- القرآن الكريم
- سور القرآن الكريم
- 1- سورة الفاتحة
- 2- سورة البقرة
- 3- سورة آل عمران
- 4- سورة النساء
- 5- سورة المائدة
- 6- سورة الأنعام
- 7- سورة الأعراف
- 8- سورة الأنفال
- 9- سورة التوبة
- 10- سورة يونس
- 11- سورة هود
- 12- سورة يوسف
- 13- سورة الرعد
- 14- سورة إبراهيم
- 15- سورة الحجر
- 16- سورة النحل
- 17- سورة الإسراء
- 18- سورة الكهف
- 19- سورة مريم
- 20- سورة طه
- 21- سورة الأنبياء
- 22- سورة الحج
- 23- سورة المؤمنون
- 24- سورة النور
- 25- سورة الفرقان
- 26- سورة الشعراء
- 27- سورة النمل
- 28- سورة القصص
- 29- سورة العنكبوت
- 30- سورة الروم
- 31- سورة لقمان
- 32- سورة السجدة
- 33- سورة الأحزاب
- 34- سورة سبأ
- 35- سورة فاطر
- 36- سورة يس
- 37- سورة الصافات
- 38- سورة ص
- 39- سورة الزمر
- 40- سورة غافر
- 41- سورة فصلت
- 42- سورة الشورى
- 43- سورة الزخرف
- 44- سورة الدخان
- 45- سورة الجاثية
- 46- سورة الأحقاف
- 47- سورة محمد
- 48- سورة الفتح
- 49- سورة الحجرات
- 50- سورة ق
- 51- سورة الذاريات
- 52- سورة الطور
- 53- سورة النجم
- 54- سورة القمر
- 55- سورة الرحمن
- 56- سورة الواقعة
- 57- سورة الحديد
- 58- سورة المجادلة
- 59- سورة الحشر
- 60- سورة الممتحنة
- 61- سورة الصف
- 62- سورة الجمعة
- 63- سورة المنافقون
- 64- سورة التغابن
- 65- سورة الطلاق
- 66- سورة التحريم
- 67- سورة الملك
- 68- سورة القلم
- 69- سورة الحاقة
- 70- سورة المعارج
- 71- سورة نوح
- 72- سورة الجن
- 73- سورة المزمل
- 74- سورة المدثر
- 75- سورة القيامة
- 76- سورة الإنسان
- 77- سورة المرسلات
- 78- سورة النبأ
- 79- سورة النازعات
- 80- سورة عبس
- 81- سورة التكوير
- 82- سورة الانفطار
- 83- سورة المطففين
- 84- سورة الانشقاق
- 85- سورة البروج
- 86- سورة الطارق
- 87- سورة الأعلى
- 88- سورة الغاشية
- 89- سورة الفجر
- 90- سورة البلد
- 91- سورة الشمس
- 92- سورة الليل
- 93- سورة الضحى
- 94- سورة الشرح
- 95- سورة التين
- 96- سورة العلق
- 97- سورة القدر
- 98- سورة البينة
- 99- سورة الزلزلة
- 100- سورة العاديات
- 101- سورة القارعة
- 102- سورة التكاثر
- 103- سورة العصر
- 104- سورة الهمزة
- 105- سورة الفيل
- 106- سورة قريش
- 107- سورة الماعون
- 108- سورة الكوثر
- 109- سورة الكافرون
- 110- سورة النصر
- 111- سورة المسد
- 112- سورة الإخلاص
- 113- سورة الفلق
- 114- سورة الناس
- سور القرآن الكريم
- تفسير القرآن الكريم
- تصنيف القرآن الكريم
- آيات العقيدة
- آيات الشريعة
- آيات القوانين والتشريع
- آيات المفاهيم الأخلاقية
- آيات الآفاق والأنفس
- آيات الأنبياء والرسل
- آيات الانبياء والرسل عليهم الصلاة السلام
- سيدنا آدم عليه السلام
- سيدنا إدريس عليه السلام
- سيدنا نوح عليه السلام
- سيدنا هود عليه السلام
- سيدنا صالح عليه السلام
- سيدنا إبراهيم عليه السلام
- سيدنا إسماعيل عليه السلام
- سيدنا إسحاق عليه السلام
- سيدنا لوط عليه السلام
- سيدنا يعقوب عليه السلام
- سيدنا يوسف عليه السلام
- سيدنا شعيب عليه السلام
- سيدنا موسى عليه السلام
- بنو إسرائيل
- سيدنا هارون عليه السلام
- سيدنا داود عليه السلام
- سيدنا سليمان عليه السلام
- سيدنا أيوب عليه السلام
- سيدنا يونس عليه السلام
- سيدنا إلياس عليه السلام
- سيدنا اليسع عليه السلام
- سيدنا ذي الكفل عليه السلام
- سيدنا لقمان عليه السلام
- سيدنا زكريا عليه السلام
- سيدنا يحي عليه السلام
- سيدنا عيسى عليه السلام
- أهل الكتاب اليهود النصارى
- الصابئون والمجوس
- الاتعاظ بالسابقين
- النظر في عاقبة الماضين
- السيدة مريم عليها السلام ملحق
- آيات الناس وصفاتهم
- أنواع الناس
- صفات الإنسان
- صفات الأبراروجزائهم
- صفات الأثمين وجزائهم
- صفات الأشقى وجزائه
- صفات أعداء الرسل عليهم السلام
- صفات الأعراب
- صفات أصحاب الجحيم وجزائهم
- صفات أصحاب الجنة وحياتهم فيها
- صفات أصحاب الشمال وجزائهم
- صفات أصحاب النار وجزائهم
- صفات أصحاب اليمين وجزائهم
- صفات أولياءالشيطان وجزائهم
- صفات أولياء الله وجزائهم
- صفات أولي الألباب وجزائهم
- صفات الجاحدين وجزائهم
- صفات حزب الشيطان وجزائهم
- صفات حزب الله تعالى وجزائهم
- صفات الخائفين من الله ومن عذابه وجزائهم
- صفات الخائنين في الحرب وجزائهم
- صفات الخائنين في الغنيمة وجزائهم
- صفات الخائنين للعهود وجزائهم
- صفات الخائنين للناس وجزائهم
- صفات الخاسرين وجزائهم
- صفات الخاشعين وجزائهم
- صفات الخاشين الله تعالى وجزائهم
- صفات الخاضعين لله تعالى وجزائهم
- صفات الذاكرين الله تعالى وجزائهم
- صفات الذين يتبعون أهواءهم وجزائهم
- صفات الذين يريدون الحياة الدنيا وجزائهم
- صفات الذين يحبهم الله تعالى
- صفات الذين لايحبهم الله تعالى
- صفات الذين يشترون بآيات الله وبعهده
- صفات الذين يصدون عن سبيل الله تعالى وجزائهم
- صفات الذين يعملون السيئات وجزائهم
- صفات الذين لايفلحون
- صفات الذين يهديهم الله تعالى
- صفات الذين لا يهديهم الله تعالى
- صفات الراشدين وجزائهم
- صفات الرسل عليهم السلام
- صفات الشاكرين وجزائهم
- صفات الشهداء وجزائهم وحياتهم عند ربهم
- صفات الصالحين وجزائهم
- صفات الصائمين وجزائهم
- صفات الصابرين وجزائهم
- صفات الصادقين وجزائهم
- صفات الصدِّقين وجزائهم
- صفات الضالين وجزائهم
- صفات المُضَّلّين وجزائهم
- صفات المُضِلّين. وجزائهم
- صفات الطاغين وجزائهم
- صفات الظالمين وجزائهم
- صفات العابدين وجزائهم
- صفات عباد الرحمن وجزائهم
- صفات الغافلين وجزائهم
- صفات الغاوين وجزائهم
- صفات الفائزين وجزائهم
- صفات الفارّين من القتال وجزائهم
- صفات الفاسقين وجزائهم
- صفات الفجار وجزائهم
- صفات الفخورين وجزائهم
- صفات القانتين وجزائهم
- صفات الكاذبين وجزائهم
- صفات المكذِّبين وجزائهم
- صفات الكافرين وجزائهم
- صفات اللامزين والهامزين وجزائهم
- صفات المؤمنين بالأديان السماوية وجزائهم
- صفات المبطلين وجزائهم
- صفات المتذكرين وجزائهم
- صفات المترفين وجزائهم
- صفات المتصدقين وجزائهم
- صفات المتقين وجزائهم
- صفات المتكبرين وجزائهم
- صفات المتوكلين على الله وجزائهم
- صفات المرتدين وجزائهم
- صفات المجاهدين في سبيل الله وجزائهم
- صفات المجرمين وجزائهم
- صفات المحسنين وجزائهم
- صفات المخبتين وجزائهم
- صفات المختلفين والمتفرقين من أهل الكتاب وجزائهم
- صفات المُخلَصين وجزائهم
- صفات المستقيمين وجزائهم
- صفات المستكبرين وجزائهم
- صفات المستهزئين بآيات الله وجزائهم
- صفات المستهزئين بالدين وجزائهم
- صفات المسرفين وجزائهم
- صفات المسلمين وجزائهم
- صفات المشركين وجزائهم
- صفات المصَدِّقين وجزائهم
- صفات المصلحين وجزائهم
- صفات المصلين وجزائهم
- صفات المضعفين وجزائهم
- صفات المطففين للكيل والميزان وجزائهم
- صفات المعتدين وجزائهم
- صفات المعتدين على الكعبة وجزائهم
- صفات المعرضين وجزائهم
- صفات المغضوب عليهم وجزائهم
- صفات المُفترين وجزائهم
- صفات المفسدين إجتماعياَ وجزائهم
- صفات المفسدين دينيًا وجزائهم
- صفات المفلحين وجزائهم
- صفات المقاتلين في سبيل الله وجزائهم
- صفات المقربين الى الله تعالى وجزائهم
- صفات المقسطين وجزائهم
- صفات المقلدين وجزائهم
- صفات الملحدين وجزائهم
- صفات الملحدين في آياته
- صفات الملعونين وجزائهم
- صفات المنافقين ومثلهم ومواقفهم وجزائهم
- صفات المهتدين وجزائهم
- صفات ناقضي العهود وجزائهم
- صفات النصارى
- صفات اليهود و النصارى
- آيات الرسول محمد (ص) والقرآن الكريم
- آيات المحاورات المختلفة - الأمثال - التشبيهات والمقارنة بين الأضداد
- نهج البلاغة
- تصنيف نهج البلاغة
- دراسات حول نهج البلاغة
- الصحيفة السجادية
- تصنيف الصحيفة السجادية
- تصنيف الصحيفة بالموضوعات
- الباب السابع : باب الاخلاق
- الباب الثامن : باب الطاعات
- الباب التاسع: باب الذكر والدعاء
- الباب العاشر: باب السياسة
- الباب الحادي عشر:باب الإقتصاد
- الباب الثاني عشر: باب الإنسان
- الباب الثالث عشر: باب الكون
- الباب الرابع عشر: باب الإجتماع
- الباب الخامس عشر: باب العلم
- الباب السادس عشر: باب الزمن
- الباب السابع عشر: باب التاريخ
- الباب الثامن عشر: باب الصحة
- الباب التاسع عشر: باب العسكرية
- الباب الاول : باب التوحيد
- الباب الثاني : باب النبوة
- الباب الثالث : باب الإمامة
- الباب الرابع : باب المعاد
- الباب الخامس: باب الإسلام
- الباب السادس : باب الملائكة
- تصنيف الصحيفة بالموضوعات
- أسماء الله الحسنى
- أعلام الهداية
- النبي محمد (صلى الله عليه وآله)
- الإمام علي بن أبي طالب (عليه السَّلام)
- السيدة فاطمة الزهراء (عليها السَّلام)
- الإمام الحسن بن علي (عليه السَّلام)
- الإمام الحسين بن علي (عليه السَّلام)
- لإمام علي بن الحسين (عليه السَّلام)
- الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السَّلام)
- الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السَّلام)
- الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السَّلام)
- الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السَّلام)
- الإمام محمد بن علي الجواد (عليه السَّلام)
- الإمام علي بن محمد الهادي (عليه السَّلام)
- الإمام الحسن بن علي العسكري (عليه السَّلام)
- الإمام محمد بن الحسن المهدي (عجَّل الله فرَجَه)
- تاريخ وسيرة
- "تحميل كتب بصيغة "بي دي أف
- تحميل كتب حول الأخلاق
- تحميل كتب حول الشيعة
- تحميل كتب حول الثقافة
- تحميل كتب الشهيد آية الله مطهري
- تحميل كتب التصنيف
- تحميل كتب التفسير
- تحميل كتب حول نهج البلاغة
- تحميل كتب حول الأسرة
- تحميل الصحيفة السجادية وتصنيفه
- تحميل كتب حول العقيدة
- قصص الأنبياء ، وقصص تربويَّة
- تحميل كتب السيرة النبوية والأئمة عليهم السلام
- تحميل كتب غلم الفقه والحديث
- تحميل كتب الوهابية وابن تيمية
- تحميل كتب حول التاريخ الإسلامي
- تحميل كتب أدب الطف
- تحميل كتب المجالس الحسينية
- تحميل كتب الركب الحسيني
- تحميل كتب دراسات وعلوم فرآنية
- تحميل كتب متنوعة
- تحميل كتب حول اليهود واليهودية والصهيونية
- المحقق جعفر السبحاني
- تحميل كتب اللغة العربية
- الفرقان في تفسير القرآن -الدكتور محمد الصادقي
- وقعة الجمل صفين والنهروان
الجزء
العاشر - باب المختار من الخطب والأوامر - ابن ابي الحديد
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن كلام له في شأن طلحة بن عبيد الله
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: قد كنت وما
أهدد بالحرب، ولا أرهب بالضرب، وأنا على ما وعدني ربي من النصر، والله ما أستعجل
متجرداً للطلب بدم عثمان إلا خوفاً من أن يطالب بدمه، لأنه مظنته، ولم يكن في
القوم أحرص عليه منه، فأراد أن يغالط بما أجلب فيه ليلتبس الأمر، ويقع الشك. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ما جرى بين طلحة وعثمان
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ذكر أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في
كتاب "التاريخ " قال: حدثني عمر بن
شبة، عن علي بن محمد، عن عبد ربه، عن نافع، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن حكيم بن
جابر، قال: قال
علي رضي الله عنه لطلحة وعثمان محصور: أنشدك
الله إلا رددت الناس عن عثمان! قال: لا والله حتى تعطي بنو أمية الحق من أنفسها. وروى المدائني في كتاب "مقتل عثمان
" أن طلحة منع من دفنه
ثلاثة أيام، وأن علياً رضي الله عنه
لم يبايع الناس إلا بعد قتل عثمان بخمسة أيام، وأن حكيم بن حزام أحد بني أسد بن
عبد العزي، وجبير بن مطعم بن الحارث بن نوفل استنجدا
بعلي رضي الله عنه على دفنه، فأقعد طلحة لهم في
الطريق ناساً بالحجارة، فخرج به نفر يسير من أهله وهم يريدون به حائطاً
بالمدينة يعرف بحش كوكب . كانت
اليهود تدفن فيه موتاهم، فلما صار هناك رجم سريره، وهموا بطرحه، فأرسل علي رضي الله عنه إلى
الناس يعزم عليهم ليكفوا عنه فكفوا، فانطلقوا به حتى دفنوه في حش كوكب. فقال عثمان: إنك والله ما
جئت تائباً، ولكن جئت مغلوباً، والله حسيبك يا
طلحة! ثم قسم رضي الله عنه مال طلحة،
فقال: لا يخلو إما أن يكون معتقداً حل دم عثمان، أو حرمته، أو يكون شاكاً في
الأمرين، فإن كان يعتقد حله لم يجز له أن ينقض البيعة لنصرة إنسان حلال الدم،
وإن كان يعتقد حرمته، فقد كان يجب عليه أن ينهنه عنه الناس، أي يكفهم. قلت: لو اعترف
بذلك لم يقسم علي رضي الله عنه هذا
التقسيم، وإنما قسمه لبقائه على اعتقاد واحد، وهذا التقسيم مع فرض بقائه على
اعتقاد واحد صحيح لا مطعن فيه، وكذا كان حال طلحة
فإنه لم ينقل عنه أنه قال!: ندمت على ما فعلت بعثمان. قلت: مراده رضي
الله عنه
أنه
إن كان عثمان ظالماً، وجب أن يوازر قاتليه بعد قتله، يحامي عنهم، ويمنعهم ممن
يروم دماءهم، ومعلوم أنه لم يفعل ذلك، وإنما وازرهم وعثمان حي، وذلك غير داخل في
التقسيم. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
من خطبة له عليه السلام في ذم الغافلين
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: أيها الناس
غير المغفول عنهم، والتاركون، والمأخوذ منهم، مالي أراكم عن الله ذاهبين، وإلى
غيره راغبين! كأنكم نعم أراح بها سائم إلى مرعى وبي، ومشرب دوي، وإنما هي
كالمغفولة للمدى، لا تعرف ماذا يراد بها! إذا أحسن إليها تحسب يومها دهرها،
وشبعها أمرها. ألا وإني مفضيه إلى الخاصة ممن يؤمن
ذلك منه. والذي بعثه
بالحق، واصطفاه على الخلق، ما أنطق إلا صادقاً، ولقد عهد إلي بذلك كله وبمهلك من
يهلك، ومنجى من ينجو، ومآل هذا الأمر، وما أبقى شيئاً يمر على رأسي إلا أفرغه في
أذني، وأفضى به إلي. سائمة، أي راعية، وإنما قال ذلك لأنها إذا اتبعت
أمثالها كان أبلغ في ضرب المثل بجهلها من الإبل التي يسيمها راعيها والمرعى الوبي: ذو الوباء والمرض. والمشرب الدوي ذو الداء، وأصل "الوبى"
اللين الوبىء المهموز، ولكنه لينه، يقال:
أرض وبيئة على فعيلة، ووبئة على فعلة، ويجوز أوبأت فهي موبئة. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
رأي بعض الغلاة في أمير المؤمنين
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
واعلم
أنه غير مستحيل أن تكون بعض الأنفس مختصة بخاصية تدرك بها
المغيبات، وقد تقدم من الكلام في ذلك ما فيه كفاية، ولكن لا يمكن أن تكون
نفس تدرك كل المغيبات، لأن القوة المتناهية لا تحيط
بأمور غير متناهية، وكل قوة في نفس حادثة فهي متناهية، فوجب أن يحمل كلام
أمير المؤمنين رضي الله عنه، لا على أن يريد به عموم العالمية بل يعلم أموراً محدودة من
المغيبات، مما اقتضت حكمة البارىء سبحانه أن يؤهله لعلمه، وكذلك القول في رسول
الله صلى الله عليه وسلم إنه
إنما كان يعلم أموراً معدودة لا أموراً غير متناهية، ومع
أنه رضي الله عنه قد كتم ما علمه حذراً من أن يكفروا فيه برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كفر كثير منهم، وادعوا فيه النبوة،
وادعوا فيه أنه شريك الرسول في الرسالة، وادعوا فيه أنه هو كان الرسول، ولكن
الملك غلط فيه، وادعوا أنه هو الذي بعث محمداً صلى الله عليه وسلم إلى الناس، وادعوا فيه
الحلول، وادعوا فيه الاتحاد، ولم يتركوا نوعاً من أنواع الضلالة فيه إلا وقالوه
واعتقدوه، وقال
شاعرهم فيه من أبيات:
وقال
بعض شعرائهم:
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أمير المؤمنين وإخباره بالأمور الغيبية
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وقد ذكرنا فيما تقدم من إخباره رضي الله عنه عن
الغيوب طرفاً صالحاً، ومن عجيب ما وقفت عليه من ذلك
قوله في الخطبة التي يذكر فيها الملاحم، وهو يشير
إلى القرامطة : "ينتحلون لنا الحب والهوى، ويضمرون لنا البغض والقلى
، وآية ذلك قتلهم وراثنا، وهجرهم أحداثنا". فقال: فكم
في رأسي طاقة شعر؟ فقال له: أما والله إني لأعلم
ذلك، ولكن أين برهانه لو أخبرتك به! ولقد أخبرتك بقيامك ومقالك. وقيل لي إن
على كل شعرة من شعر رأسك ملكاً يلعنك وشيطاناً يستفزك، وآية
ذلك أن في بيتك سخلاً يقتل ابن رسول الله
صلى الله عليه وسلم، ويحض على قتله. فلما
قتل الحسين رضي
الله عنه كان
البراء يذكر ذلك، ويقول: أعظم بها حسرة! إذ لم
أشهده واقتل دونه! وسنذكر من هذا النمط- فيما بعد إذا
مررنا بما يقتفي ذكره- ما يحضرنا إن شاء الله. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن خطبة له في التحذير من متابعة الهوى .
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
انتفعوا ببيان الله، واتعظوا بمواعظ الله، اقبلوا نصيحة الله، فإن الله قد أعذر
إليكم بالجلية، وأخذ عليكم الحجة، وبين لكم محابه من الأعمال، ومكارهه منها،
لتتبعوا هذه وتجتنبوا هذه، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول: إن الجنة حفت بالمكاره،
وإن النار حفت بالشهوات. فكونوا كالسابقين قبلكم، والماضين أمامكم،
قوضوا من الدنيا تقويض الراحل، وطووها طي المنازل. والجلية:
اليقين، وإنما أعذر إليهم بذلك، لأنه مكنهم من العلم اليقيني بتوحيده وعدله،
وأوجب عليهم ذلك في عقولهم، فإذا تركوه ساغ في الحكمة تعذيبهم وعقوبتهم، فكأنه
قد أبان لهم عذره أن لو قالوا: لم تعاقبنا؟ ومحابه
من الأعمال، هي الطاعات التي يحبها. وحبه
لها إرادة وقوعها من المكلفين. ومكارهه من الأعمال: القبائح التي يكرهها منهم، وهذا الكلام حجة لأصحابنا على
المجبرة. والخبر الذي رواه رضي الله عنه مروي في كتب المحدثين، وهو قول رسول الله رضي الله عنه: "حجمت الجنة بالمكاره، وحفت
النار بالشهوات "، ومن المحدثين من يرويه:
"حفت " فيهما، وليس منهم من وال وسلم.
ومن الكلام المروي عنه رضي الله عنه- ويروى أيضاً عن غيره: "أيها الناس، إن هذه النفوس طلعة
فإلا تقدعوها تنزع بكم إلى شر غاية".
ثم قال رضي الله عنه: "نفس المؤمن ظنون عنده "، الظنون: البئر التي لا يدرى أفيها ماء أم لا،
فالمؤمن لا يصبح ولا يمسي إلا وهو على حذر من نفسه، معتقداً فيها التقصير
والتضجيع في الطاعة، غير قاطع على صلاحها وسلامة عاقبتها، وزارياً عليها: عائباً، زريت
عليه: عبت. وأعلموا أنه
شافع مشفع، وقائل مصدق، وأنه من شفع له القرآن يوم القيامة شفع فيه، ومن محل به
القرآن يوم القيامة صدق عليه، فإنه ينادي مناد يوم القيامة: ألا إن كل حارث
مبتلىً في حرثه وعاقبة عمله، غير حرثة القرآن، فكونوا من حرثته وأتباعه،
واستدلوه على ربكم، واستنصحوه على أنفسكم، واتهموا عليه آراءكم، واستفشوا فيه
أهواءكم. واللأواء:
الشدة. وحرثة القرآن:
المتاجرون به الله. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
القرآن الكريم وفضله
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
واعلم أن هذا الفصل من أحسن ما ورد في تعظيم القرآن وإجلاله وقد
قال الناس في هذا الباب فأكثروا. ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة طعمها طيب ولا ريح لها. ومثل الفاجر الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة، ريحها طيب، وطعمها مر. ومثل الفاجر الذي لا
يقرأ القرآن
مثل الحنظلة طعمها مر، وريحها منتنة". والله لهذا الضرب من حملة القرآن أعز وأقل من الكبريت الأحمر. قال: ابني وهو شاعر، قال:
علمه القرآن فهو
خير له من الشعر، فكان ذلك في نفس الفرزدق، حتى قيد نفسه، وآلى ألا يحل
قيده حتى يحفظ القرآن، فما حله حتى حفظه، وذلك
قوله:
قلت: تحت قوله رضي الله عنه:
"يا أبا الأخطل "، قبل أن يعلم أن ذلك
الغلام ولده وأنه شاعر، سر غامض، ويكاد يكون إخبارا عن غيب، فليلمح. قلت: وهذا القول
على سبيل المثل والتخويف من مواقعة المعاصي لمن يحفظ القرآن. وقال النبي صلى
الله عليه وسلم: "إن
القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد"، قيل: يا رسول الله،
وما جلاؤها؟ قال: "قراءة القرآن وذكر الموت ". وينبغي لحامل القرآن أن
يكون سكيتاً زميتاً ليناً ، ولا ينبغي أن يكون جافياً ولا ممارياً، ولا صياحاً
ولا حديداً ولا صخاباً. ألا وإن القدر السابق قد وقع، والقضاء الماضي قد
تورد، وإني متكلم بعدة الله وحجته، قال الله جل ذكره:
"إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة أن لا تخافوا
ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون"، وقد قلتم: "ربنا الله"، فاستقيموا على كتابه،
وعلى منهاج أمره، وعلى الطريقة الصالحة من عبادته، ثم لا تمرقوا منها، ولا
تبتدعوا فيها، ولا تخالفوا عنها، فإن أهل الفروق منقطع بهم عند الله يوم
القيامة. الشرح: النصب على
الإغراء، وحقيقته فعل مقدر، أي الزموا العمل، وكرر الاسم لينوب أحد اللفظين عن
الفعل المقدر، والأشبه أن يكون اللفظ الأول هو
القائم مقام الفعل، لأنه في رتبته. أمرهم بلزوم العمل ثم أمرهم بمراعاة العاقبة
والخاتمة، وعبر عنها بالنهاية، وهي آخر أحوال المكلف التي يفارق الدنيا عليها،
إما مؤمناً أو كافراً، أو فاسقاً، والفعل المقدر
هاهنا: راعوا وأحسنوا وأصلحوا، ونحو ذلك، ثم أمرهم بالاستقامة وأن
يلزموها، وهي أداء الفرائض، ثم أمرهم بالصبر عليها وملازمته، وبملازمة الورع، ثم شرع بعد هذا الكلام المجمل في تفصيله فقال: "إن لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم "،
وهذا لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيها الناس، إن لكم معالم
فانتهوا إلى معالمكم، وإن لكم غاية فانتهوا إلى غايتكم"، والمراد بالنهاية والغاية أن يموت الإنسان على
توبة من فعل القبيح والإخلال بالواجب، ثم أمرهم
بالاهتداء بالعلم المنصوب لهم، وإنما يعني نفسه رضي الله عنه. ثم ذكر أنه شاهد لهم، ومحاج يوم القيامة عنهم، وهذا
إشارة إلى قوله تعالى: "يوم ندعو كل أناس
بإمامهم . وقد اختلف فيه قول أمير المؤمنين رضي الله عنه وأبي
بكر، فقال أمير المؤمنين رضي الله عنه: أدوا الفرائض، وقال أبو بكر: استمروا على التوحيد. ورأي أبي بكر في هذا الموضع- إن ثبت عنه- يؤكد مذهب الإرجاء، وقول أمير
المؤمنين رضي الله عنه يؤكد مذهب أصحابنا. الأصل:
ثم إياكم وتهزيع الأخلاق وتصريفها، واجعلوا اللسان
واحداً، وليخزن الرجل لسانه، فإن هذا اللسان جموح بصاحبه، والله ما أرى
عبداً يتقي تقوى تنفعه حتى يختزن لسانه، وإن لسان
المؤمن من وراء قلبه، وإن قلب المنافق من
وراء لسانه، لأن المؤمن إذا أراد أن يتكلم بكلام تدبره في نفسه، فإن كان خيراً
أبداه، وإن كان شراً واراه، وإن المنافق يتكلم
بما أتى على لسانه لا يدري ماذا له، وماذا عليه. ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم
قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه، فمن استطاع منكم أن يلقى الله سبحانه،
وهو نقي الراحة من دماء المسلمين وأموالهم، سليم اللسان من أعراضهم، فليفعل. قلت: لأنه قل أن يكون المنافق إلا أحمق،
وقل أن يكون العاقل إلا مؤمناً فلأكثرية ذلك، استعمل لفظ "المؤمن"،
وأراد العاقل، ولفظ "المنافق" وأراد الأحمق.
وكان يقال:
ينبغي للعاقل أن يتمسك بست خصال، فإنها من المروءة:
أن يحفظ دينه، ويصون عرضه، ويصل رحمه، ويحمي جاره،
ويرعى حقوق إخوانه، ويخزن عن البذاء لسانه. قوله: "وضرستموها"
بالتشديد أي أحكمتموها تجربة وممارسة، يقال:
قد ضرسته الحرب، ورجل مضرس. وسببه الأمين، مثل حبله المتين، وإنما خالف بين
اللفظتين على قاعدة الخطابة، وفيه ربيع القلب، لأن القلب يحيا به كما تحيا
الأنعام برعي الربيع، وينابيع العلم، لأن العلم منه يتفرع كما يخرج الماء من
الينبوع ويتفرع إلى الجداول. والجلاء، بالكسر: مصدر جلوت السيف،
يقول: لاجلاء لصدأ القلوب من الشبهات
والغفلات إلا القرآن. فأما الظلم
الذي لا يغفر، فالشرك بالله، قال الله سبحانه: "إن الله لا يغفر أن يشرك به". الشرح: قسم رضي الله عنه الظلم ثلاثة أقسام: أحدها: ظلم لا يغفر، وهو الشرك بالله، أي أن يموت
الإنسان مصراً على الشرك، ويجب عند أصحابنا أن يكون
أراد الكبائر، وإن لم يذكرها، لأن حكمها حكم الشرك عندهم. فإن قلت:
لفظه رضي الله عنه مطابق
للآية، وهي قوله تعالى: "إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء"
والآية ولفظه رضي الله عنه صريحان
في مذهب المرجئة، لأنكم إذا فسرتم قوله: "لمن
يشاء" بأن المراد به أرباب التوبة قيل
لكم: فالمشركون هكذا حالهم يقبل الله توبتهم، ويسقط عقاب شركهم بها، فلأي معنى خصص المشيئة بالقسم الثاني وهو ما دون الشرك!
وهل هذا إلا تصريح بأن الشرك لا يغفر لمن مات عليه، وما دونه من المعاصي
إذا مات الإنسان عليه لا يقطع له بالعقاب، ولا لغيره بل أمره إلى الله! قلت: الأصوب في
هذا الموضع ألا يجعل قوله: "لمن يشاء"
معنياً به التائبون، بل نقول: المراد أن
الله لا يستر في موقف القيامة من مات مشركاً، بل يفضحه على رؤوس الأشهاد كما قال تعالى:
"ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم" . |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
في عذاب جهنم
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال الأوزاعي في مواعظه للمنصور: "روي لي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو
أن ثوباً من ثياب أهل النار علق بين السماء والأرض لأحرق أهل الأرض قاطبة، فكيف
بمن يتقمصه! ولو أن ذنوباً من حميم جهنم صب على ماء الأرض كله لأجنه حتى لا
يستطيع مخلوق شربه، فكيف بمن يتجرعه! ولو أن حلقةً من سلاسل النار وضعت على جبل
لذاب كما يذوب الرصاص، فكيف بمن يسلك فيها، ويرد فضلها على عاتقه"! وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لو
كان في هذا المسجد مائة ألف أو يزيدون، وأخرج إليهم رجل من النار فتنفس وأصابهم
نفسه لأحرق المسجد ومن فيه". قال: "تتقلص
شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه، وتسترخي شفته السفلى حتى تقرب سرته وروى عبيد بن
عمير الليثي عنه رضي الله عنه: "لتزفرن جهنم زفرة لا يبقى ملك ولا نبي إلا
خر مرتعدة فرائضه ، حتى إن إبراهيم الخليل، ليجثو على ركبتيه، فيقول: يا رب إني
لا أسألك إلا نفسي". منصور بن عمار:
يا من البعوضة تقلقه، والبقة تسهره، أمثلك يقوى على وهج السعير، أو تطيق صفحة
خده لفح سمومها، ورقة أحشائه خشونة ضريعها ، ورطوبة كبده تجرع غساقها !. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
في الاجتماع والعزلة
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ثم نهاهم رضي الله عنه عن التفرق في دين
الله، وهو الاختلاف والفرقة، ثم أمرهم باجتماع الكلمة، وقال: إن
الجماعة في الحق المكروه إليكم، خير لكم من الفرقة في الباطل المحبوب عندكم، فإن
الله لم يعط أحداً خيراً بالفرقة، لا ممن مضى، ولا ممن بقي. وهذا ضعيف، لأنه إنما كان ذلك في ابتداء الإسلام والحث على جهاد المشركين. وهذا ضعيف
لأن المراد به من اعتزل الجماعة وخالفها. وقال ابن الربيع الزاهد لداود الطائي: عظني، فقال: صم عن الدنيا واجعل فطرك
للآخرة، وفر من الناس فرارك من الأسد.
قال النخعي لصاحب له: تفقه ثم اعتزل. وقال:
ليس يتهيأ للإنسان أن يخبر بكل عذر له. وقيل للفضيل:
إن ابنك يقول: لوددت أني في مكان أرى الناس ولا يرونني! فبكى الفضيل: وقال: يا ويح علي ، ألا
أتمها فقال: ولا أراهم! ومن كلام الفضيل
أيضاً: من سخافة عقل الرجل كثرة معارفه. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
في فوائد العزلة
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وفي العزلة فوائد:
منها الفراغ للعبادة، والذكر والإستئناس بمناجاة الله عن مناجاة الخلق، فيتفرغ
لاستكشاف أسرار الله تعالى في أمر الدنيا والآخرة وملكوت السموات والأرض، لأن
ذلك لا يمكن إلا بفراغ، ولا فراغ مع المخالطة، ولذلك
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في ابتداء أمره يتبتل في
جبل حراء، ويعتزل فيه، حتى أتته النبوة. وقيل للحسن:
يا أبا سعيد، هاهنا رجل لم نره قط جالساً إلا وحده خلف سارية، فقال الحسن: إذا رأيتموه فأخبروني، فنظروا إليه
ذات يوم، فقالوا للحسن- وأشاروا إليه، فمضى نحوه، وقال
له: يا عبد الله، لقد حببت إليك العزلة، فما يمنعك من مجالسة الناس؟ قال: أمر شغلني عنهم، قال:
فما يمنعك أن تأتي هذا الرجل الذي يقال له الحسن، فتجلس إليه؟ قال: أمر شغلني عن
الناس وعن الحسن، قال: وما ذلك الشغل يرحمك
الله؟ قال: إني أمسي وأصبح بين نعمة وذنب،
فأشغل نفسي بشكر الله على نعمه، والاستغفار من الذنب، فقال
الحسن: أنت أفقه عندي يا عبد الله من الحسن، فالزم
ما أنت عليه. ثم صاح:
واغماه من طول المكث في الدنيا! ثم حول وجهه عني، ثم نفض يده، وقال: إليك عني يا دنيا، لغيري فتزيني، وأهلك
فغري! ثم قال: سبحان
من أذاق العارفين من لذة الخدمة وحلاوة الانقطاع إليه ما ألهى قلوبهم عن ذكر
الجنان، والحور الحسان، فإني في الخلوة آنس بذكر الله، وأستلذ بالانقطاع إلى
الله، ثم أنشد:
وقال بعض العلماء: إنما يستوحش الإنسان من نفسه لخلو ذاته عن الفضيلة، فيتكثر
حينئذ بملاقاة الناس، ويطرد الوحشة عن نفسه بهم، فإذا كانت ذاته فاضلة طلب
الوحدة ليستعين بها على الفكرة، ويستخرج العلم والحكمة،
وكان يقال: الاستئناس بالناس من علامات
الإفلاس. وقال الشاعر:
ومن
تجرد للأمور بالمعروف ندم عليه في الأكثر، كجدار مائل يريد الإنسان أن يقيمه
وحده، فيوشك أن يقع عليه، فإذا سقط قال: يا
ليتني تركته مائلاً! نعم لو وجد الأعوان حتى يحكم ذلك الحائط ويدعمه استقام،
ولكنك لا تجد القوم أعواناً على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فدع الناس
وانج بنفسك. وأما الرياء
فلا شبهة أن من خالط الناس داراهم، ومن داراهم
راءاهم، ومن راءاهم كان منافقاً،
وأنت تعلم أنك إذا خالطت متعاديين ولم تلق كل واحد منهما بوجه يوافقه صرت بغيضاً
إليهما جميعاً، وإن جاملتهما كنت من شرار
الناس، وصرت ذا وجهين، وأقل ما يجب في مخالطة الناس
إظهار الشوق والمبالغة فيه، وليس يخلو ذلك عن كذب، إما
في الأصل وإما في الزيادة بإظهار الشفق بالسؤال عن الأحوال، فقولك: كيف
أنت؟ وكيف أهلك؟ وأنت في الباطن فارغ القلب عن همومه،
نفاق محض. وروى ابن مسعود أيضاً
أنه صلى الله عليه وسلم ذكر الفتنة، فقال: "الهرج" فقلت: وما الهرج
يا رسول الله؟ قال: "حين لا يأمن المرء
جليسه"، قلت: فبم تأمرني يا رسول الله، إن أدركت ذلك الزمان؟ قال: "كف نفسك ويدك، وادخل دارك أ، قلت:
أرأيت إن دخل علي داري! قال: "ادخل بيتك
"، قلت: إن دخل علي البيت، قال: "ادخل
مسجدك، واصنع هكذا- وقبض على الكوع- وقل: ربي الله، حتى تموت ".
ومن خالط الناس لا ينفك من حاسد وطاعن، ومن جرب ذلك عرف.
وقيل لسعد بن أبي وقاص: ألا تأتي المدينة؟ قال: ما بقي فيها إلا حاسد نعمة، أو فرح
بنقمة. وقال ابن السماك: كتب إلينا صاحب لنا: أما بعد، فإن الناس كانوا دواء يتداوى
به، فصاروا داء لا دواء لهم، ففر منهم فرارك من الأسد.
وليس يخلو الإنسان في دينه ودنياه وأفعاله عن عورات يتقين ويجب
سترها، ولا تبقى السلامة مع انكشافها، ولا سبيل إلى ذلك إلا بترك المخالطة.
وأما انقطاع طمعك عنهم، ففيه أيضاً فائدة جزيلة، فإن من نظر إلى زهرة الدنيا وزخرفها،
تحرك حرصه، وانبعث بقوة الحرص طمعه، وأكثر الأطماع يتعقبها الخيبة، فيتأذى
الإنسان بذلك، وإذا اعتزل لم يشاهد، وإذا لم يشاهد لم يشته ولم يطمع، ولذلك قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: "ولا
تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم زهرة الحياة الدنيا" . فالمعتزل عن الناس في بيته لا يبتلى بمثل هذه الفتن، فإن من شاهد زينة الدنيا، إما أن يقوى دينه ويقينه فيصبر فيحتاج إلى أن يتجرع مرارة الصبر،
وهو أمر من الصبر، أو تنبعث رغبته فيحتال في طلب
الدنيا فيهلك دنيا وآخرة، أما في الدنيا
فبالطمع الذي في أكثر الأوقات يتضمن الذل المعجل، وأما
في الآخرة فلإيثاره متاع الدنيا على ذكر الله، والتقرب إليه، ولذلك قال الشاعر:
أشار
إلى أن الطمع يوجب في الحال ذلاً. ثم ليكن في خلوته مواظباً على العلم والعمل،
والذكر والفكر، ليجتني ثمرة العزلة. ويجب
أن يمنع الناس عن أن يكثروا غشيانه وزيارته ، فيتشوش وقته، وأن يكف نفسه عن
السؤال عن أخبارهم وأحوالهم، وعن الإصغاء إلى أراجيف الناس وما الناس مشغولون
به، فإن كل ذلك ينغرس في القلب حتى ينبعث على الخاطر
والبال وقت الصلاة ووقت الحاجة إلى إحضار القلب، فإن وقوع الأخبار في السمع
كوقوع البذر في الأرض، لا بد أن ينبت وتتفرع عروقه وأغصانه، وإحدى مهمات المعتزل قطع الوساوس الصارفة عن ذكر الله،
ولا ريب أن الأخبار ينابيع الوساوس وأصولها. ويجب أن يكون للمعتزل أهل صالح أو
جليس صالح، لتستريح نفسه إليه ساعة عن كد المواظبة، ففي
ذلك عون له على بقية الساعات. وليس يتم للإنسان الصبر على العزلة إلا بقطع الطمع
عن الدنيا، وما الناس منهمكون فيه، ولا ينقطع طمعه إلا بقصر الأمل، وألا يقدر
لنفسه عمراً طويلاً، بل يصبح على أنه لا يمسي، ويمسي على أنه لا يصبح، فيسهل
عليه صبر يوم، ولا يسهل عليه العزم على صبر عشرين سنة لو قدر تراخي أجله، وليكن
كثير الذكر للموت ووحدة القبر، مهما ضاق قلبه من الوحدة، وليتحقق أن من لم يحصل
في قلبه من ذكر الله ومعرفته ما يأنس به، فإنه لا يطيق وحشة الوحدة بعد الموت،
وأن من أنس بذكر الله ومعرفته فإن الموت لا يزيل أنسه، لأن الموت ليس يهدم محل
الأنس والمعرفة، بل يبقى حياً بمعرفته وأنسه فرحاً بفضل الله عليه، قال سبحانه: "ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل
أحياء عند ربهم يرزقون" فرحين مما أتاهم الله من فضله" . |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال في معنى الحكمين
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
فأجمع رأي ملئكم على أن اختاروا رجلين، فأخذنا عليهما أن يجعجعا عند القرآن، ولا
يجاوزاه، وتكون ألسنتهما معه وقلوبهما تبعه، فتاها عنه، وتركا الحق وهما
يبصرانه، وكان الجور هواهما، والاعوجاح دأبهما، وقد سبق استثناؤنا عليهما في
الحكم بالعدل والعمل بالحق سوء رأيهما، وجور حكمهما، والثقة في أيدينا لأنفسنا،
حين خالفا سبيل الحق، وأتيا بما لا يعرف من معكوس الحكم. فكتب عمرو إليه:
ثم
كتب في ظاهر الكتاب - ورأيت أنا هذه الأبيات بخط أبي زكريا يحيى بن علي الخطيب
التبريزي رحمه الله -:
فلما
بلغ الجواب إلى معاوية لم يعاوده في شيء من أمر مصر
بعدها. بعث عبد الملك روح بن زنباع وبلال بن
أبي بردة بن أبي موسى، إلى زفر بن الحارث الكلابي بكلام وحذرهما من كيده،
وخص بالتحذير روحا. فقال: يا أمير المؤمنين، إن
أباه كان المخدوع يوم دومة الجندل لا أبي،
فعلام تخوفني الخداع والكيد؟ فغضب بلال وضحك
عبد الملك. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن خطبة له رضي الله عنه يذكر أن زوال النعم من
سوء الفعال
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لا يشغلة شأن، ولا يغيره زمان، ولا يحويه مكان، ولا
يصفه لسان، لا يعزب عنه عدد قطر الماء، ولا نجوم السماء، ولا سوافي الريح في
الهواء، ولا دبيب النمل على الصفا ولا مقيل الذر في الليلة الظلماء. يعلم مساقط
الأوراق، وخفي طرف الأحداق. وأشهد أن
محمداً عبده ورسوله، المجتبى من خلائقه، والمعتام لشرح حقائقه، والمختص بعقائل
كراماته والمصطفى لكرائم رسالاته، والموضحة به أشراط الهدى، والمجلو به غريب
العمى. والذر:
صغار النمل. وطرف الأحداق:
مصدر طرف البصر يطرف طرفا، إذا انطبق أحد الجفنين على الآخر، ولكونه مصدرا وقع
على الجماعة كما وقع على الواحد، فقال صتنه:طرف الأحداق، كما قال سبحانه: الا
يرتد إليهم طرفهم ! . والعيمة
بالكسر: خيار المال، اعتام الرجل، إذا أخذ العيمة. ويجلى به غربيب العمى:
تكشف به طلم الضلال، وتستنير بهدايته. وقوله
تعالى: "وغرابيب سود! ، ليس على أن الصفة قد تقدمت على الموصوف، بل يجعل السود بدلا من الغرابيب. ونبههم على
طرق استنباطها رسول الله مفة بواسطة أمير المؤمنين عتنه، لأنه إمام المتكلمين
الذي لم يعرف علم الكلام من وأ د وسم أحد قبله. وايم الله ما كان قوم قط في غض نعمة من عيش فزال
عنهم إلا بذئوب اجترحوها، لأن ألله ليس بظلام للعبيد. وما علي
إلا الجهد، ولو اشاء أن أقول لقلت: عفا ألله عما سلف! الشرح: المخلد: المائل إليها، قال تعالى:
"ولكنة أخلد إلى الأرض" ! . والشارد:
الذاهب. والجهد بالضم: الطاقة. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن كلام له رضي الله عنه
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وقد سأله ذعلب اليماني فقال:
هل رأيت ربك يا أمير المؤمنين؟ فقال رضي
الله عنه أفأعبد ما لا أرى! فقال: وكيف
تراه، قال "مم لا تدركه العيون بمشاهدة العيان، ولكن تدركه القلوب بحقائق
الإيمان، قريب من الأشياء غير ملامس، بعيد منها غير مباين، فتكلم بلا روية، مريد
لا بهمة، صانع لا بجارحة، لطيف لا يوصف بالخفاء، كبير لا يوصف بالجفاء، بصير لا
يوصف بالحاسة، رحيم لا يو!ف بالرقة، تعنو الونجوه لعظمته، وتجب القلوب من
مخافته. تعالى متكلم لا بهذا الاعتبار، بل لأنه إذا أراد
تعريف خلقه من جهة الحروف والأصوات، وكان في ذلك مصلحة ولطف لهم، خلق الأصوات
والحروف في جسم جمادي، فيسمعها من يسمعها، ويكون ذلك كلامه، لأن المتكلم في
اللغة العربية فاعل الكلام لا من حله الكلام. وقد شرحنا هذا في كتبنا الكلامية. قوله:صانع لا بجارحة"، أي لا بعضو، لأنه ليس
بجسم. أو لطيف
بهم بمعنى أنه يرحمهم ويرفق بهم. ويروى:توجل
القلوب أي تخاف، وجل: خاف. الأصل: أحمد ألله
على ما قضى من أمر، وقدر من فعل، وعلى أبتلائي بكم أيتها ألفرقة التي إذا أمرت
لم تطع، وإذا دعوت لم تجب. ويجوز أن يكون خرتم أي ! حتم، كما يخور
الثور، ومنه قوله تعالى: "عجلا جسدا له
خوار! . ويروى:جرتم
أي عدلتم عن الحرب فرارا. وأما قولهم:لا أبا لك،
بإثباته فدون الأول في الفصاحة، كأنهم قصدوا الإضافة، وأقحموا اللام مزيدة
مؤكدة، كما قالوا:يا تيم تيم عدي، وهو غريب،
لأن حكم " لا" أن تعمل في النكرة
فقط، وحكم الألف أن تثبت مع الإضافة، والإضافة تعرف فاجتمع فيها حكمان متنافيان،
فصار من الشواذ كالملامح والمذاكير ولدن غدوة. وشحذت النصل:
أحددثه. قلت: إن
معاوية لم يكن يعطي جنده على وجه المعونة والعطاء، وإنما كان يعطي رؤساء القبائل
من اليمن وساكني الشام الأموال الجليلة، يستعبدهم بها، ويدعو أولئك الرؤساء
أتباعهم من العرب فيطيعونهم، فمنهم من يطيعهم حمية، ومنهم من يطيعهم لأياد
وعوارف من أولئك الرؤساء عندهم، ومنهم من يطيعهم دينا، زعموا للطلب بدم عثمان،
ولم يكن يصل إلى هؤلاء الأتباع من أموال معاوبة قليل ولا كثير. وأما
أميرالمؤمنين عقنه، فإنه كان يقسم بين الرؤساء والأتباع على وجه العطاء والرزق،
ولا يرى لشريف على مشروف فضلا، فكان من يقعد عنه بهذا الطريق أكرم من ينصره ويقوم بأمره، وذلك لأن الرؤساء من
أصحابه كانوا يجدون في أنفسهم من ذلك- أعني المساواة بينهم وبين الأتباع-
فيخذلونه علنه باطنا، وإن أظهروا له النصر، وإذا أحس أتباعهم بتخاذلهم وتواكلهم
تخاذلوا أيضاً وتواكلوا أيضاً، ولم يجد عليه صلوات الله عليه ما أعطى الأتباع من
الرزق، لأن انتصار الأتباع له وقتالهم دونه لا يتصور وقوعه، والرؤساء متخاذلون،
فكان يذهب ما يرزقهم ضياعا. فإن قلت: ما معنى قوله:لا يخرج إليكم من أمري
رضا فترضونه، ولا سخط فتجتمعون عليه؟ قلت: معناه
أنكم لا تقبلون مما أقول لكم شيئا، سواء كان مما يرضيكم أومما يسخطكم، بل لا بد
لكم من المخالفة والافتراق عنه. كفى
بك داءأن ترى الموت شافيا وحسب المنايا أن تكن أمانيا تمنيتها
لما تمنيت أن ترى صديقا فاعيا، أوعدوا مداجيا قوله:قد دارستكم الكتاب، أي درسته
عليكم، دارست الكتب وتدارستها، وأدرستها ودرستها، بمعنى، وهي من الألفاظ القرآنية . فإن قلت:
قد كان يجب أن يقول:وأقرب بقوم قائدهم معاوية ومؤدبهم ابن النابغة من الجهل، فلا
يحول بين النكرة الموصوفة وصفتها بفاصل غريب، ولم يقل ذلك، بل فصل بين الصفة
والموصوف بأجنبي منهما! قلت:
قد
جاء كثيرمن ذلك، نحو قوله تعالى: وممن حولكم من
الأعراب منافقون ومن أهل ألمدينة مردوا على النفاق ! في قول من لم يجعل مردوا"
صفة أقيمت مقام الموصوف، لأنه يجعل مردوا" صفة القوم المحذوفين المقدرين
بعدالأعراب وقد حال بين ذلك وبين مردوا" قوله:ومن أهل المدينة". الأصل: بعدا لهم كما
بعدت ثمود! أما لو أشرعت الأسنة إليهم، و!بت
السيوف على هاماتهم، لقد ندموا على ما كان منهم. ويمكن
عندي أن يريد أنه وجدهم فلا، لا خير فيهم، والفل في
الأصل: الأرض لا نبات بها لأنها لم تمطر، قال
حسان يصف العزى:
أي
خال من الخير. ويروى
استفزهم، أي استخفهم، والارتكاس في الضلال: الرجوع، كأنه جعلهم في ترددهم في
طبقات الضلال كالمرتكس الراجع إلى أمر قد كان تخلص منه، والجماح في التيه: الغلو
والإفراط، مستعار من جماح الفرس، وهوأن يعتز صاحبه ويغلبه، جمح فهو جموح. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن خطبة له في تنزيه الله وذكر آثار قدرته
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: روي عن نوف
البكالي، قال خطبنا بهذه الخطبة أمير المؤمنين علي رضي الله عنه بالكوفة، وهو قائم على حجارة نصبها له جعدة بن
هبيرة المخزومي، وعليه مدرعة من صوف، وحمائل سيفه ليف، وفي رجليه نعلان من ليف،
وكأن جبينه ثفنة بعير، فقال رضي الله عنه: الحمد
لله الذي إليه مصائر الخلق، وعواقب الأمر! نحمده على عظيم إحسانه، ونير برهانه،
ونوامي فضله وامتنانه، حمدا يكون لحقه قضاء، ولشكره أداء، وإلى ثوابه مقربا،
ولحسن مزيده موجبا، ونستعين به استعانة راج لفضله، مؤمل لنفعه، واثق بدفعه،
معترف له بالطول، مذعن له بالعمل والقول، ونؤمن به إيمان من رجاه موقنا، وأناب
إليه مؤمنا، وخنع له مذعنا، وأخلص له موحدا، وعظمه ممجدا، ولاذ به راغبا مجتهدا. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
نسب جعدة بن هبيرة،
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وأما جعدة بن هبيرة، فهو
ابن أخت أميرالمؤمنين رضي الله عنه،
أمه أم هانىء بنت أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم، وأبوه هبيرة بن أبي وهب بن
عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب. وكان جعدة فارسأ شجاعاً، فقيهاً وولي
خراسان لأمير المؤمنين رضي الله عنه، وهو من الصحابة الذين أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم
الفتح، مع أمه أم هانىء بنت أبي طالب، وهرب أبو
هبيرة بن أبي وهب ذلك اليوم هو وعبد الله بن الزبعرى إلى نجران. فقبضت على يده التي فيها السيف، فدخلا بيتاً ثم
خرجا منه إلى غيره، ففاتاه، وجاءت أم هانىء إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم فوجدته
يغتسل من جفنة فيها أثر العجين، وفاطمة ابنته تستره بثوبها، فوقفت حتى أخذ ثوبه،
فتوشح به، ثم صلى ثماني ركعات من الضحى، ثم انصرف، فقال: مرحباً وأهلاً بأم هانىء! ما جاء بك؟ فأخبرته
خبربعلها وابن عمه، ودخول علي رضي الله عنه بيتها
بالسيف. فجاء علي رضي
الله عنه ورسول الله صلى الله عليه
وسلم
يضحك،
فقال له: ما صنعت بأم هانىء؟ فقال: سلها يا رسول
الله ما صنعت بي! والذي بعثك بالحق لقد قبضت على يدي وفيها السيف، فما استطعت أن
اخلصها إلا بعد لأي، وفاتني الرجلان. فقال صلى
الله عليه وسلم: "لو
ولد ألب طالب! الناس كلهم لكانوا شجعاناً، قد أجرنا من أجارت أم هانىء،
وأمنا من أمنت، فلا سبيل لك عليها". قالوا:
وأقام هبيرة بن أبي وهب بنجران حتى مات بها كافراً، وروى
له محمد بن إسحاق في كتاب المغازي شعراً أوله:
يذكر
فيه أم هانىء وإسلامها، وأنه مهاجر لها إذ صبت إلى الإسلام، ومن جملته:
وقال ابن عبد البر في كتاب الاستيعاب: ولدت أم هانىء لهبيرة بن أبي وهب
بنين أربعة: جعدة، وعمراً، وهانئأ، ويوسف، قال: وجعدة الذي يقول:
المدرعة:
الجبة، وتدرع: لبسها. وربما قالوا: تمدرع، وثفنة البعير، واحدة ثفناته، وهو ما
يقع على الأرض من أعضائه إذا استناخ فيغلظ ويكثف، كالركبتين وغيرهما، ويقال: ذو الثفنات الثلاثة لعلي بن الحسين، وعلي بن
عبد الله بن العباس رضي الله عنهما، ولعبد الله بن وهب الراسبي، رئيس الخوارج، لأن طول السجود كان قد أثر في ثفناتهم، قال دعبل:
ومصائر الأمور:
جمع مصير، وهو مصدرصار إلى كذا، ومعناه المرجع، قال تعالى: "وإلى الله المصير" فأما المصدر من
"صار الشيء كذا" فمصير وصيرورة، والقياس في مصدر صار إليه أي رجع
مصارا، كمعاش، وإنما جمع المصدر ههنا لأن الخلائق يرجعون إلى الله تعالى في
أحوال مختلفة في الدنيا وفي الدار الآخرة، فجمع المصدر، وإن كان يقع بلفظه على
القليل والكثير، لاختلاف وجوهه، كقوله تعالى: "ويظنون
بالله الظنونا"، وعواقب الأمر: جمع عاقبة، وهي آخر الشيء. والإذعان:
الانقياد وا لطاعة. وخنع:
خضع، والمصدر الخنوع. ولاذ به:
لجأ إليه. فمن
شواهد خلقه خلق السموات موطدات بلا عمد، قائمات بلا سند، دعاهن فأجبن طائعات
مذعنات، غير متلكئات ولا مبطئات. ولولا
إقرارهن له بالربوبية، وإذعانهن له بالطواعية، لما جعلهن موضعاً لعرشه ولا
مسكناً لملائكته، ولا مصعداً للكلم الطيب، والعمل الصالح من خلقه. الشرح:
نفى رضي الله عنه أن يكون البارىء سبحانه مولوداً فيكون له شريك في العز
والإلهية، وهو أبوه الذي ولده، وإنما قال ذلك جرياً على عادة ملوك البشر فإن
الأكثرأن الملك يكون ابن ملك قبله، ونفى أن يكون له ولد، جرياً أيضاً على عادة
البشر، في أن كل والد في الأكثر، فإنه يهلك قبل هلاك الولد، ويرثه الولد، وهذا النمط من الاحتجاج يسمى خطابة، وهو نافع في
مواجهة العرب به، وأراد من الاحتجاج إثبات العقيدة،
فتارة تثبت في نفوس العلماء بالبرهان، وتارة تثبت في نفوس العوام بالخطابة
والجدل. والسند: ما يستند إليه.
ومنه
قوله تعالى: "ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا
أتينا طائعين".
فقال:
ما اسمك؟ فقال: لهذم، قال: يا لهذم حكمك مسمطاً، قال: ناقة كوماء سوداء الحدقة،
قال: يا جارية اطرحي لنا حبلاً، ثم قال: يا لهذم اخرج بنا إلى المربد فألقه في
عنق ما شئت من إبل الناس. فتخيرلهذم على عينه ناقة، ورمى بالحبل في عنقها، وجاء
صاحبها، فقال له الفرزدق: اغد علي أوفك ثمنها،
فجعل له ذم يقودها، والفرزدق يسوقها، حتى أخرجها من البيوت إلى الصحراء، فصاح به الفرزدق: ياله ذم، قبح الله أخسرنا! فخبر
الشاعر عن القبر، بقوله:فقال لي استقدم أمامك والقبر والميت الذي فيه لا يخبران،
ولكن العرب وأهل الحكمة من العجم يجعلون كل دليل قولاً وجواباً، ألا ترى إلى قول زهير:
وإنما
كلامها عنده أن تبين ما يرى من الأثار فيها عن قدم العهد بأهلها. وقال النعمان بن المنذر ومعه عدي بن زيد، في ظل شجرات مونقات يشرب، فقال عدي: أبيت اللعن! وأراد أن يعظه، أتدري ما تقول
هذه الشجرات؟ قال: ما تقول؟ قال:
فتنغص النعمان يومه ذلك. والمتلكىء: المتوقف، والكلم الطيب: شهادة أن لا إله
إلا الله، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم رسوله.
والعمل الصالح: أداء الواجبات والنوافل، واللفظات من القرآن العزيز، والمصعد:
موضع الصعود، ولا شبهة أن السماء أشرف من الأرض على رأي المليين وعلى رأي
الحكماء، أما أهل الملة، فلأن السماء مصعد الأعمال الصالحة، ومحل الأنوار، ومكان
الملائكة، وفيها العرش والكرسي، والكواكب المدثرات أمراً، وأما الحكماء فلأمور
آخرى تقتضيها أصولهم. والجلابيب،
الثياب. والغسق: الظلمة، والساجي: الساكن. والداجي:
المظلم، والمتطأطىء: المنخفض. والسفع المتجاورات ههنا:
الجبال، وسماها سفعاً لأن السفعة سواد مشرب بحمرة، وكذلك لونها في الأكثر. والتجلجل: صوت
الرعد. قال ابن الأعرابي:
لشا الرجل، إذا اتضع، وخسر بعد رفعة، وإذا صح أصلها صح استعمال الناس، تلاشى
الشيء، بمعنى اضمحل. والعواصف:
الرياح الشديدة، وأضافها إلى الأنواء ، لأن أكثر ما يكون عصفانها في الأنواء،
وهي جمع نوء، وهو سقوط النجم من منازل القمر الثمانية والعشرين في المغرب مع
الفجر وطلوع رقيبه من المشرق مقابلاً له من ساعته، ومدة النوء ثلاثة عشريوماً،
إلا الجبهة فإن لها أربعة عشريوماً. وقال الأصمعي:
بل إلى الطالع في سلطانه، فتقول: مطرنا بنوء كذا وكذا، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن
ذلك، والجمع أنواء ونوآن أيضاً، مثل بطن وبطنان وعبد وعبدان، قال حسان بن ثابت:
والانهطال:
الانصباب: ومسقط القطرة من المطر: موضع سقوطها،
ومقرها: موضع قرارها، ومسحب الذرة الصغيرة من النمل ومجرها: موضع سحبها وجرها. والأوائل
يزعمون أن فوق السموات السبع سماء ثامنة، وسماء تاسعة، ويقولون: إن الثامنة هي
الكرسي، وإن التاسعة هي العرش.
وإن شئت قلت:
إنه تكلم بالاصطلاح الحكمي، والأين عندهم، حصول الجسم في المكان وهو أحد
المقولات العشر. ومرجحنين:
مائلين إلى جهة تحت خضوعاً لجلال البارىء سبحانه، ارجحن الحجر، إذا مال هاوياً.
متولهة عقولهم، أي حائرة. وتحت قوله: "أضاء بنوره كل
ظلام.. إلى آخر الفصل، معنى دقيق وسر خفي، وهو أن كل رذيلة في
الخلق البشري مع معرفته بالأدلة البرهانية غيرمؤثرة ولا قادحة في جلالة المقام
الذي قد بلغ إليه، وذلك نحو أن يكون العارف بخيلاً أو جباناً، أوحريصاً أو نحو
ذلك، وكل فضيلة في الخلق البشري مع الجهل به سبحانه، فليست بفضيلة في الحقيقة
ولا معتد بها، لأن نقيصة الجهل به تكسف تلك الأنوار، وتمحق فضلها، وذلك نحو أن
يكون الجاهل به سبحانه جواداً، أوشجاعاً، أو عفيفاً، أو نحو ذلك، وهذا يطابق ما
يقوله الأوائل، من أن العارف المذنب يشقى بعد الموت قليلاً، ثم يعود إلى النعيم
السرمدي، وأن الجاهل ذا العبادة والإحسان يشقى بعد الموت شقاء مؤبداً ومذهب
الخلص من مرجئة الإسلام يناقض هذه اللفظات، ويقال:
إنه مذهب أبي حنيفة رحمه الله. ويمكن تأويلها على مذهب أصحابنا بأن
يقال:
كل ظلام من المعاصي الصغائر، فإنه ينجلي بضياء معرفته وطاعته، وكل طاعة يفعلها
المكلف مع الكفر به سبحانه، فإنها غيرنافعة ولا موجبة ثواباً، ويكون هذا التأويل
من باب صرف اللفظ عن عمومه إلى خصوصه. الشرح: الرياش: اللباس. وأسبغ: أوسع، وإنما ضرب المثل بسليمان رضي الله عنه، لأنه
كان ملك الإنس والجن، ولم يحصل لغيره ذلك، ومن الناس من أنكر هذا، لأن اليهود والنصارى يقولون: إنه لم يتعد ملكه
حدود الشام، بل بعض الشام، وينكرون حديث الجن والطير والريح، ويحملون ما ورد من
ذلك على وجوه وتأويلات عقلية معنوية، ليس هذا موضع ذ كرها. والطعمة، بضم الطاء: المأكلة، يقال: قد جعلت هذه
الضيعة طعمة لزيد، والقسي: جمع قوس، وأصلها "قووس" علىفعول، كضرب
وضروب، إلا أنهم قدموا اللام، فقالوا "قسو" على "فلوع، ثم قلبت
الواو ياء، وكسروا القاف كما كسروا عين "عصي" فصار "قسي". |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
نسب العمالقة وعاد وثمود والفراعنة وأصحاب الرس،
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
والعمالقة
أولاد لاوذ بن إرم بن سام بن نوح، كان الملك باليمن والحجاز وما تاخم ذلك من
الأقاليم، فمنهم عملاق بن لاوذ بن سام، ومنهم طسم بن لاوذ أخوه.
فغضب
لها أخوها الأسود بن غفار، وتابعه قومه على الفتك بعملاق بن طسم وأهل بيته، فصنع
الأسود طعاماً، ودعا عملاق الملك إليه، ثم وثب به وبطسم، فأق على رؤسائهم، ونجا
منهم رياح بن مر، فصار إلى ذي جيشان بن تبع الحميري ملك اليمن، فاستغاث به،
واستنجده على جديس، فسار ذو جيشان في حمير، فأق بلاد جو، وهي قصبة اليمامة،
فاستأصل جديساً كلها، وأخرب اليمامة فلم يبق لجديس باقية، ولا لطسم إلا
اليسيرمنهم. وممن يعد مع العمالقة عاد وثمود، فأما عاد فهو عاد
بن عويص بن إرم بن سام بن نوح، كان يعبد القمر، ويقال: إنه رأى من صلبه أولاد
أولاد أولاده أربعة آلاف، وإنه نكح ألف جارية، وكانت بلاده الأحقاف المذكورة في
القرآن، وهي من شحر عمان إلى حضرموت، ومن أولاده شداد بن عاد، صاحب المدينة
المذكورة. قال:
فهي عند نفسه ضالته التي يطلبها، هذا مثل قوله رضي الله عنه: الحكمة ضالة المؤمن ومن كلام
الحكماء، لا يمنعك من الانتفاع بالحكمة حقارة من وجدتها عنده، كما لا يمنعك خبث
تراب المعدن من التقاط الذهب.
وقد كتب ابن الخشاب بخطه تحت المليحة: ما أصدقه إن أراد بالمليحة الحكمة. الشرح:
بثثت لكم المواعظ: فرقتها ونشرتها. والأوصياء:
الذين يأتمنهم الأنبياء على الأسرار الإلهية، وقد يمكن ألا يكونوا خلفاء بمعنى
الإمرة والولاية، فإن مرتبتهم أعلى من مراتب الخلفاء، وحدوتكم:
سقتكم كما تحدى الإبل. فلم تستوسقوا، أي لم تجتمعوا، قال:
قوله:
يطأ بكم الطريق، أي يحملكم على المنهاج الشرعي، ويسلك بكم مسلك الحق، كأنه جعلهم ضالين عن الطريق التي
يطلبونها. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أخبار عمار بن ياسر
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وهم عمار بن ياسر بن عامر بن كنانة بن قيس العنسي -
بالنون - المذحجي، يكنى أبا اليقظان، حليف بني مخزوم. قال أبو عمر: كان ياسر
والد عمار عربياً قحطانياً، من عنس في مذحج، إلا أن
ابنه عماراً كان مولى لبني مخزوم، لأن أباه ياسراً قدم مكة مع أخوين له، يقال
لهما: مالك والحارث، فى طلب أخ لهم رابع،
فرجع الحارث ومالك إلى اليمن، وأقام ياسر بمكة، فحالف
أبا حذيفة بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، فزوجه أبو حذيفة أمةً يقال
لها سمية، فأولدها عماراً، فأعتقه أبو حذيفة، فمن ههنا كان عمار مولى بني مخزوم.
وأبوه عربي، لا يختلفون في ذلك، وللحلف والولاء الذي بين بني مخزوم وعمار وأبيه
ياسر كان احتمال بني مخزوم على عثمان، حين نال من عمار غلمان عثمان ما نالوا من الضرب، حتى
انفتق له فتق في بطنه، زعموا، وكسروا ضلعاً من أضلاعه، فاجتمعت بنو مخزوم، فقالوا: والله لئن مات لا قتلنا به أحداً غير
عثمان. وقال ابن عباس في قوله تعالى: "أو من كان ميتاً
فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس": إنه عمار بن ياسر، "كمن مثله في الظلمات ليس
بخارج منها"، إنه أبوجهل بن هشام. وسمعته يقول يومئذ لهاشم بن عتبة: يا هاشم،
تقدم، الجنة تحت البارقة.
والله لوهزمونا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر لعلمنا أنا على الحق، وأنهم
على الباطل،
ثم قال:
فلم أرأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قتلوا في موطن، ما قتلوا يومئذ.
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلي أن آخر شربة أشربها في الدنيا شربة من
لبن، ثم استسقى ثانية فأتته
امرأة طويلة اليدين بإناء، فيه ضياح من لبن، فقال حين شربه: الحمد لله، الجنة تحت الأسنة، والله لو ضربونا حتى
يبلغونا سعفات هجر لعلمنا أنا على الحق، وأنهم على الباطل، ثم قاتل حتى قتل. قال أبو عمر:
إنما قال عمر: هما من النجباء، لقول رسول الله صلى
الله عليه وسلم. "إنه
لم يكن نبي إلا أعطي سبعة من أصحابه نجباء وزراء فقهاء، وإني قد أعطيت أربعة عشر: حمزة، وجعفراً، وعلياً، وحسناً، وحسياً،
وأبا بكر، وعمر، وعبد الله بن مسعود، وسلمان، وعماراً، وأبا ذر، وحذيفة،
والمقداد، وبلالا". |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أخبار أبي الهيثم بن التيهان
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ثم قال صلى الله عليه وسلم:وأين
ابن التيهان، هو أبو الهيثم بن التيهان، بالياء المنقوطة، باثنتين تحتها،
المشددة المكسورة، وقبلها تاء منقوطة باثنتين فوقها، واسمه
مالك، واسم أبيه مالك أيضاً، ابن عبيد بن عمرو بن عبد الأعلم بن عامر الأنصاري،
أحد النقباء ليلة العقبة. وقيل:
إنه لم يكن من أنفسهم، وإنه من بلي بن أبي الحارث بن قضاعة، وءإنه حليف لبني عبد
الأشهل، كان أحد النقباء ليلة العقبة، وشهد بدراً. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ذوالشهادتين خزيمة بن ثابت
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ثم قال رضي الله عنه:
وأين ذو الشهادتين"، هو خزيمة بن ثابت بن الفاكه
بن ثعلبة الخطمي الأنصاري من بني خطمة، من الأوس جعل رسول الله رضي الله عنه شهادته
كشهادة رجلين، لقصة مشهورة، يكنى أبا عمارة، شهد بدراً وما بعدها من المشاهد، وكانت راية بني خطمة بيده يوم الفتح. قلت:
ومن غريب ما وقعت عليه من العصبية القبيحة، أن أبا حيان
التوحيدي قال في كتاب البصائر: إن خزيمة بن ثبت المقتول مع علي عفض بصفين، ليس هو خزيمة بن
ثابت ذا الشهادتين، بل آخر من الأنصار صحابي
اسمه خزيمة بن ثابت، وهذا خطأ، لأن كتب الحديث والنسب تنطق بأنه لم يكن في الصحابة من الأنصار، ولا من غير الأنصار
خزيمة بن ثابت إلا ذو الشهادتين، وإنما الهوى لا
دواء له، على أن الطبري صاحب التاريخ قد سبق أبا حيان
بهذا القول، ومن كتابه نقل أبوحيان،
والكتب الموضوعة لأسماء الصحابة تشهد بخلاف ما ذكراه،
ثم أي حاجة لناصري أمير المؤمنين أن يتكثروا بخزيمة، وأبي الهيثم، وعمار وغيرهم،
لو أنصف الناس هذا الرجل ورأوه بالعين الصحيحة،
لعلموا أنه لوكان وحده، وحاربه الناس كلهم أجمعون، لكان على الحق، وكانوا على
الباطل.
وربما قلبوا الواو ألفاً، فقالوا: آه من كذا، آه على كذا، وربما شددوا
الواو وكسروها وسكنوا الهاء، فقالوا: أوه من كذا، وربما حذفوا الهاء مع التشديد،
وكسروا الواو، فقالوا: أو من كذا بلا مد، وقد
يقولون: آوه، بالمد والتشديد وفتح الألف وسكون الهاء، لتطويل الصوت
بالشكاية، وربما أدخلوا فيه الياء تارة يمدونه، وتارة لا يمدونه، فيقولون:أوياه و آوياه
وقد أوه الرجل تأويهاً، وتأوه تأوهاً إذ قال أوه، والاسم منه الآهة بالمد،
قال المثقب العبدي:
قوله رضي الله عنه:
ووثقوا بالقائد فاتبعوه، يعني نفسه، أي وثقوا بأني على الحق، وتيقنوا ذلك،
فاتبعوني في حرب من حاربت، وسلم من سالمت. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أخبار سعد بن عبادة
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وقيس بن سعد بن عبادة بن دليم الخزرجي، صحابي، يكنى أبا عبد الملك، روى عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث،
وكان طوالاً جداً سبطاً شجاعاً، جواداً، وأبوه سعد رئيس
الخزرج، وهو الذي حاولت الأنصار إقامته في
الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم،
ولم يبايع أبا بكر حين بويع ،وخرج إلى حوران، فمات بها
، قيل: قتلته الجن لأنه بال قائماً في الصحراء
ليلاً، ورووا بيتين من شعر، قيل إنهما سمعا ليلة قتله،
ولم ير قائلهما:
ويقول
قوم: إن أمير الشام يومئذ كمن له من رماه ليلاً،
وهوخارج إلى الصحراء بسهمين، فقتله لخروجه عن طاعة الإمام، وقد قال بعض المتأخرين في ذلك:
وكان قيس بن سعد من كبار شيعة أمير المؤمنين رضي الله عنه، وقائل بمحبته وولائه، وشهد معه حروبه كلها، وكان مع الحسن رضي الله عنه، ونقم عليه
صلحه معاوية، وكان طالبي الرأي، مخلصاً في اعتقاده ووده، وأكد ذلك عنده
فوات الأمر أباه وما نيل يوم السقيفة وبعده منه، فوجد
من ذلك في نفسه وأضمره، حتى تمكن من إظهاره في خلافه أمير المؤمنين، وكما
قيل: "عدو عدوك صديق لك". |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أبو أيوب الأنصاري
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وأما أبو أيوب الأنصاري، فهو
خالد بن يزيد بن كعب بن ثعلبة الخزرجي، من بني النجار، شهد العقبة وبدراً
وسائر المشاهد وعليه نزل رسول الله صلى
الله عليه وسلم لما خرج عن
بني عمرو بن عوف، حين قدم المدينة مهاجراً من مكة، فلم يزل عنده حتى بنى مسجده
ومساكنه، ثم انتقل إليها، ويوم المؤاخاة آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه
وبين مصعب بن عمير. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
من خطبة له في قدرة الله وفضل القرآن
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
احمد لله المعروف من غير رؤية، الخالق من غير منصبة، خلق الخلائق بقدرته،
وأستعبد الأرباب بعزته، وساد العظماء بجوده، وهو الذي أسكن الدنيا خلقة، وبعث
إلى الجن والإنس رسله، ليكشفوا لهم عن غطائها، وليحذروهم من ضرائها، وليضربوا
لهم أمثالها، وليبصروهم عيوبها، وليهجموا عليهم بمعتبر من تصرف مصاحها وأسقامها،
وحلالها وحرامها، وما أعد الله سبحانه للمطيعين منهم والعصاة، من جنة ونار،
وكرامة وهوان. أحمده
إلى نفسه، كما أستحمد إلى خلقه، جعل لكل شيء قدراً، ولكل قدر أجلاً، ولكل أجل
كتاباً.
