- القرآن الكريم
- سور القرآن الكريم
- 1- سورة الفاتحة
- 2- سورة البقرة
- 3- سورة آل عمران
- 4- سورة النساء
- 5- سورة المائدة
- 6- سورة الأنعام
- 7- سورة الأعراف
- 8- سورة الأنفال
- 9- سورة التوبة
- 10- سورة يونس
- 11- سورة هود
- 12- سورة يوسف
- 13- سورة الرعد
- 14- سورة إبراهيم
- 15- سورة الحجر
- 16- سورة النحل
- 17- سورة الإسراء
- 18- سورة الكهف
- 19- سورة مريم
- 20- سورة طه
- 21- سورة الأنبياء
- 22- سورة الحج
- 23- سورة المؤمنون
- 24- سورة النور
- 25- سورة الفرقان
- 26- سورة الشعراء
- 27- سورة النمل
- 28- سورة القصص
- 29- سورة العنكبوت
- 30- سورة الروم
- 31- سورة لقمان
- 32- سورة السجدة
- 33- سورة الأحزاب
- 34- سورة سبأ
- 35- سورة فاطر
- 36- سورة يس
- 37- سورة الصافات
- 38- سورة ص
- 39- سورة الزمر
- 40- سورة غافر
- 41- سورة فصلت
- 42- سورة الشورى
- 43- سورة الزخرف
- 44- سورة الدخان
- 45- سورة الجاثية
- 46- سورة الأحقاف
- 47- سورة محمد
- 48- سورة الفتح
- 49- سورة الحجرات
- 50- سورة ق
- 51- سورة الذاريات
- 52- سورة الطور
- 53- سورة النجم
- 54- سورة القمر
- 55- سورة الرحمن
- 56- سورة الواقعة
- 57- سورة الحديد
- 58- سورة المجادلة
- 59- سورة الحشر
- 60- سورة الممتحنة
- 61- سورة الصف
- 62- سورة الجمعة
- 63- سورة المنافقون
- 64- سورة التغابن
- 65- سورة الطلاق
- 66- سورة التحريم
- 67- سورة الملك
- 68- سورة القلم
- 69- سورة الحاقة
- 70- سورة المعارج
- 71- سورة نوح
- 72- سورة الجن
- 73- سورة المزمل
- 74- سورة المدثر
- 75- سورة القيامة
- 76- سورة الإنسان
- 77- سورة المرسلات
- 78- سورة النبأ
- 79- سورة النازعات
- 80- سورة عبس
- 81- سورة التكوير
- 82- سورة الانفطار
- 83- سورة المطففين
- 84- سورة الانشقاق
- 85- سورة البروج
- 86- سورة الطارق
- 87- سورة الأعلى
- 88- سورة الغاشية
- 89- سورة الفجر
- 90- سورة البلد
- 91- سورة الشمس
- 92- سورة الليل
- 93- سورة الضحى
- 94- سورة الشرح
- 95- سورة التين
- 96- سورة العلق
- 97- سورة القدر
- 98- سورة البينة
- 99- سورة الزلزلة
- 100- سورة العاديات
- 101- سورة القارعة
- 102- سورة التكاثر
- 103- سورة العصر
- 104- سورة الهمزة
- 105- سورة الفيل
- 106- سورة قريش
- 107- سورة الماعون
- 108- سورة الكوثر
- 109- سورة الكافرون
- 110- سورة النصر
- 111- سورة المسد
- 112- سورة الإخلاص
- 113- سورة الفلق
- 114- سورة الناس
- سور القرآن الكريم
- تفسير القرآن الكريم
- تصنيف القرآن الكريم
- آيات العقيدة
- آيات الشريعة
- آيات القوانين والتشريع
- آيات المفاهيم الأخلاقية
- آيات الآفاق والأنفس
- آيات الأنبياء والرسل
- آيات الانبياء والرسل عليهم الصلاة السلام
- سيدنا آدم عليه السلام
- سيدنا إدريس عليه السلام
- سيدنا نوح عليه السلام
- سيدنا هود عليه السلام
- سيدنا صالح عليه السلام
- سيدنا إبراهيم عليه السلام
- سيدنا إسماعيل عليه السلام
- سيدنا إسحاق عليه السلام
- سيدنا لوط عليه السلام
- سيدنا يعقوب عليه السلام
- سيدنا يوسف عليه السلام
- سيدنا شعيب عليه السلام
- سيدنا موسى عليه السلام
- بنو إسرائيل
- سيدنا هارون عليه السلام
- سيدنا داود عليه السلام
- سيدنا سليمان عليه السلام
- سيدنا أيوب عليه السلام
- سيدنا يونس عليه السلام
- سيدنا إلياس عليه السلام
- سيدنا اليسع عليه السلام
- سيدنا ذي الكفل عليه السلام
- سيدنا لقمان عليه السلام
- سيدنا زكريا عليه السلام
- سيدنا يحي عليه السلام
- سيدنا عيسى عليه السلام
- أهل الكتاب اليهود النصارى
- الصابئون والمجوس
- الاتعاظ بالسابقين
- النظر في عاقبة الماضين
- السيدة مريم عليها السلام ملحق
- آيات الناس وصفاتهم
- أنواع الناس
- صفات الإنسان
- صفات الأبراروجزائهم
- صفات الأثمين وجزائهم
- صفات الأشقى وجزائه
- صفات أعداء الرسل عليهم السلام
- صفات الأعراب
- صفات أصحاب الجحيم وجزائهم
- صفات أصحاب الجنة وحياتهم فيها
- صفات أصحاب الشمال وجزائهم
- صفات أصحاب النار وجزائهم
- صفات أصحاب اليمين وجزائهم
- صفات أولياءالشيطان وجزائهم
- صفات أولياء الله وجزائهم
- صفات أولي الألباب وجزائهم
- صفات الجاحدين وجزائهم
- صفات حزب الشيطان وجزائهم
- صفات حزب الله تعالى وجزائهم
- صفات الخائفين من الله ومن عذابه وجزائهم
- صفات الخائنين في الحرب وجزائهم
- صفات الخائنين في الغنيمة وجزائهم
- صفات الخائنين للعهود وجزائهم
- صفات الخائنين للناس وجزائهم
- صفات الخاسرين وجزائهم
- صفات الخاشعين وجزائهم
- صفات الخاشين الله تعالى وجزائهم
- صفات الخاضعين لله تعالى وجزائهم
- صفات الذاكرين الله تعالى وجزائهم
- صفات الذين يتبعون أهواءهم وجزائهم
- صفات الذين يريدون الحياة الدنيا وجزائهم
- صفات الذين يحبهم الله تعالى
- صفات الذين لايحبهم الله تعالى
- صفات الذين يشترون بآيات الله وبعهده
- صفات الذين يصدون عن سبيل الله تعالى وجزائهم
- صفات الذين يعملون السيئات وجزائهم
- صفات الذين لايفلحون
- صفات الذين يهديهم الله تعالى
- صفات الذين لا يهديهم الله تعالى
- صفات الراشدين وجزائهم
- صفات الرسل عليهم السلام
- صفات الشاكرين وجزائهم
- صفات الشهداء وجزائهم وحياتهم عند ربهم
- صفات الصالحين وجزائهم
- صفات الصائمين وجزائهم
- صفات الصابرين وجزائهم
- صفات الصادقين وجزائهم
- صفات الصدِّقين وجزائهم
- صفات الضالين وجزائهم
- صفات المُضَّلّين وجزائهم
- صفات المُضِلّين. وجزائهم
- صفات الطاغين وجزائهم
- صفات الظالمين وجزائهم
- صفات العابدين وجزائهم
- صفات عباد الرحمن وجزائهم
- صفات الغافلين وجزائهم
- صفات الغاوين وجزائهم
- صفات الفائزين وجزائهم
- صفات الفارّين من القتال وجزائهم
- صفات الفاسقين وجزائهم
- صفات الفجار وجزائهم
- صفات الفخورين وجزائهم
- صفات القانتين وجزائهم
- صفات الكاذبين وجزائهم
- صفات المكذِّبين وجزائهم
- صفات الكافرين وجزائهم
- صفات اللامزين والهامزين وجزائهم
- صفات المؤمنين بالأديان السماوية وجزائهم
- صفات المبطلين وجزائهم
- صفات المتذكرين وجزائهم
- صفات المترفين وجزائهم
- صفات المتصدقين وجزائهم
- صفات المتقين وجزائهم
- صفات المتكبرين وجزائهم
- صفات المتوكلين على الله وجزائهم
- صفات المرتدين وجزائهم
- صفات المجاهدين في سبيل الله وجزائهم
- صفات المجرمين وجزائهم
- صفات المحسنين وجزائهم
- صفات المخبتين وجزائهم
- صفات المختلفين والمتفرقين من أهل الكتاب وجزائهم
- صفات المُخلَصين وجزائهم
- صفات المستقيمين وجزائهم
- صفات المستكبرين وجزائهم
- صفات المستهزئين بآيات الله وجزائهم
- صفات المستهزئين بالدين وجزائهم
- صفات المسرفين وجزائهم
- صفات المسلمين وجزائهم
- صفات المشركين وجزائهم
- صفات المصَدِّقين وجزائهم
- صفات المصلحين وجزائهم
- صفات المصلين وجزائهم
- صفات المضعفين وجزائهم
- صفات المطففين للكيل والميزان وجزائهم
- صفات المعتدين وجزائهم
- صفات المعتدين على الكعبة وجزائهم
- صفات المعرضين وجزائهم
- صفات المغضوب عليهم وجزائهم
- صفات المُفترين وجزائهم
- صفات المفسدين إجتماعياَ وجزائهم
- صفات المفسدين دينيًا وجزائهم
- صفات المفلحين وجزائهم
- صفات المقاتلين في سبيل الله وجزائهم
- صفات المقربين الى الله تعالى وجزائهم
- صفات المقسطين وجزائهم
- صفات المقلدين وجزائهم
- صفات الملحدين وجزائهم
- صفات الملحدين في آياته
- صفات الملعونين وجزائهم
- صفات المنافقين ومثلهم ومواقفهم وجزائهم
- صفات المهتدين وجزائهم
- صفات ناقضي العهود وجزائهم
- صفات النصارى
- صفات اليهود و النصارى
- آيات الرسول محمد (ص) والقرآن الكريم
- آيات المحاورات المختلفة - الأمثال - التشبيهات والمقارنة بين الأضداد
- نهج البلاغة
- تصنيف نهج البلاغة
- دراسات حول نهج البلاغة
- الصحيفة السجادية
- تصنيف الصحيفة السجادية
- تصنيف الصحيفة بالموضوعات
- الباب السابع : باب الاخلاق
- الباب الثامن : باب الطاعات
- الباب التاسع: باب الذكر والدعاء
- الباب العاشر: باب السياسة
- الباب الحادي عشر:باب الإقتصاد
- الباب الثاني عشر: باب الإنسان
- الباب الثالث عشر: باب الكون
- الباب الرابع عشر: باب الإجتماع
- الباب الخامس عشر: باب العلم
- الباب السادس عشر: باب الزمن
- الباب السابع عشر: باب التاريخ
- الباب الثامن عشر: باب الصحة
- الباب التاسع عشر: باب العسكرية
- الباب الاول : باب التوحيد
- الباب الثاني : باب النبوة
- الباب الثالث : باب الإمامة
- الباب الرابع : باب المعاد
- الباب الخامس: باب الإسلام
- الباب السادس : باب الملائكة
- تصنيف الصحيفة بالموضوعات
- أسماء الله الحسنى
- أعلام الهداية
- النبي محمد (صلى الله عليه وآله)
- الإمام علي بن أبي طالب (عليه السَّلام)
- السيدة فاطمة الزهراء (عليها السَّلام)
- الإمام الحسن بن علي (عليه السَّلام)
- الإمام الحسين بن علي (عليه السَّلام)
- لإمام علي بن الحسين (عليه السَّلام)
- الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السَّلام)
- الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السَّلام)
- الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السَّلام)
- الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السَّلام)
- الإمام محمد بن علي الجواد (عليه السَّلام)
- الإمام علي بن محمد الهادي (عليه السَّلام)
- الإمام الحسن بن علي العسكري (عليه السَّلام)
- الإمام محمد بن الحسن المهدي (عجَّل الله فرَجَه)
- تاريخ وسيرة
- "تحميل كتب بصيغة "بي دي أف
- تحميل كتب حول الأخلاق
- تحميل كتب حول الشيعة
- تحميل كتب حول الثقافة
- تحميل كتب الشهيد آية الله مطهري
- تحميل كتب التصنيف
- تحميل كتب التفسير
- تحميل كتب حول نهج البلاغة
- تحميل كتب حول الأسرة
- تحميل الصحيفة السجادية وتصنيفه
- تحميل كتب حول العقيدة
- قصص الأنبياء ، وقصص تربويَّة
- تحميل كتب السيرة النبوية والأئمة عليهم السلام
- تحميل كتب غلم الفقه والحديث
- تحميل كتب الوهابية وابن تيمية
- تحميل كتب حول التاريخ الإسلامي
- تحميل كتب أدب الطف
- تحميل كتب المجالس الحسينية
- تحميل كتب الركب الحسيني
- تحميل كتب دراسات وعلوم فرآنية
- تحميل كتب متنوعة
- تحميل كتب حول اليهود واليهودية والصهيونية
- المحقق جعفر السبحاني
- تحميل كتب اللغة العربية
- الفرقان في تفسير القرآن -الدكتور محمد الصادقي
- وقعة الجمل صفين والنهروان
الجزءالسادس
باب المختار من الخطب والأوامر - ابن ابي الحديد
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الحمد
لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله الطاهرين. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن كلام له في معنى الأنصار
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل ومن:
قالوا: لما انتهت إلى أمير المؤمنين عليه السلام أنباء
السقيفة بعد وفاة رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم، قال عليه السلام: ما
قالت الأنصار؛ قالوا: قالت: منا أمير
ومنكم أمير، قال رضي الله عنه: فهلا احتججتم عليهم بأن رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم وصى
بأن يحسن إلى محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم! قالوا: وما في هذا من الحجة عليهم؛ فقال عليه
السلام: لو كانت
الإمامة فيهم لم تكن الوصية بهم. ثم قال عليه السلام:
فماذا قالت قريش؛ قالوا: احتجت بأنها شجرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ! فقال رضي
الله عنه: احتجوا بالشجرة، وأضاعوا الثمرة! الشرح: قد ذكرنا فيما تقدم طرفاً من أخبار السقيفة؛ فأما هذا الخبر الوارد في الوصية بالأنصار؛ فهو خبر صحيح، أخرجه الشيخان محمد بن إسماعيل البخاري ومسلم بن الحجاج القشيري في مسنديهما، عن أنس بن مالك، قال: مر أبو بكر والعباس رضي الله
تعالى عنهما بمجلس من الأنصار، في مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يبكون،
فقالا: ما يبكيكم؛ قالوا: ذكرنا محاسن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فدخلا على النبي صلى
الله عليه وسلم وأخبراه بذلك؛
فخرج صلى الله عليه وسلم وقد
عصب على رأسه حاشية بردة، فصعد المنبر- ولم يصعده
بعد ذلك اليوم- فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أوصيكم بالأنصار، فإنهم
كرشي وعيبتي، وقد قضوا الذي عليهم؛ وبقي الذي لهم، فأقبلوا من محسنهم، وتجاوزوا
عن مسيئهم". |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
خبر السقيفة
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ونحن نذكر خبر السقيفة؛
روى أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري في كتاب
"السقيفة" قال: أخبرني أحمد بن
إسحاق، قال: حدثنا أحمد بن سيار، قال: حدثنا سعيد بن كثير بن عفير الأنصاري
أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قبض،
اجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة، فقالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد
قبض، فقال سعد بن عبادة لابنه قيس- أو لبعض بنيه:
إني لا أستطيع أن أسمع الناس كلامي لمرضي؛ ولكن تلق مني قولي فأسمعهم. فكان سعد يتكلم، ويستمع ابنه ويرفع به صوته
ليسمع قومه؛ فكان من قوله بعد حمد الله والثناء عليه أن قال:
إن لكم سابقة إلى الدين، وفضيلة في الإسلام ليست لقبيلة من العرب. إن رسول الله صلى
الله عليه وسلم لبث في قومه
بضع عشرة سنة، يدعوهم إلى عبادة الرحمن، وخلع الأوثان؛ فما آمن به من قومه إلا
قليل، والله ما كانوا يقدرون أن يمنعوا رسول الله، ولا يعزوا دينه، ولا يدفعوا
عنه عداه؛ حتى أراد الله بكم خير الفضيلة، وساق إليكم الكرامة، وخصكم بدينه،
ورزقكم الإيمان به وبرسوله، والإعزاز لدينه، والجهاد لأعدائه؛ فكنتم أشد الناس
على من تخلف عنه منكم، وأثقله على عدوه من غيركم؛ حتى استقاموا لأمر الله طوعاً
وكرهاً، وأعطى البعيد المقادة صاغراً داخراً، حتى أنجز الله لنبيكم الوعد، ودانت
لأسيافكم العرب. ثم توفاه الله تعالى وهو عنكم راض؛ وبكم قرير عين؛
فشدوا يديكم بهذا الأمر، فإنكم أحق الناس وأولاهم به. نوليك هذا
الأمر، فأنت لنا مقنع، ولصالح المؤمنين رضاً. وأتى الخبر عمر، فأتى
منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجد أبا بكر في الدار وعلياً في جهاز رسول الله صلى الله عليه وسلم- وكان الذي أتاه بالخبر معن بن عدي-
فأخذ بيد عمر، وقال: قم، فقال عمر:
إني عنك مشغول، فقال: إنه لا بد من قيام، فقام معه، فقال
له: إن هذا الحي من الأنصار قد اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة، معهم سعد بن عبادة، يدورون حوله، ويقولون: أنت المرجى، ونجلك المرجى. وثم أناس من أشرافهم، وقد خشيت الفتنة، فانظر يا عمر ماذا ترى! واذكر لإخوتك من
المهاجرين، واختاروا لأنفسكم، فإني أنظر إلى باب فتنة قد فتح الساعة إلا أن
يغلقه الله. ففزع عمر أشد الفزع، حتى أتى أبا
بكر، فأخذ بيده، فقال: قم، فقال أبو بكر: إني عنك مشغول. فقال عمر: لا بد من
قيام؛ وسنرجع إن شاء الله. فتشهد أبو بكر، ثم قال: إن
الله جل ثناؤه بعث محمداً بالهدى ودين الحق، فدعا إلى الإسلام، فأخذ الله
بقلوبنا ونواصينا إلى ما دعانا إليه، وكنا -
معاشر المسلمين المهاجرين- أول
الناس إسلاماً، والناس لنا في ذلك تبع؛ ونحن عشيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأوسط العرب
أنساباً، ليس من قبائل العرب إلا ولقريش فيها ولادة؛ وأنتم
أنصار الله، وأنتم نصرتم رسول الله صلى
الله عليه وسلم، ثم أنتم وزراء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإخواننا في
كتاب الله وشركاؤنا في الدين؛ وفيما كنا فيه من خير؛ فأنتم أحم! الناس إلينا،
وأكرمهم علينا، وأحق الناس بالرضا بقضاء الله، والتسليم لما ساق الله إلى إخوانكم
من المهاجرين، وأحق الناس ألا تحسدوهم، فأنتم المؤثرون على أنفسهم حين الخصاصة،
وأحق الناس ألا يكون انتقاض هذا الدين واختلاطه على أيديكم، وأنا أدعوكم إلى أبي عبيدة وعمر؛ فكلاهما قد رضيت لهذا
الأمر، وكلاهما أراه له أهلاً. فقال عمر: هيهات! لا يجتمع سيفان في غمد؛ إن العرب لا ترضى أن تؤمركم
ونبيها من غيركم، وليس تمتنع العرب أن تولي أمرها من كانت النبوة فيهم؛ وأولو
الأمر منهم، لنا بذلك الحجة الظاهرة على من خالفنا، والسلطان المبين على من
نازعنا، من ذا يخاصمنا في سلطان محمد وميراثه؛ ونحن أولياؤه وعشيرته، إلا مدل
بباطل، أو متجانف لإثم، أو متورط في هلكة! فقام
الحباب، وقال: يا معشر الأنصار، لا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه، فيذهبوا
بنصيبكم من الأمر، فإن أبوا عليكم ما أعطيتموهم فأجلوهم عن بلادكم، وتولوا هذا
الأمر عليهم، فأنتم أولى الناس بهذا الأمر، إنه دان لهذا الأمر بأسيافكم من لم
يكن يدين له. أنا جذيلها المحكك، وعذيقها المرجب،
إن شئتم لنعيدنها جذعة، والله لا يرد أحد علي ما أقول إلا حطمت أنفه بالسيف. أبسط يدك نبايعك. فلما بسط يده،
وذهبا يبايعانه، سبقهما بشير بن سعد،
فبايعه، فناداه الحباب بن المنذر: يا
بشير، عقك عقاق؛ والله ما اضطرك إلى هذا الأمر إلا
الحسد لابن عمك. بايع، فقال:
أنا أحق بهذا الأمر منكم، لا أبايعكم وأنتم أولى بالبيعة لي، أخذتم هذا الأمر من
الأنصار، واحتججتم عليهم بالقرابة من رسول الله، فأعطوكم المقادة، وسلموا إليكم
الإمارة، وأنا أحتج عليكم بمثل ما احتججتم به على
الأنصار. فأنصفونا إن كنتم تخافون الله من
أنفسكم، واعرفوا لنا من الأمر مثل ما عرفت الأنصار لكم، وإلا فبوءوا بالظلم وأنتم تعلمون. فقال له علي: احلب يا عمر حلباً لك شطره! اشدد له اليوم أمره ليرد عليك غداً! ألا والله لا
أقبل قولك ولا أبايعه. فقال له أبو بكر:
فإن لم تبايعني لم أكرهك، فقال له أبو عبيدة:
يا أبا الحسن، إنك حديث السن، وهؤلاء مشيخة قريش قومك، ليس
لك مثل تجربتهم ومعرفتهم بالأمور، ولا أرى أبا بكر إلا أقوى على هذا
الأمر منك، وأشد احتمالاً له؛ واضطلاعاً به، فسلم له هذا الأمر وارض به، فإنك إن تعش ويطل عمرك فأنت لهذا الأمر خليق وبه حقيق؛
في فضلك وقرابتك، وسابقتك وجهادك. أما
كان منا القارئ لكتاب الله، الفقيه في دين الله، العالم بالسنة، المضطلع بأمر
الرعية! والله إنه لفينا، فلا تتبعوا الهوى،
فتزدادوا من الحق بعداً. فقال بشير بن
سعد: لو كان هذا الكلام سمعته منك الأنصار يا علي قبل بيعتهم لأبي بكر،
ما اختلف عليك اثنان، ولكنهم قد بايعوا وانصرف علي
إلى منزله، ولم يبايع، ولزم بيته حتى ماتت فاطمة فبايع.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قصيدة أبي القاسم المغربي وتعصبه للأنصار على قريش
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وحدثني أبو جعفر يحيى بن محمد بن زيد العلوي نقيب البصرة، قال: لما قدم أبو
القاسم علي بن الحسين المغربي من مصر إلى بغداد، استكتبه شرف الدولة أبو علي بن بويه، وهو يومئذ سلطان الحضرة، وأمير الأمراء بها،
والقادر خليفة، ففسدت الحال بينه وبين القادر؛ واتفق
لأبي القاسم المغربي أعداء سوء أوحشوا القادر منه،- وأوهموه أنه مع شرف
الدولة في القبض عليه وخلعه من الخلافة،
فأطلق لسانه في ذكره بالقبيح. وأوصل
القول فيه، والشكوى منه، ونسبه إلى الرفض وسب
السلف، وإلى كفران النعمة، وأنه هرب من يد الحاكم صاحب مصر بعد إحسانه
إليه.
فهذه الأبيات، هي نظيف القصيدة، التقطناها وحذفنا الفاحش،
وفي الملتقط المذكور أيضاً ما لا يجوز، وهو قوله: "نحن
الذين بنا استجار"، وقوله: "ألقى بها بيد"، وقوله: "فنجا
بمهجته... " البيت. وقوله عن أبي بكر: عبد تيم، وقوله: لولا
علي لقلت في الأربعة إنهم إستار لؤم، وذكره الثلاثة
رضي الله عنهم بما
ذكرهم ونسبهم إليه. وقوله:
"إن علياً كالنبي في الفضيلة"، وقوله:
"إن النبوة حظ أعطيه وحرمه علي رضي الله عنه". |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
المهاجرون والأنصار بعد بيعة أبي بكر
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وروى
الزبير بن بكار في الموفقيات قال:
لما بايع بشير بن سعد أبا بكر، وازدحم الناس
على أبي بكر فبايعوه، مر أبو سفيان بن حرب بالبيت
الذي فيه علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فوقف وأنشد:
فقال علي لأبي سفيان: إنك تريد أمراً لسنا من أصحابه، وقد عهد إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم عهدا
فأنا عليه؛ فتركه
أبو سفيان وعدل إلى العباس بن عبد المطلب في
منزله، فقال: يا أبا الفضل، أنت أحق بميراث ابن أخيك، امدد يدك لأبايعك،
فلا يختلف عليك الناس بعد بيعتي إياك. فضحك العباس،
وقال: يا أبا سفيان، يدفعها علي ويطلبها
العباس! فرجع أبو سفيان خائباً. وأما الأوس فتكره أيضاً أن ينسب أسيد
إلى أنه أول من نقض أمر سعد بن عبادة، كي لا
يرموه بالحسد للخزرج؛ لأن سعد بن عبادة خزرجي،
فيحيلون بانتقاض أمره على قبيلته-
وهم الخزرج- ويقولون:
إن أول من بايع أبا بكر ونقض دعوة سعد بن عبادة بشير
بن سعد. وكان بشير أعور. وعويم بن ساعدة، هو القائل لما نصب الأنصار سعداً:
يا معشر الخزرج؛ إن كان هذا الأمر فيكم دون
قريش فعرفونا ذلك وبرهنوا حتى نبايعكم عليه؛ وإن
كان لهم دونكم، فسلموا إليهم؛ فوالله ما هلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عرفنا أن أبا بكر خليفة حين أمره أن يصلي بالناس؛ فشتمه الأنصار وأخرجوه؛ فانطلق مسرعاً حتى التحق بأبي بكر، فشحذ عزمه على طلب الخلافة. ذكر هذا بعينه الزبير بن بكار في الموفقيات. قال الزبير بن بكار: فلما بويع أبو بكر، أقبلت الجماعة التي بايعته تزفه زفاً
إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما كان آخر النهار، افترقوا إلى منازلهم، فاجتمع قوم من
الأنصار وقوم من المهاجرين، فتعاتبوا فيما بينهم، فقال
عبد الرحمن بن عوف: يا معشر الأنصار، إنكم وإن كنتم أولي فضل ونصر
وسابقة؛ ولكن ليس فيكم مثل أبي بكر ولا عمر ولا علي
ولا أبي عبيدة، فقال زيد بن أرقم:
إنا لا ننكر فضل من ذكرت يا عبد الرحمن؛ وإن منا
لسيد الأنصار سعد بن عبادة، ومن أمر الله رسوله أن يقرئه السلام، وأن
يأخذ عنه القرآن أبي بن كعب، ومن يجيء يوم القيامة إمام العلماء معاذ بن جبل،
ومن أمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته
بشهادة رجلين خزيمة بن ثابت؛ وإنا لنعلم أن ممن
سميت من قريش من لو طلب هذا الأمر لم ينازعه فيه أحد؛ علي بن أبي طالب. قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.
وروى الزبير بن بكار، قال: روى محمد بن إسحاق أن
أبا بكر لما بويع افتخرت تيم بن مرة- قال: وكان عامة
المهاجرين وجل الأنصار لا يشكون أن علياً هو صاحب الأمر بعد رسول الله، صلى الله عليه وسلم فقال الفضل بن العباس: يا معشر
قريش، وخصوصاً يا بني تيم، إنكم إنما أخذتم الخلافة بالنبوة، ونحن أهلها دونكم،
ولو طلبنا هذا الأمر الذي نحن أهله لكانت كراهة الناس لنا أعظم من كراهتهم
لغيرنا؛ حسداً منهم لنا، وحقداً علينا، وإنا لنعلم أن عند صاحبنا عهدا هو ينتهي
إليه.
قال الزبير: فبعث إليه علي
فنهاه وأمره ألا يعود، وقال: سلامة الدين
أحب إلينا من غيره. قال الزبير: وكان
خالد بن الوليد شيعة لأبي بكر، ومن
المنحرفين عن علي، فقام خطيباً، فقال: أيها
الناس، إنا رمينا في بدء هذا الدين بأمر ثقل علينا- والله- محمله، وصعب علينا
مرتقاه؛ وكنا كأنا فيه على أوتار؛ ثم والله ما لبثنا أن خف علينا ثقله، وذل لنا
صعبه، وعجبنا ممن شك فيه بعد عجبنا ممن آمن به، حتى أمرنا بما كنا ننهى عنه،
ونهينا عما كنا نأمر به؛ ولا والله ما سبقنا إليه بالعقول؛ ولكنه التوفيق. ألا وإن الوحي لم ينقطع حتى أحكم؛ ولم يذهب
النبي صلى الله عليه وسلم فنستبدل
بعده نبياً؛ ولا بعد الوحي وحياً؛ ونحن اليوم أكثر منا أمس، ونحن أمس خير منا
اليوم؛ من دخل في هذا الدين كان ثوابه على حسب عمله، ومن تركه رددناه إليه، وإنه
والله ما صاحب الأمر- يعني أبا بكر- بالمسؤول
عنه، ولا المختلف فيه، ولا الخفي الشخص، ولا المغموز القناة.
قال الزبير: وحدثنا محمد بن موسى الأنصاري المعروف بابن مخرمة، قال: حدثني
إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، قال: لما بويع
أبو بكر واستقر أمره، ندم قوم كثير من
الأنصار على بيعته، ولام بعضهم بعضاً، وذكروا علي بن أبي طالب، وهتفوا باسمه؛ وإنه في داره لم يخرج إليهم، وجزع
لذلك المهاجرون، وكثر في ذلك الكلام. ثم قام عكرمة بن أبي جهل، فقال: والله لولا قول رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "الأئمة من قريش"،
ما أنكرنا إمرة الأنصار، ولكانوا لها أهلاً، ولكنه قول لا شك فيه ولا خيار، وقد
عجلت الأنصار علينا، والله ما قبضنا عليهم الأمر ولا أخرجناهم من الشورى؛ وإن الذي هم فيه من فلتات الأمور ونزعات الشيطان، وما لا
يبلغه المنى، ولا يحمله الأمل. أعذروا إلى القوم، فإن أبوا فقاتلوهم؛ فوالله لو لم يبق من قريش كلها إلا
رجل واحد لصير الله هذا الأمر فيه. قال: وحضر أبو
سفيان بن حرب، فقال: يا معشر قريش، إنه ليس للأنصار أن يتفضلوا على الناس
حتى يقروا بفضلنا عليهم، فإن تفضلوا فحسبنا حيث انتهى بنا، وإلا فحسبهم حيث
انتهى بهم. وايم الله لئن
بطروا المعيشة، وكفروا النعمة، لنضربنهم على الإسلام كما ضربوا عليه،
فأما علي بن أبي طالب فأهل والله أن يسود
على قريش، وتطيعه الأنصار.
فبلغ
شعر حسان قريشاً، فغضبوا وأمروا ابن أبي عزة شاعرهم أن يجيبه، فقال:
قال الزبير:
لما اجتمع جمهور لأبي بكر أكرمت قريش معن بن عدي
وعويم بن ساعدة؛ وكان لهما فضل قديم في الإسلام؛ فاجتمعت الأنصار لهما في
مجلس ودعوهما، فلما أحضرا أقبلت الأنصار عليهما
فعيروهما بانطلاقهما إلى المهاجرين، وأكبروا فعلهما في ذلك؛ فتكلم معن، فقال: يا معشر الأنصار. إن الذي أراد
الله بكم خير مما أردتم بأنفسكم، وقد كان منكم أمر عظيم البلاء، وصغرته
العاقبة؛ فلو كان لكم على قريش ما لقريش عليكم، ثم أردتموهم لما أرادوكم به لم
آمن عليهم منكم مثل ما آمن عليكم منهم؛ فإن تعرفوا
الخطأ فقد خرجتم منه وإلا فأنتم فيه. قلت: قوله: "وقد كان منكم أمر عظيم البلاء، وصغرته
العاقبة"
يعني عاقبة الكف والإمساك، يقول: قد كان
منكم أمر عظيم؛ وهو دعوى الخلافة لأنفسكم، وإنما جعل البلاء معظماً له، لأنه لو
لم يتعقبه الإمساك؛ لأحدث فتنة عظيمة؛ وإنما صغره سكونهم ورجوعهم إلى بيعة
المهاجرين. قال الزبير: ثم تكلم عويم بن ساعدة، فقال: يا معشر الأنصار؛ إن من نعم الله عليكم أنه تعالى لم يرد
بكم ما أردتم بأنفسكم، فاحمدوا الله على حسن البلاء، وطول العافية، وصرف هذه
البلية عنكم، وقد نظرت في أول فتنتكم وآخرها فوجدتها جاءت من الأماني والحسد؛ واحذروا
النقم؛ فوددت أن الله صير إليكم هذا الأمر بحقه فكنا نعيش فيه. فقال معن في ذلك:
وقال
غويم بن ساعدة في ذلك:
قال فروة بن عمر- وكان ممن تخلف عن بيعة أبي بكر، وكان ممن جاهد
مع رسول الله، وقاد فرسين في سبيل الله؛ وكان يتصدق من نخله بألف وسق في كل عام؛
وكان سيداً؛ وهو من أصحاب علي؛ وممن شهد معه يوم الجمل. قال:
فذكر معنا وعويماً، وعاتبهما على قولهما: خلفنا وراءنا قوما قد حلت دماؤهم
بفتنتهم:
قال الزبير: ثم
إن الأنصار أصلحوا بين هذين الرجلين وبين أصحابهما؛ ثم اجتمعت جماعة من قريش
يوماً وفيهم ناس من الأنصار وأخلاط من المهاجرين؛ وذلك بعد انصراف الأنصار عن
رأيها وسكون الفتنة؛ فاتفق ذلك عند قدوم عمرو بن
العاص من سفر كان فيه، فجاء إليهم، فأفاضوا في ذكر يوم السقيفة وسعد
ودعواه الأمر، فقال عمرو بن العاص: والله لقد دفع الله عنا من الأنصار عظيمة، ولما
دفع الله عنهم أعظم، كادوا والله أن يحلوا حبل الإسلام كما قاتلوا عليه، ويخرجوا
منه من أدخلوا فيه، والله لئن كانوا سمعوا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الأئمة من قريش"، ثم ادعوها لقد هلكوا وأهلكوا، وإن
كانوا لم يسمعوها فما هم كالمهاجرين، ولا سعد كأبي بكر، ولا المدينة كمكة، ولقد قاتلونا أمس فغلبونا على البدء، ولو قاتلناهم اليوم
لغلبناهم على العاقبة؛ فلم يجبه أحد، وانصرف
إلى منزله وقد ظفر، فقال:
فلما بلغ الأنصار مقالته وشعره، بعثوا إليه لسانهم وشاعرهم النعمان
بن العجلان- وكان رجلاً أحمر قصيراً، تزدريه العيون، وكان سيداً فخماً- فأتى عمراً وهو في جماعة من قريش، فقال: والله يا عمرو ما كرهتم من حربنا إلا ما كرهنا من حربكم،
وما كان الله ليخرجكم من الإسلام بمن أدخلكم فيه؛ إن كان النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الأئمة من
قريش"، فقد قال: "لو سلك الناس
شعباً، وسلك الأنصار شعباً، لسلكت شعب الأنصار"، والله ما أخرجناكم
من الأمر إذ قلنا: منا أمير ومنكم أمير، وأما
من ذكرت، فأبو بكر لعمري خير من سعد، لكن سعداً في
الأنصار أطوع من أبي بكر في قريش، فأما المهاجرون والأنصار، فلا فرق
بينهم أبداً، ولكنك يابن العاص، وترت بني عبد مناف
بمسيرك إلى الحبشة لقتل جعفر وأصحابه، ووترت بني مخزوم بإهلاك عمارة بن الوليد. ثم انصرف فقال:
فلما انتهى شعر النعمان وكلامه إلى قريش، غضب كثير منها، وألفى ذلك قدوم خالد بن سعيد بن العاص من اليمن وكان رسول الله
استعمله عليها، وكان له ولأخيه أثر قديم عظيم في
الإسلام؛ وهما من أول من أسلم من قريش؛
ولهما عبادة وفضل. فغضب للأنصار، وشتم عمرو بن العاص، وقال: يا معشر قريش؛ إن عمراً دخل في
الإسلام حين لم يجد بداً من الدخول فيه، فلما لم
يستطع أن يكيده بيده كاده بلسانه، وإن من كيده الإسلام تفريقه وقطعه بين
المهاجرين والأنصار. والله ما حاربناهم للدين ولا للدنيا؛ لقد بذلوا دماءهم لله تعالى فينا بم
وما بذلنا دماءنا لله فيهم، وقاسمونا ديارهم
وأموالهم، وما فعلنا مثل ذلك بهم، وآثرونا على الفقر، وحرمناهم على الغنى، ولقد
وصى رسول الله بهم، وعزاهم عن جفوة السلطان، فأعوذ
بالله أن أكون وإياكم الخلف المضيع، والسلطان الجاني!. قال معاوية:
فإذا قال لكم؛ قالوا: قال لنا: "فاصبروا حتى
تردوا علي الحوض"، قال: فافعلوا ما
أمركم به عساكم تلاقونه غداً عند الحوض كما أخبركم؛ وحرمهم ولم يعطهم شيئاً.
