- القرآن الكريم
- سور القرآن الكريم
- 1- سورة الفاتحة
- 2- سورة البقرة
- 3- سورة آل عمران
- 4- سورة النساء
- 5- سورة المائدة
- 6- سورة الأنعام
- 7- سورة الأعراف
- 8- سورة الأنفال
- 9- سورة التوبة
- 10- سورة يونس
- 11- سورة هود
- 12- سورة يوسف
- 13- سورة الرعد
- 14- سورة إبراهيم
- 15- سورة الحجر
- 16- سورة النحل
- 17- سورة الإسراء
- 18- سورة الكهف
- 19- سورة مريم
- 20- سورة طه
- 21- سورة الأنبياء
- 22- سورة الحج
- 23- سورة المؤمنون
- 24- سورة النور
- 25- سورة الفرقان
- 26- سورة الشعراء
- 27- سورة النمل
- 28- سورة القصص
- 29- سورة العنكبوت
- 30- سورة الروم
- 31- سورة لقمان
- 32- سورة السجدة
- 33- سورة الأحزاب
- 34- سورة سبأ
- 35- سورة فاطر
- 36- سورة يس
- 37- سورة الصافات
- 38- سورة ص
- 39- سورة الزمر
- 40- سورة غافر
- 41- سورة فصلت
- 42- سورة الشورى
- 43- سورة الزخرف
- 44- سورة الدخان
- 45- سورة الجاثية
- 46- سورة الأحقاف
- 47- سورة محمد
- 48- سورة الفتح
- 49- سورة الحجرات
- 50- سورة ق
- 51- سورة الذاريات
- 52- سورة الطور
- 53- سورة النجم
- 54- سورة القمر
- 55- سورة الرحمن
- 56- سورة الواقعة
- 57- سورة الحديد
- 58- سورة المجادلة
- 59- سورة الحشر
- 60- سورة الممتحنة
- 61- سورة الصف
- 62- سورة الجمعة
- 63- سورة المنافقون
- 64- سورة التغابن
- 65- سورة الطلاق
- 66- سورة التحريم
- 67- سورة الملك
- 68- سورة القلم
- 69- سورة الحاقة
- 70- سورة المعارج
- 71- سورة نوح
- 72- سورة الجن
- 73- سورة المزمل
- 74- سورة المدثر
- 75- سورة القيامة
- 76- سورة الإنسان
- 77- سورة المرسلات
- 78- سورة النبأ
- 79- سورة النازعات
- 80- سورة عبس
- 81- سورة التكوير
- 82- سورة الانفطار
- 83- سورة المطففين
- 84- سورة الانشقاق
- 85- سورة البروج
- 86- سورة الطارق
- 87- سورة الأعلى
- 88- سورة الغاشية
- 89- سورة الفجر
- 90- سورة البلد
- 91- سورة الشمس
- 92- سورة الليل
- 93- سورة الضحى
- 94- سورة الشرح
- 95- سورة التين
- 96- سورة العلق
- 97- سورة القدر
- 98- سورة البينة
- 99- سورة الزلزلة
- 100- سورة العاديات
- 101- سورة القارعة
- 102- سورة التكاثر
- 103- سورة العصر
- 104- سورة الهمزة
- 105- سورة الفيل
- 106- سورة قريش
- 107- سورة الماعون
- 108- سورة الكوثر
- 109- سورة الكافرون
- 110- سورة النصر
- 111- سورة المسد
- 112- سورة الإخلاص
- 113- سورة الفلق
- 114- سورة الناس
- سور القرآن الكريم
- تفسير القرآن الكريم
- تصنيف القرآن الكريم
- آيات العقيدة
- آيات الشريعة
- آيات القوانين والتشريع
- آيات المفاهيم الأخلاقية
- آيات الآفاق والأنفس
- آيات الأنبياء والرسل
- آيات الانبياء والرسل عليهم الصلاة السلام
- سيدنا آدم عليه السلام
- سيدنا إدريس عليه السلام
- سيدنا نوح عليه السلام
- سيدنا هود عليه السلام
- سيدنا صالح عليه السلام
- سيدنا إبراهيم عليه السلام
- سيدنا إسماعيل عليه السلام
- سيدنا إسحاق عليه السلام
- سيدنا لوط عليه السلام
- سيدنا يعقوب عليه السلام
- سيدنا يوسف عليه السلام
- سيدنا شعيب عليه السلام
- سيدنا موسى عليه السلام
- بنو إسرائيل
- سيدنا هارون عليه السلام
- سيدنا داود عليه السلام
- سيدنا سليمان عليه السلام
- سيدنا أيوب عليه السلام
- سيدنا يونس عليه السلام
- سيدنا إلياس عليه السلام
- سيدنا اليسع عليه السلام
- سيدنا ذي الكفل عليه السلام
- سيدنا لقمان عليه السلام
- سيدنا زكريا عليه السلام
- سيدنا يحي عليه السلام
- سيدنا عيسى عليه السلام
- أهل الكتاب اليهود النصارى
- الصابئون والمجوس
- الاتعاظ بالسابقين
- النظر في عاقبة الماضين
- السيدة مريم عليها السلام ملحق
- آيات الناس وصفاتهم
- أنواع الناس
- صفات الإنسان
- صفات الأبراروجزائهم
- صفات الأثمين وجزائهم
- صفات الأشقى وجزائه
- صفات أعداء الرسل عليهم السلام
- صفات الأعراب
- صفات أصحاب الجحيم وجزائهم
- صفات أصحاب الجنة وحياتهم فيها
- صفات أصحاب الشمال وجزائهم
- صفات أصحاب النار وجزائهم
- صفات أصحاب اليمين وجزائهم
- صفات أولياءالشيطان وجزائهم
- صفات أولياء الله وجزائهم
- صفات أولي الألباب وجزائهم
- صفات الجاحدين وجزائهم
- صفات حزب الشيطان وجزائهم
- صفات حزب الله تعالى وجزائهم
- صفات الخائفين من الله ومن عذابه وجزائهم
- صفات الخائنين في الحرب وجزائهم
- صفات الخائنين في الغنيمة وجزائهم
- صفات الخائنين للعهود وجزائهم
- صفات الخائنين للناس وجزائهم
- صفات الخاسرين وجزائهم
- صفات الخاشعين وجزائهم
- صفات الخاشين الله تعالى وجزائهم
- صفات الخاضعين لله تعالى وجزائهم
- صفات الذاكرين الله تعالى وجزائهم
- صفات الذين يتبعون أهواءهم وجزائهم
- صفات الذين يريدون الحياة الدنيا وجزائهم
- صفات الذين يحبهم الله تعالى
- صفات الذين لايحبهم الله تعالى
- صفات الذين يشترون بآيات الله وبعهده
- صفات الذين يصدون عن سبيل الله تعالى وجزائهم
- صفات الذين يعملون السيئات وجزائهم
- صفات الذين لايفلحون
- صفات الذين يهديهم الله تعالى
- صفات الذين لا يهديهم الله تعالى
- صفات الراشدين وجزائهم
- صفات الرسل عليهم السلام
- صفات الشاكرين وجزائهم
- صفات الشهداء وجزائهم وحياتهم عند ربهم
- صفات الصالحين وجزائهم
- صفات الصائمين وجزائهم
- صفات الصابرين وجزائهم
- صفات الصادقين وجزائهم
- صفات الصدِّقين وجزائهم
- صفات الضالين وجزائهم
- صفات المُضَّلّين وجزائهم
- صفات المُضِلّين. وجزائهم
- صفات الطاغين وجزائهم
- صفات الظالمين وجزائهم
- صفات العابدين وجزائهم
- صفات عباد الرحمن وجزائهم
- صفات الغافلين وجزائهم
- صفات الغاوين وجزائهم
- صفات الفائزين وجزائهم
- صفات الفارّين من القتال وجزائهم
- صفات الفاسقين وجزائهم
- صفات الفجار وجزائهم
- صفات الفخورين وجزائهم
- صفات القانتين وجزائهم
- صفات الكاذبين وجزائهم
- صفات المكذِّبين وجزائهم
- صفات الكافرين وجزائهم
- صفات اللامزين والهامزين وجزائهم
- صفات المؤمنين بالأديان السماوية وجزائهم
- صفات المبطلين وجزائهم
- صفات المتذكرين وجزائهم
- صفات المترفين وجزائهم
- صفات المتصدقين وجزائهم
- صفات المتقين وجزائهم
- صفات المتكبرين وجزائهم
- صفات المتوكلين على الله وجزائهم
- صفات المرتدين وجزائهم
- صفات المجاهدين في سبيل الله وجزائهم
- صفات المجرمين وجزائهم
- صفات المحسنين وجزائهم
- صفات المخبتين وجزائهم
- صفات المختلفين والمتفرقين من أهل الكتاب وجزائهم
- صفات المُخلَصين وجزائهم
- صفات المستقيمين وجزائهم
- صفات المستكبرين وجزائهم
- صفات المستهزئين بآيات الله وجزائهم
- صفات المستهزئين بالدين وجزائهم
- صفات المسرفين وجزائهم
- صفات المسلمين وجزائهم
- صفات المشركين وجزائهم
- صفات المصَدِّقين وجزائهم
- صفات المصلحين وجزائهم
- صفات المصلين وجزائهم
- صفات المضعفين وجزائهم
- صفات المطففين للكيل والميزان وجزائهم
- صفات المعتدين وجزائهم
- صفات المعتدين على الكعبة وجزائهم
- صفات المعرضين وجزائهم
- صفات المغضوب عليهم وجزائهم
- صفات المُفترين وجزائهم
- صفات المفسدين إجتماعياَ وجزائهم
- صفات المفسدين دينيًا وجزائهم
- صفات المفلحين وجزائهم
- صفات المقاتلين في سبيل الله وجزائهم
- صفات المقربين الى الله تعالى وجزائهم
- صفات المقسطين وجزائهم
- صفات المقلدين وجزائهم
- صفات الملحدين وجزائهم
- صفات الملحدين في آياته
- صفات الملعونين وجزائهم
- صفات المنافقين ومثلهم ومواقفهم وجزائهم
- صفات المهتدين وجزائهم
- صفات ناقضي العهود وجزائهم
- صفات النصارى
- صفات اليهود و النصارى
- آيات الرسول محمد (ص) والقرآن الكريم
- آيات المحاورات المختلفة - الأمثال - التشبيهات والمقارنة بين الأضداد
- نهج البلاغة
- تصنيف نهج البلاغة
- دراسات حول نهج البلاغة
- الصحيفة السجادية
- تصنيف الصحيفة السجادية
- تصنيف الصحيفة بالموضوعات
- الباب السابع : باب الاخلاق
- الباب الثامن : باب الطاعات
- الباب التاسع: باب الذكر والدعاء
- الباب العاشر: باب السياسة
- الباب الحادي عشر:باب الإقتصاد
- الباب الثاني عشر: باب الإنسان
- الباب الثالث عشر: باب الكون
- الباب الرابع عشر: باب الإجتماع
- الباب الخامس عشر: باب العلم
- الباب السادس عشر: باب الزمن
- الباب السابع عشر: باب التاريخ
- الباب الثامن عشر: باب الصحة
- الباب التاسع عشر: باب العسكرية
- الباب الاول : باب التوحيد
- الباب الثاني : باب النبوة
- الباب الثالث : باب الإمامة
- الباب الرابع : باب المعاد
- الباب الخامس: باب الإسلام
- الباب السادس : باب الملائكة
- تصنيف الصحيفة بالموضوعات
- أسماء الله الحسنى
- أعلام الهداية
- النبي محمد (صلى الله عليه وآله)
- الإمام علي بن أبي طالب (عليه السَّلام)
- السيدة فاطمة الزهراء (عليها السَّلام)
- الإمام الحسن بن علي (عليه السَّلام)
- الإمام الحسين بن علي (عليه السَّلام)
- لإمام علي بن الحسين (عليه السَّلام)
- الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السَّلام)
- الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السَّلام)
- الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السَّلام)
- الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السَّلام)
- الإمام محمد بن علي الجواد (عليه السَّلام)
- الإمام علي بن محمد الهادي (عليه السَّلام)
- الإمام الحسن بن علي العسكري (عليه السَّلام)
- الإمام محمد بن الحسن المهدي (عجَّل الله فرَجَه)
- تاريخ وسيرة
- "تحميل كتب بصيغة "بي دي أف
- تحميل كتب حول الأخلاق
- تحميل كتب حول الشيعة
- تحميل كتب حول الثقافة
- تحميل كتب الشهيد آية الله مطهري
- تحميل كتب التصنيف
- تحميل كتب التفسير
- تحميل كتب حول نهج البلاغة
- تحميل كتب حول الأسرة
- تحميل الصحيفة السجادية وتصنيفه
- تحميل كتب حول العقيدة
- قصص الأنبياء ، وقصص تربويَّة
- تحميل كتب السيرة النبوية والأئمة عليهم السلام
- تحميل كتب غلم الفقه والحديث
- تحميل كتب الوهابية وابن تيمية
- تحميل كتب حول التاريخ الإسلامي
- تحميل كتب أدب الطف
- تحميل كتب المجالس الحسينية
- تحميل كتب الركب الحسيني
- تحميل كتب دراسات وعلوم فرآنية
- تحميل كتب متنوعة
- تحميل كتب حول اليهود واليهودية والصهيونية
- المحقق جعفر السبحاني
- تحميل كتب اللغة العربية
- الفرقان في تفسير القرآن -الدكتور محمد الصادقي
- وقعة الجمل صفين والنهروان
الجزء الثاني عشر- باب المختار من الخطب
والأوامر - ابن ابي الحديد
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال
يريد به بعض أصحابه
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
لله بلاد فلان فلقد قوم الأود، وداوى العمد، وأقام السنة، وخلف الفتنة! ذهب نقي
الثوب، قليل العيب، أصاب خيرها، وسبق شرها. أدى إلى الله
طاعته، وأتقاه بحقه. رحل وتركهم في
طرق متشعبة، لا يهتدي بها الضال، ولا يستيقن المهتدي. والمراد
بالأول: لله البلاد التي أنشأته وأنبتته، وبالثاني: لفه الثدي الذي أرضعه وبالثالث: لله المجلس الذي ربي فيه، وبالرابع: لله النائحة التي تنوح عليه وتندبه! ماذا
تعهد من محاسنه. وفيه إبطال
قول من طعن على عثمان بن عفان، فلم يجبني بشيء،
وقال: هو ما قلت لك! فأما الراوندي، فإنه قال في الشرح:
إنه رضي الله عنه مدح بعض أصحابه بحسن السيرة، وأن الفتنة هي التي وقعت بعد رسول الله صلى الله
عليه وسلم من الاختيار والأثرة . وكيف
يقول:
أصاب خيرها وسبق شرها وكيف يقول: أدى إلى
الله طاعته وكيف يقول: رحل وتركهم في طرق متشعبة . وهذا الضمير، وهو الهاء والميم في قوله رضي
الله عنه: وتركهم، هل يصح أن يعود
إلا إلى الرعايا! وهل يسوغ أن يقال هذا الكلام لسوقة
من عرض الناس! وكل من مات قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم كان سوقة لا سلطان له، فلا يصح أن يحمل هذا الكلام على إرادة أحد من
الذين قتلوا أو ماتوا قبل وفاة النبي صلى
الله عليه وسلم كعثمان بن
مظعون، أو مصعب بن عمير، أو حمزة بن عبد المطب، أو عبيدة بن الحارث، وغيرهم من
الناس. والتأويلات
الباردة الغثة لا تعجبني، على أن أبا
جعفر محمد بن جرير الطبري قد صرح أو كاد يصرح
بأن المعني بهذا الكلام عمر، قال الطبري: لما مات عمر بكته النساء، فقالت إحدى نوادبه: واحزناه
على عمر! حزنا انتشر، حتى ملأ البشر. وقالت
ابنة أبي حثمة: واعمراه! أقام الأود، وأبرأ العمد ، وأمات
الفتن، وأحيا السنن. خرج نقي الثوب، بريئاً من العيب. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
سيرة
عمر بن الخطاب
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ونحن
نذكر في هذا الموضع نكتاً من كلام عمر وسيرته وأخلاقه. أتي عمر بمال، فقال له عبد الرحمن بن عوف:
يا أمير المؤمنين، لو حبست من هذا المال في بيت المال لنائبة تكون، أو أمر يحدث!
فقال: كلمة ما عرض بها إلا شيطان كفاني
حجتها، ووقاني فتنتها. أعصي الله
العام مخافة قابل ! أعد لهم تقوى الله، قال الله سبحانه: "ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب" . فكتب
له عمر: ليس لنا أن نأتمنهم، وقد خونهم الله، ولا أن
نرفعهم وقد وضعهم الله، ولا أن نستنصحهم في الدين وقد وترهم الإسلام، ولا أن
نعزهم وقد أمرنا بأن يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون. فكتب إليه
عمر: مات النصراني والسلام. وكتب
إلى سعد بن أبي وقاص: يا سعد سعد بني أهيب! إن الله إذا أحب
عبداً حببه إلى خلقه، فاعتبر منزلتك من الله بمنزلتك من الناس. واعلم أن ما لك
عند الله مثل ما لله عندك. قال: اللهم غفراً، إن
قومكم كرهوا أن يجتمع لكم النبوة والخلافة، فتذهبوا في
السماء شمخاً وبذخاً، ولعلكم تقولون: إن أبا بكر
أول من أخركم، أما أنه لم يقصد ذلك، ولكن حضر أمر لم يكن بحضرته أحزم مما
فعل، ولولا رأي أبي بكر في لجعل لكم في الأمر
نصيباً، ولو فعل ما هنأكم مع قومكم. إنهم ينظرون إليكم نظر الثور إلى جازره. ورأى
أعرابياً يصلي صلاة خفيفة، فلما قضاها قال: اللهم زوجني
الحور العين. فقال له: أسأت النقد، وأعظمت الخطبة! وقيل له: كان
الناس في الجاهلية يدعون على من ظلمهم فيستجاب لهم، ولسنا
نرى ذلك الآن. قال: لأن ذلك
كان الحاجز بينهم وبين الظلم، وأما الآن فالساعة
موعدهم والساعة أدهى وأمر. فناداه عمر، فجاء
فقال: إن يكن لك دين فلك كرم، وإن يكن لك عقل فلك مروءة، وإن يكن لك مال
فلك شرف، وإلا فأنت والحمار سواء. وقال:
من اتقى الله لم يشف الله غيظه، ومن خاف الله لم يفعل ما يريد، ولولا يوم
القيامة لكان غير ما ترون. وقال:
إني لأعلم أجود الناس، وأحلم الناس، أجودهم من أعطى من حرمه وأحلفهم من عفا عمن
ظلمه. وكتب
إلى أبي موسى: أما بعد، فإن للناس نفرة عن سلطانهم،
فأعوذ بالله أن يدركني وإياك عمياء مجهولة، وضغائن محمولة، وأهواء متبعة، ودنيا
مؤثرة، أقم الحدود ؟ واجلس للمظالم ولو ساعة من نهار، وإذا
عرض لك أمران: أحدهما لله، والآخر للدنيا، فابدأ بعمل الآخرة، فإن الدنيا تفنى،
والآخرة تبقى، وكن من مال الله عز وجل على حذر، واجف الفساق، واجعلهم
يداً ويداً، ورجلاً ورجلاً، وإذا كانت بين القبائل نائرة يا لفلان يا لفلان!
فإنما تلك نجوى الشيطان، فاضربهم بالسيف حتى يفيئوا إلى أمر الله، وتكون دعواهم
إلى الله، وإلى الإسلام، وقد بلغني أن ضبة تدعو: يا لضبة! وإني والله أعلم أن
ضبة ما ساق الله بها خيراً قط، ولا منع بها من سوء قط. فإذا جاءك
كتابي هذا فانهكهم ضرباً وعقوبة، حتى يفرقوا إن لم يفقهوا، والصق بغيلان بن خرشة
من بينهم. وعد مرضى
المسلمين، واشهد جنائزهم، وافتح لهم بابك، وباشر أمورهم بنفسك، فإنما أنت رجل منهم، غير أن الله قد جعلك أثقلهم حملاً.
وقد بلغني أنه فشا لك ولأهل بيتك هيئة في لباسك ومطعمك، ومركبك، ليس للمسلمين
مثلها، فإياك يا عبد الله بن قيس أن تكون بمنزلة البهيمة التي مرت بواد خصيب،
فلم يكن لها همة إلا السمن، وإنما حظها من السمن لغيرها، واعلم أن للعامل مرداً
إلى الله، فإذا زاغ العامل زاغت رعيته، وإن أشقى الناس من شقيت به نفسه ورعيته. والسلام. قد ثبتت الحجة، ووضحت الطرق، وانقطع العذر،
ولا حجة لأحد على الله عز وجل. ألا
إن أحق ما تعاهد به الراعي رعيته أن يتعاهدهم بالذي لله تعالى عليهم في وظائف
دينهم الذي هداهم به، وإنما علينا أن نأمركم بالذي أمركم الله به من طاعته،
وننهاكم عما نهاكم الله عنه من معصيته، وأن نقيم أمر الله في قريب الناس
وبعيدهم، ولا نبالي على من قال الحق، ليتعلم الجاهل، ويتعظ المفرط، ويقتدي
المقتدي. إلا إن الإيمان ليس بالتمني ولكنه بالحقائق
ألا من قام على الفرائض، وسدد نيته، واتقى الله، فذلكم الناجي. ومن زاد اجتهاداً
وجد عند الله مزيداً. والسنة السنة!
الزموها تنجكم من البدعة. وإن الاقتصاد
في السنة خير من الإجتهاد في الضلالة، فافهموا ما توعظون به، فإن الحريب من حرب
دينه، وإن السعيد من وعظ بغيره. بعث
سعد بن أبي وقاص أيام القادسية إلى عمر قباء كسرى
وسيفه، ومنطقته، وسراويله، وتاجه، وقميصه، وخفيه، فنظر عمر في وجوه القوم عنده، فكان أجسمهم وأمدهم قامة سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي.
فقال: يا
سراق، قم فالبس، قال سراقة: طمعت فيه فقمت فلبست، فقال: أدبر فأدبرت، وقال:
أقبل، فأقبلت، فقال: بخ بخ! أعرابي
من بني مدلج، عليه قباء كسرى وسراويله وسيفه ومنطقته وتاجه وخفاه!
رب يوم يا سراق لو كان فيه دون هذا من متاع كسرى وآل كسرى لكان شرفاً لك ولقومك.
انزع!
فنزعت، فقال: اللهم إنك منعت هذا
نبيك ورسولك، وكان أحب إليك مني وأكرم، ومنعته
أبا بكر وكان أحب إليك مني وأكرم، ثم أعطيتنيه،
فأعوذ بك، أن تكون أعطيتنيه لتمكر بي. ثم بكى حتى رحمه من كان عنده. فقال علي رضي الله
عنه: إنك عففت فعفوا، ولو رتعت لرتعوا . ثم
عاد إلى مكانه، فسمع بكاءه، فعاد إلى أمه، فقال لها مثل ذلك، ثم عاد إلى مكانه،
فسمع بكاءه، فأتى أمه، فقال: ويحك! إني لأراك أم سوء! لا أرى ابنك يقر منذ
الليلة! فقالت: يا عبد الله، لقد آذيتني منذ الليلة، إني أريغه على الفطام
فيأبى، قال: ولم؟ قالت: لأن عمر لا يفرض لرضيع، وإنما يفرض للفطيم، قال: وكم له؟ قالت: اثنا عشر شهراً، قال: ويحك لا تعجليه! فصلى الفجر وما يستبين الناس قراءته من
غلبة البكاء عليه، فلما سلم قال: يا بؤساً
لعمركم! كم قتل من أولاد الفطام، فإنا نفرض لكل مولود في الإسلام. وأوصى عمر حين طعنه أبو لؤلؤة من يستخلفه المسلمون بعده
من أهل الشورى، فقال: أوصيك بتقوى الله لا
شريك له، وأوصيك بالمهاجرين الأولين خيراً، أن تعرف لهم سابقتهم، وأوصيك
بالأنصار خيراً، اقبل من محسنهم، وتجاوز عن مسيئهم. وأوصيك بأهل
الأمصار خيراً، فإنهم ردء العدو، وجباة الفيء، لا تحمل فيئهم إلى غيرهم إلا عن
فضل منهم، وأوصيك بأهل البادية خيراً، فإنهم أصل العرب، ومادة الإسلام، أن يؤخذ
من حواشي أموالهم، فيرد على فقرائهم، وأوصيك بأهل الذمة خيراً، أن تقاتل من
ورائهم، ولا تكلفهم فوق طاقتهم إذا أدوا ما عليهم للمسلمين طوعاً أو عن يد وهم
صاغرون. وأوصيك أن
تشتد في أمر الله وفي حدوده، والزجر عن معاصيه، على قريب الناس وبعيدهم، ولا
تأخذك الرأفة والرحمة في أحد منهم، حتى تنتهك منه مثل جرمه، واجعل الناس عندك
سواء، لا تبال على من وجب الحق، لا تأخذك في الله لومة لائم. وإياك والأثرة
والمحاباة فيما ولاك الله مما أفاء الله على المسلمين، فتجور وتظلم، وتحرم نفسك
من ذلك ما قد وسعه الله عليك، فإنك في منزلة من منازل الدنيا، وأنت إلى الآخرة
جد قريب، فإن صدقت في دنياك عفة وعدلاً فيما بسط لك، اقترفت رضواناً وإيماناً،
وإن غلبك الهوى، اقترفت فيه سخط الله ومقته. واعلم أني قد
أوصيتك وخصصتك ونصحت لك، أبتغي بذلك وجه الله والدار الآخرة، ودللتك على ما كنت
دالاً عليه نفسي، فإن عملت بالذي وعظتك، وانتهيت إلى الذي أمرتك، أخذت منه
نصيباً وافراً، وحظاً وافياً، وإن لم تقبل ذلك، ولم تعمل ولم تترك معاظم الأمور
عند الذي يرضى الله به سبحانه عنك، يكن ذاك بك انتقاصاً، ويكن رأيك فيه مدخولاً،
فالأهواء مشتركة، ورأس الخطيئة إبليس الداعي إلى كل هلكة، قد أضل القرون السالفة
قبلك، وأوردهم النار، ولبئس الثمن أن يكون حظ امرئ من دنياه موالاة عدو الله،
الداعي إلى معاصيه! اركب الحق، وخض إليه الغمرات، وكن واعظاً لنفسك. هذه وصيتي إياك، وأشهد الله عليك. وأقرأ عليك
السلام، والله على كل شيء شهيد. فقامت
إليه امرأة، فقالت: والله ما جعل الله ذلك لك، إنه تعالى
يقول: "وآتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه
شيئاً" . فقال
عمر: ألا تعجبون من إمام أخطأ، وامرأة أصابت! ناضلت إمامكم
فنضلته ! وكان يعس ليلة، فمر بدار سمع فيها صوتاً،
فارتاب وتسور ، فرأى رجلاً عند امرأة وزق
خمر،
فقال: يا عدو الله، أظننت أن الله يسترك وأنت على معصيته! فقال: لا تعجل يا أمير المؤمنين، إن كنت أخطأت في واحدة فقد
أخطأت في ثلاث: قال الله تعالى: "ولا
تجسسوا" وقد تجسست، وقال: "وأتوا البيوت من أبوابها" . وقد تسورت،
وقال: "فإذا دخلتم بيوتاً فسلموا"
وما سلمت. فقال: هل عندك من خير إن عفوت عنك؟
قال: نعم، والله لا أعود، فقال: اذهب فقد عفوت عنك. وأكثر
الناس روى هذا الكلام لعلي رضي الله عنه، وقد ذكره صاحب نهج البلاغة وشرحناه
فيما سبق. فانصرف راجعاً
ونحن معه، فأتى رجل فقال: يا أمير المؤمنين إن
فلانا ظلمني، فأعدني عليه، فرفع في السماء درته ، وضرب بها رأسه، وقال: تدعون عمر وهو معرض لكم، حتى إذا شغل في أمر
المسلمين أتيتموه: أعدني أعدني! فانصرف الرجل يتذمر، فقال
عمر: علي بالرجل، فجيء به فألقى إليه المخفقة ، فقال
اقتص، قال: بل أدعه لله ولك، قال: ليس كذلك، بل تدعه إما لله إرادة ما
عنده، وإما تدعه لي، قال: أدعه لله، قال: انصرف. ثم جاء حتى دخل منزله، ونحن
معه، فصلى ركعتين خفيفتين، ثم جلس فقال: يا بن
الخطاب، كنت وضيعاً فرفعك الله، وكنت ضالاً فهداك الله، وكنت ذليلاً فأعزك الله،
ثم حملك على رقاب الناس، فجاء رجل يستعديك على من ظلمه. فضربته، ماذا
تقول لربك غداً! فجعل يعاتب نفسه معاتبة ظننت أنه
من خير أهل الأرض. ثم أنشأ يحدث
عن نفسه، فقال: لقد رأيتني وأختاً لي نرعى على أبوينا ناضحاً لنا، قد ألبستنا
أمنا نقبتها ، وزودتنا يمنتيها هبيداً فنخرج بناضحنا، فإذا طلعت الشمس، ألقيت
النقبة إلى أختي، وخرجت أسعى عريان، فنرجع إلى أمنا، وقد جعلت لنا لفيتة من ذلك
الهبيد، فياخصباه! وروى
ابن عباس رضي الله عنه، قال: دخلت على عمر
في أول خلافته، وقد ألقي له صاع من تمر على خصفة ، فدعاني إلى الأكل،
فأكلت تمرة واحدة، وأقبل يأكل حتى أتى عليه، ثم شرب من جر كان عنده، واستلقى على
مرفقة له، وطفق يحمد الله يكرر ذلك، ثم قال: من
أين جئت يا عبد الله؟ قلت: من المسجد، قال: كيف خلفت ابن عمك؟ فظننته
يعني عبد الله بن جعفر، قلت: خلفته يلعب مع
أترابه، قال: لم أعن ذلك، إنما عنيت عظيمكم أهل
البيت، قلت: خلفته يمتح بالغرب على نخيلات من فلان، وهو يقرأ القرآن،
قال: يا عبد الله، عليك دماء البدن إن كتمتنيها! هل بقي
في نفسه شيء من أمر الخلافة؟ قلت: نعم، قال: أيزعم
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نص عليه؟
قلت: نعم، وأزيدك، سألت أبي عما يدعيه، فقال: صدق، فقال عمر: لقد كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم في
أمره ذرو من قول لا يثبت حجة، ولا يقطع عذراً، ولقد كان
يربع في أمره وقتاً ما، ولقد أراد في مرضه أن
يصرح باسمه فمنعت من ذلك إشفاقاً وحيطة على الإسلام،
لا ورب هذه البنية لا تجتمع عليه قريش أبداً!
ولو وليها لانتقضت عليه العرب من أقطارها، فعلم
رسول الله صلى الله عليه وسلم أني علمت ما في نفسه، فأمسك، وأبى الله إلا إمضاء ما حتم. ألا إنه قد
أتى علي حين، وأنا أحسب أنه لا يقرأ القرآن أحد إلا يريد به وجه الله وما عند
الله، وقد خيل إلي بأخرة، أن رجالاً قد قرأوه يريدون به ما عند الناس فأريدوا
الله بقراءتكم، وأريدوا الله بأعمالكم. وقال مرة: قد أعياني أهل الكوفة، إن
استعملت عليهم ليناً استضعفوه، وإن استعملت
عليهم شديداً شكوه! ولوددت أني وجدت رجلاً قوياً
أميناً أستعمله عليهم، فقال له رجل: أنا أدلك يا
أمير المؤمنين على الرجل القوي الأمين، قال: من هو؟ قال:
عبد الله بن عمر، قال: قاتلك الله! والله ما أردت الله بها، لاها الله! لا
أستعمله عليها ولا على غيرها، وأنت فقم
فاخرج، فمذ الآن لا أسميك إلا المنافق. فقام الرجل وخرج. فقال عمر: إن عشت لأدعن أرامل العراق لا يحتجن بعدي إلى رجل أبداً،
فما أتت عليه رابعة حتى أصيب.
فكتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم "حم
تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب وقابل التوب، شديد العقاب ذي
الطول لا إله إلا هو إليه الصير" ، أما
بعد، فقد بلغني قولك: لعل أمير المؤمنين يسوءه، البيت وايم الله إنه
ليسوءني، فاقدم فقد عزلتك.
فأشخصه إليه، وفطن القرشي، فضم إليه بيتاً آخر، فلما مثل بين
يديه، قال له أنت القائل:
قال: نعم يا أمير المؤمنين، فهلا
أبلغك الواشي ما بعده؟ قال: ما الذي بعده؟ قال:
قال: آلله آلله! ثم قال: ارجع إلى عملك. كان عمر جالساً في المسجد، فمر به رجل، فقال: ويل لك يا عمر من النار! فقال: قربوه
إلي، فدنا منه، فقال: لم قلت لي ما قلت؟ قال: تستعمل عمالك، وتشترط عليهم ثم لا
تنظر هل وفوا لك بشروط أم لا؟ قال: وما ذاك؟ قال: عاملك على مصر اشترطت عليه،
فترك ما أمرته به، وارتكب ما نهيته عنه، ثم شرح له كثيراً من أمره، فأرسل عمر رجلين من الأنصار، فقال لهما: انتهيا
إليه، فاسألا عنه، فإن كان كذب عليه فأعلماني، وإن رأيتما ما يسوءكما فلا تملكاه
من أمره شيئاً حتى تأتيا به، فذهبا فسألا عنه، فوجداه قد صدق عليه، فجاءا إلى
بابه، فاستأذنا عليه، فقال حاجبه: إنه ليس عليه اليوم إذن، قالا: ليخرجن إلينا
أو لنحرقن عليه بابه، وجاء أحدهما بشعلة من نار، فدخل الآذن، فأخبره فخرج إليهما، قالا: إنا رسولا عمر إليك لتأتيه، قال: إن لنا
حاجة؟ تمهلانني لأتزود، قالا: إنه عزم علينا ألا نمهلك، فاحتملاه، فأتيا
به عمر، فلما أتاه سلم عليه فلم يعرفه، وقال: من أنت؟- وكان رجلاً أسمر، فلما
أصاب من ريف مصر ابيض وسمن- فقال: أنا عاملك على مصر، أنا فلان، قال: ويحك! ركبت ما نهيت عنه، وتركت ما أمرت به!
والله لأعاقبنك عقوبةً أبلغ إليك فيها، آتوني بكساء من صوف، وعصا وثلاثمائة شاة
من غنم الصدقة، فقال: البس هذه الدراعة ، فقد رأيت أباك وهذه خير من دراعته، وخذ
هذه العصا فهي خير من عصا أبيك ، واذهب بهذه الشياه فارعها في مكان كذا- وذلك في
يوم صائف- ولا تمنع السابلة من ألبانها شيئاً إلا آل عمر، فإني لا أعلم أحداً من
آل عمر أصاب من ألبان غنم الصدقة ولحومها شيئاً. فلما ذهب رده، وقال: أفهمت ما قلت! فضرب بنفسه الأرض،
وقال يا أمير المؤمنين، لا أستطيع هذا، فإن شئت فاضرب عنقي، قال: فإن رددتك فأي
رجل تكون؟ قال: والله لا يبلغك بعدها إلا ما تحب. فرده، فكان نعم الرجل. وقال عمر: والله لأنزعن فلاناً من القضاء حتى
أستعمل عوضه رجلاً إذا رآه الفاجر فرق.
فقال عمر: أما ما عشت فلا. فلما أصبح دعا نصر بن حجاج- وهو نصر بن الحجاج بن علابط
البهزي السلمي- فأبصره وهو من أحسن الناس وجهاً، وأصبحهم
وأملحهم حسناً، فأمر أن يطم شعره، فخرجت جبهته
فازداد حسناً، فقال له عمر: اذهب فاعتم، فاعتم
فبدت وفرته فأمر بحلقها فازداد حسناً، فقال له: فتنت
نساء المدينة يابن حجاج! لا تجاورني في بلدة أنا مقيم بها، ثم سيره إلى البصرة.
فقال عمر: أما ولي ولاية فلا. وأقطعه أرضاً بالبصرة وداراً.
محمد بن سعيد، قال: بينا يطوف عمر في بعض سكك المدينة، إذ سمع امرأة تهتف من خدرها:
فقال عمر: ألا لا أدري معي رجلاً يهتف به العواتق في خدورهن! علي بنصر بن حجاج، فأتي به، فإذا هو أحسن الناس وجهاً
وعيناً وشعراً، فأمر بشعره فجز، فخرجت له وجنتان كأنه قمر، فأمره أن يعتم فاعتم،
ففتن النساء بعينه، فقال عمر: لا والله لا تساكنني بأرض
أنا بها، قال: ولم يا أمير المؤمنين؟ قال: هو ما أقول لك، فسيره إلى البصرة.
فبكى عمر، وقال: الحمد لله الذي قيد الهوى
بالتقوى. خطب
عمر في الليلة التي دفن فيها أبو بكر، فقال: إن الله
تعالى نهج سبيله، وكفانا برسوله، فلم يبق إلا الدعاء والاقتداء. الحمد لله
الذي ابتلاني بكم وابتلاكم بي، وأبقاني فيكم بعد صاحبي، وأعوذ بالله أن أزل أو
أضل. فأعادي له ولياً، أو أوالي له عدواً. ألا إني
وصاحبي كنفر ثلاثة قفلوا من طيبة، فأخذ أحدهم مهلة إلى داره وقراره فسلك أرضاً
مضيئة متشابهة الأعلام، فلم يزل عن الطريق، ولم يحرم السبيل، حتى أسلمه إلى
أهله، ثم تلاه الآخر فسلك سبيله، واتبع أثره، فأفضى إليه ولقي صاحبه، ثم تلاهما
الثالث، فإن سلك سبيلهما واتبع أثرهما أفضى إليهما ولاقاهما، وإن زل يميناً أو
شمالاً لم يجامعهما أبداً. ألا وإن العرب جمل أنف قد أعطيت خطامه، ألا وإني
حامله على المحجة ومستعين بالله عليه. اللهم إني
غليظ فليني. اللهم إني
ضعيف فقوني. اللهم أوجب لي بموالاتك وموالاة أوليائك
ولايتك ومعونتك، وأبرئني من الآفات بمعاداة أعدائك، وتوفني مع الأبرار، ولا
تحشرني في زمرة الأشقياء. اللهم لا تكثر
لي من الدنيا فأطغى، ولا تقلل لي فأشقى، فإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى. وإني نظرت في هذا الأمر، فجعلت إن أردت الدنيا
أضررت بالآخرة، وإن أردت الآخرة أضررت بالدنيا، وإذا كان الأمر هكذا؟ فأضروا
بالفانية. فدخلوا عليها،
وسألوها أن تكلمه ولا تخبره بأسماء من أتاها إلا أن يقبل. فلقيت عمر في
ذلك، فرأت الغضب في وجهه، وقال: من أتاك؟ قالت: لا سبيل إلى ذلك، فقال: لو علمت
من هم لسؤت أوجههم، أنت بيني وبينهم! نشدتك الله ما أفضل ما اقتنى رسول الله صلى الله عليه وسلم في
بيتك من الملبس؟ قالت: ثوبان ممشقان، كان يلبسهما للوفد، ويخطب فيهما الجمع،
قال: فأي طعام ناله عندك أرفع؟ قالت: خبزنا مرة خبزة شعير، فصببت عليها- وهي حارة أسفلها- عكة لنا كان فيها سمن وعسل،
فجعلتها هشة حلوة دسمة، فأكل منها فاستطابها، قال: فأي مبسط كان يبسط عندك أوطأ؟
قالت: كساء ثخين كنا نرقعه في الصيف فنجعله ثخيناً، فإذا كان الشتاء بسطنا نصفه،
وتدثرنا بنصفه، قال: فأبلغيهم أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قدر فوضع
الفضول مواضعها، وتبلغ ما أبر، وإني قدرت فوالله لأضعن الفضول مواضعها، ولأتبلغن
ما أبر حبة. وفد
على عمر وفد فيه رجال الناس من الآفاق، فوضع لهم
بسطاً من عباء، وقدم إليهم طعاماً غليظاً، فقالت له
ابنته حفصة أم المؤمنين: إنهم وجوه الناس وكرام العرب، فأحسن كرامتهم. فقال:
يا
حفصة، أخبريني بألين فراش فرشته لرسول الله صلى
الله عليه وسلم، وأطيب طعام أكله عندك؟ قالت: أصبنا
كساء ملبداً عام خيبر، فكنت أفرشه له فينام عليه، وإني رفعته ليلة، فلما أصبح قال: ما كان فراشي الليلة؟ قلت: فراشك
كل ليلة؟ إلا أني الليلة رفعته لك ليكون أوطأ، فقال: أعيديه لحالته الأولى، فإن
وطاءته منعتني الليلة من الصلاة. ثم كتب إلى
عتبة: أما بعد، فإن خبيصك الذي بعثته ليس من كد أبيك
ولا من كد أمك، أشبع المسلمين مما تشبع منه في رحلك ولا تستأثر؟ فإن الأثرة شر والسلام. فكشف عن سلة
منها فذاق فاستطاب، فقال: عزمت عليك يا عتبة
إذا رجعت إلا رزقت كل رجل من المسلمين مثله! قلت:
والذي يصلحك يا أمير المؤمنين لو أنفقت عليه أموال قيس كلها لما وسع ذلك، قال: فلا حاجة لي فيه إذاً، ثم دعا بقصعةٍ من
ثريد، ولحم غليظ، وخبز خشن، فقال: كل، ثم
جعل يأكل أكلاً شهياً. وجعلت أهوي
إلى البضعة البيضاء أحسبها سناماً، وإذا هي عصبة، وأهوي إلى البضعة من اللحم
أمضغها، فلا أسيغها، وإذا هي من علباء العنق ، فإذا غفل عني جعلتها بين الخوان
والقصعة، فدعا بعس من نبيذ كاد يكون خلاً، فقال: اشرب، فلم أستطعه ولم أسغه أن أشرب، فشرب، ثم نظر إلي وقال: ويحك إنه ليس بدرمك العراق وودكه
، ولكن ما تأكله أنت وأصحابك. فقال عمر: صدق
عوف والله وكذبتم! وروى
أبو العالية الشامي، قال: قدم عمر الجابية، على جمل أورق
، تلوح صلعته، ليس عليه قلنسوة، تصل رجلاه بين شعبتي رحله، بغير ركاب، وطاؤه
كساء أنبجاني كثير الصوف، وهو وطاؤه إذا ركب، وفراشه إذا نزل، وحقيبته نمرة
محشوة ليفاً، هي حقيبته إذا ركب، ووسادته إذا نزل، وعليه قميص من كرابيس قد دسم
وتخرق جيبه، فقال: ادعوا إلي رأس القرية. فدعوه له، فقال: اغسلوا قميصي هذا
وخيطوه، وأعيروني قميصاً ريثما يجف قميمي، فأتوه بقميص كتان، فعجب منه، فقال: ما
هذا؟ قالوا: كتان. قال وما الكتان؟ فأخبروه، فلبسه ثم غسل قميصه، وأتي به فنزع
قميصهم ولبس قميصه، فقال له رأس القرية: أنت ملك العرب، وهذه بلاد لا يصلح بها ركوب الإبل، فأتي
ببرذون فطرحت عليه قطيفة بغير سرج فركبه، فهملج ، تحته، فقال للناس: احبسوا، فحبسوه، فقال: ما كنت أظن الناس
يركبون الشيطان قبل هذا! قدموا لي جملي. فجيء به فنزل عن البرذون وركبه. فقال
عمرو:
إني والله ما تأبطتني الإماء، ولا حملتني في غبرات المآلي، فقال عمر: والله ما هذا بجواب
الكلام الذي سألتك عنه! وإن الدجاجة لتفحص في
الرماد فتضع لغير الفحل؟ وإنما تنسب البيضة إلى طرقها. فقام عمرو مربد الوجه . فقلت له: وأم
عمرو النابغة أمة من سبايا العرب، فقال: أمه عربية من عنزة، سبيت في بعض الغارات، فليس يلحقها من
النقص عندهم ما يلحق الإماء الزنجيات. فقلت له: أكان عمرو يقدم على عمر بمثل ما قلت؟ قال: قد يكون
بلغه عنه قول قدح في نفسه فلم يحتمله له، ونفث بما في صدره منه، وإن لم يكن جواباً مطابقاً للسؤال. أوفد بشر بن مروان وهو على العراق رجلاً إلى
عبد الملك، فسأله عن بشر، فقال: يا أمير المؤمنين، هو اللين في غير ضعف،
الشديد في غير عنف، فقال عبد الملك: ذاك الأحوذي ابن حنتمة الذي كان يأمن عنده البريء، ويخافه
السقيم، ويعاقب على الذنب، ويعرف موضع العقوبة، لا بشر
بن مروان! أذن عمر يوماً للناس، فدخل شيخ كبير يعرج، وهو يقود ناقة
رجيعاً يجاذبها، حتى وقف بين ظهراني الناس، ثم قال:
فقال عمر: لا حول ولا قوة إلا باللة؟ من أنت؟ قال: عمرو بن براقة، قال: ويحك! فما منعك أن تقول: "وأعلموا إنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه
وللرسول" . ثم قرأها إلى آخرها؟ وأمر بناقته فقبضت، وحمله على
غيرها، وكساه وزود بينا عمر يسير في طريق مكة يوماً إذا بالشيخ بين يديه يرتجز،
ويقول:
فطعنه عمر بالسوط في ظهره، فقال:
ويلك! وأين الصديق! قال: ما لي بأمره علم يا أمير المؤمنين، قال: أما إنك لو كنت عالماً، ثم قلت هذا لأوجعت ظهرك.
فبكى عمر لما قال له: ماذا تقول لأفراخ فكان عمرو بن العاص بعد ذلك يقول: ما أقلت الغبراء
ولا أظلت الخضراء أتقى من رجل يبكي خوفاً من حبس الحطيئة! ثم قال عمر لغلامه يرفأ: علي بالكرسي، فجلس عليه، ثم قال: علي بالطست، فأتي بها، ثم قال: علي
بالمخصف لا بل علي بالسكين، فأتي بها، فقال: لا بل علي بالموسى فإنها أوجى، فأتي
بموسى، ثم قال: أشيروا علي في الشاعر، فإنه يقول الهجر
، وينسب بالحرم، ويمدح الناس ويذمهم بغير ما فيهم، وما أراني إلا قاطعاً لسانه!
فجعل الحطيئة يزيد خوفاً، فقال من حضر: إنه لا
يعود يا أمير المؤمنين، وأشاروا إليه قل: لا أعود يا
أمير المؤمنين، فقال: التجاء التجاء! فلما ولى ناداه: يا خطيئة! فرجع
مرعوباً، فقال: كأني بك يا حطيئة عند فتى من
قريش، قد بسط لك نمرقة ، وكسر لك أخرى، ثم قال:
غننا يا حطيئة، فطفقت تغنيه بأعراض الناس، قال: يا أمير
المؤمنين، لا أعود، ولا يكون ذلك. قال: فقلت لعبيد الله بن عمر:
سمعت أباك يذكر كذا، فكنت أنت ذلك الفتى. قال أبو هريرة: كانت لنا
أفراس فتناتجت، فقال: قد حبست لك رزقك ومؤونتك، وهذا فضل. قال أبو هريرة: ليس ذلك لك، قال: بك، والله وأوجع
ظهرك! ثم قام إليه بالدرة فضرب ظهره، حتى أدماه،
ثم قال: ائت بها، فلما أحضرها، قال أبو هريرة:
سوف أحتسبها عند الله، قال عمر: ذاك لو أخذتها
من حل، وأديتها طائعاً، أما والله ما رجت فيك أميمة أن
تجبي أموال هجر واليمامة وأقصى البحرين لنفسك؟ لا لله ولا للمسلمين، ولم
ترج فيك أكثر من رعية الحفر. وعزله. وصادر الحارث بن وهب أحد بني ليث بكر بن كنانة،
وقال له:
ما قلاص وأعبد بعتها بمائة دينار قال: خرجت بنفقةٍ لي
فاتجرت فيها، قال: وإنا والله ما بعثناك
للتجارة، أدها، قال: أما والله لا أعمل لك بعدها.
قال: أنا والله لا أستعملك بعدها. ثم صعد
المنبر، فقال: يا معشر الأمراء، إن هذا المال لو
رأينا أنه يحل لنا لأحللناه لكم، فأما إذ لم نره يحل لنا وظلفنا أنفسنا عنه،
فاظلفوا عنه أنفسكم، فإني والله ما وجدت لكم مثلاً إلا عطشان ورد اللجة، ولم
ينظر الماتح فلما روي غرق. والله يا أمير المؤمنين، لو كانت خيانتك لنا حلالاً ما خناك؟
حيث ائتمنتنا، فأقصر عنا عناك، فإن لنا أحساباً إذا رجعنا إليها أغنتنا عن العمل
لك، وأما من كان لك من السابقين الأولين، فهلا
استعملتهم! فوالله ما دققت لك باباً. فقال محمد: إيها يا عمرو! فعمر والله خير منك، وأما أبوك وأبوه ففي النار، ووالله لولا ما دخلت
فيه من الإسلام لألفيت معتلفاً شاة يسرك غزرها، ويسوءك بكؤها. قال: صدقت؟ فاكتم علي. قال: أفعل. فكتب إلى بعض الجند قوم من أهله يستزيرونه، ويتشوقونه، وقد
أخرجه بشر إلى الري فكتب إليهم:
فلما جاء الحجاج قال: كل هذا لعب،
فقتل العصاة بالسيف. فأرسل إلى الزبير، فلما دخل جئت فقمت لأنظر ما يقول
له، فقال: ما حملك على ما صنعت! أدميتني للناس.
فقال الزبير يحكيه ويمطط في
كلامه: أدميتني !، أتحتجب عنا يابن الخطاب! فوالله ما احتجب مني رسول الله، ولا أبو
بكر! فقال عمر كالمعتذر: إني كنت في بعض شأني! قال أسلم: فلما سمعته يعتذر إليه، يئست من أن يأخذ لي بحقي منه. فخرج الزبير، فقال عمر:
إنه الزبير وآثاره ما تعلم! فقلت: حقي حقك! وروى
الزبير بن بكار في كتاب الموفقيات، عن عبد الله بن عباس قال: إني لأماشي عمر بن الخطاب في سكة من
سكك المدينة، إذ قال لي: يابن عباس، ما أرى
صاحبك إلا مظلوماً، فقلت في نفسي: والله لا
يسبقني بها، فقلت: يا أمير المؤمنين، فاردد إليه
ظلامته، فانتزع يده من يدي، ومضى يهمهم ساعة، ثم وقف فلحقته، فقال: يابن
عباس! ما أظنهم منعهم عنه إلا أنه استصغره قومه! فقلت في نفسي: هذه شر من الأولى! فقلت:
والله ما استصغره الله ورسوله حين أمراه أن يأخذ براءة من صاحبك، فأعرض
عني وأسرع، فرجعت عنه. قال: يابن عباس، إني قائل قولاً فخذه إليك، كيف لا أحب فراقهم، وفيهم من هو
فاتح فاه للشهوة من الدنيا، إما لحق لا ينوء به، وإما لباطل لا يناله! والله
لولا أن اسأل عنكم لبرئت منكم فأصبحت الأرض مني بلاقع، ولم
أقل: ما فعل فلان وفلان! جاءت امرأة إلى عمر بن الخطاب، فقالت: يا أمير المؤمنين، إن زوجي يصوم النهار ويقوم الليل، وإني أكره أن أشكوه وهو
يعمل بطاعة الله فقال: نعم الزوج زوجك! فجعلت تكرر عليه القول، وهو يكرر عليها الجواب.
فقال زوجها:
قال كعب:
فقال لعمر: يا أمير المؤمنين، إن الله أحل له من النساء مثنى وثلاث
ورباع، فله ثلاثة أيام ولياليهن، يعبد فيها ربه،
ولها يوم وليلة. فأقبلنا حتى وقفنا عليها، فقال: ما
يبكي هؤلاء الصبيان؟ قالت: الجوع، قال: فما هذا القدر على النار؟ قالت: ماء أعللهم به، قال: انتظريني فإني بالغك إن شاء
الله! ثم خرج يهرول وأنا معه، حتى جئنا دار الدقيق-
وكانت داراً يطرح فيها ما يجيء من دقيق العراق ومصر. وقد كان كتب إلى عمرو بن العاص وأبي
موسى حين أمحلت السنة: الغوث! الغوث! احملوا إلي أحمال الدقيق، واجعلوا
فيها جمائد الشحم. فجاء إلى عدلٍ منها، فطأطأ ظهره، ثم قال: احمله
على ظهري يا أسلم!
فقلت: أنا أحمله عنك! فنظر إلي وقال: أنت تحمل عني وزري
يوم القيامة؟ لا أبالك! قلت: لا، قال: فاحمله على ظهري إذاً، ففعلت، وخرج
به يدلج . وأنا معه؟ حتى ألقاه
عند المرأة. ثم
أنزل القدر، وقال للمرأة: لا تعجلي، لا تعطيهم حاراً، وأنا أسطح
لك، فجعل يسطح بالمسواط، ويبرد طعامهم، حتى إذا شبعوا ترك عندها الفضل، ثم قال لها: ائتي أمير المؤمنين غدا، فإنك عسيت أن تجديني
قريباً منه، فأشفع لك بخير؟ وهي تقول: من
أنت يرحمك الله! وتدعو له وتقول: أنت أولى بالخلافة من أمير المؤمنين؟ فيقول:
قولي خيراً يرحمك الله! لا يزيد على هذا. ومن
كلامه: الرجال ثلاثة: الكامل، ودون الكامل، ولا شيء. فالكامل ذو
الرأي يستشير الناس، فيأخذ من آراء الرجال إلى رأيه، ودون الكامل من يستبد به
ولا يستشير. ولا شيء من لا
رأي له ولا يستشير. وامرأة وعاء
للولد ليس فيها غيره. والثالثة غل
قمل يجعله الله في رقبة من يشاء، ويفكه إذا شاء. قال: فشبب
بأهلك، وإياك وكل مدحة مجحفة. قال: وما المجحفة؟ قال: تقول: إن بني فلان خير
من بني فلان، امدح ولا تفضل أحداً؟ قال: أنت والله يا
أمير المؤمنين أشعر مني! وروى الزبير في
الموفقيات عن عبد الله بن عباس، قال: خرجت أريد
عمر بن الخطاب، فلقيته راكباً حماراً، وقد ارتسنه بحبل أسود، في رجليه
نعلان مخصوفتان، وعليه إزار وقميص صغير، وقد انكشفت منه رجلاه إلى ركبتيه، فمشيت
إلى جانبه، وجعلت أجذب الإزار وأسويه عليه، كلما
سترت جانباً انكشف جانب، فيضحك ويقول: إنه لا يطيعك، حتى جئنا العالية،
فصلينا، ثم قدم بعض القوم إلينا طعاماً من خبز ولحم، وإذا عمر صائم، فجعل ينبذ
إلي طيب اللحم، ويقول: كل لي ولك، ثم دخلنا حائطاً فألقى إلي رداءه، وقال
اكفنيه، وألقى قميصه بين يديه، وجلس يغسله، وأنا أغسل رداءه، ثم جففناهما وصلينا
العصر، فركب ومشيت إلى جانبه، ولا ثالث لنا. قال: يابن عباس، إن صاحبكم إن ولي هذا الأمر أخشى عجبه بنفسه أن يذهب به، فليتني أراكم بعدي! قلت: يا
أمير المؤمنين، إن صاحبنا ما قد علمت؟ إنه ما غير ولا بدل، ولا أسخط رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام صحبته له. ثم أنشأ يسألني عن شيء من أمور الفتيا وأجيبه فيقول: أصبت أصاب الله بك! أنت والله أحق أن تتبع!
أشرف
عبد الملك على أصحابه، وهم يتذاكرون سيرة عمر، فغاظه ذلك، وقال: إيهاً عن ذكر سيرة عمر! فإنها مزراة
على الولاة، مفسدة للرعية. قال ابن عباس: كنت عند عمر، فتنفس نفساً ظننت أن أضلاعه قد انفرجت، فقلت: ما أخرج هذا النفس منك يا أمير المؤمنين إلا هم
شديد! قال: إي والله يا بن عباس! إني فكرت فلم
أدر فيمن أجعل هذا الأمر بعدي! ثم قال: لعلك ترى صاحبك
لها أهلاً! قلت: وما يمنعه من ذلك مع جهاده وسابقته وقرابته وعلمه! قال: صدقت، ولكنه امرؤ فيه دعابة، قلت: فأين أنت عن طلحة! قال: ذو
البأو، بإصبعه المقطوعة! قلت: فعبد الرحمن؟
قال: رجل ضعيف لو صار الأمر إليه لوضع خاتمه في يد
امرأته. قلت: فالزبير؟ قال: شكس لقس يلاطم في النقيع في صاع من بر! قلت: فسعد بن أبي وقاص؟ قال: صاحب
سلاح ومقنب ، قلت: فعثمان؟ قال: أوه! ثلاثاً، والله
لئن وليها ليحملن بني أبي معيط على رقاب الناس، ثم
لتنهض العرب إليه. قال ابن عباس: وكانت والله هي صفات عمر. فقال: يا أمير المؤمنين، إنه مدح قوماً من غطفان، يقال لهم
بنو سنان، فقال:
فقال عمر: والله لقد أحسن، وما أرى هذا المدح
يصلح إلا لهذا البيت من هاشم؟ لقرابتهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال ابن عباس: وفقك الله يا أمير المؤمنين، فلم تزل موفقاً، فقال: يابن عباس، أتدري ما منع الناس منكم؟ قال: لا يا
أمير المؤمنين، قال: لكني أدري، قال: ما هو يا
أمير المؤمنين؟ قال: كرهت قريش أن يجتمع لكم النبوة والخلافة، فيجخفوا جخفاً ، فنظرت قريش لنفسها فاختارت ووفقت فأصابت. وأما قولك: فإن قريشاً اختارت فإن الله تعالى يقول: "وربك يخلف ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة
"، وقد علمت يا أمير المؤمنين أن الله اختار من خلقه لذلك من اختار، فلو نظرت قريش من حيث نظر الله لها لوفقت وأصابت قريش. فقال عمر: على رسلك يابن عباس، أبت
قلوبكم يا بني هاشم إلا غشاً في أمر قريش لا يزول، وحقداً عليها لا يحول،
فقال ابن عباس: مهلاً يا أمير المؤمنين! لا تنسب هاشماً
إلى الغش، فإن قلوبهم من قلب رسول الله الذي طهره الله وزكاه، وهم أهل البيت
الذين قال الله تعالى لهم: "إنما يريد
الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً" ، وأما قولك: حقداً فكيف لا يحقد من غصب شيئه، ويراه في
يد غيره! فقال عمر: أما
أنت يابن عباس، فقد بلغني عنك كلام أكره أن أخبرك به، فتزول منزلتك عندي،
قال: وما هو يا أمير المؤمنين؟ أخبرني به، فإن
يك باطلاً فمثلي أماط الباطل عن نفسه، وإن يك حقاً فإن منزلتي عندك لا تزول به. قال: أما قولك يا أمير المؤمنين: حسداً، فقد حسد إبليس
آدم، فأخرجه من الجنة، فنحن بنو آدم المحسود. وأما
قولك:
ظلماً فأمير المؤمنين يعلم صاحب الحق من هو! ثم قال: يا أمير المؤمنين، ألم تحتج العرب على
العجم بحق رسول الله، واحتجت قريش على سائر العرب بحق رسول الله صلى الله عليه وسلم فنحن أحق برسول الله من سائر قريش. فقام، فلما ولى هتف
به عمر: أيها المنصرف، إني على ما كان منك لراع حقك! فالتفت ابن عباس فقال: إن لي عليك يا أمير المؤمنين
وعلى كل المسلمين حقاً لرسول الله صلى
الله عليه وسلم، فمن حفظه فحق
نفسه حفظ، ومن أضاعه فحق نفسه أضاع. ثم
مضى. لما
توفي عبد الله بن أبي، رأس المنافقين في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاء ابنه
وأهله، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي عليه،
فقام بين يدي الصف يريد ذلك، فجاء عمر فجذبه من خلفه، وقال: ألم ينهك الله أن تصلي
على المنافقين! فقال: إني خيرت فاخترت، فقيل لي:
"استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم
سبعين مرة فلن يغفر الله لهم" ، ولو أني
أعلم أني إذا زدت على السبعين غفر له لزدت. ثم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومشى
معه، وقام على قبره. فقال: يا رسول الله، لي خاصة، أم للناس عامة!
