحضر، ولو ظن الناس بك ما
تظن بنفسك لكان الأمر لك، والزمام في يدك، ولكن هذا
حديث يوم مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم فات، ثم حرم الكلام فيه حين مات،
فعليك الآن بالعزوف عن شيء عرضك له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يتم،
وتصديت له مرةً بعد مرة فلم يستقم، ومن ساور الدهر غلب، ومن حرص على ممنوع تعب،
فعلى ذلك فقد أوصيت عبد الله بطاعتك، وبعثته على متابعتك، وأوجرته محبتك، ووجدت
عنده من ذلك ظني به لك، لا توتر قوسك إلا بعد الثقة بها، وإذا أعجبتك فانظر إلى
سيتها، ثم لا تفوق إلا بعد العلم ولا تغرق في النزع إلا لتصيب الرمية، وانظر لا
تطرف يمينك عينك، ولا تجن شمالك شينك، ودعني بآيات من آخر سورة الكهف، وقم إذا
بدا لك. قلت:
الناس يستحسنون رأي العباس لعلي عليه السلام في ألا
يدخل في أصحاب الشورى وأما أنا فإني أستحسنه إن
قصد به معنى، ولا أستحسنه إن قصد به معنىً آخر، وذلك لأنه إن أجرى بهذا
الرأي إلى ترفعه عليهم، وعلو قدره عن أن يكون مماثلاً لهم، أو أجرى به إلى زهده
في الإمارة، ورغبته عن الولاية، فكل هذا رأي حسن وصواب،
وإن كان منزعه في ذلك إلى أنك إن تركت الدخول معهم، وانفردت بنفسك في دارك، أو
خرجت عن المدينة إلى بعض أموالك، فإنهم يطلبونك، ويضربون إليك آباط الإبل، حتى
يولوك الخلافة، وهذا هو الظاهر من كلامه، فليس هذا
الرأي عندي بمستحسن، لأنه لو فعل ذلك لولوا عثمان أو واحداً منهم غيره،
ولم يكن عندهم من الرغبة فيه عليه السلام ما يبعثهم على طلبه، بل كان تأخره عنه قرة أعينهم، وواقعاً بإيثارهم، فإن
قريشاً كلها كانت تبغضه أشد البغض، ولو عمر عمر
نوح، وتوصل إلى الخلافة بجميع أنواع التوصل، كالزهد فيها تارة، والمناشدة
بفضائله تارة، وبما فعله في ابتداء الأمر من إخراج زوجته وأطفاله ليلاً إلى بيوت
الأنصار، وبما اعتمده إذ ذاك من تخلفه في بيته، وإظهار أنه قد انعكف على جمع
القرآن، وبسائر أنواع الحيل فيها، لم تحصل له إلا
بتجريد السيف، كما فعل في آخر الأمر، ولست ألوم العرب، لا سيما قريشاً في بغضها له، وانحرافها عنه، فإنه
وترها، وسفك دماءها، وكشف القناع في منابذتها، ونفوس العرب وأكبادها كما تعلم.
فأمره
أن يقتل زرارة بن عدس رئيس بني تميم، ولم يكن
قاتلاً أخا الملك ولا حاضراً قتله، ومن نظر في
أيام العرب ووقائعها ومقاتلها عرف ما ذكرناه. ثم قال:
وقد روي أن رجلاً جاء إلى زفر بن الهذيل، صاحب أبي حنيفة، فسأل عما يقول أبو حنيفة في جواز الخروج من
الصلاة بأمر غير التسليم، نحو الكلام والفعل الكثير أو
الحدث! فقال: إنه جائز، قد قال أبو بكر في تشهده
ما قال، فقال الرجل: وما الذي قاله أبو بكر؟
قال: لا عليك، فأعاد عليه السؤال ثانية وثالثة، فقال: أخرجوه أخرجوه، قد كنت أحدث أنه من أصحاب أبي الخطاب. فقلت له: أكان
خالد يقدر على قتله؟ قال: نعم؟ ولم لا يقدر على ذلك،
والسيف في عنقه، وعلي أعزل غافل عما يراد به، قد قتله
ابن ملجم غيلة، وخالد أشجع من ابن ملجم!.
