- القرآن الكريم
- سور القرآن الكريم
- 1- سورة الفاتحة
- 2- سورة البقرة
- 3- سورة آل عمران
- 4- سورة النساء
- 5- سورة المائدة
- 6- سورة الأنعام
- 7- سورة الأعراف
- 8- سورة الأنفال
- 9- سورة التوبة
- 10- سورة يونس
- 11- سورة هود
- 12- سورة يوسف
- 13- سورة الرعد
- 14- سورة إبراهيم
- 15- سورة الحجر
- 16- سورة النحل
- 17- سورة الإسراء
- 18- سورة الكهف
- 19- سورة مريم
- 20- سورة طه
- 21- سورة الأنبياء
- 22- سورة الحج
- 23- سورة المؤمنون
- 24- سورة النور
- 25- سورة الفرقان
- 26- سورة الشعراء
- 27- سورة النمل
- 28- سورة القصص
- 29- سورة العنكبوت
- 30- سورة الروم
- 31- سورة لقمان
- 32- سورة السجدة
- 33- سورة الأحزاب
- 34- سورة سبأ
- 35- سورة فاطر
- 36- سورة يس
- 37- سورة الصافات
- 38- سورة ص
- 39- سورة الزمر
- 40- سورة غافر
- 41- سورة فصلت
- 42- سورة الشورى
- 43- سورة الزخرف
- 44- سورة الدخان
- 45- سورة الجاثية
- 46- سورة الأحقاف
- 47- سورة محمد
- 48- سورة الفتح
- 49- سورة الحجرات
- 50- سورة ق
- 51- سورة الذاريات
- 52- سورة الطور
- 53- سورة النجم
- 54- سورة القمر
- 55- سورة الرحمن
- 56- سورة الواقعة
- 57- سورة الحديد
- 58- سورة المجادلة
- 59- سورة الحشر
- 60- سورة الممتحنة
- 61- سورة الصف
- 62- سورة الجمعة
- 63- سورة المنافقون
- 64- سورة التغابن
- 65- سورة الطلاق
- 66- سورة التحريم
- 67- سورة الملك
- 68- سورة القلم
- 69- سورة الحاقة
- 70- سورة المعارج
- 71- سورة نوح
- 72- سورة الجن
- 73- سورة المزمل
- 74- سورة المدثر
- 75- سورة القيامة
- 76- سورة الإنسان
- 77- سورة المرسلات
- 78- سورة النبأ
- 79- سورة النازعات
- 80- سورة عبس
- 81- سورة التكوير
- 82- سورة الانفطار
- 83- سورة المطففين
- 84- سورة الانشقاق
- 85- سورة البروج
- 86- سورة الطارق
- 87- سورة الأعلى
- 88- سورة الغاشية
- 89- سورة الفجر
- 90- سورة البلد
- 91- سورة الشمس
- 92- سورة الليل
- 93- سورة الضحى
- 94- سورة الشرح
- 95- سورة التين
- 96- سورة العلق
- 97- سورة القدر
- 98- سورة البينة
- 99- سورة الزلزلة
- 100- سورة العاديات
- 101- سورة القارعة
- 102- سورة التكاثر
- 103- سورة العصر
- 104- سورة الهمزة
- 105- سورة الفيل
- 106- سورة قريش
- 107- سورة الماعون
- 108- سورة الكوثر
- 109- سورة الكافرون
- 110- سورة النصر
- 111- سورة المسد
- 112- سورة الإخلاص
- 113- سورة الفلق
- 114- سورة الناس
- سور القرآن الكريم
- تفسير القرآن الكريم
- تصنيف القرآن الكريم
- آيات العقيدة
- آيات الشريعة
- آيات القوانين والتشريع
- آيات المفاهيم الأخلاقية
- آيات الآفاق والأنفس
- آيات الأنبياء والرسل
- آيات الانبياء والرسل عليهم الصلاة السلام
- سيدنا آدم عليه السلام
- سيدنا إدريس عليه السلام
- سيدنا نوح عليه السلام
- سيدنا هود عليه السلام
- سيدنا صالح عليه السلام
- سيدنا إبراهيم عليه السلام
- سيدنا إسماعيل عليه السلام
- سيدنا إسحاق عليه السلام
- سيدنا لوط عليه السلام
- سيدنا يعقوب عليه السلام
- سيدنا يوسف عليه السلام
- سيدنا شعيب عليه السلام
- سيدنا موسى عليه السلام
- بنو إسرائيل
- سيدنا هارون عليه السلام
- سيدنا داود عليه السلام
- سيدنا سليمان عليه السلام
- سيدنا أيوب عليه السلام
- سيدنا يونس عليه السلام
- سيدنا إلياس عليه السلام
- سيدنا اليسع عليه السلام
- سيدنا ذي الكفل عليه السلام
- سيدنا لقمان عليه السلام
- سيدنا زكريا عليه السلام
- سيدنا يحي عليه السلام
- سيدنا عيسى عليه السلام
- أهل الكتاب اليهود النصارى
- الصابئون والمجوس
- الاتعاظ بالسابقين
- النظر في عاقبة الماضين
- السيدة مريم عليها السلام ملحق
- آيات الناس وصفاتهم
- أنواع الناس
- صفات الإنسان
- صفات الأبراروجزائهم
- صفات الأثمين وجزائهم
- صفات الأشقى وجزائه
- صفات أعداء الرسل عليهم السلام
- صفات الأعراب
- صفات أصحاب الجحيم وجزائهم
- صفات أصحاب الجنة وحياتهم فيها
- صفات أصحاب الشمال وجزائهم
- صفات أصحاب النار وجزائهم
- صفات أصحاب اليمين وجزائهم
- صفات أولياءالشيطان وجزائهم
- صفات أولياء الله وجزائهم
- صفات أولي الألباب وجزائهم
- صفات الجاحدين وجزائهم
- صفات حزب الشيطان وجزائهم
- صفات حزب الله تعالى وجزائهم
- صفات الخائفين من الله ومن عذابه وجزائهم
- صفات الخائنين في الحرب وجزائهم
- صفات الخائنين في الغنيمة وجزائهم
- صفات الخائنين للعهود وجزائهم
- صفات الخائنين للناس وجزائهم
- صفات الخاسرين وجزائهم
- صفات الخاشعين وجزائهم
- صفات الخاشين الله تعالى وجزائهم
- صفات الخاضعين لله تعالى وجزائهم
- صفات الذاكرين الله تعالى وجزائهم
- صفات الذين يتبعون أهواءهم وجزائهم
- صفات الذين يريدون الحياة الدنيا وجزائهم
- صفات الذين يحبهم الله تعالى
- صفات الذين لايحبهم الله تعالى
- صفات الذين يشترون بآيات الله وبعهده
- صفات الذين يصدون عن سبيل الله تعالى وجزائهم
- صفات الذين يعملون السيئات وجزائهم
- صفات الذين لايفلحون
- صفات الذين يهديهم الله تعالى
- صفات الذين لا يهديهم الله تعالى
- صفات الراشدين وجزائهم
- صفات الرسل عليهم السلام
- صفات الشاكرين وجزائهم
- صفات الشهداء وجزائهم وحياتهم عند ربهم
- صفات الصالحين وجزائهم
- صفات الصائمين وجزائهم
- صفات الصابرين وجزائهم
- صفات الصادقين وجزائهم
- صفات الصدِّقين وجزائهم
- صفات الضالين وجزائهم
- صفات المُضَّلّين وجزائهم
- صفات المُضِلّين. وجزائهم
- صفات الطاغين وجزائهم
- صفات الظالمين وجزائهم
- صفات العابدين وجزائهم
- صفات عباد الرحمن وجزائهم
- صفات الغافلين وجزائهم
- صفات الغاوين وجزائهم
- صفات الفائزين وجزائهم
- صفات الفارّين من القتال وجزائهم
- صفات الفاسقين وجزائهم
- صفات الفجار وجزائهم
- صفات الفخورين وجزائهم
- صفات القانتين وجزائهم
- صفات الكاذبين وجزائهم
- صفات المكذِّبين وجزائهم
- صفات الكافرين وجزائهم
- صفات اللامزين والهامزين وجزائهم
- صفات المؤمنين بالأديان السماوية وجزائهم
- صفات المبطلين وجزائهم
- صفات المتذكرين وجزائهم
- صفات المترفين وجزائهم
- صفات المتصدقين وجزائهم
- صفات المتقين وجزائهم
- صفات المتكبرين وجزائهم
- صفات المتوكلين على الله وجزائهم
- صفات المرتدين وجزائهم
- صفات المجاهدين في سبيل الله وجزائهم
- صفات المجرمين وجزائهم
- صفات المحسنين وجزائهم
- صفات المخبتين وجزائهم
- صفات المختلفين والمتفرقين من أهل الكتاب وجزائهم
- صفات المُخلَصين وجزائهم
- صفات المستقيمين وجزائهم
- صفات المستكبرين وجزائهم
- صفات المستهزئين بآيات الله وجزائهم
- صفات المستهزئين بالدين وجزائهم
- صفات المسرفين وجزائهم
- صفات المسلمين وجزائهم
- صفات المشركين وجزائهم
- صفات المصَدِّقين وجزائهم
- صفات المصلحين وجزائهم
- صفات المصلين وجزائهم
- صفات المضعفين وجزائهم
- صفات المطففين للكيل والميزان وجزائهم
- صفات المعتدين وجزائهم
- صفات المعتدين على الكعبة وجزائهم
- صفات المعرضين وجزائهم
- صفات المغضوب عليهم وجزائهم
- صفات المُفترين وجزائهم
- صفات المفسدين إجتماعياَ وجزائهم
- صفات المفسدين دينيًا وجزائهم
- صفات المفلحين وجزائهم
- صفات المقاتلين في سبيل الله وجزائهم
- صفات المقربين الى الله تعالى وجزائهم
- صفات المقسطين وجزائهم
- صفات المقلدين وجزائهم
- صفات الملحدين وجزائهم
- صفات الملحدين في آياته
- صفات الملعونين وجزائهم
- صفات المنافقين ومثلهم ومواقفهم وجزائهم
- صفات المهتدين وجزائهم
- صفات ناقضي العهود وجزائهم
- صفات النصارى
- صفات اليهود و النصارى
- آيات الرسول محمد (ص) والقرآن الكريم
- آيات المحاورات المختلفة - الأمثال - التشبيهات والمقارنة بين الأضداد
- نهج البلاغة
- تصنيف نهج البلاغة
- دراسات حول نهج البلاغة
- الصحيفة السجادية
- تصنيف الصحيفة السجادية
- تصنيف الصحيفة بالموضوعات
- الباب السابع : باب الاخلاق
- الباب الثامن : باب الطاعات
- الباب التاسع: باب الذكر والدعاء
- الباب العاشر: باب السياسة
- الباب الحادي عشر:باب الإقتصاد
- الباب الثاني عشر: باب الإنسان
- الباب الثالث عشر: باب الكون
- الباب الرابع عشر: باب الإجتماع
- الباب الخامس عشر: باب العلم
- الباب السادس عشر: باب الزمن
- الباب السابع عشر: باب التاريخ
- الباب الثامن عشر: باب الصحة
- الباب التاسع عشر: باب العسكرية
- الباب الاول : باب التوحيد
- الباب الثاني : باب النبوة
- الباب الثالث : باب الإمامة
- الباب الرابع : باب المعاد
- الباب الخامس: باب الإسلام
- الباب السادس : باب الملائكة
- تصنيف الصحيفة بالموضوعات
- أسماء الله الحسنى
- أعلام الهداية
- النبي محمد (صلى الله عليه وآله)
- الإمام علي بن أبي طالب (عليه السَّلام)
- السيدة فاطمة الزهراء (عليها السَّلام)
- الإمام الحسن بن علي (عليه السَّلام)
- الإمام الحسين بن علي (عليه السَّلام)
- لإمام علي بن الحسين (عليه السَّلام)
- الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السَّلام)
- الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السَّلام)
- الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السَّلام)
- الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السَّلام)
- الإمام محمد بن علي الجواد (عليه السَّلام)
- الإمام علي بن محمد الهادي (عليه السَّلام)
- الإمام الحسن بن علي العسكري (عليه السَّلام)
- الإمام محمد بن الحسن المهدي (عجَّل الله فرَجَه)
- تاريخ وسيرة
- "تحميل كتب بصيغة "بي دي أف
- تحميل كتب حول الأخلاق
- تحميل كتب حول الشيعة
- تحميل كتب حول الثقافة
- تحميل كتب الشهيد آية الله مطهري
- تحميل كتب التصنيف
- تحميل كتب التفسير
- تحميل كتب حول نهج البلاغة
- تحميل كتب حول الأسرة
- تحميل الصحيفة السجادية وتصنيفه
- تحميل كتب حول العقيدة
- قصص الأنبياء ، وقصص تربويَّة
- تحميل كتب السيرة النبوية والأئمة عليهم السلام
- تحميل كتب غلم الفقه والحديث
- تحميل كتب الوهابية وابن تيمية
- تحميل كتب حول التاريخ الإسلامي
- تحميل كتب أدب الطف
- تحميل كتب المجالس الحسينية
- تحميل كتب الركب الحسيني
- تحميل كتب دراسات وعلوم فرآنية
- تحميل كتب متنوعة
- تحميل كتب حول اليهود واليهودية والصهيونية
- المحقق جعفر السبحاني
- تحميل كتب اللغة العربية
- الفرقان في تفسير القرآن -الدكتور محمد الصادقي
- وقعة الجمل صفين والنهروان
الجزء الحادي عشر باب
المختار من الخطب والأوامر - ابن ابي الحديد
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن كلام له في صفة الدنيا والآخرة
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: أيها الناس،
إنما الدنيا دار مجازٍ، والآخرة دار قرارٍ، فخذوا من ممركم لمقركم؛ ولا تهتكوا
أستاركم، عند من يعلم أسراركم، وأخرجوا من الدنيا قلوبكم من قبل أن تخرج منها
أبدانكم، ففيها أختبرتم، ولغيرها خلقتم، إن المرء إذا هلك قال الناس: ما ترك،
وقالت الملائكة: ما قدم، لله أباؤكم، فقدموا بعضاً يكن لكم، ولا تخلفوا كلا
فيكون فرضاً عليكم. الشرح: ذكر أبو العباس محمد بن يزيد
المبرد في "الكامل " عن الأصمعي، قال: خطبنا أعرابي بالبادية، فحمد الله واستغفره، ووحده
وصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم؛ فأبلغ في
إيجاز، ثم قال: أيها الناس، إن الدنيا دار بلاع،
والآخرة دار قرار، فخذوا لمقركم من ممركم، ولا تهتكوا أستاركم، عند من لا تخفى
عليه أسراركم. في الدنيا
أنتم، ولغيرها خلقتم. أقول قولي
هذا وأستغفر الله لي ولكم، والمصلى عليه رسول الله، والمدعو له الخليفة ،
والأمير جعفر بن سليمان. وذكر غيره الزيادة التي في كلام أمير المؤمنين رضي الله عنه،
وهي: "إن المرء إذا هلك"، إلى آخر الكلام، وأكثر الناس على أن
هذا الكلام لأمير المؤمنين رضي الله عنه، ويجوز أن يكون الأعرابي حفظه فأورده
كما يورد الناس كلام غيرهم. قوله رضي الله عنه: "دار مجاز"، أي يجاز
فيها إلى الآخرة، ومنه سمي المجاز في الكلام مجازاً، لأن المتكلم قد عبر الحقيقة
إلى غيرها، كما يعبر الإنسان من موضع إلى موضع، ودار
القرار: دار الاستقرار الذي لا آخر له، فخذوا من ممركم، أي من الدنيا.
لمقركم؟ وهو الآخرة. قوله رضي الله عنه: "قال الناس: ما ترك"،
يريد أن بني آدم مشغولون بالعاجلة، لا يفكرون في غيرها، ولا يتساءلون الا عنها،
فإذا هلك أحدكم، فإنما قولهم بعضهم لبعض: ما الذي ترك
فلان من المال؟ ما الذي خلف من الولد؟ وأما الملائكة فإنهم يعرفون
الآخرة، ولا تستهويهم شهوات الدنيا، وإنما هم مشغولون بالذكر والتسبيح، فإذا هلك
الإنسان، قالوا: ما قدم؟ أي أي شيء قدم من الأعمال؟ ثم أمرهم رضي الله عنه، بأن يقدموا من أموالهم بعضها صدقة،
فإنها تبقى لهم، ونهاهم أن يخلفوا أموالهم كلها بعد موتهم، فتكون وبالاً عليهم
في الآخرة. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن كلام له عليه السلام كان كثيراً ما ينادي به
أصحابه |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: تجهزوا رحمكم
الله، فقد نودي فيكم بالرحيل، وأقفوا العرجة على الدنيا، وأنقلبوا بصالح ما
بحضرتكم من الزاد؟ فإن أمامكم عقبةً كئوداً، ومنازل مخوفةً مهولةً، لا بد من
الورود عليها، والوقوف عندها. وأعلموا أن
ملاحظ المنية نحوكم دائبةٌ، وكأنكم بمخالبها وقد نشبت فيكم، وقد دهمتكم منها
مفظعات الأمور، ومضلعات المحذور، فقطعوا علائق الدنيا، وأستظهروا بزاد التقوى. "وقد مضى شيءٌ من هذا الكلام
فيما تقدم يخالف هذه الرواية". والعقبة الكؤود: الشاقة المصعد. ودائبة: جادة. والمخلب للسبع بمنزلة الظفر للإنسان. وأفظع
الأمر، فهو مفظع، إذا جاوز المقدار شدة، ومضلعات
المحذور: الخطوب التي تضلع، أي تجعل الإنسان ضليعاً، أي معوجاً، والماضي
ضلع بالكسر يضلع ضلعاً. ومن رواها بالظاء، أراد الخطوب التي تجعل الإنسان ظالعاً،
أي يغمز في مشيه لثقلها عليه، والماضي ظلع بالفتح، يظلع ظلعاً، فهو ظالع. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن كلام له (عليه السلام)
كلم به طلحة والزبير بعد بيعته بالخلافة وقد عتبا عليه من ترك مشورتهما
والاستعانة في الأمور بهما
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: لقد نقمتما
يسيراً، وأرجأتما كثيراً. ألا تخبراني أي شيءٍ كان لكما فيه حقٌ دفعتكما عنه،
أم أي قسمٍ أستأثرت عليكما به، أو أي حق رفعه إلي أحدٌ من المسلمين ضعفت عنه، أم
جهلته، أم أخطأت بابه، والله ما كانت لي في الخلافة رغبةٌ، ولا في الولاية
إربةٌ، ولكنكم دعوتموني إليها، وحملتموني عليها، فلما أفضت إلي نظرت إلى كتاب
الله وما وضع لنا، وأمرنا بالحكم به فاتبعته، وما أستن النبي إلى الله عليه وأله
وصححبه وسلم فاقتديته. فلم أحتج
إلى رأيكما، ولا رأي غيركما، ولا وقع حكم جهلته فأستشيركما وإخواني من المسلمين.
ولو كان ذلك لم أرغب عنكما ولا عن غيركما. وأما ما ذكرتما من أمر الأسوة،
فإن ذلك أمر لم أحكم أنا فيه برأيي، ولا وليته هوى مني، بل وجدت أنا وأنتما ما
جاء به رسول الله صلى الله عليه وأله وصحبه وسلم قد فرغ منه، فلم أحتج إليكما
فيما قد فرغ الله من قسمه، وأمضى فيه حكمه، فليس لكما والله عندي ولا لغيركما في
هذا عتبى، أخذ الله بقلوبنا وقلوبكم إلى الحق، وألهمنا وإياكم الصبر، ثم قال عليه السلام: رحم الله رجلاً رأى حقاً فأعان
عليه، أو رأى جوراً فرده، وكان عوناً بالحق على صاحبه. الشرح: نقمت عليه، بالفتح أنقم، هذه اللغة الفصيحة،
وجاء نقمت بالكسر، أنقم. وأرجأتما: أخرتما،
أي نقمتما من أحوالي اليسير، وتركتما الكثير الذي ليس لكما ولا لغير كما فيه
مطعن، فلم تذكراه، فهلا اغتفرتما اليسير للكثير، وليس هذا اعترافاً بأن ما نقماه
موضع الطعن والعيب، ولكنه على جهة الجدل والاحتجاج، تقول
لمن يطعن في بيت من شعر شاعر مشهور: لقد ظلمته إذ تتعلق عليه بهذا البيت،
وتنسى ما له من المحاسن الكثيرة في غيره، ثم ذكر وجوه العتاب والاسترادة ، وهي أقسام: إما أن يكون لهما حقٌ يدفعهما عنه، أو
استأثر عليهما في قسم، أو ضعف عن السياسة، أوجهل حكماً من أحكام الشريعة، أو
أخطأ بابه. فإن قلت: أي فرق بين الأول والثاني؟ قلت: أما دفعهما عن حقهما، فمنعهما عنه؟ سواء صار إليه
رضي الله عنه أو إلى غيره، أو لم يصر إلى
أحد، بل بقي بحاله في بيت المال. فإن قلت:
فأي فرق بين قوله: "أم جهلته"، أو "أخطات بابه "، قلت؟ جهل الحكم أن يكون الله تعالى قد حكم بحرمة
شيء، فأحله الإمام أو المفتي، وكونه يخطىء بابه؟ هوأن يصيب في الحكم ويخطىء في
الاستدلال عليه. ثم أقسم أنه لم يكن له في الخلافة رغبة ولا إربة، بكسر الهمزة،
وهي الحاجة. وصدق رضي الله عنه فهكذا نقل أصحاب
التواريخ وأرباب علم السير كلهم، وروى الطبري في
التاريخ ورواه غيره أيضاً أن الناس غشوه وتكاثروا عليه يطلبون مبايعته، وهو يأبى ذلك ويقول: دعوني والتمسوا غيري، فإنا
مستقبلون أمراً له وجوه وألوان، لا تثبت عليه العقول، ولا تقوم له القلوب قالوا: ننشدك الله، ألا ترى الفتنة، ألا ترى إلى
ما حدث في الإسلام، ألا تخاف الله، فقال: قد
أجبتكم لما أرى منكم، واعلموا أني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم، وإن تركتموني
فإنما أنا كأحدكم، بل أنا أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم إليه. فقالوا: ما
نحن بمفارقيك حتى نبايعك. قال: إن
كان لا بد من ذلك ففي المسجد؟ فإن بيعتي لا تكون خفياً، ولا تكون إلا عن رضا
المسلمين، وفي ملأ وجماعة. فقام والناس حوله، فدخل المسجد، وانثال عليه
المسلمون فبايعوه، وفيهم طلحة والزبير. قلت: قوله:
"إن بيعتي لا تكون خفياً، ولا تكون إلا في المسجد بمحضر من جمهور
الناس"، يشابه قوله بعد وفاة رسول الله
صلى الله عليه وسلم للعباس لما سامه مد يده للبيعة: إني
أحب أن أصحر بها ، وأكره أن أبايع من وراء رتاج. ثم ذكر رضي الله عنه أنه لما بويع عمل بكتاب الله وسنة
رسوله، ولم يحتج إلى رأيهما ولا رأي غيرهما، ولم يقع حكم يجهله فيستشيرهما، ولو
وقع ذلك لاستشارهما وغيرهما، ولم يأنف من ذلك. ثم تكلم في
معنى التنفيل في العطاء، فقال: إني عملت
بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك. وصدق رضي الله عنه فإن رسول الله صلى
الله عليه وسلم سوى في العطاء بين الناس، وهو مذهب أبي بكر رضي الله عنه. والعتبى: الرضا، أي لست ارضيكما بارتكاب ما لا يحل
لي في الشرع ارتكابه. والضمير في "صاحبه "،
وهو الهاء المجرورة يرجع إلى الجور، أي وكان عوناً بالعمل على صاحب الجور. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
طلحة والزبير وبعض من أخبارهما
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قد
تقدم منا ذكر ما عتب به طلحة والزبير على أمير
المؤمنين رضي الله عنه، وأنهما قالا: ما نراه
يستشيرنا في أمرٍ، ولا يفاوضنا في رأي، ويقطع الأمر دوننا، ويستبد بالحكم عنا،
وكانا يرجوان غير ذلك، وأراد طلحة أن يوليه البصرة، وأراد
الزبير أن يوليه الكوفة، فلما شاهدا صلابته في الدين، وقوته في العزم،
وهجره الإدهان والمراقبة، ورفضه المدالسة والمواربة، وسلوكه في جميع مسالكه منهج
الكتاب والسنة، وقد كانا يعلمان ذلك قديماً من طبعه وسجيته، وكان عمر رضي الله عنه قال لهما ولغيرهما: إن الأجلح
إن وليها ليحملنكم على المحجة البيضاء والصراط المستقيم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل قال:
"وإن تولوها علياً، تجدوه هادياً مهدياً"،
إلا أنه ليس الخبر كالعيان، ولا القول كالفعل، ولا الوعد كالإنجاز. وحالا عنه،
وتنكرا له، ووقعا فيه، وعاباه وغمصاه ، وتطلبا له العلل والتأويلات، وتنقما عليه
الاستبداد وترك المشاورة، وانتقلا من ذلك إلى الوقيعة فيه بمساواة الناس في قسمة
المال، وأثنيا على عمر رضي الله عنه، وحمدا سيرته، وصوبا رأيه، وقالا: إنه كان يفضل أهل السوابق، وضللا علياً رضي
الله عنه فيما رآه، وقالا: إنه أخطأ، وإنه خالف
سيرة عمر رضي الله عنه، وهي السيرة المحمودة التي لم تفضحها النبوة، مع قرب
عهدها منها، واتصالها بها. واستنجدا عليه
بالرؤساء من المسلمين، كان عمر رضي الله عنه
يفضلهم وينفلهم في القسم على غيرهم - والناس أبناء
الدنيا، ويحبون المال حباً جماً - فتنكرت على أمير المؤمنين رضي الله عنه بتنكرهما قلوبٌ كثيرة، ونغلت
عليه نيات كانت من قبل سليمة، ولقد كان عمر رضي الله عنه موفقاً حيث منع قريشاً والمهاجرين
وذوي السوابق من الخروج من المدينة، ونهاهم عن مخالطة الناس، ونهى الناس عن
مخالطتهم، ورأى أن ذلك أس الفساد في الأرض، وأن الفتوح والغنائم قد أبطرت
المسلمين، ومتى بعد الرؤوس والكبراء منهم عن دار الهجرة، وانفردوا بأنفسهم،
وخالطهم الناس في البلاد البعيدة لم يأمن أن يحسنوا لهم الوثوب، وطلب الإمرة
ومفارقة الجماعة، وحل نظام الألفة، ولكنه رضي الله عنه نقض هذا الرأي السديد بما
فعله بعد طعن أبي لؤلؤة له من أمر الشورى، فإن ذلك كان
سبب كل فتنة وقعت، وتقع إلى أن تنقضي الدنيا. وقد قدمنا ذكر ذلك،
وشرحنا ما أدى إليه أمر الشورى من الفساد بما حصل في نفس كل من الستة من ترشيحه
للخلافة. وروى أبو جعفر الطبري
في تاريخه، قال: كان عمر رضي الله عنه
قد حجر على أعلام قريش من المهاجرين الخروج في البلدان الإ بأذن وأجلٍ، فشكوه،
فبلغه، فقام فخطب، فقال: ألا إني قد سننت
الإسلام سن البعير، يبدأ فيكون جذعاً ، ثم ثنياً ، ثم يكون رباعياً ، ثم سديساً،
ثم بازلاً . ألا فهل ينتظر
بالبازل الا النقصان ألا وإن الإسلام قد صار بازلاً، وإن قريشاً يريدون أن
يتخذوا مال الله معونات على ما في أنفسهم. ألا إن في قريش من يضمر الفرقة، ويروم
خلع الربقة. أما وابن الخطاب حي فلا؛ إني قائم دون شعب الحرة، آخذ بحلاقيم قريش
وحجزها أن يتهافتوا في النار. وقال أبو جعفر الطبري في التاريخ أيضاً: فلما
وفي عثمان لم يأخذهم بالذي كان عمر يأخذهم به، فخرجوا إلى البلاد،فلما نزلوها
ورأوا الدنيا، ورآهم الناس، خمل من لم يكن له طول ولا قدم في الإسلام، ونبه
أصحاب السوابق والفضل، فانقطع إليهم الناس، وصاروا أوزاعاً معهم، وأملوهم، وتقربوا
إليهم، وقالوا: يملكون فيكون لنا في ملكهم حظوة،
فكان ذلك أول وهن على الإسلام، وأول فتنة كانت في العامة. وروى أبو جعفر
الطبري، عن الشعبي، قال: لم يمت عمر رضي الله عنه حتى ملته
قريش، وقد كان حصرهم بالمدينة، وسألوه أن يأذن لهم في الخروج إلى البلاد، فامتنع
عليهم، وقال: إن أخوف ما أخاف على هذه الأمة
انتشاركم في البلاد، حتى إن الرجل كان يستأذنه في غزو الروم أو الفرس، وهو ممن
حبسه بالمدينة من قريش، ولا سيما من المهاجرين فيقول
له: إن لك في غزوك مع رسول الله صلى الله عليه
وسلم ما يكفيك ويبلغك ويحسبك ، وهو خيرٌ لك من الغزو اليوم، وإن خيراً لك
ألا ترى الدنيا ولا تراك. فلما مات عمر وولي عثمان خلى عنهم فانتشروا في
البلاد واضطربوا، وانقطع إليهم الناس وخالطوهم، فلذلك
كان عثمان رضي الله عنه أحب إلى قريش من عمر رضي الله عنه. فقد بان لك حسن رأي
عمر رضي الله عنه في منع المهاجرين وأهل السابقة من قريش من مخالطة الناس
والخروج من المدينة، وبان لك أن عثمان رضي الله عنه
أرخى لهم في الطول ، فخالطهم الناس، وأفسدوهم، وحببوا إليهم الملك والإمرة
والرئاسة، لا سيما مع الثروة العظيمة التي حصلت لهم، والثراء مفسدة وأي مفسدة ،
وحصل لطلحة والزبير من ذلك ما لم يحصل لغيرهما ثروة ويساراً، وقدماً في الإسلام،
وصار لهما لفيف عظيم من المسلمين يمنونهما الخلافة، ويحسنون لهما طلب الإمرة، لا سيما وقد رشحهما عمر رضي الله عنه لها، وأقامهما مقام نفسه
في تحملها، وأي امرىء منى بها قط نفسه ففارقها حتى يغيب في اللحد، ولا سيما طلحة، قد كان يحدث بها نفسه وأبو بكر رضي الله عنه حي، ويروم أن يجعلها فيه، بشبهة أنه ابن عمه، وسخط خلافة عمر رضي الله عنه، وقال لأبي بكر رضي الله عنه:
ما تقول لربك وقد وليت علينا فظاً غليظاً، وكان له في أيام عمر قوم
يجلسون إليه، ويحادثونه سراً في معنى الخلافة، ويقولون
له: لو مات عمر رضي
الله عنه لبايعناك بغتة، جلب الدهر علينا
ما جلب، وبلغ ذلك عمر رضي الله عنه، فخطب
الناس بالكلام المشهور، إن قوماً يقولون:
إن بيعة أبي بكر رضي الله عنه كانت
فلتة، وإنه لو مات عمر لفعلنا وفعلنا، أما إن بيعة أبي بكر كانت فلتة، إلا أن الله وقى شرها،
وليس فيكم من تقطع إليه الرقاب كأبي بكر، فأي امرىء بايع امراً من غير مشورة من
المسلمين، فإنهما بغرة أن يقتلا، فلما صارت إلى عثمان سخطها طلحة بعد أن كان
رضيها، وأظهر ما في نفسه، وألب عليه حتى قتل، ولم يشك أن الأمر له، فلما صارت إلى علي رضي الله عنه، حدث منه ما حدث، وآخر الدواء
الكي. وأما الزبير
فلم يكن إلا علوي الرأي، شديد الولاء، جارياً من الرجل مجرى نفسه. ويقال: إنه رضي الله
عنه لما استنجد بالمسلمين عقيب يوم السقيفة وما جرى فيه، وكان يحمل فاطمة رضي
الله عنها ليلاً على حمار، وابناها بين يدي الحمار، وهو رضي الله عنه يسوقه
فيطرق بيوت الأنصار وغيرهم، ويسألهم النصرة والمعونة، أجابه أربعون رجلاً،
فبايعهم على الموت، وأمرهم أن يصبحوا بكرة محلقي رؤوسهم ومعهم سلاحهم، فاصبح لم
يوافه منهم إلا أربعة: الزبير، والمقداد، وأبو ذر، وسلمان. ثم أتاهم من الليل، فناشدهم، فقالوا: نصبحك غدوة؟ فما جاءه منهم إلا أربعة، وكذلك في
الليلة الثالثة، وكان الزبير أشدهم له نصرة، وأنفذهم في طاعته بصيرة، حلق
رأسه، وجاء مراراً وفي عنقه سيفه، وكذلك الثلاثة
الباقون، إلا أن الزبير هو كان الرأس فيهم. وقد نقل الناس خبر الزبير لما
هجم عليه ببيت فاطمة رضي الله عنها، وكسر سيفه في صخرة ضربت به، ونقلوا اختصاصه
بعلي رضي الله عنه، وخلواته به. ولم يزل موالياً له،
متمسكاً بحبه ومودته، حتى نشأ ابنه عبد الله وشب، فنزع به عرق من الأم، ومال إلى
تلك الجهة وانحرف عن هذه، ومحبة الوالد للولد معروفة، فانحرف الزبير لانحرافه؟ على
أنه قد كانت جرت بين علي رضي الله عنه والزبير هنات في أيام عمر رضي الله عنه
كدرت القلوب بعض التكدير، وكان سببها قصة موالي صفية
ومنازعة علي للزبير في الميراث، فقضى عمر رضي الله عنه للزبير، فأذعن علي
رضي الله عنه لقضائه بحكم سلطانه، لا رجوعاً عما كان يذهب إليه من حكم الشرع في
هذه المسألة وبقيت في نفس الزبير، على أن شيخنا أبا جعفر الإسكافي رحمه الله ذكر في كتاب "نقض
العثمانية" عن الزبير كلاماً، إن صح، فإنه يدل على انحراف شديد، ورجوع عن
موالاة أمير المؤمنين رضي الله عنه قال: تفاخر علي رضي الله عنه والزبير، فقال
الزبير: أسلمت بالغاً، وأسلمت طفلاً، وكنت أول من سل سيفاً في سبيل الله
بمكة وأنت مستخف في الشعب، يكفلك الرجال، ويمونك الأقارب من بني هاشم. وكنت
فارساً، وكنت راجلاً، وفي هيئتي نزلت الملائكة، وأنا حواري رسول الله صلى الله
عليه وسلم. قال
شيخنا أبو جعفر: وهذا الخبر مفتعل مكذوب، ولم يجر
بين علي والزبير شيء من هذا الكلام، ولكنه من
وضع العثمانية، ولم يسمع به في أحاديث الحشوية ، ولا في كتب أصحاب
السيرة. ولعلي رضي الله عنه أن يقول: طفلٌ مسلم خير من بالغ كافر، وأما سل
السيف بمكة، فلم يكن في موضعه، وفي ذلك قال الله
تعالى: "ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا
أيديكم" ، وأنا على منهاج الرسول في الكف والإقدام، وليس كفالة
الرجال والأقارب بالشعب عاراً علي، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم الشعب
يكفله الرجال والأقارب. وأما حربك فارساً،
وحربي راجلاً، فهلا أغنت فروسيتك يوم عمرو بن عبدود في الخندق، وهلا أغنت
فروسيتك يوم طلحة بن أبي طلحة في أحد، وهلا أغنت فروسيتك يوم مرحب بخيبر، ما
كانت فرسك التي تحارب عليها في هذه الأيام إلا أذل من العنز الجرباء، ومن سلمت
عليه الملائكة أفضل ممن نزلت في هيئته، وقد نزلت الملاثكة في صورة دحية الكلبي،
أفيجب من ذلك أن يكون دحية أفضل مني، وأما كونك حواري رسول الله صلى الله عليه
وسلم، فلو عددت خصائمي في مقابلة هذه اللفظة الواحدة لك، لاستغرقت الوقت، وأفنيت
الزمان، ورب صمتٍ أبلغ من نطق. ثم نرجع إلى الحديث الأول، فنقول: إن طلحة والزبير
لما أيسا من جهة علي رضي الله عنه، ومن حصول الدنيا من قبله، قلبا له
ظهر المجن، فكاشفاه وعاتباه قبل المفارقة عتاباً لاذعاً، روى شيخنا أبو عثمان قال: أرسل طلحة والزبير إلى علي رضي الله عنه قبل خروجهما إلى مكة مع محمد بن
طلحة، وقالا: لا تقل له: "يا أمير المؤمنين"، ولكن قل له: "يا
أبا الحسن"، لقد فال فيك رأينا، وخاب ظننا. أصلحنا لك الأمر،
ووطدنا لك الإمرة، وأجلبنا على عثمان حتى قتل، فلما طلبك الناس لأمرهم، أسرعنا
إليك، وبايعناك، وقدنا إليك أعناق العرب، ووطىء المهاجرون والأنصار أعقابنا في
بيعتك حتى إذا ملكت عنانك، استبددت برأيك عنا، ورفضتنا رفض التريكة ، وأذلتنا
إذالة الإماء، وملكت أمرك الأشتر وحكيم بن جبلة وغيرهما من الأعراب ونزاع
الأمصار، فكنا فيما رجوناه منك، وأملناه من ناحيتك، كما قال الأول:
فلما جاء محمد بن طلحة، أبلغه ذاك، فقال: اذهب إليهما، فقل لهما: فما الذي
يرضيكما؟ فذهب وجاءه، فقال: إنهما يقولان: ول أحدنا
البصرة والآخر الكوفة، فقال: لاها الله، إذن يحلم الأديم، ويشتري الفساد، وتنتقض
علي البلاد من أقطارها، والله إقي لا آمنهما وهما عندي بالمدينة، فكيف آمنهما
وقد وليتهما العراقين اذهب إليهما فقل: أيها الشيخان، احذرا من سطوة الله
ونقمته، ولا تبغيا للمسلمين غائلة وكيداً، وقد سمعتما قول الله تعالى: "تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في
الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين" . فقام
محمد بن طلحة فأتاهما، ولم يعد إليه، وتأخرا عنه
أياماً، ثم جاءاه فاستأذناه في الخروج إلى مكة للعمرة، فأذن لهما بعد أن أحلفهما
ألا ينقضا بيعته، ولا يغدرا به، ولا يشقا عصا المسلمين، ولا يوقعا الفرقة بينهم،
وأن يعودا بعد العمرة إلى بيوتهما بالمدينة، فحلفا على ذلك كله ثم خرجا
ففعلا ما فعلا". وروى الطبري في التاريخ،
قال: لما بايع طلحة والزبير علياً رضي الله عنه، سألاه أن يؤمرهما على الكوفة
والبصرة، فقال: بل تكونان عندي أتجمل بكما، فإنني أستوحش لفراقكما. قال الطبري: وقد كان قال لهما قبل بيعتهما له: إن
أحببتما أن تبايعاني، وإن أحببتما بايعتكما؟ فقالا: لا؟ بل نبايعك؟ ثم قالا بعد
ذلك: إنما بايعناه خشية على أنفسنا، وقد عرفنا أنه لم يكن ليبايعنا. ثم ظهرا إلى
مكة، وذلك بعد قتل عثمان بأربعه أشهر. وروى الطبري أيضاً في
التاريخ قال: لما بايع الناس علياً، وتم له الأمر، قال طلحة للزبير: ما أرى أن لنا من هذا الآمر إلا
كحسة أنف الكلب. وروى الطبري أيضاً في
التاريخ، قال: لما بايع الناس علياً رضي الله عنه بعد
قتل عثمان رضي الله عنه، جاء علي إلى الزبير، فاستأذن عليه. قال أبو حبيبة مولى الزبير: فأعلمته به، فسل السيف، ووضعه تحت فراشه، وقال: ائذن له، فأذنت له، فدخل فسلم
على الزبير وهو واقف. ثم خرج، فقال الزبير:
لقد دخل لأمر ما قضاه، قم مقامه وانظر: هل ترى من السيف شيئاً، فقمت في مقامه،
فرأيت ذباب السيف، فأخبرته وقلت: إن ذباب
السيف ليظهر لمن قام في هذا الموضع، فقال:
ذاك أعجل الرجل. وروى شيخنا أبو عثمان،
قال: كتب مصعب
بن الزبير إلى عبد الملك: من مصعب بن الزبير
إلى عبد الملك بن مروان: سلام عليك، فإني
أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد:
أما
إن لله علي الوفاء بذلك؟ إلا أن تتراجع أو تتوب، ولعمري ما أنت كعبد الله بن
الزبير، ولا مروان كالزبير بن العوام، حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن
عمته. فسلم الأمر إلى أهله، فإن نجاتك بنفسك أعظم الغنيمتين. والسلام. فكتب إليه عبد الملك: من عبد الله عبد الملك أمير المؤمنين، إلى الذلول الذي أخطأ
من سماه المصعب؟ سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد:
أما ما ذكرت من وفائك، فلعمري لقد وفى أبوك لتيم
وعدي بعداء قريش وزعانفها، حتى إذا صارت الأمور إلى صاحبها عثمان، الشريف النسب،
الكريم الحسب، بغاه الغوائل، وأعد له المخاتل، حتى نال منه حاجته، ثم دعا الناس
إلى علي وبايعه، فلما دانت له أمور الأمة، وأجمعت له الكلمة، وأدركه الحسد
القديم لبني عبد مناف، فنقض عهده، ونكث بيعته بعد توكيدها، ف "فكر وقدر، فقتل كيف قدر"؛ وتمزقت
لحمه الضباع بوادي السباع. ولعمري إنك
تعلم يا أخا بني عبد العزى بن قصي؟ أنا بنو عبد مناف لم نزل سادتكم وقادتكم في
الجاهلية والإسلام، ولكن الحسد دعاك إلى ما ذكرت، ولم
ترث ذلك عن كلالة، بل عن أبيك، ولا أظن حسدك وحسد
أخيك يؤول بكما إلا إلى ما آل إليه حسد أبيكما من قبل "ولا يحيق المكر السىء إلا بأهله" ؛
"وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون" . وروى أبو عثمان أيضاً،
قال: دخل الحسن بن علي رضي الله عنه على معاوية، وعنده عبد الله بن
الزبير - وكان معاوية يحب أن يغري بين قريش - فقال: يا أبا محمد، أيهما كان أكبر
سناً؟ علي أم الزبير؟ فقال الحسن: ما أقرب
ما بينهما، وعلي أسن من الزبير، رحم الله علياً،
فقال ابن الزبير رحم الله الزبير - وهناك أبو سعيد بن عقيل بن أبي طالب، فقال:
يا عبد الله، وما يهيجك من أن يترحم الرجل على أبيه، قال: وأنا أيضاً ترحمت على
أبي، قال: أتظنه نداً له وكفؤاً؟ قال: وما
يعدل به عن ذلك، كلاهما من قريش، وكلاهما دعا إلى نفسه ولم يتم له. قال: دع
ذاك عنك يا عبد الله؟ إن علياً من قريش ومن الرسول صلى الله عليه وسلم حيث تعلم،
ولما دعا إلى نفسه اتبع فيه، وكان رأساً، ودعا الزبير إلى أمر وكان الرأس فيه
امرأة، ولما تراءت الفئتان نكص على عقبيه، وولى مدبراً قبل أن يظهر الحق فيأخذه،
أو يدحض الباطل فيتركه، فأدركه رجل لو قيس ببعض أعضائه لكان أصغر، فضرب عنقه،
وأخذ سلبه، وجاء برأسه، ومضى في قدماً كعادته مع ابن عمه، رحم الله علياً، فقال ابن الزبير: أما لو أن غيرك تكلم بهذا يا أبا
سعيد، لعلم، فقال: إن الذي تعرض به يرغب عنك. وكفه معاوية، فسكتوا. وأخبرت عائشة بمقالتهم، ومر أبو سعيد بفنائها، فنادته:
يا أبا سعيد، أنت القائل لابن أختي كذا؟ فالتفت أبو سعيد، فلم ير شيئاً، فقال:
إن الشيطان يرانا ولا نراه، فضحكت عائشة، وقالت: لله
أبوك، ما أذلق لسانك. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن كلام له وقد سمع قوماً من أصحابه يسبون أهل
الشام أيام حربهم بصفين
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: إني أكره لكم أن تكونوا سبابين، ولكنكم لو وصفتم أعمالهم،
وذكرتم حالهم، كان أصوب في القول، وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبكم إياهم: اللهم
أحقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، وأهدهم من ضلالتهم، حتى يعرف الحق
من جهله، ويرعوي عن الغي والعدوان من لهج به، الشرح: السب:
الشتم، سبه يسبه بالضم، والتساب: التشاتم، ورجل
مسب بكسر الميم: كثير السباب، ورجلٌ سبة، أي يسبه الناس، ورجل سببة، أي يسب
الناس، ورجلٌ سب: كثير السباب، وسبك: الذي يسابك، قال:
والذي
كرهه رضي الله عنه منهم، أنهم كانوا يشتمون
أهل الشام، ولم يكن يكره منهم لعنهم إياهم، والبذاءة منهم، لا كما يتوهمه قومٌ
من الحشوية، فيقولون: لا يجوز لعن أحدٍ ممن
عليه اسم الإسلام، وينكرون على من يلعن، ومنهم من يغالي في ذلك، فيقول: لا العن
الكافر، ولا العن إبليس، وإن الله تعالى لا يقول لأحد يوم القيامة: لم لم تلعن؟
وإنما يقول: لم لعنت؟ واعلم أن هذا خلاف نص الكتاب،
لأنه تعالى قال: "إن الله لعن الكافرين وأعد
لهم سعيرا" ، وقال: "أولئك يلعنهم
الله ويلعنهم اللاعنون" . وقال في إبليس: "وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين" ، وقال: "ملعونين أينما ثقفوا" ، وفي الكتاب
العزيز من ذلك الكثير الواسع. وكيف يجوز للمسلم أن ينكر التبرؤ ممن يجب التبرؤ
منه، ألم يسمع هؤلاء قول الله تعالى: "لقد كان
لكم أسوةٌ حسنةٌ في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برأ منكم ومما
تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً"
، وإنما يجب النظر فيمن قد اشتبهت حاله؛ فإن كان قد قارف كبيرة من الذنوب يستحق
بها اللعن والبراءة؛ فلا ضير على من يلعنه ويبرأ منه، وإن لم يكن قد قارف كبيرة
لم يجز لعنه، ولا البراءة منه. ومما يدل على أن من عليه
اسم الإسلام إذا ارتكب الكبيرة يجوز لعنه، بل يجب في وقت، قول الله تعالى في قصة
اللعان: "فشهادة أحدهم أربع شهادات
بالله إنه لمن الصادقين ، والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين"
. وقال تعالى في القاذف: "إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في
الدنيا والآخرة ولهم عذابٌ عظيمٌ" . فهاتان
الآيتان في المكلفين من أهل القبلة، والآيات قبلهما في الكافرين والمنافقين؛ ولهذا قنت أمير
المؤمنين رضي الله عنه
على معاوية وجماعة من أصحابه، ولعنهم في أدبار الصلوات. فإن قلت: فما صورة السب
الذي نهى أمير المؤمنين رضي الله عنه عنه؟ قلت:
كانوا يشتمونهم بالآباء و الأمهات، ومنهم من يطعن في نسب قوم منهم، ومنهم من
يذكرهم باللؤم، ومنهم من يعيرهم بالجبن والبخل وبأنواع الأهاجي التي يتهاجى بها
الشعراء، وأساليبها معلومة، فنهاهم رضي الله عنه عن
ذلك، وقال: إني أكره لكم أن تكونوا سبابين؛ ولكن الأصوب أن تصفوا لهم
أعمالهم، وتذكروا حالهم؛ أي أن تقولوا: إنهم فساق؛ وإنهم أهل ضلال وباطل. ثم قال: اجعلوا عوض سبهم أن تقولوا: اللهم احقن
دماءنا ودماءهم، حقنت الدم أحقنه، بالضم: منعت أن يسفك، أي ألهمهم الإنابة إلى
الحق والعدول عن الباطل؛ فإن ذلك إذا تم حقنت دماء الفريقين. فإن قلت: كيف يجوز أن
يدعو الله تعالى بما لا يفعله؟ أليس من أصولكم أن الله تعالى لا يضطر المكلف إلى
اعتقاد الحق، وإنما يكله إلى نظره؟ قلت: الأمر وإن كان كذلك، إلا أن المكلفين قد
تعبدوا بأن يدعوا الله تعالى بذلك، لأن في دعائهم إياه بذلك لطفاً لهم ومصالح في
أديانهم؟ كالدعاء بزيادة الرزق وتأخير الأجل. وارعوى عن الغي: رجع وكف، لهج به بالكسر، يلهج: أغرى به وثابر عليه. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن كلام له في بعض أيام صفين وقد رأى الحسن ابنه
عليه السلام يتسرع إلى الحرب
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
املكوا عني هذا الغلام لا يهدني، فإنني أنفس بهذين - يعني الحسن والحسين
عليهما السلام -
على الموت لئلا ينقطع بهما نسل رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم. الشرح: الألف
في "املكوا" ألف وصل، لأن الماضي
ثلاثي، من ملكت الفرس والعبد والدار، أملك بالكسر، أي احجروا عليه كما يحجر
المالك على مملوكه. وعن، متعلقة بمحذوف تقديره: استولوا عليه وأبعدوه عني. ولما
كان الملك سبب الحجر على المملوك عبر بالسبب عن المسبب، كما عبر بالنكاح عن
العقد، وهو في الحقيقة اسم الوطء، لما كان العقد طريقاً إلى الوطء، وسبباً له. ووجه علو هذا الكلام
وفصاحته أنه لما كان في: "املكوا" معنى البعد، أعقبه بعن، وذلك
أنهم لا يملكونه دون أمير المؤمنين رضي الله عنه إلا وقد أبعدوه عنه؛ ألا ترى
أنك إذا حجرت على زيد دون عمرو، فقد باعدت زيداً عن عمرو، فلذلك قال: املكوا عني
هذا الغلام، واستفصح الشارحون قول أبي الطيب:
قالوا:
ولما كان في "فلا برحتني " معنى "فارقتني" عدى اللفظة، وإن
كانت لازمة، نظراً إلى المعنى. قوله: "لا يهدني" أي لئلا يهدني،
فحذف كما حذف طرفة في قوله:
أي
لأن أحضر. وأنفس:
أبخل، نفست عليه بكذا، بالكسر. فإن قلت: أيجوز أن يقال للحسن والحسين
وولدهما: أبناء رسول الله وولد رسول الله، وذرية رسول الله، ونسل رسول الله؟ قلت: نعم؟ لأن الله تعالى سماهم "أبناءه " في قوله تعالى: "ندع أبناءنا وأبناءكم" ، وإنما عنى
الحسن والحسين، ولو أوصى لولد فلان بمالٍ دخل فيه أولاد البنات، وسمى الله تعالى
عيسى ذرية إبراهيم في قوله: "ومن ذريته داود
وسليمان" إلى أن قال: "ويحيى
وعيسى"؛ ولم يختلف أهل اللغة في أن ولد
البنات من نسل الرجل. فإن قلت: فما تصنع بقوله تعالى: "ما كان محمدٌ أبا أحدٍ من رجالكم"؟
قلت: أسألك عن أبوته لإبراهيم بن مارية؛ فكما تجيب به عن ذلك؛ فهو جوابي عن الحسن والحسسين رضي الله عنه. والجواب الشامل للجميع أنه عنى زيد بن حارثة؛ لأن العرب كانت تقول: "زيد بن محمد" على عادتهم في تبني
العبيد، فأبطل الله تعالى ذلك، ونهى عن سنة الجاهلية، وقال: إن محمداً صلى الله عليه وسلم ليس أباً لواحدٍ من الرجال
البالغين المعروفين بينكم ليعتزي إليه بالنبوة، وذلك لا ينفي كونه أباً لأطفال،
لم تطلق عليهم لفظة الرجال، كإبراهيم وحسن وحسين رضي الله عنهم. فإن قلت: أتقول إن ابن البنت ابنٌ على الحقيقة
الأصلية أم على سبيل المجاز؟ قلت: لذاهب أن يذهب إلى أنه حقيقة أصلية؛ لأن أصل
الإطلاق الحقيقة، وقد يكون اللفظ مشتركاً بين مفهومين وهو في أحدهما أشهر، ولا
يلزم من كونه أشهر في أحدهما ألا يكون حقيقة في الآخر. ولذاهبٍ أن يذهب
إلى أنه حقيقة عرفية، وهي التي كثر استعمالها؛ وهي في الأكثر مجاز؛ حتى صارت
حقيقة في العرف، كالراوية للمزادة ، والسماء للمطر. ولذاهبٍ أن يذهب إلى
كونه مجازاً قد استعمله الشارع، فجاز إطلاقه في كل حال؛ واستعماله كسائر
المجازات المستعملة. ومما يدل على
اختصاص ولد فاطمة دون بني هاشم كافة بالنبي صلى الله عليه وسلم، أنه ما كان يحل له
رضي الله عنه أن ينكح بنات الحسن والحسين رضي الله عنهما ولا بنات ذريتهما، وان
بعدن وطال الزمان، ويحل له نكاح بنات غيرهم من بني هاشم من الطالبيين وغيرهم؛ وهذا يدل على مزيد الأقربية، وهي
كونهم أولاده، لأنه ليس هناك من القربى غير هذا الوجه، لأنهم ليسوا أولاد أخيه
ولا أولاد أخته، ولا هناك وجه يقتضي حرمتهم عليه إلا
كونه والداً لهم، وكونهم أولاداً له، فإن
قلت قد قال الشاعر:
وقال حكيم العرب أكثم بن صيفي في البنات يذمهن؛ إنهن يلدن الأعداء، ويورثن
البعداء. قيل لمحمد بن الحنفية
رضي الله عنه:
لم يغرر بك أبوك في الحرب، ولم لا يغرر بالحسن والحسين؟ فقال: لأنهما عيناه؛
وأنا يمينه، فهو يذب عن عينيه بيمينه. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال لما اضطرب عليه أصحابه في أمر الحكومة
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: أيها الناس،
إنه لم يزل أمري معكم على ما أحب، حتى نهكتكم الحرب، وقد والله أخذت منكم وتركت،
وهي لعدوكم أنهك. لقد كنت أمس أميراً، فأصبحت اليوم مأموراً، وكنت أمس ناهياً،
فأصبحت اليوم منهياً. وقد أحببتم البقاء، وليس لي أن أحملكم على ما
تكرهون، الشرح: نهكتكم، بكسر الهاء: أدنفتكم وأذابتكم، ويجوز فتح
الهاء، وقد نهك الرجل أي دنف وضني، فهو منهوك. وعليه نهكة المرض، أي أثرة الحرب، مؤنثة. وقد أخذت
منكم وتركت، أي لم تستأصلكم، بل فيكم بعد بقية، وهي لعدوكم أنهك،
لأن القتل في أهل الشام كان أشد استحراراً،
والوهن فيهم أظهر، ولو لا فساد أهل العراق برفع
المصاحف، لاستؤصل الشام، وخلص الأشتر إلى معاوية، فأخذه بعنقه، ولم يكن
قد بقي من قوة الشام إلا كحركة ذنب الوزغة عند قتلها، يضطرب يميناً وشمالاً؛ ولكن الأمور السماوية لا تغالب. فأما قوله: "كنت أمس
أميراً، فأصبحت اليوم مأموراً"، فقد قدمنا شرح حالهم من قبل، وأن
أهل العراق لما رفع عمرو بن العاص ومن معه المصاحف على وجه المكيدة حين أحس
بالعطب وعلو كلمة أهل الحق، ألزموا أمير المؤمنين رضي الله عنه بوضع أوزار
الحرب، وكف الأيدي عن القتال، وكانوا في ذلك على أقسام:
فمنهم من دخلت عليه الشبهة برفع المصاحف، وغلب
على ظنه أن أهل الشام لم يفعلوا ذلك خدعة وحيلة، بل حقاً ودعاء إلى الدين وموجب
الكتاب، فرأى أن الاستسلام للحجة أولى من الإصرار على الحرب. ومنهم من كان قد مل الحرب، وآثر السلم، فلما رأى شبهة
ما يسوغ التعلق بها في رفض المحاربة وحب العافية أخلد إليهم. ومنهم من كان يبغض علياً رضي الله عنه بباطنه، ويطيعه
بظاهره، كما يطيع كثير من الناس السلطان في الظاهر ويبغضه بقلبه، فلما وجدوا
طريقاً إلى خذلانه وترك نصرته، أسرعوا نحوها، فاجتمع جمهور عسكره عليه، وطالبوه
بالكف وترك القتال، فامتنع امتناع عالم بالمكيدة، وقال
لهم: إنها حيلة وخديعة، وإني أعرف بالقوم منكم، إنهم ليسوا بأصحاب قرآن ولا دين،
قد صحبتهم وعرفتهم صغيراً وكبيراً، فعرفت منهم الإعراض عن الدين، والركون إلى
الدنيا، فلا تراعوا برفع المصاحف، وصمموا على الحرب، وقد ملكتموهم، فلم يبق منهم
إلا حشاشة ضعيفة، وذماء قليل. فأبوا عليه، وألحوا وأصروا على القعود والخذلان،
وأمروه بالإنفاذ إلى المحاربين من أصحابه، وعليهم الأشتر أن يأمرهم بالرجوع،
وتهددوه إن لم يفعل بإسلامه إلى معاوية. فأرسل إلى
الأشتر يأمره بالرجوع وترك الحرب، فأبى عليه فقال: كيف
أرجع وقد لاحت أمارات الظفر، فقولوا له: "ليمهلني
ساعة واحدة"، ولم يكن علم صورة الحال كيف قد وقعت. فلما عاد إليه الرسول بذلك، غضبوا ونفروا وشغبوا، وقالوا: أنفذت إلى الأشتر سراً وباطناً، تأمره
بالتصميم، وتنهاه عن الكف، وإن لم تعده الساعة، وإلا قتلناك كما قتلنا عثمان، فرجعت الرسل إلى الأشتر فقالوا له: أتحب أن تظفر بمكانك وأمير
المؤمنين قد سل عليه خمسون ألف سيف، فقال: ما الخبر؟ قال: إن الجيش بأسره قد
أحدق به، وهو قاعد بينهم على الأرض، تحته نطع ، وهو مطرق، والبارقة تلمع على رأسه،
يقولون: لئن لم تعد الأشتر قتلناك، قال: ويحكم؛ فما سبب ذلك؟ قالوا: رفع
المصاحف، قال: والله لقد ظننت حين رأيتها رفعت أنها ستوقع فرقةً وفتنة. ثم كر راجعاً على عقبيه، فوجد أمير
المؤمنين رضي الله عنه تحت الخطر، قد ردده أصحابه بين أمرين: إما أن يسلموه إلى معاوية، أو يقتلوه، ولا ناصر له منهم إلا ولداه
وابن عمه ونفر قليل لا يبلغون عشرة، فلما رآهم الأشتر سبهم وشتمهم، وقال: ويحكم؛
أبعد الظفر والنصر صب عليكم الخذلان والفرقة، يا ضعاف الأحلام؛ يا أشباه النساء؛
يا سفهاء العقول؛ فشتموه وسبوه، وقهروه وقالوا:
المصاحف المصاحف؛ والرجوع إليها، لا نرى غير ذلك؛ فأجاب أمير المؤمنين رضي الله
عنه إلى التحكيم، دفعاً للمحذور الأعظم بارتكاب المحظور الأضعف، فلذلك قال: "كنت أميراً فأصبحت مأموراً؛ وكنت ناهياً
فصرت منهياً". وقد سبق من شرح حال التحكيم
وما جرى فيه ما يغني عن إعادته. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال بالبصرة
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وقد دخل على العلاء بن زياد الحارثي
وهو من أصحابه يعوده فلما رأى سعة داره قال: الأصل: ما كنت تصنع بسعة هذه الدار ي الدنيا، أما أنت
إليها في الآخرة كنت أحوج، وبلى إن شئت بلغت بها الآخرة: تقري فيها الضيف، وتصل
فيها الرحم، وتطلع منها الحقوق مطالعها، فإذا أنت قد بلغت بها الآخرة؛ قال له العلاء: يا أمير المؤمنين، أشكو إليك أخي عاصم بن
زيادٍ. قال: وماله؟
قال: لبس العباء، وتخلى من الدنيا. قال: علي به. فلما جاء، قال: يا عدي نفسه؛
لقد استهام بك الخبيث؛ أما رحمت أهلك وولدك؛ أترى الله أحل لك الطيبات، وهو يكره
أن تخذها؛ أنت أهون على الله من ذلك؛ قال: يا أمير
المؤمنين، هذا أنت في خشونة ملبسك، وجشوبة مأكلك؛ قال: ويحك إني لست
كأنت، إن الله تعالى فرض على أئمة الحق أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس، كيلا
يتبيغ بالفقير فقره. الشرح: كنت ههنا زائدة، مثل قوله تعالى: "كيف نكلم من كان في المهد صبياً" . وقوله: "وبلى إن شئت بلغت بها
الآخرة"، لفظ فصيح، كأنه استدرك، وقال: وبلى
على أنك قد تحتاج إليها في الدنيا لتجعلها وصلة إلى نيل الآخرة. بأن تقري
فيها الضيف؛ والضيف لفظ يقع على الواحد والجمع، وقد يجمع فيقال: ضيوف وأضياف. والرحم: القرابة. وتطلع منها
الحقوق مطالعها: توقعها في مظان استحقاقها. ويمكن أن يراد به الإستعظام لعداوته لها، ويمكن أن
يخرج محرج التحنن والشفقة، كقولك: يا بني. واستهام بك
الخبيث، يعني الشيطان، أي جعلك هائماً ضالاً، والباء زائدة. فإن قيل: ما معنى قوله رضي الله عنه: "أنت أهون على الله من ذلك
"؟ قلت: لأن في المشاهد قد يحل الواحد
منا لصاحبه فعلاً مخصوصاً، محاباة ومراقبة له، وهو يكره أن يفعله، والبشر أهون
على الله تعالى من أن يحل لهم أمراً مجاملة واستصلاحاً للحال معهم، وهو يكره
منهم فعله. وقوله: "هذا أنت "، أي فما بالنا نراك
خشن الملبس؛ والتقدير: "فها أنت تفعل كذا، فكيف تنهى عنه ". وطعام جشب،
أي غليظ، وكذلك مجشوب، وقيل: إنه الذي لا أدم معه. قوله رضي الله عنه: "أن يقدروا أنفسهم بضعفة
الناس"، أي يشبهوا ويمثلوا. وتبيغ الدم
بصاحبه، وتبوغ به، أي هاج به، وفي الحديث:
"عليكم بالحجامة لا يتبيغ بأحدكم الدم فيقتله "، وقيل: أصل "يتبيغ" يتبغى، فقلب، مثل جذب
وحبذ، أي يجب على الإمام العادل أن يشبه نفسه في لباسه وطعامه بضعفة الناس - جمع
ضعيف - لكيلا يهلك الفقراء من الناس، فإنهم إذا رأوا إمامهم بتلك الهيئة وبذلك
المطعم، كان أدعى لهم إلى سلوان لذات الدنيا والصبر عن شهوات النفوس. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أخبار بعض العارفين والزهاد
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وروي أن قوماً من المتصوفة
دخلوا خراسان على علي بن موسى الرضى، فقالوا له:
إن أمير المؤمنين فكر فيما ولاه الله من الأمور، فرآكم - أهل البيت - أولى الناس
أن تؤموا الناس، ونظر فيك من أهل البيت، فرآك أولى الناس بالناس، فرأى أن يرد
هذا الأمر إليك، والإمامة تحتاج إلى من يأكل الجشب ، ويلبس الخشن، ويركب الحمار،
ويعود المريض. فقال لهم:
إن يوسف كان نبياً، يلبس أقبية الديباج المزررة بالذهب، ويجلس على متكآت آل
فرعون، ويحكم؛ إنما يراد من الإمام قسطه وعدله؛ إذا
قال صدق، وإذا حكم عدل، وإذا وعد أنجز. إن الله لم يحرم لبوساً ولا مطعماً، ثم قرأ: "قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من
الرزق" . وهذا القول مخالف للقانون الذي أشار
أمير المؤمنين إليه، وللفلاسفة في هذا الباب كلام لا بأس به، وقد أشار إليه أبو
علي بن سينا في كتاب "الإشارات" وعليه يتخرج قولا أمير المؤمنين وعلي
بن موسى الرضى رضي الله عنهما. قال أبو علي في مقامات العارفين: "العارفون
قد يختلفون في الهمم بحسب ما يختلف فيهم من الخواطر، على حسب ما يختلف عندهم من
دواعي العبر، فربما استوى عند العارف القشف والترف، بل ربما آثر القشف، وكذلك
ربما سوي عنده التفل والعطر، بل ربما آثر التفل ، وذلك عندما يكون الهاجس بباله،
استحقار ما عدا الحق، وربما صغا إلى الزينة، وأحب من كل شيء عقيلته ، وكره
الخداج والسقط، وذلك عندما يعتبر عادته من صحبته الأحوال الظاهرة، فهو يرتاد إليها
لا كل شيء، لأنه مزية خطوة من العناية الأولى، وأقرب أن يكون من قبيل ما عكف
عليه بهواه، وقد يختلف هذا في عارفين، وقد يختلف في
عارف بحسب وقتين. واعلم أن الذي رويته عن الشيوخ، ورأيته بخط
عبد الله بن أحمد بن الخشاب رحمه الله، أن الربيع بن
زياد الحارثي، أصابته نشابة في جبينه، فكانت تنتقض عليه في كل عام، فأتاه علي رضي الله عنه عائداً، فقال: كيف تجدك
أبا عبد الرحمن؟ قال: أجدني يا أمير المؤمنين لو كان لا يذهب ما بي إلا بذهاب
بصري لتمنيت ذهابه، قال: وما قيمة بصرك عندك؛ قال: لو كانت لي الدنيا لفديته
بها، قال: لا جرم ليعطينك الله على قدر ذلك. إن الله تعالى يعطي على قدر الألم
والمصيبة، وعنده تضعيف كثير. قال الربيع : يا أمير المؤمنين، ألا أشكو إليك عاصم
بن زياد أخي؟ قال: ما له، قال: لبس العباء، وترك الملاء، وغم أهله، وحزن ولده.