فضرب عمر صدره بيده وقال:
لا، ولا تعمى عين! بل للناس عامة. فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: بل للناس
عامة. وتمالأ عليه
نساؤه غيرة، فقلت له: "عسى ربه إن طلقكن إن
تبدله أزواجاً خيراً منكن " فنزلت بهذا
اللفظ. لما
كتب النبي صلى الله عليه وسلم كتاب الصلح في الحديبية
بينه وبين سهيل بن عمرو، كان
في الكتاب أن من خرج من المسلمين إلى قريش لا يرد، ومن خرج من المشركين إلى
النبي صلى الله عليه وسلم يرد
عليهم، فغضب عمر وقال لأبي بكر: ما هذا يا أبا بكر! أيرد المسلمون إلى المشركين! ثم جاء إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم، فجلس بين
يديه، وقال يا رسول الله، ألست رسول الله حقاً! قال: بلى، قال: ونحن المسلمون
حقاً! قال: نعم، قال: وهم الكافرون حقاً! قال: نعم، قال:
فعلام نعطي الدنية في ديننا! فقال رسول
الله: أنا رسول الله، أفعل ما يأمرني به، ولن يضيعني. وجاء
إلى أبي بكر فقال له: يا أبا بكر، ألم يكن وعدنا أننا
سندخل مكة، فأين ما وعدنا به؟ فقال أبو بكر: أقال لك: إنه العام يدخلها؟ قال: لا، قال: فسيدخلها، فقال: فما هذه الصحيفة التي كتبت؟ وكيف نعطي الدنية من أنفسنا! فقال أبو بكر: يا هذا، الزم غرزه ، فوالله إنه لرسول الله، وإن الله لا
يضيعه. لما قتل المشركون يوم بدر أسر منهم سبعون أسيراً،
فاستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم أبا بكر وعمر، فقال أبو بكر: يا رسول الله، هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان، وأرى أن تأخذ منهم
الفدية، فيكون ما أخذنا منهم قوة لنا على المشركين، وعسى أن يهديهم الله بعد
اليوم، فيكونوا لنا عذراً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تقول أنت يا عمر؟ قال: أرى أن تمكنني من
فلان- قريب لعمر- فأضرب عنقه، وتمكن علياً من عقيل، فيضرب عنقه، وتمكن حمزة
من أخيه فيضرب عنقه، حتى يعلم الله أنه ليس في
قلوبهم هوادة للمشركين. اقتلهم يا رسول الله، فإنهم صناديدهم وقادتهم.
فلم يهو رسول الله ما قاله عمر. وقال أسلم: بعثني عمر بإبل الصدقة إلى الحمى، فوضعت جهازي على ناقة
منها كريمة، فلما أردت أن أصدرها قال: اعرضها علي، فعرضتها عليه، فرأى متاعي على
ناقة حسناء، فقال: لا أم لك! عمدت إلى ناقة تغني أهل بيت من المسلمين! فهلا ابن
لبون بوال، أو ناقة شصوص ! وقيل لعمر: إن هاهنا رجلاً من الأحبار نصرانياً، له
بصر بالديوان، لو اتخذته كاتباً! فقال: لقد اتخذت إذا بطانة من دون المؤمنين! قال، وقد
خطب الناس:
والذي بعث محمداً بالحق لو أن جملاً هلك ضياعاً بشط الفرات، خشيت أن يسأل الله
عنه آل الخطاب.
فقال عمر: اللهم اغفر لي، ثم دعاه فحمله. قال: إنه سألني من مال الله، فما معذرتي إذا لقيته ملكاً خائنا؟
فلو سألني من مالي! ثم بعث إليه بألف درهم من ماله.
فقال عمر: لا حول ولا قوة إلا بالله! ماذا صنعت يا عمر بنساء المدينة!
ثم جاء فقرب على حفصة ابنته، فقالت: ما جاء بك
في هذه الساعة؟ قال: أخبريني كم تصبر المرأة
المغيبة عن بعلها؟ قالت: أقصاه أربعة أشهر. وروى أسلم، قال: كنت مع عمر، وهو يعس بالمدينة، إذ
سمع امرأة تقول لبنتها: قومي يا بنية إلى ذلك اللبن بعد المشرقين فامذقيه
، قالت: أو ما علمت ما كان من عزمة أمير
المؤمنين بالأمس؟ قالت: وما هو؟ قالت: إنه
أمر منادياً ينادي ألا يشاب اللبن بالماء، قالت: فإنك بموضع لا يراك أمير المؤمنين ولا منادي أمير المؤمنين!
قالت: والله ما كنت لأطيعه في الملأ، وأعصيه في الخلاء- وعمر يسمع ذلك- فقال: يا
أسلم، اعرف الباب، ثم مضى في عسه ، فلما أصبح، قال: يا أسلم، امض إلى الموضع،
فانظر من القائلة ومن المقول لها؟ وهل لهما من بعل؟ قال
أسلم: فأتيت الموضع، فنظرت فإذا الجارية أيم ، وإذا المتكلمة بنت لها، ليس لهما
رجل.
وروى محمد بن سيربن أن عمر في آخر أيامه اعتراه نسيان حتى كان ينسى عدد ركعات
الصلاة، فجعل أمامه رجلاً يلقنه، فإذا أومى إليه أن يقوم أو يركع، فعل.
فقال: وأنا لولا ثلاث هن من عيشة الفتى، لم أحفل متى قام عودي؟ أن
أجاهد في سبيل الله، وأن أضع وجهي في التراب لله، وأن أجالس قوماً يلتقطون طيب
القول كما يلتقط طيب التمر. وكان عمر كثير المشاورة، كان يشاور في أمور
المسلمين حتى المرأة. قال
عمر يوماً، والناس حوله:
والله ما أدري أخليفة أنا أم ملك! فإن كنت ملكا، فقد ورطت في أمر عظيم، فقال له
قائل: يا أمير المؤمنين إن بينهما فرقاً، وإنك إن شاء الله لعلي خير، قال: كيف؟
قال: إن الخليفة لا يأخذ إلا حقاً ولا يضعه إلا في حق، وأنت بحمد الله كذلك،
والملك يعسف الناس ويأخذ مال هذا فيعطيه هذا. فسكت عمر وقال: أرجو أن أكونه. وروى يوسف بن يعقوب الماجشون، قال: قال لي وابن شهاب ولأخ لي ابن عم لنا،
ونحن صبيان أحداث: لا تحتقروا أنفسكم لحداثة
أسنانكم، فإن عمر كان إذا نزل به الأمر المعضل، دعا الصبيان فاستشارهم، يبتغي
حدة عقولهم. وروى الحسن، قال: كان رجل لا يزال يؤخذ من لحية عمر
شيئاً فأخذ يوماً من لحيته؟ فقبض على يده فإذا هو ليس فيها شيء، فقال: إن الملق
من الكذب ثم علاه بالدرة .
فقال عمر: إن لم أفعل، يكون ماذا؟ قال: إذا أبا حفص لأمضينه فقال: إذا
مضيت يكون ماذا؟ قال:
فبكى عمر، ثم قال لغلامه: أعطه قميصي هذا لذلك اليوم، لا
لشعره، والله ما أملك ثوباً غيره.
فأنشدته حتى برق الفجر، فقال: إيهاً الآن اقرأ يا عبد الله، قلت:
ما أقرأ؟ قال: سورة الواقعة. سمع
عمر سائلاً يقول: من يعشي السائل؟ فقال: عشوا سائلكم،
ثم جاء إلى دار إبل الصدقة يعشيها، فسمع صوته مرة
أخرى: من يعشي السائل؟ فقال: ألم
آمركم أن تعشوه! فقالوا: قد عشيناه، فأرسل إليه
عمر، وإذا معه جراب مملوء خبزاً، فقال: إنك
لست سائلاً، إنما أنت تاجر تجمع لأهلك، فأخذ بطرف الجراب فنبذه بين يدي الإبل. ولن يعطى أحد بعد الإيمان بالله خيراً من زوجة
كريمة ودود ولود، حسنة الخلق. وإذا تكبر
وعتا وهضه الله إلى الأرض، وقال: اخسأ، خسأك الله! فهو في نفسه عظيم، وفي أعين
الناس حقير، حتى يكون عندهم أحقر من الخنزير. ولا يتركه حياء من طلبه، ولا زهادة فيه، ولا
رضا بالجهل بدلاً منه. وقال:
تعلموا أنسابكم تصلوا أرحامكم. وأخرى
وعاء
للولد لا تزيد على ذلك شيئاً، والثالثة غل قمل،
يجعله الله في عنق من يشاء، وينزعه إذا شاء. وإنه يكون في
الرجل تسعة أخلاق حسنة، وخلق واحد سعى، فيغلب الواحد التسعة، فتوق عزات السيئات. وقال:
الراحة في مهاجرة خلطاء السوء. وقال:
لأن أموت بين شعبتي رحلي، أسعى في الأرض، أبتغي من فضل الله كفاف وجهي، أحب إلي
من أن أموت غازياً. إياكم
أن تنتهوا عن آية الرجم، وأن يقول قائل: لا نجد ذلك
حداً في كتاب الله، فقد رأيت رسول الله رجم ورجمنا
بعده، ولولا أن يقول الناس: إن ابن الخطاب
أحدث آية في كتاب الله لكتبتها، ولقد كنا نقرؤها: "والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة"؟
فما انسلخ ذو الحجة حتى طعن. وأول من حمل الدرة وأدب بها. وقيل
بعده: كانت درة عمر أهيب من سيف الحجاج. وهو أول من مصر الأمصار، وكوف الكوفة، وبصر
البصرة، وأنزلها العرب، أول من استقفى القضاة في الأمصار، وأول من دون الدواوين،
وكتب الناس على قبائلهم، وفرض لهم الأعطية، وهو
وأول من قاسم العمال وشاطرهم أموالهم، وكان يستعمل قوماً ويدع أفضل منهم
لبصرهم بالعمل، وقال: أكره أن أدنس هؤلاء
بالعمل. وهو
الذي هدم مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزاد فيه، وأدخل دار العباس فيما
زاد. وهو
الذي أخرج اليهود من الحجاز، وأجلاهم عن جزيرة العرب إلى الشام. وهو الذي فتح
البيت المقدس، وحضر الفتح بنفسه. وهو
الذي أخر المقام إلى موضعه اليوم، وكان ملصقاً بالبيت. وحج بنفسه
خلافته كلها إلا السنة الأولى، فإنه استخلف على الحج
عبد الرحمن ابن عوف. وهو الذي جاء
بالحمى من العقيق فبسطه في مسجد المدينة، وكان الناس إذا رفعوا رؤوسهم من السجود
نفضوا أيديهم. وروى
أبو هريرة، قال: قدمت على عمر من عند أبي موسى بثمانمائة
ألف درهم؟ فقال لي: بماذا قدمت؟ قلت: بثمانمائة ألف درهم، فقال: ألم أقل لك إنك يمانٍ أحمق، ويحك! إنما قدمت بثمانين
ألف درهم، فقلت: يا أمير المؤمنين إنما قدمت بثمانمائة
ألف درهم، فجعل يعجب ويكررها، فقال: ويحك! وكم
ثمانمائة ألف درهم؟ فعددت مائة ألف، ومائة ألف حتى بلغت ثمانية، فاستعظم ذلك، وقال: أطيب هو ويحك! قلت: نعم، فبات عمر
ليلته تلك أرقا حتى إذا نودي لصلاة الصبح، قالت له
امرأته: ما نمت هذه الليلة، قال: وكيف أنام وقد جاء الناس ما لم يأتهم
مثله منذ قام الإسلام، فظنت المرأة أنها داهية،
فسألته، فقال: مال جم، حمله أبو موسى، قالت:
فما بالك؟ قال: ما يؤمنني لو مت وهذا المال عندي لم أضعه في حقه! فخرج يصلي الصبح، واجتمع الناس إليه، فقال لهم: قد رأيت في هذا المال رأياً فأشيروا علي، رأيت أن أكيله للناس
بالمكيال، قالوا: لا يا أمير المؤمنين، قال: لا بل أبدأ برسول الله صلى الله عليه وسلم وبأهله،
ثم الأقرب فالأقرب،
فبدأ ببني هاشم، ثم ببني المطلب، ثم بعبد شمس ونوفل، ثم بسائر بطون قريش. فوقف
عمر معها ولم يمض، وقال: مرحباً بنسيب قريب! ثم انصرف إلى بعير
ظهير كان مربوطاً في الدار، فحمل عليه غرارتين ملأهما طعاماً، وجعل بينهما نفقة
وثياباً، ثم ناولها خطامه وقال: اقتاديه فلن يفنى هذا حتى يأتيكم الله بخير. فقال له رجل:
لقد أكثرت لها يا أمير المؤمنين! فقال: ثكلتك أمك!
والله لكأني أرى أبا هذه وأخاها، وقد حاصرا حصناً فافتتحاه. فافترقنا، ثم أصبحنا
نستقرئ سهماننا فيه. خرج عمر إلى
الشام، حتى إذا كان ببعض الطريق، لقيه أمراء الأجناد: أبو
عبيدة بن الجراح وأصحابه، فأخبروه أن الوباء قد
وقع بالشام، فقال لابن عباس: ادع لي المهاجرين،
فدعاهم فسألهم، فاختلفوا عليه، فقال بعضهم:
خرجت لأمر ولا نرى أن ترجع عنه. وقال بعضهم: معك بقية الناس وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا
نرى أن تقدمهم على هذا الوباء، فقال: ارتفعوا عني،
ثم قال لابن عباس: ادع لي الأنصار، فدعاهم فاستشارهم، فاختلفوا عليه
اختلاف المهاجرين، فقال لابن عباس: ادع لي من كان من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح، فدعاهم
فقالوا بأجمعهم: نرى أن ترجع بالناس ولا تقدمهم على هذا الوباء، فنادى عمر في الناس: إني مصبح على ظهر، فأصبحوا عليه، فقال له أبو عبيدة بن الجراح: أفراراً من قدر الله
تعالى! فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة! نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كان لك
إبل فهبطت وادياً له عدوتان، إحداهما خصبة، والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة
رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله! فجاء عبد الرحمن بن عوف- وكان متغيباً في بعض
حاجته- فقال: إن عندي من هذا علماً، سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم، يقول: "إذا سمعتم به
بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه ". فحمد عمر الله
عز وجل وانصرف إلى المدينة. وروى
ابن عباس، قال: خرجت مع عمر إلى الشام في إحدى
خرجاته، فانفرد يوماً يسير على بعيره فاتبعته، فقال لي: يابن عباس، أشكو إليك
ابن عمك، سألته أن يخرج معي فلم يفعل، ولم أزل أراه واجداً، فيم تظن موجدته؟
قلت: يا أمير المؤمنين، إنك لتعلم، قال: أظنه لا يزال
كئيباً لفوت الخلافة، قلت: هو ذاك، إنه يزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد الأمر له، فقال: يا بن عباس، وأراد رسول الله صلى
الله عليه وسلم الأمر له فكان ماذا إذا لم يرد الله تعالى ذلك! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أمراً، وأراد الله غيره، فنفذ مراد
الله تعالى ولم ينفذ مراد رسوله، أو كلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان!
إنه أراد إسلام عمه ولم يرده الله فلم يسلم!
وقد روي معنى
هذا الخبر بغير هذا اللفظ، وهو قوله: إن رسول الله
صلى الله عليه وسلم أراد
أن يذكره للأمر في مرضه، فصددته عنه خوفاً من الفتنة،
وانتشار أمر الإسلام، فعلم رسول الله ما في نفسي
وأمسك، وأبى الله إلا إمضاء ما حتم. قلت: من هو؟ فقال: هذا ابن عمك- يعني علياً- قلت: وما يقصد بالرياء
يا أمير المؤمنين؟ قال: يرشح نفسه بين الناس للخلافة، قلت:
وما يصنع بالترشيح! قد رشحه لها رسول الله صلى
الله عليه وسلم
فصرفت عنه. قال: إنه كان
شاباً حدقاً، فاستصغرت العرب سنه، وقد كمل الآن، ألم تعلم أن الله تعالى لم يبعث
نبياً إلا بعد الأربعين! قلت: يا أمير
المؤمنين، أما أهل الحجى والنهى فإنهم ما زالوا يعدونه
كاملاً منذ رفع الله منار الإسلام، ولكنهم
يعدونه محروماً مجدوداً، فقال: أما إنه
سيليها بعد هياط ومياط ، ثم تزل فيها قدمه، ولا يقضي منها أربه، ولتكونن شاهداً
ذلك يا عبد الله، ثم يتبين الصبح لذي عينين، وتعلم العرب صحة رأي المهاجرين
الأولين الذين صرفوها عنه بادئ بدء، فليتني أراكم بعدي يا عبد الله! إن الحرص محرمة، وإن دنياك كظلك، كلما هممت به
ازداد عنك بعداً. ونقلت
منه أيضاً ما رواه عن ابن عباس، قال: تبرم عمر
بالخلافة في آخر أيامه، وخاف العجز، وضجر من سياسة الرعية، فكان لا يزال يدعو
الله بأن يتوفاه. فقال لكعب الأحبار يوماً وأنا عنده:
إني قد أحببت أن أعهد إلى من يقوم بهذا الأمر؟ وأظن وفاتي قد دنت، فما تقول في علي؟ أشر علي في رأيك وأذكرني ما تجدونه
عندكم، فإنكم تزعمون أن أمرنا هذا مسطور في كتبكم، فقال:
أما من طريق الرأي فإنه لا يصلح؟ إنه رجل متين الدين، لا يغضي على عورة،
ولا يحلم عن زلة، ولا يعمل باجتهاد رأيه، وليس هذا من سياسة الرعية في شيء، وأما ما نجذه في كتبنا فنجده لا يلي الأمر ولا ولده، وإن
وليه كان هرج شديد، قال: كيف ذاك؟ قال:
لأنه أراق الدماء، فحرمه الله الملك، إن داود لما أراد أن يبني حيطان بيت المقدس
أوحى الله إليه: إنك لا تبنيه، لأنك أرقت الدماء، وإنما يبنيه سليمان. فقال عمر: أليس بحق أراقها؟ قال
كعب: وداود بحق أراقها يا أمير المؤمنين. قال: فإلى من
يفضي الأمر تجدونه عندكم؟ قال: نجده ينتقل بعد صاحب الشريعة والاثنين من أصحابه، إلى أعدائه الذين حاربهم وحاربوه، وحاربهم على
الدين. فاسترجع عمر مراراً،
وقال: أتستمع يابن عباس! أما والله لقد سمعت من رسول الله ما يشابه هذا، سمعته يقول:
"ليصعدن بنوامية على منبري، ولقد أريتهم في منامي ينزون عليه نزو
القردة" وفيهم أنزل: "وما جعلنا
الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن" . وقد روى
الزبير بن بكار في الموفقيات ما يناسب هذا عن المغيرة بن شعبة، قال:
قال لي عمر يوماً: يا مغيرة، هل أبصرت بهذه عينك العوراء منذ أصيبت؟ قلت:
لا، قال: أما والله
ليعورن بنو أمية الإسلام كما أعورت عينك هذه، ثم ليعمينه حتى لا يدري أين يذهب ولا أين يجيء. قلت:
ثم ماذا يا أمير المؤمنين؟ قال: ثم يبعث الله تعالى بعد
مائة وأربعين أو بعد مائة وثلاثين وفداً كوفد الملوك، طيبة ريحهم، يعيدون إلى
الإسلام بصره وشتاته. قلت: من هم يا
أمير المؤمنين؟ قال: حجازي وعراقي، وقليلاً ما كان، وقليلاً ما دام. قلت:
سألت النقيب أبا جعفر يحيى بن محمد بن أبي زيد- وقد قرأت عليه هذه الأخبار- فقلت
له:
ما أراها إلا تكاد تكون دالة على النص، ولكني أستبعد أن يجتمع الصحابة على دفع نص رسول الله صلى الله عليه وسلم على شخص بعينه، كما استبعدنا من الصحابة على رد نصه على الكعبة وشهر رمضان وغيرهما من معالم الدين،
فقال لي رحمه الله: أبيت إلا ميلاً إلى المعتزلة! ثم
قال: إن القوم لم يكونوا يذهبون في الخلافة إلى
أنها من معالم الدين، وأنها جارية مجرى العبادات الشرعية، كالصلاة والصوم، ولكنهم كانوا يجرونها مجرى الأمور الدنيوية، ويذهبون
لهذا، مثل تأمير الأمراء وتدبير الحروب وسياسة الرعية، وما
كانوا يبالون في أمثال هذا من مخالفة نصوصه إذا رأوا المصلحة في غيرها؟ ألا تراه كيف نص على إخراج أبي بكر وعمر في جيش أسامة،
ولم يخرجا لما رأيا أن في مقامهما مصلحة
للدولة وللملة، وحفظاً للبيضة ، ودفعا للفتنة، وقد كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم
يخالف وهو حي في أمثال ذلك فلا ينكره، ولا يرى به بأساً. ألست
تعلم أنه نزل في غزاة بدر منزلاً على أن يحارب قريشاً فيه، فخالفته الأنصار
وقالت له: ليس الرأي في نزولك هذا المنزل فاتركه، وانزل في
منزل كذا، فرجع إلى آرائهم وهو الذي قال للأنصار عام قدم إلى المدينة:
"لا تؤبروا النخل "، فعملوا على قوله فحالت
نخلهم في تلك السنة ولم تثمر حتى قال لهم: "أنتم
أعرف بأمر دنياكم وأنا أعرف بأمر دينكم"، وهو
الذي أخذ الفداء من أسارى بدر، فخالفه عمر، فرجع إلى تصويب رأيه بعد أن فات الأمر وخلص الأسرى ورجعوا
إلى مكة، وهو الذي أراد أن يصالح الأحزاب على ثلث تمر المدينة ليرجعوا
عنه، فأق سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فخالفاه، فرجع إلى قولهما، وقد كان قال لأبي هريرة: اخرج فناد في الناس: "من قال لا إله إلا الله مخلصاً بها قلبه دخل
الجنة"، فخرج أبو هريرة فأخبر عمر بذلك فدفعه في صدره، حتى وقع على
الأرض، فقال: لا تقلها، فإنك إن تقلها
يتكلوا عليها، ويدعوا العمل، فأخبر أبو هريرة رسول
الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال: "لا تقلها وخلهم يعملون". فرجع
إلى قول عمر! وقد أطبقت الصحابة إطباقاً واحداً على
ترك كثير من النصوص لما رأوا المصلحة في ذلك، كإسقاطهم
سهم ذوي القربى وإسقاط سهم المؤلفة قلوبهم، وهذان الأمران أدخل في باب الدين منهما في باب الدنيا، وقد عملوا
بآرائهم أموراً لم يكن لها ذكر في الكتاب والسنة، كحد الخمر
فإنهم عملوه اجتهاداً، ولم يحد رسول الله صلى الله عليه وسلم شاربي
الخمر، وقد شربها الجم الغفير في زمانه بعد نزول
آية التحريم، ولقد كان أوصاهم في مرضه أن أخرجوا
نصارى نجران من جزيرة العرب فلم يخرجوهم، حتى
مضى صدر من خلافة عمر، وعملوا في أيام أبي بكر برأيهم في ذلك باستصلاحهم، وهم
الذين هدموا المسجد بالمدينة، وحولوا المقام بمكة، وعملوا بمقتضى ما يغلب في
ظنونهم من المصلحة، ولم يقفوا مع موارد النصوص، حتى
اقتدى بهم الفقهاء من بعد، فرجح كثير منهم القياس على النص، حتى استحالت
الشريعة، وصار أصحاب القياس أصحاب شريعة جديدة. قال:
وأما مخالفتهم له فيما هو محض الشرع والدين،
وليس بمتعلق بأمور الدنيا وتدبيراتها، فإنه يقل جداً، نحو
أن يقول: "الوضوء شرط في الصلاة"
فيجمعوا على رد ذلك ويجيزوا الصلاة من غير وضوء، أو يقول: "صوم شهر رمضان واجب"، فيطبقوا على
مخالفة ذلك ويجعلوا شوالاً عوضاً عنه، فإنه بعيد، إذ لا غرض لهم فيه، ولا يقدرون على إظهار مصلحة عثروا عليها
خفيت عنه عتنه. والقوم الذين كانوا قد غلب على ظنونهم أن العرب لا تطيع علياً رضي
الله عنه، فبعضها للحسد، وبعضها للوتر والثأر، وبعضها
لاستحداثهم سنه، وبعضها لاستطالته عليهم ورفعه
عنهم، وبعضها كراهة اجتماع النبوة والخلافة في
بيت واحد، وبعضها للخوف من شدة وطأته وشدته في
دين الله، وبعضها خوفاً لرجاء تداول قبائل العرب
الخلافة إذا لم يقتصر بها على بيت مخصوص عليه، فيكون رجاء كل حي لوصولهم إليها
ثابتاً مستمراً، وبعضها ببغضه، لغضهم من قرابته
لرسول الله صلى الله عليه وسلم -وهم
المنافقون من الناس، ومن في قلبه زيغ من أمر النبوة- فأصفق الكل إصفاقاً واحداً
على صرف الأمر عنه لغيره، وقال رؤساؤهم: إنا
خفنا الفتنة، وعلمنا أن العرب لا تطيعه ولا تتركه، وتأولوا عند أنفسهم النص، ولا
ينكر النص، وقالوا: إنه النص، ولكن الحاضر يرى
ما لا يرى الغائب، والغائب قد يترك لأجل المصلحة الكلية، وأعانهم على ذلك مسارعة الأنصار إلى ادعائهم الأمر،
وإخراجهم سعد بن عبادة من بيته وهو مريض، لينصبوه خليفة- فيما زعموا- واختلط
الناس، وكثر الخبط، وكادت الفتنة أن تشتعل نارها، فوثب رؤساء المهاجرين، فبايعوا أبا بكر وكانت فلتة- كما قال قائلهم- وزعموا أنهم
أطفأوا بها نائرة الأنصار، فمن سكت من المسلمين، وأغضى ولم يتعرض، فقد
كفاهم أمر نفسه، ومن قال سراً أو جهراً: إن
فلانا قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكره،
أو نص عليه أو أشار إليه، أسكتوه في الجواب؟ بأنا بادرنا إلى عقد البيعة مخافة
الفتنة، واعتذروا عنده ببعض ما تقدم، إما أنه حديث السن أو تبغضه العرب،
لأنه وترها وسفك دماءها، أو لأنه صاحب زهو وتيه،
أو كيف تجتمع النبوة والخلافة في مغرس واحد! بل قد
قالوا في العذر ما هو أقوى من هذا وأوكد، قالوا: أبو بكر أقوى على هذا الأمر منه، لا سيما وعمر يعضده ويساعده، والعرب
تحب أبا بكر ويعجبها لينه ورفقه، وهو شيخ مجرب للأمور لا يحسده أحد، ولا يحقد
عليه أحد، ولا يبغضه أحد، وليس بذي شرف في النسب فيشمخ على الناس بشرفه، ولا بذي
قربى من الرسول فيدل بقربه، ودع ذا كله،
فإنه فضل مستغنى عنه. قالوا: لو نصبنا علياً رضي الله عنه، ارتد الناس عن الإسلام
وعادت الجاهلية كما كانت، فأيما أصلح في الدين؟ الوقوف مع النص المفضي إلى
ارتداد الخلق ورجوعهم إلى الأصنام والجاهلية أم العمل بمقتضى الأصلح واستبقاء
الإسلام واستدامة العمل بالدين، وإن كان فيه مخالفة النص! قال
رحمه الله: وسكت الناس عن الإنكار، فإنهم كانوا متفرقين، فمنهم من هو مبغض شانئ لعلي رضي الله عنه، فالذي
تم من صرف الأمر عنه هو قرة عينه، وبرد فؤاده، ومنهم ذو الدين وصحة اليقين، إلا أنه لما رأى كبراء الصحابة قد اتفقوا على صرف الأمر عنه،
ظن أنهم إنما فعلوا ذلك لنص سمعوه من رسول الله صلى
الله عليه وسلم ينسخ ما قد كان سمعه من النص
على أمير المؤمنين، لا سيما ما رواه أبو بكر من قول النبي صلى
الله عليه وسلم
"الأئمة من قريش"، فإن كثيراً من الناس توهموا أنه ناسخ للنص الخاص، وأن معنى الخبر أنكم مباحون في نصب إمامٍ من قريش، من أي
بطون قريش كان، فإنه يكون إماماً. وقالوا: هؤلاء
أعرف بأعراض رسول الله صلى الله عليه وسلم من
كل أحد، فامسكوا وكفوا عن الإنكار، ومنهم فرقة أخرى- وهم الأكثرون- أعراب وجفاة، وطغام أتباع كل ناعق،
يميلون مع كل ريح، فهؤلاء مقلدون لا يسألون ولا
ينكرون، ولا يبحثون، وهم مع أمرائهم وولاتهم، لو أسقطوا عنهم الصلاة الواجبة
لتركوها، فلذلك أمحق النص، وخفي ودرس، وقويت كلمة العاقدين لبيعة أبي
لكر، وقواها زيادة على ذلك اشتغال علي وبني هاشم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإغلاق بابهم
عليهم، وتخليتهم الناس يعملون ما شاؤوا وأحبوا، من غير مشاركة لهم فيما هم فيه، لكنهم أرادوا استدراك ذلك بعد ما فات، وهيهات الفائت لارجعة
له! وأراد علي رضي الله عنه بعد
ذلك نقض البيعة، فلم يتم له ذلك، وكانت العرب لا ترى
الغدر، ولا تنقض البيعة صواباً كانت أو خطأ، وقد
قالت له الأنصار وغيرها: أيها الرجل، لو دعوتنا إلى نفسك قبل البيعة لما
عدلنا بك أحداً، ولكنا قد بايعنا، فكيف السبيل إلى نقض
البيعة بعد وقوعها! قال النقيب: ومما جرأ عمر على بيعة أبي بكر والعدول عن علي- مع ما كان
يسمعه من الرسول صلى الله عليه وسلم في أمره- أنه أنكر مراراً على الرسول صلى الله عليه وسلم أموراً
اعتمدها فلم ينكر عليه رسول الله إنكاره، بل رجع في كثير منها إليه،
وأشار عليه بأمور كثيرة نزل القرآن فيها بموافقته، فأطمعه
ذلك في الإقدام على اعتماد كثيرٍ من الأمور
التي كان يرى فيها المصلحة، مما هي خلاف النص، وذلك نحو إنكاره عليه في الصلاة
على عبد الله بن أبي المنافق، وإنكاره فداء أسارى بدر، وإنكاره عليه تبرج نسائه
للناس، وإنكاره قضية الحديبية، وإنكاره أمان العباس لأبي سفيان بن حرب، وإنكاره
واقعة أبي حذيفة بن عتبة، وإنكاره أمره بالنداء: "من قال لا إله إلا
الله دخل الحنة"، وإنكاره أمره لذبح النواضح ، وإنكاره على النساء بحضرة
رسول الله صلى الله عليه وسلم، هيبتهن
له دون رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غيرذلك من أمور كثيرة تشتمل عليها كتب الحديث، ولو لم يكن إلا إنكاره قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في
مرضه: "ائتوني بدواة وكتفٍ" أكتب لكم ما
لا تضلون بعدي"، وقوله ما قال، وسكوت رسول صلى الله عليه وسلم عنه.
وأعجب
الأشياء أنه قال ذلك اليوم: حسبنا كتاب الله، فافترق
الحاضرون من المسلمين في الدار، فبعضهم يقول:
القول ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعضهم يقول: القول ما قال عمر، فقال رسول الله وقد كثر اللغط، وعلت الأصوات: "قوموا عني فما ينبغي لنبي أن يكون عنده هذا
التنازع"! فهل
بقي للنبوة مزية أو فضل إذا كان الاختلاف قد وقع بين القولين، وميل المسلمون بينهما،
فرجح قوم هذا، وقوم هذا! فليس ذلك دالاً على أن القوم سووا بينه وبين
عمر، وجعلوا القولين مسألة خلاف، ذهب كل فريق إلى نصرة واحد منهما، كما يختلف
اثنان من غرض المسلمين في بعض الأحكام، فينصر قوم هذا وينصر ذاك آخرون، فمن بلغت
قوته وهمته إلى هذا، كيف ينكر منه أنه يبايع أبا
بكر لمصلحة رآها، ويعدل عن النص! ومن الذي كان ينكر عليه ذلك، وهو في
القول الذي قاله للرسول صلى الله عليه وسلم في
وجهه غير خائف من الأنصار، ولا ينكر عليه أحد، لا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا
غيره، وهو أشد من مخالفة النص في الخلافة وأفظع وأشنع. قلت للنقيب: أيصح النسخ في مثل هذا؟ أليس
هذا نسخاً للشيء قبل تقضي وقت فعله؟ فقال: سبحان الله! من أين تعرف العرب
هذا؟ وأني لها أن تتصوره فضلاً عن أن تحكم بعدم جوازه! فهل يفهم حذاق الأصوليين هذه المسألة، فضلاً عن حمقى العرب!
هؤلاء قوم ينخدعون بأدنى شبهة، ويستمالون بأضعف سبب، وتبنى الأمور معهم على
ظواهر النصوص وأوائل الأدلة، وهم أصحاب جهل وتقليد، لا
أصحاب تفضيل ونظر! قال: ثم أكد حسن ظن
الناس بهم أنهم أطلقوا أنفسهم عن الأموال، وزهدوا في متاع الدنيا وزخرفها،
وسلكوا مسلك الرفض لزينتها، والرغبة عنها والقناعة بالطفيف النزر منها، وأكلوا
الخشن، ولبسوا الكرابيس، ولما ألقت إليهم الدنيا أفلاذ كبدها، وفرقوا الأموال
على الناس، وقسموها بينهم، ولم يتدنسوا منها بقليل ولا كثير، فمالت إليهم
القلوب، وأحبتهم النفوس، وحسنت فيهم الظنون، وقال من
كان في نفسه شبهة منهم، أو وقفة في أمرهم: لو كان هؤلاء قد خالفوا النص
لهوى أنفسهم لكانوا أهل الدنيا، ولظهر عليهم الميل إليها، والرغبة فيها،
والاستئثار بها. وكيف يجمعون على أنفسهم مخالفة النص، وترك
لذات الدنيا ومآربها، فيخسروا الدنيا والآخرة! وهذا لا يفعله عاقل، والقوم عقلاء ذوو ألباب وآراء صحيحة،
فلم يبق عند أحد شك في أمرهم ولا ارتياب لفعلهم، وثبتت العقائد على ولايتهم،
وتصويب أفعالهم، ونسوا لذة الرياسة، وإن أصحاب الهمم العالية لا يلتفتون إلى
المأكل والمشرب والمنكح، وإنما يريدون الرياسة
ونفوذ الأمر، كما قال الشاعر:
قال رحمه الله: والفرق
بين الرجلين وبين الثالث، ما أصيب به الثالث، وقتل
تلك القتلة، وخلعه الناس وحصروه، وضيقوا عليه، بعد أن تواك إنكارهم أفعاله،
وجبهوه في وجهه وفسقوه، وذلك لأنه استأثر هو وأهله
بالأموال، وانغمسوا فيها واستبدوا بها، فكانت طريقته وطريقتهم مخالفة لطريق
الأولين، فلم تصبر العرب على ذلك، ولو كان عثمان سلك طريق عمر في الزهد،
وجمع الناس، وردع الأمراء والولاة عن الأموال، وتجنب استعمال أهل بيته، ووفر
أعراض الدنيا وملاذها وشهواتها على الناس، زاهداً فيها، تاركاً لها، محرضاً
عنها، لما ضره شيء قط، ولا أنكر عليه أحد قط،
ولو حول الصلاة من الكعبة إلى بيت المقدس، بل لو أسقط عن الناس إحدى الصلوات
الخمس، واقتنع منهم بأربع، وذلك لأن همم الناس
مصروفة إلى الدنيا والأموال، فإذا وجدوها سكتوا، وإذا فقدوها هاجوا واضطربوا،
ألست ترى رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف قسم غنائم هوازن
على المنافقين، وعلى أعدائه الذين يتمنون قتله وموته، وزوال دولته، فلما أعطاهم
أحبوه، إما كلهم أو أكثرهم،
ومن لم يحبه منهم بقلبه جامله وداراه، وكف عن إظهار عداوته، والإجلاب عليه
ولو أن علياً صانع أصحابه بالمال، وأعطاه الوجوه
والرؤساء، لكان أمره إلى الانتظام والاطراد أقرب،
ولكنه رفض جانب التدبير الدنيوي، وآثر لزوم الدين،
وتمسك بأحكام الشريعة، والملك أمر آخر غير
الدين، فاضطرب عليه أصحابه، وهرب كثير منهم
إلى عدوه. من
عبد الله أمير المؤمنين عمر إلى عبد الله بن قيس. سلام عليك،
أما بعد، فإن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة، فافهم إذا أدلي إليك، فإنه لا ينفع
تكلم بحق لا نفاد له. آس
بين الناس في وجهك وعدلك ومجلسك، حتى لا يطمع شريف في حيفك ، ولا ييأس ضعيف من
عدلك. البينة على من ادعى واليمين على من أنكر،
والصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحاً أحل
حراماً، أو حرم حلالاً، لا يمنعنك قضاء قضيته اليوم فراجعت
فيه عقلك، وهديت فيه لرشدك، أن ترجع إلى الحق،
فإن الحق قديم، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل. الفهم الفهم فيما
تلجلج في صدرك مما ليس في كتاب ولا سنة، ثم اعرف الأشباه والأمثال، وقس الأمور
عند ذلك، واعمد إلى أقربها إلى الله عز وجل، وأشبهها بالحق، واجعل لمن ادعى حقاً
غائباً أو بينة أمداً ينتهى إليه، فإن أحضر بينته أخذت له بحقه، وإلا استحللت
عليه القضية، فإنه أنفى للشك وأجلى للعمى. المسلمون عدول بعضهم على بعض، إلا مجلوداً في
حد أو مجرباً عليه شهادة زور، أو ظنيناً في ولاء أو نسب، فإن الله عز وجل تولى
منكم السرائر، ودرأ عنكم بالبينات والأيمان الشبهات. إياك والغلق والضجر والتأذي
بالخصوم، والتنكر عند الخصومات، فإن الحق في مواطن الحق يعظم الله به الأجر،
ويحسن به الذخر، فمن صحت نيته، وأقبل على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس،
ومن تخلق للناس بما يعلم الله عز وجل منه أنه ليس من نفسه، شانه الله، فما ظنك
بثواب الله في عاجل رزقه، وخزائن رحمته والسلام. وحاسب نفسك في
الرخاء قبل حساب الشدة، فإنه من حاسب نفسه في الرخاء قبل حساب الشدة كان مرجعه
إلى الرضا والغبطة، ومن ألهته حياته، وشغلته أهواؤه، عاد أمره إلى الندامة
والحسرة، إنه لا يقيم أمر الله في الناس إلا خصيف العقدة بعيد القرارة لا يحنق
على جرة، ولا يطلع الناس منه على عورة، ولا يخاف في الحق لومة لائم. الزم
أربع خصال يسلم لك دينك وتحيط بأفضل حظك: إذا حضر
الخصمان فعليك بالبينات العدول والأيمان القاطعة، ثم ائذن للضعيف حتى ينبسط
لسانه، ويجترئ قلبه، وتعاهد الغريب، فإنه إذا طال حبسه ترك حاجته وانصرف إلى
أهله، واحرص على الصلح ما لم يبن لك القضاء، والسلام عليك. فقضيت عليه، وكتبت إلى عمالي: أما بعد فإياكم والهدايا، فإنها
من الرشا. ثم لم أقبل له هدية فيما بعد، ولا لغيره. وقال
أبو جعفر: وكان عمر إذا أراد أن ينهي الناس عن شيء جمع أهله،
فقال: إني عسيت أن أنهى الناس عن كذا، وإن
الناس ينظرون إليكم نظر الطير إلى اللحم، واقسم بالله لا أجد أحداً منكم يفعل
إلا أضعفت عليه العقوبة. وروى
جابر بن عبد الله، قال: قال رجل لعمر: يا خليفة الله، قال:
خالف الله بك، قال: جعلني الله فداك! قال: إذن
يهينك الله. فقال
الوليد بن هشام بن المغيرة: يا أمير المؤمنين، قد جئت
الشام فرأيت ملوكها قد دونوا ديواناً، وجندوا جنوداً، وفرضوا لهم أرزاقاً. فأخذ
بقوله؟ فدعا عقيل بن أبي طالب ومخرمة بن نوفل وجبير
بن مطعم- وكانوا نساب قريش- وقال: اكتبوا الناس على منازلهم، فكتبوا
فبدأوا ببني هاشم، ثم أتبعوهم أبا بكر وقومه، ثم عمر وقومه، على ترتيب الخلافة؟ فلما نظر إليه قال: وددت أنه كان هكذا، لكن ابدأ
بقرابة النبي عليه، الأقرب فالأقرب، حتى تضعوا عمر
حيث وضعه الله. قال: أو خليفة
أبي بكر، خليفة رسول الله صلى الله عليه
وسلم،
قالوا: وذاك، فلو جعلت نفسك حيث جعلك هؤلاء القوم! فقال:
بخ بخ يا بني عدي! أردتم الأكل على ظهري، وأن أذهب حسناتي لكم! لا والله ولو
كتبتم آخر الناس، إن لي صاحبين سلكا طريقاً، فإن أنا خالفتهما خولف بي، والله ما
أدركنا الفضل في الدنيا إلا بمحمد، ولا نرجو ما نرجو من الآخرة وثوابها إلا
بمحمد صلى الله عليه وسلم، فهو شرفنا، وقومه أشرف العرب ثم الأقرب منه فالأقرب، وما بيننا
وبين أن نلقاه ثم لا نفارقه إلى آدم إلا آباء يسيرة،
والله لئن جاءت الأعاجم بالأعمال، وجئنا بغير عمل فإنهم أولى بمحمد صلى
الله عليه وسلم
منا
يوم القيامة. لا ينظرن رجل
إلى قرابته، وليعمل بما عند الله؟ فإن من قصر به عمله
لم يسرع به نسبه. وقالت الشفاء
ابنة عبد الله- ورأت فتياناً من النساك يقتصدون في المشي، ويتكلمون رويداً: ما
هؤلاء؟ فقيل: نساك، فقالت كان عمر بن الخطاب هو الناسك حقاً، وكان إذا تكلم أسمع، وإذا
مشى أسرع، وإذا ضرب أوجع. ومن كلامه:
القوة في العمل ألا يؤخر عمل اليوم لغد، والأمانة ألا تخالف سريرتك علانيتك، والتقوى بالتوقي، ومن
يتق الله يقه. إياك
أن ترد على من كان قبلك فيرد عليك من بعدك. فبعث معاوية إلى أبيه
وأخيه مائة دينار، وكساهما وحملهما. فسخطها عمر، فقال أبو سفيان:
لا تسخطها، فإنها عطاء لم تغب عنه هند، ورجع هو وابنه إلى المدينة، فسأله عمر: بكم أجازك معاوية؟ فقال: بمائة دينار، فسكت عمر. وروى
الربيع بن زياد، قال: قدمت على عمر بمال من البحرين، فصليت
معه العشاء ثم سلمت عليه، فقال: ما قدمت به؟
قلت: خمسمائة ألف، قال:
ويحك! إنما قدمت بخمسين ألفا، قلت: بل خسمائة
ألف، قال: كم يكون ذلك؟ قلت: مائة ألف ومائة ألف ومائه ألف، حتى عددت
خمساً، فقال: إنك ناعس؟ ارجع إلى بيتك، ثم اغد علي،
فغدوت عليه. فقال: ما جئت
به؟ قلت: ما قلته لك، قال: كم هو؟ قلت: خمسمائة ألف، قال:
أطيب هو؟ قلت: نعم، لا أعلم إلا ذلك، فاستشار الصحابة فيه، فأشير عليه
بنصب الديوان فنصبه، وقسم المال بين المسلمين، ففضلت عنده فضلة، فأصبح فجمع المهاجرين
والأنصار، وفيهم علي بن أبي طالب، وقال للناس: ما ترون في فضل عندنا من هذا المال؟ فقال الناس: يا أمير المؤمنين؟ إنا شغلناك بولاية
أمورنا عن أهلك وتجارتك وصنعتك، فهو لك. فالتفت
إلى علي فقال: ما تقول أنت؟ قال: قد أشاروا عليك،
قال: فقل أنت، فقال له: لم تجعل يقينك ظناً؟ فلم يفهم عمر قوله، فقال: لتخرجن
مما قلت، قال: أجل والله، لأخرجن منه، أتذكر حين بعثك رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعياً
، فأتيت العباس بن عبد المطلب، فمنعك صدقته، فكان بينكما شيء، فجئتما إلي
وقلتما: إنطلق معنا إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم، فجئنا إليه،
فوجدناه خاثراً فرجعنا، ثم غدونا عليه، فوجدناه طيب النفس، فأخبرته بالذي صنع
العباس، فقال لك: يا عمر، أما علمت أن عم
الرجل صنو أبيه! فذكرنا له ما رأينا، من خثوره في
اليوم الأول، وطيب نفسه في اليوم الثاني،
فقال: إنكم
أتيتم في اليوم الأول، وقد بقي عندي من مال الصدقة ديناران، فكان ما
رأيتم من خثوري لذلك، وأتيتم في اليوم الثاني
وقد وجهتهما، فذاك الذي رأيتم من طيب نفسي. أشير عليك ألا تأخذ من هذا الفضل
شيئاً، وأن تفضه على فقراء المسلمين، فقال:
صدقت والله لأشكرن لك الأولى والأخيرة. فقال عمر: لا أبقاني الله بأرض لست بها يا أبا
الحسن. وجاء
رجل إلى عمر، فقال: إن ضبيعاً التميمي لقينا يا أمير
المؤمنين، فجعل يسألنا عن تفسير حروف من القرآن، فقال: اللهم أمكني منه، فبينا
عمر يوماً جالس يغدي الناس إذ جاءه الضبيع، وعليه ثياب وعمامة، فتقدم فأكل، حتى
إذا فرغ، قال: يا أمير المؤمنين، ما معنى قوله
تعالى: "والذاريات ذرواً " فالحاملات
وقراً" ؟ قال: ويحك أنت هو! فقام إليه
فحسر عن ذراعيه، فلم يزل يجلده حتى سقطت عمامته، فإذا له ضفيرتان، فقال: والذي
نفس عمر بيده لو وجدتك محلوقاً لضربت رأسك، ثم أمر به فجعل في بيت، ثم كان يخرجه
كل يوم فيضربه مائة، فإذا برأ أخرجه فضربه مائة أخرى، ثم حمله على قطب وسيره إلى
البصرة، وكتب إلى أبي موسى يأمره أن يحرم على الناس
مجالسته، وأن يقوم في الناس خطيباً، ثم يقول:
إن ضبيعاً قد ابتغى العلم فأخطأه، فلم يزل وضيعاً في
قومه وعند الناس حتى هلك، وقد كان من قبل سيد قومه. وقال عمر على
المنبر: ألا إن
أصحاب الرأي أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها، فأفتوا بآرائهم، فضلوا
وأضلوا إلا أن نقتدي ولا نبتدي، ونتبع ولا نبتدع، إنه ما ضل متمسك بالأثر. فمضى
إليهم فوجدهم قد احترقوا. إن عجوزاً
كانت تدخل علي فاتخذتها أماً، وكانت تقوم في أمري بما تقوم به الوالدة، وأنا لها
بمنزلة البنت، فمكثت كذلك حيناً، ثم قالت:
إنه قد عرض لي سفر، ولي بنت أتخوف عليها بعدي الضيعة، وأنا احب أن أضمها إليك
حتى أرجع من سفري، ثم عمدت إلى ابن لها أمرد فهيأته وزينته كما تزين المرأة
وأتتني به، ولا أشك أنه جارية، فكان يرى مني ما ترى المرأة من المرأة، فاغتفلني
يوماً وأنا نائمة فما شعرت به حتى علاني وخالطني، فمددت يدي إلى شفرة كانت عندي
فقتلته، ثم أمرت به فالقي حيث رأيت، فاشتملت منه على هذا الصبي، فلما وضعته ألقيته في موضع أبيه، هذا والله خبرهما على ما
أعلمتك! فقال عمر: صدقت، بارك الله فيك! ثم أوصاها ووعظها وخرج. ذكر
عمرو بن العاص يوماً عمر فترحم عليه، وقال: ما رأيت أحدا
أتقى منه، ولا أعمل بالحق منه، لا يبالي على من وقع الحق، من ولد أو والد، إني
لفي منزلي بمصر ضحى، إذ أتاني آتٍ، فقال: قدم عبد الله
وعبد الرحمن ابنا عمر غازيين، فقلت: أين نزلا؟ قال: في موضع كذا- لأقصى
مصر- وقد كان عمر كتب إلي: إياك وأن يقدم عليك
أحد من أهل بيتي فتجيزه أو تحبوه بأمرٍ لا تصنعه بغيره، فأفعل بك ما أنت أهله. فضقت ذرعاً
بقدومهما، ولا أستطيع أن أهدي لهما، ولا أن آتيهما في منزلهما، خوفاً من أبيهما،
فوالله إني لعك ما أنا عليه، وإذا قائل يقول: هذا عبد
الرحمن بن عمر بالباب وأبو سروعة يستأذنان عليك، فقلت: يدخلان، فدخلا وهما
منكسران، فقالا: أقم علينا حد الله، فإنا أصبنا الليلة شراباً فسكرنا، فزبرتهما
وطردتهما، وقلت: ابن أمير المؤمنين وآخر معه من
أهل بدر! فقال عبد الرحمن:
إن لم تفعل أخبرت أبي إذا قدمت عليه أنك لم تفعل، فعلمت أني إن لم أقم عليهما
الحد غضب عمر وعزلني، فنحن على ما نحن عليه، إذ دخل عبد
الله بن عمر، فقصت إليه ورحبت به، وأردت أن أجلسه في صدر مجلسي، فأبى علي وقال:
إن أبي نهاني أن أدخل عليك إلا ألا أجد من الدخول بداً، وإني لم أجد من الدخول
عليك بداً، إن أخي لا يحلق عك رؤوس الناس أبداً، فأما الضرب فاصنع ما بدا لك- قال: وكانوا يحلقون مع الحد- فأخرجتهما إلى صحن
الدار وضربتهما الحد، ودخل عبد الله بن عمر بأخيه عبد الرحمن إلى بيت من الدار
فحلق رأسه، وحلق أبا سروعة، والله ما كتبت إلى عمر بحرف مما كان، وإذا كتابه قد ورد: من عبد الله عمر أمير
المؤمنين، إلى العاصي ابن العاصي، عجبت لك يابن العاصي ولجراءتك علي ومخالفتك
عهدي أما إني خالفت فيك أصحاب بدر ومن هو خير منك، واخترتك وأنت الخامل، وقدمتك
وأنت المؤخر، وأخبرني الناس بجراءتك وخلافك، وأراك كما أخبروا، وما أراني إلا
عازلك فمسيء عزلك. ويحك! تضرب عبد الرحمن بن عمر في داخل بيتك،
وتحلق رأسه في داخل بيتك، وقد عرفت أن في هذا مخالفتي وإنما عبد الرحمن رجل من
رعيتك تصنع به ما تصنع بغيره من المسلمين، ولكن قلت: هو ولد أمير المؤمنين، وقد
عرفت ألا هوادة لأحد من الناس عندي في حق يجب لله عز وجل، فإذا جاءك كتابي هذا
فابعث به في عباءة على قتب، حتى يعرف سوء ما صنع. قال:
فبعثت به كما قال أبوه، وأقرأت أخاه عبد الله كتاب أبيهما، وكتبت إلى عمر كتاباً
أعتذر فيه وأخبرته أني ضربته في صحن الدار، وحلفت بالله الذي لا يحلف بأعظم منه،
أنه الموضع الذي اقيم فيه الحدود على المسلم والذمي، وبعثت
بالكتاب مع عبد الله بن عمر. فذكر أسلم مولى
عمر قال: قدم عبد الله بأخيه عبد الرحمن على أبيهما، فدخل عليه في عباءة، وهو لا
يقدر على المشي من مركبه، فقال: يا عبد الرحمن،
فعلت وفعلت! السياط السياط! فكلمه عبد الرحمن بن عوف، وقال: يا أمير المؤمنين،
قد أقيم عليه الحد مرة، فلم يلتفت إليه وزبره، فأخذته السياط، وجعل يصيح: أنا
مريض وأنت والله قاتلي! فلم يرق له، حتى استوفى الحد وحبسه. ثم مرض شهراً
ومات. فبعث! إليه ببرد، وقال لها قولي: هذا البرد
الذي ذكرته لك. فقالت له ذلك، فقال: قولي له: قد رضيته رضي الله عنك- ووضع يده
على ساقها- فقالت له: أتفعل هذا! لولا أنك أمير
المؤمنين لكسرت أنفك، ثم جاءت أباها فأخبرته الخبر، وقالت: بعثتني إلى شيخ سوء
قال: مهلاً يا بنية، إنه زوجك، فجاء عمر إلى مجلس
المهاجرين في الروضة، وكان يجلس فيها المهاجرون الأولون، فقال: رفئوني ، رفئوني،
قالوا: بماذا يا أمير المؤمنين؟ فال: تزوجت أم كلثوم بنت علي بن أبي
طالب، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كل سبب ونسب وصهر ينقطع يوم القيامة إلا سببي
ونسبي وصهري". وكتب
عثمان إلى أبي موسى: إذا جاءك كتابي هذا فأعط الناس
أعطياتهم، واحمل ما بقي إلي، وجاء زيد بن ثابت بالمال، فوضعه بين يدي عثمان،
فجاء ابن لعثمان فأخذ منه أستاندانة من فضة، فمضى بها فبكى زيد، قال عثمان: ما
يبكيك؟ قال: أتيت عمر مثل ما أتيتك به، فجاء ابن له فأخذ درهماً فأمر به فانتزع
منه، حتى أبكى الغلام، وإن ابنك قد أخذ هذه فلم أر أحداً قال شيئاً. فقال عثمان: إن عمر كان
يمنع أهله وقرابته ابتغاء وجه الله، وأنا أعطي أهلي وأقاربي ابتغاء وجه الله،
ولن تلقى مثل عمر. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
خطب
لعمر بن الخطاب فيها بعض الطول
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وقال
الجاحظ في كتاب البيان والتبيين: لم يكن عمر
من أهل الخطب الطوال، وكان كلامه قصيراً، وإنما صاحب الخطب الطوال علي بن أبي
طالب رضي الله عنه. وقد وجدت أنا
لعمر خطباً فيها بعض الطول، ذكرها أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في التاريخ. أيها الناس إن
الله قد ولاني أمركم، وقد علمت أنفع ما لكم، وأسأل الله أن يعينني عليه، وأن
يحرسني عنده، كما حرسني عند غيره، وأن يلهمني العدل في قسمكم كالذي أمر به، فإني امرؤ مسلم، وعبد ضعيف إلا ما أعان الله، ولن يغير الذي
وليت من خلافتكم من خلقي شيئاً إن شاء الله. إنما العظمة لله، وليس
للعباد منها شيء، فلا يقولن أحدكم إن عمر تغير منذ ولي، وإني أعقل الحق من نفسي،
وأتقدم وأبين لكم أمري، فأيما رجل كانت له حاجة أو ظلم مظلمة أو عتب علينا في
خلق، فليؤذني، فإنما أنا رجل منكم. فعليكم بتقوى الله في سركم وعلانيتكم
وحرماتكم وأعراضكم، وأعطوا الحق من أنفسكم، ولا يحمل بعضكم بعضاً علي ألا
تتحاكموا إلي، فإنه ليس بيني وبين أحد هوادة، وأنا حبيب إلي صلاحكم، عزيز علي
عنتكم، وأنتم أناس عامتكم حضر في بلاد الله وأهل بلد لا زرع فيه ولا ضرع إلا ما
جاء الله به إليه، وإن الله عز وجل قد وعدكم كرامة كبيرة، وأنا مسؤول عن أمانتي
وما أنا فيه، ومطلع عك ما يحضرني بنفسي إن شاء الله، لا أكله إلى أحد، ولا
أستطيع ما بعد منه إلا بالأمناء وأهل النصح منكم للعامة، ولست أحمل أمانتي إلى
أحد سواهم إن شاء الله. أيها الناس،
إن بعض الطمع فقر، وإن بعض اليأس غنى، وإنكم تجمعون ما لا تأكلون، وتؤملون ما لا
تدركون، وأنتم مؤجلون في دار غرور، وقد كنتم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تؤخذون
بالوحي، ومن أسر شيئاً أخذ بسريرته، ومن أعلن شيئاً أخذ بعلانيته، فأظهروا لنا
حسن أخلاقكم، والله أعلم بالسرائر، فإنه من أظهر لنا قبيحاً، وزعم أن سريرته
حسنة لم نصدقه، ومن أظهر لنا علانية حسنة ظننا به حسناً. واعلموا أن بعض الشح
شعبة من النفاق، فأنفقوا خيراً لأنفسكم، ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون. إن الله
سبحانه قد استوجب عليكم الشكر، واتخذ عليكم الحجج فيما آتاكم من كرامة الدنيا
والآخرة من غير مسألة منكم، ولا رغبة منكم فيه إليه، فخلقكم- تبارك وتعالى- ولم
تكونوا شيئاً لنفسه وعبادته، وكان قادراً أن يجعلكم لأهون خلقه عليه فجعلكم عامة
خلقه، ولم يجعلكم لشيء غيره، وسخر لكم ما في السموات والأرض، وأسبغ عليكم نعمه
ظاهرة وباطنة، وحملكم في البر والبحر، ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون. ثم جعل لكم
سمعاً وبصراً. ومن نعم الله عليكم نعم عم بها بني آدم منها نعم اختص بها أهل
دينكم، ثم صارت تلك النعم خواصها في دولتكم وزمانكم وطبقتكم، وليس من تلك النعم
نعمة وصلت إلى امرئ خاصة إلا لو قسمتم ما وصل منها بين الناس كلهم أتعبهم شكرها،
وفدحهم حقها إلا بعون الله مع الإيمان بالله ورسوله، فأنتم مستخلفون في الأرض
قاهرون لأهلها، قد نصر الله دينكم فلم تصبح أمة نحالفة لدينكم، إلا أمتين أمة
مستعبدة للإسلام وأهله، يتجرون لكم، تستصفون معايشهم وكدائحهم، ورشح جباههم،
عليهم المؤنة، ولكم المنفعة، وأمه تنتظر وقائع الله وسطواته في كل يوم وليلة، قد
ملأ الله قلوبهم رعباً، فليس لهم معقل يلجئون إليه، ولا مهرب يتقون به، قد
دهمتهم جنود الله ونزلت بساحتهم، مع رفاغة العيش واستفاضة المال، وتتابع البعوث
وسد الثغور بإذن الله، في العافية الجليلة العامة التي لم تكن الأمة على أحسن
منها منذ كان الإسلام، والله المحمود مع الفتوح العظام في كل بلد، فما عسى أن
يبلغ شكر الشاكرين، وذكر الذاكرين، واجتهاد المجتهدين، مع هذه النعم التي لا
يحمى عددها، ولا يقدر قدرها، ولا يستطاع أداء حقها إلا بعون الله ورحمته ولطفه! فنسأل الله الذي أبلانا هذا أن يرزقنا العمل بطاعته،
والمسارعة إلى مرضاته. واذكروا
عباد الله بلاء الله عندكم، واستتموا نعمة الله عليكم وفي مجالسكم مثنى وفرادى،
فإن الله تعالى قال لموسى: "أخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام
الله" وقال لمحمد صلى الله عليه وسلم: "وأذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض"
فلو كنتم إذ كنتم مستضعفين محرومين خير الدنيا على شعبة من الحق تؤمنون بها،
وتستريحون إليها، مع المعرفة بالله وبدينه، وترجون الخير فيما بعد الموت، ولكنكم
كنتم أشد الناس عيشة وأعظم الناس بالله جهالة، فلو كان هذا الذي ابتلاكم به لم
يكن معه حظ في دنياكم غير أنه ثقة لكم في آخرتكم التي إليها المعاد والمنقلب،
وأنتم من جهد المعيشة على ما كنتم عليه كنتم أحرياء أن تشحوا على نصيبكم منه،
وأن تظهروه على غيره فبله . أما إنه قد
جمع لكم فضيلة الدنيا وكرامة الآخرة، أو لمن شاء أن يجمع ذلك منكم، فأذكركم الله
الحائل بينكم وبين قلوبكم إلا ما عرفتم حق الله وعملتم له، وسيرتم أنفسكم على
طاعته، وجمعتم مع السرور بالنعم خوفاً لزوالها وانتقالها، ووجلاً من تحويلها،
فإنه لا شيء أسلب للنعمة من كفرانها، وإن الشكر أمن للغير، ونماء للنعمة،
واستجلاب للزيادة، وهذا علي في أمركم ونهيكم واجب إن شاء الله. قال: وكان
عمرو ارتد، وطليحة تنبأ. وروى
أبو عبيدة أيضاً في هذا الكتاب، قال: قدم عمرو بن
معد يكرب والأجلح بن وقاص الفهمي على عمر، فأتياه وبين يديه مال يوزن، فقال: متى
قدمتما؟ قالا: يوم الخميس، قال: فما حبسكما عني؟ قالا: شغلنا المنزل يوم قدمنا،
ثم كانت الجمعة، ثم غدونا عليك اليوم. فلما فرغ من وزن المال نحاه، وأقبل
عليهما، فقال: هيه! فقال عمرو بن معد يكرب: يا
أمير المؤمنين، هذا الأجلح بن وقاص، الشديد المرة، البعيد الغرة، الوشيك الكرة،
والله ما رأيت مثله حين الرجال صارع ومصروع! والله لكأنه لا يموت. فقال عمر للأجلح- وأقبل عليه، وقد عرف الغضب في وجهه:
هيه يا أجلح! فقال الأجلح: يا أمير المؤمنين، تركت الناس خلفي صالحين، كثيراً
نسلهم، دارة أرزاقهم، خصبة بلادهم، أجرياء على عدوهم، فاكلأ عدوهم عنهم، فسيمتع
الله بك، فما رأينا مثلك إلا من سبقك، فقال: ما منعك أن تقول في صاحبك مثل ما
قال فيك؟ قال: ما رأيت من وجهك، قال: أصبت، أما إنك لو قلت فيه مثل الذي قال فيك
لأوجعتكما ضرباً وعقوبة، فإذ تركتك لنفسك فسأتركه لك، والله لوددت لو سلمت لكم
حالكم، ودامت عليكم أموركم. أما إنه سيأتي
عليك يوم تعضه وينهشك، وتهره وينبحك، ولست له يومئذ وليس لك، فإن لا يكن بعهدكم،
فما أقربه منكم! لما أسر الهرمزان صاحب الأهواز
وتستر وحمل إلى عمر، حمل ومعه رجال من المسلمين، فيهم الأحنف بن قيس وأنس بن
مالك، فأدخلوه في المدينة في هيئته، وعليه تاجه الذهب وكسوته، فوجدوا عمر نائماً
في جانب المسجد، فجلسوا عنده ينتظرون انتباهه، فقال الهرمزان: أين عمر؟ فقالوا:
هوذا، قال: وأين حراسه وحجابه؟ قالوا: لا حارس له ولا حاجب، قال: فينبغي أن يكون
هذا نبياً! قالوا: إنه يعمل عمل الأنبياء. قال: سبحان
الله! قال: أما إني لولا أخشى أن أعمل ما أخبرتك. أتيت البلد، فجمعت صلحاء أهله
فوليتهم جبايته، ووضعه في مواضعه، ولو أصابك منه شيء لأتاك، قال: أفما جئت بشيء؟
قال: لا، فقال: جددوا لعمير عهداً، قال: إن ذلك لشيء لا أعمله بعد لك، ولا لأحد
بعدك، والله ما كدت أسلم- بل لم أسلم، قلت لنصراني معاهد: أخزاك الله، فهذا ما
عرضتني له يا عمر! إن أشقى أيامي ليوم صحبتك! ثم استأذنه في الانصراف، فأذن له،
ومنزله بقباء بعيداً عن المدينة، فأمهله عمر أياماً ثم
بعث رجلاً يقال له الحارث، فقال: انطلق إلى عمير بن سعيد وهذه مائة
دينار، فإن وجدت عليه أثراً فأقبل علي بها، وإن رأيت حالاً شديدة فادفع إليه هذه
المائة، فانطلق الحارث فوجد عميراً جالساً يفلي قميصاً له إلى جانب حائط، فسلم
عليه، فقال عمير: انزل رحمك الله! فنزل
فقال: من أين جئت؟ قال: من المدينة، قال: كيف تركت أمير المؤمنين؟ قال: صالحاً،
قال: كيف تركت المسلمين؟ قال: صالحين، قال: أليس عمر يقيم الحدود؟ قال: بلى، ضرب
ابنا له على فاحشة فمات من ضربه، فقال عمير:
اللهم أعن عمر، فإني لا أعلمه إلا شديدا حبه لك! قال:
فنزل به ثلاثة أيام، وليس لهم إلا قرص من شعير كانوا يخصونه كل يوم به ويطوون،
حتى نالهم الجهد، فقال له عمير: إنك قد أجعتنا، فإن رأيت أن تتحول عنا فافعل،
فأخرج الحارث الدنانير فدفعها إليه، وقال:
بعث بها أمير المؤمنين، فاستغن بها، فصاح وقال:
ردها، لا حاجة لي فيها، فقالت المرأة: خذها
ثم ضعها في موضعها، فقال: مالي شيء أجعلها
فيه! فشقت أسفل درعها فأعطته خرقة فشدها فيها، ثم خرج فقسمها كلها بين أبناء
الشهداء والفقراء، فجاء الحارث إلى عمر فأخبره، فقال:
رحم الله عميراً! ثم لم يلبث أن هلك، فعظم
مهلكه على عمر، وخرج مع رهط من أصحابه ماشين إلى بقيع
الغرقد، فقال لأصحابه: ليتمنين كل واحد منا أمنيته، فكل واحد
تمنى شيئاً، وانتهت الأمنية إلى عمر؟ فقال: وددت أن لي رجلاً مثل عمير بن سعيد أستعين به على
أمور المسلمين! |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
بعض
من كلام عمر
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن
كلام عمر: إياكم وهذه المجاوز، فإن لها ضراوة كضراوة الخمر. وقال: السمن غفلة. وقال:
لا تسكنوا نساءكم الغرف، ولا تعلموهن الكتابة، واستعينوا عليهن بالعري، وعودوهن
قول "لا"، فإن "نعم " تجرئهن على المسألة. قال أبو عثمان
الجاحظ: لأنه ليس من العقل أن يكون فرشه لبداً ومرقعته طبرية. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
عمر
وعمرو بن معد يكرب
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وذكر أبو عبيدة معمر بن المثنى في كتاب
"مقاتل الفرسان " أن سعد بن أبي وقاص أوفد عمرو بن معد يكرب بعد فتح
القادسية إلى عمر، فسأله عمر عن سعد: كيف تركته، وكيف رضا الناس عنه؟ فقال: يا أمير المؤمنين، هو
لهم كالأب يجمع لهم جمع الذرة، أعرابي في نمرته ، أسد في تامورته ، نبطي في
جبايته، يقسم بالسوية، ويعدل في القضية، وينفر في السرية.
