- القرآن الكريم
- سور القرآن الكريم
- 1- سورة الفاتحة
- 2- سورة البقرة
- 3- سورة آل عمران
- 4- سورة النساء
- 5- سورة المائدة
- 6- سورة الأنعام
- 7- سورة الأعراف
- 8- سورة الأنفال
- 9- سورة التوبة
- 10- سورة يونس
- 11- سورة هود
- 12- سورة يوسف
- 13- سورة الرعد
- 14- سورة إبراهيم
- 15- سورة الحجر
- 16- سورة النحل
- 17- سورة الإسراء
- 18- سورة الكهف
- 19- سورة مريم
- 20- سورة طه
- 21- سورة الأنبياء
- 22- سورة الحج
- 23- سورة المؤمنون
- 24- سورة النور
- 25- سورة الفرقان
- 26- سورة الشعراء
- 27- سورة النمل
- 28- سورة القصص
- 29- سورة العنكبوت
- 30- سورة الروم
- 31- سورة لقمان
- 32- سورة السجدة
- 33- سورة الأحزاب
- 34- سورة سبأ
- 35- سورة فاطر
- 36- سورة يس
- 37- سورة الصافات
- 38- سورة ص
- 39- سورة الزمر
- 40- سورة غافر
- 41- سورة فصلت
- 42- سورة الشورى
- 43- سورة الزخرف
- 44- سورة الدخان
- 45- سورة الجاثية
- 46- سورة الأحقاف
- 47- سورة محمد
- 48- سورة الفتح
- 49- سورة الحجرات
- 50- سورة ق
- 51- سورة الذاريات
- 52- سورة الطور
- 53- سورة النجم
- 54- سورة القمر
- 55- سورة الرحمن
- 56- سورة الواقعة
- 57- سورة الحديد
- 58- سورة المجادلة
- 59- سورة الحشر
- 60- سورة الممتحنة
- 61- سورة الصف
- 62- سورة الجمعة
- 63- سورة المنافقون
- 64- سورة التغابن
- 65- سورة الطلاق
- 66- سورة التحريم
- 67- سورة الملك
- 68- سورة القلم
- 69- سورة الحاقة
- 70- سورة المعارج
- 71- سورة نوح
- 72- سورة الجن
- 73- سورة المزمل
- 74- سورة المدثر
- 75- سورة القيامة
- 76- سورة الإنسان
- 77- سورة المرسلات
- 78- سورة النبأ
- 79- سورة النازعات
- 80- سورة عبس
- 81- سورة التكوير
- 82- سورة الانفطار
- 83- سورة المطففين
- 84- سورة الانشقاق
- 85- سورة البروج
- 86- سورة الطارق
- 87- سورة الأعلى
- 88- سورة الغاشية
- 89- سورة الفجر
- 90- سورة البلد
- 91- سورة الشمس
- 92- سورة الليل
- 93- سورة الضحى
- 94- سورة الشرح
- 95- سورة التين
- 96- سورة العلق
- 97- سورة القدر
- 98- سورة البينة
- 99- سورة الزلزلة
- 100- سورة العاديات
- 101- سورة القارعة
- 102- سورة التكاثر
- 103- سورة العصر
- 104- سورة الهمزة
- 105- سورة الفيل
- 106- سورة قريش
- 107- سورة الماعون
- 108- سورة الكوثر
- 109- سورة الكافرون
- 110- سورة النصر
- 111- سورة المسد
- 112- سورة الإخلاص
- 113- سورة الفلق
- 114- سورة الناس
- سور القرآن الكريم
- تفسير القرآن الكريم
- تصنيف القرآن الكريم
- آيات العقيدة
- آيات الشريعة
- آيات القوانين والتشريع
- آيات المفاهيم الأخلاقية
- آيات الآفاق والأنفس
- آيات الأنبياء والرسل
- آيات الانبياء والرسل عليهم الصلاة السلام
- سيدنا آدم عليه السلام
- سيدنا إدريس عليه السلام
- سيدنا نوح عليه السلام
- سيدنا هود عليه السلام
- سيدنا صالح عليه السلام
- سيدنا إبراهيم عليه السلام
- سيدنا إسماعيل عليه السلام
- سيدنا إسحاق عليه السلام
- سيدنا لوط عليه السلام
- سيدنا يعقوب عليه السلام
- سيدنا يوسف عليه السلام
- سيدنا شعيب عليه السلام
- سيدنا موسى عليه السلام
- بنو إسرائيل
- سيدنا هارون عليه السلام
- سيدنا داود عليه السلام
- سيدنا سليمان عليه السلام
- سيدنا أيوب عليه السلام
- سيدنا يونس عليه السلام
- سيدنا إلياس عليه السلام
- سيدنا اليسع عليه السلام
- سيدنا ذي الكفل عليه السلام
- سيدنا لقمان عليه السلام
- سيدنا زكريا عليه السلام
- سيدنا يحي عليه السلام
- سيدنا عيسى عليه السلام
- أهل الكتاب اليهود النصارى
- الصابئون والمجوس
- الاتعاظ بالسابقين
- النظر في عاقبة الماضين
- السيدة مريم عليها السلام ملحق
- آيات الناس وصفاتهم
- أنواع الناس
- صفات الإنسان
- صفات الأبراروجزائهم
- صفات الأثمين وجزائهم
- صفات الأشقى وجزائه
- صفات أعداء الرسل عليهم السلام
- صفات الأعراب
- صفات أصحاب الجحيم وجزائهم
- صفات أصحاب الجنة وحياتهم فيها
- صفات أصحاب الشمال وجزائهم
- صفات أصحاب النار وجزائهم
- صفات أصحاب اليمين وجزائهم
- صفات أولياءالشيطان وجزائهم
- صفات أولياء الله وجزائهم
- صفات أولي الألباب وجزائهم
- صفات الجاحدين وجزائهم
- صفات حزب الشيطان وجزائهم
- صفات حزب الله تعالى وجزائهم
- صفات الخائفين من الله ومن عذابه وجزائهم
- صفات الخائنين في الحرب وجزائهم
- صفات الخائنين في الغنيمة وجزائهم
- صفات الخائنين للعهود وجزائهم
- صفات الخائنين للناس وجزائهم
- صفات الخاسرين وجزائهم
- صفات الخاشعين وجزائهم
- صفات الخاشين الله تعالى وجزائهم
- صفات الخاضعين لله تعالى وجزائهم
- صفات الذاكرين الله تعالى وجزائهم
- صفات الذين يتبعون أهواءهم وجزائهم
- صفات الذين يريدون الحياة الدنيا وجزائهم
- صفات الذين يحبهم الله تعالى
- صفات الذين لايحبهم الله تعالى
- صفات الذين يشترون بآيات الله وبعهده
- صفات الذين يصدون عن سبيل الله تعالى وجزائهم
- صفات الذين يعملون السيئات وجزائهم
- صفات الذين لايفلحون
- صفات الذين يهديهم الله تعالى
- صفات الذين لا يهديهم الله تعالى
- صفات الراشدين وجزائهم
- صفات الرسل عليهم السلام
- صفات الشاكرين وجزائهم
- صفات الشهداء وجزائهم وحياتهم عند ربهم
- صفات الصالحين وجزائهم
- صفات الصائمين وجزائهم
- صفات الصابرين وجزائهم
- صفات الصادقين وجزائهم
- صفات الصدِّقين وجزائهم
- صفات الضالين وجزائهم
- صفات المُضَّلّين وجزائهم
- صفات المُضِلّين. وجزائهم
- صفات الطاغين وجزائهم
- صفات الظالمين وجزائهم
- صفات العابدين وجزائهم
- صفات عباد الرحمن وجزائهم
- صفات الغافلين وجزائهم
- صفات الغاوين وجزائهم
- صفات الفائزين وجزائهم
- صفات الفارّين من القتال وجزائهم
- صفات الفاسقين وجزائهم
- صفات الفجار وجزائهم
- صفات الفخورين وجزائهم
- صفات القانتين وجزائهم
- صفات الكاذبين وجزائهم
- صفات المكذِّبين وجزائهم
- صفات الكافرين وجزائهم
- صفات اللامزين والهامزين وجزائهم
- صفات المؤمنين بالأديان السماوية وجزائهم
- صفات المبطلين وجزائهم
- صفات المتذكرين وجزائهم
- صفات المترفين وجزائهم
- صفات المتصدقين وجزائهم
- صفات المتقين وجزائهم
- صفات المتكبرين وجزائهم
- صفات المتوكلين على الله وجزائهم
- صفات المرتدين وجزائهم
- صفات المجاهدين في سبيل الله وجزائهم
- صفات المجرمين وجزائهم
- صفات المحسنين وجزائهم
- صفات المخبتين وجزائهم
- صفات المختلفين والمتفرقين من أهل الكتاب وجزائهم
- صفات المُخلَصين وجزائهم
- صفات المستقيمين وجزائهم
- صفات المستكبرين وجزائهم
- صفات المستهزئين بآيات الله وجزائهم
- صفات المستهزئين بالدين وجزائهم
- صفات المسرفين وجزائهم
- صفات المسلمين وجزائهم
- صفات المشركين وجزائهم
- صفات المصَدِّقين وجزائهم
- صفات المصلحين وجزائهم
- صفات المصلين وجزائهم
- صفات المضعفين وجزائهم
- صفات المطففين للكيل والميزان وجزائهم
- صفات المعتدين وجزائهم
- صفات المعتدين على الكعبة وجزائهم
- صفات المعرضين وجزائهم
- صفات المغضوب عليهم وجزائهم
- صفات المُفترين وجزائهم
- صفات المفسدين إجتماعياَ وجزائهم
- صفات المفسدين دينيًا وجزائهم
- صفات المفلحين وجزائهم
- صفات المقاتلين في سبيل الله وجزائهم
- صفات المقربين الى الله تعالى وجزائهم
- صفات المقسطين وجزائهم
- صفات المقلدين وجزائهم
- صفات الملحدين وجزائهم
- صفات الملحدين في آياته
- صفات الملعونين وجزائهم
- صفات المنافقين ومثلهم ومواقفهم وجزائهم
- صفات المهتدين وجزائهم
- صفات ناقضي العهود وجزائهم
- صفات النصارى
- صفات اليهود و النصارى
- آيات الرسول محمد (ص) والقرآن الكريم
- آيات المحاورات المختلفة - الأمثال - التشبيهات والمقارنة بين الأضداد
- نهج البلاغة
- تصنيف نهج البلاغة
- دراسات حول نهج البلاغة
- الصحيفة السجادية
- تصنيف الصحيفة السجادية
- تصنيف الصحيفة بالموضوعات
- الباب السابع : باب الاخلاق
- الباب الثامن : باب الطاعات
- الباب التاسع: باب الذكر والدعاء
- الباب العاشر: باب السياسة
- الباب الحادي عشر:باب الإقتصاد
- الباب الثاني عشر: باب الإنسان
- الباب الثالث عشر: باب الكون
- الباب الرابع عشر: باب الإجتماع
- الباب الخامس عشر: باب العلم
- الباب السادس عشر: باب الزمن
- الباب السابع عشر: باب التاريخ
- الباب الثامن عشر: باب الصحة
- الباب التاسع عشر: باب العسكرية
- الباب الاول : باب التوحيد
- الباب الثاني : باب النبوة
- الباب الثالث : باب الإمامة
- الباب الرابع : باب المعاد
- الباب الخامس: باب الإسلام
- الباب السادس : باب الملائكة
- تصنيف الصحيفة بالموضوعات
- أسماء الله الحسنى
- أعلام الهداية
- النبي محمد (صلى الله عليه وآله)
- الإمام علي بن أبي طالب (عليه السَّلام)
- السيدة فاطمة الزهراء (عليها السَّلام)
- الإمام الحسن بن علي (عليه السَّلام)
- الإمام الحسين بن علي (عليه السَّلام)
- لإمام علي بن الحسين (عليه السَّلام)
- الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السَّلام)
- الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السَّلام)
- الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السَّلام)
- الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السَّلام)
- الإمام محمد بن علي الجواد (عليه السَّلام)
- الإمام علي بن محمد الهادي (عليه السَّلام)
- الإمام الحسن بن علي العسكري (عليه السَّلام)
- الإمام محمد بن الحسن المهدي (عجَّل الله فرَجَه)
- تاريخ وسيرة
- "تحميل كتب بصيغة "بي دي أف
- تحميل كتب حول الأخلاق
- تحميل كتب حول الشيعة
- تحميل كتب حول الثقافة
- تحميل كتب الشهيد آية الله مطهري
- تحميل كتب التصنيف
- تحميل كتب التفسير
- تحميل كتب حول نهج البلاغة
- تحميل كتب حول الأسرة
- تحميل الصحيفة السجادية وتصنيفه
- تحميل كتب حول العقيدة
- قصص الأنبياء ، وقصص تربويَّة
- تحميل كتب السيرة النبوية والأئمة عليهم السلام
- تحميل كتب غلم الفقه والحديث
- تحميل كتب الوهابية وابن تيمية
- تحميل كتب حول التاريخ الإسلامي
- تحميل كتب أدب الطف
- تحميل كتب المجالس الحسينية
- تحميل كتب الركب الحسيني
- تحميل كتب دراسات وعلوم فرآنية
- تحميل كتب متنوعة
- تحميل كتب حول اليهود واليهودية والصهيونية
- المحقق جعفر السبحاني
- تحميل كتب اللغة العربية
- الفرقان في تفسير القرآن -الدكتور محمد الصادقي
- وقعة الجمل صفين والنهروان
الجزء
الثامن باب المختار من الخطب والأوامر - ابن ابي الحديد
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الواحد العدل |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن
كلام له وحث أصحابه على القتال
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
فقدموا الدارع، وأخروا الحاسر، وعضوا على الأضراس فإنه أنبى للسيوف عن الهام،
والتووا في أطراف الرماح فإنه أمور للأسنة، وغضوا الأبصار فإنه أربط للجأش،
وأسكن للقلوب، وأميتوا الأصوات فإنه أطرد للفشل. ورايتكم فلا تميلوها
ولا تخلوها، ولا تجعلوها إلا بأيدي شجعانكم، والمانعين الذمار منكم فإن الصابرين
على نزول الحقائق هم الذين يحفون براياتهم، ويكتنفونها: حفافيها، ووراءها،
وأمامها لا يتأخزون عنها فيسلموها، ولا يتقدمون عليها فيفردوها. وأن يعضوا على
الأضراس وقد تقدم شرح هذا، وقلنا: إنه يجوز أن
يبدأوهم بالحنق والجد ويجوز أن يريد أن العض على الأضراس يشد شؤون الدماغ
ورباطاته، فلا يبلغ السيف منه مبلغه لو صادفه رخواً. وأمرهم بأن
يلتووا إذا طعنوا لأنهم إذا فعلوا ذلك، فبالحرى أن يمور السنان، أي يتحرك عن
موضع الطعنة فيخرج زالقاً، وإذا لم يلتووا لم يمر السنان، ولم يتحرك عن موضعه
فيخرق وينفذ، فيقتل. وحفافاها: جانباها، ومنه
قول طرفة:
الأصل:
أجزأ امرؤ قرنه، وآسى أخاه بنفسه ولم يكل قرنه إلى أخيه، فيجتمع عليه قرنه وقرن
أخيه. وأيم الله لئن فررتم من سيف العاجلة، لا تسلمون من سيف الآخرة، وأنتم
لهاميم العرب، والسنام الأعظم. وإن الفار لغير مزيد في عمره، ولا
محجوز بينه وبين يومه. ومن الناس من قال:
معنى ذلك: هلا أجزأ امرؤ قرنه! فيكون تحضيضاً محذوف الصيغة للعلم بها. وأجزأ بالهمزة،
أي كفى. وقرنك: مقارنك في القتال أو نحوه. ويروى:
والذل اللاذم بالذال المعجمة وهو بمعنى اللازم أيضاً، لذمت المكان بالكسر، أي
لزمته. ثم ذكر أن الفرار لا يزيد في العمر، وقال
الراجز:
ثم قال
لهم: أيكم يروح إلى الله فيكون كالظمآن يرد
الماء! ثم قال: الجنة تحت أطراف العوالي وهذا من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الجنة تحت ظلال
السيوف". وسمع بعض الأنصار رسول الله صلى الله
عليه وسلم ، يقول يوم أحد: "الجنة تحت
ظلال السيوف"، وفي يده تميرات يلوكها، فقال: بخ بخ! ليس بيني وبين
الجنة إلا هذه التميرات! ثم قذفها من يده وكسر جفن سيفه، وحمل على قريش فقاتل
حتى قتل. ونواحر أرضهم:
متقابلاتها، ويقال: منازل بني فلان تتناحر أي تتقابل. ويخرج منه النسيم، أي
لسعته ومن هذا النحو قول الشاعر:
فهذا وصف الطعنة،
بأنها لاتساعها يرى الإنسان المقابل لها ببصره ما وراءها، وأنه لولا شعاع الدم
وهو ما تفرق منه لبان منها الضوء. وأمير المؤمنين رضي الله عنه أراد من أصحابه
طعنات يخرج النسيم وهو الريح اللينة منهن. ويطيح
العظام: يسقطها، طاح الشيء، أي سقط أو
هلك أو تاه في الأرض، وأطاحه غيره، وطوحه. والساعد:
من الكوع إلى المرفق، وهو الذراع.
والدعق، قد فسره
الرضي رحمه الله ويجوز أن يفسر بأمر
آخر وهو الهيج والتنفير، دعق القوم يدعقهم دعقاً، أي هاج منهم ونفرهم. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
عود
إلى أخبار صفين
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
واعلم أن هذا الكلام قاله أمير
المؤمنين رضي الله عنه لأصحابه في صفين، يحرضهم به، وقد ذكرنا من حديث صفين فيما
تقدم أكثره ونحن نذكر ههنا تتمة القصة ليكون من وقف على ما تقدم وعلى هذا
المذكور آنفاً هنا، قد وقف على قصة صفين بأسرها. قال نصر:
والتقت في هذا اليوم همدان العراق بعك الشام، فقال قائلهم:
وكانت
على عك الدروع، وليس عليهم رايات، فقالت همدان:
خدموا القوم، أي اضربوا سوقهم فقالت عك: ابركوا برك الكمل ، فبركوا كما يرك
الجمل ثم رموا الحجر، وقالوا: لا نفر حتى يفر الحكر.
ثم
وقف وصلى الفجر، فلما انفتل أبصر وجوها ليست بوجوه أصحابه بالأمس، وإذا مكانه
الذي هو فيه ما بين الميسرة إلى القلب، فقال: من القوم قالوا: ربيعة، وإنك يا
أمير المؤمنين لعندنا منذ اليلة! فقال:
ثم قال لهاشم بن عتبة: خذ اللواء فوالله ما رأيت مثل هذه الليلة. فخرج
هاشم باللواء حتى ركزه في القلب. ففطنت لهم همدان، فواجهوهم وصمدوا إليهم، فباتوا تلك الليلة
يتحارسون،
وعلي رضي الله عنه قد أفضى به ذهابه ومجيئه إلى رايات ربيعة فوقف بينها وهو لا
يعلم، ويظن أنه في عسكر الأشعث، فلما أصبح لم ير
الأشعث ولا أصحابه، ورأى سعيد بن قيس الهمداني على مركزه، فجاء إلى سعيد
رجل من ربيعة، يقال له زفر فقال له: ألست القائل
بالأمس: لئن لم تنته ربيعة لتكونن ربيعة ربيعة، وهمدان همدان فما أغنت همدان
البارحة! فنظر إليه علي رضي الله عنه نظر منكر،
ونادى منادي علي رضي الله عنه : أن اتعدوا للقتال، واغدوا عليه، وانهدوا
إلى عدوكم. فرجع
أبو ثروان إلى علي رضي الله عنه، فأخبره، فبعث إليهم الأشتر، فقال: يا معشر ربيعة، ما منعكم
أن تنهدوا وقد نهد الناس وكان جهير الصوت وأنتم أصحاب كذا، وأصحاب كذا؟! فجعل
يعدد أيامهم. فقالوا: لسنا نفعل حتى ننظر ما تصنع هذه الخيل التي خلف ظهورنا! وهي أربعة آلاف، قل لأمير المؤمنين: فليبعث إليهم من
يكفيه أمرهم. فوجهت حينئذ ربيعة إليهم تيم الله والنمر بن
قاسط وعنزة. قالوا:
فمشينا إليهم مستلئمين مقنعين في الحديد وكان عامة قتال صفين مشياً قال: فلما
أتيناهم هربوا وانتشروا انتشار الجراد، فذكرت قوله: وفروا كاليعافير. ثم
رجعنا إلى أصحابنا وقد نشب القتال بينهم وبين أهل الشام، وقد اقتطع أهل الشام
طائفة من أهل العراق، بعضها من ربيعة، فأحاطوا بها، فلم نصل إليها حتى حملنا على
أهل الشام، فعلوناهم بالأسياف حتى انفرجوا لنا، فأفضينا إلى أصحابنا
فاستنقذناهم، وعرفناهم تحت النقع بسيماهم وعلامتهم. وكانت علامة أهل العراق
بصفين الصوف الأبيض، قد جعلوه في رؤوسهم وعلى أكتافهم، وشعارهم:
يا الله، يا الله! يا أحد يا صمد يا رب محمد يا رحمن يا رحيم، وكانت علامة أهل
الشام خرقاً صفراً، قد جعلوها على رؤوسهم وأكتافهم، وشعارهم:
يا لثارات عثمان قال نصر:
فاجتلدوا بالسيوف وعمد الحديد، فلم يتحاجزوا حتى حجز بينهم الليل، وما يرى رجل
من هؤلاء ومن هؤلاء مولياً. وفيهم بقايا تلك الحمية، وعند بعضهم بصيرة الدين
والإسلام، فتضاربوا واستحيوا من الفرار حتى كادت الحرب تبيدهم، وكانوا إذا
تحاجزوا دخل هؤلاء عسكر هؤلاء، فيستخرجون قتلاهم فيدفنونهم. قال ذو الكلاع: بلى فسر فلك ذمة الله وذمة رسوله
وذمة ذي الكلاع، حتى ترجع إلى خيلك، فإنما أريد أن أسالك عن أمر فيكم تمارينا
فيه. فسار أبو نوح، وسار ذو الكلاع، فقال له: إنما دعوتك أحدثك حديثاً حدثناه
عمرو بن العاص قديماً في خلافة عمر بن الخطاب، ثم أذكرناه الآن به فأعاده إنه
يزعم أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يلتقي أهل الشام وأهل العراق، وفي إحدى الكتيبتين
الحق وإمام الهدى، ومعه عمار بن ياسر". فقال أبو نوح: نعم والله إنه لفينا. قال: نشدتك الله، أجاد هو على قتالنا قال أبو نوح:
نعم ورب الكعبة، لهو أشد على قتالكم مني، ولوددت أنكم خلق واحد فذبحته وبدأت بك
قبلهم، وأنت ابن عمي. قال ذو الكلاع:
ويلك! علام تمني ذلك منا فوالله ما قطعتك فيما بيني وبينك قط، وإن رحمك لقريبة،
وما يسرني أن أقتلك. قال أبو نوح: إن الله قطع بالإسلام أرحاماً قريبة، ووصل به
أرحاماً متباعدة، وإني قاتلك وأصحابك، لأنا على الحق وأنتم على الباطل. قال ذو الكلاع:
فهل تستطيع أن تأتي معي صف أهل الشام، فأنا لك جاز منهم، حتى تلقى عمرو بن
العاص، فتخبره بحال عمار وجده في قتالنا، لعله أن يكون صلح بين هذين الجندين! قلت: واعجباه من
قوم بعتريهم الشك في أمرهم لمكان عمار، ولا يعتريهم الشك لمكان علي رضي الله عنه ويستدلون
على أن الحق مع أهل العراق بكون عمار بين أظهرهم، ولا يعبأون بمكان علي رضي الله عنه ويحذرون
من قول النبي صلى الله عليه وسلم: "تقتلك الفئة الباغية"، ويرتاعون لذلك،
ولا يرتاعون لقوله صلى الله عليه وسلم في
علي رضي الله عنه "اللهم وال
من والاه وعاد من عاداه "، ولا لقوله: "لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق".
وهذا يدلك على أن علياً رضي الله عنه اجتهدت
قريش كلها من مبدأ الأمر في إخمال ذكره وستر فضائله، وتغطية خصائصه حتى محي فضله
ومرتبته من صدور الناس كافة إلا قليلاً منهم. فقال أبو نوح: إني أخاف غدراتك وغدرات أصحابك. قال ذو الكلاع: أنا لك بما قلت زعيم، قال أبو نوح: اللهم إنك ترى ما أعطاني ذو الكلاع،
وأنت تعلم ما في نفسي، فاعصمني واختر لي وانصرني، وادفع عني. ثم سار مع ذي الكلاع حتى أتى عمرو بن
العاص وهو عند معاوية وحوله الناس، وعبد الله بن عمر يحرض الناس على الحرب،
فلما وقفا على القوم، قال ذو الكلاع لعمرو:
يا أبا عبد الله، هل لك في رجل ناصح لبيب مشفق يخبرك عن عمار بن ياسر فلا يكذبك
قال: ومن هو قال: هو ابن عمي هذا، وهو من أهل الكوفة. فقال عمرو: أرى عليك سيما أبي تراب! فقال أبو نوح:
علي سيما محمد وأصحابه، وعليك سيما أبي جهل وسيما فرعون! فقام أبو الأعور فسل سيفه، وقال:
لا أرى هذا الكذاب اللئيم يسبنا بين أظهرنا وعليه سيما أبي تراب! فقال ذو الكلاع:
أقسم بالله لئن بسطت يدك إليه لأحطمن أنفك بالسيف، ابن عمي وجاري، عقدت له ذمتي،
وجئت به إليكم ليخبركم عما تماريتم فيه. فقال له
عمرو بن العاص: يا أبا نوح، أذكرك بالله إلا ما صدقتنا ولم تكذبنا، أفيكم
عمار بن ياسر قال أبو
نوح: ما أنا بمخبرك حتى تخبر: لم نسأل عنه ومعنا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم عدة
غيره، وكلهم جاد على قتالكم فقال عمرو: سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن عماراً
تقتله الفئة الباغية، وإنه ليس لعمار أن يفارق الحق، ولن تأكل النار من عمار
شيئاً"، فقال أبو نوح: لا إله
إلا الله، والله أكبر، والله إنه لفينا جاد على قتالكم! فقال عمرو: والله الذي لا إله إلا هو إنه لجاد على قتالنا! قال: نعم والله الذي لا إله إلا هو ولقد حدثني يوم
الجمل أنا سنظهر على أهل البصرة، ولقد قال لي أمس:
إنكم لو ضربتمونا حتى تبلغوا بنا سعفات هجر، لعلمنا أنا على الحق، وأنكم على
باطل ولكانت قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار. فقال لهم أبو نوح:
إنه. دعاني ذو الكلاع، وهو ذو رحم فقال:
أخبرني عن عمار بن ياسر، أفيكم هو فقلت: لم تسأل فقال:
أخبرني عمرو بن العاص في إمرة عمر بن الخطاب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: "يلتقي
أهل الشام وأهل العراق، وعمار مع أهل الحق، وتقتله الفئة الباغية"، فقلت:
نعم، إن عماراً فينا، فسألني: أجاد هو على قتالنا فقلت: نعم والله، إنه لأجد مني
في ذلك، ولوددت أنكم خلق واحد فذبحته وبدأت بك يا ذا الكلاع، فضحك عمار،
وقال: أيسرك ذلك قال: نعم، ثم قال أبو نوح:
أخبرني الساعة عمرو بن العاص، أنه سمع رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول: "تقتل
عماراً الفئة الباغية"، قال عمار: أقررته بذلك قال: نعم، لقد قررته
بذلك فأقر، فقال عمار: صدق، وليضرنه ما سمع ولا ينفعه. قال أبو نوح: فإنه يريد أن يلقاك، فقال عمار لأصحابه: اركبوا، فركبوا وساروا. فقال أبو الأعور:
لقد أكثرت الكلام، وذهب النهار، ويحك! ادع أصحابك وأدعو أصحابي، وليأت أصحابك في
قلة إن شاءوا أو كثرة، فإني أجيء من أصحابي بعدتهم، فإن شاء أصحابك فليقلوا، وإن
شاءوا فليكثروا. فسار عمار في اثني عشر فارساً، حتى
إذا كانوا بالمنصف سار عمرو بن العاص في اثني عشر فارساً حتى اختلفت أعناق الخيل
خيل عمار وخيل عمرو، ونزل القوم واحتبوا بحمائل سيوفهم، فتشهد عمرو بن العاص، فقال له عمار: اسكت، فلقد
تركتها وأنا أحق بها منك، فإن شئت كانت خصومة فيدفع حقنا باطلك، وإن شئت كانت
خطبة فنحن أعلم بفصل الخطاب منك، وإن شئت أخبرتك بكلمة تفصل بيننا وبينك، وتكفرك
قبل القيام، وتشهد بها على نفسك، ولا تستطيع أن تكذبني فيها. فقال عمرو: يا أبا اليقظان، ليس لهذا جئت إنما جئت
لأني رأيتك أطوع أهل هذا العسكر فيهم. أذكرك الله إلا كففت سلاحهم، وحقنت دماءهم، وحرصت
على ذلك، فعلام تقاتلوننا! أولسنا نعبد إله واحداً، ونصلي إلى قبلتكم وندعو
دعوتكم، ونقرأ كتابكم، ونؤمن بنبيكم! فقال عمار: الحمد لله الذي أخرجها من فيك، إنها لي ولأصحابي:
القبلة، والدين، وعبادة الرحمن، والنبي والكتاب من دونك ودون أصحابك. الحمد لله
الذي قررك لنا بذلك، وجعلك ضالاً مضلاً أعمى، وسأخبرك على ما أقاتلك عليه وأصحابك
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني أن
أقاتل الناكثين فقد فعلت، وأمرني أن أقاتل القاسطين وأنتم هم، وأما المارقون فلا
أدري إدركهم أو لا أيها الأبتر، ألست تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من
كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه"! فأنا
مولى الله ورسوله وعلي مولاي بعدهما. فقام أهل
الشام ولهم زجل فركبوا خيولهم ورجعوا، وقام عمار وأصحابه فركبوا خيولهم ورجعوا،
وبلغ معاوية ما كان بينهم فقال: هلكت العرب إن حركتهم خفة العبد الأسود يعني
عماراً. وحكى الأشعث بعد ذلك، قال:
لقد رأيت أخبية صفين وأروقتها، وما فيها خباء ولا رواق ولا فسطاط إلا مربوطاً
بيد إنسان أو برجله. فتقدمنا حتى دنونا من هاشم بن عتبة، فقال له عمار: احمل فداك أبي وأمي! فقال له هاشم: يرحمك الله يا أبا اليقظان! إنك رجل
تأخذك خفة في الحرب، وإني إنما أزحف باللواء زحفاً، أرجو أن أنال بذلك حاجتي،
وإن خففت لم آمن الهلكة. وقد كان قال معاوية لعمرو: ويحك! إن اللواء اليوم مع هاشم بن عتبة، وقد كان من قبل
يرقل به إرقالاً، وإن زحف به اليوم زحفاً إنه لليوم الأطول على أهل الشام، فإن
زحف في عنق من أصحابه إني لأطمع أن تقتطع. فلم يزل به عمار حتى حمل، فبصر به معاوية،
فوجه إليه حماة أصحابه ومن يزن بالبأس والنجدة منهم في ناحية، وكان في ذلك الجمع
عبد الله بن عمرو بن العاص، ومعه يومئذ سيفان قد تقلد بأحدهما، وهو يضرب بالآخر،
فأطافت به خيول علي رضي الله عنه،
وجعل عمرو يقول: يا الله، يا رحمن! ابني، ابني! فيقول
معاوية: اصبر فلا بأس عليه. فقال عمرو:
لو كان يزيد بن معاوية، أصبرت! فلم يزل حماة أهل الشام تذب عن عبد الله حتى نجا
هارباً على فرسه ومن معه، وأصيب هاشم في المعركة.
ثم
استسقى وقد اشتد عطشه، فأتته امرأة طويلة اليدين، ما أدري أعس معها أم إداوة،
فيها ضياح من لبن! فقال حين شرب: الجنة تحت الأسنه،
اليوم ألقى الأحبه، محمداً وحزبه. والله لو ضربونا حتى يبلغونا سعفات هجر لعلمنا أنا على الحق،
وأنهم على الباطل.
ثم
حمل وحمل عليه ابن حوى السكسكي وأبو العادية، فأما أبو العادية فطعنه، وأما ابن حوى فاحتز رأسه، وقد كان ذو الكلاع يسمع عمرو بن العاص يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم يقول لعمار: "تقتلك
الفئة الباغية، وآخر شربك ضياح من لبن"، فقال
ذو الكلاع لعمرو: ويحك ما هذا! قال عمرو:
إنه سيرجع إلينا، ويفارق أبا تراب، وذلك قبل أن يصاب عمار، فلما أصيب عمار في
هذا اليوم أصيب ذو الكلاع، فقال عمرو لمعاوية:
والله ما أدري بقتل أيهما أنا أشد فرحاً والله لو
بقي ذو الكلاع حتى يقتل عمار لمال بعامة قومه إلى علي، ولأفسد علينا أمرنا. قال نصر:
وحدثنا عمرو، عن جابر، عن أبي الزبير، قال: أتى خذيفة بن اليمان رهط من جهينة،
فقالوا له: يا أبا عبد الله، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم استجار من أن تصطلم أمته، فأجير من ذلك، واستجار من أن يذيق
أمته بعضها بأس بعض، فمنع من ذلك، فقال حذيفة: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: "إن
ابن سمية لم يخير بين أمرين قط إلا اختار أشدهما يعني عماراً فالزموا
سمته".
قال:
فضرب أهل الشام حتى اضطرهم إلى الفرار. ثم أرسل معاوية إلى عمرو: لقد أفسدت علي أهل الشام أكل ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم تقوله! فقال عمرو: قلتها
ولست أعلم الغيب، ولا أدري أن صفين تكون قلتها وعمار يومئذ لك ولي، وقد رويت أنت
فيه مثل ما رويت. فغضب معاوية وتنمر لعمرو، وعزم على منعه خيره، فقال عمرو لابنه وأصحابه: لا خير في جوار معاوية إن تجلت هذه الحرب عنه لأفارقنه وكان عمرو حمي
الأنف، قال:
فأجابه
معاوية:
قال:
فلما أتى عمراً شعر معاوية أتاه، فأعتبه وصار أمرهما واحداً. فقال علي رضي الله عنه: إن بإزائك ذا الكلاع، وعنده الموت الأحمر. فتقدم
هاشم فلما أقبل، قال معاوية: من هذا المقبل
فقيل: هاشم المرقال، فقال: أعور بني زهرة قاتله الله فأقبل هاشم وهو يقول:
فحمل
صاحب لواء ذي الكلاع وهو رجل من عذرة فقال:
فاختلفا
طعنتين، فطعنه هاشم فقتله، وكثرت القتلى حول هاشم، وحمل ذو الكلاع، واختلط الناس
واجتلدوا، فقتل هاشم وذو الكلاع جميعاً، وأخذ عبد الله بن هاشم اللواء وارتجز،
فقال:
قال نصر:
وحدثنا عمر بن سعد، عن الشعبي، قال: أخذ عبد الله بن هاشم بن عتبة راية أبيه، ثم
قال: أيها الناس، إن هاشماً كان عبداً من عباد الله الذي قدر أرزاقهم، وكتب
آثارهم، وأحصى أعمالهم، وقضى آجالهم، فدعاه الله ربه فاستجاب له، وسلم لأمره،
وجاهد في طاعة ابن عم رسوله. أول من آمن به، وأفقههم في دين الله، الشديد على
أعداء الله، المستحلين حرم الله، الذين عملوا في البلاد بالجور والفساد، واستحوذ
عليهم الشيطان، فأنساهم ذكر الله، وزين لهم الإثم والعدوان، فحق عليكم جهاد من
خالف الله، وعطل حدوده، ونابذ أولياءه. جودوا بمهجكم في طاعة الله في هذه
الدنيا، تصيبوا الآخرة والمنزل الأعلى، والأبد الذي لا يفنى. فوالله لو لم يكن ثواب ولا عقاب، ولا جنة ولا
نار، لكان القتال مع علي أفضل من القتال مع معاوية، فكيف وأنتم ترجون ما ترجون! قال نصر: وحدثنا عمرو بن شمر، قال: لما انقضى أمر صفين، وسلم الحسن عليه السلام الأمر إلى معاوية، ووفدت عليه الوفود، أشخص عبد الله بن هاشم
إليه أسيراً، فلما مثل بين يديه، وعنده عمرو بن
العاص، قال: يا أمير المؤمنين، هذا المختال
ابن المرقال، فدونك الضب المضب ، المغر المفتون فاقتله، فإن العصا من العصية، وإنما
تلد الحية حيية، وجزاء السيئة سيئة مثلها. فقال عمرو:
يا أمير المؤمنين، أمكني منه أشخب أوداجه على أثباجه. فقال عبد الله:
فهلا كانت هذه الشجاعة منك يا بن العاص في أيام صفين، ونحن ندعوك إلى النزال،
وقد ابتلت أقدام الرجال من نقيع الجريال ، وقد تضايقت بك المسالك، وأشرفت منها
على المهالك! وايم الله لولا مكانك منه لرميتك بأحد من وقع الأشافي فإنك لا تزال
تكثر في هوسك، وتخبط في دهسك، وتنشب في مرسك، تخبط العشواء، في الليلة الحندس
الظلماء. فأمر معاوية به إلى الحبس، فكتب عمرو إلى معاوية:
فبعث
معاوية بالشعر إلى عبد الله بن هاشم، فكتب في جوابه
من السجن:
هذه رواية نصر بن مزاحم. وروى
أبو عبيد الله محمد بن عمران بن موسى بن عبيد الله المرزباني، أن معاوية لما تم
له الأمر بعد وفاة علي رضي الله عنه ، بعث
زياداً على البصرة، ونادى منادي معاوية: أمن الأسود والأحمر بأمان الله إلا عبد
الله بن هاشم بن عتبة فمكث معاوية يطلبه أشد الطلب، ولا يعرف له خبراً، حتى قدم
عليه رجل من أهل البصرة، فقال له: أنا أدلك
على عبد الله بن هاشم بن عتبة أكتب إلى زياد فإنه عند فلانة المخزومية فدعا كاتبه فكتب: من
معاوية بن أبي سفيان أمير المؤمنين إلى زياد بن أبي سفيان، أما بعد، فإذا
أتاك كتابي هذا فاعمد إلى حي بني مخزوم، ففتشه داراً داراً، حتى تأتي إلى دار فلانة المخزومية فاستخرج عبد الله بن
هاشم المرقال منها فاحلق رأسه وألبسه جبة شعر، وقيده، وغل يده إلى عنقه، واحمله
على قتب بعير بغير وطاء ولا غذاء، وانفذ به إلي.
قال عمرو: وإنه
لهو دونك الضب المضب، فاشخب أوداجه، ولا ترجعه إلى أهل العراق فإنهم أهل فتنة
ونفاق، وله مع ذلك هوى يرديه، وبطانة تغويه، فوالذي نفسي بيده لئن أفلت من
حبائلك، ليجهزن إليك جيشاً تكثر صواهله، لشر يوم لك. فقال عبد الله وهو في القيد: يا بن الأبتر، هلا
كانت هذه الحماسة عندك يوم صفين، ونحن ندعوك
إلى البراز، وتلوذ بشمائل الخيل كالأمة السوداء والنعجة القوداء أما إنه إن قتلني قتل رجلاً كريم المخبرة، حميد المقدرة ،
ليس بالجبس المنكوس، ولا الثلب المركوس. فقال عمرو:
دع كيت وكيت، فقد وقعت بين لحيي لهزم، فروس للأعداء، يسعطك إسعاط الكودن الملجم.
قال عبد الله: أكثر إكثارك، فإني أعلمك بطراً في الرخاء، جباناً
في اللقاء، هيابة عند كفاح الأعداء، ترى أن تقي مهجتك، بأن تبدي سوءتك. أنسيت يوم صفين
وأنت تدعى إلى النزال، فتحيد عن القتال، خوفاً أن يغمرك رجال لهم أبدان شداد،
وأسنة حداد، ينهبون السرح، ويذلون العزيز. فقال عمرو:
وذكر الأبيات، فقال عبد الله: وذكر الأبيات
أيضاً، وزاد: فأطرق معاوية طويلاً حتى ظن أنه لن
يتكلم، ثم قال:
ثم قال له:
أتراك فاعلاً ما قال عمرو من الخروج علينا قال:
لا تسل عن عقيدات الضمائر، لا سيما إذا أرادت جهاداً في طاعة الله. قال: إذن يقتلك الله كما قتل أباك، قال: ومن لي بالشهادة! قال:
فأحسن معاوية جائزته، وأخذ عليه موثقاً ألا يساكنه
بالشام فيفسد عليه أهله. قال نصر: وحدثنا عمرو بن شمر، عن السدي، عن عبد خير الهمداني،
قال: قال هاشم بن عتبة يوم مقتله: أيها الناس، إني رجل ضخم، فلا يهولنكم مسقطي إذا سقطت، فإنه
لا يفرغ مني أقل من نحر جزور، حتى يفرغ الجزار من جزرها. ثم
حمل فصرع، فمر عليه رجل وهو صريع بين القتلى، فناداه:
اقرأ على أمير المؤمنين السلام، وقل له: بركات الله ورحمته عليك يا أمير
المؤمنين، أنشدك الله إلا أصبحت وقد ربطت مقاود خيلك بأرجل القتلى، فإن الدبرة
تصبح غداً لمن غلب على القتلى. فأخبر الرجل علياً رضي الله عنه بما قاله، فسار في الليل بكتائبه
حتى جعل القتلى خلف ظهره، فأصبح والدبرة له على أهل الشام.
قال نصر: وحدثنا عمر بن سعد، عن الشعبي، عن أبي سلمة، أن هاشم بن
عتبة استصرخ الناس عند المساء:
ألا من كان له إلى الله حاجة، ومن كان يريد الآخرة فليقبل. فأقبل إليه ناس كثير شد بهم على أهل الشام مراراً، ليس من وجه
يحمل عليه إلا صبروا له، فقاتل قتالاً شديداً ثم قال لأصحابه: لا يهولنكم ما ترون من صبرهم،
فوالله ما ترون منهم إلا حمية العرب وصبرها تحت راياتها، وعند مراكزها وإنهم
لعلى الضلال، وإنكم لعلى الحق يا قوم اصبروا وصابروا واجتمعوا، وامشوا بنا إلى
عدونا على تؤدة، رويداً، واذكروا الله، ولا يسلمن رجل أخاه، ولا تكثروا
الالتفات، واصمدوا صمدهم، وجالدوهم محتسبين حتى يحكم الله بيننا وبينهم وهو خير
الحاكمين. قال أبو سلمة:
فبينا هو وعصابة من القراء يجالدون أهل الشام، إذ
طلع عليهم فتى شاب، وهو يقول:
ثم
شد لا ينثني حتى يضرب بسيفه، ثم جعل يلعن علياً
ويشتمه ويسهب في ذمه، فقال له هاشم بن عتبة:
يا هذا إن الكلام بعده الخصام، وإن لعنك سيد
الأبرار، بعده عقاب النار. فاتق
الله، فإنك راجع إلى ربك فيسألك عن هذا الموقف وعن هذا المقال. قال الفتى: إذا سألني
ربي قلت: قاتلت أهل العراق، لأن صاحبهم لا يصلي كما ذكر لي، وإنهم لا يصلون،
وصاحبهم قتل خليفتنا، وهم آزروه على قتله. فقال له هاشم:
يا بني، وما أنت وعثمان! إنما قتله أصحاب محمد
الذين هم أولى بالنظر في أمور المسلمين، وإن صاحبنا كان أبعد القوم عن دمه، وأما
قولك: إنه لا يصلي، فهو أول من صلى مع رسول
الله، وأول من آمن به. وأما قولك: إن أصحابه لا يصلون، فكل من ترى معه
قراء الكتاب، لا ينامون الليل تهجدا، فاتق الله واخش عقابه، ولا يغررك من نفسك
الأشقياء الضالون. فرجع الفتى إلى صفه منكسراً نادماً، ففال له لوم من أهل الشام: خدعك
العراقي! قال: لا، ولكن نصحني العراقي.
قال نصر:
أما اليثربي، فهو عمرو بن محصن الأنصاري، وقد رثاه
النجاشي شاعر أهل العراق، فقال:
قال نصر:
وكان ابن محصن من أعلام أصحاب علي رضي الله عنه،
قتل في المعركة، وجزع علي رضي الله عنه لقتله.
قال نصر:
والحوبة القرابة، يقال: لي في بني فلان حوبة، أي قربى.
قال نصر:
وقال رجل لعدي بن حاتم الطائي- وكان من جملة أصحاب علي رضي الله عنه- يا أبا طريف، ألم أسمعك تقول
يوم الدار: "والله لا تحبق فيها عناق حولية" وقد رأيت ما كان
فيها! وقد كان فقئت عين عدي، وقتل بنوه- فقال:
أما والله لقد حبقت في قتله العناق والتيس الأعظم.
وقال
كعب بن جعيل- وهو شاعر أهل الشام- بعد رفع المصاحف، يذكر أيام صفين ويحرض معاوية:
وقد
تقدم ذكر هذه الأبيات بزيادة على مما ذكرناه الآن.
قال نصر: ثم كانت بين الفريقين الوقعة المعروفة بوقعة الخميس،
حدثنا بها عمر بن سعد، عن سليمان الأعمش، عن إبراهيم النخعي، قال: حدثنا القعقاع
بن الأبرد الطهوي، قال:
والله إني لواقف قريباً من علي رضي الله عنه بصفين
يوم وقعة الخميس، وقد التقت مذحج- وكانوا في
ميمنة علي رضي الله عنه-
وعك لخم وجذام والأشعريون، وكانوا
مستبصرين في قتال علي رضي الله عنه،
فلقد والله رأيت ذلك اليوم من قتالهم، وسمعت من وقع السيوف على الرؤوس وخبط
الخيول بحوافرها في الأرض وفي القتلى ما الجبال تهد، ولا الصواعق تصعق، بأعظم من
هؤلاء في الصدور من تلك الأصوات. ونظرت
إلى علي رضي الله عنه
وهو قائم، فدنوت منه فأسمعه يقول: لا
حول ولا قوة إلا بالله! اللهم إليك الشكوى وأنت المستعان! ثم نهض حين قام قائم الظهيرة وهو يقول: "ربنا افتح بيننا وبين قومنا
بالحق، وأنت خير الفاتحين ". وحمل على الناس بنفسه، وسيفه مجرد بيده، فلا
والله ما حجز بين الناس ذلك اليوم إلا الله رب العالمين، في قريب من ثلث الليل
الأول، وقتلت يومئذ أعلام العرب، وكان في رأس علي رضي الله عنه ثلاث ضربات، وفي وجهه ضربتان.
وقال
مالك الأشتر:
وقالت
ضبيعة بنت خزيمة بن ثابت ذي الشهادتين ترثي أباها رحمه الله:
قال نصر: وحدثنا عمر بن سعد، عن الأعمش، قال: كتب معاوية إلى أبي أيوب خالد بن زيد الأنصاري، صاحب منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم- وكان سيداً معظماً من سادات الأنصار، وكان من شيعة على رضي الله عنه- كتاباً، وكتب إلى زياد بن
سمية- وكان عاملاً لعلي رضي الله عنه
على بعض فارس- كتاباً ثانياً. فأما كتابه إلى أبي أيوب فكان سطراً واحداً: حاجيتك! "لا تنسى الشيباء أبا عذرها، ولا قاتل
بكرها"، فلم يدر أبو أيوب ما هو! قال فأتى به علياً رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين، إن معاوية كهف المنافقين، كتب إلي
بكتاب لا أدري ما هو! قال علي رضي الله عنه: فأين الكتاب فدفعه إليه، فقرأه، وقال:
نعم، هذا مثل ضربه لك، يقول: لا تنس الشيباء أبا عذرها. والشيباء: المرأة البكر ليلة
افتضاضها، لا تنسى بعلها الذي افترعها أبداً، ولا تنسى قاتل بكرها، وهو أول
ولدها، كذلك
لا أنسى أنا قتل عثمان.
فلما قرئ الكتاب على علي رضي الله عنه، قال: لشد ما شحذكم معاوية يا معشر الأنصار أجيبوا الرجل فقال أبو
أيوب: يا أمير المؤمنين، إني ما أشاء أن أقول شيئاً من الشعر يعيا به الرجال إلا
قلته، فقال: فأنت إذا أنت.
قال:
فلما أتى معاوية كتاب أبي أيوب كسره. قال نصر: وحدثنا
عمرو بن شمر، قال: حدثني مجالد، عن الشعبي، عن زياد بن النضر الحارثي، قال: شهدت
مع علي رضي الله عنه
صفين، فاقتتلنا مرة ثلاثة أيام، وثلاث
ليال حتى تكسرت الرماح، ونفدت السهام، ثم صرنا إلى المسايفة، فاجتلدنا بها إلى
نصف الليل حتى صرنا نحن وأهل الشام في اليوم الثالث يعانق بعضنا بعضاً. ولقد
قاتلت ليلتئذ بجميع السلاح، فلم يبق شيء من السلاح إلا قاتلت به حتى تحاثينا
بالتراب، وتكادمنا بالأفواه حتى صرنا قياماً ينظر بعضنا إلى بعض ما يستطيع أحد
من الفريقين أن ينهض إلى صاحبه، ولا يقاتل فلما كان نصف الليل من الليلة
الثالثة، انحاز معاوية وخيله من الصف وغلب علي علنه على القتلى، فلما أصبح أقبل
على أصحابه يدفنهم وقد قتل كثير منهم، وقتل من أصحاب معاوية أكثر، وقتل فيهم تلك الليلة شمر بن أبرهة.
فقال علي:
اللهم العنه فإن رسولك لعنه، قال علقمة:
وإنه يا أمير المؤمنين يرتجز برجز آخر، فأنشدك قال:
قل، فقال:
فضحك
علي رضي الله عنه، وقال: إنه لكاذب، وإنه بمكاني لعالم، كما قال العربي: "غير
الوهي ترقعين وأنت مبصرة"، ويحكم! أروني مكانه لله أبوكم وخلاكم ذم!
وقال محمد بن عمرو بن العاص:
وقال
النجاشي يذكر علياً، وجده في الأمر:
قال نصر: وحدثنا عمر بن سعد عن الشعبي، قال: بلغ النجاشي أن
معاوية تهدده فقال:
قال:
فلما بلغ معاوية هذا الشعر، قال: ما أراه إلا قد قارب.
وقال
رجل من كلب مع معاوية يهجو أهل العراق ويوبخهم:
وقال
أبو حية بن غزية الأنصاري وهو الذي عقر الجمل يوم البصرة، واسمه عمرو:
وقال
عدي بن حاتم الطائي:
وقال
النعمان بن جعلان الأنصاري:
قال
عمرو بن الحمق الخزاعي:
وقال حجر بن عدي الكندي:
قال نصر: وحدثنا عمر بن سعد، عن الشعبي، قال: قال الأحنف بن قيس
في صفين لأصحابه:
هلكت العرب! قالوا له: وإن غلبنا يا أبا بحر
قال: نعم، قالوا: وإن غلبنا قال: نعم، قالوا: والله ما جعلت لنا مخرجاً. فقال الأحنف: إنا إن غلبناهم لم نترك بالشام رئيساً إلا ضربنا عنقه، وإن غلبونا لم يعرج بعدها رئيس عن
معصية الله أبداً. فقال عبد الرحمن
بن خالد بن الوليد: أما والله لقد رأيتنا يوماً من الأيام، وقد غشينا
ثعبان في مثل الطود الأرعن، قد أثار قسطلاً حال بيننا وبين الأفق، وهو على أدهم
شائل الغرة،- يعني علياً رضي الله عنه-
يضربهم بسيفه ضرب غرائب الإبل كاشراً عن نابه كشر المخدر الحرب، فقال معاوية: نعم إنه كان يقاتل عن برة له وعليه. فقال عمرو: لقد أنصفك الرجل، فقال
معاوية: أنا أبارز الشجاع الأخرق! أظنك يا
عمرو طمعت فيها. فلما لم يجب قال علي رضي الله عنه: وانفساه! أيطاع معاوية وأعصى! ما قاتلت أمة قط أهل بيت نبيها وهي مقرة بنبيها غير هذه
الأمة! ثم إن علياً رضي الله عنه أمر الناس أن يحملوا على أهل الشام، فحملوا، فنقضوا صفوف
الشام، فقال عمرو: على من هذا الرهج الساطع قالوا: على ابنيك عبد الله ومحمد، فقال عمرو: يا وردان، قدم لوائي، فأرسل إليه معاوية: إنه ليس على ابنيك بأس فلا
تنقض الصف، والزم موقفك، فقال عمرو: هيهات هيهات.
ثم تقدم باللواء، فأدركه رسول معاوية فقال: إنه ليس على ابنيك
بأس فلا تحملن. وبلغ
مقدم الصفوف، فقال له الناس: مكانك! إنه لا
بأس على ابنيك إنهما في مكان حريز. فقال: أسمعوني أصواتهما حتى أعلم أحيان هما أم قتيلان! ونادى: يا وردان، قدم لواءك قيد قوس، فقدم
لواءه، فأرسل علي رضي الله عنه إلى أهل الكوفة: أن
احملوا، وإلى أهل البصرة: أن احملوا. فحمل
الناس من كل جانب، فاقتتلوا قتالاً شديداً، وخرج رجل من أهل الشام، فقال: من
يبارز فبرز إليه رجل من أهل العراق، فاقتتلا ساعة، وضرب العراقي الشامي على
رجله، فأسقط قدمه، فقاتل ولم يسقط إلى الأرض، فضربه العراقي أخرى، فأسقط يده،
فرمى الشامي سيفه إلى أهل الشام، وقال:
دونكم سيفي هذا، فاستعينوا به على قتال عدوكم. فاشتراه
معاوية من أوليائه بعشرة آلاف درهم. قال نصر: وحدثنا مالك الجهني، عن زيد بن وهب، أن علياً رضي الله
عنه مر على جماعة من أهل الشام بصفين، منهم الوليد بن عقبة، وهم يشتمونه
ويقصبونه، فاخبر بذلك، فوقف على ناس من أصحابه، وقال: انهدوا إليهم، وعليكم السكينة
والوقار وسيما الصالحين، أقرب بقوم من الجهل، قائدهم ومؤدبهم معاوية، وابن
النابغة، وأبو الأعور السلمي، وابن أبي معيط شارب الحرام، والمحدود في الإسلام!
وهم أولاء، يقصبونني ويشتمونني، وقبل اليوم ما قاتلوني وشتموني، وأنا إذ ذاك
أدعوهم إلى الإسلام، وهم يدعونني إلى عبادة الأصنام،
فالحمد لله، ولا إله إلا الله! لقديماً ما عاداني الفاسقون، إن هذا لهو الخطب
الجلل إن فساقاً كانوا عندنا غير مرضيين، وعلى الإسلام وأهله متخوفين، أصبحوا
وقد خدعوا شطر هذه الأمة، واشربوا في قلوبهم حب الفتنة، واستمالوا أهواءهم
بالإفك والبهتان، ونصبوا لنا الحرب، وجدوا في إطفاء نور الله، والله متم نوره
ولو كره الكافرون. اللهم
فإنهم قد ردوا الحق فافضض جمعهم، وشتت كلمتهم وأبلسهم بخطاياهم، فإنه لا يذل من
واليت، ولا يعز من عاديت.
فجعل معاوية لواءه الأعظم مع عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، فأمر علي رضي الله عنه جارية بن قدامة السعدي أن يلقاه بأصحابه، وأقبل عمرو بن
العاص بعده في خيل، ومعه لواء ثان، فتقدم حتى خالط صفوف العراق، فقال علي رضي الله عنه لابنه محمد: امش نحو هذا
اللواء رويداً حتى إذا أشرعت الرماح في صدورهم فأمسك يدك حتى يأتيك أمري. ففعل-
وقد كان أعد علي رضي الله عنه مثلهم مع الأشتر- فلما أشرع محمد الرماح في صدور
القوم، أمر علي رضي الله عنه الأشتر أن يحمل فحمل، فأزالهم
عن مواقفهم، وأصاب منهم رجالاً، واقتتل الناس قتالاً شديداً، فما صلى من أراد
الصلاة إلا إيماء، فقال النجاشي في ذلك اليوم يذكر
لأشتر:
قال نصر: وحدثنا محمد بن عتبة الكندي، قال: حدثني شيخ من حضرموت
شهد مع علي رضي الله عنه صفين، قال: كان منا رجل يعرف بهانئ بن فهد، وكان شجاعاً، فخرج رجل من أهل الشام يدعو إلى البراز فلم يخرج إليه
أحد، فقال هانئ: سبحان الله! ما يمنعكم أن
يخرج منكم رجل إلى هذا! فوالله لولا أني موعوك، وأني أجد ضعفاً شديداً لخرجت
إليه. فما
رد أحد عليه، فقام وشد عليه سلاحه ليخرج، فقال له
أصحابه: يا سبحان الله! أنت موعوك وعكة شديدة، فكيف تخرج! قال: والله لأخرجن ولو قتلني، فخرج فلما رآه عرفه، وإذا
الرجل من قومه من حضرموت، يقال له يعمر بن أسد الحضرمي، فقال: يا هانئ، ارجع فإنه إن يخرج إلي رجل غيرك أحب
إلي، فإني لا احب قتلك. قال
هانئ: سبحان الله! أرجع وقد خرجت لا والله أقاتلن
اليوم حتى أقتل، ولا أبالي قتلتني أنت أو غيرك! ثم مشى نحوه، وقال: اللهم
في سبيلك ونصراً لابن عم رسولك. واختلفا ضربتين، فقتله هانئ، وشد أصحاب يعمر بن أسد على هانئ،
فشد أصحاب هانئ عليهم، فاقتتلوا وانفرجوا عن اثنين وثلاثين قتيلاً. ثم إن علياً رضي الله عنه أرسل إلى جميع العسكر: أن احملوا، فحمل الناس كلهم على
راياتهم، كل منهم يحمل على من بإزائه، فتجالدوا بالسيوف، وعمد الحديد لا يسمع
إلا صوت ضرب الهامات، كوقع المطارق على السنادين، ومرت الصلوات كلها، فلم يصل أحد إلا تكبيراً عند مواقيت الصلاة حتى تفانوا،
ورق الناس، وخرج رجل من بين الصفين، لا يعلم من هو،
فقال: أيها الناس، أخرج فيكم المحلقون فقيل:
لا، فقال: إنهم سيخرجون، ألسنتهم أحلى من العسل،
وقلوبهم أمر من الصبر، لهم حمة كحمة الحيات. ثم غاب الرجل فلم
يعلم من هو! قال نصر: وحدثنا عمرو بن
شمر، عن السدي، قال:
اختلط أمر الناس تلك الليلة، وزال أهل الرايات عن مراكزهم، وتفرق أصحاب علي رضي الله عنه، فأتى ربيعة ليلاً فكان فيهم، وتعاظم
الأمر جداً، وأقبل عدي بن حاتم يطلب علياً رضي الله عنه في موضعه الذي تركه فيه فلم يجده، فطاف يطلبه، فأصابه بين رماح ربيعة، فقال: يا أمير المؤمنين أما إذ كنت حياً، فالأمر أمم، ما
مشيت إليك إلا على قتيل وما أبقت هذه الوقعة لهم عميداً، فقاتل حتى يفتح الله
عليك، فإن في الناس بقية بعد. وأقبل الأشعث يلهث جزعاً، فلما رأى علياً رضي الله عنه هلل فكبر، وقال: يا أمير
المؤمنين، خيل كخيل ورجال كرجال ولنا الفضل عليهم إلى ساعتنا هذه، فعد
إلى مكانك الذي كنت فيه فإن الناس إنما يظنونك حيث تركوك. وأرسل سعيد بن قيس الهمداني إلى علي رضي الله عنه: إنا مشتغلون بأمرنا مع القوم، وفينا
فضل، فإن أردت أن نمد أحداً أمددناه. فأقبل علي رضي الله عنه على ربيعة، فقال: أنتم درعي ورمحي- قال:
فربيعة تفخر بهذا الكلام إلى اليوم- فقال عدي بن
حاتم: يا أمير المؤمنين، إن قوما أنست بهم وكنت في هذه الجولة فيهم،
لعظيم حقهم والله إنهم لصبر عند الموت، أشداء عند القتال- فدعا على رضي الله عنه لفرس رسول الله صلى الله عليه
وسلم الذي كان يقال له المرتجز، فركبه، ثم تقدم أمام الصفوف، ثم قال: بل البغلة، بل البغلة، فقدمت له بغلة رسول صلى الله عليه وسلم، وكانت الشهباء،
فركبها، ثم تعصب بعمامة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت سوداء، ثم نادى: أيها الناس،
من يشر نفسه لله يربح، إن هذا ليوم له ما بعده، إن عدوكم قد مسه القرح كما مسكم،
فانتدبوا لنصرة دين الله. فانتدب له ما بين عشرة آلاف إلى اثني عشر ألفا، قد وضعوا سيوفهم على عواتقهم، فشد بهم على أهل الشام، وهو يقول:
وتبعه عدي بن حاتم بلوائه، وهو يقول:
وحمل وحمل الأشتر بعدهما في أهل العراق كافة، فلم يبق لأهل الشام
صف إلا انتقض، وأهمد أهل العراق ما أتوا عليه حتى أفضى الأمر إلى مضرب معاوية،
وعلي رضي الله عنه يضرب الناس بسيفه قدماً قدماً، ويقول:
فدعا معاوية بفرسه لينجو عليه، فلما وضع رجله في الركاب توقف
وتلوم قليلاً، ثم أنشد قول عمرو بن الإطنابة:
ثم
قال: يا عمرو بن العاص، اليوم صبر وغداً
فخر، قال: صدقت، إنك وما أنت فيه، كقول القائل:
فثنى معاوية رجله من الركاب، ونزل واستصرخ بعك
والأشعريين، فوقفوا دونه، وجالدوا عنه، حتى
كره كل من الفريقين صاحبه، وتحاجز الناس. ورجع عمرو إلى معاوية، فقال: ما صنعت يا أبا عبد الله فقال: لقيني علي فصرعني، قال: أحمد الله وعورتك، والله إني لأظنك لو عرفته لما
أقحمت عليه، وقال معاوية في ذلك:
فغضب عمرو وقال: ما أشد تعظيمك علياً أبا تراب في أمري! هل أنا إلا رجل لقيه
ابن عمه فصرعه! أفترى السماء قاطرة لذلك دماً! قال: لا، ولكنها معقبة لك خزياً. قال نصر:
وحدثنا عمر بن سعد، قال: لما اشتد الأمر،
وعظم على أهل الشام، قال معاوية لأخيه عتبة بن أبي
سفيان: الق الأشعث، فإنه إن رضي رضيت
العامة- وكان عتبة فصيحاً- فخرج فنادى الأشعث، فقال الأشعث: سلوا من هو المنادي قالوا: عتبة بن أبي سفيان، قال: غلام مترف ولا بد من لقائه! فخرج إليه، فقال: ما عندك يا عتبة فقال: أيها الرجل، إن معاوية
لو كان لاقياً رجلاً غير علي للقيك، إنك رأس أهل
العراق، وسيد أهل اليمن، وقد سلف من عثمان إليك ما سلف من الصهر والعمل، ولست
كأصحابك، أما الأشتر فقتل عثمان، وأما عدي
فحرض عليه، وأما سعيد بن قيس فقلد علياً ديته، وأما شريح وزحر بن قيس فلا يعرفان
غير الهوى، وإنك حاميت عن أهل العراق
تكرماً، وحاربت أهل الشام حمية، وقد بلغنا منك وبلغت منا ما أردت وإنا لا ندعوك
إلى ترك علي ونصرة معاوية، ولكنا ندعوك إلى البقية التي فيها صلاحك
وصلاحنا. فتكلم الأشعث، فقال: يا عتبة، أما قولك:
"إن معاوية لا يلقى إلا علياً"، فلو لقيني والله لما عظم عني، ولا
صغرت عنه، وإن أحب أن أجمع بينه وبين علي فعلت. وأما قولك:
"إني رأس أهل العراق، وسيد أهل اليمن" فإن
الرأس المتبع والسيد المطاع، هو علي بن أبي طالب وأما ما سلف من عثمان إلي، فوالله ما زادني صهره شرفاً، ولا
عمله عزاً. وأما عيبك أصحابي، فإنه لا يقربك مني، ولا يباعدني عنهم وأما محاماتي عن أهل العراق فمن نزل
بيتاً حماه وأما البقية فلستم بأحوج إليها منا،
وسنرى رأينا فيها.