فقال علي: ادعوا لي عاصماً، فلما أتاه عبس في وجهه، وقال:
ويحك يا عاصم؛ أترى الله أباح لك اللذات، وهو يكره ما أخذت منها؛ لأنت
أهون على الله من ذلك. أو ما سمعته يقول: "مرج
البحرين يلتقيان" ، ثم يقول: "يخرج
منهما اللؤلؤ والمرجان" وقال:
"ومن كل تأكلون لحماً طرياً وتستخرجون حلية تلبسونها" ، أما
والله إن ابتذال نعم الله بالفعال أحب إليه من ابتذالها بالمقال، وقد سمعتم الله
يقول: "وأما بنعمة ربك فحدث" ،
وقوله: "من حزم زينة الله التي أخرج لعباده
والطيبات من الرزق"، إن الله خاطب المؤمنين بما خاطب به المرسلين،
فقال: "يا أيها الذين أمنوا كلوا من طيبات ما
رزقناكم" ، وقال: "يا أيها الرسل
كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً" وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
نسائه: "مالي أراك شعثاء مرهاء سلتاء" .
قال عاصم: فلم اقتصرت يا أمير المؤمنين على لبس الخشن، وأكل الجشب؛ قال: إن
الله تعالى افترض على أئمة العدل أن يقدروا لأنفسهم بالقوام، كيلا يتبيغ بالفقير
فقره. فما قام علي رضي الله عنه حتى نزع
عاصم العباء، ولبس ملاءة. وكتب زياد بن أبيه إلى الربيع بن
زياد، وهو على قطعة من خراسان: إن أمير المؤمنين معاوية كتب
إلي يأمرك أن تحرز الصفراء والبيضاء وتقسم الخرثي وما أشبهه على أهل الحرب. فقال له الربيع: إني وجدت كتاب الله قبل كتاب أمير
المؤمنين، ثم نادى في الناس: أن اغدوا على غنائمكم،
فأخذ الخمس وقسمم الباقي على المسلمين، ثم دعا الله أن يميته؛ فما جمع حتى مات.
وهو الربيع بن زياد بن أنس بن ديان بن قطر بن زياد
بن الحارث بن مالك بن ربيعة بن كعب بن مالك بن كعب بن الحارث بن عمرو بن وعلة بن
خالد بن هالك بن أدد، وأما العلاء بن زياد الذي ذكره
الرضي رحمه الله فلا أعرفه، لعل غيري يعرفه. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال وقد سأله سائل عن أحاديث البدع وعما في أيدي
الناس من اختلاف الخبر فقال عليه السلام
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: إن في أيدي
الناس حقاً وباطلاً، وصدقاً وكذباً، وناسخاً ومنسوخاً، وعاماً وخاصاً، ومحكماً
ومتشابهاً، وحفظاً ووهماً. وقد كذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم على عهده، حتى قام خطيباً، فقال:
"من كذب علي متعمداً فليتبوا مقعده من النار". وإنما أتاك بالحديث أربعة رجالٍ، لا
لهم خامس: رجل منافق مظهر للإيمان، متصنع بالإسلام، لا يتأثم
ولا يتحرج، يكذب على رسول الله صلى
الله عليه وآله وصحبه وسلم متعمداً، فلو علم الناس أنه
منافق كاذب لم يقبلوا منه ولم يصدقوا قوله، ولكنهم
قالوا: صاحب رسول الله صلى الله عليه
وآله وصحبه وسلم، رآه وسمع منه، ولقف عنه؛ فيأخذون
بقوله، وقد أخبرك الله عن المنافقين بما أخبرك، ووصفهم بما وصفهم به لك، ثم بقوا
بعده، فتقربوا إلى أئمة الضلالة، والدعاة إلى النار بالزور والبهتان، فولوهم الأعمال،
وجعلوهم حكاماً على رقاب الناس، فأكلوا بهم الدنيا، وإنما الناس مع الملوك
والدنيا، إلا من عصم الله. فهذا أحد الأربعة. ورجل سمع من رسول الله شيئاً
لم يحفظه على وجهه، فوهم فيه، ولم يتعمد كذباً فهو في يديه، ويرويه ويعمل به،
ويقول: أنا سمعته من رسول الله صلى الله عليه
وآله وصحبه وسلم، فلو علم المسلمون أنه وهم فيه لم
يقبلوه منه، ولو علم هو أنه كذلك لرفضه. ورجلٌ ثالثٌ، سمع من رسول الله صلى
الله عليه وآله و صحبه وسلم شيئاً، يأمر به، ثم إنه نهى
عنه، وهو لا يعلم، أو سمعه ينهى عن شيء ثم أمر به وهو لا يعلم، فحفظ المنسوخ ولم
يحفظ الناسخ، فلو علم أنه منسوخ لرفضه، ولو علم المسلمون إذ سمعوة منه أنه منسوخ
لرفضوه. وأخر رابعٌ، لم
يكذب على الله ولا على رسوله، مبغضٌ للكذب خوفاً من الله، وتعظيماً لرسول الله صلى
الله عليه وآله وصحبه وسلم، ولم يهم، بل حفظ ما سمع على
وجهه، فجاء به على سمعه، لم يزد فيه ولم ينقص منه، فهو حفظ الناسخ فعمل به، وحفظ
المنسوخ فجنب عنه، وعرف الخاص والعام، والمحكم والمتشابه، فوضع كل شيء موضعه،
وقد كان يكون من رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم
الكلام، له وجهان، فكلامٌ خاصٌ!، وكلام عامٌ، فيسمعه من لا يعرف ما عنى الله
سبحانه به، ولا ما عنى رسول الله إلى الله عليه وأله
وصحبه وسلم، فيحمله السامع، ويوجهه على غير معرفة بمعناه، وما
قصد به، وما خرج من أجله، وليس كل أصحاب رسول الله صلى
الله عليه وأله وصحبه وسلم من كان يسأله، ويستفهمه، حتى
إن كانوا ليحبون أن يجيء الأعرابي والطارىء، فيسأله عليه السلام، حتى يسمعوا،
وكان لا يمر بي من ذلك شيء إلا سألته عنه، وحفظته.
فهذه وجوه ما عليه الناس في أختلافهم وعللهم في رواياتهم. قوله رضي الله عنه:
"وحفظاً ووهماً" الهاء مفتوحة، وهي مصدر وهمت، بالكسر، أوهم، أي غلطت
وسهوت، وقد روي: "وهماً" بالتسكين، وهو مصدر وهمت بالفتح
أوهم، إذا ذهب وهمك إلى شيء وأنت تريد غيره، والمعنى متقارب. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "فليتبوأ
مقعده من النار" كلام صيغته الأمر، ومعناه الخبر، كقوله تعالى: "قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مداً"
، وتبوأت المنزل: نزلته، وبوأته منزلاً: أنزلته فيه. والتأثم:
الكف عن موجب الإثم، والتحرج مثله، وأصله الضيق، كأنه يضيق على نفسه، ولقف عنه:
تناول عنه، وجنب عنه: أخذ عنه جانباً، و"إن" في قوله: "حتى إن
كانوا ليحبون" مخففة من الثقيلة، ولذلك جاءت اللام في الخبر، والطارىء،
بالهمز: الطالع عليهم، طرأ أي طلع، وقد روي:
"عللهم"، بالرفع عطفاً على "وجوه" وروي بالجر عطفاً
على " اختلافهم". |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
النفاق لم يمت بموت الرسول عليه السلام
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
واعلم أن هذا التقسيم صحيح،
وقد كان في أيام رسول الله صلى الله عليه
وسلم
منافقون، وبقوا بعده، وليس يمكن أن يقال: إن النفاق مات بموته، والسبب في استتار حالهم بعده أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يزال
يذكرهم بما ينزل عليه من القرآن، فإنه مشحون بذكرهم، ألا
ترى أن أكثر ما نزل بالمدينة من القرآن مملوء بذكر المنافقين، فكان السبب في
انتشار ذكرهم وأحوالهم وحركاتهم هو القرآن، فلما انقطع الوحي بموته صلى الله عليه وسلم
لم يبق من ينعى عليهم سقطاتهم ويوبخهم على أعمالهم، ويأمر بالحذر منهم، ويجاهرهم
تارةً، ويجاملهم تارةً، وصار المتولي للأمر بعده يحمل الناس كلهم على كاهل
المجماملة، ويعاملهم بالظاهر، وهو الواجب في حكم الشرع والسياسة الدنيوية، لخلاف
حال رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه كان
تكليفه معهم غير هذا التكليف، ألا ترى أنه قيل له: "ولا تصل على أحدٍ منهم مات أبداً" ؛
فهذا يدل على أنه كان يعرفهم بأعيانهم، وإلا كان النهي له عن الصلاة عليهم تكليف
ما لا يطاق، والوالي بعده لا يعرفهم بأعيانهم، فليس مخاطباً بما خوطب به صلى الله عليه وسلم في أمرهم،
ولسكوت الخلفاء عنهم بعده خمل ذكرهم، فكان قصارى أمر المنافق أن يسر ما في قلبه،
ويعامل المسلمين بظاهره، ويعاملونه بحسب ذلك. ثم فتحت
عليهم البلاد، وكثرت الغنائم، فاشتغلوا بها عن الحركات التي كانوا يعتمدونها
أيام رسول الله، وبعثهم الخلفاء مع الأمراء إلى بلاد فارس والروم، فألهتهم
الدنيا عن الأمور التي كانت تنقم منهم في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنهم من
استقام اعتقاده، وخلصت نيته، لما رأوا الفتوح وإلقاء الدنيا أفلاذ كبدها من
الأموال العظيمة، والكنوز الجليلة إليهم، فقالوا: لو لم
يكن هذا الدين حقاً لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه. وبالجملة لما تركوا تركوا، وحيث سكت عنهم
سكتوا عن الإسلام وأهله، إلا في دسيسة خفية يعملونها، نحو الكذب، الذي أشار إليه
أمير المؤمنين رضي الله عنه، فإنه خالط الحديث كذبٌ كثيرٌ، صدر عن
قوم غير صحيحي العقيدة، قصدوا به الإضلال وتخبيط القلوب والعقائد، وقصد به بعضهم
التنويه بذكر قوم كان لهم في التنويه بذكرهم غرض دنيوي. وقد قيل:
إنه افتعل في أيام معاوية خاصة حديث كثير على هذا الوجه، ولم يسكت المحدثون
الراسخون في علم الحديث عن هذا، بل ذكروا كثيراً من هذه الأحاديث الموضوعة،
وبينوا وضعها؛ وأن رواتها غير موثوق بهم، إلا أن المحدثين إنما يطعنون فيما دون
طبقة الصحابة، ولا يتجاسرون في الطعن على أحد من الصحابة؛ لأن عليه لفظ
"الصحبة"، على أنهم قد طعنوا في قوم لهم صحبة كبسر بن أرطاة وغيره. فإن قلت: من هم أئمة الضلالة، الذين يتقرب
إليهم المنافقون الذين رأوا رسول الله صلى
الله عليه وسلم، وصحبوه للزور والبهتان؟ وهل هذا إلا تصريح بما تذكره الإمامية، وتعتقده قلت: ليس الأمر كما ظننت وظنوا، وإنما يعني معاوية وعمرو بن العاص ومن شايعهما على الضلال، كالخبر الذي رواه من رواه في حق معاوية:
"اللهم قه العذاب والحساب، وعلمه الكتاب "، وكرواية
عمرو بن العاص تقرباً إلى قلب معاوية: "إن آل أبي طالب ليسوا لي
بأولياء، إنما وليي الله وصالح المؤمنين" وكرواية قوم في أيام معاوية
أخباراً كثيرة من فضائل عثمان، تقرباً إلى معاوية بها، ولسنا نجحد فضل عثمان
وسابقته، ولكنا نعلم أن بعض الأخبار الواردة فيه موضوع،
كخبر عمرو بن مرة فيه وهو مشهور، وعمرو بن مرة ممن له صحبة، وهو شامي. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
آل البيت عليهم السلام وبعض ما نالهم من الأذى
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وليس يجب من قولنا:
إن بعض الأخبار الواردة في حق شخص فاضل مفتعلة
أن تكون قادحة في فضل ذلك الفاضل؛ فإنا مع اعتقادنا أن
علياً أفضل الناس، نعتقد أن بعض الأخبار الواردة
في فضائله مفتعل ومختلق. وقد روي أن أبا جعفر محمد بن علي الباقر رضي الله عنه، قال
لبعض أصحابه: يا فلان، ما لقينا من ظلم قريش إيانا، وتظاهرهم علينا، وما
لقي شيعتنا ومحبونا من الناس، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض وقد أخر أنا
أولى الناس بالناس، فتمالأت علينا قريش حتى أخرجت الأمر عن معدنه، واحتجت على
الأنصار بحقنا وحجتنا. ثم تداولتها قريش، واحدٌ بعد واحد، حتى رجعت إلينا، فنكثت
بيعتنا، ونصبت الحرب لنا، ولم يزل صاحب الأمر في
صعود كؤود، حتى قتل، فبويع الحسن ابنه وعوهد ثم غدر به، وأسلم، ووثب عليه
أهل العراق حتى طعن بخنجر في جنبه، ونهبت عسكره، وعولجت خلاخيل أمهات أولاده،
فوادع معاوية وحقن دمه وذماء أهل بيته، وهم قليل حق قليل. ثم بايع الحسين رضي الله عنه من أهل
العراق عشرون ألفاً، ثم غدروا به، وخرجوا عليه، وبيعته في أعناقهم وقتلوه، ثم لم
نزل - أهل البيت - نستذل ونستضام، ونقمى ونمتهن، ونحرم ونقتل، ونخاف ولا نأمن
على دمائنا ودماء أوليائنا، ووجد الكاذبون الجاحدون لكذبهم
وجحودهم موضعاً يتقربون به إلى أوليائهم وقضاة السوء وعمال السوء في كل بلدة،
فحدثوهم بالأحاديث الموضوعة المكذوبة، ورووا عنا ما لم نقله وما لم نفعله،
ليبغضونا إلى الناس، وكان عظم ذلك وكبره زمن معاوية
بعد موت الحسن رضي الله عنه، فقتلت شيعتنا بكل بلدة، وقطعت الأيدي والأرجل على
الظنة، وكان من يذكر بحبنا والانقطاع إلينا سجن أو نهب ماله، أو هدمت داره، ثم
لم يزل البلاء يشتد ويزداد، إلى زمان عبيد الله بن زياد قاتل الحسين رضي الله
عنه، ثم جاء الحجاج فقتلهم كل قتلة،
وأخذهم بكل ظنة وتهمة، حتى إن الرجل ليقال له: زنديق
أو كافر، أحب إليه من أن يقال: شيعة علي،
وحتى صار الرجل الذي يذكر بالخير -
ولعله يكون ورعاً صدوقاً - يحدث بأحاديث عظيمة عجيبة، من
تفضيل بعض من قد سلف من الولاة، ولم يخلق الله تعالى شيئاً منها، ولا كانت ولا
وقعت وهو يحسب أنها حق لكثرة من قد رواها ممن لم يعرف بكذب ولا بقلة ورع. وروى أبو الحسن علي بن محمد بن أبي سيف
المدايني في كتاب "الأحداث" قال: كتب معاوية
نسخة واحدةً إلى عماله بعد عام الجماعة : أن برئت الذمة ممن روى شيئاً من فضل
أبي تراب وأهل بيته، فقامت الخطباء في كل كورة، وعلى كل منبر، يلعنون علياً
ويبراون منه ويقعون فيه وفي أهل بيته؛ وكان أشد الناس بلاء حينئذ أهل الكوفة؛
لكثرة من بها من شيعة علي رضي الله عنه، فاستعمل عليهم زياد بن سمية، وضم إليه
البصرة، فكان يتتبع الشيعة وهو بهم عارف؛
لأنه كان منهم أيام علي رضي الله عنه؛ فقتلهم تحت كل حجر ومدر، وأخافهم، وقطع
الأيدي والأرجل، وسمل العيون، وصلبهم على جذوع النخل، وطردهم وشردهم عن العراق؛
فلم يبق بها معروف منهم. وكتب معاوية إلى عماله في جميع الآفاق:
ألا يجيزوا لأحدٍ من شيعة علي وأهل بيته شهادة، وكتب
إليهم: أن انظروا من قبلكم من شيعة عثمان ومحبيه وأهل ولايته؛ والذين
يروون فضائله ومناقبه؛ فأدنوا مجالسهم وقربوهم وأكرموهم، واكتبوا لي بكل ما يروي
كل رجل منهم، واسمه واسم أبيه وعشيرته. ففعلوا ذلك، حتى أكثروا في فضائل عثمان
ومناقبه، لما كان يبعثه إليهم معاوية من الصلات والكساء والحباء والقطائع،
ويفيضه في العرب منهم والموالي، فكثر ذلك في
كل مصر، وتنافسوا في المنازل والدنيا، فليس يجيء أحد مردود من الناس عاملاً من
عمال معاوية، فيروي في عثمان فضيلة أو منقبة إلا كتب اسمه وقربه وشفعه. فلبثوا
بذلك حيناً. ثم كتب إلى عماله أن الحديث في عثمان قد كثر وفشا في كل مصر
وفي كل وجه وناحية؛ فإذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل
الصحابة والخلفاء الأولين، ولا تتركوا خبراً يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب
إلا وتأتوني بمناقض له في الصحابة؛ فإن هذا أحب إلي وأقر لعيني، وأدحض
لحجة أبي تراب وشيعته، وأشد إليهم من مناقب عثمان وفضله. فقرئت كتبه
على الناس، فرويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة لا حقيقة لها، وجد الناس
في رواية ما يجري هذا المجرى حتى أشادوا بذكر ذلك على المنابر، والقي إلى معلمي
الكتاتيب ؛ فعلموا صبيانهم وغلمانهم من ذلك الكثير الواسع حتى رووه وتعلموه كما
يتعلمون القرآن، وحتى علموه بناتهم ونساءهم وخدمهم وحشمهم، فلبثوا بذلك ما شاء
الله. ثم كتب إلى عماله نسخة واحدة إلى جميع
البلدان: انظروا من قامت عليه البينة أنه يحب علياً وأهل
بيته، فامحوه من الديوان، وأسقطوا عطاءه ورزقه، وشفع
ذلك بنسخة أخرى: من اتهمتموه بموالاة هؤلاء القوم، فنكلوا به، واهدفوا
داره. فلم يكن
البلاء أشد ولا أكثر منه بالعراق؛ ولا سيما بالكوفة، حتى
إن الرجل من شيعة علي رضي الله عنه ليأتيه من يثق به، فيدخل بيته، فيلقي
إليه سره، ويخاف من خادمه ومملوكه، ولا يحدثه حتى يأخذ عليه الأيمان الغليظة،
ليكتمن عليه، فظهر حديث كثير موضوع، وبهتان منتشر، ومضى على ذلك الفقهاء والقضاة
والولاة؛ وكان أعظم الناس في ذلك بلية القراء المراؤون، والمستضعفون، الذين
يظهرون الخشوع والنسك فيفتعلون الأحاديث ليحظوا بذلك عند ولاتهم، ويقربوا
مجالسهم، ويصيبوا به الأموال والضياع والمنازل؛ حتى انتقلت تلك الأخبار
والأحاديث إلى أيدي الديانين الذين لا يستحلون الكذب والبهتان؛ فقبلوها ورووها،
وهم يظنون أنها حق، ولو علموا أنها باطلة لما رووها، ولا تدينوا بها. فلم يزل الأمر كذلك حتى مات الحسن بن علي
رضي الله عنهما، فازداد البلاء والفتنة، فلم يبق أحد من هذا القبيل إلا وهو خائف
على دمه؛ أو طريد في الأرض. ثم تفاقم الأمر بعد قتل الحسين رضي الله عنه، وولي
عبد الملك بن مروان، فاشتد على الشيعة، وولي عليهم الحجاج بن يوسف،
فتقرب إليه أهل النسك والصلاح والدين ببعض علي وموالاة أعدائه، وموالاة من يدعي
من الناس أنهم أيضاً أعداؤه، فأكثروا في الرواية في فضلهم وسوابقهم ومناقبهم،
وأكثروا من الغض من علي رضي الله عنه
وعيبه، والطعن فيه، والشنآن له، حتى إن إنساناً وقف للحجاج - ويقال إنه جد الأصمعي عبد الملك بن قريب - فصاح به:
أيها الأمير إن أهلي عقوني فسموني علياً، وإني فقير بائس، وأنا إلى صلة الأمير
محتاج. فتضاحك له الحجاج، وقال: للطف ما
توسلت به قد وليتك موضع كذا. وقد روى ابن عرفة المعروف بنفطويه - وهو من أكابر المحدثين وأعلامهم - في
تاريخه ما يناسب هذا الخبر، وقال: إن أكثر الأحاديث
الموضوعة في فضائل الصحابة افتعلت في أيام بني أمية، تقرباً إليهم بما يظنون
أنهم يرغمون به أنوف بني هاشم. قلت: ولا
يلزم من هذا أن يكون علي رضي الله عنه يسوءه أن يذكر الصحابة والمتقدمون عليه
بالخير والفضل، إلا أن معاوية وبني أمية كانوا يبنون الأمر من هذا على ما يظنونه
في علي رضي الله عنه من أنه عدو من تقدم
عليه، ولم يكن الأمر في الحقيقة كما يظنونه، ولكنه كان يرى أنه أفضل منهم، وأنهم
استأثروا عليه بالخلافة من غير تفسيق منه لهم، ولا براءة منهم. فأما قوله رضي الله
عنه: "ورجل سمع من رسول الله شيئاً ولم يحفظه على وجهه فوهم
فيه"، فقد وقع ذلك. وقال أصحابنا في الخبر الذي رواه عبد الله بن عمر: "إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه": إن ابن عباس لما روي له هذا الخبر، قال: ذهل ابن
عمر، إنما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبر يهودي، فقال: إن أهله ليبكون عليه، وإنه ليعذب. وقالوا أيضاً: إن عائشة أنكرت ذلك، وقالت: ذهل أبو عبد الرحمن، كما ذهل في خبر قليب
بدر، إنما قال رضي الله عنه:
"إنهم ليبكون عليه، وإنه ليعذب بجرمه ". قالوا: وموضع غلطه في خبر القليب أنه
روى أن النبي صلى الله عليه وسلم
وقف على قليب بدر، فقال: "هل وجدتم ما وعدكم ربكم
حقاً"؛ ثم قال: "إنهم يسمعون ما أقول لهم
"، فأنكرت عائشة ذلك، وقالت: إنما
قال: "إنهم يعلمون أن الذي كنت أقوله لهم هو الحق "، واستشهد بقوله
تعالى: "إنك لا تسمع الموتى" . فأما الرجل الثالث، وهو الذي يسمع المنسوخ ولم يسمع
الناسخ، فقد وقع كثيراً، وكتب الحديث والفقه مشحونة بذلك، كالذين أباحوا لحوم
الحمر الأهلية لخبر رووه في ذلك، ولم يرووا الخبر
الناسخ. وأما الرجل الرابع فهم العلماء الراسخون في العلم. وأما قوله رضي الله عنه: "وقد كان يكون من
رسول الله صلى الله عليه وسلم الكلام له وجهان
"، فهذا داخل في القسم الثاني وغير خارج
وألا وسلم عنه، ولكنه كالنوع من الجنس، لأن الوهم والغلط جنس تحته أنواع. واعلم أن أمير المؤمنين رضي الله عنه كان مخصوصاً من دون الصحابة رضوان الله عليهم بخلوات كان
يخلو بها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم،
لا لطلع أحدٌ من الناس على ما يدور بينهما، وكان كثير السؤال للنبي صلى الله عليه وسلم عن معاني
القرآن وعن معاني كلامه صلى الله عليه وسلم، وإذا لم يسال ابتدأه النبي صلى الله عليه وسلم بالتعليم
والتثقيف ولم يكن أحد من أصحاب النبي صلى
الله عليه وسلم كذلك، بل كانوا أقساماً: فمنهم من يهابه أن يسأله، وهم
الذين يحبون أن يجيء الأعرابي أو الطارىء فيسأله وهم يسمعون، ومنهم من كان بليداً بعيد الفهم قليل الهمة في
النظر والبحث، ومنهم من كان مشغولاً عن طلب العلم
وفهم المعاني، إما بعبادة أو دنيا، ومنهم
المقلد يرى أن فرضه السكوت وترك السؤال، ومنهم
المبغض الشانىء الذي ليس للدين عنده من الموقع ما يضيع وقته وزمانه
بالسؤال عن دقائقه وغوامضه؛ وانضاف إلى الأمر الخاص بعلي رضي الله عنه ذكاؤه
وفطنته، وطهارة طينته، وإشراق نفسه وضوءها، وإذا كان المحل قابلاً متهيئاً، وكان
الفاعل المؤثر موجوداً، والموانع مرتفعة، حصل الأثر على أتم ما يمكن؛ فلذلك كان علي رضي
الله عنه -
كما قال الحسن البصري- رباني هذه الأمة وذا فضلها؛
ولذا تسميه الفلاسفة: إمام
الأئمة وحكيم العرب. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أفصل فيما وضع الشيعة والبكرية من الأحاديث
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
واعلم أن أصل الأكاذيب في أحاديث
الفضائل كان من جهة الشيعة، فإنهم وضعوا في مبدأ الأمر أحاديث مختلفة في صاحبهم، حملهم على وضعها عداوة خصومهم، نحو
حديث "السطل" وحديث "الرمانة" وحديث غزوة البئر التي كان فيها الشياطين، وتعرف كما زعموا ب "ذات العلم "، وحديث غسل سلمان الفارسي، وطي الأرض، وحديث الجمجمة، ونحو ذلك. فلما رأت البكرية ما صنعت الشيعة، وضعت لصاحبها أحاديث في مقابلة
هذه الأحاديث، نحو "لو كنت متخذاً خليلاً"، فإنهم وضعوه في مقابلة حديث الإخاء، ونحو سد الأبواب؛ فإنه
كان لعلي رضي الله عنه فقلبته البكرية إلى أبي بكر رضي الله عنه، ونحو "ائتوني بدواة وبياض أكتب فيه لأبي بكر كتاباً لا يختلف
عليه اثنان". ثم قال: "يأبى الله تعالى والمسلمون إلا أبا بكر"، فإنهم وضعوه في مقابلة الحديث المروي عنه في مرضه: "ائتوني بدواة وبياض أكتب لكم ما لا تضلون بعده
أبداً"، فاختلفوا عنده. وقال قومٌ منهم: لقد غلبه
الوجع، حسبنا كتاب الله ونحو حديث: "أنا راضٍ عنك فهل أنت عني
راضٍ"، ونحو
ذلك. فلما رأت الشيعة ما قد وضعت البكرية أوسعوا في
وضع الأحاديث، فوضعوا حديث الطوف الحديد
الذي زعموا أنه فتله في عنق خالد، وحديث اللوح الذي زعموا أنه كان في غدائر
الحنفية أم محمد، وحديث: "لا يفعلن خالد ما آمر به"، وحديث الصحيفة التي علقت عام الفتح بالكعبة، وحديث الشيخ
الذي صعد المنبر يوم بويع أبو بكر رضي
الله عنه، فسبق الناس إلى بيعته، وأحاديث مكذوبة
كثيرة تقتضي نفاق قوم من أكابر الصحابة والتابعين الأولين وكفرهم، وعليٌ أدون
الطبقات فيهم، فقابلتهم البكرية بمطاعن كثيرة في علي
وفي ولديه، ونسبوه تارة إلى ضعف العقل،
وتارة إلى ضعف السياسة، وتارة إلى حب الدنيا
والحرص عليها. ولقد كان الفريقان في غنية عما اكتسباه
واجترحاه، ولقد كان في فضائل علي رضي
الله عنه الثابتة الصحيحة، وفضائل أبي بكر رضي الله عنه المحققة المعلومة ما يغني عن تكلف العصبية لهما، فإن العصبية لهما أخرجت الفريقين من
ذكر الفضائل إلى ذكر الرذائل،
ومن تعديد المحاسن إلى تعديد المساوىء والمقابح.
ونسأل الله تعالى أن يعصمنا من الميل
إلى الهوى وحب العصبية، وأن يجرينا على ما عودنا من حب الحق
أين وجد وحيث كان؛ سخط ذلك من سخط، ورضي به من رضي
بمنه ولطفه. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن خطبة له في عجيب صنعة الكون
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
وكان من أقتدار جبروته، وبديع لطائف صنعته، أن جعل من ماء البحر الزاخر المتراكم
المتقاصف، يبساً جامداً، ثم فطر منه أطباقاً، ففتقها سبع سمواتٍ بعد أرتتاقها،
فاستمسكت بأمره، وقامت على حده يحملها الأخضر المثعنجر، والقمقام المسخر. قد ذل
لأمره، وأذعن لهيبته، ووقف الجاري منه لخشيته. وجبل جلاميدها، ونشوز فتونها،
وأطوادها؛ فأرساها في مراسيها، وألزمها قرارتها، فمضت رؤوسها في الهواء، ورست
أصولها في الماء، فأنهد جبالها عن سهولها، وأساخ قواعدها في متون أقطارها،
ومواضع أنصابها، فأشهق قلالها، وأطال أنشازها، وجعلها للأرض عماداً، وأرزها فيها
أوتاداً، فسكنت على حركتها من أن تميد بأهلها، أو تسيخ بحملها، أو تزول عن
مواضعها. فسبحان من أمسكها بعد موجان مياهها، وأجمدها بعد رطوبة أكنافها، فجعلها
لخلقه مهاداً، وبسطها لهم فراشاً، فوق بحر لجي راكدٍ لا يجري، وقائم لا يسري،
تكركره الرياح العواصف، وتمخضه الغمام الذوارف، إن في ذلك لعبرة لمن يخشى. الشرح: أراد
أن يقول: "وكان من اقتداره" فقال:
"وكان من اقتدار جبروته "، تعظيماً وتفخيماً، كما يقال للملك: أمرت
الحضرة الشريفة بكذا. والبحر
الزاخر: الذي قد امتد جداً وارتفع، والمتراكم: المجتمع بعضه على بعض، والمتقاصف: الشديد الصوت، قصف الرعد وغيره قصيفاً،
واليبس، بالتحريك: المكان يكون رطباً ثم
ييبس، ومنه قوله تعالى: "فاضرب لهم طريقاً في
البحر يبساً" ، واليبس بالسكون: اليابس خلقة، حطب يبس، هكذا يقوله
أهل اللغة وفيه كلام، لأن الحطب ليس يابساً خلقة بل كان رطباً من قبل، فالأصوب أن يقال: لا تكون هذه اللفظة محركة إلا في
المكان خاصة. وفطر: خلق، والمضارع يفطر بالضم، فطراً. الأطباق: جمع طبق،
وهو أجزاء مجتمعة من جراد أو غيم أو ناس أو غير ذلك من حيوان أو جماد، يقول: خلق منه أجساماً مجتمعة مرتتقة، ثم فتقها
سبع سموات. وروي:
"ثم فطر منه طباقاً" أي أجساماً منفصلة في الحقيقة متصلة في الصورة
بعضها فوق بعض، وهي من ألفاظ القرآن المجيد. والضمير في "منه" يرجع
إلى ماء البحر في أظهر النظر، وقد يمكن أن يرجع إلى اليبس. واعلم أنه قد تكرر في كلام أمير المؤمنين ما يماثل هذا القول
ويناسبه، وهو مذهب كثير من الحكماء الذين قالوا بحدوث السماء، منهم ثاليس
الملطي، قالوا: أصل الأجسام الماء، وخلقت الأرض من زبده، والسماء من بخاره، وقد
جاء القرآن العزيز بنحو هذا، قال سبحانه: "الذي
خلق السموات والأرض في ستة أيامٍ وكان عرشه على الماء" قال شيخنا أبو علي وأبو القاسم رحمهما الله في تفسيريهما:
هذه الآية دالة على أن الماء والعرش كانا قبل خلق السموات والأرض، قالا: وكان
الماء على الهواء، قالا: وهذا يدل أيضاً على أن الملائكة كانوا موجودين قبل خلق
السموات والأرض، لأن الحكيم سبحانه لا يجوز أن يقدم خلق الجماد على خلق المكلفين،
لأنه يكون عبثاً. وقال
علي بن عيسى الرماني من مشايخنا:
إنه غير ممتنع أن يخلق الجماد قبل الحيوان، إذا علم أن في إخبار المكلفين بذلك
لطفاً لهم، ولا يصح أن يخبرهم إلا وهو صادق فيما أخبر به، وإنما يكون صادقاً إذا
كان المخبر خبره على ما أخبر عنه، وفي ذلك حسن تقديم خلق الجماد على خلق
الحيوان. وكلام أمير المؤمنين رضي الله عنه
يدل على أنه كان يذهب إلى أن الأرض موضوعة على ماء البحر، وأن البحر حامل لها
بقدرة الله تعالى، وهو معنى قوله: "يحملها الأخفر المثعنجر، والقمقام
المسخر" ، وأن البحر الحامل لها قد كان جارياً فوقف تحتها، وأنه تعالى خلق
الجبال؛ في الأرض، فجعل أصولها راسخة في ماء البحر الحامل للأرض وأعاليها شامخة
في الهواء، وأنه سبحانه جعل هذه الجبال عماداً للأرض، وأوتاداً تمنعها من الحركة
والاضطراب، ولولاها لماجت واضطربت، وأن هذا البحر الحامل للأرض تصعد فيه الرياح
الشديدة فتحركه حركة عنيفة، وتموج السحب التي تغترف الماء منه لتمطر الأرض به،
وهذا كله مطابق لما في الكتاب العزيز، والسنة النبوية، والنظر الحكمي، ألا ترى
إلى قوله تعالى: "أولم ير الذين كفروا أن
السموات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما" ، وهذا هو صريح قوله رضي
الله عنه: "ففتقها سبع سموات بعد
ارتتاقها"، وإلى قوله تعالى: "وجعلنا
في الأرض رواسي أن تميد بهم" ، وإلى ما ورد في الخبر من أن الأرض
مدحوة على الماء،
وأن الرياح تسوق السحب إلى الماء نازلة، ثم تسوقها عنه صاعدة بعد امتلائها، ثم
تمطر. وأما النظر الحكمي فمطابق لكلامه إذا تأمله المتأمل، وحمله على المحمل
العقلي، وذلك لأن الأرض هي آخر طبقات العناصر، وقبلها عنصر الماء، وهو محيط
بالأرض كلها إلا ما برز منها، وهو مقدار الربع من كرة الأرض، على ما ذكره علماء
هذا الفن وبرهنوا عليه، فهذا تفسير قوله رضي الله عنه: "يحملها الأخضر
المثعنجر". وأما
قوله: "ووقف الجاري منه لخشيته"، فلا يدل دلالة قاطعة على أنه كان جارياً ووقف، ولكن ذلك
كلامٌ خرج مخرج التعظيم والتبجيل، ومعناه أن الماء طبعه الجريان والسيلان، فهو
جار بالقوة، وإن لم يكن جارياً بالفعل، وإنما وقف ولم يجر بالفعل بقدرة الله
تعالى، المانعة له من السيلان، وليس قوله: "ورست أصولها في الماء" مما
ينافي النظر العقلي، لأنه لم يقل: "ورست أصولها في ماء البحر"، ولكنه قال: "في الماء"، ولا شبهة في أن
أصول الجبال راسية في الماء المتخلخل بين أجزاء الأرض، فإن الأرض كلها يتخلخل
الماء بين أجزائها على طريق استحالة البخار من الصورة الهوائية إلى الصورة
المائية. وليس ذكره للجبال
وكونها مانعة للأرض من الحركة بمناف أيضاً للنظر الحكمي لأن الجبال في الحقيقة
قد تمنع من الزلزلة إذا وجدت أسبابها الفاعلة، فيكون ثقلها مانعاً من الهدة
والرجفة. وليس قوله: "تكركره الرياح " منافياً
للنظر الحكمي أيضاً، لأن كرة الهواء محيطة بكرة الماء، وقد تعصف الرياح في كرة
الهواء للأسباب المذكورة في موضعها من هذا العلم، فيتموج كثير من الكرة المائية
لعصف الرياح. وليس قوله رضي الله عنه: "وتمخضه الغمام
الذوارف" صريحاً في أن السحب تنزل في البحر، فتغترف منه، كما قد
يعتقد في المشهور العامي، نحو قول الشاعر:
بل
يجوز أن تكون الغمام الذوارف تمخضه وتحركه بما ترسل عليه من الأمطار السائلة
منها، فقد ثبت أن كلام أمير المؤمنين رضي الله عنه موجه؛ إن شئت فسرته بما
يقوله أهل الظاهر، وإن شئت فسرته بما يعتقده الحكماء. فإن قلت: فكيف قال الله تعالى: "أو لم ير الذين
كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما"؛ وهل كان الذين كفروا رائين
لذلك؛ حتى يقول لهم "أو لم ير الذين كفروا"؛ قلت: هذا في قوة قوله: "اعلموا أن السموات والأرض
كانتا رتقاً ففتقناهما"، كما يقول الإنسان لصاحبه: ألم تعلم أن الأمير صرف حاجبه الليلة عن بابه؟ أي اعلم ذلك
إن كنت غير عالم؛ والرؤية هنا بمعنى العلم. واعلم
أنه قد ذهب قوم من قدماء الحكماء - ويقال: إنه مذهب سقراط - إلى تفسير
القيامة وجهنم بما يبتني على وضح الأرض على الماء، فقالوا: الأرض موضوعة على
الماء، والماء على الهواء، والهواء على النار، والنار في حشو الأفلاك؛ ولما كان
العنصران الخفيفان - وهما الهواء والنار- يقتضيان صعود ما يحيطان به، والعنصران
الثقيلان اللذان في وسطهما، وهما الماء والأرض؛ يقتضيان النزول والهبوط، وقعت
الممانعة والمدافعة، فلزم من ذلك وقوف الماء والأرض في الوسط. قالوا:
ثم إن النار لا تزال يتزايد تأثيرها في إسخان الماء، وينضاف إلى ذلك حر الشمس
والكواكب إلى أن تبلغ البحار والعنصر المائي غايتهما في الغليان والفوران،
فيتصاعد بخاز عظيم إلى الأفلاك شديد السخونة، وينضاف إلى ذلك حر فلك الأثير الملاصق للأفلاك فتذوب الأفلاك كما يذوب الرصاص،
وتتهافت وتتساقط وتصير كالمهل الشديد الحرارة. ونفوس البشر على قسمين: أحدهما ما تجوهر وصار مجرداً بطريق العلوم والمعارف وقطع
العلائق الجسمانية حيث كان مدبراً للبدن، والآخر ما بقي على جسمانيته بطريق خلوه
من العلوم والمعارف، وانغماسه في اللذات والشهوات الجسمانية، فأما الأول فإنه
يلتحق بالنفس الكلية المجردة، ويخلص من دائرة هذا العالم بالكلية. وأما الثاني
فإنه تنصب عليه تلك الأجسام الفلكية الذائبة، فيحترق بالكلية، ويتعذب ويلقى
آلاماً شديدة. قالوا: هذا هو باطن ما وردت به الرواية من العذاب عليها، وخراب
العالم والأفلاك وانهدامها. ثم نعود إلى شرح الألفاظ: قوله رضي الله عنه: "فاستمسكت"، أي وقفت وثبتت،
والهاء في "حده" تعود إلى أمره، أي قامت على حد ما أمرت به؛ أي لم
تتجاوزه ولا تعدته، والأخضر: البحر، ويسمى أيضاً "خضارة" معرفة غير
مصروف، والعرب تسميه بذلك؛ إما لأنه يصف لون السماء فيرى أخضر، أو لأنه يرى أسود
لصفائه فيطلقون عليه لفظ الأخضر؛ كما سموا الأخضر أسود، نحو قوله: "مدهامتان" ، ونحو تسميتهم قرى العراق
سواداً لخضرتها وكثرة شجرها، ونحو قولهم للديزج من الدواب أخضر. قوله رضي الله
عنه: "وجبل جلاميدها"، أي وخلق صخورها؛ جمع جلمود. والنشوز: جمع نشز، وهو المرتفع من الأرض.
ويجوز فتح الشين. ومتونها:
جوانبها. وأطوادها: جبالها: "ويروى": "
وأطوادها "بالجر عطفاً على متونها. فأرساها في مراسيها، أثبتها في مواضعها، رسا
الشيء يرسو: ثبت. ورست أقدامهم في الحرب: ثبتت، ورست السفينة ترسو رسواً ورسواً،
أي وقفت في البحر. وقوله تعالى:
"بسم الله مجراها ومرساها" ؛ بالضم من أجريت وأرسيت، ومن قرأ
بالفتح فهو من "رست" هي، "وجرت" هي، وألزمها قراراتها:
أمسكها حيث استقرت. قوله "فأنهد جبالها"، أي أعلاها. نهد
ثدي الجارية ينهد بالضم، إذا أشرف وكعب، فهي ناهد وناهدة، وسهولها: ما تطامن
منها عن الجبال. وأساخ قواعدها، أي غيب قواعد الجبال في جوانب
أقطار الأرض، ساخت قوائم الفرس في الأرض تسوخ وتسيخ، أي دخلت فيها وغابت، مثل
ثاخت، وأسختها أنا مثل أثختها. والأنصاب:
الأجسام المنصوبة، الواحد نصب بضم النون والصاد، ومنه سميت الأصنام نصباً في
قوله تعالى: "وما ذبح على النصب" ؛
لأنها نصبت فعبدت من دون الله، قال الأعشى:
أي وأساخ قواعد الجبال في متون أقطار الأرض؛ وفي
المواضع الصالحة لأن تكون فيها الأنصاب المماثلة، وهي الجبال أنفسها. قوله: "فأشهق قلالها"،
جمع قلةٍ وهي ما علا من رأس الجبل، أشهقها: جعلها
شاهقة، أي عالية. وأرزها: أثبتها فيها، رزت الجرادة ترز رزاً، وهو أن
تدخل ذنبها في الأرض فتلقي بيضها، وأرزها الله: أثبت ذلك منها في الأرض، ويجوز
"أرزت"، لازماً غير متعدٍ، مثل رزت، وارتز السهم في القرطاس: ثبت فيه. وروي
"وآرزها" بالمد من قولهم: شجرة آرزة، أي ثابتة في الأرض، أرزت بالفتح،
تأرز بالكسر، أي ثبتت، وآرزها - بالمد - غيرها، أي أثبتها، وتميد: تتحرك. وتسيخ:
تنزل وتهوي. فإن قلت: ما الفرق بين الثلاثة:
تميد بأهلها، أو تسيخ بحملها، أو تزول عن مواضعها؛ قلت: لأنها لو تحركت لكانت
إما أن تتحرك على مركزها أو لا على مركزها، والأول هو المراد
بقوله: "تميد بأهلها"، والثاني تنقسم إلى أن تنزل إلى تحت أو لا تنزل إلى تحت، فالنزول إلى تحت هو
المراد بقوله؛ "أو تسيخ بحملها" والقسم الثاني هو المراد بقوله: "أو تزول عن مواضعها". فإن قلت: ما
المراد ب "على" في قوله: "فسكنت على حركتها"؟. قلت: هي لهيئة الحال، كما تقول
عفوت عنه على سوء أدبه، ودخلت إليه على شربه، أي سكنت، على أن من شأنها الحركة؛
لأنها محمولة على سائل متموج. قوله: "موجان مياهها"، بناء
"فعلان" لما فيه اضطراب وحركة كالغليان والنزوان والخفقان، ونحو ذلك.
وأجمدها، أي جعلها جامدة. وأكنافها: جوانبها. والمهاد: الفراش. قوله:
"يكركره الرياح "، الكركرة: تصريف الريح السحاب إذا جمعته بعد تفريق
وأصله "يكرر" من التكرير، فأعادوا الكاف، كركرت الفارس عني أي دفعته
ورددته. والرياح العواصف: الشديدة الهبوب. وتمخضه، يجوز فتح
الخاء وضمها وكسرها، والفتح أفصح؛ لمكان حرف الحلق، من مخضت اللبن، إذا حركته
لتأخذ زبده. والغمام: جمع، والواحدة غمامة، ولذلك قال: "
الذوارف "، لأن "فواعل " أكثر ما يكون لجمع المؤنث، ذرفت عينه أي
دمعت، أي السحب المواطر، والمضارع من " ذرفت" عينه "تذرف "
بالكسر، ذرفاً وذرفاً. والمذارف: المدامع. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
في استنهاض أصحابه إلى الجهاد
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: اللهم أيما
عبدٍ من عبادك سمع مقالتنا العادلة غير الجائرة، والمصلحة في الدين والدنيا غير
المفسدة، فأبى بعد سمعه لها إلا النكوص عن نصرتك، والإبطاء عن إعزاز دينك، فإنا
نستشهدك عليه يا أكبر الشاهدين شهادة، ونستشهد عليه جميع ما أسكنتة أرضك
وسمواتك. ثم أنت بعده المغني عن نصره، والآخذ له بذنبه. الشرح: ما في "أيما" زائدة مؤكدة، ومعنى
الفصل وعيد من استنصره فقعد عن نصره، ووصف المقالة بأنها عادلة، إما تأكيد، كما
قالوا: شعر شاعر، وإما ذات عدل، كما قالوا: رجل
تأمر ولابن، أي ذو تمر ولبن، ويجوز أيضاً أن يريد بالعادلة المستقيمة التي ليست
كاذبة ولا محرفة عن جهتها، والجائرة نقيضها وهي المنحرفة، جار فلان عن الطريق،
أي انحرف وعدل، والنكوص: ا لتأخر. قوله رضي الله
عنه: "نستشهدك عليه "، أي نسألك أن تشهد عليه، ووصفه تعالى بأنه أكبر الشاهدين شهادة، لقوله تعالى: "قل أي شيء أكبر شهادةً قل الله" ، يقول: اللهم إنا نستشهدك على خذلان من استنصرناه،
واستنفرناه إلى نصرتك، والجهاد عن دينك فأبى النهوض، ونكث عن القيام بواجب
الجهاد، ونستشهد عبادك، من البشر في أرضك، وعبادك من الملائكة في سمواتك عليه
أيضاً، ثم أنت بعد ذلك المغني لنا عن نصرته ونهضته، بما تتيحه لنا من النصر،
وتؤيدنا به من الإعزاز والقوة، والآخذ له بذنبه في القعود والتخلف. وهذا قريب من قوله تعالى: "وإن
تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم" . |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال في تمجيد الله وتعظيمه
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: الحمد لله
العلي عن شبه المخلوقين، الغالب لمقال الواصفين، الظاهر بعجائب تدبيره للناظرين؛
والباطن بجلال عزته عن فكر المتوهمين. العالم بلا اكتساب ولا أزدياد، ولا علم
مستفاد، المقدر لجميع الأمور بلا روية ولا ضمير، الذي لا تغشاه الظلم، ولا
يستضيء بالأنوار، ولا يرهقه ليل ولا يجري عليه نهار ليس إدراكه بالأبصار، ولا
علمه بالإخبار. الشرح: يجوز شبه
وشبه، والرواية ههنا بالفتح، وتعاليه سبحانه عن شبه المخلوقين؛ كونه قديماً واجب
الوجود، وكل مخلوق محدث ممكن الوجود. قوله: "الغالب لمقال الواصفين "، أي إن
كنه جلاله وعظمته، لا يستطيع الواصفون وصفه وإن أطنبوا وأسهبوا، فهو كالغالب
لأقوالهم لعجزها عن إيضاحه وبلوغ منتهاه، والظاهر بأفعاله، والباطن بذاته، لأنه
إنما يعلم منه أفعاله، وأما ذاته فغير معلومة. ثم وصف علمه تعالى فقال:
إنه غير مكتسب كما يكتسب الواحد منا علومه بالاستدلال والنظر، ولا هو علم يزداد
إلى علومه الاولى كما تزيد علوم الواحد منا ومعارفه، وتكثر لكثرة الطرق التي
يتطرق بها إليها. ثم قال: "ولا علم مستفاد"،
أي ليس يعلم الأشياء بعلم محدث مجدد كما يذهب إليه جهم وأتباعه وهشام بن الحكم، ومن قال بقوله. ثم ذكر أنه تعالى قدر الأمور كلها
بغير روية، أي بغير فكر ولا ضمير، وهو ما يطويه الإنسان من الرأي والاعتقاد
والعزم في قلبه. ثم وصفه
تعالى بأنه لا يغشاه ظلام، لأنه ليس بجسم، ولا يستضيء بالأنوار؛ كالأجسام ذوات
البصر. ولا يرهقه ليل، أي لا يغشاه. ولا يجري
عليه نهار، لأنه ليس بزماني. ولا قابل للحركة، ليس إدراكه بالإبصار، لأن ذلك
يستدعي المقابلة. ولا علمه بالإخبار مصدر أخبر، أي ليس علمه مقصوراً
على أن تخبره الملائكة بأحوال المكلفين، بل هو يعلم كل شيء، لأن ذاته ذات واجب
لها أن تعلم كل شيء لمجرد ذاتها المخصوصة، من غير زيادة أمر على ذاتها. الأصل: منها في ذكر النبي صلى الله عليه وآله وصحبه: أرسله
بالضياء، وقدمه في الاصطفاء، فرتق به المفاتق، وساور به المغالب، وذلل به
الصعوبة، وسهل به الحزونة، حتى سرح الضلال، عن يمينٍ وشمالٍ. الشر ح: أرسله
بالضياء، أي بالحق، وسمى الحق ضياء، لأنه يهتدى به، أو أرسله بالضياء أي
بالقرآن. وقدمه في الإصطفاء، أي قدمه في الاصطفاء على غيره
من العرب والعجم، قالت قريش: "لولا نزل هذا القرأن على رجل من القريتين" ، أي على رجل من رجلين من القريتين عظيم؛ أي إما
على الوليد بن المغيرة من مكة، أو على عروة بن مسعود الثقفي من الطائف ثم قال تعالى: أهم يقسمون رحمة ربك" ، أي هو سبحانه العالم
بالمصلحة في إرسال الرسل، وتقديم من يرى في الاصطفاء على غيره. فرتق به المفاتق،
أي أصلح به المفاسد، والرتق ضد الفتق، والمفاتق: جمع مفتق، وهو مصدر؛ كالمضرب
والمقتل. وساور به المغالب: ساورت زيداً أي واثبته، ورجل سوار، أي وثاب، وسورة
الخمر: وثوبها في الرأس. والحزونة ضد السهولة، والحزن:
ما غلظ من الأرض. والسهل: ما لان منها،
واستعير لغير الأرض كالأخلاق ونحوها. عن يمين
وشمال، من قولهم: ناقة كسرح ومنسرحة، أي سريعة. ومنه تسريح المرأة، أي تطليقها. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال في صفة الرسول والعلماء
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: وأشهد أنه
عدلٌ عدل، وحكمٌ فصل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وسيد عباده، كلما نسخ الله
الخلق فرقتين جعله في خيرهما، لم يسهم فيه عاهرٌ، ولا ضرب فيه فاجرٌ. ألا وإن الله سبحانه قد جعل للخير أهلاً، وللحق
دعائم، وللطاعة عصماً، وإن لكم عند كل طاعة عوناً من الله سبحانه، يقول على
ألالسنة؛ ويثبت به الأفئدة؛ فيه كفاءٌ لمكتفٍ، وشفاءٌ لمشتفٍ. وأعلموا
أن عباد الله المستحفظين علمه، يصونون مصونه، ويفجرون عيونه؛ يتواصلون بالولاية،
ويتلاقون بالمحبة، ويتساقون بكأسٍ رويةٍ، ويصدرون بريةٍ. لا تشوبهم الريبة، ولا
تسمرع فيهم الغيبة؛ على ذلك عقد خلقهم وأخلاقهم، فعليه يتحابون، وبه يتواصلون،
فكانوا كتفاضل البذر ينتقى، فيؤخذ منه ويلقى، قد ميزه التخليص، وهذبه التمحيص. فليقبل
أمرؤٌ كرامةً بقبولها، وليحذر قارعةً قبل حفولها، ولينظر أمرؤٌ في قصير أتامه
وقليل مقامه في منزلٍ، حتى يستبدل به منزلاً؛ فليصنع لمتحوله، ومعارف منتقله. فطوبى لذي قلبٍ سليمٍ، أطاع من يهديه، وتجنب
من يرديه، وأصاب سبيل السلامة ببصر من بصره، وطاعة هادٍ أمره، وبادر الهدى قبل
أن تغلق أبوابه، وتقطع أسبابه. واستفتح
التوبة، وأماط الحوبة، فقد أقيم على الطريق، وهدي نهج السبيل. الشرح:
الضمير في "أنه" يرجع إلى القضاء والقدر المذكور في صدر هذه الخطبة، ولم يذكره الرضي رحمه الله؛ يقول:أشهد أن قضاءه تعالى عدل عدل وحكم بالحق، فإنه حكمٌ
فصل بين العباد بالإنصاف، ونسب العدل والفصل إلى القضاء على طريق المجاز، وهو
بالحقيقة منسوب إلى ذي القضاء، والقاضي به هو الله تعالى. قوله: "وسيد
عباده"، هذا كالمجمع عليه بين المسلمين، وإن كان قد خالف فيه شذوذٌ
منهم، واحتج الجمهور بقوله: "أنا سيد ولد آدم ولا
فخر"، وبقوله: "ادعوا لي سيد
العرب علياً"، فقالت عائشة -:
ألست سيد العرب؛ فقال: "أنا سيد البشر، وعلي
سيد العرب "، وبقوله: "آدم
ومن دونه تحت لوائي ". قوله رضي الله
عنه: "كلما نسخ الله الخلق فرقتين جعله في خيرهما"، النسخ: النقل، ومنه نسخ الكتاب، ومنه نسخت الريح
آثار القوم، ونسخت الشمس الظل، يقول: كلما قسم الله تعالى الأب الواحد إلى
ابنين، جعل خيرهما وأفضلهما لولادة محمد صلى الله عليه وسلم، وسمى ذلك
نسخاً، لأن البطن الأول يزول، ويخلفه البطن الثاني، ومنه مسائل المناسخات في
الفرائض. وهذا المعنى قد ورد مرفوعاً في عدة أحاديث، نحو قوله صلى الله عليه وسلم: "ما افترقت
فرقتان منذ نسل آدم ولده إلا كنت في خيرهما". ونحو قوله: "إن الله اصطفى من ولد إبراهيم
إسماعيل، واصطفى من ولد إسماعيل مضر، واصطفى من مضر كنانة، واصطفى من كنانة
قريشاً، واصطفى من قريش هاشماً، واصطفاني من بني هاشم". قوله: "لم يسهم فيه عاهر، ولا ضرب فيه
فاجر"، لم يسهم: لم يضرب فيه عاهر
بسهم، أي بنصيب، وجمعه سهمان، والعاهر: ذو العهر، بالتحريك وهو الفجور والزنا،
ويجوز تسكين الهاء، مثل نهر ونهر، وهذا هو المصدر، والماضى عهر بالفتح، والاسم
العهر، بكسر العين وسكون الهاء، والمرأة عاهرة ومعاهرة وعيهرة، وتعيهر الرجل إذا
زنى، والفاجر كالعاهر ههنا، وأصل الفجور:
الميل، قال لبيد:
يقول:
مقعد الرديف مائل. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
كلام الجاحظ حول المطاعن في النسب
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وفي الكلام
رمز إلى جماعة من الصحابة في أنسابهم طعن، كما
يقال: إن آل سعد بن أبي وقاص ليسوا من بني زهرة بن كلاب، وإنهم من بني عذرة من
قحطان، وكما قالوا: إن آل الزبير بن العوام
من أرض مصر من القبط، وليسوا من بني أسد بن عبد العزى. قال الهيثم بن
عدي في كتاب "مثالب العرب": إن خويلد بن أسد بن عبد العزى، كان
أتى مصر ثم انصرف منها بالعوام، فتبناه، فقال حسان بن
ثابت يهجو آل العوام بن خويلد:
وكما يقال في قوم آخرين، نرفع هذا الكتاب عن ذكر ما يطعن به في أنسابهم، كي لا يظن
بنا أنا نحب المقالة في الناس. قال شيخنا أبو عثمان في
كتاب "مفاخرات قريش": لا خير في ذي العيوب إلا من ضرورة، ولا نجد كتاب مثالب قط
إلا لدعي أو شعوبي، ولست واجده لصحيح النسب، ولا لقليل الحسد، وربما كانت حكاية الفحش أفحش من الفحش، ونقل الكذب
أقبح من الكذب. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اعف عن ذي قبر"، وقال:
"لا تؤذوا الأحياء بسب الأموات"، وقيل في
المثل: "يكفيك من شر سماعه". وقالوا:
أسمعك من أبلغك، وقالوا: من طلب عيباً وجده،
وقال النابغة:
قال أبو عثمان:
وبلغ عمر بن الخطاب رضي الله عنه
أن اناساً من رواة الأشعار وحملة الآثار يعيبون الناس، ويثلبونهم في أسلافهم،
فقام على المنبر، وقال: إياكم وذكر العيوب،
والبحث عن الأصول، فلو قلت: لا يخرج اليوم من
هذه الأبواب إلا من لا وصمة فيه لم يخرج منكم أحد. فقام رجل من قريش - نكره أن نذكره - فقال: إذا
كنت أنا وأنت يا أمير المؤمنين نخرج؛ فقال: كذبت، بل كان يقال لك، ياقين ابن قين
، اقعد؛ قلت: الرجل الذي قام هو المهاجر بن خالد بن
الوليد بن المغيرة المخزومي، كان عمر يبغضه لبغضه أباه خالداً، ولأن المهاجر كان
علوي الرأي جداً، وكان أخوه عبد الرحمن بخلافه، شهد المهاجر صفين مع علي رضي
الله عنه، وشهدها عبد الرحمن مع معاوية، وكان المهاجر مع علي رضي الله عنه في
يوم الجمل، وفقئت ذلك اليوم عينه. ولأن
الكلام الذي بلغ عمر بلغه عن المهاجر، وكان الوليد بن المغيرة مع جلالته في قريش
- وكونه يسمى ريحانة قريش، ويسمى العدل، ويسمى الوحيد - حداداً يصنع الدروع
وغيرها بيده، ذكر ذلك عنه عبد الله بن قتيبة في
كتاب "المعارف". وروى أبو الحسن المدائني
هذا الخبر في كتاب "أمهات الخلفاء" وقال: إنه روى عند جعفر بن محمد رضي الله
عنه بالمدينة، فقال: لا تلمه يا بن أخي، إنه أشفق أن يحدج بقضية نفيل بن عبد
العزى وصهاك أمة الزبير بن عبد المطلب. ثم قال: رحم الله عمر فإنه لم يعد السنة،
وتلا: "إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في
الذين آمنوا لهم عذابٌ أليمٌ" . أما قول ابن جرير
الآملي الطبرستاني في كتاب "المسترشد": إن عثمان والد أبي بكر
الصديق رضي الله عنه
كان ناكحاً أم الخير ابنة أخته، فليس بصحيح، ولكنها ابنة عمه، لأنها ابنة صخر بن عامر، وعثمان هو ابن عمرو بن عامر؛
والعجب لمن اتبعه من فضلاء الإمامية على هذه المقالة من غير تحقيق لها من كتب
الأنساب، وكيف تتصور هذه الواقعة في قريش، ولم يكن أحد منهم مجوسياً ولا
يهودياً، ولا كان من مذهبهم حل نكاح بنات الأخ ولا بنات الاخت ثم نعود لإتمام حكاية كلام شيخنا أبي عثمان، قال: ومتى
يقدر الناس - حفظك الله - على رجل مسلم من كل ابنة، ومبرأ
من كل آفة؛ في جميع آبائه وأمهاته وأسلافه وأصهاره، حتى تسلم له أخواله وأعمامه،
وخالاته وعماته، وأخواته وبناته، وأمهات نسائه، وجميع من يناسبه من قبل جداته
وأجداده، وأصهاره وأختانه ؛ ولو كان ذلك موجوداً لما كان لنسب رسول الله صلى
الله عليه وسلم فضيلة في النقاء والتهذيب، وفي
التصفية والتنقيح، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"ما مسني عرق سفاحٍ قط، وما زلت انقل من الأصلاب السليمة من الوصوم ،
والأرحام البريئة من العيوب"، فلسنا نقضي
لأحد بالنقاء من جميع الوجوه، إلا لنسب من صدقه القرآن، واختاره الله على جميع
الأنام، وإلا فلا بد من شيء يكون في نفس الرجل أو في طرفيه، أو في بعض أسلافه،
أو في بعض أصهاره؛ ولكنه يكون مغطى بالصلاح، ومحجوباً بالفضائل، ومغموراً
بالمناقب. ولو تأملت
أحوال الناس،، لوجدت أكثرهم عيوباً أشدهم تعييباً، قال
الزبرقان بن بدر : ما استب رجلان إلا غلب ألأمهما. وقال: خصلتان كثيرتان في
امرىء السوء: كثرة اللطام،. وشدة السباب، ولو كان ما يقوله أصحاب المثالب
حقاً، لما كان على ظهرها عربي، كما قال عبد الملك بن صالح الهاشمي: إن كان ما يقول بعض في
بعض حقاً، فما فيهم صحيح، وإن كان ما يقول بعض المتكلمين في بعض حقاً، فما فيهم
مسلم قوله رضي الله عنه: "ألا وإن الله
قد جعل للخير أهلاً، وللحق دعائم، وللطاعة عصماً". الدعائم: ما يدعم بها البيت لئلا يسقط، والعصم: جمع
عصمة، وهو ما يحفظ به الشيء ويمنع، فأهل الخير هم المتقون. ودعائم الحق: الأدلة
الموصلة إليه المثبتة له في القلوب. وعصم الطاعة: هي الإدمان على فعلها، والتمرن
على الإتيان بها، لأن المرون على الفعل يكسب الفاعل ملكة تقتضي سهولته عليه. والعون ههنا: هو اللطف المقرب من الطاعة، المبعد
من القبيح. ثم قال رضي الله عنه: "إنه يقول على الألسنة،
ويثبت الأفئدة"، وهذا من باب التوسع والمجاز، لأنه لما كان مسهلاً للقول
أطلق عليه أنه يقول على الألسنة، ولما كان الله تعالى هو الذي يثبت الأفئدة، كما
قال: "يثبت الله الذين آمنوا بالقول
الثابت" ، نسب التثبيت إلى اللطف، لأنه من فعل الله تعالى، كما ينسب
الإنبات إلى المطر، وإنما المنبت للزرع هو الله تعالى، والمطر فعله. ثم قال رضي الله عنه: "فيه كفاء لمكتفٍ، وشفاء
لمشتفٍ"، والوجه فيه "كفاية"، فإن الهمزلا وجه له ههنا، لأنه من
باب آخر؛ ولكنه أتى بالهمزة للازدواج بين "كفاء"، و "شفاء" كما قالوا: الغدايا والعشايا، وكما قال رضي الله عنه: "مأزورات غير
مأجورات"، فأق بالهمز، والوجه الواو، للازدواج. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
كلام حول العارفين والأولياء
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ثم ذكر العارفين، فقال:
"واعلموا أن عباد الله المستحفظين علمه"، إلى قوله: "وهذبه
التمحيص". واعلم أن الكلام في العرفان لم يأخذه
أهل الملة الإسلامية إلا عن هذا الرجل، ولعمري لقد بلغ منه إلى أقصى الغايات،
وأبعد النهايات. والعارفون هم القوم الذين اصطفاهم الله تعالى، وانتخبهم لنفسه،
واختضهم بأنسه، أحبوه فأحبهم، وقربوا منه فقرب منهم. قد تكلم أرباب هذا الشأن في المعرفة
والعرفان، فكل نطق بما وقع له، وأشار إلى ما وجده في وقته. وإن أبو علي الدقاق يقول:
من أمارات المعرفة حصول الهيبة من الله، فمن ازدادت معرفته ازدادت هيبته، وكان يقول: المعرفة توجب السكينة في القلب، كما أن
العلم يوجب السكون، فمن ازدادت معرفته ازدادت سكينته. وسئل الشبلي عن علامات العارف، فقال:
ليس لعارفٍ علامة، ولا لمحب سكون، ولا لخائفٍ قرار، وسئل مرة أخرى عن المعرفة، فقال: أولها الله، وآخرها ما لا نهاية له. وقال أبو حفص الحداد: منذ عرفت الله ما دخل قلبي حق
ولا باطل. وقد أشكل هذا الكلام على أرباب هذا الشأن، وتأوله بعضهم،
فقال: عند القوم أن المعرفة توجب غيبة العبد عن نفسه لاستيلاء ذكر الحق عليه،
فلا يشهد غير الله، ولا يرجع إلا إليه، وكما أن العاقل يرجع إلى قلبه وتفكره
وتذكره فيما يسنح له من أمر، أو يستقبله من حال، فالعارف رجوعه إلى ربه، لا إلى
قلبه، وكيف يدخل المعنى قلب من لا قلب له، وسئل أبو
يزيد البسطامي عن العرفان، فقال: "إن
الملوك إذا دخلوا قريةً أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلةً" ،وهذا معنى ما أشار إليه أبو حفص الحداد. وقال أبو يزيد أيضاً:
للخلق أحوال، ولا حال للعارف، لأنه محيت رسومه وفني هو، وصارت هويته هوية غيره،
وغيبت آثاره في آثار غيره. قلت: وهذا هو القول بالاتحاد الذي يبحث فيه أهل
النظر. وقال الواسطي:
لا تصح المعرفة وفي العبد استغناء بالله، أو افتقار إليه. وفسر بعضهم هذا الكلام، فقال: إن
الافتقار والاستغناء من أمارات صحو العبد وبقاء رسومه على ما كانت عليه، والعارف
لا يصح ذلك عليه، لأنه لاستهلاكه في وجوده، أو لاستغراقه في شهوده؛ إن لم يبلغ
درجة الاستهلاك في الوجود مختطف عن إحساسه بالغنى والفقر وغيرهما من الصفات، ولهذا قال الواسطي: من عرف الله انقطع وخرس وانقمع، قال صلى
الله عليه وسلم:
"لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك". وقال الحسين بن منصور الحلاج: علامة
العارف أن يكون فارغاً من الدنيا والآخرة. وقال سهل بن عبد الله التستري: غاية العرفان شيئان: الدهش والحيرة. وقال ذو النون:
أعرف الناس بالله أشدهم تحيراً فيه. وقيل لأبي يزيد: بماذا
وصلت إلى المعرفة؟ قال: ببدنٍ عارٍ، وبطن
جائع. وقيل لأبي يعقوب السوسي:
هل يتأسف العارف على شيء غير الله؟ فقال:
وهل يرى شيئاً غيره، ليتأسف عليه، وقال أبو يزيد:
العارف طيار، والزاهد سيار. وقال يحيى بن معاذ: يخرج العارف من الدنيا، ولا يقضي وطره من شيئين: بكائه على نفسه، وحبه
لربه. وكان ابن عطاء يقول: أركان المعرفة ثلاثة: الهيبة،
والحياء، والأنس. وقال بعضهم: العارف أنس
بالله فأوحشه من خلقه، وافتقر إلى الله فأغناه عن خلقه. وذل لله فأعزه في خلقه، وقال بعضهم: العارف فوق ما يقول، والعالم دون ما
يقول. وقال أبو سليمان الداراني:
إن الله يفتح للعارف على فراشه، ما لا يفتح للعابد وهو قائم يصلي، وكان رويم يقول: رياء العارفين أفضل من إخلاص
العابدين. وسئل أبو تراب النخشبي عن العارف، فقال: هو الذي
لا يكدره شيء، ويصفو به كل شيء، وقال بعضهم:
المعرفة أمواج ترفع وتحط. وسئل يحيى بن معاذ عن العارف، فقال: الكائن
البائن. وسئل أبو سعيد الخراز: هل
يصير العارف إلى حال يجفو عليه البكاء؟ قال نعم، إنما البكاء في أوقات سيرهم إلى
الله، فإذا صاروا إلى حقائق القرب، وذاقوا طعم الوصول، زال عنهم ذلك. واعلم أن إطلاق أمير المؤمنين رضي الله عنه عليهم لفظة
"الولاية"، في قوله: "يتواصلون بالولاية، ويتلاقون بالمحبة"
يستدعي الخوض في مقامين جليلين من مقامات العارفين: المقام الأول الولاية، وهو مقام جليل، قال الله تعالى:
"ألا إن أولياء الله لا خوفٌ عليهم ولا هم
يحزنون" . وجاء في الخبر الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم،
يقول الله تعالى: "من آذى لي ولياً فقد استحل
محارمي، وما تقرب إلي العبد بمثل أداء ما فرضت عليه، ولا يزال العبد يتقرب إلي
بالنوافل حتى أحبه، ولا ترددت في شيء أنا فاعله كترددي في قبض نفس عبدي المؤمن
يكره الموت وأكره مساءته، ولا بد له منه." واعلم أن الولي له
معنيان: أحدهما "فعيل"
بمعنى "مفعول"، كقتيل وجريح، وهو من يتولى الله أمره كما قال
الله تعالى: "إن وليي الله الذي نزل الكتاب
وهو يتولى الصالحين" ، فلا يكله إلى نفسه لحظة عين، بل يتولى
رعايته. وثانيهما "فعيل" بمعنى
"فاعل" كنذير وعليم؛ وهو الذي يتولى طاعة الله وعبادته فلا يعصيه، ومن شرط كون الولي ولياً ألا يعصي مولاه وسيده، كما أن من شرط
كون النبي نبياً العصمة، فمن ظن فيه أنه من الأولياء، ويصدر عنه ما للشرع
فيه اعتراض، فليس بولي عند أصحاب هذا العلم. بل هو مغرور مخادع. ويقال: إن أبا يزيد البسطامي قصد بعض من يوصف بالولاية، فلما وافى مسجده، قعد ينتظر
خروجه، فخرج الرجل وتنخم في المسجد، فانصرف أبو يزيد ولم يسلم عليه، وقال: هذا رجل غير مأمون على أدب من آداب الشريعة،
كيف يكون أميناً على أسرار الحق؛ وقال إبراهيم بن أدهم
لرجل: أتحب أن تكون لله ولياً؟ قال: نعم، قال: لا ترغب في شيء من الدنيا
ولا من الآخرة، وفرغ نفسك لله، وأقبل بوجهك عليه ليقبل عليك ويواليك. وقال يحيى بن معاذ في
صفة الأولياء: هم عبادٌ تسربلوا بالأنس بعد المكابدة، وادرعوا بالروح بعد
المجاهدة، بوصولهم إلى مقام الولاية. وقال أبو بكر
الصيدلاني: كنت أصلح لقبر أبي بكر الطمستاني لوحاً أنقر فيه اسمه، فيسرق
ذلك اللوح، فأنقر له لوحاً آخر وأنصبه على قبره، فيسرق، وتكرر ذلك كثيراً دون
غيره من ألواح القبور، فكنت أتعجب منه. فسألت أبا علي الدقاق
عن ذلك، فقال: إن ذلك الشيخ آثر الخفاء في الدنيا، وأنت تريد أن تشهره
باللوح الذي تنصبه على قبره فالله سبحانه يأبى آلا إخفاء قبره، كما أثر هو ستر
نفسه. وقال بعضهم:
إنما سمي الولي ولياً، لأنه توالت أفعاله على الموافقة. وقال يحيى بن معاذ:
الولي لا يرائي ولا ينافق، وما أقل صديق من يكون هذا خلقه؛ المقام الثاني المحبة قال الله سبحانه: "من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقومٍ يحبهم
ويحبونه" ، والمحبة عند أرباب هذا الشان حالة شريفة. قال أبو يزيد
البسطامي: المحبة استقلال الكثير من نفسك، واستكثار القليل من حبيبك. وأكثرهم
على نفي صفة العشق، لأن العشق مجاوزة الحد في المحبة، والبارىء سبحانه أجل من أن
يوصف بأنه قد تجاوز أحد الحد في محبته. سئل الشبلي عن المحبة، فقال: هي أن تغار على المحبوب أن يحبه أحدٌ غيرك. وقال سمنون:
ذهب المحبون بشرف الدنيا والاخرة، لأن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: "المرء مع من أحب "، فهم مع الله تعالى. وقال يحيى بن معاذ: حقيقة المحبة ما لا ينقص بالجفاء،
ولا يزيد بالبر. وقال: ليس
بصادق من ادعى محبته ولم يحفظ حدوده. وقال الجنيد: إذا صحت المحبة سقطت شروط الأدب، وأنشد في معناه:
وكان أبو علي الدقاق يقول: ألست ترى الأب الشفيق لا يبجل ولده في الخطاب، والناس
يتكلفون في مخاطبته، والأب يقول له: يا فلان، باسمه. وقال أبو يعقوب السوسي: حقيقة المحبة أن ينسى العبد حظه من
الله، وينسى حوائجه إليه. قيل للنصر أباذي: يقولون: إنه ليس لك من المحبة شيء. قال: صدقوا، ولكن لي حسراتهم، فهو ذو احتراق
فيه. وقال النصر أباذي أيضاً: المحبة مجانبة السلو على كل حال، ثم
أنشد:
وكان يقال:
الحب أوله خبل ، وآخره قتل. وقال أبو علي الدقاق في
معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "حبك الشيء يعمي ويصم "،
قال: يعمي ويصم عن الغير إعراضاً وعن المحبوب هيبة، ثم
أنشد:
وقال الجنيد: سمعت
الحارث المحاسبي، يقول: المحبة إقبالك على المحبوب بكليتك، ثم إيثارك له على
نفسك، ومالك وولدك، ثم موافقتك له في جميع الأمور سراً وجهراً، ثم اعتقادك بعد ذلك
أنك مقصر في محبته. وقال الجنيد:
سمعت السري يقول: لا تصلح المحبة بين اثنين حتى
يقول الواحد للآخر: يا أنا. وقال الشبلي: المحب إذا سكت هلك، والعارف إذا لم
يسكت هلك. وقيل:
المحبة بذل الجهد، والحبيب يفعل ما يشاء. وقال الثوري: المحبة
هتك الأستار، وكشف الأسرار. حبس الشبلي في المارستان
بين المجانين، فدخل عليه جماعة، فقال: من أنتم؟ قالوا: محبوك أيها
الشيخ. فأقبل يرميهم
بالحجارة، ففروا، فقال: إذا ادعيتم محبتي فاصبروا على بلائي. كتب يحيى بن معاذ إلى
أبي يزيد البسطامي:
قد سكرت من كثرة ما شربت من كأس محبته. فكتب إليه أبو يزيد: غيرك شرب بحور السموات والأرض وما
روي بعد، ولسانه خارج، ويقول: هل من مزيد؛
ومن شعرهم في هذا المعنى:
ويقال: إن الله تعالى أوحى إلى بعض الأنبياء: إذا اطلعت على قلب عبد فلم أجد فيه حب
الدنيا والآخرة، ملأته من حبي. وقال أبو علي الدقاق: إن في بعض الكتب المنزلة: عبدي، أنا
وحقك لك محب، فبحقي عليك كن لي محباً. وقال عبد الله بن
المبارك:
من أعطي قسطاً من المحبة، ولم يعط مثله من الخشية، فهو مخدوع. وقيل: المحبة ما تمحو أثرك، وتسلبك عن
وجودك. وقيل: المحبة
سكر لا يصحو صاحبه إلا بمشاهدة محبوبه، ثم إن السكر الذي يحصل عند المشاهدة لا
يوصف. وأنشد:
وكان أبو علي الدقاق ينشد كثيراً:
وكان يحيى بن معاذ يقول: مثقال خردلة من الحب أحب إلي من عبادة سبعين سنة بلا حب.