ذو
نصب، مثل رجل تامر ولابن، ويقال: هوفاعل
بمعنى مفعول فيه لأنه ينصب فيه ويتعب، كقولهم: ليل
نائم، أي ينام فيه، ويوم عاصف، أي تعصف فيه الريح. والضراء:
الشدة. وصفه سبحانه بأنه معروف بالأدلة لا من طريق
الرؤية كما تعرف المرئيات، وبأنه يخلق الأشياء ولا يتعب كما يتعب الواحد منا
فيما يزاوله ويباشر من أفعاله. خلق الخلائق بقدرته على خلقهم، لا بحركة واعتماد. وأسبغ النعمة عليهم: أوسعها. واستعبد الذين يدعون في الدنيا أرباباً بعزه
وقهره. فعظموا منه سبحانه ما عظم من نفسه، فإنه لم يخف
عنكم شيئاً من دينه، ولم يترك شيئاً رضيه أوكرهه إلا وجعل له علماً بادياً، وأية
محكمة، تزجر عنه، أو تدعو إليه، فرضاه فيما بقي واحذ، وسخطه فيما بقي واحد. وأعلموا
أنه لن يرضى عنكم بشيء سخطه على من كان قبلكم، ولن يسخط عليكم بشيء رضيه ممن كان
قبلكم. وإنما
تسيرون في أثر بين، وتتكلمون برجع قول قد قاله الرجال من تجكم، قد كفاكم مؤونة
دنيكم، وحثكم على الشكر، وأفترض من ألسنتكم الذكر، وأوصاكم بالتقوى، وجعلها
منتهى رضاه، وحاجتة من خلقه. فاتقوا الله الذي أنتم بعينه، ونواصيكم بيده،
وتقلبكم في قبضته، إن أسررتم علمه، وإن أعلنتم كتبه، قد وكل بذلك حفظة كراماً،
لا يسقطون حقاً، ولا يثبتون باطلاً. قوله:
فرضاه فيما بقي واحد، معناه أن ما لم ينص عليه صريحاً، بل هو في محل النظر، ليس
يجوز للعلماء أن يجتهدوا فيه، فيحله بعضهم، ويحرمه بعضهم، بل رضا الله سبحانه
أمر واحد، وكذلك سخطه، فليس يجوز أن يكون شيء من الأشياء يفتي فيه قوم بالحل
وقوم بالحرمة، وهذا قول منه رضي الله عنه
بتحريم الاجتهاد، وقد سبق منه رضي الله عنه
مثل هذا الكلام مراراً. قوله: واعلموا أنه ليس يرضى عنكم... الكلام إلى
منتهاه، معناه أنه ليس يرضى عنكم بالاختلاف في الفتاوى
والأحكام، كما اختلف الأمم من قبلكم، فسخط اختلافهم قال سبحانه: "إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في
شيء". قوله: وزوارها ملائكته، قد ورد في هذا من الأخبار
كثير جداً، ورفقاؤها: رسله، من قوله تعالى: "وحسن
أولئك رفيقاً". وبنو سبيل:
أرباب طريق مسافرون، وأوذن فلان بكذا: أعلم. وآذنته:
أعلمته، وقد تقدم لنا كلام بالغ في التقوى وماهيتها وتأكيد وصاة الخالق سبحانه
والرسول عليه الصلاة والسلام بها. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
جاء في التقوى من أخبار
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
روى المبرد في الكامل
أن رجلاً قال لعمر بن الخطاب: اتق الله يا أمير المؤمنين فقال له رجل: أتألت على
أمير المؤمنين أي أتنتقصه فقال عمر: دعه، فلا خيرفيهم
إذا لم يقولوها، ولا خيرفينا إذا لم تقل لنا. ألا إن في حكم الله أنه من أكرمه الله، فاستهان
بأمره، أهانه الله. السعيد من وعظ بغيره، لا وعظك الله في نفسك وجعل عظتك في
غيرك، ولا جعل النيا عليك حسرة وندامة، برحمته. ولهزه: خالطه، ويقال
له حينئذ: ملهوز، ثم أشمط، ثم أشيب، ولهزت
القوم: خالطتهم ودخلت بينهم. والقتير:
الشيب، وأصله رؤوس المسامير في الدروع تسمى قتيراً، والتحمت
أطواق النار بالعظام: التفت عليها، وانضمت إليها، والتصقت بها، والجوامع: جمع جامعة، وهي الغل لأنها تجمع اليدين
إلى العنق. والسواعد:
جمع ساعد، وهو الذراع. والذل:
الذلة. واللغوب:
النصب. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أخبار وطرف
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ونظير قوله صلى
الله عليه وسلم: "استقرضكم
وله خزائن السموات والأرض"، ما رواه المبرد في
الكامل عن أبي عثمان المازني، عن أبي زيد الأنصاري، قال: وقف علينا
أعرابي في خلقة يونس النحوي، فقال: الحمد لله كما هو أهله، وأعوذ بالله أن اذكر
به وأنساه، خرجنا من المدينة، مدينة الرسول
صلى الله عليه وسلم ، ثلاثين رجلاً ممن أخرجته الحاجة،
وحمل على المكروه، ولا يمرضون مرضاهم، ولا يدفنون ميتهم، ولا ينتقلون من منزل
إلى منزل وإن كرهوه، والله يا قوم لقد جعت حتى أكلت النوى المحرق، ولقد مشيت حتى
انتعلت الدم، وحتى خرج من قدمي بخص ولحم كثير، أفلا رجل يرحم ابن سبيل وفل طريق،
ونضو سفر فإنه لا قليل من الأجر، ولا غنى عن ثواب الله، ولاعمل بعد الموت، وهو
سبحانه يقول: "من ذا الذي يقرض لله قرضاً حسناً"، ملي وفب ماجد واجد،
جواد لا يستقرض من عوز، ولكنه يبلو الأخيار. وخطب الحجاج: فقال:
أيها الناس، إنكم أغراض حمام وفرص هلكة. قد أنذركم القرآن، ونادى برحيلكم الجديدان . |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
خطبة لأبي الشخباء العسقلاني
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قلت: وقد شغف الناس في المواعظ بكلام
كاتب محدث، يعرف بابن أبي الشخباء العسقلاني وأنا أورد ههنا خطبة من مواعظه، هي
أحسن ما وجدته له، ليعلم الفرق بين الكلام الأصيل والمولد:
أيها الناس، فكلوا أنفسكم من حلقات الآمال المتعبة، وخففوا ظهوركم من الآصار
المستحقبة، ولا تسيموا أطماعكم في رياض الأماني المتشعبة، ولا تميلوا صغواكم إلى
زبارج الدنيا المحببة، فتظل أجسامكم في هشائمها عاملة نصبة، أما علمتم أن طباعها
على الغدر مركبة، وأنها لأعمار أهلها منتهبة، ولما ساءهم منتظرة مرتقبة، في
هبتها راجعة متعقبة، فانضوا رحمكم الله ركائب الاعتبار مشرقة ومغربة، وأجروا
خيول التفكر مصعدة ومصوبة، هل تجدون إلا قصوراً على عروشها خربة، ودياراً معطشة
من أهلها مجدبة أين الأمم السالفة المتشعبة، والجبابرة الماضية المتغلبة،
والملوك المعظمة المرجبة، أولو الحفدة والحجبة، والزخارف المعجبة، والجيوش
الجرارة اللجبة والخيام الفضفاضة المطنبة، والجياد الأعوجية المجنبة، والمصاعب
الشدقمية المصحبة، واللدان المثقفة المدربة، والماذية الحصينة المنتخبة، طرقت
والله خيامهم غير منتهبة، وأزارتهم من الأسقام سيوفاً معطبة، وسيرت إليهم الأيام
من نوبها كتائب مكتبة، فأصبحت أظفار المنية من فهجهم قانية مختضبة، وغدت أصوات
النادبات عليهم مجلبة، وأكلت لحومهم هوام الأرض السغبة. ثم إنهم مجموعون ليوم لا يقبل فيه عذر ولا معتبة،
وتجازى كل نفس بما كانت مكتسبة، فسعيدة مقربة تجري من تحتها الأنهار مثوبة،
وشقية معذبة في النار مكبكبة. هذه أحسن خطبة خطبها هذا الكاتب، وهي كما تراها ظاهرة التكلف، بينة التوليد، تخطب على نفسها،
وإنما ذكرت هذا، لأن كثيراً من أرباب الهوى يقولون: إن
كثيراً من نهج البلاغة كلام محدث، صنعه قوم من
فصحاء الشيعة، وربما عزوا بعضه إلى الرضي
أبي الحسن وغيره، وهؤلاء قوم أعمت العصبية أعينهم، فضلوا عن النهج الواضح
وركبوا بنيات الطريق، ضلالاً وقلة معرفة بأساليب الكلام، وأنا أوضح لك بكلام مختصر ما في هذا الخاطر من الغلط
فأقول. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
رأي للمؤلف في كتاب نهج البلاغة
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لا يخلو إما أن يكون كل
نهج البلاغة مصنوعاً منحولاً، أو بعضه. والأول باطل بالضرورة لأنا نعلم بالتواتر صحة إسناد بعضه
إلى أمير المؤمنين صلى الله عليه وسلم، وقد نقل
المحدثون كلهم أو جلهم، والمؤرخون كثيراً منه، وليسوا
من الشيعة لينسبوا إلى غرض في ذلك. والثاني يدل على ما قلناه، لأن من قد أنس بالكلام والخطابة، وشدا
طرفاً من علم البيان، وصار له ذوق في هذا الباب لا بد أن يفرق بين الكلام الركيك
والفصيح، وبين الفصيح والأفصح، وبين الأصيل والمولد، وإذا وقف على كراس واحد
يتضمن كلاماً لجماعة من الخطباء، أو لاثنين منهم فقط، فلا
بد أن يفرق بين الكلامين، ويميز بين الطريقتين، ألا ترى أنا مع معرفتنا
بالشعر ونقده، لو تصفحنا ديوان أبي تمام،
فوجدناه قد كتب في أثنائه قصائد أو قصيدة واحدة لغيره، لعرفنا بالذوق مباينتها
لشعر أبي تمام ونفسه، وطريقته ومذهبه في القريض،
ألا ترى أن العلماء بهذا الشأن حذفوا من شعره قصائد كثيرة منحولة إليه،
لمباينتها لمذهبه في الشعر، وكذلك حذفوا من
شعر أبي نواس شيئاً كثيراً، لما ظهر لهم أنه ليس من ألفاظه، ولا من شعره،
وكذلك غيرهما من الشعراء ولم يعتمدوا في ذلك إلا
على الذوق خاصة. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن كلام له قاله للبرج بن مسهر الطائي
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وقد قال له بحيث يسمعه: "لا حكم إلا
لله"، وكان من الخوارج: الأصل: أسكت قبحك الله يا أثرم، فو الله لقد ظهر الحق
فكنت فيه ضئيلاً شخصك، خفياً صوتك، حتى إذا نعر الباطل، نجمت نجوم قرن الماعز. شاعر مشهور من شعراء الخوارج،
نادى بشعارهم بحيث يسمعه أمير المؤمنين رضي
الله عنه، فزجره. وكان البرج ساقط الثنية، فأهانه بأن دعاه به، كما
يهان الأعور بأن يقال له: يا أعور. ونجم:
طلع، أي طلع بلا شرف ولا شجاعة، ولا قدم، بل على غفلة، كما ينبت قرن الماعز. وهذا من باب البديع، وهو أن يشبه الأمر يراد إهانته
بالمهين، ويشبه الأمر يراد إعظامه بالعظيم، ولو كان قد تكلم في شأن ناجم يريد
تعظيمه، لقال: نجم نجوم الكوكب من تحت الغمام، نجوم نور الربيع من الأكمام،
ونحوذلك. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن خطبة له فى وصف المتقين |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: روي أن
صاحباً لأمير المؤمنين رضي الله عنه يقال
له همام، كان رجلاً عابداً، فقال له: يا أمير
المؤمنين: صف لي المتقين حتى كأني أنظر إليهم، فتثاقل رضي الله عنه عن
جوابه، ثم قال: يا همام أتق لله وأحسن: ف "إن
الله مع الذين أتقوا والذين هم محسنون". غضوا أبصارهم عما حرم الله عليهم، ووقفوا أسماعهم
على العلم النافع لهم نزلت أنفسهم منهم في البلاء، كالذي نزلت في الرخاء لولا
الأجل الذي كتب الله لهم لم تستقر أرواحهم في أجسادهم طرفة عين، شوقاً إلى
الثواب، وخوفاً من العقاب. تجارة مربحة، يسرها لهم ربهم. أرادتهم الدنيا فلم
يريدوها، وأسرتهم ففدوا أنفسهم منها. قلت: كأنه لم ير
في بادىء الحال شرح صفات المتقين على التفصيل، فقال
لهمام: ماهية التقوى معلومة في الجملة، فاتق الله وأحسن، فإن الله قد وعد
في كتابه أن يكون ولياً وناصراً لأهل التقوى والإحسان، وهذا
كما يقول لك قائل: ما صفات الله الذي أعبده أنا والناس؟ فتقول له: لا
عليك ألا تعرف صفاته مفصلة، بعد أن تعلم أنه خالق العالم، وأنه واحد لا شريك له فلما أبى همام إلا الخوض فيما سأله على وجه التفصيل،
قال له: إن الله تعالى خلق الخلق حين خلقهم، ويروى، حيث خلقهم وهو غني عن
طاعتهم: لأنه ليس بجسم فيستضر بأمر أو ينتفع به، وقسم بين الخلق معايشهم، كما
قال سبحانه: "نحن قسمنا بينهم معيشتهم في
الحياة الدنيا". |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
في فضل الصمت وآفات اللسان
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
واعلم أن القول في خطر الكلام وفضل الاقتصار في
المنطق وسيع جداً، وقد ذكرنا منه طرفاً فيما تقدم، ونذكر الآن منه طرفاً آخر. وكان يقال: من علم أن كلامه من عمله، أقل كلامه
فيما لا ينفعه. وقال الآخر:
إذا تكلمت بالكلمة ملكتني، ولم أملكها، وإذا لم أتكلم ملكتها ولم تملكني. وقال الآخر:
عجبت للمتكلم، إن رجعت عليه كلمته ضرته، وإن لم ترجع لم تنفعه، وقال الرابع: أنا على رد ما لم أقل أقدر مني على رد ما
قلت. واعلم أن آفات اللسان كثيرة: فمنها الكلام فيما لا يعنيك، وهو أهون آفات اللسان،
ومع ذلك فهو عيب، قال النبي صلى الله عليه
وسلم:
"من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه". ولا تمار حليماً ولا سفيهاً، فإن الحليم
يقليك ، والسفيه يؤذيك. واذكر أخاك إذا تغيب عنك بما تحب أن يذكرك به،
وأعفه عما تحب أن يعفيك عنه. واعمل عمل رجل يرى أنه مجازى بالإحسان،
مأخوذ بالجرائم. ومقامات
الفساق، وإليه الإشارة بقوله تعالى: "وكنا
نخوض مع الخائضين". وكان رسول
الله صلى الله عليه وسلم يلبس اللين
تارة، والخشن آخرى. قوله: "نزلت أنفسهم منهم في البلاء، كالذي نزلت في
الرخاء"،
يعني أنهم قد طابوا نفساً في البلاء والشدة كطيب أنفسهم بأحوالهم في الرخاء
والنعمة، وذلك لقلة مبالاتهم بشدائد الدنيا ومصائبها، وتقدير
الكلام من جهة الإعراب: نزلت أنفسهم منهم في حال البلاء نزولاً كالنزول
الذي نزلته منهم في حال الرخاء، فموضع كالذي نصب، لأنه صفة مصدر محذوف، والموصول
قد حذف العائد إليه، وهو الهاء في نزلته كقولك:
ضربت الذي ضربت، أي ضربت الذي ضربته. ثم قال رضي الله عنه: "إنهم من شدة شوقهم إلى الجنة،
ومن شدة خوفهم من النار تكاد أرواحهم أن تفارق أجسادهم، لولا أن الله تعالى ضرب
لهم آجالاً ينتهون إليها. والواو
في "الجنة" واو مع، وقد روي بالعطف بالرفع على أنه معطوف على هم،
والأول أحسن. وروي:
تجارة مربحة"، بالنصب على أنه مصدر محذوف الفعل.
وقال آخر:
ثم
ذكر أنهم إذا مروا بآية فيها ذكر الثواب مالوا إليها، واطمأنوا بها، طمعاً في
نيله، وتطلعت أنفسهم إليها شوقاً، أي اشرأبت. وقال:
"إن هذه القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد، قيل:
فما جلاؤها؟ قال: "تلاوة القرآن وذكر
الموت، وقال رضي الله عنه: "إن الله
سبحانه لأشد أذناً إلى قارىء القرآن من صاحب القينة إلى قينته، وقال الحسن رحمه الله: ما دون القرآن من غنى، ولا بعد القرآن من فاقة. ثم ذكر ما هم عليه من الخوف، فقال رضي الله عنه: إن خوفهم قد براهم بري القداح، وهي
السهام، وآحدها قدح، فينظر إليهم الناظر فيحسبهم مرضى وما بهم من مرض، نظيرهذا قول الشاعر:
ويقال للمتقين لشدة خوفهم: كأنهم مرضى، ولا مرض بهم. وتقول العرب للكرام من الناس،
القليلي المأكل والمشرب، رافضي اللباس الرفيع، ذوي الأجسام النحيفة: مراض من غير
مرض، ويقولون أيضاً للمرأة ذات الطرف الغضيض الفاتر، ذات الكسل: مريضة من
غيرمرض، قال الشاعر:
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ما قيل في الخوف،
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
واعلم أن الخوف مقام جليل من مقامات العارفين، وهو أحد الأركان التي هي أصول هذا
الفن، وهو التقوى التي حث الله تعالى عليها، وقال:
إن أكرم الناس عنده أشدهم خوفاً له، وفي هذه الآية وحدها كفاية، وإذا نظرت
القرآن العزيز وجدت أكثره ذكر المتقين، وهم الخائفون، وقال
النبي صلى الله عليه وسلم: "من خاف الله خافه كل شيء، ومن خاف غير
الله خوفه الله من كل شيء".
ثم قال:ومن
أعمالهم مشفقون، أي مشفقون من عباداتهم ألا تقبل، وإلى
هذا نظر أبو تمام، فقال:
ومثل قوله:
"أنا أعلم بنفسي من غيري". قوله رضي الله عنه لمن زكاه نفاقاً: أنا دون ما تقول، وفوق ما في نفسك. يبيت حذراً، ويصبح فرحاً، حذرا لما حذر من الغفلة، وفرحاً بما
أصاب من الفضل والرحمة. قرة عينه فيما لا يزول، وزهادته فيما
لا يبقى، يمزج الحلم بالعلم، والقول بالعمل، تراه قريباً أمله، قليلاً زلفه،
خاشعاً قلبه، قانعة نفسه، منزوراً أكله، سهلاً أمره، حريزاً دينه، ميتة شهوته،
مكظوماً غيظه. الخير منه مأمول، والشر منه مأمون، إن كان فيم الغافلين كتب في
الذاكرين، وإن كان في الذاكرين لم يكتب من الغافلين. قوله:
وقصداً في "غنى" حرف الجر متعلق بمحذوف، أي هومقتصد مع كونه غنياً،
وليس يجوزأن يكون متعلقاً بالظاهر، لأنه لا معنى لقولك: اقتصد في الغنى، إنما
يقال: اقتصد في النفقة، وذلك الاقتصاد موصوف بأنه مقارن للغنى ومجامع له. واستثنى في خمسة أمور: "وهي
الإغناء، والإجابة، والرزق، والمغفرة، والتوبة. وقال: "واذكر ربك
في نفسك تضرعاً وخيفة، وقال: "ولذكر
الله أكبر". وقال صلى الله عليه وسلم "ما
جلس قوم مجلساً يذكرون الله تعالى إلا حفت بهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، وذكرهم
الله فيمن عنده" قوله صلى الله عليه وسلم:
"يبيت
حذراً ويصبح فرحاً، حذراً لما خذر من الغفلة، وفرحاً بما أصاب من الفضل
والرحمة". وقد تقدم ذكر الخوف. ويمكن أن يحمل على أنه فرح بما يرجوه من ثواب الله
ونعيمه، لذا استدل على وصوله إليه وقوي ظنه بظفره به، بما عجل الله تعالى له من
الفضل والرحمة في الدنيا، ومقام الرجاء للعارفين مقام شريف، وهو في مقابلة مقام
الخوف، وهو المقام الذي يوجد العارف فيه فرحاً، قال الله تعالى: "إن الذين يتلون كتاب الله وأقافوا الصلاة وأنفقوا
مما رزقناهم سراً وعلانيةً يرجون تجارةً لن تبور" . وقال النبي صلى
الله عليه وسلم: حكايةً عن الله تعالى:
"أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء". ودخل صلى
الله عليه وسلم على رجل من
أصحابه، وهو يجود بنفسه، فقال: كيف تجدك؟ قال:
أجدني أخاف ذنوبي، وأرجو رحمة ربي. فقال صلى الله عليه وسلم:
"ما اجتمعا في قلب عبد في هذا الموطن إلا أعطاه الله ما رجاه، وأمنه مما
خافه". قوله صلى الله عليه وسلم: "إن استصعبت عليه نفسه"، أي صارت صعبة غيرمنقادة، يقول: إذا لم تطاوعه نفسه إلى ما هي كارهة
له لم يعطها مرادها فيما تحبه. قوله صلى الله عليه وسلم: "قرة عينه فيما لا يزول، وزهادته فيما لا يبقى"، يقال للفرح المسرور: إنه لقرير العين، وقرت عينه تقر، والمراد بردها، لأن دمعة السرور باردة ودمعة
الحزن حارة. وهذا الكلام يحتمل أمرين: أحدهما أن يعني بما لا يزول البارىء سبحانه، وهذا مقام شريف جداً
أعظم من سائر المقامات، وهوحب العارف لله سبحانه، وقد
أنكره قومٌ فقالوا: لا معنى لمحبة البارىء إلا المواظبة على طاعته، ونحوه قول أصحابنا المتكلمين: إن محبة الله تعاك للعبد
هي إرادته لثوابه، ومحبة العبد للبارىء هي إرادته لطاعته، فليست المحبة عندهم
شيئاً زائداً على الإرادة ولا يجوز أن تتعلق بذات الله سبحانه، لأن الإرادة لا
تتعلق إلا بالحدوث، وخالفهم شيخنا أبو الحسن، فقال:
إن الإرادة يمكن أن تتعلق بالباقي، ذكر ذلك في الكلام في الأكوان في أول التصفح،
فأما إثبات الحب في الجملة فقد نطق به القرآن قال سبحانه: "يحبهم ويحبونه" . وقال أيضاً: "والذين
آمنوا أشد حباً لله" وقال: "إن
كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله" . وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى مصعب بن
عميرمقبلاً وعليه إهاب كبشٍ قد تمنطق به، فقال: "انظروا إلى الرجل الذي قد نور الله قلبه، لقد رأيته
بين أبوين يغذوانه بأطيب الطعام والشراب، فدعاه حب الله ورسوله إلى ما ترون".
ويقال:
إن عيسى عليه السلام مر بثلاثة نفر قد نحلت أبدانهم، وتغيرت ألوانهم، فقال: ما الذي بلغ بكم ما أرى؟ قالوا: الخوف من النار، قال: حق على الله أن يؤمن
من يخافه، ثم جاوزهم إلى ثلاثة آخرين، فإذا هم
أشد نحولاً وتغيراً، فقال: ما الذي بلغ بكم
ما أرى؟ قالوا: الشوق إلى الجنة، فقال: حق على الله أن يعطي من رجاه. ثم مر إلى ثلاثة
آخرين، فإذا هم أشد نحولاً، وعلى وجوههم، مثل المرائي من النور، فقال: ما الذي بلغ بكم ما أرى؟ قالوا: حب الله عز وجل، فقال: أنتم المقربون،
ثلاثاً.
ليس يريد
بكشف الحجب والرؤية ما يظنه الظاهريون من أنها الإبصار
بالعين، بل المعرفة التامة، وذلك لأن المعارف النظرية يصح أن تصير ضرورية
عند جمهور أصحابنا، فهذا أحد محملي الكلام. وثانيهما:
أن يريد بما لا يزول، نعيم الجنة، وهذا أدون المقامين، لأن الخلص من العارفين
يحبونه ويعشقونه سبحانه لذاته، لا خوفاً من النار، ولا شوقاً إلى الجنة، وقد قال
بعضهم: لست أرضى لنفسي أن أكون كأجير السوء، إن دفعت إليه الأجرة رضي وفرح، وإن
منعها سخط وحزن، إنما أحبه لذاته. وقال بعض شعرائهم
شعراً من جملته:
وقد جاء في كلام أميرالمؤمنين رضي الله عنه،
من هذا الكثير، نحو قوله: "لم أعبده خوفاً ولا طمعاً، لكني وجدته أهلاً
للعبادة فعبدته" قوله صلى الله عليه وسلم: "يمزج الحلم
بالعلم"،
أي لا يحلم إلا عن علم بفضل الحلم ليس كما يحلم الجاهلون. قوله: "والقول
بالعمل "، أي لا يقتصر على القول، ومثل هذا
قول الأحوص:
قوله صلى الله عليه وسلم: "تراه قريباً أمله"، أي ليست نفسه متعلقة بما عظم
من آمال الدنيا، وإنما قصارى أمره أن يؤمل القوت والملبس. قليلاً زلله:
أي خطؤه. قوله:
"منزوراً أكله "، أي قليلاً، ويحمد من الإنسان الأكل النزر، قال أعشى باهلة:
وقال متمم بن نويرة:
قوله صلى الله عليه وسلم: "مكظوماً غيظه " كظم الغيظ من الأخلاق الشريفة، قال زيد بن علي رضي الله عنه: "ما سرني بجرعة غيظٍ أتجرعها وأصبرعليها حمر
النعم". وجاء رجل إلى الربيع بن زياد الحارثي، فقال: يا أبا عبد الرحمن، إن فلاناً يغتابك
وينال منك، فقال: والله لأغيظن من أمره بذلك، قال الرجل: ومن أمره؟ قال: الشيطان عدو الله، استغواه ليؤثمه، وأراد أن يغضبني عليه فأكافئه، والله
لا أعطيه ما أحب من ذلك. غفر الله لنا وله. وجهل إنسان على عمر بن عبد العزيز، فقال: أظنك أردت أن يستفزني الشيطان بعز السلطان، فأنال منك
اليوم ما تناله مني غداً انصرف عافاك الله. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الغضب يفسد الإيمان، كما يفسد الصبر
العسل ". وقال
إنسان لرسول الله صلى الله عليه وسلم أوصنى،
فقال: "لا تغضب"، فأعاد عليه
السؤال، فقال: "لا تغضب"، فقال:
زدني، فقال: "لا أجد مزيداً". ومن كلام بعض الحكماء لا يفي عز الغضب بذلة الاعتذار. قوله: "إن
كان في الغافلين"، معناه أنه لا يزال ذاكر الله تعالى، سواء كان
جالساً مع الغافلين أو مع الذاكرين، أما إذا كان مع الغافلين فإنه يذكر الله
بقلبه، وأما إذا كان مع الذاكرين فإنه يذكره بقلبه ولسانه. قوله صلى الله عليه وسلم: "يعفو عمن ظلمه، ويعطي من حرمه،
ويصل من قطعه"، من كلام المسيح عليه السلام في
الإنجيل: "أحبوا أعداءكم، وصلوا قاطعيكم، واعفوا عن ظالميكم،
وباركوا علي لأعينكم، لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماء، الذي تشرق شمسه
على الصالحين والفجرة، وينزل مطره على المطيعين والأثمة". قوله صلى الله عليه وسلم: "بعيداً فحشه "، ليس يعني
به أنه قد يفحش تارة، ويترك الفحش تارات، بل لا فحش له أصلا، فكنى عن العدم
بالبعد، لأنه قريب منه. قوله: "ليناً قوله"، العارف بسام طلق الوجه، لين القول، وفي صفات النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس بفظ ولا صخاب". قوله: "في الزلازل
وقور"، أي
لا تحركه الخطوب الطارقة، ويقال: إن علي بن الحسين رضي الله عنه كان يصلي، فوقعت عليه حية، فلم يتحرك لها، ثم
انسابت بين قدميه فما حرك إحداهما عن مكانه، ولا تغيرلونه. قوله: " لا يحيف
على من يبغض"،
هذا من الأخلاق الشريفة النبوية، وفي كلام أبي بكر في
صفات من يصلح للإمامة: إن رضي لم يدخله رضاه في باطل، وإن غضب لم يخرجه
غضبه عن الحق. قوله:
"يعترف بالحق قبل أن يشهد عليه"، لأنه إن أنكرثم شهد عليه فقد
ثبت كذبه، وإن سكت ثم شهد عليه فقد أقام نفسه في مقام الريبة. قوله: "أولا ينابز
الألقاب"،
هذا من قوله تعالى: "ولا تنابزوا
بالألقاب" . قوله: "ولا يضار
بالجار"،
في الحديث المرفوع: "أوصاني ربي بالجار حتى ظننت أن يورثه". قوله: "ولا يشمت
بالمصائب"،
نظيرقول الشاعر:
قوله: "إن صمت لم يغمه صمته"، أي لا يحزن لفوات الكلام، لأنه يرى
الصمت مغنماً لا مغرماً. قوله: "وإن ضحك
لم يعل صوته "، هكذا كان يضحك وسول الله صلى الله عليه وسلم، أكثره
التبسم، وقد يفر أحياناً، ولم يكن من أهل القهقهة والكركرة. قوله: "وإن بغي
عليه صبر"، هذا
من قول الله تعالى: "ثم بغي عليه لينصرنه
الله" . قوله: "نفسه منه في عناء" لأنه يتعبها بالعبادة، والناس لا
يلقون منه عنتاً ولا أذى فحالهم بالنسبة إليه خلاف حال نفسه بالنسبة إليه. قوله: "فصعق
همام"، أغمي عليه ومات، قال الله تعالى: "فصعق
في لي السموات ومن في الأرض" . |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
بعض أحوال العارفين
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
واعلم أن
الوجد أمرٌ شريف، قد اختلف الناس فيه، فقالت الحكماء فيه أقوالاً، وقالت
الصوفية فيه أقوالاً، أما الحكماء فقالوا:
الوجد هو حالة تحدث للنفس عند انقطاع
علائقها عن المحسوسات بغتة، إذا كان قد ورد عليها وارد مشوق. وقال بعضهم: الوجد هو اتصال النفس بمبادئها
المجردة عند سماع ما يقتفي ذلك الاتصال. وأما الصوفية فقد قال بعضهم: الوجد رفع الحجاب، ومشاهدة
المحبوب. وحضور الفهم، وملاحظة الغيب، ومحادثة السر، وهو فناؤك من حيث أنت أنت. وقال بعضهم: الوجد
سر الله عند العارفين ومكاشفة من الحق توجب الفناء عن الحق. والأقوال فيه متقاربة في المعنى وإن
اختلفت العبارة، وقد مات
كثيرمن الناس بالوجد عند سماع وعظ، أو صفقة مطرب، والأخبار في
هذا الباب كثيرة جداً، وقد رأينا نحن في زماننا من مات بذلك فجأة. قوله: "كانت نفسه فيها"، أي مات. ونفث الشيطان على لسانك، أي تكلم بلسانك، وأصله النفخ بالفم، وهوأقل من التفل، وءإنما نهى
أمير المؤمنين القائل: "فهلا أنت يا أمير المؤمنين" لأنه اعترض في غيرموضع الاعتراض، وذلك أنه لا يلزم من
موت العامي عند وعظ العارف أن يموت العارف عند وعظ نفسه، لأن انفعال العامي ذي الاستعداد التام
للموت عند سماع المواعظ البالغة أتم من استعداد
العارف عند سماع كلام نفسه، أو الفكر في كلام نفسه، لأن نفس العارف قوية جداً، والآلة التي يحفر بها الطين
قد لا يحفر بها الحجر. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن خطبة له يصف فيها المنافقين
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: نحمده على ما
وفق له من الطاعة، وذاد عنه من المعصية، ونساله لمنته تماماً، ولحبله اعتصاماً. ونشهد أن محمداً عبده ورسوله، خاض إلى رضوان الله
كل غمرةٍ، وتجرع فيه كل غضةٍ، وقد تلون له الأدنون، وتألب عليه الأقصون، وخلعت
عليه العرب أعنتها، وضربت إلى محاربته بطون رواحلها، حتى أنزلت بساحته عداوتها،
من أبعد الدار، وأسحق المزار. أوصيكم عباد لله بتقوى الله، وأحذركم أهل النفاق،
فإنهم الضالون المضلون، والزالون المزلون، يتلونون ألواناً، ويفتنون افتناناً،
ويعمدونكم بكل عمادٍ، ويرصدونكم بكل مرصادٍ، قلوبهم دويةٌ، وصفاحهم نقيةٌ. يمشون الخفاء، ويدبون الضراء، وصفهم دواءٌ، وقولهم
شفاءٌ، وفعلهم الداء العياء، حسدة الرخاء، ومؤكدو البلاء، ومقنطو الرجاء. لهم
بكل طريق صريعٌ، وإلى كل قلب شفيعٌ، ولكل شجوٍ دموعٌ، يتقارضون الثناء،
ويتراقبون الجزاء، إن سألوا ألحفوا، وإن عذلوا كشفوا، وإن حكموا اسرفوا. قد أعدوا
لكل حق باطلاً، ولكل قائم مائلاً، ولكل حي قاتلاً، ولكل باب مفتاحاً، ولكل ليلٍ
مصباحاً، يتوصلون إلى الطمع باليأس ليقيموا به أسواقهم، وينفقوا به أعلاقهم،
يقولون فيشبهون، ويصفون فيموهون. قد هونوا الطريق، وأضلعوا المضيق، فهم لمة
الشيطان، وحمة النيران: "أولئك حزب الشيطان
ألا إن حزب ألشيطان هم الخاسرون" . الشرح:
الضمير في "له" وهو الهاء راجعٌ إلى "ما" التي بمعنى
"الذي"، وقيل: بل هو. راجع إلى
الله سبحانه، كأنه قال: "نحمده على ما وفق من طاعته"، والصحيح هو
الأول، لأن "له" في الفقرة الأولى
بإزاء "عنه" في الفقرة الثانية. والهاء في
"عنه" ليست عائدة إلى "الله" وذاد: طرد، والمصدر الذياد.
وخاض كل غمرة، مثل قولك: ارتكب كل مهلكة، وتفحم كل هول. والغمرة: ما ازدحم
وكثرمن الماء، وكذلك من الناس، والجمع غمار. والغصة: الشجا، والجمع غصص، وتلون له الأدنون:
تغير عليه أقاربه ألواناً، وتألب عليه الأقصون: تجمع عليه الأبعدون عنه نسباً،
وخلعت إليه العرب أعنتها، مثل، معناه أوجفوا إليه مسرعين لمحاربته، لأن الخيل
إذا خلعت أعنتها كان أسرع لجريها. وضربت إلى محاربته بطون رواحلها، كناية عن إسراع
العرب نحوه للحرب، لأن الرواحل إذا ضربت بطونها لتساق كان أوحى لها، ومراده أنهم
كانوا فرساناً وركباناً. قوله: "حتى أنزلت بساحته عداوتها"،
أي حربها، فعبر عنها بالعداوة، لأن العداوة سبب الحرب، فعبر بالسبب عن المسبب،
ما زلنا نطأ السماء حتى أتيناك، يعنون الماء، لما كان اعتقادهم أن السماء سبب
الماء. والمزار: المكان الذي يزار منه، أو المكان الذى
يزار فيه، والمراد ههنا هو الأول ومن قرأ كتب
السيرة علم ما لاقى رسول الله صلى
الله عليه وسلم فى ذات الله سبحانه من
المشقة، واستهزاء قريش به في أول الدعوة، ورميهم إياه بالحجارة، حتى أدموا
عقبيه، وصياح الصبيان به، وفرث الكرش على رأسه، وفتل الثوب في عنقه وحصره
وحصرأهله في شعب بني هاشم سنين عدة، محرمة معاملتهم ومبايعتهم ومناكحتهم
وكلامهم، حتى كادوا يموتون جوعاً، لولا أن بعض من كان يحنو لرحم أو لسبب غيره،
فهو يسرق الشيء القليل من الدقيق أو التمر فيلقيه إليهم ليلاً، ثم ضربهم أصحابه
وتعذيبهم بالجوع والوثاق في الشمس، وطردهم إياهم عن شعاب مكة، حتى خرج من خرج
منهم إلى الحبشة، وخرج علنه مستجيراً منهم تارة بثقيف، وتارة ببني عامر، وتارة
بربيعة الفرس، وبغيرهم. ثم أجمعوا على قتله والفتك به ليلاً، حتى هرب
منهم لائذاً بالأوس والخزرج، تاركاً أهله وأولاده، وما حوته يده، ناجياً بحشاشة
نفسه، حتى وصل إلى المدينة، فناصبوه الحرب ورموه بالمناسر والكتائب، وضربما إليه
آباط الإبل، ولم يزل منهم في عناءٍ شديد، وحروب متصلة، حتى أكرمه الله تعالى
ونصره، وأيد دينه وأظهره. ومن له أنسٌ بالتواريخ يعلم من
تفاصيل هذه الأحوال ما يطول شرحه. سمي النفاق نفاقاً من النافقاء، وهي بيت اليربوع ، له
بابان يدخل من أحدهما ويخرج من الاخر، وكذلك
الذي يظهر ديناً ويبطن غيره. والضالون المضلون: الذين يضلون أنفسهم ويضلون غيرهم، وكذلك الزالون
المزلون، زل فلان عن الأمر، أي أخطأ، وأزله غيره. وقلب
دوٍ، بالتخفيف، أي فاسد، من داء أصابه، وامرأة دوية، فإذا
قلت: رجل دوى، بالفتح، استوى فيه المذكر والمؤنث والجماعة، لأنه مصدر في
الأصل، ومن روى: "دوية" بالتشديد،
على بعده، فإنما شدده ليقابل "نقية". والصفاح: جمع صفحة الوجه وهي ظاهره، يقول:
باطنهم عليل، وظاهرهم صحيح. يمشون
الخفاء، أي في الخفاء، ثم حذف الجار فنصب، وكذلك يدبون الضراء، والضراء: شجر
الوادي الملتف، وهذا مثل يضرب لمن يختل صاحبه، يقال: هويدب له الضراء ويمشي له
الخمر، وهو جرف الوادي. ثم قال: "وصفهم داء، وقولهم شفاء، وفعلهم
الداء العياء"، أي أقوالهم أقوال الزاهدين العابدين، وأفعالهم أفعال
الفاسقين الفاجرين. والداء العياء: الذي يعيي الأساة .
"ومقنطو الرجاء"، أي أهل الرجاء، أي يبدلون بشرورهم وأذاهم رجاء الراجي
قنوطاً. قوله: "وإلى
كل قلب شفيع "، يصف خلابة ألسنتهم وشدة ملقهم، فقد استحوذوا على
قلوب الناس بالرياء والتصنع. قوله: "ولكل شجودموع"، الشجو: الحزن، أي يبكون تباكياً وتعملاً لا حقاً، عند أهل
كل حزن ومصاب. يتقارضون
الثناء: أي يثني زيد على عمرو، ليثني عمرو عليه في ذلك المجلس، أو يبلغه فيثني
عليه في مجلس آخر، مأخوذ من القرض. ويتراقبون
الجزاء: يرتقب كل واحد منهم على ثنائه ومدحه لصاحبه جزاءً منه. إما بالمال أو
بأمر آخر، نحو ثناء يثني عليه، أو شفاعة يشفع له، أو نحوذلك. والإلحاف قي
السؤال: الاستقصاء فيه، وهو مذموم، قال الله
تعالى: "لا يسألون الناس إلحافاً" . قوله: "وإن
عذلوا كشفوا"، أي إذا عذلك أحدهم كشف عيوبك في ذلك اللوم والعذل،
وجبهك بها، وربما لا يستحي أن يذكرها لك بمحضر ممن لأ تحب ذكرها بحضرته، وليسوا
كالناصحين على الحقيقة، الذين يعرضون عند العتاب بالذنب تعريضاً لطيفاً ليقلع
الإنسان عنه. وإن حكموا أسرفوا، إذا سألك أحدهم ففوضته في
مالك أسرف ولم يقنع بشيء، وأحب الاستئصال. قد أعدوا لكل حق باطلاً، يقيمون
الباطل في معارضة الحق، والشبهة في مصادمة الحخة. ولكل دليلٍ قائم وقول صحيح
ثابت، احتجاجاً مائلاً مضاداً لذلك الدليل، وكلاماً مضطرباً لذلك القول. ولكل
باب مفتاحاً، أي ألسنتهم ذلقةٌ قادرةٌ على فتح المغلقات، للطف توصلهم، وظرف
منطقهم. ولكل
ليل مصباحاً، أي كل أمر مظلم فقد أعدوا له كلاماً ينيره ويضيئه، ويجعله كالمصباح
الطارد لليل. ويتوصلون
إلى مطامعهم بإظهار اليأس عما في أيدي الناس، وبالزهد في الدنيا. وفي الأثر:
شركم من أخذ الدنيا بالدين. ثم
قال: إنما فعلوا ذلك ليقيموا به أسواقهم، أي لتنفق لسعتهم. والأعلاق:
جمع علق، وهو السلعة الثمينة، يقولون فيشبهون، يوقعون الشبه في القلوب، ويصفون
فيموهمون، التمويه التريين، وأصله أن تطلي الحديدة بذهب يحسنها. قد
هيأوا الطريق، أي الطريق الباطل قد هيأوها بتمويهاتهم. وأضلعوا المضيق:
أمالوه، وجعلوه ضلعاً، أي معوجاً، أي جعلوا المسلك الضيق معوجاً بكلامهم
وتلبيسهم، فإذا أسلكوه إنساناً اعوج لاعوجاجه. واللمة:
بالتخفيف: الجماعة، والحمة بالتخفيف أيضاً: السم، وكنى عن إحراق النار بالحمة
للمشابهة في المضرة. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن خطبة له في ذكر بعض صفات الله
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: الحمد لله
الذي أظهر من اثار سلطانه، وجلال كبريائه، ما حير مقل العقول من عجائب قدرته،
وردع خطرات هماهم النفوس عن عرفان كنه صفته. وأشهد أن لا إله إلا الله، شهادة
إيمانٍ وإيقانٍ، وإخلاصٍ وإذعانٍ. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله وأعلام الهدى
دارسة، ومناهج الدين طامسةٌ، فصاع بالحق، ونصح للخلق، وهدى إلى الرشد، وأمر
بالقصد، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم واعلموا عباد الله، أنه لم يخلقكم عبثاً،
ولم يرسلكم هملاً، علم مبلغ نعمه عليكم، وأحصى إحسانه إليكم، فاستفتحوه
وأستنجحوه، وأطلبوا إليه وأستمنحوه، فما قطعكم عنه حجابٌ، ولا أغلق عنكم دونه
بابٌ. وإنه لبكل
مكانٍ، وفي كل حينٍ وأوانٍ، ومع كل إنس وجان، لا يثلمه العطاء، ولا ينقصه
الحباء، ولا يستنفده سائلٌ، ولا يستقصيه نائلٌ، ولا يلويه شخصٌ عن شخصٍ، ولا
يلهيه صوت عن صوت، ولا تحجزه هبةٌ عن سلب، ولا يشغله غضب عن رحمةٍ، ولا تولهه
رحمةٌ عن عقابٍ، ولا يجنه البطون عن الظهور، ولا يقطعه الظهور عن البطون. قرب فنأى، وعلا فدنا، وظهر فبطن، وبطن فعلن، ودان
ولم يدن. الشرح: أظهر سبحانه
من آثار سلطانه، نحو خلق الأفلاك ودخول بعضها في بعض، كالمميل الذي يشتمل على
المائل، وفلك التدوير وغيرهما، ونحو خلق الإنسان وما تدل كتب التشريح من عجيب
الحكمة فيه، ونحو خلق النبات والمعادن، وترتيب العناصر وعلاماتها، والآثار
العلوية المتجددة، حسب تجدد أسبابها، ما حير عقول هؤلاء، وأشعر بأنها إذا لم تحط
بتفاصيل تلك الحكم مع أنها مصنوعة، فالأولى ألا تحيط بالصانع الذي هو بريءٌ عن
المادة وعلائق الحس. والمقل: جمع مقلة:
وهي شحمة العين التي تجمع السواد والبياض، ومقلت
الشيء: نظرت إليه بمقلتي، وأضاف المقل إلى "العقول" مجازاً،
ومراده البصائر. وردع: زجر ودفع. وهماهم النفوس: أفكارها وما يهمهم به عند التمثيل
والروية في الأمر، وأصل الهمهمة، صوتٌث يسمع، لايفهم محصوله. والعرفان:
المعرفة، وكنه الشيء: نهايته وأقصاه. والإيقان: العلم القطعي وا لإذعان: الانقياد. والأعلام:
المنار والجبال يستدل بها في الطرقات. والمناهج: السبل الواضحة والطامسة كالدارسة. وصدع بالحق: بين، وأصله الشق يظهر ما تحته، ويقال:
نصحت لزيد، وهو أفصح من قولك: نصحت زيداً. قوله:
"فاستفتحوه"، أي اطلبوا منه الفتح عليكم والنصر لكم، واستنجحوه:
اطلبوا منه النجاح والظفر، واطلبوا إليه، أي اسألوه، يقال: طلبت إلى زيد كذا وفي
كذا، واستمنحوه، بكسر النون: اطلبوا منه المنحة، وهي العطية. ويروى: "واستميحوه" بالياء، استمحت
الرجل: طلبت عطاءه، ومحت بالرجل: أعطيته. والحباء: النوال ولا يستنفده، أي لا يفنيه، ولا
يستقصيه: لا يبلغ الجود أقمى مقدوره وإن عظم الجود، لأنه قادر على ما لا نهاية
له. ولا يلويه شخص عن شخص:
لا يوجب ما يفعله لشخص أو مع شخص إعراضاً وذهولاً عن شخص آخر، بل هو عالم
بالجميع، لا يشغله شأن عن شأن. لوى الرجل وجهه، أي أعرض وانحرف، ومثل هذا أراد
بقوله: "ولا يلهيه صوت عن صوت"، ألهاه كذا، أي شغله. ومثل هذا قوله:
"ولا يشغله غضب عن رحمة، ولا تولهه رحمة عن عقاب"، أي لا تحدث الرحمة
لمستحقها عنده ولهاً، وهو التحير والتردد، وتصرفه عن عقاب المستحق، وذلك لأن
الواحد منا إذا رحم إنساناً حدث عنده رقة، خصوصاً إذا توالت منه الرحمة لقوم
متعددين، فإنه تصير الرحمة كالملكة عنده فلا يطيق مع تلك الحال أن ينتقم،
والبارىء تعالى بخلاف ذلك، لأنه ليس بذي مزاج سبحانه. ولا يجنه البطون عن
الظهور، ولا يقطعه الظهور عن البطون، هذه كلها مصادر، بطن بالوناً أي خفي، وظهر
ظهوراً، أي تجلى، يقول: لا يمنعه خفاؤه عن العقول أن تدركه عند ظهوره بأفعاله
وإن لم يكن ظاهراً بذاته، و كذلك لا يقطعه ظهوره بأفعاله عن أن يخفى كنهه عن
إبصار العقول وإدراكها له، ويقال: اجتننت كذا،
أي سترته، ومنه الجنين، والجنة للترس، وسمي الجن جناً لاستتارهم. ثم أكد المعنى بعبارة اخرى،
قال: "وظهر فبطن، وبطن فعلن"، وهذا مثل الأول. ودان: غلب وقهر، ولم يدن: لم يقهر ولم يغلب. ثم قال: "لم
يذرأ الخلق باحتيال" أي لم يخلقهم بحيلة توصل بها إلى إيجادهم، بل أوجدهم
على حسب علمه بالمصلحة خلقاً مخترعاً من غير سبب ولا واسطة. قال: "ولا
استعان بهم لكلال"، أي لإعياء، أي لم يأمر المكلفين بالجهاد لحاجته في قهر
أعدائه، وجاحدي نعمته إليهم، وليس بكال ولا عاجز عن إهلاكهم، ولكن الحكمة اقتضت
ذلك، قال سبحانه: "ولولا دفع الله الناس بعضهم
ببعض لفسدت الأرض" ، أي لبطل التكليف.
ثم ذكر أن التقوى قوام الطاعات التي تقوم بها،
وزمام العبادات لأنها تمسك وتحضن، كزمام الناقة المانع لها من الخبط. والوثائق جمع وثيقة، وهي ما يوثق به. وحقائقها
جمع حقيقة، وهي الراية، يقال: فلان حامي الحقيقة. قوله:
"تؤل" بالجزم، لأنه جواب الأمر، أي ترجع. والأكنان: جمع كن و هو الستر. والدعة.
الراحة. السعة:
الجدة. والمعاقل: جمع معقل، وهو الملجأ. والحرز: الحفظ. وتشخص الأبصار: تبقى مفتوحة لا تطرف. والأقطار: الجوانب. والصروم: جمع صرم وصرمة، وهي القطعة من الإبل نحو
الثلاثين. والعشار: النوق أتى عليها من يوم أرسل الفحل فيها عشرة
أشهر فزال عنها اسم المخاض ولا يزال ذلك اسمها حتى تضع، والواحدة عشراء، وهذا من قوله تعالى: "وإذا العشار عطلت" ، أي تركت مسيبة مهملة لا يلتفت إليها أربابها، ولا
يحلبونها لاشتغالهم بأنفسهم. وتزهق كل مهجة:
تهلك وتبكم كل لهجة، أي تخرس، رجل أبكم وبكيم، والماضي بكم بالكسر. والشم الشوامخ: الجبال العالية، وذلها: تدكدكها، وهي أيضا الصم الرواسخ. فيصير صلدها وهو الصلب الشديد انصلابه سراباً، وهو
ما يتراءى في النهار فيظن ماءً، والرقراق: الخفيف. ومعهدها:
ما جعل منها منزلاً للناس. قاعاً:
أرضاً خالية، والسملق: الصفصف المستوي، ليس بعضه أرفع وبعضه أخفض. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن خطبة له عليه السلام يحث على العمل الصالح
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
بعثه حين لا علمٌ قائمٌ، ولا منارٌ ساطعٌ، ولا منهجٌ واضحٌ. أوصيكم
عباد الله بتقوى الله، وأحذركم الدنيا، فإنها دار شخوصٍ، ومحلة تنغيصٍ، ساكنها
ظاعنٌ، وقاطنها بائنٌ، تميد بأهلها ميدان السفينة، تقصفها العواصف في لجج
البحار، فمنهم الغرق الوبق، ومنهم الناجي على بطون الأمواج، تحفزه الرياخ
بأذيالها، وتحمله على أهوالها، فما غرق منها فليس بمستدركٍ، وما نجا منها فإلى
مهلكٍ. عباد
الله، الآن فاعلموا، والألسن مطلقةٌ، والأبدان صحيحةٌ، والأعضاء لدنةٌ، والمنقلب
فسيحٌ، والمجال عريضٌ، قبل إرهاق الفوت، وحلول الموت، فحققوا عليكم نزوله، ولا
تنتظروا قدومه. الشرح:
يقول: بعث الله سبحانه محمداً صلى الله عليه وسلم لما
لم يبق علمٌ يهتدي له المكلفون، لأنه كان زمان الفترة وتبدل المصلحة، واقتضاء
وجوب اللطف عليه سبحانه تجديداً لبعثته، ليعرف المبعوث المكلفين الأفعال التي
تقربهم من فعل الواجبات العقلية، وتبعدهم عن المقبحات الفعلية. والمنار الساطع: المرتفع. سطع الصبح سطوعاً: ارتفع،
ودار شخوص: دار رحلة شخص عن البلد: رحل عنه، والظاعن: المسافر. والقاطن: المقيم.
والبائن:
البعيد. يقول: ساكن الدنيا ليس بساكن على الحقيقة، بل
هو ظاعن في المعنى وإن كان في الصورة ساكناً، والمقيم بها مفارق، وإن ظن أنه
مقيم، وتميد بأهلها: تتحرك وتميل. والميدان: حركة واضطراب، وتصفقها العواصف:
تضربها بشدة، ضرباً بعد ضرب. والعواصف:
الرياح القوية. اللجج:
جمع لجة، وهي معظم البحر. ضرب
صلى الله عليه وسلم لأهل الدنيا مثلاً براكبي السفينة في البحر، وقد مادت بهم،
فمنهم الهالك على الفور، ومنهم من لا يتعجل هلاكه، وتحمله الرياح ساعة أو ساعات،
ثم مآله إلى الهلاك أيضاً. ثم
أمر صلى الله عليه وسلم بالعمل وقت الإمكان قبل ألا يمكن العمل، فكنى عن ذلك بقوله: والألسن منطلقة، لأن المحتضر يعتقل لسانه،
والأبدان صحيحة، لأن المحتضر سقيم البدن. والأعضاء لدنة، أي لينة، أي قبل الشيخوخة والهرم ويبس الأعضاء
والأعصاب. المنقلب فسيح، والمجال عريض، أي أيام الشبيبة
وفي الوقت والأجل مهلة، قبل أن يضيق الوقت عليكم. قبل إرهاق الفوت، أي قبل أن يجعلكم الفوت وهو
فوات الأمر وتعذر استدراكه عليكم مرهقين، والمرهق: الذي أدرك ليقتل، قال الكميت:
قوله:
"فحققوا عليكم نزوله، ولا تنتظروا قدومه"، أي اعملوا عمل من يشاهد
الموت حقيقة، لا عمل من ينتظره انتظاراً ويطاول الأوقات مطاولة، فإن التسويف
داعية التقصير. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن خطبة له مواقفه من الرسول
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: ولقد علم المستحفظون
من أصحاب محمد صلى ألله عليه وأله وصحبه،
أني لم أرد على الله ولا على رسوله ساعة قط، ولقد واسيته بنفسي في المواطن التي
تنكص فيها الأبطال، وتتأخر الأقدام، نجدة أكرمني الله بها. ولقد قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وإن رأسه
لعلى صدري، ولقد سالت نفسه في كفي، فأمررتها على وجهي. ولقد وليت غسله صلى الله عليه وأله
والملائكة أعواني، فضجت الدار والأفنية: ملأٌ يهبط، وملأٌ يعرج، وما فارقت سمعي
هينمةٌ منهم، تصلون عليه، حتى واريناه في ضريحه، فمن ذا أحق به مني حياً وميتاً
فانفذوا على بصائركم، ولتصدق نياتكم في جهاد عدوكم، فوالذي لا إله إلا هو إني
لعلى جادة الحق، وإنهم لعلى مزلة الباطل. أقول ما تسمعون، استغفز الله لي ولكم. الشرح: يمكن أن يعني بالمستحفظين
الخلفاء الذين تقدموا، لأنهم الذين استحفظوا الإسلام، أي جعلوا حافظين له
وحارسين لشريعته ولحوزته، ويجوز أن يعني به العلماء
والفضلاء من الصحابة، لأنهم استحفظوا الكتاب، أي كلفوا حفظه وحراسته. والظاهر أنه يرمز في قوله صلى الله عليه وسلم:
"لم أرد على الله، ولا على رسوله ساعة قط" إلى
أمور وقعت من غيره، كما جرى يوم الحديبية عند
سطر كتاب الصلح، فإن بعض الصحابة أنكر ذلك، وقال: يا رسول الله، ألسنا المسلمين؟ قال:
بلى، قال: أوليسوا الكافرين؟ قال: بلى، قال: فكيف نعطى
الدنية في ديننا فقال صلى الله عليه وسلم "إنما أعمل مما أومر له
" فقال قوم من الصحابة: الم يكن قد وعدنا
بدخول مكة وها نحن قد صددنا عنها ثم ننصرف بعد أن اعطينا الدنية في ديننا، والله
لو أجد أعواناً لم اعط الدنية أبداً، فقال أبو بكر لهذا
القائل: ويحك الزم غرزه ، فوالله إنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الله لا يضيعه. ثم قال له:
أقال لك: إنه سيدخلها هذا العام؟ قال: لا، قال: فسيدخلها. فلما فتح
النبي صلى الله عليه وسلم مكة،
وأخذ مفاتيح الكعبة دعاه فقال: هذا الذي وعدتم به. واعلم
أن هذا الخبر صحيحٌ لا ريب فيه، والناس كلهم رووه، وليس عندي بقبيحٍ ولا مستهجن
أن يكون سؤال هذا الشخص لرسول الله صلى
الله عليه وسلم عما سأله عنه على سبيل الاسترشاد، والتماساً لطمأنينة النفس،
فقد قال الله تعالى لخليله إبراهيم: "أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي" . وقد
كانت الصحابة تراجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى
الأمور، وتسأله عما يستبهم عليها وتقول له: أهذا منك أم
من الله؟ وقال له السعدان ، رحمهما الله يوم
الخندق، وقد عزم على مصالحة الأحزاب ببعض تمر
المدينة: أهذا من الله أم رأي رأيته من نفسك؟
قال: بل من نفسي، قالا: لا، والله لا نعطيهم منها تمرةً واحدة وأيدينا في مقابض
سيوفنا وقالت الأنصار له يوم بدر، وقد نزل بمنزلٍ لم
يستصلحوه، أنزلت هذا المنزل عن رأي رأيت أم بوحيٍ أوحي إليك؟ قال: بل عن رأي رأيته، قالوا: إنه
ليس لنا بمنزلٍ، أرحل عنه فانزل بموضع كذا. وأما
قول أبي بكر له: "الزم غرزه، فوالله إنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم"، فإنما هو تأكيد وتثبيت! على عقيدته التي في قلبه،
ولايدل ذلك على الشك، فقد قال الله تعالى لنبيه:
"ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً
قليلاً" ، وكل أحد لا يستغني عن زيادة اليقين والطمأنينة. وقد كانت وقعت من هذا القائل أمورٌ دون هذه القصة، كقوله: دعني أضرب عنق أبي سفيان. وقوله: دعني أضرب عنق عبد الله بن أبي، وقوله: دعني أضرب عنق حاطب بن أبي بلتعة. ونهي النبي صلى الله عليه وسلم عن
التسرع إلى ذلك، وجذبه ثوب رسول الله صلى
الله عليه وسلم حين قام
على جنازة ابن سلول يصلي، وقوله: كيف نستغفر لرأس المنافقين وليس في ذلك
جميعه ما يدل على وقوع القبيح منه، وإنما الرجل كان
مطبوعاً على الشدة والشراسة والخشونة، وكان يقول ما يقول على مقتضى السجية التي طبع عليها. وعلى أي حال كان، فلقد نال الإسلام بولايته وخلافته خيراً كثيراً. قوله صلى الله عليه وسلم:
"ولقد واسيته بنفسي"، يقال: واسيته وآسيته، وبالهمزة
أفصح، وهذا مما اختص محمد صلى الله عليه وسلم بفضيلته غير مدافع، ثبت معه يوم أحد وفر الناس، وثبت معه يوم حنين وفر الناس،
وثبت تحت رايته يوم خيبر حتى فتحها وفر من كان بعث بها من قبله. وروى
المحدثون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ارتث يوم أحد، قال
الناس: قتل محمد، رأته كتيبة من المشركين وهو صريع بين القتلى، إلا أنه
حيٌ، فصمدت له، فقال لعلي رضي الله عنه: اكفني هذه، فحمل عليها رضي الله عنه وقتل رئيسها، ثم صمدت له كتيبة اخرى، فقال: يا علي اكفني هذه، فحمل
عليها فهزمها، وقتل رئيسها، ثم صمدت له كتيبة ثالثة، فكذلك، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يقول: قال لي جبريل: يا محمد، إن هذه للمواساة، فقلت: وما
يمنعه وهو مني وأنا منه فقال جبريل: وأنا منكما. وروى المحدثون أيضاً
أن المسلمين سمعوا ذلك اليوم صائحاً من جهة
السماء ينادي: "لا سيف إلا ذو الفقار، ولا فتى إلا
علي " فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم لمن حضره: "ألا تسمعون هذا صوت جبريل". وأما يوم حنين فثبت معه في نفر
يسيرمن بني هاشم، بعد أن ولى المسلمون الأدبار،
وحامى عنه، وقتل قوماً من هوازن بين يديه، حتى ثابت
إليه الأنصار، وانهزمت هوازن وغنمت أموالها، وأما يوم خيبر فقصته مشهورة. قوله صلى الله عليه وسلم: "نجدةً أكرمني الله سبحانه بها"، النجدة،
الشجاعة، وانتصابها ههنا على أنها مصدر، والعامل فيه محذوف. ثم ذكر رضي الله عنه وفاة رسول الله رضي الله عنه، فقال: "لقد قبض وإن رأسه
لعلى صدري، ولقد سالت نفسه في كفي، فأمررتها على وجهي"، يقال: إن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قاء دماً يسيراً وقت موته، وإن علياً رضي الله عنه مسح لذلك الدم وحهه.
وقد
روي أن أبا طيبة الحجام شرب دمه رضي الله عنه وهو
حي، فقال له: إذن لا يجع بطنك. قوله رضي
الله عنه: "فضجت
الدار والأفنية"، أي النازلون في الدار من الملائكة، أي ارتفع ضجيجهم
ولجبهم، يعني أني سمعت ذلك ولم يسمعه غيري من أهل الدار. والملأ الجماعة، يهبط قوم من الملائكة ويصعد قوم. والعروج: الصعود. والهينمة:
الصوت الخفي. والضريح: الشق في القبر. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
خبر موت الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وقد روي من قصة وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه
عرضت له الشكاة التي عرضت، في أواخر صفر من سنة إحدى
عشرة للهجرة، فجهز جيش أسامة بن زيد، فأمرهم بالمسيرإلى البلقاء حيث أصيب زيد
وجعفر رضي الله عنهما من الروم، وخرج في تلك اللية إلى البقيع، وقال: إني قد
أمرت بالاستغفار عليهم، فقال رضي
الله عنه: السلام عليكم يا أهل القبور،
ليهنكم ما أصبحتم فيه مما الناس فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، يتبع أولها
آخرها، ثم استغفر لأهل البقيع طويلاً، ثم قال لأصحابه: إن
جبريل كان يعارضني القرآن في كل عام مرة، وقد
عارضني به العام مرتين، فلا أراه إلا لحضور أجلي. ثم انصرف إلى بيته، فخطب الناس في غده، فقال: معاشر
الناس، قد حان مني خفوق من بين أظهركم، فمن كان له عندي عدة، فليأتني أعطه
إياها، ومن كان له علي دين، فليأتني أقضه. أيها الناس،
إنه ليس بين الله وبين أحد نسب ولا أمر يؤتيه به خيراً، أو يصرف عنه شراً
إلا العمل، ألا لا يدعين مدعٍ ولا يتمنين متمنً.
والذي بعثني بالحق لا ينجي إلا عملٌ مع
رحمة، ولو عصيت لهويت. اللهم قد بلغت. ثم نزل فصلى
بالناس صلاة خفيفة، ثم دخل بيت أم سلمة، ثم انتقل إلى بيت عائشة يعلله النساء
والرجال، أما النساء فأزواجه وبنته رضي الله عنها، وأما الرجال فعلي رضي الله
عنه والعباس والحسن والحسين رضي الله عنهما، وكانا غلامين يومئذ، وكان الفضل بن العباس يدخل أحياناً إليهم، ثم حدث الاختلاف بين المسلمين أيام مرضه، فأول ذلك
التنازع الواقع يوم قال صلى
الله عليه وسلم: "ائتوني بدواة
وقرطاس"، وتلا ذاك حديث التخلف عن جيش أسامة، وقول عياش بن أبي ربيعة: أيولى هذا الغلام على جلة المهاجرين والأنصار ثم اشتد
به المرض، وكان عند خفة مرضه يصلي بالناس بنفسه، فلما
اشتد به المرض أمر أبا بكر أن يصلي بالناس. وقد اختلف في صلاته بهم،
فالشيعة تزعم أنه لم يصل بهم إلا صلاة واحدة،
وهي الصلاة التي خرج رسول الله صلى
الله عليه وسلم فيها يتهادى بين علي رضي الله عنه والفضل
فقام في المحراب مقامه، وتأخر أبو بكر. والصحيح عندي وهو الأكثر الأشهر
أنها لم تكن آخر صلاة في حياته صلى
الله عليه وسلم بالناس جماعة،
وأن أبا بكر صلى بالناس بعد ذلك يومين، ثم مات صلى الله عليه وسلم، فمن قائل يقول: إنه توفي لليلتين بقيتا من صفر، وهو القول الذي تقوله الشيعة، والأكثرون أنه توفي في شهر
ربيع الأول بعد مضي أيام منه. ثم اتفقوا على دفنه في البيت الذي قبض فيه، وصلوا عليه
أرسالاً لا يؤمهم أحد. وقيل: إن علياً رضي الله
عنه أشار بذلك فقبلوه. وأنا أعجب من ذلك،
لأن الصلاة عليه كانت بعد بيعة أبي بكر، فما الذي منع
من أن يتقدم أبو بكر فيصلي عليه إماماً وتنازعوا في تلحيده وتضريحه، فأرسل العباس عمه إلى أبي عبيدة بن الجراح وكان يحفر
لأهل مكة ويضرح على عادتهم رجلاً، وأرسل علي
رجلاً إلى أبي طلحة الأنصاري وكان يلحد لأهل المدينة على عادتهم وقال:
اللهم اختر لنبيك، فجاء أبوطلحة فلحد له، وأدخل في اللحد. وتنازعوا فيمن ينزل معه القبر، فمنع علي رضي الله عنه الناس أن ينزلوا معه، وقال: لا
ينزل قبره غيري وغير العباس، ثم أذن في نزول الفضل وأسامة بن زيد مولاهم، ثم ضجت الأنصار، وسألت أن
ينزل منها رجل في قبره، فأنزلوا أوس بن خولي وكان
بدرياً. فأما الغسل فإن علياً رضي الله عنه
تولاه بيده، وكان الفضل بن العباس يصب عليه الماء. وروى المحدثون عن علي رضي الله عنه، أنه قال: ما قلبت منه عضواً
إلا وانقلب، لا أجد له ثقلاً، كأن معي من يساعدني عليه، وما ذلك إلا الملائكة. وأما حديث الهينمة وسماع الصوت، فقد رواه خلق كثيرمن
المحدثين، عن علي رضي الله عنه، وتروي الشيعة أن علياً رضي الله عنه عصب عيني الفضل بن العباس، حين صب عليه الماء،
وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصاه
بذلك، وقال: إنه لا يبصر عورتي أحدٌ غيرك إلا عمي. قوله
رضي الله عنه: "فمن
ذا أحق به مني حياً وميتاً" انتصابهما على الحال من الضمير المجرور
في "به"، أي أي شخص أحق برسول الله صلى
الله عليه وسلم حال حياته
وحال وفاته مني ومراده من هذا الكلام، أنه أحق بالخلافة بعده وأحق الناس
بالمنزلة منه حيث كان بتلك المنزلة منه في الدنيا، وليس يجوز أن يكونا حالين من
الضمير المجرور في "مني" لأنه لا يحسن أن
يقول: أنا أحق به إذا كنت حياً من كل أحد، وأحق به إذا كنت ميتاً من كل
أحد، لأن الميت لا يوصف بمثل ذلك، ولأنه لا حال
ثبتت له من الأحقية إذا كان حياً إلا وهي ثابتة له إذا كان ميتاً، وإن كان الميت
يوصف بالأحقية، فلا فائدة في قوله. "وميتاً" على هذا الفرض، ولا يبقى
في تقسيم الكلام إلى قسمين فائدة، وأما إذا كان حالاً من الضميرفي
"به"، فإنه لا يلزم من كونه أحق بالمنزلة الرفيعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو
حي أن يكون أحق بالخلافة بعد وفاته، أي ليس أحدهما يلزم الآخر، فاحتاج إلى أن
يبين أنه أحق برسول الله صلى الله عليه وسلم من
كل أحد إن كان الرسول صلى الله عليه وسلم حياً،
وإن كان ميتاً، ولم يستهجن أن يقسم الكلام إلى
القسمين المذكورين. قوله صلى الله عليه وسلم:
"فانفذوا إلى بصائركم"، أي أسرعوا إلى الجهاد على عقائدكم التي أنتم
عليها، ولا يدخلن الشك والريب في قلوبكم. قوله صلى الله عليه وسلم: "إني لعلى جادة الحق، وإنهم لعلى مزلة الباطل "، كلام
عجيب على قاعدة الصناعة المعنوية، لأنه لا يحسن أن
يقول: وإنهم لعلى جادة الباطل، لأن الباطل لا يوصف بالجادة، ولهذا يقال لمن ضل: وقع في بنيات الطريق ، فتعوض
عنها بلفظ "المزلة"، وهي الموضع
الذي يزل فيه الإنسان، كالمزلقة: موضع
الزلق، والمغرقة: موضع الغرق، والمهلكة: موضع الهلاك. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن خطبة له في حث الناس علي التقوى
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: يعلم عجيج
الوحوش في الفلوات، ومعاصي العباد في الخلوات. واختلاف النينان في البحار
الغامرات، وتلاطم الماء بالرياح التعاصفات. وأشهد أن محمداً نجيب الله، وسفير
وحيه، ورسول رحمته. أما بعد،
فإني أوصيكم بتقوى الله الذي ابتدأ خلقكم، وإليه يكون معادكم، وبه نجاح طلبتكم،
وإليه منتهى رغبتكم، ونحوه قصد سبيلكم وإليه مرامي مفزعكم، فإن تقوى الله دواء
داء قلوبكم، وبصر عمى أفئدتكم، وشفاء مرض أجسادكم، وصلاح فساد صدوركم، وطهور دنس
أنفسكم، وجلاء غشاء أمحاركم، وأمن فزع جأشكم، وضياء سواد ظلمتكم. والنينان: جمع
نونٍ، وهو الحوت، واختلافها ههنا: هو
إصعادها وانحدارها. ونجيب الله:
منتجبه ومختاره، وسفير وحيه: رسول وحيه، والجمع سفراء،
مثل فقيه وفقهاء. وإليه مرامي مفزعكم: إليه تفزعون وتلجأون، ويقال: فلان مرمى قصدي، أي هو الموضع الذي أنحوه
وأقصده. ويروى: "وجلاء عشى أبصاركم "، بالعين
المهملة والألف المقصورة، والجأش: القلب، وتقدير الكلام: وضياء سواد ظلمة عقائدكم، ولكنه
حذف المضاف للعلم به. الأصل: فاجعلوا طاعة الله شعاراً دون دثاركم، ودخيلاً
دون شعاركم، ولطيفاً بين أضلاعكم، وأميراً فوق أموركم، ومنهلاً لحين وزودكم،
وشفيعاً لدرك طلبتكم، وجنة ليوم فزعكم، ومصابيح لبطون قبوركم، وسكناً لطول
وحشتكم، ونفساً لكرب مواطنكم، فإن طاعة الله حرز من متالف مكتنفة، ومخاوف
متوقعةٍ، وأوار نيرانٍ موقدةٍ. فمن أخذ بالتقوى عزبت عنة الشدائد بعد دنوها،
واحلولت له الأمور بعد مرارتها، وانفرجت عنه الأمواج بعد تراكمها، وأسهلت له
الصعاب بعد إنصابها، وهطلت عليه الكرامة بعد قحوطها. وتحدبت عليه الرحمة بعد
نفورها، وتفجرت عليه النعم بعد نضوبها، ووبلت عليه ألبركة بعد إرذاذها. فاتقوا
الله الذي نفعكم بموعظته، ووعظكم برسالته، وامتن عليكم بنعمته. فعبدوا أنفسكم لعبادته، وأخرجوا إليه من حق
طاعته. الشرح: الشعار: أقرب إلى الجسد من الدثار. والدخيل: ما خالط باطن الجسد، وهو أقرب من الشعار،
ثم لم يقتصر على ذلك حتى أمر بأن يجعل التقوى لطيفاً بين الأضلاع، أي في القلب،
وذلك أمس بالإنسان من الدخيل، فقد يكون الدخيل في الجسد وإن لم يخامر القلب. ثم قال: "وأميراً فوق أموركم"،
أي يحكم على أموركم كما يحكم الأمير في رعيته. والمنهل:
الماء يرده الوارد من الناس وغيرهم. وقوله: "لحين ورودكم"، أي لوقت ورودكم،
والطلبة بكسر اللام: ما طلبته من شيء. قوله: "ومصابيح لبطون قبوركم
"، جاء في الخبر: إن العمل الصالح يضيء قبر صاحبه كما
يضيء المصباح الظلمة، والسكن: ما يسكن إليه. قوله: "ونفساً لكرب
مواطنكم"، أي سعة وروحاً، ومكتنفة: محيطة. ولأوار: حر النار والشمس، وعزبت: بعدت. واحلولت: صارت حلوة. وتراكمها:
اجتماعها وتكاثفها. وأسهلت:
صارت سهلة. بعد إنصابها، أي بعد إتعابها لكم، أنصبته: أتعبته. وهطلت: سالت. وقحوطها:
قلتها ووتاحتها ، وتحدبت عليه: عطفت وحنت، نضوبها: انقطاعها. كنضوب الماء: ذهابه. ووبل المطر: صار وابلاً، وهو أشد المطر وأكثره. وإرذاذها: إتيانها بالرذاذ وهو ضعيف المطر. قوله: "فعبدوا أنفسكم"، أي ذللوها. ومنه طريق معبد. واخرجوا إليه من حق طاعته، أي
أدّوا المفترض عليكم من العبادة، يقال: خرجت إلى فلان من دينه، أي قضيته إياه. الأصل:
ثم إن هذا الإسلام دين الله الذي اصطفاه لنفسه، وأصطنعه على عينه، وأصفاه خيرة
خلقه، وأقام دعائمه على محبته. أذل الأديان بعزته، وضع الملل برفعه، وأهان أعداءه
بكرامته، وخذل محاديه بنصره، وهدم أركان الضلالة بركنه، وسقى من عطش من حياضه،
وأتأق الحياض بمواتحه. ثم جعله لا انفصام لغروته، ولا فك لحلقته، ولا
انهدام لأساسه، ولا زوال لدعائمه، ولا أنقلاع لشجرته، ولا أنقطاع لمدته، ولا
عفاء لشرائعه، ولا جذ لفروعه، ولا ضنك لالرقه، ولا وعوثة لسهولته، ولا سواد
لوضحه، ولا عوج لانتصابه، ولا عصل في عوده، ولا وعث لفجه، ولا انطفاء لمصابيحه،
ولا مرارة لحلاوته. فهو دعائم
أساخ في الحق أسناخها، وثبت لها أساسها، وينابيع غزرت عيونها، ومصابيح شبت
نيرانها، ومنارٌ أفتدى بها سفارها، وأعلام قصد بها فجاجها، ومناهل روي بها ورادها.
جعل الله فيه منتهى رضوانه، وذروة دعائمه، وسنام
طاعته، فهو عند الله وثيق الأركان، رفيع البنيان منير البرهان، مضيء النيران،
عزيز السلطان، مشرف المنار، معوذ المثار، فشرفوه واتبعوه، وأدوا إليه حقه، وضعوه
مواضعه. الشرح:
اصطنعه على عينه، كلمة تقال لمن يشتد الاهتمام به، تقول للصانع: اصنع لي كذا على
عيني، أي اصنعه صنعة كاملةً كالصنعة التي تصنعها وأنا حاضر أشاهدها بعيني، قال
تعالى: "ولتصنع على عيني" وأصفاه
خيرة خلقه، أي آثر به خيرة خلقه، وهم المسلمون، وياء: "خيرة" مفتوحة. قال: وأقام الله دعائم الإسلام على حب الله وطاعته.
والمحاد: المخالف، قال تعالي: "من يحادد الله" ، أي من يعاد الله كأنه
يكون في حد وجهه، وذلك الإنسان في حد آخر وجهة أخرى، وكذلك المشاق، يكون في شق
والآخر في شق آخر. وأتأق الحياض: ملأها، وتئق السقاء نفسه يتأق تاقاً،
وكذلك الرجل، إذا امتلأ غضباً. قوله: "بمواتحه"، وهي الدلاء يمتح بها،
أي يسقى بها، والانفصام: الانكسار. والعفاء: الدروس، والجذ: القطع، ويروى بالدال
المهملة، وهو القطع أيضاً، والضنك: الضيق. والوعوثة: كثرة في السهولة توجب صعوبة المشي، لأن
الأقدام تعيث في الأرض، والوضح: البياض، والعوج، بفتح العين: فيما ينتصب كالنخلة
والرمح، والعوج بكسرها: فيما لا ينتصب، كالأرض والرأي والدين. والعصل: الالتواء والاعوجاج، ناب أعصل وشجرة عصلة،
وسهام عصل. والفج: الطريق الواسع بين الجبلين، يقول: لا وعث
فيه، أي ليس طريق لإسلام بوعث، وقد ذكرنا أن الوعوثة ما هي. قوله:
"فهو دعائم أساخ في الحق أسناخها"، الأسناخ:
جمع سنخ، وهو الأصل، وأساخها في الأرض: أدخلها فيها، وساخت قوائم فرسه في الأرض
تسوخ وتسيخ: دخلت وغابت. والآساس بالمد: جمع أسى، مثل سبب وأسباب، والأسى والأس
والأساس واحد، وهو أصل البناء. وغزرت عيونها، بضم الزاي: كثرت. وشبت نيرانها بضم
الشين: أوقدت، والمنار: الأعلام في الفلاة. قوله: "قصد بها فجاجها"، أي قصد بنصب تلك
الأعلام اهتداء المسافرين في تلك الفجاج، فأضاف القصد إلى الفجاج. وروي: "روادها" جمع رائد، وهو الذي يسبق
القوم فيرتاد لهم الكلأ والماء. والذروة: أعلى السنام
والرأس وغيرهما. الأصل: ثم إن الله سبحانه بعث محمداً صلى الله عليه وأله وصحبه
بالحق، حين دنا من الذنيا الانقطاع، وأقبل من الآخرة الاطلاع، وأظلمت بهجتها بعد
إشراق، وقامت بأهلها على ساقٍ، وخشن منها مهادٌ، وأزف منها قياد، في انقطاع من
مدتها، واقتراب من أشراطها، وتصرمٍ من أهلها، وانفصامٍ من حلقتها وانتشارٍ من
سببها، وعفاءٍ من أعلامها، وتكشفٍ من عوراتها، وقصرٍ من طولها، جعلة الله سبحانه
بلاغاً لرسالته، وكرامةً لأمته، وربيعاً لأهل زمانه، ورفعةً لأعوانه، وشرفاً
لأنصاره. ثم أنزل عليه ألكتاب نوراً لا تطفأ مصابيحه،
وسراجاً لا يخبو توقده، وبحراً لا يدرك قعره، ومنهاجاً لا يضل نهجه، وشعاعاً لا
يظلم ضوءه، وفرقاناً لا يخمد برهانه، وتبياناً لا تهدم أركانه، وشفاءً لا تخشى
أسقامه، وعزاً لا تهزم أنصاره، وحقاً لا تخذل أعوانه، فهو معدن الإيمان
وبحبوحته، وينابيع العلم وبحوره، ورياض العدل وغدرانه، وأثافي الإسلام وبنيانه،
وأودية الحق وغيطانه، وبحر لا ينزفه المستنزفون، وعيونٌ لا ينضبها الماتحون،
ومناهل لا يغيضها الواردون، ومنازل لا يضل نهجها المسافرون، وأعلام لا يعمى عنها
السائرون، وإكامٌ لا يخوز عنها ألقاصدون. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ما قيل في عمر الدنيا
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الشرح: قوله صلى الله عليه وسلم: "حين دنا من الدنيا
الانقطاع "، أي أزفت الاخرة وقرب وقتها. وقد اختلف الناس في ذلك اختلافاً
شديداً فذهب قوم إلى أن عمر الدنيا خمسون ألف سنة، قد ذهب
بعضها وبقي بعضها. واختلفوا في مقدار الذاهب والباقي، واحتجوا لقولهم بقوله
تعالى: "تعرج الملائكة والروح إليه في يومٍ
كان مقداره خمسين ألف سنة" ، قالوا: اليوم هو إشارة إلى الدنيا،
وفيها يكون عروج الملائكة والروح إليه، واختلافهم بالأمر من عنده إلى خلقه، وإلى
رسله، قالوا: وليس قول
بعض المفسرين أنه عنى يوم القيامة بمستحسن، لأن يوم القيامة لا يكون
للملائكة والروح عروج إليه سبحانه، لانقطاع التكليف، ولأن المؤمنين إما أن يطول
عليهم ذلك اليوم بمقدار خمسين ألف سنة، أو يكون هذا مختصاً بالكافرين فقط، ويكون
قصيراً على المؤمنين، والأول باطل، لأنه أشد من
عذاب جهنم، ولا يجوز أن يلقى المؤمن هذه المشقة، والثاني
باطل، لأنه لا يجوز أن يكون الزمان الواحد طويلاً قصيراً بالنسبة إلى
شخصين، اللهم الا أن يكون أحدهما نائماً، أو
ممنوعاً بعلة تجري مجرى النوم، فلا يحس بالحركة، ومعلوم أن حال المؤمنين بعد
بعثهم، ليست هذه الحال. قالوا: وليست هذه الاية مناقضة للآية الأخرى، وهي
قوله تعالى: "يدبر الأمر من السماء إلى الأرض
ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنةٍ ئما تعدون" ، وذلك لأن
سياق الكلام يدل على أنه أراد به الدنيا، وذلك لأنه قد
ورد في الخبر أن بين الأرض والسماء مسيرة خمسمائة عام، فإذا نزل الملك
الى الأرض، ثم عاد إلى السماء، فقد قطع في ذلك اليوم مسيرة ألف عام، ألا ترى إلى
قوله: "يدبر الأمر من السماء إلى الأرض"،
أي ينزل الملك بالوحي والأمر والحكم من السماء إلى الأرض، ثم يعود راجعا
إليه وعارجاً صاعداً إلى السماء، فيجتمع من نزوله
وصعوده مقدار مسير ألف سنة. وذكر حمزة بن الحسن الأصفهاني في
كتابه المسمى "تواريخ الأمم" أن اليهود
تذهب إلى أن عدد السنين من ابتداء التناسل إلى سنة الهجرة لمحمد صلى الله عليه وسلم أربعة
آلاف واثنتان وأربعون سنة وثلاثة أشهر. والنصارى تذهب إلى أن عدد ذلك خمسة آلاف وتسعمائة
وتسعون سنة وثلاثة أشهر. وأن الفرس تذهب
إلى أن من عهد كيومرت والد البشر عندهم إلى هلاك يزدجرد بن شهريار الملك أربعة آلاف ومائة واثنتين وثمانين سنة وعشرة أشهر وتسعة عشر
يوماً، ويسندون ذلك إلى كتابهم الذي جاء به زردشت، وهو الكتاب المعروف بأبستا. وقيل: إن
اليهود إنما قصرت المدة لأنهم يزعمون أن شيخهم الذي هو
منتظرهم، يخرج في أول الألف السابع،
فلولا تنقيصهم المدة وتقصيرهم أيامها لتعجل افتضاحهم، ولكن سيفتضحون فيما بعد
عند من يأتي بعدنا من البشر. قال حمزة: وأما
المنجمون فقد أتوا بما يغمز هذا كله، فزعموا أنه قد مضى من الدنيا منذ أول يوم
سارت فيه الكواكب، من رأس الحمل إلى اليوم الذي خرج فيه المتوكل بن معتصم بن
الرشيد من سامراء إلى دمشق، ليجعلها دار الملك، وهوأول يوم من المحرم سنة أربع
وأربعين ومائتين للهجرة المحمدية، أربعة آلاف ألف ألف ألف ثلاث لفظات وثلاثمائة
ألف وعشرون ألف سنة، بسني الشمس. قالوا: والذي مضى من الطوفان إلى صبيحة اليوم الذي
خرح فيه المتوكل إلى دمشق ثلاث آلاف وسبعمائة وخمس وثلاثون سنة وعشرة أشهر
واثنان وعشرون يوماً. وذكر أبو الريحان البيروني في كتاب
"الاثار الباقية عن القرون الخالية" أن الفرس
والمجوس يزعمون أن عمر الدنيا اثنا عشر ألف سنة، على عدد البروج وعدد الشهور،
وأن الماضي منها إلى وقت ظهور زردشت صاحب شريعتهم ثلاثة آلاف سنة، وبين ابتداء
ظهور زردشت وبين أول تاريخ الإسكندر مائتان وثمان وخمسون سنة، وبين تاريخ
الإسكندر وبين سنته التي كتبنا فيها شرح هذا الفصل وهي
سنة سبع وأربعين وستمائة للهجرة النبوية ألف وخمسمائة وسبعون سنة، فعلى هذا يكون الماضي إلى يومنا هذا من أصل اثني عشر
ألف سنة أربعة آلاف وثمانمائة وثماني عشرة سنة، فيكون
الباقي من الدنيا على قولهم أكثرمن الماضي. وحكى
أبو الريحان عن الهند في بعض كتبه، أن مدة عمر الدنيا مقدار تضعيف الواحد من أول
بيت في رقعة الشطرنج إلى آخر البيوت. فأما الأخباريون من المسلمين،
فأكثرهم يقولون: إن عمر الدنيا سبعة آلاف سنة ويقولون
إننا في السابع، والحق أنه لا يعلم أحد هذا إلا الله
تعالى وحده، كما قال سبحانه: "يسألونك
عن الساعة أيان مرساها، فيم أنت من ذكراها إلى ربك منتهاها" ، وقال: "لا يجليها
لوقتها إلا هو ثقلت في السموات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة يسألونك كأنك حفيٌ
عنها قل إنما علمها عند الله" . ونقول مع ذلك كما ورد به الكتاب العزيز: "اقتربت الساعة" و "اقترب للناس
حسابهم" ، وأتى أمر الله فلاتستعجلوه" . ولا نعلم
كمية الماضي ولا كمية الباقي، ولكنا نقول كما أمرنا، ونسمع ونطيع كما أدبنا، ومن
الممكن أن يكون ما بقي قريباً عند الله، وغير قريب عندنا، كما قال سبحانه: "إنهم يرونه بعيداً ونراه قريباً" ، وبالجملة هذا موضع غامض يجب السكوت عنه. قوله صلى الله عليه وسلم: "وقامت بأهلها على
ساقٍ"، الضمير للدنيا، والساق الشدة، أي انكشفت عن شدة عظيمة. وقوله تعالى:
"والتفت الساق بالساق" أي التفت
آخر شدة الدنيا بأول شدة الاخرة، والمهاد: الفراش. وأزف منها
قياد، أي قرب انقيادها إلى التقصي والزوال، وأشراط الساعة: علاماتها، وإضافتها
إلى الدنيا لأنها في الدنيا تحدث، وإن كانت علامات لاخرى. والعفاء: الدروس. وروي: "من طولها" والطول: الحبل. ثم عاد إلى ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
جعله الله سبحانه بلاغاً لرسالته: أي ذا بلاع، والبلاع:
التبليغ، فحذف المضاف. ولا تخبو: لا تنطفىء. والفرقان:
ما يفرق به بين الحق والباطل، وأثافي الإسلام، جمع أثفية، وهي الأحجار توضع
عليها القدر، شكل مثلث، والغيطان: جمع غائط، وهو المطمئن من الأرض، ولا يغيضها،
بفتح حرف المضارعة، غاض الماء وغضته أنا، يتعدى ولا يتعدى، وروي "لا
يغيضها" بالضم على قول من قال: أغضت الماء، وهي لغة ليست بالمشهورة. والإكام:
جمع أكم، مثل جبال جمع جبل، والأكم جمع إكمة، مثل عنب جمع عنبة، والأكمة: ما علا من الأرض، وهي دون الكثيب"
. الأصل: جعله الله رياً لعطش العلماء، وربيعاً لقلوب
الفقهاء، ومحاج لطرق الصلحاء، ودواءً ليس بعده داءٌ، ونوراً ليسر معه ظلمة،
وحبلاً وثيقاً عروته، ومعقلاً منيعاً ذروته، وعزاً لمن تولاه، وسلماً لمن دخله،
وهدى لمن ائتم به، وعذراً لمن افتحله، وبرهاناً لمن تكلم به، وشاهداً لمن خاصم
به، وفلجاً لمن حاج به، وحاملاً لمن حمله، ومطيةً لمن أعمله، وأيةً لمن توسم،
وجنةً لمن استلأم، وعلماً لمن وعى، وحديثاً لمن روى، وحكماً لمن قضى. الشرح: الضمير يرجع
إلى القرآن، جعله الله رياً لعطش العلماء، إذا ضل العلماء في أمر والتبس عليهم
رجعوا إليه، فسقاهم كما يسقي الماء العطش، وكذا
القول في "ربيعاً لقلوب الفقهاء"، والربيع ههنا: الجدول، ويجوز
أن يريد المطر في الربيع، يقال: ربعت الأرض
فهي مربوعة، والمحاج: جمع محجة، وهي جادة الطريق. والمعقل: الملجأ، وسلماً لمن دخله، أي مأمناً،
وانتحله: دان به، وجعله نحلته. والبرهان:
الحجة، والفلج: الظفر والفوز. وحاج به:
خاصم. قوله صلى الله عليه وسلم: "وحاملاً
لمن حمله"، أي أن القرآن ينجي يوم القيامة من كان حافظاً له في الدنيا،
بشرط أن يعمل به. قوله صلى
الله عليه وسلم:
"ومطية لمن أعمله"، استعارة، يقول: كما أن المطية تنجي صاحبها إذا
أعملها وبعثها على النجاء، فكذلك القرآن إذا أعمله صاحبه أنجاه، ومعنى إعماله،
اتباع قوانينه والوقوف عند حدوده. قوله: "وآية لمن توسم"، أي لمن
تفرس، قال تعالى: "إن في ذلك لأيات
للمتوسمين" ، والجنة: ما يستتر به: واستلأم: لبس لأمة الحرب، وهي
الدرع، ووعى: حفظ. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال كان يوصي به أصحابه
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: تعاهدوا أمر
الصلاة، وحافظوا عليها و استكثروا منها، وتقربوا بها، فإنها كانت على المؤمنين
كتاباً موقوتاً. ألا تسمعون إلى جواب أهل النار حين سثلوا: "ما سلككم في
سقر، قالوا لم نك من المصلين" ، وإنها لتحت الذنوب حت الورق،
وتطلقها إطلاق الربق. وشبهها رسول الله صلى الله عليه وأله وصحبه وسلم بالحمة تكون على باب الرجل، فهو يغتسل منها في اليوم والليلة خمس
مراتٍ، فما عسى أن يبقى عليه من الدرن وقد عرف حقها
رجالٌ من المؤمنين الذين لا تشغلهم عنها زينة متاعٍ، ولا قرة عينٍ، من ولدٍ ولا
مالٍ، يقول الله سبحانه: "رجال لا تلهيهم
تجارةٌ ولا بيعٌ عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة" . وكان رسول
الله صلى الله عليه وآله وصحبه نصباً بالصلاة
بعد التبشير له بالجنة لقول الله سبحانه: "وأمر
أهلك بالصلاة واصطبر عليها" ، فكان يأمر أهله، ويصبر نفسه ثم إن الزكاة جعلت مع الصلاة قرباناً لأهل الإسلام،
فمن أعطاها طيب النفسر بها، فإنها تجعل له كفارة، ومن النار حجازاً ووقايةً، فلا
يتبعنها أحدٌ نفسه، ولأ يكثرن عليها لهفه، فإن من أعطاها غير طيب النفس بها يرجو
بها ما هو أفضل منها فهو جاهلٌ بالسنة، مغبون الأجر، ضال العمل، طويل الندم. ثم أداء الأمانة، فقد خاب من ليس من أهلها، إنها
عرضت على السموات المبنية، والأرضين المدحوة، والجبال ذات الطول المنصوبة، فلا
أطول ولا أعرض، ولا أعلى ولا أعظم منها. ولو أمتنع شيءٌ بطولٍ، أو عرضٍ، أو
قوةٍ، أو عز، لامتنعن، ولكن أشفقن من العقوبة، وعقلن ما جهل من هو أضعف منهن،
وهو الإنسان، "إنه كان ظلوماً جهولاً" .