قال الزبير: ثم إن رجالاً من سفهاء قريش ومثيري الفتن منهم، اجتمعوا إلى
عمرو بن العاص، فقالوا له:
إنك لسان قريش ورجلها في الجاهلية والإسلام، فلا
تدع الأنصار وما قالت؛ وأكثروا عليه من ذلك، فراح إلى المسجد، وفيه ناس
من قريش وغيرهم، فتكلم وقال: إن الأنصار ترى
لنفسها ما ليس لها، وايم الله لوددت أن الله خلى عنا وعنهم، وقضى فيهم وفينا بما
أحب، ولنحن الذين أفسدنا على أنفسنا أحرزناهم عن كل مكروه، وقدمناهم إلى كل
محبوب؛ حتى أمنوا المخوف؛ فلما جاز لهم ذلك صغروا حقنا، ولم يراعوا ما أعظمنا من
حقوقهم. ثم رجع الفضل إلى علي فحدثه. فغضب وشتم عمراً. وقال: آذى الله ورسوله؛ ثم قام فأتى
المسجد، فاجتمع إليه كثير من قريش وتكلم مغضباً، فقال: يا معشر قريش، إن
حب الأنصار إيمان، وبغضهم نفاق، وقد قضوا ما عليهم، وبقي ما عليكم؛ واذكروا أن
الله رغب لنبيكم عن مكة، فنقله إلى المدينة. وكره له قريشاً؛ فنقله إلى الأنصار،
ثم قدمنا عليهم دارهم، فقاسمونا الأموال، وكفونا العمل، فصرنا منهم بين بذل
الغني وإيثار الفقير، ثم حاربنا الناس فوقونا بأنفسهم؛ وقد
أنزل الله تعالى فيهم آية من القرآن، جمع لهم فيها بين خمس نعم، فقال: "والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من
هاجر إليهم ولا يجذون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم
خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون" ألا وإن عمرو بن العاص قد قام مقاماً آذى فيه الميت والحي، ساء به
الواتر وسر به الموتور؛ فاستحق من المستمع الجواب، ومن الغائب المقت؛ وإنه من
أحب الله ورسوله أحب الأنصار، فليكفف عمرو عنا نفسه.
قال الزبير: وقال
علي للفضل: يا فضل، انصر الأنصار بلسانك
ويدك، فإنهم منك وإنك منهم، فقال الفضل:
ودخل الفضل على علي فأسمعه شعره، ففرح به، وقال وريت بك زنادي يا
فضل، أنت شاعر قريش وفتاها، فأظهر
شعرك وابعث به إلى الأنصار؛ فلما بلغ ذلك الأنصار، قالت:
لا أحد يجيب إلا حسان الحسام؛ فبعثوا إلى حسان
بن ثابت فعرضوا عليه شعر الفضل، فقال: كيف أصنع بجوابه؟ إن لم أتحر قوافيه فضحني، فرويدا حتى أقفو أثره في القوافي؛ فقال له خزيمة بن ثابت: اذكر علياً وآله يكفك عن
كل شيء، فقال:
قال الزبير:
وبعثت الأنصار بهذا الشعر إلى علي بن أبي طالب، فخرج
إلى المسجد، وقال لمن به من قريش وغيرهم. يا معشر قريش، إن الله جعل
الأنصار أنصاراً، فأثنى عليهم في الكتاب، فلا خير فيكم بعدهم؛ إنه لا يزال سفيه من سفهاء قريش وتره الإسلام، ودفعه عن
الحق، وأطفأ شرفه وفضل غيره عليه؛ يقوم مقاماً فاحشاً فيذكر الأنصار، فاتقوا
الله وارعوا حقهم، فوالله لو زالوا لزلت معهم؛ لأن رسول الله قال لهم:
"أزول معكم حيثما زلتم"؛ فقال المسلمون
جميعاً: رحمك الله يا أبا الحسن! قلت قولاً صادقاً. قال الزبير:
وترك عمرو بن العاص المدينة، وخرج عنها حتى رضي عنه علي والمهاجرون. قال الزبير: ثم
إن الوليد بن عقبة بن أبي معيط - وكان يبغض
الأنصار، لأنهم أسروا أباه يوم بدر، وضربوا عنقه بين يدي رسول الله- قام
يشتم الأنصار، وذكرهم بالهجر ، فقال: إن
الأنصار لترى لها من الحق علينا ما لا نراه، والله لئن كانوا آووا لقد عزوا بنا،
ولئن كانوا آسوا لقد منوا علينا، والله ما نستطيع مودتهم؛ لأنه لا يزال قائل
منهم يذكر ذلنا بمكة، وعزنا بالمدينة، ولا ينفكون يعيرون موتانا، ويغيظون
أحياءنا، فإن أجبناهم قالوا: غضبت قريش على
غاربها، ولكن قد هون علي ذلك منهم حرصهم على الدين أمس، واعتذارهم من الذنب
اليوم، ثم قال:
قال: ففشا شعره في الناس، فغضبت الأنصار، وغضب لها من قريش قوم،
منهم ضرار بن الخطاب الفهري، وزيد بن
الخطاب، ويزيد بن أبي سفيان، فبعثوا إلى الوليد فجاء. فتكلم
زيد بن الخطاب، فقال: يابن عقبة بن أبي معيط، أما
والله لو كنت من الفقراء المهاجرين الذين اخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون
فضلاً من الله ورضوانا، لأحببت الأنصار، ولكنك من الجفاة في الإسلام البطاء عنه،
الذين دخلوا فيه بعد أن ظهر أمر الله وهم كارهون؛ إنا نعلم أنا أتيناهم
ونحن فقراء، فأغنونا، ثم أصبنا الغنى فكفوا عنا. ولم يرزئونا شيئاً. فأما ذكرهم ذلة قريش بمكة وعزها بالمدينة، فكذلك كنا، وكذلك قال
الله تعالى: "وأذكروا إذ انتم قليل
مستضعفون في الأرض تخافون ان يتخطفكم الناس"، فنصرنا الله تعالى
بهم، وآوانا إلى مدينتهم. وأما
ذكرك الذي كان بالأمس، فدع المهاجرين والأنصار؛
فإنك لست من ألسنتهم في الرضا، ولا نحن من أيديهم في الغضب. فلم يجبه أحد من قريش، ثم سكت كل من الفريقين عن صاحبه، ورضي
القوم أجمعون، وقطعوا الخلاف والعصبية. قال أبو بكر: حدثني
أبو يوسف يعقوب بن شيبة، عن بحر بن آدم عن رجاله، عن سالم بن عبيد، قال: لما توفي رسول الله وقالت الأنصار: منا أمير
ومنكم أمير؛ أخذ عمر بيد أبي بكر، وقال سيفان في
غمد واحد! إذا لا يصلحان. ثم قال: من له هذه
الثلاث: "ثاني اثنين إذ هما في الغار"
من هما؟ "إذ يقول لصاحبه لا تحزن"، من صاحبه؟ "إن الله
معنا" مع من؟ ثم بسط يده إلى أبي بكر فبايعه،
فبايعه الناس أحسن بيعة، وأجملها. فقال عمر: قتل
الله سعداً فوثب رجل من الأنصار، فقال: أنا
جذيلها المحكك وعذيقها المرجب. فأخذ ووطئ في بطنه
ودسوا في فيه التراب. أما والله لئن شئت لأملأنها على أبي
فصيل خيلاً ورجلاً؛ ولأسدنها عليه من أقطارها، فقال علي: يا أبا سفيان، طالما كدت الإسلام وأهله، فما
ضرهم شيئاً، أمسك عليك؛ فإنا رأينا أبا بكر لها أهلاً. قال أبو بكر: وحدثنا
أبو يوسف يعقوب بن شيبة، عن خالد بن مخلد، عن يحيى بن عمر، قال: حدثني أبو جعفر
الباقر، قال جاء أعرابي إلى أبي بكر على عهد
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال له: أوصني، فقال: لا تتأمر على اثنين. ثم
إن الأعرابي شخص إلى االربذة، فبلغه بعد ذلك وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأل عن أمر
الناس: من وليه؛ فقيل: أبو بكر؛ فقدم الأعرابي إلى
المدينة، فقال لأبي بكر: ألست أمرتني ألا أتأمر على اثنين؛ قال: بلى،
قال: فما بالك؛ فقال أبو بكر: لم أجد لها
أحداً غيري أحق مني. إني قد صحبتك وإن لي عليك حقاً. فعلمني شيئاً أنتفع
به؛ فقال: قد كنت أريد ذلك لو لم تقل لي:
تعبد الله لا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة،
وتحج البيت، وتصوم شهر رمضان، ولا تتأمر على رجلين، فقلت:
أما العبادات فقد عرفتها؛ أرأيت نهيك لي عن الإمارة! وهل يصيب الناس الخير والشر
إلا بالإمارة؟ فقال: إنك استجهدتني فجهدت
لك، إن الناس دخلوا في الإسلام طوعاً وكرهاً فأجارهم الله من الظلم، فهم جيران
الله وعواد الله وفي ذمة الله، فمن يظلم منكم إنما يحقر ربه، والله إن أحدكم
ليأخذ شويهة جاره أو بعيره، فيظل عمله بأساً بجاره، والله من وراء جاره، قال: فلم يلبث إلا قليلاً حتى أتتنا وفاة رسول
الله صلى الله عليه وسلم، فسألت: من استخلف بعده؛ قيل: أبو بكر، قلت أصاحبي الذي
كان ينهاني عن الإمارة! فشددت على راحلتي، فأتيت المدينة، فجعلت أطلب
خلوته، حتى قدرت عليها، فقلت أتعرفني؛ أنا فلان ابن فلان، أتعرف وصية أوصيتني بها؛ قال: نعم إن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قبض والناس حديثو عهد بالجاهلية، فخشيت أن يفتتنوا، وإن أصحابي
حملونيها، فما زال يعتذر إلي حتى عذرته، وصار من أمري بعد أن صرت عريفاً.
قال أبو بكر أحمد بن عبد العزيز: وسمعت أبا زيد عمر بن شبة يحدث رجلاً
بحديث لم أحفظ إسناده، قال: مر المغيرة بن شعبة
بأبي بكر وعمر، وهما جالسان على باب النبي حين قبض، فقال: ما يقعدكما؛
قالا: ننتظر هذا الرجل يخرج فنبايعه- يعنيان علياً- فقال: أتريدون أن تنظروا حبل الحبلة من أهل هذا البيت! وسعوها
في قريش تتسع. قال: فقاما إلى سقيفة بني ساعدة، أو كلاما هذا معناه. فلحقته فقال لي: يابن
عباس؛ ما أظن القوم منعهم من صاحبك إلا أنهم استصغروه؛ فقلت
في نفسي: هذه شر من الأولى؛ فقلت: والله ما
استصغره الله حين أمره أن يأخذ سورة براءة من أبي بكر. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
خبر أمر فاطمة مع أبي بكر وعمر
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
فأما ما رواه البخاري ومسلم في
الصحيحين من كيفية المبايعة لأبي بكر بهذا اللفظ الذي أورده عليك؛ والإسناد إلى
عائشة: أن فاطمة والعباس أتيا أبا بكر يلتمسان ميراثهما
من النبي صلى الله عليه وسلم، وهما حينئذ
يطلبان أرضه من فدك، وسهمه من خيبر، فقال لهما أبو
بكر: إني سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول: "إنا معشر
الأنبياء لا نورث؛ ما تركناه صدقة، إنما يأكل آل محمد من هذا المال"؛ لأني
والله لا أدع أمراً رأيت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يصنعه إلا
صنعته. فهجرته فاطمة ولم تكلمه في ذلك حتى ماتت. فدفنها
في ليلاً، ولم يؤذن بها أبا بكر. وكان لعلي وجه من الناس في حياة فاطمة. فلما توفيت فاطمة انصرفت وجوه الناس عن علي، فمكثت فاطمة ستة أشهر ثم توفيت- فقال رجل للزهري وهو
الراوي لهذا الخبر عن عائشة: فلم يبايعه علي
ستة أشهر! قال: ولا أحد من بني هاشم حتى بايعه
علي.
فلما رأى ذلك ضرع إلى
مبايعة أبي بكر، فأرسل إلى أبي بكر
أن ائتنا، ولا يأت معك أحد، وكره أن يأتيه عمر لما
عرف من شدته، فقال عمر: لا تأتهم وحدك، فقال أبو
بكر: والله لآتينهم وحدي، وما دمى أن يصنعوا بي! فانطلق أبو بكر حتى دخل على علي، وقد
جمع بني هاشم عنده؛ فقام علي. فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله،
ثم قال: أما بعد، فإنه لم يمنعنا أن نبايعك يا أبا بكر
إنكار لفضلك، ولا منافسة لخير ساقه الله إليك،
ولكنا كنا نرى أن لنا في هذا الأمر حقاً، فاستبددتم به علينا. وذكر
قرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم وحقه،
فلم يزل علي يذكر ذلك حتى بكى أبو بكر، فلما
صمت علي تشهد أبو بكر، فحمد الله وأثنى عليه
بما هو أهله. ثم قال:
أما بعد فوالله لقرابة رسول الله صلى
الله عليه وسلم أحب إلي أن
أصلها من قرابتي، وإني والله ما آلوكم من هذه الأموال التي كانت بيني وبينكم إلا
الخير؛ ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"لا نورث ما تركناه صدقة؛ وإنما يأكل آل محمد من هذا
المال"، وإني والله لا أترك أمراً صنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا
صنعته إن شاء الله، قال علي: موعدك العشية
للبيعة، فلما صلى أبو بكر الظهر، أقبل على الناس ثم
عذر علياً ببعض ما اعتذر به، ثم قام علي فعظم من حق أبي بكر، وذكر فضله وسابقته،
ثم مضى إلى أبي بكر فبايعه، فأقبل الناس إلى علي، فقالوا: أصبت وأحسنت، وكان علي قريباً إلى الناس حين قارب
الأمر بالمعروف. فخرج إليه الزبير مصلتاً بالسيف،
فاعتنقه زياد بن لبيد الأنصاري ورجل آخر، فندر السيف من يده، فضرب به عمر الحجر
فكسره، ثم أخرجهم بتلابيبهم يساقون سوقاً عنيفاً؛ حتى بايعوا أبا بكر. قال أبو زيد: وروى
النضر بن شميل، قال: خل سيف الزبير لما ندر من يده
إلى أبي بكر وهو على المنبر يخطب، فقال: اضربوا به الحجر، قال أبو عمرو
بن حماس: ولقد رأيت الحجر وفيه تلك الضربة، والناس
يقولون: هذا أثر ضربة سيف الزبير.
يخاطب عمر ويقول له: مهلاً ورويداً يا عمر، أي ارفق واتئد ولا تعنف بنا. وما كنت
ملياً، أي وما كنت أهلاً لأن تخاطب بهذا وتستعطف، ولا كنت قادراً على ولوج دار
فاطمة على ذلك الوجه الذي ولجتها عليه، لولا أن أباها الذي كان بيتها يحترم
ويصان لأجله مات فطمع فيها من لم يكن يطمع. ثم قال:
أتموت أمنا وهي غضبى ونرضى نحن إذا لسنا بكرام، فإن
الولد الكريم يرضى لرضا أبيه وأمه ويغضب لغضبهما. قال أبو بكر:
وأخبرنا أبو زيد عمر بن شبة، قال: حدثنا محمد بن حاتم، عن رجاله، عن ابن عباس،
قال: مر عمر بعلي، وأنا معه بفناء داره فسلم عليه، فقال له علي: أين تريد؛ قال:
البقيع، قال: أفلا تصل صاحبك، ويقوم معك؛ قال: بلى، فقال
لي علي: قم معه، فقمت فمشيت إلى جانبه، فشبك
أصابعه في أصابعي، ومشينا قليلاً، حتى إذا خلفنا البقيع
قال لي: يابن عباس، أما والله إن صاحبك هذا لأولى الناس بالأمر
بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم،
إلا أنا خفناه على اثنين؛ قال ابن عباس:
فجاء بكلام لم أجد بداً من مسألته عنه، فقلت: ما
هما يا أمير المؤمنين؛ قال: خفناه على حداثة
سنه، وحبه بني عبد المطلب. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن كلام له لما قلد محمد بن أبي بكر مصر فملكت
عليه وقتل
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: وقد
أردت تولية مصر هاشم بن عتبة، ولو وليته إياها لما خلى لهم العرصة، ولا أنهزهم
الفرصة، بلا ذم لمحمد بن أبي بكر، فلقد كان إلي
حبيباً، وكان لي ربيباً. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
محمد بن أبي بكر
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الشرح:
أم محمد بن أبي بكر أسماء بنت عميس بن النعمان بن
كعب بن مالك بن قحافة بن خثعم؛ كانت تحت جعفر بن أبي طالب، وهاجرت معه إلى الحبشة، فولدت
له هناك عبد الله بن جعفر الجواد، ثم قتل عنها يوم مؤتة، فخلف عليها أبو
بكر الصديق، فأولدها محمداً، ثم مات عنها،
فخلف عليها علي بن أبي طالب؛ وكان محمد
ربيبه وخريجه، وجارياً عنده مجرى أولاده، رضع
الولاء والتشيع مذ زمن الصبا، فنشأ عليه؛ فلم يكن يعرف له أبا غير علي،
ولا يعتقد لأحد فضيلة غيره؛ حتى قال علي رضي الله
عنه: محمد ابني من صلب أبي بكر؛ وكان يكنى
أبا القاسم في قول ابن قتيبة. وقال غيره: بل كان يكنى أبا عبد الرحمن. ومن ولد محمد:
القاسم بن محمد بن أبي بكر فقيه الحجاز وفاضلها؛ ومن
ولد القاسم: عبد الرحمن بن القاسم بن محمد؛ كان من فضلاء قريش ويكنى أبا
محمد، ومن ولد القاسم أيضاً أم فروة، تزوجها
الباقر أبو جعفر محمد بن علي، فأولدها الصادق أبا عبد
الله جعفر بن محمد رضي الله عنه؛ وإلى أم فروة أشار
الرضي أبو الحسن بقوله:
قوله:
ولولا علي ما علوا سرواتها.. البيت.
والبيت
المنظور إليه منها قوله:
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
نسب هاشم بن عتبة بن أبي وقاص
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وأما
هاشم بن عتبة بن أبي وقاص مالك بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن
كعب بن لؤي بن غالب، فعمه سعد بن أبي وقاص، أحد
العشرة، وأبوه عتبة بن أبي وقاص، الذي كسر رباعية رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وكلم شفتيه وشج وجهه، فجعل يمسح الدم
عن وجهه، ويقول: "كيف يفلح قوم خضبوا وجه
نبيهم بالدم، وهو يدعوهم إلى ربهم"، فأنزل الله عز وجل: "ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم
ظالمون" وقال حسان بن ثابت في ذلك
اليوم:
وإنما
قال، عبد عذرة لأن عتبة بن أبي وقاص وأخوته وأقاربه في نسبهم كلام، ذكر قوم من
أهل النسب أنهم من عذرة، وأنهم أدعياء في قريش، ولهم خبر معروف، وقصة مذكورة في كتب النسب. وهاشم بن عتبة هو المرقال، سمي المرقال، لأنه كان يرقل في الحرب إرقالاً؛
وهو من شيعة علي، وسنفصل مقتله، إذا
انتهينا إلى فصل من كلامه يتضمن ذكر صفين. والهمزة للتعدية، يقال: أنهزت الفرصة، إذا أنهزتها
غيري. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ولاية قيس بن سعد علي مصر
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال إبراهيم:
حدثنا محمد بن عبد الله بن عثمان الثقفي، قال: حدثني علي بن محمد بن أبي سيف، عن
الكلبي، أن محمد بن أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، هو الذي حرض
المصريين على قتل عثمان وندبهم إليه، وكان حينئذ بمصر، فلما ساروا إلى عثمان
وحصروه، وثب هو بمصر على عامل عثمان عليها، وهو عبد
الله بن سعد بن أبي سرح، أحد بني عامر
بن لؤي، فطرده عنها، وصلى بالناس؛ فخرج ابن أبي سرح من
مصر، ونزل على تخوم أرضها مما يلي فلسطين، وانتظر
ما يكون من أمر عثمان، فطلع عليه راكب، فقال له: يا عبد الله، ما وراءك؛
ما خبر الناس بالمدينة؛ قال: قتل المسلمون عثمان، فقال
ابن أبي سرح: إنا لله وإنا إليه راجعون! ثم
صنعوا ماذا يا عبد الله؛ قال: بايعوا ابن عم رسول الله
علي بن أبي طالب، فقال ثانية: إنا لله وإنا إليه راجعون! فقال الرجل:
أرى أن ولاية علي عدلت عندك قتل عثمان! قال:
أجل، فنظر إليه متأملا له فعرفه، فقال أظنك عبد
الله بن سعد بن أبي سرح، أمير مصر! قال: أجل،
قال: إن كانت لك في الحياة حاجة فالنجاء النجاء؛ فإن رأي علي فيك وفي أصحابك إن
ظفر بكم قتلكم أو نفاكم عن بلاد المسلمين؛ وهذا أمير تقدم بعدي عليكم. قال: ومن الأمير؛ قال: قيس بن سعد بن عبادة. فقال ابن أبي سرح: أبعد الله ابن أبي حذيفة فإنه بغى على ابن عمه، وسعى عليه، وقد كان
كفله ورباه، وأحسن إليه، وأمن جواره؛ فجهز الرجال إليه حتى قتل، ووثب على عامله،
وخرج ابن أبي سرح حتى قدم على معاوية بدمشق. ثم إن
المسلمين من بعده استخلفوا أميرين منهم صالحين، فعملا بالكتاب والسنة وأحييا
السيرة؛ ولم يعدوا السنة. ثم توفيا رحمهما الله، فولي بعدهما وال أحدث
أحداثاً، فوجدت الأمة عليه مقالاً فقالوا، ثم نقموا فغيروا ثم جاءوني فبايعوني،
وأنا أستهدي الله الهدى، وأستعينه على التقوى. ألا وإن
لكم علينا العمل بكتاب الله وسنة رسوله والقيام بحقه، والنصح لكم بالغيب، والله
المستعان على ما تصفون، وحسبنا الله ونعم الوكيل. وقد بعثت لكم قيس بن سعد الأنصاري
أميراً، فوازروه وأعينوه على الحق، وقد أمرته بالإحسان إلى محسنكم، والشدة على
مريبكم، والرفق بعوامكم وخواصكم؛ وهو ممن أرضى هديه، وأرجو صلاحه ونصحه. نسأل
الله لنا ولكم عملاً زاكياً، وثواباً جزيلاً ورحمة واسعة، والسلام عليكم ورحمة
الله وبركاته، وكتبه عبد الله بن أبي رافع في صفر
سنة ست وثلاثين. أيها
الناس؛ إنا بايعنا خير من نعلم من بعد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ فقوموا
فبايعوا على كتاب الله وسنة رسوله، فإن نحن لم نعمل بكتاب الله وسنة رسوله فلا
بيعة لنا عليكم. فقام الناس فبايعوا، واستقامت مصر وأعمالها لقيس،
وبعث عليها عماله؛ إلا أن قرية منها قد أعظم أهلها قتل عثمان، وبها رجل من بني
كنانة يقال له يزيد بن الحارث، فبعث إلى قيس:
إنا لا نأتيك فابعث عمالك، فالأرض أرضك؛ ولكن أقرنا على حالنا حتى ننظر إلى ما
يصير أمر الناس. فأرسل إليه مسلمة:
إني كاف عنك ما دمت أنت والي مصر. فهادنهم وهادن مسلمة بن مخلد، وجبى الخراج؛ وليس
أحد ينازعه. فكتب معاوية إلى قيس، وعلي يومئذ بالكوفة قبل أن يسير إلى
صفين: من معاوية بن أبي سفيان إلى قيس بن سعد. سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا
هو، أما بعد؛ فإنكم إن كنتم نقمتم على عثمان في أثرة رأيتموها، أو ضربة سوط
ضربها، أو في شتمه رجلاً، أو تعييره واحداً، أو في استعماله الفتيان من أهله-
فإنكم قد علمتم إن كنتم تعلمون، أن دمه لم يحل لكم بذلك؛ فقد ركبتم عظيماً من
الأمر، وجئتم شيئاً إداً، فتب يا قيس إلى ربك، إن كنت من المجلبين على عثمان، إن
كانت التوبة قبل الموت تغني شيئاً. وأما صاحبك
فقد استيقنا أنه أغرى الناس بقتله، وحملهم على قتله حتى قتلوه، وأنه لم يسلم من
دمه عظم قومك، فإن استطعت يا قيس أن تكون ممن يطلب بدم عثمان فافعل، وتابعنا على
علي في أمرنا. هذا ولك
سلطان العراقين إن أنا ظفرت ما بقيت، ولمن أحبب! من أهل بيتك سلطان الحجاز ما
دام لي سلطان، وسلني عن غير هذا مما تحب، فإنك لا تسألني شيئاً إلا أتيته، واكتب
إلي رأيك فيما كتبت إليك. وذكرت أن صاحبي هو الذي أغرى الناس بعثمان ودسهم
إليه حتى قتلوه؛ وهذا أمر لم أطلع عليه. وذكرت لي أن عظم عشيرتي لم تسلم من دم
عثمان؛ فلعمري إن أولى الناس كان في أمره عشيرتي، وأما ما سألتني من مبايعتك على
الطلب بدمه، وما عرضته علي فقد فهمته، وهذا أمر لي نظر فيه وفكر، وليس هذا مما
يعجل إلى مثله، وأنا كاف عنك؛ وليس يأتيك من قبلي شيء تكرهه، حتى ترى ونرى، إن
شاء الله تعالى. والسلام عليك ورحمة الله وبركاته. ولم أرك تتباعد فأعدك حرباً، أراك كحبل الجرور؛
وليس مثلي يصانع بالخداع، ولا يخدع بالمكائد، ومعه عدد الرجال وأعنة الخيل، فإن
قبلت الذي عرضت عليك فلك ما أعطيتك؛ وإن أنت لم تفعل ملأت مصر عليك خيلاً
ورجلاً. والسلام. فلما قرأ قيس كتابه، وعلم أنه لا
يقبل منه المدافعة والمطاولة، أظهر له ما في نفسه، فكتب إليه: من
قيس بن سعد، إلى معاوية بن أبي سفيان: أما
بعد، فالعجب من استسقاطك رأي، والطمع في أن تسومني- لا أبا لغيرك- الخروج من
طاعة أولى الناس بالأمر؛ وأقولهم بالحق، وأهداهم سبيلاً، وأقربهم من رسول الله
وسيلة. وتأمرني بالدخول في طاعتك وطاعة أبعد الناس من هذا الأمر؛ وأقولهم
بالزور، وأضلهم سبيلاً، وأدونهم من رسول الله وسيلة؛ ولديك قوم ضالون مضلون. طواغيت
من طواغيت إبليس. وأما قولك
إنك تملأ علي مصر خيلاً ورجلاً، فلئن لم أشغلك عن ذلك حتى يكون منك، إنك لذو جد.
والسلام. وقرأ عليهم
كتابه الذي لان فيه وقاربه، واختلق كتاباً نسبه إلى
قيس فقرأه على أهل الشام: للأمير معاوية بن
أبي سفيان من قيس بن سعد: أما بعد؛ إن قتل عثمان كان حدثاً في الإسلام
عظيماً؛ وقد نظرت لنفسي وديني، فلم أر يسعني مظاهرة قوم قتلوا إمامهم مسلماً
محرماً براً تقياً، فنستغفر الله سبحانه لذنوبنا، ونسأله العصمة لديننا. ألا وإني قد ألقيت إليكم بالسلام، وأجبتك إلى قتال
قتلة إمام الهدى المظلوم؛ فاطلب مني ما أحببت من الأموال والرجال أعجله إليك إن
شاء الله. والسلام على الأمير ورحمة الله
وبركاته. قال علي:
والله إني غير مصدق بهذا على قيس. فقال عبد الله: اعزله يا أمير المؤمنين، فإن كان
ما قد قيل حقاً فلا يعتزل لك أن عزلته؛ قال: وإنهم لكذلك إذ جاءهم كتاب من قيس
بن سعد، فيه: أما بعد، فإني اخبر يا أمير المؤمنين- أكرمك الله وأعزك- أن قبلي
رجالاً معتزلين سألوني أن أكف عنهم وأدعهم على حالهم حتى يستقيم أمر الناس فنرى
ويرون، وقد رأيت أن أكف عنهم ولا أعجل بحربهم، وأن أتألفهم فيما بين ذلك، لعل
الله أن يقبل بقلوبهم، ويفرقهم عن ضلالتهم إن شاء الله
فقال عبد الله بن جعفر: يا أمير المؤمنين، إنك إن أطعته في تركهم
واعتزالهم استشرى الأمر وتفاقمت الفتنة، وقعد عن بيعتك كثير ممن تريده على
الدخول فيها، ولكن مره بقتالهم. فكتب إليه: أما بعد؛ فسر إلى القوم الذين ذكرت،
فإن دخلوا فيما دخل فيه المسلمون وإلا فناجزهم، والسلام. وكان عبد الله بن جعفر أخا محمد بن أبي بكر
لأمه؛ وكان يحب أن يكون له إمرة وسلطان؛ فاستعمل علي رضي الله عنه محمد بن أبي
بكر على مصر، لمحبة له ولهوى عبد الله بن جعفر أخيه فيه؛ وكتب معه كتاباً إلى
أهل مصر، فسار حتى قدمها، فقال له قيس: ما بال أمير
المؤمنين! ما غيره! أدخل أحد بيني وبينه! قال:
لا وهذا السلطان سلطانك.- وكان بينهما نسب، كان تحت قيس قريبة بنت أبي قحافة أخت
أبي بكر الصديق، فكان قيس زوج عمته- فقال قيس:
لا والله لا أقيم معك ساعة واحدة، وغضب حين عزله علي عنها، وخرج منها مقبلاً إلى
المدينة ولم يمض إلى علي بالكوفة. قال إبراهيم:
وكان قيس مع شجاعته ونجدته جواداً مفضالاً؛ فحدثني علي بن محمد بن أبي سيف، عن
هاشم، عن عروة، عن أبيه، قال: لما خرج قيس بن سعد من مصر، فمر بأهل بيت من
بلقين، فنزل بمائهم، فنحر له صاحب المنزل جزوراً
وأتاه بها، فلما كان الغد نحر له أخرى، ثم حبستهم السماء اليوم الثالث، فنحر لهم
ثالثة، ثم إن السماء أقلعت فلما أراد قيس أن يرتحل، وضع عشرين ثوباً من ثياب
مصر، وأربعة آلاف درهم عند امرأة الرجل؛ وقال
لها: إذا جاء صاحبك، فادفعي هذه إليه، ثم
رحل؛ فما أتت عليه إلا ساعة حتى لحقه الرجل صاحب المنزل على فرس، ومعه رمح،
والثياب والدراهم بين يديه، فقال: يا هؤلاء خذوا ثيابكم ودراهمكم فقال قيس: انصرف
أيها الرجل، فإنا لم نكن لنأخذها، قال: والله لتأخذنها، فقال قيس: لله أبوك! ألم تكرمنا وتحسن ضيافتنا فكافأناك! فليس بهذا
بأس؛ فقال! الرجل: إنا لا نأخذ لقرى الأضياف
ثمناً؛ والله لا آخذها أبداً. فقال قيس: أما إذ أبى ألا يأخذها فخذوها؛ فوالله
ما فضلني رجل من العرب غيره. قال إبراهيم: وقال أبو
المنذر: مر قيس في طريقه برجل من بلي، يقال له:
الأسود ابن فلان، فأكرمه، فلما أراد قيس أن يرتحل
وضع عند امرأته ثياباً ودراهم، فلما جاء الرجل دفعته إليه، فلحقه فقال: ما أنا بائع
ضيافتي؛ والله لتأخذن هذا أو لأنفذن الرمح بين جنبيك! فقال قيس: ويحكم خذوه!. فزجره قيس وقال:
يا أعمى القلب، يا أعمى البصر، والله لولا ألقى بين رهطي ورهطك حربا لضربت عنقك. ثم أخرجه
من عنده. فقال له أبو بكر:
إن هذا لا يقوم له مال إليك فأمسك يدك. فلما قدموا
من سفرهم قال سعد بن عبادة لأبي بكر: أردت
أن تبخل ابني! إنا لقوم لا نستطيع البخل. اللهم وسع علي فإن القليل لا يسعني ولا أسعه. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ولاية محمد بن أبي بكر |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال إبراهيم: وكان عهد علي إلى محمد
بن أبي بكر الذي قرئ بمصر: هذا ما عهد عبد الله علي أمير
المؤمنين إلى محمد بن أبي بكر حين ولاه مصر؛ أمره بتقوى الله في السر والعلانية،
وخوف الله تعالى في المغيب والمشهد، وأمره باللين على المسلم، والغلظ على
الفاجر، وبالعدل على أهل الذمة، وبالإنصاف للمظلوم، وبالشدة على الظالم، وبالعفو
عن الناس وبالإحسان ما استطاع؛ والله يجزي المحسنين. وأمره أن يدعو من قبله إلى الطاعة والجماعة؛ فإن
لهم في ذلك من العاقبة وعظم المثوبة ما لا يقدر قدره ولا يعرف كنهه. وأمره أن يجبي خراج الأرض على ما كانت تجبى عليه من
قبل، ولا ينتقص ولا يبتدع، ثم يقسمه بين أهله كما كانوا يقسمونه عليه من قبل؛
وإن تكن لهم حاجة يواس بينهم في مجلسه ووجهه؛ ليكون القريب والبعيد عنده على
سواء. وأمره أن يحكم بين الناس بالحق، وأن يقوم بالقسط،
ولا يتبع الهوى، ولا يخاف في الله لومة لائم؛ فإن الله جمع من اتقاه وآثر طاعته
على من سواه. وكتبه عبد الله بن أبي رافع مولى رسول الله لغرة
شهر رمضان سنة ست وثلاثين. واعلموا- عباد الله- أنكم إذا اتقيتم ربكم، وحفظتم
نبيكم في أهل بيته، فقد عبدتموه بأفضل ما عبد، وذكرتموه بأفضل ما ذكر، وشكرتموه
بأفضل ما شكر، وأخذتم بأفضل الصبر، وجاهدتم بأفضل الجهاد؛ وإن كان غيركم أطول
صلاة منكم، وأكثر صياماً، إذا كنتم أتقى لله وأنصح لأولياء الله من آل محمد صلى
الله عليه وسلم وأخشع. واحذروا عباد الله الموت ونزوله، وخذوله، فإنه يدخل
بأمر عظيم؛ خير لا يكون معه شر أبداً، أو شر لا يكون معه خير أبداً. وليس أحد من
الناس يفارق روحه جسده، حتى يعلم إلى أي المنزلتين يصير؛ إلى الجنة أم إلى
النار! أعدو هو لله أم ولي له! فإن كان ولياً فتحت له أبواب الجنة، وشرع له
طريقها، ونظر إلى ما أعد الله عز وجل لأوليائه فيها؛ فرغ من كل شغل، ووضع عنه كل
ثقل؛ وإن كان عدواً فتحت له أبواب النار، وسهل له طريقها، ونظر إلى ما أعد الله
فيها لأهلها، واستقبل كل مكروه، وفارق كل سرور، قال الله تعالى: "الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم فألقوا السلم
ما كنا نعمل من سوء بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون" فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى
المتكبرين". قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أكثروا ذكر الموت فإنه هادم اللذات" .