قال نمر: فقال معاوية لما يئس من جهة الأشعث لعمرو بن العاص: إن رأس الناس بعد علي هو عبد الله بن العباس، فلو كتبت إليه
كتاباً لعلك ترققه، ولعله لو قال شيئاً لم يخرج علي رضي الله عنه وقد أكلتنا الحرب، ولا أرانا نصل إلى العراق إلا بهلاك أهل
الشام فقال عمرو: إن ابن عباس لا يخدع ولو
طمعت فيه لطمعت في علي، قال معاوية: على ذلك
فاكتب، فكتب عمرو إليه: أما بعد، فإن الذي
نحن فيه وأنتم ليس بأول أمر قاده البلاء وأنت رأس هذا الجمع بعد علي، فانظر فيما
بقي، ودع ما مضى، فوالله ما أبقت هذه الحرب لنا ولا لكم حياةً ولا صبراً، فاعلم أن الشام لا تهلك إلا بهلاك العراق، وأن العراق لا تهلك إلا بهلاك الشام فما خيرنا بعد هلاك أعدادنا منكم، وما خيركم بعد هلاك
أعدادكم منا! ولسنا نقول: ليت الحرب عادت
ولكنا نقول: ليتها لم تكن وإن فينا من يكره اللقاء، كما أن فيكم من يكرهه وإنما
هو أمير مطاع، ومأمور مطيع أو مؤتمن مشاور وهو أنت، فأما الأشتر الغليظ الطبع،
القاسي القلب فليس بأهل أن يدعى في الشورى ولا في خواص أهل النجوى. وكتب في أسفل الكتاب:
فلما وصل الكتاب إلى ابن عباس، عرضه على أمير المؤمنين رضي الله عنه، فضحك، وقال: قاتل الله
ابن العاص ما أغراه بك يا عبد الله. أجبه وليرد عليه شعره الفضل بن العباس، فإنه شاعر فكتب
ابن عباس إلى عمرو: أما بعد، فإني لا أعلم أحداً من العرب أقل حياء منك،
إنه مال بك معاوية إلى الهوى فبعته دينك بالثمن اليسير، ثم خبطت الناس في عشوة
طمعاً في الدنيا فأعظمتها إعظام أهل الدنيا، ثم تزعم أنك تتنزه عنها تنزه أهل
الورع، فإن كنت صادقاً فارجع إلى بيتك، ودع الطمع في مصر والركون إلى الدنيا
الفانية، واعلم أن هذه الحرب ما معاوية فيها كعلي
بدأها علي بالحق، وانتهى فيها إلى العذر، وبدأها معاوية بالبغي وانتهى فيها إلى
السرف وليس أهل العراق فيها كأهل الشام بايع
أهل العراق علياً، وهو خير منهم، وبايع أهل الشام معاوية وهم خير منه، ولست أنا وأنت فيها سواء، أردت الله وأردت مصر، وقد عرفت الشيء الذي باعدك مني، ولا أعرف الشيء الذي قربك
من معاوية، فإن ترد شراً لا نسبقك به، وإن
ترد خيراً لا تسبقنا إليه. والسلام.
ثم عرض الشعر والكتاب على علي رضي الله عنه، فقال: لا أراه يجيبك بعدها أبداً بشيء إن
كان يعقل وإن عاد عدت عليه. أما
بعد فقد أتاني كتابك، وقرأته، فأما ما ذكرت من
سرعتنا إليك بالمساءة إلى أنصار ابن عفان، وكراهتنا لسلطان بني أمية، فلعمري لقد أدركت في عثمان حاجتك حين استنصرك فلم تنصره
حتى صرت إلى ما صرت إليه. وبيني وبينك في ذلك ابن عمك وأخو عثمان، وهو
الوليد بن عقبة. وأما طلحة
والزبير، فإنهما أجلبا عليه وضيما خناقه، ثم خرجا ينقضان البيعة، ويطلبان
الملك، فقاتلناهما على النكث، كما قاتلناك على البغي. وأما قولك:
إنه لم يبق من قريش غير ستة، فما أكثر رجالها،
وأحسن بقيتها! وقد قاتلك من خيارها من قاتلك، ولم يخذلنا إلا من خذلك. وأما إغراؤك
إيانا بعدي وتيم، فإن أبا بكر وعمر
خير من عثمان، كما أن عثمان خير منك، وقد بقي لك منا ما ينسيك ما قبله، وتخاف
ما بعده. وأما قولك:
لو بايع الناس لي لاستقاموا فقد بايع الناس علياً
وهو خير مني فلم يستقيموا له. وما أنت والخلافة
يا معاوية! وإنما أنت طليق وابن طليق!
والخلافة للمهاجرين الأولين وليس الطلقاء
منها في شيء! والسلام. وقال:
قال نصر: وحدثنا عمر بن سعد، قال: عقد معاوية يوماً من أيام صفين
الرياسة على اليمن من قريش، قصد بذلك إكرامهم ورفع منازلهم منهم عبيد الله بن
عمر بن الخطاب، ومحمد وعتبة ابنا أبي سفيان، وبسر بن أبي أرطاة، وعبد الرحمن بن
خالد بن الوليد، وذلك في الوقعات الأولى من صفين،
فغم ذلك أهل اليمن، وأرادوا ألا يتأمر عليهم أحد إلا منهم. فقام إليه رجل من كندة، يقال له عبد الله بن الحارث السكوني،
فقال: أيها الأمير، إني قد قلت شيئاً
فأسمعه، وضعه مني على النصيحة، قال: هات، فأنشده:
قال: فبكى لها معاوية، ونظر إلى وجوه أهل اليمن، فقال:
أعن رضاكم يقول ما قال قالوا: لا مرحبا بما
قال إنما الأمر إليك فاصنع ما أحببت. فقال معاوية:
إنما خلطت بكم أهل ثقتي، ومن كان لي فهو لكم ومن كان لكم فهو لي، فرضي القوم
وسكتوا، فلما بلغ أهل الكوفة مقال عبد الله بن
الحارث لمعاوية فيمن عقد له من رؤوس أهل الشام، قام
الأعور الشني إلى علي رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين، إنا لا نقول لك كما
قال صاحب أهل الشام لمعاوية، ولكن نقول: زاد الله في سرورك وهداك! نظرت
بنور الله، فقدمت رجالاً، وأخرت رجالاً. عليك أن تقول، وعلينا أن نفعل. أنت الإمام، فإن هلكت فهذان من بعدك- يعني حسناً وحسيناً رضي
الله عنهما- وقد قلت شيئاً فاسمعه، قال: هات، فأنشده:
قال: فلم يبق أحد من الرؤساء إلا وأهدى إلى الشني، أو أتحفه.
فطعن
في أعراض الخيل ملياً. ثم إن همدان تنادت بشعارها، وأقحم سعيد بن قيس فرسه على
معاوية، واشتد القتال حتى حجز بينهم الليل، فهمدان تذكر أن سعيداً كاد يقتنصه
إلا أنه فاته ركضاً، وقال سعيد في ذلك:
قال نصر:
وانصرف معاوية ذلك اليوم، ولم يصنع شيئاً، وغدا عمرو
بن العاص في اليوم الثاني في حماة الخيل، فقصد
المرقال، ومع المرقال لواء علي رضي الله عنه
الأعظم في حماة الناس، وكان عمرو من فرسان
قريش، فارتجز عمرو، فقال:
فطعن
في أعراض الخيل مزبداً، وحمل المرقال عليه، وارتجز
فقال:
فطاعن عمرا حتى رجع، وانصرف الفريقان بعد شدة القتال، ولم يسر
معاوية ذلك،
وغدا بسر بن أبي أرطاة في اليوم الثالث في حماة الخيل، فلقي قيس بن سعد بن عبادة
في كماة الأنصار، فاشتدت الحرب بينهما، وبرز قيس كأنه فنيق مقرم، وهو يقول:
وطاعن
خيل بسر، وبرز بسر فارتجز وقال:
ويطعن
بسر قيساً، ويضربه قيس بالسيف، فرده على عقبيه، ورجع القوم جميعاً، ولقيس الفضل،
وتقدم عبيد الله بن عمر بن الخطاب في اليوم الرابع لم
يترك فارساً مذكوراً إلا جمعه واستكثر ما استطاع، فقال
له معاوية: إنك اليوم تلقى أفعى أهل العراق، فارفق واتئد، فلقيه الأشتر أمام الخيل مزبدا- وكان الأشتر إذا أراد القتال أزبد- وهو يقول:
وشد على الخيل خيل الشام، فردها. فاستحيا عبيد الله وبرز أمام الخيل- وكان فارساً شجاعاً، وقال:
فحمل عليه الأشتر، وطعنه واشتد الأمر، وانصرف القوم، وللأشتر
الفضل. فغم ذلك معاوية، وغدا
عبد الرحمن بن خالد في اليوم الخامس، وكان رجاء معاوية أن ينال حاجته،
فقواه بالخيل والسلاح، وكان معاوية يعده ولداً، فلقيه
عدي بن حاتم في كماة مذحج وقضاعة، فبرز عبد الرحمن أمام الخيل، وقال:
ثم
حمل فطعن الناس، فقصده عدي بن حاتم، وسدد
إليه الرمح، وقال:
فلما كاد أن يخالطه بالرمح، توارى عبد الرحمن في العجاج، واستتر بأسنة أصحابه واختلط القوم، ثم تحاجزوا، ورجع عبد الرحمن مقهوراً، وانكسر معاوية وبلغ
أيمن بن خزيم ما لقي معاوية وأصحابه، فشمت بهم- وكان ناسكاً من أنسك أهل
الشام وكان معتزلاً للحرب في ناحية عنها، فقال:
قال: وإن معاوية أظهر لعمرو شماتة، وجعل يقرعه ويوبخه، وقال: لقد أنصفتكم إذ لقيت سعيد بن قيس في همدان،
وفررتم. وإنك لجبان يا عمرو! فغضب عمرو، وقال:
فهلا برزت إلى علي إذ دعاك إن كنت شجاعاً كما تزعم! وقال:
قال: وإن القرشيين استحيوا ما صنعوا، وشمت بهم اليمانية من أهل
الشام، فقال معاوية:
يا معشر قريش والله لقد قربكم لقاء القوم إلى الفتح ولكن لا مرد لأمر الله ومم
تستحيون! إنما لقيتم كباش العراق، فقتلتم منهم وقتلوا منكم، وما لكم علي من حجة.
لقد عبأت نفسي لسيدهم وشجاعهم سعيد بن قيس. فانقطعوا عن معاوية أياماً، فقال معاوية في ذلك:
فلما سمع القوم ما قاله معاوية، أتوه فاعتذروا إليه، واستقاموا
إليه على ما يحب. قال نصر: وحدثنا عمرو بن شمر، قال: لما اشتد القتال وعظم الخطب، أرسل معاوية إلى عمرو بن العاص: أن قدم عكا والأشعريين إلى من بإزائهم. فبعث عمرو إليه أن بإزاء عك همدان. فبعث إليه
معاوية: أن قدم عكاً، فأتاهم عمرو، فقال: يا
معشر عك، إن علياً قد عرف أنكم حي أهل الشام، فعبأ لكم حي أهل العراق همدان،
فاصبروا وهبوا إلي جماجمكم ساعة من النهار فقد بلغ الحق مقطعه. فقال ابن مسروق العكي: أمهلني حتى آتي معاوية، فأتاه
فقال: يا معاوبة، اجعل لنا فريضة ألفي رجل في ألفين ألفين، ومن هلك فابن
عمه مكانه لنقر اليوم عينك. فقال: لك ذلك، فرجع ابن مسروق إلى أصحابه، فأخبرهم الخبر، فقالت
عك: نحن لهمدان، ثم تقدمت عك، ونادى سعيد
بن قيس: يا همدان، تقدموا! فشدت همدان على عك رجالة، فأخذت السيوف أرجل عك، فنادى ابن مسروق:
فبركوا
تحت الحجف، فشجرتهم همدان بالرماح، وتقدم شيخ من
همدان، وهو يقول:
وقام
رجل من عك، فارتجز فقال:
قال:
فالتقى القوم جميعا بالرماح، وصاروا إلى السيوف، وتجالدوا حتى أدركهم الليل. فقالت همدان: يا معشر عك، نحن نقسم بالله إننا لا ننصرف حتى
تنصرفوا.
وقالت عك مثل ذلك، فأرسل معاوية إلى عك أن أبروا قسم إخوتكم
وهلموا.
فانصرفت
عك، فلما انصرفت انصرفت همدان، فقال عمرو:
يا معاوية، والله لقد لقيت أسد أسداً لم أر والله كهذا اليوم قط لو أن معك حياً
كعك، أو مع علي حي كهمدان لكان الفناء، وقال عمرو
في ذلك:
قال:
ولما اشترطت عك والأشعريون على معاوية ما اشترطوا من الفريضة والعطاء فأعطاهم، لم يبق من أهل العراق أحد في قلبه مرض إلا طمع في
معاوية، وشخص ببصره إليه حتى فشا ذلك في الناس، وبلغ عليا رضي الله عنه، فساءه.. قال نصر:
وجاء المنذر بن أبي حميصة الوداعي- وكان شاعر همدان
وفارسها- عليا رضي الله عنه فقال: يا
أمير المؤمنين، إن عكاً والأشعريين طلبوا إلى معاوية الفرائض والعطاء فأعطاهم، فباعوا الدين بالدنيا وإنا قد رضينا بالآخرة من الدنيا،
وبالعراق من الشام، وبك من معاوية والله لآخرتنا خير من دنياهم، ولعراقنا خير من
شآمهم، ولإمامنا أهدى من إمامهم فاستفتحنا بالحرب، وثق منا بالنصر، واحملنا على الموت، وأنشده:
فقال علي رضي الله عنه: حسبك الله! يرحمك الله! وأثنى عليه وعلى قومه خيراً. وانتهى
شعره إلى معاوية، فقال: والله لأستميلن بالدنيا ثقات علي، ولأقسمن فيهم الأموال
حتى تغلب دنياي آخرته. فقال سعيد بن
قيس: أجبنا الله وأجبناك، ونصرنا رسول الله في قبره، وقاتلنا معك من ليس
مثلك، فارمنا حيث شئت.
فقال علي رضي الله عنه لصاحب لواء همدان: اكفني أهل حمص، فإني لم ألق من أحد
ما لقيت منهم. فتقدم
وتقدمت همدان، وشدوا شدة واحدة على أهل حمص، فضربوهم ضرباً شديداً متداركاً،
بالسيوف وعمد الحديد، حتى ألجأوهم إلا قبة معاوية، وارتجز
من همدان رجل، عداده في أرحب، فقال:
قال نصر: فحدثنا عمر بن سعد، قال: لما ردت خيول معاوية أسف فجرد سيفه
وحمل في كماة أصحابه، فحملت عليه فوارس همدان، ففاز منها ركضاً، وانكسرت كماته
ورجعت همدان إلى مراكزها، فقال حجر بن قحطان
الهمداني، يخاطب سعيد بن قيس:
قال نصر: وحدثنا عمر بن سعد عن رجاله، أن معاوية دعا يوماً بصفين
مروان بن الحكم، فقال له:
إن الأشتر قد غمني وأقلقني، فاخرج بهذه الخيل في يحصب والكلاعيين، فالقه فقال مروان: ادع لهما عمراً، فإنه شعارك دون
دثارك قال: فأنت نفسي دون وريدي. قال: لو كنت كذلك ألحقتني به في العطاء
وألحقته بي في الحرمان، ولكنك أعطيته ما في يدك، ومنيته ما في يد غيرك، فإن غلبت
طاب له المقام، وإن غلبت خف عليه الهرب. فقال معاوية:
سيغني الله عنك. قال:
أما إلى اليوم فلم يغن. فدعا معاوية عمراً، فأمره بالخروج إلى الأشتر، فقال: أما إني لا أقول لك ما قال مروان،
قال: وكيف تقوله وقد قدمتك وأخرته، وأدخلتك وأخرجته! قال:
أما والله إن كنت فعلت، لقد قدمتني كافياً، وأدخلتني ناصحاً وقد أكثر القوم عليك
في أمر مصر، وإن كان لا يرضيهم إلا رجوعك فيما وتقت لي به منها فارجع فيه. ثم قام فخرج في تلك الخيل، فلقيه الأشتر أمام القوم، وقد علم أنه
سيلقاه، وهو يرتجز ويقول:
فلما سمع عمرو هذا الرجز، فشل وجبن، واستحيا أن يرجع، وأقبل نحو
الصوت، وقال:
فغشيه الأشتر بالرمح، فراغ عمرو عنه، فلم يصنع الرمح شيئاً، ولوى عمرو عنان فرسه، وجعل يده على وجهه، وجعل يرجع
راكضاً نحو عسكره. فنادى غلام من يحصب: يا عمرو، عليك العفا ما
هبت الصبا يا آل حمير إنا لكم ما كان معكم هاتوا اللواء، فأخذه وتقدم، وكان
غلاماً حدثاً، فقال:
فنادى الأشتر ابنه إبراهيم: خذ اللواء، فغلام لغلام. وتقدم
فأخذ إبراهيم اللواء، وقال:
ويحمل على الحميري، فالتقاه الحميري بلوائه ورمحه، فلم يبرحا يطعن كل واحد منهما صاحبه،
حتى سقط الحميري قتيلاً، وشمت مروان بعمرو، وغضب القحطانيون على معاوية، وقالوا: تولي علينا من لا يقاتل معنا. ولِ رجلاً منا، وإلا فلا
حاجة لنا فيك. وقال شاعرهم:
فقال لهم معاوية: والله لا أولي عليكم بعد هذا اليوم إلا رجلاً منكم. وحرض علي رضي
الله عنه أصحابه، فقام إليه الأصبغ بن نباتة، وقال: يا أمير المؤمنين،
قدمني في البقية من الناس، فإنك لا تفقد لي اليوم صبراً ولا نصراً أما أهل الشام
فقد أصبنا وأما نحن ففينا بعض البقية، ائذن لي
فأتقدم، فقال له: تقدم على اسم الله والبركة، فتقدم وأخذ الراية ومضى
بها، وهو يقول:
فما رجع إلى علي رضي الله عنه حتى خضب سيفه دماً ورمحه. وكان
شيخاً ناسكاً عابداً، وكان إذا لقي القوم بعضهم بعضاً يغمد سيفه، وكان من ذخائر علي رضي الله عنه ممن قد بايعه على
الموت وكان علي رضي الله عنه يضن به عن الحرب
والقتال. فقال له الأب:
يا بني، هلم إلى الدنيا. فقال له الغلام: يا أبي هلم إلى الآخرة. ثم
قال: يا أبت والله لو كان من رأي الانصراف إلى أهل الشام لوجب عليك أن يكون من
رأيك لي أن تنهاني، واسوأتاه! فماذا أقول لعلي
وللمؤمنين الصالحين! كن على ما أنت عليه، وأنا على ما أنا عليه. فانصرف حجل إلى صف الشام، وانصرف ابنه أثال إلى أهل العراق، فخبر كل واحد منهما أصحابه، وقال في ذلك حجل:
فلما
انتهى شعره إلى أهل العراق، قال أثال ابنه مجيباً
له:
قال نصر: وحدثنا عمرو بن شمر بالإسناد المذكور، أن معاوية دعا
النعمان بن بشير بن سعد الأنصاري، ومسلمة بن مخلد الأنصاري- ولم يكن معه من
الأنصار غيرهما- فقال:
يا هذان، لقد غمني ما لقيت من الأوس والخزرج، واضعي سيوفهم على عواتقهم يدعون
إلى النزال، حتى لقد جبنوا أصحابي الشجاع منهم والجبان وحتى والله ما أسأل عن
فارس من أهل الشام إلا قيل قتله الأنصار أما والله لألقينهم بحدي وحديدي،
ولأعبين لكل فارس منهم فارساً ينشب في حلقه، ولأرمينهم بأعدادهم من قريش، رجال
لم يغذهم التمر والطفيشل، يقولون: نحن الأنصار قد والله آووا ونصروا، ولكن
أفسدوا حقهم بباطلهم! فغضب النعمان، وقال:
يا معاوية لا تلومن الأنصار في حب الحرب والسرعة نحوها، فإنهم كذلك كانوا في
الجاهلية. وأما
لقاؤك إياهم في أعدادهم من قريش فقد علمت ما لقيت قريش منهم قديماً، فإن أحببت
أن ترى فيهم مثل ذلك آنفاً فافعل. وأما التمر والطفيشل،
فإن التمر كان لنا فلما ذقتموه شاركتمونا فيه.
وأما الطفيشل،
فكان لليهود، فلما أكلناه غلبناهم عليه، كما غلبت
قريش على السخينة. وأما غمهم إياك فقد والله غمونا، ولو رضينا ما
فارقونا ولا فارقنا جماعتهم، وإن في ذلك ما فيه من مباينة العشيرة ولكنا حملنا
ذلك لك، ورجونا منك عوضه. وأما التمر والطفيشل فإنهما يجران عليك السخينة والخرنوب. قال: وانتهى هذا الكلام إلى الأنصار، فجمع قيس بن سعد الأنصار،
ثم قام فيهم خطيباً فقال:
إن معاوية قال ما بلغكم، وأجابه عنكم صاحباكم، ولعمري إن غظتم معاوية اليوم لقد
غظتموه أمس، وإن وترتموه في الإسلام فلقد وترتموه في الشرك وما لكم إليه من ذنب
أعظم من نصر هذا الدين، فجدوا اليوم جداً تنسونه به ما كان أمس، وجدوا غداً جداً
تنسونه به ما كان اليوم فأنتم مع هذا اللواء الذي كان يقاتل عن يمينه جبريل، وعن
يساره ميكائيل والقوم مع لواء أبي جهل والأحزاب. فأما التمر
فإنا لم نغرسه ولكن غلبنا عليه من غرسه، وأما
الطفيشل، فلو كان طعامنا لسمينا به كما سميت قريش بسخينة، ثم قال سعد في
ذلك:
فلما أتى شعره وكلامه معاوية، دعا عمرو بن العاص، فقال: ما ترى في شتم الأنصار قال: أرى أن
توعدهم، ولا تشتمهم. ما عسى أن تقول لهم إذا أردت ذمهم! فذم
أبدانهم ولا تذم أحسابهم. فقال:
إن قيس بن سعد يقوم كل يوم خطيباً، وأظنه والله يفنينا غداً إن لم يحبسه عنا
حابس الفيل، فما الرأي قال: الصبر والتوكل،
وأرسل إلى رؤوس الأنصار مع علي، فعاتبهم وأمرهم أن يعاتبوه، فأرسل معاوية إلى أبي مسعود والبراء بن عازب، وخزيمة بن
ثابت، والحجاج بن غزية، وأبي أيوب، فعاتبهم فمشوا إلى قيس بن سعد، وقالوا له: إن
معاوية لا يحب الشتم، فكف عن شتمه، فقال: إن مثلي لا يشتم، ولكني لا أكف عن حربه
حتى ألقى الله. قال:
وتحركت الخيل غدوة، فظن قيس أن فيها معاوية، فحمل على رجل يشبهه، فضربه بالسيف
فإذا هو ليس به، ثم حمل على آخر يشبهه أيضاً فقنعه بالسيف. فخرج النعمان،
فوقف بين الصفين، ونادى: يا قيس بن سعد، أنا النعمان بن بشير، فخرج إليه،
وقال: هيه يا نعمان! ما حاجتك قال: يا قيس، إنه قد أنصفكم من دعاكم إلى ما رضي
لنفسه. يا
معشر الأنصار، إنكم أخطأتم في خذل عثمان يوم الدار، وقتلتم أنصاره يوم الجمل،
وأقحمتم خيولكم على أهل الشام بصفين، فلو كنتم إذ خذلتم عثمان خذلتم علياً لكانت
واحدة بواحدة، ولكنكم لم ترضوا أن تكونوا كالناس حتى أعلمتم في الحرب، ودعوتم
إلى البراز. ثم لم ينزل بعلي خطب قط إلا هونتم عليه
المصيبة، ووعدتموه الظفر. وقد
أخذت الحرب منا ومنكم ما قد رأيتم فاتقوا الله في البقية. وأما
أصحاب الجمل فقاتلناهم على النكث. وأما
معاوية فوالله لو اجتمعت عليه العرب قاطبة لقاتلته الأنصار وأما قولك إنا لسنا
كالناس، فنحن في هذه الحرب كما كنا مع رسول الله، نتقي السيوف بوجوهنا، والرماح
بنحورنا حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون. ولكن
انظر يا نعمان هل ترى مع معاوية إلا طليقاً، أو أعرابياً، أو يمانياً مستدرجاً
بغرور! انظر
أين المهاجرون والأنصار والتابعون لهم بإحسان الذين رضيم الله عنهم ورضوا عنه!
ثم انظر، هل ترى مع معاوية أنصارياً غيرك وغير صويحبك ولستما والله ببدرتين ولا
عقبتين ولا الحديين، ولا لكما سابقة في الإسلام، ولا آية في القرآن. ولعمري لئن شغب
علينا لقد شغب علينا أبوك! قال نصر:
وحدثنا عمر بن سعد، عن مالك بن أعين، عن زيد بن وهب، قال: كان فارس أهل الشام
الذي لا ينازع عوف بن مجزأة المراد، المكنى أبا أحمر، وكان فارس أهل الكوفة
العكبر بن جدير الأسدي، فقام العكبر إلى علي رضي
الله عنه، وكان منطيقاً فقال: يا أمير المؤمنين، إن في أيدينا عهداً من
الله لا نحتاج فيه إلى الناس قد ظننا بأهل الشام الصبر وظنوا بنا، فصبرنا
وصبروا، وقد عجبت من صبر أهل الدنيا لأهل الآخرة، وصبر أهل الحق على أهل الباطل،
ورغبة أهل الدنيا، ثم قرأت آية من كتاب الله فعلمت أنهم مفتونون: "ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا
يفتنون" ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن
الكاذبين". فقال
له رضي الله عنه خيراً، وخرج الناس إلى مصافهم، وخرج عوف بن مجزأة المرادي
نادراً من الناس، وكذا كان يصنع، وقد كان قتل نفراً من أهل العراق مبارزة،
فنادى: يا أهل العراق هل من رجل عصاه سيفه يبارزني! ولا أغركم من نفسي! أنا عوف
بن مجزأة. فنادى الناس بالعكبر، فخرج إليه منقطعاً
عن أصحابه ليبارزه، فقال عوف:
فقال له العكبر:
فاطعنا،
فصرعه العكبر وقتله، ومعاوية على التل في وجوه قريش ونفر قليل من الناس، فوجه
العكبر فرسه، يملأ فروجه ركضا ويضربه بالسوط مسرعاً نحو التل. فنظر معاوية إليه فقال: هذا الرجل مغلوب على عقله
أو مستأمن فاسألوه، فأتاه رجل وهو في حمو فرسه، فناداه فلم يجبه، ومضى مبادراً
حتى انتهى إلى معاوية، فجعل يطعن في أعراض الخيل ورجا أن ينفرد بمعاوية فيقتله،
فاستقبله رجال قتل منهم قوماً، وحال الباقون بينه وبين معاوية بسيوفهم ورماحهم
فلما لم يصل إليه قال: أولى لك يا بن هند! أنا الغلام الأسدي، ورجع إلى صف العراق ولم يكلم، فقال له
علي رضي الله عنه: ما دعاك إلى ما صنعت لا تلق نفسك إلى التهلكة قال: يا أمير المؤمنين أردت غرة ابن هند فحيل بيني وبينه
وكان العكبر شاعراً فقال:
قال: فانكسر أهل الشام لقتل عوف المرادي، وهدر معاوية دم العكبر، فقال العكبر: يد الله فوق يده، فأين الله جل جلاله
ودفاعه عن المؤمنين! قال نصر: وروى عمر بن سعد، عن الحارث بن حصين، عن أبي الكنود،
قال: جزع أهل الشام على قتلاهم جزعاً
شديداً، وقال معاوية بن خديج: قبح الله ملكاً يملكه
المرء بعد حوشب وذي الكلاع، والله لو ظفرنا بأهل الدنيا بعد قتلهما بغير مؤونة
ما كان ظفراً. وقال يزيد بن أسد لمعاوية: لا خير في أمر لا يشبه آخره أوله، لا يدمى جريح ولا يبكى
قتيل حتى تنجلي هذه الفتنة، فإن يكن الأمر لك أدميت وبكيت على قرار، وإن يكن
لغيرك فما أصبت به أعظم. فقال معاوية:
يا أهل الشام، ما جعلكم أحق بالجزع على قتلاكم من أهل العراق على قتلاهم، والله ما ذو الكلاع فيكم بأعظم من عمار بن ياسر فيهم، ولا
حوشب فيكم بأعظم من هاشم فيهم، وما عبيد الله بن عمر فيكم بأعظم من ابن بديل فيهم،
وما الرجال إلا أشباه، وما التمحيص إلا من عند الله فأبشروا
فإن الله قد قتل من القوم ثلاثة: قتل عماراً وكان فتاهم، وقتل هاشماً
وكان حمزتهم، وقتل ابن بديل وهو الذي فعل الأفاعيل وبقي
الأشتر، والأشعث، وعدي بن حاتم، فأما الأشعث فإنما
حمى عنه مصره، وأما الأشتر وعدي فغضباً للفتنة، والله
قاتلهما غداً إن شاء الله تعالى، فقال معاوية
بن خديج: إن يكن الرجال عندك أشباها فليست عندنا كذلك، وغضب. وقال شاعر اليمن يرثي ذا الكلاع وحوشباً:
وروى نصر: عن عمر بن سعد، عن عبيد الرحمن بن كعب، قال: لما قتل عبد الله بن بديل يوم صفين
مر به الأسود بن طهمان الخزاعي، وهو بآخر رمق، فقال له: عز علي والله مصرعك! أما
والله لو شهدتك لأسيتك، ولدافعت عنك، ولو رأيت الذي أشعرك لأحببت ألا أزايله ولا
يزايلني حتى أقتله، أو يلحقني بك. ثم نزل إليه، فقال: رحمك الله يا عبد الله،
والله إن كان جارك ليأمن بوائقك، وإن كنت لمن الذاكرين الله كثيراً. أوصني رحمك الله.
قال:
أوصيك بتقوى الله، وأن تناصح أمير المؤمنين، وتقاتل معه حتى يظهر الحق أو تلحق
بالله، وأبلغ أمير المؤمنين عني السلام، وقل له:
قاتل على المعركة حتى تجعلها خلف ظهرك، فإنه من أصبح والمعركة خلف ظهره، كان
الغالب. ثم لم يلبث أن مات. قال:
وبلغ معاوية كلام أبرهة، فتأخر آخر الصفوف، وقال لمن حوله: إني لأظن أبرهة
مصاباً في عقله. فأقبل أهل الشام
يقولون: والله إن أبرهة لأكملنا ديناً وعقلاً، ورأياً وبأساً ولكن الأمير
كره مبارزة علي، وسمع ما دار من الكلام أبو داود عروة بن داود العامري- وكان من
فرسان معاوية- فقال: إن كان معاوية كره مبارزة أبي حسن، فأنا أبارزه، ثم خر بين
الصفين، فنادى: أنا أبو داود فابرز إلي يا
أبا حسن، فتقدم علي رضي الله عنه
نحوه، فناداه الناس: ارجع يا أمير
المؤمنين عن هذا الكلب فليس لك بخطر، فقال:
والله ما معاوية اليوم بأغيظ لي منه، دعوني وإياه، ثم حمل عليه فضربه فقطعه
قطعتين، سقطت إحداهما يمنية والأخرى شامية فارتج العسكران لهول الضربة، وصرخ ابن عم لأبي داود: وا سوء صباحاه! وقبح الله
البقاء بعد أبي داود! وحمل على علي رضي الله عنه، فطعنه فضرب الرمح فبراه، ثم قنعه ضربة فألحقه بأبي داود،
ومعاوية واقف على التل، يبصر ويشاهد، فقال: تباً لهذه الرجال وقبحاً، أما فيهم
من يقتل هذا مبارزة أو غيلة، أو في اختلاط الفيلق وثوران النقع. فقال الوليد بن عقبة: ابرز إليه أنت فإنك أولى الناس بمبارزته، فقال: والله لقد دعاني إلى البراز حتى لقد استحييت
من قريش، وإني والله لا أبرز إليه، ما جعل العسكر بين يدي الرئيس إلا وقاية له. فقال عتبة بن أبي سفيان: الهوا عن هذا كأنكم لم تسمعوا نداءه، فقد علمتم أنه قتل
حريثاً، وفضح عمراً ولا أرى أحداً يتحكك به إلا قتله. فقال معاوية لبسر
بن أرطاة: أتقوم لمبارزته فقال: ما أحد أحق بها منك، أما إذ بيتموه فأنا
له، قال معاوية: إنك ستلقاه غداً في أول
الخيل، وكان عند بسر ابن عم له، قدم من الحجاز يخطب ابنته، فأق بسرا، فقال له: إني سمعت أنك وعدت من نفسك أن تبارز
عليا، أما تعلم أن الوالي من بعد معاوية عتبة ثم بعده محمد أخوه، وكل من هؤلاء
قرن علي، فما يدعوك إلى ما أرى! قال:
الحياء، خرج مني كلام، فأنا أستحمي أن أرجع عنه. فضحك الغلام، وقال:
فقال بسر:
هل هو إلا الموت لا بد من لقاء الله فغدا علي رضي الله عنه منقطعاً من خيله،
ويده في يد الأشتر، وهما يتسايران رويداً، يطلبان التل ليقفا عليه إذ برز له بسر
مقنعاً في الحديد، لا يعرف، فناداه: ابرز إلي أبا حسن، فانحدر إليه على تؤدة غير
مكترث به حتى إذا قاربه طعنه وهو دارع فألقاه إلى الأرض، ومنع الدرع السنان أن
يصل إليه، فاتقاه بسر بعورته، وقصد أن يكشفها، يستدفع بأسه، فانصرف عنه رضي الله عنه مستدبراً له فعرفه الأشتر حين سقط فقال:
يا أمير المؤمنين، هذا بسر بن أرطاة، هذا
عدو الله وعدوك، فقال: دعه عليه رضي الله عنه الله، أبعد أن فعلها فحمل ابن عم بسر من أهل الشام، شاب، على
علي رضي الله عنه وقال:
فلم يلتفت إليه علي رضي الله عنه، وتلقاه الأشتر فقال له:
فطعنه الأشتر، فكسر صلبه، وقام بسر من طعنة علي رضي الله عنه مولياً،
وفرت خيله، وناداه علي رضي الله عنه:
يا بسر، معاوية كان أحق بها منك، فرجع
بسر إلى معاوية، فقال له معاوية: ارفع طرفك،
فقد أدال الله عمراً منك، قال الشاعر في ذلك:
قال:
فكان بسر بعد ذلك اليوم، إذا لقي الخيل التي فيها علي ينتحي ناحية، وتحامى فرسان
الشام بعدها علياً رضي الله عنه. فقال مروان: أما
البراز فإن علياً لا يأذن لحسن ولا لحسين ولا لمحمد بنيه فيه، ولا لابن عباس
وإخوته، ويصلى بالحرب دونهم، فلأيهم نبارز! وأما
المفاخرة فبماذا نفاخرهم! بالإسلام أم بالجاهلية! فإن كان الإسلام،
فالفخر لهم بالنبوة، وإن كان بالجاهلية فالملك فيه لليمن، فإن قلنا قريش، قالوا
لنا: عبد المطلب. ونابذ معاوية الوليد بن عقبة دون القوم، فأغلظ له الوليد،
فقال معاوية: إنك إنما تجترئ علي بنسبك من
عثمان، ولقد ضربك الحد وعزلك عن الكوفة. فقال جعدة:
أما حبي لخالي، فلو كان لك خال مثله لنسيت أباك وأما
ابن أبي سلمة فلم يصب أعظم من قدره، والجهاد أحب إلي من العمل وأما فضل
علي على معاوية فهذا ما لا يختلف فيه اثنان. وأما
رضاكم اليوم بالشام فقد رضيتم بها أمس فلم نقبل. وأما قولك:
"ليس بالشام أحد إلا وهو أجد من معاوية، وليس بالعراق رجل مثل جد علي"
فهكذا ينبغي أن يكون، مضى بعلي يقينه، وقصر بمعاوية شكه، وقصد أهل الحق خير من
جهد أهل الباطل. وأما قولك:
"نحن أطوع لمعاوية منكم لعلي" فوالله ما نسأله إن سكت، ولا نرد عليه
إن قال. وأما
قتل العرب، فإن الله كتب القتل والقتال، فمن قتله الحق فإلى الله. فغضب
عتبة، وفحش على جعدة فلم يجبه، وأعرض عنه، فلما انصرف عنه، جمع خيله فلم يستبق
منها شيئاً، وجل أصحابه السكون والأزد والصدف، وتهيأ جعدة بما استطاع، والتقوا،
فصبر القوم جميعاً، وباشر جعدة يومئذ القتال بنفسه، وجزع عتبة، فأسلم خيله،
وأسرع هارباً إلى معاوية، فقال له: فضحك جعدة
وهزمتك، لا تغسل رأسك منها أبداً! فقال: والله
لقد أعذرت ولكن أبى الله أن يديلنا منهم فما أصنع وحظي جعدة بعدها عند علي رضي الله عنه! وقال
النجاشي فيما كان من فحش عتبة على جعدة:
وقال
الأعور الشني في ذلك، يخاطب عتبة بن أبي سفيان:
قال نصر: وحدثنا عمر بن سعد ة عن الشعبي، قال: كان رجل من أهل الشام، يقال له
الأصبغ بن ضرار الأزدي، من مسالح معاوية وطلائعه، فندب له علي رضي الله عنه الأشتر، فأخذه أسيراً من غير قتال، فجاء به ليلاً فشده
وثاقاً، وألقاه عند أصحابه ينتظر به الصباح وكان الأصبغ شاعراً مفوهاً، فأيقن
بالقتل، ونام أصحابه، فرفع صوته فأسمع الأشتر، وقال:
قال: فغدا به الأشتر إلى علي رضي الله عنه، فقال: يا أمير المؤمنين، إن هذا رجل من
مسالح معاوية، أصبته أمس، وبات عندنا الليل، فحركنا بشعره، وله رحم، فإن كان فيه
القتل فاقتله وإن ساغ لك العفو عنه فهبه لنا فقال: هو لك يا مالك، وإذا أصبت
منهم أسيراً فلا تقتله، فإن أسير أهل القبلة لا يقتل. فرجع به الأشتر إلى منزله وخلى سبيله. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن
كلام له عليه السلام في الخوارج لما أنكروا تحكيم الرجال ويذم فيه أصحابه في
التحكيم
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
إنا لم نحكم الرجال وإنما حكمنا القرآن. هذا
القرآن إنما هو خط مسطور بين الدفتين، لا ينطق بلسان ولا بد له من ترجمان وإنما
ينطق عنه الرجال. ولما دعانا القوم إلى أن نحكم بيننا القرآن، لم نكن الفريق
المتولي عن كتاب الله سبحانه وتعالى، وقد قال الله تعالى عز من قائل: "فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول"،
فرده إلى الله أن نحكم بكتابه، ورده إلى الرسول أن نأخذ بسنته فإذا حكم بالصدق
في كتاب الله، فنحن أحق الناس به وإن حكم بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله فنحن
أحق الناس وأولاهم بها. الشرح:
دفتا المصحف: جانباه اللذان يكنفانه، وكان الناس يعملونهما قديماً من خشب،
ويعملونهما الآن من جلد؛ يقول رضي الله عنه:
لا اعتراض علي في التحكيم، وقول الخوارج:
"حكمت الرجال" دعوى غير صحيحة وإنما حكمت القرآن ولكن القرآن لا ينطق
بنفسه، ولا بد له ممن يترجم عنه. والترجمان بفتح التاء وضم الجيم، هو مفسر اللغة
بلسان آخر، ويجوز ضم التاء لضمة الجيم، قال الراجز:
ثم قال:
لما دعينا إلي تحكيم الكتاب، لم نكن القوم الذين قال الله تعالى في حقهم: "وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق
منهم معرضون"، بل أجبنا إلى ذلك، وعملنا بقول الله تعالى: "فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول". وقال:
معنى ذلك أن نحكم بالكتاب والسنة، فإذا عمل الناس بالحق في هذه الواقعة، واطرحوا
الهوى والعصبية، كنا أحق بتدبير الأمة وبولاية الخلافة من المنازع لنا عليها فإن قلت: إنه
لم يقل هكذا؛ وإنما قال:إذا حكم بالصدق في
كتاب الله، فنحن أولى به، وإذا حكم بالسنة فنحن أحق بها! قلت: إنه رفع
نفسه رضي الله عنه أن يصرح بذكر الخلافة
فكنى عنها، وقال: نحن إذا حكم بالكتاب والسنة أولى بالكتاب والسنة، ويلزم من
كونه أولى بالكتاب والسنة من جميع الناس أن يكون أولى بالخلافة من جميع الناس،
فدل على ما كنى عنه بالأمر المستلزم له. قلت:
لو تأمل الحكمان الكتاب حق التأمل، لوجدا فيه النص
الصريح على صحة خلافة أمير المؤمنين رضي الله عنه، لأن فيه النص الصريح على أن
الإجماع حجة، ومعاوية لم يكن مخالفا في هذه المقدمة ولا أهل الشام، وإذا
كان الإجماع حجة، فقد وقع الإجماع لما توفي رسول
الله صلى الله عليه وسلم، على أن اختيار خمسة من صلحاء المسلمين لواحد منهم وبيعته
توجب لزوم طاعته وصحة خلافته، وقد بايعتم أمير
المؤمنين رضي الله عنه خمسة من صلحاء الصحابة بل خمسون فوجب أن تصح خلافته، وإذا صحت خلافته نفذت أحكامه، ولم يجب
عليه أن يقيد بعثمان، إلا إن حفر أولياؤه عنده، طائعين له مبايعين، ملتزمين
لأحكامه ثم بعد ذلك يطلبون القصاص من أقوام بأعيانهم، يدعون عليهم دم المقتول فقد ثبت أن الكتاب لو تؤمل حق التأمل، لكان الحق مع أهل
العراق، ولم يكن لأهل الشام من الشبهة ما يقدح في استنباطهم المذكور. ويجوز
"أكرثه" بالألف- على الباطل وإن انتفع به وأورثه زيادة. وروي: "فأنى
يتاه بكم"؟، ومن أين أتيتم؟ أي كيف دخل عليكم الشيطان أو الشبهة،
ومن أي المداخل دخل اللبس عليكم! ثم أمرهم بالاستعداد للمسير إلى حرب أهل الشام،
وذكر أنهم موزعون بالجور، أي ملهمون، قال تعالى:
"رب أوزعني أن أشكر نعمتك" أي ألهمني، أوزعته بكذا وهو موزع
به، والاسم والمصدر جميعاً الوزع بالفتح، واستوزعت إليه تعالى شكره فأوزعني، أي
استلهمته فألهمني.
وحشاش
النار: ما تحش به، أي توقد، قال الشاعر:
وروي "حشاش" بالفتح كالشياع، وهو الحطب الذي يلقى في النار قبل
الجزل، وروي: "حشاش " بضم الحاء وتشديد
الشين، جمع حاش، وهو الموقد للنار.
ويروى: "ترحاً"، أي حزناً. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن
كلام له لما عوتب كل التسوية في العطاء وتصييره الناس أسوة في العطاء من غير
تفضيل أولي السابقات والشرف
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: أتأمروني
أن أطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه! والله لا أطور به ما سمر سمير، وما أم نجم
في السماء نجماً! ولو كان المال لي لسويت بينهم، فكيف وإنما المال مال الله! ثم قال عليه السلام:
ألا وإن إعطاء المال في غير حقه تبذير
وإسراف وهو يرفع صاحبه في الدنيا، ويضعه في الآخرة، ويكرمه في الناس، ويهينه عند
الله ولم يضع أمرؤ ماله في غير حقه، وعند غير أهله إلا حرمه الله شكرهم وكان
لغيره ودهم فإن زلت به النعل يوماً فاحتاج إلى معونتهم فشر خليل، وألأم خدين. وقيل:
ابنا سمير الليل والنهار، لأنه يسمر فيهما، ويقولون:
لا أفعله السمر والقمر، أي ما دام الناس يسمرون في ليلة قمراء ولا أفعله سمير
الليالي، أي أبداً، قال الشنفرى:
قوله: "وما أم نجم في السماء نجماً"، أي قصد وتقدم، لأن النجوم تتبع بعضها
بعضاً، فلا بد من تقدم وتأخر فلا يزال النجم يقصد نجماً غيره، ولا يزال النجم
يتقدم نجماً غيره. وقد ذهب كثير من فقهاء
المسلمين إلى قوله، والمسألة محل اجتهاد، وللإمام أن يعمل بما يؤديه إليه
اجتهاده،
وإن كان أتباع علي رضي الله عنه
عندنا أولى، لا سيما إذا عضده موافقة أبي بكر على
المسألة، وإن صح الخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سوى، فقد صارت المسألة
منصوصاً عليها، لأن فعله رضي الله عنه كقوله. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن
كلام له قاله للخوارج أيضاً
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: فإن أبيتم
إلا أن تزعموا أني أخطأت وضللت، فلم تضللون عامة أمة محمد- صلى الله عليه وآله- بضلالي،
وتأخذونهم بخطئي، وتكفرونهم بذنوبي! سيوفكم على عواتقكم تضعونها مواضع البرء
والسقم، وتخلطون من أذنب بمن لم يذنب وقد علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وآله رجم
الزاني المحصن، ثم صلى عليه، ثم ورثه أهله، وقتل القاتل وورث ميراثه أهله، وقطع
يد السارق وجلد الزاني غير المحصن، ثم قسم عليهما من الفيء، ونكحا المسلمات،
فآخذهم رسول الله صلى الله عليه وآله بذنوبهم
وأقام حق الله فيهم، ولم يمنعهم سهمهم من الإسلام، ولم يخرج أسماءهم من بين
أهله. ثم أنتم شرار الناس، ومن رمى به الشيطان مراميه
وضرب به تيهه. وسيهلك في صنفان:
محب مفرط يذهب به الحب إلى غير الحق، ومبغض مفرط يذهب به البغض إلى غير الحق. وخير الناس في حالاً النمط الأوسط فالزموه، وألزموا
السواد الأعظم فإن يد الله على الجماعة وإياكم والفرقة، فإن الشاذ من الناس
للشيطان، كما أن الشاذ من الغنم للذئب. إنهم إنما
ضللوا عامة أمة محمد صلى الله عليه وسلم،
وحكموا بخطئهم وكفرهم وقتلهم بالسيف خبطاً، لأنهم وافقوك في تصويب التحكيم وهو
عندهم كفر فلم يأخذوهم بذنبك كما قلت لهم وذلك لأن أمير المؤمنين رضي الله عنه ما
قال هذه المقالة إلا لمن رأى منهم استعراض العامة، وقتل الأطفال حتى البهائم،
فقد كان منهم قوم فعلوا ذلك. وقد سبق منا شرح أفعالهم ووقائعهم بالناس، وقالوا:
إن الدار دار كفر لا يجوز الكف عن أحد من أهلها، فهؤلاء هم الذين وجه أمير
المؤمنين رضي الله عنه إليهم
خطابه وإنكاره، دون غيرهم من فرق الخوارج. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الخوارج
يكفرون أهل الكبائر
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
واعلم أن الخوارج كلها تذهب إلى تكفير أهل الكبائر،
ولذلك كفروا علياً رضي الله عنه ومن
اتبعه على تصويب التحكيم وهذا الاحتجاج الذي احتج به عليهم لازم وصحيح، لأنه لو كان صاحب الكبيرة كافراً لما صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا
ورثه من المسلم، ولا مكنه من نكاح المسلمات، ولا قسم عليه من الفيء ولأخرجه عن
لفظ الإسلام. والجواب أن هذا مقصور على اليهود لأن ذكرهم هو المقدم في الآية
قال سبحانه وتعالى: "سماعون للكذب أكالون
للسحت" ثم قال عقيب قوله: "هم
الكافرون": "وقفينا على آثارهم
بعيسى بن مريم" فدل على أنها مقصورة
على اليهود. قالوا:
والفاسق لا بد أن يجازى، فوجب أن يكون كفوراً. والجواب أن
"من" هاهنا للتبعيض، وليس في ذكر
التبعيض نفي الثالث، كما أن قوله: "فمنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على
أربع" لا ينفي وجود دابة تمشي على أكثر
من أربعة كبعض الحشرات. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
غلاة
الشيعة والنصيرية وغيرهم
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
فأما الغلاة فيه فهالكون كما هلك الغلاة في عيسى عليه السلام. وقد روى المحدثون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له عليه السلام: "فيك مثل من عيسى بن مريم، أبغضته اليهود فبهتت أمه،
وأحبته النصارى فرفعته فوق قدره"، وقد كان أمير المؤمنين عز على قوم
من أصحابه خرجوا من حد محبته باستحواذ الشيطان عليهم أن كفروا بربهم، وجحدوا ما
جاء به نبيهم، فاتخذوه رباً وادعوه إلهاً، وقالوا
له: أنت خالقنا ورازقنا، فاستتابهم ، واستأنى وتوعدهم فأقاموا على قولهم،
فحفر لهم حفراً دخن عليهم فيها، طمعاً في رجوعهم، فأبوا
فحرقهم، وقال:
وروى أبو العباس أحمد بن عبيد الله بن عمار الثقفي، عن محمد بن
سليمان بن حبيب المصيصي، المعروف بنوين، وروى أيضاً عن علي بن محمد النوفلي عن
مشيخته،
أن علياً رضي الله عنه مر بقوم وهم يأكلون في شهر رمضان نهاراً، فقال: أسفر أم مرضى قالوا لا ولا واحدة منهما، قال: فمن أهل الكتاب أنتم فتعصمكم الذمة والجزية قالوا: لا، قال: فما بال الأكل في نهار رمضان!
فقاموا إليه، فقالوا: أنت أنت! يومون إلى
ربوبيته، فنزل رضي الله عنه عن فرسه، فألصق خده
بالأرض،
وقال: ويلكم! إنما
أنا عبد من عبيد الله، فاتقوا الله وارجعوا إلى الإسلام. فأبوا فدعاهم مراراً، فأقاموا على كفرهم، فنهض
إليهم، وقال شدوهم وثاقاً، وعلي بالفعلة والنار والحطب، ثم أمر بحفر بئرين
فحفرتا، إحداهما سرباً والأخرى مكشوفة، وألقى الحطب في المكشوفة، وفتح بينهما
فتحاً، وألقى النار في الحطب، فدخن عليهم، وجعل
يهتف بهم، ويناشدهم ليرجعوا إلى الإسلام، فأبوا، فأمر بالحطب والنار فألقى
عليهم، فأحرقوا، فقال الشاعر:
قال:
فلم يبرح رضي الله عنه
حتى صاروا حمماً ثم استترت هذه
المقالة سنة أو نحوها، ثم ظهر عبد الله بن سبأ وكان
يهودياً يتستر بالإسلام بعد وفاة أمير المؤمنين رضي الله عنه فأظهرها، واتبعه قوم فسموا السبئية، وقالوا: إن علياً رضي الله عنه لم
يمت، وإنه في السماء، والرعد صوته والبرق ضحكه وإذا
سمعوا صوت الرعد، قالوا: السلام عليك يا أمير
المؤمنين! وقالوا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أغلظ قول، وافتروا عليه أعظم فرية، فقالوا: كتم تسعة أعشار
الوحي، فنعى عليهم قولهم الحسن بن علي بن محمد بن
الحنفية رضي الله عنه في رسالته، التي يذكر فيها الإرجاء، رواها عنه سليمان بن
أبي شيخ، عن الهيثم بن معاوية، عن عبد العزيز بن أبان، عن عبد الواحد بن أيمن
المكي، قال: شهدت الحسن بن علي بن محمد بن الحنفية يملي هذه الرسالة،
فذكرها وقال فيها: ومن قول هذه السبئية:
هدينا لوحي ضل عنه الناس، وعلم خفي عنهم وزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتم تسعة أعشار الوحي ولو كتم عله شيئاً مما أنزل الله عليه
لكتم شأن امرأة زيد، وقوله تعالى: "تبتغي مرضات أزواجك". وروى علي بن محمد النوفلي، قال: جاء
المغيرة بن سعيد، فاستأذن على أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين، وقال له:
أخبر الناس أني أعلم الغيب، وأنا أطعمك العراق، فزجره أبو جعفر زجراً شديداً،
واسمعه ما كره، فانصرف عنه، فأتى أبا هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية رحمه الله، فقال له مثل ذلك- وكان أبو هاشم أيداً -
فوثب عليه فضربه ضرباً شديداً أشفى به على الموت، فتعالج
حتى برئ، ثم أتى محمد بن عبد الله بن الحسن
بن الحسن رحمه الله- وكان محمد سكيتاً - فقال له
كما قال للرجلين، فسكت محمد فلم يجبه، فخرج وقد طمع فيه بسكوته، وقال:
أشهد أن هذا هو المهدي الذي بشر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه قائم أهل
البيت، وادعى أن علي بن الحسين رضي الله عنه
أوصى إلى محمد بن عبد الله بن الحسن. ثم قدم المغيرة الكوفة، وكان مشعبذاً،
فدعا الناس إلى قوله، واستهواهم واستغواهم، فاتبعه خلق كثير،
وادعى على محمد بن عبد الله أنه أذن له في خنق الناس وإسقائهم السموم، وبث
أصحابه في الأسفار يفعلون ذلك بالناس، فقال له بعض
أصحابه: إنا نخنق من لا نعرف، فقال: لا
عليكم! إن كان من أصحابكم عجلتموه إلى الجنة، وإن كان من عدوكم عجلتموه
إلى النار ولهذا السبب كان المنصور يسمي محمد بن عبد الله الخناق، وينحله ما
ادعاه عليه المغيرة. ثم
ذكر أنه إنما حكم الحكمان ليحييا ما أحياه القرآن، أي ليجتمعا على ما شهد القرآن
باستصوابه واستصلاحه، ويميتا ما أماته القرآن، أي ليفترقا ويصدا وينكلا عما كرهه
القرآن، وشهدا بضلاله، والبجر، بضم الباء: السر العظيم، قال الراجز:
أي داهية. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
فيما
يخبر به عن الملاحم بالبصرة
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: يا
أحنف، كأني به وقد سار بالجيش الذي لا يكون له غبار ولا لجب، ولا قعقعة لجم، ولا
حمحمة خيل، يثيرون الأرض بأقدامهم كأنها أقدام النعام. الشرح: اللجب:
الصوت. والدور المزخرفة:
المزينة المموهة بالزخرف، وهو الذهب. والخراطيم:
ميازيبها. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أخبار
صاحب الزنج
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
فأما صاحب الزنج
هذا فإنه ظهر في فرات البصرة في سنة خمس وخمسين ومائتين
رجل زعم أنه علي بن محمد بن أحمد بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي
طالب رضي الله عنه، فتبعه الزنج الذين كانوا
يكسحون السباخ في البصرة.
