- القرآن الكريم
- سور القرآن الكريم
- 1- سورة الفاتحة
- 2- سورة البقرة
- 3- سورة آل عمران
- 4- سورة النساء
- 5- سورة المائدة
- 6- سورة الأنعام
- 7- سورة الأعراف
- 8- سورة الأنفال
- 9- سورة التوبة
- 10- سورة يونس
- 11- سورة هود
- 12- سورة يوسف
- 13- سورة الرعد
- 14- سورة إبراهيم
- 15- سورة الحجر
- 16- سورة النحل
- 17- سورة الإسراء
- 18- سورة الكهف
- 19- سورة مريم
- 20- سورة طه
- 21- سورة الأنبياء
- 22- سورة الحج
- 23- سورة المؤمنون
- 24- سورة النور
- 25- سورة الفرقان
- 26- سورة الشعراء
- 27- سورة النمل
- 28- سورة القصص
- 29- سورة العنكبوت
- 30- سورة الروم
- 31- سورة لقمان
- 32- سورة السجدة
- 33- سورة الأحزاب
- 34- سورة سبأ
- 35- سورة فاطر
- 36- سورة يس
- 37- سورة الصافات
- 38- سورة ص
- 39- سورة الزمر
- 40- سورة غافر
- 41- سورة فصلت
- 42- سورة الشورى
- 43- سورة الزخرف
- 44- سورة الدخان
- 45- سورة الجاثية
- 46- سورة الأحقاف
- 47- سورة محمد
- 48- سورة الفتح
- 49- سورة الحجرات
- 50- سورة ق
- 51- سورة الذاريات
- 52- سورة الطور
- 53- سورة النجم
- 54- سورة القمر
- 55- سورة الرحمن
- 56- سورة الواقعة
- 57- سورة الحديد
- 58- سورة المجادلة
- 59- سورة الحشر
- 60- سورة الممتحنة
- 61- سورة الصف
- 62- سورة الجمعة
- 63- سورة المنافقون
- 64- سورة التغابن
- 65- سورة الطلاق
- 66- سورة التحريم
- 67- سورة الملك
- 68- سورة القلم
- 69- سورة الحاقة
- 70- سورة المعارج
- 71- سورة نوح
- 72- سورة الجن
- 73- سورة المزمل
- 74- سورة المدثر
- 75- سورة القيامة
- 76- سورة الإنسان
- 77- سورة المرسلات
- 78- سورة النبأ
- 79- سورة النازعات
- 80- سورة عبس
- 81- سورة التكوير
- 82- سورة الانفطار
- 83- سورة المطففين
- 84- سورة الانشقاق
- 85- سورة البروج
- 86- سورة الطارق
- 87- سورة الأعلى
- 88- سورة الغاشية
- 89- سورة الفجر
- 90- سورة البلد
- 91- سورة الشمس
- 92- سورة الليل
- 93- سورة الضحى
- 94- سورة الشرح
- 95- سورة التين
- 96- سورة العلق
- 97- سورة القدر
- 98- سورة البينة
- 99- سورة الزلزلة
- 100- سورة العاديات
- 101- سورة القارعة
- 102- سورة التكاثر
- 103- سورة العصر
- 104- سورة الهمزة
- 105- سورة الفيل
- 106- سورة قريش
- 107- سورة الماعون
- 108- سورة الكوثر
- 109- سورة الكافرون
- 110- سورة النصر
- 111- سورة المسد
- 112- سورة الإخلاص
- 113- سورة الفلق
- 114- سورة الناس
- سور القرآن الكريم
- تفسير القرآن الكريم
- تصنيف القرآن الكريم
- آيات العقيدة
- آيات الشريعة
- آيات القوانين والتشريع
- آيات المفاهيم الأخلاقية
- آيات الآفاق والأنفس
- آيات الأنبياء والرسل
- آيات الانبياء والرسل عليهم الصلاة السلام
- سيدنا آدم عليه السلام
- سيدنا إدريس عليه السلام
- سيدنا نوح عليه السلام
- سيدنا هود عليه السلام
- سيدنا صالح عليه السلام
- سيدنا إبراهيم عليه السلام
- سيدنا إسماعيل عليه السلام
- سيدنا إسحاق عليه السلام
- سيدنا لوط عليه السلام
- سيدنا يعقوب عليه السلام
- سيدنا يوسف عليه السلام
- سيدنا شعيب عليه السلام
- سيدنا موسى عليه السلام
- بنو إسرائيل
- سيدنا هارون عليه السلام
- سيدنا داود عليه السلام
- سيدنا سليمان عليه السلام
- سيدنا أيوب عليه السلام
- سيدنا يونس عليه السلام
- سيدنا إلياس عليه السلام
- سيدنا اليسع عليه السلام
- سيدنا ذي الكفل عليه السلام
- سيدنا لقمان عليه السلام
- سيدنا زكريا عليه السلام
- سيدنا يحي عليه السلام
- سيدنا عيسى عليه السلام
- أهل الكتاب اليهود النصارى
- الصابئون والمجوس
- الاتعاظ بالسابقين
- النظر في عاقبة الماضين
- السيدة مريم عليها السلام ملحق
- آيات الناس وصفاتهم
- أنواع الناس
- صفات الإنسان
- صفات الأبراروجزائهم
- صفات الأثمين وجزائهم
- صفات الأشقى وجزائه
- صفات أعداء الرسل عليهم السلام
- صفات الأعراب
- صفات أصحاب الجحيم وجزائهم
- صفات أصحاب الجنة وحياتهم فيها
- صفات أصحاب الشمال وجزائهم
- صفات أصحاب النار وجزائهم
- صفات أصحاب اليمين وجزائهم
- صفات أولياءالشيطان وجزائهم
- صفات أولياء الله وجزائهم
- صفات أولي الألباب وجزائهم
- صفات الجاحدين وجزائهم
- صفات حزب الشيطان وجزائهم
- صفات حزب الله تعالى وجزائهم
- صفات الخائفين من الله ومن عذابه وجزائهم
- صفات الخائنين في الحرب وجزائهم
- صفات الخائنين في الغنيمة وجزائهم
- صفات الخائنين للعهود وجزائهم
- صفات الخائنين للناس وجزائهم
- صفات الخاسرين وجزائهم
- صفات الخاشعين وجزائهم
- صفات الخاشين الله تعالى وجزائهم
- صفات الخاضعين لله تعالى وجزائهم
- صفات الذاكرين الله تعالى وجزائهم
- صفات الذين يتبعون أهواءهم وجزائهم
- صفات الذين يريدون الحياة الدنيا وجزائهم
- صفات الذين يحبهم الله تعالى
- صفات الذين لايحبهم الله تعالى
- صفات الذين يشترون بآيات الله وبعهده
- صفات الذين يصدون عن سبيل الله تعالى وجزائهم
- صفات الذين يعملون السيئات وجزائهم
- صفات الذين لايفلحون
- صفات الذين يهديهم الله تعالى
- صفات الذين لا يهديهم الله تعالى
- صفات الراشدين وجزائهم
- صفات الرسل عليهم السلام
- صفات الشاكرين وجزائهم
- صفات الشهداء وجزائهم وحياتهم عند ربهم
- صفات الصالحين وجزائهم
- صفات الصائمين وجزائهم
- صفات الصابرين وجزائهم
- صفات الصادقين وجزائهم
- صفات الصدِّقين وجزائهم
- صفات الضالين وجزائهم
- صفات المُضَّلّين وجزائهم
- صفات المُضِلّين. وجزائهم
- صفات الطاغين وجزائهم
- صفات الظالمين وجزائهم
- صفات العابدين وجزائهم
- صفات عباد الرحمن وجزائهم
- صفات الغافلين وجزائهم
- صفات الغاوين وجزائهم
- صفات الفائزين وجزائهم
- صفات الفارّين من القتال وجزائهم
- صفات الفاسقين وجزائهم
- صفات الفجار وجزائهم
- صفات الفخورين وجزائهم
- صفات القانتين وجزائهم
- صفات الكاذبين وجزائهم
- صفات المكذِّبين وجزائهم
- صفات الكافرين وجزائهم
- صفات اللامزين والهامزين وجزائهم
- صفات المؤمنين بالأديان السماوية وجزائهم
- صفات المبطلين وجزائهم
- صفات المتذكرين وجزائهم
- صفات المترفين وجزائهم
- صفات المتصدقين وجزائهم
- صفات المتقين وجزائهم
- صفات المتكبرين وجزائهم
- صفات المتوكلين على الله وجزائهم
- صفات المرتدين وجزائهم
- صفات المجاهدين في سبيل الله وجزائهم
- صفات المجرمين وجزائهم
- صفات المحسنين وجزائهم
- صفات المخبتين وجزائهم
- صفات المختلفين والمتفرقين من أهل الكتاب وجزائهم
- صفات المُخلَصين وجزائهم
- صفات المستقيمين وجزائهم
- صفات المستكبرين وجزائهم
- صفات المستهزئين بآيات الله وجزائهم
- صفات المستهزئين بالدين وجزائهم
- صفات المسرفين وجزائهم
- صفات المسلمين وجزائهم
- صفات المشركين وجزائهم
- صفات المصَدِّقين وجزائهم
- صفات المصلحين وجزائهم
- صفات المصلين وجزائهم
- صفات المضعفين وجزائهم
- صفات المطففين للكيل والميزان وجزائهم
- صفات المعتدين وجزائهم
- صفات المعتدين على الكعبة وجزائهم
- صفات المعرضين وجزائهم
- صفات المغضوب عليهم وجزائهم
- صفات المُفترين وجزائهم
- صفات المفسدين إجتماعياَ وجزائهم
- صفات المفسدين دينيًا وجزائهم
- صفات المفلحين وجزائهم
- صفات المقاتلين في سبيل الله وجزائهم
- صفات المقربين الى الله تعالى وجزائهم
- صفات المقسطين وجزائهم
- صفات المقلدين وجزائهم
- صفات الملحدين وجزائهم
- صفات الملحدين في آياته
- صفات الملعونين وجزائهم
- صفات المنافقين ومثلهم ومواقفهم وجزائهم
- صفات المهتدين وجزائهم
- صفات ناقضي العهود وجزائهم
- صفات النصارى
- صفات اليهود و النصارى
- آيات الرسول محمد (ص) والقرآن الكريم
- آيات المحاورات المختلفة - الأمثال - التشبيهات والمقارنة بين الأضداد
- نهج البلاغة
- تصنيف نهج البلاغة
- دراسات حول نهج البلاغة
- الصحيفة السجادية
- تصنيف الصحيفة السجادية
- تصنيف الصحيفة بالموضوعات
- الباب السابع : باب الاخلاق
- الباب الثامن : باب الطاعات
- الباب التاسع: باب الذكر والدعاء
- الباب العاشر: باب السياسة
- الباب الحادي عشر:باب الإقتصاد
- الباب الثاني عشر: باب الإنسان
- الباب الثالث عشر: باب الكون
- الباب الرابع عشر: باب الإجتماع
- الباب الخامس عشر: باب العلم
- الباب السادس عشر: باب الزمن
- الباب السابع عشر: باب التاريخ
- الباب الثامن عشر: باب الصحة
- الباب التاسع عشر: باب العسكرية
- الباب الاول : باب التوحيد
- الباب الثاني : باب النبوة
- الباب الثالث : باب الإمامة
- الباب الرابع : باب المعاد
- الباب الخامس: باب الإسلام
- الباب السادس : باب الملائكة
- تصنيف الصحيفة بالموضوعات
- أسماء الله الحسنى
- أعلام الهداية
- النبي محمد (صلى الله عليه وآله)
- الإمام علي بن أبي طالب (عليه السَّلام)
- السيدة فاطمة الزهراء (عليها السَّلام)
- الإمام الحسن بن علي (عليه السَّلام)
- الإمام الحسين بن علي (عليه السَّلام)
- لإمام علي بن الحسين (عليه السَّلام)
- الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السَّلام)
- الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السَّلام)
- الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السَّلام)
- الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السَّلام)
- الإمام محمد بن علي الجواد (عليه السَّلام)
- الإمام علي بن محمد الهادي (عليه السَّلام)
- الإمام الحسن بن علي العسكري (عليه السَّلام)
- الإمام محمد بن الحسن المهدي (عجَّل الله فرَجَه)
- تاريخ وسيرة
- "تحميل كتب بصيغة "بي دي أف
- تحميل كتب حول الأخلاق
- تحميل كتب حول الشيعة
- تحميل كتب حول الثقافة
- تحميل كتب الشهيد آية الله مطهري
- تحميل كتب التصنيف
- تحميل كتب التفسير
- تحميل كتب حول نهج البلاغة
- تحميل كتب حول الأسرة
- تحميل الصحيفة السجادية وتصنيفه
- تحميل كتب حول العقيدة
- قصص الأنبياء ، وقصص تربويَّة
- تحميل كتب السيرة النبوية والأئمة عليهم السلام
- تحميل كتب غلم الفقه والحديث
- تحميل كتب الوهابية وابن تيمية
- تحميل كتب حول التاريخ الإسلامي
- تحميل كتب أدب الطف
- تحميل كتب المجالس الحسينية
- تحميل كتب الركب الحسيني
- تحميل كتب دراسات وعلوم فرآنية
- تحميل كتب متنوعة
- تحميل كتب حول اليهود واليهودية والصهيونية
- المحقق جعفر السبحاني
- تحميل كتب اللغة العربية
- الفرقان في تفسير القرآن -الدكتور محمد الصادقي
- وقعة الجمل صفين والنهروان
الجزء
التاسع باب المختار من الخطب والأوامر - ابن ابي الحديد
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ذكر ما شجر بين علي وعثمان
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
واعلم أن هذا الكتاب يستدعي منا أن
نذكر أطرافاً مما شجر بين أمير المؤمنين عليه السلام وعثمان أيام خلافته؟ إذ كان
هذا الكلام الذي شرحناه من ذلك النمط، والشيء يذكر بنظيره، وعادتنا في هذا الشرح
أن نذكر الشيء مع ما يناسبه ويقتضي ذكره. قال أحمد بن عبد العزيز الجوهري في كتاب أخبار السقيفة حدثني
محمد بن منصور الرمادي، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن زياد بن جبل، عن أبي كعب
الحارثي وهو ذو الإداوة ، قال أبو بكر أحمد بن عبد العزيز: وإنما سمي ذا الإداوة لأنه قال: إني خرجت في طلب
إبل ضوال، فتزودت لبناً في إداوة، ثم قلت في نفسي:
ما أنصفت ربي! فأين الوضوء؟ فأرقت اللبن وملأتها ماء، فقلت:
هذا وضوء وشراب، وطفقت أبغي إبلي، فلما أردت الوضوء اصطببت من الإداوة ماء
فتوضأت، ثم أردت الشرب، فلما اصطببتها إذا لبن فشربت، فمكثت بذلك ثلاثاً؟ فقالت له أسماء النحرانية: يا أبا كعب، أحقينا كان
أم حليباً: قال: إنك لبطالة! كان يعصم من
الجوع ويروي من الظمأ، أما إني حدثت بهذا نفراً من قومي، منهم علي بن الحارث سيد
بني قنان، فلم يصدقني، وقال: ما أظن الذي
تقول كما قلت! فقلت:
الله أعلم بذلك. ورجعت الى منزلي، فبت ليلتي تلك، فإذا به صلاة الصبح على بابي، فخرجت اليه، فقلت: رحمك الله! لم تعنيت؟ الا أرسلت
الي فآتيك، فإني لأحق بذلك منك قال: ما نمت الليلة الا أتاني آت فقال: أنت الذي
تكذب من يحدث بما أنعم الله عليه قال أبو كعب: ثم خرجت حتى أتيت المدينة، فأتيت عثمان بن عفان وهو الخليفة يومئذ فسالته عن شيء من أمر
ديني، وقلت: يا أمير المؤمنين، إني رجل من أهل اليمن من بني الحارث بن
كعب، وإني أريد أن أسالك فأمر حاجبك الا يحجبني، فقال:
يا وثاب، إذا جاءك هذا الحارثي فأذن له. قال: فكنت إذا
جئت، فقرعت الباب، قال: من ذا؟ فقلت:
الحارثي. فيقول:
ادخل، فدخلت يوماً فإذا عثمان جالس، وحوله نفر سكوت لا يتكلمون، كأن على رؤوسهم
الطير، فسلمت ثم جلست، فلم أساله عن شيء لما رأيت من حالهم وحاله، فبينا أنا
كذلك إذ جاء نفر، فقالوا: إنه أبى أن يجيء. قال: فغضب
وقال: أي أن يجيء! إذهبوا فجيئوا به، فإن أبى فجروه جراً. فتبعته حتى دخل المسجد، فإذا
عمار جالس الى سارية، وحوله نفر من أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم يبكون، فقال عثمان:
يا وثاب علي بالشرط ، فجاؤوا، فقال: فرقوا
بين هؤلاء، ففرقوا بينهم. قال: ثم خرجت من المدينة حتى انتهيت الى الكوفة، فوجدت أهلها
أيضاً وقع بينهم شر، ونشبوا في الفتنة، وردوا سعيد بن العاص فلم يدعوه يدخل
اليهم. فلما رأيت ذلك رجعت حتى أتيت بلاد قومي. وروى الزبير بن بكار في كتاب الموفقيات عن عمه، عن عيسى بن داود،
عن رجاله، قال:
قال ابن عباس رحمه الله: لما بنى عثمان داره
بالمدينة، أكثر الناس عليه في ذلك فبلغه، فخطبنا في يوم جمعة، ثم صلى بنا، ثم
عاد الى المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على رسوله، ثم قال: أما بعد؟ فإن النعمة إذا حدثت حدث لها حساد حسبها،
وأعداء قدرها؟ وإن الله لم يحدث لنا نعماً ليحدث لها حساد عليها، ومنافسون فيها،
ولكنه قد كان من بناء منزلنا هذا ما كان إرادة جمع المال فيه، وضم القاصية اليه،
فأتانا عن أناس منكم أنهم يقولون: أخذ فيئنا، وأنفق شيئنا، واستأثر بأموالنا،
يمشون خمرا ، وينطقون سرا، كأنا غيب عنهم، وكأنهم يهابون مواجهتنا؟ معرفة منهم
بدحوض حجتهم؟ فإذ غابوا عنا يروح بعضهم الى بعض يذكرنا. وقد
وجدوا على ذلك أعواناً من نظرائهم، ومؤازرين من شبابهم، فبعداً بعداً ورغماً
رغماً. ثم أنشد بيتين كأنه يومىءفيهما الى علي رضي الله عنه:
مالي
ولفيئكم وأخذ مالكم. الست من أكثر قريش مالاً، وأظهرهم من الله نعمة. الم
أكن على ذلك قبل الإسلام وبعده. وهبوني
بنيت منزلاً من بيت المال، اليس هو لي ولكم. الم أقم أموركم، وإني من وراء حاجاتكم!
فما
تفقدون من حقوقكم شيئاً، فلم لا أصنع في الفضل ما أحببت؟ فلم كنت إماماً إذاً. الا
وإن من أعجب العجب، أنه بلغني عنكم أنكم تقولون: لنفعلن به ولنفعلن. فبمن تفعلون، لله آباؤكم. أبنقد البقاع، أم بفقع القاع! الست أحراكم إن
دعا أن يجاب؟ وأقمنكم إن أمر أن يطاع. لهفي على بقائي فيكم بعد أصحابي، وحياتي
فيكم بعد أترابي! يا ليتني تقدمت قبل هذا، لكني لا أحب خلاف ما أحبه الله لي عز
وجل؟ إذا شئتم فإن
الصادق المصدق محمداً صلى الله عليه وسلم قد حدثني بما هو كائن من أمري وأمركم، وهذا
بدء ذلك وأوله، فكيف الهرب مما حتم وقدر أما إنه صلى الله عليه وسلم قد بشرني في آخر حديثه
بالجنة دونكم، إذا
شئتم فلا أفلح من ندم! قال:
ثم هم بالنزول فبصر بعلي بن أبي طالب رضي الله عنه ومعه عمار بن ياسر رضي الله عنه، وناس من أهل هواه يتناجون
فقال: إيهاً إيهاً!
أسراراً لا جهاراً أما والذي نفسي بيده ما أحنق على جرة، ولا أوتى من ضعف مرة،
ولولا النظر لي ولكم والرفق بي وبكم، لعاجلتكم، فقد اغتررتم، وأقلتم من أنفسكم،
ثم رفع يديه يدعو ويقول: اللهم قد تعلم حبي للعافية فالبسنيها، وإيثاري للسلامة
فآتنيها.
قال: ونزل عثمان فأتى منزله، وأتاه الناس وفيهم ابن عباس، فلما أخذوا
مجالسهم، أقبل على ابن عباس، فقال: مالي ولكم يابن عباس! ما أغراكم بي، وأولعكم بتعقب أمري!
أتنقمون علي أمر العامة، أتيت من وراء حقوقهم، أم أمركم؟ فقد جعلتهم يتمنون
منزلتكم! لا والله لكن الحسد والبغي وتثوير الشر وإحياء الفتن! والله لقد القى
النبي صلى الله عليه وسلم الي
ذلك، وأخبرني به عن أهله واحداً واحداً، والله ما كذبت ولا أنا بمكذوب. فقال ابن عباس:
على رسلك يا أمير المؤمنين، فوالله ما عهدتك جهراً بسرك، ولا مظهراً ما في نفسك،
فما الذي هيجك وثورك! إنا لم يولعنا بك أمر، ولم نتعقب أمرك بشيء، اتيت بالكذب، وتسوق عليك بالباطل. والله ما نقمنا عليك
لنا ولا للعامة، قد أوتيت من وراء حقوقنا وحقوقهم، وقضيت ما يلزمك لنا ولهم، فأما الحسد والبغي وتثوير الفتن، وإحياء الشر فمتى رضيت به
عترة النبي وأهل بيته! وكيف وهم منه واليه! على دين الله يثورون الشر، أم
على الله يحيون الفتن، كلا ليس البغي ولا الحسد من
طباعهم. فاتئد يا أمير المؤمنين وأبصر أمرك، وأمسك عليك؟ فإن حالتك الأولى خيرمن حالتك الأخرى! لعمري أن كنت لأثيراً عند رسول الله، وأن كان ليفضي
اليك بسره ما يطويه عن غيرك، ولا كذبت ولا أنت بمكذوب؟ اخسأ
الشيطان عنك ولا يركبك، واغلب غضبك ولا يغلبك، فما دعاك الى هذا الأمر
الذي كان منك! قال: دعاني اليه ابن عمك علي
بن أبي طالب، فقال ابن عباس: وعسى أن يكذب
مبلغك! قال عثمان: إنه ثقة، قال ابن عباس: إنه ليس بثقة من بلغ وأغرى. قال عثمان:
يا بن عباس، الله إنك ما تعلم من علي ما شكوت منه؟ قال:
اللهم لا، الا أن يقول كما يقول الناس، وينقم كما ينقمون؟ فمن أغراك به وأولعك
بذكره دونهم! فقال عثمان: إنما آفتي من أعظم الداء الذي ينصب نفسه لرأس الأمر، وهو علي ابن عمك،
وهذا والله كله من نكده وشؤمه. قال ابن عباس:
مهلاً، استثن يا أمير المؤمنين، قل:
إن شاء الله، فقال: إن شاء الله. ثم قال: إني أنشدك يا بن عباس الإسلام
والرحم فقد والله غلبت وابتليت بكم، والله لوددت أن هذا الأمر كان صار اليكم
دوني فحملتموه عني، وكنت أحد أعوانكم عليه، إذا والله لوجدتموني لكم خيراً مما
وجدتكم لي، ولقد علمت أن الأمر لكم،
ولكن قومكم دفعوكم عنه واختزلوه دونكم، فوالله
ما أدري أدفعوه عنكم أم دفعوكم عنه! قال ابن عباس: مهلاً يا
أمير المؤمنين، فإنا ننشدك الله والإسلام والرحم، مثل ما نشدتنا، أن تطمع فينا وفيك عدواً، وتشمت بنا
وبك حسوداً! إن أمرك اليك ما كان قولاً، فإذا صار فعلاً فليس اليك ولا في يديك. وإنا والله لنخالفن إن خولفنا، ولننازعن ان نوزعنا،
وما تمنيك أن يكون الأمر صار الينا دونك الا أن يقول قائل منا ما يقوله الناس،
ويعيب كما عابوا! فأما صرف قومنا عنا الأمر
فعن حسد قد والله عرفته، وبغي قد والله علمته، فالله
بيننا وبين قومنا! وأما قولك:
إنك لا تدري أدفعوه عنا أم دفعونا عنه! فلعمري إنك لتعرف
أنه لو صار الينا هذا الأمر ما زدنا به فضلاً الى فضلنا، ولا قدراً الى قدرنا،
وإنا لأهل الفضل وأهل القدر، وما فضل فاضل الا بفضلنا، ولا سبق سابق الا بسبقنا،
ولولا هدينا ما اهتدى أحد، ولا أبصروا من عمى، ولا
قصدوا من جور. وروى الزبير بن بكار أيضاً في
الموفقيات، عن ابن عباس رحمه الله، قال:
خرجت من منزلي سحراً أسابق الى المسجد، وأطلب الفضيلة، فسمعت خلفي حساً وكلاماً،
فتسمعته فإذا حس عثمان وهو يدعو ولا يرى أن أحداً يسمعه، ويقول: اللهم قد تعلم نيتي فأعني عليهم، وتعلم
الذين ابتليت بهم من ذوي رحمي وقرابتي، فأصلحني لهم، وأصلحهم لي. قال: فقصرت
من خطوتي وأسرع في مشيته، فالتقينا فسلم، فرددت
عليه، فقال: إني خرجت ليلتنا هذه أطلب الفضل والمسابقة الى المسجد، فقلت: إنه أخرجني ما أخرجك، فقال: والله لئن سابقت الى الخير، إنك لمن سابقين
مباركين، وإني؟لأ حبكم وأتقرب الى الله بحبكم، فقلت:
يرحمك الله يا أمير المؤمنين! إنا لنحبك ونعرف سابقتك وسنك وقرابتك وصهرك. قال: يا بن عباس، فما لي ولابن عمك
وابن خالي! قلت: أي بني عمومتي وبني أخوالك؟ قال: اللهم اغفر! أتسال مسالة الجاهل! قلت: إن بني عمومتي من بني خؤولتك كثير، فأيهم
تعني؟ قال: أعني علياً لا غيره، فقلت: لا والله يا أمير المؤمنين، ما أعلم منه الا
خيراً، ولا أعرف له الا حسنأ. قال: والله بالحرى
أن يستردونك ما يظهره لغيرك، ويقبض عنك ما ينبسط به الى سواك. فقال عمار: والله ما أعتذر من حبي علياً، وما اليد بمنبسطة، ولا السبيل بسهلة؟
إني لازم حجة، ومقيم على سنة، وأما إيثارك العافية ولم الشعث، فلازم ذلك. وأما زجري
فأمسك عنه، فقد كفاك معلمي تعليمي فقال عثمان:
أما والله إنك ما علمت من أعوان الشر الحاضين عليه، الخذلة عند الخير، والمثبطين
عنه. فقال عمار:
مهلاً يا عثمان، فقد سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يصفني
بغيرذلك، قال عثمان: ومتى؟ قال: يوم دخلت عليه منصرفه عن الجمعة، وليس عنده
غيرك، وقد القى ثيابه، وقعد في فضله ، فقبلت صدره ونحره وجبهته، فقال: "ياعمار، إنك لتحبنا وانا لنحبك، وإنك
لمن الأعوان على الخير المثبطين عن الشر"، فقال
عثمان: أجل ولكنك غيرت وبدلت، قال: فرفع
عمار يده يدعو، وقال: أمن يا بن عباس، اللهم
من غيرفغيربه! ثلاث مرات قال: ودخلنا المسجد، فأهوى عمار الى مصلاه،
ومضيت مع عثمان الى القبلة، فدخل المحراب، وقال:
تلبث علي إذا انصرفنا، فلما رآني عمار وحدي أتاني، فقال:
أما رأيت ما بلغ بي آنفاً؟ قلت: أما والله
لقد أصعبت به واصعب بك، وإن له لسنه وفضله وقرابته، قال:
إن له لذلك، ولكن لا حق لمن لا حق عليه. وانصرف. فقال: إن علياً فارقني منذ أيام على المقاربة، وإن
عماراً آتيه فقائل له وقائل، فابدره اليه، فإنك أوثق عنده منه وأصدق قولاً، فالق
الأمر اليه على وجهه، فقلت: نعم. قلت: بلى؟ ولكني
خرجت مع أمير المؤمنين، ثم اقتصصت عليه القصة، فقال:
أما والله يا بن عباس، إنه ليقرف فرحة، ليحورن عليه المها. فقلت: إن له سنه وسابقته، وقرابته
وصهره، قال: إن ذلك له؟ ولكن لا حق لمن لا حق عليه. قال: ثم رهقنا عمار، فبش به علي، وتبسم في وجهه،
وساله، فقال عمار: يا بن عباس، هل القيت
اليه ما كنا فيه؟ قلت: نعم، قال: أما والله إذاً لقد قلت بلسان عثمان، ونطقت
بهواه! قلت: ما عدوت الحق جهدي؟ ولا ذلك من
فعلي؟ وإنك لتعلم أي الحظين أحب الي، وأي الحقين أوجب علي! قال: فظن علي أن عند عمار غيرما القيت اليه، فأخذ
بيده وترك يدي، فعلمت أنه يكره مكاني، فتخلفت عنهما، وانشعب بنا الطريق، فسلكاه
ولم يدعني، فانطلقت الى منزلي، فإذا رسول عثمان يدعوني، فأتيته، فأجد ببابه
مروان وسعيد بن العاص، في رجال من بني أمية، فأذن لي والطفني، وقربني وأدنى
مجلسي، ثم قال: ما صنعت؟ فأخبرته بالخبرعلى
وجهه وما قال الرجل، وقلت له وكتمته قوله:
إنه ليقرف قرحة ليحورن عليه المها إبقاء عليه، وإجلالاً له؟ وذكرت مجيء عمار،
وبش علي له، وظن علي أن قبله غيرما القيت عليه، وسلوكهما حيث سلكا. قال: وفعلا؟ قلت:
نعم. فاستقبل القبلة، ثم قال: اللهم رب
السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، الرحمن الرحيم أصلح لي علياً، وأصلحني له!
أمن يا بن عباس، فأمنت. ثم تحدثنا طويلاً، وفارقته
وأتيت منزلي. فحمد عثمان الله وأثنى عليه، ثم قال:
أما بعد يا خال، فإني قد جئتك أستعذرك من ابن أخيك علي، سبني، وشهر أمري، وقطع
رحمي، وطعن في ديني؟ وإني أعوذ بالله منكم يا بني عبد المطلب! إن كان لكم حق
تزعمون أنكم غلبتم عليه، فقد تركتموه في يدي من فعل ذلك بكم، وأنا أقرب اليكم
رحماً منه! وما لمت منكم أحداً الا علياً، ولقد دعيت أن أبسط عليه، فتركته لله
والرحم، وأنا أخاف الا يتركني فلا أتركه. قال عثمان:
فذلك اليك يا خال، وأنت بيني وبينهم. قال: أفأذكر لهم ذلك عنك؟ قال: نعم، وانصرف، فما
لبثنا أن قيل: هذا أمير المؤمنين قد رجع بالباب، قال
أبي: ائذنوا له، فدخل فقام قائماً، ولم يجلس، وقال:
لا تعجل يا خال حتى أوذنك، فنظرنا فإذا مروان بن الحكم كان جالساً بالباب ينتظره
حتى خرج، فهو الذي ثناه عن رأيه الأول، فأقبل علي أبي، وقال:
يا بني، ما الى هذا من أمره شيء، ثم قال: يا بني،
املك عليك لسانك حتى ترى ما لا بد منه؟ ثم رفع يديه، فقال: اللهم اسبق بي
ما لا خيرلي في إدراكه. فما مرت جمعة حتى مات رحمه الله. وروى الواقدي في كتاب الشورى عن ابن
عباس رحمه الله، قال: "شهدت عتاب عثمان لعلي رضي الله عنه يوماً، فقال له في بعض ما قاله: نشدتك الله أن تفتح للفرقة
باباً! فلعهدي لك وأنت تطيع عتيقاً وابن الخطاب طاعتك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولست
بدون واحد منهما، وأنا أمس بك رحماً، وأقرب اليك صهراً، فإن كنت تزعم أن هذا
الأمر جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم لك،
فقد رأيناك حين توفي نازعت ثم أقررت، فإن كانا لم يركبا من الأمر جدداً، فكيف
أذعنت لهما بالبيعة، وبخعت بالطاعة! وإن كانا أحسنا فيما وليا، ولم أقصر عنهما
في ديني وحسبي وقرابتي، فكن لي كما كنت لهما. وأما التسوية بينك وبينهما، فلست كأحدهما، إنهما
وليا هذا الأمر، فظلفا أنفسهما وأهلهما عنه، وعمت فيه وقومك عوم السابح في
اللجة، فارجع الى الله أبا عمرو، وانظر هل بقي من عمرك
الا كظمء الحمار ! فحتى متى والى متى! الا تنهى سفهاء بني أمية عن أعراض
المسلمين وأبشارهم وأموالهم! والله لو ظلم عامل من عمالك حيث تغرب الشمس
لكان إثمه مشتركاً بينه وبينك. فصده مروان بن الحكم
عن ذلك، وقال: يجترىء عليك الناس، فلا تعزل أحداً منهم!
وروى الزبيربن بكار أيضاً في كتابه، عن
رجال أسند بعضهم عن بعض، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: أرسل الي عثمان في الهاجرة ، فتقنعت
بثوبي، وأتيته، فدخلت عليه وهو على سريره، وفي يده قضيب، وبين يديه مال دثر :
صبرتان من ورق وذهب، فقال: دونك خذ من هذا
حتى تملأ بطنك فقد أحرقتني. فقلت:
وصلتك رحم إن كان هذا المال ورثته، أو أعطاكه معط، أو اكتسبته من تجارة، كنت أحد
رجلين، إما آخذ وأشكر، أو أوفر وأجهد، وإن كان من مال الله وفيه حق المسلمين
واليتيم وابن السبيل، فوالله ما لك أن تعطينيه ولا لي
أن آخذه. فقال: أبيت والله الا ما
أبيت. ثم قام الي بالقضيب فضربني، والله ما أرد يده، حتى
قضى حاجته، فتقنعت بثوبي، ورجعت الى منزلي، وقلت:
الله بيني وبينك إن كنت أمرتك بمعروف أو نهيت عن منكر! وروى
الزبير بن بكار، عن الزهري، قال: لما أتي عمر بجوهر كسرى، وضع في المسجد،
فطلعت عليه الشمس فصار كالجمر، فقال لخازن بيت المال:
ويحك! ارحني من هذا، واقسمه بين المسلمين، فإن نفسي تحدثني أنه سيكون في هذا
بلاء وفتنة بين الناس، فقال: يا أمير المؤمنين،
إن قسمته بين المسلمين لم يسعهم، وليس أحد يشتربه لأن ثمنه عظيم، ولكن ندعه الى
قابل، فعسى الله أن يفتح على المسلمين بمال فيشتريه منهم من يشتربه. قال: ارفعه فأدخله بيت المال. قال الزبير:وحدثنا
محمد بن حرب، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن إسماعيل بن أبي خالد، قال: جاء رجل
الى علي رضي الله عنه يستشفع
به الى عثمان، فقال: حمال الخطايا! لا والله
لا أعود اليه أبداً. فآيسه منه. وروى الزبير عن أبي غسان، عن عمر بن
زياد، عن الأسود بن قيس، عن عبيد بن حارثة، قال: سمعت
عثمان وهو يخطب، فأكب الناس حوله، فقال: اجلسوا يا
أعداء الله! فصاح به طلحة: إنهم ليسوا بأعداء الله؟ لكنهم عباده؟ وقد قرأوا كتابه. فنزل عثمان، فدخل داره ولم يصل
الجمعة. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
بين عثمان وابن عباس بحضور علي
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وروى الزبير أيضاً في الموفقيات عن ابن عباس رحمه الله، قال: صليت العمر يوماً، ثم خرجت فإذا أنا
بعثمان بن عفان في أيام خلافته في بعض أزقة المدينة وحده، فأتيته إجلالاً
وتوقيراً لمكانه، فقال لي: هل رأيت علياً؟
قلت: خلفته في المسجد، فإن لم يكن الآن فيه فهو في منزله؟ قال: أما منزله فليس
فيه فابغه لنا في المسجد. فتوجهنا الى المسجد، وإذا
علي رضي الله عنه يخرج منه؟ قال ابن عباس:
وقد كنت أمس ذلك اليوم عند علي، فذكر عثمان وتجرمه عليه، وقال: أما والله يا بن عباس، إن من دوائه لقطع
كلامه، وترك لقائه. فقلت له:
يرحمك الله! كيف لك بهذا! فإن تركته ثم أرسل اليك فما أنت صانع؟ قال: أعتل، وأعتل؟ فمن يقسرني! قال: لا أحد. قال ابن
عباس: فلما تراءينا له وهوخارج من المسجد، ظهر منه من التفلت والطلب
للانصراف ما استبان لعثمان، فنظر الي عثمان، وقال:
يا بن عباس، أما ترى ابن خالنا يكره لقاءنا! فقلت: ولم وحقك الزم، وهو
بالفضل أعلم! فلما تقاربا رماه عثمان بالسلام، فرد عليه، فقال عثمان: إن تدخل فإياك أردنا، وإن تمض فإياك
طلبنا. فقال علي:
أي ذلك أحببت؟ قال: تدخل، فدخلا وأخذ عثمان
بيده، فأهوى به الى القبلة، فقصر عنها، وجلس قبالتها، فجلس عثمان الى جانبه،
فنكصت عنهما، فدعواني جميعاً، فأتيتهما، فحمد عثمان الله، وأثنى عليه، وصلى على
رسوله، ثم قال: أما بعد يا بني خالي وابني
عمتي، فإذا جمعتكما في النداء فسأجمعكما في الشكاية، عن رضاي على أحدكما، ووجدي
على الآخر. إني أستعذركما من أنفسكما، وأسالكما فيئتكما،
وأستوهبكما رجعتكما؟ فوالله لو غالبني الناس ما انتصرت الا بكما، ولو تهضموني ما
تعززت الا بعزكما. ولقد
طال هذا الأمر بيننا حتى تخوفت أن يجوز قدره، ويعظم الخطر فيه، ولقد هاجني العدو
عليكما، وأغراني بكما؟ فمنعني الله والرحم مما أراد، وقد خلونا في مسجد رسول
الله صلى الله عليه وسلم والى جانب قبره، وقد أحببت ان تظهرا لي رأيكما في، وما
تنطويان لي عليه وتصدقا، فإن الصدق أنجى وأسلم؟
وأستغفر الله لي ولكما. وأما قولك:
لو غالبتني الناس ما انتصرت الا بكما، أو تهضموني ما تعززت الا بعزكما، فأين بنا
وبك عن ذلك، ونحن وأنت كما قال أخو كنانة:
وأما قولك في هيج العدو وإياك علينا، وإغرائه لك بنا، فوالله ما أتاك العدو من ذلك شيئاً
الا وقد أتانا بأعظم منه، فمنعنا مما أراد ما منعك من مراقبة الله والرحم، وما
أبقيت أنت ونحن الا على أدياننا وأعراضنا ومروءاتنا، ولقد لعمري طال بنا وبك هذا
الأمر حتى تخوفنا منه على أنفسنا، وراقبنا منه ما راقبت. فقال علي رضي الله عنه:
فتصدق قوله صلى الله عليه وسلم بفعلك، وخالف ما أنت الآن عليه، فقد قيل لك ما سمعت، وهوكاف إن قبلت. قال:
فسكت عنه، ثم كان من الأمر بعد ما كان.
فقال عثمان:
والله ما أدري أحياتك أحب الي أم موتك! إن مت هاضني فقدك،وإن حييت فتنتني حياتك،
لا أعدم ما بقيت طاعنا يتخذك دريئة يلجأ اليها. وأما قولك: "إن فقدي يهيضك"، فكلا أن تهاض لفقدي، ما بقي لك الوليد ومروان، فقام عثمان فخرج. وقد
روي أن عثمان هو الذي أنشد هذا البيت، وقد كان اشتكى، فعاده علي رضي الله عنه فقال عثمان:
وروى أبو سعد الآبي في كتابه عن ابن عباس، قال: وقع بين عثمان وعلي رضي الله عنه كلام، فقال
عثمان: ما أصنع، إن كانت قريش لا تحبكم، وقد
قتلتم منهم يوم بدر سبعين، كأن وجوههم شنوف الذهب، تصرع أنفهم قبل
شفاههم! وروى المذكور
أيضاً أن عثمان لما نقم الناس عليه ما نقموا، قام متوكئاً على مروان فخطب
الناس، فقال: إن لكل أمة آفة، ولكل نعمة عاهة، وإن آفة هذه الأمة، وعاهة هذه
النعمة، قوم عيابون طعانون، يظهرون لكم ما تحبون، ويسرون ما تكرهون، طغام مثل
النعام، يتبعون أول ناعق، ولقد نقموا علي ما نقموا على عمر مثله، فقمعهم ووقمهم
وإني لأقرب ناصراً، وأعز نفراً، فما لي لا أفعل في فضول الأموال! ما أشاء! وروى
المذكور أيضاً أن علياً عقنه اشتكى، فعاده عثمان، فقال:
ما أراك أصبحت الا ثقيلاً! قال: أجل، قال: والله ما أدري أموتك أحب الي أم حياتك! إني
لأحب موتك، وأكره أن أعيش بعدك، فلو شئت جعلت لنا من نفسك مخرجاً، إما صديقاً
مسالماً وإما عدواً مغالباً، وإنك لكما قال أخو إياد:
فقال علي رضي الله عنه:
ليس لك عندي ما تخافه، وإن أجبتك لم أجبك الا بما تكرهه.
وروى الزبير خبر العيادة على وجه آخر قال: مرض علي رضي الله عنه، فعاده عثمان ومعه مروان
بن الحكم،
فجعل عثمان يسال علياً عن حاله، وعلي ساكت لا يجيبه،
فقال عثمان: لقد أصبحت يا أبا الحسن مني بمنزلة الولد العاق لأبيه! إن
عاش عقه، وإن مات فجعه، فلو جعلت لنا من أمرك فرجاً، إما عدواً أو صديقاً، ولم
تجعلنا بين السماء والماء! أما والله لأنا خيرلك من فلان وفلان، وإن قتلت لا تجد
مثلي، فقال مروان: أما والله لا يرام ما وراءنا
حتى تتواصل سيوفنا، وتقطع أرحامنا. فالتفت اليه عثمان، وقال: اسكت لا سكت! وما يدخلك فيما بيننا! وروى شيخنا أبو عثمان الجاحظ، عن زيد بن أرقم، قال: سمعت عثمان وهو يقول لعلي رضي الله عنه : أنكرت علي استعمال معاوية، وأنت تعلم أن عمر استعمله! قال
علي رضي الله عنه :
نشدتك الله! الا تعلم أن معاوية كان أطوع لعمر من يرفأ غلامه! إن عمر كان إذا
استعمل عاملاً وطىء على صماخه، وإن القوم ركبوك وغلبوك، واستبدوا بالأمر دونك. فسكت عثمان. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أسباب المنافسة بين علي رضي الله عنه وعثمان.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قلت: حدثني جعفر بن مكي الحاجب رحمه الله، قال: سالت محمد
بن سليمان حاجب الحجاب وقد رأيت أنا محمداً هذا، وكانت
لي به معرفة غيرمستحكمة، وكان ظريفاً أديباً، وقد اشتغل بالرياضيات من
الفلسفة، ولم يكن يتعصب لمذهب بعينه قال جعفر:
سالت عما عنده في أمر علي وعثمان، فقال: هذه عداوة قديمة النسب بين عبد شمس وبين بني هاشم، وقد
كان حرب بن أمية نافر عبد المطلب بن هاشم، وكان أبو سفيان يحسد محمداً وحاربه،
ولم تزل الثنتان متباغضتين وإن جمعتهما المنافية. ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوج علياً بابنته، وزوح عثمان بابنته الأخرى، وكان اختصاص رسول الله صلى الله عليه وسلم لفاطمة
أكثر من اختصاصه للبنت الأخرى، وللثانية التي تزوجها عثمان بعد وفاة الأولى،
واختصاصه أيضاً لعلي وزيادة قربه منه وامتزاجه به واستخلاصه إياه لنفسه، أكثر
وأعظم من اختصاصه لعثمان. فنفس عثمان
ذلك عليه، فتباعد ما بين قلبيهما، وزاد في التباعد ما عساه يكون بين الأختين من
مباغضة أو مشاجرة أو كلام ينقل من إحداهما الى الأخرى، فيتكدر قلبها على أختها،
ويكون ذلك التكدير سبباً لتكدير ما بين البعلين أيضاً، كما نشاهده في عصرنا وفي
غيره من الأعصار، وقد قيل: ما قطع من
الأخوين كالزوجتين. ثم اتفق أن علياً رضي
الله عنه قتل
جماعة كثيرة من بني عبد شمس في حروب رسول الله صلى
الله عليه وسلم، فتأكد الشنآن، وإذا استوحش
الإنسان من صاحبه استوحش صاحبه منه. ثم مات رسول
الله صلى الله عليه وسلم، فصبا الى علي جماعة يسيرة لم يكن عثمان منهم، ولا حضر في دار فاطمة مع من
حضر من المخلفين عن البيعة، وكانت في نفس علي رضي
الله عنه أمور من الخلافة لم يمكنه إظهارها في أيام أبي بكر وعمر، لقوة
عمر وشدته، وانبساط يده ولسانه، فلما قتل عمر وجعل
الأمر شورى بين الستة، وعدل عبد الرحمن بها عن علي الى عثمان، لم يملك علي نفسه، فأظهر ما كان كامناً، وأبدى ما كان
مستوراً، ولم يزل الأمريتزايد بينهما، حتى شرف وتفاقم، ومع
ذلك فلم يكن علي رضي الله عنه لينكرمن أمره الا منكراً،
ولا ينهاه الا كما تقتفي الشريعة نهيه عنه، وكان عثمان
مستضعفاً في نفسه، رخواً قليل الحزم، واهي العقدة ، وسلم
عنانه الى مروان يصرفه كيف شاء، الخلافة له في
المعنى ولعثمان في الاسم. فلما انتقض على عثمان أمره، استصرخ علياً ولاذ به،
والقى زمام أمره اليه، فدافع عنه حيث لا ينفع الدفاع،
وذب عنه حين لا يغني الذب، فقد كان الأمر فسد فساداً لا
يرجى صلاحه. قال جعفر: فقلت له: فما تقول في هذا الاختلاف الواقع في أمر الإمامة من مبدأ الحال، وما
الذي تظنه أصله ومنبعه؟ فقال: لا أعلم لهذا أصلاً الا أمرين: أحدهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهمل أمر الإمامة فلم يصرح فيه بأحد بعينه، وإنما
كان هناك رمز وايماء، وكناية وتعريض، لو أراد
صاحبه أن يحتج به وقت الاختلاف وحال المنازعة لم يقم منه صورة حجة تغني، ولا
دلالة تحسب وتكفي، ولذلك لم يحتج علي رضي الله عنه يوم السقيفة بما ورد فيه، لأنه لم يكن نصاً جلياً يقطع العذر، ويوجب الحجة، وعادة
الملوك إذا تمهد ملكهم، وأرادوا العقد لولد من أولادهم، أو ثقة من ثقاتهم، أن
يصرحوا بذكره، ويخطبوا باسمه على أعناق المنابر، وبين فواصل الخطب، ويكتبوا بذلك
الى الآفاق البعيدة عنهم، والأقطار النائية منهم، ومن كان منهم ذا سرير وحصن
ومدن كثيرة، ضرب اسمه على صفحات الدنانير والدراهم مع اسم ذلك الملك، بحيث تزول الشبهة في أمره، ويسقط الارتياب بحاله، فليس
أمر الخلافة بهين ولا صغيرليترك حتى يصير في مظنة الاشتباه واللبس، ولعله كان لرسول الله صلى
الله عليه وسلم في ذلك عذر لا نعلمه نحن، إما خشية من
فساد الأمر، أو إرجاف المنافقين، وقولهم:
إنها ليس بنبوة وإنما هي ملك أوصى به. من بعده
لذريته وسلالته، ولما لم يكن أحد من تلك الذرية في تلك الحال صالحاً للقيام
بالأمر لصغر السن، جعله لأبيهم، ليكون في الحقيقة لزوجته التي هي ابنته ولأولاده
منها من بعده. وأما ما تقوله المعتزلة وغيرهم من أهل العدل: إن الله تعالى علم أن المكلفين يكونون على ترك الأمر
مهملاً غيرمعين أقرب الى فعل الواجب وتجنب القبيح. قال:
ولعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لم
يكن يعلم في مرضه أنه يموت في ذلك المرض، وكان يرجو البقاء فيمهد للإمامة قاعدة
واضحة. ومما يدل على ذلك أنه لما نوزع في إحضار الدواة
والكتف ليكتب لهم ما لا يضلون بعده، غضب وقال: اخرجوا عني، لم يجمعهم بعد الغضب ثانية ويعرفهم رشدهم، ويهديهم الى
مصالحهم، بل أرجأ الأمر إرجاء من يرتقب الإفاقة، وينتظر
العافية. قال: فبتلك
الأقوال المحجمة، والكنايات المحتملة، والرموز المشتبهة، مثل حديث خصف النعل،
ومنزلة هارون من موسى، ومن كنت مولاه، وهذا يعسوب الدين، ولا فتى الا علي، وأحب
خلقك اليك... وما جرى هذا المجرى، مما لا يفصل الأمر،
ويقطع العذر ويسكت الخصم، ويفحم المنازع، وثبت الأنصار فادعتها، ووثب بنو
هاشم فادعوها، وقال أبو بكر: بايعوا عمر أو
أبا عبيدة، وقال العباس لعلي: امدد يدك
لأبايعك، وقال قوم ممن رعف به الدهر فيما بعد؟ ولم يكن موجوداً حينئذ: إن الأمر
كان للعباس لأنه العم الوارث، وإن أبا بكر وعمر غصباه حقه؟ فهذا أحدهما. وأما السبب الثاني للاختلاف، فهو جعل عمر الأمر شورى في
الستة، ولم ينص على واحد بعينه، إما
منهم أو من غيرهم، فبقي في نفس كل واحد منهم أنه قد رشح للخلافة واهل للملك
والسلطنة، فلم يزل دلك لى نفوسمهم وأذهانهم مصوراً بين أعينهم، مرتسماً في
خيالاتهم، منازعة اليه نفوسهم، طامحة نحوه عيونهم، حتى
كان من الشقاق بين علي وعثمان ما كان، وحتى أفضى الأمر الى قتل عثمان. وكان أعظم
الأسباب في قتله طلحة، وكان لا يشك أن الأمر له من بعده لوجوه،منها
سابقته، ومنها أنه ابن عم لأبي بكر وكان لأبي بكر في نفوس أهل ذلك العصر منزلة
عظيمة، أعظم منها الآن. ومنها أنه كان سمحاًجواداً وقد كان نازع عمر
في حياة أبي بكر، وأحب أن يفوض أبو بكر الأمر اليه من بعده، فمازال يفتل في الذروة والغارب في أمر عثمان، وينكر له
القلوب، ويكدر عليه النفوس، ويغري أهل المدينة والأعراب وأهل الأمصار به. وساعده الزبير،وكان
أيضاً يرجو الأمر لنفسه، ولم يكن رجاؤهما الأمر بدون رجاء علي، بل رجاؤهما كان
أقوى،لأن علياً دحضه الأولان، وأسقطاه،
وكسرا ناموسه بين الناس، فصار نسياً منسيا، ومات
الأكثرممن يعرف خصائصه التي كانت في أيام النبوة وفضله، ونشأ قوم لا يعرفونه ولا يرونه الا رجلاً من عرض المسلمين، ولم يبق له مما يمت به الا أنه ابن عم الرسول، وزوج ابنته، وأبو سبطيه، ونسي ما وراء
ذلك كله، واتفق له من بغض قريش وانحرافها ما لم
يتفق لأحد، وكانت قريش بمقدار ذلك البغض تحب
طلحة والزبير، لأن الأسباب الموجبة لبغضهم لم تكن موجودة فيهما، وكانا
يتالفان قريشاً في أواخر أيام عثمان، ويعدانهم بالعطاء والإفضال، وهما عند أنفسهما وعند الناس خليفتان بالقوة لا بالفعل،
لأن عمر نص عليهما وارتضاهما للخلافة، وعمر متبع القول ومرضي الفعال، موفق مؤيد
مطاع، نافذ الحكم في حياته وبعد وفاته، فلما قتل عثمان،
أرادها طلحة، وحرص عليها، فلولا الأشتر وقوم
معه من شجعان العرب جعلوها في علي لم تصل اليه أبداً، فلما فاتت طلحة
والزبير، فتقا ذلك الفتق العظيم على علي، وأخرجا أم
المؤمنين معهما، وقصدا العراق، وأثارا الفتنة، وكان من حرب الجمل ما قد
علم وعرف، ثم كانت حرب الجمل مقدمة وتمهيداً لحرب
صفين، فإن معاوية لم يكن ليفعل ما فعل، لولاطمعه
بما جرى في البصرة، ثم أوهم أهل الشام أن
علياً قد فسق بمحاربة أم المؤمنين، ومحاربة المسلمين، وأنه قتل طلحة والزبير،
وهما من أهل الجنة، ومن يقتل مؤمناً من أهل الجنة فهو من أهل النار، فهل
كان الفساد المتولد في صفين الا فرعاً للفساد
الكائن يوم الجمل! ثم
نشأ من فساد صفين وضلال معاوية كل ما جرى من الفساد
والقبيح في أيام بني امية، ونشأت فتنة ابن
الزبيرفرعاً من فروع يوم الدار، لأن عبد الله كان يقول: إن عثمان لما
أيقن بالقتل نص علي بالخلافة، ولي بذلك شهود، ومنهم
مروان بن الحكم أفلا ترى كيف تسلسلت هذه الأمور فرعأ على أصل، وغصناً من شجرة،
وجذوة من ضرام! هكذا يدور بعضه على بعض، وكله
من الشورى في الستة. فقال: أما علي فأنبه من ذلك، وأما هؤلاء
النفر من قريش، فإني أخاف أن ينتشروا في البلاد،
فيكثروا فيها الفساد، فمن يخاف من تأميرهم لئلا يطمعوا في الملك، ويدعيه كل واحد
منهم لنفسه، كيف لم يخف من جعلهم ستة متساوين في
الشورى، مرشحين للخلافة! وهل شيء أقرب الى الفساد من هذا! وقد
روي أن الرشيد رأى يوماً محمداً وعبد الله ابنيه
يلعبان ويضحكان، فسر بذلك، فلما غابا عن عينه
بكى، فقال له الفضل بن الربيع: ما يبكيك يا أمير
المؤمنين، وهذا مقام جذل لا مقام حزن، فقال: أما
رأيت لعبهما ومودة بينهما، أما والله ليتبدلن ذلك بغضاً
وشنفاً وليختلسن كل واحد منهما نفس صاحبه عن قريب، فإن الملك عقيم. وكان الرشيد قد
عقد الأمر لهما على ترتيب، هذا بعد هذا، فكيف من لم يرتبوا في الخلافة، بل جعلوا فيها كأسنان المشط! فقلت
أنا لجعفر: هذا كله تحكيه عن محمد بن سليمان، فما تقول أنت، فقال:
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن كلام له عنه في أمر البيعة
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: لم تكن
بيعتكم إياي فلتة، وليس أمري وأمركم واحداً، إني أريدكم لله وأنتم تريدونيني
لأنفسكم. فإن قلت:
ما معنى قوله: "أريدكم لله وتريدونني لأنفسكم"، قلت: لأنه لايريد من
طاعتهم له الا نصرة دين الله والقيام بحدوده وحقوقه، ولا يريدهم لحظ
نفسه، وأما هم فإنهم يريدونه لحظوظ أنفسهم من
العطاء والتقريب، والأسباب الموصلة الى
منافع الدنيا. وهذا الخطاب رضي الله عنه لجمهور أصحابه، فأما الخواص منهم فإنهم كانوا يريدونه للأمر الذي يريدهم له من إقامة
شرائع الدين وإحياء معالمه. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
في شأن طلحة والزبير
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:"والله
ما أنكروا علي منكراً، ولا جعلوا بيني وبينهبم نصفاً، وإنهم ليطلبون جقاً هم
تركوه، ودماً هم سفكوه، فإن كنت شريكهم فيه، فإن لهم نصيبهم منه، وإن كانوا ولوه
دوني فما الطلبة الا قبلهم. وإن أول عدلهم للحكم على أنفسهم، وإن معي لبصيرتي،
ما لبست ولا لبس علي. وإن الأمر لواضح، وقد زاح الباطل عن نصابه،
وانقطع لسانه عن شغبه. وايم
الله لأفرطن لهم حوضاً أنا ماتحه، لا يصدرون عنه بري، ولا يعبون بعده في حسي.
وهو
على حذف المضاف، أي ذا نصف، أي حكماً منصفأ عادلاً يحكم بيني وبينهم. وفي الحما أربع
لغات: حما مثل قفا، وحمء مثل كمء، وحمو مثل أبو، وحم مثل أب.
والشغب، بالتسكين: تهييج الشر، شغب الحقد بالفتح شغباً، وقد جاء بالتحرك في
لغة ضعيفة، وماضيها شغب، بالكسر. ولافرطن لهم حوضاً، أي لأملأن، يقال: أفرطت المزادة أي ملأتها، وغدير مفرط، أي ملآن، والماثح، بنقطتين من فوق:
المستقي من فوق، وبالياء: مالىء الدلاء من
تحت، والعب: الشرب بلا مص كما تشرب الدابة: وفي الحديث: "الكباد من العب، والحسي: ماء
كامن في رمل يحفر عنه فيستخرج، وجمعه أحساء. ورووا أيضاً أنه لما امتنع على الذين
حصروه الدخول من باب الدار، حملهم طلحة الى دار لبعض
الأنصار، فأصعدهم الى سطحها، وتسوروا منها على عثمان داره فقتلوه. ثم رماه
بسهم فأصاب مأبضه ، فنزف الدم حتى مات. ثم قال:
وإنها للفئة الباغية، لام التعريف في الفئة تشعر
بأن نصاً قد كان عنده: أنه ستخرج عليه فئة باغية، ولم
يعين له وقتها ولا كل صفاتها، بل بعض علاماتها، فلما
خرج أصحاب الجمل ورأى تلك العلامات موجودة فيهم، قال: وإنها للفئة الباغية، أي وإن هذه الفئة، أي الفئة التي وعدت
بخروجها علي، ولولا هذا لقال: "وانها لفئة
باغية"، على التنكير. وكان عمرو بن الليث الصفار أمير
خراسان أنفذ جيشاً لمحاربة إسماعيل بن أحمد الساماني، فانكسر
ذلك الجيش وعادوا الى عمرو بن الليث، فغضب ولقي
القواد بكلام غليظ، فقال له بعضهم: أيها الأمير، إنه قد طبخ لك مرجل
عظيم، وإنما نلنا منه لهمة يسيرة والباقي مذخور لك، فعلام تتركه! اذهب اليهم
فكله. فسكت عمرو بن الليث عنه ولم يجب. يقول رضي الله عنه:
"إنكم أقبلتم مزدحمين كما تقبل النوق الى أولادها، تسالونني البيعة فامتنعت
عليكم حتى علمت اجتماعكم فبايعتكم". ثم دعا علي على طلحة والزبير بعد أن وصفهما
بالقطيعة والنكث والتاليب عليه، بأن يحل الله تعالى ما عقدا، والا يحكم لهما ما
أبرما، وأن يريهما المساءة فيما أملا وعملا. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن خطبة له يومىء فيها الى ذكر الملاحم
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
يعطف الهوى على الهدى، إذا عطفوا الهدى على الهوى، ويعطف الرأي على القرآن، إذا
عطفوا القران على الرأي. وكذلك قوله: "مملوءة
أخلافها"، والأخلاف للناقة حلمات الضرع، واحدها
خلف.
وهو الرضاع بالفتح، والماضي رضع بالكسر، مثل سمع سماعاً، وأهل نجد يقولون: رضع بالفتح يرضع بالكسر رضعأ،
مثل ضرب يضرب ضرباً، وأنشدوا:
بكسر الضاد. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
فصل في الاعتراض،
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وقوله:
"الا وفي غد تمامه يأخذ الوالي وبين الكلام جملة اعتراضية، وهي قوله: وسيأتي غد بما لا تعرفون والمراد تعظيم
شأن الغد الموعود بمجيئه، ومثل ذلك في القرآن كثير، نحو
قوله تعالى:"فلا أقسم بمواقع النجوم،
وإنه لقسم لو تعلمون عظيم إنه لقرآن كريم "، فقوله تعالى: "إنه لقرآن كريم" هو الجواب المتلقى به
قوله: "فلا أقسم"، وقد اعترض
بينهما قوله:"وإنه لقسم لو تعلمون عظيئم"
واعترض بين هذا الاعتراض قوله: "لو
تعلمون"، لأنك لو حذفته لبقي الكلام على إفادته، وهو قوله: "وإنه لقسم عظيم"، والمراد تعظيم شأن
ما أقسم به من مواقع النجوم، وتأكيد إجلاله في النفوس، ولا سيما بقوله: "لو تعلمون عظيم". وكذلك
قوله: "تالله- لقد علمتم- ما جئنا لنفسد في
الأرض" !، ف-"لقد علمتم" اعتراض،
والمراد به تقرير إثبات البراءة من تهمة السرقة. من ذلك قوله:"وإذ
قتلتم نفساً فادارأتم فيها والله مخرخ ما كنتم تكتمون، فقلنا اضربوه
ببعضها" فقوله: "والله مخرج ما كنتم
تكتمون" اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه، والمراد أن يقرر في أنفس
السامعين أنه لا ينفع البشر كتمانهم وإخفاؤهم لما يريد الله إظهاره، ومن الاعتراض في الشعر قول جرير:
فقوله:
والجديد الى بلى اعتراض، والمراد تعزيته نفسه عما مضى من تلك اللذات، وكذلك قول كثير:
فقوله:
وأنت منهم اعتراض، وفائدته الا تظن أنها ليست باخلة.
فقوله:
على أن قد تلون بي زماني.
فقوله:
وخير القول أصدقه اعتراض، وفائدته إثبات صدقه في دعواه أنه لا يبالي أيهما حقن،
فأما قول أبي تمام أيضاً:
فإن الإعتراض فيه هو قوله: الا في مديحك وليس قوله:
إن لحظت مطالبي إعتراضا كما زعم ابن الأثير الموصلي، لأن فائدة البيت معلقة عليه، لأنه لا يريد أن الغنى لي على كل حال
أطوع من الشعر، وكيف يريد هذا وهو كلام فاسد مختل! بل مراده
أن الغنى لي بشرط أن تلحظ مطالبي من الشعر أطوع لي،
الا في مديحك، فإن الشعر في مديحك أطوع لي منه، وإذا كانت الفائدة معلقة
بالشرط المذكور لم يكن اعتراضاً. وكذلك وهم ابن
الأثير أيضاً في قول امرىء القيس !.
فقال: إن قوله:
ولم أطلب اعتراض، وليس بصحيح، لأن فائدة
البيت مرتبطة به، وتقديره: لو سعيت لأن آكل
وأشرب لكفاني القليل، ولم أطلب الملك، فكيف يكون
قوله: ولم أطلب الملك اعتراضاً، ومن شأن الاعتراض أن يكون فضلة ترد
لتحسين وتكملة، وليست فائدته أصلية! وقد يأتي الاعتراض ولا فائدة فيه، وهو غير مستحسن، نحو قول
النابغة:
فقوله: لا أبا لك، اعتراض لا معنى تحته ههنا، ومثله قول زهير:
فإن
جاءت لا أبا لك تعطي معنى يليق بالموضع فهي اعتراض جيد، نحو قول أبي تمام:
فإنه
أراد زجرها وذمها لما أسرفت في عتابه.
تقديره:
فقد بين لي صرد يصيح بوشك فراقهم، والشك عناء، فلأجل
قوله:والشك عناء بين قد والفعل الماضي، وهو
بين عد اعتراضاً مستهجناً، وأمثال هذا للعرب كثير. وعلى ههنا متعلقة ب يأخذ التي هي بمعنى يؤاخذ من قولك: أخذته بذنبه، وآخذته، والهمز أفصح. والأفاليذ: جمع أفلاذ، وأفلاذ جمع فلذ، وهي
القطعة من الكبد، وهذا كناية عن الكنوز التي تظهر للقائم بالأمر، وقد جاء ذكر ذلك في خبرمرفوع في لفظة: "وقاءت
له الأرض أفلاذ كبدها"، وقد فسر قوله تعالى:"وأخرجت
الأرض أثقالها " بذلك في بعض التفاسير، والمقاليد:
المفاتيح. وفحص براياته ههنا: مفعول محذوف تقديره: وفحص الناس براياته، أي نحاهم وقلبهم يميناً وشمالاً. وضواحيها:
ما قرب منها من القرى. والضروس:
الناقة السيئة الخلق تعض حالبها، قال بشر بن أبي
خازم:
وقوله:
"وفرش الأرض بالرؤوس": غطاها بها كما يغطي المكان بالفراش. والعقب، بكسر
القاف: مؤخر القدم، وهي مؤنثة. قلت: إن ملك
أولاده ملكه أيضاً، وما زال الملك عن بني مروان حتى آبت الى العرب عوازب
أحلامها، والعرب ههنا: بنو العباس ومن
اتبعهم من العرب أيام ظهور الدولة، كقحطبة بن شبيب الطائي وابنيه: حميد والحسن،
وكبني رزتنى، بتقديم الراء المهملة، الذين منهم طاهر بن الحسين وإسحاق بن
إبراهيم المصعبي، وعدادهم في خزاعة وغيرهم من العرب من شيعة بني العباس. وقد قيل: إن أبا مسلم أيضاً عربي أصله، وكل هؤلاء
وآبائهم كانوا مستضعفين مقهورين مغمورين في دولة بني أمية، لم ينهض منهم ناهض،
ولا وثب الى الملك واثب، الى أن أفاء الله تعالى الى هؤلاء ما كان عزب عنهم من
إبائهم وحميتهم، فغاروا للدين والمسلمين من جور بني مروان وظلمهم، وقاموا
بالأمر، وأزالوا تلك الدولة التي كرهها الله تعالى، وأذن في انتقالها. وكأنه خاف من أن يكون بإخباره لهم بأن دولة هذا
الجبار ستنقضي إذا آبت الى العرب عوازب أحلامها، كالأمر لهم باتباع ولاة الدولة
الجديدة في كل ما تفعله، فاستظهر عليهم بهذه الوصية، وقال
لهم: إذا ابتذلت الدولة، فالزموا الكتاب والسنة، والعهد الذي فارقتكم عليه. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن كلام له فى وقت الشورى
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: لن يسرع أحذ
قبلي الى دعوة حق، وصلة رحم، وعائدة كرم، فاسمعوا قولي، وعوا منطقي، عسى أن تروا
هذا الأمر من بعد هذا اليوم، تنتضى فيه السيوف، وتخان فيه العهود، حتى يكون
بعضكم أئمة لأهل الضلالة، وشيعة لأهل الجهالة. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
تكملة حديث الشورى
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وقد ذكرنا من حديث الشورى فيما تقدم
ما فيه كفاية، ونحن
نذكر ههنا ما لم نذكره هناك، وهو عن رواية
عوانة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي في كتاب الشورى، و مقتل عثمان، وقد رواه أيضاً أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري في
زيادات كتاب السقيفة، قال: لما طعن عمر جعل
الأمر شورى بين ستة نفر: علي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان، وعبد الرحمن
بن عوف، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن مالك، وكان طلحة يومئذ
بالشام، وقال عمر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض
وهو عن هؤلاء راض، فهم أحق بهذا الأمر من غيرهم، وأوصى صهيب بن سنان، مولى عبد
الله بن جدعان ويقال: إن أصله من حي من
ربيعة بن نزار، يقال لهم عنزة- فأمره أن يصلي بالناس حتى يرضى هؤلاء القوم رجلاً
منهم، وكان عمر لا يشك أن هذا الأمر صائر الى أحد
الرجلين: علي وعثمان، وقال: إن قدم طلحة فهو معهم، والا فلتختر الخمسة
واحداً منها. وروي أن عمر قبل موته أخرج سعد بن مالك من
أهل الشورى، وقال: الأمر في هؤلاء الأربعة، ودعوا سعداً على حاله أميراً بين
يدي الإمام. ثم قال: ولو كان أبو عبيدة
بن الجراح حياً لما تخالجتني فيه الشكوك، فإن اجتمع ثلاثة على واحد، فكونوا
مع الثلاثة، وإن اختلفوا فكونوا مع الجانب الذي فيه عبد
الرحمن. قال الشعبي:
فحدثني من لا أتهمه من الأنصار- وقال أحمد بن عبد العزيز الجوهري: هو سهل بن سعد الأنصاري-قال: مشيت وراء علي بن أبي طالب حيث انصرف من عند عمر، والعباس
بن عبد المطلب يمشي في جانبه، فسمعته يقول
للعباس: ذهبت منا والله! فقال: كيف علمت،
قال: الا تسمعه يقول: كونوا في الجانب الذي فيه عبد الرحمن، لأنه ابن عمه، وعبد
الرحمن نظيرعثمان وهو صهره، فإذا اجتمع هؤلاء! فلو أن الرجلين الباقيين
كانا معي لم يغنيا عني شيئاً، مع أني لست أرجو الا أحدهما، ومع ذلك فقد أحب عمر
أن يعلمنا أن لعبد الرحمن عنده فضلاً علينا. لعمر الله ما جعل الله ذلك لهم علينا، كما لم يجعله
لأولادهم على أولادنا. أما والله لئن عمر لم يمت لأذكرته ما أتى الينا
قديماً، ولأعلمته سوء رأيه فينا، وماأتى الينا حديثاً، ولئن مات وليموتن ليجتمعن
هؤلاء القوم على أن يصرفوا هذا الأمر عنا، ولئن فعلوها وليفعلن ليرونني حيث
يكرهون، والله ما بي رغبة في السلطان، ولا حب الدنيا، ولكن لإظهار العدل،
والقيام بالكتاب والسنة. قال عوانة:
فحدثنا إسماعيل، قال: حدثني الشعبي، قال: فلما مات عمر، وأدرج في أكفانه، ثم وضع ليصلى
عليه، تقدم علي بن أبي طالب، فقام عند رأسه،
وتقدم عثمان فقام عند رجليه، فقال علي رضي
الله عنه: هكذا ينبغي أن تكون الصلاة، فقال عثمان: بل هكذا، فقال
عبد الرحمن: ما أسرع ما اختلفتم يا صهيب، صل
على عمر كما رضي أن تصلي بهم المكتوبة، فتقدم صهيب فصلى على عمر. فأقبل أبو
طلحة عليه، وقال: يا أبا الحسن، إرض برأي
عبد الرحمن، كان الأمر لك أو لغيرك، فقال علي: أعطني يا عبد الرحمن موثقاً من الله لتؤثرن الحق، ولا تتبع
الهوى، ولا تمل الى صهر ولا ذي قرابة، ولا تعمل الا لله، ولا تالو هذه الأمة أن
تختار لها خيرها. قال: فحلف له عبد الرحمن
بالله الذي لااله الا هو، لأجتهدن لنفسي ولكم
وللأمة، ولا أميل الى هوى ولا الى صهر ولا ذي قرابة. فقال له المقداد: يا عدو
الله وعدو رسوله وعدو كتابه، ومتى كان مثلك يسمع له الصالحون! فقال له
عبد الله: يا بن الحليف العسيف ، ومتى كان مثلك يجترىء
على الدخول في أمر قريش! فقال عبد الله بن سعد
بن أبي سرح: أيها الملأ ، إن أردتم الا تختلف قريش فيما بينها، فبايعوا
عثمان، فقال عمار بن ياسر: إن أردتم الا يختلف
المسلمون فيما بينهم فبايعوا علياً، ثم أقبل على
عبد الله بن سعد بن أبي سرح، فقال: يا فاسق
يا بن الفاسق، أأ نت ممن يستنصحه المسلمون، أو يستشيرونه في امورهم!