قال: فأخبرني عن السلاح، قال:
سل عما شئت منه، قال: الرمح؟ قال: أخوك
وربما خانك، قال النبل؟ قال: منايا تخطئ
وتصيب، قال: الترس؟ قال: ذاك المجن، وعليه
تدور الدوائر، قال: الدرع؟ قال: مشغلة للراكب، متعبة للراجل، وإنها لحصن
حصين. قال: السيف؟ قال: هناك قارعت أمك الهبل ، قال: بل أمك، قال:
بل أمي، والحمى أضرعتني لك. فكتب
بكلمته إلى عمر، فكتب إليه: أما بعد يابن معد يكرب، فإنك القائل لأميرك ما قلت، فإنه بلغني أن
عندك سيفاً تسميه الصمصامة، وإن عندي سيفاً أسميه مصمماً، واقسم بالله لئن وضعته
بين أذنيك لا يقلع حتى يبلغ قحفك. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
كلمات
عمر الغريبة وتفسيرها
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
فأما
ما نقل عن عمر من الألفاظ الغريبة اللغوية التي شرحها المفسرون، فنحن نذكر من
ذلك ما يليق بهذا الكتاب. قال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تاريخه: روى عبد الرحمن بن أبي زيد، عن عمران
بن سودة الليثي، قال: صليت الصبح مع عمر، فقرأ "سبحان " وسورة معها،
ثم انصرف، فقمت معه، فقال: أحاجة؟ قلت: حاجة، قال:
فالحق، فلحقت، فلما دخل أذن، فإذا هو على رمال سرير، ليس فوقه شيء، فقلت: نصيحة! قال:
مرحبا بالناصح غدواً وعشياً، قلت: عابت
أمتك- أو قال رعيتك- عليك أربعاً، قال: فوضع
عود الدرة ثم ذقن عليها- هكذا روى ابن قتيبة- وقال أبو
جعفر: "فوضع رأس درته في ذقنه " ووضع أسفلها على فخذه، وقال: هات- قال:
ذكروا أنك حرمت المتعة في أشهر الحج- وزاد أبو
جعفر: "وهي حلال "- ولم يحرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر، فقال: أجل إنكم إذا
اعتمرتم في أشهر حجكم رأيتموها مجزئة عن حجكم، فقرع حجكم، وكانت قابية قوب عامها
والحج بهاء من بهاء الله، وقد أصبت. قال:
وذكروا أنك حرمت متعة النساء، وقد كان رخصة من الله نستمتع بقبضة، ونفارق عن
ثلاث، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحلها
في زمان ضرورة، ورجع الناس إلى السعة، ثم لم أعلم أحداً من المسلمين عاد إليها،
ولا عمل بها، فالآن من شاء نكح بقبضة، وفارق عن ثلاثٍ بطلاق وقد أصبت. قال: ألحقت حرمة بحرمة، وما أردت إلا الخير، وأستغفر الله.
أراد أن النساء ينفرن من ذي الشيب ويفارقنه كما يفارق الفرخ
البيضة، فلا يعود إليها بعد خروجه منها أبداً، وروي
عن عمر: إنكم إذا رأيتم العمرة في أشهر الحج كافية من الحج خلت مكة من الحجاج،
فكانت كبيضة فارقها فرخها. ومثله قوله: "وأضم العنود". وعندي
أن ابن قتيبة غالط في هذا التأويل، وليس في كلام
عمر ما يدل على ذلك وليس عمر في غزاة قرقرة الكدر يسوس الناس ولا يأمرهم ولا
ينهاهم، وكيف ورسول الله صلى الله عليه وسلم حاضر
بينهم! ولا كان في غزاة قرقرة الكدر حرب، ولا ما يحتاج فيه إلى السياسة، وهل كان
لعمر أو لغير عمر ورسول الله صلى الله عليه
وسلم
حي
أن يرتع فيشبع، ويسقي فيروي! وهل تكون هذه الصفات وما بعدها إلا للرئيس الأعظم! والذي أراده عمر ذكر حاله في خلافته راداً على عمران بن سودة
في قوله: "إن الرعية يشكون منك عنف السياق وشدة النهر"، فقال: ليشكون! فوالله إني لرفيق بهم، ومستقص في
سياستهم، ولا ناهك لهم عقوبة، وإني لأقنع بالهيبة
والتهويل عليهم، ولا أعمل العصا حيث يمكنني الاكتفاء باليد، وإني أرد
الشارد منهم وأعدل المائل...، إلى غير ذلك من الأمور، التي عددها وأحسن في
تعديدها. وقال
الأصمعي: هو المبالغة في التطهر، فكل من أدق
النظر في الأمور واستقصى علمها فهو متنطس، ومنه قيل للطبيب: النطاسي والنطيس لدقة علمه بالطب. قال أبو عبيد: لا أحسب هذه الكلمة عربية، وإنما
أصلها "قبان "،
ومنه قول العامة: فلان قبان على فلان، إذا كان بمنزلة الأمين عليه والرئيس الذي
يتتبع أمره ويحاسبه، وبه سمي هذا الميزان الذي يقال له
القبان.
فقوله: "كذبت عليك "، إنما أغراه بنفسه، أي عليك بي؟ فجعل
نفسه في موضع رفع، ألا تراه قد جاء بالباء فجعلها اسمه.
فرفع، والشعر مرفوع، ومعناه عليكم
بالقراطف والقروف، والقراطف: القطف وأحدها قرطف. والقروف: الأوعية. والربعة: ما ولد في أول النتاج، والذكر ربع. قال أبو عبيد:
جعل الاستغفار استسقاء، تأول فيه قوله تعالى: "استغفروا
ربكم إنه كان غفاراً" يرسل السماء عليكم مدراراً" . والمجاديح: جمع مجدح وهو النجم الذي كانت العرب تزعم أنها
تمطر به، ويقال: مجدح بضم الميم، وإنما قال عمر
ذلك، على أنها كلمة جارية على ألسنة العرب، ليس على تحقيق الأنواء، ولا التصديق
بها وهذا شبيه بقول ابن عباس في رجل
جعل أمر امرأته بيدها، فقالت له: أنت طالق ثلاثاً، فقال
خطأ الله نوءها ! ألا طلقت نفسها ثلاثا! ليس هذا دعاء منه ألا تمطر، إنما
ذلك على الكلام المقول. والصلائق: الخبز
الرقيق، ومن رواه سلائق بالسين أراد ما يسلق من البقول وغيرها. والكراكر،
كراكر الإبل. والأفلاذ: جمع
فلذ وهو القطعة من الكبد. قيل: النقع
ههنا طعام المأتم، والأشبه أن النقع رفع الصوت، واللقلقة مثله. هو من العضال،
وهو الداء والأمر الشديد الذي لا يقوم له صاحبه. والشيطان لا
شقشقة له، إنما هذا مثل لما يدخل في الخطب من الكلام
المكذوب وتزوير الباطل. قال: هكذا روي
بالشين المعجمة، وقيل: إن الصحيح ينس بالسين
المهملة، والأظهر أنه ينوش الناس بالواو، من التناوش، قال تعالى: "وأنى لهم التناوش" . والأسل أعم من
الرماح، وأكثر ما يستعمل في الرماح خاصة. قال:
هجيري الرجل: دأبه وديدنه وشأنه. وتمعددوا، قيل
إنه من الغلظ أيضاً، يقال للغلام إذا أنبت وغلظ: قد تمعدد. ويروى:
ذرء النار بالهمزة، من ذرأ الله الناس، أي صورهم وأوجدهم. قال: فعبد
الرحمن؟ قال: أوه! ذكرت رجلاً صالحاً ولكنه ضعيف، وهذا
الأمر لا يصلح له إلا اللين من غير ضعف، والقوي من غير عنف، قال: فسعد؟
قال: ذاك يكون في مقنب من مقانبكم. قوله: كلف بأقاربه أي شديد الحب لهم. والدعابة: المزاح. والبأو: الكبر والعظمة. وابن ثاداء
بفتح الهمزة: ابن الأمة. النشيج: صوت
البكاء، يردده الصبي في صدره ولا يخرجه. وفي
حديثه
أنه أتي في نساء- أو إماء- ساعيات في الجاهلية، فأمر بأولادهن أن يقوموا على
آبائهم، فلا يسترقوا. قضى عمر في
أولادهن في الجاهلية أن يسومن على آبائهم بدفع الآباء قيمتهم إلى سادات الإماء،
ويصير الأولاد أحراراً لاحقي النسب بآبائهم. فقضى عمر في
مثل هذا أن يرد حراً إلى نسبه، وتكون قيمته على نفسه
يؤديها إلى الذي سباه، لأنه أسلم وهو في يده، وقيمته كائناً ما كان خمس من
الإبل. قوله: "والملة" أي تقوم ملة الإنسان وشرعها. فتغيظ عمر
عليه، وقال: أردت أن تتغفلني!، يعني أردت غفلتي. والضفاطة:
الحمق وضعف العقل، رجل ضفيط، أي أحمق. والوضم:
الخشبة أو البارية يجعل عليها اللحم. قال: دعا عليها. فإذا كان هذا رأيه
في أبي الزوج وهو محرم لها فكيف بالغريب! وفي
حديثه: "إن بيعة أبي بكر
كانت فلتة وقى الله شرها، فلا بيعة إلا عن مشورة، وأيما رجل بايع رجلاً عن غير
مشورة فلا يؤمر واحد منهما تغرة أن يقتلا. هذا مثل يضرب
للرجل يصنع معروفاً ثم يفسده. قال: السائبة:
المعتق. وليومهما:
ليوم القيامة الذي فعل ما فعله لأجله. قال: التلبيد
أن تجعل في رأسك شيئاً من صمغ أو عسل يمنع من أن يقمل. والعقص
والضفر: فتل الشعر ونسجه. قال:
الدافة: جماعة تسير سيراً ليس بالشديد. وفي
حديثه: أنه لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قام أبو بكر
فتلا هذه الآيةً في خطبته: "إنك ميت وإنهم
ميتون". قال عمر: فعقرت حتى وقعت إلى الأرض. وفي
حديثه: "ليس الفقير الذي لا مال له، إنما الفقير
الأخلق الكسب". وهذا
نحو قول النبي صلى
الله عليه وسلم:
"ليس الرقوب الذي لا يبقى له ولد، إنما الرقوب الذي لم يقدم من ولده
أحداً،، فهذا ما لخصته من غريب كلام عمر من كتاب
أبي عبيد. فقال
علي رضي الله عنه: فكيف ذاك ولما تشتد البلية، وتظهر
الحمية، وتسبى الذرية، وتدقهم الفتن دق الرحى بثفالها! قال ابن
قتيبة: يدسر أي يدفع، ومنه حديث ابن عباس: ليس في
العنبر زكاة، إنما هو شيء يدسره البحر. قال
ابن قتيبة: العقل: الدية، يقول: إذا حلفت فإنما تجب الدية لا
القود، وقد روي عن ابن الزبيروعمر بن عبد العزيز أنهما أقادا بالقسامة. قال:
انكفأ: تغير عن حاله، وأصله الانقلاب، من كفأت الإناء. وفي حديثه عن ابن عباس، قال: دعاني فإذا حصير بين يديه، عليه
الذهب منثور نثر الحثا، فأمرني بقسمه.
وفي حديثه أنه قال: "النساء
ثلاث، فهينة لينة عفيفة مسلمة، تعين أهلها على العيش، ولا تعين العيش على
أهلها، وأخرى وعاء للولد، وأخرى غل قمل يضعه الله في عنق من يشاء ويفكه عمن
يشاء، والرجال ثلاثة: رجل ذو رأي وعقل، ورجل إذا
حزبه أمر إذا رأي فاستشاره ورجل حائر بائر، لا يأتمر رشداً، ولا يطيع مرشداً. والأصل في قوله: غل قمل، أنهم كانوا يغلون بالقد وعليه الشعر، فيقمل على
الرجال.
وفي حديثه أنه خرح ليلة في شهر رمضان، والناس
أوزاع، فقال: "إني لأظن لو جمعناهم على
قارىء واحد كان أفضل"، فأمر آبي بن كعب
فأمهم، ثم خرج ليلة وهم يصلون بصلاته، فقال: "نعم البدعة هذه! والتي ينامون عنها أفضل
من التي يقومون". والبعير
الموقع الذي يكثر آثار الدبر بظهره، لكثرة ما يركب، وأراد عمر أنا كلنا مثل ذلك
في العيب. قال: السعن: قربة أو إداوة ينتبذ فيها وتعلق
بجذع. وفي
حديثه: أنه رأى رجلاً يأنح ببطنه، فقال: ما هذا؟ قال: بركة من الله، قال: بل هو عذاب من الله يعذبك به. والنزع
في
القوس، والنزو على الخيل. قال: البهش
المقل الرطب، فإذا يبس فهو الخشل، وأراد أن أبا موسى
ليس من أهل الحجاز، لأن المقل بالحجاز نبت، والقرآن نزل بلغة الحجاز. وجزى:
قضى وأغنى، من قوله تعالى: "لا تجزي نفس عن نفس شيئا"، فإن أدخلت
الألف قلت: أجزأك " وهمزت، ومعناه كفاك. قال: ثل عرشه، أي
هدم. قال:
كشية الضب: شحم بطنه. قال:
اتخذ منها جفنة من طعام، وأجمع عليه. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
فأما
الحديث الوارد في فضل عمر، فمنه ما هو مذكور في الصحاح، ومنه ما هو غيرمذكور
فيها. فمما ذكر في المسانيد الصحيحة من ذلك، ما روت عائشة
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"كان في الأمم محدثون، فإن يكن في أمتي فعمر". أخرجاه في الصحيحين . فقال
عمر:
أنت أحق أن يهبن، ثم قال: أي عدوات أنفسهن، أتهبنني ولا
تهبن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلن: نعم، أنت
أغلظ وأفظ، فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "والذى
نفسي بيده، ما لقيك الشيطان قط سالكاً فجاً إلا سلك فجاً غيرفجك"، أخرجاه في الصحيحين. وقد طعن أعداؤه
ومبغضوه في هذه الأحاديث، فقالوا: لو كان محدثاً وملهماً لما اختار
معاوية ألفاسق لولاية الشام، ولكان الله تعالى قد ألهمه وحدثه بما يواقع من
القبائح والمنكرات والبغي والتغلب على الخلافة، والاستئثار بمال الفيء، وغير ذلك
من المعاصي الظاهرة. وكان يشكل عليه الحكم، فيقول لابن عباس: غص يا غواص، فيفرج عنه، فأين كان الملك الثاني المسدد له! وأين الحئ الذي ضرب
به على لسان عمر، ومعلوم أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم كان ينتظر في
الوقائع نزول الوحي. وعمر على مقتضى هذه الأخبار لا حاجة به إلى نزول ملك عليه،
لأن الملكين معه في كل وقت وكل حال، ملك ينطق على لسانه وملك آخر بين عينيه
يسدده ويوفقه. وقد عززا بثالث وهي السكينة، فهو
إذاً أفضل من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: والحديث الذي مضمونه: لو لم أبعث فيكم لبعث عمر، فيلزم أن
يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم عذاباً على عمر، وأذى شديداً
له، لأنه لو لم يبعث لبعث عمر نبياً ورسولاً، ولم تعلم رتبة أجل من رتبة
الرسالة، فالمزيل لعمر عن هذه الرتبة التي ليس وراءها رتبة، ينبغي ألا يكون في
الأرض أحد أبغض إليه منه! قالوا: وأما
كونه سراج أهل الجنة، فيقتضي أنه لو لم يكن تجلى عمر لكانت الجنة مظلمة لا سراج
لها. والجواب أنه ليس يجب فيمن كان محدثاً ملهماً أن يكون محدثاً ملهماً في
كل شيء بل الإعتبار بأكثرأفعاله وظنونه وآرائه، ولقد كان عمركثير التوفيق، مصيب
الرأي في جمهورأمره، ومن تأمل سيرته علم صحة ذلك، ولا يقدح في ذلك أن يختلف ظنه
في القليل من الأمور. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وأما
إسلام عمر،
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
فإنه أسلم، فكان تمام أربعين إنساناً في أظهر الروايات، وذلك في السنة السادسة من النبوة، وسنه إذ ذاك ست وعشرون سنة، وكان عمر ابنه
عبد الله يومئذ ست سنين. وأصح
ما روي في إسلامه، رواية أنس بن مالك عنه، قال: خرجت متقلداً
سيفي، فلقيت رجلاً من بني زهرة، فقال: أين تعمد؟ قلت: أقتل محمداً، قال: وكيف
تأمن في بني هاشم وبني زهرة، فقلت: ما أراك إلا صبوت! قال: أفلا أدلك على العجب!
إن إختك وزوجها قد صبوا. فمشى عمر فدخل عليهما ذامراً، وعندهما رجل من
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم،
يقال له: خباب بن الأرت، فلما سمع خباب حس عمر توارى، فقال عمر: ما هذه الهينمة
التي سمعتها عندكم، وكانوا يقرأون !"طه" على خباب، فقال: ما عندنا
شيء، إنما هو حديث كنا نتحدثه بيننا، قال: فلعلكما قد صبوتما فقال له ختنه:
أرأيت يا عمر إن كان الحق في غيردينك! فوثب عمر على ختنه فوطئه وطئاً شديدأ،
فجاءت اخته فدفعته عن زوجها، فنفحها بيده، فأدمى وجهها، فجاهرته، فقالت: إن الحق
في غير دينك، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فاصنع ما بدا
لك! فلما يئس قال: أعطوني هذا الكتاب الذي عندكم فأقرؤه
وكان عمريقرأ الخط فقالت له اخته: إنك رجس، وإن هذا الكتاب لا يمسه إلا
المطهرون، فقم فتوضأ، فقام فأصاب ماء، ثم أخذ الكتاب،
فقرأ "طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى إلا تذكرة لمن يخشى" إلى قوله.
"إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري"،
فقال عمر: دلوني على محمد، فلما سمع خباب قول عمر، ورأى
منه الرقة، خرج من البيت، فقال: أبشر يا عمر، فإني
لأرجو أن تكون دعوة رسول الله صلى
الله عليه وسلم ليلة الخميس لك، سمعته يقول: "اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب أو بعمرو
بن هشام" قال: ورسول الله صلى
الله عليه وسلم في الدار التي
في أصل الصفا فانطلق عمر حتى أتى الدار، وعلى الباب حمزة بن عبد المطلب وطلحة بن
عبيد الله وناس من أهل رسول الله صلى
الله عليه وسلم، فلما رأى
الناس عمر قد أقبل، كأنهم وجدوا، وقالوا: قد جاء عمر، فقال: حمزة: قد جاء
عمر، فإن يرد الله به خيراً يسلم، وإن يرد غيرذلك كان قتله علينا هيناً، قال:
والنبي صلى الله عليه وسلم من
داخل البيت يوحى اليه، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم كلام
القوم، فخرج مسرعاً حتى انتهى إلى عمر، فأخذ بمجامع
ثوبه وحمائل سيفه، وقال: ما أنت منتهياً يا عمر حتى ينزل الله بك يعني من الخزي
والنكال ما أنزل بالوليد بن المغيرة، ثم قال:
"اللهم هذا عمر، اللهم أعز الإسلام بعمر"! فقال: أشهد أن لا إله إلا
الله، وأشهد أنك رسول الله. فكبر أهل الدار، ومن كان على الباب، تكبرة سمعها من
كان في المسجد من المشركين. قرأت في كتاب
من تصانيف أبي أحمد العسكري رحمه الله، أن عمر خرج
عسيفاً مع الوليد بن المغيرة إلى الشام في تجارة للوليد، وعمريومئذ ابن ثماني
عشرة سنة، فكان يرعى للوليد إبله، ويرفع أحماله، ويحفظ متاعه، فلما كان
بالبلقاء لقيه رجل من علماء الروم، فجعل ينظر إليه،
ويطيل النظر لعمر، ثم قال: أظن اسمك يا غلام عامراً أو عمران أو نحو ذلك، قال:
اسمي عمر، قال: اكشف عن فخذيك، فكشف فإذا على أحدهما شامة سوداء في قدر
راحة الكف، فسأله أن يكشف عن رأسه، فكشف فإذا هو أصلع، فسأله أن يعتمل بيده،
فاعتمل فإذا أعسر أيسر، فقال له: أنت ملك العرب، وحق
مريم البتول! قال: فضحك عمر مستهزئاً، قال: أو تضحك! وحق مريم البتول إنك
ملك العرب، وملك الروم، وملك الفرس، فتركه عمر وانصرف
مستهيناً بكلامه، وكان عمر يحدث بعد ذلك، ويقول: تبعني ذلك الرومي وهو راكب
حماراً. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ما
ورد في تاريخ موت عمر
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
فأما
تاريخ موته، فإن أبا لؤلؤة طعنه يوم الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجة من سنة
ثلاث وعشرين، ودفن يوم الأحد صباح هلال المحرم سنة أربع وعشرين، وكانت ولايته
عشر سنين وستة أشهر، وهو ابن ثلاث وستين في أظهر الأقوال،
وقد كان قال على المنبر يوم جمعة، وقد ذكر رسول
الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر: "إني قد رأيت رؤيا، أظنها لحضور
أجلي، رأيت كأن ديكاً نقرني نقرتين، فقصصتها على أسماء
بنت عميس، فقالت: يقتلك رجل من العجم، وإني أفكرت فيمن أستخلف، ثم رأيت أن الله لم يكن ليضيع
دينه وخلافته التي بعث بها رسوله. وروي
أن عبد الرحمن بن عوف طرح على أبي لؤلؤة بعد أن طعن الناس خميصة كانت عليه، فلما
حصل فيها نحر نفسه، فاحتز عبد الرحمن رأسه واجتمع البدريون وأعيان المهاجرين
والأنصار بالباب، فقال عمر لابن عباس: اخرج إليهم،
فاسألهم أعن ملأ منكم كان هذا الذي أصابني؟ فخرج يسألهم، فقال القوم: لا والله
ولوددنا أن الله زاد في عمره من أعمارنا! وروى
عبد
الله بن عمر، قال: كان
أبي يكتب إلى امراء الجيوش: لا تجلبوا إلينا من العلوج أحداً جرت عليه المواسي،
فلما طعنه أبو لؤلؤة، قال: من بي؟ قالوا: غلام المغيرة، قال: ألم أقل لكم: لا
تجلبوا إلينا من العلوج أحداً، فغلبتموني! وروى
محمد بن إسماعيل البخاري في صحيحه عن عمرو بن ميمون، قال:
إني لقائم ما بيني وبين عمر إلا عبد الله بن عباس غداة أصيب، وكان إذا مر
الصفين، قال: استووا حتى إذا لم ير بيننا خللاً تقدم فكبر، وربما قرأ سورة يوسف
أو النحل في الركعة الاولى أو نحو ذلك في الركعة الثانية حتى يجتمع الناس، فما
هو إلا أن كبر، فسمعته يقول: قتلني أو أكلني الكلب، وذلك حين طعنه العلج بسكين
ذات طرفين، لا يمر على أحد يميناً ولا شمالاً إلا طعنه، حتى طعن ثلاثة عشررجلاً، مات منهم ستة، فلما رأى ذلك رجل من
المسلمين طرح عليه برنساً، فلما ظن العلج أنه مأخوذ نحر نفسه، وتناول عمر بيده عبد الرحمن بن عوف، فقدمه، فمن يلي عمر، فقد
رأى الذي رأى، وأما نواحي المسجد فإنهم لا يدرون غير أنهم فقدوا صوت عمر،
فهم يقولون: سبحان الله! فصلى عبد الرحمن صلاة خفيفة،
فلما انصرفوا قال: يابن عباس، انظر من قتلني؟ فجال ساعة، ثم جاء فقال: غلام
المغيرة، قال: الصنع! قال: نعم، قال: قاتله الله، لقد أمرت به معروفاً، الحمد
لله الذي لم يجعل منيتي بيد رجل يدعي الإسلام، وقد كنت
أنت وأبوك تحبان أن يكثر العلوج وكان العباس أكثرهم رقيقاً فقال: إن شئت فعلنا، أي
قتلناهم، قال: كذبت بعد أن تكلموا بلسانكم وصلوا قبلتكم، وحجوا حجكم!
فاحتمل إلى بيته، وانطلقنا معه، وكأن الناس لم تصبهم مصيبة قبل يومئذ، فقائل
يقول: لا بأس عليه، وقائل يقول: أخاف عليه، فأتي بنبيذ فشربه، فخرج من جوفه، ثم
أتي بلبن فشربه فخرج من جوفه، فعلموا أنه ميت، فدخل الناس يثنون عليه، وجاء رجل
شاب، فقال: أبشريا أمير المؤمنين ببشرى الله، لك صحبة برسول الله وقدم في
الإسلام ما قد علمت، ثم وليت فعدلت، ثم الشهادة. فقال عمر: وددت أن ذلك
كله كان كفافاً، لا علي ولا لي، فلما أدبر إذا رداؤه يمس الأرض، فقال: ردوا علي
الغلام، فردوه، فقال: يابن أخي، ارفع ثوبك، فإنه أبقى لثوبك، وأتقى لربك، يا عبد
الله بن عمر، انظر ما علي من دين، فحسبوه فوجدوه ستة وثمانين ألفاً أو نحوه،
فقال: إن وفى به مال آل عمر فأده من أموالهم، وإلا فسل في بني عدي بن كعب، فإن
لم تف به أموالهم، فسل في قريش ولا تعدهم إلى غيرهم، وأدعني هذا المال، انطلق إلى عائشة، فقل لها: يقرأ عليك السلام عمر ولا تقل أمير المؤمنين، فإني اليوم لست للمؤمنين
أميراً وقل: يستأذن عمر بن الخطاب أن يدفن مع صاحبيه،
فمضى وسلم، واستأذن ودخل عليها فوجدها قاعدة تبكي، فقال: يقرأ عليك عمر السلام ويسأذن أن يدفن مع صاحبيه،
فقالت: كنت أريده لنفسي يعني الموضع ولأوثرنه اليوم على نفسي. فلما أقبل قيل: هذا عبد الله قد جاء، قال:
ارفعوني، فأسندوه إلى رجل منهم، قال: يا عبد الله ما
لديك، قال: الذي تحب يا أمير المؤمنين، قد أذنت، قال: الحمد لله، ما كان
شيء أهم إلي من ذلك، إذا أنا قبضت فاحملني، ثم سلم عليها، وقل: يستأذن عمر بن
الخطاب، فإن أذنت لي فادخلوني، وإن ردتني فردوني إلى مقابر المسلمين، وادفنوني
بين المسلمين. وجاءت
ابنته حفصة، والنساء معها، فلما رأيناها قمنا، فولجت عليه
فبكت عنده ساعة، واستأذن الرجال فولجت بيتاً
داخلاً لهم، فسمعنا بكاءها من البيت الداخل فقالوا: أوص
يا أمير المؤمنين واستخلف، فقال: ما أجد أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر
أو قال: الرهط الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، فسمى علياً
وعثمان والزبيروطلحة وسعداً وعبد الرحمن، وقال: يشهدكم عبد الله بن عمر،
وليس له من الأمر شيء- كهيئة التعزية له- فإن أصابت الإمارة سعداً، فهو أهل
لذلك، وإلا فليستعن به أيكم أمر، فإني لم أعزله عن عجز ولا عن خيانة، ثم قال: أوصي الخليفة من بعدي بالمهاجرين الأولين،
أن يعرف لهم حقهم، ويحفظ لهم حرمتهم، وأوصيه بالأنصار خيراً، الذين تبوأوا الدار
والإيمان من قبلهم، أن يقبل من محسنهم وأن يعفو عن مسيئهم، وأوصيه بأهل الأمصار
خيراً، فإنهم ردء الإسلام وجباة الأموال، وغيظ العدو، ألا يأخذ منهم إلا فضلهم،
عن رضاهم، وأوصيه بالأعراب خيراً، فإنهم أصل العرب، ومادة الإسلام، أن يؤخذ من
حواشي أموالهم، ويرد على فقرائهم، وأوصيه بذمة الله وذمة رسوله أن يوفي لهم
بعهدهم، وأن يقاتل من وراءهم، وألا يكلفوا إلا طاقتهم. فوالله
ما هو إلا أن ذكررسول الله صلى الله عليه
وسلم وأبا بكر، فعلمت أنه لم يكن
يعدل برسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً، وأنه غيرمستخلف. وروى
ابن عباس، قال: لما طعن عمر وجئته بخبرأبي لؤلؤة أتيته
والبيت ملآن. فكرهت أن أتخطى رقابهم وكنت حديث السن
فجلست وهومسجى، وجاء كعب الأحبار، وقال: لئن دعا
أمير المؤمنين ليبقيه الله لهذه الأمة حتى يفعل فيها كذا وكذا! حتى ذكر
المنافقين فيمن ذكر، فقلت: ابلغه ما تقول، قال:
ما قلت إلا وأنا أريد أن تبلغه، فتشجعت وقمت، فتخطيت رقابهم، حتى جلست عند رأسه،
وقلت: إنك أرسلتني بكذا، إن عبد المغيرة قتلك وأصاب معك
ثلاثة عشر إنسانأ، وإن كعبأ ههنا وهو يحلف بكذا، فقال: ادعوا إلى كعباً، فدعي
فقال: ما تقول، قال: أقول كذا، قال: لا والله لا أدعو، ولكن شقي عمر إن لم يغفر
الله له. وروى
المسور بن مخرمة، أيضاً، قال: لما طعن عمر، جعل يألم ويجزع، فقال ابن عباس: ولا كل ذلك يا أمير المؤمنين، لقد
صحبت رسول الله، فأحسنت صحبته، ثم فارقته وهو عنك راض، وصحبت أبا بكر وأحسنت
صحبته، وفارقك وهو عنك راض، ثم صحبت المسلمين فأحسنت إليهم وفارقتهم وهم عنك
راضون. وفي
رواية: المغرور من غررتموه! لو أن لي ما على ظهرها من
صفراء وبيضاء لافتديت به من هول المطلع، وفي رواية:
في الإمارة علي تثني يابن عباس! قلت: وفي
غيرها، قال: والذي نفسي بيده لوددت أني خرجت منها كما دخلت فيها، لا حرج ولا
وزر. وفي
رواية: لو كان لي ما طلعت عليه الشمس لافتديت به من كرب
ساعة يعني الموت كيف ولم أرد الناس بعد! وفي
رواية: لو أن لي الدنيا، وما فيها لافتديت به من هول ما
أمامي، قبل أن أعلم ما الخبر. فانصرف الناس
وهو دمه مسجى، لم يصل الفجر بعد، فقيل: يا أمير المؤمنين، الصلاة! فرفع رأسه،
وقال: لاها الله إذن، لاحظ لامرىء في الإسلام ضيع صلاته ثم وثب ليقوم فانثعب
جرحه دماً، فقال: هاتوا لي عمامة، فعصب بها جرحه، ثم صلى وذكر، ثم التفت إلى
ابنه عبد الله، وقال: ضع خدي إلى الأرض يا عبد الله، قال عبد الله: فلم أعج بها،
وظننت أنها اختلاس من عقله، فقالها مرة آخرى:
ضع خدي إلى الأرض يا بني فلم أفعل، فقال! الثالثة:
ضع خدي إلى الأرض، لا أم لك! فعرفت أنه مجتمع العقل، ولم يمنعه أن يضعه هو إلا
ما به من الغلبة، فوضعت خده إلى الأرض، حتى نظرت إلى أطراف شعر لحيته خارجة من
أضعاف التراب، وبكى حتى نظرت إلى الطين قد لصق بعينه، فأصغيت أذني لأسمع ما
يقول: فسمعته يقول: يا ويل عمر! وويل أم عمر، إن لم يتجاوز الله عنه! وقد جاء في رواية، أن علياً رضي الله عنه جاء
حتى وقف عليه، فقال: ما أحد أحب إلي أن ألقى
الله بصحيفته من هذا المسجى. ويروى أن كعباً كان يقول له: نجدك في كتبنا تموت
شهيداً، فيقول: كيف لي بالشهادة وأنا في جزيرة العرب! وروى المقدام بن معد يكرب، قال: لما
أصيب عمردخلت عليه حفصة ابنته، فنادت يا صاحب رسول الله، ويا صهر رسول الله، ويا
أمير المؤمنين! فقال لإبنه عبد الله: أجلسني، فلا صبرلي على ما أسمع، فأسنده إلى
صدره، فقال لها: إني احرج عليك بمالي عليك من الحق أن تندبيني بعد مجلسك هذا،
فأما عينك فلن أملكها، إنه ليس من ميت يندب عليه بما ليس فيه، إلا الملائكة
تمقته! وروى الأحنف، قال: سمعت عمر يقول: إن
قريشاً رؤوس الناس، ليس أحد منهم يدخل من باب إلا دخل معه طائفة من الناس، فلما
أصيب عمر أمر صهيباً أن يصلي بالناس ثلاثة أيام ويطعم!، حتى يجتمعوا على رجل،
فلما وضعت الموائد كف الناس عن الطعام، فقال العباس بن عبد المطلب: أيها الناس،
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات فأكلنا بعده، ومات أبو بكر فأكلنا
بعده، وإنه لا بد للناس من الأكل، ثم مد يده فأكل من الطعام، فعرفت قول عمر.
والأكثرون يروونها لمزرد أخي الشماخ، ومنهم من يرويها للشماخ نفسه. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
عشرة
طعون في عمر والرد عليها،
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ونذكر
في هذا الموضع ما طعن به على عمر في المغني من المطاعن،
وما اعترض به الشريف المرتضى على قاضي القضاة، وما أجاب به قاضي القضاة، في
كتابه المعروف بالشافي، ونذكر ما عندنا في البعض
من ذلك. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الطعن
الأول:
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال
قاضي القضاة: أول ما طعن به عليه قول من قال: إنه بلغ من قلة
علمه أنه لم يعلم أن الموت يجوز على النبي صلى
الله عليه وسلم، وأنه أسوة الأنبياء في ذلك، حتى قال: والله ما مات محمد، ولا
يموت حتى تقطع أيدي رجال وأرجلهم، فلما تلا عليه أبو بكر قوله تعالى: "إنك
ميت وإنهم ميتون"، وقوله: "وما
محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم"
الآيةً، قال: أيقنت بوفاته، وكأني لم أسمع هذه
الآيةً، فلوكان يحفظ القرآن أو يفكر فيه لما قال ذلك، وهذا
يدل! على بعده من حفظ القرآن وتلاوته، ومن هذا حاله لا
يجوز أن يكون إماماً. وحكي
عن الشيخ أبي علي أن أمير المؤمنين رضي
الله عنه لم يحط علمه بجميع الأحكام، ولم يمنع ذلك من فضله، واستدل بما روي من قوله: كنت
إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً
نفعني الله به ما شاء أن ينفعني، وإذا حدثني غيره أحلفته، فإن حلف لي صدقته،
وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر. وذكر أنه لم
يعرف أي موضع يدفن فيه رسول الله صلى
الله عليه وسلم حتى رجع إلى
ما رواه أبو بكر، وذكر قصة الزبير في موالي صفية،
وأن أمير المؤمنين رضي الله عنه أراد أن يأخذ ميراثهم، كما أن عليه أن يحمل عقلهم حتى أخبره عمر
بخلاف ذلك من أن الميراث للأب، والعقل على العصبة. وقوله: "كنت إذا سئلت أجبت وإذا سكت
ابتديت ". وليس
يرد على هذا ما اعترض به المرتضى، لأن عمر ما كان يعتقد استحالة الموت عليه كاستحالة الموت على
البارىء تعالى أعني الاستحالة الذاتية بل اعتقد استمرار حياته إلى يوم القيامة، مع كون الموت جائزاً
في العقل عليه، ولا تناقض في ذلك، فإن إبليس يبقى حياً إلى يوم القيامة، مع كون موته جائزاً في العقل، وما أورده أبو بكر عليه لازم على أن يكون نفيه للموت على هذا الوجه. ثم
قال المرتضى: فاما ما روي عن أمير المؤمنين رضي
الله عنه
من
خبر الاستحلاف في الأخبار، فلا يدل على عدم علم أمير
المؤمنين بالحكم، لأنه يجوز أن يكون استحلافه ليرهب المخبرويخوفه من
الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم لأن العلم بصحة الحكم الذي يتضمنه الخبر لا يقتضي صدق المخبر،
وأيضاً فلا تاريخ لهذا الحديث، ويمكن أن يكون استحلافه رضي الله عنه للرواة إنما كان في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي
تلك الحال لم يكن محيطاً بجميع الأحكام. ويجوز
أن يكون رسول الله صلى
الله عليه وسلم خيروصيه رضي الله عنه في موضع دفنه،
ولم يعين له موضعاً بعينه. فلما روى أبو بكر ما رواه رأى موافقته، فليس في هذا دلالة على أنه رضي
الله عنه استفاد حكماً لم يكن عنده. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الطعن
الثاني:
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أنه
أمر برجم حامل حتى نبهه معاذ، وقال: إن يكن لك عليها سبيل
فلا سبيل لك على ما في بطنها، فرجع عن حكمه،
وقال: لولا معاذ لهلك عمر. ومن
يجهل هذا القدر لا يجوز أن يكون إماماً، لأنه يجري
مجرى أصول الشرع، بل العقل يدل عليه، لأن الرجم عقوبة،
ولا يجوز أن يعاقب من لا يستحق. ثم
سأل نفسه فقال: فإن
قيل: إذا لم تكن منه معصية، فكيف يهلك لولا معاذ! وأجاب
بأنه لم يرد: لهلك من جهة العذاب، وإنما أراد:
أنه كان يجري بقوله قتل من لا يستحق القتل. ويجوز
أن يريد بذلك تقصيره في تعرف حالها، لأن ذلك لا
يمتنع أن يكون بخطيئة وان صغرت. فأما إقراره
بالهلاك لولا تنبيه معاذ، فإنه يقتضي التعظيم والتفخيم لشأن الفعل، ولا يليق ذلك
إلا بالتقصير الواقع، إما في الأمر برجمها مع العلم
بأنها حامل، أو ترك البحث عن ذلك والمسألة عنه،
وأي لوم عليه في أن يجري بقوله قتل من لا يستحق القتل
إذا لم يكن ذلك عن تفريط منه ولا تقصير! قلت: أما ظاهر لفظ معاذ فيشعر بما قاله المرتضى، ولم يمتنع أن يكون عمر لم
يعلم أنها حامل
وأن معاذاً قد كان من الأدب أن يقول له: حامل يا
أمير المؤمنين، فعدل عن هذا اللفظ بمقتضى أخلاق العرب وخشونتهم. فقال له:
إن كان لك عليها سبيل فلا سبيل لك على ما في بطنها، فنبهه
على العلة والحكم معاً، وكان الأدب أن ينبهه على
العلة فقط وأما عدول عمر عن أن يقول: أنا
أعلم أن الحامل لا ترجم، وإنما أمرت برجمها، لأني لم أعلم أنها حامل، فلأنه إنما يجب أن يقول مثل هذا من يخاف من اضطراب
حاله، أو نقصان ناموسه وقاعدته إن لم يقله، وعمر كان أثبت قدماً في ولايته، وأشد تمكناً من أن يحتاج إلى
الاعتذار بمثل هذا. والعجب أنه حكى لفظ قاضي القضاة بهذه الصورة، ثم قال: إنه ادعى أنها صغيرة، وبين قول القائل:
"لا يمتنع أن يكون صغيرة"، وقوله:
"هي صغيرة" لا محالة فرق عظيم. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الطعن
الثالث:
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
خبر
المجنونة التي أمر برجمها، فنبهه أمير المؤمنين رضي الله عنه وقال:
إن القلم مرفوع عن المجنون حتى يفيق. فقال:
لولا علي لهلك عمر! وهذا يدل على أنه لم يكن يعرف
الظاهرمن الشريعة. وأما ذكر
الغم، فأي غم كان يلحقه إذا فعل ما له أن يفعله! ولم يكن منه تفريط ولا تقصير، لأنه إذا كان جنونها لم يعلم به، فكانت المسألة عن
حالها والبحث لا يجبان عليه، فأي وجه لتألمه وتوجعه واستعظامه لما فعله! وهل هذا إلا كرجم المشهود عليه بالزنا في أنه لو ظهر
للإمام بعد ذلك براءة ساحته لم يجب ن يندم على فعله ويستعظمه، لأنه وقع صواباً مستحقاً. وأما
قوله:
إنه كان لا يمتنع في الشرع أن يقام الحد على المجنون، وتأوله الخبر المروي على
أنه يقتضي زوال التكليف دون الأحكام، فإن أراد
أنه لا يمتنع في العقل أن يقام على المجنون ما هو من جنس الحد بغير استخفاف ولا
إهانة، فذلك صحيح، كما يقام على التائب وأما الحد في الحقيقة، وهو الذي تضمنه الاستخفاف
والإهانة فلا يجوز إلا على المكلفين ومستحقي العقاب، وبالجنون
قد ازيل التكليف، فزال استحقاق العقاب الذي تبعه الحد. واعتذار قاضي القضاة بالغم جيد، وقول المرتضى:
أي غم كان يلحقه إذا فعل ما له أن يفعله! ليس بإنصاف،
ولا مثل هذا يقال فيه إنه فعل ما له أن يفعله، ولا يقال
في العرف لمن قتل إنسانأ خطأ: إنه فعل ما له أن يفعله، والمرجوم في الزنا
إذا ظهر للإمام بعد قتله براءة ساحته قد يغتم بقتله
غماً كثيراً بالطبع البشري، ويتألم ان لم
يكن أثماً، وليس من توابع الإثم ولوازمه. وقوله
معترضاً على كلام قاضي القضاة: إن الخطأ في ذلك قد لا يعظم ليمنع
من صحة الإمامة إن هذا اقتراح بغيرحجة، لأنه إذا
اعترف بالخطأ فلا سبيل إلى القطع على أنه صغير غير
لازم، لأن قاضي القضاة لم يقطع بأنه صغير، بل
قال: لا يمتنع وإذا جاز أن يكون صغيراً لم نكن قاطعين على فساد الإمامة به. فإن قال المرتضى: كما
أنكم لا تقطعون على أنه صغير، فتكون الإمامة مشكوكاً فيها، قيل له: الأصل عدم الكبير،
فإذا حصل الشك في أمر: هل هو صغيرأم كبير، تساقط
التعارض، ورجعنا إلى الأصل، وهو عدم كون ذلك الخطأ كبيراً، فلا يمنع ذلك من صحة الإمامة. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الطعن
الرابع:
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
حديث أبي العجفاء، وأن عمر منع من المغالاة في صدقات النساء، اقتداء
بما كان من النبي صلى الله عليه وسلم في صداق فاطمة،
حتى قامت المرأة ونبهته بقوله تعالى: "وآتيتم إحداهن قنطاراً"، على جواز
ذلك، فقال: كل النساء أفقه من عمر! وبما روي أنه
تسور على قوم، ووجدهم على منكر، فقالوا له: إنك أخطات من جهات: تجسست، وقال الله تعالى : "ولا تجسسوا"، ودخلت بغير إذن، ولم تسلم. وأما
حديث التجسس فإن كان فعله فقد كان له ذلك، لأن
للإمام أن يجتهد في إزالة المنكر بهذا الجنس من الفعل، وإنما لحقه على ما يروى في الخبر الخجل، لأنه لم يصادف الأمر على
ما القي إليه في إقدامهم على المنكر. فأما
تأوله الحديث وحمله على الاستحباب فهو دفع للعيان، لأن المروي أنه
منع من ذلك وحظره حتى قالت المرأة ما قالت، ولوكان غيرحاظر للمغالاة لما
كان في الآيةً حجة، ولا كان لكلام المرأة موقع، ولا كان يعترف لها بأنها أفقه
منه، بل كان الواجب أن يرد عليها ويوبخها وشرفها أنه ما حظر لذلك، وإنما تكون الآيةً حجة عليه لو كان حاظرأ مانعأ، فأما التواضع فلا يقتضي إظهار القبيح وتصويب الخطأ. ولوكان
الأمر على ما توهمه صاحب الكتاب لكان هو المصيب والمرأة
مخطئة، فكيف يتواضع بكلام يوهم أنه المخطىء، وهي
المصيبة! فأما التجسس فهو محظور بالقرآن والسنة،
وليس للإمام أن يجتهد فيما يؤدي إلى مخالفة الكتاب والسنة، وقد كان يجب
إن كان هذا عذراً صحيحاً أن يعتذر به إلى من
خطأه في وجهه وقال له: إنك أخطأت السنة من وجوه،
فإنه بمعاذير نفسه أعلم من صاحب الكتاب، وتلك
الحال حال تدعو إلى الاحتجاج وإقامة العذر. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الطعن
الخامس:
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أنه كان يعطي
من بيت المال ما لا يجوز، حتى إنه كان يعطي عائشة وحفصة عشرة آلاف درهم في كل
سنة، ومنع أهل الحيت خمسهم الذي يجري مجرى الواصل إليهم من قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأنه كان عليه
ثمانون ألف درهم من بيت المال على سبيل القرض. فأما
أمر الخمس فمن باب الاجتهاد، وقد اختلف الناس فيه، فمنهم من جعله حقاً لذوي القربى وسهماً مفرداً لهم على
ما يقتضيه ظاهر الآيةً، ومنهم من جعله حقاً لهم
من جهة الفقر، وأجراهم مجرى غيرهم، وإن كان قد خصوا بالذكر، كما أجرى الأيتام ون
خصوا بالذكر مجرى غيرهم في أنهم يستحقون بالفقر. والكلام
في ذلك يطول، فلم يخرج عمر بما حكم به عن طريقة
الاجتهاد، ومن قدح في ذلك فإنما يقدح في الاجتهاد الذي هو طريقة الصحابة. وقد روى سليم بن قيس
الهلالي، قال: سمعت أمير المؤمنين رضي
الله عنه يقول: "نحن والله الذي عنى الله بذي القرب، قرنهم الله بنفسه
ونبيه صلى الله عليه وسلم فقال:
"ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله
وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل"، كل هؤلاء منا خاصة، ولم يجعل لنا سهماً في الصدقة، أكرم الله
تعالى نبيه وأكرمنا أن يطعمنا أوساخ ما في أيدي الناس. وروى يزيد بن هرم، قال:
كتب نجدة إلى ابن عباس، يسأله عن الخمس لمن هو؟ فكتب إليه: كتبت تسألني عن الخمس
لمن هو؟ وإنا كنا نزعم أنه لنا، فأبى قومنا علينا ذلك، فصبرنا عليه. قلت:
أما قوله:" لا يجوز للإمام أن يفضل في العطاء إلا
لسبب يقتضي ذلك كالجهاد، فليست أسباب التفضيل مقصورة على الجهاد وحده،
فقد يستحق الإنسان التفضيل في العطاء على غيره لكثرة
عبادته أو لكثرة علمه، أو انتفاع الناس به، فلم لا يجوز أن يكون عمر فضل الزوجات
لذلك! وأيضاً:
فإن الله تعالى فرض لذوي القربى من رسول الله صلى
الله عليه وسلم نصيباً في
الفيء والغنيمة، ليس إلا لأنهم ذوو قرابته فقط، فما المانع من أن يقيس عمر على ذلك ما فعله في العطاء، فيفضل ذوي قرابة رسول الله في ذلك
على غيرهم، ليس إلا لأنهم ذوو قرابته، والزوجات وإن لم
يكن لهن قربى النسب فلهن قربى الزوجية! وكيف
يقول المرتضى: ما جاز أن يفضل أحداً إلا بالجهاد! وقد فضل الحسن والحسين على كثيرمن أكابر المهاجرين والأنصار
وهما صبيان، ما جاهدا ولا بلغا الحلم بعد، وأبوهما أمير المؤمنين موافق على ذلك، راض به، غيرمنكر له! وهل فعل عمر ذلك
إلا لقربها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نذكر ما فعله في هذا الباب مختصراً نقلناه من كتاب أبي الفرج
عبد الرحمن بن علي بن الجوزي المحدث في "أخبار عمروسيرته ". واستثنى من الزوجات جويرية وصفية وميمونة، ففرض لكل واحدة منهن
ستة آلاف، فقالت عائشة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعدل بيننا، فعدل عمر بينهن، وألحق هؤلاء الثلاث بسائرهن، ثم فرض للمهاجرين الذين
شهدوا بدرا لكل واحد خمسة آلاف، ولمن شهدها من الأنصار لكل واحد أربعة آلاف. فأما
الخمس والخلاف فيه فإنها مسألة اجتهادية، والذي يظهر
لنا فيه ويغلب عندنا من أمرها، أن الخمس حق صحيح ثابت، وأنه باق إلى الآن على ما يذهب إليه الشافعي،
وأنه لم يسقط بموت رسول الله صلى
الله عليه وسلم ولكنا لا نرى ما يعتقده
المرتضى من أن الخمس لآل الرسول صلى
الله عليه وسلم، وأن الأيتام أيتامهم،
والمساكين مساكينهم وابن السبيل منهم، لأنه
على خلاف ما يقتضيه ظاهر الآيةً والعطف، ويمكن أن يحتج على ذلك بأن قوله تعالى في سورة الحشر:
"للفقراء المهاجرين" يبطل هذا القول،
لأن هذه اللام لا بد أن تتعلق بشيء، وليس قبلها ما تتعلق به أصلاً، إلا أن تجعل
بدلاً من اللام التي قبلها في قوله: "ما افاء
الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن
السبيل". وليس
يجوز أن تكون بدلاً من اللام في لله، ولا من اللام في قوله:
وللرسول فبقي أن تكون بدلاً من اللام في قوله "ولذي
القربى"، أما الأول فتعظيماً له
سبحانه، وأما الثاني فلأنه تعالى قد أخرج رسوله
من الفقراء بقوله: وينصرون الله ورسوله، ولأنه يجب أن يرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
التسمية بالفقير. وأما
الثالث، فإما أن يفسر هذا البدل وما عطف عليه المبدل منه،
أو يفسر هذا البدل وحده دون ما عطف عليه المبدل منه، والأول لا يصح لأن المعطوف
على هذا البدل ليس من أهل القرى وهم الأنصار، ألا ترى كيف قال سبحانه: "للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم"
الآيةً، ثم قال سبحانه: "والذين تبوءوا الدار
والإيمان من قبلهم"وهم الأنصار. ون كان الثاني
صار تقدير الآية أن الخمس لله وللرسول ولذي القربى الذين وصفهم الله ونعتهم
بأنهم هاجروا وأخرجوا من ديارهم، وللأنصار، فيكون
هذا مبطلاً لما يذهب إليه المرتضى لا قصر الخمس على ذوي القربى. وأما
مالك بن أنس، فعنده أن الأمر في هذه المسألة مفوض
إلى اجتهاد الإمام. إن رأى قسمه
بين هؤلاء، وإن رأى أعطاه بعضهم دون بعض، وإن رأى الإمام غيرهم أولى وأهم،
فغيرهم. ومذهب
مالك يجيء على هذا الاحتمال. فأما مذهب الإمامية، فإن الخمس كله للقرابة. وروى
عبد الله بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن جده أن عبد الله وعبيد الله ابني عمر مرا
بأبي موسى، وهو على العراق وهما مقبلان من أرض فارس، فقال:
مرحباً بابني أخي، لوكان عندي شيء، وبلى قد اجتمع هذا المال عندي، فخذاه واشتريا
به متاعاً، فإذا قدمتما فبيعاه ولكما ربحه، وأديا إلى أمير المؤمنين رأس المال،
ففعلا، فلما قدما على عمر بالمدينة أخبراه، فقال:
أكل أولاد المهاجرين يصنع بهم أبو موسى مثل ذلك! فقالا: لا، قال: فإن عمر يأبى
أن يجيز ذلك وجعله قراضاً. وروي عن قتادة،
قال: كان معيقيب على بيت المال لعمر، فكسح عمر بيت المال يوماً، وأخرجه
إلى المسلمين، فوجد معيقيب فيه درهماً، فدفعه إلى ابن عمر، قال معيقيب: ثم انصرف إلى بيتي، فإذا رسول عمر قد
جاء يدعوني، فجئت فإذا الدرهم في يده، فقال: ويحك يا معيقيب! أوجدت علي في نفسك
شيئاً! قلت: وما ذاك؟ قال!: أردت أن تخاصمني أمة محمد في هذا الدرهم يوم
القيامة! وروى عمر بن شبة، عن
عبد الله بن الأرقم وكان خازن عمر فقال: إن عندنا حلية من حلية جلولاء
وآنية من فضة، فانظر ما تأمر فيها؟ قال: إذا رأيتني فارغاً فآذني، فجاءه يوماً
فقال: إني أراك اليوم فارغاً، فما تأمر بتلك الحلية، قال: ابسط لي نطعاً، فبسطه
ثم أتى بذلك المال، فصب عليه، فرفع يديه وقال: اللهم إنك ذكرت هذا المال، فقلت: "زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير
المقنطرة من الذهب والفضة" ثم قلت: "لكيلا
تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم" اللهم إنا لا نستطيع إلا
أن نفرح بما زينت لنا. اللهم إني أسألك أن تضعه في حقه، وأعوذ بك من
شره، ثم ابتدأ فقسمه بين الناس، فجاءه ابن بنت له، فقال: يا أبتاه! هب لي منه
خاتماً، فقال: اذهب إلى أمك تسقك سويقاً، فلم يعطه شيئاً. فصرفه
عنها إلى أم كلثوم بنت فاطمة. وروى
سعيد بن المسيب، قال: كتب عمر لما قسم العطاء وفضل من فضل للمهاجرين
الذين شهدوا بدراً خمسة آلاف، وكتب لمن لم يشهد بدراً أربعة آلاف، فكان منهم عمر
بن أبي سلمة المخزومي، وأسامة بن زيد بن حارثة، ومحمد بن عبد الله بن جحش، وعبد
الله بن عمر بن الخطاب، فقال عبد الرحمن بن عوف وهو
الذي كان يكتب: يا أمير المؤمنين، إن عبد الله بن عمر، ليس من هؤلاء، إنه
وإنه... يطريه ويثني عليه، فقال له عمر: ليس له
عندي إلا مثل واحد منهم، فتكلم عبد الله وطلب الزيادة، وعمر
ساكت، فلما قضى كلامه، قال عمر لعبد الرحمن:
اكتبه على خمسة آلاف، واكتبني على أربعة آلاف، فقال
عبد الله: لا أريد هذا، فقال عمر:
والله لا أجتمع أنا وأنت على خمسة آلاف، قم إلى منزلك، فقام عبد الله كئيباً. قال
أبو وائل: استعملني ابن زياد على بيت المال بالكوفة، فأتاني
رجل بصك يقول فيه: أعط صاحب المطبخ ثمانمائة درهم، فقلت له: مكانك. ودخلت على ابن
زياد، فقلت له: إن عمر استعمل عبد الله بن مسعود بالكوفة على القضاء وبيت المال، واستعمل عثمان بن حنيف على سقي الفرات، واستعمل عمار بن ياسر على الصلاة
والجند، فرزقهم كل يوم شاة واحدة، فجعل نصفها وسقطها
وأكارعها لعمار، لأنه كان على الصلاة والجند، وجعل لابن مسعود ربعها، ولابن حنيف
ربعها، ثم قال: إن مالاً يؤخذ منه كل يوم شاة، إن ذلك فيه لسريع، فقال ابن زياد: ضع المفتاح فاذهب حيث شئت. وروى أبو جعفر الطبري في التاريخ، أن عمر بعث سلمة بن قيس
الأشجعي إلى طائفة من الأكراد،
كانوا على الشرك، فخرج إليهم في جيش سرحه معه من المدينه، فلما إنتهى إليهم،
دعاهم إلى الإسلام أو إلى أداء الجزية، فأبوا، فقاتلهم، فنصره الله عليهم، فقتل
المقاتلة وسبى الذرية، وجمع الرثة، ووجد حلية وفصوصاً وجواهر، فقال لأصحابه: أتطيب أنفسكم أن نبعث بهذا إلى أمير المؤمنين، فإنه غيرصالح لكم، وإن على أمير
المؤمنين لمؤنة وأثقالاً، قالوا: نعم، قد طابت أنفسنا، فجعل تلك الجواهر في سفط،
وبعث به مع واحد من أصحابه، وقال له: سر، فإذا أتيت البصرة فاشتر راحلتين
فأوقرهما زاداً لك ولغلامك، وسر إلى أمير المؤمنين. قال:
ففعلت، فأتيت عمر وهو يغدي الناس، قائماً متكئاً على عصا كما يصنع الراعي،
وهويدورعلى القصاع، فيقول: يا يرفأ زد هؤلاء لحماً، زد هؤلاء خبزاً، زد هؤلاء
مرقة، فجلست في أدنى الناس فإذا طعام فيه خشونة، طعامي الذي معي أطيب منه، فلما
فرغ أدبر فاتبعته، فدخل داراً فاستأذنت، ولم أعلم حاجبه من أنا، فأذن لي، فوجدته
في صفة جالساً على مسح، متكئاًعلى وسادتين من أدم محشوتين ليفاً، وفي الصفة عليه
سترمن صوف، فنبذ إلي إحدى الوسادتين، فجلست عليها، فقال: يا أم كلثوم، ألا
تغدوننا،
فأخرج إليه خبزة بزيت في عرضها ملح لم يدق، فقال:
يا أم كلثوم، ألا تخرجين إلينا تأكلين معنا،
فقالت: إني أسمع عندك حس رجل، قال: نعم، ولا أراه من
أهل هذا البلد، قال: فذاك حين عرفت أنه لم يعرفني، فقالت: لو أردت أن أخرج إلى الرجال لكسوتني كما كسا الزبير امرأته، وكما كسا طلحة امرأته،
قال: أو ما يكفيك أنك أم كلثوم ابنة علي بن أبي طالب وزوجة
أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، قالت: إن ذاك عني لقليل الغناء، قال: كل، فلو كانت راضية لأطعمتك أطيب من هذا، فأكلت قليلاً،
وطعامي الذي معي أطيب منه، وأكل، فما رأيت أحداً أحسن أكلاً منه، ما يتلبس طعامه
بيده ولا فمه، ثم قال: اسقونا، فجاؤوا بعس من سلت، فقال: أعط الرجل،
فشربت قليلاً، وإن سويقي الذي معي لأطيب منه، ثم أخذه فشربه حتى قرع القدح
جبهته، ثم قال: الحمد لله الذي أطعمنا
فأشبعنا، وسقانا فأروانا، إنك يا هذا لضعيف الأكل، ضعيف الشرب، فقلت: يا أمير المؤمنين، إن لي حاجة، قال: ما حاجتك،
قلت: أنا رسول سلمة بن قيس، فقال: مرحباً
بسلمة ورسوله، فكأنما خرجت من صلبه، حدثني عن المهاجرين كيف هم، قلت: كما تحب يا
أمير المؤمنين، من السلامة والظفر والنصر على عدوهم، قال:
كيف أسعارهم، قلت: أرخص أسعار، قال: كيف
اللحم فيهم، فإنه شجرة العرب، ولا تصلح العرب إلا على شجرتها، قلت: البقرة فيهم
بكذا، والشاة فيهم بكذا، ثم سرنا يا أمير المؤمنين حتى لقينا
عدونا من المشركين، فدعوناهم إلى الذي أمرت به من الإسلام فأبوا، فدعوناهم إلى
الخراج فأبوا، فقاتلناهم فنصرنا الله عليهم، فقتلنا المقاتلة، وسبينا الذرية
وجمعنا الرثة، فرأى سلمة في الرثة حلية، فقال للناس: إن هذا لا يبلغ فيكم
شيئاً، أفتطيب أنفسكم أن أبعث به إلى أمير المؤمنين، قالوا: نعم، ثم استخرجت
سفطي ففتحته، فلما نظر إلى تلك الفصوص، من بين أحمر وأخضر وأصفر، وثب وجعل يده
في خاصرته يصيح صياحاً عالياً، ويقول: لا أشبع الله إذن
بطن عمر يكررها، فظن النساء أني جئت لأغتاله، فجئن إلى الستر فكشفنه، فسمعنه
يقول: لف ما جئت به يا يرفأ جأ عنقه، قال: فأنا أصلح سفطي، ويرفأ يجأ
عنقي، ثم قال: النجاء النجاء: قلت، يا أمير
المؤمنين انزع بي فاحملني، فقال: يا يرفأ، أعطه راحلتين من إبل الصدقة، فإذا
لقيت أفقر إليهما منك فادفعهما إليه، وقال أظنك ستبطىء، أما والله لئن
تفرقالمسلمون في مشاتيهم قبل أن يقسم هذا فيهم، لأفعلن بك وبصاحبك الفاقرة. فجوابه أن
المتزهد المتقشف قد يضيق على نفسه ويوسع على غيره، إما
من باب التكرم والإحسان، أو من باب الصدقة وابتغاء الثواب، وقد يصل رحمه
وإن قترعلى نفسه. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الطعن
السادس:
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إنه
عطل حد الله في المغيرة بن شعبة، لما شهد عليه
بالزنا، ولقن الشاهد الرابع الامتناع عن الشهادة،
اتباعاً لهواه، فلما فعل ذلك عاد إلى الشهود فحدهم وضربهم، فتجنب أن يفضح المغيرة، وهو واحد، وفضح الثلاثة مع تعطيله
لحكم الله، ووضعه في غير موضعه. وقال
رضي الله عنه لصفوان بن أمية
لما أتاه بالسارق، وأمر بقطعه، فقال: هو له، يعني
ما سرق، هلا قبل أن تأتيني به، فلا يمتنع من عمر ألا يحب أن تكمل الشهادة وينبه
الشاهد على ألا يشهد، وقال: إنه جلد الثلاثة من حيث صاروا قذفة، وإنه ليس حالهم،
وقد شهدوا، كحال من لم تتكامل الشهادة عليه، لأن الحيلة في إزالة الحد عنه، ولما
تتكامل الشهادة عليه، ممكنة بتلقين وتنبيه غيره، ولا حيلة فيما قد وقع من
الشهادة، فلذلك حدهم. وحكي عن أبي علي في
جواب اعتراضه عن نفسه بما روي عن عمر أنه كان إذا رآه يقول: لقد خفت أن
يرميني الله عز وجل بحجارة من السماء، أن هذا الخبرغير صحيح، ولوكان حقاً لكان
تأويله التخويف، وإظهار قوة الظن، لصدق القوم الذين شهدوا عليه، ليكون ردعاً له.