وقيل: إن الله تعالى أوحى إلى داود عليه السلام: إني حرمت على القلوب أن يدخلها حبي
وحب غيري. وقيل:
المحبة إيثار المحبوب على النفس، كامرأة العزيز
لما أفرط بها الحب، قالت: "أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين"
، وفي الابتداء،
قالت: "ما جزاة من أراد بأهلك سوءاً
إلا أن يسجن" فوركت الذنب في الابتداء
عليه، ونادت في الانتهاء على نفسها بالخيانة. وقال أبو سعيد الخراز: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فقلت: يا رسول الله،
أعذرني، فإن محبة الله شغلتني عن حبك، فقال:
يا مبارك، من أحب الله فقد أحبني. ثم نعود إلى تفسير ألفاظ الفصل: قوله رضي الله عنه: "يصونون مصونه "؛ أي يكتمون من العلم الذي استحفظوه ما يجب أن يكتم. ويفجرون
عيونه: يظهرون منه ما ينبغي إظهاره؛ وذلك أنه ليس ينبغي إظهار كل ما استودع
العارف من الأسرار؛ وأهل هذا الفن يزعمون أن قوماً منهم عجزوا عن أن يحملوا بما
حملوه، فباحوا به فهلكوا، منهم الحسين بن منصور
الحلاج. ولأبي الفتوح
الجارودي المتأخر أتباعٌ يعتقدون فيه مثل ذلك. والولاية،
بفتح الواو: المحبة والنصرة، ومعنى "يتواصلون بالولاية" يتواصلون وهم
أولياء، ومثله: "ويتلاقون بالمحبة" كما
تقول: خرجت بسلاحي، أي خرجت وأنا متسلح، فيكون موضع الجار والمجرور نصباً
بالحال، أو يكون المعنى أدق وألطف من هذا، وهو أن يتواصلوا بالولاية، أي بالقلوب
لا بالأجسام، كما تقول: أنا أراك بقلبي،
وأزورك بخاطري، وأواصلك بضميري. قوله: "ويتساقون بكأس روية"، أي بكأس
المعرفة، والأنس بالله، يأخذ بعضهم عن بعض العلوم والأسرار، فكأنهم شربٌ يتساقون
بكأس من الخمر. قال:
"ويصدرون برية" يقال: من أين ريتكم؟ مفتوحة الراء، أي من أين ترتوون
الماء؟ قال: "لا تشويهم الريبة"، أي لا تخالطهم الظنة والتهمة، ولا
تسرع فيهم الغيبة، لأن أسرارهم مشغولة بالحق على الخلق. قال: "على ذلك عقد
خلقهم وأخلاقهم"، الضمير في "عقد" يرجع إلى الله تعالى، أي على
هذه الصفات والطبائع عقد الخالق تعالى، خلقتهم وخلقهم، أي هم متهيئون لما صاروا
إليه، كما قال رضي الله عنه: "إذا أرادك لأمر هيأك له". وقال رضي الله عنه: "كلٌ ميسر ٌلما خلق له". قال: "فعليه
يتحابون، وبه يتواصلون"، أي
ليس حبهم بعضهم بعضاً إلا في الله، وليست مواصلتهم بعضهم بعضاً إلا لله، لا
للهوى، ولا لغرض من أغراض الدنيا، أنشد منشدٌ عند عمر قول
طرفة:
فقال عمر:
وأنا لولا ثلاث هن من عيشة الفتى، لم أحفل متى قام عودي؟ حبي في الله، وبغضي في
الله، وجهادي في سبيل الله. قوله رضي الله عنه: "فكانوا كتفاضل البذر"، أي
مثلهم مثل الحب الذي ينتقى للبذر، يستصلح بعضه، ويسقط بعضه. قد ميزه التخليص: قد فرق الانتقاء بين جيده ورديئه.
وهذبه التصحيص، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن
المرض ليمحص الخطايا كما تمحص النار الذهب"، أي كما تخلص النار
الذهب مما يشوبه. ثم أمر رضي الله عنه المكلفين بقبول كرامة الله ونصحه،
ووعظه وتذكيره، وبالحذر من نزول القارعة بهم، وهي ههنا الموت، وسميت الداهية
قارعة لأنها تقرع، أي تصيب بشدة. قوله: "فليصنع لمتحوله"؛ أي فليعد
ما يجب إعداده للموضع الذي يتحول إليه، تقول: اصنع لنفسك، أي اعمل لها. قوله: "ومعارف منتقله "معارف الدار: ما يعرفها المتوسم بها واحدها معرف،
مثل معاهد الدار، ومعالم الدار، ومنه معارف المرأة، وهو ما يظهر منها، كالوجه
واليدين. والمنتقل، بالفتح: موضع الانتقال. قوله: "فطوبى" هي "فعلى" من الطيب، قلبوا الياء واواً للضمة
قبلها، ويقال: طوبى لك، وطوباك؛ بالإضافة، وقول
العامة: "طوبيك" بالياء غير جائز. قوله: "قبل أن تغلق
أبوابه"،
أي قبل أن يحضره الموت فلا تقبل توبته. والحوبة: الإثم. وإماطته: إزالته، ويجوز أمطت الأذى عنه، ومطت
الأذى عنه، أي نحيته، ومنع الأصمعي منه إلا بالهمزة. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن دعاء له عليه السلام كان يدعو به كثيراً
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
الحمد لله الذي لم يصبح بي ميتاً ولا سقيماً، ولا مضروباً على عروقي بسوءٍ؛ ولا
مأخوذاً بأسوإ عملي، ولا مقطوعاً دابري، ولا مرتداً عن ديني، ولا منكراً لربي،
ولا مستوحشاً من إيماني، ولا ملتبساً عقلي، ولا معذباً بعذاب الأمم من قبلي،
أصبحت عبداً مملوكاً، ظالماً لنفسي؛ لك الحجة علي - ولا حجة لي - ولا أستطيع أن
أخذ إلا ما أعطيتني، ولا أتقي إلا ما وقيتني. اللهم
إني أعوذ بك أن أفتقر في غناك، أو أضل في هداك، أو أضام في سلطانك، أو أضطهد
والأمر لك؛ اللهم أجعل نفسي أول كريمةٍ تنتزعها من كرائمي، وأول وديعة ترتجعها
من ودائع نعمك عندي؛ اللهم إنا نعوذ بك أن نذهب عن قولك، أو أن نفتتن عن دينك،
أو تتتابع بنا أهواؤنا دون الهدى الذي جاء من عندك؛ الشرح:
قوله: "كثيراً" منصوب بأنه صفة
مصدر محذوف، أي دعاء كثيراً. وميتاً
منصوب على الحال، أي لم يفلق الصباح علي ميتاً، ولا يجوز أن تكون "يصبح
" ناقصة، ويكون "ميتاً" خبرها، كما
قال الراوندي؛ لأن خبر "كان" وأخواتها، يجب أن يكون هو الاسم،
ألا ترى أنهما مبتدأ وخبر في الأصل واسم "يصبح" ضمير "الله"
تعالى، و "ميتاً" ليس هو الله سبحانه. قوله: "ولا مضروباً على عروقي
بسوء"، أي ولا أبرص، والعرب تكني عن البرص بالسوء، ومن أمثالهم: ما أنكرك من سوء، أي ليس إنكاري لك عن برص حدث بك
فغير صورتك. وأراد بعروقه أعضاءه،
ويجوز أن يريد: ولا مطعوناً في نسبي، والتفسير الأول أظهر، "ولا
مأخوذاً بأسوإ عملي"، أي ولا معاقباً بأفحش ذنوبي، ولا مقطوعاً دابري، أي
عقبي ونسلي. والدابر في الأصل: التابع، لأنه يأتي دبراً، ويقال للهالك: قد قطع الله دابره،
كأنه يراد أنه عفا أثره، ومحا اسمه، قال سبحانه:
"أن دابر هؤلاء مقطوعٌ مصبحين" . ولا مستوحشاً، أي ولا شاكاً في الإيمان، لأن
من شك في عقيدة استوحش منها. وعذاب الأمم من قبل المسخ والزلزلة والظلمة
ونحو ذلك. قوله: "لك الحجة
علي، ولا حجة لي"،
لأن الله سبحانه قد كلفه بعد تمكينه وإقداره وإعلامه قبح القبيح ووجوب الواجب
وترديد دواعيه إلى الفعل وتركه، وهذه حجة الله تعالى على عباده، ولا حجة للعباد
عليه، لأنه ما كلفهم إلا بما يطيقونه، ولا كان لهم لطف في أمر إلا وفعله. قوله: "لا أستطيع
أن آخذ إلا ما أعطيتني، ولا أتقي إلا ما وقيتني"، أي لا أستطيع أن أرزق نفسي أمراً،
ولكنك الرزاق، ولا أدفع عن نفسي محذوراً من المرض والموت إلا ما دفعته أنت عني. وقال الشاعر:
وقال
عبد الله بن سليمان بن وهب:
قوله رضي الله عنه: "أن أفتقر
في غناك"، موضع الجار والمجرور نصب على الحال، و
"في" متعلقة بمحذوف، والمعنى أن أفتقر وأنت الموصوف بالغنى الفائض على
الخلق. وكذلك قوله:
"أو أضل في هداك"، معناه: أو أضل
وأنت ذو الهداية العامة للبشر كافة، وكذلك:
"أو أضام في سلطانك"، كما يقول المستغيث إلى السلطان: كيف أظلم في
عدلك وكذلك قوله: "أو اضطهد والأمر
لك"، أي وأنت الحاكم صاحب الأمر، والطاء في "اضطهد" هي تاء
الافتعال، وأصل الفعل ضهدت فلاناً، فهو مضهود، أي قهرته وفلان ضهدة لكل أحد، أي
كل من شاء أن يقهره فعل. قوله: "اللهم
اجعل نفسي"، هذه الدعوة مثل دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي قوله: "اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا،
واجعله الوارث منا"، أي لا تجعل موثنا متأخراً عن ذهاب حواسنا. وكان علي بن الحسين يقول في دعائه: اللهم احفظ علي
سمعي وبصري، إلى انتهاء أجلي. وفسروا قوله رضي الله عنه:
"واجعله الوارث منا"، فقالوا:
الضمير في "واجعله" يرجع إلى الإمتاع. فإن قلت: كيف يتقي
الإمتاع بالسع والبصر، بعد خروج الروح؟. قلت: هذا توسع في
الكلام، والمراد: لا تبلنا بالعمى ولا الصمم، فنكون أحياء في الصورة ولسنا
بأحياء في المعنى، لأن من فقدهما لا خير له في الحياة، فحملته المبالغة على أن
طلب بقاءهما بعد ذهاد النفس، إيذاناً وإشعاراً بحبه ألا يبلى بفقدهما ونفتتن،
على ما لم يسم فاعله: نصاب بفتنة تضلنا عن الدين، وروي: "نفتتن " بفتح
حرف المضارعة على "نفتعل"، افتتن الرجل أي فتن، ولا يجوز أن يكون
الافتتان متعدياً كما ذكره الراوندي، ولكنه قرأ في
"الصحاح" للجوهري: "والفتون: الافتتان، يتعدى ولا
يتعدى"، فظن أن ذلك للافتتان وليس كما ظن، وإنما ذلك راجع إلى الفتون. والتتابع:
التهافت في اللجاج والشر، ولا يكون إلا في مثل ذلك، وروي
"أو تتابع" بطرح إحدى التاءات. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن خطبة له عليه السلام خطبها بصفين
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: أما بعد، فقد
جعل الله سبحانه لي عليكم حقاً بولاية أمركم، ولكم علي من الحق مثل الذي لي
عليكم، والحق أوسع الأشياء في التواصف، وأضيقها في التناضف، لا يجري لأحد إلا
جرى عليه، ولا يجري عليه إلا جرى له. ولو كان
لأحد أن يجري له ولا يجري عليه، لكان ذلك خالصاً لله سبحانه دون خلقه، لقدرته
على عباده، ولعدله في كل ما جرت عليه ضروف قضائه؛ ولكنه سبحانه جعل حقه على
العباد أن يطيعوه، وجعل جزاءهم عليه مضاعفة الثواب، تفضلاً منه، وتوسعاً بما هو
من المزيد أهله. الشرح: الذي له عليهم من الحق هو وجوب طاعته، والذي
لهم عليه من الحق هو وجوب معدلته فيهم. والحق أوسع الأشياء في التواصف، وأضيقها
في التناصف؛ معناه أن كل أحد يصف الحق والعدل، ويذكر حسنه ووجوبه، ويقول: لو وليت لعدلت، فهو بالوصف باللسان وسيع،
وبالفعل ضيق، لأن ذلك العالم العظيم الذين كانوا يتواصفون حسنه، ويعدون أن لو
ولوا باعتماده وفعله، لا تجد في الألف منهم واحداً لو ولي لعدل. ولكنه قول بغير
عمل. ثم عاد إلى تقرير الكلام الأول، وهو
وجوب الحق له وعليه، فقال: إنه لا يجري لأحد
إلا وجرى عليه، وكذلك لا يجري عليه إلا وجرى له، أي ليس ولا واحد من الموجودين
بمرتفع عن أن يجري الحق عليه، ولو كان أحدٌ من الموجودين كذلك لكان أحقهم بذلك
البارىء سبحانه، لأنه غاية الشرف، بل هو فوق الشرف وفوق الكمال والتمام، وهو
مالك الكل، وسيد الكل، فلو كان لجواز هذه القضية
وجه، ولصحتها مساغ، لكان البارىء تعالى أولى بها، وهي ألا يستحق عليه
شيء، وتقدير الكلام: لكنه يستحق عليه أمور،
فهو في هذا الباب كالواحد منا يستحق ويستحق عليه، ولكنه رضي الله عنه حذف هذا الكلام المقدر، أدباً
وإجلالاً لله تعالى أن يقول: إنه يستحق عليه شيء. فإن قلت: فما بال المتكلمين لا يتأدبون بأدبه رضي الله عنه وكيف يطلقون عليه تعالى الوجوب
والاستحقاق، قلت: ليست وظيفة المتكلمين
وظيفة أمير المؤمنين رضي الله عنه
في عباراتهم، هؤلاء أرباب صناعة، وعلم يحتاج إلى ألفاظ واصطلاح لا بد لهم من
استعماله، للإفهام والجدل بينهم، وأمير المؤمنين إمام يخطب على منبره، يخاطب
عرباً ورعيةً ليسوا من أهل النظر، ولا نخاطبته لهم لتعليم هذا العلم، بل
لاستنفارهم إلى حرب عدوه، فوجب عليه بمقتضى الأدب أن يتوقى كل لفظة توهم ما
يستهجنه السامع في الأمور الإلهية وفي غيرها. فإن قلت: فما هذه
الأمور التي زعمت أنها تستحق على البارىء سبحانه، وأن أمير المؤمنين رضي الله
عنه حذفها من اللفظ، واللفظ يقتضيها؛ قلت:
الثواب، والعوض، وقبول التوبة، واللطف، والوفاء بالوعد، والوعيد، وغير ذلك مما
يذكره أهل العدل. فإن قلت: فها معنى قوله: "لكان ذلك خالصاً لله
سبحانه دون خلقه، لقدرته على عباده، ولعدله في كل ما جرت عليه صروف قضائه"؟
وهب أن تعليل عدم استحقاق شيء على الله تعالى بقدرته على عباده صحيح، كيف يصح
تعليل ذلك بعدله في كل ما جرت عليه صروف قضائه؟ ألا ترى أنه ليس بمستقيم أن تقول
لا يستحق على البارىء شيء، لأنه عادل، وإنما المستقيم أن تقول لا يستحق عليه
شيء، لأنه مالك، ولذلك عللت الأشعرية هذا الحكم بأنه مالك الكل، والاستحقاق إنما
يكون على من دونه. قلت: لا،
وذلك لأنه جعل المتفضل به، هو مضاعفة الثواب، لا أصل الثواب، وليس ذلك بمستنكر
عندنا. فإن قلت: أيجوز عندكم أن يستحق المكلف عشرة
أجزاء من الثواب فيعطى عشرين جزءا منه؟ أليس من مذهبكم أن التعظيم والتبجيل لا يجوز من البارىء سبحانه أن
يفعلهما في الجنة إلا على قدر الاستحقاق، والثواب عندكم هو النفع المقارن
للتعظيم والتبجيل؟ فكيف قلت: إن مضاعفة
الثواب عندنا جائزة؛ قلت: مراده
عليه السلام بمضاعفة الثواب هنا زيادة غير مستحقة من النعيم واللذة الجسمانية
خاصة في الجنة، فسمى تلك اللذة الجسمانية ثواباً لأنها جزء من الثواب، فأما اللذة العقلية فلا يجوز مضاعفتها. قوله عليه السلام: "بما هو من المزيد أهله "،
أي بما هو أهله من المزيد، فقدّم الجار والمجرور وموضعه نصب على الحال، وفيه
دلالة على أن حال المجرور تتقدم عليه، كما قال
الشاعر:
الأصل:
ثم نجعل سبحانه من حقوقه حقوقاً أفترضها لبعض الناس على بعض، فجعلها تتكافأ في
وجوهها، ويوجب بعضها بعضاً، ولا يستوجب بعضها إلا ببعض. وأعظم ما افترض سبحانه من تلك الحقوق حق
الوالي على الرعية، وحق الرعية على الوالي، فريضة فرضها الله سبحانه لكلٍ على
كل، فجعلها نظاماً لألفتهم، وعزاً لدينهم، فليست تصلح الرعية إلا بصلاح الولاة،
ولا تصلح الولاة إلا باستقامة الرعية، فإذا أدت الرعية إلى الوالي حقه، وأدى
الوالي إليها حقها، عزَّ الحقّ بينهم، وقامت مناهج الدين، واعتدلت معالم العدل،
وجرلص على أذلالها السنن، فصلح بذلك الزمان، وطمع في بقاء الدولة، ويئست مطامع
الأعداء. وإذا غلبت الرعية واليها، أو أجحف الوالي برعيته؛ أختلفت هنالك الكلمة،
وظهرت معالم الجور، وكثر الإدغال في الدين، وتركت محاج السُّنن، فعمل بالهوى،
وعطلت الأحكام، وكثرت علل النفوس، فلا يستوحش لعظيم حق عُطّل، ولا لعظيم باطل
فعل، فهنالك تذل الأبرار، وتعز الأشرار، وتعظم تبعات الله سبحانه عند العباد. فعليكم بالتناصح في ذلك، وحسن التعاون عليه،
فليس أحدُ وإن أشتد على رضا الله حرصه، وطال في العمل اجتهاده، ببالغٍ حقيقة ما
الله سبحانه أهله؛ من الطاعة له. ولكن من واجب حقوق الله سبحانه على عباده
النصيحة بمبلغ جهدهم، والتعاون على إقامة الحق بينهم، وليس امرؤُ وإن عظمت في
الحق منزلته، وتقدمت في الدين فضيلته، بفوقٍ أن يعان على ما حمله من حقه؛ ولا
امرؤُ وإن صغّرته النفوس، واقتحمته العيون، بدونٍ أن يعين على ذلك، أو يعان
عليه. الشرح:
تتكافأ في وجوهها: تتساوى وهي حق الوالي على
الرعية، وحق الرعية على الوالي. وفريضة، قد روي بالنصب والرفع، فمن رفع فخبر
مبتدأ محذوف، ومن نصب فبإضمار فعل، أو على الحال. وجرت على أذلالها السنن، بفتح الهمزة، أي على
مجاريها وطرقها، وأجحف الوالي برعيته: ظلمهم، والإدغال
في الدين: الفساد. ومحاج السنن: جمع محجة، وهي جادة الطريق. قوله:
"وكثرت علل النفوس"، أي تعللها بالباطل. ومن كلام الحجاج:
إياكم وعلل النفوس، فإنها أدوى لكم من علل الأجساد. واقتحمته العيون: احتقرته وازدرته، قال ابن دريد:
ومثل قوله رضي الله عنه: "ليس امرؤ وإن عظمت في الحق منزلته"، قول زيد بن علي رضي الله عنه لهشام بن عبد الملك: إنه
ليس أحدٌ وإن عظمت منزلته بفوق أن يذكر بالله، ويحذر من سطوته، وليس أحد وإن صغر
بدون أن يذكر بالله ويخوف من نقمته. وعل قوله رضي الله
عنه: "وإذا غلبت الرعية واليها" قول
الحكماء: إذا علا صوت بعض الرعية على الملك فالملك مخلوع، فإن قال: نعم،
فقال أحد من الرعية: لا، فالملك مقتول. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ما ورد من الأخبار فيما يصلح الملك
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وقد جاء في وجوب الطاعة أولي الأمر
الكثير الواسع، قال الله سبحانه: "أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر
منكم" . وروى عبد
الله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر
بمعصية، فإذا أمر بها فلا سمع ولا طاعة". وعنه صلى الله عليه وسلم: "إن أمر عليكم عبدٌ أسود مجدع فاسمعوا له وأطيعوا".
ومن كلام علي رضي الله
عنه: "إن الله جعل الطاعة غنيمة الأكياس
عند تفريط الفجرة". بعث سعد بن
أبي وقاص جرير بن عبد الله البجلي من العراق إلى عمر بن الخطاب بالمدينة، فقال
له عمر: كيف تركت الناس؟ قال: تركتهم كقداح الجعبة، منها الأعصل الطائش، ومنها
القائم الرائش. قال: فكيف سعدٌ لهم؟ قال: هو ثقافها، الذي يقيم
اودها، ويغمز عصلها . قال: فكيف
طاعتهم؛ قال: يصلون الصلاة لأوقاتها، ويؤدون الطاعة إلى ولاتها. قال: الله أكبر إذا أقيمت الصلاة، أديت الزكاة؛
وإذا كانت الطاعة، كانت الجماعة. ومن كلام ابرويز الملك: أطع من فوقك يطعك من دونك. ومن كلام الحكماء:
قلوب الرعية خزائن واليها، فما أودعه فيها وجده. وكان يقال: صنفان متباغضان متنافيان:
السلطان والرعية؛ وهما مع ذلك متلازمان، أن صلح
أحدهما صلح الآخر، وإن فسد فسد الآخر. وكان يقال: محل الملك من رعيته محل الروح من الجسد،
ومحل الرعية منه محل الجسد من الروح، فالروح تألم بألم كل عضو من أعضاء البدن،
وليس كل واحدٍ من الأعضاء يألم بألم غيره، وفساد الروح فساد جميع البدن، وقد
يفسد بعض البدن وغيره من سائر البدن صحيح. وكان يقال:
ظلم الرعية استجلاب البلية. وكان يقال:
العجب ممن استفسد رعيته، وهو يعلم أن عزه بطاعتهم. وكان يقال:
موت الملك الجائر خصب شامل. وكان يقال: لا قحط أشد من جور السلطان. وكان يقال:
قد تعامل الرعية المشمئزة بالرفق؛ فتزول أحقادها، ويذل قيادها، وقد تعامل بالخرق
فتكاشف بما غيبت، وتقدم على ما عيبت؛ حتى يعود نفاقها شقاقاً، ورذاذها سيلاً
بعاقاً . ثم إن غلبت
وقهرت فهو الدمار، وإن غلبت وقهرت لم يكن بغلبها افتخار، ولم يدرك بقهرها ثار. وكان يقال:
الرعية وإن كانت ثماراً مجتناة؛ وذخائر ممتناة، وسيوفاً منتضاة، وأحراساً
مرتضاة؛ فإن لها نفاراً كنفار الوحوش، وطغياناً كطغيان السيول؛ ومتى قدرت أن
تقول، قدرت على أن تصول. وكان يقال: أيدي الرعية تبع ألسنتها؛ فلن يملك الملك
ألسنتها حتى يملك جسومها ولن يملك جسومها حتى يملك قلوبها فتحبه، ولن تحبه حتى
يعدل عليها في أحكامه عدلاً يتساوى فيه الخاصة والعامة؛ وحتى يخفف عنها المؤن
والكلف، وحتى يعفيها من رفع أوضاعها وأراذلها عليها؛ وهذه
الثالثة تحقد على الملك العلية من الرعية، وتطمع السفلة في الرتب السنية. وصنف فيهم خير وشر ظاهران، فصلاحهم يكتسب من معاملتهم
بالترغيب والترهيب؛ وصنف من السفلة الرعاع
أتباع لكل داعٍ؛ لا يمتحنون في أقوالهم وأعمالهم بنقد، ولا يرجعون في الموالاة
إلى عقد. وكان يقال: ترك المعاقبة للسفلة على صغار الجرائم
تدعوهم إلى ارتكاب الكبائر العظائم؛ ألا ترى أول نشوز المرأة كلمة سومحت بها،
وأول حران الدابة حيدة سوعدت عليها. ويقال: إن عثمان قال يوماً لجلسائه، وهو
محصور في الفتنة: وددت أن رجلاً صدوقاً أخبرني عن نفسي
وعن هؤلاء فقام إليه فتى فقال: إني أخبرك؛
تطأطأت لهم فركبوك، وما جرأهم على ظلمك إلا إفراط حلمك. قال: صدقت، فهل
تعلم ما يشب نيران الفتن. قال: نعم، سألت عن ذلك
شيخاً من تنوخ كان باقعة، قد نقب في الأرض وعلم علماً جماً، فقال: الفتنة يثيرها أمران: أثرة تضغن على الملك
الخاصة، وحلم يجزىء عليه العامة. قال: فهل سألته
عما يخمدها؟ قال: نعم، زعم أن الذي يخمدها في
ابتدائها استقالة العثرة وتعميم الخاصة بالأثرة، فإذا استحكمت الفتنة أخمدها
الصبر. قال عثمان: صدقت؛ وإني لصابر حتى يحكم
الله بيننا وهو خير الحاكمين. ويقال: إن يزدجرد بن بهرام سأل حكيماً: ما
صلاح الملك؟ قال: الرفق بالرعية، وأخذ الحق منها بغير عنف والتودد إليها بالعدل
وأمن السبل وإنصاف المظلوم. قال: فما صلاح الملك؟
قال: وزراؤه؛ إذا صلحوا صلح. قال: فما الذي يثير الفتن؟ قال: ضغائن يظهرها جرأة
عامة، واستخفاف خاصة، وانبساط الألسن بضمائر القلوب، وإشفاق موسر، وأمن معسر،
وغفلة مرزوق، ويقظة محروم. قال: وما يسكنها؟ قال: أخذ العدة لما يخاف، وإيثار
الجد حين يلتذ الهزل، والعمل بالحزم، وادراع الصبر، والرضا بالقضاء. وكان يقال: خير الملوك من أشرب قلوب رعيته محبته، كما
أشعرها هيبته، ولن ينال ذلك منها حتى تظفر منه
بخمسة أشياء: إكرام شريفها، ورحمة ضعيفها، وإغاثة لهيفها، وكف عدوان
عدوها، وتأمين سبل رواحها وغدوها، فمتى أعدمها شيئاً من ذلك، فقد أحقدها بقدر ما
أفقدها. وكان يقال: الأسباب التي تجر الهلك إلى الملك ثلاثة: أحدها من
جهة الملك، وهو أن تتأمر شهواته على عقله، فتستهويه نشوات الشهوات فلا تسنح له
لذة إلا اقتنصها، ولا راحة إلا افترصها. والثاني من جهة الوزراء، وهو تحاسدهم المقتضي تعارض
الآراء، فلا يسبق أحدهم إلى حق إلا كويد وعورض وعوند. والثالث من جهة الجند المؤهلين لحراسة الملك والدين،
وتوهين المعاندين، وهو نكولهم عن الجلاد، وتضجيعهم في المناصحة والجهاد، وهم صنفان: صنف ولسع الملك عليهم فأبطرهم الإتراف، وضنوا
بنفوسهم عن التعريض للإتلاف، وصنف قدر عليهم الأرزاق، فاضطغنوا الأحقاد
واستشعروا النفاق. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أخبار في العدل والانصاف
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قوله رضي الله عنه:
"أو أجحف الوالي برعيته "، قد جاء من نظائره الكثير جداً، وقد ذكرنا فيما تقدم نكتاً حسنة في مدح العدل والإنصاف،
وذم الظلم والإجحاف. وقال النبي صلى
الله عليه وسلم: "زين الله السماء بثلاثة: الشمس،
والقمر، والكواكب. وزين الأرض بثلاثة:
العلماء، والمطر، والسلطان العادل". وكان يقال: إذا
لم يعمر الملك ملكه بإنصاف الرعية خرب ملكه بعصيان الرعية. وقيل لأنوشروان: أي الجنن أوقى؟ قال: الدين، قيل: فأي العدد
أقوى؟ قال: العدل. وقع جعفر بن يحيى إلى عامل من عماله: كثر
شاكوك، وقل حامدوك، فإما عدلت، وإما اعتزلت. وجد
لا خزانة بعض الأكاسرة سفط ، ففتح فوجد فيه حب الرمان، كل حبة كالنواة الكبيرة
من نوى المشمش، وفي السفط رقعة فيها: هذا حب
رمان عملنا في خراجه بالعدل. جاء رجل من مصر إلى عمر بن الخطاب متظلماً،
فقال: يا أمير المؤمنين، هذا مكان العائذ بك.
قال له: عذت بمعاذ، ما شأنك؟ قال: سابقت ولد عمرو بن العاص بمصر فسبقته، فجعل
يعنفني بسوطه، ويقول: أنا ابن الأكرمين وبلغ أباه ذلك، فحبسني خشية أن أقدم
عليك؟ فكتب إلى عمرو: إذا أتاك كتابي هذا فاشهد الموسم أنت
وابنك. فلما قدم عمرو وابنه، دفع الدرة إلى المصري،
وقال:
اضربه كما ضربك، فجعل يضربه وعمر يقول: اضرب ابن الأمير، اضرب ابن الأمير
يرددها، حتى قال: يا أمير المؤمنين قد استقدت منه ، فقال-
وأشار إلى عمرو: ضعها على صلعته، فقال
المصري: يا أمير المؤمنين، إنما أضرب من ضربني، فقال:
إنما ضربك بقوة أبيه وسلطانه، فاضربه إن شئت؟ فوالله لو فعلت لما منعك أحد منه،
حتى تكون أنت الذي تتبرع بالكف عنه ثم قال: يا بن
العاص، متى تعبدتم الناس وقد ولدتهم امهاتهم أحراراً خطب الإسكندر جنده، فقال لهم بالرومية كلاماً تفسيره: يا عباد الله، إنما
لكم الله الذي في السماء، الذي نصرنا بعد حين، الذي يسقيكم الغيث عند الحاجة،
وإليه مفزعكم عند الكرب . والله لا
يبلغني أن الله أحب شيئاً إلا أحببته وعملت به إلى يوم أجلي، ولا يبلغني أنه
أبغض شيئاً إلا أبغضته وهجرته إلى يوم أجلي. وقد انبئت أن الله يحب العدل في
عباده، ويبغض الجور، فويل للظالم من سوطي وسيفي ومن ظهر منه العدل من عمالي
فليتكىء في مجلسي كيف شاء؛ وليتمن علي ما شاء، فلن تخطئه أمنيته والله المجازي
كلاً بعمله. قال رجل لسليمان بن عبد الملك وهو جالس
للمظالم: يا أمير المؤمنين، ألم تسمع قول الله تعالى: "فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين"
قال: ما خطبك؟ قال: وكيلك اغتصبني ضيعتي وضمها إلى ضيعتك الفلانية. قال: فإن
ضيعتي لك، وضيعتك مردودة إليك. ثم كتب إلى الوكيل بذلك، وبصرفه عن عمله. ورقي إلى كسرى قباذ أن في بطانة الملك قوماً قد فسدت نياتهم،
وخبثت ضمائرهم، لأن أحكام الملك جرت على بعضهم لبعضهم، فوقع في الجواب:
أنا أملك الأجساد لا النيات، وأحكم بالعدل لا بالهوى، وأفحص عن الأعمال لا عن
السرائر. وتظلم أهل الكوفة إلى المأمون من
واليهم، فقال: ما علمت في عمالي أعدل ولا أقوم بأمر
الرعية، ولا أعود عليهم بالرفق منه. فقال له منهم
واحد: فلا أحد أولى منك يا أمير المؤمنين بالعدل والإنصاف، وإذا كان بهذه
الصفة فمن عدل أمير المؤمنين أن يوليه بلداً بلداً، حتى يلحق أهل كل بلد من
عدله، مثل ما لحقنا منه، ويأخذوا بقسطهم منه كما أخذ منه سواهم، وإذا فعل أمير
المؤمنين ذلك لم يصب الكوفة منه أكثر من ثلاث سنين. فضحك وعزله. كتب عدي بن أرطاة إلى عمر بن عبد العزيز: أما بعد، فإن
قبلنا قوماً لا يؤدون الخراج إلا أن يمسهم نصاً من العذاب، فاكتب إلى أمير المؤمنين برأيك. فكتب: أما بعد، فالعجب
لك كل العجب تكتب إلي تستأذنني في عذاب البشر، كأن إذني لك جنة من عذاب الله، أو
كأن رضاي ينجيك من سخط الله فمن أعطاك ما عليه عفواً فخذ منه، ومن أبى فاستحلفه،
وكله إلى الله، فلأن يلقوا الله بجرائمهم أحب إلي من أن ألقاه بعذابهم. فضيل بن عياض: ما ينبغي أن
تتكلم بفيك كله أتدري من كان يتكلم بفيه كله عمر بن الخطاب كان يعدل في رعيته،
ويجور على نفسه، ويطعمهم الطيب، ويأكل الغليظ، ويكسوهم اللين ويلبس الخشن،
ويعطيهم الحق ويزيدهم، السفط: ما يعبأ فيه الطيب وما أشبهه من أدوات النساء،
والسفط أيضاً: وعاء كالقفة استقدت منه: أي اصصته بما فعل بي الكرب: الثدة النصب: أشد التعب الجنة: الستر الدرة: السوط
سورة الأعراف. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن كلام له رضي الله عنه رد علي رجل أكثر الثناء
عليه
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: فأجابه عليه السلام رجل من أصحابه بكلام طويل يكثر فيه
الثناء عليه، ويذكر سمعه وطاعته له، فقال عليه السلام: إن من حق من عظم جلال الله
سبحانه في نفسه، وجل موضعه من قلبه، أن يصغر عنده لعظم ذلك كل ما سواه، وإن أحق
من كان كذلك لمن عظمت نعمة الله عليه، ولطف إحسانه إليه، فإنه لم تعظم نعمة الله
على أحد، إلا أزداد حق الله عليه عظماً. الشرح: هذا الفصل وإن لم يكن فيه ألفاظ غريبة سبيلها أن تشرح،
ففيه معان مختلفة سبيلها أن تذكر وتوضح، وتذكر نظائرها وما يناسبها. قال النبي صلى
الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه
مثقال حبة من كبر". وكان يقال:
ليس لمعجب رأي، ولا لمتكبر صديق. قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"احثوا في وجوه المداحين التراب ". وقال عمر: المدح هو
الذبح. وقال عبد الله بن المقفع في اليتيمة:
إياك إذا كنت والياً أن يكون من شأنك حب المدح والتزكية، وأن يعرف الناس ذلك منك
فتكون ثلمة من الثلم يقتحمون عليك منها، وباباً يفتتحونك منه، وغيبة يغتابونك
بها، ويسخرون منك لها. وأعلم أن
قابل المدح كمادح نفسه، وأن المرء جدير أن يكون حبه المدح هو الذي يحمله على
رده، فإن الراد له ممدوح، والقابل له معيب.
ومن
هذا المعنى قول أبي الجهم العدوي، في معاوية:
ومنها قوله رضي الله عنه: لا تظنوا بي استثقال رفع الحق إلي، فإنه من استثقل الحق أن
يقال له، كان العمل به عليه أثقل، هذا معنى لطيف، ولم أسمع فيه شيئاً منثوراً
ولا منظوماً. ليس هذا إشارة إلى خاص نفسه رضي الله عنه،
لأنه لم يكن كافراً فأسلم، ولكنه كلام يقوله ويشير به إلى القوم الذين يخاطبهم
من أفناء الناس، فيأتي بصيغة الجمع الداخلة فيها نفسه توسعاً، ويجوز أن يكون معناه: لولا ألطاف الله تعالى ببعثة
محمد صلى الله عليه وسلم لكنت أنا وغيري على أصل مذهب الأسلاف
من عبادة الأصنام، كما قال تعالى لنبيه: "ووجدك ضالاً فهدى " ليس معناه أنه كان
كافراً، بل معناه: لولا اصطفاء الله تعالى
لك لكنت كواحد من قومك. ومعنى "ووجدك ضالاً"، أي ووجدك بعرضة للضلال،
فكأنه ضال بالقوة لا بالفعل. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال يشكو فيه أمر قريش
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: اللهم إني
أستعديك على قريش ومن أعانهم، فإنهم قد قطعوا رحمي؟ وأكفئوا إنائي، وأجمعوا على
منازعتي حقاً كنت أولى به من غيري، وقالوا: ألا إن في الحق أن تأخذه، وفي الحق
أن تمنعه، فاصبر مغموماً، أو مت متأسفاً. وقال الراوندي: إنها في خط الرضي بالتاء. ومعنى ذلك
أنك إن وليت أنت كانت ولايتك حقاً، وإن ولي غيرك كانت ولايته حقاً، على مذهب أهل
الاجتهاد. ومن رواها بالنون، فالمعنى ظاهر. والذاب:
الناصر، وضننت بهم: بخلت بهم. وأغضيت على كذا: صبرت، وجرعت بالكسر. والشجا: ما
يعترض في الحلق، والوخز: الطعن الخفيف، وروي من حز الشفار والحز: القطع،
والشفار: جمع شفرة، وهي حد السيف والسكين. فيقال لهم: فلا تكرهوا قول من يقول من الشيعة وغيرهم: إن هذا
الكلام وأمثاله صدر عنه عقيب السقيفة، وحملوه على أنه تألم وتظلم من كونهم تركوا
الأولى والأفضل، فإنكم لستم تنكرون أنه كان الأفضل والأحق بالأمر، بل تعترفون
بذلك، وتقولون: ساغت إمامة غيره، وصحت لمانع كان فيه رضي الله عنه، وهو ما غلب على ظنون
العاقدين للأمر من أن العرب لا تطيعه، فإنه يخاف من فتنة عظيمة تحدث إن ولي
الخلافة لأسباب يذكرونها، ويعدونها، وقد روى كثير
من المحدثين أنه عقيب يوم السقيفة تألم وتظلم، واستنجد واستصرخ، حيث ساموه
الحضور والبيعة، وأنه قال وهو يشير إلى القبر: "يا بن أم إن القوم استضعفوني
وكادوا يقتلونني " وأنه قال: واجعفراه! ولا جعفر لي اليوم! واحمزتاه ولا
حمزة لي اليوم!. فإن قالت الإمامية: كان يخاف القتل لو ذكر ذلك، قيل لهم: فهلا يخاف القتل
وهو يعتل ويدفع ليبايع، وهو يمتنع، ويستصرخ تارة بقبر رسول الله صلى
الله عليه وسلم، وتارة بعمه حمزة وأخيه جعفر وهما
ميتان وتارة بالأنصار، وتارة ببني عبد مناف، ويجمع الجموع في داره، ويبث الرسل
والدعاة ليلاً ونهاراً إلى الناس، يذكرهم فضله وقرابته، ويقول للمهاجرين: خصمتم الأنصار بكونكم
أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا أخصمكم
بما خصمتم به الأنصار، لأن القرابة إن كانت هي المعتبرة، فأنا أقرب منكم. وإن حال المخالفين للنص لا تعدو أحد أمرين: إما الكفر أو الفسق،
فإن قرائن الأحوال وأماراتها لا تدل على ذلك،
وإنما تدل وتشهد بخلافه، وهذا يقتضي أن أمير المؤمنين
رضي الله عنه كان في مبدأ الأمريظن أن العقد
لغيره كان عن غير نظر في المصلحة، وأنه لم يقصد به إلا
صرف الأمر عنه، والاستئثار عليه، فظهر منه ما ظهر من الامتناع والقعود في بيته،
إلى أن صح عنده، وثبت في نفسه، أنهم أصابوا فيما فعلوه،، وأنهم لم يميلوا إلى هوى، ولا أرادوا الدنيا، وإنما فعلوا الأصلح في ظنونهم، لأنه رأى من بغض الناس له،
وانحرافهم عنه، وميلهم عليه، وثوران الأحقاد التي كانت في أنفسهم، واحتدام
النيران التي كانت في قلوبهم، وتذكروا الترات التي وترهم فيما قبل بها، والدماء
التي سفكها منهم، وأراقها. واستصعاب
قوم منهم شكيمته وخوفهم تعديه وشدته، وعلمهم بأنه لا يداجي ولا يحابي، ولا يراقب
ولا يجامل في الدين، وأن الخلافة تحتاج إلى من يجتهد برأيه، ويعمل بموجب
استصلاحه، وانحراف قوم آخرين عنه، للحسد الذي
كان عندهم له في حياة رسول الله صلى
الله عليه وسلم، لشدة اختصاصه له، وتعظيمه إياه، وما قال فيه فأكثر من النصوص الدالة على رفعة شأنه وعلو
مكانه، وما اختص به من مصاهرته وأخوته، ونحو ذلك من أحواله معه، وتنكر قوم آخرين
له لنسبتهم إليه العجب والتيه، كما زعموا، واحتقاره العرب، واستصغاره الناس كما
عددوه عليه، وإن كانوا عندنا كاذبين، ولكنه قول
قيل، وأمر ذكر، وحال نسبت إليه، وأعانهم عليها
ما كان يصدر عنه من أقوال توهم مثل هذا، نحو قوله: فإنا صنائع ربنا،
والناس بعد صنائع لنا، وما صح به عنده أن الأمر
لم يكن ليستقيم له يوماً واحداً، ولا ينتظم ولا يستمر، وأنه
لو ولي الأمر لفتقت العرب عليه فتقاً يكون فيه استئصال شأفة الإسلام وهدم
أركانه، فأذعن بالبيعة، وجنح إلى الطاعة وأمسك عن طلب
الإمرة، وإن كان على مضض ورمض. واعلم أن حال علي رضي الله عنه في
هذا المعنى أشهر من أن يحتاج في الدلالة عليها إلى الإسهاب
والإطناب، فقد رأيت انتقاض العرب عليه من أقطارها حين
بويع بالخلافة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه
وسلم بخمس وعشرين سنة، وفي دون هذه المدة تنسى
الأحقاد، وتموت الترات، وتبرد الأكباد الحامية، وتسلو القلوب الواجدة ، ويعدم
قرن من الناس، ويوجد قرن، ولا يبقى من أرباب تلك الشحناء والبغضاء إلا الأقل، فكانت حاله بعد هذه المدة الطويلة مع قريش كأنها حاله لو أفضت
الخلافة إليه يوم وفاة ابن عمه
صلى الله عليه وسلم، من إظهار ما في النفوس،
وهيجان ما في القلوب، حتى إن الأخلاف من قريش، والأحداث والفتيان الذين لم يشهدوا
وقائعه وفتكا ته في أسلافهم وآبائهم، فعلوا به ما لو كانت الأسلاف أحياء لقصرت
عن فعله، وتقاعست عن بلوغ شأوه، فكيف كانت
تكون حاله لو جلس على منبر الخلافة، وسيفه بعد يقطر دماً من مهج العرب، لا سيما قريش الذين بهم كان ينبغي لو دهمه خطب أن
يعتضد، وعليهم كان يجب أن يعتمد! إذن كانت تدرس أعلام الملة وتنعفي رسوم
الشريعة، وتعود الجاهلية الجهلاء على حالها، ويفسد ما
أصلحه رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاث وعشرين سنة في شهر واحد، فكان من
عناية الله تعالى بهذا الدين أن الهم الصحابة ما فعلوه،
والله متم نوره ولوكره المشركون. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لو كان جعفر وحمزة حيين لبايعا علياً رضي الله عنه
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وسألت النقيب أبا جعفر يحيى بن محمد بن أبي يزيد رحمه الله، قلت
له: أتقول: إن حمزة وجعفراً لو كانا حيين
يوم مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، أكانا يبايعانه
بالخلافة؟ فقال: نعم، كانا أسرع إلى بيعته من النار في يبس العرفج . فقلت له: أظن أن جعفراً كان يبايعه ويتابعه، وما أظن حمزة كذلك، وأراه جباراً، قوي النفس، شديد
الشكيمة، ذاهباً بنفسه، شجاعاً بهمةً، وهو العم والأعلى سناً، وآثاره في الجهاد
معروفة، وأظنه كان يطلب الخلافة لنفسه! فقال: الأمر في أخلاقه وسجاياه كما ذكرت، ولكنه كان صاحب دين
متين، وتصديق خالص لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولو عاش لرأى من أحوال
علي رضي الله عنه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يوجب أن يكسر له
نخوته، وأن يقيم له صعره، وأن يقدمه على نفسه، وأن يتوخى رضا الله ورضا رسوله
فيه، وإن كان بخلاف إيثاره. وأين هيولانية نفس حمزة، وخلوها من العلوم من نفس علي القدسية التي أدركت بالفطرة لا
بالقوة التعليمية ما لم تدركه نفوس مدققي الفلاسفة الإلهيين! لو أن حمزة حي حتى رأى من علي ما رآه غيره، لكان أتبع له من
ظله، وأطوع له من أبي ذر والمقداد! وأما قولك: هو العم
والأعلى سناً، فقد كان العباس العم والأعلى سناً، وقد عرفت ما بذله له وندبه إليه، وكان أبو سفيان
كالعم، وكان أعلى سناً، وقد عرفت ما عرضه عليه. ثم قال: ما زالت الأعمام تخدم أبناء الأخوة،
وتكون أتباعاً لهم، ألست ترى داود بن علي، وعبد الله بن علي، وصالح بن علي،
وسليمان بن علي، وعيسى بن علي، وإسماعيل بن علي، وعبد الصمد بن علي خدموا ابن أخيهم وهو عبد الله السفاح بن محمد بن علي وبايعوه
وتابعوه، وكانوا أمراء جيوشه وأنصاره وأعوانه! ألست
ترى حمزة والعباس اتبعا ابن أخيهما صلوات الله عليه، وأطاعاه ورضيا برياسته،
وصدقا دعوته! ألست تعلم أن أبا طالب! كان رئيس بني هاشم وشيخهم، والمطاع
فيهم، وكان محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم يتيمه ومكفوله، وجارياً مجرى أحد
أولاده عنده، ثم خضع له، واعترف بصدقه، ودان لأمره، حتى
مدحه بالشعر كما يمدح الأدنى الأعلى، فقال فيه:
وإن سراً اختص به محمد صلى الله عليه وسلم، حتى أقام أبا
طالب - وحاله معه حاله - مقام المادح له، لسر عظيم وخاصية شريفة، وإن في هذا
لمعتبر عبرة أن يكون هذا الإنسان الفقير الذي لا أنصار له ولا أعوان معه، ولا
يستطيع الدفاع عن نفسه، فضلاً عن أن يقهر غيره، تعمل دعوته وأقواله في الأنفس ما
تعمله الخمر في الأبدان المعتدلة المزاج، حتى تطيعه أعمامه ويعظمه مربيه وكافله،
ومن هو إلى آخر عمره القيم بنففته، وغذاء بدنه، وكسوة جسده، حتى يمدحه بالشعر كما يمدح الشعراء الملوك والرؤساء! وهذا في
باب المعجزات عند المنصف أعظم من انشقاق القمر، وانقلاب العصا، ومن إنباء
القوم بما يأكلون وما يدخرون
في بيوتهم. إن كنت قلت ذلك لأنه
أخوه، فإنه أعلى منه سناً، هوأكبرمن علي
بعشر سنين، وقد كانت له خصائص ومناقب كثيرة، وقال
فيه النبي صلى الله عليه وسلم قولا شريفاً اتفق عليه المحدثون،
قال له لما افتخر هو وعلي وزيد بن حارثة، وتحاكموا إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أشبهت خلقي وخلقي " فخجل فرحاً، ثم قال
لزيد:"أنت مولانا وصاحبناً، فخجل
أيضاً، ثم قال لعلي: "أنت
أخي وخالصتي "، قالوا: فلم يخجل،
قالوا: كأن ترادف التعظيم له وتكرره عليه لم يجعل عنده للقول ذلك الموضع، وكان
غيره إذا عظم عظم نادراً، فيحسن موقعه عنده. واختلف الناس في أي المدحتين أعظم. ثم خص الله جعفراً بأن قبضه إلى الجنة قبل ظهور
التباين، واضطراب الحبل، وكثرة الهرج، وعلى أنه لو انعقد الإجماع، وتظاهر جميع
الناس على أن القتلتين شهادة، لكانت الحال في الذي رفع
إليها جعفر أغلظ وأعظم، وذلك أنه قتل مقبلاً غير مدبر، وأما علي فإنه اغتيل اغتيالاً، وقصد من حيث لا يعلم، وشتان ما بين من فوجئ بالموت وبين من عاين مخايل الموت!
وتلقاه بالنحر والصدر، وعجل إلى الله بإلايمان والصدق! ألا تعلم أن جعفراً قطعت
يمناه، فأمسك اللواء بيسراه، وقطعت يسراه، فضم اللواء إلى حشاه، ثم قاتله ظاهر
الشرك بالله وقاتل علي ممن صلى إلى القبلة، وشهد
الشهادة، وأقدم عليه بتأويل، وقاتل جعفر كافر
بالنص الذي لا خلاف فيه! أما تعلم أن جعفراً ذو الجناحين، وذو الهجرتين إلى
الحبشة والمدينة! قال النقيب رحمه الله: اعلم - فداك شيخك - أن أبا حيان رجل ملحد زنديق، يحب التلاعب بالدين، ويخرج ما في نفسه فيعزوه إلى قوم لم يقولوه. واقسم بالله إن القاضي أبا سعد
لم يقل من هذا الكلام لفظة واحدة، ولكنها من موضوعات
أبي حيان وأكاذيبه وترهاته، كما يسند إلى
القاضي أبي حامد المروروذي كل منكر، ويروي عنه
كل فاقرة. ثم ضحك رحمة الله حتى استلقى ومد رجليه، وقال: هذا
كلام يستغنى عن الإطالة في إبطاله بإجماع المسلمين، فإنه لا خلاف بين المسلمين
في أن علياً أفضل من جعفر، وإنما سرق أبو
حيان هذا المعنى الذي أشار إليه من رسالة المنصور أبي جعفر إلى محمد بن عبد
الله، النفس الزكية، قال له: وكانت بنو أمية
يلعنون أباك في أدبار الصلوات المكتوبات، كما تلعن الكفرة، فعنفناهم وكفرناهم، وبينا فضله وأشدنا بذكره، فاتخذت ذلك
علينا حجة، وظننت أنه لما ذكرناه من فضله أنا قدمناه على حمزة والعباس وجعفر،
أولئك مضوا سالمين مسلمين منهم، وابتلى أبوك بالدماء! فقلت
له رحمه الله: وإذاً لا إجماع في المسالة؟ لأن المنصور لم يقل بتفضيله
عليهم، وأنت ادعيت الإجماع، فقال: إن
الإجماع قد سبق هذا القائل، وكل قول قد سبقه الإجماع لا يعتد به. ألست تعلم أن أصحابكم
المعتزلة على قولين: أحدهما أن
أكثر المسلمين ثواباً أبو بكر، والآخر أن أكثرهم
ثواباً علي، وأصحابنا يقولون: إن أكثر
المسلمين ثواباً علي، وكذلك الزيدية. وأما الأشعرية والكرامية وأهل الحديث، فيقولون: أكثر المسلمين ثواباً أبو بكر، فقد خلص من
مجموع هذه الأقوال أن ثواب حمزة وجعفر دون
ثواب علي رضي الله عنه، أما على قول الإمامية
والزيدية والبغداديين كافة، وكثير من البصريين من المعتزلة، فالأمر ظاهر، وأما الباقون فعندهم أن أكثر
المسلمين ثواباً أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، ولم يذهب ذاهب إلى
أن ثواب حمزة وجعفر أكثر من ثواب علي من جميع الفرق. فقد ثبت الإجماع الذي
ذكره النقيب،
إذا فسرنا الأفضلية بالأكثرية ثواباً، وهو التفسير الذي يقع الحجاج والجدال في إثباته لأحد الرجلين. وأما
إذا فسرنا الأفضلية بزيادة المناقب والخصائص وكثرة
النصوص الدالة على التعظيم، فمعلوم أن أحداً من الناس
لا يقارب علياً رضي الله عنه في ذلك، لا
جعفر، ولا حمزة ولاغيرهما.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
في ذكر السائرين إلى البصرة لحربه رضي الله عنه
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: فقدموا على
عمالي وخزان بيت مال المسلمين الذي في يدي، وعلى أهل مصر كلهم في طاعتي، وعلى
بيعتي، فشتتوا كلمتهم، وأفسدوا علي جماعتهم، ووثبوا
على شيعتي فقتلوا طائفةً منهم غدراً،
وطائفةً عضوا على أسيافهم، فضاربوا بها، حتى
لقوا الله صادقين. وروي: وطائفة عضوا على أسيافهم بالرفع، تقديره: ومنهم طائفة. قرأت في كتاب غريب الحديث
لأبي محمد عبد الله بن قتيبة في حديث حذيفة بن اليمان، أنه
ذكر خروج عائشة، فقال: تقاتل معها مضر، مضرها الله في النار
، وأزد عمان سلت الله أقدامها ، وإن قيساً لن تنفك تبغي دين الله
شراً، حتى يركبها الله بالملائكة، فلا يمنعوا ذنب تلعة . |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن كلام له رضي الله عنه
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لما مر بطلحة بن
عبيد الله وعبد الرحمن بن عتاب بن أسيد وهما قتيلان يوم الجمل الأصل: لقد أصبح أبو محمد بهذا المكان غريباً! أما والله لقد كنت أكره أن تكون قريش قتلى تحت بطون
الكواكب! أدركت وتري من بني عبد مناف، وأفلتني أعيار بني
جمح، لقد أتلعوا أعناقهم إلى أمر لم يكونوا أهله فوقصوا دونه! |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الشرح: هو عبد
الرحمن بن عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس. ليس بصحابي، ولكنه من التابعين، وأبوه عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس، من مسلمة الفتح، ولما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من
مكة إلى حنين، استعمله عليها، فلم يزل أميرها حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبقي على حاله خلافة أبي بكر الصديق، ومات هو وأبو بكر في يوم
واحد، لم يعلم أحدهما بموت الأخر، وعبد
الرحمن هذا هو الذي قال أمير المؤمنين فيه، وقد مر به قتيلاًِ يوم الجمل:
لهفي عليك يعسوب قريش! هذا فتى الفتيان، هذا
اللباب المحض من بني عبد مناف، شفيت نفسي، وقتلت معشري، إلى الله أشكو عجري وبجري! فقال له قائل: لشد ما أطريت الفتى يا أمير
المؤمنين منذ اليوم! قال: إنه قام عني ورضي الله عنه نسوة لم يقمن عنك. منها أنه قال في تفسير قوله رضي الله عنه أدركت وتري من
بني عبد مناف، قال: يعني طلحة والزبير،
كانا من بني عبد مناف، وهذا
غلط قبيح، لأن طلحة من تيم بن مرة،
والزبيرمن أسد بن عبد العزى بن قصي، وليس أحد منهما من بني
عبد مناف، وولد عبد مناف أربعة: هاشم، وعبد
شمس، ونوفل، وعبد المطلب، فكل من لم يكن من ولد هؤلاء الأربعة، فليس من ولد عبد مناف. ومنها أنه قال: وأفلتتني أغيار بني جمح، بالغين
المعجمة، قال: هو جمع غير الذي بمعنى سوى، وهذا لم يرو، ولا مثله مما يتكلم به أمير
المؤمنين لركته وبعده عن طريقته، فإنه يكون قد
عدل عن أن يقول: ولم يفلتني إلا بنو جمح، إلى
مثل هذه العبارة الركيكة المتعسفة. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
بنوجمح
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
واعلم أنه
رضي الله عنه أخرج هذا الكلام مخرج الذم لمن حضر الجمل مع عائشة زوجة النبي صلى الله عليه وسلم
من بني جمح، فقال: وأفلتتني
أعيار بني جمح، جمع عير وهو الحمار، وقد كان معها منهم يوم الجمل جماعة هربوا، ولم يقتل منهم إلا
اثنان، فممن هرب ونجا بنفسه: عبد الله الطويل بن صفوان بن أمية بن خلف بن
وهب بن حذافة بن جمح، وكان شريفاً وابن شريف، وعاش حتى
قتل مع ابن الزبيربمكة. ومنهم
أيوب بن حبيب بن علقمة بن ربيعة بن الأعور بن أهيب بن
حذافة بن جمح، عاش حتى قتل بقديد ، قتلته
الخوارج.
ووقص
الرجل، إذا اندقت عنقه، فهو موقوص، ووقصت عنق
الرجل أقصها وقصاً، أي كسرتها، ولا يجوز وقصت
العنق نفسها. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
يصف أحوال تقى عارف بالله
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: قد أحيا
عقله، وأمات نفسه، حتى دق جليله، ولطف غليظه، وبرق له لامع كثير البرق، فأبان له
الطريق، وسلك به السبيل، وتدافعته الأبواث إلى باب السلامة، ودار الإقامة، وثبتت
رجلاه بطمأنينة بدنه في قرار الأمن والراحة، بما أستعمل قلبه، وأرضى ربه. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
فصل في مجاهدة النفوس وما ورد في ذلك من الآثار
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ويقول أرباب هذه الطريقة: من لم يكن في بدايته صاحب مجاهدة لم يجد من هذه الطريقة
شمة.