واعلموا عباد الله أن ما بعد الموت أشد من الموت؛ لمن لم يغفر الله له ويرحمه. واحذروا القبر وضمته وضيقه وظلمته؛
فإنه الذي يتكلم كل يوم: أنا بيت التراب، وأنا بيت الغربة، وأنا بيت الدود. والقبر
روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار. إن المسلم إذا مات قالت له الأرض
مرحباً وأهلاً؛ قد كنت ممن أحب أن تمشي على ظهري، فإذ
وليتك فستعلم كيف صنعي بك! فيتسع له مد بصره. وإذا دفن الكافر قالت له الأرض:
لا مرحباً ولا أهلاً؛ قد كنت ممن أبغض أن تمشي على ظهري، فإذ وليتك فستعلم كيف
صنعي بك! فتنضم عليه حتى تلتقي أضلاعه. أما إن شر ذلك اليوم وفزعه استطار حتى فزعت منه
الملائكة الذين ليست لهم ذنوب، والسبع الشداد، والجبال الأوتاد، والأرضون
المهاد. وانشقت السماء فهي يومئذ واهية، وتغيرت فكانت وردة
كالدهان، وكانت الجبال سراباً، بعدما كانت صماً صلاباً؛ يقول الله سبحانه: "ونفخ في
الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله". فكيف بمن يعصيه بالسمع والبصر، واللسان واليد،
والفرج والبطن؛ إن لم يغفر الله ويرحم!. واعلموا- عباد الله- أن ما بعد ذلك اليوم أشد
وأدهى؛ نار قعرها بعيد، وحرها شديد، وعذابها جديد، ومقامعها حديد، وشرابها صديد،
لا يفتر عذابها، ولا يموت ساكنها؛ دار ليست لله سبحانه فيها رحمة، ولا يسمع فيها
دعوة؛ ومع هذا رحمة الله التي وسعت كل شيء، لا تعجز عن العباد، وجنة عرضها كعرض
السماء والأرض، خير لا يكون بعده شر أبداً، وشهوة لا تنفد أبداً، ولذة لا تفنى
أبداً، ومجمع لا يتفرق أبداً. قوم قد جاوروا الرحمن، وقام بين أيديهم الغلمان،
بصحاف من ذهب فيها الفاكهة والريحان. وإن أهل الجنة يزورون الجبار سبحانه في كل
جمعة، فيكون أقربهم منه على منابر من نور، والذين يلونهم على منابر من ياقوت؛
والذين يلونهم على منابر من مسك، فبينا هم كذلك ينظرون الله جل جلاله، وينظر
الله في وجوههم؛ إذ أقبلت سحابة تغشاهم فتمطر عليهم من النعمة واللذة والسرور
والبهجة ما لا يعلمه إلا الله سبحانه ومع هذا ما هو أفضل منه، رضوان الله
الأكبر. ووضوؤك من تمام الصلاة، فأت به على وجهه؛
فالوضوء نصف الإيمان. أسأل الله
الذي يرى ولا يرى وهو بالمنظر الأعلى، أن يجعلنا وإياك من المتقين الذين لا خوف
عليهم ولا هم يحزنون. وإياكم ودعوة الكذاب ابن هند. وتأملوا واعلموا أنه لا سوى إمام الهدى وإمام
الردى. ووصي النبي وعدو النبي؛ جعلنا الله وإياكم ممن يحب ويرضى. ولقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إني لا أخاف على أمتي مؤمناً ولا مشركاً؛ أما
المؤمن فيمنعه الله بإيمانه، وأما المشرك فيخزيه الله بشركه؛ ولكني أخاف عليهم
كل منافق اللسان؛ يقول ما تعرفون، ويفعل ما تنكرون". وانصح لمن استشارك، واجعل نفسك أسوة
لقريب المسلمين وبعيدهم. جعل الله خلف وودنا خلة المتقين وود
المخلصين، وجمع بيننا وبينكم في دار الرضوان إخواناً على سرر متقابلين. إن شاء الله. فقال الوليد:
إن كنت تعجب من علمه وقضائه فعلام تقاتله! فقال: لولا أن أبا تراب قتل عثمان ثم أفتانا لأخذنا
عنه. ثم سكت هنيهة، ثم نظر إلى جلسائه
فقال:
إنا لا نقول: إن هذه من كتب علي بن أبي طالب؛ ولكن
نقول: هذه من كتب أبي بكر الصديق كانت عند
ابنه محمد، فنحن ننظر فيها، ونأخذ منها. قال: فلم تزل تلك الكتب في خزائن بني أمية؛ حتى ولي عمر بن عبد
العزيز، فهو الذي أظهر أنها من أحاديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
فقلنا:
ما بالك يا أمير المؤمنين؛ فقال: إني
استعملت محمد بن أبي بكر على مصر؛ فكتب إلي
أنه لا علم لي بالسنة، فكتبت إليه كتاباً فيه أدب
وسنة، فقتل وأخذ الكتاب. فبعثوا إليه:
إنا لا نفعل، فدعنا حتى ننظر إلى ما يصير إليه أمر الناس، فلا تعجل علينا. فأبى
عليهم، فامتنعوا منه وأخذوا حذرهم. ثم كانت وقعة صفين؛ وهم لمحمد هائبون؛ فلما أتاهم خبر معاوية وأهل الشام، ثم
صار الأمر إلى الحكومة، وأن علياً وأهل العراق قد قفلوا عن معاوية والشام إلى
عراقهم، اجترأوا على محمد بن أبي بكر، وأظهروا
المنابذة له. فلما رأى محمد ذلك بعث إليهم ابن جمهان البلوي ومعه يزيد بن
الحارث الكناني فقاتلاهم، فقتلوهما. ثم
بعث إليهم رجلاً من كلب فقتلوه أيضاً. وخرج معاوية بن خديج من السكاسك يدعو إلى الطلب بدم عثمان، فأجابه
القوم وناس كثير آخرون، وفسدت مصر على محمد بن أبي بكر؛ فبلغ علياً توثبهم عليه، فقال ما أرى لمصر إلا أحد الرجلين: صاحبنا الذي عزلنا
بالأمس- يعني قيس بن سعد بن عبادة- أو مالك بن الحارث الأشتر. وكان علي
حين رجع عن صفين، رد الأشتر إلى عمله
بالجزيرة، وقال لقيس بن سعد: أقم أنت معي
على شرطتي حتى نفرغ من أمر هذه الحكومة، ثم اخرج إلى أذربيجان، فكان قيس مقيماً
على شرطته، فلما أن انقضى أمر الحكومة كتب علي إلى
الأشتر، وهو يومئذ بنصيبين: أما بعد، فإنك ممن استظهر به على إقامة
الدين، وأقمع به نخوة الأثيم، وأسد به الثغر المخوف. وقد
كنت وليت محمد بن أبي بكر ممر، فخرجت عليه خوارج، وهو غلام حدث السن، ليس بذي
تجربة للحروب، فاقدم علي لننظر فيما ينبغي، واستخلف على عملك أهل الثقة والنصيحة
من أصحابك. والسلام. لا نأكل من قدم، ولا واه في عزم، من أشد عباد الله
بأساً، وأكرمهم حسباً، أضر على الفجار من حريق النار، وأبعد الناس من دنس أو
عار، وهو مالك بن الحارث الأشتر، حسام صارم، لا نابي الضريبة ، ولا كليل الحد،
حليم في السلم، رزين في الحرب، ذو رأي أصيل، وصبر جميل. فاسمعوا له وأطيعوا
أمره، فإن أمركم بالنفر فانفروا، وإن أمركم أن تقيموا فأقيموا، فإنه لا يقدم ولا
يحجم إلا بأمري. وقد آثرتكم به على نفسي؛ نصيحة لكم، وشدة شكيمة على عدوكم. عصمكم الله بالهدى، وثبتكم بالتقوى، ووفقنا وإياكم
لما يحب ويرضى. والسلام عليكم ورحمة الله. وقد كان معاوية قال لأهل الشام لما
دس إليه مولى آل عمر: ادعوا على الأشتر، فدعوا عليه؛ فلما بلغه موته قال: ألا ترون كيف
استجيب لكم!. والصحيح أنه سقي سما فمات قبل أن يبلغ مصر. اللهم إني أحتسبه عندك، فإن موته من
مصائب الدهر. ثم قال: رحم الله
مالكاً؛ فلقد وفى بعهده، وقضى نحبه، ولقي ربه، مع أنا قد وطنا أنفسنا أن نصبر
على كل مصيبة بعد مصابنا برسول الله صلى الله عليه وسلم فإنها من أعظم المصيبات. قال إبراهيم:
وقد كان أمير المؤمنين كتب على يد الأشتر كتاباً إلى أهل مصر؛ روى ذلك الشعبي عن صعصعة بن صوحان: من عبد الله علي
أمير المؤمنين إلى من بمصر من المسلمين: سلام الله عليكم، فإني أحمد الله إليكم،
الذي لا إله إلا هو؛ أما بعد فإني قد بعثت إليكم عبداً من عباد الله، لا ينام
أيام الخوف، ولا ينكل عن الأعداء حذار الدوائر. لا نأكل من قدم، ولا واه في عزم، من أشد عباد الله
بأساً، وأكرمهم حسباً، أضر على الفجار من حريق النار، وأبعد الناس من دنس أو
عار، وهو مالك بن الحارث الأشتر، حسام صارم، لا نابي الضريبة ، ولا كليل الحد،
حليم في السلم، رزين في الحرب، ذو رأي أصيل، وصبر جميل. فاسمعوا له وأطيعوا أمره، فإن
أمركم بالنفر فانفروا، وإن أمركم أن تقيموا فأقيموا، فإنه لا يقدم ولا يحجم إلا
بأمري. وقد آثرتكم به على نفسي؛ نصيحة لكم، وشدة
شكيمة على عدوكم. عصمكم الله بالهدى، وثبتكم بالتقوى،
ووفقنا وإياكم لما يحب ويرضى. والسلام عليكم ورحمة الله. وقد كان معاوية قال لأهل الشام لما دس إليه مولى آل عمر:
ادعوا على الأشتر، فدعوا عليه؛ فلما بلغه موته
قال: ألا ترون كيف استجيب لكم!. اللهم إني أحتسبه عندك، فإن موته من مصائب الدهر. ثم قال: رحم الله مالكاً؛ فلقد وفى بعهده،
وقضى نحبه، ولقي ربه، مع أنا قد وطنا أنفسنا أن نصبر على كل مصيبة بعد مصابنا
برسول الله صلى الله عليه وسلم فإنها من أعظم المصيبات. قال إبراهيم: وحدثنا محمد بن عبد
الله، عن المدائني، قال: حدثنا مولى للأشتر، قال: لما هلك الأشتر أصيب في ثقله رسالة علي إلى أهل
مصر: من عبد الله أمير المؤمنين إلى النفر من المسلمين الذين غضبوا لله إذ عصي
في الأرض، وضرب الجور برواقه على البر والفاجر، فلا حق يستراح إليه، ولا منكر
يتناهى عنه. سلام
عليكم؛ فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو. فأصحر
لعدوك وشمر للحرب، وادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة؛ وأكثر ذكر الله
والاستعانة به، والخوف منه. يكفك ما همك، ويعنك على ما ولاك. أعاننا الله وإياك
على ما لا ينال إلا برحمته؛ والسلام. قال معاوية:
أهمك ما أهمك يابن العاص! وذلك أن عمراً كان بايع معاوية على قتال علي، وأن مصر
له طعمة ما بقي. فأقبل معاوية على أصحابه، وقال: إن هذا- يعني ابن
العاص- قد ظن وحقق ظنه، قالوا: ولكنا لا ندري، ولعل أبا عبد الله قد أصاب؛ فقال
عمرو: وأنا أبو عبد الله، إن أفضل الظنون ما شابه اليقين. ولقد جاءوكم وهم لا يشكون أنهم يستأصلون بيضتكم
ويجوزون بلادكم، ما كانوا يرون إلا أنكم في أيديهم، فردهم الله بغيظهم لم ينالوا
خيراً، وكفى الله المؤمنين القتال، وكفاكم مؤنتهم. وحاكمتموهم إلى الله فحكم لكم
عليهم. ثم جمع كلمتنا، وأصلح ذات بيننا، وجعلهم أعداء متفرقين؛ يشهد بعضهم على
بعض بالكفر، وسفك بعضهم دم بعض؛ والله إني لأرجو أن يتم الله لنا هذا الأمر؛ وقد
رأيت أن أحاول حرب مصر، فما ترون؛. فقال معاوية: إن عمراً قد عزم وصرم بما قال، ولم يفسر
كيف ينبغي أن نصنع!. إنك يابن العاص لامرؤ بورك لك في العجلة، وبورك لي في التؤدة
. وبعث بالكتاب مع مولى له يقال له سبيع، فخرج بكتابه
حتى قدم به عليهما بمصر، ومحمد بن أبي بكر يومئذ أميرها قد ناصبه هؤلاء النفر
الحرب؛ وهم هائبون الإقدام عليه؛ فدفع الكتاب إلى مسلمة
بن مخلد، فقرأه فقال: الق به معاوية بن حديج، ثم القني به حتى أجيب عني وعنه. فانطلق
الرسول بكتاب معاوية فأقرأه إياه، ثم قال له إن مسلمة قد أمرني أن أرد الكتاب
إليه لكي يجيب عنك وعنه. قال: قل له
فليفعل، فأتى مسلمة بالكتاب. فكتب الجواب عنه وعن معاوية بن حديج: أما بعد، فإن هذا
الأمر الذي قد ندبنا له أنفسنا، وابتغينا الله به على عدونا، أمر نرجو به ثواب
ربنا، والنصر على من خالفنا، وتعجيل النقمة على من سعى على إمامنا، وطأطأ الركض
في مهادنا، ونحن بهذه الأرض قد نفينا من كان بها من أهل البغي، وأنهضنا من كان
بها من أهل القسط والعدل وقد ذكرت موازرتك في سلطانك وذات يدك؛ وبالله إنه لا من
أجل مال نهضنا، ولا إياه أردنا، فإن يجمع الله لنا ما نريد ونطلب أو يرينا ما
تمنينا، فإن الدنيا والآخرة لله رب العالمين، وقد يثوبهما الله جميعاً عالماً من
خلقه، كما قال في كتابه: "فآتاهم الله ثواب
الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين". عجل لنا بخيلك ورجلك؛
فإن عدونا قد كان علينا جريئاً، وكنا فيهم قليلاً، وقد أصبحوا لنا هائبين،
وأصبحنا لهم نابذين، فإن يأتنا مدد من قبلك يفتح الله عليك؛ ولا قوة إلا بالله؛ وهو حسبنا ونعم الوكيل. وقد بعثت إليك قوماً حناقاً عليك، يسفكون دمك،
ويتقربون إلى الله عز وجل بجهادك؛ وقد أعطوا الله عهداً ليقتلنك؛ ولو لم يكن
منهم إليك ما قالوا لقتلك الله بأيديهم أو بأيدي غيرهم من أوليائه؛ وأنا أحذرك
وأنذرك؛ فإن الله مقيد منك، ومقتص لوليه وخليفته بظلمك له، وبغيك عليه ووقيعتك
فيه، وعداوتك يوم الدار عليه، تطعن بمشاقصك فيما بين أحشائه وأوداجه؛ ومع هذا
فإني أكره قتلك، ولا احب أن أتولى ذلك منك؛ ولن يسلمك الله من النقمة أين كنت أبداً،
فتنح وانج بنفسك. والسلام. قال: فكتب إليه علي:
أما بعد، فقد أتاني رسولك بكتابك؛ تذكر أن ابن العاص قد نزل في جيش جرار، وأن من
كان على مثل رأيه قد خرج إليه. وخروج من كان يرى رأيه خير لك من إقامته عندك. وذكرت أنك قد رأيت ممن قبلك فشلاً، فلا تفشل وإن
فشلوا؛ حصن قريتك، واضمم إليك شيعتك، وأذك الحرس في عسكرك، واندب إلى القوم
كنانة بن بشر، المعروف بالنصيحة والتجربة والبأس، وأنا نادب إليك الناس على
الصعب والذلول. فاصبر لعدوك وامض على بصيرتك، وقاتلهم على نيتك،
وجاهدهم محتسباً الله سبحانه؛ وإن كانت فئتك أقل
الفئتين؛ فإن الله تعالى يعين القليل ويخذل الكثير. وقد قرأت كتابي الفاجرين المتحابين على المعصية،
والمتلائمين على الضلالة، والمرتشيين على الحكومة، والمتكبرين على أهل الدين؛
الذين استمتعوا بخلاقهم؛ كما استمتع الذين من قبلهم بخلاقهم، فلا يضرنك إرعادهما
وإبراقهما، وأجبهما إن كنت لم تجبهما بما هما أهله، فإنك تجد مقالاً ما شئت. والسلام. وقد زعمت
أن أهل البلد قد رفضوني، وندفوا على أتباعي؛ فأولئك حزبك وحزب الشيطان الرجيم؛
وحسبنا الله رب العالمين ونعم الوكيل، وتوكلت على الله العزيز الرحيم، رب العرش
العظيم. انتدبوا
رحمكم الله مع كنانة بن بشر. ثم ندب معه
نحو ألفي رجل، وتخلف محمد في ألفين، واستقبل عمرو
بن العاص كنانة وهو على مقدمة محمد، فلما دنا عمرو من كنانة سرح إليه
الكتائب؛ كتيبة بعد كتيبة، فلم تأته من كتائب الشام كتيبة إلا شد عليها بمن معه
فيضربها حتى يلحقها بعمرو، ففعل ذلك مراراً. فلما رأى
عمرو ذلك بعث إلى معاوية بن حديج الكندي، فأتاه في مثل الدهم. فلما رأى
كنانة ذلك الجيش، نزل عن فرسه؛ ونزل معه أصحابه فضاربهم بسيفه، وهو يقول: "وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتاباً
مؤجلاً". فلم يزل يضاربهم بالسيف حتى
استشهد رحمه الله. قال ابن حديج: هو هو ورب الكعبة، فانطلقوا يركضون، حتى دخلوا على محمد، فاستخرجوه وقد كاد يموت عطشاً، فأقبلوا به نحو الفسطاط. قال: ووثب أخوه عبد الرحمن بن أبي بكر إلى عمرو بن العاص، وكان في
جنده، فقال: لا والله لا تقتل أخي صبراً، ابعث إلى معاوية بن حديج فانهه، فأرسل عمرو بن العاص: أن ائتني بمحمد، فقال معاوية: أقتلتم كنانة بن بشر، ابن عمي، وأخلي عن
محمد؛ هيهات! "أكفاركم خير من أولئكم أم
لكم براءة في الزبر". فقال محمد: اسقوني قطرة من الماء، فقال له معاوية بن حديج: لا سقاني الله إن سقيتك
قطرة أبداً؛ إنكم منعتم عثمان أن يشرب الماء حتى
قتلتموه صائماً محرماً، فسقاه الله من الرحيق المختوم؛ والله لأقتلنك يابن أبي بكر وأنت ظمآن، ويسقيك الله من
الحميم والغسلين، فقال له محمد: يابن اليهودية
النساجة؛ ليس ذلك اليوم إليك ولا إلى عثمان، إنما ذلك إلى الله يسقي أولياءه
ويظمئ أعداءه؛ وهم أنت وقرناؤك ومن تولاك وتوليته، والله لو كان سيفي في يدي ما
بلغتم مني ما بلغتم. فقال له معاوية بن حديج:
أتدري ما أصنع بك؛ أدخلك جوف هذا الحمار الميت ثم أحرقه
عليك بالنار. قال: إن فعلتم ذلك
بي فطالما فعلتم ذاك بأولياء الله، وايم الله إني لأرجو أن يجعل الله هذه النار
التي تخوفني بها برداً وسلاماً، كما جعلها الله على إبراهيم خليله، وأن يجعلها
عليك وعلى أوليائك، كما جعلها على نمرود وأوليائه، وإني لأرجو أن يحرقك الله
وإمامك معاوية، وهذا- وأشار إلى عمرو بن العاص- بنار
تلظى، كلما خبت زادها الله عليكم سعيراً. فقال له معاوية بن حديج:
إني لا أقتلك ظلماً، إنما أقتلك بعثمان بن عفان، قال
محمد: وما أنت وعثمان! رجل عمل بالجور، وبدل حكم
الله والقرآن، وقد قال الله عز وجل: "ومن
لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، "فأولئك هم الظالمون"، "فأولئك هم الفاسقون"؛ فنقمنا عليه
أشياء عملها، فأردنا أن يخلع من الخلافة علناً، فلم يفعل، فقتله من قتله من
الناس. فغضب معاوية بن حديج، فقدمه فضرب عنقه، ثم ألقاه في جوف حمار وأحرفه بالنار. قال: فكان كما أخبر صلى الله عليه وسلم. قال إبراهيم: حدثنا محمد بن عبد الله، عن المدائني، قال: فكتب عمرو بن العاص
إلى معاوية بن أبي سفيان عند قتل محمد بن أبي بكر وكنانة بن بشر: أما
بعد، فإنا لقينا محمد بن أبي بكر وكنانة بن بشر في جموع من أهل مصر، فدعوناهم
إلى الكتاب والسنة، فعصوا الحق، فتهولوا في الضلال،
فجاهدناهم، واستنصرنا الله جل وعز عليهم، فضرب الله وجوههم وأدبارهم،
ومنحنا أكتافهم؛ فقتل محمد بن أبي بكر وكنانة بن بشر،
والحمد لله رب العالمين. فلما كان
العشي بعث إلى الأشراف فجمعهم، فدخلوا عليه القصر، وهو كئيب حزين، فقال: الحمد لله على ما قضى من أمر، وقدر من فعل،
وابتلاني بكم أيها الفرقة التي لا تطيع إذا أمرتها، ولا تجيب إذا دعوتها. لا أبا لغيركم! ماذا تنتظرون بنصركم، والجهاد على
حقكم! الموت خير من الذل في هذه الدنيا لغير الحق؛ والله إن جاءني الموت-
وليأتيني- لتجدنني لصحبتكم جد قالٍ. ألا دين يجمعكم! ألا حمية تغضبكم! ألا تسمعون
بعدوكم ينتقص بلادكم، ويشن الغارة عليكم! أو ليس عجباً أن معاوية يدعو الجفاة
الطغام الظلمة، فيتبعونه على غير عطاء ولا معونة، ويجيبونه في السنة المرة
والمرتين والثلاث، إلى أي وجه شاء، ثم أنا أدعوكم- وأنتم أولو النهى وبقية
الناس- تختلفون وتفترقون عني، وتعصونني وتخالفون علي!. قال:
وحزن علي على محمد بن أبي بكر حتى رئي ذلك فيه، وتبين في وجهه، وقام في الناس
خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ألا وإن مصر
قد افتتحها الفجرة أولياء الجور والظلم، الذين صدوا عن سبيل الله، وبغوا الإسلام
عوجاً. ألا وإن محمد بن أبي بكر قد استشهد رحمة
الله عليه، وعند الله نحتسبه. أما والله لقد كان - ما علمت - ينتظر القضاء، ويعمل
للجزاء، ويبغض شكل الفاجر، ويحب سمت المؤمن؛ إني والله لا ألوم نفسي على تقصير
ولا عجز؛ وإني بمقاساة الحرب لجد بصير، إني لأقدم على الحرب، وأعرف وجه الحزم،
وأقوم بالرأي المصيب، فأستصرخكم معلناً، وأناديكم مستغيثاً؛ فلا تسمعون لي
قولاً، ولا تطيعون لي أمراً؛ حتى تصير الأمور إلى عواقب المساءة. وأنتم القوم لا
يدرك بكم الثأر؛ ولا تنقض بكم الأوتار؛ دعوتكم إلى غياث إخوانكم منذ بضع وخمسين
ليلة؛ فجرجرتم علي جرجرة الجمل الأسر، وتثاقلتم إلى الأرض تثاقل من لا نية له في
الجهاد، ولا رأي له في الاكتساب للأجر، ثم خرج إلي منكم جنيد متذائب ضعيف، كأنما
يساقون إلى الموت وهم ينظرون. فأفٍّ لكم ثم نزل فدخل رحله. وقد كنت
كتبت إلى الناس، وتقدمت إليهم في بدء الأمر، وأمرتهم بإغاثته قبل الوقعة،
ودعوتهم سراً وجهراً، وعوداً وبدءاً، فمنهم الآتي
كارهاً، ومنهم المتعلل كاذباً، ومنهم القاعد خاذلاً. أسأل الله أن يجعل لي منهم
فرجاً، وأن يريحني منهم عاجلاً؛ فو الله لولا طمعي عند لقاء عدوي في
الشهادة، وتوطيني نفسي عند ذلك، لأحببت ألا أبقى مع
هؤلاء يوماً واحداً. عزم الله
لنا ولك على تقواه وهداه، إنه على كل شيء قدير. والسلام
عليك ورحمة الله وبركاته. سلام على أمير المؤمنين، ورحمة الله وبركاته: أما بعد؛ فقد بلغني كتابك تذكر فيه افتتاح مصر وهلاك
محمد بن أبي بكر، وأنك سألت الله ربك أن يجعل لك من رعيتك التي ابتليت بها فرجاً
ومخرجاً، وأنا أسأل الله أن يعلي كلمتك، وأن يغشيك بالملائكة عاجلاً. واعلم أن
الله صانع لك، ومعز دعوتك، وكابت عدوك. وأخبرك يا أمير المؤمنين أن الناس ربما
تباطأوا ثم نشطوا؛ فارفق بهم يا أمير المؤمنين ودارهم ومنهم، واستعن بالله
عليهم. كفاك الله الهم والسلام عليك ورحمة الله
وبركاته. قال المدائني: وقيل لعلي رضي الله عنه: لقد جزعت على محمد بن أبي
بكر يا أمير المؤمنين. فقال:
وما يمنعني إنه كان لي ربيباً، وكان لبني أخاً، وكنت له والداً. أعده ولداً. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
خطبة للإمام علي بعد فتح مصر
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وروى إبراهيم، عن رجاله، عن عبد الرحمن بن جندب، عن أبيه، قال: خطب علي رضي الله عنه بعد فتح مصر،
وقتل محمد بن أبي بكر، فقال:
أما بعد، فإن الله بعث محمداً نذيراً للعالمين، وأميناً على التنزيل، وشهيداً
على هذه الامة؛ وأنتم معاشر العرب يومئذ على شر دين، وفي شر دارٍ، منيخون على
حجارةٍ خشن، وحيات صم، وشوكٍ مبثوث في البلاد، تشربون الماء الخبيث، وتأكلون
الطعام الخبيث؛ تسفكون دماءكم، وتقتلون أولادكم، وتقطعون أرحامكم؛ وتأكلون
أموالكم بينكم بالباطل. سبلكم خائفة، والأصنام فيكم منصوبة، ولا يؤمن أكثرهم بالله
إلا وهم مشركون. فمن الله - عز وجل - عليكم بمحمد، فبعثه إليكم
رسولاً من أنفسكم، فعلمكم الكتاب والحكمة، والفرائض والسنن، وأمركم بصلة أرحامكم
وحقن دمائكم وصلاح ذات البين، وأن تؤدوا الامانات إلى أهلها، وأن توفوا بالعهد،
ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها، وأن تعاطفوا وتباروا وتراحموا. ونهاكم عن التناهب والتظالم والتحاسد والتباغم
والتقاذف، وعن شرب الخمر وبخس المكيال، ونقص الميزان. وتقدم إليكم فيما يتلى عليكم:
ألا تزنوا ولا تربوا، ولا تاكلوا أموال اليتامى ظلماً، وأن تؤدوا الأمانات إلى
أهلها، ولا تعثوا في الأرض مفسدين، ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين، وكل
خيرٍ يدني إلى الجنة، ويباعد عن النار أمركم به، وكل شر يدني إلى النار ويباعد
عن الجنة نهاكم عنه. وتولى عمر
الأمر، فكان مرضي السيرة، ميمون النقيبة؛ حتى إذا
احتضر، فقلت في نفسي: لن يعدلها عني؛ ليس يدافعها عني، فجعلني سادس ستة؛ فما
كانوا لولاية أحد منهم أشد كراهة لولايتي عليهم؛ كانوا
يسمعون عند وفاة رسول الله صلى
الله عليه وسلم لجاج أبي بكر، وأقول:
يا معشر قريش، إنا - أهل البيت - أحق بهذا الأمر منكم ما كان فينا من يقرأ
القرآن، ويعرف السنة، ويدين بدين الحق. فخشي القوم
- إن أنا وليت عليهم - ألا يكون لهم من الأمر نصيب ما بقوا، فأجمعوا إجماعاً
واحداً، فصرفوا الولاية إلى عثمان، وأخرجوني منها؛ رجاء أن ينالوها، ويتداولوها
إذ يئسوا أن ينالوا بها من قبلي؛ ثم قالوا: هلم فبايع وإلا جاهدناك؛
فبايعت مستكرهاً، وصبرت محتسباً، فقال قائلهم:
يا بن أبي طالب، إنك على هذا الأمر لحريصٌ؛ فقلت أنتم أحرص مني وأبعد؛ أينا
أحرص؛ أنا الذي طلبت ميراثي وحقي الذي جعلني الله ورسوله أولى به، أم أنتم إذ
تضربون وجهي دونه، وتحولون بيني وبينه فبهتوا، والله لا يهدي القوم الظالمين. فنظرت فإذا ليس معي رافد ولا ذاب ولا
ناصر ولا ساعد إلا أهل بيتي، فضننت بهم عن المنية، وأغضيت على القذى، وتجرعت
ريقي على الشجى؛ وصبرت من كظم الغيظ على أمر من العلقم، وآلم للقلب من حز
الشفار، حتى إذا نقمتم على عثمان أتيتموه فقتلتموه؛ ثم جئتموني لتبايعوني، فأبيت
عليكم، وأمسكت يدي فنازعتموني ودافعتموني، وبسطتم يدي نكففتها، ومددتموها
فقبضتها، وازدحمتم علي حتى ظننت أن بعضكم قاتل بعضكم أو أنكم قاتلي. فقلتم: بايعنا لا نجد غيرك، ولا نرضى إلا بك،
بايعنا لا نفترق ولا تختلف كلمتنا. فبايعتكم ودعوت الناس إلى بيعتى، فمن بايع طوعاً
قبلته؛ ومن أبى لم اكرهه وتركته. ومنهم طائفة غضبوا لله ولي، فشهروا
سيوفهم وضربوا بها، حتى لقوا الله عز وجل صادقين؛
فوالله لو لم يصيبوا منهم إلا رجلاً واحداً متعمدين لقتله لحل لي به قتل ذلك
الجيش بأسره، فدع ما أنهم قد قتلوا من المسلمين أكثرمن العدة التي دخلوا بها
عليهم؛ وقد أدال الله منهم، فبعداً للقوم الظالمين. ثم إني نظرت في أمر أهل الشام، فإذا أعراب أحزاب وأهل طمع
جفاة طغاة، يجتمعون من كل أوب؛ من كان ينبغي أن يؤدب وأن يولى عليه، ويؤخذ على
يده؛ ليسوا من الأنصار ولا المهاجرين ولا التابعين بإحسان. فسرت
إليهم، فدعوتهم إلى الطاعة والجماعة، فأبوا إلا شقاقاً وفراقاً. ونهضوا في وجوه
المسلمين ينضحونهم بالنبل، ويشجرونهم بالرماح؛ فهناك
نهدت إليهم بالمسلمين فقاتلتهم، فلما عضهم السلاح. ووجدوا ألم الجراح، رفعوا المصاحف
يدعونكم إلى ما فيها؛ فأنبأتكم أنهم ليسوا بأهل دين ولا قرآن،
وأنهم رفعوها مكيدة وخديعة ووهناً وضعفاً، فامضوا على حقكم وقتالكم. فأبيتم علي وقلتم:
اقبل منهم؛ فإن أجابوا إلى ما في الكتاب جامعونا على ما نحن عليه من الحق، وإن
أبوا كان أعظم لحجتنا عليهم. فقبلت منهم، وكففت
عنهم؛ إذ ونيتم وأبيتم؛ فكان الصلح بينكم وبينهم على رجلين، يحييان ما أحيا
القرآن، ويميتان ما أمات القرآن؛ فاختلف رأيهما، وتفرق حكمهما، ونبذا ما في
القران، وخالفا ما في الكتاب، فجنبهما الله السداد، ودلاهما في الضلالة، فانحرفت
فرقة منا فتركناهم ما تركونا؛ حتى إذا عثوا في الأرض يقتلون ويفسدون،
أتيناهم فقلنا: ادفعوا إلينا قتلة إخواننا، ثم
كتاب الله بيننا وبينكم. قالوا: كلنا قتلهم؛
وكلنا استحل دماءهم. وشدت علينا خيلهم ورجالهم، فصرعهم الله مصارع الظالمين. فلما كان ذلك من شأنهم أمرتكم أن تمضوا من فوركم
إلى عدوكم، فقلتم: كلت سيوفنا، ونفدت نبالنا، ونصلت أسنة رماحنا، وعاد أكثرها
قصداً، فارجع بنا إلى ممعرنا لنستعد بأحسن عدتنا، فإذا رجعت زدت في مقاتلتنا عدة
من هلك منا وفارقنا؛ فإن ذلك أقوى لنا على عدونا. فأقبلت بكم،
حتى إذا أطللتم على الكوفة أمرتكم أن تنزلوا بالنخيلة، وأن تلزموا معسكركم، وأن
تضموا قواصيكم، وأن توطنوا على الجهاد أنفسكم، ولا تكثروا زيارة أبنائكم
ونسائكم، فإن أهل الحرب المصابروها، وأهل التشمير فيها الذين لا ينقادون من سهر
ليلهم ولا ظمإ نهارهم، ولا خمص بطونهم، ولا نصب أبدانهم، فنزلت طائفة منكم معي
معذرة، ودخلت طائفة منكم المصر عاصية؛ فلا من بقي منكم صبر وثبت، ولا من دخل
المصر عاد ورجع، فنظرت إلى معسكري، وليس فيه خمسون رجلاً؛ فلما رأيت ما أتيتم،
دخلت إليكم فلم أقدر على أن تخرجوا معي إلى يومنا هذا، فما تنتظرون أما ترون
أطرافكم قد انتقصت، وإلى مصر قد فتحت، وإلما شيعتي بها قد قتلت؛ وإلى مسالحكم
تعرى، وإلى بلادكم تغزى وأنتم ذوو عدد كثير، وشوكة وبأس شديد؛ فما بالكم لله أنتم من أين تؤتون وما لكم تؤفكون وأنى
تسحرون. ولو أنكم عزمتم وأجمعتم لم تراموا؛ إلا أن القوم
تراجعوا وتناشبوا وتناصحوا، وأنتم قد ونيتم وتغاششتم وافترقتم، ما إن أنتم إن
ألممتم عندي على هذا بسعداء؛ فانتهوا بأجمعكم، وأجمعوا على حقكم، وتجردوا لحرب
عدوكم؛ وقد أبدت الرغوة عن الصريح، وبين الصبح لذي
عينين؛ إنما تقاتلون الطلقاء، وأبناء الطلقاء وأولي الجفاء، ومن أسلم كرهاً؛
وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنف الإسلام كله حرباً؛
أعداء الله والسنة والقرآن، وأهل البدع والأحداث، ومن كان بوائقه تتقى، وكان عن
الإسلام منحرفاً، أكلة الرشا، وعبدة الدنيا؛ لقد أنهي إلي أن ابن النابغة لم يبايع معاوية حتى أعطاه، وشرط له أن يؤتيه ما هي أعظم مما في
يده من سلطانه. ألا صفرت يد هذا البائع دينه بالدنيا،
وخزيت أمانة هذا المشتري نصرة فاسق غادر بأموال المسلمين؛ وإن فيهم من قد شرب
فيكم الخمر وجلد الحد؛ يعرف بالفساد في الدين، والفعل السيىء؛ وإن فيهم من لم
يسلم حتى رضخ له رضيخة. ولأنتم - على ما كان فيكم من تواكل وتخاذل - خير
منهم وأهدى سبيلاً؛ فيكم العلماء والفقهاء، والنجباء والحكماء، وحملة الكتاب
والمتهجدون بالأسحار، وعمار المساجد بتلاوة القرآن؛ أفلا
تسخطون وتهتمون أن ينازعكم الولاية عليكم سفهاؤكم، والأشرار الأراذل منكم. ألا إنه ليس أولياء الشيطان من أهل الطمع والمكر
والجفاء بأولى في الجد في غيهم وضلالتهم من أهل البر والزهادة والإخبات في حقهم
وطاعة ربهم؛ إني والله لو لقيتهم فرداً وهم ملء الأرض؛ ما باليت ولا استوحشت؛ وإني من ضلالتهم التي هم فيها، والهدى الذي نحن عليه،
لعلى ثقة وبينة، ويقين وبصيرة؛ وإني إلى لقاء ربي لمشتاق، ولحسن ثوابه لمنتظر؛
ولكن أسفاً يعتريني، وحزناً يخامرني، أن يلي أمر
هذه الأمة سفهاؤها وفجارها، فيتخذوا مال الله دولاً، وعباده خولاً، والفاسقين
حزباً. وايم الله
لولا ذلك ما أكثرت تأنيبكم وتحريضكم، ولتركتكم إذ ونيتم وأبيتم حتى ألقاهم
بنفسي؛ متى حم لي لقاؤهم. فوالله إني لعلى الحق، وإني للشهادة لمحب، فانفروا
خفافاً وثقالاً، وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله، ذلكم خير لكم إن كنتم
تعلمون. ولا تثاقلوا إلى الأرض فتقروا بالخسف، وتبوءوا
بالذل، ويكن نصيبكم الخسران. إن أخا
الحرب اليقظان، ومن ضعف أودى، ومن ترك الجهاد كان كالمغبون المهين. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
مقتل محمد بن أبي حذيفة،
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال إبراهيم:
وحدثني محمد بن عبد الله بن عثمان، عن المدائني، أن
محمد بن أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، اصيب لما فتح عمرو بن العاص مصر،
فبعث به إلى معاوية بن أبي سفيان وهو يومئذ بفلسطين، فحبسه معاوية في سجن له،
فمكث فيه غير كثير، ثم هرب - وكان ابن خال معاوية -
فأرى معاوية الناس أنه كره انفلاته من السجن؛ وكان يحب أن ينجو، فقال لأهل الشام: من يطلبه؛ فقال رجل من خثعم -
يقال له عبيد الله بن عمرو بن ظلام، وكان شجاعاً وكان
عثمانياً: أنا أطلبه، فخرج في خيل فلحقه بحوارين، وقد دخل بغارٍ هناك،
فجاءت حمرٌ فدخلته، فلما رأت الرجل في الغار فزعت ونفرت؛ فقال حمارون كانوا قريباً من الغار: إن لهذه الحمر
لشأناً، ما نفرها من هذا الغار إلا أمر فذهبوا ينظرون؛ فإذا هم به؛ فخرجوا به؛
فوافاهم عبد الله بن عمرو بن ظلام؛ فسألهم ووصفه لهم فقالوا:
ها هو هذا؛ فجاء حتى استخرجه، وكره أن يصير به إلى
معاوية فيخلي سبيله، فضرب عنقه. رحمه الله
تعالى. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن كلام له في ذم أصحابه
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
كم أداريكم كما تدارى أبكار العمدة، والثياب المتداعية كلما حيص من جانبٍ تهتكت
من آخر، كلما أطل عليكم مفسرٌ من مناصر أهل الشام أغلق كل رجلٍ منكم بابه، وانجح
أنجحا الضبة في جحرها، والضبع في وجارها. إنكم والله
لكثير في البائحات، قليل تحت الرايات، وإني لعالم بما بصلحكم، ويقيم أودكم،
ولكني والله لا أرى إصلاحكم لإفساد نفسي. الشرح أبكار: جمع بكر، وهو الفتي من الإبل. والعمدة: التي قد
أنشدت أسمتها من داخل وظاهرها صحيح؛ وذلك لكثرة ركوبها، والثياب المتداعية. الأسمال التي قد أخلق؛ وإنما
سميت متداعية، لأن بعضها يتخرق فيدعو بعضها إلى مثل حاله، وحيت: خيطت، والحوض: الخياطة. وتهتكت: تخرقت. أطل عليكم، أي أشرف، وروي:
"أظل" بالظاء المعجم، والمعنى واحد. ومفسر: قطعة من
الجيش تمر قدام الجيش الكثير، والأفصح "منس" بكسر الميم وفتح السين،
ويجوز "مفسر" بفتح الميم وكسر السين. وانجح: استتر في بيته، آجرت
الضب، إذا ألجأته إلى جحره فانجح. والضبة: أنثى الضباب، وإنما أوقع التشبيه على
الضبة مبالغة في وصفهم بالجبن والفرار؛ لأن الأنثى أجبن وأذل من الذكر. والجار: بيت الضبع. والسهم الأنوف:
الفاصل المكسور أتفوق، المنزوع النصل، أتفوق:
موضع الوتر من السهم، يقال نصل السهم إذا خرج منه النصل فهو فاصل؛ وهذا مثل يضرب
لمن استنجد بمن لا ينجده. والبائحات: جمع باحة، وهي ساحة الدار. والأود: العوج، أود الشيء بكسر الواو أود أوداً؛ أي
اعوج، وتأود، أي تعوج. وأضرع الله خدودكم: أذل وجوهكم. ضرع الرجل ذل وأضرعه غيره، ومنه المثل: "الحمى
أضرعته لك". وأتعس جدودكم، أي أحال حظوظكم وسعودكم وأهلكها
فجعلها إدباراً ونحساً. والتعس: الهلاك.