إن الله سبحانه وتعالى لا يخفى عليه ما العباد
مقترفون في ليلهم ونهارهم، لطف به خبراً، وأحاط به علماً، أعضاؤكم شهوده،
وجوارحكم جنوده، وضمائركم عيونه، وخلواتكم عيانه. الشرح: هذه الآية يستدل بها الأصوليون
من أصحابنا على أن الكفار يعاقبون في الآخرة على ترك الواجبات الشرعية،
وعلى فعل القبائح، لأنها في الكفار وردت، ألا ترى إلى قوله: "في جنات يتساءلون عن المجرمين ما سلككم في
سقر" . فليس يجوزأن يعني بالمجرمين ههنا الفاسقين من أهل
القبلة، لأنه قال: "قالوا لم نك من أئصلين،
ولم نك نطعم المسكين، وكنا نخوض مع الخائضين، وكنا نكذب بيوم الذين" . قالوا: وليس لقائل أن يقول: معنى قوله: "لم نك من المصلين" لم نكن من القائلين
بوجوب الصلاة، لأنه قد أغنى عن هذا التعليل قوله:
"وكنا نكذب بيوم الدين" لأن أحد الأمرين هو الآخر، وحمل الكلام على ما يفيد فائدة
جديدة أولى من حمله على التكرار والإعادة، فقد ثبت بهذا التقرير صحة احتجاج أمير
المؤمنين رضي الله عنه على تأكيد أمر الصلاة، وأنها
من العبادات المهمة في نظر الشارع. قوله صلى الله عليه وسلم:
"وإنها
لتحت الذنوب"، الحت: نثر الورق من الغصن، وانحات، أي تناثر، وقد جاء هذا
اللفظ في الخبر النبوي بعينه. والربق: جمع ربقة، وهي الحبل، أي تطلق الصلاة
الذنوب كما تطلق الحبال المعقدة، أي تحل ما انعقد على المكلف من ذنوبه، وهذا من
باب الاستعارة. ويروى: "تعهدوا أمر الصلاة" بالتضعيف،
وهو لغة، يقال: تعاهدت ضيعتي وتعهدتها وهو القيام عليها، وأصله من تجديد العهد
بالشيء، والمراد المحافظة عليه، وقوله تعالى: "إن
الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً" ، أي واجباً، وقيل
موقوتاً، أي منجماً كل وقت لصلاة معينة، وتؤدى هذه الصلاة في نجومها. وقوله: "كتابا" أي فرضاً واجباً، كقوله تعالى:
"كتب ربكم على نفسه الرحمة" أي
أوجب. والحمة: الحفيرة فيها
الحميم، وهو الماء الحار، وهذا الخبرمن الأحاديث
الصحاح، قال صلى
الله عليه وسلم: "أيسر
أحدكم أن تكون على بابه حمة يغتسل منها كل يوم خمس مرات، فلا يبقى عليه من درنه
شيء قالوا: نعم، قال: فإنها الصلوات ا لخمس". وا لدرن: الوسخ. والتجارة في الآية، إما أن يراد بها: لا يشغلهم نوع من هذه الصناعة عن ذكر
الله. ثم أفرد البيع بالذكر، وخصه وعطفه على التجارة العامة، لأنه ادخل في
الإلهاء، لأن الربح في البيع بالكسب معلوم، والربح في الشراء مظنون، وإما أن
يريد بالتجارة الشراء خاصة إطلاقاً لاسم الجنس الأعم على النوع الأخص، كما تقول:
رزق فلان تجارة رابحة، إذا اتجه له شراء صالح، فأما
إقام الصلاة فإن التاء "إقامة" عوض من العين الساقطة للإعلال،
فإن أصله "إقوام" مصدر أقام، كقولك:
أعرض إعراضاً، فلما اضيفت اقيمت الإضافة مقام حرف
التعويض، فأسقطت التاء. قوله رضي الله
عنه: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم نصباً
بالصلاة، أي تعباً، قال تعالى: "ما أنزلنا
عليك القرآن لتشقى" . وروي أنه
متنه قام حتى تورمت قدماه مع التبشير له بالجنة. وروي
أنه قيل له في ذلك فقال: "أفلا أكون عبداً
شكوراً". ويصبر نفسه: من الصبر، ويروى: "ويصبرعليها نفسه"
أي يحبس، قال سبحانه: "واصبر نفسك مع الذين
يدعون ربهم" . وقال
عنترة يذكر حرباً كان فيها:
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
في الصلاة وفضلها
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
واعلم أن الصلاة قد جاء في فضلها الكثير
الذي يعجزنا حصره، ولو لم يكن إلا ما ورد في الكتاب العزيز من تكرار ذكرها
وتأكيد الوصاة بها والمحافظة عليها، لكان بعضه كافياً. وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم:
"علم الإيمان الصلاة، فمن فرغ لها قلبه، وقام بحدودها، فهو المؤمن". وقيل للحسن رحمه الله:
ما بال المتهجدين من أحسن الناس وجوهاً؟ قال: لأنهم خلوا بالرحمن، فألبسهم نوراً
من نوره. وقال عمر: إن الرجل
ليشيب عارضاه في الإسلام ما أكمل الله له صلاة، قيل له: وكيف ذلك؟ قال: لا يتم
خشوعها وتواضعها وإقباله على ربه فيها. وقال بعض الصالحين:
إن العبد ليسجد السجدة عنده أنه متقرب بها إلى الله، ولو قسم ذنبه في تلك السجدة
على أهل مدينة لهلكوا، قيل: وكيف ذلك؟ قال: يكون ساجداً وقلبه عند غير الله،
إنما هو مصغ إلى هوىً أو دنيا. صلى أعرابي في المسجد صلاة خفيفة، وعمر بن الخطاب يراه، فلما
قضاها قال: اللهم زوجني الحور العين. فقال عمر: يا هذا لقد أسأت النقد،
وأعظمت الخطبة. وقال علي رضي الله عنه:
لا يزال الشيطان ذعراً من المؤمن ما حافظ على الخمس فإذا ضيعهن تجرأ عليه،
وأوقعه في العظائم. وروي عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه قال: "الصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينهما، ما اجتنبت
الكبائر". وجاء في
الخبرأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان
إذا حزبه أمرٌ فزع إلى الصلاة. وقال هشام بن عروة:
كان أبي يطيل المكتوبة ويقول: هي رأس المال. قال يونس بن عبيد: ما
استخف أحد بالنوافل إلا استخف بالفرائض. يقال: إن محمد بن المنكدر جزأ
الليل عليه وعلى أمه وأخته أثلاثاً، فماتت أخته، فجزأه عليه وعلى أمه نصفين،
فماتت أمه فقام الليل كله. كان مسلم بن يسار لا يسمع الحديث إذا قام
يصلي، ولا يفهمه، وكان إذا دخل بيته سكت أهله فلا يسمع
لهم كلام حتى يقوم إلى الصلاة، فيتحدثون ويلغطون، فهو لا يشعر بهم. ووقع حريق إلى جنبه وهو في الصلاة، فلم يشعر به حتى
حرق. كان خلف بن أيوب لا يطرد الذباب إذا وقع على وجهه
وهو في الصلاة في بلاد كثيرة الذبان، فقيل له: كيف
تصبر؟ فقال: بلغني أن الشطار يصبرون تحت السياط ليقال:
فلان صبور، أفلا أصبر وأنا بين يدي ربي على أذى ذباب يقع علي. قال ابن مسعود:
الصلاة مكيال، فمن وفى وفي له، ومن طفف ، فويل للمطففين. قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
يا رسول الله، ادع لي أن يرزقني الله مرافقتك في الجنة، فقال: "أعني على إجابة الدعوة بكثرة السجود". قوله صلى الله عليه وسلم؟ "قرباناً
لأهل الإسلام"، القربان: اسم لما يتقرب به من نسيكة أو صدقة. وروي: "ومن النار حجازاً" بالزاي أي
مانعاً. واللهف: الحسرة، ينهى صلى الله عليه وسلم
عن إخراج الزكاة مع التسخط لإخراجها والتلهف والتحسر على دفعها إلى أربابها، ويقول: إن من يفعل ذلك يرجو بها نيل الثواب ضال
مضيع لماله، غير ظافر بما رجاه من المثوبة. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
في فضل الزكاة والتصدق
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وقد جاء في فضل الزكاة الواجبة وفضل صدقة التطوع الكثير جداً،
ولو لم يكن إلا أن الله تعالى قرنها بالصلاة في أكثر المواضع التي ذكر فيها
الصلاة لكفى. وروى بريدة الأسلمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لاما حبس قومٌ الزكاة إلا حبس الله عنهم القطر". وروى الأحنف قال:
قدمت المدينة، فبينا أنا في حلقة فيها ملأ من قريش، إذ جاء رجل خشن الجسد، خشن
الثياب، فقام عليهم، فقال: بشر الكانزين برضف يحمى عليها في نار جهنم، فتوضع على
حلمة ثدي الرجل حتى تخرج من نغض كتفه، ثم توضع على نغض كتفه حتى تخرج من حلمة
ثديه، فسألت عنه فقيل: هذا أبو ذر الغفاري، وكان يذكره ويرفعه. ابن عباس يرفعه: من كان عنده ما يزكى فلم يزك، وكان عنده ما يحج فلم يحج سأل
الرجعة، يعني قوله: "رب ارجعون". أبو هريرة: سئل رسول
الله صلى الله عليه وسلم:
أي الصدقة أفضل؟ فقال: أن تعطي وأنت صحيح، شحيح، تأمل البقاء، وتخشى الفقر، ولا
تمهل، حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا ولفلان كذا. وقيل للشبلي: ما يجب في مائتي درهم؟ قال: أما من جهة الشرع فخمسة، وأما من
جهة الإخلاص فالكل. أمررسول
الله صلى الله عليه وسلم بعض نسائه أن تقسم شاة على الففراء فقالت: يا رسول الله، لم يبق منها غيرعنقها، فقال صلى الله عليه وسلم: كلها بقي غيرعنقها. أخذ شاعرهذا المعنى
فقال:
السائب:
كان الرجل من السلف يضع الصدقة، ويمثل قائماً بين يدي السائل الفقير وسأله
قبولها؛ حتى يصيرهو في صورة السائل. وكان بعضهم يبسط كفه ويجعلها تحت يد الفقير،
لتكون يد الفقير العليا. وعن النبي صلى الله عليه
وسلم: "ما أحسن عبد الصدقة إلا أحسن
الله إليه في مخلفيه". وعنه صلى الله عليه
وسلم: "الصدقة تسد سبعين باباً من
الشر". وعنه صلى الله عليه
وسلم: "أذهبوا
مذمة السائل ولو بمثل رأس الطائر من الطعام". كان النبي صلى الله عليه
وسلم لا يكل خصلتين إلى غيره:
لا يوضئه أحد، ولا يعطي السائل إلا بيده. بعض الصالحين: الصلاة
تبلغك نصف الطريق، والصوم يبلغك باب الملك، والصدقة تدخلك عليه بغير إذن. الشعبي:
من لم ير نفسه أحوج إلى ثواب الصدقة من الفقير إلى صدقته، فقد أبطل صدقته، وضرب
بها وجهه. كان الحسن بن صالح إذا جاءه سائل، فإن كان عنده ذهب
أو فضة أو طعام أعطاه، فإن لم يكن، أعطاه زيتاً أو سمناً أو نحوهما مما ينتفع
به، فإن لم يكن، أعطاه كحلاً، أو خرج بإبرة وخاط بها ثوب السائل، أو بخرقة يرقع
بها ما تخرق من ثوبه. ووقف مرة على بابه سائل ليلاً، ولم يكن عنده ما
يدفعه إليه، فخرج إليه بقصبة في رأسها شعلة، وقال: خذ
هذه وتبلغ بها إلى أبواب ناس لعلهم يعطونك. قوله صلى
الله عليه وسلم: "ثم أداء الأمانة"، هي العقد الذي يلزم الوفاء به،
وأصح ما قيل في تفسير الآية أن الأمانة ثقيلة المحمل، لأن حاملها معرض لخطر
عظيم. فهي بالغة من الثقل وصعوبة المحمل ما لو أنها عرضت
على السموات والأرض والجبال لامتنعت من حملها. فأما
الإنسان فإنه حملها وألزم القيام بها. وليس المراد بقولنا:
إنها عرضت على السموات والأرض أي لو عرضت عليها وهي جمادات، بل المراد تعظيم شأن
الأمانة، كما تقول: هذا الكلام لا يحمله الجبال،
وقوله: امتلأ الحوض وقال قطني وقوله تعالى: "قالتا
أتينا طائعين" . ومذهب العرب في هذا الباب. وتوسعها ومجازاتها مشهور
شائع. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال في شأن معاوية
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: وألله ما
معاوية بأدهى مني، ولكنه يغدر ويفجر، ولولا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس،
ولكن كل غدرةٍ فجرةٌ، وكل فجرةٍ كفرةٌ، ولكل غادرٍ لواءٌ يعرف به يوم القيامة. والله ما أستغفل بالمكيدة، ولا أستغمز بالشديدة. الشرح: الغدرة، على "فعلة" الكثير الغدر،
والفجرة والكفرة: الكثير الفجور والكفر، وكل ما كان على هذا البناء فهو للفاعل،
فإن سكنت العين فهو للمفعول، تقول: رجل ضحكة أي يضحك، وضحكة يضحك منه، وسخرة
يسخر، وسخرة يسخر به، يقول صلى الله عليه وسلم:
كل غادر فاجر، و كل فاجر كافر. ويروى: "ولكن
كل غدرة فجرة، وكل فجرة كفرة" على "فعلة " للمرة الواحدة. وقوله:
"لكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة"،
حديث صحيح مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم. ثم أقسم صلى
الله عليه وسلم أنه
لا يستغفل بالمكيدة، أي لا تجوز المكيدة علي، كما تجوز على ذوي الغفلة، وأنه لا
يستغمز بالشديدة، أي لا أهين وألين للخطب الشديد. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
حسن سياسة أمير المؤمنين عليه السلام
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
واعلم أن قوماً ممن لم يعرف حقيقة فضل أمير
المؤمنين صلى الله عليه وسلم، زعموا أن عمر كان أسوس
منه، وإن كان هو أعلم من عمر، وصرح الرئيس
أبو علي بن سينا بذلك في "الشفاء" في
الحكمة، وكان شيخنا أبو الحسين يميل إلى
هذا، وقد عرض به في كتاب "الغرر"، ثم
زعم أعداؤه ومباغضوه أن معاوية كان أسوس منه
وأصح تدبيراً، وقد سبق لنا بحث قديم في هذا الكتاب في بيان حسن سياسة أمير المؤمنين رضي الله عنه وصحة تدبيره،
ونحن نذكر ههنا ما لم نذكره هناك مما يليق بهذا
الفصل الذي نحن في شرحه. اعلم أن
السائس لا يتمكن من السياسة البالغة إلا إذا كان يعمل برأيه، وبما يرى فيه صلاح
ملكه، وتمهيد أمره، وتوطيد قاعدته، سواء وافق الشريعة أو لم يوافقها، ومتى لم
يعمل في السياسة والتدبير بموجب ما قلناه، فبعيد أن ينتظم أمره، أو يستوثق حاله،
وأمير المؤمنين كان مقيداً بقيود الشريعة، مدفوعاً إلى
اتباعها ورفض ما يصلح اعتماده من آراء الحرب والكيد والتدبير إذا لم يكن للشرع
موافقاً، فلم تكن قاعدته في خلافته قاعدة غيره
ممن لم يلتزم بذلك، ولسنا بهذا القول زارين على عمر
بن الخطاب، ولا ناسبين إليه ما هو منزه عنه، ولكنه
كان مجتهداً يعمل بالقياس والاستحسان والمصالح المرسلة، ويرى تخصيص
عمومات النص بالآراء وبالاستنباط من أصول تقتضي خلاف ما يقتضيه عموم النصوص،
ويكيد خصمه، ويأمر أمراءه بالكيد والحيلة، ويؤدب بالدرة والسوط من يتغلب على ظنه
أنه يستوجب ذلك، ويصفح عن اخرين قد اجترموا ما يستحقون به التأديب، كل ذلك بقوة اجتهاده وما يؤديه إليه نظره، ولم يكن
أمير المؤمنين رضي الله عنه يرى ذلك، وكان يقف مع النصوص والظواهر، ولا يتعداها
إلى الاجتهاد والأقيسة، ويطبق أمور الدنيا على أمور الدين، ويسوق الكل مساقاً
واحداً، ولا يضع ولا يرفع الا بالكتاب والنص، فاختلفت
طريقتاهما في الخلافة والسياسة، وكان عمر مع ذلك شديد الغلظة والسياسة، وكان علي رضي
الله عنه كثير الحلم والصفح
والتجاوز، فازدادت خلافة ذاك قوة، وخلافة هذا ليناً، ولم يمن عمر رضي الله عنه بما مني به علي رضي الله عنه من
فتنة عثمان، التي أحوجته إلى مداراة أصحابه وجنده ومقاربتهم، للاضطراب الواقع
بطريق تلك الفتنة. ثم تلا ذلك فتنة الجمل، وفتنة
صفين ثم فتنة النهروان، وكل هذه الأمور مؤثرة في اضطراب أمر الوالي
وانحلال معاقد ملكه، ولم يتفق لعمر رضي الله عنه شيء من ذلك، فشتان بين الخلافتين فيما يعود إلى انتظام المملكة وصحة
تدبير الخلافة. فإن قلت: فما قولك في سياسة الرسول صلى
الله عليه وسلم وتدبيره؟
أليس كان منتظماً سديداً لمجع أنه كان لا يعمل إلا بالنصوص والتوقيف من الوحي
فهلا كان تدبير علي رضي الله عنه وسياسته
كذلك إذا قلتم: إنه كان لا يعمل إلا بالنص، قلت: أما سياسة الرسول صلى الله عليه وسلم وتدبيره
فخارج عما نحن فيه، لأنه معصوم لا تتطرق الغفلة
إلى أفعاله، ولا واحد من هذين الرجلين بواجب العصمة
عندنا. وأيضاً فإن كثيراً من الناس ذهبوا إلى أن الله تعالى أذن لرسول
الله صلى الله عليه وسلم أن
يحكم في الشرعيات وغيرها برأيه، وقال له:
احكم بما تراه، فإنك لا تحكم إلا بالحق، وهذا مذهب يونس
بن عمران، وعلى هذا فقد سقط السؤال، لأنه صلى الله عليه وسلم يعمل بما
يراه من المصلحة، ولا ينتظر الوحي. وأيضاً فبتقدير فساد
هذا المذهب، أليس قد ذهب خلق كثير من علماء أصول الفقه إلى أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم كان يجوز له
أن يجتهد في الأحكام والتدبير، كما يجتهد الواحد من
العلماء، وإليه ذهب القاضي أبو يوسف رحمه
الله، واحتج بقوله تعالى: "لتحكم بين
الناس بما أراك الله" . والسؤال أيضاً ساقط على هذا المذهب،
لأن اجتهاد علي رضي الله عنه لا يساوي اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم، وبين الاجتهادين كما بين المنزلتين. وكان أبوجعفر بن أبي زيد الحسني نقيب
البصرة رحمه الله إذا حدثناه
في هذا يقول: إنه لا فرق عند من قرأ السيرتين: سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسياسة
أصحابه أيام حياته، وبين سيرة أمير المؤمنين رضي
الله عنه وسياسة أصحابه أيام حياته، فكما أن علياً رضي
الله عنه لم يزل أمره مضطرباً معهم
بالمخالفة والعصيان والهرب إلى أعدائه، وكثرة الفتن والحروب، فكذلك كان النبي صلى
الله عليه وسلم لم يزل ممنوعاً
بنفاق المنافقين وأذاهم، وخلاف أصحابه عليه وهرب بعضهم إلى أعدائه، وكثرة الحروب
والفتن. وكان يقول:
ألست ترى القرآن العزيز مملوءاً بذكر المنافقين والشكوى منهم، والتألم من أذاهم
له، كما أن كلام علي رضي الله عنه مملوءٌ
بالشكوى من منافقي أصحابه والتألم من أذاهم له، والتوائهم عليه وذلك نحو قوله تعالى: "ألم
تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه ويتناجون بإلاثم والعدوان
ومعصية الرسول وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله ويقولون في أنفسهم لولا
يعذبنا الله بما نقول حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير" . وقوله:
"إنما النجوى من الشيطان ليحزن ألذين أمنوا" . وقوله تعالى: "إذا
جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله، والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن
المنافقين لكاذبون، اتخذوا أيمانهم جنةً فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا
يعملون" . وقوله تعالى: "ومنهم
من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفاً
اولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم" . وقوله تعالى: "رأيت الذين في قلوبهم مرضٌ ينظرون إليك نظر المغشي
عليه من الموت فأولى لهم، طاعةٌ وقولٌ معروفٌ نإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله
لكان خيراً لهم" . وقوله تعالى: "أم
حسب الذين في قلوبهم مرضٌ أن لن يخرج الله أضغانهم، ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم
بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم" . وقوله تعالى: "سيقول
لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا يقولون بألسنتهم ما
ليس في قلوبهم قل فمن يملك لكم من الله شيئاً إن أراد بكم ضراً او أراد بكم
نفعاً بل كان الله بما تعملون خبيراً، بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون
إلى أهليهم أبداً وزين ذلك في قلوبكم وظننتم ظن السوء وكنتم قوماً بوراً" .
وقوله تعالى: "سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتاخذوها ذرونا
نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل
فسيقولون بل تحسدوننا بل كانوا لا يفقهون إلا قليلاً" . وقوله: "إن الذين ينادونك
من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون، ولو أنهم صبروا حتى تحرج إليهم لكان خيراً
لهم والله غفورٌ رحيمٌ" . قال: وأصحابه هم الذين نازعوا في الأنفال وطلبوها
لأنفسهم، حتى أنزل الله تعالى: "قل الأنفال
لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم
مؤمنين" . وهم الذين التووا عليه في الحرب يوم بدر، وكرهوا لقاء
العدو حتى خيف خذلانهم، وذلك قبل أن تتراءى الفئتان، وأنزل
فيهم: "يجادلونك في الحق بعد ما تبين
كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون" . وهم الذين كانوا يتمنون لقاء العيردون لقاء العدو، حتى إنهم
ظفروا برجلين في الطريق، فسألوهما عن العير، فقالا لا علم لنا بها، وإنما رأينا
جيش قريش من وراء ذلك الكثيب، فضرلوهما ورسول الله صلى الله عليه وسلم
قائم يصلي، فلما ذاقا مس الضرب قالا: بل العير أمامكم فاطلبوها، فلما رفعوا
الضرب عنهما، قالا: والله ما رأينا العير ولا رأينا إلا الخيل والسلاح والجيش،
فأعادوا الضرب عليهما مرة ثانية، فقالا وهما يضربان: العير أمامكم، فخلوا عنا، فانصرف
رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة، وقال:
إذا صدقاكم ضربتموهما، وإذا كذباكم خليتم عنهما دعوهما، فما رأيا إلا جيش أهل
مكة، وأنزل قوله تعالى: "وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات
الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين" . قال المفسرون: الطائفتان:
العير ذات اللطيمة الواصلة إلى مكة من الشام صحبة أبي سفيان بن حرب، وإليها كان
خروج المسلمين، والأخرى: الجيش ذو الشوكة، وكان
صلى الله عليه وسلم قد وعدهم بإحدى الطائفتين، فكرهوا
الحرب، وأحبوا الغنيمة. قال: وهم
الذين فروا عنه صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وأسلموه وأصعدوه في الجبل، وتركوه حتى
شج الأعداء وجهه، وكسروا ثنيته، وضربوه على بيضته ، حتى دخل جماجمه، ووقع من
فرسه إلى الأرض بين القتلى، وهو يستصرخ بهم، ويدعوهم فلا يجيبه أحدٌ منهم إلا من
كان جارياً مجرى نفسه، وشديد الاختصاص به، وذلك قوله
تعالى: "إذ تصعدون ولا تلوون على أحدٍ
والرسول يدعوكم في أخراكم" ، أي ينادي فيسمع نداءه آخر الهاربين لا
أولهم، لأن أولهم أوغلوا في الفرار، وبعدوا عن أن يسمعوا صوته، وكان قصارى الأمر
أن يبلغ صوته واستصراخه من كان على ساقة الهاربين منهم. قال: ومنهم الذين عصوا أمره في ذلك اليوم، حيث أقامهم
على الشعب في الجبل، وهو الموضع الذي خاف أن تكر عليه منه خيل العدو من ورائه، وهم أصحاب عبد الله بن جبير، فإنهم خالفوا أمره
وعصوه فيما تقدم به إليهم، ورغبوا في الغنيمة، ففارقوا مركزهم، حتى دخل الوهن على
الإسلام بطريقهم، لأن خالد بن الوليد كر في
عصابة من الخيل، فدخل من الشعب الذي كانوا يحرسونه، فما أحس المسلمون بهم إلا
وقد غشوهم بالسيوف من خلفهم، فكانت الهزيمة،
وذلك قوله تعالى: "حتى
إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تمحبون منكم من يريد
الدنيا ومنكم من يريد الآخرة" . قال: وهم الذين
عصوا أمره في غزاة تبوك، بعد أن أكد عليهم الأوامر، وخذلوه وتركوه ولم يشخصوا
معه، فأنزل فيهم: "يا
أيها الذين أمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض
أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا إلا قليلٌ، إلا تنفروا
يعذبكم عذاباً أليماً ويستبدل قوماً غيركم ولا تضروه شيئاً والله على كل شيءٍ
قديرٌ" ، وهذه الاية خطاب مع المؤمنين لا مع المنافقين، وفيها أوضح دليل على أن أصحابه وأولياءه المصدقين لدعوته
كانوا يعصونه، ويخالفون أمره، وأكد عتابهم وتقريعهم وتوبيخهم بقوله تعالى: "لو كان عرضاً قريباً وسفراً قاصداً لاتبعوك ولكن
بعدت عليهم الشقة وسيحلفون بالله لو أستطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله
يعلم إنهم لكاذبون" . ثم عاتب رسول الله صلى
الله عليه وسلم على كونه أذن لهم في التخلف،
وإنما أذن لهم لعلمه أنهم لا يجيبونه في الخروج،
فرأى أن يجعل المنة له عليهم في الإذن لهم، وإلا
قعدوا عنه ولم تصل له المنة، فقال له: "عفا الله
عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين" ، أي هلا أمسكت عن الإذن لهم حتى يتبين لك قعود من يقعد،
وخروج من يخرج، صادقهم من كاذبهم لأنهم كانوا قد وعدوه بالخروج معه كلهم، وكان
بعضهم ينوي الغدر، وبعضهم يعزم على أن يخيس بذلك الوعد، فلو لم يأذن لهم لعلم من يتخلف ومن لا يتخلف، فعرف الصادق منهم والكاذب. ثم بين
سبحانه وتعالى أن الذين يستأذنونه في التخلف خارجون من الإيمان، فقال له: "لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن
تحاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين، إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون
بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون" . ولا حاجة إلى التطويل بذكر الآيات
المفصلة فيما يناسب هذا المعنى، فمن تأمل
الكتاب العزيز علم حاله صلوات الله عليه مع أصحابه كيف كانت، ولم ينقله الله
تعالى إلى جواره إلا وهو مع المنافقين له والمظهرين خلاف ما يضمرون من تصديقه في
جهادٍ شديد، حتى لقد كاشفوه مراراً، فقال لهم يوم
الحديبية: احلقوا وانحروا مراراً، ولم يحلقوا ولم ينحروا، ولى يتحرك أحد
منهم عند قوله، وقال له بعضهم وهو يقسم الغنائم:
"أعدل يا محمد فإنك لم تعدل". وقالت الأنصار له مواجهة يوم حنين:
أتأخذ ما أفاء الله علينا بسيوفنا فتدفعه إلى أقاربك من أهل مكة حتى أفضى الأمر إلى أن قال لهم في مرض موته:
"ائتوني بدواة وكتف أكتب لكم ما لا تضلون بعده"، فعصوه ولم يأتوه بذلك، وليتهم اقتصروا على عصيانه ولم يقولوا
له ما قالوا، وهو يسمع وكان أبو جعفر رحمه
الله يقول من هذا ما يطول شرحه، والقليل
منه ينبىء عن الكثير، وكان يقول: إن الإسلام ما حلا عندهم ولا ثبت في قلوبهم إلا بعد موته، حين فتحت عليهم الفتوح، وجاءتهم الغنائم
والأموال، وكثرت عليهم المكاسب، وذاقوا طعم الحياة، وعرفوا لذة الدنيا، ولبسوا
الناعم، وأكلوا الطيب، وتمتعوا بنساء الروم، وملكوا خزائن كسرى، وتبدلوا بذلك القشف والشظف والعيش الخشن وأكل الضباب
والقنافذ واليرابيع ولبس الصوف والكرابيس ، أكل اللوزينجات والفالوذجات ولبس
الحرير والديباج، فاستدلوا بما فتحه الله عليهم، وأتاحه
لهم على صحة الدعوة، وصدق الرسالة، وقد كان صلى الله عليه وسلم وعدهم
بأنه سيفتح عليهم كنوز كسرى وقيصر، فلما وجدوا الأمر قد
وقع بموجب ما قاله عظموه وبجلوه، وانقلبت تلك الشكوك وذاك النفاق وذلك
الاستهزاء إيماناً ويقيناً وإخلاصاً، وطاب لهم
العيش، وتمسكوا بالدين، لأنه زادهم طريقاً إلى نيل
الدنيا، فعظموا ناموسه، وبالغوا في إجلاله وإجلال الرسول الذي جاء به، ثم
انقرض الأسلاف وجاء الأخلاف على عقيدة ممهدة، وأمرٍ أخذوه تقليداً من أسلافهم
الذين ربوا في حجورهم، ثم انقرض ذلك القرن، وجاء من
بعدهم كذلك، وهلم جراً. قال: ولولا الفتوح
والنصر والظفر الذي منحهم الله تعالى إياه، والدولة التي ساقها إليهم، لانقرض دين الإسلام بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان
يذكر في التواريخ، كما تذكر الآن نموة خالد بن سنان العبسي، حيث ظهر ودعا إلى
الدين. وكان الناس يعجبون من ذلك ويتذاكرونه كما يعجبون ويتذاكرون أخبار من نبغ
من الرؤساء والملوك والدعاة الذين انقرض أمرهم، وبقيت أخبارهم. وكان يقول: من تأمل حال الرجلين وجدهما متشابهتين في جميع أمورهما أو في أكثرها، وذلك لأن حرب رسول الله صلى
الله عليه وسلم مع
المشركين كانت سجالاً، انتصر يوم بدر، وانتصر المشركون عليه
يوم أحد، وكان يوم الخندق كفافاً خرج هو وهم سواء،
لا عليه ولا له، لأنهم قتلوا رئيس الأوس وهو سعد
بن معاذ، وقتل منهم فارس قريش وهو عمرو بن عبد
ود، وانصرفوا عنه بغير حرب بعد تلك الساعة التي كانت،
ثم حارب بعدها قريشاً يوم الفتح، فكان الظفر له.
وهكذا كانت حروب علي رضي الله عنه، انتصر يوم
الجمل، وخرج الأمر بينه وبين معاوية على سواء،
قتل من أصحابه رؤساء، ومن أصحاب معاوية رؤساء، وانصرف كل واحد من الفريقين عن
صاحبه بعد الحرب على مكانه، ثم حارب بعد صفين أهل النهروان، فكان الظفر له. قال: ومن العجب
أن أول حروب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت بدراً، وكان هو المنصور فيها، وأول حروب
على رضي الله عنه الجمل، وكان هو المنصور فيها. ثم كان من صحيفة الصلح والحكومة يوم صفين نظيرما كان من صحيفة الصلح والهدنة يوم الحديبية. ثم دعا معاوية في آخر أيام علي رضي الله عنه إلى نفسه وتسمى
بالخلافة، كما أن مسيلمة والأسود العنسي دعوا إلى
أنفسهما في آخر أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم وتسميا بالنبوة. واشتد على علي رضي الله عنه ذلك،
كما اشتد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الأسود
ومسيلمة، وأبطل الله أمرهما بعد وفاة النبي صلى
الله عليه وسلم،
وكذلك أبطل أمر معاوية وبني أمية بعد وفاة علي رضي الله عنه. ولم يحارب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد
من العرب إلا قريش ما عدا يوم حنين، ولم يحارب
علياً رضي الله عنه من
العرب أحدٌ إلا قريش ما عدا يوم النهروان ومات علي رضي
الله عنه شهيداً بالسيف،
ومات رسول الله صلى الله عليه وسلم شهيداً بالسم. وهذا لم يتزوج صلى الله عليه وسلم خديجة
أم أولاده حتى ماتت، وهذا لم يتزوج على فاطمة أم
أشرف أولاده حتى ماتت. ومات رسول الله صلى
الله عليه وسلم عن ثلاث وستين
سنة، ومات علي رضي الله عنه عن مثلها. وكان يقول: انظروا إلى أخلاقهما
وخصائصهما، هذا شجاع وهذا شجاع، وهذا فصيح وهذا فصيح، وهذا سخي جواد وهذا
سخي جواد، وهذا عالم بالشرائع والأمور الإلهية، وهذا عالم بالفقه والشريعة
والأمور الإلهية الدقيقة الغامضة، وهذا زاهد لا الدنيا غيرته ولا مستكثر منها، وهذا زاهد في الدنيا تارك لها غيرمتمتع بلذاتها. وهذا مذيب نفسه في الصلاة والعبادة، وهذا مثله. وهذا غير
محبب إليه شيء من الأمور العاجلة إلا النساء وهذا مثله، وهذا ابن
عبد المطلب بن هاشم. وهذا في قعدده ، وأبواهما أخوان لأب واحد دون غيرهما
من بني عبد المطلب، وربي محمد صلى الله عليه
وسلم
في حجر والد هذا وهو أبو طالب، فكان جارياً
عنده مجرى أحد أولاده. ثم لما صلى الله عليه
وسلم
وكبر
استخلصه من بني أبي طالب وهو غلام، فرباه في حجره
مكافأة لصنيع أبي طالب به، فامتزج الخلقان،
وتماثلت السجيتان، وإذا كان القرين مقتدياً بالقرين، فما ظنك بالتربية والتثقيف الدهر الطويل فواجب أن تكون
أخلاق محمد صلى الله عليه وسلم كأخلاق
أبي طالب، وتكون أخلاق علي رضي الله عنه
كأخلاق أبي طالب أبيه، ومحمد صلى الله عليه وسلم
مربيه، وأن يكون الكل شيمة واحدة وسوساً واحداً، وطينة مشتركة، ونفساً غيرمنقسمة
ولا متجزئة، وألا يكون بين بعض هؤلاء وبعض فرق ولا فضلٌ، لولا أن الله تعالى اختص محمداً صلى الله عليه وسلم برسالته،
واصطفاه لوحيه، لما يعلمه من مصالح البرية في ذلك، ومن أن اللطف به أكمل، والنفع
بمكانه أتم وأعم، فامتاز رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك عمن سواه، وبقي ما عدا الرسالة على أمر الاتحاد،
وإلى هذا المعنى أشار صلى الله عليه وسلم بقوله: "أخصمك
بالنبوة فلا نبوة بعدي، وتخصم الناس بسبع"، وقال
له أيضاً: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي
بعدي"، فأبان نفسه منه بالنبوة، وأثبت له ما عداها
من جميع الفضائل والخصائص مشتركاً بينهما. وكان النقيب أبو جعفر رحمه الله، غزير العلم، صحيح العقل، منصفاً في الجدال، غيرمتعصب للمذهب وإن كان علوياً وكان يعترف بفضائل الصحابة، ويثني
على الشيخين. ويقول:
إنهما مهدا دين الإسلام وأرسيا قواعده، ولقد كان شديد الاضطراب في حياة رسول
الله صلى الله عليه وسلم، وإنما
مهداه بما تيسر للعرب من الفتوح والغنائم في دولتهما. وكان يقول في عثمان:
إن الدولة في أيامه كانت على إقبالها وعلو جدها، بل كانت الفتوح في أيامه أكثر،
والغنائم أعظم، لولا أنه لم يراع ناموس الشيخين، ولم
يستطع أن يسلك مسلكهما، وكان مضعفاً في أصل القاعدة، مغلوباً عليه، وكثير الحب
لأهله، واتيح له من مروان وزير سوء أفسد القلوب عليه، وحمل الناس على خلعه
وقتله. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأسباب التي أوجبت محبة الناس لعلي
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وكان أبو جعفر رحمه الله لا يجحد
الفاضل فضله، والحديث شجون. قلت له مرة: ما سبب حب الناس لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، وعشقهم له، وتهالكهم في هواه؟
ودعني في الجواب من حديث الشجاعة والعلم والفصاحة، وغير ذلك من الخصائص التي رزقه
الله سبحانه الكثير الطيب منها فضحك وقال لي: كم تجمع جراميزك علي ثم
قال: ههنا مقدمة ينبغي أن تعلم، وهي أن
أكثر الناس موتورون من الدنيا، أما المستحقون فلا ريب في أن أكثرهم محرومون، نحو عالم يرى أنه لاحظ له في الدنيا، ويرى جاهلاً غيره مرزوقاً وموسعاً عليه. وشجاعاً قد أبلى في الحرب، وانتفع بموضعه، ليس له عطاء يكفيه، ويقوم بضروراته، ويرى غيره وهو جبان فشل، يفرق من ظله، مالكاً
لقطر عظيم من الدنيا، وقطعة وافرة من المال والرزق. وعاقلٍ سديد التدبير، صحيح العقل، قد قدر عليه رزقه، وهو يرى
غيره أحمق مائقاً تدر عليه الخيرات، وتتحلب عليه أخلاف
الرزق. وذي دين قويم، وعبادة حسنة، وإخلاص وتوحيد، وهو محروم ضيق الرزق و يرى غيره يهودياً أو نصرانياً
أو زنديقاً، كثير المال حسن الحال، حتى إن هذه
الطبقات المستحقة يحتاجون في أكثر الوقت إلى الطبقات التي لا استحقاق لها، وتدعوهم الضرورة إلى الذل لهم، والخضوع بين أيديهم، إما لدفع ضرر، أو لاستجلاب نفع، ودون هذه الطبقات من
ذوي الاستحقاق أيضاً، ما نشاهده عياناً من نجار حاذق أو بناء عالم، أو نقاش
بارع، أو مصور لطيف، على غاية ما يكون من ضيق رزقهم،
وقعود الوقت بهم، وقلة الحيلة لهم، ويرى غيرهم ممن ليس يجري مجراهم، ولا
يلحق طبقتهم، مرزوقاً مرغوباً فيه، كثير المكسب طيب
العيش، واسع الرزق. فهذا حال ذوي الاستحقاق
والاستعداد. وأما الذين
ليسوا من أهل الفضائل، كحشو العامة، فإنهم أيضاً لا يخلون من الحقد على الدنيا
والذم لها، والحنق والغيظ منها لما يلحقهم من حسد
أمثالهم وجيرانهم، ولا يرى أحد منهم
قانعاً بعيشه، ولا راضياً بحاله، بل يستزيد ويطلب حالاً
فوق حاله. قال: فإذا عرفت هذه المقدمة، فمعلوم أن علياً رضي الله عنه كان
مستحقاً محروماً، بل هو أمير المستحقين المحرومين، وسيدهم وكبيرهم، ومعلوم أن الذين ينالهم الضيم، وتلحقهم المذلة
والهضيمة، يتعصب بعضهم لبعض، ويكونون إلباً ويداً واحدة
على المرزوقين الذين ظفروا بالدنيا، ونالوا مآربهم منها، لاشتراكهم في الأمر الذي آلمهم وساءهم، وعضهم ومضهم، واشتراكهم في الأنفة والحمية والغضب والمنافسة لمن علا
عليهم، وقهرهم، وبلغ من الدنيا ما لم يبلغوه، فإذا كان
هؤلاء أعني المحرومين متساوين في المنزلة والمرتبة، وتعصب بعضهم لبعض، فما ظنك بما إذا كان منهم رجلٌ عظيم القدرجليل الخطر كامل
الشرف، جامع للفضائل محتوٍ على الخصائص والمناقب، وهو مع ذلك محروم محدود، وقد جرعته الدنيا علاقمها، وعلته عللاً بعد
نهل من صابها وصبرها، ولقي منها برحاً بارحاً، وجهداً جهيداً، وعلا عليه من هو
دونه، وحكم فيه وفي بنيه وأهله ورهطه من لم يكن ما ناله من الإمرة والسلطان في
حسابه، ولا دائراً في خلده، ولا خاطراً بباله، ولا كان أحدٌ من الناس يرتقب ذلك
له ولا يراه له. ثم كان في آخر الأمر أن
قتل هذا الرجل الجليل في محرابه، وقتل بنوه بعده، وسبي حريمه ونساؤه، وتتبع أهله
وبنو عمه بالقتل والطرد والتشريد والسجون، مع فضلهم وزهدهم وعبادتهم
وسخائهم، وانتفاع الخلق بهم. فهل يمكن ألا يتعصب البشر كلهم مع
هذا الشخص وهل تستطيع القلوب ألا تحبه وتهواه، وتذوب فيه وتفنى في عشقه،
انتصاراً له، وحمية من أجله، وأنفةً مما ناله، وامتعاضاً مما جرى عليه وهذا أمر
مركوز في الطبائع، ومخلوق في الغرائز، كما
يشاهد الناس على الجرف إنساناً قد وقع في الماء العميق، وهو لا يحسن السباحة،
فإنهم بالطبع البشري يرقون عليه رقة شديدة، وقد يلقي قومٌ منهم أنفسهم في الماء
نحوه، يطلبون تخليصه، لا يتوقعون على ذلك مجازاة منه
بمالٍ أو شكر، ولا ثواباً في الآخرة، فقد يكون منهم من لا يعتقد أمر
الآخرة، ولكنها رقة بشرية، وكأن الواحد منهم يتخيل في نفسه أنه ذلك الغريق، فكما يطلب خلاص نفسه لو كان هذا الغريق، كذلك يطلب تخليص من
هو في تلك الحال الصعبة، للمشاركة الجنسية. وكذلك لوأن ملكاً ظلم أهل
بلدٍ من بلاده ظلماً عنيفاً، لكان أهل ذلك البلد يتعصب بعضهم لبعض في الانتصارمن
ذلك الملك، والاستعداء عليه، فلو كان من جملتهم رجلٌ عظيم القدر، جليل الشأن، قد
ظلمه الملك أكثرمن ظلمه إياهم، وأخذ أمواله وضياعه، وقتل أولاده وأهله، كان
لياذهم به، وانضواؤهم إليه، واجتماعهم والتفافهم به أعظم وأعظم، لأن الطبيعة البشرية تدعو إلى ذلك على سبيل الإيجاب
الاضطراري، ولا يستطيع الإنسان منه امتناعاً. وهذا محصول قول النقيب أبي جعفر رحمه الله، قد
حكيته والألفاظ لي والمعنى له، لأني لا أحفظ الآن ألفاظه بعينها، إلا أن هذا هو كان معنى قوله وفحواه، رحمه الله. وكان لا يعتقد في الصحابة ما يعتقده أكثر الإمامية فيهم، ويسفه
راي من يذهب فيهم إلى النفاق والتكفير. وكان يقول: حكمهم حكم
مسلم مؤمن، عمى في بعض الأفعال وخالف الأمر، فحكمه إلى
الله، إن شاء آخذه، وإن شاء غفر له. قلت له مرة: أفتقول إنهما من أهل الجنة؟ فقال: إي والله أعتقد ذلك، لأنهما إما أن يعفو الله تعالى عنهما ابتداء أو بشفاعة الرسول
صلى الله عليه وسلم، أو يؤاخذهما
بعقاب أو عتاب، ثم ينقلهما إلى الجنة، لا أستريب في ذلك أصلاً، ولا أشك في إيمانهما برسول
الله صلى الله عليه وسلم وصحة عقيدتهما. فقلت له: فعثمان؟ قال: وكذلك
عثمان. ثم قال: رحم الله عثمان وهل كان إلا واحداً منا،
وغصناً من شجرة عبد مناف ولكن أهله كدروه علينا،
وأوقعوا العداوة والبغضاء بينه وبيننا. قلت له: فيلزمك على ما تراه في أمر هؤلاء أن تجوز دخول معاوية الجنة،
لأنه لم تكن منه الا المخالفة وترك امتثال الأمر النبوي فقال: كلا، إن معاوية من أهل النار، لا لمخالفته علياً، ولا بمحاربته
إياه، ولكن عقيدته لم تكن صحيحة، ولا إيمانه حقاً، وكان من رؤوس المنافقين هو
وأبوه، ولم يسلم قلبه قط، وإنما أسلم لسانه، وكان يذكر من حديث معاوبة ومن فلتات
قوله، وما حفظ عنه من كلام يقتضي فساد العقيدة شيثاً كثيراً، ليس هذا موضعه
فأذكره. وقال لي مرة: حاش
لئه أن يثبت معاوية في جريدة الشيخين الفاضلين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما والله ما
هما إلا كالذهب الإبريز، ولا معاوية إلا كالدرهم الزائف "أو قال:
كالدرهم القسي" ثم قال لي: فما يقول أصحابكم فيهما؟ قلت: أما الذي استقر
عليه رأي المعتزلة بعد اختلاف كثير بين قدمائهم في التفضيل وغيره، أن علياً
رضي الله عنه أفضل
الجماعة، وأنهم تركوا الأفضل لمصلحة رأوها، وأنه
لم يكن هناك نص يقطع العذر، وإنما كانت إشارة
وإيماء لا يتضمن شيء منها صريح النص، وأن علياً
رضي الله عنه نازع ثم بايع، وجمح ثم استجاب. ولو أقام على الامتناع لم نقل بصحة
البيعة ولا بلزومها، ولو جرد السيف كما جرده في آخر الأمر لقلنا بفسق كل من خالفه على الإطلاق كائناً من كان،
ولكنه رضي بالبيعة أخيراً، ودخل في الطاعة. وبالجملة، أصحابنا يقولون: إن
الأمر كان له، وكان هو المستحق والمتعين، فإن شاء أخذه
لنفسه، وإن شاء ولاه غيره، فلما رأيناه قد وافق على ولاية غيره، اتبعناه ورضينا بما رضي. فقال: قد بقي بيني وبينكم قليل، أنا أذهب إلى النص وأنتم لا تذهبون إليه فقلت
له: إنه لم يثبت النص عندنا بطريق يوجب العلم،
وما تذكرونه أنتم صريحاً فأنتم تنفردون بنقله،
وما عدا ذلك من الأخبار التي نشارككم فيها، فلها
تأويلات معلومة. فقال لي وهو ضجر: يا
فلان، لو فتحنا باب التأويلات، لجاز أن يتناول
قولنا: "لا إله إلا الله محمد رسول الله"،
دعني من التأويلات الباردة التي تعلم القلوب والنفوس
أنها غيرمرادة، وأن المتكلمين تكلفوها وتعسفوها،
فإنما أنا وأنت في الدار ولا ثالث لنا، فيستحي أحدنا من
صاحبه أويحافه. فلما بلغنا إلى هذا الموضع، دخل قوم ممن كان يخشاه، فتركنا ذلك الأسلوب من
الحديث، وخضنا في غيره. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
سياسة الإمام علي عليه السلام ومعاوية
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
فأما القول في سياسة معاوية،
وأن شنأة علي رضي الله عنه ومبغضيه زعموا أنها خير من
سياسة أمير المؤمنين، فيكفينا في الكلام على ذلك ما قاله شيخنا أبو عثمان، ونحن نحكيه بألفاظه. قال أبو عثمان:
وربما رأيت بعض من يظن بنفسه العقل والتحصيل
والفهم والتمييز - وهو من العامة ويظن أنه من الخاصة - يزعم أن معاوية كان أبعد غوراً،
وأصح فكراً، وأجود رؤية، وأبعد غاية، وأدق مسلكاً، وليس
الأمر كذلك، وسأرمي إليك بجملة تعرف بها موضع غلطه. والمكان الذي دخل عليه الخطأ من
قبله.
كان علي رضي الله عنه
لا يستعمل في حربه إلا ما وافق الكتاب والسنة، وكان
معاوية يستعمل خلاف الكتاب والسنة، كما يستعمل الكتاب والسنة، ويستعمل جميع المكايد، حلالها وحرامها، ويسير في الحرب
بسيرة ملك الهند إذا لاقى كسرى، وخاقان إذا لاقى رتبيل . وعلي
رضي الله عنه يقول: لا تبدأوهم بالقتال حتى يبدأوكم، ولا تتبعوا مدبراً،
ولا تجهزوا على جريح، ولا تفتحوا باباً مغلقاً، هذه
سيرته في ذي الكلاع، وفي أبي الأعور السلمي، وفي عمرو بن العاص، وحبيب بن مسلمة،
وفي جميع الرؤساء، كسيرته في الحاشية والحشو والأتباع والسفلة. وأصحاب الحروب، إن قدروا على البيات بيتوا، وإن قدروا
على رضخ الجميع بالجندل وهم نيام فعلوا، وإن أمكن ذلك في طرفة عين لم يؤخروه إلى
ساعة، وإن كان الحرق أعجل من الغرق لم يقتصروا على الغرق ولم يؤخروا الحرق إلى
وقت الغرق، وإن أمكن الهدم لم يتكلفوا الحصار، ولم يدعوا أن ينصبوا المجانيق ،
والعرادات ، والنقب، والتسريب، والدبابات ، والكمين، ولم يدعوا دس السموم، ولا
التضريب بين الناس بالكذب، وطرح الكتب في عساكرهم بالسعايات ، وتوهيم الأمور،
وإيحاش بعض من بعض، وقتلهم بكل آلة وحيلة، كيف وقع القتل، وكيف دارت بهم الحال فمن اقتصر - حفظك الله - من التدبيرعلى ما في الكتاب
والسنة كان قد منع نفسه الطويل العريض من التدبير، وما لا يتناهى من المكايد.
والكذب - حفظك الله - أكثر من الصدق، والحرام أكثر عدداً من الحلال، ولو سمى إنسان إنساناً باسمه لكان قد صدق، وليس له اسم
غيره، ولو قال: هو شيطان أو كلب أو حمار أو شاة
أو بعير أو كل ما خطر على البال، لكان كاذباً في ذلك،
وكذلك الإيمان والكفر، وكذلك الطاعة والمعصية، وكذلك الحق والباطل، وكذلك السقم
والصحة، وكذلك الخطأ والصواب، فعلي رضي الله عنه
كان ملجماً بالورع عن جميع القول إلا ما هو الله
عز وجل رضاً، وممنوع اليدين من كل بطش إلا ما هو
لله رضاً، ولا يرى الرضا إلا فيما يرضاه الله ويحبه، ولا يرى الرضا إلا فيما دل
عليه الكتاب والسنة، دون ما يعول عليه أصحاب الدهاء والنكراء والمكايد والأراء، فلما أبصرت العوام كثرة نوادر معاوية في المكايد، وكثرة غرائبه في الخداع، وما اتفق له وتهيأ على
يده، ولم يروا ذلك من علي رضي الله عنه،
ظنوا - بقصر عقولهم، وقلة علومهم - أن ذلك من رجحان عند
معاوية ونقصان عند علي رضي الله عنه. فانظر بعد
هذا كله، هل يعد له من الخدع إلا رفع المصاحف ثم انظر
هل خدع بها إلا من عصى رأي علي رضي الله عنه، وخالف أمره فإن زعمت أنه قال ما أراد من الاختلاف فقد صدقت، وليس في هذا اختلفنا، ولا عن غرارة أصحاب
علي رضي الله عنه، وعجلتهم
وتسرعهم وتنازعهم دفعنا، وإنما كان قولنا في التميز
بينهما في الدهاء والنكراء وصحة العقل والرأي والبزلاء ، على أنا لا نصف
الصالحين بالدهاء والنكراء، لا نقول: ما كان
أنكر أبا بكر بن أبي قحافة رضي الله عنه وما
كان أنكر عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولا يقول أحدٌ عنده شيء من الخير: كان رسول
الله رضي الله عنه أدهى
العرب والعجم، وأنكر قريش وأمكر كنانة، لأن هذه الكلمة
إنما وضعت في مديح أصحاب الأرب ومن يتعمق في الرأي في توكيد أمر الدنيا
وزبرجها وتشديد أركانها، فأما أصحاب الاخرة
الذين يرون الناس لا يصلحون على تدبير البشر، وإنما يصلحون على تدبير خالق
البشر، فإن هؤلاء لا يمدحون بالدهاء والنكراء، ولم
يمنعوا هذا إلا ليعطوا أفضل منه. ألا ترى أن المغيرة بن شعبة -
وكان أحد الدهاة - حين رد على عمرو بن العاص قوله في عمر بن الخطاب رضي الله
عنه - وعمرو بن العاص أحد الدهاة أيضاً: أأنت كنت تفعل، أو توهم عمر شيئاً فيلقنه عنك ما رأيت عمر مستخلياً
بأحد إلا رحمته كائناً من كان ذلك الرجل، كان عمر
والله أعقل من أن يخدع، وأفضل من أن يخدع. ولم يذكره بالدهاء والنكراء وهذا مع عجبه بإضافة الناس
ذلك إليه، ولكنه قد علم أنه إذا أطلق على الأئمة
الألفاظ التي لاتصلح في أهل الطهارة، كان ذلك غير مقبول منه، فهذا هذا. وكذلك كان حكم قول معاوية للجميع: أخرجوا
إلينا قتلة عثمان، ونحن لكم سلم. فاجهد كل
جهدك، واستعن بمن شايعك إلى أن تتخلص إلى صواب رأي في ذلك الوقت أضله علي، حتى تعلم أن معاوية خادع، وأن علياً رضي الله عنه كان
المخدوع. فإن قلت: فقد بلغ ما
أراد، ونال ما أحب، فهل رأيت كتابنا وضع الا على أن
علياً كان قد امتحن في أصحابه وفي دهره، بما لم يمتحن إمام قبله من الاختلاف
والمنازعة، والتشاح من الرياسة والتسرع والعجلة وهل أتى رضي الله عنه إلا
من هذا المكان أو لسنا قد فرغنا من هذا الأمر، وقد
علمنا أن ثلاثة نفر تواطأوا على قتل ثلاثة نفر، فانفرد ابن ملجم بالتماس ذلك من علي رضي الله عنه، وانفرد
البرك الصريمي بالتماس ذلك من عمرو بن العاص وانفرد
الآخر - وهو عمرو بن بكر التميمي - بالتماس ذلك من معاوية، فكان من الاتفاق أو من الامتحان، أن كان علي من بينهم
هو المقتول. وفي قياس مذهبكم أن
تزعموا أن سلامة عمرو ومعاوية إنما كانت بحزم منهما،
وأن قتل علي رضي الله عنه إنما هو من تضييع منه،
فإذ قد تبين لكم أنه من الابتلاء والامتحان في نفسه
بخلاف الذي قد شاهدتموه في عدوه، فكل شيء سوى ذلك،
فإنما هو تبعٌ للنفس. هذا آخر كلام أبي عثمان في هذا الموضع، ومن تأمله بعين الإنصاف، ولم يتبع الهوى علم صحة جميع ما ذكره،
وأن أمير المؤمنين دفع - من اختلاف أصحابه، وسوء طاعتهم له، ولزومه سنن الشريعة،
ومنهج العدل، وخروج معاوية وعمرو بن العاص عن قاعدة الشرع في استمالة الناس
إليهم بالرغبة والرهبة - إلى ما لم يدفع إليه غيره. فلولا أنه رضي الله عنه كان عارفاً بوجوه السياسة وتدبير أمر
السلطان والخلافة، حاذقاً في ذلك، لم يجتمع عليه إلا
القليل من الناس، وهم أهل الآخرة خاصة، الذين لا ميل لهم إلى الدنيا،
فلما وجدناه دبر الأمر حين وليه، واجتمع عليه من العساكر والأتباع ما يتجاوز
العد والحصر، وقاتل بهم أعداءه الذين حالم حالهم، فظفر في أكثر حروبه، ووقف
الأمر بينه وبين معاوية على سواء، وكان هو الأظهر
والأقرب إلى الانتصار - علمنا أنه من معرفة تدبير الدول والسلطان بمكان مكين. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أقوال من طعن في سياسة علي والرد عليها
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وقد تعلق من طعن في سياسته بأمور: منها قولهم:
لوكان حين بويع له بالخلافة في المدينة أقر معاوية على الشام إلى أن يستقر الأمر
له ويتوطد، ويبايعه معاوية وأهل الشام ثم يعزله بعد ذلك، لكان قد كفي ما جرى
بينهما من الحرب. والجواب: أن
قرائن الأحوال حينئذ، قد كان علم أمير المؤمنين رضي الله عنه منها
أن معاوية لا يبايع له وإن أقره على ولاية الشام، بل
كان إقراره له على إمرة الشام، أقوى لحال معاوية، وآكد في الامتناع من البيعة،
لأنه لا يخلو صاحب السؤال إما أن يقول: كان ينبغي أن يطالبه بالبيعة ويقرن
إلى ذلك تقليده بالشام، فيكون الأمران معاً، أو يتقدم منه رضي الله عنه المطالبة بالبيعة. أو
يتقدم منه إقراره على الشام وتتأخر المطالبة بالبيعة إلى وقت ثان. فإن كان الأول
فمن الممكن أن يقرأ معاوية على أهل الشام تقليده بالإمرة، فيؤكد حاله عندهم
ويقرر في أنفسهم، لولا أنه أهل لذلك لما اعتمده علي رضي الله عنه معه، ثم يماطله
بالبيعة، ويحاجزه عنها. وإن كان الثاني فهو الذي فعله أمير المؤمنين رضي
الله عنه. وإن كان الثالث فهوكالقسم الأول، بل هو آكد فيما يريده معاوية من الخلاف
والعصيان. وكيف
يتوهم من يعرف السيرأن معاوية كان يبايع له، لو أقره على الشام وبينه وبينه ما
لا تبرك الإبل عليه، من الترات القديمة، والأحقاد، وهو
الذي قتل حنظلة أخاه والوليد خاله، وعتبة جده في مقام واحدٍ، ثم ما جرى
بينهما في أيام عثمان، حتى أغلظ كل واحد منهما
لصاحبه، وحتى تهدده معاوية، وقال له: إني شاخص
إلى الشام وتارك عندك هذا الشيخ - يعني عثمان -
والله لئن انحصت منه شعرة واحدة لأضربنك بمائة ألف سيف. وقد ذكرنا شيئاً مما جرى بينهما فيما تقدم. وأما قول ابن عباس له رضي الله عنه: وله شهراً واعزله دهراً، وما أشار به المغيرة بن شعبة، فإنهما ما توهماه، وما غلب على
ظنونهما وخطر بقلوبهما، وعلي رضي الله عنه كان أعلم بحاله مع معاوية، وأنها لا تقبل العلاج
والتدبير. وكيف يخطر ببال عارف بحال معاوية ونكره ودهائه، وما كان في نفسه من علي رضي الله عنه من قتل عثمان ومن قبل قتل عثمان، أنه يقبل إقرارعلي رضي الله عنه له على الشام، وينخدع بذلك، ويبايع ويعطي صفقة يمينه إن
معاوية لأدهى من أن يكاد بذلك، وإن علياً رضي الله عنه لأعرف
بمعاوية ممن ظن أنه لو استماله بإقراره لبايع له، ولم
يكن عند علي رضي الله عنه دواء لهذا المرض إلا السيف، لأن الحال إليه كانت تؤول لا محالة، فجعل الآخر أولا. وأنا أذكر في هذا
الموضع خبراً رواه الزبيربن بكار في "الموفقيات " ليعلم من يقف عليه،
أن معاوية لم يكن لينجذب إلى طاعة علي رضي الله عنه أبداً، ولا يعطيه البيعة،
وأن مضادته له، ومباينته إياه كمضادة السواد للبياض، لا يجتمعان أبداً وكمباينة
السلب للإيجاب، فإنها مباينة لا يمكن زوالها أصلاً. قال الزبير: حدثني محمد بن محمد بن زكريا بن بسطام، قال: حدثني
محمد بن يعقوب بن أبي الليث، قال: حدثني أحمد بن محمد بن الفضل بن يحسى المكي، عن أبيه، عن
جده الفضل بن يحيى عن الحسن بن عبد الصمد، عن قيس بن عرفجة، قال: لما حصر عثمان أبرد
مروان بن الحكم بخبره بريدين: أحدهما إلى الشام، والآخر إلى اليمن - وبها يومئذ يعلى بن منية - ومع كل واحدٍ منهما
كتاب، فيه أن بني أمية في الناس كالشامة الحمراء، وأن الناس قد قعدوا لهم برأس
كل محجة، وعلى كل طريق، فجعلوهم مرمى العر والعضيهة ، ومقذف القشب والأفيكة، وقد
علمتم أنها لم تأت عثمان إلا كرهاً، تجبذ من ورائها. وإني
خائف إن قتل أن تكون من بني أمية بمناط الثريا، إن لم نصر كرصيف الأساس المحكم،
ولئن وهى عمود البيت لتتداعين جدرانه، والذي عيب عليه إطعامكما الشام واليمن،
ولا شك أنكما تابعاه إن لم تحذرا، وأما أنا فمساعفٌ كل مستشير، ومعين كل مستصرخ،
ومجيب كل داع، أتوقع الفرصة فأثب وثبة الفهد أبصر غفلة مقتنصه، ولولا مخافة عطب البريد، وضياع الكتب، لشرحت لكما من
الأمر ما لا تفزعان معه إلى أن يحدث الأمر، فجدا في طلب ما أنتما ولياه وعلى ذلك
فليكن العمل إن شاء الله. وكتب في آخره:
فلما ورد الكتاب على معاوية، أذن في الناس: الصلاة جامعة ثم خطبهم خطبة المستنصر
المستصرخ. وفي أثناء ذلك ورد عليه قبل أن يكتب الجواب، كتاب مروان بقتل عثمان، وكانت نسخته: وهب الله لك أبا عبد الرحمن قوة العزم،
وصلاح النية، ومن عليك بمعرفة الحق واتباعه، فإني كتبت
إليك هذا الكتاب بعد قتل عثمان أمير المؤمنين
رضي الله عنه وأي قتلةٍ قتل نحر كما ينحر البعير الكبيرعند اليأس من أن ينوء
بالحمل، بعد أن نقبت صفحته بطي المراحل وسير الهجير، وإني معلمك من خبره غيرمقصر ولا مطيل: إن القوم
استطالوا مدته، واستقلوا ناصره، واستضعفوه في بدنه، وأملوا بقتله بسط أيديهم
فيما كان قبضه عنهم، واعصوصبوا عليه، فظل
محاصراً، قد منع من صلاة الجماعة، ورد المظالم، والنظر في أمور الرعية، حتى كأنه
هو فاعل لما فعلوه. فلما دام ذلك أشرف عليهم،
فخوفهم الله وناشدهم، وذكرهم مواعيد رسول الله صلى الله عليه وسلم له، وقوله
فيه، فلم يجحدوا فضله، ولم ينكروه، ثم رموه بأباطيل
اختلقوها ليجعلوا ذلك ذريعة إلى قتله، فوعدهم التوبة مما كرهوا، ووعدهم
الرجعة إلى ما أحبوا. فلم يقبلوا ذلك، ونهبوا
داره، وانتهكوا حرمته، ووثبوا عليه، فسفكوا دمه، وانقشعوا
عنه انقشاع سحابة قد أفرغت ماءها منكفئين قبل ابن أبي طالب، انكفاء الجراد إذا
أبصر المرعى. فأخلق ببني أمية أن يكونوا من هذا الأمر بمجرى العيوق إن لم
يثأره ثائر، فإن شئت أبا عبد الرحمن أن تكونه فكنه،
والسلام. فكان كتاب طلحة:
أما بعد، فإنك أقل قريش من قريش وتراً، مع صباحة وجهك وسماحة كفك، وفصاحة لسانك.
فأنت
بإزاء من تقدمك في السابقة، وخامس المبشرين بالجنة، ولك يوم أحد وشرفه وفضله،
فسارع رحمك الله إلى ما تقلدك الرعية من أمرها مما لا يسعك التخلف عنه، ولا يرضى
الله منك إلا بالقيام به، فقد أحكمت لك الأمر قبلي، والزبير فغير متقدم عليك
بفضل، وأيكما قدم صاحبه فالمقدم الإمام، والأمر من بعده للمقدم له، سلك الله بك
قصد المهتدين، ووهب لك رشد الموفقين. والسلام. وكتب إلى الزبير: أما
بعد، فإنك الزبير بن العوام، ابن أبي خديجة وابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحواريه، وسلفه، وصهر أبي بكر، وفارس المسلمين، وأنت الباذل
في الله مهجته بمكة عند صيحة الشيطان، بعثك المنبعث، فخرجت كالثعبان المنسلخ.
بالسيف المنصلت، تخبط خبط الجمل الرديع ، كل ذلك قوة إيمان، وصدق يقين، وسبقت لك
من رسول الله صلى الله عليه وسلم البشارة بالجنة، وجعلك عمر أحد المستخلفين على
الأمة. واعلم يا أبا عبد الله، أن الرعية أصبحت كالغنم المتفرقة لغيبة الراعي،
فسارع رحمك الله إلى حقن الدماء ولم الشعث، وجمع الكلمة، وصلاح ذات البين، قبل
تفاقم الأمر وانتشار الأمة، فقد أصبح الناس على شفا جرفٍ هارٍ عما قليل ينهار إن
لم يراب. فشمر
لتأليف الأمة، وابتغ إلى ربك سبيلاً، فقد أحكمت الأمر على من قبلي لك ولصاحبك
على أن الأمر للمقدم، ثم لصاحبه من بعده. جعلك الله من أئمة الهدى، وبغاة الخير
والتقوى. والسلام. وكتب إلى مروان بن الحكم: أما بعد، فقد وصل إلي كتابك بشرح خبرأمير المؤمنين، وما
ركبوه به، ونالوه منه، جهلاً الله وجراءة عليه، واستخفافاً بحقه، ولأماني لوح
الشيطان بها في شرك الباطل ليدهدههما في أهويات الفتن، ووهدات الضلال، ولعمري
لقد صدق عليهم ظنه، ولقد اقتضتهم بأنشوطة فخه، فعك رسلك أبا عبد الله، يمشي
الهوينى ويكون أولاً، فإذا قرأت كتابي هذا فكن كالفهد لا يصطاد إلا غيلةً، ولا
يتشازر إلا عن حيلة، وكالثعلب لا يفلت إلا روغاناً، وأخف نفسك منهم إخفاء القنفذ
رأسه عند لمس الأكف، وامتهن نفسك امتهان من ييأس القوم من نصره وانتصاره، وابحث
عن أمورهم بحث الدجاجة عن حب الدخن عند فقاسها، وأنغل الحجاز فإني منغل الشام. والسلام. وكتب إلى سعيد بن
العاص: أما بعد، فإن كتاب مروان ورد علي من ساعة وقعت النازلة، تقبل به
البرد بسير المطي الوجيف ، تتوجس توخس الحية الذكر خوف ضربة الفأس، وقبضة الحاوي
، ومروان الرائد لا يكذب أهله، فعلام الإفكاك يا بن العاص، ولات حين مناص ذلك
أنكم يا بني أمية عما قليل تسألون أدق العيش من أبعد المسافة، فينكركم من كان
منكم عارفاً، ويصد عنكم من كان لكم واصلاً، متفرقين في الشعاب تتمنون لمظة
المعاش. إن
أمير المؤمنين عتب عليه فيكم، وقتل في سبيلكم، ففيم القعود عن نصرته، والطلب
بدمه، وأنتم بنو أبيه، ذوو رحمه وأقربوه، وطلاب ثأره أصبحتم متمسكين بشظف معاشٍ
زهيد، عما قليل ينزع منكم عند التخاذل وضعف القوى. فإذا قرأت كتابي هذا فدب دبيب
البرء في الجسد النحيف، وسر سير النجوم تحت الغمام، واحشد حشد الذرة في الصيف
لانجحارها في الصرد ، فقد أيدتكم بأسد وتيم. وكتب في
الكتاب:
وكتب إلى عبد الله بن عامر: أما بعد، فإن المنبر مركبٌ ذلول، سهل الرياضة، لا ينازعك
اللجام. وهيهات ذلك الا بعد ركوب أثباج المهالك، واقتحام أمواج المعاطب. وكأني
بكم يا بني أمية شعارير كالأوارك ، تقودها الحداة، أو كرخم الخندمة تذرق خوف
العقاب، فثب الآن رحمك الله قبل أن يستشري الفساد وندب السوط جديد، والجرح لما
يندمل، ومن قبل استضراء الأسد، والتقاء لحييه على فريسته. وساور الأمر مساورة
الذئب الأطلس كسيرة القطيع. ونازل الرأي، وانصب الشرك، وارم عن تمكن، وضع الهناء
مواضع النقب ، واجعل أكبر عدتك الحذر، وأحد سلاحك التحريض. واغض عن العوراء، وسامح اللجوج، واستعطف
الشارد، ولاين الأشوس، وقو عزم المريد، وبادر العقبة، وازحف زحف الحية. واسبق
قبل أن تسبق، وقم قبل أن يقام لك. واعلم
أنك غيرمتروك ولا مهمل، فإني لكم ناصح أمين. والسلام.
وكتب في أسفل الكتاب:
وكتب إلى الوليد بن عقبة: يا بن عقبة كن الجيش، وطيب العيش أطيب من سفع سموم الجوزاء
عند اعتدال الشمس في أفقها، إن عثمان أخاك أصبح بعيداً منك فاطلب لنفسك ظلاً
تستكن به، إني أراك على التراب رقوداً، وكيف بالرقاد بك لا رقاد لك، فلو قد
استتب هذا الأمر لمريده ألفيت كشريد النعام، يفزع من ظل الطائر، وعن قليل تشرب
الرنق ، وتستشعر الخوف. أراك فسيح الصدر، مسترخي اللبب، رخو الحزام،
قليل الاكتراث، وعن قليل يجتث أصلك. والسلام.
وكتب في آخر الكتاب:
وكتب إلى يعلى بن امية: حاطك الله بكلاءته، وأيدك بتوفيقه. كتبت إليك صبيحة ورد علي
كتاب مروان بخبر قتل أمير المؤمنين، وشرح الحال فيه. وإن أمير المؤمنين طال به
العمر حتى نقصت قواه، وثقلت نهضته، وظهرت الرعشة في أعضاثه، فلما رأى ذلك أقوام
لم يكونوا عنده موضعاً للإمامة والأمانة وتقليد الولاية، وثبوا به، وألبوا عليه،
فكان أعظم ما نقموا عليه وعابوه به، ولايتك اليمن وطول مدتك عليها. ثم ترامى بهم
الأمر حالاً بعد حال، حتى ذبحوه ذبح النطيحة مبادراً بها الفوت، وهو مع ذلك صائم
معانقً المصحف، يتلو كتاب الله. فيه
عظمت مصيبة الإسلام بصهر الرسول، والإمام المقتول. على
غير جرم سفكوا دمه، وانتهكوا حرمته، وأنت تعلم أن بيعته في أعناقنا، وطلب ثأره
لازم لنا، فلا خير في دنيا تعدل بنا عن الحق، ولا في إمرة توردنا النار. وإن الله جل ثناؤه لا يرضى بالتعذير في دينه،
فشمر لدخول العراق. فأما الشام فقد كفيتك أهلها، وأحكمت أمرها، وقد كتبت إلى طلحة بن عبيد الله أن يلقاك بمكة، حتى يجتمع
رأيكما على إظهار الدعوة، والطلب بدم عثمان أمير المؤمنين المظلوم، وكتبت إلى
عبد الله بن عامر يمهد لكم العراق، ويسهل لكم حزونة عقابها . واعلم يا بن أمية
أن القوم قاصدوك بادىء بدء لاستنطاف ما حوته يداك من المال، فاعلم ذلك واعمل على
حسبه إن شاء الله وكتب في أسفل الكتاب:
قال:
فكتب إليه مروان جواباًعن كتابه: أما بعد، فقد
وصل كتابك، فنعم كتاب زعيم العشيرة، وحامي الذمار وأخبرك أن القوم على سنن
استقامةٍ إلا شظايا شعب، شتت بينهم مقولي على غيرمجابهة، حسب ما تقدم من أمرك،
وإنما كان ذلك رسيس العصاة، ورمى أخدر من أغصان الدوحة، ولقد طويت أديمهم على
نغل يحلم منه الجلد. كذبت نفس الظان بنا ترك المظلمة، وحب الهجوع،
إلا تهويمة الراكب العجل، حتى تجذ جماجم وجماجم، جذ العراجين المهدلة حين
إيناعها، وأنا على صحة نيتي، وقوة عزيمتي وتحريك الرحم لي، وغليان الدم مني، غير
سابقك بقول، ولا متقدمك بفعل، وأنت ابن حرب، طلاب الترات، وآبي الضيم. وكيتابي
إليك وأنا كحرباء السبسب في الهجير ترقب عين الغزالة ، وكالسبع المفلت من الشرك
يفرق من صوت نفسه، منتظراً لما تصح به عزيمتك، ويرد به أمرك، فيكون العمل به،
والمحتذى عليه، وكتب في أسفل الكتاب:
وكتب إليه عبد الله بن عامر: أما بعد، فإن أمير المؤمنين كان له الجناح الحاضنة تأوي
إليها فراخها تحتها، فلما أقصده السهم صرنا كالنعام الشارد، ولقد كنت مشترك
الفكر، ضال الفهم، ألتمس دريئةً أستجن بها من خطأ الحوادث، حتى وقع إلي كتابك،
فانتبهت من غفلة طال فيها رقادي، فأنا كواجد المحجة كان إلى جانبها حائراً،
وكأني أعاين ما وصفت من تصرف الأحوال.