وقال
أيضاً:
وجاء في الحديث أن فاطمة
جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكسرة خبز، فقال: ما هذه؟ قالت: قرص خبزته، فلم
تطب نفسي حتى أتيتك منه بهذه الكسرة، فأكلها، وقال:
"أما إنها لأول طعام دخل فم أبيك منذ ثلاث ". وكنت أشتهي في أوقات أن أتناول شبعة عدس فلم يتفق،
ثم حملت إلي وأنا بالشام غضارة فيها عدسية، فتناولت منها وخرجت، فرأيت قوارير
معلقة فيها شبه أنموذجات، فظننتها خلاً، فقال بعض
الناس: أتنظر إلى هذه وتظنها خلاً! وإنما هي خمر، وهي أنموذجات هذه
الدنان لدنان هناك فقلت: قد لزمني فرض الإنكار، فدخلت حانوت ذلك الخمار لأكسر
الدنان والجرار، فحملت إلى ابن طولون، فأمر
بضربي مائتي خشبة، وطرحي في السجن، فبقيت مدة، حتى دخل أبو
عبد الله الوباني المغربي أستاذ ذلك البلد، فعلم أني محبوس، فشفع في،
فأخرجت إليه، فلما وقع بصره علي قال: أي شيء فعلت؟
فقلت: شبعة عدس ومائتي خشبة، فقال: لقد نجوت
مجاناً.
وله
أيضاً:
ومن أمثال العامة: من لم يغل دماغه في الصيف لم تغل قدره في
الشتاء. وأيضأ فإن
كثرة المأكل تزيل الرقة، وتورث القساوة والسبعية، والقياس أيضا يقتضي ذلك، لأن كثرة المزاولات، سبب لحصول الملكات، فالنفس إذا توفرت على تدبير الغذاء
وتصريفه، كان ذلك شغلاً شاغلاً لها، وعائقاً عظيماً عن انصبابها إلى الجهة
الروحانية العالية، ولكن ينبغي أن يكون تقليل الغذاء إلى حد يوجب جوعاً قليلاً، فإن الجوع المفرط يورث ضعف الأعضاء الرئيسة واضطرابها،
واختلال قواها، وذلك يقتضي تشويش النفس واضطراب الفكر، واختلال العقل،
ولذلك تعرض الأخلاط السوداوية لمن أفرط عليه الجوع، فإذن
لا بد من إصلاح أمر الغذاء، بأن يكون قليل الكمية، كثير الكيفية، فتؤثر قلة
كميته في أنه لا يشغل النفس بتدبير الهضم عن التوجه إلى الجهة العالية
الروحانية، وتؤثر كثرة كيفيته في تدارك الخلل
الحاصل له من قلة الكمية، ويجب أن يكون الغذاء شديد الإمداد للأعضاء
الرئيسة، لأنها هي المهمة من أعضاء البدن وما دامت
باقية على كمال حالها لا يظهر كثير خلل من ضعف غيرها من الأعضاء. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
في الرياضة النفسية وأثر الجوع
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
واعلم أن الرياضة والجوع هو أمر يحتاج إليه المريد
الذي هو بعد في طريق السلوك إلى الله. أحدها: الذين مارسوا العلوم الإلهية، وأجهدوا أنفسهم
في طلبها والوصول إلى كنهها، بالنظر الدقيق، في الزمان الطويل، فهو لا يحصل لهم
شوق شديد، وميل عظيم إلى الجهة العالية الشريفة، فيحملهم حب الكمال على الرياضة. والرياضة التي تليق بكل واحد من هذه
الأقسام غير الرياضة اللائقة
بالقسم الأخر. أما الكسب فإن صاحب العلم
الأولى به في الأكثر الغزلة والانقطاع عن الخلق، لأنه قد حصلت له الهداية
والرشاد، فلا حاجة له إلى مخالطة أحد يستعين به على حصول ما هو حاصل. وأما صاحب الفطرة الأصلية من غيرعلم
فإنه لا يليق به العزلة، لأنه يحتاج إلى المعلم والمرشد، فإنه ليس يكفي الفطرة الأصلية في الوصول إلى المعالم
الإلهية والحقائق الربانية، ولا بد من موقف ومرشد في
مبدأ الحال، هذا هو القول في الكسب بالنظر إليهما. واعلم أن قوله رضي الله عنه: "وبرق له لامع كثير البرق"، هو حقيقة مذهب الحكماء، وحقيقة قول الصوفية أصحاب
الطريقة والحقيقة، وقد صرح به الرئيس أبو
علي بن سينا في كتاب "الإشارات "فقال في
ذكر السالك إلى مرتبة العرفان: ثم إنه إذا بلغت به الإرادة والرياضة حداً
ما عنت له خلسات من اطلاع نور الحق إليه لذيذة كأنها بروق تومض إليه ثم تخمد
عنه، وهي التي تسمى عندهم أوقاتاً، وكل وقت
يكتنفه وجد إليه، ووجد عليه. ثم إنه لتكثر عليه هذه الغواشي إذا أمعن في
الارتياض، ثم إنه ليتوغل في ذلك حتى يغشاه في غير الارتياض، فكلما لمح شيئاً عاج
منه إلى جانب القدس، فتذكر من أمره أمراً فغشيه غاش، فيكاد يرى الحق في كل شيء،
ولعله إلى هذا الحد تستولي عليه غواشيه، ويزول هو عن سكينته، ويتنبه جليسه
لاستنفاره عن قراره، فإذا طالت عليه الرياضة لم تستنفره غاشية، وهدي للتأنس بما
هو فيه. ثم إنه لتبلغ به الرياضة مبلغاً ينقلب له وقته سكينة فيصير المخطوب
مألوفاً، والوميض شهاباً بيناً، ويحصل له معارف مستقرة، كأنها صحبة مستمرة،
ويستمتع فيها ببهجته، فإذا انقلب عنها انقلب حيران
آسفاً.
فهو
كما تراه يذكر البروق اللامعة حسبما ذكره الحكيم، وكلاهما يتبع ألفاظ أمير
المؤمنين رضي الله عنه، لأنه حكيم الحكماء وعارف
العارفين، ومعلم الصوفية، ولولا أخلاقه وكلامه
وتعليمه للناس هذا الفن تارة بقوله، وتارة بفعله، لما اهتدى أحد من هذه
الطائفة، ولا علم كيف يورد، ولا كيف يصدر. وقال: وهي أرفع
الدرجات. قال: فالمحاضرة
حضور القلب، وقد تكون بتواتر البرهان، والإنسان بعد وراء الستر، وإن كان
حاضراً باستيلاء سلطان الذكر.
وقال الثوري:
"لا تصح للعبد المشاهدة وقد بقي له عرق قائم".
كأس
وأي كأس، تصطلمهم عنهم، وتفنيهم وتخطفهم منهم ولا تبقيهم، كأس لا تبقي ولا تذر،
تمحو بالكلية، ولا تبقي شظية من آثار البشرية، كما
قال قائلهم:
وقال القشيري أيضاً: هي ثلاث مراتب: اللوائح، ثم
اللوامع، ثم الطوالع. فاللوائح كالبروق، ما ظهرت حتى استترت، كما قال القائل:
وأنشدوا:
ثم
اللوامع، وهي أظهر من اللوائح، وليس زوالها بتلك
السرعة، فقد تبقى وقتين وثلاثة، ولكن كما قيل: العين باكية لم تشبع النظرا.
فأصحاب هذا المقام بين روح وفوح، لأنهم بين كشف وستر يلمع ثم يقطع، لا يستقر لهم نور النهار،
حتى تكر عليه عساكر الليل، فهم كما قيل:
ثم الطوالع،
وهي أبقى وقتاً، وأقوى سلطاناً، وأدوم مكثاً، وأذهب للظلمة، وأنفى للهمة.
وقال
الشاعر:
وقال
آخر:
وقال:
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن كلام له يحث فيه أصحابه على الجهاد
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
والله مستأديكم شكره، ومورثكم أمره، وممهلكم في مضمار ممدود لتتنازعوا سبقه.
فشدوا عقد المآزر، واطووا فضول الخواصر، لا تجتمع عزيمة ووليمة. ما أنقض النوم،
لعزائم اليوم! وأمحى الظلم، لتذاكير الهمم! الشرح:
مستأديكم شكره، أي طالب منكم أداء ذلك والقيام به، استأديت ديني عند فلان، أي
طلبته.
وقال
أعشى باهلة:
وقال
الشنفرى:
ثم أتى رضي الله عنه بثلاثة أمثال مخترعة له لم يسبق بها، وإن كان قد سبق بمعناها، وهي قوله:
"لا تجتمع عزيمة ووليمة". وقوله:
"ما أنقض النوم لعزائم اليوم"!. وقوله:
"وأمحى الظلم لتذاكير الهمم!". فمما
جاء للمحدثين من ذلك ما كتبه بعض الكتاب إلى ولده:
ومثله
قول آخر لولده:
وقال
آخر:
وهذا
كثيرجداً يناسب قوله: "لا تجتمع عزيمة
ووليمة".
وقوله: "وأمحى الظلم لتذاكير
الهمم "، أي الظلم
التي ينام فيها، لا كل الظلم، آلا ترى أنه إذا لم ينم في الظلمة بل كان
عنده من شدة العزم وقوة التصميم ما لا ينام معه، فإن الظلمة لا تمحو تذاكيرهممه.
والتذاكير: جمع تذكار. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال بعد تلاوته ألهاكم التكاثر، حتى زرتم
المقابر"
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: يا له مراماً
ما أبعده! وزوراً ما أغفله! وخطراً ما أفظعه! لقد استخلوا منهم أي مدكر،
وتناوشوهم من مكان بعيد، أفبمصارع آبائهم يفخرون! أم بعديد الهلكى يتكاثرون! الشرح: قد اختلف المفسرون
في تأويل هاتين الآيتين، فقال قوم: المعنى أنكم
قطعتم أيام عمركم في التكاثر بالأموال والأولاد، حتى أتاكم الموت، فكنى عن حلول الموت بهم بزيارة المقابر. قال: ما أغفلهم عما يراد منهم! لأنهم تركوا
العبادة والطاعة، وصرموا الأوقات بالمفاخرة بالموتى. الأصل: يرتجعون منهم أجساداً خوت، وحركات سكنت. ولأن
يكونوا عبراً، أحق من أن يكونوا مفتخراً، ولأن يهبطوا بهم جناب ذلة، أحجى من أن
يقوموا بهم مقام عزة. لقد نظروا إليهم بأبصار العشوة، وضربوا منهم في
غمرة جهالة. وخوت: خلت. والجناب:
الفناء. ثم قال: "لقد نظروا إليهم بأبصار العشوة"، أي لم ينظروا النظر المفضي إلى
الرؤية، لأن أبصارهم ذات عشوة، وهو مرض في العين ينقص به الأبصار، وفي عين فلان
عشاء وعشوة بمعنى، ومنه قيل لكل أمر ملتبس يركبه الراكب على غيربيان أمر عشوة،
ومنه أوطأتني عشوة، ويجوز بالضم والفتح. والضرب ههنا: استعارة، أو يكون من الضرب بمعنى
السير، كقوله تعالى: "وإذا ضربتم في
الأرض "، أي خاضوا وسبحوا من ذكرهم في غمرة جهالة، وكل هذا يرجع إلى معنى واحد، وهو تسفيه رأي المفتخرين
بالموتى، والقاطعين الوقت بالتكاثر بهم، إعراضاً عما يجب إنفاقه من العمر في
الطاعة والعبادة. فقال:
قوله: "وتستنبتون في أجسادهم "، أي تزرعون النبات في أجسادهم، وذلك
لأن أديم الأرض الظاهر إذا كان من أبدان الموتى، فالزرع لا محالة يكون نابتاً في
الأجزاء الترابية التي هي أبدان الحيوانات. وروي: "وتستثبتون "، بالثاء؟ أي وتنصبون الأشياء الثابتة كالعمد
والأساطين للأوطان في أجساد الموتى. ويجوز
أن يريد أنكم تأكلون الفواكه التي تنبت في أجزاء ترابية خالطها الصديد الجاري من
أفواههم. ويجوز
أن يريد أن كل دار عامرة قد كانت من قبل خربة، وإنما أخربها قوم بادوا وماتوا،
فإذن لا ساكن منا في عمارة إلا ويصدق عليه أنه ساكن فيما قد كان خراباً من قبل،
والذين أخربوه الآن موتى. ويجوز
أن يريد بقوله: "وتسكنون فيما خربوا"
وتسكنون في دور فارقوها وأخلوها، فأطلق على الخلو والفراغ
لفظ "الخراب " مجازاً. وحلبات الفخر:
جمع حلبة، وهي الخيل تجمع للسباق. بليت
بينهم عرا التعارف، وانقطعت منهم أسباب الإخاء؟ فكلهم وحيد وهم جميع، وبجانب
الهجر وهم أخلاء. لا
يتعارفون لليل صباحاً، ولا لنهار مساء. أي الجديدين ظعنوا فيه كان عليهم سرمداً،
شاهدوا من أخطار دارهم أفظع مما خافوا، ورأوا من آياتها أعظم مما قدروا، فكلا الغايتين
مدت لهم إلى مباءة فاتت مبالغ الخوف والرجاء. ولئن
عميت آثارهم وانقطعت أخبارهم، لقد رجعت فيهم أبصار العبر، وسمعت عنهم آذان
العقول، وتكلموا من غير جهات النطق، فقالوا: كلحت الوجوه النواضر، وخوت الأجسام
النواعم، ولبسنا أهدام البلى، وتكاءدنا ضيق المضجع، وتوارثنا الوحشة، وتهدمت
علينا الربوع الصموت، فانمحت محاسن أجسادنا، وتنكرت معارف صورنا، وطالت في مساكن
الوحشة إقامتنا، ولم نجد من كرب فرجاً، ولا من ضيق متسعاً. فبينا
هو كذلك على جناح من فراق الدنيا، وترك الأحبة، إذ عرض له عارض من غصصه، فتحيرت
نوافذ فطنته، ويبست رطوبة لسانه. ومن تأمل هذا الفصل، علم صدق معاوية في قوله فيه: "والله
ما سن الفصاحة لقريش غيره ". وينبغي لو اجتمع فصحاء العرب قاطبة في مجلس،
وتلي عليهم أن يسجدوا له كما سجد الشعراء لقول عدي
بن الرقاع:
فلما قيل لهم في ذلك، قالوا: إنا نعرف مواضع السجود في الشعر، كما
تعرفون مواضع السجود في القرآن. وكم
قد قال الواعظون والخطباء والفصحاء في هذا المعنى! وكم وقفت على ما قالوه وتكرر
وقوفي عليه! فلم أجد لشيء منه مثل تأثير هذا الكلام في نفسي، فإما أن يكون ذلك
لعقيدتي في قائله، أو كانت نية القائل صالحة، ويقينه كان ثابتاً، وإخلاصه كان
محضاً خالصاً، فكان تأثير قوله في النفوس أعظم، وسر يان موعظته في القلوب أبلغ. ولفظتا "أكلت الأرض من لحومهم وشربت من
دمائهم " مستعارتان. والفجوات:
جمع فجوة وهي الفرجة المتسعة بين الشيئين، قال
سبحانه: "وهم في فجوة منه " وقد تفاجى
الشيء، إذا صارت له فجوة. ويروى
"يحزنهم " على أن الماضي رباعي. وقال الشاعر:
وليس
المراد بقوله: "أي الجديدين ظعنوا فيه كان
عليهم سرمدا" أنهم وهم موتى يشعرون بالوقت الذي ماتوا فيه ولا
يشعرون بما يتعقبه من الأوقات، بل المراد أن
صورة ذلك الوقت لو بقيت عندهم لبقيت أبداً من غير أن يزيلها وقت آخر يطرأ عليها. ويجوز أن يفسر
على مذهب من قال ببقاء الأنفس، فيقال: إن النفس التي تفارق ليلاً تبقى
الصورة الليلية والظلمة حاصلة عندها أبداً لا تزول بطرآن نهار عليها، لأنها قد
فارقت الحواس، فلا سبيل لها إلى أن يرتسم فيها شيء من المحسوسات بعد المفارقة،
وإنما حصل ما حصل من غير زيادة عليه، وكذلك الأنفس التي تفارق نهاراً. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
بعض الأشعار والحكايات في وصف القبور والموتى
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
واعلم
أن الناس قد قالوا في حال الموتى فأكثروا، فمن ذلك قول
الرضي أبي الحسن رحمه الله تعالى:
قوله:
"بادون في صور الجميع " مأخوذ من قول أمير
المؤمنين رضي الله عنه: "فكلهم وحيد وهم
جميع ".
وقال
أبو العلاء:
وقال
أبو عارم الكلابي:
مر الإسكندر بمدينة قد ملكها سبعة أملاك من بيت واحد وبادوا،
فسأل: هل بقي من نسلهم أحد؟ قالوا: بقي واحد، وهو يلزم المقابر، فدعا به فسأله:
لم تلزم المقابر؟ قال: أردت أن أميز عظام الملوك من عظام عبيدهم، فوجدتها سواء،
قال: هل لك أن تلزمني حتى أنيلك بغيتك؟ قال: لو علمت أنك تقدر على ذلك للزمتك. قال: وما بغيتك؟ قال: حياة لا موت معها، قال: لن أقدر على
ذلك، قال: فدعني أطلبه ممن يقدر عليه. يقال: جنبت الرجل، وأجنبته، وتجنبته، وتجانبته، كله بمعنى، ورجل
أجنبي، وأجنب، وجنب، وجانب، كله بمعنى. قوله رضي الله عنه: "شاهدوا من أخطار دارهم"، المعنى أنه شاهد المتقون من آثار
الرحمة وأماراتها، وشاهد المجرمون من آثار النقمة وأماراتها عند الموت، والحصول
في القبرأعظم مما كانوا يسمعون ويظنون أيام كونهم في الدنيا. ثم قال: "فكلا الغايتين مدت لهم "، المعنى مدت الغايتان: غاية الشقي
منهم وغاية السعيد. وتقول: قد استباء
الرجل أي اتخذ مباءة، وأبات الإبل: رددتها إلى مباءتها؟ وهي معاطنها .
وروي
"لعيوا" بالتخفيف، كما تقول: "حيوا"
قالوا: ذهبت الياء الثانية لالتقاء الساكنين لأن الواو ساكنة، وضمت الياء الأولى
لأجل الواو، قال الشاعر:
قوله: "لقد رجعت فيهم" يقال: رجع البصر نفسه، ورجع زيد بصره، يتعدى ولا يتعدى،
يقول: تكلموا معنى لا صورة، فأدركت حالهم بالأبصار والأسماع العقلية لا الحسية. وكلحت
الوجوه كلوحاً وكلاحاً، وهو تكشر في عبوس، والنواضر: النواعم، والنضرة: الحسن والرونق، وخوت الأجساد النواعم:
خلت من دمها ورطوبتها وحشوتها. ويجوز أن يكون خوت أي سقطت. قال
تعالى: "فهي خاوية على عروشها" ،
والأهدام: جمع هدم، وهو الثوب البالي، قال أوس:
وتكاءدنا:
شق علينا، ومنه: عقبة كؤود. ويجوز
تكأدنا، جاءت هذه الكلمة في أخوات لها "تفعل وتفاعل" بمعنى، ومثله
تعهد الضيعة، وتعاهدها. كأنه لما مات الأب فاستوحش أهله منه، ثم مات
الابن فاستوحش منه أهله أيضاً، صار كأن الابن ورث تلك الوحشة من أبيه كما تورث
الأموال، وهذا من باب الاستعارة. وورد في الحديث
أن عمر حضر جنازة رجل، فلما دفن قال
لأصحابه: قفوا، ثم ضرب فأمعن في القبور، واستبطأه الناس جداً ثم رجع وقد
احمرت عيناه، وانتفخت أوداجه ، فقيل: أبطأت
يا أمير المؤمنين، فما الذي حبسك؟ قال: أتيت قبور الأحبة، فسلمت فلم يردوا علي
السلام، فلما ذهبت أقفي ناداني التراب، فقال: ألا تسألني يا عمر ما فعلت
باليدين؟ قلت: ما فعلت بهما؟ قال: قطعت الكفين من الرسغين، وقطعت الرسغين من
الذراعين، وقطعت الذراعين من المرفقين، وقطعت المرفقين من العضدين، وقطعت
العضدين من المنكبين، وقطعت المنكبين من الكتفين، فلما ذهبت أقفي ناداني التراب،
فقال: ألا تسألني يا عمر ما فعلت بالأبدان والرجلين؟ قلت: ما فعلت؟ قال: قطعت
الكتفين من الجنبين، وقطعت الجنبين من الصلب، وقطعت الصلب من الوركين، وقطعت
الوركين من الفخذين، وقطعت الفخذين من الركبتين، وقطعت الركبتين من الساقين،
وقطعت الساقين من القدمين، فلما ذهبت أقفي ناداني التراب، فقال: يا عمر، عليك
بأكفان لا تبلى، فقلت: وما أكفان لا تبلى؟ قال: تقوى الله، والعمل بطاعته. وهذا من الباب الذي نحن
بصدده، نسب الأقوال المذكورة إلى التراب وهو جماد، ولم يكن ذلك، ولكنه اعتبر
فانقدحت في نفسه هذه المواعظ الحكمية، فأفرغها في قالب الحكاية، ورتبها على
قانون المسألة والإجابة، وأضافها إلى جماد موات، لأنه أهز لسامعها إلى تدبرها، ولو قال: نظرت
فاعتبرت في حال الموتى فوجدت التراب قد قطع كذا من كذا لم تبلغ عظته المبلغ الذي بلغته حيث أودعها في
الصورة التي اخترعها. قوله رضي الله عنه: "فلو مثلتهم بعقلك، أوكشف عنهم محجوب
الغطاء لك" إلى آخر جواب "لو". هذا الكلام أخذه ابن
نباتة بعينه فقال:
فلو كشفتم عنهم أغطية الأجداث، بعد ليلتين أو ثلاث، لوجدتم الأحداق على الخدود
سائلة، والألوان من ضيق اللحود حائلة، وهوام الأرض في نواعم الأبدان جائلة،
والرؤوس الموسدة على الإيمان زائلة، ينكرها من كان لها عارفاً، ويفرعنها من لم
يزل لها آلفاً.
قوله: "واكتحلت أبصارهم بالتراب فخسفت"، أي غارت وذهبت في الرأس.
وذلاقة الألسن:
حدتها، ذلق اللسان والسنان يذلق ذلقاً، أي ذرب، فهو ذلق، وأذلق. وعاث:
أفسد. وقوله:
"جديد بلى"، من فن البديع، لأن الجدة ضد البلى، وقد أخذ الشاعر هذه اللفظة فقال:
وسمجها:
قبح صورتها، وقد سمج الشيء بالضم فهو سمج، بالسكون، مثل ضخم فهو ضخم، ويجوز: فهو
سمج، بالكسر، مثل خشن فهوخشن. ويقال:
رب فلان ولده يربه ربا، ورباه يربيه تربية. ويفزع إلى السلوة: يلتجىء إليها. وضناً، أي بخلاً. وغضارة العيش: نعيمه ولينه. وشححت
أيضاً بالفتح، أشح وأشح، بالضم والكسر، شحا وشحاحة. ورجل شحيح وشحاح بالفتح.
وقوم شحاح وأشحة.
وقال
أخر:
قوله:
"إذ وطىء الدهر به حسكه"، أي إذ
أوطأه الدهر حسكه. والهاء في "حسكه" ترجع إلى الدهر، عدى الفعل بحرف الجر، كما تقول: قام زيد
بعمرو، أي أقامه. والبث:
الحزن. والبث
أيضاً: الأمر الباطن الدخيل. والفترات:
أوائل المرض. وقال الراوندي في الشرح: هذا من باب: "أخطب ما
يكون الأميرقائما". وما ذكره الراوندي فاسد، فإنه ليس هذا من باب: "أخطب ما يكون
الأميرقائماً" لأن ذلك حال سد مسد خبر
المبتدأ، وليس ههنا مبتدأ. وأيضاً فليس العامل في الحال " فترات " ولا
"فتر"، بل العامل: "تولدت ". والقار: البارد. فإن قلت:
لم قال: "تسكين الحار بالقار، وتحريك البارد بالحار"؟ ولأي معنى جعل
الأول التسكين والثاني التحريك؟ قلت: لأن من
شأن الحرارة التهييج والتثوير، فاستعمل في قهرها بالبارد لفظة "التسكين
"، ومن شأن البرودة التخدير والتجميد، فاستعمل في قهرها بالحار لفظة
"التحريك ".
قوله: "على جناح من فراق الدنيا"، أي سرعان ما يفارقها، لأن من كان على
جناح طائر، فأوشك به أن يسقط! قوله: "إذ عرض له عارض " يعني الموت. ومن
غصصه: جمع غصة. وهو ما يعترض مجرى الأنفاس. ويقال: إن كل ميت من الحيوان لا يموت
إلا خنقاً، وذلك لأنه من النفس يدخل، فلا يخرج عوضه، أو يخرج فلا يدخل عوضه،
ويلزم من ذلك الإختناق، لأن الرئة لا تبقى حينئذ مروحة للقلب، وإذا لم تروحه
اختنق. "وصغير كان يرحمه"، نحو صراخ الولد على الوالد، وهو يسمع ولا قدرة له على
جوابه. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الموت وأحوال الموتى في شعر الشعراء
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومما
يناسب ما ذكر، من حال الإنسان قول الشاعر:
وقال
أبو النجم العجلي:
وقال
عمران بن حطان:
وجاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بمقبرة فنادى: يا أهل القبور الموحشة، والربوع
المعطلة، ألا أخبركم بما حدث بعدكم؟ تزوج نساؤكم، وتبوئت مساكنكم، وقسمت
أموالكم. هل
أنتم مخبرون بما عاينتم! ثم قال: ألا إنهم لو أذن
لهم في الجواب لقالوا: وجدنا خير الزاد التقوى.
ونظيرهذه
الأبيات في رويها وعروضها قول متمم بن نويرة اليربوعي:
لما فتح خالد بن الوليد عين التمر ، سأل عن الحرقة بنت النعمان
بن المنذر، فدل عليها، فأتاها- وكانت عمياء- فسألها عن حالها، فقالت: لقد طلعت علينا الشمس ما شيء يدب تحت
الخورنق آلا تحت أيدينا، ثم غربت وقد رحمنا كل من يدور به، وما بيت دخلته حبرة،
إلا دخلته عبرة، ثم قالت:
فقال
قائل ممن كان حول خالد: قاتل الله عدي بن زيد!
لكأنه ينظر إليها حين يقول:
دخل عبد الله بن العباس على عبد الملك بن مروان يوم قر ، وهوعلى
فرش يكاد يغيب فيها، فقال:
يا بن عباس، إني لأحسب اليوم بارداً! قال: أجل، وإن ابن هند عاش في مثل ما ترى،
عشرين أميراً، وعشرين خليفة، ثم هوذاك على قبره ثمامة تهتز، فيقال: إن عبد الملك أرسل إلى قبرمعاوية فوجد عليه
ثمامة نابتة.
فلم
ينتفع بنفسه أياماً.
قد
اتفق الناس على أن هذه الأبيات أحسن ما قيل من القريض في هذا المعنى، وأن
الشعراء كلهم أخذوا منها، واحتذوا في هذا المعنى حذوها.
قال
أيضاً:
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال عند تلاوته "رجال لا تلهيهم"
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
قاله عند تلاوته: "يسبح له فيها بالغدو
والأصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله" : إن الله
سبحانه وتعالى جعل الذكر جلاء للقلوب تسمع به بعد الوقرة، وتبصر به بعد العشوة،
وتنقاد به بعد المعاندة. وما برح لله- عزت آلاؤه، في البرهة بعد البرهة، وفي
أزمان الفترات- عباد ناجاهم في فكرهم، وكلمهم في ذات عقولهم، فاستصبحوا بنور
يقظة في الأسماع والأبصار والأفئدة، يذكرون بأيام الله، ويخوفون مقامه، بمنزلة
الأدلة في الفلوات. من أخذ القصد حمدوا إليه طريقه، وبشروه
بالنجاة، ومن أخذ يميناً وشمالأ ذموا إليه الطريق، وحذروه من الهلكة، وكانوا
كذلك مصابيح تلك الظلمات، وأدلة تلك الشبهات.
أي
يبكيه ضارع، ودل على "يبكيه" "ليبك". ومن
قرأ: "يسبح له فيها" بكسر الباء، ف "رجال " فاعل، وأوقع لفظ
"التجارة" في مقابلة لفظ "البيع " إما لآنه أراد بالتجارة
ههنا الشراء خاصة، أو لأنه عمم بالتجارة المشتملة على البيع والشراء، ثم خص
البيع، لأنه أدخل في باب الإلهاء، لأن البيع يحصل ربحه بيقين، وليس كذلك الشراء،
والذكر يكون تارة باللسان، وتارة بالقلب،
فالذي باللسان نحو التسبيح والتكبير
والتهليل والتحميد والدعاء، والذي بالقلب،
فهو التعظيم والتبجيل والإعتراف والطاعة. والعشوة،
بالفتح: فعلة، من العشا في العين. وآلاؤه:
نعمه. "قلت
"، وهل يجوز مثل ذلك في تعظيم الله؟ قلت:
عزت ههنا ليس بمعنى "قلت" ولكن بمعنى: "كرمت
وعظمت"، تقول منه: عززت على فلان بالفتح، أي كرمت عليه، وعظمت عنده،
وفلان عزيز علينا، أي كريم معظم. قوله: "من أخذ القصد حمدوا إليهم طريقه"، إلى ههنا: هي التي في قولهم: أحمد
الله إليك، أي منهياً ذلك إليك، أو مفضياً به إليك، ونحو ذلك، وطريقة العرب في الحذف في مثل هذا معلومة، قال سبحانه: "ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة " أي لجعلنا بدلاً منكم ملائكة. وقال الشاعر:
أي
عوضا من ماء زمزم. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
في مقامات العارفين
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وقد كنا وعدنا بذكر مقامات العارفين
فيما تقدم، وهذا موضعه، فنقول: إن
أول مقام من مقامات العارفين، وأول منزل من منازل السالكين التوبة، قال
الله تعالى: "وتوبوا
إلى الله جميعاً أيه المؤمنون لعلكم تفلحون ". ومنهم من قال:
يكفي الندم وحده، لأنه يستتبع الركنين الآخرين لاستحالة كونه نادماً على ما هو
مصر على مثله، أو ما هو عازم على الإتيان بمثله. وأول ذلك هجران إخوان السوء، فإنهم الذين يحملونه على رد هذا
القصد، وعكس هذا العزم، ويشوشون عليه صحة هذه الإرادة، ولا
يتم ذلك له إلا بالمواظبة على المشاهد والمجالس التي تزيده رغبة في
التوبة، وتوفر دواعيه إلى إتمام ما عزم عليه، مما يقوي خوفه ورجاءه، فعند ذلك
تنحل عن قلبه عقدة الإصرار على ما هو عليه من قبيح الفعال، فيقف عن تعاطي
المحظورات، ويكبح نفسه بلجام الخوف عن متابعة الشهوات، فيفارق الزلة في الحال،
ويلزم العزيمة على ألا يعود إلى مثلها في الاستقبال، فإن
مضى على موجب قصده، ونفذ على مقتضى عزمه، فهو الموفق حقاً، وإن نقض
التوبة مرة أو مرات، ثم حملته إرادته على تجديدها، فقد يكون مثل هذا كثيراً، فلا
ينبغي قطع الرجاء عن توبة أمثال هؤلاء، فإن لكل أجل كتابأ. وقد حكي عن أبي سليمان الداراني أنه
قال:
اختلفت إلى مجلس قاص، فأثر كلامه في قلبي، فلما قمت لم يبق في قلبي شيء، فعدت
تائبأ، فسمعت كلامه، فبقي من كلامه في قلبي أثر في الطريق تم زال، ثم عدت ثالثاً
فوقر كلامه في قلبي، وثبت حتى رجعت إلى منزلي، وكسرت
الأت المخالفة، ولزمت الطريق. وقال أبو علي الدقاق:
التوبة على ثلاثة أقسام. فأولها التوبة، وأوسطها
الأنابة، وآخرها الأوبة، فجعل التوبة بداية، والأوبة نهاية، والأنابة واسطة بينهما. والمعنى أن
من تاب خوفاًَ من العقاب فهو صاحب التوبة، ومن
تاب طمعا في الثواب فهو صاحب الأنابة، ومن تاب مراعاة للأمر فقط، فهو صاحب الأوبة. والأنابة صفة الأولياء،
قال سبحانه: "وجاء بقلب منيب "، والأوبة
صفة الأنبياء، قال سبحانه: "نعم العبد إنه أواب ". قال
الجنيد: فقلت له: إن
الأمر عندي ما قاله الشاب، قال: كيف؟ قلت:
لأني إذا كنت في حال الجفاء فنقلني إلى حال الصفاء، فذكر الجفاء
في حال الصفاء جفاء. فسكت السري. وكان من سنته رضي الله عنه دوام الاستغفار. وقال:
"إنه ليغان على قلبي فأستغفر الله في اليوم سبعين مرة". ويحكى أن علي بن عيسى الوزير ركب في موكب عظيم، فجعل الغرباء يقولون: من هذا؟ من هذا؟ فقالت
امرأة قائمة على السطح: إلى متى تقولون: من هذا، من هذا! هذا عبد سقط من عين
الله، فابتلاه بما ترون. فسمع علي بن عيسى كلامها، فرجع إلى منزله ولم يزل يتوصل في
الاستغفار من الوزارة حتى أعفي، وذهب إلى مكة فجاور بها. فولى ظهره قبل الشمس، وجعل القميص على ظهره حتى جف
أحد جانبيه، ثم قلبه حتى جف الجانب الأخر. وكان إذا انقضى أوان الرطب يقول: يا
أهل البصرة، هذا بطني ما نقص منه شيء، سواء عليّ أكلت من رطبكم أو لم آكل! وقال الحسن:
مثقال ذرة من الورع خير من ألف مثقال من الصوم والصلاة. وسئل أبو عثمان الحريري عن الورع فقال: كان أبو صالح بن حمدون
عند صديق له وهو في النزع،
فمات الرجل، فنفث أبو صالح في السراج فأطفأه، فقيل
له في ذلك، فقال: إلى الآن كان الدهن الذي في المسرجة له، فلما مات صار إلى الورثة. ومنها الزهد، وقد تكلموا في حقيقته، فقال سفيان الثوري: الزهد في
الدنيا قصر الأمل. وكان يقال:
من صدق في زهده أتته الدنيا وهي راغمة، ولهذا قيل:
لو سقطت قلنسوة من السماء لما وقعت إلا على رأس من لا يريدها. وكان يقال:
إن الله تعالى جعل الخير كله في بيت، وجعل مفتاحه
الزهد، وجعل الشر كله في بيت، وجعل مفتاحه حب الدنيا.
وأنشدوا:
قالوا:
وربما كان سبب الصمت والسكوت حيرة البديهة؟ فإنه إذا ورد كشف بغتة، خرست
العبارات عند ذلك، فلا بيان ولا نطق، وطمست الشواهد فلا علم ولا حس، قال الله
تعالى: "يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم
قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب "، فأما إيثار أرباب المجاهدة
الصمت فلما علموا في الكلام من الآفات، ثم ما فيه من حط النفس وإظهار صفات
المدح، والميل إلى أن يتميز من بين أشكاله بحسن النطق، وغير ذلك من ضروب آفات
الكلام. وهذا
نعت أرباب الرياضة، وهو أحد أركانهم في حكم مجاهدة النفس ومنازلتها وتهذيب
الأخلاق. وقال سهل بن عبد الله:
لا يصح لأحد الصمت حتى يلزم نفسه الخلوة، ولا يصح لأحد التوبة حتى يلزم نفسه
الصمت. وقيل: إن القلب إذا لم يكن فيه حزن خرب، كما أن الدار إذا لم يكن فيها ساكن خربت. وسمعت رابعة رجلاً يقول: واحزناه!
فقالت: قل واقلة حزناه! لو كنت محزوناً ما تهيأ لك أن تتنفس! وقال سفيان بن عيينة:
لو أن محزوناً بكى في أمة، لرحم الله تلك الأمة ببكائه. وفي التواضع: هو الاستسلام
وترك الاعتراض على الحكم. وقال محمد بن علي الترمذي: الخاشع
من خمدت نيران شهوته، وسكن دخان صدره، وأشرق نور التعظيم في قلبه. فماتت حواسه
وحي قلبه، وتطامنت جوارحه. ويطحن معها إذا أعيت. وكان لا يمنعه
الحياء أن يحمل بضاعته من السوق إلى منزل أهله، وكان يصافح الغني والفقير، ويسلم
مبتدئاً، ولا يحقر ما دعي إليه ولو إلى حشف التمر. وكان هين المؤنة، لين الخلق، كريم السجية، جميل المعاشرة، طلق
الوجه، بساماً من غير ضحك، محزوناً من غير عبوس، متواضعاً من غير ذلة، جواداً من
غير سرف، رقيق القلب، رحيماً لكل مسلم، ما تجشأ قط من شبع، ولا مد يده إلى طبع. ومضى بالقربة إلى حجرة امرأة من الأنصار، فأفرغها
في إنائها. وقال إبراهيم بن أدهم: ما سررت قط سروري في أيام ثلاثة: كنت في سفينة، وفيها رجل مضحك، كان يلعب
لأهل السفينة، فيقول: كنا نأخذ العلج من
بلاد الترك هكذا، ويأخذ بشعر رأسي فيهزني،
فسرني ذلك، لأنه لم يكن في تلك السفينة أحقر مني في
عينه. وكنت عليلاً في
مسجد، فدخل المؤذن وقال: اخرج، فلم أطق، فأخذ برجلي وجرني إلى خارج
المسجد. وكنت بالشام
وعلي فرو، فنظرت إليه فلم أميز بين الشعر وبين
القمل لكثرته. قال:
ما هي؟ قال: لو قدمتني على جميع مماليكك وخولتني بكل مالك لم أغلظ في نفسي، بل
أعلم أني عبدك فاشتراه.
ورأى رجل حكيماً يأكل ما تساقط من البقل على رأس الماء، فقال له: لو خدمت السلطان لم تحتج إلى أكل هذا
فقال: وأنت لو قنعت بهذا لم تحتج إلى خدمة
السلطان. وفي الخبر النبوي أنه صلى الله عليه وسلم قال
للأعرابي الذي ترك ناقته مهملة فندت، فلما قيل له، قال:
توكلت فتركتها، فقال صلى الله عليه وسلم: "إعقل
وتوكل ". ثم تركه ومضى. قالوا: فناهيك بشرف
خصلة تتأمر على هذه الخصال! والمعنى أن الثبات على هذه
الخصال واستدامة التخلق بها إنما يكون بالصبر، فلذلك كان أمير الجنود. وهذه إشارة إلى حال المراقبة،
لأن المراقبة علم العبد باطلاع الرب عليه، فاستدامة العبد لهذا العلم مراقبة
للحق، وهو أصل كل خير، ولا يكاد يصل إلى هذه الرتبة إلا
بعد فراغه عن المحاسبة، فإذا حاسب نفسه على ما سلف، وأصلح حاله في الوقت،
ولازم طريق الحق، وأحسن بينه وبين الله تعالى بمراعاة القلب، وحفظ مع الله
سبحانه الأنفاس، راقبه تعالى في عموم أحواله، فيعلم أنه تعالى رقيب عليه، يعلم
أحواله، ويرى أفعاله، ويسمع أقواله. ومن تغافل عن هذه الجملة، فهو بمعزل عن
بداية الوصلة، فكيف عن حقائق القربة! ويحكى أن ملكاً كان يتحظى جارية له، وكان لوزيره ميل باطن
إليها، فكان يسعى في مصالحها، ويرجح جانبها على جانب غيرها من حظايا الملك
ونسائه. فاتفق أن عرض عليها الملك حجرين من الياقوت الأحمر: أحدهما أنفس
من الآخر، بمحضر من وزيره، فتحيرت أيهما تأخذ!
فأومأ الوزير بعينه إلى الحجر الأنفس، وحانت من الملك التفاتة، فشاهد عين الوزير
وهي ماثلة إلى ذلك الجانب، فبقي الوزير بعدها أربعين
سنة لا يراه الملك قط إلا كاسراً عينه نحو الجانب الذي كان طرفه مائلاً إليه ذلك
اليوم، أي كأن ذلك خلقة. وهذا عزم قوي في المراقبة، ومثله فليكن
حال من يريد الوصول. فقال الأمير لغلمانه: إنما أختصه بإكرامي وإقبالي،
لأن لكل واحد منكم شغلاً، وشغله مراعاة لحظاتي، ومراقبة أحوالي. وقال أبو الدرداء:
ذروة الإيمان الصبر والرضا. قدم سعد بن أبي وقاص مكة بعد ما كف بصره، فانثال الناس عليه يسألونه الدعاء لهم، فقال له عبد الله بن السائب: يا عم إنك تدعو
للناس فيستجاب لك، هلا دعوت أن يرد عليك بصرك!
فقال: يا بن أخي، قضاء الله تعالى أحب إلي من بصري. وكان يقال:
إذا كان القدر حقاً كان سخطه حمقاً.
وقال
أيضاً:
وقال
أيضاً:
ومنها العبودية، وهي أمر وراء العبادة، معناها التعبد والتذلل. قالوا: العبادة
للعوام من المؤمنين، والعبودية للخواص من السالكين. وأصبح الصوفي شاكياً إلى شيخ الرباط، فجمع الصوفية وسألهم، فقال
المريد:
أنا قصصتها، قال: وكيف فعلت، ويلك ذلك! قال: أيها الشيخ، إنها كانت صنمه، وكان
يعبدها من دون الله، فأنكرت ذلك بقلبي، وأردت أن أجعله عبداً لله لا عبداً
للحية.
ومنها الإرادة،
قال تعالى: "ولا تطرد الذين يدعون ربهم
بالغداة والعشي يريدون وجهه" . وقد اختلفوا في العبارات الدالة على ماهية الإرادة في اصطلاحهم، فقال
بعضهم: الإرادة ترك ما عليه العادة، وعادة الناس في الغالب التعريج على
أوطان الغفلة، والركون إلى اتباع الشهوة، والإخلاد إلى ما دعت إليه المنية،
والمريد هو المنسلخ عن هذه الجملة.
وقيل:
من صفات المريدين التحبب إليه بالتوكل، والإخلاص في نصيحة الأمة، والأنس
بالخلوة، والصبر على مقاساة الأحكام، والإيثار لأمره، والحياء من نظره، وبذل
المجهود في محبته، والتعرض لكل سبب يوصل إليه، والقناعة بالخمول، وعدم الفرار من
القلب، إلى أن يصل إلى الرب. فقيل له:
هل في ذلك شاهد؟ فتلا قوله تعالى: "وكلاً نقص
عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك" . أرسل ذو النون المصري رجلاً إلى أبي يزيد، وقال له: إلى متى النوم والراحة! قد سارت
القافلة! فقال له أبو يزيد: قل لأخي: الرجل
من ينام الليل كله، ثم يصبح في المنزل قبل القافلة. فقال ذو النون:
هنيئا له! هذا الكلام لا تبلغه أحوالنا. وقد تكلم الحكماء في هذا المقام، فقال أبو في بن سينا في كتاب
الإشارات: أول
درجات حركات العارفين ما يسمونه هم الإرادة، وهو ما يعتري المستبصر باليقين
البرهاني، أو الساكن النفس إلى العقد الإيماني، من الرغبة في اعتلاق العروة
الوثقى، فيتحرك سره إلى القدس، لينال من روح الاتصال، فما دامت درجته هذه، فهو
مريد. فالأول
يعين عليه الزهد الحقيقي، والثاني يعين عليه
عدة أشياء: العبادة المشفوعة بالفكرة، ثم الألحان المستخدمة لقوى النفس الموقعة
لما لحن بها من الكلام موقع القبول من الأوهام، ثم نفس الكلام الواعظ من قائل
ذكي، بعبارة بليغة، ونغمة رخيمة، وسمت رشيد.
والثالث يعين عليه الفكر اللطيف، والعشق العفيف، الذي تتأمر فيه شمائل
المعشوق، دون سلطان الشهوة. وفي الحديث أنه قال لأصحابه: استحيوا من الله حق الحياء قالوا:
إنا لنستحيي ونحمد الله. قال: ليس كذلك، من استحيا من الله حق الحياء، فليحفظ
الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وليذكر الموت وطول البلى، وليترك زينة الحياة
الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء. وفي بعض الكتب القديمة: ما أنصفني عبدي! يدعوني فأستحيي أن أرده، ويعصيني
وأنا أراه، فلا يستحي مني. قال:
صرت حراً.
وسئل الجنيد
عمن لم يبق له من الدنيا إلا مقدار مص نواة! فقال:
المكاتب عبد ما بقي عليه درهم. وروى أبو الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند خالقكم،
وأرفعها في درجاتكم، وخير من إعطائكم الذهب والفضة في سبيل الله، ومن أن تلقوا
عدوكم فتضربوا أعناقهم، ويضربوا أعناقكم؟ "، قالوا: ما ذلك يا رسول الله،
قال: "ذكر الله". وسمع الشبلي وهو
ينشد:
ومنها الفتوة، قال
سبحانه مخبراً عن أصحاب الأصنام: "قالوا سمعنا
فتى يذكرهم يقال له إبراهيم" .
لأنه
كسر الأصنام، فسمي بما سمي به أبوه إبراهيم الخليل حين كسرها وجعلها جذاذاً . قالت امرأة لمالك بن دينار: يامرائي! فقال: لقد وجدت اسمي الذي أضله أهل البصرة. فقال إبراهيم:
إنك لما ضربتني سألت الله لك الجنة. قال: لم سألت
ذلك؟ قال: علمت أني أوجر على ضربك لي، فلم
أرد أن يكون نصيبي منك الخير، ونصيبك مني الشر. وقيل:
الخلق السيئ هو أن يضيق قلب الإنسان عن أن يتسع لغير ما تحبه النفس وتؤثره،
كالمكان الضيق لا يسع غير صاحبه. وقال الشاعر:
وهذا
ضد ما يذهب إليه القوم من الكتمان، وهو عذر لأصحاب السر والإعلان.
يقال: إن بعض العارفين، أوصى تلميذه بكتمان ما يطلع عليه من الحال، فلما شاهد الأمر
غلب، فكان يطلع في بئر في موضع خال، فيحدثها بما يشاهد، فنبتت في تلك البئر شجرة
سمع منها صوت يحكي كلام ذلك التلميذ، كما يحكي الصدا كلام المتكلم، فأسقط بذلك
من ديوان الأولياء وأنشدوا:
وقال
الحسين بن منصور الحلاج:
ومنها الجود والسخاء والإيثار، قال الله تعالى: "ويؤثرون
على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة" وقال النبي
صلى الله عليه وسلم: السخي قريب من الله، قريب من الناس، والبخيل بعيد من
الله بعيد من الناس. وإن الجاهل السخي أحب إلى الله من العابد البخيل. فسئل عن ذلك،
فقال إنهم إنما يعينون من نزل علينا، لا من ارتحل عنا. وقيل:
الغيرة الأنفة والحمية.
وفي معناه قالوا: سقيم لا يعاد، ومريد لا يراد.
وقيل لبعضهم:
أتريد أن تراه؟ قال: لا، قيل: لم؟ قال أنزه ذلك الجمال عن نظر مثلي. وفي معناه
أنشدوا:
وسئل الشبلي: متى تستريح؟ قال: إذا لم أر له ذاكراً. وقال أبو علي الدقاق في قول النبي صلى الله عليه وسلم عند مبايعته فرساً من أعرابي وأنه
استقاله فأقاله ، فقال الأعرابي: عمرك الله،
فمن أنت؟ قال صلى الله عليه وسلم: أنا امرؤ من قريش، فقال بعض الصحابة من الحاضرين للأعرابي: كفاك جفاء
ألا تعرف نبيك! فكان أبو علي يقول: إنما
قال: امرؤ من قريش غيرة ونوعاً من الأنفة، وإلا فقد
كان الواجب عليه أن يتعرف لكل أحد أنه من هو، لكن الله سبحانه أجرى على لسان ذلك الصحابي التعريف للأعرابي بقوله:
كفاك جفاء ألا تعرف نبيك!.
وأنشدوا
في هذا المعنى:
ومنها الولاية والمعرفة، وقد تقدم القول فيهما. وقيل: الدعاء سلم المذنبين، وقال من قال بنقيض هذا: الدعاء مراسلة، وما دامت
المراسلة باقية فالأمر جميل بعد. وكان أبو علي الدقاق
يقول: إذا بكى المذنب فقد راسل الله، وفي
معناه أنشدوا:
وقال بعضهم لبعض العارفين: ادع لي، فقال: كفاك من الإجابة ألا
تجعل بينك وبينه واسطة.
وحقيقة
التأسي تهوين المصائب والنوائب على النفس بالنظر إلى ما أصاب أمثالك، ومن هو
أرفع محلاً منك. وقد فسر العلماء قوله تعالى: "ولن ينفعكم اليوم إذ
ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون" ، قال: إنه لا يهون على أحد من أهل
النار عذابه، وإن تأسى بغيره من المعذبين، لأن الله تعالى جعل لهم التأسي نافعاً في
الدنيا، ولم يجعله نافعاً لأهل النار مبالغة في تعذيبهم، ونفياً لراحة تصل
إليهم. وقال الثوري: من لم يتأدب للوقت، فوقته مقت. قال: لم يقل:
فارحمني لأنه حفظ آداب الخطاب، وكذلك قال في قول عيسى: "إن كنت
قلته فقد علمته ، قال: لم يقل: لم أقل رعاية لأدب الحضرة.
وجاء في الحديث المرفوع: المرء مع من أحب، ولما سمع
سمنون هذا الخبر، قال: فاز المحبون بشرف الدنيا
والآخرة، لأنهم مع الله تعالى. قيل:
كتب يحيى بن معاذ إلى أبي يزيد: سكرت من كثرة ما
شربت من محبته، فكتب إليه أبو يزيد: غيرك شرب
بحور السموات والأرض، وما روي بعد، ولسانه خارج، وهو
يقول: هل من مزيد وأنشد:
وقيل: المحبة
سكر لا يصحو صاحبه إلا بمشاهدة محبوبه، ثم السكر الذي يحصل عند المشاهدة لا
يوصف، وأنشدوا:
ومنها الشوق،
جاء في الخبر المرفوع: إن الجنة لتشتاق إلى ثلاثة:
علي، وسلمان، وعمار. سئل ابن عطاء: الشوق أعلى أم المحبة؟ فقال: المحبة، لأن الشوق منها
يتولد. وأسألك النظر إلى وجهك،
والشوق إلى لقائك، من غير ضراء مضرة. اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال عند تلاوته "يا أيها الإنسان ما غرك بربك
الكريم"
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: أدحض مسئول
حجة، وأقطع مغتّر معذرة. لقد أبرح
جهالة بنفسه. يا أيها الإنسان، ما جرأك على ذنبك، وما غرك بربك، وما أنسك بهلكة
نفسك! أما من دائك بلول، أم ليس من نومك يقظة! أما ترحم من نفسك ما ترحم من
غيرك! فلربما ترى الضاحي من حر الشمس فتظله، أو ترى المبتلى بألم يمض جسده فتبكي
رحمة له! فما
صبرك على دائك، وجلدك على مصابك، وعزاك عن البكاء على نفسك، وهي أعز الأنفس
عليك، وكيف لا يوقظك خوف بيات نقمة، وقد تورطت بمعاصيه مدارج سطواته! فتداو من
داء الفترة في قلبك بعزيمة، ومن كرى الغفلة في ناظرك بيقظة، وكن لله مطيعاً،
وبذكره آنساً، وتمثل في حال توليك عنه، إقباله عليك، يدعوك إلى عفوه، ويتغمدك
بفضله، وأنت متول عنه إلى غيره. والمعنى:
ما غرك برب هذه صفته، وهذا شأنه، وهو قادر على أن يجعلك في أي صورة شاء! فما
الذي يؤمنك من أن يمسخك في صورة القردة والخنازير ونحوها من الحيوانات العجم. ومعنى الكريم
ههنا: الفياض على المواد بالصور، ومن هذه صفته ينبغي أن يخاف منه تبديل
الصورة.
والضاحي لحر الشمس: البارز. وهذا داء ممض، أي مؤلم، أمضني الجرح إمضاضاً، ويجوز مضني، وروي: وجلدك على مصائبك، بصيغة الجمع. قوله:
مطرف عين بفتح الراء، أي زمان طرف العين، وطرفها: إطباق أحد جفنيها على الآخر،
وانتصاب مطرف ههنا على الظرفية، كقولك: وردت
مقدم الحاج أي وقت قدومهم. وروي:
كاشفتك الغطاء، وآذنتك، أي أعلمتك. وهذا مثل قوله تعالى:
"لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب" ، ورواها قوم فلم يجز،
مضارع جاز يجوز، أي لم يسغ ولم يرخص ذلك اليوم لأحد من المكلفين في حركة من
الحركات المحقرات المستصغرات، إلا إذا كانت قد فعلها بحق، وعلى هذا يجوز فعل
مثلها. ورواها قوم: فلم يجر من جار، أي عدل
عن الطريق، أي لم يذهب عنه سبحانه، ولم يضل ولم يشذ عن حسابه شيء من أمر محقرات
الأمور إلا بحقه، أي إلا ما لا فائدة في إثباته والمحاسبة عليه، نحو الحركات
المباحة والعبثية التي لا تدخل تحت التكليف.
والتشمير: الجد
والانكماش في الأمر، ومعاني الفصل ظاهرة، وألفاظه الفصيحة تعطيها وتدل عليها بما لو أراد المفسر أن يعبر عنه بعبارة
غير عبارته صلى الله عليه وسلم لكان
لفظه رضي الله عنه أولى أن يكون تفسيراً لكلام ذلك المفسر. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال في التبرؤ من الظلم
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: والله لأن
أبيت على حسك السعدان مسهداً، أو أجر في الأغلال مصفداً، أحب إلي من أن ألقى
الله ورسوله يوم القيامة ظالماً لبعض العباد، وغاضباً لشيء من الحطام، وكيف أظلم
أحداً لنفس يسرع إلى البلى قفولها، ويطول في الثرى حلولها! والله لقد رأيت عقيلاً وقد أملق حتى استماحيني
من بركم صاعاً، ورأيت صبيانه شعث الشعور، غبر الألوان من فقرهم، كأنما سودت
وجوههم بالعظلم، وعاودني مؤكداً، وكرر علي القول مردداً،
فأصغيت إليه سمعي، فظن أني أبيعه ديني، وأتبع قياده مفارقاً طريقتي، فأحميت له
حديدة، ثم أدنيتها من جسمه ليعتبر بها، فضج ضجيج ذي دنف من ألمها، وكاد أن يحترق
من ميسمها، فقلت له: ثكلتك الثواكل يا عقيل! أتئن من حديدة أحماها إنسانها للعبه، وتجرني إلى
نار سجرها جبارها لغضبه! أتئن من الأذى ولا أئن من لظى! وأعجب من ذلك طارق طرقنا
بملفوفة في وعائها، ومعجونة شنئتها، كأنما عجنت بريق حية أو قيئها، فقلت: أصلة
أم زكاة أم صدقة؟ فذلك محرم علينا أهل البيت! فقال: لا ذا ولا ذاك، ولكنها هدية.
فقلت: هبلتك الهبول!
أعن دين الله أتيتني لتخدعني! أمختبط أم ذو جنة أم تهجر! والله لو أعطيت
الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها، على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما
فعلته، وإن دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها. والصواع لغة في الصاع، ويقال:
هو إناء يشرب فيه. وسجرها، بالتخفيف: أوقدها وأحماها، والسجور ما يسجر
به التنور. وكان صلى الله عليه
وسلم
من
لطافة الأخلاق وسجاحة الشيم على قاعدة عجيبة جميلة، ولكنه كان ينفر عن قوم كان
يعلم من حالهم الشنآن له، وعمن يحاول أن يصانعه بذلك عن مال المسلمين، وهيهات
حتى يلين لضرس الماضغ الحجر! وقال: بملفوفة في وعائها، لأنه كان
طبق مغطى. والذي يهجر هو الذي يهذي في مرض ليس بصرع كالمحموم
والمبرسم ونحوهما. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
حياة عقيل بن أبي طالب عليه السلام
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وعقيل، هو عقيل بن أبي طالب رضي الله عنه بن
عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، أخو أمير المؤمنين رضي الله عنه لأمه
وأبيه، وكان بنو أبي طالب أربعة: طالب، وهو أسن من عقيل بعشر سنين، وعقيل وهو أسن من جعفر بعشر سنين، وجعفر وهو أسن من علي بعشر سنين، وعلي وهو أصغرهم سناً، وأعظمهم قدراً، بل وأعظم الناس
بعد ابن عمه قدراً. كان يقال:
إن في قريش أربعة يتحاكم إليهم في علم النسب وأيام قريش، ويرجع إلى قولهم: عقيل بن أبي طالب، ومخرمة بن
نوفل الزهري، وأبو الجهم بن حذيفة العدوي، وحويط بن عبد العزى العامري. فقال عقيل: أخي خير لي في ديني، وأنت خير لي في
دنياي، وقد آثرت دنياي، أسأل الله خاتمة خير. وروى المدائني، قال: قال
معاوية يوماً لعقيل بن أبي طالب: هل من حاجة فأقضيها لك؟ قال: نعم جارية عرضت
علي وأبى أصحابها أن يبيعوها إلا بأربعين ألفاً، فأحب معاوية أن يمازحه
فقال: وما تصنع بجارية قيمتها أربعون ألفاً وأنت أعمى
تجتزئ بجارية قيمتها خمسون درهماً! قال: أرجو أن أطأها فتلد لي غلاماً إذا
أغضبته يضرب عنقك بالسيف. فضحك معاوية: وقال: مازحناك يا أبا يزيد! وأمر فابتيعت له الجارية التي أولد
منها مسلماً، فلما أتت على مسلم ثماني عشرة سنة وقد
مات عقيل أبوه قال لمعاوية: يا أمير المؤمنين، إن
لي أرضاً بمكان كذا من المدينة، وإني أعطيت بها مائة ألف، وقد أحببت أن أبيعك
إياها، فأدفع إلي ثمنها، فأمر معاوية بقبض الأرض، ودفع الثمن إليه. فقال الحسين رضي الله عنه :
أبيتم يا آل أبي سفيان إلا كرماً! وقال معاوية لعقيل:
يا أبا يزيد، أين يكون عمك أبو لهب اليوم؟ قال: إذا
دخلت جهنم، فاطلبه تجده مضاجعاً لعمتك أم جميل بنت حرب بن أمية. ثم دفع إلى قنبر درهماً كان مصروراً في ردائه،
وقال: اشتر به خير عسل تقدر عليه. قال: نعم، أقويت وأصابتني مخمصة شديدة، فسألته فلم
تند صفاته، فجمعت صبياني وجئته بهم، والبؤس والضر ظاهران عليهم، فقال: ائتني
عشية لأدفع إليك شيئاً، فجئته يقودني أحد ولدي، فأمره بالتنحي، ثم قال: ألا فدونك،
فأهويت حريصاً قد غلبني الجشع، أظنها صرة فوضعت يدي على حديدة تلتهب ناراً، فلما
قبضتها نبذتها، وخرت كما يخور الثور تحت يد جازره، فقال
لي: ثكلتك أمك! هذا من حديدة أوقدت لها نار الدنيا، فكيف بك وبي غداً إن
سلكنا في سلاسل جهنم! ثم قرأ: "إذ
الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون" . فجعل معاوية يتعجب، ويقول: هيهات هيهات!
عقمت النساء أن يلدن مثله! |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن دعاء له عليه السلام كان يدعو به
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: اللهم صن
وجهي باليسار، ولا تبذل جاهي بالإقتار، فأسترزق طالبي رزقك، أستعطف شرار خلقك،
وأبتلى بحمد من أعطاني، وأفتتن بذم من منعني، وأنت من وراء ذلك كله ولي الإعطاء
والمنع، "إنك على كل شيء قدير". |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال في التنفير من الدنيا
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: دار بالبلاء
محفوفة، وبالغدر معروفة. لا تدوم
أحوالها، ولا يسلم نزالها. أحوال
مختلفة، وتارات متصرفة، العيش فيها مذموم، والأمان منها معدوم، وإنما أهلها فيها
أغراض مستهدفة، ترميهم بسهامها، وتفنيهم بحمامها. والقصور المشيدة.
العالية، ومن روى: المشيدة بالتخفيف وكسر
الشين، فمعناه المعمولة بالشيد، وهو الجص، والنمارق: الوسائد، والقبور
الملحدة: ذوات اللحود، وروي:
والأحجار المسندة بالتشديد. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ذم الدنيا في شعر بعض الشعراء
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن كلام بعض البلغاء في ذم الدنيا: أما بعد، فإن الدنيا قد عاتبت نفسها
بما أبدت من تصرفها، وأنبأت عن مساوئها بما أظهرت عن مصارع أهلها، ودلت على
عوراتها بتغير حالاتها، ونطقت ألسنة العبر فيها بزوالها، وشهد اختلاف شؤونها على
فنائها، ولم يبق لمرتاب فيها ريب، ولا ناظر في عواقبها شك، بل عرفها جل من عرفها
معرفة يقين، وكشفوها أوضح تكشيف، ثم اختلجتهم الأهواء عن منافع العلم، ودلتهم
الآمال بغرور، فلججت بهم في غمرات العجز، فسبحوا في بحورها موقنين بالهلكة،
ورتعوا في عراصها عارفين بالخدعة، فكان يقينهم شكاً، وعلمهم جهلاً، لا بالعلم
انتفعوا، ولا بما عاينوا اعتبروا. قلوبهم
عالمة جاهلة، وأبدانهم شاهدة غائبة، حتى طرقتهم المنية، فأعجلتهم عن الأمنية،
فبغتتهم القيامة، وأورثتهم الندامة، وكذلك الهوى حلت مذاقته، وسمت عاقبته،
والأمل ينسي طويلاً، ويأخذ وشيكاً، فانتفع امرؤ بعلمه، وجاهد هواه أن يضله،
وجانب أمله أن يغره، وقوي يقينه على العمل، ونفى عنه الشك بقطع الأمل، فإن الهوى
والأمل إذا استضعفا اليقين صرعاه، وإذا تعاونا على ذي غفلة خدعاه، فصريعهما لا
ينهض سالماً، وخديعهما لا يزال نادماً، والقوي من قوي عليهما، والحازم من احترس
منهما. ألبسنا الله وإياكم جنة السلامة، ووقانا وإياكم سوء العذاب! كان عمر بن عبد
العزيز إذا جلس للقضاء قرأ: "أفرأيت إن
متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون، ما أغني عنهم ما كانوا يمتعون" . قال إسماعيل بن
زياد أبو يعقوب: قدم علينا بعبادان راهب من الشام، ونزل دير ابن أبي كبشة،
فذكروا حكمة كلامه، فحملني ذلك على لقائه، فأتيته وهو يقول: إن لله
عباداً سمت بهم هممهم فهووا عظيم الذخائر، فالتمسوا من فضل سيدهم توفيقاً يبلغهم
سمو الهمم فإن استطعتم أيها المرتحلون عن قريب أن تأخذوا ببعض أمرهم، فإنهم قوم
قد ملكت الآخرة قلوبهم، فلم تجد الدنيا فيها ملبساً، فالحزن بثهم، والدمع
راحتهم، والدؤوب وسيلتهم، وحسن الظن قربانهم، يحزنون بطول المكث في الدنيا إذا
فرح أهلها، فهم فيها مسجونون، وإلى الآخرة منطلقون. فما سمعت موعظة
كانت أنفع لي منها.
ومن جيد شعر الرضي أبي الحسن رحمه الله في ذكر الدنيا وتقلبها
بأهلها:
وقال أيضاً،
وهي من محاسن شعره:
وأيضاً من
هذه القصيدة:
وهذا شعر فصيح نادر معرق في العربية.
وهذا
من حر الكلام وفصيحه ونادره، ولا عجب فهذه الورقة من تلك الشجرة، وهذا القبس من
تلك النار! ومن دعاء له عليه السلام يطلب فيه الرشاد الأصل: اللهم إنك آنس الآنسين لأوليائك،
وأحضرهم بالكفاية للمتوكلين عليك، تشاهدهم في سرائرهم، وتطلع عليهم في ضمائرهم،
وتعلم مبلغ بصائرهم، فأسرارهم لك مكشوفة، وقلوبهم إليك ملهوفة، إن أوحشتهم
الغربة، أنسهم ذكرك، وإن صبت عليهم المصائب لجأوا إلى الاستجارة بك، علماً بأن
أزمة الأمور بيدك، ومصادرها عن قضائك.