وارتفعت الأصوات، ونادى مناد لا يدرى من هو!- فقريش تزعم أنه رجل من بني مخزوم،
والأنصار تزعم أنه رجل طوال آدم مشرف على الناس- لا يعرفه أحد منهم: يا عبد
الرحمن، افرغ من أمرك، وامض على ما في نفسك فإنه الصواب. قال الشعبي: فأقبل عبد الرحمن على علي بن أبي طالب، فقال:
عليك عهد الله وميثاقه، وأشد ما أخذ الله على النبيين من عهد وميثاق: إن
بايعتك لتعملن بكتاب الله وسنة رسوله، وسيرة أبي بكر وعمر! فقال علي رضي الله عنه:
طاقتي ومبلغ علمي وجهد رأي، والناس يسمعون. قال: وعبد الله بن عمر بن الخطاب، داخل اليهم، قد سمع الكلام كله
فدخل، وقال: يا أبا الحسن، أتريد أن تضرب بعضهم ببعض! فقال: اسكت ويحك! فوالله لولا أبوك وما ركب مني قديماً وحديثاً، ما
نازعني ابن عفان ولا ابن عوف. فقام عبد الله فخرج. فقام عثمان فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إنه كان من قضاء الله أن
عبيد الله بن عمر بن الخطاب أصاب الهرمزان، وهو رجل من المسلمين، وليس له وارث
الا الله والمسلمون، وأنا إمامكم وقد عفوت، أفتعفون عن عبيد الله ابن خليفتكم
بالأمس؟ قالوا: نعم، فعفا عنه، فلما بلغ ذلك علياً
تضاحك، وقال: سبحان الله! لقد بدا بها
عثمان! أيعفو عن حق امرىء ليس بواليه! تالله
إن هذا لهو العجب! قالوا: فكان
ذلك أول ما بدا من عثمان مما نقم عليه. قال الشعبي: وخرج المقداد من الغد،
فلقي عبد الرحمن بن عوف، فأخذ بيده، وقال: إن كنت أردت بما
صنعت وجه الله، فأثابك الله ثواب الدنيا والآخرة، وإن كنت إنما أردت الدنيا
فأكثر الله مالك. فقال عبد الرحمن: إسمع، رحمك الله، اسمع! قال: لا أسمع والله، وجذب يده من
يده، ومضى حتى دخل على علي رضي الله عنه،
فقال: قم فقاتل حتى نقاتل معك، قال علي: فبمن اقاتل رحمك الله! وأقبل عمار بن ياسر ينادي:
أما والله لو أن لي أعواناً لقاتلتهم، والله لئن
قاتلهم واحد لأكونن له ثانياً. فقال علي:
يا أبا اليقظان، والله لا أجد عليهم أعواناً، ولا أحب أن أعرضكم لما لا تطيقون. وبقي رضي الله عنه في داره، وعنده
نفر من أهل بيته، وليس يدخل اليه أحد مخافة عثمان. فلما بايع أتاه عبد الرحمن بن عوف،
فاعتذر اليه، وقال: إن عثمان أعطانا يده ويمينه، ولم تفعل
أنت، فأحببت أن أتوثق للمسلمين، فجعلتها فيه، فقال:
إيهاً عنك! إنما آثرته بها لتنالها بعده، دق الله
بينكما عطر منشم . قال عوانة:
قال إسماعيل: قال الشعبي: فحدثني عبد الرحمن
بن جندب، عن أبيه جندب بن عبد الله الأزدي، قال:
كنت جالساً بالمدينة حيث بويع عثمان، فجئت فجلست الى
المقداد بن عمرو، فسمعته يقول: والله ما رأيت مثل ماأتى الى أهل هذا
البيت! وكان عبد الرحمن بن عوف جالساً، فقال:
وما أنت وذاك يا مقداد! قال المقداد: إني
والله احبهم لحب رسول الله صلى الله عليه
وسلم
وإني
لأعجب من قريش وتطاولهم على الناس بفضل رسول الله، ثم انتزاعهم سلطانه من أهله. قال عبد الرحمن:
أما والله لقد أجهدت نفسي لكم. قال المقداد: أما والله لقد تركت رجلاً من الذين
يأمرون بالحق وبه يعدلون! أما والله لو أن لي على قريش أعواناً لقاتلتهم قتالي
إياهم ببدر واحد. فقال عبد الرحمن: ثكلتك أمك، لا يسمعن هذا الكلام
الناس، فإني أخاف أن تكون صاحب فتنة وفرقة. فقال: أترجو يا جندب أن يبايعني من
كل عشرة واحد، قلت أرجو ذلك، قال: لكني لا أرجو ذلك،
لا والله ولا من المائة واحد، وسأخبرك، إن الناس إنما ينظرون الى قريش فيقولون:
هم قوم محمد وقبيله . وأما قريش بينها فتقول:
إن ال محمد يرون لهم على الناس بنبوته فضلاً، ويرون أنهم أولياء هذا الأمر دون
قريش، ودون غيرهم من الناس، وهم إن ولوه لم يخرج السلطان منهم الى أحد أبداً،
ومتى كان في غيرهم تداولته قريش بينها، لا والله لا
يدفع الناس الينا هذا الأمر طائعين أبداً! فقلت: جعلت فداك يا بن عم رسول
الله! لقد صدعت قلبي بهذا القول، أفلا أرجع الى المصر، فأوذن الناس بمقالتك،
وأدعو الناس اليك، فقال: يا جندب ليس هذا زمان ذاك. يا معشر قريش، الى متى تصرفون هذا المفر عن أهل بيت
نبيكم! تحولونه ههنا مرة، وههنا مرة! ما أنا آمن أن ينزعه الله منكم ويضعه
في غيركم، كما نزعتموه من أهله ووضعتموه في غير أهله! فقال له هاشم بن الوليد بن المغيرة:
يا بن سمية، لقد عدوت طورك وما عرفت قدرك، ما أنت وما رأت قريش لأنفسها! إنك لست
في شيء من أمرها وإمارتها، فتنح عنها. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن كلام له في النهي عن غيبة الناس
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: وإنما ينبغي
لأهل العصمة والمصنوع اليهم في السلامة أن يرحموا أهل الذنوب والمعصية، ويكون
الشكر هو الغالب عليهم والحاجز لهم عنهم، فكيف بالعائب الذي عاب أخاه، وعيره
ببلواه. أما ذكر
موضع ستر الله عليه من ذنوبه مما هو أعظم من الذنب الذي عابه به! وكيف يذمه بذنب
قد ركب مثله! قإن لم يكن ركب ذلك الذنب بعينه فقد عصى الله فيما سواه، مما هو
أعظم منه، وايم الله لئن لم يكن عصاه في الكبير، وعصاه في الصغير، لجرأته على
عيب الناس أكبر، يا عبد الله، لا تعجل في عيب أحد بذنبه، فلعله مغفور له، ولا
تأمن على نفسك صغير معصية، فلعلك معذب عليه. فليكفف من علم منكم عيب غيره لما
يعلم من عيب نفسه، وليكن الشكر شاغلاً له على فعافاته مما أبتلي غيره به. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
في ذم الغيبة والاستماع الى المغتابين
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ونحن نذكر مما ورد في الغيبة لمعًا نافعة على
عادتنا في ذكر الشيء عند مرورنا على ما يقتضيه ويستدعيه. وقد ورد في الكتاب العزيزذم الغيبة. قال سبحانه: "ولا يغتب بعضكم بعضاً. وروى جابر وأبو سعيد عنه صلى الله
عليه وسلم: "إياكم والغيبة، فإن الغيبة أشد من الزنا، إن
الرجل يزني فيتوب اللة عليه، وإن صاحب الغيبة لا يغفرله حتى يغفرله صاحبه". وفي الصحاح المجمع عليها أنه صلى الله عليه وسلم مر بقبرين جديدين، فقال: إنهما ليعذبان وما يعذبان بكبير، أما
أحدهما، فكان يغتاب الناس، وأما الآخر فكان لا يتنزه من البول، ودعا بجريدة رطبة
فكسرها اثنتين- و قال: دعا بجريدتين- ثم
غرسهما في القبرين- وقال: "أما إنه سيهون من عذابهما ما دامتا رطبتين ". وأحب العباد الى الله من كان هكذا. ويروى أن المسيح عليه السلام مر على جيفة كلب، فقال
بعض التلامذة: ما أشد نتته! فقال المسيح:
ما أشد بياض أسنانه! كأنه نهاهم عن غيبة الكلب ونبههم الى أنه لا ينبغي أن
يذكرمن كل شيء الا أحسنه. إن الله حرم الغيبة كما حرم المال والدم".
مر
الشعبي بقوم يغتابونه في المسجد، وفيهم بعض أصدقائه، فأخذ بعضادتي الباب، وقال:
ومن كلام بعض الحكماء: أبصر الناس بالعوار المعوار،
هذا مثل قول الشاعر:
قيل لشبيب بن شبة بن عقال: ما بال عبد الله بن الأهتم يغتابك وينتقصك! قال: لأنه شقيقي في النسب، وجاري في البلد، وشريكي
في الصنعة.
قال بعضهم:
بت بالبصرة ليلة مع المسجديين، فلما كان وقت السحر، حركهم واحد، فقال: الى كم هذا النوم عن أعراض الناس! وقيل لشاعر وصله بعض الرؤساء، وأنعم عليه: ما صنع
بك فلان، قال: ما وفت نعمته بإساءته، منعني
لذة الثلب ، وحلاوة الشكوى. ابن عباس:
ما الأسد الضاري على فريسة بأسرع من الدنيء في عرض السري.
وقالت رابعة العدوية : إذا نصح الإنسان لله أطلعه الله تعالى على مساوىء عمله،
فتشاغل بها عن ذكر مساوىء خلقه. ومن كلام بعض الصالحين: الورع في المنطق أشد منه في الذهب والفضة، لأنك إذا استودعك
أخوك مالاً لم تجد بك نفسك لخيانته فيه، وقد استودعك عرضه وأنت تغتابه، ولا
تبالي.
عبد الله بن المبارك: قلت لسفيان: ما أبعد أبا حنيفة من الغيبة! ما سمعته يغتاب
عدواً، قال: هو أعقل من أن يسلط على حسناته ما
يذهب بها.
وكان يقال:
الغيبة فاكهة القراء.
الحسن:
ذم الرجل في السر، مدح له في العلانية.
بلغ الحسن أن رجلاً اغتابه، فأهدى اليه طبقاً من رطب ، فجاءه
الرجل معتذراً، وقال:
أصلحك الله! اغتبتك فأهديت لي! قال: إنك أهديت الي
حسناتك، فأردت أن أكافئك. أعلمه أن الموت يعمنا، والبعث يحشرنا والقيامة تجمعنا، والله
يحكم بيننا. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الغيبة وحكمها في الشرع الاسلامي.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
واعلم أن العلماء ذكروا في حد الغيبة:
أن تذكر أخاك بما يكرهه لو بلغه، سواء ذكرت نقصاناً في بدنه، مثل أن تقول: الأقرع، أو الأعور، أو في نسبه نحو أن تقول: ابن النبطي وابن الإسكاف أو الزبال
أو الحائك أو خلقه، نحو سيىء الخلق أو بخيل أو متكبر، أو في أفعاله الدنيئة نحو قولك: كذاب وظالم ومتهاون بالصلاه، أو
الدنيوية نحو قولك: قليل الأدب متهاون
بالناس، كثير الكلام، كثير الأكل، أو في ثوبه كقولك:
وسخ الثياب، كبير العمامة، طويل الأذيال. وروي أن امرأة ذكرت عنده صلى الله عليه وسلم بأنها
بخيلة، فقال: "فما خيرها إذن!" وأكثر
العلماء على أن الغيبة في امور الدين محرمة أيضاً، وادعوا
الإجماع على أن من ذكر غيره بما يكرهه فهو مغتاب، سواء أكان في الدين أو
في غيره قالوا: والمخالف مسبوق بهذا
الإجماع، وقالوا: وقد روي عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه قال:
"هل تدرون ما الغيبة" قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "ذكرك أخاك
بما يكرهه، فقائل قال: أرأيت يا رسول الله،
إن كان ذلك في أخي، قال: إن كان فيه فقد اغتبته،
وإن لم يكن فقد بهته ". قالوا: وما احتج به الزاعمون أن لا
غيبة في الدين، ليس بحجة، لأن الصحابة إنما ذكرت ذلك في مجلس
رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجتها
الى تعرف الأحكام بالسؤال، ولم يكن غرضها التنقص. فأما قوله: قال قوم كذا، فليس بغيبة، لأنه لم يعين
شخصاً بعينه. واعلم أن الإصغاء الى الغيبة على سبيل التعجب
كالغيبة، بل أشد، لأنه إنما يظهر التعجب ليزيد نشاط
المغتاب في الغيبة، فيندفع فيها حكاية، يستخرج الغيبة منه بذلك، وإذا كان السامع الساكت شريك المغتاب، فما ظنك بالمجتهد
في حصول الغيبة، والباعث على الاستزادة منها! وقد روي أن أبا بكر وعمر ذكرا
إنساناً عند رسول الله، فقال! أحدهما: إنه لنؤوم،
ثم أخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم خبزاً
قفارا ، فطلبا منه أدماً ، فقال: فد ائتدمتما، قالا: ما نعلمه، قال: بلى بما أكلتما من لحم صاحبكما"، فجمعهما في
الإثم، وقد كان أحدهما قائلاً والآخر مستمعاً،
فالمستمع لا يخرج من إثم الغيبة الا بأن ينكر
بلسانه، فإن خاف فبقلبه، وإن قدرعلى القيام أو قطع الكلام بكلام آخر لزمه ذلك،
فإن قال بلسانه: اسكت وهو مريد للغيبة
بقلبه، فذلك نفاق، ولا يخرجه عن الإثم الا أن يكرهه بقلبه،. ولا يكفي أن
يشيرباليد، أي اكفف، أو بالحاجب والعين، فإن ذلك استحقار للمذكور، بل ينبغي أن يذب عنه صريحاً، فقد قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "من
أذل عنده مؤمن وهو يقدر على أن ينصره فلم
ينصره، أذله الله يوم القيامة على رؤوس
الخلائق." |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأسباب الباعثة على الغيبة
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
واعلم أن الأسباب الباعثة على الغيبة على
أمور:
منها شفاء الغيظ،
وذلك أن يجري من الإنسان سبب يغضب به عليه آخر، فإذا
هاج غضبه تشفى بذكر مساوئه، وسبق اليها لسانه بالطبع إن لم يكن هناك دين وازع، وقد
يمنع تشفي الغيظ عند الغضب، فيحتقن الغضب في
الباطن، فيصير حقداً ثابتاً، فيكون سبباً دائماً لذكر المساوىء. وقد يغضب
رفقاؤه من أمر فيحتاج الى أن يغضب لغضبهم، إظهاراً للمساهمة في السراء والضراء
فيخوض معهم في ذكر العيوب والمساوىء. ومنها أن يستشعر من
إنسان أنه سيذمه ويطول لسانه فيه، ويقبح حاله عند بعض الرؤساء، أو يشهد عليه
بشهادة فيبادره قبل أن يقبح حاله، فيطعن فيه
ليسقط أثر شهادته عليه. وقد يبتدىء بذكر بعض ما فيه صادقاً ليكذب عليه بعد
ذلك، فيروج كذبه بالصدق الأول. واعلم أن التوبة من الغيبة تكفر عقابها، والتوبة
منها هي الندم عليها، والعزم على الا يعود، فإن لم يكن الشخص لمذكور قد بلغته
الغيبة، فلا حاجة الى الاستحلال منه، بل لا يجوز إعلامه بذلك، هكذا قال شيخنا أبو الحسين رحمه الله، لأنه لم
يؤلمه فيحتاج الى أن يستوهب منه إثم ذلك الإيلام، وفي إعلامه تضييق صدره، وإدخال
مشقة عليه، وإن كان الشخص المذكور قد بلغته الغيبة، وجب عليه أن يستحله وششوهبه،
فإن كان قد مات سقط بالتوبة عقاب ما يختص بالبارىء سبحانه من ذلك الوقت، وبقي ما
يختص بذلك الميت لا يسقط حتى يؤخذ العوض له من المذنب يوم القصاص. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن كلام له في النهي عن سوءالظن
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: أيها الناس،
من عرف من أخيه وثيقة دين وسداد طريق، فلا يسمعن فيه أقاويل الرجال. أما إنه قد
يرمي الرامي، وتخطىء السهام، ويحيل الكلام، وباطل ذلك يبور، والله سميع وشهيد. قال رضي
الله عنه : "ويحيل
الكلام"، أي يكون باطلاً، أحال الرجل، في منطقه، إذا تكلم الذي لا حقيقة
له، ومن الناس من يرويه: ويحك الكلام
بالكاف، من قولك: ما حاك فيه السيف، ويجوز أحاك بالهمزة، أي ما أثر، يعني أن
القول يؤثر في العرض وإن كان باطلاً، والرواية
الأولى أشهر وأظهر. وقوله: "وباطل
ذلك يبور"، مثل قولهم: للباطل جولة، وللحق دولة، وهذا من قوله
تعالى: "وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل
كان زهوقاً ". قلت: ليسى
كلامه في المتواتر من الأخبار، وإنما كلامه في الأقوال الشاذة الواردة من طريق
الآحاد، التي تتضمن القدح فيمن قد غلبت نزاهته، فلا
يجوز العدول عن المعلوم بالمشكوك. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن كلام له عنه في وضع المعروف في غير أهله
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
وليس لواضع المعروف في غير حقه، وعند غير أهله من الحظ فيما أتى الا محمدة
اللئام، وثناء الأشرار، ومقالة الجهال، ما دام منعماً عليهم: ما أجود يده! وهو
عن ذات الله بخيل. فمن
أتاه الله مالاً فليصل به القرابة، وليحسن منه الضيافة، وليفك به الأسير
والعاني، وليعط منه الفقير والغارم، وليصبر نفسه على الحقوق والنوائب، ابتغاء
الثواب، فإن فوزاً بهذه الخصال شرف مكارم الدنيا، ودرك فضائل الآخرة، إن شاء
الله.
وفي الحديث النبوي في رجل أمسك رجلاً، وقتله آخر فقال رضي الله عنه:
"اقتلوا القاتل واصبروا الصابر "، أي احبسوا الذي حبسه للقتل الى أن
يموت.
ولم يقل:
إن الشواء والنشوة، والسر في هذا أنه كأنه يجعل هذا الشواء شخصاً من جملة أشخاص،
داخلة تحت نوع واحد، ويقول: إن واحداً منها أيها كان فهو من لذة العيش، وإن لم
يحصل له كل أشخاص ذلك النوع، ومراده تقرير فضيلة هذه الخصال في النفوس، أي متى
حصل للإنسان فوز ما بها، فقد حصل له الشرف، وهذا المعنى وإن أعطاه لفظة الفوز
بالالف واللام إذا قصد بها الجنسية الا أنه قد يسبق الى الذهن منها الاستغراق لا
الجنسية، فأتى بلفظة لا توهم الاستغراق، وهي اللفظة المنكرة، وهذا دقيق، وهو من
لباب علم البيان. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن خطبة عنه فى الاستسقاء
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: ألا وإن
الأرض التي تحملكم، والسماء التي تظلكم، مطيعتان لربكم، وما أصبحتا تجودان لكم
ببركتهما توجعاً لكم، ولا زلفةً إليكم، ولا لخير ترجوانه منكم، ولكن أمرتا
بمنافعكم فأطاعتا، وأقيمتا على حدود مصالحكم فقامتا. إن الله يبتلي عباده عند الأعمال
السيئة بنقص الثمرات، وحبس البركات، وإغلاق خزائن
الخيرات، ليتوب تائب، ويقلع مقلع، ويتذكر متذكر، ويزدجر مزدجر، وقد جعل الله
سبحانه الاستغفار سبباً لدرور الرزق ورحمة الخلق، فقال سبحانه: "استغفروا ربكم إنه كان غفاراً، يرسل السماء عليكم
مدراراً، ويمددكم بأموالٍ وبنين ويجعل لكم جنات وٍيجعل لكم أنهاراً "،
فرحم الله أمرأً استقبل توبته، واستقال خطيئته، وبادر منيته! اللهم إنا خرجنا اليك من تحت الأستار والأكنان،
وبعد عجيج البهائم والولدان، راغبين في رحمتك، وراجين فضل نعمتك، وخائفين من
عذابك ونقمتك. والزلفة: القربة، يقول: إن السماء والأرض إذا
جاءتا بمنافعكم أما السماء فبالمطر، وأما الأرض فبالنبات فإنهما لم تأتيا بذلك
تقرباً إليكم، ولا رحمةً لكم، ولكنهما أمرتا بنفعكم فامتثلتا الأمر، لأنه أمر من
تجب طاعته، ولو أمرتا بغير ذلك لفعلتاه. والكلام مجاز واستعارة، لأن الجماد لا
يؤمر، والمعنى أن الكل مسخر تحت القدرة الإلهية، ومراده تمهيد قاعدة الاستسقاء، كأنه يقول: إذا كانت السماء والأرض أيام الخصب
والمطر والنبات لم يكن ما كان منهما محبة لكم، ولا رجاء منفعة منكم، بل طاعة
الصانع الحكيم سبحانه فيما سخرهما له، فكذلك السماء والأرض أيام الجدب وانقطاع
المطر وعدم الكلأ، ليس ما كان منهما بغضاً لكم، ولا استدفاع ضرر يخاف منكم، بل
طاعة الصانع الحكيم سبحانه فيما سخرهما له، وإذا كان كذلك فبالحري الا نأمل
السماء ولا الأرض، وأن نجعل آمالنا معلقة بالملك الحق المدبر لهما، وأن نسترحمه
وندعوه ونستغفره، لا كما كانت العرب في الجاهلية
يقولون: مطرنا بنوء كذا ، وقد سخط النوء الفلاني على بني فلان فأمحلوا . وقال تعالى في موضع آخر: "ولو
أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض "،
وقال سبحانه: "ولو أنهم أقاموا التوراة
والإنجيل وما أنزل اليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم "
وقال تعالى: "وأن لو استقاموا على الطريقة
لأسقيناهم ماءً غدقاً ". |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الثواب
والعقاب عند أهل الكتاب
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وكل ما في التوراة من الوعد والوعيد
فهو لمنافع الدنيا ومضارها، أما منافعها فمثل أن يقول: إن أطعتم باركت فيكم، وكثرت من
أولادكم وأطلت أعماركم، وأوسعت أرزاقكم، واستبقيت اتصال نسلكم، ونصرتكم على
أعدائكم، وإن عصيتم وخالفتم اخترمتكم ونقصت من آجالكم، وشتت شملكم، ورميتكم
بالجوع والمحل، وأذللت أولادكم، وأشمت بكم أعداءكم، ونصرت عليكم خصومكم، وشردتكم
في البلاد، وابتليتكم بالمرض والذل، ونحو ذلك. ولم يأت في التوراة وعد ووعيد بأمر
يتعلق بما بعد الموت. وأما المسيح عليه السلام، فإنه صرح بالقيامة وبعث الأبدان، ولكن جعل العقاب
روحانياً، وكذلك
الثواب، أما العقاب فالوحشة والفزع وتخيل الظلمة
وخبث النفس وكدرها وخوف شديد، وأما الثواب فما
زاد على أن قال: إنهم يكونون كالملائكة، وربما
قال: يصعدون الى ملكوت السماء، وربما قال
أصحابه وعلماء ملته: الضوء واللذة والسرور والأمن من زوال اللذة الحاصلة
لهم. هذا هو قول المحققين منهم،
وقد أثبت بعضهم ناراً حقيقية، لأن لفظة النار وردت في
الإنجيل، فقال محققوهم: نار قلبية، أي نفسية
روحانية، وقال الأقلون: نار كهذه النار. ومنهم من أثبت عقاباً غير
النار وهو بدني، فقال: الرعدة وصرير الأسنان،
فأما الجنة بمعنى الأكل والشرب والجماع، فإنه لم يقل
منهم قائل به أصلاً، والإنجيل صرح بانتفاء ذلك
في القيامة تصريحاً لا يبقى بعده ريب لمرتاب ، وجاء خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه
وسلم فأثبت المعاد على وجه محقق كامل، أكمل مما
ذكره الأولان، فقال: إن البدن والنفس معاً مبعوثان،
ولكل منهما منهما حظ في الثواب والعقاب. ولذات نفسانية من السرور ومشاهدة الملكوت والأمن من
العذاب والعلم اليقيني بدوام ما هم فيه، وأنه لا
يتعقبه عدم ولا زوال، والخلو عن الأحزان والمخاوف، وللمعاقب
عقاب بدني، وهو المقامع من الحديد، والسلاسل، والحريق والحميم والغسلين
والصراخ والجلود التي كلما نضجت بدلوا جلوداً غيرها، وعقاب
نفساني من اللعن والخزي والخجل والندم والخوف الدائم واليأس من الفرج،
والعلم اليقيني بدوام الأحوال السيئة التي هم عليها. قال: فوفت الشريعة
الحكمة حقها من الوعد الكامل، والوعيد الكامل، وبهما ينتظم الأمر، وتقوم الملة، فأما النصارى وما ذهبوا اليه من أمر بعث الأبدان، ثم
خلوها في الدار الآخرة من المطعم والملبس والمشرب والمنكح، فهو أرك ما ذهب اليه أرباب الشرائع وأسخفه، وذلك أنه
إن كان السبب في البعث، هو أن الإنسان هو البدن، أو أن البدن شريك النفس في
الأعمال الحسنة والسيئة، فوجب أن يبعث، فهذا القول
بعينه إن أوجب ذلك، فإنه يوجب أن يثاب البدن، ويعاقب بالثواب والعقاب البدني المفهوم
عند العالم، وإن كان الثواب والعقاب روحانياً،
فما الغرض في بعث الجسد؟ ثم ما ذلك الثواب
والعقاب الروحانيان! وكيف تصور العامة ذلك حتى يرغبوا ويرهبوا! كلا بل لم تصور لهم الشريعة النصرانية من ذلك شيئاً،
غيرأنهم يكونون في الآخرة كالملائكة، وهذا لا يفي بالترغيب
التام، ولا ما ذكروه من العقاب الروحاني
وهو الظلمة وخبث النفس كاف في الترهيب والذي جاءت به
شريعة الإسلام حسن لا زيادة عليه. انقضى
كلام هذا الحكيم. وعن عمر أنه خرج
يستسقي، فما زاد على الاستغفار، فقيل له: ما
رأيناك استسقيت! فقال: لقد استسقيت بمجاديح
السماء التي يستنزل بها المطر. قوله رضي الله عنه:"
لا تهلكنا بالسنين" جمع: سنة، وهي الجدب والمحل، قال تعالى: "ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين "، وقال
النبي صلى الله عليه وسلم يدعو
على المشركين: "اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف"، والسنة لفظ محذوف
منه حرف، قيل إنه الهاء، وقيل الواو، فمن قال:
المحذوف هاء، قال: أصله سنهة مثل جبهة، لأنهم قالوا: نخلة سنهاء، أي تحمل سنة ولا تحمل
اخرى، وقال بعض الأنصار:
ومن قال أصلها الواو، احتج بقولهم: أسنى القوم يسنون إسناء، إذا لبثوا في
المواضع سنة، فأما التصغير فلا يدل على أحد المذهبين بعينه، لأنه يجوز سنية
وسنيهة، والأكثر في جمعها بالواو والنون سنون بكسر السين كما في هذه الخطبة، وبعضهم يقول: سنون با لضم. وناقعة مروية:
مسكنة للعطش، نقع الماء العطش نقعاً ونقوعاً سكنه، وفي
المثل: الرشف أنقع أي أن الشراب الذي يرشف قليلاً قليلاً أنجع وأقطع
للعطش، وإن كان فيه بطء، وكثيرة المجتنى، أي كثيرة الكلأ، والكلأ: الذي يجتنى ويرعى. والقيعان:
جمع قاع، وهو الفلاة، والبطنان: جمع بطن،
وهو الغامض من الأرض، مثل ظهر وظهران وعبد وعبدان |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال في بعثة الأنبياء
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
بعث رسله بما خصهم به من وحيه، وجعلهم حجة لة على خلقه، لئلا تجب الحجة لهم بترك
الإعذار اليهم، فدعاهم بلسان الصدق الى سبيل الحق.
وأبأت القاتل بالقتيل واستبأته أيضاً، إذا قتلته
به، وقد باء الرجل بصاحبه، أي قتل به وفي المثل:
باءت عراز بكحل وهما بقرتان، قتلت إحداهما بالأخرى
وقال مهلهل لبجيرلما قتل: بؤبثسع نعل كليب . هذا مع تسليم هؤلاء له أنه
رضي الله عنه أقضى
الأمة، وأن القضاء يحتاج الى كل هذه الفضائل، وكل واحدة منها لا تحتاج الى
غيرها، فهو إذن أجمع للفقه وأكثرهم احتواء عليه، الا
أنه رضي الله عنه لم
يرض بذلك ولم يصدق الخبر الذي قيل: أفرضكم فلان
الى آخره فقال: إنه كذب وافتراء حمل قوماً
على وضعه الحسد والبغي والمنافسة لهذا الحي من بني هاشم، أن رفعهم الله على
غيرهم، واختصهم دون من سوا هم. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أهل يتوجب أن يكون الأئمة من قريش؟
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وقد اختلف الناس في اشتراط النسب في
الإمامة، فقال قوم من قدماء أصحابنا: إن النسب ليس
بشرط فيها أصلاً، وإنها تصلح في القرشي وغير القرشي إذا كان فاضلاً مستجمعاً
للشرائط المعتبرة، واجتمعت الكلمة عليه، وهو قول الخوارج. وقال أكثرأصحابنا وأكثر الناس: إن
النسب شرط فيها، وإنها لا تصلح إلا في العرب خاصة، ومن
العرب لا قريش خاصة. وقال أكثرأصحابنا: معنى
قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الأئمة من قريش" إن القرشية لشرط إذا وجد في قريش من يصلح للإمامة، فإن لم يكن فيها من يصلح، فليست
القرشية شرطاً فيها. وبعض الزيدية يجيز الإمامة في غير الفاطميين من ولد علي رضي الله عنه، وهو
من أقوالهم الشاذة. قلت: هذا الموضع مشكل،
ولي فيه نظر، وإن صح أن علياً رضي الله عنه قاله، قلت كما قال: لأنه ثبت عندي أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: "إنه مع الحق، وإن الحق يدور معه حيثما
دار"، ويمكن أن يتأول ويطبق على مذهب
المعتزلة، فيحمل على أن المراد به كمال الإمامة
كما حمل قوله صلى الله عليه
وسلم:
"لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد"، على
نفي الكمال، لا على نفي الصحة. أين العقول المستصبحة بمصابيح الهدى، والأبصار
اللامحة الى منازل التقوى! أين القلوب التي وهبت لله، وعوقدت على طاعة الله!
أزدحموا على الخطام، وتشاحوا على الحرام، ورفع لهم علم الجنة والنار، فصرفوا عن
الجنة وجوههم، وأقبلوا إلى النار بأعمالهم، ودعاهم ر بهم فنفروا وولوا، ودعاهم
الشيطان فاستجابوا وأقبلوا! الشرح: آثروا:
اختاروا. وأخروا: تركوا. الآجن: الماء المتغير. أجن الماء يأجن ويأجن. وشابت عليه مفارقه: طال عهده به مذ زمن الصبا حتى
صار شيخاً. وصبغت به خلائقه صارت طبعاً لأن العادة طبيعة
ثانية، مزبداً، أي ذو زبد، وهو ما يخرج من الفم كالرغوة، يضرب مثلا للرجل الصائل
المقتحم، والتيار: معظم اللجة، والمراد به ههنا السيل. والهشيم: دقاق الحطب. وتشاحوا:
تضايقوا، كل منهم يريد ألا يفوته ذلك، وأصله الشح وهو البخل. وحوشين رضي الله عنه أن
يعني بهذا الكلام الصحابة، لأنهم ما آثروا العاجل، ولا أخروا الآجل، ولا صحبوا
المنكر، ولا أقبلوا كالتيار، لا يبالي ما غرق، ولا كالنار لا تبالي ما أحرقت،
ولا ازدحموا على الحطام، ولا تشاحوا على الحرام، ولا صرفوا عن الجنة وجوههم، ولا
أقبلوا الى النار بأعمالهم، ولا دعاهم الرحمن فولوا، ولا دعاهم الشيطان
فاستجابوا. وقد علم كل
أحد حسن سيرتهم، وسداد طريقتهم وإعراضهم عن الدنيا وقد ملكوها، وزهدهم فيها وقد
تمكنوا منها، ولولا قوله: كأني أنظر الى فاسقهم
لم أبعد أن يعني بذلك قوماً ممن عليه اسم الصحابة وهو رديء الطريقة، كالمغيرة بن
شعبة وعمرو بن العاص، ومروان بن الحكم، ومعاوية، وجماعة معدودة أحبوا الدنيا
واستغواهم الشيطان، وهم معدودون في كتب أصحابنا ومن اشتغل بعلوم السيرة
والتواريخ عرفهم بأعيانهم. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن خطبة له عنه في شؤون الدنيا والناس
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
أيها الناصق، إنما أنتم في هذه الدنيا غرض تنتضل فيه المنايا، مع كل جرعة شرق،
وفي كل أكلة غصص، لا تنالون منها نعمة :إلا بفراق أخرى،
ولا يعمر معمر منكم يوماً من عمره إلا بهدم آخر من أجله، ولا تجدد له
زيادة في أكله، إلا بنفاد ما قبلها من رزقه، ولا يحيا له أثر، إلا مات له أثر،
ولا يتجدد له جديد، إلا بعد أن يخلق لة جديد، لا تقوم له نابتة، إلا وتسقط منة
محصودة وقد مضت أصول نحن فروعها، فما بقاء فرع بعد ذهاب أصله! الشرح: الغرض: ما ينصب ليرمى، وهو الهدف وتنتضل فيه المنايا:
تترامى فيه للسبق، ومنه الانتضال بالكلام وبالشعر، كأنه يجعل المنايا أشخاصاً
تتناضل بالسهام، من الناس من يموت قتلاً، ومنهم من يموت غرقاً، أو يتردى في بئر،
أو يسقط عليه حائط، أو يموت على فراشه.
ومراد أمير المؤمنين رضي الله عنه بكلامه أن نعيم الدنيا لا يدوم، فإذا أحسنت
أساءت، إذا أنعمت أنقمت. ثم قال:
ولا يعمر معمر منكم يوماً من عمره إلا بهدم آخر من أجله ، وهذا أيضاً لطيف، لأن
المسرور ببقائه إلى يوم الأحد لم يصل إليه إلا بعد أن قضى يوم السبت وقطعه، ويوم
السبت من أيام عمره، فإذا قد هدم من عمره يوماً، فيكون قد قرب الى الموت، لأنه
قد قطع من المسافة جزءاً.
وقال
الشاعر:
وقد
صرح أبو العتاهية بالمعنى، فقال:
الأصل:
منها: وما أحدثت بدعة إلا ترك بهاسنة، فاتقوا البدع، والزموا المهيع.
ويجمع
فوعل على فواعل، كدورق، وهوجل، ويجوز أن يكون عوازم جمع عازمة، ويكون فاعل بمعنى
مفعول، أي معزوم عليها، أي مقطوع معلوم بيقين صحتها، ومجيء فاعلة بمعنى مفعولة
كثير، كقولهم: عيشة راضية بمعنى مرضية، والأول أظهر
عندي، لأن في مقابلته قوله: وإن محدثاتها شرارها، والمحدث في مقابلة
القديم. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن كلام له وقد استشاره عمر في الشخوص لقتال الفرس
بنفسه
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: إن هذا الأمر
لم يكن نصره ولا خذلانه بكثرة ولا بقلة، وهو دين الله الذي أظهره، وجنده الذي
أعده وأمده، حتى بلغ ما بلغ، وطلع حيثما طلع، ونحن على موعود من الله، والله
منجز وعده، وناصر جنده، ومكان القيم بالأمر مكان النظام من الخرز، يجمعه ويضمه،
فإن انقطع النظام تفرق وذهب، ثم لم يجتمع بحذافيره أبداً. إن الأعاجم إن ينظروا إليك غداً
يقولوا: هذا أصل العرب، فإذا اقتطعتموه استرحتم، فيكون ذلك
أشد لكلبهم عليك وطمعهم فيك. الشرح:
نظام العقد: الخيط الجامع له، وتقول: أخذته
كله بحذافيره، أي بأصله، وأصل الحذافير أعالي الشيء ونواحيه، الواحد حذفار، وأصلهم نار الحرب: اجعلهم صالين لها، يقال: صليت اللحم وغيره أصليه صلياً، مثل رميته
أرميه رمياً، إذا شويته، وفي الحديث أنه صلى الله عليه
وسلم أتي بشاة مصلية، أي مشوية ويقال أيضاً: صليت الرجل ناراً إذا أدخلته
النار وجعلته يصلاها، فإن ألقيته فيها إلقاء كأنك تريد الإحراق قلت: أصليته
بالألف، وصليته تصلية، وقرىء "ويصلى سعيراً
" ومن خفف فهو من قولهم: صلي فلان بالنار- بالكسر- يصلى صلياً
احترق، قال الله تعالى: "هم أولى بها صلياً
" ويقال أيضاً: صلي فلان بالأمر، إذا قاسى حره وشدته، قال الطهوي:
وعلى هذا الوجه يحمل كلام أمير المؤمنين رضي الله عنه وهو مجاز من الإحراق، والشيء الموضوع
لها هذا اللفظ حقيقة. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وقعة القادسية
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
واعلم أن هذا الكلام قد اختلف في
الحال التي قاله فيها لعمر، فقيل: قاله له في غزاة القادسية، وقيل في غزاة نهاوند. وإلى هذا القول الأخير ذهب محمد بن جرير الطبري في "التاريخ
الكبير". وإلى القول
الأول ذهب المدائني في كتاب "الفتوح،"
ونحن نشير إلى ما جرى في هاتين الوقعتين إشارة خفيفة
على مذهبنا في ذكر السير والأيام. وأشار عليه غيره من الناس أن
يخرج بنفسه، فأخذ برأي علي رضي الله عنه. قال أبو جعفر:
وتثبط رستم عن القتال وكرهه، وآثر المسالمة، واستعجله يزدجرد مراراً، واستحثه
على الحرب، وهو يدافع بها، ويرى المطاولة. وكان عسكره مائة وعشرين ألفاً وكان عسكر سعد بضعاً وثلاثين ألفاً،
وأقام رستم بريداً من الرجال، الواحد منهم إلى جانب الآخر، من القادسية إلى
المدائن، كلما تكلم رستم كلمة أداها بعضهم إلى بعض، حتى تصل إلى سمع يزدجرد في
وقتها، وشهد وقعة القادسية مع المسلمين طليحة بن خويلد،
وعمرو بن معد يكرب، والشماخ بن ضرار، وعبدة بن الطبيب الشاعر، وأوس بن معن
الشاعر، وقاموا في الناس ينشدونهم الشعر ويحرضونهم، وقرن أهل فارس أنفسهم
بالسلاسل لئلا يهربوا، فكان المقرنون منهم نحوثلاثين
ألفاً، والتحم الفريقان في اليوم الأول،
فحملت الفيلة التي مع رستم على الخيل فطحنتها، وثبت لها جمع من الرجالة، وكانت ثلاثة وثلاثين فيلاً، منها فيل الملك، وكان أبيض
عظيماً، فضربت الرجال خراطيم الفيلة بالسيوف فقطعتها،
وارتفع عواؤها، وأصيب في هذا اليوم وهو اليوم
الأول خمسمائة من المسلمين، وألفان من الفرس. ووصل في الثاني أبو عبيدة
بن الجراح من الشام في عساكر من المسلمين، فكان مدداً لسعد، وكان هذا اليوم على الفرس أشد من اليوم الأول، قتل من المسلمين ألفان، ومن المشركين عشرة آلاف.
وأصبحوا في اليوم الثالث على القتال، وكان
عظيماً على العرب والعجم معاً، وصبر الفريقان، وقامت الحرب ذلك اليوم: وتلك الليلة جمعاء لا
ينطقون، كلامهم الهرير ، فسميت ليلة الهرير. فنزل موضع الكوفة اليوم واختط
مسجدها، وبنى فيها الخطط للعرب. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وقعة نهاوند
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
فأما وقعة نهاوند ، فإن
أبا جعفر محمد بن جرير الطبري ذكر في كتاب التاريخ، أن عمر لما أراد أن يغزو العجم وجيوش كسرى وهي مجتمعة
بنهاوند، استشار الصحابة، فقام عثمان فتشهد، فقال: أرى يا أمير المؤمنين أن تكتب إلى أهل
الشام فيسيروا من شامهم، وتكتب إلى أهل اليمن فيسيروا من يمنهم، ثم تسيرأنت بأهل
هذين الحرمين إلى المصرين: البصرة والكوفة، فتلقى
جمع المشركين بجمع المسلمين، فإنك إذا سرت بمن معك ومن عندك، قل في نفسك ما
تكاثر من عدد القوم، وكنت أعز عزاً وأكثر، إنك لا تستبقي من نفسك بعد
اليوم باقية، ولا تمتع من الدنيا بعزيز، ولا تكون منها في حرز حريز. إن هذا اليوم له ما بعده، فاشهد
بنفسك ورأيك وأعوانك، ولا تغب عنه. فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
أما بعد، فإن هذا الأمر لم يكن نصره ولا خذلانه بكثرة
ولا قلة، إنما هو دين الله الذي أظهره، وجنده الذي أعزه وأمده بالملائكة،
حتى بلغ ما بلغ، فنحن على موعود من الله، والله منجز وعده، وناصر جنده، وإن مكانك منهم مكان النظام من الخرز، يجمعه ويمسكه، فإن انحل تفرق ما فيه وذهب، ثم لم يجتمع بحذافيره
أبداً، والعرب اليوم وإن كانوا قليلاً، فإنهم كثيرعزيز بالإسلام، أقم مكانك، واكتب إلى أهل الكوفة، فإنهم أعلام العرب
ورؤساؤهم، وليشخص منهم الثلثان، وليقم الثلث، واكتب إلى أهل البصرة
أن يمدوهم ببعض من عندهم، ولا تشخص الشام ولا اليمن،
إنك إن أشخصت أهل الشام من شامهم، سارت الروم إلى
ذراريهم، وإن أشخصت أهل اليمن من يمنهم سارت
الحبشة إلى ذراريهم، ومتى شخصت من هذه الأرض انتقضت
عليك العرب من أقطارها وأطرافها، حتى يكون ما تدع وراءك أهم إليك مما بين
يديك من العورات والعيالات. إن الأعاجم إن ينظروا إليك غداً قالوا: هذا أمير العرب وأصلهم،
فكان ذلك أشد لكلبهم عليك. وأما ما ذكرت من مسير القوم، فإن الله هو أكره
لسيرهم منك، وهو أقدر على تغييرما يكره، وأما ما ذكرت من عددهم فإنا لم نكن
نقاتل فيما مضى بالكثرة، وإنما كنا نقاتل
بالصبروالنصر. قالوا:
أنت أفضل رأياً، فقال: أشيروا علي به، واجعلوه عراقياً قالوا:
أنت أعلم بأهل العراق، وقد وفدوا عليك، فرأيتهم وكلمتهم. قال: أما والله
لأولين أمرهم رجلاً يكون عمداً لأول الأسنة، قيل:
ومن هو يا أمير المؤمنين؟ قال: النعمان بن مقرن، قالوا:
هولها. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن خطبة له رضي الله عنه في الغاية من بعثة الرسول
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
فبعث الله محمداً صلى الله عليه وآله وسلم
بالحق،
ليخرج عباده من عبادة الأوثان إلى عبادته، ومن طاعة الشيطان إلى طاعته، بقرآن قد
بينه وأحكمه، ليعلم العباد ربهم إذ جهلوه، وليقروا به بعد إذ جحدوه، وليثبتوه
بعد إذ أنكروه، فتجلى لهم سبحانه في كتابه من غير أن يكونوا رأوه بما أراهم من
قدرته، وخوفهم من سطوته. وكيف محق من محق بالمثلات، واحتصد من احتصد
بالنقمات! الشرح:
الأوثان: جمع وثن، وهو الصنم، ويجمع أيضاً على وثن، مثل أسد وآساد واسد، وسمى
وثناً لانتصابه وبقائه على حال واحدة، من قولك: وثن فلان بالمكان، فهو واثن، وهو
الثابت الدائم. قوله:
"فتجلى سبحانه لهم"، أي ظهر من غيرأن يرى بالبصر، بل بما نبههم عليه
في القرآن من قصص الأولين، وما حل بهم من النقمة عند مخالفة الرسل، والمثلات،
بضم الثاء: العقوبات. وقال الدارقطني:
ما الحديث الصحيح في الحديث إلا كالشعرة البيضاء في الثور الأسود. وأما غلبة الباطل على الحق حتى يخفى الحق عنده،
فظاهرة. والسلعة: المتاع، ونبذ الكتاب: ألقاه ولا يؤويهما:
لا يضمهما إليه، وينزلهما عنده. والقارعة:
المصيبة تقرع، أي تلقى بشدة وقوة. الأصل: أيها الناس،
إنه من استنصح الله وفق، ومن اتخذ قوله دليلاً هدي للتي هي أقوم، فإن جار الله
آمن، وعدوه خائف، وإنه لا ينبغي لمن عرف عظمة الله أن يتعظم، فإن رفعة الذين
يعلمون ما عظمته أن يتواضعوا له، وسلامة الذين يعلمون ما قدرته أن يستسلموا له.
فلا تنفروا من الحق نفار الصحيح من الأجرب، والبارىء من ذي السقم. وما ههنا، بمعنى أي شيء، ومن روى بالنصب جعلها
زائدة. وقد ورد في ذم التعظم والتكبر ما يطول استقصاؤه،
وهو مذموم على العباد، فكيف بمن يتعظم على الخالق سبحانه وإنه لمن الهالكين! وقال رسول! الله صلى
الله عليه وسلم لما افتخر: "أنا
سيد ولد آدم"، ثم قال: "ولا فخر"، فجهر بلفظة الافتخار، ثم أسقط
استطالة الكبر، وإنما جهر بما جهر به، لأنه أقامه مقام
شكر النعمة والتحدث بها، وفي الحديث المرفوع عنه صلى الله عليه وسلم: "إن الله
قد أذهب عنكم حمية الجاهلية وفخرها بالآباء، الناس بنو آدم، وآدم من تراب، مؤمن
تقي، وفاجر شقي. لينتهين أقوام يفخرون برجال، إنما هم فحم من فحم جهنم، أو
ليكونن أهون على الله من جعلان تدفع النتن بأنفها". ثم ذكر أنهم لا يخالفون الدين لأنهم قوامه وأربابه،
ولا يختلفون فيه، لأن الحق في التوحيد والعدل واحد، فالدين بينهم شاهد صادق
يأخذون بحكمه، كما يؤخذ بحكم الشاهد الصادق، وصامت ناطق، لأنه لا ينطق بنفسه بل
لا بد له من مترجم، فهو صامت في الصورة، وهو في المعنى أنطق الناطقين، لأن
الأوامر والنواهي والآداب كلها مبنية عليه، ومتفرعة عليه. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن كلام له رضي الله عنه في ذكر أهل البصرة
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: كل واحد
منهما يرجو الأمر له، ويعطفه عليه دون صاحبه، لا يمتان إلى الله بحبل، ولا يمدان
إليه بسبب، كل واحد منهما حامل ضب لصاحبه، وعما قليل يكشف قناعه به، والله لئن
أصابوا الذي يريدون عن هذا نفس هذا، وليأتين هذا على هذا، قد قامت الفئة الباكية
فأين المحتسبون! قد سنت لهم السنن، وقدم لهم الخبر، ولكل ضلة علة، ولكل ناكث
شبهة، والله لا أكون كمستمع اللدم، يسمع الناعي، ويحضر الباكي، ثم لا يعتبر. الشرح: ضمير التثنية راجع إلى طلحة والزبيررضي الله عنهما. ويمتان:
يتوسلان، الماضي ثلاثي، مت يمت بالضم والضب:
الحقد والمحتسبون: طالبو الحسبة، وهي الأجر. ومستمع اللدم كناية عن الضبع، تسمع وقع الحجر بباب
جحرها من يد الصائد فتنخذل وتكف جوارحها إليها حتى يدخل عليها فيربطها، يقول: لا
أكون مقراً بالضيم راغناً ، أسمع الناعي المخبر عن قتل عسكر الجمل لحكيم بن جبلة
وأتباعه، فلا يكون عندي من التغيير والإنكار لذلك، إلا أن أسمعه وأحضر الباكين
على قتلاهم. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وقعة يوم الجمل.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وروى أبو مخنف، قال:
لما تزاحف الناس يوم الجمل والتقوا، قال علي رضي الله عنه لأصحابه:
لا يرمين رجل منكم بسهم، ولا يطعن أحدكم فيهم برمح، حتى أحدث إليكم، وحتى
يبدأوكم بالقتال وبالقتل. فرمى أصحاب الجمل عسكر علي رضي الله عنه بالنبل رمياً شديداً متتابعاً،
فضج إليه أصحابه، وقالوا: عقرتنا سهامهم يا
أمير المؤمنين. وجيء برجل إليه، وإنه لفي فسطاط له صغير، فقيل له: هذا فلان قد قتل. فقال:
اللهم اشهد، ثم قال: أعذروا إلى القوم، فأتي
برجل آخر فقيل: وهذا قد قتل: فقال: اللهم اشهد، أعذروا إلى القوم، ثم أقبل عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي وهو من أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم، يحمل أخاه عبد الرحمن بن بديل، قد أصابه سهم فقتله، فوضعه بين يدي
علي رضي الله عنه، وقال:
يا أمير المؤمنين، هذا أخي قد قتل، فعند ذلك استرجع علي رضي الله عنه، ودعا
بدرع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات
الفضول فلبسها، فتدلت بطنه فرفعها ليده، وقال لبعض أهله، فحزم وسطه بعمامة،
وتقلد ذا الفقار، ودفع إلى ابنه محمد راية رسول الله صلى الله عليه وسلم السوداء،
وتعرف بالعقاب، وقال لحسن وحسين رضي الله عنهما:
إنما دفعت الراية إلى أخيكما. وتركتكما لمكانكما من رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم رفع مصحفاً بيده، فقال:
من يأخذ هذا المصحف، فيدعوهم إلى ما فيه، وله الجنة؟ فقام غلام شاب اسمه مسلم،
عليه قباء أبيض، فقال: أنا آخذه، فنظر إليه علي
وقال: يا فتى، إن أخذته، فإن يدك اليمنى تقطع، فتأخذه بيدك اليسرى فتقطع،
ثم تضرب بالسيف حتى تقتل فقال: لا صبر لي على ذلك، فنادى علي ثانية، فقام الغلام،
وأعاد عليه القول، وأعاد الغلام القول مراراً، حتى قال الغلام: أنا آخذه، وهذا
الذي ذكرت في الله قليل، فأخذه وانطلق، فلما خالطهم ناداهم: هذا كتاب الله بيننا
وبينكم. فضربه رجل فقطع يده اليمنى، فتناوله باليسرى فضربه أخرى فقطع اليسرى،
فاحتضنه فضربوه بأسيافهم، حتى قتل فقالت أم ذريح العبدية في ذلك:
قال أبو مخنف:
فعند ذلك أمر علي رضي الله عنه
ولده محمداً أن يحمل الراية، فحمل
وحمل معه الناس، واستحر القتل في الفريقين وقامت الحرب على ساق. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
مقتل طلحة والزبير.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال: فأما طلحة،
فإن أهل الجمل لما تضعضعوا قال مروان: لا
أطلب ثأر عثمان من طلحة بعد اليوم! فانتحى له بسهم فأصاب ساقه، فقطع أكحله ،
فجعل الدم يبض ، فاستدعى من مولى له بغلة، فركبها وأدبر، وقال لمولاه: ويحك! أما من مكان أقدر فيه على
النزول، فقد قتلني الدم! فيقول له مولاه:
انج، وإلا لحقك القوم، فقال: بالله ما رأيت
مصرع شيخ أضيع من مصرعي هذا! حتى انتهى إلى دار من دور البصرة، فنزلها ومات بها.
وأما الزبير فقتله ابن جرموز غيلة بوادي السباع، وهو منصرف عن الحرب، نادم على ما فرط منه، وتقدم
ذكر كيفية قتله فيما سبق. قال: فكان الحسن البصري إذا ذكر ذلك يقول: لقد كان في جوار عريض. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن كلام له رضي الله عنه قبل موته.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: أيها الناس،
كل امرىء لاق ما يفر منه في فراره. الأجل مساق النفس، والهرب منه موافاته، كم أطردت
الأيام أبحثها عن مكنون هذا الأمر، فأبى الله إلا إخفاءه. هيهات! علم مخزون. أما
وصيتي، فالله لا تشركوا به شيئاً، ومحمداً صلى الله عليه وآله
فلا تضيعوا سنته، أقيموا هذين
العمودين، وأوقدوا هذين المصباحين، وخلاكم ذم ما لم تشردوا. حمل
كل امرىء منكم مجهوده، وخفف عن الجهلة. رب رحيم، ودين قويم، وإمام عليم. أنا
بالأمس صاحبكم، وأنا اليوم عبرة لكم، وغداً مفارقكم! غفر الله لي ولكم! إن ثبتت
الوطأة في هذه المزلة فذاك، وإن تدحض القدم، فإنا كنا في أفياء أغصان، ومهب
رياح، وتحت ظل غمام. اضمحل
في الجو متلفقها، وعفا في الأرض مخطها، وإنما كنت جاراً جاوركم بدني أياماً،
وستعقبون مني جثة خلاء، ساكنة بعد حراك، وصامتة بعد نطق. ليعظكم
هدوئي، وخفوت إطراقي، وسكون أطرافي، فإنه أوعظ للمعتبرين من المنطق البليغ،
والقول المسموع. وهذا الكلام يدل على أنه لم يكن يعرف حال قتله
معرفة مفصلة من جميع الوجوه، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم
أعلمه بذلك علماً مجملاً، لأنه قد ثبت
أنه صلى الله عليه وسلم قال له: "ستضرب على هذه وأشار إلى هامته فتخضب منها هذه
وأشار إلى لحيته "، وثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال له: "أتعلم من أشقى الأولين "؟ قال: نعم، عاقر
الناقة، فقال له: "أتعلم من أشقى الآخرين "؟ قال: لا، قال: "من
يضربك ههنا، فيخضب هذه ".
وقول الخلص من شيعته: فهلا تقتله! فقال: فكيف
أقتل قاتلي! وتارة قال: إنه لم يقتلني، فكيف
أقتل من لم يقتل! وكيف قال في البط الصائح خلفه في المسجد، ليلة ضربه ابن ملجم:
دعوهن، فإنهن نوائح. وكيف قال تلك الليلة: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشكوت
إليه، وقلت: ما لقيت من أمتك من الأود واللدد ! فقال:
ادع الله عليهم، فقلت: "اللهم أبدلني بهم
خيراً منهم، وأبدلهم بي شراً مني! وكيف قال: إني
لا أقتل محارباً، وإنما أقتل فتكأ وغيلة، يقتلني رجل خامل الذكر. وقد جاء عنه رضي الله عنه من هذا الباب آثار كثيرة. قلت: كل هذا لا
يدل على أنه كان يعلم الأمر مفصلاً من جميع الوجوه، ألا ترى أنه ليس في الأخبار
والآثار ما يدل على الوقت الذي يقتل فيه بعينه، ولا على المكان الذي يقتل فيه
بعينه! وأما ابن ملجم، فمن الجائز أن يكون علم أنه هو الذي يقتله، ولم يعلم علماً محققاً أن
هذه الضربة تزهق نفسه الشريفة منها، بل قد كان يجوز أن يبل ويفيق منها، ثم يكون قتله فيما بعد على يد ابن ملجم، وإن طال
الأمد. وليس هذا بمستحيل،
وقد وقع مثله، فإن عبد الملك جرح عمرو بن سعيد
الأشدق في أيام معاوية على منافرة كانت بينهما فعفا عمرو عنه، ثم كان من القضاء والقدر أن
عبد الملك قتل عمراً أيضاً بيده ذبحاً، كما تذبح الشاة. قوله:
"أبحثها" أي أكشفها، وأكثر ما يستعمل "بحث " معدى بحرف
الجر، وقد عداه ههنا إلى "الأيام " بنفسه وإلى "مكنون
الأمر" بحرف الجر، وقد جاء: بحثت الدجاجة التراب، أي نبشته. قلت: مراده رضي الله عنه أني
كنت في أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله
كثيراً عن هذا الغيب، فما أنبأني منه إلا بأمور إجمالية غير مفصلة، ولم يأذن
الله تعالى في إطلاعي على تفاصيل ذلك. وخلاكم ذم: كلمة جارية مجرى المثل، معناها: ولا ذم عليكم،
فقد أعذرتم. وذم، مرفوع بالفاعلية، معناه:
عداكم وسقط عنكم. فإن قلت:
إذا لم يشركوا بالله ولم يضيعوا سنة محمد صلى الله عليه وسلم فقد قاموا بكل ما يجب، وانتهوا عن كل ما يقبح، فأي حاجة له
إلى أن يستثني ويقول: "ما لم تشردوا"، وإنما
كان يحتاج إلى هذه اللفظة لو قال: وصيتي إليكم أن توحدوا الله، وتؤمنوا بنبوة
محمد صلى الله عليه وسلم، كان حينئذ يحتاج إلى قوله: "ما لم تشردوا" ويكون
مراده بها فعل الواجبات، وتجنب المقبحات، لأنه ليس في الإقرار بالوحدانية
والرسالة العمل، بل العمل خارج عن ذلك، فوجب إذا أوصى أن يوصي بالاعتقاد والعمل،
كما قال عمر لأبي بكر في واقعة أهل الردة: كيف تقاتلهم وهم مقرون بالشهادتين،
وقد قال رسول صلى الله عليه وسلم "أمرت
بأن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله"، فقال أبو بكر: إنه قال تتمة هذا: "فإذا هم
قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها" وأداء الزكاة من حقها! قلت: مراده بقوله: "ما لم تشردوا" ما لم
ترجعوا عن ذلك فكأنه قال،: خلاكم ذم إن
وحدتم الله واتبعتم سنة رسوله، ودمتم على ذلك ولا شبهة أن هذا الكلام منتظم، وأن
اللفظتين الأوليين ليستا بمغنيتين عن اللفظة الثالثة وبتقدير أن يغنيا عنه، فإن
في ذكره مزيد تأكيد وإيضاح غير موجودين لو لم يذكر، وهذا كقوله تعالى: "ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون
،" وليس لقائل أن يقول: من لا
يخشى الله لا يكون مطيعاً لله والرسول، وأي حاجة به
إلى ذكر ما قد أغنى اللفظ الأول عنه! قوله:
"حمل كل امرىء مجهوده، وخفف عن الجهلة"، هذا كلام متصل بما قبله، لأنه
لما قال: "ما لم تشردوا" أنبأ عن تكليفهم كل ما وردت به السنة
النبوية: وأن يدوموا عليه، وهذا في الظاهر تكليف أمور شاقة، فاستدرك بكلام يدل
على التخفيف، فقال: إن التكاليف على قدر المكلفين، فالعلماء تكليفهم غير تكليف
العامة، وأرباب الجهل والمبادىء كالنساء وأهل البادية وطوائف من الناس، الغالب
عليهم البلادة وقلة الفهم، كأقاصي الحبشة والترك ونحوهم، وهؤلاء عند المكلفين
غير مكلفين، إلا بحمل التوحيد والعدل، بخلاف العلماء الذين تكليفهم الأمور
المفصلة وحل المشكلات الغامضة. وقد روي "حمل"
على صيغة الماضي، و "مجهوده " بالنصب، و "خفف " على صيغة الماضي أيضاً، ويكون الفاعل هو الله تعالى
المقدم ذكره، والرواية الأولى أكثر وأليق.
ويقال:
دحضت قدم فلان، أي زلت وزلقت، ثم شبه وجوده في الدنيا بأفياء الأغصان ومهاب
الرياح وظلال الغمام، لأن ذلك كله سريع الانقضاء لإثبات له. ومتلفقها:
مجتمعها، أي ما اجتمع من الغيوم في الجو، والتلفيق:
الجمع: وعفا: درس، ومخطها:
أثرها، كالخطة. وقوله: "ستعقبون مني " أي إنما تجدون عقيب فقدي جثة، يعني بدناً خلاء، أي لا روح
فيه، بل قد أقفر من تلك المعاني التي كنتم تعرفونها وهي العقل والنطق والقوة
وغير ذلك. ثم وصف تلك الجثة فقال: "ساكنة بعد
حراك " بالفتح، أي بعد حركة "وصامتة
بعد نطق ". وهذا
الكلام أيضاً يشعر بما قلناه من أمر النفس، بل يصرح بذلك، ألا تراه قال: "ستعقبون مني جثة"، أي تستبدلون بي
جثة صفتها كذا، وتلك الجثة جثته رضي الله عنه، ومحال أن يكون العوض والمعوض عنه واحداً، فدل على أن هويته رضي الله عنه التي أعقبنا منها الجثة غير الجثة. وما
عسى يبلغ قول الواعظين بالإضافة إلى من شاهد تلك الحال، بل بالإضافة إلى من
سمعها، وأفكر فيها، فضلاً عن مشاهدتها عياناً! وفي هذا الكلام شبه من كلام
الحكماء الذين تكلموا عند تابوت الإسكندر فقال
أحدهم: حركنا بسكونه. وقال آخر:
ما كان أحوجه إلى هذا الحلم، وإلى هذا الصبر والسكون أيام حياته! وقال آخر: القدرة
العظيمة التي ملأت الدنيا العريضة الطويلة، طويت في ذراعين. كان
بالأمس مالكاً، فصار اليوم هالكاً. ثم قال رضي الله عنه: "ودعتكم
وداع امرىء مرصداً للتلاقي"، أرصدته لكذا، أي أعددته له، وفي الحديث: "إلا أن أرصده لدين علي ". والتلاقي ههنا: لقاء الله. ويروى:
"وداعيكم " أي وداعي إياكم، والوداع مفتوح الواو.
وقال أبو الطيب:
ومن
أمثالهم: "الضد يظهر حسنه الضد". |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن خطبة له رضي الله عنه ويومىء فيها إلى الملاحم
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: وأخذوا
يميناً وشمالاً ظعناً في مسالك الغي، وتركاً لمذاهب الرشد، فلا تستعجلوا ما هو
كائن مرصد، ولا تستبطئوا ما يجيء به الغد، فكم من مستعجل بما إن أدركه ود أنه لم
يدركه. وما أقرب
اليوم من تباشير غد! يا قوم، هذا إبان ورود كل موعود، ودنو من طلعة ما لا
تعرفون. ألا وإن من أدركها منا يسري فيها بسراج منير، ويحذو فيها على مثال
الصالحين، ليحل فيها ربقاً، وعتق فيها ربقاً، ويصدع شعباً، ويشعب صدعاً، في سترة
عن الناس، لا يبصر القائف أثره، ولو تابع نظره، ثم ليشحذن فيها قوم شحذ القين
النصل، تجلى بالتنزيل أبصارهم، ويرمى بالتفسير في مسامعهم، ويغبقون كأس الحكمة
بعد الصبوح. الشرح: يذكر رضي الله عنه قوماً من فرق الضلال أخذوا يميناً وشمالاً، أي ضلوا عن الطريق
الوسطى التي هي منهاج لكتاب والسنة، وذلك لأن كل فضيلة وحق فهو محبوس بطرفين خارجين عن العدالة،
وهما جانبا الإفراط والتفريط، كالفطانة التي هي محبوسة بالجربزة والغباوة،
والشجاعة التي هي محبوسة بالتهور والجبن، والجود المحبوس بالتبذير والشح، فمن لم يقع على الطريق الوسطى وأخذ يميناً وشمالاً فقد
ضل. ونصب "تركا" و "ظعنأ" على
المصدرية، والعامل فيهما من غير لفظهما، وهو قوله:
"أخذوا". ثم نهاهم عن استعجال ما هو معد، ولا بد من كونه
ووجوده، وإنما سماه كائناً لقرب كونه، كما قال تعالى: إنك
ميت وإنهم ميتون" ، ونهاهم أن يستبطئوا ما يجيء في الغد لقرب وقوعه،
كما قال: وإن غداً للناظرين قريب. قال أبو العتاهية:
وقال أخر:
وقال تعالى: "وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون
".
وتباشير الصبح:
أوائله. ثم قال:
"يا قوم قد دنا وقت القيامة، وظهور الفتن التي تظهر أمامها. وربقاً: أي حبلاً معقوداً، ويعتق رقاً، أي
يستفك أسرى، وينقذ مظلومين من أيدي ظالمين، ويصدع شعباً، أي يفرق جماعة من
جماعات الضلال. ويشعب صدعاً:
يجمع ما تفرق من كلمة أهل الهدى والإيمان. الأصل:
منها: وطال الأمد بهم ليستكملوا الخزي، ويستوجبوا الغير، حتى إذا اخلولق الأجل،
واستراح قوم إلى الفتن، واشتالوا عن لقاح حربهم، لم يمنوا على الله بالصبر، ولم
يستعظموا بذل أنفسهبم في الحق، حتى إذا وافق وارد القضاء انقطاع مدة البلاء،
حملوا بصائرهم على أسيافهم، ودانوا لربهم بأمر واعظهم. قال رضي الله عنه:
وطال الأمد بهم ليستكملوا الخزي،
ويستوجبوا الغير، أي النعم التي يغيرها بهم من نعم الله سبحانه، كما قال: "وإذا
أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها
تدميراً،" وكما قال تعالى:
"سنستدرجهم من حيث لا يعلمون ". ولقاح حربهم: هو بفتح اللام، مصدر من لقحت الناقة.
فسره أبو عمرو بن العلاء، فقال: يريد أنهم تركوا دم أبيهم وجعلوه خلفهم، أي لم يثأروا به،
وأنا طلبت ثأري. وكان أبو عبيدة معمر بن المثنى يقول في هذا البيت: البصيرة: الترس أو الدرع، ويرويه:
"حملوا بصائرهم ". وهجروا السبب، يعني أهل البيت أيضاً، وهذه إشارة إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم:
"خلفت
فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، حبلان ممدودان من السماء إلى الأرض،
لا يفترقان حتى يردا علي الحوض "، فعبر أمير المؤمنين عن أهل البيت بلفظ
"السبب " لما كان النبي صلى
الله عليه وسلم قال:
"حبلان"، والسبب في اللغة: الحبل. ولا يمتنع
أيضاً أن يريد برجوعهم على الأعقاب ارتدادهم عن الإسلام بالكلية، فإن كثيراً من
أصحابنا يطعنون في إيمان بعض من ذكرناه ويعدونهم من المنافقين، وقد كان سيف رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقمعهم
ويردعهم عن إظهار ما في أنفسهم من النفاق، فأظهر قوم منهم بعده ما كانوا يضمرونه
من ذلك، خصوصاً فيما يتعلق بأمير المؤمنين، الذي ورد في حقه: ما كنا نعرف المنافقين
على عهد رسول الله إلا ببغض علي بن أبي طالب"، وهو
خبرمحقق مذكور في الصحاح. فإن قلت: يمنعك
من هذا التأويل قوله: "ونقلوا البناء عن رص
أساسه، فجعلوه في غيرموضعه "، وذلك لأن "إذا" ظرف والعامل
فيها قوله: "رجع قوم على الأعقاب"
وقد عطف عليه قوله: "ونقلوا البناء"
فإذا كان الرجوع على الأعقاب واقعاً في الظرف المذكور، وهو وقت قبض الرسول، وجب
أن يكون نقل البناء إلى غير موضعه واقعاً في ذلك الوقت أيضاً، لأن أحد الفعلين
معطوف على الآخر، ولم ينقل أحد وقت قبض الرسول صلى
الله عليه وسلم البناء إلى
معاوية عن أمير المؤمنين رضي الله عنه وإنما
نقل عنه إلى شخص آخر، وفي إعطاء العطف حقه إثبات مذهب الإمامية صريحاً! قلت: إذا كان
الرجوع على الأعقاب واقعاً وقت قبض النبي صلى
الله عليه وسلم فقد قمنا بما
يجب من وجود عامل في الظرف، ولا يجب أن يكون نقل البناء إلى غير موضعه واقعاً في
تلك الحال أيضاً، بل يجوز أن يكون واقعاً في زمان أخر إما بأن تكون الواو
للاستئناف لا للعطف، أو بأن تكون للعطف في مطلق الحدث لا في وقوع الحدث في عين
ذلك الزمان المخصوص، كقوله تعالى: "حتى إذا
أتيا أهل قرية أستطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جداراً يريد
أن ينقض فأقامه فالعامل في الظرف
"استطعما" ويجب أن يكون استطعامهما وقت إتيانهما أهلها لا
محالة. ولا يجب أن تكون جميع الأفعال المذكورة المعطوفة
واقعة حال الإتيان أيضاً ألا ترى أن من جملتها "فأقامه " ولم يكن
إقامة الجدار حال إتيانهما القرية بل متراخياً عنه بزمان ما اللهم إلا أن يقول قائل: أشار بيده إلى الجدار
فقام، أو قال له: قم فقام، لأنه لا يمكن أن
يجعل إقامة الجدار مقارناً للإتيان إلا على هذا الوجه وهذا لم يكن، ولا قاله
مفسر ولو كان قد وقع على هذا الوجه لما قال له: "لو
شئت لاتخذت عليه اجراً لأن الأجر إنما يكون على اعتمال عمل فيه مشقة
وإنما يكون فيه مشقة إذا بناه بيده، وباشره بجوارحه وأعضائه. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن خطبة له رضي الله عنه في التحذير من الفتن
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: وأستعينه على
مداحر الشيطان ومزاجره، والاعتصام من حبائله ومخاتله، وأشهد أن محمداً عبده
ورسوله ونجيبه وصفوته، لا يؤازى فضله، ولا يجبر فقده، أضاءت به البلاد بعد
الضلالة المظلمة، والجهالة الغالبة، والجفوة الجافية والناس يستحلون الحريم،
ويستذلون الحكيم يحيون على فترة، ويموتون على كفرة. قد اضطرب معقود الحبل وعمي وجه الأمر، تغيض فيها
الحكمة، وتنطق فيها الظلمة، وتدق أهل البدو بمسحلها، وترضهم بكلكلها، يضيع في
غبارها ألوحدان، ويهلك في طريقها الركبان، ترد بمر القضاء، وتحلب عبيط الدماء،
وتثلم منار الدين، وتنقض عقد اليقين، يهرب منها الأكياس، ويدبرها الأرجاس. مرعاد
مبراق، كاشفة عن ساق، تقطع فيها الأرحام، ويفارق عليها الإسلام، بريئها سقيم،
وظاعنها مقيم. الشرح:
مداحر الشيطان: الأمور التي يدحر بها. أي يطرد ويبعد، دحرته أدحره دحوراً، قال
تعالى: "دحوراً ولهم عذاب واصب "،
وقال سبحانه: "أخرج منها مذءوماً مدحوراً ،
أي مقصى. ومخاتله:
الأمور التي يختل بها بالكسر، أي يخدع، لا يؤازى فضله: لا يساوى، واللفظة
مهموزة، آزيت فلاناً، حاذيته، ولا يجوز "وازيته". والأغراض:
الأهداف. وسكرات
النعمة: ما تحدثه النعم عند أربابها من الغفلة المشابهة للسكر، قال الشاعر:
ومن كلام الحكماء:" للوالي سكرة لا يفيق منها إلا بالعزل. والبوائق: الدواهي، جمع بائقة، يقال: باقتهم
الداهية بوقاً، أي أصابتهم، وكذلك: باقتهم بؤوق على "فعول "، وابتاقت
عليهم بائقة شر، مثل انباحت، أي انفتقت، وانباق عليهم الدهر: هجم بالداهية، كما
يخرج الصوت من البوق، وفي الحديث: "لا يدخل
الجنة من لا يأمن جاره بوائقه!، أي غوائله وشره. والأقتم:
الذي يعلوه قتمة، وهو لون فيه غبرة وخمرة، والعشوة، بكسر العين: ركوب الأمر على
غير بيان ووضوح. ويروى:
"وتبينوا في قتام العشوة" كما قرىء: "إن
جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا " و "فتثبتوا".