وكتب إليه الوليد بن عقبة: أما بعد فإنك أسد قريش عقلاً، وأحسنهم فهماً، وأصويهم
رأياً، معك حسن السياسة، وأنت موضع الرياسة، تورد بمعرفة، وتصدر عن منهل روي.
مناوئك كالمنقلب من العيوق يهوي به عاصف الشمال إلى لجة البحر. كتبت إلي تذكر
طيب الخيش، ولين العيش، فملء بطني علي حرام إلا مسكة الرمق حتى أفري أوداج قتلة
عثمان فري الأهب بشباة الشفار. وأما اللين فهيهات إلا
خيفة المرتقب يرتقب غفلة الطالب، إنا على مداجاة، ولما تبد صفحاتنا بعد، وليس
دون الدم بالدم مزحل. إن العار منقصة، والضعف ذل. أيخبط قتلة عثمان زهرة
الحياة الدنيا، ويسقون برد المعين، ولما يمتطوا الخوف، ويستحلسوا الحذر، بعد
مسافة الطرد وامتطاء العقبة الكؤود في الرحلة لا دعيت لعقبة إن كان ذلك حتى أنصب
لهم حرباً تضع الحوامل لها أطفالها قد ألوت بنا المسافة، ووردنا حياض المنايا،
وقد عقلت نفسي على الموت عقل البعير، واحتسبت أني ثاني عثمان أو أقتل قاتله فعجل
على ما يكون من رأيك، فإنا منوطون بك، متبعون عقبك، ولم أحسب الحال تتراخى بك إلى
هذه الغاية، لما أخافه من إحكام القوم أمرهم، وكتب في
أسفل الكتاب:
وكتب إليه يعلى بن أمية: إنا وأنتم يا بني أمية كالحجر لا يبنى بغير مدر، وكالسيف لا
يقطع إلا بضاربه. وصل كتابك بخبر القوم وحالهم، فلئن كانوا ذبحوه ذبح النطيحة
بودر بها الموت لينحرن ذابحه نحر البدنة وافى بها الهدي الأجل ثكلتني من أنا
ابنها إن نمت عن طلب وتر عثمان، أو يقال: لم يبق فيه رمق إني أرى العيش بعد قتل
عثمان مراً، إن أدلج القوم فإني مدلجٌ. وأما قصدهم ما حوته يدي من المال، فالمال
أيسر مفقود إن دفعوا إلينا قتلة عثمان، وإن أبوا ذلك أنفقنا المال على قتالهم،
وإن لنا ولهم لمعركةً نتناحر فيها نحر القدار النقائع ، عن قليل تصل لحومها.
وكتب في أسفل الكتاب:
قال: فكل هؤلاء كتبوا إلى معاوية
يحرضونه، ويغرونه، ويحركونه، ويهيجونه، إلا سعيد بن
العاص، فإنه كتب بخلاف ما كتب به هؤلاء، كان
كتابه: أما بعد، فإن الحزم في التثبت، والخطأ في
العجلة، والشؤم في البدار، والسهم سهمك ما لم ينبض به الوتر، ولن يرد الحالب في
الضرع اللبن، ذكرت حق أمير المؤمنين علينا، وقرابتنا منه، وأنه قتل فينا.
فخصلتان ذكرهما نقص، والثالثة تكذب، وأمرتنا
بطلب دم عثمان، فأي جهة تسلك فيها أبا عبد الرحمن ردمت الفجاج، واحكم الأمر
عليك، وولي زمامه غيرك، فدع مناوأة من لوكان افترش فراشه صدر الأمر لم يعدل به
غيره، وقلت: كأنا عن قليلٍ لا نتعارف، فهل نحن إلاحيٌ من قريش، إن لم تنلنا
الولاية لم يضق عنا الحق، إنها خلافة منافية، وبالله أقسم قسماً مبروراً، لئن
صحت عزيمتك على ما ورد به كتابك، لألفيتك بين الحالين، طليحاً. وهبني
إخالك بعد خوض الدماء تنال الظفر، هل في ذلك عوض من ركوب المأثم ونقص الدين أما أنا فلا على بني أمية ولا لهم، أجعل الحزم داري، والبيت
سجني، وأتوسد الإسلام. وأستشعر العافية. فاعدل أبا عبد الرحمن زمام راحلتك إلى محجة الحق، واستوهب
العافية لأهلك، واستعطف الناس على قومك، وهيهات من قبولك ما أقول حتى يفخر مروان
ينابيع الفتن تأجج في البلاد، وكأني بكما عند ملاقاة الأبطال تعتذران بالقدر،
ولبئس العاقبة الندامة وعما قليل يضح لك الأمر. والسلام. هذا آخر ما
تكاتب القوم به، ومن وقف عليه علم أن الحال لم يكن
حالاً يقبل العلاج والتدبير، وأنه لم يكن بد من السيف، وأن علياً رضي الله عنه
كان أعرف بما عمل. وقد أجاب ابن سنان في كتابه الذي سماه
"العادل" عن هذا السؤال، فقال: قد علم الناس
كافة أنه رضي الله عنه في قصة الشورى عرض
عليه عبد الرحمن بن عوف، أن يعقد له الخلافة على أن
يعمل بكتاب الله وسنة رسوله ولمسيرة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فلم
يستجب إلى ذلك، وقال: بل
علي أن أعمل بكتاب الله وسنة رسوله، وأجتهد رأي. وقد اختلف
الناس في ذلك، فقالت الشيعة: إنما لم يدخل
تحت الشرط، لأنه لم يستصوب سيرتهما. وقال غيرهم: إنما امتنع لأنه مجتهد، والمجتهد
لا يقلد المجتهد، فأيهما أقرب على القولين جميعاً
إثماً، وأيسر وزراً أن يقر معاوية على ولاية الشام مدة إلى أن تتوطد
خلافته، مع ما ظهر من جور معاوية وعداوته، ومد يده إلى الأموال والدماء أيام
سلطانه، أو أن يعاهد عبد الرحمن على العمل بسيرة
أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ثم يخالف بعض
أحكامها إذا استقر الأمر له، ووقع العقد ولا ريب أن
أحداً لا يخفى عليه فضل ما بين الموضعين، وفضل ما بين الإثمين، فمن لا
يجيب إلى الخلافة والاستيلاء على جميع بلاد الإسلام إذا تسمح بلفظة يتلفظ بها،
يجوز أن يتاولها أو يوري فيها، كيف يستجيب إلى
إقرار الجائر، وتقوية يده مع تمكينه في سلطانه، لتحصل له طاعة أهل الشام
واستضافة طرفٍ من الأطراف وكأن معنى قول القائل:
هلا أقر معاوية على الشام، هو هلا كان رضي الله عنه متهاوناً بأمر الدين راغباً
في تشديد أمر الدنيا والجواب عن هذا ظاهر، وجهل السائل
عنه واضحٌ. واعلم أن حقيقة الجواب هوأن
علياً، كان لا يرى مخالفة الشرع، لأجل السياسة، سواء
أكانت تلك السياسة دينية أو دنيوية، أما الدنيوية فنحو أن يتوهم الإمام في إنسان أنه يروم فساد خلافته من غيرأن
يثبت ذلك عليه يقيناً، فإن علياً رضي
الله عنه لم يكن يستحل قتله، ولا حبسه،
ولا يعمل بالتوهم وبالقول غير المحقق، وأما الدينية
فنحو ضرب المتهم بالسرقة، فإنه أيضاً لم يكن يعمل به، بل
يقول: إن يثبت عليه بإقرار أو بينة، أقمت عليه الحد، وإلا لم أعترضه. وغير علي رضي
الله عنه قد كان منهم من يرى خلاف هذا
الرأي، ومذهب مالك بن أنس العمل على المصالح
المرسلة، وأنه يجوز للإمام أن يقتل ثلث الأمة لإصلاح
الثلثين، ومذهب أكثر الناس أنه يجوز
العمل بالرأي وبغالب الظن، وإذا كان مذهبه رضي الله عنه ما قلناه، وكان معاوية عنده فاسقاً، وقد سبق عنده
مقدمة اخرى يقينية، هي أن استعمال الفاسق لا يجوز
ولم يكن ممن يرى تمهيد قاعدة الخلافة بمخالفة الشريعة، فقد تعين مجاهرته بالعزل،
وإن أفضى ذلك إلى الحرب. فهذا هو الجواب الحقيقي،
ولو لم يكن هذا هو الجواب الحقيقي، لكان لقائل أن يقول
لابن سنان القول في عدوله عن الدخول تحت شرط عبد الرحمن، كالقول في عدوله عن إقرار معاوية على الشام، فإن من ذهب إلى تغليطه في أحد الموضعين، له أن يذهب
إلى تغليطه في الموضع الاخر. فلو أنه رضي الله عنه افتتح عقد الخلافة له بتوليته معاوية الشام، وإقراره فيه، أليس
كان يبتدىء في أول أمره بما انتهى إليه عثمان في آخره، فأفضى إلى خلعه وقتله ولوكان
ذلك في حكم الشريعة سائغاً، والوزر فيه مأموناً، لكان
غلطاً قبيحاً في السياسة، وسبباً قوياً للعصيان والمخالفة، ولم يكن يمكنه
رضي الله عنه أن يقول للمسلمين: إن حقيقة رأي عزل
معاوية عند استقرار الأمر وطاعة الجمهور لي، وإن قصدي بإقراره على الولاية
مخادعته، وتعجيل طاعته، ومبايعة الأجناد الذين قبله، ثم أستانف بعد ذلك فيه ما
يستحقه من العزل، وأعمل فيه بموجب العدل، لأن إظهاره رضي الله عنه لهذا العزم
كان يتصل خبره بمعاوية فيفسد التدبير الذي شرع فيه وينتقض الرأي الذي عول عليه.
ومنها قولهم: إنه ترك طلحة
والزبير حتى خرجا إلى مكة، وأذن لهما في العمرة، وذهب عنه الرأي في
ارتباطهما قبله، ومنعهما من البعد عنه. والجواب عنه،
أنه قد اختلفت الرواة في خروج طلحة والزبير من المدينة: هل كان بإذن علي رضي الله عنه أم لا فمن قال: إنهما خرجا عن غير
إذنه ولا علمه، فسؤاله ساقط، ومن قال: إنهما استأذناه في العمرة، وأذن لهما، فقد روي أنه قال: والله ما تريدان العمرة، وإنما تريدان الغدرة وخوفهما بالله
من التسرع إلى الفتنة. وما كان
يجوز له في الشرع أن يحبسهما، ولا في السياسة. أما في الشرع فلأنه محظور
أن يعاقب الإنسان بما لم يفعل، وعلى ما يظن منه، ويجوز ألا يقع. وأما في السياسة فلأنه
لوأظهر التهمة لهما - وهما من أفاضل السابقين، وجلة المهاجرين - لكان في ذلك من
التنفير عنه ما لا يخفى، ومن الطعن عليه ما هو معلوم، بأن
يقال: إنه ليس من إمامته على ثقة، فلذلك يتهم الرؤساء، ولا يأمن الفضلاء،
لا سيما وطلحة كان أول من بايعه، والزبير لم يزل مشتهراً بنصرته، فلو حبسهما، وأظهر الشك فيهما
لم يسكن أحد إلى جهته، ولنفر الناس كلهم عن طاعته فإن قالوا: فهلا استصلحهما وولأهما، وارتبطهما
بالإجابة إلى أغراضهما؟ قيل لهم: فحوى هذا
أنكم تطلبون من أمير المؤمنين رضي الله عنه أن
يكون في الإمامة مغلوباً على رأيه، مفتاتاً عليه في تدبيره، فيقر معاوية على
ولاية الشام غصباً، ويولي طلحة والزبير مصر
والعراق كرهاً، وهذا شيء ما دخل تحته أحد ممن
قبله، ولا رضوا أن يكون لهم من الإمامة الاسم، ومن الخلافة اللفظ، ولقد حورب عثمان وحصر على أن يعزل بعض ولاته فلم يجب إلى ذلك،
فكيف تسومون علياً رضي الله عنه أن يفتتح أمره بهذه الدنية
ويرضى بالدخول تحت هذه الخطة وهذا ظاهر. ومنها تعلقهم بتولية أمير المؤمنين رضي الله عنه محمد
بن أبي بكر مصر، وعزله قيس بن سعد عنها، حتى قتل محمد بها، واستولى معاوية عليها. والجواب أنه ليس يمكن أن يقال: إن محمداً رحمه الله
لم يكن بأهلٍ لولاية مصر، لأنه كان شجاعاً زاهداً فاضلاً، صحيح العقل والرأي،
وكان مع ذلك من المخلصين في محبة أمير المؤمنين رضي الله عنه، والمجتهدين في
طاعته، وممن لا يتهم عليه، ولا يرتاب بنصحه، وهو ربيبه وخريجه،
ويجري مجرى أحد أولاده رضي الله عنهما، لتربيته له، وإشفاقه عليه. ثم كان المصريون على غاية
المحبة له، والإيثار لولايته، ولما حاصروا عثمان وطالبوه بعزل عبد الله بن سعد بن أبي سرح عنهم، اقترحوا تأمير محمد بن أبي عثمان بالعهد على مصر وصار مع بكر عليهم.
فكتب له المصريين حتى تعقبه كتاب عثمان إلى عبد الله بن سعد في أمره وأمر
المصريين بما هو معروف. فعادوا جميعاً، وكان من قتل عثمان ما كان، فلم يكن ظاهر الرأي ووجه التدبير إلا تولية محمد بن أبي بكر
على مصر، لما ظهر من ميل المصريين إليه، وايثارهم له، واستحقاقه لذلك
بتكامل خصال الفضل فيه، فكان الظن قوياً باتفاق الرعية على طاعته، وانقيادهم إلى
نصرته، واجتماعهم على محبته، فكان من فساد الأمر
واضطرابه عليه حتى كان ما كان، وليس ذلك بعيب على أمير المؤمنين رضي الله
عنه، فإن الأمور إنما يعتمدها الإمام على حسب ما يظن فيها من المصلحة، ولا يعلم
الغيب إلا الله تعالى. وقد تولى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مؤتة جعفراً فقتل، وولى زيداً فقتل، وولى عبد الله بن رواحة فقتل،
وهزم الجيش، وعاد من عاد منهم إلى المدينة، بأسوأ حال، فهل لأحدٍ أن يعيب رسول
الله صلى الله عليه وسلم بهذا، ويطعن في تدبيره ومنها قولهم: إن جماعة من
أصحابه رضي الله عنه فارقوه، وصاروا إلى معاوية،
كعقيل بن أبي طالب أخيه، والنجاشي شاعره، ورقبة بن مصقلة أحد الوجوه من أصحابه،
ولو لا أنه كان يوحشهم ولا يستميلهم لم يفارقوه ويصيروا
إلى عدوه، وهذا يخالف حكم السياسة، وما يجب من تألف قلوب الأصحاب
والرعية. والجواب: إنا
أولاً لا ننكر أن يكون كل من رغب في حطام الدنيا
وزخرفها، وأحب العاجل من ملاذها وزينتها يميل إلى
معاوية الذي يبذل منها كل مطلوب، ويسمح بكل مأمول، ويطعم خراج مصر عمرو
بن العاص، ويضمن لذي الكلاع وحبيب بن مسلمة ما يوفي على الرجاء والاقتراح، وعلي رضي
الله عنه يعدل
فيما هو أمينٌ عليه من مال المسلمين عن قضية الشريعة وحكم الملة،
حتى يقول خالد بن معمر السدوسي لعلياء بن الهيثم، وهو
يحمله على مفارقة علي رضي الله عنه، واللحاق بمعاوية: اتق الله يا علياء في عشيرتك،
وانظر لنفسك ولرحمك، ماذا تؤمل عند رجل أردته على أن يزيد في عطاء الحسن والحسين
دريهمات يسيرة ريثما يرأبان بها ظلف عيشهما، فأبى وغضب
فلم يفعل. فأما عقيل، فالصحيح الذي اجتمع
ثقات الرواة عليه أنه لم يجتمع مع معاوية إلا
بعد وفاة أمير المؤمنين رضي
الله عنه، ولكنه لازم
المدينة، ولم يحضر حرب الجمل وصفين، وكان ذلك بإذن أمير
المؤمنين رضي الله عنه،
وقد كتب عقيل إليه بعد الحكمين يستأذنه في
القدوم عليه الكوفة بولده وبقية أهله، فأمره رضي الله
عنه بالمقام، وقد روي في خبر مشهور، أن معاوية وبخ سعيد بن العاص على
تأخيره عنه في صفين، فقال سعيد: لو دعوتني
لوجدتني قريباً، ولكني جلست مجلس عقيل وغيره من بني
هاشم، ولو أوعبنا لأوعبوا . وأما النجاشي،
فإنه شرب الخمر في شهر رمضان، فأقام علي رضي الله عنه الحد عليه، وزاده عشرين جلدة فقال النجاشي:
ما هذه العلاوة؟ قال: لجرأتك على الله في شهر
رمضان. فهرب النجاشي إلى معاوية. وأما رقبة بن مصقلة، فإنه ابتاع سبي بني ناجية وأعتقهم، وألط بالمال وهرب إلى معاوية، فقال رضي الله عنه؟ فعل
فعل السادة، وأبق إباق العبيد، وليس تعطيل الحدود وإباحة حكم الدين وإضاعة مال
المسلمين من التألف والسياسة لمن يريد وجه الله تعالى، والتلزم بالدين،
ولا يظن بعلي رضي الله عنه التساهل والتسامح في صغير من ذلك ولا كبير. ومنها شبهة الخوارج وهي التحكيم، وقد يحتج به على أنه اعتمد ما لا
يجوز في الشرع، وقد يحتج به على أنه اعتمد ما ليس بصواب في تدبير الأمر. أما الأول فقولهم: إنه
حكم الرجال في دين الله، والله سبحانه يقول: "إن
الحكم إلا لله" وأما الثاني فقولهم:
إنه كان قد لاح له النصر، وظهرت أمارات الظفر بمعاوية، ولم يبق إلا أن يؤخذ
برقبته فترك التصميم على ذلك، وأخلد إلى التحكيم. وربما
قالوا: إن تحكيمه يدل على شك منه في أمره، وربما
قالوا: كيف رضي بحكومة أبي موسى وهو فاسق
عنده بتثبيطه أهل الكوفة عنه في حرب البصرة؟ وكيف رضي بتحكيم عمرو بن العاص وهو أفسق
الفاسقين؟ والجواب: أما تحكيم
الرجال في الدين فليس بمحظور، فقد أمر الله تعالى بالتحكيم بين المرأة
وزوجها، فقال: "وإن خفتم شقاق بينهما
فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها" . وقال في جزاء الصيد:
"يحكم به ذوا عدلٍ منكم" . وأما قولهم:
كيف ترك التصميم بعد ظهور أمارات النصر؟ فقد تواتر الخبر بأن أصحابه لما رفع أهل الشام المصاحف
عند ظهور أهل العراق عليهم، ومشارفة هلاك معاوية وأصحابه، انخدعوا برفع المصاحف،
وقالوا: لا يحل لنا التصميم على حربهم، ولا
يجوز لنا إلا وضع السلاح ورفع الحرب والرجوع إلى المصاحف وحكمها. فقال لهم: إنها خديعة، وإنها كلمة حق يراد بها باطل، وأمرهم بالصبر ولو ساعة واحدة، فأبوا ذلك، وقالوا: أرسل إلى الأشتر فليعد، فأرسل إليه، فقال: كيف أعود وقد لاحت
أمارات النصر والظفر فقالوا له: ابعث إليه مرةً اخرى، فبعث إليه، فأعاد
الجواب بنحو قوله الأول وسأل أن يمهل ساعةً من النهار،
فقالوا: إن بينك وبينه وصية ألا يقبل،
فإن لم تبعث إليه من يعيده، وإلا قتلناك بسيوفنا كما
قتلنا عثمان، أو قبضنا عليك وأسلمناك إلى معاوية فعاد الرسول إلى الأشتر فقال أتحب أن تظفر أنت ههنا وتكسر جنود الشام،
ويقتل أمير المؤمنين رضي الله عنه في مضربه قال: أوقد فعلوها لا بارك
الله فيهم أبعد أن أخذت بمخنق معاوية، ورأى الموت عياناً
أرجع ثم عاد فشتم أهل العراق وسبهم، وقال لهم وقالوا له، ما هو منقول مشهور، وقد
ذكرنا الكثير منه فيما تقدم. فإذا كانت الحال وقعت
هكذا، فأي تقصير وقع من أمير المؤمنين رضي الله عنه وهل ينسب المغلوب على أمره، المقهور على رأيه إلى تقصير أو فساد
تدبير وبهذا نجيب عن قولهم: إن التحكيم يدل على الشك في
أمره. لأنه إنما يدل على ذلك لو ابتدأ هو به، فأما إذا دعاه إلى ذلك غيره، واستجاب إليه أصحابه، فمنعهم
وأمرهم أن يمروا على وتيرتهم وشأنهم، فلم يفعلوا، وبين لهم أنها مكيدة فلم يتبينوا، وخاف أن يقتل أو يسلم إلى عدوه،
فإنه لا يدل تحكيمه على شكه، بل يدل على أنه قد
دفع بذلك ضرراً عظيماً عن نفسه، ورجا أن يحكم
الحكمان بالكتاب، فتزول الشبهة عمن طلب التحكيم
من أصحابه. وأما تحكيمه عمراً مع ظهور فسقه، فإنه لم يرض به، وإنما رضي به مخالفه، وكرهه هو فلم يقبل منه. وقد قيل: إنه
أجاب ابن عباس رحمه الله عن
هذا، فقال للخوارج: أليس قد قال الله تعالى: "فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها" أرأيتم
لو كانت المرأة يهودية فبعثت حكماً من أهلها،
أكنا نسخط ذلك وأما أبو موسى فقد كرهه أمير
المؤمنين رضي الله عنه، وأراد
أن يجعل بدله عبد الله بن عباس، فمال أصحابه:
لا يكون الحكمان من مضر، فقال: فالأشتر. فقالوا: وهل أضرم
النار إلا الأشتر وهل جر ما ترى إلا حكومة الأشتر ولكن
أبا موسى، فأباه فلم يقبلوا منه، وأثنوا عليه،
وقالوا: لا نرضى إلا به، فحكمه على مضض. ومنها قولهم: ترك الرأي لما دعاه العباس وقت وفاة الرسول صلى الله
عليه وسلم إلى البيعة، وقال له: امدد يدك أبايعك،
فيقول الناس: عم رسول الله صلى الله عليه وسلم بايع
ابن عمه، فلا يختلف عليك اثنان، فلم يفعل، وقال:
وهل يطمع فيها طامع غيري فما راعه إلا الضوضاء واللغط في باب الدار، يقولون: قد بويع أبو بكر بن أبي قحافة رضي الله عنه. الجواب: إن
صواب الرأي فساده فيما يرجع إلى مثل هذه الواقعة، يستندان إلى ما قد غلب على
الظن، ولا ريب أنه صلى الله عليه وسلم لم يغلب على
ظنه أن أحداً يستأثر عليه بالخلافة لأحوال قد كان مهدها له رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما توهم
إلا أنه ينتظر ويرتقب خروجه من البيت وحضوره، ولعله قد كان يخطر له أنه إما أن
يكون هو الخليفة أو يشاور في الخلافة إلى من يفوض. وما كان يتوهم أنه يجري الأمر على ما جرى من الفلتة عند
ثوران تلك الفتنة، ولا يشاور هو ولا العباس ولا أحدٌ من بني هاشم، وإنما كان
يكون تدبيره فاسداً لو كان يحاذر خروج الأمر عنه، ويتوهم ذلك، ويغلب على ظنه إن
لم يبادر تحصيله بالبيعة المعجلة في الدار من وراء الأبواب والأغلاق، وإلا فاته،
ثم يهمل ذلك ولا يفعله. وقد صرح هو بما عنده، فقال: وهل
يطمع فيها طامع غيري ثم قال: إني أكره
البيعة ههنا وأحب أن أصحر بها، فبين أنه يستهجن أن يبايع سراً خلف الحجب
والجدران، ويحب أن يبايع جهرة بمحضر من الناس كما قال، حيث طلبوا منه بعد قتل
عثمان أن يبايعهم في داره، فقال: لا، بل في المسجد، ولا
يعلم ولا خطر له ما في ضمير الأيام، وما يحدث الوقت من وقوع ما لا يتوهم العقلاء
وأرباب الأفكار وقوعه. ومنها قولهم: إنه قصر في طلب الخلافة عند بيعة أبي
بكر رضي الله عنه، وقد كان اجتمع له من بني هاشم وبني أمية وغيرهم من أفناء
الناس من يتمكن بهم من المنازعة وطلب الخلافة، فقصر عن
ذلك، لا جبناً، لأنه كان أشجع البشر، ولكن قصور
تدبير وضعف رأي، ولهذا أكفرته الكاملية وأكفرت الصحابة، فقالوا: كفرت الصحابة لتركهم بيعته، وكفر هو بترك
المنازعة لهم والجواب: أما على مذهبنا، فإنه لم يكن رضي الله عنه منصوصاً عليه، وإنما كان يدعيها بالأفضلية والقرابة والسابقة والجهاد ونحو ذلك من الخصائص، فلما
وقعت بيعة أبي بكر رضي الله عنه رأى هو علي رضي الله عنه أن
الأصلح للإسلام ترك النزاع، وأنه يخاف من النزاع حدوث
فتنة تحل معاقد الملة وتزعزع أركانها، فحضر وبايع طوعاً، ووجب علينا بعد مبايعته ورضاه أن نرضى بمن رضي هو رضي الله عنه، ونطيع من أطاعه، لأنه القدوة، وأفضل من
تركه صلى الله عليه وسلم بعده.
وأما الإمامية، فلهم عن ذلك جواب آخر
معروف من قواعدهم. ومنها قولهم: إنه قصر في الرأي حيث دخل في الشورى، لأنه جعل نفسه بدخوله فيها نظيراً لعثمان وغيره من الخمسة، وقد
كان الله تعالى رفعه عنهم وعلى من كان قبلهم، فوهن بذلك قدره، وطأطأ من جلالته، ألا ترى أنه يستهجن
ويقبح من أبي حنيفة والشافعي رحمهما الله أن
يجعلا أنفسهما نظراء لبعض من بدا طرفاً من الفقه، ويستهجن ويقبح من سيبويه
والأخفش أن يوازيا أنفسهما بمن يعلم أبواباً يسيرة من النحو. الجواب:
أنه رضي الله عنه وإن كان أفضل من أصحاب الشورى،
فإنه كان يظن أن ولي الأمر أحدهم بعد عمر رضي الله عنه، لا يسير سيرة صالحة، وأن تضطرب بعض أمور الإسلام، وقد كان يثني على سيرة
عمر ويحمدها، فوجب عليه بمقتضى ظنه أن يدخل معهم فيما أدخله عمر رضي الله عنه فيه،
توقعاً لأن يفضي الأمر إليه، فيعمل بالكتاب والسنة، ويحيي معالم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وليس اعتماد
ما يقتضيه الشرع مما يوجب نقصاً في الرأي، فلا تدبير أصح ولا أسد من تدبير
الشرع. ومنها قولهم:
إنه ما أصاب حيث أقام بالمدينة وعثمان رضي
الله عنه محصور، وقد كان يجب في الرأي أن
يخرج عنها بحيث لا تنوط بنو أمية به دم عثمان رضي
الله عنه، فإنه لو كان بعيداً عن
المدينة لكان من قذفهم إياه بذلك أبعد، وعنه أنزه. والجواب: أنه لم يكن يخطر له مع براءته من دم عثمان رضي الله عنه، أن أهل الفساد من بني أمية يرمونه بأمره، والغيب لا يعلمه إلا
الله، وكان يرى مقامه بالمدينة أدعى إلى انتصار عثمان رضي الله عنه على
المحاصرين له، فقد حضر هو بنفسه مراراً، وطرد الناس
عنه، وأنفذ إليه ولديه وابن أخيه عبد الله، ولو لا حضور علي رضي الله عنه بالمدينة
لقتل عثمان قبل أن يقتل بمدة، وما تراخى أمره وتأخر
قتله، إلا لمراقبة الناس له حيث شاهدوه ينتصر له، ويحامي عنه. ومنها قولهم: كان
يجب في مقتضى الرأي حيث قتل عثمان رضي الله عنه،
أن يغلق بابه، ويمنع الناس من الدخول إليه، فإن العرب كانت تضطرب اضطرابة ثم
تؤول إليه، لأنه تعين للأمر بحكم الحال الحاضرة فلم يفعل، وفتح بابه، وترشح للأمر، وبسط له يده، فلذلك انتقضت عليه
العرب من أقطارها. والجواب: إنه رضي الله
عنه كان يرى أن القيام بالأمر يومئذ فرض عليه لا يجوز له الإخلال به، لعدم من يصلح في ظنه للخلافة، فما كان يجوز له أن يغلق بابه ويمتنع. وما الذي كان يؤمنه أن يبايع
الناس طلحة أو الزبير أو غيرهما ممن لا يراه أهلاً
للأمر فقد كان عبد الله بن الزبير يومئذ يزعم
أن عثمان رضي الله عنه عهد إليه بالخلافة وهو محصور. وكان مروان يطمع أن ينحاز إلى طرف من الأطراف فيخطب لنفسه بالخلافة،
وله من بني أمية شيعة وأصحاب، بشبهة أنه ابن عم
عثمان رضي الله عنه، وأنه كان يدبر أمر الخلافة على
عهده. وكان معاوية يرجو أن ينال الخلافة،
لأنه من بني أمية وابن عم عثمان رضي الله عنه، وأمير الشام عشرين
سنة، وقد
كان قوم من بني أمية يتعصبون لأولاد عثمان المقتول، ويرومون إعادة الخلافة فيهم وما كان يسوغ لعلي رضي
الله عنه في الدين إذا طلبه المسلمون للخلافة أن
يمتنع عنها، وبعلم أنها ستصير إذا امتنع إلى هؤلاء، فلذلك فتح بابه، وامتنع امتناع من يحاول أن يعلم ما في قلوب
الناس، هل لرغبتهم إليه حقيقة أم لا فلما رأى منهم التصميم وافق لوجوب الموافقة
عليه، وقد قال في خطبته: "لو لا حضور الحاضر ووجوب الحجة بوجود
الناصر لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أولها" ، وهذا تصريح بما قلناه. ومنها قولهم: هلا إذ ملك
شريعة الفرات على معاوية، بعد أن كان معاوية ملكها عليه، ومنعه وأهل العراق
منها، منع معاوية وأهل الشام منها، فكان يأخذهم قبضاً
بالأيدي فإنه لم يصبر على منعهم عن الماء، بل فسح لهم في الورود، وهذا يخالف ما
يقتضيه تدبير الحرب. الجواب، أنه
رضي الله عنه لم يكن يستحل ما استحله معاوية من تعذيب البشر بالعطش، فإن الله
تعالى ما أمر في أحد من العصاة الذين أباح دماءهم بذلك، ولا فسح فيه في نحو
القصاص أو حد الزاني المحصن أو قتل قاطع الطريق، أو قتال البغاة والخوارج، وما كان أمير المؤمنين ممن يترك حكم الله وشريعته، ويعتمد ما
هو محرم فيها لأجل الغلبة والقهر والظفر بالعدو، ولذلك لم يكن يستحل
البيات ولا الغدر ولا النكث. وأيضاً فمن الجائز
أن يكون رضي الله عنه غلب على ظنه أن أهل الشام إن منعوا من الماء كان ذلك أدعى
لهم إلى الحملات الشديدة المنكرة على عسكره، وأن يضعوا فيهم السيوف، فيأتوا
عليهم ويكسروهم بشدة حنقهم وقوة داعيهم إلى ورود الماء، فإن ذلك من أشد الدواعي إلى أن يستميت القوم ويستقتلوا. ومن الذي
يقف بين يدي جيش عظيم عرمرم حنقٍ قد اشتد بهم العطش، وهم يرون الماء كبطون
الحيات، لا يحول بينهم وبينه إلا قوم مثلهم، بل أقل
منهم عدة وأضعف عدة، ولذلك لما حال معاوية
بين أهل العراق وبين الماء وقال: لأمنعنهم وروده
فأقتلهم بشفار الظمأ، قال له عمرو بن العاص: خل
بين القوم وبين الماء، فليسوا ممن يرى الماء ويصبر عنه. فقال: لا والله لا اخلي
لهم عنه. فسفه رأيه وقال: أتظن أن ابن أبي طالب وأهل العراق
يموتون بإزائك عطشاً، والماء بمعقد الأزر، وسيوفهم في أيديهم فلج معاوية، وقال: لا أسقيهم قطرة كما قتلوا عثمان رضي الله عنه عطشاً.
فلما مس أهل العراق العطش، أشار علي رضي الله عنه إلى الأشعث أن احمل، والى
الأشتر أن احمل، فحملاً بمن معهما فضربا أهل الشام
ضرباً أشاب الوليد، وفر معاوية ومن رأى رأيه وتابعه على قوله عن الماء كما تفر
الغنم خالطتها السباع، وكان قصارى أمره، ومنتهى همته أن يحفظ رأسه، وينجو بنفسه.
وملك أهل العراق عليهم الماء ودفعوهم عنه، فصاروا في البر القفر، وصار علي رضي الله عنه وأصحابه على شريعة الفرات، مالكين لها،
فما الذي كان يؤمن علياً رضي الله عنه لو أعطش القوم أن يذوق هو وأصحابه منهم
مثل ما أذاقهم وهل بعد الموت بالعطش أمر يخافه الإنسان وهل يبقى له ملجأ إلا
السيف يحمل به فيضرب خصمه إلى أن يقتل أحدهما ومنها قولهم: أخطأ حيث محا اسمه بالخلافة من صحيفة الحكومة، فإن ذلك
مما وهنه عند أهل العراق، وقوى الشبهة في نفوس أهل الشام. والجواب، أنه رضي الله عنه احتذى
في ذلك - لما دعى إليه واقترحه الخصم عليه - فعل
رسول الله صلى الله عليه وسلم في صحيفة الحديبية، حيث محا اسمه من النبوة لما
قال له سهيل بن عمرو: لو علمنا أنك رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حاربناك،
ولا منعناك عن البيت، وقد قال له صلى الله عليه وسلم
وهو يومئذ كاتب تلك الصحيفة: ستدعى إلى مثلها فتجب. وهذا من أعلام نبوته صلوات
الله عليه، ومن دلائل صدقه، ومثله جرى له حذو القذة بالقذة. ومنها قولهم: إنه كان غير
مصيب في ترك الاحتراس، فقد كان يعلم كثرة
أعدائه، ولم يكن يحترس منهم، وكان يخرج ليلاً في
قميص ورداء وحده، حتى كمن له ابن ملجم في المسجد فقتله،
ولو كان احترس وحفظ نفسه ولم يخرج إلا في جماعة، ولو خرج ليلاً كانت معه أضواء
وشرطة، لم يوصل إليه. والجواب، أن هذا إن
كان قادحاً في السياسة والتدبير، فليكن قادحاً في تدبير عمر رضي الله عنه
وسياسته، وهو عند الناس في الطبقة العليا في السياسة
وصحة التدبير، وليكن قادحاً في تدبير معاوية، فقد
ضربه الخارجي بالسيف ليلة ضرب أمير المؤمنين رضي الله عنه فجرحه ولم يأت على
نفسه، ومعاوية عند هؤلاء سديد التدبير
وليكن قادحاً في صحة تدبير رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد
كان يخرج وحده في المدينة ليلاً ونهاراً مع كثرة أعدائه، وقد كان يأكل ما دعي إليه ولا يحترس، حتى أكل من يهودية شاة مشوبة قد سمته فيها فمرض، وخيف عليه التلف، ولما برا لم تزل تنتقض عليه حتى
مات منها وقال عند موته: إني ميت من تلك الأكلة، ولم
تكن العرب في ذلك الزمان تحترس، ولا تعرف الغيلة والفتك، وكان ذلك عندهم قبيحاً
يعير به فاعله، لأن الشجاعة غير ذلك، والغيلة فعل العجزة من الرجال، ولأن علياً رضي الله عنه كانت هيبته قد تمكنت في صدور الناس،
فلم يكن يظن أن أحداً يقدم عليه غيلة أو مبارزة في حرب، فقد كان بلغ من
الذكر بالشجاعة مبلغاً عظيماً لم يبلغه أحد من الناس، لا
من تقدم ولا من تأخر، حتى كانت أبطال العرب تفزع باسمه، ألا ترى إلى عمر بن معد يكرب وهو
شجاع العرب، الذي تضرب به الأمثال، كتب إليه عمر بن
الخطاب رضي الله عنه في أمرٍ أنكره عليه، وغدر تخوفه منه: أما والله لئن
أقمت على ما أنت عليه، لأبعثن إليك رجلاً تستصغر معه نفسك، يضع سيفه على هامتك
فيخرجه من بين فخذيك فقال عمرو لما وقف على الكتاب:
هددني بعلي والله ولهذا قال شبيب بن بجرة لابن
ملجم، لما رآه يشد الحرير على بطنه وصدره: ويلك ما تريد أن تصنع قال: أقتل علياً، قال هبلتك الهبول ، لقد جئت شيئاً
إداً كيف تقدر على ذلك فاستبعد أن يتم لابن ملجم ما عزم
عليه، ورآه مراماً وعراً. والأمر في هذا وأمثاله مسند إلى غلبات الظنون،
فمن غلبت على ظنه السلامة مع الاسترسال لم يجب عليه الاحتراس، وإنما يجب الاحتراس على من يغلب على ظنه العطب إن لم
يحترس. فقد بان بما أوضحناه فساد قول من قال:
إن تدبيره صلى الله عليه وسلم وسياسته لم تكن صالحة، وبان أنه أصح الناس تدبيراً
وأحسنهم سياسة، وإنما الهوى والعصبية لا حيلة فيهما. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال في الوعظ
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: أيها الناس
لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلة أهله، فإن الناس أجتمعوا على مائدةٍ شبعها
قصيرٌ، وجوعها طويلٌ. أيها الناس، إنما يجمع الناس الرضا والسخط، وإنما عقر ناقة ثمود رجلٌ واحد فعمهم الله بالعذاب لما عموه
بالرضا، فقال سبحانه: "فعقروها فأصبحوا
نادمين"، فما كان إلا أن خارت أرضهم بالخسفة خوار السكة المحماة في
الأرض الخوارة. الشرح: الاستيحاش: ضد الاستئناس، وكثيراً ما يحدثه
التوحد وعدم الرفيق، فنهى رضي الله عنه عن
الاستيحاش في طريق الهدى لأجل قلة أهله، فإن المهتدي ينبغي أن يأنس بالهداية،
فلا وحشة مع الحق. وعنى بالمائدة: الدنيا، لذتها قليلة، ونغصتها
كثيرة، والوجود فيها زمان قصير جداً، والعدم عنها زمان طويل جداً. ثم قال: ليست العقوبة لمن اجترم ذلك الجرم بعينه، بل
لمن اجترمه ومن رضي به، وإن لم يباشره بنفسه، فإن عاقر ناقة صالح إنما كان
إنساناً واحداً، فعم الله ثمود بالسخط لما كانوا راضين بذلك الفعل كلهم، واسم
"كان" مضمر فيها، أي ما كان الانتقام منهم إلا كذا. وخارت أرضهم بالخسفة: صوتت كما يخور الثور، وشبه رضي الله عنه ذلك بصوت
السكة المحماة في الأرض الخوارة، وهي اللينة، و- إنما جعلها محماة لتكون أبلغ في
ذهابها في الأرض. ومن كلامه رضي
الله عنه يوم خيبر، يقوله لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد بعثه بالراية: أكون في أمرك
كالسكة المحماة في الأرض، أم الشاهد يرى ما لا يرى الغائب؟ فقال له: بل يرى الشاهد ما لا يرى الغائب. وقال له أيضاً هذه اللفظة لما بعثه في
شأن مارية القبطية، وما كانت اتهمت به من أمر الأسود القبطي، ولهذا علة في العلم الطبيعي، وذلك أن السكة المحماة تخرق الأرض بشيئين: أحدهما تحدد رأسها، والثاني
حرارته، فإن الجسم المحدد الحار إذا اعتمد عليه في الأرض اقتضت الحرارة إعانة
ذلك الطرف المحدد على النفوذ بتحليلها ما تلاقي من صلابة الأرض، لأن شأن الحرارة
التحليل، فيكون غوص ذلك الجسم المحدد في الأرض أوحى وأسهل، والتيه: المفازة يتحير سالكها. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قصة ثمود وصالح
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال المفسرون:
إن عاداً لما اهلكت عمرت ثمود بلادها، وخلفوهم في الأرض وكثروا وعمروا أعماراً
طوالاً، حتى إن الرجل كان يبني المسكن المحكم فينهدم في حياته، فنحتوا البيوت في
الجبال، وكانوا في سعة ورخاء من العيش فعتوا على الله، وأفسدوا في الأرض، وعبدوا
الأوثان، فبعث الله إليهم صالحاً، وكانوا قوماً عرباً، وصالح من أوسطهم نسباً،
فما آمن به إلا قليل منهم مستضعفون، فحذرهم وأنذرهم،
فسألوه آية، فقال: أية آية تريدون؟ قالوا: تخرج معنا إلى عيدنا - في يوم
معلوم لهم من السنة - فتدعو إلهك وندعو إلهنا، فإن استجيب لك اتبعناك، وإن
استجيب لنا اتبعتنا قال: نعم، فخرج معهم، ودعوا أوثانهم، وسألوها الاستجابة فلم
تجب، فقال سيدهم جندع بن عمرو - وأشار إلى
صخرة منفردة في ناحية الجبل يسمونها الكاثبة: اخرج لنا في هذه الصخرة ناقة
مخترجة جوفاء وبراء - والمخترجة: التي شاكلت البخت ، فإن
فعلت صدقناك وأجبناك. فأخذ عليهم المواثيق، لئن فعلت ذلك لتؤمنن ولتصدقن؟
قالوا: نعم، فصك ودعا ربه، فتمخضت الصخرة
تمخض النتوج بولدها، فانصدعت عن ناقة عشراء جوفاء وبراء كما وصفوا، لا يعلم ما
بين جنبيها إلا الله، وعظماؤهم ينظرون. ثم نتجت ولداً مثلها في العظم، فآمن به
جندع ورهطٌ من قومه، ومنع أعقابهم ناس من رؤوسهم أن يؤمنوا، فمكثت الناقة مع
ولدها ترعى الشجر وتشرب الماء، وكانت ترد غباً، فإذا كان يومها وضعت رأسها في
البئر، فما ترفعه حتى تشرب كل ماء فيها ثم تتفجح، فيحتلبون ما شاؤوا حتى تمتلىء
أوانيهم، فيشربون ويدخرون، فإذا وقع الحر تصيفت بظهر الوادي، فتهرب منها
أنعامهم، فتهبط إلى بطنه، وإذا وقع البرد تشتت ببطن الوادي فتهرب مواشيهم إلى
ظهره، فشق ذلك عليهم، وزينت عقرها لهم امرأتان:
عنيزة أم غنم وصدفة بنت المختار، لما اضرت به من مواشيهما، وكانتا كثيرتي المواشي، فعقروها، عقرها قدار الأحمر، واقتسموا
لحمها وطبخوه. فانطلق سقبها حتى رقى جبلاً اسمه قارة، فرغا ثلاثاً، وكان صالح قال لهم: أدركوا الفصيل عسى أن يرفع
عنكم العذاب، فلم يقدروا عليه، وانفجت الصخرة بعد رغائه فدخلها، فقال لهم صالح: تصبحون غداً وجوهكم مصفرة، وبعد
غدٍ وجوهكم محمرة، واليوم الثالث وجوهكم مسودة، ثم يغشاكم العذاب. فلما رأوا العلامات طلبوا أن يقتلوه، فأنجاه الله سبحانه إلى
أرض فلسطين، فلما كان اليوم الرابع، وارتفعت الضحوة، تحنطوا بالصبر
وتكفنوا بالأنطاع ، فأتتهم صيحة من السماء وخسف شديد وزلزال، فتقطعت قلويهم
فهلكوا. وقد جاء في الحديث أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم مر بالحجر في غزوة تبوك، فقال لأصحابه:
لا يدخلن أحد منكم القرية، ولا تشربوا من مائها، ولا تدخلوا على هؤلاء المعذبين
إلا أن تمروا باكين أن يصيبكم مثل ما أصابهم. وروى
المحدثون أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال لعلي رضي الله عنه: أتدري من أشقى الأولين؟ قال: نعم،
عاقر ناقة صالح، قال: أفتدري من أشقى الآخرين؟ قال:
الله ورسوله أعلم، قال: من يضربك على هذه، حتى تخضب هذه. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن كلام له عند دفن السيدة فاطمة رضي الله عنها
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
روي عنه أنه قاله عند دفن سيدة النساء فاطمة رضي الله عنها،
كالمناجي به رسول الله صلى الله عليه وأله وصحبه وسلم عند قبره. السلام عليك يا رسول الله عني، وعن ابنتك
النازلة في جوارك، والسريعة اللحاق بك قل يا رسول الله عن صفيتك صبري، ورق عنها
تجلدي، إلا أن في التأسي لي بعظيم فرقتك، وفادح مصيبتك موضع تعز. فلقد وسدتك في ملحودة
قبرك، وفاضت بين نحري وصدري نفسك، فإنا لله وإنا إليه راجعون فلقد استرجعت
الوديعة، وأخذت الرهينة أما حزنى فسرمدٌ، وأما ليلي فمسهدٌ، إلى أن يختار الله
لي دارك التي أنت بها مقيمٌ. وستنبئك ابنتك بتضافر أمتك على هضمها. فأحفها
السؤال، واستخبرها الحال، هذا ولم يطل العهد، ولم يخل منك الذكر. والسلام
عليكما سلام مودعٍ، لا قالٍ ولا سئمٍ، فإن أنصرف فلا عن ملالةٍ، وإن أقم فلا عن
سوء ظن بما وعد الله الصابرين. الشرح: أما قول الرضي رحمه الله: "عند دفن سيدة
النساء"، فلأنه قد تواتر الخبر عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "فاطمة سيدة
نساء العالمين" إما هذا اللفظ بعينه، أو لفظ يؤدي
هذا المعنى، روي أنه قال وقد رآها تبكي عند
موته: "ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء هذه الأمة" وروي أنه قال: "سادات نساء العالمين
أربع: خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، وآسية بنت مزاحم، ومريم بنت عمران
". قوله رضي الله
عنه:
"وسريعة اللحاق بك" جاء في الحديث؟ أنه رآها تبكي عند موته فأسر
إليها: "أنت أسع أهلي لحوقاً بي"، فضحكت. قوله: "عن
صفيتك " أجله صلى الله عليه وسلم
عن أن يقول: "عن ابنتك"، فقال: "صفيتك"، وهذا من لطيف عبارته،
ومحاسن كنايته، يقول رضي الله عنه:
ضعف جلدي وصبري عن فراقها، لكني أتأسى بفراقي لك فأقول: كل عظيم بعد فراقك جلل،
وكل خطب بعد موتك يسير. ثم ذكر حاله معه وقت
انتقاله صلوات الله عليه
إلى جوار ربه، فقال: لقد وسدئك في
ملحودة قبرك، أي في الجهة المشقوقة من قبرك، واللحد:
الشق في جانب القبر، وجاء بضم اللام في لغة غير مشهورة. قال:
"وفاضت بين نحري وصدري نفسك"، يروى أنه صلى الله عليه وسلم قذف دما
يسيراً وقت موته، ومن قال بهذا القول زعم أن مرضه كان ذات الجنب، وأن القرحة
التي كانت في الغشاء المستبطن للأضلاع انفجرت في تلك الحال، وكانت فيها نفسه صلى الله عليه وسلم. وذهب قومٌ إلى أن مرضه إنما كان الحمى
والسرسام الحار، وأن أهل داره ظنوا
أن به ذات الجنب فلدوه وهو مغمىً عليه، وكانت العرب تداوي باللدود من به ذات
الجنب، فلما أفاق علم أنهم قد لدوه، فقال: "لم يكن الله ليسلطها علي، لدوا كل من في
الدار"، فجعل بعضهم يلد بعضاً. وزعم
أخرون أن مرضه كان أثراً لأكلة السم التي
أكلها رضي الله عنه،
واحتجوا بقوله صلى
الله عليه وسلم: "ما زالت أكلة خيبر تعاودني، فهذا أوان قطعت أبهري" . ومن لم يذهب إلى ذات الجنب، فاولوا
قول علي رضي الله عنه: "فاضت بين نحري وصدري
نفسك" فقالوا: أراد بذلك آخر الأنفاس التي يخرجها الميت ولا يستطيع إدخال
الهواء إلى الرئة عوضاً عنها، ولا بد لكل ميت من نفخةٍ تكون آخر حركاته. ويقول قوم: إنها الروح، وعبر علي رضي الله عنه عنها بالنفس، لما كانت العرب لا ترى
بين الروح والنفس فرقاً. واعلم أن الأخبار نحتلفة في هذا المعنى، فقد روى كثير من المحدثين عن عائشة أنها قالت: توفي
رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سحري ونحري. وروى كثير منهم هذا اللفظ عن علي رضي الله عنه، أنه قال عن نفسه، وقال في رواية أخرى: "ففاضت نفسه في يدي،
فأمررتها على وجهي". والله أعلم لحقيقة هذه الحال، ولا يبعد عندي أن يصدق الأمران معاً، لأن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت الوفاة مستنداً إلى علي وعائشة
جميعاً، فقد وقع الاتفاق على أنه مات وهو حاضر لموته، وهو الذي كان يقلبه بعد
موته، وهو الذي كان يعلله ليالي مرضه، فيجوز أن يكون
مستنداً إلى زوجته وابن عمه، ومثل هذا لا يبعد وقوعه لا زماننا هذا، فكيف
في ذلك الزمان الذي كان النساء فيه والرجال مختلطين، لا يستتر البعض عن البعض. فإن قلت: فكيف تعمل بآية الحجاب، وما صح من
استتار أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الناس بعد نزولها؟ قلت: قد وقع اتفاق المحدثين كلهم على أن العباس كان ملازماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم أيام مرضه في بيت عائشة، وهذا لا ينكره أحدٌ، فعلى القاعدة التي كان العباس
ملازمه صلى الله عليه وسلم كان علي رضي الله عنه ملازمه، وذلك
يكون بأحد الأمرين: إما بأن نساءه لا يستترن من العباس وعلي لكونهما أهل
الرجل وجزءاً منه، أو لعل النساء كن يختمرن
بأخمرتهن، ويخالطن الرجال فلا يرون وجوههن، وما كانت
عائشة وحدها في البيت عند موته، بل كان نسائه كلهن في البيت، وكانت ابنته فاطمة عند رأسه صلى الله عليه وسلم. فأما حديث مرضه صلوات الله عليه ووفاته، فقد ذكرناه فيما تقدم. قوله: "إنا لله" إلى آخره، أي عبيده،
كما تقول: هذا الشيء لزيد، أي يملكه. فأما الرهينة فهي المرتهنة، يقال للمذكر: هذا رهين
عندي على كذا، وللأنثي هذه رهينة عندي على كذا، كأنها رضي الله عنها كانت عنده عوضاً من رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تكون الرهينة عوضاً عن الأمر الذي
اخذت رهينة عليه. ثم ذكر منه أن حزنه دائم، وأنه يسهر ليله ولا ينام إلى أن
يلتحق لرسول الله صلى الله عليه وسلم ويجاوره في الدار الآخرة، وهذا من باب المبالغة، كما يبالغ الخطباء والكتاب
والشعراء في المعاني، لأنه رضي الله عنه ما
سهر منذ ماتت فاطمة ودام سهره إلى أن قتل رضي الله عنه وإنما سهر ليلة أو شهراً أو سنة، ثم
استمر مريره، وارعوى رسنه، فأما الحزن فإنه لم يزل
حزيناً إذا ذكرت فاطمة، هكذا وردت الرواية عنه. قوله
رضي الله عنه: "وستنبئك ابنتك "، أي
ستعلمك. فأحفها السؤال: أي استقص في مسألتها، واستخبرها
الحال، أحفيت إحفاءً في السؤال: استقصيت، وكذلك في الحجاج والمنازعة، قال الحارث بن حلزة:
ورجل حفي،
أي مستقصٍ في السؤال. واستخبرها الحال، أي عن الحال، فحذف الجار، كقولك: اخترت الرجال زيداً أي من الرجال، أي سلها
عما جرى بعدك من الاستبداد بعقد الأمر دون مشاورتنا ولا يدل هذا على وجود النص،
لأنه يجوز أن تكون الشكوى والتألم من اطراحهم وترك إدخالهم في المشاورة، فإن ذلك
مما تكرهه النفوس وتتألم منه، وهجا الشاعر قوماً،
فقال:
قوله: "هذا
ولم يطل العهد، ولم يخلق الذكر"، أي لم ينس. فإن قلت:
فما هذا الأمر الذي لم ينس ولم يخلق، إن لم يكن هناك نص؟ قلت: قوله صلى الله عليه وسلم: "إني
مخلف فيكم الثقلين"، وقوله:
"اللهم أدر الحق معه حيث دار"، وأمثال
ذلك من النصوص الدالة على تعظيمه وتبجيله
ومنزلته في الإسلام، فهو رضي الله عنه
كان يريد أن يؤخر عقد البيعة إلى أن
يحضر ويستثار، ويقع الوفاق بينه وبينهم، على أن يكون العقد لواحدٍ من المسلمين
بموجبه، إما له أو لأبي بكر رضي الله عنه، أو لغيرهما، ولم يكن
ليليق أن يبرم الأمر وهو غير حاضر له، مع جلالته في الإسلام، وعظيم أثره، وما
ورد في حقه من وجوب موالاته والرجوع إلى قوله وفعله، فهذا
هو الذي كان ينقم رضي الله عنه، ومنه كان يتألم ويطيل الشكوى، وكان ذلك في موضعه وما أنكر إلا منكراً، فأما النص فإنه لم يذكره رضي الله عنه، ولا احتج به، ولما طال الزمان صفح عن ذلك
الاستبداد الذي وقع منهم، وحضر عندهم فبايعهم، وزال ما كان في نفسه. فإن قلت: فهل كان يسوغ لأبي بكر رضي الله عنه، وقد رأى وثوب الأنصار على
الأمر أن يؤخره إلى أن يخرج رضي الله عنه ويحضر المشورة؟ قلت: إنه لم يلم أبا بكر رضي الله عنه بعينه، وإنما تألم من استبداد
الصحابة بالأمر، دون حضوره ومشاورته. ويجوز أن يكون أكثر تألمه وعتابه مصروفاً
إلى الأنصار الذين فتحوا باب الاستبداد، والتغلب. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
كلام مصنوع لأبي حيان في حديث السقيفة
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وروى القاضي أبو حامد أحمد بن بشير
المروروذي العامري
فيما
حكاه عنه أبو حيان التوحيدي، قال أبو حيان:
سمرنا عند القاضي أبي حامد ليلة ببغداد بدار ابن
جيشان، في شارع الماذيان، فتصرف الحديث بنا كل متصرف، وكان والله معنا مزيلاً
مخلطاً عزيز الرواية، لطيف الدراية له في كل جو متنفس، وفي كل نار مقتبس، فجرى حديث السقيفة، وتنازع القوم الخلافة، فركب كل منا فناً، وقال قولاً، وعرض بشيء ونزع إلى مذهب،
فقال أبو حامد: هل فيكم من يحفظ رسالة أبي بكر رضي
الله عنه إلى
علي، وجواب علي له ومبايعته إياه عقيب تلك الرسالة؟ فقالت الجماعة: لا والله، فقال:
هي والله من درر الحقاق المصونة، ومخبآت الصناديق في الخزائن المحوطة، ومنذ حفظتها ما رويتها إلا للمهلبي في وزارته، فكتبها
عني في خلوة بيده، وقال:
لا أعرف في الأرض رسالة أعقل منها، ولا أبين، وإنها لتدل على علم وحكم، وفصاحة
وفقاهة، في دين ودهاء وبعد غور، وشدة غوص. فقال له واحدٌ من القوم:
أيها القاضي، فلو أتممت المنة علينا بروايتها سمعناها ورويناها عنك، فنحن أوعى لها من المهلبي، وأوجب ذماماً عليك. فقال: هذه
الرسالة رواها عيسى بن دأب، عن صالح بن كيسان عن
هشام بن عروة، عن أبيه عروة بن الزبير، عن أبي عبيدة بن
الجراح. قال أبو عبيدة: لما استقامت
الخلافة لأبي بكر رضي الله عنه بين المهاجرين والأنصار، ولحظ بعين
الوقار والهيبة - بعد هنةٍ كاد لشيطان بها يسر فدفع الله شرها، وأدحض عسرها،
فركد كيدها، وتيسر خيرها، وقصم ظهر النفاق والفسق بين أهلها - بلغ أبا بكر رضي الله عنه عن علي رضي الله عنه تلكؤٌ وشماس،
وتهمهم ونفاس، فكره أن يتمادى الحال وتبدو له العورة، وتنفرج ذات البين، ويصير
ذلك دريئة لجاهل مغرور، أو عاقل ذي دفاء، أو صاحب سلامة ضعيف القلب، خوار
العنان، دعاني في خلوة فحضرته، وعنده عمر رضي الله عنه
وحده - وكان عمر رضي الله عنه قبساً له وظهيراً معه، يستضيء بناره، ويستملي من
لسانه - فقال لي: يا أبا عبيدة، ما أيمن ناصيتك، وأبين الخير بين عارضيك،
لقد كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمكان
المحوط، والمحل المغبوط، ولقد قال فيك في يوم مشهود: "أبو
عبيدة أمين هذه الأمة"، وطالما أعز الله الإسلام بك، وأصلح ثلمه على
يديك، ولم تزل للدين ناصراً وللمؤمنين روحاً، ولأهلك ركناً، ولإخوانك مرداً قد
أردتك لأمر له ما بعده، خطره مخوف، وصلاحه معروف، ولئن لم يندمل جرحه بمسبارك
ورفقك، ولم تجب حيته برقيتك، لقد وقع الياس، وأعضل الباس، واحتيج بعدك إلى ما هو
أمر من ذلك وأعلق، وأعسر منه وأغلق، والله أسأل تمامه بك، ونظامه على يدك. فتات
له يا أبا عبيدة، وتلطف فيه، وانصح لله ولرسوله، ولهذه العصابة، غير آلٍ جهداً،
ولا قالٍ حمداً، والله كالئك وناصرك، وهاديك ومبصرك. امض إلى علي، واخفض جناحك له، واغضض من
صوتك عنده، واعلم أنه سلالة أبي طالب، ومكانه ممن فقدناه بالأمس مكانه، وقل له:
البحر مغرقة، والبر مفرقة، والجو أكلف، والليل أغلف، والسماء جلواء، والأرض
صلعاء، والصعود متعذر، والهبوط متعسر، والحق عطوف رؤوف، والباطل نسوف عصوف،
والعجب مقدحة الشر، والضغن رائد البوار، والتعريض شجار الفتنة، والقحة مفتاح
العداوة، والشيطان متكىء على شماله، باسط ليمينه، نافج حضنيه لأهله، ينتظر
الشتات والفرقة، ويدب بين الأمة بالشحناء والعداوة، عناداً لله ولرسوله ولدينه،
يوسوس بالفجور، ويدلي بالغرور، ويمني أهل الشرور، ويوحي إلى أوليائه بالباطل،
دأباً له منذ كان على عهد أبينا آدم، وعادة منه منذ أهانه الله في سالف الدهر،
لا ينجى منه إلا بعض الناجذ على الحق، وغض الطرف عن الباطل، ووطء هامة عدو الله
والدين، بالأشد فالأشد، والأجد فالأجد، وإسلام النفس لله فيما حاز رضاه، وجنب
سخطه. ولا بد من قول ينفع إذ قد أضر السكوت وخيف غبه،
ولقد أرشدك من أفاء ضالتك، وصافاك من أحيا مودته لك بعتابك، وأراد الخير بك من
آثر البقيا معك. ما هذا الذي تسؤل لك نفسك، ويدوى به قلبك، ويلتوي عليه رأيك
ويتخاوص دونه طرفك، ويستشري به ضغنك، ويتراد معه نفسك، وتكثر لأجله صعداؤك، ولا
يفيض به لسانك أعجمة بعد إفصاح، ألبساً بعد إيضاح أديناً غيردين الله أخلقاً غير
خلق القرآن أهدياً غير هدي محمد أمثلي يمشى له الضراء ويدب له الخمر أم مثلك يغص
عليه الفضاء، ويكسف في عينه القمر ما هذه القعقعة بالشنان ، والوعوعة باللسان
إنك لجد عارف باستجابتنا لله ولرسوله، وخروجنا من أوطاننا وأولادنا وأحبتنا،
هجرةً الى الله ونصرة لدينه، في زمان أنت منه في كن الصبا وخدر الغرارة غافل،
تشبب وتربب. لا تعي ما يشاد ويراد، ولا تحصل ما يساق ويقاد، سوى ما أنت جار عليه
من أخلاق الصبيان أمثالك، وسجايا الفتيان أشكالك، حتى بلغت إلى غايتك هذه التي
إليها أجريت، وعندها حط رحلك، غير مجهول القدر ولا مجحود الفضل، ونحن في أثناء
ذلك نعاني أحوالاً تزيل الرواسي، ونقاسي أهوالاً تشيب النواصي، خائضين غمارها،
راكبين تيارها، نتجرع صابها، ونشرج عيابها، ونحكم آساسها، ونبرم أمراسها،
والعيون تحدج بالحسد، والأنوف تعطس بالكبر، والصدور تستعر بالغيظ، والأعناق
تتطاول بالفخر، والأسنة تشحذ بالمكر، والأرض تميد بالخوف، لا ننتظر عند المساء
صباحاً، ولا عند الصباح مساء، ولا ندفع في نحر أمر إلا بعد أن نحسو الموت دونه،
ولا نبلغ إلى شيء إلا بعد تجرع العذاب قبله، ولا نقوم منآداً إلا بعد اليأس من
الحياة عنده، فادين في كل ذلك رسول الله صلى
الله عليه وسلم بالأب والأم،
والخال والعم، والمال والنشب، والسبد واللبد ، والهلة والبلة ، بطيب أنفس وقرة
أعين، ورحب أعطان، وثبات عزائم، وصحة عقول، وطلاقة أوجه، وذلاقة ألسن. هذا إلى خبيئات أسرار، ومكنونات أخبار، كنت عنها غافلاً،
ولولا سنك لم تك عن شيء منها ناكلاً، كيف وفؤادك مشفوم وعودك معجوم، وغيبك
مخبور، والخيرمنك كثير فالآن قد بلغ الله بك، وأرهص الخير لك، وجعل مرادك بين
يديك، فاسمع ما أقول لك، واقبل ما يعود قبوله عليك، ودع
التحبس، والتعبس لمن لا يضلع لك إذا خطا، ولا يتزحزح عنك إذا عطا، فالأمر غض،
وفي النفوس مض، وأنت أديم هذه الأمة فلا تحلم لجاجاً، وسيفها العضب فلا تنب
اعوجاجاً، وماؤها العذب فلا تحل أجاً، والله لقد سألت رسول الله صلى الله عليه
وسلم عن هذا لمن هو؟ فقال هو لمن يرغب عنه، لا لمن يجاحش عليه، ولمن يتضاءل له
لا لمن يشمخ إليه، وهو لمن يقال له: هو لك، لا لمن يقول: هو لي. ولقد شاورني رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصهر،
فذكر فتياناً من قريش، فقلت له: أين أنت من
علي! فقال: إني لأكره لفاطمة ميعة شبابه ،
وحدة سنه. فقلت: متى كنفته
يدك، ورعته عينك، حفت بهما البركة، وأسبغت عليهما النعمة، مع كلام كثير خطبت به
رغبته فيك، وما كنت عرفت منك في ذلك حوجاء ولا لوجاء ، ولكني قلت ما قلت، وأنا أرى مكان غيرك، وأجد رائحة سواك،
وكنت لك إذ ذاك خيراً منك الآن لي. ولئن كان عرض بك رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر،
فقد كنى عن غيرك، وإن قال فيك، فما سكت عن سواك، وإن اختلج في نفسك شيء، فهلم
فالحكم مرضي، والصواب مسموع، والحق مطاع. ولقد نقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ما عند
الله وهو عن هذه العصابة راض وعليها حدب، يسره ما سرها، ويكيده ما كادها، ويرضيه
ما أرضاها، ويسخطه ما أسخطها. ألم تعلم أنه لم يدع أحداً من أصحابه وخلطائه،
وأقاربه وسجرائه ، إلا أبانه بفضيلة، وخصه بمزية، وأفرده بحالة، لو أصفقت الأمة
عليه لأجلها لكان عنده إيالتها وكفالتها. أتظن أنه رضي
الله عنه ترك الأمة سدىً بدداً ، عداً مباهل عباهل
طلاحى مفتونة بالباطل، ملوية عن الحق، لا ذائد ولا رائد، ولا ضابط ولا خابط ولا
رابط، ولا ساقي ولا واقي، ولا حادي ولا هادي، كلا والله ما اشتاق إلى ربه، ولا
سأله المصير إلى رضوانه، إلا بعد أن أقام الصوى، وأوضح الهدى، وأمن المهالك،
وحمى المطارح والمبارك. وإلا بعد أن شدخ يافوخ الشرك بإذن الله، وشرم وجه النفاق
لوجه الله، وجدع أنف الفتنة في دين الله، وتفل في عين الشيطان بعون الله، وصدع
بملء فيه ويده بأمر الله. وبعد، فهؤلاء المهاجرون والأنصار عندك ومعك في بقعة
جامعة، ودار واحدة، إن استقادوا لك وأشاروا بك، فأنا واضع يدي في يدك، وصائر إلى
رأيهم فيك، وإن تكن الأخرى، فادخل في صالح ما دخل فيه
المسلمون، وكن العون على مصالحهم، والفاتح لمغالقهم، والمرشد لضالهم، والرادع
لغاويهم، فقد أمر الله التعاون على البر، وأهاب إلى التناصر على الحق.
ودعنا نقض هذه الحياة الدنيا بصدور بريئة من الغل، ونلقى الله بقلوب سليمة من
الضغن. وإنما
الناس ثمامة فارفق بهم، واحن عليهم، ولن لهم، ولا تسول لك نفسك فرقتهم، واختلاف
كلمتهم، واترك ناجم الشر حصيداً، وطائر الحقد واقعاً، وباب الفتنة مغلقاً، لا
قال ولا قيل، ولا لوم ولا تعنيف، ولا عتاب ولا تثريب ، والله على ما أقول وكيل،
وبما نحن عليه بصير. قال أبو عبيدة: فلما تهيأت للنهوض، قال لي عمر: كن على الباب هنيهةً فلي معك ذرو من
الكلام. فوقفت وما أدري ما كان بعدي، إلا أنه لحقني بوجه يندى تهللاً، وقال لي: قل لعلي:
الرقاد محلمة، واللجاج ملحمة، والهوى مقحمة، وما منا أحد إلا له مقام معلوم، وحق
مشاع أومقسوم، وبناء ظاهر أو مكتوم، وإن أكيس الكيسى من منح الشارد تألفاً،
وقارب البعيد تلطفاً، ووزن. كل أمر بميزانه، ولم يجعل خبره كعيانه، ولا قاسى
فتره بشبره، دينا كان أو دنياً، وضلالاً كان أو هدى، ولا خير في علم معتمل في
جهل، ولا في معرفة مشوبة بنكر.
وكل
صال فبناره يصلى، وكل سيل فإلى قراره يجري. وما كان سكوت هذه العصابة إلى هذه الغاية لعي،
وحصر، ولا كلامها اليوم لفرق أو حذر، فقد جاء
الله بمحمد صلى الله عليه وسلم أنف كل متكبر، وقصم به ظهر كل جبار، وسل لسان كل كذوب، فماذا
بعد الحق إلا الضلال ما هذه الخنزوانة التي في فراش رأسك؟ وما هذا الشجا المعترض في مدارج
أنفاسك، وما هذه الوحرة التي أكلت شراسيفك ، والقذاة التي أعشت ناظرك؟ وما هذا
الدحس والدس اللذان يدلان على ضيق الباع، وخور الطباع! وما هذا الذي لبست بسببه
جلد النمر، واشتملت عليه بالشحناء والنكر لشد ما استسعيت لها، وسريت سرى ابن
أنقد إليها، إن العوان لا تعلم الخمرة. ما أحوج الفرعاء إلى فالية، وما أفقر الصلعاء
إلى حالية، ولقد قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر معبد مخيس ، ليس لأحد فيه ملمس، لم يسير فيك قولاً،
ولم يستنزل لك قرآناً، ولم يجزم في شأنك حكماً، لسنا في كسروية كسرى، ولا قيصرية
قيصر، تأمل إخوان فارس وأبناء الأصفر، قد جعلهم الله جزراً لسيوفنا ودريئة
لرماحنا، ومرمى لطعاننا بل، نحن في نور نبوة، وضياء رسالة، وثمرة حكمة وأثر
رحمة، وعنوان نعمة، وظل عصمة، بين أمة مهدية بالحق والصدق، مأمونة على الرتق
والفتق، لها من الله تعالى قلب أبي، وساعد قوي، ويد ناصرة، وعين ناظرة. أتظن
ظناً أن أبا بكر وثب على هذا الأمر مفتاتاً على الأمة، خادعاً لها، ومتسلطاً
عليها! أتراه امتلخ أحلامها ، وأزاغ أبصارها، وحل عقودها، وأحال عقولها واستل من
صدورها حميتها وانتكث رشاءها ، وانتضب ماءها، وأضلها عن هداها، وساقها إلى
رداها، وجعل نهارها ليلاً، ووزنها كيلاً، ويقظتها رقاداً، وصلاحها فسادا! إن كان
هكذا، إن سحره لمبين، وان كيده لمتين. كلا والله، بأي خيل ورجل، وبأي سنان ونصل،
وبأي منة وقوة، وبأي مال وعدة، وبأي أيد وشدة، وبأي عشيرة وأسرة، وبأي قدرة
ومكنة، وبأي تدرع وبسطة! لقد أصبح بما وسمته منيع الرقبة، رفيع العتبة. لا والله لكن سلا عنها فولهت نحوه، وتطامن لها
فالتفت به، ومال عنها، فمالت إليه واشمأز دونها فاشتملت عليه، حبوة حباه الله
بها، وغاية بلغه الله إليها، ونعمة سربله جمالها، ويد لله أوجب عليه شكرها، وأمة
نظر الله به لها. وطالما حلقت فوقه قي أيام النبي صلى الله عليه وسلم وهولا يلتفت لفتها، ولا يرتصد وقتها،
والله أعلم بخلقه، وأرأف بعباده، يختار ما كان لهم الخيرة. وإنك
بحيث لا يجهل موضعك من بيت النبوة، ومعدن الرسالة، وكهف الحكمة، ولا يجحد حقك
فيما آتاك ربك من العلم، ومنحك من الفقه في الدين، هذا إلى مزايا خصصت بها،
وفضائل اشتملت عليها، ولكن لك من يزاحمك بمنكب أضخم من منكبك، وقربى أمس من
قرباك، وسن أعلى من سنك، وشيبة أروع من شيبتك، وسيادة معروفة في الإسلام
والجاهلية، ومواقف ليس لك فيها جمل ولا ناقة، ولا تذكر فيها في مقدمة ولا ساقة،
ولا تضرب فيها بذراع ولا إصبع، ولا تعد منها ببازل ولا هبع . إن أبا بكر كان حبة
قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلاقة
همه، وعيبة سره ومثوى حزنه، وراحة باله، ومرمق طرفه، شهرته مغنية عن الدلالة
عليه. ولعمري إنك لأقرب منه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قرابة، ولكنه أقرب منك قربة، والقرابة
لحم ودم، والقربة روح ونفس، وهذا فرق يعرفه المؤمنون، ولذلك صاروا إليه أجمعون. ومهما شككت فلا تشك في أن يد الله مع الجماعة،
ورضوانه لأهل الطاعة، فادخل فيما هو خير لك اليوم، وأنفع غداً، والفظ من فيك ما
هو متعلق بلهاتك ، وانفث سخيمة صدرك، فإن يكن في الأمد طول، وفي الأجل فسحة،
فستأكله مريئاً أو غير مريء، وستشربه هنيئاً أو غير هنيء، حين لا راد لقولك إلا
من كان آيساً منك، ولا تابع لك إلا من كان طامعاً فيك، حين يمض إهابك ، ويفري
أديمك، ويزري على هديك، هناك تقرع السن من ندم، وتشرب الماء ممزوجاً بدم، حين
تأسى على ما مضى من عمرك، وانقضى وانقرض من دارج قومك، وتود أن لوسقيت بالكأس
التي سقيتها غيرك، ورددت إلى الحال التي كنت تكرهها في أمسك، ولله فينا وفيك أمر
هو بالغه، وعاقبة هو المرجو لسرائها وضرائها، وهو الولي الحميد الغفور الودود. قال أبو عبيدة: فمشيت إلى علي مثبطاً متباطئاً، كأنما أخطو على أم رأسي فرقاً من
الفتنة، وإشفاقاً على الأمة، وحذراً من الفرقة، حتى وصلت إليه في خلاء فأبثثته
بثي كله، وبرئت إليه منه، ودفعته له. فلما سمعها ووعاها، وسرت في أوصاله حمياها قال: حلت معلوطة ، وولت مخروطة ، ثم قال:
يا أبا عبيدة،
أهذا كله في أنفس القوم يستبطنونه ويضطغنون عليه! فقلت:
لا جواب عندي، إنما جئتك قاضياً حق الدين،
وراتقاً فتق الإسلام، وساداً ثلمة الأمة؟ يعلم الله ذلك من خلجلان قلبي، وقرارة
نفسي. فقال: ما كان قعودي
في كسر هذا البيت قصداً لخلاف، ولا إنكاراً لمعروف، ولا زراية على فسلم، بل لما وقذني به رسول الله صلى الله عليه وسلم من فراقه،
وأودعني من الحزن لفقده، فإني لم أشهد بعده مشهداً إلا جدد علي حزناً، وذكرني
شجناً، وإن الشوق إلى اللحاق به كاف عن الطمع في غيره، وقد
عكفت على عهد الله أنظر فيه، وأجمع ما تفرق منه، رجاء ثواب معد لمن أخلص لله
عمله، وسلم لعلمه ومشيئته أمره، على أني أعلم أن التظاهر علي واقع، ولي عن الحق
الذي سيق إلي دافع، وإذ قد افعم الوادي لي، وحشد النادي علي، فلا مرحباً بما ساء
أحداً من المسلمين، وفي النفس كلام لولا سابق قول، وسالف عهد، لشفيت غيظي بخنصري
وبنصري، وخضت لجته بأخمصي ومفرقي، ولكني ملجم إلى أن
ألقى الله تعالى، عنده أحتسب ما نزل بي، وأنا غاد إن شاء الله إلى
جماعتكم، ومبايع لصاحبكم، وصابر على ما ساءني وسركم،
ليقضي الله أمراً كان مفعولاً، وكان الله على كل شيء شهيداً. إن قدحنا أورينا، وإن متحنا أروينا، وإن قرحنا
أدمينا، وقد سمعت أمثالك التي ألغزت بها صادرة عن صدر دوٍ، وقلب جوٍ. زعمت أنك
قعدت في كسر بيتك لما وقذك به فراق رسول الله صلى
الله عليه وسلم. أفراق رسول الله صلى
الله عليه وسلم، وقذك وحدك ولم
يقذ سواك، إن مصابه لأعز وأعظم من ذاك، وإن من حق مصابه ألا تصدع شمل الجماعة
بكلمة لا عصام لها، فإنك لترى الأعراب حول المدينة لو تداعست علينا في صبح يوم
لم نلتق في ممساه. وزعمت أن الشوق إلى اللحاق به كافٍ عن الطمع في غيره، فمن
الشوق إليه نصرة دينه، وموازرة المسلمين عليه، ومعاونتهم فيه. وزعمت أنك
مكبٌ على عهد الله تجمع ما تفرق منه، فمن العكوف على عهده النصيحة لعباده،
والرأفة على خلقه، وأن تبذل من نفسك ما يصلحون به ويجتمعون عليه. وزعمت أن
التظاهر عليك واقع، وأي تظاهر وقع عليك، أي حق استؤثر به دونك، لقد علمت ما قالت الأنصار أمس سراً وجهراً، وما تقلبت عليه
ظهراً وبطناً، فهل ذكرتك أو أشارت بك، أو طلبت رضاها من عندك، وهؤلاء المهاجرون، من الذي قال منهم إنك صاحب هذا
الأمر، أو أومأ إليك، أو همهم بك في نفسه، أتظن أن الناس ضلوا من أجلك، أو عادوا
كفاراً زهداً فيك، أو باعوا الله تعالى بهواهم بغضاً لك، ولقد جاءني قوم من الأنصار، فقالوا: إن علياً ينتظر
الإمامة، ويزعم أنه أولى بها من أبي بكر رضي
الله عنه، فأنكرت عليهم ورددت
القول في نحورهم، حتى قالوا: إنه ينتظر
الوحي ويتوكف مناجاة الملك، فقلت: ذاك أمر طواه
الله بعد محمد صلى الله عليه وسلم. ومن أعجب شأنك قولك:
"لولا سابق قول لشفيت غيظي بخنصري وبنصري"، وهل ترك الدين لأحد أن
يشفي غيظه بيده أو لسانه ، تلك جاهلية استأصل الله
شأفتها واقتلع جرثومتها ، ونور ليلها وغور سيلها، وأبدل منها الروح والريحان،
والهدى والبرهان، وزعمت أنك ملجم، فلعمري إن من
اتقى الله، وآثر رضاه، وطلب ما عنده، أمسك لسانه، وأطبق فاه، وغلب عقله ودينه
على هواه. وأما قولك: "إني لأعرف
منزع قوسي"، فإذا عرفت منزع قوسك عرف غيرك مضرب سيفه، ومطعن رمحه. وأما ما تزعمه من الأمر الذي جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم لك، فتخلفت إعذاراً إلى الله، وإلى
العارفة به من المسلمين، فلو عرفه المسلمون
لجنحوا إليه، وأصفقوا عليه، وما كان الله ليجمعهم على العمى، ولا ليضربهم بالصبا
بعد الهدى، ولو كان لرسول الله صلى الله عليه
وسلم
فيك
رأي، وعليك عزم، ثم بعثه الله، فرأى اجتماع أمته على أبي بكر رضي الله عنه، لما سفه آراءهم، ولا ضلل
أحلامهم، ولا آثرك عليهم، ولا أرضاك بسخطهم، ولأمرك باتباعهم، والدخول معهم فيما
ارتضوه لدينهم. فقال علي: مهلاً أبا حفص أرشدك الله، خفض
عليك، ما بذلت ما بذلت وأنا أريد عنه حولاً، وإن أخسر الناس صفقة عند الله من
استبطن النفاق، واحتضن الشقاق، وفي الله خلف عن كل فائت، وعوضٌ من كل ذاهب،
وسلوة عن كل حادث، وعليه التوكل في جميع الحوادث. ارجع أبا حفصٍ إلى مجلسك ناقع القلب.