وذكر أنه غيرممتنع أن يحب ألا يفتضح لما كان متولياً للبصرة من قبله. وتصريحه بأنه
لا يريد أن يعمل بموجبها. وتأوله
عليه:
لقد خفت أن يرميني الله بحجارة من السماء، لا يليق بظاهر الكلام لأنه يقتضي
التندم، والتأسف على تفريط وقع، ولم يخاف أن يرمى بالحجارة وهو لم يدرأ الحد عن
مستحق له، ولو أراد الرح والتخويف للمغيرة لأتى بكلام يليق بذلك، ولا يقتضي
إضافة التفريط إلى نفسه. وكونه والياً من قبله لا يقتضي أن يدرأ عنه الحد، ويعدل
به إلى غيره. فأما
استدلاله على أن زياداً لم يفسق بالإمساك عن الشهادة بتولية أمير المؤمنين رضي الله عنه له فارس، فليس بشيء يعتمد، لأنه لا يمتنع أن يكون قد تاب بعد ذلك،
وأظهر توبته لأمير المؤمنين رضي الله عنه، فجاز أن يوليه. وقد
كان بعض أصحابنا يقول في قصة المغيرة شيئاً طيباً، وإن كان معتملاً في باب
الحجة، كان يقول: إن زياداً إنما امتنع من التصريح بالشهادة المطلوبة في
الزنا، وقد شهد بأنه شاهده بين شعبها الأربع، وسمع
نفساً عالياً، فقد صح على المغيرة بشهادة الأربع
جلوسه منها مجلس الفاحشة، إلى غير ذلك من مقدمات الزنا وأسبابه، فهلا ضم
عمر إلى جلد الثلاثة تعزير هذا الذي قد صح عنده بشهادة الأربعة ماصح من الفاحشة،
مثل تعريك أذنه، أو ما يجري مجراه من خفيف التعزير ويسيره، وهل في العدول عن ذلك
حتى عن لومه وتوبيخه والاستخفاف به إلا ما ذكروه من السبب الذي يشهد الحال به. قال
الطبري: حدثني محمد بن يعقوب بن عتبة، قال: حدثني أبي، قال:
كان المغيرة يخالف إلى أم جميل، امرأة من بني هلال بن عامر، وكان لها زوج من
ثقيف هلك قبل ذلك، يقال له الحجاج بن عبيد، وكان المغيرة وكان أمير البصرة يختلف
إليها سراً، فبلغ ذلك أهل البصرة، فأعظموه، فخرج المغيرة يوماً من الأيام إلى
المرأة، فدخل عليها وقد وضعوا عليهما الرصدا، فانطلق
القوم الذين شهدوا عند عمر فكشفوا الستر، فرأوه قد واقعها، فكتبوا بذلك إلى عمر،
وأوفدوا إليه بالكتاب أبا بكرة. فانتهى أبو بكرة إلى المدينة، وجاء إلى
باب عمر فسمع صوته وبينه وبينه حجاب، فقال: أبوبكرة، فقال: نعم، قال: لقد جئت
لشر، قال: إنما جاء به المغيرة، ثم قص عليه القصة، وعرض عليه الكتاب، فبعث أبا
موسى عاملاً، وأمره أن يبعث إليه المغيرة، فلما دخل أبو موسى البصرة، وقعد في
الإمارة، أهدى إليه المغيرة عقيلة، وقال: إنني قد رضيتها لك، فبعث أبو موسى بالمغيرة إلى عمر. قال عمر:
فاستعن بمن أحببت، فاستعان بتسعة وعشرين رجلاً، منهم أنس بن مالد، وعمران بن
حصين، وهشام بن عامر. وخرج أبو موسى
بهم حتى أناخ بالبصرة في المربد، وبلغ المغيرة أن أبا موسى قد أناخ بالمربد،
فقال: والله، ما جاء أبو موسى زائراً، ولا تاجراً، ولكنه جاء أميراً. فإنهم
لفي ذلك إذ جاء أبو موسى، حتى دخل عليهم، فدفع إلى المغيرة كتاباً من عمر، إنه
لأوجز كتاب كتب به أحد من الناس، أربع كلم، عزل فيها وعاتب، واستحث وأمر:
"أما بعد، فإنه بلغني نبأ عظيم، فبعثت أبا موسى، فسلم ما في يديك إليه، والعجل ". وشهد
نافع بمثل شهادة أبي بكرة، ولم يشهد زياد بمثل شهادتهم. قال:
رأيته جالساً بين رجلي امرأة، ورأيت قدمين مرفوعتين تخفقان، واستين مكشوفتين،
وسمعت حفزاً شديداً، قال عمر: فهل رأيته
فيها كالميل في المكحلة، قال: لا، قال: فهل
تعرف المرأة، قال: لا، ولكن أشبهها، فأمر عمر
بالثلاثة فجلدوا الحد، وقرأ: "فإذ لم
ياتوا بالشهداء فاولئك عند الله هم الكاذبون"، فقال المغيرة: الحمد
لله الذي أخزاكم، فصاح به عمر: اسكت أسكت
الله نأمتك، أما والله لو تمت الشهادة لرجمتك بأحجارك. فهذا ما ذكره
الطبري. قالوا:
فخرج أبو موسى حتى صلى الغداة بظهر المربد، وأقبل إنسان فدخل على المغيرة، فقال:
إني رأيت أبا موسى قد دخل المسجد الغداة، وعليه برنس، وها هو في جانب المسجد، فقال المغيرة: إنه لم يأت زائراً ولا تاجراً. قال: إن شئت
شفعتني، وأبررت قسم أمير المؤمنين بأن تؤجلني إلى الظهر، وتمسك الكتاب في يدك. قال
أبو بكرة: لم آل أن أثبت ما يخزيك الله به، فقال عمر: لا
والله حتى تشهد: لقد رأيته يلج فيها كما يلج المرود في المكحلة، قال: نعم أشهد
على ذلك، فقال عمر: اذهب عنك مغيرة، ذهب ربعك. قال:
فجعل المغيرة يبكي إلى المهاجرين، وبكى إلى أمهات المؤمنين حتى بكين معه، قال:
ولم يكن زياد حضر ذلك المجلس، فأمر عمر أن ينحى الشهود الثلاثة، وألا يجالسهم
أحد من أهل المدينة، وانتظر قدوم زياد، فلما قدم
جلس في المسجد، واجتمع رؤوس المهاجرين والأنصار، قال المغيرة: وكنت قد أعددت كلمة أقولها، فلما رأى عمر زياداً مقبلاً، قال: إني لأرى رجلاً لن يخزي
الله على لسانه رجلاً من المهاجرين. وروى قوم أن الضارب لهم الحد لم يكن المغيرة، وأعجب عمر قول زياد، ودرأ الحد عن
المغيرة، فقال أبو بكرة بعد أن ضرب: أشهد أن
المغيرة فعل كذا وكذا، فهم عمر بضربه، فقال له علي رضي الله عنه: إن ضربته رجمت
صاحبك، ونهاه عن ذلك. قال أبو الفرج: يعني إن ضربه تصير شهادته شهادتين،
فيوجب بذلك الرجم على المغيرة.
قال أبو الفرج: وروى المدائني أن المغيرة لما شخص إلى عمر في هذه الوقعة،
رأى في طريقه جارية فأعجبته، فخطبها إلى أبيها، فقال له: وأنت على هذه الحال،
قال: وما عليك، إن أبق فهو الذي تريد، وإن أقتل ترثني. فزوجه. قال: فهل تعرف جرير بن عبد
الله، قال: كيف لا أعرف رجلاً لولاه ما عرفت
عشيرته، فقالوا: قبحك الله، فإنك شر جليس،
هل تحب أن يوقر لك بعيرك هذا مالاً وتموت أكرم
العرب موتة، قال: فمن يبلغه إذن أهلي،
فانصرفوا عنه فتركوه. قال
أبو الفرج: وروى علي بن سليمان الأخفس، قال: خرج المغيرة
بن شعبة وهو يومئذ على الكوفة، ومعه الهيثم بن التيهان النخعي غب مطر يسير، في
ظهر الكوفة والنجف، فلقي ابن لسان الحمرة، أحد بني تيم الله بن ثعلبة، وهولا
يعرف المغيرة ولا يعرفه المغيرة، فقال له: من أين أقبلت يا أعرابي، قال: من
السماوة، قال: كيف تركت الأرض خلفك، قال: عريضة
أريضة، قال: فكيف كان المطر، قال: عفى
الأثر، وملأ الحفر، قال: فمن أنت، قال: من
بكر بن وائل، قال: كيف علمك بهم، قال: إن
جهلتهم لم أعرف غيرهم، قال: فما تقول في بني
شيبان، قال: سادتنا وسادة غيرنا، قال:
فما تقول في بني ذهل، قال: سادة نوكى، قال: فقيس بن ثعلبة، قال: إن جاورتهم سرقوك، وإن ائتمنتهم خانوك، قال: فبنوتيم الله بن ثعلبة، قال: رعاء النقد وعراقيب الكلاب، قال فبني يشكر، قال: صريح
تحسبه مولى. قال هاشم بن الكلبي: لأن
في ألوانهم حمرة. قال: فعجل، قال: أحلاس
الخيل، قال: فعبد القيس، قال: يطعمون الطعام وبضربون الهام، قال: فعنزة، قال: لا تلتقي
بهم الشفتان لؤماً، قال: فضبيعة أضجم،
قال: جدعاً وعقراً، قال: فأخبرني عن النساء، قال: النساء
أربع: ربيع مربع، وجميع مجمع، وشيطان سمعمع، وغل لا يخلع، قال فسر، قال: أما الربيع المربع، فالتي إذا نظرت إليها سرتك،
وإذا أقسمت عليها برتك، وأما التي هي جميع مجمع، فالمرأة
تتزوجها ولها نسب فيجتمع نسبها إلى نسبك، وأما
الشيطان السمعمع فالكالحة في وجهك إذا دخلت، المولولة في أثرك إذا خرجت، وأما الغل الذي لا يخلع، فبنت عمك السوداء
القصيرة، الفوهاء الدميمة، التي قد نثرت لك بطنها، إن طلقتها ضاع ولدك، وإن
أمسكتها فعلى جدع أنفك. قال المغيرة:
بل أنفك. قال: فما تقول قي
أميرك المغيرة بن شعبة، قال: أعور زان، فقال
الهيثم بن الأسود: فض الله فاك، ويلك إنه الأمير المغيرة، قال: إنها كلمة تقال. فانطلق به المغيرة إلى منزله، وعنده يومئذ
أربع نسوة وستون أو سبعون أمة، وقال: ويحك، هل يزني الحر وعنده مثل هؤلاء، ثم قال لهن: ارمين إليه بحليكن، ففعلن، فخرج بملء كسائه ذهباً وفضة. فدرأ
عنه الحد. ومن تأمل المسائل الفقهية في باب الحدود، علم أنها بنيت على الإسقاط عند أدنى سبب وأضعفه، ألا
ترى أنه لو أقر بالزنا ثم رجع عن إقراره قبل إقامة
الحد، أوفي وسطه قبل رجوعه وخلي سبيله. ويجب على الإمام
أن يسأل الشهود: ما الزنا، وكيف هو، وأين زنى، وبمن زنى، ومتى زنى، وهل
رأوه وطئها في فرجها كالميل في المكحلة فإذا ثبت كل ذلك سأل عنهم، فلا يقيم الحد
حتى يعدلهم القاضي في السر والعلانية، ولا يقام الحد بإقرار الإنسان على نفسه،
حق يقر أربع مرات في أربعة مجالس، كلما أقر رده القاضي، وإذا تم إقراره سأله
القاضي عن الزنا، ما هو، وكيف هو، وأين زنى، وبمن زنى، ومتى زنى، قال الفقهاء: ويجب أن يبتدىء الشهود برجمه إذا
تكاملت الشهادة، فإن امتنعوا من الابتداء برجمه سقط
الحد. قالوا:
ولا حد على من وطىء جارية ولده، أو ولد ولده، وإن قال: علمت أنها علي حرام، وإن
وطىء جارية أبيه أو أمه أو أخته، وقال: ظننت أنها تحل لي فلا حد عليه، ومن أقر
أربع مرات في مجالس مختلفة بالزنا بفلانة، فقالت هي: بل تزوجني، فلا حد عليه،
وكذلك إن أقرت المرأة بأنه زنى بها فلان، فقال
الرجل: بل تزوجتها، فلا حد عليها، قالوا:
وإذا شهد الشهود بحد متقادم من الزنا لم يمنعهم عن إقامته بعدهم عن الإمام، لم
تقبل شهادتهم إذا كان حد الزنا، وإن شهدوا أنه زنى بامرأة ولا يعرفونها لم يحد،
وإن شهد اثنان أنه زنى بامرأة بالكوفة، وآخران أنه زنى بالبصرة درىء الحد عنهما
جميعاً، وإن شهد أربعة على رجل أنه زنا بامرأة بالنخيلة عند طلوع الشمس من يوم
كذا وكذا، وأربعة شهدوا بهذه المرأة عند طلوع الشمس ذلك اليوم بدير هند درىء
الحد عنه وعنها وعنهم جميعاً، وإن شهد أربعة على
شهادة أربعة بالزنا لم يحد المشهود عليه. وهذه
المسائل كلها مذهب أبي حنيفة، ويوافقه الشافعي في كثيرمنها، ومن تأملها علم أن مبنى الحدود
على الإسقاط بالشبهات، إن ضعفت. قلت:
ذكر محمد بن النعمان وهو شيخ المرتضى، الذي قرأ عليه فقه الإمامية في كتاب "المقنعة" أن
الشهود الأربعة إن تفرقوا في الشهادة بالزنا ولم يأتوا بها مجتمعين في وقت في
مكان واحد، سقط الحد عن المشهود عليه، ووجب
عليهم حد القذف. وأما خبر السارق الذي رواه قاضي القضاة، وقول المرتضى في الاعتراض عليه: ليس في دفع الحد عن السارق إيقاع غيره في المكروه، وقصة المغيرة
تخالف هذا، فليس بجيد لأن في دفع الحد عن السارق إضاعة مال المسلم الذي سرق
السارق في زمانه، وفيه أيضاً إغراء أهل الفساد بالسرقة، لأنهم إذا لم يقم الحد
عليهم لمكان الجحود أقدموا على سرقة الأموال، فلو لم يكن عناية الشارع بالدماء
أكثرمن عنايته بغيره من الأموال والأبشار لما قال للمكلف: لا تقر بالسرقة ولا بالزنا،
ولما رجح واحداً على ثلاثة، وهان في نظره أن تضرب أبشارهم بالسياط، وهم ثلاثة
حفظاً لدم واحد. وأما قول المرتضى:
إن الشرع حظر كتمان الشهادة، فصحيح فيما عدا الحدود،
فأما في الحدود فلا، وقد ورد في الخبر الصحيح:
من رأى على أخيه شيئاً من هذه القاذورات وستر، ستره
الله يوم يفتضح المجرمون. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الطعن
السابع:
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أنه كان يتلون
في الأحكام، حتى روي أنه قضى في الجد بسبعين قضية. وروي
مائة قضية وأنه كان يفضل في القسمة والعطاء وقد سوى الله
تعالى بين الجميع، وأنه قال في الأحكام من جهة الرأي والحدس والظن. وقال:
قد صح في زمان الرسول صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، لأنه لما شاور في أمر الأسرى أبا بكر
أشار ألا يقتلهم، وأشار عمر بقتلهم، فمدحهما جميعاً، فما الذي يمنع من كون
القولين صواباً من المجتهدين، ومن الواحد في حالين؟ وبعد،
فقد ثبت أن اجتهاد الحسن رضي
الله عنه في
طلب الإمامة كان بخلاف اجتهاد الحسين رضي
الله عنه، لأنه سلم الأمر وتمكنه أكثر من تمكن
الحسين رضي الله عنه، ولم يمنع ذلك من كونهما رضي الله عنهما مصيبين. وقول قاضي القضاة:
كيف تحتمل مسألة واحدة سبعين وجهاً، جوابه
أنه لم يقع الأمر بموجب ما توهمه، بل المراد أن قوماً تحاكموا إليه في هذه
المسألة مثلاً اليوم، فأفتى فيها بفتيا، نحو أن يقول في جد وبنت وأخت: للبنت
النصف والباقي بين الجد والأخت، للذكر مثل حظ الأنثيين، وهو قول زيد بن ثابت، ثم يتحاكم إليه بعد أيام في هذه المسألة
بعينها، قد وقعت لقوم آخرين، فيقول: للبنت النصف
وللجد السدس، والباقي للأخت، وهو المذهب المحكي
عن علي رضي الله عنه، وذلك بأن يتغلب على ظنه ترجيح هذه
الفتيا على ما كان أفتى به من قبل، ثم تقع هذه المسألة بعينها بعد شهرآخر، فيفتي
فيها بفتيا آخرى، فيقول: للبنت النصف
والباقي بين الجد والأخت نصفين، وهو مذهب ابن مسعود،
ثم تقع المسألة بعينها بعد شهر آخر، فيفتي فيها بالفتيا الاولى، وهي مذهب زيد، بأن يعود ظنه مترجحاً متغلباً لمذهب زيد، ثم تقع المسألة بعينها بعد وقت آخر،
فيفتي فيها بقول علي رضي الله عنه، وهكذا لا تزال المسألة بعينها تقع،
وأقواله فيها تختلف، وهي ثلاثة لا مزيد عليها،
إلا أنه لا يزال يفتي فيها فتاوى مختلفة، إلى أن توفي
فأحصيت، فكانت سبعين فتيا. والذي أراده قاضي القضاة الدلالة على جواز الاجتهاد، وأنه طريقة المسلمين كلهم، وأهل البيت
رضي الله عنهم، وأومأ إلى ما اعتمده الحسن من تسليم الأمر إلى معاوية، وما
اعتمده الحسين من منازعة يزيد الخلافة، فعملا فيها بموجب اجتهادهما، وما غلب على ظنونهما من المصلحة، وقد كان تمكن الحسن رضي الله عنه في الحال الحاضرة أكثر من تمكن الحسين رضي الله عنه في حاله الحاضرة، لأن جند الحسن كان حوله
ومطيفاً به، وهم كما روي مائة ألف سيف ولم
يكن مع الحسين رضي الله عنه ممن يحيط به ويسير بمسيره إلى العراق إلا دون مائة فارس، ولكن
ظنهما في عاقبة الأمر ومستقبل الحال كان مختلفاً، فكان الحسن يظن خذلان
أصحابه عند اللقاء والحرب، وكان الحسين رضي الله عنه يظن نصرة أصحابه عند اللقاء
والحرب، فلذلك أحجم أحدهما وأقدم الآخر، فقد بان أن قول قاضي
القضاة غير مضطرب ولا متناقض. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الطعن
الثامن:
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ما
روي عن عمر من قوله: "متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى
الله عليه وسلم، أنا أنهى عنهما وأعاقب
عليهما"، وهذا اللفظ قبيح لو صح
المعنى، فكيف إذا فسد، لأنه ليس ممن يشرع فيقول هذا القول، ولأنه يوهم مساواة الرسول صلى الله عليه وسلم في الأمر والنهي وأن اتباعه أولى من اتباع رسول
الله صلى الله عليه وسلم. أجاب
قاضي القضاة، فقال: إنه إنما عنى بقوله: "وأنا أنهى
عنهما وأعاقب عليهما" كراهته لذلك، وتشدده فيه، من
حيث نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهما بعد أن كانتا في أيامه، منبهاً
بذلك على حصول النسخ فيهما وتغير الحكم، لأنا
نعلم أنه كان متبعاً للرسول، متديناً بالإسلام، فلا
يجوز أن نحمل قوله على خلاف ما تواتر من حاله. وحكي عن أبي علي أن ذلك
بمنزلة أن يقول: إني أعاف من صلي إلى بيت المقدس، وإن كان صلي إلى بيت المقدس في
حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم. واعتمد في
تصويبه على كف الصحابة عن النكيرعنه. وادعى
أن أمير المؤمنين رضي الله عنه أنكر على ابن عباس إحلال
المتعة، وروي عن النبي صلى
الله عليه وسلم تحريمهما، فأما متعة الحج فإنما أراد ما
كانوا يفعلون من فسخ الحج، لأنه كان يحصل لهم عنده التمتع، ولم يرد بذلك التمتع
الذي يجري مجرى تقدم العمرة وإضافة الحج إليها بعد ذلك. لأنه
جائز لم يقع فيه قبح. وروى
أبو بصير، قال: سمعت أبا جعفر محمد بن علي الباقر رضي
الله عنه يروي عن جده أمير المؤمنين رضي
الله عنه: لولا ما سبقني به ابن الخطاب ما زنى إلا شقي. وقد
أفتى بالمتعة جماعة من الصحابة والتابعين كعبد الله بن
عباس، وعبد الله بن مسعود، وجابر بن عبد الله الأنصاري، وسلمة بن الأكوع، وأبي
سعيد الخدري، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وغيرما ذكرناه ممن يطول ذكره، فأما سادة أهل البيت رضي
الله عنهم، وعلماؤهم فأمرهم واضح في الفتيا بها، كعلي بن الحسين زين
العابدين، وأبي جعفر الباقر رضي الله عنه،
وأبي عبد الله الصادق رضي الله عنه، وأبي
الحسن موسى الكاظم، وعلي بن موسى الرضا رضي
الله عنه. وما
ذكرنا من فتيا من أشرنا إليه من الصحابة بها يدل على أوضح بطلان ما ذكره صاحب
الكتاب من ارتفاع النكير لتحريمها، لأن مقامهم على الفتيا بها نكير. فأما قول صاحب الكتاب:
إن عمر إنما أنكر فسخ الحج فباطل، لأن ذلك أولاً لا يسمى متعة، ولأن ذلك ما فعل
في أيام النبي صلى الله عليه وسلم،
ولا
فعله أحد من المسلمين بعده، وإنما هومن سنن الجاهلية، فكيف
يقول عمر: متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكيف يغلظ ويشدد فيما لم يفعل،
ولافعل. وقول المرتضى: لعله كان يعتقد أن الإباحة أيام رسول
الله صلى الله عليه وسلم
كانت
مشروطة بشرط لم يوجد في أيامه، قول يبطل طعنه في عمر،
ويمهد له عذراً ويصير المسألة اجتهادية. لا لإنسان معين، بل كلاماً
مطلقاً، وقولاً كلياً يقصد به حسم المادة في المتعة، وتخويف فاعلها، فإنه ليس
بمحل للإنكار عليه،
وما زالت الأئمة والصالحون يتوعدون بأمر ليس في نفوسهم فعله، على طريق التأديب والتهذيب، على أن قوماً من الفقهاء
قد أوجبوا إقامة الحد على المتمتع فلا يمتنع أن
يكون عمر ذاهباً إلى هذا المذهب. فأما متعة الحج فقد اعتذر لنفسه، وقال ما قدمنا ذكره، من أن الحج بهاء من بهاء الله، وأن
التمتع يكسفه ويذهب نوره ورونقه، وأنهم يظلون معرسين تحت الأراك، ثم يهلون بالحج
ورؤوسهم تقطر، وإذا كان قد اعتذر لنفسه فقد كفانا مؤونة
الاعتذار. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الطعن
التاسع:
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ما
روي عنه من قصة الشورى، وكونه خرج بها عن الاختيار والنص
جميعاً، وأنه ذم كل واحد، بأن ذكر فيه طعناً ثم أهله للخلافة بعد أن طعن فيه، وأنه جعل الأمر إلى ستة، ثم إلى أربعة، ثم إلى واحد، قد
وصفه بالضعف والقصور، وقال: إن اجتمع علي وعثمان فالقول ما قالاه، وإن صاروا
ثلاثة وثلاثة فالقول للذين فيهم عبد الرحمن، وذلك لعلمه بأن علياً وعثمان لا
يجتمعان، وأن عبد الرحمن لا يكاد يعدل الأمر عن ختنه وابن عمه، وأنه أمر بضرب أعناقهم إن تأخروا عن البيعة فوق ثلاثة
أيام، وأنه أمر بقتل من يخالف الأربعة منهم أو الذين فيهم عبد الرحمن. أجاب
قاضي القضاة عن ذلك، فقال: الأمور الظاهرة لا يجوز أن
يعترض عليها بأخبار غير صحيحة، والأمر في الشورى
ظاهر، وإن الجماعة دخلت فيها بالرضا، ولا فرق بين من قال في أحدهم: إنه دخل فيها
لا بالرضا وبين من قال ذلك في جميعهم، ولذلك جعلنا دخول أمير المؤمنين رضي الله
عنه في الشورى أحد ما يعتمد عليه في أن لا نص يدل عليه، أنه المختص بالإمامة،
لأنه قد كان يجب عليه أن يصرح بالنص على نفسه، بل يحتاج إلى ذكر فضائله،
ومناقبه، لأن الحال حال مناظرة، ولم يكن الأمر مستقراً لواحد، فلا يمكن أن يتعلق
بالتقية، والمتعالم من حاله أنه لو امتنع من هذا الأمر في الشورى أصلاً لم يلحقه
الحوف فضلاً عن غيره، ومعلوم أن دلالة الفعل أحسن من دلالة القول، من حيث كان
الاحتمال فيه أقل، والمروي أن عبد الرحمن أخذ
الميثاق على الجماعة بالرضا بمن يختاره، ولا يجب القدح في الأفعال بالظنون، بل
يجب حملها على ظاهر الصحة دون الاحتمال، كما يجب مثله في غيرها، ويجب إذا
تقدمت للفاعل حالة تقتضي حسن الظن به، أن يحمل فعله على ما يطابقها، وقد علمنا
أن حال عمر وما كان عليه من النصيحة للمسلمين، منع من صرف أمره في الشورى إلى
الأغراض التي يظنها أعداؤه، فلا يصح لهم أن يقولوا:
كان مراده في الشورى بأن يجعل الأمر إلى الفرقة التي فيها عبد الرحمن عند
الخلاف، أن يتم الأمر لعثمان، لأنه لوكان هذا مراده لم يكن هناك ما يمنعه من
النص على عثمان، كما لم يمنع ذلك أبا بكر، لأن أمره إن لم يكن أقوى من أمر أبما
بكر لم ينقص عنه، وليس ذلك بدعة، لأنه إذا جاز في غير الإمام إذا اختار أن يفعل
ذلك، بأن ينظر في أماثل القوم فيعلم أنهم عشرة، ثم ينظر في العشرة، فيعلم أن
أمثلهم خمسة، ثم ينظر في واحد من الخمسة، فما الذي يمنع من مثله في الإمام، وهو في هذا الباب أقوى اختياراً، لأن له أن يختار واحداً
بعينه. وإنما
جعل عمر الأمر إلى عبد الرحمن عند الاختلاف، لعلمه بزهده في الأمر، وأنه
لأجل ذلك أقرب أن يتثبت، لأن الراغب عن الشيء يحصل
له من التثبت ما لا يحصل للراغب فيه، ومن كانت هذه حاله كان القوم إلى
الرضا به أقرب. وحكي
عن أبي علي ضعف ما روي من أمره بضرب أعناق القوم إذا تأخروا عن البيعة، وأن ذلك لو
صح لأنكره القوم، ولم يدخلوا في الشورى بهذا الشرط، ثم تأوله إذا سلم صحته، على
أنهم إن تأخروا عن البيعة على سبيل شق العصا وطلب الأمر من غير وجهه. وقال: ولا
يمتنع أن يقول ذلك على طريق التهديد، وإن بعد عنده أن يقدموا عليه، كما قال
تعالى : "لئن أشركت ليحبطن عملك". ومن جملتها
أنه وصف كل واحد منهم بوصف زعم أنه يمنع من الإمامة، ثم جعل الأمر فيمن له تلك
الأوصاف، وقد روى محمد بن سعد، عن الواقدي، عن محمد بن
عبد الله الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس، قال:
قال عمر: لا أدري ما أصنع بأمة محمد صلى
الله عليه وسلم، وذلك قبل أن يطعن، فقلت: ولم تهتم
وأنت تجد من تستخلفه عليهم، قال: أصاحبكم، يعني علياً، قلت:
نعم، هو لها أهل، في قرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصهره
وسابقتة وبلائه، قال: إن فيه بطالة وفكاهة، فقلت:
فأين أنت من طلحة، قال: فأين الزهو والنخوة، قلت:
عبد الرحمن، قال: هو رجل صالح على ضعف فيه، قلت:
فسعد، قال: ذاك صاحب مقنب وقتال لا يقوم بقرية لو حمل أمرها، قلت: فالزبير، قال: وعقة لقس مؤمن الرضا، كافر
الغضب، شحيح، وإن هذا الأمر لا يصلح إلا لقوي لا غير عنف، رفيق في غير ضعف،
وجواد في غير سرف، قلت: فأين أنت من عثمان، قال:
لو وليها لحمل بني أبي معيط على رقاب الناس، ولو فعلها لقتلوه. فأما نأوله الأمر بالقتل على أن المراد به إذا تأخروا على
طريق شق العصا، وطلب الأمر من غيروجهه، فبعيد من
الصواب، لأنه ليس في ظاهر الخبر ذلك، ولأنهم إذا شقوا العصا، وطلبوا الأمر
من غير وجهه من أول يوم، وجب أن يمنعوا ويقاتلوا، فأي معنى لضرب الأيام الثلاثة
أجلاً. وتلقاه العباس بن عبد المطلب، فقال: يا عم عدلت عنا، قال:
وما علمك، قال: قرن بي عثمان، وقال: كونوا مع الأكثر، وإن رضي رجلان رجلاً،
ورجلان رجلاً، فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن، فسعد لا يخالف ابن عمه عبد
الرحمن، وعبد الرحمن صهرعثمان لا يختلفان، فيوليها عبد الرحمن عثمان، أو يوليها عثمان عبد الرحمن، فلو كان الآخران معي لم ينفعاني بله
أني لا أرجو إلا أحدهما. فقال له العباس: لم أدفعك عن شيء إلا رجعت إلي
مستأخراً، أشرت عليك عند وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسأله فيمن هذا الأمر، فأبيت، وأشرت عليك عند وفاته أن
تعاجل الأمر فأبيت، وأشرت عليك حين سماك عمر في الشورى ألا تدخل معهم، فأبيت،
فاحفظ علي واحدة، كلما عرض عليك القوم فقل: لا، إلا أن يولوك، واحذر هؤلاء
الرهط، فإنهم لا يبرحون يدفعوننا عن هذا الأمر، حتى يقوم لنا به غيرنا وغيرهم،
وايم الله لا تناله إلا بشر لا ينفع معه خير. فقال علي رضي الله عنه: أما والله لئن بقي عمر لأذكرنه ما أتى إلينا، ولئن مات
ليتداولنها بينهم، ولئن فعلوا ليجدنني حيث يكرهون، ثم تمثل:
فالتفت فرأى أبا طلحة الأنصاري فكره مكانه،
فقال أبو طلحة: لا ترع أبا حسن. وفي رواية الطبري أن عبد الرحمن دعا علياً رضي الله عنه، فقال: عليك عهد الله وميثاقه لتعملن بكتاب
الله وسنة رسوله، وسيرة الخليفتين، فقال: أرجوأن أفعل وأعمل بمبلغ علمي وطاقتي. فترك يده، وقال: هلم يدك يا عثمان، أتأخذها بما فيها على أن تسير
فينا بسيرة أبي بكر وعمر، قال: نعم، قال: هي لك يا عثمان. فرجع علي رضي الله عنه
حتى بايعه، وهو يقول: خدعة وأي خدعة. ثم إن
المقداد قام فأتى علياً، فقال:
أتقاتل فنقاتل معك، فقال علي: فبمن أقاتل، وتكلم أيضاً عمار فيما رواه أبو مخنف
فقال: يا معشر قريش، أين تصرفون هذا الأمر عن بيت نبيكم، تحولونه ههنا مرة وههنا
مرة، أما والله ما أنا بآمن أن ينزعه الله منكم فيضعه في غيركم كما انتزعتموه من
أهله، ووضعتموه في غيرأهله. فقال له هشام بن الوليد: يابن سمية، لقد عدوت
طورك، وما عرفت قدرك، وما أنت وما رأته قريش لأنفسها إنك لست في شيء من أمرها
وإمارتها، فتنح عنها. وتكلمت قريش بأجمعها. وصاحت بعمار وانتهرته، فقال: الحمد لله
ما زال أعوان الحق قليلاً.
أما والله لو أن لي أعواناً لقاتلتهم، وقال لأمير المؤمنين رضي الله عنه: لئن قاتلتهم بواحد لأكونن ثانياً، فقال: والله ما أجد عليهم أعواناً، ولا أحب أن
أعرضكم لما لا تطيقون. وروى
أبو محنف، عن عبد الرحمن بن جندب، عن أبيه، قال: دخلت على علي
رضي الله عنه، وكنت حاضراً بالمدينة يوم
بويع عثمان، فإذا هو واجم كئيب، فقلت: ما
أصاب قوم صرفوا هذا الأمر عنكم، فقال صبر جميل،
فقلت: سبحان الله، إنك لصبور، قال: فاصنع ماذا، قلت: تقوم في الناس خطيباً
فتدعوهم إلى نفسك، وتخبرهم أنك أولى بالنبي صلى
الله عليه وسلم بالعمل والسابقة، وتسألهم النصر على
هؤلاء المتظاهرين عليك، فإن أجابك عشرة من مائة شددت بالعشرة على المائة، فإن
دانوا لك كان ما أحببت، وإن أبوا قاتلتهم، فإن ظهرت عليهم فهو سلطان الله آتاه
نبيه صلى الله عليه وسلم، وكنت أولى
به منهم إذ ذهبوا بذلك، فرده الله إليك، وإن قتلت في طلبه فقتلت شهيداً، وكنت أولى
بالعذر عند الله تعالى في الدنيا والآخرة. فقال رضي الله عنه:
أو تراه كان تابعي من كل مائة عشرة، قلت:
لأرجو ذلك، قال: لكني لا أرجو ولا والله من المائة اثنين، وسأخبرك من أين ذلك،
إن الناس إنما ينظرون إلى قريش، فيقولون: هم قوم محمد صلى الله عليه وسلم وقبيلته، وإن
قريشاً تنظر إلينا فتقول: إن لهم بالنبوة فضلاً على سائر قريش، وإنهم أولياء هذا
الأمر دون قريش والناس، وإنهم إن ولوه لم يخرج هذا السلطان منهم إلى أحد أبداً،
ومتى كان في غيرهم تداولتموه بينكم، فلا والله، لا تدفع قريش إلينا هذا السلطان
طائعة أبداً. قلت:
أفلا أرجع إلى المصر فأخبر الناس بمقالتك هذه، وأدعو الناس إليك، فقال: يا جندب، ليس هذا زمان ذلك، فرجعت فكلما ذكرت
للناس شيئاً من فضل علي زبروني ونهروني، حتى رفع ذلك من أمري للوليد بن عقبة،
فبعث إلي فحبسني. وكيف يلزم سيرتهما، وكل واحد منهما لم يسر
بسيرة الآخر، بل اختلفا وتباينا في كثيرمن الأحكام،
هذا بعد أن قال لأهل الشورى: وثقوا
إلي من أنفسكم بأنكم ترضون باختياري إذا أخرجت نفسي، فأجابوه على ما رواه أبو
مخنف بإسناده إلى ما عرض عليهم. إلا أمير المؤمنين رضي الله عنه، فإنه قال: أنظر، لعلمه بما
يجر هذا المكر، حتى أتاهم أبو طلحة، فأخبره عبد الرحمن بما عرض وما جاء به القوم
إياه إلا علياً، فأقبل أبو طلحة على علي رضي الله عنه،
قال: يا أبا الحسن، إن أبا محمد ثقة لك وللمسلمين، فما بالك تخافه وقد عدل
بالأمر عن نفسه، فلن يتحمل المأثم لغيره، فأحلف علي رضي الله عنه عبد
الرحمن بما عرض ألا يميل إلى الهوى وأن يؤثر الحق ويجتهد للأمة، ولا يحابي ذا
قرابة، فحلف له، وهذا غاية ما يتمكن منه أمير المؤمنين رضي الله عنه في
الحال، لأن عبد الرحمن لما أخرج نفسه من
الأمر، وظنت به الجماعة الخير، وفوضت إليه الاختيار لم
يقدر أمير المؤمنين رضي الله عنه على
أن يخالفهم وينقض ما اجتمعوا عليه، فكان أكثر ما تمكن منه أن أحلفه، وصرح بما
يخافه من جهته، من الميل إلى الهوى، وإيثار القرابة، غيرأن ذلك كله لم يغن
شيئاً. وكيف
لا يدخل في الشورى وعندهم أن واضعها قد أحسن النظر للمسلمين، وفعل ما لم يسبق
إليه من التحرز للدين. فأول
ما كان يقال له لو امتنع منها: إنك مصرح بالطعن على واضعها
وعلى جماعة المسلمين بالرضا بها، وليس طعنك إلا لأنك ترى أن الأمر لك، وأنك أحق
به، فيعود الأمر إلى ما كان رضي الله عنه يخافه، من تفرق الكلمة ووقوع الفتنة. قلت:
الكلام في الشورى والمطاعن فيها طويل جداً، وقد ذكرت من ذلك في كتبي الكلامية
وتعليقاتي ما قاله الناس وما لم أسبق إليه، ولا يحتمل هذا الكتاب الإطالة
باستقصاء ذلك، لأنه ليس بكتاب حجاج ونظر، ولكني أذكر منه نكتاً يسيرة، فأقول:
إن كانت أفعال عمر وأقواله قد تناقضت في واقعة الشورى كما
زعم المرتضى رحمه الله فكذلك أفعال أمير المؤمنين إن كان منصوصاً عليه كما تقوله
الإمامية قد تناقضت أيضاً. أما
أولا فإن كان منصوصاً عليه، فكيف أدخل نفسه في الشورى
المبنية على صحة الاختيار وعدم النص، أليس هذا إيهاماً ظاهر لأكثر المسلمين،
خصوصاً الضعفة منهم، ومن لا نظر له في دقائق الأمور عنده أنه غيرمنصوص عليه فكيف يجوز له إضلال المكلفين وأن يوقع في نفوسهم عدم النص مع كون النص
كان حاصلاً. ولا بد لو عرض بشيء من ذلك كان من كلام يدور
بينهم في المعنى، نحو أن يقولوا: إن ذلك
النص رجع عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يقولوا:
رأى المسلمون تركه للمصلحة، أو يجري بينه وبينهم جدال ونزاع، ولم يكن هناك خليفة
يخاف جانبه، إنما كان مجلس مناظرة وبحث، ولم يستقر الأمر لأحد. وأقصى
ما في الباب أنهم كانوا يردون ذلك عليه بكلام مثل كلامه، ويجيبونه بجواب يناسب
جوابه، ويدفعونه عما يرومه بوجه من وجوه الدفع، إن كانوا مقيمين على الإصرار على
غصب الحق منه. وأما
ثالثاً، فإن كان رضي
الله عنه كما تقوله الإمامية
منصوصاً عليه، فما الذي
منعه لما قال له عبد الرحمن: أبايعك على أن تسير فينا بسيرة الشيخين، أن
يقول: نعم، فإنه لو قال: نعم، لبايعه عبد الرحمن، ووصل إلى الأمر الذي يلزمه
القيام به، وإلى الحال التي كان يتوصل بكل طريق إلى الوصول إليها. هو الأمر
الكلي في إيالة الرعية وسياستهم، وجباية الفيء، وظلف الوالي نفسه وأهله عنه
وصرفه إلى المسلمين، ورم الامور، وجمع العمال، وقهر الظلمة وإنصاف المظلومين،
وحماية البيضة، وتسريب الجيوش إلى بلاد الشرك، هذه هي
السيرة التي كان عبد الرحمن يشترطها، وهي التي
طلبها الناس بعد ذلك، فقالوا لمعاوية في آخر
أيامه، ولعبد الملك ولغيرهما وصاحوا بهم تحت المنابر: نطلب سيرة العمرين،
ولم يريدوا في الأحكام والفتاوى الشرعية، نحو القول
في الجد مع الإخوة، والقول في الكلالة، والقول في أمهات الأولاد، فما
أعلم الذي منع أمير المؤمنين رضي الله عنه من
أن يقول لعبد الرحمن: نعم، فيأخذها، ثم كان إذا أخذها أقدر الناس على هذه
السيرة، وأقواهم عليها. فواعجبا، بينا هو يطلب الخلافة أشد الطلب،
فإذا هو ناكص عنها، وقد عرضت عليه على أمر هو قيم به، ولهذا كان الرأي عندي أن
يدخل فيها حينئذ، ومن الذي كان يناظره بعد ذلك ويجادله، فيقول: قد أخللت بشيء من
سيرة أبي بكر وعمر، كلا إن السيف لضاربه، والأمر لمالكه، والرعية أتباع، والحكم
لصاحب السلطان منهم! ومن العجب أن يقول المرتضى:
إنه لأجل التقية وافق على الرضا بالشورى، فهلا اتقى
القوم، وقد ذكروا له سيرة الشيخين فأباها
وكرهها، ومن كان يخاف على نفسه أن لو أظهر الزهد في الخلافة والرغبة عن الدخول
في أمر الشورى، كيف لم يخف على نفسه، وقد ذكرت له سيرة الشيخين فتركها، ولم يوافق عليها، وقال: لا بل علي أن أجتهد رأي! وأما قول المرتضى: إنه وصف القوم بصفات تمنع
من الإمامة، ثم عينهم للإمامة، فنقول في جوابه: إن تلك
الصفات لا تمنع من الإمامة بالكلية، بل هي صفات تنقص في الجملة، أي لو لم تكن
هذه الصفات فيهم، لكانوا أكمل، ألا ترى أنه قال في
عبد الرحمن: رجل صالح على ضعف فيه، فذكر أن
فيه !سعفاً يسيراً، لأنه لوكان يرى ضعفه
مانعاً من الإمامة لقال: ضعيف عنها جداً، أو لا يصلح لها لضعفه. وكذلك
قوله في أمير المؤمنين: فيه فكاهة، لأن
ذلك لا يمنع من الإمامة، ولا زهو طلحة ونخوته،
ولا ما وصف به الزبيرمن أنه شديد السخط وقت غضبه، وأنه بخيل، ولا تولية الأقارب على رقاب الناس إذا لم يكونوا فساقاً. وأقوى
عيب ذكره ما عاب به سعداً في قوله: صاحب مقنب
وقتال، لا يقوم بقرية لو حمل أمرها، ويجوز أن يكون قال ذلك على سبيل المبالغة في
استصلاحه لأن يكون صاحب جيش يقاتل به بين يدي الإمام، وأنه ليس له دربة ونظر في
تدبير البلاد والأطراف، وجباية أموالها، ألا تراه كيف قال: لا يقوم بقرية، ويجوز
أن يلي الخلافة من هذه حاله، ويستعين في أمر العباد والبلاد وجباية الأموال
بالكفاة الأمناء. وأما
حديث القتل، فليس مراده إلا شق العصا، ومخالفة الجماعة، والثوثب على الأمر
مغالبة. وقول
المرتضى: لوكان ذلك من أول يوم لوجب أن يمنع فاعله ويقاتل، فأي معنى لضرب الأيام
الثلاثة أجلاً، فإنه يقال له: إن الأجل المذكور لم يضرب لقتل
من يشق العصا، وإنما ضرب لإبرامهم الأمر وفصله قبل أن تتطاول الأيام بهم،
ويتسامع من بعد عن دار الهجرة أن الخليفة قد قتل، وأنهم مضطربون إلى الآن، لم
يقيموا لأنفسهم خليفة بعده، فيطمع أهل الفساد والدعارة، ولا يؤمن وقوع الفتن،
ولا يؤمن أيضاً أن يسترد الروم وفارس بلاداً قد كان الإسلام استولى عليها، لأن
عدم الرئيس مطمع للعدو في ملكه ورعيته. فأما
دعواه أن عمر عمل هذا الفعل حيلة، ليصرف
الأمر عن علي رضي الله عنه من حيث علم أن عبد الرحمن صهر عثمان، وأن سعداً ابن عم عبد الرحمن فلا
يخالفه، فجعل الصواب في الثلاثة الذين يكون فيهم عبد الرحمن،
فنقول في جوابه: إن عمر لو فعل ذلك وقصده لكان أحمق
الناس وأجهلهم، لأنه من الجائز ألا يوافق سعد ابن عمه لعداوة تكون بينهما، خصوصاً من بني
العم، ويمكن أن يستميل علي رضي
الله عنه سعداً إلى نفسه، بطريق آمنة بنت وهب، وبطريق حمزة بن عبد المطلب، وبطريق الدين والإسلام، وعهد
الرسول صلى الله عليه وسلم ومن الجائز أن يعطف عبد الرحمن على علي رضي الله عنه لوجه
من الوجوه، ويعرض عن عثمان، أو يبدو من عثمان في الأيام الثلاثة أمريكرهه عبد الرحمن،
فيتركه ويميل إلى علي رضي الله عنه. ومن
الجائز أن يموت عبد الرحمن في تلك الأيام، أو يموت سعد، أو
يموت عثمان، أو يقتل واحد منهم فيخلص الأمر لعلي رضي الله عنه، ومن الجائز أن يخالف طلحة أمره أن يعتمد
على الفرقة التي فيها عبد الرحمن، ولا يعمل بقوله، ويميل إلى جهة علي رضي الله عنه، فتبطل حيلته
وتدبيره! ثم هب أن هذا كله قد
أسقطناه، من الذي أجبرعمر وأكرهه وقسره على إدخال علي رضي الله عنه في أهل الشورى، وإن كان مراده كما زعم المرتضى صرف الأمر بالحيلة،
فقد كان يمكنه أن يجعل الشورى في خمسة، ولا يذكر علياً رضي الله عنه فيهم، أتراه كان يخاف أحداً لو فعل ذلك، ومن
الذي كان يجسر أن يراجعه في هذا أو غيره، وحيث أدخله من
الذي أجبره على أن يقول: إن وليها ذلك لحملهم على المحجة البيضاء، وحملهم
على الصراط المستقيم، ونحوذلك من المدح، قد كان قادراً ألا يقول ذلك، والكلام الغث البارد لا
أحبه. أما الصحيح منه
فميل عبد الرحمن إلى جهة عثمان، وانحرافه عن علي رضي الله عنه قليلاً،
وليس هذا بمخصوص بعبد الرحمن، بل قريش قاطبة
كانت منحرفة عنه. وأما
الذي هو غير صحيح، فقوله: إنه أخرج نفسه منها لذلك، فإن هذا عندي غيرصحيح، لأنه قد كان يمكنه ألا يخرج
نفسه منها، ويبلغ غرضه، بأن يتجاوز هو وابن عمه إلى عثمان، ويدع علياً وطلحة
والزبير طائفة آخرى، فيولي المسلمون الأمر الطائفة التي فيها عبد الرحمن، بمقضى
نص عمر على ذلك، ثم يعتمد عبد الرحمن بعد ذلك ما يشاء، إن شاء وليها هو أو أحد
الرجلين، فأي حاجة كانت به إلى أن يخرج نفسه منها ليبلغ غرضاً قد كان يمكنه
الوصول إليه بدون ذلك، وأيضاً فإن كان غرضه ذلك، فإنه من رجال الدنيا قد كان لا
محالة، ولم يكن من رجال الآخرة، ومن هو من رجال الدنيا ومحبيها كيف تسمح نفسه بترك
الخلافة ليعطيها غيره، وهلا واطأ سعداً ابن عمه، وطلحة صديقه، على أن يولياه
الخلافة، وقد قال عمر: كونوا
مع الثلاثة الذين فيهم عبد الرحمن، لا سيما وطلحة منحرف عن علي رضي الله عنه وعثمان، لأنهما ابنا عبد مناف، وكذلك سعد وعبد الرحمن منحرفان
عنهما لذلك أيضاً، ولما اختصا به من صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم. والصحيح
أن عبد الرحمن أخرج نفسه منها، لأنه استضعف نفسه عن تحمل أثقالها
وكلفها، وكره أن يدخل فيها، فيقصر عن عمر، ويراه الناس
بعين النقص، ولا يستطيع أن يقوم بما كان عمريقوم به، وكان
عبد الرحمن غنياً موسراً كثير المال، وشيخاً قد ذهب عنه ترف الشباب، فنفض
عنها يده، استغناء عنها، وكراهية لخلل يدخل عليه إن وليها. وأنا أعجب من
لفظة عمر إن كان قالها: إن فيه بطالة، وحاش لله أن يوصف
علي رضي الله عنه بذلك، وإنما يوصف به أهل
الدعابة واللهو، وما أظن عمر إن شاء الله قالها، وأظنها
زيدت في كلامه، وإن الكلمة ههنا لدالة على انحراف شديد. وأما قوله عن عمر:
إنه بلغ ما في نفسه من إيصال الأمر إلى من أراد، وصرفه عمن أراد، من غير شناعة
بالتصريح، وحتى لا يقال فيه ما قيل في أبي بكر، أو يراجع في نصه كما روجع أبو
بكر، ولأي حال يتعسف أبعد الطريقين، وغرضه يتم من أقربهما، فقد قلنا في جوابه ما
كفى، وبينا أن عمر لو أراد ما ذكر لصرف الأمر عمن
يريد صرفه عنه، ونص على من يريد إيصال الأمر إليه، ولم يبال بأحد، فقد عرف الناس
كلهم كيف كانت هيبته وسطوته وطاعة الرعية له، حتى إن المسلمين أطاعوه أعظم من
طاعتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته، ونفوذ أمره فيهم أعظم من نفوذ أمره رضي الله عنه، فمن الذي كان يجسرأو يقدر أن يراجعه
في نصه، أو يراده، أو يلفظ عنده أو غائباً عنه بكلمة تنافي مراده، وأي شيء ضر أبا بكر من مراجعة طلحة له حيث نص، ليقول
المرتضى: خاف عمر من أن يراجع كما روجع أبو بكر، وقد سمع الناس ما قال
أبو بكر لطلحة لما راجعه، فإنه أخزاه وجبهه، حتى دخل في الأرض، وقام من عنده وهو
لا يهتدي إلى الطريق، وأين كانت هيبة الناس لأبي
بكر من هيبتهم لعمر، فلقد كان أبو بكر وهوخليفة
يهابه وهو رعية وسوقة بين يديه، وكل أفاضل الصحابة كان يهابه، وهو بعد لم يل
الخلافة، حتى إن الشيعة تقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم
يهابه،
فمن كانت هذه حاله وهو رعية وسوقة، فكيف يكون وهو خليفة، قد ملك مشارق الأرض
ومغاربها، وخطب له على مائة ألف منبر، ولو أراد عمر أن
يخطب بالخلافة لأبي هريرة لما خالفه أحد من الناس أبداً، فكيف يقول المرتضى: لماذا
يتعسف عمر أبعد الطريقين، وغرضه يتم من أقربهما! والعجب منه كيف يقول: خاف شناعة التصريح، فمن لم يخف عندهم
شناعة المخالفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم
وهو
يعلم أن المسلمين يعلمون أنه مخالف لله تعالى ولرسوله قائم في مقام لم يجعله
الله تعالى له، كيف يخاف شناعة التصريح باسم عثمان لوكان
يريد استخلافه، إن هذا لأعجب من العجب. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الطعن
العاشر:
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قولهم: إنه أبدع في الدين ما لا يجوز، كالتراويح، وما عمله في
الخراج الذي وضعه على السواد، وفي ترتيب الجزية، وكل ذلك مخالف للقرآن والسنة،
لأنه تعالى جعل الغنيمة للغانمين، والخمس منها لأهل الخمس، فخالف القرآن، وكذلك
السنة تنطق في الجزية أن على كل حالم ديناراً، فخالف في ذلك السنة، وأن الجماعة
لا تكون إلا في المكتوبات، فخالف السنة. وقد
روي أن عمر خرج قي شهررمضان ليلاً، فرأى المصابيح قي المسجد، فقال:
ما هذا، فقيل له: إن الناس قد اجتمعوا لصلاة التطوع، فقال: بدعة، فنعمت البدعة،
فاعترف كما ترى بأنها بدعة، وقد شهد الرسول صلى
الله عليه وسلم أن كل بدعة
ضلالة. قال: والذي
ذكره من أن فيه التشدد في حفظ القرآن، والمحافظة على الصلاة، ليس بشيء، لأن الله
تعالى ورسوله بذلك أعلم، ولو كان كما قاله لكانا يسنان هذه الصلاة، ويأمران بها،
وليس لنا أن نبدع في الدين بما نظن أن فيه مصلحة، لأنه لا خلاف في أن ذلك لا
يسوغ ولا يحل. فإن
أريد بكون صلاة التراويح بدعة المفهوم الأول، فلا نسلم
أنها بدعة بهذا التفسير، والخبر الذي رواه المرتضى غيرمعروف، ولا يمكنه أن يسنده
إلى كتاب من كتب المحدثين، ولو قدر على ذلك لأسنده،
ولعله من أخبار أصحابه من محدثي الإمامية
والأخباريين منهم، والألفاًظ التي في آخر الحد يث، وهي: "كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في
النار" مروية مشهورة، ولكن على تفسير البدعة بالمفهوم الأول. وقول
عمر: "إنها لبدعة" خبر مروي مشهور، ولكن أراد به البدعة
بالتفسير الثاني، والخبر الذي رواه أمير
المؤمنين رضي الله عنه ينفرد هو وطائفته بنقله، والمحدثون لا يعرفون ذلك ولا يثبتونه. فأما
إنكاره أن تكون نافلة شهر رمضان صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في جماعة، فإنكار لست أرتضيه لمثله، فإن كتب المحدثين مشحونة برواية
ذلك، وقد ذكره أحمد بن حنبل في مسنده غير مرة بعدة طرق، ورواه
الفقهاء، ذكره الطحاوي في كتاب اختلاف الفقهاء، وذكره
أبو الطيب الطبري الشافعي في شرحه كتاب
المزني، وقد ذكره المتأخرون أيضاً، ذكره الغزالي
في كتالب احياء علوم الدين
وقال:
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى
التراويح في شهررمضان في جماعة ليلتين أو ثلاثاً، ثم
ترك،وقال: أخاف أن يوجب عليكم. وأجاز لي
الشيخ أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي، بروايته عن شيخه محمد بن ناصر، عن
شيوخه ورجاله، أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم
صلى
نافلة شهررمضان في جماعة يأتمون به ليالي ثم لم
يخرج وقام في بيته، وصلى الناس فرادى بقية أيامه وأيام أبي بكر وصدراً من
خلافة عمر، فخرج عمر ليلة، فرأى الناس أوزاعاً يصلون في المسجد، فقال: لو جمعتهم
على إمام، فأمرابي بن كعب أن يصلي بهم. فصلى بهم تلك الليلة ثم خرج، فرآهم مجتمعين
إلى ابي بن كعب يصلي بهم، فقال: بدعة ونعمت البدعة،
أما إنها لفضل، والتي ينامون عنها أفضل. قال:
يعني قيام آخر الليل، فإنه أفضل من قيام أوله. وسن
التراويح جماعة ليتكرر سماع القرآن على أسماع المسلمين. وبالجملة
الاختلاف في أيهما أفضل، فأما تحريم الصلاة ولزوم الإثم بفعلها، فمما لم يذهب إليه إلا الإمامية، وقد روى الرواة أن علياً رضي
الله عنه خرج
ليلاً في شهررمضان في خلافة عثمان بن عفان، فرأى المصابيح في المساجد، والمسلمون
يصلون التراويح، فقال: نور الله قبر عمر كما نور مساجدنا، والشيعة يروون هذا الخبر، ولكن بحمل اللفظ على معنى آخر. فأما
حديث الخراج فقد ذكره أرباب علم الخراج والكتاب، وذكره الفقهاء أيضاً في كتبهم. وذكره
أرباب السيرة وأصحاب التاريخ. قال
قدامة بن جعفر في كتاب الخراج: اختلف الفقهاء في أرض العنوة، فقال بعضهم: تخمس، ثم تقسم أربعة أخماس على الذين
افتتحوها، وقال بعضهم: ذلك إلى الإمام، إن
رأى أن يجعلها غنيمة ليخمسها ويقسم الباقي
كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر
فذلك إليه، وإن رأى أن يجعلها فلا يخمسها ولا يقسمها، بل تكون موقوفة على سائر
المسلمين، كما فعل عمر بأرض السواد وأرض مصر وغيرهما، مما افتتحه عنوة، فعلى
الوجهين جميعاً فيهما قدوة ومتبع، لأن النبي صلى
الله عليه وسلم قسم خيبر
وصيرها غنيمة، وأشار الزبيربن العوام على عمر في مصر وبلاد الشام بمثل ذلك، وهو
مذهب مالك بن أنس، وجعل عمر السواد وغيره فيئاً موقوفاً على المسلمين، من كان
منهم حاضراً في وقته، ومن أتى بعده ولم يقسمه، وهو رأي
رآه علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومعاذ بن جبل، وأشارا عليه،
وبه كان يأخذ سفيان بن سعيد، وذلك رأي من جعل الخيار إلى الإمام في تصييرأرض
العنوة غنيمة أو فيئاً راجعاً للمسلمين في كل سنة. وأما أمر الجزية، فطريقه الاجتهاد، وللإمام أن يرى فيه رأيه
بمشاورة الصلحاء والفقهاء، وقد
قال قاضي القضاة: إن
الخبر الذي ذكره المرتضى، وذكر أنه مرفوع، وهو على كل حالم دينار خبر مظنون غيرمعلوم، واعتراض
المرتضى عليه بقوله: هب أن الأمر كذلك، ألستم
تزعمون أن خبر الواحد معمول عليه في الفروع، فهلا
عمل عمر بهذا الخبر، وإن كان خبر واحد اعتراض ليس بلازم، لأنه إذا كان خبر واحد
عندنا لم يلزم أن يكون أيضاً خبر واحد عند عمر، بل من الجائز أن يكون مفتعلاً بعد وفاة عمر، ولو كان قد ثبت أن عمر سمع هذا الخبرمن واحد أو
اثنين من الصحابة، ثم لم يعمل به، كان
الاعتراض لازماً، ولكن ذلك مما لم يثبت. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الفهرس الجزء
الثاني عشر- باب المختار من الخطب والأوامر - ابن ابي الحديد. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الجزء الثاني عشر- باب المختار من الخطب
والأوامر - ابن ابي الحديد
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال
يريد به بعض أصحابه
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
لله بلاد فلان فلقد قوم الأود، وداوى العمد، وأقام السنة، وخلف الفتنة! ذهب نقي
الثوب، قليل العيب، أصاب خيرها، وسبق شرها. أدى إلى الله
طاعته، وأتقاه بحقه. رحل وتركهم في
طرق متشعبة، لا يهتدي بها الضال، ولا يستيقن المهتدي. والمراد
بالأول: لله البلاد التي أنشأته وأنبتته، وبالثاني: لفه الثدي الذي أرضعه وبالثالث: لله المجلس الذي ربي فيه، وبالرابع: لله النائحة التي تنوح عليه وتندبه! ماذا
تعهد من محاسنه. وفيه إبطال
قول من طعن على عثمان بن عفان، فلم يجبني بشيء،
وقال: هو ما قلت لك! فأما الراوندي، فإنه قال في الشرح:
إنه رضي الله عنه مدح بعض أصحابه بحسن السيرة، وأن الفتنة هي التي وقعت بعد رسول الله صلى الله
عليه وسلم من الاختيار والأثرة . وكيف
يقول:
أصاب خيرها وسبق شرها وكيف يقول: أدى إلى
الله طاعته وكيف يقول: رحل وتركهم في طرق متشعبة . وهذا الضمير، وهو الهاء والميم في قوله رضي
الله عنه: وتركهم، هل يصح أن يعود
إلا إلى الرعايا! وهل يسوغ أن يقال هذا الكلام لسوقة
من عرض الناس! وكل من مات قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم كان سوقة لا سلطان له، فلا يصح أن يحمل هذا الكلام على إرادة أحد من
الذين قتلوا أو ماتوا قبل وفاة النبي صلى
الله عليه وسلم كعثمان بن
مظعون، أو مصعب بن عمير، أو حمزة بن عبد المطب، أو عبيدة بن الحارث، وغيرهم من
الناس. والتأويلات
الباردة الغثة لا تعجبني، على أن أبا
جعفر محمد بن جرير الطبري قد صرح أو كاد يصرح
بأن المعني بهذا الكلام عمر، قال الطبري: لما مات عمر بكته النساء، فقالت إحدى نوادبه: واحزناه
على عمر! حزنا انتشر، حتى ملأ البشر. وقالت
ابنة أبي حثمة: واعمراه! أقام الأود، وأبرأ العمد ، وأمات
الفتن، وأحيا السنن. خرج نقي الثوب، بريئاً من العيب. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
سيرة
عمر بن الخطاب
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ونحن
نذكر في هذا الموضع نكتاً من كلام عمر وسيرته وأخلاقه. أتي عمر بمال، فقال له عبد الرحمن بن عوف:
يا أمير المؤمنين، لو حبست من هذا المال في بيت المال لنائبة تكون، أو أمر يحدث!