وقد
فههت يا رجل فههاً، أي عييت، ويقال سفيه فهيه، وفههه الله، وخرجت لحاجة فأفهني
عنها فلان، أي أنسانيها. ومثل قوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم
احملني على عفوك، ولا تحملني على عدلك" قول
المروانية للهاشمية لما قتل مروان في خبر قد اقتصصناه قديماً: ليسعنا
عدلكم، قالت الهاشمية: إذن لا نبقي منكم أحداً،
لأنكم حاربتم علياً رضي الله عنه،
وسممتم الحسن رضي الله عنه قتلتم
الحسين وزيداً وابنه، وضربتم علي بن عبد الله، وخنقتم إبراهيم الإمام في جراب
النورة، قالت: قد يسعنا عفوكم، قالت: أما
هذا فنعم. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أدعية أبي حيان التوحيدي
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن الدعوات الفصيحة المستحسنة فصول
من كلام أبي حيان التوحيدي نقلتها. اللهم فارحمنا، وارأف بنا، واعطف علينا، وأحسن
إلينا، وتجاوز عنا، واقبل الميسور منا، فإننا أهل عقوبة، وأنت أهل مغفرة، وأنت
بما وصفت به نفسك أحق منا بما وسمنا به أنفسنا، فإن في ذلك ما اقترن بكرمك، وأدى
إلى عفوك. ومن قبل ذلك وبعده، فأطب عيشنا بنعمتك، وأرح أرواحنا من كد الأمل في
خلقك، وخذ بأزمتنا إلى بابك، وأله قلوبنا عن هذه الدار الفانية، وازرع فيها محبة
الدار الباقية، وقلبنا على بساط لطفك، وحثنا بالإحسان إلى كنفك، ورفهنا عن
التماس ما عند غيرك، واغضض عيوننا عن ملاحظة ما حجب من غيرك، وصل بيننا وبين
الرضا عنك، وارفع عنا مؤنة العرض عليك، وخفف علينا كل ما أوصلنا إليك، وأذقنا
حلاوة قربك، واكشف عن سرائرنا سواتر حجبك، ووكل بنا الحفظة، وارزقنا اليقظة، حتى
لا نقترف سيئة، ولا نفارق حسنة، إنك قائم على كل نفس بما كسبت، وأنت بما نخفي
وما نعلن خبير بصير. ألبسني في هذه الحياة البائدة ثوب العصمة، وحلني في
تلك الدار الباقية بزينة الأمن، وافطم نفسي عن طلب العاجلة الزائدة، وأجرني على
العادة الفاضلة، ولا تجعلني ممن سها عن باطن ما لك عليه، بظاهر ما لك عنده،
فالشقي من لم تأخذ بيده، ولم تؤمنه من غده، والسعيد من آويته إلى كنف نعمتك،
ونقلته حميداً إلى منازل رحمتك، غير مناقش في الحساب، ولا سائق له إلى العذاب،
فإنك على ذلك قدير. اللهم احجر بيننا وبين كل ما دل على غيرك ببيانك،
ودعا إلى سواك ببرهانك، وانقلنا عن مواطن العجز، مرتقياً بنا إلى شرفات العز،
فقد استحوذ الشيطان، وخبثت النفس، وساءت العادة، وكثر الصادون عنك، وقل الداعون
إليك، وذهب المراعون لأمرك، وفقد الواقفون عند حدودك، وخلت ديار الحق من سكانها،
وبيع دينك بيع الخلق، واستهزئ بناشر مجدك، واقي المتوسل بك. ومنها: اللهم إن
الرغبات بك منوطة، والوسائل إليك متداركة، والحاجات ببابك مرفوعة، والثقة بك
مستحصفة أي مستحكمة، والأخبار بجودك شائعة، والآمال نحوك نازعة، والأماني وراءك
منقطعة، والثناء عليك متصل، ووصفك بالكرم معروف، والخلائق إلى لطفك محتاجة،
والرجاء فيك قوي، والظنون بك جميلة، والأعناق لعزك خاضعة، والنفوس إلى مواصلتك
مشتاقة، والأرواح لعظمتك مبهوتة، لأنك الإله العظيم، والرب الرحيم، والجواد
الكريم، والسميع العليم، تملك العالم كله، وما بعده وما قبله، ولك فيه تصاريف
القدرة، وخفيات الحكمة، ونوافذ الإرادة، ولك فيه ما لا ندريه مما تخفيه ولا
تبديه، جللت عن الإجلال، وعظمت عن التعظيم، وقد أزف ورودنا عليك، ووقوفنا بين
يديك، وظننا ما قد علمت، ورجاؤنا ما قد عرفت، فكن عند ظننا بك، وحقق رجاءنا فيك،
فما خالفناك جرأة عليك، ولا عصيناك تقحماً في سخطك، ولا اتبعنا هوانا استهزاء
بأمرك ونهيك، ولكن غلبت علينا جواذب الطينة التي عجنتنا بها، وبذور الفطرة التي
أنبتنا منها، فاسترخت قيودنا عن ضبط أنفسنا، وعزبت ألبابنا عن تحصيل حظوظنا،
ولسنا ندعي حجة، ولكن نسألك رأفة، فبسترك السابغ الذيال، وفضلك الذي يستوعب كل
مقال، إلا تممت ما سلف منك إلينا، وعطفت بجودك الفياض علينا، وجذبت بأضباعنا ،
وأقررت عيوننا، وحققت آمالنا، أنت أهل ذلك، وأنت على كل شيء قدير. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الفهرس ج الجزء الحادي عشر باب المختار
من الخطب والأوامر - ابن ابي الحديد. 4 بسم
الله الرحمن الرحيم الحمد لله الواحد العدل. 4 ومن كلام له في صفة الدنيا والآخرة 4 ومن كلام له (ع) كلم به طلحة والزبير
بعد بيعته بالخلافة وقد عتبا عليه من ترك مشورتهما و5 طلحة والزبير وبعض من أخبارهما 6 ومن كلام له وقد سمع قوماً من أصحابه
يسبون أهل الشام أيام حربهم بصفين.. 11 ومن كلام له في بعض أيام صفين وقد
رأى الحسن ابنه عليه السلام يتسرع إلى الحرب. 12 قال لما اضطرب عليه أصحابه في أمر
الحكومة. 13 قال وقد سأله سائل عن أحاديث البدع
وعما في أيدي الناس من اختلاف الخبر فقال عليه السلام17 النفاق لم يمت بموت الرسول عليه
السلام 18 آل البيت عليهم السلام وبعض ما نالهم
من الأذى. 19 أفصل فيما وضع الشيعة والبكرية من
الأحاديث.. 21 ومن خطبة له في عجيب صنعة الكون. 22 في استنهاض أصحابه إلى الجهاد 26 كلام الجاحظ حول المطاعن في النسب.. 28 كلام حول العارفين والأولياء 30 ومن دعاء له عليه السلام كان يدعو
به كثيراً 35 ومن خطبة له عليه السلام خطبها بصفين.. 37 ما ورد من الأخبار فيما يصلح الملك.. 39 ومن كلام له رضي الله عنه رد علي
رجل أكثر الثناء عليه. 42 لو كان جعفر وحمزة حيين لبايعا علياً
رضي الله عنه. 48 في ذكر السائرين إلى البصرة لحربه
رضي الله عنه. 50 عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد. 51 فصل في مجاهدة النفوس وما ورد في
ذلك من الآثار. 53 في الرياضة النفسية وأثر الجوع. 55 ومن كلام له يحث فيه أصحابه على
الجهاد 59 قال بعد تلاوته ألهاكم التكاثر،
حتى زرتم المقابر" 60 بعض الأشعار والحكايات في وصف القبور
والموتى. 65 الموت وأحوال الموتى في شعر الشعراء 71 قال عند تلاوته "رجال لا تلهيهم" 75 قال عند تلاوته "يا أيها الإنسان
ما غرك بربك الكريم" 101 حياة عقيل بن أبي طالب عليه السلام 106 ومن دعاء له عليه السلام كان يدعو
به. 108 ذم الدنيا في شعر بعض الشعراء 109 |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الجزء الحادي عشر باب
المختار من الخطب والأوامر - ابن ابي الحديد
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن كلام له في صفة الدنيا والآخرة
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: أيها الناس،
إنما الدنيا دار مجازٍ، والآخرة دار قرارٍ، فخذوا من ممركم لمقركم؛ ولا تهتكوا
أستاركم، عند من يعلم أسراركم، وأخرجوا من الدنيا قلوبكم من قبل أن تخرج منها
أبدانكم، ففيها أختبرتم، ولغيرها خلقتم، إن المرء إذا هلك قال الناس: ما ترك،
وقالت الملائكة: ما قدم، لله أباؤكم، فقدموا بعضاً يكن لكم، ولا تخلفوا كلا
فيكون فرضاً عليكم. الشرح: ذكر أبو العباس محمد بن يزيد
المبرد في "الكامل " عن الأصمعي، قال: خطبنا أعرابي بالبادية، فحمد الله واستغفره، ووحده
وصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم؛ فأبلغ في
إيجاز، ثم قال: أيها الناس، إن الدنيا دار بلاع،
والآخرة دار قرار، فخذوا لمقركم من ممركم، ولا تهتكوا أستاركم، عند من لا تخفى
عليه أسراركم. في الدنيا
أنتم، ولغيرها خلقتم. أقول قولي
هذا وأستغفر الله لي ولكم، والمصلى عليه رسول الله، والمدعو له الخليفة ،
والأمير جعفر بن سليمان. وذكر غيره الزيادة التي في كلام أمير المؤمنين رضي الله عنه،
وهي: "إن المرء إذا هلك"، إلى آخر الكلام، وأكثر الناس على أن
هذا الكلام لأمير المؤمنين رضي الله عنه، ويجوز أن يكون الأعرابي حفظه فأورده
كما يورد الناس كلام غيرهم. قوله رضي الله عنه: "دار مجاز"، أي يجاز
فيها إلى الآخرة، ومنه سمي المجاز في الكلام مجازاً، لأن المتكلم قد عبر الحقيقة
إلى غيرها، كما يعبر الإنسان من موضع إلى موضع، ودار
القرار: دار الاستقرار الذي لا آخر له، فخذوا من ممركم، أي من الدنيا.
لمقركم؟ وهو الآخرة. قوله رضي الله عنه: "قال الناس: ما ترك"،
يريد أن بني آدم مشغولون بالعاجلة، لا يفكرون في غيرها، ولا يتساءلون الا عنها،
فإذا هلك أحدكم، فإنما قولهم بعضهم لبعض: ما الذي ترك
فلان من المال؟ ما الذي خلف من الولد؟ وأما الملائكة فإنهم يعرفون
الآخرة، ولا تستهويهم شهوات الدنيا، وإنما هم مشغولون بالذكر والتسبيح، فإذا هلك
الإنسان، قالوا: ما قدم؟ أي أي شيء قدم من الأعمال؟ ثم أمرهم رضي الله عنه، بأن يقدموا من أموالهم بعضها صدقة،
فإنها تبقى لهم، ونهاهم أن يخلفوا أموالهم كلها بعد موتهم، فتكون وبالاً عليهم
في الآخرة. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن كلام له عليه السلام كان كثيراً ما ينادي به
أصحابه |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: تجهزوا رحمكم
الله، فقد نودي فيكم بالرحيل، وأقفوا العرجة على الدنيا، وأنقلبوا بصالح ما
بحضرتكم من الزاد؟ فإن أمامكم عقبةً كئوداً، ومنازل مخوفةً مهولةً، لا بد من
الورود عليها، والوقوف عندها. وأعلموا أن
ملاحظ المنية نحوكم دائبةٌ، وكأنكم بمخالبها وقد نشبت فيكم، وقد دهمتكم منها
مفظعات الأمور، ومضلعات المحذور، فقطعوا علائق الدنيا، وأستظهروا بزاد التقوى. "وقد مضى شيءٌ من هذا الكلام
فيما تقدم يخالف هذه الرواية". والعقبة الكؤود: الشاقة المصعد. ودائبة: جادة. والمخلب للسبع بمنزلة الظفر للإنسان. وأفظع
الأمر، فهو مفظع، إذا جاوز المقدار شدة، ومضلعات
المحذور: الخطوب التي تضلع، أي تجعل الإنسان ضليعاً، أي معوجاً، والماضي
ضلع بالكسر يضلع ضلعاً. ومن رواها بالظاء، أراد الخطوب التي تجعل الإنسان ظالعاً،
أي يغمز في مشيه لثقلها عليه، والماضي ظلع بالفتح، يظلع ظلعاً، فهو ظالع. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن كلام له (عليه السلام)
كلم به طلحة والزبير بعد بيعته بالخلافة وقد عتبا عليه من ترك مشورتهما
والاستعانة في الأمور بهما
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: لقد نقمتما
يسيراً، وأرجأتما كثيراً. ألا تخبراني أي شيءٍ كان لكما فيه حقٌ دفعتكما عنه،
أم أي قسمٍ أستأثرت عليكما به، أو أي حق رفعه إلي أحدٌ من المسلمين ضعفت عنه، أم
جهلته، أم أخطأت بابه، والله ما كانت لي في الخلافة رغبةٌ، ولا في الولاية
إربةٌ، ولكنكم دعوتموني إليها، وحملتموني عليها، فلما أفضت إلي نظرت إلى كتاب
الله وما وضع لنا، وأمرنا بالحكم به فاتبعته، وما أستن النبي إلى الله عليه وأله
وصححبه وسلم فاقتديته. فلم أحتج
إلى رأيكما، ولا رأي غيركما، ولا وقع حكم جهلته فأستشيركما وإخواني من المسلمين.
ولو كان ذلك لم أرغب عنكما ولا عن غيركما. وأما ما ذكرتما من أمر الأسوة،
فإن ذلك أمر لم أحكم أنا فيه برأيي، ولا وليته هوى مني، بل وجدت أنا وأنتما ما
جاء به رسول الله صلى الله عليه وأله وصحبه وسلم قد فرغ منه، فلم أحتج إليكما
فيما قد فرغ الله من قسمه، وأمضى فيه حكمه، فليس لكما والله عندي ولا لغيركما في
هذا عتبى، أخذ الله بقلوبنا وقلوبكم إلى الحق، وألهمنا وإياكم الصبر، ثم قال عليه السلام: رحم الله رجلاً رأى حقاً فأعان
عليه، أو رأى جوراً فرده، وكان عوناً بالحق على صاحبه. الشرح: نقمت عليه، بالفتح أنقم، هذه اللغة الفصيحة،
وجاء نقمت بالكسر، أنقم. وأرجأتما: أخرتما،
أي نقمتما من أحوالي اليسير، وتركتما الكثير الذي ليس لكما ولا لغير كما فيه
مطعن، فلم تذكراه، فهلا اغتفرتما اليسير للكثير، وليس هذا اعترافاً بأن ما نقماه
موضع الطعن والعيب، ولكنه على جهة الجدل والاحتجاج، تقول
لمن يطعن في بيت من شعر شاعر مشهور: لقد ظلمته إذ تتعلق عليه بهذا البيت،
وتنسى ما له من المحاسن الكثيرة في غيره، ثم ذكر وجوه العتاب والاسترادة ، وهي أقسام: إما أن يكون لهما حقٌ يدفعهما عنه، أو
استأثر عليهما في قسم، أو ضعف عن السياسة، أوجهل حكماً من أحكام الشريعة، أو
أخطأ بابه. فإن قلت: أي فرق بين الأول والثاني؟ قلت: أما دفعهما عن حقهما، فمنعهما عنه؟ سواء صار إليه
رضي الله عنه أو إلى غيره، أو لم يصر إلى
أحد، بل بقي بحاله في بيت المال. فإن قلت:
فأي فرق بين قوله: "أم جهلته"، أو "أخطات بابه "، قلت؟ جهل الحكم أن يكون الله تعالى قد حكم بحرمة
شيء، فأحله الإمام أو المفتي، وكونه يخطىء بابه؟ هوأن يصيب في الحكم ويخطىء في
الاستدلال عليه. ثم أقسم أنه لم يكن له في الخلافة رغبة ولا إربة، بكسر الهمزة،
وهي الحاجة. وصدق رضي الله عنه فهكذا نقل أصحاب
التواريخ وأرباب علم السير كلهم، وروى الطبري في
التاريخ ورواه غيره أيضاً أن الناس غشوه وتكاثروا عليه يطلبون مبايعته، وهو يأبى ذلك ويقول: دعوني والتمسوا غيري، فإنا
مستقبلون أمراً له وجوه وألوان، لا تثبت عليه العقول، ولا تقوم له القلوب قالوا: ننشدك الله، ألا ترى الفتنة، ألا ترى إلى
ما حدث في الإسلام، ألا تخاف الله، فقال: قد
أجبتكم لما أرى منكم، واعلموا أني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم، وإن تركتموني
فإنما أنا كأحدكم، بل أنا أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم إليه. فقالوا: ما
نحن بمفارقيك حتى نبايعك. قال: إن
كان لا بد من ذلك ففي المسجد؟ فإن بيعتي لا تكون خفياً، ولا تكون إلا عن رضا
المسلمين، وفي ملأ وجماعة. فقام والناس حوله، فدخل المسجد، وانثال عليه
المسلمون فبايعوه، وفيهم طلحة والزبير. قلت: قوله:
"إن بيعتي لا تكون خفياً، ولا تكون إلا في المسجد بمحضر من جمهور
الناس"، يشابه قوله بعد وفاة رسول الله
صلى الله عليه وسلم للعباس لما سامه مد يده للبيعة: إني
أحب أن أصحر بها ، وأكره أن أبايع من وراء رتاج. ثم ذكر رضي الله عنه أنه لما بويع عمل بكتاب الله وسنة
رسوله، ولم يحتج إلى رأيهما ولا رأي غيرهما، ولم يقع حكم يجهله فيستشيرهما، ولو
وقع ذلك لاستشارهما وغيرهما، ولم يأنف من ذلك. ثم تكلم في
معنى التنفيل في العطاء، فقال: إني عملت
بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك. وصدق رضي الله عنه فإن رسول الله صلى
الله عليه وسلم سوى في العطاء بين الناس، وهو مذهب أبي بكر رضي الله عنه. والعتبى: الرضا، أي لست ارضيكما بارتكاب ما لا يحل
لي في الشرع ارتكابه. والضمير في "صاحبه "،
وهو الهاء المجرورة يرجع إلى الجور، أي وكان عوناً بالعمل على صاحب الجور. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
طلحة والزبير وبعض من أخبارهما
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قد
تقدم منا ذكر ما عتب به طلحة والزبير على أمير
المؤمنين رضي الله عنه، وأنهما قالا: ما نراه
يستشيرنا في أمرٍ، ولا يفاوضنا في رأي، ويقطع الأمر دوننا، ويستبد بالحكم عنا،
وكانا يرجوان غير ذلك، وأراد طلحة أن يوليه البصرة، وأراد
الزبير أن يوليه الكوفة، فلما شاهدا صلابته في الدين، وقوته في العزم،
وهجره الإدهان والمراقبة، ورفضه المدالسة والمواربة، وسلوكه في جميع مسالكه منهج
الكتاب والسنة، وقد كانا يعلمان ذلك قديماً من طبعه وسجيته، وكان عمر رضي الله عنه قال لهما ولغيرهما: إن الأجلح
إن وليها ليحملنكم على المحجة البيضاء والصراط المستقيم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل قال:
"وإن تولوها علياً، تجدوه هادياً مهدياً"،
إلا أنه ليس الخبر كالعيان، ولا القول كالفعل، ولا الوعد كالإنجاز. وحالا عنه،
وتنكرا له، ووقعا فيه، وعاباه وغمصاه ، وتطلبا له العلل والتأويلات، وتنقما عليه
الاستبداد وترك المشاورة، وانتقلا من ذلك إلى الوقيعة فيه بمساواة الناس في قسمة
المال، وأثنيا على عمر رضي الله عنه، وحمدا سيرته، وصوبا رأيه، وقالا: إنه كان يفضل أهل السوابق، وضللا علياً رضي
الله عنه فيما رآه، وقالا: إنه أخطأ، وإنه خالف
سيرة عمر رضي الله عنه، وهي السيرة المحمودة التي لم تفضحها النبوة، مع قرب
عهدها منها، واتصالها بها. واستنجدا عليه
بالرؤساء من المسلمين، كان عمر رضي الله عنه
يفضلهم وينفلهم في القسم على غيرهم - والناس أبناء
الدنيا، ويحبون المال حباً جماً - فتنكرت على أمير المؤمنين رضي الله عنه بتنكرهما قلوبٌ كثيرة، ونغلت
عليه نيات كانت من قبل سليمة، ولقد كان عمر رضي الله عنه موفقاً حيث منع قريشاً والمهاجرين
وذوي السوابق من الخروج من المدينة، ونهاهم عن مخالطة الناس، ونهى الناس عن
مخالطتهم، ورأى أن ذلك أس الفساد في الأرض، وأن الفتوح والغنائم قد أبطرت
المسلمين، ومتى بعد الرؤوس والكبراء منهم عن دار الهجرة، وانفردوا بأنفسهم،
وخالطهم الناس في البلاد البعيدة لم يأمن أن يحسنوا لهم الوثوب، وطلب الإمرة
ومفارقة الجماعة، وحل نظام الألفة، ولكنه رضي الله عنه نقض هذا الرأي السديد بما
فعله بعد طعن أبي لؤلؤة له من أمر الشورى، فإن ذلك كان
سبب كل فتنة وقعت، وتقع إلى أن تنقضي الدنيا. وقد قدمنا ذكر ذلك،
وشرحنا ما أدى إليه أمر الشورى من الفساد بما حصل في نفس كل من الستة من ترشيحه
للخلافة. وروى أبو جعفر الطبري
في تاريخه، قال: كان عمر رضي الله عنه
قد حجر على أعلام قريش من المهاجرين الخروج في البلدان الإ بأذن وأجلٍ، فشكوه،
فبلغه، فقام فخطب، فقال: ألا إني قد سننت
الإسلام سن البعير، يبدأ فيكون جذعاً ، ثم ثنياً ، ثم يكون رباعياً ، ثم سديساً،
ثم بازلاً . ألا فهل ينتظر
بالبازل الا النقصان ألا وإن الإسلام قد صار بازلاً، وإن قريشاً يريدون أن
يتخذوا مال الله معونات على ما في أنفسهم. ألا إن في قريش من يضمر الفرقة، ويروم
خلع الربقة. أما وابن الخطاب حي فلا؛ إني قائم دون شعب الحرة، آخذ بحلاقيم قريش
وحجزها أن يتهافتوا في النار. وقال أبو جعفر الطبري في التاريخ أيضاً: فلما
وفي عثمان لم يأخذهم بالذي كان عمر يأخذهم به، فخرجوا إلى البلاد،فلما نزلوها
ورأوا الدنيا، ورآهم الناس، خمل من لم يكن له طول ولا قدم في الإسلام، ونبه
أصحاب السوابق والفضل، فانقطع إليهم الناس، وصاروا أوزاعاً معهم، وأملوهم، وتقربوا
إليهم، وقالوا: يملكون فيكون لنا في ملكهم حظوة،
فكان ذلك أول وهن على الإسلام، وأول فتنة كانت في العامة. وروى أبو جعفر
الطبري، عن الشعبي، قال: لم يمت عمر رضي الله عنه حتى ملته
قريش، وقد كان حصرهم بالمدينة، وسألوه أن يأذن لهم في الخروج إلى البلاد، فامتنع
عليهم، وقال: إن أخوف ما أخاف على هذه الأمة
انتشاركم في البلاد، حتى إن الرجل كان يستأذنه في غزو الروم أو الفرس، وهو ممن
حبسه بالمدينة من قريش، ولا سيما من المهاجرين فيقول
له: إن لك في غزوك مع رسول الله صلى الله عليه
وسلم ما يكفيك ويبلغك ويحسبك ، وهو خيرٌ لك من الغزو اليوم، وإن خيراً لك
ألا ترى الدنيا ولا تراك. فلما مات عمر وولي عثمان خلى عنهم فانتشروا في
البلاد واضطربوا، وانقطع إليهم الناس وخالطوهم، فلذلك
كان عثمان رضي الله عنه أحب إلى قريش من عمر رضي الله عنه. فقد بان لك حسن رأي
عمر رضي الله عنه في منع المهاجرين وأهل السابقة من قريش من مخالطة الناس
والخروج من المدينة، وبان لك أن عثمان رضي الله عنه
أرخى لهم في الطول ، فخالطهم الناس، وأفسدوهم، وحببوا إليهم الملك والإمرة
والرئاسة، لا سيما مع الثروة العظيمة التي حصلت لهم، والثراء مفسدة وأي مفسدة ،
وحصل لطلحة والزبير من ذلك ما لم يحصل لغيرهما ثروة ويساراً، وقدماً في الإسلام،
وصار لهما لفيف عظيم من المسلمين يمنونهما الخلافة، ويحسنون لهما طلب الإمرة، لا سيما وقد رشحهما عمر رضي الله عنه لها، وأقامهما مقام نفسه
في تحملها، وأي امرىء منى بها قط نفسه ففارقها حتى يغيب في اللحد، ولا سيما طلحة، قد كان يحدث بها نفسه وأبو بكر رضي الله عنه حي، ويروم أن يجعلها فيه، بشبهة أنه ابن عمه، وسخط خلافة عمر رضي الله عنه، وقال لأبي بكر رضي الله عنه:
ما تقول لربك وقد وليت علينا فظاً غليظاً، وكان له في أيام عمر قوم
يجلسون إليه، ويحادثونه سراً في معنى الخلافة، ويقولون
له: لو مات عمر رضي
الله عنه لبايعناك بغتة، جلب الدهر علينا
ما جلب، وبلغ ذلك عمر رضي الله عنه، فخطب
الناس بالكلام المشهور، إن قوماً يقولون:
إن بيعة أبي بكر رضي الله عنه كانت
فلتة، وإنه لو مات عمر لفعلنا وفعلنا، أما إن بيعة أبي بكر كانت فلتة، إلا أن الله وقى شرها،
وليس فيكم من تقطع إليه الرقاب كأبي بكر، فأي امرىء بايع امراً من غير مشورة من
المسلمين، فإنهما بغرة أن يقتلا، فلما صارت إلى عثمان سخطها طلحة بعد أن كان
رضيها، وأظهر ما في نفسه، وألب عليه حتى قتل، ولم يشك أن الأمر له، فلما صارت إلى علي رضي الله عنه، حدث منه ما حدث، وآخر الدواء
الكي. وأما الزبير
فلم يكن إلا علوي الرأي، شديد الولاء، جارياً من الرجل مجرى نفسه. ويقال: إنه رضي الله
عنه لما استنجد بالمسلمين عقيب يوم السقيفة وما جرى فيه، وكان يحمل فاطمة رضي
الله عنها ليلاً على حمار، وابناها بين يدي الحمار، وهو رضي الله عنه يسوقه
فيطرق بيوت الأنصار وغيرهم، ويسألهم النصرة والمعونة، أجابه أربعون رجلاً،
فبايعهم على الموت، وأمرهم أن يصبحوا بكرة محلقي رؤوسهم ومعهم سلاحهم، فاصبح لم
يوافه منهم إلا أربعة: الزبير، والمقداد، وأبو ذر، وسلمان. ثم أتاهم من الليل، فناشدهم، فقالوا: نصبحك غدوة؟ فما جاءه منهم إلا أربعة، وكذلك في
الليلة الثالثة، وكان الزبير أشدهم له نصرة، وأنفذهم في طاعته بصيرة، حلق
رأسه، وجاء مراراً وفي عنقه سيفه، وكذلك الثلاثة
الباقون، إلا أن الزبير هو كان الرأس فيهم. وقد نقل الناس خبر الزبير لما
هجم عليه ببيت فاطمة رضي الله عنها، وكسر سيفه في صخرة ضربت به، ونقلوا اختصاصه
بعلي رضي الله عنه، وخلواته به. ولم يزل موالياً له،
متمسكاً بحبه ومودته، حتى نشأ ابنه عبد الله وشب، فنزع به عرق من الأم، ومال إلى
تلك الجهة وانحرف عن هذه، ومحبة الوالد للولد معروفة، فانحرف الزبير لانحرافه؟ على
أنه قد كانت جرت بين علي رضي الله عنه والزبير هنات في أيام عمر رضي الله عنه
كدرت القلوب بعض التكدير، وكان سببها قصة موالي صفية
ومنازعة علي للزبير في الميراث، فقضى عمر رضي الله عنه للزبير، فأذعن علي
رضي الله عنه لقضائه بحكم سلطانه، لا رجوعاً عما كان يذهب إليه من حكم الشرع في
هذه المسألة وبقيت في نفس الزبير، على أن شيخنا أبا جعفر الإسكافي رحمه الله ذكر في كتاب "نقض
العثمانية" عن الزبير كلاماً، إن صح، فإنه يدل على انحراف شديد، ورجوع عن
موالاة أمير المؤمنين رضي الله عنه قال: تفاخر علي رضي الله عنه والزبير، فقال
الزبير: أسلمت بالغاً، وأسلمت طفلاً، وكنت أول من سل سيفاً في سبيل الله
بمكة وأنت مستخف في الشعب، يكفلك الرجال، ويمونك الأقارب من بني هاشم. وكنت
فارساً، وكنت راجلاً، وفي هيئتي نزلت الملائكة، وأنا حواري رسول الله صلى الله
عليه وسلم. قال
شيخنا أبو جعفر: وهذا الخبر مفتعل مكذوب، ولم يجر
بين علي والزبير شيء من هذا الكلام، ولكنه من
وضع العثمانية، ولم يسمع به في أحاديث الحشوية ، ولا في كتب أصحاب
السيرة. ولعلي رضي الله عنه أن يقول: طفلٌ مسلم خير من بالغ كافر، وأما سل
السيف بمكة، فلم يكن في موضعه، وفي ذلك قال الله
تعالى: "ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا
أيديكم" ، وأنا على منهاج الرسول في الكف والإقدام، وليس كفالة
الرجال والأقارب بالشعب عاراً علي، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم الشعب
يكفله الرجال والأقارب. وأما حربك فارساً،
وحربي راجلاً، فهلا أغنت فروسيتك يوم عمرو بن عبدود في الخندق، وهلا أغنت
فروسيتك يوم طلحة بن أبي طلحة في أحد، وهلا أغنت فروسيتك يوم مرحب بخيبر، ما
كانت فرسك التي تحارب عليها في هذه الأيام إلا أذل من العنز الجرباء، ومن سلمت
عليه الملائكة أفضل ممن نزلت في هيئته، وقد نزلت الملاثكة في صورة دحية الكلبي،
أفيجب من ذلك أن يكون دحية أفضل مني، وأما كونك حواري رسول الله صلى الله عليه
وسلم، فلو عددت خصائمي في مقابلة هذه اللفظة الواحدة لك، لاستغرقت الوقت، وأفنيت
الزمان، ورب صمتٍ أبلغ من نطق. ثم نرجع إلى الحديث الأول، فنقول: إن طلحة والزبير
لما أيسا من جهة علي رضي الله عنه، ومن حصول الدنيا من قبله، قلبا له
ظهر المجن، فكاشفاه وعاتباه قبل المفارقة عتاباً لاذعاً، روى شيخنا أبو عثمان قال: أرسل طلحة والزبير إلى علي رضي الله عنه قبل خروجهما إلى مكة مع محمد بن
طلحة، وقالا: لا تقل له: "يا أمير المؤمنين"، ولكن قل له: "يا
أبا الحسن"، لقد فال فيك رأينا، وخاب ظننا. أصلحنا لك الأمر،
ووطدنا لك الإمرة، وأجلبنا على عثمان حتى قتل، فلما طلبك الناس لأمرهم، أسرعنا
إليك، وبايعناك، وقدنا إليك أعناق العرب، ووطىء المهاجرون والأنصار أعقابنا في
بيعتك حتى إذا ملكت عنانك، استبددت برأيك عنا، ورفضتنا رفض التريكة ، وأذلتنا
إذالة الإماء، وملكت أمرك الأشتر وحكيم بن جبلة وغيرهما من الأعراب ونزاع
الأمصار، فكنا فيما رجوناه منك، وأملناه من ناحيتك، كما قال الأول:
فلما جاء محمد بن طلحة، أبلغه ذاك، فقال: اذهب إليهما، فقل لهما: فما الذي
يرضيكما؟ فذهب وجاءه، فقال: إنهما يقولان: ول أحدنا
البصرة والآخر الكوفة، فقال: لاها الله، إذن يحلم الأديم، ويشتري الفساد، وتنتقض
علي البلاد من أقطارها، والله إقي لا آمنهما وهما عندي بالمدينة، فكيف آمنهما
وقد وليتهما العراقين اذهب إليهما فقل: أيها الشيخان، احذرا من سطوة الله
ونقمته، ولا تبغيا للمسلمين غائلة وكيداً، وقد سمعتما قول الله تعالى: "تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في
الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين" . فقام
محمد بن طلحة فأتاهما، ولم يعد إليه، وتأخرا عنه
أياماً، ثم جاءاه فاستأذناه في الخروج إلى مكة للعمرة، فأذن لهما بعد أن أحلفهما
ألا ينقضا بيعته، ولا يغدرا به، ولا يشقا عصا المسلمين، ولا يوقعا الفرقة بينهم،
وأن يعودا بعد العمرة إلى بيوتهما بالمدينة، فحلفا على ذلك كله ثم خرجا
ففعلا ما فعلا". وروى الطبري في التاريخ،
قال: لما بايع طلحة والزبير علياً رضي الله عنه، سألاه أن يؤمرهما على الكوفة
والبصرة، فقال: بل تكونان عندي أتجمل بكما، فإنني أستوحش لفراقكما. قال الطبري: وقد كان قال لهما قبل بيعتهما له: إن
أحببتما أن تبايعاني، وإن أحببتما بايعتكما؟ فقالا: لا؟ بل نبايعك؟ ثم قالا بعد
ذلك: إنما بايعناه خشية على أنفسنا، وقد عرفنا أنه لم يكن ليبايعنا. ثم ظهرا إلى
مكة، وذلك بعد قتل عثمان بأربعه أشهر. وروى الطبري أيضاً في
التاريخ قال: لما بايع الناس علياً، وتم له الأمر، قال طلحة للزبير: ما أرى أن لنا من هذا الآمر إلا
كحسة أنف الكلب. وروى الطبري أيضاً في
التاريخ، قال: لما بايع الناس علياً رضي الله عنه بعد
قتل عثمان رضي الله عنه، جاء علي إلى الزبير، فاستأذن عليه. قال أبو حبيبة مولى الزبير: فأعلمته به، فسل السيف، ووضعه تحت فراشه، وقال: ائذن له، فأذنت له، فدخل فسلم
على الزبير وهو واقف. ثم خرج، فقال الزبير:
لقد دخل لأمر ما قضاه، قم مقامه وانظر: هل ترى من السيف شيئاً، فقمت في مقامه،
فرأيت ذباب السيف، فأخبرته وقلت: إن ذباب
السيف ليظهر لمن قام في هذا الموضع، فقال:
ذاك أعجل الرجل. وروى شيخنا أبو عثمان،
قال: كتب مصعب
بن الزبير إلى عبد الملك: من مصعب بن الزبير
إلى عبد الملك بن مروان: سلام عليك، فإني
أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد:
أما
إن لله علي الوفاء بذلك؟ إلا أن تتراجع أو تتوب، ولعمري ما أنت كعبد الله بن
الزبير، ولا مروان كالزبير بن العوام، حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن
عمته. فسلم الأمر إلى أهله، فإن نجاتك بنفسك أعظم الغنيمتين. والسلام. فكتب إليه عبد الملك: من عبد الله عبد الملك أمير المؤمنين، إلى الذلول الذي أخطأ
من سماه المصعب؟ سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد:
أما ما ذكرت من وفائك، فلعمري لقد وفى أبوك لتيم
وعدي بعداء قريش وزعانفها، حتى إذا صارت الأمور إلى صاحبها عثمان، الشريف النسب،
الكريم الحسب، بغاه الغوائل، وأعد له المخاتل، حتى نال منه حاجته، ثم دعا الناس
إلى علي وبايعه، فلما دانت له أمور الأمة، وأجمعت له الكلمة، وأدركه الحسد
القديم لبني عبد مناف، فنقض عهده، ونكث بيعته بعد توكيدها، ف "فكر وقدر، فقتل كيف قدر"؛ وتمزقت
لحمه الضباع بوادي السباع. ولعمري إنك
تعلم يا أخا بني عبد العزى بن قصي؟ أنا بنو عبد مناف لم نزل سادتكم وقادتكم في
الجاهلية والإسلام، ولكن الحسد دعاك إلى ما ذكرت، ولم
ترث ذلك عن كلالة، بل عن أبيك، ولا أظن حسدك وحسد
أخيك يؤول بكما إلا إلى ما آل إليه حسد أبيكما من قبل "ولا يحيق المكر السىء إلا بأهله" ؛
"وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون" . وروى أبو عثمان أيضاً،
قال: دخل الحسن بن علي رضي الله عنه على معاوية، وعنده عبد الله بن
الزبير - وكان معاوية يحب أن يغري بين قريش - فقال: يا أبا محمد، أيهما كان أكبر
سناً؟ علي أم الزبير؟ فقال الحسن: ما أقرب
ما بينهما، وعلي أسن من الزبير، رحم الله علياً،
فقال ابن الزبير رحم الله الزبير - وهناك أبو سعيد بن عقيل بن أبي طالب، فقال:
يا عبد الله، وما يهيجك من أن يترحم الرجل على أبيه، قال: وأنا أيضاً ترحمت على
أبي، قال: أتظنه نداً له وكفؤاً؟ قال: وما
يعدل به عن ذلك، كلاهما من قريش، وكلاهما دعا إلى نفسه ولم يتم له. قال: دع
ذاك عنك يا عبد الله؟ إن علياً من قريش ومن الرسول صلى الله عليه وسلم حيث تعلم،
ولما دعا إلى نفسه اتبع فيه، وكان رأساً، ودعا الزبير إلى أمر وكان الرأس فيه
امرأة، ولما تراءت الفئتان نكص على عقبيه، وولى مدبراً قبل أن يظهر الحق فيأخذه،
أو يدحض الباطل فيتركه، فأدركه رجل لو قيس ببعض أعضائه لكان أصغر، فضرب عنقه،
وأخذ سلبه، وجاء برأسه، ومضى في قدماً كعادته مع ابن عمه، رحم الله علياً، فقال ابن الزبير: أما لو أن غيرك تكلم بهذا يا أبا
سعيد، لعلم، فقال: إن الذي تعرض به يرغب عنك. وكفه معاوية، فسكتوا. وأخبرت عائشة بمقالتهم، ومر أبو سعيد بفنائها، فنادته:
يا أبا سعيد، أنت القائل لابن أختي كذا؟ فالتفت أبو سعيد، فلم ير شيئاً، فقال:
إن الشيطان يرانا ولا نراه، فضحكت عائشة، وقالت: لله
أبوك، ما أذلق لسانك. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن كلام له وقد سمع قوماً من أصحابه يسبون أهل
الشام أيام حربهم بصفين
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: إني أكره لكم أن تكونوا سبابين، ولكنكم لو وصفتم أعمالهم،
وذكرتم حالهم، كان أصوب في القول، وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبكم إياهم: اللهم
أحقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، وأهدهم من ضلالتهم، حتى يعرف الحق
من جهله، ويرعوي عن الغي والعدوان من لهج به، الشرح: السب:
الشتم، سبه يسبه بالضم، والتساب: التشاتم، ورجل
مسب بكسر الميم: كثير السباب، ورجلٌ سبة، أي يسبه الناس، ورجل سببة، أي يسب
الناس، ورجلٌ سب: كثير السباب، وسبك: الذي يسابك، قال:
والذي
كرهه رضي الله عنه منهم، أنهم كانوا يشتمون
أهل الشام، ولم يكن يكره منهم لعنهم إياهم، والبذاءة منهم، لا كما يتوهمه قومٌ
من الحشوية، فيقولون: لا يجوز لعن أحدٍ ممن
عليه اسم الإسلام، وينكرون على من يلعن، ومنهم من يغالي في ذلك، فيقول: لا العن
الكافر، ولا العن إبليس، وإن الله تعالى لا يقول لأحد يوم القيامة: لم لم تلعن؟
وإنما يقول: لم لعنت؟ واعلم أن هذا خلاف نص الكتاب،
لأنه تعالى قال: "إن الله لعن الكافرين وأعد
لهم سعيرا" ، وقال: "أولئك يلعنهم
الله ويلعنهم اللاعنون" . وقال في إبليس: "وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين" ، وقال: "ملعونين أينما ثقفوا" ، وفي الكتاب
العزيز من ذلك الكثير الواسع. وكيف يجوز للمسلم أن ينكر التبرؤ ممن يجب التبرؤ
منه، ألم يسمع هؤلاء قول الله تعالى: "لقد كان
لكم أسوةٌ حسنةٌ في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برأ منكم ومما
تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً"
، وإنما يجب النظر فيمن قد اشتبهت حاله؛ فإن كان قد قارف كبيرة من الذنوب يستحق
بها اللعن والبراءة؛ فلا ضير على من يلعنه ويبرأ منه، وإن لم يكن قد قارف كبيرة
لم يجز لعنه، ولا البراءة منه. ومما يدل على أن من عليه
اسم الإسلام إذا ارتكب الكبيرة يجوز لعنه، بل يجب في وقت، قول الله تعالى في قصة
اللعان: "فشهادة أحدهم أربع شهادات
بالله إنه لمن الصادقين ، والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين"
. وقال تعالى في القاذف: "إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في
الدنيا والآخرة ولهم عذابٌ عظيمٌ" . فهاتان
الآيتان في المكلفين من أهل القبلة، والآيات قبلهما في الكافرين والمنافقين؛ ولهذا قنت أمير
المؤمنين رضي الله عنه
على معاوية وجماعة من أصحابه، ولعنهم في أدبار الصلوات. فإن قلت: فما صورة السب
الذي نهى أمير المؤمنين رضي الله عنه عنه؟ قلت:
كانوا يشتمونهم بالآباء و الأمهات، ومنهم من يطعن في نسب قوم منهم، ومنهم من
يذكرهم باللؤم، ومنهم من يعيرهم بالجبن والبخل وبأنواع الأهاجي التي يتهاجى بها
الشعراء، وأساليبها معلومة، فنهاهم رضي الله عنه عن
ذلك، وقال: إني أكره لكم أن تكونوا سبابين؛ ولكن الأصوب أن تصفوا لهم
أعمالهم، وتذكروا حالهم؛ أي أن تقولوا: إنهم فساق؛ وإنهم أهل ضلال وباطل. ثم قال: اجعلوا عوض سبهم أن تقولوا: اللهم احقن
دماءنا ودماءهم، حقنت الدم أحقنه، بالضم: منعت أن يسفك، أي ألهمهم الإنابة إلى
الحق والعدول عن الباطل؛ فإن ذلك إذا تم حقنت دماء الفريقين. فإن قلت: كيف يجوز أن
يدعو الله تعالى بما لا يفعله؟ أليس من أصولكم أن الله تعالى لا يضطر المكلف إلى
اعتقاد الحق، وإنما يكله إلى نظره؟ قلت: الأمر وإن كان كذلك، إلا أن المكلفين قد
تعبدوا بأن يدعوا الله تعالى بذلك، لأن في دعائهم إياه بذلك لطفاً لهم ومصالح في
أديانهم؟ كالدعاء بزيادة الرزق وتأخير الأجل. وارعوى عن الغي: رجع وكف، لهج به بالكسر، يلهج: أغرى به وثابر عليه. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن كلام له في بعض أيام صفين وقد رأى الحسن ابنه
عليه السلام يتسرع إلى الحرب
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
املكوا عني هذا الغلام لا يهدني، فإنني أنفس بهذين - يعني الحسن والحسين
عليهما السلام -
على الموت لئلا ينقطع بهما نسل رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم. الشرح: الألف
في "املكوا" ألف وصل، لأن الماضي
ثلاثي، من ملكت الفرس والعبد والدار، أملك بالكسر، أي احجروا عليه كما يحجر
المالك على مملوكه. وعن، متعلقة بمحذوف تقديره: استولوا عليه وأبعدوه عني. ولما
كان الملك سبب الحجر على المملوك عبر بالسبب عن المسبب، كما عبر بالنكاح عن
العقد، وهو في الحقيقة اسم الوطء، لما كان العقد طريقاً إلى الوطء، وسبباً له. ووجه علو هذا الكلام
وفصاحته أنه لما كان في: "املكوا" معنى البعد، أعقبه بعن، وذلك
أنهم لا يملكونه دون أمير المؤمنين رضي الله عنه إلا وقد أبعدوه عنه؛ ألا ترى
أنك إذا حجرت على زيد دون عمرو، فقد باعدت زيداً عن عمرو، فلذلك قال: املكوا عني
هذا الغلام، واستفصح الشارحون قول أبي الطيب:
قالوا:
ولما كان في "فلا برحتني " معنى "فارقتني" عدى اللفظة، وإن
كانت لازمة، نظراً إلى المعنى. قوله: "لا يهدني" أي لئلا يهدني،
فحذف كما حذف طرفة في قوله:
أي
لأن أحضر. وأنفس:
أبخل، نفست عليه بكذا، بالكسر. فإن قلت: أيجوز أن يقال للحسن والحسين
وولدهما: أبناء رسول الله وولد رسول الله، وذرية رسول الله، ونسل رسول الله؟ قلت: نعم؟ لأن الله تعالى سماهم "أبناءه " في قوله تعالى: "ندع أبناءنا وأبناءكم" ، وإنما عنى
الحسن والحسين، ولو أوصى لولد فلان بمالٍ دخل فيه أولاد البنات، وسمى الله تعالى
عيسى ذرية إبراهيم في قوله: "ومن ذريته داود
وسليمان" إلى أن قال: "ويحيى
وعيسى"؛ ولم يختلف أهل اللغة في أن ولد
البنات من نسل الرجل. فإن قلت: فما تصنع بقوله تعالى: "ما كان محمدٌ أبا أحدٍ من رجالكم"؟
قلت: أسألك عن أبوته لإبراهيم بن مارية؛ فكما تجيب به عن ذلك؛ فهو جوابي عن الحسن والحسسين رضي الله عنه. والجواب الشامل للجميع أنه عنى زيد بن حارثة؛ لأن العرب كانت تقول: "زيد بن محمد" على عادتهم في تبني
العبيد، فأبطل الله تعالى ذلك، ونهى عن سنة الجاهلية، وقال: إن محمداً صلى الله عليه وسلم ليس أباً لواحدٍ من الرجال
البالغين المعروفين بينكم ليعتزي إليه بالنبوة، وذلك لا ينفي كونه أباً لأطفال،
لم تطلق عليهم لفظة الرجال، كإبراهيم وحسن وحسين رضي الله عنهم. فإن قلت: أتقول إن ابن البنت ابنٌ على الحقيقة
الأصلية أم على سبيل المجاز؟ قلت: لذاهب أن يذهب إلى أنه حقيقة أصلية؛ لأن أصل
الإطلاق الحقيقة، وقد يكون اللفظ مشتركاً بين مفهومين وهو في أحدهما أشهر، ولا
يلزم من كونه أشهر في أحدهما ألا يكون حقيقة في الآخر. ولذاهبٍ أن يذهب
إلى أنه حقيقة عرفية، وهي التي كثر استعمالها؛ وهي في الأكثر مجاز؛ حتى صارت
حقيقة في العرف، كالراوية للمزادة ، والسماء للمطر. ولذاهبٍ أن يذهب إلى
كونه مجازاً قد استعمله الشارع، فجاز إطلاقه في كل حال؛ واستعماله كسائر
المجازات المستعملة. ومما يدل على
اختصاص ولد فاطمة دون بني هاشم كافة بالنبي صلى الله عليه وسلم، أنه ما كان يحل له
رضي الله عنه أن ينكح بنات الحسن والحسين رضي الله عنهما ولا بنات ذريتهما، وان
بعدن وطال الزمان، ويحل له نكاح بنات غيرهم من بني هاشم من الطالبيين وغيرهم؛ وهذا يدل على مزيد الأقربية، وهي
كونهم أولاده، لأنه ليس هناك من القربى غير هذا الوجه، لأنهم ليسوا أولاد أخيه
ولا أولاد أخته، ولا هناك وجه يقتضي حرمتهم عليه إلا
كونه والداً لهم، وكونهم أولاداً له، فإن
قلت قد قال الشاعر:
وقال حكيم العرب أكثم بن صيفي في البنات يذمهن؛ إنهن يلدن الأعداء، ويورثن
البعداء. قيل لمحمد بن الحنفية
رضي الله عنه:
لم يغرر بك أبوك في الحرب، ولم لا يغرر بالحسن والحسين؟ فقال: لأنهما عيناه؛
وأنا يمينه، فهو يذب عن عينيه بيمينه. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال لما اضطرب عليه أصحابه في أمر الحكومة
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: أيها الناس،
إنه لم يزل أمري معكم على ما أحب، حتى نهكتكم الحرب، وقد والله أخذت منكم وتركت،
وهي لعدوكم أنهك. لقد كنت أمس أميراً، فأصبحت اليوم مأموراً، وكنت أمس ناهياً،
فأصبحت اليوم منهياً. وقد أحببتم البقاء، وليس لي أن أحملكم على ما
تكرهون، الشرح: نهكتكم، بكسر الهاء: أدنفتكم وأذابتكم، ويجوز فتح
الهاء، وقد نهك الرجل أي دنف وضني، فهو منهوك. وعليه نهكة المرض، أي أثرة الحرب، مؤنثة. وقد أخذت
منكم وتركت، أي لم تستأصلكم، بل فيكم بعد بقية، وهي لعدوكم أنهك،
لأن القتل في أهل الشام كان أشد استحراراً،
والوهن فيهم أظهر، ولو لا فساد أهل العراق برفع
المصاحف، لاستؤصل الشام، وخلص الأشتر إلى معاوية، فأخذه بعنقه، ولم يكن
قد بقي من قوة الشام إلا كحركة ذنب الوزغة عند قتلها، يضطرب يميناً وشمالاً؛ ولكن الأمور السماوية لا تغالب. فأما قوله: "كنت أمس
أميراً، فأصبحت اليوم مأموراً"، فقد قدمنا شرح حالهم من قبل، وأن
أهل العراق لما رفع عمرو بن العاص ومن معه المصاحف على وجه المكيدة حين أحس
بالعطب وعلو كلمة أهل الحق، ألزموا أمير المؤمنين رضي الله عنه بوضع أوزار
الحرب، وكف الأيدي عن القتال، وكانوا في ذلك على أقسام:
فمنهم من دخلت عليه الشبهة برفع المصاحف، وغلب
على ظنه أن أهل الشام لم يفعلوا ذلك خدعة وحيلة، بل حقاً ودعاء إلى الدين وموجب
الكتاب، فرأى أن الاستسلام للحجة أولى من الإصرار على الحرب. ومنهم من كان قد مل الحرب، وآثر السلم، فلما رأى شبهة
ما يسوغ التعلق بها في رفض المحاربة وحب العافية أخلد إليهم. ومنهم من كان يبغض علياً رضي الله عنه بباطنه، ويطيعه
بظاهره، كما يطيع كثير من الناس السلطان في الظاهر ويبغضه بقلبه، فلما وجدوا
طريقاً إلى خذلانه وترك نصرته، أسرعوا نحوها، فاجتمع جمهور عسكره عليه، وطالبوه
بالكف وترك القتال، فامتنع امتناع عالم بالمكيدة، وقال
لهم: إنها حيلة وخديعة، وإني أعرف بالقوم منكم، إنهم ليسوا بأصحاب قرآن ولا دين،
قد صحبتهم وعرفتهم صغيراً وكبيراً، فعرفت منهم الإعراض عن الدين، والركون إلى
الدنيا، فلا تراعوا برفع المصاحف، وصمموا على الحرب، وقد ملكتموهم، فلم يبق منهم
إلا حشاشة ضعيفة، وذماء قليل. فأبوا عليه، وألحوا وأصروا على القعود والخذلان،
وأمروه بالإنفاذ إلى المحاربين من أصحابه، وعليهم الأشتر أن يأمرهم بالرجوع،
وتهددوه إن لم يفعل بإسلامه إلى معاوية. فأرسل إلى
الأشتر يأمره بالرجوع وترك الحرب، فأبى عليه فقال: كيف
أرجع وقد لاحت أمارات الظفر، فقولوا له: "ليمهلني
ساعة واحدة"، ولم يكن علم صورة الحال كيف قد وقعت. فلما عاد إليه الرسول بذلك، غضبوا ونفروا وشغبوا، وقالوا: أنفذت إلى الأشتر سراً وباطناً، تأمره
بالتصميم، وتنهاه عن الكف، وإن لم تعده الساعة، وإلا قتلناك كما قتلنا عثمان، فرجعت الرسل إلى الأشتر فقالوا له: أتحب أن تظفر بمكانك وأمير
المؤمنين قد سل عليه خمسون ألف سيف، فقال: ما الخبر؟ قال: إن الجيش بأسره قد
أحدق به، وهو قاعد بينهم على الأرض، تحته نطع ، وهو مطرق، والبارقة تلمع على رأسه،
يقولون: لئن لم تعد الأشتر قتلناك، قال: ويحكم؛ فما سبب ذلك؟ قالوا: رفع
المصاحف، قال: والله لقد ظننت حين رأيتها رفعت أنها ستوقع فرقةً وفتنة. ثم كر راجعاً على عقبيه، فوجد أمير
المؤمنين رضي الله عنه تحت الخطر، قد ردده أصحابه بين أمرين: إما أن يسلموه إلى معاوية، أو يقتلوه، ولا ناصر له منهم إلا ولداه
وابن عمه ونفر قليل لا يبلغون عشرة، فلما رآهم الأشتر سبهم وشتمهم، وقال: ويحكم؛
أبعد الظفر والنصر صب عليكم الخذلان والفرقة، يا ضعاف الأحلام؛ يا أشباه النساء؛
يا سفهاء العقول؛ فشتموه وسبوه، وقهروه وقالوا:
المصاحف المصاحف؛ والرجوع إليها، لا نرى غير ذلك؛ فأجاب أمير المؤمنين رضي الله
عنه إلى التحكيم، دفعاً للمحذور الأعظم بارتكاب المحظور الأضعف، فلذلك قال: "كنت أميراً فأصبحت مأموراً؛ وكنت ناهياً
فصرت منهياً". وقد سبق من شرح حال التحكيم
وما جرى فيه ما يغني عن إعادته. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال بالبصرة
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وقد دخل على العلاء بن زياد الحارثي
وهو من أصحابه يعوده فلما رأى سعة داره قال: الأصل: ما كنت تصنع بسعة هذه الدار ي الدنيا، أما أنت
إليها في الآخرة كنت أحوج، وبلى إن شئت بلغت بها الآخرة: تقري فيها الضيف، وتصل
فيها الرحم، وتطلع منها الحقوق مطالعها، فإذا أنت قد بلغت بها الآخرة؛ قال له العلاء: يا أمير المؤمنين، أشكو إليك أخي عاصم بن
زيادٍ. قال: وماله؟
قال: لبس العباء، وتخلى من الدنيا. قال: علي به. فلما جاء، قال: يا عدي نفسه؛
لقد استهام بك الخبيث؛ أما رحمت أهلك وولدك؛ أترى الله أحل لك الطيبات، وهو يكره
أن تخذها؛ أنت أهون على الله من ذلك؛ قال: يا أمير
المؤمنين، هذا أنت في خشونة ملبسك، وجشوبة مأكلك؛ قال: ويحك إني لست
كأنت، إن الله تعالى فرض على أئمة الحق أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس، كيلا
يتبيغ بالفقير فقره. الشرح: كنت ههنا زائدة، مثل قوله تعالى: "كيف نكلم من كان في المهد صبياً" . وقوله: "وبلى إن شئت بلغت بها
الآخرة"، لفظ فصيح، كأنه استدرك، وقال: وبلى
على أنك قد تحتاج إليها في الدنيا لتجعلها وصلة إلى نيل الآخرة. بأن تقري
فيها الضيف؛ والضيف لفظ يقع على الواحد والجمع، وقد يجمع فيقال: ضيوف وأضياف. والرحم: القرابة. وتطلع منها
الحقوق مطالعها: توقعها في مظان استحقاقها. ويمكن أن يراد به الإستعظام لعداوته لها، ويمكن أن
يخرج محرج التحنن والشفقة، كقولك: يا بني. واستهام بك
الخبيث، يعني الشيطان، أي جعلك هائماً ضالاً، والباء زائدة. فإن قيل: ما معنى قوله رضي الله عنه: "أنت أهون على الله من ذلك
"؟ قلت: لأن في المشاهد قد يحل الواحد
منا لصاحبه فعلاً مخصوصاً، محاباة ومراقبة له، وهو يكره أن يفعله، والبشر أهون
على الله تعالى من أن يحل لهم أمراً مجاملة واستصلاحاً للحال معهم، وهو يكره
منهم فعله. وقوله: "هذا أنت "، أي فما بالنا نراك
خشن الملبس؛ والتقدير: "فها أنت تفعل كذا، فكيف تنهى عنه ". وطعام جشب،
أي غليظ، وكذلك مجشوب، وقيل: إنه الذي لا أدم معه. قوله رضي الله عنه: "أن يقدروا أنفسهم بضعفة
الناس"، أي يشبهوا ويمثلوا. وتبيغ الدم
بصاحبه، وتبوغ به، أي هاج به، وفي الحديث:
"عليكم بالحجامة لا يتبيغ بأحدكم الدم فيقتله "، وقيل: أصل "يتبيغ" يتبغى، فقلب، مثل جذب
وحبذ، أي يجب على الإمام العادل أن يشبه نفسه في لباسه وطعامه بضعفة الناس - جمع
ضعيف - لكيلا يهلك الفقراء من الناس، فإنهم إذا رأوا إمامهم بتلك الهيئة وبذلك
المطعم، كان أدعى لهم إلى سلوان لذات الدنيا والصبر عن شهوات النفوس. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أخبار بعض العارفين والزهاد
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وروي أن قوماً من المتصوفة
دخلوا خراسان على علي بن موسى الرضى، فقالوا له:
إن أمير المؤمنين فكر فيما ولاه الله من الأمور، فرآكم - أهل البيت - أولى الناس
أن تؤموا الناس، ونظر فيك من أهل البيت، فرآك أولى الناس بالناس، فرأى أن يرد
هذا الأمر إليك، والإمامة تحتاج إلى من يأكل الجشب ، ويلبس الخشن، ويركب الحمار،
ويعود المريض. فقال لهم:
إن يوسف كان نبياً، يلبس أقبية الديباج المزررة بالذهب، ويجلس على متكآت آل
فرعون، ويحكم؛ إنما يراد من الإمام قسطه وعدله؛ إذا
قال صدق، وإذا حكم عدل، وإذا وعد أنجز. إن الله لم يحرم لبوساً ولا مطعماً، ثم قرأ: "قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من
الرزق" . وهذا القول مخالف للقانون الذي أشار
أمير المؤمنين إليه، وللفلاسفة في هذا الباب كلام لا بأس به، وقد أشار إليه أبو
علي بن سينا في كتاب "الإشارات" وعليه يتخرج قولا أمير المؤمنين وعلي
بن موسى الرضى رضي الله عنهما. قال أبو علي في مقامات العارفين: "العارفون
قد يختلفون في الهمم بحسب ما يختلف فيهم من الخواطر، على حسب ما يختلف عندهم من
دواعي العبر، فربما استوى عند العارف القشف والترف، بل ربما آثر القشف، وكذلك
ربما سوي عنده التفل والعطر، بل ربما آثر التفل ، وذلك عندما يكون الهاجس بباله،
استحقار ما عدا الحق، وربما صغا إلى الزينة، وأحب من كل شيء عقيلته ، وكره
الخداج والسقط، وذلك عندما يعتبر عادته من صحبته الأحوال الظاهرة، فهو يرتاد إليها
لا كل شيء، لأنه مزية خطوة من العناية الأولى، وأقرب أن يكون من قبيل ما عكف
عليه بهواه، وقد يختلف هذا في عارفين، وقد يختلف في
عارف بحسب وقتين. واعلم أن الذي رويته عن الشيوخ، ورأيته بخط
عبد الله بن أحمد بن الخشاب رحمه الله، أن الربيع بن
زياد الحارثي، أصابته نشابة في جبينه، فكانت تنتقض عليه في كل عام، فأتاه علي رضي الله عنه عائداً، فقال: كيف تجدك
أبا عبد الرحمن؟ قال: أجدني يا أمير المؤمنين لو كان لا يذهب ما بي إلا بذهاب
بصري لتمنيت ذهابه، قال: وما قيمة بصرك عندك؛ قال: لو كانت لي الدنيا لفديته
بها، قال: لا جرم ليعطينك الله على قدر ذلك. إن الله تعالى يعطي على قدر الألم
والمصيبة، وعنده تضعيف كثير. قال الربيع : يا أمير المؤمنين، ألا أشكو إليك عاصم
بن زياد أخي؟ قال: ما له، قال: لبس العباء، وترك الملاء، وغم أهله، وحزن ولده.
فقال علي: ادعوا لي عاصماً، فلما أتاه عبس في وجهه، وقال:
ويحك يا عاصم؛ أترى الله أباح لك اللذات، وهو يكره ما أخذت منها؛ لأنت
أهون على الله من ذلك. أو ما سمعته يقول: "مرج
البحرين يلتقيان" ، ثم يقول: "يخرج
منهما اللؤلؤ والمرجان" وقال:
"ومن كل تأكلون لحماً طرياً وتستخرجون حلية تلبسونها" ، أما
والله إن ابتذال نعم الله بالفعال أحب إليه من ابتذالها بالمقال، وقد سمعتم الله
يقول: "وأما بنعمة ربك فحدث" ،
وقوله: "من حزم زينة الله التي أخرج لعباده
والطيبات من الرزق"، إن الله خاطب المؤمنين بما خاطب به المرسلين،
فقال: "يا أيها الذين أمنوا كلوا من طيبات ما
رزقناكم" ، وقال: "يا أيها الرسل
كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً" وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
نسائه: "مالي أراك شعثاء مرهاء سلتاء" .
قال عاصم: فلم اقتصرت يا أمير المؤمنين على لبس الخشن، وأكل الجشب؛ قال: إن
الله تعالى افترض على أئمة العدل أن يقدروا لأنفسهم بالقوام، كيلا يتبيغ بالفقير
فقره. فما قام علي رضي الله عنه حتى نزع
عاصم العباء، ولبس ملاءة. وكتب زياد بن أبيه إلى الربيع بن
زياد، وهو على قطعة من خراسان: إن أمير المؤمنين معاوية كتب
إلي يأمرك أن تحرز الصفراء والبيضاء وتقسم الخرثي وما أشبهه على أهل الحرب. فقال له الربيع: إني وجدت كتاب الله قبل كتاب أمير
المؤمنين، ثم نادى في الناس: أن اغدوا على غنائمكم،
فأخذ الخمس وقسمم الباقي على المسلمين، ثم دعا الله أن يميته؛ فما جمع حتى مات.
وهو الربيع بن زياد بن أنس بن ديان بن قطر بن زياد
بن الحارث بن مالك بن ربيعة بن كعب بن مالك بن كعب بن الحارث بن عمرو بن وعلة بن
خالد بن هالك بن أدد، وأما العلاء بن زياد الذي ذكره
الرضي رحمه الله فلا أعرفه، لعل غيري يعرفه. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال وقد سأله سائل عن أحاديث البدع وعما في أيدي
الناس من اختلاف الخبر فقال عليه السلام
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: إن في أيدي
الناس حقاً وباطلاً، وصدقاً وكذباً، وناسخاً ومنسوخاً، وعاماً وخاصاً، ومحكماً
ومتشابهاً، وحفظاً ووهماً. وقد كذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم على عهده، حتى قام خطيباً، فقال:
"من كذب علي متعمداً فليتبوا مقعده من النار". وإنما أتاك بالحديث أربعة رجالٍ، لا
لهم خامس: رجل منافق مظهر للإيمان، متصنع بالإسلام، لا يتأثم
ولا يتحرج، يكذب على رسول الله صلى
الله عليه وآله وصحبه وسلم متعمداً، فلو علم الناس أنه
منافق كاذب لم يقبلوا منه ولم يصدقوا قوله، ولكنهم
قالوا: صاحب رسول الله صلى الله عليه
وآله وصحبه وسلم، رآه وسمع منه، ولقف عنه؛ فيأخذون
بقوله، وقد أخبرك الله عن المنافقين بما أخبرك، ووصفهم بما وصفهم به لك، ثم بقوا
بعده، فتقربوا إلى أئمة الضلالة، والدعاة إلى النار بالزور والبهتان، فولوهم الأعمال،
وجعلوهم حكاماً على رقاب الناس، فأكلوا بهم الدنيا، وإنما الناس مع الملوك
والدنيا، إلا من عصم الله. فهذا أحد الأربعة. ورجل سمع من رسول الله شيئاً
لم يحفظه على وجهه، فوهم فيه، ولم يتعمد كذباً فهو في يديه، ويرويه ويعمل به،
ويقول: أنا سمعته من رسول الله صلى الله عليه
وآله وصحبه وسلم، فلو علم المسلمون أنه وهم فيه لم
يقبلوه منه، ولو علم هو أنه كذلك لرفضه. ورجلٌ ثالثٌ، سمع من رسول الله صلى
الله عليه وآله و صحبه وسلم شيئاً، يأمر به، ثم إنه نهى
عنه، وهو لا يعلم، أو سمعه ينهى عن شيء ثم أمر به وهو لا يعلم، فحفظ المنسوخ ولم
يحفظ الناسخ، فلو علم أنه منسوخ لرفضه، ولو علم المسلمون إذ سمعوة منه أنه منسوخ
لرفضوه. وأخر رابعٌ، لم
يكذب على الله ولا على رسوله، مبغضٌ للكذب خوفاً من الله، وتعظيماً لرسول الله صلى
الله عليه وآله وصحبه وسلم، ولم يهم، بل حفظ ما سمع على
وجهه، فجاء به على سمعه، لم يزد فيه ولم ينقص منه، فهو حفظ الناسخ فعمل به، وحفظ
المنسوخ فجنب عنه، وعرف الخاص والعام، والمحكم والمتشابه، فوضع كل شيء موضعه،
وقد كان يكون من رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم
الكلام، له وجهان، فكلامٌ خاصٌ!، وكلام عامٌ، فيسمعه من لا يعرف ما عنى الله
سبحانه به، ولا ما عنى رسول الله إلى الله عليه وأله
وصحبه وسلم، فيحمله السامع، ويوجهه على غير معرفة بمعناه، وما
قصد به، وما خرج من أجله، وليس كل أصحاب رسول الله صلى
الله عليه وأله وصحبه وسلم من كان يسأله، ويستفهمه، حتى
إن كانوا ليحبون أن يجيء الأعرابي والطارىء، فيسأله عليه السلام، حتى يسمعوا،
وكان لا يمر بي من ذلك شيء إلا سألته عنه، وحفظته.