مبرود الغليل، فصيح اللسان، رحب الصدر، متهلل الوجه، فليس وراء ما سمعته مني إلا
ما يشد الأزر، ويحبط الوزر، ويضع الإصر، ويجمع الألفة، ويرفع الكلفة، إن شاء
الله،
فانصرف عمر إلى مجلسه. قال أبو عبيدة:
فلم أسمع ولم أر كلاماً ولا مجلساً كان أصعب من ذلك الكلام والمجلس. قلت: الذي يغلب على ظني أن
هذه المراسلات والمحاورات والكلام كله مصنوع موضوع، وأنه من كلام أبي حيان التوحيدي، لأنه بكلامه ومذهبه في الخطابة
والبلاغة أشبه، وقد حفظنا كلام عمر رضي
الله عنه ورسائله، وكلام أبي بكر
رضي الله عنه وخطبه،
فلم نجدهما يذهبان هذا المذهب، ولا يسلكان هذا
السبيل في كلامهما، وهذا كلام عليه أثر التوليد ليس يخفى، وأين أبو بكر وعمر رضي
الله عنهما من البديع وصناعة المحدثين،
ومن تأمل كلام أبي حيان عرف أن هذا الكلام من ذلك
المعدن خرج، ويدل عليه أنه أسنده إلى القاضي أبي حامد المروروذي ، وهذه
عادته في كتاب "البصائر" يسند إلى القاضي أبي
حامد كل ما يريد أن يقوله هو من تلقاء نفسه، إذا كان كارهاً لأن ينسب
إليه، وإنما ذكرناه نحن في هذا الكتاب، لأنه وإن كان
عندنا موضوعاً منحولاً، فإنه صورة ما جرت عليه حال القوم، فهم وإن لم ينطقوا به
بلسان المقال، فقد نطقوا به بلسان الحال. ومما يوضح لك أنه مصنوع، أن
المتكلمين على اختلاف مقالاتهم من المعتزلة والشيعة والأشعرية وأصحاب الحديث،
وكل من صنف في علم الكلام والإمامة لم يذكر أحد منهم كلمة واحدة من هذه الحكاية،
ولقد كان المرتضى رحمه الله يلتقط من كلام أمير
المؤمنين رضي الله عنه اللفظة الشاذة، والكلمة المفردة الصادرة عنه رضي الله عنه، في معرض التألم
والتظلم، فيحتج بها، ويعتمد عليها، نحو
قوله: "ما زلت مظلوماً مذ قبض رسول الله حتى يوم
الناس هذا". وقوله:
"لقد ظلمت عدد الحجر والمدر". وقوله:
"إن لنا حقاً إن نعطه نأخذه، وإن نمنعه نركب أعجاز الإبل، وإن طال
السرى". وقوله:
"فصبرت وفي الحلق شجاً ، وفي العين قذىً". وقوله:
"اللهم إني أستعديك على قريش فإنهم ظلموني حقي، وغصبوني إرثي ". وكان المرتضى إذا
ظفر بكلمة من هذه، فكأنما ظفر بملك الدنيا ويودعها كتبه وتصانيفه، فأين كان
المرتضى عن هذا الحديث، وهلا ذكر في كتاب "الشافي في الإمامة"
كلام أمير المؤمنين رضي الله عنه
هذا، وكذلك
من قبله من الإمامية كابن النعمان، وبني نوبخت، وبني بابويه وغيرهم،
وكذلك من جاء بعده من متأخري متكلمي الشيعة وأصحاب
الأخبار والحديث منهم إلى وقتنا هذا، وأين
كان أصحابنا عن كلام أبي بكر وعمر رضي الله عنه له رضي الله عنه وهلا ذكره قاضي القضاة في "المغني" مع احتوائه على
كل ما جرى بينهم، حتى إنه يمكن أن يجمع منه تاريخ كبير مفرد في أخبار
السقيفة، وهلا ذكره من كان قبل قاضي القضاة من
مشايخنا وأصحابنا ومن جاء بعده من متكلمينا ورجالنا، وكذلك القول في متكلمي الأشعرية وأصحاب الحديث كابن الباقلاني وغيره،
وكان ابن الباقلاني شديداً
على الشيعة، عظيم العصبية على أمير المؤمنين رضي الله عنه، فلو ظفر بكلمة من كلام أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في هذا الحديث لملأت الكتب والتصانيف بها، وجعلها هجيراه ودأبه. والأمر
فيما ذكرناه من وضع هذه القصة ظاهر لمن عنده أدق
ذوق من علم البيان، ومعرفة كلام الرجال، ولمن عنده أدق معرفة بعلم السير، وأقل
أنس بالتواريخ. قوله رضي الله عنه:
"مودع لا قالٍ ولا مبغض ولا سئم"، أي لا ملول، سئمت من الشيء أسأم وسآماً وسآمة، سئمته إذا
مللته، ورجل سؤوم. ثم أكد رضي الله عنه هذا المعنى، فقال:
"إن انصرفت فلا عن ملالة، وإن أقمت فلا عن سوء ظن بما وعد الله
الصابرين"، أي ليست إقامتي على قبرك وجزعي عليك، إنكاراً مني لفضيلة الصبر
والتجلد والتعزي والتأسي، وما وعد الله به الصابرين من الثواب، بل أنا عالم
بذلك، ولكن يغلبني بالطبع البشري. وروي أن فاطمة بنت الحسين رضي الله عنهما ضربت
فسطاطاً على قبر بعلها الحسن بن الحسن رضي الله عنه سنة، فلما انقضت
السنة قوضت الفسطاس راجعة إلى بيتها، فسمعت هاتفاً
يقول: هل بلغوا ما طلبوا، فأجاب هاتف آخر، بل يئسوا فانصرفوا. وذكر أبو العباس محمد بن يزيد المبرد في كتابه
"الكامل" أن رضي الله عنه تمثل عند قبر فاطمة:
والناس يروونه: وإن افتقادي فاطماً بعد أحمدٍ |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الفهرس الجزء العاشر - باب المختار
من الخطب والأوامر - ابن ابي الحديد. بسم
الله الرحمن الرحيم الحمد لله الواحد العدل. ومن كلام له في شأن طلحة بن عبيد
الله.. من خطبة له عليه السلام في ذم الغافلين.. رأي بعض الغلاة في أمير المؤمنين.. أمير المؤمنين وإخباره بالأمور الغيبية. ومن خطبة له في التحذير من متابعة
الهوى . ومن خطبة له رضي الله عنه يذكر أن
زوال النعم من سوء الفعال. ومن خطبة له في تنزيه الله وذكر
آثار قدرته. نسب العمالقة وعاد وثمود والفراعنة
وأصحاب الرس، من خطبة له في قدرة الله وفضل القرآن. رأي للمؤلف في كتاب نهج البلاغة. ومن كلام له قاله للبرج بن مسهر
الطائي. ومن خطبة له يصف فيها المنافقين.. ومن خطبة له في ذكر بعض صفات الله.. ومن خطبة له عليه السلام يحث على
العمل الصالح. خبر موت الرسول الأعظم صلى الله
عليه وسلم. ومن خطبة له في حث الناس علي التقوى. حسن سياسة أمير المؤمنين عليه السلام الأسباب التي أوجبت محبة الناس لعلي. سياسة الإمام علي عليه السلام ومعاوية. أقوال من طعن في سياسة علي والرد
عليها |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الجزء
العاشر - باب المختار من الخطب والأوامر - ابن ابي الحديد
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن كلام له في شأن طلحة بن عبيد الله
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: قد كنت وما
أهدد بالحرب، ولا أرهب بالضرب، وأنا على ما وعدني ربي من النصر، والله ما أستعجل
متجرداً للطلب بدم عثمان إلا خوفاً من أن يطالب بدمه، لأنه مظنته، ولم يكن في
القوم أحرص عليه منه، فأراد أن يغالط بما أجلب فيه ليلتبس الأمر، ويقع الشك. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ما جرى بين طلحة وعثمان
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ذكر أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في
كتاب "التاريخ " قال: حدثني عمر بن
شبة، عن علي بن محمد، عن عبد ربه، عن نافع، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن حكيم بن
جابر، قال: قال
علي رضي الله عنه لطلحة وعثمان محصور: أنشدك
الله إلا رددت الناس عن عثمان! قال: لا والله حتى تعطي بنو أمية الحق من أنفسها. وروى المدائني في كتاب "مقتل عثمان
" أن طلحة منع من دفنه
ثلاثة أيام، وأن علياً رضي الله عنه
لم يبايع الناس إلا بعد قتل عثمان بخمسة أيام، وأن حكيم بن حزام أحد بني أسد بن
عبد العزي، وجبير بن مطعم بن الحارث بن نوفل استنجدا
بعلي رضي الله عنه على دفنه، فأقعد طلحة لهم في
الطريق ناساً بالحجارة، فخرج به نفر يسير من أهله وهم يريدون به حائطاً
بالمدينة يعرف بحش كوكب . كانت
اليهود تدفن فيه موتاهم، فلما صار هناك رجم سريره، وهموا بطرحه، فأرسل علي رضي الله عنه إلى
الناس يعزم عليهم ليكفوا عنه فكفوا، فانطلقوا به حتى دفنوه في حش كوكب. فقال عثمان: إنك والله ما
جئت تائباً، ولكن جئت مغلوباً، والله حسيبك يا
طلحة! ثم قسم رضي الله عنه مال طلحة،
فقال: لا يخلو إما أن يكون معتقداً حل دم عثمان، أو حرمته، أو يكون شاكاً في
الأمرين، فإن كان يعتقد حله لم يجز له أن ينقض البيعة لنصرة إنسان حلال الدم،
وإن كان يعتقد حرمته، فقد كان يجب عليه أن ينهنه عنه الناس، أي يكفهم. قلت: لو اعترف
بذلك لم يقسم علي رضي الله عنه هذا
التقسيم، وإنما قسمه لبقائه على اعتقاد واحد، وهذا التقسيم مع فرض بقائه على
اعتقاد واحد صحيح لا مطعن فيه، وكذا كان حال طلحة
فإنه لم ينقل عنه أنه قال!: ندمت على ما فعلت بعثمان. قلت: مراده رضي
الله عنه
أنه
إن كان عثمان ظالماً، وجب أن يوازر قاتليه بعد قتله، يحامي عنهم، ويمنعهم ممن
يروم دماءهم، ومعلوم أنه لم يفعل ذلك، وإنما وازرهم وعثمان حي، وذلك غير داخل في
التقسيم. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
من خطبة له عليه السلام في ذم الغافلين
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: أيها الناس
غير المغفول عنهم، والتاركون، والمأخوذ منهم، مالي أراكم عن الله ذاهبين، وإلى
غيره راغبين! كأنكم نعم أراح بها سائم إلى مرعى وبي، ومشرب دوي، وإنما هي
كالمغفولة للمدى، لا تعرف ماذا يراد بها! إذا أحسن إليها تحسب يومها دهرها،
وشبعها أمرها. ألا وإني مفضيه إلى الخاصة ممن يؤمن
ذلك منه. والذي بعثه
بالحق، واصطفاه على الخلق، ما أنطق إلا صادقاً، ولقد عهد إلي بذلك كله وبمهلك من
يهلك، ومنجى من ينجو، ومآل هذا الأمر، وما أبقى شيئاً يمر على رأسي إلا أفرغه في
أذني، وأفضى به إلي. سائمة، أي راعية، وإنما قال ذلك لأنها إذا اتبعت
أمثالها كان أبلغ في ضرب المثل بجهلها من الإبل التي يسيمها راعيها والمرعى الوبي: ذو الوباء والمرض. والمشرب الدوي ذو الداء، وأصل "الوبى"
اللين الوبىء المهموز، ولكنه لينه، يقال:
أرض وبيئة على فعيلة، ووبئة على فعلة، ويجوز أوبأت فهي موبئة. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
رأي بعض الغلاة في أمير المؤمنين
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
واعلم
أنه غير مستحيل أن تكون بعض الأنفس مختصة بخاصية تدرك بها
المغيبات، وقد تقدم من الكلام في ذلك ما فيه كفاية، ولكن لا يمكن أن تكون
نفس تدرك كل المغيبات، لأن القوة المتناهية لا تحيط
بأمور غير متناهية، وكل قوة في نفس حادثة فهي متناهية، فوجب أن يحمل كلام
أمير المؤمنين رضي الله عنه، لا على أن يريد به عموم العالمية بل يعلم أموراً محدودة من
المغيبات، مما اقتضت حكمة البارىء سبحانه أن يؤهله لعلمه، وكذلك القول في رسول
الله صلى الله عليه وسلم إنه
إنما كان يعلم أموراً معدودة لا أموراً غير متناهية، ومع
أنه رضي الله عنه قد كتم ما علمه حذراً من أن يكفروا فيه برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كفر كثير منهم، وادعوا فيه النبوة،
وادعوا فيه أنه شريك الرسول في الرسالة، وادعوا فيه أنه هو كان الرسول، ولكن
الملك غلط فيه، وادعوا أنه هو الذي بعث محمداً صلى الله عليه وسلم إلى الناس، وادعوا فيه
الحلول، وادعوا فيه الاتحاد، ولم يتركوا نوعاً من أنواع الضلالة فيه إلا وقالوه
واعتقدوه، وقال
شاعرهم فيه من أبيات:
وقال
بعض شعرائهم:
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أمير المؤمنين وإخباره بالأمور الغيبية
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وقد ذكرنا فيما تقدم من إخباره رضي الله عنه عن
الغيوب طرفاً صالحاً، ومن عجيب ما وقفت عليه من ذلك
قوله في الخطبة التي يذكر فيها الملاحم، وهو يشير
إلى القرامطة : "ينتحلون لنا الحب والهوى، ويضمرون لنا البغض والقلى
، وآية ذلك قتلهم وراثنا، وهجرهم أحداثنا". فقال: فكم
في رأسي طاقة شعر؟ فقال له: أما والله إني لأعلم
ذلك، ولكن أين برهانه لو أخبرتك به! ولقد أخبرتك بقيامك ومقالك. وقيل لي إن
على كل شعرة من شعر رأسك ملكاً يلعنك وشيطاناً يستفزك، وآية
ذلك أن في بيتك سخلاً يقتل ابن رسول الله
صلى الله عليه وسلم، ويحض على قتله. فلما
قتل الحسين رضي
الله عنه كان
البراء يذكر ذلك، ويقول: أعظم بها حسرة! إذ لم
أشهده واقتل دونه! وسنذكر من هذا النمط- فيما بعد إذا
مررنا بما يقتفي ذكره- ما يحضرنا إن شاء الله. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن خطبة له في التحذير من متابعة الهوى .
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
انتفعوا ببيان الله، واتعظوا بمواعظ الله، اقبلوا نصيحة الله، فإن الله قد أعذر
إليكم بالجلية، وأخذ عليكم الحجة، وبين لكم محابه من الأعمال، ومكارهه منها،
لتتبعوا هذه وتجتنبوا هذه، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول: إن الجنة حفت بالمكاره،
وإن النار حفت بالشهوات. فكونوا كالسابقين قبلكم، والماضين أمامكم،
قوضوا من الدنيا تقويض الراحل، وطووها طي المنازل. والجلية:
اليقين، وإنما أعذر إليهم بذلك، لأنه مكنهم من العلم اليقيني بتوحيده وعدله،
وأوجب عليهم ذلك في عقولهم، فإذا تركوه ساغ في الحكمة تعذيبهم وعقوبتهم، فكأنه
قد أبان لهم عذره أن لو قالوا: لم تعاقبنا؟ ومحابه
من الأعمال، هي الطاعات التي يحبها. وحبه
لها إرادة وقوعها من المكلفين. ومكارهه من الأعمال: القبائح التي يكرهها منهم، وهذا الكلام حجة لأصحابنا على
المجبرة. والخبر الذي رواه رضي الله عنه مروي في كتب المحدثين، وهو قول رسول الله رضي الله عنه: "حجمت الجنة بالمكاره، وحفت
النار بالشهوات "، ومن المحدثين من يرويه:
"حفت " فيهما، وليس منهم من وال وسلم.
ومن الكلام المروي عنه رضي الله عنه- ويروى أيضاً عن غيره: "أيها الناس، إن هذه النفوس طلعة
فإلا تقدعوها تنزع بكم إلى شر غاية".
ثم قال رضي الله عنه: "نفس المؤمن ظنون عنده "، الظنون: البئر التي لا يدرى أفيها ماء أم لا،
فالمؤمن لا يصبح ولا يمسي إلا وهو على حذر من نفسه، معتقداً فيها التقصير
والتضجيع في الطاعة، غير قاطع على صلاحها وسلامة عاقبتها، وزارياً عليها: عائباً، زريت
عليه: عبت. وأعلموا أنه
شافع مشفع، وقائل مصدق، وأنه من شفع له القرآن يوم القيامة شفع فيه، ومن محل به
القرآن يوم القيامة صدق عليه، فإنه ينادي مناد يوم القيامة: ألا إن كل حارث
مبتلىً في حرثه وعاقبة عمله، غير حرثة القرآن، فكونوا من حرثته وأتباعه،
واستدلوه على ربكم، واستنصحوه على أنفسكم، واتهموا عليه آراءكم، واستفشوا فيه
أهواءكم. واللأواء:
الشدة. وحرثة القرآن:
المتاجرون به الله. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
القرآن الكريم وفضله
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
واعلم أن هذا الفصل من أحسن ما ورد في تعظيم القرآن وإجلاله وقد
قال الناس في هذا الباب فأكثروا. ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة طعمها طيب ولا ريح لها. ومثل الفاجر الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة، ريحها طيب، وطعمها مر. ومثل الفاجر الذي لا
يقرأ القرآن
مثل الحنظلة طعمها مر، وريحها منتنة". والله لهذا الضرب من حملة القرآن أعز وأقل من الكبريت الأحمر. قال: ابني وهو شاعر، قال:
علمه القرآن فهو
خير له من الشعر، فكان ذلك في نفس الفرزدق، حتى قيد نفسه، وآلى ألا يحل
قيده حتى يحفظ القرآن، فما حله حتى حفظه، وذلك
قوله:
قلت: تحت قوله رضي الله عنه:
"يا أبا الأخطل "، قبل أن يعلم أن ذلك
الغلام ولده وأنه شاعر، سر غامض، ويكاد يكون إخبارا عن غيب، فليلمح. قلت: وهذا القول
على سبيل المثل والتخويف من مواقعة المعاصي لمن يحفظ القرآن. وقال النبي صلى
الله عليه وسلم: "إن
القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد"، قيل: يا رسول الله،
وما جلاؤها؟ قال: "قراءة القرآن وذكر الموت ". وينبغي لحامل القرآن أن
يكون سكيتاً زميتاً ليناً ، ولا ينبغي أن يكون جافياً ولا ممارياً، ولا صياحاً
ولا حديداً ولا صخاباً. ألا وإن القدر السابق قد وقع، والقضاء الماضي قد
تورد، وإني متكلم بعدة الله وحجته، قال الله جل ذكره:
"إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة أن لا تخافوا
ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون"، وقد قلتم: "ربنا الله"، فاستقيموا على كتابه،
وعلى منهاج أمره، وعلى الطريقة الصالحة من عبادته، ثم لا تمرقوا منها، ولا
تبتدعوا فيها، ولا تخالفوا عنها، فإن أهل الفروق منقطع بهم عند الله يوم
القيامة. الشرح: النصب على
الإغراء، وحقيقته فعل مقدر، أي الزموا العمل، وكرر الاسم لينوب أحد اللفظين عن
الفعل المقدر، والأشبه أن يكون اللفظ الأول هو
القائم مقام الفعل، لأنه في رتبته. أمرهم بلزوم العمل ثم أمرهم بمراعاة العاقبة
والخاتمة، وعبر عنها بالنهاية، وهي آخر أحوال المكلف التي يفارق الدنيا عليها،
إما مؤمناً أو كافراً، أو فاسقاً، والفعل المقدر
هاهنا: راعوا وأحسنوا وأصلحوا، ونحو ذلك، ثم أمرهم بالاستقامة وأن
يلزموها، وهي أداء الفرائض، ثم أمرهم بالصبر عليها وملازمته، وبملازمة الورع، ثم شرع بعد هذا الكلام المجمل في تفصيله فقال: "إن لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم "،
وهذا لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيها الناس، إن لكم معالم
فانتهوا إلى معالمكم، وإن لكم غاية فانتهوا إلى غايتكم"، والمراد بالنهاية والغاية أن يموت الإنسان على
توبة من فعل القبيح والإخلال بالواجب، ثم أمرهم
بالاهتداء بالعلم المنصوب لهم، وإنما يعني نفسه رضي الله عنه. ثم ذكر أنه شاهد لهم، ومحاج يوم القيامة عنهم، وهذا
إشارة إلى قوله تعالى: "يوم ندعو كل أناس
بإمامهم . وقد اختلف فيه قول أمير المؤمنين رضي الله عنه وأبي
بكر، فقال أمير المؤمنين رضي الله عنه: أدوا الفرائض، وقال أبو بكر: استمروا على التوحيد. ورأي أبي بكر في هذا الموضع- إن ثبت عنه- يؤكد مذهب الإرجاء، وقول أمير
المؤمنين رضي الله عنه يؤكد مذهب أصحابنا. الأصل:
ثم إياكم وتهزيع الأخلاق وتصريفها، واجعلوا اللسان
واحداً، وليخزن الرجل لسانه، فإن هذا اللسان جموح بصاحبه، والله ما أرى
عبداً يتقي تقوى تنفعه حتى يختزن لسانه، وإن لسان
المؤمن من وراء قلبه، وإن قلب المنافق من
وراء لسانه، لأن المؤمن إذا أراد أن يتكلم بكلام تدبره في نفسه، فإن كان خيراً
أبداه، وإن كان شراً واراه، وإن المنافق يتكلم
بما أتى على لسانه لا يدري ماذا له، وماذا عليه. ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم
قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه، فمن استطاع منكم أن يلقى الله سبحانه،
وهو نقي الراحة من دماء المسلمين وأموالهم، سليم اللسان من أعراضهم، فليفعل. قلت: لأنه قل أن يكون المنافق إلا أحمق،
وقل أن يكون العاقل إلا مؤمناً فلأكثرية ذلك، استعمل لفظ "المؤمن"،
وأراد العاقل، ولفظ "المنافق" وأراد الأحمق.
وكان يقال:
ينبغي للعاقل أن يتمسك بست خصال، فإنها من المروءة:
أن يحفظ دينه، ويصون عرضه، ويصل رحمه، ويحمي جاره،
ويرعى حقوق إخوانه، ويخزن عن البذاء لسانه. قوله: "وضرستموها"
بالتشديد أي أحكمتموها تجربة وممارسة، يقال:
قد ضرسته الحرب، ورجل مضرس. وسببه الأمين، مثل حبله المتين، وإنما خالف بين
اللفظتين على قاعدة الخطابة، وفيه ربيع القلب، لأن القلب يحيا به كما تحيا
الأنعام برعي الربيع، وينابيع العلم، لأن العلم منه يتفرع كما يخرج الماء من
الينبوع ويتفرع إلى الجداول. والجلاء، بالكسر: مصدر جلوت السيف،
يقول: لاجلاء لصدأ القلوب من الشبهات
والغفلات إلا القرآن. فأما الظلم
الذي لا يغفر، فالشرك بالله، قال الله سبحانه: "إن الله لا يغفر أن يشرك به". الشرح: قسم رضي الله عنه الظلم ثلاثة أقسام: أحدها: ظلم لا يغفر، وهو الشرك بالله، أي أن يموت
الإنسان مصراً على الشرك، ويجب عند أصحابنا أن يكون
أراد الكبائر، وإن لم يذكرها، لأن حكمها حكم الشرك عندهم. فإن قلت:
لفظه رضي الله عنه مطابق
للآية، وهي قوله تعالى: "إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء"
والآية ولفظه رضي الله عنه صريحان
في مذهب المرجئة، لأنكم إذا فسرتم قوله: "لمن
يشاء" بأن المراد به أرباب التوبة قيل
لكم: فالمشركون هكذا حالهم يقبل الله توبتهم، ويسقط عقاب شركهم بها، فلأي معنى خصص المشيئة بالقسم الثاني وهو ما دون الشرك!
وهل هذا إلا تصريح بأن الشرك لا يغفر لمن مات عليه، وما دونه من المعاصي
إذا مات الإنسان عليه لا يقطع له بالعقاب، ولا لغيره بل أمره إلى الله! قلت: الأصوب في
هذا الموضع ألا يجعل قوله: "لمن يشاء"
معنياً به التائبون، بل نقول: المراد أن
الله لا يستر في موقف القيامة من مات مشركاً، بل يفضحه على رؤوس الأشهاد كما قال تعالى:
"ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم" . |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
في عذاب جهنم
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال الأوزاعي في مواعظه للمنصور: "روي لي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو
أن ثوباً من ثياب أهل النار علق بين السماء والأرض لأحرق أهل الأرض قاطبة، فكيف
بمن يتقمصه! ولو أن ذنوباً من حميم جهنم صب على ماء الأرض كله لأجنه حتى لا
يستطيع مخلوق شربه، فكيف بمن يتجرعه! ولو أن حلقةً من سلاسل النار وضعت على جبل
لذاب كما يذوب الرصاص، فكيف بمن يسلك فيها، ويرد فضلها على عاتقه"! وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لو
كان في هذا المسجد مائة ألف أو يزيدون، وأخرج إليهم رجل من النار فتنفس وأصابهم
نفسه لأحرق المسجد ومن فيه". قال: "تتقلص
شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه، وتسترخي شفته السفلى حتى تقرب سرته وروى عبيد بن
عمير الليثي عنه رضي الله عنه: "لتزفرن جهنم زفرة لا يبقى ملك ولا نبي إلا
خر مرتعدة فرائضه ، حتى إن إبراهيم الخليل، ليجثو على ركبتيه، فيقول: يا رب إني
لا أسألك إلا نفسي". منصور بن عمار:
يا من البعوضة تقلقه، والبقة تسهره، أمثلك يقوى على وهج السعير، أو تطيق صفحة
خده لفح سمومها، ورقة أحشائه خشونة ضريعها ، ورطوبة كبده تجرع غساقها !. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
في الاجتماع والعزلة
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ثم نهاهم رضي الله عنه عن التفرق في دين
الله، وهو الاختلاف والفرقة، ثم أمرهم باجتماع الكلمة، وقال: إن
الجماعة في الحق المكروه إليكم، خير لكم من الفرقة في الباطل المحبوب عندكم، فإن
الله لم يعط أحداً خيراً بالفرقة، لا ممن مضى، ولا ممن بقي. وهذا ضعيف، لأنه إنما كان ذلك في ابتداء الإسلام والحث على جهاد المشركين. وهذا ضعيف
لأن المراد به من اعتزل الجماعة وخالفها. وقال ابن الربيع الزاهد لداود الطائي: عظني، فقال: صم عن الدنيا واجعل فطرك
للآخرة، وفر من الناس فرارك من الأسد.
قال النخعي لصاحب له: تفقه ثم اعتزل. وقال:
ليس يتهيأ للإنسان أن يخبر بكل عذر له. وقيل للفضيل:
إن ابنك يقول: لوددت أني في مكان أرى الناس ولا يرونني! فبكى الفضيل: وقال: يا ويح علي ، ألا
أتمها فقال: ولا أراهم! ومن كلام الفضيل
أيضاً: من سخافة عقل الرجل كثرة معارفه. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
في فوائد العزلة
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وفي العزلة فوائد:
منها الفراغ للعبادة، والذكر والإستئناس بمناجاة الله عن مناجاة الخلق، فيتفرغ
لاستكشاف أسرار الله تعالى في أمر الدنيا والآخرة وملكوت السموات والأرض، لأن
ذلك لا يمكن إلا بفراغ، ولا فراغ مع المخالطة، ولذلك
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في ابتداء أمره يتبتل في
جبل حراء، ويعتزل فيه، حتى أتته النبوة. وقيل للحسن:
يا أبا سعيد، هاهنا رجل لم نره قط جالساً إلا وحده خلف سارية، فقال الحسن: إذا رأيتموه فأخبروني، فنظروا إليه
ذات يوم، فقالوا للحسن- وأشاروا إليه، فمضى نحوه، وقال
له: يا عبد الله، لقد حببت إليك العزلة، فما يمنعك من مجالسة الناس؟ قال: أمر شغلني عنهم، قال:
فما يمنعك أن تأتي هذا الرجل الذي يقال له الحسن، فتجلس إليه؟ قال: أمر شغلني عن
الناس وعن الحسن، قال: وما ذلك الشغل يرحمك
الله؟ قال: إني أمسي وأصبح بين نعمة وذنب،
فأشغل نفسي بشكر الله على نعمه، والاستغفار من الذنب، فقال
الحسن: أنت أفقه عندي يا عبد الله من الحسن، فالزم
ما أنت عليه. ثم صاح:
واغماه من طول المكث في الدنيا! ثم حول وجهه عني، ثم نفض يده، وقال: إليك عني يا دنيا، لغيري فتزيني، وأهلك
فغري! ثم قال: سبحان
من أذاق العارفين من لذة الخدمة وحلاوة الانقطاع إليه ما ألهى قلوبهم عن ذكر
الجنان، والحور الحسان، فإني في الخلوة آنس بذكر الله، وأستلذ بالانقطاع إلى
الله، ثم أنشد:
وقال بعض العلماء: إنما يستوحش الإنسان من نفسه لخلو ذاته عن الفضيلة، فيتكثر
حينئذ بملاقاة الناس، ويطرد الوحشة عن نفسه بهم، فإذا كانت ذاته فاضلة طلب
الوحدة ليستعين بها على الفكرة، ويستخرج العلم والحكمة،
وكان يقال: الاستئناس بالناس من علامات
الإفلاس. وقال الشاعر:
ومن
تجرد للأمور بالمعروف ندم عليه في الأكثر، كجدار مائل يريد الإنسان أن يقيمه
وحده، فيوشك أن يقع عليه، فإذا سقط قال: يا
ليتني تركته مائلاً! نعم لو وجد الأعوان حتى يحكم ذلك الحائط ويدعمه استقام،
ولكنك لا تجد القوم أعواناً على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فدع الناس
وانج بنفسك. وأما الرياء
فلا شبهة أن من خالط الناس داراهم، ومن داراهم
راءاهم، ومن راءاهم كان منافقاً،
وأنت تعلم أنك إذا خالطت متعاديين ولم تلق كل واحد منهما بوجه يوافقه صرت بغيضاً
إليهما جميعاً، وإن جاملتهما كنت من شرار
الناس، وصرت ذا وجهين، وأقل ما يجب في مخالطة الناس
إظهار الشوق والمبالغة فيه، وليس يخلو ذلك عن كذب، إما
في الأصل وإما في الزيادة بإظهار الشفق بالسؤال عن الأحوال، فقولك: كيف
أنت؟ وكيف أهلك؟ وأنت في الباطن فارغ القلب عن همومه،
نفاق محض. وروى ابن مسعود أيضاً
أنه صلى الله عليه وسلم ذكر الفتنة، فقال: "الهرج" فقلت: وما الهرج
يا رسول الله؟ قال: "حين لا يأمن المرء
جليسه"، قلت: فبم تأمرني يا رسول الله، إن أدركت ذلك الزمان؟ قال: "كف نفسك ويدك، وادخل دارك أ، قلت:
أرأيت إن دخل علي داري! قال: "ادخل بيتك
"، قلت: إن دخل علي البيت، قال: "ادخل
مسجدك، واصنع هكذا- وقبض على الكوع- وقل: ربي الله، حتى تموت ".
ومن خالط الناس لا ينفك من حاسد وطاعن، ومن جرب ذلك عرف.
وقيل لسعد بن أبي وقاص: ألا تأتي المدينة؟ قال: ما بقي فيها إلا حاسد نعمة، أو فرح
بنقمة. وقال ابن السماك: كتب إلينا صاحب لنا: أما بعد، فإن الناس كانوا دواء يتداوى
به، فصاروا داء لا دواء لهم، ففر منهم فرارك من الأسد.
وليس يخلو الإنسان في دينه ودنياه وأفعاله عن عورات يتقين ويجب
سترها، ولا تبقى السلامة مع انكشافها، ولا سبيل إلى ذلك إلا بترك المخالطة.
وأما انقطاع طمعك عنهم، ففيه أيضاً فائدة جزيلة، فإن من نظر إلى زهرة الدنيا وزخرفها،
تحرك حرصه، وانبعث بقوة الحرص طمعه، وأكثر الأطماع يتعقبها الخيبة، فيتأذى
الإنسان بذلك، وإذا اعتزل لم يشاهد، وإذا لم يشاهد لم يشته ولم يطمع، ولذلك قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: "ولا
تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم زهرة الحياة الدنيا" . فالمعتزل عن الناس في بيته لا يبتلى بمثل هذه الفتن، فإن من شاهد زينة الدنيا، إما أن يقوى دينه ويقينه فيصبر فيحتاج إلى أن يتجرع مرارة الصبر،
وهو أمر من الصبر، أو تنبعث رغبته فيحتال في طلب
الدنيا فيهلك دنيا وآخرة، أما في الدنيا
فبالطمع الذي في أكثر الأوقات يتضمن الذل المعجل، وأما
في الآخرة فلإيثاره متاع الدنيا على ذكر الله، والتقرب إليه، ولذلك قال الشاعر:
أشار
إلى أن الطمع يوجب في الحال ذلاً. ثم ليكن في خلوته مواظباً على العلم والعمل،
والذكر والفكر، ليجتني ثمرة العزلة. ويجب
أن يمنع الناس عن أن يكثروا غشيانه وزيارته ، فيتشوش وقته، وأن يكف نفسه عن
السؤال عن أخبارهم وأحوالهم، وعن الإصغاء إلى أراجيف الناس وما الناس مشغولون
به، فإن كل ذلك ينغرس في القلب حتى ينبعث على الخاطر
والبال وقت الصلاة ووقت الحاجة إلى إحضار القلب، فإن وقوع الأخبار في السمع
كوقوع البذر في الأرض، لا بد أن ينبت وتتفرع عروقه وأغصانه، وإحدى مهمات المعتزل قطع الوساوس الصارفة عن ذكر الله،
ولا ريب أن الأخبار ينابيع الوساوس وأصولها. ويجب أن يكون للمعتزل أهل صالح أو
جليس صالح، لتستريح نفسه إليه ساعة عن كد المواظبة، ففي
ذلك عون له على بقية الساعات. وليس يتم للإنسان الصبر على العزلة إلا بقطع الطمع
عن الدنيا، وما الناس منهمكون فيه، ولا ينقطع طمعه إلا بقصر الأمل، وألا يقدر
لنفسه عمراً طويلاً، بل يصبح على أنه لا يمسي، ويمسي على أنه لا يصبح، فيسهل
عليه صبر يوم، ولا يسهل عليه العزم على صبر عشرين سنة لو قدر تراخي أجله، وليكن
كثير الذكر للموت ووحدة القبر، مهما ضاق قلبه من الوحدة، وليتحقق أن من لم يحصل
في قلبه من ذكر الله ومعرفته ما يأنس به، فإنه لا يطيق وحشة الوحدة بعد الموت،
وأن من أنس بذكر الله ومعرفته فإن الموت لا يزيل أنسه، لأن الموت ليس يهدم محل
الأنس والمعرفة، بل يبقى حياً بمعرفته وأنسه فرحاً بفضل الله عليه، قال سبحانه: "ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل
أحياء عند ربهم يرزقون" فرحين مما أتاهم الله من فضله" . |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال في معنى الحكمين
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
فأجمع رأي ملئكم على أن اختاروا رجلين، فأخذنا عليهما أن يجعجعا عند القرآن، ولا
يجاوزاه، وتكون ألسنتهما معه وقلوبهما تبعه، فتاها عنه، وتركا الحق وهما
يبصرانه، وكان الجور هواهما، والاعوجاح دأبهما، وقد سبق استثناؤنا عليهما في
الحكم بالعدل والعمل بالحق سوء رأيهما، وجور حكمهما، والثقة في أيدينا لأنفسنا،
حين خالفا سبيل الحق، وأتيا بما لا يعرف من معكوس الحكم. فكتب عمرو إليه:
ثم
كتب في ظاهر الكتاب - ورأيت أنا هذه الأبيات بخط أبي زكريا يحيى بن علي الخطيب
التبريزي رحمه الله -:
فلما
بلغ الجواب إلى معاوية لم يعاوده في شيء من أمر مصر
بعدها. بعث عبد الملك روح بن زنباع وبلال بن
أبي بردة بن أبي موسى، إلى زفر بن الحارث الكلابي بكلام وحذرهما من كيده،
وخص بالتحذير روحا. فقال: يا أمير المؤمنين، إن
أباه كان المخدوع يوم دومة الجندل لا أبي،
فعلام تخوفني الخداع والكيد؟ فغضب بلال وضحك
عبد الملك. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن خطبة له رضي الله عنه يذكر أن زوال النعم من
سوء الفعال
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لا يشغلة شأن، ولا يغيره زمان، ولا يحويه مكان، ولا
يصفه لسان، لا يعزب عنه عدد قطر الماء، ولا نجوم السماء، ولا سوافي الريح في
الهواء، ولا دبيب النمل على الصفا ولا مقيل الذر في الليلة الظلماء. يعلم مساقط
الأوراق، وخفي طرف الأحداق. وأشهد أن
محمداً عبده ورسوله، المجتبى من خلائقه، والمعتام لشرح حقائقه، والمختص بعقائل
كراماته والمصطفى لكرائم رسالاته، والموضحة به أشراط الهدى، والمجلو به غريب
العمى. والذر:
صغار النمل. وطرف الأحداق:
مصدر طرف البصر يطرف طرفا، إذا انطبق أحد الجفنين على الآخر، ولكونه مصدرا وقع
على الجماعة كما وقع على الواحد، فقال صتنه:طرف الأحداق، كما قال سبحانه: الا
يرتد إليهم طرفهم ! . والعيمة
بالكسر: خيار المال، اعتام الرجل، إذا أخذ العيمة. ويجلى به غربيب العمى:
تكشف به طلم الضلال، وتستنير بهدايته. وقوله
تعالى: "وغرابيب سود! ، ليس على أن الصفة قد تقدمت على الموصوف، بل يجعل السود بدلا من الغرابيب. ونبههم على
طرق استنباطها رسول الله مفة بواسطة أمير المؤمنين عتنه، لأنه إمام المتكلمين
الذي لم يعرف علم الكلام من وأ د وسم أحد قبله. وايم الله ما كان قوم قط في غض نعمة من عيش فزال
عنهم إلا بذئوب اجترحوها، لأن ألله ليس بظلام للعبيد. وما علي
إلا الجهد، ولو اشاء أن أقول لقلت: عفا ألله عما سلف! الشرح: المخلد: المائل إليها، قال تعالى:
"ولكنة أخلد إلى الأرض" ! . والشارد:
الذاهب. والجهد بالضم: الطاقة. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن كلام له رضي الله عنه
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وقد سأله ذعلب اليماني فقال:
هل رأيت ربك يا أمير المؤمنين؟ فقال رضي
الله عنه أفأعبد ما لا أرى! فقال: وكيف
تراه، قال "مم لا تدركه العيون بمشاهدة العيان، ولكن تدركه القلوب بحقائق
الإيمان، قريب من الأشياء غير ملامس، بعيد منها غير مباين، فتكلم بلا روية، مريد
لا بهمة، صانع لا بجارحة، لطيف لا يوصف بالخفاء، كبير لا يوصف بالجفاء، بصير لا
يوصف بالحاسة، رحيم لا يو!ف بالرقة، تعنو الونجوه لعظمته، وتجب القلوب من
مخافته. تعالى متكلم لا بهذا الاعتبار، بل لأنه إذا أراد
تعريف خلقه من جهة الحروف والأصوات، وكان في ذلك مصلحة ولطف لهم، خلق الأصوات
والحروف في جسم جمادي، فيسمعها من يسمعها، ويكون ذلك كلامه، لأن المتكلم في
اللغة العربية فاعل الكلام لا من حله الكلام. وقد شرحنا هذا في كتبنا الكلامية. قوله:صانع لا بجارحة"، أي لا بعضو، لأنه ليس
بجسم. أو لطيف
بهم بمعنى أنه يرحمهم ويرفق بهم. ويروى:توجل
القلوب أي تخاف، وجل: خاف. الأصل: أحمد ألله
على ما قضى من أمر، وقدر من فعل، وعلى أبتلائي بكم أيتها ألفرقة التي إذا أمرت
لم تطع، وإذا دعوت لم تجب. ويجوز أن يكون خرتم أي ! حتم، كما يخور
الثور، ومنه قوله تعالى: "عجلا جسدا له
خوار! . ويروى:جرتم
أي عدلتم عن الحرب فرارا. وأما قولهم:لا أبا لك،
بإثباته فدون الأول في الفصاحة، كأنهم قصدوا الإضافة، وأقحموا اللام مزيدة
مؤكدة، كما قالوا:يا تيم تيم عدي، وهو غريب،
لأن حكم " لا" أن تعمل في النكرة
فقط، وحكم الألف أن تثبت مع الإضافة، والإضافة تعرف فاجتمع فيها حكمان متنافيان،
فصار من الشواذ كالملامح والمذاكير ولدن غدوة. وشحذت النصل:
أحددثه. قلت: إن
معاوية لم يكن يعطي جنده على وجه المعونة والعطاء، وإنما كان يعطي رؤساء القبائل
من اليمن وساكني الشام الأموال الجليلة، يستعبدهم بها، ويدعو أولئك الرؤساء
أتباعهم من العرب فيطيعونهم، فمنهم من يطيعهم حمية، ومنهم من يطيعهم لأياد
وعوارف من أولئك الرؤساء عندهم، ومنهم من يطيعهم دينا، زعموا للطلب بدم عثمان،
ولم يكن يصل إلى هؤلاء الأتباع من أموال معاوبة قليل ولا كثير. وأما
أميرالمؤمنين عقنه، فإنه كان يقسم بين الرؤساء والأتباع على وجه العطاء والرزق،
ولا يرى لشريف على مشروف فضلا، فكان من يقعد عنه بهذا الطريق أكرم من ينصره ويقوم بأمره، وذلك لأن الرؤساء من
أصحابه كانوا يجدون في أنفسهم من ذلك- أعني المساواة بينهم وبين الأتباع-
فيخذلونه علنه باطنا، وإن أظهروا له النصر، وإذا أحس أتباعهم بتخاذلهم وتواكلهم
تخاذلوا أيضاً وتواكلوا أيضاً، ولم يجد عليه صلوات الله عليه ما أعطى الأتباع من
الرزق، لأن انتصار الأتباع له وقتالهم دونه لا يتصور وقوعه، والرؤساء متخاذلون،
فكان يذهب ما يرزقهم ضياعا. فإن قلت: ما معنى قوله:لا يخرج إليكم من أمري
رضا فترضونه، ولا سخط فتجتمعون عليه؟ قلت: معناه
أنكم لا تقبلون مما أقول لكم شيئا، سواء كان مما يرضيكم أومما يسخطكم، بل لا بد
لكم من المخالفة والافتراق عنه. كفى
بك داءأن ترى الموت شافيا وحسب المنايا أن تكن أمانيا تمنيتها
لما تمنيت أن ترى صديقا فاعيا، أوعدوا مداجيا قوله:قد دارستكم الكتاب، أي درسته
عليكم، دارست الكتب وتدارستها، وأدرستها ودرستها، بمعنى، وهي من الألفاظ القرآنية . فإن قلت:
قد كان يجب أن يقول:وأقرب بقوم قائدهم معاوية ومؤدبهم ابن النابغة من الجهل، فلا
يحول بين النكرة الموصوفة وصفتها بفاصل غريب، ولم يقل ذلك، بل فصل بين الصفة
والموصوف بأجنبي منهما! قلت:
قد
جاء كثيرمن ذلك، نحو قوله تعالى: وممن حولكم من
الأعراب منافقون ومن أهل ألمدينة مردوا على النفاق ! في قول من لم يجعل مردوا"
صفة أقيمت مقام الموصوف، لأنه يجعل مردوا" صفة القوم المحذوفين المقدرين
بعدالأعراب وقد حال بين ذلك وبين مردوا" قوله:ومن أهل المدينة". الأصل: بعدا لهم كما
بعدت ثمود! أما لو أشرعت الأسنة إليهم، و!بت
السيوف على هاماتهم، لقد ندموا على ما كان منهم. ويمكن
عندي أن يريد أنه وجدهم فلا، لا خير فيهم، والفل في
الأصل: الأرض لا نبات بها لأنها لم تمطر، قال
حسان يصف العزى:
أي
خال من الخير. ويروى
استفزهم، أي استخفهم، والارتكاس في الضلال: الرجوع، كأنه جعلهم في ترددهم في
طبقات الضلال كالمرتكس الراجع إلى أمر قد كان تخلص منه، والجماح في التيه: الغلو
والإفراط، مستعار من جماح الفرس، وهوأن يعتز صاحبه ويغلبه، جمح فهو جموح. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن خطبة له في تنزيه الله وذكر آثار قدرته
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: روي عن نوف
البكالي، قال خطبنا بهذه الخطبة أمير المؤمنين علي رضي الله عنه بالكوفة، وهو قائم على حجارة نصبها له جعدة بن
هبيرة المخزومي، وعليه مدرعة من صوف، وحمائل سيفه ليف، وفي رجليه نعلان من ليف،
وكأن جبينه ثفنة بعير، فقال رضي الله عنه: الحمد
لله الذي إليه مصائر الخلق، وعواقب الأمر! نحمده على عظيم إحسانه، ونير برهانه،
ونوامي فضله وامتنانه، حمدا يكون لحقه قضاء، ولشكره أداء، وإلى ثوابه مقربا،
ولحسن مزيده موجبا، ونستعين به استعانة راج لفضله، مؤمل لنفعه، واثق بدفعه،
معترف له بالطول، مذعن له بالعمل والقول، ونؤمن به إيمان من رجاه موقنا، وأناب
إليه مؤمنا، وخنع له مذعنا، وأخلص له موحدا، وعظمه ممجدا، ولاذ به راغبا مجتهدا. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
نسب جعدة بن هبيرة،
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وأما جعدة بن هبيرة، فهو
ابن أخت أميرالمؤمنين رضي الله عنه،
أمه أم هانىء بنت أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم، وأبوه هبيرة بن أبي وهب بن
عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب. وكان جعدة فارسأ شجاعاً، فقيهاً وولي
خراسان لأمير المؤمنين رضي الله عنه، وهو من الصحابة الذين أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم
الفتح، مع أمه أم هانىء بنت أبي طالب، وهرب أبو
هبيرة بن أبي وهب ذلك اليوم هو وعبد الله بن الزبعرى إلى نجران. فقبضت على يده التي فيها السيف، فدخلا بيتاً ثم
خرجا منه إلى غيره، ففاتاه، وجاءت أم هانىء إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم فوجدته
يغتسل من جفنة فيها أثر العجين، وفاطمة ابنته تستره بثوبها، فوقفت حتى أخذ ثوبه،
فتوشح به، ثم صلى ثماني ركعات من الضحى، ثم انصرف، فقال: مرحباً وأهلاً بأم هانىء! ما جاء بك؟ فأخبرته
خبربعلها وابن عمه، ودخول علي رضي الله عنه بيتها
بالسيف. فجاء علي رضي
الله عنه ورسول الله صلى الله عليه
وسلم
يضحك،
فقال له: ما صنعت بأم هانىء؟ فقال: سلها يا رسول
الله ما صنعت بي! والذي بعثك بالحق لقد قبضت على يدي وفيها السيف، فما استطعت أن
اخلصها إلا بعد لأي، وفاتني الرجلان. فقال صلى
الله عليه وسلم: "لو
ولد ألب طالب! الناس كلهم لكانوا شجعاناً، قد أجرنا من أجارت أم هانىء،
وأمنا من أمنت، فلا سبيل لك عليها". قالوا:
وأقام هبيرة بن أبي وهب بنجران حتى مات بها كافراً، وروى
له محمد بن إسحاق في كتاب المغازي شعراً أوله:
يذكر
فيه أم هانىء وإسلامها، وأنه مهاجر لها إذ صبت إلى الإسلام، ومن جملته:
وقال ابن عبد البر في كتاب الاستيعاب: ولدت أم هانىء لهبيرة بن أبي وهب
بنين أربعة: جعدة، وعمراً، وهانئأ، ويوسف، قال: وجعدة الذي يقول:
المدرعة:
الجبة، وتدرع: لبسها. وربما قالوا: تمدرع، وثفنة البعير، واحدة ثفناته، وهو ما
يقع على الأرض من أعضائه إذا استناخ فيغلظ ويكثف، كالركبتين وغيرهما، ويقال: ذو الثفنات الثلاثة لعلي بن الحسين، وعلي بن
عبد الله بن العباس رضي الله عنهما، ولعبد الله بن وهب الراسبي، رئيس الخوارج، لأن طول السجود كان قد أثر في ثفناتهم، قال دعبل:
ومصائر الأمور:
جمع مصير، وهو مصدرصار إلى كذا، ومعناه المرجع، قال تعالى: "وإلى الله المصير" فأما المصدر من
"صار الشيء كذا" فمصير وصيرورة، والقياس في مصدر صار إليه أي رجع
مصارا، كمعاش، وإنما جمع المصدر ههنا لأن الخلائق يرجعون إلى الله تعالى في
أحوال مختلفة في الدنيا وفي الدار الآخرة، فجمع المصدر، وإن كان يقع بلفظه على
القليل والكثير، لاختلاف وجوهه، كقوله تعالى: "ويظنون
بالله الظنونا"، وعواقب الأمر: جمع عاقبة، وهي آخر الشيء. والإذعان:
الانقياد وا لطاعة. وخنع:
خضع، والمصدر الخنوع. ولاذ به:
لجأ إليه. فمن
شواهد خلقه خلق السموات موطدات بلا عمد، قائمات بلا سند، دعاهن فأجبن طائعات
مذعنات، غير متلكئات ولا مبطئات. ولولا
إقرارهن له بالربوبية، وإذعانهن له بالطواعية، لما جعلهن موضعاً لعرشه ولا
مسكناً لملائكته، ولا مصعداً للكلم الطيب، والعمل الصالح من خلقه. الشرح:
نفى رضي الله عنه أن يكون البارىء سبحانه مولوداً فيكون له شريك في العز
والإلهية، وهو أبوه الذي ولده، وإنما قال ذلك جرياً على عادة ملوك البشر فإن
الأكثرأن الملك يكون ابن ملك قبله، ونفى أن يكون له ولد، جرياً أيضاً على عادة
البشر، في أن كل والد في الأكثر، فإنه يهلك قبل هلاك الولد، ويرثه الولد، وهذا النمط من الاحتجاج يسمى خطابة، وهو نافع في
مواجهة العرب به، وأراد من الاحتجاج إثبات العقيدة،
فتارة تثبت في نفوس العلماء بالبرهان، وتارة تثبت في نفوس العوام بالخطابة
والجدل. والسند: ما يستند إليه.
ومنه
قوله تعالى: "ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا
أتينا طائعين".
فقال:
ما اسمك؟ فقال: لهذم، قال: يا لهذم حكمك مسمطاً، قال: ناقة كوماء سوداء الحدقة،
قال: يا جارية اطرحي لنا حبلاً، ثم قال: يا لهذم اخرج بنا إلى المربد فألقه في
عنق ما شئت من إبل الناس. فتخيرلهذم على عينه ناقة، ورمى بالحبل في عنقها، وجاء
صاحبها، فقال له الفرزدق: اغد علي أوفك ثمنها،
فجعل له ذم يقودها، والفرزدق يسوقها، حتى أخرجها من البيوت إلى الصحراء، فصاح به الفرزدق: ياله ذم، قبح الله أخسرنا! فخبر
الشاعر عن القبر، بقوله:فقال لي استقدم أمامك والقبر والميت الذي فيه لا يخبران،
ولكن العرب وأهل الحكمة من العجم يجعلون كل دليل قولاً وجواباً، ألا ترى إلى قول زهير:
وإنما
كلامها عنده أن تبين ما يرى من الأثار فيها عن قدم العهد بأهلها. وقال النعمان بن المنذر ومعه عدي بن زيد، في ظل شجرات مونقات يشرب، فقال عدي: أبيت اللعن! وأراد أن يعظه، أتدري ما تقول
هذه الشجرات؟ قال: ما تقول؟ قال:
فتنغص النعمان يومه ذلك. والمتلكىء: المتوقف، والكلم الطيب: شهادة أن لا إله
إلا الله، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم رسوله.
والعمل الصالح: أداء الواجبات والنوافل، واللفظات من القرآن العزيز، والمصعد:
موضع الصعود، ولا شبهة أن السماء أشرف من الأرض على رأي المليين وعلى رأي
الحكماء، أما أهل الملة، فلأن السماء مصعد الأعمال الصالحة، ومحل الأنوار، ومكان
الملائكة، وفيها العرش والكرسي، والكواكب المدثرات أمراً، وأما الحكماء فلأمور
آخرى تقتضيها أصولهم. والجلابيب،
الثياب. والغسق: الظلمة، والساجي: الساكن. والداجي:
المظلم، والمتطأطىء: المنخفض. والسفع المتجاورات ههنا:
الجبال، وسماها سفعاً لأن السفعة سواد مشرب بحمرة، وكذلك لونها في الأكثر. والتجلجل: صوت
الرعد. قال ابن الأعرابي:
لشا الرجل، إذا اتضع، وخسر بعد رفعة، وإذا صح أصلها صح استعمال الناس، تلاشى
الشيء، بمعنى اضمحل. والعواصف:
الرياح الشديدة، وأضافها إلى الأنواء ، لأن أكثر ما يكون عصفانها في الأنواء،
وهي جمع نوء، وهو سقوط النجم من منازل القمر الثمانية والعشرين في المغرب مع
الفجر وطلوع رقيبه من المشرق مقابلاً له من ساعته، ومدة النوء ثلاثة عشريوماً،
إلا الجبهة فإن لها أربعة عشريوماً. وقال الأصمعي:
بل إلى الطالع في سلطانه، فتقول: مطرنا بنوء كذا وكذا، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن
ذلك، والجمع أنواء ونوآن أيضاً، مثل بطن وبطنان وعبد وعبدان، قال حسان بن ثابت:
والانهطال:
الانصباب: ومسقط القطرة من المطر: موضع سقوطها،
ومقرها: موضع قرارها، ومسحب الذرة الصغيرة من النمل ومجرها: موضع سحبها وجرها. والأوائل
يزعمون أن فوق السموات السبع سماء ثامنة، وسماء تاسعة، ويقولون: إن الثامنة هي
الكرسي، وإن التاسعة هي العرش.
وإن شئت قلت:
إنه تكلم بالاصطلاح الحكمي، والأين عندهم، حصول الجسم في المكان وهو أحد
المقولات العشر. ومرجحنين:
مائلين إلى جهة تحت خضوعاً لجلال البارىء سبحانه، ارجحن الحجر، إذا مال هاوياً.
متولهة عقولهم، أي حائرة. وتحت قوله: "أضاء بنوره كل
ظلام.. إلى آخر الفصل، معنى دقيق وسر خفي، وهو أن كل رذيلة في
الخلق البشري مع معرفته بالأدلة البرهانية غيرمؤثرة ولا قادحة في جلالة المقام
الذي قد بلغ إليه، وذلك نحو أن يكون العارف بخيلاً أو جباناً، أوحريصاً أو نحو
ذلك، وكل فضيلة في الخلق البشري مع الجهل به سبحانه، فليست بفضيلة في الحقيقة
ولا معتد بها، لأن نقيصة الجهل به تكسف تلك الأنوار، وتمحق فضلها، وذلك نحو أن
يكون الجاهل به سبحانه جواداً، أوشجاعاً، أو عفيفاً، أو نحو ذلك، وهذا يطابق ما
يقوله الأوائل، من أن العارف المذنب يشقى بعد الموت قليلاً، ثم يعود إلى النعيم
السرمدي، وأن الجاهل ذا العبادة والإحسان يشقى بعد الموت شقاء مؤبداً ومذهب
الخلص من مرجئة الإسلام يناقض هذه اللفظات، ويقال:
إنه مذهب أبي حنيفة رحمه الله. ويمكن تأويلها على مذهب أصحابنا بأن
يقال:
كل ظلام من المعاصي الصغائر، فإنه ينجلي بضياء معرفته وطاعته، وكل طاعة يفعلها
المكلف مع الكفر به سبحانه، فإنها غيرنافعة ولا موجبة ثواباً، ويكون هذا التأويل
من باب صرف اللفظ عن عمومه إلى خصوصه. الشرح: الرياش: اللباس. وأسبغ: أوسع، وإنما ضرب المثل بسليمان رضي الله عنه، لأنه
كان ملك الإنس والجن، ولم يحصل لغيره ذلك، ومن الناس من أنكر هذا، لأن اليهود والنصارى يقولون: إنه لم يتعد ملكه
حدود الشام، بل بعض الشام، وينكرون حديث الجن والطير والريح، ويحملون ما ورد من
ذلك على وجوه وتأويلات عقلية معنوية، ليس هذا موضع ذ كرها. والطعمة، بضم الطاء: المأكلة، يقال: قد جعلت هذه
الضيعة طعمة لزيد، والقسي: جمع قوس، وأصلها "قووس" علىفعول، كضرب
وضروب، إلا أنهم قدموا اللام، فقالوا "قسو" على "فلوع، ثم قلبت
الواو ياء، وكسروا القاف كما كسروا عين "عصي" فصار "قسي". |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
نسب العمالقة وعاد وثمود والفراعنة وأصحاب الرس،
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
والعمالقة
أولاد لاوذ بن إرم بن سام بن نوح، كان الملك باليمن والحجاز وما تاخم ذلك من
الأقاليم، فمنهم عملاق بن لاوذ بن سام، ومنهم طسم بن لاوذ أخوه.
فغضب
لها أخوها الأسود بن غفار، وتابعه قومه على الفتك بعملاق بن طسم وأهل بيته، فصنع
الأسود طعاماً، ودعا عملاق الملك إليه، ثم وثب به وبطسم، فأق على رؤسائهم، ونجا
منهم رياح بن مر، فصار إلى ذي جيشان بن تبع الحميري ملك اليمن، فاستغاث به،
واستنجده على جديس، فسار ذو جيشان في حمير، فأق بلاد جو، وهي قصبة اليمامة،
فاستأصل جديساً كلها، وأخرب اليمامة فلم يبق لجديس باقية، ولا لطسم إلا
اليسيرمنهم. وممن يعد مع العمالقة عاد وثمود، فأما عاد فهو عاد
بن عويص بن إرم بن سام بن نوح، كان يعبد القمر، ويقال: إنه رأى من صلبه أولاد
أولاد أولاده أربعة آلاف، وإنه نكح ألف جارية، وكانت بلاده الأحقاف المذكورة في
القرآن، وهي من شحر عمان إلى حضرموت، ومن أولاده شداد بن عاد، صاحب المدينة
المذكورة. قال:
فهي عند نفسه ضالته التي يطلبها، هذا مثل قوله رضي الله عنه: الحكمة ضالة المؤمن ومن كلام
الحكماء، لا يمنعك من الانتفاع بالحكمة حقارة من وجدتها عنده، كما لا يمنعك خبث
تراب المعدن من التقاط الذهب.
وقد كتب ابن الخشاب بخطه تحت المليحة: ما أصدقه إن أراد بالمليحة الحكمة. الشرح:
بثثت لكم المواعظ: فرقتها ونشرتها. والأوصياء:
الذين يأتمنهم الأنبياء على الأسرار الإلهية، وقد يمكن ألا يكونوا خلفاء بمعنى
الإمرة والولاية، فإن مرتبتهم أعلى من مراتب الخلفاء، وحدوتكم:
سقتكم كما تحدى الإبل. فلم تستوسقوا، أي لم تجتمعوا، قال:
قوله:
يطأ بكم الطريق، أي يحملكم على المنهاج الشرعي، ويسلك بكم مسلك الحق، كأنه جعلهم ضالين عن الطريق التي
يطلبونها. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أخبار عمار بن ياسر
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وهم عمار بن ياسر بن عامر بن كنانة بن قيس العنسي -
بالنون - المذحجي، يكنى أبا اليقظان، حليف بني مخزوم. قال أبو عمر: كان ياسر
والد عمار عربياً قحطانياً، من عنس في مذحج، إلا أن
ابنه عماراً كان مولى لبني مخزوم، لأن أباه ياسراً قدم مكة مع أخوين له، يقال
لهما: مالك والحارث، فى طلب أخ لهم رابع،
فرجع الحارث ومالك إلى اليمن، وأقام ياسر بمكة، فحالف
أبا حذيفة بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، فزوجه أبو حذيفة أمةً يقال
لها سمية، فأولدها عماراً، فأعتقه أبو حذيفة، فمن ههنا كان عمار مولى بني مخزوم.
وأبوه عربي، لا يختلفون في ذلك، وللحلف والولاء الذي بين بني مخزوم وعمار وأبيه
ياسر كان احتمال بني مخزوم على عثمان، حين نال من عمار غلمان عثمان ما نالوا من الضرب، حتى
انفتق له فتق في بطنه، زعموا، وكسروا ضلعاً من أضلاعه، فاجتمعت بنو مخزوم، فقالوا: والله لئن مات لا قتلنا به أحداً غير
عثمان. وقال ابن عباس في قوله تعالى: "أو من كان ميتاً
فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس": إنه عمار بن ياسر، "كمن مثله في الظلمات ليس
بخارج منها"، إنه أبوجهل بن هشام. وسمعته يقول يومئذ لهاشم بن عتبة: يا هاشم،
تقدم، الجنة تحت البارقة.
والله لوهزمونا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر لعلمنا أنا على الحق، وأنهم
على الباطل،
ثم قال:
فلم أرأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قتلوا في موطن، ما قتلوا يومئذ.
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلي أن آخر شربة أشربها في الدنيا شربة من
لبن، ثم استسقى ثانية فأتته
امرأة طويلة اليدين بإناء، فيه ضياح من لبن، فقال حين شربه: الحمد لله، الجنة تحت الأسنة، والله لو ضربونا حتى
يبلغونا سعفات هجر لعلمنا أنا على الحق، وأنهم على الباطل، ثم قاتل حتى قتل. قال أبو عمر:
إنما قال عمر: هما من النجباء، لقول رسول الله صلى
الله عليه وسلم. "إنه
لم يكن نبي إلا أعطي سبعة من أصحابه نجباء وزراء فقهاء، وإني قد أعطيت أربعة عشر: حمزة، وجعفراً، وعلياً، وحسناً، وحسياً،
وأبا بكر، وعمر، وعبد الله بن مسعود، وسلمان، وعماراً، وأبا ذر، وحذيفة،
والمقداد، وبلالا". |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أخبار أبي الهيثم بن التيهان
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ثم قال صلى الله عليه وسلم:وأين
ابن التيهان، هو أبو الهيثم بن التيهان، بالياء المنقوطة، باثنتين تحتها،
المشددة المكسورة، وقبلها تاء منقوطة باثنتين فوقها، واسمه
مالك، واسم أبيه مالك أيضاً، ابن عبيد بن عمرو بن عبد الأعلم بن عامر الأنصاري،
أحد النقباء ليلة العقبة. وقيل:
إنه لم يكن من أنفسهم، وإنه من بلي بن أبي الحارث بن قضاعة، وءإنه حليف لبني عبد
الأشهل، كان أحد النقباء ليلة العقبة، وشهد بدراً. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ذوالشهادتين خزيمة بن ثابت
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ثم قال رضي الله عنه:
وأين ذو الشهادتين"، هو خزيمة بن ثابت بن الفاكه
بن ثعلبة الخطمي الأنصاري من بني خطمة، من الأوس جعل رسول الله رضي الله عنه شهادته
كشهادة رجلين، لقصة مشهورة، يكنى أبا عمارة، شهد بدراً وما بعدها من المشاهد، وكانت راية بني خطمة بيده يوم الفتح. قلت:
ومن غريب ما وقعت عليه من العصبية القبيحة، أن أبا حيان
التوحيدي قال في كتاب البصائر: إن خزيمة بن ثبت المقتول مع علي عفض بصفين، ليس هو خزيمة بن
ثابت ذا الشهادتين، بل آخر من الأنصار صحابي
اسمه خزيمة بن ثابت، وهذا خطأ، لأن كتب الحديث والنسب تنطق بأنه لم يكن في الصحابة من الأنصار، ولا من غير الأنصار
خزيمة بن ثابت إلا ذو الشهادتين، وإنما الهوى لا
دواء له، على أن الطبري صاحب التاريخ قد سبق أبا حيان
بهذا القول، ومن كتابه نقل أبوحيان،
والكتب الموضوعة لأسماء الصحابة تشهد بخلاف ما ذكراه،
ثم أي حاجة لناصري أمير المؤمنين أن يتكثروا بخزيمة، وأبي الهيثم، وعمار وغيرهم،
لو أنصف الناس هذا الرجل ورأوه بالعين الصحيحة،
لعلموا أنه لوكان وحده، وحاربه الناس كلهم أجمعون، لكان على الحق، وكانوا على
الباطل.
وربما قلبوا الواو ألفاً، فقالوا: آه من كذا، آه على كذا، وربما شددوا
الواو وكسروها وسكنوا الهاء، فقالوا: أوه من كذا، وربما حذفوا الهاء مع التشديد،
وكسروا الواو، فقالوا: أو من كذا بلا مد، وقد
يقولون: آوه، بالمد والتشديد وفتح الألف وسكون الهاء، لتطويل الصوت
بالشكاية، وربما أدخلوا فيه الياء تارة يمدونه، وتارة لا يمدونه، فيقولون:أوياه و آوياه
وقد أوه الرجل تأويهاً، وتأوه تأوهاً إذ قال أوه، والاسم منه الآهة بالمد،
قال المثقب العبدي:
قوله رضي الله عنه:
ووثقوا بالقائد فاتبعوه، يعني نفسه، أي وثقوا بأني على الحق، وتيقنوا ذلك،
فاتبعوني في حرب من حاربت، وسلم من سالمت. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أخبار سعد بن عبادة
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وقيس بن سعد بن عبادة بن دليم الخزرجي، صحابي، يكنى أبا عبد الملك، روى عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث،
وكان طوالاً جداً سبطاً شجاعاً، جواداً، وأبوه سعد رئيس
الخزرج، وهو الذي حاولت الأنصار إقامته في
الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم،
ولم يبايع أبا بكر حين بويع ،وخرج إلى حوران، فمات بها
، قيل: قتلته الجن لأنه بال قائماً في الصحراء
ليلاً، ورووا بيتين من شعر، قيل إنهما سمعا ليلة قتله،
ولم ير قائلهما:
ويقول
قوم: إن أمير الشام يومئذ كمن له من رماه ليلاً،
وهوخارج إلى الصحراء بسهمين، فقتله لخروجه عن طاعة الإمام، وقد قال بعض المتأخرين في ذلك:
وكان قيس بن سعد من كبار شيعة أمير المؤمنين رضي الله عنه، وقائل بمحبته وولائه، وشهد معه حروبه كلها، وكان مع الحسن رضي الله عنه، ونقم عليه
صلحه معاوية، وكان طالبي الرأي، مخلصاً في اعتقاده ووده، وأكد ذلك عنده
فوات الأمر أباه وما نيل يوم السقيفة وبعده منه، فوجد
من ذلك في نفسه وأضمره، حتى تمكن من إظهاره في خلافه أمير المؤمنين، وكما
قيل: "عدو عدوك صديق لك". |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أبو أيوب الأنصاري
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وأما أبو أيوب الأنصاري، فهو
خالد بن يزيد بن كعب بن ثعلبة الخزرجي، من بني النجار، شهد العقبة وبدراً
وسائر المشاهد وعليه نزل رسول الله صلى
الله عليه وسلم لما خرج عن
بني عمرو بن عوف، حين قدم المدينة مهاجراً من مكة، فلم يزل عنده حتى بنى مسجده
ومساكنه، ثم انتقل إليها، ويوم المؤاخاة آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه
وبين مصعب بن عمير. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
من خطبة له في قدرة الله وفضل القرآن
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
احمد لله المعروف من غير رؤية، الخالق من غير منصبة، خلق الخلائق بقدرته،
وأستعبد الأرباب بعزته، وساد العظماء بجوده، وهو الذي أسكن الدنيا خلقة، وبعث
إلى الجن والإنس رسله، ليكشفوا لهم عن غطائها، وليحذروهم من ضرائها، وليضربوا
لهم أمثالها، وليبصروهم عيوبها، وليهجموا عليهم بمعتبر من تصرف مصاحها وأسقامها،
وحلالها وحرامها، وما أعد الله سبحانه للمطيعين منهم والعصاة، من جنة ونار،
وكرامة وهوان. أحمده
إلى نفسه، كما أستحمد إلى خلقه، جعل لكل شيء قدراً، ولكل قدر أجلاً، ولكل أجل
كتاباً.
ذو
نصب، مثل رجل تامر ولابن، ويقال: هوفاعل
بمعنى مفعول فيه لأنه ينصب فيه ويتعب، كقولهم: ليل
نائم، أي ينام فيه، ويوم عاصف، أي تعصف فيه الريح. والضراء:
الشدة. وصفه سبحانه بأنه معروف بالأدلة لا من طريق
الرؤية كما تعرف المرئيات، وبأنه يخلق الأشياء ولا يتعب كما يتعب الواحد منا
فيما يزاوله ويباشر من أفعاله. خلق الخلائق بقدرته على خلقهم، لا بحركة واعتماد. وأسبغ النعمة عليهم: أوسعها. واستعبد الذين يدعون في الدنيا أرباباً بعزه
وقهره. فعظموا منه سبحانه ما عظم من نفسه، فإنه لم يخف
عنكم شيئاً من دينه، ولم يترك شيئاً رضيه أوكرهه إلا وجعل له علماً بادياً، وأية
محكمة، تزجر عنه، أو تدعو إليه، فرضاه فيما بقي واحذ، وسخطه فيما بقي واحد. وأعلموا
أنه لن يرضى عنكم بشيء سخطه على من كان قبلكم، ولن يسخط عليكم بشيء رضيه ممن كان
قبلكم. وإنما
تسيرون في أثر بين، وتتكلمون برجع قول قد قاله الرجال من تجكم، قد كفاكم مؤونة
دنيكم، وحثكم على الشكر، وأفترض من ألسنتكم الذكر، وأوصاكم بالتقوى، وجعلها
منتهى رضاه، وحاجتة من خلقه. فاتقوا الله الذي أنتم بعينه، ونواصيكم بيده،
وتقلبكم في قبضته، إن أسررتم علمه، وإن أعلنتم كتبه، قد وكل بذلك حفظة كراماً،
لا يسقطون حقاً، ولا يثبتون باطلاً. قوله:
فرضاه فيما بقي واحد، معناه أن ما لم ينص عليه صريحاً، بل هو في محل النظر، ليس
يجوز للعلماء أن يجتهدوا فيه، فيحله بعضهم، ويحرمه بعضهم، بل رضا الله سبحانه
أمر واحد، وكذلك سخطه، فليس يجوز أن يكون شيء من الأشياء يفتي فيه قوم بالحل
وقوم بالحرمة، وهذا قول منه رضي الله عنه
بتحريم الاجتهاد، وقد سبق منه رضي الله عنه
مثل هذا الكلام مراراً. قوله: واعلموا أنه ليس يرضى عنكم... الكلام إلى
منتهاه، معناه أنه ليس يرضى عنكم بالاختلاف في الفتاوى
والأحكام، كما اختلف الأمم من قبلكم، فسخط اختلافهم قال سبحانه: "إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في
شيء". قوله: وزوارها ملائكته، قد ورد في هذا من الأخبار
كثير جداً، ورفقاؤها: رسله، من قوله تعالى: "وحسن
أولئك رفيقاً". وبنو سبيل:
أرباب طريق مسافرون، وأوذن فلان بكذا: أعلم. وآذنته:
أعلمته، وقد تقدم لنا كلام بالغ في التقوى وماهيتها وتأكيد وصاة الخالق سبحانه
والرسول عليه الصلاة والسلام بها. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
جاء في التقوى من أخبار
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
روى المبرد في الكامل
أن رجلاً قال لعمر بن الخطاب: اتق الله يا أمير المؤمنين فقال له رجل: أتألت على
أمير المؤمنين أي أتنتقصه فقال عمر: دعه، فلا خيرفيهم
إذا لم يقولوها، ولا خيرفينا إذا لم تقل لنا. ألا إن في حكم الله أنه من أكرمه الله، فاستهان
بأمره، أهانه الله. السعيد من وعظ بغيره، لا وعظك الله في نفسك وجعل عظتك في
غيرك، ولا جعل النيا عليك حسرة وندامة، برحمته. ولهزه: خالطه، ويقال
له حينئذ: ملهوز، ثم أشمط، ثم أشيب، ولهزت
القوم: خالطتهم ودخلت بينهم. والقتير:
الشيب، وأصله رؤوس المسامير في الدروع تسمى قتيراً، والتحمت
أطواق النار بالعظام: التفت عليها، وانضمت إليها، والتصقت بها، والجوامع: جمع جامعة، وهي الغل لأنها تجمع اليدين
إلى العنق. والسواعد:
جمع ساعد، وهو الذراع. والذل:
الذلة. واللغوب:
النصب. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أخبار وطرف
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ونظير قوله صلى
الله عليه وسلم: "استقرضكم
وله خزائن السموات والأرض"، ما رواه المبرد في
الكامل عن أبي عثمان المازني، عن أبي زيد الأنصاري، قال: وقف علينا
أعرابي في خلقة يونس النحوي، فقال: الحمد لله كما هو أهله، وأعوذ بالله أن اذكر
به وأنساه، خرجنا من المدينة، مدينة الرسول
صلى الله عليه وسلم ، ثلاثين رجلاً ممن أخرجته الحاجة،
وحمل على المكروه، ولا يمرضون مرضاهم، ولا يدفنون ميتهم، ولا ينتقلون من منزل
إلى منزل وإن كرهوه، والله يا قوم لقد جعت حتى أكلت النوى المحرق، ولقد مشيت حتى
انتعلت الدم، وحتى خرج من قدمي بخص ولحم كثير، أفلا رجل يرحم ابن سبيل وفل طريق،
ونضو سفر فإنه لا قليل من الأجر، ولا غنى عن ثواب الله، ولاعمل بعد الموت، وهو
سبحانه يقول: "من ذا الذي يقرض لله قرضاً حسناً"، ملي وفب ماجد واجد،
جواد لا يستقرض من عوز، ولكنه يبلو الأخيار. وخطب الحجاج: فقال:
أيها الناس، إنكم أغراض حمام وفرص هلكة. قد أنذركم القرآن، ونادى برحيلكم الجديدان . |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
خطبة لأبي الشخباء العسقلاني
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قلت: وقد شغف الناس في المواعظ بكلام
كاتب محدث، يعرف بابن أبي الشخباء العسقلاني وأنا أورد ههنا خطبة من مواعظه، هي
أحسن ما وجدته له، ليعلم الفرق بين الكلام الأصيل والمولد:
أيها الناس، فكلوا أنفسكم من حلقات الآمال المتعبة، وخففوا ظهوركم من الآصار
المستحقبة، ولا تسيموا أطماعكم في رياض الأماني المتشعبة، ولا تميلوا صغواكم إلى
زبارج الدنيا المحببة، فتظل أجسامكم في هشائمها عاملة نصبة، أما علمتم أن طباعها
على الغدر مركبة، وأنها لأعمار أهلها منتهبة، ولما ساءهم منتظرة مرتقبة، في
هبتها راجعة متعقبة، فانضوا رحمكم الله ركائب الاعتبار مشرقة ومغربة، وأجروا
خيول التفكر مصعدة ومصوبة، هل تجدون إلا قصوراً على عروشها خربة، ودياراً معطشة
من أهلها مجدبة أين الأمم السالفة المتشعبة، والجبابرة الماضية المتغلبة،
والملوك المعظمة المرجبة، أولو الحفدة والحجبة، والزخارف المعجبة، والجيوش
الجرارة اللجبة والخيام الفضفاضة المطنبة، والجياد الأعوجية المجنبة، والمصاعب
الشدقمية المصحبة، واللدان المثقفة المدربة، والماذية الحصينة المنتخبة، طرقت
والله خيامهم غير منتهبة، وأزارتهم من الأسقام سيوفاً معطبة، وسيرت إليهم الأيام
من نوبها كتائب مكتبة، فأصبحت أظفار المنية من فهجهم قانية مختضبة، وغدت أصوات
النادبات عليهم مجلبة، وأكلت لحومهم هوام الأرض السغبة. ثم إنهم مجموعون ليوم لا يقبل فيه عذر ولا معتبة،
وتجازى كل نفس بما كانت مكتسبة، فسعيدة مقربة تجري من تحتها الأنهار مثوبة،
وشقية معذبة في النار مكبكبة. هذه أحسن خطبة خطبها هذا الكاتب، وهي كما تراها ظاهرة التكلف، بينة التوليد، تخطب على نفسها،
وإنما ذكرت هذا، لأن كثيراً من أرباب الهوى يقولون: إن
كثيراً من نهج البلاغة كلام محدث، صنعه قوم من
فصحاء الشيعة، وربما عزوا بعضه إلى الرضي
أبي الحسن وغيره، وهؤلاء قوم أعمت العصبية أعينهم، فضلوا عن النهج الواضح
وركبوا بنيات الطريق، ضلالاً وقلة معرفة بأساليب الكلام، وأنا أوضح لك بكلام مختصر ما في هذا الخاطر من الغلط
فأقول. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
رأي للمؤلف في كتاب نهج البلاغة
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لا يخلو إما أن يكون كل
نهج البلاغة مصنوعاً منحولاً، أو بعضه. والأول باطل بالضرورة لأنا نعلم بالتواتر صحة إسناد بعضه
إلى أمير المؤمنين صلى الله عليه وسلم، وقد نقل
المحدثون كلهم أو جلهم، والمؤرخون كثيراً منه، وليسوا
من الشيعة لينسبوا إلى غرض في ذلك. والثاني يدل على ما قلناه، لأن من قد أنس بالكلام والخطابة، وشدا
طرفاً من علم البيان، وصار له ذوق في هذا الباب لا بد أن يفرق بين الكلام الركيك
والفصيح، وبين الفصيح والأفصح، وبين الأصيل والمولد، وإذا وقف على كراس واحد
يتضمن كلاماً لجماعة من الخطباء، أو لاثنين منهم فقط، فلا
بد أن يفرق بين الكلامين، ويميز بين الطريقتين، ألا ترى أنا مع معرفتنا
بالشعر ونقده، لو تصفحنا ديوان أبي تمام،
فوجدناه قد كتب في أثنائه قصائد أو قصيدة واحدة لغيره، لعرفنا بالذوق مباينتها
لشعر أبي تمام ونفسه، وطريقته ومذهبه في القريض،
ألا ترى أن العلماء بهذا الشأن حذفوا من شعره قصائد كثيرة منحولة إليه،
لمباينتها لمذهبه في الشعر، وكذلك حذفوا من
شعر أبي نواس شيئاً كثيراً، لما ظهر لهم أنه ليس من ألفاظه، ولا من شعره،
وكذلك غيرهما من الشعراء ولم يعتمدوا في ذلك إلا
على الذوق خاصة. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن كلام له قاله للبرج بن مسهر الطائي
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وقد قال له بحيث يسمعه: "لا حكم إلا
لله"، وكان من الخوارج: الأصل: أسكت قبحك الله يا أثرم، فو الله لقد ظهر الحق
فكنت فيه ضئيلاً شخصك، خفياً صوتك، حتى إذا نعر الباطل، نجمت نجوم قرن الماعز. شاعر مشهور من شعراء الخوارج،
نادى بشعارهم بحيث يسمعه أمير المؤمنين رضي
الله عنه، فزجره. وكان البرج ساقط الثنية، فأهانه بأن دعاه به، كما
يهان الأعور بأن يقال له: يا أعور. ونجم:
طلع، أي طلع بلا شرف ولا شجاعة، ولا قدم، بل على غفلة، كما ينبت قرن الماعز. وهذا من باب البديع، وهو أن يشبه الأمر يراد إهانته
بالمهين، ويشبه الأمر يراد إعظامه بالعظيم، ولو كان قد تكلم في شأن ناجم يريد
تعظيمه، لقال: نجم نجوم الكوكب من تحت الغمام، نجوم نور الربيع من الأكمام،
ونحوذلك. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن خطبة له فى وصف المتقين |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: روي أن
صاحباً لأمير المؤمنين رضي الله عنه يقال
له همام، كان رجلاً عابداً، فقال له: يا أمير
المؤمنين: صف لي المتقين حتى كأني أنظر إليهم، فتثاقل رضي الله عنه عن
جوابه، ثم قال: يا همام أتق لله وأحسن: ف "إن
الله مع الذين أتقوا والذين هم محسنون". غضوا أبصارهم عما حرم الله عليهم، ووقفوا أسماعهم
على العلم النافع لهم نزلت أنفسهم منهم في البلاء، كالذي نزلت في الرخاء لولا
الأجل الذي كتب الله لهم لم تستقر أرواحهم في أجسادهم طرفة عين، شوقاً إلى
الثواب، وخوفاً من العقاب. تجارة مربحة، يسرها لهم ربهم. أرادتهم الدنيا فلم
يريدوها، وأسرتهم ففدوا أنفسهم منها. قلت: كأنه لم ير
في بادىء الحال شرح صفات المتقين على التفصيل، فقال
لهمام: ماهية التقوى معلومة في الجملة، فاتق الله وأحسن، فإن الله قد وعد
في كتابه أن يكون ولياً وناصراً لأهل التقوى والإحسان، وهذا
كما يقول لك قائل: ما صفات الله الذي أعبده أنا والناس؟ فتقول له: لا
عليك ألا تعرف صفاته مفصلة، بعد أن تعلم أنه خالق العالم، وأنه واحد لا شريك له فلما أبى همام إلا الخوض فيما سأله على وجه التفصيل،
قال له: إن الله تعالى خلق الخلق حين خلقهم، ويروى، حيث خلقهم وهو غني عن
طاعتهم: لأنه ليس بجسم فيستضر بأمر أو ينتفع به، وقسم بين الخلق معايشهم، كما
قال سبحانه: "نحن قسمنا بينهم معيشتهم في
الحياة الدنيا". |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
في فضل الصمت وآفات اللسان
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
واعلم أن القول في خطر الكلام وفضل الاقتصار في
المنطق وسيع جداً، وقد ذكرنا منه طرفاً فيما تقدم، ونذكر الآن منه طرفاً آخر. وكان يقال: من علم أن كلامه من عمله، أقل كلامه
فيما لا ينفعه. وقال الآخر:
إذا تكلمت بالكلمة ملكتني، ولم أملكها، وإذا لم أتكلم ملكتها ولم تملكني. وقال الآخر:
عجبت للمتكلم، إن رجعت عليه كلمته ضرته، وإن لم ترجع لم تنفعه، وقال الرابع: أنا على رد ما لم أقل أقدر مني على رد ما
قلت. واعلم أن آفات اللسان كثيرة: فمنها الكلام فيما لا يعنيك، وهو أهون آفات اللسان،
ومع ذلك فهو عيب، قال النبي صلى الله عليه
وسلم:
"من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه". ولا تمار حليماً ولا سفيهاً، فإن الحليم
يقليك ، والسفيه يؤذيك. واذكر أخاك إذا تغيب عنك بما تحب أن يذكرك به،
وأعفه عما تحب أن يعفيك عنه. واعمل عمل رجل يرى أنه مجازى بالإحسان،
مأخوذ بالجرائم. ومقامات
الفساق، وإليه الإشارة بقوله تعالى: "وكنا
نخوض مع الخائضين". وكان رسول
الله صلى الله عليه وسلم يلبس اللين
تارة، والخشن آخرى. قوله: "نزلت أنفسهم منهم في البلاء، كالذي نزلت في
الرخاء"،
يعني أنهم قد طابوا نفساً في البلاء والشدة كطيب أنفسهم بأحوالهم في الرخاء
والنعمة، وذلك لقلة مبالاتهم بشدائد الدنيا ومصائبها، وتقدير
الكلام من جهة الإعراب: نزلت أنفسهم منهم في حال البلاء نزولاً كالنزول
الذي نزلته منهم في حال الرخاء، فموضع كالذي نصب، لأنه صفة مصدر محذوف، والموصول
قد حذف العائد إليه، وهو الهاء في نزلته كقولك:
ضربت الذي ضربت، أي ضربت الذي ضربته. ثم قال رضي الله عنه: "إنهم من شدة شوقهم إلى الجنة،
ومن شدة خوفهم من النار تكاد أرواحهم أن تفارق أجسادهم، لولا أن الله تعالى ضرب
لهم آجالاً ينتهون إليها. والواو
في "الجنة" واو مع، وقد روي بالعطف بالرفع على أنه معطوف على هم،
والأول أحسن. وروي:
تجارة مربحة"، بالنصب على أنه مصدر محذوف الفعل.