وأصله الكب؛ وهو ضد الإنتعاش. تعس الرجل، بفتح العين يتعس تعساً. يقول: كم اداريكم
كما يداري راكب البعير بعيره المنفضخ السنام، وكما يداري لابس الثوب السمل ثوبه
المتداعي، الذي كلما خيط منه جانب تمزق جانب. ثم ذكر خبثهم وذلهم، وقلة انتصار
من ينتصر بهم، وأنهم كثير في الصورة، قليل في المعنى. ثم قال: إني عالم بما
يصلحكم؛ يقول: إنما يصلحكم في السياسة السيف؛
وصدق فإن كثيراً لا يصلح إلا عليه. كما فعل الحجاج بالجيش الذي تقاعد
بالمهلب، فإنه نادى مناديه: من وجدناه بعد ثالثة لم يلتحق
بالمهلب فقد حل لنا دمه؛ ثم قتل عمير بن ضابىء وغيره؛ فخرج الناس يهرعون إلى
المهلب. وأمير المؤمنين لم يكن ليستحل من دماء أصحابه ما
يستحله من يريد الدنيا وسياسة الملك وانتظام الدولة،
قال رضي الله عنه: "لكني لا أرى إصلاحكم بإفساد نفسي"، أي بإفساد ديني
عند الله تعالى. فإن قلت: أليست نصرة
الإمام واجبة عليهم؛ فلم لا يقتلهم إذ أخلوا بهذا الواجب؟ قلت: ليس كل إخلال بواجب يكون عقوبته القتل، كمن
أخل بالحج. وأيضاً فإنه كان يعلم أن عاقبة القتل فسادهم عليه
واضطرابهم؛ فلو أسرع في قتلهم لشغبوا عليه شغباً يفضي إلى أن يقتلوه ويقتلوا
أولاده، أو يسلموه وسلموهم إلى معاوية؛ ومتى علم هذا أو غلب على ظنه لم يجز له
أن يسوسهم بالقتل الذي يفضي إلى هذه المفسدة، فلو ساسهم بالقتل والحال هذه: لكان
آثماً عند الله تعالى، ومواقعاً للقبيح؛ وفي ذلك إفساد دينه كما قال: "لا تعرفون الحق كمعرفتكم الباطل" إلى
آخر الفصل؛ فكأنه قال: لا تعتقدون الصواب والحق كما تعتقدون الخطأ
والباطل؛ أي اعتقادكم الحق قليل، واعتقادكم الباطل كثير؛ فعبر عن الاعتقاد العام
بالمعرفة الخاصة؛ وهي نوع تحت جنسه مجازاً. ثم قال: ولا تسرعون في نقض الباطل سرعتكم في نقض الحق
وهدمه. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ذم الجبن في شعر الشعراء
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
واعلم
أن الهجاء بالجبن والذل والفرق كثير جداً،
ونظير قوله: "إنكم لكثير في الباحات، قليل تحت
الرايات" قول معدان الطائي:
ونحو
قول قراد بن حنش، وهو من شعر الحماسة:
ومن
شعر الحماسة في هذا المعنى:
ومن
الهجاء بالجبن والفرار، قول بعض بني طيىء يهجو حاتماً، وهو من شعر الحماسة
أيضاً:
ونظير
المعنى الأول أيضاً قول بعضهم من شعر الحماسة:
ومنه
قول عويف القوافي:
وممن
حسن الجبن والفرار بعض الشعراء في قوله:
ومن
هذا قول أيمن بن خريم الأسدي:
وممن
عرف بالجبن أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد، عيره عبد الملك بن مروان فقال:
وقال
أخر:
وقال
أخر:
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أخبار الجبناء ونوادرهم
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن أخبار الجبناء ما رواه ابن قتيبة في كتاب "عيون
الأخبار" قال: رأى عمرو بن العاص معاوية يوماً فضحك، وقال: مم
تضحك يا أمير المؤمنين، أضحك الله سنك؛ قال: أضحك
من حضور ذهنك عند إبدائك سوءتك يوم ابن أبي
طالب؛ والله لقد وجدته مناناً كريماً ولوشاء
أن يقتلك لقتلك فقال عمرو: يا أمير
المؤمنين، أما والله إني لعن يمينك حين دعاك إلى البراز فاحولت عيناك، وانتفخ سحرك، وبدا منك ما أكره ذكره لك؛
فمن نفسك فاضحك أو فدع. قال ابن قتيبة: وقدم
الحجاج على الوليد بن عبد الملك، وعليه درعٌ
وعمامة سوداء وقوس عربية وكنانة، فبعثت أم البنين
بنت عبد العزيز بن مروان إلى الوليد - وهي تحته يومئذ: من هذا الأعرابي
المستلئم في السلاح عندك على خلوة، وأنت في غلالة؟ فأرسل
إليها الوليد: إنه الحجاج، فأعادت عليه الرسول: والله
لأن يخلو بك ملك الموت أحب إلي من أن يخلو بك الحجاج، فضحك وأخبر الحجاج
بقولها وهو يمازحه، فقال الحجاج: يا أمير
المؤمنين، دع عنك مفاكهة النساء بزخرف القول،
فإنما المرأة ريحانة وليست بقهرمانة؛ فلا تطلعها
على سرك، ومكايدة عدوك. أما والله لو نفض
نساء أمير المؤمنين الطيب من غدائرهن فبعنه في أعطية أهل الشام حين كنت في أضيق
من القرن، قد أظلتك الرماح، وأثخنك الكفاح؛ وحين كان أمير المؤمنين أحب
إليهم من آبائهم وأبنائهم؛ فأنجاك الله من عدو أمير المؤمنين بحبهم إياه؛ قاتل الله القائل حين ينظر إليك وسنان غزالة بين كتفيك:
ثم قالت لجواريها: أخرجنه، فأخرج. ومن طريف حكايات الجبناء ما ذكره ابن قتيبة أيضاً في الكتاب
المذكور؛ قال
كان بالبصرة شيخٌ من بني نهشل بن دارم، يقال له عروة بن مرثد، ويكنى أبا الأعز،
ينزل في بني أخت له من الأزد في سكة بني مازن، فخرج رجالهم إلى ضياعهم في شهر
رمضان، وخرج النساء يصلين في مسجدهم، ولم يبق في
الدار إلا إماء، فدخل كلب يتعسس، فرأى بيتاً مفتوحاً فدخله، وانصفق الباب
عليه، فسمع بعض الإماء الحركة، فظنوا أنه لص دخل
الدار، فذهبت إحداهن إلى أبي الأعز، فأخبرته، فقال
أبو الأعز: إلام يبتغي اللص عندنا وأخذ عصاه، وجاء حتى وقف بباب البيت، وقال: إيه يا فلان؛ أما والله إني بك لعارف، فهل
أنت من لصوص بني مازن؛ شربت حامضاً خبيثاً، حتى إذا دارت في رأسك منتك نفسك
الأماني، وقلت: أطرق دور بني عمرو، والرجال
خلوف، والنساء يصلين في مسجدهن، فأسرقهم. سوءةً لك والله ما يفعل هذا ولد
الأحرار وايم الله لتخرجن أو لأهتفن هتفة مشؤومة
يلتقي فيها الحيان: عمرو وحنظلة، وتجيء سعد عدد الحمى، وتسيل عليك
الرجال، من هنا وهنا، ولئن فعلت لتكونن أشأم مولود. ولو عرفتني لقنعت بقولي، واطمأننت إلى ابن
أختي البار الوصول، أنا- فديتك - أبو الأعز النهشليح وأنا
خال القوم، وجلدة بين أعينهم؛ لا يعصونني، ولا تضار الليلة وأنت في ذمتي، وعندي
قوصرتان، أهداهما إلي ابن أختي البار الوصول، فخذ إحداهما، فانبذها حلالاً من
الله ورسوله. سبحان
الله؛ ما أكثرها وأطيبها؛ والله ما أنت ببعيد من تابعها، والرسوب في تيار لجتها.
وقال
آخر يعيره بذلك:
ومن كلام ابن المقفع في ذم الجبن: الجبن
مقتلة، والحرص محرمة؛ فانظر فيما رأيت وسمعت: من قتل في الحرب مقبلاً أكثر أم من
قتل مدبراً؛ وانظر من يطلب إليك بالإجمال والتكرم أحق أن تسخو نفسك له بالعطية،
أم من يطلب ذلك بالشره والحرص. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وقال في سحرة اليوم الذي ضرب فيه
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: ملكتني
عيني وأنا جالس، فسنح لي رسول الله صلى الله عليه وآله، فقلت: يا رسول الله ماذا
لقيت من أمتك من الأود واللدد؛ فقال: أدع عليهم، فقلت: أبدلني الله بهم خيراً
منهم، وأبدلهم بي شراً لهم قال الرضي رحمه الله:
يعني بالأود الاعوجاج، وباللدد الخصام، وهذا من
أفصح الكلام. و
"شراً" ههنا لا يدل على أن فيه شراً، كقوله: "قل
أذلك خيرٌ أم جنة الخلد" لا يدل على أن في النار خيراً. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
مقتل الامام علي عليه السلام
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ويجب أن نذكر في هذا الموضع مقتله
رضي الله عنه؛ وأصح ما ورد في ذلك ما ذكره أبو الفرج علي بن الحسين الأصفهاني في كتاب "مقاتل
الطالبيين". فتعاقدوا عند انقضاء الحج، فقال عبد الرحمن بن ملجم: أنا
أكفيكم علياً، وقال واحد: أنا أكفيكم
معاوية، وقال الثالث: أنا أكفيكم عمرو بن
العاص، فتعاقدوا وتواثقوا على الوفاء، وألا ينكل أحد منهم عن صاحبه الذي يتوجه
إليه ولا عن قتله، واتعدوا لشهر رمضان، في الليلة
التي قتل فيها ابن ملجم علياً. قال أبو الفرج: قال أبو
مخنف: قال أبو زهير العبسي: الرجلان
الاخران البرك بن عبد الله التميمي؛ وهو
صاحب معاوية، وعمرو بن بكر التميمي، وهو
صاحب عمرو بن العاص. هذه رواية إسماعيل بن راشد. وقال غيره من الرواة:
بل قتله من وقته.
قال أبو الفرج:
وقد روي لنا من طرق غير هذه، أن علياً أعطى الناس، فلما
بلغ ابن ملجم أعطاه، وقال له:
قال أبو الفرج:
وحدثني أحمد بن عيسى العجلي بإسناد ذكره في الكتاب،
إلى أبي زهير العبسي، قال: كان ابن ملجم من مراد وعداده في كندة، فأقبل حتى قدم الكوفة، فلقي بها أصحابه وكتمهم أمره،
وطوى عنهم ما تعاقد هو وأصحابه عليه بمكة من قتل أمراء المسلمين مخافة أن ينتشر،
وزار رجلاً من أصحابه ذات يوم من بني تيم الرباب،
فصادف عنده قطام بنت الأخضر، من بني تيم الرباب - وكان علي قتل أخاها وأباها بالنهروان، وكانت من أجمل نساء أهل
زمانها - فلما رآها شغف بها، واشتد إعجابه فخطبها، فقالت
له: ما الذي تسمي لي من الصداق؟ فقال: احتكمي ما بدا لك، فقالت: أحتكم عليك ثلاثة آلاف درهم ووصيفاً وخادماً، وأن
تقتل علي بن أبي طالب. فقال لها: لك جميع ما سألت، وأما قتل علي فأني لي بذلك؛ قالت تلتمس غرته، فإن أنت قتلته شفيت نفسي؛ وهنأك العيش معي؛ وإن قتلت فما
عند الله خير لك من الدنيا، فقال لها: أما والله ما أقدمني هذا المصر،
وقد كنت هارباً منه لأمن أهله، إلا ما سألتني من
قتل علي. قال أبو الفرج:
فدعت لهم بحريرٍ فعصبت به صدورهم، وتقلدوا سيوفهم، ومضوا فجلسوا مقابل السدة
التي كان يخرخ منها علي رضي الله عنه إلى الصلاة. قال أبو الفرج:
وللأشعث بن قيس في انحرافه عن أمير المؤمنين أخبار
يطول شرحها، منها حديث حدثنيه محمد بن الحسين الأشنانداني، قال: حدثني
إسماعيل بن موسى: قال: حدثنا علي بن مسهر، عن الأجلح، عن موسى بن أبي النعمان قال: جاء الأشعث إلى علي يستأذن عليه، فرده قنب، فأدمى
الأشعث أنفه، فخرج علي وهو يقول: مالي ولك يا أشعث؛ أما والله لو بعبد
ثقيف تمرست لاقشعرت شعيراتك؛ قيل: يا أمير
المؤمنين، ومن عبد ثقيف؛ قال: غلامٌ لهم لا يبقي
أهل بيت من العرب إلا أدخلهم ذلاً، قيل: يا أمير المؤمنين، كم يلي - أو كم يمكث؟
قال: عشرين، إن بلغها. قال أبو مخنف: فهمدان تذكر
أن رجلاً منهم، يكنى أبا أدماء أخذ ابن ملجم. وقال غيرهم: بل أخذه المغيرة بن الحارث بن عبد المطلب، طرح عليه قطيفة ثم
صرعه، وأخذ السيف من يده وجاء به. قال أبو مخنف: فحدثني أبي، عن عبد الله بن محمد الأزدي، قال: أدخل ابن ملجم على علي رضي الله عنه، ودخلت عليه
فيمن دخل، فسمعت علياً يقول: النفس بالنفس، إن أنا مت فاقتلوه كما قتلني،
وإن سلمت رأيت فيه رأيي؛ فقال ابن ملجم: ولقد
اشتربته بألفٍ - يعني السيف -، وسممته بألف، فإن خانني فأبعده الله؛ قال: فنادته أم كلثوم: يا عدو الله، قتلت أمير
المؤمنين؛ قال إنما قتلت أباك، قالت: يا عدو
الله؛ إني لأرجو ألا يكون عليه بأس، قال: فأراك
إنما تبكين علياً إذاً والله لقد ضربته ضربة لو قسمت بين أهل الأرض لأهلكتهم.
قال:
وانصرف الناس من صلاة الصبح، فأحدقوا بابن ملجم،
ينهشون لحمه بأسنانهم كأنهم السباع، ويقولون: يا
عدو الله، ماذا صنعت؛ أهلكت أمة محمد، وقتلت خير الناس؛ وإنه لصامت ما ينطق. قال أبو الفرج: ثم جمع له أطباء الكوفة، فلم يكن منهم أحدٌ أعلم بجرحه من
أثير بن عمرو بن هانئ السكوني – وكان متطبباً صاحب
كرسي يعالج الجراحات، وكان من الأربعين غلاماً الذين كان خالد بن الوليد أصابهم
في عين التمر فسباهم - فلما نظر أثير إلى جرح أمير المؤمنين دعا برئة شاة حارة،
فاستخرج منها عرقاص، وأدخله في الجرح، ثم نفخه، ثم استخرجه، وإذا عليه بياض الدماغ، فقال:
يا أمير المؤمنين، اعهد عهدك؛ فإن عدو الله قد وصلت
ضربته إلى أم رأسك. فدعا علي رضي الله عنه عند ذلك بدواة
وصحيفة، وكتب وصيته: هذا ما أوصى به أمير
المؤمنين علي بن أبي طالب؛ أوصى بأنه يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده
ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون؛ صلوات
الله وبركاته عليه؛ إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له،
وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين. اوصيك يا حسن وجميع ولدي وأهل بيتي ومن بلغه
كتابي هذا بتقوى الله ربنا وربكم، ولا تموتن إلا وأنتم
مسلمون، واعتصموا بحبل الله جميعاًولا تفرقوا، فإني
سمعت رسول الله يقول: "صلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام،
وإن المبيرة حالقة الدين إفساد ذات البين، ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. انظروا إلى
ذوي أرحامكم فصلوها يهون الله عليكم الحساب. والله الله في الأيتام فلا تغيرن
أفواههم بجفوتكم. والله الله في جيرانكم، فإنها وصية رسول الله صلى الله عليه
وسلم؛ فما زال يوصينا بهم حتى ظننا أنه سيورثهم الله؛ والله الله في القرآن فلا
يسبقنكم بالعمل به غيركم، والله الله في الصلاة، فإنها عماد دينكم، والله الله
في صيام شهر رمضان فإنه جنة من النار. والله الله في الجهاد بأموالكم وأنفسكم، والله الله
في زكاة أموالكم، فإنها تطفىء غضب ربكم، والله الله في أهل بيت نبيكم فلا يظلمن
بين أظهركم، والله الله في أصحاب نبيكم فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى
بهم. والله الله في الفقراء والمساكين فأشركوهم في
معايشكم. والله الله فيما ملكت أيمانكم فإنه كانت آخر وصية رسول الله صلى الله
عليه وسلم إذ قال: "أوصيكم بالضعيفين؛ فيما ملكت أيمانكم"، ثم الصلاة
الصلاة لا تخافوا في الله لومة لائم يكفكم من بغى عليكم، ومن أرادكم بسوء. قولوا للناس حسناً، كما أمركم الله به، ولا تتركوا
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيتولى ذلك غيركم، وتدعون فلا يستجاب لكم.
عليكم بالتواضع والتباذل والتبار، وإياكم والتقاطع والتفرق والتدابر، تعاونوا
على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان، واتقوا الله إن الله شديد
العقاب. حفظكم الله من أهل بيت، وحفظ فيكم نبيه، أستودعكم الله
خيرمستودع، وعليكم سلام الله ورحمته. أحدهما لا
تجيعوهم، فإن المجائع يخلف فمه، وتتغير نكهته. والثاني:
لا تحوجوهم إلى تكرار الطلب والسؤال، فإن السائل ينضب ريقه وتنشف لهواته، ويتغير
ريح فمه. وقوله
حكاية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أوصيكم بالضعيفين فيما ملكت أيمانكم". يعني به الحيوان الناطق والحيوان
الأعجم. قال أبو الفرج:
قال: حدثني أحمد بن عيسى، قال: حدثنا الحسين بن نصر، قال: حدثنا زيد بن المعدل،
عن يحيى بن شعيب، عن أبي مخنف، عن فضيل بن خديج، عن الأسود الكندي والأجلح؛
قالا، توفي علي رضي الله عنه وهو
ابن أربع وستين سنة في عام أربعين من الهجرة، ليلة الأحد لإحدى وعشرين ليلة مضت
من شهر رمضان، وولي غسله ابنه الحسن وعبد الله بن العباس، وكفن في ثلاثة أثواب
ليس فيها قميص، وصلى عليه ابنه الحسن، فكبر خس
تكبيرات، ودفن بالرحبة، مما يلي أبواب كندة عند صلاة الصبح، هذه رواية أبي مخنف. قال أبو الفرج: وحدثني أحمد
بن سعيد، قال: حدثنا يحيى بن الحسن العلوي، قال: حدثنا يعقوب بن زيد، عن ابن أبي
عمير، عن الحسن بن علي الخلال، عن جده، قال: قلت للحسين بن علي رضي الله عنه: أين دفنتم أمير المؤمنين رضي الله عنه؟ قال: خرجنا به ليلاً من منزله حتى مررنا به على منزل
الأشعث بن قيس، ثم خرجنا به إلى الظهر بجنب الغري. قلت: وهذه
الرواية هي الحق وعليها العمل؛ وقد قلنا فيما تقدم أن أبناء الناس أعرف
بقبور آبائهم من غيرهم من الأجانب، وهذا القبر الذي بالغري، هو الذي كان بنو علي
يزورونه قديماً وحديثاً؛ ويقولون: هذا قبر
أبينا، لا يشك أحد في ذلك من الشيعة، ولا من غيرهم؛ أعني بني علي من ظهر الحسن والحسين
وغيرهما من سلالته، المتقدمين منهم والمتأخرين، ما زاروا ولا وقفوا إلا على هذا
القبر بعينه. وأنشدني قول الشاعر يرثي زياداً، وقد ذكره أبو تمام في الحماسة:
وسألت قطب الدين نقيب الطالبيين أبا عبد الله الحسين بن الأقساسي
رحمه الله تعالى عن ذلك، فقال:
صدق من أخبرك؛ نحن وأهلها كافة نعرف مقابر ثقيف إلى الثوية، وهي إلى اليوم
معروفة، وقبر المغيرة فيها، إلا أنها لا تعرف، وقد ابتلعها السبخ وزبد الأرض
وفورانها، فطمست واختلط بعضها ببعض. ثم قال: إن شئت
أن تتحقق أن قبر المغيرة في مقابر ثقيف فانظر إلى كتاب الأغاني لأبي الفرج علي
بن الحسين، والمح ما قاله في ترجمة المغيرة، وأنه مدفون في مقابر ثقيف، ويكفيك
قول أبي الفرج، فإنه الناقد البصير، والطبيب الخبير؛ فتصفحت ترجمة المغيرة في
الكتاب المذكور، فوجدت الأمر كما قاله النقيب. قال أبو الفرج:
كان مصقلة بن هبيرة الشيباني قد لاحى المغيرة في شيء كان بينهما منازعة، فضرع له
المغيرة وتواضع في كلامه، حتى طمع فيه مصقلة، فاستعلى عليه وشتمه، وقال: إني
لأعرف شبهي في عروة ابنك، فأشهد المغيرة على قوله هذا شهوداً، ثم قدمه إلى شريح
القاضي، فأقام عليه البينة، فضربه شريح الحد وآلى مصقلة ألا يقيم ببلدة فيها
المغيرة، فلم يدخل الكوفة، حتى مات المغيرة، فدخلها، فتلقاه قومه فسلموا عليه،
فما فرغ من السلام حتى سألهم عن مقابر ثقيف، فأرشدوه إليها، فجعل قوم من مواليه
يلتقطون الحجارة، فقال لهم: ما هذا؟ فقالوا: نظن
أنك تريد أن ترجم قبر المغيرة، فقال: ألقوا ما في أيديكم فانطلق حتى وقف
على قبره، ثم قال: والله لقد كنت - ما علمت
- نافعاً لصديقك، ضاراً لعدوك، وما مثلك إلا كما قال
مهلهل في كليب أخيه:
قال أبو الفرج:
فأما ابن ملجم، فإن الحسن بن علي بعد دفنه
أمير المؤمنين دعا به وأمر بضرب عنقه، فقال له: إن رأيت أن تأخذ علي العهود أن
أرجع إليك حتى أضع يدي في يدك، بعد أن أمضي إلى الشام، فأنظر ما صنع صاحبي
بمعاوية، فإن كان قتله وإلا قتلته ثم عدت إليك حتى تحكم في حكمك. فقال: هيهات،
والله لا تشرب الماء البارد حتى تلحق روحك بالنار، ثم ضرب عنقه، واستوهبت أم
الهيثم بنت الأسود النخعية جثته منه، فوهبها لها، فأحرقتها بالنار. وقال ابن أبي مياس الفزاري، وهو من الخوارج:
وقال
عبد الله بن العباس بن عبد المطلب:
قال أبو الفرج: وأنشدني عمي الحسن بن محمد، قال: أنشدني محمد بن سعد، لبعض
بني عبد المطلب، يرثي علياً، ولم يذكر اسمه:
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن كلام له في ذم أهل العراق
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: أما
بعد يا أهل العراق، فإنما أنتم كالمرأة الحامل، حملت فلما أتمت أملصت ومات
قيمها، وطال تأيمها، وورثها أبعدها. أما والله
ما أتيتكم أختياراً؛ ولكن جئت إليكم سوقاً، ولقد
بلغني أنكم تقولون: عليٌ يكذب، قاتلكم الله تعالى؛ فعلى من أكذب؛ أعلى
الله فأنا أول من آمن به؛ أم على نبيه؛ فأنا أول من صدق به؛ كلا والله؛ لكنها
لهجةٌ غبتم عنها، ولم تكونوا من أهلها، ويل امه كيلاً بغير ثمنٍ لو كان له وعاء،
ولتعلمن نبأه بعد حين. الشرح: أملصت الحامل:
ألقت ولدها سقاطاً وقيمها: بعلها. وتأيمها:
خلوها عن الأزواج؛ يقول: لما شارفتم استئصال أهل
الشام، وظهرت أمارات الظفر لكم، ودلائل الفتح، نكصتم وجنحتم إلى السلم والإجابة
إلى التحكيم عند رفع المصاحف، فكنتم كالمرأة الحامل لما أتمت أشهر حملها
ألقت ولدها إلقاء غير طبيعي؛ نحو أن تلقيه لسقطةٍ أو ضربة أو عارض يقتضي أن
تلقيه هالكاً. ثم لم يكتف لهم بذلك، حتى قال:
"ومات بعلها، وطال تأيمها، وورثها أبعدها"، أي لم يكن لها ولد وهو
أقرب المخلفين إلى الميت، ولم يكن لها بعل فورثها الأباعد عنها، كالسافلين من
بني عم، وكالمولاة تموت من غير ولد ولا من يجري مجراه، فيرثها
مولاها ولا نسب بينها وبينه. ثم أقسم أنه لم يأتهم اختياراً، ولكن المقادير
ساقته إليهم سوقاً، يعني اضطراراً. وصدق رضي الله عنه،
لأنه لولا يوم الجمل لم يحتج إلى الخروج من المدينة إلى العراق، وإنما استنجد بأهل الكوفة على أهل البصرة، اضطراراً
إليهم، لأنه لم يكن جيشه الحجازي وافياً
بأهل البصرة الذين أصفقوا على حربه ونكث بيعته، ولم يكن خروجه عن المدينة - وهي دار الهجرة - ومفارقته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقبر
فاطمة عن إيثار ومحبة؛ ولكن الأحوال تحكم وتسوق
الناس إلى ما لا يختارونه ابتداء. وقد روي هذا الكلام على وجه آخر: "ما أتيتكم
اختياراً، ولا جئت إليكم شوقاً" بالشين المعجمة. ثم قال: "بلغني أنكم
تقولون: يكذب"؛ وكان كثيراً ما يخبر عن الملاحم والكائنات ويومىء
إلى أمور أخبره بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول
المنافقون من أصحابه: يكذب كما كان المنافقون الأولون في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون
عنه: يكذب. وروى صاحب كتاب " الغارات" عن الأعمش، عن
رجاله، قال: خطب علي رضي الله عنه، فقال:
والله لو أمرتكم فجمعتم من خياركم مائة، ثم
لو شئت لحدثتكم من غدوة إلى
أن تغيب الشمس؛ لا أخبرتكم إلا حقاً؛ ثم لتخرجن فلتزعمن أني أكذب الناس وأفجرهم. وقد روى صاحب هذا الكتاب وغيره من الرواة أنه قال:
إن أمرنا صعب مستصعب، لا يحمله إلا ملك مقرب، أو نبيٌ مرسل، أو عبدٌ امتحن الله
قلبه للإيمان. وهذا
الكلام منه كلام عارفٍ عالم بأن في الناس من لا يصدقه فيما يقول؛ وهذا أمر مركوز
في الجبلة البشرية، وهو استبعاد الأمور الغريبة، وتكذيب الإخبار بها. وإذا تأملت
أحواله في خلافته كلها وجدتها هي مختصرة من أحوال
رسول الله صلى الله عليه وسلم فى حياته؛ كأنها نسخة
منتسخة منها، في حربه وسلمه، وسيرته وأخلاقه، وكثرة شكايته من المنافقين من
أصحابه والمخالفين لأمره؛ وإذا أردت أن تعلم ذلك علماً واضحاً، فاقرأ سورة
"براءة" ففيها الجم الغفير من المعنى الذي أشرنا إليه. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
مطاعن النظام على الإمام علي والرد عليه
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
واعلم أن النظام لما تكلم في كتاب
"النكت"، وانتصر لكون الإجماع ليس بحجة،
اضطر إلى ذكر عيوب الصحابة، فذكر لكل منهم
عيباً، ووجه إلى كل واحد منهم طعناً، وقال في علي: إنه
لما حارب الخوارج يوم النهروان، كان يرفع رأسه إلى
السماء تارة ينظر إليها، ثم يطرق إلى الأرض فينظر إليها تارةً أخرى، يوهم أصحابه
أنه يوحى إليه، ثم يقول: "ما كذبت ولا
كذبت"، فلما فرغ من قتالهم وأديل عليهم، ووضعت الحروب أوزارها، قال الحسن ابنه: يا أمير المؤمنين، أكان رسول الله
صلى الله عليه وسلم تقدم
إليك في أمر هؤلاء بشيء؛ فقال: لا، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني بكل حق، ومن الحق أن أقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين. قال النظام:
وقوله: "ما كذبت ولا كذبت"، ورفعه
رأسه أحياناً إلى السماء وإطراقه إلى الأرض إيهام؛ إما
لنزول الوحي عليه، أو لأنه قد اوصي من قبل في شأن الخوارج بأمر. ثم هو يقول:
ما أوصي فيهم على خصوصيتهم بأمر؛ وإنما أوصي بكل الحق، وقتالهم من الحق، وهذا عجيب طريف. فنقول:
إن النظام أخطأ عندنا في تعريضه بهذا الرجل خطأ قبيحاً، وقال قولاً منكراً؛ نستغفر الله له من عقابه، ونسأله عفوه عنه؛ وليست الرواية التي رواها عن الحسن وسؤاله لأبيه وجوابه له،
بصحيحة ولا معروفة، والمشهور
المعروف المنقول نقلاً يكاد يبلغ درجة المتواتر من الأخبار، ما روي عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم في
معنى الخوارج بأعيانهم وذكرهم بصفاتهم، وقوله صلى الله عليه
وسلم
لعلي
رضي الله عنه: "إنك مقاتلهم وقاتلهم،
وإن المخدج ذا الثدية منهم؛ وإنك ستقاتل بعدي الناكثين والقاسطين
والمارقين"؛ فجعلهم أصنافاً ثلاثة حسب ما وقعت
الحال عليه. وهذا من معجزات الرسول صلى
الله عليه وسلم، وإخباره عن
الغيوب المفصلة. فما أعلم من أي كتاب نقل النظام هذه
الرواية، ولا عن أي محدث رواها، ولقد كان رحمه الله لعالى بعيداً عن معرفة
الأخبار والسير منصباً فكره، مجهداً نفسه في الأمور النظرية الدقيقة. كمسألة الجزء، ومداخلة الأجسام وغيرهما، ولم يكن الحديث والسير من فنونه ولا من علومه؛ ولا
ريب أنه سمعها ممن لا يوثق بقوله، فنقلها كما
سمعها. فأما كونه رضي الله عنه كان ينظر تارةً إلى السماء، وتارةً إلى الأرض. وقوله: "ما كذبت ولا
كذبت"، فصحيح وموثوق بنقله، لاستقامته
وشهرته وكثرة رواته؛ والوجه في ذلك أنه استبطأ وجود المخدج حيث طلبه في جملة
القتلى. فلما طال الزمان، وأشفق من دخول شبهة على أصحابه لما كان قدمه إليهم من
الأخبار قلق واهتم. وجعل يكرر قوله: "ما كذبت
ولا كذبت" أي ما كذبت على رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا كذبني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما
أخبرني به. فأما رفعه رأسه إلى السماء تارة، وإطراقه إلى الأرض أخرى؛ فإنه حيث
كان يرفع رأسه، كان يدعو ويتضرع إلى الله في تعجيل
الظفر بالمخدج؛ وحيث يطرق كان يغلبه الهم والفكر فيطرق. ثم حين يقول: "ما كذبت ولا كذبت"،
كيف ينتظر نزول الوحي، فإن من نزل عليه الوحي لا يحتاج أن يسند الخبر إلى غيره،
ويقول: ما كذبت فيما أخبرتكم به عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم. ومما طعن له النظام عليه أنه رضي
الله عنه قال: إذا
حدثتكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو
كما حدثتكم، فوالله لأن أخر من السماء أحب إلي من أن أكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا
سمعتموني أحدثكم فيما بيني وبينكم؛ فإنما الحرب خدعة. قال النظام: هذا يجري مجرى التدليس في الحديث، ولو لم يحدثهم عن رسول الله بالمعاريض؛ وعلى
طريق الإيهام لما اعتذر من ذلك. فنقول في الجواب:
إن النظام قد وهم وانعكس عليه مقصد أمير المؤمنين؛
وذلك أنه رضي الله عنه لشدة
ورعه أراد أن يفصل للسامعين بين ما يخبر به عن نفسه، وبين ما يرويه عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لأن
الضرورة ربما تدعوه إلى استعماله المعاريض، لا سيما في الحرب المبنية على
الخديعة والرأي؛ فقال لهم: كلما أقول لكم
قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاعلموا
أنه سليمٌ من المعاريض، خالٍ من الرمز والكناية، لأني لا أستجيز ولا أستحل أن
اعمي أو ألغز في حديث رسول الله صلى
الله عليه وسلم. وما حدثتكم به عن نفسي، فربما أستعمل فيه المعاريض؛
لأن الحرب خدعة. وهذا كلام رجل قد استعمل التقوى والورع في جميع أموره، وبلغ من
تعظيم أمر الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام، وإجلال قدره واحترام حديثه ألا
يرويه إلا بألفاظه لا بمعانيه، ولا بأمر يقتضي فيه إلباساً وتعميةً، ولو كان مضطراً إلى
ذلك؛ ترجيحاً للجانب الذي على جانب مصلحته في خاص نفسه. فأما إذا هو قال
كلاماً يبتدىء به من نفسه، فإنه قد يستعمل فيه المعاريض إذا اقتضت الحكمة
والتدبير ذلك؛ فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم باتفاق الرواة كافة إذا أراد أن
يغزو وجهاً ورى عنه بغيره، ولما خرج رضي الله عنه من
المدينة لفتح مكة، قال لأصحابه كلاماً يقتضي أنه
يقصد بني بكر بن عبد مناة من كنانة، فلم يعلموا حقيقة حاله حتى شارف مكة.