ومن
جملتها:
ومن
الشعر المنسوب إليه:
ومن
شعره في الغزل:
ومن
شعره أيضاً:
وقد ذكر المسعودي
في كتابه المسمى "مروج الذهب "، أن أفعال علي بن محمد صاحب الزنج، تدل على أنه لم يكن طالبياً، وتصدق ما رمي به من دعوته
في النسب لأن ظاهر حاله كان ذهابه إلى مذهب الأزارقة،
في قتل النساء والأطفال والشيخ الفاني والمريض، وقد روي أنه خطب مرة، فقال في أول خطبته: لا إله إلا الله والله أكبر، الله
أكبر لا حكم إلا لله. وكان يرى الذنوب كلها شركاً. وضقت
ذرعاً بسوء طاعة أهلها، فأظلتني سحابة، فبرقت ورعدت، واتصل صوت الرعد منها
بسمعي، فخوطبت فقيل لي: أقصد البصرة فقلت لأصحابي وهم يكتنفونني: إني أمرت بصوت من هذا
الرعد، بالمسير إلى البصرة. فلما تفرقت العرب عنه ونبت به البادية، شخص عنها
إلى البصرة، فنزل بها في بني ضبيعة، فاتبعه بها جماعة، منهم علي بن أبان المعروف
بالمهلبي، من ولد المهلب بن أبي صفرة، وأخواه محمد والخليل وغيرهم وكان قدومه البصرة في سنة أربع وخمسين ومائتين وعامل
السلطان بها يومئذ محمد بن رجاء، ووافق ذلك فتنة أهل البصرة بالبلالية والسعدية،
فطمع في أحد الفريقين أن يميل إليه، فأرسل أربعة من أصد، به يدعون إليه وهم محمد
بن سلم القصاب الهجري وبريش القريعي وعلي الخسراب، والحسين الصيدناني، وهم الذين
كانوا صحبوه بالبحرين، فلم يستجب لهم أحد من أهل البلد، وثار عليهم الجند،
فتفرقوا، وخرج علي بن محمد من البصرة هارباً، وطلبه ابن رجاء فلم يقدر عليه. وأخبر ابن رجاء بميل جماعة من أهل البصرة إليه،
فأخذهم فحبسهم، وحبس معهم زوجة علي بن محمد، وابنه الأكبر، وجارية له كانت
حاملاً ومضى علي بن محمد لوجهه يريد بغداد ومعه قوم من خاصته منهم محمد بن سلم،
ويحيى بن محمد، وسليمان بن جامع، وبريش القريعي، فلما صاروا بالبطيحة، نذر بهم
بعض موالي الباهليين، كان يلي أمر البطيحة، فأخذهم وحملهم إلى محمد بن أبي عون
وهو عامل السلطان بواسط، فاحتال لابن أبي عون حتى تخلص هو وأصحابه من يده ثم صار
إلى بغداد فأقام بها سنة. وانتسب في هذه السنة إلى محمد بن أحمد بن عيسى بن
زيد، وكان يزعم أنه ظهر له أيام مقامه ببغداد في هذه السنة آيات، وعرف ما في
ضمائر أصحابه وما يفعله كل واحد منهم، وأنه سأل ربه أن يعلمه حقيقة أمور كانت في
نفسه، فرأى كتاباً يكتب له على حائط، ولا يرى شخص كاتبه. قال أبو جعفر: فذكر
عن ريحان بن صالح، أحد غلمان الشورجيين الزنوج، وهو أول من صحبه منهم، قال: كنت
موكلاً بغلمان مولاي، أنقل الدقيق إليهم، فمررت به وهو مقيم بقصر القرشي يظهر
الوكالة لأولاد الواثق، فأخذني أصحابه وصاروا بي إليه، وأمروني بالتسليم عليه
بالإمرة، ففعلت ذلك، فسألني عن الموضع الذي جئت منه، فأخبرته أني أقبلت من
البصرة، فقال: هل سمعت ك بالبصرة خبراً قلت: لا، قال: فخبر البلالية والسعدية قلت: لم
أسمع لهم خبراً، فسألني عن غلمان الشورجيين وما يجري لكل جماعة منهم من الدقيق
والسويق والتمر، وعمن يعمل في الشورج من الأحرار والعبيد، فأعلمته ذلك، فدعاني
إلى ما هو عليه، فأجبته فقال لي: احتل فيمن قدرت عليه من الغلمان، فأقبل بهم
إلي. ووعدني أن يقودني على من آتيه به منهم، وأن يحسن إلي، واستحلفني ألا أعلم
أحداً بموضعه، وأن أرجع إليه. فخلى
سبيلي، فأتيت بالدقيق الذي معي إلى غلمان مولاي، وأخبرتهم خبره، وأخذت له البيعة
عليهم، ووعدتهم عنه بالإحسان والغنى، ورجعت إليه من غد ذلك اليوم، وقد وافاه
رفيق غلام الخاقانية وقد كان وجهه إلى البصرة، يدعو إليه غلمان الشورج، ووافى
إليه صاحب له آخر يعرف بشبل بن سالم، قد كان دعا إليه قوماً منهم أيضاً، وأحضر
معه حريرة كان أمره بابتياعها، ليتخذها لواء، فكتب فيها بالحمرة : "إن الله أشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن
لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله"، وكتب اسمه واسم أبيه عليها،
وعلقها في رأس مردي، وخرج وقت السحر من ليلة السبت لليلتين بقيتا من شهر رمضان
فلما صار إلى مؤخر القصر الذي كان فيه، لقيه غلمان رجل من الشورجيين، يعرف
بالعطار متوجهين إلى أعمالهم، فأمر بأخذ وكيلهم، فأخذ وكتف، واستصم غلمانه إلى
غلمانه، وكانوا خمسين غلاماً، ثم صار إلى الموضع المعروف بالسنائي فاتبعه
الغلمان الذين كانوا فيه، وهم خمسمائة غلام فيهم الغلام المعروف بأبي حديد، وأمر
بأخذ وكيلهم، وكتفه ثم مضى إلى الموضع المعروف بالسيرافي، فاتبعه من كان فيه من
غلمان، وهم مائة وخمسون غلاماً، منهم زريق وأبو الخنجر، ثم صار إلى الموضع
المعروف بسبخة ابن عطاء، فأخذ طريفاً، وصبيحاً الأعسر، وراشداً المغربي، وراشداً
القرمطي وكل هؤلاء من وجوه الزنج وأعيانهم الذين صاروا قواداً وأمراء في جيوشهم،
وأخذ معهم ثمانين غلاماً. فلما فرغ
من خطبته أمر الذين فهموا عنه قوله أن يفهموه من لا فهم له من عجمهم، لتطيب بذلك
أنفسهم، ففعلوا ذلك. قال أبو جعفر:
فلما كان في اليوم الثالث من شوال، وافاه الحميري أحد عمال السلطان بتلك
النواحي، في عدد كثير، فخرج إليه صاحب الزنج في أصحابه، فطرده وهزم أصحابه، حتى
صاروا في بطن دجلة، واستأمن إلى صاحب الزنج رجل من رؤساء السودان، يعرف بأبي
صالح القصير في ثلاثمائة من الزنج، فلما كثر من اجتمع إليه من الزنج قود قواده،
وقال لهم: من أتى منكم برجل من السودان فهو مضموم إليه. قال أبو جعفر:
ثم كان له مع أهل البصرة وقعة بعد ذلك سار يريدها في ستة آلاف زنجي، فاتبعه أهل
الناحية المعروفة بالجعفرية ليحاربوه، فعسكر عليهم، فقتل منهم مقتلة عظيمة، أكثر
من خمسمائة رجل فلما فرغ منهم صمد نحو البصرة، واجتمع أهلها ومن بها من الجند،
وحاربوه حرباً شديداً، فكانت الدائرة عليه، وانهزم أصحابه، ووقع كثير منهم في
النهرين المعروفين بنهر كثير ونهر شيطان، وجعل يهتف بهم ويردهم ولا يرجعون، وغرق
من أعيان جنده وقواده جماعة منهم أبو الجون، ومبارك البحراني، وعطاء البربري،
وسلام الشامي، فلحقه قوم من جند البصرة، وهو على قنطرة فهر كثير فرجع إليهم
بنفسه، وسيفه لا يده، فرجعوا عنه حتى صاروا إلى الأرض وهو يومئذ في ذراعة وعمامة
ونعل وسيف، وفي يده اليسرى ترس، ونزل عن القنطرة، فصعدها البصريون يطلبونه، فرجع
إليهم، فقتل منهم رجلاً بيده على خمس مراق من القنطرة، وجعل يهتف بأصحابه،
ويعرفهم مكانه، ولم يكن بقي معه في ذلك الموضع من أصحابه إلا أبو الشوك ومصلح
ورفيق ومشرق غلاما الخاقانية، وضل أصحائه عنه، وانحلت عمامته، فبقي على رأسه كور
منها أو كوران، فجعل يسحبها من ورائه، ويعجله المشي من رفعها، وأسرع غلاماً
الخاقانية في الانصراف، وقصر عنهما فغابا عنه، فاتبعه رجلان من أهل البصرة
بسيفيهما، فرجع إليهما، فانصرفا عنه، وخرج إلى الموضع الذي فيه مجمع أصحابه، وقد
كانوا تحيروا، فلما رأوه سكنوا. وكان يقول لأصحابه بعد ذلك:
لما أقبل إلي جمع البصرة وعاينته، رأيت أمراً هائلاً راعني، وملأ صدري رهبة
وجزعاً، ففزعت إلى الدعاء، وليس معي من أصحابي إلا نفر يسير، منهم مصلح، وليس
منا أحد إلا وقد خيل إليه مصرعه، فجعل مصلح يعجبني من كثرة ذلك الجمع، وجعل أومئ
إليه أن اسكت، فلما قرب القوم مني قلت:
اللهم إن هذه ساعة العسرة، فأعني، فرأيت طيوراً بيضاً أقبلت فتلقت ذلك الجمع،
فلم أستتم دعائي حتى بصرت بسميرية من سفنهم قد انقلبت بمن فيها، فغرقوا، ثم
تلتها الشذا فغرقت واحدة بعد واحدة، وثار أصحاب إلى القوم، وخرج الكمينان من
جنبي النهر، وصاحوا وخبطوا الناس، فغرقت طائفة، وقتلت طائفة، وهربت طائفة نحو
الشط طمعاً، فأدركها السيف، فمن ثبت قتل، ومن رجع إلى الماء غرق حتى أبيد أكثر
ذلك الجمع، ولم ينج منهم إلا الشريد، وكز المفقودون بالبصرة، وعلا العويل من
نسائهم. فذكر عن صاحب الزنج أنه قال:
ميلت بين عبادان والأبلة، فملت إلى التوجه إلى عبادان فندبت الرجال إلى ذلك،
فخوطبت وقيل لي: إن أقرب عدو داراً، وأولاه ألا يتشاغل عنه بغيره أهل الأبلة،
فرددت بالجيش الذي كنت سيرته نحو عبادان إلى الأبلة، ولم يزالوا يحاربون أهلها إلى
أن اقتحموها وأضرموها ناراً، وكانت مبنية بالساج بناء متكاثفاً، فأسرعت فيها
النار، ونشأت ريح عاصف، فأطارت شرر ذلك الحريق إلى أن انتهى إلى شط عثمان، وقتل
بالأبلة خلق كثير، وحويت الأسلاب والأموال، على أن الذي أحرق منها كان أكثر مما
انتهب، واستسلم أهل عبادان بعدها لصاحب الزنج، فإن قلوبهم ضعفت، وخافوه على
أنفسهم وحرمهم، فأعطوا بأيديهم، وسلموا إليه بلدهم، فدخلها أصحابه، فأخذوا من
كان فيها من العبيد، وحملوا ما كان فيها من السلاح، ففرقه على أصحابه، وصانعه
أهلها بمال كف به عنهم. قال أبو جعفر: ثم كانت بين الزنج وبين أصحاب
السلطان بالأهواز وقعات كثيرة، تولاها علي بن أبان المهلبي، فقتل شاهين بن
بسطام، وكان من أكابر أصحاب السلطان، وهزم إبراهيم بن سيما، وكان أيضاً من
الأمراء المشهورين، واستولى الزنج على عسكره. قال: فكان يحدث
بهذا حتى أفاض فيه أصحابه، وكثر تردده في أسماعهم وإجالتهم إياه بينهم. فلما وقع الكسوف، أنهض إليها علي بن أبان، وضم إليه
جيشاً من الزنج وطائفة من الأعراب، وأمره بإتيان البصرة مما يلي بني سعد، وكتب
إلى يحيى بن محمد البحراني في إتيانها مما يلي نهر عدي، وضم باقي الأعراب إليه
فكان أول من واقع أهل البصرة علي بن أبان وبغراج الترير يومئذ بالبصرة في جماعة
من الجند، فأقام يقاتلهم يومين، وأقبل يحيى بن محمد مما يلي قصر أنس، قاصداً نحو
الجسر، فدخل علي بن أبان البلد وقت صلاة الجمعة، لثلاث عشرة بقين من شوال. فأقبل
يقتل الناس، ويحرق المنازل والأسواق بالنار، فتلقاه بغراج وإبراهيم بن محمد بن
إسماعيل بن جعفر بن سليمان الهاشمي، المعروف ببريه وكان وجيهاً مقدماً مطاعاً-
في جمع عظيم، فرداه، فرجع فأقام ليلته تلك. ثم غاداهم
وقد تفرق جند البصرة فلم يكن في وجهه أحد يدافعه، وانحاز بغراج بمن معه، وهرب
إبراهيم بن محمد الهاشمي المعروف ببريه، فوضع علي
بن أبان السيف في الناس، وجاء إليه إبراهيم بن محمد المهلبي- وهو ابن عمه-
فاستأمنه لأهل البصرة، فحضر أهل البصرة قاطبة، فأمنهم، ونادى مناديه من أراد
الأمان فليحضر دار إبراهيم بن محمد المهلبي. فحضر أهل البصرة قاطبة، حتى ملأوا
الأزقة. فلما رأى اجتماعهم انتهز الفرصة، فأمر بأخذ السكك والطرق عليهم، وغدر
بهم، وأمر الزنوج بوضع السيف فيهم، فقتل كل من شهد ذلك المشهد. فلم يلووا
عليه، ولم يسمعوا منه، فمضى هارباً، ودخلت أنا منزلي، وأغلقت بابي، وأشرفت فمر
بي الأعراب ورجالة الزنج، يقدمهم رجل على حصان كميت، بيده رمح، وعليه عذبة
صفراء، فسألت بعد ذلك عنه فقيل لي: إنه علي بن أبان. قال أبو
جعفر: وحدثني محمد بن الحسن، قال: لما انتهى
إلى علي بن محمد عظيم ما فعل أصحابه بالبصرة سمعته يقول: دعوت على أهل البصرة في
غداة اليوم الذي دخل فيه أصحابي إليها، واجتهدت في الدعاء، وسجدت وجعلت أدعو في
سجودي، فرفعت إلي البصرة، فرأيتها ورأيت أصحابي يقاتلون فيها، ورأيت بين السماء
والأرض رجلاً واقفاً في صورة جعفر المغلوف كان المتولي للاستخراج في ديوان
الخراج بسامراء، وهو قائم قد خفض يده اليسرى، ورفع يده اليمنى، يريد قلب البصرة،
فعلمت أن الملائكة تولت إخرابها دون أصحابي، ولو كان أصحابي تولوا ذلك ما بلغوا
هذا الأمر العظيم الذي يحكى عنها ولكن الله تعالى نصرني بالملائكة، وأيدني في
حروبي، وثبت بهم من ضعف قتله من أصحابي. قال أبو جعفر:
وأشخص السلطان لحرب صاحب الزنج محمداً المعروف بالمولد،
في جيش كثيف، فجاء حتى نزل الأبلة، وكتب صاحب الزنج
إلى يحيى بن محمد البحراني يأمره بالمصير إليه، فصار إليه بز نوجه، وأقام على
محاربته عشرة أيام، ثم فتر المولد عن الحرب، وكتب
علي بن محمد إلى يحيى، يأمره أن يبيته، فبيته فهزمه، ودخل الزنج عسكره
فغنموا مافيه، وكتب يحيى إلى صاحب الزنج
يخبره، فأمره باتباعه، فاتبعه إلى الحوانيت، ثم انصرف عنه، فمر بالجامدة، وأوقع
بأهلها، وانتهب كل ما كان في تلك القرى، وسفك ما قدر على سفكه من الدماء، ثم عاد
إلى نهر معقل. فوجه صاحب الزنج طلائعه في سميريات
ليعرف الخبر، فرجعت طلائعه إليه بتعظيم أمر الجيش وتفخيمه، ولم يقف أحد منهم على
من يقوده، فزاد ذلك في جزعه وارتياعه، فأمر
بالإرسال إلى علي بن أبان يعلمه خبر الجيش الوارد، ويأمره بالمصير إليه فيمن
معه، ووافى جيش أبي أحمد، فأناخ بإزاء صاحب الزنج فلما كان اليوم الذي كانت فيه
الواقعة، خرج علي بن محمد يطوف في عسكره ماشياً، ويتأمل الحال فيمن هو من حربه
ومن هو مقيم بإزائه على حزبه، وقد كانت السماء مطرت ذلك اليوم مطراً خفيفاً،
والأرض ثرية تزل عنها الأقدام، فطوف ساعة من أول النهار ورجع، فدعا بدواة وقرطاس
ليكتب كتاباً إلى علي بن أبان، ليعلمه ما قد أظله من الجيش، ويأمره بتقديم من
قدر على تقديمه من الرجال؟ فإنه لفي ذلك، إذ أتاه
أبو دلف القائد أحد قواد الزنج، فقال له: إن القوم قد غشوك ورهقوك،
وانهزم الزنج من بين أيديهم، وليس في وجوههم من يردهم، فانظر لنفسك، فإنهم قد
انتهوا إليك. فصاح به وانتهره وقال: اغرب عني فإنك كاذب فيما حكيت، إنما ذلك جزع
داخل قلبك لكثرة من رأيت من الجمع، فانخلع قلبك، فلست تدري ما تقول. ووافى علي بن محمد زنجه بالرؤوس قابضين عليها
بأسنانهم حتى ألقوها بين يديه، فكثرت الرؤوس يومئذ حتى ملأت الفضاء، وجعل الزنج
يقتسمون لحوم القتلى، ويتهادونها بينهم، وأتي بأسيرمن الجيش فسأله عن رأس
العسكر، فذكر أبا أحمد ومفلحاً، فارتاع لذكر أبي أحمد، وكان إذا راعه أمر كذب
به، وقال: ليس في الجيش إلا مفلح، لأني لست أسمع الذكر إلا له، ولو كان في الجيش
من ذكر هذا الأسير لكان صوته أبعد، ولما كان مفلح إلا تابعاً له، ومضافاً إليه. قال أبو جعفر:
ثم إن الله تعالى أصاب صاحب الزنج بمصيبة تعادل فرحه وسروره بقتل مفلح عقيب قتل
مفلح، وذلك أن قائده الجليل يحيى بن محمد البحراني اسر وقتل، وصورة ذلك أن صاحب
الزنج كان قد كتب إلى يحيى بن محمد، يعلمه ورود هذا الجيش عليه، ويأمره بالقدوم
والتحرز في منصرفه من أن يلقاه أحد منهم وقد كان يحيى غنم سفناً فيها متاع
وأموال، لتجار الأهواز جليلة، وحامى عنها أصحاب أصغجون التركي فلم يغن، وهزمهم
يحيى، ومضى الزنج بالسفن المذكورة يمدونها متوجهين نحو معسكر صاحب الزنج على سمت
البطيحة المعروفة ببطيحة الصحناة، وهي طريقة متعسفة وعرة، فيها مشاق متعبة،
وإنما سلكها يحيى وأصحابه، وتركوا الطريق الواضح، للتحاسد الذي كان بين يحيى بن
محمد وعلي بن أبان، فإن أصحاب يحيى أشاروا عليه ألا يسلك الطريق التي يمر فيها
على أصحاب علي بن أبان، فأصغى إلى مشورتهم فشرعوا له الطريق المؤدي إلى البطيحة
المذكورة فسلكها، وهذه البطيحة ينتهي السائر فيها إلى نهر أبي الأسد، وقد كان
أبو أحمد انحاز اليه، لأن أهل القرى والسواد كاتبوه يعرفونه خبر يحيى بن محمد
البحراني، وشدة بأسه، وكثرة جمعه، وأنه ربما خرج من البطيحة إلى نهر أبي الأسد،
فعسكر به، ومنع أبا أحمد الميرة، وحال بينه وبين من يأتيه من الأعراب وغيرهم،
فسبقه أبو أحمد إلى نهر أبي الأسد، وسار يحيى حتى إذا قرب من نهر أبي الأسد،
وافته طلائعه، فأخبرته بالجيش، وعظمت أمره، وخوفته منه، فرجع من الطريق الذي كان
سلكه بمشقة شديدة نالته، ونالت أصحابه، وأصابهم مرض لترددهم في تلك البطيحة،
وجعل يحيى على مقدمته سليمان بن جامع، وسار حتى وقف على قنطرة فورج نهر العباس،
في موضع ضيق تشتد فيه جرية الماء، وهو مشرف ينظر أصحابه الزنج: كيف يجرون تلك
السفن التي فيها الغنائم، فمنها ما يغرق وما يسلم. فلما أصبح
نزفه الدم، ونهض عباد الطبيب، فجعل يمشي متشوفاً أن يرى إنساناً، فرأى بعض أصحاب
السلطان، فأشار لهم إلى موضع يحيى، فجاؤوا، حتى وقفوا عليه، فأخذوه، وانتهى خبره إلى الخبيث صاحب الزنج فجزع عليه جزعاً
شديداً، وعظم عليه توجعه. ثم حمل يحيى إلى أبي أحمد، فحمله أبو
أحمد إلى المعتمد، فأدخل إلى سامراء راكب جمل، والناس مجتمعون ينظرونه، ثم أمر
المعتمد ببناء دكة عالية بحضرة مجرى الحلية، فبنيت، ورفع للناس عليها حتى أبصره
الخلائق كافة، ثم ضرب بين يدي المعتمد وقد جلس له مائتي سوط بثمارها ثم قطعت
يداه ورجلاه من خلاف، ثم خبط بالسيوف ثم ذبح وأحرق. ثم أقبل على جماعة أنا فيهم، فقال: من
شرهه أنا غنمنا غنيمة من بعض ما كنا نغنمه وكان فيها عقدان، فوقعا في يد يحيى،
فأخفى عني أعظمهما خطراً، وعرض علي أخسهما، ثم استوهبه فوهبته له، فرفع إلي
العقد الذي أخفاه حتى رأيته، فدعوته فقلت: أحضر لي العقد الذي أخفيته، فأتاني
بالعقد الذي وهبته له، وجحد أن يكون أخذ غيره، فرفع إلي العقد ثانية، فجعلت أصفه
له وأنا أراه وهو لا يراه، فبهت وذهب، فأتاني، ثم استوهبنيه فوهبته له، وأمرته
بالاستغفار. ثم صرف الزنج سورتهم وشدة حملتهم إلى الموضع الذي
به أبو أحمد، فجاءه منهم جمع لا يقاوم، بمثل العدة اليسيرة التي كان فيها، فرأى
أن الحزم في محاجزتهم، فأمر أصحابه بالرجوع إلى سفنهم على تؤدة وتمهل، ففعلوا،
وبقيت طائفة من جنده ولجوا تلك الأدغال والمضايق، فخرج عليهم كمين للزنج فأوقعوا
بهم، فحاموا عن أنفسهم، وقتلوا عدداً كثيراً من الزنج إلى أن قتلوا بأجمعهم،
وحملت رؤوسهم إلى الناجم، فزاد ذلك في قوته وعتوه
وعجبه بنفسه، وانصرف أبو أحمد بالجيش إلى باذاورد، وأقام يعبىء أصحابه
للرجوع إلى الزنج، فوقعت نار في طرف من أطراف عسكره، وذلك في أيام عصوف الرياح،
فاحترق العسكر، ورحل أبو أحمد منصرفاً وذلك في شعبان من هذه السنة إلى واسط. فأقام بها إلى ربيع الأول، ثم انصرف عنها إلى
سامراء، وذلك أن المعتمد كاتبه واستقدمه لحرب يعقوب بن الليث الصفار أميرخراسان،
فاستخلف على حرب الناجم محمداً المولد، وأما الناجم فإنه لم يعلم خبر الحريق
الذي وقع في عسكر أبي أحمد، حتى ورد عليه رجلان من أهل عبادان، فأخبراه، فأظهر
أن ذلك من صنع الله تعالى له ونصره على أعدائه، وأنه دعا الله على أبي أحمد
وجيشه، فنزلت نار من السماء فأحرقتهم. وعاد إلى العبث، واشتد طغيانه وعتوه، وأنهض علي بن
أبان المهلبي، وضم إليه أكثر الجيش، وجعل على مقدمته سليمان بن جامع، وأضاف إليه
الجيش الذي كان مع يحيى بن محمد البحراني وسليمان بن موسى الشعراني، وأمرهم بأن
يقصدوا الأهواز وبها حينئذ أصغجون التركي، ومعه نيزك القائد، فالتقى العسكران
بصحراء تعرف بدشت. ميسان، واقتتلوا، فظهرت
الزنج، وقتل نيزك في كثير من أصحابه، وغرق أصغجون التركي، وأسر كثيرمن قواد
السلطان، منهم الحسن بن هرثمة المعروف بالشاري، والحسن بن جعفر. وكتب علي بن
أبان بالخبر إلى الناجم، وحمل إليه أعلاما ورؤوسا كثيرة وأسرى، ودخل علي بن أبان
الأهواز، وأقام بها بزنوجه يعيث وينهب القرى والسواد، إلى أن ندب المعتمد على
الله موسى بن بغا لحربه، فشخص عن سامرا، في ذي القعدة من هذه السنة، وشيعه
المعتمد بنفسه إلى خلف الحائطين، وخلع عليه هنالك فقدم أمامه عبد الرحمن بن مفلح
إلى الأهواز وإسحاق بن كنداخ إلى البصرة، وإبراهيم بن سيما إلى الباذاورد. قال أبو جعفر:
وسبب ذلك أن المعتمد رد أمر فارس والأهواز والبصرة وغيرها من النواحي والأقطار
إلى أخيه أبي أحمد، بعد فراغه من حرب يعقوب بن الليث الصفار وهزيمته له، فاستخلف
أبو أحمد على حرب صاحب الزنج مسرور البلخي، وصرف موسى بن بغا عن ذلك، واتفق أن
ابن واصل حارب عبد الرحمن بن مفلح، فأسره وقتله، وقتل طاشتمر التركي أيضاً، وذلك
بناحية رامهرمز ، فاستخلف مسرور البلخي على الحرب أبا الساج وولي الأهواز، فكانت
بينه وبين علي بن أبان المهلبي وقعة بناحية دولاب، قتل فيها عبد الرحمن صهر أبي
الساج، وانحاز أبو الساج إلى عسكر مكرم، ودخل الزنج الأهواز، فقتلوا أهلها وسبوا
وأحرقوا دورها. وكان الذي يقود الخيل يومئذ في عسكر سليمان بن جامع
الخليل بن أبان وعبد الله المعروف بالمذوب، وكان أحمد بن مهدي الجبائي في
السميريات، وكان مهربان الزنجي في الشذوات، وكان سليمان بن موسى الشعراني
وأخوه في ميمنته وميسرته، وكان سليمان بن جامع، وهو الأمير على الجماعة في قواده
السودان ورجالته منهم، وكان الجميع يداً واحدة، فلما قضوا وطرهم من نهب واسط
وقتل أهلها، خرجوا بأجمعهم عنها، فمضوا إلى جنبلاء، وأقاموا هناك يعيثون
ويخربون. وكان سليمان بن جامع وسليمان بن موسى الشعراني،
ومعهما أحمد بن مهدي الجبائي في الأعمال الواسطية، قد ملكوها وبنوا بها المدن
الحصينة، وفازوا بأموالها وارتفاعها، وجبوا خراجها، ورتبوا عمالهم وقوادهم فيها،
إلى أن دخلت سنة سبع وستين ومائتين، وقد عظم الخطب وجل، وخيف على ملك بني العباس
أن يذهب وينقرض، فلم يجد أبو أحمد الموفق- وهو طلحة بن المتوكل على الله- بدا من
التوجه بنفسه ومباشرته هذا الأمر الجليل برأيه وتدبيره، وحضوره معارك الحرب،
فندب أمامه ابنه أبا العباس، وركب أبو أحمد إلى بستان الهادي ببغداد، وعرض أصحاب
أبي العباس، وذلك في شهر ربيع الآخر من هذه السنة، فكانوا عشرة آلاف، فرساناً
ورجالة في أحسن زي وأجمل هيئة، وأكمل عدة، ومعهم الشذوات والسميريات والمعابر
برسم الرجالة، كل ذلك قد أحكمت صنعته. فركب أبو العباس من بستان الهادي، وركب أبو أحمد مشيعاً
له حتى نزل القرية المعروفة بالفرك، ثم عاد وأقام أبو العباس بالفرك أياماً، حتى
تكامل عدده وتلاحق به أصحابه. فرجع نصير بشذواته وسميرياته، وفيها
الرجال، وركب أبو العباس في سميرية، ومعه محمد بن شعيب، وحف أصحابه بالزنج من
جميع جهاتهم، فانهزموا، ومنح الله أبا العباس وأصحابه
أكتافهم، يقتلونهم ويطردونهم، إلى أن وافوا قرية عبد الله، وهي على ستة فراسخ،
من الموضع الذي لقوهم فيه، وأخذوا منهم خمس شذوات وعشر سميريات، واستأمن منهم
قوم، وأسر منهم أسرى، وغرق من سفنهم كثير، فكان هذا
اليوم أول الفتح على أبي العباس. ثم إن سليمان استعد وحشد وفرق أصحابه،
فجعلهم في ثلاثة أوجه: فرقة أتت من نهر أبان، وفرقة من بر
تمرتا، وفرقة من بردودا، فلقيهم أبو العباس،
فلم يلبثوا أن انهزموا، فلحقت طائفة منهم بسوق الخميس، وطائفة بمارزوان، وطائفة
ببر تمرتا، وسلك آخرون نهر الماذيان، واعتصم قوم منهم ببردودا، وتبعهم أصحاب أبي
العباس، وجعل أبو العباس قصده القوم الذين سلكوا نهر الماذيان، فلم يرجع عنهم
حتى وافى بهم بر مساور، ثم انصرف، فجعل يقف على القرى والمسالك ويسأل عنها
ويتعرفها، ومعه الأدلاء وأرباب الخبرة، حتى عرف جميع تلك الأرض ومنافذها، وما
ينتهي إليه من البطائح والآجام وغيرها، وعاد إلى معسكره بالعمر، فأقام به أياماً
مريحاً نفسه وأصحابه. قال أبو جعفر:
وألح الزنج في مغاداة العسكر في كل يوم بالحرب، وعسكروا بنهر الأمير في جمع
كثير، وكتب سليمان إلى الناجم يسأله إمداده بسميريات، لكل واحدة منهن أربعون
مجدافاً، فوافاه من ذلك في مقدار عشرين يوماً أربعون سميرية، فيها الرجال
والسيوف والتراس والرماح، فكانت لأبي العباس معهم وقعات عظيمة، وفي أكثرها الظفر
لأصحابه والخذلان على الزنج، ولج أبو العباس في دخول الأنهار والمضايق، حتى
انتهى إلى مدينة سليمان بن موسى الشعراني بنهر الخميس التي بناها وسماها
المنيعة، وخاطر أبو العباس بنفسه مراراً، وسلم بعد أن شارف العطب، واستأمن إليه جماعة
من قواد الزنج فأمنهم، وخلع عليهم وضمهم إلى عسكره، وقتل من قواد الزنج جماعة،
وتمادت الأيام بينه وبينهم، واتصل بأبي أحمد الموفق أن سليمان بن موسى الشعراني
والجبائي ومن بالأعمال الواسطية من قواد صاحب الزنج، كاتبوا صاحبهم، وسألوه
إمدادهم بعلي بن أبان المهلبي، وهو المقيم حينئذ بأعمال الأهواز، والمستولي
عليها، وكان علي بن أبان قائد القواد وأمير الامراء فيهم، فكتب الناجم إلى علي
بن أبان يأمره بالمصير بجميع من معه إلى ناحية سليمان بن جامع، ليجتمعا على حرب
أبي العباس. قال أبو جعفر:
فحدثني محمد بن الحسن بن سهل، قال: حدثني محمد بن هشام الكرنبائي المعروف بأبي
واثلة، قال: كنت بين يدي الناجم ذلك اليوم وهو يتحدث، إذ ورد عليه كتاب سليمان
بخبر الواقعة وما نزل به، وانهزامه إلى المذار، فما كان إلا أن فض الكتاب، ووقعت
عينه على ذكر الهزيمة، حتى انحل وكاء بطنه، فنهض لحاجته ثم عاد. فلما استوى
به مجلسه، أخذ الكتاب وتأمله، فوقعت عينه على الموضع الذي أنهضه أولاً، فنهض
لحاجته حتى فعل ذلك مراراً، فلم أشك في عظم المصيبة، وكرهت أن أسأله، فلما طال
الأمر تجاسرت، فقلت: أليس هذا كتاب سليمان بن موسى؟ قال: بلى، ورد بقاصمة الظهر،
ذكر أن الذين أناخوا عليه أوقعوا به وقعة لم تبق منه ولم تذر، فكتب كتابه هذا
وهو بالمذار، ولم يسلم بشيء غير نفسه. قال:
فأكبرت ذلك- والله يعلم ما اخفي من السرور الذي وصل إلى قلبي- قال: وصبرعلي بن
محمد على مكروه ما وصل إليه، وجعل يظهر الجلد، وكتب إلى سليمان بن جامع يحذره
مثل الذي نزل بالشعراني، ويأمره بالتيقظ في أمره وحفظ ما قبله. وكانت وفاته في ليلة ذات رعود وبروق. وانصرف من دفنه منكسراً، عليه الكآبة. قال أبو جعفر:
فلما انصرف أبو أحمد ذلك اليوم من الوقعة، غاداهم بكرة الغد، وعبأ أصحابه كتائب
فرساناً ورجالة، وأمر بالشذا والسميريات أن يسار بها معه في النهر الذي يشق مدينة
طهيثا، وهو النهر المعروف بنهر المنذر، وسار نحو
الزنج، حتى انتهى إلى سور المدينة فرتب قواد غلمانه في المواضع التي يخاف خروج
الزنج عليه منها، وقدم الرجالة أمام الفرسان، ونزل فصلى أربع ركعات، وابتهل إلى
الله تعالى في النصر والدعاء للمسلمين، ثم دعا بسلاحه فلبسه، وأمر ابنه أبا
العباس أن يتقدم إلى السور ويحض الغلمان على الحرب ففعل، وقد كان سليمان
بن جامع أعد أمام سور المدينة التي سماها المنصورة خندقاً، فلما انتهى الغلمان
إليه تهيبوا عبوره، وأحجموا عنه، فحرضهم قوادهم، وترجلوا معهم فاقتحموه متجاسرين
عليه، فعبروه وانتهوا إلى الزنج وهم مشرفون من سور مدينتهم، فوضعوا السلاح فيهم،
وعبرت شرذمة من الفرسان الخندق خوضاً، فلما رأى الزنج خبر هؤلاء الذين لقوهم
وجراءتهم عليهم، ولوا منهزمين، واتبعهم أصحاب أبي أحمد، ودخلوا المدينة من
جوانبها، وكان الزنج قد حصنوها بخمسة خنادق، وجعلوا
أمام كل خندق منها سوراً يمتنعون به، فجعلوا يقفون عند كل سور وخندق انتهوا
إليه، وأصحاب أبي أحمد يكشفونهم في كل موقف وقفوه، ودخلت الشذا
والسميريات مدينتهم مشحونة بالغلمان المقاتلة من النهر الذي يشقها بعد انهزامهم،
فأغرقت كل ما مرت به لهم من شذاة أو سميرية، واتبعوا من تجافى النهر منهم،
يقتلون ويأسرون، حتى أجلوهم عن المدينة وعما يتصل بها، وكان ذلك زهاء فرسخ، فحوى أبو أحمد ذلك كله، وأفلت سليمان بن جامع في نفر من
أصحابه، واستحر القتل فيهم والأسر، واستنقذ من نساء أهل واسط وصبيانهم وما اتصل
بذلك من القرى ونواحي الكوفة زهاء عشرة آلاف، فأمر أبو أحمد بحياطتهم والإنفاق
عليهم، وحملوا إلى واسط فدفعوا إلى أهليهم، واحتوى أبو أحمد على كل ما
كان في تلك المدينة من الذخائر والأموال والأطعمة والمواشي، فكان شيئاً جليل
القدر، فأمر ببيع الغلات وغيرها من العروض، وصرفه في أعطيات عسكره ومواليه وأسر
من نساء سليمان وأولاده عدة، واستنقذ يومئذ وصيف العلمدار ومن كان أسره الزنج
معه، فأخرجوا من الحبس، وقد كان الزنج أعجلهم الأمر عن قتله وقتلهم. واستخلف أبو أحمد على من خلفه من
عسكره بواسط ابنه هارون، وأزمع على الشخوص في خف من رجاله
وأصحابه، ففعل ذلك بعد أن تقدم إلى ابنه هارون في أن يحذر الجيش الذي خلفه معه
في السفن إلى مستقره بدجلة، إذا وافاه كتابه بذلك، وارتحل شاخصاً من واسط
الأهواز وكورها، فنزل باذبين، إلى الطيب، إلى قرقوب إلى وادي السوس، وقد كان عقد
له عليه جسر، فأقام به من أول النهار إلى وقت الظهر، حتى عبر عسكره أجمع. ثم سار حتى
وافى السوس فنزلها، وقد كان أمر مسروراً البلخي وهو عامله على الأهواز بالقدوم
عليه فوافاهم في جيشه وقواده من غد اليوم الذي نزل فيه السوس، فخلع عليه وعليهم،
وأقام بالسوس ثلاثاً، وكان ممن أسر من الزنج بطهيثا أحمد بن موسم بن سعيد البصري
المعروف بالقلوص، وكان قائداً جليلاً عندهم، وأحد عدد الناجم، ومن قدماء أصحابه،
أسر بعد أن أثخن جراحات كانت فيها منيته، فأمر أبو أحمد باحتزاز رأسه ونصبه على
جسر واسط. قال أبو جعفر: وأقام أبو أحمد حتى
أحرز الأموال التي كان المهلبي وبهبوذ وخلفاؤهما تركوها، وفتحت السكور التي كان
الناجم أحدثها في دجلة، وأصلحت له طرقه ومسالكه ورحل أبو أحمد عن السوس إلى
جنديسابور فأقام بها ثلاثاً، وقد كانت الأعلاف ضاقت على أهل
العسكر، فوجه في طلبها وحملها، ورحل عن جنديسابور إلى تستر، فأقام بها لجباية
الأموال من كور الأهواز، وأنفذ إلى كل كورة قائداً ليروج بذلك حمل المال، ووجه
أحمد بن أبي الأصبغ إلى محمد بن عبد الله الكردي، صاحب رامهرمز وما يليها من
القلاع والأعمال، وقد كان مالأ المهلبي، وحمل إلى الناجم أموالاً كثيرة، وأمره
بإيناسه وإعلامه ما عليه رأيه في العفو عنه، والتغمد لزلته، وأن يتقدم إليه في
حمل الأموال والمسيرالى سوق الأهواز بجميع من معه من الموالي والغلمان والجند،
ليعرضهم ويأمر بإعطائهم الأرزاق، وينهضهم معه لحرب الناجم. ففعل وأحضرهم، وعرضوا
رجلاً رجلاً، وأعطوا ثم رحل إلى عسكر مكرم، فجعله منزله أياماً، ثم رحل منه
فوافى الأهواز وهو يرى أنه قد تقدمه إليها من الميرة ما يحمل عساكره، فلم يكن
كذلك، وغلظ الأمر في ذلك اليوم، واضطرب الناس اضطراباً شديداً، فأقام ثلاثة أيام
ينتظر ورود الميرة فلم ترد، فساءت أحوال الناس، وكاد ذلك يفرق جماعتهم، فبحث عن
السبب المؤخر لورودها، فوجد الزنج قد كانوا قطعوا قنطرة قديمة أعجمية، كانت بين
سوق الأهواز ورامهرمز، يقال لها قنطرة أربق، فامتنع التجار ومن كان يحمل الميرة
من الورود، لقطع تلك القنطرة، فركب أبو أحمد إليها، وهي على فرسخين من سوق
الأهواز، فجمع من كان في العسكر من السودان، وأخذهم بنقل الصخر والحجارة لإصلاح
هذه القنطرة، وبذل لهم من أموال الرعية، فلم يرم حتى أصلحت في يومه ذلك، وردت
إلى ما كانت عليه، فسلكها الناس، ووافت القوافل بالميرة، فحيي أهل العسكر، وحسنت
أحوالهم، وأمر بجميع السفن لعقد الجسر على دجيل الأهواز، فجمعت من جميع الكور،
وأقام بالأهواز أياماً حتى أصلح أصحابه أمورهم، وما احتاجوا إليه من آلاتهم،
وحسنت أحوال دوابهم، وذهب عنها ما كان بها من الضر بتأخر الأعلاف، ووافت كتب
القوم الذين تخففوا عن المهلبي، وأقاموا بعده بسوق الأهواز يسألون أبا أحمد
الأمان، فأمنهم، فأتاه منهم نحو ألف رجل، فأحسن إليهم، وضمهم إلى قواد غلمانه،
وأجرى لهم الأرزاق، وعقد الجسر على دجيل الأهواز، ورحل بعد أن قدم جيوشه أمامه،
وعبردجيلاً، فأقام بالموضع المعروف بقصر المأمون ثلاثاً، وقد كان قدم ابنه أبا
العباس إلى شهر المبارك، من فرات البصرة، وكتب إلى ابنه هارون بالانحدار إليه
ليجتمع العساكر هناك ورحل أبو أحمد عن قصر المأمون إلى قورج العباس، ووافاه أحمد
بن أبي الأصبغ هنالك بهدايا محمد بن عبد الله الكردي صاحب رامهرمز من دواب ومال.
ثم رحل عن القورج فنزل الجعفرية، ولم يكن بها ماء، وقد كان أنفذ إليها وهو بعد
في القورج من حفر آبارها، فأقام بها يوماً وليلة، وألفى بها ميراً مجموعة، فاتسع
الجند بها، وتزودوا منها، ثم رحل إلى المنزل المعروف بالبشير، فألفى فيه غديراً
من ماء المطر، فأقام به يوماً وليلة، ورحل إلى المبارك وكان منزلاً بعيد
المسافة، فتلقاه ابناه أبو العباس وهارون في طريقه، وسلما عليه، وسارا بسيره،
حتى ورد بهم المبارك، وذلك يوم السبت للنصف من رجب سنة سبع وستين. قال أبو جعفر:
ومحمد بن إبراهيم هذا، رجل من أهل البصرة، جاء به إلى الناجم صاحب شرطته المعروف
بيسار، واستصلحه لكتابته فكان يكتب له حتى مات، وقد كانت ارتفعت حال أحمد بن
مهدي الجبائي عند الناجم، وولاه أكثر أعماله، فضم محمد بن إبراهيم هذا إليه،
فكان كاتبه، فلما قتل الجبائي في وقعة سليمان الشعراني، طمع محمد بن ابراهيم هذا
في مرتبته، وأن يحله الناجم محله، فنبذ القلم والدواة، ولبس آلة الحرب، وتجرد
للقتال، فأنهضه الناجم في هذا الجيش، وأمره بالاعتراض في دجلة لمدافعة من يردها
من الجيوش، فكان يدخله أحيانأ، وأحياناً يأتي بالجمع الذي معه إلى النهر المعروف
بنهر يزيد، وكان معه في ذلك الجيش من قواد الزنج شبل بن سالم وعمرو المعروف
بغلام بوذى وأخلاط من السودان وغيرهم، فاستأمن رجل منهم كان في ذلك الجيش إلى
زيرك ونصير- وأخبرهما خبره، وأعلمهما أنه على القصد لسواد عسكر نصير وكان نصير
يومئذ معسكراً بنهر المراة وأنهم على أن يسلكوا الأنهار المعترضة على نهر معقل،
وبثق شيرين حتى يوافوا الشرطة، ويخرجوا من وراء العسكر، فيكبوا على من فيه، فرجع
نصير عند وصول هذا الخبر إليه من الأبلة، مبارزاً إلى عسكره وسار زيرك قاصداً
بثق شيرين، معارضاً لمحمد بن إبراهيم، فلقيه في الطريق، فوهب الله له العلو عليه
بعد صبر من الزنج له، ومجاهدة شديدة، فانهزموا ولجأوا إلى النهر الذي فيه
كمينهم، وهو نهر يزيد، فدل لزيرك عليهم، فتوغلت إليهم سميرياته، فقتل منهم طائفة
وأسر طائفة، فكان محمد بن إبراهيم فيمن أسر، وعمرو وغلام بوذى، وأخذ ما كان معهم
من السميريات، وهي نحو ثلاثين سميرية، وأفلت شبل بن سالم في الذين نجوا معه،
فلحق بعسكر الناجم، وخرج زيرك في بثق شيرين سالماً ظافراً، ومعه الأسارى ورؤوس
القتلى، مع ما حوى من السميريات والسفن، وانصرف من دجلة العوراء إلى واسط، وكتب
إلى أبي أحمد بالفتح، وعظم الجزع على كل من كان بدجلة وكورها من أتباع الناجم،
فاستأمن إلى نصير صاحب الماء، وهو مقيم حينئذ بنهر المراة زهاء ألفي رجل من
الزنج وأتباعهم. فلما لقي أباه أخبره خبره، وذكر إليه خروجه إليه في
الأمان، فأمر أبوأحمد له بخلع وصلة وحملان، وكان منتاب أول من استأمن من جملة
قواد الناجم. ثم سار في اليوم السادس في أصحابه ومعه ابنه أبو
العباس إلى مدينة الناجم التي سماها المختارة، من نهر أبي الخصيب فأشرف عليها،
وتأملها فرأى منعتها وحصانتها بالسور والخنادق المحيطة بها، وغور الطريق المؤدي
إليها، وما قد أعد من المجانيق والعرادات والقسي الناوكية، وسائر الآلات على
سورها، فرأى ما لم ير مثله ممن تقدم من منازعي السلطان. ورأى من كثيرة عدد
مقاتلتهم واجتماعهم ما استغلظ أمره. واستأمن إلى أبي أحمد جماعة أخرى،
فوصلهم وحباهم وخلع عليهم، وركب أبو أحمد في جميع جيشه
وهو يومئذ في خمسين ألف رجل، والناجم في ثلاثمائة ألف رجل، كلهم يقاتل ويدافع،
فمن ضارب بسيف، وطاعن برمح، ورام بقوس، وقاذف بمقلاع، ورام بعرادة ومنجنيق،
وأضعفهم أمر الرماة بالحجارة عن أيديهم، وهم النظارة المكثرون للسواد، والمعينون
بالنعير والصياح، والنساء يشركنهم في ذلك أيضاً، فأقام
أبو أحمد بإزاء عسكر الناجم إلى أن أضحى، وأمر فنودي: الأمان مبسوط
للناس: أسودهم وأحمرهم، إلا لعدو الله الداعي علي بن محمد. وأمر بسهام فعلقت
فيها رقاع مكتوب فيها من الأمان، مثل الذي نودي به، ووعد الناس فيها الإحسان
ورمى بها إلى عسكر الناجم، فمالت إليه قلوب خلق كثير من اولئك، ممن لم يكن له
بصيرة في اتباع الناجم، فأتاه في ذلك اليوم جمع كثير يحملهم الشذا والسميريات،
فوصلهم وحباهم، وقدم عليه قائدان من قواده، وكلاهما من مواليه ! ببغداد، أحدهما
بكتمر والآخر بغرا في جمع من أصحابهما، فكان ورودهما زيادة في قوته. ثم رحل في
غد هذا اليوم بجميع جيشه، فنزل متاخماً لمدينة الناجم في موضع كان تخيره للنزول،
فأوطن هذا الموضع، وجعله معسكراً له وأقام به، ورتب قواده ورؤساء أصحابه
مراتبهم، فجعل نصيراً صاحب الماء في أول العسكر، وجعل زيرك التركي في موضع آخر،
وعلي بن جهشار حاجبه في موضع آخر، وراشداً مولاه في مواليه وغلمانه الأتراك
والخزر والروم والديالمة والطبربة والمغاربة والزنج والفراغنة والعجم والأكراد،
محيطاً هو وأصحابه بمضارب أبي أحمد وفساطيطه وسرادقاته، وجعل صاعد بن مخلد وزيره
وكاتبه في جيش آخر من الموالي والغلمان، فوق عسكر راشد، وأنزل مسروراً البلخي
القائد صاحب الأهواز في جيش آخر على جانب من جوانب عسكره، وأنزل الفضل ومحمداً
ابني موسى بن بغا في جانب آخر بجيش آخر، وتلاهما القائد المعروف بموسى، ولجوا في
جيشه وأصحابه، وجعل بغراج التركي على ساقته في جيش كثيف بعدة عظيمة، وعدد جم. قال أبو جعفر:
وأمر الناجم بهبوذ بن عبد الوهاب، فعبر والناس غارون في سميريات إلى طرف عسكر
أبي حمزة صاحب الماء، فأوقع به، وقتل جماعة من أصحابه، وأسر جماعة، وأحرق
أكواخاً كانت لهم، وأرسل إبراهيم بن جعفر الهمداني- وهو من جملة قواد الناجم- في
أربعة آلاف زنجي، ومحمد بن أبان المكنى أبا الحسين- أخا علي بن أبان المهلبي- في
ثلاثة آلاف والقائد المعروف بالدور في ألف وخمسمائة، ليغيروا على أطراف عسكر أبي
أحمد ويوقعوا بهم. فنذر بهم أبو العباس،
فنهد إليهم في جمع كثيف من أصحابه، وكانت بينه وبينهم حروب كان الإستظهار فيها
كلها له، واستأمن إليه جماعة منهم، فخلع عليهم،
وأمر أن يوقفوا بإزاء مدينة الناجم ليعاينهم أصحابه، وأقام أبو أحمد يكايد الناجم،
ويبذل الأموال لأصحابه تارة، ويواقعهم ويحاربهم تارة، ويقطع الميرة عنهم،
فسرى بهبوذ الزنجي في الأجلاد المنتخبين من رجاله ليلة من الليالي، وقد تأدى
إليه خبر قيروان ورد للتجار، فيه صنوف التجارات والأمتعة والمير، فكمن في النخل،
فلما ورد القيروان، خرج إلى أهله وهم غارون، فقتل منهم وأسر، وأخذ ما شاء أن
يأخذ من الأموال. وقد كان أبوأحمد علم بورود ذلك القيروان، وأنفذ قائداً من
قواده لبذرقته في جمع خفيف، فلم يكن لذلك القائد ببهبوذ طاقة، فانصرف عنه
منهزماً. فلما رأى الزنج أن تدبيرهم قد انتقض،
وأنه قد فطن لهم ونذر بهم، كروا راجعين في الطريق الذي أقبلوا فيه، طالبين
التخلص. فسبقهم أبو العباس وزيرك إلى فوهة النهر ليمنعوهم
من عبوره، وأرسل أبو أحمد غلامه الأسود الزنجي الذي يقال له ثابت- وكان له قيادة
على السودان الذين بعسكر الموفق- فأمره أن يعترضهم، ويقف لهم في طريقهم بأصحابه،
فأدركهم وهو في خمسمائة رجل، فواقعهم وشد عضده أبو العباس وزيرك بمن معهما، فقتل
من الزنج أصحاب الناجم خلق كثير، وأسر منهم كثير، وأفلت الباقون فلحقوا
بمدينتهم، وانصرف أبو العباس بالفتح وقد علق رؤوس
الزنج في الشذا وصلب الأسارى أحياء فيها، فاعترضوا بهم مدينتهم ليرهبوا أصحابهم،
فلما رأوهم رعبوا وانكسروا. واتصل بأبي
أحمد أن الناجم موه على أصحابه، وأوهم أن الرؤوس المرفوعة مثل مثلها لهم أبو
أحمد ليراعوا، وأن الأسارى من المستأمنة. فأمر أبو
أحمد عند ذلك بجمع الرؤوس والمسير بها إلى إزاء قصر الناجم، والقذف بها في
منجنيق منصوب في سفينة إلى عسكره، ففعل ذلك، فلما سقطت الرؤوس في مدينتهم، عرف
أولياء القتلى رؤوس أصحابهم، فظهر بكاؤهم وصراخهم. وقد كان سليمان بن جامع لما رأى أن أبا العباس قد
أوغل في نهر الأتراك، صعد في جمع كثير من الزنج، ثم استدبر أصحاب أبي العباس وهم
متشاغلون بحرب من بإزائهم على سور المدينة، فخرج عليهم من ورائهم وخفقت طبولهم،
فانكشف أصحاب أبي العباس وحملت الزنج عليهم من أمامهم، فأصيب في هذه الوقعة
جماعة من غلمان أبي أحمد وقواده، وصار في أيدي الزنج عدة أعلام ومطارد، وحامى
أبو العباس عن نفسه حتى انصرف سالماً، فأطمعت هذه الوقعة الزنج وأتباعهم، وشدت
قلوبهم، فأجمع أبو أحمد على العبور بجيشه أجمع، وأمر بالاستعداد والتأهب، فلما
تهيأ له ذلك عبر في آخر ذي الحجة من سنة سبع وستين، في أكثف جمع، وأكمل عدة،
وفرق قواده على أقطار مدينة الناجم، وقصد هو بنفسه ركناً من أركانها، وقد كان
الناجم حصنه بابنه الذي يقال له أنكلاي، وكنفه بعلي بن أبان، وسليمان بن جامع،
وإبراهيم بن جعفر الهمداني وحفه بالمجانيق والعرادات والقسي الناوكية، وأعد فيه
الناشبة ، وجمع فيه أكثر جيشه، فلما التقى الجمعان
أمر أبو أحمد غلمانه الناشبة والرامحة والسودان بالدنو من هذا الركن، وبينه
وبينهم النهر المعروف بنهر الأتراك، وهو نهر عريض غزير الماء، فلما انتهوا إليه
أحجموا عنه، فصيح بهم، وحرضوا على العبور، فعبروه سباحة، والزنج ترميهم
بالمجانيق والعرادات والمقاليع والحجارة عن الأيدي، والسهام عن قسي اليد، وقسي
الرجل، وصنوف الآلات التي يرمى عنها، فصبروا على جميع ذلك حتى جاوزوا النهر
وانتهوا إلى السور، ولم يكن لحقهم من الفعلة من كان أعده لهدمه. فتولى الغلمان تشعيث السور بما كان معهم من السلاح، وشر
الله تعالى ذلك، وسهلوا لأنفسهم السبيل إلى علوه، وحضرهم بعض السلاليم التي كانت
اتخذت لذلك، فعلوا الركن ونصبوا عليه علماً عليه مكتوب: الموفق بالله،
وأكبت عليهم الزنج، فحاربوا أشد حرب، وقتل من قواد أبي أحمد القائد المعروف
بثابت الأسود، رمي بسهم في بطنه فمات، وكان من جلة القواد، وأحرق أصحاب الموفق
ما على ذلك الركن من المنجنيقات والعرادات. فوقفت الزنج على نهر ابن سمعان، وقوفاً طويلاً ودافعوا
مدافعة شديدة، وشد بعض موالي الموفق على علي بن أبان فأدبر عنه هارباً فقبض على
مئزره، فخلى على المئزر ونبذه إلى الغلام، ونجا بعد أن أشرف على الهلكة، وحمل
أصحاب أبي أحمد على الزنج، فكشفوهم عن نهر ابن سمعان، حتى وافوا بهم طرف
المدينة، وركب الناجم بنفسه في جمع من خواصه، فتلقاه أصحاب الموفق، فعرفوه
وحملوا عليه، وكشفوا من كان معه حتى أفرد، وقرب منه بعض الرجالة حتى ضرب وجه
فرسه بترسه، وكان ذلك وقت غروب الشمس، وحجز الليل بينهم وبينه وأظلم، وهبت ريح
شمال عاصف، وقوي الجزر، فلصق أكثر سفن الموفق بالطين، وحرض الناجم أصحابه، فثاب
منهم جمع كثير، فشدوا على سفن الموفق، فنالوا منها نيلاً، وقتلوا نفراً، وصمد
بهبوذ الزنجي لمسرور البلخي بنهر الغربي، فأوقع به، وقتل جماعة من أصحابه، وأسر
أسرى، وصار في يده دواب من دوابهم، فكسر ذلك من نشاط أصحاب الموفق، وقد كان هرب
في هذا اليوم كثير من قواد صاحب الزنج، وتفرقوا على وجوههم نحو نهر الأمير
وعبادان وغيرهما، وكان ممن هرب ذلك اليوم منهم أخو
سليمان بن موسى الشعراني ومحمد وعيسى. فمضيا يؤمان البادية، حتى انتهى إليهما
رجوع أصحاب الموفق، وما نيل منهم، فرجعا، وهرب جماعة من العرب الذين كانوا في
عسكر الناجم، وصاروا إلى البصرة، وبعثوا يطلبون الأمان من أبي أحمد، فأمنهم،
ووجه إليهم السفن، وحملهم إلى الموفقية وخلع عليهم، وأجرى لهم الأرزاق والأنزال. فكتب ريحان يطلب الأمان لنفسه
ولجماعة من أصحابه، فأجيب إلى ذلك، وأنفذ إليه
عدد كثير من الشذا والسميريات والمعابر مع زيرك القائد، صاحب مقدمة أبي العباس،
فسلك نهر اليهودي إلى آخره، فألفى به ريحان القائد ومن كان معه من أصحابه، وقد
كان الموعد تقدم منه في موافاة ذلك الموضع. فسار زيرك به وبهم إلى دار الموفق،
فأمر لريحان بخلع جليلة، وحمل على عدة أفراس بآلتها وحليتها، وأجيز بجائزة سنية،
وخلع على أصحابه، واجيزوا على أقدارهم ومراتبهم، وضم ريحان إلى أبي العباس، وأمر
بحمله وحمل أصحابه والمصير بهم إلى إزاء دار الناجم، فوقفوا هناك في الشذا،
عليهم الخلع الملونة بصنوف الألوان والذهب حتى عاينوهم مشاهدة، فاستأمن في هذا
اليوم من أصحاب ريحان الذين كانوا تخلفوا عنه ومن غيرهم جماعة، فألحقوا في البر
والإحسان بأصحابهم. ثم عبر جيشه في هذا الشهر المذكور مرتباً على ما
استصلحه من تفريقه في جهات مختلفة، وأمرهم بهدم سور المدينة، وتقدم إليهم أن
يقتصروا على الهدم، ولا يدخلوا المدينة، ووكل بكل ناحية من النواحي التي وجه
إليها قواده سفناً فيها الرماة، وأمرهم أن يحموا بالسهام من يهدم السور من
الفعلة، فثلمت في هذا اليوم من السور ثلم كثيرة، واقتحم أصحاب أبي أحمد المدينة
من جميع تلك الثلم وهزموا من كان عليها من الزنج، وأوغلوا في طلبهم، واختلف بهم
طرق المدينة، وتفرقت بهم السكك والفجاج، وانتهوا إلى أبعد من المواضع التي كانوا
وصلوا إليها في المرة التي قبلها، فتراجعت إليهم الزنج، وخرج عليهم كمناؤهم من
نواح يهتدون إليها، ولا يعرفها جيش أبي أحمد، فتحير جيش أبي أحمد، فقتل منهم خلق
كثير، وأصاب الزنج منهم أسلحة وأسلاباً، وأقام ثلاثون ديلمياً من أصحاب أبي أحمد
يدافعون عن الناس ويحمونهم، حتى خلص إلى السفن من خلص، وقتلت الديالمة عن آخرها،
وعظم على الناس ما أصابهم في هذا اليوم، وانصرف أبو أحمد إلى مدينته الموفقية،
فجمع قواده، وعذلهم على ما كان منهم من مخالفة أمره، والإفساد عليه في رأيه
وتدبيره، وتوعدهم بأغلظ العقوبة إن عادوا لمثل ذلك، وأمر بإحصاء المقتولين من
أصحابه، فأتي بأسمائهم، فأقر ما كان جارياً لهم على أولادهم وأهاليهم، فحسن موقع
ذلك، وزاد في صحة نيات أصحابه، لما رأوا من حياطته خلف من أصيب في طاعته. قال أبو جعفر:
ثم كانت الوقعة التي قتل فيها بهبوذ الزنجي القائد وجرح أبو العباس، وذلك أن
بهبوذ كان أكثر أصحاب الناجم غارات، وأشدهم تعرضاً لقطع السبل، وأخذ الأموال،
وكان قد جمع من ذلك لنفسه مالاً جليلاً، وكان كثير الخروج في السميريات الخفاف،
فيخترق بها الأنهار المؤدية إلى دجلة، فإذا صادف سفينة لأصحاب أبي أحمد أخذها
واستولى على أهلها، وأدخلها النهر الذي خرج منه، فإن تبعه تابع حتى توغل في
طلبه، خرج عليه من ذلك النهر قوم من أصحابه، قد أعدهم لذلك، فأقطعوه وأوقعوا به.