وقال آخر:
ثم
ذكر أنهم إذا مروا بآية فيها ذكر الثواب مالوا إليها، واطمأنوا بها، طمعاً في
نيله، وتطلعت أنفسهم إليها شوقاً، أي اشرأبت. وقال:
"إن هذه القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد، قيل:
فما جلاؤها؟ قال: "تلاوة القرآن وذكر
الموت، وقال رضي الله عنه: "إن الله
سبحانه لأشد أذناً إلى قارىء القرآن من صاحب القينة إلى قينته، وقال الحسن رحمه الله: ما دون القرآن من غنى، ولا بعد القرآن من فاقة. ثم ذكر ما هم عليه من الخوف، فقال رضي الله عنه: إن خوفهم قد براهم بري القداح، وهي
السهام، وآحدها قدح، فينظر إليهم الناظر فيحسبهم مرضى وما بهم من مرض، نظيرهذا قول الشاعر:
ويقال للمتقين لشدة خوفهم: كأنهم مرضى، ولا مرض بهم. وتقول العرب للكرام من الناس،
القليلي المأكل والمشرب، رافضي اللباس الرفيع، ذوي الأجسام النحيفة: مراض من غير
مرض، ويقولون أيضاً للمرأة ذات الطرف الغضيض الفاتر، ذات الكسل: مريضة من
غيرمرض، قال الشاعر:
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ما قيل في الخوف،
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
واعلم أن الخوف مقام جليل من مقامات العارفين، وهو أحد الأركان التي هي أصول هذا
الفن، وهو التقوى التي حث الله تعالى عليها، وقال:
إن أكرم الناس عنده أشدهم خوفاً له، وفي هذه الآية وحدها كفاية، وإذا نظرت
القرآن العزيز وجدت أكثره ذكر المتقين، وهم الخائفون، وقال
النبي صلى الله عليه وسلم: "من خاف الله خافه كل شيء، ومن خاف غير
الله خوفه الله من كل شيء".
ثم قال:ومن
أعمالهم مشفقون، أي مشفقون من عباداتهم ألا تقبل، وإلى
هذا نظر أبو تمام، فقال:
ومثل قوله:
"أنا أعلم بنفسي من غيري". قوله رضي الله عنه لمن زكاه نفاقاً: أنا دون ما تقول، وفوق ما في نفسك. يبيت حذراً، ويصبح فرحاً، حذرا لما حذر من الغفلة، وفرحاً بما
أصاب من الفضل والرحمة. قرة عينه فيما لا يزول، وزهادته فيما
لا يبقى، يمزج الحلم بالعلم، والقول بالعمل، تراه قريباً أمله، قليلاً زلفه،
خاشعاً قلبه، قانعة نفسه، منزوراً أكله، سهلاً أمره، حريزاً دينه، ميتة شهوته،
مكظوماً غيظه. الخير منه مأمول، والشر منه مأمون، إن كان فيم الغافلين كتب في
الذاكرين، وإن كان في الذاكرين لم يكتب من الغافلين. قوله:
وقصداً في "غنى" حرف الجر متعلق بمحذوف، أي هومقتصد مع كونه غنياً،
وليس يجوزأن يكون متعلقاً بالظاهر، لأنه لا معنى لقولك: اقتصد في الغنى، إنما
يقال: اقتصد في النفقة، وذلك الاقتصاد موصوف بأنه مقارن للغنى ومجامع له. واستثنى في خمسة أمور: "وهي
الإغناء، والإجابة، والرزق، والمغفرة، والتوبة. وقال: "واذكر ربك
في نفسك تضرعاً وخيفة، وقال: "ولذكر
الله أكبر". وقال صلى الله عليه وسلم "ما
جلس قوم مجلساً يذكرون الله تعالى إلا حفت بهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، وذكرهم
الله فيمن عنده" قوله صلى الله عليه وسلم:
"يبيت
حذراً ويصبح فرحاً، حذراً لما خذر من الغفلة، وفرحاً بما أصاب من الفضل
والرحمة". وقد تقدم ذكر الخوف. ويمكن أن يحمل على أنه فرح بما يرجوه من ثواب الله
ونعيمه، لذا استدل على وصوله إليه وقوي ظنه بظفره به، بما عجل الله تعالى له من
الفضل والرحمة في الدنيا، ومقام الرجاء للعارفين مقام شريف، وهو في مقابلة مقام
الخوف، وهو المقام الذي يوجد العارف فيه فرحاً، قال الله تعالى: "إن الذين يتلون كتاب الله وأقافوا الصلاة وأنفقوا
مما رزقناهم سراً وعلانيةً يرجون تجارةً لن تبور" . وقال النبي صلى
الله عليه وسلم: حكايةً عن الله تعالى:
"أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء". ودخل صلى
الله عليه وسلم على رجل من
أصحابه، وهو يجود بنفسه، فقال: كيف تجدك؟ قال:
أجدني أخاف ذنوبي، وأرجو رحمة ربي. فقال صلى الله عليه وسلم:
"ما اجتمعا في قلب عبد في هذا الموطن إلا أعطاه الله ما رجاه، وأمنه مما
خافه". قوله صلى الله عليه وسلم: "إن استصعبت عليه نفسه"، أي صارت صعبة غيرمنقادة، يقول: إذا لم تطاوعه نفسه إلى ما هي كارهة
له لم يعطها مرادها فيما تحبه. قوله صلى الله عليه وسلم: "قرة عينه فيما لا يزول، وزهادته فيما لا يبقى"، يقال للفرح المسرور: إنه لقرير العين، وقرت عينه تقر، والمراد بردها، لأن دمعة السرور باردة ودمعة
الحزن حارة. وهذا الكلام يحتمل أمرين: أحدهما أن يعني بما لا يزول البارىء سبحانه، وهذا مقام شريف جداً
أعظم من سائر المقامات، وهوحب العارف لله سبحانه، وقد
أنكره قومٌ فقالوا: لا معنى لمحبة البارىء إلا المواظبة على طاعته، ونحوه قول أصحابنا المتكلمين: إن محبة الله تعاك للعبد
هي إرادته لثوابه، ومحبة العبد للبارىء هي إرادته لطاعته، فليست المحبة عندهم
شيئاً زائداً على الإرادة ولا يجوز أن تتعلق بذات الله سبحانه، لأن الإرادة لا
تتعلق إلا بالحدوث، وخالفهم شيخنا أبو الحسن، فقال:
إن الإرادة يمكن أن تتعلق بالباقي، ذكر ذلك في الكلام في الأكوان في أول التصفح،
فأما إثبات الحب في الجملة فقد نطق به القرآن قال سبحانه: "يحبهم ويحبونه" . وقال أيضاً: "والذين
آمنوا أشد حباً لله" وقال: "إن
كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله" . وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى مصعب بن
عميرمقبلاً وعليه إهاب كبشٍ قد تمنطق به، فقال: "انظروا إلى الرجل الذي قد نور الله قلبه، لقد رأيته
بين أبوين يغذوانه بأطيب الطعام والشراب، فدعاه حب الله ورسوله إلى ما ترون".
ويقال:
إن عيسى عليه السلام مر بثلاثة نفر قد نحلت أبدانهم، وتغيرت ألوانهم، فقال: ما الذي بلغ بكم ما أرى؟ قالوا: الخوف من النار، قال: حق على الله أن يؤمن
من يخافه، ثم جاوزهم إلى ثلاثة آخرين، فإذا هم
أشد نحولاً وتغيراً، فقال: ما الذي بلغ بكم
ما أرى؟ قالوا: الشوق إلى الجنة، فقال: حق على الله أن يعطي من رجاه. ثم مر إلى ثلاثة
آخرين، فإذا هم أشد نحولاً، وعلى وجوههم، مثل المرائي من النور، فقال: ما الذي بلغ بكم ما أرى؟ قالوا: حب الله عز وجل، فقال: أنتم المقربون،
ثلاثاً.
ليس يريد
بكشف الحجب والرؤية ما يظنه الظاهريون من أنها الإبصار
بالعين، بل المعرفة التامة، وذلك لأن المعارف النظرية يصح أن تصير ضرورية
عند جمهور أصحابنا، فهذا أحد محملي الكلام. وثانيهما:
أن يريد بما لا يزول، نعيم الجنة، وهذا أدون المقامين، لأن الخلص من العارفين
يحبونه ويعشقونه سبحانه لذاته، لا خوفاً من النار، ولا شوقاً إلى الجنة، وقد قال
بعضهم: لست أرضى لنفسي أن أكون كأجير السوء، إن دفعت إليه الأجرة رضي وفرح، وإن
منعها سخط وحزن، إنما أحبه لذاته. وقال بعض شعرائهم
شعراً من جملته:
وقد جاء في كلام أميرالمؤمنين رضي الله عنه،
من هذا الكثير، نحو قوله: "لم أعبده خوفاً ولا طمعاً، لكني وجدته أهلاً
للعبادة فعبدته" قوله صلى الله عليه وسلم: "يمزج الحلم
بالعلم"،
أي لا يحلم إلا عن علم بفضل الحلم ليس كما يحلم الجاهلون. قوله: "والقول
بالعمل "، أي لا يقتصر على القول، ومثل هذا
قول الأحوص:
قوله صلى الله عليه وسلم: "تراه قريباً أمله"، أي ليست نفسه متعلقة بما عظم
من آمال الدنيا، وإنما قصارى أمره أن يؤمل القوت والملبس. قليلاً زلله:
أي خطؤه. قوله:
"منزوراً أكله "، أي قليلاً، ويحمد من الإنسان الأكل النزر، قال أعشى باهلة:
وقال متمم بن نويرة:
قوله صلى الله عليه وسلم: "مكظوماً غيظه " كظم الغيظ من الأخلاق الشريفة، قال زيد بن علي رضي الله عنه: "ما سرني بجرعة غيظٍ أتجرعها وأصبرعليها حمر
النعم". وجاء رجل إلى الربيع بن زياد الحارثي، فقال: يا أبا عبد الرحمن، إن فلاناً يغتابك
وينال منك، فقال: والله لأغيظن من أمره بذلك، قال الرجل: ومن أمره؟ قال: الشيطان عدو الله، استغواه ليؤثمه، وأراد أن يغضبني عليه فأكافئه، والله
لا أعطيه ما أحب من ذلك. غفر الله لنا وله. وجهل إنسان على عمر بن عبد العزيز، فقال: أظنك أردت أن يستفزني الشيطان بعز السلطان، فأنال منك
اليوم ما تناله مني غداً انصرف عافاك الله. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الغضب يفسد الإيمان، كما يفسد الصبر
العسل ". وقال
إنسان لرسول الله صلى الله عليه وسلم أوصنى،
فقال: "لا تغضب"، فأعاد عليه
السؤال، فقال: "لا تغضب"، فقال:
زدني، فقال: "لا أجد مزيداً". ومن كلام بعض الحكماء لا يفي عز الغضب بذلة الاعتذار. قوله: "إن
كان في الغافلين"، معناه أنه لا يزال ذاكر الله تعالى، سواء كان
جالساً مع الغافلين أو مع الذاكرين، أما إذا كان مع الغافلين فإنه يذكر الله
بقلبه، وأما إذا كان مع الذاكرين فإنه يذكره بقلبه ولسانه. قوله صلى الله عليه وسلم: "يعفو عمن ظلمه، ويعطي من حرمه،
ويصل من قطعه"، من كلام المسيح عليه السلام في
الإنجيل: "أحبوا أعداءكم، وصلوا قاطعيكم، واعفوا عن ظالميكم،
وباركوا علي لأعينكم، لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماء، الذي تشرق شمسه
على الصالحين والفجرة، وينزل مطره على المطيعين والأثمة". قوله صلى الله عليه وسلم: "بعيداً فحشه "، ليس يعني
به أنه قد يفحش تارة، ويترك الفحش تارات، بل لا فحش له أصلا، فكنى عن العدم
بالبعد، لأنه قريب منه. قوله: "ليناً قوله"، العارف بسام طلق الوجه، لين القول، وفي صفات النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس بفظ ولا صخاب". قوله: "في الزلازل
وقور"، أي
لا تحركه الخطوب الطارقة، ويقال: إن علي بن الحسين رضي الله عنه كان يصلي، فوقعت عليه حية، فلم يتحرك لها، ثم
انسابت بين قدميه فما حرك إحداهما عن مكانه، ولا تغيرلونه. قوله: " لا يحيف
على من يبغض"،
هذا من الأخلاق الشريفة النبوية، وفي كلام أبي بكر في
صفات من يصلح للإمامة: إن رضي لم يدخله رضاه في باطل، وإن غضب لم يخرجه
غضبه عن الحق. قوله:
"يعترف بالحق قبل أن يشهد عليه"، لأنه إن أنكرثم شهد عليه فقد
ثبت كذبه، وإن سكت ثم شهد عليه فقد أقام نفسه في مقام الريبة. قوله: "أولا ينابز
الألقاب"،
هذا من قوله تعالى: "ولا تنابزوا
بالألقاب" . قوله: "ولا يضار
بالجار"،
في الحديث المرفوع: "أوصاني ربي بالجار حتى ظننت أن يورثه". قوله: "ولا يشمت
بالمصائب"،
نظيرقول الشاعر:
قوله: "إن صمت لم يغمه صمته"، أي لا يحزن لفوات الكلام، لأنه يرى
الصمت مغنماً لا مغرماً. قوله: "وإن ضحك
لم يعل صوته "، هكذا كان يضحك وسول الله صلى الله عليه وسلم، أكثره
التبسم، وقد يفر أحياناً، ولم يكن من أهل القهقهة والكركرة. قوله: "وإن بغي
عليه صبر"، هذا
من قول الله تعالى: "ثم بغي عليه لينصرنه
الله" . قوله: "نفسه منه في عناء" لأنه يتعبها بالعبادة، والناس لا
يلقون منه عنتاً ولا أذى فحالهم بالنسبة إليه خلاف حال نفسه بالنسبة إليه. قوله: "فصعق
همام"، أغمي عليه ومات، قال الله تعالى: "فصعق
في لي السموات ومن في الأرض" . |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
بعض أحوال العارفين
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
واعلم أن
الوجد أمرٌ شريف، قد اختلف الناس فيه، فقالت الحكماء فيه أقوالاً، وقالت
الصوفية فيه أقوالاً، أما الحكماء فقالوا:
الوجد هو حالة تحدث للنفس عند انقطاع
علائقها عن المحسوسات بغتة، إذا كان قد ورد عليها وارد مشوق. وقال بعضهم: الوجد هو اتصال النفس بمبادئها
المجردة عند سماع ما يقتفي ذلك الاتصال. وأما الصوفية فقد قال بعضهم: الوجد رفع الحجاب، ومشاهدة
المحبوب. وحضور الفهم، وملاحظة الغيب، ومحادثة السر، وهو فناؤك من حيث أنت أنت. وقال بعضهم: الوجد
سر الله عند العارفين ومكاشفة من الحق توجب الفناء عن الحق. والأقوال فيه متقاربة في المعنى وإن
اختلفت العبارة، وقد مات
كثيرمن الناس بالوجد عند سماع وعظ، أو صفقة مطرب، والأخبار في
هذا الباب كثيرة جداً، وقد رأينا نحن في زماننا من مات بذلك فجأة. قوله: "كانت نفسه فيها"، أي مات. ونفث الشيطان على لسانك، أي تكلم بلسانك، وأصله النفخ بالفم، وهوأقل من التفل، وءإنما نهى
أمير المؤمنين القائل: "فهلا أنت يا أمير المؤمنين" لأنه اعترض في غيرموضع الاعتراض، وذلك أنه لا يلزم من
موت العامي عند وعظ العارف أن يموت العارف عند وعظ نفسه، لأن انفعال العامي ذي الاستعداد التام
للموت عند سماع المواعظ البالغة أتم من استعداد
العارف عند سماع كلام نفسه، أو الفكر في كلام نفسه، لأن نفس العارف قوية جداً، والآلة التي يحفر بها الطين
قد لا يحفر بها الحجر. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن خطبة له يصف فيها المنافقين
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: نحمده على ما
وفق له من الطاعة، وذاد عنه من المعصية، ونساله لمنته تماماً، ولحبله اعتصاماً. ونشهد أن محمداً عبده ورسوله، خاض إلى رضوان الله
كل غمرةٍ، وتجرع فيه كل غضةٍ، وقد تلون له الأدنون، وتألب عليه الأقصون، وخلعت
عليه العرب أعنتها، وضربت إلى محاربته بطون رواحلها، حتى أنزلت بساحته عداوتها،
من أبعد الدار، وأسحق المزار. أوصيكم عباد لله بتقوى الله، وأحذركم أهل النفاق،
فإنهم الضالون المضلون، والزالون المزلون، يتلونون ألواناً، ويفتنون افتناناً،
ويعمدونكم بكل عمادٍ، ويرصدونكم بكل مرصادٍ، قلوبهم دويةٌ، وصفاحهم نقيةٌ. يمشون الخفاء، ويدبون الضراء، وصفهم دواءٌ، وقولهم
شفاءٌ، وفعلهم الداء العياء، حسدة الرخاء، ومؤكدو البلاء، ومقنطو الرجاء. لهم
بكل طريق صريعٌ، وإلى كل قلب شفيعٌ، ولكل شجوٍ دموعٌ، يتقارضون الثناء،
ويتراقبون الجزاء، إن سألوا ألحفوا، وإن عذلوا كشفوا، وإن حكموا اسرفوا. قد أعدوا
لكل حق باطلاً، ولكل قائم مائلاً، ولكل حي قاتلاً، ولكل باب مفتاحاً، ولكل ليلٍ
مصباحاً، يتوصلون إلى الطمع باليأس ليقيموا به أسواقهم، وينفقوا به أعلاقهم،
يقولون فيشبهون، ويصفون فيموهون. قد هونوا الطريق، وأضلعوا المضيق، فهم لمة
الشيطان، وحمة النيران: "أولئك حزب الشيطان
ألا إن حزب ألشيطان هم الخاسرون" . الشرح:
الضمير في "له" وهو الهاء راجعٌ إلى "ما" التي بمعنى
"الذي"، وقيل: بل هو. راجع إلى
الله سبحانه، كأنه قال: "نحمده على ما وفق من طاعته"، والصحيح هو
الأول، لأن "له" في الفقرة الأولى
بإزاء "عنه" في الفقرة الثانية. والهاء في
"عنه" ليست عائدة إلى "الله" وذاد: طرد، والمصدر الذياد.
وخاض كل غمرة، مثل قولك: ارتكب كل مهلكة، وتفحم كل هول. والغمرة: ما ازدحم
وكثرمن الماء، وكذلك من الناس، والجمع غمار. والغصة: الشجا، والجمع غصص، وتلون له الأدنون:
تغير عليه أقاربه ألواناً، وتألب عليه الأقصون: تجمع عليه الأبعدون عنه نسباً،
وخلعت إليه العرب أعنتها، مثل، معناه أوجفوا إليه مسرعين لمحاربته، لأن الخيل
إذا خلعت أعنتها كان أسرع لجريها. وضربت إلى محاربته بطون رواحلها، كناية عن إسراع
العرب نحوه للحرب، لأن الرواحل إذا ضربت بطونها لتساق كان أوحى لها، ومراده أنهم
كانوا فرساناً وركباناً. قوله: "حتى أنزلت بساحته عداوتها"،
أي حربها، فعبر عنها بالعداوة، لأن العداوة سبب الحرب، فعبر بالسبب عن المسبب،
ما زلنا نطأ السماء حتى أتيناك، يعنون الماء، لما كان اعتقادهم أن السماء سبب
الماء. والمزار: المكان الذي يزار منه، أو المكان الذى
يزار فيه، والمراد ههنا هو الأول ومن قرأ كتب
السيرة علم ما لاقى رسول الله صلى
الله عليه وسلم فى ذات الله سبحانه من
المشقة، واستهزاء قريش به في أول الدعوة، ورميهم إياه بالحجارة، حتى أدموا
عقبيه، وصياح الصبيان به، وفرث الكرش على رأسه، وفتل الثوب في عنقه وحصره
وحصرأهله في شعب بني هاشم سنين عدة، محرمة معاملتهم ومبايعتهم ومناكحتهم
وكلامهم، حتى كادوا يموتون جوعاً، لولا أن بعض من كان يحنو لرحم أو لسبب غيره،
فهو يسرق الشيء القليل من الدقيق أو التمر فيلقيه إليهم ليلاً، ثم ضربهم أصحابه
وتعذيبهم بالجوع والوثاق في الشمس، وطردهم إياهم عن شعاب مكة، حتى خرج من خرج
منهم إلى الحبشة، وخرج علنه مستجيراً منهم تارة بثقيف، وتارة ببني عامر، وتارة
بربيعة الفرس، وبغيرهم. ثم أجمعوا على قتله والفتك به ليلاً، حتى هرب
منهم لائذاً بالأوس والخزرج، تاركاً أهله وأولاده، وما حوته يده، ناجياً بحشاشة
نفسه، حتى وصل إلى المدينة، فناصبوه الحرب ورموه بالمناسر والكتائب، وضربما إليه
آباط الإبل، ولم يزل منهم في عناءٍ شديد، وحروب متصلة، حتى أكرمه الله تعالى
ونصره، وأيد دينه وأظهره. ومن له أنسٌ بالتواريخ يعلم من
تفاصيل هذه الأحوال ما يطول شرحه. سمي النفاق نفاقاً من النافقاء، وهي بيت اليربوع ، له
بابان يدخل من أحدهما ويخرج من الاخر، وكذلك
الذي يظهر ديناً ويبطن غيره. والضالون المضلون: الذين يضلون أنفسهم ويضلون غيرهم، وكذلك الزالون
المزلون، زل فلان عن الأمر، أي أخطأ، وأزله غيره. وقلب
دوٍ، بالتخفيف، أي فاسد، من داء أصابه، وامرأة دوية، فإذا
قلت: رجل دوى، بالفتح، استوى فيه المذكر والمؤنث والجماعة، لأنه مصدر في
الأصل، ومن روى: "دوية" بالتشديد،
على بعده، فإنما شدده ليقابل "نقية". والصفاح: جمع صفحة الوجه وهي ظاهره، يقول:
باطنهم عليل، وظاهرهم صحيح. يمشون
الخفاء، أي في الخفاء، ثم حذف الجار فنصب، وكذلك يدبون الضراء، والضراء: شجر
الوادي الملتف، وهذا مثل يضرب لمن يختل صاحبه، يقال: هويدب له الضراء ويمشي له
الخمر، وهو جرف الوادي. ثم قال: "وصفهم داء، وقولهم شفاء، وفعلهم
الداء العياء"، أي أقوالهم أقوال الزاهدين العابدين، وأفعالهم أفعال
الفاسقين الفاجرين. والداء العياء: الذي يعيي الأساة .
"ومقنطو الرجاء"، أي أهل الرجاء، أي يبدلون بشرورهم وأذاهم رجاء الراجي
قنوطاً. قوله: "وإلى
كل قلب شفيع "، يصف خلابة ألسنتهم وشدة ملقهم، فقد استحوذوا على
قلوب الناس بالرياء والتصنع. قوله: "ولكل شجودموع"، الشجو: الحزن، أي يبكون تباكياً وتعملاً لا حقاً، عند أهل
كل حزن ومصاب. يتقارضون
الثناء: أي يثني زيد على عمرو، ليثني عمرو عليه في ذلك المجلس، أو يبلغه فيثني
عليه في مجلس آخر، مأخوذ من القرض. ويتراقبون
الجزاء: يرتقب كل واحد منهم على ثنائه ومدحه لصاحبه جزاءً منه. إما بالمال أو
بأمر آخر، نحو ثناء يثني عليه، أو شفاعة يشفع له، أو نحوذلك. والإلحاف قي
السؤال: الاستقصاء فيه، وهو مذموم، قال الله
تعالى: "لا يسألون الناس إلحافاً" . قوله: "وإن
عذلوا كشفوا"، أي إذا عذلك أحدهم كشف عيوبك في ذلك اللوم والعذل،
وجبهك بها، وربما لا يستحي أن يذكرها لك بمحضر ممن لأ تحب ذكرها بحضرته، وليسوا
كالناصحين على الحقيقة، الذين يعرضون عند العتاب بالذنب تعريضاً لطيفاً ليقلع
الإنسان عنه. وإن حكموا أسرفوا، إذا سألك أحدهم ففوضته في
مالك أسرف ولم يقنع بشيء، وأحب الاستئصال. قد أعدوا لكل حق باطلاً، يقيمون
الباطل في معارضة الحق، والشبهة في مصادمة الحخة. ولكل دليلٍ قائم وقول صحيح
ثابت، احتجاجاً مائلاً مضاداً لذلك الدليل، وكلاماً مضطرباً لذلك القول. ولكل
باب مفتاحاً، أي ألسنتهم ذلقةٌ قادرةٌ على فتح المغلقات، للطف توصلهم، وظرف
منطقهم. ولكل
ليل مصباحاً، أي كل أمر مظلم فقد أعدوا له كلاماً ينيره ويضيئه، ويجعله كالمصباح
الطارد لليل. ويتوصلون
إلى مطامعهم بإظهار اليأس عما في أيدي الناس، وبالزهد في الدنيا. وفي الأثر:
شركم من أخذ الدنيا بالدين. ثم
قال: إنما فعلوا ذلك ليقيموا به أسواقهم، أي لتنفق لسعتهم. والأعلاق:
جمع علق، وهو السلعة الثمينة، يقولون فيشبهون، يوقعون الشبه في القلوب، ويصفون
فيموهمون، التمويه التريين، وأصله أن تطلي الحديدة بذهب يحسنها. قد
هيأوا الطريق، أي الطريق الباطل قد هيأوها بتمويهاتهم. وأضلعوا المضيق:
أمالوه، وجعلوه ضلعاً، أي معوجاً، أي جعلوا المسلك الضيق معوجاً بكلامهم
وتلبيسهم، فإذا أسلكوه إنساناً اعوج لاعوجاجه. واللمة:
بالتخفيف: الجماعة، والحمة بالتخفيف أيضاً: السم، وكنى عن إحراق النار بالحمة
للمشابهة في المضرة. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن خطبة له في ذكر بعض صفات الله
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: الحمد لله
الذي أظهر من اثار سلطانه، وجلال كبريائه، ما حير مقل العقول من عجائب قدرته،
وردع خطرات هماهم النفوس عن عرفان كنه صفته. وأشهد أن لا إله إلا الله، شهادة
إيمانٍ وإيقانٍ، وإخلاصٍ وإذعانٍ. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله وأعلام الهدى
دارسة، ومناهج الدين طامسةٌ، فصاع بالحق، ونصح للخلق، وهدى إلى الرشد، وأمر
بالقصد، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم واعلموا عباد الله، أنه لم يخلقكم عبثاً،
ولم يرسلكم هملاً، علم مبلغ نعمه عليكم، وأحصى إحسانه إليكم، فاستفتحوه
وأستنجحوه، وأطلبوا إليه وأستمنحوه، فما قطعكم عنه حجابٌ، ولا أغلق عنكم دونه
بابٌ. وإنه لبكل
مكانٍ، وفي كل حينٍ وأوانٍ، ومع كل إنس وجان، لا يثلمه العطاء، ولا ينقصه
الحباء، ولا يستنفده سائلٌ، ولا يستقصيه نائلٌ، ولا يلويه شخصٌ عن شخصٍ، ولا
يلهيه صوت عن صوت، ولا تحجزه هبةٌ عن سلب، ولا يشغله غضب عن رحمةٍ، ولا تولهه
رحمةٌ عن عقابٍ، ولا يجنه البطون عن الظهور، ولا يقطعه الظهور عن البطون. قرب فنأى، وعلا فدنا، وظهر فبطن، وبطن فعلن، ودان
ولم يدن. الشرح: أظهر سبحانه
من آثار سلطانه، نحو خلق الأفلاك ودخول بعضها في بعض، كالمميل الذي يشتمل على
المائل، وفلك التدوير وغيرهما، ونحو خلق الإنسان وما تدل كتب التشريح من عجيب
الحكمة فيه، ونحو خلق النبات والمعادن، وترتيب العناصر وعلاماتها، والآثار
العلوية المتجددة، حسب تجدد أسبابها، ما حير عقول هؤلاء، وأشعر بأنها إذا لم تحط
بتفاصيل تلك الحكم مع أنها مصنوعة، فالأولى ألا تحيط بالصانع الذي هو بريءٌ عن
المادة وعلائق الحس. والمقل: جمع مقلة:
وهي شحمة العين التي تجمع السواد والبياض، ومقلت
الشيء: نظرت إليه بمقلتي، وأضاف المقل إلى "العقول" مجازاً،
ومراده البصائر. وردع: زجر ودفع. وهماهم النفوس: أفكارها وما يهمهم به عند التمثيل
والروية في الأمر، وأصل الهمهمة، صوتٌث يسمع، لايفهم محصوله. والعرفان:
المعرفة، وكنه الشيء: نهايته وأقصاه. والإيقان: العلم القطعي وا لإذعان: الانقياد. والأعلام:
المنار والجبال يستدل بها في الطرقات. والمناهج: السبل الواضحة والطامسة كالدارسة. وصدع بالحق: بين، وأصله الشق يظهر ما تحته، ويقال:
نصحت لزيد، وهو أفصح من قولك: نصحت زيداً. قوله:
"فاستفتحوه"، أي اطلبوا منه الفتح عليكم والنصر لكم، واستنجحوه:
اطلبوا منه النجاح والظفر، واطلبوا إليه، أي اسألوه، يقال: طلبت إلى زيد كذا وفي
كذا، واستمنحوه، بكسر النون: اطلبوا منه المنحة، وهي العطية. ويروى: "واستميحوه" بالياء، استمحت
الرجل: طلبت عطاءه، ومحت بالرجل: أعطيته. والحباء: النوال ولا يستنفده، أي لا يفنيه، ولا
يستقصيه: لا يبلغ الجود أقمى مقدوره وإن عظم الجود، لأنه قادر على ما لا نهاية
له. ولا يلويه شخص عن شخص:
لا يوجب ما يفعله لشخص أو مع شخص إعراضاً وذهولاً عن شخص آخر، بل هو عالم
بالجميع، لا يشغله شأن عن شأن. لوى الرجل وجهه، أي أعرض وانحرف، ومثل هذا أراد
بقوله: "ولا يلهيه صوت عن صوت"، ألهاه كذا، أي شغله. ومثل هذا قوله:
"ولا يشغله غضب عن رحمة، ولا تولهه رحمة عن عقاب"، أي لا تحدث الرحمة
لمستحقها عنده ولهاً، وهو التحير والتردد، وتصرفه عن عقاب المستحق، وذلك لأن
الواحد منا إذا رحم إنساناً حدث عنده رقة، خصوصاً إذا توالت منه الرحمة لقوم
متعددين، فإنه تصير الرحمة كالملكة عنده فلا يطيق مع تلك الحال أن ينتقم،
والبارىء تعالى بخلاف ذلك، لأنه ليس بذي مزاج سبحانه. ولا يجنه البطون عن
الظهور، ولا يقطعه الظهور عن البطون، هذه كلها مصادر، بطن بالوناً أي خفي، وظهر
ظهوراً، أي تجلى، يقول: لا يمنعه خفاؤه عن العقول أن تدركه عند ظهوره بأفعاله
وإن لم يكن ظاهراً بذاته، و كذلك لا يقطعه ظهوره بأفعاله عن أن يخفى كنهه عن
إبصار العقول وإدراكها له، ويقال: اجتننت كذا،
أي سترته، ومنه الجنين، والجنة للترس، وسمي الجن جناً لاستتارهم. ثم أكد المعنى بعبارة اخرى،
قال: "وظهر فبطن، وبطن فعلن"، وهذا مثل الأول. ودان: غلب وقهر، ولم يدن: لم يقهر ولم يغلب. ثم قال: "لم
يذرأ الخلق باحتيال" أي لم يخلقهم بحيلة توصل بها إلى إيجادهم، بل أوجدهم
على حسب علمه بالمصلحة خلقاً مخترعاً من غير سبب ولا واسطة. قال: "ولا
استعان بهم لكلال"، أي لإعياء، أي لم يأمر المكلفين بالجهاد لحاجته في قهر
أعدائه، وجاحدي نعمته إليهم، وليس بكال ولا عاجز عن إهلاكهم، ولكن الحكمة اقتضت
ذلك، قال سبحانه: "ولولا دفع الله الناس بعضهم
ببعض لفسدت الأرض" ، أي لبطل التكليف.
ثم ذكر أن التقوى قوام الطاعات التي تقوم بها،
وزمام العبادات لأنها تمسك وتحضن، كزمام الناقة المانع لها من الخبط. والوثائق جمع وثيقة، وهي ما يوثق به. وحقائقها
جمع حقيقة، وهي الراية، يقال: فلان حامي الحقيقة. قوله:
"تؤل" بالجزم، لأنه جواب الأمر، أي ترجع. والأكنان: جمع كن و هو الستر. والدعة.
الراحة. السعة:
الجدة. والمعاقل: جمع معقل، وهو الملجأ. والحرز: الحفظ. وتشخص الأبصار: تبقى مفتوحة لا تطرف. والأقطار: الجوانب. والصروم: جمع صرم وصرمة، وهي القطعة من الإبل نحو
الثلاثين. والعشار: النوق أتى عليها من يوم أرسل الفحل فيها عشرة
أشهر فزال عنها اسم المخاض ولا يزال ذلك اسمها حتى تضع، والواحدة عشراء، وهذا من قوله تعالى: "وإذا العشار عطلت" ، أي تركت مسيبة مهملة لا يلتفت إليها أربابها، ولا
يحلبونها لاشتغالهم بأنفسهم. وتزهق كل مهجة:
تهلك وتبكم كل لهجة، أي تخرس، رجل أبكم وبكيم، والماضي بكم بالكسر. والشم الشوامخ: الجبال العالية، وذلها: تدكدكها، وهي أيضا الصم الرواسخ. فيصير صلدها وهو الصلب الشديد انصلابه سراباً، وهو
ما يتراءى في النهار فيظن ماءً، والرقراق: الخفيف. ومعهدها:
ما جعل منها منزلاً للناس. قاعاً:
أرضاً خالية، والسملق: الصفصف المستوي، ليس بعضه أرفع وبعضه أخفض. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن خطبة له عليه السلام يحث على العمل الصالح
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
بعثه حين لا علمٌ قائمٌ، ولا منارٌ ساطعٌ، ولا منهجٌ واضحٌ. أوصيكم
عباد الله بتقوى الله، وأحذركم الدنيا، فإنها دار شخوصٍ، ومحلة تنغيصٍ، ساكنها
ظاعنٌ، وقاطنها بائنٌ، تميد بأهلها ميدان السفينة، تقصفها العواصف في لجج
البحار، فمنهم الغرق الوبق، ومنهم الناجي على بطون الأمواج، تحفزه الرياخ
بأذيالها، وتحمله على أهوالها، فما غرق منها فليس بمستدركٍ، وما نجا منها فإلى
مهلكٍ. عباد
الله، الآن فاعلموا، والألسن مطلقةٌ، والأبدان صحيحةٌ، والأعضاء لدنةٌ، والمنقلب
فسيحٌ، والمجال عريضٌ، قبل إرهاق الفوت، وحلول الموت، فحققوا عليكم نزوله، ولا
تنتظروا قدومه. الشرح:
يقول: بعث الله سبحانه محمداً صلى الله عليه وسلم لما
لم يبق علمٌ يهتدي له المكلفون، لأنه كان زمان الفترة وتبدل المصلحة، واقتضاء
وجوب اللطف عليه سبحانه تجديداً لبعثته، ليعرف المبعوث المكلفين الأفعال التي
تقربهم من فعل الواجبات العقلية، وتبعدهم عن المقبحات الفعلية. والمنار الساطع: المرتفع. سطع الصبح سطوعاً: ارتفع،
ودار شخوص: دار رحلة شخص عن البلد: رحل عنه، والظاعن: المسافر. والقاطن: المقيم.
والبائن:
البعيد. يقول: ساكن الدنيا ليس بساكن على الحقيقة، بل
هو ظاعن في المعنى وإن كان في الصورة ساكناً، والمقيم بها مفارق، وإن ظن أنه
مقيم، وتميد بأهلها: تتحرك وتميل. والميدان: حركة واضطراب، وتصفقها العواصف:
تضربها بشدة، ضرباً بعد ضرب. والعواصف:
الرياح القوية. اللجج:
جمع لجة، وهي معظم البحر. ضرب
صلى الله عليه وسلم لأهل الدنيا مثلاً براكبي السفينة في البحر، وقد مادت بهم،
فمنهم الهالك على الفور، ومنهم من لا يتعجل هلاكه، وتحمله الرياح ساعة أو ساعات،
ثم مآله إلى الهلاك أيضاً. ثم
أمر صلى الله عليه وسلم بالعمل وقت الإمكان قبل ألا يمكن العمل، فكنى عن ذلك بقوله: والألسن منطلقة، لأن المحتضر يعتقل لسانه،
والأبدان صحيحة، لأن المحتضر سقيم البدن. والأعضاء لدنة، أي لينة، أي قبل الشيخوخة والهرم ويبس الأعضاء
والأعصاب. المنقلب فسيح، والمجال عريض، أي أيام الشبيبة
وفي الوقت والأجل مهلة، قبل أن يضيق الوقت عليكم. قبل إرهاق الفوت، أي قبل أن يجعلكم الفوت وهو
فوات الأمر وتعذر استدراكه عليكم مرهقين، والمرهق: الذي أدرك ليقتل، قال الكميت:
قوله:
"فحققوا عليكم نزوله، ولا تنتظروا قدومه"، أي اعملوا عمل من يشاهد
الموت حقيقة، لا عمل من ينتظره انتظاراً ويطاول الأوقات مطاولة، فإن التسويف
داعية التقصير. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن خطبة له مواقفه من الرسول
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: ولقد علم المستحفظون
من أصحاب محمد صلى ألله عليه وأله وصحبه،
أني لم أرد على الله ولا على رسوله ساعة قط، ولقد واسيته بنفسي في المواطن التي
تنكص فيها الأبطال، وتتأخر الأقدام، نجدة أكرمني الله بها. ولقد قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وإن رأسه
لعلى صدري، ولقد سالت نفسه في كفي، فأمررتها على وجهي. ولقد وليت غسله صلى الله عليه وأله
والملائكة أعواني، فضجت الدار والأفنية: ملأٌ يهبط، وملأٌ يعرج، وما فارقت سمعي
هينمةٌ منهم، تصلون عليه، حتى واريناه في ضريحه، فمن ذا أحق به مني حياً وميتاً
فانفذوا على بصائركم، ولتصدق نياتكم في جهاد عدوكم، فوالذي لا إله إلا هو إني
لعلى جادة الحق، وإنهم لعلى مزلة الباطل. أقول ما تسمعون، استغفز الله لي ولكم. الشرح: يمكن أن يعني بالمستحفظين
الخلفاء الذين تقدموا، لأنهم الذين استحفظوا الإسلام، أي جعلوا حافظين له
وحارسين لشريعته ولحوزته، ويجوز أن يعني به العلماء
والفضلاء من الصحابة، لأنهم استحفظوا الكتاب، أي كلفوا حفظه وحراسته. والظاهر أنه يرمز في قوله صلى الله عليه وسلم:
"لم أرد على الله، ولا على رسوله ساعة قط" إلى
أمور وقعت من غيره، كما جرى يوم الحديبية عند
سطر كتاب الصلح، فإن بعض الصحابة أنكر ذلك، وقال: يا رسول الله، ألسنا المسلمين؟ قال:
بلى، قال: أوليسوا الكافرين؟ قال: بلى، قال: فكيف نعطى
الدنية في ديننا فقال صلى الله عليه وسلم "إنما أعمل مما أومر له
" فقال قوم من الصحابة: الم يكن قد وعدنا
بدخول مكة وها نحن قد صددنا عنها ثم ننصرف بعد أن اعطينا الدنية في ديننا، والله
لو أجد أعواناً لم اعط الدنية أبداً، فقال أبو بكر لهذا
القائل: ويحك الزم غرزه ، فوالله إنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الله لا يضيعه. ثم قال له:
أقال لك: إنه سيدخلها هذا العام؟ قال: لا، قال: فسيدخلها. فلما فتح
النبي صلى الله عليه وسلم مكة،
وأخذ مفاتيح الكعبة دعاه فقال: هذا الذي وعدتم به. واعلم
أن هذا الخبر صحيحٌ لا ريب فيه، والناس كلهم رووه، وليس عندي بقبيحٍ ولا مستهجن
أن يكون سؤال هذا الشخص لرسول الله صلى
الله عليه وسلم عما سأله عنه على سبيل الاسترشاد، والتماساً لطمأنينة النفس،
فقد قال الله تعالى لخليله إبراهيم: "أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي" . وقد
كانت الصحابة تراجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى
الأمور، وتسأله عما يستبهم عليها وتقول له: أهذا منك أم
من الله؟ وقال له السعدان ، رحمهما الله يوم
الخندق، وقد عزم على مصالحة الأحزاب ببعض تمر
المدينة: أهذا من الله أم رأي رأيته من نفسك؟
قال: بل من نفسي، قالا: لا، والله لا نعطيهم منها تمرةً واحدة وأيدينا في مقابض
سيوفنا وقالت الأنصار له يوم بدر، وقد نزل بمنزلٍ لم
يستصلحوه، أنزلت هذا المنزل عن رأي رأيت أم بوحيٍ أوحي إليك؟ قال: بل عن رأي رأيته، قالوا: إنه
ليس لنا بمنزلٍ، أرحل عنه فانزل بموضع كذا. وأما
قول أبي بكر له: "الزم غرزه، فوالله إنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم"، فإنما هو تأكيد وتثبيت! على عقيدته التي في قلبه،
ولايدل ذلك على الشك، فقد قال الله تعالى لنبيه:
"ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً
قليلاً" ، وكل أحد لا يستغني عن زيادة اليقين والطمأنينة. وقد كانت وقعت من هذا القائل أمورٌ دون هذه القصة، كقوله: دعني أضرب عنق أبي سفيان. وقوله: دعني أضرب عنق عبد الله بن أبي، وقوله: دعني أضرب عنق حاطب بن أبي بلتعة. ونهي النبي صلى الله عليه وسلم عن
التسرع إلى ذلك، وجذبه ثوب رسول الله صلى
الله عليه وسلم حين قام
على جنازة ابن سلول يصلي، وقوله: كيف نستغفر لرأس المنافقين وليس في ذلك
جميعه ما يدل على وقوع القبيح منه، وإنما الرجل كان
مطبوعاً على الشدة والشراسة والخشونة، وكان يقول ما يقول على مقتضى السجية التي طبع عليها. وعلى أي حال كان، فلقد نال الإسلام بولايته وخلافته خيراً كثيراً. قوله صلى الله عليه وسلم:
"ولقد واسيته بنفسي"، يقال: واسيته وآسيته، وبالهمزة
أفصح، وهذا مما اختص محمد صلى الله عليه وسلم بفضيلته غير مدافع، ثبت معه يوم أحد وفر الناس، وثبت معه يوم حنين وفر الناس،
وثبت تحت رايته يوم خيبر حتى فتحها وفر من كان بعث بها من قبله. وروى
المحدثون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ارتث يوم أحد، قال
الناس: قتل محمد، رأته كتيبة من المشركين وهو صريع بين القتلى، إلا أنه
حيٌ، فصمدت له، فقال لعلي رضي الله عنه: اكفني هذه، فحمل عليها رضي الله عنه وقتل رئيسها، ثم صمدت له كتيبة اخرى، فقال: يا علي اكفني هذه، فحمل
عليها فهزمها، وقتل رئيسها، ثم صمدت له كتيبة ثالثة، فكذلك، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يقول: قال لي جبريل: يا محمد، إن هذه للمواساة، فقلت: وما
يمنعه وهو مني وأنا منه فقال جبريل: وأنا منكما. وروى المحدثون أيضاً
أن المسلمين سمعوا ذلك اليوم صائحاً من جهة
السماء ينادي: "لا سيف إلا ذو الفقار، ولا فتى إلا
علي " فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم لمن حضره: "ألا تسمعون هذا صوت جبريل". وأما يوم حنين فثبت معه في نفر
يسيرمن بني هاشم، بعد أن ولى المسلمون الأدبار،
وحامى عنه، وقتل قوماً من هوازن بين يديه، حتى ثابت
إليه الأنصار، وانهزمت هوازن وغنمت أموالها، وأما يوم خيبر فقصته مشهورة. قوله صلى الله عليه وسلم: "نجدةً أكرمني الله سبحانه بها"، النجدة،
الشجاعة، وانتصابها ههنا على أنها مصدر، والعامل فيه محذوف. ثم ذكر رضي الله عنه وفاة رسول الله رضي الله عنه، فقال: "لقد قبض وإن رأسه
لعلى صدري، ولقد سالت نفسه في كفي، فأمررتها على وجهي"، يقال: إن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قاء دماً يسيراً وقت موته، وإن علياً رضي الله عنه مسح لذلك الدم وحهه.
وقد
روي أن أبا طيبة الحجام شرب دمه رضي الله عنه وهو
حي، فقال له: إذن لا يجع بطنك. قوله رضي
الله عنه: "فضجت
الدار والأفنية"، أي النازلون في الدار من الملائكة، أي ارتفع ضجيجهم
ولجبهم، يعني أني سمعت ذلك ولم يسمعه غيري من أهل الدار. والملأ الجماعة، يهبط قوم من الملائكة ويصعد قوم. والعروج: الصعود. والهينمة:
الصوت الخفي. والضريح: الشق في القبر. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
خبر موت الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وقد روي من قصة وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه
عرضت له الشكاة التي عرضت، في أواخر صفر من سنة إحدى
عشرة للهجرة، فجهز جيش أسامة بن زيد، فأمرهم بالمسيرإلى البلقاء حيث أصيب زيد
وجعفر رضي الله عنهما من الروم، وخرج في تلك اللية إلى البقيع، وقال: إني قد
أمرت بالاستغفار عليهم، فقال رضي
الله عنه: السلام عليكم يا أهل القبور،
ليهنكم ما أصبحتم فيه مما الناس فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، يتبع أولها
آخرها، ثم استغفر لأهل البقيع طويلاً، ثم قال لأصحابه: إن
جبريل كان يعارضني القرآن في كل عام مرة، وقد
عارضني به العام مرتين، فلا أراه إلا لحضور أجلي. ثم انصرف إلى بيته، فخطب الناس في غده، فقال: معاشر
الناس، قد حان مني خفوق من بين أظهركم، فمن كان له عندي عدة، فليأتني أعطه
إياها، ومن كان له علي دين، فليأتني أقضه. أيها الناس،
إنه ليس بين الله وبين أحد نسب ولا أمر يؤتيه به خيراً، أو يصرف عنه شراً
إلا العمل، ألا لا يدعين مدعٍ ولا يتمنين متمنً.
والذي بعثني بالحق لا ينجي إلا عملٌ مع
رحمة، ولو عصيت لهويت. اللهم قد بلغت. ثم نزل فصلى
بالناس صلاة خفيفة، ثم دخل بيت أم سلمة، ثم انتقل إلى بيت عائشة يعلله النساء
والرجال، أما النساء فأزواجه وبنته رضي الله عنها، وأما الرجال فعلي رضي الله
عنه والعباس والحسن والحسين رضي الله عنهما، وكانا غلامين يومئذ، وكان الفضل بن العباس يدخل أحياناً إليهم، ثم حدث الاختلاف بين المسلمين أيام مرضه، فأول ذلك
التنازع الواقع يوم قال صلى
الله عليه وسلم: "ائتوني بدواة
وقرطاس"، وتلا ذاك حديث التخلف عن جيش أسامة، وقول عياش بن أبي ربيعة: أيولى هذا الغلام على جلة المهاجرين والأنصار ثم اشتد
به المرض، وكان عند خفة مرضه يصلي بالناس بنفسه، فلما
اشتد به المرض أمر أبا بكر أن يصلي بالناس. وقد اختلف في صلاته بهم،
فالشيعة تزعم أنه لم يصل بهم إلا صلاة واحدة،
وهي الصلاة التي خرج رسول الله صلى
الله عليه وسلم فيها يتهادى بين علي رضي الله عنه والفضل
فقام في المحراب مقامه، وتأخر أبو بكر. والصحيح عندي وهو الأكثر الأشهر
أنها لم تكن آخر صلاة في حياته صلى
الله عليه وسلم بالناس جماعة،
وأن أبا بكر صلى بالناس بعد ذلك يومين، ثم مات صلى الله عليه وسلم، فمن قائل يقول: إنه توفي لليلتين بقيتا من صفر، وهو القول الذي تقوله الشيعة، والأكثرون أنه توفي في شهر
ربيع الأول بعد مضي أيام منه. ثم اتفقوا على دفنه في البيت الذي قبض فيه، وصلوا عليه
أرسالاً لا يؤمهم أحد. وقيل: إن علياً رضي الله
عنه أشار بذلك فقبلوه. وأنا أعجب من ذلك،
لأن الصلاة عليه كانت بعد بيعة أبي بكر، فما الذي منع
من أن يتقدم أبو بكر فيصلي عليه إماماً وتنازعوا في تلحيده وتضريحه، فأرسل العباس عمه إلى أبي عبيدة بن الجراح وكان يحفر
لأهل مكة ويضرح على عادتهم رجلاً، وأرسل علي
رجلاً إلى أبي طلحة الأنصاري وكان يلحد لأهل المدينة على عادتهم وقال:
اللهم اختر لنبيك، فجاء أبوطلحة فلحد له، وأدخل في اللحد. وتنازعوا فيمن ينزل معه القبر، فمنع علي رضي الله عنه الناس أن ينزلوا معه، وقال: لا
ينزل قبره غيري وغير العباس، ثم أذن في نزول الفضل وأسامة بن زيد مولاهم، ثم ضجت الأنصار، وسألت أن
ينزل منها رجل في قبره، فأنزلوا أوس بن خولي وكان
بدرياً. فأما الغسل فإن علياً رضي الله عنه
تولاه بيده، وكان الفضل بن العباس يصب عليه الماء. وروى المحدثون عن علي رضي الله عنه، أنه قال: ما قلبت منه عضواً
إلا وانقلب، لا أجد له ثقلاً، كأن معي من يساعدني عليه، وما ذلك إلا الملائكة. وأما حديث الهينمة وسماع الصوت، فقد رواه خلق كثيرمن
المحدثين، عن علي رضي الله عنه، وتروي الشيعة أن علياً رضي الله عنه عصب عيني الفضل بن العباس، حين صب عليه الماء،
وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصاه
بذلك، وقال: إنه لا يبصر عورتي أحدٌ غيرك إلا عمي. قوله
رضي الله عنه: "فمن
ذا أحق به مني حياً وميتاً" انتصابهما على الحال من الضمير المجرور
في "به"، أي أي شخص أحق برسول الله صلى
الله عليه وسلم حال حياته
وحال وفاته مني ومراده من هذا الكلام، أنه أحق بالخلافة بعده وأحق الناس
بالمنزلة منه حيث كان بتلك المنزلة منه في الدنيا، وليس يجوز أن يكونا حالين من
الضمير المجرور في "مني" لأنه لا يحسن أن
يقول: أنا أحق به إذا كنت حياً من كل أحد، وأحق به إذا كنت ميتاً من كل
أحد، لأن الميت لا يوصف بمثل ذلك، ولأنه لا حال
ثبتت له من الأحقية إذا كان حياً إلا وهي ثابتة له إذا كان ميتاً، وإن كان الميت
يوصف بالأحقية، فلا فائدة في قوله. "وميتاً" على هذا الفرض، ولا يبقى
في تقسيم الكلام إلى قسمين فائدة، وأما إذا كان حالاً من الضميرفي
"به"، فإنه لا يلزم من كونه أحق بالمنزلة الرفيعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو
حي أن يكون أحق بالخلافة بعد وفاته، أي ليس أحدهما يلزم الآخر، فاحتاج إلى أن
يبين أنه أحق برسول الله صلى الله عليه وسلم من
كل أحد إن كان الرسول صلى الله عليه وسلم حياً،
وإن كان ميتاً، ولم يستهجن أن يقسم الكلام إلى
القسمين المذكورين. قوله صلى الله عليه وسلم:
"فانفذوا إلى بصائركم"، أي أسرعوا إلى الجهاد على عقائدكم التي أنتم
عليها، ولا يدخلن الشك والريب في قلوبكم. قوله صلى الله عليه وسلم: "إني لعلى جادة الحق، وإنهم لعلى مزلة الباطل "، كلام
عجيب على قاعدة الصناعة المعنوية، لأنه لا يحسن أن
يقول: وإنهم لعلى جادة الباطل، لأن الباطل لا يوصف بالجادة، ولهذا يقال لمن ضل: وقع في بنيات الطريق ، فتعوض
عنها بلفظ "المزلة"، وهي الموضع
الذي يزل فيه الإنسان، كالمزلقة: موضع
الزلق، والمغرقة: موضع الغرق، والمهلكة: موضع الهلاك. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن خطبة له في حث الناس علي التقوى
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: يعلم عجيج
الوحوش في الفلوات، ومعاصي العباد في الخلوات. واختلاف النينان في البحار
الغامرات، وتلاطم الماء بالرياح التعاصفات. وأشهد أن محمداً نجيب الله، وسفير
وحيه، ورسول رحمته. أما بعد،
فإني أوصيكم بتقوى الله الذي ابتدأ خلقكم، وإليه يكون معادكم، وبه نجاح طلبتكم،
وإليه منتهى رغبتكم، ونحوه قصد سبيلكم وإليه مرامي مفزعكم، فإن تقوى الله دواء
داء قلوبكم، وبصر عمى أفئدتكم، وشفاء مرض أجسادكم، وصلاح فساد صدوركم، وطهور دنس
أنفسكم، وجلاء غشاء أمحاركم، وأمن فزع جأشكم، وضياء سواد ظلمتكم. والنينان: جمع
نونٍ، وهو الحوت، واختلافها ههنا: هو
إصعادها وانحدارها. ونجيب الله:
منتجبه ومختاره، وسفير وحيه: رسول وحيه، والجمع سفراء،
مثل فقيه وفقهاء. وإليه مرامي مفزعكم: إليه تفزعون وتلجأون، ويقال: فلان مرمى قصدي، أي هو الموضع الذي أنحوه
وأقصده. ويروى: "وجلاء عشى أبصاركم "، بالعين
المهملة والألف المقصورة، والجأش: القلب، وتقدير الكلام: وضياء سواد ظلمة عقائدكم، ولكنه
حذف المضاف للعلم به. الأصل: فاجعلوا طاعة الله شعاراً دون دثاركم، ودخيلاً
دون شعاركم، ولطيفاً بين أضلاعكم، وأميراً فوق أموركم، ومنهلاً لحين وزودكم،
وشفيعاً لدرك طلبتكم، وجنة ليوم فزعكم، ومصابيح لبطون قبوركم، وسكناً لطول
وحشتكم، ونفساً لكرب مواطنكم، فإن طاعة الله حرز من متالف مكتنفة، ومخاوف
متوقعةٍ، وأوار نيرانٍ موقدةٍ. فمن أخذ بالتقوى عزبت عنة الشدائد بعد دنوها،
واحلولت له الأمور بعد مرارتها، وانفرجت عنه الأمواج بعد تراكمها، وأسهلت له
الصعاب بعد إنصابها، وهطلت عليه الكرامة بعد قحوطها. وتحدبت عليه الرحمة بعد
نفورها، وتفجرت عليه النعم بعد نضوبها، ووبلت عليه ألبركة بعد إرذاذها. فاتقوا
الله الذي نفعكم بموعظته، ووعظكم برسالته، وامتن عليكم بنعمته. فعبدوا أنفسكم لعبادته، وأخرجوا إليه من حق
طاعته. الشرح: الشعار: أقرب إلى الجسد من الدثار. والدخيل: ما خالط باطن الجسد، وهو أقرب من الشعار،
ثم لم يقتصر على ذلك حتى أمر بأن يجعل التقوى لطيفاً بين الأضلاع، أي في القلب،
وذلك أمس بالإنسان من الدخيل، فقد يكون الدخيل في الجسد وإن لم يخامر القلب. ثم قال: "وأميراً فوق أموركم"،
أي يحكم على أموركم كما يحكم الأمير في رعيته. والمنهل:
الماء يرده الوارد من الناس وغيرهم. وقوله: "لحين ورودكم"، أي لوقت ورودكم،
والطلبة بكسر اللام: ما طلبته من شيء. قوله: "ومصابيح لبطون قبوركم
"، جاء في الخبر: إن العمل الصالح يضيء قبر صاحبه كما
يضيء المصباح الظلمة، والسكن: ما يسكن إليه. قوله: "ونفساً لكرب
مواطنكم"، أي سعة وروحاً، ومكتنفة: محيطة. ولأوار: حر النار والشمس، وعزبت: بعدت. واحلولت: صارت حلوة. وتراكمها:
اجتماعها وتكاثفها. وأسهلت:
صارت سهلة. بعد إنصابها، أي بعد إتعابها لكم، أنصبته: أتعبته. وهطلت: سالت. وقحوطها:
قلتها ووتاحتها ، وتحدبت عليه: عطفت وحنت، نضوبها: انقطاعها. كنضوب الماء: ذهابه. ووبل المطر: صار وابلاً، وهو أشد المطر وأكثره. وإرذاذها: إتيانها بالرذاذ وهو ضعيف المطر. قوله: "فعبدوا أنفسكم"، أي ذللوها. ومنه طريق معبد. واخرجوا إليه من حق طاعته، أي
أدّوا المفترض عليكم من العبادة، يقال: خرجت إلى فلان من دينه، أي قضيته إياه. الأصل:
ثم إن هذا الإسلام دين الله الذي اصطفاه لنفسه، وأصطنعه على عينه، وأصفاه خيرة
خلقه، وأقام دعائمه على محبته. أذل الأديان بعزته، وضع الملل برفعه، وأهان أعداءه
بكرامته، وخذل محاديه بنصره، وهدم أركان الضلالة بركنه، وسقى من عطش من حياضه،
وأتأق الحياض بمواتحه. ثم جعله لا انفصام لغروته، ولا فك لحلقته، ولا
انهدام لأساسه، ولا زوال لدعائمه، ولا أنقلاع لشجرته، ولا أنقطاع لمدته، ولا
عفاء لشرائعه، ولا جذ لفروعه، ولا ضنك لالرقه، ولا وعوثة لسهولته، ولا سواد
لوضحه، ولا عوج لانتصابه، ولا عصل في عوده، ولا وعث لفجه، ولا انطفاء لمصابيحه،
ولا مرارة لحلاوته. فهو دعائم
أساخ في الحق أسناخها، وثبت لها أساسها، وينابيع غزرت عيونها، ومصابيح شبت
نيرانها، ومنارٌ أفتدى بها سفارها، وأعلام قصد بها فجاجها، ومناهل روي بها ورادها.
جعل الله فيه منتهى رضوانه، وذروة دعائمه، وسنام
طاعته، فهو عند الله وثيق الأركان، رفيع البنيان منير البرهان، مضيء النيران،
عزيز السلطان، مشرف المنار، معوذ المثار، فشرفوه واتبعوه، وأدوا إليه حقه، وضعوه
مواضعه. الشرح:
اصطنعه على عينه، كلمة تقال لمن يشتد الاهتمام به، تقول للصانع: اصنع لي كذا على
عيني، أي اصنعه صنعة كاملةً كالصنعة التي تصنعها وأنا حاضر أشاهدها بعيني، قال
تعالى: "ولتصنع على عيني" وأصفاه
خيرة خلقه، أي آثر به خيرة خلقه، وهم المسلمون، وياء: "خيرة" مفتوحة. قال: وأقام الله دعائم الإسلام على حب الله وطاعته.
والمحاد: المخالف، قال تعالي: "من يحادد الله" ، أي من يعاد الله كأنه
يكون في حد وجهه، وذلك الإنسان في حد آخر وجهة أخرى، وكذلك المشاق، يكون في شق
والآخر في شق آخر. وأتأق الحياض: ملأها، وتئق السقاء نفسه يتأق تاقاً،
وكذلك الرجل، إذا امتلأ غضباً. قوله: "بمواتحه"، وهي الدلاء يمتح بها،
أي يسقى بها، والانفصام: الانكسار. والعفاء: الدروس، والجذ: القطع، ويروى بالدال
المهملة، وهو القطع أيضاً، والضنك: الضيق. والوعوثة: كثرة في السهولة توجب صعوبة المشي، لأن
الأقدام تعيث في الأرض، والوضح: البياض، والعوج، بفتح العين: فيما ينتصب كالنخلة
والرمح، والعوج بكسرها: فيما لا ينتصب، كالأرض والرأي والدين. والعصل: الالتواء والاعوجاج، ناب أعصل وشجرة عصلة،
وسهام عصل. والفج: الطريق الواسع بين الجبلين، يقول: لا وعث
فيه، أي ليس طريق لإسلام بوعث، وقد ذكرنا أن الوعوثة ما هي. قوله:
"فهو دعائم أساخ في الحق أسناخها"، الأسناخ:
جمع سنخ، وهو الأصل، وأساخها في الأرض: أدخلها فيها، وساخت قوائم فرسه في الأرض
تسوخ وتسيخ: دخلت وغابت. والآساس بالمد: جمع أسى، مثل سبب وأسباب، والأسى والأس
والأساس واحد، وهو أصل البناء. وغزرت عيونها، بضم الزاي: كثرت. وشبت نيرانها بضم
الشين: أوقدت، والمنار: الأعلام في الفلاة. قوله: "قصد بها فجاجها"، أي قصد بنصب تلك
الأعلام اهتداء المسافرين في تلك الفجاج، فأضاف القصد إلى الفجاج. وروي: "روادها" جمع رائد، وهو الذي يسبق
القوم فيرتاد لهم الكلأ والماء. والذروة: أعلى السنام
والرأس وغيرهما. الأصل: ثم إن الله سبحانه بعث محمداً صلى الله عليه وأله وصحبه
بالحق، حين دنا من الذنيا الانقطاع، وأقبل من الآخرة الاطلاع، وأظلمت بهجتها بعد
إشراق، وقامت بأهلها على ساقٍ، وخشن منها مهادٌ، وأزف منها قياد، في انقطاع من
مدتها، واقتراب من أشراطها، وتصرمٍ من أهلها، وانفصامٍ من حلقتها وانتشارٍ من
سببها، وعفاءٍ من أعلامها، وتكشفٍ من عوراتها، وقصرٍ من طولها، جعلة الله سبحانه
بلاغاً لرسالته، وكرامةً لأمته، وربيعاً لأهل زمانه، ورفعةً لأعوانه، وشرفاً
لأنصاره. ثم أنزل عليه ألكتاب نوراً لا تطفأ مصابيحه،
وسراجاً لا يخبو توقده، وبحراً لا يدرك قعره، ومنهاجاً لا يضل نهجه، وشعاعاً لا
يظلم ضوءه، وفرقاناً لا يخمد برهانه، وتبياناً لا تهدم أركانه، وشفاءً لا تخشى
أسقامه، وعزاً لا تهزم أنصاره، وحقاً لا تخذل أعوانه، فهو معدن الإيمان
وبحبوحته، وينابيع العلم وبحوره، ورياض العدل وغدرانه، وأثافي الإسلام وبنيانه،
وأودية الحق وغيطانه، وبحر لا ينزفه المستنزفون، وعيونٌ لا ينضبها الماتحون،
ومناهل لا يغيضها الواردون، ومنازل لا يضل نهجها المسافرون، وأعلام لا يعمى عنها
السائرون، وإكامٌ لا يخوز عنها ألقاصدون. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ما قيل في عمر الدنيا
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الشرح: قوله صلى الله عليه وسلم: "حين دنا من الدنيا
الانقطاع "، أي أزفت الاخرة وقرب وقتها. وقد اختلف الناس في ذلك اختلافاً
شديداً فذهب قوم إلى أن عمر الدنيا خمسون ألف سنة، قد ذهب
بعضها وبقي بعضها. واختلفوا في مقدار الذاهب والباقي، واحتجوا لقولهم بقوله
تعالى: "تعرج الملائكة والروح إليه في يومٍ
كان مقداره خمسين ألف سنة" ، قالوا: اليوم هو إشارة إلى الدنيا،
وفيها يكون عروج الملائكة والروح إليه، واختلافهم بالأمر من عنده إلى خلقه، وإلى
رسله، قالوا: وليس قول
بعض المفسرين أنه عنى يوم القيامة بمستحسن، لأن يوم القيامة لا يكون
للملائكة والروح عروج إليه سبحانه، لانقطاع التكليف، ولأن المؤمنين إما أن يطول
عليهم ذلك اليوم بمقدار خمسين ألف سنة، أو يكون هذا مختصاً بالكافرين فقط، ويكون
قصيراً على المؤمنين، والأول باطل، لأنه أشد من
عذاب جهنم، ولا يجوز أن يلقى المؤمن هذه المشقة، والثاني
باطل، لأنه لا يجوز أن يكون الزمان الواحد طويلاً قصيراً بالنسبة إلى
شخصين، اللهم الا أن يكون أحدهما نائماً، أو
ممنوعاً بعلة تجري مجرى النوم، فلا يحس بالحركة، ومعلوم أن حال المؤمنين بعد
بعثهم، ليست هذه الحال. قالوا: وليست هذه الاية مناقضة للآية الأخرى، وهي
قوله تعالى: "يدبر الأمر من السماء إلى الأرض
ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنةٍ ئما تعدون" ، وذلك لأن
سياق الكلام يدل على أنه أراد به الدنيا، وذلك لأنه قد
ورد في الخبر أن بين الأرض والسماء مسيرة خمسمائة عام، فإذا نزل الملك
الى الأرض، ثم عاد إلى السماء، فقد قطع في ذلك اليوم مسيرة ألف عام، ألا ترى إلى
قوله: "يدبر الأمر من السماء إلى الأرض"،
أي ينزل الملك بالوحي والأمر والحكم من السماء إلى الأرض، ثم يعود راجعا
إليه وعارجاً صاعداً إلى السماء، فيجتمع من نزوله
وصعوده مقدار مسير ألف سنة. وذكر حمزة بن الحسن الأصفهاني في
كتابه المسمى "تواريخ الأمم" أن اليهود
تذهب إلى أن عدد السنين من ابتداء التناسل إلى سنة الهجرة لمحمد صلى الله عليه وسلم أربعة
آلاف واثنتان وأربعون سنة وثلاثة أشهر. والنصارى تذهب إلى أن عدد ذلك خمسة آلاف وتسعمائة
وتسعون سنة وثلاثة أشهر. وأن الفرس تذهب
إلى أن من عهد كيومرت والد البشر عندهم إلى هلاك يزدجرد بن شهريار الملك أربعة آلاف ومائة واثنتين وثمانين سنة وعشرة أشهر وتسعة عشر
يوماً، ويسندون ذلك إلى كتابهم الذي جاء به زردشت، وهو الكتاب المعروف بأبستا. وقيل: إن
اليهود إنما قصرت المدة لأنهم يزعمون أن شيخهم الذي هو
منتظرهم، يخرج في أول الألف السابع،
فلولا تنقيصهم المدة وتقصيرهم أيامها لتعجل افتضاحهم، ولكن سيفتضحون فيما بعد
عند من يأتي بعدنا من البشر. قال حمزة: وأما
المنجمون فقد أتوا بما يغمز هذا كله، فزعموا أنه قد مضى من الدنيا منذ أول يوم
سارت فيه الكواكب، من رأس الحمل إلى اليوم الذي خرج فيه المتوكل بن معتصم بن
الرشيد من سامراء إلى دمشق، ليجعلها دار الملك، وهوأول يوم من المحرم سنة أربع
وأربعين ومائتين للهجرة المحمدية، أربعة آلاف ألف ألف ألف ثلاث لفظات وثلاثمائة
ألف وعشرون ألف سنة، بسني الشمس. قالوا: والذي مضى من الطوفان إلى صبيحة اليوم الذي
خرح فيه المتوكل إلى دمشق ثلاث آلاف وسبعمائة وخمس وثلاثون سنة وعشرة أشهر
واثنان وعشرون يوماً. وذكر أبو الريحان البيروني في كتاب
"الاثار الباقية عن القرون الخالية" أن الفرس
والمجوس يزعمون أن عمر الدنيا اثنا عشر ألف سنة، على عدد البروج وعدد الشهور،
وأن الماضي منها إلى وقت ظهور زردشت صاحب شريعتهم ثلاثة آلاف سنة، وبين ابتداء
ظهور زردشت وبين أول تاريخ الإسكندر مائتان وثمان وخمسون سنة، وبين تاريخ
الإسكندر وبين سنته التي كتبنا فيها شرح هذا الفصل وهي
سنة سبع وأربعين وستمائة للهجرة النبوية ألف وخمسمائة وسبعون سنة، فعلى هذا يكون الماضي إلى يومنا هذا من أصل اثني عشر
ألف سنة أربعة آلاف وثمانمائة وثماني عشرة سنة، فيكون
الباقي من الدنيا على قولهم أكثرمن الماضي. وحكى
أبو الريحان عن الهند في بعض كتبه، أن مدة عمر الدنيا مقدار تضعيف الواحد من أول
بيت في رقعة الشطرنج إلى آخر البيوت. فأما الأخباريون من المسلمين،
فأكثرهم يقولون: إن عمر الدنيا سبعة آلاف سنة ويقولون
إننا في السابع، والحق أنه لا يعلم أحد هذا إلا الله
تعالى وحده، كما قال سبحانه: "يسألونك
عن الساعة أيان مرساها، فيم أنت من ذكراها إلى ربك منتهاها" ، وقال: "لا يجليها
لوقتها إلا هو ثقلت في السموات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة يسألونك كأنك حفيٌ
عنها قل إنما علمها عند الله" . ونقول مع ذلك كما ورد به الكتاب العزيز: "اقتربت الساعة" و "اقترب للناس
حسابهم" ، وأتى أمر الله فلاتستعجلوه" . ولا نعلم
كمية الماضي ولا كمية الباقي، ولكنا نقول كما أمرنا، ونسمع ونطيع كما أدبنا، ومن
الممكن أن يكون ما بقي قريباً عند الله، وغير قريب عندنا، كما قال سبحانه: "إنهم يرونه بعيداً ونراه قريباً" ، وبالجملة هذا موضع غامض يجب السكوت عنه. قوله صلى الله عليه وسلم: "وقامت بأهلها على
ساقٍ"، الضمير للدنيا، والساق الشدة، أي انكشفت عن شدة عظيمة. وقوله تعالى:
"والتفت الساق بالساق" أي التفت
آخر شدة الدنيا بأول شدة الاخرة، والمهاد: الفراش. وأزف منها
قياد، أي قرب انقيادها إلى التقصي والزوال، وأشراط الساعة: علاماتها، وإضافتها
إلى الدنيا لأنها في الدنيا تحدث، وإن كانت علامات لاخرى. والعفاء: الدروس. وروي: "من طولها" والطول: الحبل. ثم عاد إلى ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
جعله الله سبحانه بلاغاً لرسالته: أي ذا بلاع، والبلاع:
التبليغ، فحذف المضاف. ولا تخبو: لا تنطفىء. والفرقان:
ما يفرق به بين الحق والباطل، وأثافي الإسلام، جمع أثفية، وهي الأحجار توضع
عليها القدر، شكل مثلث، والغيطان: جمع غائط، وهو المطمئن من الأرض، ولا يغيضها،
بفتح حرف المضارعة، غاض الماء وغضته أنا، يتعدى ولا يتعدى، وروي "لا
يغيضها" بالضم على قول من قال: أغضت الماء، وهي لغة ليست بالمشهورة. والإكام:
جمع أكم، مثل جبال جمع جبل، والأكم جمع إكمة، مثل عنب جمع عنبة، والأكمة: ما علا من الأرض، وهي دون الكثيب"
. الأصل: جعله الله رياً لعطش العلماء، وربيعاً لقلوب
الفقهاء، ومحاج لطرق الصلحاء، ودواءً ليس بعده داءٌ، ونوراً ليسر معه ظلمة،
وحبلاً وثيقاً عروته، ومعقلاً منيعاً ذروته، وعزاً لمن تولاه، وسلماً لمن دخله،
وهدى لمن ائتم به، وعذراً لمن افتحله، وبرهاناً لمن تكلم به، وشاهداً لمن خاصم
به، وفلجاً لمن حاج به، وحاملاً لمن حمله، ومطيةً لمن أعمله، وأيةً لمن توسم،
وجنةً لمن استلأم، وعلماً لمن وعى، وحديثاً لمن روى، وحكماً لمن قضى. الشرح: الضمير يرجع
إلى القرآن، جعله الله رياً لعطش العلماء، إذا ضل العلماء في أمر والتبس عليهم
رجعوا إليه، فسقاهم كما يسقي الماء العطش، وكذا
القول في "ربيعاً لقلوب الفقهاء"، والربيع ههنا: الجدول، ويجوز
أن يريد المطر في الربيع، يقال: ربعت الأرض
فهي مربوعة، والمحاج: جمع محجة، وهي جادة الطريق. والمعقل: الملجأ، وسلماً لمن دخله، أي مأمناً،
وانتحله: دان به، وجعله نحلته. والبرهان:
الحجة، والفلج: الظفر والفوز. وحاج به:
خاصم. قوله صلى الله عليه وسلم: "وحاملاً
لمن حمله"، أي أن القرآن ينجي يوم القيامة من كان حافظاً له في الدنيا،
بشرط أن يعمل به. قوله صلى
الله عليه وسلم:
"ومطية لمن أعمله"، استعارة، يقول: كما أن المطية تنجي صاحبها إذا
أعملها وبعثها على النجاء، فكذلك القرآن إذا أعمله صاحبه أنجاه، ومعنى إعماله،
اتباع قوانينه والوقوف عند حدوده. قوله: "وآية لمن توسم"، أي لمن
تفرس، قال تعالى: "إن في ذلك لأيات
للمتوسمين" ، والجنة: ما يستتر به: واستلأم: لبس لأمة الحرب، وهي
الدرع، ووعى: حفظ. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال كان يوصي به أصحابه
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: تعاهدوا أمر
الصلاة، وحافظوا عليها و استكثروا منها، وتقربوا بها، فإنها كانت على المؤمنين
كتاباً موقوتاً. ألا تسمعون إلى جواب أهل النار حين سثلوا: "ما سلككم في
سقر، قالوا لم نك من المصلين" ، وإنها لتحت الذنوب حت الورق،
وتطلقها إطلاق الربق. وشبهها رسول الله صلى الله عليه وأله وصحبه وسلم بالحمة تكون على باب الرجل، فهو يغتسل منها في اليوم والليلة خمس
مراتٍ، فما عسى أن يبقى عليه من الدرن وقد عرف حقها
رجالٌ من المؤمنين الذين لا تشغلهم عنها زينة متاعٍ، ولا قرة عينٍ، من ولدٍ ولا
مالٍ، يقول الله سبحانه: "رجال لا تلهيهم
تجارةٌ ولا بيعٌ عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة" . وكان رسول
الله صلى الله عليه وآله وصحبه نصباً بالصلاة
بعد التبشير له بالجنة لقول الله سبحانه: "وأمر
أهلك بالصلاة واصطبر عليها" ، فكان يأمر أهله، ويصبر نفسه ثم إن الزكاة جعلت مع الصلاة قرباناً لأهل الإسلام،
فمن أعطاها طيب النفسر بها، فإنها تجعل له كفارة، ومن النار حجازاً ووقايةً، فلا
يتبعنها أحدٌ نفسه، ولأ يكثرن عليها لهفه، فإن من أعطاها غير طيب النفس بها يرجو
بها ما هو أفضل منها فهو جاهلٌ بالسنة، مغبون الأجر، ضال العمل، طويل الندم. ثم أداء الأمانة، فقد خاب من ليس من أهلها، إنها
عرضت على السموات المبنية، والأرضين المدحوة، والجبال ذات الطول المنصوبة، فلا
أطول ولا أعرض، ولا أعلى ولا أعظم منها. ولو أمتنع شيءٌ بطولٍ، أو عرضٍ، أو
قوةٍ، أو عز، لامتنعن، ولكن أشفقن من العقوبة، وعقلن ما جهل من هو أضعف منهن،
وهو الإنسان، "إنه كان ظلوماً جهولاً" .