وفي
المثل: "والشر تبدؤه صغاره "، وقال الشاعر:
وقال
أبوتمام:
وقال
أيضاً:
قوله: "شبابها كشباب الغلام " بالكسر، مصدر شب
الفرس والغلام يشب ويشب شباباً وشبيباً، إذا قمص ولعب، وأشببته أنا، أي هيجته.
ثم
ذكر أن هذه الفتنة يتوارثها قوم من قوم، وكلهم ظالم، أولهم يقود آخرهم كما يقود
الإنسان القطار من الإبل وهو أمامها وهي تتبعه. وآخرهم يقتدي بأولهم، أي يفعل
فعله ويحذو حذوه. ويجوز أن تكون من أراح البعير، أي مات، وقد جاء في أراح بمعنى أنتن راح بلا
همز. فإن قلت:
إن الكتاب العزيز إنما ذكر تبرؤ المتبوع من التابع في قوله: "إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب
وتقطعت بهم الأسباب "، وههنا قد عكس ذلك، فقال: إن التابع يتبرأ من
المتبوع! قلت: إنه قد ورد في الكتاب العزيز
مثل ذلك، في قوله: "أين شركاؤكم الذين كنتم
تزعمون" . "قالوا ضلوا عنا بل لم نكن ندعو من قبل شيئاً
"، فقولهم: "لم نكن ندعو من قبل
شيئاً" هو التبرؤ، وهو قوله حكاية عنهم: "والله
ربنا ما كنا مشركين" ، وهذا هو التبرؤ. تؤكد معنى تعجبه منهم، فقال: إنهم على ما قد ذكرنا
من تكالبهم عليها، عن قليل يتبرأ بعضهم من بعض، ويلعن بعضهم بعضاً، وذلك أدعى
لهم لو كانوا يعقلون إلى أن يتركوا التكالب والتهارش على هذه الجيفة الخسيسة. ثم عاد إلى نظام الكلام، فقال: ثم يأتي بعد ذلك
طالع الفتنة الرجوف، ومثل هذا الاعتراض في الكلام كثير، وخصوصاً في القرآن، وقد
ذكرنا منه فيما تقدم طرفاً. ومن سعى فيها، أي في تسكينها وإطفائها، وهذا كله
إشارة إلى الملحمة الكائنة في آخر الزمان، والتكادم: التعاض بأدق الفم، كما يكدم
الحمار، ويقال: كدم يكدم، والمكدم: المعض، والعانة: القطيع من حمر الوحش، والجمع عون، تغيض
فيها الحكمة: تنقص. يقول: تنحت أهل
البدو وتسحتهم كما يسحت الحديد أو الخشب بالمبرد. وأهل البدو: أهل البادية،
ويجوز أن يريد بالمسحل الحلقة التي في طرف شكيم اللجام المعترضة بإزاء حلقة أخرى
في الطرف الآخر، وتدخل إحداهما في الأخرى، بمعنى أن هذه الفتنة تصدم أهل البدو
بمقدمة جيشها كما يصدم الفارس الراجل أمامه بمسحل لجام فرسه، والكلكل: الصدر. وترضهم: تدقهم دقاً جريشاً. ويكون معنى الفقرة الثانية على هذا التفسير أن
الراكب الذي هو بمظنة النجاة لا ينجو. والركبان:
جمع راكب، ولا يكون إلا ذا بعير. قوله: ترد بمر
القضاء، أي بالبوار والهلاك والاستئصال. قلت: نعم، لا
بمعنى الخلق بل بمعنى الإعلام، كما قال سبحانه: "وقضينا
إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن"، أي أعلمناهم، أي ترد هذه الفتنة
بإعلام الله تعالى لمن يشاء إعلامه من المكلفين أنها أم اللهيم التي لا تبقي ولا
تذر، فذلك الإعلام هو المر الذي لا يبلغ الوصف مرارته، لأن الإخبار عن حلول
المكروه الذي لا مدفع عنه ولا محيص منه، مرجداً. قوله: وتحلب عبيط
الدماء، أي هذه الفتنة يحلبها الحالب دماً عبيطاً، وهذه كناية عن الحرب، وقد قال رضي الله عنه في موضع آخر: أما والله
ليحلبنها دما، وليتبعنها ندماً، والعبيط:
الدم الطري الخالص، وثلمت الإناء، أثلمه بالكسر، والأكياس:
العقلاء، والأرجاس: جمع رجس، وهو القذر
والنجس، والمراد ههنا الفاسقون، فإما أن
يكون على حذف المضاف، أي ويدبرها ذوو الأرجاس، أو أن يكون جعلهم الأرجاس أنفسها،
لما كانوا قد أسرفوا في الفسق، فصاروا كأنهم الفسق والنجاسة نفسها كما يقال: رجل
عدل، ورجل رضا. ومهابط العدوان:
محاله التي يهبط فيها! ولعق الحرام: جمع لعقة، بالضم، وهي اسم لما تأخذه
الملعقة، واللعقة، بالفتح: المرة الواحدة. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن خطبة له رضي الله عنه في صفات الله وأئمة الدين
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: الحمد لله
الدال على وجوده بخلقه، وبمحدث خلقه على أزليته، وباشتباههم على أن لا شبه له،
لا تستلمه المشاعر، ولا تحجبه السواتر، لافتراق الصانع والمصنوع، والحاد
والمحدود، والرب والمربوب، الأحد بلا تأويل عدد، والخالق لا بمعنى حركة ونصب،
والسميع لا بأداة، والبصير لا بتفريق آلة، والشاهد لا بمماسة، والبائن لا بتراخي
مسافة، والظاهر لا برؤية، والباطن لا بلطافة. من وصفه فقد حده، ومن حده فقد عده، ومن عدة فقد
أبطل أزله، ومن قال: كيف فقد أستوصفه، ومن
قال: أين، فقد حيزة، عالم إذ لا معلوم، ورب إذ لا مربوب، وقادر إذ لا مقدور. إحداهما: الطريقة
المذكورة في هذا الفصل، وهي طريقة المتكلمين، وهي إثبات أن الأجسام محدثة، ولا
بد للمحدث من محدث. والاستلام في اللغة: لمس الحجر باليد وتقبيله، ولا
يهمز، لأن أصله من السلام وهي الحجارة، كما يقال:
استنوق الجمل، وبعضهم يهمزه. وثالث عشرها:
أنه قال: بان من الأشياء بالقهر لها، والقدرة عليها، وبانت الأشياء منه بالخضوع
له، والرجوع إليه، هذا هو معنى قول المتكلمين والحكماء، والفرق بينه وبين
الموجودات كلها أنه واجب الوجود لذاته، والأشياء كلها ممكنة الوجود بذواتها،
فكلها محتاجة إليه، لأنها لا وجود له إلا به، وهذا هو معنى خضوعها له، ورجوعها
إليه. وهو سبحانه غني عن كل شيء، ومؤثر في كل شيء، إما
بنفسه، أو بأن يكون مؤثراً فيما هو مؤثر في ذلك الشيء، كأفعالنا، فإنه يؤثر
فينا، ونحن نؤثر فيها، فإذا هو قاهر لكل شيء، وقادر على كل شيء. فهذه هي
البينونة بينه وبين الأشياء كلها. إن الله تعالى خصكم بالإسلام، واستخلصكم له، وذلك
لأنه أسم سلامة، وجماع كرامة، أصطفى الله تعالى منهجه وبين حججه، من ظاهر علم،
وباطن حكم، لا تفنى غرائبه، ولا تنقضي عجائبه، فيه مرابيع النعم، ومصابيح الظلم،
لا تفتح الخيرات إلا بمفاتيحه، ولا تكشف الظلمات إلا بمصابيحه، قد أحمى حماه،
وأرعى مرعاه، فيه شفاء المشتفي، وكفاية المكتفي. فإن قلت:
أليس هو الذي طفق الدنيا، فأين هذا القول من طلاقها؟ قلت:
إنه طلق الدنيا أن يقبل منها حظاً دنيوياً، ولم يطلقها، أن ينهى فيها عن
المنكرات التي أمره الله تعالى بالنهي عنها، ويقيم فيها الدين الذي أمره الله
بإقامته، ولا سبيل له إلى النهي عن المنكر والأمر بالمعروف إلا بولاية الخلافة. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
هل الإمام إذا عمي استحق الخلع،
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
فإن قلت: أيجوز على مذهب المعتزلة أن يقال: إنه رضي الله عنه كان ينتظر قتل عثمان، انتظار المجدب
المطر، وهل هذا إلا محض مذهب الشيعة قلت: إنه رضي الله عنه لم
يقل: وانتظرنا قتله وإنما انتظر الغير، فيجوز أن يكون أراد انتظار خلعه
وعزله عن الخلافة، فإن علياً رضي الله عنه عند أصحابنا
كان يذهب إلى أن عثمان استحق الخلع بإحداثه، ولم يستحق القتل، وهذا
الكلام إذا حمل على انتظار الخلع كان موافقاً لمذهب أصحابنا. قال: "وعرفاؤه على عباده": جمع عريف، وهو
النقيب والرئيس، يقال: عرف فلان بالضم عرافة بالضم، مثل خطب خطابة أي صار
عريفاً، وإذا أردت أنه عمل ذلك قلت: عرف فلان
علينا سنين، يعرف عرافة بالكسر، مثل كتب يكتب كتابة. فقد ثبت أن
هذه القضية، وهي قوله رضي الله عنه: "لا يدخل
الجنة إلا من عرفهم " قضية صحيحة على مذهب المعتزلة، وليس قوله: "وعرفوه " بمنكر عند أصحابنا، إذا
فسرنا قوله تعالى: "يوم ندعو كل أناس
بإمامهم" على ما هو الأظهر والأشهر من التفسيرات، وهو ما ذكرناه. وبقيت القضية الثانية ففيها الإشكال، وهي قوله رضي
الله عنه: "ولا يدخل النار إلا من أنكرهم
وأنكروه"، وذلك أن
لقائل أن يقول: قد يدخل النار من لم ينكرهم، مثل
أن يكون إنسان يعتقد صحة إمامة القوم الذين يذهب أنهم أئمة عند المعتزلة، ثم
يزني أو يشرب الخمر من غير توبة، فإنه يدخل النار، وليس بمنكر للأئمة، فكيف يمكن الجمع بين هذه القضية وبين الاعتزال! فالجواب أن الواو في قوله "وأنكروه " بمعنى "أو" كما في قوله تعالى: "فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع
" فالإنسان المفروض في السؤال و إن كان لا ينكر الأئمة إلا أنهم
ينكرونه، أي يسخطون يوم القيامة أفعاله، يقال:
أنكرت فعل فلان أي كرهته، فهذا هو تأويل الكلام على
مذهبنا، فأما الإمامية فإنهم يحملون
ذلك على تأويل أخر، ويفسرون قوله: "ولا يدخل النار"، فيقولون: أراد ولا
يدخل النار دخولا مؤبداً إلا من ينكرهم وينكرونه. ثم ذكر رضي الله عنه شرف الإسلام،
وقال:
"إنه مشتق من السلامة، وإنه جامع للكرامة، وإن الله قد بين حججه، أي الأدلة
على صحته. ثم بين ما هذه الأدلة، فقال:
"من ظاهر علم، وباطن حكم " أي حكمة، ف "من " ههنا للتبيين
والتفسير، كما تقول: دفعت إليه سلاحاً من
سيف ورمح وسهم، ويعني بظاهر علم وباطن حكم، القرآن، ألا تراه كيف آتى بعده بصفات
ونعوت لا تكون إلا للقرآن، من قوله: "لا تفنى
عزائمه أي آياته المحكمة و "براهينه العازمة" أي القاطعة ولا
تنقضي عجائبه، لأنه مهماً تأمله الإنسان استخرج منه بفكره غرائب وعجائب لم تكن
عنده من قبل. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن خطبة له رضي الله عنه في تحذير الناس من الغفلة
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: وهو في مهلة
من الله يهوي مع الغافلين، ويغدو مع المذنبين، بلا سبيل قاصد، ولا إمام قائد. والسبيل القاصد:
الطريق المؤدية إلى المطلوب، والإمام: إما الخليفة، وإما الأستاذ، أو الدين، أو
الكتاب على كل من هؤلاء تطلق هذه اللفظة. وخالف من خالف ذلك إلى غيره، ودعه وما رضي لنفسه،
وضع فخرك، واحطط كبرك، واذكر قبرك، فإن عليه ممرك، وكما تدين تدان، وكما تزرع
تحصد، وما قدمت اليوم تقدم عليه غداً، فامهد لقدمك، وقدم ليومك. فالحذر
الحذر أيها المستمع! والجد الجد أيها الغافل، "ولا ينبئك مثل خبير ". قوله: "واختصر من عجلتك"،
أي لا تكن عجلتك كثيرة، بل إذا كانت لك عجلة فلتكن شيئاً يسيراً. وتقول:
أنعمت النظر في كذا، أي دققته، من قولك: أنعمت سحق الحجر، وقيل: إنه مقلوب "أمعن ".
ومن أمثالهم:
"من زرع شرأ حصد ندماً"، فامهد لنفسك: أي سو ووطىء. والذنوب
المذكورة هي أن يتخذ مع الله إلها آخر فيشركه في
العبادة، أو يقتل إنساناً بغير حق،
بل ليشفي غيظه، أو يقذف غيره بأمر قد فعله
هو. فلما خرج لقيه ذلك الرجل بالباب، فقال: يا أبا بحر، إني لأعلم أن شر من
خلق الله هذا الرجل، ولكن هؤلاء قد استوثقوا من هذه الأموال بالأبواب والأقفال،
فلسنا نطمع في استخراجها إلا بما سمعت فقال:
يا هذا أمسك عليك، فإن ذا الوجهين خليق ألا يكون وجيهاً عند الله غداً. قلت: كلا، فإن هذه الخطبة خطب بها وهو سائر إلى البصرة، ولم تقع
الحرب إلا بعد تعدد الكبائر، ورمز فيها إلى المذكورين، وقال: إن لم
يتوبوا، وقد ثبت أنهم تابوا، والأخبار عنهم بالتوبة
كثيرة مستفيضة. ثم قال:
وان النساء همهن زينة الحياة الدنيا والفساد فيها. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن خطبة له في فضائل أهل البيت
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: وناظر قلب
اللبيب به يبصر أمده، ويعرف غوره ونجده، داع دعا، وراع رعى، فاستحيبوا للداعي
واتبعوا الراعي. والنجد:
المرتفع من الأرض، ومنه قولهم للعالم بالامور: طلاع أنجد. ويمكن أن يريد خزنة الجنة وأبواب الجنة، أي لا يدخل
الجنة إلا من وافى بولايتنا، فقد جاء في حقه الخبر
الشائع المستفيض: إنه قسيم النار والجنة، وذكر أبو عبيد الهروي في
"الجمع بين الغريبين "، أن قوماً من أئمة العربية فسروه فقالوا: لأنه لما كان محبه من أهل الجنة، ومبغضة
من أهل النار، كأنه بهذا الاعتبار قسيم النار
والجنة. قال أبو عبيد: وقال غير
هؤلاء: بل هو قسيمها بنفسه في الحقيقة يدخل قوماً إلى الجنة، وقوماً إلى النار،
وهذا الذي ذكره أبو عبيد أخيراً هو ما يطابق الأخبار الواردة فيه، يقول للنار: هذا لي فدعيه، وهذا لك فخذيه. ثم قال: من
أتاها من غيرأبوابها سمي سارقاً، وهذا حق ظاهراً وباطناً، أما الظاهر فلأن من
يتسور البيوت من غير أبوابها هو السارق، وأما الباطن فلأن من طلب العلم من غير
أستاذ محقق فلم يأته من بابه، فهو أشبه شيء بالسارق. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
في فضائل الامام علي رضي الله عنه،
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
واعلم أن أمير المؤمنين رضي الله عنه لو
فخر بنفسه، وبالغ في تعديد مناقبه وفضائله بفصاحته، التي آتاه الله تعإلى إياها
واختصه بها وساعده على ذلك فصحاء العرب كافة، لم يبلغوا إلى معشار ما نطق به
الرسول الصادق صلوات الله عليه في أمره، ولست أعني
بذلك الأخبار العامة الشائعة التي يحتج بها الإمامية على إمامته، كخبر الغدير، والمنزلة،
وقصة براءة، وخبر المناجاة، وقصة خيبر، وخبر الدار بمكة في ابتداء الدعوة، ونحو
ذلك، بل الأخبار الخاصة التي رواها فيه أئمة
الحديث، التي لم يحصل أقل القليل منها لغيره، وأنا أذكر من ذلك شيئاً يسيراً مما رواه علماء الحديث الذين لا يتهمون فيه، وجلهم قائلون بتفضيل غيره عليه، فروايتهم فضائله توجب من سكون النفس ما لا يوجبه رواية غيرهم. قال عمر: فما تمنيت الإمارة إلا يومئذ، وجعلت أنصب
له صدري رجاء أن يقول: هو هذا. فالتفت فأخذ بيد علي وقال: هو هذا، مرتين. يقتل المقاتلة، ويسبي الذرية. قال أبو ذر: فما راعني الا برد كف عمر في حجزتي
من خلفي، يقول: من تراه يعني؟ فقلت: إنه لا
يعنيك، وإنما يعني خاصف النعل، وإنه قال: هو هذا. فقلت: قد بشرته يا رب فقال: أنا عبد الله وفي
قبضته، فإن يعذبني فبذنوبي لم يظلم شيئاً، وإن يتم لي ما وعدني فهو أولى، وقد
دعوت له فقلت: اللهم اجل قلبه، واجعل ربيعه الإيمان بك. قال: قد فعلت ذلك،
غيرأني مختصه بشيء من البلاء لم أختص به أحداً من أوليائي، فقلت: رب، أخي وصاحبي! قال:
إنه سبق في علمي: إنه لمبتل ومبتلىً. إن علياً
أميني غداً في القيامة، وصاحب رايتي، بيد علي مفاتيح خزائن رحمة ربي. الخبر السادس:
"والذي نفسي بيده، لولا أن تقول طوائف من أمتي فيك ما قالت النصارى في ابن
مريم، لقلت اليوم فيك مقالاً، لا تمر بملأ من المسلمين إلا أخذوا التراب من تحت
قدميك للبركة، ذكره أبو عبد الله أحمد بن حنبل في
المسند. ثم قال لعلي: "تسير
به حتى تقف بيني وبين إبراهيم الخليل، ثم تكسى حلة، وينادي
مناد من العرش: نعم العبد أبوك إبراهيم! ونعم الأخ أخوك علي! أبشر فإنك
تدعى إذا دعيت، وتكسى إذا كسيت، وتحا إذا حييت. قال أنس: فقلت: اللهم اجعله رجلاً من الأنصار،
وكتبت دعوتي، فجاء علي، فقال صلى الله عليه وسلم:
من
جاء يا أنس؟ فقلت: علي، فقام إليه مستبشراً،
فاعتنقه، ثم جعل يمسح عرق وجهه. فقال علي: يارسول الله صلى الله عليه وسلم، لقد رأيت
منك اليوم تصنع بي شيئاً ما صنعته بي قبل! قال:
وما يمنعني وأنت تؤدي عني، وتسمعهم صوتي، وتبين لهم ما اختلفوا فيه بعدي!
"، رواه أبو نعيم الحافظ في حلية الأولياء. الخبر الرابع عشر: "كنت أنا وعلي نوراً بين يدي الله عز وجل قبل أن
يخلق آدم بأربعة عشر ألف عام، فلما خلق آدم قسم ذلك فيه وجعله جزأين، فجزء أنا
وجزء علي ". الحديث السادس عشر: لما
كانت ليلة بدر، قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم:
"من يستقي لنا ماء"؟، فأحجم الناس، فقام علي رضي الله عنه فاحتضن قربة، ثم أتى بئراً
بعيدة القعر مظلمة، فانحدر فيها، فأوحى الله إلى
جبريل وميكائيل وإسرافيل: أن تأهبوا لنصر محمد وأخيه وحزبه، فهبطوا من
السماء، لهم لغط يذعر من يسمعه، فلما حاذوا البئر، سلموا عليه من عند آخرهم
إكراماً له إجلالاً. أيها الناس
أوصيكم بحب ذي قرباها، أخي وابن عمي علي بن أبي طالب، لا يحبه إلا مؤمن، ولا
يبغضه إلا منافق، من أحبه فقد أحبني، ومن أبغضه فقد أبغضني، ومن أبغضني عذبه
الله بالنار"، رواه أحمد رضي الله عنه في
كتاب فضائل علي رضي الله عنه. الحديث الثامن عشر:
"الصديقون ثلاثة: حبيب النجار، الذي جاء من أقصى المدينة يسعى، ومؤمن آل
فرعون الذي كان يكتم إيمانه، وعلي بن أبي طالب، وهوأفضلهم "، رواه أحمد في كتاب فضائل علي رضي الله عنه. الحديث الرابع والعشرون: لما أنزل: "إذا جاء نصر الله والفتح " بعد
انصرافه رضي الله عنه
من غزاة حنين، جعل يكثر من
"سبحان الله أستغفر الله "، ثم قال: يا علي إنه قد جاء ما وعدت به،
جاء الفتح، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، وإنه ليس أحد أحق منك بمقامي لقدمك
في الإسلام وقربك مني، وصهرك وعندك سيدة نساء العالمين وقبل ذلك ما كان من بلاء
أبي طالب عندي حين نزل القرآن، فأنا حريص على أن اراعي ذلك لولده، رواه أبو إسحاق الثعلبي في تفسير القرآن. الشرح قوله: فيهم يرجع إلى آل محمد صلى الله عليه وسلم الذين عناهم بقوله: "نحن الشعار والأصحاب "، وهو يطلق دائماً. هذه
الصيغ الجمعية، ويعني لمسه، وفي القرآن كثير من ذلك، نحو قوله تعالى: "الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم
فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل ".
فإن قلت:
أيكون في الإيمان كرائم وغير كرائم؟ قلت:
نعم لأن الإيمان عند أكثر أصحابنا اسم للطاعات كلها واجبها ونفلها، فمن كانت
نوافله أكثر كانت كرائم الإيمان عنده أكثر، ومن قام بالواجبات فقط من غير نوافل،
كان عنده الإيمان، ولم يكن عنده كرائم الإيمان. ثم
أمر رضي الله عنه بالتقوى والعمل الصالح، وقال: ليصدق رائد أهله ، الرائد: الذاهب من الحي يرتاد لهم المرعى، وفي أمثالهم:
"الرائد لا يكذب أهله "، والمعنى
أنه رضي الله عنه أمر الإنسان بأن يصدق نفسه
ولا يكذبها بالتسويف والتعليل، قال الشاعر:
وفي المثل: "المتشبع بما لا يملك كلابس ثوبي زور". يقول: إن لكلتا حالتي الإنسان الظاهرة أمراً
باطناً يناسبها من أحواله، والحالتان الظاهرتان:
ميله إلى العقل وميله إلى الهوى، والمتبع لمقتضى عقله يرزق السعادة والفوز، فهذا
هو الذي طاب ظاهره، وطاب باطنه، والمتبع لمقتضى هواه وعادته ودين أسلافه يرزق
الشقاوة والعطب، وهذا هو الذي خبث ظاهره وخبث باطنه. وهذا الكلام مثل في الإخلاص وضده وهو
الرياء وحب السمعة، فكل عمل يكون مدده الإخلاص لوجهه
تعالى لا غير فإنه زاك حلو الجنى، وكل عمل يكون الرياء وحب الشهرة مدده فليس
بزاك، وتكون ثمرته مرة المذاق. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن خطبة له يذكر فيها بديع خلقة الخفاش
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: الحمد لله
الذي أنحسرت الأوصاف عن كنه معرفته، وردعت عظمته العقول فلم تجد مساغاً إلى بلوغ
غاية ملكوته، هو الله الحق المبين، أحق وأبين مما ترى العيون. لم تبلغه العقول
بتحديد فيكون مشبهاً، ولم تقع عليه الأوهام بتقدير فيكون ممثلاً. خلق الخلق على
غير تمثيل ولا مشورة مشير، ولا معونة معين فتم خلقه بأمره، وأذعن لطاعته فأجاب
ولم يدافع، وأنقاد ولم ينازع. الشرح: الخفاش، واحد
جمعه خفافيش، وهو هذا الطائر الذي يطير ليلاً ولا يطير نهاراً، وهو مأخوذ من
الخفش، وهو ضعف في البصر خلقة، والرجل أخفش، وقد يكون علة، وهو الذي يبصر بالليل
لا بالنهار، أو في يوم غيم لا في يوم صحو. وردعت:
كفت. والمساغ: المسلك. قوله:
يقبضها الضياء، أي يقبض أعينها. قوله:
وتتصل بعلانية برهان الشمس، كلام جيد في مذاهب الاستعارة. وأكنها:
سترها، وبلج ائتلاقها: جمع بلجة، وهي أول
الصبح، وجاء بلجة أيضاً بالفتح. والأسداف: مصدر أسدف الليل، أظلم، وغسق الدجنة: ظلام الليل. فإذا ألقت الشمس قناعها، أي سفرت عن وجهها وأشرقت. ووجارها: بيتها.
وشظايا الآذان:
أقطاع منها. والقصب ههنا:
الغضروف. وخلاصة الخطبة،
التعحب من أعين الخفافيش التي تبصر ليلاً ولا تبصر نهاراً، وكل الحيوانات بخلاف
ذلك، فقد صار الليل لها معاشاً، والنهار لها سكناً بعكس الحال فيما عداها. ثم من أجنحتها التي تطيربها وهي لحم لا ريش عليه
ولا غضروف وليست رقيقة فتنشق ولا كثيفة فتثقلها عن الطيران. ثم من
ولدها إذا طارت احتملته وهو لاصق بها، فإذا وقعت وقع ملتصقاً بها هكذا، إلى أن
يشتد ويقوى على النهوض فيفارقها. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أخبار غرائب الطيور وصفاتها،
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
واعلم أنه رضي الله عنه قد أتى
بالعلة الطبيعية في عدم إبصارها نهاراً وهو انفعال حاسة بصرها عن الضوء الشديد، وقد
يعرض مثل ذلك لبعض الناس وهو المرض المسمى "روز
كور" أي أعمى النهار، ويكون ذلك عن إفراط التحلل لا الروح النوري،
فإذا لقي حر النهار أصابه قمر ، ثم يستدرك ذلك برد
الليل فيزول، فيعود الإبصار. وجملة
الأمر أنه تعجب من عجيب. وفي الأحاديث العامية: قيل للخفاش: لماذا لا جناح
لك؟ قال: لأني تصوير مخلوق، قيل: فلما لا تخرج نهاراً؟ قال: حياء من الطيور، يعنون أن المسيح عليه السلام صوره، وأن إليه
الإشارة بقوله تعالى: "وإذ تخلق من الطين
كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيراً بإذني ". والكراكي يجمعها أمير لها كيعسوب
النحل، ولا يجمعها إلا أزواجاً والعصافير
آلفة للناس آنسة بهم، لا تسكن داراً حتى يسكنها إنسان ومتى سكنتها لم تقم
فيها إذا خرج الإنسان منها فبفراقه تفارق وبسكناه تسكن. ويذكر أهل البصرة أنه إذا كان زمن الخروج إلى
البساتين لم يبق في البصرة عصفور إلا خرج إليها، الا
ما أقام على بيضه وفراخه، وقد يدرب العصفور فيستجيب من المكان البعيد
ويرجع. ويتميز
الذكر من الأنثى في العصافير تميز الديك من الدجاجة لأن له لحية ولا شيء أحنى
على ولده منه، وإذا عرض له شيء صاح فأقبلت إليه العصافير يساعدنه وليس لشيء في
مثل جسم العصفور من شدة وطئه إذا مشى على السطح ما للعصفور فإنك إذا كنت تحت
السطح ووقع حسبت وقعته وقعة حجر، وذكور العصافيرلا تعيش إلا سنة، وكثيراً ما
تجلب الحيات إلى المنازل، لأن الحيات تتبعها حرصا على ابتلاع بيضها وفراخها. وكل ديك فإنه يلتقط الحبة فيحذف بها إلى الدجاجة
سماحاً وإيثاراً ولهذا قالوا: أسمح من
لاقطة، يعنون الديكة، إلا ديكة مرو بخراسان،
فإنها تطرد دجاجها عن الحب وتنزعه من أفواهها فتبتلعه. وإذا خرج الجوزل عن بيضته علم أبواه أن حلقه لا
يتسع للغذاء، فلا يكون لهما هم إلا أن ينفخا في حلقه الريح لتتسع حوصلته بعد
التحامها، ثم يعلمان أنه لا يحتمل في أول اغتذائه أن يزق بالطعم فيزقانه باللعاب
المختلط بقواهما وقوى الطعم ثم يعلمان أن حوصلته تحتاج إلى دباغ، فيأكلان من
شورج ، أصول الحيطان، وهو شيء من الملح الخالص والتراب فيزقانه به. فإذا علما
أنه قد اندبغ زقاه بالحب الذي قد غب في حواصلهما، ثم بالذي هو أطرى فأطرى، حتى
يتعود فإذا علما أنه قد أطاق اللقط منعاه بعض المنع، ليحتاج ويتشوف، فتطلبه
نفسه، ويحرص عليه فإذا فطماه وبلغا منتهى حاجته إليهما، نزع الله تلك الرحمة
منهما، وأقبل بهما على طلب نسل آخر. ويقال: إن حية أكلت بيض مكاء فجعل
المكاء يشرشر على رأسها، ويدنو منها حتى دلعت الحية لسانها، وفتحت فاها تريده
وتهم به، فألقى فيها حسكة فأخذت بحلقها حتى ماتت!. ويقال: إن الحبارى تموت كمداً إذا انحسر عنها
ريشها، ورأت صويحباتها تطير. ثم إن ما فيه من شبه الطير جذبه إلى
البيض، وما فيه من شبه البعير لم يجذبه إلى الولادة. والنعام قد يتخذ في الدور، وضرره شديد، لأن النعامة ربما
رأت في أذن الجارية قرطاً فيه حجر أو حبة لؤلؤ، فخطفته وأكلته، وخرمت الأذن،
أو رأت ذلك في لبتها فضربت بمنقارها اللبة فخرقتها. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن كلام له خاطب به أهل البصرة على جهة اقتصاص
الملاحم
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: فمن أستطاع
عند ذلك أن يعتقل نفسه على الله فليفعل، وإن أطعتموني، فإني حاملكم إن شاء الله
على سبيل الجنة وإن كان ذا مشقة شديدة، ومذاقة مريرة. وأما فلانة فأدركها رأي النساء، وضغن غلا في صدرها
كمرجل القين، ولو دعيت لتنال من غيري ما أتت إلي لم تفعل. ولها بعد حرمتها
الأولى، والحساب على الله!. الشرح: يعتقل نفسه على الله: يحبسها على طاعته. ثم ذكر أن
السبيل التي حملهم عليها وهي سبيل الرشاد ذات مشقة شديدة ومذاقة مريرة لأن
الباطل محبوب النفوس فإنه اللهو واللذة، وسقوط التكليف، وأما الحق فمكروه النفس
لأن التكليف صعب وترك الملاذ العاجلة شاق شديد المشقة، والضغن: الحقد. والمرجل:
قدر كبيرة. والقين: الحداد، أي كغليان قدر من حديد. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
عائشة وبعض أخبارها
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وفلانة كناية عن ام
المؤمنين عائشة، أبوها أبو بكر، وقد تقدم ذكر
نسبه، وأمها أم رومان ابنة عامر بن عويمر بن عبد
شمس بن عتاب بن أذينة بن سبيع بن دهمان بن الحارث بن غنم بن مالك بن كنانة. تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة بسنتين، بعد وفاة خديجة وهي بنت سبع سنين،
وبنى عليها بالمدينة وهي بنت تسع سنين وعشرة أشهر،
وكانت قبله تذكر لجبيربن مطعم، وتسمى له، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في المنام عائشة في سرقة من حرير عند متوفى
خديجة، فقال: "إن يكن هذا من عند الله يمضه "
روي هذا الخبر في المسانيد الصحيحة، وكان نكاحه
إياها في شوال، وبناؤه عليها في شوال أيضاً، فكانت تحب أن تدخل النساء من أهلها
وأحبتها على أزواجهن في شوال وتقول: هل كان في نسائه
أحظى مني! وقد نكحني، وبنى علي في شوال، رداً بذلك على من يزعم من النساء أن
دخول الرجل بالمرأة بين العيدين مكروه. وكانت فقيهة راوية للشعر، ذات حظ من رسول
الله صلى الله عليه وسلم وميل ظاهر إليها، وكانت لها عليه جرأة وإدلال لم يزل ينمي ويستشري،
حتى كان منها في أمره في قصة مارية، ما كان من الحديث الذي أسره إلى الزوجة
الأخرى ، وأدى إلى تظاهرهما عليه، وأنزل فيهما قرآناً يتلى في المحاريب، يتضمن
وعيداً غليظاً عقيب تصريح بوقوع الذنب، وصغو القلب، وأعقبتها تلك الجرأة، وذلك
الإنبساط وحدث منها في أيام
الخلافة العلوية ما حدث ولقد عفا الله تعالى عنها، وهي من أهل الجنة عندنا بسابق
الوعد، وما صح من أمر التوبة. وأما الضغن
، فاعلم أن هذا الكلام يحتاج إلى شرح وقد كنت قرأته على الشيخ أبي يعقوب يوسف بن
إسماعيل اللمعاني رحمه الله أيام اشتغالي عليه بعلم الكلام، وسألته عما عنده
فيه، فأجابني بجواب طويل، أنا أذكر محصوله، بعضه بلفظه رحمه الله، وبعضه بلفظي، فقد شذ عني الآن لفظه كله بعينه، قال: أول بدء الضغن كان بينها
وبين فاطمة عليها السلام
وذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها عقيب موت خديجة، فأقامها مقامها، وفاطمة هي ابنة
خديجة، ومن المعلوم أن ابنة الرجل إذا ماتت أمها، وتزوج أبوها أخرى، كان بين الابنة وبين المرأة كدر وشنآن ، وهذا لا بد منه،
لأن الزوجة تنفس عليها ميل الأب، والبنت تكره ميل أبيها إلى امرأة غريبة. كالضرة لأمها،
بل هي ضرة على الحقيقة، وإن كانت الأم ميتة. ولأنا
لو قدرنا الأم حية، لكانت العداوة مضطرمة متسعرة، فإذا
كانت قد ماتت ورثت ابنتها تلك العداوة، وفي المثل: عداوة الحماة والكنة. وقال الراجز:
ثم
اتفق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مال
إليها وأحبها، فازداد ما عند فاطمة بحسب زيادة ميله، وأكرم رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة إكراماً عظيماً أكثر مما كان الناس يظنونه وأكثر من
إكرام الرجال لبناتهم، حتى خرج بها عن حد حب الآباء للأولاد، فقال بمحضر الخاص
والعام مراراً لا مرة واحدة، وفي مقامات مختلفة لا في مقام واحد: إنها سيدة نساء العالمين، وإنها عديلة مريم بنت عمران، وإنها
إذا مرت في الموقف نادى مناد من جهة العرش: يا أهل الموقف، غضوا أبصاركم لتعبر
فاطمة بنت محمد. وهذا من الأحاديث الصحيحة، وليس من الأخبار المستضعفة
وإن إنكاحه علياً إياها ما كان إلا بعد أن أنكحه الله
تعالى إياها في السماء بشهادة الملائكة. وكم قال لا مرة: يؤذيني
ما يؤذيها، ويغضبني ما يغضبها، وإنها بضعة مني، يريبني ما رابها، فكان
هذا وأمثاله يوجب زيادة الضغن عند الزوجة حسب زيادة هذا التعظيم والتبجيل،
والنفوس البشرية تغيظ على ما هو دون هذا، فكيف هذا! ثم
حصل عند بعلها ما هو حاصل عندها أعني علياً عليه السلام فإن النساء كثيراً ما يجعلن
الأحقاد في قلوب الرجال لا سيما وهن محدثات الليل، كما قيل في المثل، وكانت تكثر الشكوى من عائشة، ويغشاها نساء المدينة
وجيران بيتها فينقلن إليها كلمات عن عائشة، ثم
يذهبن إلى بيت عائشة فينقلن إليها كلمات عن فاطمة وكما
كانت فاطمة تشكو إلى بعلها، كانت عائشة تشكو إلى أبيها، لعلمها أن بعلها لا يشكيها على
ابنته، فحصل في نفس أبي بكر من ذلك أثر ما، ثم
تزايد تقريظ رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي
رضي الله عنه وتقريبه واختصاصه فأحدث ذلك حسداً له وغبطة في نفس أبي بكر عنه وهو أبوها، وفي نفس طلحة وهو ابن عمها، وهي تجلس إليهما وتسمع
كلامهما وهما يجلسان إليها ويحادثانها، فأعدى إليها منهما كما أعدتهما. وبلغ عائشة هذا
الكلام كله، وسمعت أضعافه مما جرت عادة الناس أن يتداولوه في مثل هذه الواقعة،
ونقل النساء إليها كلاماً كثيراً عن علي وفاطمة، وأنهما قد أظهرا الشماتة
جهاراً وسراً بوقوع هذه الحادثة لها، فتفاقم الأمر
وغلظ. ثم إن رسول الله صلى الله عليه
وسلم
صالحها ورجع إليها، ونزل القرآن ببراءتها
فكان منها ما يكون من الإنسان ينتصر بعد أن قهر،
ويستظهر بعد أن غلب، ويبرأ بعد أن أتهم من بسط اللسان، وفلتات القول، وبلغ
ذلك كله علياً رضي الله عنه وفاطمة عليها السلام، فاشتدت الحال وغلظت، وطوى كل من الفريقين قلبه على الشنآن لصاحبه. ثم كان
بينها وبين علي رضي الله عنه في
حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحوال
وأقوال كلها تقتضي تهييج ما في النفوس، نحو قولها له وقد استدناه رسول الله،
فجاء حتى قعد بينه وبينها وهما متلاصقان: أما وجدت مقعداً لكذا لا تكني عنه إلا
فخذي! ونحو ما روي أنه سايره يوماً وأطال مناجاته فجاءت وهي سائرة خلفهما حتى
دخلت بينهما، وقالت: فيم أنتما فقد أطلتما! فيقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم غضب ذلك اليوم. وما روي من حديث الجفنة من الثريد
التي أمرت الخادم فوقفت لها فأكفأتها ونحو ذلك مما يكون بين الأهل وبين المرأة
وأحمائها. ثم اتفق أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم سد باب أبيها إلى المسجد، وفتح باب صهره ثم بعث أباها ببراءة
إلى مكة، ثم عزله عنها بصهره، فقدح ذلك
أيضاً في نفسها، وولد لرسول الله إبراهيم من مارية،
فأظهر علي عليه السلام بذلك سروراً كثيراً،
وكان يتعصب لمارية، وبقوم بأمرها عند رسول الله صلى الله عليه
وسلم
ميلاً
على غيرها، وجرت لمارية نكبة مناسبة لنكبة عائشة،
فبرأها علي رضي الله عنه منها، وكشف بطلانها، أو كشفه الله تعالى على يده، وكان ذلك كشفاً
محساً بالبصر، لا يتهيأ للمنافقين أن يقولوا فيه ما قالوه في القرآن المنزل
ببراءة عائشة، وكل ذلك مما
كان يوغر صدر عائشة عليه، ويؤكد ما في نفسها منه، ثم مات إبراهيم فأبطنت شماتة، وإن أظهرت كآبة، ووجم
علي عليه السلام من
ذلك وكذلك فاطمة، وكانا يؤثران، ويريدان أن تتميز مارية عليها بالولد، فلم يقدر
لهما ولا لمارية ذلك وبقيت الأمور على ما هي عليه،
وفي النفوس ما فيها، حتى مرض رسول الله صلى
الله عليه وسلم
المرض
الذي توفي فيه، وكانت فاطمة عليها السلام وعلي
رضي الله عنه يريدان
أن يمرضاه في بيتهما، وكذلك كان أزواجه كلهن، فمال إلى بيت عائشة بمقتضى المحبة القلبية التي كانت لها دون نسائه، وكره
أن يزاحم فاطمة وبعلها في بيتهما، فلا يكون عنده من الإنبساط لوجودهما ما يكون
إذا خلا بنفسه في بيت من يميل إليه بطبعه، وعلم أن المريض يحتاج إلى فضل مداراة،
ونوم ويقظة وانكشاف، وخروج حدث، فكانت نفسه إلى بيته
أسكن منها إلى بيت صهره وبنته، فإنه إذا تصور حياءهما منه استحيا هو أيضاً منهما
وكل أحد يحب أن يخلو بنفسه، ويحتشم الصهر والبنت، ولم يكن له إلى غيرها من
الزوجات مثل ذلك الميل إليها، فتمرض في بيتها، فغبطت على ذلك، ولم يمرض
رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ
قدم المدينة مثل هذا المرض وإنما كان مرضه الشقيقة يوماً أو بعض يوم ثم يبرأ،
فتطاول هذا المرض وكان علي عليه السلام لا يشك أن الأمر له،
وأنه لا ينازعه فيه أحد من الناس، ولهذا قال له
عمه وقد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم: امدد
يدك أبايعك، فيقول الناس: عم رسول الله صلى
الله عليه وسلم بايع ابن عم
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا
يختلف عليك اثنان. قال: يا عم، وهل يطمع فيها طامع غيري! قال: ستعلم،
قال: فإني لا أحب هذا الأمر من وراء رتاج، وأحب أن أصحر به . فسكت عنه، فلما ثقل
رسول صلى الله عليه وسلم في
مرضه، أنفذ جيش أسامة، وجعل فيه أبا بكر وغيره من أعلام المهاجرين والأنصار فكان
علي رضي الله عنه حينئذ بوصوله إلى الأمر إن حدث برسول الله صلى الله عليه وسلم حدث
أوثق، وتغلب على ظنه أن المدينة لو مات لخلت من منازع ينازعه الأمر بالكلية
فيأخذه صفواً عفواً، وتتم له البيعة، فلا يتهيأ فسخها لو رام ضد منازعته عليها، فكان من عود أبي بكر من جيش أسامة بإرسالها إليه، وإعلامه بأن
رسول الله صلى الله عليه وسلم يموت ما كان، ومن حديث
الصلاة بالناس ما عرف، فنسب علي رضي
الله عنه
عائشة
أنها أمرت بلالاً مولى أبيها أن يأمره فليصل بالناس لأن
رسول الله كما روي، قال: ليصل بهم أحدهم، ولم يعين، وكانت صلاة الصبح، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في آخر رمق يتهادى بين علي والفضل بن العباس
حتى قام في المحراب كما ورد في الخبر، ثم دخل
فمات ارتفاع الضحى، فجعل يوم صلاته حجة في صرف الأمر إليه. وقال: أيكم يطيب نفساً أن يتقدم قدمين قدمهما رسول
الله في الصلاة؟ ولم يحملوا خروج رسول الله صلى
الله عليه وسلم إلى الصلاة
لصرفه عنها، بل لمحافظته على الصلاة مهما أمكن فبويع
على هذه النكتة التي اتهمها علي رضي
الله عنه على
أنها ابتدأت منها. وكان علي عليه
السلام يذكر هذا لأصحابه في خلواته
كثيراً ويقول: إنه لم يقل صلى الله عليه
وسلم:
"إنكن لصويحبات يوسف" إلا إنكاراً
لهذه الحال وغضباً منها، لأنها وحفصة تبادرتا
إلى تعيين أبويهما وأنه استدركها بخروجه وصرفه
عن المحراب فلم يجد ذلك ولا أثر، مع قوة الداعي الذي كان يدعو إلى أبي بكر ويمهد
له قاعدة الأمر وتقرر حاله في نفوس الناس ومن اتبعه على ذلك من أعيان المهاجرين
والأنصار. ولما ساعد على ذلك من الحظ الفلكي والأمر السمائي
الذي جمع عليه القلوب والأهواء، فكانت هذه الحال عند
علي أعظم من كل عظيم وهي الطامة الكبرى، والمصيبة العظمى ولم ينسبها إلا إلى
عائشة وحدها، ولا علق الأمر الواقع إلا بها فدعا
عليها في خلواته وبين خواصه، وتظلم إلى الله منها، وجرى له في تخلفه عن
البيعة ما هو مشهور حتى بايع وكان يبلغه وفاطمة عنها كل ما يكرهانه منذ مات رسول
الله صلى الله عليه وسلم إلى
أن توفيت فاطمة، وهما صابران على مضض ورمض واستظهرت
بولاية أبيها، واستطالت وعظم شأنها، وانخذل علي وفاطمة قهراً وأخذت فدك
وخرجت فاطمة تجادل في ذلك مراراً فلم تظفر بشيء، وفي ذلك تبلغها النساء
والداخلات والخارجات عن عائشة كل كلام يسوءها، ويبلغن عائشة عنها وعن بعلها مثل
ذلك، إلا أنه شتان ما بين الحالين، وبعد ما بين
الفريقين، هذه غالبة وهذه مغلوبة، وهذه آمرة وهذه مأمورة، وظهر التشفي والشماتة،
ولا شيء أعظم مرارة ومشقة من شماتة العدو. قلت: يجوز أن يكون
قال هذا الكلام قبل أن يتواتر الخبر عنده بتوبتها، فإن
أصحابنا يقولون: إنها تابت بعد قتل أمير المؤمنين وندمت، وقالت: لوددت أن لي من رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر بنين كلهم ماتوا، ولم يكن يوم الجمل. وأنها كانت بعد قتله
تثني عليه وتنشر مناقبه مع أنهم رووا أيضاً أنها
عقيب الجمل كانت تبكي حتى تبل خمارها، وأنها استغفرت الله وندمت ولكن لم يبلغ أمير المؤمنين رضي الله عنه حديث توبتها عقيب الجمل بلاغاً يقطع العذر ويثبت الحجة،
والذي شاع عنها من أمر الندم والتوبة شياعاً مستفيضاً، إنما
كان بعد قتله رضي الله عنه إلى
أن ماتت وهي على ذلك، والتائب مغفور له، ويجب قبول
التوبة عندنا في العدل، وقد أكدوا وقوع التوبة،
منها ما روى في الأخبار المشهورة أنها زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الآخرة كما كانت زوجته في الدنيا، ومثل هذا
الخبر إذا شاع أوجب علينا أن نتكلف إثبات توبتها
ولو لم ينقل، فكيف والنقل
لها يكاد أن يبلغ حد التواتر!. وتزلف لهم: تقدم لهم وتقرب إليهم. ولا مقصر لي عن
كذا، لا محبس ولا غاية لي دونه. وأرقل: أسرع. والمضمار: حيث تستبق الخيل. وعليكم
بكتاب الله، فإنه الحبل المتين، والنور المبين، والشفاء النافع، والري الناقع،
والعصمة للمتمسك، والنجاة للمتعلق، لا يعوج فيقام، ولا يزيغ فيستعتب، ولا يخلقه
كثرة الرد، وولوج السمع، من قال به صدق، ومن عمل به سبق. ومستقر الأجداث:
مكان استقرارهم بالقبور وهي جمع جدث، ومصائر الغايات:
جمع مصير، والغايات: جمع غاية وهي ما ينتهى
إليه، قال الكميت:
ثم
ذكر أن أهل الثواب والعقاب، كل من الفريقين يقيم بدار لا يتحول منها، وهذا كما
ورد في الخبر: إنه ينادي مناد: يا أهل الجنة سعادة لا فناء لها، ويا أهل النار
شقاوة لا فناء لها. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وقام إليه رجل فقال أخبرنا عن الفتنة وهل سألت عنها
رسول الله ص فقال عليه السلام
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
إنه لما أنزل الله سبحانه قوله: "آلم أحسب
الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون" علمت أن الفتنة لا
تنزل بنا، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين
أظهرنا، فقلت: يا رسول الله، ما هذه الفتنة التي أخبرك الله بها؟ فقال: يا علي، إن أمتي سيفتنون بعدي. فقلت:
يا رسول الله، فبأي المنازل أنزلهم عند ذلك؟ أبمنزلة ردة، أم بمنزلة فتنة؟ فقال:
بمنزلة فتنة. الشرح:
قد كان رضي الله عنه يتكلم
في الفتنة ولذلك ذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولذلك قال: فعليكم بكتاب
الله، أي إذا وقع الأمر واختلط الناس، فعليكم بكتاب الله، فلذلك قام إليه من
سأله عن الفتنة. وهذا الخبر
مروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم،
قد رواه كثير من المحدثين عن علي رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
له: "إن الله قد كتب عليك جهاد المفتونين، كما كتب علي جهاد
المشركين"، قال: فقلت: يا رسول الله، ما هذه الفتنة التي كتب علي فيها
الجهاد؟ قال: قوم يشهدون أن لا إله إلا الله وأني رسول الله وهم مخالفون للسنة. فقلت: يا رسول الله، فعلام أقاتلهم وهم يشهدون
كما أشهد؟ قال: على الإحداث في الدين،
ومخالفة الأمر، فقلت: يا رسول الله، إنك كنت
وعدتني الشهادة، فاسأل الله أن يعجلها لي بين يديك، قال:
فمن يقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين! أما إني وعدتك الشهادة وستستشهد، تضرب
على هذه فتخضب هذه، فكيف صبرك إذاً! قلت: يا
رسول الله ليس ذا بموطن صبر، هذا موطن شكر، قال:
أجل، أصبت، فأعد للخصومة فإنك مخاصم، فقلت:
يا رسول الله، لو بينت لي قليلاً! فقال: إن
أمتي ستفتن من بعدي، فتتأول القرآن وتعمل بالرأي وتستحل الخمر بالنبيذ، والسحت
بالهدية، والربا بالبيع، وتحرف الكتاب عن مواضعه، وتغلب كلمة الضلال، فكن جليس
بيتك حتى تقلدها، فإذا قلدتها جاشت عليك الصدور، وقلبت لك الأمور، تقاتل حينئذ
على تأويل القرآن، كما قاتلت على تنزيله، فليست حالهم الثانية بدون حالهم
الأولى. فقلت: يا
رسول الله، فبأي المنازل! أنزل هؤلاء المفتونين من بعدك؟ أبمنزلة فتنة أم بمنزلة
ردة؟ فقال: بمنزلة فتنة يعمهون فيها إلى أن
يدركهم العدل. فقلت: يا
رسول الله، أيدركهم العدل منا أم من غيرنا؟ قال:
بل منا، بنا فتح وبنا يختم، وبنا ألف الله بين القلوب بعد الشرك، وبنا يؤلف بين
القلوب بعد الفتنة. فقلت: الحمد لله على ما وهب لنا من فضله. فإن
قلت:
فلم قال: علمت أن الفتنة لا تنزل بنا ورسول الله بين أظهرنا؟ قلت: لقوله تعالى "وما
كان الله ليعذبهم وأنت فيهم" . |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال في صف الدهر
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: الحمد لله
الذي جعل الحمد مفتاحاً لذكره، وسبباً للمزيد من فضله، ودليلاً على آلائه
وعظمته. عباد الله إن الدهر يجري بالباقين كجريه بالماضين، لا يعود ما قد ولى
منه، ولا يبقى سرمداً ما فيه. أخر
فعاله كأوله، متشابهة أموره، متظاهرة أعلامه فكأنكم بالساعة تحدوكم حدو الزاجر
بشوله، فمن شغل نفسه بغير نفسه تحير في الظلمات، وارتبك في الهلكات ومدت به
شياطينه في طغيانه وزينت له سيئ أعماله. فالجنة غاية السابقين، والنار غاية
المفرطين. فتزودوا
في أيام الفناء، لأيام البقاء. قد دللتم على الزاد، وأمرتم بالظعن، وحثثتم على
المسير فإنما أنتم كركب وقوف لا يدرون متى يؤمرون بالسير. ألا
فما يصنع بالدنيا من خلق للآخرة! وما يصنع بالمال من عما قليل يسلبه، وتبقى عليه
تبعته وحسابه! عباد الله، إنه ليس لما وعد الله من الخير مترك، ولا فيما نهى عنه
من الشر مرغب.
وقال
أخر:
قوله:
لا يعود ما قد ولى منه، كقول الشاعر:
قوله:
ولا يبقى سرمداً ما فيه، كلام مطروق المعنى، قال عدي:
قوله:
آخر أفعاله كأوله، يروى: كأولها، ومن رواه: كأوله أعاد الضمير إلى الدهر، أي آخر
أفعال الدهر كأول الدهر، فحذف المضاف. وروي:
متسابقة أي شيء منها قبل شيء، كأنها خيل تتسابق في مضمار. وهذا
الكلام جار منه رضي الله عنه
على عادة العرب في ذكر الدهر، وإنما
الفاعل على الحقيقة رب الدهر.
والزاجر:
الذي يزجر الإبل بسوقها، ويقال: حدوت إبلي
وحدوت بإبلي، والحدو سوقها والغناء لها، وكذلك الحداء، ويقال
للشمال: حدواء، لأنها تحدو السحاب، أي تسوقه، قال
العجاج:
ولا
يقال للمذكر: أحدى، وربما قيل للحمار إذا قدم أتنه: حاد، قال ذو الرمة:
والمعنى
أن سائق الشول يعسف بها، ولا يتقي سوقها ولا يدارك كما يسوق العشار . وفي
متعلقة بالفعل المقدر وتقديره: راقبوا. وأعز الأنفس عليهم، أنفسهم. ويجوز: الظعن بالتسكين، وحثثتم على المسير لأن الليل والنهار سائقان عنيفان. وتبعته:
إثمه وعقوبته. والزلزال،
بالفتح: اسم للحركة الشديدة والاضطراب، والزلزال بالكسر المصدر، قال تعالى: "وزلزلوا زلزالاً شديداً" . قوله:
ويشيب فيه الأطفال كلام جار مجرى المثل، يقال في
اليوم الشديد: إنه ليشيب نواصي الأطفال وقال تعالى: "فكيف تتقون إن
كفرتم يوماً يجعل الولدان شيباً" ، وليس ذلك على حقيقته، لأن الأمة مجمعة
على أن الأطفال لا تتغير حالهم في الآخرة إلى الشيب، والأصل في هذا أن الهموم
والأحزان إذا توالت على الإنسان شاب سريعاً، قال أبو الطيب:
قوله:
إن عليكم رصداً من أنفسكم، وعيوناً من جوارحكم، لأن الأعضاء تنطق في القيامة
بأعمال المكلفين، وتشهد عليهم.
قوله:
وإن غداً من اليوم قريب، ومنه قول القائل:
ومنه قوله:
غد ما غد ما أقرب اليوم من غد. واضمحلت:
تلاشت وذهبت. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن خطبة له في فضل الرسول والقرآن
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
أرسله على حين فترة من الرسل، وطول هجعة من الأمم، وانتقاض من المبرم، فجاءهم
بتصديق الذي بين يديه، والنور المقتدى به ذلك القرآن فاستنطقوه ولن ينطق، ولكن
أخبركم عنه، ألا إن فيه علم ما يأتي، والحديث عن الماضي، ودواء دائكم، ونظم ما
بينكم. الشرح:
الترحة: الحزن، قال: فحينئذ لا يبقى لهم، أي يحيق بهم العذاب ويبعث الله عليهم
من ينتقم، وهذا إخبار عن ملك بني أمية بعده وزوال أمرهم عند تفاقم فسادهم في
الأرض. والمقر:
المر. ومأكلاً
منصوب بفعل مقدر أي يأكلون مأكلاً والباء ههنا للمجازاة الدالة على الصلة، كقوله
تعالى: "فبما نقضهم ميثاقهم" وكقول أبي تمام:
وقال
سبحانه: "قال رب بما أنعمت علي فلن أكون
ظهيراً للمجرمين" . وجعل شعارهم الخوف، لأنه باطن في القلوب،
ودثارهم السيف لأنه ظاهر في البدن كما أن الشعار ما كان إلى الجسد والدثار ما
كان فوقه. وزوامل
الآثام: جمع زاملة، وهي بعير يستظهر به الإنسان يحمل متاعه عليه، قال الشاعر:
وتنخمت النخامة: إذا تنخعتها، والنخامة: النخاعة. والجديدان: الليل
والنهار وقد جاء في الأخبار الشائعة المستفيضة في كتب المحدثين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر
أن بني أمية تملك الخلافة بعده، مع ذم منه عليه السلام لهم، نحو ما روي عنه في
تفسير قوله تعالى: "وما جعلنا الرؤيا التي أريناك
إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن" فإن المفسرين قالوا: إنه رأى بني أمية ينزون على منبره نزو القردة، هذا لفظ رسول
الله صلى الله عليه وسلم الذي فسر لهم الآية به،
فساءه ذلك ثم قال: الشجرة الملعونة بنو أمية وبنو المغيرة ونحو قوله صلى الله عليه وسلم: إذا
بلغ بنو العاص ثلاثين رجلاً اتخذوا مال الله دولاً وعباده خولاً
ونحو قوله صلى الله عليه وسلم في تفسير قوله تعالى: "ليلة القدر خير من ألف شهر" قال: ألف شهر يملك فيها بنو أمية. وورد عنه صلى الله عليه وسلم من
ذمهم الكثير المشهور نحو قوله: "أبغض الأسماء إلى
الله الحكم وهشام والوليد"، وفي خبر آخر:
اسمان يبغضهما الله: مروان والمغيرة ونحو قوله: إن ربكم يحب ويبغض، كما
يحب أحدكم ويبغض وإنه يبغض بني أمية ويحب بني عبد المطلب. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن خطبة له في وصف حاله مع أصحابه
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: ولقد أحسنت
جواركم، وأحطت بجهدي من ورائكم، وأعتقتكم من ربق الذل وحلق الضيم شكراً مني للبر
القليل، وإطراقاً عما أدركه البصر، وشهده البدن من المنكر الكثير. الربق جمع ربقة، وهي الحبل يربق به البهم . |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن خطبة له في عظمة الله تعالى
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: أمره قضاء
وحكمة، ورضاه أمان ورحمة يقضي بعلم، ويعفو بحلم. فمن فرغ
قلبه، وأعمل فكره، ليعلم كيف أقمت عرشك، وكيف ذرأت خلقك، وكيف علقت في الهواء
سمواتك، وكيف مددت على مور الماء أرضك، رجع طرفة حسيراً، وعقله مبهوراً، وسمعه
والهاً، وفكره حائراً. ويجوز أن يكون أمره هو الأمر القولي، وهو المصدر من
أمر له بكذا أمراً فيكون المعنى أن أوامره إيجاب وإلزام بما فيه حكمة ومصلحة،
وقد جاء القضاء بمعنى الإلزام والإيجاب في القرآن العزيز في قوله: "وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه" ، أي
أوجب وألزم. قوله:
ويعفو بحلم، أي لا يعفو عن عجز وذل، كما يعفو الضعيف عن القوي، بل هو قادر على
الانتقام ولكنه يحلم. ثم حمد الله تعالى على الإعطاء والأخذ، والعافية
والبلاء لأن ذلك كله من عند الله لمصالح للمكلف، يعلمها وما يعلمها المكلف،
والحمد على المصالح واجب. وأنه تعالى لا تأخذه سنة ولا نوم لأن هذا من صفات
الأجسام وما لا يجوز عليه العدم لا يكون جسماً، ولا يوصف بخواص الأجسام
ولوازمها، فإنه لا ينتهي إليه نظر، لأن انتهاء النظر إليه يستلزم مقابلته وهو
تعالى منزه عن الجهة، وإلا لم يكن ذاته مستحيلاً عليها العدم، وأنه لا يدركه
بصر، لأن إبصار الأشياء بانطباع أمثلتها في الرطوبة الجليدية كانطباع أشباح
المرئيات في المرآة، والباري تعالى لا يتمثل، ولا يتشبح وإلا لم يكن قيوماً،
وأنه يدرك الأبصار لأنه إما عالم لذاته، أو لأنه حي لا آفة به، وأنه يحمي
الأعمال لأنه عالم لذاته، فيعلم كل شيء حاضراً وماضياً ومستقبلاً، وأنه يأخذ
بالنواصي والأقدام لأنه قادر لذاته، فهو متمكن من كل مقدور. ولا نسبة لجرم الشمس إلى فلكها المائل، ولا نسبة
لفلكها المائل إلى فلكها المميل، وفلك تدوير المريخ الذي فوقها أعظم من مميل
الشمس، ولا نسبة لفلك تدوير المريخ إلى فلكه المميل، وفلك تدوير المشتري أعظم من
مميل المريخ، ولا نسبة لفلك تدوير المشتري إلى فلكه المميل، وفلك تدوير زحل أعظم
من مميل المشتري، ولا نسبة لفلك تدوير زحل إلى مميل زحل، ولا نسبة لمميل زحل إلى
كرة الثوابت، ولا نسبة لكرة الثوابت إلى الفلك الأطلس الأقصى، فانظر أي نسبة
تكون الأرض بكليتها على هذا الترتيب إلى الفلك الأطلس، وهذا مما تقصر العقول عن
فهمه وتنتهي دونه، وتحول سواتر الغيوب بينها وبينه، كما
قال رضي الله عنه. وهذا كله
حق، ومن تأمل كتبنا العقلية واعتراضنا على الفلاسفة الذين عللوا هذه الأمور،
وزعموا أنهم استنبطوا لها أسباباً عقلية، وادعوا وقوفهم على كنهها وحقائقها، علم
صحة ما ذكره رضي الله عنه، من أن من حاول
تقدير ملك الله تعالى وعظيم مخلوقاته بمكيال عقله، فقد ضل ضلالاً مبيناً. والحسير: المتعب. والمبهور: المغلوب. والواله: المتحير. يرجو
الله في الكبير، ويرجو العباد في الصغير فيعطي العبد ما لا يعطي الرب! فما بال
الله جل ثناؤه يقصر به عما يصنع به لعباده! أتخاف أن تكون في رجائك له كاذباً،
أو تكون لا تراه للرجاء موضعاً! وكذلك إن هو خاف عبداً من عبيده أعطاه من خوفه
ما لا يعطي ربه، فجعل خوفة من العباد نقداً، وخوفه من خالقه ضماراً ووعداً،
وكذلك من عظمت الدنيا في عينه، وكبر موقعها من قلبه آثرها على الله فانقطع
إليها، وصار عبداً لها. ومن كلامهم:
ترى الفتيان كالنخل، وما يدريك ما الدخل، وجاء الدخل بالتحريك أيضاً، يقال: هذا الأمر فيه دخل ودغل، بمعنى قوله تعالى: "ولا تتخذوا أيمانكم دخلاً بينكم" أي
مكراً وخديعة، وهو من هذا الباب أيضاً. والضمار:
ما لا يرجى من الوعود والديون. قال الراعي:
ثم قال:
وكذلك من عظمت الدنيا في عينه يختارها على الله، ويستعبده حبها. ويقال:
كبر بالضم، يكبر أي عظم فهو كبير وكبار بالتخفيف فإذا
أفرط قيل: كبار بالتشديد، فأما كبر بالكسر فمعناه أسن والمصدر منهما
كبراً بفتح الباء. وإن شئت ثنيت بموسى كليم الله صلى الله عليه وسلم حيث
يقول: "رب إني لما أنزلت إلي من خير
فقير" والله ما سأله إلا خبزاً يأكله، لأنه كان يأكل بقلة الأرض،
ولقد كانت خضرة البقل ترى من شفيف صفاق بطنه لهزاله وتشذب لحمه. وسوته
سواية ومساية، بالتخفيف، أي ساءه ما رآه مني. وسأل سيبويه الخليل عن سوائية، فقال: هي فعالية بمنزلة علانية، والذين قالوا:
سواية حذفوا الهمزة تخفيفاً وهي في الأصل. قال: وسألته عن مسائية، فقال: هي مقلوبة وأصلها
مساوئة فكرهوا الواو مع الهمزة، والذين قالوا: مساية حذفوا الهمزة أيضاً تخفيفاً
ومن أمثالهم: الخيل تجري في مساويها أي أنها وإن كانت بها عيوب وأوصاب، فإن
كرمها يحملها على الجري، والمخازي: جمع مخراة وهي الأمر يستحى من ذكره لقبحه،
وأكنافها: جوانبها. وزوى: قبض. وزخارف: جمع زخرف وهو الذهب، روي عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم أنه قال: "عرضت علي كنوز الأرض ودفعت إلي مفاتيح خزائنها،
فكرهتها واخترت الدار الآخرة"، وجاء في
الأخبار الصحيحة أنه كان يجوع ويشد حجراً على بطنه. وأنه ما شبع آل محمد من لحم
قط، وأن فاطمة وبعلها وبنيها كانوا يأكلون خبز الشعير، وأنهم آثروا سائلاً
بأربعة أقراص منه كانوا أعدوها لفطورهم، وباتوا جياعاً. وقد كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم
ملك
قطعة واسعة من الدنيا، فلم يتدنس منها بقليل ولا كثير، ولقد
كانت الإبل التي غنمها يوم حنين أكثر من عشرة آلاف بعير فلم يأخذ منها
وبرة لنفسه، وفرقها كلها على الناس، وهكذا
كانت شيمته وسيرته في جميع أحواله إلى أن توفي. وما في "أنزلت" وبمعنى أي، أي إني لأي
شيء أنزلت إلي قليل أو كثير، غث أو سمين فقير. ومن فسر الآية بغير ما ذكره لم يحتج إلى الجواب عن هذا
السؤال، فإن قوماً قالوا: أراد: إني فقير من الدنيا لأجل ما أنزلت إلي من
خير، أي من خير الدين وهو النجاة من الظالمين، فإن ذلك رضاً بالبدل السني،
وفرحاً به وشكراً له. وتشذب اللحم: تفرقه. ويقال: إن
داود أعطي من طيب النغم ولذة ترجيع القراءة ما كانت الطيور لأجله تقع عليه وهو
في محرابه، والوحش تسمعه فتدخل بين الناس ولا تنفر منهم لما قد استغرقها من طيب
صوته وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي
موسى، وقد سمعه يقرأ: "لقد أوتيت مزماراً من مزامير داود"، وكان أبو
موسى شجي الصوت إذا قرأ. وورد في الخبر:
داود قارئ أهل الجنة. ويقال:
حزنني الشيء يحزنني بالضم، ويجوز: أحزنني
بالهمز يحزنني، وقرئ بهما، وهو في كلامه رضي
الله عنه في هذا الفصل بهما. وأحب
العباد إلى الله المتأسي بنبيه، والمقتص لأثره. قضم الدنيا
قضماً، ولم يعرها طرفاً. أهضم أهل الدنيا كشحاً، وأخمصهم من الدنيا بطناً،
عرضت عليه الدنيا فأبى أن يقبلها، وعلم أن الله تعالى أبغض شيئاً فأبغضه، وحقر
شيئاً فحقره، وصغر شيئاً فصغره. وأصل
القضم، أكل الشيء اليابس بأطراف الأسنان، والخضم: أكل بكل الفم للأشياء الرطبة،
وروي قصم بالصاد، أي كسر. وخصف النعل: خرزها. والرياش: الزينة، والمدرعة
الدراعة . |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الدنيا الفانية
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
جاء في الأخبار الصحيحة أنه عليه
الصلاة والسلام، قال: "إنما أنا عبد آكل أكل العبيد،
وأجلس جلسة العبيد وكان يأكل على الأرض، ويجلس جلوس العبيد، يضع قصبتي ساقيه على
الأرض، ويعتمد عليهما بباطني فخذيه، وركوبه الحمار العاري آية التواضع وهضم
النفس. وإرداف غيره خلفه آكد في الدلالة على ذلك. وجاء في أخبار علي رضي
الله عنه التي ذكرها أبو عبد الله أحمد بن حنبل في كتاب
فضائله، وهو روايتي عن قريش بن السبيع بن المهنا العلوي، عن نقيب الطالبيين أبي
عبد الله أحمد بن علي بن المعمر، عن المبارك بن عبد الجبار أحمد بن القاسم
الصيرفي المعروف بابن الطيوري، عن محمد بن علي بن محمد بن يوسف العلاف المزني،
عن أبي بكر أحمد بن جعفر بن حمدان بن مالك القطيعي، عن عبد الله بن أحمد بن
حنبل، عن أبيه أبي عبد الله أحمد رحمه الله، قال: قيل لعلي رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين، لم ترقع
قميصك؟ قال: ليخشع القلب، ويقتدي بي المؤمنون. والأخبار في هذا المعنى كثيرة، وفيما ذكرناه كفاية. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن خطبة له في أسرة الرسول وشرفه
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: ابتعثه
بالنور المضيء، والبرهان الجلي، والمنهاج البادي، والكتاب الهادي. والعذاب الوبيل:
ذو الوبال وهو الهلاك، والإنابة: الرجوع. والسبيل: الطريق، يذكر ويؤنث. والقاصدة: ضد
الجائرة. الأصل: أوصيكم عباد
الله بتقوى الله وطاعته، فإنها النجاة غداً، والمنجاة أبداً رهب فأبلغ، ورغب
فأسبغ، ووصف لكم الدنيا وانقطاعها، وزوالها وانتقالها فأعرضوا عما يعجبكم فيها
لقلة ما يصحبكم منها. أقرب دار
من سخط الله، وأبعدها من رضوان الله. فغضوا عنكم عباد الله غمومها وأشغالها، لما
أيقنتم به من فراقها، وتصرف حالاتها، فاحذروها حذر الشفيق الناصح، والمجد
الكادح، اعتبروا بما قد رأيتم من مصارع القرون قبلكم قد تزايلت أوصالهم، وزالت
أبصارهم وأسماعهم، وذهب شرفهم وعزهم، وأنقطع سرورهم ونعيمهم، فبدلوا بقرب
الأولاد فقدها، وبصحبة الأزواج مفارقتها، لا يتفاخرون ولا يتناسلون، ولا
يتزاورون ولا يتحاورون، فاحذروا عباد الله حذر الغالب لنفسه، المانع لشهوته،
الناظر بعقله، فإن الأمر واضح، والعلم قائم، والطريق جدد، والسبيل قصد. والنجاة: الناقة ينجى عليها فاستعارها ههنا للطاعة
والتقوى كأنها كالمطية المركوبة يخلص بها الإنسان من الهلكة. والمحاورة: المخاطبة والمناجاة، وروي: ولا يتجاورون بالجيم. والسبيل قصد، أي مستقيم. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال لبعض أصحابه وقد سأله: كيف دفعكم قومكم عن هذا
المقام وأنتم أحق به
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
فقال عليه السلام الأصل: يا أخا بني أسد، إنك لقلق الوضين ترسل في غير سدد ولك بعد
ذمامة الصهر وحق المسألة، وقد استعلمت فاعلم.