فهذه وجوه ما عليه الناس في أختلافهم وعللهم في رواياتهم. قوله رضي الله عنه:
"وحفظاً ووهماً" الهاء مفتوحة، وهي مصدر وهمت، بالكسر، أوهم، أي غلطت
وسهوت، وقد روي: "وهماً" بالتسكين، وهو مصدر وهمت بالفتح
أوهم، إذا ذهب وهمك إلى شيء وأنت تريد غيره، والمعنى متقارب. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "فليتبوأ
مقعده من النار" كلام صيغته الأمر، ومعناه الخبر، كقوله تعالى: "قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مداً"
، وتبوأت المنزل: نزلته، وبوأته منزلاً: أنزلته فيه. والتأثم:
الكف عن موجب الإثم، والتحرج مثله، وأصله الضيق، كأنه يضيق على نفسه، ولقف عنه:
تناول عنه، وجنب عنه: أخذ عنه جانباً، و"إن" في قوله: "حتى إن
كانوا ليحبون" مخففة من الثقيلة، ولذلك جاءت اللام في الخبر، والطارىء،
بالهمز: الطالع عليهم، طرأ أي طلع، وقد روي:
"عللهم"، بالرفع عطفاً على "وجوه" وروي بالجر عطفاً
على " اختلافهم". |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
النفاق لم يمت بموت الرسول عليه السلام
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
واعلم أن هذا التقسيم صحيح،
وقد كان في أيام رسول الله صلى الله عليه
وسلم
منافقون، وبقوا بعده، وليس يمكن أن يقال: إن النفاق مات بموته، والسبب في استتار حالهم بعده أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يزال
يذكرهم بما ينزل عليه من القرآن، فإنه مشحون بذكرهم، ألا
ترى أن أكثر ما نزل بالمدينة من القرآن مملوء بذكر المنافقين، فكان السبب في
انتشار ذكرهم وأحوالهم وحركاتهم هو القرآن، فلما انقطع الوحي بموته صلى الله عليه وسلم
لم يبق من ينعى عليهم سقطاتهم ويوبخهم على أعمالهم، ويأمر بالحذر منهم، ويجاهرهم
تارةً، ويجاملهم تارةً، وصار المتولي للأمر بعده يحمل الناس كلهم على كاهل
المجماملة، ويعاملهم بالظاهر، وهو الواجب في حكم الشرع والسياسة الدنيوية، لخلاف
حال رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه كان
تكليفه معهم غير هذا التكليف، ألا ترى أنه قيل له: "ولا تصل على أحدٍ منهم مات أبداً" ؛
فهذا يدل على أنه كان يعرفهم بأعيانهم، وإلا كان النهي له عن الصلاة عليهم تكليف
ما لا يطاق، والوالي بعده لا يعرفهم بأعيانهم، فليس مخاطباً بما خوطب به صلى الله عليه وسلم في أمرهم،
ولسكوت الخلفاء عنهم بعده خمل ذكرهم، فكان قصارى أمر المنافق أن يسر ما في قلبه،
ويعامل المسلمين بظاهره، ويعاملونه بحسب ذلك. ثم فتحت
عليهم البلاد، وكثرت الغنائم، فاشتغلوا بها عن الحركات التي كانوا يعتمدونها
أيام رسول الله، وبعثهم الخلفاء مع الأمراء إلى بلاد فارس والروم، فألهتهم
الدنيا عن الأمور التي كانت تنقم منهم في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنهم من
استقام اعتقاده، وخلصت نيته، لما رأوا الفتوح وإلقاء الدنيا أفلاذ كبدها من
الأموال العظيمة، والكنوز الجليلة إليهم، فقالوا: لو لم
يكن هذا الدين حقاً لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه. وبالجملة لما تركوا تركوا، وحيث سكت عنهم
سكتوا عن الإسلام وأهله، إلا في دسيسة خفية يعملونها، نحو الكذب، الذي أشار إليه
أمير المؤمنين رضي الله عنه، فإنه خالط الحديث كذبٌ كثيرٌ، صدر عن
قوم غير صحيحي العقيدة، قصدوا به الإضلال وتخبيط القلوب والعقائد، وقصد به بعضهم
التنويه بذكر قوم كان لهم في التنويه بذكرهم غرض دنيوي. وقد قيل:
إنه افتعل في أيام معاوية خاصة حديث كثير على هذا الوجه، ولم يسكت المحدثون
الراسخون في علم الحديث عن هذا، بل ذكروا كثيراً من هذه الأحاديث الموضوعة،
وبينوا وضعها؛ وأن رواتها غير موثوق بهم، إلا أن المحدثين إنما يطعنون فيما دون
طبقة الصحابة، ولا يتجاسرون في الطعن على أحد من الصحابة؛ لأن عليه لفظ
"الصحبة"، على أنهم قد طعنوا في قوم لهم صحبة كبسر بن أرطاة وغيره. فإن قلت: من هم أئمة الضلالة، الذين يتقرب
إليهم المنافقون الذين رأوا رسول الله صلى
الله عليه وسلم، وصحبوه للزور والبهتان؟ وهل هذا إلا تصريح بما تذكره الإمامية، وتعتقده قلت: ليس الأمر كما ظننت وظنوا، وإنما يعني معاوية وعمرو بن العاص ومن شايعهما على الضلال، كالخبر الذي رواه من رواه في حق معاوية:
"اللهم قه العذاب والحساب، وعلمه الكتاب "، وكرواية
عمرو بن العاص تقرباً إلى قلب معاوية: "إن آل أبي طالب ليسوا لي
بأولياء، إنما وليي الله وصالح المؤمنين" وكرواية قوم في أيام معاوية
أخباراً كثيرة من فضائل عثمان، تقرباً إلى معاوية بها، ولسنا نجحد فضل عثمان
وسابقته، ولكنا نعلم أن بعض الأخبار الواردة فيه موضوع،
كخبر عمرو بن مرة فيه وهو مشهور، وعمرو بن مرة ممن له صحبة، وهو شامي. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
آل البيت عليهم السلام وبعض ما نالهم من الأذى
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وليس يجب من قولنا:
إن بعض الأخبار الواردة في حق شخص فاضل مفتعلة
أن تكون قادحة في فضل ذلك الفاضل؛ فإنا مع اعتقادنا أن
علياً أفضل الناس، نعتقد أن بعض الأخبار الواردة
في فضائله مفتعل ومختلق. وقد روي أن أبا جعفر محمد بن علي الباقر رضي الله عنه، قال
لبعض أصحابه: يا فلان، ما لقينا من ظلم قريش إيانا، وتظاهرهم علينا، وما
لقي شيعتنا ومحبونا من الناس، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض وقد أخر أنا
أولى الناس بالناس، فتمالأت علينا قريش حتى أخرجت الأمر عن معدنه، واحتجت على
الأنصار بحقنا وحجتنا. ثم تداولتها قريش، واحدٌ بعد واحد، حتى رجعت إلينا، فنكثت
بيعتنا، ونصبت الحرب لنا، ولم يزل صاحب الأمر في
صعود كؤود، حتى قتل، فبويع الحسن ابنه وعوهد ثم غدر به، وأسلم، ووثب عليه
أهل العراق حتى طعن بخنجر في جنبه، ونهبت عسكره، وعولجت خلاخيل أمهات أولاده،
فوادع معاوية وحقن دمه وذماء أهل بيته، وهم قليل حق قليل. ثم بايع الحسين رضي الله عنه من أهل
العراق عشرون ألفاً، ثم غدروا به، وخرجوا عليه، وبيعته في أعناقهم وقتلوه، ثم لم
نزل - أهل البيت - نستذل ونستضام، ونقمى ونمتهن، ونحرم ونقتل، ونخاف ولا نأمن
على دمائنا ودماء أوليائنا، ووجد الكاذبون الجاحدون لكذبهم
وجحودهم موضعاً يتقربون به إلى أوليائهم وقضاة السوء وعمال السوء في كل بلدة،
فحدثوهم بالأحاديث الموضوعة المكذوبة، ورووا عنا ما لم نقله وما لم نفعله،
ليبغضونا إلى الناس، وكان عظم ذلك وكبره زمن معاوية
بعد موت الحسن رضي الله عنه، فقتلت شيعتنا بكل بلدة، وقطعت الأيدي والأرجل على
الظنة، وكان من يذكر بحبنا والانقطاع إلينا سجن أو نهب ماله، أو هدمت داره، ثم
لم يزل البلاء يشتد ويزداد، إلى زمان عبيد الله بن زياد قاتل الحسين رضي الله
عنه، ثم جاء الحجاج فقتلهم كل قتلة،
وأخذهم بكل ظنة وتهمة، حتى إن الرجل ليقال له: زنديق
أو كافر، أحب إليه من أن يقال: شيعة علي،
وحتى صار الرجل الذي يذكر بالخير -
ولعله يكون ورعاً صدوقاً - يحدث بأحاديث عظيمة عجيبة، من
تفضيل بعض من قد سلف من الولاة، ولم يخلق الله تعالى شيئاً منها، ولا كانت ولا
وقعت وهو يحسب أنها حق لكثرة من قد رواها ممن لم يعرف بكذب ولا بقلة ورع. وروى أبو الحسن علي بن محمد بن أبي سيف
المدايني في كتاب "الأحداث" قال: كتب معاوية
نسخة واحدةً إلى عماله بعد عام الجماعة : أن برئت الذمة ممن روى شيئاً من فضل
أبي تراب وأهل بيته، فقامت الخطباء في كل كورة، وعلى كل منبر، يلعنون علياً
ويبراون منه ويقعون فيه وفي أهل بيته؛ وكان أشد الناس بلاء حينئذ أهل الكوفة؛
لكثرة من بها من شيعة علي رضي الله عنه، فاستعمل عليهم زياد بن سمية، وضم إليه
البصرة، فكان يتتبع الشيعة وهو بهم عارف؛
لأنه كان منهم أيام علي رضي الله عنه؛ فقتلهم تحت كل حجر ومدر، وأخافهم، وقطع
الأيدي والأرجل، وسمل العيون، وصلبهم على جذوع النخل، وطردهم وشردهم عن العراق؛
فلم يبق بها معروف منهم. وكتب معاوية إلى عماله في جميع الآفاق:
ألا يجيزوا لأحدٍ من شيعة علي وأهل بيته شهادة، وكتب
إليهم: أن انظروا من قبلكم من شيعة عثمان ومحبيه وأهل ولايته؛ والذين
يروون فضائله ومناقبه؛ فأدنوا مجالسهم وقربوهم وأكرموهم، واكتبوا لي بكل ما يروي
كل رجل منهم، واسمه واسم أبيه وعشيرته. ففعلوا ذلك، حتى أكثروا في فضائل عثمان
ومناقبه، لما كان يبعثه إليهم معاوية من الصلات والكساء والحباء والقطائع،
ويفيضه في العرب منهم والموالي، فكثر ذلك في
كل مصر، وتنافسوا في المنازل والدنيا، فليس يجيء أحد مردود من الناس عاملاً من
عمال معاوية، فيروي في عثمان فضيلة أو منقبة إلا كتب اسمه وقربه وشفعه. فلبثوا
بذلك حيناً. ثم كتب إلى عماله أن الحديث في عثمان قد كثر وفشا في كل مصر
وفي كل وجه وناحية؛ فإذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل
الصحابة والخلفاء الأولين، ولا تتركوا خبراً يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب
إلا وتأتوني بمناقض له في الصحابة؛ فإن هذا أحب إلي وأقر لعيني، وأدحض
لحجة أبي تراب وشيعته، وأشد إليهم من مناقب عثمان وفضله. فقرئت كتبه
على الناس، فرويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة لا حقيقة لها، وجد الناس
في رواية ما يجري هذا المجرى حتى أشادوا بذكر ذلك على المنابر، والقي إلى معلمي
الكتاتيب ؛ فعلموا صبيانهم وغلمانهم من ذلك الكثير الواسع حتى رووه وتعلموه كما
يتعلمون القرآن، وحتى علموه بناتهم ونساءهم وخدمهم وحشمهم، فلبثوا بذلك ما شاء
الله. ثم كتب إلى عماله نسخة واحدة إلى جميع
البلدان: انظروا من قامت عليه البينة أنه يحب علياً وأهل
بيته، فامحوه من الديوان، وأسقطوا عطاءه ورزقه، وشفع
ذلك بنسخة أخرى: من اتهمتموه بموالاة هؤلاء القوم، فنكلوا به، واهدفوا
داره. فلم يكن
البلاء أشد ولا أكثر منه بالعراق؛ ولا سيما بالكوفة، حتى
إن الرجل من شيعة علي رضي الله عنه ليأتيه من يثق به، فيدخل بيته، فيلقي
إليه سره، ويخاف من خادمه ومملوكه، ولا يحدثه حتى يأخذ عليه الأيمان الغليظة،
ليكتمن عليه، فظهر حديث كثير موضوع، وبهتان منتشر، ومضى على ذلك الفقهاء والقضاة
والولاة؛ وكان أعظم الناس في ذلك بلية القراء المراؤون، والمستضعفون، الذين
يظهرون الخشوع والنسك فيفتعلون الأحاديث ليحظوا بذلك عند ولاتهم، ويقربوا
مجالسهم، ويصيبوا به الأموال والضياع والمنازل؛ حتى انتقلت تلك الأخبار
والأحاديث إلى أيدي الديانين الذين لا يستحلون الكذب والبهتان؛ فقبلوها ورووها،
وهم يظنون أنها حق، ولو علموا أنها باطلة لما رووها، ولا تدينوا بها. فلم يزل الأمر كذلك حتى مات الحسن بن علي
رضي الله عنهما، فازداد البلاء والفتنة، فلم يبق أحد من هذا القبيل إلا وهو خائف
على دمه؛ أو طريد في الأرض. ثم تفاقم الأمر بعد قتل الحسين رضي الله عنه، وولي
عبد الملك بن مروان، فاشتد على الشيعة، وولي عليهم الحجاج بن يوسف،
فتقرب إليه أهل النسك والصلاح والدين ببعض علي وموالاة أعدائه، وموالاة من يدعي
من الناس أنهم أيضاً أعداؤه، فأكثروا في الرواية في فضلهم وسوابقهم ومناقبهم،
وأكثروا من الغض من علي رضي الله عنه
وعيبه، والطعن فيه، والشنآن له، حتى إن إنساناً وقف للحجاج - ويقال إنه جد الأصمعي عبد الملك بن قريب - فصاح به:
أيها الأمير إن أهلي عقوني فسموني علياً، وإني فقير بائس، وأنا إلى صلة الأمير
محتاج. فتضاحك له الحجاج، وقال: للطف ما
توسلت به قد وليتك موضع كذا. وقد روى ابن عرفة المعروف بنفطويه - وهو من أكابر المحدثين وأعلامهم - في
تاريخه ما يناسب هذا الخبر، وقال: إن أكثر الأحاديث
الموضوعة في فضائل الصحابة افتعلت في أيام بني أمية، تقرباً إليهم بما يظنون
أنهم يرغمون به أنوف بني هاشم. قلت: ولا
يلزم من هذا أن يكون علي رضي الله عنه يسوءه أن يذكر الصحابة والمتقدمون عليه
بالخير والفضل، إلا أن معاوية وبني أمية كانوا يبنون الأمر من هذا على ما يظنونه
في علي رضي الله عنه من أنه عدو من تقدم
عليه، ولم يكن الأمر في الحقيقة كما يظنونه، ولكنه كان يرى أنه أفضل منهم، وأنهم
استأثروا عليه بالخلافة من غير تفسيق منه لهم، ولا براءة منهم. فأما قوله رضي الله
عنه: "ورجل سمع من رسول الله شيئاً ولم يحفظه على وجهه فوهم
فيه"، فقد وقع ذلك. وقال أصحابنا في الخبر الذي رواه عبد الله بن عمر: "إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه": إن ابن عباس لما روي له هذا الخبر، قال: ذهل ابن
عمر، إنما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبر يهودي، فقال: إن أهله ليبكون عليه، وإنه ليعذب. وقالوا أيضاً: إن عائشة أنكرت ذلك، وقالت: ذهل أبو عبد الرحمن، كما ذهل في خبر قليب
بدر، إنما قال رضي الله عنه:
"إنهم ليبكون عليه، وإنه ليعذب بجرمه ". قالوا: وموضع غلطه في خبر القليب أنه
روى أن النبي صلى الله عليه وسلم
وقف على قليب بدر، فقال: "هل وجدتم ما وعدكم ربكم
حقاً"؛ ثم قال: "إنهم يسمعون ما أقول لهم
"، فأنكرت عائشة ذلك، وقالت: إنما
قال: "إنهم يعلمون أن الذي كنت أقوله لهم هو الحق "، واستشهد بقوله
تعالى: "إنك لا تسمع الموتى" . فأما الرجل الثالث، وهو الذي يسمع المنسوخ ولم يسمع
الناسخ، فقد وقع كثيراً، وكتب الحديث والفقه مشحونة بذلك، كالذين أباحوا لحوم
الحمر الأهلية لخبر رووه في ذلك، ولم يرووا الخبر
الناسخ. وأما الرجل الرابع فهم العلماء الراسخون في العلم. وأما قوله رضي الله عنه: "وقد كان يكون من
رسول الله صلى الله عليه وسلم الكلام له وجهان
"، فهذا داخل في القسم الثاني وغير خارج
وألا وسلم عنه، ولكنه كالنوع من الجنس، لأن الوهم والغلط جنس تحته أنواع. واعلم أن أمير المؤمنين رضي الله عنه كان مخصوصاً من دون الصحابة رضوان الله عليهم بخلوات كان
يخلو بها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم،
لا لطلع أحدٌ من الناس على ما يدور بينهما، وكان كثير السؤال للنبي صلى الله عليه وسلم عن معاني
القرآن وعن معاني كلامه صلى الله عليه وسلم، وإذا لم يسال ابتدأه النبي صلى الله عليه وسلم بالتعليم
والتثقيف ولم يكن أحد من أصحاب النبي صلى
الله عليه وسلم كذلك، بل كانوا أقساماً: فمنهم من يهابه أن يسأله، وهم
الذين يحبون أن يجيء الأعرابي أو الطارىء فيسأله وهم يسمعون، ومنهم من كان بليداً بعيد الفهم قليل الهمة في
النظر والبحث، ومنهم من كان مشغولاً عن طلب العلم
وفهم المعاني، إما بعبادة أو دنيا، ومنهم
المقلد يرى أن فرضه السكوت وترك السؤال، ومنهم
المبغض الشانىء الذي ليس للدين عنده من الموقع ما يضيع وقته وزمانه
بالسؤال عن دقائقه وغوامضه؛ وانضاف إلى الأمر الخاص بعلي رضي الله عنه ذكاؤه
وفطنته، وطهارة طينته، وإشراق نفسه وضوءها، وإذا كان المحل قابلاً متهيئاً، وكان
الفاعل المؤثر موجوداً، والموانع مرتفعة، حصل الأثر على أتم ما يمكن؛ فلذلك كان علي رضي
الله عنه -
كما قال الحسن البصري- رباني هذه الأمة وذا فضلها؛
ولذا تسميه الفلاسفة: إمام
الأئمة وحكيم العرب. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أفصل فيما وضع الشيعة والبكرية من الأحاديث
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
واعلم أن أصل الأكاذيب في أحاديث
الفضائل كان من جهة الشيعة، فإنهم وضعوا في مبدأ الأمر أحاديث مختلفة في صاحبهم، حملهم على وضعها عداوة خصومهم، نحو
حديث "السطل" وحديث "الرمانة" وحديث غزوة البئر التي كان فيها الشياطين، وتعرف كما زعموا ب "ذات العلم "، وحديث غسل سلمان الفارسي، وطي الأرض، وحديث الجمجمة، ونحو ذلك. فلما رأت البكرية ما صنعت الشيعة، وضعت لصاحبها أحاديث في مقابلة
هذه الأحاديث، نحو "لو كنت متخذاً خليلاً"، فإنهم وضعوه في مقابلة حديث الإخاء، ونحو سد الأبواب؛ فإنه
كان لعلي رضي الله عنه فقلبته البكرية إلى أبي بكر رضي الله عنه، ونحو "ائتوني بدواة وبياض أكتب فيه لأبي بكر كتاباً لا يختلف
عليه اثنان". ثم قال: "يأبى الله تعالى والمسلمون إلا أبا بكر"، فإنهم وضعوه في مقابلة الحديث المروي عنه في مرضه: "ائتوني بدواة وبياض أكتب لكم ما لا تضلون بعده
أبداً"، فاختلفوا عنده. وقال قومٌ منهم: لقد غلبه
الوجع، حسبنا كتاب الله ونحو حديث: "أنا راضٍ عنك فهل أنت عني
راضٍ"، ونحو
ذلك. فلما رأت الشيعة ما قد وضعت البكرية أوسعوا في
وضع الأحاديث، فوضعوا حديث الطوف الحديد
الذي زعموا أنه فتله في عنق خالد، وحديث اللوح الذي زعموا أنه كان في غدائر
الحنفية أم محمد، وحديث: "لا يفعلن خالد ما آمر به"، وحديث الصحيفة التي علقت عام الفتح بالكعبة، وحديث الشيخ
الذي صعد المنبر يوم بويع أبو بكر رضي
الله عنه، فسبق الناس إلى بيعته، وأحاديث مكذوبة
كثيرة تقتضي نفاق قوم من أكابر الصحابة والتابعين الأولين وكفرهم، وعليٌ أدون
الطبقات فيهم، فقابلتهم البكرية بمطاعن كثيرة في علي
وفي ولديه، ونسبوه تارة إلى ضعف العقل،
وتارة إلى ضعف السياسة، وتارة إلى حب الدنيا
والحرص عليها. ولقد كان الفريقان في غنية عما اكتسباه
واجترحاه، ولقد كان في فضائل علي رضي
الله عنه الثابتة الصحيحة، وفضائل أبي بكر رضي الله عنه المحققة المعلومة ما يغني عن تكلف العصبية لهما، فإن العصبية لهما أخرجت الفريقين من
ذكر الفضائل إلى ذكر الرذائل،
ومن تعديد المحاسن إلى تعديد المساوىء والمقابح.
ونسأل الله تعالى أن يعصمنا من الميل
إلى الهوى وحب العصبية، وأن يجرينا على ما عودنا من حب الحق
أين وجد وحيث كان؛ سخط ذلك من سخط، ورضي به من رضي
بمنه ولطفه. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن خطبة له في عجيب صنعة الكون
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
وكان من أقتدار جبروته، وبديع لطائف صنعته، أن جعل من ماء البحر الزاخر المتراكم
المتقاصف، يبساً جامداً، ثم فطر منه أطباقاً، ففتقها سبع سمواتٍ بعد أرتتاقها،
فاستمسكت بأمره، وقامت على حده يحملها الأخضر المثعنجر، والقمقام المسخر. قد ذل
لأمره، وأذعن لهيبته، ووقف الجاري منه لخشيته. وجبل جلاميدها، ونشوز فتونها،
وأطوادها؛ فأرساها في مراسيها، وألزمها قرارتها، فمضت رؤوسها في الهواء، ورست
أصولها في الماء، فأنهد جبالها عن سهولها، وأساخ قواعدها في متون أقطارها،
ومواضع أنصابها، فأشهق قلالها، وأطال أنشازها، وجعلها للأرض عماداً، وأرزها فيها
أوتاداً، فسكنت على حركتها من أن تميد بأهلها، أو تسيخ بحملها، أو تزول عن
مواضعها. فسبحان من أمسكها بعد موجان مياهها، وأجمدها بعد رطوبة أكنافها، فجعلها
لخلقه مهاداً، وبسطها لهم فراشاً، فوق بحر لجي راكدٍ لا يجري، وقائم لا يسري،
تكركره الرياح العواصف، وتمخضه الغمام الذوارف، إن في ذلك لعبرة لمن يخشى. الشرح: أراد
أن يقول: "وكان من اقتداره" فقال:
"وكان من اقتدار جبروته "، تعظيماً وتفخيماً، كما يقال للملك: أمرت
الحضرة الشريفة بكذا. والبحر
الزاخر: الذي قد امتد جداً وارتفع، والمتراكم: المجتمع بعضه على بعض، والمتقاصف: الشديد الصوت، قصف الرعد وغيره قصيفاً،
واليبس، بالتحريك: المكان يكون رطباً ثم
ييبس، ومنه قوله تعالى: "فاضرب لهم طريقاً في
البحر يبساً" ، واليبس بالسكون: اليابس خلقة، حطب يبس، هكذا يقوله
أهل اللغة وفيه كلام، لأن الحطب ليس يابساً خلقة بل كان رطباً من قبل، فالأصوب أن يقال: لا تكون هذه اللفظة محركة إلا في
المكان خاصة. وفطر: خلق، والمضارع يفطر بالضم، فطراً. الأطباق: جمع طبق،
وهو أجزاء مجتمعة من جراد أو غيم أو ناس أو غير ذلك من حيوان أو جماد، يقول: خلق منه أجساماً مجتمعة مرتتقة، ثم فتقها
سبع سموات. وروي:
"ثم فطر منه طباقاً" أي أجساماً منفصلة في الحقيقة متصلة في الصورة
بعضها فوق بعض، وهي من ألفاظ القرآن المجيد. والضمير في "منه" يرجع
إلى ماء البحر في أظهر النظر، وقد يمكن أن يرجع إلى اليبس. واعلم أنه قد تكرر في كلام أمير المؤمنين ما يماثل هذا القول
ويناسبه، وهو مذهب كثير من الحكماء الذين قالوا بحدوث السماء، منهم ثاليس
الملطي، قالوا: أصل الأجسام الماء، وخلقت الأرض من زبده، والسماء من بخاره، وقد
جاء القرآن العزيز بنحو هذا، قال سبحانه: "الذي
خلق السموات والأرض في ستة أيامٍ وكان عرشه على الماء" قال شيخنا أبو علي وأبو القاسم رحمهما الله في تفسيريهما:
هذه الآية دالة على أن الماء والعرش كانا قبل خلق السموات والأرض، قالا: وكان
الماء على الهواء، قالا: وهذا يدل أيضاً على أن الملائكة كانوا موجودين قبل خلق
السموات والأرض، لأن الحكيم سبحانه لا يجوز أن يقدم خلق الجماد على خلق المكلفين،
لأنه يكون عبثاً. وقال
علي بن عيسى الرماني من مشايخنا:
إنه غير ممتنع أن يخلق الجماد قبل الحيوان، إذا علم أن في إخبار المكلفين بذلك
لطفاً لهم، ولا يصح أن يخبرهم إلا وهو صادق فيما أخبر به، وإنما يكون صادقاً إذا
كان المخبر خبره على ما أخبر عنه، وفي ذلك حسن تقديم خلق الجماد على خلق
الحيوان. وكلام أمير المؤمنين رضي الله عنه
يدل على أنه كان يذهب إلى أن الأرض موضوعة على ماء البحر، وأن البحر حامل لها
بقدرة الله تعالى، وهو معنى قوله: "يحملها الأخفر المثعنجر، والقمقام
المسخر" ، وأن البحر الحامل لها قد كان جارياً فوقف تحتها، وأنه تعالى خلق
الجبال؛ في الأرض، فجعل أصولها راسخة في ماء البحر الحامل للأرض وأعاليها شامخة
في الهواء، وأنه سبحانه جعل هذه الجبال عماداً للأرض، وأوتاداً تمنعها من الحركة
والاضطراب، ولولاها لماجت واضطربت، وأن هذا البحر الحامل للأرض تصعد فيه الرياح
الشديدة فتحركه حركة عنيفة، وتموج السحب التي تغترف الماء منه لتمطر الأرض به،
وهذا كله مطابق لما في الكتاب العزيز، والسنة النبوية، والنظر الحكمي، ألا ترى
إلى قوله تعالى: "أولم ير الذين كفروا أن
السموات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما" ، وهذا هو صريح قوله رضي
الله عنه: "ففتقها سبع سموات بعد
ارتتاقها"، وإلى قوله تعالى: "وجعلنا
في الأرض رواسي أن تميد بهم" ، وإلى ما ورد في الخبر من أن الأرض
مدحوة على الماء،
وأن الرياح تسوق السحب إلى الماء نازلة، ثم تسوقها عنه صاعدة بعد امتلائها، ثم
تمطر. وأما النظر الحكمي فمطابق لكلامه إذا تأمله المتأمل، وحمله على المحمل
العقلي، وذلك لأن الأرض هي آخر طبقات العناصر، وقبلها عنصر الماء، وهو محيط
بالأرض كلها إلا ما برز منها، وهو مقدار الربع من كرة الأرض، على ما ذكره علماء
هذا الفن وبرهنوا عليه، فهذا تفسير قوله رضي الله عنه: "يحملها الأخضر
المثعنجر". وأما
قوله: "ووقف الجاري منه لخشيته"، فلا يدل دلالة قاطعة على أنه كان جارياً ووقف، ولكن ذلك
كلامٌ خرج مخرج التعظيم والتبجيل، ومعناه أن الماء طبعه الجريان والسيلان، فهو
جار بالقوة، وإن لم يكن جارياً بالفعل، وإنما وقف ولم يجر بالفعل بقدرة الله
تعالى، المانعة له من السيلان، وليس قوله: "ورست أصولها في الماء" مما
ينافي النظر العقلي، لأنه لم يقل: "ورست أصولها في ماء البحر"، ولكنه قال: "في الماء"، ولا شبهة في أن
أصول الجبال راسية في الماء المتخلخل بين أجزاء الأرض، فإن الأرض كلها يتخلخل
الماء بين أجزائها على طريق استحالة البخار من الصورة الهوائية إلى الصورة
المائية. وليس ذكره للجبال
وكونها مانعة للأرض من الحركة بمناف أيضاً للنظر الحكمي لأن الجبال في الحقيقة
قد تمنع من الزلزلة إذا وجدت أسبابها الفاعلة، فيكون ثقلها مانعاً من الهدة
والرجفة. وليس قوله: "تكركره الرياح " منافياً
للنظر الحكمي أيضاً، لأن كرة الهواء محيطة بكرة الماء، وقد تعصف الرياح في كرة
الهواء للأسباب المذكورة في موضعها من هذا العلم، فيتموج كثير من الكرة المائية
لعصف الرياح. وليس قوله رضي الله عنه: "وتمخضه الغمام
الذوارف" صريحاً في أن السحب تنزل في البحر، فتغترف منه، كما قد
يعتقد في المشهور العامي، نحو قول الشاعر:
بل
يجوز أن تكون الغمام الذوارف تمخضه وتحركه بما ترسل عليه من الأمطار السائلة
منها، فقد ثبت أن كلام أمير المؤمنين رضي الله عنه موجه؛ إن شئت فسرته بما
يقوله أهل الظاهر، وإن شئت فسرته بما يعتقده الحكماء. فإن قلت: فكيف قال الله تعالى: "أو لم ير الذين
كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما"؛ وهل كان الذين كفروا رائين
لذلك؛ حتى يقول لهم "أو لم ير الذين كفروا"؛ قلت: هذا في قوة قوله: "اعلموا أن السموات والأرض
كانتا رتقاً ففتقناهما"، كما يقول الإنسان لصاحبه: ألم تعلم أن الأمير صرف حاجبه الليلة عن بابه؟ أي اعلم ذلك
إن كنت غير عالم؛ والرؤية هنا بمعنى العلم. واعلم
أنه قد ذهب قوم من قدماء الحكماء - ويقال: إنه مذهب سقراط - إلى تفسير
القيامة وجهنم بما يبتني على وضح الأرض على الماء، فقالوا: الأرض موضوعة على
الماء، والماء على الهواء، والهواء على النار، والنار في حشو الأفلاك؛ ولما كان
العنصران الخفيفان - وهما الهواء والنار- يقتضيان صعود ما يحيطان به، والعنصران
الثقيلان اللذان في وسطهما، وهما الماء والأرض؛ يقتضيان النزول والهبوط، وقعت
الممانعة والمدافعة، فلزم من ذلك وقوف الماء والأرض في الوسط. قالوا:
ثم إن النار لا تزال يتزايد تأثيرها في إسخان الماء، وينضاف إلى ذلك حر الشمس
والكواكب إلى أن تبلغ البحار والعنصر المائي غايتهما في الغليان والفوران،
فيتصاعد بخاز عظيم إلى الأفلاك شديد السخونة، وينضاف إلى ذلك حر فلك الأثير الملاصق للأفلاك فتذوب الأفلاك كما يذوب الرصاص،
وتتهافت وتتساقط وتصير كالمهل الشديد الحرارة. ونفوس البشر على قسمين: أحدهما ما تجوهر وصار مجرداً بطريق العلوم والمعارف وقطع
العلائق الجسمانية حيث كان مدبراً للبدن، والآخر ما بقي على جسمانيته بطريق خلوه
من العلوم والمعارف، وانغماسه في اللذات والشهوات الجسمانية، فأما الأول فإنه
يلتحق بالنفس الكلية المجردة، ويخلص من دائرة هذا العالم بالكلية. وأما الثاني
فإنه تنصب عليه تلك الأجسام الفلكية الذائبة، فيحترق بالكلية، ويتعذب ويلقى
آلاماً شديدة. قالوا: هذا هو باطن ما وردت به الرواية من العذاب عليها، وخراب
العالم والأفلاك وانهدامها. ثم نعود إلى شرح الألفاظ: قوله رضي الله عنه: "فاستمسكت"، أي وقفت وثبتت،
والهاء في "حده" تعود إلى أمره، أي قامت على حد ما أمرت به؛ أي لم
تتجاوزه ولا تعدته، والأخضر: البحر، ويسمى أيضاً "خضارة" معرفة غير
مصروف، والعرب تسميه بذلك؛ إما لأنه يصف لون السماء فيرى أخضر، أو لأنه يرى أسود
لصفائه فيطلقون عليه لفظ الأخضر؛ كما سموا الأخضر أسود، نحو قوله: "مدهامتان" ، ونحو تسميتهم قرى العراق
سواداً لخضرتها وكثرة شجرها، ونحو قولهم للديزج من الدواب أخضر. قوله رضي الله
عنه: "وجبل جلاميدها"، أي وخلق صخورها؛ جمع جلمود. والنشوز: جمع نشز، وهو المرتفع من الأرض.
ويجوز فتح الشين. ومتونها:
جوانبها. وأطوادها: جبالها: "ويروى": "
وأطوادها "بالجر عطفاً على متونها. فأرساها في مراسيها، أثبتها في مواضعها، رسا
الشيء يرسو: ثبت. ورست أقدامهم في الحرب: ثبتت، ورست السفينة ترسو رسواً ورسواً،
أي وقفت في البحر. وقوله تعالى:
"بسم الله مجراها ومرساها" ؛ بالضم من أجريت وأرسيت، ومن قرأ
بالفتح فهو من "رست" هي، "وجرت" هي، وألزمها قراراتها:
أمسكها حيث استقرت. قوله "فأنهد جبالها"، أي أعلاها. نهد
ثدي الجارية ينهد بالضم، إذا أشرف وكعب، فهي ناهد وناهدة، وسهولها: ما تطامن
منها عن الجبال. وأساخ قواعدها، أي غيب قواعد الجبال في جوانب
أقطار الأرض، ساخت قوائم الفرس في الأرض تسوخ وتسيخ، أي دخلت فيها وغابت، مثل
ثاخت، وأسختها أنا مثل أثختها. والأنصاب:
الأجسام المنصوبة، الواحد نصب بضم النون والصاد، ومنه سميت الأصنام نصباً في
قوله تعالى: "وما ذبح على النصب" ؛
لأنها نصبت فعبدت من دون الله، قال الأعشى:
أي وأساخ قواعد الجبال في متون أقطار الأرض؛ وفي
المواضع الصالحة لأن تكون فيها الأنصاب المماثلة، وهي الجبال أنفسها. قوله: "فأشهق قلالها"،
جمع قلةٍ وهي ما علا من رأس الجبل، أشهقها: جعلها
شاهقة، أي عالية. وأرزها: أثبتها فيها، رزت الجرادة ترز رزاً، وهو أن
تدخل ذنبها في الأرض فتلقي بيضها، وأرزها الله: أثبت ذلك منها في الأرض، ويجوز
"أرزت"، لازماً غير متعدٍ، مثل رزت، وارتز السهم في القرطاس: ثبت فيه. وروي
"وآرزها" بالمد من قولهم: شجرة آرزة، أي ثابتة في الأرض، أرزت بالفتح،
تأرز بالكسر، أي ثبتت، وآرزها - بالمد - غيرها، أي أثبتها، وتميد: تتحرك. وتسيخ:
تنزل وتهوي. فإن قلت: ما الفرق بين الثلاثة:
تميد بأهلها، أو تسيخ بحملها، أو تزول عن مواضعها؛ قلت: لأنها لو تحركت لكانت
إما أن تتحرك على مركزها أو لا على مركزها، والأول هو المراد
بقوله: "تميد بأهلها"، والثاني تنقسم إلى أن تنزل إلى تحت أو لا تنزل إلى تحت، فالنزول إلى تحت هو
المراد بقوله؛ "أو تسيخ بحملها" والقسم الثاني هو المراد بقوله: "أو تزول عن مواضعها". فإن قلت: ما
المراد ب "على" في قوله: "فسكنت على حركتها"؟. قلت: هي لهيئة الحال، كما تقول
عفوت عنه على سوء أدبه، ودخلت إليه على شربه، أي سكنت، على أن من شأنها الحركة؛
لأنها محمولة على سائل متموج. قوله: "موجان مياهها"، بناء
"فعلان" لما فيه اضطراب وحركة كالغليان والنزوان والخفقان، ونحو ذلك.
وأجمدها، أي جعلها جامدة. وأكنافها: جوانبها. والمهاد: الفراش. قوله:
"يكركره الرياح "، الكركرة: تصريف الريح السحاب إذا جمعته بعد تفريق
وأصله "يكرر" من التكرير، فأعادوا الكاف، كركرت الفارس عني أي دفعته
ورددته. والرياح العواصف: الشديدة الهبوب. وتمخضه، يجوز فتح
الخاء وضمها وكسرها، والفتح أفصح؛ لمكان حرف الحلق، من مخضت اللبن، إذا حركته
لتأخذ زبده. والغمام: جمع، والواحدة غمامة، ولذلك قال: "
الذوارف "، لأن "فواعل " أكثر ما يكون لجمع المؤنث، ذرفت عينه أي
دمعت، أي السحب المواطر، والمضارع من " ذرفت" عينه "تذرف "
بالكسر، ذرفاً وذرفاً. والمذارف: المدامع. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
في استنهاض أصحابه إلى الجهاد
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: اللهم أيما
عبدٍ من عبادك سمع مقالتنا العادلة غير الجائرة، والمصلحة في الدين والدنيا غير
المفسدة، فأبى بعد سمعه لها إلا النكوص عن نصرتك، والإبطاء عن إعزاز دينك، فإنا
نستشهدك عليه يا أكبر الشاهدين شهادة، ونستشهد عليه جميع ما أسكنتة أرضك
وسمواتك. ثم أنت بعده المغني عن نصره، والآخذ له بذنبه. الشرح: ما في "أيما" زائدة مؤكدة، ومعنى
الفصل وعيد من استنصره فقعد عن نصره، ووصف المقالة بأنها عادلة، إما تأكيد، كما
قالوا: شعر شاعر، وإما ذات عدل، كما قالوا: رجل
تأمر ولابن، أي ذو تمر ولبن، ويجوز أيضاً أن يريد بالعادلة المستقيمة التي ليست
كاذبة ولا محرفة عن جهتها، والجائرة نقيضها وهي المنحرفة، جار فلان عن الطريق،
أي انحرف وعدل، والنكوص: ا لتأخر. قوله رضي الله
عنه: "نستشهدك عليه "، أي نسألك أن تشهد عليه، ووصفه تعالى بأنه أكبر الشاهدين شهادة، لقوله تعالى: "قل أي شيء أكبر شهادةً قل الله" ، يقول: اللهم إنا نستشهدك على خذلان من استنصرناه،
واستنفرناه إلى نصرتك، والجهاد عن دينك فأبى النهوض، ونكث عن القيام بواجب
الجهاد، ونستشهد عبادك، من البشر في أرضك، وعبادك من الملائكة في سمواتك عليه
أيضاً، ثم أنت بعد ذلك المغني لنا عن نصرته ونهضته، بما تتيحه لنا من النصر،
وتؤيدنا به من الإعزاز والقوة، والآخذ له بذنبه في القعود والتخلف. وهذا قريب من قوله تعالى: "وإن
تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم" . |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال في تمجيد الله وتعظيمه
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: الحمد لله
العلي عن شبه المخلوقين، الغالب لمقال الواصفين، الظاهر بعجائب تدبيره للناظرين؛
والباطن بجلال عزته عن فكر المتوهمين. العالم بلا اكتساب ولا أزدياد، ولا علم
مستفاد، المقدر لجميع الأمور بلا روية ولا ضمير، الذي لا تغشاه الظلم، ولا
يستضيء بالأنوار، ولا يرهقه ليل ولا يجري عليه نهار ليس إدراكه بالأبصار، ولا
علمه بالإخبار. الشرح: يجوز شبه
وشبه، والرواية ههنا بالفتح، وتعاليه سبحانه عن شبه المخلوقين؛ كونه قديماً واجب
الوجود، وكل مخلوق محدث ممكن الوجود. قوله: "الغالب لمقال الواصفين "، أي إن
كنه جلاله وعظمته، لا يستطيع الواصفون وصفه وإن أطنبوا وأسهبوا، فهو كالغالب
لأقوالهم لعجزها عن إيضاحه وبلوغ منتهاه، والظاهر بأفعاله، والباطن بذاته، لأنه
إنما يعلم منه أفعاله، وأما ذاته فغير معلومة. ثم وصف علمه تعالى فقال:
إنه غير مكتسب كما يكتسب الواحد منا علومه بالاستدلال والنظر، ولا هو علم يزداد
إلى علومه الاولى كما تزيد علوم الواحد منا ومعارفه، وتكثر لكثرة الطرق التي
يتطرق بها إليها. ثم قال: "ولا علم مستفاد"،
أي ليس يعلم الأشياء بعلم محدث مجدد كما يذهب إليه جهم وأتباعه وهشام بن الحكم، ومن قال بقوله. ثم ذكر أنه تعالى قدر الأمور كلها
بغير روية، أي بغير فكر ولا ضمير، وهو ما يطويه الإنسان من الرأي والاعتقاد
والعزم في قلبه. ثم وصفه
تعالى بأنه لا يغشاه ظلام، لأنه ليس بجسم، ولا يستضيء بالأنوار؛ كالأجسام ذوات
البصر. ولا يرهقه ليل، أي لا يغشاه. ولا يجري
عليه نهار، لأنه ليس بزماني. ولا قابل للحركة، ليس إدراكه بالإبصار، لأن ذلك
يستدعي المقابلة. ولا علمه بالإخبار مصدر أخبر، أي ليس علمه مقصوراً
على أن تخبره الملائكة بأحوال المكلفين، بل هو يعلم كل شيء، لأن ذاته ذات واجب
لها أن تعلم كل شيء لمجرد ذاتها المخصوصة، من غير زيادة أمر على ذاتها. الأصل: منها في ذكر النبي صلى الله عليه وآله وصحبه: أرسله
بالضياء، وقدمه في الاصطفاء، فرتق به المفاتق، وساور به المغالب، وذلل به
الصعوبة، وسهل به الحزونة، حتى سرح الضلال، عن يمينٍ وشمالٍ. الشر ح: أرسله
بالضياء، أي بالحق، وسمى الحق ضياء، لأنه يهتدى به، أو أرسله بالضياء أي
بالقرآن. وقدمه في الإصطفاء، أي قدمه في الاصطفاء على غيره
من العرب والعجم، قالت قريش: "لولا نزل هذا القرأن على رجل من القريتين" ، أي على رجل من رجلين من القريتين عظيم؛ أي إما
على الوليد بن المغيرة من مكة، أو على عروة بن مسعود الثقفي من الطائف ثم قال تعالى: أهم يقسمون رحمة ربك" ، أي هو سبحانه العالم
بالمصلحة في إرسال الرسل، وتقديم من يرى في الاصطفاء على غيره. فرتق به المفاتق،
أي أصلح به المفاسد، والرتق ضد الفتق، والمفاتق: جمع مفتق، وهو مصدر؛ كالمضرب
والمقتل. وساور به المغالب: ساورت زيداً أي واثبته، ورجل سوار، أي وثاب، وسورة
الخمر: وثوبها في الرأس. والحزونة ضد السهولة، والحزن:
ما غلظ من الأرض. والسهل: ما لان منها،
واستعير لغير الأرض كالأخلاق ونحوها. عن يمين
وشمال، من قولهم: ناقة كسرح ومنسرحة، أي سريعة. ومنه تسريح المرأة، أي تطليقها. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال في صفة الرسول والعلماء
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: وأشهد أنه
عدلٌ عدل، وحكمٌ فصل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وسيد عباده، كلما نسخ الله
الخلق فرقتين جعله في خيرهما، لم يسهم فيه عاهرٌ، ولا ضرب فيه فاجرٌ. ألا وإن الله سبحانه قد جعل للخير أهلاً، وللحق
دعائم، وللطاعة عصماً، وإن لكم عند كل طاعة عوناً من الله سبحانه، يقول على
ألالسنة؛ ويثبت به الأفئدة؛ فيه كفاءٌ لمكتفٍ، وشفاءٌ لمشتفٍ. وأعلموا
أن عباد الله المستحفظين علمه، يصونون مصونه، ويفجرون عيونه؛ يتواصلون بالولاية،
ويتلاقون بالمحبة، ويتساقون بكأسٍ رويةٍ، ويصدرون بريةٍ. لا تشوبهم الريبة، ولا
تسمرع فيهم الغيبة؛ على ذلك عقد خلقهم وأخلاقهم، فعليه يتحابون، وبه يتواصلون،
فكانوا كتفاضل البذر ينتقى، فيؤخذ منه ويلقى، قد ميزه التخليص، وهذبه التمحيص. فليقبل
أمرؤٌ كرامةً بقبولها، وليحذر قارعةً قبل حفولها، ولينظر أمرؤٌ في قصير أتامه
وقليل مقامه في منزلٍ، حتى يستبدل به منزلاً؛ فليصنع لمتحوله، ومعارف منتقله. فطوبى لذي قلبٍ سليمٍ، أطاع من يهديه، وتجنب
من يرديه، وأصاب سبيل السلامة ببصر من بصره، وطاعة هادٍ أمره، وبادر الهدى قبل
أن تغلق أبوابه، وتقطع أسبابه. واستفتح
التوبة، وأماط الحوبة، فقد أقيم على الطريق، وهدي نهج السبيل. الشرح:
الضمير في "أنه" يرجع إلى القضاء والقدر المذكور في صدر هذه الخطبة، ولم يذكره الرضي رحمه الله؛ يقول:أشهد أن قضاءه تعالى عدل عدل وحكم بالحق، فإنه حكمٌ
فصل بين العباد بالإنصاف، ونسب العدل والفصل إلى القضاء على طريق المجاز، وهو
بالحقيقة منسوب إلى ذي القضاء، والقاضي به هو الله تعالى. قوله: "وسيد
عباده"، هذا كالمجمع عليه بين المسلمين، وإن كان قد خالف فيه شذوذٌ
منهم، واحتج الجمهور بقوله: "أنا سيد ولد آدم ولا
فخر"، وبقوله: "ادعوا لي سيد
العرب علياً"، فقالت عائشة -:
ألست سيد العرب؛ فقال: "أنا سيد البشر، وعلي
سيد العرب "، وبقوله: "آدم
ومن دونه تحت لوائي ". قوله رضي الله
عنه: "كلما نسخ الله الخلق فرقتين جعله في خيرهما"، النسخ: النقل، ومنه نسخ الكتاب، ومنه نسخت الريح
آثار القوم، ونسخت الشمس الظل، يقول: كلما قسم الله تعالى الأب الواحد إلى
ابنين، جعل خيرهما وأفضلهما لولادة محمد صلى الله عليه وسلم، وسمى ذلك
نسخاً، لأن البطن الأول يزول، ويخلفه البطن الثاني، ومنه مسائل المناسخات في
الفرائض. وهذا المعنى قد ورد مرفوعاً في عدة أحاديث، نحو قوله صلى الله عليه وسلم: "ما افترقت
فرقتان منذ نسل آدم ولده إلا كنت في خيرهما". ونحو قوله: "إن الله اصطفى من ولد إبراهيم
إسماعيل، واصطفى من ولد إسماعيل مضر، واصطفى من مضر كنانة، واصطفى من كنانة
قريشاً، واصطفى من قريش هاشماً، واصطفاني من بني هاشم". قوله: "لم يسهم فيه عاهر، ولا ضرب فيه
فاجر"، لم يسهم: لم يضرب فيه عاهر
بسهم، أي بنصيب، وجمعه سهمان، والعاهر: ذو العهر، بالتحريك وهو الفجور والزنا،
ويجوز تسكين الهاء، مثل نهر ونهر، وهذا هو المصدر، والماضى عهر بالفتح، والاسم
العهر، بكسر العين وسكون الهاء، والمرأة عاهرة ومعاهرة وعيهرة، وتعيهر الرجل إذا
زنى، والفاجر كالعاهر ههنا، وأصل الفجور:
الميل، قال لبيد:
يقول:
مقعد الرديف مائل. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
كلام الجاحظ حول المطاعن في النسب
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وفي الكلام
رمز إلى جماعة من الصحابة في أنسابهم طعن، كما
يقال: إن آل سعد بن أبي وقاص ليسوا من بني زهرة بن كلاب، وإنهم من بني عذرة من
قحطان، وكما قالوا: إن آل الزبير بن العوام
من أرض مصر من القبط، وليسوا من بني أسد بن عبد العزى. قال الهيثم بن
عدي في كتاب "مثالب العرب": إن خويلد بن أسد بن عبد العزى، كان
أتى مصر ثم انصرف منها بالعوام، فتبناه، فقال حسان بن
ثابت يهجو آل العوام بن خويلد:
وكما يقال في قوم آخرين، نرفع هذا الكتاب عن ذكر ما يطعن به في أنسابهم، كي لا يظن
بنا أنا نحب المقالة في الناس. قال شيخنا أبو عثمان في
كتاب "مفاخرات قريش": لا خير في ذي العيوب إلا من ضرورة، ولا نجد كتاب مثالب قط
إلا لدعي أو شعوبي، ولست واجده لصحيح النسب، ولا لقليل الحسد، وربما كانت حكاية الفحش أفحش من الفحش، ونقل الكذب
أقبح من الكذب. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اعف عن ذي قبر"، وقال:
"لا تؤذوا الأحياء بسب الأموات"، وقيل في
المثل: "يكفيك من شر سماعه". وقالوا:
أسمعك من أبلغك، وقالوا: من طلب عيباً وجده،
وقال النابغة:
قال أبو عثمان:
وبلغ عمر بن الخطاب رضي الله عنه
أن اناساً من رواة الأشعار وحملة الآثار يعيبون الناس، ويثلبونهم في أسلافهم،
فقام على المنبر، وقال: إياكم وذكر العيوب،
والبحث عن الأصول، فلو قلت: لا يخرج اليوم من
هذه الأبواب إلا من لا وصمة فيه لم يخرج منكم أحد. فقام رجل من قريش - نكره أن نذكره - فقال: إذا
كنت أنا وأنت يا أمير المؤمنين نخرج؛ فقال: كذبت، بل كان يقال لك، ياقين ابن قين
، اقعد؛ قلت: الرجل الذي قام هو المهاجر بن خالد بن
الوليد بن المغيرة المخزومي، كان عمر يبغضه لبغضه أباه خالداً، ولأن المهاجر كان
علوي الرأي جداً، وكان أخوه عبد الرحمن بخلافه، شهد المهاجر صفين مع علي رضي
الله عنه، وشهدها عبد الرحمن مع معاوية، وكان المهاجر مع علي رضي الله عنه في
يوم الجمل، وفقئت ذلك اليوم عينه. ولأن
الكلام الذي بلغ عمر بلغه عن المهاجر، وكان الوليد بن المغيرة مع جلالته في قريش
- وكونه يسمى ريحانة قريش، ويسمى العدل، ويسمى الوحيد - حداداً يصنع الدروع
وغيرها بيده، ذكر ذلك عنه عبد الله بن قتيبة في
كتاب "المعارف". وروى أبو الحسن المدائني
هذا الخبر في كتاب "أمهات الخلفاء" وقال: إنه روى عند جعفر بن محمد رضي الله
عنه بالمدينة، فقال: لا تلمه يا بن أخي، إنه أشفق أن يحدج بقضية نفيل بن عبد
العزى وصهاك أمة الزبير بن عبد المطلب. ثم قال: رحم الله عمر فإنه لم يعد السنة،
وتلا: "إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في
الذين آمنوا لهم عذابٌ أليمٌ" . أما قول ابن جرير
الآملي الطبرستاني في كتاب "المسترشد": إن عثمان والد أبي بكر
الصديق رضي الله عنه
كان ناكحاً أم الخير ابنة أخته، فليس بصحيح، ولكنها ابنة عمه، لأنها ابنة صخر بن عامر، وعثمان هو ابن عمرو بن عامر؛
والعجب لمن اتبعه من فضلاء الإمامية على هذه المقالة من غير تحقيق لها من كتب
الأنساب، وكيف تتصور هذه الواقعة في قريش، ولم يكن أحد منهم مجوسياً ولا
يهودياً، ولا كان من مذهبهم حل نكاح بنات الأخ ولا بنات الاخت ثم نعود لإتمام حكاية كلام شيخنا أبي عثمان، قال: ومتى
يقدر الناس - حفظك الله - على رجل مسلم من كل ابنة، ومبرأ
من كل آفة؛ في جميع آبائه وأمهاته وأسلافه وأصهاره، حتى تسلم له أخواله وأعمامه،
وخالاته وعماته، وأخواته وبناته، وأمهات نسائه، وجميع من يناسبه من قبل جداته
وأجداده، وأصهاره وأختانه ؛ ولو كان ذلك موجوداً لما كان لنسب رسول الله صلى
الله عليه وسلم فضيلة في النقاء والتهذيب، وفي
التصفية والتنقيح، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"ما مسني عرق سفاحٍ قط، وما زلت انقل من الأصلاب السليمة من الوصوم ،
والأرحام البريئة من العيوب"، فلسنا نقضي
لأحد بالنقاء من جميع الوجوه، إلا لنسب من صدقه القرآن، واختاره الله على جميع
الأنام، وإلا فلا بد من شيء يكون في نفس الرجل أو في طرفيه، أو في بعض أسلافه،
أو في بعض أصهاره؛ ولكنه يكون مغطى بالصلاح، ومحجوباً بالفضائل، ومغموراً
بالمناقب. ولو تأملت
أحوال الناس،، لوجدت أكثرهم عيوباً أشدهم تعييباً، قال
الزبرقان بن بدر : ما استب رجلان إلا غلب ألأمهما. وقال: خصلتان كثيرتان في
امرىء السوء: كثرة اللطام،. وشدة السباب، ولو كان ما يقوله أصحاب المثالب
حقاً، لما كان على ظهرها عربي، كما قال عبد الملك بن صالح الهاشمي: إن كان ما يقول بعض في
بعض حقاً، فما فيهم صحيح، وإن كان ما يقول بعض المتكلمين في بعض حقاً، فما فيهم
مسلم قوله رضي الله عنه: "ألا وإن الله
قد جعل للخير أهلاً، وللحق دعائم، وللطاعة عصماً". الدعائم: ما يدعم بها البيت لئلا يسقط، والعصم: جمع
عصمة، وهو ما يحفظ به الشيء ويمنع، فأهل الخير هم المتقون. ودعائم الحق: الأدلة
الموصلة إليه المثبتة له في القلوب. وعصم الطاعة: هي الإدمان على فعلها، والتمرن
على الإتيان بها، لأن المرون على الفعل يكسب الفاعل ملكة تقتضي سهولته عليه. والعون ههنا: هو اللطف المقرب من الطاعة، المبعد
من القبيح. ثم قال رضي الله عنه: "إنه يقول على الألسنة،
ويثبت الأفئدة"، وهذا من باب التوسع والمجاز، لأنه لما كان مسهلاً للقول
أطلق عليه أنه يقول على الألسنة، ولما كان الله تعالى هو الذي يثبت الأفئدة، كما
قال: "يثبت الله الذين آمنوا بالقول
الثابت" ، نسب التثبيت إلى اللطف، لأنه من فعل الله تعالى، كما ينسب
الإنبات إلى المطر، وإنما المنبت للزرع هو الله تعالى، والمطر فعله. ثم قال رضي الله عنه: "فيه كفاء لمكتفٍ، وشفاء
لمشتفٍ"، والوجه فيه "كفاية"، فإن الهمزلا وجه له ههنا، لأنه من
باب آخر؛ ولكنه أتى بالهمزة للازدواج بين "كفاء"، و "شفاء" كما قالوا: الغدايا والعشايا، وكما قال رضي الله عنه: "مأزورات غير
مأجورات"، فأق بالهمز، والوجه الواو، للازدواج. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
كلام حول العارفين والأولياء
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ثم ذكر العارفين، فقال:
"واعلموا أن عباد الله المستحفظين علمه"، إلى قوله: "وهذبه
التمحيص". واعلم أن الكلام في العرفان لم يأخذه
أهل الملة الإسلامية إلا عن هذا الرجل، ولعمري لقد بلغ منه إلى أقصى الغايات،
وأبعد النهايات. والعارفون هم القوم الذين اصطفاهم الله تعالى، وانتخبهم لنفسه،
واختضهم بأنسه، أحبوه فأحبهم، وقربوا منه فقرب منهم. قد تكلم أرباب هذا الشأن في المعرفة
والعرفان، فكل نطق بما وقع له، وأشار إلى ما وجده في وقته. وإن أبو علي الدقاق يقول:
من أمارات المعرفة حصول الهيبة من الله، فمن ازدادت معرفته ازدادت هيبته، وكان يقول: المعرفة توجب السكينة في القلب، كما أن
العلم يوجب السكون، فمن ازدادت معرفته ازدادت سكينته. وسئل الشبلي عن علامات العارف، فقال:
ليس لعارفٍ علامة، ولا لمحب سكون، ولا لخائفٍ قرار، وسئل مرة أخرى عن المعرفة، فقال: أولها الله، وآخرها ما لا نهاية له. وقال أبو حفص الحداد: منذ عرفت الله ما دخل قلبي حق
ولا باطل. وقد أشكل هذا الكلام على أرباب هذا الشأن، وتأوله بعضهم،
فقال: عند القوم أن المعرفة توجب غيبة العبد عن نفسه لاستيلاء ذكر الحق عليه،
فلا يشهد غير الله، ولا يرجع إلا إليه، وكما أن العاقل يرجع إلى قلبه وتفكره
وتذكره فيما يسنح له من أمر، أو يستقبله من حال، فالعارف رجوعه إلى ربه، لا إلى
قلبه، وكيف يدخل المعنى قلب من لا قلب له، وسئل أبو
يزيد البسطامي عن العرفان، فقال: "إن
الملوك إذا دخلوا قريةً أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلةً" ،وهذا معنى ما أشار إليه أبو حفص الحداد. وقال أبو يزيد أيضاً:
للخلق أحوال، ولا حال للعارف، لأنه محيت رسومه وفني هو، وصارت هويته هوية غيره،
وغيبت آثاره في آثار غيره. قلت: وهذا هو القول بالاتحاد الذي يبحث فيه أهل
النظر. وقال الواسطي:
لا تصح المعرفة وفي العبد استغناء بالله، أو افتقار إليه. وفسر بعضهم هذا الكلام، فقال: إن
الافتقار والاستغناء من أمارات صحو العبد وبقاء رسومه على ما كانت عليه، والعارف
لا يصح ذلك عليه، لأنه لاستهلاكه في وجوده، أو لاستغراقه في شهوده؛ إن لم يبلغ
درجة الاستهلاك في الوجود مختطف عن إحساسه بالغنى والفقر وغيرهما من الصفات، ولهذا قال الواسطي: من عرف الله انقطع وخرس وانقمع، قال صلى
الله عليه وسلم:
"لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك". وقال الحسين بن منصور الحلاج: علامة
العارف أن يكون فارغاً من الدنيا والآخرة. وقال سهل بن عبد الله التستري: غاية العرفان شيئان: الدهش والحيرة. وقال ذو النون:
أعرف الناس بالله أشدهم تحيراً فيه. وقيل لأبي يزيد: بماذا
وصلت إلى المعرفة؟ قال: ببدنٍ عارٍ، وبطن
جائع. وقيل لأبي يعقوب السوسي:
هل يتأسف العارف على شيء غير الله؟ فقال:
وهل يرى شيئاً غيره، ليتأسف عليه، وقال أبو يزيد:
العارف طيار، والزاهد سيار. وقال يحيى بن معاذ: يخرج العارف من الدنيا، ولا يقضي وطره من شيئين: بكائه على نفسه، وحبه
لربه. وكان ابن عطاء يقول: أركان المعرفة ثلاثة: الهيبة،
والحياء، والأنس. وقال بعضهم: العارف أنس
بالله فأوحشه من خلقه، وافتقر إلى الله فأغناه عن خلقه. وذل لله فأعزه في خلقه، وقال بعضهم: العارف فوق ما يقول، والعالم دون ما
يقول. وقال أبو سليمان الداراني:
إن الله يفتح للعارف على فراشه، ما لا يفتح للعابد وهو قائم يصلي، وكان رويم يقول: رياء العارفين أفضل من إخلاص
العابدين. وسئل أبو تراب النخشبي عن العارف، فقال: هو الذي
لا يكدره شيء، ويصفو به كل شيء، وقال بعضهم:
المعرفة أمواج ترفع وتحط. وسئل يحيى بن معاذ عن العارف، فقال: الكائن
البائن. وسئل أبو سعيد الخراز: هل
يصير العارف إلى حال يجفو عليه البكاء؟ قال نعم، إنما البكاء في أوقات سيرهم إلى
الله، فإذا صاروا إلى حقائق القرب، وذاقوا طعم الوصول، زال عنهم ذلك. واعلم أن إطلاق أمير المؤمنين رضي الله عنه عليهم لفظة
"الولاية"، في قوله: "يتواصلون بالولاية، ويتلاقون بالمحبة"
يستدعي الخوض في مقامين جليلين من مقامات العارفين: المقام الأول الولاية، وهو مقام جليل، قال الله تعالى:
"ألا إن أولياء الله لا خوفٌ عليهم ولا هم
يحزنون" . وجاء في الخبر الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم،
يقول الله تعالى: "من آذى لي ولياً فقد استحل
محارمي، وما تقرب إلي العبد بمثل أداء ما فرضت عليه، ولا يزال العبد يتقرب إلي
بالنوافل حتى أحبه، ولا ترددت في شيء أنا فاعله كترددي في قبض نفس عبدي المؤمن
يكره الموت وأكره مساءته، ولا بد له منه." واعلم أن الولي له
معنيان: أحدهما "فعيل"
بمعنى "مفعول"، كقتيل وجريح، وهو من يتولى الله أمره كما قال
الله تعالى: "إن وليي الله الذي نزل الكتاب
وهو يتولى الصالحين" ، فلا يكله إلى نفسه لحظة عين، بل يتولى
رعايته. وثانيهما "فعيل" بمعنى
"فاعل" كنذير وعليم؛ وهو الذي يتولى طاعة الله وعبادته فلا يعصيه، ومن شرط كون الولي ولياً ألا يعصي مولاه وسيده، كما أن من شرط
كون النبي نبياً العصمة، فمن ظن فيه أنه من الأولياء، ويصدر عنه ما للشرع
فيه اعتراض، فليس بولي عند أصحاب هذا العلم. بل هو مغرور مخادع. ويقال: إن أبا يزيد البسطامي قصد بعض من يوصف بالولاية، فلما وافى مسجده، قعد ينتظر
خروجه، فخرج الرجل وتنخم في المسجد، فانصرف أبو يزيد ولم يسلم عليه، وقال: هذا رجل غير مأمون على أدب من آداب الشريعة،
كيف يكون أميناً على أسرار الحق؛ وقال إبراهيم بن أدهم
لرجل: أتحب أن تكون لله ولياً؟ قال: نعم، قال: لا ترغب في شيء من الدنيا
ولا من الآخرة، وفرغ نفسك لله، وأقبل بوجهك عليه ليقبل عليك ويواليك. وقال يحيى بن معاذ في
صفة الأولياء: هم عبادٌ تسربلوا بالأنس بعد المكابدة، وادرعوا بالروح بعد
المجاهدة، بوصولهم إلى مقام الولاية. وقال أبو بكر
الصيدلاني: كنت أصلح لقبر أبي بكر الطمستاني لوحاً أنقر فيه اسمه، فيسرق
ذلك اللوح، فأنقر له لوحاً آخر وأنصبه على قبره، فيسرق، وتكرر ذلك كثيراً دون
غيره من ألواح القبور، فكنت أتعجب منه. فسألت أبا علي الدقاق
عن ذلك، فقال: إن ذلك الشيخ آثر الخفاء في الدنيا، وأنت تريد أن تشهره
باللوح الذي تنصبه على قبره فالله سبحانه يأبى آلا إخفاء قبره، كما أثر هو ستر
نفسه. وقال بعضهم:
إنما سمي الولي ولياً، لأنه توالت أفعاله على الموافقة. وقال يحيى بن معاذ:
الولي لا يرائي ولا ينافق، وما أقل صديق من يكون هذا خلقه؛ المقام الثاني المحبة قال الله سبحانه: "من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقومٍ يحبهم
ويحبونه" ، والمحبة عند أرباب هذا الشان حالة شريفة. قال أبو يزيد
البسطامي: المحبة استقلال الكثير من نفسك، واستكثار القليل من حبيبك. وأكثرهم
على نفي صفة العشق، لأن العشق مجاوزة الحد في المحبة، والبارىء سبحانه أجل من أن
يوصف بأنه قد تجاوز أحد الحد في محبته. سئل الشبلي عن المحبة، فقال: هي أن تغار على المحبوب أن يحبه أحدٌ غيرك. وقال سمنون:
ذهب المحبون بشرف الدنيا والاخرة، لأن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: "المرء مع من أحب "، فهم مع الله تعالى. وقال يحيى بن معاذ: حقيقة المحبة ما لا ينقص بالجفاء،
ولا يزيد بالبر. وقال: ليس
بصادق من ادعى محبته ولم يحفظ حدوده. وقال الجنيد: إذا صحت المحبة سقطت شروط الأدب، وأنشد في معناه:
وكان أبو علي الدقاق يقول: ألست ترى الأب الشفيق لا يبجل ولده في الخطاب، والناس
يتكلفون في مخاطبته، والأب يقول له: يا فلان، باسمه. وقال أبو يعقوب السوسي: حقيقة المحبة أن ينسى العبد حظه من
الله، وينسى حوائجه إليه. قيل للنصر أباذي: يقولون: إنه ليس لك من المحبة شيء. قال: صدقوا، ولكن لي حسراتهم، فهو ذو احتراق
فيه. وقال النصر أباذي أيضاً: المحبة مجانبة السلو على كل حال، ثم
أنشد:
وكان يقال:
الحب أوله خبل ، وآخره قتل. وقال أبو علي الدقاق في
معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "حبك الشيء يعمي ويصم "،
قال: يعمي ويصم عن الغير إعراضاً وعن المحبوب هيبة، ثم
أنشد:
وقال الجنيد: سمعت
الحارث المحاسبي، يقول: المحبة إقبالك على المحبوب بكليتك، ثم إيثارك له على
نفسك، ومالك وولدك، ثم موافقتك له في جميع الأمور سراً وجهراً، ثم اعتقادك بعد ذلك
أنك مقصر في محبته. وقال الجنيد:
سمعت السري يقول: لا تصلح المحبة بين اثنين حتى
يقول الواحد للآخر: يا أنا. وقال الشبلي: المحب إذا سكت هلك، والعارف إذا لم
يسكت هلك. وقيل:
المحبة بذل الجهد، والحبيب يفعل ما يشاء. وقال الثوري: المحبة
هتك الأستار، وكشف الأسرار. حبس الشبلي في المارستان
بين المجانين، فدخل عليه جماعة، فقال: من أنتم؟ قالوا: محبوك أيها
الشيخ. فأقبل يرميهم
بالحجارة، ففروا، فقال: إذا ادعيتم محبتي فاصبروا على بلائي. كتب يحيى بن معاذ إلى
أبي يزيد البسطامي:
قد سكرت من كثرة ما شربت من كأس محبته. فكتب إليه أبو يزيد: غيرك شرب بحور السموات والأرض وما
روي بعد، ولسانه خارج، ويقول: هل من مزيد؛
ومن شعرهم في هذا المعنى:
ويقال: إن الله تعالى أوحى إلى بعض الأنبياء: إذا اطلعت على قلب عبد فلم أجد فيه حب
الدنيا والآخرة، ملأته من حبي. وقال أبو علي الدقاق: إن في بعض الكتب المنزلة: عبدي، أنا
وحقك لك محب، فبحقي عليك كن لي محباً. وقال عبد الله بن
المبارك:
من أعطي قسطاً من المحبة، ولم يعط مثله من الخشية، فهو مخدوع. وقيل: المحبة ما تمحو أثرك، وتسلبك عن
وجودك. وقيل: المحبة
سكر لا يصحو صاحبه إلا بمشاهدة محبوبه، ثم إن السكر الذي يحصل عند المشاهدة لا
يوصف. وأنشد:
وكان أبو علي الدقاق ينشد كثيراً:
وكان يحيى بن معاذ يقول: مثقال خردلة من الحب أحب إلي من عبادة سبعين سنة بلا حب.