فقال: كلمة ما عرض بها إلا شيطان كفاني
حجتها، ووقاني فتنتها. أعصي الله
العام مخافة قابل ! أعد لهم تقوى الله، قال الله سبحانه: "ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب" . فكتب
له عمر: ليس لنا أن نأتمنهم، وقد خونهم الله، ولا أن
نرفعهم وقد وضعهم الله، ولا أن نستنصحهم في الدين وقد وترهم الإسلام، ولا أن
نعزهم وقد أمرنا بأن يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون. فكتب إليه
عمر: مات النصراني والسلام. وكتب
إلى سعد بن أبي وقاص: يا سعد سعد بني أهيب! إن الله إذا أحب
عبداً حببه إلى خلقه، فاعتبر منزلتك من الله بمنزلتك من الناس. واعلم أن ما لك
عند الله مثل ما لله عندك. قال: اللهم غفراً، إن
قومكم كرهوا أن يجتمع لكم النبوة والخلافة، فتذهبوا في
السماء شمخاً وبذخاً، ولعلكم تقولون: إن أبا بكر
أول من أخركم، أما أنه لم يقصد ذلك، ولكن حضر أمر لم يكن بحضرته أحزم مما
فعل، ولولا رأي أبي بكر في لجعل لكم في الأمر
نصيباً، ولو فعل ما هنأكم مع قومكم. إنهم ينظرون إليكم نظر الثور إلى جازره. ورأى
أعرابياً يصلي صلاة خفيفة، فلما قضاها قال: اللهم زوجني
الحور العين. فقال له: أسأت النقد، وأعظمت الخطبة! وقيل له: كان
الناس في الجاهلية يدعون على من ظلمهم فيستجاب لهم، ولسنا
نرى ذلك الآن. قال: لأن ذلك
كان الحاجز بينهم وبين الظلم، وأما الآن فالساعة
موعدهم والساعة أدهى وأمر. فناداه عمر، فجاء
فقال: إن يكن لك دين فلك كرم، وإن يكن لك عقل فلك مروءة، وإن يكن لك مال
فلك شرف، وإلا فأنت والحمار سواء. وقال:
من اتقى الله لم يشف الله غيظه، ومن خاف الله لم يفعل ما يريد، ولولا يوم
القيامة لكان غير ما ترون. وقال:
إني لأعلم أجود الناس، وأحلم الناس، أجودهم من أعطى من حرمه وأحلفهم من عفا عمن
ظلمه. وكتب
إلى أبي موسى: أما بعد، فإن للناس نفرة عن سلطانهم،
فأعوذ بالله أن يدركني وإياك عمياء مجهولة، وضغائن محمولة، وأهواء متبعة، ودنيا
مؤثرة، أقم الحدود ؟ واجلس للمظالم ولو ساعة من نهار، وإذا
عرض لك أمران: أحدهما لله، والآخر للدنيا، فابدأ بعمل الآخرة، فإن الدنيا تفنى،
والآخرة تبقى، وكن من مال الله عز وجل على حذر، واجف الفساق، واجعلهم
يداً ويداً، ورجلاً ورجلاً، وإذا كانت بين القبائل نائرة يا لفلان يا لفلان!
فإنما تلك نجوى الشيطان، فاضربهم بالسيف حتى يفيئوا إلى أمر الله، وتكون دعواهم
إلى الله، وإلى الإسلام، وقد بلغني أن ضبة تدعو: يا لضبة! وإني والله أعلم أن
ضبة ما ساق الله بها خيراً قط، ولا منع بها من سوء قط. فإذا جاءك
كتابي هذا فانهكهم ضرباً وعقوبة، حتى يفرقوا إن لم يفقهوا، والصق بغيلان بن خرشة
من بينهم. وعد مرضى
المسلمين، واشهد جنائزهم، وافتح لهم بابك، وباشر أمورهم بنفسك، فإنما أنت رجل منهم، غير أن الله قد جعلك أثقلهم حملاً.
وقد بلغني أنه فشا لك ولأهل بيتك هيئة في لباسك ومطعمك، ومركبك، ليس للمسلمين
مثلها، فإياك يا عبد الله بن قيس أن تكون بمنزلة البهيمة التي مرت بواد خصيب،
فلم يكن لها همة إلا السمن، وإنما حظها من السمن لغيرها، واعلم أن للعامل مرداً
إلى الله، فإذا زاغ العامل زاغت رعيته، وإن أشقى الناس من شقيت به نفسه ورعيته. والسلام. قد ثبتت الحجة، ووضحت الطرق، وانقطع العذر،
ولا حجة لأحد على الله عز وجل. ألا
إن أحق ما تعاهد به الراعي رعيته أن يتعاهدهم بالذي لله تعالى عليهم في وظائف
دينهم الذي هداهم به، وإنما علينا أن نأمركم بالذي أمركم الله به من طاعته،
وننهاكم عما نهاكم الله عنه من معصيته، وأن نقيم أمر الله في قريب الناس
وبعيدهم، ولا نبالي على من قال الحق، ليتعلم الجاهل، ويتعظ المفرط، ويقتدي
المقتدي. إلا إن الإيمان ليس بالتمني ولكنه بالحقائق
ألا من قام على الفرائض، وسدد نيته، واتقى الله، فذلكم الناجي. ومن زاد اجتهاداً
وجد عند الله مزيداً. والسنة السنة!
الزموها تنجكم من البدعة. وإن الاقتصاد
في السنة خير من الإجتهاد في الضلالة، فافهموا ما توعظون به، فإن الحريب من حرب
دينه، وإن السعيد من وعظ بغيره. بعث
سعد بن أبي وقاص أيام القادسية إلى عمر قباء كسرى
وسيفه، ومنطقته، وسراويله، وتاجه، وقميصه، وخفيه، فنظر عمر في وجوه القوم عنده، فكان أجسمهم وأمدهم قامة سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي.
فقال: يا
سراق، قم فالبس، قال سراقة: طمعت فيه فقمت فلبست، فقال: أدبر فأدبرت، وقال:
أقبل، فأقبلت، فقال: بخ بخ! أعرابي
من بني مدلج، عليه قباء كسرى وسراويله وسيفه ومنطقته وتاجه وخفاه!
رب يوم يا سراق لو كان فيه دون هذا من متاع كسرى وآل كسرى لكان شرفاً لك ولقومك.
انزع!
فنزعت، فقال: اللهم إنك منعت هذا
نبيك ورسولك، وكان أحب إليك مني وأكرم، ومنعته
أبا بكر وكان أحب إليك مني وأكرم، ثم أعطيتنيه،
فأعوذ بك، أن تكون أعطيتنيه لتمكر بي. ثم بكى حتى رحمه من كان عنده. فقال علي رضي الله
عنه: إنك عففت فعفوا، ولو رتعت لرتعوا . ثم
عاد إلى مكانه، فسمع بكاءه، فعاد إلى أمه، فقال لها مثل ذلك، ثم عاد إلى مكانه،
فسمع بكاءه، فأتى أمه، فقال: ويحك! إني لأراك أم سوء! لا أرى ابنك يقر منذ
الليلة! فقالت: يا عبد الله، لقد آذيتني منذ الليلة، إني أريغه على الفطام
فيأبى، قال: ولم؟ قالت: لأن عمر لا يفرض لرضيع، وإنما يفرض للفطيم، قال: وكم له؟ قالت: اثنا عشر شهراً، قال: ويحك لا تعجليه! فصلى الفجر وما يستبين الناس قراءته من
غلبة البكاء عليه، فلما سلم قال: يا بؤساً
لعمركم! كم قتل من أولاد الفطام، فإنا نفرض لكل مولود في الإسلام. وأوصى عمر حين طعنه أبو لؤلؤة من يستخلفه المسلمون بعده
من أهل الشورى، فقال: أوصيك بتقوى الله لا
شريك له، وأوصيك بالمهاجرين الأولين خيراً، أن تعرف لهم سابقتهم، وأوصيك
بالأنصار خيراً، اقبل من محسنهم، وتجاوز عن مسيئهم. وأوصيك بأهل
الأمصار خيراً، فإنهم ردء العدو، وجباة الفيء، لا تحمل فيئهم إلى غيرهم إلا عن
فضل منهم، وأوصيك بأهل البادية خيراً، فإنهم أصل العرب، ومادة الإسلام، أن يؤخذ
من حواشي أموالهم، فيرد على فقرائهم، وأوصيك بأهل الذمة خيراً، أن تقاتل من
ورائهم، ولا تكلفهم فوق طاقتهم إذا أدوا ما عليهم للمسلمين طوعاً أو عن يد وهم
صاغرون. وأوصيك أن
تشتد في أمر الله وفي حدوده، والزجر عن معاصيه، على قريب الناس وبعيدهم، ولا
تأخذك الرأفة والرحمة في أحد منهم، حتى تنتهك منه مثل جرمه، واجعل الناس عندك
سواء، لا تبال على من وجب الحق، لا تأخذك في الله لومة لائم. وإياك والأثرة
والمحاباة فيما ولاك الله مما أفاء الله على المسلمين، فتجور وتظلم، وتحرم نفسك
من ذلك ما قد وسعه الله عليك، فإنك في منزلة من منازل الدنيا، وأنت إلى الآخرة
جد قريب، فإن صدقت في دنياك عفة وعدلاً فيما بسط لك، اقترفت رضواناً وإيماناً،
وإن غلبك الهوى، اقترفت فيه سخط الله ومقته. واعلم أني قد
أوصيتك وخصصتك ونصحت لك، أبتغي بذلك وجه الله والدار الآخرة، ودللتك على ما كنت
دالاً عليه نفسي، فإن عملت بالذي وعظتك، وانتهيت إلى الذي أمرتك، أخذت منه
نصيباً وافراً، وحظاً وافياً، وإن لم تقبل ذلك، ولم تعمل ولم تترك معاظم الأمور
عند الذي يرضى الله به سبحانه عنك، يكن ذاك بك انتقاصاً، ويكن رأيك فيه مدخولاً،
فالأهواء مشتركة، ورأس الخطيئة إبليس الداعي إلى كل هلكة، قد أضل القرون السالفة
قبلك، وأوردهم النار، ولبئس الثمن أن يكون حظ امرئ من دنياه موالاة عدو الله،
الداعي إلى معاصيه! اركب الحق، وخض إليه الغمرات، وكن واعظاً لنفسك. هذه وصيتي إياك، وأشهد الله عليك. وأقرأ عليك
السلام، والله على كل شيء شهيد. فقامت
إليه امرأة، فقالت: والله ما جعل الله ذلك لك، إنه تعالى
يقول: "وآتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه
شيئاً" . فقال
عمر: ألا تعجبون من إمام أخطأ، وامرأة أصابت! ناضلت إمامكم
فنضلته ! وكان يعس ليلة، فمر بدار سمع فيها صوتاً،
فارتاب وتسور ، فرأى رجلاً عند امرأة وزق
خمر،
فقال: يا عدو الله، أظننت أن الله يسترك وأنت على معصيته! فقال: لا تعجل يا أمير المؤمنين، إن كنت أخطأت في واحدة فقد
أخطأت في ثلاث: قال الله تعالى: "ولا
تجسسوا" وقد تجسست، وقال: "وأتوا البيوت من أبوابها" . وقد تسورت،
وقال: "فإذا دخلتم بيوتاً فسلموا"
وما سلمت. فقال: هل عندك من خير إن عفوت عنك؟
قال: نعم، والله لا أعود، فقال: اذهب فقد عفوت عنك. وأكثر
الناس روى هذا الكلام لعلي رضي الله عنه، وقد ذكره صاحب نهج البلاغة وشرحناه
فيما سبق. فانصرف راجعاً
ونحن معه، فأتى رجل فقال: يا أمير المؤمنين إن
فلانا ظلمني، فأعدني عليه، فرفع في السماء درته ، وضرب بها رأسه، وقال: تدعون عمر وهو معرض لكم، حتى إذا شغل في أمر
المسلمين أتيتموه: أعدني أعدني! فانصرف الرجل يتذمر، فقال
عمر: علي بالرجل، فجيء به فألقى إليه المخفقة ، فقال
اقتص، قال: بل أدعه لله ولك، قال: ليس كذلك، بل تدعه إما لله إرادة ما
عنده، وإما تدعه لي، قال: أدعه لله، قال: انصرف. ثم جاء حتى دخل منزله، ونحن
معه، فصلى ركعتين خفيفتين، ثم جلس فقال: يا بن
الخطاب، كنت وضيعاً فرفعك الله، وكنت ضالاً فهداك الله، وكنت ذليلاً فأعزك الله،
ثم حملك على رقاب الناس، فجاء رجل يستعديك على من ظلمه. فضربته، ماذا
تقول لربك غداً! فجعل يعاتب نفسه معاتبة ظننت أنه
من خير أهل الأرض. ثم أنشأ يحدث
عن نفسه، فقال: لقد رأيتني وأختاً لي نرعى على أبوينا ناضحاً لنا، قد ألبستنا
أمنا نقبتها ، وزودتنا يمنتيها هبيداً فنخرج بناضحنا، فإذا طلعت الشمس، ألقيت
النقبة إلى أختي، وخرجت أسعى عريان، فنرجع إلى أمنا، وقد جعلت لنا لفيتة من ذلك
الهبيد، فياخصباه! وروى
ابن عباس رضي الله عنه، قال: دخلت على عمر
في أول خلافته، وقد ألقي له صاع من تمر على خصفة ، فدعاني إلى الأكل،
فأكلت تمرة واحدة، وأقبل يأكل حتى أتى عليه، ثم شرب من جر كان عنده، واستلقى على
مرفقة له، وطفق يحمد الله يكرر ذلك، ثم قال: من
أين جئت يا عبد الله؟ قلت: من المسجد، قال: كيف خلفت ابن عمك؟ فظننته
يعني عبد الله بن جعفر، قلت: خلفته يلعب مع
أترابه، قال: لم أعن ذلك، إنما عنيت عظيمكم أهل
البيت، قلت: خلفته يمتح بالغرب على نخيلات من فلان، وهو يقرأ القرآن،
قال: يا عبد الله، عليك دماء البدن إن كتمتنيها! هل بقي
في نفسه شيء من أمر الخلافة؟ قلت: نعم، قال: أيزعم
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نص عليه؟
قلت: نعم، وأزيدك، سألت أبي عما يدعيه، فقال: صدق، فقال عمر: لقد كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم في
أمره ذرو من قول لا يثبت حجة، ولا يقطع عذراً، ولقد كان
يربع في أمره وقتاً ما، ولقد أراد في مرضه أن
يصرح باسمه فمنعت من ذلك إشفاقاً وحيطة على الإسلام،
لا ورب هذه البنية لا تجتمع عليه قريش أبداً!
ولو وليها لانتقضت عليه العرب من أقطارها، فعلم
رسول الله صلى الله عليه وسلم أني علمت ما في نفسه، فأمسك، وأبى الله إلا إمضاء ما حتم. ألا إنه قد
أتى علي حين، وأنا أحسب أنه لا يقرأ القرآن أحد إلا يريد به وجه الله وما عند
الله، وقد خيل إلي بأخرة، أن رجالاً قد قرأوه يريدون به ما عند الناس فأريدوا
الله بقراءتكم، وأريدوا الله بأعمالكم. وقال مرة: قد أعياني أهل الكوفة، إن
استعملت عليهم ليناً استضعفوه، وإن استعملت
عليهم شديداً شكوه! ولوددت أني وجدت رجلاً قوياً
أميناً أستعمله عليهم، فقال له رجل: أنا أدلك يا
أمير المؤمنين على الرجل القوي الأمين، قال: من هو؟ قال:
عبد الله بن عمر، قال: قاتلك الله! والله ما أردت الله بها، لاها الله! لا
أستعمله عليها ولا على غيرها، وأنت فقم
فاخرج، فمذ الآن لا أسميك إلا المنافق. فقام الرجل وخرج. فقال عمر: إن عشت لأدعن أرامل العراق لا يحتجن بعدي إلى رجل أبداً،
فما أتت عليه رابعة حتى أصيب.
فكتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم "حم
تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب وقابل التوب، شديد العقاب ذي
الطول لا إله إلا هو إليه الصير" ، أما
بعد، فقد بلغني قولك: لعل أمير المؤمنين يسوءه، البيت وايم الله إنه
ليسوءني، فاقدم فقد عزلتك.
فأشخصه إليه، وفطن القرشي، فضم إليه بيتاً آخر، فلما مثل بين
يديه، قال له أنت القائل:
قال: نعم يا أمير المؤمنين، فهلا
أبلغك الواشي ما بعده؟ قال: ما الذي بعده؟ قال:
قال: آلله آلله! ثم قال: ارجع إلى عملك. كان عمر جالساً في المسجد، فمر به رجل، فقال: ويل لك يا عمر من النار! فقال: قربوه
إلي، فدنا منه، فقال: لم قلت لي ما قلت؟ قال: تستعمل عمالك، وتشترط عليهم ثم لا
تنظر هل وفوا لك بشروط أم لا؟ قال: وما ذاك؟ قال: عاملك على مصر اشترطت عليه،
فترك ما أمرته به، وارتكب ما نهيته عنه، ثم شرح له كثيراً من أمره، فأرسل عمر رجلين من الأنصار، فقال لهما: انتهيا
إليه، فاسألا عنه، فإن كان كذب عليه فأعلماني، وإن رأيتما ما يسوءكما فلا تملكاه
من أمره شيئاً حتى تأتيا به، فذهبا فسألا عنه، فوجداه قد صدق عليه، فجاءا إلى
بابه، فاستأذنا عليه، فقال حاجبه: إنه ليس عليه اليوم إذن، قالا: ليخرجن إلينا
أو لنحرقن عليه بابه، وجاء أحدهما بشعلة من نار، فدخل الآذن، فأخبره فخرج إليهما، قالا: إنا رسولا عمر إليك لتأتيه، قال: إن لنا
حاجة؟ تمهلانني لأتزود، قالا: إنه عزم علينا ألا نمهلك، فاحتملاه، فأتيا
به عمر، فلما أتاه سلم عليه فلم يعرفه، وقال: من أنت؟- وكان رجلاً أسمر، فلما
أصاب من ريف مصر ابيض وسمن- فقال: أنا عاملك على مصر، أنا فلان، قال: ويحك! ركبت ما نهيت عنه، وتركت ما أمرت به!
والله لأعاقبنك عقوبةً أبلغ إليك فيها، آتوني بكساء من صوف، وعصا وثلاثمائة شاة
من غنم الصدقة، فقال: البس هذه الدراعة ، فقد رأيت أباك وهذه خير من دراعته، وخذ
هذه العصا فهي خير من عصا أبيك ، واذهب بهذه الشياه فارعها في مكان كذا- وذلك في
يوم صائف- ولا تمنع السابلة من ألبانها شيئاً إلا آل عمر، فإني لا أعلم أحداً من
آل عمر أصاب من ألبان غنم الصدقة ولحومها شيئاً. فلما ذهب رده، وقال: أفهمت ما قلت! فضرب بنفسه الأرض،
وقال يا أمير المؤمنين، لا أستطيع هذا، فإن شئت فاضرب عنقي، قال: فإن رددتك فأي
رجل تكون؟ قال: والله لا يبلغك بعدها إلا ما تحب. فرده، فكان نعم الرجل. وقال عمر: والله لأنزعن فلاناً من القضاء حتى
أستعمل عوضه رجلاً إذا رآه الفاجر فرق.
فقال عمر: أما ما عشت فلا. فلما أصبح دعا نصر بن حجاج- وهو نصر بن الحجاج بن علابط
البهزي السلمي- فأبصره وهو من أحسن الناس وجهاً، وأصبحهم
وأملحهم حسناً، فأمر أن يطم شعره، فخرجت جبهته
فازداد حسناً، فقال له عمر: اذهب فاعتم، فاعتم
فبدت وفرته فأمر بحلقها فازداد حسناً، فقال له: فتنت
نساء المدينة يابن حجاج! لا تجاورني في بلدة أنا مقيم بها، ثم سيره إلى البصرة.
فقال عمر: أما ولي ولاية فلا. وأقطعه أرضاً بالبصرة وداراً.
محمد بن سعيد، قال: بينا يطوف عمر في بعض سكك المدينة، إذ سمع امرأة تهتف من خدرها:
فقال عمر: ألا لا أدري معي رجلاً يهتف به العواتق في خدورهن! علي بنصر بن حجاج، فأتي به، فإذا هو أحسن الناس وجهاً
وعيناً وشعراً، فأمر بشعره فجز، فخرجت له وجنتان كأنه قمر، فأمره أن يعتم فاعتم،
ففتن النساء بعينه، فقال عمر: لا والله لا تساكنني بأرض
أنا بها، قال: ولم يا أمير المؤمنين؟ قال: هو ما أقول لك، فسيره إلى البصرة.
فبكى عمر، وقال: الحمد لله الذي قيد الهوى
بالتقوى. خطب
عمر في الليلة التي دفن فيها أبو بكر، فقال: إن الله
تعالى نهج سبيله، وكفانا برسوله، فلم يبق إلا الدعاء والاقتداء. الحمد لله
الذي ابتلاني بكم وابتلاكم بي، وأبقاني فيكم بعد صاحبي، وأعوذ بالله أن أزل أو
أضل. فأعادي له ولياً، أو أوالي له عدواً. ألا إني
وصاحبي كنفر ثلاثة قفلوا من طيبة، فأخذ أحدهم مهلة إلى داره وقراره فسلك أرضاً
مضيئة متشابهة الأعلام، فلم يزل عن الطريق، ولم يحرم السبيل، حتى أسلمه إلى
أهله، ثم تلاه الآخر فسلك سبيله، واتبع أثره، فأفضى إليه ولقي صاحبه، ثم تلاهما
الثالث، فإن سلك سبيلهما واتبع أثرهما أفضى إليهما ولاقاهما، وإن زل يميناً أو
شمالاً لم يجامعهما أبداً. ألا وإن العرب جمل أنف قد أعطيت خطامه، ألا وإني
حامله على المحجة ومستعين بالله عليه. اللهم إني
غليظ فليني. اللهم إني
ضعيف فقوني. اللهم أوجب لي بموالاتك وموالاة أوليائك
ولايتك ومعونتك، وأبرئني من الآفات بمعاداة أعدائك، وتوفني مع الأبرار، ولا
تحشرني في زمرة الأشقياء. اللهم لا تكثر
لي من الدنيا فأطغى، ولا تقلل لي فأشقى، فإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى. وإني نظرت في هذا الأمر، فجعلت إن أردت الدنيا
أضررت بالآخرة، وإن أردت الآخرة أضررت بالدنيا، وإذا كان الأمر هكذا؟ فأضروا
بالفانية. فدخلوا عليها،
وسألوها أن تكلمه ولا تخبره بأسماء من أتاها إلا أن يقبل. فلقيت عمر في
ذلك، فرأت الغضب في وجهه، وقال: من أتاك؟ قالت: لا سبيل إلى ذلك، فقال: لو علمت
من هم لسؤت أوجههم، أنت بيني وبينهم! نشدتك الله ما أفضل ما اقتنى رسول الله صلى الله عليه وسلم في
بيتك من الملبس؟ قالت: ثوبان ممشقان، كان يلبسهما للوفد، ويخطب فيهما الجمع،
قال: فأي طعام ناله عندك أرفع؟ قالت: خبزنا مرة خبزة شعير، فصببت عليها- وهي حارة أسفلها- عكة لنا كان فيها سمن وعسل،
فجعلتها هشة حلوة دسمة، فأكل منها فاستطابها، قال: فأي مبسط كان يبسط عندك أوطأ؟
قالت: كساء ثخين كنا نرقعه في الصيف فنجعله ثخيناً، فإذا كان الشتاء بسطنا نصفه،
وتدثرنا بنصفه، قال: فأبلغيهم أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قدر فوضع
الفضول مواضعها، وتبلغ ما أبر، وإني قدرت فوالله لأضعن الفضول مواضعها، ولأتبلغن
ما أبر حبة. وفد
على عمر وفد فيه رجال الناس من الآفاق، فوضع لهم
بسطاً من عباء، وقدم إليهم طعاماً غليظاً، فقالت له
ابنته حفصة أم المؤمنين: إنهم وجوه الناس وكرام العرب، فأحسن كرامتهم. فقال:
يا
حفصة، أخبريني بألين فراش فرشته لرسول الله صلى
الله عليه وسلم، وأطيب طعام أكله عندك؟ قالت: أصبنا
كساء ملبداً عام خيبر، فكنت أفرشه له فينام عليه، وإني رفعته ليلة، فلما أصبح قال: ما كان فراشي الليلة؟ قلت: فراشك
كل ليلة؟ إلا أني الليلة رفعته لك ليكون أوطأ، فقال: أعيديه لحالته الأولى، فإن
وطاءته منعتني الليلة من الصلاة. ثم كتب إلى
عتبة: أما بعد، فإن خبيصك الذي بعثته ليس من كد أبيك
ولا من كد أمك، أشبع المسلمين مما تشبع منه في رحلك ولا تستأثر؟ فإن الأثرة شر والسلام. فكشف عن سلة
منها فذاق فاستطاب، فقال: عزمت عليك يا عتبة
إذا رجعت إلا رزقت كل رجل من المسلمين مثله! قلت:
والذي يصلحك يا أمير المؤمنين لو أنفقت عليه أموال قيس كلها لما وسع ذلك، قال: فلا حاجة لي فيه إذاً، ثم دعا بقصعةٍ من
ثريد، ولحم غليظ، وخبز خشن، فقال: كل، ثم
جعل يأكل أكلاً شهياً. وجعلت أهوي
إلى البضعة البيضاء أحسبها سناماً، وإذا هي عصبة، وأهوي إلى البضعة من اللحم
أمضغها، فلا أسيغها، وإذا هي من علباء العنق ، فإذا غفل عني جعلتها بين الخوان
والقصعة، فدعا بعس من نبيذ كاد يكون خلاً، فقال: اشرب، فلم أستطعه ولم أسغه أن أشرب، فشرب، ثم نظر إلي وقال: ويحك إنه ليس بدرمك العراق وودكه
، ولكن ما تأكله أنت وأصحابك. فقال عمر: صدق
عوف والله وكذبتم! وروى
أبو العالية الشامي، قال: قدم عمر الجابية، على جمل أورق
، تلوح صلعته، ليس عليه قلنسوة، تصل رجلاه بين شعبتي رحله، بغير ركاب، وطاؤه
كساء أنبجاني كثير الصوف، وهو وطاؤه إذا ركب، وفراشه إذا نزل، وحقيبته نمرة
محشوة ليفاً، هي حقيبته إذا ركب، ووسادته إذا نزل، وعليه قميص من كرابيس قد دسم
وتخرق جيبه، فقال: ادعوا إلي رأس القرية. فدعوه له، فقال: اغسلوا قميصي هذا
وخيطوه، وأعيروني قميصاً ريثما يجف قميمي، فأتوه بقميص كتان، فعجب منه، فقال: ما
هذا؟ قالوا: كتان. قال وما الكتان؟ فأخبروه، فلبسه ثم غسل قميصه، وأتي به فنزع
قميصهم ولبس قميصه، فقال له رأس القرية: أنت ملك العرب، وهذه بلاد لا يصلح بها ركوب الإبل، فأتي
ببرذون فطرحت عليه قطيفة بغير سرج فركبه، فهملج ، تحته، فقال للناس: احبسوا، فحبسوه، فقال: ما كنت أظن الناس
يركبون الشيطان قبل هذا! قدموا لي جملي. فجيء به فنزل عن البرذون وركبه. فقال
عمرو:
إني والله ما تأبطتني الإماء، ولا حملتني في غبرات المآلي، فقال عمر: والله ما هذا بجواب
الكلام الذي سألتك عنه! وإن الدجاجة لتفحص في
الرماد فتضع لغير الفحل؟ وإنما تنسب البيضة إلى طرقها. فقام عمرو مربد الوجه . فقلت له: وأم
عمرو النابغة أمة من سبايا العرب، فقال: أمه عربية من عنزة، سبيت في بعض الغارات، فليس يلحقها من
النقص عندهم ما يلحق الإماء الزنجيات. فقلت له: أكان عمرو يقدم على عمر بمثل ما قلت؟ قال: قد يكون
بلغه عنه قول قدح في نفسه فلم يحتمله له، ونفث بما في صدره منه، وإن لم يكن جواباً مطابقاً للسؤال. أوفد بشر بن مروان وهو على العراق رجلاً إلى
عبد الملك، فسأله عن بشر، فقال: يا أمير المؤمنين، هو اللين في غير ضعف،
الشديد في غير عنف، فقال عبد الملك: ذاك الأحوذي ابن حنتمة الذي كان يأمن عنده البريء، ويخافه
السقيم، ويعاقب على الذنب، ويعرف موضع العقوبة، لا بشر
بن مروان! أذن عمر يوماً للناس، فدخل شيخ كبير يعرج، وهو يقود ناقة
رجيعاً يجاذبها، حتى وقف بين ظهراني الناس، ثم قال:
فقال عمر: لا حول ولا قوة إلا باللة؟ من أنت؟ قال: عمرو بن براقة، قال: ويحك! فما منعك أن تقول: "وأعلموا إنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه
وللرسول" . ثم قرأها إلى آخرها؟ وأمر بناقته فقبضت، وحمله على
غيرها، وكساه وزود بينا عمر يسير في طريق مكة يوماً إذا بالشيخ بين يديه يرتجز،
ويقول:
فطعنه عمر بالسوط في ظهره، فقال:
ويلك! وأين الصديق! قال: ما لي بأمره علم يا أمير المؤمنين، قال: أما إنك لو كنت عالماً، ثم قلت هذا لأوجعت ظهرك.
فبكى عمر لما قال له: ماذا تقول لأفراخ فكان عمرو بن العاص بعد ذلك يقول: ما أقلت الغبراء
ولا أظلت الخضراء أتقى من رجل يبكي خوفاً من حبس الحطيئة! ثم قال عمر لغلامه يرفأ: علي بالكرسي، فجلس عليه، ثم قال: علي بالطست، فأتي بها، ثم قال: علي
بالمخصف لا بل علي بالسكين، فأتي بها، فقال: لا بل علي بالموسى فإنها أوجى، فأتي
بموسى، ثم قال: أشيروا علي في الشاعر، فإنه يقول الهجر
، وينسب بالحرم، ويمدح الناس ويذمهم بغير ما فيهم، وما أراني إلا قاطعاً لسانه!
فجعل الحطيئة يزيد خوفاً، فقال من حضر: إنه لا
يعود يا أمير المؤمنين، وأشاروا إليه قل: لا أعود يا
أمير المؤمنين، فقال: التجاء التجاء! فلما ولى ناداه: يا خطيئة! فرجع
مرعوباً، فقال: كأني بك يا حطيئة عند فتى من
قريش، قد بسط لك نمرقة ، وكسر لك أخرى، ثم قال:
غننا يا حطيئة، فطفقت تغنيه بأعراض الناس، قال: يا أمير
المؤمنين، لا أعود، ولا يكون ذلك. قال: فقلت لعبيد الله بن عمر:
سمعت أباك يذكر كذا، فكنت أنت ذلك الفتى. قال أبو هريرة: كانت لنا
أفراس فتناتجت، فقال: قد حبست لك رزقك ومؤونتك، وهذا فضل. قال أبو هريرة: ليس ذلك لك، قال: بك، والله وأوجع
ظهرك! ثم قام إليه بالدرة فضرب ظهره، حتى أدماه،
ثم قال: ائت بها، فلما أحضرها، قال أبو هريرة:
سوف أحتسبها عند الله، قال عمر: ذاك لو أخذتها
من حل، وأديتها طائعاً، أما والله ما رجت فيك أميمة أن
تجبي أموال هجر واليمامة وأقصى البحرين لنفسك؟ لا لله ولا للمسلمين، ولم
ترج فيك أكثر من رعية الحفر. وعزله. وصادر الحارث بن وهب أحد بني ليث بكر بن كنانة،
وقال له:
ما قلاص وأعبد بعتها بمائة دينار قال: خرجت بنفقةٍ لي
فاتجرت فيها، قال: وإنا والله ما بعثناك
للتجارة، أدها، قال: أما والله لا أعمل لك بعدها.
قال: أنا والله لا أستعملك بعدها. ثم صعد
المنبر، فقال: يا معشر الأمراء، إن هذا المال لو
رأينا أنه يحل لنا لأحللناه لكم، فأما إذ لم نره يحل لنا وظلفنا أنفسنا عنه،
فاظلفوا عنه أنفسكم، فإني والله ما وجدت لكم مثلاً إلا عطشان ورد اللجة، ولم
ينظر الماتح فلما روي غرق. والله يا أمير المؤمنين، لو كانت خيانتك لنا حلالاً ما خناك؟
حيث ائتمنتنا، فأقصر عنا عناك، فإن لنا أحساباً إذا رجعنا إليها أغنتنا عن العمل
لك، وأما من كان لك من السابقين الأولين، فهلا
استعملتهم! فوالله ما دققت لك باباً. فقال محمد: إيها يا عمرو! فعمر والله خير منك، وأما أبوك وأبوه ففي النار، ووالله لولا ما دخلت
فيه من الإسلام لألفيت معتلفاً شاة يسرك غزرها، ويسوءك بكؤها. قال: صدقت؟ فاكتم علي. قال: أفعل. فكتب إلى بعض الجند قوم من أهله يستزيرونه، ويتشوقونه، وقد
أخرجه بشر إلى الري فكتب إليهم:
فلما جاء الحجاج قال: كل هذا لعب،
فقتل العصاة بالسيف. فأرسل إلى الزبير، فلما دخل جئت فقمت لأنظر ما يقول
له، فقال: ما حملك على ما صنعت! أدميتني للناس.
فقال الزبير يحكيه ويمطط في
كلامه: أدميتني !، أتحتجب عنا يابن الخطاب! فوالله ما احتجب مني رسول الله، ولا أبو
بكر! فقال عمر كالمعتذر: إني كنت في بعض شأني! قال أسلم: فلما سمعته يعتذر إليه، يئست من أن يأخذ لي بحقي منه. فخرج الزبير، فقال عمر:
إنه الزبير وآثاره ما تعلم! فقلت: حقي حقك! وروى
الزبير بن بكار في كتاب الموفقيات، عن عبد الله بن عباس قال: إني لأماشي عمر بن الخطاب في سكة من
سكك المدينة، إذ قال لي: يابن عباس، ما أرى
صاحبك إلا مظلوماً، فقلت في نفسي: والله لا
يسبقني بها، فقلت: يا أمير المؤمنين، فاردد إليه
ظلامته، فانتزع يده من يدي، ومضى يهمهم ساعة، ثم وقف فلحقته، فقال: يابن
عباس! ما أظنهم منعهم عنه إلا أنه استصغره قومه! فقلت في نفسي: هذه شر من الأولى! فقلت:
والله ما استصغره الله ورسوله حين أمراه أن يأخذ براءة من صاحبك، فأعرض
عني وأسرع، فرجعت عنه. قال: يابن عباس، إني قائل قولاً فخذه إليك، كيف لا أحب فراقهم، وفيهم من هو
فاتح فاه للشهوة من الدنيا، إما لحق لا ينوء به، وإما لباطل لا يناله! والله
لولا أن اسأل عنكم لبرئت منكم فأصبحت الأرض مني بلاقع، ولم
أقل: ما فعل فلان وفلان! جاءت امرأة إلى عمر بن الخطاب، فقالت: يا أمير المؤمنين، إن زوجي يصوم النهار ويقوم الليل، وإني أكره أن أشكوه وهو
يعمل بطاعة الله فقال: نعم الزوج زوجك! فجعلت تكرر عليه القول، وهو يكرر عليها الجواب.
فقال زوجها:
قال كعب:
فقال لعمر: يا أمير المؤمنين، إن الله أحل له من النساء مثنى وثلاث
ورباع، فله ثلاثة أيام ولياليهن، يعبد فيها ربه،
ولها يوم وليلة. فأقبلنا حتى وقفنا عليها، فقال: ما
يبكي هؤلاء الصبيان؟ قالت: الجوع، قال: فما هذا القدر على النار؟ قالت: ماء أعللهم به، قال: انتظريني فإني بالغك إن شاء
الله! ثم خرج يهرول وأنا معه، حتى جئنا دار الدقيق-
وكانت داراً يطرح فيها ما يجيء من دقيق العراق ومصر. وقد كان كتب إلى عمرو بن العاص وأبي
موسى حين أمحلت السنة: الغوث! الغوث! احملوا إلي أحمال الدقيق، واجعلوا
فيها جمائد الشحم. فجاء إلى عدلٍ منها، فطأطأ ظهره، ثم قال: احمله
على ظهري يا أسلم!
فقلت: أنا أحمله عنك! فنظر إلي وقال: أنت تحمل عني وزري
يوم القيامة؟ لا أبالك! قلت: لا، قال: فاحمله على ظهري إذاً، ففعلت، وخرج
به يدلج . وأنا معه؟ حتى ألقاه
عند المرأة. ثم
أنزل القدر، وقال للمرأة: لا تعجلي، لا تعطيهم حاراً، وأنا أسطح
لك، فجعل يسطح بالمسواط، ويبرد طعامهم، حتى إذا شبعوا ترك عندها الفضل، ثم قال لها: ائتي أمير المؤمنين غدا، فإنك عسيت أن تجديني
قريباً منه، فأشفع لك بخير؟ وهي تقول: من
أنت يرحمك الله! وتدعو له وتقول: أنت أولى بالخلافة من أمير المؤمنين؟ فيقول:
قولي خيراً يرحمك الله! لا يزيد على هذا. ومن
كلامه: الرجال ثلاثة: الكامل، ودون الكامل، ولا شيء. فالكامل ذو
الرأي يستشير الناس، فيأخذ من آراء الرجال إلى رأيه، ودون الكامل من يستبد به
ولا يستشير. ولا شيء من لا
رأي له ولا يستشير. وامرأة وعاء
للولد ليس فيها غيره. والثالثة غل
قمل يجعله الله في رقبة من يشاء، ويفكه إذا شاء. قال: فشبب
بأهلك، وإياك وكل مدحة مجحفة. قال: وما المجحفة؟ قال: تقول: إن بني فلان خير
من بني فلان، امدح ولا تفضل أحداً؟ قال: أنت والله يا
أمير المؤمنين أشعر مني! وروى الزبير في
الموفقيات عن عبد الله بن عباس، قال: خرجت أريد
عمر بن الخطاب، فلقيته راكباً حماراً، وقد ارتسنه بحبل أسود، في رجليه
نعلان مخصوفتان، وعليه إزار وقميص صغير، وقد انكشفت منه رجلاه إلى ركبتيه، فمشيت
إلى جانبه، وجعلت أجذب الإزار وأسويه عليه، كلما
سترت جانباً انكشف جانب، فيضحك ويقول: إنه لا يطيعك، حتى جئنا العالية،
فصلينا، ثم قدم بعض القوم إلينا طعاماً من خبز ولحم، وإذا عمر صائم، فجعل ينبذ
إلي طيب اللحم، ويقول: كل لي ولك، ثم دخلنا حائطاً فألقى إلي رداءه، وقال
اكفنيه، وألقى قميصه بين يديه، وجلس يغسله، وأنا أغسل رداءه، ثم جففناهما وصلينا
العصر، فركب ومشيت إلى جانبه، ولا ثالث لنا. قال: يابن عباس، إن صاحبكم إن ولي هذا الأمر أخشى عجبه بنفسه أن يذهب به، فليتني أراكم بعدي! قلت: يا
أمير المؤمنين، إن صاحبنا ما قد علمت؟ إنه ما غير ولا بدل، ولا أسخط رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام صحبته له. ثم أنشأ يسألني عن شيء من أمور الفتيا وأجيبه فيقول: أصبت أصاب الله بك! أنت والله أحق أن تتبع!
أشرف
عبد الملك على أصحابه، وهم يتذاكرون سيرة عمر، فغاظه ذلك، وقال: إيهاً عن ذكر سيرة عمر! فإنها مزراة
على الولاة، مفسدة للرعية. قال ابن عباس: كنت عند عمر، فتنفس نفساً ظننت أن أضلاعه قد انفرجت، فقلت: ما أخرج هذا النفس منك يا أمير المؤمنين إلا هم
شديد! قال: إي والله يا بن عباس! إني فكرت فلم
أدر فيمن أجعل هذا الأمر بعدي! ثم قال: لعلك ترى صاحبك
لها أهلاً! قلت: وما يمنعه من ذلك مع جهاده وسابقته وقرابته وعلمه! قال: صدقت، ولكنه امرؤ فيه دعابة، قلت: فأين أنت عن طلحة! قال: ذو
البأو، بإصبعه المقطوعة! قلت: فعبد الرحمن؟
قال: رجل ضعيف لو صار الأمر إليه لوضع خاتمه في يد
امرأته. قلت: فالزبير؟ قال: شكس لقس يلاطم في النقيع في صاع من بر! قلت: فسعد بن أبي وقاص؟ قال: صاحب
سلاح ومقنب ، قلت: فعثمان؟ قال: أوه! ثلاثاً، والله
لئن وليها ليحملن بني أبي معيط على رقاب الناس، ثم
لتنهض العرب إليه. قال ابن عباس: وكانت والله هي صفات عمر. فقال: يا أمير المؤمنين، إنه مدح قوماً من غطفان، يقال لهم
بنو سنان، فقال:
فقال عمر: والله لقد أحسن، وما أرى هذا المدح
يصلح إلا لهذا البيت من هاشم؟ لقرابتهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال ابن عباس: وفقك الله يا أمير المؤمنين، فلم تزل موفقاً، فقال: يابن عباس، أتدري ما منع الناس منكم؟ قال: لا يا
أمير المؤمنين، قال: لكني أدري، قال: ما هو يا
أمير المؤمنين؟ قال: كرهت قريش أن يجتمع لكم النبوة والخلافة، فيجخفوا جخفاً ، فنظرت قريش لنفسها فاختارت ووفقت فأصابت. وأما قولك: فإن قريشاً اختارت فإن الله تعالى يقول: "وربك يخلف ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة
"، وقد علمت يا أمير المؤمنين أن الله اختار من خلقه لذلك من اختار، فلو نظرت قريش من حيث نظر الله لها لوفقت وأصابت قريش. فقال عمر: على رسلك يابن عباس، أبت
قلوبكم يا بني هاشم إلا غشاً في أمر قريش لا يزول، وحقداً عليها لا يحول،
فقال ابن عباس: مهلاً يا أمير المؤمنين! لا تنسب هاشماً
إلى الغش، فإن قلوبهم من قلب رسول الله الذي طهره الله وزكاه، وهم أهل البيت
الذين قال الله تعالى لهم: "إنما يريد
الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً" ، وأما قولك: حقداً فكيف لا يحقد من غصب شيئه، ويراه في
يد غيره! فقال عمر: أما
أنت يابن عباس، فقد بلغني عنك كلام أكره أن أخبرك به، فتزول منزلتك عندي،
قال: وما هو يا أمير المؤمنين؟ أخبرني به، فإن
يك باطلاً فمثلي أماط الباطل عن نفسه، وإن يك حقاً فإن منزلتي عندك لا تزول به. قال: أما قولك يا أمير المؤمنين: حسداً، فقد حسد إبليس
آدم، فأخرجه من الجنة، فنحن بنو آدم المحسود. وأما
قولك:
ظلماً فأمير المؤمنين يعلم صاحب الحق من هو! ثم قال: يا أمير المؤمنين، ألم تحتج العرب على
العجم بحق رسول الله، واحتجت قريش على سائر العرب بحق رسول الله صلى الله عليه وسلم فنحن أحق برسول الله من سائر قريش. فقام، فلما ولى هتف
به عمر: أيها المنصرف، إني على ما كان منك لراع حقك! فالتفت ابن عباس فقال: إن لي عليك يا أمير المؤمنين
وعلى كل المسلمين حقاً لرسول الله صلى
الله عليه وسلم، فمن حفظه فحق
نفسه حفظ، ومن أضاعه فحق نفسه أضاع. ثم
مضى. لما
توفي عبد الله بن أبي، رأس المنافقين في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاء ابنه
وأهله، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي عليه،
فقام بين يدي الصف يريد ذلك، فجاء عمر فجذبه من خلفه، وقال: ألم ينهك الله أن تصلي
على المنافقين! فقال: إني خيرت فاخترت، فقيل لي:
"استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم
سبعين مرة فلن يغفر الله لهم" ، ولو أني
أعلم أني إذا زدت على السبعين غفر له لزدت. ثم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومشى
معه، وقام على قبره. فقال: يا رسول الله، لي خاصة، أم للناس عامة!
فضرب عمر صدره بيده وقال:
لا، ولا تعمى عين! بل للناس عامة. فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: بل للناس
عامة. وتمالأ عليه
نساؤه غيرة، فقلت له: "عسى ربه إن طلقكن إن
تبدله أزواجاً خيراً منكن " فنزلت بهذا
اللفظ. لما
كتب النبي صلى الله عليه وسلم كتاب الصلح في الحديبية
بينه وبين سهيل بن عمرو، كان
في الكتاب أن من خرج من المسلمين إلى قريش لا يرد، ومن خرج من المشركين إلى
النبي صلى الله عليه وسلم يرد
عليهم، فغضب عمر وقال لأبي بكر: ما هذا يا أبا بكر! أيرد المسلمون إلى المشركين! ثم جاء إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم، فجلس بين
يديه، وقال يا رسول الله، ألست رسول الله حقاً! قال: بلى، قال: ونحن المسلمون
حقاً! قال: نعم، قال: وهم الكافرون حقاً! قال: نعم، قال:
فعلام نعطي الدنية في ديننا! فقال رسول
الله: أنا رسول الله، أفعل ما يأمرني به، ولن يضيعني. وجاء
إلى أبي بكر فقال له: يا أبا بكر، ألم يكن وعدنا أننا
سندخل مكة، فأين ما وعدنا به؟ فقال أبو بكر: أقال لك: إنه العام يدخلها؟ قال: لا، قال: فسيدخلها، فقال: فما هذه الصحيفة التي كتبت؟ وكيف نعطي الدنية من أنفسنا! فقال أبو بكر: يا هذا، الزم غرزه ، فوالله إنه لرسول الله، وإن الله لا
يضيعه. لما قتل المشركون يوم بدر أسر منهم سبعون أسيراً،
فاستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم أبا بكر وعمر، فقال أبو بكر: يا رسول الله، هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان، وأرى أن تأخذ منهم
الفدية، فيكون ما أخذنا منهم قوة لنا على المشركين، وعسى أن يهديهم الله بعد
اليوم، فيكونوا لنا عذراً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تقول أنت يا عمر؟ قال: أرى أن تمكنني من
فلان- قريب لعمر- فأضرب عنقه، وتمكن علياً من عقيل، فيضرب عنقه، وتمكن حمزة
من أخيه فيضرب عنقه، حتى يعلم الله أنه ليس في
قلوبهم هوادة للمشركين. اقتلهم يا رسول الله، فإنهم صناديدهم وقادتهم.
فلم يهو رسول الله ما قاله عمر. وقال أسلم: بعثني عمر بإبل الصدقة إلى الحمى، فوضعت جهازي على ناقة
منها كريمة، فلما أردت أن أصدرها قال: اعرضها علي، فعرضتها عليه، فرأى متاعي على
ناقة حسناء، فقال: لا أم لك! عمدت إلى ناقة تغني أهل بيت من المسلمين! فهلا ابن
لبون بوال، أو ناقة شصوص ! وقيل لعمر: إن هاهنا رجلاً من الأحبار نصرانياً، له
بصر بالديوان، لو اتخذته كاتباً! فقال: لقد اتخذت إذا بطانة من دون المؤمنين! قال، وقد
خطب الناس:
والذي بعث محمداً بالحق لو أن جملاً هلك ضياعاً بشط الفرات، خشيت أن يسأل الله
عنه آل الخطاب.
فقال عمر: اللهم اغفر لي، ثم دعاه فحمله. قال: إنه سألني من مال الله، فما معذرتي إذا لقيته ملكاً خائنا؟
فلو سألني من مالي! ثم بعث إليه بألف درهم من ماله.
فقال عمر: لا حول ولا قوة إلا بالله! ماذا صنعت يا عمر بنساء المدينة!
ثم جاء فقرب على حفصة ابنته، فقالت: ما جاء بك
في هذه الساعة؟ قال: أخبريني كم تصبر المرأة
المغيبة عن بعلها؟ قالت: أقصاه أربعة أشهر. وروى أسلم، قال: كنت مع عمر، وهو يعس بالمدينة، إذ
سمع امرأة تقول لبنتها: قومي يا بنية إلى ذلك اللبن بعد المشرقين فامذقيه
، قالت: أو ما علمت ما كان من عزمة أمير
المؤمنين بالأمس؟ قالت: وما هو؟ قالت: إنه
أمر منادياً ينادي ألا يشاب اللبن بالماء، قالت: فإنك بموضع لا يراك أمير المؤمنين ولا منادي أمير المؤمنين!
قالت: والله ما كنت لأطيعه في الملأ، وأعصيه في الخلاء- وعمر يسمع ذلك- فقال: يا
أسلم، اعرف الباب، ثم مضى في عسه ، فلما أصبح، قال: يا أسلم، امض إلى الموضع،
فانظر من القائلة ومن المقول لها؟ وهل لهما من بعل؟ قال
أسلم: فأتيت الموضع، فنظرت فإذا الجارية أيم ، وإذا المتكلمة بنت لها، ليس لهما
رجل.
وروى محمد بن سيربن أن عمر في آخر أيامه اعتراه نسيان حتى كان ينسى عدد ركعات
الصلاة، فجعل أمامه رجلاً يلقنه، فإذا أومى إليه أن يقوم أو يركع، فعل.
فقال: وأنا لولا ثلاث هن من عيشة الفتى، لم أحفل متى قام عودي؟ أن
أجاهد في سبيل الله، وأن أضع وجهي في التراب لله، وأن أجالس قوماً يلتقطون طيب
القول كما يلتقط طيب التمر. وكان عمر كثير المشاورة، كان يشاور في أمور
المسلمين حتى المرأة. قال
عمر يوماً، والناس حوله:
والله ما أدري أخليفة أنا أم ملك! فإن كنت ملكا، فقد ورطت في أمر عظيم، فقال له
قائل: يا أمير المؤمنين إن بينهما فرقاً، وإنك إن شاء الله لعلي خير، قال: كيف؟
قال: إن الخليفة لا يأخذ إلا حقاً ولا يضعه إلا في حق، وأنت بحمد الله كذلك،
والملك يعسف الناس ويأخذ مال هذا فيعطيه هذا. فسكت عمر وقال: أرجو أن أكونه. وروى يوسف بن يعقوب الماجشون، قال: قال لي وابن شهاب ولأخ لي ابن عم لنا،
ونحن صبيان أحداث: لا تحتقروا أنفسكم لحداثة
أسنانكم، فإن عمر كان إذا نزل به الأمر المعضل، دعا الصبيان فاستشارهم، يبتغي
حدة عقولهم. وروى الحسن، قال: كان رجل لا يزال يؤخذ من لحية عمر
شيئاً فأخذ يوماً من لحيته؟ فقبض على يده فإذا هو ليس فيها شيء، فقال: إن الملق
من الكذب ثم علاه بالدرة .