وهلم
الخطب في ابن أبي سفيان، فلقد أضحكني الدهر بعد إبكائه، ولا غرو والله فيا له
خطباً يستفرغ العجب، ويكثر الأود!.
ويروى:
ماتة الصهر، أي حرمته ووسيلته، مت إليه بكذا، وإنما
قال رضي الله عنه له: ولك بعد ذمامة الصهر لأن زينب بنت جحش زوج رسول
الله صلى الله عليه وسلم كانت أسدية وهي
زينب بنت جحش بن رباب بن يعمر بن صبرة بن مرة بن كثير بن غنم بن دودان بن أسد بن
خزيمة. وأمها
أمية بنت عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، فهي بنت عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمصاهرة المشار إليها، هي هذه. ولم يفهم القطب الراوندي ذلك، فقال
في الشرح: كان أمير المؤمنين رضي الله عنه قد
تزوج في بنى أسد ولم يصب، فإن علياً رضي الله عنه لم يتزوج في بني أسد البتة. ونحن نذكر أولاده:
أما الحسن والحسين وزينب الكبرى وأم كلثوم الكبرى، فأمهم فاطمة بنت سيدنا رسول
الله صلى الله عليه وسلم وأما
محمد فأمه خولة بنت إياس بن جعفر، من بني حنيفة، وأما أبو بكر وعبد الله، فأمهما
ليلى بنت مسعود النهشلية، من تميم وأما عمر ورقية فأمهما سبية من بني تغلب، يقال
لها: الصهباء، سبيت في خلافة أبي بكر وإمارة خالد بن الوليد بعين التمر . وأما يحيى وعون فأمهما أسماء بنت غميس الخثعمية.
وأما جعفر والعباس وعبد الله وعبد الرحمن فأمهم أم البنين بنت حزام بن خالد بن
ربيعة بن الوحيد من بني كلاب. وأما رملة وأم الحسن فأمهما أم سعيد بنت عروة بن
مسعود الثقفي، وأما أم كلثوم الصغرى وزينب الصغرى وجمانة وميمونة وخديجة وفاطمة
وأم الكرام ونفيسة وأم سلمة وأم أبيها وأمامة بنت علي رضي الله عنه فهن لأمهات
أولاد شتى، فهؤلاء أولاده، وليس فيهم أحد من أسدية، ولا بلغنا أنه تزوج في بني
أسد ولم يولد له، ولكن الراوندي يقول ما يخطر له ولا يحقق. والنوط:
الالتصاق. وكانت أثرة، أي استئثاراً بالأمر واستبداداً به،
قال النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار:
"ستلقون بعدي أثرة". وسخت:
جادت، ويعني بالنفوس التي سخت نفسه، وبالنفوس التي شحت، أما على قولنا فإنه يعني
نفوس أهل الشورى بعد مقتل عمر، وأما على قول
الإمامية، فنفوس أهل السقيفة. وليس في الحبر ما يقتضي صرف ذلك إليهم، فالأولى أن
يحمل على ما ظهر عنه من تألمه من عبد الرحمن بن عوف وميله إلى عثمان. وروي:
يوم بالنصب على أنه ظرف والعامل فيه المعود، على أن يكون مصدراً. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
حديث امرئ القيس
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وكان
من قصة هذا الشعر أن امرأ القيس، لما تنقل في أحياء
العرب بعد قتل أبيه، نزل على رجل من جديلة طيئ، يقال له طريف بن ملء،
فأجاره وأكرمه، وأحسن إليه، فمدحه وأقام عنده. ثم إنه لم يوله نصيباً في الجبلين: أجأ وسلمى،
فخاف ألا يكون له منعة، فتحول ونزل على خالد بن سدوس بن أصمع النبهاني، فأغارت بنو جديلة على امرئ القيس وهو في جوار خالد بن سدوس،
فذهبوا بإبله، وكان الذي أغار عليه منهم باعث بن حويص، فلما أتى امرأ القيس
الخبر، ذكر ذلك لجاره، فقال له: أعطني
رواحلك ألحق عليها القوم، فأرد عليك إبلك، ففعل. فركب
خالد في إثر القوم حتى أدركهم، فقال: يا بني جديلة، أغرتم على إبل جاري! فقالوا: ما هو لك بجار، قال: بلى والله وهذه
رواحله، قالوا: كذلك! قال: نعم، فرجعوا إليه فأنزلوه عنهن، وذهبوا بهن وبالإبل. وقيل: بل انطوى خالد على الإبل فذهب بها، فقال امرؤ القيس:
دثار: اسم راع كان لامرئ القيس. وتنوفى
والقواعل جبال. والحزقة:
القصير الضخم البطن، واللبون: الإبل ذوات الألبان. والقرية:
موضع معروف بين الجبلين. وحائل اسم موضع أيضاً. وسعد ونائل حيان من
طيئ. والرباع: جمع ربع، وهو ما نتج في الربيع. والمجادل:
القصور. ومكللة،
يرجع إلى المجادل مكللة بالصخر. والأسرة:
الطريق وكذلك الحبك. والوصائل: جمع وصيلة، وهو ثوب أمغر الغزل، فيه خطوط. والنهب: الغنيمة، والجمع النهاب، والانتهاب
مصدر انتهبت المال، إذا أبحته يأخذه من شاء، والنهبى: اسم ما أنهب. وحجراته:
نواحيه، الواحدة حجرة، مثل جمرات وجمرة. وصيح
في حجراته صياح الغارة. والرواحل:
جمع راحلة، وهي الناقة التي تصلح أن ترحل، أي يشد الرحل على ظهرها، ويقال
للبعير: راحلة وانتصب حديثاً بإضمار فعل، أي هات حديثاً أو حدثني حديثاً. ويروى
ولكن حديث، أي ولكن مرادي أو غرضي حديث فحذف المبتدأ، وما ههنا، يحتمل أن تكون
إبهامية وهي التي إذا اقترنت باسم نكرة زادته إبهاماً وشياعاً، كقولك: أعطني
كتاباً ما، تريد أي كتاب كان، ويحتمل أن تكون صلة مؤكدة كالتي في قوله تعالى: "فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله" .
فأما
حديث الثاني فقد ينصب وقد يرفع، فمن نصب أبدله من حديث الأول، ومن رفع جاز أن
يجعل ما موصولة بمعنى الذي، وصلتها الجملة، أي الذي هو حديث الرواحل، ثم حذف صدر
الجملة كما حذف في "تماماً على الذي أحسن" ويجوز أن تجعل ما استفهامية
بمعنى أي.
وهلم،
لفظ يستعمل لازماً ومتعدياً، فاللازم بمعنى تعال، قال
الخليل: أصله لم من قولهم؟ لم الله شعثه أي جمعه، كأنه أراد لم نفسك
إلينا أي اجمعها واقرب منا، وجاءت ها للتنبيه قبلها، وحذفت الألف لكثرة
الاستعمال، وجعلت الكلمتان كلمة واحدة، يستوي فيها الواحد والاثنان والجمع
والمؤنث والمذكر في لغة أهل الحجاز، قال سبحانه: "والقائلين
لإخوانهم هلم إلينا" ، وأهل نجد يصرفونها فيقولون للاثنين: هلما
وللجمع: هلموا وعلى ذلك. وقد
يوصل إذا كان لازماً باللام، فيقال: هلم لك، وهلم لكما، كما قالوا: هيت لك، وإذا قيل لك: هلم إلى كذا أي تعال إليه،
قلت: لا أهلم مفتوحة الألف والهاء مضمومة الميم، فأما المتعدية فهي بمعنى هات،
تقول: هلم كذا وكذا، قال الله تعالى: "هلم شهداءكم" ، وتقول لمن قال لك ذلك: لا أهلمه، أي
لا أعطيكه، يأتي بالهاء ضمير المفعول ليتميز من الأولى. والخطب: الحادث الجليل، يعني الأحوال التي أدت
إلى أن صار معاوية منازعاً في الرياسة، قائماً عند كثير من الناس مقامه، صالحاً
لأن يقع في مقابلته، وأن يكون نداً له.
وقال
ابن هاني المغربي:
والأود:
العوج، ثم ذكر تمالؤ قريش عليه، فقال: حاول القوم إطفاء نور الله من مصباحه،
يعني ما تقدم من منابذة طلحة والزبير وأصحابهما له، وما شفع ذلك من معاوية وعمرو
وشيعتهما. وفوار
الينبوع: ثقب البئر. والوبيء: ذو الوباء والمرض، وهذا استعارة كأنه جعل
الحال التي كانت بينه وبينهم قد أفسدها القوم، وجعلوها مظنة الوباء والسقم،
كالشرب الذي يخلط بالسم أو بالصبر فيفسد ويوبئ. فقلت: إن نفسي لا
تسامحني أن أنسب إلى الصحابة عصيان رسول الله صلى الله عليه
وسلم
ودفع
النص. فقال: وأنا فلا تسامحني
أيضاً نفسي أن أنسب الرسول صلى
الله عليه وسلم إلى إهمال أمر الإمامة، وأن يترك الناس فوضى سدى مهملين وقد كان لا
يغيب عن المدينة إلا ويؤمر عليها أميراً وهو حي ليس بالبعيد عنها، فكيف لا يؤمر
وهو ميت لا يقدر على استدراك ما يحدث! ثم قال: ليس
يشك أحد من الناس أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم كان عاقلاً
كامل العقل، أما المسلمون فاعتقادهم فيه معلوم وأما اليهود والنصارى والفلاسفة فيزعمون أنه حكيم تام
الحكمة، سديد الرأي، أقام ملة، وشرع شريعة، فاستجد ملكاً عظيماً بعقله وتدبيره،
وهذا الرجل العاقل الكامل يعرف طباع العرب وغرائزهم وطلبهم بالثارات والذحول ولو
بعد الأزمان المتطاولة. ويقتل الرجل من القبيلة رجلاً من بيت آخر، فلا يزال
أهل ذلك المقتول وأقاربه يتطلبون القاتل ليقتلوه حتى يدركوا ثأرهم منه فإن لم
يظفروا به قتلوا بعض أقاربه وأهله، فإن لم يظفروا بأحدهم قتلوا واحداً أو جماعة
من تلك القبيلة به وإن لم يكونوا رهطه الأدنين. والإسلام لم يحل طبائعهم، ولا
غير هذه السجية المركوزة في أخلاقهم، والغرائز بحالها، فكيف
يتوهم لبيب أن هذا العاقل الكامل وتر العرب، وعلى الخصوص قريشاً، وساعدة
على سفك الدماء وإزهاق الأنفس وتقلد الضغائن ابن عمه الأدنى وصهره، وهو يعلم أنه
سيموت كما يموت الناس، ويتركه بعده وعنده ابنته، وله منها ابنان يجريان عنده
مجرى ابنين من ظهره حنواً عليهما، ومحبة لهما، ويعدل عنه في الأمر بعده، ولا ينص
عليه ولا يستخلفه، فيحقن دمه ودم بنيه وأهله باستخلافه ألا
يعلم هذا العاقل الكامل أنه إذا تركه وترك بنيه وأهله سوقة ورعية فقد عرض
دماءهم للإراقة بعده، بل يكون هو رضي
الله عنه هو الذي قتله، وأشاط بدمائهم،
لأنهم لا يعتصمون بعده بأمر يحميهم وإنما يكونون مضغة للآكل، وفريسة للمفترس،
يتخطفهم الناس، وتبلغ فيهم الأغراض! فأما إذا جعل
السلطان فيهم، والأمر إليهم، فإنه يكون قد عصمهم وحقن دماءهم بالرياسة التي
يصولون بها، ويرتدع الناس عنهم لأجلها. ومثل هذا معلوم بالتجربة. ألا ترى أن ملك بغداد أو غيرها من البلاد لو قتل
الناس ووترهم ، وأبقى في نفوسهم الأحقاد العظيمة عليه، ثم أهمل أمر ولده وذريته
من بعده، وفسح للناس أن يقيموا ملكاً من عرضهم وواحداً منهم، وجعل بنيه سوقة
كبعض العامة، لكان بنوه بعده قليلاً بقاؤهم، سريعاً هلاكهم، ولوثب عليهم الناس
ذوو الأحقاد والترات من كل جهة، يقتلونهم
ويشردونهم كل مشرد. ولو أنه عين ولداً من أولاده للملك، وقام خواصه وخدمه وخوله
بأمره بعده، لحقنت دماء أهل بيته، ولم تطل يد أحد من الناس إليهم لناموس الملك،
وأبهة السلطنة، وقوة الرياسة، وحرمة الإمارة! أفترى ذهب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المعنى أم أحب أن يستأصل أهله وذريته من بعده! وأين موضع الشفقة
على فاطمة العزيزة عنده، الحبيبة إلى قلبه! أتقول: إنه
أحب أن يجعلها كواحدة من فقراء المدينة تتكفف الناس، وأن يجعل علياً المكرم
المعظم عنده، الذي كانت حاله معه معلومة، كأبي هريرة الدوسي وأنس بن مالك
الأنصاري، يحكم الأمراء في دمه وعرضه ونفسه وولده، فلا يستطيع الامتناع، وعلى
رأسه مائة ألف سيف مسلول تتلظى أكباد أصحابها عليه، ويودون أن يشربوا دمه
بأفواههم، ويأكلوا لحمه بأسنانهم قد قتل أبناءهم وإخوانهم وآباءهم وأعمامهم،
والعهد لم يطل، والقروح لم تتقرف ، والجروح لم تندمل! فقلت
له: لقد أحسنت فيما قلت، إلا أن لفظه رضي الله عنه يدل
على أنه لم يكن نص عليه، ألا تراه يقول: ونحن
الأعلون نسباً، والأشدون بالرسول نوطاً، فجعل الاحتجاج بالنسب وشدة القرب، فلو كان عليه نص، لقال عوض ذلك: وأنا المنصوص علي،
المخطوب باسمي. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن خطبة له في ذكر الخالق عز وجل.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: الحمد لله
خالق العباد، وساطح المهاد، ومسيل الوهاد، فخصب النجاد ليس لأوليته ابتداء، ولا
لأزليته انقضاء هو الأول ولم يزل، والباقي بلا أجل. خرت له الجباه، ووحدته الشفاه. حد الأشياء عند خلقه
لها إبانة له من شبهها، لا تقدره الأوهام بالحدود والحركات، ولا بالجوارح
والأدوات، لا يقال له: متى؟ ولا يضرب له أمد بحتى، الظاهر لا يقال: مم؟ والباطن
لا يقال: فيم؟ لا شبح فيتقصى، ولا محجوب فيحوى لم يقرب من الأشياء بالتصاق، ولم
يبعد عنها بافتراق، ولا يخفى عليه من عباده شخوص لحظة، ولا كرور لفظة، ولا
ازدلاف ربوة، ولا انبساط خطوة في ليل داج، ولا غسق ساج، يتفيأ عليه القمر
المنير، وتعقبه الشمس ذات النور في الأفول والكرور، وتقليب الأزمنة والذهور من
إقبال ليل مقبل، وإدبار نهار مدبر. قبل كل غاية ومدة، وكل إحصاء وعدة، تعالى عما
ينحله المحددون من صفات الأقدار، ونهايات الأقطار، وتأثل المساكن، وتمكن
الأماكن. فالحد
لخلقه مضروب، وإلى غيره منسوب، لم يخلق الأشياء من أصول أزلية، ولا من أوائل
أبدية، بل خلق ما خلق فأقام حده، وصور فأحسن صورته. ليس لشيء منه امتناع، ولا له
بطاعة شيء انتفاع، علمه بالأموات الماضين كعلمه بالأحياء الباقين، وعلمه بما في
السموات العلا، كعلمه بما في الأرضين السفلى. ومسيلها:
مجرى السيل فيها. والنجاد: جمع نجد، وهو ما ارتفع من الأرض. ومخصبها:
مروضها وجاعلها ذوات خصب. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
بحث في علم التوحيد
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
واعلم أنه رضي الله عنه أورد في هذه
الخطبة ضروباً من علم التوحيد، وكلها مبنية على ثلاثة أصول: الأصل الأول: أنه
تعالى واجب الوجود لذاته، وبتفرع على هذا الأصل فروع: أولها:
أنه ليس لأوليته ابتداء، لأنه لو كان لأوليته ابتداء لكان محدثاً، ولا شيء من
المحدث بواجب الوجود، لأن معنى واجب الوجود، أن ذاته لا تقبل العدم، ويستحيل الجمع بين قولنا: هذه الذات محدثة، أي
كانت معدومة من قبل، وهي في حقيقتها لا تقبل العدم. وقوله رضي الله عنه:
هو الأول لم يزل، والباقي بلا أجل! تكرار لهذين المعنيين السابقين على سبيل
التأكيد، ويدخل فيه أيضاً قوله: لا يقال له
متى، ولا يضرب له أمد بحتى لأن متى للزمان وواجب الوجود يرتفع عن الزمان، وحتى
للغاية وواجب الوجود لا غاية له. ويدخل أيضاً فيه قوله: قبل كل غاية ومدة، وكل احصاء
وعدة. ولو شابه غيره من المجردات مع أن كل مجرد غير ممكن
لكان ممكناً، وليس واجب الوجود بممكن، فيدخل في هذا
المعنى قوله رضي الله عنه: حد الأشياء عند خلقه لها، إبانة له من شبهها،
أي جعل المخلوقات ذوات حدود ليتميز هو سبحانه عنها، إذ لا حد له، فبطل أن يشبهه
شيء منها. ودخل فيه قوله رضي الله عنه:
"لا تقدره الأوهام بالحدود والحركات، ولا بالجوارح. والأدوات:
جمع أداة وهي ما يعتمد به، ودخل فيه قوله: الظاهر فلا يقال: مم؟ أي لا يقال: من
أي شيء ظهر، والباطن فلا يقال: فيم، أي لا يقال فيما ذا بطن؟ ويدخل فيه قوله: لا شبح فيتقصى والشبح: الشخص
ويتقصى يطلب أقصاه. ويدخل فيه قوله: ولا
محجوب فيحوى وقوله: لم يقرب من الأشياء
بالتصاق، ولم يبعد عنها بافتراق لأن هذه الأمور كلها من خصائص الأجسام وواجب
الوجود لا يشبه الأجسام ولا يماثلها. ويدخل فيه قوله رضي الله عنه: تعالى عما ينحله المحددون من صفات
الأقدار أي مما ينسبه إليه المشبهة والمجسمة من صفات المقادير وذوات المقادير. وتمكن الأماكن:
ثبوتها واستقرارها. وقوله: فالحد لخلقه مضروب، وإلى غيره منسوب، وقوله:
ولا له بطاعة شيء انتفاع، لأنه إنما ينتفع الجسم الذي يصح عليه الشهوة والنفرة، كل هذا داخل تحت هذا الوجه. ولا ازدلاف ربوة، صعود إنسان أو حيوان ربوة من
الأرض، وهي الموضع المرتفع ولا انبساط خطوة. في ليل داج أي مظلم ولا غسق ساج، أي
ساكن. وأفوله، أي غيبوبته، وفي تقليب الأزمنة والدهور من
إقبال ليل وإدبار نهار. قلت: لا يلزم من
تعقب الشمس للقمر ثبوت الغسق، بل قد يصدق تعقبها له ويكون الغسق معدوماً، كأنه
رضي الله عنه قال: لا يخفى على الله حركة في نهار ولا ليل، يتفيأ عليه القمر،
وتعقبه الشمس، أي تظهر عقيبه، فيزول الغسق بظهورها. ويدخل تحته أيضاً قوله رضي الله عنه:
علمه
بالأموات الماضين، كعلمه بالأحياء الباقين، وعلمه بما في السموات العلا، كعلمه
بما في الأرضين السفلى. الأصل الثالث:
أنه تعالى قادر لذاته، فكان قادراً على كل الممكنات، ويدخل
تحته قوله: لم يخلق الأشياء من أصول أزلية، ولا من أوائل أبدية، بل خلق
ما خلق فأقام حده، وصور ما صور فأحسن صورته، والرد في هذا على أصحاب الهيولى
والطينة التي يزعمون قدمها. ويدخل تحته قوله:
ليس لشيء امتناع، لأنه متى أراد إيجاد شيء أوجده، ويدخل
تحته قوله: خرت له الجباه، أي سجدت. ووحدته الشفاه، يعني الأفواه، فعبر بالجزء عن الكل
مجازاً، وذلك لأن القادر لذاته هو المستحق للعبادة لخلقه أصول النعم. كالحياة والقدرة والشهوة. ثم أخرجت
من مقرك إلى دار لم تشهدها ولم تعرف سبل منافعها، فمن هداك لاجترار الغذاء من
ثدي أمك، وعرفك عند الحاجة مواضع طلبك وإرادتك! هيهات إن من يعجز عن صفات ذي
الهيئة والأدوات فهو عن صفات خالقه أعجز، ومن تناوله بحدود المخلوفين أبعد. وهما أصغر
من بيضتي الرجل، وأشد تفرطحاً، ومنهما ينصب مني المرأة إلى تجويف الرحم، وللرحم
رقبة منتهية إلى فرج المرأة، وتلك الرقبة من المرأة بمنزلة الذكر من الرجل، فإذا
امتزج مني الرجل بمني المرأة في تجويف الرحم كان العلوق، ثم ينمي ويزيد من دم
الطمث، ويتصل بالجنين عروق تأتي إلى الرحم فتغذوه، حتى يتم ويكمل، فإذا تم لم
يكتف بما تحته من تلك العروق فيتحرك حركات قوية، طلباً للغذاء، فتنهتك أربطة
الرحم التي قلنا إنها على هيئة السلسلة وتكون منها الولادة. وقال
الحسن: هي ما بين ظهراني الطين. ثم قال: إلى قدر معلوم، وأجل مقسوم،
إلى:
متعلقة بمحذوف، كأنه قال: منتهياً إلى قدر معلوم، أي مقدراً طوله وشكله إلى أجل
مقسوم مدة حياته. إلى
دار لم تشهدها، يعني الدنيا ويقال: أشبه شيء
بحال الانتقال من الدنيا إلى الأحوال التي بعد الموت انتقال الجنين من ظلمة
الرحم إلى فضاء الدنيا، فلو كان الجنين يعقل وبتصور كان يظن أنه لا دار له إلا
الدار التي هو فيها، ولا يشعر بما وراءها، ولا يحس بنفسه إلا وقد حصل في دار لم
يعرفها، ولا تخطر بباله، فبقي هو كالحائر المبهوت وهكذا حالنا في الدنيا إذا
شاهدنا ما بعد الموت.
قال:
فمن هداك إلى اجترار الغذاء من ثدي أمك؟، اجترار: امتصاص اللبن من الثدي، وذلك
بالإلهام الإلهي.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن كلام له لعثمان بن عفان
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قالوا: لما
اجتمع الناس إلى أمير المؤمنين عليه السلام، وشكوا إليه ما نقموه على عثمان
وسألوه مخاطبته واستعتابه لهم فدخل عليه السلام على عثمان، فقال: الأصل: إن الناس
ورائي وقد استسفروني بينك وبينهم، ووالله ما أدري ما أقول لك! ما أعرف شيئاً
تجهله، ولا أدلك على أمر لا تعرفه! إنك لتعلم ما نعلم، ما سبقناك إلى شيء فنخبرك
عنه، ولا خلونا بشيء فنبلغكه وقد رأيت كما رأينا، وسمعت كما سمعنا، وصحبت رسول
الله صلى الله عليه وآله كما صحبنا. وما ابن أبي قحافة ولا ابن الخطاب
بأولى بعمل الخير منك، وأنت أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وشيجة
رحم منهما، وقد نلت من صهره ما لم ينالا، فالله الله في نفسك،
فإنك والله ما تبصر من عمى، ولا تعلم من جهل، وإن الطرق لواضحة، وإن أعلام الدين
لقائمة. وقال الكسائي:
نقمت بالكسر أيضاً، أنقم لغة وهذه اللفظة تجيء لازمة ومتعدية، قالوا: نقمت الأمر أي كرهته. واستسفروني: جعلوني سفيراً ووسيطاً بينك وبينهم. وهذا حق، لأن علياً رضي
الله عنه لم يكن يعلم منها ما يجهله عثمان، بل
كان أحداث الصبيان فضلاً عن العقلاء المميزين يعلمون وجهي الصواب والخطأ فيها. ثم خرج إلى ذكر الشيخين، فقال قولاً معناه أنهما ليسا خيراً منك ! فإنك مخصوص دونهما
بقرب النسب، يعني المنافية وبالصهر، وهذا كلام هو
موضع المثل: يسر حسواً في ارتغاء، ومراده تفضيل نفسه رضي الله عنه عليهما، لأن العلة التي باعتبارها فضل عثمان عليهما محققة فيه وزيادة
لأن له مع المنافية الهاشمية، فهو أقرب. ثم حذره جانب الله تعالى ونبهه على أن الطريق
واضحة، وأعلام الهدى قائمة، وأن الإمام العادل أفضل الناس عند الله، وأن الإمام
الجائر شر الناس عند الله. والسيقة:
ما استاقه العدو من الدواب، مثل الوسيقة، قال
الشاعر:
والجلال، بالضم: الجليل، كالطوال والطويل، أي بعد السن الجليل، أي العمر
الطويل. ولم آت منكراً، إنما وصلت رحماً وسددت خلة
وآويت ضائعاً ووليت شبيهاً بمن كان عمر يوليه أنشدك الله يا علي، ألا تعلم أن المغيرة
بن شعبة ليس هناك! قال: بلى، قال: أفلا تعلم أن عمر ولاه! قال: بلى، قال: فلم
تلومني أن وليت ابن عامر في رحمه وقرابته! فقال علي رضي الله عنه:
إن عمر كان يطأ على صماخ من يوليه، ثم يبلغ منه إن أنكر منه أمراً أقصى العقوبة،
وأنت فلا تفعل، ضعفت ورققت على أقربائك . قال عثمان: هم
أقرباؤك أيضاً، فقال علي: لعمري إن رحمهم مني لقريبة ولكن الفضل في غيرهم. قال علي:
أنشدك الله ألا تعلم أن معاوية كان أخوف لعمر من يرفأ غلامه له؟ قال: بلى، قال: فإن معاوية يقطع الأمور دونك ويقول! للناس: هذا بأمر عثمان، وأنت تعلم ذلك فلا تغير عليه! ثم قام علي، فخرج
عثمان على أثره، فجلس على المنبر، فخطب الناس، وقال: أما بعد، فإن لكل
شيء آفة، ولكل أمر عاهة، وإن آفة هذه الأمة وعاهة هذه النعمة عيابون طعانون
يرونكم ما تحبون، ويسرون عنكم ما تكرهون، يقولون لكم وتقولون، أمثال النعام يتبع
أول ناعق، أحب مواردها إليها البعيد، لا يشربون إلا نغصاً، ولا يردون إلا عكراً.
أما والله لقد عبتم علي ما أقررتم لابن الخطاب بمثله ولكنه وطئكم
برجله، وضربكم بيده، وقمعكم بلسانه فدنتم له على ما أحببتم وكرهتم ولنت لكم، وأوطأتكم كتفي،
وكففت يدي ولساني عنكم، فاجترأتم علي. أما والله لأنا أقرب ناصراً وأعز نفراً وأكثر
عدداً وأحرى إن قلت: هلم أن يجاب صوتي. ولقد
أعددت لكم أقراناً وكشرت لكم عن نابي وأخرجتم مني خلقاً لم أكن أحسنه ومنطقاً لم
أكن أنطق به. فكفوا عني ألسنتكم وطعنكم وعيبكم على ولاتكم فما الذي تفقدون من
حقكم! والله ما قصرت عن بلوغ من كان قبلي يبلغ وما وجدتكم تختلفون عليه، فما
بالكم! فقام مروان بن الحكم، فقال: وإن شئتم حكمنا بيننا وبينكم السيف. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
يذكر فيها عجيب خلقة الطاوس
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
ابتدعهم خلقاً عجيباً من حيوان وموات، وساكن وذي حركات، وأقام من شواهد البينات
على لطيف صنعته، وعظيم قدرته، ما أنقادت له العقول معترفة به، ومسلمة له، ونعقت
في أسماعنا دلائلة على وحدانيته، وما ذرأ من مختلف صور الأطيار التي أسكنها
أخاديد الأرض، وخروق فجاجها، ورواسي أعلامها من ذات أجنحة مختلفة وهيئات
متباينة، مصرفة في زمام التسخير، ومرفرفة بأجنحتها في مخارق الجو المنفسح،
والفضاء المنفرج. وأرض موات، أي قفر، والساكن ههنا كالأرض والجبال. وذو الحركات:
كالنار والماء الجاري والحيوان. وفجاجها:
جمع فج وهو الطريق بين الجبلين. ورواسي أعلامها: أثقال جبالها. والخفوف:
سرعة الحركة. والدفيف للطائر: طيرانه فويق الأرض يقال:
عقاب دفوف. قال امرؤ القيس يصف فرسه
ويشبهها بالعقاب:
ونسقها:
رتبها. والأصابيغ:
جمع أصباغ، وأصباغ جمع صبغ. والمغموس الثاني: ذو اللونين، نحو أن يكون أحمر وعنقه خضراء. قلت: أما
الأول فكالقطا والصدا ، والثاني كالقبج والطيهوج ، والثالث كالصقر والعقاب. أحيلك من ذلك على معاينة، لا كمن يحيل على ضعيف إسناده. ولو كان كزعم من يزعم أنه يلقح
بدمعة تسفحها مدامعه، فتقف في ضفتي جفونه، وأن أنثاه تطعم ذلك، ثم تبيض لا من
لقاح فحل سوى الدمع المنبجس لما كان ذلك بأعجب من مطاعمة الغراب! الشرح: الطاوس: فاعول، كالهاضوم، والكابوس،
وترخيمه طويس: ونضد: رتب. وغضاريفه:
عظامه الصغار، وأشرجها: ركب بعضها في بعض كما تشرج العيبة، أي يداخل بين أشراجها
وهي عراها واحدها، شرج بالتحريك. والداري:
جالب العطر في البحر من دارين وهي فرضة بالبحرين فيها سوق يحمل إليها المسك من
الهند، وفي الحديث: الجليس الصالح كالداري إن لم يحذك من عطره علقك من ريحه. قال الشاعر:
والنوتي:
الملاح وجمعه نواتي، وعنجه: عطفه، وعنجت خطام البعير، رددته على رجليه، أعنجه
بالضم، والاسم العنج بالتحريك وفي المثل عوذ يعلم العنج يضرب مثلاً لتعليم
الحاذق، ويختال من الخيلاء وهي العجب. ويميس:
يتبختر، وزيفانه: تبختره، زاف يزيف، ومنه ناقة زيافة أي مختالة، قال عنترة:
وكذلك
ذكر الحمام عند الحمامة إذا جر الذنابى، ودفع مقدمه بمؤخره واستدار عليها. ويؤر:
يسفد، والأر: الجماع، ورجل آر كثير الجماع، وملاقحه: أدوات اللقاح وأعضاؤه وهي آلات التناسل. قوله:
أر الفحول، أي أراً مثل أر الفحول ذات الغلمة والشبق. وأما الحكماء فقل
أن يصدقوا بذلك على أنهم قد قالوا في كتبهم ما يقرب من هذا، قالوا في السمك البياض: إن سفاده خفي جداً، وإنه
لم يظهر ظهوراً يعتد به ويحكم بسببه. قال:
والنوع المسمى مالاقيا تتلاصق بأفواهها ثم تتشابك، فذاك سفادها، وسمعت أن الغراب
يسفد وأنه قد شوهد سفاده، ويقول الناس: إن من شاهد سفاد الغراب يثري ولا يموت
إلا وهو كثير المال موسر. والضفتان،
بفتح الضاد: الجانبان، وهما ضفتا النهر، وقد جاء ذلك بالكسر أيضاً، والفتح أفصح. ويسفحها:
يصبها، وروي: تنشجها مدامعه من النشيج، وهو
صوت الماء وغليانه من زق أو حب أو قدر. فإن شبهته بما أنبتت الأرض قلت: جني جني من زهرة كل ربيع، وإن ضاهيته بالملابس
فهو كموشي الحلل، أو كمونق عصب اليمن. وإن شاكلته بالحلي فهو كفصوص ذات ألوان قد
نطقت باللجين المكلل. يمشي
مشي المرح المختال، ويتصفح ذنبه وجناحه فيقهقه ضاحكاً لجمال سرباله، وأصابيع
وشاحه، فإذا رمى ببصره إلى قوائمه زقا معولاً بصوت يكاد يبين عن أستغاثته، ويشهد
بصادق توجعه لأن قوائمه حمش كقوائم الديكة الخلاسية.
وكذلك
المدراة، ويقال المدرى لشيء كالمسلة تصلح بها الماشطة شعور النساء، قال الشاعر:
وتمدرت المرأة، أي سرحت شعرها. شبه عظام أجنحة الطاوس بمدارى من فضة لبياضها
وشبه ما أنبت الله عليها من تلك الدارات والشموس التي في الريش بخالص العقيان
وهو الذهب. والزبرجد: هذا الجوهر الذي تسميه الناس
البلخش. والعصب: برود اليمن، والحلي: جمع حلي وهو ما
تلبسه المرأة من الذهب والفضة مثل ثدي وثدي ووزنه فعول وقد تكسر الحاء لمكان
الياء مثل عمي، وقرئ: "من حليهم"
بالضم والكسر. والمكلل:
ذو الإكليل. وزقا:
صوت، يزقو زقوا وزقياً وزقاء، وكل صائح زاق. والزقية:
الصيحة وهو أثقل من الزواقي أي الديكة، لأنهم كانوا يسمرون فإذا صاحت الديكة
تفرقوا. وتقول العرب للغلام إذا
كانت أمه بيضاء وأبوه عربياً: آدم، فجاء لونه بين لونيهما. والظنبوب:
حرف الساق وهو هذا العظم اليابس.
ونقل
إلى صيصية الديك لتلك الهيئة التي في رجله. والمتلفع:
الملتحف، ويروى: متقنع بمعجر وهو ما تشده المرأة على رأسها كالرداء، والأقحوان: البابونج الأبيض وجمعه أقاح. ويأتلق:
يلمع. فسبحان
الذي بهر العقول عن وصف خلق جلاه للعيون فأدركته محدوداً مكوناً، ومؤلفاً
ملوناً، وأعجز الألسن عن تلخيص صفته وقعد بها عن تأدية نعته! وسبحان
من أدمج قوائم الذرة والهمجة إلى ما فوقهما من خلق الحيتان والفيلة! ووأى على
نفسه ألا يضطرب شبح مما أولج فيه الروح إلا وجعل الحمام موعده والفناء غايته. ونامياً:
زائداً. يقول رضي الله عنه: إذا عاد ريشه عاد مكان كل ريشة ريشة ملونة بلون الريشة
أولى، فلا يتخالف الأوائل والأواخر. والخضرة الزبرجدية:
منسوبة إلى الزمرد، ولفظة الزبرجد تارة تستعمل له، وتارة لهذا الحجر الأحمر
المسمى بلخش. والعسجد:
الذهب. وعمائق الفطن: البعيدة القعر. والقريحة:
الخاطر والذهن. وبهر: غلب، وجلاه:
أظهره ويروى بالتخفيف. وأدمج القوائم:
أحكمها: كالحبل المدمج الشديد الفتل. والهمجة، واحدة الهمج، وهو ذباب صغير كالبعوض يسقط
على وجوه الغنم والحمر وأعينها، ووأى: وعد، والواي: الوعد. ويبيض في السنة مرة واحدة اثنتي عشرة بيضة في ثلاثة
أيام، ويحضنها ثلاثين يوماً، فيفرخ ويلقي ريشه مع سقوط ورق الشجر، وينبته مع
ابتداء نبات الورق. وينبغي أن يتعهد الدجاجة حينئذ بتقريب العلف منها. قال الرضي رحمه الله تعالى
في تفسير بعض ما في هذه الخطبة من الغريب: قوله عليه السلام: يؤر
بملاقحه الأز: كناية عن النكاح، يقال: أر
الرجل المرأة يؤزها، إذا نكحها. وداري:
منسوب إلى دارين وهي بلدة على البحر يجلب منها الطيب. وعنجه أي
عطفه يقال: عنجت الناقة، أعنجها عنجاً إذا عطفتها. والنوتي: الملاح. والزخارف: جمع زخرف وهو الذهب وكل مموه. والمونقة: المعجبة. وزهقت
نفسه: مات. وروى جابر بن عبد الله عنه عليه
الصلاة والسلام: "إذا دخل أهل الجنة الجنة، قال
لهم ربهم تعالى: أتحبون أن أزيدكم؟ فيقولون: وهل خير مما أعطيتنا؟ فيقول: نعم،
رضواني أكبر". وعنه عليه الصلاة والسلام: "إن أحدهم ليعطى قوة مائة رجل في الأكل والشرب"، فقيل له: فهل يكون منهم حدث أو قال خبث؟ قال: "عرق يفيض من أعراضهم كريح المسك يضمر
منه البطن ". ثم عجنني بماء الحيوان، وقال لي: كوني كذا،
فكنت. خلقني
لأخيك وابن عمك علي بن أبي طالب".
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن خطبة له في الحث على التآلف
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: ليتأس صغيركم
بكبيركم، وليرأف كبيركم بصغيركم ولا تكونوا كجفاة الجاهلية لا في الدين يتفقهون
ولا عن الله يعقلون كقيض بيض في أداح، يكون كسرها وزراً، ويخرج حضانها شراً. والرأفة:
الرحمة لأن الصغير مظنة الضعف والرقة. وتقول للبيضة إذا تكسرت فلقاً:
تقيضت تقيضاً، فإن تصدعت ولم تنفلق، قلت:
انقاضت، فهي منقاضة، والقارورة مثله. يسيلون من مستثارهم كسيل الجنتين حيث لم تسلم عليه
قارة، ولم تثبت عليه أكمة، ولم يرد سننه رص طود، ولا حداب أرض، يذعذعهم الله في
بالون أوديته، ثم يسلكهم ينابيع في الأرض، يأخذ بهم من قوم حقوق قوم، ويمكن لقوم
في ديار قوم، وأيم الله ليذوبن ما في أيديهم بعد العلو والتمكين كما تذوب الألية
على النار. وقزع الخريف:
جمع قزعة، وهي سحب صغار تجتمع فتصير ركاماً وهو ما كثف من السحاب. وركمت الشيء أركمه إذا جمعته وألقيت
بعضه على بعض. فشبه رضي الله عنه سيلان الجيوش إلى بني أمية
بالسيل المسلط على تينك الجنتين. ولم تثبت له أكمة وهي التلعة من الأرض، ولم يرد
سننه أي طريقه. طود مرصوص أي جبل شديد التصاق الأجزاء بعضها ببعض. ولا حداب أرض. جمع حدبة وهي الروابي والنجاد. ويل للعرب من شر قد اقترب"، فقلت: يا رسول الله، أنهلك، وفينا الصالحون؟ فقال:
"نعم، إذا كثر الخبث " وفي الصحيحين
أيضاً: "يهلك أمتي هذا الحي من قريش"، قالوا: يا رسول الله،
فما تأمرنا؟ قال: "لو أن الناس اعتزلوهم" رواه أبو هريرة عنه رضي الله
عنه. والفادح: الثقل، فدحه الدين: أثقله. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن خطبة له في أول خلافته
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: إن الله
تعالى سبحانه أنزل كتاباً هادياً بين فيه الخير والشر فخذوا نهج الخير تهتدوا،
وأصدفوا عن سمت الشر تقصدوا. فالمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده إلا بالحق،
ولا يحل أذى المسلم إلا بما يجب. بادروا أمر العامة وخاصة أحدكم وهو الموت فإن
الناس أمامكم، وإن الساعة تحذوكم من خلفكم. تخففوا تلحقوا فإنما ينتظر بأولكم
آخركم: أتقوا الله في عباده وبلاده، فإنكم مسؤولون حتى عن
البقاع والبهائم، وأطيعوا الله ولا تعصوه، وإذا رأيتم الخير فخذوا به، وإذا
رأيتم الشر فأعرضوا عنه. وهذا لفظ الخبر النبوي:
حرمة المسلم فوق كل حرمة، دمه وعرضه وماله. وقد ورد في الأخبار النبوية لينتصفن
للجماء من القرناء وجاء في الخبر الصحيح: إن الله تعالى
عذب إنساناً بهر، حبسه في بيت وأجاعه حتى هلك. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن كلام له بعد ما بويع له بالخلافة
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وقد قال له قوم من الصحابة: لو عاقبت قوماً ممن أجلب على عثمان فقال عليه السلام الأصل: يا
إخوتاه! إني لست أجهل ما تعلمون ولكن كيف لي بقوة والقوم المجلبون على حد شوكتهم
يملكوننا ولا نملكهم! وها هم هؤلاء قد ثارت معهم عبدانكم والتفت إليهم أعرابكم
وهم خلالكم يسومونكم ما شاءوا، وهل ترون موضعاً لقدرة على شيء تريدونه! إن هذا
الأمر أمر جاهلية وإن لهؤلاء القوم مادة. إن الناس من هذا الأمر إذا حرك على أمور: فرقة
ترى ما ترون، وفرقة ترى ما لا ترون، وفرقة لا ترى هذا ولا هذا. فاصبروا حتى يهدأ
الناس وتقع القلوب مواقعها وتؤخذ الحقوق مسمحة. وعلى
حد شوكتهم، شدتهم أي لم تنكسر سورتهم .
ومنه
قرأ بعضهم: "وعبد الطاغوت"
وأضافه. والمنة:
القوة. والوهن:
الضعف. وآخر الدواء الكي، مثل مشهور ويقال:
آخر الطب ويغلط فيه العامة فتقول: آخر الداء، والكي
ليس من الداء ليكون آخره. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
موقف الإمام علي من قتلة عثمان
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
واعلم أن هذا الكلام يدل على أنه رضي
الله عنه كان في نفسه عقاب الذين حصروا عثمان والاقتصاص ممن قتله،
إن كان بقي ممن باشر قتله أحد ولهذا قال:
إني لست أجهل ما تعلمون فاعترف بأنه عالم بوجوب ذلك، واعتذر بعدم التمكن كما
ينبغي وصدق رضي الله عنه فإن أكثر أهل المدينة أجلبوا عليه، وكان من أهل مصر ومن
الكوفة عالم عظيم حضروا من بلادهم، وطووا المسالك البعيدة لذلك، وانضم إليهم
أعراب أجلاف من البادية، وكان الأمر أمر جاهلية كما قال رضي الله عنه ولو
حرك ساكناً لاختلف الناس واضطربوا، فقوم يقولون: أصاب، وقوم يقولون: أخطأ، وقوم
لا يحكمون بصواب ولا خطأ. بل
يتوقفون، ولا يأمن- لو شرع في عقوبة الناس والقبض عليهم- من تجدد فتنة أخرى
كالأولى وأعظم فكان الأصوب في التدبير، والذي يوجبه الشرع والعقل الإمساك إلى
حين سكون الفتنة، وتفرق تلك الشعوب وعود كل قوم إلى بلادهم وكان رضي الله عنه يؤمل أن يطيعه معاوية وغيره،
وأن يحضر بنو عثمان عنده يطالبون بدم أبيهم، ويعينون قوماً بأعيانهم، بعضهم
للقتل، وبعضهم للحصار، وبعضهم للتسور، كما جرت عادة المتظلمين إلى الإمام
والقاضي فحينئذ يتمكن من العمل بحكم الله تعالى فلم يقع الأمر بموجب ذلك، وعمى
معاوية وأهل الشام، والتجأ ورثة عثمان إليه، وفارقوا حوزة أمير المؤمنين رضي الله عنه، ولم يطلبوا القصاص طلباً
شرعياً، وإنما طلبوه مغالبة، وجعلها معاوية عصبية الجاهلية، ولم يأت أحد منهم
الأمر من بابه وقبل ذلك ما كان من أمير طلحة والزبير، ونقضهما البيعة، ونهبهما
أموال المسلمين بالبصرة وقتلهما الصالحين من أهلها، وجرت أمور كلها تمنع الإمام
عن التصدي للقصاص، واعتماد ما يجب اعتماده لو كان الأمر وقع على القاعدة الصحيحة
من المطالبة بذلك على وجه السكون والحكومة، وقد قال
هو رضي الله عنه لمعاوية: "فأما طلبك قتلة عثمان، فادخل في الطاعة،
وحاكم القوم إلي، أحملك وإياهم على كتاب الله وسنة رسوله". |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
عند مسير أصحاب الجمل إلى البصرة
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: إن الله بعث
رسولاً هادياً بكتاب ناطق وأمر قائم لا يهلك عنه إلا هالك. وإن المبتدعات
المشبهات هن المهلكات إلا ما حفظ الله منها. وإن في سلطان الله عصمة لأمركم،
فأعطوه طاعتكم غير ملومة ولا مستكره بها. لا يهلك عنه إلا هالك، تقديره: لا يهلك عادلاً عنه
إلا هالك، وهذا كما تقول: لا يعلم هذا الفن إلا عالم أي من قد بلغ الغاية في
العلم واستحق أن يوصف بذلك ويشار إليه فيه، كذلك لا يهلك بعدوله عنه إلا من هو
أعظم الهالكين، ومن يشار إليه بالهلاك وقد بلغ الغاية في الهلاك. ثم
قال: "إن المبتدعات المشبهات هن
المهلكات"، المبتدعات: ما أحدث
ولم يكن على عهد الرسول. والمشبهات:
التي تشبه السنن وليست منها، أي المشبهات بالسنن. وروي:
المشبهات بالكسر، أي المشبهات على الناس، يقال: قد شبه عليه الأمر، أي ألبس
عليه، ويروى: لا المشتبهات أي الملتبسات، لا يعرف حقها من باطلها. ثم
أمرهم بلزوم الطاعة، واتباع السلطان، وقال: إن فيه عصمة لأمركم، فأعطوه طاعتكم
غير ملومة، أي مخلصين ذوي طاعة محضة لا يلام باذلها، أي لا ينسب إلى النفاق. ولا
مستكره بها، أي ليست عن استكراه، بل يبذلونها اختياراً ومحبة، ويروى: غير ملوية
أي معوجة، من لويت العود. قلت:
لأن الشرط لم يقع، وهو عدم الطاعة، فإن أكثرهم أطاعوه طاعة غير ملومة ولا مستكره
بها، وإذا لم يتحقق الشرط لم يتحقق المشروط. ثم
وعد بالصبر عليهم ما لم يخف من فرقة الجماعة وانتشار حبل الإسلام.
أي
لستم على رجل ضعيف الرأي. والجمع أفيال، ويقال أيضاً: رجل فال، قال:
قال:
إن تموا على هذا الرأي الضعيف قطعوا نظام المسلمين وفرقوا جماعتهم. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن كلام له كلم به بعض العرب
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وقد أرسله قوم من أهل البصرة لما قرب عليه السلام منها
ليعلم لهم منه حقيقة حاله مع أصحاب الجمل لتزول الشبهة من نفوسهم فبين له عليه السلام من أمره معهم ما علم به أنه
على الحق ثم قال له بايع فقال إني رسول قوم ولا أحدث حدثاً حتى أرجع إليهم فقال عليه السلام الأصل: أرأيت لو أن
الذين وراءك بعثوك رائداً، تبتغي لهم مساقط الغيث، فرجعت إليهم وأخبرتهم عن
الكلأ والماء، فخالفوا إلى المعاطش والمجادب ما كنت صانعاً؟ قال: كنت تاركهم ومخالفهم إلى الكلأ والماء، فقال عليه السلام: فامدد إذا يدك. الشرح: الجرمي: منسوب إلى بني جرم بن ربان بن حلوان بن
عمران بن الحاف بن قضاعة، من حمير. وكان هذا الرجل بعثه قوم من أهل البصرة إليه رضي الله عنه يستعلم
حاله: أهو على حجة أم على شبهة؟ فلما رآه رضي
الله عنه، وسمع لفظه، علم صدقه وبرهانه
فكان بينهما ما قد شرحه رضي الله عنه. والكلأ: النبت إذا طال وأمكن أن يرعى، وأول ما يظهر
يسمى الرطب، فإذا طال قليلاً فهو الخلا، فإذا طال شيئاً آخر فهو الكلأ، فإذا يبس
فهو الحشيش، والمعاطش والمجادب: مواضع العطش والجدب، وهو المحل. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لما عزم علي لقاء القوم بصفين
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: اللهم رب السقف
المرفوع، والجو المكفوف الذي جعلته مغيضاً لليل والنهار، ومجرى للشمس والقمر،
ومختلفاً للنجوم السيارة، وجعلت سكانه سبطاً من ملائكتك، لا يسأمون من عبادتك. الشرح:
السقف المرفوع: السماء. والجو المكفوف: السماء أيضاً، كفه أي جمعه وضم بعضه إلى
بعض، ويمر في كلامه نحو هذا، وأن السماء هواء جامد أو ماء جامد. ومختلفاً للنجوم السيارة أي موضعا لاختلافها،
واللام مفتوحة. ومدرجاً للهوام، أي موضع دروجهم وسيرهم وحركاتهم، والهوام: الحشرات والمخوف من الأحناش، وما لا
يحصى، أي لا يضبط بالإحصاء والعد مما نراه ونعرفه وما لا نراه ولا نعرفه. والغائر: ذو الغيرة. ونزول الحقائق: نزول الأمور الشديدة كالحرب ونحوها. وهذا الكلام شريف جداً. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن خطبة له في من رماه بالحرص
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: الحمد لله
الذي لا تواري عنه سماء سماء، ولا أرض أرضاً. ويمكن أن يتأول مثل ذلك كلام أمير
المؤمنين رضي الله عنه، فيقال: إنها وإن كانت أرضاً واحدة،
لكنها أقاليم وأقطار مختلفة، وهي كرية الشكل، فمن على حدبة الكرة لا يرى من
تحته، ومن تحته لا يراه، ومن على أحد جانبيها لا يرى من على الجانب الآخر، والله
تعالى يدرك ذلك كله أجمع، ولا يحجب عنه شيء منها بشيء منها. اللهم إني أستعديك على قريشٍ ومن أعانهم،
فإنهم قطعوا رحمي، وصغروا عظيم منزلتي، وأجمعوا على منازعتي أمراً هو لي، ثم قالوا:
ألا إن في الحق أن تأخذه، وفي الحق أن تتركه. والذي قال له:
"إنك على هذا الأمر لحريص" سعد بن أبي
وقاص، مع روايته فيه: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى"، وهذا عجب، فقال لهم: بل أنتم والله أحرص وأبعد....
الكلام المذكور. وقد رواه الناس كافة. وحدثني يحيى بن سعيد بن علي الحنبلي
المعروف بابن عالية، من ساكني قطفتا بالجانب الغربي من بغداد وأحد الشهود
المعدلين بها، قال: كنت حاضراً مجلس الفخر إسماعيل بن علي
الحنبلي الفقيه المعروف بغلام ابن المنى، وكان الفخر إسماعيل بن علي هذا مقدم
الحنابلة ببغداد في الفقه والخلاف ويشتغل بشيء في علم المنطق، وكان حلو العبارة،
وقد رأيته أنا وحضرت عنده، وسمعت كلامه، وتوفي سنة
عشر وستمائة. فقال ذلك الشخص: ومن صاحب القبر؟
قال: علي بن أبي طالب! قال: يا سيدي، هو الذي سن لهم ذلك، وعلمهم
إياه وطرقهم إليه! قال: نعم والله، قال: يا سيدي فإن كان محقاً فمالنا أن نتولى
فلاناً وفلاناً! وإن كان مبطلاً فمالنا نتولاه! ينبغي
أن نبرأ إما منه أو
منهما. فوالله إن لو لم يصيبوا من المسلمين إلا رجلاً
واحداً معتمدين لقتله بلا جرم جره، لحل لي قتل ذلك الجيش كله إذ حضروه فلم
ينكروا، ولم يدفعوا عنه بلسان ولا بيد، دع ما إنهم قد قتلوا من المسلمين مثل العدة
التي دخلوا بها عليهم! الشرح: حرمة رسول
الله صلى الله عليه وسلم كناية
عن الزوجة، وأصله الأهل والحرم وكذلك حبيس رسول الله صلى الله عليه وسلم كناية عنها. وقوله: "فوالله إن لو لم يصيبوا" إن
هاهنا زائدة، ويجوز أن تكون مخففة من الثقيلة. والجواب، أنه يجوز
قتلهم لأنهم اعتقدوا ذلك القتل مباحاً، فإنهم إذا اعتقدوا إباحته، فقد اعتقدوا
إباحة ما حرم الله، فيكون حالهم حال من اعتقد أن الزنا مباح، أو أن شرب الخمر
مباح. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
خروج عائشة ومسيرها إلى القتال
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وروى أبو مخنف، قال:
حدثنا إسماعيل بن خالد، عن قيس بن أبي حازم. وروى الكلبي عن أبي صالح، عن ابن
عباس. وروى جرير بن يزيد، عن عامر الشعبي، وروى محمد بن
إسحاق، عن حبيب بن عمير، قالوا جميعاً: لما
خرجت عائشة وطلحة والزبير من مكة إلى
البصرة، طرقت ماء الحوأب- وهو ماء لبني عامر بن
صعصعة- فنبحتهم الكلاب، فنفرت صعاب إبلهم، فقال قائل منهم: لعن الله الحوأب فما أكثر كلابها! فلما سمعت عائشة ذكر
الحوأب، قالت: أهذا ماء الحوأب؟ قالوا: نعم،
فقالت: ردوني ردوني فسألوها ما شأنها؟ ما
بدا لها؟ فقالت: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول: "كأني بكلاب ماء يدعى الحوأب، قد نبحت بعض نسائي"، ثم قال لي: "إياك يا حميراء أن تكونيها"
فقال لها الزبير: مهلاً يرحمك الله، فإنا قد
جزنا ماء الحوأب بفراسخٍ كثيرة، فقالت: أعندك من يشهد بأن هذه الكلاب النابحة
ليست على ماء الحوأب؟ فلفق لها الزبير وطلحة خمسين
أعرابياً جعلا لهم جعلاً ، فحلفوا لها، وشهدوا أن هذا الماء ليس بماء الحوأب،
فكانت هذه أول شهادة زور في الإسلام. قلت: وأصحابنا المعتزلة رحمهم الله،
يحملون قوله رضي الله عنه: "وتنجو" على نجاتها من النار، والإمامية
يحملون ذلك على نجاتها، من القتل، ومحملنا أرجح، لأن لفظة
"في النار" أقرب إليه من لفظة "القتلى"، والقرب معتبر في هذا الباب، ألا ترى أن نحاة البصريين أعملوا أقرب العاملين، نظراً إلى القرب! قال أبو مخنف:
وحدثني الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، أن الزبير وطلحة أغذا السير بعائشة،
حتى انتهوا إلى حفر أبي موسى الأشعري، وهو قريب من البصرة، وكتبا إلى عثمان بن حنيف الأنصاري، وهو عامل علي رضي الله
عنه على البصرة: أن أخل لنا دار الإمارة، فلما وصل كتابهما إليه بعث
الأحنف بن قيس، فقال له: إن هؤلاء القوم
قدموا علينا ومعهم زوجة رسول الله، والناس إليها سراع كما ترى فقال الأحنف: إنهم جاؤوك بها للطلب بدم عثمان وهم
الذين ألبوا على عثمان الناس، وسفكوا دمه وأراهم والله لا يزايلون حتى يلقوا
العداوة بيننا، ويسفكوا دماءنا، وأظنهم والله سيركبون منك خاصة ما لا قبل لك به
إن لم تتأهب لهم بالنهوض إليهم فيمن معك من أهل البصرة، فإنك اليوم الوالي عليهم
وأنت فيهم مطاع فسر إليهم بالناس وبادرهم قبل أن يكونوا معك في دار واحدة، فيكون
الناس لهم أطوع منهم لك؟ فقال عثمان بن حنيف: الرأي
ما رأيت لكنني أكره الشر وأن أبدأهم به وأرجو العافية والسلامة إلى أن يأتيني
كتاب أمير المؤمنين ورأيه فأعمل به. ثم أتاه بعد الأحنف حكيم بن جبلة العبدي من
بني عمرو بن وديعة، فأقرأه كتاب طلحة والزبير، فقال له مثل قول الأحنف، وأجابه
عثمان بمثل جوابه للأحنف، فقال له حكيم: فأذن
لي حتى أسير إليهم بالناس، فإن دخلوا في طاعة أمير المؤمنين وإلا نابذتهم على
سواء. والله أشد بأساً، وأشد تنكيلاً، فإذا قدموا عليك
فادعهم إلى الطاعة والرجوع إلى الوفاء بالعهد والميثاق الذي فارقونا عليه، فإن
أجابوا فأحسن جوارهم ما داموا عندك، وإن أبوا إلا التمسك بحبل النكث والخلاف،
فناجزهم القتال حتى يحكم الله بينك وبينهم وهو خير الحاكمين وكتبت كتابي هذا
إليك من الربذة، وأنا معجل المسير إليك إن شاء الله، وكتبه عبيد الله بن أبي
رافع في سنة ست وثلاثين. قال:
فلما وصل كتاب علي رضي الله عنه إلى عثمان، أرسل إلى أبي الأسود الدؤلي وعمران
بن الحصين الخزاعي، فأمرهما أن يسيرا حتى يأتياه بعلم القوم، وما الذي أقدمهم!
فانطلقا حتى إذا أتيا حفر أبي موسى، وبه معسكر القوم، فدخلا على عائشة، فنالاها
ووعظاها، وأذكراها وناشداها الله، فقالت لهما:
القيا طلحة والزبير. فقاما
من عندها، ولقيا الزبير فكلماه، فقال لهما:
إنا جئنا للطلب بدم عثمان، وندعو الناس إلى أن يردوا أمر الخلافة شورى، ليختار
الناس لأنفسهم. فقالا له: إن عثمان لم يقتل بالبصرة ليطلب دمه فيها، وأنت تعلم قتلة عثمان من هم، وأين هم! وإنك وصاحبك
وعائشة كنتم أشد الناس عليه، وأعظمهم إغراء بدمه، فأقيدوا من أنفسكم. وأما إعادة أمر الخلافة شورى، فكيف وقد بايعتم علياً طائعين غير
مكرهين! وأنت
يا أبا عبد الله لم يبعد العهد بقيامك دون هذا الرجل يوم مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت آخذ قائم سيفك، تقول: ما أحذ أحق بالخلافة منه ولا أولى بها منه!
وامتنعت من بيعة أبي بكر. فأين ذلك الفعل من هذا
القول! فقال لهما: اذهبا فالقيا طلحة، فقاما إلى طلحة فوجداه أخشن
الملمس، شديد العريكة، قوي العزم في إثارة الفتنة وإضرام نار الحرب، فانصرفا إلى عثمان بن حنيف، فأخبراه وقال له أبو الأسود:
فقال ابن حنيف:
إي والحرمين لأفعلن. وأمر مناديه فنادى في الناس:
السلاح السلاح! فاجتمعوا إليه، وقال أبو الأسود:
قال: وأقبل القوم، فلما انتهوا إلى المربد، قام رجل من بني جشم
فقال: أيها
الناس، أنا فلان الجشمي، وقد أتاكم هؤلاء القوم، فإن كانوا أتوكم خائفين، لقد
أتوكم من المكان الذي يأمن فيه الطير والوحش والسباع، وإن كانوا إنما أتوكم بطلب
دم عثمان، فغيرنا ولي قتله. فأطيعوني أيها الناس وردوهم من حيث أقبلوا فإنكم إن
لم تفعلوا لم تسلموا من الحرب الضروس والفتنة الصماء التي لا تبقي ولا تذر. وقد جئناكم أيها الناس نطلب بدم عثمان، وندعوكم إلى الطلب بدمه فإن نحن أمكننا الله من قتلته
قتلناهم به، وجعلنا هذا الأمر شورى بين المسلمين، وكانت خلافة رحمة للأمة
جميعاً، فإن كل من أخذ الأمر من غير رضاً من العامة ولا مشورة منها ابتزازاً،
كان ملكه ملكاً عضوضاً وحدثاً كثيراً. ثم قام الزبير،
فتكلم بمثل كلام طلحة. فقال ناس:
قد صدقا وأحسنا القول، وقطعا بالثواب. وقال ناس:
ما صدقا ولا أصابا في القول حتى ارتفعت الأصوات. قال: ثم أقبلت عائشة على جملها، فنادت بصوت مرتفع: أيها الناس، أقلوا الكلام واسكتوا،
فأسكت الناس لها، فقالت: إن أمير المؤمنين عثمان قد كان غير وبدل، ثم لم يزل
يغسل ذلك بالتوبة حتى قتل مظلوماً تائباً، وإنما نقموا عليه ضربه بالسوط،
وتأميره الشبان، وحمايته موضع الغمامة، فقتلوه محرماً في حرمة الشهر وحرمة البلد
ذبحاً كما يذبح الجمل. ألا وإن
قريشاً رمت غرضها بنبالها، وأدمت أفواهها بأيديها، وما نالت بقتلها إياه شيئاً،
ولا سلكت به سبيلاً قاصداً، أما والله ليرونها بلايا عقيمة تنبه النائم، وتقيم
الجالس، وليسلطن عليهم قوم لا يرحمونهم وسيومونهم سوء العذاب. تراني أغضب لكم من سوط عثمان ولسانه،
ولا أغضب لعثمان من سيوفكم! ألا إن عثمان قتل
مظلوماً فاطلبوا قتلته، فإذا ظفرتم بهم
فاقتلوهم، ثم اجعلوا الأمر شورى بين الرهط الذين
اختارهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ولا يدخل فيهم من شرك في دم عثمان. وليت شعري ما الذي أحوجهما إلى هذا
القول! وإذا كان هذا في أنفسهما، فهلا كتماه! ثم نعود إلى خبرهما: قال أبو مخنف: فلما أقبل طلحة والزبير من المربد
يريدان عثمان بن حنيف، فوجداه وأصحابه قد أخذوا بأفواه السكك، فمضوا حتى انتهوا
إلى موضع الدباغين، فاستقبلهم أصحاب ابن حنيف فشجرهم طلحة والزبير وأصحابهما
بالرماح، فحمل عليهم حكيم بن جبلة، فلم يزل هو وأصحابه يقاتلونهم حتى أخرجوهم من
جميع السكك، ورماهم النساء من فوق البيوت بالحجارة، فأخذوا إلى مقبرة بني مازن،
فوقفوا بها ملياً حتى ثابت إليهم خيلهم، ثم أخذوا على مسناة البصرة حتى انتهوا
إلى الرابوقة ثم أتوا سبخة دار الرزق، فنزلوها. مهلاً! إذا كان هذا رأيك فلم قبلت من علي ما عرض عليك
من البيعة، فبايعته طائعاً راضياً، ثم نكثت بيعتك، ثم جئت لتدخلنا في فتنتك!
فقال: إن علياً دعاني إلى بيعته بعد ما بايع الناس، فعلمت لو لم أقبل ما عرضه
علي لم يتم لي، ثم يغري بي من معه. للهم إني قد أعذرت إلى هذين الرجلين!
ثم
حمل عليهم، واقتتل الناس قتالاً شديداً، ثم تحاجزوا
واصطلحوا على أن يكتب بينهم كتاب صلح فكتب: هذا ما اصطلح عليه عثمان بن
حنيف الأنصاري ومن معه من المؤمنين من شيعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وطلحة
والزبير ومن معهما من المؤمنين والمسلمين من شيعتهما، أن لعثمان بن حنيف دار
الإمارة والرحبة والمسجد وبيت المال والمنبر، وأن لطلحة والزبير ومن معهما أن
ينزلوا حيث شاؤوا من البصرة، ولا يضار بعضهم بعضاً في طريق ولا فرضة ولا سوق ولا
شرعة ولا مرفق، حتى يقدم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب
فإن أحبوا دخلوا فيما دخلت فيه أمة، وإن أحبوا لحق كل قوم بهواهم وما أحبوا من
قتال أو سلم أو خروج أو إقامة، وعلى الفريقين بما كتبوا عهد الله وميثاقه، وأشد
ما أخذه على نبي من أنبيائه من عهد وختم الكتاب،
ورجع عثمان بن حنيف حتى دخل دار الإمارة وقال لأصحابه: ألحقوا رحمكم الله بأهلكم، وضعوا سلاحكم، وداووا جرحاكم.
فمكثوا كذلك أياماً. فلما استوسق لطلحة والزبير أمرهما خرجا في ليلة مظلمة ذات ريح ومطر
ومعهما أصحابهما قد ألبسوهم الدروع، وظاهروا فوقها بالثياب، فانتهوا إلى المسجد وقت صلاة الفجر، وقد سبقهم عثمان بن حنيف
إليه، وأقيمت الصلاة، فتقدم عثمان ليصلي بهم، فأخره أصحاب طلحة والزبير،
وقدموا الزبير فجاءت السبابجة- وهم الشرط حرس بيت المال- فأخرجوا الزبير، وقدموا
عثمان، فغلبهم أصحاب الزبير، فقدموا الزبير وأخروا عثمان، فلم يزالوا كذلك حتى
كادت الشمس تطلع، وصاح بهم أهل المسجد: ألا تتقون أصحاب محمد وقد طلعت الشمس! فغلب
الزبير فصلى بالناس، فلما انصرف من صلاته، صاح بأصحابه المستسلحين: أن خذوا عثمان بن حنيف، فأخذوه بعد أن تضارب هو ومروان بن الحكم بسيفيهما، فلما أسر ضرب ضرب الموت، ونتف حاجباه وأشفار عينيه، وكل شعرة في رأسه
ووجهه، وأخذوا السبابجة وهم سبعون رجلاً فانطلقوا بهم وبعثمان بن حنيف إلى
عائشة، فقالت لأبان بن عثمان: أخرج إليه فاضرب
عنقه، فإن الأنصار قتلت أباك، وأعانت على قتله. فنادى عثمان: يا عائشة، ويا
طلحة، ويا زبير إن أخي سهل بن حنيف خليفة علي بن أبي طالب على المدينة وأقسم
بالله إن قتلتموني ليضعن السيف في بني أبيكم وأهليكم ورهطكم فلا يبقي أحداً
منكم. فكفوا عنه وخافوا أن يقع سهل بن حنيف بعيالاتهم وأهلهم بالمدينة، فتركوه. قال:
فذبحهم والله الزبير كما يذبح الغنم، ولي ذلك منهم عبد
الله ابنه، وهم سبعون رجلاً، وبقيت منهم طائفة مستمسكين ببيت المال!.
قالوا: لا ندفعه إليكم حتى يقدم أمير المؤمنين فسار
إليهم الزبير في جيش ليلاً فأوقع بهم وأخذ منهم خمسين أسيراً فقتلهم صبراً. قال: وخيروا عثمان بن حنيف بين أن يقيم أو
يلحق بعلي، فاختار الرحيل فخلوا سبيله، فلحق بعلي رضي الله عنه، فلما رآه بكى وقال له:
فارقتك شيخاً وجئتك أمرد، فقال علي: إنا لله وإنا إليه راجعون! قالها ثلاثاً.
قال: فلما بلغ حكيم بن جبلة ما صنع القوم بعثمان بن حنيف، خرج في ثلاثمائة من عبد القيس مخالفاً
لهم ومنابذاً فخرجوا إليه، وحملوا عائشة على جمل فسمي
ذلك اليوم يوم الجمل الأصغر، ويوم علي يوم الجمل الأكبر. قال: وقتل مع حكيم إخوة له ثلاثة، وقتل أصحابه كلهم، وهم ثلاثمائة من
عبد القيس، والقليل منهم من بكر بن وائل، فلما صفت البصرة لطلحة والزبير بعد قتل
حكيم وأصحابه وطرد ابن حنيف عنهما اختلفا في الصلاة، وأراد كل منهما أن يؤم بالناس، وخاف أن
تكون صلاته خلف صاحبه تسليماً له ورضاً بتقدمه فأصلحت
بينهما عائشة، بأن جعلت عبد الله بن الزبير ومحمد بن طلحة يصليان بالناس،
هذا يوماً وهذا يوماً. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
منافرة بين ولدي علي عليه السلام وطلحة
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
كان القاسم بن محمد بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله
التيمي- يلقب أبا بعرة، ولي شرطة الكوفة لعيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد
الله بن العباس- كلم إسماعيل بن جعفر بن محمد
الصادق رضي الله عنه بكلام خرجا فيه إلى المنافرة ، فقال القاسم بن محمد:
لم يزل فضلنا وإحساننا سابغاً عليكم يا بني هاشم وعلى بني عبد مناف كافة، فقال إسماعيل: أي فضل وإحسان أسديتموه إلى بني عبد
مناف؟ أغضب أبوك جدي بقوله: ليموتن محمد ولنجولن بين خلاخيل نسائه كما جال بين
خلاخيل نسائنا. فأنزل الله
تعالى مراغمة لأبيك: "وما كان لكم أن تؤذوا
رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبداً" ومنع ابن عمك أمي
حقها من فدك وغيرها من ميراث أبيها وأجلب أبوك على عثمان وحصره حتى قتل، ونكث
بيعة علي وشام السيف في وجهه، وأفسد قلوب المسلمين عليه، فإن كان لبني عبد مناف
قوم غير هؤلاء أسديتم إليهم إحساناً فعرفني من هم جعلت فداك! |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
منافرة بين ابن الزبير وابن عباس
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وتزوج عبد الله بن الزبير أم عمرو ابنة منظور بن زبان الفزارية، فلما دخل بها قال لها تلك الليلة: أتدرين من معك في حجلتك ؟ قالت: نعم، عبد الله بن الزبير بن العوام بن
خويلد بن أسد بن عبد العزى. قالت: أما والله
لو أن بعض بني عبد مناف حضرك لقال لك خلاف قولك. فغضب، وقال: الطعام والشراب
علي حرام حتى أحضرك الهاشميين وغيرهم من بني عبد مناف، فلا يستطيعون لذلك
إنكاراً. قالت: إن أطعتني لم تفعل، وأنت أعلم وشأنك. قال: وكيف ذلك؟ قال: لأنك لم تذكر فخراً إلا
برسول اللة صلى الله عليه وسلم، وأنا أولى بالفخر له منك. قال ابن الزبير: لو شئت لفخرت عليك بما كان قبل النبوة، قال ابن عباس: قد انصف القارة من راماها نشدتكم
الله أيها الحاضرون! أعبد المطلب أشرف أم خويلد في قريش؟ قالوا: عبد المطلب،
قال: أفهاشم كان أشرف فيها أم أسد؟ قالوا: بل هاشم، قال: أفعبد مناف أشرف أم عبد
العزى؟ قالوا: عبد مناف، فقال ابن عباس:
قضى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفضل في قوله: "ما
افترقت فرقتان إلا كنت في خيرهما"، فقد فارقناك من بعد قصي بن كلاب،
أفنحن في فرقة الخير أم لا؟ إن قلت: نعم
خصمت، وإن قلت: لا كفرت! فضحك بعض القوم، فقال ابن الزبير: أما والله لولا تحرمك بطعامنا يا
بن عباس لأعرقت جبينك قبل أن تقوم من مجلسك، قال
أبن عباس: ولم؟ أبباطل فالباطل لا يغلب الحق، أم بحق؟ فالحق لا يخشى من
الباطل! فقالت المرأة من وراء الستر: إني والله لقد
نهيته عن هذا المجلس، فأبى إلا ما ترون. فقال ابن عباس:
مه أيتها المرأة! اقنعي ببعلك، فما أعظم الخطر، وما أكرم الخبر! فأخذ القوم بيد ابن عباس-وكان قد عمي- فقالوا: انهض
أيها الرجل فقد أفحمته غير مرة، فنهض وقال:
فقال ابن الزبير: يا صاحب القطا، أقبل علي، فما كنت لتدعني حتى أقول، وايم
الله لقد عرف الأقوام أفي سابق غير مسبوق، وابن حواري وصديق، متبجح في الشرف
الأنيق، خير من طليق. وأما
ما ذكرت من الطليق، فوالله لقد ابتلي فصبر، وأنعم عليه فشكر وإن كان والله
لوفياً كريماً غير ناقض بيعةً بعد توكيدها، ولا مسلم كتيبةً بعد التآمر عليها. قال ابن عباس:
والله إني لا أعلم إلا أنه فر وما كر، وحارب فما صبر، وبايع فما تمم، وقطع
الرحم، وأنكر الفضل، ورام ما ليس له بأهل.