فوقع التحرز حينئذ منه، والاستعداد لغاراته، فركب شذاة، وشبهها بشذوات أبي أحمد،
ونصب عليها علماً مثل أعلامه، وسار بها ومعه كثير من الزنج، فأوقع بكثيرمن أصحاب
أبي أحمد، وقتل وأسر. فندب له أبو أحمد ابنه أبا العباس في جمع كثيف، فكانت بينهما
وقعة شديدة، ورمي فيها أبو العباس بسهم فأصابه، وأصابت بهبوذ طعنة في بطنه من يد
غلام من بعض سميريات أبي العباس، فهوى إلى الماء، فابتدره أصحابه، فحملوه
ورجعوا به إلى عسكر الناجم، فلم يصلوا به إلا وهو ميت، فعظمت الفجيعة به على
الناجم وأوليائه، واشتد عليه جزعهم، وخفي موته على أبي
أحمد، حتى استأمن إليه رجل من الملاحين، فأخبره بذلك، فسر، وأمر بإحضار الغلام
الذي طعنه، فوصله وكساه وطوقه، وزاد في رزقه. وأمر لجميع من كان في تلك
السميرية بصلات وخلع، وعولج أبو العباس من جرحه مدة حتى برأ، وأقام أبو أحمد في
مدينته الموفقية ممسكاً عن حرب الزنج، محاصراً لهم بسد الأنهار وسكرها، واعترض
من يخرج منهم لجلب الميرة، ومنتظراً برء ولده، حتى كمل بعد شهور كثيرة، وانقضت سنة ثمان وستين. واتفق أن عصفت الرياح يوماً وجماعة من قواد أبي
أحمد بالجانب الغربي للعمل الذي يريدونه، فانتهز الناجم الفرصة في امتناع العبور
بدجلة، لعصف الريح، فرماهم بجميع جيشه، وكاثرهم برجله، فلم تجد الشذوات التي مع
قواد أبي أحمد سبيلاً إلى الوقوف بحيث كانت واقفة به، لحمل الرياح إياها على
الحجارة، وخوف أصحابها عليها من التكسر، ولم يجدوا
سبيلاً إلى العبور في دجلة، لشدة الريح واضطراب الأمواج، فأوقعت الزنج
بهم، فقتلوهم عن آخرهم، وأفلت منهم نفر، فعبروا إلى الموفقية، فاشتد جزع أبي
أحمد وأصحابه لما نالهم ولما تهيأ للزنج عليهم، وعظم بذلك اهتمامهم. وتعقب أبو أحمد الرأي، فرأى أن نزوله ومقامه
بالجانب الغربي، مجاور مدينة الناجم خطأ، وأنه لا يؤمن منه حيلة، وانتهاز فرصة،
فيوقع بالعسكر بياتاً، أو يجد مساغاً إلى ما يكون له قوة، لكثيرة الأدغال في ذلك
الموضع، وصعوبة المسالك، وان الزنج على التوغل في تلك المواضع الوعرة الموحشة
أقدر وهو عليهم أسهل من أصحابه، فانصرف عن رأيه في نزول الجانب الغربي، وصرف همه
وقصده إلى هدم سور مدينة الناجم، وتوسعة الطريق والمسالك لأصحابه في دخولها،
فندب القواد لذلك، وندب الناجم قواده للمدافعة عنها، وطال الأمد، وتمادت الأيام. قلت: الحادث
الذي حدث على أبي أحمد من جهة سلطانه، أن أخاه
المعتمد، وهو الخليفة يومئذ، فارق دار ملكه، ومستقر خلافته مغاضباً له متجنياً
عليه، زاعماً أنه مستبد بأموال المملكة وجبايتها، مضطهد له مستأثر عليه، فكاتب ابن طولون صاحب مصر، وسأله أن يأذن له في
اللحاق به، فأجابه ابن طولون إلى ذلك، فخرج من سامراء في جماعة من قواده ومواليه،
قاصداً مصر. وكان أبو أحمد هو الخليفة في المعنى،
وإنما المعتمد صورة خالية من معاني الخلافة، لا
أمر له ولا نهي، ولا حل ولا عقد، وأبو أحمد هو الذي
يرتب الوزراء والكتاب، ويقود القواد، ويقطع الأقطاع، ولا يراجع المعتمد في شيء
من الأمور أصلاً، فاتصل به خبر المعتمد في شخوصه عن سامراء، وقصده ابن
طولون، فكاتب إسحاق بن كنداجيق وهو يومئذ على الموصل والجزيرة، فأمره أن يعترض
المعتمد، ويقبض عليه وعلى القواد والموالي الذين معه ويعيدهم إلى سامراء، وكتب
لإسحاق بإقطاعه ضياع اولئك القواد والموالي بأجمعهم، فاعترضهم إسحاق، وقد قربوا
من الرقة، فأخذهم وقبض عليهم، وقيدهم بالقيود الثقيلة، ودخل على المعتمد فعنفه،
وهجنه وعذله في شخوصه عن دار ملكه وملك آبائه، ومفارقة أخيه على الحال التي هو
بها، وحرب من يحاول قتله، وقتل أهل بيته وزوال ملكهم. قال أبو جعفر:
فلما أحرقت دار الناجم ودور أصحابه، وشارف أن يؤخذ، وعرضت لأبي أحمد هذه العلة،
فأمسك فيها عن الحرب، انتقل الناجم من مدينته التي بناها بغربي نهر أبي الخصيب
إلى شرقيه إلى منزل وعر لا يخلص إليه أحد لاشتباك القصب والأدغال والأحطاب فيه،
وعليه خنادق من أنهار قاطعة معترضة، فقطن هناك في خواصه ومن تخلف معه من جلة
أصحابه وثقاته، ومن بقي في نصرته من الزنج، وهم حدود عشرين ألف مقاتل، وانقطعت
الميرة عنهم، وبان للناس ضعف أمرهم، فتأخر الجلب الذي كان يصل إليهم، فبلغ الرطل
من خبز البر عندهم عشرة دراهم، فأكلوا الشعير، ثم أكلوا أصناف الحبوب، ثم لم يزل
الأمر كذلك إلى أن كانوا يتبعون الناس، فإذا خلا أحد منهم بصبي أو امرأة أو رجل
ذبحوه وأكلوه. ثم صار قوي
الزنج يعدو على ضعيفهم، فإذا خلا به ذبحه وأكل لحمه، ثم ذبحوا أولادهم، فأكلوا
لحومهم، وكان الناجم لا يعاقب أحداً ممن فعل شيئاً من ذلك إلا بالحبس، وإذا
تطاول حبسه أطلقه. وصح عزم الموفق على العبور لمحاربة الناجم في
الجانب الشرقي من نهر أبي الخصيب، فجلس مجلساً عاماً، وأمر بإحضار قواد
المستأمنة ووجوه فرسانهم ورجالتهم من الزنج والبيضان فأدخلوا إليه، فخطبهم
وعرفهم ما كانوا عليه من الضلالة والجهل، وانتهاك المحارم، وما كان صاحبهم زينه
لهم من معاصي الله سبحانه، وأن ذلك قد كان أحل له دماءهم، وأنه قد غفر الزلة
وعفا عن العقوبة، وبذل الأمان، وعاد على من لجأ إليه بالفضل والإحسان. فأجزل الصلات، وأسنى الأرزاق، وألحقهم بالأولياء
وأهل الطاعة، وأن ما كان منه من ذلك يوجب عليهم حقه وطاعته، وأبهم لن يأتوا بشيء
يتعرضون به لطاعة ربهم، والاستدعاء لرضا سلطانهم أولى بهم من الجد في مجاهدة
الناجم وأصحابه، وأنهم من الخبرة بمسالك عسكر الناجم ومضايق طرق مدينته،
والمعاقل التي أعدها للحرب على ما ليس عليه من غيرهم، فهم أحرى أن يمحضوه نصحهم،
ويجهدوا على الولوج إلى الناجم، والتوغل إليه في حصونه، حتى يمكنهم الله منه ومن
أشياعه، فإذا فعلوا ذلك فلهم الإحسان والمزيد، ومن قصر منهم استدعى من سلطانه
إسقاط حاله، وتصغيرمنزلته ووضع مرتبته. فرأى
الناجم منهم ما هاله وتلقاهم بنفسه وجيشه، وذلك في ذي القعدة سنة تسع وستين
ومائتين. قال أبو جعفر: فلما دخلت سنة سبعين ومائتين، تتابعت الأمداد إلى
أبي أحمد من سائر الجهات، فوصل إليه أحمد بن دينار في جمع عظيم من المطوعة، من
كور الأهواز ونواحيها، وقدم بعده من أهل البحرين جمع كثير من المطوعة زهاء ألفي
رجل، يقودهم رجل من عبد القيس، وورد بعد ذلك زهاء ألف رجل من فارس، ورئيسهم شيخ
من المطوعة يكنى أبا سلمة، وكان أبو أحمد يجلس لكل من يرد ويخلع عليه، ويقيم
لأصحابه الأنزال الكثيرة، ويصلهم بالصلات، فعظم جيشه جداً، وامتلأت بهم الأرض،
وصح عزمه على لقاء الناجم بجميع عسكره، فرتب جيوشه، وقسمهم على القواد، وأمر كل
واحد من القواد أن يقصد جهة من جهات معسكر الناجم عينها له، وركب بنفسه، وركب
جيشه، وتوغلوا في مسالك شرقي نهر أبي الخصيب، ولقيهم الزنج، وقد حشدوا
واستقبلوا، فكانت بينهم وقعة شديدة، منحهم الله تعالى فيها أكتاف الزنج، فولوا
منهزمين، فاتبعهم أصحاب أبي أحمد يقتلون ويأسرون، فقتل منهم كثير، وغرق كثير،
وحوى أصحاب أبي أحمد معسكر الناجم ومدينته، وظفروا بعيال علي بن أبان المهلبي
وداره وأمواله، فاحتووا عليها، وعبر أهله وأولاده إلى الموفقية مع كلابهم، ومضى
الناجم ومعه المهلبي وابنه أنكلاني، وسليمان بن جامع، والهمداني وجماعة من أكابر
القواد، عامدين إلى موضع كان الناجم قد أعده لنفسه ملجأ إذا غلب على مدينته
وداره في النهر المعروف بالسفياني. فتقدم أبو أحمد ومعه لؤلؤ قاصدين هذا النهر،
لأن أبا أحمد دل عليه، فأوغل في الدخول وفقده أصحابه، فظنوا أنه رجع، فرجعوا
كلهم، وعبروا دجلة في الشذا ظانين أنه عبر راجعاً، وانتهى أبو أحمد ومعه لؤلؤ،
قاصدين هذا النهر، فاقتحمه لؤلؤ بفرسه، وعبر أصحاب لؤلؤ خلفه. ووقف أبوأحمد في
جماعة من أصحابه عند النهر، ومضى الناجم هارباً، ولؤلؤ يتبعه في أصحابه، حتى
انتهى إلى النهر المعروف بالقريري، فوصل إليه لؤلؤ وأصحابه، فأوقعوا به وبمن معه
فكشفوهم، فولوا هاربين حتى عبروا النهر المذكور، ولؤلؤ وأصحابه يطردونهم من
ورائهم، حتى الجأوهم إلى نهر آخر، فعبروه واعتصموا بدحال وراءه، فولجوها، وأشرف
لؤلؤ وأصحابه عليها فأرسل إليه الموفق ينهاه عن اقتحامها، ويشكر سعيه، ويأمره
بالانصراف، فانفرد لؤلؤ هذا اليوم وأصحابه بهذا الفعل، دون أصحاب الموفق، فانصرف
لؤلؤ محمود الفعل، فحمله الموفق معه في شذاته وجدد له من البر والكرامة ورفع
المنزلة لما كان منه في أمر الناجم، حسبما كان مستحقاً له، ولهذا نادى أهل بغداد لما أدخل إليهم رأس الناجم بين يدي
أبي العباس: ما شئتم قولوا، كان الفتح للؤلؤ. وسألوا الموفق أن يرد السفن إلى
الموفقية، بحيث لا يطمع طامع من العسكر في الالتجاء إليها والعبور فيها. فقبل أبو أحمد عذرهم،. وجزاهم الخير عن تنصلهم،
ووعدهم بالإحسان، وأمرهم بالتأهب للعبور، ثم عبر بهم على ترتيب ونظام قد أحكمه
وقرره، وذلك في يوم السبت لليلتين خلتا من صفر من سنة سبعين ومائتين، وقد كان
الناجم عاد من تلك الأنهار إلى معسكره بعد انصراف الجيش عنه، فأقام به، وأمل أن
تتطاول به وبهم الأيام، وتندفع عنه المناجزة، فلقيه في هذا اليوم سرعان العسكر،
وهم مغيظون محنقون من التقريع والتوبيخ اللاحقين بهم بالأمس، فأوقعوا به
وبأصحابه وقعة شديدة، أزالوهم عن مواقفهم، فتفرقوا لا يلوي بعضهم على بعض،
واتبعهم الجيش يقتلون ويأسرون من لحقوا منهم، وانقطع الناجم في جماعة من كماته
من قواد الزنج، منهم المهلبي، وفارقه ابنه انكلاني وسليمان بن جامع، فكانا في
أول الأمر مجتمعين، ثم افترقا في الهزيمة، فصادف سليمان بن جامع قوم من قواد
الموفق، فحاربوه وهو في جمع كثيف من الزنج، فقتل جماعة من كماته، وظفر به فأسر،
وحمل إلى الموفق بغير عهد ولا عقد، فاستبشر الناس بأسر سليمان، وكثر التكبير
والضجيج، وأيقنوا بالفتح إذ كان أكثر أصحابه غناء، وأسر بعده إبراهيم بن جعفر
الهمداني، وكان من عظماء قواده وأكابر امراء جيوشه، وأسر نادر الأسود المعروف
بالحفار، وهو من قدماء قواد الناجم، فأمر الموفق بتقييدهم بالحديد، وتصييرهم في
شذاة لأبي العباس، ومعهم الرجال بالسلاح، وجد الموفق في طلب الناجم، وأمعن في
نهر أبي الخصيب، حتى انتهى إلى آخره. قال أبو جعفر: ثم
تتابع مجيء الزنج إلى أبي أحمد في الأمان، فحضر
منهم في ثلاثة أيام نحو سبعة آلاف زنجي، لما عرفوا قتل صاحبهم، ورأى أبو أحمد بذل الأمان لهم، كي لا يبقى منهم بقية يخاف
معرتها في الإسلام وأهله، وانقطعت منهم قطعة نحو ألف زنجي مالت نحو البر، فمات
أكثرها عطشاً، وظفر الأعراب بمن سلم منهم، فاستزلوهم، وأقام الموفق
بالموفقية، بعد قتل الناجم مدة، ليزداد الناس بمقامه أنساً وأماناً، وبتراجع أهل
البلاد إليها، فقد كان الناجم أجلاهم عنها. وقدم
ابنه أبو العباس إلى بغداد، ومعه رأس الناجم، فدخلها يوم السبت لاثنتي عشرة ليلة
بقين من جمادى الأولى من هذه السنة، ورأس الناجم بين يديه على قناة،
والناس مجتمعون يشاهدونه. الأصل: منها في وصف الأتراك: كأني أراهم قوماً كأن وجوههم المجان المطرقة، يلبسون السرق
والديباج، ويعتقبون الخيل العتاق، ويكون هناك استحرار قتل حتى يمشي المجروح على
المقتول، ويكون المفلت أقل من المأسور. والنعل المطرقة: المخصوفة، وأطرقت بالجلد والعصب، أي ألبست، وترس مطرق، وطراق النعل: ما أطرقت وخرزت به. وريش
طراق، إذا كان بعضه فوق بعض، وطارق الرجل بين الثوبين، إذا لبس أحدهما على
الآخر، وكل هذا يرجع إلى مفهوم واحد وهو مظاهرة الشيء بعضه بعضاً، ويروى، المجان
المطرقة، بتشديد الراء، أي كالترسة المتخذة من حديد مطرق بالمطرقة.
والمفلت:
الهارب. وقد يحدث الضحك من السرور، وليس ذلك بمذموم إذا خلا من التيه
والعجب، وكان محض السرور والابتهاج، وقد قال تعالى في صفة أوليائه:
فرحين بما أتاهم الله من فضله". قلت:
المراد بالآية أنه لا تدري نفس
جميع ما تكسبه في مستقبل زمانها، وذلك لا ينفي جواز أن يعلم الإنسان بعض ما يكسبه في مستقبل
زمانه. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
جنكيز خان وفتنة التتر
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
واعلم أن هذا الغيب الذي أخبر رضي الله
عنه عنه قد رأيناه نحن عياناً، ووقع في زماننا، وكان الناس
ينتظرونه من أول الإسلام، حتى ساقه القضاء والقدر إلى
عصرنا، وهم التتار الذين خرجوا من أقاصي المشرق، حتى وردت خيلهم العراق
والشام، وفعلوا بملوك الخطا وقفجاق، وببلاد ما وراء النهر وبخراسان وما والاها
من بلاد العجم، ما لم تحتو التواريخ منذ خلق الله آدم إلى عصرنا هذا على مثله، فإن بابك الخرمي لم تكن نكايته وإن طالت مدته نحو
عشرين سنة إلا في إقليم واحد وهو أذربيجان، وهؤلاء دوخوا
المشرق كله، وتعدت نكايتهم إلى بلاد إرمينة وإلى الشام،
ووردت خيلهم إلى العراق، وبخت نصر الذي قتل
اليهود إنما أخرب بيت المقدس، وقتل من
كان بالشام من بني اسرائيل، وأي نسبة بين من كان بالبيت المقدس من بني اسرائيل إلى البلاد والأمصار التي أخربها هؤلاء، وإلى الناس الذين
قتلوهم من المسلمين وغيرهم!. أما المسلمون
فصبروا حمية للدين، وعلموا أنهم إن انهزموا لم يبق للإسلام باقية، ثم إنهم لا
ينجون، بل يؤخذون ويؤسرون لبعدهم عن بلاد يمتنعون بها، وأما
التتار فصبروا لاستنقاذ أموالهم وأهلهم، واشتد الخطب بين الطائفتين، حتى
إن أحدهم كان ينزل عن فرسه، ويقاتل قرنه راجلاً، مضاربة بالسكاكين، وجرى الدم
على الأرض، حتى كانت الخيل تزلق فيه لكثرته، ولم يحضر
جنكزخان بنفسه هذه الوقعة، وإنما كان فيها قا آن ولده، فأحصي من قتل من
المسلمين فكانوا عشرين ألفاً، ولم يحص عدة من
قتل من التتار. فحضر الناس
بأسرهم، فأمرهم بطم الخندق فطموه بالأخشاب والأحطاب والتراب، ثم زحفوا نحو
القلعة، وكان عدة من بها من الجند الخوارزمية أربعمائة إنسان، فبذلوا جهدهم،
ومنعوا القلعة عشرة أيام إلى أن وصل النقابون إلى سور القلعة، فنقبوه ودخلوا
القلعة، فقتلوا كل من بها من الجند وغيرهم. فلما قاربوا سمرقند، قدموا الخيالة،
وتركوا الرجالة والأسارى والأثقال وراءهم، حتى يلتحقوا بهم شيئاً فشيئاً،
ليرعبوا قلوب أهل البلد، فلما رأى أهل سمرقند سوادهم، استعظموهم، فلما كان اليوم
الثاني وصل الأسارى والرجالة والأثقال، ومع كل عشرة من الأسارى علم، فظن أهل البلد أن الجميع عسكر مقاتلة، فأحاطوا بسمرقند، وفيها خمسون ألفاً من الخوارزمية،
وما لا يحصى كثرة من عوام البلد، فأحجم العسكر الخوارزمي عن الخروج إليهم، وخرجت العامة بالسلاح، فأطمعهم التتار في أنفسهم،
وقهقروا عنهم، وقد كمنوا لهم كمناء، فلما جاوزوا
الكمين خرج عليهم من ورائهم، وشد عليهم من ورائهم جمهور
التتار، فقتلوهم عن أخرهم. فخرج الناس
إليهم بأجمعهم، فاختلطوا عليهم، ووضعوا فيهم السيف، وعذبوا الأغنياء منهم،
واستصفوا أموالهم، ودخلوا سمرقند، فأخربوها، ونقضوا
دورها، وكانت هذه الوقعة في المحرم سنة سبع عشرة
وستمائة. فلما عرف قرب التتار منه، هرب من نيسابور إلى مازندران ، فدخلها ورحل جرماغون
خلفه، ولم يعرج على نيسابور، بل قصد مازندران، فخرج خوارزم شاه عنها، فكان كلما
رحل عن منزل نزله التتار، حتى وصل إلى بحر طبرستان، فنزل هو وأصحابه في سفن،
ووصل التتار، فلما عرفوا نزوله البحر، رجعوا وأيسوا منه. وحكى لي فقيه خراساني وصل إلى بغداد يعرف بالبرهان،
قال: كان أخي معه، وكان ممن يثق خوارزمشاه به، ويختصه، قال: لهج خوارزمشاه لما
تغير عقله بكلمة كان يقولها: قراتتركلدي
يكررها، وتفسيرها: التتر السود قد جاؤوا،
وفي التتر صنف سود يشبهون الزنج، لهم سيوف عريضة جداً على غير صورة هذه السيوف،
يأكلون لحوم الناس، فكان خوارزم شاه قد أهتر وأغري بذكرهم. وقال له:
هذه القلعة لك وذخائرها أموالك، فكن فيها وادعاً آمناً إلى أن يستقيم طالعك،
فالملوك ما زالوا هكذا، يدبر طالعهم ثم يقبل، فقال
له: لا أقدر على الثبات فيها، والمقام بها، لأن التتر سوف يطلبونني،
ويقدمون إلى ههنا، ولو شاؤوا لوضعوا سروج خيلهم واحداً على واحد تحت القلعة،
فبلغت إلى ذروتها، وصعدوا عليها، فأخذوني قبضاً باليد، فعلم
أنليمش أن عقله قد تغير، وأن الله تعالى قد بدل ما به من نعمة، فقال: فما الذي تريد؟ قال: أريد أن تحملني في البحر
المعروف ببحر المعبر إلى كرمان، فحمله في نفر
يسير من مماليكه إلى كرمان، ثم خرج منها إلى أطراف بلاد
فارس، فمات هناك في قرية من قرى فارس، وأخفي موته، لئلا يقصده التتر، وتطلب
جثته. فلما استقروا بموقان،
راسلت الكرج أزبك بن البهلوان في الاتفاق على حربهم، وراسلوا موسى بن أيوب المعروف بالأشرف، وكان صاحب خلاط
وإرمينية بمثل ذلك، وظنوا أنهم يصبرون إلى أيام الربيع
وانحسار الثلوج، فلم يصبروا، وصاروا من موقان في
صميم الشتاء نحو بلاد الكرج، فخرجت إليهم الكرج، واقتتلوا قتالاً شديداً، فلم يثبتوا للتتار، وانهزموا أقبح هزيمة، وقتل منهم من لا يحصى، فكانت هذه الوقعة في ذي الحجة من سنة
سبع عشرة وستمائة. وكان التتار قد عزموا
على الرحيل عنهم لكثرة من قتل منهم. فلما لم
يروا أحداً يخرج إليهم من البلد، طمعوا واستدلوا على ضعف أهله، فقصدوهم وقاتلوهم وذلك في شهر رجب من سنة ثماني عشرة وستمائة، ودخلوا المدينة
بالسيف، وقاتلهم الناس في الدروب، وبطل السلاح للازدحام، واقتتلوا بالسكاكين،
فقتل من الفريقين ما لا يحصى، وظهر التتارعلى المسلمين فأفنوهم قتلاً، ولم يسلم منهم إلا من كان له نفق في الأرض يستخفي فيه.
ثم ألقوا النار في البلد فأحرقوها،
ورحلوا إلى مدينة أردبيل وأعمال أذربيجان،
فملكوا أردبيل، وقتلوا فيها، فأكثروا. ثم ساروا إلى تبريز، وكان بها شمس
الدين عثمان الطغرائي، قد جمع كلمة أهلها بعد مفارقة صاحب أذربيجان أزبك بن البهلوان للبلاد، خوفاً من
التتار، ومقامه بنقجوان، فقوى الطغرائي نفوس الناس على
الامتناع، وحذرهم عاقبة التخاذل، وحصن البلد. فلما وصل التتار، ورأوا اجتماع كلمة المسلمين
وحصانة البلد، طلبوا منهم مالاً وثياباً، فاستقر الأمر بينهم على شيء معلوم،
فسيروه إليهم، فلما أخذوه رحلوا إلى بيلقان. فقاتلهم
أهلها. فملكها
التتار في شهر رمضان من هذه السنة، ووضعوا فيهم
السيف حتى أفنوهم أجمعين. فلما فرغوا، أرادوا عبور الدربند، فلم يقدموا عليه،
فأرسلوا إلى شروان شاه ملك الدربند، فطالبوه
بإنفاذ رسول يسعى بينه وبينهم في الصلح، فأرسل إليهم عشرة من ثقاته، فلما وصلوا
إليهم جمعوهم، ثم قتلوا واحداً منهم بحضور الباقين،
وقالوا للتسعة: إن أنتم عرفتمونا طريقًا نعبر فيه فلكم الأمان، وإلا قتلناكم كما
قتلنا صاحبكم، فقالوا لهم: لا طريق في هذا الدربند،
ولكن نعرفكم موضعاً هو أسهل المواضع لعبور الخيل. ثم ساروا إلى نيسابور،
ففعلوا به ما فعلوا بمرو من القتل والاستئصال،
ثم عمدوا إلى طوس، فنهبوها وقتلوا أهلها، وأخرجوا المشهد الذي به علي بن موسى الرضا رضي الله عنه والرشيد هارون بن المهدي، وساروا إلى هراة فحصروها، ثم أمنوا، أهلها، فلما فتحوها قتلوا بعضهم، وجعلوا على الباقين شحنة، فلما
بعدوا وثب أهل هراة على الشحنة فقتلوه، فعاد
عليهم عسكر من التتار، فاستعرضوهم بالسيف، فقتلوهم عن
آخرهم. وقام بعده ابنه قا آن
مقامه، وثبت جرماغون في مكانه باذربيجان.
ولم يبق لهم إلا أصبهان، فإنهم نزلوا عليها
مراراً في سنة سبع وعشرين وستمائة. وحاربهم أهلها. وقتل من الفريقين مقتلة
عظيمة، ولم يبلغوا منها غرضاً، حتى اختلف أهل أصبهان في
سنة ثلاث وثلاثين وستمائة وهم طائفتان: حنفية
وشافعية، وبينهم حروب متصلة وعصبية ظاهرة فخرج
قوم من أصحاب الشافعي إلى من يجاورهم ويتاخمهم من ممالك التتار، فقالوا
لهم: اقصدوا البلد حتى نسلمه إليكم، فنقل ذلك إلى
قا آن بن جنكزخان بعد وفاة أبيه، والملك يومئذ منوط بتدبيره، فأرسل جيوشاً من
المدينة المستجدة التي بنوها وسموها قراحرم، فعبرت جيحون مغربة، وانضم إليها قوم
ممن أرسله جرماغون على هيئة المدد لهم، فنزلوا على
أصفهان في سنة ثلاث وثلاثين المذكورة وحصروها، فاختلف سيفا الشافعية والحنفية في المدينة، حتى قتل كثير
منهم، وفتحت أبواب المدينة، وفتحها الشافعية على عهد بينهم وبين التتار أن يقتلوا الحنفية، ويعفوا عن
الشافعية، فلما دخلوا البلد بدأوا بالشافعية،
فقتلوهم قتلاً ذريعاً، ولم يقفوا مع العهد الذي عهدوه لهم، ثم قتلوا الحنفية، ثم قتلوا سائر الناس، وسبوا النساء،
وشقوا بطون الحبالى، ونهبوا الأموال، وصادروا الأغنياء، ثم أضرموا النار، فأحرقوا أصبهان، حتى صارت تلولاً من الرماد. وأقاموا على جملة السكون والموادعة
للبلاد الإسلامية كلها، إلى أن دخلت سنة ثلاث وأربعين وستمائة. فاتفق أن بعض امراء بغداد وهو سليمان بن
برجم، وهو مقدم الطائفة المعروفة بالإيواء، وهي من
التركمان، قتل شحنة من شحنهم في بعض قلاع الجبل يعرف بخليل بن بدر، فأثار قتله أن سار من تبريز عشرة آلاف غلام منهم،
يطوون المنازل، ويسبقون خبرهم، ومقدمهم المعروف بجكتاي الصغير، فلم يشعر الناس ببغداد إلا وهم على البلد، وذلك في شهر
ربيع الآخرمن هذه السنة في فصل الخريف، وقد كان
الخليفة المستعصم بالله، أخرج عسكره إلى ظاهر سور بغداد على سبيل الاحتياط، وكان التتر قد بلغهم ذلك،
إلا أن جواسيسهم غرتهم، وأوقعت في أذهانهم أنه ليس خارج السور إلا خيام
مضروبة وفساطيط مضروبة، لا رجال تحتها، وأنكم متى
أشرفتم عليهم ملكتم سوادهم وثقلهم، ويكون قصارى أمر قوم قليلين تحتها أن ينهزفوا
إلى البلد، ويعتصموا بجدرانه، فأقبلت التتر على
هذا الظن، وسارت على هذا الوهم، فلما قربوا من بغداد، وشارفوا الوصول إلى
المعسكر، أخرج المستعصم بالله الخليفة مملوكه
وقائد جيوشه شرف الدين إقبالاً الشرابي إلى ظاهر السور،
وكان خروجه في ذلك اليوم من لطف الله تعالى بالمسلمين، فإن التتار لو
وصلوا وهو بعد لم يخرج، لاضطرب العسكر، لأنهم كانوا
يكونون بغير قائد ولا زعيم، بل كل واحد منهم أمير نفسه، وآراؤهم مختلفة، لا
يجمعهم رأي واحد، ولا يحكم عليها حاكم واحد، فكانوا في مظنة الاختلاف
والتفرق، والاضطراب والتشتت، فكان خروج شرف الدين إقبال الشرابي في اليوم السادس عشر من هذا الشهر المذكور، ووصلت التتر إلى سور البلد في
اليوم السابع عشر، فوقفوا بإزاء عساكر بغداد صفاً واحداً، وترتب العسكر
البغدادي ترتيباً منتظماً، ورأى التتر من كثرتهم وجودة
سلاحهم وعددهم وخيولهم، ما لم يكونوا يظنونه ولا يحسبونه، وانكشف ذلك
الوهم الذي أوهمهم جواسيسهم عن الفساد والبطلان. وكتبت إلى مؤيد الدين الوزير عقيب هذه الوقعة التي نصر فيها الإسلام، ورجع التتر
مخذولين ناكصين على أعقابهم أبياتاً أنسب إليه الفتح، واشير
إلى أنه هو الذي قام بذلك وإن لم يكن حاضراً له بنفسه، وأعتذر إليه عن الإغباب
بمديحه، فقد كانت الشواغل والقواطع تصد عن الانتصاب لذلك:
وهي
طويلة، وإنما ذكرنا منها ما اقتضته الحال. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن
خطبة له في ذكر المكاييل والموازين
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
عباد الله، إنكم وما تأملون من هذه الدنيا أثوياء مؤجلون، ومدينون مقتضون، أجل
منقوص، وعمل محفوظ، فرب دائب مضيع، ورب كادح خاسر، وقد أصبحتم في زمن لا يزداد
الخير فيه إلا إدباراً، والشر إلا إقبالاً، والشيطان في هلاك الناس إلا طمعاً،
فهذا أوان قويت عدته، وعمت مكيدته، وأمكنت فريسته. أفبهذا تريدون أن تجاوروا الله في دار قدسه،
وتكونوا أعز أوليائه عنده! هيهات لا يخدع الله عن جنته، ولا تنال مرضاته إلا
بطاعته. الشرح:
أثوياء: جمع ثوي، وهو الضيف، كقوي وأقوياء. ومؤجلون: مؤخرون إلى أجل، أي وقت معلوم.
ومقتضون:
جمع مقتضى، أي مطالب بأداء الدين، كمرتضون جمع مرتضى، ومصطفون جمع مصطفى. والدائب:
المجتهد ذو الجد والتعب. والكادح: الساعي.
ومثله:
وهو كثير:
والأصل فيه قوله تعالى: "وجوه يومئذ خاشعة،
عاملة ناصبة، تصلى ناراً حامية" ويروى: فرب دائب مضيع، بغير تشديد.
والوفر:
المال الكثير، أي بخل ولم يؤد حق الله سبحانه، فكثرماله. ثم لعن الآمر بالمعروف ولا يفعله، والناهي عن
المنكر ويرتكبه، وهذا من قوله تعالى: "أتأمرون
الناس بالبر وتنسون أنفسكم". |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
من
أقوال الحكماء والصالحين،
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
واعلم أن هذه الخطبة قد اشتملت على كلام فصيح، وموعظة بالغة من
ذكر الدنيا وذكر أهلها، ونحن نذكر كلمات وردت عن الحكماء والصالحين تناسبها، على
عادتنا في إيراد الأشباه والنظائر. قيل لبعضهم:
كيف أصبحت؟ قال: آسفاً على أمسي، كارهاً ليومي، متهماً لغدي. وأنشد لبشرالحافي:
قال
أبو حيان: سمعت ابن القصاب الصوفي، يقول: اسمع واسكت، وانظر واعجب، قال ابن
المعتز:
ومن
الشعر القديم المختلف في قائله:
قيل لصوفي كيف ترى الدنيا؟ قال: وما الدنيا، لا أعرف لها وجوداً، قيل له: فأين قلبك؟ قال:
عند ربي، قيل: فأين ربك؟ قال: وأين ليس هو! قال ابن عائشة: كان يقال: مجالسة أهل الديانة تجلو عن القلوب
صدأ الذنوب، ومجالسة ذوي المروءات تدل على مكارم الأخلاق، ومجالسة العلماء تزكي
النفوس. ومن كلام بعض الحكماء الفصحاء:
كن لنفسك نصيحاً، واستقبل توبة نصوحاً، وازهد في دار سمها ناقع، وطائرها واقع،
وارغب في دار طالبها منجح، وصاحبها مفلح. ومتى حققت وآثرت الصدق، بان لك أنهما لا يجتمعان،
وأنهما كالضدين لا يصطلحان، فجرد همك في تحصيل الباقية، فإن الآخرى أنت فان عنها
وهي فانية عنك، وقد عرفت آثارها في أصحابها ورفقائها، وصنعها بطلابها وعشقائها
معرفة عيان، فأي حجة تبقى لك، وأي حجة لا تثبت عليك! ومن كلام هذا الحكيم:
"فإنا قد أصبحنا في دار رابحها خاسر، ونائلها قاصر، وعزيزها ذليل، وصحيحها
عليل، والداخل إليها مخرج، والمطمئن فيها مزعج، والذائق من شرابها سكران،
والواثق بسرابها ظمآن، ظاهرها غرور، وباطنها شرور، وطالبها مكدود، وعاشقها
مجهود، وتاركها محمود. العاقل من قلاها وسلا عنها، والظريف من عافها وأنف منها،
والسعيد من غمض بصره عن زهرتها، وصرفه عن نضرتها، وليس لها فضيلة إلا دلالتها
على نفسها، وإشارتها إلى نقصها، ولعمري إنها لفضيلة لو صادفت قلباً عقولاً، لا
لساناً قؤولاً، وعملاً مقبولاً، لا لفظاً منقولاً، فإلى الله الشكوى من هوى
مطاع، وعمر مضاع، فبيده الداء والدواء، والمرض والشفاء. فأما الأول فماله، وأما
الثاني فعشيرته، وأما الثالث فعمله. واعلم أن المحروب من حرب دينه، والمسلوب من سلب
يقينه. إنه لا غنى مع النار، ولا فقرمع الجنة، وإن جهنم لا
يفك أسيرها، ولا يستغني فقيرها. ابن المبارك،
كان فيما مضى جبار يقتل الناس على أكل لحوم الخنازير، فلم يزل الأمر يترقى حتى
بلغ إلى عابد مشهور، فأراده على أكلها، وهدده بالقتل، فشق ذلك على الناس. فقال له صاحب شرطته: إني
ذابح لك غداً جدياً، فإذا دعاك هذا الجبار لتأكل، فكل فإنما هو جدي، فلما دعاه
ليأكل أبى أن يأكل، فقال: أخرجوه واضربوا
عنقه. فقال له الشرطي:
ما منعك أن تأكل من لحم جدي؟ قال: إني رجل
منظور إلي، وإني كرهت أن يتأسى بي الناس في معاصي الله. فقدمه فقتله. سفيان الثوري، كان رجل يبكي كثيراً، فقال له
أهله:
لو قتلت قتيلاً ثم أتيت وليه فرآك تبكي هذا البكاء لعفا عنك، فقال: قد قتلت نفسي، فلعل وليها يعفو عني. ومن كلام أبي حيان التوحيدي في
البصائر: ما أقول في عالم! الساكن فيه وجل، والصاحي بين أهله
ثمل، والمقيم على ذنوبه خجل، والراحل عنه مع تماديه عجل. وإن داراً هذه من
آفاتها وصروفها لمحقوقة بهجرانها وتركها، والصدوف منها خاصة، ولا سبيل لساكنها
إلى دار القرار إلا بالزهد فيها، والرضا بالطفيف منها، كبلغة الثاوي ، وزاد
المنطلق. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن
كلام له لأبي ذر رحمه الله لما أخرج إلى الربذة
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: يا أبا ذر،
إنك غضبت لله فارج من غضبت له. إن القوم خافوك على دنياهم وخفتهم على دينك،
فاترك في أيديهم ما خافوك عليه، واهرب منهم بما خفتهم عليه، فما أحوجهم إلى ما
منعتهم، وأغناك عما منعوك! وستعلم من الرابح غداً، وأكثر حسداً، ولو أن السموات
والأرضين كانتا على عبد رتقاً، ثم اتقى الله، لجعل الله له منهما مخرجاً. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أخبار
أبي ذر الغفاري حين خروجه إلى الربذة،
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الشرح: واقعة أبي ذر
رحمه الله وإخراجه إلى الربذة ، أحد الأحداث التي نقمت على عثمان: وقد روى هذا الكلام أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري
في كتاب السقيفة عن عبد الرزاق، عن أبيه، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: لما
أخرج أبو ذر إلى الربذة، أمر عثمان، فنودي في الناس، ألا يكلم أحد أبا ذر ولا
يشيعه. وأمر مروان بن الحكم أن يخرج به. فخرج به، وتحاماه الناس إلا علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعقيلاً
أخاه، وحسناً وحسيناً رضي الله عنهما،
وعماراً، فإنهم خرجوا معه يشيعونه، فجعل الحسن رضي الله عنه يكلم أبا ذر،
فقال له مروان: إيها يا حسن! ألا تعلم أن أمير
المؤمنين قد نهى عن كلام هذا الرجل! فإن كنت لا
تعلم فاعلم ذلك، فحمل علي رضي الله عنه على
مروان، فضرب بالسوط بين أذني راحلته، وقال: تنح لحاك
الله إلى النار! فرجع مروان مغضباً إلى عثمان، فأخبره الخبر، فتلظى على علي رضي الله عنه، ووقف أبو ذر فودعه القوم،
ومعه ذكوان مولى أم هانئ بنت أبي طالب. فامتحنوك
بالقلى، ونفوك إلى الفلا، والله لو كانت السموات والأرض على عبد رتقاً، ثم اتقى
الله لجعل الله له منها مخرجاً. يا أبا ذر
لا يؤنسنك إلا الحق، ولا يوحشنك إلا الباطل. ثم قال لأصحابه: ودعوا عمكم، وقال لعقيل: ودع أخاك. واصبرحتى تلقى نبيك صلى الله عليه وسلم وهوعنك
راض. فبكى أبو ذر رحمه الله- وكان شيخاً كبيراً- وقال:
رحمكم الله يا أهل بيت الرحمة! إذا رأيتكم ذكرت بكم رسول الله صلى
الله عليه وسلم،
ما
لي بالمدينة سكن ولا شجن غيركم، إني ثقلت على عثمان بالحجاز، كما ثقلت على
معاوية بالشام، وكره أن أجاور أخاه وابن خاله بالمصرين، فأفسد الناس عليهما،
فسيرني إلى بلد ليس لي به ناصر ولا دافع إلا الله، والله ما أريد إلا الله
صاحباً، وما أخشى مع الله وحشة. فقال علي رضي
الله عنه: أما رسولك، فأراد أن يرد وجهي فرددته، وأما أمرك
فلم أصغره. قال عثمان: أقد
مروان من نفسك، قال: مم ذا؟ قال: من شتمه وجذب راحلته، قال:
أما راحلته فراحلتي بها، وأما شتمه إياي،
فوالله لا يشتمني شتمة إلا شتمتك مثلها، لا أكذب عليك. ثم بنى معاوية الخضراء بدمشق، فقال أبو ذر: يا معاوية، إن كانت هذه من مال الله
فهي الخيانة، وإن كانت من مالك فهي الاسراف. وكان
أبو ذر يقول بالشام: والله لقد حدثت أعماذ ما أعرفها، والله ما هي في
كتاب الله ولا سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، والله إني لأرى حقاً يطفأ، وباطلاً يحيا، وصادقاً مكذباً،
وأثرة بغير تقى، وصالحاً مستأثراً عليه. اللهم
العن الناهين عن المنكر المرتكبين له. فازبأر معاوية وتغيرلونه وقال: يا جلام أتعرف الصارخ؟ فقلت: اللهم لا. قال:
من عذيري من جندب بن جنادة يأتينا كل يوم فيصرخ على باب قصرنا بما سمعت! ثم قال!:
أدخلوه علي، فجيء بأبي ذر بين قوم يقودونه، حتى وقف بين يديه، فقال له معاوية: يا عدو الله وعدو رسوله! تأتينا
في كل يوم فتصنع ما تصنع! أما إني لوكنت قاتل رجل من أصحاب محمد من غير إذن أمير
المؤمنين عثمان لقتلتك، ولكني أستأذن فيك. فقال معاوية: ما
أنا ذاك الرجل، قال أبو ذر: بل أنت ذلك
الرجل، أخبرني بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسمعته يقول وقد مررت به: "اللهم العنه ولا تشبعه إلا بالتراب، وسمعته صلى الله عليه وسلم يقول: "است معاوية في النار". فضحك
معاوية وأمر بحبسه، وكتب إلى عثمان فيه. قال: بمكة؟
قال: لا، قال: بيت المقدس، قال: لا، قال: بأحد المصرين؟ قال: لا، ولكني
مسيرك إلى ربذة، فسيره إليها، فلم يزل بها حتى مات.
فقال أبو ذر:
ما عرفت اسمي قينا قط. وفي رواية أخرى: لا
أنعم الله بك عيناً يا جنيدب! فقال أبو ذر:
أنا جندب، وسماني رسول الله صلى الله عليه
وسلم
عبد الله، فاخترت اسم رسول الله صلى
الله عليه وسلم
الذي
سماني به على اسمي. فقال له عثمان: أنت الذي
تزعم أنا نقول: يد الله مغلولة، وإن الله فقير ونحن أغنياء! فقال أبو ذر: لوكنتم لا تقولون هذا لأنفقتم مال
الله على عباده، ولكني أشهد أني سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم، يقول: "إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلاً، جعلوا مال
الله دولاً، وعباده خولاً، ودينه دخلاً. فقال عثمان لمن حضر:
أسمعتموها من رسول الله؟ قالوا: لا، قال
عثمان: ويلك يا أبا ذر! أتكذب على رسول
الله! فقال أبو ذر لمن حضر: أما تدرون أني
صدقت! قالوا: لا والله ما ندري،
فقال عثمان: ادعوا لي علياً، فلما جاء قال عثمان لأبي ذر: اقصص عليه حديثك في بني أبي
العاص، فأعاده، فقال عثمان لعلي رضي الله عنه:
أسمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: لا، وقد صدق أبو
ذر. فقال: كيف عرفت صدقه؟ قال:
لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول: ما أظلت الخضراء، ولا أقلت الغبراء من
ذي لهجة أصدق من أبي ذر"، فقال من حضر: أما
هذا فسمعناه كلنا من رسول الله، فقال أبو ذر:
احدثكم أني سمعت هذا من رسول الله صلى
الله عليه وسلم فتتهمونني! ما
كنت أظن أني أعيش حتى أسمع هذا من أصحاب محمد صلى
الله عليه وسلم. قال عثمان:
كذبت، ولكنك تريد الفتنة وتحبها، قد أنغلت الشام علينا، فقال له أبوذر: اتبع سنة صاحبيك لا يكن لأحد عليك كلام، فقال عثمان: مالك وذلك لا أم لك! قال أبو ذر: والله ما وجدت لي عذراً إلا الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر. فغضب عثمان، وقال:
أشيروا علي في هذا الشيخ الكذاب، إما أن أضربه، أو أحبسه، أو أقتله، فإنه
قد فرق جماعة المسلمين، أو أنفيه من أرض الإسلام. فتكلم
علي رضي الله عنه وكان حاضراً فقال أشيرعليك بما قال مؤمن آل فرعون: "فإن يك كاذباً فعليه كذبه وإن يك صادقاً يصبكم بعض
الذي يعدكم إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب"، فأجابه عثمان بجواب
غليظ، وأجابه علي رضي الله عنه بمثله،
ولم نذكرالجوابين تذمماً منهما. فمكث كذلك أياماً، ثم أتى فوقف بين
يديه، فقال أبو ذر: ويحك يا عثمان! أما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأيت أبا بكر وعمر! هل هديك كهديهم! أما إنك
لتبطش بي بطش جبار، فقال عثمان: اخرج عنا من
بلادنا، فقال أبوذر: ما أبغض إلي جوارك!
فإلى أين أخرج؟ قال: حيث شئت، قال: أخرج إلى
الشام أرض الجهاد؟ قال: إنما جلبتك من الشام لما قد أفسدتها، أفأردك إليها! قال:
أفأخرج إلى العراق؟ قال: لا، إنك إن تخرج إليها تقدم على قوم أولي شبه وطعن على
الأئمة والولاة، قال: أفأخرج إلى مصر؟ قال: لا، قال: فإلى أين أخرج؟ قال: إلى
البادية، قال أبو ذر: أصير بعد الهجرة
أعرابياً! قال: نعم، قال أبو ذر: فأخرج إلى
بادية نجد، قال عثمان: بل إلى الشرق الأبعد،
أقصى فأقصى، امض على وجهك هدا فلا تعدون الربذة. فخرج
إليها. وروى الواقدي أيضاً عن مالك بن أبي الرجال، عن موسى بن ميسرة، أن
أبا الأسود الدؤلي، قال:
كنت احب لقاء أبي ذر لأسأله عن سبب خروجه إلى الربذة، فجئته فقلت له: ألا تخبرني، أخرجت من المدينة طائعاً، أم
أخرجت كرهاً؟ فقال: كنت في ثغر من ثغور
المسلمين اغني عنهم، فاأخرجت إلى المدينة، فقلت:
دار هجرتي وأصحابي، فأخرجت من المدينة إلى ما ترى. ثم قال: بينا أنا ذات ليلة نائم في المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ مربي رضي الله
عنه، فضربني برجله، وقال:
لا أراك نائماً في المسجد، فقلت: بأبي أنت
وأمي! غلبتني عيني، فنمت فيه. قال:
فكيف تصنع إذا أخرجوك منه، قلت: إذا ألحق بالشام، فإنها أرض مقدسة، وأرض الجهاد. قال: فكيف تصنع إذا اخرجت منها، قلت: أرجع إلى المسجد، قال:
فكيف تصنع إذا أخرجوك منه، قلت: آخذ
سيفي فأضربهم به. فقال: ألا أدلك على خير من
ذلك، انسق معهم حيث ساقوك، وتسمع وتطيع. فسمعت
وأطعت وأنا أسمع وأطيع، والله ليلقين الله عثمان وهو آثم في جنبي. فقال لي معاوية: هذه نزلت في أهل الكتاب، فقلت:
فيهم وفينا. فكتب معاوية إلى عثمان في ذلك، فكتب
إلي: أن أقدم، فقدمت عليه، فانثال الناس إلي كأنهم لم يعرفوني، فشكوت ذلك
إلى عثمان، فخيرني وقال: انزل حيث شئت،
فنزلت الربذة. هكذا يقول
أصحابنا المعتزلة، وهو الأليق بمكارم الأخلاق، فقد قال الشاعر:
وإنما يتأول
أصحابنا لمن يحتمل حاله التأويل كعثمان،
فأما من لم يحتمل حاله التأويل،- وإن كانت له صحبة سالفة- كمعاوية وأضرابه، فإنهم
لا يتأولون لهم إذا كانت أفعالهم وأحوالهم لا وجه لتأويلها، ولا تقبل العلاج
والإصلاح. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن
كلام له في حال نفسه أوصاف الإمام
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: أيتها النفوس
المختلفة، والقلوب المتشتتة، الشاهدة أبدانهم، والغائبة عنهم عقولهم، أظأركم على
الحق وأنتم تنفرون عنه نفور المعزى من وعوعة الأسد! هيهات أن أطلع بكم سرار
العدل، أو أقيم أعوجاج الحق. الشرح:
أظأركم: أعطفكم، ظأرت الناقة ظأراً، وهي ناقة مظؤورة، إذا عطفتها على ولد غيرها،
وفي المثل: الطعن يظأر أي يعطف على الصلح، وظأرت الناقة أيضاً إذا عطفت على
البو، يتعدى ولا يتعدى، فهي ظؤور، والوعوعة: الصوت، والوعواع مثله. والسرار:
آخر ليلة في الشهر، وتكون مظلمة، ويمكن عندي أن يفسر على وجه آخر، وهو أن يكون
السرار ههنا بمعنى السرور، وهي خطوط مضيئة في الجبهة، وقد نص أهل اللغة على أنه
يجوز فيها سرر وسرار، وقالوا: ويجمع سرار على أسرة، مثل حمار وأحمرة، قال عنترة:
يصف الكأس، ويقول: إن فيها خطوطاً بيضاً، وهي زجاج أصفر. ويقولون: برقت أسرة وجهه وأسارير وجهه، فيكون
معنى كلامه رضي الله عنه:
هيهات أن تلمع بكم لوامع العدل،
وتنجلي أوضاحه، ويبرق وجهه. ويمكن
فيه أيضًا وجه آخر وهو أن ينصب "سرار" ههنا على الظرفية، ويكون التقدير: هيهات أن أطلع بكم الحق زمان
استسرار العدل واستخفائه، فيكون قد حذف المفعول، وحذفه كثير. قلت: بل الكلام متعلق بعضه ببعض من وجهين: أحدهما أنه لما قال: اللهم إنك تعلم أني ما سللت السيف
طلباً للملك، أراد أن يؤكد هذا القول في نفوس السامعين، فقال: أنا أول من أسلم، ولم يكن الإسلام حينئذ معروفاً أصلاً، ومن يكون إسلامه هكذا لا يكون قد قصد بإسلامه إلا وجه
الله تعالى والقربة إليه، فمن تكون هذه حاله في مبدأ أمره، كيف يخطر ببال
عاقل أنه يطلب الدنيا وحطامها، ويجرد عليها السيف في آخر عمره، ووقت انقضاء مدة
عمره! والوجه الثاني أنه إذا كان أول السابقين، وجب أن يكون أقرب
المقربين،
لأنه تعالى قال: "والسابقون السابقون أولئك
المقربون"، ألا ترى أنه إذا قال الملك: "العالمون العالمون هم
المختصون بنا"، وجب أن يكون أعلمهم أشدهم به اختصاصاً، وإذا كان رضي الله عنه أقرب المقربين، وجب أن تنتفي عنه الموانع الستة، التي جعل كل
واحد منها صاداً عن الإمامة، وقاطعاً عن استحقاقها، وهي البخل والجهل والجفاء أي
الغلظة، والعصبية في دولته أي تقديم قوم على قوم، والارتشاء في الحكم، والتعطيل
للسنة، وإذا انتفت عنه هذه الموانع الستة تعين أن
يكون هو الإمام، لأن شروط الإمامة موجودة فيه بالاتفاق، فإذا كانت
موانعها عنه منتفية ولم يحصل لغيره اجتماع الشروط، وارتفاع الموانع، وجب أن يكون
هو الإمام، لأنه لا يجوز خلو العصر من إمام، سواء كانت هذه القضية عقلية أو
سمعية. قوله رضي الله عنه. فيقطعهم
بجفائه أي يقطعهم عن حاجاتهم لغلظته عليهم، لأن الوالي إذا كان غليظاً جافياً
أتعب الرعية وقطعهم عن مراجعته في حاجاتهم خوفاً من بادرته، ومعرته. والدول: جمع دولة بالضم وهي اسم
المال المتداول به، ويقال: هذا الفيء دولة بينهم، أي يتداولونه، والمعنى أنه يجب أن يكون الإمام
يقسم بالسوية، ولا يخص قوماً دون قوم على وجه
العصبية لقبيلة دون قبيلة، أو لإنسان من المسلمين دون غيره، فيتخذ بذلك بطانة. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن
خطبة له عنه في تمجيد الله تعالى
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
نحمده على ما أخذ وأعطى، وعلى ما أبلى وأبتلى، الباطن لكل خفية، والحاضر لكل
سرير، العالم بما تكن الصدور، وما تخون الغيون. ونشهد أن لا إله غيره، وأن
محمداً صلى الله عليه وسلم وآله نجيبه وبعيثه، شهادة يوافق فيها السر الإعلان،
والقلب اللسان.
وأما قوله: "وابتلى" فالابتلاء انزال مضرة بالإنسان على سبيل
الاختبار، كالمرض والفقر والمصيبة. وقد يكون الابتلاء بمعنى الاختبار قي الخير،
إلا أنه أكثر ما يستعمل في الشر. وتكن الصدور:
لستر، وما تخون العيون: ما تسترق من اللحظات والرمزات على غير الوجه الشرعي. والنجيب:
المنجب. والبعيث:
المبعوث. فمن
أشعر التقوى قلبه، برز مهله، وفاز عمله. فاهتبلوا هبلها، واعملوا للجنة عملها،
فإن لدنيا لم تخلق لكم دار مقام، بل خلقت لكم مجازاً، لتزودوا منها الأعمال إلى
دار القرار. فكونوا
منها على أوفاز، وقربوا الظهور للزيال. ثم
أوضحه بعد إجماله، فقال: إنه الموت الذي دعا فأسمع، وحدا فأعجل. وطول
أمل، منصوب على أنه مفعول. قلت: كما يجوز أن
يكون طول الأمل علة الأمن، يجوز أن يكون الأمن علة طول الأمل، ألا ترى أن
الإنسان قد يأمن المصائب فيطول أمله في البقاء ووجوه المكاسب، لأجل ما عنده من
الأمن. ويجوز أن ينصب طول أمل على البدل من المفعول
المنصوب ب رأيت، وهو من، ويكون التقدير: قد
رأيت طول! أمل من كان. وهذا بدل الاشتمال، وقد حذف منه الضمير العائد كما حذف من
قوله تعالى: "قتل أصحاب الأخدود،
النار..." وأعواد المنايا: النعش. ويتعاطى به الرجال الرجال:
يتداولونه: تارة على أكتاف هؤلاء، وتارة على أكتاف هؤلاء، وقد
فسر ذلك بقوله: حملاً على المناكب، وإمساكاً بالأنامل، والمشيد: المبني بالشيد، وهو الجص، البور: الفاسد الهالك، وقوم بور، أي هلكى، قال
سبحانه: "وكنتم قوماً بوراً"، وهو
جمع، واحده بائر كحائل وحول. والظهور: الركاب، جمع ظهر. وبنو فلان مظهرون، أي
لهم ظهور ينقلون عليها الأثقال، كما يقال: منجبون؟ إذا كانوا أصحاب نجائب. والزيال:
المفارقة؟ زايله مزايلة، وزيالاً، أي فارقه. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن
كلام له عليه السلام في أوصاف الدنيا
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: وانقادت له
الدنيا والآخرة بأزمتها، وقذفت إليه السموات والأرضون مقاليدها، وسجدت له بالغدو
والآصال الأشجار الناضرة، وقدحت له من قضبانها النيران المضيئة، وآتت أكلها
بكلماته الثمار اليانعة. والمقاليد:
المفاتيح. واليانعة:
الناضجة. وبكلماته،
أي بقدرته ومشيئته، وهذه اللفظة من الألفاظ المنقولة على أحد الأقسام الأربعة
المذكورة في كتبنا في أصول الفقه، وهو استعمال لفظة متعارفة في اللغة العربية في
معنى لم يستعملها أهل اللغة فيه، كنقل لفظة الصلاة، الذي هو في أصل اللغة للدعاء
إلى هيئات وأوضاع مخصوصة، ولم تستعمل العرب تلك اللفظة فيها. ولا يصح قول من قال: المراد بذلك قوله كن ، لأنه
تعالى لا يجوز أن يخاطب المعدوم وقوله تعالى:
"إنما أمرنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون" من باب
التوسع والاستعارة المملوء منهما القرآن، والمراد سرعة المؤاتاة، وعجلة الإيجاد،
وأنه إذا أراد من أفعاله أمراً كان. فإن قلت:
لماذا قالت العرب بين أظهرهم ، ولم تقل: بين صدورهم؟ قلت:
أرادت بذلك الإشعار بشدة المحاماة عنه، والمراماة من دونه، لأن النزيل إذا حامى
القوم عنه استقبلوا شبا الأسنة، وأطراف السيوف عنه بصدورهم، وكان هو محروساً
مصوناً عن مباشرة ذلك وراء ظهورهم. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الجناس
وأنواعه
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
واعلم أن الجناس على سبعة أضرب: أولها: الجناس التام كهذا اللفظ، وحده أن تتساوى حروف
ألفاظ الكلمتين في تركيبها وفي وزنها، قالوا:
ولم يرد في القرآن العزيز منه إلا موضع واحد، وهو قوله: "ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة". وعندي
أن هذا ليس بتجنيس أصلاً، وقد ذكرته في كتابي المسمى ب
"الفلك الدائر على المثل السائر" وقلت:
إن الساعة في الموضعين بمعنى واحد، والتجنيس أن يتفق اللفظ ويختلف المعنى ولا
يكون أحدهما حقيقة والآخر مجازاً، بل يكونان
حقيقتين، وإن زمان القيامة وإن طال، لكنه عند الله في حكم الساعة
الواحدة، لأن قدرته لا يعجزها أمر، ولا يطول عندها زمان، فيكون إطلاق لفظ الساعة
على أحد الموضعين حقيقة، وعلى الآخر مجازاً، وذلك يخرج الكلام عن حد التجنيس، كما لو قلت: ركبت حماراً، ولقيت حماراً، وأردت
بالثاني البليد.
فالغرر
الأولى مستعارة من غرة الوجه، والغرر الثانية من غرة الشيء، وهى أكرمه. وكذلك
قوله:
فالجعد الأول السيد، والثاني ضد السبط، وهو من صفات البخيل.
فالضرب الأول الرجل الخفيف، والثاني مصدر ضرب.
فأحدهما
جمع ثغر وهو ما يتاخم العدو من بلاد الحرب، والثاني للأسنان.
وقد
أكثر الناس في استحسان هذا التجنيس وأطنبوا، وعندي أنه ليس بتجنيس أصلاً، لأن
تسمية السيوف قضباً وتسمية الأغصان قضباً كله بمعنى واحد، وهو القطع، فلا تجنيس
إذا. وكذلك
البيض للسيوف، والبيض للنساء، كله بمعنى البياض، فبطل معنى التجنيس، وأظنني ذكرت
هذا أيضاً في كتاب الفلك الدائر".
وهذا
عندي أيضاً ليسى بتجنيس، لأن الصدور في الموضعين بمعنى واحد، وهوجزء الشيء
المتقدم البارز عن سائره، فأما قوله أيضاً:
فإنه
من التجنيس التام، لا شبهة في ذلك لاختلاف المعنى، فالعيد الأول هو اليوم
المعروف من الأعياد، والعيد الثاني فحل من فحول الإبل. ونحو هذا قول أبي نواس:
وقول
البحتري:
فالعين
الثانية الجاسوس، والأولى العين المبصرة. وللغزي المتأخر قصيدة أكثر من التجنيس
التام فيها، أولها:
وقال
في أثنائها:
وقال
في مديحها:
وقد
ذكر الغانمي في كتابه من صناعة الشعر باباً سماه رد الأعجاز على الصدور، ذكر أنه
خارج عن باب التجنيس، قال: مثل قول الشاعر:
وهذا
من التجنيس، وليس بخارج عنه ولكنه تجنيس مخصوص، وهو الإتيان به في طرفي البيت.
وكذلك قول البحتري:
وهذا
عندي ليس بتجنيس، لاتفاق المعنى. والعجب منه أنه
بعد إيراده هذا أنكر على من قال: إن قول أبي تمام:
من التجنيس، وقال: أي تجنيس ههنا والمعنى متفق، ولو أمعن النظر لرأى هذا مثل
البيتين السابقين.
وقال
آخر:
ومنها: أن تكون الألفاظ متساوية في الوزن مختلفة في التركيب بحرف
واحد لا غير،
فإن زاد على ذلك خرج من باب التجنيس، وذلك نحو قوله تعالى: "وجوه يومئذ ناضرة، إلى ربها ناظرة". وكذلك
قوله سبحانه وتعالى: "وهم
ينهون عنه وينأون عنه"، وقوله تعالى: "ذلكم
بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون". ونحو
هذا ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من
قوله: "الخير معقود بنواصي الخيل إلى يوم
القيامة"، وقال بعضهم: "لا تنال
المكارم إلا بالمكاره".
وقال
البحتري:
وقال
أيضاً:
وهذا البيت حسن الصنعة، لأنه قد جمع بين التجنيس الناقص وبين المقلوب، وهو أرماح، وأرحام. قال:
ومن هذا القسم قول أبي تمام:
وكذلك
قوله أيضاً:
وقوله
أيضاً:
وقوله
أيضاً:
وقوله
أيضاً:
وقوله
أيضاً:
فالبيت الثالث والخامس هما المقصودان بالتمثيل.
وكقول
البحتري:
وكقوله
أيضاً:
واعلم أن هذه الأمثلة لهذا القسم، ذكرها ابن الأثير في كتابه، وهو عندي مستدرك، لأنه حد هذا القسم
بما يختلف تركيبه، يعني حروفه الأصلية، ويختلف أيضاً وزنه، ويكون اختلاف تركيبه
بحرف واحد. هكذا قال في تحديده
لهذا القسم، وليس بقمر والأقمار تختلف بحرف واحد، وكذلك عمارة والأعمار،
وكذلك العوالي والمعالي. وأما قوله تعالى: "وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً"، فخارج عن هذا بالكلية، لأن جميع أمثلة هذا القسم يختلف فيه الكلمات بالحروف الزائدة،
وهذه الآية اختلاف كلمتيها بحروف أصلية، فليست من
التجنيس الذي نحن بصدده، بل هي من باب تجنيس التصحيف، كقول البحتري:
ثم قال ابن الأثير في هذا القسم أيضاً: ومن ذلك قول محمد بن وهيب الحميري:
وهذا
أيضاً عندي مستدرك، لأن اللفظين كليهما من الوتر، ويرجعان إلى أصل واحد، إلا أن
أحد اللفظين مفعول والآخر فاعل، وليس أحد يقول إن شاعراً لو قال في شعره: ضارب
ومضروب، لكان قد جانس.
ومثله قول المتنبي:
ومثله قول الرضي رحمه الله من أبيات يذم فيها الزمان:
ومثله
قول آخر:
ولبعض
شعراء الأندلس يذكر غلامه:
ويسمى هذا الضرب التبديل، وقد مثله قدامة بن جعفر الكاتب بقولهم: اشكر لمن أنعم عليك، وأنعم على من
شكرك. قالوا: ومنه قوله تعالى: "يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي"، ولا
أراه منه، بل هو من باب الموازنة. ومثلوه
أيضاً بقول أمير المؤمنين رضي الله عنه: أما بعد، فإن الإنسان يسره درك ما لم
يكن ليفوته، ويسوءه فوت ما لم يكن ليدركه. وبقول أبي
تمام لأبي العميثل وأبي سعيد الضرير، فإنهما قالا: لما امتدح عبد الله بن
طاهر بقصيدة، وفي افتتاحها تكلف وتعجرف: لم لا تقول ما يفهم، فقال لهما: لم لا تفهمان ما يقال.
وكقول
الآخر:
أي لا بقاء. وكقول الآخر:
ير يد بها برقعاً.
وهذا
في التحقيق هو الباب المسمى لزوم ما لا يلزم، وليس من باب التجنيس.
وقد
ورد مثل ذلك في المنثور، نحو ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه
يقال يوم القيامة، لصاحب القرآن: "اقرأ وارق". وقد
تكلمت في كتابي المسمى بالعبقري الحسان، على أقسام الصناعة البديعة نثراً
ونظماً، وبينت أن كثيراً منها يتداخل، ويقوم البعض من ذلك مقام بعض، فليلمح من
هناك.
وقال
أيضاً:
وقال
أبوالعلاء:
ولي
من قصيدة، أخاطب رجلين فرا في حرب:
وقال أبو الطيب أيضاً:
البحتري:
وقال
آخر:
وقال
آخر:
وقال
محمد بن وهيب الحميري:
وهذا مأخوذ من قول أمير المؤمنين رضي الله عنه، وقد قيل له: ما أكثر حب الناس
للدنيا، فقال: هم أبناؤها، أيلام الإنسان على حب أمه.
أبو الطيب:
فإن قلت:
كيف يقول: إنه لا يجد في الموت راحة، وأين هذا من
قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدنيا سجن المؤمن، وجنة
الكافر"، ومن قوله رضي الله عنه: والله ما أرجو الراحة إلا بعد الموت،
وماذا يعمل بالصالحين الذين آثروا فراق هذه العاجلة، واختاروا الآخرة، وهو رضي الله عنه سيدهم وأميرهم.
وقال
أخر:
وقيل لأعرابي وقد احتضر: إنك ميت، قال: إلى أين يذهب بي، قيل: إلى الله، قال: ما
أكره أن أذهب إلى من لم أر الخير إلا منه.
وقال بعض السلف:
ما من مؤمن إلا والموت خير له من الحياة، لأنه إن كان محسناً فالله تعالى يقول: "وما عند الله خير وأبقى للذين اتقوا"،
وإن كان مسيئاً فالله تعالى يقول: "ولا يحسبن
الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً".