إن الله سبحانه وتعالى لا يخفى عليه ما العباد
مقترفون في ليلهم ونهارهم، لطف به خبراً، وأحاط به علماً، أعضاؤكم شهوده،
وجوارحكم جنوده، وضمائركم عيونه، وخلواتكم عيانه. الشرح: هذه الآية يستدل بها الأصوليون
من أصحابنا على أن الكفار يعاقبون في الآخرة على ترك الواجبات الشرعية،
وعلى فعل القبائح، لأنها في الكفار وردت، ألا ترى إلى قوله: "في جنات يتساءلون عن المجرمين ما سلككم في
سقر" . فليس يجوزأن يعني بالمجرمين ههنا الفاسقين من أهل
القبلة، لأنه قال: "قالوا لم نك من أئصلين،
ولم نك نطعم المسكين، وكنا نخوض مع الخائضين، وكنا نكذب بيوم الذين" . قالوا: وليس لقائل أن يقول: معنى قوله: "لم نك من المصلين" لم نكن من القائلين
بوجوب الصلاة، لأنه قد أغنى عن هذا التعليل قوله:
"وكنا نكذب بيوم الدين" لأن أحد الأمرين هو الآخر، وحمل الكلام على ما يفيد فائدة
جديدة أولى من حمله على التكرار والإعادة، فقد ثبت بهذا التقرير صحة احتجاج أمير
المؤمنين رضي الله عنه على تأكيد أمر الصلاة، وأنها
من العبادات المهمة في نظر الشارع. قوله صلى الله عليه وسلم:
"وإنها
لتحت الذنوب"، الحت: نثر الورق من الغصن، وانحات، أي تناثر، وقد جاء هذا
اللفظ في الخبر النبوي بعينه. والربق: جمع ربقة، وهي الحبل، أي تطلق الصلاة
الذنوب كما تطلق الحبال المعقدة، أي تحل ما انعقد على المكلف من ذنوبه، وهذا من
باب الاستعارة. ويروى: "تعهدوا أمر الصلاة" بالتضعيف،
وهو لغة، يقال: تعاهدت ضيعتي وتعهدتها وهو القيام عليها، وأصله من تجديد العهد
بالشيء، والمراد المحافظة عليه، وقوله تعالى: "إن
الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً" ، أي واجباً، وقيل
موقوتاً، أي منجماً كل وقت لصلاة معينة، وتؤدى هذه الصلاة في نجومها. وقوله: "كتابا" أي فرضاً واجباً، كقوله تعالى:
"كتب ربكم على نفسه الرحمة" أي
أوجب. والحمة: الحفيرة فيها
الحميم، وهو الماء الحار، وهذا الخبرمن الأحاديث
الصحاح، قال صلى
الله عليه وسلم: "أيسر
أحدكم أن تكون على بابه حمة يغتسل منها كل يوم خمس مرات، فلا يبقى عليه من درنه
شيء قالوا: نعم، قال: فإنها الصلوات ا لخمس". وا لدرن: الوسخ. والتجارة في الآية، إما أن يراد بها: لا يشغلهم نوع من هذه الصناعة عن ذكر
الله. ثم أفرد البيع بالذكر، وخصه وعطفه على التجارة العامة، لأنه ادخل في
الإلهاء، لأن الربح في البيع بالكسب معلوم، والربح في الشراء مظنون، وإما أن
يريد بالتجارة الشراء خاصة إطلاقاً لاسم الجنس الأعم على النوع الأخص، كما تقول:
رزق فلان تجارة رابحة، إذا اتجه له شراء صالح، فأما
إقام الصلاة فإن التاء "إقامة" عوض من العين الساقطة للإعلال،
فإن أصله "إقوام" مصدر أقام، كقولك:
أعرض إعراضاً، فلما اضيفت اقيمت الإضافة مقام حرف
التعويض، فأسقطت التاء. قوله رضي الله
عنه: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم نصباً
بالصلاة، أي تعباً، قال تعالى: "ما أنزلنا
عليك القرآن لتشقى" . وروي أنه
متنه قام حتى تورمت قدماه مع التبشير له بالجنة. وروي
أنه قيل له في ذلك فقال: "أفلا أكون عبداً
شكوراً". ويصبر نفسه: من الصبر، ويروى: "ويصبرعليها نفسه"
أي يحبس، قال سبحانه: "واصبر نفسك مع الذين
يدعون ربهم" . وقال
عنترة يذكر حرباً كان فيها:
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
في الصلاة وفضلها
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
واعلم أن الصلاة قد جاء في فضلها الكثير
الذي يعجزنا حصره، ولو لم يكن إلا ما ورد في الكتاب العزيز من تكرار ذكرها
وتأكيد الوصاة بها والمحافظة عليها، لكان بعضه كافياً. وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم:
"علم الإيمان الصلاة، فمن فرغ لها قلبه، وقام بحدودها، فهو المؤمن". وقيل للحسن رحمه الله:
ما بال المتهجدين من أحسن الناس وجوهاً؟ قال: لأنهم خلوا بالرحمن، فألبسهم نوراً
من نوره. وقال عمر: إن الرجل
ليشيب عارضاه في الإسلام ما أكمل الله له صلاة، قيل له: وكيف ذلك؟ قال: لا يتم
خشوعها وتواضعها وإقباله على ربه فيها. وقال بعض الصالحين:
إن العبد ليسجد السجدة عنده أنه متقرب بها إلى الله، ولو قسم ذنبه في تلك السجدة
على أهل مدينة لهلكوا، قيل: وكيف ذلك؟ قال: يكون ساجداً وقلبه عند غير الله،
إنما هو مصغ إلى هوىً أو دنيا. صلى أعرابي في المسجد صلاة خفيفة، وعمر بن الخطاب يراه، فلما
قضاها قال: اللهم زوجني الحور العين. فقال عمر: يا هذا لقد أسأت النقد،
وأعظمت الخطبة. وقال علي رضي الله عنه:
لا يزال الشيطان ذعراً من المؤمن ما حافظ على الخمس فإذا ضيعهن تجرأ عليه،
وأوقعه في العظائم. وروي عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه قال: "الصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينهما، ما اجتنبت
الكبائر". وجاء في
الخبرأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان
إذا حزبه أمرٌ فزع إلى الصلاة. وقال هشام بن عروة:
كان أبي يطيل المكتوبة ويقول: هي رأس المال. قال يونس بن عبيد: ما
استخف أحد بالنوافل إلا استخف بالفرائض. يقال: إن محمد بن المنكدر جزأ
الليل عليه وعلى أمه وأخته أثلاثاً، فماتت أخته، فجزأه عليه وعلى أمه نصفين،
فماتت أمه فقام الليل كله. كان مسلم بن يسار لا يسمع الحديث إذا قام
يصلي، ولا يفهمه، وكان إذا دخل بيته سكت أهله فلا يسمع
لهم كلام حتى يقوم إلى الصلاة، فيتحدثون ويلغطون، فهو لا يشعر بهم. ووقع حريق إلى جنبه وهو في الصلاة، فلم يشعر به حتى
حرق. كان خلف بن أيوب لا يطرد الذباب إذا وقع على وجهه
وهو في الصلاة في بلاد كثيرة الذبان، فقيل له: كيف
تصبر؟ فقال: بلغني أن الشطار يصبرون تحت السياط ليقال:
فلان صبور، أفلا أصبر وأنا بين يدي ربي على أذى ذباب يقع علي. قال ابن مسعود:
الصلاة مكيال، فمن وفى وفي له، ومن طفف ، فويل للمطففين. قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
يا رسول الله، ادع لي أن يرزقني الله مرافقتك في الجنة، فقال: "أعني على إجابة الدعوة بكثرة السجود". قوله صلى الله عليه وسلم؟ "قرباناً
لأهل الإسلام"، القربان: اسم لما يتقرب به من نسيكة أو صدقة. وروي: "ومن النار حجازاً" بالزاي أي
مانعاً. واللهف: الحسرة، ينهى صلى الله عليه وسلم
عن إخراج الزكاة مع التسخط لإخراجها والتلهف والتحسر على دفعها إلى أربابها، ويقول: إن من يفعل ذلك يرجو بها نيل الثواب ضال
مضيع لماله، غير ظافر بما رجاه من المثوبة. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
في فضل الزكاة والتصدق
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وقد جاء في فضل الزكاة الواجبة وفضل صدقة التطوع الكثير جداً،
ولو لم يكن إلا أن الله تعالى قرنها بالصلاة في أكثر المواضع التي ذكر فيها
الصلاة لكفى. وروى بريدة الأسلمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لاما حبس قومٌ الزكاة إلا حبس الله عنهم القطر". وروى الأحنف قال:
قدمت المدينة، فبينا أنا في حلقة فيها ملأ من قريش، إذ جاء رجل خشن الجسد، خشن
الثياب، فقام عليهم، فقال: بشر الكانزين برضف يحمى عليها في نار جهنم، فتوضع على
حلمة ثدي الرجل حتى تخرج من نغض كتفه، ثم توضع على نغض كتفه حتى تخرج من حلمة
ثديه، فسألت عنه فقيل: هذا أبو ذر الغفاري، وكان يذكره ويرفعه. ابن عباس يرفعه: من كان عنده ما يزكى فلم يزك، وكان عنده ما يحج فلم يحج سأل
الرجعة، يعني قوله: "رب ارجعون". أبو هريرة: سئل رسول
الله صلى الله عليه وسلم:
أي الصدقة أفضل؟ فقال: أن تعطي وأنت صحيح، شحيح، تأمل البقاء، وتخشى الفقر، ولا
تمهل، حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا ولفلان كذا. وقيل للشبلي: ما يجب في مائتي درهم؟ قال: أما من جهة الشرع فخمسة، وأما من
جهة الإخلاص فالكل. أمررسول
الله صلى الله عليه وسلم بعض نسائه أن تقسم شاة على الففراء فقالت: يا رسول الله، لم يبق منها غيرعنقها، فقال صلى الله عليه وسلم: كلها بقي غيرعنقها. أخذ شاعرهذا المعنى
فقال:
السائب:
كان الرجل من السلف يضع الصدقة، ويمثل قائماً بين يدي السائل الفقير وسأله
قبولها؛ حتى يصيرهو في صورة السائل. وكان بعضهم يبسط كفه ويجعلها تحت يد الفقير،
لتكون يد الفقير العليا. وعن النبي صلى الله عليه
وسلم: "ما أحسن عبد الصدقة إلا أحسن
الله إليه في مخلفيه". وعنه صلى الله عليه
وسلم: "الصدقة تسد سبعين باباً من
الشر". وعنه صلى الله عليه
وسلم: "أذهبوا
مذمة السائل ولو بمثل رأس الطائر من الطعام". كان النبي صلى الله عليه
وسلم لا يكل خصلتين إلى غيره:
لا يوضئه أحد، ولا يعطي السائل إلا بيده. بعض الصالحين: الصلاة
تبلغك نصف الطريق، والصوم يبلغك باب الملك، والصدقة تدخلك عليه بغير إذن. الشعبي:
من لم ير نفسه أحوج إلى ثواب الصدقة من الفقير إلى صدقته، فقد أبطل صدقته، وضرب
بها وجهه. كان الحسن بن صالح إذا جاءه سائل، فإن كان عنده ذهب
أو فضة أو طعام أعطاه، فإن لم يكن، أعطاه زيتاً أو سمناً أو نحوهما مما ينتفع
به، فإن لم يكن، أعطاه كحلاً، أو خرج بإبرة وخاط بها ثوب السائل، أو بخرقة يرقع
بها ما تخرق من ثوبه. ووقف مرة على بابه سائل ليلاً، ولم يكن عنده ما
يدفعه إليه، فخرج إليه بقصبة في رأسها شعلة، وقال: خذ
هذه وتبلغ بها إلى أبواب ناس لعلهم يعطونك. قوله صلى
الله عليه وسلم: "ثم أداء الأمانة"، هي العقد الذي يلزم الوفاء به،
وأصح ما قيل في تفسير الآية أن الأمانة ثقيلة المحمل، لأن حاملها معرض لخطر
عظيم. فهي بالغة من الثقل وصعوبة المحمل ما لو أنها عرضت
على السموات والأرض والجبال لامتنعت من حملها. فأما
الإنسان فإنه حملها وألزم القيام بها. وليس المراد بقولنا:
إنها عرضت على السموات والأرض أي لو عرضت عليها وهي جمادات، بل المراد تعظيم شأن
الأمانة، كما تقول: هذا الكلام لا يحمله الجبال،
وقوله: امتلأ الحوض وقال قطني وقوله تعالى: "قالتا
أتينا طائعين" . ومذهب العرب في هذا الباب. وتوسعها ومجازاتها مشهور
شائع. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال في شأن معاوية
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: وألله ما
معاوية بأدهى مني، ولكنه يغدر ويفجر، ولولا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس،
ولكن كل غدرةٍ فجرةٌ، وكل فجرةٍ كفرةٌ، ولكل غادرٍ لواءٌ يعرف به يوم القيامة. والله ما أستغفل بالمكيدة، ولا أستغمز بالشديدة. الشرح: الغدرة، على "فعلة" الكثير الغدر،
والفجرة والكفرة: الكثير الفجور والكفر، وكل ما كان على هذا البناء فهو للفاعل،
فإن سكنت العين فهو للمفعول، تقول: رجل ضحكة أي يضحك، وضحكة يضحك منه، وسخرة
يسخر، وسخرة يسخر به، يقول صلى الله عليه وسلم:
كل غادر فاجر، و كل فاجر كافر. ويروى: "ولكن
كل غدرة فجرة، وكل فجرة كفرة" على "فعلة " للمرة الواحدة. وقوله:
"لكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة"،
حديث صحيح مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم. ثم أقسم صلى
الله عليه وسلم أنه
لا يستغفل بالمكيدة، أي لا تجوز المكيدة علي، كما تجوز على ذوي الغفلة، وأنه لا
يستغمز بالشديدة، أي لا أهين وألين للخطب الشديد. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
حسن سياسة أمير المؤمنين عليه السلام
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
واعلم أن قوماً ممن لم يعرف حقيقة فضل أمير
المؤمنين صلى الله عليه وسلم، زعموا أن عمر كان أسوس
منه، وإن كان هو أعلم من عمر، وصرح الرئيس
أبو علي بن سينا بذلك في "الشفاء" في
الحكمة، وكان شيخنا أبو الحسين يميل إلى
هذا، وقد عرض به في كتاب "الغرر"، ثم
زعم أعداؤه ومباغضوه أن معاوية كان أسوس منه
وأصح تدبيراً، وقد سبق لنا بحث قديم في هذا الكتاب في بيان حسن سياسة أمير المؤمنين رضي الله عنه وصحة تدبيره،
ونحن نذكر ههنا ما لم نذكره هناك مما يليق بهذا
الفصل الذي نحن في شرحه. اعلم أن
السائس لا يتمكن من السياسة البالغة إلا إذا كان يعمل برأيه، وبما يرى فيه صلاح
ملكه، وتمهيد أمره، وتوطيد قاعدته، سواء وافق الشريعة أو لم يوافقها، ومتى لم
يعمل في السياسة والتدبير بموجب ما قلناه، فبعيد أن ينتظم أمره، أو يستوثق حاله،
وأمير المؤمنين كان مقيداً بقيود الشريعة، مدفوعاً إلى
اتباعها ورفض ما يصلح اعتماده من آراء الحرب والكيد والتدبير إذا لم يكن للشرع
موافقاً، فلم تكن قاعدته في خلافته قاعدة غيره
ممن لم يلتزم بذلك، ولسنا بهذا القول زارين على عمر
بن الخطاب، ولا ناسبين إليه ما هو منزه عنه، ولكنه
كان مجتهداً يعمل بالقياس والاستحسان والمصالح المرسلة، ويرى تخصيص
عمومات النص بالآراء وبالاستنباط من أصول تقتضي خلاف ما يقتضيه عموم النصوص،
ويكيد خصمه، ويأمر أمراءه بالكيد والحيلة، ويؤدب بالدرة والسوط من يتغلب على ظنه
أنه يستوجب ذلك، ويصفح عن اخرين قد اجترموا ما يستحقون به التأديب، كل ذلك بقوة اجتهاده وما يؤديه إليه نظره، ولم يكن
أمير المؤمنين رضي الله عنه يرى ذلك، وكان يقف مع النصوص والظواهر، ولا يتعداها
إلى الاجتهاد والأقيسة، ويطبق أمور الدنيا على أمور الدين، ويسوق الكل مساقاً
واحداً، ولا يضع ولا يرفع الا بالكتاب والنص، فاختلفت
طريقتاهما في الخلافة والسياسة، وكان عمر مع ذلك شديد الغلظة والسياسة، وكان علي رضي
الله عنه كثير الحلم والصفح
والتجاوز، فازدادت خلافة ذاك قوة، وخلافة هذا ليناً، ولم يمن عمر رضي الله عنه بما مني به علي رضي الله عنه من
فتنة عثمان، التي أحوجته إلى مداراة أصحابه وجنده ومقاربتهم، للاضطراب الواقع
بطريق تلك الفتنة. ثم تلا ذلك فتنة الجمل، وفتنة
صفين ثم فتنة النهروان، وكل هذه الأمور مؤثرة في اضطراب أمر الوالي
وانحلال معاقد ملكه، ولم يتفق لعمر رضي الله عنه شيء من ذلك، فشتان بين الخلافتين فيما يعود إلى انتظام المملكة وصحة
تدبير الخلافة. فإن قلت: فما قولك في سياسة الرسول صلى
الله عليه وسلم وتدبيره؟
أليس كان منتظماً سديداً لمجع أنه كان لا يعمل إلا بالنصوص والتوقيف من الوحي
فهلا كان تدبير علي رضي الله عنه وسياسته
كذلك إذا قلتم: إنه كان لا يعمل إلا بالنص، قلت: أما سياسة الرسول صلى الله عليه وسلم وتدبيره
فخارج عما نحن فيه، لأنه معصوم لا تتطرق الغفلة
إلى أفعاله، ولا واحد من هذين الرجلين بواجب العصمة
عندنا. وأيضاً فإن كثيراً من الناس ذهبوا إلى أن الله تعالى أذن لرسول
الله صلى الله عليه وسلم أن
يحكم في الشرعيات وغيرها برأيه، وقال له:
احكم بما تراه، فإنك لا تحكم إلا بالحق، وهذا مذهب يونس
بن عمران، وعلى هذا فقد سقط السؤال، لأنه صلى الله عليه وسلم يعمل بما
يراه من المصلحة، ولا ينتظر الوحي. وأيضاً فبتقدير فساد
هذا المذهب، أليس قد ذهب خلق كثير من علماء أصول الفقه إلى أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم كان يجوز له
أن يجتهد في الأحكام والتدبير، كما يجتهد الواحد من
العلماء، وإليه ذهب القاضي أبو يوسف رحمه
الله، واحتج بقوله تعالى: "لتحكم بين
الناس بما أراك الله" . والسؤال أيضاً ساقط على هذا المذهب،
لأن اجتهاد علي رضي الله عنه لا يساوي اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم، وبين الاجتهادين كما بين المنزلتين. وكان أبوجعفر بن أبي زيد الحسني نقيب
البصرة رحمه الله إذا حدثناه
في هذا يقول: إنه لا فرق عند من قرأ السيرتين: سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسياسة
أصحابه أيام حياته، وبين سيرة أمير المؤمنين رضي
الله عنه وسياسة أصحابه أيام حياته، فكما أن علياً رضي
الله عنه لم يزل أمره مضطرباً معهم
بالمخالفة والعصيان والهرب إلى أعدائه، وكثرة الفتن والحروب، فكذلك كان النبي صلى
الله عليه وسلم لم يزل ممنوعاً
بنفاق المنافقين وأذاهم، وخلاف أصحابه عليه وهرب بعضهم إلى أعدائه، وكثرة الحروب
والفتن. وكان يقول:
ألست ترى القرآن العزيز مملوءاً بذكر المنافقين والشكوى منهم، والتألم من أذاهم
له، كما أن كلام علي رضي الله عنه مملوءٌ
بالشكوى من منافقي أصحابه والتألم من أذاهم له، والتوائهم عليه وذلك نحو قوله تعالى: "ألم
تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه ويتناجون بإلاثم والعدوان
ومعصية الرسول وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله ويقولون في أنفسهم لولا
يعذبنا الله بما نقول حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير" . وقوله:
"إنما النجوى من الشيطان ليحزن ألذين أمنوا" . وقوله تعالى: "إذا
جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله، والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن
المنافقين لكاذبون، اتخذوا أيمانهم جنةً فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا
يعملون" . وقوله تعالى: "ومنهم
من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفاً
اولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم" . وقوله تعالى: "رأيت الذين في قلوبهم مرضٌ ينظرون إليك نظر المغشي
عليه من الموت فأولى لهم، طاعةٌ وقولٌ معروفٌ نإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله
لكان خيراً لهم" . وقوله تعالى: "أم
حسب الذين في قلوبهم مرضٌ أن لن يخرج الله أضغانهم، ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم
بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم" . وقوله تعالى: "سيقول
لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا يقولون بألسنتهم ما
ليس في قلوبهم قل فمن يملك لكم من الله شيئاً إن أراد بكم ضراً او أراد بكم
نفعاً بل كان الله بما تعملون خبيراً، بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون
إلى أهليهم أبداً وزين ذلك في قلوبكم وظننتم ظن السوء وكنتم قوماً بوراً" .
وقوله تعالى: "سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتاخذوها ذرونا
نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل
فسيقولون بل تحسدوننا بل كانوا لا يفقهون إلا قليلاً" . وقوله: "إن الذين ينادونك
من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون، ولو أنهم صبروا حتى تحرج إليهم لكان خيراً
لهم والله غفورٌ رحيمٌ" . قال: وأصحابه هم الذين نازعوا في الأنفال وطلبوها
لأنفسهم، حتى أنزل الله تعالى: "قل الأنفال
لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم
مؤمنين" . وهم الذين التووا عليه في الحرب يوم بدر، وكرهوا لقاء
العدو حتى خيف خذلانهم، وذلك قبل أن تتراءى الفئتان، وأنزل
فيهم: "يجادلونك في الحق بعد ما تبين
كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون" . وهم الذين كانوا يتمنون لقاء العيردون لقاء العدو، حتى إنهم
ظفروا برجلين في الطريق، فسألوهما عن العير، فقالا لا علم لنا بها، وإنما رأينا
جيش قريش من وراء ذلك الكثيب، فضرلوهما ورسول الله صلى الله عليه وسلم
قائم يصلي، فلما ذاقا مس الضرب قالا: بل العير أمامكم فاطلبوها، فلما رفعوا
الضرب عنهما، قالا: والله ما رأينا العير ولا رأينا إلا الخيل والسلاح والجيش،
فأعادوا الضرب عليهما مرة ثانية، فقالا وهما يضربان: العير أمامكم، فخلوا عنا، فانصرف
رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة، وقال:
إذا صدقاكم ضربتموهما، وإذا كذباكم خليتم عنهما دعوهما، فما رأيا إلا جيش أهل
مكة، وأنزل قوله تعالى: "وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات
الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين" . قال المفسرون: الطائفتان:
العير ذات اللطيمة الواصلة إلى مكة من الشام صحبة أبي سفيان بن حرب، وإليها كان
خروج المسلمين، والأخرى: الجيش ذو الشوكة، وكان
صلى الله عليه وسلم قد وعدهم بإحدى الطائفتين، فكرهوا
الحرب، وأحبوا الغنيمة. قال: وهم
الذين فروا عنه صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وأسلموه وأصعدوه في الجبل، وتركوه حتى
شج الأعداء وجهه، وكسروا ثنيته، وضربوه على بيضته ، حتى دخل جماجمه، ووقع من
فرسه إلى الأرض بين القتلى، وهو يستصرخ بهم، ويدعوهم فلا يجيبه أحدٌ منهم إلا من
كان جارياً مجرى نفسه، وشديد الاختصاص به، وذلك قوله
تعالى: "إذ تصعدون ولا تلوون على أحدٍ
والرسول يدعوكم في أخراكم" ، أي ينادي فيسمع نداءه آخر الهاربين لا
أولهم، لأن أولهم أوغلوا في الفرار، وبعدوا عن أن يسمعوا صوته، وكان قصارى الأمر
أن يبلغ صوته واستصراخه من كان على ساقة الهاربين منهم. قال: ومنهم الذين عصوا أمره في ذلك اليوم، حيث أقامهم
على الشعب في الجبل، وهو الموضع الذي خاف أن تكر عليه منه خيل العدو من ورائه، وهم أصحاب عبد الله بن جبير، فإنهم خالفوا أمره
وعصوه فيما تقدم به إليهم، ورغبوا في الغنيمة، ففارقوا مركزهم، حتى دخل الوهن على
الإسلام بطريقهم، لأن خالد بن الوليد كر في
عصابة من الخيل، فدخل من الشعب الذي كانوا يحرسونه، فما أحس المسلمون بهم إلا
وقد غشوهم بالسيوف من خلفهم، فكانت الهزيمة،
وذلك قوله تعالى: "حتى
إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تمحبون منكم من يريد
الدنيا ومنكم من يريد الآخرة" . قال: وهم الذين
عصوا أمره في غزاة تبوك، بعد أن أكد عليهم الأوامر، وخذلوه وتركوه ولم يشخصوا
معه، فأنزل فيهم: "يا
أيها الذين أمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض
أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا إلا قليلٌ، إلا تنفروا
يعذبكم عذاباً أليماً ويستبدل قوماً غيركم ولا تضروه شيئاً والله على كل شيءٍ
قديرٌ" ، وهذه الاية خطاب مع المؤمنين لا مع المنافقين، وفيها أوضح دليل على أن أصحابه وأولياءه المصدقين لدعوته
كانوا يعصونه، ويخالفون أمره، وأكد عتابهم وتقريعهم وتوبيخهم بقوله تعالى: "لو كان عرضاً قريباً وسفراً قاصداً لاتبعوك ولكن
بعدت عليهم الشقة وسيحلفون بالله لو أستطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله
يعلم إنهم لكاذبون" . ثم عاتب رسول الله صلى
الله عليه وسلم على كونه أذن لهم في التخلف،
وإنما أذن لهم لعلمه أنهم لا يجيبونه في الخروج،
فرأى أن يجعل المنة له عليهم في الإذن لهم، وإلا
قعدوا عنه ولم تصل له المنة، فقال له: "عفا الله
عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين" ، أي هلا أمسكت عن الإذن لهم حتى يتبين لك قعود من يقعد،
وخروج من يخرج، صادقهم من كاذبهم لأنهم كانوا قد وعدوه بالخروج معه كلهم، وكان
بعضهم ينوي الغدر، وبعضهم يعزم على أن يخيس بذلك الوعد، فلو لم يأذن لهم لعلم من يتخلف ومن لا يتخلف، فعرف الصادق منهم والكاذب. ثم بين
سبحانه وتعالى أن الذين يستأذنونه في التخلف خارجون من الإيمان، فقال له: "لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن
تحاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين، إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون
بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون" . ولا حاجة إلى التطويل بذكر الآيات
المفصلة فيما يناسب هذا المعنى، فمن تأمل
الكتاب العزيز علم حاله صلوات الله عليه مع أصحابه كيف كانت، ولم ينقله الله
تعالى إلى جواره إلا وهو مع المنافقين له والمظهرين خلاف ما يضمرون من تصديقه في
جهادٍ شديد، حتى لقد كاشفوه مراراً، فقال لهم يوم
الحديبية: احلقوا وانحروا مراراً، ولم يحلقوا ولم ينحروا، ولى يتحرك أحد
منهم عند قوله، وقال له بعضهم وهو يقسم الغنائم:
"أعدل يا محمد فإنك لم تعدل". وقالت الأنصار له مواجهة يوم حنين:
أتأخذ ما أفاء الله علينا بسيوفنا فتدفعه إلى أقاربك من أهل مكة حتى أفضى الأمر إلى أن قال لهم في مرض موته:
"ائتوني بدواة وكتف أكتب لكم ما لا تضلون بعده"، فعصوه ولم يأتوه بذلك، وليتهم اقتصروا على عصيانه ولم يقولوا
له ما قالوا، وهو يسمع وكان أبو جعفر رحمه
الله يقول من هذا ما يطول شرحه، والقليل
منه ينبىء عن الكثير، وكان يقول: إن الإسلام ما حلا عندهم ولا ثبت في قلوبهم إلا بعد موته، حين فتحت عليهم الفتوح، وجاءتهم الغنائم
والأموال، وكثرت عليهم المكاسب، وذاقوا طعم الحياة، وعرفوا لذة الدنيا، ولبسوا
الناعم، وأكلوا الطيب، وتمتعوا بنساء الروم، وملكوا خزائن كسرى، وتبدلوا بذلك القشف والشظف والعيش الخشن وأكل الضباب
والقنافذ واليرابيع ولبس الصوف والكرابيس ، أكل اللوزينجات والفالوذجات ولبس
الحرير والديباج، فاستدلوا بما فتحه الله عليهم، وأتاحه
لهم على صحة الدعوة، وصدق الرسالة، وقد كان صلى الله عليه وسلم وعدهم
بأنه سيفتح عليهم كنوز كسرى وقيصر، فلما وجدوا الأمر قد
وقع بموجب ما قاله عظموه وبجلوه، وانقلبت تلك الشكوك وذاك النفاق وذلك
الاستهزاء إيماناً ويقيناً وإخلاصاً، وطاب لهم
العيش، وتمسكوا بالدين، لأنه زادهم طريقاً إلى نيل
الدنيا، فعظموا ناموسه، وبالغوا في إجلاله وإجلال الرسول الذي جاء به، ثم
انقرض الأسلاف وجاء الأخلاف على عقيدة ممهدة، وأمرٍ أخذوه تقليداً من أسلافهم
الذين ربوا في حجورهم، ثم انقرض ذلك القرن، وجاء من
بعدهم كذلك، وهلم جراً. قال: ولولا الفتوح
والنصر والظفر الذي منحهم الله تعالى إياه، والدولة التي ساقها إليهم، لانقرض دين الإسلام بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان
يذكر في التواريخ، كما تذكر الآن نموة خالد بن سنان العبسي، حيث ظهر ودعا إلى
الدين. وكان الناس يعجبون من ذلك ويتذاكرونه كما يعجبون ويتذاكرون أخبار من نبغ
من الرؤساء والملوك والدعاة الذين انقرض أمرهم، وبقيت أخبارهم. وكان يقول: من تأمل حال الرجلين وجدهما متشابهتين في جميع أمورهما أو في أكثرها، وذلك لأن حرب رسول الله صلى
الله عليه وسلم مع
المشركين كانت سجالاً، انتصر يوم بدر، وانتصر المشركون عليه
يوم أحد، وكان يوم الخندق كفافاً خرج هو وهم سواء،
لا عليه ولا له، لأنهم قتلوا رئيس الأوس وهو سعد
بن معاذ، وقتل منهم فارس قريش وهو عمرو بن عبد
ود، وانصرفوا عنه بغير حرب بعد تلك الساعة التي كانت،
ثم حارب بعدها قريشاً يوم الفتح، فكان الظفر له.
وهكذا كانت حروب علي رضي الله عنه، انتصر يوم
الجمل، وخرج الأمر بينه وبين معاوية على سواء،
قتل من أصحابه رؤساء، ومن أصحاب معاوية رؤساء، وانصرف كل واحد من الفريقين عن
صاحبه بعد الحرب على مكانه، ثم حارب بعد صفين أهل النهروان، فكان الظفر له. قال: ومن العجب
أن أول حروب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت بدراً، وكان هو المنصور فيها، وأول حروب
على رضي الله عنه الجمل، وكان هو المنصور فيها. ثم كان من صحيفة الصلح والحكومة يوم صفين نظيرما كان من صحيفة الصلح والهدنة يوم الحديبية. ثم دعا معاوية في آخر أيام علي رضي الله عنه إلى نفسه وتسمى
بالخلافة، كما أن مسيلمة والأسود العنسي دعوا إلى
أنفسهما في آخر أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم وتسميا بالنبوة. واشتد على علي رضي الله عنه ذلك،
كما اشتد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الأسود
ومسيلمة، وأبطل الله أمرهما بعد وفاة النبي صلى
الله عليه وسلم،
وكذلك أبطل أمر معاوية وبني أمية بعد وفاة علي رضي الله عنه. ولم يحارب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد
من العرب إلا قريش ما عدا يوم حنين، ولم يحارب
علياً رضي الله عنه من
العرب أحدٌ إلا قريش ما عدا يوم النهروان ومات علي رضي
الله عنه شهيداً بالسيف،
ومات رسول الله صلى الله عليه وسلم شهيداً بالسم. وهذا لم يتزوج صلى الله عليه وسلم خديجة
أم أولاده حتى ماتت، وهذا لم يتزوج على فاطمة أم
أشرف أولاده حتى ماتت. ومات رسول الله صلى
الله عليه وسلم عن ثلاث وستين
سنة، ومات علي رضي الله عنه عن مثلها. وكان يقول: انظروا إلى أخلاقهما
وخصائصهما، هذا شجاع وهذا شجاع، وهذا فصيح وهذا فصيح، وهذا سخي جواد وهذا
سخي جواد، وهذا عالم بالشرائع والأمور الإلهية، وهذا عالم بالفقه والشريعة
والأمور الإلهية الدقيقة الغامضة، وهذا زاهد لا الدنيا غيرته ولا مستكثر منها، وهذا زاهد في الدنيا تارك لها غيرمتمتع بلذاتها. وهذا مذيب نفسه في الصلاة والعبادة، وهذا مثله. وهذا غير
محبب إليه شيء من الأمور العاجلة إلا النساء وهذا مثله، وهذا ابن
عبد المطلب بن هاشم. وهذا في قعدده ، وأبواهما أخوان لأب واحد دون غيرهما
من بني عبد المطلب، وربي محمد صلى الله عليه
وسلم
في حجر والد هذا وهو أبو طالب، فكان جارياً
عنده مجرى أحد أولاده. ثم لما صلى الله عليه
وسلم
وكبر
استخلصه من بني أبي طالب وهو غلام، فرباه في حجره
مكافأة لصنيع أبي طالب به، فامتزج الخلقان،
وتماثلت السجيتان، وإذا كان القرين مقتدياً بالقرين، فما ظنك بالتربية والتثقيف الدهر الطويل فواجب أن تكون
أخلاق محمد صلى الله عليه وسلم كأخلاق
أبي طالب، وتكون أخلاق علي رضي الله عنه
كأخلاق أبي طالب أبيه، ومحمد صلى الله عليه وسلم
مربيه، وأن يكون الكل شيمة واحدة وسوساً واحداً، وطينة مشتركة، ونفساً غيرمنقسمة
ولا متجزئة، وألا يكون بين بعض هؤلاء وبعض فرق ولا فضلٌ، لولا أن الله تعالى اختص محمداً صلى الله عليه وسلم برسالته،
واصطفاه لوحيه، لما يعلمه من مصالح البرية في ذلك، ومن أن اللطف به أكمل، والنفع
بمكانه أتم وأعم، فامتاز رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك عمن سواه، وبقي ما عدا الرسالة على أمر الاتحاد،
وإلى هذا المعنى أشار صلى الله عليه وسلم بقوله: "أخصمك
بالنبوة فلا نبوة بعدي، وتخصم الناس بسبع"، وقال
له أيضاً: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي
بعدي"، فأبان نفسه منه بالنبوة، وأثبت له ما عداها
من جميع الفضائل والخصائص مشتركاً بينهما. وكان النقيب أبو جعفر رحمه الله، غزير العلم، صحيح العقل، منصفاً في الجدال، غيرمتعصب للمذهب وإن كان علوياً وكان يعترف بفضائل الصحابة، ويثني
على الشيخين. ويقول:
إنهما مهدا دين الإسلام وأرسيا قواعده، ولقد كان شديد الاضطراب في حياة رسول
الله صلى الله عليه وسلم، وإنما
مهداه بما تيسر للعرب من الفتوح والغنائم في دولتهما. وكان يقول في عثمان:
إن الدولة في أيامه كانت على إقبالها وعلو جدها، بل كانت الفتوح في أيامه أكثر،
والغنائم أعظم، لولا أنه لم يراع ناموس الشيخين، ولم
يستطع أن يسلك مسلكهما، وكان مضعفاً في أصل القاعدة، مغلوباً عليه، وكثير الحب
لأهله، واتيح له من مروان وزير سوء أفسد القلوب عليه، وحمل الناس على خلعه
وقتله. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأسباب التي أوجبت محبة الناس لعلي
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وكان أبو جعفر رحمه الله لا يجحد
الفاضل فضله، والحديث شجون. قلت له مرة: ما سبب حب الناس لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، وعشقهم له، وتهالكهم في هواه؟
ودعني في الجواب من حديث الشجاعة والعلم والفصاحة، وغير ذلك من الخصائص التي رزقه
الله سبحانه الكثير الطيب منها فضحك وقال لي: كم تجمع جراميزك علي ثم
قال: ههنا مقدمة ينبغي أن تعلم، وهي أن
أكثر الناس موتورون من الدنيا، أما المستحقون فلا ريب في أن أكثرهم محرومون، نحو عالم يرى أنه لاحظ له في الدنيا، ويرى جاهلاً غيره مرزوقاً وموسعاً عليه. وشجاعاً قد أبلى في الحرب، وانتفع بموضعه، ليس له عطاء يكفيه، ويقوم بضروراته، ويرى غيره وهو جبان فشل، يفرق من ظله، مالكاً
لقطر عظيم من الدنيا، وقطعة وافرة من المال والرزق. وعاقلٍ سديد التدبير، صحيح العقل، قد قدر عليه رزقه، وهو يرى
غيره أحمق مائقاً تدر عليه الخيرات، وتتحلب عليه أخلاف
الرزق. وذي دين قويم، وعبادة حسنة، وإخلاص وتوحيد، وهو محروم ضيق الرزق و يرى غيره يهودياً أو نصرانياً
أو زنديقاً، كثير المال حسن الحال، حتى إن هذه
الطبقات المستحقة يحتاجون في أكثر الوقت إلى الطبقات التي لا استحقاق لها، وتدعوهم الضرورة إلى الذل لهم، والخضوع بين أيديهم، إما لدفع ضرر، أو لاستجلاب نفع، ودون هذه الطبقات من
ذوي الاستحقاق أيضاً، ما نشاهده عياناً من نجار حاذق أو بناء عالم، أو نقاش
بارع، أو مصور لطيف، على غاية ما يكون من ضيق رزقهم،
وقعود الوقت بهم، وقلة الحيلة لهم، ويرى غيرهم ممن ليس يجري مجراهم، ولا
يلحق طبقتهم، مرزوقاً مرغوباً فيه، كثير المكسب طيب
العيش، واسع الرزق. فهذا حال ذوي الاستحقاق
والاستعداد. وأما الذين
ليسوا من أهل الفضائل، كحشو العامة، فإنهم أيضاً لا يخلون من الحقد على الدنيا
والذم لها، والحنق والغيظ منها لما يلحقهم من حسد
أمثالهم وجيرانهم، ولا يرى أحد منهم
قانعاً بعيشه، ولا راضياً بحاله، بل يستزيد ويطلب حالاً
فوق حاله. قال: فإذا عرفت هذه المقدمة، فمعلوم أن علياً رضي الله عنه كان
مستحقاً محروماً، بل هو أمير المستحقين المحرومين، وسيدهم وكبيرهم، ومعلوم أن الذين ينالهم الضيم، وتلحقهم المذلة
والهضيمة، يتعصب بعضهم لبعض، ويكونون إلباً ويداً واحدة
على المرزوقين الذين ظفروا بالدنيا، ونالوا مآربهم منها، لاشتراكهم في الأمر الذي آلمهم وساءهم، وعضهم ومضهم، واشتراكهم في الأنفة والحمية والغضب والمنافسة لمن علا
عليهم، وقهرهم، وبلغ من الدنيا ما لم يبلغوه، فإذا كان
هؤلاء أعني المحرومين متساوين في المنزلة والمرتبة، وتعصب بعضهم لبعض، فما ظنك بما إذا كان منهم رجلٌ عظيم القدرجليل الخطر كامل
الشرف، جامع للفضائل محتوٍ على الخصائص والمناقب، وهو مع ذلك محروم محدود، وقد جرعته الدنيا علاقمها، وعلته عللاً بعد
نهل من صابها وصبرها، ولقي منها برحاً بارحاً، وجهداً جهيداً، وعلا عليه من هو
دونه، وحكم فيه وفي بنيه وأهله ورهطه من لم يكن ما ناله من الإمرة والسلطان في
حسابه، ولا دائراً في خلده، ولا خاطراً بباله، ولا كان أحدٌ من الناس يرتقب ذلك
له ولا يراه له. ثم كان في آخر الأمر أن
قتل هذا الرجل الجليل في محرابه، وقتل بنوه بعده، وسبي حريمه ونساؤه، وتتبع أهله
وبنو عمه بالقتل والطرد والتشريد والسجون، مع فضلهم وزهدهم وعبادتهم
وسخائهم، وانتفاع الخلق بهم. فهل يمكن ألا يتعصب البشر كلهم مع
هذا الشخص وهل تستطيع القلوب ألا تحبه وتهواه، وتذوب فيه وتفنى في عشقه،
انتصاراً له، وحمية من أجله، وأنفةً مما ناله، وامتعاضاً مما جرى عليه وهذا أمر
مركوز في الطبائع، ومخلوق في الغرائز، كما
يشاهد الناس على الجرف إنساناً قد وقع في الماء العميق، وهو لا يحسن السباحة،
فإنهم بالطبع البشري يرقون عليه رقة شديدة، وقد يلقي قومٌ منهم أنفسهم في الماء
نحوه، يطلبون تخليصه، لا يتوقعون على ذلك مجازاة منه
بمالٍ أو شكر، ولا ثواباً في الآخرة، فقد يكون منهم من لا يعتقد أمر
الآخرة، ولكنها رقة بشرية، وكأن الواحد منهم يتخيل في نفسه أنه ذلك الغريق، فكما يطلب خلاص نفسه لو كان هذا الغريق، كذلك يطلب تخليص من
هو في تلك الحال الصعبة، للمشاركة الجنسية. وكذلك لوأن ملكاً ظلم أهل
بلدٍ من بلاده ظلماً عنيفاً، لكان أهل ذلك البلد يتعصب بعضهم لبعض في الانتصارمن
ذلك الملك، والاستعداء عليه، فلو كان من جملتهم رجلٌ عظيم القدر، جليل الشأن، قد
ظلمه الملك أكثرمن ظلمه إياهم، وأخذ أمواله وضياعه، وقتل أولاده وأهله، كان
لياذهم به، وانضواؤهم إليه، واجتماعهم والتفافهم به أعظم وأعظم، لأن الطبيعة البشرية تدعو إلى ذلك على سبيل الإيجاب
الاضطراري، ولا يستطيع الإنسان منه امتناعاً. وهذا محصول قول النقيب أبي جعفر رحمه الله، قد
حكيته والألفاظ لي والمعنى له، لأني لا أحفظ الآن ألفاظه بعينها، إلا أن هذا هو كان معنى قوله وفحواه، رحمه الله. وكان لا يعتقد في الصحابة ما يعتقده أكثر الإمامية فيهم، ويسفه
راي من يذهب فيهم إلى النفاق والتكفير. وكان يقول: حكمهم حكم
مسلم مؤمن، عمى في بعض الأفعال وخالف الأمر، فحكمه إلى
الله، إن شاء آخذه، وإن شاء غفر له. قلت له مرة: أفتقول إنهما من أهل الجنة؟ فقال: إي والله أعتقد ذلك، لأنهما إما أن يعفو الله تعالى عنهما ابتداء أو بشفاعة الرسول
صلى الله عليه وسلم، أو يؤاخذهما
بعقاب أو عتاب، ثم ينقلهما إلى الجنة، لا أستريب في ذلك أصلاً، ولا أشك في إيمانهما برسول
الله صلى الله عليه وسلم وصحة عقيدتهما. فقلت له: فعثمان؟ قال: وكذلك
عثمان. ثم قال: رحم الله عثمان وهل كان إلا واحداً منا،
وغصناً من شجرة عبد مناف ولكن أهله كدروه علينا،
وأوقعوا العداوة والبغضاء بينه وبيننا. قلت له: فيلزمك على ما تراه في أمر هؤلاء أن تجوز دخول معاوية الجنة،
لأنه لم تكن منه الا المخالفة وترك امتثال الأمر النبوي فقال: كلا، إن معاوية من أهل النار، لا لمخالفته علياً، ولا بمحاربته
إياه، ولكن عقيدته لم تكن صحيحة، ولا إيمانه حقاً، وكان من رؤوس المنافقين هو
وأبوه، ولم يسلم قلبه قط، وإنما أسلم لسانه، وكان يذكر من حديث معاوبة ومن فلتات
قوله، وما حفظ عنه من كلام يقتضي فساد العقيدة شيثاً كثيراً، ليس هذا موضعه
فأذكره. وقال لي مرة: حاش
لئه أن يثبت معاوية في جريدة الشيخين الفاضلين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما والله ما
هما إلا كالذهب الإبريز، ولا معاوية إلا كالدرهم الزائف "أو قال:
كالدرهم القسي" ثم قال لي: فما يقول أصحابكم فيهما؟ قلت: أما الذي استقر
عليه رأي المعتزلة بعد اختلاف كثير بين قدمائهم في التفضيل وغيره، أن علياً
رضي الله عنه أفضل
الجماعة، وأنهم تركوا الأفضل لمصلحة رأوها، وأنه
لم يكن هناك نص يقطع العذر، وإنما كانت إشارة
وإيماء لا يتضمن شيء منها صريح النص، وأن علياً
رضي الله عنه نازع ثم بايع، وجمح ثم استجاب. ولو أقام على الامتناع لم نقل بصحة
البيعة ولا بلزومها، ولو جرد السيف كما جرده في آخر الأمر لقلنا بفسق كل من خالفه على الإطلاق كائناً من كان،
ولكنه رضي بالبيعة أخيراً، ودخل في الطاعة. وبالجملة، أصحابنا يقولون: إن
الأمر كان له، وكان هو المستحق والمتعين، فإن شاء أخذه
لنفسه، وإن شاء ولاه غيره، فلما رأيناه قد وافق على ولاية غيره، اتبعناه ورضينا بما رضي. فقال: قد بقي بيني وبينكم قليل، أنا أذهب إلى النص وأنتم لا تذهبون إليه فقلت
له: إنه لم يثبت النص عندنا بطريق يوجب العلم،
وما تذكرونه أنتم صريحاً فأنتم تنفردون بنقله،
وما عدا ذلك من الأخبار التي نشارككم فيها، فلها
تأويلات معلومة. فقال لي وهو ضجر: يا
فلان، لو فتحنا باب التأويلات، لجاز أن يتناول
قولنا: "لا إله إلا الله محمد رسول الله"،
دعني من التأويلات الباردة التي تعلم القلوب والنفوس
أنها غيرمرادة، وأن المتكلمين تكلفوها وتعسفوها،
فإنما أنا وأنت في الدار ولا ثالث لنا، فيستحي أحدنا من
صاحبه أويحافه. فلما بلغنا إلى هذا الموضع، دخل قوم ممن كان يخشاه، فتركنا ذلك الأسلوب من
الحديث، وخضنا في غيره. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
سياسة الإمام علي عليه السلام ومعاوية
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
فأما القول في سياسة معاوية،
وأن شنأة علي رضي الله عنه ومبغضيه زعموا أنها خير من
سياسة أمير المؤمنين، فيكفينا في الكلام على ذلك ما قاله شيخنا أبو عثمان، ونحن نحكيه بألفاظه. قال أبو عثمان:
وربما رأيت بعض من يظن بنفسه العقل والتحصيل
والفهم والتمييز - وهو من العامة ويظن أنه من الخاصة - يزعم أن معاوية كان أبعد غوراً،
وأصح فكراً، وأجود رؤية، وأبعد غاية، وأدق مسلكاً، وليس
الأمر كذلك، وسأرمي إليك بجملة تعرف بها موضع غلطه. والمكان الذي دخل عليه الخطأ من
قبله.
كان علي رضي الله عنه
لا يستعمل في حربه إلا ما وافق الكتاب والسنة، وكان
معاوية يستعمل خلاف الكتاب والسنة، كما يستعمل الكتاب والسنة، ويستعمل جميع المكايد، حلالها وحرامها، ويسير في الحرب
بسيرة ملك الهند إذا لاقى كسرى، وخاقان إذا لاقى رتبيل . وعلي
رضي الله عنه يقول: لا تبدأوهم بالقتال حتى يبدأوكم، ولا تتبعوا مدبراً،
ولا تجهزوا على جريح، ولا تفتحوا باباً مغلقاً، هذه
سيرته في ذي الكلاع، وفي أبي الأعور السلمي، وفي عمرو بن العاص، وحبيب بن مسلمة،
وفي جميع الرؤساء، كسيرته في الحاشية والحشو والأتباع والسفلة. وأصحاب الحروب، إن قدروا على البيات بيتوا، وإن قدروا
على رضخ الجميع بالجندل وهم نيام فعلوا، وإن أمكن ذلك في طرفة عين لم يؤخروه إلى
ساعة، وإن كان الحرق أعجل من الغرق لم يقتصروا على الغرق ولم يؤخروا الحرق إلى
وقت الغرق، وإن أمكن الهدم لم يتكلفوا الحصار، ولم يدعوا أن ينصبوا المجانيق ،
والعرادات ، والنقب، والتسريب، والدبابات ، والكمين، ولم يدعوا دس السموم، ولا
التضريب بين الناس بالكذب، وطرح الكتب في عساكرهم بالسعايات ، وتوهيم الأمور،
وإيحاش بعض من بعض، وقتلهم بكل آلة وحيلة، كيف وقع القتل، وكيف دارت بهم الحال فمن اقتصر - حفظك الله - من التدبيرعلى ما في الكتاب
والسنة كان قد منع نفسه الطويل العريض من التدبير، وما لا يتناهى من المكايد.
والكذب - حفظك الله - أكثر من الصدق، والحرام أكثر عدداً من الحلال، ولو سمى إنسان إنساناً باسمه لكان قد صدق، وليس له اسم
غيره، ولو قال: هو شيطان أو كلب أو حمار أو شاة
أو بعير أو كل ما خطر على البال، لكان كاذباً في ذلك،
وكذلك الإيمان والكفر، وكذلك الطاعة والمعصية، وكذلك الحق والباطل، وكذلك السقم
والصحة، وكذلك الخطأ والصواب، فعلي رضي الله عنه
كان ملجماً بالورع عن جميع القول إلا ما هو الله
عز وجل رضاً، وممنوع اليدين من كل بطش إلا ما هو
لله رضاً، ولا يرى الرضا إلا فيما يرضاه الله ويحبه، ولا يرى الرضا إلا فيما دل
عليه الكتاب والسنة، دون ما يعول عليه أصحاب الدهاء والنكراء والمكايد والأراء، فلما أبصرت العوام كثرة نوادر معاوية في المكايد، وكثرة غرائبه في الخداع، وما اتفق له وتهيأ على
يده، ولم يروا ذلك من علي رضي الله عنه،
ظنوا - بقصر عقولهم، وقلة علومهم - أن ذلك من رجحان عند
معاوية ونقصان عند علي رضي الله عنه. فانظر بعد
هذا كله، هل يعد له من الخدع إلا رفع المصاحف ثم انظر
هل خدع بها إلا من عصى رأي علي رضي الله عنه، وخالف أمره فإن زعمت أنه قال ما أراد من الاختلاف فقد صدقت، وليس في هذا اختلفنا، ولا عن غرارة أصحاب
علي رضي الله عنه، وعجلتهم
وتسرعهم وتنازعهم دفعنا، وإنما كان قولنا في التميز
بينهما في الدهاء والنكراء وصحة العقل والرأي والبزلاء ، على أنا لا نصف
الصالحين بالدهاء والنكراء، لا نقول: ما كان
أنكر أبا بكر بن أبي قحافة رضي الله عنه وما
كان أنكر عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولا يقول أحدٌ عنده شيء من الخير: كان رسول
الله رضي الله عنه أدهى
العرب والعجم، وأنكر قريش وأمكر كنانة، لأن هذه الكلمة
إنما وضعت في مديح أصحاب الأرب ومن يتعمق في الرأي في توكيد أمر الدنيا
وزبرجها وتشديد أركانها، فأما أصحاب الاخرة
الذين يرون الناس لا يصلحون على تدبير البشر، وإنما يصلحون على تدبير خالق
البشر، فإن هؤلاء لا يمدحون بالدهاء والنكراء، ولم
يمنعوا هذا إلا ليعطوا أفضل منه. ألا ترى أن المغيرة بن شعبة -
وكان أحد الدهاة - حين رد على عمرو بن العاص قوله في عمر بن الخطاب رضي الله
عنه - وعمرو بن العاص أحد الدهاة أيضاً: أأنت كنت تفعل، أو توهم عمر شيئاً فيلقنه عنك ما رأيت عمر مستخلياً
بأحد إلا رحمته كائناً من كان ذلك الرجل، كان عمر
والله أعقل من أن يخدع، وأفضل من أن يخدع. ولم يذكره بالدهاء والنكراء وهذا مع عجبه بإضافة الناس
ذلك إليه، ولكنه قد علم أنه إذا أطلق على الأئمة
الألفاظ التي لاتصلح في أهل الطهارة، كان ذلك غير مقبول منه، فهذا هذا. وكذلك كان حكم قول معاوية للجميع: أخرجوا
إلينا قتلة عثمان، ونحن لكم سلم. فاجهد كل
جهدك، واستعن بمن شايعك إلى أن تتخلص إلى صواب رأي في ذلك الوقت أضله علي، حتى تعلم أن معاوية خادع، وأن علياً رضي الله عنه كان
المخدوع. فإن قلت: فقد بلغ ما
أراد، ونال ما أحب، فهل رأيت كتابنا وضع الا على أن
علياً كان قد امتحن في أصحابه وفي دهره، بما لم يمتحن إمام قبله من الاختلاف
والمنازعة، والتشاح من الرياسة والتسرع والعجلة وهل أتى رضي الله عنه إلا
من هذا المكان أو لسنا قد فرغنا من هذا الأمر، وقد
علمنا أن ثلاثة نفر تواطأوا على قتل ثلاثة نفر، فانفرد ابن ملجم بالتماس ذلك من علي رضي الله عنه، وانفرد
البرك الصريمي بالتماس ذلك من عمرو بن العاص وانفرد
الآخر - وهو عمرو بن بكر التميمي - بالتماس ذلك من معاوية، فكان من الاتفاق أو من الامتحان، أن كان علي من بينهم
هو المقتول. وفي قياس مذهبكم أن
تزعموا أن سلامة عمرو ومعاوية إنما كانت بحزم منهما،
وأن قتل علي رضي الله عنه إنما هو من تضييع منه،
فإذ قد تبين لكم أنه من الابتلاء والامتحان في نفسه
بخلاف الذي قد شاهدتموه في عدوه، فكل شيء سوى ذلك،
فإنما هو تبعٌ للنفس. هذا آخر كلام أبي عثمان في هذا الموضع، ومن تأمله بعين الإنصاف، ولم يتبع الهوى علم صحة جميع ما ذكره،
وأن أمير المؤمنين دفع - من اختلاف أصحابه، وسوء طاعتهم له، ولزومه سنن الشريعة،
ومنهج العدل، وخروج معاوية وعمرو بن العاص عن قاعدة الشرع في استمالة الناس
إليهم بالرغبة والرهبة - إلى ما لم يدفع إليه غيره. فلولا أنه رضي الله عنه كان عارفاً بوجوه السياسة وتدبير أمر
السلطان والخلافة، حاذقاً في ذلك، لم يجتمع عليه إلا
القليل من الناس، وهم أهل الآخرة خاصة، الذين لا ميل لهم إلى الدنيا،
فلما وجدناه دبر الأمر حين وليه، واجتمع عليه من العساكر والأتباع ما يتجاوز
العد والحصر، وقاتل بهم أعداءه الذين حالم حالهم، فظفر في أكثر حروبه، ووقف
الأمر بينه وبين معاوية على سواء، وكان هو الأظهر
والأقرب إلى الانتصار - علمنا أنه من معرفة تدبير الدول والسلطان بمكان مكين. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أقوال من طعن في سياسة علي والرد عليها
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وقد تعلق من طعن في سياسته بأمور: منها قولهم:
لوكان حين بويع له بالخلافة في المدينة أقر معاوية على الشام إلى أن يستقر الأمر
له ويتوطد، ويبايعه معاوية وأهل الشام ثم يعزله بعد ذلك، لكان قد كفي ما جرى
بينهما من الحرب. والجواب: أن
قرائن الأحوال حينئذ، قد كان علم أمير المؤمنين رضي الله عنه منها
أن معاوية لا يبايع له وإن أقره على ولاية الشام، بل
كان إقراره له على إمرة الشام، أقوى لحال معاوية، وآكد في الامتناع من البيعة،
لأنه لا يخلو صاحب السؤال إما أن يقول: كان ينبغي أن يطالبه بالبيعة ويقرن
إلى ذلك تقليده بالشام، فيكون الأمران معاً، أو يتقدم منه رضي الله عنه المطالبة بالبيعة. أو
يتقدم منه إقراره على الشام وتتأخر المطالبة بالبيعة إلى وقت ثان. فإن كان الأول
فمن الممكن أن يقرأ معاوية على أهل الشام تقليده بالإمرة، فيؤكد حاله عندهم
ويقرر في أنفسهم، لولا أنه أهل لذلك لما اعتمده علي رضي الله عنه معه، ثم يماطله
بالبيعة، ويحاجزه عنها. وإن كان الثاني فهو الذي فعله أمير المؤمنين رضي
الله عنه. وإن كان الثالث فهوكالقسم الأول، بل هو آكد فيما يريده معاوية من الخلاف
والعصيان. وكيف
يتوهم من يعرف السيرأن معاوية كان يبايع له، لو أقره على الشام وبينه وبينه ما
لا تبرك الإبل عليه، من الترات القديمة، والأحقاد، وهو
الذي قتل حنظلة أخاه والوليد خاله، وعتبة جده في مقام واحدٍ، ثم ما جرى
بينهما في أيام عثمان، حتى أغلظ كل واحد منهما
لصاحبه، وحتى تهدده معاوية، وقال له: إني شاخص
إلى الشام وتارك عندك هذا الشيخ - يعني عثمان -
والله لئن انحصت منه شعرة واحدة لأضربنك بمائة ألف سيف. وقد ذكرنا شيئاً مما جرى بينهما فيما تقدم. وأما قول ابن عباس له رضي الله عنه: وله شهراً واعزله دهراً، وما أشار به المغيرة بن شعبة، فإنهما ما توهماه، وما غلب على
ظنونهما وخطر بقلوبهما، وعلي رضي الله عنه كان أعلم بحاله مع معاوية، وأنها لا تقبل العلاج
والتدبير. وكيف يخطر ببال عارف بحال معاوية ونكره ودهائه، وما كان في نفسه من علي رضي الله عنه من قتل عثمان ومن قبل قتل عثمان، أنه يقبل إقرارعلي رضي الله عنه له على الشام، وينخدع بذلك، ويبايع ويعطي صفقة يمينه إن
معاوية لأدهى من أن يكاد بذلك، وإن علياً رضي الله عنه لأعرف
بمعاوية ممن ظن أنه لو استماله بإقراره لبايع له، ولم
يكن عند علي رضي الله عنه دواء لهذا المرض إلا السيف، لأن الحال إليه كانت تؤول لا محالة، فجعل الآخر أولا. وأنا أذكر في هذا
الموضع خبراً رواه الزبيربن بكار في "الموفقيات " ليعلم من يقف عليه،
أن معاوية لم يكن لينجذب إلى طاعة علي رضي الله عنه أبداً، ولا يعطيه البيعة،
وأن مضادته له، ومباينته إياه كمضادة السواد للبياض، لا يجتمعان أبداً وكمباينة
السلب للإيجاب، فإنها مباينة لا يمكن زوالها أصلاً. قال الزبير: حدثني محمد بن محمد بن زكريا بن بسطام، قال: حدثني
محمد بن يعقوب بن أبي الليث، قال: حدثني أحمد بن محمد بن الفضل بن يحسى المكي، عن أبيه، عن
جده الفضل بن يحيى عن الحسن بن عبد الصمد، عن قيس بن عرفجة، قال: لما حصر عثمان أبرد
مروان بن الحكم بخبره بريدين: أحدهما إلى الشام، والآخر إلى اليمن - وبها يومئذ يعلى بن منية - ومع كل واحدٍ منهما
كتاب، فيه أن بني أمية في الناس كالشامة الحمراء، وأن الناس قد قعدوا لهم برأس
كل محجة، وعلى كل طريق، فجعلوهم مرمى العر والعضيهة ، ومقذف القشب والأفيكة، وقد
علمتم أنها لم تأت عثمان إلا كرهاً، تجبذ من ورائها. وإني
خائف إن قتل أن تكون من بني أمية بمناط الثريا، إن لم نصر كرصيف الأساس المحكم،
ولئن وهى عمود البيت لتتداعين جدرانه، والذي عيب عليه إطعامكما الشام واليمن،
ولا شك أنكما تابعاه إن لم تحذرا، وأما أنا فمساعفٌ كل مستشير، ومعين كل مستصرخ،
ومجيب كل داع، أتوقع الفرصة فأثب وثبة الفهد أبصر غفلة مقتنصه، ولولا مخافة عطب البريد، وضياع الكتب، لشرحت لكما من
الأمر ما لا تفزعان معه إلى أن يحدث الأمر، فجدا في طلب ما أنتما ولياه وعلى ذلك
فليكن العمل إن شاء الله. وكتب في آخره:
فلما ورد الكتاب على معاوية، أذن في الناس: الصلاة جامعة ثم خطبهم خطبة المستنصر
المستصرخ. وفي أثناء ذلك ورد عليه قبل أن يكتب الجواب، كتاب مروان بقتل عثمان، وكانت نسخته: وهب الله لك أبا عبد الرحمن قوة العزم،
وصلاح النية، ومن عليك بمعرفة الحق واتباعه، فإني كتبت
إليك هذا الكتاب بعد قتل عثمان أمير المؤمنين
رضي الله عنه وأي قتلةٍ قتل نحر كما ينحر البعير الكبيرعند اليأس من أن ينوء
بالحمل، بعد أن نقبت صفحته بطي المراحل وسير الهجير، وإني معلمك من خبره غيرمقصر ولا مطيل: إن القوم
استطالوا مدته، واستقلوا ناصره، واستضعفوه في بدنه، وأملوا بقتله بسط أيديهم
فيما كان قبضه عنهم، واعصوصبوا عليه، فظل
محاصراً، قد منع من صلاة الجماعة، ورد المظالم، والنظر في أمور الرعية، حتى كأنه
هو فاعل لما فعلوه. فلما دام ذلك أشرف عليهم،
فخوفهم الله وناشدهم، وذكرهم مواعيد رسول الله صلى الله عليه وسلم له، وقوله
فيه، فلم يجحدوا فضله، ولم ينكروه، ثم رموه بأباطيل
اختلقوها ليجعلوا ذلك ذريعة إلى قتله، فوعدهم التوبة مما كرهوا، ووعدهم
الرجعة إلى ما أحبوا. فلم يقبلوا ذلك، ونهبوا
داره، وانتهكوا حرمته، ووثبوا عليه، فسفكوا دمه، وانقشعوا
عنه انقشاع سحابة قد أفرغت ماءها منكفئين قبل ابن أبي طالب، انكفاء الجراد إذا
أبصر المرعى. فأخلق ببني أمية أن يكونوا من هذا الأمر بمجرى العيوق إن لم
يثأره ثائر، فإن شئت أبا عبد الرحمن أن تكونه فكنه،
والسلام. فكان كتاب طلحة:
أما بعد، فإنك أقل قريش من قريش وتراً، مع صباحة وجهك وسماحة كفك، وفصاحة لسانك.
فأنت
بإزاء من تقدمك في السابقة، وخامس المبشرين بالجنة، ولك يوم أحد وشرفه وفضله،
فسارع رحمك الله إلى ما تقلدك الرعية من أمرها مما لا يسعك التخلف عنه، ولا يرضى
الله منك إلا بالقيام به، فقد أحكمت لك الأمر قبلي، والزبير فغير متقدم عليك
بفضل، وأيكما قدم صاحبه فالمقدم الإمام، والأمر من بعده للمقدم له، سلك الله بك
قصد المهتدين، ووهب لك رشد الموفقين. والسلام. وكتب إلى الزبير: أما
بعد، فإنك الزبير بن العوام، ابن أبي خديجة وابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحواريه، وسلفه، وصهر أبي بكر، وفارس المسلمين، وأنت الباذل
في الله مهجته بمكة عند صيحة الشيطان، بعثك المنبعث، فخرجت كالثعبان المنسلخ.
بالسيف المنصلت، تخبط خبط الجمل الرديع ، كل ذلك قوة إيمان، وصدق يقين، وسبقت لك
من رسول الله صلى الله عليه وسلم البشارة بالجنة، وجعلك عمر أحد المستخلفين على
الأمة. واعلم يا أبا عبد الله، أن الرعية أصبحت كالغنم المتفرقة لغيبة الراعي،
فسارع رحمك الله إلى حقن الدماء ولم الشعث، وجمع الكلمة، وصلاح ذات البين، قبل
تفاقم الأمر وانتشار الأمة، فقد أصبح الناس على شفا جرفٍ هارٍ عما قليل ينهار إن
لم يراب. فشمر
لتأليف الأمة، وابتغ إلى ربك سبيلاً، فقد أحكمت الأمر على من قبلي لك ولصاحبك
على أن الأمر للمقدم، ثم لصاحبه من بعده. جعلك الله من أئمة الهدى، وبغاة الخير
والتقوى. والسلام. وكتب إلى مروان بن الحكم: أما بعد، فقد وصل إلي كتابك بشرح خبرأمير المؤمنين، وما
ركبوه به، ونالوه منه، جهلاً الله وجراءة عليه، واستخفافاً بحقه، ولأماني لوح
الشيطان بها في شرك الباطل ليدهدههما في أهويات الفتن، ووهدات الضلال، ولعمري
لقد صدق عليهم ظنه، ولقد اقتضتهم بأنشوطة فخه، فعك رسلك أبا عبد الله، يمشي
الهوينى ويكون أولاً، فإذا قرأت كتابي هذا فكن كالفهد لا يصطاد إلا غيلةً، ولا
يتشازر إلا عن حيلة، وكالثعلب لا يفلت إلا روغاناً، وأخف نفسك منهم إخفاء القنفذ
رأسه عند لمس الأكف، وامتهن نفسك امتهان من ييأس القوم من نصره وانتصاره، وابحث
عن أمورهم بحث الدجاجة عن حب الدخن عند فقاسها، وأنغل الحجاز فإني منغل الشام. والسلام. وكتب إلى سعيد بن
العاص: أما بعد، فإن كتاب مروان ورد علي من ساعة وقعت النازلة، تقبل به
البرد بسير المطي الوجيف ، تتوجس توخس الحية الذكر خوف ضربة الفأس، وقبضة الحاوي
، ومروان الرائد لا يكذب أهله، فعلام الإفكاك يا بن العاص، ولات حين مناص ذلك
أنكم يا بني أمية عما قليل تسألون أدق العيش من أبعد المسافة، فينكركم من كان
منكم عارفاً، ويصد عنكم من كان لكم واصلاً، متفرقين في الشعاب تتمنون لمظة
المعاش. إن
أمير المؤمنين عتب عليه فيكم، وقتل في سبيلكم، ففيم القعود عن نصرته، والطلب
بدمه، وأنتم بنو أبيه، ذوو رحمه وأقربوه، وطلاب ثأره أصبحتم متمسكين بشظف معاشٍ
زهيد، عما قليل ينزع منكم عند التخاذل وضعف القوى. فإذا قرأت كتابي هذا فدب دبيب
البرء في الجسد النحيف، وسر سير النجوم تحت الغمام، واحشد حشد الذرة في الصيف
لانجحارها في الصرد ، فقد أيدتكم بأسد وتيم. وكتب في
الكتاب:
وكتب إلى عبد الله بن عامر: أما بعد، فإن المنبر مركبٌ ذلول، سهل الرياضة، لا ينازعك
اللجام. وهيهات ذلك الا بعد ركوب أثباج المهالك، واقتحام أمواج المعاطب. وكأني
بكم يا بني أمية شعارير كالأوارك ، تقودها الحداة، أو كرخم الخندمة تذرق خوف
العقاب، فثب الآن رحمك الله قبل أن يستشري الفساد وندب السوط جديد، والجرح لما
يندمل، ومن قبل استضراء الأسد، والتقاء لحييه على فريسته. وساور الأمر مساورة
الذئب الأطلس كسيرة القطيع. ونازل الرأي، وانصب الشرك، وارم عن تمكن، وضع الهناء
مواضع النقب ، واجعل أكبر عدتك الحذر، وأحد سلاحك التحريض. واغض عن العوراء، وسامح اللجوج، واستعطف
الشارد، ولاين الأشوس، وقو عزم المريد، وبادر العقبة، وازحف زحف الحية. واسبق
قبل أن تسبق، وقم قبل أن يقام لك. واعلم
أنك غيرمتروك ولا مهمل، فإني لكم ناصح أمين. والسلام.
وكتب في أسفل الكتاب:
وكتب إلى الوليد بن عقبة: يا بن عقبة كن الجيش، وطيب العيش أطيب من سفع سموم الجوزاء
عند اعتدال الشمس في أفقها، إن عثمان أخاك أصبح بعيداً منك فاطلب لنفسك ظلاً
تستكن به، إني أراك على التراب رقوداً، وكيف بالرقاد بك لا رقاد لك، فلو قد
استتب هذا الأمر لمريده ألفيت كشريد النعام، يفزع من ظل الطائر، وعن قليل تشرب
الرنق ، وتستشعر الخوف. أراك فسيح الصدر، مسترخي اللبب، رخو الحزام،
قليل الاكتراث، وعن قليل يجتث أصلك. والسلام.
وكتب في آخر الكتاب:
وكتب إلى يعلى بن امية: حاطك الله بكلاءته، وأيدك بتوفيقه. كتبت إليك صبيحة ورد علي
كتاب مروان بخبر قتل أمير المؤمنين، وشرح الحال فيه. وإن أمير المؤمنين طال به
العمر حتى نقصت قواه، وثقلت نهضته، وظهرت الرعشة في أعضاثه، فلما رأى ذلك أقوام
لم يكونوا عنده موضعاً للإمامة والأمانة وتقليد الولاية، وثبوا به، وألبوا عليه،
فكان أعظم ما نقموا عليه وعابوه به، ولايتك اليمن وطول مدتك عليها. ثم ترامى بهم
الأمر حالاً بعد حال، حتى ذبحوه ذبح النطيحة مبادراً بها الفوت، وهو مع ذلك صائم
معانقً المصحف، يتلو كتاب الله. فيه
عظمت مصيبة الإسلام بصهر الرسول، والإمام المقتول. على
غير جرم سفكوا دمه، وانتهكوا حرمته، وأنت تعلم أن بيعته في أعناقنا، وطلب ثأره
لازم لنا، فلا خير في دنيا تعدل بنا عن الحق، ولا في إمرة توردنا النار. وإن الله جل ثناؤه لا يرضى بالتعذير في دينه،
فشمر لدخول العراق. فأما الشام فقد كفيتك أهلها، وأحكمت أمرها، وقد كتبت إلى طلحة بن عبيد الله أن يلقاك بمكة، حتى يجتمع
رأيكما على إظهار الدعوة، والطلب بدم عثمان أمير المؤمنين المظلوم، وكتبت إلى
عبد الله بن عامر يمهد لكم العراق، ويسهل لكم حزونة عقابها . واعلم يا بن أمية
أن القوم قاصدوك بادىء بدء لاستنطاف ما حوته يداك من المال، فاعلم ذلك واعمل على
حسبه إن شاء الله وكتب في أسفل الكتاب:
قال:
فكتب إليه مروان جواباًعن كتابه: أما بعد، فقد
وصل كتابك، فنعم كتاب زعيم العشيرة، وحامي الذمار وأخبرك أن القوم على سنن
استقامةٍ إلا شظايا شعب، شتت بينهم مقولي على غيرمجابهة، حسب ما تقدم من أمرك،
وإنما كان ذلك رسيس العصاة، ورمى أخدر من أغصان الدوحة، ولقد طويت أديمهم على
نغل يحلم منه الجلد. كذبت نفس الظان بنا ترك المظلمة، وحب الهجوع،
إلا تهويمة الراكب العجل، حتى تجذ جماجم وجماجم، جذ العراجين المهدلة حين
إيناعها، وأنا على صحة نيتي، وقوة عزيمتي وتحريك الرحم لي، وغليان الدم مني، غير
سابقك بقول، ولا متقدمك بفعل، وأنت ابن حرب، طلاب الترات، وآبي الضيم. وكيتابي
إليك وأنا كحرباء السبسب في الهجير ترقب عين الغزالة ، وكالسبع المفلت من الشرك
يفرق من صوت نفسه، منتظراً لما تصح به عزيمتك، ويرد به أمرك، فيكون العمل به،
والمحتذى عليه، وكتب في أسفل الكتاب:
وكتب إليه عبد الله بن عامر: أما بعد، فإن أمير المؤمنين كان له الجناح الحاضنة تأوي
إليها فراخها تحتها، فلما أقصده السهم صرنا كالنعام الشارد، ولقد كنت مشترك
الفكر، ضال الفهم، ألتمس دريئةً أستجن بها من خطأ الحوادث، حتى وقع إلي كتابك،
فانتبهت من غفلة طال فيها رقادي، فأنا كواجد المحجة كان إلى جانبها حائراً،
وكأني أعاين ما وصفت من تصرف الأحوال.
وكتب إليه الوليد بن عقبة: أما بعد فإنك أسد قريش عقلاً، وأحسنهم فهماً، وأصويهم
رأياً، معك حسن السياسة، وأنت موضع الرياسة، تورد بمعرفة، وتصدر عن منهل روي.
مناوئك كالمنقلب من العيوق يهوي به عاصف الشمال إلى لجة البحر. كتبت إلي تذكر
طيب الخيش، ولين العيش، فملء بطني علي حرام إلا مسكة الرمق حتى أفري أوداج قتلة
عثمان فري الأهب بشباة الشفار. وأما اللين فهيهات إلا
خيفة المرتقب يرتقب غفلة الطالب، إنا على مداجاة، ولما تبد صفحاتنا بعد، وليس
دون الدم بالدم مزحل. إن العار منقصة، والضعف ذل. أيخبط قتلة عثمان زهرة
الحياة الدنيا، ويسقون برد المعين، ولما يمتطوا الخوف، ويستحلسوا الحذر، بعد
مسافة الطرد وامتطاء العقبة الكؤود في الرحلة لا دعيت لعقبة إن كان ذلك حتى أنصب
لهم حرباً تضع الحوامل لها أطفالها قد ألوت بنا المسافة، ووردنا حياض المنايا،
وقد عقلت نفسي على الموت عقل البعير، واحتسبت أني ثاني عثمان أو أقتل قاتله فعجل
على ما يكون من رأيك، فإنا منوطون بك، متبعون عقبك، ولم أحسب الحال تتراخى بك إلى
هذه الغاية، لما أخافه من إحكام القوم أمرهم، وكتب في
أسفل الكتاب:
وكتب إليه يعلى بن أمية: إنا وأنتم يا بني أمية كالحجر لا يبنى بغير مدر، وكالسيف لا
يقطع إلا بضاربه. وصل كتابك بخبر القوم وحالهم، فلئن كانوا ذبحوه ذبح النطيحة
بودر بها الموت لينحرن ذابحه نحر البدنة وافى بها الهدي الأجل ثكلتني من أنا
ابنها إن نمت عن طلب وتر عثمان، أو يقال: لم يبق فيه رمق إني أرى العيش بعد قتل
عثمان مراً، إن أدلج القوم فإني مدلجٌ. وأما قصدهم ما حوته يدي من المال، فالمال
أيسر مفقود إن دفعوا إلينا قتلة عثمان، وإن أبوا ذلك أنفقنا المال على قتالهم،
وإن لنا ولهم لمعركةً نتناحر فيها نحر القدار النقائع ، عن قليل تصل لحومها.
وكتب في أسفل الكتاب:
قال: فكل هؤلاء كتبوا إلى معاوية
يحرضونه، ويغرونه، ويحركونه، ويهيجونه، إلا سعيد بن
العاص، فإنه كتب بخلاف ما كتب به هؤلاء، كان
كتابه: أما بعد، فإن الحزم في التثبت، والخطأ في
العجلة، والشؤم في البدار، والسهم سهمك ما لم ينبض به الوتر، ولن يرد الحالب في
الضرع اللبن، ذكرت حق أمير المؤمنين علينا، وقرابتنا منه، وأنه قتل فينا.