وقال حين هاجر وصحبه أبو بكر الصديق لأعرابي
لقيهما: من أين أنت؟ وممن أنت؟ فلما انتسب لهما، قال له الأعرابي: أما أنا فقد
أطلعتكما طلع أمري؛ فممن أنت؟ فقال: من ماء، لم يزده على ذلك؛ فجعل
الأعرابي يفكر، ويقول: من أي ماء؟ من ماء بني فلان، من ماء بني فلان؛ فتركه ولم
يفسر له؛ وإنما أراد رضي الله عنه أنه مخلوقٌ من نطفة. فأما قول النظام: "لو لم يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمعاريض لما اعتذر من ذلك"؛ فليس في كلامه اعتذار؛
ولكنه نفى أن يدخل المعاريض في روايته؛ وأجازها فيما يبتدىء عن نفسه؛ وليس يتضمن
هذا اعتذاراً. وقوله: "لأن
أخر من السماء" يدل على أنه ما فعل ذلك ولا يفعله. أو يقول:
كنت معه يوم كذا؛ فسمعت منادياً يناديه من السماء: افعل كذا، أو نحو ذلك من
الإخبار بأمور لا تستند إلى حديث الرسول. ويمكن أن يعني بها لهجته هو، فيقول: إنها لهجة غبتم عن منافعها، وأعدمتم
أنفسكم ثمن مناصحتها. فقال:
"ويلمه"، وهذه كلمة تقال للتعجب
والاستعظام؛ يقال: "ويلمه فارساً"
وتكتب موصولة كما هي بهذه الصورة، وأصله "ويل أمه" مرادهم التعظيم والمدح،
وإن كان اللفظ موضوعاً لضد ذلك، كقوله عليه الصلاة
والسلام: "فاظفر بذات الدين تربت يداك"، وكقولهم للرجل يصفونه
ويقرظونه: "لا أبا له". وقال الحسن
البصري؛ وهو يذكر علياً رضي الله عنه، ويصف كونه على الحق في جميع أموره؛ حتى قال: "فلما شارف الظفر وافق على
التحكيم، وما لك في التحكيم والحق في يدك، لا أبا لك".
قال: أشهد أن لا أب له ولا صاحبة ولا ولد، فأخرجها
أحسن مخرج. ثم قال رضي الله عنه:
"كيلاً بغير ثمن لو كان له وعاء"، انتصب "كيلاً" لأنه مصدر
في موضع الحال، ويمكن أن ينتصب على التمييز، كقولهم:
لله دره فارساً يقول: أنا أكيل لكم العلم والحكمة كيلاً ولا أطلب لذلك ثمناً لو
وجدت وعاء أي حاملاً للعلم؛ وهذا مثل قوله رضي الله عنه: ها
إن بين جنبي علماً جماً لو أجد له حملةً. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
خطبة بعد انقضاء أمر النهروان
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وروى المدائني في كتاب
"صفين"، قال: خطب علي رضي
الله عنه بعد انقضاء أمر النهروان، فذكر طرفاً من الملاحم، قال: إذا كثرت
فيكم الأخلاط، واستولت الأنباط؛ دنا خراب العراق، ذاك إذا بنيت مدينة ذات أثلٍ
وأنهار. فإذا غلت فيها الأسعار، وشيد فيها البنيان، وحكم
فيها الفساق، واشتد البلاء، وتفاخر الغوغاء؛ دنا خسوف البيداء، وطاب الهرب
والجلاء. وستكون قبل
الجلاء أمورٌ يشيب منها الصغير، ويعطب الكبير، ويخرس الفصيح ويبهت اللبيب؛
يعاجلون بالسيف صلتاً، وقد كانوا قبل ذلك في غضارة من عيشهم يمرحون. فيا لها
مصيبة حينئذ من البلاء العقيم، والبكاء الطويل، والويل والعويل، وشدة الصريخ؛ في
ذلك أمر الله - وهو كائن، وقتاً - يريج. فيا بن حرة الإماء، متى تنتظر أبشر
بنصرٍ قريب من رب رحيم. ألا فويلٌ للمتكبرين؛ عند حصاد الحاصدين، وقتل
الفاسقين. عصاة ذي العرش العظيم؛ فبأبي وأمي من عدة قليلة؛ أسماؤهم في الأرض
مجهولة. قد دنا حينئذ ظهورهم، ولو شئت لأخبرتكم بما يأتي
ويكون من حوادث دهركم ونوائب زمانكم، وبلايا أيامكم، وغمرات ساعاتكم، ولكنه
أفضيه إلى من أفضيه إليه، مخافة عليكم، ونظراً لكم؛ علماً مني بما هو كائن وما
يكون من البلاء الشامل؛ ذلك عند تمرد الأشرار، وطاعة أولي الخسار ذاك أوان الحتف
والدمار، ذاك إدبار أمركم، وانقطاع أصلكم وتشتت إلفتكم؛ وإنما يكون ذلك عند ظهور
العصيان، وانتشار الفسوق؛ حيث يكون الضرب بالسيف أهون على المؤمنين من اكتساب
درهم حلال؛ حين لا تنال المعيشة إلا بمعصية الله في سمائه، حين تسكرون من غير
شراب، وتحلفون من غير اضطرار، وتظلمون من غير منفعة، وتكذبون من غير إحراج. تتفكهون
بالفسوق، وتبادرون بالمعصية. قولكم البهتان، وحديثكم الزور، وأعمالكم الغرور؛
فعند ذلك لا تأمنون البيات، فيا له من بيات ما أشد ظلمته؛ ومن صائح ما أفظع
صوته؛ ذلك بيات لا ينمي صاحبه؛ فعند ذلك تقتلون، وبأنواع البلاء تضربون، وبالسيف
تحصدون، وإلى النار تصيرون، ويعضكم البلاء كما يعض الغارب القتب. يا عجباً كل
العجب، ببن جمادى ورجب؛ من جمع أشتات، وحصد نبات، ومن أصوات بعدها أصوات. ثم قال: سبق القضاء سبق القضاء. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
بعض مما قاله عليه السلام
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وروى المدائني أيضاً، قال: خطب علي رضي
الله عنه، فقال:
لو كسرت لي الوسادة لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم، وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم،
وبين أهل الفرقان بفرقانهم، وما من آية في كتاب الله أنزلت في سهل أو جبل إلا
وأنا عالم متى أنزلت، وفيمن أنزلت. وروى صاحب كتاب "الغارات"
عن المنهال بن عمرو، عن عبد الله بن الحارث، قال: سمعت علياً يقول على المنبر: ما
أحدٌ جرت عليه الموالمي إلا وقد أنزل الله فيه قرآناً؛ فقام إليه رجل، فقال: يا
أمير المؤمنين، فما أنزل الله تعالى فيك؛ قال: يريد تكذيبه. فقام الناس إليه
يلكزونه في صدره وجنبه، فقال: دعوه، أقرأت سورة هود؟ قال نعم، قال: أقرأت قوله سبحانه: "أفمن كان على بينةٍ من ربه ويتلوه شاهدٌ
منه" قال: نعم، قال: صاحب البينة محمد، والتالي الشاهد أنا. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
خطبة له علم فيها الناس الصلاة على النبي صلى الله
عليه وأله وصحبه وسلم
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: اللهم
داحي المدحوات، وداعم المسموكات، وجابل القلوب على فطراتها شقيها وسعيدها؛ اجعل
شرائف صلواتك، ونوامي بركاتك، على محمدٍ عبدك ورسولك. الخاتم لما سبق، والفاتح
لما انغلق، والمعلن الحق بالحق، والدافع جيشات الأباطيل، والدامغ صولات
الأضاليل. كما
حمل فاضطلع، قائماً بأمرك، مستوفزاً في مرضاتك، غير ناكلٍ عن قدمٍ، ولا واهٍ في
عزمٍ، واعياً لوحيك، حافظاً لعهدك. ماضياً
على نفاذ أمرك؛ حتى أورى قبس القابس، وأضاء الطريق للخابط، وهديت به القلوب بعد
خوضات الفتن والآثام. وأقام بموضحات الأعلام ونيرات الأحكام، فهو أمينك المأمون،
وخازن علمك المخزون، وشهيدك يوم الدين، وبعيثك بالحق، ورسولك إلى الخلق. وداحي
المدحوات، ينتصب لأنه منادى مضاف، تقديره: يا باسط الأرضين المبسوطات. قوله:
"وداعم المسموكات"، أي حافظ السموات المرفوعات؛ دعمت الشيء إذا حفظته
من الهوي بدعامة، والمسموك: المرفوع، قال:
ويجوز
أن يكون عنى بكونها مسموكة كونها ثخينة. وسمك
الجسم هو البعد الذي يعبر عنه المتكلمون بالعمق وهو قسيم الطول والعرض، ولا شيء
أعظم ثخناً من الأفلاك. قوله: "وجابل القلوب" أي خالقها،
والجبل الخلق، وجبلة الإنسان: خلقته، وفطراتها: بكسر الفاء وفتح الطاء: جمع
فطرة، ويجوز كسر الطاء، كما قالوا في سدرة: سدرات وسدرات، والفطرة: الحالة التي يفطر الله عليها الإنسان، أي
يخلقه عليها خالياً من الآراء والديانات والعقائد والأهوية؛ وهي ما يقتضيه محض
العقل؛ وإنما يختار الإنسان بسوء نظره ما يفضي به إلى الشقوة؛ وهذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "كل مولود
يولد على الفطرة، فإنما أبواه يهودانه أو ينصرانه". والنوامي:
الزوائد. والخاتم لما سبق؛ أي لما سبق من الملل. والفاتح لما انغلق من أمر الجاهلية. والمعلن
الحق بالحق، أي المظهر للحق الذي هو خلاف الباطل بالحق، أي بالحرب والخصومة؛
يقال: حاق فلان فلاناً فحقه، أي خاصمه فخصمه. ويقال: ما فيه حق أي خصومة. قوله: "والدافع جيشات الأباطيل"، جمع جيشة، من جاشت القدر إذا ارتفع
غليانها. والأباطيل:
جمع باطل على غير قياس؛ والمراد أنه قامع ما نجم من الباطل. والدامغ: المهلك، من دمغه أي شجه حتى بلغ
الدماغ؛ ومع ذلك يكون الهلاك. والصولات:
جمع صولة وهي السطوة. والأضاليل: جمع ضلال على غير قياس.
أي
هذه الضربة لبغيك علينا، وتعديك، وقوله: "كما حمل" يعني حمل أعباء
الرسالة. فاضطلع، أي نهض بها قوياً؛ فرس ضليع أي قوي؛ وهي الضلاعة، أي القوة.
مستوفزاً، أي غير بطيء، بل يحث نفسه ويجهدها في رضا الله سبحانه، والوفز:
العجلة، والمستوفز: المستعجل. غير ناكلٍ عن قدم، أي غير جبان ولا متأخر عن
إقدام، والمقدام: المتقدم؛ يقال مضى قدماً أي تقدم وسار ولم يعرج. واعياً لوحيك، أي فاهماً، وعيت الحديث، أي
فهمته وعقلته. ماضياً
على نفاذ أمرك، في الكلام حذف تقديره: ماضياً مصراً على نفاذ أمرك، كقوله تعالى:
"في تسع أيات إلى فرعون"، ولم
يقل: "مرسلاً" لأن الكلام يدل
بعضه على بعض. والقبس:
شعلة من النار؛ والمراد بالقبس ههنا نور الحق، والقابس:
الذي يطلب النار، يقال: قبست منه ناراً،
وأقبسني ناراً؛ أي أعطانيها. وقال الراوندي: أقبست
الرجل علماً، وقبسته ناراً؛ أعطيته؛ فإن كنت طلبتها له قلت: أقبسته ناراً. وهذه الألفاظ كلها
استعارات ومجازات. والأعلام
جمع علم، وهو ما يستدل به على الطريق، كالمنارة ونحوها. والموضحة:
التي توضح للناس الأمور وتكشفها. والنيرات:
ذوات النور.
وخازن علمك، المخزون بالجر صفة "علمك" والعلم الإلهي
المخزون:
هو ما أطلع الله تعالى عليه رسوله من الأمور الخفية التي لا تتعلق بالأحكام
الشرعية كالملاحم وأحكام الآخرة وغير ذلك، لأن الأمور الشرعية لا يجوز أن تكون
مخزونة عن المكلفين . وقوله: "وأعل على بناء البانين بناءه"، أي اجعل منزلته في دار الثواب أعلى
المنازل. وأتمم له نوره، من قوله تعالى: "ربنا
أتمم لنا نورنا". وقد روي أنه تطفأ سائر الأنوار إلا نور محمد صلى الله عليه وسلم، ثم يعطى المخلصون من أصحابه أنواراً
يسيرة يبصرون بها مواطىء الأقدام، فيدعون إلى الله تعالى بزيادة تلك الأنوار
وإتمامها. ثم إن الله تعالى يتم نور محمد صلى الله عليه وسلم، فيستطيل حتى يملأ
الآفاق، فذلك هو إتمام نوره صلى الله عليه وسلم . وقوله: "ذا
منطق عدل"، أي عادل، وهو مصدر أقيم مقام اسم الفاعل؛ كقولك: رجل فطر وصوم، أي مفطر وصائم. وقوله: "وخطبة فصل"
أي يخطب خطبة فاصلة يوم القيامة، كقوله تعالى: "إنه
لقولٌ فصلٌ، وما هو بالهزل"، أي فاصل يفصل بين الحق والباطل؛ وهذا
هو المقام المحمود الذي ذكره الله تعالى في الكتاب، فقال: "عسى أن يبعثك ربك مقاماً محوداً"، وهو الذي يشار إليه في الدعوات في قولهم: "اللهم آت محمداً الوسيلة والفضيلة، والدرجة
الرفيعة، وأبعثه المقام المحمود". قوله: "في برد العيش"؛
تقول العرب: عيش بارد ومعيشة باردة، أي لا حرب فيها ولا نزاع، لأن البرد والسكون
متلازمان كتلازم الحر والحركة. ومنى الشهوات:
ما تتعلق به الشهوات من الأماني. وأهواء اللذات: ما تهواه النفوس وتستلذه. والرخاء، المصدر من قولك: رجل رخي البال فهو بين
الرخاء، أي واسع الحال. والدعة: السكون والطمأنينة، وأصلها الواو. ومنتهى الطمأنينة،
غايتها التي ليس بعدها غاية، والتحف: جمع
تحفة؛ وهي ما يكرم به الإنسان من
البر واللطف، ويجوز فتح الحاء. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
معنى الصلاة على الرسول صلي الله عليه وآله وسلم
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
فإن قلت: ما
معنى الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم،
التي قال الله تعالى فيها: "إن الله وملائكته
يصلون على النبي يا أيها الذين أمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً". فمن الناس من لم يقل بوجوبها، وجعل الأمر في هذه
الآية للندب ومنهم من قال: إنها واجبة. واختلفوا في حال وجويها؛ فمنهم من أوجبها كلما جرى
ذكره، وفي الحديث: "من ذكرت عنده فلم يصل علي دخل النار وأبعده الله"؛
ومنهم من قال: تجب في كل مجلس مرة واحدة،
وإن تكرر ذكره. ومنهم من أوجبها في العمر مرة واحدة، وكذلك قال في
إظهار الشهادتين. وروي عن إبراهيم النخعي
أنهم كانوا يكتفون - يعني الصحابة - عنها بالتشهد، وهو:
"السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته"، وأوجبها الشافعي
وأصحابه. واختلف أصحابه في وجوب الصلاة على آل محمد صلى الله عليه وسلم،
فالأكثرون
على أنها واجبة، وأنها
شرط في صحة الصلاة. فإن قلت: فما تقول في
الصلاة على الصحابة والصالحين من المسلمين؛ قلت: القياس جواز الصلاة على كل مؤمن، لقوله
تعالى: "هو الذي يصلي عليكم وملائكته"،
وقوله: "وصل عليهم إن صلاتك سكنٌ لهم"؛
وقوله: "أولئك عليهم صلواتٌ من ربهم
ورحمةٌ"؛ ولكن العلماء قالوا: إذا
ذكر أحد من المسلمين تبعاً للنبي صلى
الله عليه وسلم فلا كلام في
جواز ذلك؛ وأما إذا افردوا أو ذكر أحد منهم؛ فأكثر الناس كرهوا الصلاة عليه؛ لأن
ذلك شعار رسول الله فلا يشركه فيه غيره. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
كلام له قاله لمروان بن الحكم بالبصرة
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: قالوا:
أخذ مروان بن الحكم أسيراً يوم الجمل فاستشفع الحسن والحسين عليهما السلام إلى
أمير المؤمنين عليه السلام، فكلماه فيه فخلى سبيله، فقالا
له: يبايعك يا أمير المؤمنين. قال عليه السلام: أولم يبايعني بعد قتل عثمان؛ لا
حاجة لي في بيعته؛ إنها كفٌ يهوديةٌ، لو بايعني بيده لغدر بسبته. أما إن له
إمرةً كلعقة الكلب أنفه، وهو أبو الأكبش الأربعة، وستلقى الأمة منه ومن ولده
يوماً أحمر. وقوله: "فاستشفع الحسن والحسين إلى أمير المؤمنين
رضي الله عنه"، هو الوجه، يقال: استشفعت فلاناً إلى فلان؛ أي سألته
أن يشفع لي إليه، وتشفعت إلى فلان في فلان فشفعني فيه تشفيعاً. وقول الناس: "استشفعت بفلان إلى
فلان" بالباء ليس بذلك الجيد. وقول أمير المؤمنين رضي الله عنه: "أو
لم يبايعني بعد قتل عثمان"؛ أي وقد غدر؛ وهكذا لو بايعني الآن. ومعنى قوله: "إنها كفٌ يهودية" أي غادرة،
واليهود تنسب إلى الغدر والخبث، وقال تعالى: "لتجدن
أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود". أحدهما: أن كون ذكر السبة إهانة له وغلظة عليه،
والعرب تسلك مثل ذلك في خطبها وكلامها؛ قال المتوكل
لأبي العيناء: إلى متى تمدح الناس وتذمهم؟ فقال: ما أحسنوا وأساءوا ثم قال: يا أمير المؤمنين، إن الله تعالى رضي عن واحد
فمدحه، وسخط على آخر فهجاه وهجا أمه؛ قال: "نعم
العبد إنه أوابٌ"، وقال: "عتل بعد
ذلك زنيمٍ"؛ والزنيم ولد الزنا. الوجه الثاني: أن يريد
بالكلام حقيقة لا مجازاً؛ وذلك لأن الغادر
من العرب كان إذا عزم على الغدر بعد عهد قد عاهده أو عقد قد عقده، حبق استهزاء
بما كان قد أظهره من اليمين والعهد؛ وسخرية وتهكماً. وقوله: "كلعقة
الكلب أنفه"، يريد قصر المدة، وكذلك
كانت مدة خلافة مروان، فإنه ولي تسعة أشهر. وهم: عبد الملك،
وعبد العزيز، وبشر، ومحمد؛ وكانوا كباشاً أبطالاً أنجاداً، أما عبد الملك فولي الخلافة، وأما بشر فولي
العراق، وأما محمد فولي الجزيرة، وأما عبد العزيز فولي مصر، ولكل منهم آثار مشهورة. وهذا التفسير أولى؛ لأن الوليد وإخوته أبناء ابنه، وهؤلاء بنوه لصلبه. ويقال لليوم الشديد: يوم
أحمر. وللسنة ذات الجدب: سنة حمراء،
وكل ما أخبر به أمير المؤمنين رضي الله عنه
في هذا الكلام وقع كما أخبر به؛ وكذلك قوله:
"يحمل راية ضلالة بعد ما يشيب صدغاه"،
فإنه ولي الخلافة وهو ابن خمسة وستين في أعدل
الروايات. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
نسب مروان بن الحكم وبعض أخباره
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ونحن ذاكرون في هذا الموضع نسبه،
وجملاً من أمره وولايته للخلافة؛ ووفاته على سبيل الاختصار: هو
مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، وأمه آمنة بنت
علقمة بن صفوان بن أمية الكناني. يكنى أبا عبد الملك، ولد على عهد
رسول الله صلى الله عليه وسلم: منذ سنة اثنتين من الهجرة، وقيل عام الخندق، وقيل يوم أحد؛
وقيل غير ذلك. وقال قومٌ: بل ولد بمكة،
وقيل: ولد بالطائف. ذكر ذلك كله أبو عمر بن عبد البر في كتاب
"الاستيعاب". قال أبو عمر:
وممن قال بولادته يوم أحد مالك بن أنس، وعلى قوله يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم قد
توفي، وعمره ثمان سنين أو نحوها. وقيل: إنه لما نفي مع أبيه إلى الطائف كان طفلاً
لا يعقل، وإنه لم ير رسول الله صلى
الله عليه وسلم، وكان
الحكم أبوه قد طرده رسول الله عن المدينة، وسيره إلى الطائف؛ فلم يزل بها
حتى ولي عثمان، فرده إلى المدينة، فقدمها هو وولده في خلافة عثمان، وتوفي، فاستكتبه عثمان وضمه إليه، فاستولى عليه إلى أن
قتل. والحكم بن أبي العاص هو عم عثمان بن عفان، كان من مسلمة الفتح،
ومن المؤلفة قلوبهم، وتوفي الحكم في خلافة عثمان قبل قتله بشهور. واختلف في السبب الموجب لنفي رسول
الله صلى الله عليه وسلم له فقيل: إنه كان يتحيل ويستخفي ويتسمع ما يسره رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أكابر الصحابة في مشركي قريش وسائر الكفار والمنافقين،
ويفشي ذلك عنه، حتى ظهر ذلك عنه. وقيل كان يتجسس
على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عند نسائه، ويسترق السمع، ويصغي إلى ما
يجري هناك مما لا يجوز الاطلاع عليه، ثم يحدث به المنافقين على طريق الاستهزاء.
قال صاحب الاستيعاب: أما قول عبد الرحمن بن حسان "إن
اللعين أبوك" فإنه روي عن عائشة من طرق ذكرها ابن أبي خيثمة وغيره،
أنها قالت لمروان إذ قال في أخيها عبد الرحمن
إنه أنزل فيه: "والذي قال لوالديه أفٍّ لكما
أتعدانني أن أخرج وقد خلت القرون من قبلي وهما يستغيثان الله ويلك آمن إن وعد
الله حق فيقول ما هذا إلا أساطير الأولين": أما أنت يا مروان فأشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن أباك وأنت فى صلبه. قال صاحب "الاستيعاب": ونظر علي رضي الله عنه يوماً إلى مروان، فقال له:
"ويل لك، وويل لأمة محمد منك ومن بنيك إذا شاب صدغاك". وكان
مروان يدعى خيط باطل؛ قيل: لأنه كان طويلاً مضطرباً.
وقيل:
إنما قال له أخوه عبد الرحمن ذلك حين ولاه معاوية إمرة المدينة، وكان كثيراً ما
يهجوه؛ ومن شعره فيه:
وقال
مالك بن الريب يهجو مروان بن الحكم:
ومن
شعر أخيه عبد الرحمن فيه:
ولما صار أمر الخلافة إلى معاوية، ولى مروان المدينة، ثم جمع له إلى
المدينة مكة والطائف، ثم عزله وولى سعيد بن العاص،
فلما مات يزيد بن معاوية، وولي ابنه أبو ليلى معاوية بن يزيد في سنة أربع وستين، عاش في الخلافة أربعين يوماً ومات، فقالت له أمه أم خالد بنت أبي هاشم بن عتبة بن ربيعة بن
عبد شمس: أجعل الخلافة من بعدك لأخيك، فأبى وقال: لا يكون لي مرها ولكم حلوها،
فوثب مروان عليها، وأنشد:
وذكر أبو الفرج علي بن الحسين الأصفهاني في كتاب
"الأغاني":
أن معاوية لما عزل مروان
بن الحكم عن إمرة المدينة والحجاز، وولى مكانه سعيد
بن العاص، وجه مروان أخاه عبد الرحمن بن الحكم أمامه إلى معاوية، وقال له: القه
قبلي فعاتبه لي واستصلحه.
فقال له معاوية: أزائراً جئت أم مفاخراً
مكابراً؟ فقال: أي ذلك شئت؛ فقال: ما أشاء
من ذلك شيئاً؛ وأراد معاوية أن يقطعه عن كلامه الذي عن له، فقال له: على أي ظهر جئتنا؟ فقال: على فرس، قال: ما صفته؟ قال: أجش هزيم - يعرض بقول النجاشي في معاوية يوم صفين:
فغضب معاوية، وقال: إلا أنه لا يركبه صاحبه في الظلم إلى الريب؛ ولا هو ممن
يتسور على جاراته، ولا يتوثب بعد هجعة الناس على كنائنه - وكان عبد الرحمن يتهم بذلك في امرأة أخيه - فخجل عبد الرحمن، وقال: يا أمير المؤمنين، ما حملك على عزل ابن عمك؟ ألخيانةٍ أوجبت ذلك، أم
لرأي رأيته وتدبير استصلحته؟ قال: بل لتدبير
استصلحته، قال: فلا بأس بذلك. فخرج من عنده فلقي أخاه مروان، فأخبره بما دار بينه وبين معاوية، فاستشاط
غيظاً وقال لعبد الرحمن: قبحك الله، ما أضعفك؛ عرضت
للرجل بما أغضبه، حتى إذا انتصر منك أحجمت عنه. ثم لبس خلته، وركب فرسه، وتقلد سيفه، ودخل على معاوية، فقال له حين رآه وتبين الغضب في وجهه: مرحباً بأبي عبد الملك؛ لقد
زرتنا عند اشتياق منا إليك، فقال: لا ها
الله، ما زرتك لذلك ولا قدمت عليك فألفيتك إلا عاقاً قاطعاً؛ والله ما أنصفتنا
ولا جزيتنا جزاءنا، لقد كانت السابقة من بني عبد شمس لآل أبي العاص، والصهر عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم،
والخلافة منهم، فوصلوكم يا بني حرب وشرفوكم وولوكم، فما عزلوكم ولا آثروا عليكم؛
حتى إذا وليتم وأفضى الأمر إليكم أبيتم إلا أثرة وسوء صنيعة وقبح قطيعة، فرويداً
رويداً فقد بلغ بنو الحكم وبنو بنيه نيفاً وعشرين، وإنما هي أيام قلائل حتى
يكملوا أربعين، ثم يعلم امرؤ ما يكون منهم حينئذ؛ ثم هم للجزاء بالحسنى والسوء
بالمرصاد. قال أبو الفرج: فقال له معاوية: مهلاً أبا عبد
الملك، إني لم أعزلك عن خيانة، وإنما عزلتك لثلاثةٍ لو لم يكن منهن إلا واحدة
لأوجبت عزلك: إحداهن أني أمرتك على عبد الله بن عامر، وبينكما ما بينكما،
فلن تستطيع أن تشتفي منه، والثانية كراهيتك
لإمرة زياد، والثالثة أن ابنتي رملة استعدتك
على زوجها عمرو بن عثمان، فلم تعدها. فقال مروان:
أما ابن عامر فإني لا أنتصر منه في سلطاني، ولكن
إذا تساوت الأقدام علم أين موقعه، وأما كراهتي
لإمرة زياد فإن سائر بني أمية كرهوه؛ وجعل الله لنا في ذلك الكره خيراً كثيراً. وأما استعداء رملة على عمرو؛ فوالله إنه ليأتي علي سنة أو أكثر وعندي بنت عثمان، فما
أكشف لها ثوباً - يعرض بأن رملة إنما تستعدي على
عمرو بن عثمان طلب النكاح - فغضب معاوية، فقال:
يا بن الوزغ؛ لست هناك؛ فقال مروان: هو
ما قلت لك؛ وإني الآن لأبو عشرة، وأخو عشرة، وعم
عشرة، وقد كاد ولد أبي أن يكملوا العدة -
يعني أربعين؛ ولو قد بلغوها لعلمت أين تقع مني.
فانخزل معاوية، وقال:
ثم استخذى معاوية في يد مروان وخضع، وقال: لك العتبى، وأنا رادك إلى عملك. فوثب مروان، وقال: كلا وعيشك لارأيتني عائداً وخرج. فقال الأحنف لمعاوية: ما رأيت قط لك سقطةً مثلها؛ ما
هذا الخضوع لمروان؛ وأي شيء يكون منه ومن بني أبيه إذا بلغوا أربعين؛ وما
الذي تخشاه منهم؛ فقال: ادن مني أخبرك ذلك، فدنا
الأحنف منه، فقال له: إن الحكم بن أبي العاص
كان أحد من قدم مع أختي أم حبيبة لما زفت
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وهويتولى نقلها إليه، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يحد النظر إليه، فلما خرج من عنده، قيل:
يا رسول الله، لقد أحددت النظر إلى الحكم فقال: ابن
المخزومية، ذاك رجل إذا بلغ بنو أبيه ثلاثين أو أربعين، ملكوا الأمر من بعدي،
فوالله لقد تلقاها مروان من عين صافية. فقال الأحنف: رويداً
يا أمير المؤمنين؛ لا يسمع هذا منك أحد؛ فإنك تضع من قدرك وقدر ولدك بعدك؛ وإن
يقض الله أمراً يكن. فقال معاوية: اكتمها
يا أبا بحر علي إذاً، فقد لعمرك صدقت ونصحت.