وقال
أخر:
وقال
أبوالعلاء:
وقال
أبوالعتاهية:
وقال
ابن المعتز:
فأما قوله رضي الله عنه: وإنما ذلك بمنزلة الحكمة، إلى قوله "وفيها الغنى كله
والسلامة، ففصل آخر غيرملتثم بما قبله، وهو إشارة إلى كلام من كلام رسول الله
صلى الله عليه وسلم رواه لهم، ثم حضهم على التمسك به، والانتفاع بمواعظه، وقال:
إنه بمنزلة الحكمة التي هي حياة القلوب، ونور الأبصار، وسمع الآذان الصم، وري
الأكباد الحرى، وفيها الغنى كله، والسلامة، والحكمة المشبه كلام الرسول صلى الله عليه وسلم بها هي المذكورة في قوله تعالى: "ومن يؤت الحكمة فقد أوتى خيراً كثيراً"، وفي
قوله: "ولقد آتينا لقمان الحكمة"، وفي
قوله: "وأتيناه الحكم صبياً"، وهي
عبارة عن المعرفة بالله تعالى، وبما في مبدعاته من الأحكام الدالة على علمه،
كتركيب الأفلاك، ووضع العناصر مواضعها، ولطائف صنعة الإنسان وغيره من الحيوان،
وكيفية إنشاء النبات والمعادن، وما في العالم من القوى المختلفة، والتأثيرات
المتنوعة، الراجع ذلك كله إلى حكمة الصانع وقدرته وعلمه، تبارك اسمه. ونبت
المرعى عليها، أي دامت وطال الزمان عليها، حتى صارت بمنزلة الأرض الجامدة
الثابتة التي تنبت النبات. ويجوز أن يريد بالدمن ههنا جمع دمن وهو البعر
المجتمع كالمزبلة، أو جمع دمنة وهي آثار الناس وما سودوا من الأرض، يقال: قد دمن
الشاء الماء، وقد دمن القوم الأرض، فشبه ما في قلوبهم من الغل والحقد والضغائن
بالمزبلة المجتمعة من البعر وغيره، من سقاطة الديار التي قد طال مكثها حتى نبت
عليها المرعى، قال الشاعر:
قوله رضي الله عنه: لقد استهام بكم الخبيث، يعني الشيطان. واستهام بكم:
جعلكم هائمين، أي استهامكم، فعداه بحرف الجر، كما تقول في استنفرت القوم إلى
الحرب: استنفرت بهم، أي جعلتهم نافرين. ويمكن أن يكون بمعنى الطلب والاستدعاء، كقولك: استعلمت منه حال كذا، أي استدعيت أن
يعلمني، واستمنحت فلاناً، أي طلبت واستدعيت أن يعطيني، فيكون
قوله: واستهام بكم الخبيث، أي استدعى منكم أن تهيموا وتقعوا في التيه
والضلال والحيرة. ثم
سأل الله أن يعينه على نفسه وعليهم. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن
كلام له وقد شاوره عمر بن الخطاب في الخروج إلى غزو الروم
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: وقد توكل
الله لأهل هذا الدين بإعزاز الحوزة، وستر العورة، والذي نصرهم، وهم قليل لا
ينتصرون، ومنعهم وفم قليل لا يمتنعون، حي لا يموت. إنك متى تسر إلى هذا العدو بنفسك، فتلقهم فتنكب، لا
يكن للمسلمين كهف دون أقصى بلادهم. ليس بعدك
مرجع يرجعون إليه، فابعث إليهم رجلاً محرباً، واحفز معه أهل البلاء والنصيحة،
فإن أظهر الله فذاك ما تحب، وإن تكن الأخرى، كنت ردءاً للناس ومثابة للمسلمين. ويروى كانفة أي جهة عاصمة، من قولك: كنفت الإبل،
جعلت لها كنيفاً من الشجر تستتر به وتعتصم. وثانيهما، يجوز أن يكون غلب على ظنه أن غيره لا
يقوم مقامه في حرب هذه الفرق الخارجة عليه، ولم يجد أميراً محرباً من أهل البلاء
والنصيحة، لأنه رضي
الله عنه هكذا
قال لعمر، واعتبر هذه القيود والشروط، فمن كان من أصحابه رضي الله عنه محرباً
لم يكن من أهل النصيحة له، ومن كان من أهل النصيحة له لم يكن محرباً، فدعته
الضرورة إلى مباشرة الحرب بنفسه. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
غزوة
فلسطين وفتح بيت المقدس
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
واعلم أن هذه الغزاة هي
غزاة فلسطين، التي فتح فيها بيت المقدس، وقد
ذكرها أبوجعفر محمد بن جرير الطبري في التاريخ، وقال:
إن علياً رضي الله عنه هو
كان المستخلف على المدينة لما شخص عمر إلى الشام، وإن
علياً رضي الله عنه قال له: لا تخرج بنفسك، إنك تريد عدواً كلباً،
فقال عمر: إني أبادر بجهاد العدو موت العباس بن
عبد المطلب، إنكم لو فقدتم العباس لانتقض
بكم الشر كما ينتقض الحبل. فمات العباس لست سنين
خلت من إمارة عثمان وانتقض بالناس الشر. قال أبو جعفر:
ولقيه معاوية، وعليه ثياب ديباج، وحوله جماعة من الغلمان والخول، فدنا منه فقبل يده، فقال: ما هذا يابن هند، وإنك لعلى هذه الحال، مترف صاحب لبوس وتنعم، وقد بلغني أن
ذوي الحاجات يقفون ببابك، فقال: يا أمير المؤمنين، أما اللباس فإنا ببلاد
عدو، ونحب أن يرى أثر نعمة الله علينا، وأما الحجاب فإنا نخاف من البذلة جرأة
الرعية. فقال: ما سألتك عن شيء إلا تركتني منه في أضيق من
الرواجب، إن كنت صادقاً فإنه رأي لبيب، وإن كنت كاذباً، فإنها خدعة أريب. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
من
كلام له وقد وقع بينه وبين عثمان مشاجرة فقال المغيرة بن الأخنس لعثمان: أنا
أكفيكه، فقال أمير المؤمنين ع للمغيرة.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: يابن اللعين
الأبتر، والشجرة التي لا أصل لها ولا فرع، أنت
تكفيني، فو الله ما أعز الله من أنت ناصره، ولا قام من أنت منهضه، أخرج عنا أبعد
الله نواك، ثم أبلغ جهدك، فلا أبقى الله عليك إن أبقيت. والحقد
الذي في قلب المغيرة عليه من هذه الجهة. وإنما قال له:
يابن الأبتر، لأن من كان عقبه ضالاً خبيثاً، فهو كمن لا عقب له بل من لا
عقب له خير منه ويروى: ولا أقام من أنت
منهضه بالهمزة. وقد روي
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن
ثقيفاً. وروى الحسن البصري
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن
ثلاث بيوت: بيتان من مكة، وهما بنو أمية وبنو المغيرة، وبيت من الطاثف وهم ثقيف. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
نبذ
من أخبار ثقيف
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وإنما قال له:
والشجرة التي لا أصل لها ولا فرع، لأن ثقيفاً في نسبها طعن، فقال قوم من النسابين: إنهم من هوازن، وهو القول الذي
تزعمه الثقفيون، قالوا: هو ثقيف، واسمه قسي بن منبه بن بكر بن هوازن بن منصور بن
عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر. وعلى هذا القول جمهور الناس. وقد روى أبو العباس المبرد في الكامل لأخت الأشتر مالك بن الحارث
النخعي تبكيه:
قال أبو العباس:
وهجا يحيى بن نوفل، وكان هجاء خبيث اللسان، العريان بن الهيثم بن الأسود النخعي،
وقد كان العريان تزوج امرأة اسمها زباد، مبني على الكسر، والزاي مفتوحة بعدها
باء منقوطة بواحدة وهي من ولد هانىء بن قبيصة الشيباني، وكانت قبله تحت الوليد
بن عبد الملك بن مروان، فطلقها، فأنكحها إياه أخ لها يقال له زياد، فقال يحيى بن نوفل:
قال أبو العباس:
وكان المغيرة بن شعبة، وهو والي الكوفة صار إلى دير هند بنت النعمان بن المنذر،
وهي فيه عمياء مترهبة، فاستأذن عليها، فقيل لها:
أمير هذه المدرة بالباب. قالت: قولوا له: من ولد جبلة بن الأيهم أنت، قال: لا، قالت: أفمن
ولد المنذر بن ماء السماء أنت، قال: لا، قالت: فمن أنت، قال:
أنا المغيرة بن شعبة الثقفي، قالت: فما
حاجتك، قال: جئت خاطباً، قالت: لو كنت جئتني لجمال أو مال بطلبتك، ولكن
أردت أن تتشرف بي في محافل العرب، فتقول:
نكحت ابنة النعمان بن المنذر، وإلا فأي خير في اجتماع أعور وعمياء. قال:
فما كان أبوك يقول كما ثقيف، قالت: أذكر،
وقد اختصم إليه رجلان منهم، أحدهما ينتهي إلى إياد، والآخر إلى هوازن، فقضى
للإيادي وقال:
فقال المغيرة:
أما نحن فمن بكر بن هوازن، فليقل أبوك ما شاء، ثم انصرف. قال أبو العباس: وقد قال الحجاج على المنبر: يزعمون أنا من بقايا ثمود، فقد
كذبهم الله بقوله: "وثمودا فما أبقى".
وقتل المغيرة بن الأخنس مع عثمان يوم الدار، وقد ذكرنا مقتله
فيما تقدم. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الفهرس الجزء الثامن باب المختار
من الخطب والأوامر - ابن ابي الحديد. 2 ومن كلام له وحث أصحابه على القتال. 2 ومن كلام له عليه السلام في الخوارج
لما أنكروا تحكيم الرجال ويذم فيه أصحابه في التحكيم. 48 ومن كلام له قاله للخوارج أيضاً 51 غلاة الشيعة والنصيرية وغيرهم. 54 فيما يخبر به عن الملاحم بالبصرة 56 ومن خطبة له في ذكر المكاييل والموازين. 104 من أقوال الحكماء والصالحين، 105 ومن كلام له لأبي ذر رحمه الله لما
أخرج إلى الربذة 107 أخبار أبي ذر الغفاري حين خروجه
إلى الربذة، 108 ومن كلام له في حال نفسه أوصاف الإمام 112 ومن خطبة له عنه في تمجيد الله تعالى. 114 ومن كلام له عليه السلام في أوصاف
الدنيا 115 ومن كلام له وقد شاوره عمر بن الخطاب
في الخروج إلى غزو الروم 127 غزوة فلسطين وفتح بيت المقدس.. 127 |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الجزء
الثامن باب المختار من الخطب والأوامر - ابن ابي الحديد
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الواحد العدل |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن
كلام له وحث أصحابه على القتال
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
فقدموا الدارع، وأخروا الحاسر، وعضوا على الأضراس فإنه أنبى للسيوف عن الهام،
والتووا في أطراف الرماح فإنه أمور للأسنة، وغضوا الأبصار فإنه أربط للجأش،
وأسكن للقلوب، وأميتوا الأصوات فإنه أطرد للفشل. ورايتكم فلا تميلوها
ولا تخلوها، ولا تجعلوها إلا بأيدي شجعانكم، والمانعين الذمار منكم فإن الصابرين
على نزول الحقائق هم الذين يحفون براياتهم، ويكتنفونها: حفافيها، ووراءها،
وأمامها لا يتأخزون عنها فيسلموها، ولا يتقدمون عليها فيفردوها. وأن يعضوا على
الأضراس وقد تقدم شرح هذا، وقلنا: إنه يجوز أن
يبدأوهم بالحنق والجد ويجوز أن يريد أن العض على الأضراس يشد شؤون الدماغ
ورباطاته، فلا يبلغ السيف منه مبلغه لو صادفه رخواً. وأمرهم بأن
يلتووا إذا طعنوا لأنهم إذا فعلوا ذلك، فبالحرى أن يمور السنان، أي يتحرك عن
موضع الطعنة فيخرج زالقاً، وإذا لم يلتووا لم يمر السنان، ولم يتحرك عن موضعه
فيخرق وينفذ، فيقتل. وحفافاها: جانباها، ومنه
قول طرفة:
الأصل:
أجزأ امرؤ قرنه، وآسى أخاه بنفسه ولم يكل قرنه إلى أخيه، فيجتمع عليه قرنه وقرن
أخيه. وأيم الله لئن فررتم من سيف العاجلة، لا تسلمون من سيف الآخرة، وأنتم
لهاميم العرب، والسنام الأعظم. وإن الفار لغير مزيد في عمره، ولا
محجوز بينه وبين يومه. ومن الناس من قال:
معنى ذلك: هلا أجزأ امرؤ قرنه! فيكون تحضيضاً محذوف الصيغة للعلم بها. وأجزأ بالهمزة،
أي كفى. وقرنك: مقارنك في القتال أو نحوه. ويروى:
والذل اللاذم بالذال المعجمة وهو بمعنى اللازم أيضاً، لذمت المكان بالكسر، أي
لزمته. ثم ذكر أن الفرار لا يزيد في العمر، وقال
الراجز:
ثم قال
لهم: أيكم يروح إلى الله فيكون كالظمآن يرد
الماء! ثم قال: الجنة تحت أطراف العوالي وهذا من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الجنة تحت ظلال
السيوف". وسمع بعض الأنصار رسول الله صلى الله
عليه وسلم ، يقول يوم أحد: "الجنة تحت
ظلال السيوف"، وفي يده تميرات يلوكها، فقال: بخ بخ! ليس بيني وبين
الجنة إلا هذه التميرات! ثم قذفها من يده وكسر جفن سيفه، وحمل على قريش فقاتل
حتى قتل. ونواحر أرضهم:
متقابلاتها، ويقال: منازل بني فلان تتناحر أي تتقابل. ويخرج منه النسيم، أي
لسعته ومن هذا النحو قول الشاعر:
فهذا وصف الطعنة،
بأنها لاتساعها يرى الإنسان المقابل لها ببصره ما وراءها، وأنه لولا شعاع الدم
وهو ما تفرق منه لبان منها الضوء. وأمير المؤمنين رضي الله عنه أراد من أصحابه
طعنات يخرج النسيم وهو الريح اللينة منهن. ويطيح
العظام: يسقطها، طاح الشيء، أي سقط أو
هلك أو تاه في الأرض، وأطاحه غيره، وطوحه. والساعد:
من الكوع إلى المرفق، وهو الذراع.
والدعق، قد فسره
الرضي رحمه الله ويجوز أن يفسر بأمر
آخر وهو الهيج والتنفير، دعق القوم يدعقهم دعقاً، أي هاج منهم ونفرهم. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
عود
إلى أخبار صفين
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
واعلم أن هذا الكلام قاله أمير
المؤمنين رضي الله عنه لأصحابه في صفين، يحرضهم به، وقد ذكرنا من حديث صفين فيما
تقدم أكثره ونحن نذكر ههنا تتمة القصة ليكون من وقف على ما تقدم وعلى هذا
المذكور آنفاً هنا، قد وقف على قصة صفين بأسرها. قال نصر:
والتقت في هذا اليوم همدان العراق بعك الشام، فقال قائلهم:
وكانت
على عك الدروع، وليس عليهم رايات، فقالت همدان:
خدموا القوم، أي اضربوا سوقهم فقالت عك: ابركوا برك الكمل ، فبركوا كما يرك
الجمل ثم رموا الحجر، وقالوا: لا نفر حتى يفر الحكر.
ثم
وقف وصلى الفجر، فلما انفتل أبصر وجوها ليست بوجوه أصحابه بالأمس، وإذا مكانه
الذي هو فيه ما بين الميسرة إلى القلب، فقال: من القوم قالوا: ربيعة، وإنك يا
أمير المؤمنين لعندنا منذ اليلة! فقال:
ثم قال لهاشم بن عتبة: خذ اللواء فوالله ما رأيت مثل هذه الليلة. فخرج
هاشم باللواء حتى ركزه في القلب. ففطنت لهم همدان، فواجهوهم وصمدوا إليهم، فباتوا تلك الليلة
يتحارسون،
وعلي رضي الله عنه قد أفضى به ذهابه ومجيئه إلى رايات ربيعة فوقف بينها وهو لا
يعلم، ويظن أنه في عسكر الأشعث، فلما أصبح لم ير
الأشعث ولا أصحابه، ورأى سعيد بن قيس الهمداني على مركزه، فجاء إلى سعيد
رجل من ربيعة، يقال له زفر فقال له: ألست القائل
بالأمس: لئن لم تنته ربيعة لتكونن ربيعة ربيعة، وهمدان همدان فما أغنت همدان
البارحة! فنظر إليه علي رضي الله عنه نظر منكر،
ونادى منادي علي رضي الله عنه : أن اتعدوا للقتال، واغدوا عليه، وانهدوا
إلى عدوكم. فرجع
أبو ثروان إلى علي رضي الله عنه، فأخبره، فبعث إليهم الأشتر، فقال: يا معشر ربيعة، ما منعكم
أن تنهدوا وقد نهد الناس وكان جهير الصوت وأنتم أصحاب كذا، وأصحاب كذا؟! فجعل
يعدد أيامهم. فقالوا: لسنا نفعل حتى ننظر ما تصنع هذه الخيل التي خلف ظهورنا! وهي أربعة آلاف، قل لأمير المؤمنين: فليبعث إليهم من
يكفيه أمرهم. فوجهت حينئذ ربيعة إليهم تيم الله والنمر بن
قاسط وعنزة. قالوا:
فمشينا إليهم مستلئمين مقنعين في الحديد وكان عامة قتال صفين مشياً قال: فلما
أتيناهم هربوا وانتشروا انتشار الجراد، فذكرت قوله: وفروا كاليعافير. ثم
رجعنا إلى أصحابنا وقد نشب القتال بينهم وبين أهل الشام، وقد اقتطع أهل الشام
طائفة من أهل العراق، بعضها من ربيعة، فأحاطوا بها، فلم نصل إليها حتى حملنا على
أهل الشام، فعلوناهم بالأسياف حتى انفرجوا لنا، فأفضينا إلى أصحابنا
فاستنقذناهم، وعرفناهم تحت النقع بسيماهم وعلامتهم. وكانت علامة أهل العراق
بصفين الصوف الأبيض، قد جعلوه في رؤوسهم وعلى أكتافهم، وشعارهم:
يا الله، يا الله! يا أحد يا صمد يا رب محمد يا رحمن يا رحيم، وكانت علامة أهل
الشام خرقاً صفراً، قد جعلوها على رؤوسهم وأكتافهم، وشعارهم:
يا لثارات عثمان قال نصر:
فاجتلدوا بالسيوف وعمد الحديد، فلم يتحاجزوا حتى حجز بينهم الليل، وما يرى رجل
من هؤلاء ومن هؤلاء مولياً. وفيهم بقايا تلك الحمية، وعند بعضهم بصيرة الدين
والإسلام، فتضاربوا واستحيوا من الفرار حتى كادت الحرب تبيدهم، وكانوا إذا
تحاجزوا دخل هؤلاء عسكر هؤلاء، فيستخرجون قتلاهم فيدفنونهم. قال ذو الكلاع: بلى فسر فلك ذمة الله وذمة رسوله
وذمة ذي الكلاع، حتى ترجع إلى خيلك، فإنما أريد أن أسالك عن أمر فيكم تمارينا
فيه. فسار أبو نوح، وسار ذو الكلاع، فقال له: إنما دعوتك أحدثك حديثاً حدثناه
عمرو بن العاص قديماً في خلافة عمر بن الخطاب، ثم أذكرناه الآن به فأعاده إنه
يزعم أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يلتقي أهل الشام وأهل العراق، وفي إحدى الكتيبتين
الحق وإمام الهدى، ومعه عمار بن ياسر". فقال أبو نوح: نعم والله إنه لفينا. قال: نشدتك الله، أجاد هو على قتالنا قال أبو نوح:
نعم ورب الكعبة، لهو أشد على قتالكم مني، ولوددت أنكم خلق واحد فذبحته وبدأت بك
قبلهم، وأنت ابن عمي. قال ذو الكلاع:
ويلك! علام تمني ذلك منا فوالله ما قطعتك فيما بيني وبينك قط، وإن رحمك لقريبة،
وما يسرني أن أقتلك. قال أبو نوح: إن الله قطع بالإسلام أرحاماً قريبة، ووصل به
أرحاماً متباعدة، وإني قاتلك وأصحابك، لأنا على الحق وأنتم على الباطل. قال ذو الكلاع:
فهل تستطيع أن تأتي معي صف أهل الشام، فأنا لك جاز منهم، حتى تلقى عمرو بن
العاص، فتخبره بحال عمار وجده في قتالنا، لعله أن يكون صلح بين هذين الجندين! قلت: واعجباه من
قوم بعتريهم الشك في أمرهم لمكان عمار، ولا يعتريهم الشك لمكان علي رضي الله عنه ويستدلون
على أن الحق مع أهل العراق بكون عمار بين أظهرهم، ولا يعبأون بمكان علي رضي الله عنه ويحذرون
من قول النبي صلى الله عليه وسلم: "تقتلك الفئة الباغية"، ويرتاعون لذلك،
ولا يرتاعون لقوله صلى الله عليه وسلم في
علي رضي الله عنه "اللهم وال
من والاه وعاد من عاداه "، ولا لقوله: "لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق".
وهذا يدلك على أن علياً رضي الله عنه اجتهدت
قريش كلها من مبدأ الأمر في إخمال ذكره وستر فضائله، وتغطية خصائصه حتى محي فضله
ومرتبته من صدور الناس كافة إلا قليلاً منهم. فقال أبو نوح: إني أخاف غدراتك وغدرات أصحابك. قال ذو الكلاع: أنا لك بما قلت زعيم، قال أبو نوح: اللهم إنك ترى ما أعطاني ذو الكلاع،
وأنت تعلم ما في نفسي، فاعصمني واختر لي وانصرني، وادفع عني. ثم سار مع ذي الكلاع حتى أتى عمرو بن
العاص وهو عند معاوية وحوله الناس، وعبد الله بن عمر يحرض الناس على الحرب،
فلما وقفا على القوم، قال ذو الكلاع لعمرو:
يا أبا عبد الله، هل لك في رجل ناصح لبيب مشفق يخبرك عن عمار بن ياسر فلا يكذبك
قال: ومن هو قال: هو ابن عمي هذا، وهو من أهل الكوفة. فقال عمرو: أرى عليك سيما أبي تراب! فقال أبو نوح:
علي سيما محمد وأصحابه، وعليك سيما أبي جهل وسيما فرعون! فقام أبو الأعور فسل سيفه، وقال:
لا أرى هذا الكذاب اللئيم يسبنا بين أظهرنا وعليه سيما أبي تراب! فقال ذو الكلاع:
أقسم بالله لئن بسطت يدك إليه لأحطمن أنفك بالسيف، ابن عمي وجاري، عقدت له ذمتي،
وجئت به إليكم ليخبركم عما تماريتم فيه. فقال له
عمرو بن العاص: يا أبا نوح، أذكرك بالله إلا ما صدقتنا ولم تكذبنا، أفيكم
عمار بن ياسر قال أبو
نوح: ما أنا بمخبرك حتى تخبر: لم نسأل عنه ومعنا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم عدة
غيره، وكلهم جاد على قتالكم فقال عمرو: سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن عماراً
تقتله الفئة الباغية، وإنه ليس لعمار أن يفارق الحق، ولن تأكل النار من عمار
شيئاً"، فقال أبو نوح: لا إله
إلا الله، والله أكبر، والله إنه لفينا جاد على قتالكم! فقال عمرو: والله الذي لا إله إلا هو إنه لجاد على قتالنا! قال: نعم والله الذي لا إله إلا هو ولقد حدثني يوم
الجمل أنا سنظهر على أهل البصرة، ولقد قال لي أمس:
إنكم لو ضربتمونا حتى تبلغوا بنا سعفات هجر، لعلمنا أنا على الحق، وأنكم على
باطل ولكانت قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار. فقال لهم أبو نوح:
إنه. دعاني ذو الكلاع، وهو ذو رحم فقال:
أخبرني عن عمار بن ياسر، أفيكم هو فقلت: لم تسأل فقال:
أخبرني عمرو بن العاص في إمرة عمر بن الخطاب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: "يلتقي
أهل الشام وأهل العراق، وعمار مع أهل الحق، وتقتله الفئة الباغية"، فقلت:
نعم، إن عماراً فينا، فسألني: أجاد هو على قتالنا فقلت: نعم والله، إنه لأجد مني
في ذلك، ولوددت أنكم خلق واحد فذبحته وبدأت بك يا ذا الكلاع، فضحك عمار،
وقال: أيسرك ذلك قال: نعم، ثم قال أبو نوح:
أخبرني الساعة عمرو بن العاص، أنه سمع رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول: "تقتل
عماراً الفئة الباغية"، قال عمار: أقررته بذلك قال: نعم، لقد قررته
بذلك فأقر، فقال عمار: صدق، وليضرنه ما سمع ولا ينفعه. قال أبو نوح: فإنه يريد أن يلقاك، فقال عمار لأصحابه: اركبوا، فركبوا وساروا. فقال أبو الأعور:
لقد أكثرت الكلام، وذهب النهار، ويحك! ادع أصحابك وأدعو أصحابي، وليأت أصحابك في
قلة إن شاءوا أو كثرة، فإني أجيء من أصحابي بعدتهم، فإن شاء أصحابك فليقلوا، وإن
شاءوا فليكثروا. فسار عمار في اثني عشر فارساً، حتى
إذا كانوا بالمنصف سار عمرو بن العاص في اثني عشر فارساً حتى اختلفت أعناق الخيل
خيل عمار وخيل عمرو، ونزل القوم واحتبوا بحمائل سيوفهم، فتشهد عمرو بن العاص، فقال له عمار: اسكت، فلقد
تركتها وأنا أحق بها منك، فإن شئت كانت خصومة فيدفع حقنا باطلك، وإن شئت كانت
خطبة فنحن أعلم بفصل الخطاب منك، وإن شئت أخبرتك بكلمة تفصل بيننا وبينك، وتكفرك
قبل القيام، وتشهد بها على نفسك، ولا تستطيع أن تكذبني فيها. فقال عمرو: يا أبا اليقظان، ليس لهذا جئت إنما جئت
لأني رأيتك أطوع أهل هذا العسكر فيهم. أذكرك الله إلا كففت سلاحهم، وحقنت دماءهم، وحرصت
على ذلك، فعلام تقاتلوننا! أولسنا نعبد إله واحداً، ونصلي إلى قبلتكم وندعو
دعوتكم، ونقرأ كتابكم، ونؤمن بنبيكم! فقال عمار: الحمد لله الذي أخرجها من فيك، إنها لي ولأصحابي:
القبلة، والدين، وعبادة الرحمن، والنبي والكتاب من دونك ودون أصحابك. الحمد لله
الذي قررك لنا بذلك، وجعلك ضالاً مضلاً أعمى، وسأخبرك على ما أقاتلك عليه وأصحابك
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني أن
أقاتل الناكثين فقد فعلت، وأمرني أن أقاتل القاسطين وأنتم هم، وأما المارقون فلا
أدري إدركهم أو لا أيها الأبتر، ألست تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من
كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه"! فأنا
مولى الله ورسوله وعلي مولاي بعدهما. فقام أهل
الشام ولهم زجل فركبوا خيولهم ورجعوا، وقام عمار وأصحابه فركبوا خيولهم ورجعوا،
وبلغ معاوية ما كان بينهم فقال: هلكت العرب إن حركتهم خفة العبد الأسود يعني
عماراً. وحكى الأشعث بعد ذلك، قال:
لقد رأيت أخبية صفين وأروقتها، وما فيها خباء ولا رواق ولا فسطاط إلا مربوطاً
بيد إنسان أو برجله. فتقدمنا حتى دنونا من هاشم بن عتبة، فقال له عمار: احمل فداك أبي وأمي! فقال له هاشم: يرحمك الله يا أبا اليقظان! إنك رجل
تأخذك خفة في الحرب، وإني إنما أزحف باللواء زحفاً، أرجو أن أنال بذلك حاجتي،
وإن خففت لم آمن الهلكة. وقد كان قال معاوية لعمرو: ويحك! إن اللواء اليوم مع هاشم بن عتبة، وقد كان من قبل
يرقل به إرقالاً، وإن زحف به اليوم زحفاً إنه لليوم الأطول على أهل الشام، فإن
زحف في عنق من أصحابه إني لأطمع أن تقتطع. فلم يزل به عمار حتى حمل، فبصر به معاوية،
فوجه إليه حماة أصحابه ومن يزن بالبأس والنجدة منهم في ناحية، وكان في ذلك الجمع
عبد الله بن عمرو بن العاص، ومعه يومئذ سيفان قد تقلد بأحدهما، وهو يضرب بالآخر،
فأطافت به خيول علي رضي الله عنه،
وجعل عمرو يقول: يا الله، يا رحمن! ابني، ابني! فيقول
معاوية: اصبر فلا بأس عليه. فقال عمرو:
لو كان يزيد بن معاوية، أصبرت! فلم يزل حماة أهل الشام تذب عن عبد الله حتى نجا
هارباً على فرسه ومن معه، وأصيب هاشم في المعركة.
ثم
استسقى وقد اشتد عطشه، فأتته امرأة طويلة اليدين، ما أدري أعس معها أم إداوة،
فيها ضياح من لبن! فقال حين شرب: الجنة تحت الأسنه،
اليوم ألقى الأحبه، محمداً وحزبه. والله لو ضربونا حتى يبلغونا سعفات هجر لعلمنا أنا على الحق،
وأنهم على الباطل.
ثم
حمل وحمل عليه ابن حوى السكسكي وأبو العادية، فأما أبو العادية فطعنه، وأما ابن حوى فاحتز رأسه، وقد كان ذو الكلاع يسمع عمرو بن العاص يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم يقول لعمار: "تقتلك
الفئة الباغية، وآخر شربك ضياح من لبن"، فقال
ذو الكلاع لعمرو: ويحك ما هذا! قال عمرو:
إنه سيرجع إلينا، ويفارق أبا تراب، وذلك قبل أن يصاب عمار، فلما أصيب عمار في
هذا اليوم أصيب ذو الكلاع، فقال عمرو لمعاوية:
والله ما أدري بقتل أيهما أنا أشد فرحاً والله لو
بقي ذو الكلاع حتى يقتل عمار لمال بعامة قومه إلى علي، ولأفسد علينا أمرنا. قال نصر:
وحدثنا عمرو، عن جابر، عن أبي الزبير، قال: أتى خذيفة بن اليمان رهط من جهينة،
فقالوا له: يا أبا عبد الله، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم استجار من أن تصطلم أمته، فأجير من ذلك، واستجار من أن يذيق
أمته بعضها بأس بعض، فمنع من ذلك، فقال حذيفة: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: "إن
ابن سمية لم يخير بين أمرين قط إلا اختار أشدهما يعني عماراً فالزموا
سمته".
قال:
فضرب أهل الشام حتى اضطرهم إلى الفرار. ثم أرسل معاوية إلى عمرو: لقد أفسدت علي أهل الشام أكل ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم تقوله! فقال عمرو: قلتها
ولست أعلم الغيب، ولا أدري أن صفين تكون قلتها وعمار يومئذ لك ولي، وقد رويت أنت
فيه مثل ما رويت. فغضب معاوية وتنمر لعمرو، وعزم على منعه خيره، فقال عمرو لابنه وأصحابه: لا خير في جوار معاوية إن تجلت هذه الحرب عنه لأفارقنه وكان عمرو حمي
الأنف، قال:
فأجابه
معاوية:
قال:
فلما أتى عمراً شعر معاوية أتاه، فأعتبه وصار أمرهما واحداً. فقال علي رضي الله عنه: إن بإزائك ذا الكلاع، وعنده الموت الأحمر. فتقدم
هاشم فلما أقبل، قال معاوية: من هذا المقبل
فقيل: هاشم المرقال، فقال: أعور بني زهرة قاتله الله فأقبل هاشم وهو يقول:
فحمل
صاحب لواء ذي الكلاع وهو رجل من عذرة فقال:
فاختلفا
طعنتين، فطعنه هاشم فقتله، وكثرت القتلى حول هاشم، وحمل ذو الكلاع، واختلط الناس
واجتلدوا، فقتل هاشم وذو الكلاع جميعاً، وأخذ عبد الله بن هاشم اللواء وارتجز،
فقال:
قال نصر:
وحدثنا عمر بن سعد، عن الشعبي، قال: أخذ عبد الله بن هاشم بن عتبة راية أبيه، ثم
قال: أيها الناس، إن هاشماً كان عبداً من عباد الله الذي قدر أرزاقهم، وكتب
آثارهم، وأحصى أعمالهم، وقضى آجالهم، فدعاه الله ربه فاستجاب له، وسلم لأمره،
وجاهد في طاعة ابن عم رسوله. أول من آمن به، وأفقههم في دين الله، الشديد على
أعداء الله، المستحلين حرم الله، الذين عملوا في البلاد بالجور والفساد، واستحوذ
عليهم الشيطان، فأنساهم ذكر الله، وزين لهم الإثم والعدوان، فحق عليكم جهاد من
خالف الله، وعطل حدوده، ونابذ أولياءه. جودوا بمهجكم في طاعة الله في هذه
الدنيا، تصيبوا الآخرة والمنزل الأعلى، والأبد الذي لا يفنى. فوالله لو لم يكن ثواب ولا عقاب، ولا جنة ولا
نار، لكان القتال مع علي أفضل من القتال مع معاوية، فكيف وأنتم ترجون ما ترجون! قال نصر: وحدثنا عمرو بن شمر، قال: لما انقضى أمر صفين، وسلم الحسن عليه السلام الأمر إلى معاوية، ووفدت عليه الوفود، أشخص عبد الله بن هاشم
إليه أسيراً، فلما مثل بين يديه، وعنده عمرو بن
العاص، قال: يا أمير المؤمنين، هذا المختال
ابن المرقال، فدونك الضب المضب ، المغر المفتون فاقتله، فإن العصا من العصية، وإنما
تلد الحية حيية، وجزاء السيئة سيئة مثلها. فقال عمرو:
يا أمير المؤمنين، أمكني منه أشخب أوداجه على أثباجه. فقال عبد الله:
فهلا كانت هذه الشجاعة منك يا بن العاص في أيام صفين، ونحن ندعوك إلى النزال،
وقد ابتلت أقدام الرجال من نقيع الجريال ، وقد تضايقت بك المسالك، وأشرفت منها
على المهالك! وايم الله لولا مكانك منه لرميتك بأحد من وقع الأشافي فإنك لا تزال
تكثر في هوسك، وتخبط في دهسك، وتنشب في مرسك، تخبط العشواء، في الليلة الحندس
الظلماء. فأمر معاوية به إلى الحبس، فكتب عمرو إلى معاوية:
فبعث
معاوية بالشعر إلى عبد الله بن هاشم، فكتب في جوابه
من السجن:
هذه رواية نصر بن مزاحم. وروى
أبو عبيد الله محمد بن عمران بن موسى بن عبيد الله المرزباني، أن معاوية لما تم
له الأمر بعد وفاة علي رضي الله عنه ، بعث
زياداً على البصرة، ونادى منادي معاوية: أمن الأسود والأحمر بأمان الله إلا عبد
الله بن هاشم بن عتبة فمكث معاوية يطلبه أشد الطلب، ولا يعرف له خبراً، حتى قدم
عليه رجل من أهل البصرة، فقال له: أنا أدلك
على عبد الله بن هاشم بن عتبة أكتب إلى زياد فإنه عند فلانة المخزومية فدعا كاتبه فكتب: من
معاوية بن أبي سفيان أمير المؤمنين إلى زياد بن أبي سفيان، أما بعد، فإذا
أتاك كتابي هذا فاعمد إلى حي بني مخزوم، ففتشه داراً داراً، حتى تأتي إلى دار فلانة المخزومية فاستخرج عبد الله بن
هاشم المرقال منها فاحلق رأسه وألبسه جبة شعر، وقيده، وغل يده إلى عنقه، واحمله
على قتب بعير بغير وطاء ولا غذاء، وانفذ به إلي.
قال عمرو: وإنه
لهو دونك الضب المضب، فاشخب أوداجه، ولا ترجعه إلى أهل العراق فإنهم أهل فتنة
ونفاق، وله مع ذلك هوى يرديه، وبطانة تغويه، فوالذي نفسي بيده لئن أفلت من
حبائلك، ليجهزن إليك جيشاً تكثر صواهله، لشر يوم لك. فقال عبد الله وهو في القيد: يا بن الأبتر، هلا
كانت هذه الحماسة عندك يوم صفين، ونحن ندعوك
إلى البراز، وتلوذ بشمائل الخيل كالأمة السوداء والنعجة القوداء أما إنه إن قتلني قتل رجلاً كريم المخبرة، حميد المقدرة ،
ليس بالجبس المنكوس، ولا الثلب المركوس. فقال عمرو:
دع كيت وكيت، فقد وقعت بين لحيي لهزم، فروس للأعداء، يسعطك إسعاط الكودن الملجم.
قال عبد الله: أكثر إكثارك، فإني أعلمك بطراً في الرخاء، جباناً
في اللقاء، هيابة عند كفاح الأعداء، ترى أن تقي مهجتك، بأن تبدي سوءتك. أنسيت يوم صفين
وأنت تدعى إلى النزال، فتحيد عن القتال، خوفاً أن يغمرك رجال لهم أبدان شداد،
وأسنة حداد، ينهبون السرح، ويذلون العزيز. فقال عمرو:
وذكر الأبيات، فقال عبد الله: وذكر الأبيات
أيضاً، وزاد: فأطرق معاوية طويلاً حتى ظن أنه لن
يتكلم، ثم قال:
ثم قال له:
أتراك فاعلاً ما قال عمرو من الخروج علينا قال:
لا تسل عن عقيدات الضمائر، لا سيما إذا أرادت جهاداً في طاعة الله. قال: إذن يقتلك الله كما قتل أباك، قال: ومن لي بالشهادة! قال:
فأحسن معاوية جائزته، وأخذ عليه موثقاً ألا يساكنه
بالشام فيفسد عليه أهله. قال نصر: وحدثنا عمرو بن شمر، عن السدي، عن عبد خير الهمداني،
قال: قال هاشم بن عتبة يوم مقتله: أيها الناس، إني رجل ضخم، فلا يهولنكم مسقطي إذا سقطت، فإنه
لا يفرغ مني أقل من نحر جزور، حتى يفرغ الجزار من جزرها. ثم
حمل فصرع، فمر عليه رجل وهو صريع بين القتلى، فناداه:
اقرأ على أمير المؤمنين السلام، وقل له: بركات الله ورحمته عليك يا أمير
المؤمنين، أنشدك الله إلا أصبحت وقد ربطت مقاود خيلك بأرجل القتلى، فإن الدبرة
تصبح غداً لمن غلب على القتلى. فأخبر الرجل علياً رضي الله عنه بما قاله، فسار في الليل بكتائبه
حتى جعل القتلى خلف ظهره، فأصبح والدبرة له على أهل الشام.
قال نصر: وحدثنا عمر بن سعد، عن الشعبي، عن أبي سلمة، أن هاشم بن
عتبة استصرخ الناس عند المساء:
ألا من كان له إلى الله حاجة، ومن كان يريد الآخرة فليقبل. فأقبل إليه ناس كثير شد بهم على أهل الشام مراراً، ليس من وجه
يحمل عليه إلا صبروا له، فقاتل قتالاً شديداً ثم قال لأصحابه: لا يهولنكم ما ترون من صبرهم،
فوالله ما ترون منهم إلا حمية العرب وصبرها تحت راياتها، وعند مراكزها وإنهم
لعلى الضلال، وإنكم لعلى الحق يا قوم اصبروا وصابروا واجتمعوا، وامشوا بنا إلى
عدونا على تؤدة، رويداً، واذكروا الله، ولا يسلمن رجل أخاه، ولا تكثروا
الالتفات، واصمدوا صمدهم، وجالدوهم محتسبين حتى يحكم الله بيننا وبينهم وهو خير
الحاكمين. قال أبو سلمة:
فبينا هو وعصابة من القراء يجالدون أهل الشام، إذ
طلع عليهم فتى شاب، وهو يقول:
ثم
شد لا ينثني حتى يضرب بسيفه، ثم جعل يلعن علياً
ويشتمه ويسهب في ذمه، فقال له هاشم بن عتبة:
يا هذا إن الكلام بعده الخصام، وإن لعنك سيد
الأبرار، بعده عقاب النار. فاتق
الله، فإنك راجع إلى ربك فيسألك عن هذا الموقف وعن هذا المقال. قال الفتى: إذا سألني
ربي قلت: قاتلت أهل العراق، لأن صاحبهم لا يصلي كما ذكر لي، وإنهم لا يصلون،
وصاحبهم قتل خليفتنا، وهم آزروه على قتله. فقال له هاشم:
يا بني، وما أنت وعثمان! إنما قتله أصحاب محمد
الذين هم أولى بالنظر في أمور المسلمين، وإن صاحبنا كان أبعد القوم عن دمه، وأما
قولك: إنه لا يصلي، فهو أول من صلى مع رسول
الله، وأول من آمن به. وأما قولك: إن أصحابه لا يصلون، فكل من ترى معه
قراء الكتاب، لا ينامون الليل تهجدا، فاتق الله واخش عقابه، ولا يغررك من نفسك
الأشقياء الضالون. فرجع الفتى إلى صفه منكسراً نادماً، ففال له لوم من أهل الشام: خدعك
العراقي! قال: لا، ولكن نصحني العراقي.
قال نصر:
أما اليثربي، فهو عمرو بن محصن الأنصاري، وقد رثاه
النجاشي شاعر أهل العراق، فقال:
قال نصر:
وكان ابن محصن من أعلام أصحاب علي رضي الله عنه،
قتل في المعركة، وجزع علي رضي الله عنه لقتله.
قال نصر:
والحوبة القرابة، يقال: لي في بني فلان حوبة، أي قربى.
قال نصر:
وقال رجل لعدي بن حاتم الطائي- وكان من جملة أصحاب علي رضي الله عنه- يا أبا طريف، ألم أسمعك تقول
يوم الدار: "والله لا تحبق فيها عناق حولية" وقد رأيت ما كان
فيها! وقد كان فقئت عين عدي، وقتل بنوه- فقال:
أما والله لقد حبقت في قتله العناق والتيس الأعظم.
وقال
كعب بن جعيل- وهو شاعر أهل الشام- بعد رفع المصاحف، يذكر أيام صفين ويحرض معاوية:
وقد
تقدم ذكر هذه الأبيات بزيادة على مما ذكرناه الآن.
قال نصر: ثم كانت بين الفريقين الوقعة المعروفة بوقعة الخميس،
حدثنا بها عمر بن سعد، عن سليمان الأعمش، عن إبراهيم النخعي، قال: حدثنا القعقاع
بن الأبرد الطهوي، قال:
والله إني لواقف قريباً من علي رضي الله عنه بصفين
يوم وقعة الخميس، وقد التقت مذحج- وكانوا في
ميمنة علي رضي الله عنه-
وعك لخم وجذام والأشعريون، وكانوا
مستبصرين في قتال علي رضي الله عنه،
فلقد والله رأيت ذلك اليوم من قتالهم، وسمعت من وقع السيوف على الرؤوس وخبط
الخيول بحوافرها في الأرض وفي القتلى ما الجبال تهد، ولا الصواعق تصعق، بأعظم من
هؤلاء في الصدور من تلك الأصوات. ونظرت
إلى علي رضي الله عنه
وهو قائم، فدنوت منه فأسمعه يقول: لا
حول ولا قوة إلا بالله! اللهم إليك الشكوى وأنت المستعان! ثم نهض حين قام قائم الظهيرة وهو يقول: "ربنا افتح بيننا وبين قومنا
بالحق، وأنت خير الفاتحين ". وحمل على الناس بنفسه، وسيفه مجرد بيده، فلا
والله ما حجز بين الناس ذلك اليوم إلا الله رب العالمين، في قريب من ثلث الليل
الأول، وقتلت يومئذ أعلام العرب، وكان في رأس علي رضي الله عنه ثلاث ضربات، وفي وجهه ضربتان.
وقال
مالك الأشتر:
وقالت
ضبيعة بنت خزيمة بن ثابت ذي الشهادتين ترثي أباها رحمه الله:
قال نصر: وحدثنا عمر بن سعد، عن الأعمش، قال: كتب معاوية إلى أبي أيوب خالد بن زيد الأنصاري، صاحب منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم- وكان سيداً معظماً من سادات الأنصار، وكان من شيعة على رضي الله عنه- كتاباً، وكتب إلى زياد بن
سمية- وكان عاملاً لعلي رضي الله عنه
على بعض فارس- كتاباً ثانياً. فأما كتابه إلى أبي أيوب فكان سطراً واحداً: حاجيتك! "لا تنسى الشيباء أبا عذرها، ولا قاتل
بكرها"، فلم يدر أبو أيوب ما هو! قال فأتى به علياً رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين، إن معاوية كهف المنافقين، كتب إلي
بكتاب لا أدري ما هو! قال علي رضي الله عنه: فأين الكتاب فدفعه إليه، فقرأه، وقال:
نعم، هذا مثل ضربه لك، يقول: لا تنس الشيباء أبا عذرها. والشيباء: المرأة البكر ليلة
افتضاضها، لا تنسى بعلها الذي افترعها أبداً، ولا تنسى قاتل بكرها، وهو أول
ولدها، كذلك
لا أنسى أنا قتل عثمان.
فلما قرئ الكتاب على علي رضي الله عنه، قال: لشد ما شحذكم معاوية يا معشر الأنصار أجيبوا الرجل فقال أبو
أيوب: يا أمير المؤمنين، إني ما أشاء أن أقول شيئاً من الشعر يعيا به الرجال إلا
قلته، فقال: فأنت إذا أنت.
قال:
فلما أتى معاوية كتاب أبي أيوب كسره. قال نصر: وحدثنا
عمرو بن شمر، قال: حدثني مجالد، عن الشعبي، عن زياد بن النضر الحارثي، قال: شهدت
مع علي رضي الله عنه
صفين، فاقتتلنا مرة ثلاثة أيام، وثلاث
ليال حتى تكسرت الرماح، ونفدت السهام، ثم صرنا إلى المسايفة، فاجتلدنا بها إلى
نصف الليل حتى صرنا نحن وأهل الشام في اليوم الثالث يعانق بعضنا بعضاً. ولقد
قاتلت ليلتئذ بجميع السلاح، فلم يبق شيء من السلاح إلا قاتلت به حتى تحاثينا
بالتراب، وتكادمنا بالأفواه حتى صرنا قياماً ينظر بعضنا إلى بعض ما يستطيع أحد
من الفريقين أن ينهض إلى صاحبه، ولا يقاتل فلما كان نصف الليل من الليلة
الثالثة، انحاز معاوية وخيله من الصف وغلب علي علنه على القتلى، فلما أصبح أقبل
على أصحابه يدفنهم وقد قتل كثير منهم، وقتل من أصحاب معاوية أكثر، وقتل فيهم تلك الليلة شمر بن أبرهة.
فقال علي:
اللهم العنه فإن رسولك لعنه، قال علقمة:
وإنه يا أمير المؤمنين يرتجز برجز آخر، فأنشدك قال:
قل، فقال:
فضحك
علي رضي الله عنه، وقال: إنه لكاذب، وإنه بمكاني لعالم، كما قال العربي: "غير
الوهي ترقعين وأنت مبصرة"، ويحكم! أروني مكانه لله أبوكم وخلاكم ذم!
وقال محمد بن عمرو بن العاص:
وقال
النجاشي يذكر علياً، وجده في الأمر:
قال نصر: وحدثنا عمر بن سعد عن الشعبي، قال: بلغ النجاشي أن
معاوية تهدده فقال:
قال:
فلما بلغ معاوية هذا الشعر، قال: ما أراه إلا قد قارب.
وقال
رجل من كلب مع معاوية يهجو أهل العراق ويوبخهم:
وقال
أبو حية بن غزية الأنصاري وهو الذي عقر الجمل يوم البصرة، واسمه عمرو:
وقال
عدي بن حاتم الطائي:
وقال
النعمان بن جعلان الأنصاري:
قال
عمرو بن الحمق الخزاعي:
وقال حجر بن عدي الكندي:
قال نصر: وحدثنا عمر بن سعد، عن الشعبي، قال: قال الأحنف بن قيس
في صفين لأصحابه:
هلكت العرب! قالوا له: وإن غلبنا يا أبا بحر
قال: نعم، قالوا: وإن غلبنا قال: نعم، قالوا: والله ما جعلت لنا مخرجاً. فقال الأحنف: إنا إن غلبناهم لم نترك بالشام رئيساً إلا ضربنا عنقه، وإن غلبونا لم يعرج بعدها رئيس عن
معصية الله أبداً. فقال عبد الرحمن
بن خالد بن الوليد: أما والله لقد رأيتنا يوماً من الأيام، وقد غشينا
ثعبان في مثل الطود الأرعن، قد أثار قسطلاً حال بيننا وبين الأفق، وهو على أدهم
شائل الغرة،- يعني علياً رضي الله عنه-
يضربهم بسيفه ضرب غرائب الإبل كاشراً عن نابه كشر المخدر الحرب، فقال معاوية: نعم إنه كان يقاتل عن برة له وعليه. فقال عمرو: لقد أنصفك الرجل، فقال
معاوية: أنا أبارز الشجاع الأخرق! أظنك يا
عمرو طمعت فيها. فلما لم يجب قال علي رضي الله عنه: وانفساه! أيطاع معاوية وأعصى! ما قاتلت أمة قط أهل بيت نبيها وهي مقرة بنبيها غير هذه
الأمة! ثم إن علياً رضي الله عنه أمر الناس أن يحملوا على أهل الشام، فحملوا، فنقضوا صفوف
الشام، فقال عمرو: على من هذا الرهج الساطع قالوا: على ابنيك عبد الله ومحمد، فقال عمرو: يا وردان، قدم لوائي، فأرسل إليه معاوية: إنه ليس على ابنيك بأس فلا
تنقض الصف، والزم موقفك، فقال عمرو: هيهات هيهات.
ثم تقدم باللواء، فأدركه رسول معاوية فقال: إنه ليس على ابنيك
بأس فلا تحملن. وبلغ
مقدم الصفوف، فقال له الناس: مكانك! إنه لا
بأس على ابنيك إنهما في مكان حريز. فقال: أسمعوني أصواتهما حتى أعلم أحيان هما أم قتيلان! ونادى: يا وردان، قدم لواءك قيد قوس، فقدم
لواءه، فأرسل علي رضي الله عنه إلى أهل الكوفة: أن
احملوا، وإلى أهل البصرة: أن احملوا. فحمل
الناس من كل جانب، فاقتتلوا قتالاً شديداً، وخرج رجل من أهل الشام، فقال: من
يبارز فبرز إليه رجل من أهل العراق، فاقتتلا ساعة، وضرب العراقي الشامي على
رجله، فأسقط قدمه، فقاتل ولم يسقط إلى الأرض، فضربه العراقي أخرى، فأسقط يده،
فرمى الشامي سيفه إلى أهل الشام، وقال:
دونكم سيفي هذا، فاستعينوا به على قتال عدوكم. فاشتراه
معاوية من أوليائه بعشرة آلاف درهم. قال نصر: وحدثنا مالك الجهني، عن زيد بن وهب، أن علياً رضي الله
عنه مر على جماعة من أهل الشام بصفين، منهم الوليد بن عقبة، وهم يشتمونه
ويقصبونه، فاخبر بذلك، فوقف على ناس من أصحابه، وقال: انهدوا إليهم، وعليكم السكينة
والوقار وسيما الصالحين، أقرب بقوم من الجهل، قائدهم ومؤدبهم معاوية، وابن
النابغة، وأبو الأعور السلمي، وابن أبي معيط شارب الحرام، والمحدود في الإسلام!
وهم أولاء، يقصبونني ويشتمونني، وقبل اليوم ما قاتلوني وشتموني، وأنا إذ ذاك
أدعوهم إلى الإسلام، وهم يدعونني إلى عبادة الأصنام،
فالحمد لله، ولا إله إلا الله! لقديماً ما عاداني الفاسقون، إن هذا لهو الخطب
الجلل إن فساقاً كانوا عندنا غير مرضيين، وعلى الإسلام وأهله متخوفين، أصبحوا
وقد خدعوا شطر هذه الأمة، واشربوا في قلوبهم حب الفتنة، واستمالوا أهواءهم
بالإفك والبهتان، ونصبوا لنا الحرب، وجدوا في إطفاء نور الله، والله متم نوره
ولو كره الكافرون. اللهم
فإنهم قد ردوا الحق فافضض جمعهم، وشتت كلمتهم وأبلسهم بخطاياهم، فإنه لا يذل من
واليت، ولا يعز من عاديت.
فجعل معاوية لواءه الأعظم مع عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، فأمر علي رضي الله عنه جارية بن قدامة السعدي أن يلقاه بأصحابه، وأقبل عمرو بن
العاص بعده في خيل، ومعه لواء ثان، فتقدم حتى خالط صفوف العراق، فقال علي رضي الله عنه لابنه محمد: امش نحو هذا
اللواء رويداً حتى إذا أشرعت الرماح في صدورهم فأمسك يدك حتى يأتيك أمري. ففعل-
وقد كان أعد علي رضي الله عنه مثلهم مع الأشتر- فلما أشرع محمد الرماح في صدور
القوم، أمر علي رضي الله عنه الأشتر أن يحمل فحمل، فأزالهم
عن مواقفهم، وأصاب منهم رجالاً، واقتتل الناس قتالاً شديداً، فما صلى من أراد
الصلاة إلا إيماء، فقال النجاشي في ذلك اليوم يذكر
لأشتر:
قال نصر: وحدثنا محمد بن عتبة الكندي، قال: حدثني شيخ من حضرموت
شهد مع علي رضي الله عنه صفين، قال: كان منا رجل يعرف بهانئ بن فهد، وكان شجاعاً، فخرج رجل من أهل الشام يدعو إلى البراز فلم يخرج إليه
أحد، فقال هانئ: سبحان الله! ما يمنعكم أن
يخرج منكم رجل إلى هذا! فوالله لولا أني موعوك، وأني أجد ضعفاً شديداً لخرجت
إليه. فما
رد أحد عليه، فقام وشد عليه سلاحه ليخرج، فقال له
أصحابه: يا سبحان الله! أنت موعوك وعكة شديدة، فكيف تخرج! قال: والله لأخرجن ولو قتلني، فخرج فلما رآه عرفه، وإذا
الرجل من قومه من حضرموت، يقال له يعمر بن أسد الحضرمي، فقال: يا هانئ، ارجع فإنه إن يخرج إلي رجل غيرك أحب
إلي، فإني لا احب قتلك. قال
هانئ: سبحان الله! أرجع وقد خرجت لا والله أقاتلن
اليوم حتى أقتل، ولا أبالي قتلتني أنت أو غيرك! ثم مشى نحوه، وقال: اللهم
في سبيلك ونصراً لابن عم رسولك. واختلفا ضربتين، فقتله هانئ، وشد أصحاب يعمر بن أسد على هانئ،
فشد أصحاب هانئ عليهم، فاقتتلوا وانفرجوا عن اثنين وثلاثين قتيلاً. ثم إن علياً رضي الله عنه أرسل إلى جميع العسكر: أن احملوا، فحمل الناس كلهم على
راياتهم، كل منهم يحمل على من بإزائه، فتجالدوا بالسيوف، وعمد الحديد لا يسمع
إلا صوت ضرب الهامات، كوقع المطارق على السنادين، ومرت الصلوات كلها، فلم يصل أحد إلا تكبيراً عند مواقيت الصلاة حتى تفانوا،
ورق الناس، وخرج رجل من بين الصفين، لا يعلم من هو،
فقال: أيها الناس، أخرج فيكم المحلقون فقيل:
لا، فقال: إنهم سيخرجون، ألسنتهم أحلى من العسل،
وقلوبهم أمر من الصبر، لهم حمة كحمة الحيات. ثم غاب الرجل فلم
يعلم من هو! قال نصر: وحدثنا عمرو بن
شمر، عن السدي، قال:
اختلط أمر الناس تلك الليلة، وزال أهل الرايات عن مراكزهم، وتفرق أصحاب علي رضي الله عنه، فأتى ربيعة ليلاً فكان فيهم، وتعاظم
الأمر جداً، وأقبل عدي بن حاتم يطلب علياً رضي الله عنه في موضعه الذي تركه فيه فلم يجده، فطاف يطلبه، فأصابه بين رماح ربيعة، فقال: يا أمير المؤمنين أما إذ كنت حياً، فالأمر أمم، ما
مشيت إليك إلا على قتيل وما أبقت هذه الوقعة لهم عميداً، فقاتل حتى يفتح الله
عليك، فإن في الناس بقية بعد. وأقبل الأشعث يلهث جزعاً، فلما رأى علياً رضي الله عنه هلل فكبر، وقال: يا أمير
المؤمنين، خيل كخيل ورجال كرجال ولنا الفضل عليهم إلى ساعتنا هذه، فعد
إلى مكانك الذي كنت فيه فإن الناس إنما يظنونك حيث تركوك. وأرسل سعيد بن قيس الهمداني إلى علي رضي الله عنه: إنا مشتغلون بأمرنا مع القوم، وفينا
فضل، فإن أردت أن نمد أحداً أمددناه. فأقبل علي رضي الله عنه على ربيعة، فقال: أنتم درعي ورمحي- قال:
فربيعة تفخر بهذا الكلام إلى اليوم- فقال عدي بن
حاتم: يا أمير المؤمنين، إن قوما أنست بهم وكنت في هذه الجولة فيهم،
لعظيم حقهم والله إنهم لصبر عند الموت، أشداء عند القتال- فدعا على رضي الله عنه لفرس رسول الله صلى الله عليه
وسلم الذي كان يقال له المرتجز، فركبه، ثم تقدم أمام الصفوف، ثم قال: بل البغلة، بل البغلة، فقدمت له بغلة رسول صلى الله عليه وسلم، وكانت الشهباء،
فركبها، ثم تعصب بعمامة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت سوداء، ثم نادى: أيها الناس،
من يشر نفسه لله يربح، إن هذا ليوم له ما بعده، إن عدوكم قد مسه القرح كما مسكم،
فانتدبوا لنصرة دين الله. فانتدب له ما بين عشرة آلاف إلى اثني عشر ألفا، قد وضعوا سيوفهم على عواتقهم، فشد بهم على أهل الشام، وهو يقول:
وتبعه عدي بن حاتم بلوائه، وهو يقول:
وحمل وحمل الأشتر بعدهما في أهل العراق كافة، فلم يبق لأهل الشام
صف إلا انتقض، وأهمد أهل العراق ما أتوا عليه حتى أفضى الأمر إلى مضرب معاوية،
وعلي رضي الله عنه يضرب الناس بسيفه قدماً قدماً، ويقول:
فدعا معاوية بفرسه لينجو عليه، فلما وضع رجله في الركاب توقف
وتلوم قليلاً، ثم أنشد قول عمرو بن الإطنابة:
ثم
قال: يا عمرو بن العاص، اليوم صبر وغداً
فخر، قال: صدقت، إنك وما أنت فيه، كقول القائل:
فثنى معاوية رجله من الركاب، ونزل واستصرخ بعك
والأشعريين، فوقفوا دونه، وجالدوا عنه، حتى
كره كل من الفريقين صاحبه، وتحاجز الناس. ورجع عمرو إلى معاوية، فقال: ما صنعت يا أبا عبد الله فقال: لقيني علي فصرعني، قال: أحمد الله وعورتك، والله إني لأظنك لو عرفته لما
أقحمت عليه، وقال معاوية في ذلك:
فغضب عمرو وقال: ما أشد تعظيمك علياً أبا تراب في أمري! هل أنا إلا رجل لقيه
ابن عمه فصرعه! أفترى السماء قاطرة لذلك دماً! قال: لا، ولكنها معقبة لك خزياً. قال نصر:
وحدثنا عمر بن سعد، قال: لما اشتد الأمر،
وعظم على أهل الشام، قال معاوية لأخيه عتبة بن أبي
سفيان: الق الأشعث، فإنه إن رضي رضيت
العامة- وكان عتبة فصيحاً- فخرج فنادى الأشعث، فقال الأشعث: سلوا من هو المنادي قالوا: عتبة بن أبي سفيان، قال: غلام مترف ولا بد من لقائه! فخرج إليه، فقال: ما عندك يا عتبة فقال: أيها الرجل، إن معاوية
لو كان لاقياً رجلاً غير علي للقيك، إنك رأس أهل
العراق، وسيد أهل اليمن، وقد سلف من عثمان إليك ما سلف من الصهر والعمل، ولست
كأصحابك، أما الأشتر فقتل عثمان، وأما عدي
فحرض عليه، وأما سعيد بن قيس فقلد علياً ديته، وأما شريح وزحر بن قيس فلا يعرفان
غير الهوى، وإنك حاميت عن أهل العراق
تكرماً، وحاربت أهل الشام حمية، وقد بلغنا منك وبلغت منا ما أردت وإنا لا ندعوك
إلى ترك علي ونصرة معاوية، ولكنا ندعوك إلى البقية التي فيها صلاحك
وصلاحنا. فتكلم الأشعث، فقال: يا عتبة، أما قولك:
"إن معاوية لا يلقى إلا علياً"، فلو لقيني والله لما عظم عني، ولا
صغرت عنه، وإن أحب أن أجمع بينه وبين علي فعلت. وأما قولك:
"إني رأس أهل العراق، وسيد أهل اليمن" فإن
الرأس المتبع والسيد المطاع، هو علي بن أبي طالب وأما ما سلف من عثمان إلي، فوالله ما زادني صهره شرفاً، ولا
عمله عزاً. وأما عيبك أصحابي، فإنه لا يقربك مني، ولا يباعدني عنهم وأما محاماتي عن أهل العراق فمن نزل
بيتاً حماه وأما البقية فلستم بأحوج إليها منا،
وسنرى رأينا فيها.
قال نمر: فقال معاوية لما يئس من جهة الأشعث لعمرو بن العاص: إن رأس الناس بعد علي هو عبد الله بن العباس، فلو كتبت إليه
كتاباً لعلك ترققه، ولعله لو قال شيئاً لم يخرج علي رضي الله عنه وقد أكلتنا الحرب، ولا أرانا نصل إلى العراق إلا بهلاك أهل
الشام فقال عمرو: إن ابن عباس لا يخدع ولو
طمعت فيه لطمعت في علي، قال معاوية: على ذلك
فاكتب، فكتب عمرو إليه: أما بعد، فإن الذي
نحن فيه وأنتم ليس بأول أمر قاده البلاء وأنت رأس هذا الجمع بعد علي، فانظر فيما
بقي، ودع ما مضى، فوالله ما أبقت هذه الحرب لنا ولا لكم حياةً ولا صبراً، فاعلم أن الشام لا تهلك إلا بهلاك العراق، وأن العراق لا تهلك إلا بهلاك الشام فما خيرنا بعد هلاك أعدادنا منكم، وما خيركم بعد هلاك
أعدادكم منا! ولسنا نقول: ليت الحرب عادت
ولكنا نقول: ليتها لم تكن وإن فينا من يكره اللقاء، كما أن فيكم من يكرهه وإنما
هو أمير مطاع، ومأمور مطيع أو مؤتمن مشاور وهو أنت، فأما الأشتر الغليظ الطبع،
القاسي القلب فليس بأهل أن يدعى في الشورى ولا في خواص أهل النجوى. وكتب في أسفل الكتاب:
فلما وصل الكتاب إلى ابن عباس، عرضه على أمير المؤمنين رضي الله عنه، فضحك، وقال: قاتل الله
ابن العاص ما أغراه بك يا عبد الله. أجبه وليرد عليه شعره الفضل بن العباس، فإنه شاعر فكتب
ابن عباس إلى عمرو: أما بعد، فإني لا أعلم أحداً من العرب أقل حياء منك،
إنه مال بك معاوية إلى الهوى فبعته دينك بالثمن اليسير، ثم خبطت الناس في عشوة
طمعاً في الدنيا فأعظمتها إعظام أهل الدنيا، ثم تزعم أنك تتنزه عنها تنزه أهل
الورع، فإن كنت صادقاً فارجع إلى بيتك، ودع الطمع في مصر والركون إلى الدنيا
الفانية، واعلم أن هذه الحرب ما معاوية فيها كعلي
بدأها علي بالحق، وانتهى فيها إلى العذر، وبدأها معاوية بالبغي وانتهى فيها إلى
السرف وليس أهل العراق فيها كأهل الشام بايع
أهل العراق علياً، وهو خير منهم، وبايع أهل الشام معاوية وهم خير منه، ولست أنا وأنت فيها سواء، أردت الله وأردت مصر، وقد عرفت الشيء الذي باعدك مني، ولا أعرف الشيء الذي قربك
من معاوية، فإن ترد شراً لا نسبقك به، وإن
ترد خيراً لا تسبقنا إليه. والسلام.
ثم عرض الشعر والكتاب على علي رضي الله عنه، فقال: لا أراه يجيبك بعدها أبداً بشيء إن
كان يعقل وإن عاد عدت عليه. أما
بعد فقد أتاني كتابك، وقرأته، فأما ما ذكرت من
سرعتنا إليك بالمساءة إلى أنصار ابن عفان، وكراهتنا لسلطان بني أمية، فلعمري لقد أدركت في عثمان حاجتك حين استنصرك فلم تنصره
حتى صرت إلى ما صرت إليه. وبيني وبينك في ذلك ابن عمك وأخو عثمان، وهو
الوليد بن عقبة. وأما طلحة
والزبير، فإنهما أجلبا عليه وضيما خناقه، ثم خرجا ينقضان البيعة، ويطلبان
الملك، فقاتلناهما على النكث، كما قاتلناك على البغي. وأما قولك:
إنه لم يبق من قريش غير ستة، فما أكثر رجالها،
وأحسن بقيتها! وقد قاتلك من خيارها من قاتلك، ولم يخذلنا إلا من خذلك. وأما إغراؤك
إيانا بعدي وتيم، فإن أبا بكر وعمر
خير من عثمان، كما أن عثمان خير منك، وقد بقي لك منا ما ينسيك ما قبله، وتخاف
ما بعده. وأما قولك:
لو بايع الناس لي لاستقاموا فقد بايع الناس علياً
وهو خير مني فلم يستقيموا له. وما أنت والخلافة
يا معاوية! وإنما أنت طليق وابن طليق!