فخصلتان ذكرهما نقص، والثالثة تكذب، وأمرتنا
بطلب دم عثمان، فأي جهة تسلك فيها أبا عبد الرحمن ردمت الفجاج، واحكم الأمر
عليك، وولي زمامه غيرك، فدع مناوأة من لوكان افترش فراشه صدر الأمر لم يعدل به
غيره، وقلت: كأنا عن قليلٍ لا نتعارف، فهل نحن إلاحيٌ من قريش، إن لم تنلنا
الولاية لم يضق عنا الحق، إنها خلافة منافية، وبالله أقسم قسماً مبروراً، لئن
صحت عزيمتك على ما ورد به كتابك، لألفيتك بين الحالين، طليحاً. وهبني
إخالك بعد خوض الدماء تنال الظفر، هل في ذلك عوض من ركوب المأثم ونقص الدين أما أنا فلا على بني أمية ولا لهم، أجعل الحزم داري، والبيت
سجني، وأتوسد الإسلام. وأستشعر العافية. فاعدل أبا عبد الرحمن زمام راحلتك إلى محجة الحق، واستوهب
العافية لأهلك، واستعطف الناس على قومك، وهيهات من قبولك ما أقول حتى يفخر مروان
ينابيع الفتن تأجج في البلاد، وكأني بكما عند ملاقاة الأبطال تعتذران بالقدر،
ولبئس العاقبة الندامة وعما قليل يضح لك الأمر. والسلام. هذا آخر ما
تكاتب القوم به، ومن وقف عليه علم أن الحال لم يكن
حالاً يقبل العلاج والتدبير، وأنه لم يكن بد من السيف، وأن علياً رضي الله عنه
كان أعرف بما عمل. وقد أجاب ابن سنان في كتابه الذي سماه
"العادل" عن هذا السؤال، فقال: قد علم الناس
كافة أنه رضي الله عنه في قصة الشورى عرض
عليه عبد الرحمن بن عوف، أن يعقد له الخلافة على أن
يعمل بكتاب الله وسنة رسوله ولمسيرة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فلم
يستجب إلى ذلك، وقال: بل
علي أن أعمل بكتاب الله وسنة رسوله، وأجتهد رأي. وقد اختلف
الناس في ذلك، فقالت الشيعة: إنما لم يدخل
تحت الشرط، لأنه لم يستصوب سيرتهما. وقال غيرهم: إنما امتنع لأنه مجتهد، والمجتهد
لا يقلد المجتهد، فأيهما أقرب على القولين جميعاً
إثماً، وأيسر وزراً أن يقر معاوية على ولاية الشام مدة إلى أن تتوطد
خلافته، مع ما ظهر من جور معاوية وعداوته، ومد يده إلى الأموال والدماء أيام
سلطانه، أو أن يعاهد عبد الرحمن على العمل بسيرة
أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ثم يخالف بعض
أحكامها إذا استقر الأمر له، ووقع العقد ولا ريب أن
أحداً لا يخفى عليه فضل ما بين الموضعين، وفضل ما بين الإثمين، فمن لا
يجيب إلى الخلافة والاستيلاء على جميع بلاد الإسلام إذا تسمح بلفظة يتلفظ بها،
يجوز أن يتاولها أو يوري فيها، كيف يستجيب إلى
إقرار الجائر، وتقوية يده مع تمكينه في سلطانه، لتحصل له طاعة أهل الشام
واستضافة طرفٍ من الأطراف وكأن معنى قول القائل:
هلا أقر معاوية على الشام، هو هلا كان رضي الله عنه متهاوناً بأمر الدين راغباً
في تشديد أمر الدنيا والجواب عن هذا ظاهر، وجهل السائل
عنه واضحٌ. واعلم أن حقيقة الجواب هوأن
علياً، كان لا يرى مخالفة الشرع، لأجل السياسة، سواء
أكانت تلك السياسة دينية أو دنيوية، أما الدنيوية فنحو أن يتوهم الإمام في إنسان أنه يروم فساد خلافته من غيرأن
يثبت ذلك عليه يقيناً، فإن علياً رضي
الله عنه لم يكن يستحل قتله، ولا حبسه،
ولا يعمل بالتوهم وبالقول غير المحقق، وأما الدينية
فنحو ضرب المتهم بالسرقة، فإنه أيضاً لم يكن يعمل به، بل
يقول: إن يثبت عليه بإقرار أو بينة، أقمت عليه الحد، وإلا لم أعترضه. وغير علي رضي
الله عنه قد كان منهم من يرى خلاف هذا
الرأي، ومذهب مالك بن أنس العمل على المصالح
المرسلة، وأنه يجوز للإمام أن يقتل ثلث الأمة لإصلاح
الثلثين، ومذهب أكثر الناس أنه يجوز
العمل بالرأي وبغالب الظن، وإذا كان مذهبه رضي الله عنه ما قلناه، وكان معاوية عنده فاسقاً، وقد سبق عنده
مقدمة اخرى يقينية، هي أن استعمال الفاسق لا يجوز
ولم يكن ممن يرى تمهيد قاعدة الخلافة بمخالفة الشريعة، فقد تعين مجاهرته بالعزل،
وإن أفضى ذلك إلى الحرب. فهذا هو الجواب الحقيقي،
ولو لم يكن هذا هو الجواب الحقيقي، لكان لقائل أن يقول
لابن سنان القول في عدوله عن الدخول تحت شرط عبد الرحمن، كالقول في عدوله عن إقرار معاوية على الشام، فإن من ذهب إلى تغليطه في أحد الموضعين، له أن يذهب
إلى تغليطه في الموضع الاخر. فلو أنه رضي الله عنه افتتح عقد الخلافة له بتوليته معاوية الشام، وإقراره فيه، أليس
كان يبتدىء في أول أمره بما انتهى إليه عثمان في آخره، فأفضى إلى خلعه وقتله ولوكان
ذلك في حكم الشريعة سائغاً، والوزر فيه مأموناً، لكان
غلطاً قبيحاً في السياسة، وسبباً قوياً للعصيان والمخالفة، ولم يكن يمكنه
رضي الله عنه أن يقول للمسلمين: إن حقيقة رأي عزل
معاوية عند استقرار الأمر وطاعة الجمهور لي، وإن قصدي بإقراره على الولاية
مخادعته، وتعجيل طاعته، ومبايعة الأجناد الذين قبله، ثم أستانف بعد ذلك فيه ما
يستحقه من العزل، وأعمل فيه بموجب العدل، لأن إظهاره رضي الله عنه لهذا العزم
كان يتصل خبره بمعاوية فيفسد التدبير الذي شرع فيه وينتقض الرأي الذي عول عليه.
ومنها قولهم: إنه ترك طلحة
والزبير حتى خرجا إلى مكة، وأذن لهما في العمرة، وذهب عنه الرأي في
ارتباطهما قبله، ومنعهما من البعد عنه. والجواب عنه،
أنه قد اختلفت الرواة في خروج طلحة والزبير من المدينة: هل كان بإذن علي رضي الله عنه أم لا فمن قال: إنهما خرجا عن غير
إذنه ولا علمه، فسؤاله ساقط، ومن قال: إنهما استأذناه في العمرة، وأذن لهما، فقد روي أنه قال: والله ما تريدان العمرة، وإنما تريدان الغدرة وخوفهما بالله
من التسرع إلى الفتنة. وما كان
يجوز له في الشرع أن يحبسهما، ولا في السياسة. أما في الشرع فلأنه محظور
أن يعاقب الإنسان بما لم يفعل، وعلى ما يظن منه، ويجوز ألا يقع. وأما في السياسة فلأنه
لوأظهر التهمة لهما - وهما من أفاضل السابقين، وجلة المهاجرين - لكان في ذلك من
التنفير عنه ما لا يخفى، ومن الطعن عليه ما هو معلوم، بأن
يقال: إنه ليس من إمامته على ثقة، فلذلك يتهم الرؤساء، ولا يأمن الفضلاء،
لا سيما وطلحة كان أول من بايعه، والزبير لم يزل مشتهراً بنصرته، فلو حبسهما، وأظهر الشك فيهما
لم يسكن أحد إلى جهته، ولنفر الناس كلهم عن طاعته فإن قالوا: فهلا استصلحهما وولأهما، وارتبطهما
بالإجابة إلى أغراضهما؟ قيل لهم: فحوى هذا
أنكم تطلبون من أمير المؤمنين رضي الله عنه أن
يكون في الإمامة مغلوباً على رأيه، مفتاتاً عليه في تدبيره، فيقر معاوية على
ولاية الشام غصباً، ويولي طلحة والزبير مصر
والعراق كرهاً، وهذا شيء ما دخل تحته أحد ممن
قبله، ولا رضوا أن يكون لهم من الإمامة الاسم، ومن الخلافة اللفظ، ولقد حورب عثمان وحصر على أن يعزل بعض ولاته فلم يجب إلى ذلك،
فكيف تسومون علياً رضي الله عنه أن يفتتح أمره بهذه الدنية
ويرضى بالدخول تحت هذه الخطة وهذا ظاهر. ومنها تعلقهم بتولية أمير المؤمنين رضي الله عنه محمد
بن أبي بكر مصر، وعزله قيس بن سعد عنها، حتى قتل محمد بها، واستولى معاوية عليها. والجواب أنه ليس يمكن أن يقال: إن محمداً رحمه الله
لم يكن بأهلٍ لولاية مصر، لأنه كان شجاعاً زاهداً فاضلاً، صحيح العقل والرأي،
وكان مع ذلك من المخلصين في محبة أمير المؤمنين رضي الله عنه، والمجتهدين في
طاعته، وممن لا يتهم عليه، ولا يرتاب بنصحه، وهو ربيبه وخريجه،
ويجري مجرى أحد أولاده رضي الله عنهما، لتربيته له، وإشفاقه عليه. ثم كان المصريون على غاية
المحبة له، والإيثار لولايته، ولما حاصروا عثمان وطالبوه بعزل عبد الله بن سعد بن أبي سرح عنهم، اقترحوا تأمير محمد بن أبي عثمان بالعهد على مصر وصار مع بكر عليهم.
فكتب له المصريين حتى تعقبه كتاب عثمان إلى عبد الله بن سعد في أمره وأمر
المصريين بما هو معروف. فعادوا جميعاً، وكان من قتل عثمان ما كان، فلم يكن ظاهر الرأي ووجه التدبير إلا تولية محمد بن أبي بكر
على مصر، لما ظهر من ميل المصريين إليه، وايثارهم له، واستحقاقه لذلك
بتكامل خصال الفضل فيه، فكان الظن قوياً باتفاق الرعية على طاعته، وانقيادهم إلى
نصرته، واجتماعهم على محبته، فكان من فساد الأمر
واضطرابه عليه حتى كان ما كان، وليس ذلك بعيب على أمير المؤمنين رضي الله
عنه، فإن الأمور إنما يعتمدها الإمام على حسب ما يظن فيها من المصلحة، ولا يعلم
الغيب إلا الله تعالى. وقد تولى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مؤتة جعفراً فقتل، وولى زيداً فقتل، وولى عبد الله بن رواحة فقتل،
وهزم الجيش، وعاد من عاد منهم إلى المدينة، بأسوأ حال، فهل لأحدٍ أن يعيب رسول
الله صلى الله عليه وسلم بهذا، ويطعن في تدبيره ومنها قولهم: إن جماعة من
أصحابه رضي الله عنه فارقوه، وصاروا إلى معاوية،
كعقيل بن أبي طالب أخيه، والنجاشي شاعره، ورقبة بن مصقلة أحد الوجوه من أصحابه،
ولو لا أنه كان يوحشهم ولا يستميلهم لم يفارقوه ويصيروا
إلى عدوه، وهذا يخالف حكم السياسة، وما يجب من تألف قلوب الأصحاب
والرعية. والجواب: إنا
أولاً لا ننكر أن يكون كل من رغب في حطام الدنيا
وزخرفها، وأحب العاجل من ملاذها وزينتها يميل إلى
معاوية الذي يبذل منها كل مطلوب، ويسمح بكل مأمول، ويطعم خراج مصر عمرو
بن العاص، ويضمن لذي الكلاع وحبيب بن مسلمة ما يوفي على الرجاء والاقتراح، وعلي رضي
الله عنه يعدل
فيما هو أمينٌ عليه من مال المسلمين عن قضية الشريعة وحكم الملة،
حتى يقول خالد بن معمر السدوسي لعلياء بن الهيثم، وهو
يحمله على مفارقة علي رضي الله عنه، واللحاق بمعاوية: اتق الله يا علياء في عشيرتك،
وانظر لنفسك ولرحمك، ماذا تؤمل عند رجل أردته على أن يزيد في عطاء الحسن والحسين
دريهمات يسيرة ريثما يرأبان بها ظلف عيشهما، فأبى وغضب
فلم يفعل. فأما عقيل، فالصحيح الذي اجتمع
ثقات الرواة عليه أنه لم يجتمع مع معاوية إلا
بعد وفاة أمير المؤمنين رضي
الله عنه، ولكنه لازم
المدينة، ولم يحضر حرب الجمل وصفين، وكان ذلك بإذن أمير
المؤمنين رضي الله عنه،
وقد كتب عقيل إليه بعد الحكمين يستأذنه في
القدوم عليه الكوفة بولده وبقية أهله، فأمره رضي الله
عنه بالمقام، وقد روي في خبر مشهور، أن معاوية وبخ سعيد بن العاص على
تأخيره عنه في صفين، فقال سعيد: لو دعوتني
لوجدتني قريباً، ولكني جلست مجلس عقيل وغيره من بني
هاشم، ولو أوعبنا لأوعبوا . وأما النجاشي،
فإنه شرب الخمر في شهر رمضان، فأقام علي رضي الله عنه الحد عليه، وزاده عشرين جلدة فقال النجاشي:
ما هذه العلاوة؟ قال: لجرأتك على الله في شهر
رمضان. فهرب النجاشي إلى معاوية. وأما رقبة بن مصقلة، فإنه ابتاع سبي بني ناجية وأعتقهم، وألط بالمال وهرب إلى معاوية، فقال رضي الله عنه؟ فعل
فعل السادة، وأبق إباق العبيد، وليس تعطيل الحدود وإباحة حكم الدين وإضاعة مال
المسلمين من التألف والسياسة لمن يريد وجه الله تعالى، والتلزم بالدين،
ولا يظن بعلي رضي الله عنه التساهل والتسامح في صغير من ذلك ولا كبير. ومنها شبهة الخوارج وهي التحكيم، وقد يحتج به على أنه اعتمد ما لا
يجوز في الشرع، وقد يحتج به على أنه اعتمد ما ليس بصواب في تدبير الأمر. أما الأول فقولهم: إنه
حكم الرجال في دين الله، والله سبحانه يقول: "إن
الحكم إلا لله" وأما الثاني فقولهم:
إنه كان قد لاح له النصر، وظهرت أمارات الظفر بمعاوية، ولم يبق إلا أن يؤخذ
برقبته فترك التصميم على ذلك، وأخلد إلى التحكيم. وربما
قالوا: إن تحكيمه يدل على شك منه في أمره، وربما
قالوا: كيف رضي بحكومة أبي موسى وهو فاسق
عنده بتثبيطه أهل الكوفة عنه في حرب البصرة؟ وكيف رضي بتحكيم عمرو بن العاص وهو أفسق
الفاسقين؟ والجواب: أما تحكيم
الرجال في الدين فليس بمحظور، فقد أمر الله تعالى بالتحكيم بين المرأة
وزوجها، فقال: "وإن خفتم شقاق بينهما
فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها" . وقال في جزاء الصيد:
"يحكم به ذوا عدلٍ منكم" . وأما قولهم:
كيف ترك التصميم بعد ظهور أمارات النصر؟ فقد تواتر الخبر بأن أصحابه لما رفع أهل الشام المصاحف
عند ظهور أهل العراق عليهم، ومشارفة هلاك معاوية وأصحابه، انخدعوا برفع المصاحف،
وقالوا: لا يحل لنا التصميم على حربهم، ولا
يجوز لنا إلا وضع السلاح ورفع الحرب والرجوع إلى المصاحف وحكمها. فقال لهم: إنها خديعة، وإنها كلمة حق يراد بها باطل، وأمرهم بالصبر ولو ساعة واحدة، فأبوا ذلك، وقالوا: أرسل إلى الأشتر فليعد، فأرسل إليه، فقال: كيف أعود وقد لاحت
أمارات النصر والظفر فقالوا له: ابعث إليه مرةً اخرى، فبعث إليه، فأعاد
الجواب بنحو قوله الأول وسأل أن يمهل ساعةً من النهار،
فقالوا: إن بينك وبينه وصية ألا يقبل،
فإن لم تبعث إليه من يعيده، وإلا قتلناك بسيوفنا كما
قتلنا عثمان، أو قبضنا عليك وأسلمناك إلى معاوية فعاد الرسول إلى الأشتر فقال أتحب أن تظفر أنت ههنا وتكسر جنود الشام،
ويقتل أمير المؤمنين رضي الله عنه في مضربه قال: أوقد فعلوها لا بارك
الله فيهم أبعد أن أخذت بمخنق معاوية، ورأى الموت عياناً
أرجع ثم عاد فشتم أهل العراق وسبهم، وقال لهم وقالوا له، ما هو منقول مشهور، وقد
ذكرنا الكثير منه فيما تقدم. فإذا كانت الحال وقعت
هكذا، فأي تقصير وقع من أمير المؤمنين رضي الله عنه وهل ينسب المغلوب على أمره، المقهور على رأيه إلى تقصير أو فساد
تدبير وبهذا نجيب عن قولهم: إن التحكيم يدل على الشك في
أمره. لأنه إنما يدل على ذلك لو ابتدأ هو به، فأما إذا دعاه إلى ذلك غيره، واستجاب إليه أصحابه، فمنعهم
وأمرهم أن يمروا على وتيرتهم وشأنهم، فلم يفعلوا، وبين لهم أنها مكيدة فلم يتبينوا، وخاف أن يقتل أو يسلم إلى عدوه،
فإنه لا يدل تحكيمه على شكه، بل يدل على أنه قد
دفع بذلك ضرراً عظيماً عن نفسه، ورجا أن يحكم
الحكمان بالكتاب، فتزول الشبهة عمن طلب التحكيم
من أصحابه. وأما تحكيمه عمراً مع ظهور فسقه، فإنه لم يرض به، وإنما رضي به مخالفه، وكرهه هو فلم يقبل منه. وقد قيل: إنه
أجاب ابن عباس رحمه الله عن
هذا، فقال للخوارج: أليس قد قال الله تعالى: "فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها" أرأيتم
لو كانت المرأة يهودية فبعثت حكماً من أهلها،
أكنا نسخط ذلك وأما أبو موسى فقد كرهه أمير
المؤمنين رضي الله عنه، وأراد
أن يجعل بدله عبد الله بن عباس، فمال أصحابه:
لا يكون الحكمان من مضر، فقال: فالأشتر. فقالوا: وهل أضرم
النار إلا الأشتر وهل جر ما ترى إلا حكومة الأشتر ولكن
أبا موسى، فأباه فلم يقبلوا منه، وأثنوا عليه،
وقالوا: لا نرضى إلا به، فحكمه على مضض. ومنها قولهم: ترك الرأي لما دعاه العباس وقت وفاة الرسول صلى الله
عليه وسلم إلى البيعة، وقال له: امدد يدك أبايعك،
فيقول الناس: عم رسول الله صلى الله عليه وسلم بايع
ابن عمه، فلا يختلف عليك اثنان، فلم يفعل، وقال:
وهل يطمع فيها طامع غيري فما راعه إلا الضوضاء واللغط في باب الدار، يقولون: قد بويع أبو بكر بن أبي قحافة رضي الله عنه. الجواب: إن
صواب الرأي فساده فيما يرجع إلى مثل هذه الواقعة، يستندان إلى ما قد غلب على
الظن، ولا ريب أنه صلى الله عليه وسلم لم يغلب على
ظنه أن أحداً يستأثر عليه بالخلافة لأحوال قد كان مهدها له رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما توهم
إلا أنه ينتظر ويرتقب خروجه من البيت وحضوره، ولعله قد كان يخطر له أنه إما أن
يكون هو الخليفة أو يشاور في الخلافة إلى من يفوض. وما كان يتوهم أنه يجري الأمر على ما جرى من الفلتة عند
ثوران تلك الفتنة، ولا يشاور هو ولا العباس ولا أحدٌ من بني هاشم، وإنما كان
يكون تدبيره فاسداً لو كان يحاذر خروج الأمر عنه، ويتوهم ذلك، ويغلب على ظنه إن
لم يبادر تحصيله بالبيعة المعجلة في الدار من وراء الأبواب والأغلاق، وإلا فاته،
ثم يهمل ذلك ولا يفعله. وقد صرح هو بما عنده، فقال: وهل
يطمع فيها طامع غيري ثم قال: إني أكره
البيعة ههنا وأحب أن أصحر بها، فبين أنه يستهجن أن يبايع سراً خلف الحجب
والجدران، ويحب أن يبايع جهرة بمحضر من الناس كما قال، حيث طلبوا منه بعد قتل
عثمان أن يبايعهم في داره، فقال: لا، بل في المسجد، ولا
يعلم ولا خطر له ما في ضمير الأيام، وما يحدث الوقت من وقوع ما لا يتوهم العقلاء
وأرباب الأفكار وقوعه. ومنها قولهم: إنه قصر في طلب الخلافة عند بيعة أبي
بكر رضي الله عنه، وقد كان اجتمع له من بني هاشم وبني أمية وغيرهم من أفناء
الناس من يتمكن بهم من المنازعة وطلب الخلافة، فقصر عن
ذلك، لا جبناً، لأنه كان أشجع البشر، ولكن قصور
تدبير وضعف رأي، ولهذا أكفرته الكاملية وأكفرت الصحابة، فقالوا: كفرت الصحابة لتركهم بيعته، وكفر هو بترك
المنازعة لهم والجواب: أما على مذهبنا، فإنه لم يكن رضي الله عنه منصوصاً عليه، وإنما كان يدعيها بالأفضلية والقرابة والسابقة والجهاد ونحو ذلك من الخصائص، فلما
وقعت بيعة أبي بكر رضي الله عنه رأى هو علي رضي الله عنه أن
الأصلح للإسلام ترك النزاع، وأنه يخاف من النزاع حدوث
فتنة تحل معاقد الملة وتزعزع أركانها، فحضر وبايع طوعاً، ووجب علينا بعد مبايعته ورضاه أن نرضى بمن رضي هو رضي الله عنه، ونطيع من أطاعه، لأنه القدوة، وأفضل من
تركه صلى الله عليه وسلم بعده.
وأما الإمامية، فلهم عن ذلك جواب آخر
معروف من قواعدهم. ومنها قولهم: إنه قصر في الرأي حيث دخل في الشورى، لأنه جعل نفسه بدخوله فيها نظيراً لعثمان وغيره من الخمسة، وقد
كان الله تعالى رفعه عنهم وعلى من كان قبلهم، فوهن بذلك قدره، وطأطأ من جلالته، ألا ترى أنه يستهجن
ويقبح من أبي حنيفة والشافعي رحمهما الله أن
يجعلا أنفسهما نظراء لبعض من بدا طرفاً من الفقه، ويستهجن ويقبح من سيبويه
والأخفش أن يوازيا أنفسهما بمن يعلم أبواباً يسيرة من النحو. الجواب:
أنه رضي الله عنه وإن كان أفضل من أصحاب الشورى،
فإنه كان يظن أن ولي الأمر أحدهم بعد عمر رضي الله عنه، لا يسير سيرة صالحة، وأن تضطرب بعض أمور الإسلام، وقد كان يثني على سيرة
عمر ويحمدها، فوجب عليه بمقتضى ظنه أن يدخل معهم فيما أدخله عمر رضي الله عنه فيه،
توقعاً لأن يفضي الأمر إليه، فيعمل بالكتاب والسنة، ويحيي معالم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وليس اعتماد
ما يقتضيه الشرع مما يوجب نقصاً في الرأي، فلا تدبير أصح ولا أسد من تدبير
الشرع. ومنها قولهم:
إنه ما أصاب حيث أقام بالمدينة وعثمان رضي
الله عنه محصور، وقد كان يجب في الرأي أن
يخرج عنها بحيث لا تنوط بنو أمية به دم عثمان رضي
الله عنه، فإنه لو كان بعيداً عن
المدينة لكان من قذفهم إياه بذلك أبعد، وعنه أنزه. والجواب: أنه لم يكن يخطر له مع براءته من دم عثمان رضي الله عنه، أن أهل الفساد من بني أمية يرمونه بأمره، والغيب لا يعلمه إلا
الله، وكان يرى مقامه بالمدينة أدعى إلى انتصار عثمان رضي الله عنه على
المحاصرين له، فقد حضر هو بنفسه مراراً، وطرد الناس
عنه، وأنفذ إليه ولديه وابن أخيه عبد الله، ولو لا حضور علي رضي الله عنه بالمدينة
لقتل عثمان قبل أن يقتل بمدة، وما تراخى أمره وتأخر
قتله، إلا لمراقبة الناس له حيث شاهدوه ينتصر له، ويحامي عنه. ومنها قولهم: كان
يجب في مقتضى الرأي حيث قتل عثمان رضي الله عنه،
أن يغلق بابه، ويمنع الناس من الدخول إليه، فإن العرب كانت تضطرب اضطرابة ثم
تؤول إليه، لأنه تعين للأمر بحكم الحال الحاضرة فلم يفعل، وفتح بابه، وترشح للأمر، وبسط له يده، فلذلك انتقضت عليه
العرب من أقطارها. والجواب: إنه رضي الله
عنه كان يرى أن القيام بالأمر يومئذ فرض عليه لا يجوز له الإخلال به، لعدم من يصلح في ظنه للخلافة، فما كان يجوز له أن يغلق بابه ويمتنع. وما الذي كان يؤمنه أن يبايع
الناس طلحة أو الزبير أو غيرهما ممن لا يراه أهلاً
للأمر فقد كان عبد الله بن الزبير يومئذ يزعم
أن عثمان رضي الله عنه عهد إليه بالخلافة وهو محصور. وكان مروان يطمع أن ينحاز إلى طرف من الأطراف فيخطب لنفسه بالخلافة،
وله من بني أمية شيعة وأصحاب، بشبهة أنه ابن عم
عثمان رضي الله عنه، وأنه كان يدبر أمر الخلافة على
عهده. وكان معاوية يرجو أن ينال الخلافة،
لأنه من بني أمية وابن عم عثمان رضي الله عنه، وأمير الشام عشرين
سنة، وقد
كان قوم من بني أمية يتعصبون لأولاد عثمان المقتول، ويرومون إعادة الخلافة فيهم وما كان يسوغ لعلي رضي
الله عنه في الدين إذا طلبه المسلمون للخلافة أن
يمتنع عنها، وبعلم أنها ستصير إذا امتنع إلى هؤلاء، فلذلك فتح بابه، وامتنع امتناع من يحاول أن يعلم ما في قلوب
الناس، هل لرغبتهم إليه حقيقة أم لا فلما رأى منهم التصميم وافق لوجوب الموافقة
عليه، وقد قال في خطبته: "لو لا حضور الحاضر ووجوب الحجة بوجود
الناصر لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أولها" ، وهذا تصريح بما قلناه. ومنها قولهم: هلا إذ ملك
شريعة الفرات على معاوية، بعد أن كان معاوية ملكها عليه، ومنعه وأهل العراق
منها، منع معاوية وأهل الشام منها، فكان يأخذهم قبضاً
بالأيدي فإنه لم يصبر على منعهم عن الماء، بل فسح لهم في الورود، وهذا يخالف ما
يقتضيه تدبير الحرب. الجواب، أنه
رضي الله عنه لم يكن يستحل ما استحله معاوية من تعذيب البشر بالعطش، فإن الله
تعالى ما أمر في أحد من العصاة الذين أباح دماءهم بذلك، ولا فسح فيه في نحو
القصاص أو حد الزاني المحصن أو قتل قاطع الطريق، أو قتال البغاة والخوارج، وما كان أمير المؤمنين ممن يترك حكم الله وشريعته، ويعتمد ما
هو محرم فيها لأجل الغلبة والقهر والظفر بالعدو، ولذلك لم يكن يستحل
البيات ولا الغدر ولا النكث. وأيضاً فمن الجائز
أن يكون رضي الله عنه غلب على ظنه أن أهل الشام إن منعوا من الماء كان ذلك أدعى
لهم إلى الحملات الشديدة المنكرة على عسكره، وأن يضعوا فيهم السيوف، فيأتوا
عليهم ويكسروهم بشدة حنقهم وقوة داعيهم إلى ورود الماء، فإن ذلك من أشد الدواعي إلى أن يستميت القوم ويستقتلوا. ومن الذي
يقف بين يدي جيش عظيم عرمرم حنقٍ قد اشتد بهم العطش، وهم يرون الماء كبطون
الحيات، لا يحول بينهم وبينه إلا قوم مثلهم، بل أقل
منهم عدة وأضعف عدة، ولذلك لما حال معاوية
بين أهل العراق وبين الماء وقال: لأمنعنهم وروده
فأقتلهم بشفار الظمأ، قال له عمرو بن العاص: خل
بين القوم وبين الماء، فليسوا ممن يرى الماء ويصبر عنه. فقال: لا والله لا اخلي
لهم عنه. فسفه رأيه وقال: أتظن أن ابن أبي طالب وأهل العراق
يموتون بإزائك عطشاً، والماء بمعقد الأزر، وسيوفهم في أيديهم فلج معاوية، وقال: لا أسقيهم قطرة كما قتلوا عثمان رضي الله عنه عطشاً.
فلما مس أهل العراق العطش، أشار علي رضي الله عنه إلى الأشعث أن احمل، والى
الأشتر أن احمل، فحملاً بمن معهما فضربا أهل الشام
ضرباً أشاب الوليد، وفر معاوية ومن رأى رأيه وتابعه على قوله عن الماء كما تفر
الغنم خالطتها السباع، وكان قصارى أمره، ومنتهى همته أن يحفظ رأسه، وينجو بنفسه.
وملك أهل العراق عليهم الماء ودفعوهم عنه، فصاروا في البر القفر، وصار علي رضي الله عنه وأصحابه على شريعة الفرات، مالكين لها،
فما الذي كان يؤمن علياً رضي الله عنه لو أعطش القوم أن يذوق هو وأصحابه منهم
مثل ما أذاقهم وهل بعد الموت بالعطش أمر يخافه الإنسان وهل يبقى له ملجأ إلا
السيف يحمل به فيضرب خصمه إلى أن يقتل أحدهما ومنها قولهم: أخطأ حيث محا اسمه بالخلافة من صحيفة الحكومة، فإن ذلك
مما وهنه عند أهل العراق، وقوى الشبهة في نفوس أهل الشام. والجواب، أنه رضي الله عنه احتذى
في ذلك - لما دعى إليه واقترحه الخصم عليه - فعل
رسول الله صلى الله عليه وسلم في صحيفة الحديبية، حيث محا اسمه من النبوة لما
قال له سهيل بن عمرو: لو علمنا أنك رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حاربناك،
ولا منعناك عن البيت، وقد قال له صلى الله عليه وسلم
وهو يومئذ كاتب تلك الصحيفة: ستدعى إلى مثلها فتجب. وهذا من أعلام نبوته صلوات
الله عليه، ومن دلائل صدقه، ومثله جرى له حذو القذة بالقذة. ومنها قولهم: إنه كان غير
مصيب في ترك الاحتراس، فقد كان يعلم كثرة
أعدائه، ولم يكن يحترس منهم، وكان يخرج ليلاً في
قميص ورداء وحده، حتى كمن له ابن ملجم في المسجد فقتله،
ولو كان احترس وحفظ نفسه ولم يخرج إلا في جماعة، ولو خرج ليلاً كانت معه أضواء
وشرطة، لم يوصل إليه. والجواب، أن هذا إن
كان قادحاً في السياسة والتدبير، فليكن قادحاً في تدبير عمر رضي الله عنه
وسياسته، وهو عند الناس في الطبقة العليا في السياسة
وصحة التدبير، وليكن قادحاً في تدبير معاوية، فقد
ضربه الخارجي بالسيف ليلة ضرب أمير المؤمنين رضي الله عنه فجرحه ولم يأت على
نفسه، ومعاوية عند هؤلاء سديد التدبير
وليكن قادحاً في صحة تدبير رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد
كان يخرج وحده في المدينة ليلاً ونهاراً مع كثرة أعدائه، وقد كان يأكل ما دعي إليه ولا يحترس، حتى أكل من يهودية شاة مشوبة قد سمته فيها فمرض، وخيف عليه التلف، ولما برا لم تزل تنتقض عليه حتى
مات منها وقال عند موته: إني ميت من تلك الأكلة، ولم
تكن العرب في ذلك الزمان تحترس، ولا تعرف الغيلة والفتك، وكان ذلك عندهم قبيحاً
يعير به فاعله، لأن الشجاعة غير ذلك، والغيلة فعل العجزة من الرجال، ولأن علياً رضي الله عنه كانت هيبته قد تمكنت في صدور الناس،
فلم يكن يظن أن أحداً يقدم عليه غيلة أو مبارزة في حرب، فقد كان بلغ من
الذكر بالشجاعة مبلغاً عظيماً لم يبلغه أحد من الناس، لا
من تقدم ولا من تأخر، حتى كانت أبطال العرب تفزع باسمه، ألا ترى إلى عمر بن معد يكرب وهو
شجاع العرب، الذي تضرب به الأمثال، كتب إليه عمر بن
الخطاب رضي الله عنه في أمرٍ أنكره عليه، وغدر تخوفه منه: أما والله لئن
أقمت على ما أنت عليه، لأبعثن إليك رجلاً تستصغر معه نفسك، يضع سيفه على هامتك
فيخرجه من بين فخذيك فقال عمرو لما وقف على الكتاب:
هددني بعلي والله ولهذا قال شبيب بن بجرة لابن
ملجم، لما رآه يشد الحرير على بطنه وصدره: ويلك ما تريد أن تصنع قال: أقتل علياً، قال هبلتك الهبول ، لقد جئت شيئاً
إداً كيف تقدر على ذلك فاستبعد أن يتم لابن ملجم ما عزم
عليه، ورآه مراماً وعراً. والأمر في هذا وأمثاله مسند إلى غلبات الظنون،
فمن غلبت على ظنه السلامة مع الاسترسال لم يجب عليه الاحتراس، وإنما يجب الاحتراس على من يغلب على ظنه العطب إن لم
يحترس. فقد بان بما أوضحناه فساد قول من قال:
إن تدبيره صلى الله عليه وسلم وسياسته لم تكن صالحة، وبان أنه أصح الناس تدبيراً
وأحسنهم سياسة، وإنما الهوى والعصبية لا حيلة فيهما. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال في الوعظ
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: أيها الناس
لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلة أهله، فإن الناس أجتمعوا على مائدةٍ شبعها
قصيرٌ، وجوعها طويلٌ. أيها الناس، إنما يجمع الناس الرضا والسخط، وإنما عقر ناقة ثمود رجلٌ واحد فعمهم الله بالعذاب لما عموه
بالرضا، فقال سبحانه: "فعقروها فأصبحوا
نادمين"، فما كان إلا أن خارت أرضهم بالخسفة خوار السكة المحماة في
الأرض الخوارة. الشرح: الاستيحاش: ضد الاستئناس، وكثيراً ما يحدثه
التوحد وعدم الرفيق، فنهى رضي الله عنه عن
الاستيحاش في طريق الهدى لأجل قلة أهله، فإن المهتدي ينبغي أن يأنس بالهداية،
فلا وحشة مع الحق. وعنى بالمائدة: الدنيا، لذتها قليلة، ونغصتها
كثيرة، والوجود فيها زمان قصير جداً، والعدم عنها زمان طويل جداً. ثم قال: ليست العقوبة لمن اجترم ذلك الجرم بعينه، بل
لمن اجترمه ومن رضي به، وإن لم يباشره بنفسه، فإن عاقر ناقة صالح إنما كان
إنساناً واحداً، فعم الله ثمود بالسخط لما كانوا راضين بذلك الفعل كلهم، واسم
"كان" مضمر فيها، أي ما كان الانتقام منهم إلا كذا. وخارت أرضهم بالخسفة: صوتت كما يخور الثور، وشبه رضي الله عنه ذلك بصوت
السكة المحماة في الأرض الخوارة، وهي اللينة، و- إنما جعلها محماة لتكون أبلغ في
ذهابها في الأرض. ومن كلامه رضي
الله عنه يوم خيبر، يقوله لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد بعثه بالراية: أكون في أمرك
كالسكة المحماة في الأرض، أم الشاهد يرى ما لا يرى الغائب؟ فقال له: بل يرى الشاهد ما لا يرى الغائب. وقال له أيضاً هذه اللفظة لما بعثه في
شأن مارية القبطية، وما كانت اتهمت به من أمر الأسود القبطي، ولهذا علة في العلم الطبيعي، وذلك أن السكة المحماة تخرق الأرض بشيئين: أحدهما تحدد رأسها، والثاني
حرارته، فإن الجسم المحدد الحار إذا اعتمد عليه في الأرض اقتضت الحرارة إعانة
ذلك الطرف المحدد على النفوذ بتحليلها ما تلاقي من صلابة الأرض، لأن شأن الحرارة
التحليل، فيكون غوص ذلك الجسم المحدد في الأرض أوحى وأسهل، والتيه: المفازة يتحير سالكها. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قصة ثمود وصالح
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال المفسرون:
إن عاداً لما اهلكت عمرت ثمود بلادها، وخلفوهم في الأرض وكثروا وعمروا أعماراً
طوالاً، حتى إن الرجل كان يبني المسكن المحكم فينهدم في حياته، فنحتوا البيوت في
الجبال، وكانوا في سعة ورخاء من العيش فعتوا على الله، وأفسدوا في الأرض، وعبدوا
الأوثان، فبعث الله إليهم صالحاً، وكانوا قوماً عرباً، وصالح من أوسطهم نسباً،
فما آمن به إلا قليل منهم مستضعفون، فحذرهم وأنذرهم،
فسألوه آية، فقال: أية آية تريدون؟ قالوا: تخرج معنا إلى عيدنا - في يوم
معلوم لهم من السنة - فتدعو إلهك وندعو إلهنا، فإن استجيب لك اتبعناك، وإن
استجيب لنا اتبعتنا قال: نعم، فخرج معهم، ودعوا أوثانهم، وسألوها الاستجابة فلم
تجب، فقال سيدهم جندع بن عمرو - وأشار إلى
صخرة منفردة في ناحية الجبل يسمونها الكاثبة: اخرج لنا في هذه الصخرة ناقة
مخترجة جوفاء وبراء - والمخترجة: التي شاكلت البخت ، فإن
فعلت صدقناك وأجبناك. فأخذ عليهم المواثيق، لئن فعلت ذلك لتؤمنن ولتصدقن؟
قالوا: نعم، فصك ودعا ربه، فتمخضت الصخرة
تمخض النتوج بولدها، فانصدعت عن ناقة عشراء جوفاء وبراء كما وصفوا، لا يعلم ما
بين جنبيها إلا الله، وعظماؤهم ينظرون. ثم نتجت ولداً مثلها في العظم، فآمن به
جندع ورهطٌ من قومه، ومنع أعقابهم ناس من رؤوسهم أن يؤمنوا، فمكثت الناقة مع
ولدها ترعى الشجر وتشرب الماء، وكانت ترد غباً، فإذا كان يومها وضعت رأسها في
البئر، فما ترفعه حتى تشرب كل ماء فيها ثم تتفجح، فيحتلبون ما شاؤوا حتى تمتلىء
أوانيهم، فيشربون ويدخرون، فإذا وقع الحر تصيفت بظهر الوادي، فتهرب منها
أنعامهم، فتهبط إلى بطنه، وإذا وقع البرد تشتت ببطن الوادي فتهرب مواشيهم إلى
ظهره، فشق ذلك عليهم، وزينت عقرها لهم امرأتان:
عنيزة أم غنم وصدفة بنت المختار، لما اضرت به من مواشيهما، وكانتا كثيرتي المواشي، فعقروها، عقرها قدار الأحمر، واقتسموا
لحمها وطبخوه. فانطلق سقبها حتى رقى جبلاً اسمه قارة، فرغا ثلاثاً، وكان صالح قال لهم: أدركوا الفصيل عسى أن يرفع
عنكم العذاب، فلم يقدروا عليه، وانفجت الصخرة بعد رغائه فدخلها، فقال لهم صالح: تصبحون غداً وجوهكم مصفرة، وبعد
غدٍ وجوهكم محمرة، واليوم الثالث وجوهكم مسودة، ثم يغشاكم العذاب. فلما رأوا العلامات طلبوا أن يقتلوه، فأنجاه الله سبحانه إلى
أرض فلسطين، فلما كان اليوم الرابع، وارتفعت الضحوة، تحنطوا بالصبر
وتكفنوا بالأنطاع ، فأتتهم صيحة من السماء وخسف شديد وزلزال، فتقطعت قلويهم
فهلكوا. وقد جاء في الحديث أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم مر بالحجر في غزوة تبوك، فقال لأصحابه:
لا يدخلن أحد منكم القرية، ولا تشربوا من مائها، ولا تدخلوا على هؤلاء المعذبين
إلا أن تمروا باكين أن يصيبكم مثل ما أصابهم. وروى
المحدثون أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال لعلي رضي الله عنه: أتدري من أشقى الأولين؟ قال: نعم،
عاقر ناقة صالح، قال: أفتدري من أشقى الآخرين؟ قال:
الله ورسوله أعلم، قال: من يضربك على هذه، حتى تخضب هذه. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن كلام له عند دفن السيدة فاطمة رضي الله عنها
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
روي عنه أنه قاله عند دفن سيدة النساء فاطمة رضي الله عنها،
كالمناجي به رسول الله صلى الله عليه وأله وصحبه وسلم عند قبره. السلام عليك يا رسول الله عني، وعن ابنتك
النازلة في جوارك، والسريعة اللحاق بك قل يا رسول الله عن صفيتك صبري، ورق عنها
تجلدي، إلا أن في التأسي لي بعظيم فرقتك، وفادح مصيبتك موضع تعز. فلقد وسدتك في ملحودة
قبرك، وفاضت بين نحري وصدري نفسك، فإنا لله وإنا إليه راجعون فلقد استرجعت
الوديعة، وأخذت الرهينة أما حزنى فسرمدٌ، وأما ليلي فمسهدٌ، إلى أن يختار الله
لي دارك التي أنت بها مقيمٌ. وستنبئك ابنتك بتضافر أمتك على هضمها. فأحفها
السؤال، واستخبرها الحال، هذا ولم يطل العهد، ولم يخل منك الذكر. والسلام
عليكما سلام مودعٍ، لا قالٍ ولا سئمٍ، فإن أنصرف فلا عن ملالةٍ، وإن أقم فلا عن
سوء ظن بما وعد الله الصابرين. الشرح: أما قول الرضي رحمه الله: "عند دفن سيدة
النساء"، فلأنه قد تواتر الخبر عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "فاطمة سيدة
نساء العالمين" إما هذا اللفظ بعينه، أو لفظ يؤدي
هذا المعنى، روي أنه قال وقد رآها تبكي عند
موته: "ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء هذه الأمة" وروي أنه قال: "سادات نساء العالمين
أربع: خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، وآسية بنت مزاحم، ومريم بنت عمران
". قوله رضي الله
عنه:
"وسريعة اللحاق بك" جاء في الحديث؟ أنه رآها تبكي عند موته فأسر
إليها: "أنت أسع أهلي لحوقاً بي"، فضحكت. قوله: "عن
صفيتك " أجله صلى الله عليه وسلم
عن أن يقول: "عن ابنتك"، فقال: "صفيتك"، وهذا من لطيف عبارته،
ومحاسن كنايته، يقول رضي الله عنه:
ضعف جلدي وصبري عن فراقها، لكني أتأسى بفراقي لك فأقول: كل عظيم بعد فراقك جلل،
وكل خطب بعد موتك يسير. ثم ذكر حاله معه وقت
انتقاله صلوات الله عليه
إلى جوار ربه، فقال: لقد وسدئك في
ملحودة قبرك، أي في الجهة المشقوقة من قبرك، واللحد:
الشق في جانب القبر، وجاء بضم اللام في لغة غير مشهورة. قال:
"وفاضت بين نحري وصدري نفسك"، يروى أنه صلى الله عليه وسلم قذف دما
يسيراً وقت موته، ومن قال بهذا القول زعم أن مرضه كان ذات الجنب، وأن القرحة
التي كانت في الغشاء المستبطن للأضلاع انفجرت في تلك الحال، وكانت فيها نفسه صلى الله عليه وسلم. وذهب قومٌ إلى أن مرضه إنما كان الحمى
والسرسام الحار، وأن أهل داره ظنوا
أن به ذات الجنب فلدوه وهو مغمىً عليه، وكانت العرب تداوي باللدود من به ذات
الجنب، فلما أفاق علم أنهم قد لدوه، فقال: "لم يكن الله ليسلطها علي، لدوا كل من في
الدار"، فجعل بعضهم يلد بعضاً. وزعم
أخرون أن مرضه كان أثراً لأكلة السم التي
أكلها رضي الله عنه،
واحتجوا بقوله صلى
الله عليه وسلم: "ما زالت أكلة خيبر تعاودني، فهذا أوان قطعت أبهري" . ومن لم يذهب إلى ذات الجنب، فاولوا
قول علي رضي الله عنه: "فاضت بين نحري وصدري
نفسك" فقالوا: أراد بذلك آخر الأنفاس التي يخرجها الميت ولا يستطيع إدخال
الهواء إلى الرئة عوضاً عنها، ولا بد لكل ميت من نفخةٍ تكون آخر حركاته. ويقول قوم: إنها الروح، وعبر علي رضي الله عنه عنها بالنفس، لما كانت العرب لا ترى
بين الروح والنفس فرقاً. واعلم أن الأخبار نحتلفة في هذا المعنى، فقد روى كثير من المحدثين عن عائشة أنها قالت: توفي
رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سحري ونحري. وروى كثير منهم هذا اللفظ عن علي رضي الله عنه، أنه قال عن نفسه، وقال في رواية أخرى: "ففاضت نفسه في يدي،
فأمررتها على وجهي". والله أعلم لحقيقة هذه الحال، ولا يبعد عندي أن يصدق الأمران معاً، لأن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت الوفاة مستنداً إلى علي وعائشة
جميعاً، فقد وقع الاتفاق على أنه مات وهو حاضر لموته، وهو الذي كان يقلبه بعد
موته، وهو الذي كان يعلله ليالي مرضه، فيجوز أن يكون
مستنداً إلى زوجته وابن عمه، ومثل هذا لا يبعد وقوعه لا زماننا هذا، فكيف
في ذلك الزمان الذي كان النساء فيه والرجال مختلطين، لا يستتر البعض عن البعض. فإن قلت: فكيف تعمل بآية الحجاب، وما صح من
استتار أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الناس بعد نزولها؟ قلت: قد وقع اتفاق المحدثين كلهم على أن العباس كان ملازماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم أيام مرضه في بيت عائشة، وهذا لا ينكره أحدٌ، فعلى القاعدة التي كان العباس
ملازمه صلى الله عليه وسلم كان علي رضي الله عنه ملازمه، وذلك
يكون بأحد الأمرين: إما بأن نساءه لا يستترن من العباس وعلي لكونهما أهل
الرجل وجزءاً منه، أو لعل النساء كن يختمرن
بأخمرتهن، ويخالطن الرجال فلا يرون وجوههن، وما كانت
عائشة وحدها في البيت عند موته، بل كان نسائه كلهن في البيت، وكانت ابنته فاطمة عند رأسه صلى الله عليه وسلم. فأما حديث مرضه صلوات الله عليه ووفاته، فقد ذكرناه فيما تقدم. قوله: "إنا لله" إلى آخره، أي عبيده،
كما تقول: هذا الشيء لزيد، أي يملكه. فأما الرهينة فهي المرتهنة، يقال للمذكر: هذا رهين
عندي على كذا، وللأنثي هذه رهينة عندي على كذا، كأنها رضي الله عنها كانت عنده عوضاً من رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تكون الرهينة عوضاً عن الأمر الذي
اخذت رهينة عليه. ثم ذكر منه أن حزنه دائم، وأنه يسهر ليله ولا ينام إلى أن
يلتحق لرسول الله صلى الله عليه وسلم ويجاوره في الدار الآخرة، وهذا من باب المبالغة، كما يبالغ الخطباء والكتاب
والشعراء في المعاني، لأنه رضي الله عنه ما
سهر منذ ماتت فاطمة ودام سهره إلى أن قتل رضي الله عنه وإنما سهر ليلة أو شهراً أو سنة، ثم
استمر مريره، وارعوى رسنه، فأما الحزن فإنه لم يزل
حزيناً إذا ذكرت فاطمة، هكذا وردت الرواية عنه. قوله
رضي الله عنه: "وستنبئك ابنتك "، أي
ستعلمك. فأحفها السؤال: أي استقص في مسألتها، واستخبرها
الحال، أحفيت إحفاءً في السؤال: استقصيت، وكذلك في الحجاج والمنازعة، قال الحارث بن حلزة:
ورجل حفي،
أي مستقصٍ في السؤال. واستخبرها الحال، أي عن الحال، فحذف الجار، كقولك: اخترت الرجال زيداً أي من الرجال، أي سلها
عما جرى بعدك من الاستبداد بعقد الأمر دون مشاورتنا ولا يدل هذا على وجود النص،
لأنه يجوز أن تكون الشكوى والتألم من اطراحهم وترك إدخالهم في المشاورة، فإن ذلك
مما تكرهه النفوس وتتألم منه، وهجا الشاعر قوماً،
فقال:
قوله: "هذا
ولم يطل العهد، ولم يخلق الذكر"، أي لم ينس. فإن قلت:
فما هذا الأمر الذي لم ينس ولم يخلق، إن لم يكن هناك نص؟ قلت: قوله صلى الله عليه وسلم: "إني
مخلف فيكم الثقلين"، وقوله:
"اللهم أدر الحق معه حيث دار"، وأمثال
ذلك من النصوص الدالة على تعظيمه وتبجيله
ومنزلته في الإسلام، فهو رضي الله عنه
كان يريد أن يؤخر عقد البيعة إلى أن
يحضر ويستثار، ويقع الوفاق بينه وبينهم، على أن يكون العقد لواحدٍ من المسلمين
بموجبه، إما له أو لأبي بكر رضي الله عنه، أو لغيرهما، ولم يكن
ليليق أن يبرم الأمر وهو غير حاضر له، مع جلالته في الإسلام، وعظيم أثره، وما
ورد في حقه من وجوب موالاته والرجوع إلى قوله وفعله، فهذا
هو الذي كان ينقم رضي الله عنه، ومنه كان يتألم ويطيل الشكوى، وكان ذلك في موضعه وما أنكر إلا منكراً، فأما النص فإنه لم يذكره رضي الله عنه، ولا احتج به، ولما طال الزمان صفح عن ذلك
الاستبداد الذي وقع منهم، وحضر عندهم فبايعهم، وزال ما كان في نفسه. فإن قلت: فهل كان يسوغ لأبي بكر رضي الله عنه، وقد رأى وثوب الأنصار على
الأمر أن يؤخره إلى أن يخرج رضي الله عنه ويحضر المشورة؟ قلت: إنه لم يلم أبا بكر رضي الله عنه بعينه، وإنما تألم من استبداد
الصحابة بالأمر، دون حضوره ومشاورته. ويجوز أن يكون أكثر تألمه وعتابه مصروفاً
إلى الأنصار الذين فتحوا باب الاستبداد، والتغلب. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
كلام مصنوع لأبي حيان في حديث السقيفة
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وروى القاضي أبو حامد أحمد بن بشير
المروروذي العامري
فيما
حكاه عنه أبو حيان التوحيدي، قال أبو حيان:
سمرنا عند القاضي أبي حامد ليلة ببغداد بدار ابن
جيشان، في شارع الماذيان، فتصرف الحديث بنا كل متصرف، وكان والله معنا مزيلاً
مخلطاً عزيز الرواية، لطيف الدراية له في كل جو متنفس، وفي كل نار مقتبس، فجرى حديث السقيفة، وتنازع القوم الخلافة، فركب كل منا فناً، وقال قولاً، وعرض بشيء ونزع إلى مذهب،
فقال أبو حامد: هل فيكم من يحفظ رسالة أبي بكر رضي
الله عنه إلى
علي، وجواب علي له ومبايعته إياه عقيب تلك الرسالة؟ فقالت الجماعة: لا والله، فقال:
هي والله من درر الحقاق المصونة، ومخبآت الصناديق في الخزائن المحوطة، ومنذ حفظتها ما رويتها إلا للمهلبي في وزارته، فكتبها
عني في خلوة بيده، وقال:
لا أعرف في الأرض رسالة أعقل منها، ولا أبين، وإنها لتدل على علم وحكم، وفصاحة
وفقاهة، في دين ودهاء وبعد غور، وشدة غوص. فقال له واحدٌ من القوم:
أيها القاضي، فلو أتممت المنة علينا بروايتها سمعناها ورويناها عنك، فنحن أوعى لها من المهلبي، وأوجب ذماماً عليك. فقال: هذه
الرسالة رواها عيسى بن دأب، عن صالح بن كيسان عن
هشام بن عروة، عن أبيه عروة بن الزبير، عن أبي عبيدة بن
الجراح. قال أبو عبيدة: لما استقامت
الخلافة لأبي بكر رضي الله عنه بين المهاجرين والأنصار، ولحظ بعين
الوقار والهيبة - بعد هنةٍ كاد لشيطان بها يسر فدفع الله شرها، وأدحض عسرها،
فركد كيدها، وتيسر خيرها، وقصم ظهر النفاق والفسق بين أهلها - بلغ أبا بكر رضي الله عنه عن علي رضي الله عنه تلكؤٌ وشماس،
وتهمهم ونفاس، فكره أن يتمادى الحال وتبدو له العورة، وتنفرج ذات البين، ويصير
ذلك دريئة لجاهل مغرور، أو عاقل ذي دفاء، أو صاحب سلامة ضعيف القلب، خوار
العنان، دعاني في خلوة فحضرته، وعنده عمر رضي الله عنه
وحده - وكان عمر رضي الله عنه قبساً له وظهيراً معه، يستضيء بناره، ويستملي من
لسانه - فقال لي: يا أبا عبيدة، ما أيمن ناصيتك، وأبين الخير بين عارضيك،
لقد كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمكان
المحوط، والمحل المغبوط، ولقد قال فيك في يوم مشهود: "أبو
عبيدة أمين هذه الأمة"، وطالما أعز الله الإسلام بك، وأصلح ثلمه على
يديك، ولم تزل للدين ناصراً وللمؤمنين روحاً، ولأهلك ركناً، ولإخوانك مرداً قد
أردتك لأمر له ما بعده، خطره مخوف، وصلاحه معروف، ولئن لم يندمل جرحه بمسبارك
ورفقك، ولم تجب حيته برقيتك، لقد وقع الياس، وأعضل الباس، واحتيج بعدك إلى ما هو
أمر من ذلك وأعلق، وأعسر منه وأغلق، والله أسأل تمامه بك، ونظامه على يدك. فتات
له يا أبا عبيدة، وتلطف فيه، وانصح لله ولرسوله، ولهذه العصابة، غير آلٍ جهداً،
ولا قالٍ حمداً، والله كالئك وناصرك، وهاديك ومبصرك. امض إلى علي، واخفض جناحك له، واغضض من
صوتك عنده، واعلم أنه سلالة أبي طالب، ومكانه ممن فقدناه بالأمس مكانه، وقل له:
البحر مغرقة، والبر مفرقة، والجو أكلف، والليل أغلف، والسماء جلواء، والأرض
صلعاء، والصعود متعذر، والهبوط متعسر، والحق عطوف رؤوف، والباطل نسوف عصوف،
والعجب مقدحة الشر، والضغن رائد البوار، والتعريض شجار الفتنة، والقحة مفتاح
العداوة، والشيطان متكىء على شماله، باسط ليمينه، نافج حضنيه لأهله، ينتظر
الشتات والفرقة، ويدب بين الأمة بالشحناء والعداوة، عناداً لله ولرسوله ولدينه،
يوسوس بالفجور، ويدلي بالغرور، ويمني أهل الشرور، ويوحي إلى أوليائه بالباطل،
دأباً له منذ كان على عهد أبينا آدم، وعادة منه منذ أهانه الله في سالف الدهر،
لا ينجى منه إلا بعض الناجذ على الحق، وغض الطرف عن الباطل، ووطء هامة عدو الله
والدين، بالأشد فالأشد، والأجد فالأجد، وإسلام النفس لله فيما حاز رضاه، وجنب
سخطه. ولا بد من قول ينفع إذ قد أضر السكوت وخيف غبه،
ولقد أرشدك من أفاء ضالتك، وصافاك من أحيا مودته لك بعتابك، وأراد الخير بك من
آثر البقيا معك. ما هذا الذي تسؤل لك نفسك، ويدوى به قلبك، ويلتوي عليه رأيك
ويتخاوص دونه طرفك، ويستشري به ضغنك، ويتراد معه نفسك، وتكثر لأجله صعداؤك، ولا
يفيض به لسانك أعجمة بعد إفصاح، ألبساً بعد إيضاح أديناً غيردين الله أخلقاً غير
خلق القرآن أهدياً غير هدي محمد أمثلي يمشى له الضراء ويدب له الخمر أم مثلك يغص
عليه الفضاء، ويكسف في عينه القمر ما هذه القعقعة بالشنان ، والوعوعة باللسان
إنك لجد عارف باستجابتنا لله ولرسوله، وخروجنا من أوطاننا وأولادنا وأحبتنا،
هجرةً الى الله ونصرة لدينه، في زمان أنت منه في كن الصبا وخدر الغرارة غافل،
تشبب وتربب. لا تعي ما يشاد ويراد، ولا تحصل ما يساق ويقاد، سوى ما أنت جار عليه
من أخلاق الصبيان أمثالك، وسجايا الفتيان أشكالك، حتى بلغت إلى غايتك هذه التي
إليها أجريت، وعندها حط رحلك، غير مجهول القدر ولا مجحود الفضل، ونحن في أثناء
ذلك نعاني أحوالاً تزيل الرواسي، ونقاسي أهوالاً تشيب النواصي، خائضين غمارها،
راكبين تيارها، نتجرع صابها، ونشرج عيابها، ونحكم آساسها، ونبرم أمراسها،
والعيون تحدج بالحسد، والأنوف تعطس بالكبر، والصدور تستعر بالغيظ، والأعناق
تتطاول بالفخر، والأسنة تشحذ بالمكر، والأرض تميد بالخوف، لا ننتظر عند المساء
صباحاً، ولا عند الصباح مساء، ولا ندفع في نحر أمر إلا بعد أن نحسو الموت دونه،
ولا نبلغ إلى شيء إلا بعد تجرع العذاب قبله، ولا نقوم منآداً إلا بعد اليأس من
الحياة عنده، فادين في كل ذلك رسول الله صلى
الله عليه وسلم بالأب والأم،
والخال والعم، والمال والنشب، والسبد واللبد ، والهلة والبلة ، بطيب أنفس وقرة
أعين، ورحب أعطان، وثبات عزائم، وصحة عقول، وطلاقة أوجه، وذلاقة ألسن. هذا إلى خبيئات أسرار، ومكنونات أخبار، كنت عنها غافلاً،
ولولا سنك لم تك عن شيء منها ناكلاً، كيف وفؤادك مشفوم وعودك معجوم، وغيبك
مخبور، والخيرمنك كثير فالآن قد بلغ الله بك، وأرهص الخير لك، وجعل مرادك بين
يديك، فاسمع ما أقول لك، واقبل ما يعود قبوله عليك، ودع
التحبس، والتعبس لمن لا يضلع لك إذا خطا، ولا يتزحزح عنك إذا عطا، فالأمر غض،
وفي النفوس مض، وأنت أديم هذه الأمة فلا تحلم لجاجاً، وسيفها العضب فلا تنب
اعوجاجاً، وماؤها العذب فلا تحل أجاً، والله لقد سألت رسول الله صلى الله عليه
وسلم عن هذا لمن هو؟ فقال هو لمن يرغب عنه، لا لمن يجاحش عليه، ولمن يتضاءل له
لا لمن يشمخ إليه، وهو لمن يقال له: هو لك، لا لمن يقول: هو لي. ولقد شاورني رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصهر،
فذكر فتياناً من قريش، فقلت له: أين أنت من
علي! فقال: إني لأكره لفاطمة ميعة شبابه ،
وحدة سنه. فقلت: متى كنفته
يدك، ورعته عينك، حفت بهما البركة، وأسبغت عليهما النعمة، مع كلام كثير خطبت به
رغبته فيك، وما كنت عرفت منك في ذلك حوجاء ولا لوجاء ، ولكني قلت ما قلت، وأنا أرى مكان غيرك، وأجد رائحة سواك،
وكنت لك إذ ذاك خيراً منك الآن لي. ولئن كان عرض بك رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر،
فقد كنى عن غيرك، وإن قال فيك، فما سكت عن سواك، وإن اختلج في نفسك شيء، فهلم
فالحكم مرضي، والصواب مسموع، والحق مطاع. ولقد نقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ما عند
الله وهو عن هذه العصابة راض وعليها حدب، يسره ما سرها، ويكيده ما كادها، ويرضيه
ما أرضاها، ويسخطه ما أسخطها. ألم تعلم أنه لم يدع أحداً من أصحابه وخلطائه،
وأقاربه وسجرائه ، إلا أبانه بفضيلة، وخصه بمزية، وأفرده بحالة، لو أصفقت الأمة
عليه لأجلها لكان عنده إيالتها وكفالتها. أتظن أنه رضي
الله عنه ترك الأمة سدىً بدداً ، عداً مباهل عباهل
طلاحى مفتونة بالباطل، ملوية عن الحق، لا ذائد ولا رائد، ولا ضابط ولا خابط ولا
رابط، ولا ساقي ولا واقي، ولا حادي ولا هادي، كلا والله ما اشتاق إلى ربه، ولا
سأله المصير إلى رضوانه، إلا بعد أن أقام الصوى، وأوضح الهدى، وأمن المهالك،
وحمى المطارح والمبارك. وإلا بعد أن شدخ يافوخ الشرك بإذن الله، وشرم وجه النفاق
لوجه الله، وجدع أنف الفتنة في دين الله، وتفل في عين الشيطان بعون الله، وصدع
بملء فيه ويده بأمر الله. وبعد، فهؤلاء المهاجرون والأنصار عندك ومعك في بقعة
جامعة، ودار واحدة، إن استقادوا لك وأشاروا بك، فأنا واضع يدي في يدك، وصائر إلى
رأيهم فيك، وإن تكن الأخرى، فادخل في صالح ما دخل فيه
المسلمون، وكن العون على مصالحهم، والفاتح لمغالقهم، والمرشد لضالهم، والرادع
لغاويهم، فقد أمر الله التعاون على البر، وأهاب إلى التناصر على الحق.
ودعنا نقض هذه الحياة الدنيا بصدور بريئة من الغل، ونلقى الله بقلوب سليمة من
الضغن. وإنما
الناس ثمامة فارفق بهم، واحن عليهم، ولن لهم، ولا تسول لك نفسك فرقتهم، واختلاف
كلمتهم، واترك ناجم الشر حصيداً، وطائر الحقد واقعاً، وباب الفتنة مغلقاً، لا
قال ولا قيل، ولا لوم ولا تعنيف، ولا عتاب ولا تثريب ، والله على ما أقول وكيل،
وبما نحن عليه بصير. قال أبو عبيدة: فلما تهيأت للنهوض، قال لي عمر: كن على الباب هنيهةً فلي معك ذرو من
الكلام. فوقفت وما أدري ما كان بعدي، إلا أنه لحقني بوجه يندى تهللاً، وقال لي: قل لعلي:
الرقاد محلمة، واللجاج ملحمة، والهوى مقحمة، وما منا أحد إلا له مقام معلوم، وحق
مشاع أومقسوم، وبناء ظاهر أو مكتوم، وإن أكيس الكيسى من منح الشارد تألفاً،
وقارب البعيد تلطفاً، ووزن. كل أمر بميزانه، ولم يجعل خبره كعيانه، ولا قاسى
فتره بشبره، دينا كان أو دنياً، وضلالاً كان أو هدى، ولا خير في علم معتمل في
جهل، ولا في معرفة مشوبة بنكر.
وكل
صال فبناره يصلى، وكل سيل فإلى قراره يجري. وما كان سكوت هذه العصابة إلى هذه الغاية لعي،
وحصر، ولا كلامها اليوم لفرق أو حذر، فقد جاء
الله بمحمد صلى الله عليه وسلم أنف كل متكبر، وقصم به ظهر كل جبار، وسل لسان كل كذوب، فماذا
بعد الحق إلا الضلال ما هذه الخنزوانة التي في فراش رأسك؟ وما هذا الشجا المعترض في مدارج
أنفاسك، وما هذه الوحرة التي أكلت شراسيفك ، والقذاة التي أعشت ناظرك؟ وما هذا
الدحس والدس اللذان يدلان على ضيق الباع، وخور الطباع! وما هذا الذي لبست بسببه
جلد النمر، واشتملت عليه بالشحناء والنكر لشد ما استسعيت لها، وسريت سرى ابن
أنقد إليها، إن العوان لا تعلم الخمرة. ما أحوج الفرعاء إلى فالية، وما أفقر الصلعاء
إلى حالية، ولقد قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر معبد مخيس ، ليس لأحد فيه ملمس، لم يسير فيك قولاً،
ولم يستنزل لك قرآناً، ولم يجزم في شأنك حكماً، لسنا في كسروية كسرى، ولا قيصرية
قيصر، تأمل إخوان فارس وأبناء الأصفر، قد جعلهم الله جزراً لسيوفنا ودريئة
لرماحنا، ومرمى لطعاننا بل، نحن في نور نبوة، وضياء رسالة، وثمرة حكمة وأثر
رحمة، وعنوان نعمة، وظل عصمة، بين أمة مهدية بالحق والصدق، مأمونة على الرتق
والفتق، لها من الله تعالى قلب أبي، وساعد قوي، ويد ناصرة، وعين ناظرة. أتظن
ظناً أن أبا بكر وثب على هذا الأمر مفتاتاً على الأمة، خادعاً لها، ومتسلطاً
عليها! أتراه امتلخ أحلامها ، وأزاغ أبصارها، وحل عقودها، وأحال عقولها واستل من
صدورها حميتها وانتكث رشاءها ، وانتضب ماءها، وأضلها عن هداها، وساقها إلى
رداها، وجعل نهارها ليلاً، ووزنها كيلاً، ويقظتها رقاداً، وصلاحها فسادا! إن كان
هكذا، إن سحره لمبين، وان كيده لمتين. كلا والله، بأي خيل ورجل، وبأي سنان ونصل،
وبأي منة وقوة، وبأي مال وعدة، وبأي أيد وشدة، وبأي عشيرة وأسرة، وبأي قدرة
ومكنة، وبأي تدرع وبسطة! لقد أصبح بما وسمته منيع الرقبة، رفيع العتبة. لا والله لكن سلا عنها فولهت نحوه، وتطامن لها
فالتفت به، ومال عنها، فمالت إليه واشمأز دونها فاشتملت عليه، حبوة حباه الله
بها، وغاية بلغه الله إليها، ونعمة سربله جمالها، ويد لله أوجب عليه شكرها، وأمة
نظر الله به لها. وطالما حلقت فوقه قي أيام النبي صلى الله عليه وسلم وهولا يلتفت لفتها، ولا يرتصد وقتها،
والله أعلم بخلقه، وأرأف بعباده، يختار ما كان لهم الخيرة. وإنك
بحيث لا يجهل موضعك من بيت النبوة، ومعدن الرسالة، وكهف الحكمة، ولا يجحد حقك
فيما آتاك ربك من العلم، ومنحك من الفقه في الدين، هذا إلى مزايا خصصت بها،
وفضائل اشتملت عليها، ولكن لك من يزاحمك بمنكب أضخم من منكبك، وقربى أمس من
قرباك، وسن أعلى من سنك، وشيبة أروع من شيبتك، وسيادة معروفة في الإسلام
والجاهلية، ومواقف ليس لك فيها جمل ولا ناقة، ولا تذكر فيها في مقدمة ولا ساقة،
ولا تضرب فيها بذراع ولا إصبع، ولا تعد منها ببازل ولا هبع . إن أبا بكر كان حبة
قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلاقة
همه، وعيبة سره ومثوى حزنه، وراحة باله، ومرمق طرفه، شهرته مغنية عن الدلالة
عليه. ولعمري إنك لأقرب منه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قرابة، ولكنه أقرب منك قربة، والقرابة
لحم ودم، والقربة روح ونفس، وهذا فرق يعرفه المؤمنون، ولذلك صاروا إليه أجمعون. ومهما شككت فلا تشك في أن يد الله مع الجماعة،
ورضوانه لأهل الطاعة، فادخل فيما هو خير لك اليوم، وأنفع غداً، والفظ من فيك ما
هو متعلق بلهاتك ، وانفث سخيمة صدرك، فإن يكن في الأمد طول، وفي الأجل فسحة،
فستأكله مريئاً أو غير مريء، وستشربه هنيئاً أو غير هنيء، حين لا راد لقولك إلا
من كان آيساً منك، ولا تابع لك إلا من كان طامعاً فيك، حين يمض إهابك ، ويفري
أديمك، ويزري على هديك، هناك تقرع السن من ندم، وتشرب الماء ممزوجاً بدم، حين
تأسى على ما مضى من عمرك، وانقضى وانقرض من دارج قومك، وتود أن لوسقيت بالكأس
التي سقيتها غيرك، ورددت إلى الحال التي كنت تكرهها في أمسك، ولله فينا وفيك أمر
هو بالغه، وعاقبة هو المرجو لسرائها وضرائها، وهو الولي الحميد الغفور الودود. قال أبو عبيدة: فمشيت إلى علي مثبطاً متباطئاً، كأنما أخطو على أم رأسي فرقاً من
الفتنة، وإشفاقاً على الأمة، وحذراً من الفرقة، حتى وصلت إليه في خلاء فأبثثته
بثي كله، وبرئت إليه منه، ودفعته له. فلما سمعها ووعاها، وسرت في أوصاله حمياها قال: حلت معلوطة ، وولت مخروطة ، ثم قال:
يا أبا عبيدة،
أهذا كله في أنفس القوم يستبطنونه ويضطغنون عليه! فقلت:
لا جواب عندي، إنما جئتك قاضياً حق الدين،
وراتقاً فتق الإسلام، وساداً ثلمة الأمة؟ يعلم الله ذلك من خلجلان قلبي، وقرارة
نفسي. فقال: ما كان قعودي
في كسر هذا البيت قصداً لخلاف، ولا إنكاراً لمعروف، ولا زراية على فسلم، بل لما وقذني به رسول الله صلى الله عليه وسلم من فراقه،
وأودعني من الحزن لفقده، فإني لم أشهد بعده مشهداً إلا جدد علي حزناً، وذكرني
شجناً، وإن الشوق إلى اللحاق به كاف عن الطمع في غيره، وقد
عكفت على عهد الله أنظر فيه، وأجمع ما تفرق منه، رجاء ثواب معد لمن أخلص لله
عمله، وسلم لعلمه ومشيئته أمره، على أني أعلم أن التظاهر علي واقع، ولي عن الحق
الذي سيق إلي دافع، وإذ قد افعم الوادي لي، وحشد النادي علي، فلا مرحباً بما ساء
أحداً من المسلمين، وفي النفس كلام لولا سابق قول، وسالف عهد، لشفيت غيظي بخنصري
وبنصري، وخضت لجته بأخمصي ومفرقي، ولكني ملجم إلى أن
ألقى الله تعالى، عنده أحتسب ما نزل بي، وأنا غاد إن شاء الله إلى
جماعتكم، ومبايع لصاحبكم، وصابر على ما ساءني وسركم،
ليقضي الله أمراً كان مفعولاً، وكان الله على كل شيء شهيداً. إن قدحنا أورينا، وإن متحنا أروينا، وإن قرحنا
أدمينا، وقد سمعت أمثالك التي ألغزت بها صادرة عن صدر دوٍ، وقلب جوٍ. زعمت أنك
قعدت في كسر بيتك لما وقذك به فراق رسول الله صلى
الله عليه وسلم. أفراق رسول الله صلى
الله عليه وسلم، وقذك وحدك ولم
يقذ سواك، إن مصابه لأعز وأعظم من ذاك، وإن من حق مصابه ألا تصدع شمل الجماعة
بكلمة لا عصام لها، فإنك لترى الأعراب حول المدينة لو تداعست علينا في صبح يوم
لم نلتق في ممساه. وزعمت أن الشوق إلى اللحاق به كافٍ عن الطمع في غيره، فمن
الشوق إليه نصرة دينه، وموازرة المسلمين عليه، ومعاونتهم فيه. وزعمت أنك
مكبٌ على عهد الله تجمع ما تفرق منه، فمن العكوف على عهده النصيحة لعباده،
والرأفة على خلقه، وأن تبذل من نفسك ما يصلحون به ويجتمعون عليه. وزعمت أن
التظاهر عليك واقع، وأي تظاهر وقع عليك، أي حق استؤثر به دونك، لقد علمت ما قالت الأنصار أمس سراً وجهراً، وما تقلبت عليه
ظهراً وبطناً، فهل ذكرتك أو أشارت بك، أو طلبت رضاها من عندك، وهؤلاء المهاجرون، من الذي قال منهم إنك صاحب هذا
الأمر، أو أومأ إليك، أو همهم بك في نفسه، أتظن أن الناس ضلوا من أجلك، أو عادوا
كفاراً زهداً فيك، أو باعوا الله تعالى بهواهم بغضاً لك، ولقد جاءني قوم من الأنصار، فقالوا: إن علياً ينتظر
الإمامة، ويزعم أنه أولى بها من أبي بكر رضي
الله عنه، فأنكرت عليهم ورددت
القول في نحورهم، حتى قالوا: إنه ينتظر
الوحي ويتوكف مناجاة الملك، فقلت: ذاك أمر طواه
الله بعد محمد صلى الله عليه وسلم. ومن أعجب شأنك قولك:
"لولا سابق قول لشفيت غيظي بخنصري وبنصري"، وهل ترك الدين لأحد أن
يشفي غيظه بيده أو لسانه ، تلك جاهلية استأصل الله
شأفتها واقتلع جرثومتها ، ونور ليلها وغور سيلها، وأبدل منها الروح والريحان،
والهدى والبرهان، وزعمت أنك ملجم، فلعمري إن من
اتقى الله، وآثر رضاه، وطلب ما عنده، أمسك لسانه، وأطبق فاه، وغلب عقله ودينه
على هواه. وأما قولك: "إني لأعرف
منزع قوسي"، فإذا عرفت منزع قوسك عرف غيرك مضرب سيفه، ومطعن رمحه. وأما ما تزعمه من الأمر الذي جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم لك، فتخلفت إعذاراً إلى الله، وإلى
العارفة به من المسلمين، فلو عرفه المسلمون
لجنحوا إليه، وأصفقوا عليه، وما كان الله ليجمعهم على العمى، ولا ليضربهم بالصبا
بعد الهدى، ولو كان لرسول الله صلى الله عليه
وسلم
فيك
رأي، وعليك عزم، ثم بعثه الله، فرأى اجتماع أمته على أبي بكر رضي الله عنه، لما سفه آراءهم، ولا ضلل
أحلامهم، ولا آثرك عليهم، ولا أرضاك بسخطهم، ولأمرك باتباعهم، والدخول معهم فيما
ارتضوه لدينهم. فقال علي: مهلاً أبا حفص أرشدك الله، خفض
عليك، ما بذلت ما بذلت وأنا أريد عنه حولاً، وإن أخسر الناس صفقة عند الله من
استبطن النفاق، واحتضن الشقاق، وفي الله خلف عن كل فائت، وعوضٌ من كل ذاهب،
وسلوة عن كل حادث، وعليه التوكل في جميع الحوادث. ارجع أبا حفصٍ إلى مجلسك ناقع القلب.
مبرود الغليل، فصيح اللسان، رحب الصدر، متهلل الوجه، فليس وراء ما سمعته مني إلا
ما يشد الأزر، ويحبط الوزر، ويضع الإصر، ويجمع الألفة، ويرفع الكلفة، إن شاء
الله،
فانصرف عمر إلى مجلسه. قال أبو عبيدة:
فلم أسمع ولم أر كلاماً ولا مجلساً كان أصعب من ذلك الكلام والمجلس. قلت: الذي يغلب على ظني أن
هذه المراسلات والمحاورات والكلام كله مصنوع موضوع، وأنه من كلام أبي حيان التوحيدي، لأنه بكلامه ومذهبه في الخطابة
والبلاغة أشبه، وقد حفظنا كلام عمر رضي
الله عنه ورسائله، وكلام أبي بكر
رضي الله عنه وخطبه،
فلم نجدهما يذهبان هذا المذهب، ولا يسلكان هذا
السبيل في كلامهما، وهذا كلام عليه أثر التوليد ليس يخفى، وأين أبو بكر وعمر رضي
الله عنهما من البديع وصناعة المحدثين،
ومن تأمل كلام أبي حيان عرف أن هذا الكلام من ذلك
المعدن خرج، ويدل عليه أنه أسنده إلى القاضي أبي حامد المروروذي ، وهذه
عادته في كتاب "البصائر" يسند إلى القاضي أبي
حامد كل ما يريد أن يقوله هو من تلقاء نفسه، إذا كان كارهاً لأن ينسب
إليه، وإنما ذكرناه نحن في هذا الكتاب، لأنه وإن كان
عندنا موضوعاً منحولاً، فإنه صورة ما جرت عليه حال القوم، فهم وإن لم ينطقوا به
بلسان المقال، فقد نطقوا به بلسان الحال. ومما يوضح لك أنه مصنوع، أن
المتكلمين على اختلاف مقالاتهم من المعتزلة والشيعة والأشعرية وأصحاب الحديث،
وكل من صنف في علم الكلام والإمامة لم يذكر أحد منهم كلمة واحدة من هذه الحكاية،
ولقد كان المرتضى رحمه الله يلتقط من كلام أمير
المؤمنين رضي الله عنه اللفظة الشاذة، والكلمة المفردة الصادرة عنه رضي الله عنه، في معرض التألم
والتظلم، فيحتج بها، ويعتمد عليها، نحو
قوله: "ما زلت مظلوماً مذ قبض رسول الله حتى يوم
الناس هذا". وقوله:
"لقد ظلمت عدد الحجر والمدر". وقوله:
"إن لنا حقاً إن نعطه نأخذه، وإن نمنعه نركب أعجاز الإبل، وإن طال
السرى". وقوله:
"فصبرت وفي الحلق شجاً ، وفي العين قذىً". وقوله:
"اللهم إني أستعديك على قريش فإنهم ظلموني حقي، وغصبوني إرثي ". وكان المرتضى إذا
ظفر بكلمة من هذه، فكأنما ظفر بملك الدنيا ويودعها كتبه وتصانيفه، فأين كان
المرتضى عن هذا الحديث، وهلا ذكر في كتاب "الشافي في الإمامة"
كلام أمير المؤمنين رضي الله عنه
هذا، وكذلك
من قبله من الإمامية كابن النعمان، وبني نوبخت، وبني بابويه وغيرهم،
وكذلك من جاء بعده من متأخري متكلمي الشيعة وأصحاب
الأخبار والحديث منهم إلى وقتنا هذا، وأين
كان أصحابنا عن كلام أبي بكر وعمر رضي الله عنه له رضي الله عنه وهلا ذكره قاضي القضاة في "المغني" مع احتوائه على
كل ما جرى بينهم، حتى إنه يمكن أن يجمع منه تاريخ كبير مفرد في أخبار
السقيفة، وهلا ذكره من كان قبل قاضي القضاة من
مشايخنا وأصحابنا ومن جاء بعده من متكلمينا ورجالنا، وكذلك القول في متكلمي الأشعرية وأصحاب الحديث كابن الباقلاني وغيره،
وكان ابن الباقلاني شديداً
على الشيعة، عظيم العصبية على أمير المؤمنين رضي الله عنه، فلو ظفر بكلمة من كلام أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في هذا الحديث لملأت الكتب والتصانيف بها، وجعلها هجيراه ودأبه. والأمر
فيما ذكرناه من وضع هذه القصة ظاهر لمن عنده أدق
ذوق من علم البيان، ومعرفة كلام الرجال، ولمن عنده أدق معرفة بعلم السير، وأقل
أنس بالتواريخ. قوله رضي الله عنه:
"مودع لا قالٍ ولا مبغض ولا سئم"، أي لا ملول، سئمت من الشيء أسأم وسآماً وسآمة، سئمته إذا
مللته، ورجل سؤوم. ثم أكد رضي الله عنه هذا المعنى، فقال:
"إن انصرفت فلا عن ملالة، وإن أقمت فلا عن سوء ظن بما وعد الله
الصابرين"، أي ليست إقامتي على قبرك وجزعي عليك، إنكاراً مني لفضيلة الصبر
والتجلد والتعزي والتأسي، وما وعد الله به الصابرين من الثواب، بل أنا عالم
بذلك، ولكن يغلبني بالطبع البشري. وروي أن فاطمة بنت الحسين رضي الله عنهما ضربت
فسطاطاً على قبر بعلها الحسن بن الحسن رضي الله عنه سنة، فلما انقضت
السنة قوضت الفسطاس راجعة إلى بيتها، فسمعت هاتفاً
يقول: هل بلغوا ما طلبوا، فأجاب هاتف آخر، بل يئسوا فانصرفوا. وذكر أبو العباس محمد بن يزيد المبرد في كتابه
"الكامل" أن رضي الله عنه تمثل عند قبر فاطمة:
والناس يروونه: وإن افتقادي فاطماً بعد أحمدٍ |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الفهرس الجزء العاشر - باب المختار
من الخطب والأوامر - ابن ابي الحديد. بسم
الله الرحمن الرحيم الحمد لله الواحد العدل. ومن كلام له في شأن طلحة بن عبيد
الله.. من خطبة له عليه السلام في ذم الغافلين.. رأي بعض الغلاة في أمير المؤمنين.. أمير المؤمنين وإخباره بالأمور الغيبية. ومن خطبة له في التحذير من متابعة
الهوى . ومن خطبة له رضي الله عنه يذكر أن
زوال النعم من سوء الفعال. ومن خطبة له في تنزيه الله وذكر
آثار قدرته. نسب العمالقة وعاد وثمود والفراعنة
وأصحاب الرس، من خطبة له في قدرة الله وفضل القرآن. رأي للمؤلف في كتاب نهج البلاغة. ومن كلام له قاله للبرج بن مسهر
الطائي. ومن خطبة له يصف فيها المنافقين.. ومن خطبة له في ذكر بعض صفات الله.. ومن خطبة له عليه السلام يحث على
العمل الصالح. خبر موت الرسول الأعظم صلى الله
عليه وسلم. ومن خطبة له في حث الناس علي التقوى. حسن سياسة أمير المؤمنين عليه السلام الأسباب التي أوجبت محبة الناس لعلي. سياسة الإمام علي عليه السلام ومعاوية. أقوال من طعن في سياسة علي والرد
عليها |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||