فقال
ابن الزبير: لم يبق يا بني هاشم غير المشاتمة
والمضاربة. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن خطبة له في الرسول ومن أجدر بالخلافة بعده
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: أمين وحيه،
وخاتم رسله، وبشير رحمته، ونذير نقمته. أولها: أن أحق الناس بالإمامة أقواهم عليها، وأعلمهم
بحكم الله فيها، وهذا لا ينافي مذهب أصحابنا البغداديين
في صحة إمامة المفضول، لأنه ما قال:
إن إمامة غير الأقوى فاسدة، ولكنه قال: إن الأقوى أحق وأصحابنا لا ينكرون أنه رضي الله عنه أحق
ممن تقدمه بالإمامة مع قولهم بصحة إمامة
المتقدمين لأنه لا منافاة بين كونه أحق، وبين صحة إمامة
غيره. ورابعها: أنه يقاتل
أحد رجلين: إما رجلاً ادعى ما ليس له نحو أن يخرج على الإمام من يدعي الخلافة
لنفسه، وإما رجلاً منع ما عليه، نحو أن يخرج على الإمام رجل لا يدعي الخلافة
ولكنه يمتنع من الطاعة فقط. الأصل: أوصيكم- عباد
الله- بتقوى الله فإنها خير ما تواصى العباد به وخير عواقب الأمور عند الله وقد
فتح باب الحرب بينكم وبين أهل القبلة، ولا يحمل هذا العلم إلا أهل البصر والصبر
والعلم بمواقع الحق، فامضوا لما تؤمرون به، وقفوا عند ما تنهون عنه، ولا تعجلوا
في أمر حتى تتبينوا، فإن لنا مع كل أمر تنكرونه غيراً. ونهاهم عن أن يعجلوا بالحكم على أمر ملتبس حتى
يتبين ويتضح. ثم ذكر أنه لا يضر المكلف فوات قسط من الدنيا إذا
حفظ قائمة دينه، يعني القيابم بالواجبات والانتهاء عن المحظورات، ولا ينفعه حصول
الدنيا كلها بعد تضييعه دينه، لأن ابتياع لذة متناهية بلذة غير متناهية يخرج
اللذة المتناهية من باب كونها نفعاً، ويدخلها في باب المضار، فكيف إذا انضاف إلى عدم اللذة غير المتناهية حصول مضار
وعقوبات غير متناهية، أعاذنا الله منها. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الفهرس الجزء التاسع باب المختار
من الخطب والأوامر - ابن ابي الحديد. 4 بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الواحد
العدل. 4 بين
عثمان وابن عباس بحضور علي... 10 أسباب
المنافسة بين علي رضي الله عنه وعثمان. 13 ومن
كلام له عنه في أمر البيعة. 16 ومن
خطبة له يومىء فيها الى ذكر الملاحم. 19 ومن
كلام له في النهي عن غيبة الناس.. 28 في
ذم الغيبة والاستماع الى المغتابين.. 28 الغيبة
وحكمها في الشرع الاسلامي. 31 الأسباب
الباعثة على الغيبة. 32 ومن
كلام له في النهي عن سوءالظن. 34 ومن
كلام له عنه في وضع المعروف في غير أهله. 34 الثواب
والعقاب عند أهل الكتاب.. 36 أهل
يتوجب أن يكون الأئمة من قريش؟ 39 ومن
خطبة له عنه في شؤون الدنيا والناس.. 41 ومن
كلام له وقد استشاره عمر في الشخوص لقتال الفرس بنفسه. 42 ومن
خطبة له رضي الله عنه في الغاية من بعثة الرسول. 46 ومن
كلام له رضي الله عنه في ذكر أهل البصرة 48 ومن
كلام له رضي الله عنه قبل موته. 50 ومن
خطبة له رضي الله عنه ويومىء فيها إلى الملاحم. 55 ومن
خطبة له رضي الله عنه في التحذير من الفتن.. 59 ومن
خطبة له رضي الله عنه في صفات الله وأئمة الدين. 63 هل
الإمام إذا عمي استحق الخلع، 66 ومن
خطبة له رضي الله عنه في تحذير الناس من الغفلة. 67 ومن
خطبة له في فضائل أهل البيت.. 70 في
فضائل الامام علي رضي الله عنه، 71 ومن
خطبة له يذكر فيها بديع خلقة الخفاش.. 76 أخبار
غرائب الطيور وصفاتها، 78 ومن
كلام له خاطب به أهل البصرة على جهة اقتصاص الملاحم. 80 وقام
إليه رجل فقال أخبرنا عن الفتنة وهل سألت عنها رسول الله ص فقال عليه السلام. 86 ومن
خطبة له في فضل الرسول والقرآن. 91 ومن
خطبة له في وصف حاله مع أصحابه. 92 ومن
خطبة له في عظمة الله تعالى.. 93 ومن
خطبة له في أسرة الرسول وشرفه. 99 قال
لبعض أصحابه وقد سأله: كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام وأنتم أحق به. 100 ومن
خطبة له في ذكر الخالق عز وجل. 105 ومن
كلام له لعثمان بن عفان. 109 يذكر
فيها عجيب خلقة الطاوس.. 111 ومن
خطبة له في الحث على التآلف.. 117 ومن
خطبة له في أول خلافته. 119 ومن
كلام له بعد ما بويع له بالخلافة. 120 موقف
الإمام علي من قتلة عثمان. 121 عند
مسير أصحاب الجمل إلى البصرة 122 ومن
كلام له كلم به بعض العرب.. 123 لما
عزم علي لقاء القوم بصفين.. 124 ومن
خطبة له في من رماه بالحرص.. 124 خروج
عائشة ومسيرها إلى القتال. 127 منافرة
بين ولدي علي عليه السلام وطلحة. 133 |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الجزء
التاسع باب المختار من الخطب والأوامر - ابن ابي الحديد
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ذكر ما شجر بين علي وعثمان
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
واعلم أن هذا الكتاب يستدعي منا أن
نذكر أطرافاً مما شجر بين أمير المؤمنين عليه السلام وعثمان أيام خلافته؟ إذ كان
هذا الكلام الذي شرحناه من ذلك النمط، والشيء يذكر بنظيره، وعادتنا في هذا الشرح
أن نذكر الشيء مع ما يناسبه ويقتضي ذكره. قال أحمد بن عبد العزيز الجوهري في كتاب أخبار السقيفة حدثني
محمد بن منصور الرمادي، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن زياد بن جبل، عن أبي كعب
الحارثي وهو ذو الإداوة ، قال أبو بكر أحمد بن عبد العزيز: وإنما سمي ذا الإداوة لأنه قال: إني خرجت في طلب
إبل ضوال، فتزودت لبناً في إداوة، ثم قلت في نفسي:
ما أنصفت ربي! فأين الوضوء؟ فأرقت اللبن وملأتها ماء، فقلت:
هذا وضوء وشراب، وطفقت أبغي إبلي، فلما أردت الوضوء اصطببت من الإداوة ماء
فتوضأت، ثم أردت الشرب، فلما اصطببتها إذا لبن فشربت، فمكثت بذلك ثلاثاً؟ فقالت له أسماء النحرانية: يا أبا كعب، أحقينا كان
أم حليباً: قال: إنك لبطالة! كان يعصم من
الجوع ويروي من الظمأ، أما إني حدثت بهذا نفراً من قومي، منهم علي بن الحارث سيد
بني قنان، فلم يصدقني، وقال: ما أظن الذي
تقول كما قلت! فقلت:
الله أعلم بذلك. ورجعت الى منزلي، فبت ليلتي تلك، فإذا به صلاة الصبح على بابي، فخرجت اليه، فقلت: رحمك الله! لم تعنيت؟ الا أرسلت
الي فآتيك، فإني لأحق بذلك منك قال: ما نمت الليلة الا أتاني آت فقال: أنت الذي
تكذب من يحدث بما أنعم الله عليه قال أبو كعب: ثم خرجت حتى أتيت المدينة، فأتيت عثمان بن عفان وهو الخليفة يومئذ فسالته عن شيء من أمر
ديني، وقلت: يا أمير المؤمنين، إني رجل من أهل اليمن من بني الحارث بن
كعب، وإني أريد أن أسالك فأمر حاجبك الا يحجبني، فقال:
يا وثاب، إذا جاءك هذا الحارثي فأذن له. قال: فكنت إذا
جئت، فقرعت الباب، قال: من ذا؟ فقلت:
الحارثي. فيقول:
ادخل، فدخلت يوماً فإذا عثمان جالس، وحوله نفر سكوت لا يتكلمون، كأن على رؤوسهم
الطير، فسلمت ثم جلست، فلم أساله عن شيء لما رأيت من حالهم وحاله، فبينا أنا
كذلك إذ جاء نفر، فقالوا: إنه أبى أن يجيء. قال: فغضب
وقال: أي أن يجيء! إذهبوا فجيئوا به، فإن أبى فجروه جراً. فتبعته حتى دخل المسجد، فإذا
عمار جالس الى سارية، وحوله نفر من أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم يبكون، فقال عثمان:
يا وثاب علي بالشرط ، فجاؤوا، فقال: فرقوا
بين هؤلاء، ففرقوا بينهم. قال: ثم خرجت من المدينة حتى انتهيت الى الكوفة، فوجدت أهلها
أيضاً وقع بينهم شر، ونشبوا في الفتنة، وردوا سعيد بن العاص فلم يدعوه يدخل
اليهم. فلما رأيت ذلك رجعت حتى أتيت بلاد قومي. وروى الزبير بن بكار في كتاب الموفقيات عن عمه، عن عيسى بن داود،
عن رجاله، قال:
قال ابن عباس رحمه الله: لما بنى عثمان داره
بالمدينة، أكثر الناس عليه في ذلك فبلغه، فخطبنا في يوم جمعة، ثم صلى بنا، ثم
عاد الى المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على رسوله، ثم قال: أما بعد؟ فإن النعمة إذا حدثت حدث لها حساد حسبها،
وأعداء قدرها؟ وإن الله لم يحدث لنا نعماً ليحدث لها حساد عليها، ومنافسون فيها،
ولكنه قد كان من بناء منزلنا هذا ما كان إرادة جمع المال فيه، وضم القاصية اليه،
فأتانا عن أناس منكم أنهم يقولون: أخذ فيئنا، وأنفق شيئنا، واستأثر بأموالنا،
يمشون خمرا ، وينطقون سرا، كأنا غيب عنهم، وكأنهم يهابون مواجهتنا؟ معرفة منهم
بدحوض حجتهم؟ فإذ غابوا عنا يروح بعضهم الى بعض يذكرنا. وقد
وجدوا على ذلك أعواناً من نظرائهم، ومؤازرين من شبابهم، فبعداً بعداً ورغماً
رغماً. ثم أنشد بيتين كأنه يومىءفيهما الى علي رضي الله عنه:
مالي
ولفيئكم وأخذ مالكم. الست من أكثر قريش مالاً، وأظهرهم من الله نعمة. الم
أكن على ذلك قبل الإسلام وبعده. وهبوني
بنيت منزلاً من بيت المال، اليس هو لي ولكم. الم أقم أموركم، وإني من وراء حاجاتكم!
فما
تفقدون من حقوقكم شيئاً، فلم لا أصنع في الفضل ما أحببت؟ فلم كنت إماماً إذاً. الا
وإن من أعجب العجب، أنه بلغني عنكم أنكم تقولون: لنفعلن به ولنفعلن. فبمن تفعلون، لله آباؤكم. أبنقد البقاع، أم بفقع القاع! الست أحراكم إن
دعا أن يجاب؟ وأقمنكم إن أمر أن يطاع. لهفي على بقائي فيكم بعد أصحابي، وحياتي
فيكم بعد أترابي! يا ليتني تقدمت قبل هذا، لكني لا أحب خلاف ما أحبه الله لي عز
وجل؟ إذا شئتم فإن
الصادق المصدق محمداً صلى الله عليه وسلم قد حدثني بما هو كائن من أمري وأمركم، وهذا
بدء ذلك وأوله، فكيف الهرب مما حتم وقدر أما إنه صلى الله عليه وسلم قد بشرني في آخر حديثه
بالجنة دونكم، إذا
شئتم فلا أفلح من ندم! قال:
ثم هم بالنزول فبصر بعلي بن أبي طالب رضي الله عنه ومعه عمار بن ياسر رضي الله عنه، وناس من أهل هواه يتناجون
فقال: إيهاً إيهاً!
أسراراً لا جهاراً أما والذي نفسي بيده ما أحنق على جرة، ولا أوتى من ضعف مرة،
ولولا النظر لي ولكم والرفق بي وبكم، لعاجلتكم، فقد اغتررتم، وأقلتم من أنفسكم،
ثم رفع يديه يدعو ويقول: اللهم قد تعلم حبي للعافية فالبسنيها، وإيثاري للسلامة
فآتنيها.
قال: ونزل عثمان فأتى منزله، وأتاه الناس وفيهم ابن عباس، فلما أخذوا
مجالسهم، أقبل على ابن عباس، فقال: مالي ولكم يابن عباس! ما أغراكم بي، وأولعكم بتعقب أمري!
أتنقمون علي أمر العامة، أتيت من وراء حقوقهم، أم أمركم؟ فقد جعلتهم يتمنون
منزلتكم! لا والله لكن الحسد والبغي وتثوير الشر وإحياء الفتن! والله لقد القى
النبي صلى الله عليه وسلم الي
ذلك، وأخبرني به عن أهله واحداً واحداً، والله ما كذبت ولا أنا بمكذوب. فقال ابن عباس:
على رسلك يا أمير المؤمنين، فوالله ما عهدتك جهراً بسرك، ولا مظهراً ما في نفسك،
فما الذي هيجك وثورك! إنا لم يولعنا بك أمر، ولم نتعقب أمرك بشيء، اتيت بالكذب، وتسوق عليك بالباطل. والله ما نقمنا عليك
لنا ولا للعامة، قد أوتيت من وراء حقوقنا وحقوقهم، وقضيت ما يلزمك لنا ولهم، فأما الحسد والبغي وتثوير الفتن، وإحياء الشر فمتى رضيت به
عترة النبي وأهل بيته! وكيف وهم منه واليه! على دين الله يثورون الشر، أم
على الله يحيون الفتن، كلا ليس البغي ولا الحسد من
طباعهم. فاتئد يا أمير المؤمنين وأبصر أمرك، وأمسك عليك؟ فإن حالتك الأولى خيرمن حالتك الأخرى! لعمري أن كنت لأثيراً عند رسول الله، وأن كان ليفضي
اليك بسره ما يطويه عن غيرك، ولا كذبت ولا أنت بمكذوب؟ اخسأ
الشيطان عنك ولا يركبك، واغلب غضبك ولا يغلبك، فما دعاك الى هذا الأمر
الذي كان منك! قال: دعاني اليه ابن عمك علي
بن أبي طالب، فقال ابن عباس: وعسى أن يكذب
مبلغك! قال عثمان: إنه ثقة، قال ابن عباس: إنه ليس بثقة من بلغ وأغرى. قال عثمان:
يا بن عباس، الله إنك ما تعلم من علي ما شكوت منه؟ قال:
اللهم لا، الا أن يقول كما يقول الناس، وينقم كما ينقمون؟ فمن أغراك به وأولعك
بذكره دونهم! فقال عثمان: إنما آفتي من أعظم الداء الذي ينصب نفسه لرأس الأمر، وهو علي ابن عمك،
وهذا والله كله من نكده وشؤمه. قال ابن عباس:
مهلاً، استثن يا أمير المؤمنين، قل:
إن شاء الله، فقال: إن شاء الله. ثم قال: إني أنشدك يا بن عباس الإسلام
والرحم فقد والله غلبت وابتليت بكم، والله لوددت أن هذا الأمر كان صار اليكم
دوني فحملتموه عني، وكنت أحد أعوانكم عليه، إذا والله لوجدتموني لكم خيراً مما
وجدتكم لي، ولقد علمت أن الأمر لكم،
ولكن قومكم دفعوكم عنه واختزلوه دونكم، فوالله
ما أدري أدفعوه عنكم أم دفعوكم عنه! قال ابن عباس: مهلاً يا
أمير المؤمنين، فإنا ننشدك الله والإسلام والرحم، مثل ما نشدتنا، أن تطمع فينا وفيك عدواً، وتشمت بنا
وبك حسوداً! إن أمرك اليك ما كان قولاً، فإذا صار فعلاً فليس اليك ولا في يديك. وإنا والله لنخالفن إن خولفنا، ولننازعن ان نوزعنا،
وما تمنيك أن يكون الأمر صار الينا دونك الا أن يقول قائل منا ما يقوله الناس،
ويعيب كما عابوا! فأما صرف قومنا عنا الأمر
فعن حسد قد والله عرفته، وبغي قد والله علمته، فالله
بيننا وبين قومنا! وأما قولك:
إنك لا تدري أدفعوه عنا أم دفعونا عنه! فلعمري إنك لتعرف
أنه لو صار الينا هذا الأمر ما زدنا به فضلاً الى فضلنا، ولا قدراً الى قدرنا،
وإنا لأهل الفضل وأهل القدر، وما فضل فاضل الا بفضلنا، ولا سبق سابق الا بسبقنا،
ولولا هدينا ما اهتدى أحد، ولا أبصروا من عمى، ولا
قصدوا من جور. وروى الزبير بن بكار أيضاً في
الموفقيات، عن ابن عباس رحمه الله، قال:
خرجت من منزلي سحراً أسابق الى المسجد، وأطلب الفضيلة، فسمعت خلفي حساً وكلاماً،
فتسمعته فإذا حس عثمان وهو يدعو ولا يرى أن أحداً يسمعه، ويقول: اللهم قد تعلم نيتي فأعني عليهم، وتعلم
الذين ابتليت بهم من ذوي رحمي وقرابتي، فأصلحني لهم، وأصلحهم لي. قال: فقصرت
من خطوتي وأسرع في مشيته، فالتقينا فسلم، فرددت
عليه، فقال: إني خرجت ليلتنا هذه أطلب الفضل والمسابقة الى المسجد، فقلت: إنه أخرجني ما أخرجك، فقال: والله لئن سابقت الى الخير، إنك لمن سابقين
مباركين، وإني؟لأ حبكم وأتقرب الى الله بحبكم، فقلت:
يرحمك الله يا أمير المؤمنين! إنا لنحبك ونعرف سابقتك وسنك وقرابتك وصهرك. قال: يا بن عباس، فما لي ولابن عمك
وابن خالي! قلت: أي بني عمومتي وبني أخوالك؟ قال: اللهم اغفر! أتسال مسالة الجاهل! قلت: إن بني عمومتي من بني خؤولتك كثير، فأيهم
تعني؟ قال: أعني علياً لا غيره، فقلت: لا والله يا أمير المؤمنين، ما أعلم منه الا
خيراً، ولا أعرف له الا حسنأ. قال: والله بالحرى
أن يستردونك ما يظهره لغيرك، ويقبض عنك ما ينبسط به الى سواك. فقال عمار: والله ما أعتذر من حبي علياً، وما اليد بمنبسطة، ولا السبيل بسهلة؟
إني لازم حجة، ومقيم على سنة، وأما إيثارك العافية ولم الشعث، فلازم ذلك. وأما زجري
فأمسك عنه، فقد كفاك معلمي تعليمي فقال عثمان:
أما والله إنك ما علمت من أعوان الشر الحاضين عليه، الخذلة عند الخير، والمثبطين
عنه. فقال عمار:
مهلاً يا عثمان، فقد سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يصفني
بغيرذلك، قال عثمان: ومتى؟ قال: يوم دخلت عليه منصرفه عن الجمعة، وليس عنده
غيرك، وقد القى ثيابه، وقعد في فضله ، فقبلت صدره ونحره وجبهته، فقال: "ياعمار، إنك لتحبنا وانا لنحبك، وإنك
لمن الأعوان على الخير المثبطين عن الشر"، فقال
عثمان: أجل ولكنك غيرت وبدلت، قال: فرفع
عمار يده يدعو، وقال: أمن يا بن عباس، اللهم
من غيرفغيربه! ثلاث مرات قال: ودخلنا المسجد، فأهوى عمار الى مصلاه،
ومضيت مع عثمان الى القبلة، فدخل المحراب، وقال:
تلبث علي إذا انصرفنا، فلما رآني عمار وحدي أتاني، فقال:
أما رأيت ما بلغ بي آنفاً؟ قلت: أما والله
لقد أصعبت به واصعب بك، وإن له لسنه وفضله وقرابته، قال:
إن له لذلك، ولكن لا حق لمن لا حق عليه. وانصرف. فقال: إن علياً فارقني منذ أيام على المقاربة، وإن
عماراً آتيه فقائل له وقائل، فابدره اليه، فإنك أوثق عنده منه وأصدق قولاً، فالق
الأمر اليه على وجهه، فقلت: نعم. قلت: بلى؟ ولكني
خرجت مع أمير المؤمنين، ثم اقتصصت عليه القصة، فقال:
أما والله يا بن عباس، إنه ليقرف فرحة، ليحورن عليه المها. فقلت: إن له سنه وسابقته، وقرابته
وصهره، قال: إن ذلك له؟ ولكن لا حق لمن لا حق عليه. قال: ثم رهقنا عمار، فبش به علي، وتبسم في وجهه،
وساله، فقال عمار: يا بن عباس، هل القيت
اليه ما كنا فيه؟ قلت: نعم، قال: أما والله إذاً لقد قلت بلسان عثمان، ونطقت
بهواه! قلت: ما عدوت الحق جهدي؟ ولا ذلك من
فعلي؟ وإنك لتعلم أي الحظين أحب الي، وأي الحقين أوجب علي! قال: فظن علي أن عند عمار غيرما القيت اليه، فأخذ
بيده وترك يدي، فعلمت أنه يكره مكاني، فتخلفت عنهما، وانشعب بنا الطريق، فسلكاه
ولم يدعني، فانطلقت الى منزلي، فإذا رسول عثمان يدعوني، فأتيته، فأجد ببابه
مروان وسعيد بن العاص، في رجال من بني أمية، فأذن لي والطفني، وقربني وأدنى
مجلسي، ثم قال: ما صنعت؟ فأخبرته بالخبرعلى
وجهه وما قال الرجل، وقلت له وكتمته قوله:
إنه ليقرف قرحة ليحورن عليه المها إبقاء عليه، وإجلالاً له؟ وذكرت مجيء عمار،
وبش علي له، وظن علي أن قبله غيرما القيت عليه، وسلوكهما حيث سلكا. قال: وفعلا؟ قلت:
نعم. فاستقبل القبلة، ثم قال: اللهم رب
السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، الرحمن الرحيم أصلح لي علياً، وأصلحني له!
أمن يا بن عباس، فأمنت. ثم تحدثنا طويلاً، وفارقته
وأتيت منزلي. فحمد عثمان الله وأثنى عليه، ثم قال:
أما بعد يا خال، فإني قد جئتك أستعذرك من ابن أخيك علي، سبني، وشهر أمري، وقطع
رحمي، وطعن في ديني؟ وإني أعوذ بالله منكم يا بني عبد المطلب! إن كان لكم حق
تزعمون أنكم غلبتم عليه، فقد تركتموه في يدي من فعل ذلك بكم، وأنا أقرب اليكم
رحماً منه! وما لمت منكم أحداً الا علياً، ولقد دعيت أن أبسط عليه، فتركته لله
والرحم، وأنا أخاف الا يتركني فلا أتركه. قال عثمان:
فذلك اليك يا خال، وأنت بيني وبينهم. قال: أفأذكر لهم ذلك عنك؟ قال: نعم، وانصرف، فما
لبثنا أن قيل: هذا أمير المؤمنين قد رجع بالباب، قال
أبي: ائذنوا له، فدخل فقام قائماً، ولم يجلس، وقال:
لا تعجل يا خال حتى أوذنك، فنظرنا فإذا مروان بن الحكم كان جالساً بالباب ينتظره
حتى خرج، فهو الذي ثناه عن رأيه الأول، فأقبل علي أبي، وقال:
يا بني، ما الى هذا من أمره شيء، ثم قال: يا بني،
املك عليك لسانك حتى ترى ما لا بد منه؟ ثم رفع يديه، فقال: اللهم اسبق بي
ما لا خيرلي في إدراكه. فما مرت جمعة حتى مات رحمه الله. وروى الواقدي في كتاب الشورى عن ابن
عباس رحمه الله، قال: "شهدت عتاب عثمان لعلي رضي الله عنه يوماً، فقال له في بعض ما قاله: نشدتك الله أن تفتح للفرقة
باباً! فلعهدي لك وأنت تطيع عتيقاً وابن الخطاب طاعتك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولست
بدون واحد منهما، وأنا أمس بك رحماً، وأقرب اليك صهراً، فإن كنت تزعم أن هذا
الأمر جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم لك،
فقد رأيناك حين توفي نازعت ثم أقررت، فإن كانا لم يركبا من الأمر جدداً، فكيف
أذعنت لهما بالبيعة، وبخعت بالطاعة! وإن كانا أحسنا فيما وليا، ولم أقصر عنهما
في ديني وحسبي وقرابتي، فكن لي كما كنت لهما. وأما التسوية بينك وبينهما، فلست كأحدهما، إنهما
وليا هذا الأمر، فظلفا أنفسهما وأهلهما عنه، وعمت فيه وقومك عوم السابح في
اللجة، فارجع الى الله أبا عمرو، وانظر هل بقي من عمرك
الا كظمء الحمار ! فحتى متى والى متى! الا تنهى سفهاء بني أمية عن أعراض
المسلمين وأبشارهم وأموالهم! والله لو ظلم عامل من عمالك حيث تغرب الشمس
لكان إثمه مشتركاً بينه وبينك. فصده مروان بن الحكم
عن ذلك، وقال: يجترىء عليك الناس، فلا تعزل أحداً منهم!
وروى الزبيربن بكار أيضاً في كتابه، عن
رجال أسند بعضهم عن بعض، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: أرسل الي عثمان في الهاجرة ، فتقنعت
بثوبي، وأتيته، فدخلت عليه وهو على سريره، وفي يده قضيب، وبين يديه مال دثر :
صبرتان من ورق وذهب، فقال: دونك خذ من هذا
حتى تملأ بطنك فقد أحرقتني. فقلت:
وصلتك رحم إن كان هذا المال ورثته، أو أعطاكه معط، أو اكتسبته من تجارة، كنت أحد
رجلين، إما آخذ وأشكر، أو أوفر وأجهد، وإن كان من مال الله وفيه حق المسلمين
واليتيم وابن السبيل، فوالله ما لك أن تعطينيه ولا لي
أن آخذه. فقال: أبيت والله الا ما
أبيت. ثم قام الي بالقضيب فضربني، والله ما أرد يده، حتى
قضى حاجته، فتقنعت بثوبي، ورجعت الى منزلي، وقلت:
الله بيني وبينك إن كنت أمرتك بمعروف أو نهيت عن منكر! وروى
الزبير بن بكار، عن الزهري، قال: لما أتي عمر بجوهر كسرى، وضع في المسجد،
فطلعت عليه الشمس فصار كالجمر، فقال لخازن بيت المال:
ويحك! ارحني من هذا، واقسمه بين المسلمين، فإن نفسي تحدثني أنه سيكون في هذا
بلاء وفتنة بين الناس، فقال: يا أمير المؤمنين،
إن قسمته بين المسلمين لم يسعهم، وليس أحد يشتربه لأن ثمنه عظيم، ولكن ندعه الى
قابل، فعسى الله أن يفتح على المسلمين بمال فيشتريه منهم من يشتربه. قال: ارفعه فأدخله بيت المال. قال الزبير:وحدثنا
محمد بن حرب، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن إسماعيل بن أبي خالد، قال: جاء رجل
الى علي رضي الله عنه يستشفع
به الى عثمان، فقال: حمال الخطايا! لا والله
لا أعود اليه أبداً. فآيسه منه. وروى الزبير عن أبي غسان، عن عمر بن
زياد، عن الأسود بن قيس، عن عبيد بن حارثة، قال: سمعت
عثمان وهو يخطب، فأكب الناس حوله، فقال: اجلسوا يا
أعداء الله! فصاح به طلحة: إنهم ليسوا بأعداء الله؟ لكنهم عباده؟ وقد قرأوا كتابه. فنزل عثمان، فدخل داره ولم يصل
الجمعة. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
بين عثمان وابن عباس بحضور علي
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وروى الزبير أيضاً في الموفقيات عن ابن عباس رحمه الله، قال: صليت العمر يوماً، ثم خرجت فإذا أنا
بعثمان بن عفان في أيام خلافته في بعض أزقة المدينة وحده، فأتيته إجلالاً
وتوقيراً لمكانه، فقال لي: هل رأيت علياً؟
قلت: خلفته في المسجد، فإن لم يكن الآن فيه فهو في منزله؟ قال: أما منزله فليس
فيه فابغه لنا في المسجد. فتوجهنا الى المسجد، وإذا
علي رضي الله عنه يخرج منه؟ قال ابن عباس:
وقد كنت أمس ذلك اليوم عند علي، فذكر عثمان وتجرمه عليه، وقال: أما والله يا بن عباس، إن من دوائه لقطع
كلامه، وترك لقائه. فقلت له:
يرحمك الله! كيف لك بهذا! فإن تركته ثم أرسل اليك فما أنت صانع؟ قال: أعتل، وأعتل؟ فمن يقسرني! قال: لا أحد. قال ابن
عباس: فلما تراءينا له وهوخارج من المسجد، ظهر منه من التفلت والطلب
للانصراف ما استبان لعثمان، فنظر الي عثمان، وقال:
يا بن عباس، أما ترى ابن خالنا يكره لقاءنا! فقلت: ولم وحقك الزم، وهو
بالفضل أعلم! فلما تقاربا رماه عثمان بالسلام، فرد عليه، فقال عثمان: إن تدخل فإياك أردنا، وإن تمض فإياك
طلبنا. فقال علي:
أي ذلك أحببت؟ قال: تدخل، فدخلا وأخذ عثمان
بيده، فأهوى به الى القبلة، فقصر عنها، وجلس قبالتها، فجلس عثمان الى جانبه،
فنكصت عنهما، فدعواني جميعاً، فأتيتهما، فحمد عثمان الله، وأثنى عليه، وصلى على
رسوله، ثم قال: أما بعد يا بني خالي وابني
عمتي، فإذا جمعتكما في النداء فسأجمعكما في الشكاية، عن رضاي على أحدكما، ووجدي
على الآخر. إني أستعذركما من أنفسكما، وأسالكما فيئتكما،
وأستوهبكما رجعتكما؟ فوالله لو غالبني الناس ما انتصرت الا بكما، ولو تهضموني ما
تعززت الا بعزكما. ولقد
طال هذا الأمر بيننا حتى تخوفت أن يجوز قدره، ويعظم الخطر فيه، ولقد هاجني العدو
عليكما، وأغراني بكما؟ فمنعني الله والرحم مما أراد، وقد خلونا في مسجد رسول
الله صلى الله عليه وسلم والى جانب قبره، وقد أحببت ان تظهرا لي رأيكما في، وما
تنطويان لي عليه وتصدقا، فإن الصدق أنجى وأسلم؟
وأستغفر الله لي ولكما. وأما قولك:
لو غالبتني الناس ما انتصرت الا بكما، أو تهضموني ما تعززت الا بعزكما، فأين بنا
وبك عن ذلك، ونحن وأنت كما قال أخو كنانة:
وأما قولك في هيج العدو وإياك علينا، وإغرائه لك بنا، فوالله ما أتاك العدو من ذلك شيئاً
الا وقد أتانا بأعظم منه، فمنعنا مما أراد ما منعك من مراقبة الله والرحم، وما
أبقيت أنت ونحن الا على أدياننا وأعراضنا ومروءاتنا، ولقد لعمري طال بنا وبك هذا
الأمر حتى تخوفنا منه على أنفسنا، وراقبنا منه ما راقبت. فقال علي رضي الله عنه:
فتصدق قوله صلى الله عليه وسلم بفعلك، وخالف ما أنت الآن عليه، فقد قيل لك ما سمعت، وهوكاف إن قبلت. قال:
فسكت عنه، ثم كان من الأمر بعد ما كان.
فقال عثمان:
والله ما أدري أحياتك أحب الي أم موتك! إن مت هاضني فقدك،وإن حييت فتنتني حياتك،
لا أعدم ما بقيت طاعنا يتخذك دريئة يلجأ اليها. وأما قولك: "إن فقدي يهيضك"، فكلا أن تهاض لفقدي، ما بقي لك الوليد ومروان، فقام عثمان فخرج. وقد
روي أن عثمان هو الذي أنشد هذا البيت، وقد كان اشتكى، فعاده علي رضي الله عنه فقال عثمان:
وروى أبو سعد الآبي في كتابه عن ابن عباس، قال: وقع بين عثمان وعلي رضي الله عنه كلام، فقال
عثمان: ما أصنع، إن كانت قريش لا تحبكم، وقد
قتلتم منهم يوم بدر سبعين، كأن وجوههم شنوف الذهب، تصرع أنفهم قبل
شفاههم! وروى المذكور
أيضاً أن عثمان لما نقم الناس عليه ما نقموا، قام متوكئاً على مروان فخطب
الناس، فقال: إن لكل أمة آفة، ولكل نعمة عاهة، وإن آفة هذه الأمة، وعاهة هذه
النعمة، قوم عيابون طعانون، يظهرون لكم ما تحبون، ويسرون ما تكرهون، طغام مثل
النعام، يتبعون أول ناعق، ولقد نقموا علي ما نقموا على عمر مثله، فقمعهم ووقمهم
وإني لأقرب ناصراً، وأعز نفراً، فما لي لا أفعل في فضول الأموال! ما أشاء! وروى
المذكور أيضاً أن علياً عقنه اشتكى، فعاده عثمان، فقال:
ما أراك أصبحت الا ثقيلاً! قال: أجل، قال: والله ما أدري أموتك أحب الي أم حياتك! إني
لأحب موتك، وأكره أن أعيش بعدك، فلو شئت جعلت لنا من نفسك مخرجاً، إما صديقاً
مسالماً وإما عدواً مغالباً، وإنك لكما قال أخو إياد:
فقال علي رضي الله عنه:
ليس لك عندي ما تخافه، وإن أجبتك لم أجبك الا بما تكرهه.
وروى الزبير خبر العيادة على وجه آخر قال: مرض علي رضي الله عنه، فعاده عثمان ومعه مروان
بن الحكم،
فجعل عثمان يسال علياً عن حاله، وعلي ساكت لا يجيبه،
فقال عثمان: لقد أصبحت يا أبا الحسن مني بمنزلة الولد العاق لأبيه! إن
عاش عقه، وإن مات فجعه، فلو جعلت لنا من أمرك فرجاً، إما عدواً أو صديقاً، ولم
تجعلنا بين السماء والماء! أما والله لأنا خيرلك من فلان وفلان، وإن قتلت لا تجد
مثلي، فقال مروان: أما والله لا يرام ما وراءنا
حتى تتواصل سيوفنا، وتقطع أرحامنا. فالتفت اليه عثمان، وقال: اسكت لا سكت! وما يدخلك فيما بيننا! وروى شيخنا أبو عثمان الجاحظ، عن زيد بن أرقم، قال: سمعت عثمان وهو يقول لعلي رضي الله عنه : أنكرت علي استعمال معاوية، وأنت تعلم أن عمر استعمله! قال
علي رضي الله عنه :
نشدتك الله! الا تعلم أن معاوية كان أطوع لعمر من يرفأ غلامه! إن عمر كان إذا
استعمل عاملاً وطىء على صماخه، وإن القوم ركبوك وغلبوك، واستبدوا بالأمر دونك. فسكت عثمان. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أسباب المنافسة بين علي رضي الله عنه وعثمان.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قلت: حدثني جعفر بن مكي الحاجب رحمه الله، قال: سالت محمد
بن سليمان حاجب الحجاب وقد رأيت أنا محمداً هذا، وكانت
لي به معرفة غيرمستحكمة، وكان ظريفاً أديباً، وقد اشتغل بالرياضيات من
الفلسفة، ولم يكن يتعصب لمذهب بعينه قال جعفر:
سالت عما عنده في أمر علي وعثمان، فقال: هذه عداوة قديمة النسب بين عبد شمس وبين بني هاشم، وقد
كان حرب بن أمية نافر عبد المطلب بن هاشم، وكان أبو سفيان يحسد محمداً وحاربه،
ولم تزل الثنتان متباغضتين وإن جمعتهما المنافية. ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوج علياً بابنته، وزوح عثمان بابنته الأخرى، وكان اختصاص رسول الله صلى الله عليه وسلم لفاطمة
أكثر من اختصاصه للبنت الأخرى، وللثانية التي تزوجها عثمان بعد وفاة الأولى،
واختصاصه أيضاً لعلي وزيادة قربه منه وامتزاجه به واستخلاصه إياه لنفسه، أكثر
وأعظم من اختصاصه لعثمان. فنفس عثمان
ذلك عليه، فتباعد ما بين قلبيهما، وزاد في التباعد ما عساه يكون بين الأختين من
مباغضة أو مشاجرة أو كلام ينقل من إحداهما الى الأخرى، فيتكدر قلبها على أختها،
ويكون ذلك التكدير سبباً لتكدير ما بين البعلين أيضاً، كما نشاهده في عصرنا وفي
غيره من الأعصار، وقد قيل: ما قطع من
الأخوين كالزوجتين. ثم اتفق أن علياً رضي
الله عنه قتل
جماعة كثيرة من بني عبد شمس في حروب رسول الله صلى
الله عليه وسلم، فتأكد الشنآن، وإذا استوحش
الإنسان من صاحبه استوحش صاحبه منه. ثم مات رسول
الله صلى الله عليه وسلم، فصبا الى علي جماعة يسيرة لم يكن عثمان منهم، ولا حضر في دار فاطمة مع من
حضر من المخلفين عن البيعة، وكانت في نفس علي رضي
الله عنه أمور من الخلافة لم يمكنه إظهارها في أيام أبي بكر وعمر، لقوة
عمر وشدته، وانبساط يده ولسانه، فلما قتل عمر وجعل
الأمر شورى بين الستة، وعدل عبد الرحمن بها عن علي الى عثمان، لم يملك علي نفسه، فأظهر ما كان كامناً، وأبدى ما كان
مستوراً، ولم يزل الأمريتزايد بينهما، حتى شرف وتفاقم، ومع
ذلك فلم يكن علي رضي الله عنه لينكرمن أمره الا منكراً،
ولا ينهاه الا كما تقتفي الشريعة نهيه عنه، وكان عثمان
مستضعفاً في نفسه، رخواً قليل الحزم، واهي العقدة ، وسلم
عنانه الى مروان يصرفه كيف شاء، الخلافة له في
المعنى ولعثمان في الاسم. فلما انتقض على عثمان أمره، استصرخ علياً ولاذ به،
والقى زمام أمره اليه، فدافع عنه حيث لا ينفع الدفاع،
وذب عنه حين لا يغني الذب، فقد كان الأمر فسد فساداً لا
يرجى صلاحه. قال جعفر: فقلت له: فما تقول في هذا الاختلاف الواقع في أمر الإمامة من مبدأ الحال، وما
الذي تظنه أصله ومنبعه؟ فقال: لا أعلم لهذا أصلاً الا أمرين: أحدهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهمل أمر الإمامة فلم يصرح فيه بأحد بعينه، وإنما
كان هناك رمز وايماء، وكناية وتعريض، لو أراد
صاحبه أن يحتج به وقت الاختلاف وحال المنازعة لم يقم منه صورة حجة تغني، ولا
دلالة تحسب وتكفي، ولذلك لم يحتج علي رضي الله عنه يوم السقيفة بما ورد فيه، لأنه لم يكن نصاً جلياً يقطع العذر، ويوجب الحجة، وعادة
الملوك إذا تمهد ملكهم، وأرادوا العقد لولد من أولادهم، أو ثقة من ثقاتهم، أن
يصرحوا بذكره، ويخطبوا باسمه على أعناق المنابر، وبين فواصل الخطب، ويكتبوا بذلك
الى الآفاق البعيدة عنهم، والأقطار النائية منهم، ومن كان منهم ذا سرير وحصن
ومدن كثيرة، ضرب اسمه على صفحات الدنانير والدراهم مع اسم ذلك الملك، بحيث تزول الشبهة في أمره، ويسقط الارتياب بحاله، فليس
أمر الخلافة بهين ولا صغيرليترك حتى يصير في مظنة الاشتباه واللبس، ولعله كان لرسول الله صلى
الله عليه وسلم في ذلك عذر لا نعلمه نحن، إما خشية من
فساد الأمر، أو إرجاف المنافقين، وقولهم:
إنها ليس بنبوة وإنما هي ملك أوصى به. من بعده
لذريته وسلالته، ولما لم يكن أحد من تلك الذرية في تلك الحال صالحاً للقيام
بالأمر لصغر السن، جعله لأبيهم، ليكون في الحقيقة لزوجته التي هي ابنته ولأولاده
منها من بعده. وأما ما تقوله المعتزلة وغيرهم من أهل العدل: إن الله تعالى علم أن المكلفين يكونون على ترك الأمر
مهملاً غيرمعين أقرب الى فعل الواجب وتجنب القبيح. قال:
ولعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لم
يكن يعلم في مرضه أنه يموت في ذلك المرض، وكان يرجو البقاء فيمهد للإمامة قاعدة
واضحة. ومما يدل على ذلك أنه لما نوزع في إحضار الدواة
والكتف ليكتب لهم ما لا يضلون بعده، غضب وقال: اخرجوا عني، لم يجمعهم بعد الغضب ثانية ويعرفهم رشدهم، ويهديهم الى
مصالحهم، بل أرجأ الأمر إرجاء من يرتقب الإفاقة، وينتظر
العافية. قال: فبتلك
الأقوال المحجمة، والكنايات المحتملة، والرموز المشتبهة، مثل حديث خصف النعل،
ومنزلة هارون من موسى، ومن كنت مولاه، وهذا يعسوب الدين، ولا فتى الا علي، وأحب
خلقك اليك... وما جرى هذا المجرى، مما لا يفصل الأمر،
ويقطع العذر ويسكت الخصم، ويفحم المنازع، وثبت الأنصار فادعتها، ووثب بنو
هاشم فادعوها، وقال أبو بكر: بايعوا عمر أو
أبا عبيدة، وقال العباس لعلي: امدد يدك
لأبايعك، وقال قوم ممن رعف به الدهر فيما بعد؟ ولم يكن موجوداً حينئذ: إن الأمر
كان للعباس لأنه العم الوارث، وإن أبا بكر وعمر غصباه حقه؟ فهذا أحدهما. وأما السبب الثاني للاختلاف، فهو جعل عمر الأمر شورى في
الستة، ولم ينص على واحد بعينه، إما
منهم أو من غيرهم، فبقي في نفس كل واحد منهم أنه قد رشح للخلافة واهل للملك
والسلطنة، فلم يزل دلك لى نفوسمهم وأذهانهم مصوراً بين أعينهم، مرتسماً في
خيالاتهم، منازعة اليه نفوسهم، طامحة نحوه عيونهم، حتى
كان من الشقاق بين علي وعثمان ما كان، وحتى أفضى الأمر الى قتل عثمان. وكان أعظم
الأسباب في قتله طلحة، وكان لا يشك أن الأمر له من بعده لوجوه،منها
سابقته، ومنها أنه ابن عم لأبي بكر وكان لأبي بكر في نفوس أهل ذلك العصر منزلة
عظيمة، أعظم منها الآن. ومنها أنه كان سمحاًجواداً وقد كان نازع عمر
في حياة أبي بكر، وأحب أن يفوض أبو بكر الأمر اليه من بعده، فمازال يفتل في الذروة والغارب في أمر عثمان، وينكر له
القلوب، ويكدر عليه النفوس، ويغري أهل المدينة والأعراب وأهل الأمصار به. وساعده الزبير،وكان
أيضاً يرجو الأمر لنفسه، ولم يكن رجاؤهما الأمر بدون رجاء علي، بل رجاؤهما كان
أقوى،لأن علياً دحضه الأولان، وأسقطاه،
وكسرا ناموسه بين الناس، فصار نسياً منسيا، ومات
الأكثرممن يعرف خصائصه التي كانت في أيام النبوة وفضله، ونشأ قوم لا يعرفونه ولا يرونه الا رجلاً من عرض المسلمين، ولم يبق له مما يمت به الا أنه ابن عم الرسول، وزوج ابنته، وأبو سبطيه، ونسي ما وراء
ذلك كله، واتفق له من بغض قريش وانحرافها ما لم
يتفق لأحد، وكانت قريش بمقدار ذلك البغض تحب
طلحة والزبير، لأن الأسباب الموجبة لبغضهم لم تكن موجودة فيهما، وكانا
يتالفان قريشاً في أواخر أيام عثمان، ويعدانهم بالعطاء والإفضال، وهما عند أنفسهما وعند الناس خليفتان بالقوة لا بالفعل،
لأن عمر نص عليهما وارتضاهما للخلافة، وعمر متبع القول ومرضي الفعال، موفق مؤيد
مطاع، نافذ الحكم في حياته وبعد وفاته، فلما قتل عثمان،
أرادها طلحة، وحرص عليها، فلولا الأشتر وقوم
معه من شجعان العرب جعلوها في علي لم تصل اليه أبداً، فلما فاتت طلحة
والزبير، فتقا ذلك الفتق العظيم على علي، وأخرجا أم
المؤمنين معهما، وقصدا العراق، وأثارا الفتنة، وكان من حرب الجمل ما قد
علم وعرف، ثم كانت حرب الجمل مقدمة وتمهيداً لحرب
صفين، فإن معاوية لم يكن ليفعل ما فعل، لولاطمعه
بما جرى في البصرة، ثم أوهم أهل الشام أن
علياً قد فسق بمحاربة أم المؤمنين، ومحاربة المسلمين، وأنه قتل طلحة والزبير،
وهما من أهل الجنة، ومن يقتل مؤمناً من أهل الجنة فهو من أهل النار، فهل
كان الفساد المتولد في صفين الا فرعاً للفساد
الكائن يوم الجمل! ثم
نشأ من فساد صفين وضلال معاوية كل ما جرى من الفساد
والقبيح في أيام بني امية، ونشأت فتنة ابن
الزبيرفرعاً من فروع يوم الدار، لأن عبد الله كان يقول: إن عثمان لما
أيقن بالقتل نص علي بالخلافة، ولي بذلك شهود، ومنهم
مروان بن الحكم أفلا ترى كيف تسلسلت هذه الأمور فرعأ على أصل، وغصناً من شجرة،
وجذوة من ضرام! هكذا يدور بعضه على بعض، وكله
من الشورى في الستة. فقال: أما علي فأنبه من ذلك، وأما هؤلاء
النفر من قريش، فإني أخاف أن ينتشروا في البلاد،
فيكثروا فيها الفساد، فمن يخاف من تأميرهم لئلا يطمعوا في الملك، ويدعيه كل واحد
منهم لنفسه، كيف لم يخف من جعلهم ستة متساوين في
الشورى، مرشحين للخلافة! وهل شيء أقرب الى الفساد من هذا! وقد
روي أن الرشيد رأى يوماً محمداً وعبد الله ابنيه
يلعبان ويضحكان، فسر بذلك، فلما غابا عن عينه
بكى، فقال له الفضل بن الربيع: ما يبكيك يا أمير
المؤمنين، وهذا مقام جذل لا مقام حزن، فقال: أما
رأيت لعبهما ومودة بينهما، أما والله ليتبدلن ذلك بغضاً
وشنفاً وليختلسن كل واحد منهما نفس صاحبه عن قريب، فإن الملك عقيم. وكان الرشيد قد
عقد الأمر لهما على ترتيب، هذا بعد هذا، فكيف من لم يرتبوا في الخلافة، بل جعلوا فيها كأسنان المشط! فقلت
أنا لجعفر: هذا كله تحكيه عن محمد بن سليمان، فما تقول أنت، فقال:
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن كلام له عنه في أمر البيعة
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: لم تكن
بيعتكم إياي فلتة، وليس أمري وأمركم واحداً، إني أريدكم لله وأنتم تريدونيني
لأنفسكم. فإن قلت:
ما معنى قوله: "أريدكم لله وتريدونني لأنفسكم"، قلت: لأنه لايريد من
طاعتهم له الا نصرة دين الله والقيام بحدوده وحقوقه، ولا يريدهم لحظ
نفسه، وأما هم فإنهم يريدونه لحظوظ أنفسهم من
العطاء والتقريب، والأسباب الموصلة الى
منافع الدنيا. وهذا الخطاب رضي الله عنه لجمهور أصحابه، فأما الخواص منهم فإنهم كانوا يريدونه للأمر الذي يريدهم له من إقامة
شرائع الدين وإحياء معالمه. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
في شأن طلحة والزبير
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:"والله
ما أنكروا علي منكراً، ولا جعلوا بيني وبينهبم نصفاً، وإنهم ليطلبون جقاً هم
تركوه، ودماً هم سفكوه، فإن كنت شريكهم فيه، فإن لهم نصيبهم منه، وإن كانوا ولوه
دوني فما الطلبة الا قبلهم. وإن أول عدلهم للحكم على أنفسهم، وإن معي لبصيرتي،
ما لبست ولا لبس علي. وإن الأمر لواضح، وقد زاح الباطل عن نصابه،
وانقطع لسانه عن شغبه. وايم
الله لأفرطن لهم حوضاً أنا ماتحه، لا يصدرون عنه بري، ولا يعبون بعده في حسي.
وهو
على حذف المضاف، أي ذا نصف، أي حكماً منصفأ عادلاً يحكم بيني وبينهم. وفي الحما أربع
لغات: حما مثل قفا، وحمء مثل كمء، وحمو مثل أبو، وحم مثل أب.
والشغب، بالتسكين: تهييج الشر، شغب الحقد بالفتح شغباً، وقد جاء بالتحرك في
لغة ضعيفة، وماضيها شغب، بالكسر. ولافرطن لهم حوضاً، أي لأملأن، يقال: أفرطت المزادة أي ملأتها، وغدير مفرط، أي ملآن، والماثح، بنقطتين من فوق:
المستقي من فوق، وبالياء: مالىء الدلاء من
تحت، والعب: الشرب بلا مص كما تشرب الدابة: وفي الحديث: "الكباد من العب، والحسي: ماء
كامن في رمل يحفر عنه فيستخرج، وجمعه أحساء. ورووا أيضاً أنه لما امتنع على الذين
حصروه الدخول من باب الدار، حملهم طلحة الى دار لبعض
الأنصار، فأصعدهم الى سطحها، وتسوروا منها على عثمان داره فقتلوه. ثم رماه
بسهم فأصاب مأبضه ، فنزف الدم حتى مات. ثم قال:
وإنها للفئة الباغية، لام التعريف في الفئة تشعر
بأن نصاً قد كان عنده: أنه ستخرج عليه فئة باغية، ولم
يعين له وقتها ولا كل صفاتها، بل بعض علاماتها، فلما
خرج أصحاب الجمل ورأى تلك العلامات موجودة فيهم، قال: وإنها للفئة الباغية، أي وإن هذه الفئة، أي الفئة التي وعدت
بخروجها علي، ولولا هذا لقال: "وانها لفئة
باغية"، على التنكير. وكان عمرو بن الليث الصفار أمير
خراسان أنفذ جيشاً لمحاربة إسماعيل بن أحمد الساماني، فانكسر
ذلك الجيش وعادوا الى عمرو بن الليث، فغضب ولقي
القواد بكلام غليظ، فقال له بعضهم: أيها الأمير، إنه قد طبخ لك مرجل
عظيم، وإنما نلنا منه لهمة يسيرة والباقي مذخور لك، فعلام تتركه! اذهب اليهم
فكله. فسكت عمرو بن الليث عنه ولم يجب. يقول رضي الله عنه:
"إنكم أقبلتم مزدحمين كما تقبل النوق الى أولادها، تسالونني البيعة فامتنعت
عليكم حتى علمت اجتماعكم فبايعتكم". ثم دعا علي على طلحة والزبير بعد أن وصفهما
بالقطيعة والنكث والتاليب عليه، بأن يحل الله تعالى ما عقدا، والا يحكم لهما ما
أبرما، وأن يريهما المساءة فيما أملا وعملا. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن خطبة له يومىء فيها الى ذكر الملاحم
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
يعطف الهوى على الهدى، إذا عطفوا الهدى على الهوى، ويعطف الرأي على القرآن، إذا
عطفوا القران على الرأي. وكذلك قوله: "مملوءة
أخلافها"، والأخلاف للناقة حلمات الضرع، واحدها
خلف.
وهو الرضاع بالفتح، والماضي رضع بالكسر، مثل سمع سماعاً، وأهل نجد يقولون: رضع بالفتح يرضع بالكسر رضعأ،
مثل ضرب يضرب ضرباً، وأنشدوا:
بكسر الضاد. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
فصل في الاعتراض،
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وقوله:
"الا وفي غد تمامه يأخذ الوالي وبين الكلام جملة اعتراضية، وهي قوله: وسيأتي غد بما لا تعرفون والمراد تعظيم
شأن الغد الموعود بمجيئه، ومثل ذلك في القرآن كثير، نحو
قوله تعالى:"فلا أقسم بمواقع النجوم،
وإنه لقسم لو تعلمون عظيم إنه لقرآن كريم "، فقوله تعالى: "إنه لقرآن كريم" هو الجواب المتلقى به
قوله: "فلا أقسم"، وقد اعترض
بينهما قوله:"وإنه لقسم لو تعلمون عظيئم"
واعترض بين هذا الاعتراض قوله: "لو
تعلمون"، لأنك لو حذفته لبقي الكلام على إفادته، وهو قوله: "وإنه لقسم عظيم"، والمراد تعظيم شأن
ما أقسم به من مواقع النجوم، وتأكيد إجلاله في النفوس، ولا سيما بقوله: "لو تعلمون عظيم". وكذلك
قوله: "تالله- لقد علمتم- ما جئنا لنفسد في
الأرض" !، ف-"لقد علمتم" اعتراض،
والمراد به تقرير إثبات البراءة من تهمة السرقة. من ذلك قوله:"وإذ
قتلتم نفساً فادارأتم فيها والله مخرخ ما كنتم تكتمون، فقلنا اضربوه
ببعضها" فقوله: "والله مخرج ما كنتم
تكتمون" اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه، والمراد أن يقرر في أنفس
السامعين أنه لا ينفع البشر كتمانهم وإخفاؤهم لما يريد الله إظهاره، ومن الاعتراض في الشعر قول جرير:
فقوله:
والجديد الى بلى اعتراض، والمراد تعزيته نفسه عما مضى من تلك اللذات، وكذلك قول كثير:
فقوله:
وأنت منهم اعتراض، وفائدته الا تظن أنها ليست باخلة.
فقوله:
على أن قد تلون بي زماني.
فقوله:
وخير القول أصدقه اعتراض، وفائدته إثبات صدقه في دعواه أنه لا يبالي أيهما حقن،
فأما قول أبي تمام أيضاً:
فإن الإعتراض فيه هو قوله: الا في مديحك وليس قوله:
إن لحظت مطالبي إعتراضا كما زعم ابن الأثير الموصلي، لأن فائدة البيت معلقة عليه، لأنه لا يريد أن الغنى لي على كل حال
أطوع من الشعر، وكيف يريد هذا وهو كلام فاسد مختل! بل مراده
أن الغنى لي بشرط أن تلحظ مطالبي من الشعر أطوع لي،
الا في مديحك، فإن الشعر في مديحك أطوع لي منه، وإذا كانت الفائدة معلقة
بالشرط المذكور لم يكن اعتراضاً. وكذلك وهم ابن
الأثير أيضاً في قول امرىء القيس !.
فقال: إن قوله:
ولم أطلب اعتراض، وليس بصحيح، لأن فائدة
البيت مرتبطة به، وتقديره: لو سعيت لأن آكل
وأشرب لكفاني القليل، ولم أطلب الملك، فكيف يكون
قوله: ولم أطلب الملك اعتراضاً، ومن شأن الاعتراض أن يكون فضلة ترد
لتحسين وتكملة، وليست فائدته أصلية! وقد يأتي الاعتراض ولا فائدة فيه، وهو غير مستحسن، نحو قول
النابغة:
فقوله: لا أبا لك، اعتراض لا معنى تحته ههنا، ومثله قول زهير:
فإن
جاءت لا أبا لك تعطي معنى يليق بالموضع فهي اعتراض جيد، نحو قول أبي تمام:
فإنه
أراد زجرها وذمها لما أسرفت في عتابه.
تقديره:
فقد بين لي صرد يصيح بوشك فراقهم، والشك عناء، فلأجل
قوله:والشك عناء بين قد والفعل الماضي، وهو
بين عد اعتراضاً مستهجناً، وأمثال هذا للعرب كثير. وعلى ههنا متعلقة ب يأخذ التي هي بمعنى يؤاخذ من قولك: أخذته بذنبه، وآخذته، والهمز أفصح. والأفاليذ: جمع أفلاذ، وأفلاذ جمع فلذ، وهي
القطعة من الكبد، وهذا كناية عن الكنوز التي تظهر للقائم بالأمر، وقد جاء ذكر ذلك في خبرمرفوع في لفظة: "وقاءت
له الأرض أفلاذ كبدها"، وقد فسر قوله تعالى:"وأخرجت
الأرض أثقالها " بذلك في بعض التفاسير، والمقاليد:
المفاتيح. وفحص براياته ههنا: مفعول محذوف تقديره: وفحص الناس براياته، أي نحاهم وقلبهم يميناً وشمالاً. وضواحيها:
ما قرب منها من القرى. والضروس:
الناقة السيئة الخلق تعض حالبها، قال بشر بن أبي
خازم:
وقوله:
"وفرش الأرض بالرؤوس": غطاها بها كما يغطي المكان بالفراش. والعقب، بكسر
القاف: مؤخر القدم، وهي مؤنثة. قلت: إن ملك
أولاده ملكه أيضاً، وما زال الملك عن بني مروان حتى آبت الى العرب عوازب
أحلامها، والعرب ههنا: بنو العباس ومن
اتبعهم من العرب أيام ظهور الدولة، كقحطبة بن شبيب الطائي وابنيه: حميد والحسن،
وكبني رزتنى، بتقديم الراء المهملة، الذين منهم طاهر بن الحسين وإسحاق بن
إبراهيم المصعبي، وعدادهم في خزاعة وغيرهم من العرب من شيعة بني العباس. وقد قيل: إن أبا مسلم أيضاً عربي أصله، وكل هؤلاء
وآبائهم كانوا مستضعفين مقهورين مغمورين في دولة بني أمية، لم ينهض منهم ناهض،
ولا وثب الى الملك واثب، الى أن أفاء الله تعالى الى هؤلاء ما كان عزب عنهم من
إبائهم وحميتهم، فغاروا للدين والمسلمين من جور بني مروان وظلمهم، وقاموا
بالأمر، وأزالوا تلك الدولة التي كرهها الله تعالى، وأذن في انتقالها. وكأنه خاف من أن يكون بإخباره لهم بأن دولة هذا
الجبار ستنقضي إذا آبت الى العرب عوازب أحلامها، كالأمر لهم باتباع ولاة الدولة
الجديدة في كل ما تفعله، فاستظهر عليهم بهذه الوصية، وقال
لهم: إذا ابتذلت الدولة، فالزموا الكتاب والسنة، والعهد الذي فارقتكم عليه. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن كلام له فى وقت الشورى
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: لن يسرع أحذ
قبلي الى دعوة حق، وصلة رحم، وعائدة كرم، فاسمعوا قولي، وعوا منطقي، عسى أن تروا
هذا الأمر من بعد هذا اليوم، تنتضى فيه السيوف، وتخان فيه العهود، حتى يكون
بعضكم أئمة لأهل الضلالة، وشيعة لأهل الجهالة. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
تكملة حديث الشورى
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وقد ذكرنا من حديث الشورى فيما تقدم
ما فيه كفاية، ونحن
نذكر ههنا ما لم نذكره هناك، وهو عن رواية
عوانة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي في كتاب الشورى، و مقتل عثمان، وقد رواه أيضاً أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري في
زيادات كتاب السقيفة، قال: لما طعن عمر جعل
الأمر شورى بين ستة نفر: علي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان، وعبد الرحمن
بن عوف، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن مالك، وكان طلحة يومئذ
بالشام، وقال عمر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض
وهو عن هؤلاء راض، فهم أحق بهذا الأمر من غيرهم، وأوصى صهيب بن سنان، مولى عبد
الله بن جدعان ويقال: إن أصله من حي من
ربيعة بن نزار، يقال لهم عنزة- فأمره أن يصلي بالناس حتى يرضى هؤلاء القوم رجلاً
منهم، وكان عمر لا يشك أن هذا الأمر صائر الى أحد
الرجلين: علي وعثمان، وقال: إن قدم طلحة فهو معهم، والا فلتختر الخمسة
واحداً منها. وروي أن عمر قبل موته أخرج سعد بن مالك من
أهل الشورى، وقال: الأمر في هؤلاء الأربعة، ودعوا سعداً على حاله أميراً بين
يدي الإمام. ثم قال: ولو كان أبو عبيدة
بن الجراح حياً لما تخالجتني فيه الشكوك، فإن اجتمع ثلاثة على واحد، فكونوا
مع الثلاثة، وإن اختلفوا فكونوا مع الجانب الذي فيه عبد
الرحمن. قال الشعبي:
فحدثني من لا أتهمه من الأنصار- وقال أحمد بن عبد العزيز الجوهري: هو سهل بن سعد الأنصاري-قال: مشيت وراء علي بن أبي طالب حيث انصرف من عند عمر، والعباس
بن عبد المطلب يمشي في جانبه، فسمعته يقول
للعباس: ذهبت منا والله! فقال: كيف علمت،
قال: الا تسمعه يقول: كونوا في الجانب الذي فيه عبد الرحمن، لأنه ابن عمه، وعبد
الرحمن نظيرعثمان وهو صهره، فإذا اجتمع هؤلاء! فلو أن الرجلين الباقيين
كانا معي لم يغنيا عني شيئاً، مع أني لست أرجو الا أحدهما، ومع ذلك فقد أحب عمر
أن يعلمنا أن لعبد الرحمن عنده فضلاً علينا. لعمر الله ما جعل الله ذلك لهم علينا، كما لم يجعله
لأولادهم على أولادنا. أما والله لئن عمر لم يمت لأذكرته ما أتى الينا
قديماً، ولأعلمته سوء رأيه فينا، وماأتى الينا حديثاً، ولئن مات وليموتن ليجتمعن
هؤلاء القوم على أن يصرفوا هذا الأمر عنا، ولئن فعلوها وليفعلن ليرونني حيث
يكرهون، والله ما بي رغبة في السلطان، ولا حب الدنيا، ولكن لإظهار العدل،
والقيام بالكتاب والسنة. قال عوانة:
فحدثنا إسماعيل، قال: حدثني الشعبي، قال: فلما مات عمر، وأدرج في أكفانه، ثم وضع ليصلى
عليه، تقدم علي بن أبي طالب، فقام عند رأسه،
وتقدم عثمان فقام عند رجليه، فقال علي رضي
الله عنه: هكذا ينبغي أن تكون الصلاة، فقال عثمان: بل هكذا، فقال
عبد الرحمن: ما أسرع ما اختلفتم يا صهيب، صل
على عمر كما رضي أن تصلي بهم المكتوبة، فتقدم صهيب فصلى على عمر. فأقبل أبو
طلحة عليه، وقال: يا أبا الحسن، إرض برأي
عبد الرحمن، كان الأمر لك أو لغيرك، فقال علي: أعطني يا عبد الرحمن موثقاً من الله لتؤثرن الحق، ولا تتبع
الهوى، ولا تمل الى صهر ولا ذي قرابة، ولا تعمل الا لله، ولا تالو هذه الأمة أن
تختار لها خيرها. قال: فحلف له عبد الرحمن
بالله الذي لااله الا هو، لأجتهدن لنفسي ولكم
وللأمة، ولا أميل الى هوى ولا الى صهر ولا ذي قرابة. فقال له المقداد: يا عدو
الله وعدو رسوله وعدو كتابه، ومتى كان مثلك يسمع له الصالحون! فقال له
عبد الله: يا بن الحليف العسيف ، ومتى كان مثلك يجترىء
على الدخول في أمر قريش! فقال عبد الله بن سعد
بن أبي سرح: أيها الملأ ، إن أردتم الا تختلف قريش فيما بينها، فبايعوا
عثمان، فقال عمار بن ياسر: إن أردتم الا يختلف
المسلمون فيما بينهم فبايعوا علياً، ثم أقبل على
عبد الله بن سعد بن أبي سرح، فقال: يا فاسق
يا بن الفاسق، أأ نت ممن يستنصحه المسلمون، أو يستشيرونه في امورهم!
وارتفعت الأصوات، ونادى مناد لا يدرى من هو!- فقريش تزعم أنه رجل من بني مخزوم،
والأنصار تزعم أنه رجل طوال آدم مشرف على الناس- لا يعرفه أحد منهم: يا عبد
الرحمن، افرغ من أمرك، وامض على ما في نفسك فإنه الصواب. قال الشعبي: فأقبل عبد الرحمن على علي بن أبي طالب، فقال:
عليك عهد الله وميثاقه، وأشد ما أخذ الله على النبيين من عهد وميثاق: إن
بايعتك لتعملن بكتاب الله وسنة رسوله، وسيرة أبي بكر وعمر! فقال علي رضي الله عنه:
طاقتي ومبلغ علمي وجهد رأي، والناس يسمعون. قال: وعبد الله بن عمر بن الخطاب، داخل اليهم، قد سمع الكلام كله
فدخل، وقال: يا أبا الحسن، أتريد أن تضرب بعضهم ببعض! فقال: اسكت ويحك! فوالله لولا أبوك وما ركب مني قديماً وحديثاً، ما
نازعني ابن عفان ولا ابن عوف. فقام عبد الله فخرج. فقام عثمان فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إنه كان من قضاء الله أن
عبيد الله بن عمر بن الخطاب أصاب الهرمزان، وهو رجل من المسلمين، وليس له وارث
الا الله والمسلمون، وأنا إمامكم وقد عفوت، أفتعفون عن عبيد الله ابن خليفتكم
بالأمس؟ قالوا: نعم، فعفا عنه، فلما بلغ ذلك علياً
تضاحك، وقال: سبحان الله! لقد بدا بها
عثمان! أيعفو عن حق امرىء ليس بواليه! تالله
إن هذا لهو العجب! قالوا: فكان
ذلك أول ما بدا من عثمان مما نقم عليه. قال الشعبي: وخرج المقداد من الغد،
فلقي عبد الرحمن بن عوف، فأخذ بيده، وقال: إن كنت أردت بما
صنعت وجه الله، فأثابك الله ثواب الدنيا والآخرة، وإن كنت إنما أردت الدنيا
فأكثر الله مالك. فقال عبد الرحمن: إسمع، رحمك الله، اسمع! قال: لا أسمع والله، وجذب يده من
يده، ومضى حتى دخل على علي رضي الله عنه،
فقال: قم فقاتل حتى نقاتل معك، قال علي: فبمن اقاتل رحمك الله! وأقبل عمار بن ياسر ينادي:
أما والله لو أن لي أعواناً لقاتلتهم، والله لئن
قاتلهم واحد لأكونن له ثانياً. فقال علي:
يا أبا اليقظان، والله لا أجد عليهم أعواناً، ولا أحب أن أعرضكم لما لا تطيقون. وبقي رضي الله عنه في داره، وعنده
نفر من أهل بيته، وليس يدخل اليه أحد مخافة عثمان. فلما بايع أتاه عبد الرحمن بن عوف،
فاعتذر اليه، وقال: إن عثمان أعطانا يده ويمينه، ولم تفعل
أنت، فأحببت أن أتوثق للمسلمين، فجعلتها فيه، فقال:
إيهاً عنك! إنما آثرته بها لتنالها بعده، دق الله
بينكما عطر منشم . قال عوانة:
قال إسماعيل: قال الشعبي: فحدثني عبد الرحمن
بن جندب، عن أبيه جندب بن عبد الله الأزدي، قال:
كنت جالساً بالمدينة حيث بويع عثمان، فجئت فجلست الى
المقداد بن عمرو، فسمعته يقول: والله ما رأيت مثل ماأتى الى أهل هذا
البيت! وكان عبد الرحمن بن عوف جالساً، فقال:
وما أنت وذاك يا مقداد! قال المقداد: إني
والله احبهم لحب رسول الله صلى الله عليه
وسلم
وإني
لأعجب من قريش وتطاولهم على الناس بفضل رسول الله، ثم انتزاعهم سلطانه من أهله. قال عبد الرحمن:
أما والله لقد أجهدت نفسي لكم. قال المقداد: أما والله لقد تركت رجلاً من الذين
يأمرون بالحق وبه يعدلون! أما والله لو أن لي على قريش أعواناً لقاتلتهم قتالي
إياهم ببدر واحد. فقال عبد الرحمن: ثكلتك أمك، لا يسمعن هذا الكلام
الناس، فإني أخاف أن تكون صاحب فتنة وفرقة. فقال: أترجو يا جندب أن يبايعني من
كل عشرة واحد، قلت أرجو ذلك، قال: لكني لا أرجو ذلك،
لا والله ولا من المائة واحد، وسأخبرك، إن الناس إنما ينظرون الى قريش فيقولون:
هم قوم محمد وقبيله . وأما قريش بينها فتقول:
إن ال محمد يرون لهم على الناس بنبوته فضلاً، ويرون أنهم أولياء هذا الأمر دون
قريش، ودون غيرهم من الناس، وهم إن ولوه لم يخرج السلطان منهم الى أحد أبداً،
ومتى كان في غيرهم تداولته قريش بينها، لا والله لا
يدفع الناس الينا هذا الأمر طائعين أبداً! فقلت: جعلت فداك يا بن عم رسول
الله! لقد صدعت قلبي بهذا القول، أفلا أرجع الى المصر، فأوذن الناس بمقالتك،
وأدعو الناس اليك، فقال: يا جندب ليس هذا زمان ذاك. يا معشر قريش، الى متى تصرفون هذا المفر عن أهل بيت
نبيكم! تحولونه ههنا مرة، وههنا مرة! ما أنا آمن أن ينزعه الله منكم ويضعه
في غيركم، كما نزعتموه من أهله ووضعتموه في غير أهله! فقال له هاشم بن الوليد بن المغيرة:
يا بن سمية، لقد عدوت طورك وما عرفت قدرك، ما أنت وما رأت قريش لأنفسها! إنك لست
في شيء من أمرها وإمارتها، فتنح عنها. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن كلام له في النهي عن غيبة الناس
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: وإنما ينبغي
لأهل العصمة والمصنوع اليهم في السلامة أن يرحموا أهل الذنوب والمعصية، ويكون
الشكر هو الغالب عليهم والحاجز لهم عنهم، فكيف بالعائب الذي عاب أخاه، وعيره
ببلواه. أما ذكر
موضع ستر الله عليه من ذنوبه مما هو أعظم من الذنب الذي عابه به! وكيف يذمه بذنب
قد ركب مثله! قإن لم يكن ركب ذلك الذنب بعينه فقد عصى الله فيما سواه، مما هو
أعظم منه، وايم الله لئن لم يكن عصاه في الكبير، وعصاه في الصغير، لجرأته على
عيب الناس أكبر، يا عبد الله، لا تعجل في عيب أحد بذنبه، فلعله مغفور له، ولا
تأمن على نفسك صغير معصية، فلعلك معذب عليه. فليكفف من علم منكم عيب غيره لما
يعلم من عيب نفسه، وليكن الشكر شاغلاً له على فعافاته مما أبتلي غيره به. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
في ذم الغيبة والاستماع الى المغتابين
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ونحن نذكر مما ورد في الغيبة لمعًا نافعة على
عادتنا في ذكر الشيء عند مرورنا على ما يقتضيه ويستدعيه. وقد ورد في الكتاب العزيزذم الغيبة. قال سبحانه: "ولا يغتب بعضكم بعضاً. وروى جابر وأبو سعيد عنه صلى الله
عليه وسلم: "إياكم والغيبة، فإن الغيبة أشد من الزنا، إن
الرجل يزني فيتوب اللة عليه، وإن صاحب الغيبة لا يغفرله حتى يغفرله صاحبه". وفي الصحاح المجمع عليها أنه صلى الله عليه وسلم مر بقبرين جديدين، فقال: إنهما ليعذبان وما يعذبان بكبير، أما
أحدهما، فكان يغتاب الناس، وأما الآخر فكان لا يتنزه من البول، ودعا بجريدة رطبة
فكسرها اثنتين- و قال: دعا بجريدتين- ثم
غرسهما في القبرين- وقال: "أما إنه سيهون من عذابهما ما دامتا رطبتين ". وأحب العباد الى الله من كان هكذا. ويروى أن المسيح عليه السلام مر على جيفة كلب، فقال
بعض التلامذة: ما أشد نتته! فقال المسيح:
ما أشد بياض أسنانه! كأنه نهاهم عن غيبة الكلب ونبههم الى أنه لا ينبغي أن
يذكرمن كل شيء الا أحسنه. إن الله حرم الغيبة كما حرم المال والدم".