والخلافة للمهاجرين الأولين وليس الطلقاء
منها في شيء! والسلام. وقال:
قال نصر: وحدثنا عمر بن سعد، قال: عقد معاوية يوماً من أيام صفين
الرياسة على اليمن من قريش، قصد بذلك إكرامهم ورفع منازلهم منهم عبيد الله بن
عمر بن الخطاب، ومحمد وعتبة ابنا أبي سفيان، وبسر بن أبي أرطاة، وعبد الرحمن بن
خالد بن الوليد، وذلك في الوقعات الأولى من صفين،
فغم ذلك أهل اليمن، وأرادوا ألا يتأمر عليهم أحد إلا منهم. فقام إليه رجل من كندة، يقال له عبد الله بن الحارث السكوني،
فقال: أيها الأمير، إني قد قلت شيئاً
فأسمعه، وضعه مني على النصيحة، قال: هات، فأنشده:
قال: فبكى لها معاوية، ونظر إلى وجوه أهل اليمن، فقال:
أعن رضاكم يقول ما قال قالوا: لا مرحبا بما
قال إنما الأمر إليك فاصنع ما أحببت. فقال معاوية:
إنما خلطت بكم أهل ثقتي، ومن كان لي فهو لكم ومن كان لكم فهو لي، فرضي القوم
وسكتوا، فلما بلغ أهل الكوفة مقال عبد الله بن
الحارث لمعاوية فيمن عقد له من رؤوس أهل الشام، قام
الأعور الشني إلى علي رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين، إنا لا نقول لك كما
قال صاحب أهل الشام لمعاوية، ولكن نقول: زاد الله في سرورك وهداك! نظرت
بنور الله، فقدمت رجالاً، وأخرت رجالاً. عليك أن تقول، وعلينا أن نفعل. أنت الإمام، فإن هلكت فهذان من بعدك- يعني حسناً وحسيناً رضي
الله عنهما- وقد قلت شيئاً فاسمعه، قال: هات، فأنشده:
قال: فلم يبق أحد من الرؤساء إلا وأهدى إلى الشني، أو أتحفه.
فطعن
في أعراض الخيل ملياً. ثم إن همدان تنادت بشعارها، وأقحم سعيد بن قيس فرسه على
معاوية، واشتد القتال حتى حجز بينهم الليل، فهمدان تذكر أن سعيداً كاد يقتنصه
إلا أنه فاته ركضاً، وقال سعيد في ذلك:
قال نصر:
وانصرف معاوية ذلك اليوم، ولم يصنع شيئاً، وغدا عمرو
بن العاص في اليوم الثاني في حماة الخيل، فقصد
المرقال، ومع المرقال لواء علي رضي الله عنه
الأعظم في حماة الناس، وكان عمرو من فرسان
قريش، فارتجز عمرو، فقال:
فطعن
في أعراض الخيل مزبداً، وحمل المرقال عليه، وارتجز
فقال:
فطاعن عمرا حتى رجع، وانصرف الفريقان بعد شدة القتال، ولم يسر
معاوية ذلك،
وغدا بسر بن أبي أرطاة في اليوم الثالث في حماة الخيل، فلقي قيس بن سعد بن عبادة
في كماة الأنصار، فاشتدت الحرب بينهما، وبرز قيس كأنه فنيق مقرم، وهو يقول:
وطاعن
خيل بسر، وبرز بسر فارتجز وقال:
ويطعن
بسر قيساً، ويضربه قيس بالسيف، فرده على عقبيه، ورجع القوم جميعاً، ولقيس الفضل،
وتقدم عبيد الله بن عمر بن الخطاب في اليوم الرابع لم
يترك فارساً مذكوراً إلا جمعه واستكثر ما استطاع، فقال
له معاوية: إنك اليوم تلقى أفعى أهل العراق، فارفق واتئد، فلقيه الأشتر أمام الخيل مزبدا- وكان الأشتر إذا أراد القتال أزبد- وهو يقول:
وشد على الخيل خيل الشام، فردها. فاستحيا عبيد الله وبرز أمام الخيل- وكان فارساً شجاعاً، وقال:
فحمل عليه الأشتر، وطعنه واشتد الأمر، وانصرف القوم، وللأشتر
الفضل. فغم ذلك معاوية، وغدا
عبد الرحمن بن خالد في اليوم الخامس، وكان رجاء معاوية أن ينال حاجته،
فقواه بالخيل والسلاح، وكان معاوية يعده ولداً، فلقيه
عدي بن حاتم في كماة مذحج وقضاعة، فبرز عبد الرحمن أمام الخيل، وقال:
ثم
حمل فطعن الناس، فقصده عدي بن حاتم، وسدد
إليه الرمح، وقال:
فلما كاد أن يخالطه بالرمح، توارى عبد الرحمن في العجاج، واستتر بأسنة أصحابه واختلط القوم، ثم تحاجزوا، ورجع عبد الرحمن مقهوراً، وانكسر معاوية وبلغ
أيمن بن خزيم ما لقي معاوية وأصحابه، فشمت بهم- وكان ناسكاً من أنسك أهل
الشام وكان معتزلاً للحرب في ناحية عنها، فقال:
قال: وإن معاوية أظهر لعمرو شماتة، وجعل يقرعه ويوبخه، وقال: لقد أنصفتكم إذ لقيت سعيد بن قيس في همدان،
وفررتم. وإنك لجبان يا عمرو! فغضب عمرو، وقال:
فهلا برزت إلى علي إذ دعاك إن كنت شجاعاً كما تزعم! وقال:
قال: وإن القرشيين استحيوا ما صنعوا، وشمت بهم اليمانية من أهل
الشام، فقال معاوية:
يا معشر قريش والله لقد قربكم لقاء القوم إلى الفتح ولكن لا مرد لأمر الله ومم
تستحيون! إنما لقيتم كباش العراق، فقتلتم منهم وقتلوا منكم، وما لكم علي من حجة.
لقد عبأت نفسي لسيدهم وشجاعهم سعيد بن قيس. فانقطعوا عن معاوية أياماً، فقال معاوية في ذلك:
فلما سمع القوم ما قاله معاوية، أتوه فاعتذروا إليه، واستقاموا
إليه على ما يحب. قال نصر: وحدثنا عمرو بن شمر، قال: لما اشتد القتال وعظم الخطب، أرسل معاوية إلى عمرو بن العاص: أن قدم عكا والأشعريين إلى من بإزائهم. فبعث عمرو إليه أن بإزاء عك همدان. فبعث إليه
معاوية: أن قدم عكاً، فأتاهم عمرو، فقال: يا
معشر عك، إن علياً قد عرف أنكم حي أهل الشام، فعبأ لكم حي أهل العراق همدان،
فاصبروا وهبوا إلي جماجمكم ساعة من النهار فقد بلغ الحق مقطعه. فقال ابن مسروق العكي: أمهلني حتى آتي معاوية، فأتاه
فقال: يا معاوبة، اجعل لنا فريضة ألفي رجل في ألفين ألفين، ومن هلك فابن
عمه مكانه لنقر اليوم عينك. فقال: لك ذلك، فرجع ابن مسروق إلى أصحابه، فأخبرهم الخبر، فقالت
عك: نحن لهمدان، ثم تقدمت عك، ونادى سعيد
بن قيس: يا همدان، تقدموا! فشدت همدان على عك رجالة، فأخذت السيوف أرجل عك، فنادى ابن مسروق:
فبركوا
تحت الحجف، فشجرتهم همدان بالرماح، وتقدم شيخ من
همدان، وهو يقول:
وقام
رجل من عك، فارتجز فقال:
قال:
فالتقى القوم جميعا بالرماح، وصاروا إلى السيوف، وتجالدوا حتى أدركهم الليل. فقالت همدان: يا معشر عك، نحن نقسم بالله إننا لا ننصرف حتى
تنصرفوا.
وقالت عك مثل ذلك، فأرسل معاوية إلى عك أن أبروا قسم إخوتكم
وهلموا.
فانصرفت
عك، فلما انصرفت انصرفت همدان، فقال عمرو:
يا معاوية، والله لقد لقيت أسد أسداً لم أر والله كهذا اليوم قط لو أن معك حياً
كعك، أو مع علي حي كهمدان لكان الفناء، وقال عمرو
في ذلك:
قال:
ولما اشترطت عك والأشعريون على معاوية ما اشترطوا من الفريضة والعطاء فأعطاهم، لم يبق من أهل العراق أحد في قلبه مرض إلا طمع في
معاوية، وشخص ببصره إليه حتى فشا ذلك في الناس، وبلغ عليا رضي الله عنه، فساءه.. قال نصر:
وجاء المنذر بن أبي حميصة الوداعي- وكان شاعر همدان
وفارسها- عليا رضي الله عنه فقال: يا
أمير المؤمنين، إن عكاً والأشعريين طلبوا إلى معاوية الفرائض والعطاء فأعطاهم، فباعوا الدين بالدنيا وإنا قد رضينا بالآخرة من الدنيا،
وبالعراق من الشام، وبك من معاوية والله لآخرتنا خير من دنياهم، ولعراقنا خير من
شآمهم، ولإمامنا أهدى من إمامهم فاستفتحنا بالحرب، وثق منا بالنصر، واحملنا على الموت، وأنشده:
فقال علي رضي الله عنه: حسبك الله! يرحمك الله! وأثنى عليه وعلى قومه خيراً. وانتهى
شعره إلى معاوية، فقال: والله لأستميلن بالدنيا ثقات علي، ولأقسمن فيهم الأموال
حتى تغلب دنياي آخرته. فقال سعيد بن
قيس: أجبنا الله وأجبناك، ونصرنا رسول الله في قبره، وقاتلنا معك من ليس
مثلك، فارمنا حيث شئت.
فقال علي رضي الله عنه لصاحب لواء همدان: اكفني أهل حمص، فإني لم ألق من أحد
ما لقيت منهم. فتقدم
وتقدمت همدان، وشدوا شدة واحدة على أهل حمص، فضربوهم ضرباً شديداً متداركاً،
بالسيوف وعمد الحديد، حتى ألجأوهم إلا قبة معاوية، وارتجز
من همدان رجل، عداده في أرحب، فقال:
قال نصر: فحدثنا عمر بن سعد، قال: لما ردت خيول معاوية أسف فجرد سيفه
وحمل في كماة أصحابه، فحملت عليه فوارس همدان، ففاز منها ركضاً، وانكسرت كماته
ورجعت همدان إلى مراكزها، فقال حجر بن قحطان
الهمداني، يخاطب سعيد بن قيس:
قال نصر: وحدثنا عمر بن سعد عن رجاله، أن معاوية دعا يوماً بصفين
مروان بن الحكم، فقال له:
إن الأشتر قد غمني وأقلقني، فاخرج بهذه الخيل في يحصب والكلاعيين، فالقه فقال مروان: ادع لهما عمراً، فإنه شعارك دون
دثارك قال: فأنت نفسي دون وريدي. قال: لو كنت كذلك ألحقتني به في العطاء
وألحقته بي في الحرمان، ولكنك أعطيته ما في يدك، ومنيته ما في يد غيرك، فإن غلبت
طاب له المقام، وإن غلبت خف عليه الهرب. فقال معاوية:
سيغني الله عنك. قال:
أما إلى اليوم فلم يغن. فدعا معاوية عمراً، فأمره بالخروج إلى الأشتر، فقال: أما إني لا أقول لك ما قال مروان،
قال: وكيف تقوله وقد قدمتك وأخرته، وأدخلتك وأخرجته! قال:
أما والله إن كنت فعلت، لقد قدمتني كافياً، وأدخلتني ناصحاً وقد أكثر القوم عليك
في أمر مصر، وإن كان لا يرضيهم إلا رجوعك فيما وتقت لي به منها فارجع فيه. ثم قام فخرج في تلك الخيل، فلقيه الأشتر أمام القوم، وقد علم أنه
سيلقاه، وهو يرتجز ويقول:
فلما سمع عمرو هذا الرجز، فشل وجبن، واستحيا أن يرجع، وأقبل نحو
الصوت، وقال:
فغشيه الأشتر بالرمح، فراغ عمرو عنه، فلم يصنع الرمح شيئاً، ولوى عمرو عنان فرسه، وجعل يده على وجهه، وجعل يرجع
راكضاً نحو عسكره. فنادى غلام من يحصب: يا عمرو، عليك العفا ما
هبت الصبا يا آل حمير إنا لكم ما كان معكم هاتوا اللواء، فأخذه وتقدم، وكان
غلاماً حدثاً، فقال:
فنادى الأشتر ابنه إبراهيم: خذ اللواء، فغلام لغلام. وتقدم
فأخذ إبراهيم اللواء، وقال:
ويحمل على الحميري، فالتقاه الحميري بلوائه ورمحه، فلم يبرحا يطعن كل واحد منهما صاحبه،
حتى سقط الحميري قتيلاً، وشمت مروان بعمرو، وغضب القحطانيون على معاوية، وقالوا: تولي علينا من لا يقاتل معنا. ولِ رجلاً منا، وإلا فلا
حاجة لنا فيك. وقال شاعرهم:
فقال لهم معاوية: والله لا أولي عليكم بعد هذا اليوم إلا رجلاً منكم. وحرض علي رضي
الله عنه أصحابه، فقام إليه الأصبغ بن نباتة، وقال: يا أمير المؤمنين،
قدمني في البقية من الناس، فإنك لا تفقد لي اليوم صبراً ولا نصراً أما أهل الشام
فقد أصبنا وأما نحن ففينا بعض البقية، ائذن لي
فأتقدم، فقال له: تقدم على اسم الله والبركة، فتقدم وأخذ الراية ومضى
بها، وهو يقول:
فما رجع إلى علي رضي الله عنه حتى خضب سيفه دماً ورمحه. وكان
شيخاً ناسكاً عابداً، وكان إذا لقي القوم بعضهم بعضاً يغمد سيفه، وكان من ذخائر علي رضي الله عنه ممن قد بايعه على
الموت وكان علي رضي الله عنه يضن به عن الحرب
والقتال. فقال له الأب:
يا بني، هلم إلى الدنيا. فقال له الغلام: يا أبي هلم إلى الآخرة. ثم
قال: يا أبت والله لو كان من رأي الانصراف إلى أهل الشام لوجب عليك أن يكون من
رأيك لي أن تنهاني، واسوأتاه! فماذا أقول لعلي
وللمؤمنين الصالحين! كن على ما أنت عليه، وأنا على ما أنا عليه. فانصرف حجل إلى صف الشام، وانصرف ابنه أثال إلى أهل العراق، فخبر كل واحد منهما أصحابه، وقال في ذلك حجل:
فلما
انتهى شعره إلى أهل العراق، قال أثال ابنه مجيباً
له:
قال نصر: وحدثنا عمرو بن شمر بالإسناد المذكور، أن معاوية دعا
النعمان بن بشير بن سعد الأنصاري، ومسلمة بن مخلد الأنصاري- ولم يكن معه من
الأنصار غيرهما- فقال:
يا هذان، لقد غمني ما لقيت من الأوس والخزرج، واضعي سيوفهم على عواتقهم يدعون
إلى النزال، حتى لقد جبنوا أصحابي الشجاع منهم والجبان وحتى والله ما أسأل عن
فارس من أهل الشام إلا قيل قتله الأنصار أما والله لألقينهم بحدي وحديدي،
ولأعبين لكل فارس منهم فارساً ينشب في حلقه، ولأرمينهم بأعدادهم من قريش، رجال
لم يغذهم التمر والطفيشل، يقولون: نحن الأنصار قد والله آووا ونصروا، ولكن
أفسدوا حقهم بباطلهم! فغضب النعمان، وقال:
يا معاوية لا تلومن الأنصار في حب الحرب والسرعة نحوها، فإنهم كذلك كانوا في
الجاهلية. وأما
لقاؤك إياهم في أعدادهم من قريش فقد علمت ما لقيت قريش منهم قديماً، فإن أحببت
أن ترى فيهم مثل ذلك آنفاً فافعل. وأما التمر والطفيشل،
فإن التمر كان لنا فلما ذقتموه شاركتمونا فيه.
وأما الطفيشل،
فكان لليهود، فلما أكلناه غلبناهم عليه، كما غلبت
قريش على السخينة. وأما غمهم إياك فقد والله غمونا، ولو رضينا ما
فارقونا ولا فارقنا جماعتهم، وإن في ذلك ما فيه من مباينة العشيرة ولكنا حملنا
ذلك لك، ورجونا منك عوضه. وأما التمر والطفيشل فإنهما يجران عليك السخينة والخرنوب. قال: وانتهى هذا الكلام إلى الأنصار، فجمع قيس بن سعد الأنصار،
ثم قام فيهم خطيباً فقال:
إن معاوية قال ما بلغكم، وأجابه عنكم صاحباكم، ولعمري إن غظتم معاوية اليوم لقد
غظتموه أمس، وإن وترتموه في الإسلام فلقد وترتموه في الشرك وما لكم إليه من ذنب
أعظم من نصر هذا الدين، فجدوا اليوم جداً تنسونه به ما كان أمس، وجدوا غداً جداً
تنسونه به ما كان اليوم فأنتم مع هذا اللواء الذي كان يقاتل عن يمينه جبريل، وعن
يساره ميكائيل والقوم مع لواء أبي جهل والأحزاب. فأما التمر
فإنا لم نغرسه ولكن غلبنا عليه من غرسه، وأما
الطفيشل، فلو كان طعامنا لسمينا به كما سميت قريش بسخينة، ثم قال سعد في
ذلك:
فلما أتى شعره وكلامه معاوية، دعا عمرو بن العاص، فقال: ما ترى في شتم الأنصار قال: أرى أن
توعدهم، ولا تشتمهم. ما عسى أن تقول لهم إذا أردت ذمهم! فذم
أبدانهم ولا تذم أحسابهم. فقال:
إن قيس بن سعد يقوم كل يوم خطيباً، وأظنه والله يفنينا غداً إن لم يحبسه عنا
حابس الفيل، فما الرأي قال: الصبر والتوكل،
وأرسل إلى رؤوس الأنصار مع علي، فعاتبهم وأمرهم أن يعاتبوه، فأرسل معاوية إلى أبي مسعود والبراء بن عازب، وخزيمة بن
ثابت، والحجاج بن غزية، وأبي أيوب، فعاتبهم فمشوا إلى قيس بن سعد، وقالوا له: إن
معاوية لا يحب الشتم، فكف عن شتمه، فقال: إن مثلي لا يشتم، ولكني لا أكف عن حربه
حتى ألقى الله. قال:
وتحركت الخيل غدوة، فظن قيس أن فيها معاوية، فحمل على رجل يشبهه، فضربه بالسيف
فإذا هو ليس به، ثم حمل على آخر يشبهه أيضاً فقنعه بالسيف. فخرج النعمان،
فوقف بين الصفين، ونادى: يا قيس بن سعد، أنا النعمان بن بشير، فخرج إليه،
وقال: هيه يا نعمان! ما حاجتك قال: يا قيس، إنه قد أنصفكم من دعاكم إلى ما رضي
لنفسه. يا
معشر الأنصار، إنكم أخطأتم في خذل عثمان يوم الدار، وقتلتم أنصاره يوم الجمل،
وأقحمتم خيولكم على أهل الشام بصفين، فلو كنتم إذ خذلتم عثمان خذلتم علياً لكانت
واحدة بواحدة، ولكنكم لم ترضوا أن تكونوا كالناس حتى أعلمتم في الحرب، ودعوتم
إلى البراز. ثم لم ينزل بعلي خطب قط إلا هونتم عليه
المصيبة، ووعدتموه الظفر. وقد
أخذت الحرب منا ومنكم ما قد رأيتم فاتقوا الله في البقية. وأما
أصحاب الجمل فقاتلناهم على النكث. وأما
معاوية فوالله لو اجتمعت عليه العرب قاطبة لقاتلته الأنصار وأما قولك إنا لسنا
كالناس، فنحن في هذه الحرب كما كنا مع رسول الله، نتقي السيوف بوجوهنا، والرماح
بنحورنا حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون. ولكن
انظر يا نعمان هل ترى مع معاوية إلا طليقاً، أو أعرابياً، أو يمانياً مستدرجاً
بغرور! انظر
أين المهاجرون والأنصار والتابعون لهم بإحسان الذين رضيم الله عنهم ورضوا عنه!
ثم انظر، هل ترى مع معاوية أنصارياً غيرك وغير صويحبك ولستما والله ببدرتين ولا
عقبتين ولا الحديين، ولا لكما سابقة في الإسلام، ولا آية في القرآن. ولعمري لئن شغب
علينا لقد شغب علينا أبوك! قال نصر:
وحدثنا عمر بن سعد، عن مالك بن أعين، عن زيد بن وهب، قال: كان فارس أهل الشام
الذي لا ينازع عوف بن مجزأة المراد، المكنى أبا أحمر، وكان فارس أهل الكوفة
العكبر بن جدير الأسدي، فقام العكبر إلى علي رضي
الله عنه، وكان منطيقاً فقال: يا أمير المؤمنين، إن في أيدينا عهداً من
الله لا نحتاج فيه إلى الناس قد ظننا بأهل الشام الصبر وظنوا بنا، فصبرنا
وصبروا، وقد عجبت من صبر أهل الدنيا لأهل الآخرة، وصبر أهل الحق على أهل الباطل،
ورغبة أهل الدنيا، ثم قرأت آية من كتاب الله فعلمت أنهم مفتونون: "ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا
يفتنون" ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن
الكاذبين". فقال
له رضي الله عنه خيراً، وخرج الناس إلى مصافهم، وخرج عوف بن مجزأة المرادي
نادراً من الناس، وكذا كان يصنع، وقد كان قتل نفراً من أهل العراق مبارزة،
فنادى: يا أهل العراق هل من رجل عصاه سيفه يبارزني! ولا أغركم من نفسي! أنا عوف
بن مجزأة. فنادى الناس بالعكبر، فخرج إليه منقطعاً
عن أصحابه ليبارزه، فقال عوف:
فقال له العكبر:
فاطعنا،
فصرعه العكبر وقتله، ومعاوية على التل في وجوه قريش ونفر قليل من الناس، فوجه
العكبر فرسه، يملأ فروجه ركضا ويضربه بالسوط مسرعاً نحو التل. فنظر معاوية إليه فقال: هذا الرجل مغلوب على عقله
أو مستأمن فاسألوه، فأتاه رجل وهو في حمو فرسه، فناداه فلم يجبه، ومضى مبادراً
حتى انتهى إلى معاوية، فجعل يطعن في أعراض الخيل ورجا أن ينفرد بمعاوية فيقتله،
فاستقبله رجال قتل منهم قوماً، وحال الباقون بينه وبين معاوية بسيوفهم ورماحهم
فلما لم يصل إليه قال: أولى لك يا بن هند! أنا الغلام الأسدي، ورجع إلى صف العراق ولم يكلم، فقال له
علي رضي الله عنه: ما دعاك إلى ما صنعت لا تلق نفسك إلى التهلكة قال: يا أمير المؤمنين أردت غرة ابن هند فحيل بيني وبينه
وكان العكبر شاعراً فقال:
قال: فانكسر أهل الشام لقتل عوف المرادي، وهدر معاوية دم العكبر، فقال العكبر: يد الله فوق يده، فأين الله جل جلاله
ودفاعه عن المؤمنين! قال نصر: وروى عمر بن سعد، عن الحارث بن حصين، عن أبي الكنود،
قال: جزع أهل الشام على قتلاهم جزعاً
شديداً، وقال معاوية بن خديج: قبح الله ملكاً يملكه
المرء بعد حوشب وذي الكلاع، والله لو ظفرنا بأهل الدنيا بعد قتلهما بغير مؤونة
ما كان ظفراً. وقال يزيد بن أسد لمعاوية: لا خير في أمر لا يشبه آخره أوله، لا يدمى جريح ولا يبكى
قتيل حتى تنجلي هذه الفتنة، فإن يكن الأمر لك أدميت وبكيت على قرار، وإن يكن
لغيرك فما أصبت به أعظم. فقال معاوية:
يا أهل الشام، ما جعلكم أحق بالجزع على قتلاكم من أهل العراق على قتلاهم، والله ما ذو الكلاع فيكم بأعظم من عمار بن ياسر فيهم، ولا
حوشب فيكم بأعظم من هاشم فيهم، وما عبيد الله بن عمر فيكم بأعظم من ابن بديل فيهم،
وما الرجال إلا أشباه، وما التمحيص إلا من عند الله فأبشروا
فإن الله قد قتل من القوم ثلاثة: قتل عماراً وكان فتاهم، وقتل هاشماً
وكان حمزتهم، وقتل ابن بديل وهو الذي فعل الأفاعيل وبقي
الأشتر، والأشعث، وعدي بن حاتم، فأما الأشعث فإنما
حمى عنه مصره، وأما الأشتر وعدي فغضباً للفتنة، والله
قاتلهما غداً إن شاء الله تعالى، فقال معاوية
بن خديج: إن يكن الرجال عندك أشباها فليست عندنا كذلك، وغضب. وقال شاعر اليمن يرثي ذا الكلاع وحوشباً:
وروى نصر: عن عمر بن سعد، عن عبيد الرحمن بن كعب، قال: لما قتل عبد الله بن بديل يوم صفين
مر به الأسود بن طهمان الخزاعي، وهو بآخر رمق، فقال له: عز علي والله مصرعك! أما
والله لو شهدتك لأسيتك، ولدافعت عنك، ولو رأيت الذي أشعرك لأحببت ألا أزايله ولا
يزايلني حتى أقتله، أو يلحقني بك. ثم نزل إليه، فقال: رحمك الله يا عبد الله،
والله إن كان جارك ليأمن بوائقك، وإن كنت لمن الذاكرين الله كثيراً. أوصني رحمك الله.
قال:
أوصيك بتقوى الله، وأن تناصح أمير المؤمنين، وتقاتل معه حتى يظهر الحق أو تلحق
بالله، وأبلغ أمير المؤمنين عني السلام، وقل له:
قاتل على المعركة حتى تجعلها خلف ظهرك، فإنه من أصبح والمعركة خلف ظهره، كان
الغالب. ثم لم يلبث أن مات. قال:
وبلغ معاوية كلام أبرهة، فتأخر آخر الصفوف، وقال لمن حوله: إني لأظن أبرهة
مصاباً في عقله. فأقبل أهل الشام
يقولون: والله إن أبرهة لأكملنا ديناً وعقلاً، ورأياً وبأساً ولكن الأمير
كره مبارزة علي، وسمع ما دار من الكلام أبو داود عروة بن داود العامري- وكان من
فرسان معاوية- فقال: إن كان معاوية كره مبارزة أبي حسن، فأنا أبارزه، ثم خر بين
الصفين، فنادى: أنا أبو داود فابرز إلي يا
أبا حسن، فتقدم علي رضي الله عنه
نحوه، فناداه الناس: ارجع يا أمير
المؤمنين عن هذا الكلب فليس لك بخطر، فقال:
والله ما معاوية اليوم بأغيظ لي منه، دعوني وإياه، ثم حمل عليه فضربه فقطعه
قطعتين، سقطت إحداهما يمنية والأخرى شامية فارتج العسكران لهول الضربة، وصرخ ابن عم لأبي داود: وا سوء صباحاه! وقبح الله
البقاء بعد أبي داود! وحمل على علي رضي الله عنه، فطعنه فضرب الرمح فبراه، ثم قنعه ضربة فألحقه بأبي داود،
ومعاوية واقف على التل، يبصر ويشاهد، فقال: تباً لهذه الرجال وقبحاً، أما فيهم
من يقتل هذا مبارزة أو غيلة، أو في اختلاط الفيلق وثوران النقع. فقال الوليد بن عقبة: ابرز إليه أنت فإنك أولى الناس بمبارزته، فقال: والله لقد دعاني إلى البراز حتى لقد استحييت
من قريش، وإني والله لا أبرز إليه، ما جعل العسكر بين يدي الرئيس إلا وقاية له. فقال عتبة بن أبي سفيان: الهوا عن هذا كأنكم لم تسمعوا نداءه، فقد علمتم أنه قتل
حريثاً، وفضح عمراً ولا أرى أحداً يتحكك به إلا قتله. فقال معاوية لبسر
بن أرطاة: أتقوم لمبارزته فقال: ما أحد أحق بها منك، أما إذ بيتموه فأنا
له، قال معاوية: إنك ستلقاه غداً في أول
الخيل، وكان عند بسر ابن عم له، قدم من الحجاز يخطب ابنته، فأق بسرا، فقال له: إني سمعت أنك وعدت من نفسك أن تبارز
عليا، أما تعلم أن الوالي من بعد معاوية عتبة ثم بعده محمد أخوه، وكل من هؤلاء
قرن علي، فما يدعوك إلى ما أرى! قال:
الحياء، خرج مني كلام، فأنا أستحمي أن أرجع عنه. فضحك الغلام، وقال:
فقال بسر:
هل هو إلا الموت لا بد من لقاء الله فغدا علي رضي الله عنه منقطعاً من خيله،
ويده في يد الأشتر، وهما يتسايران رويداً، يطلبان التل ليقفا عليه إذ برز له بسر
مقنعاً في الحديد، لا يعرف، فناداه: ابرز إلي أبا حسن، فانحدر إليه على تؤدة غير
مكترث به حتى إذا قاربه طعنه وهو دارع فألقاه إلى الأرض، ومنع الدرع السنان أن
يصل إليه، فاتقاه بسر بعورته، وقصد أن يكشفها، يستدفع بأسه، فانصرف عنه رضي الله عنه مستدبراً له فعرفه الأشتر حين سقط فقال:
يا أمير المؤمنين، هذا بسر بن أرطاة، هذا
عدو الله وعدوك، فقال: دعه عليه رضي الله عنه الله، أبعد أن فعلها فحمل ابن عم بسر من أهل الشام، شاب، على
علي رضي الله عنه وقال:
فلم يلتفت إليه علي رضي الله عنه، وتلقاه الأشتر فقال له:
فطعنه الأشتر، فكسر صلبه، وقام بسر من طعنة علي رضي الله عنه مولياً،
وفرت خيله، وناداه علي رضي الله عنه:
يا بسر، معاوية كان أحق بها منك، فرجع
بسر إلى معاوية، فقال له معاوية: ارفع طرفك،
فقد أدال الله عمراً منك، قال الشاعر في ذلك:
قال:
فكان بسر بعد ذلك اليوم، إذا لقي الخيل التي فيها علي ينتحي ناحية، وتحامى فرسان
الشام بعدها علياً رضي الله عنه. فقال مروان: أما
البراز فإن علياً لا يأذن لحسن ولا لحسين ولا لمحمد بنيه فيه، ولا لابن عباس
وإخوته، ويصلى بالحرب دونهم، فلأيهم نبارز! وأما
المفاخرة فبماذا نفاخرهم! بالإسلام أم بالجاهلية! فإن كان الإسلام،
فالفخر لهم بالنبوة، وإن كان بالجاهلية فالملك فيه لليمن، فإن قلنا قريش، قالوا
لنا: عبد المطلب. ونابذ معاوية الوليد بن عقبة دون القوم، فأغلظ له الوليد،
فقال معاوية: إنك إنما تجترئ علي بنسبك من
عثمان، ولقد ضربك الحد وعزلك عن الكوفة. فقال جعدة:
أما حبي لخالي، فلو كان لك خال مثله لنسيت أباك وأما
ابن أبي سلمة فلم يصب أعظم من قدره، والجهاد أحب إلي من العمل وأما فضل
علي على معاوية فهذا ما لا يختلف فيه اثنان. وأما
رضاكم اليوم بالشام فقد رضيتم بها أمس فلم نقبل. وأما قولك:
"ليس بالشام أحد إلا وهو أجد من معاوية، وليس بالعراق رجل مثل جد علي"
فهكذا ينبغي أن يكون، مضى بعلي يقينه، وقصر بمعاوية شكه، وقصد أهل الحق خير من
جهد أهل الباطل. وأما قولك:
"نحن أطوع لمعاوية منكم لعلي" فوالله ما نسأله إن سكت، ولا نرد عليه
إن قال. وأما
قتل العرب، فإن الله كتب القتل والقتال، فمن قتله الحق فإلى الله. فغضب
عتبة، وفحش على جعدة فلم يجبه، وأعرض عنه، فلما انصرف عنه، جمع خيله فلم يستبق
منها شيئاً، وجل أصحابه السكون والأزد والصدف، وتهيأ جعدة بما استطاع، والتقوا،
فصبر القوم جميعاً، وباشر جعدة يومئذ القتال بنفسه، وجزع عتبة، فأسلم خيله،
وأسرع هارباً إلى معاوية، فقال له: فضحك جعدة
وهزمتك، لا تغسل رأسك منها أبداً! فقال: والله
لقد أعذرت ولكن أبى الله أن يديلنا منهم فما أصنع وحظي جعدة بعدها عند علي رضي الله عنه! وقال
النجاشي فيما كان من فحش عتبة على جعدة:
وقال
الأعور الشني في ذلك، يخاطب عتبة بن أبي سفيان:
قال نصر: وحدثنا عمر بن سعد ة عن الشعبي، قال: كان رجل من أهل الشام، يقال له
الأصبغ بن ضرار الأزدي، من مسالح معاوية وطلائعه، فندب له علي رضي الله عنه الأشتر، فأخذه أسيراً من غير قتال، فجاء به ليلاً فشده
وثاقاً، وألقاه عند أصحابه ينتظر به الصباح وكان الأصبغ شاعراً مفوهاً، فأيقن
بالقتل، ونام أصحابه، فرفع صوته فأسمع الأشتر، وقال:
قال: فغدا به الأشتر إلى علي رضي الله عنه، فقال: يا أمير المؤمنين، إن هذا رجل من
مسالح معاوية، أصبته أمس، وبات عندنا الليل، فحركنا بشعره، وله رحم، فإن كان فيه
القتل فاقتله وإن ساغ لك العفو عنه فهبه لنا فقال: هو لك يا مالك، وإذا أصبت
منهم أسيراً فلا تقتله، فإن أسير أهل القبلة لا يقتل. فرجع به الأشتر إلى منزله وخلى سبيله. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن
كلام له عليه السلام في الخوارج لما أنكروا تحكيم الرجال ويذم فيه أصحابه في
التحكيم
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
إنا لم نحكم الرجال وإنما حكمنا القرآن. هذا
القرآن إنما هو خط مسطور بين الدفتين، لا ينطق بلسان ولا بد له من ترجمان وإنما
ينطق عنه الرجال. ولما دعانا القوم إلى أن نحكم بيننا القرآن، لم نكن الفريق
المتولي عن كتاب الله سبحانه وتعالى، وقد قال الله تعالى عز من قائل: "فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول"،
فرده إلى الله أن نحكم بكتابه، ورده إلى الرسول أن نأخذ بسنته فإذا حكم بالصدق
في كتاب الله، فنحن أحق الناس به وإن حكم بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله فنحن
أحق الناس وأولاهم بها. الشرح:
دفتا المصحف: جانباه اللذان يكنفانه، وكان الناس يعملونهما قديماً من خشب،
ويعملونهما الآن من جلد؛ يقول رضي الله عنه:
لا اعتراض علي في التحكيم، وقول الخوارج:
"حكمت الرجال" دعوى غير صحيحة وإنما حكمت القرآن ولكن القرآن لا ينطق
بنفسه، ولا بد له ممن يترجم عنه. والترجمان بفتح التاء وضم الجيم، هو مفسر اللغة
بلسان آخر، ويجوز ضم التاء لضمة الجيم، قال الراجز:
ثم قال:
لما دعينا إلي تحكيم الكتاب، لم نكن القوم الذين قال الله تعالى في حقهم: "وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق
منهم معرضون"، بل أجبنا إلى ذلك، وعملنا بقول الله تعالى: "فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول". وقال:
معنى ذلك أن نحكم بالكتاب والسنة، فإذا عمل الناس بالحق في هذه الواقعة، واطرحوا
الهوى والعصبية، كنا أحق بتدبير الأمة وبولاية الخلافة من المنازع لنا عليها فإن قلت: إنه
لم يقل هكذا؛ وإنما قال:إذا حكم بالصدق في
كتاب الله، فنحن أولى به، وإذا حكم بالسنة فنحن أحق بها! قلت: إنه رفع
نفسه رضي الله عنه أن يصرح بذكر الخلافة
فكنى عنها، وقال: نحن إذا حكم بالكتاب والسنة أولى بالكتاب والسنة، ويلزم من
كونه أولى بالكتاب والسنة من جميع الناس أن يكون أولى بالخلافة من جميع الناس،
فدل على ما كنى عنه بالأمر المستلزم له. قلت:
لو تأمل الحكمان الكتاب حق التأمل، لوجدا فيه النص
الصريح على صحة خلافة أمير المؤمنين رضي الله عنه، لأن فيه النص الصريح على أن
الإجماع حجة، ومعاوية لم يكن مخالفا في هذه المقدمة ولا أهل الشام، وإذا
كان الإجماع حجة، فقد وقع الإجماع لما توفي رسول
الله صلى الله عليه وسلم، على أن اختيار خمسة من صلحاء المسلمين لواحد منهم وبيعته
توجب لزوم طاعته وصحة خلافته، وقد بايعتم أمير
المؤمنين رضي الله عنه خمسة من صلحاء الصحابة بل خمسون فوجب أن تصح خلافته، وإذا صحت خلافته نفذت أحكامه، ولم يجب
عليه أن يقيد بعثمان، إلا إن حفر أولياؤه عنده، طائعين له مبايعين، ملتزمين
لأحكامه ثم بعد ذلك يطلبون القصاص من أقوام بأعيانهم، يدعون عليهم دم المقتول فقد ثبت أن الكتاب لو تؤمل حق التأمل، لكان الحق مع أهل
العراق، ولم يكن لأهل الشام من الشبهة ما يقدح في استنباطهم المذكور. ويجوز
"أكرثه" بالألف- على الباطل وإن انتفع به وأورثه زيادة. وروي: "فأنى
يتاه بكم"؟، ومن أين أتيتم؟ أي كيف دخل عليكم الشيطان أو الشبهة،
ومن أي المداخل دخل اللبس عليكم! ثم أمرهم بالاستعداد للمسير إلى حرب أهل الشام،
وذكر أنهم موزعون بالجور، أي ملهمون، قال تعالى:
"رب أوزعني أن أشكر نعمتك" أي ألهمني، أوزعته بكذا وهو موزع
به، والاسم والمصدر جميعاً الوزع بالفتح، واستوزعت إليه تعالى شكره فأوزعني، أي
استلهمته فألهمني.
وحشاش
النار: ما تحش به، أي توقد، قال الشاعر:
وروي "حشاش" بالفتح كالشياع، وهو الحطب الذي يلقى في النار قبل
الجزل، وروي: "حشاش " بضم الحاء وتشديد
الشين، جمع حاش، وهو الموقد للنار.
ويروى: "ترحاً"، أي حزناً. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن
كلام له لما عوتب كل التسوية في العطاء وتصييره الناس أسوة في العطاء من غير
تفضيل أولي السابقات والشرف
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: أتأمروني
أن أطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه! والله لا أطور به ما سمر سمير، وما أم نجم
في السماء نجماً! ولو كان المال لي لسويت بينهم، فكيف وإنما المال مال الله! ثم قال عليه السلام:
ألا وإن إعطاء المال في غير حقه تبذير
وإسراف وهو يرفع صاحبه في الدنيا، ويضعه في الآخرة، ويكرمه في الناس، ويهينه عند
الله ولم يضع أمرؤ ماله في غير حقه، وعند غير أهله إلا حرمه الله شكرهم وكان
لغيره ودهم فإن زلت به النعل يوماً فاحتاج إلى معونتهم فشر خليل، وألأم خدين. وقيل:
ابنا سمير الليل والنهار، لأنه يسمر فيهما، ويقولون:
لا أفعله السمر والقمر، أي ما دام الناس يسمرون في ليلة قمراء ولا أفعله سمير
الليالي، أي أبداً، قال الشنفرى:
قوله: "وما أم نجم في السماء نجماً"، أي قصد وتقدم، لأن النجوم تتبع بعضها
بعضاً، فلا بد من تقدم وتأخر فلا يزال النجم يقصد نجماً غيره، ولا يزال النجم
يتقدم نجماً غيره. وقد ذهب كثير من فقهاء
المسلمين إلى قوله، والمسألة محل اجتهاد، وللإمام أن يعمل بما يؤديه إليه
اجتهاده،
وإن كان أتباع علي رضي الله عنه
عندنا أولى، لا سيما إذا عضده موافقة أبي بكر على
المسألة، وإن صح الخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سوى، فقد صارت المسألة
منصوصاً عليها، لأن فعله رضي الله عنه كقوله. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن
كلام له قاله للخوارج أيضاً
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: فإن أبيتم
إلا أن تزعموا أني أخطأت وضللت، فلم تضللون عامة أمة محمد- صلى الله عليه وآله- بضلالي،
وتأخذونهم بخطئي، وتكفرونهم بذنوبي! سيوفكم على عواتقكم تضعونها مواضع البرء
والسقم، وتخلطون من أذنب بمن لم يذنب وقد علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وآله رجم
الزاني المحصن، ثم صلى عليه، ثم ورثه أهله، وقتل القاتل وورث ميراثه أهله، وقطع
يد السارق وجلد الزاني غير المحصن، ثم قسم عليهما من الفيء، ونكحا المسلمات،
فآخذهم رسول الله صلى الله عليه وآله بذنوبهم
وأقام حق الله فيهم، ولم يمنعهم سهمهم من الإسلام، ولم يخرج أسماءهم من بين
أهله. ثم أنتم شرار الناس، ومن رمى به الشيطان مراميه
وضرب به تيهه. وسيهلك في صنفان:
محب مفرط يذهب به الحب إلى غير الحق، ومبغض مفرط يذهب به البغض إلى غير الحق. وخير الناس في حالاً النمط الأوسط فالزموه، وألزموا
السواد الأعظم فإن يد الله على الجماعة وإياكم والفرقة، فإن الشاذ من الناس
للشيطان، كما أن الشاذ من الغنم للذئب. إنهم إنما
ضللوا عامة أمة محمد صلى الله عليه وسلم،
وحكموا بخطئهم وكفرهم وقتلهم بالسيف خبطاً، لأنهم وافقوك في تصويب التحكيم وهو
عندهم كفر فلم يأخذوهم بذنبك كما قلت لهم وذلك لأن أمير المؤمنين رضي الله عنه ما
قال هذه المقالة إلا لمن رأى منهم استعراض العامة، وقتل الأطفال حتى البهائم،
فقد كان منهم قوم فعلوا ذلك. وقد سبق منا شرح أفعالهم ووقائعهم بالناس، وقالوا:
إن الدار دار كفر لا يجوز الكف عن أحد من أهلها، فهؤلاء هم الذين وجه أمير
المؤمنين رضي الله عنه إليهم
خطابه وإنكاره، دون غيرهم من فرق الخوارج. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الخوارج
يكفرون أهل الكبائر
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
واعلم أن الخوارج كلها تذهب إلى تكفير أهل الكبائر،
ولذلك كفروا علياً رضي الله عنه ومن
اتبعه على تصويب التحكيم وهذا الاحتجاج الذي احتج به عليهم لازم وصحيح، لأنه لو كان صاحب الكبيرة كافراً لما صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا
ورثه من المسلم، ولا مكنه من نكاح المسلمات، ولا قسم عليه من الفيء ولأخرجه عن
لفظ الإسلام. والجواب أن هذا مقصور على اليهود لأن ذكرهم هو المقدم في الآية
قال سبحانه وتعالى: "سماعون للكذب أكالون
للسحت" ثم قال عقيب قوله: "هم
الكافرون": "وقفينا على آثارهم
بعيسى بن مريم" فدل على أنها مقصورة
على اليهود. قالوا:
والفاسق لا بد أن يجازى، فوجب أن يكون كفوراً. والجواب أن
"من" هاهنا للتبعيض، وليس في ذكر
التبعيض نفي الثالث، كما أن قوله: "فمنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على
أربع" لا ينفي وجود دابة تمشي على أكثر
من أربعة كبعض الحشرات. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
غلاة
الشيعة والنصيرية وغيرهم
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
فأما الغلاة فيه فهالكون كما هلك الغلاة في عيسى عليه السلام. وقد روى المحدثون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له عليه السلام: "فيك مثل من عيسى بن مريم، أبغضته اليهود فبهتت أمه،
وأحبته النصارى فرفعته فوق قدره"، وقد كان أمير المؤمنين عز على قوم
من أصحابه خرجوا من حد محبته باستحواذ الشيطان عليهم أن كفروا بربهم، وجحدوا ما
جاء به نبيهم، فاتخذوه رباً وادعوه إلهاً، وقالوا
له: أنت خالقنا ورازقنا، فاستتابهم ، واستأنى وتوعدهم فأقاموا على قولهم،
فحفر لهم حفراً دخن عليهم فيها، طمعاً في رجوعهم، فأبوا
فحرقهم، وقال:
وروى أبو العباس أحمد بن عبيد الله بن عمار الثقفي، عن محمد بن
سليمان بن حبيب المصيصي، المعروف بنوين، وروى أيضاً عن علي بن محمد النوفلي عن
مشيخته،
أن علياً رضي الله عنه مر بقوم وهم يأكلون في شهر رمضان نهاراً، فقال: أسفر أم مرضى قالوا لا ولا واحدة منهما، قال: فمن أهل الكتاب أنتم فتعصمكم الذمة والجزية قالوا: لا، قال: فما بال الأكل في نهار رمضان!
فقاموا إليه، فقالوا: أنت أنت! يومون إلى
ربوبيته، فنزل رضي الله عنه عن فرسه، فألصق خده
بالأرض،
وقال: ويلكم! إنما
أنا عبد من عبيد الله، فاتقوا الله وارجعوا إلى الإسلام. فأبوا فدعاهم مراراً، فأقاموا على كفرهم، فنهض
إليهم، وقال شدوهم وثاقاً، وعلي بالفعلة والنار والحطب، ثم أمر بحفر بئرين
فحفرتا، إحداهما سرباً والأخرى مكشوفة، وألقى الحطب في المكشوفة، وفتح بينهما
فتحاً، وألقى النار في الحطب، فدخن عليهم، وجعل
يهتف بهم، ويناشدهم ليرجعوا إلى الإسلام، فأبوا، فأمر بالحطب والنار فألقى
عليهم، فأحرقوا، فقال الشاعر:
قال:
فلم يبرح رضي الله عنه
حتى صاروا حمماً ثم استترت هذه
المقالة سنة أو نحوها، ثم ظهر عبد الله بن سبأ وكان
يهودياً يتستر بالإسلام بعد وفاة أمير المؤمنين رضي الله عنه فأظهرها، واتبعه قوم فسموا السبئية، وقالوا: إن علياً رضي الله عنه لم
يمت، وإنه في السماء، والرعد صوته والبرق ضحكه وإذا
سمعوا صوت الرعد، قالوا: السلام عليك يا أمير
المؤمنين! وقالوا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أغلظ قول، وافتروا عليه أعظم فرية، فقالوا: كتم تسعة أعشار
الوحي، فنعى عليهم قولهم الحسن بن علي بن محمد بن
الحنفية رضي الله عنه في رسالته، التي يذكر فيها الإرجاء، رواها عنه سليمان بن
أبي شيخ، عن الهيثم بن معاوية، عن عبد العزيز بن أبان، عن عبد الواحد بن أيمن
المكي، قال: شهدت الحسن بن علي بن محمد بن الحنفية يملي هذه الرسالة،
فذكرها وقال فيها: ومن قول هذه السبئية:
هدينا لوحي ضل عنه الناس، وعلم خفي عنهم وزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتم تسعة أعشار الوحي ولو كتم عله شيئاً مما أنزل الله عليه
لكتم شأن امرأة زيد، وقوله تعالى: "تبتغي مرضات أزواجك". وروى علي بن محمد النوفلي، قال: جاء
المغيرة بن سعيد، فاستأذن على أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين، وقال له:
أخبر الناس أني أعلم الغيب، وأنا أطعمك العراق، فزجره أبو جعفر زجراً شديداً،
واسمعه ما كره، فانصرف عنه، فأتى أبا هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية رحمه الله، فقال له مثل ذلك- وكان أبو هاشم أيداً -
فوثب عليه فضربه ضرباً شديداً أشفى به على الموت، فتعالج
حتى برئ، ثم أتى محمد بن عبد الله بن الحسن
بن الحسن رحمه الله- وكان محمد سكيتاً - فقال له
كما قال للرجلين، فسكت محمد فلم يجبه، فخرج وقد طمع فيه بسكوته، وقال:
أشهد أن هذا هو المهدي الذي بشر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه قائم أهل
البيت، وادعى أن علي بن الحسين رضي الله عنه
أوصى إلى محمد بن عبد الله بن الحسن. ثم قدم المغيرة الكوفة، وكان مشعبذاً،
فدعا الناس إلى قوله، واستهواهم واستغواهم، فاتبعه خلق كثير،
وادعى على محمد بن عبد الله أنه أذن له في خنق الناس وإسقائهم السموم، وبث
أصحابه في الأسفار يفعلون ذلك بالناس، فقال له بعض
أصحابه: إنا نخنق من لا نعرف، فقال: لا
عليكم! إن كان من أصحابكم عجلتموه إلى الجنة، وإن كان من عدوكم عجلتموه
إلى النار ولهذا السبب كان المنصور يسمي محمد بن عبد الله الخناق، وينحله ما
ادعاه عليه المغيرة. ثم
ذكر أنه إنما حكم الحكمان ليحييا ما أحياه القرآن، أي ليجتمعا على ما شهد القرآن
باستصوابه واستصلاحه، ويميتا ما أماته القرآن، أي ليفترقا ويصدا وينكلا عما كرهه
القرآن، وشهدا بضلاله، والبجر، بضم الباء: السر العظيم، قال الراجز:
أي داهية. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
فيما
يخبر به عن الملاحم بالبصرة
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: يا
أحنف، كأني به وقد سار بالجيش الذي لا يكون له غبار ولا لجب، ولا قعقعة لجم، ولا
حمحمة خيل، يثيرون الأرض بأقدامهم كأنها أقدام النعام. الشرح: اللجب:
الصوت. والدور المزخرفة:
المزينة المموهة بالزخرف، وهو الذهب. والخراطيم:
ميازيبها. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أخبار
صاحب الزنج
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
فأما صاحب الزنج
هذا فإنه ظهر في فرات البصرة في سنة خمس وخمسين ومائتين
رجل زعم أنه علي بن محمد بن أحمد بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي
طالب رضي الله عنه، فتبعه الزنج الذين كانوا
يكسحون السباخ في البصرة.