قال: وهذا حمق شديد، وضعف عظيم؛ قال:
وإنما ساد مروان وذكر بابنه عبد الملك، كما ساد بنوه، ولم يكن في
نفسه هناك. فأما خلافة مروان،
فذكر أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في
التاريخ أن عبد الله بن الزبير لما أخرج بني أمية عن الحجاز إلى الشام في خلافة
يزيد بن معاوية، خرجوا وفيهم مروان، وابنه عبد
الملك، ولم تطل مدة يزيد، فتوفي، ومات ابنه
بعده بأيام يسيرة. وكان من رأي مروان أن يدخل إلى ابن الزبير بمكة
فيبايعه بالخلافة، فقدم عبيد الله بن زياد، وقد أخرجه أهل البصرة عنها بعد وفاة
يزيد، فاجتمع هو وبنو أمية؛ وأخبروه بما قد أجمع عليه مروان، فجاء إليه، وقال: استحييت لك أبا عبد الملك، فما تريد، أنت
كبير قريش وسيدها تصنع ما تصنع، وتشخص إلى أبي خبيبٍ فتبايعه بالخلافة؛ فقال مروان: ما فات شيء بعد؛ فقام مروان، واجتمع إليه بنو أمية ومواليهم وعبيد
الله بن زياد وكثير من أهل اليمن وكثير من كلب، فقدم
دمشق وعليها الضحاك بن قيس الفهري، قد بايعه
الناس على أن يصلي بهم، ويقيم لهم أمرهم، حتى
يجتمع الناس على إمام، وكان هوى الضحاك مع ابن
الزبير إلا أنه لم يبايع له بعد، وكان زفر بن الحارث الكلابي
بقنسرين يخطب لابن الزبير، والنعمان بن بشير
الأنصاري بحمص يخطب لابن الزبير، وكان حسان بن مالك بن بحدل الكلبي بفلسطين يهوى هوى بني
أمية، ثم من بينهم بني حرب، لأنه كان عاملاً
لمعاوية، ثم ليزيد بن معاوية من بعده، وكان حسان
بن مالك مطاعاً في قومه، عظيماً عندهم؛ فخرج
عن فلسطين يريد الأردن، واستخلف على
فلسطين روح بن زنباع الجذامي، فوثب عليه بعد شخوص حسان
بن مالك وناتل بن قيس الجذامي أيضاً، فأخرجه
عن فلسطين، وخطب لابن الزبير، وكان له فيه هوىً، فاستوثقت
الشام كلها لابن الزبير، ما عدا الأردن؛ فإن حسان بن مالك الكلبي كان يهوى هوى بني أمية، ويدعو
إليهم؛ فقام في أهل الأردن فخطبهم؛ وقال لهم: ما شهادتكم على ابن الزبير
وقتلى المدينة بالحرة؟ قالوا: نشهد أن ابن الزبير
كان منافقاً؛ وأن قتلى أهل المدينة بالحرة في النار، قال: فما شهادتكم
على يزيد بن معاوية وقتلاكم بالحرة؟ قالوا نشهد أن يزيد بن معاوية كان مؤمناً، وكان قتلانا بالحرة في
الجنة، قال: وأنا أشهد أنه إن كان
دين يزيد بن معاوية وهو حي حقا، إنه اليوم لعلى حق هو وشيعته، وإن كان ابن الزبير يومئذ هو وشيعته على باطل؛ إنه
اليوم وشيعته على باطل؛ قالوا: صدقت، نحن نبايعك
على أن نقاتل معك من خالفك من الناس وأطاع
ابن الزبير، على أن تجنبنا ولاية هذين
الغلامين ابني يزيد بن معاوية، وهما خالد
وعبد الله، فإنهما حديثة أسنانهما ونحن نكره أن يأتينا الناس بشيخ
ونأتيهم بصبي. قال: وقد كان الضحاك
بن قيس يوالي ابن الزبير باطناً، ويهوى هواه،
ويمنعه إظهار ذلك بدمشق والبيعة له أن بني
أمية وكلباً كانوا بحضرته، وكلب أخوال يزيد
بن معاوية وبنيه، ويطلبون الإمرة لهم، فكان الضحاك يعمل في ذلك
سراً، وبلغ حسان بن مالك بن بحدل ما أجمع عليه الضحاك،
فكتب إليه كتاباً يعظم فيه حق بني أمية، ويذكر الطاعة والجماعة وحسن بلاء بني
أمية عنده وصنيعهم إليه، ويدعوه إلى بيعتهم وطاعتهم ويذكر
ابن الزبير ويقع فيه ويشتمه، ويذكر أنه منافق قد خلع خليفتين، وأمره أن
يقرأ كتابه على الناس؛ ثم دعا رجلاً من كلب يقال له ناغضة، فسرح بالكتاب معه إلى الضحاك
بن قيس، وكتب حسان نسخة ذلك الكتاب، ودفعه إلى ناغضة، وقال له: إن قرأ الضحاك كتابي على الناس، وإلا فقم أنت واقرأ هذا الكتاب عليهم، وكتب حسان إلى بني أمية يأمرهم أن يحضروا ذلك، فقدم ناغضة بالكتاب على الضحاك، فدفعه إليه، ودفع
كتاب بني أمية إليهم
سراً. فلما كان يوم الجمعة، وصعد
الضحاك على المنبر، وقدم إليه ناغضة، فقال:
أصلح الله الأمير؛ ادع بكتاب حسان فاقرأه على الناس،
فقال له الضحاك: اجلس، فجلس ثم قام
ثانية فتكلم مثل ذلك، فقال له: اجلس،
فجلس ثم قام ثالثة وكان كالثانية والأولى، فلما
رآه ناغضة لا يقرأ الكتاب أخرج الكتاب الذي معه، فقرأه على الناس، فقام الوليد بن عتبة
بن أبي سفيان، فصدق حسان، وكذب ابن الزبير وشتمه،
وقام يزيد أبي النمس الغساني، فصدق مقالة حسان
وكتابه، وشتم ابن الزبير، وقام سفيان بن أبرد الكلبي، فصدق مقالة حسان
وشتم ابن الزبير، وقام عمر بن يزيدالحكمي، فشتم حسان، وأثنى على ابن الزبير، فاضطرب الناس، ونزل الضحاك
بن قيس، فأمر بالوليد بن عتبة، وسفيان بن الأبرد، ويزيد بن أبي النمس الذين
كانوا صدقوا حسان، وشتموا ابن الزبير فحبسوا،
وجال الناس بعضهم في بعض، ووثبت كلب على عمر بن
يزيد الحكمي فضربوه، وخرقوا ثيابه. وقد كان قام خالد بن
يزيد بن معاوية فصعد مرقاتين من المنبر؛ وهو
يومئذ غلام، والضحاك بن قيس فوق المنبر، فتكلم بكلام أوجز فيه، لم يسمع بمثله، ثم
نزل. ثم إن الضحاك بن قيس خرج إلى مسجد دمشق، فجلس فيه؛ وذكر يزيد بن معاوية فوقع
فيه، فقام إليه سنان من كلب ومعه عصا؛ فضربه
بها؛ والناس جلوس حلقاً. متقلدي السيوف. فقام بعضهم إلى بعض في المسجد. فاقتتلوا، فكانت قيس عيلان قاطبةً تدعو إلى ابن الزبير ومعها
الضحاك،
وكلب تدعو إلى بني
أمية، ثم إلى خالد بن يزيد، فيتعصبون له، فدخل الضحاك
دار الإمارة، وأصبح الناس، فلم يخرج الضحاك
إلى صلاة الفجر. فمال الضحاك بمن معه
من الناس، وانخزل من بني أمية ومن معهم من
قبائل اليمن فنزل مرج راهط. وقال غيره: في سنة أربع وستين. قال أبو جعفر: وسارت بنو أمية ولفيفها حتى وافوا حسان بالجابية، فصلى
بهم أربعين يوماً، والناس يتشاورون، وكتب الضحاك بن
قيس من مرج راهط إلى النعمان بن بشير الأنصاري، وهو على حمص يستنجده؛ وإلى زفر
بن الحارث وهو في قنسرين، وإلى ناتل بن قيس وهو على فلسطين ليستمدهم؛ وكلهم على
طاعة ابن الزبير، فأمدوه، فاجتمعت الأجناد إليه بمرج راهط، وأما الذين
بالجابية فكانت أهواؤهم مختلفة، فأما مالك بن هبيرة السكوني، فكان يهوى هوى يزيد بن معاوية،
ويحب أن تكون الخلافة في ولده، وأما حصين بن نمير
السكوني؛ فكان يهوى هوى بني أمية؛ ويحب أن تكون الخلافة لمروان بن الحكم؛
فقال مالك بن هبيرة للحصين
بن نمير: هلم فلنبايع لهذا الغلام الذي نحن ولدنا أباه؛ وهو ابن أختنا؛ فقد عرفت منزلتنا التي كانت من أبيه؛
إنك إن تبايعه يحملك غداً على رقاب العرب - يعني خالد
بن يزيد - فقال الحصين: لا لعمر الله؛ لا يأتينا
العرب بشيخ؛ ونأتيها بصبي؛ فقال مالك: أظن هواك
في مروان؛ والله إن استخلفت مروان
ليحسدنك على سوطك وشراك نعليك، وظل شجرة تستظل بها. إن مروان أبو عشرة، وأخو عشرة وعم عشرة، فإن
بايعتموه كنتم عبيداً لهم، ولكن عليكم بابن أختكم
خالد بن يزيد فقال الحصين: إني رأيت
في المنام قنديلاً معلقاً من السماء، وأنه جاء كل من يمد عنقه إلى الخلافة
ليتناوله، فلم يصل إليه. وجاء مروان فتناوله، والله لنستخلفنه. فلما اجتمع رأيهم على بيعته، واستمالوا حسان بن بحدل إليها،
قام روح بن
زنباع الجذامي، فحمد الله وأثنى عليه، فقال:
أيها الناس؛ إنكم تذكرون لهذا الأمر عبد الله بن عمر بن الخطاب، وتذكرون
صحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم،
وقدمه في الإسلام، وهو كما تذكرون؛ لكنه رجل ضعيف، وليس صاحب أمة محمد بالضعيف؛
وأما عبد الله بن الزبير وما يذكر الناس من
أمره، وأن أباه حواري رسول الله صلى
الله عليه وسلم، وأمه أسماء بنت أبى بكر ذات
النطاقين؛ فهو لعمري كما تذكرون ولكنه منافق قد خلع
خليفتين: يزيد وأباه معاوية، وسفك الدماء، وشق عصا المسلمين؛ وليس صاحب أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالمنافق؛
وأما مروان بن الحكم فوالله ما كان في
الإسلام صدع قط إلا كان مروان ممن يشعب ذلك الصدع، وهو
الذي قاتل عن عثمان بن عفان يوم الدار، والذي قاتل علي بن أبي طالب يوم الجمل؛ وإنا نرى للناس أن يبايعوا الكبير، ويستشبوا الصغير - يعني
بالكبير مروان، وبالصغير خالد بن يزيد. فاجتمع رأي الناس على البيعة لمروان، ثم لخالد بن يزيد بعده؛ ثم لعمرو بن سعيد بن العاص
بعدهما، على أن تكون في أيام خلافة مروان إمرة دمشق لعمرو
بن سعيد، وإمرة
حمص لخالد بن يزيد. فلما استقر الأمر على ذلك، دعا حسان بن بحدل خالد بن يزيد؛ فقال: يابن أختي؛ إن الناس قد أبوك
لحداثة سنك، وإني والله ما أريد هذا الأمر إلا لك ولأهل بيتك؛ وما ابايع مروان
إلا نظراً لكم، فقال خالد: بل عجزت عنا، فقال: لا والله لم أعجز عنك، ولكن الرأي لك ما رأيت. ثم إن حسان دعا مروان بن الحكم، فقال
له:
يا مروان، إن الناس كلهم لا يرضون بك، فما ترى؟ فقال
مروان: إن يرد الله أن يعطينيها لم يمنعنيها أحد من خلقه؛ وإن يرد أن
يمنعنيها لا يعطينيها أحد من خلقه، فقال حسان:
صدقت. ثم صعد حسان المنبر، فقال:
أيها الناس؛ إني مستخلف في غد أحدكم إن شاء الله؛ فاجتمع الناس بكرة الغد
ينتظرون، فصعد حسان المنبر، وبايع لمروان، وبايع
الناس؛ وسار من الجابية حتى نزل بمرج راهط؛
حيث الضحاك بن قيس نازل،
فجعل مروان على ميمنته عمرو بن سعيد بن العاص، وعلى ميسرته عبيد الله بن زياد؛
وجعل الضحاك على ميمنته زياد بن عمرو بن معاوية العتكي، وعلى ميسرته ثور بن معن
السلمي؛ وكان يزيد
بن أبي النمس الغساني بدمشق، لم يشهد
الجابية، وكان مريضاً؛ فلما حصل الضحاك بمرج راهط ثار بأهل دمشق في عبيده وأهله،
فغلب عليها، وأخرج عامل الضحاك منها؛ وغلب على الخزائن وبيت المال، وبايع لمروان، وأمده من
دمشق بالرجال والمال والسلاح؛ فكان ذلك أول
فتح فتح لمروان. ثم وقعت الحرب بين مروان والضحاك؛ فاقتتلوا بمرج راهط عشرين ليلة؛
فهزم أصحاب الضحاك وقتلوا؛ وقتل
أشراف الناس من أهل الشام؛ وقتلت قيس مقتلة لم تقتل
مثلها في موطن قط، وقتل ثور بن معن السلمي الذي رد الضحاك عن رأيه. قال أبو جعفر: وروي أن بشير بن مروان كان صاحب
الراية ذلك اليوم، وأنه كان ينشد:
وصرع ذلك اليوم عبد العزيز بن مروان ثم استنقذ.
قال أبو جعفر:
وخرج الناس منهزمين بعد قتل الضحاك؛ فانتهى
أهل حمص إلى حمص؛ وعليها النعمان بن بشير، فلما
عرف الخبر خرج هارباً ومعه ثقله وولده، وتحير ليلته كلها، وأصبح وهو بباب مدينة
حمص، فرآه أهل حمص فقتلوه، وخرج زفر بن الحارث
الكلابي من قنسرين هارباً، فلحق
بقرقيسياء؛ وعليها عياض بن أسلم الجرشي فلم
يمكنه من دخولها، فحلف له زفر بالطلاق والعتاق أنه إذا دخل حمامها خرج منها، وقال له: إن لي حاجة إلى دخول الحمام، فلما دخلها لم
يدخل حمامها وأقام بها وأخرج عياضاً منها، وتحصن
فيها، وثابت إليه قيس عيلان؛ وخرج ناتل بن قيس
الجذامي من فلسطين هارباً؛ فالتحق بابن الزبير بمكة،
وأطبق أهل الشام على مروان، واستوثقوا له، واستعمل عليهم عماله، ففي ذلك يقول زفر بن الحارث:
وقال زفر بن الحارث أيضاً، وهو من شعر الحماسة:
وأما وفاة مروان، والسبب فيها أنه قد استقر الأمر بعده لخالد بن يزيد بن معاوية على ما قدمنا ذكره، فلما
استوثق له لأمر، أحب أن يبايع لعبد الملك وعبد العزيز
ابنيه، فاستشار في ذلك، فاشير عليه أن يتزوج أم خالد بن يزيد،
وهي ابنة أبي هاشم بن عتبة بن ربيعة ليصغر شأنه
فلا يرشح للخلافة، فتزوجها. ثم قال لخالد يوماً في كلام دار بينهما والمجلس
غاص بأهله؛ اسكت يابن الرطبة، فقال خالد: أنت لعمري
مؤتمن وخبير. ثم قام باكياً من مجلسه - وكان
غلاماً حينئذ - فدخل على أمه، فأخبرها، فقالت له: لا
يعرفن ذلك فيك، واسكت فأنا أكفيك أمره. فلما دخل عليها مروان، قال لها:
ما قال لك خالد؟ قالت: وما عساه يقول؛ قال: ألم يشكني إليك؟ قالت: إن خالداً أشد إعظاماً لك من أن يشتكيك، فصدقها.
ثم مكثت أياماً، فنام عندها وقد واعدت جواريها، وقمن إليه، فجعلن الوسائد والبراذع
عليه، وجلسن عليه حتى خنقنه، وذلك بدمشق في شهر رمضان. وهو ابن ثلاث وستين سنة،
في قول الواقدي. وقال: كان ابن إحدى وثمانين، عاش في
الخلافة تسعة أشهر. وقيل عشرة أشهر،
وكان في أيام كتابته لعثمان بن عفان أكثر حكماً،
وأشد تلطفاً وتسلطاً منه في أيام خلافته، وكان
ذلك من أعظم الأسباب الداعية إلى خلع عثمان وقتله. وقد قال قوم: إن الضحاك بن قيس لما نزل مرج راهط لم يدع إلى ابن الزبير، وإنما دعا إلى نفسه. وبويع
بالخلافة، وكان قرشياً. والأكثر الأشهر أنه
كان يدعو إلى ابن الزبير. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن كلام له لما عزموا علي بيعة عثمان
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: لقد
علمتم أني أحق بها من غيري؛ ووالله لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين؛ ولم يكن فيها
جورٌ إلا علي خاصة، ألتماساً لأجر ذلك وفضله، وزهداً فيما تنافستموه من زخزفه
وزبرجه. والزخرف: الذهب، ثم شبه به كل مموه مزور، قال
تعالى: "حتى إذا أخذت الأرض زخرفها"
والمزخرف: المزين، والزبرج: الزينة من وشيٍ أو جوهر، ونحو ذلك، ويقال: الزبرج الذهب أيضاً. يقول لأهل الشورى:
إنكم تعلمون أني أحق بالخلافة من غيري، وتعدلون عني. ثم أقسم
ليسلمن وليتركن المخالفة لهم، إذا كان في تسليمه ونزوله عن حقه سلامة أمور
المسلمين، ولم يكن الجور والحيف إلا عليه خاصة،
وهذا كلام مثله رضي الله عنه، لأنه إذا علم
أو غلب على ظنه أنه إن نازع وحارب دخل على الإسلام وهن وثلم لم يختر له
المنازعة، وإن كان يطلب بالمنازعة ما هو حق؛ وإن علم أو غلب على ظنه بالإمساك عن
طلب حقه أنما يدخل الثلم والوهن عليه خاصة، ويسلم الإسلام من الفتنة، وجب عليه
أن يغضي ويصبر على ما أتوا إليه من أخذ حقه، وكف يده؛ حراسةً للإسلام من الفتنة.
فإن قلت: فهلا سلم إلى معاوية وإلى أصحاب
الجمل، وأغضى على اغتصاب حقه حفظاً للإسلام من الفتنة؟ قلت:
إن الجور الداخل عليه من أصحاب الجمل ومن معاوية وأهل الشام، لم يكن مقصوراً
عليه خاصة؛ بل كان يعم الإسلام والمسلمين جميعاً؛ لأنهم لم يكونوا عنده ممن يصلح
لرياسة الأمة وتحمل أعباء الخلافة، فلم يكن الشرط الذي اشترطه متحققاً، وهو قوله: "ولم يكن فيه جور إلا علي خاصة". |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الامام قبل المبايعة لعثمان
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ونحن نذكر في هذا الموضع ما استفاض
في الروايات من مناشدته أصحاب الشورى، وتعديده فضائله وخصائصه التي بان بها منهم
ومن غيرهم. قد روى الناس ذلك فأكثروا؛ والذي صح عندنا أنه لم
يكن الأمر كما روي من تلك التعديدات الطويلة؛ ولكنه
قال لهم بعد أن بايع عبد الرحمن والحاضرون عثمان، وتلكأ هو رضي الله عنه عن
البيعة: إن لنا حقاً إن نعطه نأخذه، وإن نمنعه نركب أعجاز الإبل وإن طال
السرى؛ في كلام قد ذكره أهل السيرة، وقد
أوردنا بعضه فيما تقدم، ثم قال لهم: أنشدكم
الله أفيكم أحدٌ آخى رسول الله صلى
الله عليه وسلم بينه وبين
نفسه؛ حيث آخى بين بعض المسلمين وبعض غيري؛ فقالوا: لا؛ فقال: أفيكم أحدٌ قال له
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من
كنت مولاه فهذا مولاه " غيري؟ فقالوا: لا، فقال: أفيكم أحدٌ قال له رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "أنت
مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي" غيري؟ قالوا: لا، قال:
أفيكم من ائتمن سورة براءة، وقال له رسول الله صلى الله عليه
وسلم
إنه
لا يؤدي عني إلا أنا أو رجل مني غيري؟ قالوا: لا، قال: ألا تعلمون أن أصحاب رسول
الله صلى الله عليه وسلم فروا عنه في
مأقط الحرب في غير موطن، وما فررت قط؟ قالوا: بلى، قال: ألا تعلمون أني أول
الناس إسلاماً؟ قالوا: بلى. قال: فأينا أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نسباً؟
قالوا: أنت. فقطع عليه عبد الرحمن بن عوف كلامه،
وقال: يا علي؛ قد أبى الناس إلا على عثمان، فلا تجعلن على نفسك سبيلاً،
ثم قال: يا أبا طلحة، ما الذي أمرك به عمر؟ قال: أن أقتل من شق عصا الجماعة، فقال عبد الرحمن لعلي:
بايع إذن؛ وإلا كنت متبعاً غيرسبيل المؤمنين، وأنفذنا فيك ما امرنا به. فقال: "لقد علمتم أني أحق بها من غيري، والله
لأسلمن" الفصل إلى آخره، ثم مد يده
فبايع. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لما بلغه اتهام بني أمية له بالمشاركة في دم عثمان
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: أو لم ينه بني أمية علمها بي
عن قرفي أو ما وزع الجهال سابقتي عن تهمتي؛ ولما وعظهم الله به أبلغ من لساني. والتهمة، بفتح الهاء؛ هي اللغة الفصيحة؛ وأصل التاء فيه واو. والحجيج كالخصيم:
ذو الحجاج والخصومة. يقول رضي
الله عنه: أما كان في علم بني أمية بحالي ما ينهاها عن قرفي
بدم عثمان؛ وحاله التي أشار إليها؛ وذكر أن علمهم بها يقتضي ألا يقرفوه بذلك؛ هي
منزلته في الدين التي لا منزلة أعلى منها، وما نطق به الكتاب الصادق من طهارته
وطهارة بني وزوجته؛ في قوله: "إنما يريد الله
ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً". وقول
النبي صلى الله عليه وسلم: فأنت
مني بمنزلة هارون من موسى"، وذلك يقتضي عصمته عن الدم الحرام؛ كما أن هارون
معصوم عن مثل ذلك. وترادف الأقوال والأفعال من رسول الله صلى
الله عليه وسلم
في
أمره التي يضطر معها الحاضرون لها والمشاهدون إياها إلى أن مثله لا يجوز أن يسعى
في إراقة دم أمير مسلم، لم يحدث حدثاً يستوجب به إحلال دمه. ثم قال: "أنا
حجيج المارقين، وخصيم المرتابين"، يعني يوم القيامة؛ روي عنه رضي
الله عنه أنه
قال: "أنا
أول من يجثو للحكومة بين يدي الله تعالى"، وقد
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك مرفوعاً في قوله تعالى: "هذان
خصمان اختصموا في ربهم" وأنه صلى
الله عليه وسلم سئل عنها،
فقال: "علي وحمزة وعبيدة، وعتبة وشيبة والوليد"، وكانت حادثتهم
أول حادثة وقعت فيها مبارزة أهل الإيمان لأهل الشرك، وكان المقتول الأول
بالمبارزة الوليد بن عتبة، قتله علي رضي
الله عنه، ضربه على رأسه فبدرت عيناه على وجنته، فقال النبي
صلى الله عليه وسلم فيه
وفي أصحابه ما قال، وكان علي رضي الله عنه يكثرمن
قوله: "أنا حجيج المارقين"، ويشير إلى هذا المعنى. ثم قال: "بما في
الصدور تجازى العباد" إن كنت قتلت عثمان أو مالأت عليه؛ فإن الله
تعالى سيجازيني بذلك، وإلا فسوف يجازي بالعقوبة والعذاب من اتهمني به، ونسبه
إلي. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن خطبة له في الزهد
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: رحم الله امرأً سمع حكماً
فوعى، ودعي إلى رشادٍ فدنا، وأخذ بحجزة هادٍ فنجا. راقب ربه، وخاف ذنبه، قدم
خالصاً، وعمل صالحاً. اكتسب مذخوراً، واجتنب محذوراً. رمى غرضاً، وأحرز عوضاً. كابر هواه، وكذب مناه. ودنا: قرب. والحجزة: معقد الإزار؛ وأخذ فلان بحجزة فلان إذا
اعتصم به ولجأ إليه. ثم حذف رضي الله عنه الواو
في اللفظات الاخر فلم يقل: "وراقب ربه"، ولا "وقدم خالصاً"، وكذلك إلى آخر اللفظات؛ وهذا نوع من الفصاحة كثير في استعمالهم. واكتسب، بمعنى كسب، يقال: كسبت الشيء واكتسبته
بمعنى. والعوض المحرز ههنا:
هو الثواب. وقوله: "كابر هواه" أي غالبه. وروي "كاثر"
بالثاء المنقوطة بالثلاث؛ أي غالب هواه بكثرة عقله، يقال:
كاثرناهم فكثرناهم، أي غلبناهم بالكثرة. والطريقة الغراء: البيضاء. والمهل: النظر والتؤدة. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
في حال بني أمية
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: إن
بني أمية ليفوقونني تراث محمدٍ صلى الله عليه وآله تفويقاً، والله لئن بقيت لهم
لأنفضنهم نفض اللحام الوذام التربة. والوذام التربة:
جمع وذمةٍ، وهي الحزة من الكرش أو الكبد تقع في التراب فتنفض. فلما أتيت علياً رضي
الله عنه وقرأ كتابه، قال:
"لشد ما يحظر علي بنو أمية تراث محمد صلى الله عليه
وسلم
أما
والله لئن وليتها لأنفضنها نفض القصاب التراب الوذمة". قال: وقد حدثني
بذلك أحمد بن عبد العزيز الجوهري عن أبي زيد عمر بن شبة، بإسناد ذكره في الكتاب،
أن سعيد بن العاص حيث كان أمير الكوفة، بعث مع ابن أبي عائشة مولاه إلى علي بن
أبي طالب صلى الله عليه وسلم بصلة،
فقال علي رضي الله عنه: والله لا يزال غلام
من غلمان بني أمية يبعث إلينا مما أفاء الله على رسوله بمثل قوت الأرملة؛ والله
لئن بقيت لأنفضنها نفض القصاب الوذام التربة. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن كلمات كان عليه السلام يدعو بها
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: اللهم أغفر لي ما أنت أعلم به مني؛ فإن عدت فعد علي
بالمغفرة. اللهم اغفر لي ما وأيت من نفسي، ولم تجد له
وفاءً عندي. اللهم أغفر لي ما تقربت به إليك
بلساني، ثم خالفه قلبي. اللهم اغفر لي رمزات الألحاظ، وسقطات
الألفاظ وسهوات الجنان، وهفوات اللسان. ورمزات الألحاظ:
الإشارة بها. والألحاظ: جمع لحظ،
بفتح اللام، وهو مؤخر العين وسقطات الألفاظ:
لغوها، وسهوات الجنان: غفلاته، والجنان: القلب. وهفوات اللسان:
زلاته. والجواب؛
أنه لا يمتنع أن يحسن الدعاء بما يعلم أن القديم يفعله لا محالة، ويكون وجه
حسنه، صدوره عن المكلف على سبيل الانقطاع إلى الخالق سبحانه. وإن لم يظهر هذا الشرط في دعائه وجب
أن يضمره في نفسه، فمتى سأل النبي ربه تعالى أمراً فلم
يفعله لم يجز أن يقال: إنه ما أجيبت دعوته، لأنه يكون قد سأل بشرط ألا يكون
مفسدة؛ فإذا لم يقع ما يطلبه؛ فلأن المطلوب قد علم الله فيه من المفسدة ما لم
يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم؛ فلا يقال: إنه ما أجيب دعاءه كان مشروطاً، وإنما يصدق قولنا: ما أجيب دعاؤه على من طلب أمراً
طلباً مطلقاً غير مشروط فلم ويقع، والنبي صلى
الله عليه وسلم لا يتحقق ذلك
في حقه. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
من أدعية رسول الله المأثورة
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ونحن نذكر في هذا الموضع جملة من
الأدعية المأثورة طلباً لبركتها، ولينتفع قارىء الكتاب بها:
كان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا
أصبح أن يقول: "أصبحنا وأصبح الملك والكبرياء
والعظمة والجلال والخلق والأمر والليل والنهار وما يسكن فيهما لله عز وجل وحده
لا شريك له. اللهم
اجعل أول يومي هذا صلاحاً، وأوسطه فلاحاً، وآخره نجاحاً. اللهم إني أسألك خير الدنيا والآخرة
يا أرحم الراحمين. اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك،
ومن طاعتنا ما تبلغنا به رحمتك؛ ومن اليقين ما تهون به علينا مصيبات الدنيا،
اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا؛ واجعلهما الوارث منا، وانصرنا على من ظلمنا، ولا
تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط
علينا من لا يرحمنا". |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
من أدعية الصحيفة السجادية
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن دعاء أمير المؤمنين رضي الله
عنه، وكان يدعو به زين العابدين علي بن الحسين رضي الله عنهما؛ وهو من أدعية
الصحيفة: يا من يرحم من لا يرحمه العباد، ويا من يقبل من لا
تقبله البلاد، ويا من لا يحتقر أهل الحاجة إليه؛ يا من لا يجبه بالرد أهل
الإلحاح إليه. يا من لا يخفى عليه صغير ما يتحف به، ولا يضيع يسير
ما يعمل له. يا من يشكر على القليل، ويجازي بالجليل. يا من يدنو
إلى من دنا منه. يا من يدعو إلى نفسه من أدبر عنه. يا من لا يغير
النعمة، ولا يبادر بالنقمة. يا من يثمر الحسنة حتى ينميها، ويتجاوز عن السيئة
حتى يعفيها؛ انصرفت دون مدى كرمك الحاجات، وامتلأت ببعض جودك أوعية الطلبات،
وتفسخت دون بلوغ نعتك الصفات. فلك العلو
الأعلى فوق كل عال، والجلال الأمجد فوق كل جلال، كل جليل عندك حقير، وكل شريف في
جنب شرفك صغير، خاب الوافدون على غيرك، وخسر المتعرضون إلا لك، وضاع الملمون إلا
بك، وأجدب المنتجعون إلا من انتجع فضلك، لأنك ذو غاية قريبة من الراغبين، وذو
مجد مباح للسائلين؛ لا يخيب لديك الآملون، ولا يخفق من عطائك المتعرضون، ولا
يشقى بنقمتك المستغفرون؛ رزقك مبسوط لمن عصاك، وحلمك معرض لمن ناواك، وعادتك الإحسان
إلى المسيئين، وسنتك الإبقاء على المعتدين، حتى لقد غرتهم أناتك عن النزوع،
وصدهم إمهالك عن الرجوع، وإنما تأنيت لهم ليفيئوا إلى أمرك، وأمهلتهم ثقة بدوام
ملكك، فمن كان من أهل السعادة اختصت له بها، ومن كان من أهل الشقاوة خذلته لها. ما أكثر تقلبه في عذابك، وما أعظم تردده في عقابك،
وما أبعد غايته من الفرج، وما أثبطه من سهولة المخرج عدلاً من قضائك لا تجور
فيه، وإنصافاً من حكمك لا تحيص عليه؛ قد ظاهرت الحجج، وأزلت الأعذار، وتقدمت
بالوعيد، وتلطفت في الترغيب؛ وضربت الأمثال، وأطلت الإمهال، وأخرت وأنت تستطيع
المعاجلة، وتأنيت وأنت ملىء بالمبادرة. كل ذلك كان
ولم يزل، وهو كائن لا يزول. نعمتك أجل من أن توصف بكلها، ومجدك أرفع من أن يحد
بكنهه، وإحسانك أكبر من أن يشكر على أقله، فقد أقصرت ساكتاً عن تحميدك، وتهيبت
ممسكاً عن تمجيدك، لا رغبةً يا إلهي عنك بل عجزاً، ولا زهداً فيما عندك بل
تقصيراً، وها أنذا يا إلهي أؤمل بالوفادة، وأسألك حسن الرفادة، فاسمع ندائي،
واستجب دعائي؛ ولا تختم عملي بخيبتي، ولا تجبهني بالرد في مسألتي، وأكرم من عندك
منصرفي؛ إنك غير ضائق عما تريد، ولا عاجز عما تشاء؛ وأنت على كل شيء قدير. اللهم فلا تخيب من لا يجد معطياً غيرك، ولا تخذل من
لا يستغني عنك بأحدٍ دونك. اللهم لا تعرض عني وقد أقبلت عليك، ولا تحرمني وقد
رغبت إليك، ولا تجبهني بالرد وقد انتصبت بين يديك. أنت الذي وصفت نفسك بالرحمة،
وأنت الذي سميت نفسك بالعفو، فارحمني واعف عني؛ فقد ترى يا سيدي فيض دموعي من
خيفتك، ووجيب قلبي من خشيتك، وانتفاض جوارحي من هيبتك، كل ذلك حياءً منك بسوء
عملي، وخجلاً منك لكثرة ذنوبي؛ قد كل لساني عن مناجاتك؛ وخمد صوتي عن الدعاء
إليك. اللهم وهذه رقبتي قد أرقتها الذنوب فأعتقها بعفوك؛
وقد أثقلتها الخطايا فخفف عنها بمنك. اللهم إني لو بكيت حتى تسقط أشفار عيني؛
وانتحبت حتى ينقطع صوتي، وقمت لك حتى تنتشر قدماي، وركعت لك حتى ينجذع صلبي،
وسجدت لك حتى تتفقأ حدقتاي، وأكلت التراب طول عمري، وشربت ماء الرماد آخر دهري؛
وذكرتك في خلال ذلك حتى يكل لساني، ثم لم أرفع طرفي إلى آفاق السماء استحياء
منك؛ لما استوجبت بذلك محو سيئة واحدة من سيئاتي؛ فإن كنت تغفر لي حين أستوجب
مغفرتك، وتعفو عني حين أستحق عفوك؛ فإن ذلك غير واجب لي بالاستحقاق، ولا أنا أهل
له على الاستيجاب؛ إذ كان جزائي منك من أول ما عصيتك النار؛ فإن تعذبني فإنك غير
ظالم. وحلمت عني بتفضلك فلم تغير نعمك علي، ولم تكدر
معروفك عندي، فارحم طول تضرعي، وشدة مسكنتي، وسوء موقفي. اللهم قد أشرف على كل خطايا الأعمال علمك، وانكشف
كل مستور عند خبرك؛ فلا ينطوي عنك دقائق الأمور، ولا يعزب عنك خفايا السرائ؛ وقد
هربت إليك من صغائر ذنوب موبقة، وكبائر أعمال مردية، فلا شفيع يشفع لي إليك، ولا
خفير يؤمنني منك، ولا حصن يحجبني عنك، ولا ملاذ الجأ إليه غيرك، هذا مقام العائذ
بك، ومحل المعترف لك، فلا يضيقن عني فضلك، ولا يقصرن دوني عفوك، ولا أكون أخيب عبادك
التائبين، ولا أقنط وفودك الآملين؛ واغفر لي إنك خير الغافرين. اللهم صل على محمد وآل محمد إذا ذكر الأبرار، وصل
على محمد وآل محمد ما اختلف الليل والنهار، صلاة لا ينقطع مددها، ولا يحصى
عددها، صلاة تشحن الهواء، وتملأ الأرض والسماء. ثم له الحمد مكان كل نعمة له علينا، وعلى جميع
عباده الماضين والباقين، عدد ما أحاط به علمه، ومن جميع الأشياء أضعافاً مضاعفة،
أبداً سرمداً إلى يوم القيامة، وإلى ما لا نهاية له من بعد القيامة؛ حمداً لا
غاية لحده، ولا حساب لعده، ولا مبلغ لأعداده، ولا انقطاع لآماده؛ حمداً يكون
وصلة إلى طاعته، وسبباً إلى رضوانه، وذريعة إلى مغفرته، وطريقاً إلى جنته،
وخفيراً من نقمته وأمناً من غضبه، وظهيراً على طاعته، وحاجزاً عن معصيته؛ وعوناً
على تأدية حقه ووظائفه؛ حمداً نسعد به في السعداء من أوليائه، وننتظم به في نظام
الشهداء بسيوف أعدائه. والحمد لله الذي من علينا بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم دون الأمم
الماضية، والقرون السالفة؛ لقدرته التي لا تعجز عن شيء وإن عظم، ولا يفوتها شيء
وإن لطف. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
من الأدعية المأثورة عن عيسى عليه السلام
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن الأدعية المروية عن عيسى بن مريم
عليهما السلام: اللهم أنت إله من في السماء، وإله من
في الأرض، لا إله فيهما غيرك، وأنت حكيم من في السماء، وحكيم من في الأرض؛ لا
حكيم فيهما غيرك؛ وأنت ملك من لا السماء، وملك من في الأرض، لا ملك فيهما غيرك؛
قدرتك في السماء كقدرتك فى الأرض، وسلطانك في السماء كسلطانك في الأرض؛ أسألك
باسمك الكريم، ووجهك المنير، وملكك القديم أن تفعل بي كذا وكذا. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
من الأدعية المأثورة عن بعض الصالحين
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وكان بعض الصالحين يدعو فيقول:
اللهم لا تدخلنا النار بعد أن أسكنت قلوبنا توحيدك، وإني لأرجو ألا تفعل؛ وإن
فعلت لتجمعن بيننا وبين قوم عاديناهم فيك. فيقال: إن
إنساناً حضر ذلك الدعاء، فرأى تلك الليلة رسول الله
صلى الله عليه وسلم فى منامه يقول له: أبلغ الأعرابي أن الله قد غفر له. وروي أن علياً رضي الله عنه اعتمر، فرأى رجلاً متعلقاً بأستار الكعبة، وهو يقول: يا من لا يشغله سمع عن سمع؛ يا من لا
تقلقه المسائل ولا يبرمه إلحاح الملحين؛ أذقني برد عفوك، وحلاوة مغفرتك، وعذوبة
عافيتك؛ والفوز بالجنة، والنجاة من النار. ومن دعاء بعضهم: اللهم اجعل الموت خير غائب ننتظره، واجعل القبر خير بيت
نعمره؛ واجعل ما بعده خيراً لنا منه. اللهم
إليك عجت الأصوات بصنوف اللغات تسألك الحاجات، وحاجتي إليك أن تذكرني عند طول
البلى، إذا نسيني أهل الدنيا. اللهم
اجعلنا نستحييك ونتقيك، ونخافك ونخشاك، ونرجوك ونطيعك في السر والعلانية. اللهم
استرنا بالمعافاة والغنى؛ أستعين الله على أموري، وأستغفر الله لذنوبي، وأعوذ بك
من شر نفسي. ويروى أن رجلاً أعمى جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشكا اليه ذهاب بصره، فقال صلى الله عليه وسلم له: قل: يا سبوح يا قدوس، يا نور
الأنوار، يا نور السموات والأرض، يا أول الأولين، ويا آخر الآخرين، ويا أرحم
الراحمين، أسألك أن تغفر لي الذنوب التي تغير النعم، والذنوب التي تنزل النقم،