فقال عمر: إن لم أفعل، يكون ماذا؟ قال: إذا أبا حفص لأمضينه فقال: إذا
مضيت يكون ماذا؟ قال:
فبكى عمر، ثم قال لغلامه: أعطه قميصي هذا لذلك اليوم، لا
لشعره، والله ما أملك ثوباً غيره.
فأنشدته حتى برق الفجر، فقال: إيهاً الآن اقرأ يا عبد الله، قلت:
ما أقرأ؟ قال: سورة الواقعة. سمع
عمر سائلاً يقول: من يعشي السائل؟ فقال: عشوا سائلكم،
ثم جاء إلى دار إبل الصدقة يعشيها، فسمع صوته مرة
أخرى: من يعشي السائل؟ فقال: ألم
آمركم أن تعشوه! فقالوا: قد عشيناه، فأرسل إليه
عمر، وإذا معه جراب مملوء خبزاً، فقال: إنك
لست سائلاً، إنما أنت تاجر تجمع لأهلك، فأخذ بطرف الجراب فنبذه بين يدي الإبل. ولن يعطى أحد بعد الإيمان بالله خيراً من زوجة
كريمة ودود ولود، حسنة الخلق. وإذا تكبر
وعتا وهضه الله إلى الأرض، وقال: اخسأ، خسأك الله! فهو في نفسه عظيم، وفي أعين
الناس حقير، حتى يكون عندهم أحقر من الخنزير. ولا يتركه حياء من طلبه، ولا زهادة فيه، ولا
رضا بالجهل بدلاً منه. وقال:
تعلموا أنسابكم تصلوا أرحامكم. وأخرى
وعاء
للولد لا تزيد على ذلك شيئاً، والثالثة غل قمل،
يجعله الله في عنق من يشاء، وينزعه إذا شاء. وإنه يكون في
الرجل تسعة أخلاق حسنة، وخلق واحد سعى، فيغلب الواحد التسعة، فتوق عزات السيئات. وقال:
الراحة في مهاجرة خلطاء السوء. وقال:
لأن أموت بين شعبتي رحلي، أسعى في الأرض، أبتغي من فضل الله كفاف وجهي، أحب إلي
من أن أموت غازياً. إياكم
أن تنتهوا عن آية الرجم، وأن يقول قائل: لا نجد ذلك
حداً في كتاب الله، فقد رأيت رسول الله رجم ورجمنا
بعده، ولولا أن يقول الناس: إن ابن الخطاب
أحدث آية في كتاب الله لكتبتها، ولقد كنا نقرؤها: "والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة"؟
فما انسلخ ذو الحجة حتى طعن. وأول من حمل الدرة وأدب بها. وقيل
بعده: كانت درة عمر أهيب من سيف الحجاج. وهو أول من مصر الأمصار، وكوف الكوفة، وبصر
البصرة، وأنزلها العرب، أول من استقفى القضاة في الأمصار، وأول من دون الدواوين،
وكتب الناس على قبائلهم، وفرض لهم الأعطية، وهو
وأول من قاسم العمال وشاطرهم أموالهم، وكان يستعمل قوماً ويدع أفضل منهم
لبصرهم بالعمل، وقال: أكره أن أدنس هؤلاء
بالعمل. وهو
الذي هدم مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزاد فيه، وأدخل دار العباس فيما
زاد. وهو
الذي أخرج اليهود من الحجاز، وأجلاهم عن جزيرة العرب إلى الشام. وهو الذي فتح
البيت المقدس، وحضر الفتح بنفسه. وهو
الذي أخر المقام إلى موضعه اليوم، وكان ملصقاً بالبيت. وحج بنفسه
خلافته كلها إلا السنة الأولى، فإنه استخلف على الحج
عبد الرحمن ابن عوف. وهو الذي جاء
بالحمى من العقيق فبسطه في مسجد المدينة، وكان الناس إذا رفعوا رؤوسهم من السجود
نفضوا أيديهم. وروى
أبو هريرة، قال: قدمت على عمر من عند أبي موسى بثمانمائة
ألف درهم؟ فقال لي: بماذا قدمت؟ قلت: بثمانمائة ألف درهم، فقال: ألم أقل لك إنك يمانٍ أحمق، ويحك! إنما قدمت بثمانين
ألف درهم، فقلت: يا أمير المؤمنين إنما قدمت بثمانمائة
ألف درهم، فجعل يعجب ويكررها، فقال: ويحك! وكم
ثمانمائة ألف درهم؟ فعددت مائة ألف، ومائة ألف حتى بلغت ثمانية، فاستعظم ذلك، وقال: أطيب هو ويحك! قلت: نعم، فبات عمر
ليلته تلك أرقا حتى إذا نودي لصلاة الصبح، قالت له
امرأته: ما نمت هذه الليلة، قال: وكيف أنام وقد جاء الناس ما لم يأتهم
مثله منذ قام الإسلام، فظنت المرأة أنها داهية،
فسألته، فقال: مال جم، حمله أبو موسى، قالت:
فما بالك؟ قال: ما يؤمنني لو مت وهذا المال عندي لم أضعه في حقه! فخرج يصلي الصبح، واجتمع الناس إليه، فقال لهم: قد رأيت في هذا المال رأياً فأشيروا علي، رأيت أن أكيله للناس
بالمكيال، قالوا: لا يا أمير المؤمنين، قال: لا بل أبدأ برسول الله صلى الله عليه وسلم وبأهله،
ثم الأقرب فالأقرب،
فبدأ ببني هاشم، ثم ببني المطلب، ثم بعبد شمس ونوفل، ثم بسائر بطون قريش. فوقف
عمر معها ولم يمض، وقال: مرحباً بنسيب قريب! ثم انصرف إلى بعير
ظهير كان مربوطاً في الدار، فحمل عليه غرارتين ملأهما طعاماً، وجعل بينهما نفقة
وثياباً، ثم ناولها خطامه وقال: اقتاديه فلن يفنى هذا حتى يأتيكم الله بخير. فقال له رجل:
لقد أكثرت لها يا أمير المؤمنين! فقال: ثكلتك أمك!
والله لكأني أرى أبا هذه وأخاها، وقد حاصرا حصناً فافتتحاه. فافترقنا، ثم أصبحنا
نستقرئ سهماننا فيه. خرج عمر إلى
الشام، حتى إذا كان ببعض الطريق، لقيه أمراء الأجناد: أبو
عبيدة بن الجراح وأصحابه، فأخبروه أن الوباء قد
وقع بالشام، فقال لابن عباس: ادع لي المهاجرين،
فدعاهم فسألهم، فاختلفوا عليه، فقال بعضهم:
خرجت لأمر ولا نرى أن ترجع عنه. وقال بعضهم: معك بقية الناس وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا
نرى أن تقدمهم على هذا الوباء، فقال: ارتفعوا عني،
ثم قال لابن عباس: ادع لي الأنصار، فدعاهم فاستشارهم، فاختلفوا عليه
اختلاف المهاجرين، فقال لابن عباس: ادع لي من كان من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح، فدعاهم
فقالوا بأجمعهم: نرى أن ترجع بالناس ولا تقدمهم على هذا الوباء، فنادى عمر في الناس: إني مصبح على ظهر، فأصبحوا عليه، فقال له أبو عبيدة بن الجراح: أفراراً من قدر الله
تعالى! فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة! نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كان لك
إبل فهبطت وادياً له عدوتان، إحداهما خصبة، والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة
رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله! فجاء عبد الرحمن بن عوف- وكان متغيباً في بعض
حاجته- فقال: إن عندي من هذا علماً، سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم، يقول: "إذا سمعتم به
بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه ". فحمد عمر الله
عز وجل وانصرف إلى المدينة. وروى
ابن عباس، قال: خرجت مع عمر إلى الشام في إحدى
خرجاته، فانفرد يوماً يسير على بعيره فاتبعته، فقال لي: يابن عباس، أشكو إليك
ابن عمك، سألته أن يخرج معي فلم يفعل، ولم أزل أراه واجداً، فيم تظن موجدته؟
قلت: يا أمير المؤمنين، إنك لتعلم، قال: أظنه لا يزال
كئيباً لفوت الخلافة، قلت: هو ذاك، إنه يزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد الأمر له، فقال: يا بن عباس، وأراد رسول الله صلى
الله عليه وسلم الأمر له فكان ماذا إذا لم يرد الله تعالى ذلك! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أمراً، وأراد الله غيره، فنفذ مراد
الله تعالى ولم ينفذ مراد رسوله، أو كلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان!
إنه أراد إسلام عمه ولم يرده الله فلم يسلم!
وقد روي معنى
هذا الخبر بغير هذا اللفظ، وهو قوله: إن رسول الله
صلى الله عليه وسلم أراد
أن يذكره للأمر في مرضه، فصددته عنه خوفاً من الفتنة،
وانتشار أمر الإسلام، فعلم رسول الله ما في نفسي
وأمسك، وأبى الله إلا إمضاء ما حتم. قلت: من هو؟ فقال: هذا ابن عمك- يعني علياً- قلت: وما يقصد بالرياء
يا أمير المؤمنين؟ قال: يرشح نفسه بين الناس للخلافة، قلت:
وما يصنع بالترشيح! قد رشحه لها رسول الله صلى
الله عليه وسلم
فصرفت عنه. قال: إنه كان
شاباً حدقاً، فاستصغرت العرب سنه، وقد كمل الآن، ألم تعلم أن الله تعالى لم يبعث
نبياً إلا بعد الأربعين! قلت: يا أمير
المؤمنين، أما أهل الحجى والنهى فإنهم ما زالوا يعدونه
كاملاً منذ رفع الله منار الإسلام، ولكنهم
يعدونه محروماً مجدوداً، فقال: أما إنه
سيليها بعد هياط ومياط ، ثم تزل فيها قدمه، ولا يقضي منها أربه، ولتكونن شاهداً
ذلك يا عبد الله، ثم يتبين الصبح لذي عينين، وتعلم العرب صحة رأي المهاجرين
الأولين الذين صرفوها عنه بادئ بدء، فليتني أراكم بعدي يا عبد الله! إن الحرص محرمة، وإن دنياك كظلك، كلما هممت به
ازداد عنك بعداً. ونقلت
منه أيضاً ما رواه عن ابن عباس، قال: تبرم عمر
بالخلافة في آخر أيامه، وخاف العجز، وضجر من سياسة الرعية، فكان لا يزال يدعو
الله بأن يتوفاه. فقال لكعب الأحبار يوماً وأنا عنده:
إني قد أحببت أن أعهد إلى من يقوم بهذا الأمر؟ وأظن وفاتي قد دنت، فما تقول في علي؟ أشر علي في رأيك وأذكرني ما تجدونه
عندكم، فإنكم تزعمون أن أمرنا هذا مسطور في كتبكم، فقال:
أما من طريق الرأي فإنه لا يصلح؟ إنه رجل متين الدين، لا يغضي على عورة،
ولا يحلم عن زلة، ولا يعمل باجتهاد رأيه، وليس هذا من سياسة الرعية في شيء، وأما ما نجذه في كتبنا فنجده لا يلي الأمر ولا ولده، وإن
وليه كان هرج شديد، قال: كيف ذاك؟ قال:
لأنه أراق الدماء، فحرمه الله الملك، إن داود لما أراد أن يبني حيطان بيت المقدس
أوحى الله إليه: إنك لا تبنيه، لأنك أرقت الدماء، وإنما يبنيه سليمان. فقال عمر: أليس بحق أراقها؟ قال
كعب: وداود بحق أراقها يا أمير المؤمنين. قال: فإلى من
يفضي الأمر تجدونه عندكم؟ قال: نجده ينتقل بعد صاحب الشريعة والاثنين من أصحابه، إلى أعدائه الذين حاربهم وحاربوه، وحاربهم على
الدين. فاسترجع عمر مراراً،
وقال: أتستمع يابن عباس! أما والله لقد سمعت من رسول الله ما يشابه هذا، سمعته يقول:
"ليصعدن بنوامية على منبري، ولقد أريتهم في منامي ينزون عليه نزو
القردة" وفيهم أنزل: "وما جعلنا
الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن" . وقد روى
الزبير بن بكار في الموفقيات ما يناسب هذا عن المغيرة بن شعبة، قال:
قال لي عمر يوماً: يا مغيرة، هل أبصرت بهذه عينك العوراء منذ أصيبت؟ قلت:
لا، قال: أما والله
ليعورن بنو أمية الإسلام كما أعورت عينك هذه، ثم ليعمينه حتى لا يدري أين يذهب ولا أين يجيء. قلت:
ثم ماذا يا أمير المؤمنين؟ قال: ثم يبعث الله تعالى بعد
مائة وأربعين أو بعد مائة وثلاثين وفداً كوفد الملوك، طيبة ريحهم، يعيدون إلى
الإسلام بصره وشتاته. قلت: من هم يا
أمير المؤمنين؟ قال: حجازي وعراقي، وقليلاً ما كان، وقليلاً ما دام. قلت:
سألت النقيب أبا جعفر يحيى بن محمد بن أبي زيد- وقد قرأت عليه هذه الأخبار- فقلت
له:
ما أراها إلا تكاد تكون دالة على النص، ولكني أستبعد أن يجتمع الصحابة على دفع نص رسول الله صلى الله عليه وسلم على شخص بعينه، كما استبعدنا من الصحابة على رد نصه على الكعبة وشهر رمضان وغيرهما من معالم الدين،
فقال لي رحمه الله: أبيت إلا ميلاً إلى المعتزلة! ثم
قال: إن القوم لم يكونوا يذهبون في الخلافة إلى
أنها من معالم الدين، وأنها جارية مجرى العبادات الشرعية، كالصلاة والصوم، ولكنهم كانوا يجرونها مجرى الأمور الدنيوية، ويذهبون
لهذا، مثل تأمير الأمراء وتدبير الحروب وسياسة الرعية، وما
كانوا يبالون في أمثال هذا من مخالفة نصوصه إذا رأوا المصلحة في غيرها؟ ألا تراه كيف نص على إخراج أبي بكر وعمر في جيش أسامة،
ولم يخرجا لما رأيا أن في مقامهما مصلحة
للدولة وللملة، وحفظاً للبيضة ، ودفعا للفتنة، وقد كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم
يخالف وهو حي في أمثال ذلك فلا ينكره، ولا يرى به بأساً. ألست
تعلم أنه نزل في غزاة بدر منزلاً على أن يحارب قريشاً فيه، فخالفته الأنصار
وقالت له: ليس الرأي في نزولك هذا المنزل فاتركه، وانزل في
منزل كذا، فرجع إلى آرائهم وهو الذي قال للأنصار عام قدم إلى المدينة:
"لا تؤبروا النخل "، فعملوا على قوله فحالت
نخلهم في تلك السنة ولم تثمر حتى قال لهم: "أنتم
أعرف بأمر دنياكم وأنا أعرف بأمر دينكم"، وهو
الذي أخذ الفداء من أسارى بدر، فخالفه عمر، فرجع إلى تصويب رأيه بعد أن فات الأمر وخلص الأسرى ورجعوا
إلى مكة، وهو الذي أراد أن يصالح الأحزاب على ثلث تمر المدينة ليرجعوا
عنه، فأق سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فخالفاه، فرجع إلى قولهما، وقد كان قال لأبي هريرة: اخرج فناد في الناس: "من قال لا إله إلا الله مخلصاً بها قلبه دخل
الجنة"، فخرج أبو هريرة فأخبر عمر بذلك فدفعه في صدره، حتى وقع على
الأرض، فقال: لا تقلها، فإنك إن تقلها
يتكلوا عليها، ويدعوا العمل، فأخبر أبو هريرة رسول
الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال: "لا تقلها وخلهم يعملون". فرجع
إلى قول عمر! وقد أطبقت الصحابة إطباقاً واحداً على
ترك كثير من النصوص لما رأوا المصلحة في ذلك، كإسقاطهم
سهم ذوي القربى وإسقاط سهم المؤلفة قلوبهم، وهذان الأمران أدخل في باب الدين منهما في باب الدنيا، وقد عملوا
بآرائهم أموراً لم يكن لها ذكر في الكتاب والسنة، كحد الخمر
فإنهم عملوه اجتهاداً، ولم يحد رسول الله صلى الله عليه وسلم شاربي
الخمر، وقد شربها الجم الغفير في زمانه بعد نزول
آية التحريم، ولقد كان أوصاهم في مرضه أن أخرجوا
نصارى نجران من جزيرة العرب فلم يخرجوهم، حتى
مضى صدر من خلافة عمر، وعملوا في أيام أبي بكر برأيهم في ذلك باستصلاحهم، وهم
الذين هدموا المسجد بالمدينة، وحولوا المقام بمكة، وعملوا بمقتضى ما يغلب في
ظنونهم من المصلحة، ولم يقفوا مع موارد النصوص، حتى
اقتدى بهم الفقهاء من بعد، فرجح كثير منهم القياس على النص، حتى استحالت
الشريعة، وصار أصحاب القياس أصحاب شريعة جديدة. قال:
وأما مخالفتهم له فيما هو محض الشرع والدين،
وليس بمتعلق بأمور الدنيا وتدبيراتها، فإنه يقل جداً، نحو
أن يقول: "الوضوء شرط في الصلاة"
فيجمعوا على رد ذلك ويجيزوا الصلاة من غير وضوء، أو يقول: "صوم شهر رمضان واجب"، فيطبقوا على
مخالفة ذلك ويجعلوا شوالاً عوضاً عنه، فإنه بعيد، إذ لا غرض لهم فيه، ولا يقدرون على إظهار مصلحة عثروا عليها
خفيت عنه عتنه. والقوم الذين كانوا قد غلب على ظنونهم أن العرب لا تطيع علياً رضي
الله عنه، فبعضها للحسد، وبعضها للوتر والثأر، وبعضها
لاستحداثهم سنه، وبعضها لاستطالته عليهم ورفعه
عنهم، وبعضها كراهة اجتماع النبوة والخلافة في
بيت واحد، وبعضها للخوف من شدة وطأته وشدته في
دين الله، وبعضها خوفاً لرجاء تداول قبائل العرب
الخلافة إذا لم يقتصر بها على بيت مخصوص عليه، فيكون رجاء كل حي لوصولهم إليها
ثابتاً مستمراً، وبعضها ببغضه، لغضهم من قرابته
لرسول الله صلى الله عليه وسلم -وهم
المنافقون من الناس، ومن في قلبه زيغ من أمر النبوة- فأصفق الكل إصفاقاً واحداً
على صرف الأمر عنه لغيره، وقال رؤساؤهم: إنا
خفنا الفتنة، وعلمنا أن العرب لا تطيعه ولا تتركه، وتأولوا عند أنفسهم النص، ولا
ينكر النص، وقالوا: إنه النص، ولكن الحاضر يرى
ما لا يرى الغائب، والغائب قد يترك لأجل المصلحة الكلية، وأعانهم على ذلك مسارعة الأنصار إلى ادعائهم الأمر،
وإخراجهم سعد بن عبادة من بيته وهو مريض، لينصبوه خليفة- فيما زعموا- واختلط
الناس، وكثر الخبط، وكادت الفتنة أن تشتعل نارها، فوثب رؤساء المهاجرين، فبايعوا أبا بكر وكانت فلتة- كما قال قائلهم- وزعموا أنهم
أطفأوا بها نائرة الأنصار، فمن سكت من المسلمين، وأغضى ولم يتعرض، فقد
كفاهم أمر نفسه، ومن قال سراً أو جهراً: إن
فلانا قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكره،
أو نص عليه أو أشار إليه، أسكتوه في الجواب؟ بأنا بادرنا إلى عقد البيعة مخافة
الفتنة، واعتذروا عنده ببعض ما تقدم، إما أنه حديث السن أو تبغضه العرب،
لأنه وترها وسفك دماءها، أو لأنه صاحب زهو وتيه،
أو كيف تجتمع النبوة والخلافة في مغرس واحد! بل قد
قالوا في العذر ما هو أقوى من هذا وأوكد، قالوا: أبو بكر أقوى على هذا الأمر منه، لا سيما وعمر يعضده ويساعده، والعرب
تحب أبا بكر ويعجبها لينه ورفقه، وهو شيخ مجرب للأمور لا يحسده أحد، ولا يحقد
عليه أحد، ولا يبغضه أحد، وليس بذي شرف في النسب فيشمخ على الناس بشرفه، ولا بذي
قربى من الرسول فيدل بقربه، ودع ذا كله،
فإنه فضل مستغنى عنه. قالوا: لو نصبنا علياً رضي الله عنه، ارتد الناس عن الإسلام
وعادت الجاهلية كما كانت، فأيما أصلح في الدين؟ الوقوف مع النص المفضي إلى
ارتداد الخلق ورجوعهم إلى الأصنام والجاهلية أم العمل بمقتضى الأصلح واستبقاء
الإسلام واستدامة العمل بالدين، وإن كان فيه مخالفة النص! قال
رحمه الله: وسكت الناس عن الإنكار، فإنهم كانوا متفرقين، فمنهم من هو مبغض شانئ لعلي رضي الله عنه، فالذي
تم من صرف الأمر عنه هو قرة عينه، وبرد فؤاده، ومنهم ذو الدين وصحة اليقين، إلا أنه لما رأى كبراء الصحابة قد اتفقوا على صرف الأمر عنه،
ظن أنهم إنما فعلوا ذلك لنص سمعوه من رسول الله صلى
الله عليه وسلم ينسخ ما قد كان سمعه من النص
على أمير المؤمنين، لا سيما ما رواه أبو بكر من قول النبي صلى
الله عليه وسلم
"الأئمة من قريش"، فإن كثيراً من الناس توهموا أنه ناسخ للنص الخاص، وأن معنى الخبر أنكم مباحون في نصب إمامٍ من قريش، من أي
بطون قريش كان، فإنه يكون إماماً. وقالوا: هؤلاء
أعرف بأعراض رسول الله صلى الله عليه وسلم من
كل أحد، فامسكوا وكفوا عن الإنكار، ومنهم فرقة أخرى- وهم الأكثرون- أعراب وجفاة، وطغام أتباع كل ناعق،
يميلون مع كل ريح، فهؤلاء مقلدون لا يسألون ولا
ينكرون، ولا يبحثون، وهم مع أمرائهم وولاتهم، لو أسقطوا عنهم الصلاة الواجبة
لتركوها، فلذلك أمحق النص، وخفي ودرس، وقويت كلمة العاقدين لبيعة أبي
لكر، وقواها زيادة على ذلك اشتغال علي وبني هاشم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإغلاق بابهم
عليهم، وتخليتهم الناس يعملون ما شاؤوا وأحبوا، من غير مشاركة لهم فيما هم فيه، لكنهم أرادوا استدراك ذلك بعد ما فات، وهيهات الفائت لارجعة
له! وأراد علي رضي الله عنه بعد
ذلك نقض البيعة، فلم يتم له ذلك، وكانت العرب لا ترى
الغدر، ولا تنقض البيعة صواباً كانت أو خطأ، وقد
قالت له الأنصار وغيرها: أيها الرجل، لو دعوتنا إلى نفسك قبل البيعة لما
عدلنا بك أحداً، ولكنا قد بايعنا، فكيف السبيل إلى نقض
البيعة بعد وقوعها! قال النقيب: ومما جرأ عمر على بيعة أبي بكر والعدول عن علي- مع ما كان
يسمعه من الرسول صلى الله عليه وسلم في أمره- أنه أنكر مراراً على الرسول صلى الله عليه وسلم أموراً
اعتمدها فلم ينكر عليه رسول الله إنكاره، بل رجع في كثير منها إليه،
وأشار عليه بأمور كثيرة نزل القرآن فيها بموافقته، فأطمعه
ذلك في الإقدام على اعتماد كثيرٍ من الأمور
التي كان يرى فيها المصلحة، مما هي خلاف النص، وذلك نحو إنكاره عليه في الصلاة
على عبد الله بن أبي المنافق، وإنكاره فداء أسارى بدر، وإنكاره عليه تبرج نسائه
للناس، وإنكاره قضية الحديبية، وإنكاره أمان العباس لأبي سفيان بن حرب، وإنكاره
واقعة أبي حذيفة بن عتبة، وإنكاره أمره بالنداء: "من قال لا إله إلا
الله دخل الحنة"، وإنكاره أمره لذبح النواضح ، وإنكاره على النساء بحضرة
رسول الله صلى الله عليه وسلم، هيبتهن
له دون رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غيرذلك من أمور كثيرة تشتمل عليها كتب الحديث، ولو لم يكن إلا إنكاره قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في
مرضه: "ائتوني بدواة وكتفٍ" أكتب لكم ما
لا تضلون بعدي"، وقوله ما قال، وسكوت رسول صلى الله عليه وسلم عنه.
وأعجب
الأشياء أنه قال ذلك اليوم: حسبنا كتاب الله، فافترق
الحاضرون من المسلمين في الدار، فبعضهم يقول:
القول ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعضهم يقول: القول ما قال عمر، فقال رسول الله وقد كثر اللغط، وعلت الأصوات: "قوموا عني فما ينبغي لنبي أن يكون عنده هذا
التنازع"! فهل
بقي للنبوة مزية أو فضل إذا كان الاختلاف قد وقع بين القولين، وميل المسلمون بينهما،
فرجح قوم هذا، وقوم هذا! فليس ذلك دالاً على أن القوم سووا بينه وبين
عمر، وجعلوا القولين مسألة خلاف، ذهب كل فريق إلى نصرة واحد منهما، كما يختلف
اثنان من غرض المسلمين في بعض الأحكام، فينصر قوم هذا وينصر ذاك آخرون، فمن بلغت
قوته وهمته إلى هذا، كيف ينكر منه أنه يبايع أبا
بكر لمصلحة رآها، ويعدل عن النص! ومن الذي كان ينكر عليه ذلك، وهو في
القول الذي قاله للرسول صلى الله عليه وسلم في
وجهه غير خائف من الأنصار، ولا ينكر عليه أحد، لا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا
غيره، وهو أشد من مخالفة النص في الخلافة وأفظع وأشنع. قلت للنقيب: أيصح النسخ في مثل هذا؟ أليس
هذا نسخاً للشيء قبل تقضي وقت فعله؟ فقال: سبحان الله! من أين تعرف العرب
هذا؟ وأني لها أن تتصوره فضلاً عن أن تحكم بعدم جوازه! فهل يفهم حذاق الأصوليين هذه المسألة، فضلاً عن حمقى العرب!
هؤلاء قوم ينخدعون بأدنى شبهة، ويستمالون بأضعف سبب، وتبنى الأمور معهم على
ظواهر النصوص وأوائل الأدلة، وهم أصحاب جهل وتقليد، لا
أصحاب تفضيل ونظر! قال: ثم أكد حسن ظن
الناس بهم أنهم أطلقوا أنفسهم عن الأموال، وزهدوا في متاع الدنيا وزخرفها،
وسلكوا مسلك الرفض لزينتها، والرغبة عنها والقناعة بالطفيف النزر منها، وأكلوا
الخشن، ولبسوا الكرابيس، ولما ألقت إليهم الدنيا أفلاذ كبدها، وفرقوا الأموال
على الناس، وقسموها بينهم، ولم يتدنسوا منها بقليل ولا كثير، فمالت إليهم
القلوب، وأحبتهم النفوس، وحسنت فيهم الظنون، وقال من
كان في نفسه شبهة منهم، أو وقفة في أمرهم: لو كان هؤلاء قد خالفوا النص
لهوى أنفسهم لكانوا أهل الدنيا، ولظهر عليهم الميل إليها، والرغبة فيها،
والاستئثار بها. وكيف يجمعون على أنفسهم مخالفة النص، وترك
لذات الدنيا ومآربها، فيخسروا الدنيا والآخرة! وهذا لا يفعله عاقل، والقوم عقلاء ذوو ألباب وآراء صحيحة،
فلم يبق عند أحد شك في أمرهم ولا ارتياب لفعلهم، وثبتت العقائد على ولايتهم،
وتصويب أفعالهم، ونسوا لذة الرياسة، وإن أصحاب الهمم العالية لا يلتفتون إلى
المأكل والمشرب والمنكح، وإنما يريدون الرياسة
ونفوذ الأمر، كما قال الشاعر:
قال رحمه الله: والفرق
بين الرجلين وبين الثالث، ما أصيب به الثالث، وقتل
تلك القتلة، وخلعه الناس وحصروه، وضيقوا عليه، بعد أن تواك إنكارهم أفعاله،
وجبهوه في وجهه وفسقوه، وذلك لأنه استأثر هو وأهله
بالأموال، وانغمسوا فيها واستبدوا بها، فكانت طريقته وطريقتهم مخالفة لطريق
الأولين، فلم تصبر العرب على ذلك، ولو كان عثمان سلك طريق عمر في الزهد،
وجمع الناس، وردع الأمراء والولاة عن الأموال، وتجنب استعمال أهل بيته، ووفر
أعراض الدنيا وملاذها وشهواتها على الناس، زاهداً فيها، تاركاً لها، محرضاً
عنها، لما ضره شيء قط، ولا أنكر عليه أحد قط،
ولو حول الصلاة من الكعبة إلى بيت المقدس، بل لو أسقط عن الناس إحدى الصلوات
الخمس، واقتنع منهم بأربع، وذلك لأن همم الناس
مصروفة إلى الدنيا والأموال، فإذا وجدوها سكتوا، وإذا فقدوها هاجوا واضطربوا،
ألست ترى رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف قسم غنائم هوازن
على المنافقين، وعلى أعدائه الذين يتمنون قتله وموته، وزوال دولته، فلما أعطاهم
أحبوه، إما كلهم أو أكثرهم،
ومن لم يحبه منهم بقلبه جامله وداراه، وكف عن إظهار عداوته، والإجلاب عليه
ولو أن علياً صانع أصحابه بالمال، وأعطاه الوجوه
والرؤساء، لكان أمره إلى الانتظام والاطراد أقرب،
ولكنه رفض جانب التدبير الدنيوي، وآثر لزوم الدين،
وتمسك بأحكام الشريعة، والملك أمر آخر غير
الدين، فاضطرب عليه أصحابه، وهرب كثير منهم
إلى عدوه. من
عبد الله أمير المؤمنين عمر إلى عبد الله بن قيس. سلام عليك،
أما بعد، فإن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة، فافهم إذا أدلي إليك، فإنه لا ينفع
تكلم بحق لا نفاد له. آس
بين الناس في وجهك وعدلك ومجلسك، حتى لا يطمع شريف في حيفك ، ولا ييأس ضعيف من
عدلك. البينة على من ادعى واليمين على من أنكر،
والصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحاً أحل
حراماً، أو حرم حلالاً، لا يمنعنك قضاء قضيته اليوم فراجعت
فيه عقلك، وهديت فيه لرشدك، أن ترجع إلى الحق،
فإن الحق قديم، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل. الفهم الفهم فيما
تلجلج في صدرك مما ليس في كتاب ولا سنة، ثم اعرف الأشباه والأمثال، وقس الأمور
عند ذلك، واعمد إلى أقربها إلى الله عز وجل، وأشبهها بالحق، واجعل لمن ادعى حقاً
غائباً أو بينة أمداً ينتهى إليه، فإن أحضر بينته أخذت له بحقه، وإلا استحللت
عليه القضية، فإنه أنفى للشك وأجلى للعمى. المسلمون عدول بعضهم على بعض، إلا مجلوداً في
حد أو مجرباً عليه شهادة زور، أو ظنيناً في ولاء أو نسب، فإن الله عز وجل تولى
منكم السرائر، ودرأ عنكم بالبينات والأيمان الشبهات. إياك والغلق والضجر والتأذي
بالخصوم، والتنكر عند الخصومات، فإن الحق في مواطن الحق يعظم الله به الأجر،
ويحسن به الذخر، فمن صحت نيته، وأقبل على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس،
ومن تخلق للناس بما يعلم الله عز وجل منه أنه ليس من نفسه، شانه الله، فما ظنك
بثواب الله في عاجل رزقه، وخزائن رحمته والسلام. وحاسب نفسك في
الرخاء قبل حساب الشدة، فإنه من حاسب نفسه في الرخاء قبل حساب الشدة كان مرجعه
إلى الرضا والغبطة، ومن ألهته حياته، وشغلته أهواؤه، عاد أمره إلى الندامة
والحسرة، إنه لا يقيم أمر الله في الناس إلا خصيف العقدة بعيد القرارة لا يحنق
على جرة، ولا يطلع الناس منه على عورة، ولا يخاف في الحق لومة لائم. الزم
أربع خصال يسلم لك دينك وتحيط بأفضل حظك: إذا حضر
الخصمان فعليك بالبينات العدول والأيمان القاطعة، ثم ائذن للضعيف حتى ينبسط
لسانه، ويجترئ قلبه، وتعاهد الغريب، فإنه إذا طال حبسه ترك حاجته وانصرف إلى
أهله، واحرص على الصلح ما لم يبن لك القضاء، والسلام عليك. فقضيت عليه، وكتبت إلى عمالي: أما بعد فإياكم والهدايا، فإنها
من الرشا. ثم لم أقبل له هدية فيما بعد، ولا لغيره. وقال
أبو جعفر: وكان عمر إذا أراد أن ينهي الناس عن شيء جمع أهله،
فقال: إني عسيت أن أنهى الناس عن كذا، وإن
الناس ينظرون إليكم نظر الطير إلى اللحم، واقسم بالله لا أجد أحداً منكم يفعل
إلا أضعفت عليه العقوبة. وروى
جابر بن عبد الله، قال: قال رجل لعمر: يا خليفة الله، قال:
خالف الله بك، قال: جعلني الله فداك! قال: إذن
يهينك الله. فقال
الوليد بن هشام بن المغيرة: يا أمير المؤمنين، قد جئت
الشام فرأيت ملوكها قد دونوا ديواناً، وجندوا جنوداً، وفرضوا لهم أرزاقاً. فأخذ
بقوله؟ فدعا عقيل بن أبي طالب ومخرمة بن نوفل وجبير
بن مطعم- وكانوا نساب قريش- وقال: اكتبوا الناس على منازلهم، فكتبوا
فبدأوا ببني هاشم، ثم أتبعوهم أبا بكر وقومه، ثم عمر وقومه، على ترتيب الخلافة؟ فلما نظر إليه قال: وددت أنه كان هكذا، لكن ابدأ
بقرابة النبي عليه، الأقرب فالأقرب، حتى تضعوا عمر
حيث وضعه الله. قال: أو خليفة
أبي بكر، خليفة رسول الله صلى الله عليه
وسلم،
قالوا: وذاك، فلو جعلت نفسك حيث جعلك هؤلاء القوم! فقال:
بخ بخ يا بني عدي! أردتم الأكل على ظهري، وأن أذهب حسناتي لكم! لا والله ولو
كتبتم آخر الناس، إن لي صاحبين سلكا طريقاً، فإن أنا خالفتهما خولف بي، والله ما
أدركنا الفضل في الدنيا إلا بمحمد، ولا نرجو ما نرجو من الآخرة وثوابها إلا
بمحمد صلى الله عليه وسلم، فهو شرفنا، وقومه أشرف العرب ثم الأقرب منه فالأقرب، وما بيننا
وبين أن نلقاه ثم لا نفارقه إلى آدم إلا آباء يسيرة،
والله لئن جاءت الأعاجم بالأعمال، وجئنا بغير عمل فإنهم أولى بمحمد صلى
الله عليه وسلم
منا
يوم القيامة. لا ينظرن رجل
إلى قرابته، وليعمل بما عند الله؟ فإن من قصر به عمله
لم يسرع به نسبه. وقالت الشفاء
ابنة عبد الله- ورأت فتياناً من النساك يقتصدون في المشي، ويتكلمون رويداً: ما
هؤلاء؟ فقيل: نساك، فقالت كان عمر بن الخطاب هو الناسك حقاً، وكان إذا تكلم أسمع، وإذا
مشى أسرع، وإذا ضرب أوجع. ومن كلامه:
القوة في العمل ألا يؤخر عمل اليوم لغد، والأمانة ألا تخالف سريرتك علانيتك، والتقوى بالتوقي، ومن
يتق الله يقه. إياك
أن ترد على من كان قبلك فيرد عليك من بعدك. فبعث معاوية إلى أبيه
وأخيه مائة دينار، وكساهما وحملهما. فسخطها عمر، فقال أبو سفيان:
لا تسخطها، فإنها عطاء لم تغب عنه هند، ورجع هو وابنه إلى المدينة، فسأله عمر: بكم أجازك معاوية؟ فقال: بمائة دينار، فسكت عمر. وروى
الربيع بن زياد، قال: قدمت على عمر بمال من البحرين، فصليت
معه العشاء ثم سلمت عليه، فقال: ما قدمت به؟
قلت: خمسمائة ألف، قال:
ويحك! إنما قدمت بخمسين ألفا، قلت: بل خسمائة
ألف، قال: كم يكون ذلك؟ قلت: مائة ألف ومائة ألف ومائه ألف، حتى عددت
خمساً، فقال: إنك ناعس؟ ارجع إلى بيتك، ثم اغد علي،
فغدوت عليه. فقال: ما جئت
به؟ قلت: ما قلته لك، قال: كم هو؟ قلت: خمسمائة ألف، قال:
أطيب هو؟ قلت: نعم، لا أعلم إلا ذلك، فاستشار الصحابة فيه، فأشير عليه
بنصب الديوان فنصبه، وقسم المال بين المسلمين، ففضلت عنده فضلة، فأصبح فجمع المهاجرين
والأنصار، وفيهم علي بن أبي طالب، وقال للناس: ما ترون في فضل عندنا من هذا المال؟ فقال الناس: يا أمير المؤمنين؟ إنا شغلناك بولاية
أمورنا عن أهلك وتجارتك وصنعتك، فهو لك. فالتفت
إلى علي فقال: ما تقول أنت؟ قال: قد أشاروا عليك،
قال: فقل أنت، فقال له: لم تجعل يقينك ظناً؟ فلم يفهم عمر قوله، فقال: لتخرجن
مما قلت، قال: أجل والله، لأخرجن منه، أتذكر حين بعثك رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعياً
، فأتيت العباس بن عبد المطلب، فمنعك صدقته، فكان بينكما شيء، فجئتما إلي
وقلتما: إنطلق معنا إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم، فجئنا إليه،
فوجدناه خاثراً فرجعنا، ثم غدونا عليه، فوجدناه طيب النفس، فأخبرته بالذي صنع
العباس، فقال لك: يا عمر، أما علمت أن عم
الرجل صنو أبيه! فذكرنا له ما رأينا، من خثوره في
اليوم الأول، وطيب نفسه في اليوم الثاني،
فقال: إنكم
أتيتم في اليوم الأول، وقد بقي عندي من مال الصدقة ديناران، فكان ما
رأيتم من خثوري لذلك، وأتيتم في اليوم الثاني
وقد وجهتهما، فذاك الذي رأيتم من طيب نفسي. أشير عليك ألا تأخذ من هذا الفضل
شيئاً، وأن تفضه على فقراء المسلمين، فقال:
صدقت والله لأشكرن لك الأولى والأخيرة. فقال عمر: لا أبقاني الله بأرض لست بها يا أبا
الحسن. وجاء
رجل إلى عمر، فقال: إن ضبيعاً التميمي لقينا يا أمير
المؤمنين، فجعل يسألنا عن تفسير حروف من القرآن، فقال: اللهم أمكني منه، فبينا
عمر يوماً جالس يغدي الناس إذ جاءه الضبيع، وعليه ثياب وعمامة، فتقدم فأكل، حتى
إذا فرغ، قال: يا أمير المؤمنين، ما معنى قوله
تعالى: "والذاريات ذرواً " فالحاملات
وقراً" ؟ قال: ويحك أنت هو! فقام إليه
فحسر عن ذراعيه، فلم يزل يجلده حتى سقطت عمامته، فإذا له ضفيرتان، فقال: والذي
نفس عمر بيده لو وجدتك محلوقاً لضربت رأسك، ثم أمر به فجعل في بيت، ثم كان يخرجه
كل يوم فيضربه مائة، فإذا برأ أخرجه فضربه مائة أخرى، ثم حمله على قطب وسيره إلى
البصرة، وكتب إلى أبي موسى يأمره أن يحرم على الناس
مجالسته، وأن يقوم في الناس خطيباً، ثم يقول:
إن ضبيعاً قد ابتغى العلم فأخطأه، فلم يزل وضيعاً في
قومه وعند الناس حتى هلك، وقد كان من قبل سيد قومه. وقال عمر على
المنبر: ألا إن
أصحاب الرأي أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها، فأفتوا بآرائهم، فضلوا
وأضلوا إلا أن نقتدي ولا نبتدي، ونتبع ولا نبتدع، إنه ما ضل متمسك بالأثر. فمضى
إليهم فوجدهم قد احترقوا. إن عجوزاً
كانت تدخل علي فاتخذتها أماً، وكانت تقوم في أمري بما تقوم به الوالدة، وأنا لها
بمنزلة البنت، فمكثت كذلك حيناً، ثم قالت:
إنه قد عرض لي سفر، ولي بنت أتخوف عليها بعدي الضيعة، وأنا احب أن أضمها إليك
حتى أرجع من سفري، ثم عمدت إلى ابن لها أمرد فهيأته وزينته كما تزين المرأة
وأتتني به، ولا أشك أنه جارية، فكان يرى مني ما ترى المرأة من المرأة، فاغتفلني
يوماً وأنا نائمة فما شعرت به حتى علاني وخالطني، فمددت يدي إلى شفرة كانت عندي
فقتلته، ثم أمرت به فالقي حيث رأيت، فاشتملت منه على هذا الصبي، فلما وضعته ألقيته في موضع أبيه، هذا والله خبرهما على ما
أعلمتك! فقال عمر: صدقت، بارك الله فيك! ثم أوصاها ووعظها وخرج. ذكر
عمرو بن العاص يوماً عمر فترحم عليه، وقال: ما رأيت أحدا
أتقى منه، ولا أعمل بالحق منه، لا يبالي على من وقع الحق، من ولد أو والد، إني
لفي منزلي بمصر ضحى، إذ أتاني آتٍ، فقال: قدم عبد الله
وعبد الرحمن ابنا عمر غازيين، فقلت: أين نزلا؟ قال: في موضع كذا- لأقصى
مصر- وقد كان عمر كتب إلي: إياك وأن يقدم عليك
أحد من أهل بيتي فتجيزه أو تحبوه بأمرٍ لا تصنعه بغيره، فأفعل بك ما أنت أهله. فضقت ذرعاً
بقدومهما، ولا أستطيع أن أهدي لهما، ولا أن آتيهما في منزلهما، خوفاً من أبيهما،
فوالله إني لعك ما أنا عليه، وإذا قائل يقول: هذا عبد
الرحمن بن عمر بالباب وأبو سروعة يستأذنان عليك، فقلت: يدخلان، فدخلا وهما
منكسران، فقالا: أقم علينا حد الله، فإنا أصبنا الليلة شراباً فسكرنا، فزبرتهما
وطردتهما، وقلت: ابن أمير المؤمنين وآخر معه من
أهل بدر! فقال عبد الرحمن:
إن لم تفعل أخبرت أبي إذا قدمت عليه أنك لم تفعل، فعلمت أني إن لم أقم عليهما
الحد غضب عمر وعزلني، فنحن على ما نحن عليه، إذ دخل عبد
الله بن عمر، فقصت إليه ورحبت به، وأردت أن أجلسه في صدر مجلسي، فأبى علي وقال:
إن أبي نهاني أن أدخل عليك إلا ألا أجد من الدخول بداً، وإني لم أجد من الدخول
عليك بداً، إن أخي لا يحلق عك رؤوس الناس أبداً، فأما الضرب فاصنع ما بدا لك- قال: وكانوا يحلقون مع الحد- فأخرجتهما إلى صحن
الدار وضربتهما الحد، ودخل عبد الله بن عمر بأخيه عبد الرحمن إلى بيت من الدار
فحلق رأسه، وحلق أبا سروعة، والله ما كتبت إلى عمر بحرف مما كان، وإذا كتابه قد ورد: من عبد الله عمر أمير
المؤمنين، إلى العاصي ابن العاصي، عجبت لك يابن العاصي ولجراءتك علي ومخالفتك
عهدي أما إني خالفت فيك أصحاب بدر ومن هو خير منك، واخترتك وأنت الخامل، وقدمتك
وأنت المؤخر، وأخبرني الناس بجراءتك وخلافك، وأراك كما أخبروا، وما أراني إلا
عازلك فمسيء عزلك. ويحك! تضرب عبد الرحمن بن عمر في داخل بيتك،
وتحلق رأسه في داخل بيتك، وقد عرفت أن في هذا مخالفتي وإنما عبد الرحمن رجل من
رعيتك تصنع به ما تصنع بغيره من المسلمين، ولكن قلت: هو ولد أمير المؤمنين، وقد
عرفت ألا هوادة لأحد من الناس عندي في حق يجب لله عز وجل، فإذا جاءك كتابي هذا
فابعث به في عباءة على قتب، حتى يعرف سوء ما صنع. قال:
فبعثت به كما قال أبوه، وأقرأت أخاه عبد الله كتاب أبيهما، وكتبت إلى عمر كتاباً
أعتذر فيه وأخبرته أني ضربته في صحن الدار، وحلفت بالله الذي لا يحلف بأعظم منه،
أنه الموضع الذي اقيم فيه الحدود على المسلم والذمي، وبعثت
بالكتاب مع عبد الله بن عمر. فذكر أسلم مولى
عمر قال: قدم عبد الله بأخيه عبد الرحمن على أبيهما، فدخل عليه في عباءة، وهو لا
يقدر على المشي من مركبه، فقال: يا عبد الرحمن،
فعلت وفعلت! السياط السياط! فكلمه عبد الرحمن بن عوف، وقال: يا أمير المؤمنين،
قد أقيم عليه الحد مرة، فلم يلتفت إليه وزبره، فأخذته السياط، وجعل يصيح: أنا
مريض وأنت والله قاتلي! فلم يرق له، حتى استوفى الحد وحبسه. ثم مرض شهراً
ومات. فبعث! إليه ببرد، وقال لها قولي: هذا البرد
الذي ذكرته لك. فقالت له ذلك، فقال: قولي له: قد رضيته رضي الله عنك- ووضع يده
على ساقها- فقالت له: أتفعل هذا! لولا أنك أمير
المؤمنين لكسرت أنفك، ثم جاءت أباها فأخبرته الخبر، وقالت: بعثتني إلى شيخ سوء
قال: مهلاً يا بنية، إنه زوجك، فجاء عمر إلى مجلس
المهاجرين في الروضة، وكان يجلس فيها المهاجرون الأولون، فقال: رفئوني ، رفئوني،
قالوا: بماذا يا أمير المؤمنين؟ فال: تزوجت أم كلثوم بنت علي بن أبي
طالب، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كل سبب ونسب وصهر ينقطع يوم القيامة إلا سببي
ونسبي وصهري". وكتب
عثمان إلى أبي موسى: إذا جاءك كتابي هذا فأعط الناس
أعطياتهم، واحمل ما بقي إلي، وجاء زيد بن ثابت بالمال، فوضعه بين يدي عثمان،
فجاء ابن لعثمان فأخذ منه أستاندانة من فضة، فمضى بها فبكى زيد، قال عثمان: ما
يبكيك؟ قال: أتيت عمر مثل ما أتيتك به، فجاء ابن له فأخذ درهماً فأمر به فانتزع
منه، حتى أبكى الغلام، وإن ابنك قد أخذ هذه فلم أر أحداً قال شيئاً. فقال عثمان: إن عمر كان
يمنع أهله وقرابته ابتغاء وجه الله، وأنا أعطي أهلي وأقاربي ابتغاء وجه الله،
ولن تلقى مثل عمر. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
خطب
لعمر بن الخطاب فيها بعض الطول
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وقال
الجاحظ في كتاب البيان والتبيين: لم يكن عمر
من أهل الخطب الطوال، وكان كلامه قصيراً، وإنما صاحب الخطب الطوال علي بن أبي
طالب رضي الله عنه. وقد وجدت أنا
لعمر خطباً فيها بعض الطول، ذكرها أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في التاريخ. أيها الناس إن
الله قد ولاني أمركم، وقد علمت أنفع ما لكم، وأسأل الله أن يعينني عليه، وأن
يحرسني عنده، كما حرسني عند غيره، وأن يلهمني العدل في قسمكم كالذي أمر به، فإني امرؤ مسلم، وعبد ضعيف إلا ما أعان الله، ولن يغير الذي
وليت من خلافتكم من خلقي شيئاً إن شاء الله. إنما العظمة لله، وليس
للعباد منها شيء، فلا يقولن أحدكم إن عمر تغير منذ ولي، وإني أعقل الحق من نفسي،
وأتقدم وأبين لكم أمري، فأيما رجل كانت له حاجة أو ظلم مظلمة أو عتب علينا في
خلق، فليؤذني، فإنما أنا رجل منكم. فعليكم بتقوى الله في سركم وعلانيتكم
وحرماتكم وأعراضكم، وأعطوا الحق من أنفسكم، ولا يحمل بعضكم بعضاً علي ألا
تتحاكموا إلي، فإنه ليس بيني وبين أحد هوادة، وأنا حبيب إلي صلاحكم، عزيز علي
عنتكم، وأنتم أناس عامتكم حضر في بلاد الله وأهل بلد لا زرع فيه ولا ضرع إلا ما
جاء الله به إليه، وإن الله عز وجل قد وعدكم كرامة كبيرة، وأنا مسؤول عن أمانتي
وما أنا فيه، ومطلع عك ما يحضرني بنفسي إن شاء الله، لا أكله إلى أحد، ولا
أستطيع ما بعد منه إلا بالأمناء وأهل النصح منكم للعامة، ولست أحمل أمانتي إلى
أحد سواهم إن شاء الله. أيها الناس،
إن بعض الطمع فقر، وإن بعض اليأس غنى، وإنكم تجمعون ما لا تأكلون، وتؤملون ما لا
تدركون، وأنتم مؤجلون في دار غرور، وقد كنتم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تؤخذون
بالوحي، ومن أسر شيئاً أخذ بسريرته، ومن أعلن شيئاً أخذ بعلانيته، فأظهروا لنا
حسن أخلاقكم، والله أعلم بالسرائر، فإنه من أظهر لنا قبيحاً، وزعم أن سريرته
حسنة لم نصدقه، ومن أظهر لنا علانية حسنة ظننا به حسناً. واعلموا أن بعض الشح
شعبة من النفاق، فأنفقوا خيراً لأنفسكم، ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون. إن الله
سبحانه قد استوجب عليكم الشكر، واتخذ عليكم الحجج فيما آتاكم من كرامة الدنيا
والآخرة من غير مسألة منكم، ولا رغبة منكم فيه إليه، فخلقكم- تبارك وتعالى- ولم
تكونوا شيئاً لنفسه وعبادته، وكان قادراً أن يجعلكم لأهون خلقه عليه فجعلكم عامة
خلقه، ولم يجعلكم لشيء غيره، وسخر لكم ما في السموات والأرض، وأسبغ عليكم نعمه
ظاهرة وباطنة، وحملكم في البر والبحر، ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون. ثم جعل لكم
سمعاً وبصراً. ومن نعم الله عليكم نعم عم بها بني آدم منها نعم اختص بها أهل
دينكم، ثم صارت تلك النعم خواصها في دولتكم وزمانكم وطبقتكم، وليس من تلك النعم
نعمة وصلت إلى امرئ خاصة إلا لو قسمتم ما وصل منها بين الناس كلهم أتعبهم شكرها،
وفدحهم حقها إلا بعون الله مع الإيمان بالله ورسوله، فأنتم مستخلفون في الأرض
قاهرون لأهلها، قد نصر الله دينكم فلم تصبح أمة نحالفة لدينكم، إلا أمتين أمة
مستعبدة للإسلام وأهله، يتجرون لكم، تستصفون معايشهم وكدائحهم، ورشح جباههم،
عليهم المؤنة، ولكم المنفعة، وأمه تنتظر وقائع الله وسطواته في كل يوم وليلة، قد
ملأ الله قلوبهم رعباً، فليس لهم معقل يلجئون إليه، ولا مهرب يتقون به، قد
دهمتهم جنود الله ونزلت بساحتهم، مع رفاغة العيش واستفاضة المال، وتتابع البعوث
وسد الثغور بإذن الله، في العافية الجليلة العامة التي لم تكن الأمة على أحسن
منها منذ كان الإسلام، والله المحمود مع الفتوح العظام في كل بلد، فما عسى أن
يبلغ شكر الشاكرين، وذكر الذاكرين، واجتهاد المجتهدين، مع هذه النعم التي لا
يحمى عددها، ولا يقدر قدرها، ولا يستطاع أداء حقها إلا بعون الله ورحمته ولطفه! فنسأل الله الذي أبلانا هذا أن يرزقنا العمل بطاعته،
والمسارعة إلى مرضاته. واذكروا
عباد الله بلاء الله عندكم، واستتموا نعمة الله عليكم وفي مجالسكم مثنى وفرادى،
فإن الله تعالى قال لموسى: "أخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام
الله" وقال لمحمد صلى الله عليه وسلم: "وأذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض"
فلو كنتم إذ كنتم مستضعفين محرومين خير الدنيا على شعبة من الحق تؤمنون بها،
وتستريحون إليها، مع المعرفة بالله وبدينه، وترجون الخير فيما بعد الموت، ولكنكم
كنتم أشد الناس عيشة وأعظم الناس بالله جهالة، فلو كان هذا الذي ابتلاكم به لم
يكن معه حظ في دنياكم غير أنه ثقة لكم في آخرتكم التي إليها المعاد والمنقلب،
وأنتم من جهد المعيشة على ما كنتم عليه كنتم أحرياء أن تشحوا على نصيبكم منه،
وأن تظهروه على غيره فبله . أما إنه قد
جمع لكم فضيلة الدنيا وكرامة الآخرة، أو لمن شاء أن يجمع ذلك منكم، فأذكركم الله
الحائل بينكم وبين قلوبكم إلا ما عرفتم حق الله وعملتم له، وسيرتم أنفسكم على
طاعته، وجمعتم مع السرور بالنعم خوفاً لزوالها وانتقالها، ووجلاً من تحويلها،
فإنه لا شيء أسلب للنعمة من كفرانها، وإن الشكر أمن للغير، ونماء للنعمة،
واستجلاب للزيادة، وهذا علي في أمركم ونهيكم واجب إن شاء الله. قال: وكان
عمرو ارتد، وطليحة تنبأ. وروى
أبو عبيدة أيضاً في هذا الكتاب، قال: قدم عمرو بن
معد يكرب والأجلح بن وقاص الفهمي على عمر، فأتياه وبين يديه مال يوزن، فقال: متى
قدمتما؟ قالا: يوم الخميس، قال: فما حبسكما عني؟ قالا: شغلنا المنزل يوم قدمنا،
ثم كانت الجمعة، ثم غدونا عليك اليوم. فلما فرغ من وزن المال نحاه، وأقبل
عليهما، فقال: هيه! فقال عمرو بن معد يكرب: يا
أمير المؤمنين، هذا الأجلح بن وقاص، الشديد المرة، البعيد الغرة، الوشيك الكرة،
والله ما رأيت مثله حين الرجال صارع ومصروع! والله لكأنه لا يموت. فقال عمر للأجلح- وأقبل عليه، وقد عرف الغضب في وجهه:
هيه يا أجلح! فقال الأجلح: يا أمير المؤمنين، تركت الناس خلفي صالحين، كثيراً
نسلهم، دارة أرزاقهم، خصبة بلادهم، أجرياء على عدوهم، فاكلأ عدوهم عنهم، فسيمتع
الله بك، فما رأينا مثلك إلا من سبقك، فقال: ما منعك أن تقول في صاحبك مثل ما
قال فيك؟ قال: ما رأيت من وجهك، قال: أصبت، أما إنك لو قلت فيه مثل الذي قال فيك
لأوجعتكما ضرباً وعقوبة، فإذ تركتك لنفسك فسأتركه لك، والله لوددت لو سلمت لكم
حالكم، ودامت عليكم أموركم. أما إنه سيأتي
عليك يوم تعضه وينهشك، وتهره وينبحك، ولست له يومئذ وليس لك، فإن لا يكن بعهدكم،
فما أقربه منكم! لما أسر الهرمزان صاحب الأهواز
وتستر وحمل إلى عمر، حمل ومعه رجال من المسلمين، فيهم الأحنف بن قيس وأنس بن
مالك، فأدخلوه في المدينة في هيئته، وعليه تاجه الذهب وكسوته، فوجدوا عمر نائماً
في جانب المسجد، فجلسوا عنده ينتظرون انتباهه، فقال الهرمزان: أين عمر؟ فقالوا:
هوذا، قال: وأين حراسه وحجابه؟ قالوا: لا حارس له ولا حاجب، قال: فينبغي أن يكون
هذا نبياً! قالوا: إنه يعمل عمل الأنبياء. قال: سبحان
الله! قال: أما إني لولا أخشى أن أعمل ما أخبرتك. أتيت البلد، فجمعت صلحاء أهله
فوليتهم جبايته، ووضعه في مواضعه، ولو أصابك منه شيء لأتاك، قال: أفما جئت بشيء؟
قال: لا، فقال: جددوا لعمير عهداً، قال: إن ذلك لشيء لا أعمله بعد لك، ولا لأحد
بعدك، والله ما كدت أسلم- بل لم أسلم، قلت لنصراني معاهد: أخزاك الله، فهذا ما
عرضتني له يا عمر! إن أشقى أيامي ليوم صحبتك! ثم استأذنه في الانصراف، فأذن له،
ومنزله بقباء بعيداً عن المدينة، فأمهله عمر أياماً ثم
بعث رجلاً يقال له الحارث، فقال: انطلق إلى عمير بن سعيد وهذه مائة
دينار، فإن وجدت عليه أثراً فأقبل علي بها، وإن رأيت حالاً شديدة فادفع إليه هذه
المائة، فانطلق الحارث فوجد عميراً جالساً يفلي قميصاً له إلى جانب حائط، فسلم
عليه، فقال عمير: انزل رحمك الله! فنزل
فقال: من أين جئت؟ قال: من المدينة، قال: كيف تركت أمير المؤمنين؟ قال: صالحاً،
قال: كيف تركت المسلمين؟ قال: صالحين، قال: أليس عمر يقيم الحدود؟ قال: بلى، ضرب
ابنا له على فاحشة فمات من ضربه، فقال عمير:
اللهم أعن عمر، فإني لا أعلمه إلا شديدا حبه لك! قال:
فنزل به ثلاثة أيام، وليس لهم إلا قرص من شعير كانوا يخصونه كل يوم به ويطوون،
حتى نالهم الجهد، فقال له عمير: إنك قد أجعتنا، فإن رأيت أن تتحول عنا فافعل،
فأخرج الحارث الدنانير فدفعها إليه، وقال:
بعث بها أمير المؤمنين، فاستغن بها، فصاح وقال:
ردها، لا حاجة لي فيها، فقالت المرأة: خذها
ثم ضعها في موضعها، فقال: مالي شيء أجعلها
فيه! فشقت أسفل درعها فأعطته خرقة فشدها فيها، ثم خرج فقسمها كلها بين أبناء
الشهداء والفقراء، فجاء الحارث إلى عمر فأخبره، فقال:
رحم الله عميراً! ثم لم يلبث أن هلك، فعظم
مهلكه على عمر، وخرج مع رهط من أصحابه ماشين إلى بقيع
الغرقد، فقال لأصحابه: ليتمنين كل واحد منا أمنيته، فكل واحد
تمنى شيئاً، وانتهت الأمنية إلى عمر؟ فقال: وددت أن لي رجلاً مثل عمير بن سعيد أستعين به على
أمور المسلمين! |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
بعض
من كلام عمر
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن
كلام عمر: إياكم وهذه المجاوز، فإن لها ضراوة كضراوة الخمر. وقال: السمن غفلة. وقال:
لا تسكنوا نساءكم الغرف، ولا تعلموهن الكتابة، واستعينوا عليهن بالعري، وعودوهن
قول "لا"، فإن "نعم " تجرئهن على المسألة. قال أبو عثمان
الجاحظ: لأنه ليس من العقل أن يكون فرشه لبداً ومرقعته طبرية. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
عمر
وعمرو بن معد يكرب
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وذكر أبو عبيدة معمر بن المثنى في كتاب
"مقاتل الفرسان " أن سعد بن أبي وقاص أوفد عمرو بن معد يكرب بعد فتح
القادسية إلى عمر، فسأله عمر عن سعد: كيف تركته، وكيف رضا الناس عنه؟ فقال: يا أمير المؤمنين، هو
لهم كالأب يجمع لهم جمع الذرة، أعرابي في نمرته ، أسد في تامورته ، نبطي في
جبايته، يقسم بالسوية، ويعدل في القضية، وينفر في السرية.