مر
الشعبي بقوم يغتابونه في المسجد، وفيهم بعض أصدقائه، فأخذ بعضادتي الباب، وقال:
ومن كلام بعض الحكماء: أبصر الناس بالعوار المعوار،
هذا مثل قول الشاعر:
قيل لشبيب بن شبة بن عقال: ما بال عبد الله بن الأهتم يغتابك وينتقصك! قال: لأنه شقيقي في النسب، وجاري في البلد، وشريكي
في الصنعة.
قال بعضهم:
بت بالبصرة ليلة مع المسجديين، فلما كان وقت السحر، حركهم واحد، فقال: الى كم هذا النوم عن أعراض الناس! وقيل لشاعر وصله بعض الرؤساء، وأنعم عليه: ما صنع
بك فلان، قال: ما وفت نعمته بإساءته، منعني
لذة الثلب ، وحلاوة الشكوى. ابن عباس:
ما الأسد الضاري على فريسة بأسرع من الدنيء في عرض السري.
وقالت رابعة العدوية : إذا نصح الإنسان لله أطلعه الله تعالى على مساوىء عمله،
فتشاغل بها عن ذكر مساوىء خلقه. ومن كلام بعض الصالحين: الورع في المنطق أشد منه في الذهب والفضة، لأنك إذا استودعك
أخوك مالاً لم تجد بك نفسك لخيانته فيه، وقد استودعك عرضه وأنت تغتابه، ولا
تبالي.
عبد الله بن المبارك: قلت لسفيان: ما أبعد أبا حنيفة من الغيبة! ما سمعته يغتاب
عدواً، قال: هو أعقل من أن يسلط على حسناته ما
يذهب بها.
وكان يقال:
الغيبة فاكهة القراء.
الحسن:
ذم الرجل في السر، مدح له في العلانية.
بلغ الحسن أن رجلاً اغتابه، فأهدى اليه طبقاً من رطب ، فجاءه
الرجل معتذراً، وقال:
أصلحك الله! اغتبتك فأهديت لي! قال: إنك أهديت الي
حسناتك، فأردت أن أكافئك. أعلمه أن الموت يعمنا، والبعث يحشرنا والقيامة تجمعنا، والله
يحكم بيننا. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الغيبة وحكمها في الشرع الاسلامي.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
واعلم أن العلماء ذكروا في حد الغيبة:
أن تذكر أخاك بما يكرهه لو بلغه، سواء ذكرت نقصاناً في بدنه، مثل أن تقول: الأقرع، أو الأعور، أو في نسبه نحو أن تقول: ابن النبطي وابن الإسكاف أو الزبال
أو الحائك أو خلقه، نحو سيىء الخلق أو بخيل أو متكبر، أو في أفعاله الدنيئة نحو قولك: كذاب وظالم ومتهاون بالصلاه، أو
الدنيوية نحو قولك: قليل الأدب متهاون
بالناس، كثير الكلام، كثير الأكل، أو في ثوبه كقولك:
وسخ الثياب، كبير العمامة، طويل الأذيال. وروي أن امرأة ذكرت عنده صلى الله عليه وسلم بأنها
بخيلة، فقال: "فما خيرها إذن!" وأكثر
العلماء على أن الغيبة في امور الدين محرمة أيضاً، وادعوا
الإجماع على أن من ذكر غيره بما يكرهه فهو مغتاب، سواء أكان في الدين أو
في غيره قالوا: والمخالف مسبوق بهذا
الإجماع، وقالوا: وقد روي عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه قال:
"هل تدرون ما الغيبة" قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "ذكرك أخاك
بما يكرهه، فقائل قال: أرأيت يا رسول الله،
إن كان ذلك في أخي، قال: إن كان فيه فقد اغتبته،
وإن لم يكن فقد بهته ". قالوا: وما احتج به الزاعمون أن لا
غيبة في الدين، ليس بحجة، لأن الصحابة إنما ذكرت ذلك في مجلس
رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجتها
الى تعرف الأحكام بالسؤال، ولم يكن غرضها التنقص. فأما قوله: قال قوم كذا، فليس بغيبة، لأنه لم يعين
شخصاً بعينه. واعلم أن الإصغاء الى الغيبة على سبيل التعجب
كالغيبة، بل أشد، لأنه إنما يظهر التعجب ليزيد نشاط
المغتاب في الغيبة، فيندفع فيها حكاية، يستخرج الغيبة منه بذلك، وإذا كان السامع الساكت شريك المغتاب، فما ظنك بالمجتهد
في حصول الغيبة، والباعث على الاستزادة منها! وقد روي أن أبا بكر وعمر ذكرا
إنساناً عند رسول الله، فقال! أحدهما: إنه لنؤوم،
ثم أخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم خبزاً
قفارا ، فطلبا منه أدماً ، فقال: فد ائتدمتما، قالا: ما نعلمه، قال: بلى بما أكلتما من لحم صاحبكما"، فجمعهما في
الإثم، وقد كان أحدهما قائلاً والآخر مستمعاً،
فالمستمع لا يخرج من إثم الغيبة الا بأن ينكر
بلسانه، فإن خاف فبقلبه، وإن قدرعلى القيام أو قطع الكلام بكلام آخر لزمه ذلك،
فإن قال بلسانه: اسكت وهو مريد للغيبة
بقلبه، فذلك نفاق، ولا يخرجه عن الإثم الا أن يكرهه بقلبه،. ولا يكفي أن
يشيرباليد، أي اكفف، أو بالحاجب والعين، فإن ذلك استحقار للمذكور، بل ينبغي أن يذب عنه صريحاً، فقد قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "من
أذل عنده مؤمن وهو يقدر على أن ينصره فلم
ينصره، أذله الله يوم القيامة على رؤوس
الخلائق." |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأسباب الباعثة على الغيبة
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
واعلم أن الأسباب الباعثة على الغيبة على
أمور:
منها شفاء الغيظ،
وذلك أن يجري من الإنسان سبب يغضب به عليه آخر، فإذا
هاج غضبه تشفى بذكر مساوئه، وسبق اليها لسانه بالطبع إن لم يكن هناك دين وازع، وقد
يمنع تشفي الغيظ عند الغضب، فيحتقن الغضب في
الباطن، فيصير حقداً ثابتاً، فيكون سبباً دائماً لذكر المساوىء. وقد يغضب
رفقاؤه من أمر فيحتاج الى أن يغضب لغضبهم، إظهاراً للمساهمة في السراء والضراء
فيخوض معهم في ذكر العيوب والمساوىء. ومنها أن يستشعر من
إنسان أنه سيذمه ويطول لسانه فيه، ويقبح حاله عند بعض الرؤساء، أو يشهد عليه
بشهادة فيبادره قبل أن يقبح حاله، فيطعن فيه
ليسقط أثر شهادته عليه. وقد يبتدىء بذكر بعض ما فيه صادقاً ليكذب عليه بعد
ذلك، فيروج كذبه بالصدق الأول. واعلم أن التوبة من الغيبة تكفر عقابها، والتوبة
منها هي الندم عليها، والعزم على الا يعود، فإن لم يكن الشخص لمذكور قد بلغته
الغيبة، فلا حاجة الى الاستحلال منه، بل لا يجوز إعلامه بذلك، هكذا قال شيخنا أبو الحسين رحمه الله، لأنه لم
يؤلمه فيحتاج الى أن يستوهب منه إثم ذلك الإيلام، وفي إعلامه تضييق صدره، وإدخال
مشقة عليه، وإن كان الشخص المذكور قد بلغته الغيبة، وجب عليه أن يستحله وششوهبه،
فإن كان قد مات سقط بالتوبة عقاب ما يختص بالبارىء سبحانه من ذلك الوقت، وبقي ما
يختص بذلك الميت لا يسقط حتى يؤخذ العوض له من المذنب يوم القصاص. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن كلام له في النهي عن سوءالظن
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: أيها الناس،
من عرف من أخيه وثيقة دين وسداد طريق، فلا يسمعن فيه أقاويل الرجال. أما إنه قد
يرمي الرامي، وتخطىء السهام، ويحيل الكلام، وباطل ذلك يبور، والله سميع وشهيد. قال رضي
الله عنه : "ويحيل
الكلام"، أي يكون باطلاً، أحال الرجل، في منطقه، إذا تكلم الذي لا حقيقة
له، ومن الناس من يرويه: ويحك الكلام
بالكاف، من قولك: ما حاك فيه السيف، ويجوز أحاك بالهمزة، أي ما أثر، يعني أن
القول يؤثر في العرض وإن كان باطلاً، والرواية
الأولى أشهر وأظهر. وقوله: "وباطل
ذلك يبور"، مثل قولهم: للباطل جولة، وللحق دولة، وهذا من قوله
تعالى: "وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل
كان زهوقاً ". قلت: ليسى
كلامه في المتواتر من الأخبار، وإنما كلامه في الأقوال الشاذة الواردة من طريق
الآحاد، التي تتضمن القدح فيمن قد غلبت نزاهته، فلا
يجوز العدول عن المعلوم بالمشكوك. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن كلام له عنه في وضع المعروف في غير أهله
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
وليس لواضع المعروف في غير حقه، وعند غير أهله من الحظ فيما أتى الا محمدة
اللئام، وثناء الأشرار، ومقالة الجهال، ما دام منعماً عليهم: ما أجود يده! وهو
عن ذات الله بخيل. فمن
أتاه الله مالاً فليصل به القرابة، وليحسن منه الضيافة، وليفك به الأسير
والعاني، وليعط منه الفقير والغارم، وليصبر نفسه على الحقوق والنوائب، ابتغاء
الثواب، فإن فوزاً بهذه الخصال شرف مكارم الدنيا، ودرك فضائل الآخرة، إن شاء
الله.
وفي الحديث النبوي في رجل أمسك رجلاً، وقتله آخر فقال رضي الله عنه:
"اقتلوا القاتل واصبروا الصابر "، أي احبسوا الذي حبسه للقتل الى أن
يموت.
ولم يقل:
إن الشواء والنشوة، والسر في هذا أنه كأنه يجعل هذا الشواء شخصاً من جملة أشخاص،
داخلة تحت نوع واحد، ويقول: إن واحداً منها أيها كان فهو من لذة العيش، وإن لم
يحصل له كل أشخاص ذلك النوع، ومراده تقرير فضيلة هذه الخصال في النفوس، أي متى
حصل للإنسان فوز ما بها، فقد حصل له الشرف، وهذا المعنى وإن أعطاه لفظة الفوز
بالالف واللام إذا قصد بها الجنسية الا أنه قد يسبق الى الذهن منها الاستغراق لا
الجنسية، فأتى بلفظة لا توهم الاستغراق، وهي اللفظة المنكرة، وهذا دقيق، وهو من
لباب علم البيان. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن خطبة عنه فى الاستسقاء
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: ألا وإن
الأرض التي تحملكم، والسماء التي تظلكم، مطيعتان لربكم، وما أصبحتا تجودان لكم
ببركتهما توجعاً لكم، ولا زلفةً إليكم، ولا لخير ترجوانه منكم، ولكن أمرتا
بمنافعكم فأطاعتا، وأقيمتا على حدود مصالحكم فقامتا. إن الله يبتلي عباده عند الأعمال
السيئة بنقص الثمرات، وحبس البركات، وإغلاق خزائن
الخيرات، ليتوب تائب، ويقلع مقلع، ويتذكر متذكر، ويزدجر مزدجر، وقد جعل الله
سبحانه الاستغفار سبباً لدرور الرزق ورحمة الخلق، فقال سبحانه: "استغفروا ربكم إنه كان غفاراً، يرسل السماء عليكم
مدراراً، ويمددكم بأموالٍ وبنين ويجعل لكم جنات وٍيجعل لكم أنهاراً "،
فرحم الله أمرأً استقبل توبته، واستقال خطيئته، وبادر منيته! اللهم إنا خرجنا اليك من تحت الأستار والأكنان،
وبعد عجيج البهائم والولدان، راغبين في رحمتك، وراجين فضل نعمتك، وخائفين من
عذابك ونقمتك. والزلفة: القربة، يقول: إن السماء والأرض إذا
جاءتا بمنافعكم أما السماء فبالمطر، وأما الأرض فبالنبات فإنهما لم تأتيا بذلك
تقرباً إليكم، ولا رحمةً لكم، ولكنهما أمرتا بنفعكم فامتثلتا الأمر، لأنه أمر من
تجب طاعته، ولو أمرتا بغير ذلك لفعلتاه. والكلام مجاز واستعارة، لأن الجماد لا
يؤمر، والمعنى أن الكل مسخر تحت القدرة الإلهية، ومراده تمهيد قاعدة الاستسقاء، كأنه يقول: إذا كانت السماء والأرض أيام الخصب
والمطر والنبات لم يكن ما كان منهما محبة لكم، ولا رجاء منفعة منكم، بل طاعة
الصانع الحكيم سبحانه فيما سخرهما له، فكذلك السماء والأرض أيام الجدب وانقطاع
المطر وعدم الكلأ، ليس ما كان منهما بغضاً لكم، ولا استدفاع ضرر يخاف منكم، بل
طاعة الصانع الحكيم سبحانه فيما سخرهما له، وإذا كان كذلك فبالحري الا نأمل
السماء ولا الأرض، وأن نجعل آمالنا معلقة بالملك الحق المدبر لهما، وأن نسترحمه
وندعوه ونستغفره، لا كما كانت العرب في الجاهلية
يقولون: مطرنا بنوء كذا ، وقد سخط النوء الفلاني على بني فلان فأمحلوا . وقال تعالى في موضع آخر: "ولو
أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض "،
وقال سبحانه: "ولو أنهم أقاموا التوراة
والإنجيل وما أنزل اليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم "
وقال تعالى: "وأن لو استقاموا على الطريقة
لأسقيناهم ماءً غدقاً ". |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الثواب
والعقاب عند أهل الكتاب
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وكل ما في التوراة من الوعد والوعيد
فهو لمنافع الدنيا ومضارها، أما منافعها فمثل أن يقول: إن أطعتم باركت فيكم، وكثرت من
أولادكم وأطلت أعماركم، وأوسعت أرزاقكم، واستبقيت اتصال نسلكم، ونصرتكم على
أعدائكم، وإن عصيتم وخالفتم اخترمتكم ونقصت من آجالكم، وشتت شملكم، ورميتكم
بالجوع والمحل، وأذللت أولادكم، وأشمت بكم أعداءكم، ونصرت عليكم خصومكم، وشردتكم
في البلاد، وابتليتكم بالمرض والذل، ونحو ذلك. ولم يأت في التوراة وعد ووعيد بأمر
يتعلق بما بعد الموت. وأما المسيح عليه السلام، فإنه صرح بالقيامة وبعث الأبدان، ولكن جعل العقاب
روحانياً، وكذلك
الثواب، أما العقاب فالوحشة والفزع وتخيل الظلمة
وخبث النفس وكدرها وخوف شديد، وأما الثواب فما
زاد على أن قال: إنهم يكونون كالملائكة، وربما
قال: يصعدون الى ملكوت السماء، وربما قال
أصحابه وعلماء ملته: الضوء واللذة والسرور والأمن من زوال اللذة الحاصلة
لهم. هذا هو قول المحققين منهم،
وقد أثبت بعضهم ناراً حقيقية، لأن لفظة النار وردت في
الإنجيل، فقال محققوهم: نار قلبية، أي نفسية
روحانية، وقال الأقلون: نار كهذه النار. ومنهم من أثبت عقاباً غير
النار وهو بدني، فقال: الرعدة وصرير الأسنان،
فأما الجنة بمعنى الأكل والشرب والجماع، فإنه لم يقل
منهم قائل به أصلاً، والإنجيل صرح بانتفاء ذلك
في القيامة تصريحاً لا يبقى بعده ريب لمرتاب ، وجاء خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه
وسلم فأثبت المعاد على وجه محقق كامل، أكمل مما
ذكره الأولان، فقال: إن البدن والنفس معاً مبعوثان،
ولكل منهما منهما حظ في الثواب والعقاب. ولذات نفسانية من السرور ومشاهدة الملكوت والأمن من
العذاب والعلم اليقيني بدوام ما هم فيه، وأنه لا
يتعقبه عدم ولا زوال، والخلو عن الأحزان والمخاوف، وللمعاقب
عقاب بدني، وهو المقامع من الحديد، والسلاسل، والحريق والحميم والغسلين
والصراخ والجلود التي كلما نضجت بدلوا جلوداً غيرها، وعقاب
نفساني من اللعن والخزي والخجل والندم والخوف الدائم واليأس من الفرج،
والعلم اليقيني بدوام الأحوال السيئة التي هم عليها. قال: فوفت الشريعة
الحكمة حقها من الوعد الكامل، والوعيد الكامل، وبهما ينتظم الأمر، وتقوم الملة، فأما النصارى وما ذهبوا اليه من أمر بعث الأبدان، ثم
خلوها في الدار الآخرة من المطعم والملبس والمشرب والمنكح، فهو أرك ما ذهب اليه أرباب الشرائع وأسخفه، وذلك أنه
إن كان السبب في البعث، هو أن الإنسان هو البدن، أو أن البدن شريك النفس في
الأعمال الحسنة والسيئة، فوجب أن يبعث، فهذا القول
بعينه إن أوجب ذلك، فإنه يوجب أن يثاب البدن، ويعاقب بالثواب والعقاب البدني المفهوم
عند العالم، وإن كان الثواب والعقاب روحانياً،
فما الغرض في بعث الجسد؟ ثم ما ذلك الثواب
والعقاب الروحانيان! وكيف تصور العامة ذلك حتى يرغبوا ويرهبوا! كلا بل لم تصور لهم الشريعة النصرانية من ذلك شيئاً،
غيرأنهم يكونون في الآخرة كالملائكة، وهذا لا يفي بالترغيب
التام، ولا ما ذكروه من العقاب الروحاني
وهو الظلمة وخبث النفس كاف في الترهيب والذي جاءت به
شريعة الإسلام حسن لا زيادة عليه. انقضى
كلام هذا الحكيم. وعن عمر أنه خرج
يستسقي، فما زاد على الاستغفار، فقيل له: ما
رأيناك استسقيت! فقال: لقد استسقيت بمجاديح
السماء التي يستنزل بها المطر. قوله رضي الله عنه:"
لا تهلكنا بالسنين" جمع: سنة، وهي الجدب والمحل، قال تعالى: "ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين "، وقال
النبي صلى الله عليه وسلم يدعو
على المشركين: "اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف"، والسنة لفظ محذوف
منه حرف، قيل إنه الهاء، وقيل الواو، فمن قال:
المحذوف هاء، قال: أصله سنهة مثل جبهة، لأنهم قالوا: نخلة سنهاء، أي تحمل سنة ولا تحمل
اخرى، وقال بعض الأنصار:
ومن قال أصلها الواو، احتج بقولهم: أسنى القوم يسنون إسناء، إذا لبثوا في
المواضع سنة، فأما التصغير فلا يدل على أحد المذهبين بعينه، لأنه يجوز سنية
وسنيهة، والأكثر في جمعها بالواو والنون سنون بكسر السين كما في هذه الخطبة، وبعضهم يقول: سنون با لضم. وناقعة مروية:
مسكنة للعطش، نقع الماء العطش نقعاً ونقوعاً سكنه، وفي
المثل: الرشف أنقع أي أن الشراب الذي يرشف قليلاً قليلاً أنجع وأقطع
للعطش، وإن كان فيه بطء، وكثيرة المجتنى، أي كثيرة الكلأ، والكلأ: الذي يجتنى ويرعى. والقيعان:
جمع قاع، وهو الفلاة، والبطنان: جمع بطن،
وهو الغامض من الأرض، مثل ظهر وظهران وعبد وعبدان |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال في بعثة الأنبياء
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
بعث رسله بما خصهم به من وحيه، وجعلهم حجة لة على خلقه، لئلا تجب الحجة لهم بترك
الإعذار اليهم، فدعاهم بلسان الصدق الى سبيل الحق.
وأبأت القاتل بالقتيل واستبأته أيضاً، إذا قتلته
به، وقد باء الرجل بصاحبه، أي قتل به وفي المثل:
باءت عراز بكحل وهما بقرتان، قتلت إحداهما بالأخرى
وقال مهلهل لبجيرلما قتل: بؤبثسع نعل كليب . هذا مع تسليم هؤلاء له أنه
رضي الله عنه أقضى
الأمة، وأن القضاء يحتاج الى كل هذه الفضائل، وكل واحدة منها لا تحتاج الى
غيرها، فهو إذن أجمع للفقه وأكثرهم احتواء عليه، الا
أنه رضي الله عنه لم
يرض بذلك ولم يصدق الخبر الذي قيل: أفرضكم فلان
الى آخره فقال: إنه كذب وافتراء حمل قوماً
على وضعه الحسد والبغي والمنافسة لهذا الحي من بني هاشم، أن رفعهم الله على
غيرهم، واختصهم دون من سوا هم. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أهل يتوجب أن يكون الأئمة من قريش؟
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وقد اختلف الناس في اشتراط النسب في
الإمامة، فقال قوم من قدماء أصحابنا: إن النسب ليس
بشرط فيها أصلاً، وإنها تصلح في القرشي وغير القرشي إذا كان فاضلاً مستجمعاً
للشرائط المعتبرة، واجتمعت الكلمة عليه، وهو قول الخوارج. وقال أكثرأصحابنا وأكثر الناس: إن
النسب شرط فيها، وإنها لا تصلح إلا في العرب خاصة، ومن
العرب لا قريش خاصة. وقال أكثرأصحابنا: معنى
قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الأئمة من قريش" إن القرشية لشرط إذا وجد في قريش من يصلح للإمامة، فإن لم يكن فيها من يصلح، فليست
القرشية شرطاً فيها. وبعض الزيدية يجيز الإمامة في غير الفاطميين من ولد علي رضي الله عنه، وهو
من أقوالهم الشاذة. قلت: هذا الموضع مشكل،
ولي فيه نظر، وإن صح أن علياً رضي الله عنه قاله، قلت كما قال: لأنه ثبت عندي أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: "إنه مع الحق، وإن الحق يدور معه حيثما
دار"، ويمكن أن يتأول ويطبق على مذهب
المعتزلة، فيحمل على أن المراد به كمال الإمامة
كما حمل قوله صلى الله عليه
وسلم:
"لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد"، على
نفي الكمال، لا على نفي الصحة. أين العقول المستصبحة بمصابيح الهدى، والأبصار
اللامحة الى منازل التقوى! أين القلوب التي وهبت لله، وعوقدت على طاعة الله!
أزدحموا على الخطام، وتشاحوا على الحرام، ورفع لهم علم الجنة والنار، فصرفوا عن
الجنة وجوههم، وأقبلوا إلى النار بأعمالهم، ودعاهم ر بهم فنفروا وولوا، ودعاهم
الشيطان فاستجابوا وأقبلوا! الشرح: آثروا:
اختاروا. وأخروا: تركوا. الآجن: الماء المتغير. أجن الماء يأجن ويأجن. وشابت عليه مفارقه: طال عهده به مذ زمن الصبا حتى
صار شيخاً. وصبغت به خلائقه صارت طبعاً لأن العادة طبيعة
ثانية، مزبداً، أي ذو زبد، وهو ما يخرج من الفم كالرغوة، يضرب مثلا للرجل الصائل
المقتحم، والتيار: معظم اللجة، والمراد به ههنا السيل. والهشيم: دقاق الحطب. وتشاحوا:
تضايقوا، كل منهم يريد ألا يفوته ذلك، وأصله الشح وهو البخل. وحوشين رضي الله عنه أن
يعني بهذا الكلام الصحابة، لأنهم ما آثروا العاجل، ولا أخروا الآجل، ولا صحبوا
المنكر، ولا أقبلوا كالتيار، لا يبالي ما غرق، ولا كالنار لا تبالي ما أحرقت،
ولا ازدحموا على الحطام، ولا تشاحوا على الحرام، ولا صرفوا عن الجنة وجوههم، ولا
أقبلوا الى النار بأعمالهم، ولا دعاهم الرحمن فولوا، ولا دعاهم الشيطان
فاستجابوا. وقد علم كل
أحد حسن سيرتهم، وسداد طريقتهم وإعراضهم عن الدنيا وقد ملكوها، وزهدهم فيها وقد
تمكنوا منها، ولولا قوله: كأني أنظر الى فاسقهم
لم أبعد أن يعني بذلك قوماً ممن عليه اسم الصحابة وهو رديء الطريقة، كالمغيرة بن
شعبة وعمرو بن العاص، ومروان بن الحكم، ومعاوية، وجماعة معدودة أحبوا الدنيا
واستغواهم الشيطان، وهم معدودون في كتب أصحابنا ومن اشتغل بعلوم السيرة
والتواريخ عرفهم بأعيانهم. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن خطبة له عنه في شؤون الدنيا والناس
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
أيها الناصق، إنما أنتم في هذه الدنيا غرض تنتضل فيه المنايا، مع كل جرعة شرق،
وفي كل أكلة غصص، لا تنالون منها نعمة :إلا بفراق أخرى،
ولا يعمر معمر منكم يوماً من عمره إلا بهدم آخر من أجله، ولا تجدد له
زيادة في أكله، إلا بنفاد ما قبلها من رزقه، ولا يحيا له أثر، إلا مات له أثر،
ولا يتجدد له جديد، إلا بعد أن يخلق لة جديد، لا تقوم له نابتة، إلا وتسقط منة
محصودة وقد مضت أصول نحن فروعها، فما بقاء فرع بعد ذهاب أصله! الشرح: الغرض: ما ينصب ليرمى، وهو الهدف وتنتضل فيه المنايا:
تترامى فيه للسبق، ومنه الانتضال بالكلام وبالشعر، كأنه يجعل المنايا أشخاصاً
تتناضل بالسهام، من الناس من يموت قتلاً، ومنهم من يموت غرقاً، أو يتردى في بئر،
أو يسقط عليه حائط، أو يموت على فراشه.
ومراد أمير المؤمنين رضي الله عنه بكلامه أن نعيم الدنيا لا يدوم، فإذا أحسنت
أساءت، إذا أنعمت أنقمت. ثم قال:
ولا يعمر معمر منكم يوماً من عمره إلا بهدم آخر من أجله ، وهذا أيضاً لطيف، لأن
المسرور ببقائه إلى يوم الأحد لم يصل إليه إلا بعد أن قضى يوم السبت وقطعه، ويوم
السبت من أيام عمره، فإذا قد هدم من عمره يوماً، فيكون قد قرب الى الموت، لأنه
قد قطع من المسافة جزءاً.
وقال
الشاعر:
وقد
صرح أبو العتاهية بالمعنى، فقال:
الأصل:
منها: وما أحدثت بدعة إلا ترك بهاسنة، فاتقوا البدع، والزموا المهيع.
ويجمع
فوعل على فواعل، كدورق، وهوجل، ويجوز أن يكون عوازم جمع عازمة، ويكون فاعل بمعنى
مفعول، أي معزوم عليها، أي مقطوع معلوم بيقين صحتها، ومجيء فاعلة بمعنى مفعولة
كثير، كقولهم: عيشة راضية بمعنى مرضية، والأول أظهر
عندي، لأن في مقابلته قوله: وإن محدثاتها شرارها، والمحدث في مقابلة
القديم. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن كلام له وقد استشاره عمر في الشخوص لقتال الفرس
بنفسه
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: إن هذا الأمر
لم يكن نصره ولا خذلانه بكثرة ولا بقلة، وهو دين الله الذي أظهره، وجنده الذي
أعده وأمده، حتى بلغ ما بلغ، وطلع حيثما طلع، ونحن على موعود من الله، والله
منجز وعده، وناصر جنده، ومكان القيم بالأمر مكان النظام من الخرز، يجمعه ويضمه،
فإن انقطع النظام تفرق وذهب، ثم لم يجتمع بحذافيره أبداً. إن الأعاجم إن ينظروا إليك غداً
يقولوا: هذا أصل العرب، فإذا اقتطعتموه استرحتم، فيكون ذلك
أشد لكلبهم عليك وطمعهم فيك. الشرح:
نظام العقد: الخيط الجامع له، وتقول: أخذته
كله بحذافيره، أي بأصله، وأصل الحذافير أعالي الشيء ونواحيه، الواحد حذفار، وأصلهم نار الحرب: اجعلهم صالين لها، يقال: صليت اللحم وغيره أصليه صلياً، مثل رميته
أرميه رمياً، إذا شويته، وفي الحديث أنه صلى الله عليه
وسلم أتي بشاة مصلية، أي مشوية ويقال أيضاً: صليت الرجل ناراً إذا أدخلته
النار وجعلته يصلاها، فإن ألقيته فيها إلقاء كأنك تريد الإحراق قلت: أصليته
بالألف، وصليته تصلية، وقرىء "ويصلى سعيراً
" ومن خفف فهو من قولهم: صلي فلان بالنار- بالكسر- يصلى صلياً
احترق، قال الله تعالى: "هم أولى بها صلياً
" ويقال أيضاً: صلي فلان بالأمر، إذا قاسى حره وشدته، قال الطهوي:
وعلى هذا الوجه يحمل كلام أمير المؤمنين رضي الله عنه وهو مجاز من الإحراق، والشيء الموضوع
لها هذا اللفظ حقيقة. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وقعة القادسية
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
واعلم أن هذا الكلام قد اختلف في
الحال التي قاله فيها لعمر، فقيل: قاله له في غزاة القادسية، وقيل في غزاة نهاوند. وإلى هذا القول الأخير ذهب محمد بن جرير الطبري في "التاريخ
الكبير". وإلى القول
الأول ذهب المدائني في كتاب "الفتوح،"
ونحن نشير إلى ما جرى في هاتين الوقعتين إشارة خفيفة
على مذهبنا في ذكر السير والأيام. وأشار عليه غيره من الناس أن
يخرج بنفسه، فأخذ برأي علي رضي الله عنه. قال أبو جعفر:
وتثبط رستم عن القتال وكرهه، وآثر المسالمة، واستعجله يزدجرد مراراً، واستحثه
على الحرب، وهو يدافع بها، ويرى المطاولة. وكان عسكره مائة وعشرين ألفاً وكان عسكر سعد بضعاً وثلاثين ألفاً،
وأقام رستم بريداً من الرجال، الواحد منهم إلى جانب الآخر، من القادسية إلى
المدائن، كلما تكلم رستم كلمة أداها بعضهم إلى بعض، حتى تصل إلى سمع يزدجرد في
وقتها، وشهد وقعة القادسية مع المسلمين طليحة بن خويلد،
وعمرو بن معد يكرب، والشماخ بن ضرار، وعبدة بن الطبيب الشاعر، وأوس بن معن
الشاعر، وقاموا في الناس ينشدونهم الشعر ويحرضونهم، وقرن أهل فارس أنفسهم
بالسلاسل لئلا يهربوا، فكان المقرنون منهم نحوثلاثين
ألفاً، والتحم الفريقان في اليوم الأول،
فحملت الفيلة التي مع رستم على الخيل فطحنتها، وثبت لها جمع من الرجالة، وكانت ثلاثة وثلاثين فيلاً، منها فيل الملك، وكان أبيض
عظيماً، فضربت الرجال خراطيم الفيلة بالسيوف فقطعتها،
وارتفع عواؤها، وأصيب في هذا اليوم وهو اليوم
الأول خمسمائة من المسلمين، وألفان من الفرس. ووصل في الثاني أبو عبيدة
بن الجراح من الشام في عساكر من المسلمين، فكان مدداً لسعد، وكان هذا اليوم على الفرس أشد من اليوم الأول، قتل من المسلمين ألفان، ومن المشركين عشرة آلاف.
وأصبحوا في اليوم الثالث على القتال، وكان
عظيماً على العرب والعجم معاً، وصبر الفريقان، وقامت الحرب ذلك اليوم: وتلك الليلة جمعاء لا
ينطقون، كلامهم الهرير ، فسميت ليلة الهرير. فنزل موضع الكوفة اليوم واختط
مسجدها، وبنى فيها الخطط للعرب. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وقعة نهاوند
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
فأما وقعة نهاوند ، فإن
أبا جعفر محمد بن جرير الطبري ذكر في كتاب التاريخ، أن عمر لما أراد أن يغزو العجم وجيوش كسرى وهي مجتمعة
بنهاوند، استشار الصحابة، فقام عثمان فتشهد، فقال: أرى يا أمير المؤمنين أن تكتب إلى أهل
الشام فيسيروا من شامهم، وتكتب إلى أهل اليمن فيسيروا من يمنهم، ثم تسيرأنت بأهل
هذين الحرمين إلى المصرين: البصرة والكوفة، فتلقى
جمع المشركين بجمع المسلمين، فإنك إذا سرت بمن معك ومن عندك، قل في نفسك ما
تكاثر من عدد القوم، وكنت أعز عزاً وأكثر، إنك لا تستبقي من نفسك بعد
اليوم باقية، ولا تمتع من الدنيا بعزيز، ولا تكون منها في حرز حريز. إن هذا اليوم له ما بعده، فاشهد
بنفسك ورأيك وأعوانك، ولا تغب عنه. فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
أما بعد، فإن هذا الأمر لم يكن نصره ولا خذلانه بكثرة
ولا قلة، إنما هو دين الله الذي أظهره، وجنده الذي أعزه وأمده بالملائكة،
حتى بلغ ما بلغ، فنحن على موعود من الله، والله منجز وعده، وناصر جنده، وإن مكانك منهم مكان النظام من الخرز، يجمعه ويمسكه، فإن انحل تفرق ما فيه وذهب، ثم لم يجتمع بحذافيره
أبداً، والعرب اليوم وإن كانوا قليلاً، فإنهم كثيرعزيز بالإسلام، أقم مكانك، واكتب إلى أهل الكوفة، فإنهم أعلام العرب
ورؤساؤهم، وليشخص منهم الثلثان، وليقم الثلث، واكتب إلى أهل البصرة
أن يمدوهم ببعض من عندهم، ولا تشخص الشام ولا اليمن،
إنك إن أشخصت أهل الشام من شامهم، سارت الروم إلى
ذراريهم، وإن أشخصت أهل اليمن من يمنهم سارت
الحبشة إلى ذراريهم، ومتى شخصت من هذه الأرض انتقضت
عليك العرب من أقطارها وأطرافها، حتى يكون ما تدع وراءك أهم إليك مما بين
يديك من العورات والعيالات. إن الأعاجم إن ينظروا إليك غداً قالوا: هذا أمير العرب وأصلهم،
فكان ذلك أشد لكلبهم عليك. وأما ما ذكرت من مسير القوم، فإن الله هو أكره
لسيرهم منك، وهو أقدر على تغييرما يكره، وأما ما ذكرت من عددهم فإنا لم نكن
نقاتل فيما مضى بالكثرة، وإنما كنا نقاتل
بالصبروالنصر. قالوا:
أنت أفضل رأياً، فقال: أشيروا علي به، واجعلوه عراقياً قالوا:
أنت أعلم بأهل العراق، وقد وفدوا عليك، فرأيتهم وكلمتهم. قال: أما والله
لأولين أمرهم رجلاً يكون عمداً لأول الأسنة، قيل:
ومن هو يا أمير المؤمنين؟ قال: النعمان بن مقرن، قالوا:
هولها. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن خطبة له رضي الله عنه في الغاية من بعثة الرسول
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
فبعث الله محمداً صلى الله عليه وآله وسلم
بالحق،
ليخرج عباده من عبادة الأوثان إلى عبادته، ومن طاعة الشيطان إلى طاعته، بقرآن قد
بينه وأحكمه، ليعلم العباد ربهم إذ جهلوه، وليقروا به بعد إذ جحدوه، وليثبتوه
بعد إذ أنكروه، فتجلى لهم سبحانه في كتابه من غير أن يكونوا رأوه بما أراهم من
قدرته، وخوفهم من سطوته. وكيف محق من محق بالمثلات، واحتصد من احتصد
بالنقمات! الشرح:
الأوثان: جمع وثن، وهو الصنم، ويجمع أيضاً على وثن، مثل أسد وآساد واسد، وسمى
وثناً لانتصابه وبقائه على حال واحدة، من قولك: وثن فلان بالمكان، فهو واثن، وهو
الثابت الدائم. قوله:
"فتجلى سبحانه لهم"، أي ظهر من غيرأن يرى بالبصر، بل بما نبههم عليه
في القرآن من قصص الأولين، وما حل بهم من النقمة عند مخالفة الرسل، والمثلات،
بضم الثاء: العقوبات. وقال الدارقطني:
ما الحديث الصحيح في الحديث إلا كالشعرة البيضاء في الثور الأسود. وأما غلبة الباطل على الحق حتى يخفى الحق عنده،
فظاهرة. والسلعة: المتاع، ونبذ الكتاب: ألقاه ولا يؤويهما:
لا يضمهما إليه، وينزلهما عنده. والقارعة:
المصيبة تقرع، أي تلقى بشدة وقوة. الأصل: أيها الناس،
إنه من استنصح الله وفق، ومن اتخذ قوله دليلاً هدي للتي هي أقوم، فإن جار الله
آمن، وعدوه خائف، وإنه لا ينبغي لمن عرف عظمة الله أن يتعظم، فإن رفعة الذين
يعلمون ما عظمته أن يتواضعوا له، وسلامة الذين يعلمون ما قدرته أن يستسلموا له.
فلا تنفروا من الحق نفار الصحيح من الأجرب، والبارىء من ذي السقم. وما ههنا، بمعنى أي شيء، ومن روى بالنصب جعلها
زائدة. وقد ورد في ذم التعظم والتكبر ما يطول استقصاؤه،
وهو مذموم على العباد، فكيف بمن يتعظم على الخالق سبحانه وإنه لمن الهالكين! وقال رسول! الله صلى
الله عليه وسلم لما افتخر: "أنا
سيد ولد آدم"، ثم قال: "ولا فخر"، فجهر بلفظة الافتخار، ثم أسقط
استطالة الكبر، وإنما جهر بما جهر به، لأنه أقامه مقام
شكر النعمة والتحدث بها، وفي الحديث المرفوع عنه صلى الله عليه وسلم: "إن الله
قد أذهب عنكم حمية الجاهلية وفخرها بالآباء، الناس بنو آدم، وآدم من تراب، مؤمن
تقي، وفاجر شقي. لينتهين أقوام يفخرون برجال، إنما هم فحم من فحم جهنم، أو
ليكونن أهون على الله من جعلان تدفع النتن بأنفها". ثم ذكر أنهم لا يخالفون الدين لأنهم قوامه وأربابه،
ولا يختلفون فيه، لأن الحق في التوحيد والعدل واحد، فالدين بينهم شاهد صادق
يأخذون بحكمه، كما يؤخذ بحكم الشاهد الصادق، وصامت ناطق، لأنه لا ينطق بنفسه بل
لا بد له من مترجم، فهو صامت في الصورة، وهو في المعنى أنطق الناطقين، لأن
الأوامر والنواهي والآداب كلها مبنية عليه، ومتفرعة عليه. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن كلام له رضي الله عنه في ذكر أهل البصرة
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: كل واحد
منهما يرجو الأمر له، ويعطفه عليه دون صاحبه، لا يمتان إلى الله بحبل، ولا يمدان
إليه بسبب، كل واحد منهما حامل ضب لصاحبه، وعما قليل يكشف قناعه به، والله لئن
أصابوا الذي يريدون عن هذا نفس هذا، وليأتين هذا على هذا، قد قامت الفئة الباكية
فأين المحتسبون! قد سنت لهم السنن، وقدم لهم الخبر، ولكل ضلة علة، ولكل ناكث
شبهة، والله لا أكون كمستمع اللدم، يسمع الناعي، ويحضر الباكي، ثم لا يعتبر. الشرح: ضمير التثنية راجع إلى طلحة والزبيررضي الله عنهما. ويمتان:
يتوسلان، الماضي ثلاثي، مت يمت بالضم والضب:
الحقد والمحتسبون: طالبو الحسبة، وهي الأجر. ومستمع اللدم كناية عن الضبع، تسمع وقع الحجر بباب
جحرها من يد الصائد فتنخذل وتكف جوارحها إليها حتى يدخل عليها فيربطها، يقول: لا
أكون مقراً بالضيم راغناً ، أسمع الناعي المخبر عن قتل عسكر الجمل لحكيم بن جبلة
وأتباعه، فلا يكون عندي من التغيير والإنكار لذلك، إلا أن أسمعه وأحضر الباكين
على قتلاهم. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وقعة يوم الجمل.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وروى أبو مخنف، قال:
لما تزاحف الناس يوم الجمل والتقوا، قال علي رضي الله عنه لأصحابه:
لا يرمين رجل منكم بسهم، ولا يطعن أحدكم فيهم برمح، حتى أحدث إليكم، وحتى
يبدأوكم بالقتال وبالقتل. فرمى أصحاب الجمل عسكر علي رضي الله عنه بالنبل رمياً شديداً متتابعاً،
فضج إليه أصحابه، وقالوا: عقرتنا سهامهم يا
أمير المؤمنين. وجيء برجل إليه، وإنه لفي فسطاط له صغير، فقيل له: هذا فلان قد قتل. فقال:
اللهم اشهد، ثم قال: أعذروا إلى القوم، فأتي
برجل آخر فقيل: وهذا قد قتل: فقال: اللهم اشهد، أعذروا إلى القوم، ثم أقبل عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي وهو من أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم، يحمل أخاه عبد الرحمن بن بديل، قد أصابه سهم فقتله، فوضعه بين يدي
علي رضي الله عنه، وقال:
يا أمير المؤمنين، هذا أخي قد قتل، فعند ذلك استرجع علي رضي الله عنه، ودعا
بدرع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات
الفضول فلبسها، فتدلت بطنه فرفعها ليده، وقال لبعض أهله، فحزم وسطه بعمامة،
وتقلد ذا الفقار، ودفع إلى ابنه محمد راية رسول الله صلى الله عليه وسلم السوداء،
وتعرف بالعقاب، وقال لحسن وحسين رضي الله عنهما:
إنما دفعت الراية إلى أخيكما. وتركتكما لمكانكما من رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم رفع مصحفاً بيده، فقال:
من يأخذ هذا المصحف، فيدعوهم إلى ما فيه، وله الجنة؟ فقام غلام شاب اسمه مسلم،
عليه قباء أبيض، فقال: أنا آخذه، فنظر إليه علي
وقال: يا فتى، إن أخذته، فإن يدك اليمنى تقطع، فتأخذه بيدك اليسرى فتقطع،
ثم تضرب بالسيف حتى تقتل فقال: لا صبر لي على ذلك، فنادى علي ثانية، فقام الغلام،
وأعاد عليه القول، وأعاد الغلام القول مراراً، حتى قال الغلام: أنا آخذه، وهذا
الذي ذكرت في الله قليل، فأخذه وانطلق، فلما خالطهم ناداهم: هذا كتاب الله بيننا
وبينكم. فضربه رجل فقطع يده اليمنى، فتناوله باليسرى فضربه أخرى فقطع اليسرى،
فاحتضنه فضربوه بأسيافهم، حتى قتل فقالت أم ذريح العبدية في ذلك:
قال أبو مخنف:
فعند ذلك أمر علي رضي الله عنه
ولده محمداً أن يحمل الراية، فحمل
وحمل معه الناس، واستحر القتل في الفريقين وقامت الحرب على ساق. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
مقتل طلحة والزبير.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال: فأما طلحة،
فإن أهل الجمل لما تضعضعوا قال مروان: لا
أطلب ثأر عثمان من طلحة بعد اليوم! فانتحى له بسهم فأصاب ساقه، فقطع أكحله ،
فجعل الدم يبض ، فاستدعى من مولى له بغلة، فركبها وأدبر، وقال لمولاه: ويحك! أما من مكان أقدر فيه على
النزول، فقد قتلني الدم! فيقول له مولاه:
انج، وإلا لحقك القوم، فقال: بالله ما رأيت
مصرع شيخ أضيع من مصرعي هذا! حتى انتهى إلى دار من دور البصرة، فنزلها ومات بها.
وأما الزبير فقتله ابن جرموز غيلة بوادي السباع، وهو منصرف عن الحرب، نادم على ما فرط منه، وتقدم
ذكر كيفية قتله فيما سبق. قال: فكان الحسن البصري إذا ذكر ذلك يقول: لقد كان في جوار عريض. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن كلام له رضي الله عنه قبل موته.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: أيها الناس،
كل امرىء لاق ما يفر منه في فراره. الأجل مساق النفس، والهرب منه موافاته، كم أطردت
الأيام أبحثها عن مكنون هذا الأمر، فأبى الله إلا إخفاءه. هيهات! علم مخزون. أما
وصيتي، فالله لا تشركوا به شيئاً، ومحمداً صلى الله عليه وآله
فلا تضيعوا سنته، أقيموا هذين
العمودين، وأوقدوا هذين المصباحين، وخلاكم ذم ما لم تشردوا. حمل
كل امرىء منكم مجهوده، وخفف عن الجهلة. رب رحيم، ودين قويم، وإمام عليم. أنا
بالأمس صاحبكم، وأنا اليوم عبرة لكم، وغداً مفارقكم! غفر الله لي ولكم! إن ثبتت
الوطأة في هذه المزلة فذاك، وإن تدحض القدم، فإنا كنا في أفياء أغصان، ومهب
رياح، وتحت ظل غمام. اضمحل
في الجو متلفقها، وعفا في الأرض مخطها، وإنما كنت جاراً جاوركم بدني أياماً،
وستعقبون مني جثة خلاء، ساكنة بعد حراك، وصامتة بعد نطق. ليعظكم
هدوئي، وخفوت إطراقي، وسكون أطرافي، فإنه أوعظ للمعتبرين من المنطق البليغ،
والقول المسموع. وهذا الكلام يدل على أنه لم يكن يعرف حال قتله
معرفة مفصلة من جميع الوجوه، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم
أعلمه بذلك علماً مجملاً، لأنه قد ثبت
أنه صلى الله عليه وسلم قال له: "ستضرب على هذه وأشار إلى هامته فتخضب منها هذه
وأشار إلى لحيته "، وثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال له: "أتعلم من أشقى الأولين "؟ قال: نعم، عاقر
الناقة، فقال له: "أتعلم من أشقى الآخرين "؟ قال: لا، قال: "من
يضربك ههنا، فيخضب هذه ".
وقول الخلص من شيعته: فهلا تقتله! فقال: فكيف
أقتل قاتلي! وتارة قال: إنه لم يقتلني، فكيف
أقتل من لم يقتل! وكيف قال في البط الصائح خلفه في المسجد، ليلة ضربه ابن ملجم:
دعوهن، فإنهن نوائح. وكيف قال تلك الليلة: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشكوت
إليه، وقلت: ما لقيت من أمتك من الأود واللدد ! فقال:
ادع الله عليهم، فقلت: "اللهم أبدلني بهم
خيراً منهم، وأبدلهم بي شراً مني! وكيف قال: إني
لا أقتل محارباً، وإنما أقتل فتكأ وغيلة، يقتلني رجل خامل الذكر. وقد جاء عنه رضي الله عنه من هذا الباب آثار كثيرة. قلت: كل هذا لا
يدل على أنه كان يعلم الأمر مفصلاً من جميع الوجوه، ألا ترى أنه ليس في الأخبار
والآثار ما يدل على الوقت الذي يقتل فيه بعينه، ولا على المكان الذي يقتل فيه
بعينه! وأما ابن ملجم، فمن الجائز أن يكون علم أنه هو الذي يقتله، ولم يعلم علماً محققاً أن
هذه الضربة تزهق نفسه الشريفة منها، بل قد كان يجوز أن يبل ويفيق منها، ثم يكون قتله فيما بعد على يد ابن ملجم، وإن طال
الأمد. وليس هذا بمستحيل،
وقد وقع مثله، فإن عبد الملك جرح عمرو بن سعيد
الأشدق في أيام معاوية على منافرة كانت بينهما فعفا عمرو عنه، ثم كان من القضاء والقدر أن
عبد الملك قتل عمراً أيضاً بيده ذبحاً، كما تذبح الشاة. قوله:
"أبحثها" أي أكشفها، وأكثر ما يستعمل "بحث " معدى بحرف
الجر، وقد عداه ههنا إلى "الأيام " بنفسه وإلى "مكنون
الأمر" بحرف الجر، وقد جاء: بحثت الدجاجة التراب، أي نبشته. قلت: مراده رضي الله عنه أني
كنت في أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله
كثيراً عن هذا الغيب، فما أنبأني منه إلا بأمور إجمالية غير مفصلة، ولم يأذن
الله تعالى في إطلاعي على تفاصيل ذلك. وخلاكم ذم: كلمة جارية مجرى المثل، معناها: ولا ذم عليكم،
فقد أعذرتم. وذم، مرفوع بالفاعلية، معناه:
عداكم وسقط عنكم. فإن قلت:
إذا لم يشركوا بالله ولم يضيعوا سنة محمد صلى الله عليه وسلم فقد قاموا بكل ما يجب، وانتهوا عن كل ما يقبح، فأي حاجة له
إلى أن يستثني ويقول: "ما لم تشردوا"، وإنما
كان يحتاج إلى هذه اللفظة لو قال: وصيتي إليكم أن توحدوا الله، وتؤمنوا بنبوة
محمد صلى الله عليه وسلم، كان حينئذ يحتاج إلى قوله: "ما لم تشردوا" ويكون
مراده بها فعل الواجبات، وتجنب المقبحات، لأنه ليس في الإقرار بالوحدانية
والرسالة العمل، بل العمل خارج عن ذلك، فوجب إذا أوصى أن يوصي بالاعتقاد والعمل،
كما قال عمر لأبي بكر في واقعة أهل الردة: كيف تقاتلهم وهم مقرون بالشهادتين،
وقد قال رسول صلى الله عليه وسلم "أمرت
بأن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله"، فقال أبو بكر: إنه قال تتمة هذا: "فإذا هم
قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها" وأداء الزكاة من حقها! قلت: مراده بقوله: "ما لم تشردوا" ما لم
ترجعوا عن ذلك فكأنه قال،: خلاكم ذم إن
وحدتم الله واتبعتم سنة رسوله، ودمتم على ذلك ولا شبهة أن هذا الكلام منتظم، وأن
اللفظتين الأوليين ليستا بمغنيتين عن اللفظة الثالثة وبتقدير أن يغنيا عنه، فإن
في ذكره مزيد تأكيد وإيضاح غير موجودين لو لم يذكر، وهذا كقوله تعالى: "ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون
،" وليس لقائل أن يقول: من لا
يخشى الله لا يكون مطيعاً لله والرسول، وأي حاجة به
إلى ذكر ما قد أغنى اللفظ الأول عنه! قوله:
"حمل كل امرىء مجهوده، وخفف عن الجهلة"، هذا كلام متصل بما قبله، لأنه
لما قال: "ما لم تشردوا" أنبأ عن تكليفهم كل ما وردت به السنة
النبوية: وأن يدوموا عليه، وهذا في الظاهر تكليف أمور شاقة، فاستدرك بكلام يدل
على التخفيف، فقال: إن التكاليف على قدر المكلفين، فالعلماء تكليفهم غير تكليف
العامة، وأرباب الجهل والمبادىء كالنساء وأهل البادية وطوائف من الناس، الغالب
عليهم البلادة وقلة الفهم، كأقاصي الحبشة والترك ونحوهم، وهؤلاء عند المكلفين
غير مكلفين، إلا بحمل التوحيد والعدل، بخلاف العلماء الذين تكليفهم الأمور
المفصلة وحل المشكلات الغامضة. وقد روي "حمل"
على صيغة الماضي، و "مجهوده " بالنصب، و "خفف " على صيغة الماضي أيضاً، ويكون الفاعل هو الله تعالى
المقدم ذكره، والرواية الأولى أكثر وأليق.
ويقال:
دحضت قدم فلان، أي زلت وزلقت، ثم شبه وجوده في الدنيا بأفياء الأغصان ومهاب
الرياح وظلال الغمام، لأن ذلك كله سريع الانقضاء لإثبات له. ومتلفقها:
مجتمعها، أي ما اجتمع من الغيوم في الجو، والتلفيق:
الجمع: وعفا: درس، ومخطها:
أثرها، كالخطة. وقوله: "ستعقبون مني " أي إنما تجدون عقيب فقدي جثة، يعني بدناً خلاء، أي لا روح
فيه، بل قد أقفر من تلك المعاني التي كنتم تعرفونها وهي العقل والنطق والقوة
وغير ذلك. ثم وصف تلك الجثة فقال: "ساكنة بعد
حراك " بالفتح، أي بعد حركة "وصامتة
بعد نطق ". وهذا
الكلام أيضاً يشعر بما قلناه من أمر النفس، بل يصرح بذلك، ألا تراه قال: "ستعقبون مني جثة"، أي تستبدلون بي
جثة صفتها كذا، وتلك الجثة جثته رضي الله عنه، ومحال أن يكون العوض والمعوض عنه واحداً، فدل على أن هويته رضي الله عنه التي أعقبنا منها الجثة غير الجثة. وما
عسى يبلغ قول الواعظين بالإضافة إلى من شاهد تلك الحال، بل بالإضافة إلى من
سمعها، وأفكر فيها، فضلاً عن مشاهدتها عياناً! وفي هذا الكلام شبه من كلام
الحكماء الذين تكلموا عند تابوت الإسكندر فقال
أحدهم: حركنا بسكونه. وقال آخر:
ما كان أحوجه إلى هذا الحلم، وإلى هذا الصبر والسكون أيام حياته! وقال آخر: القدرة
العظيمة التي ملأت الدنيا العريضة الطويلة، طويت في ذراعين. كان
بالأمس مالكاً، فصار اليوم هالكاً. ثم قال رضي الله عنه: "ودعتكم
وداع امرىء مرصداً للتلاقي"، أرصدته لكذا، أي أعددته له، وفي الحديث: "إلا أن أرصده لدين علي ". والتلاقي ههنا: لقاء الله. ويروى:
"وداعيكم " أي وداعي إياكم، والوداع مفتوح الواو.
وقال أبو الطيب:
ومن
أمثالهم: "الضد يظهر حسنه الضد". |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن خطبة له رضي الله عنه ويومىء فيها إلى الملاحم
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: وأخذوا
يميناً وشمالاً ظعناً في مسالك الغي، وتركاً لمذاهب الرشد، فلا تستعجلوا ما هو
كائن مرصد، ولا تستبطئوا ما يجيء به الغد، فكم من مستعجل بما إن أدركه ود أنه لم
يدركه. وما أقرب
اليوم من تباشير غد! يا قوم، هذا إبان ورود كل موعود، ودنو من طلعة ما لا
تعرفون. ألا وإن من أدركها منا يسري فيها بسراج منير، ويحذو فيها على مثال
الصالحين، ليحل فيها ربقاً، وعتق فيها ربقاً، ويصدع شعباً، ويشعب صدعاً، في سترة
عن الناس، لا يبصر القائف أثره، ولو تابع نظره، ثم ليشحذن فيها قوم شحذ القين
النصل، تجلى بالتنزيل أبصارهم، ويرمى بالتفسير في مسامعهم، ويغبقون كأس الحكمة
بعد الصبوح. الشرح: يذكر رضي الله عنه قوماً من فرق الضلال أخذوا يميناً وشمالاً، أي ضلوا عن الطريق
الوسطى التي هي منهاج لكتاب والسنة، وذلك لأن كل فضيلة وحق فهو محبوس بطرفين خارجين عن العدالة،
وهما جانبا الإفراط والتفريط، كالفطانة التي هي محبوسة بالجربزة والغباوة،
والشجاعة التي هي محبوسة بالتهور والجبن، والجود المحبوس بالتبذير والشح، فمن لم يقع على الطريق الوسطى وأخذ يميناً وشمالاً فقد
ضل. ونصب "تركا" و "ظعنأ" على
المصدرية، والعامل فيهما من غير لفظهما، وهو قوله:
"أخذوا". ثم نهاهم عن استعجال ما هو معد، ولا بد من كونه
ووجوده، وإنما سماه كائناً لقرب كونه، كما قال تعالى: إنك
ميت وإنهم ميتون" ، ونهاهم أن يستبطئوا ما يجيء في الغد لقرب وقوعه،
كما قال: وإن غداً للناظرين قريب. قال أبو العتاهية:
وقال أخر:
وقال تعالى: "وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون
".
وتباشير الصبح:
أوائله. ثم قال:
"يا قوم قد دنا وقت القيامة، وظهور الفتن التي تظهر أمامها. وربقاً: أي حبلاً معقوداً، ويعتق رقاً، أي
يستفك أسرى، وينقذ مظلومين من أيدي ظالمين، ويصدع شعباً، أي يفرق جماعة من
جماعات الضلال. ويشعب صدعاً:
يجمع ما تفرق من كلمة أهل الهدى والإيمان. الأصل:
منها: وطال الأمد بهم ليستكملوا الخزي، ويستوجبوا الغير، حتى إذا اخلولق الأجل،
واستراح قوم إلى الفتن، واشتالوا عن لقاح حربهم، لم يمنوا على الله بالصبر، ولم
يستعظموا بذل أنفسهبم في الحق، حتى إذا وافق وارد القضاء انقطاع مدة البلاء،
حملوا بصائرهم على أسيافهم، ودانوا لربهم بأمر واعظهم. قال رضي الله عنه:
وطال الأمد بهم ليستكملوا الخزي،
ويستوجبوا الغير، أي النعم التي يغيرها بهم من نعم الله سبحانه، كما قال: "وإذا
أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها
تدميراً،" وكما قال تعالى:
"سنستدرجهم من حيث لا يعلمون ". ولقاح حربهم: هو بفتح اللام، مصدر من لقحت الناقة.
فسره أبو عمرو بن العلاء، فقال: يريد أنهم تركوا دم أبيهم وجعلوه خلفهم، أي لم يثأروا به،
وأنا طلبت ثأري. وكان أبو عبيدة معمر بن المثنى يقول في هذا البيت: البصيرة: الترس أو الدرع، ويرويه:
"حملوا بصائرهم ". وهجروا السبب، يعني أهل البيت أيضاً، وهذه إشارة إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم:
"خلفت
فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، حبلان ممدودان من السماء إلى الأرض،
لا يفترقان حتى يردا علي الحوض "، فعبر أمير المؤمنين عن أهل البيت بلفظ
"السبب " لما كان النبي صلى
الله عليه وسلم قال:
"حبلان"، والسبب في اللغة: الحبل. ولا يمتنع
أيضاً أن يريد برجوعهم على الأعقاب ارتدادهم عن الإسلام بالكلية، فإن كثيراً من
أصحابنا يطعنون في إيمان بعض من ذكرناه ويعدونهم من المنافقين، وقد كان سيف رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقمعهم
ويردعهم عن إظهار ما في أنفسهم من النفاق، فأظهر قوم منهم بعده ما كانوا يضمرونه
من ذلك، خصوصاً فيما يتعلق بأمير المؤمنين، الذي ورد في حقه: ما كنا نعرف المنافقين
على عهد رسول الله إلا ببغض علي بن أبي طالب"، وهو
خبرمحقق مذكور في الصحاح. فإن قلت: يمنعك
من هذا التأويل قوله: "ونقلوا البناء عن رص
أساسه، فجعلوه في غيرموضعه "، وذلك لأن "إذا" ظرف والعامل
فيها قوله: "رجع قوم على الأعقاب"
وقد عطف عليه قوله: "ونقلوا البناء"
فإذا كان الرجوع على الأعقاب واقعاً في الظرف المذكور، وهو وقت قبض الرسول، وجب
أن يكون نقل البناء إلى غير موضعه واقعاً في ذلك الوقت أيضاً، لأن أحد الفعلين
معطوف على الآخر، ولم ينقل أحد وقت قبض الرسول صلى
الله عليه وسلم البناء إلى
معاوية عن أمير المؤمنين رضي الله عنه وإنما
نقل عنه إلى شخص آخر، وفي إعطاء العطف حقه إثبات مذهب الإمامية صريحاً! قلت: إذا كان
الرجوع على الأعقاب واقعاً وقت قبض النبي صلى
الله عليه وسلم فقد قمنا بما
يجب من وجود عامل في الظرف، ولا يجب أن يكون نقل البناء إلى غير موضعه واقعاً في
تلك الحال أيضاً، بل يجوز أن يكون واقعاً في زمان أخر إما بأن تكون الواو
للاستئناف لا للعطف، أو بأن تكون للعطف في مطلق الحدث لا في وقوع الحدث في عين
ذلك الزمان المخصوص، كقوله تعالى: "حتى إذا
أتيا أهل قرية أستطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جداراً يريد
أن ينقض فأقامه فالعامل في الظرف
"استطعما" ويجب أن يكون استطعامهما وقت إتيانهما أهلها لا
محالة. ولا يجب أن تكون جميع الأفعال المذكورة المعطوفة
واقعة حال الإتيان أيضاً ألا ترى أن من جملتها "فأقامه " ولم يكن
إقامة الجدار حال إتيانهما القرية بل متراخياً عنه بزمان ما اللهم إلا أن يقول قائل: أشار بيده إلى الجدار
فقام، أو قال له: قم فقام، لأنه لا يمكن أن
يجعل إقامة الجدار مقارناً للإتيان إلا على هذا الوجه وهذا لم يكن، ولا قاله
مفسر ولو كان قد وقع على هذا الوجه لما قال له: "لو
شئت لاتخذت عليه اجراً لأن الأجر إنما يكون على اعتمال عمل فيه مشقة
وإنما يكون فيه مشقة إذا بناه بيده، وباشره بجوارحه وأعضائه. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن خطبة له رضي الله عنه في التحذير من الفتن
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: وأستعينه على
مداحر الشيطان ومزاجره، والاعتصام من حبائله ومخاتله، وأشهد أن محمداً عبده
ورسوله ونجيبه وصفوته، لا يؤازى فضله، ولا يجبر فقده، أضاءت به البلاد بعد
الضلالة المظلمة، والجهالة الغالبة، والجفوة الجافية والناس يستحلون الحريم،
ويستذلون الحكيم يحيون على فترة، ويموتون على كفرة. قد اضطرب معقود الحبل وعمي وجه الأمر، تغيض فيها
الحكمة، وتنطق فيها الظلمة، وتدق أهل البدو بمسحلها، وترضهم بكلكلها، يضيع في
غبارها ألوحدان، ويهلك في طريقها الركبان، ترد بمر القضاء، وتحلب عبيط الدماء،
وتثلم منار الدين، وتنقض عقد اليقين، يهرب منها الأكياس، ويدبرها الأرجاس. مرعاد
مبراق، كاشفة عن ساق، تقطع فيها الأرحام، ويفارق عليها الإسلام، بريئها سقيم،
وظاعنها مقيم. الشرح:
مداحر الشيطان: الأمور التي يدحر بها. أي يطرد ويبعد، دحرته أدحره دحوراً، قال
تعالى: "دحوراً ولهم عذاب واصب "،
وقال سبحانه: "أخرج منها مذءوماً مدحوراً ،
أي مقصى. ومخاتله:
الأمور التي يختل بها بالكسر، أي يخدع، لا يؤازى فضله: لا يساوى، واللفظة
مهموزة، آزيت فلاناً، حاذيته، ولا يجوز "وازيته". والأغراض:
الأهداف. وسكرات
النعمة: ما تحدثه النعم عند أربابها من الغفلة المشابهة للسكر، قال الشاعر:
ومن كلام الحكماء:" للوالي سكرة لا يفيق منها إلا بالعزل. والبوائق: الدواهي، جمع بائقة، يقال: باقتهم
الداهية بوقاً، أي أصابتهم، وكذلك: باقتهم بؤوق على "فعول "، وابتاقت
عليهم بائقة شر، مثل انباحت، أي انفتقت، وانباق عليهم الدهر: هجم بالداهية، كما
يخرج الصوت من البوق، وفي الحديث: "لا يدخل
الجنة من لا يأمن جاره بوائقه!، أي غوائله وشره. والأقتم:
الذي يعلوه قتمة، وهو لون فيه غبرة وخمرة، والعشوة، بكسر العين: ركوب الأمر على
غير بيان ووضوح. ويروى:
"وتبينوا في قتام العشوة" كما قرىء: "إن
جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا " و "فتثبتوا".
وفي
المثل: "والشر تبدؤه صغاره "، وقال الشاعر:
وقال
أبوتمام:
وقال
أيضاً:
قوله: "شبابها كشباب الغلام " بالكسر، مصدر شب
الفرس والغلام يشب ويشب شباباً وشبيباً، إذا قمص ولعب، وأشببته أنا، أي هيجته.