ومن
جملتها:
ومن
الشعر المنسوب إليه:
ومن
شعره في الغزل:
ومن
شعره أيضاً:
وقد ذكر المسعودي
في كتابه المسمى "مروج الذهب "، أن أفعال علي بن محمد صاحب الزنج، تدل على أنه لم يكن طالبياً، وتصدق ما رمي به من دعوته
في النسب لأن ظاهر حاله كان ذهابه إلى مذهب الأزارقة،
في قتل النساء والأطفال والشيخ الفاني والمريض، وقد روي أنه خطب مرة، فقال في أول خطبته: لا إله إلا الله والله أكبر، الله
أكبر لا حكم إلا لله. وكان يرى الذنوب كلها شركاً. وضقت
ذرعاً بسوء طاعة أهلها، فأظلتني سحابة، فبرقت ورعدت، واتصل صوت الرعد منها
بسمعي، فخوطبت فقيل لي: أقصد البصرة فقلت لأصحابي وهم يكتنفونني: إني أمرت بصوت من هذا
الرعد، بالمسير إلى البصرة. فلما تفرقت العرب عنه ونبت به البادية، شخص عنها
إلى البصرة، فنزل بها في بني ضبيعة، فاتبعه بها جماعة، منهم علي بن أبان المعروف
بالمهلبي، من ولد المهلب بن أبي صفرة، وأخواه محمد والخليل وغيرهم وكان قدومه البصرة في سنة أربع وخمسين ومائتين وعامل
السلطان بها يومئذ محمد بن رجاء، ووافق ذلك فتنة أهل البصرة بالبلالية والسعدية،
فطمع في أحد الفريقين أن يميل إليه، فأرسل أربعة من أصد، به يدعون إليه وهم محمد
بن سلم القصاب الهجري وبريش القريعي وعلي الخسراب، والحسين الصيدناني، وهم الذين
كانوا صحبوه بالبحرين، فلم يستجب لهم أحد من أهل البلد، وثار عليهم الجند،
فتفرقوا، وخرج علي بن محمد من البصرة هارباً، وطلبه ابن رجاء فلم يقدر عليه. وأخبر ابن رجاء بميل جماعة من أهل البصرة إليه،
فأخذهم فحبسهم، وحبس معهم زوجة علي بن محمد، وابنه الأكبر، وجارية له كانت
حاملاً ومضى علي بن محمد لوجهه يريد بغداد ومعه قوم من خاصته منهم محمد بن سلم،
ويحيى بن محمد، وسليمان بن جامع، وبريش القريعي، فلما صاروا بالبطيحة، نذر بهم
بعض موالي الباهليين، كان يلي أمر البطيحة، فأخذهم وحملهم إلى محمد بن أبي عون
وهو عامل السلطان بواسط، فاحتال لابن أبي عون حتى تخلص هو وأصحابه من يده ثم صار
إلى بغداد فأقام بها سنة. وانتسب في هذه السنة إلى محمد بن أحمد بن عيسى بن
زيد، وكان يزعم أنه ظهر له أيام مقامه ببغداد في هذه السنة آيات، وعرف ما في
ضمائر أصحابه وما يفعله كل واحد منهم، وأنه سأل ربه أن يعلمه حقيقة أمور كانت في
نفسه، فرأى كتاباً يكتب له على حائط، ولا يرى شخص كاتبه. قال أبو جعفر: فذكر
عن ريحان بن صالح، أحد غلمان الشورجيين الزنوج، وهو أول من صحبه منهم، قال: كنت
موكلاً بغلمان مولاي، أنقل الدقيق إليهم، فمررت به وهو مقيم بقصر القرشي يظهر
الوكالة لأولاد الواثق، فأخذني أصحابه وصاروا بي إليه، وأمروني بالتسليم عليه
بالإمرة، ففعلت ذلك، فسألني عن الموضع الذي جئت منه، فأخبرته أني أقبلت من
البصرة، فقال: هل سمعت ك بالبصرة خبراً قلت: لا، قال: فخبر البلالية والسعدية قلت: لم
أسمع لهم خبراً، فسألني عن غلمان الشورجيين وما يجري لكل جماعة منهم من الدقيق
والسويق والتمر، وعمن يعمل في الشورج من الأحرار والعبيد، فأعلمته ذلك، فدعاني
إلى ما هو عليه، فأجبته فقال لي: احتل فيمن قدرت عليه من الغلمان، فأقبل بهم
إلي. ووعدني أن يقودني على من آتيه به منهم، وأن يحسن إلي، واستحلفني ألا أعلم
أحداً بموضعه، وأن أرجع إليه. فخلى
سبيلي، فأتيت بالدقيق الذي معي إلى غلمان مولاي، وأخبرتهم خبره، وأخذت له البيعة
عليهم، ووعدتهم عنه بالإحسان والغنى، ورجعت إليه من غد ذلك اليوم، وقد وافاه
رفيق غلام الخاقانية وقد كان وجهه إلى البصرة، يدعو إليه غلمان الشورج، ووافى
إليه صاحب له آخر يعرف بشبل بن سالم، قد كان دعا إليه قوماً منهم أيضاً، وأحضر
معه حريرة كان أمره بابتياعها، ليتخذها لواء، فكتب فيها بالحمرة : "إن الله أشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن
لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله"، وكتب اسمه واسم أبيه عليها،
وعلقها في رأس مردي، وخرج وقت السحر من ليلة السبت لليلتين بقيتا من شهر رمضان
فلما صار إلى مؤخر القصر الذي كان فيه، لقيه غلمان رجل من الشورجيين، يعرف
بالعطار متوجهين إلى أعمالهم، فأمر بأخذ وكيلهم، فأخذ وكتف، واستصم غلمانه إلى
غلمانه، وكانوا خمسين غلاماً، ثم صار إلى الموضع المعروف بالسنائي فاتبعه
الغلمان الذين كانوا فيه، وهم خمسمائة غلام فيهم الغلام المعروف بأبي حديد، وأمر
بأخذ وكيلهم، وكتفه ثم مضى إلى الموضع المعروف بالسيرافي، فاتبعه من كان فيه من
غلمان، وهم مائة وخمسون غلاماً، منهم زريق وأبو الخنجر، ثم صار إلى الموضع
المعروف بسبخة ابن عطاء، فأخذ طريفاً، وصبيحاً الأعسر، وراشداً المغربي، وراشداً
القرمطي وكل هؤلاء من وجوه الزنج وأعيانهم الذين صاروا قواداً وأمراء في جيوشهم،
وأخذ معهم ثمانين غلاماً. فلما فرغ
من خطبته أمر الذين فهموا عنه قوله أن يفهموه من لا فهم له من عجمهم، لتطيب بذلك
أنفسهم، ففعلوا ذلك. قال أبو جعفر:
فلما كان في اليوم الثالث من شوال، وافاه الحميري أحد عمال السلطان بتلك
النواحي، في عدد كثير، فخرج إليه صاحب الزنج في أصحابه، فطرده وهزم أصحابه، حتى
صاروا في بطن دجلة، واستأمن إلى صاحب الزنج رجل من رؤساء السودان، يعرف بأبي
صالح القصير في ثلاثمائة من الزنج، فلما كثر من اجتمع إليه من الزنج قود قواده،
وقال لهم: من أتى منكم برجل من السودان فهو مضموم إليه. قال أبو جعفر:
ثم كان له مع أهل البصرة وقعة بعد ذلك سار يريدها في ستة آلاف زنجي، فاتبعه أهل
الناحية المعروفة بالجعفرية ليحاربوه، فعسكر عليهم، فقتل منهم مقتلة عظيمة، أكثر
من خمسمائة رجل فلما فرغ منهم صمد نحو البصرة، واجتمع أهلها ومن بها من الجند،
وحاربوه حرباً شديداً، فكانت الدائرة عليه، وانهزم أصحابه، ووقع كثير منهم في
النهرين المعروفين بنهر كثير ونهر شيطان، وجعل يهتف بهم ويردهم ولا يرجعون، وغرق
من أعيان جنده وقواده جماعة منهم أبو الجون، ومبارك البحراني، وعطاء البربري،
وسلام الشامي، فلحقه قوم من جند البصرة، وهو على قنطرة فهر كثير فرجع إليهم
بنفسه، وسيفه لا يده، فرجعوا عنه حتى صاروا إلى الأرض وهو يومئذ في ذراعة وعمامة
ونعل وسيف، وفي يده اليسرى ترس، ونزل عن القنطرة، فصعدها البصريون يطلبونه، فرجع
إليهم، فقتل منهم رجلاً بيده على خمس مراق من القنطرة، وجعل يهتف بأصحابه،
ويعرفهم مكانه، ولم يكن بقي معه في ذلك الموضع من أصحابه إلا أبو الشوك ومصلح
ورفيق ومشرق غلاما الخاقانية، وضل أصحائه عنه، وانحلت عمامته، فبقي على رأسه كور
منها أو كوران، فجعل يسحبها من ورائه، ويعجله المشي من رفعها، وأسرع غلاماً
الخاقانية في الانصراف، وقصر عنهما فغابا عنه، فاتبعه رجلان من أهل البصرة
بسيفيهما، فرجع إليهما، فانصرفا عنه، وخرج إلى الموضع الذي فيه مجمع أصحابه، وقد
كانوا تحيروا، فلما رأوه سكنوا. وكان يقول لأصحابه بعد ذلك:
لما أقبل إلي جمع البصرة وعاينته، رأيت أمراً هائلاً راعني، وملأ صدري رهبة
وجزعاً، ففزعت إلى الدعاء، وليس معي من أصحابي إلا نفر يسير، منهم مصلح، وليس
منا أحد إلا وقد خيل إليه مصرعه، فجعل مصلح يعجبني من كثرة ذلك الجمع، وجعل أومئ
إليه أن اسكت، فلما قرب القوم مني قلت:
اللهم إن هذه ساعة العسرة، فأعني، فرأيت طيوراً بيضاً أقبلت فتلقت ذلك الجمع،
فلم أستتم دعائي حتى بصرت بسميرية من سفنهم قد انقلبت بمن فيها، فغرقوا، ثم
تلتها الشذا فغرقت واحدة بعد واحدة، وثار أصحاب إلى القوم، وخرج الكمينان من
جنبي النهر، وصاحوا وخبطوا الناس، فغرقت طائفة، وقتلت طائفة، وهربت طائفة نحو
الشط طمعاً، فأدركها السيف، فمن ثبت قتل، ومن رجع إلى الماء غرق حتى أبيد أكثر
ذلك الجمع، ولم ينج منهم إلا الشريد، وكز المفقودون بالبصرة، وعلا العويل من
نسائهم. فذكر عن صاحب الزنج أنه قال:
ميلت بين عبادان والأبلة، فملت إلى التوجه إلى عبادان فندبت الرجال إلى ذلك،
فخوطبت وقيل لي: إن أقرب عدو داراً، وأولاه ألا يتشاغل عنه بغيره أهل الأبلة،
فرددت بالجيش الذي كنت سيرته نحو عبادان إلى الأبلة، ولم يزالوا يحاربون أهلها إلى
أن اقتحموها وأضرموها ناراً، وكانت مبنية بالساج بناء متكاثفاً، فأسرعت فيها
النار، ونشأت ريح عاصف، فأطارت شرر ذلك الحريق إلى أن انتهى إلى شط عثمان، وقتل
بالأبلة خلق كثير، وحويت الأسلاب والأموال، على أن الذي أحرق منها كان أكثر مما
انتهب، واستسلم أهل عبادان بعدها لصاحب الزنج، فإن قلوبهم ضعفت، وخافوه على
أنفسهم وحرمهم، فأعطوا بأيديهم، وسلموا إليه بلدهم، فدخلها أصحابه، فأخذوا من
كان فيها من العبيد، وحملوا ما كان فيها من السلاح، ففرقه على أصحابه، وصانعه
أهلها بمال كف به عنهم. قال أبو جعفر: ثم كانت بين الزنج وبين أصحاب
السلطان بالأهواز وقعات كثيرة، تولاها علي بن أبان المهلبي، فقتل شاهين بن
بسطام، وكان من أكابر أصحاب السلطان، وهزم إبراهيم بن سيما، وكان أيضاً من
الأمراء المشهورين، واستولى الزنج على عسكره. قال: فكان يحدث
بهذا حتى أفاض فيه أصحابه، وكثر تردده في أسماعهم وإجالتهم إياه بينهم. فلما وقع الكسوف، أنهض إليها علي بن أبان، وضم إليه
جيشاً من الزنج وطائفة من الأعراب، وأمره بإتيان البصرة مما يلي بني سعد، وكتب
إلى يحيى بن محمد البحراني في إتيانها مما يلي نهر عدي، وضم باقي الأعراب إليه
فكان أول من واقع أهل البصرة علي بن أبان وبغراج الترير يومئذ بالبصرة في جماعة
من الجند، فأقام يقاتلهم يومين، وأقبل يحيى بن محمد مما يلي قصر أنس، قاصداً نحو
الجسر، فدخل علي بن أبان البلد وقت صلاة الجمعة، لثلاث عشرة بقين من شوال. فأقبل
يقتل الناس، ويحرق المنازل والأسواق بالنار، فتلقاه بغراج وإبراهيم بن محمد بن
إسماعيل بن جعفر بن سليمان الهاشمي، المعروف ببريه وكان وجيهاً مقدماً مطاعاً-
في جمع عظيم، فرداه، فرجع فأقام ليلته تلك. ثم غاداهم
وقد تفرق جند البصرة فلم يكن في وجهه أحد يدافعه، وانحاز بغراج بمن معه، وهرب
إبراهيم بن محمد الهاشمي المعروف ببريه، فوضع علي
بن أبان السيف في الناس، وجاء إليه إبراهيم بن محمد المهلبي- وهو ابن عمه-
فاستأمنه لأهل البصرة، فحضر أهل البصرة قاطبة، فأمنهم، ونادى مناديه من أراد
الأمان فليحضر دار إبراهيم بن محمد المهلبي. فحضر أهل البصرة قاطبة، حتى ملأوا
الأزقة. فلما رأى اجتماعهم انتهز الفرصة، فأمر بأخذ السكك والطرق عليهم، وغدر
بهم، وأمر الزنوج بوضع السيف فيهم، فقتل كل من شهد ذلك المشهد. فلم يلووا
عليه، ولم يسمعوا منه، فمضى هارباً، ودخلت أنا منزلي، وأغلقت بابي، وأشرفت فمر
بي الأعراب ورجالة الزنج، يقدمهم رجل على حصان كميت، بيده رمح، وعليه عذبة
صفراء، فسألت بعد ذلك عنه فقيل لي: إنه علي بن أبان. قال أبو
جعفر: وحدثني محمد بن الحسن، قال: لما انتهى
إلى علي بن محمد عظيم ما فعل أصحابه بالبصرة سمعته يقول: دعوت على أهل البصرة في
غداة اليوم الذي دخل فيه أصحابي إليها، واجتهدت في الدعاء، وسجدت وجعلت أدعو في
سجودي، فرفعت إلي البصرة، فرأيتها ورأيت أصحابي يقاتلون فيها، ورأيت بين السماء
والأرض رجلاً واقفاً في صورة جعفر المغلوف كان المتولي للاستخراج في ديوان
الخراج بسامراء، وهو قائم قد خفض يده اليسرى، ورفع يده اليمنى، يريد قلب البصرة،
فعلمت أن الملائكة تولت إخرابها دون أصحابي، ولو كان أصحابي تولوا ذلك ما بلغوا
هذا الأمر العظيم الذي يحكى عنها ولكن الله تعالى نصرني بالملائكة، وأيدني في
حروبي، وثبت بهم من ضعف قتله من أصحابي. قال أبو جعفر:
وأشخص السلطان لحرب صاحب الزنج محمداً المعروف بالمولد،
في جيش كثيف، فجاء حتى نزل الأبلة، وكتب صاحب الزنج
إلى يحيى بن محمد البحراني يأمره بالمصير إليه، فصار إليه بز نوجه، وأقام على
محاربته عشرة أيام، ثم فتر المولد عن الحرب، وكتب
علي بن محمد إلى يحيى، يأمره أن يبيته، فبيته فهزمه، ودخل الزنج عسكره
فغنموا مافيه، وكتب يحيى إلى صاحب الزنج
يخبره، فأمره باتباعه، فاتبعه إلى الحوانيت، ثم انصرف عنه، فمر بالجامدة، وأوقع
بأهلها، وانتهب كل ما كان في تلك القرى، وسفك ما قدر على سفكه من الدماء، ثم عاد
إلى نهر معقل. فوجه صاحب الزنج طلائعه في سميريات
ليعرف الخبر، فرجعت طلائعه إليه بتعظيم أمر الجيش وتفخيمه، ولم يقف أحد منهم على
من يقوده، فزاد ذلك في جزعه وارتياعه، فأمر
بالإرسال إلى علي بن أبان يعلمه خبر الجيش الوارد، ويأمره بالمصير إليه فيمن
معه، ووافى جيش أبي أحمد، فأناخ بإزاء صاحب الزنج فلما كان اليوم الذي كانت فيه
الواقعة، خرج علي بن محمد يطوف في عسكره ماشياً، ويتأمل الحال فيمن هو من حربه
ومن هو مقيم بإزائه على حزبه، وقد كانت السماء مطرت ذلك اليوم مطراً خفيفاً،
والأرض ثرية تزل عنها الأقدام، فطوف ساعة من أول النهار ورجع، فدعا بدواة وقرطاس
ليكتب كتاباً إلى علي بن أبان، ليعلمه ما قد أظله من الجيش، ويأمره بتقديم من
قدر على تقديمه من الرجال؟ فإنه لفي ذلك، إذ أتاه
أبو دلف القائد أحد قواد الزنج، فقال له: إن القوم قد غشوك ورهقوك،
وانهزم الزنج من بين أيديهم، وليس في وجوههم من يردهم، فانظر لنفسك، فإنهم قد
انتهوا إليك. فصاح به وانتهره وقال: اغرب عني فإنك كاذب فيما حكيت، إنما ذلك جزع
داخل قلبك لكثرة من رأيت من الجمع، فانخلع قلبك، فلست تدري ما تقول. ووافى علي بن محمد زنجه بالرؤوس قابضين عليها
بأسنانهم حتى ألقوها بين يديه، فكثرت الرؤوس يومئذ حتى ملأت الفضاء، وجعل الزنج
يقتسمون لحوم القتلى، ويتهادونها بينهم، وأتي بأسيرمن الجيش فسأله عن رأس
العسكر، فذكر أبا أحمد ومفلحاً، فارتاع لذكر أبي أحمد، وكان إذا راعه أمر كذب
به، وقال: ليس في الجيش إلا مفلح، لأني لست أسمع الذكر إلا له، ولو كان في الجيش
من ذكر هذا الأسير لكان صوته أبعد، ولما كان مفلح إلا تابعاً له، ومضافاً إليه. قال أبو جعفر:
ثم إن الله تعالى أصاب صاحب الزنج بمصيبة تعادل فرحه وسروره بقتل مفلح عقيب قتل
مفلح، وذلك أن قائده الجليل يحيى بن محمد البحراني اسر وقتل، وصورة ذلك أن صاحب
الزنج كان قد كتب إلى يحيى بن محمد، يعلمه ورود هذا الجيش عليه، ويأمره بالقدوم
والتحرز في منصرفه من أن يلقاه أحد منهم وقد كان يحيى غنم سفناً فيها متاع
وأموال، لتجار الأهواز جليلة، وحامى عنها أصحاب أصغجون التركي فلم يغن، وهزمهم
يحيى، ومضى الزنج بالسفن المذكورة يمدونها متوجهين نحو معسكر صاحب الزنج على سمت
البطيحة المعروفة ببطيحة الصحناة، وهي طريقة متعسفة وعرة، فيها مشاق متعبة،
وإنما سلكها يحيى وأصحابه، وتركوا الطريق الواضح، للتحاسد الذي كان بين يحيى بن
محمد وعلي بن أبان، فإن أصحاب يحيى أشاروا عليه ألا يسلك الطريق التي يمر فيها
على أصحاب علي بن أبان، فأصغى إلى مشورتهم فشرعوا له الطريق المؤدي إلى البطيحة
المذكورة فسلكها، وهذه البطيحة ينتهي السائر فيها إلى نهر أبي الأسد، وقد كان
أبو أحمد انحاز اليه، لأن أهل القرى والسواد كاتبوه يعرفونه خبر يحيى بن محمد
البحراني، وشدة بأسه، وكثرة جمعه، وأنه ربما خرج من البطيحة إلى نهر أبي الأسد،
فعسكر به، ومنع أبا أحمد الميرة، وحال بينه وبين من يأتيه من الأعراب وغيرهم،
فسبقه أبو أحمد إلى نهر أبي الأسد، وسار يحيى حتى إذا قرب من نهر أبي الأسد،
وافته طلائعه، فأخبرته بالجيش، وعظمت أمره، وخوفته منه، فرجع من الطريق الذي كان
سلكه بمشقة شديدة نالته، ونالت أصحابه، وأصابهم مرض لترددهم في تلك البطيحة،
وجعل يحيى على مقدمته سليمان بن جامع، وسار حتى وقف على قنطرة فورج نهر العباس،
في موضع ضيق تشتد فيه جرية الماء، وهو مشرف ينظر أصحابه الزنج: كيف يجرون تلك
السفن التي فيها الغنائم، فمنها ما يغرق وما يسلم. فلما أصبح
نزفه الدم، ونهض عباد الطبيب، فجعل يمشي متشوفاً أن يرى إنساناً، فرأى بعض أصحاب
السلطان، فأشار لهم إلى موضع يحيى، فجاؤوا، حتى وقفوا عليه، فأخذوه، وانتهى خبره إلى الخبيث صاحب الزنج فجزع عليه جزعاً
شديداً، وعظم عليه توجعه. ثم حمل يحيى إلى أبي أحمد، فحمله أبو
أحمد إلى المعتمد، فأدخل إلى سامراء راكب جمل، والناس مجتمعون ينظرونه، ثم أمر
المعتمد ببناء دكة عالية بحضرة مجرى الحلية، فبنيت، ورفع للناس عليها حتى أبصره
الخلائق كافة، ثم ضرب بين يدي المعتمد وقد جلس له مائتي سوط بثمارها ثم قطعت
يداه ورجلاه من خلاف، ثم خبط بالسيوف ثم ذبح وأحرق. ثم أقبل على جماعة أنا فيهم، فقال: من
شرهه أنا غنمنا غنيمة من بعض ما كنا نغنمه وكان فيها عقدان، فوقعا في يد يحيى،
فأخفى عني أعظمهما خطراً، وعرض علي أخسهما، ثم استوهبه فوهبته له، فرفع إلي
العقد الذي أخفاه حتى رأيته، فدعوته فقلت: أحضر لي العقد الذي أخفيته، فأتاني
بالعقد الذي وهبته له، وجحد أن يكون أخذ غيره، فرفع إلي العقد ثانية، فجعلت أصفه
له وأنا أراه وهو لا يراه، فبهت وذهب، فأتاني، ثم استوهبنيه فوهبته له، وأمرته
بالاستغفار. ثم صرف الزنج سورتهم وشدة حملتهم إلى الموضع الذي
به أبو أحمد، فجاءه منهم جمع لا يقاوم، بمثل العدة اليسيرة التي كان فيها، فرأى
أن الحزم في محاجزتهم، فأمر أصحابه بالرجوع إلى سفنهم على تؤدة وتمهل، ففعلوا،
وبقيت طائفة من جنده ولجوا تلك الأدغال والمضايق، فخرج عليهم كمين للزنج فأوقعوا
بهم، فحاموا عن أنفسهم، وقتلوا عدداً كثيراً من الزنج إلى أن قتلوا بأجمعهم،
وحملت رؤوسهم إلى الناجم، فزاد ذلك في قوته وعتوه
وعجبه بنفسه، وانصرف أبو أحمد بالجيش إلى باذاورد، وأقام يعبىء أصحابه
للرجوع إلى الزنج، فوقعت نار في طرف من أطراف عسكره، وذلك في أيام عصوف الرياح،
فاحترق العسكر، ورحل أبو أحمد منصرفاً وذلك في شعبان من هذه السنة إلى واسط. فأقام بها إلى ربيع الأول، ثم انصرف عنها إلى
سامراء، وذلك أن المعتمد كاتبه واستقدمه لحرب يعقوب بن الليث الصفار أميرخراسان،
فاستخلف على حرب الناجم محمداً المولد، وأما الناجم فإنه لم يعلم خبر الحريق
الذي وقع في عسكر أبي أحمد، حتى ورد عليه رجلان من أهل عبادان، فأخبراه، فأظهر
أن ذلك من صنع الله تعالى له ونصره على أعدائه، وأنه دعا الله على أبي أحمد
وجيشه، فنزلت نار من السماء فأحرقتهم. وعاد إلى العبث، واشتد طغيانه وعتوه، وأنهض علي بن
أبان المهلبي، وضم إليه أكثر الجيش، وجعل على مقدمته سليمان بن جامع، وأضاف إليه
الجيش الذي كان مع يحيى بن محمد البحراني وسليمان بن موسى الشعراني، وأمرهم بأن
يقصدوا الأهواز وبها حينئذ أصغجون التركي، ومعه نيزك القائد، فالتقى العسكران
بصحراء تعرف بدشت. ميسان، واقتتلوا، فظهرت
الزنج، وقتل نيزك في كثير من أصحابه، وغرق أصغجون التركي، وأسر كثيرمن قواد
السلطان، منهم الحسن بن هرثمة المعروف بالشاري، والحسن بن جعفر. وكتب علي بن
أبان بالخبر إلى الناجم، وحمل إليه أعلاما ورؤوسا كثيرة وأسرى، ودخل علي بن أبان
الأهواز، وأقام بها بزنوجه يعيث وينهب القرى والسواد، إلى أن ندب المعتمد على
الله موسى بن بغا لحربه، فشخص عن سامرا، في ذي القعدة من هذه السنة، وشيعه
المعتمد بنفسه إلى خلف الحائطين، وخلع عليه هنالك فقدم أمامه عبد الرحمن بن مفلح
إلى الأهواز وإسحاق بن كنداخ إلى البصرة، وإبراهيم بن سيما إلى الباذاورد. قال أبو جعفر:
وسبب ذلك أن المعتمد رد أمر فارس والأهواز والبصرة وغيرها من النواحي والأقطار
إلى أخيه أبي أحمد، بعد فراغه من حرب يعقوب بن الليث الصفار وهزيمته له، فاستخلف
أبو أحمد على حرب صاحب الزنج مسرور البلخي، وصرف موسى بن بغا عن ذلك، واتفق أن
ابن واصل حارب عبد الرحمن بن مفلح، فأسره وقتله، وقتل طاشتمر التركي أيضاً، وذلك
بناحية رامهرمز ، فاستخلف مسرور البلخي على الحرب أبا الساج وولي الأهواز، فكانت
بينه وبين علي بن أبان المهلبي وقعة بناحية دولاب، قتل فيها عبد الرحمن صهر أبي
الساج، وانحاز أبو الساج إلى عسكر مكرم، ودخل الزنج الأهواز، فقتلوا أهلها وسبوا
وأحرقوا دورها. وكان الذي يقود الخيل يومئذ في عسكر سليمان بن جامع
الخليل بن أبان وعبد الله المعروف بالمذوب، وكان أحمد بن مهدي الجبائي في
السميريات، وكان مهربان الزنجي في الشذوات، وكان سليمان بن موسى الشعراني
وأخوه في ميمنته وميسرته، وكان سليمان بن جامع، وهو الأمير على الجماعة في قواده
السودان ورجالته منهم، وكان الجميع يداً واحدة، فلما قضوا وطرهم من نهب واسط
وقتل أهلها، خرجوا بأجمعهم عنها، فمضوا إلى جنبلاء، وأقاموا هناك يعيثون
ويخربون. وكان سليمان بن جامع وسليمان بن موسى الشعراني،
ومعهما أحمد بن مهدي الجبائي في الأعمال الواسطية، قد ملكوها وبنوا بها المدن
الحصينة، وفازوا بأموالها وارتفاعها، وجبوا خراجها، ورتبوا عمالهم وقوادهم فيها،
إلى أن دخلت سنة سبع وستين ومائتين، وقد عظم الخطب وجل، وخيف على ملك بني العباس
أن يذهب وينقرض، فلم يجد أبو أحمد الموفق- وهو طلحة بن المتوكل على الله- بدا من
التوجه بنفسه ومباشرته هذا الأمر الجليل برأيه وتدبيره، وحضوره معارك الحرب،
فندب أمامه ابنه أبا العباس، وركب أبو أحمد إلى بستان الهادي ببغداد، وعرض أصحاب
أبي العباس، وذلك في شهر ربيع الآخر من هذه السنة، فكانوا عشرة آلاف، فرساناً
ورجالة في أحسن زي وأجمل هيئة، وأكمل عدة، ومعهم الشذوات والسميريات والمعابر
برسم الرجالة، كل ذلك قد أحكمت صنعته. فركب أبو العباس من بستان الهادي، وركب أبو أحمد مشيعاً
له حتى نزل القرية المعروفة بالفرك، ثم عاد وأقام أبو العباس بالفرك أياماً، حتى
تكامل عدده وتلاحق به أصحابه. فرجع نصير بشذواته وسميرياته، وفيها
الرجال، وركب أبو العباس في سميرية، ومعه محمد بن شعيب، وحف أصحابه بالزنج من
جميع جهاتهم، فانهزموا، ومنح الله أبا العباس وأصحابه
أكتافهم، يقتلونهم ويطردونهم، إلى أن وافوا قرية عبد الله، وهي على ستة فراسخ،
من الموضع الذي لقوهم فيه، وأخذوا منهم خمس شذوات وعشر سميريات، واستأمن منهم
قوم، وأسر منهم أسرى، وغرق من سفنهم كثير، فكان هذا
اليوم أول الفتح على أبي العباس. ثم إن سليمان استعد وحشد وفرق أصحابه،
فجعلهم في ثلاثة أوجه: فرقة أتت من نهر أبان، وفرقة من بر
تمرتا، وفرقة من بردودا، فلقيهم أبو العباس،
فلم يلبثوا أن انهزموا، فلحقت طائفة منهم بسوق الخميس، وطائفة بمارزوان، وطائفة
ببر تمرتا، وسلك آخرون نهر الماذيان، واعتصم قوم منهم ببردودا، وتبعهم أصحاب أبي
العباس، وجعل أبو العباس قصده القوم الذين سلكوا نهر الماذيان، فلم يرجع عنهم
حتى وافى بهم بر مساور، ثم انصرف، فجعل يقف على القرى والمسالك ويسأل عنها
ويتعرفها، ومعه الأدلاء وأرباب الخبرة، حتى عرف جميع تلك الأرض ومنافذها، وما
ينتهي إليه من البطائح والآجام وغيرها، وعاد إلى معسكره بالعمر، فأقام به أياماً
مريحاً نفسه وأصحابه. قال أبو جعفر:
وألح الزنج في مغاداة العسكر في كل يوم بالحرب، وعسكروا بنهر الأمير في جمع
كثير، وكتب سليمان إلى الناجم يسأله إمداده بسميريات، لكل واحدة منهن أربعون
مجدافاً، فوافاه من ذلك في مقدار عشرين يوماً أربعون سميرية، فيها الرجال
والسيوف والتراس والرماح، فكانت لأبي العباس معهم وقعات عظيمة، وفي أكثرها الظفر
لأصحابه والخذلان على الزنج، ولج أبو العباس في دخول الأنهار والمضايق، حتى
انتهى إلى مدينة سليمان بن موسى الشعراني بنهر الخميس التي بناها وسماها
المنيعة، وخاطر أبو العباس بنفسه مراراً، وسلم بعد أن شارف العطب، واستأمن إليه جماعة
من قواد الزنج فأمنهم، وخلع عليهم وضمهم إلى عسكره، وقتل من قواد الزنج جماعة،
وتمادت الأيام بينه وبينهم، واتصل بأبي أحمد الموفق أن سليمان بن موسى الشعراني
والجبائي ومن بالأعمال الواسطية من قواد صاحب الزنج، كاتبوا صاحبهم، وسألوه
إمدادهم بعلي بن أبان المهلبي، وهو المقيم حينئذ بأعمال الأهواز، والمستولي
عليها، وكان علي بن أبان قائد القواد وأمير الامراء فيهم، فكتب الناجم إلى علي
بن أبان يأمره بالمصير بجميع من معه إلى ناحية سليمان بن جامع، ليجتمعا على حرب
أبي العباس. قال أبو جعفر:
فحدثني محمد بن الحسن بن سهل، قال: حدثني محمد بن هشام الكرنبائي المعروف بأبي
واثلة، قال: كنت بين يدي الناجم ذلك اليوم وهو يتحدث، إذ ورد عليه كتاب سليمان
بخبر الواقعة وما نزل به، وانهزامه إلى المذار، فما كان إلا أن فض الكتاب، ووقعت
عينه على ذكر الهزيمة، حتى انحل وكاء بطنه، فنهض لحاجته ثم عاد. فلما استوى
به مجلسه، أخذ الكتاب وتأمله، فوقعت عينه على الموضع الذي أنهضه أولاً، فنهض
لحاجته حتى فعل ذلك مراراً، فلم أشك في عظم المصيبة، وكرهت أن أسأله، فلما طال
الأمر تجاسرت، فقلت: أليس هذا كتاب سليمان بن موسى؟ قال: بلى، ورد بقاصمة الظهر،
ذكر أن الذين أناخوا عليه أوقعوا به وقعة لم تبق منه ولم تذر، فكتب كتابه هذا
وهو بالمذار، ولم يسلم بشيء غير نفسه. قال:
فأكبرت ذلك- والله يعلم ما اخفي من السرور الذي وصل إلى قلبي- قال: وصبرعلي بن
محمد على مكروه ما وصل إليه، وجعل يظهر الجلد، وكتب إلى سليمان بن جامع يحذره
مثل الذي نزل بالشعراني، ويأمره بالتيقظ في أمره وحفظ ما قبله. وكانت وفاته في ليلة ذات رعود وبروق. وانصرف من دفنه منكسراً، عليه الكآبة. قال أبو جعفر:
فلما انصرف أبو أحمد ذلك اليوم من الوقعة، غاداهم بكرة الغد، وعبأ أصحابه كتائب
فرساناً ورجالة، وأمر بالشذا والسميريات أن يسار بها معه في النهر الذي يشق مدينة
طهيثا، وهو النهر المعروف بنهر المنذر، وسار نحو
الزنج، حتى انتهى إلى سور المدينة فرتب قواد غلمانه في المواضع التي يخاف خروج
الزنج عليه منها، وقدم الرجالة أمام الفرسان، ونزل فصلى أربع ركعات، وابتهل إلى
الله تعالى في النصر والدعاء للمسلمين، ثم دعا بسلاحه فلبسه، وأمر ابنه أبا
العباس أن يتقدم إلى السور ويحض الغلمان على الحرب ففعل، وقد كان سليمان
بن جامع أعد أمام سور المدينة التي سماها المنصورة خندقاً، فلما انتهى الغلمان
إليه تهيبوا عبوره، وأحجموا عنه، فحرضهم قوادهم، وترجلوا معهم فاقتحموه متجاسرين
عليه، فعبروه وانتهوا إلى الزنج وهم مشرفون من سور مدينتهم، فوضعوا السلاح فيهم،
وعبرت شرذمة من الفرسان الخندق خوضاً، فلما رأى الزنج خبر هؤلاء الذين لقوهم
وجراءتهم عليهم، ولوا منهزمين، واتبعهم أصحاب أبي أحمد، ودخلوا المدينة من
جوانبها، وكان الزنج قد حصنوها بخمسة خنادق، وجعلوا
أمام كل خندق منها سوراً يمتنعون به، فجعلوا يقفون عند كل سور وخندق انتهوا
إليه، وأصحاب أبي أحمد يكشفونهم في كل موقف وقفوه، ودخلت الشذا
والسميريات مدينتهم مشحونة بالغلمان المقاتلة من النهر الذي يشقها بعد انهزامهم،
فأغرقت كل ما مرت به لهم من شذاة أو سميرية، واتبعوا من تجافى النهر منهم،
يقتلون ويأسرون، حتى أجلوهم عن المدينة وعما يتصل بها، وكان ذلك زهاء فرسخ، فحوى أبو أحمد ذلك كله، وأفلت سليمان بن جامع في نفر من
أصحابه، واستحر القتل فيهم والأسر، واستنقذ من نساء أهل واسط وصبيانهم وما اتصل
بذلك من القرى ونواحي الكوفة زهاء عشرة آلاف، فأمر أبو أحمد بحياطتهم والإنفاق
عليهم، وحملوا إلى واسط فدفعوا إلى أهليهم، واحتوى أبو أحمد على كل ما
كان في تلك المدينة من الذخائر والأموال والأطعمة والمواشي، فكان شيئاً جليل
القدر، فأمر ببيع الغلات وغيرها من العروض، وصرفه في أعطيات عسكره ومواليه وأسر
من نساء سليمان وأولاده عدة، واستنقذ يومئذ وصيف العلمدار ومن كان أسره الزنج
معه، فأخرجوا من الحبس، وقد كان الزنج أعجلهم الأمر عن قتله وقتلهم. واستخلف أبو أحمد على من خلفه من
عسكره بواسط ابنه هارون، وأزمع على الشخوص في خف من رجاله
وأصحابه، ففعل ذلك بعد أن تقدم إلى ابنه هارون في أن يحذر الجيش الذي خلفه معه
في السفن إلى مستقره بدجلة، إذا وافاه كتابه بذلك، وارتحل شاخصاً من واسط
الأهواز وكورها، فنزل باذبين، إلى الطيب، إلى قرقوب إلى وادي السوس، وقد كان عقد
له عليه جسر، فأقام به من أول النهار إلى وقت الظهر، حتى عبر عسكره أجمع. ثم سار حتى
وافى السوس فنزلها، وقد كان أمر مسروراً البلخي وهو عامله على الأهواز بالقدوم
عليه فوافاهم في جيشه وقواده من غد اليوم الذي نزل فيه السوس، فخلع عليه وعليهم،
وأقام بالسوس ثلاثاً، وكان ممن أسر من الزنج بطهيثا أحمد بن موسم بن سعيد البصري
المعروف بالقلوص، وكان قائداً جليلاً عندهم، وأحد عدد الناجم، ومن قدماء أصحابه،
أسر بعد أن أثخن جراحات كانت فيها منيته، فأمر أبو أحمد باحتزاز رأسه ونصبه على
جسر واسط. قال أبو جعفر: وأقام أبو أحمد حتى
أحرز الأموال التي كان المهلبي وبهبوذ وخلفاؤهما تركوها، وفتحت السكور التي كان
الناجم أحدثها في دجلة، وأصلحت له طرقه ومسالكه ورحل أبو أحمد عن السوس إلى
جنديسابور فأقام بها ثلاثاً، وقد كانت الأعلاف ضاقت على أهل
العسكر، فوجه في طلبها وحملها، ورحل عن جنديسابور إلى تستر، فأقام بها لجباية
الأموال من كور الأهواز، وأنفذ إلى كل كورة قائداً ليروج بذلك حمل المال، ووجه
أحمد بن أبي الأصبغ إلى محمد بن عبد الله الكردي، صاحب رامهرمز وما يليها من
القلاع والأعمال، وقد كان مالأ المهلبي، وحمل إلى الناجم أموالاً كثيرة، وأمره
بإيناسه وإعلامه ما عليه رأيه في العفو عنه، والتغمد لزلته، وأن يتقدم إليه في
حمل الأموال والمسيرالى سوق الأهواز بجميع من معه من الموالي والغلمان والجند،
ليعرضهم ويأمر بإعطائهم الأرزاق، وينهضهم معه لحرب الناجم. ففعل وأحضرهم، وعرضوا
رجلاً رجلاً، وأعطوا ثم رحل إلى عسكر مكرم، فجعله منزله أياماً، ثم رحل منه
فوافى الأهواز وهو يرى أنه قد تقدمه إليها من الميرة ما يحمل عساكره، فلم يكن
كذلك، وغلظ الأمر في ذلك اليوم، واضطرب الناس اضطراباً شديداً، فأقام ثلاثة أيام
ينتظر ورود الميرة فلم ترد، فساءت أحوال الناس، وكاد ذلك يفرق جماعتهم، فبحث عن
السبب المؤخر لورودها، فوجد الزنج قد كانوا قطعوا قنطرة قديمة أعجمية، كانت بين
سوق الأهواز ورامهرمز، يقال لها قنطرة أربق، فامتنع التجار ومن كان يحمل الميرة
من الورود، لقطع تلك القنطرة، فركب أبو أحمد إليها، وهي على فرسخين من سوق
الأهواز، فجمع من كان في العسكر من السودان، وأخذهم بنقل الصخر والحجارة لإصلاح
هذه القنطرة، وبذل لهم من أموال الرعية، فلم يرم حتى أصلحت في يومه ذلك، وردت
إلى ما كانت عليه، فسلكها الناس، ووافت القوافل بالميرة، فحيي أهل العسكر، وحسنت
أحوالهم، وأمر بجميع السفن لعقد الجسر على دجيل الأهواز، فجمعت من جميع الكور،
وأقام بالأهواز أياماً حتى أصلح أصحابه أمورهم، وما احتاجوا إليه من آلاتهم،
وحسنت أحوال دوابهم، وذهب عنها ما كان بها من الضر بتأخر الأعلاف، ووافت كتب
القوم الذين تخففوا عن المهلبي، وأقاموا بعده بسوق الأهواز يسألون أبا أحمد
الأمان، فأمنهم، فأتاه منهم نحو ألف رجل، فأحسن إليهم، وضمهم إلى قواد غلمانه،
وأجرى لهم الأرزاق، وعقد الجسر على دجيل الأهواز، ورحل بعد أن قدم جيوشه أمامه،
وعبردجيلاً، فأقام بالموضع المعروف بقصر المأمون ثلاثاً، وقد كان قدم ابنه أبا
العباس إلى شهر المبارك، من فرات البصرة، وكتب إلى ابنه هارون بالانحدار إليه
ليجتمع العساكر هناك ورحل أبو أحمد عن قصر المأمون إلى قورج العباس، ووافاه أحمد
بن أبي الأصبغ هنالك بهدايا محمد بن عبد الله الكردي صاحب رامهرمز من دواب ومال.
ثم رحل عن القورج فنزل الجعفرية، ولم يكن بها ماء، وقد كان أنفذ إليها وهو بعد
في القورج من حفر آبارها، فأقام بها يوماً وليلة، وألفى بها ميراً مجموعة، فاتسع
الجند بها، وتزودوا منها، ثم رحل إلى المنزل المعروف بالبشير، فألفى فيه غديراً
من ماء المطر، فأقام به يوماً وليلة، ورحل إلى المبارك وكان منزلاً بعيد
المسافة، فتلقاه ابناه أبو العباس وهارون في طريقه، وسلما عليه، وسارا بسيره،
حتى ورد بهم المبارك، وذلك يوم السبت للنصف من رجب سنة سبع وستين. قال أبو جعفر:
ومحمد بن إبراهيم هذا، رجل من أهل البصرة، جاء به إلى الناجم صاحب شرطته المعروف
بيسار، واستصلحه لكتابته فكان يكتب له حتى مات، وقد كانت ارتفعت حال أحمد بن
مهدي الجبائي عند الناجم، وولاه أكثر أعماله، فضم محمد بن إبراهيم هذا إليه،
فكان كاتبه، فلما قتل الجبائي في وقعة سليمان الشعراني، طمع محمد بن ابراهيم هذا
في مرتبته، وأن يحله الناجم محله، فنبذ القلم والدواة، ولبس آلة الحرب، وتجرد
للقتال، فأنهضه الناجم في هذا الجيش، وأمره بالاعتراض في دجلة لمدافعة من يردها
من الجيوش، فكان يدخله أحيانأ، وأحياناً يأتي بالجمع الذي معه إلى النهر المعروف
بنهر يزيد، وكان معه في ذلك الجيش من قواد الزنج شبل بن سالم وعمرو المعروف
بغلام بوذى وأخلاط من السودان وغيرهم، فاستأمن رجل منهم كان في ذلك الجيش إلى
زيرك ونصير- وأخبرهما خبره، وأعلمهما أنه على القصد لسواد عسكر نصير وكان نصير
يومئذ معسكراً بنهر المراة وأنهم على أن يسلكوا الأنهار المعترضة على نهر معقل،
وبثق شيرين حتى يوافوا الشرطة، ويخرجوا من وراء العسكر، فيكبوا على من فيه، فرجع
نصير عند وصول هذا الخبر إليه من الأبلة، مبارزاً إلى عسكره وسار زيرك قاصداً
بثق شيرين، معارضاً لمحمد بن إبراهيم، فلقيه في الطريق، فوهب الله له العلو عليه
بعد صبر من الزنج له، ومجاهدة شديدة، فانهزموا ولجأوا إلى النهر الذي فيه
كمينهم، وهو نهر يزيد، فدل لزيرك عليهم، فتوغلت إليهم سميرياته، فقتل منهم طائفة
وأسر طائفة، فكان محمد بن إبراهيم فيمن أسر، وعمرو وغلام بوذى، وأخذ ما كان معهم
من السميريات، وهي نحو ثلاثين سميرية، وأفلت شبل بن سالم في الذين نجوا معه،
فلحق بعسكر الناجم، وخرج زيرك في بثق شيرين سالماً ظافراً، ومعه الأسارى ورؤوس
القتلى، مع ما حوى من السميريات والسفن، وانصرف من دجلة العوراء إلى واسط، وكتب
إلى أبي أحمد بالفتح، وعظم الجزع على كل من كان بدجلة وكورها من أتباع الناجم،
فاستأمن إلى نصير صاحب الماء، وهو مقيم حينئذ بنهر المراة زهاء ألفي رجل من
الزنج وأتباعهم. فلما لقي أباه أخبره خبره، وذكر إليه خروجه إليه في
الأمان، فأمر أبوأحمد له بخلع وصلة وحملان، وكان منتاب أول من استأمن من جملة
قواد الناجم. ثم سار في اليوم السادس في أصحابه ومعه ابنه أبو
العباس إلى مدينة الناجم التي سماها المختارة، من نهر أبي الخصيب فأشرف عليها،
وتأملها فرأى منعتها وحصانتها بالسور والخنادق المحيطة بها، وغور الطريق المؤدي
إليها، وما قد أعد من المجانيق والعرادات والقسي الناوكية، وسائر الآلات على
سورها، فرأى ما لم ير مثله ممن تقدم من منازعي السلطان. ورأى من كثيرة عدد
مقاتلتهم واجتماعهم ما استغلظ أمره. واستأمن إلى أبي أحمد جماعة أخرى،
فوصلهم وحباهم وخلع عليهم، وركب أبو أحمد في جميع جيشه
وهو يومئذ في خمسين ألف رجل، والناجم في ثلاثمائة ألف رجل، كلهم يقاتل ويدافع،
فمن ضارب بسيف، وطاعن برمح، ورام بقوس، وقاذف بمقلاع، ورام بعرادة ومنجنيق،
وأضعفهم أمر الرماة بالحجارة عن أيديهم، وهم النظارة المكثرون للسواد، والمعينون
بالنعير والصياح، والنساء يشركنهم في ذلك أيضاً، فأقام
أبو أحمد بإزاء عسكر الناجم إلى أن أضحى، وأمر فنودي: الأمان مبسوط
للناس: أسودهم وأحمرهم، إلا لعدو الله الداعي علي بن محمد. وأمر بسهام فعلقت
فيها رقاع مكتوب فيها من الأمان، مثل الذي نودي به، ووعد الناس فيها الإحسان
ورمى بها إلى عسكر الناجم، فمالت إليه قلوب خلق كثير من اولئك، ممن لم يكن له
بصيرة في اتباع الناجم، فأتاه في ذلك اليوم جمع كثير يحملهم الشذا والسميريات،
فوصلهم وحباهم، وقدم عليه قائدان من قواده، وكلاهما من مواليه ! ببغداد، أحدهما
بكتمر والآخر بغرا في جمع من أصحابهما، فكان ورودهما زيادة في قوته. ثم رحل في
غد هذا اليوم بجميع جيشه، فنزل متاخماً لمدينة الناجم في موضع كان تخيره للنزول،
فأوطن هذا الموضع، وجعله معسكراً له وأقام به، ورتب قواده ورؤساء أصحابه
مراتبهم، فجعل نصيراً صاحب الماء في أول العسكر، وجعل زيرك التركي في موضع آخر،
وعلي بن جهشار حاجبه في موضع آخر، وراشداً مولاه في مواليه وغلمانه الأتراك
والخزر والروم والديالمة والطبربة والمغاربة والزنج والفراغنة والعجم والأكراد،
محيطاً هو وأصحابه بمضارب أبي أحمد وفساطيطه وسرادقاته، وجعل صاعد بن مخلد وزيره
وكاتبه في جيش آخر من الموالي والغلمان، فوق عسكر راشد، وأنزل مسروراً البلخي
القائد صاحب الأهواز في جيش آخر على جانب من جوانب عسكره، وأنزل الفضل ومحمداً
ابني موسى بن بغا في جانب آخر بجيش آخر، وتلاهما القائد المعروف بموسى، ولجوا في
جيشه وأصحابه، وجعل بغراج التركي على ساقته في جيش كثيف بعدة عظيمة، وعدد جم. قال أبو جعفر:
وأمر الناجم بهبوذ بن عبد الوهاب، فعبر والناس غارون في سميريات إلى طرف عسكر
أبي حمزة صاحب الماء، فأوقع به، وقتل جماعة من أصحابه، وأسر جماعة، وأحرق
أكواخاً كانت لهم، وأرسل إبراهيم بن جعفر الهمداني- وهو من جملة قواد الناجم- في
أربعة آلاف زنجي، ومحمد بن أبان المكنى أبا الحسين- أخا علي بن أبان المهلبي- في
ثلاثة آلاف والقائد المعروف بالدور في ألف وخمسمائة، ليغيروا على أطراف عسكر أبي
أحمد ويوقعوا بهم. فنذر بهم أبو العباس،
فنهد إليهم في جمع كثيف من أصحابه، وكانت بينه وبينهم حروب كان الإستظهار فيها
كلها له، واستأمن إليه جماعة منهم، فخلع عليهم،
وأمر أن يوقفوا بإزاء مدينة الناجم ليعاينهم أصحابه، وأقام أبو أحمد يكايد الناجم،
ويبذل الأموال لأصحابه تارة، ويواقعهم ويحاربهم تارة، ويقطع الميرة عنهم،
فسرى بهبوذ الزنجي في الأجلاد المنتخبين من رجاله ليلة من الليالي، وقد تأدى
إليه خبر قيروان ورد للتجار، فيه صنوف التجارات والأمتعة والمير، فكمن في النخل،
فلما ورد القيروان، خرج إلى أهله وهم غارون، فقتل منهم وأسر، وأخذ ما شاء أن
يأخذ من الأموال. وقد كان أبوأحمد علم بورود ذلك القيروان، وأنفذ قائداً من
قواده لبذرقته في جمع خفيف، فلم يكن لذلك القائد ببهبوذ طاقة، فانصرف عنه
منهزماً. فلما رأى الزنج أن تدبيرهم قد انتقض،
وأنه قد فطن لهم ونذر بهم، كروا راجعين في الطريق الذي أقبلوا فيه، طالبين
التخلص. فسبقهم أبو العباس وزيرك إلى فوهة النهر ليمنعوهم
من عبوره، وأرسل أبو أحمد غلامه الأسود الزنجي الذي يقال له ثابت- وكان له قيادة
على السودان الذين بعسكر الموفق- فأمره أن يعترضهم، ويقف لهم في طريقهم بأصحابه،
فأدركهم وهو في خمسمائة رجل، فواقعهم وشد عضده أبو العباس وزيرك بمن معهما، فقتل
من الزنج أصحاب الناجم خلق كثير، وأسر منهم كثير، وأفلت الباقون فلحقوا
بمدينتهم، وانصرف أبو العباس بالفتح وقد علق رؤوس
الزنج في الشذا وصلب الأسارى أحياء فيها، فاعترضوا بهم مدينتهم ليرهبوا أصحابهم،
فلما رأوهم رعبوا وانكسروا. واتصل بأبي
أحمد أن الناجم موه على أصحابه، وأوهم أن الرؤوس المرفوعة مثل مثلها لهم أبو
أحمد ليراعوا، وأن الأسارى من المستأمنة. فأمر أبو
أحمد عند ذلك بجمع الرؤوس والمسير بها إلى إزاء قصر الناجم، والقذف بها في
منجنيق منصوب في سفينة إلى عسكره، ففعل ذلك، فلما سقطت الرؤوس في مدينتهم، عرف
أولياء القتلى رؤوس أصحابهم، فظهر بكاؤهم وصراخهم. وقد كان سليمان بن جامع لما رأى أن أبا العباس قد
أوغل في نهر الأتراك، صعد في جمع كثير من الزنج، ثم استدبر أصحاب أبي العباس وهم
متشاغلون بحرب من بإزائهم على سور المدينة، فخرج عليهم من ورائهم وخفقت طبولهم،
فانكشف أصحاب أبي العباس وحملت الزنج عليهم من أمامهم، فأصيب في هذه الوقعة
جماعة من غلمان أبي أحمد وقواده، وصار في أيدي الزنج عدة أعلام ومطارد، وحامى
أبو العباس عن نفسه حتى انصرف سالماً، فأطمعت هذه الوقعة الزنج وأتباعهم، وشدت
قلوبهم، فأجمع أبو أحمد على العبور بجيشه أجمع، وأمر بالاستعداد والتأهب، فلما
تهيأ له ذلك عبر في آخر ذي الحجة من سنة سبع وستين، في أكثف جمع، وأكمل عدة،
وفرق قواده على أقطار مدينة الناجم، وقصد هو بنفسه ركناً من أركانها، وقد كان
الناجم حصنه بابنه الذي يقال له أنكلاي، وكنفه بعلي بن أبان، وسليمان بن جامع،
وإبراهيم بن جعفر الهمداني وحفه بالمجانيق والعرادات والقسي الناوكية، وأعد فيه
الناشبة ، وجمع فيه أكثر جيشه، فلما التقى الجمعان
أمر أبو أحمد غلمانه الناشبة والرامحة والسودان بالدنو من هذا الركن، وبينه
وبينهم النهر المعروف بنهر الأتراك، وهو نهر عريض غزير الماء، فلما انتهوا إليه
أحجموا عنه، فصيح بهم، وحرضوا على العبور، فعبروه سباحة، والزنج ترميهم
بالمجانيق والعرادات والمقاليع والحجارة عن الأيدي، والسهام عن قسي اليد، وقسي
الرجل، وصنوف الآلات التي يرمى عنها، فصبروا على جميع ذلك حتى جاوزوا النهر
وانتهوا إلى السور، ولم يكن لحقهم من الفعلة من كان أعده لهدمه. فتولى الغلمان تشعيث السور بما كان معهم من السلاح، وشر
الله تعالى ذلك، وسهلوا لأنفسهم السبيل إلى علوه، وحضرهم بعض السلاليم التي كانت
اتخذت لذلك، فعلوا الركن ونصبوا عليه علماً عليه مكتوب: الموفق بالله،
وأكبت عليهم الزنج، فحاربوا أشد حرب، وقتل من قواد أبي أحمد القائد المعروف
بثابت الأسود، رمي بسهم في بطنه فمات، وكان من جلة القواد، وأحرق أصحاب الموفق
ما على ذلك الركن من المنجنيقات والعرادات. فوقفت الزنج على نهر ابن سمعان، وقوفاً طويلاً ودافعوا
مدافعة شديدة، وشد بعض موالي الموفق على علي بن أبان فأدبر عنه هارباً فقبض على
مئزره، فخلى على المئزر ونبذه إلى الغلام، ونجا بعد أن أشرف على الهلكة، وحمل
أصحاب أبي أحمد على الزنج، فكشفوهم عن نهر ابن سمعان، حتى وافوا بهم طرف
المدينة، وركب الناجم بنفسه في جمع من خواصه، فتلقاه أصحاب الموفق، فعرفوه
وحملوا عليه، وكشفوا من كان معه حتى أفرد، وقرب منه بعض الرجالة حتى ضرب وجه
فرسه بترسه، وكان ذلك وقت غروب الشمس، وحجز الليل بينهم وبينه وأظلم، وهبت ريح
شمال عاصف، وقوي الجزر، فلصق أكثر سفن الموفق بالطين، وحرض الناجم أصحابه، فثاب
منهم جمع كثير، فشدوا على سفن الموفق، فنالوا منها نيلاً، وقتلوا نفراً، وصمد
بهبوذ الزنجي لمسرور البلخي بنهر الغربي، فأوقع به، وقتل جماعة من أصحابه، وأسر
أسرى، وصار في يده دواب من دوابهم، فكسر ذلك من نشاط أصحاب الموفق، وقد كان هرب
في هذا اليوم كثير من قواد صاحب الزنج، وتفرقوا على وجوههم نحو نهر الأمير
وعبادان وغيرهما، وكان ممن هرب ذلك اليوم منهم أخو
سليمان بن موسى الشعراني ومحمد وعيسى. فمضيا يؤمان البادية، حتى انتهى إليهما
رجوع أصحاب الموفق، وما نيل منهم، فرجعا، وهرب جماعة من العرب الذين كانوا في
عسكر الناجم، وصاروا إلى البصرة، وبعثوا يطلبون الأمان من أبي أحمد، فأمنهم،
ووجه إليهم السفن، وحملهم إلى الموفقية وخلع عليهم، وأجرى لهم الأرزاق والأنزال. فكتب ريحان يطلب الأمان لنفسه
ولجماعة من أصحابه، فأجيب إلى ذلك، وأنفذ إليه
عدد كثير من الشذا والسميريات والمعابر مع زيرك القائد، صاحب مقدمة أبي العباس،
فسلك نهر اليهودي إلى آخره، فألفى به ريحان القائد ومن كان معه من أصحابه، وقد
كان الموعد تقدم منه في موافاة ذلك الموضع. فسار زيرك به وبهم إلى دار الموفق،
فأمر لريحان بخلع جليلة، وحمل على عدة أفراس بآلتها وحليتها، وأجيز بجائزة سنية،
وخلع على أصحابه، واجيزوا على أقدارهم ومراتبهم، وضم ريحان إلى أبي العباس، وأمر
بحمله وحمل أصحابه والمصير بهم إلى إزاء دار الناجم، فوقفوا هناك في الشذا،
عليهم الخلع الملونة بصنوف الألوان والذهب حتى عاينوهم مشاهدة، فاستأمن في هذا
اليوم من أصحاب ريحان الذين كانوا تخلفوا عنه ومن غيرهم جماعة، فألحقوا في البر
والإحسان بأصحابهم. ثم عبر جيشه في هذا الشهر المذكور مرتباً على ما
استصلحه من تفريقه في جهات مختلفة، وأمرهم بهدم سور المدينة، وتقدم إليهم أن
يقتصروا على الهدم، ولا يدخلوا المدينة، ووكل بكل ناحية من النواحي التي وجه
إليها قواده سفناً فيها الرماة، وأمرهم أن يحموا بالسهام من يهدم السور من
الفعلة، فثلمت في هذا اليوم من السور ثلم كثيرة، واقتحم أصحاب أبي أحمد المدينة
من جميع تلك الثلم وهزموا من كان عليها من الزنج، وأوغلوا في طلبهم، واختلف بهم
طرق المدينة، وتفرقت بهم السكك والفجاج، وانتهوا إلى أبعد من المواضع التي كانوا
وصلوا إليها في المرة التي قبلها، فتراجعت إليهم الزنج، وخرج عليهم كمناؤهم من
نواح يهتدون إليها، ولا يعرفها جيش أبي أحمد، فتحير جيش أبي أحمد، فقتل منهم خلق
كثير، وأصاب الزنج منهم أسلحة وأسلاباً، وأقام ثلاثون ديلمياً من أصحاب أبي أحمد
يدافعون عن الناس ويحمونهم، حتى خلص إلى السفن من خلص، وقتلت الديالمة عن آخرها،
وعظم على الناس ما أصابهم في هذا اليوم، وانصرف أبو أحمد إلى مدينته الموفقية،
فجمع قواده، وعذلهم على ما كان منهم من مخالفة أمره، والإفساد عليه في رأيه
وتدبيره، وتوعدهم بأغلظ العقوبة إن عادوا لمثل ذلك، وأمر بإحصاء المقتولين من
أصحابه، فأتي بأسمائهم، فأقر ما كان جارياً لهم على أولادهم وأهاليهم، فحسن موقع
ذلك، وزاد في صحة نيات أصحابه، لما رأوا من حياطته خلف من أصيب في طاعته. قال أبو جعفر:
ثم كانت الوقعة التي قتل فيها بهبوذ الزنجي القائد وجرح أبو العباس، وذلك أن
بهبوذ كان أكثر أصحاب الناجم غارات، وأشدهم تعرضاً لقطع السبل، وأخذ الأموال،
وكان قد جمع من ذلك لنفسه مالاً جليلاً، وكان كثير الخروج في السميريات الخفاف،
فيخترق بها الأنهار المؤدية إلى دجلة، فإذا صادف سفينة لأصحاب أبي أحمد أخذها
واستولى على أهلها، وأدخلها النهر الذي خرج منه، فإن تبعه تابع حتى توغل في
طلبه، خرج عليه من ذلك النهر قوم من أصحابه، قد أعدهم لذلك، فأقطعوه وأوقعوا به.
فوقع التحرز حينئذ منه، والاستعداد لغاراته، فركب شذاة، وشبهها بشذوات أبي أحمد،
ونصب عليها علماً مثل أعلامه، وسار بها ومعه كثير من الزنج، فأوقع بكثيرمن أصحاب
أبي أحمد، وقتل وأسر. فندب له أبو أحمد ابنه أبا العباس في جمع كثيف، فكانت بينهما
وقعة شديدة، ورمي فيها أبو العباس بسهم فأصابه، وأصابت بهبوذ طعنة في بطنه من يد
غلام من بعض سميريات أبي العباس، فهوى إلى الماء، فابتدره أصحابه، فحملوه
ورجعوا به إلى عسكر الناجم، فلم يصلوا به إلا وهو ميت، فعظمت الفجيعة به على
الناجم وأوليائه، واشتد عليه جزعهم، وخفي موته على أبي
أحمد، حتى استأمن إليه رجل من الملاحين، فأخبره بذلك، فسر، وأمر بإحضار الغلام
الذي طعنه، فوصله وكساه وطوقه، وزاد في رزقه. وأمر لجميع من كان في تلك
السميرية بصلات وخلع، وعولج أبو العباس من جرحه مدة حتى برأ، وأقام أبو أحمد في
مدينته الموفقية ممسكاً عن حرب الزنج، محاصراً لهم بسد الأنهار وسكرها، واعترض
من يخرج منهم لجلب الميرة، ومنتظراً برء ولده، حتى كمل بعد شهور كثيرة، وانقضت سنة ثمان وستين. واتفق أن عصفت الرياح يوماً وجماعة من قواد أبي
أحمد بالجانب الغربي للعمل الذي يريدونه، فانتهز الناجم الفرصة في امتناع العبور
بدجلة، لعصف الريح، فرماهم بجميع جيشه، وكاثرهم برجله، فلم تجد الشذوات التي مع
قواد أبي أحمد سبيلاً إلى الوقوف بحيث كانت واقفة به، لحمل الرياح إياها على
الحجارة، وخوف أصحابها عليها من التكسر، ولم يجدوا
سبيلاً إلى العبور في دجلة، لشدة الريح واضطراب الأمواج، فأوقعت الزنج
بهم، فقتلوهم عن آخرهم، وأفلت منهم نفر، فعبروا إلى الموفقية، فاشتد جزع أبي
أحمد وأصحابه لما نالهم ولما تهيأ للزنج عليهم، وعظم بذلك اهتمامهم. وتعقب أبو أحمد الرأي، فرأى أن نزوله ومقامه
بالجانب الغربي، مجاور مدينة الناجم خطأ، وأنه لا يؤمن منه حيلة، وانتهاز فرصة،
فيوقع بالعسكر بياتاً، أو يجد مساغاً إلى ما يكون له قوة، لكثيرة الأدغال في ذلك
الموضع، وصعوبة المسالك، وان الزنج على التوغل في تلك المواضع الوعرة الموحشة
أقدر وهو عليهم أسهل من أصحابه، فانصرف عن رأيه في نزول الجانب الغربي، وصرف همه
وقصده إلى هدم سور مدينة الناجم، وتوسعة الطريق والمسالك لأصحابه في دخولها،
فندب القواد لذلك، وندب الناجم قواده للمدافعة عنها، وطال الأمد، وتمادت الأيام. قلت: الحادث
الذي حدث على أبي أحمد من جهة سلطانه، أن أخاه
المعتمد، وهو الخليفة يومئذ، فارق دار ملكه، ومستقر خلافته مغاضباً له متجنياً
عليه، زاعماً أنه مستبد بأموال المملكة وجبايتها، مضطهد له مستأثر عليه، فكاتب ابن طولون صاحب مصر، وسأله أن يأذن له في
اللحاق به، فأجابه ابن طولون إلى ذلك، فخرج من سامراء في جماعة من قواده ومواليه،
قاصداً مصر. وكان أبو أحمد هو الخليفة في المعنى،
وإنما المعتمد صورة خالية من معاني الخلافة، لا
أمر له ولا نهي، ولا حل ولا عقد، وأبو أحمد هو الذي
يرتب الوزراء والكتاب، ويقود القواد، ويقطع الأقطاع، ولا يراجع المعتمد في شيء
من الأمور أصلاً، فاتصل به خبر المعتمد في شخوصه عن سامراء، وقصده ابن
طولون، فكاتب إسحاق بن كنداجيق وهو يومئذ على الموصل والجزيرة، فأمره أن يعترض
المعتمد، ويقبض عليه وعلى القواد والموالي الذين معه ويعيدهم إلى سامراء، وكتب
لإسحاق بإقطاعه ضياع اولئك القواد والموالي بأجمعهم، فاعترضهم إسحاق، وقد قربوا
من الرقة، فأخذهم وقبض عليهم، وقيدهم بالقيود الثقيلة، ودخل على المعتمد فعنفه،
وهجنه وعذله في شخوصه عن دار ملكه وملك آبائه، ومفارقة أخيه على الحال التي هو
بها، وحرب من يحاول قتله، وقتل أهل بيته وزوال ملكهم. قال أبو جعفر:
فلما أحرقت دار الناجم ودور أصحابه، وشارف أن يؤخذ، وعرضت لأبي أحمد هذه العلة،
فأمسك فيها عن الحرب، انتقل الناجم من مدينته التي بناها بغربي نهر أبي الخصيب
إلى شرقيه إلى منزل وعر لا يخلص إليه أحد لاشتباك القصب والأدغال والأحطاب فيه،
وعليه خنادق من أنهار قاطعة معترضة، فقطن هناك في خواصه ومن تخلف معه من جلة
أصحابه وثقاته، ومن بقي في نصرته من الزنج، وهم حدود عشرين ألف مقاتل، وانقطعت
الميرة عنهم، وبان للناس ضعف أمرهم، فتأخر الجلب الذي كان يصل إليهم، فبلغ الرطل
من خبز البر عندهم عشرة دراهم، فأكلوا الشعير، ثم أكلوا أصناف الحبوب، ثم لم يزل
الأمر كذلك إلى أن كانوا يتبعون الناس، فإذا خلا أحد منهم بصبي أو امرأة أو رجل
ذبحوه وأكلوه. ثم صار قوي
الزنج يعدو على ضعيفهم، فإذا خلا به ذبحه وأكل لحمه، ثم ذبحوا أولادهم، فأكلوا
لحومهم، وكان الناجم لا يعاقب أحداً ممن فعل شيئاً من ذلك إلا بالحبس، وإذا
تطاول حبسه أطلقه. وصح عزم الموفق على العبور لمحاربة الناجم في
الجانب الشرقي من نهر أبي الخصيب، فجلس مجلساً عاماً، وأمر بإحضار قواد
المستأمنة ووجوه فرسانهم ورجالتهم من الزنج والبيضان فأدخلوا إليه، فخطبهم
وعرفهم ما كانوا عليه من الضلالة والجهل، وانتهاك المحارم، وما كان صاحبهم زينه
لهم من معاصي الله سبحانه، وأن ذلك قد كان أحل له دماءهم، وأنه قد غفر الزلة
وعفا عن العقوبة، وبذل الأمان، وعاد على من لجأ إليه بالفضل والإحسان. فأجزل الصلات، وأسنى الأرزاق، وألحقهم بالأولياء
وأهل الطاعة، وأن ما كان منه من ذلك يوجب عليهم حقه وطاعته، وأبهم لن يأتوا بشيء
يتعرضون به لطاعة ربهم، والاستدعاء لرضا سلطانهم أولى بهم من الجد في مجاهدة
الناجم وأصحابه، وأنهم من الخبرة بمسالك عسكر الناجم ومضايق طرق مدينته،
والمعاقل التي أعدها للحرب على ما ليس عليه من غيرهم، فهم أحرى أن يمحضوه نصحهم،
ويجهدوا على الولوج إلى الناجم، والتوغل إليه في حصونه، حتى يمكنهم الله منه ومن
أشياعه، فإذا فعلوا ذلك فلهم الإحسان والمزيد، ومن قصر منهم استدعى من سلطانه
إسقاط حاله، وتصغيرمنزلته ووضع مرتبته. فرأى
الناجم منهم ما هاله وتلقاهم بنفسه وجيشه، وذلك في ذي القعدة سنة تسع وستين
ومائتين. قال أبو جعفر: فلما دخلت سنة سبعين ومائتين، تتابعت الأمداد إلى
أبي أحمد من سائر الجهات، فوصل إليه أحمد بن دينار في جمع عظيم من المطوعة، من
كور الأهواز ونواحيها، وقدم بعده من أهل البحرين جمع كثير من المطوعة زهاء ألفي
رجل، يقودهم رجل من عبد القيس، وورد بعد ذلك زهاء ألف رجل من فارس، ورئيسهم شيخ
من المطوعة يكنى أبا سلمة، وكان أبو أحمد يجلس لكل من يرد ويخلع عليه، ويقيم
لأصحابه الأنزال الكثيرة، ويصلهم بالصلات، فعظم جيشه جداً، وامتلأت بهم الأرض،
وصح عزمه على لقاء الناجم بجميع عسكره، فرتب جيوشه، وقسمهم على القواد، وأمر كل
واحد من القواد أن يقصد جهة من جهات معسكر الناجم عينها له، وركب بنفسه، وركب
جيشه، وتوغلوا في مسالك شرقي نهر أبي الخصيب، ولقيهم الزنج، وقد حشدوا
واستقبلوا، فكانت بينهم وقعة شديدة، منحهم الله تعالى فيها أكتاف الزنج، فولوا
منهزمين، فاتبعهم أصحاب أبي أحمد يقتلون ويأسرون، فقتل منهم كثير، وغرق كثير،
وحوى أصحاب أبي أحمد معسكر الناجم ومدينته، وظفروا بعيال علي بن أبان المهلبي
وداره وأمواله، فاحتووا عليها، وعبر أهله وأولاده إلى الموفقية مع كلابهم، ومضى
الناجم ومعه المهلبي وابنه أنكلاني، وسليمان بن جامع، والهمداني وجماعة من أكابر
القواد، عامدين إلى موضع كان الناجم قد أعده لنفسه ملجأ إذا غلب على مدينته
وداره في النهر المعروف بالسفياني. فتقدم أبو أحمد ومعه لؤلؤ قاصدين هذا النهر،
لأن أبا أحمد دل عليه، فأوغل في الدخول وفقده أصحابه، فظنوا أنه رجع، فرجعوا
كلهم، وعبروا دجلة في الشذا ظانين أنه عبر راجعاً، وانتهى أبو أحمد ومعه لؤلؤ،
قاصدين هذا النهر، فاقتحمه لؤلؤ بفرسه، وعبر أصحاب لؤلؤ خلفه. ووقف أبوأحمد في
جماعة من أصحابه عند النهر، ومضى الناجم هارباً، ولؤلؤ يتبعه في أصحابه، حتى
انتهى إلى النهر المعروف بالقريري، فوصل إليه لؤلؤ وأصحابه، فأوقعوا به وبمن معه
فكشفوهم، فولوا هاربين حتى عبروا النهر المذكور، ولؤلؤ وأصحابه يطردونهم من
ورائهم، حتى الجأوهم إلى نهر آخر، فعبروه واعتصموا بدحال وراءه، فولجوها، وأشرف
لؤلؤ وأصحابه عليها فأرسل إليه الموفق ينهاه عن اقتحامها، ويشكر سعيه، ويأمره
بالانصراف، فانفرد لؤلؤ هذا اليوم وأصحابه بهذا الفعل، دون أصحاب الموفق، فانصرف
لؤلؤ محمود الفعل، فحمله الموفق معه في شذاته وجدد له من البر والكرامة ورفع
المنزلة لما كان منه في أمر الناجم، حسبما كان مستحقاً له، ولهذا نادى أهل بغداد لما أدخل إليهم رأس الناجم بين يدي
أبي العباس: ما شئتم قولوا، كان الفتح للؤلؤ. وسألوا الموفق أن يرد السفن إلى
الموفقية، بحيث لا يطمع طامع من العسكر في الالتجاء إليها والعبور فيها. فقبل أبو أحمد عذرهم،. وجزاهم الخير عن تنصلهم،
ووعدهم بالإحسان، وأمرهم بالتأهب للعبور، ثم عبر بهم على ترتيب ونظام قد أحكمه
وقرره، وذلك في يوم السبت لليلتين خلتا من صفر من سنة سبعين ومائتين، وقد كان
الناجم عاد من تلك الأنهار إلى معسكره بعد انصراف الجيش عنه، فأقام به، وأمل أن
تتطاول به وبهم الأيام، وتندفع عنه المناجزة، فلقيه في هذا اليوم سرعان العسكر،
وهم مغيظون محنقون من التقريع والتوبيخ اللاحقين بهم بالأمس، فأوقعوا به
وبأصحابه وقعة شديدة، أزالوهم عن مواقفهم، فتفرقوا لا يلوي بعضهم على بعض،
واتبعهم الجيش يقتلون ويأسرون من لحقوا منهم، وانقطع الناجم في جماعة من كماته
من قواد الزنج، منهم المهلبي، وفارقه ابنه انكلاني وسليمان بن جامع، فكانا في
أول الأمر مجتمعين، ثم افترقا في الهزيمة، فصادف سليمان بن جامع قوم من قواد
الموفق، فحاربوه وهو في جمع كثيف من الزنج، فقتل جماعة من كماته، وظفر به فأسر،
وحمل إلى الموفق بغير عهد ولا عقد، فاستبشر الناس بأسر سليمان، وكثر التكبير
والضجيج، وأيقنوا بالفتح إذ كان أكثر أصحابه غناء، وأسر بعده إبراهيم بن جعفر
الهمداني، وكان من عظماء قواده وأكابر امراء جيوشه، وأسر نادر الأسود المعروف
بالحفار، وهو من قدماء قواد الناجم، فأمر الموفق بتقييدهم بالحديد، وتصييرهم في
شذاة لأبي العباس، ومعهم الرجال بالسلاح، وجد الموفق في طلب الناجم، وأمعن في
نهر أبي الخصيب، حتى انتهى إلى آخره. قال أبو جعفر: ثم
تتابع مجيء الزنج إلى أبي أحمد في الأمان، فحضر
منهم في ثلاثة أيام نحو سبعة آلاف زنجي، لما عرفوا قتل صاحبهم، ورأى أبو أحمد بذل الأمان لهم، كي لا يبقى منهم بقية يخاف
معرتها في الإسلام وأهله، وانقطعت منهم قطعة نحو ألف زنجي مالت نحو البر، فمات
أكثرها عطشاً، وظفر الأعراب بمن سلم منهم، فاستزلوهم، وأقام الموفق
بالموفقية، بعد قتل الناجم مدة، ليزداد الناس بمقامه أنساً وأماناً، وبتراجع أهل
البلاد إليها، فقد كان الناجم أجلاهم عنها. وقدم
ابنه أبو العباس إلى بغداد، ومعه رأس الناجم، فدخلها يوم السبت لاثنتي عشرة ليلة
بقين من جمادى الأولى من هذه السنة، ورأس الناجم بين يديه على قناة،
والناس مجتمعون يشاهدونه. الأصل: منها في وصف الأتراك: كأني أراهم قوماً كأن وجوههم المجان المطرقة، يلبسون السرق
والديباج، ويعتقبون الخيل العتاق، ويكون هناك استحرار قتل حتى يمشي المجروح على
المقتول، ويكون المفلت أقل من المأسور. والنعل المطرقة: المخصوفة، وأطرقت بالجلد والعصب، أي ألبست، وترس مطرق، وطراق النعل: ما أطرقت وخرزت به. وريش
طراق، إذا كان بعضه فوق بعض، وطارق الرجل بين الثوبين، إذا لبس أحدهما على
الآخر، وكل هذا يرجع إلى مفهوم واحد وهو مظاهرة الشيء بعضه بعضاً، ويروى، المجان
المطرقة، بتشديد الراء، أي كالترسة المتخذة من حديد مطرق بالمطرقة.