والذنوب التي تهتك العصم، والذنوب التي توجب البلاء، والذنوب التي تقطع الرجاء،
والذنوب التي تحبس الدعاء، والذنوب التي تكشف الغطاء، والذنوب التي تعجل الفناء،
والذنوب التي تظلم الهواء، وأسألك باسمك العظيم، ووجهك الكريم، أن ترد علي بصري،
فدعا بذلك فرد عليه بصره. وقام الثاني، فقال: اللهم إنك أمرتنا أن نعفو عمن ظلمنا، وقد ظلمنا أنفسنا فاعف
عنا، ثم جلس. وقام الثالث فقال: اللهم إنا على ثقة أنك لم تخلق خلقاً أوسع من مغفرتك، فاجعل
لنا في سعتها نصيباً؛ فرفع عنهم العذاب. ثم قال: هذا أمية
بن أبي الصلت يقول لابن جدعان:
وقال:
هذا مخلوق يقول لمخلوق، فما ظنكم برب العالمين. ومن دعائه رضي الله عنه: "اللهم ارزقني عينين هطالتين تسقيان القلوب مذروف
الدموع، قبل أن يكون الدمع دماً، وقرع الضرس ندماً". ومن دعائه رضي الله عنه:
"اللهم طهر لساني من الكذب، وقلبي من النفاق، وعملي من الرياء، وبصري من
الخيانة، فإنك تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور". " عمر
بن ذر: اللهم إن كنا عصيناك فقد تركنا من معاصيك أبغضها إليك؛ وهو الإشراك، وإن
كنا قصرنا عن بعض طاعتك، فقد تمسكنا منها بأحبها إليك، وهو شهادة أن لا إله إلا
أنت، وأن رسلك جاءت بالحق من عندك. كان المأمون إذا رفعت المائدة من بين يديه
يقول:
الحمد لله الذي جعل أرزاقنا أكثر من أقواتنا. علي رضي
الله عنه: جعل في يديك
مفاتيح خزائنه بما أذن لك فيه من مسألته، فمتى شئت استفتحت بالدعاء أبواب نعمته،
واستمطرت شآبيب رحمته، فلا يقنطنك إبطاء إجابته، فإن العطية على قدر النية،
وربما أخرت عنك الإجابة، ليكون ذلك أعظم لأجر السائل، وأجزل لعطاء الأمل؛ وربما
سألت الشيء فلا تؤتاه، واوتيت خيراً منه، أو صرف عنك بما هو لك خير. واعلم أنه رب أمرٍ قد طلبت؛ فيه هلاك دينك لو
أوتيته. فدعا بها
فلم يرعه إلا الواعية بالليل. فسأل، فقيل: مات فلان فجأة. اللهم إني
أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، وأسألك شكر نعمتك وحسن عبادتك،
وأسألك قلباً سليماً، ولساناً صادقاً، وأسألك من خير ما تعلم؛ وأعوذ بك من شر ما
تعلم، وأستغفرك لما تعلم، إنك أنت علام الغيوب. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
آداب الدعاء
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قالوا:
ومن آداب الدعاء أن ترصد له الأوقات الشريفة، كما بين الأذان والإقامة، وكوقت
السجود ووقت السحر؛ ويستحب أن يدعو مستقبل القبلة
رافعاً يديه؛ لما روى سلمان عن النبي صلى الله عليه
وسلم:
"إن ربكم كريم يستحي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفراً"، ويستحب أن يمسح بهما وجهه بعد الدعاء، فإن ذلك قد روي عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم. وقد روي أن عمر سمع
رجلاً يجهر بالدعاء، فقال: لكن زكريا نادى
ربه نداء خفياً. ويكره أن يتكلف الكلام المسجوع،
وشمتحب الإتيان بالمطبوع منه، لقوله صلى
الله عليه وسلم:
"إياكم والسجع في الدعاء، بحسب أحدكم أن يقول:
اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، وأعوذ بك من النار
وما قرب إليها من قول أوعمل ". اللهم إني
أعوذ بك أن أقول حقاً ليس فيه رضاك، ألتمس به أحداً سواك، وأعوذ بك أن أتزين
للناس بشيء يشينني عندك، وأعوذ بك أن أكون عبرة لأحد من خلقك، وأن يكون أحد من
خلقك أسعد بما علمتني مني، وأعوذ بك أن أستعين بمعصية لك على ضر يصيبني. اللهم احملني على عفوك، ولا تحملني على عدلك. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن كلام له عليه السلام
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: ومن
كلام له رضي الله عنه قاله لبعض أصحابه لما عزم على المسير إلى الخوارج، وقد قال له: إن سرت يا أمير المؤمنين في هذا
الوقت، خشيت ألا تظفر بمرادك من طريق علم النجوم، فقال
رضي الله عنه: أتزعم أنك تهدي إلى الساعة التي من سار فيها صرت عنه
السوء، وتخوف من الساعة التي من سار فيها حاق به الضر؛ فمن صدقك بهذا فقد كذب
القرآن، وأستغنى عن استعانة بالله في نيل المحبوب ودفع المكروه. وتبتغي في قولك
للعامل بأمرك أن يوليك الحمد دون ربه؛ لأنك - بزعمك - أنت هديته إلى الساعة التي
نال فيها النفع، وأمن الضر. والكاهن: واحد الكهان وهم الذين كانوا يخبرون عن
الشياطين بكثير من الغائبات. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
اختلاف الناس في أحكام النجوم
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
واعلم أن الناس قد اختلفوا في أحكام
النجوم، فأنكرها جمهور المسلمين والمحققون من الحكماء؛ ونحن نتكلم ههنا في ذلك
ونبحث فيه بحثين: بحثاً كلامياً، وبحثاً حكمياً. أما البحث الكلامي؛ هو أن يقال: إما أن يذهب المنجمون إلى أن النجوم
مؤثرة، أو أمارات. فإن ادعى مدعٍ أن الوصلة هي الهواء، فعن ذلك أجوبة: أحدها: أن الهواء لا يجوز أن يكون
وصلة وآلة في الحركات الشديدة وحمل الأثقال، لا سيما إذا لم يتموج، والثاني: أنه كان يجب أن نحس بذلك، ونعلم أن
الهواء يحركنا ويصرفنا؛ كما نعلم في الجسم إذا حركنا وصرفنا بآلة موضع تحريكه
لنا بتلك الآلة، والثالث: أن في الأفعال
الحادثة فينا ما لا يجوز أن يفعل بآلة، ولا يتولد عن سبب؛ كالإرادات والاعتقادات
ونحوها. وقد دلل أصحابنا أيضاً على إبطال كون
الكواكب فاعلة للأفعال فينا، بأن ذلك يقتضي سقوط الأمر والنهي، والمدح والذم،
ويلزمهم ما يلزم المجبرة، وهذا الوجه يبطل كون الكواكب فاعلة فينا بالإيجاب، كما
يبطل كونها فاعلة بالاختيار. وأما القول بأنها أمارات على ما يحدث
ويتجدد؛ فيمكن أن ينصر بأن يقال: لم لا يجوز
أن يكون الله تعالى أجرى العادة، بأن يفعل أفعالاً مخصوصة عند طلوع كوكب أو
غروبه أو اتصاله بكوكب آخر. فقال المنجم: هذا مما لا
يجوز، بل الواجب أن تكون سلامة البصراء أكثرمن سلامة العميان. فقال المتكلم:
فقد بطل قولكم؛ لأن مسألتنا نظير هذه الصورة، فإن
مثال البصراء هم الذين يعرفون أحكام النجوم، ويميزون مساعدها من مناحسها،
ويتوقون بهذه المعرفة مضار الوقت والحركات ويتخطونها ويعتمدون منافعها
ويقصدونها، ومثال العميان كل من لا يحسن علم
النجوم؛ ولا يقولون به من أهل العلم والعامة، وهم أضعاف أضعاف عدد المنجمين. ومثال الطريق الذي فيه الآبار،
الزمان الذي مضى ومر على الخلق أجمعين، ومثال آباره مصائبه ومحنه. وقد كان يجب - لو صح
علم أحكام النجوم لا - أن سلامة المنجمين أكثر ومصائبهم أقل؛ لأنهم
يتوقون المحن ويتخطونها لعلمهم بها قبل كونها، وأن تكون محن المعرضين عن علم
أحكام النجوم على كثرتهم أوفر وأظهر؛ حتى تكون سلامة كل واحد منهم هي الطريقة
الغريبة؛ والمعلوم خلاف ذلك، فإن السلامة والمحن في الجميع متقاربة متناسبة غير
متفاوتة. وأما البحث الحكمي في هذا الموضع؛ فهو أن الحادث
في عالم العناصر عند حلول الكوكب المخصوص في البرج المخصوص؛ إما أن يكون المقتضي له مجرد ذلك الكوكب أو مجرد ذلك البرج،
أو حلول ذلك الكوكب في ذلك البرج. فالأولان باطلان؛
وإلا لوجب أن يحدث ذلك الأمر قبل أن يحدث، والثالث
باطل أيضاً؛ لأنه إما أن يكون ذلك البرج مساوياً لغيره من البروج في
الماهية، أو مخالفاً. والأول يقتضي حدوث ذلك الحادث حال
ما كان ذلك الكوكب حالاً في غيره من البروج؛ لأن حكم الشيء حكم مثله، والثاني يقتضي كون كرة البروج متخالفة الأجزاء في أنفسها؛
ويلزم في ذلك كونها مركبة، وقد قامت الدلالة على أنه لا شيء من الأفلاك بمركب. وأما الوجه الثاني فلا جواب عنه. فأما إن كانوا يطلبون الظن فإن هذه
الحجة لا تفسد قولهم. فأما أبو البركات بن ملكا البغدادي
صاحب كتاب "المعتبر" فإنه أبطل أحكام النجوم من وجه وأثبته من وجه. قال: أما
من يريد تطبيق علم أحكام النجوم على قاعدة العلم الطبيعي فإنه لا سبيل له إلى
ذلك، فإنا لا نتعلق من أقوالهم إلا بأحكام يحكمون بها من غير دليل؛ نحو القول
بحر الكواكب وبردها أو رطوبتها، وببوستها واعتدالها، كقولهم:
إن زحل بارد يابس، والمشتري معتدل؛ والاعتدال خير والإفراط شر، وينتجون من ذلك
أن الخير يوجب سعادة، والشر يوجب منحسة، وما جانس ذلك مما لم يقل به علماء
الطبيعيين ولم تنتجه ممدماتهم في أنظارهم؛ وإنما الذي أنتجته هو أن الأجرام السماوية
فعالة فيما تحويه وتشتمل عليه وتتحرك حوله فعلاً على الإطلاق غير محدود بوقت؛
ولا مقدر بتقدير، والقائلون بالأحكام ادعوا حصول علمهم بذلك؛ من توقيف وتجربة لا
يطابق نظر الطبيعي. وقد ذهبت منه الكواكب التي كان بها أسدا كأن ذلك
الملك بيت للشمس، مع انتقال الساكن وكذلك السرطان للقمر. والحق أنه لا ينقلب الحمل ولا يثبت
الثور؛ بل هما على حالهما في كل وقت. ثم كيف يبقى دهره منقلباً مع خروج الشمس منه
وحلولها فيه! أتراها تخلف فيه أثراً أو تحيل منه طباعاً؛ وتبقى تلك الاستحالة
إلى أن تعود فتجددها! ولم لا يقول! قائل: إن السرطان حار يابس، لأن الشمس إذا
نزلت فيه يشتد حر الزمان؛ وما يجانس هذا مما لا يلزم؛ لا هو ولا ضده، فليس في
الفلك اختلاف يعرفه الطبيعي، إلا بما فيه من الكواكب، وهو في نفسه واحد متشابه
الجوهر والطبع؛ ولكنها أقوال قال بها قائل فقبلها قابل، ونقلها ناقل، فحسن فيها
ظن السامع، واغتر بها من لا خبرة له ولا قدرة له على النظر. لأنه كلام لا بأس به، قال: إن بعض المصدقين بأحكام النجوم وكل المكذبين بها، قد
زاغوا عن طريق الحق والصواب فيها. فإن الكثيرمن المصدقين بها
قد أدخلوا فيها ما ليس منها، وادعوا ما لم يكن إدراكه بها، حتى كثر فيها خطؤهم،
وظهر كذبهم، وصار ذلك سبباً لتكذيب أكثر الناس بهذا العلم. فأما المكذبون به
فقد بلغوا من إنكار صحيحه ورد ظاهره إلى أن قالوا: إنه لا يصح منه شيء أصلاً،
ونسبوا أهله إلى الزرق والاحتيال والخداع والتمويه، فلذلك رأينا أن نبتدىء
بتبيين صحة هذه الصناعة، ليظهر فساد قول المكذبين لها بأسرها، ثم نبين ما يمكن
إدراكه بها ليبطل دعوى المدعين فيها ما يمتنع وجوده بها. فإنهم يعلمون أشياء كثيرة من الآثار التي يؤثرها
القمر وأنوار الكواكب الثابتة، كالمد والجزر، وحركات الرياح والأمطار وأوقاتها
عند الحدوث، وما يوافق من أوقات الزراعات وما لا يوافق، وأوقات اللقاح والنتاج. قلت: هذا اعتراف
بأن جميع الأحداث المتعلقة باختيار الإنسان وغيره من الحيوان لا مدخل لعلم أحكام
النجوم فيه، فعلى هذا لا يصح قول من يقول منهم لزيد مثلا: إنك تتزوج أو تشتري
فرساً، أو تقتل عدواً أو تسافر إلى بلد ونحو ذلك، وهو أكثر ما يقولونه ويحكمون
به. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
بعد فراغه من حرب الجمل في ذم النساء
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: معاشر
الناس؛ إن النساء نواقص الإيمان، نواقص الحظوظ، نواقص العقول. فأما نقصان
إيمانهن فقعودهن عن الصلاة والصيام في أيام حيضهن، وأما
نقصان عقولهن فشهادة أمرأتين منهن كشهادة الرجل الواحد، وأما نقصان حظوظهن فمواريثهن على الأنصاف من
مواريث الرجال. وهذا الفصل كله رمز إلى عائشة، ولا يختلف أصحابنا في أنها أخطأت فيما فعلت ثم تابت وماتت
تائبة، وأنها من أهل الجنة. وروى المدائني في كتاب "الجمل
"، قال: لما قتل عثمان، كانت عائشة بمكة، وبلغ
قتله إليها وهي بشراف، فلم تشك في أن طلحة هو صاحب الأمر، وقالت: بعداً لنعثل
وسحقاً! إيه ذا الإصبع! إيه أبا شبل!
إيه يا بن عم؛ لكأني أنظر إلى إصبعه وهو
يبايع له: حثوا الإبل ودعدعوها. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أخبار عائشة
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وقال أبو مخنف لوط بن يحمى الأزدي في
كتابه: إن عائشة لما بلغها قتل عثمان وهي بمكة، أقبلت مسرعة، وهي تقول: إيه ذا الإصبع! لله أبوك! أما إنهم وجدوا طلحة لها كفواً.
فلما انتهت إلى شراف استقبلها عبيد
بن أبي سلمة الليثي، فقالت له: ما عندك؛ قال: قتل عثمان، قالت: ثم ماذا؛ قال: ثم
حارت بهم الأمور إلى خير محار؛ بايعوا علياً، فقالت: لوددت أن
السماء انطبقت على الأرض إن تم هذا، ويحك! انظر
ما تقول! قال: هو ما قلت لك يا أم المؤمنين، فولولت،
فقال لها: ما شأنك يا أم المؤمنين! والله ما
أعرف بين لابتيها أحداً أولى بها منه ولا أحق؛ ولا أرى له نظيراً في جميع
حالاته، فلماذا تكرهين ولايته؛ قال: فما ردت عليه جواباً. قال: وقد
روى قيس بن أبي حازم أنه حج في العام الذي قتل فيه عثمان وكان مع عائشة لما
بلغها قتله، فتحمّل إلى المدينة، قال: فسمعها تقول
في بعض الطريق: إيه ذا الإصبع! وإذا ذكرت عثمان قالت:
أبعده الله! حتى أتاها خبر بيعة علي، فقالت:
لوددت أن هذه وقعت على هذه، ثم أمرت برد ركائبها إلى مكة فردت معها، ورأيتها
في سيرها إلى مكة تخاطب نفسها، كأنها تخاطب أحداً:
قتلوا ابن عفان مظلوماً، فقلت لها: يا أم المؤمنين، الم أسمعك آنفاً تقولين: أبعده
الله، وقد رأيتك قبل أشد الناس عليه وأقبحهم فيه قولاً! فقالت: لقد كان ذلك،
ولكني نظرت في أمره، فرأيتهم استتابوه حتى إذا تركوه كالفضة البيضاء أتوه صائماً
محرماً لا شهر حرام فقتلوه. فأقبل رسول الله صلى
الله عليه وسلم عليّ،
وهوغضبان محمر الوجه، فقال: ارجعي وراءك، والله لا
يبغضه أحد من أهل بيتي ولا من غيرهم من الناس إلا وهو خارج من الإيمان، فرجعت
نادمةً ساقطة! قالت عائشة: نعم أذكر ذلك. قالت:
وأذكرك أيضاً كنت أنا وأنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر له، وكان علي يتعاهد نعلي رسول! الله صلى الله عليه وسلم فيخصفها، ويتعاهد أثوابه فيغسلها،
فنقبت له نعل، فأخذها يومئذ يخصفها، وقعد في ظل سمرة، وجاء
أبوك ومعه عمر، فاستأذنا عليه، فقمنا إلى الحجاب، ودخلا يحادثانه فيما
أرادا، ثم قالا: يا رسول الله إنا لا ندري
قدر ما تصحبنا، فلو أعلمتنا من يستخلف علينا، ليكون لنا بعدك مفزعاً؟ فقال لهما: أما إني قد أرى مكانه، ولو فعلت
لتفرقتم عنه. كما
تفرقت بنو إسرائيل عن هارون بن عمران، فسكتا ثم خرجا، فلما
خرجنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت له، وكنت أجرأ عليه منا: من كنت يا رسول الله، مستخلفاً
عليهم؟ فقال: خاصف النعل، فنظرنا فلم نر أحداً إلا علياً، فقلت: يا رسول الله،
ما أرى إلا علياً، فقال: هو ذاك، فقالت عائشة: نعم أذكر ذلك، فقالت: فأي خروج تخرجين بعد هذا؛ فقالت: إنما أخرج للإصلاح بين الناس وأرجو فيه
الأجر إن شاء الله، فقالت: أنت ورأيك،
فانصرفت عائشة عنها، وكتبت أم سلمة بما قالت وقيل
لها إلى علي رضي الله عنه. قال: فلما قدم عمر على علي رضي الله عنه أكرمه، ولم يزل مقيماً معه حتى شهد مشاهده
كلها، ووجهه أميراً على البحرين. وقال لابن عم له: بلغني أن عمر يقول الشعر، فابعث إلي من شعره،
فبعث إليه بأبيات له أولها:
فعجب علي رضي الله عنه من شعره واستحسنه. ما كنت قائلة
لرسول الله صلى الله عليه وسلم لو لقيك ناصّة قلوص قعودك من منهل إلى منهل قد
تركت عهيداه، وهتكت ستره،
إن عمود الدين لا يقوم بالنساء، وصدعه لا يرأب بهن، حماديات النساء خفض الأصوات
وخفر الأعراض، اجعلي قاعدة البيت قبرك حتى تلقينه،
وأنت على ذلك. فقالت عائشة:
ما أعرفني بنصحك، وأقبلني لوعظك! وليس الأمر حيث تذهبين؛ ما أنا بعمية عن رأيك، فإن أقم ففي غير حرج، وإن أخرج ففي
إصلاح بين فئتين من المسلمين، وقد ذكر هذا الحديث أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة في كتابه المصنف في
"غريب الحديث " في باب أم سلمة، على ما أورده عليك، قال: لما أرادت عائشة الخروج إلى البصرة، أتتها أم
سلمة، فقالت لها: إنك سدة بين محمد رسول الله صلى
الله عليه وسلم وبين أمته،
وحجابك مضروب على حرمته، قد جمع القرآن ذيلك فلا تندحيه، وسكن عقيراك فلا
تصحريها، الله من وراء هذه الأمة، لو أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن
يعهد إليك عهداً علت علت؛ بل قد نهاك عن الفرطة في البلاد؛ إن عمود الإسلام لا
يثأث بالنساء إن مال، ولا يرأب بهن إن صدع، حماديات النساء غض الأطراف وخفر
الأعراض وقصر الوهازة؛ ما كنت قائلة لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عارضك
بعد الفلوات، ناصةً قلوصاً من منهل إلى آخر، إن بعين الله مهواك، وعلى رسوله
تردين؛ وقد وجهت سدافته ويروى سجافته وتركت عهيداه. لو
سرت مسيرك هذا ثم قيل لي: ادخلي الفردوس لاستحييت أن ألقى محمداً صلى الله عليه وسلم هاتكةً
حجاباً، وقد ضربه عليَّ، اجعلي حصنك بيتك، ووقاعة الستر قبرك، حتى تلقينه، وأنت
على تلك أطوع ما تكونين لله بالرقبة، وأنصر ما تكونين للدين ما حلت عنه. لو ذكرتك قولاً تعرفينه لنهشت به نهش الرقشاء
المطرقة. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
تفسير غريب هذا الخبر
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
السدة:
الباب؛ ومنه حديث رسول الله صلى الله عليه
وسلم
أنه
ذكر أول من يرد عليه الحوض، فقال: الشعث رؤوساً، الدنس ثياباً، الذين لا تفتح
لهم السدد، ولا ينكحون المتنعمات؛ وأرادت أم سلمة
أنك باب بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين الناس، فمتى أصيب ذلك الباب بشيء فقد دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في
حرمه وحوزته، واستبيح ما حماه، تقول: فلا تكوني
أنت سبب ذلك بالخروج الذي لا يجب عليك، فتحوجي الناس إلى أن يفعلوا ذلك. وهذا مثل قول نعمان بن مقرن للمسلمين
في غزاة نهاوند: ألا وإنكم باب بين المسلمين والمشركين،
إن كسر ذلك الباب دخل عليهم منه. ومن روى
"تبدحيه" بالياء فإنه من البداح وهو المتسع من الأرض؛ وهو معنى الأول. قال ابن قتيبة: ولم أسمع
"بعقيرا" إلا في هذا الحديث. ومن الناس من يرويه "عِلت
عِلت" بكسر العين، أي ذهبت في البلاد وأبعدت السير، يقال: عال فلان في
البلاد، أي ذهب وأبعد؛ ومنه قيل للذئب: عيال. قولها:
"حماديات النساء" يقال: حُماداك أن تفعل كذا مثل "قصاراك أن تفعل
كذا". أي جهدك وغايتك. قولها: "وتركت عهيداه"، لفظة مصغرة مأخوذة من العهد، مشابهة لما سلف من
قولها: "عقيراك" و "حماديات
النساء".
والأفعى
يوصف بالإطراق؛ وكذلك الأسد والنمر والرجل الشجاع؛ وكان معاوية يقول في علي رضي الله عنه: الشجاع المطرق، وقال الشاعر وذكر
أفعى:
قولها؛
"فئتان متناجزتان"، أي تسرع كل واحدة منهما إلى نفوس الأخرى، ومن رواه
"متناحرتان" أراد الحرب وطعن النحور بالأسنة، ورشقها بالسهام. وقال أبو مخنف: لما انتهت عائشة في
مسيرها إلى الحوأب، وهو ماء لبني عامر بن صعصعة، نبحتها الكلاب، حتى نفرت صعاب
إبلها، فقال قائل من أصحابها: ألا ترون، ما أكثر كلاب الحوأب،
وما أشد نباحها! فأمسكت زمام بعيرها، وقالت: وإنها لكلاب
الحوأب! ردوني ردوني؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: .
. . وذكرت
الخبر، فقال لها قائل: مهلاً يرحمك الله! فقد جزنا ماء الحوأب؛ فقالت: فهل من شاهد؛ فلفقوا
لها خمسين أعرابياً، جعلوا لهم جعلاً، فحلفوا لها: إن هذا ليس بماء الحوأب، فسارت لوجهها. لما نزل علي رضي الله عنه بالبصرة، كتبت
عائشة إلى زيد بن صوحان العبدي: من عائشة بنت
أبي بكر الصديق زوج النبي صلى الله عليه وسلم
إلى ابنها الخالص زيد بن صوحان؛ أما بعد فأقم في بيتك، وخذل الناس عن علي،
وليبلغني عنك ما أحب، فإنك أوثق أهلي عندي، والسلام. كان الجمل لواء عسكر البصرة لم يكن
لواء غيره. خطب علي رضي الله عنه لما تواقف الجمعان، فقال: "لا تقاتلوا القوم حتى
يبدأوكم فإنكم بحمد الله على حجة؛ وكفكم عنهم حتى يبدأوكم حجة أخرى، وإذا
قاتلتموهم فلا تجهزوا على جريح، وإذا هزمتموهم فلا تتبعوا فدبراً، ولا تكشفوا
عورة، ولا تمثلوا بقتيل، وإذا وصلتم إلى رحال القوم فلا تهتكوا ستراً، ولا
تدخلوا داراً، ولا تأخذوا من أموالهم شيئاً، ولا تهيجوا امرأة بأذىً، وإن شتمن
أعراضكم وسببن أمراءكم وصلحاءكم، فإنهن ضعاف القوى والأنفس والعقول؛ لقد كنا
نؤمر بالكف عنهن وإنهن لمشركات، وإن كان الرجل ليتناول المرأة بالهراوة والجريدة،
فيعير بها وعقبه من بعده". فحرضت الأزد بذلك؛ فقاتلوا قتالاً شديداً، ورمي
الجمل بالنبل حتى صارت القبة عليه كهيئة القنفذ.
قال: فبكت حتى سمع نحيبها من وراء الحجاب، ثم قالت: إني معجلة الرحيل إلى بلادي إن شاء
الله تعالى، والله ما من بلد أبغض إلي من بلد أنتم
فيه، قلت: ولم ذاك! فوالله لقد
جعلناك للمؤمنين أماً، وجعلنا أباك صديقاً، قالت: يا
بن عباس، أتمن علي برسول الله؟ قلت: ما لي لا أمن عليك بمن لو كان منك لمننت به علي!
ثم أتيت علياً رضي الله عنه فأخبرته بقولها وقولي،
فسر بذلك، وقال لي: "ذريةً بعضها من
بعض والله سميع عليم"؛ وفي رواية: أنا
كنت أعلم بك حيث بعثتك. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن كلام له رضي الله عنه في الزهد
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: أيها
الناس؛ الزهادة قصر الأمل، والشكر عند النعم، والتورع عند المحارم، فإن عزب ذلك
عنكم فلا يغلب الحوام صبركم، ولا تنسوا عند النعم شكركم؛ فقد أعذر الله إليكم
بحجج مسفرة ظاهرة؛ وكتب بارزة العذر واضحة. واعلم أن الزهد في العرف المشهور هو
الإعراض عن متاع الدنيا وطيباتها، لكنه لما كانت الأمور الثلاثة طريقاً موطئة
إلى ذلك أطلق رضي الله عنه لفظ الزهد عليها على وجه المجاز. وقوله: "فقد أعذر الله
إليكم" أي بالغ؛ يقال:
أعذر فلان في الأمر أي بالغ فيه، ويقال: ضرب فلان فأعذر، أي أشرف على الهلاك؛
وأصل اللفظة من العذر؛ يريد أنه قد أوضح لكم بالحجج النيرة المشرقة ما يجب
اجتنابه، وما يجب فعله؛ فإن خالفتم استوجبتم العقوبة؛ فكان له في تعذيبكم العذر. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ما جاء في الزهد من أخبار
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
والآثار الواردة في الزهد كثيرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفلح الزاهد في الدنيا، حظي بعز
العاجلة وبثواب الآخرة".
بعض الصالحين:
المستغني عن الدنيا بالدنيا، كالمطفىء النار بالتبن.
وقال رجل: يا رسول الله، كيف لي أن
أعلم أمري؛ قال: "إذا أردت شيئاً من أمور الدنيا
فعسر عليك؛ فاعلم أنك بخير، وإذا أردت شيئاً من أمور الدنيا فيسر لك؛ فاعلم أنه
شر لك". وقال أبو الدرداء: أضحكتني ثلاث، وأبكتني
ثلاث: أضحكني مؤمل الدنيا والموت يطلبه،
وغافل وليس بمغفول عنه، وضاحك ملء فيه لا يدري أراض عنه الله أم ساخط! وأبكاني فراق محمد وحزبه، وأبكاني هول الموت،
وأبكاني هول الموقف، يوم تبدو السرائر حين لا أدري أيؤخذ بي إلى جنة أم إلى نار! وكان عبد الله بن صغير يقول:
أتضحك ولعل أكفانك قد خرجت من عند القصار! وكان
يقال: من أتى الذنب ضاحكاً، دخل النار باكياً. ورأى رجل رجلاً من ولد معاوية يعمل على بعير له، فقال: هذا بعد ما كنتم فيه من
الدنيا! قال: رحمك الله يا بن أخي، ما فقدنا
إلا الفضول.
وقال الحسن: ما
أطال عبد الأمل إلا أساء العمل.
وقال
آخر:
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن كلام له رضي الله عنه فى صفة الدنيا
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: ما أصف من دار، أولها عناء، وأخزها فناء! في حلالها حساب،
وفي حرامها عقاب، من أستغنى فيها فتن، ومن أفتقر فيها حزن ومن ساعاها فاتته، ومن
قعد عنها واتته، ومن أبصر بها بصرته، ومن أبصر إليها أعمتة.
ونظر إلى قوله رضي الله عنه: "في حلالها حساب، وفي حرامها
عقاب"
بعض الشعراء، فقال:
ومن
المعنى أيضاً قول بعضهم:
ونظر الحسن البصري إلى قوله رضي الله عنه: "من استغنى فيها فتن، ومن افتقر
فيها حزن"، فقال، وقد جاءه إنسان يبشره بمولود
له ذكر: ليهنك الفارس يا أبا سعيد، فقال: بل الراجل! ثم قال: لا مرحباً
بمن إن كان غنياً فتنني، وإن كان فقيراً أحزنني، وإن عاش كدني، وإن مات هدني، ثم
لا أرضى بسعيي له سعياً، ولا بكدحي له كدحاً؛ حتى أهتم بما يصيبه بعد موتي، وأنا
في حال لا ينالني بمساءته حزن، ولا بسروره جذل.
فإن قلت:
المسموع: أبصرت زيداً، ولم يسمع أبصرت إلى زيد، قلت:
يجوز أن يكون قوله رضي الله عنه: "ومن أبصر إليها"، أي ومن
أبصر متوجهاً إليها، كقوله عز وجل: "في تسع
آيات إلى فرعون". ولم يقل
مرسلاً؛ ويجوز أن يكون أقام ذلك مقام قوله "نظر إليها" لما كان مثله،
كما قالوا في دخلت البيت، ودخلت إلى البيت أجروه مجرى ولجت إلى البيت لما كان
نظيره. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن الغراء وهي من الخطب العجيبة
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
الحمد لله الذي علا بحوله، ودنا بطوله، مانح كل
غنيمة وفضل، وكاشف كل عظيمة وأزل. والأول
نقيض الآخر أصله أوءل على أفعل مهموز الوسط، قلبت الهمزة واواً وأدغم، يدل على
ذلك قولهم: هذا أول منك والإتيان بحرف الجر دليل على أنه أفعل، كقولهم: هذا أفضل
منك؛ وجمعه على أوائل وأوال أيضاً على القلب. وقال قوم: أصله ووّل على فوعل
فقلبت الواو الأولى همزة، وإنما لم يجمع على ووال لاستثقالهم اجتماع الواوين
وبينهما ألف الجمع. وإذا
جعلت الأول صفة لم تصرفه، تقول: لقيته عاماً أول، لاجتماع وزن الفعل، وتقول: ما
رأيته مذ عام أول، كلاهما بغير تنوين؛ فمن رفع جعله صفة لعام؛ كأنه قال: أول من
عامنا، ومن نصب جعله كالظرف، كأنه قال: مذ عام قبيل عامنا، فإن قلت: ابدأ بهذا
أول، ضممته على الغاية.
وفي هذا الفصل ضروب من البديع؛ فمنها أن دنا في مقابلة علا لفظاً
ومعنى؛ وكذلك حوله وطوله. قلت: إن
أصحابنا لا يمتنعون من إطلاق قولهم: إن لله قوة وقدرة وحولاً، وحاش لله أن يذهب
ذاهب منهم إلى منع ذلك! ولكنهم يطلقونه ويعنون به حقيقته العرفية، وهي كون الله
تعالى قوياً قادراً، كما نقول نحن والمخالف: إن لله وجوداً وبقاءً وقِدماً، ولا
نعني بذلك أن وجوده أو بقاءه أو قِدمه معان زائدة على نفسه، لكنا نعني كلنا
بإطلاق هذه الألفاظ عليه كونه موجوداً أو باقياً أو قديماً، وهذا هو العرف
المستعمل في قول الناس: لا قوة لي على ذلك و لا قدرة لي على فلان لا يعنون نفي
المعنى، بل يعنون كون الإنسان قادراً على ذلك. ومنها وهو
ألطف ما يستعمله أرباب هذه الصناعة؛ أنه جعل قريباً هادياً، مع قوله: أستهديه، لأن الدليل القريب منك أجدر بأن
يهديك من البعيد النازح، ولم يجعله مع قوله:
وأستعينه؛ وجعل مع الاستعانة قاهراً قادراً لأن القادر القاهر يليق أن يستعان
ويستنجد به؛ ولم يجعله قادراً وقاهراً مع التوكل عليه، وجعل مع التوكل كافياً
ناصراً؛ لأن الكافي الناصر أهلٌ لأن يتوكل عليه. ويجوز أن ينصب بأنه مفعول به، ويكون ذلك على وجهين: أحدهما: أن يكون من حاط ثلاثيا، تقول: حاط
فلان كرمه، أي جعل عليه حائطاً، فكأنه جعل الإحصاء والعد كالحائط المدار عليهم،
لأنهم لا يبعدون منه ولا يخرجون عنه.
قوله:
وأرصد يعني أعد، وفي الحديث: "إلا أن أرصده
لدين علي". والرفدة والرفد واحد، وهي العطية والصلة ورفدت
فلاناً رفداً بالفتح، والمضارع أرفده بكسر الفاء، ويجوز أرفدته بالهمزة. قوله:
"رنق الماء" بالكسر ورنقته أنا ترنيقا، أي كدرته والرواية المشهورة في
هذا الفصل "رنق مشربها" بالكسر أقامه مقام قولهم: "عيش رنق
"، ومن رواه "رنق مشربها" بالسكون- وهم الأقلون- أجرى اللفظ على
حقيقته. وناكرها:
فاعل، من نكرت كذا، أي أنكرته. وقمصت بأرجلها، قمص الفرس وغيره يقمص ويقمص قمصاً
وقماصاً، أي استن؛ وهو أن يرفع يديه ويطرحهما معا، وشجن برجليه، وفي المثل
المضروب لمن ذل بعد عزة: "ما لعير من
قماص". ومن رواه بالحاء
فهو جمع رحل الناقة، وأقصدت: قتلت مكانها من غير تأخير. وأعلقت المرء الأوهاق: جعلت الأوهاق عالقة به. والضنك:
الضيق، والمضجع: المصدر أو المكان، والفعل ضجع الرجل جنبه بالأرض، بالفتح، يضجع
ضجوعاً وضجعاً، فهو ضاجع؛ ومثله أضجع، والمرجع:
مصدر رجع، ومنه قوله تعالى: "ثم إلى
ربكم مرجعكم"، وهو شاذ، لأن المصادر
من فعل يفعل بكسر العين؛ إنما يكون بالفتح. وقال ابن السكيت:
يقال جئت في عقب شهر كذا، بالضم، إذا جئت بعدما يمضي كله، وجئت في عقب، بكسر
القاف إذا جئت وقد بقيت منه بقية. وقد روي:
يعقب السلف، أي يتبع. وارعوى: كف
عن الأمر وأمسك، وأصل فعله الماضي رعى يرعو، أي كف عن الأمر، وفلان حسن الرعوة
والرعوة والرعوى والارعواء. والاجترام، افتعال من الجرم، وهو
الذنب، ومثله الجريمة، يقال: جرم وأجرم بمعنى. الشرح:
تصرمت الأمور: تقطعت، ومثله تقضت الدهور. وأزف: قرب ودنا، يأزف أزفاً؛ ومنه قوله
تعالى: "أزفت الآزفة" أي القيامة،
الفاعل ازف، والضرائح: جمع ضريح وهو الشق في
وسط القبر. واللحد:
ما كان في جانب القبر، وضرحت ضرحاً، إذا حفرت الضريح، والأوكار:
جمع وكر بفتح الواو، وهو عش الطائر، وجمع الكثرة وكور، وكر الطائر يكر وكراً، أي
دخل وكره، والوكن بالفتح مثل الوكر، أي العش، وأوجرة السباع: جمع وِجار بكسر
الواو، ويجوز فتحها، وهو بيت السبع والضبع ونحوهما، مهطعين:
مسرعين. والرعيل: القطعة من الخيل. واللبوس، بفتح
اللام: ما يلبس، قال:
ومنه
قوله تعالى: "وعلمناه صنعة لبوس لكم". والضرع:
الخشوع والضعف، ضرع الرجل يضرع، وأضرعه غيره. ويروى وأثجم
العرق، أي كثر ودام.
وأرعدت الأسماع: عرتها الرعدة. وزبرة الداعي: صوته، ولا يقال للصوت زبرة إلا
إذا خالطه زجر وانتهار، زبرته أزبره، بالضم. الأصل:
عباد مخلوقون اقتداراً، ومر بوبون أقتساراً، ومقبوضون أحتضاراً، وضمنون أجداثاً؛
وكائنون رفاتاً، ومبعوثون أفراداً، ومدينون جزاء، ومميزون حساباً. قد أمهلوا في
طلب المخرج، وهدوا سبيل المنهج، وعمروا مهل المستعتب، وكشفت عنهم سدف الريب،
وخلوا لمضمار الجياد، وروية الارتياد، وأناة المقتبس الفرتاد، فى مدة الأجل،
ومضطرب المهل؛ الشرح: مربوبون: مملوكون. والاقتسار: الغلبة والقهر، والاحتضار: حضور الملائكة عند الميت؛ وهو حينئذ
محتضر، وكانت العرب تقول: لبن محتضر: أي فاسد ذو
آفة، يعنون أن الجن حضرته، يقال: اللبن محتضر فغط إناءك. والأجداث: جمع جدث، وهو القبر؛ واجتدث الرجل؛
اتخذ جدثاً، ويقال: جدف بالفاء. والدين:
الجزاء؛ ومنه "مالك يوم الدين". قوله:
قد أمهلوا في طلب المخرج، أي انظروا ليفيئوا إلى الطاعة ويخلصوا التوبة، لأن
إخلاص التوبة هو المخرج الذي من سلكه خرج من ربقة المعصية. ومثله قوله: وهدوا سبيل المنهج، والمنهج: الطريق
الواضح. وقد قيل: السدفة: اختلاط الضوء والظلمة كوقت ما بين طلوع الفجر إلى الإسفار، والسدف: الصبح وإقباله، وأسدف الليل، أظلم؛ وأسدف الصبح
أضاء، يقال: أسدف الباب، أي افتحه حتى يضيء البيت؛ وفي لغة هوازن أسدفوا؛
أي أسرجوا، من السراج، والريب: الشبهة، جمع ريبة.