ثم قال:
دعنا من هذا، ما الذي تحفظ في هذا المعنى؟ قلت: قول أبي
الطيب:
فاستحسن ذلك، وقال:
لمن عجز البيت الذي استشهدت به؟ قلت: لمحمد بن
هانىء المغربي، وأوله:
فبارك
علي مراراً، ثم قال: نترك الآن هذا ونتمم ما كنا فيه،
وكنت أقرأ عليه في ذلك الوقت"جمهرة النسب"
لابن الكلبي، فعدنا إلى القراءة، وعدلنا عن
الخوض عما كان اعترض الحديث فيه. فقال في الجواب: لقد
كانوا هموا من النهار بقتله تلك الليلة، وكان إجماعهم
على ذلك، وعزمهم في حقنه من بني عبد مناف، لأن
الذين محصوا هذا الرأي واتفقوا عليه: النفر بن الحارث من بني عبد الدار،
وأبو البختري بن هشام، وحكيم بن حزام، وزمعة بن الأسود بن المطلب، هؤلاء الثلاثة من بني أسد بن عبد العزى، وأبو جهل بن
هشام، وأخوه الحارث، وخالد بن الوليد بن المغيرة، هؤلاء
الثلاثة من بني مخزوم، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج، وعمرو بن العاص، هؤلاء الثلاثة من بني سهم، وأمية بن خلف وأخوه أبي بن
خلف، هذان من بني جمح، فنما هذا الخبر من الليل إلى عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، فلقي منهم قوماً، فنهاهم عنه، وقال: إن بني عبد مناف لا تمسك عن دمه،
ولكن صفدوه في الحديد، واحبسوه في دار من دوركم، وتربصوا به أن يصيبه من الموت
ما أصاب أمثاله من الشعراء. وكان عتبة بن ربيعة سيد بني
عبد شمس ورئيسهم، وهم من بني عبد مناف، وبنو عم الرجل ورهطه، فأحجم أبو جهل وأصحابه تلك الليلة عن قتله إحجاماً، ثم تسوروا
عليه، وهم يظنونه في الدار، فلما رأوا إنساناً مسجىً بالبرد الأخضر الحضرمي لم
يشكوا أنه هو، وائتمروا في قتله، فكان أبو جهل يذمرهم
عليه فيهمون ثم يحجمون. ثم قال بعضهم لبعض: ارموه بالحجارة، فرموه، فجعل
علي يتضور منها، ويتقلب ويتأوه تأوها خفيفاً، فلم
يزالوا كذلك في إقدام عليه وإحجام عنه، لما يريده الله تعالى من سلامته
ونجاته. حتى أصبح وهو وقيذ من رمي الحجارة، ولو لم يخرج رسول الله صلى الله عليه
وسلم إلى المدينة، وأقام لينهم بمكة، ولم يقتلوه تلك الليلة، لقتلوه في الليلة التي تليها، وإن شبت الحرب بينهم
وبين عبد مناف، فإن أبا جهل لم يكن بالذي ليمسك عن قتله، وكان فاقد البصيرة، شديد العزم على الولوغ في دمه!. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال
في المسارعة إلى العمل
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: فاعملوا
وأنتم في نفس البقاء، والصحف منشورة، والتوبة مبسوطة، والمدبر يدعى، والمسيء
يرجى، قبل أن يخمد العمل، وينقطع المهل، وتنقضي المدة، ويسد باب التوبة، وتصعد
الملائكة، فأخذ أمرؤ من نفسه لنفسه، وأخذ من حي لميت، ومن فان لباق، ومن ذاهب
لدائم، أمرؤ خاف الله. وهو معمر إلى أجله، ومنظور إلى عمله، أمرؤ ألجم
نفسه بلجامها، وزمها بزمامها، فأمسكها بلجامها عن معاصي الله، وقادها لزمامها
إلى طاعة الله. والتوبة مبسوطة لكم غير مقبوضة عنكم، ولا مردودة
عليكم إن فعلتم، كما ترد على الإنسان توبته إذا احتضر. والمدبر يدعى، أي من يدبر منكم، ويولي عن الخير
يدعى إليه، وينادى: يا فلان أقبل على ما يصلحك! والمسيء يرجى، أي يرجى عوده
وإقلاعه. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال
في شأن الحكمين وذم أهل الشام
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
جفاة طغام، عبيد أقزام، جمعوا من كل أوب، وتلقطوا من كل شوب، ممن ينبغي أن يفقه
ويؤدب، ويعلم ويدرب، ويولى عليه، ويؤخذ على يديه، ليسوا من المهاجرين والأنصار،
ولا من الذين تبوءوا الدار والإيمان. والطشام: أوغاد الناس، الواحد والجمع فيه
سواء، ويقال للأشرار واللئام: عبيد، وإن كانوا أحراراً.