وقيل: إن الله تعالى أوحى إلى داود عليه السلام: إني حرمت على القلوب أن يدخلها حبي
وحب غيري. وقيل:
المحبة إيثار المحبوب على النفس، كامرأة العزيز
لما أفرط بها الحب، قالت: "أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين"
، وفي الابتداء،
قالت: "ما جزاة من أراد بأهلك سوءاً
إلا أن يسجن" فوركت الذنب في الابتداء
عليه، ونادت في الانتهاء على نفسها بالخيانة. وقال أبو سعيد الخراز: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فقلت: يا رسول الله،
أعذرني، فإن محبة الله شغلتني عن حبك، فقال:
يا مبارك، من أحب الله فقد أحبني. ثم نعود إلى تفسير ألفاظ الفصل: قوله رضي الله عنه: "يصونون مصونه "؛ أي يكتمون من العلم الذي استحفظوه ما يجب أن يكتم. ويفجرون
عيونه: يظهرون منه ما ينبغي إظهاره؛ وذلك أنه ليس ينبغي إظهار كل ما استودع
العارف من الأسرار؛ وأهل هذا الفن يزعمون أن قوماً منهم عجزوا عن أن يحملوا بما
حملوه، فباحوا به فهلكوا، منهم الحسين بن منصور
الحلاج. ولأبي الفتوح
الجارودي المتأخر أتباعٌ يعتقدون فيه مثل ذلك. والولاية،
بفتح الواو: المحبة والنصرة، ومعنى "يتواصلون بالولاية" يتواصلون وهم
أولياء، ومثله: "ويتلاقون بالمحبة" كما
تقول: خرجت بسلاحي، أي خرجت وأنا متسلح، فيكون موضع الجار والمجرور نصباً
بالحال، أو يكون المعنى أدق وألطف من هذا، وهو أن يتواصلوا بالولاية، أي بالقلوب
لا بالأجسام، كما تقول: أنا أراك بقلبي،
وأزورك بخاطري، وأواصلك بضميري. قوله: "ويتساقون بكأس روية"، أي بكأس
المعرفة، والأنس بالله، يأخذ بعضهم عن بعض العلوم والأسرار، فكأنهم شربٌ يتساقون
بكأس من الخمر. قال:
"ويصدرون برية" يقال: من أين ريتكم؟ مفتوحة الراء، أي من أين ترتوون
الماء؟ قال: "لا تشويهم الريبة"، أي لا تخالطهم الظنة والتهمة، ولا
تسرع فيهم الغيبة، لأن أسرارهم مشغولة بالحق على الخلق. قال: "على ذلك عقد
خلقهم وأخلاقهم"، الضمير في "عقد" يرجع إلى الله تعالى، أي على
هذه الصفات والطبائع عقد الخالق تعالى، خلقتهم وخلقهم، أي هم متهيئون لما صاروا
إليه، كما قال رضي الله عنه: "إذا أرادك لأمر هيأك له". وقال رضي الله عنه: "كلٌ ميسر ٌلما خلق له". قال: "فعليه
يتحابون، وبه يتواصلون"، أي
ليس حبهم بعضهم بعضاً إلا في الله، وليست مواصلتهم بعضهم بعضاً إلا لله، لا
للهوى، ولا لغرض من أغراض الدنيا، أنشد منشدٌ عند عمر قول
طرفة:
فقال عمر:
وأنا لولا ثلاث هن من عيشة الفتى، لم أحفل متى قام عودي؟ حبي في الله، وبغضي في
الله، وجهادي في سبيل الله. قوله رضي الله عنه: "فكانوا كتفاضل البذر"، أي
مثلهم مثل الحب الذي ينتقى للبذر، يستصلح بعضه، ويسقط بعضه. قد ميزه التخليص: قد فرق الانتقاء بين جيده ورديئه.
وهذبه التصحيص، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن
المرض ليمحص الخطايا كما تمحص النار الذهب"، أي كما تخلص النار
الذهب مما يشوبه. ثم أمر رضي الله عنه المكلفين بقبول كرامة الله ونصحه،
ووعظه وتذكيره، وبالحذر من نزول القارعة بهم، وهي ههنا الموت، وسميت الداهية
قارعة لأنها تقرع، أي تصيب بشدة. قوله: "فليصنع لمتحوله"؛ أي فليعد
ما يجب إعداده للموضع الذي يتحول إليه، تقول: اصنع لنفسك، أي اعمل لها. قوله: "ومعارف منتقله "معارف الدار: ما يعرفها المتوسم بها واحدها معرف،
مثل معاهد الدار، ومعالم الدار، ومنه معارف المرأة، وهو ما يظهر منها، كالوجه
واليدين. والمنتقل، بالفتح: موضع الانتقال. قوله: "فطوبى" هي "فعلى" من الطيب، قلبوا الياء واواً للضمة
قبلها، ويقال: طوبى لك، وطوباك؛ بالإضافة، وقول
العامة: "طوبيك" بالياء غير جائز. قوله: "قبل أن تغلق
أبوابه"،
أي قبل أن يحضره الموت فلا تقبل توبته. والحوبة: الإثم. وإماطته: إزالته، ويجوز أمطت الأذى عنه، ومطت
الأذى عنه، أي نحيته، ومنع الأصمعي منه إلا بالهمزة. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن دعاء له عليه السلام كان يدعو به كثيراً
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
الحمد لله الذي لم يصبح بي ميتاً ولا سقيماً، ولا مضروباً على عروقي بسوءٍ؛ ولا
مأخوذاً بأسوإ عملي، ولا مقطوعاً دابري، ولا مرتداً عن ديني، ولا منكراً لربي،
ولا مستوحشاً من إيماني، ولا ملتبساً عقلي، ولا معذباً بعذاب الأمم من قبلي،
أصبحت عبداً مملوكاً، ظالماً لنفسي؛ لك الحجة علي - ولا حجة لي - ولا أستطيع أن
أخذ إلا ما أعطيتني، ولا أتقي إلا ما وقيتني. اللهم
إني أعوذ بك أن أفتقر في غناك، أو أضل في هداك، أو أضام في سلطانك، أو أضطهد
والأمر لك؛ اللهم أجعل نفسي أول كريمةٍ تنتزعها من كرائمي، وأول وديعة ترتجعها
من ودائع نعمك عندي؛ اللهم إنا نعوذ بك أن نذهب عن قولك، أو أن نفتتن عن دينك،
أو تتتابع بنا أهواؤنا دون الهدى الذي جاء من عندك؛ الشرح:
قوله: "كثيراً" منصوب بأنه صفة
مصدر محذوف، أي دعاء كثيراً. وميتاً
منصوب على الحال، أي لم يفلق الصباح علي ميتاً، ولا يجوز أن تكون "يصبح
" ناقصة، ويكون "ميتاً" خبرها، كما
قال الراوندي؛ لأن خبر "كان" وأخواتها، يجب أن يكون هو الاسم،
ألا ترى أنهما مبتدأ وخبر في الأصل واسم "يصبح" ضمير "الله"
تعالى، و "ميتاً" ليس هو الله سبحانه. قوله: "ولا مضروباً على عروقي
بسوء"، أي ولا أبرص، والعرب تكني عن البرص بالسوء، ومن أمثالهم: ما أنكرك من سوء، أي ليس إنكاري لك عن برص حدث بك
فغير صورتك. وأراد بعروقه أعضاءه،
ويجوز أن يريد: ولا مطعوناً في نسبي، والتفسير الأول أظهر، "ولا
مأخوذاً بأسوإ عملي"، أي ولا معاقباً بأفحش ذنوبي، ولا مقطوعاً دابري، أي
عقبي ونسلي. والدابر في الأصل: التابع، لأنه يأتي دبراً، ويقال للهالك: قد قطع الله دابره،
كأنه يراد أنه عفا أثره، ومحا اسمه، قال سبحانه:
"أن دابر هؤلاء مقطوعٌ مصبحين" . ولا مستوحشاً، أي ولا شاكاً في الإيمان، لأن
من شك في عقيدة استوحش منها. وعذاب الأمم من قبل المسخ والزلزلة والظلمة
ونحو ذلك. قوله: "لك الحجة
علي، ولا حجة لي"،
لأن الله سبحانه قد كلفه بعد تمكينه وإقداره وإعلامه قبح القبيح ووجوب الواجب
وترديد دواعيه إلى الفعل وتركه، وهذه حجة الله تعالى على عباده، ولا حجة للعباد
عليه، لأنه ما كلفهم إلا بما يطيقونه، ولا كان لهم لطف في أمر إلا وفعله. قوله: "لا أستطيع
أن آخذ إلا ما أعطيتني، ولا أتقي إلا ما وقيتني"، أي لا أستطيع أن أرزق نفسي أمراً،
ولكنك الرزاق، ولا أدفع عن نفسي محذوراً من المرض والموت إلا ما دفعته أنت عني. وقال الشاعر:
وقال
عبد الله بن سليمان بن وهب:
قوله رضي الله عنه: "أن أفتقر
في غناك"، موضع الجار والمجرور نصب على الحال، و
"في" متعلقة بمحذوف، والمعنى أن أفتقر وأنت الموصوف بالغنى الفائض على
الخلق. وكذلك قوله:
"أو أضل في هداك"، معناه: أو أضل
وأنت ذو الهداية العامة للبشر كافة، وكذلك:
"أو أضام في سلطانك"، كما يقول المستغيث إلى السلطان: كيف أظلم في
عدلك وكذلك قوله: "أو اضطهد والأمر
لك"، أي وأنت الحاكم صاحب الأمر، والطاء في "اضطهد" هي تاء
الافتعال، وأصل الفعل ضهدت فلاناً، فهو مضهود، أي قهرته وفلان ضهدة لكل أحد، أي
كل من شاء أن يقهره فعل. قوله: "اللهم
اجعل نفسي"، هذه الدعوة مثل دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي قوله: "اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا،
واجعله الوارث منا"، أي لا تجعل موثنا متأخراً عن ذهاب حواسنا. وكان علي بن الحسين يقول في دعائه: اللهم احفظ علي
سمعي وبصري، إلى انتهاء أجلي. وفسروا قوله رضي الله عنه:
"واجعله الوارث منا"، فقالوا:
الضمير في "واجعله" يرجع إلى الإمتاع. فإن قلت: كيف يتقي
الإمتاع بالسع والبصر، بعد خروج الروح؟. قلت: هذا توسع في
الكلام، والمراد: لا تبلنا بالعمى ولا الصمم، فنكون أحياء في الصورة ولسنا
بأحياء في المعنى، لأن من فقدهما لا خير له في الحياة، فحملته المبالغة على أن
طلب بقاءهما بعد ذهاد النفس، إيذاناً وإشعاراً بحبه ألا يبلى بفقدهما ونفتتن،
على ما لم يسم فاعله: نصاب بفتنة تضلنا عن الدين، وروي: "نفتتن " بفتح
حرف المضارعة على "نفتعل"، افتتن الرجل أي فتن، ولا يجوز أن يكون
الافتتان متعدياً كما ذكره الراوندي، ولكنه قرأ في
"الصحاح" للجوهري: "والفتون: الافتتان، يتعدى ولا
يتعدى"، فظن أن ذلك للافتتان وليس كما ظن، وإنما ذلك راجع إلى الفتون. والتتابع:
التهافت في اللجاج والشر، ولا يكون إلا في مثل ذلك، وروي
"أو تتابع" بطرح إحدى التاءات. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن خطبة له عليه السلام خطبها بصفين
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: أما بعد، فقد
جعل الله سبحانه لي عليكم حقاً بولاية أمركم، ولكم علي من الحق مثل الذي لي
عليكم، والحق أوسع الأشياء في التواصف، وأضيقها في التناضف، لا يجري لأحد إلا
جرى عليه، ولا يجري عليه إلا جرى له. ولو كان
لأحد أن يجري له ولا يجري عليه، لكان ذلك خالصاً لله سبحانه دون خلقه، لقدرته
على عباده، ولعدله في كل ما جرت عليه ضروف قضائه؛ ولكنه سبحانه جعل حقه على
العباد أن يطيعوه، وجعل جزاءهم عليه مضاعفة الثواب، تفضلاً منه، وتوسعاً بما هو
من المزيد أهله. الشرح: الذي له عليهم من الحق هو وجوب طاعته، والذي
لهم عليه من الحق هو وجوب معدلته فيهم. والحق أوسع الأشياء في التواصف، وأضيقها
في التناصف؛ معناه أن كل أحد يصف الحق والعدل، ويذكر حسنه ووجوبه، ويقول: لو وليت لعدلت، فهو بالوصف باللسان وسيع،
وبالفعل ضيق، لأن ذلك العالم العظيم الذين كانوا يتواصفون حسنه، ويعدون أن لو
ولوا باعتماده وفعله، لا تجد في الألف منهم واحداً لو ولي لعدل. ولكنه قول بغير
عمل. ثم عاد إلى تقرير الكلام الأول، وهو
وجوب الحق له وعليه، فقال: إنه لا يجري لأحد
إلا وجرى عليه، وكذلك لا يجري عليه إلا وجرى له، أي ليس ولا واحد من الموجودين
بمرتفع عن أن يجري الحق عليه، ولو كان أحدٌ من الموجودين كذلك لكان أحقهم بذلك
البارىء سبحانه، لأنه غاية الشرف، بل هو فوق الشرف وفوق الكمال والتمام، وهو
مالك الكل، وسيد الكل، فلو كان لجواز هذه القضية
وجه، ولصحتها مساغ، لكان البارىء تعالى أولى بها، وهي ألا يستحق عليه
شيء، وتقدير الكلام: لكنه يستحق عليه أمور،
فهو في هذا الباب كالواحد منا يستحق ويستحق عليه، ولكنه رضي الله عنه حذف هذا الكلام المقدر، أدباً
وإجلالاً لله تعالى أن يقول: إنه يستحق عليه شيء. فإن قلت: فما بال المتكلمين لا يتأدبون بأدبه رضي الله عنه وكيف يطلقون عليه تعالى الوجوب
والاستحقاق، قلت: ليست وظيفة المتكلمين
وظيفة أمير المؤمنين رضي الله عنه
في عباراتهم، هؤلاء أرباب صناعة، وعلم يحتاج إلى ألفاظ واصطلاح لا بد لهم من
استعماله، للإفهام والجدل بينهم، وأمير المؤمنين إمام يخطب على منبره، يخاطب
عرباً ورعيةً ليسوا من أهل النظر، ولا نخاطبته لهم لتعليم هذا العلم، بل
لاستنفارهم إلى حرب عدوه، فوجب عليه بمقتضى الأدب أن يتوقى كل لفظة توهم ما
يستهجنه السامع في الأمور الإلهية وفي غيرها. فإن قلت: فما هذه
الأمور التي زعمت أنها تستحق على البارىء سبحانه، وأن أمير المؤمنين رضي الله
عنه حذفها من اللفظ، واللفظ يقتضيها؛ قلت:
الثواب، والعوض، وقبول التوبة، واللطف، والوفاء بالوعد، والوعيد، وغير ذلك مما
يذكره أهل العدل. فإن قلت: فها معنى قوله: "لكان ذلك خالصاً لله
سبحانه دون خلقه، لقدرته على عباده، ولعدله في كل ما جرت عليه صروف قضائه"؟
وهب أن تعليل عدم استحقاق شيء على الله تعالى بقدرته على عباده صحيح، كيف يصح
تعليل ذلك بعدله في كل ما جرت عليه صروف قضائه؟ ألا ترى أنه ليس بمستقيم أن تقول
لا يستحق على البارىء شيء، لأنه عادل، وإنما المستقيم أن تقول لا يستحق عليه
شيء، لأنه مالك، ولذلك عللت الأشعرية هذا الحكم بأنه مالك الكل، والاستحقاق إنما
يكون على من دونه. قلت: لا،
وذلك لأنه جعل المتفضل به، هو مضاعفة الثواب، لا أصل الثواب، وليس ذلك بمستنكر
عندنا. فإن قلت: أيجوز عندكم أن يستحق المكلف عشرة
أجزاء من الثواب فيعطى عشرين جزءا منه؟ أليس من مذهبكم أن التعظيم والتبجيل لا يجوز من البارىء سبحانه أن
يفعلهما في الجنة إلا على قدر الاستحقاق، والثواب عندكم هو النفع المقارن
للتعظيم والتبجيل؟ فكيف قلت: إن مضاعفة
الثواب عندنا جائزة؛ قلت: مراده
عليه السلام بمضاعفة الثواب هنا زيادة غير مستحقة من النعيم واللذة الجسمانية
خاصة في الجنة، فسمى تلك اللذة الجسمانية ثواباً لأنها جزء من الثواب، فأما اللذة العقلية فلا يجوز مضاعفتها. قوله عليه السلام: "بما هو من المزيد أهله "،
أي بما هو أهله من المزيد، فقدّم الجار والمجرور وموضعه نصب على الحال، وفيه
دلالة على أن حال المجرور تتقدم عليه، كما قال
الشاعر:
الأصل:
ثم نجعل سبحانه من حقوقه حقوقاً أفترضها لبعض الناس على بعض، فجعلها تتكافأ في
وجوهها، ويوجب بعضها بعضاً، ولا يستوجب بعضها إلا ببعض. وأعظم ما افترض سبحانه من تلك الحقوق حق
الوالي على الرعية، وحق الرعية على الوالي، فريضة فرضها الله سبحانه لكلٍ على
كل، فجعلها نظاماً لألفتهم، وعزاً لدينهم، فليست تصلح الرعية إلا بصلاح الولاة،
ولا تصلح الولاة إلا باستقامة الرعية، فإذا أدت الرعية إلى الوالي حقه، وأدى
الوالي إليها حقها، عزَّ الحقّ بينهم، وقامت مناهج الدين، واعتدلت معالم العدل،
وجرلص على أذلالها السنن، فصلح بذلك الزمان، وطمع في بقاء الدولة، ويئست مطامع
الأعداء. وإذا غلبت الرعية واليها، أو أجحف الوالي برعيته؛ أختلفت هنالك الكلمة،
وظهرت معالم الجور، وكثر الإدغال في الدين، وتركت محاج السُّنن، فعمل بالهوى،
وعطلت الأحكام، وكثرت علل النفوس، فلا يستوحش لعظيم حق عُطّل، ولا لعظيم باطل
فعل، فهنالك تذل الأبرار، وتعز الأشرار، وتعظم تبعات الله سبحانه عند العباد. فعليكم بالتناصح في ذلك، وحسن التعاون عليه،
فليس أحدُ وإن أشتد على رضا الله حرصه، وطال في العمل اجتهاده، ببالغٍ حقيقة ما
الله سبحانه أهله؛ من الطاعة له. ولكن من واجب حقوق الله سبحانه على عباده
النصيحة بمبلغ جهدهم، والتعاون على إقامة الحق بينهم، وليس امرؤُ وإن عظمت في
الحق منزلته، وتقدمت في الدين فضيلته، بفوقٍ أن يعان على ما حمله من حقه؛ ولا
امرؤُ وإن صغّرته النفوس، واقتحمته العيون، بدونٍ أن يعين على ذلك، أو يعان
عليه. الشرح:
تتكافأ في وجوهها: تتساوى وهي حق الوالي على
الرعية، وحق الرعية على الوالي. وفريضة، قد روي بالنصب والرفع، فمن رفع فخبر
مبتدأ محذوف، ومن نصب فبإضمار فعل، أو على الحال. وجرت على أذلالها السنن، بفتح الهمزة، أي على
مجاريها وطرقها، وأجحف الوالي برعيته: ظلمهم، والإدغال
في الدين: الفساد. ومحاج السنن: جمع محجة، وهي جادة الطريق. قوله:
"وكثرت علل النفوس"، أي تعللها بالباطل. ومن كلام الحجاج:
إياكم وعلل النفوس، فإنها أدوى لكم من علل الأجساد. واقتحمته العيون: احتقرته وازدرته، قال ابن دريد:
ومثل قوله رضي الله عنه: "ليس امرؤ وإن عظمت في الحق منزلته"، قول زيد بن علي رضي الله عنه لهشام بن عبد الملك: إنه
ليس أحدٌ وإن عظمت منزلته بفوق أن يذكر بالله، ويحذر من سطوته، وليس أحد وإن صغر
بدون أن يذكر بالله ويخوف من نقمته. وعل قوله رضي الله
عنه: "وإذا غلبت الرعية واليها" قول
الحكماء: إذا علا صوت بعض الرعية على الملك فالملك مخلوع، فإن قال: نعم،
فقال أحد من الرعية: لا، فالملك مقتول. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ما ورد من الأخبار فيما يصلح الملك
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وقد جاء في وجوب الطاعة أولي الأمر
الكثير الواسع، قال الله سبحانه: "أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر
منكم" . وروى عبد
الله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر
بمعصية، فإذا أمر بها فلا سمع ولا طاعة". وعنه صلى الله عليه وسلم: "إن أمر عليكم عبدٌ أسود مجدع فاسمعوا له وأطيعوا".
ومن كلام علي رضي الله
عنه: "إن الله جعل الطاعة غنيمة الأكياس
عند تفريط الفجرة". بعث سعد بن
أبي وقاص جرير بن عبد الله البجلي من العراق إلى عمر بن الخطاب بالمدينة، فقال
له عمر: كيف تركت الناس؟ قال: تركتهم كقداح الجعبة، منها الأعصل الطائش، ومنها
القائم الرائش. قال: فكيف سعدٌ لهم؟ قال: هو ثقافها، الذي يقيم
اودها، ويغمز عصلها . قال: فكيف
طاعتهم؛ قال: يصلون الصلاة لأوقاتها، ويؤدون الطاعة إلى ولاتها. قال: الله أكبر إذا أقيمت الصلاة، أديت الزكاة؛
وإذا كانت الطاعة، كانت الجماعة. ومن كلام ابرويز الملك: أطع من فوقك يطعك من دونك. ومن كلام الحكماء:
قلوب الرعية خزائن واليها، فما أودعه فيها وجده. وكان يقال: صنفان متباغضان متنافيان:
السلطان والرعية؛ وهما مع ذلك متلازمان، أن صلح
أحدهما صلح الآخر، وإن فسد فسد الآخر. وكان يقال: محل الملك من رعيته محل الروح من الجسد،
ومحل الرعية منه محل الجسد من الروح، فالروح تألم بألم كل عضو من أعضاء البدن،
وليس كل واحدٍ من الأعضاء يألم بألم غيره، وفساد الروح فساد جميع البدن، وقد
يفسد بعض البدن وغيره من سائر البدن صحيح. وكان يقال:
ظلم الرعية استجلاب البلية. وكان يقال:
العجب ممن استفسد رعيته، وهو يعلم أن عزه بطاعتهم. وكان يقال:
موت الملك الجائر خصب شامل. وكان يقال: لا قحط أشد من جور السلطان. وكان يقال:
قد تعامل الرعية المشمئزة بالرفق؛ فتزول أحقادها، ويذل قيادها، وقد تعامل بالخرق
فتكاشف بما غيبت، وتقدم على ما عيبت؛ حتى يعود نفاقها شقاقاً، ورذاذها سيلاً
بعاقاً . ثم إن غلبت
وقهرت فهو الدمار، وإن غلبت وقهرت لم يكن بغلبها افتخار، ولم يدرك بقهرها ثار. وكان يقال:
الرعية وإن كانت ثماراً مجتناة؛ وذخائر ممتناة، وسيوفاً منتضاة، وأحراساً
مرتضاة؛ فإن لها نفاراً كنفار الوحوش، وطغياناً كطغيان السيول؛ ومتى قدرت أن
تقول، قدرت على أن تصول. وكان يقال: أيدي الرعية تبع ألسنتها؛ فلن يملك الملك
ألسنتها حتى يملك جسومها ولن يملك جسومها حتى يملك قلوبها فتحبه، ولن تحبه حتى
يعدل عليها في أحكامه عدلاً يتساوى فيه الخاصة والعامة؛ وحتى يخفف عنها المؤن
والكلف، وحتى يعفيها من رفع أوضاعها وأراذلها عليها؛ وهذه
الثالثة تحقد على الملك العلية من الرعية، وتطمع السفلة في الرتب السنية. وصنف فيهم خير وشر ظاهران، فصلاحهم يكتسب من معاملتهم
بالترغيب والترهيب؛ وصنف من السفلة الرعاع
أتباع لكل داعٍ؛ لا يمتحنون في أقوالهم وأعمالهم بنقد، ولا يرجعون في الموالاة
إلى عقد. وكان يقال: ترك المعاقبة للسفلة على صغار الجرائم
تدعوهم إلى ارتكاب الكبائر العظائم؛ ألا ترى أول نشوز المرأة كلمة سومحت بها،
وأول حران الدابة حيدة سوعدت عليها. ويقال: إن عثمان قال يوماً لجلسائه، وهو
محصور في الفتنة: وددت أن رجلاً صدوقاً أخبرني عن نفسي
وعن هؤلاء فقام إليه فتى فقال: إني أخبرك؛
تطأطأت لهم فركبوك، وما جرأهم على ظلمك إلا إفراط حلمك. قال: صدقت، فهل
تعلم ما يشب نيران الفتن. قال: نعم، سألت عن ذلك
شيخاً من تنوخ كان باقعة، قد نقب في الأرض وعلم علماً جماً، فقال: الفتنة يثيرها أمران: أثرة تضغن على الملك
الخاصة، وحلم يجزىء عليه العامة. قال: فهل سألته
عما يخمدها؟ قال: نعم، زعم أن الذي يخمدها في
ابتدائها استقالة العثرة وتعميم الخاصة بالأثرة، فإذا استحكمت الفتنة أخمدها
الصبر. قال عثمان: صدقت؛ وإني لصابر حتى يحكم
الله بيننا وهو خير الحاكمين. ويقال: إن يزدجرد بن بهرام سأل حكيماً: ما
صلاح الملك؟ قال: الرفق بالرعية، وأخذ الحق منها بغير عنف والتودد إليها بالعدل
وأمن السبل وإنصاف المظلوم. قال: فما صلاح الملك؟
قال: وزراؤه؛ إذا صلحوا صلح. قال: فما الذي يثير الفتن؟ قال: ضغائن يظهرها جرأة
عامة، واستخفاف خاصة، وانبساط الألسن بضمائر القلوب، وإشفاق موسر، وأمن معسر،
وغفلة مرزوق، ويقظة محروم. قال: وما يسكنها؟ قال: أخذ العدة لما يخاف، وإيثار
الجد حين يلتذ الهزل، والعمل بالحزم، وادراع الصبر، والرضا بالقضاء. وكان يقال: خير الملوك من أشرب قلوب رعيته محبته، كما
أشعرها هيبته، ولن ينال ذلك منها حتى تظفر منه
بخمسة أشياء: إكرام شريفها، ورحمة ضعيفها، وإغاثة لهيفها، وكف عدوان
عدوها، وتأمين سبل رواحها وغدوها، فمتى أعدمها شيئاً من ذلك، فقد أحقدها بقدر ما
أفقدها. وكان يقال: الأسباب التي تجر الهلك إلى الملك ثلاثة: أحدها من
جهة الملك، وهو أن تتأمر شهواته على عقله، فتستهويه نشوات الشهوات فلا تسنح له
لذة إلا اقتنصها، ولا راحة إلا افترصها. والثاني من جهة الوزراء، وهو تحاسدهم المقتضي تعارض
الآراء، فلا يسبق أحدهم إلى حق إلا كويد وعورض وعوند. والثالث من جهة الجند المؤهلين لحراسة الملك والدين،
وتوهين المعاندين، وهو نكولهم عن الجلاد، وتضجيعهم في المناصحة والجهاد، وهم صنفان: صنف ولسع الملك عليهم فأبطرهم الإتراف، وضنوا
بنفوسهم عن التعريض للإتلاف، وصنف قدر عليهم الأرزاق، فاضطغنوا الأحقاد
واستشعروا النفاق. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أخبار في العدل والانصاف
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قوله رضي الله عنه:
"أو أجحف الوالي برعيته "، قد جاء من نظائره الكثير جداً، وقد ذكرنا فيما تقدم نكتاً حسنة في مدح العدل والإنصاف،
وذم الظلم والإجحاف. وقال النبي صلى
الله عليه وسلم: "زين الله السماء بثلاثة: الشمس،
والقمر، والكواكب. وزين الأرض بثلاثة:
العلماء، والمطر، والسلطان العادل". وكان يقال: إذا
لم يعمر الملك ملكه بإنصاف الرعية خرب ملكه بعصيان الرعية. وقيل لأنوشروان: أي الجنن أوقى؟ قال: الدين، قيل: فأي العدد
أقوى؟ قال: العدل. وقع جعفر بن يحيى إلى عامل من عماله: كثر
شاكوك، وقل حامدوك، فإما عدلت، وإما اعتزلت. وجد
لا خزانة بعض الأكاسرة سفط ، ففتح فوجد فيه حب الرمان، كل حبة كالنواة الكبيرة
من نوى المشمش، وفي السفط رقعة فيها: هذا حب
رمان عملنا في خراجه بالعدل. جاء رجل من مصر إلى عمر بن الخطاب متظلماً،
فقال: يا أمير المؤمنين، هذا مكان العائذ بك.
قال له: عذت بمعاذ، ما شأنك؟ قال: سابقت ولد عمرو بن العاص بمصر فسبقته، فجعل
يعنفني بسوطه، ويقول: أنا ابن الأكرمين وبلغ أباه ذلك، فحبسني خشية أن أقدم
عليك؟ فكتب إلى عمرو: إذا أتاك كتابي هذا فاشهد الموسم أنت
وابنك. فلما قدم عمرو وابنه، دفع الدرة إلى المصري،
وقال:
اضربه كما ضربك، فجعل يضربه وعمر يقول: اضرب ابن الأمير، اضرب ابن الأمير
يرددها، حتى قال: يا أمير المؤمنين قد استقدت منه ، فقال-
وأشار إلى عمرو: ضعها على صلعته، فقال
المصري: يا أمير المؤمنين، إنما أضرب من ضربني، فقال:
إنما ضربك بقوة أبيه وسلطانه، فاضربه إن شئت؟ فوالله لو فعلت لما منعك أحد منه،
حتى تكون أنت الذي تتبرع بالكف عنه ثم قال: يا بن
العاص، متى تعبدتم الناس وقد ولدتهم امهاتهم أحراراً خطب الإسكندر جنده، فقال لهم بالرومية كلاماً تفسيره: يا عباد الله، إنما
لكم الله الذي في السماء، الذي نصرنا بعد حين، الذي يسقيكم الغيث عند الحاجة،
وإليه مفزعكم عند الكرب . والله لا
يبلغني أن الله أحب شيئاً إلا أحببته وعملت به إلى يوم أجلي، ولا يبلغني أنه
أبغض شيئاً إلا أبغضته وهجرته إلى يوم أجلي. وقد انبئت أن الله يحب العدل في
عباده، ويبغض الجور، فويل للظالم من سوطي وسيفي ومن ظهر منه العدل من عمالي
فليتكىء في مجلسي كيف شاء؛ وليتمن علي ما شاء، فلن تخطئه أمنيته والله المجازي
كلاً بعمله. قال رجل لسليمان بن عبد الملك وهو جالس
للمظالم: يا أمير المؤمنين، ألم تسمع قول الله تعالى: "فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين"
قال: ما خطبك؟ قال: وكيلك اغتصبني ضيعتي وضمها إلى ضيعتك الفلانية. قال: فإن
ضيعتي لك، وضيعتك مردودة إليك. ثم كتب إلى الوكيل بذلك، وبصرفه عن عمله. ورقي إلى كسرى قباذ أن في بطانة الملك قوماً قد فسدت نياتهم،
وخبثت ضمائرهم، لأن أحكام الملك جرت على بعضهم لبعضهم، فوقع في الجواب:
أنا أملك الأجساد لا النيات، وأحكم بالعدل لا بالهوى، وأفحص عن الأعمال لا عن
السرائر. وتظلم أهل الكوفة إلى المأمون من
واليهم، فقال: ما علمت في عمالي أعدل ولا أقوم بأمر
الرعية، ولا أعود عليهم بالرفق منه. فقال له منهم
واحد: فلا أحد أولى منك يا أمير المؤمنين بالعدل والإنصاف، وإذا كان بهذه
الصفة فمن عدل أمير المؤمنين أن يوليه بلداً بلداً، حتى يلحق أهل كل بلد من
عدله، مثل ما لحقنا منه، ويأخذوا بقسطهم منه كما أخذ منه سواهم، وإذا فعل أمير
المؤمنين ذلك لم يصب الكوفة منه أكثر من ثلاث سنين. فضحك وعزله. كتب عدي بن أرطاة إلى عمر بن عبد العزيز: أما بعد، فإن
قبلنا قوماً لا يؤدون الخراج إلا أن يمسهم نصاً من العذاب، فاكتب إلى أمير المؤمنين برأيك. فكتب: أما بعد، فالعجب
لك كل العجب تكتب إلي تستأذنني في عذاب البشر، كأن إذني لك جنة من عذاب الله، أو
كأن رضاي ينجيك من سخط الله فمن أعطاك ما عليه عفواً فخذ منه، ومن أبى فاستحلفه،
وكله إلى الله، فلأن يلقوا الله بجرائمهم أحب إلي من أن ألقاه بعذابهم. فضيل بن عياض: ما ينبغي أن
تتكلم بفيك كله أتدري من كان يتكلم بفيه كله عمر بن الخطاب كان يعدل في رعيته،
ويجور على نفسه، ويطعمهم الطيب، ويأكل الغليظ، ويكسوهم اللين ويلبس الخشن،
ويعطيهم الحق ويزيدهم، السفط: ما يعبأ فيه الطيب وما أشبهه من أدوات النساء،
والسفط أيضاً: وعاء كالقفة استقدت منه: أي اصصته بما فعل بي الكرب: الثدة النصب: أشد التعب الجنة: الستر الدرة: السوط
سورة الأعراف. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن كلام له رضي الله عنه رد علي رجل أكثر الثناء
عليه
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: فأجابه عليه السلام رجل من أصحابه بكلام طويل يكثر فيه
الثناء عليه، ويذكر سمعه وطاعته له، فقال عليه السلام: إن من حق من عظم جلال الله
سبحانه في نفسه، وجل موضعه من قلبه، أن يصغر عنده لعظم ذلك كل ما سواه، وإن أحق
من كان كذلك لمن عظمت نعمة الله عليه، ولطف إحسانه إليه، فإنه لم تعظم نعمة الله
على أحد، إلا أزداد حق الله عليه عظماً. الشرح: هذا الفصل وإن لم يكن فيه ألفاظ غريبة سبيلها أن تشرح،
ففيه معان مختلفة سبيلها أن تذكر وتوضح، وتذكر نظائرها وما يناسبها. قال النبي صلى
الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه
مثقال حبة من كبر". وكان يقال:
ليس لمعجب رأي، ولا لمتكبر صديق. قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"احثوا في وجوه المداحين التراب ". وقال عمر: المدح هو
الذبح. وقال عبد الله بن المقفع في اليتيمة:
إياك إذا كنت والياً أن يكون من شأنك حب المدح والتزكية، وأن يعرف الناس ذلك منك
فتكون ثلمة من الثلم يقتحمون عليك منها، وباباً يفتتحونك منه، وغيبة يغتابونك
بها، ويسخرون منك لها. وأعلم أن
قابل المدح كمادح نفسه، وأن المرء جدير أن يكون حبه المدح هو الذي يحمله على
رده، فإن الراد له ممدوح، والقابل له معيب.
ومن
هذا المعنى قول أبي الجهم العدوي، في معاوية:
ومنها قوله رضي الله عنه: لا تظنوا بي استثقال رفع الحق إلي، فإنه من استثقل الحق أن
يقال له، كان العمل به عليه أثقل، هذا معنى لطيف، ولم أسمع فيه شيئاً منثوراً
ولا منظوماً. ليس هذا إشارة إلى خاص نفسه رضي الله عنه،
لأنه لم يكن كافراً فأسلم، ولكنه كلام يقوله ويشير به إلى القوم الذين يخاطبهم
من أفناء الناس، فيأتي بصيغة الجمع الداخلة فيها نفسه توسعاً، ويجوز أن يكون معناه: لولا ألطاف الله تعالى ببعثة
محمد صلى الله عليه وسلم لكنت أنا وغيري على أصل مذهب الأسلاف
من عبادة الأصنام، كما قال تعالى لنبيه: "ووجدك ضالاً فهدى " ليس معناه أنه كان
كافراً، بل معناه: لولا اصطفاء الله تعالى
لك لكنت كواحد من قومك. ومعنى "ووجدك ضالاً"، أي ووجدك بعرضة للضلال،
فكأنه ضال بالقوة لا بالفعل. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال يشكو فيه أمر قريش
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: اللهم إني
أستعديك على قريش ومن أعانهم، فإنهم قد قطعوا رحمي؟ وأكفئوا إنائي، وأجمعوا على
منازعتي حقاً كنت أولى به من غيري، وقالوا: ألا إن في الحق أن تأخذه، وفي الحق
أن تمنعه، فاصبر مغموماً، أو مت متأسفاً. وقال الراوندي: إنها في خط الرضي بالتاء. ومعنى ذلك
أنك إن وليت أنت كانت ولايتك حقاً، وإن ولي غيرك كانت ولايته حقاً، على مذهب أهل
الاجتهاد. ومن رواها بالنون، فالمعنى ظاهر. والذاب:
الناصر، وضننت بهم: بخلت بهم. وأغضيت على كذا: صبرت، وجرعت بالكسر. والشجا: ما
يعترض في الحلق، والوخز: الطعن الخفيف، وروي من حز الشفار والحز: القطع،
والشفار: جمع شفرة، وهي حد السيف والسكين. فيقال لهم: فلا تكرهوا قول من يقول من الشيعة وغيرهم: إن هذا
الكلام وأمثاله صدر عنه عقيب السقيفة، وحملوه على أنه تألم وتظلم من كونهم تركوا
الأولى والأفضل، فإنكم لستم تنكرون أنه كان الأفضل والأحق بالأمر، بل تعترفون
بذلك، وتقولون: ساغت إمامة غيره، وصحت لمانع كان فيه رضي الله عنه، وهو ما غلب على ظنون
العاقدين للأمر من أن العرب لا تطيعه، فإنه يخاف من فتنة عظيمة تحدث إن ولي
الخلافة لأسباب يذكرونها، ويعدونها، وقد روى كثير
من المحدثين أنه عقيب يوم السقيفة تألم وتظلم، واستنجد واستصرخ، حيث ساموه
الحضور والبيعة، وأنه قال وهو يشير إلى القبر: "يا بن أم إن القوم استضعفوني
وكادوا يقتلونني " وأنه قال: واجعفراه! ولا جعفر لي اليوم! واحمزتاه ولا
حمزة لي اليوم!. فإن قالت الإمامية: كان يخاف القتل لو ذكر ذلك، قيل لهم: فهلا يخاف القتل
وهو يعتل ويدفع ليبايع، وهو يمتنع، ويستصرخ تارة بقبر رسول الله صلى
الله عليه وسلم، وتارة بعمه حمزة وأخيه جعفر وهما
ميتان وتارة بالأنصار، وتارة ببني عبد مناف، ويجمع الجموع في داره، ويبث الرسل
والدعاة ليلاً ونهاراً إلى الناس، يذكرهم فضله وقرابته، ويقول للمهاجرين: خصمتم الأنصار بكونكم
أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا أخصمكم
بما خصمتم به الأنصار، لأن القرابة إن كانت هي المعتبرة، فأنا أقرب منكم. وإن حال المخالفين للنص لا تعدو أحد أمرين: إما الكفر أو الفسق،
فإن قرائن الأحوال وأماراتها لا تدل على ذلك،
وإنما تدل وتشهد بخلافه، وهذا يقتضي أن أمير المؤمنين
رضي الله عنه كان في مبدأ الأمريظن أن العقد
لغيره كان عن غير نظر في المصلحة، وأنه لم يقصد به إلا
صرف الأمر عنه، والاستئثار عليه، فظهر منه ما ظهر من الامتناع والقعود في بيته،
إلى أن صح عنده، وثبت في نفسه، أنهم أصابوا فيما فعلوه،، وأنهم لم يميلوا إلى هوى، ولا أرادوا الدنيا، وإنما فعلوا الأصلح في ظنونهم، لأنه رأى من بغض الناس له،
وانحرافهم عنه، وميلهم عليه، وثوران الأحقاد التي كانت في أنفسهم، واحتدام
النيران التي كانت في قلوبهم، وتذكروا الترات التي وترهم فيما قبل بها، والدماء
التي سفكها منهم، وأراقها. واستصعاب
قوم منهم شكيمته وخوفهم تعديه وشدته، وعلمهم بأنه لا يداجي ولا يحابي، ولا يراقب
ولا يجامل في الدين، وأن الخلافة تحتاج إلى من يجتهد برأيه، ويعمل بموجب
استصلاحه، وانحراف قوم آخرين عنه، للحسد الذي
كان عندهم له في حياة رسول الله صلى
الله عليه وسلم، لشدة اختصاصه له، وتعظيمه إياه، وما قال فيه فأكثر من النصوص الدالة على رفعة شأنه وعلو
مكانه، وما اختص به من مصاهرته وأخوته، ونحو ذلك من أحواله معه، وتنكر قوم آخرين
له لنسبتهم إليه العجب والتيه، كما زعموا، واحتقاره العرب، واستصغاره الناس كما
عددوه عليه، وإن كانوا عندنا كاذبين، ولكنه قول
قيل، وأمر ذكر، وحال نسبت إليه، وأعانهم عليها
ما كان يصدر عنه من أقوال توهم مثل هذا، نحو قوله: فإنا صنائع ربنا،
والناس بعد صنائع لنا، وما صح به عنده أن الأمر
لم يكن ليستقيم له يوماً واحداً، ولا ينتظم ولا يستمر، وأنه
لو ولي الأمر لفتقت العرب عليه فتقاً يكون فيه استئصال شأفة الإسلام وهدم
أركانه، فأذعن بالبيعة، وجنح إلى الطاعة وأمسك عن طلب
الإمرة، وإن كان على مضض ورمض. واعلم أن حال علي رضي الله عنه في
هذا المعنى أشهر من أن يحتاج في الدلالة عليها إلى الإسهاب
والإطناب، فقد رأيت انتقاض العرب عليه من أقطارها حين
بويع بالخلافة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه
وسلم بخمس وعشرين سنة، وفي دون هذه المدة تنسى
الأحقاد، وتموت الترات، وتبرد الأكباد الحامية، وتسلو القلوب الواجدة ، ويعدم
قرن من الناس، ويوجد قرن، ولا يبقى من أرباب تلك الشحناء والبغضاء إلا الأقل، فكانت حاله بعد هذه المدة الطويلة مع قريش كأنها حاله لو أفضت
الخلافة إليه يوم وفاة ابن عمه
صلى الله عليه وسلم، من إظهار ما في النفوس،
وهيجان ما في القلوب، حتى إن الأخلاف من قريش، والأحداث والفتيان الذين لم يشهدوا
وقائعه وفتكا ته في أسلافهم وآبائهم، فعلوا به ما لو كانت الأسلاف أحياء لقصرت
عن فعله، وتقاعست عن بلوغ شأوه، فكيف كانت
تكون حاله لو جلس على منبر الخلافة، وسيفه بعد يقطر دماً من مهج العرب، لا سيما قريش الذين بهم كان ينبغي لو دهمه خطب أن
يعتضد، وعليهم كان يجب أن يعتمد! إذن كانت تدرس أعلام الملة وتنعفي رسوم
الشريعة، وتعود الجاهلية الجهلاء على حالها، ويفسد ما
أصلحه رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاث وعشرين سنة في شهر واحد، فكان من
عناية الله تعالى بهذا الدين أن الهم الصحابة ما فعلوه،
والله متم نوره ولوكره المشركون. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لو كان جعفر وحمزة حيين لبايعا علياً رضي الله عنه
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وسألت النقيب أبا جعفر يحيى بن محمد بن أبي يزيد رحمه الله، قلت
له: أتقول: إن حمزة وجعفراً لو كانا حيين
يوم مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، أكانا يبايعانه
بالخلافة؟ فقال: نعم، كانا أسرع إلى بيعته من النار في يبس العرفج . فقلت له: أظن أن جعفراً كان يبايعه ويتابعه، وما أظن حمزة كذلك، وأراه جباراً، قوي النفس، شديد
الشكيمة، ذاهباً بنفسه، شجاعاً بهمةً، وهو العم والأعلى سناً، وآثاره في الجهاد
معروفة، وأظنه كان يطلب الخلافة لنفسه! فقال: الأمر في أخلاقه وسجاياه كما ذكرت، ولكنه كان صاحب دين
متين، وتصديق خالص لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولو عاش لرأى من أحوال
علي رضي الله عنه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يوجب أن يكسر له
نخوته، وأن يقيم له صعره، وأن يقدمه على نفسه، وأن يتوخى رضا الله ورضا رسوله
فيه، وإن كان بخلاف إيثاره. وأين هيولانية نفس حمزة، وخلوها من العلوم من نفس علي القدسية التي أدركت بالفطرة لا
بالقوة التعليمية ما لم تدركه نفوس مدققي الفلاسفة الإلهيين! لو أن حمزة حي حتى رأى من علي ما رآه غيره، لكان أتبع له من
ظله، وأطوع له من أبي ذر والمقداد! وأما قولك: هو العم
والأعلى سناً، فقد كان العباس العم والأعلى سناً، وقد عرفت ما بذله له وندبه إليه، وكان أبو سفيان
كالعم، وكان أعلى سناً، وقد عرفت ما عرضه عليه. ثم قال: ما زالت الأعمام تخدم أبناء الأخوة،
وتكون أتباعاً لهم، ألست ترى داود بن علي، وعبد الله بن علي، وصالح بن علي،
وسليمان بن علي، وعيسى بن علي، وإسماعيل بن علي، وعبد الصمد بن علي خدموا ابن أخيهم وهو عبد الله السفاح بن محمد بن علي وبايعوه
وتابعوه، وكانوا أمراء جيوشه وأنصاره وأعوانه! ألست
ترى حمزة والعباس اتبعا ابن أخيهما صلوات الله عليه، وأطاعاه ورضيا برياسته،
وصدقا دعوته! ألست تعلم أن أبا طالب! كان رئيس بني هاشم وشيخهم، والمطاع
فيهم، وكان محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم يتيمه ومكفوله، وجارياً مجرى أحد
أولاده عنده، ثم خضع له، واعترف بصدقه، ودان لأمره، حتى
مدحه بالشعر كما يمدح الأدنى الأعلى، فقال فيه:
وإن سراً اختص به محمد صلى الله عليه وسلم، حتى أقام أبا
طالب - وحاله معه حاله - مقام المادح له، لسر عظيم وخاصية شريفة، وإن في هذا
لمعتبر عبرة أن يكون هذا الإنسان الفقير الذي لا أنصار له ولا أعوان معه، ولا
يستطيع الدفاع عن نفسه، فضلاً عن أن يقهر غيره، تعمل دعوته وأقواله في الأنفس ما
تعمله الخمر في الأبدان المعتدلة المزاج، حتى تطيعه أعمامه ويعظمه مربيه وكافله،
ومن هو إلى آخر عمره القيم بنففته، وغذاء بدنه، وكسوة جسده، حتى يمدحه بالشعر كما يمدح الشعراء الملوك والرؤساء! وهذا في
باب المعجزات عند المنصف أعظم من انشقاق القمر، وانقلاب العصا، ومن إنباء
القوم بما يأكلون وما يدخرون
في بيوتهم. إن كنت قلت ذلك لأنه
أخوه، فإنه أعلى منه سناً، هوأكبرمن علي
بعشر سنين، وقد كانت له خصائص ومناقب كثيرة، وقال
فيه النبي صلى الله عليه وسلم قولا شريفاً اتفق عليه المحدثون،
قال له لما افتخر هو وعلي وزيد بن حارثة، وتحاكموا إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أشبهت خلقي وخلقي " فخجل فرحاً، ثم قال
لزيد:"أنت مولانا وصاحبناً، فخجل
أيضاً، ثم قال لعلي: "أنت
أخي وخالصتي "، قالوا: فلم يخجل،
قالوا: كأن ترادف التعظيم له وتكرره عليه لم يجعل عنده للقول ذلك الموضع، وكان
غيره إذا عظم عظم نادراً، فيحسن موقعه عنده. واختلف الناس في أي المدحتين أعظم. ثم خص الله جعفراً بأن قبضه إلى الجنة قبل ظهور
التباين، واضطراب الحبل، وكثرة الهرج، وعلى أنه لو انعقد الإجماع، وتظاهر جميع
الناس على أن القتلتين شهادة، لكانت الحال في الذي رفع
إليها جعفر أغلظ وأعظم، وذلك أنه قتل مقبلاً غير مدبر، وأما علي فإنه اغتيل اغتيالاً، وقصد من حيث لا يعلم، وشتان ما بين من فوجئ بالموت وبين من عاين مخايل الموت!
وتلقاه بالنحر والصدر، وعجل إلى الله بإلايمان والصدق! ألا تعلم أن جعفراً قطعت
يمناه، فأمسك اللواء بيسراه، وقطعت يسراه، فضم اللواء إلى حشاه، ثم قاتله ظاهر
الشرك بالله وقاتل علي ممن صلى إلى القبلة، وشهد
الشهادة، وأقدم عليه بتأويل، وقاتل جعفر كافر
بالنص الذي لا خلاف فيه! أما تعلم أن جعفراً ذو الجناحين، وذو الهجرتين إلى
الحبشة والمدينة! قال النقيب رحمه الله: اعلم - فداك شيخك - أن أبا حيان رجل ملحد زنديق، يحب التلاعب بالدين، ويخرج ما في نفسه فيعزوه إلى قوم لم يقولوه. واقسم بالله إن القاضي أبا سعد
لم يقل من هذا الكلام لفظة واحدة، ولكنها من موضوعات
أبي حيان وأكاذيبه وترهاته، كما يسند إلى
القاضي أبي حامد المروروذي كل منكر، ويروي عنه
كل فاقرة. ثم ضحك رحمة الله حتى استلقى ومد رجليه، وقال: هذا
كلام يستغنى عن الإطالة في إبطاله بإجماع المسلمين، فإنه لا خلاف بين المسلمين
في أن علياً أفضل من جعفر، وإنما سرق أبو
حيان هذا المعنى الذي أشار إليه من رسالة المنصور أبي جعفر إلى محمد بن عبد
الله، النفس الزكية، قال له: وكانت بنو أمية
يلعنون أباك في أدبار الصلوات المكتوبات، كما تلعن الكفرة، فعنفناهم وكفرناهم، وبينا فضله وأشدنا بذكره، فاتخذت ذلك
علينا حجة، وظننت أنه لما ذكرناه من فضله أنا قدمناه على حمزة والعباس وجعفر،
أولئك مضوا سالمين مسلمين منهم، وابتلى أبوك بالدماء! فقلت
له رحمه الله: وإذاً لا إجماع في المسالة؟ لأن المنصور لم يقل بتفضيله
عليهم، وأنت ادعيت الإجماع، فقال: إن
الإجماع قد سبق هذا القائل، وكل قول قد سبقه الإجماع لا يعتد به. ألست تعلم أن أصحابكم
المعتزلة على قولين: أحدهما أن
أكثر المسلمين ثواباً أبو بكر، والآخر أن أكثرهم
ثواباً علي، وأصحابنا يقولون: إن أكثر
المسلمين ثواباً علي، وكذلك الزيدية. وأما الأشعرية والكرامية وأهل الحديث، فيقولون: أكثر المسلمين ثواباً أبو بكر، فقد خلص من
مجموع هذه الأقوال أن ثواب حمزة وجعفر دون
ثواب علي رضي الله عنه، أما على قول الإمامية
والزيدية والبغداديين كافة، وكثير من البصريين من المعتزلة، فالأمر ظاهر، وأما الباقون فعندهم أن أكثر
المسلمين ثواباً أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، ولم يذهب ذاهب إلى
أن ثواب حمزة وجعفر أكثر من ثواب علي من جميع الفرق. فقد ثبت الإجماع الذي
ذكره النقيب،
إذا فسرنا الأفضلية بالأكثرية ثواباً، وهو التفسير الذي يقع الحجاج والجدال في إثباته لأحد الرجلين. وأما
إذا فسرنا الأفضلية بزيادة المناقب والخصائص وكثرة
النصوص الدالة على التعظيم، فمعلوم أن أحداً من الناس
لا يقارب علياً رضي الله عنه في ذلك، لا
جعفر، ولا حمزة ولاغيرهما.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
في ذكر السائرين إلى البصرة لحربه رضي الله عنه
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: فقدموا على
عمالي وخزان بيت مال المسلمين الذي في يدي، وعلى أهل مصر كلهم في طاعتي، وعلى
بيعتي، فشتتوا كلمتهم، وأفسدوا علي جماعتهم، ووثبوا
على شيعتي فقتلوا طائفةً منهم غدراً،
وطائفةً عضوا على أسيافهم، فضاربوا بها، حتى
لقوا الله صادقين. وروي: وطائفة عضوا على أسيافهم بالرفع، تقديره: ومنهم طائفة. قرأت في كتاب غريب الحديث
لأبي محمد عبد الله بن قتيبة في حديث حذيفة بن اليمان، أنه
ذكر خروج عائشة، فقال: تقاتل معها مضر، مضرها الله في النار
، وأزد عمان سلت الله أقدامها ، وإن قيساً لن تنفك تبغي دين الله
شراً، حتى يركبها الله بالملائكة، فلا يمنعوا ذنب تلعة . |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن كلام له رضي الله عنه
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لما مر بطلحة بن
عبيد الله وعبد الرحمن بن عتاب بن أسيد وهما قتيلان يوم الجمل الأصل: لقد أصبح أبو محمد بهذا المكان غريباً! أما والله لقد كنت أكره أن تكون قريش قتلى تحت بطون
الكواكب! أدركت وتري من بني عبد مناف، وأفلتني أعيار بني
جمح، لقد أتلعوا أعناقهم إلى أمر لم يكونوا أهله فوقصوا دونه! |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الشرح: هو عبد
الرحمن بن عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس. ليس بصحابي، ولكنه من التابعين، وأبوه عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس، من مسلمة الفتح، ولما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من
مكة إلى حنين، استعمله عليها، فلم يزل أميرها حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبقي على حاله خلافة أبي بكر الصديق، ومات هو وأبو بكر في يوم
واحد، لم يعلم أحدهما بموت الأخر، وعبد
الرحمن هذا هو الذي قال أمير المؤمنين فيه، وقد مر به قتيلاًِ يوم الجمل:
لهفي عليك يعسوب قريش! هذا فتى الفتيان، هذا
اللباب المحض من بني عبد مناف، شفيت نفسي، وقتلت معشري، إلى الله أشكو عجري وبجري! فقال له قائل: لشد ما أطريت الفتى يا أمير
المؤمنين منذ اليوم! قال: إنه قام عني ورضي الله عنه نسوة لم يقمن عنك. منها أنه قال في تفسير قوله رضي الله عنه أدركت وتري من
بني عبد مناف، قال: يعني طلحة والزبير،
كانا من بني عبد مناف، وهذا
غلط قبيح، لأن طلحة من تيم بن مرة،
والزبيرمن أسد بن عبد العزى بن قصي، وليس أحد منهما من بني
عبد مناف، وولد عبد مناف أربعة: هاشم، وعبد
شمس، ونوفل، وعبد المطلب، فكل من لم يكن من ولد هؤلاء الأربعة، فليس من ولد عبد مناف. ومنها أنه قال: وأفلتتني أغيار بني جمح، بالغين
المعجمة، قال: هو جمع غير الذي بمعنى سوى، وهذا لم يرو، ولا مثله مما يتكلم به أمير
المؤمنين لركته وبعده عن طريقته، فإنه يكون قد
عدل عن أن يقول: ولم يفلتني إلا بنو جمح، إلى
مثل هذه العبارة الركيكة المتعسفة. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
بنوجمح
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
واعلم أنه
رضي الله عنه أخرج هذا الكلام مخرج الذم لمن حضر الجمل مع عائشة زوجة النبي صلى الله عليه وسلم
من بني جمح، فقال: وأفلتتني
أعيار بني جمح، جمع عير وهو الحمار، وقد كان معها منهم يوم الجمل جماعة هربوا، ولم يقتل منهم إلا
اثنان، فممن هرب ونجا بنفسه: عبد الله الطويل بن صفوان بن أمية بن خلف بن
وهب بن حذافة بن جمح، وكان شريفاً وابن شريف، وعاش حتى
قتل مع ابن الزبيربمكة. ومنهم
أيوب بن حبيب بن علقمة بن ربيعة بن الأعور بن أهيب بن
حذافة بن جمح، عاش حتى قتل بقديد ، قتلته
الخوارج.
ووقص
الرجل، إذا اندقت عنقه، فهو موقوص، ووقصت عنق
الرجل أقصها وقصاً، أي كسرتها، ولا يجوز وقصت
العنق نفسها. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
يصف أحوال تقى عارف بالله
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: قد أحيا
عقله، وأمات نفسه، حتى دق جليله، ولطف غليظه، وبرق له لامع كثير البرق، فأبان له
الطريق، وسلك به السبيل، وتدافعته الأبواث إلى باب السلامة، ودار الإقامة، وثبتت
رجلاه بطمأنينة بدنه في قرار الأمن والراحة، بما أستعمل قلبه، وأرضى ربه. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
فصل في مجاهدة النفوس وما ورد في ذلك من الآثار
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ويقول أرباب هذه الطريقة: من لم يكن في بدايته صاحب مجاهدة لم يجد من هذه الطريقة
شمة.
وقال
أيضاً:
وجاء في الحديث أن فاطمة
جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكسرة خبز، فقال: ما هذه؟ قالت: قرص خبزته، فلم
تطب نفسي حتى أتيتك منه بهذه الكسرة، فأكلها، وقال:
"أما إنها لأول طعام دخل فم أبيك منذ ثلاث ". وكنت أشتهي في أوقات أن أتناول شبعة عدس فلم يتفق،
ثم حملت إلي وأنا بالشام غضارة فيها عدسية، فتناولت منها وخرجت، فرأيت قوارير
معلقة فيها شبه أنموذجات، فظننتها خلاً، فقال بعض
الناس: أتنظر إلى هذه وتظنها خلاً! وإنما هي خمر، وهي أنموذجات هذه
الدنان لدنان هناك فقلت: قد لزمني فرض الإنكار، فدخلت حانوت ذلك الخمار لأكسر
الدنان والجرار، فحملت إلى ابن طولون، فأمر
بضربي مائتي خشبة، وطرحي في السجن، فبقيت مدة، حتى دخل أبو
عبد الله الوباني المغربي أستاذ ذلك البلد، فعلم أني محبوس، فشفع في،
فأخرجت إليه، فلما وقع بصره علي قال: أي شيء فعلت؟
فقلت: شبعة عدس ومائتي خشبة، فقال: لقد نجوت
مجاناً.
وله
أيضاً:
ومن أمثال العامة: من لم يغل دماغه في الصيف لم تغل قدره في
الشتاء. وأيضأ فإن
كثرة المأكل تزيل الرقة، وتورث القساوة والسبعية، والقياس أيضا يقتضي ذلك، لأن كثرة المزاولات، سبب لحصول الملكات، فالنفس إذا توفرت على تدبير الغذاء
وتصريفه، كان ذلك شغلاً شاغلاً لها، وعائقاً عظيماً عن انصبابها إلى الجهة
الروحانية العالية، ولكن ينبغي أن يكون تقليل الغذاء إلى حد يوجب جوعاً قليلاً، فإن الجوع المفرط يورث ضعف الأعضاء الرئيسة واضطرابها،
واختلال قواها، وذلك يقتضي تشويش النفس واضطراب الفكر، واختلال العقل،
ولذلك تعرض الأخلاط السوداوية لمن أفرط عليه الجوع، فإذن
لا بد من إصلاح أمر الغذاء، بأن يكون قليل الكمية، كثير الكيفية، فتؤثر قلة
كميته في أنه لا يشغل النفس بتدبير الهضم عن التوجه إلى الجهة العالية
الروحانية، وتؤثر كثرة كيفيته في تدارك الخلل
الحاصل له من قلة الكمية، ويجب أن يكون الغذاء شديد الإمداد للأعضاء
الرئيسة، لأنها هي المهمة من أعضاء البدن وما دامت
باقية على كمال حالها لا يظهر كثير خلل من ضعف غيرها من الأعضاء. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
في الرياضة النفسية وأثر الجوع
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
واعلم أن الرياضة والجوع هو أمر يحتاج إليه المريد
الذي هو بعد في طريق السلوك إلى الله. أحدها: الذين مارسوا العلوم الإلهية، وأجهدوا أنفسهم
في طلبها والوصول إلى كنهها، بالنظر الدقيق، في الزمان الطويل، فهو لا يحصل لهم
شوق شديد، وميل عظيم إلى الجهة العالية الشريفة، فيحملهم حب الكمال على الرياضة. والرياضة التي تليق بكل واحد من هذه
الأقسام غير الرياضة اللائقة
بالقسم الأخر. أما الكسب فإن صاحب العلم
الأولى به في الأكثر الغزلة والانقطاع عن الخلق، لأنه قد حصلت له الهداية
والرشاد، فلا حاجة له إلى مخالطة أحد يستعين به على حصول ما هو حاصل. وأما صاحب الفطرة الأصلية من غيرعلم
فإنه لا يليق به العزلة، لأنه يحتاج إلى المعلم والمرشد، فإنه ليس يكفي الفطرة الأصلية في الوصول إلى المعالم
الإلهية والحقائق الربانية، ولا بد من موقف ومرشد في
مبدأ الحال، هذا هو القول في الكسب بالنظر إليهما. واعلم أن قوله رضي الله عنه: "وبرق له لامع كثير البرق"، هو حقيقة مذهب الحكماء، وحقيقة قول الصوفية أصحاب
الطريقة والحقيقة، وقد صرح به الرئيس أبو
علي بن سينا في كتاب "الإشارات "فقال في
ذكر السالك إلى مرتبة العرفان: ثم إنه إذا بلغت به الإرادة والرياضة حداً
ما عنت له خلسات من اطلاع نور الحق إليه لذيذة كأنها بروق تومض إليه ثم تخمد
عنه، وهي التي تسمى عندهم أوقاتاً، وكل وقت
يكتنفه وجد إليه، ووجد عليه. ثم إنه لتكثر عليه هذه الغواشي إذا أمعن في
الارتياض، ثم إنه ليتوغل في ذلك حتى يغشاه في غير الارتياض، فكلما لمح شيئاً عاج
منه إلى جانب القدس، فتذكر من أمره أمراً فغشيه غاش، فيكاد يرى الحق في كل شيء،
ولعله إلى هذا الحد تستولي عليه غواشيه، ويزول هو عن سكينته، ويتنبه جليسه
لاستنفاره عن قراره، فإذا طالت عليه الرياضة لم تستنفره غاشية، وهدي للتأنس بما
هو فيه. ثم إنه لتبلغ به الرياضة مبلغاً ينقلب له وقته سكينة فيصير المخطوب
مألوفاً، والوميض شهاباً بيناً، ويحصل له معارف مستقرة، كأنها صحبة مستمرة،
ويستمتع فيها ببهجته، فإذا انقلب عنها انقلب حيران
آسفاً.
فهو
كما تراه يذكر البروق اللامعة حسبما ذكره الحكيم، وكلاهما يتبع ألفاظ أمير
المؤمنين رضي الله عنه، لأنه حكيم الحكماء وعارف
العارفين، ومعلم الصوفية، ولولا أخلاقه وكلامه
وتعليمه للناس هذا الفن تارة بقوله، وتارة بفعله، لما اهتدى أحد من هذه
الطائفة، ولا علم كيف يورد، ولا كيف يصدر. وقال: وهي أرفع
الدرجات. قال: فالمحاضرة
حضور القلب، وقد تكون بتواتر البرهان، والإنسان بعد وراء الستر، وإن كان
حاضراً باستيلاء سلطان الذكر.