والمفلت:
الهارب. وقد يحدث الضحك من السرور، وليس ذلك بمذموم إذا خلا من التيه
والعجب، وكان محض السرور والابتهاج، وقد قال تعالى في صفة أوليائه:
فرحين بما أتاهم الله من فضله". قلت:
المراد بالآية أنه لا تدري نفس
جميع ما تكسبه في مستقبل زمانها، وذلك لا ينفي جواز أن يعلم الإنسان بعض ما يكسبه في مستقبل
زمانه. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
جنكيز خان وفتنة التتر
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
واعلم أن هذا الغيب الذي أخبر رضي الله
عنه عنه قد رأيناه نحن عياناً، ووقع في زماننا، وكان الناس
ينتظرونه من أول الإسلام، حتى ساقه القضاء والقدر إلى
عصرنا، وهم التتار الذين خرجوا من أقاصي المشرق، حتى وردت خيلهم العراق
والشام، وفعلوا بملوك الخطا وقفجاق، وببلاد ما وراء النهر وبخراسان وما والاها
من بلاد العجم، ما لم تحتو التواريخ منذ خلق الله آدم إلى عصرنا هذا على مثله، فإن بابك الخرمي لم تكن نكايته وإن طالت مدته نحو
عشرين سنة إلا في إقليم واحد وهو أذربيجان، وهؤلاء دوخوا
المشرق كله، وتعدت نكايتهم إلى بلاد إرمينة وإلى الشام،
ووردت خيلهم إلى العراق، وبخت نصر الذي قتل
اليهود إنما أخرب بيت المقدس، وقتل من
كان بالشام من بني اسرائيل، وأي نسبة بين من كان بالبيت المقدس من بني اسرائيل إلى البلاد والأمصار التي أخربها هؤلاء، وإلى الناس الذين
قتلوهم من المسلمين وغيرهم!. أما المسلمون
فصبروا حمية للدين، وعلموا أنهم إن انهزموا لم يبق للإسلام باقية، ثم إنهم لا
ينجون، بل يؤخذون ويؤسرون لبعدهم عن بلاد يمتنعون بها، وأما
التتار فصبروا لاستنقاذ أموالهم وأهلهم، واشتد الخطب بين الطائفتين، حتى
إن أحدهم كان ينزل عن فرسه، ويقاتل قرنه راجلاً، مضاربة بالسكاكين، وجرى الدم
على الأرض، حتى كانت الخيل تزلق فيه لكثرته، ولم يحضر
جنكزخان بنفسه هذه الوقعة، وإنما كان فيها قا آن ولده، فأحصي من قتل من
المسلمين فكانوا عشرين ألفاً، ولم يحص عدة من
قتل من التتار. فحضر الناس
بأسرهم، فأمرهم بطم الخندق فطموه بالأخشاب والأحطاب والتراب، ثم زحفوا نحو
القلعة، وكان عدة من بها من الجند الخوارزمية أربعمائة إنسان، فبذلوا جهدهم،
ومنعوا القلعة عشرة أيام إلى أن وصل النقابون إلى سور القلعة، فنقبوه ودخلوا
القلعة، فقتلوا كل من بها من الجند وغيرهم. فلما قاربوا سمرقند، قدموا الخيالة،
وتركوا الرجالة والأسارى والأثقال وراءهم، حتى يلتحقوا بهم شيئاً فشيئاً،
ليرعبوا قلوب أهل البلد، فلما رأى أهل سمرقند سوادهم، استعظموهم، فلما كان اليوم
الثاني وصل الأسارى والرجالة والأثقال، ومع كل عشرة من الأسارى علم، فظن أهل البلد أن الجميع عسكر مقاتلة، فأحاطوا بسمرقند، وفيها خمسون ألفاً من الخوارزمية،
وما لا يحصى كثرة من عوام البلد، فأحجم العسكر الخوارزمي عن الخروج إليهم، وخرجت العامة بالسلاح، فأطمعهم التتار في أنفسهم،
وقهقروا عنهم، وقد كمنوا لهم كمناء، فلما جاوزوا
الكمين خرج عليهم من ورائهم، وشد عليهم من ورائهم جمهور
التتار، فقتلوهم عن أخرهم. فخرج الناس
إليهم بأجمعهم، فاختلطوا عليهم، ووضعوا فيهم السيف، وعذبوا الأغنياء منهم،
واستصفوا أموالهم، ودخلوا سمرقند، فأخربوها، ونقضوا
دورها، وكانت هذه الوقعة في المحرم سنة سبع عشرة
وستمائة. فلما عرف قرب التتار منه، هرب من نيسابور إلى مازندران ، فدخلها ورحل جرماغون
خلفه، ولم يعرج على نيسابور، بل قصد مازندران، فخرج خوارزم شاه عنها، فكان كلما
رحل عن منزل نزله التتار، حتى وصل إلى بحر طبرستان، فنزل هو وأصحابه في سفن،
ووصل التتار، فلما عرفوا نزوله البحر، رجعوا وأيسوا منه. وحكى لي فقيه خراساني وصل إلى بغداد يعرف بالبرهان،
قال: كان أخي معه، وكان ممن يثق خوارزمشاه به، ويختصه، قال: لهج خوارزمشاه لما
تغير عقله بكلمة كان يقولها: قراتتركلدي
يكررها، وتفسيرها: التتر السود قد جاؤوا،
وفي التتر صنف سود يشبهون الزنج، لهم سيوف عريضة جداً على غير صورة هذه السيوف،
يأكلون لحوم الناس، فكان خوارزم شاه قد أهتر وأغري بذكرهم. وقال له:
هذه القلعة لك وذخائرها أموالك، فكن فيها وادعاً آمناً إلى أن يستقيم طالعك،
فالملوك ما زالوا هكذا، يدبر طالعهم ثم يقبل، فقال
له: لا أقدر على الثبات فيها، والمقام بها، لأن التتر سوف يطلبونني،
ويقدمون إلى ههنا، ولو شاؤوا لوضعوا سروج خيلهم واحداً على واحد تحت القلعة،
فبلغت إلى ذروتها، وصعدوا عليها، فأخذوني قبضاً باليد، فعلم
أنليمش أن عقله قد تغير، وأن الله تعالى قد بدل ما به من نعمة، فقال: فما الذي تريد؟ قال: أريد أن تحملني في البحر
المعروف ببحر المعبر إلى كرمان، فحمله في نفر
يسير من مماليكه إلى كرمان، ثم خرج منها إلى أطراف بلاد
فارس، فمات هناك في قرية من قرى فارس، وأخفي موته، لئلا يقصده التتر، وتطلب
جثته. فلما استقروا بموقان،
راسلت الكرج أزبك بن البهلوان في الاتفاق على حربهم، وراسلوا موسى بن أيوب المعروف بالأشرف، وكان صاحب خلاط
وإرمينية بمثل ذلك، وظنوا أنهم يصبرون إلى أيام الربيع
وانحسار الثلوج، فلم يصبروا، وصاروا من موقان في
صميم الشتاء نحو بلاد الكرج، فخرجت إليهم الكرج، واقتتلوا قتالاً شديداً، فلم يثبتوا للتتار، وانهزموا أقبح هزيمة، وقتل منهم من لا يحصى، فكانت هذه الوقعة في ذي الحجة من سنة
سبع عشرة وستمائة. وكان التتار قد عزموا
على الرحيل عنهم لكثرة من قتل منهم. فلما لم
يروا أحداً يخرج إليهم من البلد، طمعوا واستدلوا على ضعف أهله، فقصدوهم وقاتلوهم وذلك في شهر رجب من سنة ثماني عشرة وستمائة، ودخلوا المدينة
بالسيف، وقاتلهم الناس في الدروب، وبطل السلاح للازدحام، واقتتلوا بالسكاكين،
فقتل من الفريقين ما لا يحصى، وظهر التتارعلى المسلمين فأفنوهم قتلاً، ولم يسلم منهم إلا من كان له نفق في الأرض يستخفي فيه.
ثم ألقوا النار في البلد فأحرقوها،
ورحلوا إلى مدينة أردبيل وأعمال أذربيجان،
فملكوا أردبيل، وقتلوا فيها، فأكثروا. ثم ساروا إلى تبريز، وكان بها شمس
الدين عثمان الطغرائي، قد جمع كلمة أهلها بعد مفارقة صاحب أذربيجان أزبك بن البهلوان للبلاد، خوفاً من
التتار، ومقامه بنقجوان، فقوى الطغرائي نفوس الناس على
الامتناع، وحذرهم عاقبة التخاذل، وحصن البلد. فلما وصل التتار، ورأوا اجتماع كلمة المسلمين
وحصانة البلد، طلبوا منهم مالاً وثياباً، فاستقر الأمر بينهم على شيء معلوم،
فسيروه إليهم، فلما أخذوه رحلوا إلى بيلقان. فقاتلهم
أهلها. فملكها
التتار في شهر رمضان من هذه السنة، ووضعوا فيهم
السيف حتى أفنوهم أجمعين. فلما فرغوا، أرادوا عبور الدربند، فلم يقدموا عليه،
فأرسلوا إلى شروان شاه ملك الدربند، فطالبوه
بإنفاذ رسول يسعى بينه وبينهم في الصلح، فأرسل إليهم عشرة من ثقاته، فلما وصلوا
إليهم جمعوهم، ثم قتلوا واحداً منهم بحضور الباقين،
وقالوا للتسعة: إن أنتم عرفتمونا طريقًا نعبر فيه فلكم الأمان، وإلا قتلناكم كما
قتلنا صاحبكم، فقالوا لهم: لا طريق في هذا الدربند،
ولكن نعرفكم موضعاً هو أسهل المواضع لعبور الخيل. ثم ساروا إلى نيسابور،
ففعلوا به ما فعلوا بمرو من القتل والاستئصال،
ثم عمدوا إلى طوس، فنهبوها وقتلوا أهلها، وأخرجوا المشهد الذي به علي بن موسى الرضا رضي الله عنه والرشيد هارون بن المهدي، وساروا إلى هراة فحصروها، ثم أمنوا، أهلها، فلما فتحوها قتلوا بعضهم، وجعلوا على الباقين شحنة، فلما
بعدوا وثب أهل هراة على الشحنة فقتلوه، فعاد
عليهم عسكر من التتار، فاستعرضوهم بالسيف، فقتلوهم عن
آخرهم. وقام بعده ابنه قا آن
مقامه، وثبت جرماغون في مكانه باذربيجان.
ولم يبق لهم إلا أصبهان، فإنهم نزلوا عليها
مراراً في سنة سبع وعشرين وستمائة. وحاربهم أهلها. وقتل من الفريقين مقتلة
عظيمة، ولم يبلغوا منها غرضاً، حتى اختلف أهل أصبهان في
سنة ثلاث وثلاثين وستمائة وهم طائفتان: حنفية
وشافعية، وبينهم حروب متصلة وعصبية ظاهرة فخرج
قوم من أصحاب الشافعي إلى من يجاورهم ويتاخمهم من ممالك التتار، فقالوا
لهم: اقصدوا البلد حتى نسلمه إليكم، فنقل ذلك إلى
قا آن بن جنكزخان بعد وفاة أبيه، والملك يومئذ منوط بتدبيره، فأرسل جيوشاً من
المدينة المستجدة التي بنوها وسموها قراحرم، فعبرت جيحون مغربة، وانضم إليها قوم
ممن أرسله جرماغون على هيئة المدد لهم، فنزلوا على
أصفهان في سنة ثلاث وثلاثين المذكورة وحصروها، فاختلف سيفا الشافعية والحنفية في المدينة، حتى قتل كثير
منهم، وفتحت أبواب المدينة، وفتحها الشافعية على عهد بينهم وبين التتار أن يقتلوا الحنفية، ويعفوا عن
الشافعية، فلما دخلوا البلد بدأوا بالشافعية،
فقتلوهم قتلاً ذريعاً، ولم يقفوا مع العهد الذي عهدوه لهم، ثم قتلوا الحنفية، ثم قتلوا سائر الناس، وسبوا النساء،
وشقوا بطون الحبالى، ونهبوا الأموال، وصادروا الأغنياء، ثم أضرموا النار، فأحرقوا أصبهان، حتى صارت تلولاً من الرماد. وأقاموا على جملة السكون والموادعة
للبلاد الإسلامية كلها، إلى أن دخلت سنة ثلاث وأربعين وستمائة. فاتفق أن بعض امراء بغداد وهو سليمان بن
برجم، وهو مقدم الطائفة المعروفة بالإيواء، وهي من
التركمان، قتل شحنة من شحنهم في بعض قلاع الجبل يعرف بخليل بن بدر، فأثار قتله أن سار من تبريز عشرة آلاف غلام منهم،
يطوون المنازل، ويسبقون خبرهم، ومقدمهم المعروف بجكتاي الصغير، فلم يشعر الناس ببغداد إلا وهم على البلد، وذلك في شهر
ربيع الآخرمن هذه السنة في فصل الخريف، وقد كان
الخليفة المستعصم بالله، أخرج عسكره إلى ظاهر سور بغداد على سبيل الاحتياط، وكان التتر قد بلغهم ذلك،
إلا أن جواسيسهم غرتهم، وأوقعت في أذهانهم أنه ليس خارج السور إلا خيام
مضروبة وفساطيط مضروبة، لا رجال تحتها، وأنكم متى
أشرفتم عليهم ملكتم سوادهم وثقلهم، ويكون قصارى أمر قوم قليلين تحتها أن ينهزفوا
إلى البلد، ويعتصموا بجدرانه، فأقبلت التتر على
هذا الظن، وسارت على هذا الوهم، فلما قربوا من بغداد، وشارفوا الوصول إلى
المعسكر، أخرج المستعصم بالله الخليفة مملوكه
وقائد جيوشه شرف الدين إقبالاً الشرابي إلى ظاهر السور،
وكان خروجه في ذلك اليوم من لطف الله تعالى بالمسلمين، فإن التتار لو
وصلوا وهو بعد لم يخرج، لاضطرب العسكر، لأنهم كانوا
يكونون بغير قائد ولا زعيم، بل كل واحد منهم أمير نفسه، وآراؤهم مختلفة، لا
يجمعهم رأي واحد، ولا يحكم عليها حاكم واحد، فكانوا في مظنة الاختلاف
والتفرق، والاضطراب والتشتت، فكان خروج شرف الدين إقبال الشرابي في اليوم السادس عشر من هذا الشهر المذكور، ووصلت التتر إلى سور البلد في
اليوم السابع عشر، فوقفوا بإزاء عساكر بغداد صفاً واحداً، وترتب العسكر
البغدادي ترتيباً منتظماً، ورأى التتر من كثرتهم وجودة
سلاحهم وعددهم وخيولهم، ما لم يكونوا يظنونه ولا يحسبونه، وانكشف ذلك
الوهم الذي أوهمهم جواسيسهم عن الفساد والبطلان. وكتبت إلى مؤيد الدين الوزير عقيب هذه الوقعة التي نصر فيها الإسلام، ورجع التتر
مخذولين ناكصين على أعقابهم أبياتاً أنسب إليه الفتح، واشير
إلى أنه هو الذي قام بذلك وإن لم يكن حاضراً له بنفسه، وأعتذر إليه عن الإغباب
بمديحه، فقد كانت الشواغل والقواطع تصد عن الانتصاب لذلك:
وهي
طويلة، وإنما ذكرنا منها ما اقتضته الحال. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن
خطبة له في ذكر المكاييل والموازين
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
عباد الله، إنكم وما تأملون من هذه الدنيا أثوياء مؤجلون، ومدينون مقتضون، أجل
منقوص، وعمل محفوظ، فرب دائب مضيع، ورب كادح خاسر، وقد أصبحتم في زمن لا يزداد
الخير فيه إلا إدباراً، والشر إلا إقبالاً، والشيطان في هلاك الناس إلا طمعاً،
فهذا أوان قويت عدته، وعمت مكيدته، وأمكنت فريسته. أفبهذا تريدون أن تجاوروا الله في دار قدسه،
وتكونوا أعز أوليائه عنده! هيهات لا يخدع الله عن جنته، ولا تنال مرضاته إلا
بطاعته. الشرح:
أثوياء: جمع ثوي، وهو الضيف، كقوي وأقوياء. ومؤجلون: مؤخرون إلى أجل، أي وقت معلوم.
ومقتضون:
جمع مقتضى، أي مطالب بأداء الدين، كمرتضون جمع مرتضى، ومصطفون جمع مصطفى. والدائب:
المجتهد ذو الجد والتعب. والكادح: الساعي.
ومثله:
وهو كثير:
والأصل فيه قوله تعالى: "وجوه يومئذ خاشعة،
عاملة ناصبة، تصلى ناراً حامية" ويروى: فرب دائب مضيع، بغير تشديد.
والوفر:
المال الكثير، أي بخل ولم يؤد حق الله سبحانه، فكثرماله. ثم لعن الآمر بالمعروف ولا يفعله، والناهي عن
المنكر ويرتكبه، وهذا من قوله تعالى: "أتأمرون
الناس بالبر وتنسون أنفسكم". |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
من
أقوال الحكماء والصالحين،
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
واعلم أن هذه الخطبة قد اشتملت على كلام فصيح، وموعظة بالغة من
ذكر الدنيا وذكر أهلها، ونحن نذكر كلمات وردت عن الحكماء والصالحين تناسبها، على
عادتنا في إيراد الأشباه والنظائر. قيل لبعضهم:
كيف أصبحت؟ قال: آسفاً على أمسي، كارهاً ليومي، متهماً لغدي. وأنشد لبشرالحافي:
قال
أبو حيان: سمعت ابن القصاب الصوفي، يقول: اسمع واسكت، وانظر واعجب، قال ابن
المعتز:
ومن
الشعر القديم المختلف في قائله:
قيل لصوفي كيف ترى الدنيا؟ قال: وما الدنيا، لا أعرف لها وجوداً، قيل له: فأين قلبك؟ قال:
عند ربي، قيل: فأين ربك؟ قال: وأين ليس هو! قال ابن عائشة: كان يقال: مجالسة أهل الديانة تجلو عن القلوب
صدأ الذنوب، ومجالسة ذوي المروءات تدل على مكارم الأخلاق، ومجالسة العلماء تزكي
النفوس. ومن كلام بعض الحكماء الفصحاء:
كن لنفسك نصيحاً، واستقبل توبة نصوحاً، وازهد في دار سمها ناقع، وطائرها واقع،
وارغب في دار طالبها منجح، وصاحبها مفلح. ومتى حققت وآثرت الصدق، بان لك أنهما لا يجتمعان،
وأنهما كالضدين لا يصطلحان، فجرد همك في تحصيل الباقية، فإن الآخرى أنت فان عنها
وهي فانية عنك، وقد عرفت آثارها في أصحابها ورفقائها، وصنعها بطلابها وعشقائها
معرفة عيان، فأي حجة تبقى لك، وأي حجة لا تثبت عليك! ومن كلام هذا الحكيم:
"فإنا قد أصبحنا في دار رابحها خاسر، ونائلها قاصر، وعزيزها ذليل، وصحيحها
عليل، والداخل إليها مخرج، والمطمئن فيها مزعج، والذائق من شرابها سكران،
والواثق بسرابها ظمآن، ظاهرها غرور، وباطنها شرور، وطالبها مكدود، وعاشقها
مجهود، وتاركها محمود. العاقل من قلاها وسلا عنها، والظريف من عافها وأنف منها،
والسعيد من غمض بصره عن زهرتها، وصرفه عن نضرتها، وليس لها فضيلة إلا دلالتها
على نفسها، وإشارتها إلى نقصها، ولعمري إنها لفضيلة لو صادفت قلباً عقولاً، لا
لساناً قؤولاً، وعملاً مقبولاً، لا لفظاً منقولاً، فإلى الله الشكوى من هوى
مطاع، وعمر مضاع، فبيده الداء والدواء، والمرض والشفاء. فأما الأول فماله، وأما
الثاني فعشيرته، وأما الثالث فعمله. واعلم أن المحروب من حرب دينه، والمسلوب من سلب
يقينه. إنه لا غنى مع النار، ولا فقرمع الجنة، وإن جهنم لا
يفك أسيرها، ولا يستغني فقيرها. ابن المبارك،
كان فيما مضى جبار يقتل الناس على أكل لحوم الخنازير، فلم يزل الأمر يترقى حتى
بلغ إلى عابد مشهور، فأراده على أكلها، وهدده بالقتل، فشق ذلك على الناس. فقال له صاحب شرطته: إني
ذابح لك غداً جدياً، فإذا دعاك هذا الجبار لتأكل، فكل فإنما هو جدي، فلما دعاه
ليأكل أبى أن يأكل، فقال: أخرجوه واضربوا
عنقه. فقال له الشرطي:
ما منعك أن تأكل من لحم جدي؟ قال: إني رجل
منظور إلي، وإني كرهت أن يتأسى بي الناس في معاصي الله. فقدمه فقتله. سفيان الثوري، كان رجل يبكي كثيراً، فقال له
أهله:
لو قتلت قتيلاً ثم أتيت وليه فرآك تبكي هذا البكاء لعفا عنك، فقال: قد قتلت نفسي، فلعل وليها يعفو عني. ومن كلام أبي حيان التوحيدي في
البصائر: ما أقول في عالم! الساكن فيه وجل، والصاحي بين أهله
ثمل، والمقيم على ذنوبه خجل، والراحل عنه مع تماديه عجل. وإن داراً هذه من
آفاتها وصروفها لمحقوقة بهجرانها وتركها، والصدوف منها خاصة، ولا سبيل لساكنها
إلى دار القرار إلا بالزهد فيها، والرضا بالطفيف منها، كبلغة الثاوي ، وزاد
المنطلق. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن
كلام له لأبي ذر رحمه الله لما أخرج إلى الربذة
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: يا أبا ذر،
إنك غضبت لله فارج من غضبت له. إن القوم خافوك على دنياهم وخفتهم على دينك،
فاترك في أيديهم ما خافوك عليه، واهرب منهم بما خفتهم عليه، فما أحوجهم إلى ما
منعتهم، وأغناك عما منعوك! وستعلم من الرابح غداً، وأكثر حسداً، ولو أن السموات
والأرضين كانتا على عبد رتقاً، ثم اتقى الله، لجعل الله له منهما مخرجاً. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أخبار
أبي ذر الغفاري حين خروجه إلى الربذة،
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الشرح: واقعة أبي ذر
رحمه الله وإخراجه إلى الربذة ، أحد الأحداث التي نقمت على عثمان: وقد روى هذا الكلام أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري
في كتاب السقيفة عن عبد الرزاق، عن أبيه، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: لما
أخرج أبو ذر إلى الربذة، أمر عثمان، فنودي في الناس، ألا يكلم أحد أبا ذر ولا
يشيعه. وأمر مروان بن الحكم أن يخرج به. فخرج به، وتحاماه الناس إلا علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعقيلاً
أخاه، وحسناً وحسيناً رضي الله عنهما،
وعماراً، فإنهم خرجوا معه يشيعونه، فجعل الحسن رضي الله عنه يكلم أبا ذر،
فقال له مروان: إيها يا حسن! ألا تعلم أن أمير
المؤمنين قد نهى عن كلام هذا الرجل! فإن كنت لا
تعلم فاعلم ذلك، فحمل علي رضي الله عنه على
مروان، فضرب بالسوط بين أذني راحلته، وقال: تنح لحاك
الله إلى النار! فرجع مروان مغضباً إلى عثمان، فأخبره الخبر، فتلظى على علي رضي الله عنه، ووقف أبو ذر فودعه القوم،
ومعه ذكوان مولى أم هانئ بنت أبي طالب. فامتحنوك
بالقلى، ونفوك إلى الفلا، والله لو كانت السموات والأرض على عبد رتقاً، ثم اتقى
الله لجعل الله له منها مخرجاً. يا أبا ذر
لا يؤنسنك إلا الحق، ولا يوحشنك إلا الباطل. ثم قال لأصحابه: ودعوا عمكم، وقال لعقيل: ودع أخاك. واصبرحتى تلقى نبيك صلى الله عليه وسلم وهوعنك
راض. فبكى أبو ذر رحمه الله- وكان شيخاً كبيراً- وقال:
رحمكم الله يا أهل بيت الرحمة! إذا رأيتكم ذكرت بكم رسول الله صلى
الله عليه وسلم،
ما
لي بالمدينة سكن ولا شجن غيركم، إني ثقلت على عثمان بالحجاز، كما ثقلت على
معاوية بالشام، وكره أن أجاور أخاه وابن خاله بالمصرين، فأفسد الناس عليهما،
فسيرني إلى بلد ليس لي به ناصر ولا دافع إلا الله، والله ما أريد إلا الله
صاحباً، وما أخشى مع الله وحشة. فقال علي رضي
الله عنه: أما رسولك، فأراد أن يرد وجهي فرددته، وأما أمرك
فلم أصغره. قال عثمان: أقد
مروان من نفسك، قال: مم ذا؟ قال: من شتمه وجذب راحلته، قال:
أما راحلته فراحلتي بها، وأما شتمه إياي،
فوالله لا يشتمني شتمة إلا شتمتك مثلها، لا أكذب عليك. ثم بنى معاوية الخضراء بدمشق، فقال أبو ذر: يا معاوية، إن كانت هذه من مال الله
فهي الخيانة، وإن كانت من مالك فهي الاسراف. وكان
أبو ذر يقول بالشام: والله لقد حدثت أعماذ ما أعرفها، والله ما هي في
كتاب الله ولا سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، والله إني لأرى حقاً يطفأ، وباطلاً يحيا، وصادقاً مكذباً،
وأثرة بغير تقى، وصالحاً مستأثراً عليه. اللهم
العن الناهين عن المنكر المرتكبين له. فازبأر معاوية وتغيرلونه وقال: يا جلام أتعرف الصارخ؟ فقلت: اللهم لا. قال:
من عذيري من جندب بن جنادة يأتينا كل يوم فيصرخ على باب قصرنا بما سمعت! ثم قال!:
أدخلوه علي، فجيء بأبي ذر بين قوم يقودونه، حتى وقف بين يديه، فقال له معاوية: يا عدو الله وعدو رسوله! تأتينا
في كل يوم فتصنع ما تصنع! أما إني لوكنت قاتل رجل من أصحاب محمد من غير إذن أمير
المؤمنين عثمان لقتلتك، ولكني أستأذن فيك. فقال معاوية: ما
أنا ذاك الرجل، قال أبو ذر: بل أنت ذلك
الرجل، أخبرني بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسمعته يقول وقد مررت به: "اللهم العنه ولا تشبعه إلا بالتراب، وسمعته صلى الله عليه وسلم يقول: "است معاوية في النار". فضحك
معاوية وأمر بحبسه، وكتب إلى عثمان فيه. قال: بمكة؟
قال: لا، قال: بيت المقدس، قال: لا، قال: بأحد المصرين؟ قال: لا، ولكني
مسيرك إلى ربذة، فسيره إليها، فلم يزل بها حتى مات.
فقال أبو ذر:
ما عرفت اسمي قينا قط. وفي رواية أخرى: لا
أنعم الله بك عيناً يا جنيدب! فقال أبو ذر:
أنا جندب، وسماني رسول الله صلى الله عليه
وسلم
عبد الله، فاخترت اسم رسول الله صلى
الله عليه وسلم
الذي
سماني به على اسمي. فقال له عثمان: أنت الذي
تزعم أنا نقول: يد الله مغلولة، وإن الله فقير ونحن أغنياء! فقال أبو ذر: لوكنتم لا تقولون هذا لأنفقتم مال
الله على عباده، ولكني أشهد أني سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم، يقول: "إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلاً، جعلوا مال
الله دولاً، وعباده خولاً، ودينه دخلاً. فقال عثمان لمن حضر:
أسمعتموها من رسول الله؟ قالوا: لا، قال
عثمان: ويلك يا أبا ذر! أتكذب على رسول
الله! فقال أبو ذر لمن حضر: أما تدرون أني
صدقت! قالوا: لا والله ما ندري،
فقال عثمان: ادعوا لي علياً، فلما جاء قال عثمان لأبي ذر: اقصص عليه حديثك في بني أبي
العاص، فأعاده، فقال عثمان لعلي رضي الله عنه:
أسمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: لا، وقد صدق أبو
ذر. فقال: كيف عرفت صدقه؟ قال:
لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول: ما أظلت الخضراء، ولا أقلت الغبراء من
ذي لهجة أصدق من أبي ذر"، فقال من حضر: أما
هذا فسمعناه كلنا من رسول الله، فقال أبو ذر:
احدثكم أني سمعت هذا من رسول الله صلى
الله عليه وسلم فتتهمونني! ما
كنت أظن أني أعيش حتى أسمع هذا من أصحاب محمد صلى
الله عليه وسلم. قال عثمان:
كذبت، ولكنك تريد الفتنة وتحبها، قد أنغلت الشام علينا، فقال له أبوذر: اتبع سنة صاحبيك لا يكن لأحد عليك كلام، فقال عثمان: مالك وذلك لا أم لك! قال أبو ذر: والله ما وجدت لي عذراً إلا الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر. فغضب عثمان، وقال:
أشيروا علي في هذا الشيخ الكذاب، إما أن أضربه، أو أحبسه، أو أقتله، فإنه
قد فرق جماعة المسلمين، أو أنفيه من أرض الإسلام. فتكلم
علي رضي الله عنه وكان حاضراً فقال أشيرعليك بما قال مؤمن آل فرعون: "فإن يك كاذباً فعليه كذبه وإن يك صادقاً يصبكم بعض
الذي يعدكم إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب"، فأجابه عثمان بجواب
غليظ، وأجابه علي رضي الله عنه بمثله،
ولم نذكرالجوابين تذمماً منهما. فمكث كذلك أياماً، ثم أتى فوقف بين
يديه، فقال أبو ذر: ويحك يا عثمان! أما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأيت أبا بكر وعمر! هل هديك كهديهم! أما إنك
لتبطش بي بطش جبار، فقال عثمان: اخرج عنا من
بلادنا، فقال أبوذر: ما أبغض إلي جوارك!
فإلى أين أخرج؟ قال: حيث شئت، قال: أخرج إلى
الشام أرض الجهاد؟ قال: إنما جلبتك من الشام لما قد أفسدتها، أفأردك إليها! قال:
أفأخرج إلى العراق؟ قال: لا، إنك إن تخرج إليها تقدم على قوم أولي شبه وطعن على
الأئمة والولاة، قال: أفأخرج إلى مصر؟ قال: لا، قال: فإلى أين أخرج؟ قال: إلى
البادية، قال أبو ذر: أصير بعد الهجرة
أعرابياً! قال: نعم، قال أبو ذر: فأخرج إلى
بادية نجد، قال عثمان: بل إلى الشرق الأبعد،
أقصى فأقصى، امض على وجهك هدا فلا تعدون الربذة. فخرج
إليها. وروى الواقدي أيضاً عن مالك بن أبي الرجال، عن موسى بن ميسرة، أن
أبا الأسود الدؤلي، قال:
كنت احب لقاء أبي ذر لأسأله عن سبب خروجه إلى الربذة، فجئته فقلت له: ألا تخبرني، أخرجت من المدينة طائعاً، أم
أخرجت كرهاً؟ فقال: كنت في ثغر من ثغور
المسلمين اغني عنهم، فاأخرجت إلى المدينة، فقلت:
دار هجرتي وأصحابي، فأخرجت من المدينة إلى ما ترى. ثم قال: بينا أنا ذات ليلة نائم في المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ مربي رضي الله
عنه، فضربني برجله، وقال:
لا أراك نائماً في المسجد، فقلت: بأبي أنت
وأمي! غلبتني عيني، فنمت فيه. قال:
فكيف تصنع إذا أخرجوك منه، قلت: إذا ألحق بالشام، فإنها أرض مقدسة، وأرض الجهاد. قال: فكيف تصنع إذا اخرجت منها، قلت: أرجع إلى المسجد، قال:
فكيف تصنع إذا أخرجوك منه، قلت: آخذ
سيفي فأضربهم به. فقال: ألا أدلك على خير من
ذلك، انسق معهم حيث ساقوك، وتسمع وتطيع. فسمعت
وأطعت وأنا أسمع وأطيع، والله ليلقين الله عثمان وهو آثم في جنبي. فقال لي معاوية: هذه نزلت في أهل الكتاب، فقلت:
فيهم وفينا. فكتب معاوية إلى عثمان في ذلك، فكتب
إلي: أن أقدم، فقدمت عليه، فانثال الناس إلي كأنهم لم يعرفوني، فشكوت ذلك
إلى عثمان، فخيرني وقال: انزل حيث شئت،
فنزلت الربذة. هكذا يقول
أصحابنا المعتزلة، وهو الأليق بمكارم الأخلاق، فقد قال الشاعر:
وإنما يتأول
أصحابنا لمن يحتمل حاله التأويل كعثمان،
فأما من لم يحتمل حاله التأويل،- وإن كانت له صحبة سالفة- كمعاوية وأضرابه، فإنهم
لا يتأولون لهم إذا كانت أفعالهم وأحوالهم لا وجه لتأويلها، ولا تقبل العلاج
والإصلاح. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن
كلام له في حال نفسه أوصاف الإمام
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: أيتها النفوس
المختلفة، والقلوب المتشتتة، الشاهدة أبدانهم، والغائبة عنهم عقولهم، أظأركم على
الحق وأنتم تنفرون عنه نفور المعزى من وعوعة الأسد! هيهات أن أطلع بكم سرار
العدل، أو أقيم أعوجاج الحق. الشرح:
أظأركم: أعطفكم، ظأرت الناقة ظأراً، وهي ناقة مظؤورة، إذا عطفتها على ولد غيرها،
وفي المثل: الطعن يظأر أي يعطف على الصلح، وظأرت الناقة أيضاً إذا عطفت على
البو، يتعدى ولا يتعدى، فهي ظؤور، والوعوعة: الصوت، والوعواع مثله. والسرار:
آخر ليلة في الشهر، وتكون مظلمة، ويمكن عندي أن يفسر على وجه آخر، وهو أن يكون
السرار ههنا بمعنى السرور، وهي خطوط مضيئة في الجبهة، وقد نص أهل اللغة على أنه
يجوز فيها سرر وسرار، وقالوا: ويجمع سرار على أسرة، مثل حمار وأحمرة، قال عنترة:
يصف الكأس، ويقول: إن فيها خطوطاً بيضاً، وهي زجاج أصفر. ويقولون: برقت أسرة وجهه وأسارير وجهه، فيكون
معنى كلامه رضي الله عنه:
هيهات أن تلمع بكم لوامع العدل،
وتنجلي أوضاحه، ويبرق وجهه. ويمكن
فيه أيضًا وجه آخر وهو أن ينصب "سرار" ههنا على الظرفية، ويكون التقدير: هيهات أن أطلع بكم الحق زمان
استسرار العدل واستخفائه، فيكون قد حذف المفعول، وحذفه كثير. قلت: بل الكلام متعلق بعضه ببعض من وجهين: أحدهما أنه لما قال: اللهم إنك تعلم أني ما سللت السيف
طلباً للملك، أراد أن يؤكد هذا القول في نفوس السامعين، فقال: أنا أول من أسلم، ولم يكن الإسلام حينئذ معروفاً أصلاً، ومن يكون إسلامه هكذا لا يكون قد قصد بإسلامه إلا وجه
الله تعالى والقربة إليه، فمن تكون هذه حاله في مبدأ أمره، كيف يخطر ببال
عاقل أنه يطلب الدنيا وحطامها، ويجرد عليها السيف في آخر عمره، ووقت انقضاء مدة
عمره! والوجه الثاني أنه إذا كان أول السابقين، وجب أن يكون أقرب
المقربين،
لأنه تعالى قال: "والسابقون السابقون أولئك
المقربون"، ألا ترى أنه إذا قال الملك: "العالمون العالمون هم
المختصون بنا"، وجب أن يكون أعلمهم أشدهم به اختصاصاً، وإذا كان رضي الله عنه أقرب المقربين، وجب أن تنتفي عنه الموانع الستة، التي جعل كل
واحد منها صاداً عن الإمامة، وقاطعاً عن استحقاقها، وهي البخل والجهل والجفاء أي
الغلظة، والعصبية في دولته أي تقديم قوم على قوم، والارتشاء في الحكم، والتعطيل
للسنة، وإذا انتفت عنه هذه الموانع الستة تعين أن
يكون هو الإمام، لأن شروط الإمامة موجودة فيه بالاتفاق، فإذا كانت
موانعها عنه منتفية ولم يحصل لغيره اجتماع الشروط، وارتفاع الموانع، وجب أن يكون
هو الإمام، لأنه لا يجوز خلو العصر من إمام، سواء كانت هذه القضية عقلية أو
سمعية. قوله رضي الله عنه. فيقطعهم
بجفائه أي يقطعهم عن حاجاتهم لغلظته عليهم، لأن الوالي إذا كان غليظاً جافياً
أتعب الرعية وقطعهم عن مراجعته في حاجاتهم خوفاً من بادرته، ومعرته. والدول: جمع دولة بالضم وهي اسم
المال المتداول به، ويقال: هذا الفيء دولة بينهم، أي يتداولونه، والمعنى أنه يجب أن يكون الإمام
يقسم بالسوية، ولا يخص قوماً دون قوم على وجه
العصبية لقبيلة دون قبيلة، أو لإنسان من المسلمين دون غيره، فيتخذ بذلك بطانة. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن
خطبة له عنه في تمجيد الله تعالى
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
نحمده على ما أخذ وأعطى، وعلى ما أبلى وأبتلى، الباطن لكل خفية، والحاضر لكل
سرير، العالم بما تكن الصدور، وما تخون الغيون. ونشهد أن لا إله غيره، وأن
محمداً صلى الله عليه وسلم وآله نجيبه وبعيثه، شهادة يوافق فيها السر الإعلان،
والقلب اللسان.
وأما قوله: "وابتلى" فالابتلاء انزال مضرة بالإنسان على سبيل
الاختبار، كالمرض والفقر والمصيبة. وقد يكون الابتلاء بمعنى الاختبار قي الخير،
إلا أنه أكثر ما يستعمل في الشر. وتكن الصدور:
لستر، وما تخون العيون: ما تسترق من اللحظات والرمزات على غير الوجه الشرعي. والنجيب:
المنجب. والبعيث:
المبعوث. فمن
أشعر التقوى قلبه، برز مهله، وفاز عمله. فاهتبلوا هبلها، واعملوا للجنة عملها،
فإن لدنيا لم تخلق لكم دار مقام، بل خلقت لكم مجازاً، لتزودوا منها الأعمال إلى
دار القرار. فكونوا
منها على أوفاز، وقربوا الظهور للزيال. ثم
أوضحه بعد إجماله، فقال: إنه الموت الذي دعا فأسمع، وحدا فأعجل. وطول
أمل، منصوب على أنه مفعول. قلت: كما يجوز أن
يكون طول الأمل علة الأمن، يجوز أن يكون الأمن علة طول الأمل، ألا ترى أن
الإنسان قد يأمن المصائب فيطول أمله في البقاء ووجوه المكاسب، لأجل ما عنده من
الأمن. ويجوز أن ينصب طول أمل على البدل من المفعول
المنصوب ب رأيت، وهو من، ويكون التقدير: قد
رأيت طول! أمل من كان. وهذا بدل الاشتمال، وقد حذف منه الضمير العائد كما حذف من
قوله تعالى: "قتل أصحاب الأخدود،
النار..." وأعواد المنايا: النعش. ويتعاطى به الرجال الرجال:
يتداولونه: تارة على أكتاف هؤلاء، وتارة على أكتاف هؤلاء، وقد
فسر ذلك بقوله: حملاً على المناكب، وإمساكاً بالأنامل، والمشيد: المبني بالشيد، وهو الجص، البور: الفاسد الهالك، وقوم بور، أي هلكى، قال
سبحانه: "وكنتم قوماً بوراً"، وهو
جمع، واحده بائر كحائل وحول. والظهور: الركاب، جمع ظهر. وبنو فلان مظهرون، أي
لهم ظهور ينقلون عليها الأثقال، كما يقال: منجبون؟ إذا كانوا أصحاب نجائب. والزيال:
المفارقة؟ زايله مزايلة، وزيالاً، أي فارقه. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن
كلام له عليه السلام في أوصاف الدنيا
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: وانقادت له
الدنيا والآخرة بأزمتها، وقذفت إليه السموات والأرضون مقاليدها، وسجدت له بالغدو
والآصال الأشجار الناضرة، وقدحت له من قضبانها النيران المضيئة، وآتت أكلها
بكلماته الثمار اليانعة. والمقاليد:
المفاتيح. واليانعة:
الناضجة. وبكلماته،
أي بقدرته ومشيئته، وهذه اللفظة من الألفاظ المنقولة على أحد الأقسام الأربعة
المذكورة في كتبنا في أصول الفقه، وهو استعمال لفظة متعارفة في اللغة العربية في
معنى لم يستعملها أهل اللغة فيه، كنقل لفظة الصلاة، الذي هو في أصل اللغة للدعاء
إلى هيئات وأوضاع مخصوصة، ولم تستعمل العرب تلك اللفظة فيها. ولا يصح قول من قال: المراد بذلك قوله كن ، لأنه
تعالى لا يجوز أن يخاطب المعدوم وقوله تعالى:
"إنما أمرنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون" من باب
التوسع والاستعارة المملوء منهما القرآن، والمراد سرعة المؤاتاة، وعجلة الإيجاد،
وأنه إذا أراد من أفعاله أمراً كان. فإن قلت:
لماذا قالت العرب بين أظهرهم ، ولم تقل: بين صدورهم؟ قلت:
أرادت بذلك الإشعار بشدة المحاماة عنه، والمراماة من دونه، لأن النزيل إذا حامى
القوم عنه استقبلوا شبا الأسنة، وأطراف السيوف عنه بصدورهم، وكان هو محروساً
مصوناً عن مباشرة ذلك وراء ظهورهم. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الجناس
وأنواعه
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
واعلم أن الجناس على سبعة أضرب: أولها: الجناس التام كهذا اللفظ، وحده أن تتساوى حروف
ألفاظ الكلمتين في تركيبها وفي وزنها، قالوا:
ولم يرد في القرآن العزيز منه إلا موضع واحد، وهو قوله: "ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة". وعندي
أن هذا ليس بتجنيس أصلاً، وقد ذكرته في كتابي المسمى ب
"الفلك الدائر على المثل السائر" وقلت:
إن الساعة في الموضعين بمعنى واحد، والتجنيس أن يتفق اللفظ ويختلف المعنى ولا
يكون أحدهما حقيقة والآخر مجازاً، بل يكونان
حقيقتين، وإن زمان القيامة وإن طال، لكنه عند الله في حكم الساعة
الواحدة، لأن قدرته لا يعجزها أمر، ولا يطول عندها زمان، فيكون إطلاق لفظ الساعة
على أحد الموضعين حقيقة، وعلى الآخر مجازاً، وذلك يخرج الكلام عن حد التجنيس، كما لو قلت: ركبت حماراً، ولقيت حماراً، وأردت
بالثاني البليد.
فالغرر
الأولى مستعارة من غرة الوجه، والغرر الثانية من غرة الشيء، وهى أكرمه. وكذلك
قوله:
فالجعد الأول السيد، والثاني ضد السبط، وهو من صفات البخيل.
فالضرب الأول الرجل الخفيف، والثاني مصدر ضرب.
فأحدهما
جمع ثغر وهو ما يتاخم العدو من بلاد الحرب، والثاني للأسنان.
وقد
أكثر الناس في استحسان هذا التجنيس وأطنبوا، وعندي أنه ليس بتجنيس أصلاً، لأن
تسمية السيوف قضباً وتسمية الأغصان قضباً كله بمعنى واحد، وهو القطع، فلا تجنيس
إذا. وكذلك
البيض للسيوف، والبيض للنساء، كله بمعنى البياض، فبطل معنى التجنيس، وأظنني ذكرت
هذا أيضاً في كتاب الفلك الدائر".
وهذا
عندي أيضاً ليسى بتجنيس، لأن الصدور في الموضعين بمعنى واحد، وهوجزء الشيء
المتقدم البارز عن سائره، فأما قوله أيضاً:
فإنه
من التجنيس التام، لا شبهة في ذلك لاختلاف المعنى، فالعيد الأول هو اليوم
المعروف من الأعياد، والعيد الثاني فحل من فحول الإبل. ونحو هذا قول أبي نواس:
وقول
البحتري:
فالعين
الثانية الجاسوس، والأولى العين المبصرة. وللغزي المتأخر قصيدة أكثر من التجنيس
التام فيها، أولها:
وقال
في أثنائها:
وقال
في مديحها:
وقد
ذكر الغانمي في كتابه من صناعة الشعر باباً سماه رد الأعجاز على الصدور، ذكر أنه
خارج عن باب التجنيس، قال: مثل قول الشاعر:
وهذا
من التجنيس، وليس بخارج عنه ولكنه تجنيس مخصوص، وهو الإتيان به في طرفي البيت.
وكذلك قول البحتري:
وهذا
عندي ليس بتجنيس، لاتفاق المعنى. والعجب منه أنه
بعد إيراده هذا أنكر على من قال: إن قول أبي تمام:
من التجنيس، وقال: أي تجنيس ههنا والمعنى متفق، ولو أمعن النظر لرأى هذا مثل
البيتين السابقين.
وقال
آخر:
ومنها: أن تكون الألفاظ متساوية في الوزن مختلفة في التركيب بحرف
واحد لا غير،
فإن زاد على ذلك خرج من باب التجنيس، وذلك نحو قوله تعالى: "وجوه يومئذ ناضرة، إلى ربها ناظرة". وكذلك
قوله سبحانه وتعالى: "وهم
ينهون عنه وينأون عنه"، وقوله تعالى: "ذلكم
بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون". ونحو
هذا ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من
قوله: "الخير معقود بنواصي الخيل إلى يوم
القيامة"، وقال بعضهم: "لا تنال
المكارم إلا بالمكاره".
وقال
البحتري:
وقال
أيضاً:
وهذا البيت حسن الصنعة، لأنه قد جمع بين التجنيس الناقص وبين المقلوب، وهو أرماح، وأرحام. قال:
ومن هذا القسم قول أبي تمام:
وكذلك
قوله أيضاً:
وقوله
أيضاً:
وقوله
أيضاً:
وقوله
أيضاً:
وقوله
أيضاً:
فالبيت الثالث والخامس هما المقصودان بالتمثيل.
وكقول
البحتري:
وكقوله
أيضاً:
واعلم أن هذه الأمثلة لهذا القسم، ذكرها ابن الأثير في كتابه، وهو عندي مستدرك، لأنه حد هذا القسم
بما يختلف تركيبه، يعني حروفه الأصلية، ويختلف أيضاً وزنه، ويكون اختلاف تركيبه
بحرف واحد. هكذا قال في تحديده
لهذا القسم، وليس بقمر والأقمار تختلف بحرف واحد، وكذلك عمارة والأعمار،
وكذلك العوالي والمعالي. وأما قوله تعالى: "وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً"، فخارج عن هذا بالكلية، لأن جميع أمثلة هذا القسم يختلف فيه الكلمات بالحروف الزائدة،
وهذه الآية اختلاف كلمتيها بحروف أصلية، فليست من
التجنيس الذي نحن بصدده، بل هي من باب تجنيس التصحيف، كقول البحتري:
ثم قال ابن الأثير في هذا القسم أيضاً: ومن ذلك قول محمد بن وهيب الحميري:
وهذا
أيضاً عندي مستدرك، لأن اللفظين كليهما من الوتر، ويرجعان إلى أصل واحد، إلا أن
أحد اللفظين مفعول والآخر فاعل، وليس أحد يقول إن شاعراً لو قال في شعره: ضارب
ومضروب، لكان قد جانس.
ومثله قول المتنبي:
ومثله قول الرضي رحمه الله من أبيات يذم فيها الزمان:
ومثله
قول آخر:
ولبعض
شعراء الأندلس يذكر غلامه:
ويسمى هذا الضرب التبديل، وقد مثله قدامة بن جعفر الكاتب بقولهم: اشكر لمن أنعم عليك، وأنعم على من
شكرك. قالوا: ومنه قوله تعالى: "يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي"، ولا
أراه منه، بل هو من باب الموازنة. ومثلوه
أيضاً بقول أمير المؤمنين رضي الله عنه: أما بعد، فإن الإنسان يسره درك ما لم
يكن ليفوته، ويسوءه فوت ما لم يكن ليدركه. وبقول أبي
تمام لأبي العميثل وأبي سعيد الضرير، فإنهما قالا: لما امتدح عبد الله بن
طاهر بقصيدة، وفي افتتاحها تكلف وتعجرف: لم لا تقول ما يفهم، فقال لهما: لم لا تفهمان ما يقال.
وكقول
الآخر:
أي لا بقاء. وكقول الآخر:
ير يد بها برقعاً.
وهذا
في التحقيق هو الباب المسمى لزوم ما لا يلزم، وليس من باب التجنيس.
وقد
ورد مثل ذلك في المنثور، نحو ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه
يقال يوم القيامة، لصاحب القرآن: "اقرأ وارق". وقد
تكلمت في كتابي المسمى بالعبقري الحسان، على أقسام الصناعة البديعة نثراً
ونظماً، وبينت أن كثيراً منها يتداخل، ويقوم البعض من ذلك مقام بعض، فليلمح من
هناك.
وقال
أيضاً:
وقال
أبوالعلاء:
ولي
من قصيدة، أخاطب رجلين فرا في حرب:
وقال أبو الطيب أيضاً:
البحتري:
وقال
آخر:
وقال
آخر:
وقال
محمد بن وهيب الحميري:
وهذا مأخوذ من قول أمير المؤمنين رضي الله عنه، وقد قيل له: ما أكثر حب الناس
للدنيا، فقال: هم أبناؤها، أيلام الإنسان على حب أمه.
أبو الطيب:
فإن قلت:
كيف يقول: إنه لا يجد في الموت راحة، وأين هذا من
قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدنيا سجن المؤمن، وجنة
الكافر"، ومن قوله رضي الله عنه: والله ما أرجو الراحة إلا بعد الموت،
وماذا يعمل بالصالحين الذين آثروا فراق هذه العاجلة، واختاروا الآخرة، وهو رضي الله عنه سيدهم وأميرهم.
وقال
أخر:
وقيل لأعرابي وقد احتضر: إنك ميت، قال: إلى أين يذهب بي، قيل: إلى الله، قال: ما
أكره أن أذهب إلى من لم أر الخير إلا منه.
وقال بعض السلف:
ما من مؤمن إلا والموت خير له من الحياة، لأنه إن كان محسناً فالله تعالى يقول: "وما عند الله خير وأبقى للذين اتقوا"،
وإن كان مسيئاً فالله تعالى يقول: "ولا يحسبن
الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً".
وقال
أخر:
وقال
أبوالعلاء:
وقال
أبوالعتاهية:
وقال
ابن المعتز:
فأما قوله رضي الله عنه: وإنما ذلك بمنزلة الحكمة، إلى قوله "وفيها الغنى كله
والسلامة، ففصل آخر غيرملتثم بما قبله، وهو إشارة إلى كلام من كلام رسول الله
صلى الله عليه وسلم رواه لهم، ثم حضهم على التمسك به، والانتفاع بمواعظه، وقال:
إنه بمنزلة الحكمة التي هي حياة القلوب، ونور الأبصار، وسمع الآذان الصم، وري
الأكباد الحرى، وفيها الغنى كله، والسلامة، والحكمة المشبه كلام الرسول صلى الله عليه وسلم بها هي المذكورة في قوله تعالى: "ومن يؤت الحكمة فقد أوتى خيراً كثيراً"، وفي
قوله: "ولقد آتينا لقمان الحكمة"، وفي
قوله: "وأتيناه الحكم صبياً"، وهي
عبارة عن المعرفة بالله تعالى، وبما في مبدعاته من الأحكام الدالة على علمه،
كتركيب الأفلاك، ووضع العناصر مواضعها، ولطائف صنعة الإنسان وغيره من الحيوان،
وكيفية إنشاء النبات والمعادن، وما في العالم من القوى المختلفة، والتأثيرات
المتنوعة، الراجع ذلك كله إلى حكمة الصانع وقدرته وعلمه، تبارك اسمه. ونبت
المرعى عليها، أي دامت وطال الزمان عليها، حتى صارت بمنزلة الأرض الجامدة
الثابتة التي تنبت النبات. ويجوز أن يريد بالدمن ههنا جمع دمن وهو البعر
المجتمع كالمزبلة، أو جمع دمنة وهي آثار الناس وما سودوا من الأرض، يقال: قد دمن
الشاء الماء، وقد دمن القوم الأرض، فشبه ما في قلوبهم من الغل والحقد والضغائن
بالمزبلة المجتمعة من البعر وغيره، من سقاطة الديار التي قد طال مكثها حتى نبت
عليها المرعى، قال الشاعر:
قوله رضي الله عنه: لقد استهام بكم الخبيث، يعني الشيطان. واستهام بكم:
جعلكم هائمين، أي استهامكم، فعداه بحرف الجر، كما تقول في استنفرت القوم إلى
الحرب: استنفرت بهم، أي جعلتهم نافرين. ويمكن أن يكون بمعنى الطلب والاستدعاء، كقولك: استعلمت منه حال كذا، أي استدعيت أن
يعلمني، واستمنحت فلاناً، أي طلبت واستدعيت أن يعطيني، فيكون
قوله: واستهام بكم الخبيث، أي استدعى منكم أن تهيموا وتقعوا في التيه
والضلال والحيرة. ثم
سأل الله أن يعينه على نفسه وعليهم. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن
كلام له وقد شاوره عمر بن الخطاب في الخروج إلى غزو الروم
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: وقد توكل
الله لأهل هذا الدين بإعزاز الحوزة، وستر العورة، والذي نصرهم، وهم قليل لا
ينتصرون، ومنعهم وفم قليل لا يمتنعون، حي لا يموت. إنك متى تسر إلى هذا العدو بنفسك، فتلقهم فتنكب، لا
يكن للمسلمين كهف دون أقصى بلادهم. ليس بعدك
مرجع يرجعون إليه، فابعث إليهم رجلاً محرباً، واحفز معه أهل البلاء والنصيحة،
فإن أظهر الله فذاك ما تحب، وإن تكن الأخرى، كنت ردءاً للناس ومثابة للمسلمين. ويروى كانفة أي جهة عاصمة، من قولك: كنفت الإبل،
جعلت لها كنيفاً من الشجر تستتر به وتعتصم. وثانيهما، يجوز أن يكون غلب على ظنه أن غيره لا
يقوم مقامه في حرب هذه الفرق الخارجة عليه، ولم يجد أميراً محرباً من أهل البلاء
والنصيحة، لأنه رضي
الله عنه هكذا
قال لعمر، واعتبر هذه القيود والشروط، فمن كان من أصحابه رضي الله عنه محرباً
لم يكن من أهل النصيحة له، ومن كان من أهل النصيحة له لم يكن محرباً، فدعته
الضرورة إلى مباشرة الحرب بنفسه. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
غزوة
فلسطين وفتح بيت المقدس
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
واعلم أن هذه الغزاة هي
غزاة فلسطين، التي فتح فيها بيت المقدس، وقد
ذكرها أبوجعفر محمد بن جرير الطبري في التاريخ، وقال:
إن علياً رضي الله عنه هو
كان المستخلف على المدينة لما شخص عمر إلى الشام، وإن
علياً رضي الله عنه قال له: لا تخرج بنفسك، إنك تريد عدواً كلباً،
فقال عمر: إني أبادر بجهاد العدو موت العباس بن
عبد المطلب، إنكم لو فقدتم العباس لانتقض
بكم الشر كما ينتقض الحبل. فمات العباس لست سنين
خلت من إمارة عثمان وانتقض بالناس الشر. قال أبو جعفر:
ولقيه معاوية، وعليه ثياب ديباج، وحوله جماعة من الغلمان والخول، فدنا منه فقبل يده، فقال: ما هذا يابن هند، وإنك لعلى هذه الحال، مترف صاحب لبوس وتنعم، وقد بلغني أن
ذوي الحاجات يقفون ببابك، فقال: يا أمير المؤمنين، أما اللباس فإنا ببلاد
عدو، ونحب أن يرى أثر نعمة الله علينا، وأما الحجاب فإنا نخاف من البذلة جرأة
الرعية. فقال: ما سألتك عن شيء إلا تركتني منه في أضيق من
الرواجب، إن كنت صادقاً فإنه رأي لبيب، وإن كنت كاذباً، فإنها خدعة أريب. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
من
كلام له وقد وقع بينه وبين عثمان مشاجرة فقال المغيرة بن الأخنس لعثمان: أنا
أكفيكه، فقال أمير المؤمنين ع للمغيرة.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: يابن اللعين
الأبتر، والشجرة التي لا أصل لها ولا فرع، أنت
تكفيني، فو الله ما أعز الله من أنت ناصره، ولا قام من أنت منهضه، أخرج عنا أبعد
الله نواك، ثم أبلغ جهدك، فلا أبقى الله عليك إن أبقيت. والحقد
الذي في قلب المغيرة عليه من هذه الجهة. وإنما قال له:
يابن الأبتر، لأن من كان عقبه ضالاً خبيثاً، فهو كمن لا عقب له بل من لا
عقب له خير منه ويروى: ولا أقام من أنت
منهضه بالهمزة. وقد روي
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن
ثقيفاً. وروى الحسن البصري
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن
ثلاث بيوت: بيتان من مكة، وهما بنو أمية وبنو المغيرة، وبيت من الطاثف وهم ثقيف. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
نبذ
من أخبار ثقيف
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وإنما قال له:
والشجرة التي لا أصل لها ولا فرع، لأن ثقيفاً في نسبها طعن، فقال قوم من النسابين: إنهم من هوازن، وهو القول الذي
تزعمه الثقفيون، قالوا: هو ثقيف، واسمه قسي بن منبه بن بكر بن هوازن بن منصور بن
عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر. وعلى هذا القول جمهور الناس. وقد روى أبو العباس المبرد في الكامل لأخت الأشتر مالك بن الحارث
النخعي تبكيه:
قال أبو العباس:
وهجا يحيى بن نوفل، وكان هجاء خبيث اللسان، العريان بن الهيثم بن الأسود النخعي،
وقد كان العريان تزوج امرأة اسمها زباد، مبني على الكسر، والزاي مفتوحة بعدها
باء منقوطة بواحدة وهي من ولد هانىء بن قبيصة الشيباني، وكانت قبله تحت الوليد
بن عبد الملك بن مروان، فطلقها، فأنكحها إياه أخ لها يقال له زياد، فقال يحيى بن نوفل:
قال أبو العباس:
وكان المغيرة بن شعبة، وهو والي الكوفة صار إلى دير هند بنت النعمان بن المنذر،
وهي فيه عمياء مترهبة، فاستأذن عليها، فقيل لها:
أمير هذه المدرة بالباب. قالت: قولوا له: من ولد جبلة بن الأيهم أنت، قال: لا، قالت: أفمن
ولد المنذر بن ماء السماء أنت، قال: لا، قالت: فمن أنت، قال:
أنا المغيرة بن شعبة الثقفي، قالت: فما
حاجتك، قال: جئت خاطباً، قالت: لو كنت جئتني لجمال أو مال بطلبتك، ولكن
أردت أن تتشرف بي في محافل العرب، فتقول:
نكحت ابنة النعمان بن المنذر، وإلا فأي خير في اجتماع أعور وعمياء. قال:
فما كان أبوك يقول كما ثقيف، قالت: أذكر،
وقد اختصم إليه رجلان منهم، أحدهما ينتهي إلى إياد، والآخر إلى هوازن، فقضى
للإيادي وقال:
فقال المغيرة:
أما نحن فمن بكر بن هوازن، فليقل أبوك ما شاء، ثم انصرف. قال أبو العباس: وقد قال الحجاج على المنبر: يزعمون أنا من بقايا ثمود، فقد
كذبهم الله بقوله: "وثمودا فما أبقى".
وقتل المغيرة بن الأخنس مع عثمان يوم الدار، وقد ذكرنا مقتله
فيما تقدم. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الفهرس الجزء الثامن باب المختار
من الخطب والأوامر - ابن ابي الحديد. 2 ومن كلام له وحث أصحابه على القتال. 2 ومن كلام له عليه السلام في الخوارج
لما أنكروا تحكيم الرجال ويذم فيه أصحابه في التحكيم. 48 ومن كلام له قاله للخوارج أيضاً 51 غلاة الشيعة والنصيرية وغيرهم. 54 فيما يخبر به عن الملاحم بالبصرة 56 ومن خطبة له في ذكر المكاييل والموازين. 104 من أقوال الحكماء والصالحين، 105 ومن كلام له لأبي ذر رحمه الله لما
أخرج إلى الربذة 107 أخبار أبي ذر الغفاري حين خروجه
إلى الربذة، 108 ومن كلام له في حال نفسه أوصاف الإمام 112 ومن خطبة له عنه في تمجيد الله تعالى. 114 ومن كلام له عليه السلام في أوصاف
الدنيا 115 ومن كلام له وقد شاوره عمر بن الخطاب
في الخروج إلى غزو الروم 127 غزوة فلسطين وفتح بيت المقدس.. 127 |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||