ولكنه عليه السلام قال:"أقزام" ليوازن بها قوله:"طغام"، وقد
روي:"قزام"، وهي رواية جيدة، وقد نطقت العرب هذه اللفظة وقال الشاعر:
وجمعوا
من كل أوب، أي من كل ناحية، وتلقطوا من كل شوب، أي من فرق مختلطة. ويدرب، أي يعود اعتماد الأفعال الحسنة
والأخلاق الجميلة. وروي:"ويولى
عليه"، بالتخفيف. ويؤخذ على يديه، أي يمنع من التصرف.
ثم ذكر عليه السلام
أن أهل الشام اختاروا لأنفسهم أقرب القوم مما
يحبونه، وهو عمرو بن العاص، وكرر
لفظة"القوم"، وكان الأصل أن يقول: ألا
وإن القوم اختاروا لأنفسهم أقربهم مما يحبون، فأخرجه محرج قول الله تعالى:"واتقوا الله إن الله عليم بذات الصدور".
والذي يحبه أهل الشام هو الانتصار على أهل
العراق والظفر بهم، وكان عمرو بن العاص أقربهم
إلى بلوغ ذلك، والوصول إليه بمكره وحيلته وخدائعه. ثم
قال: أنتم بالأمس، يعني في واقعة الجمل، قد
سمعتم أبا موسى ينهى أهل الكوفة عن نصرتي، ويقول لهم: هذه هي الفتنة التي وعدنا بها، فقطعوا
أوتار قسيكم. وشيموا سيوفكم، أي أغمدوها فإن كان صادقاً فما باله سار إلي، وصار معي معي الصف، وحضر
حرب صفين، وكثر سواد أهل العراق وإن لم يحارب، ولم يسل السيف، فإن من حضر
في إحدى الجهتين وإن لم يحارب كمن حارب، وإن كان كاذباً
فيما رواه من خبر الفتنة فقد لزمته التهمة وقبح
الاختلاف إليه في الحكومة، وهذا يؤكد صحة إحدى
الروايتين في أمر أبي موسى، فإنه قد اختلفت الرواية: هل
حضر حرب صفين مع أهل العراق أم لا؟ فمن قال: حضر، قال: حضر ولم يحارب،
وما طلبه اليمانيون من أصحاب علي عليه السلام ليجعلوه حكماً كالأشعث بن قيس
وغيره إلا وهو حاضر معهم في الصف، ولم يكن منهم على مسافة، ولو كان على مسافة
لما طلبوه، ولكان لهم فيمن حضر غناء عنه، ولو كان على مسافة لما وافق علي عليه
السلام على تحكيمه، ولا كان علي عليه السلام ممن يحكم من لم يحضر معه.