وقال الثوري:
"لا تصح للعبد المشاهدة وقد بقي له عرق قائم".
كأس
وأي كأس، تصطلمهم عنهم، وتفنيهم وتخطفهم منهم ولا تبقيهم، كأس لا تبقي ولا تذر،
تمحو بالكلية، ولا تبقي شظية من آثار البشرية، كما
قال قائلهم:
وقال القشيري أيضاً: هي ثلاث مراتب: اللوائح، ثم
اللوامع، ثم الطوالع. فاللوائح كالبروق، ما ظهرت حتى استترت، كما قال القائل:
وأنشدوا:
ثم
اللوامع، وهي أظهر من اللوائح، وليس زوالها بتلك
السرعة، فقد تبقى وقتين وثلاثة، ولكن كما قيل: العين باكية لم تشبع النظرا.
فأصحاب هذا المقام بين روح وفوح، لأنهم بين كشف وستر يلمع ثم يقطع، لا يستقر لهم نور النهار،
حتى تكر عليه عساكر الليل، فهم كما قيل:
ثم الطوالع،
وهي أبقى وقتاً، وأقوى سلطاناً، وأدوم مكثاً، وأذهب للظلمة، وأنفى للهمة.
وقال
الشاعر:
وقال
آخر:
وقال:
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن كلام له يحث فيه أصحابه على الجهاد
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
والله مستأديكم شكره، ومورثكم أمره، وممهلكم في مضمار ممدود لتتنازعوا سبقه.
فشدوا عقد المآزر، واطووا فضول الخواصر، لا تجتمع عزيمة ووليمة. ما أنقض النوم،
لعزائم اليوم! وأمحى الظلم، لتذاكير الهمم! الشرح:
مستأديكم شكره، أي طالب منكم أداء ذلك والقيام به، استأديت ديني عند فلان، أي
طلبته.
وقال
أعشى باهلة:
وقال
الشنفرى:
ثم أتى رضي الله عنه بثلاثة أمثال مخترعة له لم يسبق بها، وإن كان قد سبق بمعناها، وهي قوله:
"لا تجتمع عزيمة ووليمة". وقوله:
"ما أنقض النوم لعزائم اليوم"!. وقوله:
"وأمحى الظلم لتذاكير الهمم!". فمما
جاء للمحدثين من ذلك ما كتبه بعض الكتاب إلى ولده:
ومثله
قول آخر لولده:
وقال
آخر:
وهذا
كثيرجداً يناسب قوله: "لا تجتمع عزيمة
ووليمة".
وقوله: "وأمحى الظلم لتذاكير
الهمم "، أي الظلم
التي ينام فيها، لا كل الظلم، آلا ترى أنه إذا لم ينم في الظلمة بل كان
عنده من شدة العزم وقوة التصميم ما لا ينام معه، فإن الظلمة لا تمحو تذاكيرهممه.
والتذاكير: جمع تذكار. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال بعد تلاوته ألهاكم التكاثر، حتى زرتم
المقابر"
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: يا له مراماً
ما أبعده! وزوراً ما أغفله! وخطراً ما أفظعه! لقد استخلوا منهم أي مدكر،
وتناوشوهم من مكان بعيد، أفبمصارع آبائهم يفخرون! أم بعديد الهلكى يتكاثرون! الشرح: قد اختلف المفسرون
في تأويل هاتين الآيتين، فقال قوم: المعنى أنكم
قطعتم أيام عمركم في التكاثر بالأموال والأولاد، حتى أتاكم الموت، فكنى عن حلول الموت بهم بزيارة المقابر. قال: ما أغفلهم عما يراد منهم! لأنهم تركوا
العبادة والطاعة، وصرموا الأوقات بالمفاخرة بالموتى. الأصل: يرتجعون منهم أجساداً خوت، وحركات سكنت. ولأن
يكونوا عبراً، أحق من أن يكونوا مفتخراً، ولأن يهبطوا بهم جناب ذلة، أحجى من أن
يقوموا بهم مقام عزة. لقد نظروا إليهم بأبصار العشوة، وضربوا منهم في
غمرة جهالة. وخوت: خلت. والجناب:
الفناء. ثم قال: "لقد نظروا إليهم بأبصار العشوة"، أي لم ينظروا النظر المفضي إلى
الرؤية، لأن أبصارهم ذات عشوة، وهو مرض في العين ينقص به الأبصار، وفي عين فلان
عشاء وعشوة بمعنى، ومنه قيل لكل أمر ملتبس يركبه الراكب على غيربيان أمر عشوة،
ومنه أوطأتني عشوة، ويجوز بالضم والفتح. والضرب ههنا: استعارة، أو يكون من الضرب بمعنى
السير، كقوله تعالى: "وإذا ضربتم في
الأرض "، أي خاضوا وسبحوا من ذكرهم في غمرة جهالة، وكل هذا يرجع إلى معنى واحد، وهو تسفيه رأي المفتخرين
بالموتى، والقاطعين الوقت بالتكاثر بهم، إعراضاً عما يجب إنفاقه من العمر في
الطاعة والعبادة. فقال:
قوله: "وتستنبتون في أجسادهم "، أي تزرعون النبات في أجسادهم، وذلك
لأن أديم الأرض الظاهر إذا كان من أبدان الموتى، فالزرع لا محالة يكون نابتاً في
الأجزاء الترابية التي هي أبدان الحيوانات. وروي: "وتستثبتون "، بالثاء؟ أي وتنصبون الأشياء الثابتة كالعمد
والأساطين للأوطان في أجساد الموتى. ويجوز
أن يريد أنكم تأكلون الفواكه التي تنبت في أجزاء ترابية خالطها الصديد الجاري من
أفواههم. ويجوز
أن يريد أن كل دار عامرة قد كانت من قبل خربة، وإنما أخربها قوم بادوا وماتوا،
فإذن لا ساكن منا في عمارة إلا ويصدق عليه أنه ساكن فيما قد كان خراباً من قبل،
والذين أخربوه الآن موتى. ويجوز
أن يريد بقوله: "وتسكنون فيما خربوا"
وتسكنون في دور فارقوها وأخلوها، فأطلق على الخلو والفراغ
لفظ "الخراب " مجازاً. وحلبات الفخر:
جمع حلبة، وهي الخيل تجمع للسباق. بليت
بينهم عرا التعارف، وانقطعت منهم أسباب الإخاء؟ فكلهم وحيد وهم جميع، وبجانب
الهجر وهم أخلاء. لا
يتعارفون لليل صباحاً، ولا لنهار مساء. أي الجديدين ظعنوا فيه كان عليهم سرمداً،
شاهدوا من أخطار دارهم أفظع مما خافوا، ورأوا من آياتها أعظم مما قدروا، فكلا الغايتين
مدت لهم إلى مباءة فاتت مبالغ الخوف والرجاء. ولئن
عميت آثارهم وانقطعت أخبارهم، لقد رجعت فيهم أبصار العبر، وسمعت عنهم آذان
العقول، وتكلموا من غير جهات النطق، فقالوا: كلحت الوجوه النواضر، وخوت الأجسام
النواعم، ولبسنا أهدام البلى، وتكاءدنا ضيق المضجع، وتوارثنا الوحشة، وتهدمت
علينا الربوع الصموت، فانمحت محاسن أجسادنا، وتنكرت معارف صورنا، وطالت في مساكن
الوحشة إقامتنا، ولم نجد من كرب فرجاً، ولا من ضيق متسعاً. فبينا
هو كذلك على جناح من فراق الدنيا، وترك الأحبة، إذ عرض له عارض من غصصه، فتحيرت
نوافذ فطنته، ويبست رطوبة لسانه. ومن تأمل هذا الفصل، علم صدق معاوية في قوله فيه: "والله
ما سن الفصاحة لقريش غيره ". وينبغي لو اجتمع فصحاء العرب قاطبة في مجلس،
وتلي عليهم أن يسجدوا له كما سجد الشعراء لقول عدي
بن الرقاع:
فلما قيل لهم في ذلك، قالوا: إنا نعرف مواضع السجود في الشعر، كما
تعرفون مواضع السجود في القرآن. وكم
قد قال الواعظون والخطباء والفصحاء في هذا المعنى! وكم وقفت على ما قالوه وتكرر
وقوفي عليه! فلم أجد لشيء منه مثل تأثير هذا الكلام في نفسي، فإما أن يكون ذلك
لعقيدتي في قائله، أو كانت نية القائل صالحة، ويقينه كان ثابتاً، وإخلاصه كان
محضاً خالصاً، فكان تأثير قوله في النفوس أعظم، وسر يان موعظته في القلوب أبلغ. ولفظتا "أكلت الأرض من لحومهم وشربت من
دمائهم " مستعارتان. والفجوات:
جمع فجوة وهي الفرجة المتسعة بين الشيئين، قال
سبحانه: "وهم في فجوة منه " وقد تفاجى
الشيء، إذا صارت له فجوة. ويروى
"يحزنهم " على أن الماضي رباعي. وقال الشاعر:
وليس
المراد بقوله: "أي الجديدين ظعنوا فيه كان
عليهم سرمدا" أنهم وهم موتى يشعرون بالوقت الذي ماتوا فيه ولا
يشعرون بما يتعقبه من الأوقات، بل المراد أن
صورة ذلك الوقت لو بقيت عندهم لبقيت أبداً من غير أن يزيلها وقت آخر يطرأ عليها. ويجوز أن يفسر
على مذهب من قال ببقاء الأنفس، فيقال: إن النفس التي تفارق ليلاً تبقى
الصورة الليلية والظلمة حاصلة عندها أبداً لا تزول بطرآن نهار عليها، لأنها قد
فارقت الحواس، فلا سبيل لها إلى أن يرتسم فيها شيء من المحسوسات بعد المفارقة،
وإنما حصل ما حصل من غير زيادة عليه، وكذلك الأنفس التي تفارق نهاراً. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
بعض الأشعار والحكايات في وصف القبور والموتى
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
واعلم
أن الناس قد قالوا في حال الموتى فأكثروا، فمن ذلك قول
الرضي أبي الحسن رحمه الله تعالى:
قوله:
"بادون في صور الجميع " مأخوذ من قول أمير
المؤمنين رضي الله عنه: "فكلهم وحيد وهم
جميع ".
وقال
أبو العلاء:
وقال
أبو عارم الكلابي:
مر الإسكندر بمدينة قد ملكها سبعة أملاك من بيت واحد وبادوا،
فسأل: هل بقي من نسلهم أحد؟ قالوا: بقي واحد، وهو يلزم المقابر، فدعا به فسأله:
لم تلزم المقابر؟ قال: أردت أن أميز عظام الملوك من عظام عبيدهم، فوجدتها سواء،
قال: هل لك أن تلزمني حتى أنيلك بغيتك؟ قال: لو علمت أنك تقدر على ذلك للزمتك. قال: وما بغيتك؟ قال: حياة لا موت معها، قال: لن أقدر على
ذلك، قال: فدعني أطلبه ممن يقدر عليه. يقال: جنبت الرجل، وأجنبته، وتجنبته، وتجانبته، كله بمعنى، ورجل
أجنبي، وأجنب، وجنب، وجانب، كله بمعنى. قوله رضي الله عنه: "شاهدوا من أخطار دارهم"، المعنى أنه شاهد المتقون من آثار
الرحمة وأماراتها، وشاهد المجرمون من آثار النقمة وأماراتها عند الموت، والحصول
في القبرأعظم مما كانوا يسمعون ويظنون أيام كونهم في الدنيا. ثم قال: "فكلا الغايتين مدت لهم "، المعنى مدت الغايتان: غاية الشقي
منهم وغاية السعيد. وتقول: قد استباء
الرجل أي اتخذ مباءة، وأبات الإبل: رددتها إلى مباءتها؟ وهي معاطنها .
وروي
"لعيوا" بالتخفيف، كما تقول: "حيوا"
قالوا: ذهبت الياء الثانية لالتقاء الساكنين لأن الواو ساكنة، وضمت الياء الأولى
لأجل الواو، قال الشاعر:
قوله: "لقد رجعت فيهم" يقال: رجع البصر نفسه، ورجع زيد بصره، يتعدى ولا يتعدى،
يقول: تكلموا معنى لا صورة، فأدركت حالهم بالأبصار والأسماع العقلية لا الحسية. وكلحت
الوجوه كلوحاً وكلاحاً، وهو تكشر في عبوس، والنواضر: النواعم، والنضرة: الحسن والرونق، وخوت الأجساد النواعم:
خلت من دمها ورطوبتها وحشوتها. ويجوز أن يكون خوت أي سقطت. قال
تعالى: "فهي خاوية على عروشها" ،
والأهدام: جمع هدم، وهو الثوب البالي، قال أوس:
وتكاءدنا:
شق علينا، ومنه: عقبة كؤود. ويجوز
تكأدنا، جاءت هذه الكلمة في أخوات لها "تفعل وتفاعل" بمعنى، ومثله
تعهد الضيعة، وتعاهدها. كأنه لما مات الأب فاستوحش أهله منه، ثم مات
الابن فاستوحش منه أهله أيضاً، صار كأن الابن ورث تلك الوحشة من أبيه كما تورث
الأموال، وهذا من باب الاستعارة. وورد في الحديث
أن عمر حضر جنازة رجل، فلما دفن قال
لأصحابه: قفوا، ثم ضرب فأمعن في القبور، واستبطأه الناس جداً ثم رجع وقد
احمرت عيناه، وانتفخت أوداجه ، فقيل: أبطأت
يا أمير المؤمنين، فما الذي حبسك؟ قال: أتيت قبور الأحبة، فسلمت فلم يردوا علي
السلام، فلما ذهبت أقفي ناداني التراب، فقال: ألا تسألني يا عمر ما فعلت
باليدين؟ قلت: ما فعلت بهما؟ قال: قطعت الكفين من الرسغين، وقطعت الرسغين من
الذراعين، وقطعت الذراعين من المرفقين، وقطعت المرفقين من العضدين، وقطعت
العضدين من المنكبين، وقطعت المنكبين من الكتفين، فلما ذهبت أقفي ناداني التراب،
فقال: ألا تسألني يا عمر ما فعلت بالأبدان والرجلين؟ قلت: ما فعلت؟ قال: قطعت
الكتفين من الجنبين، وقطعت الجنبين من الصلب، وقطعت الصلب من الوركين، وقطعت
الوركين من الفخذين، وقطعت الفخذين من الركبتين، وقطعت الركبتين من الساقين،
وقطعت الساقين من القدمين، فلما ذهبت أقفي ناداني التراب، فقال: يا عمر، عليك
بأكفان لا تبلى، فقلت: وما أكفان لا تبلى؟ قال: تقوى الله، والعمل بطاعته. وهذا من الباب الذي نحن
بصدده، نسب الأقوال المذكورة إلى التراب وهو جماد، ولم يكن ذلك، ولكنه اعتبر
فانقدحت في نفسه هذه المواعظ الحكمية، فأفرغها في قالب الحكاية، ورتبها على
قانون المسألة والإجابة، وأضافها إلى جماد موات، لأنه أهز لسامعها إلى تدبرها، ولو قال: نظرت
فاعتبرت في حال الموتى فوجدت التراب قد قطع كذا من كذا لم تبلغ عظته المبلغ الذي بلغته حيث أودعها في
الصورة التي اخترعها. قوله رضي الله عنه: "فلو مثلتهم بعقلك، أوكشف عنهم محجوب
الغطاء لك" إلى آخر جواب "لو". هذا الكلام أخذه ابن
نباتة بعينه فقال:
فلو كشفتم عنهم أغطية الأجداث، بعد ليلتين أو ثلاث، لوجدتم الأحداق على الخدود
سائلة، والألوان من ضيق اللحود حائلة، وهوام الأرض في نواعم الأبدان جائلة،
والرؤوس الموسدة على الإيمان زائلة، ينكرها من كان لها عارفاً، ويفرعنها من لم
يزل لها آلفاً.
قوله: "واكتحلت أبصارهم بالتراب فخسفت"، أي غارت وذهبت في الرأس.
وذلاقة الألسن:
حدتها، ذلق اللسان والسنان يذلق ذلقاً، أي ذرب، فهو ذلق، وأذلق. وعاث:
أفسد. وقوله:
"جديد بلى"، من فن البديع، لأن الجدة ضد البلى، وقد أخذ الشاعر هذه اللفظة فقال:
وسمجها:
قبح صورتها، وقد سمج الشيء بالضم فهو سمج، بالسكون، مثل ضخم فهو ضخم، ويجوز: فهو
سمج، بالكسر، مثل خشن فهوخشن. ويقال:
رب فلان ولده يربه ربا، ورباه يربيه تربية. ويفزع إلى السلوة: يلتجىء إليها. وضناً، أي بخلاً. وغضارة العيش: نعيمه ولينه. وشححت
أيضاً بالفتح، أشح وأشح، بالضم والكسر، شحا وشحاحة. ورجل شحيح وشحاح بالفتح.
وقوم شحاح وأشحة.
وقال
أخر:
قوله:
"إذ وطىء الدهر به حسكه"، أي إذ
أوطأه الدهر حسكه. والهاء في "حسكه" ترجع إلى الدهر، عدى الفعل بحرف الجر، كما تقول: قام زيد
بعمرو، أي أقامه. والبث:
الحزن. والبث
أيضاً: الأمر الباطن الدخيل. والفترات:
أوائل المرض. وقال الراوندي في الشرح: هذا من باب: "أخطب ما
يكون الأميرقائما". وما ذكره الراوندي فاسد، فإنه ليس هذا من باب: "أخطب ما يكون
الأميرقائماً" لأن ذلك حال سد مسد خبر
المبتدأ، وليس ههنا مبتدأ. وأيضاً فليس العامل في الحال " فترات " ولا
"فتر"، بل العامل: "تولدت ". والقار: البارد. فإن قلت:
لم قال: "تسكين الحار بالقار، وتحريك البارد بالحار"؟ ولأي معنى جعل
الأول التسكين والثاني التحريك؟ قلت: لأن من
شأن الحرارة التهييج والتثوير، فاستعمل في قهرها بالبارد لفظة "التسكين
"، ومن شأن البرودة التخدير والتجميد، فاستعمل في قهرها بالحار لفظة
"التحريك ".
قوله: "على جناح من فراق الدنيا"، أي سرعان ما يفارقها، لأن من كان على
جناح طائر، فأوشك به أن يسقط! قوله: "إذ عرض له عارض " يعني الموت. ومن
غصصه: جمع غصة. وهو ما يعترض مجرى الأنفاس. ويقال: إن كل ميت من الحيوان لا يموت
إلا خنقاً، وذلك لأنه من النفس يدخل، فلا يخرج عوضه، أو يخرج فلا يدخل عوضه،
ويلزم من ذلك الإختناق، لأن الرئة لا تبقى حينئذ مروحة للقلب، وإذا لم تروحه
اختنق. "وصغير كان يرحمه"، نحو صراخ الولد على الوالد، وهو يسمع ولا قدرة له على
جوابه. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الموت وأحوال الموتى في شعر الشعراء
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومما
يناسب ما ذكر، من حال الإنسان قول الشاعر:
وقال
أبو النجم العجلي:
وقال
عمران بن حطان:
وجاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بمقبرة فنادى: يا أهل القبور الموحشة، والربوع
المعطلة، ألا أخبركم بما حدث بعدكم؟ تزوج نساؤكم، وتبوئت مساكنكم، وقسمت
أموالكم. هل
أنتم مخبرون بما عاينتم! ثم قال: ألا إنهم لو أذن
لهم في الجواب لقالوا: وجدنا خير الزاد التقوى.
ونظيرهذه
الأبيات في رويها وعروضها قول متمم بن نويرة اليربوعي:
لما فتح خالد بن الوليد عين التمر ، سأل عن الحرقة بنت النعمان
بن المنذر، فدل عليها، فأتاها- وكانت عمياء- فسألها عن حالها، فقالت: لقد طلعت علينا الشمس ما شيء يدب تحت
الخورنق آلا تحت أيدينا، ثم غربت وقد رحمنا كل من يدور به، وما بيت دخلته حبرة،
إلا دخلته عبرة، ثم قالت:
فقال
قائل ممن كان حول خالد: قاتل الله عدي بن زيد!
لكأنه ينظر إليها حين يقول:
دخل عبد الله بن العباس على عبد الملك بن مروان يوم قر ، وهوعلى
فرش يكاد يغيب فيها، فقال:
يا بن عباس، إني لأحسب اليوم بارداً! قال: أجل، وإن ابن هند عاش في مثل ما ترى،
عشرين أميراً، وعشرين خليفة، ثم هوذاك على قبره ثمامة تهتز، فيقال: إن عبد الملك أرسل إلى قبرمعاوية فوجد عليه
ثمامة نابتة.
فلم
ينتفع بنفسه أياماً.
قد
اتفق الناس على أن هذه الأبيات أحسن ما قيل من القريض في هذا المعنى، وأن
الشعراء كلهم أخذوا منها، واحتذوا في هذا المعنى حذوها.
قال
أيضاً:
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال عند تلاوته "رجال لا تلهيهم"
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
قاله عند تلاوته: "يسبح له فيها بالغدو
والأصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله" : إن الله
سبحانه وتعالى جعل الذكر جلاء للقلوب تسمع به بعد الوقرة، وتبصر به بعد العشوة،
وتنقاد به بعد المعاندة. وما برح لله- عزت آلاؤه، في البرهة بعد البرهة، وفي
أزمان الفترات- عباد ناجاهم في فكرهم، وكلمهم في ذات عقولهم، فاستصبحوا بنور
يقظة في الأسماع والأبصار والأفئدة، يذكرون بأيام الله، ويخوفون مقامه، بمنزلة
الأدلة في الفلوات. من أخذ القصد حمدوا إليه طريقه، وبشروه
بالنجاة، ومن أخذ يميناً وشمالأ ذموا إليه الطريق، وحذروه من الهلكة، وكانوا
كذلك مصابيح تلك الظلمات، وأدلة تلك الشبهات.
أي
يبكيه ضارع، ودل على "يبكيه" "ليبك". ومن
قرأ: "يسبح له فيها" بكسر الباء، ف "رجال " فاعل، وأوقع لفظ
"التجارة" في مقابلة لفظ "البيع " إما لآنه أراد بالتجارة
ههنا الشراء خاصة، أو لأنه عمم بالتجارة المشتملة على البيع والشراء، ثم خص
البيع، لأنه أدخل في باب الإلهاء، لأن البيع يحصل ربحه بيقين، وليس كذلك الشراء،
والذكر يكون تارة باللسان، وتارة بالقلب،
فالذي باللسان نحو التسبيح والتكبير
والتهليل والتحميد والدعاء، والذي بالقلب،
فهو التعظيم والتبجيل والإعتراف والطاعة. والعشوة،
بالفتح: فعلة، من العشا في العين. وآلاؤه:
نعمه. "قلت
"، وهل يجوز مثل ذلك في تعظيم الله؟ قلت:
عزت ههنا ليس بمعنى "قلت" ولكن بمعنى: "كرمت
وعظمت"، تقول منه: عززت على فلان بالفتح، أي كرمت عليه، وعظمت عنده،
وفلان عزيز علينا، أي كريم معظم. قوله: "من أخذ القصد حمدوا إليهم طريقه"، إلى ههنا: هي التي في قولهم: أحمد
الله إليك، أي منهياً ذلك إليك، أو مفضياً به إليك، ونحو ذلك، وطريقة العرب في الحذف في مثل هذا معلومة، قال سبحانه: "ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة " أي لجعلنا بدلاً منكم ملائكة. وقال الشاعر:
أي
عوضا من ماء زمزم. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
في مقامات العارفين
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وقد كنا وعدنا بذكر مقامات العارفين
فيما تقدم، وهذا موضعه، فنقول: إن
أول مقام من مقامات العارفين، وأول منزل من منازل السالكين التوبة، قال
الله تعالى: "وتوبوا
إلى الله جميعاً أيه المؤمنون لعلكم تفلحون ". ومنهم من قال:
يكفي الندم وحده، لأنه يستتبع الركنين الآخرين لاستحالة كونه نادماً على ما هو
مصر على مثله، أو ما هو عازم على الإتيان بمثله. وأول ذلك هجران إخوان السوء، فإنهم الذين يحملونه على رد هذا
القصد، وعكس هذا العزم، ويشوشون عليه صحة هذه الإرادة، ولا
يتم ذلك له إلا بالمواظبة على المشاهد والمجالس التي تزيده رغبة في
التوبة، وتوفر دواعيه إلى إتمام ما عزم عليه، مما يقوي خوفه ورجاءه، فعند ذلك
تنحل عن قلبه عقدة الإصرار على ما هو عليه من قبيح الفعال، فيقف عن تعاطي
المحظورات، ويكبح نفسه بلجام الخوف عن متابعة الشهوات، فيفارق الزلة في الحال،
ويلزم العزيمة على ألا يعود إلى مثلها في الاستقبال، فإن
مضى على موجب قصده، ونفذ على مقتضى عزمه، فهو الموفق حقاً، وإن نقض
التوبة مرة أو مرات، ثم حملته إرادته على تجديدها، فقد يكون مثل هذا كثيراً، فلا
ينبغي قطع الرجاء عن توبة أمثال هؤلاء، فإن لكل أجل كتابأ. وقد حكي عن أبي سليمان الداراني أنه
قال:
اختلفت إلى مجلس قاص، فأثر كلامه في قلبي، فلما قمت لم يبق في قلبي شيء، فعدت
تائبأ، فسمعت كلامه، فبقي من كلامه في قلبي أثر في الطريق تم زال، ثم عدت ثالثاً
فوقر كلامه في قلبي، وثبت حتى رجعت إلى منزلي، وكسرت
الأت المخالفة، ولزمت الطريق. وقال أبو علي الدقاق:
التوبة على ثلاثة أقسام. فأولها التوبة، وأوسطها
الأنابة، وآخرها الأوبة، فجعل التوبة بداية، والأوبة نهاية، والأنابة واسطة بينهما. والمعنى أن
من تاب خوفاًَ من العقاب فهو صاحب التوبة، ومن
تاب طمعا في الثواب فهو صاحب الأنابة، ومن تاب مراعاة للأمر فقط، فهو صاحب الأوبة. والأنابة صفة الأولياء،
قال سبحانه: "وجاء بقلب منيب "، والأوبة
صفة الأنبياء، قال سبحانه: "نعم العبد إنه أواب ". قال
الجنيد: فقلت له: إن
الأمر عندي ما قاله الشاب، قال: كيف؟ قلت:
لأني إذا كنت في حال الجفاء فنقلني إلى حال الصفاء، فذكر الجفاء
في حال الصفاء جفاء. فسكت السري. وكان من سنته رضي الله عنه دوام الاستغفار. وقال:
"إنه ليغان على قلبي فأستغفر الله في اليوم سبعين مرة". ويحكى أن علي بن عيسى الوزير ركب في موكب عظيم، فجعل الغرباء يقولون: من هذا؟ من هذا؟ فقالت
امرأة قائمة على السطح: إلى متى تقولون: من هذا، من هذا! هذا عبد سقط من عين
الله، فابتلاه بما ترون. فسمع علي بن عيسى كلامها، فرجع إلى منزله ولم يزل يتوصل في
الاستغفار من الوزارة حتى أعفي، وذهب إلى مكة فجاور بها. فولى ظهره قبل الشمس، وجعل القميص على ظهره حتى جف
أحد جانبيه، ثم قلبه حتى جف الجانب الأخر. وكان إذا انقضى أوان الرطب يقول: يا
أهل البصرة، هذا بطني ما نقص منه شيء، سواء عليّ أكلت من رطبكم أو لم آكل! وقال الحسن:
مثقال ذرة من الورع خير من ألف مثقال من الصوم والصلاة. وسئل أبو عثمان الحريري عن الورع فقال: كان أبو صالح بن حمدون
عند صديق له وهو في النزع،
فمات الرجل، فنفث أبو صالح في السراج فأطفأه، فقيل
له في ذلك، فقال: إلى الآن كان الدهن الذي في المسرجة له، فلما مات صار إلى الورثة. ومنها الزهد، وقد تكلموا في حقيقته، فقال سفيان الثوري: الزهد في
الدنيا قصر الأمل. وكان يقال:
من صدق في زهده أتته الدنيا وهي راغمة، ولهذا قيل:
لو سقطت قلنسوة من السماء لما وقعت إلا على رأس من لا يريدها. وكان يقال:
إن الله تعالى جعل الخير كله في بيت، وجعل مفتاحه
الزهد، وجعل الشر كله في بيت، وجعل مفتاحه حب الدنيا.
وأنشدوا:
قالوا:
وربما كان سبب الصمت والسكوت حيرة البديهة؟ فإنه إذا ورد كشف بغتة، خرست
العبارات عند ذلك، فلا بيان ولا نطق، وطمست الشواهد فلا علم ولا حس، قال الله
تعالى: "يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم
قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب "، فأما إيثار أرباب المجاهدة
الصمت فلما علموا في الكلام من الآفات، ثم ما فيه من حط النفس وإظهار صفات
المدح، والميل إلى أن يتميز من بين أشكاله بحسن النطق، وغير ذلك من ضروب آفات
الكلام. وهذا
نعت أرباب الرياضة، وهو أحد أركانهم في حكم مجاهدة النفس ومنازلتها وتهذيب
الأخلاق. وقال سهل بن عبد الله:
لا يصح لأحد الصمت حتى يلزم نفسه الخلوة، ولا يصح لأحد التوبة حتى يلزم نفسه
الصمت. وقيل: إن القلب إذا لم يكن فيه حزن خرب، كما أن الدار إذا لم يكن فيها ساكن خربت. وسمعت رابعة رجلاً يقول: واحزناه!
فقالت: قل واقلة حزناه! لو كنت محزوناً ما تهيأ لك أن تتنفس! وقال سفيان بن عيينة:
لو أن محزوناً بكى في أمة، لرحم الله تلك الأمة ببكائه. وفي التواضع: هو الاستسلام
وترك الاعتراض على الحكم. وقال محمد بن علي الترمذي: الخاشع
من خمدت نيران شهوته، وسكن دخان صدره، وأشرق نور التعظيم في قلبه. فماتت حواسه
وحي قلبه، وتطامنت جوارحه. ويطحن معها إذا أعيت. وكان لا يمنعه
الحياء أن يحمل بضاعته من السوق إلى منزل أهله، وكان يصافح الغني والفقير، ويسلم
مبتدئاً، ولا يحقر ما دعي إليه ولو إلى حشف التمر. وكان هين المؤنة، لين الخلق، كريم السجية، جميل المعاشرة، طلق
الوجه، بساماً من غير ضحك، محزوناً من غير عبوس، متواضعاً من غير ذلة، جواداً من
غير سرف، رقيق القلب، رحيماً لكل مسلم، ما تجشأ قط من شبع، ولا مد يده إلى طبع. ومضى بالقربة إلى حجرة امرأة من الأنصار، فأفرغها
في إنائها. وقال إبراهيم بن أدهم: ما سررت قط سروري في أيام ثلاثة: كنت في سفينة، وفيها رجل مضحك، كان يلعب
لأهل السفينة، فيقول: كنا نأخذ العلج من
بلاد الترك هكذا، ويأخذ بشعر رأسي فيهزني،
فسرني ذلك، لأنه لم يكن في تلك السفينة أحقر مني في
عينه. وكنت عليلاً في
مسجد، فدخل المؤذن وقال: اخرج، فلم أطق، فأخذ برجلي وجرني إلى خارج
المسجد. وكنت بالشام
وعلي فرو، فنظرت إليه فلم أميز بين الشعر وبين
القمل لكثرته. قال:
ما هي؟ قال: لو قدمتني على جميع مماليكك وخولتني بكل مالك لم أغلظ في نفسي، بل
أعلم أني عبدك فاشتراه.
ورأى رجل حكيماً يأكل ما تساقط من البقل على رأس الماء، فقال له: لو خدمت السلطان لم تحتج إلى أكل هذا
فقال: وأنت لو قنعت بهذا لم تحتج إلى خدمة
السلطان. وفي الخبر النبوي أنه صلى الله عليه وسلم قال
للأعرابي الذي ترك ناقته مهملة فندت، فلما قيل له، قال:
توكلت فتركتها، فقال صلى الله عليه وسلم: "إعقل
وتوكل ". ثم تركه ومضى. قالوا: فناهيك بشرف
خصلة تتأمر على هذه الخصال! والمعنى أن الثبات على هذه
الخصال واستدامة التخلق بها إنما يكون بالصبر، فلذلك كان أمير الجنود. وهذه إشارة إلى حال المراقبة،
لأن المراقبة علم العبد باطلاع الرب عليه، فاستدامة العبد لهذا العلم مراقبة
للحق، وهو أصل كل خير، ولا يكاد يصل إلى هذه الرتبة إلا
بعد فراغه عن المحاسبة، فإذا حاسب نفسه على ما سلف، وأصلح حاله في الوقت،
ولازم طريق الحق، وأحسن بينه وبين الله تعالى بمراعاة القلب، وحفظ مع الله
سبحانه الأنفاس، راقبه تعالى في عموم أحواله، فيعلم أنه تعالى رقيب عليه، يعلم
أحواله، ويرى أفعاله، ويسمع أقواله. ومن تغافل عن هذه الجملة، فهو بمعزل عن
بداية الوصلة، فكيف عن حقائق القربة! ويحكى أن ملكاً كان يتحظى جارية له، وكان لوزيره ميل باطن
إليها، فكان يسعى في مصالحها، ويرجح جانبها على جانب غيرها من حظايا الملك
ونسائه. فاتفق أن عرض عليها الملك حجرين من الياقوت الأحمر: أحدهما أنفس
من الآخر، بمحضر من وزيره، فتحيرت أيهما تأخذ!
فأومأ الوزير بعينه إلى الحجر الأنفس، وحانت من الملك التفاتة، فشاهد عين الوزير
وهي ماثلة إلى ذلك الجانب، فبقي الوزير بعدها أربعين
سنة لا يراه الملك قط إلا كاسراً عينه نحو الجانب الذي كان طرفه مائلاً إليه ذلك
اليوم، أي كأن ذلك خلقة. وهذا عزم قوي في المراقبة، ومثله فليكن
حال من يريد الوصول. فقال الأمير لغلمانه: إنما أختصه بإكرامي وإقبالي،
لأن لكل واحد منكم شغلاً، وشغله مراعاة لحظاتي، ومراقبة أحوالي. وقال أبو الدرداء:
ذروة الإيمان الصبر والرضا. قدم سعد بن أبي وقاص مكة بعد ما كف بصره، فانثال الناس عليه يسألونه الدعاء لهم، فقال له عبد الله بن السائب: يا عم إنك تدعو
للناس فيستجاب لك، هلا دعوت أن يرد عليك بصرك!
فقال: يا بن أخي، قضاء الله تعالى أحب إلي من بصري. وكان يقال:
إذا كان القدر حقاً كان سخطه حمقاً.
وقال
أيضاً:
وقال
أيضاً:
ومنها العبودية، وهي أمر وراء العبادة، معناها التعبد والتذلل. قالوا: العبادة
للعوام من المؤمنين، والعبودية للخواص من السالكين. وأصبح الصوفي شاكياً إلى شيخ الرباط، فجمع الصوفية وسألهم، فقال
المريد:
أنا قصصتها، قال: وكيف فعلت، ويلك ذلك! قال: أيها الشيخ، إنها كانت صنمه، وكان
يعبدها من دون الله، فأنكرت ذلك بقلبي، وأردت أن أجعله عبداً لله لا عبداً
للحية.
ومنها الإرادة،
قال تعالى: "ولا تطرد الذين يدعون ربهم
بالغداة والعشي يريدون وجهه" . وقد اختلفوا في العبارات الدالة على ماهية الإرادة في اصطلاحهم، فقال
بعضهم: الإرادة ترك ما عليه العادة، وعادة الناس في الغالب التعريج على
أوطان الغفلة، والركون إلى اتباع الشهوة، والإخلاد إلى ما دعت إليه المنية،
والمريد هو المنسلخ عن هذه الجملة.
وقيل:
من صفات المريدين التحبب إليه بالتوكل، والإخلاص في نصيحة الأمة، والأنس
بالخلوة، والصبر على مقاساة الأحكام، والإيثار لأمره، والحياء من نظره، وبذل
المجهود في محبته، والتعرض لكل سبب يوصل إليه، والقناعة بالخمول، وعدم الفرار من
القلب، إلى أن يصل إلى الرب. فقيل له:
هل في ذلك شاهد؟ فتلا قوله تعالى: "وكلاً نقص
عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك" . أرسل ذو النون المصري رجلاً إلى أبي يزيد، وقال له: إلى متى النوم والراحة! قد سارت
القافلة! فقال له أبو يزيد: قل لأخي: الرجل
من ينام الليل كله، ثم يصبح في المنزل قبل القافلة. فقال ذو النون:
هنيئا له! هذا الكلام لا تبلغه أحوالنا. وقد تكلم الحكماء في هذا المقام، فقال أبو في بن سينا في كتاب
الإشارات: أول
درجات حركات العارفين ما يسمونه هم الإرادة، وهو ما يعتري المستبصر باليقين
البرهاني، أو الساكن النفس إلى العقد الإيماني، من الرغبة في اعتلاق العروة
الوثقى، فيتحرك سره إلى القدس، لينال من روح الاتصال، فما دامت درجته هذه، فهو
مريد. فالأول
يعين عليه الزهد الحقيقي، والثاني يعين عليه
عدة أشياء: العبادة المشفوعة بالفكرة، ثم الألحان المستخدمة لقوى النفس الموقعة
لما لحن بها من الكلام موقع القبول من الأوهام، ثم نفس الكلام الواعظ من قائل
ذكي، بعبارة بليغة، ونغمة رخيمة، وسمت رشيد.
والثالث يعين عليه الفكر اللطيف، والعشق العفيف، الذي تتأمر فيه شمائل
المعشوق، دون سلطان الشهوة. وفي الحديث أنه قال لأصحابه: استحيوا من الله حق الحياء قالوا:
إنا لنستحيي ونحمد الله. قال: ليس كذلك، من استحيا من الله حق الحياء، فليحفظ
الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وليذكر الموت وطول البلى، وليترك زينة الحياة
الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء. وفي بعض الكتب القديمة: ما أنصفني عبدي! يدعوني فأستحيي أن أرده، ويعصيني
وأنا أراه، فلا يستحي مني. قال:
صرت حراً.
وسئل الجنيد
عمن لم يبق له من الدنيا إلا مقدار مص نواة! فقال:
المكاتب عبد ما بقي عليه درهم. وروى أبو الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند خالقكم،
وأرفعها في درجاتكم، وخير من إعطائكم الذهب والفضة في سبيل الله، ومن أن تلقوا
عدوكم فتضربوا أعناقهم، ويضربوا أعناقكم؟ "، قالوا: ما ذلك يا رسول الله،
قال: "ذكر الله". وسمع الشبلي وهو
ينشد:
ومنها الفتوة، قال
سبحانه مخبراً عن أصحاب الأصنام: "قالوا سمعنا
فتى يذكرهم يقال له إبراهيم" .
لأنه
كسر الأصنام، فسمي بما سمي به أبوه إبراهيم الخليل حين كسرها وجعلها جذاذاً . قالت امرأة لمالك بن دينار: يامرائي! فقال: لقد وجدت اسمي الذي أضله أهل البصرة. فقال إبراهيم:
إنك لما ضربتني سألت الله لك الجنة. قال: لم سألت
ذلك؟ قال: علمت أني أوجر على ضربك لي، فلم
أرد أن يكون نصيبي منك الخير، ونصيبك مني الشر. وقيل:
الخلق السيئ هو أن يضيق قلب الإنسان عن أن يتسع لغير ما تحبه النفس وتؤثره،
كالمكان الضيق لا يسع غير صاحبه. وقال الشاعر:
وهذا
ضد ما يذهب إليه القوم من الكتمان، وهو عذر لأصحاب السر والإعلان.
يقال: إن بعض العارفين، أوصى تلميذه بكتمان ما يطلع عليه من الحال، فلما شاهد الأمر
غلب، فكان يطلع في بئر في موضع خال، فيحدثها بما يشاهد، فنبتت في تلك البئر شجرة
سمع منها صوت يحكي كلام ذلك التلميذ، كما يحكي الصدا كلام المتكلم، فأسقط بذلك
من ديوان الأولياء وأنشدوا:
وقال
الحسين بن منصور الحلاج:
ومنها الجود والسخاء والإيثار، قال الله تعالى: "ويؤثرون
على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة" وقال النبي
صلى الله عليه وسلم: السخي قريب من الله، قريب من الناس، والبخيل بعيد من
الله بعيد من الناس. وإن الجاهل السخي أحب إلى الله من العابد البخيل. فسئل عن ذلك،
فقال إنهم إنما يعينون من نزل علينا، لا من ارتحل عنا. وقيل:
الغيرة الأنفة والحمية.
وفي معناه قالوا: سقيم لا يعاد، ومريد لا يراد.
وقيل لبعضهم:
أتريد أن تراه؟ قال: لا، قيل: لم؟ قال أنزه ذلك الجمال عن نظر مثلي. وفي معناه
أنشدوا:
وسئل الشبلي: متى تستريح؟ قال: إذا لم أر له ذاكراً. وقال أبو علي الدقاق في قول النبي صلى الله عليه وسلم عند مبايعته فرساً من أعرابي وأنه
استقاله فأقاله ، فقال الأعرابي: عمرك الله،
فمن أنت؟ قال صلى الله عليه وسلم: أنا امرؤ من قريش، فقال بعض الصحابة من الحاضرين للأعرابي: كفاك جفاء
ألا تعرف نبيك! فكان أبو علي يقول: إنما
قال: امرؤ من قريش غيرة ونوعاً من الأنفة، وإلا فقد
كان الواجب عليه أن يتعرف لكل أحد أنه من هو، لكن الله سبحانه أجرى على لسان ذلك الصحابي التعريف للأعرابي بقوله:
كفاك جفاء ألا تعرف نبيك!.
وأنشدوا
في هذا المعنى:
ومنها الولاية والمعرفة، وقد تقدم القول فيهما. وقيل: الدعاء سلم المذنبين، وقال من قال بنقيض هذا: الدعاء مراسلة، وما دامت
المراسلة باقية فالأمر جميل بعد. وكان أبو علي الدقاق
يقول: إذا بكى المذنب فقد راسل الله، وفي
معناه أنشدوا:
وقال بعضهم لبعض العارفين: ادع لي، فقال: كفاك من الإجابة ألا
تجعل بينك وبينه واسطة.
وحقيقة
التأسي تهوين المصائب والنوائب على النفس بالنظر إلى ما أصاب أمثالك، ومن هو
أرفع محلاً منك. وقد فسر العلماء قوله تعالى: "ولن ينفعكم اليوم إذ
ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون" ، قال: إنه لا يهون على أحد من أهل
النار عذابه، وإن تأسى بغيره من المعذبين، لأن الله تعالى جعل لهم التأسي نافعاً في
الدنيا، ولم يجعله نافعاً لأهل النار مبالغة في تعذيبهم، ونفياً لراحة تصل
إليهم. وقال الثوري: من لم يتأدب للوقت، فوقته مقت. قال: لم يقل:
فارحمني لأنه حفظ آداب الخطاب، وكذلك قال في قول عيسى: "إن كنت
قلته فقد علمته ، قال: لم يقل: لم أقل رعاية لأدب الحضرة.
وجاء في الحديث المرفوع: المرء مع من أحب، ولما سمع
سمنون هذا الخبر، قال: فاز المحبون بشرف الدنيا
والآخرة، لأنهم مع الله تعالى. قيل:
كتب يحيى بن معاذ إلى أبي يزيد: سكرت من كثرة ما
شربت من محبته، فكتب إليه أبو يزيد: غيرك شرب
بحور السموات والأرض، وما روي بعد، ولسانه خارج، وهو
يقول: هل من مزيد وأنشد:
وقيل: المحبة
سكر لا يصحو صاحبه إلا بمشاهدة محبوبه، ثم السكر الذي يحصل عند المشاهدة لا
يوصف، وأنشدوا:
ومنها الشوق،
جاء في الخبر المرفوع: إن الجنة لتشتاق إلى ثلاثة:
علي، وسلمان، وعمار. سئل ابن عطاء: الشوق أعلى أم المحبة؟ فقال: المحبة، لأن الشوق منها
يتولد. وأسألك النظر إلى وجهك،
والشوق إلى لقائك، من غير ضراء مضرة. اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال عند تلاوته "يا أيها الإنسان ما غرك بربك
الكريم"
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: أدحض مسئول
حجة، وأقطع مغتّر معذرة. لقد أبرح
جهالة بنفسه. يا أيها الإنسان، ما جرأك على ذنبك، وما غرك بربك، وما أنسك بهلكة
نفسك! أما من دائك بلول، أم ليس من نومك يقظة! أما ترحم من نفسك ما ترحم من
غيرك! فلربما ترى الضاحي من حر الشمس فتظله، أو ترى المبتلى بألم يمض جسده فتبكي
رحمة له! فما
صبرك على دائك، وجلدك على مصابك، وعزاك عن البكاء على نفسك، وهي أعز الأنفس
عليك، وكيف لا يوقظك خوف بيات نقمة، وقد تورطت بمعاصيه مدارج سطواته! فتداو من
داء الفترة في قلبك بعزيمة، ومن كرى الغفلة في ناظرك بيقظة، وكن لله مطيعاً،
وبذكره آنساً، وتمثل في حال توليك عنه، إقباله عليك، يدعوك إلى عفوه، ويتغمدك
بفضله، وأنت متول عنه إلى غيره. والمعنى:
ما غرك برب هذه صفته، وهذا شأنه، وهو قادر على أن يجعلك في أي صورة شاء! فما
الذي يؤمنك من أن يمسخك في صورة القردة والخنازير ونحوها من الحيوانات العجم. ومعنى الكريم
ههنا: الفياض على المواد بالصور، ومن هذه صفته ينبغي أن يخاف منه تبديل
الصورة.
والضاحي لحر الشمس: البارز. وهذا داء ممض، أي مؤلم، أمضني الجرح إمضاضاً، ويجوز مضني، وروي: وجلدك على مصائبك، بصيغة الجمع. قوله:
مطرف عين بفتح الراء، أي زمان طرف العين، وطرفها: إطباق أحد جفنيها على الآخر،
وانتصاب مطرف ههنا على الظرفية، كقولك: وردت
مقدم الحاج أي وقت قدومهم. وروي:
كاشفتك الغطاء، وآذنتك، أي أعلمتك. وهذا مثل قوله تعالى:
"لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب" ، ورواها قوم فلم يجز،
مضارع جاز يجوز، أي لم يسغ ولم يرخص ذلك اليوم لأحد من المكلفين في حركة من
الحركات المحقرات المستصغرات، إلا إذا كانت قد فعلها بحق، وعلى هذا يجوز فعل
مثلها. ورواها قوم: فلم يجر من جار، أي عدل
عن الطريق، أي لم يذهب عنه سبحانه، ولم يضل ولم يشذ عن حسابه شيء من أمر محقرات
الأمور إلا بحقه، أي إلا ما لا فائدة في إثباته والمحاسبة عليه، نحو الحركات
المباحة والعبثية التي لا تدخل تحت التكليف.
والتشمير: الجد
والانكماش في الأمر، ومعاني الفصل ظاهرة، وألفاظه الفصيحة تعطيها وتدل عليها بما لو أراد المفسر أن يعبر عنه بعبارة
غير عبارته صلى الله عليه وسلم لكان
لفظه رضي الله عنه أولى أن يكون تفسيراً لكلام ذلك المفسر. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال في التبرؤ من الظلم
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: والله لأن
أبيت على حسك السعدان مسهداً، أو أجر في الأغلال مصفداً، أحب إلي من أن ألقى
الله ورسوله يوم القيامة ظالماً لبعض العباد، وغاضباً لشيء من الحطام، وكيف أظلم
أحداً لنفس يسرع إلى البلى قفولها، ويطول في الثرى حلولها! والله لقد رأيت عقيلاً وقد أملق حتى استماحيني
من بركم صاعاً، ورأيت صبيانه شعث الشعور، غبر الألوان من فقرهم، كأنما سودت
وجوههم بالعظلم، وعاودني مؤكداً، وكرر علي القول مردداً،
فأصغيت إليه سمعي، فظن أني أبيعه ديني، وأتبع قياده مفارقاً طريقتي، فأحميت له
حديدة، ثم أدنيتها من جسمه ليعتبر بها، فضج ضجيج ذي دنف من ألمها، وكاد أن يحترق
من ميسمها، فقلت له: ثكلتك الثواكل يا عقيل! أتئن من حديدة أحماها إنسانها للعبه، وتجرني إلى
نار سجرها جبارها لغضبه! أتئن من الأذى ولا أئن من لظى! وأعجب من ذلك طارق طرقنا
بملفوفة في وعائها، ومعجونة شنئتها، كأنما عجنت بريق حية أو قيئها، فقلت: أصلة
أم زكاة أم صدقة؟ فذلك محرم علينا أهل البيت! فقال: لا ذا ولا ذاك، ولكنها هدية.
فقلت: هبلتك الهبول!
أعن دين الله أتيتني لتخدعني! أمختبط أم ذو جنة أم تهجر! والله لو أعطيت
الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها، على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما
فعلته، وإن دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها. والصواع لغة في الصاع، ويقال:
هو إناء يشرب فيه. وسجرها، بالتخفيف: أوقدها وأحماها، والسجور ما يسجر
به التنور. وكان صلى الله عليه
وسلم
من
لطافة الأخلاق وسجاحة الشيم على قاعدة عجيبة جميلة، ولكنه كان ينفر عن قوم كان
يعلم من حالهم الشنآن له، وعمن يحاول أن يصانعه بذلك عن مال المسلمين، وهيهات
حتى يلين لضرس الماضغ الحجر! وقال: بملفوفة في وعائها، لأنه كان
طبق مغطى. والذي يهجر هو الذي يهذي في مرض ليس بصرع كالمحموم
والمبرسم ونحوهما. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
حياة عقيل بن أبي طالب عليه السلام
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وعقيل، هو عقيل بن أبي طالب رضي الله عنه بن
عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، أخو أمير المؤمنين رضي الله عنه لأمه
وأبيه، وكان بنو أبي طالب أربعة: طالب، وهو أسن من عقيل بعشر سنين، وعقيل وهو أسن من جعفر بعشر سنين، وجعفر وهو أسن من علي بعشر سنين، وعلي وهو أصغرهم سناً، وأعظمهم قدراً، بل وأعظم الناس
بعد ابن عمه قدراً. كان يقال:
إن في قريش أربعة يتحاكم إليهم في علم النسب وأيام قريش، ويرجع إلى قولهم: عقيل بن أبي طالب، ومخرمة بن
نوفل الزهري، وأبو الجهم بن حذيفة العدوي، وحويط بن عبد العزى العامري. فقال عقيل: أخي خير لي في ديني، وأنت خير لي في
دنياي، وقد آثرت دنياي، أسأل الله خاتمة خير. وروى المدائني، قال: قال
معاوية يوماً لعقيل بن أبي طالب: هل من حاجة فأقضيها لك؟ قال: نعم جارية عرضت
علي وأبى أصحابها أن يبيعوها إلا بأربعين ألفاً، فأحب معاوية أن يمازحه
فقال: وما تصنع بجارية قيمتها أربعون ألفاً وأنت أعمى
تجتزئ بجارية قيمتها خمسون درهماً! قال: أرجو أن أطأها فتلد لي غلاماً إذا
أغضبته يضرب عنقك بالسيف. فضحك معاوية: وقال: مازحناك يا أبا يزيد! وأمر فابتيعت له الجارية التي أولد
منها مسلماً، فلما أتت على مسلم ثماني عشرة سنة وقد
مات عقيل أبوه قال لمعاوية: يا أمير المؤمنين، إن
لي أرضاً بمكان كذا من المدينة، وإني أعطيت بها مائة ألف، وقد أحببت أن أبيعك
إياها، فأدفع إلي ثمنها، فأمر معاوية بقبض الأرض، ودفع الثمن إليه. فقال الحسين رضي الله عنه :
أبيتم يا آل أبي سفيان إلا كرماً! وقال معاوية لعقيل:
يا أبا يزيد، أين يكون عمك أبو لهب اليوم؟ قال: إذا
دخلت جهنم، فاطلبه تجده مضاجعاً لعمتك أم جميل بنت حرب بن أمية. ثم دفع إلى قنبر درهماً كان مصروراً في ردائه،
وقال: اشتر به خير عسل تقدر عليه. قال: نعم، أقويت وأصابتني مخمصة شديدة، فسألته فلم
تند صفاته، فجمعت صبياني وجئته بهم، والبؤس والضر ظاهران عليهم، فقال: ائتني
عشية لأدفع إليك شيئاً، فجئته يقودني أحد ولدي، فأمره بالتنحي، ثم قال: ألا فدونك،
فأهويت حريصاً قد غلبني الجشع، أظنها صرة فوضعت يدي على حديدة تلتهب ناراً، فلما
قبضتها نبذتها، وخرت كما يخور الثور تحت يد جازره، فقال
لي: ثكلتك أمك! هذا من حديدة أوقدت لها نار الدنيا، فكيف بك وبي غداً إن
سلكنا في سلاسل جهنم! ثم قرأ: "إذ
الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون" . فجعل معاوية يتعجب، ويقول: هيهات هيهات!
عقمت النساء أن يلدن مثله! |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن دعاء له عليه السلام كان يدعو به
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: اللهم صن
وجهي باليسار، ولا تبذل جاهي بالإقتار، فأسترزق طالبي رزقك، أستعطف شرار خلقك،
وأبتلى بحمد من أعطاني، وأفتتن بذم من منعني، وأنت من وراء ذلك كله ولي الإعطاء
والمنع، "إنك على كل شيء قدير". |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال في التنفير من الدنيا
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: دار بالبلاء
محفوفة، وبالغدر معروفة. لا تدوم
أحوالها، ولا يسلم نزالها. أحوال
مختلفة، وتارات متصرفة، العيش فيها مذموم، والأمان منها معدوم، وإنما أهلها فيها
أغراض مستهدفة، ترميهم بسهامها، وتفنيهم بحمامها. والقصور المشيدة.
العالية، ومن روى: المشيدة بالتخفيف وكسر
الشين، فمعناه المعمولة بالشيد، وهو الجص، والنمارق: الوسائد، والقبور
الملحدة: ذوات اللحود، وروي:
والأحجار المسندة بالتشديد. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ذم الدنيا في شعر بعض الشعراء
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن كلام بعض البلغاء في ذم الدنيا: أما بعد، فإن الدنيا قد عاتبت نفسها
بما أبدت من تصرفها، وأنبأت عن مساوئها بما أظهرت عن مصارع أهلها، ودلت على
عوراتها بتغير حالاتها، ونطقت ألسنة العبر فيها بزوالها، وشهد اختلاف شؤونها على
فنائها، ولم يبق لمرتاب فيها ريب، ولا ناظر في عواقبها شك، بل عرفها جل من عرفها
معرفة يقين، وكشفوها أوضح تكشيف، ثم اختلجتهم الأهواء عن منافع العلم، ودلتهم
الآمال بغرور، فلججت بهم في غمرات العجز، فسبحوا في بحورها موقنين بالهلكة،
ورتعوا في عراصها عارفين بالخدعة، فكان يقينهم شكاً، وعلمهم جهلاً، لا بالعلم
انتفعوا، ولا بما عاينوا اعتبروا. قلوبهم
عالمة جاهلة، وأبدانهم شاهدة غائبة، حتى طرقتهم المنية، فأعجلتهم عن الأمنية،
فبغتتهم القيامة، وأورثتهم الندامة، وكذلك الهوى حلت مذاقته، وسمت عاقبته،
والأمل ينسي طويلاً، ويأخذ وشيكاً، فانتفع امرؤ بعلمه، وجاهد هواه أن يضله،
وجانب أمله أن يغره، وقوي يقينه على العمل، ونفى عنه الشك بقطع الأمل، فإن الهوى
والأمل إذا استضعفا اليقين صرعاه، وإذا تعاونا على ذي غفلة خدعاه، فصريعهما لا
ينهض سالماً، وخديعهما لا يزال نادماً، والقوي من قوي عليهما، والحازم من احترس
منهما. ألبسنا الله وإياكم جنة السلامة، ووقانا وإياكم سوء العذاب! كان عمر بن عبد
العزيز إذا جلس للقضاء قرأ: "أفرأيت إن
متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون، ما أغني عنهم ما كانوا يمتعون" . قال إسماعيل بن
زياد أبو يعقوب: قدم علينا بعبادان راهب من الشام، ونزل دير ابن أبي كبشة،
فذكروا حكمة كلامه، فحملني ذلك على لقائه، فأتيته وهو يقول: إن لله
عباداً سمت بهم هممهم فهووا عظيم الذخائر، فالتمسوا من فضل سيدهم توفيقاً يبلغهم
سمو الهمم فإن استطعتم أيها المرتحلون عن قريب أن تأخذوا ببعض أمرهم، فإنهم قوم
قد ملكت الآخرة قلوبهم، فلم تجد الدنيا فيها ملبساً، فالحزن بثهم، والدمع
راحتهم، والدؤوب وسيلتهم، وحسن الظن قربانهم، يحزنون بطول المكث في الدنيا إذا
فرح أهلها، فهم فيها مسجونون، وإلى الآخرة منطلقون. فما سمعت موعظة
كانت أنفع لي منها.
ومن جيد شعر الرضي أبي الحسن رحمه الله في ذكر الدنيا وتقلبها
بأهلها:
وقال أيضاً،
وهي من محاسن شعره:
وأيضاً من
هذه القصيدة:
وهذا شعر فصيح نادر معرق في العربية.
وهذا
من حر الكلام وفصيحه ونادره، ولا عجب فهذه الورقة من تلك الشجرة، وهذا القبس من
تلك النار! ومن دعاء له عليه السلام يطلب فيه الرشاد الأصل: اللهم إنك آنس الآنسين لأوليائك،
وأحضرهم بالكفاية للمتوكلين عليك، تشاهدهم في سرائرهم، وتطلع عليهم في ضمائرهم،
وتعلم مبلغ بصائرهم، فأسرارهم لك مكشوفة، وقلوبهم إليك ملهوفة، إن أوحشتهم
الغربة، أنسهم ذكرك، وإن صبت عليهم المصائب لجأوا إلى الاستجارة بك، علماً بأن
أزمة الأمور بيدك، ومصادرها عن قضائك.
وقد
فههت يا رجل فههاً، أي عييت، ويقال سفيه فهيه، وفههه الله، وخرجت لحاجة فأفهني
عنها فلان، أي أنسانيها. ومثل قوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم
احملني على عفوك، ولا تحملني على عدلك" قول
المروانية للهاشمية لما قتل مروان في خبر قد اقتصصناه قديماً: ليسعنا
عدلكم، قالت الهاشمية: إذن لا نبقي منكم أحداً،
لأنكم حاربتم علياً رضي الله عنه،
وسممتم الحسن رضي الله عنه قتلتم
الحسين وزيداً وابنه، وضربتم علي بن عبد الله، وخنقتم إبراهيم الإمام في جراب
النورة، قالت: قد يسعنا عفوكم، قالت: أما
هذا فنعم. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أدعية أبي حيان التوحيدي
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن الدعوات الفصيحة المستحسنة فصول
من كلام أبي حيان التوحيدي نقلتها. اللهم فارحمنا، وارأف بنا، واعطف علينا، وأحسن
إلينا، وتجاوز عنا، واقبل الميسور منا، فإننا أهل عقوبة، وأنت أهل مغفرة، وأنت
بما وصفت به نفسك أحق منا بما وسمنا به أنفسنا، فإن في ذلك ما اقترن بكرمك، وأدى
إلى عفوك. ومن قبل ذلك وبعده، فأطب عيشنا بنعمتك، وأرح أرواحنا من كد الأمل في
خلقك، وخذ بأزمتنا إلى بابك، وأله قلوبنا عن هذه الدار الفانية، وازرع فيها محبة
الدار الباقية، وقلبنا على بساط لطفك، وحثنا بالإحسان إلى كنفك، ورفهنا عن
التماس ما عند غيرك، واغضض عيوننا عن ملاحظة ما حجب من غيرك، وصل بيننا وبين
الرضا عنك، وارفع عنا مؤنة العرض عليك، وخفف علينا كل ما أوصلنا إليك، وأذقنا
حلاوة قربك، واكشف عن سرائرنا سواتر حجبك، ووكل بنا الحفظة، وارزقنا اليقظة، حتى
لا نقترف سيئة، ولا نفارق حسنة، إنك قائم على كل نفس بما كسبت، وأنت بما نخفي
وما نعلن خبير بصير. ألبسني في هذه الحياة البائدة ثوب العصمة، وحلني في
تلك الدار الباقية بزينة الأمن، وافطم نفسي عن طلب العاجلة الزائدة، وأجرني على
العادة الفاضلة، ولا تجعلني ممن سها عن باطن ما لك عليه، بظاهر ما لك عنده،
فالشقي من لم تأخذ بيده، ولم تؤمنه من غده، والسعيد من آويته إلى كنف نعمتك،
ونقلته حميداً إلى منازل رحمتك، غير مناقش في الحساب، ولا سائق له إلى العذاب،
فإنك على ذلك قدير. اللهم احجر بيننا وبين كل ما دل على غيرك ببيانك،
ودعا إلى سواك ببرهانك، وانقلنا عن مواطن العجز، مرتقياً بنا إلى شرفات العز،
فقد استحوذ الشيطان، وخبثت النفس، وساءت العادة، وكثر الصادون عنك، وقل الداعون
إليك، وذهب المراعون لأمرك، وفقد الواقفون عند حدودك، وخلت ديار الحق من سكانها،
وبيع دينك بيع الخلق، واستهزئ بناشر مجدك، واقي المتوسل بك. ومنها: اللهم إن
الرغبات بك منوطة، والوسائل إليك متداركة، والحاجات ببابك مرفوعة، والثقة بك
مستحصفة أي مستحكمة، والأخبار بجودك شائعة، والآمال نحوك نازعة، والأماني وراءك
منقطعة، والثناء عليك متصل، ووصفك بالكرم معروف، والخلائق إلى لطفك محتاجة،
والرجاء فيك قوي، والظنون بك جميلة، والأعناق لعزك خاضعة، والنفوس إلى مواصلتك
مشتاقة، والأرواح لعظمتك مبهوتة، لأنك الإله العظيم، والرب الرحيم، والجواد
الكريم، والسميع العليم، تملك العالم كله، وما بعده وما قبله، ولك فيه تصاريف
القدرة، وخفيات الحكمة، ونوافذ الإرادة، ولك فيه ما لا ندريه مما تخفيه ولا
تبديه، جللت عن الإجلال، وعظمت عن التعظيم، وقد أزف ورودنا عليك، ووقوفنا بين
يديك، وظننا ما قد علمت، ورجاؤنا ما قد عرفت، فكن عند ظننا بك، وحقق رجاءنا فيك،
فما خالفناك جرأة عليك، ولا عصيناك تقحماً في سخطك، ولا اتبعنا هوانا استهزاء
بأمرك ونهيك، ولكن غلبت علينا جواذب الطينة التي عجنتنا بها، وبذور الفطرة التي
أنبتنا منها، فاسترخت قيودنا عن ضبط أنفسنا، وعزبت ألبابنا عن تحصيل حظوظنا،
ولسنا ندعي حجة، ولكن نسألك رأفة، فبسترك السابغ الذيال، وفضلك الذي يستوعب كل
مقال، إلا تممت ما سلف منك إلينا، وعطفت بجودك الفياض علينا، وجذبت بأضباعنا ،
وأقررت عيوننا، وحققت آمالنا، أنت أهل ذلك، وأنت على كل شيء قدير. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الفهرس ج الجزء الحادي عشر باب المختار
من الخطب والأوامر - ابن ابي الحديد. 4 بسم
الله الرحمن الرحيم الحمد لله الواحد العدل. 4 ومن كلام له في صفة الدنيا والآخرة 4 ومن كلام له (ع) كلم به طلحة والزبير
بعد بيعته بالخلافة وقد عتبا عليه من ترك مشورتهما و5 طلحة والزبير وبعض من أخبارهما 6 ومن كلام له وقد سمع قوماً من أصحابه
يسبون أهل الشام أيام حربهم بصفين.. 11 ومن كلام له في بعض أيام صفين وقد
رأى الحسن ابنه عليه السلام يتسرع إلى الحرب. 12 قال لما اضطرب عليه أصحابه في أمر
الحكومة. 13 قال وقد سأله سائل عن أحاديث البدع
وعما في أيدي الناس من اختلاف الخبر فقال عليه السلام17 النفاق لم يمت بموت الرسول عليه
السلام 18 آل البيت عليهم السلام وبعض ما نالهم
من الأذى. 19 أفصل فيما وضع الشيعة والبكرية من
الأحاديث.. 21 ومن خطبة له في عجيب صنعة الكون. 22 في استنهاض أصحابه إلى الجهاد 26 كلام الجاحظ حول المطاعن في النسب.. 28 كلام حول العارفين والأولياء 30 ومن دعاء له عليه السلام كان يدعو
به كثيراً 35 ومن خطبة له عليه السلام خطبها بصفين.. 37 ما ورد من الأخبار فيما يصلح الملك.. 39 ومن كلام له رضي الله عنه رد علي
رجل أكثر الثناء عليه. 42 لو كان جعفر وحمزة حيين لبايعا علياً
رضي الله عنه. 48 في ذكر السائرين إلى البصرة لحربه
رضي الله عنه. 50 عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد. 51 فصل في مجاهدة النفوس وما ورد في
ذلك من الآثار. 53 في الرياضة النفسية وأثر الجوع. 55 ومن كلام له يحث فيه أصحابه على
الجهاد 59 قال بعد تلاوته ألهاكم التكاثر،
حتى زرتم المقابر" 60 بعض الأشعار والحكايات في وصف القبور
والموتى. 65 الموت وأحوال الموتى في شعر الشعراء 71 قال عند تلاوته "رجال لا تلهيهم" 75 قال عند تلاوته "يا أيها الإنسان
ما غرك بربك الكريم" 101 حياة عقيل بن أبي طالب عليه السلام 106 ومن دعاء له عليه السلام كان يدعو
به. 108 ذم الدنيا في شعر بعض الشعراء 109 |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||