ثم
ذكر أن هذه الفتنة يتوارثها قوم من قوم، وكلهم ظالم، أولهم يقود آخرهم كما يقود
الإنسان القطار من الإبل وهو أمامها وهي تتبعه. وآخرهم يقتدي بأولهم، أي يفعل
فعله ويحذو حذوه. ويجوز أن تكون من أراح البعير، أي مات، وقد جاء في أراح بمعنى أنتن راح بلا
همز. فإن قلت:
إن الكتاب العزيز إنما ذكر تبرؤ المتبوع من التابع في قوله: "إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب
وتقطعت بهم الأسباب "، وههنا قد عكس ذلك، فقال: إن التابع يتبرأ من
المتبوع! قلت: إنه قد ورد في الكتاب العزيز
مثل ذلك، في قوله: "أين شركاؤكم الذين كنتم
تزعمون" . "قالوا ضلوا عنا بل لم نكن ندعو من قبل شيئاً
"، فقولهم: "لم نكن ندعو من قبل
شيئاً" هو التبرؤ، وهو قوله حكاية عنهم: "والله
ربنا ما كنا مشركين" ، وهذا هو التبرؤ. تؤكد معنى تعجبه منهم، فقال: إنهم على ما قد ذكرنا
من تكالبهم عليها، عن قليل يتبرأ بعضهم من بعض، ويلعن بعضهم بعضاً، وذلك أدعى
لهم لو كانوا يعقلون إلى أن يتركوا التكالب والتهارش على هذه الجيفة الخسيسة. ثم عاد إلى نظام الكلام، فقال: ثم يأتي بعد ذلك
طالع الفتنة الرجوف، ومثل هذا الاعتراض في الكلام كثير، وخصوصاً في القرآن، وقد
ذكرنا منه فيما تقدم طرفاً. ومن سعى فيها، أي في تسكينها وإطفائها، وهذا كله
إشارة إلى الملحمة الكائنة في آخر الزمان، والتكادم: التعاض بأدق الفم، كما يكدم
الحمار، ويقال: كدم يكدم، والمكدم: المعض، والعانة: القطيع من حمر الوحش، والجمع عون، تغيض
فيها الحكمة: تنقص. يقول: تنحت أهل
البدو وتسحتهم كما يسحت الحديد أو الخشب بالمبرد. وأهل البدو: أهل البادية،
ويجوز أن يريد بالمسحل الحلقة التي في طرف شكيم اللجام المعترضة بإزاء حلقة أخرى
في الطرف الآخر، وتدخل إحداهما في الأخرى، بمعنى أن هذه الفتنة تصدم أهل البدو
بمقدمة جيشها كما يصدم الفارس الراجل أمامه بمسحل لجام فرسه، والكلكل: الصدر. وترضهم: تدقهم دقاً جريشاً. ويكون معنى الفقرة الثانية على هذا التفسير أن
الراكب الذي هو بمظنة النجاة لا ينجو. والركبان:
جمع راكب، ولا يكون إلا ذا بعير. قوله: ترد بمر
القضاء، أي بالبوار والهلاك والاستئصال. قلت: نعم، لا
بمعنى الخلق بل بمعنى الإعلام، كما قال سبحانه: "وقضينا
إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن"، أي أعلمناهم، أي ترد هذه الفتنة
بإعلام الله تعالى لمن يشاء إعلامه من المكلفين أنها أم اللهيم التي لا تبقي ولا
تذر، فذلك الإعلام هو المر الذي لا يبلغ الوصف مرارته، لأن الإخبار عن حلول
المكروه الذي لا مدفع عنه ولا محيص منه، مرجداً. قوله: وتحلب عبيط
الدماء، أي هذه الفتنة يحلبها الحالب دماً عبيطاً، وهذه كناية عن الحرب، وقد قال رضي الله عنه في موضع آخر: أما والله
ليحلبنها دما، وليتبعنها ندماً، والعبيط:
الدم الطري الخالص، وثلمت الإناء، أثلمه بالكسر، والأكياس:
العقلاء، والأرجاس: جمع رجس، وهو القذر
والنجس، والمراد ههنا الفاسقون، فإما أن
يكون على حذف المضاف، أي ويدبرها ذوو الأرجاس، أو أن يكون جعلهم الأرجاس أنفسها،
لما كانوا قد أسرفوا في الفسق، فصاروا كأنهم الفسق والنجاسة نفسها كما يقال: رجل
عدل، ورجل رضا. ومهابط العدوان:
محاله التي يهبط فيها! ولعق الحرام: جمع لعقة، بالضم، وهي اسم لما تأخذه
الملعقة، واللعقة، بالفتح: المرة الواحدة. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن خطبة له رضي الله عنه في صفات الله وأئمة الدين
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: الحمد لله
الدال على وجوده بخلقه، وبمحدث خلقه على أزليته، وباشتباههم على أن لا شبه له،
لا تستلمه المشاعر، ولا تحجبه السواتر، لافتراق الصانع والمصنوع، والحاد
والمحدود، والرب والمربوب، الأحد بلا تأويل عدد، والخالق لا بمعنى حركة ونصب،
والسميع لا بأداة، والبصير لا بتفريق آلة، والشاهد لا بمماسة، والبائن لا بتراخي
مسافة، والظاهر لا برؤية، والباطن لا بلطافة. من وصفه فقد حده، ومن حده فقد عده، ومن عدة فقد
أبطل أزله، ومن قال: كيف فقد أستوصفه، ومن
قال: أين، فقد حيزة، عالم إذ لا معلوم، ورب إذ لا مربوب، وقادر إذ لا مقدور. إحداهما: الطريقة
المذكورة في هذا الفصل، وهي طريقة المتكلمين، وهي إثبات أن الأجسام محدثة، ولا
بد للمحدث من محدث. والاستلام في اللغة: لمس الحجر باليد وتقبيله، ولا
يهمز، لأن أصله من السلام وهي الحجارة، كما يقال:
استنوق الجمل، وبعضهم يهمزه. وثالث عشرها:
أنه قال: بان من الأشياء بالقهر لها، والقدرة عليها، وبانت الأشياء منه بالخضوع
له، والرجوع إليه، هذا هو معنى قول المتكلمين والحكماء، والفرق بينه وبين
الموجودات كلها أنه واجب الوجود لذاته، والأشياء كلها ممكنة الوجود بذواتها،
فكلها محتاجة إليه، لأنها لا وجود له إلا به، وهذا هو معنى خضوعها له، ورجوعها
إليه. وهو سبحانه غني عن كل شيء، ومؤثر في كل شيء، إما
بنفسه، أو بأن يكون مؤثراً فيما هو مؤثر في ذلك الشيء، كأفعالنا، فإنه يؤثر
فينا، ونحن نؤثر فيها، فإذا هو قاهر لكل شيء، وقادر على كل شيء. فهذه هي
البينونة بينه وبين الأشياء كلها. إن الله تعالى خصكم بالإسلام، واستخلصكم له، وذلك
لأنه أسم سلامة، وجماع كرامة، أصطفى الله تعالى منهجه وبين حججه، من ظاهر علم،
وباطن حكم، لا تفنى غرائبه، ولا تنقضي عجائبه، فيه مرابيع النعم، ومصابيح الظلم،
لا تفتح الخيرات إلا بمفاتيحه، ولا تكشف الظلمات إلا بمصابيحه، قد أحمى حماه،
وأرعى مرعاه، فيه شفاء المشتفي، وكفاية المكتفي. فإن قلت:
أليس هو الذي طفق الدنيا، فأين هذا القول من طلاقها؟ قلت:
إنه طلق الدنيا أن يقبل منها حظاً دنيوياً، ولم يطلقها، أن ينهى فيها عن
المنكرات التي أمره الله تعالى بالنهي عنها، ويقيم فيها الدين الذي أمره الله
بإقامته، ولا سبيل له إلى النهي عن المنكر والأمر بالمعروف إلا بولاية الخلافة. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
هل الإمام إذا عمي استحق الخلع،
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
فإن قلت: أيجوز على مذهب المعتزلة أن يقال: إنه رضي الله عنه كان ينتظر قتل عثمان، انتظار المجدب
المطر، وهل هذا إلا محض مذهب الشيعة قلت: إنه رضي الله عنه لم
يقل: وانتظرنا قتله وإنما انتظر الغير، فيجوز أن يكون أراد انتظار خلعه
وعزله عن الخلافة، فإن علياً رضي الله عنه عند أصحابنا
كان يذهب إلى أن عثمان استحق الخلع بإحداثه، ولم يستحق القتل، وهذا
الكلام إذا حمل على انتظار الخلع كان موافقاً لمذهب أصحابنا. قال: "وعرفاؤه على عباده": جمع عريف، وهو
النقيب والرئيس، يقال: عرف فلان بالضم عرافة بالضم، مثل خطب خطابة أي صار
عريفاً، وإذا أردت أنه عمل ذلك قلت: عرف فلان
علينا سنين، يعرف عرافة بالكسر، مثل كتب يكتب كتابة. فقد ثبت أن
هذه القضية، وهي قوله رضي الله عنه: "لا يدخل
الجنة إلا من عرفهم " قضية صحيحة على مذهب المعتزلة، وليس قوله: "وعرفوه " بمنكر عند أصحابنا، إذا
فسرنا قوله تعالى: "يوم ندعو كل أناس
بإمامهم" على ما هو الأظهر والأشهر من التفسيرات، وهو ما ذكرناه. وبقيت القضية الثانية ففيها الإشكال، وهي قوله رضي
الله عنه: "ولا يدخل النار إلا من أنكرهم
وأنكروه"، وذلك أن
لقائل أن يقول: قد يدخل النار من لم ينكرهم، مثل
أن يكون إنسان يعتقد صحة إمامة القوم الذين يذهب أنهم أئمة عند المعتزلة، ثم
يزني أو يشرب الخمر من غير توبة، فإنه يدخل النار، وليس بمنكر للأئمة، فكيف يمكن الجمع بين هذه القضية وبين الاعتزال! فالجواب أن الواو في قوله "وأنكروه " بمعنى "أو" كما في قوله تعالى: "فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع
" فالإنسان المفروض في السؤال و إن كان لا ينكر الأئمة إلا أنهم
ينكرونه، أي يسخطون يوم القيامة أفعاله، يقال:
أنكرت فعل فلان أي كرهته، فهذا هو تأويل الكلام على
مذهبنا، فأما الإمامية فإنهم يحملون
ذلك على تأويل أخر، ويفسرون قوله: "ولا يدخل النار"، فيقولون: أراد ولا
يدخل النار دخولا مؤبداً إلا من ينكرهم وينكرونه. ثم ذكر رضي الله عنه شرف الإسلام،
وقال:
"إنه مشتق من السلامة، وإنه جامع للكرامة، وإن الله قد بين حججه، أي الأدلة
على صحته. ثم بين ما هذه الأدلة، فقال:
"من ظاهر علم، وباطن حكم " أي حكمة، ف "من " ههنا للتبيين
والتفسير، كما تقول: دفعت إليه سلاحاً من
سيف ورمح وسهم، ويعني بظاهر علم وباطن حكم، القرآن، ألا تراه كيف آتى بعده بصفات
ونعوت لا تكون إلا للقرآن، من قوله: "لا تفنى
عزائمه أي آياته المحكمة و "براهينه العازمة" أي القاطعة ولا
تنقضي عجائبه، لأنه مهماً تأمله الإنسان استخرج منه بفكره غرائب وعجائب لم تكن
عنده من قبل. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن خطبة له رضي الله عنه في تحذير الناس من الغفلة
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: وهو في مهلة
من الله يهوي مع الغافلين، ويغدو مع المذنبين، بلا سبيل قاصد، ولا إمام قائد. والسبيل القاصد:
الطريق المؤدية إلى المطلوب، والإمام: إما الخليفة، وإما الأستاذ، أو الدين، أو
الكتاب على كل من هؤلاء تطلق هذه اللفظة. وخالف من خالف ذلك إلى غيره، ودعه وما رضي لنفسه،
وضع فخرك، واحطط كبرك، واذكر قبرك، فإن عليه ممرك، وكما تدين تدان، وكما تزرع
تحصد، وما قدمت اليوم تقدم عليه غداً، فامهد لقدمك، وقدم ليومك. فالحذر
الحذر أيها المستمع! والجد الجد أيها الغافل، "ولا ينبئك مثل خبير ". قوله: "واختصر من عجلتك"،
أي لا تكن عجلتك كثيرة، بل إذا كانت لك عجلة فلتكن شيئاً يسيراً. وتقول:
أنعمت النظر في كذا، أي دققته، من قولك: أنعمت سحق الحجر، وقيل: إنه مقلوب "أمعن ".
ومن أمثالهم:
"من زرع شرأ حصد ندماً"، فامهد لنفسك: أي سو ووطىء. والذنوب
المذكورة هي أن يتخذ مع الله إلها آخر فيشركه في
العبادة، أو يقتل إنساناً بغير حق،
بل ليشفي غيظه، أو يقذف غيره بأمر قد فعله
هو. فلما خرج لقيه ذلك الرجل بالباب، فقال: يا أبا بحر، إني لأعلم أن شر من
خلق الله هذا الرجل، ولكن هؤلاء قد استوثقوا من هذه الأموال بالأبواب والأقفال،
فلسنا نطمع في استخراجها إلا بما سمعت فقال:
يا هذا أمسك عليك، فإن ذا الوجهين خليق ألا يكون وجيهاً عند الله غداً. قلت: كلا، فإن هذه الخطبة خطب بها وهو سائر إلى البصرة، ولم تقع
الحرب إلا بعد تعدد الكبائر، ورمز فيها إلى المذكورين، وقال: إن لم
يتوبوا، وقد ثبت أنهم تابوا، والأخبار عنهم بالتوبة
كثيرة مستفيضة. ثم قال:
وان النساء همهن زينة الحياة الدنيا والفساد فيها. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن خطبة له في فضائل أهل البيت
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: وناظر قلب
اللبيب به يبصر أمده، ويعرف غوره ونجده، داع دعا، وراع رعى، فاستحيبوا للداعي
واتبعوا الراعي. والنجد:
المرتفع من الأرض، ومنه قولهم للعالم بالامور: طلاع أنجد. ويمكن أن يريد خزنة الجنة وأبواب الجنة، أي لا يدخل
الجنة إلا من وافى بولايتنا، فقد جاء في حقه الخبر
الشائع المستفيض: إنه قسيم النار والجنة، وذكر أبو عبيد الهروي في
"الجمع بين الغريبين "، أن قوماً من أئمة العربية فسروه فقالوا: لأنه لما كان محبه من أهل الجنة، ومبغضة
من أهل النار، كأنه بهذا الاعتبار قسيم النار
والجنة. قال أبو عبيد: وقال غير
هؤلاء: بل هو قسيمها بنفسه في الحقيقة يدخل قوماً إلى الجنة، وقوماً إلى النار،
وهذا الذي ذكره أبو عبيد أخيراً هو ما يطابق الأخبار الواردة فيه، يقول للنار: هذا لي فدعيه، وهذا لك فخذيه. ثم قال: من
أتاها من غيرأبوابها سمي سارقاً، وهذا حق ظاهراً وباطناً، أما الظاهر فلأن من
يتسور البيوت من غير أبوابها هو السارق، وأما الباطن فلأن من طلب العلم من غير
أستاذ محقق فلم يأته من بابه، فهو أشبه شيء بالسارق. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
في فضائل الامام علي رضي الله عنه،
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
واعلم أن أمير المؤمنين رضي الله عنه لو
فخر بنفسه، وبالغ في تعديد مناقبه وفضائله بفصاحته، التي آتاه الله تعإلى إياها
واختصه بها وساعده على ذلك فصحاء العرب كافة، لم يبلغوا إلى معشار ما نطق به
الرسول الصادق صلوات الله عليه في أمره، ولست أعني
بذلك الأخبار العامة الشائعة التي يحتج بها الإمامية على إمامته، كخبر الغدير، والمنزلة،
وقصة براءة، وخبر المناجاة، وقصة خيبر، وخبر الدار بمكة في ابتداء الدعوة، ونحو
ذلك، بل الأخبار الخاصة التي رواها فيه أئمة
الحديث، التي لم يحصل أقل القليل منها لغيره، وأنا أذكر من ذلك شيئاً يسيراً مما رواه علماء الحديث الذين لا يتهمون فيه، وجلهم قائلون بتفضيل غيره عليه، فروايتهم فضائله توجب من سكون النفس ما لا يوجبه رواية غيرهم. قال عمر: فما تمنيت الإمارة إلا يومئذ، وجعلت أنصب
له صدري رجاء أن يقول: هو هذا. فالتفت فأخذ بيد علي وقال: هو هذا، مرتين. يقتل المقاتلة، ويسبي الذرية. قال أبو ذر: فما راعني الا برد كف عمر في حجزتي
من خلفي، يقول: من تراه يعني؟ فقلت: إنه لا
يعنيك، وإنما يعني خاصف النعل، وإنه قال: هو هذا. فقلت: قد بشرته يا رب فقال: أنا عبد الله وفي
قبضته، فإن يعذبني فبذنوبي لم يظلم شيئاً، وإن يتم لي ما وعدني فهو أولى، وقد
دعوت له فقلت: اللهم اجل قلبه، واجعل ربيعه الإيمان بك. قال: قد فعلت ذلك،
غيرأني مختصه بشيء من البلاء لم أختص به أحداً من أوليائي، فقلت: رب، أخي وصاحبي! قال:
إنه سبق في علمي: إنه لمبتل ومبتلىً. إن علياً
أميني غداً في القيامة، وصاحب رايتي، بيد علي مفاتيح خزائن رحمة ربي. الخبر السادس:
"والذي نفسي بيده، لولا أن تقول طوائف من أمتي فيك ما قالت النصارى في ابن
مريم، لقلت اليوم فيك مقالاً، لا تمر بملأ من المسلمين إلا أخذوا التراب من تحت
قدميك للبركة، ذكره أبو عبد الله أحمد بن حنبل في
المسند. ثم قال لعلي: "تسير
به حتى تقف بيني وبين إبراهيم الخليل، ثم تكسى حلة، وينادي
مناد من العرش: نعم العبد أبوك إبراهيم! ونعم الأخ أخوك علي! أبشر فإنك
تدعى إذا دعيت، وتكسى إذا كسيت، وتحا إذا حييت. قال أنس: فقلت: اللهم اجعله رجلاً من الأنصار،
وكتبت دعوتي، فجاء علي، فقال صلى الله عليه وسلم:
من
جاء يا أنس؟ فقلت: علي، فقام إليه مستبشراً،
فاعتنقه، ثم جعل يمسح عرق وجهه. فقال علي: يارسول الله صلى الله عليه وسلم، لقد رأيت
منك اليوم تصنع بي شيئاً ما صنعته بي قبل! قال:
وما يمنعني وأنت تؤدي عني، وتسمعهم صوتي، وتبين لهم ما اختلفوا فيه بعدي!
"، رواه أبو نعيم الحافظ في حلية الأولياء. الخبر الرابع عشر: "كنت أنا وعلي نوراً بين يدي الله عز وجل قبل أن
يخلق آدم بأربعة عشر ألف عام، فلما خلق آدم قسم ذلك فيه وجعله جزأين، فجزء أنا
وجزء علي ". الحديث السادس عشر: لما
كانت ليلة بدر، قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم:
"من يستقي لنا ماء"؟، فأحجم الناس، فقام علي رضي الله عنه فاحتضن قربة، ثم أتى بئراً
بعيدة القعر مظلمة، فانحدر فيها، فأوحى الله إلى
جبريل وميكائيل وإسرافيل: أن تأهبوا لنصر محمد وأخيه وحزبه، فهبطوا من
السماء، لهم لغط يذعر من يسمعه، فلما حاذوا البئر، سلموا عليه من عند آخرهم
إكراماً له إجلالاً. أيها الناس
أوصيكم بحب ذي قرباها، أخي وابن عمي علي بن أبي طالب، لا يحبه إلا مؤمن، ولا
يبغضه إلا منافق، من أحبه فقد أحبني، ومن أبغضه فقد أبغضني، ومن أبغضني عذبه
الله بالنار"، رواه أحمد رضي الله عنه في
كتاب فضائل علي رضي الله عنه. الحديث الثامن عشر:
"الصديقون ثلاثة: حبيب النجار، الذي جاء من أقصى المدينة يسعى، ومؤمن آل
فرعون الذي كان يكتم إيمانه، وعلي بن أبي طالب، وهوأفضلهم "، رواه أحمد في كتاب فضائل علي رضي الله عنه. الحديث الرابع والعشرون: لما أنزل: "إذا جاء نصر الله والفتح " بعد
انصرافه رضي الله عنه
من غزاة حنين، جعل يكثر من
"سبحان الله أستغفر الله "، ثم قال: يا علي إنه قد جاء ما وعدت به،
جاء الفتح، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، وإنه ليس أحد أحق منك بمقامي لقدمك
في الإسلام وقربك مني، وصهرك وعندك سيدة نساء العالمين وقبل ذلك ما كان من بلاء
أبي طالب عندي حين نزل القرآن، فأنا حريص على أن اراعي ذلك لولده، رواه أبو إسحاق الثعلبي في تفسير القرآن. الشرح قوله: فيهم يرجع إلى آل محمد صلى الله عليه وسلم الذين عناهم بقوله: "نحن الشعار والأصحاب "، وهو يطلق دائماً. هذه
الصيغ الجمعية، ويعني لمسه، وفي القرآن كثير من ذلك، نحو قوله تعالى: "الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم
فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل ".
فإن قلت:
أيكون في الإيمان كرائم وغير كرائم؟ قلت:
نعم لأن الإيمان عند أكثر أصحابنا اسم للطاعات كلها واجبها ونفلها، فمن كانت
نوافله أكثر كانت كرائم الإيمان عنده أكثر، ومن قام بالواجبات فقط من غير نوافل،
كان عنده الإيمان، ولم يكن عنده كرائم الإيمان. ثم
أمر رضي الله عنه بالتقوى والعمل الصالح، وقال: ليصدق رائد أهله ، الرائد: الذاهب من الحي يرتاد لهم المرعى، وفي أمثالهم:
"الرائد لا يكذب أهله "، والمعنى
أنه رضي الله عنه أمر الإنسان بأن يصدق نفسه
ولا يكذبها بالتسويف والتعليل، قال الشاعر:
وفي المثل: "المتشبع بما لا يملك كلابس ثوبي زور". يقول: إن لكلتا حالتي الإنسان الظاهرة أمراً
باطناً يناسبها من أحواله، والحالتان الظاهرتان:
ميله إلى العقل وميله إلى الهوى، والمتبع لمقتضى عقله يرزق السعادة والفوز، فهذا
هو الذي طاب ظاهره، وطاب باطنه، والمتبع لمقتضى هواه وعادته ودين أسلافه يرزق
الشقاوة والعطب، وهذا هو الذي خبث ظاهره وخبث باطنه. وهذا الكلام مثل في الإخلاص وضده وهو
الرياء وحب السمعة، فكل عمل يكون مدده الإخلاص لوجهه
تعالى لا غير فإنه زاك حلو الجنى، وكل عمل يكون الرياء وحب الشهرة مدده فليس
بزاك، وتكون ثمرته مرة المذاق. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن خطبة له يذكر فيها بديع خلقة الخفاش
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: الحمد لله
الذي أنحسرت الأوصاف عن كنه معرفته، وردعت عظمته العقول فلم تجد مساغاً إلى بلوغ
غاية ملكوته، هو الله الحق المبين، أحق وأبين مما ترى العيون. لم تبلغه العقول
بتحديد فيكون مشبهاً، ولم تقع عليه الأوهام بتقدير فيكون ممثلاً. خلق الخلق على
غير تمثيل ولا مشورة مشير، ولا معونة معين فتم خلقه بأمره، وأذعن لطاعته فأجاب
ولم يدافع، وأنقاد ولم ينازع. الشرح: الخفاش، واحد
جمعه خفافيش، وهو هذا الطائر الذي يطير ليلاً ولا يطير نهاراً، وهو مأخوذ من
الخفش، وهو ضعف في البصر خلقة، والرجل أخفش، وقد يكون علة، وهو الذي يبصر بالليل
لا بالنهار، أو في يوم غيم لا في يوم صحو. وردعت:
كفت. والمساغ: المسلك. قوله:
يقبضها الضياء، أي يقبض أعينها. قوله:
وتتصل بعلانية برهان الشمس، كلام جيد في مذاهب الاستعارة. وأكنها:
سترها، وبلج ائتلاقها: جمع بلجة، وهي أول
الصبح، وجاء بلجة أيضاً بالفتح. والأسداف: مصدر أسدف الليل، أظلم، وغسق الدجنة: ظلام الليل. فإذا ألقت الشمس قناعها، أي سفرت عن وجهها وأشرقت. ووجارها: بيتها.
وشظايا الآذان:
أقطاع منها. والقصب ههنا:
الغضروف. وخلاصة الخطبة،
التعحب من أعين الخفافيش التي تبصر ليلاً ولا تبصر نهاراً، وكل الحيوانات بخلاف
ذلك، فقد صار الليل لها معاشاً، والنهار لها سكناً بعكس الحال فيما عداها. ثم من أجنحتها التي تطيربها وهي لحم لا ريش عليه
ولا غضروف وليست رقيقة فتنشق ولا كثيفة فتثقلها عن الطيران. ثم من
ولدها إذا طارت احتملته وهو لاصق بها، فإذا وقعت وقع ملتصقاً بها هكذا، إلى أن
يشتد ويقوى على النهوض فيفارقها. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أخبار غرائب الطيور وصفاتها،
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
واعلم أنه رضي الله عنه قد أتى
بالعلة الطبيعية في عدم إبصارها نهاراً وهو انفعال حاسة بصرها عن الضوء الشديد، وقد
يعرض مثل ذلك لبعض الناس وهو المرض المسمى "روز
كور" أي أعمى النهار، ويكون ذلك عن إفراط التحلل لا الروح النوري،
فإذا لقي حر النهار أصابه قمر ، ثم يستدرك ذلك برد
الليل فيزول، فيعود الإبصار. وجملة
الأمر أنه تعجب من عجيب. وفي الأحاديث العامية: قيل للخفاش: لماذا لا جناح
لك؟ قال: لأني تصوير مخلوق، قيل: فلما لا تخرج نهاراً؟ قال: حياء من الطيور، يعنون أن المسيح عليه السلام صوره، وأن إليه
الإشارة بقوله تعالى: "وإذ تخلق من الطين
كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيراً بإذني ". والكراكي يجمعها أمير لها كيعسوب
النحل، ولا يجمعها إلا أزواجاً والعصافير
آلفة للناس آنسة بهم، لا تسكن داراً حتى يسكنها إنسان ومتى سكنتها لم تقم
فيها إذا خرج الإنسان منها فبفراقه تفارق وبسكناه تسكن. ويذكر أهل البصرة أنه إذا كان زمن الخروج إلى
البساتين لم يبق في البصرة عصفور إلا خرج إليها، الا
ما أقام على بيضه وفراخه، وقد يدرب العصفور فيستجيب من المكان البعيد
ويرجع. ويتميز
الذكر من الأنثى في العصافير تميز الديك من الدجاجة لأن له لحية ولا شيء أحنى
على ولده منه، وإذا عرض له شيء صاح فأقبلت إليه العصافير يساعدنه وليس لشيء في
مثل جسم العصفور من شدة وطئه إذا مشى على السطح ما للعصفور فإنك إذا كنت تحت
السطح ووقع حسبت وقعته وقعة حجر، وذكور العصافيرلا تعيش إلا سنة، وكثيراً ما
تجلب الحيات إلى المنازل، لأن الحيات تتبعها حرصا على ابتلاع بيضها وفراخها. وكل ديك فإنه يلتقط الحبة فيحذف بها إلى الدجاجة
سماحاً وإيثاراً ولهذا قالوا: أسمح من
لاقطة، يعنون الديكة، إلا ديكة مرو بخراسان،
فإنها تطرد دجاجها عن الحب وتنزعه من أفواهها فتبتلعه. وإذا خرج الجوزل عن بيضته علم أبواه أن حلقه لا
يتسع للغذاء، فلا يكون لهما هم إلا أن ينفخا في حلقه الريح لتتسع حوصلته بعد
التحامها، ثم يعلمان أنه لا يحتمل في أول اغتذائه أن يزق بالطعم فيزقانه باللعاب
المختلط بقواهما وقوى الطعم ثم يعلمان أن حوصلته تحتاج إلى دباغ، فيأكلان من
شورج ، أصول الحيطان، وهو شيء من الملح الخالص والتراب فيزقانه به. فإذا علما
أنه قد اندبغ زقاه بالحب الذي قد غب في حواصلهما، ثم بالذي هو أطرى فأطرى، حتى
يتعود فإذا علما أنه قد أطاق اللقط منعاه بعض المنع، ليحتاج ويتشوف، فتطلبه
نفسه، ويحرص عليه فإذا فطماه وبلغا منتهى حاجته إليهما، نزع الله تلك الرحمة
منهما، وأقبل بهما على طلب نسل آخر. ويقال: إن حية أكلت بيض مكاء فجعل
المكاء يشرشر على رأسها، ويدنو منها حتى دلعت الحية لسانها، وفتحت فاها تريده
وتهم به، فألقى فيها حسكة فأخذت بحلقها حتى ماتت!. ويقال: إن الحبارى تموت كمداً إذا انحسر عنها
ريشها، ورأت صويحباتها تطير. ثم إن ما فيه من شبه الطير جذبه إلى
البيض، وما فيه من شبه البعير لم يجذبه إلى الولادة. والنعام قد يتخذ في الدور، وضرره شديد، لأن النعامة ربما
رأت في أذن الجارية قرطاً فيه حجر أو حبة لؤلؤ، فخطفته وأكلته، وخرمت الأذن،
أو رأت ذلك في لبتها فضربت بمنقارها اللبة فخرقتها. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن كلام له خاطب به أهل البصرة على جهة اقتصاص
الملاحم
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: فمن أستطاع
عند ذلك أن يعتقل نفسه على الله فليفعل، وإن أطعتموني، فإني حاملكم إن شاء الله
على سبيل الجنة وإن كان ذا مشقة شديدة، ومذاقة مريرة. وأما فلانة فأدركها رأي النساء، وضغن غلا في صدرها
كمرجل القين، ولو دعيت لتنال من غيري ما أتت إلي لم تفعل. ولها بعد حرمتها
الأولى، والحساب على الله!. الشرح: يعتقل نفسه على الله: يحبسها على طاعته. ثم ذكر أن
السبيل التي حملهم عليها وهي سبيل الرشاد ذات مشقة شديدة ومذاقة مريرة لأن
الباطل محبوب النفوس فإنه اللهو واللذة، وسقوط التكليف، وأما الحق فمكروه النفس
لأن التكليف صعب وترك الملاذ العاجلة شاق شديد المشقة، والضغن: الحقد. والمرجل:
قدر كبيرة. والقين: الحداد، أي كغليان قدر من حديد. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
عائشة وبعض أخبارها
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وفلانة كناية عن ام
المؤمنين عائشة، أبوها أبو بكر، وقد تقدم ذكر
نسبه، وأمها أم رومان ابنة عامر بن عويمر بن عبد
شمس بن عتاب بن أذينة بن سبيع بن دهمان بن الحارث بن غنم بن مالك بن كنانة. تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة بسنتين، بعد وفاة خديجة وهي بنت سبع سنين،
وبنى عليها بالمدينة وهي بنت تسع سنين وعشرة أشهر،
وكانت قبله تذكر لجبيربن مطعم، وتسمى له، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في المنام عائشة في سرقة من حرير عند متوفى
خديجة، فقال: "إن يكن هذا من عند الله يمضه "
روي هذا الخبر في المسانيد الصحيحة، وكان نكاحه
إياها في شوال، وبناؤه عليها في شوال أيضاً، فكانت تحب أن تدخل النساء من أهلها
وأحبتها على أزواجهن في شوال وتقول: هل كان في نسائه
أحظى مني! وقد نكحني، وبنى علي في شوال، رداً بذلك على من يزعم من النساء أن
دخول الرجل بالمرأة بين العيدين مكروه. وكانت فقيهة راوية للشعر، ذات حظ من رسول
الله صلى الله عليه وسلم وميل ظاهر إليها، وكانت لها عليه جرأة وإدلال لم يزل ينمي ويستشري،
حتى كان منها في أمره في قصة مارية، ما كان من الحديث الذي أسره إلى الزوجة
الأخرى ، وأدى إلى تظاهرهما عليه، وأنزل فيهما قرآناً يتلى في المحاريب، يتضمن
وعيداً غليظاً عقيب تصريح بوقوع الذنب، وصغو القلب، وأعقبتها تلك الجرأة، وذلك
الإنبساط وحدث منها في أيام
الخلافة العلوية ما حدث ولقد عفا الله تعالى عنها، وهي من أهل الجنة عندنا بسابق
الوعد، وما صح من أمر التوبة. وأما الضغن
، فاعلم أن هذا الكلام يحتاج إلى شرح وقد كنت قرأته على الشيخ أبي يعقوب يوسف بن
إسماعيل اللمعاني رحمه الله أيام اشتغالي عليه بعلم الكلام، وسألته عما عنده
فيه، فأجابني بجواب طويل، أنا أذكر محصوله، بعضه بلفظه رحمه الله، وبعضه بلفظي، فقد شذ عني الآن لفظه كله بعينه، قال: أول بدء الضغن كان بينها
وبين فاطمة عليها السلام
وذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها عقيب موت خديجة، فأقامها مقامها، وفاطمة هي ابنة
خديجة، ومن المعلوم أن ابنة الرجل إذا ماتت أمها، وتزوج أبوها أخرى، كان بين الابنة وبين المرأة كدر وشنآن ، وهذا لا بد منه،
لأن الزوجة تنفس عليها ميل الأب، والبنت تكره ميل أبيها إلى امرأة غريبة. كالضرة لأمها،
بل هي ضرة على الحقيقة، وإن كانت الأم ميتة. ولأنا
لو قدرنا الأم حية، لكانت العداوة مضطرمة متسعرة، فإذا
كانت قد ماتت ورثت ابنتها تلك العداوة، وفي المثل: عداوة الحماة والكنة. وقال الراجز:
ثم
اتفق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مال
إليها وأحبها، فازداد ما عند فاطمة بحسب زيادة ميله، وأكرم رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة إكراماً عظيماً أكثر مما كان الناس يظنونه وأكثر من
إكرام الرجال لبناتهم، حتى خرج بها عن حد حب الآباء للأولاد، فقال بمحضر الخاص
والعام مراراً لا مرة واحدة، وفي مقامات مختلفة لا في مقام واحد: إنها سيدة نساء العالمين، وإنها عديلة مريم بنت عمران، وإنها
إذا مرت في الموقف نادى مناد من جهة العرش: يا أهل الموقف، غضوا أبصاركم لتعبر
فاطمة بنت محمد. وهذا من الأحاديث الصحيحة، وليس من الأخبار المستضعفة
وإن إنكاحه علياً إياها ما كان إلا بعد أن أنكحه الله
تعالى إياها في السماء بشهادة الملائكة. وكم قال لا مرة: يؤذيني
ما يؤذيها، ويغضبني ما يغضبها، وإنها بضعة مني، يريبني ما رابها، فكان
هذا وأمثاله يوجب زيادة الضغن عند الزوجة حسب زيادة هذا التعظيم والتبجيل،
والنفوس البشرية تغيظ على ما هو دون هذا، فكيف هذا! ثم
حصل عند بعلها ما هو حاصل عندها أعني علياً عليه السلام فإن النساء كثيراً ما يجعلن
الأحقاد في قلوب الرجال لا سيما وهن محدثات الليل، كما قيل في المثل، وكانت تكثر الشكوى من عائشة، ويغشاها نساء المدينة
وجيران بيتها فينقلن إليها كلمات عن عائشة، ثم
يذهبن إلى بيت عائشة فينقلن إليها كلمات عن فاطمة وكما
كانت فاطمة تشكو إلى بعلها، كانت عائشة تشكو إلى أبيها، لعلمها أن بعلها لا يشكيها على
ابنته، فحصل في نفس أبي بكر من ذلك أثر ما، ثم
تزايد تقريظ رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي
رضي الله عنه وتقريبه واختصاصه فأحدث ذلك حسداً له وغبطة في نفس أبي بكر عنه وهو أبوها، وفي نفس طلحة وهو ابن عمها، وهي تجلس إليهما وتسمع
كلامهما وهما يجلسان إليها ويحادثانها، فأعدى إليها منهما كما أعدتهما. وبلغ عائشة هذا
الكلام كله، وسمعت أضعافه مما جرت عادة الناس أن يتداولوه في مثل هذه الواقعة،
ونقل النساء إليها كلاماً كثيراً عن علي وفاطمة، وأنهما قد أظهرا الشماتة
جهاراً وسراً بوقوع هذه الحادثة لها، فتفاقم الأمر
وغلظ. ثم إن رسول الله صلى الله عليه
وسلم
صالحها ورجع إليها، ونزل القرآن ببراءتها
فكان منها ما يكون من الإنسان ينتصر بعد أن قهر،
ويستظهر بعد أن غلب، ويبرأ بعد أن أتهم من بسط اللسان، وفلتات القول، وبلغ
ذلك كله علياً رضي الله عنه وفاطمة عليها السلام، فاشتدت الحال وغلظت، وطوى كل من الفريقين قلبه على الشنآن لصاحبه. ثم كان
بينها وبين علي رضي الله عنه في
حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحوال
وأقوال كلها تقتضي تهييج ما في النفوس، نحو قولها له وقد استدناه رسول الله،
فجاء حتى قعد بينه وبينها وهما متلاصقان: أما وجدت مقعداً لكذا لا تكني عنه إلا
فخذي! ونحو ما روي أنه سايره يوماً وأطال مناجاته فجاءت وهي سائرة خلفهما حتى
دخلت بينهما، وقالت: فيم أنتما فقد أطلتما! فيقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم غضب ذلك اليوم. وما روي من حديث الجفنة من الثريد
التي أمرت الخادم فوقفت لها فأكفأتها ونحو ذلك مما يكون بين الأهل وبين المرأة
وأحمائها. ثم اتفق أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم سد باب أبيها إلى المسجد، وفتح باب صهره ثم بعث أباها ببراءة
إلى مكة، ثم عزله عنها بصهره، فقدح ذلك
أيضاً في نفسها، وولد لرسول الله إبراهيم من مارية،
فأظهر علي عليه السلام بذلك سروراً كثيراً،
وكان يتعصب لمارية، وبقوم بأمرها عند رسول الله صلى الله عليه
وسلم
ميلاً
على غيرها، وجرت لمارية نكبة مناسبة لنكبة عائشة،
فبرأها علي رضي الله عنه منها، وكشف بطلانها، أو كشفه الله تعالى على يده، وكان ذلك كشفاً
محساً بالبصر، لا يتهيأ للمنافقين أن يقولوا فيه ما قالوه في القرآن المنزل
ببراءة عائشة، وكل ذلك مما
كان يوغر صدر عائشة عليه، ويؤكد ما في نفسها منه، ثم مات إبراهيم فأبطنت شماتة، وإن أظهرت كآبة، ووجم
علي عليه السلام من
ذلك وكذلك فاطمة، وكانا يؤثران، ويريدان أن تتميز مارية عليها بالولد، فلم يقدر
لهما ولا لمارية ذلك وبقيت الأمور على ما هي عليه،
وفي النفوس ما فيها، حتى مرض رسول الله صلى
الله عليه وسلم
المرض
الذي توفي فيه، وكانت فاطمة عليها السلام وعلي
رضي الله عنه يريدان
أن يمرضاه في بيتهما، وكذلك كان أزواجه كلهن، فمال إلى بيت عائشة بمقتضى المحبة القلبية التي كانت لها دون نسائه، وكره
أن يزاحم فاطمة وبعلها في بيتهما، فلا يكون عنده من الإنبساط لوجودهما ما يكون
إذا خلا بنفسه في بيت من يميل إليه بطبعه، وعلم أن المريض يحتاج إلى فضل مداراة،
ونوم ويقظة وانكشاف، وخروج حدث، فكانت نفسه إلى بيته
أسكن منها إلى بيت صهره وبنته، فإنه إذا تصور حياءهما منه استحيا هو أيضاً منهما
وكل أحد يحب أن يخلو بنفسه، ويحتشم الصهر والبنت، ولم يكن له إلى غيرها من
الزوجات مثل ذلك الميل إليها، فتمرض في بيتها، فغبطت على ذلك، ولم يمرض
رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ
قدم المدينة مثل هذا المرض وإنما كان مرضه الشقيقة يوماً أو بعض يوم ثم يبرأ،
فتطاول هذا المرض وكان علي عليه السلام لا يشك أن الأمر له،
وأنه لا ينازعه فيه أحد من الناس، ولهذا قال له
عمه وقد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم: امدد
يدك أبايعك، فيقول الناس: عم رسول الله صلى
الله عليه وسلم بايع ابن عم
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا
يختلف عليك اثنان. قال: يا عم، وهل يطمع فيها طامع غيري! قال: ستعلم،
قال: فإني لا أحب هذا الأمر من وراء رتاج، وأحب أن أصحر به . فسكت عنه، فلما ثقل
رسول صلى الله عليه وسلم في
مرضه، أنفذ جيش أسامة، وجعل فيه أبا بكر وغيره من أعلام المهاجرين والأنصار فكان
علي رضي الله عنه حينئذ بوصوله إلى الأمر إن حدث برسول الله صلى الله عليه وسلم حدث
أوثق، وتغلب على ظنه أن المدينة لو مات لخلت من منازع ينازعه الأمر بالكلية
فيأخذه صفواً عفواً، وتتم له البيعة، فلا يتهيأ فسخها لو رام ضد منازعته عليها، فكان من عود أبي بكر من جيش أسامة بإرسالها إليه، وإعلامه بأن
رسول الله صلى الله عليه وسلم يموت ما كان، ومن حديث
الصلاة بالناس ما عرف، فنسب علي رضي
الله عنه
عائشة
أنها أمرت بلالاً مولى أبيها أن يأمره فليصل بالناس لأن
رسول الله كما روي، قال: ليصل بهم أحدهم، ولم يعين، وكانت صلاة الصبح، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في آخر رمق يتهادى بين علي والفضل بن العباس
حتى قام في المحراب كما ورد في الخبر، ثم دخل
فمات ارتفاع الضحى، فجعل يوم صلاته حجة في صرف الأمر إليه. وقال: أيكم يطيب نفساً أن يتقدم قدمين قدمهما رسول
الله في الصلاة؟ ولم يحملوا خروج رسول الله صلى
الله عليه وسلم إلى الصلاة
لصرفه عنها، بل لمحافظته على الصلاة مهما أمكن فبويع
على هذه النكتة التي اتهمها علي رضي
الله عنه على
أنها ابتدأت منها. وكان علي عليه
السلام يذكر هذا لأصحابه في خلواته
كثيراً ويقول: إنه لم يقل صلى الله عليه
وسلم:
"إنكن لصويحبات يوسف" إلا إنكاراً
لهذه الحال وغضباً منها، لأنها وحفصة تبادرتا
إلى تعيين أبويهما وأنه استدركها بخروجه وصرفه
عن المحراب فلم يجد ذلك ولا أثر، مع قوة الداعي الذي كان يدعو إلى أبي بكر ويمهد
له قاعدة الأمر وتقرر حاله في نفوس الناس ومن اتبعه على ذلك من أعيان المهاجرين
والأنصار. ولما ساعد على ذلك من الحظ الفلكي والأمر السمائي
الذي جمع عليه القلوب والأهواء، فكانت هذه الحال عند
علي أعظم من كل عظيم وهي الطامة الكبرى، والمصيبة العظمى ولم ينسبها إلا إلى
عائشة وحدها، ولا علق الأمر الواقع إلا بها فدعا
عليها في خلواته وبين خواصه، وتظلم إلى الله منها، وجرى له في تخلفه عن
البيعة ما هو مشهور حتى بايع وكان يبلغه وفاطمة عنها كل ما يكرهانه منذ مات رسول
الله صلى الله عليه وسلم إلى
أن توفيت فاطمة، وهما صابران على مضض ورمض واستظهرت
بولاية أبيها، واستطالت وعظم شأنها، وانخذل علي وفاطمة قهراً وأخذت فدك
وخرجت فاطمة تجادل في ذلك مراراً فلم تظفر بشيء، وفي ذلك تبلغها النساء
والداخلات والخارجات عن عائشة كل كلام يسوءها، ويبلغن عائشة عنها وعن بعلها مثل
ذلك، إلا أنه شتان ما بين الحالين، وبعد ما بين
الفريقين، هذه غالبة وهذه مغلوبة، وهذه آمرة وهذه مأمورة، وظهر التشفي والشماتة،
ولا شيء أعظم مرارة ومشقة من شماتة العدو. قلت: يجوز أن يكون
قال هذا الكلام قبل أن يتواتر الخبر عنده بتوبتها، فإن
أصحابنا يقولون: إنها تابت بعد قتل أمير المؤمنين وندمت، وقالت: لوددت أن لي من رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر بنين كلهم ماتوا، ولم يكن يوم الجمل. وأنها كانت بعد قتله
تثني عليه وتنشر مناقبه مع أنهم رووا أيضاً أنها
عقيب الجمل كانت تبكي حتى تبل خمارها، وأنها استغفرت الله وندمت ولكن لم يبلغ أمير المؤمنين رضي الله عنه حديث توبتها عقيب الجمل بلاغاً يقطع العذر ويثبت الحجة،
والذي شاع عنها من أمر الندم والتوبة شياعاً مستفيضاً، إنما
كان بعد قتله رضي الله عنه إلى
أن ماتت وهي على ذلك، والتائب مغفور له، ويجب قبول
التوبة عندنا في العدل، وقد أكدوا وقوع التوبة،
منها ما روى في الأخبار المشهورة أنها زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الآخرة كما كانت زوجته في الدنيا، ومثل هذا
الخبر إذا شاع أوجب علينا أن نتكلف إثبات توبتها
ولو لم ينقل، فكيف والنقل
لها يكاد أن يبلغ حد التواتر!. وتزلف لهم: تقدم لهم وتقرب إليهم. ولا مقصر لي عن
كذا، لا محبس ولا غاية لي دونه. وأرقل: أسرع. والمضمار: حيث تستبق الخيل. وعليكم
بكتاب الله، فإنه الحبل المتين، والنور المبين، والشفاء النافع، والري الناقع،
والعصمة للمتمسك، والنجاة للمتعلق، لا يعوج فيقام، ولا يزيغ فيستعتب، ولا يخلقه
كثرة الرد، وولوج السمع، من قال به صدق، ومن عمل به سبق. ومستقر الأجداث:
مكان استقرارهم بالقبور وهي جمع جدث، ومصائر الغايات:
جمع مصير، والغايات: جمع غاية وهي ما ينتهى
إليه، قال الكميت:
ثم
ذكر أن أهل الثواب والعقاب، كل من الفريقين يقيم بدار لا يتحول منها، وهذا كما
ورد في الخبر: إنه ينادي مناد: يا أهل الجنة سعادة لا فناء لها، ويا أهل النار
شقاوة لا فناء لها. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وقام إليه رجل فقال أخبرنا عن الفتنة وهل سألت عنها
رسول الله ص فقال عليه السلام
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
إنه لما أنزل الله سبحانه قوله: "آلم أحسب
الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون" علمت أن الفتنة لا
تنزل بنا، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين
أظهرنا، فقلت: يا رسول الله، ما هذه الفتنة التي أخبرك الله بها؟ فقال: يا علي، إن أمتي سيفتنون بعدي. فقلت:
يا رسول الله، فبأي المنازل أنزلهم عند ذلك؟ أبمنزلة ردة، أم بمنزلة فتنة؟ فقال:
بمنزلة فتنة. الشرح:
قد كان رضي الله عنه يتكلم
في الفتنة ولذلك ذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولذلك قال: فعليكم بكتاب
الله، أي إذا وقع الأمر واختلط الناس، فعليكم بكتاب الله، فلذلك قام إليه من
سأله عن الفتنة. وهذا الخبر
مروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم،
قد رواه كثير من المحدثين عن علي رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
له: "إن الله قد كتب عليك جهاد المفتونين، كما كتب علي جهاد
المشركين"، قال: فقلت: يا رسول الله، ما هذه الفتنة التي كتب علي فيها
الجهاد؟ قال: قوم يشهدون أن لا إله إلا الله وأني رسول الله وهم مخالفون للسنة. فقلت: يا رسول الله، فعلام أقاتلهم وهم يشهدون
كما أشهد؟ قال: على الإحداث في الدين،
ومخالفة الأمر، فقلت: يا رسول الله، إنك كنت
وعدتني الشهادة، فاسأل الله أن يعجلها لي بين يديك، قال:
فمن يقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين! أما إني وعدتك الشهادة وستستشهد، تضرب
على هذه فتخضب هذه، فكيف صبرك إذاً! قلت: يا
رسول الله ليس ذا بموطن صبر، هذا موطن شكر، قال:
أجل، أصبت، فأعد للخصومة فإنك مخاصم، فقلت:
يا رسول الله، لو بينت لي قليلاً! فقال: إن
أمتي ستفتن من بعدي، فتتأول القرآن وتعمل بالرأي وتستحل الخمر بالنبيذ، والسحت
بالهدية، والربا بالبيع، وتحرف الكتاب عن مواضعه، وتغلب كلمة الضلال، فكن جليس
بيتك حتى تقلدها، فإذا قلدتها جاشت عليك الصدور، وقلبت لك الأمور، تقاتل حينئذ
على تأويل القرآن، كما قاتلت على تنزيله، فليست حالهم الثانية بدون حالهم
الأولى. فقلت: يا
رسول الله، فبأي المنازل! أنزل هؤلاء المفتونين من بعدك؟ أبمنزلة فتنة أم بمنزلة
ردة؟ فقال: بمنزلة فتنة يعمهون فيها إلى أن
يدركهم العدل. فقلت: يا
رسول الله، أيدركهم العدل منا أم من غيرنا؟ قال:
بل منا، بنا فتح وبنا يختم، وبنا ألف الله بين القلوب بعد الشرك، وبنا يؤلف بين
القلوب بعد الفتنة. فقلت: الحمد لله على ما وهب لنا من فضله. فإن
قلت:
فلم قال: علمت أن الفتنة لا تنزل بنا ورسول الله بين أظهرنا؟ قلت: لقوله تعالى "وما
كان الله ليعذبهم وأنت فيهم" . |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال في صف الدهر
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: الحمد لله
الذي جعل الحمد مفتاحاً لذكره، وسبباً للمزيد من فضله، ودليلاً على آلائه
وعظمته. عباد الله إن الدهر يجري بالباقين كجريه بالماضين، لا يعود ما قد ولى
منه، ولا يبقى سرمداً ما فيه. أخر
فعاله كأوله، متشابهة أموره، متظاهرة أعلامه فكأنكم بالساعة تحدوكم حدو الزاجر
بشوله، فمن شغل نفسه بغير نفسه تحير في الظلمات، وارتبك في الهلكات ومدت به
شياطينه في طغيانه وزينت له سيئ أعماله. فالجنة غاية السابقين، والنار غاية
المفرطين. فتزودوا
في أيام الفناء، لأيام البقاء. قد دللتم على الزاد، وأمرتم بالظعن، وحثثتم على
المسير فإنما أنتم كركب وقوف لا يدرون متى يؤمرون بالسير. ألا
فما يصنع بالدنيا من خلق للآخرة! وما يصنع بالمال من عما قليل يسلبه، وتبقى عليه
تبعته وحسابه! عباد الله، إنه ليس لما وعد الله من الخير مترك، ولا فيما نهى عنه
من الشر مرغب.
وقال
أخر:
قوله:
لا يعود ما قد ولى منه، كقول الشاعر:
قوله:
ولا يبقى سرمداً ما فيه، كلام مطروق المعنى، قال عدي:
قوله:
آخر أفعاله كأوله، يروى: كأولها، ومن رواه: كأوله أعاد الضمير إلى الدهر، أي آخر
أفعال الدهر كأول الدهر، فحذف المضاف. وروي:
متسابقة أي شيء منها قبل شيء، كأنها خيل تتسابق في مضمار. وهذا
الكلام جار منه رضي الله عنه
على عادة العرب في ذكر الدهر، وإنما
الفاعل على الحقيقة رب الدهر.
والزاجر:
الذي يزجر الإبل بسوقها، ويقال: حدوت إبلي
وحدوت بإبلي، والحدو سوقها والغناء لها، وكذلك الحداء، ويقال
للشمال: حدواء، لأنها تحدو السحاب، أي تسوقه، قال
العجاج:
ولا
يقال للمذكر: أحدى، وربما قيل للحمار إذا قدم أتنه: حاد، قال ذو الرمة:
والمعنى
أن سائق الشول يعسف بها، ولا يتقي سوقها ولا يدارك كما يسوق العشار . وفي
متعلقة بالفعل المقدر وتقديره: راقبوا. وأعز الأنفس عليهم، أنفسهم. ويجوز: الظعن بالتسكين، وحثثتم على المسير لأن الليل والنهار سائقان عنيفان. وتبعته:
إثمه وعقوبته. والزلزال،
بالفتح: اسم للحركة الشديدة والاضطراب، والزلزال بالكسر المصدر، قال تعالى: "وزلزلوا زلزالاً شديداً" . قوله:
ويشيب فيه الأطفال كلام جار مجرى المثل، يقال في
اليوم الشديد: إنه ليشيب نواصي الأطفال وقال تعالى: "فكيف تتقون إن
كفرتم يوماً يجعل الولدان شيباً" ، وليس ذلك على حقيقته، لأن الأمة مجمعة
على أن الأطفال لا تتغير حالهم في الآخرة إلى الشيب، والأصل في هذا أن الهموم
والأحزان إذا توالت على الإنسان شاب سريعاً، قال أبو الطيب:
قوله:
إن عليكم رصداً من أنفسكم، وعيوناً من جوارحكم، لأن الأعضاء تنطق في القيامة
بأعمال المكلفين، وتشهد عليهم.
قوله:
وإن غداً من اليوم قريب، ومنه قول القائل:
ومنه قوله:
غد ما غد ما أقرب اليوم من غد. واضمحلت:
تلاشت وذهبت. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن خطبة له في فضل الرسول والقرآن
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
أرسله على حين فترة من الرسل، وطول هجعة من الأمم، وانتقاض من المبرم، فجاءهم
بتصديق الذي بين يديه، والنور المقتدى به ذلك القرآن فاستنطقوه ولن ينطق، ولكن
أخبركم عنه، ألا إن فيه علم ما يأتي، والحديث عن الماضي، ودواء دائكم، ونظم ما
بينكم. الشرح:
الترحة: الحزن، قال: فحينئذ لا يبقى لهم، أي يحيق بهم العذاب ويبعث الله عليهم
من ينتقم، وهذا إخبار عن ملك بني أمية بعده وزوال أمرهم عند تفاقم فسادهم في
الأرض. والمقر:
المر. ومأكلاً
منصوب بفعل مقدر أي يأكلون مأكلاً والباء ههنا للمجازاة الدالة على الصلة، كقوله
تعالى: "فبما نقضهم ميثاقهم" وكقول أبي تمام:
وقال
سبحانه: "قال رب بما أنعمت علي فلن أكون
ظهيراً للمجرمين" . وجعل شعارهم الخوف، لأنه باطن في القلوب،
ودثارهم السيف لأنه ظاهر في البدن كما أن الشعار ما كان إلى الجسد والدثار ما
كان فوقه. وزوامل
الآثام: جمع زاملة، وهي بعير يستظهر به الإنسان يحمل متاعه عليه، قال الشاعر:
وتنخمت النخامة: إذا تنخعتها، والنخامة: النخاعة. والجديدان: الليل
والنهار وقد جاء في الأخبار الشائعة المستفيضة في كتب المحدثين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر
أن بني أمية تملك الخلافة بعده، مع ذم منه عليه السلام لهم، نحو ما روي عنه في
تفسير قوله تعالى: "وما جعلنا الرؤيا التي أريناك
إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن" فإن المفسرين قالوا: إنه رأى بني أمية ينزون على منبره نزو القردة، هذا لفظ رسول
الله صلى الله عليه وسلم الذي فسر لهم الآية به،
فساءه ذلك ثم قال: الشجرة الملعونة بنو أمية وبنو المغيرة ونحو قوله صلى الله عليه وسلم: إذا
بلغ بنو العاص ثلاثين رجلاً اتخذوا مال الله دولاً وعباده خولاً
ونحو قوله صلى الله عليه وسلم في تفسير قوله تعالى: "ليلة القدر خير من ألف شهر" قال: ألف شهر يملك فيها بنو أمية. وورد عنه صلى الله عليه وسلم من
ذمهم الكثير المشهور نحو قوله: "أبغض الأسماء إلى
الله الحكم وهشام والوليد"، وفي خبر آخر:
اسمان يبغضهما الله: مروان والمغيرة ونحو قوله: إن ربكم يحب ويبغض، كما
يحب أحدكم ويبغض وإنه يبغض بني أمية ويحب بني عبد المطلب. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن خطبة له في وصف حاله مع أصحابه
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: ولقد أحسنت
جواركم، وأحطت بجهدي من ورائكم، وأعتقتكم من ربق الذل وحلق الضيم شكراً مني للبر
القليل، وإطراقاً عما أدركه البصر، وشهده البدن من المنكر الكثير. الربق جمع ربقة، وهي الحبل يربق به البهم . |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن خطبة له في عظمة الله تعالى
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: أمره قضاء
وحكمة، ورضاه أمان ورحمة يقضي بعلم، ويعفو بحلم. فمن فرغ
قلبه، وأعمل فكره، ليعلم كيف أقمت عرشك، وكيف ذرأت خلقك، وكيف علقت في الهواء
سمواتك، وكيف مددت على مور الماء أرضك، رجع طرفة حسيراً، وعقله مبهوراً، وسمعه
والهاً، وفكره حائراً. ويجوز أن يكون أمره هو الأمر القولي، وهو المصدر من
أمر له بكذا أمراً فيكون المعنى أن أوامره إيجاب وإلزام بما فيه حكمة ومصلحة،
وقد جاء القضاء بمعنى الإلزام والإيجاب في القرآن العزيز في قوله: "وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه" ، أي
أوجب وألزم. قوله:
ويعفو بحلم، أي لا يعفو عن عجز وذل، كما يعفو الضعيف عن القوي، بل هو قادر على
الانتقام ولكنه يحلم. ثم حمد الله تعالى على الإعطاء والأخذ، والعافية
والبلاء لأن ذلك كله من عند الله لمصالح للمكلف، يعلمها وما يعلمها المكلف،
والحمد على المصالح واجب. وأنه تعالى لا تأخذه سنة ولا نوم لأن هذا من صفات
الأجسام وما لا يجوز عليه العدم لا يكون جسماً، ولا يوصف بخواص الأجسام
ولوازمها، فإنه لا ينتهي إليه نظر، لأن انتهاء النظر إليه يستلزم مقابلته وهو
تعالى منزه عن الجهة، وإلا لم يكن ذاته مستحيلاً عليها العدم، وأنه لا يدركه
بصر، لأن إبصار الأشياء بانطباع أمثلتها في الرطوبة الجليدية كانطباع أشباح
المرئيات في المرآة، والباري تعالى لا يتمثل، ولا يتشبح وإلا لم يكن قيوماً،
وأنه يدرك الأبصار لأنه إما عالم لذاته، أو لأنه حي لا آفة به، وأنه يحمي
الأعمال لأنه عالم لذاته، فيعلم كل شيء حاضراً وماضياً ومستقبلاً، وأنه يأخذ
بالنواصي والأقدام لأنه قادر لذاته، فهو متمكن من كل مقدور. ولا نسبة لجرم الشمس إلى فلكها المائل، ولا نسبة
لفلكها المائل إلى فلكها المميل، وفلك تدوير المريخ الذي فوقها أعظم من مميل
الشمس، ولا نسبة لفلك تدوير المريخ إلى فلكه المميل، وفلك تدوير المشتري أعظم من
مميل المريخ، ولا نسبة لفلك تدوير المشتري إلى فلكه المميل، وفلك تدوير زحل أعظم
من مميل المشتري، ولا نسبة لفلك تدوير زحل إلى مميل زحل، ولا نسبة لمميل زحل إلى
كرة الثوابت، ولا نسبة لكرة الثوابت إلى الفلك الأطلس الأقصى، فانظر أي نسبة
تكون الأرض بكليتها على هذا الترتيب إلى الفلك الأطلس، وهذا مما تقصر العقول عن
فهمه وتنتهي دونه، وتحول سواتر الغيوب بينها وبينه، كما
قال رضي الله عنه. وهذا كله
حق، ومن تأمل كتبنا العقلية واعتراضنا على الفلاسفة الذين عللوا هذه الأمور،
وزعموا أنهم استنبطوا لها أسباباً عقلية، وادعوا وقوفهم على كنهها وحقائقها، علم
صحة ما ذكره رضي الله عنه، من أن من حاول
تقدير ملك الله تعالى وعظيم مخلوقاته بمكيال عقله، فقد ضل ضلالاً مبيناً. والحسير: المتعب. والمبهور: المغلوب. والواله: المتحير. يرجو
الله في الكبير، ويرجو العباد في الصغير فيعطي العبد ما لا يعطي الرب! فما بال
الله جل ثناؤه يقصر به عما يصنع به لعباده! أتخاف أن تكون في رجائك له كاذباً،
أو تكون لا تراه للرجاء موضعاً! وكذلك إن هو خاف عبداً من عبيده أعطاه من خوفه
ما لا يعطي ربه، فجعل خوفة من العباد نقداً، وخوفه من خالقه ضماراً ووعداً،
وكذلك من عظمت الدنيا في عينه، وكبر موقعها من قلبه آثرها على الله فانقطع
إليها، وصار عبداً لها. ومن كلامهم:
ترى الفتيان كالنخل، وما يدريك ما الدخل، وجاء الدخل بالتحريك أيضاً، يقال: هذا الأمر فيه دخل ودغل، بمعنى قوله تعالى: "ولا تتخذوا أيمانكم دخلاً بينكم" أي
مكراً وخديعة، وهو من هذا الباب أيضاً. والضمار:
ما لا يرجى من الوعود والديون. قال الراعي:
ثم قال:
وكذلك من عظمت الدنيا في عينه يختارها على الله، ويستعبده حبها. ويقال:
كبر بالضم، يكبر أي عظم فهو كبير وكبار بالتخفيف فإذا
أفرط قيل: كبار بالتشديد، فأما كبر بالكسر فمعناه أسن والمصدر منهما
كبراً بفتح الباء. وإن شئت ثنيت بموسى كليم الله صلى الله عليه وسلم حيث
يقول: "رب إني لما أنزلت إلي من خير
فقير" والله ما سأله إلا خبزاً يأكله، لأنه كان يأكل بقلة الأرض،
ولقد كانت خضرة البقل ترى من شفيف صفاق بطنه لهزاله وتشذب لحمه. وسوته
سواية ومساية، بالتخفيف، أي ساءه ما رآه مني. وسأل سيبويه الخليل عن سوائية، فقال: هي فعالية بمنزلة علانية، والذين قالوا:
سواية حذفوا الهمزة تخفيفاً وهي في الأصل. قال: وسألته عن مسائية، فقال: هي مقلوبة وأصلها
مساوئة فكرهوا الواو مع الهمزة، والذين قالوا: مساية حذفوا الهمزة أيضاً تخفيفاً
ومن أمثالهم: الخيل تجري في مساويها أي أنها وإن كانت بها عيوب وأوصاب، فإن
كرمها يحملها على الجري، والمخازي: جمع مخراة وهي الأمر يستحى من ذكره لقبحه،
وأكنافها: جوانبها. وزوى: قبض. وزخارف: جمع زخرف وهو الذهب، روي عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم أنه قال: "عرضت علي كنوز الأرض ودفعت إلي مفاتيح خزائنها،
فكرهتها واخترت الدار الآخرة"، وجاء في
الأخبار الصحيحة أنه كان يجوع ويشد حجراً على بطنه. وأنه ما شبع آل محمد من لحم
قط، وأن فاطمة وبعلها وبنيها كانوا يأكلون خبز الشعير، وأنهم آثروا سائلاً
بأربعة أقراص منه كانوا أعدوها لفطورهم، وباتوا جياعاً. وقد كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم
ملك
قطعة واسعة من الدنيا، فلم يتدنس منها بقليل ولا كثير، ولقد
كانت الإبل التي غنمها يوم حنين أكثر من عشرة آلاف بعير فلم يأخذ منها
وبرة لنفسه، وفرقها كلها على الناس، وهكذا
كانت شيمته وسيرته في جميع أحواله إلى أن توفي. وما في "أنزلت" وبمعنى أي، أي إني لأي
شيء أنزلت إلي قليل أو كثير، غث أو سمين فقير. ومن فسر الآية بغير ما ذكره لم يحتج إلى الجواب عن هذا
السؤال، فإن قوماً قالوا: أراد: إني فقير من الدنيا لأجل ما أنزلت إلي من
خير، أي من خير الدين وهو النجاة من الظالمين، فإن ذلك رضاً بالبدل السني،
وفرحاً به وشكراً له. وتشذب اللحم: تفرقه. ويقال: إن
داود أعطي من طيب النغم ولذة ترجيع القراءة ما كانت الطيور لأجله تقع عليه وهو
في محرابه، والوحش تسمعه فتدخل بين الناس ولا تنفر منهم لما قد استغرقها من طيب
صوته وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي
موسى، وقد سمعه يقرأ: "لقد أوتيت مزماراً من مزامير داود"، وكان أبو
موسى شجي الصوت إذا قرأ. وورد في الخبر:
داود قارئ أهل الجنة. ويقال:
حزنني الشيء يحزنني بالضم، ويجوز: أحزنني
بالهمز يحزنني، وقرئ بهما، وهو في كلامه رضي
الله عنه في هذا الفصل بهما. وأحب
العباد إلى الله المتأسي بنبيه، والمقتص لأثره. قضم الدنيا
قضماً، ولم يعرها طرفاً. أهضم أهل الدنيا كشحاً، وأخمصهم من الدنيا بطناً،
عرضت عليه الدنيا فأبى أن يقبلها، وعلم أن الله تعالى أبغض شيئاً فأبغضه، وحقر
شيئاً فحقره، وصغر شيئاً فصغره. وأصل
القضم، أكل الشيء اليابس بأطراف الأسنان، والخضم: أكل بكل الفم للأشياء الرطبة،
وروي قصم بالصاد، أي كسر. وخصف النعل: خرزها. والرياش: الزينة، والمدرعة
الدراعة . |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الدنيا الفانية
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
جاء في الأخبار الصحيحة أنه عليه
الصلاة والسلام، قال: "إنما أنا عبد آكل أكل العبيد،
وأجلس جلسة العبيد وكان يأكل على الأرض، ويجلس جلوس العبيد، يضع قصبتي ساقيه على
الأرض، ويعتمد عليهما بباطني فخذيه، وركوبه الحمار العاري آية التواضع وهضم
النفس. وإرداف غيره خلفه آكد في الدلالة على ذلك. وجاء في أخبار علي رضي
الله عنه التي ذكرها أبو عبد الله أحمد بن حنبل في كتاب
فضائله، وهو روايتي عن قريش بن السبيع بن المهنا العلوي، عن نقيب الطالبيين أبي
عبد الله أحمد بن علي بن المعمر، عن المبارك بن عبد الجبار أحمد بن القاسم
الصيرفي المعروف بابن الطيوري، عن محمد بن علي بن محمد بن يوسف العلاف المزني،
عن أبي بكر أحمد بن جعفر بن حمدان بن مالك القطيعي، عن عبد الله بن أحمد بن
حنبل، عن أبيه أبي عبد الله أحمد رحمه الله، قال: قيل لعلي رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين، لم ترقع
قميصك؟ قال: ليخشع القلب، ويقتدي بي المؤمنون. والأخبار في هذا المعنى كثيرة، وفيما ذكرناه كفاية. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن خطبة له في أسرة الرسول وشرفه
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: ابتعثه
بالنور المضيء، والبرهان الجلي، والمنهاج البادي، والكتاب الهادي. والعذاب الوبيل:
ذو الوبال وهو الهلاك، والإنابة: الرجوع. والسبيل: الطريق، يذكر ويؤنث. والقاصدة: ضد
الجائرة. الأصل: أوصيكم عباد
الله بتقوى الله وطاعته، فإنها النجاة غداً، والمنجاة أبداً رهب فأبلغ، ورغب
فأسبغ، ووصف لكم الدنيا وانقطاعها، وزوالها وانتقالها فأعرضوا عما يعجبكم فيها
لقلة ما يصحبكم منها. أقرب دار
من سخط الله، وأبعدها من رضوان الله. فغضوا عنكم عباد الله غمومها وأشغالها، لما
أيقنتم به من فراقها، وتصرف حالاتها، فاحذروها حذر الشفيق الناصح، والمجد
الكادح، اعتبروا بما قد رأيتم من مصارع القرون قبلكم قد تزايلت أوصالهم، وزالت
أبصارهم وأسماعهم، وذهب شرفهم وعزهم، وأنقطع سرورهم ونعيمهم، فبدلوا بقرب
الأولاد فقدها، وبصحبة الأزواج مفارقتها، لا يتفاخرون ولا يتناسلون، ولا
يتزاورون ولا يتحاورون، فاحذروا عباد الله حذر الغالب لنفسه، المانع لشهوته،
الناظر بعقله، فإن الأمر واضح، والعلم قائم، والطريق جدد، والسبيل قصد. والنجاة: الناقة ينجى عليها فاستعارها ههنا للطاعة
والتقوى كأنها كالمطية المركوبة يخلص بها الإنسان من الهلكة. والمحاورة: المخاطبة والمناجاة، وروي: ولا يتجاورون بالجيم. والسبيل قصد، أي مستقيم. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال لبعض أصحابه وقد سأله: كيف دفعكم قومكم عن هذا
المقام وأنتم أحق به
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
فقال عليه السلام الأصل: يا أخا بني أسد، إنك لقلق الوضين ترسل في غير سدد ولك بعد
ذمامة الصهر وحق المسألة، وقد استعلمت فاعلم.
وهلم
الخطب في ابن أبي سفيان، فلقد أضحكني الدهر بعد إبكائه، ولا غرو والله فيا له
خطباً يستفرغ العجب، ويكثر الأود!.
ويروى:
ماتة الصهر، أي حرمته ووسيلته، مت إليه بكذا، وإنما
قال رضي الله عنه له: ولك بعد ذمامة الصهر لأن زينب بنت جحش زوج رسول
الله صلى الله عليه وسلم كانت أسدية وهي
زينب بنت جحش بن رباب بن يعمر بن صبرة بن مرة بن كثير بن غنم بن دودان بن أسد بن
خزيمة. وأمها
أمية بنت عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، فهي بنت عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمصاهرة المشار إليها، هي هذه. ولم يفهم القطب الراوندي ذلك، فقال
في الشرح: كان أمير المؤمنين رضي الله عنه قد
تزوج في بنى أسد ولم يصب، فإن علياً رضي الله عنه لم يتزوج في بني أسد البتة. ونحن نذكر أولاده:
أما الحسن والحسين وزينب الكبرى وأم كلثوم الكبرى، فأمهم فاطمة بنت سيدنا رسول
الله صلى الله عليه وسلم وأما
محمد فأمه خولة بنت إياس بن جعفر، من بني حنيفة، وأما أبو بكر وعبد الله، فأمهما
ليلى بنت مسعود النهشلية، من تميم وأما عمر ورقية فأمهما سبية من بني تغلب، يقال
لها: الصهباء، سبيت في خلافة أبي بكر وإمارة خالد بن الوليد بعين التمر . وأما يحيى وعون فأمهما أسماء بنت غميس الخثعمية.
وأما جعفر والعباس وعبد الله وعبد الرحمن فأمهم أم البنين بنت حزام بن خالد بن
ربيعة بن الوحيد من بني كلاب. وأما رملة وأم الحسن فأمهما أم سعيد بنت عروة بن
مسعود الثقفي، وأما أم كلثوم الصغرى وزينب الصغرى وجمانة وميمونة وخديجة وفاطمة
وأم الكرام ونفيسة وأم سلمة وأم أبيها وأمامة بنت علي رضي الله عنه فهن لأمهات
أولاد شتى، فهؤلاء أولاده، وليس فيهم أحد من أسدية، ولا بلغنا أنه تزوج في بني
أسد ولم يولد له، ولكن الراوندي يقول ما يخطر له ولا يحقق. والنوط:
الالتصاق. وكانت أثرة، أي استئثاراً بالأمر واستبداداً به،
قال النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار:
"ستلقون بعدي أثرة". وسخت:
جادت، ويعني بالنفوس التي سخت نفسه، وبالنفوس التي شحت، أما على قولنا فإنه يعني
نفوس أهل الشورى بعد مقتل عمر، وأما على قول
الإمامية، فنفوس أهل السقيفة. وليس في الحبر ما يقتضي صرف ذلك إليهم، فالأولى أن
يحمل على ما ظهر عنه من تألمه من عبد الرحمن بن عوف وميله إلى عثمان. وروي:
يوم بالنصب على أنه ظرف والعامل فيه المعود، على أن يكون مصدراً. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
حديث امرئ القيس
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وكان
من قصة هذا الشعر أن امرأ القيس، لما تنقل في أحياء
العرب بعد قتل أبيه، نزل على رجل من جديلة طيئ، يقال له طريف بن ملء،
فأجاره وأكرمه، وأحسن إليه، فمدحه وأقام عنده. ثم إنه لم يوله نصيباً في الجبلين: أجأ وسلمى،
فخاف ألا يكون له منعة، فتحول ونزل على خالد بن سدوس بن أصمع النبهاني، فأغارت بنو جديلة على امرئ القيس وهو في جوار خالد بن سدوس،
فذهبوا بإبله، وكان الذي أغار عليه منهم باعث بن حويص، فلما أتى امرأ القيس
الخبر، ذكر ذلك لجاره، فقال له: أعطني
رواحلك ألحق عليها القوم، فأرد عليك إبلك، ففعل. فركب
خالد في إثر القوم حتى أدركهم، فقال: يا بني جديلة، أغرتم على إبل جاري! فقالوا: ما هو لك بجار، قال: بلى والله وهذه
رواحله، قالوا: كذلك! قال: نعم، فرجعوا إليه فأنزلوه عنهن، وذهبوا بهن وبالإبل. وقيل: بل انطوى خالد على الإبل فذهب بها، فقال امرؤ القيس:
دثار: اسم راع كان لامرئ القيس. وتنوفى
والقواعل جبال. والحزقة:
القصير الضخم البطن، واللبون: الإبل ذوات الألبان. والقرية:
موضع معروف بين الجبلين. وحائل اسم موضع أيضاً. وسعد ونائل حيان من
طيئ. والرباع: جمع ربع، وهو ما نتج في الربيع. والمجادل:
القصور. ومكللة،
يرجع إلى المجادل مكللة بالصخر. والأسرة:
الطريق وكذلك الحبك. والوصائل: جمع وصيلة، وهو ثوب أمغر الغزل، فيه خطوط. والنهب: الغنيمة، والجمع النهاب، والانتهاب
مصدر انتهبت المال، إذا أبحته يأخذه من شاء، والنهبى: اسم ما أنهب. وحجراته:
نواحيه، الواحدة حجرة، مثل جمرات وجمرة. وصيح
في حجراته صياح الغارة. والرواحل:
جمع راحلة، وهي الناقة التي تصلح أن ترحل، أي يشد الرحل على ظهرها، ويقال
للبعير: راحلة وانتصب حديثاً بإضمار فعل، أي هات حديثاً أو حدثني حديثاً. ويروى
ولكن حديث، أي ولكن مرادي أو غرضي حديث فحذف المبتدأ، وما ههنا، يحتمل أن تكون
إبهامية وهي التي إذا اقترنت باسم نكرة زادته إبهاماً وشياعاً، كقولك: أعطني
كتاباً ما، تريد أي كتاب كان، ويحتمل أن تكون صلة مؤكدة كالتي في قوله تعالى: "فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله" .
فأما
حديث الثاني فقد ينصب وقد يرفع، فمن نصب أبدله من حديث الأول، ومن رفع جاز أن
يجعل ما موصولة بمعنى الذي، وصلتها الجملة، أي الذي هو حديث الرواحل، ثم حذف صدر
الجملة كما حذف في "تماماً على الذي أحسن" ويجوز أن تجعل ما استفهامية
بمعنى أي.