قال: فأخبرني عن السلاح، قال:
سل عما شئت منه، قال: الرمح؟ قال: أخوك
وربما خانك، قال النبل؟ قال: منايا تخطئ
وتصيب، قال: الترس؟ قال: ذاك المجن، وعليه
تدور الدوائر، قال: الدرع؟ قال: مشغلة للراكب، متعبة للراجل، وإنها لحصن
حصين. قال: السيف؟ قال: هناك قارعت أمك الهبل ، قال: بل أمك، قال:
بل أمي، والحمى أضرعتني لك. فكتب
بكلمته إلى عمر، فكتب إليه: أما بعد يابن معد يكرب، فإنك القائل لأميرك ما قلت، فإنه بلغني أن
عندك سيفاً تسميه الصمصامة، وإن عندي سيفاً أسميه مصمماً، واقسم بالله لئن وضعته
بين أذنيك لا يقلع حتى يبلغ قحفك. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
كلمات
عمر الغريبة وتفسيرها
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
فأما
ما نقل عن عمر من الألفاظ الغريبة اللغوية التي شرحها المفسرون، فنحن نذكر من
ذلك ما يليق بهذا الكتاب. قال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تاريخه: روى عبد الرحمن بن أبي زيد، عن عمران
بن سودة الليثي، قال: صليت الصبح مع عمر، فقرأ "سبحان " وسورة معها،
ثم انصرف، فقمت معه، فقال: أحاجة؟ قلت: حاجة، قال:
فالحق، فلحقت، فلما دخل أذن، فإذا هو على رمال سرير، ليس فوقه شيء، فقلت: نصيحة! قال:
مرحبا بالناصح غدواً وعشياً، قلت: عابت
أمتك- أو قال رعيتك- عليك أربعاً، قال: فوضع
عود الدرة ثم ذقن عليها- هكذا روى ابن قتيبة- وقال أبو
جعفر: "فوضع رأس درته في ذقنه " ووضع أسفلها على فخذه، وقال: هات- قال:
ذكروا أنك حرمت المتعة في أشهر الحج- وزاد أبو
جعفر: "وهي حلال "- ولم يحرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر، فقال: أجل إنكم إذا
اعتمرتم في أشهر حجكم رأيتموها مجزئة عن حجكم، فقرع حجكم، وكانت قابية قوب عامها
والحج بهاء من بهاء الله، وقد أصبت. قال:
وذكروا أنك حرمت متعة النساء، وقد كان رخصة من الله نستمتع بقبضة، ونفارق عن
ثلاث، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحلها
في زمان ضرورة، ورجع الناس إلى السعة، ثم لم أعلم أحداً من المسلمين عاد إليها،
ولا عمل بها، فالآن من شاء نكح بقبضة، وفارق عن ثلاثٍ بطلاق وقد أصبت. قال: ألحقت حرمة بحرمة، وما أردت إلا الخير، وأستغفر الله.
أراد أن النساء ينفرن من ذي الشيب ويفارقنه كما يفارق الفرخ
البيضة، فلا يعود إليها بعد خروجه منها أبداً، وروي
عن عمر: إنكم إذا رأيتم العمرة في أشهر الحج كافية من الحج خلت مكة من الحجاج،
فكانت كبيضة فارقها فرخها. ومثله قوله: "وأضم العنود". وعندي
أن ابن قتيبة غالط في هذا التأويل، وليس في كلام
عمر ما يدل على ذلك وليس عمر في غزاة قرقرة الكدر يسوس الناس ولا يأمرهم ولا
ينهاهم، وكيف ورسول الله صلى الله عليه وسلم حاضر
بينهم! ولا كان في غزاة قرقرة الكدر حرب، ولا ما يحتاج فيه إلى السياسة، وهل كان
لعمر أو لغير عمر ورسول الله صلى الله عليه
وسلم
حي
أن يرتع فيشبع، ويسقي فيروي! وهل تكون هذه الصفات وما بعدها إلا للرئيس الأعظم! والذي أراده عمر ذكر حاله في خلافته راداً على عمران بن سودة
في قوله: "إن الرعية يشكون منك عنف السياق وشدة النهر"، فقال: ليشكون! فوالله إني لرفيق بهم، ومستقص في
سياستهم، ولا ناهك لهم عقوبة، وإني لأقنع بالهيبة
والتهويل عليهم، ولا أعمل العصا حيث يمكنني الاكتفاء باليد، وإني أرد
الشارد منهم وأعدل المائل...، إلى غير ذلك من الأمور، التي عددها وأحسن في
تعديدها. وقال
الأصمعي: هو المبالغة في التطهر، فكل من أدق
النظر في الأمور واستقصى علمها فهو متنطس، ومنه قيل للطبيب: النطاسي والنطيس لدقة علمه بالطب. قال أبو عبيد: لا أحسب هذه الكلمة عربية، وإنما
أصلها "قبان "،
ومنه قول العامة: فلان قبان على فلان، إذا كان بمنزلة الأمين عليه والرئيس الذي
يتتبع أمره ويحاسبه، وبه سمي هذا الميزان الذي يقال له
القبان.
فقوله: "كذبت عليك "، إنما أغراه بنفسه، أي عليك بي؟ فجعل
نفسه في موضع رفع، ألا تراه قد جاء بالباء فجعلها اسمه.
فرفع، والشعر مرفوع، ومعناه عليكم
بالقراطف والقروف، والقراطف: القطف وأحدها قرطف. والقروف: الأوعية. والربعة: ما ولد في أول النتاج، والذكر ربع. قال أبو عبيد:
جعل الاستغفار استسقاء، تأول فيه قوله تعالى: "استغفروا
ربكم إنه كان غفاراً" يرسل السماء عليكم مدراراً" . والمجاديح: جمع مجدح وهو النجم الذي كانت العرب تزعم أنها
تمطر به، ويقال: مجدح بضم الميم، وإنما قال عمر
ذلك، على أنها كلمة جارية على ألسنة العرب، ليس على تحقيق الأنواء، ولا التصديق
بها وهذا شبيه بقول ابن عباس في رجل
جعل أمر امرأته بيدها، فقالت له: أنت طالق ثلاثاً، فقال
خطأ الله نوءها ! ألا طلقت نفسها ثلاثا! ليس هذا دعاء منه ألا تمطر، إنما
ذلك على الكلام المقول. والصلائق: الخبز
الرقيق، ومن رواه سلائق بالسين أراد ما يسلق من البقول وغيرها. والكراكر،
كراكر الإبل. والأفلاذ: جمع
فلذ وهو القطعة من الكبد. قيل: النقع
ههنا طعام المأتم، والأشبه أن النقع رفع الصوت، واللقلقة مثله. هو من العضال،
وهو الداء والأمر الشديد الذي لا يقوم له صاحبه. والشيطان لا
شقشقة له، إنما هذا مثل لما يدخل في الخطب من الكلام
المكذوب وتزوير الباطل. قال: هكذا روي
بالشين المعجمة، وقيل: إن الصحيح ينس بالسين
المهملة، والأظهر أنه ينوش الناس بالواو، من التناوش، قال تعالى: "وأنى لهم التناوش" . والأسل أعم من
الرماح، وأكثر ما يستعمل في الرماح خاصة. قال:
هجيري الرجل: دأبه وديدنه وشأنه. وتمعددوا، قيل
إنه من الغلظ أيضاً، يقال للغلام إذا أنبت وغلظ: قد تمعدد. ويروى:
ذرء النار بالهمزة، من ذرأ الله الناس، أي صورهم وأوجدهم. قال: فعبد
الرحمن؟ قال: أوه! ذكرت رجلاً صالحاً ولكنه ضعيف، وهذا
الأمر لا يصلح له إلا اللين من غير ضعف، والقوي من غير عنف، قال: فسعد؟
قال: ذاك يكون في مقنب من مقانبكم. قوله: كلف بأقاربه أي شديد الحب لهم. والدعابة: المزاح. والبأو: الكبر والعظمة. وابن ثاداء
بفتح الهمزة: ابن الأمة. النشيج: صوت
البكاء، يردده الصبي في صدره ولا يخرجه. وفي
حديثه
أنه أتي في نساء- أو إماء- ساعيات في الجاهلية، فأمر بأولادهن أن يقوموا على
آبائهم، فلا يسترقوا. قضى عمر في
أولادهن في الجاهلية أن يسومن على آبائهم بدفع الآباء قيمتهم إلى سادات الإماء،
ويصير الأولاد أحراراً لاحقي النسب بآبائهم. فقضى عمر في
مثل هذا أن يرد حراً إلى نسبه، وتكون قيمته على نفسه
يؤديها إلى الذي سباه، لأنه أسلم وهو في يده، وقيمته كائناً ما كان خمس من
الإبل. قوله: "والملة" أي تقوم ملة الإنسان وشرعها. فتغيظ عمر
عليه، وقال: أردت أن تتغفلني!، يعني أردت غفلتي. والضفاطة:
الحمق وضعف العقل، رجل ضفيط، أي أحمق. والوضم:
الخشبة أو البارية يجعل عليها اللحم. قال: دعا عليها. فإذا كان هذا رأيه
في أبي الزوج وهو محرم لها فكيف بالغريب! وفي
حديثه: "إن بيعة أبي بكر
كانت فلتة وقى الله شرها، فلا بيعة إلا عن مشورة، وأيما رجل بايع رجلاً عن غير
مشورة فلا يؤمر واحد منهما تغرة أن يقتلا. هذا مثل يضرب
للرجل يصنع معروفاً ثم يفسده. قال: السائبة:
المعتق. وليومهما:
ليوم القيامة الذي فعل ما فعله لأجله. قال: التلبيد
أن تجعل في رأسك شيئاً من صمغ أو عسل يمنع من أن يقمل. والعقص
والضفر: فتل الشعر ونسجه. قال:
الدافة: جماعة تسير سيراً ليس بالشديد. وفي
حديثه: أنه لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قام أبو بكر
فتلا هذه الآيةً في خطبته: "إنك ميت وإنهم
ميتون". قال عمر: فعقرت حتى وقعت إلى الأرض. وفي
حديثه: "ليس الفقير الذي لا مال له، إنما الفقير
الأخلق الكسب". وهذا
نحو قول النبي صلى
الله عليه وسلم:
"ليس الرقوب الذي لا يبقى له ولد، إنما الرقوب الذي لم يقدم من ولده
أحداً،، فهذا ما لخصته من غريب كلام عمر من كتاب
أبي عبيد. فقال
علي رضي الله عنه: فكيف ذاك ولما تشتد البلية، وتظهر
الحمية، وتسبى الذرية، وتدقهم الفتن دق الرحى بثفالها! قال ابن
قتيبة: يدسر أي يدفع، ومنه حديث ابن عباس: ليس في
العنبر زكاة، إنما هو شيء يدسره البحر. قال
ابن قتيبة: العقل: الدية، يقول: إذا حلفت فإنما تجب الدية لا
القود، وقد روي عن ابن الزبيروعمر بن عبد العزيز أنهما أقادا بالقسامة. قال:
انكفأ: تغير عن حاله، وأصله الانقلاب، من كفأت الإناء. وفي حديثه عن ابن عباس، قال: دعاني فإذا حصير بين يديه، عليه
الذهب منثور نثر الحثا، فأمرني بقسمه.
وفي حديثه أنه قال: "النساء
ثلاث، فهينة لينة عفيفة مسلمة، تعين أهلها على العيش، ولا تعين العيش على
أهلها، وأخرى وعاء للولد، وأخرى غل قمل يضعه الله في عنق من يشاء ويفكه عمن
يشاء، والرجال ثلاثة: رجل ذو رأي وعقل، ورجل إذا
حزبه أمر إذا رأي فاستشاره ورجل حائر بائر، لا يأتمر رشداً، ولا يطيع مرشداً. والأصل في قوله: غل قمل، أنهم كانوا يغلون بالقد وعليه الشعر، فيقمل على
الرجال.
وفي حديثه أنه خرح ليلة في شهر رمضان، والناس
أوزاع، فقال: "إني لأظن لو جمعناهم على
قارىء واحد كان أفضل"، فأمر آبي بن كعب
فأمهم، ثم خرج ليلة وهم يصلون بصلاته، فقال: "نعم البدعة هذه! والتي ينامون عنها أفضل
من التي يقومون". والبعير
الموقع الذي يكثر آثار الدبر بظهره، لكثرة ما يركب، وأراد عمر أنا كلنا مثل ذلك
في العيب. قال: السعن: قربة أو إداوة ينتبذ فيها وتعلق
بجذع. وفي
حديثه: أنه رأى رجلاً يأنح ببطنه، فقال: ما هذا؟ قال: بركة من الله، قال: بل هو عذاب من الله يعذبك به. والنزع
في
القوس، والنزو على الخيل. قال: البهش
المقل الرطب، فإذا يبس فهو الخشل، وأراد أن أبا موسى
ليس من أهل الحجاز، لأن المقل بالحجاز نبت، والقرآن نزل بلغة الحجاز. وجزى:
قضى وأغنى، من قوله تعالى: "لا تجزي نفس عن نفس شيئا"، فإن أدخلت
الألف قلت: أجزأك " وهمزت، ومعناه كفاك. قال: ثل عرشه، أي
هدم. قال:
كشية الضب: شحم بطنه. قال:
اتخذ منها جفنة من طعام، وأجمع عليه. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
فأما
الحديث الوارد في فضل عمر، فمنه ما هو مذكور في الصحاح، ومنه ما هو غيرمذكور
فيها. فمما ذكر في المسانيد الصحيحة من ذلك، ما روت عائشة
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"كان في الأمم محدثون، فإن يكن في أمتي فعمر". أخرجاه في الصحيحين . فقال
عمر:
أنت أحق أن يهبن، ثم قال: أي عدوات أنفسهن، أتهبنني ولا
تهبن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلن: نعم، أنت
أغلظ وأفظ، فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "والذى
نفسي بيده، ما لقيك الشيطان قط سالكاً فجاً إلا سلك فجاً غيرفجك"، أخرجاه في الصحيحين. وقد طعن أعداؤه
ومبغضوه في هذه الأحاديث، فقالوا: لو كان محدثاً وملهماً لما اختار
معاوية ألفاسق لولاية الشام، ولكان الله تعالى قد ألهمه وحدثه بما يواقع من
القبائح والمنكرات والبغي والتغلب على الخلافة، والاستئثار بمال الفيء، وغير ذلك
من المعاصي الظاهرة. وكان يشكل عليه الحكم، فيقول لابن عباس: غص يا غواص، فيفرج عنه، فأين كان الملك الثاني المسدد له! وأين الحئ الذي ضرب
به على لسان عمر، ومعلوم أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم كان ينتظر في
الوقائع نزول الوحي. وعمر على مقتضى هذه الأخبار لا حاجة به إلى نزول ملك عليه،
لأن الملكين معه في كل وقت وكل حال، ملك ينطق على لسانه وملك آخر بين عينيه
يسدده ويوفقه. وقد عززا بثالث وهي السكينة، فهو
إذاً أفضل من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: والحديث الذي مضمونه: لو لم أبعث فيكم لبعث عمر، فيلزم أن
يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم عذاباً على عمر، وأذى شديداً
له، لأنه لو لم يبعث لبعث عمر نبياً ورسولاً، ولم تعلم رتبة أجل من رتبة
الرسالة، فالمزيل لعمر عن هذه الرتبة التي ليس وراءها رتبة، ينبغي ألا يكون في
الأرض أحد أبغض إليه منه! قالوا: وأما
كونه سراج أهل الجنة، فيقتضي أنه لو لم يكن تجلى عمر لكانت الجنة مظلمة لا سراج
لها. والجواب أنه ليس يجب فيمن كان محدثاً ملهماً أن يكون محدثاً ملهماً في
كل شيء بل الإعتبار بأكثرأفعاله وظنونه وآرائه، ولقد كان عمركثير التوفيق، مصيب
الرأي في جمهورأمره، ومن تأمل سيرته علم صحة ذلك، ولا يقدح في ذلك أن يختلف ظنه
في القليل من الأمور. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وأما
إسلام عمر،
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
فإنه أسلم، فكان تمام أربعين إنساناً في أظهر الروايات، وذلك في السنة السادسة من النبوة، وسنه إذ ذاك ست وعشرون سنة، وكان عمر ابنه
عبد الله يومئذ ست سنين. وأصح
ما روي في إسلامه، رواية أنس بن مالك عنه، قال: خرجت متقلداً
سيفي، فلقيت رجلاً من بني زهرة، فقال: أين تعمد؟ قلت: أقتل محمداً، قال: وكيف
تأمن في بني هاشم وبني زهرة، فقلت: ما أراك إلا صبوت! قال: أفلا أدلك على العجب!
إن إختك وزوجها قد صبوا. فمشى عمر فدخل عليهما ذامراً، وعندهما رجل من
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم،
يقال له: خباب بن الأرت، فلما سمع خباب حس عمر توارى، فقال عمر: ما هذه الهينمة
التي سمعتها عندكم، وكانوا يقرأون !"طه" على خباب، فقال: ما عندنا
شيء، إنما هو حديث كنا نتحدثه بيننا، قال: فلعلكما قد صبوتما فقال له ختنه:
أرأيت يا عمر إن كان الحق في غيردينك! فوثب عمر على ختنه فوطئه وطئاً شديدأ،
فجاءت اخته فدفعته عن زوجها، فنفحها بيده، فأدمى وجهها، فجاهرته، فقالت: إن الحق
في غير دينك، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فاصنع ما بدا
لك! فلما يئس قال: أعطوني هذا الكتاب الذي عندكم فأقرؤه
وكان عمريقرأ الخط فقالت له اخته: إنك رجس، وإن هذا الكتاب لا يمسه إلا
المطهرون، فقم فتوضأ، فقام فأصاب ماء، ثم أخذ الكتاب،
فقرأ "طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى إلا تذكرة لمن يخشى" إلى قوله.
"إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري"،
فقال عمر: دلوني على محمد، فلما سمع خباب قول عمر، ورأى
منه الرقة، خرج من البيت، فقال: أبشر يا عمر، فإني
لأرجو أن تكون دعوة رسول الله صلى
الله عليه وسلم ليلة الخميس لك، سمعته يقول: "اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب أو بعمرو
بن هشام" قال: ورسول الله صلى
الله عليه وسلم في الدار التي
في أصل الصفا فانطلق عمر حتى أتى الدار، وعلى الباب حمزة بن عبد المطلب وطلحة بن
عبيد الله وناس من أهل رسول الله صلى
الله عليه وسلم، فلما رأى
الناس عمر قد أقبل، كأنهم وجدوا، وقالوا: قد جاء عمر، فقال: حمزة: قد جاء
عمر، فإن يرد الله به خيراً يسلم، وإن يرد غيرذلك كان قتله علينا هيناً، قال:
والنبي صلى الله عليه وسلم من
داخل البيت يوحى اليه، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم كلام
القوم، فخرج مسرعاً حتى انتهى إلى عمر، فأخذ بمجامع
ثوبه وحمائل سيفه، وقال: ما أنت منتهياً يا عمر حتى ينزل الله بك يعني من الخزي
والنكال ما أنزل بالوليد بن المغيرة، ثم قال:
"اللهم هذا عمر، اللهم أعز الإسلام بعمر"! فقال: أشهد أن لا إله إلا
الله، وأشهد أنك رسول الله. فكبر أهل الدار، ومن كان على الباب، تكبرة سمعها من
كان في المسجد من المشركين. قرأت في كتاب
من تصانيف أبي أحمد العسكري رحمه الله، أن عمر خرج
عسيفاً مع الوليد بن المغيرة إلى الشام في تجارة للوليد، وعمريومئذ ابن ثماني
عشرة سنة، فكان يرعى للوليد إبله، ويرفع أحماله، ويحفظ متاعه، فلما كان
بالبلقاء لقيه رجل من علماء الروم، فجعل ينظر إليه،
ويطيل النظر لعمر، ثم قال: أظن اسمك يا غلام عامراً أو عمران أو نحو ذلك، قال:
اسمي عمر، قال: اكشف عن فخذيك، فكشف فإذا على أحدهما شامة سوداء في قدر
راحة الكف، فسأله أن يكشف عن رأسه، فكشف فإذا هو أصلع، فسأله أن يعتمل بيده،
فاعتمل فإذا أعسر أيسر، فقال له: أنت ملك العرب، وحق
مريم البتول! قال: فضحك عمر مستهزئاً، قال: أو تضحك! وحق مريم البتول إنك
ملك العرب، وملك الروم، وملك الفرس، فتركه عمر وانصرف
مستهيناً بكلامه، وكان عمر يحدث بعد ذلك، ويقول: تبعني ذلك الرومي وهو راكب
حماراً. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ما
ورد في تاريخ موت عمر
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
فأما
تاريخ موته، فإن أبا لؤلؤة طعنه يوم الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجة من سنة
ثلاث وعشرين، ودفن يوم الأحد صباح هلال المحرم سنة أربع وعشرين، وكانت ولايته
عشر سنين وستة أشهر، وهو ابن ثلاث وستين في أظهر الأقوال،
وقد كان قال على المنبر يوم جمعة، وقد ذكر رسول
الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر: "إني قد رأيت رؤيا، أظنها لحضور
أجلي، رأيت كأن ديكاً نقرني نقرتين، فقصصتها على أسماء
بنت عميس، فقالت: يقتلك رجل من العجم، وإني أفكرت فيمن أستخلف، ثم رأيت أن الله لم يكن ليضيع
دينه وخلافته التي بعث بها رسوله. وروي
أن عبد الرحمن بن عوف طرح على أبي لؤلؤة بعد أن طعن الناس خميصة كانت عليه، فلما
حصل فيها نحر نفسه، فاحتز عبد الرحمن رأسه واجتمع البدريون وأعيان المهاجرين
والأنصار بالباب، فقال عمر لابن عباس: اخرج إليهم،
فاسألهم أعن ملأ منكم كان هذا الذي أصابني؟ فخرج يسألهم، فقال القوم: لا والله
ولوددنا أن الله زاد في عمره من أعمارنا! وروى
عبد
الله بن عمر، قال: كان
أبي يكتب إلى امراء الجيوش: لا تجلبوا إلينا من العلوج أحداً جرت عليه المواسي،
فلما طعنه أبو لؤلؤة، قال: من بي؟ قالوا: غلام المغيرة، قال: ألم أقل لكم: لا
تجلبوا إلينا من العلوج أحداً، فغلبتموني! وروى
محمد بن إسماعيل البخاري في صحيحه عن عمرو بن ميمون، قال:
إني لقائم ما بيني وبين عمر إلا عبد الله بن عباس غداة أصيب، وكان إذا مر
الصفين، قال: استووا حتى إذا لم ير بيننا خللاً تقدم فكبر، وربما قرأ سورة يوسف
أو النحل في الركعة الاولى أو نحو ذلك في الركعة الثانية حتى يجتمع الناس، فما
هو إلا أن كبر، فسمعته يقول: قتلني أو أكلني الكلب، وذلك حين طعنه العلج بسكين
ذات طرفين، لا يمر على أحد يميناً ولا شمالاً إلا طعنه، حتى طعن ثلاثة عشررجلاً، مات منهم ستة، فلما رأى ذلك رجل من
المسلمين طرح عليه برنساً، فلما ظن العلج أنه مأخوذ نحر نفسه، وتناول عمر بيده عبد الرحمن بن عوف، فقدمه، فمن يلي عمر، فقد
رأى الذي رأى، وأما نواحي المسجد فإنهم لا يدرون غير أنهم فقدوا صوت عمر،
فهم يقولون: سبحان الله! فصلى عبد الرحمن صلاة خفيفة،
فلما انصرفوا قال: يابن عباس، انظر من قتلني؟ فجال ساعة، ثم جاء فقال: غلام
المغيرة، قال: الصنع! قال: نعم، قال: قاتله الله، لقد أمرت به معروفاً، الحمد
لله الذي لم يجعل منيتي بيد رجل يدعي الإسلام، وقد كنت
أنت وأبوك تحبان أن يكثر العلوج وكان العباس أكثرهم رقيقاً فقال: إن شئت فعلنا، أي
قتلناهم، قال: كذبت بعد أن تكلموا بلسانكم وصلوا قبلتكم، وحجوا حجكم!
فاحتمل إلى بيته، وانطلقنا معه، وكأن الناس لم تصبهم مصيبة قبل يومئذ، فقائل
يقول: لا بأس عليه، وقائل يقول: أخاف عليه، فأتي بنبيذ فشربه، فخرج من جوفه، ثم
أتي بلبن فشربه فخرج من جوفه، فعلموا أنه ميت، فدخل الناس يثنون عليه، وجاء رجل
شاب، فقال: أبشريا أمير المؤمنين ببشرى الله، لك صحبة برسول الله وقدم في
الإسلام ما قد علمت، ثم وليت فعدلت، ثم الشهادة. فقال عمر: وددت أن ذلك
كله كان كفافاً، لا علي ولا لي، فلما أدبر إذا رداؤه يمس الأرض، فقال: ردوا علي
الغلام، فردوه، فقال: يابن أخي، ارفع ثوبك، فإنه أبقى لثوبك، وأتقى لربك، يا عبد
الله بن عمر، انظر ما علي من دين، فحسبوه فوجدوه ستة وثمانين ألفاً أو نحوه،
فقال: إن وفى به مال آل عمر فأده من أموالهم، وإلا فسل في بني عدي بن كعب، فإن
لم تف به أموالهم، فسل في قريش ولا تعدهم إلى غيرهم، وأدعني هذا المال، انطلق إلى عائشة، فقل لها: يقرأ عليك السلام عمر ولا تقل أمير المؤمنين، فإني اليوم لست للمؤمنين
أميراً وقل: يستأذن عمر بن الخطاب أن يدفن مع صاحبيه،
فمضى وسلم، واستأذن ودخل عليها فوجدها قاعدة تبكي، فقال: يقرأ عليك عمر السلام ويسأذن أن يدفن مع صاحبيه،
فقالت: كنت أريده لنفسي يعني الموضع ولأوثرنه اليوم على نفسي. فلما أقبل قيل: هذا عبد الله قد جاء، قال:
ارفعوني، فأسندوه إلى رجل منهم، قال: يا عبد الله ما
لديك، قال: الذي تحب يا أمير المؤمنين، قد أذنت، قال: الحمد لله، ما كان
شيء أهم إلي من ذلك، إذا أنا قبضت فاحملني، ثم سلم عليها، وقل: يستأذن عمر بن
الخطاب، فإن أذنت لي فادخلوني، وإن ردتني فردوني إلى مقابر المسلمين، وادفنوني
بين المسلمين. وجاءت
ابنته حفصة، والنساء معها، فلما رأيناها قمنا، فولجت عليه
فبكت عنده ساعة، واستأذن الرجال فولجت بيتاً
داخلاً لهم، فسمعنا بكاءها من البيت الداخل فقالوا: أوص
يا أمير المؤمنين واستخلف، فقال: ما أجد أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر
أو قال: الرهط الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، فسمى علياً
وعثمان والزبيروطلحة وسعداً وعبد الرحمن، وقال: يشهدكم عبد الله بن عمر،
وليس له من الأمر شيء- كهيئة التعزية له- فإن أصابت الإمارة سعداً، فهو أهل
لذلك، وإلا فليستعن به أيكم أمر، فإني لم أعزله عن عجز ولا عن خيانة، ثم قال: أوصي الخليفة من بعدي بالمهاجرين الأولين،
أن يعرف لهم حقهم، ويحفظ لهم حرمتهم، وأوصيه بالأنصار خيراً، الذين تبوأوا الدار
والإيمان من قبلهم، أن يقبل من محسنهم وأن يعفو عن مسيئهم، وأوصيه بأهل الأمصار
خيراً، فإنهم ردء الإسلام وجباة الأموال، وغيظ العدو، ألا يأخذ منهم إلا فضلهم،
عن رضاهم، وأوصيه بالأعراب خيراً، فإنهم أصل العرب، ومادة الإسلام، أن يؤخذ من
حواشي أموالهم، ويرد على فقرائهم، وأوصيه بذمة الله وذمة رسوله أن يوفي لهم
بعهدهم، وأن يقاتل من وراءهم، وألا يكلفوا إلا طاقتهم. فوالله
ما هو إلا أن ذكررسول الله صلى الله عليه
وسلم وأبا بكر، فعلمت أنه لم يكن
يعدل برسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً، وأنه غيرمستخلف. وروى
ابن عباس، قال: لما طعن عمر وجئته بخبرأبي لؤلؤة أتيته
والبيت ملآن. فكرهت أن أتخطى رقابهم وكنت حديث السن
فجلست وهومسجى، وجاء كعب الأحبار، وقال: لئن دعا
أمير المؤمنين ليبقيه الله لهذه الأمة حتى يفعل فيها كذا وكذا! حتى ذكر
المنافقين فيمن ذكر، فقلت: ابلغه ما تقول، قال:
ما قلت إلا وأنا أريد أن تبلغه، فتشجعت وقمت، فتخطيت رقابهم، حتى جلست عند رأسه،
وقلت: إنك أرسلتني بكذا، إن عبد المغيرة قتلك وأصاب معك
ثلاثة عشر إنسانأ، وإن كعبأ ههنا وهو يحلف بكذا، فقال: ادعوا إلى كعباً، فدعي
فقال: ما تقول، قال: أقول كذا، قال: لا والله لا أدعو، ولكن شقي عمر إن لم يغفر
الله له. وروى
المسور بن مخرمة، أيضاً، قال: لما طعن عمر، جعل يألم ويجزع، فقال ابن عباس: ولا كل ذلك يا أمير المؤمنين، لقد
صحبت رسول الله، فأحسنت صحبته، ثم فارقته وهو عنك راض، وصحبت أبا بكر وأحسنت
صحبته، وفارقك وهو عنك راض، ثم صحبت المسلمين فأحسنت إليهم وفارقتهم وهم عنك
راضون. وفي
رواية: المغرور من غررتموه! لو أن لي ما على ظهرها من
صفراء وبيضاء لافتديت به من هول المطلع، وفي رواية:
في الإمارة علي تثني يابن عباس! قلت: وفي
غيرها، قال: والذي نفسي بيده لوددت أني خرجت منها كما دخلت فيها، لا حرج ولا
وزر. وفي
رواية: لو كان لي ما طلعت عليه الشمس لافتديت به من كرب
ساعة يعني الموت كيف ولم أرد الناس بعد! وفي
رواية: لو أن لي الدنيا، وما فيها لافتديت به من هول ما
أمامي، قبل أن أعلم ما الخبر. فانصرف الناس
وهو دمه مسجى، لم يصل الفجر بعد، فقيل: يا أمير المؤمنين، الصلاة! فرفع رأسه،
وقال: لاها الله إذن، لاحظ لامرىء في الإسلام ضيع صلاته ثم وثب ليقوم فانثعب
جرحه دماً، فقال: هاتوا لي عمامة، فعصب بها جرحه، ثم صلى وذكر، ثم التفت إلى
ابنه عبد الله، وقال: ضع خدي إلى الأرض يا عبد الله، قال عبد الله: فلم أعج بها،
وظننت أنها اختلاس من عقله، فقالها مرة آخرى:
ضع خدي إلى الأرض يا بني فلم أفعل، فقال! الثالثة:
ضع خدي إلى الأرض، لا أم لك! فعرفت أنه مجتمع العقل، ولم يمنعه أن يضعه هو إلا
ما به من الغلبة، فوضعت خده إلى الأرض، حتى نظرت إلى أطراف شعر لحيته خارجة من
أضعاف التراب، وبكى حتى نظرت إلى الطين قد لصق بعينه، فأصغيت أذني لأسمع ما
يقول: فسمعته يقول: يا ويل عمر! وويل أم عمر، إن لم يتجاوز الله عنه! وقد جاء في رواية، أن علياً رضي الله عنه جاء
حتى وقف عليه، فقال: ما أحد أحب إلي أن ألقى
الله بصحيفته من هذا المسجى. ويروى أن كعباً كان يقول له: نجدك في كتبنا تموت
شهيداً، فيقول: كيف لي بالشهادة وأنا في جزيرة العرب! وروى المقدام بن معد يكرب، قال: لما
أصيب عمردخلت عليه حفصة ابنته، فنادت يا صاحب رسول الله، ويا صهر رسول الله، ويا
أمير المؤمنين! فقال لإبنه عبد الله: أجلسني، فلا صبرلي على ما أسمع، فأسنده إلى
صدره، فقال لها: إني احرج عليك بمالي عليك من الحق أن تندبيني بعد مجلسك هذا،
فأما عينك فلن أملكها، إنه ليس من ميت يندب عليه بما ليس فيه، إلا الملائكة
تمقته! وروى الأحنف، قال: سمعت عمر يقول: إن
قريشاً رؤوس الناس، ليس أحد منهم يدخل من باب إلا دخل معه طائفة من الناس، فلما
أصيب عمر أمر صهيباً أن يصلي بالناس ثلاثة أيام ويطعم!، حتى يجتمعوا على رجل،
فلما وضعت الموائد كف الناس عن الطعام، فقال العباس بن عبد المطلب: أيها الناس،
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات فأكلنا بعده، ومات أبو بكر فأكلنا
بعده، وإنه لا بد للناس من الأكل، ثم مد يده فأكل من الطعام، فعرفت قول عمر.
والأكثرون يروونها لمزرد أخي الشماخ، ومنهم من يرويها للشماخ نفسه. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
عشرة
طعون في عمر والرد عليها،
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ونذكر
في هذا الموضع ما طعن به على عمر في المغني من المطاعن،
وما اعترض به الشريف المرتضى على قاضي القضاة، وما أجاب به قاضي القضاة، في
كتابه المعروف بالشافي، ونذكر ما عندنا في البعض
من ذلك. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الطعن
الأول:
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال
قاضي القضاة: أول ما طعن به عليه قول من قال: إنه بلغ من قلة
علمه أنه لم يعلم أن الموت يجوز على النبي صلى
الله عليه وسلم، وأنه أسوة الأنبياء في ذلك، حتى قال: والله ما مات محمد، ولا
يموت حتى تقطع أيدي رجال وأرجلهم، فلما تلا عليه أبو بكر قوله تعالى: "إنك
ميت وإنهم ميتون"، وقوله: "وما
محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم"
الآيةً، قال: أيقنت بوفاته، وكأني لم أسمع هذه
الآيةً، فلوكان يحفظ القرآن أو يفكر فيه لما قال ذلك، وهذا
يدل! على بعده من حفظ القرآن وتلاوته، ومن هذا حاله لا
يجوز أن يكون إماماً. وحكي
عن الشيخ أبي علي أن أمير المؤمنين رضي
الله عنه لم يحط علمه بجميع الأحكام، ولم يمنع ذلك من فضله، واستدل بما روي من قوله: كنت
إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً
نفعني الله به ما شاء أن ينفعني، وإذا حدثني غيره أحلفته، فإن حلف لي صدقته،
وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر. وذكر أنه لم
يعرف أي موضع يدفن فيه رسول الله صلى
الله عليه وسلم حتى رجع إلى
ما رواه أبو بكر، وذكر قصة الزبير في موالي صفية،
وأن أمير المؤمنين رضي الله عنه أراد أن يأخذ ميراثهم، كما أن عليه أن يحمل عقلهم حتى أخبره عمر
بخلاف ذلك من أن الميراث للأب، والعقل على العصبة. وقوله: "كنت إذا سئلت أجبت وإذا سكت
ابتديت ". وليس
يرد على هذا ما اعترض به المرتضى، لأن عمر ما كان يعتقد استحالة الموت عليه كاستحالة الموت على
البارىء تعالى أعني الاستحالة الذاتية بل اعتقد استمرار حياته إلى يوم القيامة، مع كون الموت جائزاً
في العقل عليه، ولا تناقض في ذلك، فإن إبليس يبقى حياً إلى يوم القيامة، مع كون موته جائزاً في العقل، وما أورده أبو بكر عليه لازم على أن يكون نفيه للموت على هذا الوجه. ثم
قال المرتضى: فاما ما روي عن أمير المؤمنين رضي
الله عنه
من
خبر الاستحلاف في الأخبار، فلا يدل على عدم علم أمير
المؤمنين بالحكم، لأنه يجوز أن يكون استحلافه ليرهب المخبرويخوفه من
الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم لأن العلم بصحة الحكم الذي يتضمنه الخبر لا يقتضي صدق المخبر،
وأيضاً فلا تاريخ لهذا الحديث، ويمكن أن يكون استحلافه رضي الله عنه للرواة إنما كان في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي
تلك الحال لم يكن محيطاً بجميع الأحكام. ويجوز
أن يكون رسول الله صلى
الله عليه وسلم خيروصيه رضي الله عنه في موضع دفنه،
ولم يعين له موضعاً بعينه. فلما روى أبو بكر ما رواه رأى موافقته، فليس في هذا دلالة على أنه رضي
الله عنه استفاد حكماً لم يكن عنده. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الطعن
الثاني:
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أنه
أمر برجم حامل حتى نبهه معاذ، وقال: إن يكن لك عليها سبيل
فلا سبيل لك على ما في بطنها، فرجع عن حكمه،
وقال: لولا معاذ لهلك عمر. ومن
يجهل هذا القدر لا يجوز أن يكون إماماً، لأنه يجري
مجرى أصول الشرع، بل العقل يدل عليه، لأن الرجم عقوبة،
ولا يجوز أن يعاقب من لا يستحق. ثم
سأل نفسه فقال: فإن
قيل: إذا لم تكن منه معصية، فكيف يهلك لولا معاذ! وأجاب
بأنه لم يرد: لهلك من جهة العذاب، وإنما أراد:
أنه كان يجري بقوله قتل من لا يستحق القتل. ويجوز
أن يريد بذلك تقصيره في تعرف حالها، لأن ذلك لا
يمتنع أن يكون بخطيئة وان صغرت. فأما إقراره
بالهلاك لولا تنبيه معاذ، فإنه يقتضي التعظيم والتفخيم لشأن الفعل، ولا يليق ذلك
إلا بالتقصير الواقع، إما في الأمر برجمها مع العلم
بأنها حامل، أو ترك البحث عن ذلك والمسألة عنه،
وأي لوم عليه في أن يجري بقوله قتل من لا يستحق القتل
إذا لم يكن ذلك عن تفريط منه ولا تقصير! قلت: أما ظاهر لفظ معاذ فيشعر بما قاله المرتضى، ولم يمتنع أن يكون عمر لم
يعلم أنها حامل
وأن معاذاً قد كان من الأدب أن يقول له: حامل يا
أمير المؤمنين، فعدل عن هذا اللفظ بمقتضى أخلاق العرب وخشونتهم. فقال له:
إن كان لك عليها سبيل فلا سبيل لك على ما في بطنها، فنبهه
على العلة والحكم معاً، وكان الأدب أن ينبهه على
العلة فقط وأما عدول عمر عن أن يقول: أنا
أعلم أن الحامل لا ترجم، وإنما أمرت برجمها، لأني لم أعلم أنها حامل، فلأنه إنما يجب أن يقول مثل هذا من يخاف من اضطراب
حاله، أو نقصان ناموسه وقاعدته إن لم يقله، وعمر كان أثبت قدماً في ولايته، وأشد تمكناً من أن يحتاج إلى
الاعتذار بمثل هذا. والعجب أنه حكى لفظ قاضي القضاة بهذه الصورة، ثم قال: إنه ادعى أنها صغيرة، وبين قول القائل:
"لا يمتنع أن يكون صغيرة"، وقوله:
"هي صغيرة" لا محالة فرق عظيم. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الطعن
الثالث:
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
خبر
المجنونة التي أمر برجمها، فنبهه أمير المؤمنين رضي الله عنه وقال:
إن القلم مرفوع عن المجنون حتى يفيق. فقال:
لولا علي لهلك عمر! وهذا يدل على أنه لم يكن يعرف
الظاهرمن الشريعة. وأما ذكر
الغم، فأي غم كان يلحقه إذا فعل ما له أن يفعله! ولم يكن منه تفريط ولا تقصير، لأنه إذا كان جنونها لم يعلم به، فكانت المسألة عن
حالها والبحث لا يجبان عليه، فأي وجه لتألمه وتوجعه واستعظامه لما فعله! وهل هذا إلا كرجم المشهود عليه بالزنا في أنه لو ظهر
للإمام بعد ذلك براءة ساحته لم يجب ن يندم على فعله ويستعظمه، لأنه وقع صواباً مستحقاً. وأما
قوله:
إنه كان لا يمتنع في الشرع أن يقام الحد على المجنون، وتأوله الخبر المروي على
أنه يقتضي زوال التكليف دون الأحكام، فإن أراد
أنه لا يمتنع في العقل أن يقام على المجنون ما هو من جنس الحد بغير استخفاف ولا
إهانة، فذلك صحيح، كما يقام على التائب وأما الحد في الحقيقة، وهو الذي تضمنه الاستخفاف
والإهانة فلا يجوز إلا على المكلفين ومستحقي العقاب، وبالجنون
قد ازيل التكليف، فزال استحقاق العقاب الذي تبعه الحد. واعتذار قاضي القضاة بالغم جيد، وقول المرتضى:
أي غم كان يلحقه إذا فعل ما له أن يفعله! ليس بإنصاف،
ولا مثل هذا يقال فيه إنه فعل ما له أن يفعله، ولا يقال
في العرف لمن قتل إنسانأ خطأ: إنه فعل ما له أن يفعله، والمرجوم في الزنا
إذا ظهر للإمام بعد قتله براءة ساحته قد يغتم بقتله
غماً كثيراً بالطبع البشري، ويتألم ان لم
يكن أثماً، وليس من توابع الإثم ولوازمه. وقوله
معترضاً على كلام قاضي القضاة: إن الخطأ في ذلك قد لا يعظم ليمنع
من صحة الإمامة إن هذا اقتراح بغيرحجة، لأنه إذا
اعترف بالخطأ فلا سبيل إلى القطع على أنه صغير غير
لازم، لأن قاضي القضاة لم يقطع بأنه صغير، بل
قال: لا يمتنع وإذا جاز أن يكون صغيراً لم نكن قاطعين على فساد الإمامة به. فإن قال المرتضى: كما
أنكم لا تقطعون على أنه صغير، فتكون الإمامة مشكوكاً فيها، قيل له: الأصل عدم الكبير،
فإذا حصل الشك في أمر: هل هو صغيرأم كبير، تساقط
التعارض، ورجعنا إلى الأصل، وهو عدم كون ذلك الخطأ كبيراً، فلا يمنع ذلك من صحة الإمامة. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الطعن
الرابع:
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
حديث أبي العجفاء، وأن عمر منع من المغالاة في صدقات النساء، اقتداء
بما كان من النبي صلى الله عليه وسلم في صداق فاطمة،
حتى قامت المرأة ونبهته بقوله تعالى: "وآتيتم إحداهن قنطاراً"، على جواز
ذلك، فقال: كل النساء أفقه من عمر! وبما روي أنه
تسور على قوم، ووجدهم على منكر، فقالوا له: إنك أخطات من جهات: تجسست، وقال الله تعالى : "ولا تجسسوا"، ودخلت بغير إذن، ولم تسلم. وأما
حديث التجسس فإن كان فعله فقد كان له ذلك، لأن
للإمام أن يجتهد في إزالة المنكر بهذا الجنس من الفعل، وإنما لحقه على ما يروى في الخبر الخجل، لأنه لم يصادف الأمر على
ما القي إليه في إقدامهم على المنكر. فأما
تأوله الحديث وحمله على الاستحباب فهو دفع للعيان، لأن المروي أنه
منع من ذلك وحظره حتى قالت المرأة ما قالت، ولوكان غيرحاظر للمغالاة لما
كان في الآيةً حجة، ولا كان لكلام المرأة موقع، ولا كان يعترف لها بأنها أفقه
منه، بل كان الواجب أن يرد عليها ويوبخها وشرفها أنه ما حظر لذلك، وإنما تكون الآيةً حجة عليه لو كان حاظرأ مانعأ، فأما التواضع فلا يقتضي إظهار القبيح وتصويب الخطأ. ولوكان
الأمر على ما توهمه صاحب الكتاب لكان هو المصيب والمرأة
مخطئة، فكيف يتواضع بكلام يوهم أنه المخطىء، وهي
المصيبة! فأما التجسس فهو محظور بالقرآن والسنة،
وليس للإمام أن يجتهد فيما يؤدي إلى مخالفة الكتاب والسنة، وقد كان يجب
إن كان هذا عذراً صحيحاً أن يعتذر به إلى من
خطأه في وجهه وقال له: إنك أخطأت السنة من وجوه،
فإنه بمعاذير نفسه أعلم من صاحب الكتاب، وتلك
الحال حال تدعو إلى الاحتجاج وإقامة العذر. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الطعن
الخامس:
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أنه كان يعطي
من بيت المال ما لا يجوز، حتى إنه كان يعطي عائشة وحفصة عشرة آلاف درهم في كل
سنة، ومنع أهل الحيت خمسهم الذي يجري مجرى الواصل إليهم من قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأنه كان عليه
ثمانون ألف درهم من بيت المال على سبيل القرض. فأما
أمر الخمس فمن باب الاجتهاد، وقد اختلف الناس فيه، فمنهم من جعله حقاً لذوي القربى وسهماً مفرداً لهم على
ما يقتضيه ظاهر الآيةً، ومنهم من جعله حقاً لهم
من جهة الفقر، وأجراهم مجرى غيرهم، وإن كان قد خصوا بالذكر، كما أجرى الأيتام ون
خصوا بالذكر مجرى غيرهم في أنهم يستحقون بالفقر. والكلام
في ذلك يطول، فلم يخرج عمر بما حكم به عن طريقة
الاجتهاد، ومن قدح في ذلك فإنما يقدح في الاجتهاد الذي هو طريقة الصحابة. وقد روى سليم بن قيس
الهلالي، قال: سمعت أمير المؤمنين رضي
الله عنه يقول: "نحن والله الذي عنى الله بذي القرب، قرنهم الله بنفسه
ونبيه صلى الله عليه وسلم فقال:
"ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله
وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل"، كل هؤلاء منا خاصة، ولم يجعل لنا سهماً في الصدقة، أكرم الله
تعالى نبيه وأكرمنا أن يطعمنا أوساخ ما في أيدي الناس. وروى يزيد بن هرم، قال:
كتب نجدة إلى ابن عباس، يسأله عن الخمس لمن هو؟ فكتب إليه: كتبت تسألني عن الخمس
لمن هو؟ وإنا كنا نزعم أنه لنا، فأبى قومنا علينا ذلك، فصبرنا عليه. قلت:
أما قوله:" لا يجوز للإمام أن يفضل في العطاء إلا
لسبب يقتضي ذلك كالجهاد، فليست أسباب التفضيل مقصورة على الجهاد وحده،
فقد يستحق الإنسان التفضيل في العطاء على غيره لكثرة
عبادته أو لكثرة علمه، أو انتفاع الناس به، فلم لا يجوز أن يكون عمر فضل الزوجات
لذلك! وأيضاً:
فإن الله تعالى فرض لذوي القربى من رسول الله صلى
الله عليه وسلم نصيباً في
الفيء والغنيمة، ليس إلا لأنهم ذوو قرابته فقط، فما المانع من أن يقيس عمر على ذلك ما فعله في العطاء، فيفضل ذوي قرابة رسول الله في ذلك
على غيرهم، ليس إلا لأنهم ذوو قرابته، والزوجات وإن لم
يكن لهن قربى النسب فلهن قربى الزوجية! وكيف
يقول المرتضى: ما جاز أن يفضل أحداً إلا بالجهاد! وقد فضل الحسن والحسين على كثيرمن أكابر المهاجرين والأنصار
وهما صبيان، ما جاهدا ولا بلغا الحلم بعد، وأبوهما أمير المؤمنين موافق على ذلك، راض به، غيرمنكر له! وهل فعل عمر ذلك
إلا لقربها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نذكر ما فعله في هذا الباب مختصراً نقلناه من كتاب أبي الفرج
عبد الرحمن بن علي بن الجوزي المحدث في "أخبار عمروسيرته ". واستثنى من الزوجات جويرية وصفية وميمونة، ففرض لكل واحدة منهن
ستة آلاف، فقالت عائشة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعدل بيننا، فعدل عمر بينهن، وألحق هؤلاء الثلاث بسائرهن، ثم فرض للمهاجرين الذين
شهدوا بدرا لكل واحد خمسة آلاف، ولمن شهدها من الأنصار لكل واحد أربعة آلاف. فأما
الخمس والخلاف فيه فإنها مسألة اجتهادية، والذي يظهر
لنا فيه ويغلب عندنا من أمرها، أن الخمس حق صحيح ثابت، وأنه باق إلى الآن على ما يذهب إليه الشافعي،
وأنه لم يسقط بموت رسول الله صلى
الله عليه وسلم ولكنا لا نرى ما يعتقده
المرتضى من أن الخمس لآل الرسول صلى
الله عليه وسلم، وأن الأيتام أيتامهم،
والمساكين مساكينهم وابن السبيل منهم، لأنه
على خلاف ما يقتضيه ظاهر الآيةً والعطف، ويمكن أن يحتج على ذلك بأن قوله تعالى في سورة الحشر:
"للفقراء المهاجرين" يبطل هذا القول،
لأن هذه اللام لا بد أن تتعلق بشيء، وليس قبلها ما تتعلق به أصلاً، إلا أن تجعل
بدلاً من اللام التي قبلها في قوله: "ما افاء
الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن
السبيل". وليس
يجوز أن تكون بدلاً من اللام في لله، ولا من اللام في قوله:
وللرسول فبقي أن تكون بدلاً من اللام في قوله "ولذي
القربى"، أما الأول فتعظيماً له
سبحانه، وأما الثاني فلأنه تعالى قد أخرج رسوله
من الفقراء بقوله: وينصرون الله ورسوله، ولأنه يجب أن يرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
التسمية بالفقير. وأما
الثالث، فإما أن يفسر هذا البدل وما عطف عليه المبدل منه،
أو يفسر هذا البدل وحده دون ما عطف عليه المبدل منه، والأول لا يصح لأن المعطوف
على هذا البدل ليس من أهل القرى وهم الأنصار، ألا ترى كيف قال سبحانه: "للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم"
الآيةً، ثم قال سبحانه: "والذين تبوءوا الدار
والإيمان من قبلهم"وهم الأنصار. ون كان الثاني
صار تقدير الآية أن الخمس لله وللرسول ولذي القربى الذين وصفهم الله ونعتهم
بأنهم هاجروا وأخرجوا من ديارهم، وللأنصار، فيكون
هذا مبطلاً لما يذهب إليه المرتضى لا قصر الخمس على ذوي القربى. وأما
مالك بن أنس، فعنده أن الأمر في هذه المسألة مفوض
إلى اجتهاد الإمام. إن رأى قسمه
بين هؤلاء، وإن رأى أعطاه بعضهم دون بعض، وإن رأى الإمام غيرهم أولى وأهم،
فغيرهم. ومذهب
مالك يجيء على هذا الاحتمال. فأما مذهب الإمامية، فإن الخمس كله للقرابة. وروى
عبد الله بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن جده أن عبد الله وعبيد الله ابني عمر مرا
بأبي موسى، وهو على العراق وهما مقبلان من أرض فارس، فقال:
مرحباً بابني أخي، لوكان عندي شيء، وبلى قد اجتمع هذا المال عندي، فخذاه واشتريا
به متاعاً، فإذا قدمتما فبيعاه ولكما ربحه، وأديا إلى أمير المؤمنين رأس المال،
ففعلا، فلما قدما على عمر بالمدينة أخبراه، فقال:
أكل أولاد المهاجرين يصنع بهم أبو موسى مثل ذلك! فقالا: لا، قال: فإن عمر يأبى
أن يجيز ذلك وجعله قراضاً. وروي عن قتادة،
قال: كان معيقيب على بيت المال لعمر، فكسح عمر بيت المال يوماً، وأخرجه
إلى المسلمين، فوجد معيقيب فيه درهماً، فدفعه إلى ابن عمر، قال معيقيب: ثم انصرف إلى بيتي، فإذا رسول عمر قد
جاء يدعوني، فجئت فإذا الدرهم في يده، فقال: ويحك يا معيقيب! أوجدت علي في نفسك
شيئاً! قلت: وما ذاك؟ قال!: أردت أن تخاصمني أمة محمد في هذا الدرهم يوم
القيامة! وروى عمر بن شبة، عن
عبد الله بن الأرقم وكان خازن عمر فقال: إن عندنا حلية من حلية جلولاء
وآنية من فضة، فانظر ما تأمر فيها؟ قال: إذا رأيتني فارغاً فآذني، فجاءه يوماً
فقال: إني أراك اليوم فارغاً، فما تأمر بتلك الحلية، قال: ابسط لي نطعاً، فبسطه
ثم أتى بذلك المال، فصب عليه، فرفع يديه وقال: اللهم إنك ذكرت هذا المال، فقلت: "زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير
المقنطرة من الذهب والفضة" ثم قلت: "لكيلا
تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم" اللهم إنا لا نستطيع إلا
أن نفرح بما زينت لنا. اللهم إني أسألك أن تضعه في حقه، وأعوذ بك من
شره، ثم ابتدأ فقسمه بين الناس، فجاءه ابن بنت له، فقال: يا أبتاه! هب لي منه
خاتماً، فقال: اذهب إلى أمك تسقك سويقاً، فلم يعطه شيئاً. فصرفه
عنها إلى أم كلثوم بنت فاطمة. وروى
سعيد بن المسيب، قال: كتب عمر لما قسم العطاء وفضل من فضل للمهاجرين
الذين شهدوا بدراً خمسة آلاف، وكتب لمن لم يشهد بدراً أربعة آلاف، فكان منهم عمر
بن أبي سلمة المخزومي، وأسامة بن زيد بن حارثة، ومحمد بن عبد الله بن جحش، وعبد
الله بن عمر بن الخطاب، فقال عبد الرحمن بن عوف وهو
الذي كان يكتب: يا أمير المؤمنين، إن عبد الله بن عمر، ليس من هؤلاء، إنه
وإنه... يطريه ويثني عليه، فقال له عمر: ليس له
عندي إلا مثل واحد منهم، فتكلم عبد الله وطلب الزيادة، وعمر
ساكت، فلما قضى كلامه، قال عمر لعبد الرحمن:
اكتبه على خمسة آلاف، واكتبني على أربعة آلاف، فقال
عبد الله: لا أريد هذا، فقال عمر:
والله لا أجتمع أنا وأنت على خمسة آلاف، قم إلى منزلك، فقام عبد الله كئيباً. قال
أبو وائل: استعملني ابن زياد على بيت المال بالكوفة، فأتاني
رجل بصك يقول فيه: أعط صاحب المطبخ ثمانمائة درهم، فقلت له: مكانك. ودخلت على ابن
زياد، فقلت له: إن عمر استعمل عبد الله بن مسعود بالكوفة على القضاء وبيت المال، واستعمل عثمان بن حنيف على سقي الفرات، واستعمل عمار بن ياسر على الصلاة
والجند، فرزقهم كل يوم شاة واحدة، فجعل نصفها وسقطها
وأكارعها لعمار، لأنه كان على الصلاة والجند، وجعل لابن مسعود ربعها، ولابن حنيف
ربعها، ثم قال: إن مالاً يؤخذ منه كل يوم شاة، إن ذلك فيه لسريع، فقال ابن زياد: ضع المفتاح فاذهب حيث شئت. وروى أبو جعفر الطبري في التاريخ، أن عمر بعث سلمة بن قيس
الأشجعي إلى طائفة من الأكراد،
كانوا على الشرك، فخرج إليهم في جيش سرحه معه من المدينه، فلما إنتهى إليهم،
دعاهم إلى الإسلام أو إلى أداء الجزية، فأبوا، فقاتلهم، فنصره الله عليهم، فقتل
المقاتلة وسبى الذرية، وجمع الرثة، ووجد حلية وفصوصاً وجواهر، فقال لأصحابه: أتطيب أنفسكم أن نبعث بهذا إلى أمير المؤمنين، فإنه غيرصالح لكم، وإن على أمير
المؤمنين لمؤنة وأثقالاً، قالوا: نعم، قد طابت أنفسنا، فجعل تلك الجواهر في سفط،
وبعث به مع واحد من أصحابه، وقال له: سر، فإذا أتيت البصرة فاشتر راحلتين
فأوقرهما زاداً لك ولغلامك، وسر إلى أمير المؤمنين. قال:
ففعلت، فأتيت عمر وهو يغدي الناس، قائماً متكئاً على عصا كما يصنع الراعي،
وهويدورعلى القصاع، فيقول: يا يرفأ زد هؤلاء لحماً، زد هؤلاء خبزاً، زد هؤلاء
مرقة، فجلست في أدنى الناس فإذا طعام فيه خشونة، طعامي الذي معي أطيب منه، فلما
فرغ أدبر فاتبعته، فدخل داراً فاستأذنت، ولم أعلم حاجبه من أنا، فأذن لي، فوجدته
في صفة جالساً على مسح، متكئاًعلى وسادتين من أدم محشوتين ليفاً، وفي الصفة عليه
سترمن صوف، فنبذ إلي إحدى الوسادتين، فجلست عليها، فقال: يا أم كلثوم، ألا
تغدوننا،
فأخرج إليه خبزة بزيت في عرضها ملح لم يدق، فقال:
يا أم كلثوم، ألا تخرجين إلينا تأكلين معنا،
فقالت: إني أسمع عندك حس رجل، قال: نعم، ولا أراه من
أهل هذا البلد، قال: فذاك حين عرفت أنه لم يعرفني، فقالت: لو أردت أن أخرج إلى الرجال لكسوتني كما كسا الزبير امرأته، وكما كسا طلحة امرأته،
قال: أو ما يكفيك أنك أم كلثوم ابنة علي بن أبي طالب وزوجة
أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، قالت: إن ذاك عني لقليل الغناء، قال: كل، فلو كانت راضية لأطعمتك أطيب من هذا، فأكلت قليلاً،
وطعامي الذي معي أطيب منه، وأكل، فما رأيت أحداً أحسن أكلاً منه، ما يتلبس طعامه
بيده ولا فمه، ثم قال: اسقونا، فجاؤوا بعس من سلت، فقال: أعط الرجل،
فشربت قليلاً، وإن سويقي الذي معي لأطيب منه، ثم أخذه فشربه حتى قرع القدح
جبهته، ثم قال: الحمد لله الذي أطعمنا
فأشبعنا، وسقانا فأروانا، إنك يا هذا لضعيف الأكل، ضعيف الشرب، فقلت: يا أمير المؤمنين، إن لي حاجة، قال: ما حاجتك،
قلت: أنا رسول سلمة بن قيس، فقال: مرحباً
بسلمة ورسوله، فكأنما خرجت من صلبه، حدثني عن المهاجرين كيف هم، قلت: كما تحب يا
أمير المؤمنين، من السلامة والظفر والنصر على عدوهم، قال:
كيف أسعارهم، قلت: أرخص أسعار، قال: كيف
اللحم فيهم، فإنه شجرة العرب، ولا تصلح العرب إلا على شجرتها، قلت: البقرة فيهم
بكذا، والشاة فيهم بكذا، ثم سرنا يا أمير المؤمنين حتى لقينا
عدونا من المشركين، فدعوناهم إلى الذي أمرت به من الإسلام فأبوا، فدعوناهم إلى
الخراج فأبوا، فقاتلناهم فنصرنا الله عليهم، فقتلنا المقاتلة، وسبينا الذرية
وجمعنا الرثة، فرأى سلمة في الرثة حلية، فقال للناس: إن هذا لا يبلغ فيكم
شيئاً، أفتطيب أنفسكم أن أبعث به إلى أمير المؤمنين، قالوا: نعم، ثم استخرجت
سفطي ففتحته، فلما نظر إلى تلك الفصوص، من بين أحمر وأخضر وأصفر، وثب وجعل يده
في خاصرته يصيح صياحاً عالياً، ويقول: لا أشبع الله إذن
بطن عمر يكررها، فظن النساء أني جئت لأغتاله، فجئن إلى الستر فكشفنه، فسمعنه
يقول: لف ما جئت به يا يرفأ جأ عنقه، قال: فأنا أصلح سفطي، ويرفأ يجأ
عنقي، ثم قال: النجاء النجاء: قلت، يا أمير
المؤمنين انزع بي فاحملني، فقال: يا يرفأ، أعطه راحلتين من إبل الصدقة، فإذا
لقيت أفقر إليهما منك فادفعهما إليه، وقال أظنك ستبطىء، أما والله لئن
تفرقالمسلمون في مشاتيهم قبل أن يقسم هذا فيهم، لأفعلن بك وبصاحبك الفاقرة. فجوابه أن
المتزهد المتقشف قد يضيق على نفسه ويوسع على غيره، إما
من باب التكرم والإحسان، أو من باب الصدقة وابتغاء الثواب، وقد يصل رحمه
وإن قترعلى نفسه. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الطعن
السادس:
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إنه
عطل حد الله في المغيرة بن شعبة، لما شهد عليه
بالزنا، ولقن الشاهد الرابع الامتناع عن الشهادة،
اتباعاً لهواه، فلما فعل ذلك عاد إلى الشهود فحدهم وضربهم، فتجنب أن يفضح المغيرة، وهو واحد، وفضح الثلاثة مع تعطيله
لحكم الله، ووضعه في غير موضعه. وقال
رضي الله عنه لصفوان بن أمية
لما أتاه بالسارق، وأمر بقطعه، فقال: هو له، يعني
ما سرق، هلا قبل أن تأتيني به، فلا يمتنع من عمر ألا يحب أن تكمل الشهادة وينبه
الشاهد على ألا يشهد، وقال: إنه جلد الثلاثة من حيث صاروا قذفة، وإنه ليس حالهم،
وقد شهدوا، كحال من لم تتكامل الشهادة عليه، لأن الحيلة في إزالة الحد عنه، ولما
تتكامل الشهادة عليه، ممكنة بتلقين وتنبيه غيره، ولا حيلة فيما قد وقع من
الشهادة، فلذلك حدهم. وحكي عن أبي علي في
جواب اعتراضه عن نفسه بما روي عن عمر أنه كان إذا رآه يقول: لقد خفت أن
يرميني الله عز وجل بحجارة من السماء، أن هذا الخبرغير صحيح، ولوكان حقاً لكان
تأويله التخويف، وإظهار قوة الظن، لصدق القوم الذين شهدوا عليه، ليكون ردعاً له.