وأصل
ذلك الصخرة الملساء، لا يؤثر فيها السهام ولا يرميها الرامي، إلا بعد أن مهل
غيرها، يقول: قد بلغت غارات أهل الشام حدود الكوفة التي هي دار الملك وسرير
الخلافة، وذلك لا يكون إلا بعد الإثخان في غيرها من الأطراف. قال ابن عبد البر:
هو عبد الله بن قيس بن سليم بن حضارة بن حرب بن عامر بن عنز بن بكر بن عامر بن
عذر بن وائل بن ناجية بن الجماهر بن الأشعر، وهو نبت بن أدد بن زيد بن يشجب بن
عريب بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان. وأمه امرأة من عك، أسلمت وماتت
بالمدينة، واختلف في أنه هل هو من مهاجرة الحبشة أم
لا؟ والصحيح أنه ليس منهم، ولكنه أسلم ثم رجع إلى بلاد قومه، فلم يزل بها حتى
قدم هو وناس من الأشعريين على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوافق قدومهم قدوم
أهل السفينتين جعفر بن أبي طالب وأصحابه من أرض الحبشة، فوافوا رسول الله
صلى الله عليه وسلم بخيبر، فظن قوم أن أبا موسى قدم من الحبشة مع جعفر. قال: وولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم من مخاليف
اليمن زبيد، وولاه عمر البصرة، لما عزل المغيرة عنها، فلم يزل عليها إلى صدر من
خلافة عثمان فعزله عثمان عنها، وولاها عبد الله بن عامر بن كريز، فنزل أبو موسى
الكوفة حينئذ، وسكنها، فلما كره أهل الكوفة سعيد بن العاص ودفعوه عنها، ولوا أبا
موسى، وكتبوا إلى عثمان يسألونه أن يوليه، فأقره على الكوفة، فلما قتل عثمان عزله علي عليه السلام عنها، فلم يزل
واجداً لذلك على علي عليه السلام، حتى جاء منه ما قال حذيفة فيه، فقد روى حذيفة
فيه كلاماً كرهت ذكره والله يغفر له. وأنه قيل له: ألا يجوز أن تكون أحدهما؟ فقال: لا- أو
كلاماً، ما هذا معناه- فلما بلي به، قيل فيه: البلاء موكل بالمنطق، ولم يثبت في
توبته ما ثبت في توبة غيره، وإن كان الشيخ أبو علي قد
ذكر في آخر كتاب الحكمين أنه جاء إلى أمير المؤمنين عليه السلام في مرض الحسن بن علي، فقال له: أجئتنا
عائداً أم شامتاً؟ فقال بل عائداً، وحدث بحديث في فضل العيادة. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن
خطبة له ذكر فيها آل محمد صلى الله عليه وآله
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: هم عيش
العلم، وموت الجهل، يخبركم حلمهم عن علمهم، وظاهر هم عن باطنهم، وصمتهم عن حكم
منطقهم. لا يخالفون الحق، ولا يختلفون فيه، وهم دعائم الإسلام، وولائج الاعتصام،
بهم عاد الحق إلى نصابه، وأنزاح الباطل عن مقامه، وانقطع لسانه عن منبته، عقلوا
الدين عقل وعاية ورعاية، لا عقل سماع ورواية، فإن رواة العلم كثير، ورعاته قليل. لا يخالفون الحق: لا يعدلون عنه، ولا يختلفون فيه
كما يختلف غيرهم من الفرق وأرباب المذاهب، فمنهم من له في المسألة قولان وأكثر،
ومنهم من يقول قولاً ثم يرجع عنه، ومنهم من يرى في أصول الدين رأياً ثم ينفيه
ويتركه. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
يليه الجزء الرابع عشرباب الكتب
والرسائل
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الفهرس الجزء الثالث
عشرباب المختار من الخطب والأوامر - ابن ابي الحديد. قال في
وصف بيعته بالخلافة وقد تقدم مثله بألفاظ مختلفة. قال بذي
قار، وهو متوجه إلى البصرة ذكرها الواقدي في كتاب الجمل. ومن كلام
له كلم به عبد الله بن زمعة وهو من شيعته، وذلك أنه قدم عليه في خلافته يطلب منه
مالا، فقال. قال في
إحجام اللسان عن الكلام. قال وهو
يلي غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم وتجهيزه قال في
صفة خلق بعض الحيوانات.. قال في
التوحيد، وتجمع هذه الخطبة من أصول العلم ما لا تجمعه خطبة غيرها 0 ومن خطبة
له تختص بذكر الملاحم. 0 ومن خطبة
له في الأمر بالتقوى.. ومن خطبة
له عليه السلام في ذم الكبر.. في إسلام
أبي بكر وعلي عليه السلام. قال لعبد
الله بن عباس وقد جاءه برسالة من عثمان.. قال في
شأن الحكمين وذم أهل الشام. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||