وهلم،
لفظ يستعمل لازماً ومتعدياً، فاللازم بمعنى تعال، قال
الخليل: أصله لم من قولهم؟ لم الله شعثه أي جمعه، كأنه أراد لم نفسك
إلينا أي اجمعها واقرب منا، وجاءت ها للتنبيه قبلها، وحذفت الألف لكثرة
الاستعمال، وجعلت الكلمتان كلمة واحدة، يستوي فيها الواحد والاثنان والجمع
والمؤنث والمذكر في لغة أهل الحجاز، قال سبحانه: "والقائلين
لإخوانهم هلم إلينا" ، وأهل نجد يصرفونها فيقولون للاثنين: هلما
وللجمع: هلموا وعلى ذلك. وقد
يوصل إذا كان لازماً باللام، فيقال: هلم لك، وهلم لكما، كما قالوا: هيت لك، وإذا قيل لك: هلم إلى كذا أي تعال إليه،
قلت: لا أهلم مفتوحة الألف والهاء مضمومة الميم، فأما المتعدية فهي بمعنى هات،
تقول: هلم كذا وكذا، قال الله تعالى: "هلم شهداءكم" ، وتقول لمن قال لك ذلك: لا أهلمه، أي
لا أعطيكه، يأتي بالهاء ضمير المفعول ليتميز من الأولى. والخطب: الحادث الجليل، يعني الأحوال التي أدت
إلى أن صار معاوية منازعاً في الرياسة، قائماً عند كثير من الناس مقامه، صالحاً
لأن يقع في مقابلته، وأن يكون نداً له.
وقال
ابن هاني المغربي:
والأود:
العوج، ثم ذكر تمالؤ قريش عليه، فقال: حاول القوم إطفاء نور الله من مصباحه،
يعني ما تقدم من منابذة طلحة والزبير وأصحابهما له، وما شفع ذلك من معاوية وعمرو
وشيعتهما. وفوار
الينبوع: ثقب البئر. والوبيء: ذو الوباء والمرض، وهذا استعارة كأنه جعل
الحال التي كانت بينه وبينهم قد أفسدها القوم، وجعلوها مظنة الوباء والسقم،
كالشرب الذي يخلط بالسم أو بالصبر فيفسد ويوبئ. فقلت: إن نفسي لا
تسامحني أن أنسب إلى الصحابة عصيان رسول الله صلى الله عليه
وسلم
ودفع
النص. فقال: وأنا فلا تسامحني
أيضاً نفسي أن أنسب الرسول صلى
الله عليه وسلم إلى إهمال أمر الإمامة، وأن يترك الناس فوضى سدى مهملين وقد كان لا
يغيب عن المدينة إلا ويؤمر عليها أميراً وهو حي ليس بالبعيد عنها، فكيف لا يؤمر
وهو ميت لا يقدر على استدراك ما يحدث! ثم قال: ليس
يشك أحد من الناس أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم كان عاقلاً
كامل العقل، أما المسلمون فاعتقادهم فيه معلوم وأما اليهود والنصارى والفلاسفة فيزعمون أنه حكيم تام
الحكمة، سديد الرأي، أقام ملة، وشرع شريعة، فاستجد ملكاً عظيماً بعقله وتدبيره،
وهذا الرجل العاقل الكامل يعرف طباع العرب وغرائزهم وطلبهم بالثارات والذحول ولو
بعد الأزمان المتطاولة. ويقتل الرجل من القبيلة رجلاً من بيت آخر، فلا يزال
أهل ذلك المقتول وأقاربه يتطلبون القاتل ليقتلوه حتى يدركوا ثأرهم منه فإن لم
يظفروا به قتلوا بعض أقاربه وأهله، فإن لم يظفروا بأحدهم قتلوا واحداً أو جماعة
من تلك القبيلة به وإن لم يكونوا رهطه الأدنين. والإسلام لم يحل طبائعهم، ولا
غير هذه السجية المركوزة في أخلاقهم، والغرائز بحالها، فكيف
يتوهم لبيب أن هذا العاقل الكامل وتر العرب، وعلى الخصوص قريشاً، وساعدة
على سفك الدماء وإزهاق الأنفس وتقلد الضغائن ابن عمه الأدنى وصهره، وهو يعلم أنه
سيموت كما يموت الناس، ويتركه بعده وعنده ابنته، وله منها ابنان يجريان عنده
مجرى ابنين من ظهره حنواً عليهما، ومحبة لهما، ويعدل عنه في الأمر بعده، ولا ينص
عليه ولا يستخلفه، فيحقن دمه ودم بنيه وأهله باستخلافه ألا
يعلم هذا العاقل الكامل أنه إذا تركه وترك بنيه وأهله سوقة ورعية فقد عرض
دماءهم للإراقة بعده، بل يكون هو رضي
الله عنه هو الذي قتله، وأشاط بدمائهم،
لأنهم لا يعتصمون بعده بأمر يحميهم وإنما يكونون مضغة للآكل، وفريسة للمفترس،
يتخطفهم الناس، وتبلغ فيهم الأغراض! فأما إذا جعل
السلطان فيهم، والأمر إليهم، فإنه يكون قد عصمهم وحقن دماءهم بالرياسة التي
يصولون بها، ويرتدع الناس عنهم لأجلها. ومثل هذا معلوم بالتجربة. ألا ترى أن ملك بغداد أو غيرها من البلاد لو قتل
الناس ووترهم ، وأبقى في نفوسهم الأحقاد العظيمة عليه، ثم أهمل أمر ولده وذريته
من بعده، وفسح للناس أن يقيموا ملكاً من عرضهم وواحداً منهم، وجعل بنيه سوقة
كبعض العامة، لكان بنوه بعده قليلاً بقاؤهم، سريعاً هلاكهم، ولوثب عليهم الناس
ذوو الأحقاد والترات من كل جهة، يقتلونهم
ويشردونهم كل مشرد. ولو أنه عين ولداً من أولاده للملك، وقام خواصه وخدمه وخوله
بأمره بعده، لحقنت دماء أهل بيته، ولم تطل يد أحد من الناس إليهم لناموس الملك،
وأبهة السلطنة، وقوة الرياسة، وحرمة الإمارة! أفترى ذهب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المعنى أم أحب أن يستأصل أهله وذريته من بعده! وأين موضع الشفقة
على فاطمة العزيزة عنده، الحبيبة إلى قلبه! أتقول: إنه
أحب أن يجعلها كواحدة من فقراء المدينة تتكفف الناس، وأن يجعل علياً المكرم
المعظم عنده، الذي كانت حاله معه معلومة، كأبي هريرة الدوسي وأنس بن مالك
الأنصاري، يحكم الأمراء في دمه وعرضه ونفسه وولده، فلا يستطيع الامتناع، وعلى
رأسه مائة ألف سيف مسلول تتلظى أكباد أصحابها عليه، ويودون أن يشربوا دمه
بأفواههم، ويأكلوا لحمه بأسنانهم قد قتل أبناءهم وإخوانهم وآباءهم وأعمامهم،
والعهد لم يطل، والقروح لم تتقرف ، والجروح لم تندمل! فقلت
له: لقد أحسنت فيما قلت، إلا أن لفظه رضي الله عنه يدل
على أنه لم يكن نص عليه، ألا تراه يقول: ونحن
الأعلون نسباً، والأشدون بالرسول نوطاً، فجعل الاحتجاج بالنسب وشدة القرب، فلو كان عليه نص، لقال عوض ذلك: وأنا المنصوص علي،
المخطوب باسمي. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن خطبة له في ذكر الخالق عز وجل.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: الحمد لله
خالق العباد، وساطح المهاد، ومسيل الوهاد، فخصب النجاد ليس لأوليته ابتداء، ولا
لأزليته انقضاء هو الأول ولم يزل، والباقي بلا أجل. خرت له الجباه، ووحدته الشفاه. حد الأشياء عند خلقه
لها إبانة له من شبهها، لا تقدره الأوهام بالحدود والحركات، ولا بالجوارح
والأدوات، لا يقال له: متى؟ ولا يضرب له أمد بحتى، الظاهر لا يقال: مم؟ والباطن
لا يقال: فيم؟ لا شبح فيتقصى، ولا محجوب فيحوى لم يقرب من الأشياء بالتصاق، ولم
يبعد عنها بافتراق، ولا يخفى عليه من عباده شخوص لحظة، ولا كرور لفظة، ولا
ازدلاف ربوة، ولا انبساط خطوة في ليل داج، ولا غسق ساج، يتفيأ عليه القمر
المنير، وتعقبه الشمس ذات النور في الأفول والكرور، وتقليب الأزمنة والذهور من
إقبال ليل مقبل، وإدبار نهار مدبر. قبل كل غاية ومدة، وكل إحصاء وعدة، تعالى عما
ينحله المحددون من صفات الأقدار، ونهايات الأقطار، وتأثل المساكن، وتمكن
الأماكن. فالحد
لخلقه مضروب، وإلى غيره منسوب، لم يخلق الأشياء من أصول أزلية، ولا من أوائل
أبدية، بل خلق ما خلق فأقام حده، وصور فأحسن صورته. ليس لشيء منه امتناع، ولا له
بطاعة شيء انتفاع، علمه بالأموات الماضين كعلمه بالأحياء الباقين، وعلمه بما في
السموات العلا، كعلمه بما في الأرضين السفلى. ومسيلها:
مجرى السيل فيها. والنجاد: جمع نجد، وهو ما ارتفع من الأرض. ومخصبها:
مروضها وجاعلها ذوات خصب. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
بحث في علم التوحيد
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
واعلم أنه رضي الله عنه أورد في هذه
الخطبة ضروباً من علم التوحيد، وكلها مبنية على ثلاثة أصول: الأصل الأول: أنه
تعالى واجب الوجود لذاته، وبتفرع على هذا الأصل فروع: أولها:
أنه ليس لأوليته ابتداء، لأنه لو كان لأوليته ابتداء لكان محدثاً، ولا شيء من
المحدث بواجب الوجود، لأن معنى واجب الوجود، أن ذاته لا تقبل العدم، ويستحيل الجمع بين قولنا: هذه الذات محدثة، أي
كانت معدومة من قبل، وهي في حقيقتها لا تقبل العدم. وقوله رضي الله عنه:
هو الأول لم يزل، والباقي بلا أجل! تكرار لهذين المعنيين السابقين على سبيل
التأكيد، ويدخل فيه أيضاً قوله: لا يقال له
متى، ولا يضرب له أمد بحتى لأن متى للزمان وواجب الوجود يرتفع عن الزمان، وحتى
للغاية وواجب الوجود لا غاية له. ويدخل أيضاً فيه قوله: قبل كل غاية ومدة، وكل احصاء
وعدة. ولو شابه غيره من المجردات مع أن كل مجرد غير ممكن
لكان ممكناً، وليس واجب الوجود بممكن، فيدخل في هذا
المعنى قوله رضي الله عنه: حد الأشياء عند خلقه لها، إبانة له من شبهها،
أي جعل المخلوقات ذوات حدود ليتميز هو سبحانه عنها، إذ لا حد له، فبطل أن يشبهه
شيء منها. ودخل فيه قوله رضي الله عنه:
"لا تقدره الأوهام بالحدود والحركات، ولا بالجوارح. والأدوات:
جمع أداة وهي ما يعتمد به، ودخل فيه قوله: الظاهر فلا يقال: مم؟ أي لا يقال: من
أي شيء ظهر، والباطن فلا يقال: فيم، أي لا يقال فيما ذا بطن؟ ويدخل فيه قوله: لا شبح فيتقصى والشبح: الشخص
ويتقصى يطلب أقصاه. ويدخل فيه قوله: ولا
محجوب فيحوى وقوله: لم يقرب من الأشياء
بالتصاق، ولم يبعد عنها بافتراق لأن هذه الأمور كلها من خصائص الأجسام وواجب
الوجود لا يشبه الأجسام ولا يماثلها. ويدخل فيه قوله رضي الله عنه: تعالى عما ينحله المحددون من صفات
الأقدار أي مما ينسبه إليه المشبهة والمجسمة من صفات المقادير وذوات المقادير. وتمكن الأماكن:
ثبوتها واستقرارها. وقوله: فالحد لخلقه مضروب، وإلى غيره منسوب، وقوله:
ولا له بطاعة شيء انتفاع، لأنه إنما ينتفع الجسم الذي يصح عليه الشهوة والنفرة، كل هذا داخل تحت هذا الوجه. ولا ازدلاف ربوة، صعود إنسان أو حيوان ربوة من
الأرض، وهي الموضع المرتفع ولا انبساط خطوة. في ليل داج أي مظلم ولا غسق ساج، أي
ساكن. وأفوله، أي غيبوبته، وفي تقليب الأزمنة والدهور من
إقبال ليل وإدبار نهار. قلت: لا يلزم من
تعقب الشمس للقمر ثبوت الغسق، بل قد يصدق تعقبها له ويكون الغسق معدوماً، كأنه
رضي الله عنه قال: لا يخفى على الله حركة في نهار ولا ليل، يتفيأ عليه القمر،
وتعقبه الشمس، أي تظهر عقيبه، فيزول الغسق بظهورها. ويدخل تحته أيضاً قوله رضي الله عنه:
علمه
بالأموات الماضين، كعلمه بالأحياء الباقين، وعلمه بما في السموات العلا، كعلمه
بما في الأرضين السفلى. الأصل الثالث:
أنه تعالى قادر لذاته، فكان قادراً على كل الممكنات، ويدخل
تحته قوله: لم يخلق الأشياء من أصول أزلية، ولا من أوائل أبدية، بل خلق
ما خلق فأقام حده، وصور ما صور فأحسن صورته، والرد في هذا على أصحاب الهيولى
والطينة التي يزعمون قدمها. ويدخل تحته قوله:
ليس لشيء امتناع، لأنه متى أراد إيجاد شيء أوجده، ويدخل
تحته قوله: خرت له الجباه، أي سجدت. ووحدته الشفاه، يعني الأفواه، فعبر بالجزء عن الكل
مجازاً، وذلك لأن القادر لذاته هو المستحق للعبادة لخلقه أصول النعم. كالحياة والقدرة والشهوة. ثم أخرجت
من مقرك إلى دار لم تشهدها ولم تعرف سبل منافعها، فمن هداك لاجترار الغذاء من
ثدي أمك، وعرفك عند الحاجة مواضع طلبك وإرادتك! هيهات إن من يعجز عن صفات ذي
الهيئة والأدوات فهو عن صفات خالقه أعجز، ومن تناوله بحدود المخلوفين أبعد. وهما أصغر
من بيضتي الرجل، وأشد تفرطحاً، ومنهما ينصب مني المرأة إلى تجويف الرحم، وللرحم
رقبة منتهية إلى فرج المرأة، وتلك الرقبة من المرأة بمنزلة الذكر من الرجل، فإذا
امتزج مني الرجل بمني المرأة في تجويف الرحم كان العلوق، ثم ينمي ويزيد من دم
الطمث، ويتصل بالجنين عروق تأتي إلى الرحم فتغذوه، حتى يتم ويكمل، فإذا تم لم
يكتف بما تحته من تلك العروق فيتحرك حركات قوية، طلباً للغذاء، فتنهتك أربطة
الرحم التي قلنا إنها على هيئة السلسلة وتكون منها الولادة. وقال
الحسن: هي ما بين ظهراني الطين. ثم قال: إلى قدر معلوم، وأجل مقسوم،
إلى:
متعلقة بمحذوف، كأنه قال: منتهياً إلى قدر معلوم، أي مقدراً طوله وشكله إلى أجل
مقسوم مدة حياته. إلى
دار لم تشهدها، يعني الدنيا ويقال: أشبه شيء
بحال الانتقال من الدنيا إلى الأحوال التي بعد الموت انتقال الجنين من ظلمة
الرحم إلى فضاء الدنيا، فلو كان الجنين يعقل وبتصور كان يظن أنه لا دار له إلا
الدار التي هو فيها، ولا يشعر بما وراءها، ولا يحس بنفسه إلا وقد حصل في دار لم
يعرفها، ولا تخطر بباله، فبقي هو كالحائر المبهوت وهكذا حالنا في الدنيا إذا
شاهدنا ما بعد الموت.
قال:
فمن هداك إلى اجترار الغذاء من ثدي أمك؟، اجترار: امتصاص اللبن من الثدي، وذلك
بالإلهام الإلهي.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن كلام له لعثمان بن عفان
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قالوا: لما
اجتمع الناس إلى أمير المؤمنين عليه السلام، وشكوا إليه ما نقموه على عثمان
وسألوه مخاطبته واستعتابه لهم فدخل عليه السلام على عثمان، فقال: الأصل: إن الناس
ورائي وقد استسفروني بينك وبينهم، ووالله ما أدري ما أقول لك! ما أعرف شيئاً
تجهله، ولا أدلك على أمر لا تعرفه! إنك لتعلم ما نعلم، ما سبقناك إلى شيء فنخبرك
عنه، ولا خلونا بشيء فنبلغكه وقد رأيت كما رأينا، وسمعت كما سمعنا، وصحبت رسول
الله صلى الله عليه وآله كما صحبنا. وما ابن أبي قحافة ولا ابن الخطاب
بأولى بعمل الخير منك، وأنت أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وشيجة
رحم منهما، وقد نلت من صهره ما لم ينالا، فالله الله في نفسك،
فإنك والله ما تبصر من عمى، ولا تعلم من جهل، وإن الطرق لواضحة، وإن أعلام الدين
لقائمة. وقال الكسائي:
نقمت بالكسر أيضاً، أنقم لغة وهذه اللفظة تجيء لازمة ومتعدية، قالوا: نقمت الأمر أي كرهته. واستسفروني: جعلوني سفيراً ووسيطاً بينك وبينهم. وهذا حق، لأن علياً رضي
الله عنه لم يكن يعلم منها ما يجهله عثمان، بل
كان أحداث الصبيان فضلاً عن العقلاء المميزين يعلمون وجهي الصواب والخطأ فيها. ثم خرج إلى ذكر الشيخين، فقال قولاً معناه أنهما ليسا خيراً منك ! فإنك مخصوص دونهما
بقرب النسب، يعني المنافية وبالصهر، وهذا كلام هو
موضع المثل: يسر حسواً في ارتغاء، ومراده تفضيل نفسه رضي الله عنه عليهما، لأن العلة التي باعتبارها فضل عثمان عليهما محققة فيه وزيادة
لأن له مع المنافية الهاشمية، فهو أقرب. ثم حذره جانب الله تعالى ونبهه على أن الطريق
واضحة، وأعلام الهدى قائمة، وأن الإمام العادل أفضل الناس عند الله، وأن الإمام
الجائر شر الناس عند الله. والسيقة:
ما استاقه العدو من الدواب، مثل الوسيقة، قال
الشاعر:
والجلال، بالضم: الجليل، كالطوال والطويل، أي بعد السن الجليل، أي العمر
الطويل. ولم آت منكراً، إنما وصلت رحماً وسددت خلة
وآويت ضائعاً ووليت شبيهاً بمن كان عمر يوليه أنشدك الله يا علي، ألا تعلم أن المغيرة
بن شعبة ليس هناك! قال: بلى، قال: أفلا تعلم أن عمر ولاه! قال: بلى، قال: فلم
تلومني أن وليت ابن عامر في رحمه وقرابته! فقال علي رضي الله عنه:
إن عمر كان يطأ على صماخ من يوليه، ثم يبلغ منه إن أنكر منه أمراً أقصى العقوبة،
وأنت فلا تفعل، ضعفت ورققت على أقربائك . قال عثمان: هم
أقرباؤك أيضاً، فقال علي: لعمري إن رحمهم مني لقريبة ولكن الفضل في غيرهم. قال علي:
أنشدك الله ألا تعلم أن معاوية كان أخوف لعمر من يرفأ غلامه له؟ قال: بلى، قال: فإن معاوية يقطع الأمور دونك ويقول! للناس: هذا بأمر عثمان، وأنت تعلم ذلك فلا تغير عليه! ثم قام علي، فخرج
عثمان على أثره، فجلس على المنبر، فخطب الناس، وقال: أما بعد، فإن لكل
شيء آفة، ولكل أمر عاهة، وإن آفة هذه الأمة وعاهة هذه النعمة عيابون طعانون
يرونكم ما تحبون، ويسرون عنكم ما تكرهون، يقولون لكم وتقولون، أمثال النعام يتبع
أول ناعق، أحب مواردها إليها البعيد، لا يشربون إلا نغصاً، ولا يردون إلا عكراً.
أما والله لقد عبتم علي ما أقررتم لابن الخطاب بمثله ولكنه وطئكم
برجله، وضربكم بيده، وقمعكم بلسانه فدنتم له على ما أحببتم وكرهتم ولنت لكم، وأوطأتكم كتفي،
وكففت يدي ولساني عنكم، فاجترأتم علي. أما والله لأنا أقرب ناصراً وأعز نفراً وأكثر
عدداً وأحرى إن قلت: هلم أن يجاب صوتي. ولقد
أعددت لكم أقراناً وكشرت لكم عن نابي وأخرجتم مني خلقاً لم أكن أحسنه ومنطقاً لم
أكن أنطق به. فكفوا عني ألسنتكم وطعنكم وعيبكم على ولاتكم فما الذي تفقدون من
حقكم! والله ما قصرت عن بلوغ من كان قبلي يبلغ وما وجدتكم تختلفون عليه، فما
بالكم! فقام مروان بن الحكم، فقال: وإن شئتم حكمنا بيننا وبينكم السيف. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
يذكر فيها عجيب خلقة الطاوس
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
ابتدعهم خلقاً عجيباً من حيوان وموات، وساكن وذي حركات، وأقام من شواهد البينات
على لطيف صنعته، وعظيم قدرته، ما أنقادت له العقول معترفة به، ومسلمة له، ونعقت
في أسماعنا دلائلة على وحدانيته، وما ذرأ من مختلف صور الأطيار التي أسكنها
أخاديد الأرض، وخروق فجاجها، ورواسي أعلامها من ذات أجنحة مختلفة وهيئات
متباينة، مصرفة في زمام التسخير، ومرفرفة بأجنحتها في مخارق الجو المنفسح،
والفضاء المنفرج. وأرض موات، أي قفر، والساكن ههنا كالأرض والجبال. وذو الحركات:
كالنار والماء الجاري والحيوان. وفجاجها:
جمع فج وهو الطريق بين الجبلين. ورواسي أعلامها: أثقال جبالها. والخفوف:
سرعة الحركة. والدفيف للطائر: طيرانه فويق الأرض يقال:
عقاب دفوف. قال امرؤ القيس يصف فرسه
ويشبهها بالعقاب:
ونسقها:
رتبها. والأصابيغ:
جمع أصباغ، وأصباغ جمع صبغ. والمغموس الثاني: ذو اللونين، نحو أن يكون أحمر وعنقه خضراء. قلت: أما
الأول فكالقطا والصدا ، والثاني كالقبج والطيهوج ، والثالث كالصقر والعقاب. أحيلك من ذلك على معاينة، لا كمن يحيل على ضعيف إسناده. ولو كان كزعم من يزعم أنه يلقح
بدمعة تسفحها مدامعه، فتقف في ضفتي جفونه، وأن أنثاه تطعم ذلك، ثم تبيض لا من
لقاح فحل سوى الدمع المنبجس لما كان ذلك بأعجب من مطاعمة الغراب! الشرح: الطاوس: فاعول، كالهاضوم، والكابوس،
وترخيمه طويس: ونضد: رتب. وغضاريفه:
عظامه الصغار، وأشرجها: ركب بعضها في بعض كما تشرج العيبة، أي يداخل بين أشراجها
وهي عراها واحدها، شرج بالتحريك. والداري:
جالب العطر في البحر من دارين وهي فرضة بالبحرين فيها سوق يحمل إليها المسك من
الهند، وفي الحديث: الجليس الصالح كالداري إن لم يحذك من عطره علقك من ريحه. قال الشاعر:
والنوتي:
الملاح وجمعه نواتي، وعنجه: عطفه، وعنجت خطام البعير، رددته على رجليه، أعنجه
بالضم، والاسم العنج بالتحريك وفي المثل عوذ يعلم العنج يضرب مثلاً لتعليم
الحاذق، ويختال من الخيلاء وهي العجب. ويميس:
يتبختر، وزيفانه: تبختره، زاف يزيف، ومنه ناقة زيافة أي مختالة، قال عنترة:
وكذلك
ذكر الحمام عند الحمامة إذا جر الذنابى، ودفع مقدمه بمؤخره واستدار عليها. ويؤر:
يسفد، والأر: الجماع، ورجل آر كثير الجماع، وملاقحه: أدوات اللقاح وأعضاؤه وهي آلات التناسل. قوله:
أر الفحول، أي أراً مثل أر الفحول ذات الغلمة والشبق. وأما الحكماء فقل
أن يصدقوا بذلك على أنهم قد قالوا في كتبهم ما يقرب من هذا، قالوا في السمك البياض: إن سفاده خفي جداً، وإنه
لم يظهر ظهوراً يعتد به ويحكم بسببه. قال:
والنوع المسمى مالاقيا تتلاصق بأفواهها ثم تتشابك، فذاك سفادها، وسمعت أن الغراب
يسفد وأنه قد شوهد سفاده، ويقول الناس: إن من شاهد سفاد الغراب يثري ولا يموت
إلا وهو كثير المال موسر. والضفتان،
بفتح الضاد: الجانبان، وهما ضفتا النهر، وقد جاء ذلك بالكسر أيضاً، والفتح أفصح. ويسفحها:
يصبها، وروي: تنشجها مدامعه من النشيج، وهو
صوت الماء وغليانه من زق أو حب أو قدر. فإن شبهته بما أنبتت الأرض قلت: جني جني من زهرة كل ربيع، وإن ضاهيته بالملابس
فهو كموشي الحلل، أو كمونق عصب اليمن. وإن شاكلته بالحلي فهو كفصوص ذات ألوان قد
نطقت باللجين المكلل. يمشي
مشي المرح المختال، ويتصفح ذنبه وجناحه فيقهقه ضاحكاً لجمال سرباله، وأصابيع
وشاحه، فإذا رمى ببصره إلى قوائمه زقا معولاً بصوت يكاد يبين عن أستغاثته، ويشهد
بصادق توجعه لأن قوائمه حمش كقوائم الديكة الخلاسية.
وكذلك
المدراة، ويقال المدرى لشيء كالمسلة تصلح بها الماشطة شعور النساء، قال الشاعر:
وتمدرت المرأة، أي سرحت شعرها. شبه عظام أجنحة الطاوس بمدارى من فضة لبياضها
وشبه ما أنبت الله عليها من تلك الدارات والشموس التي في الريش بخالص العقيان
وهو الذهب. والزبرجد: هذا الجوهر الذي تسميه الناس
البلخش. والعصب: برود اليمن، والحلي: جمع حلي وهو ما
تلبسه المرأة من الذهب والفضة مثل ثدي وثدي ووزنه فعول وقد تكسر الحاء لمكان
الياء مثل عمي، وقرئ: "من حليهم"
بالضم والكسر. والمكلل:
ذو الإكليل. وزقا:
صوت، يزقو زقوا وزقياً وزقاء، وكل صائح زاق. والزقية:
الصيحة وهو أثقل من الزواقي أي الديكة، لأنهم كانوا يسمرون فإذا صاحت الديكة
تفرقوا. وتقول العرب للغلام إذا
كانت أمه بيضاء وأبوه عربياً: آدم، فجاء لونه بين لونيهما. والظنبوب:
حرف الساق وهو هذا العظم اليابس.
ونقل
إلى صيصية الديك لتلك الهيئة التي في رجله. والمتلفع:
الملتحف، ويروى: متقنع بمعجر وهو ما تشده المرأة على رأسها كالرداء، والأقحوان: البابونج الأبيض وجمعه أقاح. ويأتلق:
يلمع. فسبحان
الذي بهر العقول عن وصف خلق جلاه للعيون فأدركته محدوداً مكوناً، ومؤلفاً
ملوناً، وأعجز الألسن عن تلخيص صفته وقعد بها عن تأدية نعته! وسبحان
من أدمج قوائم الذرة والهمجة إلى ما فوقهما من خلق الحيتان والفيلة! ووأى على
نفسه ألا يضطرب شبح مما أولج فيه الروح إلا وجعل الحمام موعده والفناء غايته. ونامياً:
زائداً. يقول رضي الله عنه: إذا عاد ريشه عاد مكان كل ريشة ريشة ملونة بلون الريشة
أولى، فلا يتخالف الأوائل والأواخر. والخضرة الزبرجدية:
منسوبة إلى الزمرد، ولفظة الزبرجد تارة تستعمل له، وتارة لهذا الحجر الأحمر
المسمى بلخش. والعسجد:
الذهب. وعمائق الفطن: البعيدة القعر. والقريحة:
الخاطر والذهن. وبهر: غلب، وجلاه:
أظهره ويروى بالتخفيف. وأدمج القوائم:
أحكمها: كالحبل المدمج الشديد الفتل. والهمجة، واحدة الهمج، وهو ذباب صغير كالبعوض يسقط
على وجوه الغنم والحمر وأعينها، ووأى: وعد، والواي: الوعد. ويبيض في السنة مرة واحدة اثنتي عشرة بيضة في ثلاثة
أيام، ويحضنها ثلاثين يوماً، فيفرخ ويلقي ريشه مع سقوط ورق الشجر، وينبته مع
ابتداء نبات الورق. وينبغي أن يتعهد الدجاجة حينئذ بتقريب العلف منها. قال الرضي رحمه الله تعالى
في تفسير بعض ما في هذه الخطبة من الغريب: قوله عليه السلام: يؤر
بملاقحه الأز: كناية عن النكاح، يقال: أر
الرجل المرأة يؤزها، إذا نكحها. وداري:
منسوب إلى دارين وهي بلدة على البحر يجلب منها الطيب. وعنجه أي
عطفه يقال: عنجت الناقة، أعنجها عنجاً إذا عطفتها. والنوتي: الملاح. والزخارف: جمع زخرف وهو الذهب وكل مموه. والمونقة: المعجبة. وزهقت
نفسه: مات. وروى جابر بن عبد الله عنه عليه
الصلاة والسلام: "إذا دخل أهل الجنة الجنة، قال
لهم ربهم تعالى: أتحبون أن أزيدكم؟ فيقولون: وهل خير مما أعطيتنا؟ فيقول: نعم،
رضواني أكبر". وعنه عليه الصلاة والسلام: "إن أحدهم ليعطى قوة مائة رجل في الأكل والشرب"، فقيل له: فهل يكون منهم حدث أو قال خبث؟ قال: "عرق يفيض من أعراضهم كريح المسك يضمر
منه البطن ". ثم عجنني بماء الحيوان، وقال لي: كوني كذا،
فكنت. خلقني
لأخيك وابن عمك علي بن أبي طالب".
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن خطبة له في الحث على التآلف
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: ليتأس صغيركم
بكبيركم، وليرأف كبيركم بصغيركم ولا تكونوا كجفاة الجاهلية لا في الدين يتفقهون
ولا عن الله يعقلون كقيض بيض في أداح، يكون كسرها وزراً، ويخرج حضانها شراً. والرأفة:
الرحمة لأن الصغير مظنة الضعف والرقة. وتقول للبيضة إذا تكسرت فلقاً:
تقيضت تقيضاً، فإن تصدعت ولم تنفلق، قلت:
انقاضت، فهي منقاضة، والقارورة مثله. يسيلون من مستثارهم كسيل الجنتين حيث لم تسلم عليه
قارة، ولم تثبت عليه أكمة، ولم يرد سننه رص طود، ولا حداب أرض، يذعذعهم الله في
بالون أوديته، ثم يسلكهم ينابيع في الأرض، يأخذ بهم من قوم حقوق قوم، ويمكن لقوم
في ديار قوم، وأيم الله ليذوبن ما في أيديهم بعد العلو والتمكين كما تذوب الألية
على النار. وقزع الخريف:
جمع قزعة، وهي سحب صغار تجتمع فتصير ركاماً وهو ما كثف من السحاب. وركمت الشيء أركمه إذا جمعته وألقيت
بعضه على بعض. فشبه رضي الله عنه سيلان الجيوش إلى بني أمية
بالسيل المسلط على تينك الجنتين. ولم تثبت له أكمة وهي التلعة من الأرض، ولم يرد
سننه أي طريقه. طود مرصوص أي جبل شديد التصاق الأجزاء بعضها ببعض. ولا حداب أرض. جمع حدبة وهي الروابي والنجاد. ويل للعرب من شر قد اقترب"، فقلت: يا رسول الله، أنهلك، وفينا الصالحون؟ فقال:
"نعم، إذا كثر الخبث " وفي الصحيحين
أيضاً: "يهلك أمتي هذا الحي من قريش"، قالوا: يا رسول الله،
فما تأمرنا؟ قال: "لو أن الناس اعتزلوهم" رواه أبو هريرة عنه رضي الله
عنه. والفادح: الثقل، فدحه الدين: أثقله. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن خطبة له في أول خلافته
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: إن الله
تعالى سبحانه أنزل كتاباً هادياً بين فيه الخير والشر فخذوا نهج الخير تهتدوا،
وأصدفوا عن سمت الشر تقصدوا. فالمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده إلا بالحق،
ولا يحل أذى المسلم إلا بما يجب. بادروا أمر العامة وخاصة أحدكم وهو الموت فإن
الناس أمامكم، وإن الساعة تحذوكم من خلفكم. تخففوا تلحقوا فإنما ينتظر بأولكم
آخركم: أتقوا الله في عباده وبلاده، فإنكم مسؤولون حتى عن
البقاع والبهائم، وأطيعوا الله ولا تعصوه، وإذا رأيتم الخير فخذوا به، وإذا
رأيتم الشر فأعرضوا عنه. وهذا لفظ الخبر النبوي:
حرمة المسلم فوق كل حرمة، دمه وعرضه وماله. وقد ورد في الأخبار النبوية لينتصفن
للجماء من القرناء وجاء في الخبر الصحيح: إن الله تعالى
عذب إنساناً بهر، حبسه في بيت وأجاعه حتى هلك. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن كلام له بعد ما بويع له بالخلافة
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وقد قال له قوم من الصحابة: لو عاقبت قوماً ممن أجلب على عثمان فقال عليه السلام الأصل: يا
إخوتاه! إني لست أجهل ما تعلمون ولكن كيف لي بقوة والقوم المجلبون على حد شوكتهم
يملكوننا ولا نملكهم! وها هم هؤلاء قد ثارت معهم عبدانكم والتفت إليهم أعرابكم
وهم خلالكم يسومونكم ما شاءوا، وهل ترون موضعاً لقدرة على شيء تريدونه! إن هذا
الأمر أمر جاهلية وإن لهؤلاء القوم مادة. إن الناس من هذا الأمر إذا حرك على أمور: فرقة
ترى ما ترون، وفرقة ترى ما لا ترون، وفرقة لا ترى هذا ولا هذا. فاصبروا حتى يهدأ
الناس وتقع القلوب مواقعها وتؤخذ الحقوق مسمحة. وعلى
حد شوكتهم، شدتهم أي لم تنكسر سورتهم .
ومنه
قرأ بعضهم: "وعبد الطاغوت"
وأضافه. والمنة:
القوة. والوهن:
الضعف. وآخر الدواء الكي، مثل مشهور ويقال:
آخر الطب ويغلط فيه العامة فتقول: آخر الداء، والكي
ليس من الداء ليكون آخره. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
موقف الإمام علي من قتلة عثمان
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
واعلم أن هذا الكلام يدل على أنه رضي
الله عنه كان في نفسه عقاب الذين حصروا عثمان والاقتصاص ممن قتله،
إن كان بقي ممن باشر قتله أحد ولهذا قال:
إني لست أجهل ما تعلمون فاعترف بأنه عالم بوجوب ذلك، واعتذر بعدم التمكن كما
ينبغي وصدق رضي الله عنه فإن أكثر أهل المدينة أجلبوا عليه، وكان من أهل مصر ومن
الكوفة عالم عظيم حضروا من بلادهم، وطووا المسالك البعيدة لذلك، وانضم إليهم
أعراب أجلاف من البادية، وكان الأمر أمر جاهلية كما قال رضي الله عنه ولو
حرك ساكناً لاختلف الناس واضطربوا، فقوم يقولون: أصاب، وقوم يقولون: أخطأ، وقوم
لا يحكمون بصواب ولا خطأ. بل
يتوقفون، ولا يأمن- لو شرع في عقوبة الناس والقبض عليهم- من تجدد فتنة أخرى
كالأولى وأعظم فكان الأصوب في التدبير، والذي يوجبه الشرع والعقل الإمساك إلى
حين سكون الفتنة، وتفرق تلك الشعوب وعود كل قوم إلى بلادهم وكان رضي الله عنه يؤمل أن يطيعه معاوية وغيره،
وأن يحضر بنو عثمان عنده يطالبون بدم أبيهم، ويعينون قوماً بأعيانهم، بعضهم
للقتل، وبعضهم للحصار، وبعضهم للتسور، كما جرت عادة المتظلمين إلى الإمام
والقاضي فحينئذ يتمكن من العمل بحكم الله تعالى فلم يقع الأمر بموجب ذلك، وعمى
معاوية وأهل الشام، والتجأ ورثة عثمان إليه، وفارقوا حوزة أمير المؤمنين رضي الله عنه، ولم يطلبوا القصاص طلباً
شرعياً، وإنما طلبوه مغالبة، وجعلها معاوية عصبية الجاهلية، ولم يأت أحد منهم
الأمر من بابه وقبل ذلك ما كان من أمير طلحة والزبير، ونقضهما البيعة، ونهبهما
أموال المسلمين بالبصرة وقتلهما الصالحين من أهلها، وجرت أمور كلها تمنع الإمام
عن التصدي للقصاص، واعتماد ما يجب اعتماده لو كان الأمر وقع على القاعدة الصحيحة
من المطالبة بذلك على وجه السكون والحكومة، وقد قال
هو رضي الله عنه لمعاوية: "فأما طلبك قتلة عثمان، فادخل في الطاعة،
وحاكم القوم إلي، أحملك وإياهم على كتاب الله وسنة رسوله". |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
عند مسير أصحاب الجمل إلى البصرة
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: إن الله بعث
رسولاً هادياً بكتاب ناطق وأمر قائم لا يهلك عنه إلا هالك. وإن المبتدعات
المشبهات هن المهلكات إلا ما حفظ الله منها. وإن في سلطان الله عصمة لأمركم،
فأعطوه طاعتكم غير ملومة ولا مستكره بها. لا يهلك عنه إلا هالك، تقديره: لا يهلك عادلاً عنه
إلا هالك، وهذا كما تقول: لا يعلم هذا الفن إلا عالم أي من قد بلغ الغاية في
العلم واستحق أن يوصف بذلك ويشار إليه فيه، كذلك لا يهلك بعدوله عنه إلا من هو
أعظم الهالكين، ومن يشار إليه بالهلاك وقد بلغ الغاية في الهلاك. ثم
قال: "إن المبتدعات المشبهات هن
المهلكات"، المبتدعات: ما أحدث
ولم يكن على عهد الرسول. والمشبهات:
التي تشبه السنن وليست منها، أي المشبهات بالسنن. وروي:
المشبهات بالكسر، أي المشبهات على الناس، يقال: قد شبه عليه الأمر، أي ألبس
عليه، ويروى: لا المشتبهات أي الملتبسات، لا يعرف حقها من باطلها. ثم
أمرهم بلزوم الطاعة، واتباع السلطان، وقال: إن فيه عصمة لأمركم، فأعطوه طاعتكم
غير ملومة، أي مخلصين ذوي طاعة محضة لا يلام باذلها، أي لا ينسب إلى النفاق. ولا
مستكره بها، أي ليست عن استكراه، بل يبذلونها اختياراً ومحبة، ويروى: غير ملوية
أي معوجة، من لويت العود. قلت:
لأن الشرط لم يقع، وهو عدم الطاعة، فإن أكثرهم أطاعوه طاعة غير ملومة ولا مستكره
بها، وإذا لم يتحقق الشرط لم يتحقق المشروط. ثم
وعد بالصبر عليهم ما لم يخف من فرقة الجماعة وانتشار حبل الإسلام.
أي
لستم على رجل ضعيف الرأي. والجمع أفيال، ويقال أيضاً: رجل فال، قال:
قال:
إن تموا على هذا الرأي الضعيف قطعوا نظام المسلمين وفرقوا جماعتهم. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن كلام له كلم به بعض العرب
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وقد أرسله قوم من أهل البصرة لما قرب عليه السلام منها
ليعلم لهم منه حقيقة حاله مع أصحاب الجمل لتزول الشبهة من نفوسهم فبين له عليه السلام من أمره معهم ما علم به أنه
على الحق ثم قال له بايع فقال إني رسول قوم ولا أحدث حدثاً حتى أرجع إليهم فقال عليه السلام الأصل: أرأيت لو أن
الذين وراءك بعثوك رائداً، تبتغي لهم مساقط الغيث، فرجعت إليهم وأخبرتهم عن
الكلأ والماء، فخالفوا إلى المعاطش والمجادب ما كنت صانعاً؟ قال: كنت تاركهم ومخالفهم إلى الكلأ والماء، فقال عليه السلام: فامدد إذا يدك. الشرح: الجرمي: منسوب إلى بني جرم بن ربان بن حلوان بن
عمران بن الحاف بن قضاعة، من حمير. وكان هذا الرجل بعثه قوم من أهل البصرة إليه رضي الله عنه يستعلم
حاله: أهو على حجة أم على شبهة؟ فلما رآه رضي
الله عنه، وسمع لفظه، علم صدقه وبرهانه
فكان بينهما ما قد شرحه رضي الله عنه. والكلأ: النبت إذا طال وأمكن أن يرعى، وأول ما يظهر
يسمى الرطب، فإذا طال قليلاً فهو الخلا، فإذا طال شيئاً آخر فهو الكلأ، فإذا يبس
فهو الحشيش، والمعاطش والمجادب: مواضع العطش والجدب، وهو المحل. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لما عزم علي لقاء القوم بصفين
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: اللهم رب السقف
المرفوع، والجو المكفوف الذي جعلته مغيضاً لليل والنهار، ومجرى للشمس والقمر،
ومختلفاً للنجوم السيارة، وجعلت سكانه سبطاً من ملائكتك، لا يسأمون من عبادتك. الشرح:
السقف المرفوع: السماء. والجو المكفوف: السماء أيضاً، كفه أي جمعه وضم بعضه إلى
بعض، ويمر في كلامه نحو هذا، وأن السماء هواء جامد أو ماء جامد. ومختلفاً للنجوم السيارة أي موضعا لاختلافها،
واللام مفتوحة. ومدرجاً للهوام، أي موضع دروجهم وسيرهم وحركاتهم، والهوام: الحشرات والمخوف من الأحناش، وما لا
يحصى، أي لا يضبط بالإحصاء والعد مما نراه ونعرفه وما لا نراه ولا نعرفه. والغائر: ذو الغيرة. ونزول الحقائق: نزول الأمور الشديدة كالحرب ونحوها. وهذا الكلام شريف جداً. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن خطبة له في من رماه بالحرص
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: الحمد لله
الذي لا تواري عنه سماء سماء، ولا أرض أرضاً. ويمكن أن يتأول مثل ذلك كلام أمير
المؤمنين رضي الله عنه، فيقال: إنها وإن كانت أرضاً واحدة،
لكنها أقاليم وأقطار مختلفة، وهي كرية الشكل، فمن على حدبة الكرة لا يرى من
تحته، ومن تحته لا يراه، ومن على أحد جانبيها لا يرى من على الجانب الآخر، والله
تعالى يدرك ذلك كله أجمع، ولا يحجب عنه شيء منها بشيء منها. اللهم إني أستعديك على قريشٍ ومن أعانهم،
فإنهم قطعوا رحمي، وصغروا عظيم منزلتي، وأجمعوا على منازعتي أمراً هو لي، ثم قالوا:
ألا إن في الحق أن تأخذه، وفي الحق أن تتركه. والذي قال له:
"إنك على هذا الأمر لحريص" سعد بن أبي
وقاص، مع روايته فيه: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى"، وهذا عجب، فقال لهم: بل أنتم والله أحرص وأبعد....
الكلام المذكور. وقد رواه الناس كافة. وحدثني يحيى بن سعيد بن علي الحنبلي
المعروف بابن عالية، من ساكني قطفتا بالجانب الغربي من بغداد وأحد الشهود
المعدلين بها، قال: كنت حاضراً مجلس الفخر إسماعيل بن علي
الحنبلي الفقيه المعروف بغلام ابن المنى، وكان الفخر إسماعيل بن علي هذا مقدم
الحنابلة ببغداد في الفقه والخلاف ويشتغل بشيء في علم المنطق، وكان حلو العبارة،
وقد رأيته أنا وحضرت عنده، وسمعت كلامه، وتوفي سنة
عشر وستمائة. فقال ذلك الشخص: ومن صاحب القبر؟
قال: علي بن أبي طالب! قال: يا سيدي، هو الذي سن لهم ذلك، وعلمهم
إياه وطرقهم إليه! قال: نعم والله، قال: يا سيدي فإن كان محقاً فمالنا أن نتولى
فلاناً وفلاناً! وإن كان مبطلاً فمالنا نتولاه! ينبغي
أن نبرأ إما منه أو
منهما. فوالله إن لو لم يصيبوا من المسلمين إلا رجلاً
واحداً معتمدين لقتله بلا جرم جره، لحل لي قتل ذلك الجيش كله إذ حضروه فلم
ينكروا، ولم يدفعوا عنه بلسان ولا بيد، دع ما إنهم قد قتلوا من المسلمين مثل العدة
التي دخلوا بها عليهم! الشرح: حرمة رسول
الله صلى الله عليه وسلم كناية
عن الزوجة، وأصله الأهل والحرم وكذلك حبيس رسول الله صلى الله عليه وسلم كناية عنها. وقوله: "فوالله إن لو لم يصيبوا" إن
هاهنا زائدة، ويجوز أن تكون مخففة من الثقيلة. والجواب، أنه يجوز
قتلهم لأنهم اعتقدوا ذلك القتل مباحاً، فإنهم إذا اعتقدوا إباحته، فقد اعتقدوا
إباحة ما حرم الله، فيكون حالهم حال من اعتقد أن الزنا مباح، أو أن شرب الخمر
مباح. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
خروج عائشة ومسيرها إلى القتال
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وروى أبو مخنف، قال:
حدثنا إسماعيل بن خالد، عن قيس بن أبي حازم. وروى الكلبي عن أبي صالح، عن ابن
عباس. وروى جرير بن يزيد، عن عامر الشعبي، وروى محمد بن
إسحاق، عن حبيب بن عمير، قالوا جميعاً: لما
خرجت عائشة وطلحة والزبير من مكة إلى
البصرة، طرقت ماء الحوأب- وهو ماء لبني عامر بن
صعصعة- فنبحتهم الكلاب، فنفرت صعاب إبلهم، فقال قائل منهم: لعن الله الحوأب فما أكثر كلابها! فلما سمعت عائشة ذكر
الحوأب، قالت: أهذا ماء الحوأب؟ قالوا: نعم،
فقالت: ردوني ردوني فسألوها ما شأنها؟ ما
بدا لها؟ فقالت: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول: "كأني بكلاب ماء يدعى الحوأب، قد نبحت بعض نسائي"، ثم قال لي: "إياك يا حميراء أن تكونيها"
فقال لها الزبير: مهلاً يرحمك الله، فإنا قد
جزنا ماء الحوأب بفراسخٍ كثيرة، فقالت: أعندك من يشهد بأن هذه الكلاب النابحة
ليست على ماء الحوأب؟ فلفق لها الزبير وطلحة خمسين
أعرابياً جعلا لهم جعلاً ، فحلفوا لها، وشهدوا أن هذا الماء ليس بماء الحوأب،
فكانت هذه أول شهادة زور في الإسلام. قلت: وأصحابنا المعتزلة رحمهم الله،
يحملون قوله رضي الله عنه: "وتنجو" على نجاتها من النار، والإمامية
يحملون ذلك على نجاتها، من القتل، ومحملنا أرجح، لأن لفظة
"في النار" أقرب إليه من لفظة "القتلى"، والقرب معتبر في هذا الباب، ألا ترى أن نحاة البصريين أعملوا أقرب العاملين، نظراً إلى القرب! قال أبو مخنف:
وحدثني الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، أن الزبير وطلحة أغذا السير بعائشة،
حتى انتهوا إلى حفر أبي موسى الأشعري، وهو قريب من البصرة، وكتبا إلى عثمان بن حنيف الأنصاري، وهو عامل علي رضي الله
عنه على البصرة: أن أخل لنا دار الإمارة، فلما وصل كتابهما إليه بعث
الأحنف بن قيس، فقال له: إن هؤلاء القوم
قدموا علينا ومعهم زوجة رسول الله، والناس إليها سراع كما ترى فقال الأحنف: إنهم جاؤوك بها للطلب بدم عثمان وهم
الذين ألبوا على عثمان الناس، وسفكوا دمه وأراهم والله لا يزايلون حتى يلقوا
العداوة بيننا، ويسفكوا دماءنا، وأظنهم والله سيركبون منك خاصة ما لا قبل لك به
إن لم تتأهب لهم بالنهوض إليهم فيمن معك من أهل البصرة، فإنك اليوم الوالي عليهم
وأنت فيهم مطاع فسر إليهم بالناس وبادرهم قبل أن يكونوا معك في دار واحدة، فيكون
الناس لهم أطوع منهم لك؟ فقال عثمان بن حنيف: الرأي
ما رأيت لكنني أكره الشر وأن أبدأهم به وأرجو العافية والسلامة إلى أن يأتيني
كتاب أمير المؤمنين ورأيه فأعمل به. ثم أتاه بعد الأحنف حكيم بن جبلة العبدي من
بني عمرو بن وديعة، فأقرأه كتاب طلحة والزبير، فقال له مثل قول الأحنف، وأجابه
عثمان بمثل جوابه للأحنف، فقال له حكيم: فأذن
لي حتى أسير إليهم بالناس، فإن دخلوا في طاعة أمير المؤمنين وإلا نابذتهم على
سواء. والله أشد بأساً، وأشد تنكيلاً، فإذا قدموا عليك
فادعهم إلى الطاعة والرجوع إلى الوفاء بالعهد والميثاق الذي فارقونا عليه، فإن
أجابوا فأحسن جوارهم ما داموا عندك، وإن أبوا إلا التمسك بحبل النكث والخلاف،
فناجزهم القتال حتى يحكم الله بينك وبينهم وهو خير الحاكمين وكتبت كتابي هذا
إليك من الربذة، وأنا معجل المسير إليك إن شاء الله، وكتبه عبيد الله بن أبي
رافع في سنة ست وثلاثين. قال:
فلما وصل كتاب علي رضي الله عنه إلى عثمان، أرسل إلى أبي الأسود الدؤلي وعمران
بن الحصين الخزاعي، فأمرهما أن يسيرا حتى يأتياه بعلم القوم، وما الذي أقدمهم!
فانطلقا حتى إذا أتيا حفر أبي موسى، وبه معسكر القوم، فدخلا على عائشة، فنالاها
ووعظاها، وأذكراها وناشداها الله، فقالت لهما:
القيا طلحة والزبير. فقاما
من عندها، ولقيا الزبير فكلماه، فقال لهما:
إنا جئنا للطلب بدم عثمان، وندعو الناس إلى أن يردوا أمر الخلافة شورى، ليختار
الناس لأنفسهم. فقالا له: إن عثمان لم يقتل بالبصرة ليطلب دمه فيها، وأنت تعلم قتلة عثمان من هم، وأين هم! وإنك وصاحبك
وعائشة كنتم أشد الناس عليه، وأعظمهم إغراء بدمه، فأقيدوا من أنفسكم. وأما إعادة أمر الخلافة شورى، فكيف وقد بايعتم علياً طائعين غير
مكرهين! وأنت
يا أبا عبد الله لم يبعد العهد بقيامك دون هذا الرجل يوم مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت آخذ قائم سيفك، تقول: ما أحذ أحق بالخلافة منه ولا أولى بها منه!
وامتنعت من بيعة أبي بكر. فأين ذلك الفعل من هذا
القول! فقال لهما: اذهبا فالقيا طلحة، فقاما إلى طلحة فوجداه أخشن
الملمس، شديد العريكة، قوي العزم في إثارة الفتنة وإضرام نار الحرب، فانصرفا إلى عثمان بن حنيف، فأخبراه وقال له أبو الأسود:
فقال ابن حنيف:
إي والحرمين لأفعلن. وأمر مناديه فنادى في الناس:
السلاح السلاح! فاجتمعوا إليه، وقال أبو الأسود:
قال: وأقبل القوم، فلما انتهوا إلى المربد، قام رجل من بني جشم
فقال: أيها
الناس، أنا فلان الجشمي، وقد أتاكم هؤلاء القوم، فإن كانوا أتوكم خائفين، لقد
أتوكم من المكان الذي يأمن فيه الطير والوحش والسباع، وإن كانوا إنما أتوكم بطلب
دم عثمان، فغيرنا ولي قتله. فأطيعوني أيها الناس وردوهم من حيث أقبلوا فإنكم إن
لم تفعلوا لم تسلموا من الحرب الضروس والفتنة الصماء التي لا تبقي ولا تذر. وقد جئناكم أيها الناس نطلب بدم عثمان، وندعوكم إلى الطلب بدمه فإن نحن أمكننا الله من قتلته
قتلناهم به، وجعلنا هذا الأمر شورى بين المسلمين، وكانت خلافة رحمة للأمة
جميعاً، فإن كل من أخذ الأمر من غير رضاً من العامة ولا مشورة منها ابتزازاً،
كان ملكه ملكاً عضوضاً وحدثاً كثيراً. ثم قام الزبير،
فتكلم بمثل كلام طلحة. فقال ناس:
قد صدقا وأحسنا القول، وقطعا بالثواب. وقال ناس:
ما صدقا ولا أصابا في القول حتى ارتفعت الأصوات. قال: ثم أقبلت عائشة على جملها، فنادت بصوت مرتفع: أيها الناس، أقلوا الكلام واسكتوا،
فأسكت الناس لها، فقالت: إن أمير المؤمنين عثمان قد كان غير وبدل، ثم لم يزل
يغسل ذلك بالتوبة حتى قتل مظلوماً تائباً، وإنما نقموا عليه ضربه بالسوط،
وتأميره الشبان، وحمايته موضع الغمامة، فقتلوه محرماً في حرمة الشهر وحرمة البلد
ذبحاً كما يذبح الجمل. ألا وإن
قريشاً رمت غرضها بنبالها، وأدمت أفواهها بأيديها، وما نالت بقتلها إياه شيئاً،
ولا سلكت به سبيلاً قاصداً، أما والله ليرونها بلايا عقيمة تنبه النائم، وتقيم
الجالس، وليسلطن عليهم قوم لا يرحمونهم وسيومونهم سوء العذاب. تراني أغضب لكم من سوط عثمان ولسانه،
ولا أغضب لعثمان من سيوفكم! ألا إن عثمان قتل
مظلوماً فاطلبوا قتلته، فإذا ظفرتم بهم
فاقتلوهم، ثم اجعلوا الأمر شورى بين الرهط الذين
اختارهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ولا يدخل فيهم من شرك في دم عثمان. وليت شعري ما الذي أحوجهما إلى هذا
القول! وإذا كان هذا في أنفسهما، فهلا كتماه! ثم نعود إلى خبرهما: قال أبو مخنف: فلما أقبل طلحة والزبير من المربد
يريدان عثمان بن حنيف، فوجداه وأصحابه قد أخذوا بأفواه السكك، فمضوا حتى انتهوا
إلى موضع الدباغين، فاستقبلهم أصحاب ابن حنيف فشجرهم طلحة والزبير وأصحابهما
بالرماح، فحمل عليهم حكيم بن جبلة، فلم يزل هو وأصحابه يقاتلونهم حتى أخرجوهم من
جميع السكك، ورماهم النساء من فوق البيوت بالحجارة، فأخذوا إلى مقبرة بني مازن،
فوقفوا بها ملياً حتى ثابت إليهم خيلهم، ثم أخذوا على مسناة البصرة حتى انتهوا
إلى الرابوقة ثم أتوا سبخة دار الرزق، فنزلوها. مهلاً! إذا كان هذا رأيك فلم قبلت من علي ما عرض عليك
من البيعة، فبايعته طائعاً راضياً، ثم نكثت بيعتك، ثم جئت لتدخلنا في فتنتك!
فقال: إن علياً دعاني إلى بيعته بعد ما بايع الناس، فعلمت لو لم أقبل ما عرضه
علي لم يتم لي، ثم يغري بي من معه. للهم إني قد أعذرت إلى هذين الرجلين!
ثم
حمل عليهم، واقتتل الناس قتالاً شديداً، ثم تحاجزوا
واصطلحوا على أن يكتب بينهم كتاب صلح فكتب: هذا ما اصطلح عليه عثمان بن
حنيف الأنصاري ومن معه من المؤمنين من شيعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وطلحة
والزبير ومن معهما من المؤمنين والمسلمين من شيعتهما، أن لعثمان بن حنيف دار
الإمارة والرحبة والمسجد وبيت المال والمنبر، وأن لطلحة والزبير ومن معهما أن
ينزلوا حيث شاؤوا من البصرة، ولا يضار بعضهم بعضاً في طريق ولا فرضة ولا سوق ولا
شرعة ولا مرفق، حتى يقدم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب
فإن أحبوا دخلوا فيما دخلت فيه أمة، وإن أحبوا لحق كل قوم بهواهم وما أحبوا من
قتال أو سلم أو خروج أو إقامة، وعلى الفريقين بما كتبوا عهد الله وميثاقه، وأشد
ما أخذه على نبي من أنبيائه من عهد وختم الكتاب،
ورجع عثمان بن حنيف حتى دخل دار الإمارة وقال لأصحابه: ألحقوا رحمكم الله بأهلكم، وضعوا سلاحكم، وداووا جرحاكم.
فمكثوا كذلك أياماً. فلما استوسق لطلحة والزبير أمرهما خرجا في ليلة مظلمة ذات ريح ومطر
ومعهما أصحابهما قد ألبسوهم الدروع، وظاهروا فوقها بالثياب، فانتهوا إلى المسجد وقت صلاة الفجر، وقد سبقهم عثمان بن حنيف
إليه، وأقيمت الصلاة، فتقدم عثمان ليصلي بهم، فأخره أصحاب طلحة والزبير،
وقدموا الزبير فجاءت السبابجة- وهم الشرط حرس بيت المال- فأخرجوا الزبير، وقدموا
عثمان، فغلبهم أصحاب الزبير، فقدموا الزبير وأخروا عثمان، فلم يزالوا كذلك حتى
كادت الشمس تطلع، وصاح بهم أهل المسجد: ألا تتقون أصحاب محمد وقد طلعت الشمس! فغلب
الزبير فصلى بالناس، فلما انصرف من صلاته، صاح بأصحابه المستسلحين: أن خذوا عثمان بن حنيف، فأخذوه بعد أن تضارب هو ومروان بن الحكم بسيفيهما، فلما أسر ضرب ضرب الموت، ونتف حاجباه وأشفار عينيه، وكل شعرة في رأسه
ووجهه، وأخذوا السبابجة وهم سبعون رجلاً فانطلقوا بهم وبعثمان بن حنيف إلى
عائشة، فقالت لأبان بن عثمان: أخرج إليه فاضرب
عنقه، فإن الأنصار قتلت أباك، وأعانت على قتله. فنادى عثمان: يا عائشة، ويا
طلحة، ويا زبير إن أخي سهل بن حنيف خليفة علي بن أبي طالب على المدينة وأقسم
بالله إن قتلتموني ليضعن السيف في بني أبيكم وأهليكم ورهطكم فلا يبقي أحداً
منكم. فكفوا عنه وخافوا أن يقع سهل بن حنيف بعيالاتهم وأهلهم بالمدينة، فتركوه. قال:
فذبحهم والله الزبير كما يذبح الغنم، ولي ذلك منهم عبد
الله ابنه، وهم سبعون رجلاً، وبقيت منهم طائفة مستمسكين ببيت المال!.
قالوا: لا ندفعه إليكم حتى يقدم أمير المؤمنين فسار
إليهم الزبير في جيش ليلاً فأوقع بهم وأخذ منهم خمسين أسيراً فقتلهم صبراً. قال: وخيروا عثمان بن حنيف بين أن يقيم أو
يلحق بعلي، فاختار الرحيل فخلوا سبيله، فلحق بعلي رضي الله عنه، فلما رآه بكى وقال له:
فارقتك شيخاً وجئتك أمرد، فقال علي: إنا لله وإنا إليه راجعون! قالها ثلاثاً.
قال: فلما بلغ حكيم بن جبلة ما صنع القوم بعثمان بن حنيف، خرج في ثلاثمائة من عبد القيس مخالفاً
لهم ومنابذاً فخرجوا إليه، وحملوا عائشة على جمل فسمي
ذلك اليوم يوم الجمل الأصغر، ويوم علي يوم الجمل الأكبر. قال: وقتل مع حكيم إخوة له ثلاثة، وقتل أصحابه كلهم، وهم ثلاثمائة من
عبد القيس، والقليل منهم من بكر بن وائل، فلما صفت البصرة لطلحة والزبير بعد قتل
حكيم وأصحابه وطرد ابن حنيف عنهما اختلفا في الصلاة، وأراد كل منهما أن يؤم بالناس، وخاف أن
تكون صلاته خلف صاحبه تسليماً له ورضاً بتقدمه فأصلحت
بينهما عائشة، بأن جعلت عبد الله بن الزبير ومحمد بن طلحة يصليان بالناس،
هذا يوماً وهذا يوماً. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
منافرة بين ولدي علي عليه السلام وطلحة
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
كان القاسم بن محمد بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله
التيمي- يلقب أبا بعرة، ولي شرطة الكوفة لعيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد
الله بن العباس- كلم إسماعيل بن جعفر بن محمد
الصادق رضي الله عنه بكلام خرجا فيه إلى المنافرة ، فقال القاسم بن محمد:
لم يزل فضلنا وإحساننا سابغاً عليكم يا بني هاشم وعلى بني عبد مناف كافة، فقال إسماعيل: أي فضل وإحسان أسديتموه إلى بني عبد
مناف؟ أغضب أبوك جدي بقوله: ليموتن محمد ولنجولن بين خلاخيل نسائه كما جال بين
خلاخيل نسائنا. فأنزل الله
تعالى مراغمة لأبيك: "وما كان لكم أن تؤذوا
رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبداً" ومنع ابن عمك أمي
حقها من فدك وغيرها من ميراث أبيها وأجلب أبوك على عثمان وحصره حتى قتل، ونكث
بيعة علي وشام السيف في وجهه، وأفسد قلوب المسلمين عليه، فإن كان لبني عبد مناف
قوم غير هؤلاء أسديتم إليهم إحساناً فعرفني من هم جعلت فداك! |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
منافرة بين ابن الزبير وابن عباس
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وتزوج عبد الله بن الزبير أم عمرو ابنة منظور بن زبان الفزارية، فلما دخل بها قال لها تلك الليلة: أتدرين من معك في حجلتك ؟ قالت: نعم، عبد الله بن الزبير بن العوام بن
خويلد بن أسد بن عبد العزى. قالت: أما والله
لو أن بعض بني عبد مناف حضرك لقال لك خلاف قولك. فغضب، وقال: الطعام والشراب
علي حرام حتى أحضرك الهاشميين وغيرهم من بني عبد مناف، فلا يستطيعون لذلك
إنكاراً. قالت: إن أطعتني لم تفعل، وأنت أعلم وشأنك. قال: وكيف ذلك؟ قال: لأنك لم تذكر فخراً إلا
برسول اللة صلى الله عليه وسلم، وأنا أولى بالفخر له منك. قال ابن الزبير: لو شئت لفخرت عليك بما كان قبل النبوة، قال ابن عباس: قد انصف القارة من راماها نشدتكم
الله أيها الحاضرون! أعبد المطلب أشرف أم خويلد في قريش؟ قالوا: عبد المطلب،
قال: أفهاشم كان أشرف فيها أم أسد؟ قالوا: بل هاشم، قال: أفعبد مناف أشرف أم عبد
العزى؟ قالوا: عبد مناف، فقال ابن عباس:
قضى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفضل في قوله: "ما
افترقت فرقتان إلا كنت في خيرهما"، فقد فارقناك من بعد قصي بن كلاب،
أفنحن في فرقة الخير أم لا؟ إن قلت: نعم
خصمت، وإن قلت: لا كفرت! فضحك بعض القوم، فقال ابن الزبير: أما والله لولا تحرمك بطعامنا يا
بن عباس لأعرقت جبينك قبل أن تقوم من مجلسك، قال
أبن عباس: ولم؟ أبباطل فالباطل لا يغلب الحق، أم بحق؟ فالحق لا يخشى من
الباطل! فقالت المرأة من وراء الستر: إني والله لقد
نهيته عن هذا المجلس، فأبى إلا ما ترون. فقال ابن عباس:
مه أيتها المرأة! اقنعي ببعلك، فما أعظم الخطر، وما أكرم الخبر! فأخذ القوم بيد ابن عباس-وكان قد عمي- فقالوا: انهض
أيها الرجل فقد أفحمته غير مرة، فنهض وقال:
فقال ابن الزبير: يا صاحب القطا، أقبل علي، فما كنت لتدعني حتى أقول، وايم
الله لقد عرف الأقوام أفي سابق غير مسبوق، وابن حواري وصديق، متبجح في الشرف
الأنيق، خير من طليق. وأما
ما ذكرت من الطليق، فوالله لقد ابتلي فصبر، وأنعم عليه فشكر وإن كان والله
لوفياً كريماً غير ناقض بيعةً بعد توكيدها، ولا مسلم كتيبةً بعد التآمر عليها. قال ابن عباس:
والله إني لا أعلم إلا أنه فر وما كر، وحارب فما صبر، وبايع فما تمم، وقطع
الرحم، وأنكر الفضل، ورام ما ليس له بأهل.
فقال
ابن الزبير: لم يبق يا بني هاشم غير المشاتمة
والمضاربة. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن خطبة له في الرسول ومن أجدر بالخلافة بعده
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: أمين وحيه،
وخاتم رسله، وبشير رحمته، ونذير نقمته. أولها: أن أحق الناس بالإمامة أقواهم عليها، وأعلمهم
بحكم الله فيها، وهذا لا ينافي مذهب أصحابنا البغداديين
في صحة إمامة المفضول، لأنه ما قال:
إن إمامة غير الأقوى فاسدة، ولكنه قال: إن الأقوى أحق وأصحابنا لا ينكرون أنه رضي الله عنه أحق
ممن تقدمه بالإمامة مع قولهم بصحة إمامة
المتقدمين لأنه لا منافاة بين كونه أحق، وبين صحة إمامة
غيره. ورابعها: أنه يقاتل
أحد رجلين: إما رجلاً ادعى ما ليس له نحو أن يخرج على الإمام من يدعي الخلافة
لنفسه، وإما رجلاً منع ما عليه، نحو أن يخرج على الإمام رجل لا يدعي الخلافة
ولكنه يمتنع من الطاعة فقط. الأصل: أوصيكم- عباد
الله- بتقوى الله فإنها خير ما تواصى العباد به وخير عواقب الأمور عند الله وقد
فتح باب الحرب بينكم وبين أهل القبلة، ولا يحمل هذا العلم إلا أهل البصر والصبر
والعلم بمواقع الحق، فامضوا لما تؤمرون به، وقفوا عند ما تنهون عنه، ولا تعجلوا
في أمر حتى تتبينوا، فإن لنا مع كل أمر تنكرونه غيراً. ونهاهم عن أن يعجلوا بالحكم على أمر ملتبس حتى
يتبين ويتضح. ثم ذكر أنه لا يضر المكلف فوات قسط من الدنيا إذا
حفظ قائمة دينه، يعني القيابم بالواجبات والانتهاء عن المحظورات، ولا ينفعه حصول
الدنيا كلها بعد تضييعه دينه، لأن ابتياع لذة متناهية بلذة غير متناهية يخرج
اللذة المتناهية من باب كونها نفعاً، ويدخلها في باب المضار، فكيف إذا انضاف إلى عدم اللذة غير المتناهية حصول مضار
وعقوبات غير متناهية، أعاذنا الله منها. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الفهرس الجزء التاسع باب المختار
من الخطب والأوامر - ابن ابي الحديد. 4 بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الواحد
العدل. 4 بين
عثمان وابن عباس بحضور علي... 10 أسباب
المنافسة بين علي رضي الله عنه وعثمان. 13 ومن
كلام له عنه في أمر البيعة. 16 ومن
خطبة له يومىء فيها الى ذكر الملاحم. 19 ومن
كلام له في النهي عن غيبة الناس.. 28 في
ذم الغيبة والاستماع الى المغتابين.. 28 الغيبة
وحكمها في الشرع الاسلامي. 31 الأسباب
الباعثة على الغيبة. 32 ومن
كلام له في النهي عن سوءالظن. 34 ومن
كلام له عنه في وضع المعروف في غير أهله. 34 الثواب
والعقاب عند أهل الكتاب.. 36 أهل
يتوجب أن يكون الأئمة من قريش؟ 39 ومن
خطبة له عنه في شؤون الدنيا والناس.. 41 ومن
كلام له وقد استشاره عمر في الشخوص لقتال الفرس بنفسه. 42 ومن
خطبة له رضي الله عنه في الغاية من بعثة الرسول. 46 ومن
كلام له رضي الله عنه في ذكر أهل البصرة 48 ومن
كلام له رضي الله عنه قبل موته. 50 ومن
خطبة له رضي الله عنه ويومىء فيها إلى الملاحم. 55 ومن
خطبة له رضي الله عنه في التحذير من الفتن.. 59 ومن
خطبة له رضي الله عنه في صفات الله وأئمة الدين. 63 هل
الإمام إذا عمي استحق الخلع، 66 ومن
خطبة له رضي الله عنه في تحذير الناس من الغفلة. 67 ومن
خطبة له في فضائل أهل البيت.. 70 في
فضائل الامام علي رضي الله عنه، 71 ومن
خطبة له يذكر فيها بديع خلقة الخفاش.. 76 أخبار
غرائب الطيور وصفاتها، 78 ومن
كلام له خاطب به أهل البصرة على جهة اقتصاص الملاحم. 80 وقام
إليه رجل فقال أخبرنا عن الفتنة وهل سألت عنها رسول الله ص فقال عليه السلام. 86 ومن
خطبة له في فضل الرسول والقرآن. 91 ومن
خطبة له في وصف حاله مع أصحابه. 92 ومن
خطبة له في عظمة الله تعالى.. 93 ومن
خطبة له في أسرة الرسول وشرفه. 99 قال
لبعض أصحابه وقد سأله: كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام وأنتم أحق به. 100 ومن
خطبة له في ذكر الخالق عز وجل. 105 ومن
كلام له لعثمان بن عفان. 109 يذكر
فيها عجيب خلقة الطاوس.. 111 ومن
خطبة له في الحث على التآلف.. 117 ومن
خطبة له في أول خلافته. 119 ومن
كلام له بعد ما بويع له بالخلافة. 120 موقف
الإمام علي من قتلة عثمان. 121 عند
مسير أصحاب الجمل إلى البصرة 122 ومن
كلام له كلم به بعض العرب.. 123 لما
عزم علي لقاء القوم بصفين.. 124 ومن
خطبة له في من رماه بالحرص.. 124 خروج
عائشة ومسيرها إلى القتال. 127 منافرة
بين ولدي علي عليه السلام وطلحة. 133 |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||