وذكر أنه غيرممتنع أن يحب ألا يفتضح لما كان متولياً للبصرة من قبله. وتصريحه بأنه
لا يريد أن يعمل بموجبها. وتأوله
عليه:
لقد خفت أن يرميني الله بحجارة من السماء، لا يليق بظاهر الكلام لأنه يقتضي
التندم، والتأسف على تفريط وقع، ولم يخاف أن يرمى بالحجارة وهو لم يدرأ الحد عن
مستحق له، ولو أراد الرح والتخويف للمغيرة لأتى بكلام يليق بذلك، ولا يقتضي
إضافة التفريط إلى نفسه. وكونه والياً من قبله لا يقتضي أن يدرأ عنه الحد، ويعدل
به إلى غيره. فأما
استدلاله على أن زياداً لم يفسق بالإمساك عن الشهادة بتولية أمير المؤمنين رضي الله عنه له فارس، فليس بشيء يعتمد، لأنه لا يمتنع أن يكون قد تاب بعد ذلك،
وأظهر توبته لأمير المؤمنين رضي الله عنه، فجاز أن يوليه. وقد
كان بعض أصحابنا يقول في قصة المغيرة شيئاً طيباً، وإن كان معتملاً في باب
الحجة، كان يقول: إن زياداً إنما امتنع من التصريح بالشهادة المطلوبة في
الزنا، وقد شهد بأنه شاهده بين شعبها الأربع، وسمع
نفساً عالياً، فقد صح على المغيرة بشهادة الأربع
جلوسه منها مجلس الفاحشة، إلى غير ذلك من مقدمات الزنا وأسبابه، فهلا ضم
عمر إلى جلد الثلاثة تعزير هذا الذي قد صح عنده بشهادة الأربعة ماصح من الفاحشة،
مثل تعريك أذنه، أو ما يجري مجراه من خفيف التعزير ويسيره، وهل في العدول عن ذلك
حتى عن لومه وتوبيخه والاستخفاف به إلا ما ذكروه من السبب الذي يشهد الحال به. قال
الطبري: حدثني محمد بن يعقوب بن عتبة، قال: حدثني أبي، قال:
كان المغيرة يخالف إلى أم جميل، امرأة من بني هلال بن عامر، وكان لها زوج من
ثقيف هلك قبل ذلك، يقال له الحجاج بن عبيد، وكان المغيرة وكان أمير البصرة يختلف
إليها سراً، فبلغ ذلك أهل البصرة، فأعظموه، فخرج المغيرة يوماً من الأيام إلى
المرأة، فدخل عليها وقد وضعوا عليهما الرصدا، فانطلق
القوم الذين شهدوا عند عمر فكشفوا الستر، فرأوه قد واقعها، فكتبوا بذلك إلى عمر،
وأوفدوا إليه بالكتاب أبا بكرة. فانتهى أبو بكرة إلى المدينة، وجاء إلى
باب عمر فسمع صوته وبينه وبينه حجاب، فقال: أبوبكرة، فقال: نعم، قال: لقد جئت
لشر، قال: إنما جاء به المغيرة، ثم قص عليه القصة، وعرض عليه الكتاب، فبعث أبا
موسى عاملاً، وأمره أن يبعث إليه المغيرة، فلما دخل أبو موسى البصرة، وقعد في
الإمارة، أهدى إليه المغيرة عقيلة، وقال: إنني قد رضيتها لك، فبعث أبو موسى بالمغيرة إلى عمر. قال عمر:
فاستعن بمن أحببت، فاستعان بتسعة وعشرين رجلاً، منهم أنس بن مالد، وعمران بن
حصين، وهشام بن عامر. وخرج أبو موسى
بهم حتى أناخ بالبصرة في المربد، وبلغ المغيرة أن أبا موسى قد أناخ بالمربد،
فقال: والله، ما جاء أبو موسى زائراً، ولا تاجراً، ولكنه جاء أميراً. فإنهم
لفي ذلك إذ جاء أبو موسى، حتى دخل عليهم، فدفع إلى المغيرة كتاباً من عمر، إنه
لأوجز كتاب كتب به أحد من الناس، أربع كلم، عزل فيها وعاتب، واستحث وأمر:
"أما بعد، فإنه بلغني نبأ عظيم، فبعثت أبا موسى، فسلم ما في يديك إليه، والعجل ". وشهد
نافع بمثل شهادة أبي بكرة، ولم يشهد زياد بمثل شهادتهم. قال:
رأيته جالساً بين رجلي امرأة، ورأيت قدمين مرفوعتين تخفقان، واستين مكشوفتين،
وسمعت حفزاً شديداً، قال عمر: فهل رأيته
فيها كالميل في المكحلة، قال: لا، قال: فهل
تعرف المرأة، قال: لا، ولكن أشبهها، فأمر عمر
بالثلاثة فجلدوا الحد، وقرأ: "فإذ لم
ياتوا بالشهداء فاولئك عند الله هم الكاذبون"، فقال المغيرة: الحمد
لله الذي أخزاكم، فصاح به عمر: اسكت أسكت
الله نأمتك، أما والله لو تمت الشهادة لرجمتك بأحجارك. فهذا ما ذكره
الطبري. قالوا:
فخرج أبو موسى حتى صلى الغداة بظهر المربد، وأقبل إنسان فدخل على المغيرة، فقال:
إني رأيت أبا موسى قد دخل المسجد الغداة، وعليه برنس، وها هو في جانب المسجد، فقال المغيرة: إنه لم يأت زائراً ولا تاجراً. قال: إن شئت
شفعتني، وأبررت قسم أمير المؤمنين بأن تؤجلني إلى الظهر، وتمسك الكتاب في يدك. قال
أبو بكرة: لم آل أن أثبت ما يخزيك الله به، فقال عمر: لا
والله حتى تشهد: لقد رأيته يلج فيها كما يلج المرود في المكحلة، قال: نعم أشهد
على ذلك، فقال عمر: اذهب عنك مغيرة، ذهب ربعك. قال:
فجعل المغيرة يبكي إلى المهاجرين، وبكى إلى أمهات المؤمنين حتى بكين معه، قال:
ولم يكن زياد حضر ذلك المجلس، فأمر عمر أن ينحى الشهود الثلاثة، وألا يجالسهم
أحد من أهل المدينة، وانتظر قدوم زياد، فلما قدم
جلس في المسجد، واجتمع رؤوس المهاجرين والأنصار، قال المغيرة: وكنت قد أعددت كلمة أقولها، فلما رأى عمر زياداً مقبلاً، قال: إني لأرى رجلاً لن يخزي
الله على لسانه رجلاً من المهاجرين. وروى قوم أن الضارب لهم الحد لم يكن المغيرة، وأعجب عمر قول زياد، ودرأ الحد عن
المغيرة، فقال أبو بكرة بعد أن ضرب: أشهد أن
المغيرة فعل كذا وكذا، فهم عمر بضربه، فقال له علي رضي الله عنه: إن ضربته رجمت
صاحبك، ونهاه عن ذلك. قال أبو الفرج: يعني إن ضربه تصير شهادته شهادتين،
فيوجب بذلك الرجم على المغيرة.
قال أبو الفرج: وروى المدائني أن المغيرة لما شخص إلى عمر في هذه الوقعة،
رأى في طريقه جارية فأعجبته، فخطبها إلى أبيها، فقال له: وأنت على هذه الحال،
قال: وما عليك، إن أبق فهو الذي تريد، وإن أقتل ترثني. فزوجه. قال: فهل تعرف جرير بن عبد
الله، قال: كيف لا أعرف رجلاً لولاه ما عرفت
عشيرته، فقالوا: قبحك الله، فإنك شر جليس،
هل تحب أن يوقر لك بعيرك هذا مالاً وتموت أكرم
العرب موتة، قال: فمن يبلغه إذن أهلي،
فانصرفوا عنه فتركوه. قال
أبو الفرج: وروى علي بن سليمان الأخفس، قال: خرج المغيرة
بن شعبة وهو يومئذ على الكوفة، ومعه الهيثم بن التيهان النخعي غب مطر يسير، في
ظهر الكوفة والنجف، فلقي ابن لسان الحمرة، أحد بني تيم الله بن ثعلبة، وهولا
يعرف المغيرة ولا يعرفه المغيرة، فقال له: من أين أقبلت يا أعرابي، قال: من
السماوة، قال: كيف تركت الأرض خلفك، قال: عريضة
أريضة، قال: فكيف كان المطر، قال: عفى
الأثر، وملأ الحفر، قال: فمن أنت، قال: من
بكر بن وائل، قال: كيف علمك بهم، قال: إن
جهلتهم لم أعرف غيرهم، قال: فما تقول في بني
شيبان، قال: سادتنا وسادة غيرنا، قال:
فما تقول في بني ذهل، قال: سادة نوكى، قال: فقيس بن ثعلبة، قال: إن جاورتهم سرقوك، وإن ائتمنتهم خانوك، قال: فبنوتيم الله بن ثعلبة، قال: رعاء النقد وعراقيب الكلاب، قال فبني يشكر، قال: صريح
تحسبه مولى. قال هاشم بن الكلبي: لأن
في ألوانهم حمرة. قال: فعجل، قال: أحلاس
الخيل، قال: فعبد القيس، قال: يطعمون الطعام وبضربون الهام، قال: فعنزة، قال: لا تلتقي
بهم الشفتان لؤماً، قال: فضبيعة أضجم،
قال: جدعاً وعقراً، قال: فأخبرني عن النساء، قال: النساء
أربع: ربيع مربع، وجميع مجمع، وشيطان سمعمع، وغل لا يخلع، قال فسر، قال: أما الربيع المربع، فالتي إذا نظرت إليها سرتك،
وإذا أقسمت عليها برتك، وأما التي هي جميع مجمع، فالمرأة
تتزوجها ولها نسب فيجتمع نسبها إلى نسبك، وأما
الشيطان السمعمع فالكالحة في وجهك إذا دخلت، المولولة في أثرك إذا خرجت، وأما الغل الذي لا يخلع، فبنت عمك السوداء
القصيرة، الفوهاء الدميمة، التي قد نثرت لك بطنها، إن طلقتها ضاع ولدك، وإن
أمسكتها فعلى جدع أنفك. قال المغيرة:
بل أنفك. قال: فما تقول قي
أميرك المغيرة بن شعبة، قال: أعور زان، فقال
الهيثم بن الأسود: فض الله فاك، ويلك إنه الأمير المغيرة، قال: إنها كلمة تقال. فانطلق به المغيرة إلى منزله، وعنده يومئذ
أربع نسوة وستون أو سبعون أمة، وقال: ويحك، هل يزني الحر وعنده مثل هؤلاء، ثم قال لهن: ارمين إليه بحليكن، ففعلن، فخرج بملء كسائه ذهباً وفضة. فدرأ
عنه الحد. ومن تأمل المسائل الفقهية في باب الحدود، علم أنها بنيت على الإسقاط عند أدنى سبب وأضعفه، ألا
ترى أنه لو أقر بالزنا ثم رجع عن إقراره قبل إقامة
الحد، أوفي وسطه قبل رجوعه وخلي سبيله. ويجب على الإمام
أن يسأل الشهود: ما الزنا، وكيف هو، وأين زنى، وبمن زنى، ومتى زنى، وهل
رأوه وطئها في فرجها كالميل في المكحلة فإذا ثبت كل ذلك سأل عنهم، فلا يقيم الحد
حتى يعدلهم القاضي في السر والعلانية، ولا يقام الحد بإقرار الإنسان على نفسه،
حق يقر أربع مرات في أربعة مجالس، كلما أقر رده القاضي، وإذا تم إقراره سأله
القاضي عن الزنا، ما هو، وكيف هو، وأين زنى، وبمن زنى، ومتى زنى، قال الفقهاء: ويجب أن يبتدىء الشهود برجمه إذا
تكاملت الشهادة، فإن امتنعوا من الابتداء برجمه سقط
الحد. قالوا:
ولا حد على من وطىء جارية ولده، أو ولد ولده، وإن قال: علمت أنها علي حرام، وإن
وطىء جارية أبيه أو أمه أو أخته، وقال: ظننت أنها تحل لي فلا حد عليه، ومن أقر
أربع مرات في مجالس مختلفة بالزنا بفلانة، فقالت هي: بل تزوجني، فلا حد عليه،
وكذلك إن أقرت المرأة بأنه زنى بها فلان، فقال
الرجل: بل تزوجتها، فلا حد عليها، قالوا:
وإذا شهد الشهود بحد متقادم من الزنا لم يمنعهم عن إقامته بعدهم عن الإمام، لم
تقبل شهادتهم إذا كان حد الزنا، وإن شهدوا أنه زنى بامرأة ولا يعرفونها لم يحد،
وإن شهد اثنان أنه زنى بامرأة بالكوفة، وآخران أنه زنى بالبصرة درىء الحد عنهما
جميعاً، وإن شهد أربعة على رجل أنه زنا بامرأة بالنخيلة عند طلوع الشمس من يوم
كذا وكذا، وأربعة شهدوا بهذه المرأة عند طلوع الشمس ذلك اليوم بدير هند درىء
الحد عنه وعنها وعنهم جميعاً، وإن شهد أربعة على
شهادة أربعة بالزنا لم يحد المشهود عليه. وهذه
المسائل كلها مذهب أبي حنيفة، ويوافقه الشافعي في كثيرمنها، ومن تأملها علم أن مبنى الحدود
على الإسقاط بالشبهات، إن ضعفت. قلت:
ذكر محمد بن النعمان وهو شيخ المرتضى، الذي قرأ عليه فقه الإمامية في كتاب "المقنعة" أن
الشهود الأربعة إن تفرقوا في الشهادة بالزنا ولم يأتوا بها مجتمعين في وقت في
مكان واحد، سقط الحد عن المشهود عليه، ووجب
عليهم حد القذف. وأما خبر السارق الذي رواه قاضي القضاة، وقول المرتضى في الاعتراض عليه: ليس في دفع الحد عن السارق إيقاع غيره في المكروه، وقصة المغيرة
تخالف هذا، فليس بجيد لأن في دفع الحد عن السارق إضاعة مال المسلم الذي سرق
السارق في زمانه، وفيه أيضاً إغراء أهل الفساد بالسرقة، لأنهم إذا لم يقم الحد
عليهم لمكان الجحود أقدموا على سرقة الأموال، فلو لم يكن عناية الشارع بالدماء
أكثرمن عنايته بغيره من الأموال والأبشار لما قال للمكلف: لا تقر بالسرقة ولا بالزنا،
ولما رجح واحداً على ثلاثة، وهان في نظره أن تضرب أبشارهم بالسياط، وهم ثلاثة
حفظاً لدم واحد. وأما قول المرتضى:
إن الشرع حظر كتمان الشهادة، فصحيح فيما عدا الحدود،
فأما في الحدود فلا، وقد ورد في الخبر الصحيح:
من رأى على أخيه شيئاً من هذه القاذورات وستر، ستره
الله يوم يفتضح المجرمون. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الطعن
السابع:
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أنه كان يتلون
في الأحكام، حتى روي أنه قضى في الجد بسبعين قضية. وروي
مائة قضية وأنه كان يفضل في القسمة والعطاء وقد سوى الله
تعالى بين الجميع، وأنه قال في الأحكام من جهة الرأي والحدس والظن. وقال:
قد صح في زمان الرسول صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، لأنه لما شاور في أمر الأسرى أبا بكر
أشار ألا يقتلهم، وأشار عمر بقتلهم، فمدحهما جميعاً، فما الذي يمنع من كون
القولين صواباً من المجتهدين، ومن الواحد في حالين؟ وبعد،
فقد ثبت أن اجتهاد الحسن رضي
الله عنه في
طلب الإمامة كان بخلاف اجتهاد الحسين رضي
الله عنه، لأنه سلم الأمر وتمكنه أكثر من تمكن
الحسين رضي الله عنه، ولم يمنع ذلك من كونهما رضي الله عنهما مصيبين. وقول قاضي القضاة:
كيف تحتمل مسألة واحدة سبعين وجهاً، جوابه
أنه لم يقع الأمر بموجب ما توهمه، بل المراد أن قوماً تحاكموا إليه في هذه
المسألة مثلاً اليوم، فأفتى فيها بفتيا، نحو أن يقول في جد وبنت وأخت: للبنت
النصف والباقي بين الجد والأخت، للذكر مثل حظ الأنثيين، وهو قول زيد بن ثابت، ثم يتحاكم إليه بعد أيام في هذه المسألة
بعينها، قد وقعت لقوم آخرين، فيقول: للبنت النصف
وللجد السدس، والباقي للأخت، وهو المذهب المحكي
عن علي رضي الله عنه، وذلك بأن يتغلب على ظنه ترجيح هذه
الفتيا على ما كان أفتى به من قبل، ثم تقع هذه المسألة بعينها بعد شهرآخر، فيفتي
فيها بفتيا آخرى، فيقول: للبنت النصف
والباقي بين الجد والأخت نصفين، وهو مذهب ابن مسعود،
ثم تقع المسألة بعينها بعد شهر آخر، فيفتي فيها بالفتيا الاولى، وهي مذهب زيد، بأن يعود ظنه مترجحاً متغلباً لمذهب زيد، ثم تقع المسألة بعينها بعد وقت آخر،
فيفتي فيها بقول علي رضي الله عنه، وهكذا لا تزال المسألة بعينها تقع،
وأقواله فيها تختلف، وهي ثلاثة لا مزيد عليها،
إلا أنه لا يزال يفتي فيها فتاوى مختلفة، إلى أن توفي
فأحصيت، فكانت سبعين فتيا. والذي أراده قاضي القضاة الدلالة على جواز الاجتهاد، وأنه طريقة المسلمين كلهم، وأهل البيت
رضي الله عنهم، وأومأ إلى ما اعتمده الحسن من تسليم الأمر إلى معاوية، وما
اعتمده الحسين من منازعة يزيد الخلافة، فعملا فيها بموجب اجتهادهما، وما غلب على ظنونهما من المصلحة، وقد كان تمكن الحسن رضي الله عنه في الحال الحاضرة أكثر من تمكن الحسين رضي الله عنه في حاله الحاضرة، لأن جند الحسن كان حوله
ومطيفاً به، وهم كما روي مائة ألف سيف ولم
يكن مع الحسين رضي الله عنه ممن يحيط به ويسير بمسيره إلى العراق إلا دون مائة فارس، ولكن
ظنهما في عاقبة الأمر ومستقبل الحال كان مختلفاً، فكان الحسن يظن خذلان
أصحابه عند اللقاء والحرب، وكان الحسين رضي الله عنه يظن نصرة أصحابه عند اللقاء
والحرب، فلذلك أحجم أحدهما وأقدم الآخر، فقد بان أن قول قاضي
القضاة غير مضطرب ولا متناقض. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الطعن
الثامن:
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ما
روي عن عمر من قوله: "متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى
الله عليه وسلم، أنا أنهى عنهما وأعاقب
عليهما"، وهذا اللفظ قبيح لو صح
المعنى، فكيف إذا فسد، لأنه ليس ممن يشرع فيقول هذا القول، ولأنه يوهم مساواة الرسول صلى الله عليه وسلم في الأمر والنهي وأن اتباعه أولى من اتباع رسول
الله صلى الله عليه وسلم. أجاب
قاضي القضاة، فقال: إنه إنما عنى بقوله: "وأنا أنهى
عنهما وأعاقب عليهما" كراهته لذلك، وتشدده فيه، من
حيث نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهما بعد أن كانتا في أيامه، منبهاً
بذلك على حصول النسخ فيهما وتغير الحكم، لأنا
نعلم أنه كان متبعاً للرسول، متديناً بالإسلام، فلا
يجوز أن نحمل قوله على خلاف ما تواتر من حاله. وحكي عن أبي علي أن ذلك
بمنزلة أن يقول: إني أعاف من صلي إلى بيت المقدس، وإن كان صلي إلى بيت المقدس في
حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم. واعتمد في
تصويبه على كف الصحابة عن النكيرعنه. وادعى
أن أمير المؤمنين رضي الله عنه أنكر على ابن عباس إحلال
المتعة، وروي عن النبي صلى
الله عليه وسلم تحريمهما، فأما متعة الحج فإنما أراد ما
كانوا يفعلون من فسخ الحج، لأنه كان يحصل لهم عنده التمتع، ولم يرد بذلك التمتع
الذي يجري مجرى تقدم العمرة وإضافة الحج إليها بعد ذلك. لأنه
جائز لم يقع فيه قبح. وروى
أبو بصير، قال: سمعت أبا جعفر محمد بن علي الباقر رضي
الله عنه يروي عن جده أمير المؤمنين رضي
الله عنه: لولا ما سبقني به ابن الخطاب ما زنى إلا شقي. وقد
أفتى بالمتعة جماعة من الصحابة والتابعين كعبد الله بن
عباس، وعبد الله بن مسعود، وجابر بن عبد الله الأنصاري، وسلمة بن الأكوع، وأبي
سعيد الخدري، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وغيرما ذكرناه ممن يطول ذكره، فأما سادة أهل البيت رضي
الله عنهم، وعلماؤهم فأمرهم واضح في الفتيا بها، كعلي بن الحسين زين
العابدين، وأبي جعفر الباقر رضي الله عنه،
وأبي عبد الله الصادق رضي الله عنه، وأبي
الحسن موسى الكاظم، وعلي بن موسى الرضا رضي
الله عنه. وما
ذكرنا من فتيا من أشرنا إليه من الصحابة بها يدل على أوضح بطلان ما ذكره صاحب
الكتاب من ارتفاع النكير لتحريمها، لأن مقامهم على الفتيا بها نكير. فأما قول صاحب الكتاب:
إن عمر إنما أنكر فسخ الحج فباطل، لأن ذلك أولاً لا يسمى متعة، ولأن ذلك ما فعل
في أيام النبي صلى الله عليه وسلم،
ولا
فعله أحد من المسلمين بعده، وإنما هومن سنن الجاهلية، فكيف
يقول عمر: متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكيف يغلظ ويشدد فيما لم يفعل،
ولافعل. وقول المرتضى: لعله كان يعتقد أن الإباحة أيام رسول
الله صلى الله عليه وسلم
كانت
مشروطة بشرط لم يوجد في أيامه، قول يبطل طعنه في عمر،
ويمهد له عذراً ويصير المسألة اجتهادية. لا لإنسان معين، بل كلاماً
مطلقاً، وقولاً كلياً يقصد به حسم المادة في المتعة، وتخويف فاعلها، فإنه ليس
بمحل للإنكار عليه،
وما زالت الأئمة والصالحون يتوعدون بأمر ليس في نفوسهم فعله، على طريق التأديب والتهذيب، على أن قوماً من الفقهاء
قد أوجبوا إقامة الحد على المتمتع فلا يمتنع أن
يكون عمر ذاهباً إلى هذا المذهب. فأما متعة الحج فقد اعتذر لنفسه، وقال ما قدمنا ذكره، من أن الحج بهاء من بهاء الله، وأن
التمتع يكسفه ويذهب نوره ورونقه، وأنهم يظلون معرسين تحت الأراك، ثم يهلون بالحج
ورؤوسهم تقطر، وإذا كان قد اعتذر لنفسه فقد كفانا مؤونة
الاعتذار. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الطعن
التاسع:
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ما
روي عنه من قصة الشورى، وكونه خرج بها عن الاختيار والنص
جميعاً، وأنه ذم كل واحد، بأن ذكر فيه طعناً ثم أهله للخلافة بعد أن طعن فيه، وأنه جعل الأمر إلى ستة، ثم إلى أربعة، ثم إلى واحد، قد
وصفه بالضعف والقصور، وقال: إن اجتمع علي وعثمان فالقول ما قالاه، وإن صاروا
ثلاثة وثلاثة فالقول للذين فيهم عبد الرحمن، وذلك لعلمه بأن علياً وعثمان لا
يجتمعان، وأن عبد الرحمن لا يكاد يعدل الأمر عن ختنه وابن عمه، وأنه أمر بضرب أعناقهم إن تأخروا عن البيعة فوق ثلاثة
أيام، وأنه أمر بقتل من يخالف الأربعة منهم أو الذين فيهم عبد الرحمن. أجاب
قاضي القضاة عن ذلك، فقال: الأمور الظاهرة لا يجوز أن
يعترض عليها بأخبار غير صحيحة، والأمر في الشورى
ظاهر، وإن الجماعة دخلت فيها بالرضا، ولا فرق بين من قال في أحدهم: إنه دخل فيها
لا بالرضا وبين من قال ذلك في جميعهم، ولذلك جعلنا دخول أمير المؤمنين رضي الله
عنه في الشورى أحد ما يعتمد عليه في أن لا نص يدل عليه، أنه المختص بالإمامة،
لأنه قد كان يجب عليه أن يصرح بالنص على نفسه، بل يحتاج إلى ذكر فضائله،
ومناقبه، لأن الحال حال مناظرة، ولم يكن الأمر مستقراً لواحد، فلا يمكن أن يتعلق
بالتقية، والمتعالم من حاله أنه لو امتنع من هذا الأمر في الشورى أصلاً لم يلحقه
الحوف فضلاً عن غيره، ومعلوم أن دلالة الفعل أحسن من دلالة القول، من حيث كان
الاحتمال فيه أقل، والمروي أن عبد الرحمن أخذ
الميثاق على الجماعة بالرضا بمن يختاره، ولا يجب القدح في الأفعال بالظنون، بل
يجب حملها على ظاهر الصحة دون الاحتمال، كما يجب مثله في غيرها، ويجب إذا
تقدمت للفاعل حالة تقتضي حسن الظن به، أن يحمل فعله على ما يطابقها، وقد علمنا
أن حال عمر وما كان عليه من النصيحة للمسلمين، منع من صرف أمره في الشورى إلى
الأغراض التي يظنها أعداؤه، فلا يصح لهم أن يقولوا:
كان مراده في الشورى بأن يجعل الأمر إلى الفرقة التي فيها عبد الرحمن عند
الخلاف، أن يتم الأمر لعثمان، لأنه لوكان هذا مراده لم يكن هناك ما يمنعه من
النص على عثمان، كما لم يمنع ذلك أبا بكر، لأن أمره إن لم يكن أقوى من أمر أبما
بكر لم ينقص عنه، وليس ذلك بدعة، لأنه إذا جاز في غير الإمام إذا اختار أن يفعل
ذلك، بأن ينظر في أماثل القوم فيعلم أنهم عشرة، ثم ينظر في العشرة، فيعلم أن
أمثلهم خمسة، ثم ينظر في واحد من الخمسة، فما الذي يمنع من مثله في الإمام، وهو في هذا الباب أقوى اختياراً، لأن له أن يختار واحداً
بعينه. وإنما
جعل عمر الأمر إلى عبد الرحمن عند الاختلاف، لعلمه بزهده في الأمر، وأنه
لأجل ذلك أقرب أن يتثبت، لأن الراغب عن الشيء يحصل
له من التثبت ما لا يحصل للراغب فيه، ومن كانت هذه حاله كان القوم إلى
الرضا به أقرب. وحكي
عن أبي علي ضعف ما روي من أمره بضرب أعناق القوم إذا تأخروا عن البيعة، وأن ذلك لو
صح لأنكره القوم، ولم يدخلوا في الشورى بهذا الشرط، ثم تأوله إذا سلم صحته، على
أنهم إن تأخروا عن البيعة على سبيل شق العصا وطلب الأمر من غير وجهه. وقال: ولا
يمتنع أن يقول ذلك على طريق التهديد، وإن بعد عنده أن يقدموا عليه، كما قال
تعالى : "لئن أشركت ليحبطن عملك". ومن جملتها
أنه وصف كل واحد منهم بوصف زعم أنه يمنع من الإمامة، ثم جعل الأمر فيمن له تلك
الأوصاف، وقد روى محمد بن سعد، عن الواقدي، عن محمد بن
عبد الله الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس، قال:
قال عمر: لا أدري ما أصنع بأمة محمد صلى
الله عليه وسلم، وذلك قبل أن يطعن، فقلت: ولم تهتم
وأنت تجد من تستخلفه عليهم، قال: أصاحبكم، يعني علياً، قلت:
نعم، هو لها أهل، في قرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصهره
وسابقتة وبلائه، قال: إن فيه بطالة وفكاهة، فقلت:
فأين أنت من طلحة، قال: فأين الزهو والنخوة، قلت:
عبد الرحمن، قال: هو رجل صالح على ضعف فيه، قلت:
فسعد، قال: ذاك صاحب مقنب وقتال لا يقوم بقرية لو حمل أمرها، قلت: فالزبير، قال: وعقة لقس مؤمن الرضا، كافر
الغضب، شحيح، وإن هذا الأمر لا يصلح إلا لقوي لا غير عنف، رفيق في غير ضعف،
وجواد في غير سرف، قلت: فأين أنت من عثمان، قال:
لو وليها لحمل بني أبي معيط على رقاب الناس، ولو فعلها لقتلوه. فأما نأوله الأمر بالقتل على أن المراد به إذا تأخروا على
طريق شق العصا، وطلب الأمر من غيروجهه، فبعيد من
الصواب، لأنه ليس في ظاهر الخبر ذلك، ولأنهم إذا شقوا العصا، وطلبوا الأمر
من غير وجهه من أول يوم، وجب أن يمنعوا ويقاتلوا، فأي معنى لضرب الأيام الثلاثة
أجلاً. وتلقاه العباس بن عبد المطلب، فقال: يا عم عدلت عنا، قال:
وما علمك، قال: قرن بي عثمان، وقال: كونوا مع الأكثر، وإن رضي رجلان رجلاً،
ورجلان رجلاً، فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن، فسعد لا يخالف ابن عمه عبد
الرحمن، وعبد الرحمن صهرعثمان لا يختلفان، فيوليها عبد الرحمن عثمان، أو يوليها عثمان عبد الرحمن، فلو كان الآخران معي لم ينفعاني بله
أني لا أرجو إلا أحدهما. فقال له العباس: لم أدفعك عن شيء إلا رجعت إلي
مستأخراً، أشرت عليك عند وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسأله فيمن هذا الأمر، فأبيت، وأشرت عليك عند وفاته أن
تعاجل الأمر فأبيت، وأشرت عليك حين سماك عمر في الشورى ألا تدخل معهم، فأبيت،
فاحفظ علي واحدة، كلما عرض عليك القوم فقل: لا، إلا أن يولوك، واحذر هؤلاء
الرهط، فإنهم لا يبرحون يدفعوننا عن هذا الأمر، حتى يقوم لنا به غيرنا وغيرهم،
وايم الله لا تناله إلا بشر لا ينفع معه خير. فقال علي رضي الله عنه: أما والله لئن بقي عمر لأذكرنه ما أتى إلينا، ولئن مات
ليتداولنها بينهم، ولئن فعلوا ليجدنني حيث يكرهون، ثم تمثل:
فالتفت فرأى أبا طلحة الأنصاري فكره مكانه،
فقال أبو طلحة: لا ترع أبا حسن. وفي رواية الطبري أن عبد الرحمن دعا علياً رضي الله عنه، فقال: عليك عهد الله وميثاقه لتعملن بكتاب
الله وسنة رسوله، وسيرة الخليفتين، فقال: أرجوأن أفعل وأعمل بمبلغ علمي وطاقتي. فترك يده، وقال: هلم يدك يا عثمان، أتأخذها بما فيها على أن تسير
فينا بسيرة أبي بكر وعمر، قال: نعم، قال: هي لك يا عثمان. فرجع علي رضي الله عنه
حتى بايعه، وهو يقول: خدعة وأي خدعة. ثم إن
المقداد قام فأتى علياً، فقال:
أتقاتل فنقاتل معك، فقال علي: فبمن أقاتل، وتكلم أيضاً عمار فيما رواه أبو مخنف
فقال: يا معشر قريش، أين تصرفون هذا الأمر عن بيت نبيكم، تحولونه ههنا مرة وههنا
مرة، أما والله ما أنا بآمن أن ينزعه الله منكم فيضعه في غيركم كما انتزعتموه من
أهله، ووضعتموه في غيرأهله. فقال له هشام بن الوليد: يابن سمية، لقد عدوت
طورك، وما عرفت قدرك، وما أنت وما رأته قريش لأنفسها إنك لست في شيء من أمرها
وإمارتها، فتنح عنها. وتكلمت قريش بأجمعها. وصاحت بعمار وانتهرته، فقال: الحمد لله
ما زال أعوان الحق قليلاً.
أما والله لو أن لي أعواناً لقاتلتهم، وقال لأمير المؤمنين رضي الله عنه: لئن قاتلتهم بواحد لأكونن ثانياً، فقال: والله ما أجد عليهم أعواناً، ولا أحب أن
أعرضكم لما لا تطيقون. وروى
أبو محنف، عن عبد الرحمن بن جندب، عن أبيه، قال: دخلت على علي
رضي الله عنه، وكنت حاضراً بالمدينة يوم
بويع عثمان، فإذا هو واجم كئيب، فقلت: ما
أصاب قوم صرفوا هذا الأمر عنكم، فقال صبر جميل،
فقلت: سبحان الله، إنك لصبور، قال: فاصنع ماذا، قلت: تقوم في الناس خطيباً
فتدعوهم إلى نفسك، وتخبرهم أنك أولى بالنبي صلى
الله عليه وسلم بالعمل والسابقة، وتسألهم النصر على
هؤلاء المتظاهرين عليك، فإن أجابك عشرة من مائة شددت بالعشرة على المائة، فإن
دانوا لك كان ما أحببت، وإن أبوا قاتلتهم، فإن ظهرت عليهم فهو سلطان الله آتاه
نبيه صلى الله عليه وسلم، وكنت أولى
به منهم إذ ذهبوا بذلك، فرده الله إليك، وإن قتلت في طلبه فقتلت شهيداً، وكنت أولى
بالعذر عند الله تعالى في الدنيا والآخرة. فقال رضي الله عنه:
أو تراه كان تابعي من كل مائة عشرة، قلت:
لأرجو ذلك، قال: لكني لا أرجو ولا والله من المائة اثنين، وسأخبرك من أين ذلك،
إن الناس إنما ينظرون إلى قريش، فيقولون: هم قوم محمد صلى الله عليه وسلم وقبيلته، وإن
قريشاً تنظر إلينا فتقول: إن لهم بالنبوة فضلاً على سائر قريش، وإنهم أولياء هذا
الأمر دون قريش والناس، وإنهم إن ولوه لم يخرج هذا السلطان منهم إلى أحد أبداً،
ومتى كان في غيرهم تداولتموه بينكم، فلا والله، لا تدفع قريش إلينا هذا السلطان
طائعة أبداً. قلت:
أفلا أرجع إلى المصر فأخبر الناس بمقالتك هذه، وأدعو الناس إليك، فقال: يا جندب، ليس هذا زمان ذلك، فرجعت فكلما ذكرت
للناس شيئاً من فضل علي زبروني ونهروني، حتى رفع ذلك من أمري للوليد بن عقبة،
فبعث إلي فحبسني. وكيف يلزم سيرتهما، وكل واحد منهما لم يسر
بسيرة الآخر، بل اختلفا وتباينا في كثيرمن الأحكام،
هذا بعد أن قال لأهل الشورى: وثقوا
إلي من أنفسكم بأنكم ترضون باختياري إذا أخرجت نفسي، فأجابوه على ما رواه أبو
مخنف بإسناده إلى ما عرض عليهم. إلا أمير المؤمنين رضي الله عنه، فإنه قال: أنظر، لعلمه بما
يجر هذا المكر، حتى أتاهم أبو طلحة، فأخبره عبد الرحمن بما عرض وما جاء به القوم
إياه إلا علياً، فأقبل أبو طلحة على علي رضي الله عنه،
قال: يا أبا الحسن، إن أبا محمد ثقة لك وللمسلمين، فما بالك تخافه وقد عدل
بالأمر عن نفسه، فلن يتحمل المأثم لغيره، فأحلف علي رضي الله عنه عبد
الرحمن بما عرض ألا يميل إلى الهوى وأن يؤثر الحق ويجتهد للأمة، ولا يحابي ذا
قرابة، فحلف له، وهذا غاية ما يتمكن منه أمير المؤمنين رضي الله عنه في
الحال، لأن عبد الرحمن لما أخرج نفسه من
الأمر، وظنت به الجماعة الخير، وفوضت إليه الاختيار لم
يقدر أمير المؤمنين رضي الله عنه على
أن يخالفهم وينقض ما اجتمعوا عليه، فكان أكثر ما تمكن منه أن أحلفه، وصرح بما
يخافه من جهته، من الميل إلى الهوى، وإيثار القرابة، غيرأن ذلك كله لم يغن
شيئاً. وكيف
لا يدخل في الشورى وعندهم أن واضعها قد أحسن النظر للمسلمين، وفعل ما لم يسبق
إليه من التحرز للدين. فأول
ما كان يقال له لو امتنع منها: إنك مصرح بالطعن على واضعها
وعلى جماعة المسلمين بالرضا بها، وليس طعنك إلا لأنك ترى أن الأمر لك، وأنك أحق
به، فيعود الأمر إلى ما كان رضي الله عنه يخافه، من تفرق الكلمة ووقوع الفتنة. قلت:
الكلام في الشورى والمطاعن فيها طويل جداً، وقد ذكرت من ذلك في كتبي الكلامية
وتعليقاتي ما قاله الناس وما لم أسبق إليه، ولا يحتمل هذا الكتاب الإطالة
باستقصاء ذلك، لأنه ليس بكتاب حجاج ونظر، ولكني أذكر منه نكتاً يسيرة، فأقول:
إن كانت أفعال عمر وأقواله قد تناقضت في واقعة الشورى كما
زعم المرتضى رحمه الله فكذلك أفعال أمير المؤمنين إن كان منصوصاً عليه كما تقوله
الإمامية قد تناقضت أيضاً. أما
أولا فإن كان منصوصاً عليه، فكيف أدخل نفسه في الشورى
المبنية على صحة الاختيار وعدم النص، أليس هذا إيهاماً ظاهر لأكثر المسلمين،
خصوصاً الضعفة منهم، ومن لا نظر له في دقائق الأمور عنده أنه غيرمنصوص عليه فكيف يجوز له إضلال المكلفين وأن يوقع في نفوسهم عدم النص مع كون النص
كان حاصلاً. ولا بد لو عرض بشيء من ذلك كان من كلام يدور
بينهم في المعنى، نحو أن يقولوا: إن ذلك
النص رجع عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يقولوا:
رأى المسلمون تركه للمصلحة، أو يجري بينه وبينهم جدال ونزاع، ولم يكن هناك خليفة
يخاف جانبه، إنما كان مجلس مناظرة وبحث، ولم يستقر الأمر لأحد. وأقصى
ما في الباب أنهم كانوا يردون ذلك عليه بكلام مثل كلامه، ويجيبونه بجواب يناسب
جوابه، ويدفعونه عما يرومه بوجه من وجوه الدفع، إن كانوا مقيمين على الإصرار على
غصب الحق منه. وأما
ثالثاً، فإن كان رضي
الله عنه كما تقوله الإمامية
منصوصاً عليه، فما الذي
منعه لما قال له عبد الرحمن: أبايعك على أن تسير فينا بسيرة الشيخين، أن
يقول: نعم، فإنه لو قال: نعم، لبايعه عبد الرحمن، ووصل إلى الأمر الذي يلزمه
القيام به، وإلى الحال التي كان يتوصل بكل طريق إلى الوصول إليها. هو الأمر
الكلي في إيالة الرعية وسياستهم، وجباية الفيء، وظلف الوالي نفسه وأهله عنه
وصرفه إلى المسلمين، ورم الامور، وجمع العمال، وقهر الظلمة وإنصاف المظلومين،
وحماية البيضة، وتسريب الجيوش إلى بلاد الشرك، هذه هي
السيرة التي كان عبد الرحمن يشترطها، وهي التي
طلبها الناس بعد ذلك، فقالوا لمعاوية في آخر
أيامه، ولعبد الملك ولغيرهما وصاحوا بهم تحت المنابر: نطلب سيرة العمرين،
ولم يريدوا في الأحكام والفتاوى الشرعية، نحو القول
في الجد مع الإخوة، والقول في الكلالة، والقول في أمهات الأولاد، فما
أعلم الذي منع أمير المؤمنين رضي الله عنه من
أن يقول لعبد الرحمن: نعم، فيأخذها، ثم كان إذا أخذها أقدر الناس على هذه
السيرة، وأقواهم عليها. فواعجبا، بينا هو يطلب الخلافة أشد الطلب،
فإذا هو ناكص عنها، وقد عرضت عليه على أمر هو قيم به، ولهذا كان الرأي عندي أن
يدخل فيها حينئذ، ومن الذي كان يناظره بعد ذلك ويجادله، فيقول: قد أخللت بشيء من
سيرة أبي بكر وعمر، كلا إن السيف لضاربه، والأمر لمالكه، والرعية أتباع، والحكم
لصاحب السلطان منهم! ومن العجب أن يقول المرتضى:
إنه لأجل التقية وافق على الرضا بالشورى، فهلا اتقى
القوم، وقد ذكروا له سيرة الشيخين فأباها
وكرهها، ومن كان يخاف على نفسه أن لو أظهر الزهد في الخلافة والرغبة عن الدخول
في أمر الشورى، كيف لم يخف على نفسه، وقد ذكرت له سيرة الشيخين فتركها، ولم يوافق عليها، وقال: لا بل علي أن أجتهد رأي! وأما قول المرتضى: إنه وصف القوم بصفات تمنع
من الإمامة، ثم عينهم للإمامة، فنقول في جوابه: إن تلك
الصفات لا تمنع من الإمامة بالكلية، بل هي صفات تنقص في الجملة، أي لو لم تكن
هذه الصفات فيهم، لكانوا أكمل، ألا ترى أنه قال في
عبد الرحمن: رجل صالح على ضعف فيه، فذكر أن
فيه !سعفاً يسيراً، لأنه لوكان يرى ضعفه
مانعاً من الإمامة لقال: ضعيف عنها جداً، أو لا يصلح لها لضعفه. وكذلك
قوله في أمير المؤمنين: فيه فكاهة، لأن
ذلك لا يمنع من الإمامة، ولا زهو طلحة ونخوته،
ولا ما وصف به الزبيرمن أنه شديد السخط وقت غضبه، وأنه بخيل، ولا تولية الأقارب على رقاب الناس إذا لم يكونوا فساقاً. وأقوى
عيب ذكره ما عاب به سعداً في قوله: صاحب مقنب
وقتال، لا يقوم بقرية لو حمل أمرها، ويجوز أن يكون قال ذلك على سبيل المبالغة في
استصلاحه لأن يكون صاحب جيش يقاتل به بين يدي الإمام، وأنه ليس له دربة ونظر في
تدبير البلاد والأطراف، وجباية أموالها، ألا تراه كيف قال: لا يقوم بقرية، ويجوز
أن يلي الخلافة من هذه حاله، ويستعين في أمر العباد والبلاد وجباية الأموال
بالكفاة الأمناء. وأما
حديث القتل، فليس مراده إلا شق العصا، ومخالفة الجماعة، والثوثب على الأمر
مغالبة. وقول
المرتضى: لوكان ذلك من أول يوم لوجب أن يمنع فاعله ويقاتل، فأي معنى لضرب الأيام
الثلاثة أجلاً، فإنه يقال له: إن الأجل المذكور لم يضرب لقتل
من يشق العصا، وإنما ضرب لإبرامهم الأمر وفصله قبل أن تتطاول الأيام بهم،
ويتسامع من بعد عن دار الهجرة أن الخليفة قد قتل، وأنهم مضطربون إلى الآن، لم
يقيموا لأنفسهم خليفة بعده، فيطمع أهل الفساد والدعارة، ولا يؤمن وقوع الفتن،
ولا يؤمن أيضاً أن يسترد الروم وفارس بلاداً قد كان الإسلام استولى عليها، لأن
عدم الرئيس مطمع للعدو في ملكه ورعيته. فأما
دعواه أن عمر عمل هذا الفعل حيلة، ليصرف
الأمر عن علي رضي الله عنه من حيث علم أن عبد الرحمن صهر عثمان، وأن سعداً ابن عم عبد الرحمن فلا
يخالفه، فجعل الصواب في الثلاثة الذين يكون فيهم عبد الرحمن،
فنقول في جوابه: إن عمر لو فعل ذلك وقصده لكان أحمق
الناس وأجهلهم، لأنه من الجائز ألا يوافق سعد ابن عمه لعداوة تكون بينهما، خصوصاً من بني
العم، ويمكن أن يستميل علي رضي
الله عنه سعداً إلى نفسه، بطريق آمنة بنت وهب، وبطريق حمزة بن عبد المطلب، وبطريق الدين والإسلام، وعهد
الرسول صلى الله عليه وسلم ومن الجائز أن يعطف عبد الرحمن على علي رضي الله عنه لوجه
من الوجوه، ويعرض عن عثمان، أو يبدو من عثمان في الأيام الثلاثة أمريكرهه عبد الرحمن،
فيتركه ويميل إلى علي رضي الله عنه. ومن
الجائز أن يموت عبد الرحمن في تلك الأيام، أو يموت سعد، أو
يموت عثمان، أو يقتل واحد منهم فيخلص الأمر لعلي رضي الله عنه، ومن الجائز أن يخالف طلحة أمره أن يعتمد
على الفرقة التي فيها عبد الرحمن، ولا يعمل بقوله، ويميل إلى جهة علي رضي الله عنه، فتبطل حيلته
وتدبيره! ثم هب أن هذا كله قد
أسقطناه، من الذي أجبرعمر وأكرهه وقسره على إدخال علي رضي الله عنه في أهل الشورى، وإن كان مراده كما زعم المرتضى صرف الأمر بالحيلة،
فقد كان يمكنه أن يجعل الشورى في خمسة، ولا يذكر علياً رضي الله عنه فيهم، أتراه كان يخاف أحداً لو فعل ذلك، ومن
الذي كان يجسر أن يراجعه في هذا أو غيره، وحيث أدخله من
الذي أجبره على أن يقول: إن وليها ذلك لحملهم على المحجة البيضاء، وحملهم
على الصراط المستقيم، ونحوذلك من المدح، قد كان قادراً ألا يقول ذلك، والكلام الغث البارد لا
أحبه. أما الصحيح منه
فميل عبد الرحمن إلى جهة عثمان، وانحرافه عن علي رضي الله عنه قليلاً،
وليس هذا بمخصوص بعبد الرحمن، بل قريش قاطبة
كانت منحرفة عنه. وأما
الذي هو غير صحيح، فقوله: إنه أخرج نفسه منها لذلك، فإن هذا عندي غيرصحيح، لأنه قد كان يمكنه ألا يخرج
نفسه منها، ويبلغ غرضه، بأن يتجاوز هو وابن عمه إلى عثمان، ويدع علياً وطلحة
والزبير طائفة آخرى، فيولي المسلمون الأمر الطائفة التي فيها عبد الرحمن، بمقضى
نص عمر على ذلك، ثم يعتمد عبد الرحمن بعد ذلك ما يشاء، إن شاء وليها هو أو أحد
الرجلين، فأي حاجة كانت به إلى أن يخرج نفسه منها ليبلغ غرضاً قد كان يمكنه
الوصول إليه بدون ذلك، وأيضاً فإن كان غرضه ذلك، فإنه من رجال الدنيا قد كان لا
محالة، ولم يكن من رجال الآخرة، ومن هو من رجال الدنيا ومحبيها كيف تسمح نفسه بترك
الخلافة ليعطيها غيره، وهلا واطأ سعداً ابن عمه، وطلحة صديقه، على أن يولياه
الخلافة، وقد قال عمر: كونوا
مع الثلاثة الذين فيهم عبد الرحمن، لا سيما وطلحة منحرف عن علي رضي الله عنه وعثمان، لأنهما ابنا عبد مناف، وكذلك سعد وعبد الرحمن منحرفان
عنهما لذلك أيضاً، ولما اختصا به من صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم. والصحيح
أن عبد الرحمن أخرج نفسه منها، لأنه استضعف نفسه عن تحمل أثقالها
وكلفها، وكره أن يدخل فيها، فيقصر عن عمر، ويراه الناس
بعين النقص، ولا يستطيع أن يقوم بما كان عمريقوم به، وكان
عبد الرحمن غنياً موسراً كثير المال، وشيخاً قد ذهب عنه ترف الشباب، فنفض
عنها يده، استغناء عنها، وكراهية لخلل يدخل عليه إن وليها. وأنا أعجب من
لفظة عمر إن كان قالها: إن فيه بطالة، وحاش لله أن يوصف
علي رضي الله عنه بذلك، وإنما يوصف به أهل
الدعابة واللهو، وما أظن عمر إن شاء الله قالها، وأظنها
زيدت في كلامه، وإن الكلمة ههنا لدالة على انحراف شديد. وأما قوله عن عمر:
إنه بلغ ما في نفسه من إيصال الأمر إلى من أراد، وصرفه عمن أراد، من غير شناعة
بالتصريح، وحتى لا يقال فيه ما قيل في أبي بكر، أو يراجع في نصه كما روجع أبو
بكر، ولأي حال يتعسف أبعد الطريقين، وغرضه يتم من أقربهما، فقد قلنا في جوابه ما
كفى، وبينا أن عمر لو أراد ما ذكر لصرف الأمر عمن
يريد صرفه عنه، ونص على من يريد إيصال الأمر إليه، ولم يبال بأحد، فقد عرف الناس
كلهم كيف كانت هيبته وسطوته وطاعة الرعية له، حتى إن المسلمين أطاعوه أعظم من
طاعتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته، ونفوذ أمره فيهم أعظم من نفوذ أمره رضي الله عنه، فمن الذي كان يجسرأو يقدر أن يراجعه
في نصه، أو يراده، أو يلفظ عنده أو غائباً عنه بكلمة تنافي مراده، وأي شيء ضر أبا بكر من مراجعة طلحة له حيث نص، ليقول
المرتضى: خاف عمر من أن يراجع كما روجع أبو بكر، وقد سمع الناس ما قال
أبو بكر لطلحة لما راجعه، فإنه أخزاه وجبهه، حتى دخل في الأرض، وقام من عنده وهو
لا يهتدي إلى الطريق، وأين كانت هيبة الناس لأبي
بكر من هيبتهم لعمر، فلقد كان أبو بكر وهوخليفة
يهابه وهو رعية وسوقة بين يديه، وكل أفاضل الصحابة كان يهابه، وهو بعد لم يل
الخلافة، حتى إن الشيعة تقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم
يهابه،
فمن كانت هذه حاله وهو رعية وسوقة، فكيف يكون وهو خليفة، قد ملك مشارق الأرض
ومغاربها، وخطب له على مائة ألف منبر، ولو أراد عمر أن
يخطب بالخلافة لأبي هريرة لما خالفه أحد من الناس أبداً، فكيف يقول المرتضى: لماذا
يتعسف عمر أبعد الطريقين، وغرضه يتم من أقربهما! والعجب منه كيف يقول: خاف شناعة التصريح، فمن لم يخف عندهم
شناعة المخالفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم
وهو
يعلم أن المسلمين يعلمون أنه مخالف لله تعالى ولرسوله قائم في مقام لم يجعله
الله تعالى له، كيف يخاف شناعة التصريح باسم عثمان لوكان
يريد استخلافه، إن هذا لأعجب من العجب. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الطعن
العاشر:
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قولهم: إنه أبدع في الدين ما لا يجوز، كالتراويح، وما عمله في
الخراج الذي وضعه على السواد، وفي ترتيب الجزية، وكل ذلك مخالف للقرآن والسنة،
لأنه تعالى جعل الغنيمة للغانمين، والخمس منها لأهل الخمس، فخالف القرآن، وكذلك
السنة تنطق في الجزية أن على كل حالم ديناراً، فخالف في ذلك السنة، وأن الجماعة
لا تكون إلا في المكتوبات، فخالف السنة. وقد
روي أن عمر خرج قي شهررمضان ليلاً، فرأى المصابيح قي المسجد، فقال:
ما هذا، فقيل له: إن الناس قد اجتمعوا لصلاة التطوع، فقال: بدعة، فنعمت البدعة،
فاعترف كما ترى بأنها بدعة، وقد شهد الرسول صلى
الله عليه وسلم أن كل بدعة
ضلالة. قال: والذي
ذكره من أن فيه التشدد في حفظ القرآن، والمحافظة على الصلاة، ليس بشيء، لأن الله
تعالى ورسوله بذلك أعلم، ولو كان كما قاله لكانا يسنان هذه الصلاة، ويأمران بها،
وليس لنا أن نبدع في الدين بما نظن أن فيه مصلحة، لأنه لا خلاف في أن ذلك لا
يسوغ ولا يحل. فإن
أريد بكون صلاة التراويح بدعة المفهوم الأول، فلا نسلم
أنها بدعة بهذا التفسير، والخبر الذي رواه المرتضى غيرمعروف، ولا يمكنه أن يسنده
إلى كتاب من كتب المحدثين، ولو قدر على ذلك لأسنده،
ولعله من أخبار أصحابه من محدثي الإمامية
والأخباريين منهم، والألفاًظ التي في آخر الحد يث، وهي: "كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في
النار" مروية مشهورة، ولكن على تفسير البدعة بالمفهوم الأول. وقول
عمر: "إنها لبدعة" خبر مروي مشهور، ولكن أراد به البدعة
بالتفسير الثاني، والخبر الذي رواه أمير
المؤمنين رضي الله عنه ينفرد هو وطائفته بنقله، والمحدثون لا يعرفون ذلك ولا يثبتونه. فأما
إنكاره أن تكون نافلة شهر رمضان صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في جماعة، فإنكار لست أرتضيه لمثله، فإن كتب المحدثين مشحونة برواية
ذلك، وقد ذكره أحمد بن حنبل في مسنده غير مرة بعدة طرق، ورواه
الفقهاء، ذكره الطحاوي في كتاب اختلاف الفقهاء، وذكره
أبو الطيب الطبري الشافعي في شرحه كتاب
المزني، وقد ذكره المتأخرون أيضاً، ذكره الغزالي
في كتالب احياء علوم الدين
وقال:
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى
التراويح في شهررمضان في جماعة ليلتين أو ثلاثاً، ثم
ترك،وقال: أخاف أن يوجب عليكم. وأجاز لي
الشيخ أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي، بروايته عن شيخه محمد بن ناصر، عن
شيوخه ورجاله، أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم
صلى
نافلة شهررمضان في جماعة يأتمون به ليالي ثم لم
يخرج وقام في بيته، وصلى الناس فرادى بقية أيامه وأيام أبي بكر وصدراً من
خلافة عمر، فخرج عمر ليلة، فرأى الناس أوزاعاً يصلون في المسجد، فقال: لو جمعتهم
على إمام، فأمرابي بن كعب أن يصلي بهم. فصلى بهم تلك الليلة ثم خرج، فرآهم مجتمعين
إلى ابي بن كعب يصلي بهم، فقال: بدعة ونعمت البدعة،
أما إنها لفضل، والتي ينامون عنها أفضل. قال:
يعني قيام آخر الليل، فإنه أفضل من قيام أوله. وسن
التراويح جماعة ليتكرر سماع القرآن على أسماع المسلمين. وبالجملة
الاختلاف في أيهما أفضل، فأما تحريم الصلاة ولزوم الإثم بفعلها، فمما لم يذهب إليه إلا الإمامية، وقد روى الرواة أن علياً رضي
الله عنه خرج
ليلاً في شهررمضان في خلافة عثمان بن عفان، فرأى المصابيح في المساجد، والمسلمون
يصلون التراويح، فقال: نور الله قبر عمر كما نور مساجدنا، والشيعة يروون هذا الخبر، ولكن بحمل اللفظ على معنى آخر. فأما
حديث الخراج فقد ذكره أرباب علم الخراج والكتاب، وذكره الفقهاء أيضاً في كتبهم. وذكره
أرباب السيرة وأصحاب التاريخ. قال
قدامة بن جعفر في كتاب الخراج: اختلف الفقهاء في أرض العنوة، فقال بعضهم: تخمس، ثم تقسم أربعة أخماس على الذين
افتتحوها، وقال بعضهم: ذلك إلى الإمام، إن
رأى أن يجعلها غنيمة ليخمسها ويقسم الباقي
كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر
فذلك إليه، وإن رأى أن يجعلها فلا يخمسها ولا يقسمها، بل تكون موقوفة على سائر
المسلمين، كما فعل عمر بأرض السواد وأرض مصر وغيرهما، مما افتتحه عنوة، فعلى
الوجهين جميعاً فيهما قدوة ومتبع، لأن النبي صلى
الله عليه وسلم قسم خيبر
وصيرها غنيمة، وأشار الزبيربن العوام على عمر في مصر وبلاد الشام بمثل ذلك، وهو
مذهب مالك بن أنس، وجعل عمر السواد وغيره فيئاً موقوفاً على المسلمين، من كان
منهم حاضراً في وقته، ومن أتى بعده ولم يقسمه، وهو رأي
رآه علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومعاذ بن جبل، وأشارا عليه،
وبه كان يأخذ سفيان بن سعيد، وذلك رأي من جعل الخيار إلى الإمام في تصييرأرض
العنوة غنيمة أو فيئاً راجعاً للمسلمين في كل سنة. وأما أمر الجزية، فطريقه الاجتهاد، وللإمام أن يرى فيه رأيه
بمشاورة الصلحاء والفقهاء، وقد
قال قاضي القضاة: إن
الخبر الذي ذكره المرتضى، وذكر أنه مرفوع، وهو على كل حالم دينار خبر مظنون غيرمعلوم، واعتراض
المرتضى عليه بقوله: هب أن الأمر كذلك، ألستم
تزعمون أن خبر الواحد معمول عليه في الفروع، فهلا
عمل عمر بهذا الخبر، وإن كان خبر واحد اعتراض ليس بلازم، لأنه إذا كان خبر واحد
عندنا لم يلزم أن يكون أيضاً خبر واحد عند عمر، بل من الجائز أن يكون مفتعلاً بعد وفاة عمر، ولو كان قد ثبت أن عمر سمع هذا الخبرمن واحد أو
اثنين من الصحابة، ثم لم يعمل به، كان
الاعتراض لازماً، ولكن ذلك مما لم يثبت. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الفهرس الجزء
الثاني عشر- باب المختار من الخطب والأوامر - ابن ابي الحديد. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||