والمضمار: الموضع الذي تضمر فيه الخيل، والمضمار أيضاً المدة التي تضمر
فيها. والتضمير: أن
تعلف الفرس حتى يسمن؛ ثم ترده إلى قوته الأولى؛ وذلك في أربعين يوماً، وقد يطلق
التضمير على نقيض ذلك؛ وهو التجويع حتى يهزل ويخف لحمه. ضمر
الفرس بالفتح، يضمر بالضم، ضموراً، وجاء ضمر الفرس بالضم، وأضمرته أنا، وضمرته
فاضطمر هو، ولؤلؤ مضطمر: في وسطه بعض الانضمام. رجل لطيف الجسم، ضمير البطن،
وناقة ضامر وضامرة أيضاً. يقول:
مكنهم الحكيم سبحانه وخلاهم وأعمالهم، كما تمكن الخيل التي تستبق في المضمار
ليعلم أيها أسبق. والأناة:
التؤدة والانتظار، مثل القناة.
والمقتبس:
متعلم العلم ههنا، ولا بد له من أناة ومهل ليبلغ حاجته، فضرب مثلاً، وجاء في بعض الروايات: ومقبوضون اختضاراً بالخاء
المعجمة؛ وهو موت الشاب غضاً أخضر، أي مات شاباً، وكان
فتيان يقولون لشيخ: أجززت يا أبا فلان، فيقول: أي بني، وتختضرون! أجز الحشيش: آن
أن يجز، ومنه قيل للشيخ كاد يموت: قد أجز، والرواية
الأولى أحسن، لأنها أعم. الأصل: فيا
لها أمثالاً صائبةً، ومواعظ شافية، لو صادفت قلوباً زاكية، وأسماعاً واعية،
واراءً عازمة، وألباباً حازمة! فاتقوا
الله تقية من سمع فخشع، وأقترف فاعترف، ووجل فعمل، وحاذر فبادر، وأيقن فأحسن،
وعبر فاعتبر، وحذر فحذر، وزجر فآزدجر، وأجاب فأناب، وراجع فتاب، وأقتدى فاحتذى،
وأري فرأى، فأسرع طالباً، ونجا هارباً؛ فأفاد ذخيرة، وأطاب سريرة، وعمر معاداً،
واستظهر زاداً، ليوم رحيله، ووجه سبيله، وحال حاجته، وموطن فاقته، وقدم أمامة
لدار مقامه. والقلوب الزاكية:
الطاهرة، والأسماع الواعية: الحافظة. والآراء العازمة: ذات العزم. والألباب:
العقول، والحازمة: ذات الحزم، والحزم: ضبط الرجل أمره. والزجر:
النهي والمنع، زجر أي منع، وازدجر مطاوع ازدجر؛ اللفظ فيهما واحد، تقول: ازدجرت
زيداً عن كذا فازدجر هو، وهذا غريب؛ وإنما جاء مطاوع ازدجر في زجر لأنهما كالشيء
الواحد؛ وفي بعض الروايات ازدجر فازدجر، فلا يحتاج مع هذه الرواية إلى تأويل،
وأناب الرجل إلى الله، أي أقبل وتاب. واقتدى
بزيد؛ فعل مثل فعله، واحتذى مثله. نصب جهة بفعل مقدر، تقديره:
واقصدوا جهة ما خلقكم له يعني العبادة،
لأنه تعالى قال: "وما خلقت الجن
والإنس إلا ليعبدون". فحذف الفعل، واستغنى
عنه بقوله: فاتقوا الله لأن التقوى ملازمة لقصد المكلف العبادة، فدلت عليه
واستغنى بها عن إظهاره.
أي
بعد حيال، فيكون قد حذف المفعول، وحذفه جائز، لأنه فضلة؛ ويكون التقدير: لتجلو الأذى بعد عشاها، والعشا، مقصور: مصدر عشي، بكسر الشين، يعشى؛ فهو
عش، إذا أبصر نهاراً ولم يبصر ليلاً. فإن قلت:
فأي معنى في قوله: أعضاء تجمع أعضاءها؛ وكيف يجمع الشيء نفسه؛ قلت: أراد رضي الله عنه بالأشلاء ههنا الأعضاء
الظاهرة، وبالأعضاء الجوارح الباطنة؛ ولا ريب أن الأعضاء الظاهرة تجمع الأعضاء
الباطنة وتضمها. والملائمة: الموافقة. والأحناء: الجوانب والجهات. ووجه الموافقة
والملاءمة أن كون اليد في الجانب أولى من كونها في الرأس أو في أسفل القدم؛
لأنها إذا كانت في الجانب كان البطش وتناول ما يراد ودفع ما يؤذي أسهل؛ وكذلك
القول في جعل العين في الموضع الذي جعلت به، لأنها كديدبان السفينة البحرية، ولو
جعلت في أم الرأس لم ينتفع بها هذا الحد من الانتفاع الآن؛ وإذا تأملت سائر
أدوات الجسد وأعضاءه وجدتها كذلك. والمرفق من الأمر: ما ارتفقت به وانتفعت، ويروى: بأرماقها، والرمق:
بقية الروح. ومجللات النعم، تجفل الناس، أي تعمهم؛ من قولهم:
إسحاب مجلل أي يطبق الأرض، وهذا من باب إضافة الصفة إلى الموصوف، كقولك: أنا في سابغ ظلك وعميم فضلك، كأنه قال: في
نعمه المجفلة؛ وكذلك القول في موجبات مننه، أي في مننه التي توجب الشكر. ويروى وحواجز بليته، وقد فسر قوله: حواجز عافيته؛
على أن يراد به ما يحجز العافية ويمنعها عن الزوال والعدم. وأرهقتهم المنايا: أدركتهم مسرعة. والمرهق: الذي أدرك ليقتل. وشذبهم
عنها: قطعهم وفرقهم؛ من تشذيب الشجرة؛ وهو تقشيرها، وتخرمت زيد المنية: استأصلته
واقتطعته. والغضارة: طيب العيش،
ومنه المثل: أباد الله غضراءهم، أي خيرهم وخصبهم، وآونة الفناء جمع أوان؛ وهو
الحين، كزمان وأزمنة، وفلان يصنع ذلك الأمر آونة كقولك: تارات، أي يصنعه مراراً
ويدعه مراراً، والزيال: مصدر زايله مزايلة
وزيالاً، أي فارقه، والأزوف: مصدر أزف، أي دنا، والعلز: قلق
وخفة وهلع يصيب الإنسان، وقد علز بالكسر، وبات علزاً، أي وجعاً قلقاً. والمضض: الوجع،
أمضني الجرح ومضني؛ لغتان، وقد مضضت يا رجل، بالكسر، والغصص:
جمع غصة، وهي الشجا، والغصص بالفتح: مصدر قولك غصصت يا رجل تغص بالطعام،
فأنت غاص وغصان، وأغصصته أنا. والجريض:
الريق يغص به؛ جرض بريقه بالفتح، يجرض بالكسر، مثل كسر يكسر؛ وهو أن يبلع ريقه على هم وحزن بالجهد. والجريض: الغصة، وفي المثل: حال
الجريض دون القريض، وفلان يجرض بنفسه إذا كان يموت، وأجرضه الله بريقه
أغصه. وشحبة: هالكة،
والشحب: الهلاك، شحب الرجل بالكسر، يشحب،
وجاء شحب، بالفتح يشحب بالضم؛ أي هلك؛ وشحبه الله يشحبه، يتعدّى ولا يتعدى،
ونخرة: بالية، والأعباء: الأثقال، واحدها
عبء. ثم ذكر قساوة القلوب وضلالها عن رشدها، وقال: كأن
المعني سواها؛ هذا مثل قول النبي صلى
الله عليه وسلم: "كأن الموت فيها على غيرنا كتب،
وكأن الحق فيها على غيرنا وجب". قالوا: لأن مثل ذلك لا يكون طريقاً للماضي، ولا
يتمكن من المشي عليه؛ ولو أمكن لم يصح التكليف في الآخرة، ليؤمر العقلاء بالمرور
عليه على وجه التعبد. ثم سأل أصحابنا أنفسهم، فقالوا: أي فائدة في عمل هذا السور؛ وأي فائدة في كون الطريق الذي
هو الصراط منتهياً إلى باب النار منفرجاً منها إلى الجنة؛ ألستم تعللون أفعال
البارىء تعالى بالمصالح، والآخرة ليست دار تكليف ليفعل فيها هذه الأفعال
للمصالح!. وتارات
أهواله، كقوله: دفعات أهواله؛ وإنما جعل أهواله تارات: لأن الأمور الهائلة إذا
استمرت لم تكن في الإزعاج والترويع، كما تكون إذا طرأت تارة، وسكنت تارة. وأنصب
الخوف بدنه: أتعب؛ والنصب: التعب. والتهجد هنا: صلاة
الليل، وأصله: السهر؛ وقد
جاء التهجد بمعنى النوم
أيضاً؛ وهو من الأضداد. والمخالج:
الأمور المختلجة، أي الجاذبة، خلجه واختلجه، أي جذبه، وأقصد المسالك: أقومها. وطريق
قاصد، أي مستقيم، وفتله عن كذا، أي رده وصرفه، وهو قلب الفت، ويروى: قد عبر معبر العاجلة حميداً، وقدم زاد
الآجلة سعيداً".
ومن رواه بالتسكين، جاز أن يعني به هذا ويكون قد خفف، كما
قالوا: حلم وحلم. وجاز أن يجعله مصدراً، من قدم الرجل بالفتح، يقدم
قدماً، أي تقدم، قال الله تعالى: "يقدم قومه
يوم القيامة"، أي يتقدمهم إلى ورودها؛ كأنه قال: ونظر بين يديه
متقدماً لغيره وسابقاً إياه إلى ذلك والباء في بالجنة و بالنار و بالله وبالكتاب
زائدة، والتقدير: كفى الله، وكفى الكتاب!. وفي قوله: نفذ في الصدور، مناسبة لقوله صلى الله عليه وسلم: "الشيطان يجري
من بني آدم مجرى الدم"،
والنجي؛ الذي يساره، والجمع الأنجية، قال:
وقد يكون النجي جماعة مثل الصديق، قال الله تعالى: "خلصوا
نجيا"، أي متناجين، القرينة ههنا:
الإنسان الذي قارنه الشيطان، ولفظه لفظ التأنيث؛ وهو مذكر، أراد القرين، قال
تعالى: "فبئس القرين"، ويجوز أن
يكون أراد بالقرينة النفس، ويكون الضمير عائداً إلى غير مذكور لفظاً لما دل
المعنى عليه؛ لأن قوله: فأضل وأردى، ووعد فمنى معناه أضل الإنسان وأردى، ووعده
فمنى، فالمفعول محذوف لفظاً، وإليه رجع الضمير على هذا الوجه؛ ويقال: غلق الرهن
إذا لم يفتكه الراهن في الوقت المشروط، فاستحقه المرتهن. وهذا الكلام مأخوذ من قوله تعالى: "وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق
ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلأ أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا
تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي". وغلام
يفع ويفعة وغلمان أيفاع ويفعة أيضاً. والمائح:
الذي نزل البئر إذا قل ماؤها، فيملأ الدلاء. وسئل بعض أئمة اللغة عن الفرق بين الماتح والمائح، فقال: اعتبر نقطتي الإعجام، فالأعلى
للأعلى، والأدق للأدق، والغرب: الدلو
العظيمة. والكدح:
شدة السعي والحركة، قال تعالى: "يا أيها
الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً". لم يفد عوضاً، أي لم يكتسب، وغبر جماحه:
بقاياه، قال أبو كبيرالهذلي:
والجماح الشرة
وارتكاب الهوى. وسنن مراحه، السنن: الطريقة، والمراح: شدة الفرح والنشاط. قوله:
فظل سادراً، السادر ههنا غير السادر الأول، لأنه ههنا المغمى عليه كأنه سكران؛
وأصله من سدر البعير من شدة الحر وكثرة الطلاء بالقطران، فيكون كالنائم لا يحس، ومراده رضي الله عنه ههنا أنه بدأ به المرض. ولادمة للصدر: ضاربة له، والتدام النساء:
ضربهن الصدور عند النياحة. سكرة فلهثة: تجعل الإنسان لاهثاً لشدتها لهث يلهث
لهثاناً ولهاثاً، ويروى ملهية بالياء، أي تلهي الإنسان وتشغله. والسوقة:
من سياق الروح عند الموت. والمبلس:
الذي ييئس من رحمة الله، ومنه سمي إبليس. والإبلاس
أيضاً: الإنكسار والحزن. والسلس: السهل المقادة. والأعواد
خشب الجنازة، ورجيع وصب: الرجيع المعنى الكال؛ والوصب:
الوجع، وصب الرجل يوصب، فهو واصب، وأوصبه الله فهو موصب. والموصب
بالتشديد: الكثير الأوجاع. والنضو:
الهزيل. وحشدة
الإخوان: جمع حاشد؛ وهو المتأهب المستعد. ودار غربته: قبره. وكذلك
منقطع زورته، لأن الزيارة تنقطع عنده. ونزول الحميم وتصلية الجحيم، من الألفاظ الشريفة القرآنية.
ويقولون:
الفقر الموت الأحمر، واستعمالهم مثل ذلك كثير جداً. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
القبر وسؤال منكر ونكير
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
واعلم أن لقاضي القضاة في كتاب طبقات
المعتزلة في باب القبر وسؤال منكر ونكير؛ كلاماً
أنا اورد هاهنا بعضه، قال رحمه الله تعالى: إن عذاب القبر إنما أنكره ضرار بن عمرو، ولما كان ضرار من أصحاب واصل بن عطاء، ظن كثير من الناس أن ذلك مما أنكرته المعتزلة؛ وليس الأمر كذلك؛ بل المعتزلة رجلان: أحدهما يجوز عذاب القبر، ولا يقطع
به؛ وهم الأقلون، والآخر يقطع على ذلك؛ وهم
أكثر أصحابنا لظهور الأخبار الواردة فيه؛ وإنما
تنكر المعتزلة قول طائفة من الجهلة إنهم
يعذبون وهم موتى، لأن العقل يمنع من ذلك؛
وإذا كان الإنسان مع قرب العهد بموته؛ ولما يدفن يعلمون أنه لا يسمع ولا يبصر
ولا يدرك، ولا يألم ولا يلتذ، فكيف يجوز عليه ذلك
وهو ميت في قبره! وما روي من أن الموتى
يسمعون لا يصح إلا أن يراد به أن الله تعالى أحياهم، وقوى حاسة سمعهم،
فسمعوا وهم أحياء. وأجاب بأنّا لم نقل: إن ذلك من مصالحه وهو ميت؛ وإنما نقول إنه مصلحة أن نعلم في
الدنيا ذلك من حال الموت؛ لأنه إذا تصور أنه مات عوجل بضرب من العقاب في القبر،
كان أقرب إلى أن ينصرف عن كثير من المعاصي. وقد يجوز أن يكون ذلك لطفاً للملائكة الذين
يتولون هذا التعذيب. وأنظروا: أمهلوا. والذنوب
المورطة: التي تلقي أصحابها في الورطة؛ وهي الهلاك؛ قال رؤبة :
وأصله
أرض مطمئنة لا طريق فيها، وقد أورطت زيداً وورطته توريطاً فتورط. ثم قال رضي الله
عنه: أولي الأبصار والأسماع، ناداهم نداءً ثانياً بعد النداء الذي في أول
الفصل، وهو قوله: عباد الله؛ فقال: يا من منحهم الله أبصاراً وأسماعاً، وأعطاهم
عافية، ومتعهم متاعاً هل من مناص؛ وهو الملجأ والمفر؛ يقال: ناص عن قرنه مناصاً،
أي فر وراوغ، قال سبحانه: "ولات حين مناص". والروح يذكر ويؤنث. والفينة:
الوقت، ويروى وفينة الإرتياد؛ وهو الطلب. وأنف المشية: أول
أوقات الإرادة والإختيار.
والغائب المنتظر؛ هو الموت. قال أبو عثمان: وكان جعفر يعجب أيضاً بقول علي رضي الله عنه:
أين من جد واجتهد، وجمع واحتشد، وبنى فشيد، وفرش فمهد، وزخرف فنجد، قال: ألا ترى أن كل لفظة منها آخذة بعنق قرينتها،
جاذبةً إياها إلى نفسها، دالة عليها بذاتها! قال أبوعثمان: فكان جعفر يسميه فصيح
قريش. وبحق ما قال معاوية لمحقن الضبي، لما
قال له: جئتك من عند أعيا الناس: يا بن
اللخناء، ألعلي تقول هذا؛ وهل سن الفصاحة لقريش
غيره! واعلم أن تكلف الإستدلال على أن الشمس مضيئة يتعب، وصاحبه منسوب
إلى السفه، وليس جاحد الأمور المعلومة علماً ضرورياً بأشد سفها ممن رام
الإستدلال بالأدلة النظرية عليها. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن ذكر عمرو بن العاص
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: عجباً لابن النابغة! يزعم لأهل الشام أن فيّ دعابةً، وأني أمرؤ تلعابة، أعافس
وأمارس! لقد قال باطلاً، ونطق آثما. أما وشر القول الكذب إنه ليقول فيكذب، ويعد
فيخلف، ويسأل فيبخل، ويسأل فيلحف، ويخون العهد، ويقطع الإل؛ فإذا كان عند الحرب
فأي زاجر وآمر هو! ما لم تأخذ السيوف مآخذها؛ فإذا كان ذلك كان أكبر مكيدته أن
يمنح القوم سبته. ورضخ له رضخاً: أعطاه عطاء بالكثير، وهي الرضيخة؛
لما يعطى. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أخبار عمرو بن العاص
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ونحن نذكر طرفاً من نسب عمرو بن
العاص وأخباره إلى حين وفاته إن شاء الله. أبوه العاص بن وائل، أحد المستهزئين لرسول الله صلى الله عليه
وسلم، والمكاشفين له بالعداوة والأذى، وفيه وفي أصحابه انزل قوله تعالى: "إنا
كفيناك المستهزئين". روى ذلك الواقدي. وروى الواقدي أيضاً وغيره من أهل الحديث؛ أن عمرو بن العاص هجا رسول الله صلى الله عليه وسلم هجاءً كثيراً، كان يعلمه صبيان مكة، فينشدونه ويصيحون لرسول
الله إذا مر بهم، رافعين أصواتهم لذلك الهجاء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي بالحجر: "اللهم
إن عمرو بن العاص هجاني، ولست بشاعر؛ فالعنه بعدد ما هجاني".
وقال أبو عمر بن عبد البر صاحب كتاب الإستيعاب: كان اسمها
سلمى وتلقبت بالنابغة بنت حرملة من بني جلاّن بن عنزة بن أسد بن ربيعة بن
نزار أصابها سباء، فصارت إلى العاص بن وائل بعد جماعة من قريش، فأولدها عمراً. قال أبو عمر:
يقال إنه جعل لرجل ألف درهم على أن يسأل عمراً وهو على المنبر: من أمه؛ فسأله، فقال: أمي سلمى بنت حرملة؛ تلقب بالنابغة، من بني عنزة ثم أحد بني جلان وأصابتها راح العرب فبيعت بعكاظ، فاشتراها الفاكه بن المغيرة، ثم اشتراها منه عبد الله بن خدعان، ثم صارت إلى العاص بن وائل، فولدت فأنجبت، فإن كان جعل لك شيء فخذ. وذكر هذا الخبر وقال: إنها لم تكن في موضع مرضي، قال
المبرد: وقال المنذر بن الجارود مرة لعمرو بن العاص: أي رجل أنت لولا أن
أمك أمك! فقال: إني أحمد الله إليك، لقد
فكرت البارحة فيها فأقبلت أنقلها في قبائل العرب ممن أحب أن تكون منها، فما خطرت
لي عبد القيس على بال! وقال المبرد: ودخل
عمرو بن العاص مكة؛ فرأى قوماً من قريش قد
جلسوا حلقةً، فلما رأوه رمقوه بأبصارهم، فعدل إليهم
فقال: أحسبكم كنتم في شيء من ذكري!
قالوا: أجل؛ كنا نمثل بينك وبين أخيك هشام بن
العاص، أيكما أفضل؛ فقال عمرو: إن لهشام علي
أربعة: أمه بنت هشام بن المغيرة، وأمي من قد عرفتم؛ وكان أحب إلى أبيه
مني، وقد علمتم معرفة الوالد بولده، وأسلم قبلي، واستشهد وبقيت.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الحسن بن علي رضي الله عنه يفحم رجالات من قريش
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وروى الزبير بن بكار في كتاب
المفاخرات؛ قال: اجتمع عند معاوية عمرو بن العاص،
والوليد بن عقبة بن أبي معيط، وعتبة بن أبي سفيان بن حرب، والمغيرة بن شعبة، وقد كان بلغهم عن الحسن بن علي رضي الله عنه قوارص، وبلغه
عنهم مثل ذلك، فقالوا: يا أمير المؤمنين؛ إن الحسن قد أحيا أباه وذكره،
وقال فصدق، وأمر فأطيع، وخفقت له النعال، وإن ذلك لرافعه إلى ما هو أعظم منه،
ولا يزال يبلغنا عنه ما يسوؤنا. ثم قال: يا جارية، ابغيني ثيابي، اللهم إني أعوذ بك
من شرورهم، وأدرأ بك في نحورهم، وأستعين بك عليهم، فاكفنيهم كيف شئت وأنى شئت،
بحول منك وقوة، يا أرحم الراحمين! ثم قام، فلما دخل على معاوية، أعظمه وأكرمه،
وأجلسه إلى جانبه، وقد ارتاد القوم، وخطروا خطران الفحول، بغياً في أنفسهم
وعلوا، ثم قال: يا أبا محمد؛ إن هؤلاء بعثوا إليك وعصوني. فتكلم عمرو بن العاص، فحمد الله وصلى على رسوله، ثم ذكرعلياً رضي
الله عنه، فلم يترك شيئاً يعيبه به إلا قاله، وقال: إنه شتم أبا بكر وكره خلافته، وامتنع
من بيعته، ثم بايعه مكرهاً، وشرك في دم عمر، وقتل عثمان ظلماً. وادعى
من الخلافة ما ليس له. ثم
إنك يا حسن، تحدث نفسك أن الخلافة صائرة إليك، وليس عندك عقل ذلك ولا لبه، كيف
ترى الله سبحانه سلبك عقلك، وتركك أحمق قريش، يسخر منك ويهزأ بك، وذلك لسوء عمل
أبيك! وإنما دعوناك لنسبك وأباك، فأما أبوك
فقد تفرد الله به وكفانا أمره، وأما أنت فإنك في أيدينا نختار فيك الخصال، ولو
قتلناك ما كان علينا إثم من الله، ولا عيب من الناس، فهل تستطيع أن ترد علينا
وتكذبنا؛ فإن كنت ترى أنا كذبنا في شيء فاردده
علينا فيما قلنا، وإلا فاعلم أنك وأباك ظالمان. وأنشدكم الله هل
تعلمون أنه أول الناس إيماناً، وأنك يا معاوية وأباك من المؤلفة قلوبهم تسرون
الكفر، وتظهرون الإسلام، وتستمالون بالأموال!
وأنشدكم الله، ألستم تعلمون أنه كان صاحب راية رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم
بدر، وأن راية المشركين كانت مع معاوية ومع أبيه، ثم لقيكم يوم أحد ويوم الأحزاب،
ومعه راية رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعك ومع أبيك راية الشرك؛ وفي كل ذلك يفتح الله. أتنسى
يا معاوية الشعر الذي كتبته إلى أبيك لما هم أن يسلم، تنهاه عن ذلك:
والله لما أخفيت من أمرك أكبر مما أبديت. وأنشدكم الله أيها الرهط؛ أتعلمون أن علياً حرم الشهوات على نفسه بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل فيه: "يا أيها الذين
آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم"، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أكابر أصحابه إلى بني قريظة
فنزلوا من حصنهم. ثم إنك تعلم وكل هؤلاء الرهط يعلمون أنك هجوت
رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبعين
بيتاً من الشعر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم إني لا أقول
الشعر ولا ينبغي لي، اللهم العنه بكل حرفٍ ألف لعنة"؛ فعليك إذاً من الله
ما لا يحصى من اللعن. ثم
حبست نفسك إلى معاوية، وبعت دينك بدنياه، فلسنا
نلومك على بغض، ولا نعاتبك على ودّ، وبالله
ما نصرت عثمان حياً ولا غضبت له مقتولاً، ويحك يا بن العاص! ألست القائل في بني هاشم لما خرجت من مكة إلى النجاشي:
فهذا جوابك، هل سمعته! وأما أنت يا وليد؛ فوالله ما ألومك على بغض علي، وقد
جلدك ثمانين في الخمر، وقتل أباك بين يدي رسول الله صبراً، وأنت الذي سماه الله
الفاسق، وسمى علياً المؤمن، حيث تفاخرتما فقلت له: اسكت يا علي، فأنا
أشجع منك جناناً، وأطول منك لساناً، فقال لك علي:
اسكت يا وليد، فأنا مؤمن وأنت فاسق؛ فأنزل الله تعالى في موافقة قوله: "أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون"،
ثم أنزل فيك على موافقة قوله أيضاً: "إن جاءكم
فاسق بنبأ فتبينوا".
وما أنت وقريش؛ إنما أنت علج من أهل صفورية، واقسم بالله لأنت أكبر في الميلاد،
وأسن ممن تدعى إليه. وأما أنت يا عتبة؛ فوالله ما أنت بحصيف فأجيبك، ولا عاقل فأحاورك وأعاتبك، وما
عندك خير يرجى، ولا شر يتقى، وما عقلك وعقل أمتك إلا سواء، وما يضر علياً لو
سببته على رؤوس الأشهاد! وأما وعيدك إياي بالقتل، فهلاّ
قتلت اللحياني إذ وجدته على فراشك! أما تستحي من
قول نصر بن حجاج فيك:
وبعد هذا، ما أربأ بنفسي عن ذكره لفحشه؛ فكيف يخاف أحد سيفك، ولم تقتل فاضحك! وكيف ألومك على بغض علي، وقد قتل خالك الوليد مبارزة يوم بدر، وشرك حمزة في قتل
جدك عتبة، وأوحدك من أخيك حنظلة في مقام واحد! وأما أنت يا مغيرة؛ فلم تكن بخليق أن تقع في هذا وشبهه، وإنما مثلك مثل البعوضة إذ قالت للنخلة: استمسكي؛
فإني طائرة عنك، فقالت النخلة: وهل علمت بك
واقعة علي فأعلم بك طائرةً عني! والله ما نشعر بعداوتك إيانا، ولا اغتممنا إذ علمنا بها، ولا يشق
علينا كلامك،
وإن حد الله في الزنا لثابت عليك، ولقد درأ
عمر عنك حقاً الله سائله عنه! ولقد سألت
رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل ينظر الرجل إلى المرأة يريد أن يتزوجها؛ فقال: "لا بأس لذلك يا مغيرة ما لم ينو الزنا"،
لعلمه بأنك زان. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
عمرو بن العاص ومعاوية
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وروى الشعبي، قال: دخل
عمرو بن العاص على معاوية يسأله حاجة، وقد كان بلغ معاوية عنه ما كرهه، فكره
قضاءها وتشاغل، فقال عمرو: يا معاوية؛ إن السخاء فطنة، واللؤم تغافل، والجفاء ليس من أخلاق
المؤمنين. فقال معاوية: يا عمرو؛
بماذا تستحق منا قضاء الحوائج العظام؛ فغضب عمرو
وقال: بأعظم حق وأوجبه، إذ كنت في بحر عجاج، فلولا
عمرو لغرقت في أقل مائه وأرقه، ولكني دفعتك
فيه فصرت في وسطه، ثم دفعتك فيه أخرى فصرت
في أعلى المواضع منه، فمضى حكمك، ونفذ أمرك، وانطلق لسانك بعد تلجلجه، وأضاء
وجهك بعد ظلمته، وطمست لك الشمس بالعهن المنفوش، وأظلمت لك القمر بالليلة المدلهمة. فقال بعض جلسائه: يا أمير المؤمنين؛
إن الحوائج لتقضى على ثلاث خصال: إما أن يكون
السائل لقضاء الحاجة مستحقاً فتقضى له بحقه، وإما أن يكون السائل لئيماً فيصون الشريف
نفسه عن لسانه فيقضي حاجته، وإما أن يكون المسؤول كريماً فيقضيها لكرمه؛ صغرت أو كبرت. فضحك معاوية، فقال:
ما أريدك يا أبا عبد الله بالكلمة، وإنما كانت آية تلوتها من كتاب الله عرضت
بقلبي، فاصنع ما شئت. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
عبد الله بن جعفر وعمرو بن العاص في مجلس معاوية
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وروى المدائني قال: بينما معاوية يوماً
جالساً عنده عمرو بن العاص، إذ قال الآذن:
قد جاء عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، فقال عمرو: والله لأسوءنه اليوم، فقال معاوية: لا تفعل يا أبا عبد الله، فإنك لا
تنصف منه، ولعلك أن تظهر لنا من منقبته ما هو خفي عنا، وما لا نحب أن نعلمه منه.
ثم حسر عن ذراعيه، وقال: يا معاوية، حتام نتجرع غيظك؛ وإلى كم الصبرعلى
مكروه قولك، وسيىء أدبك، وذميم أخلاقك! هبلتك الهبول! أما يزجرك ذمام المجالسة
عن القذع لجليسك إذا لم تكن لك حرمة من دينك تنهاك عما لا يجوز لك! أما
والله لو عطفتك أواصر الأرحام، أو حاميت على سهمك من الإسلام، ما أرعيت بني
الإماء آلمتك، والعبيد الصك أعراض قومك. فاقصد
لمنهج الحق، فقد طال عمهك عن سبيل الرشد، وخبطك في بحور ظلمة الغي. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
عبد الله بن العباس ورجالات قريش في مجلس معاوية
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وروى المدائني أيضاً قال: وفد
عبد الله بن عباس على معاوية مرة، فقال معاوية لابنه يزيد، ولزياد بن سمية، وعتبة بن أبي
سفيان، ومروان بن الحكم، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، وسعيد بن العاص،
وعبد الرحمن بن أم الحكم: إنه قد طال العهد بعبد الله بن عباس، وما كان
شجر بيننا وبينه وبين ابن عمه، ولقد كان نصبه للتحكيم فدفع عنه، فحركوه على
الكلام لنبلغ حقيقة صفته، ونقف على كنه معرفته، ونعرف ما صرف عنا من شبا حده،
وزوي عنا من دهاء رأيه، فربما وصف المرء بغير ما هو فيه، وأعطي من النعت والإسم
ما لا يستحقه. فقال عبد الرحمن بن أم الحكم: لله در ابن ملجم! فقد بلغ الأمل، وأمن الوجل، وأحد الشفرة
وألان المهرة، وأدرك الثار، ونفى العار، وفاز بالمنزلة العليا، ورقى الدرجة
القصوى.
فقال المغيرة بن شعبة: أما والله لقد أشرت على علي بالنصيحة فآثر رأيه، ومضى على
غلوائه، فكانت العاقبة عليه لا له، وإني لأحسب أن خلفه يقتدون بمنهجه.
فلتكونن منهم بحيث أعددت ليلة الهرير للهرب فرسك، وكان أكبر همك سلامة حشاشة نفسك، ولولا طغام من أهل الشام وقوك بأنفسهم، وبذلوا دونك
مهجهم، حتى إذا ذاقوا وخز الشفار، وأيقنوا بحلول الدمار، رفعوا المصاحف مستجيرين
بها، وعائذين بعصمتها لكنت شلواً مطروحاً
بالعراء، تسفي عليك رياحها، ويعتورك ذبابها. قال
عتبة: بجهدي. قال. فقمت فقعدت إلى جانبه، فلما
أخذ القوم في الكلام أقبلت عليه بالحديث، فقرع يدي، وقال:
ليست ساعة حديث؛ قال: فأظهرت غضباً، وقلت:
يا بن عباس، إن ثقتك بأحلامنا أسرعت بك إلى أعراضنا، وقد والله تقدم من
قبل العذر، وكثر منا الصبر؛ ثم أقذعته فجاش لي
مرجله وارتفعت أصواتنا، فجاء القوم فأخذوا بأيدينا فنحوه عني ونحوني عنه،
فجئت فقربت من عمرو بن العاص، فرماني بمؤخر عينيه
وقال: ما صنعت؛ فقلت: كفيتك التقوالة، فحمحم كما يحمحم الفرس للشعير. قال: وفات ابن عباس أول الكلام، فكره أن يتكلم في
آخره. وقد ذكرنا نحن هذا الخبر فيما تقدم
في أخبار صفين على وجه آخر غير هذا الوجه. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
عمارة بن الوليد وعمرو بن العاص في الحبشة
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
فأما خبر عمارة بن الوليد بن المغرة
المخزومي، أخي خالد بن الوليد مع عمرو بن العاص فقد ذكره ابن إسحاق في كتاب
المغازي قال: كان غمارة بن الوليد بن المغيرة وعمرو
بن العاص بن وائل، بعد مبعث رسول الله صلى الله عليه
وسلم،
خرجا إلى أرض الحبشة على شركهما، وكلاهما كان شاعراً عارماً فاتكاً. وكان عمارة بن الوليد رجلاً جميلاً وسيماً تهواه النساء،
صاحب محادثة لهن؛ فركبا البحر ومع عمرو بن العاص امرأته، حتى إذا صاروا في البحر
ليالي، أصابا من خمر معهما، فلما انتشى عمارة قال لامرأة عمرو بن العاص: قبليني،
فقال لها عمرو: قبلي ابن عمك، فقبلته فهويها عمارة، وجعل يراودها عن
نفسها، فامتنعت منه. ثم إن عمراً جلس على منجاف
السفينة يبول، فدفعه عمارة في البحر فلما وقع عمرو سبح، حتى أخذ بمنجاف السفينة،
فقال له عمارة: أما والله لو علمت أنك سابح ما طرحتك، ولكنني كنت أظن أنك لا تحسن السباحة، فضغن عمرو عليه في
نفسه، وعلم أنه كان أراد قتله؛ ومضيا على وجههما ذلك؛ حتى قدما أرض
الحبشة؛ فلما نزلاها كتب عمرو إلى أبيه العاص بن وائل؛ أن اخلعني وتبرأ من
جريرتي إلى بني المغيرة وسائر بني مخزوم، وخشي على أبيه أن يتبع بجريرته. فلما قدم الكتاب على العاص بن وائل، مشى إلى رجال بني
المغيرة وبني مخزوم، فقال: إن هذين الرجلين قد خرجا حيث علمتم، وكلاهما
فاتك صاحب شر، غير مأمونين على أنفسهما، ولا أدري ما يكون منهما، وإني أبرأ إليكم من عمرو وجريرته، فقد خلعته. فقال عند ذلك بنو المغيرة وبنو مخزوم: وأنت تخاف عمراً على عمارة! ونحن فقد خلعنا عمارة وتبرأنا إليك من جريرته، فخل بين
الرجلين. قال: قد فعلت، فخلعوهما وبرىء كل قوم
من صاحبهم وما يجري منه. لقد أصبت
شيئاً ما أصاب أحد من العرب مثله قط، ونلت من امرأة الملك شيئاً ما سمعنا بمثل
هذا. وكانوا أهل جاهلية وشباناً، وذلك في أنفسهم فضل لمن
أصابه وقدر عليه. وهذا دهنك قد أعطته وادهن به. فخرج هارباً في الوحش، فلم يزل في أرض الحبشة، حتى كانت
خلافة عمر بن الخطاب، فخرج إليه رجال من بني المغيرة، منهم عبد الله بن
أبي ربيعة بن المغيرة وكان اسم عبد الله قبل أن يسلم بجيراً، فلما أسلم، سماه
رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد
الله فرصدوه على ماء بأرض الحبشة، كان يرده
مع الوحش، فزعموا أنه أقبل في حمر من حمر الوحش ليرد معها، فلما وجد ريح الإنس، هرب منه، حتى إذا أجهده
العطش، ورد فشرب حتى تملأ، وخرجوا في طلبه. قال عبد الله: فضبطته فمات في يدي مكانه، فواروه ثم انصرفوا.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
جعفر الطيار وابن العاص في الحبشة
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وأما خبر عمرو بن العاص في شخوصه إلى
الحبشة، ليكيد جعفر بن أبي طالب والمهاجرين من المؤمنين عند النجاشي، فقد
رواه كل من صنف في السيرة، قال محمد بن إسحاق في
كتاب المغازي قال: حدثني محمد بن مسلم بن عبد الله بن شهاب الزهري، عن
أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي، عن
أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة المخزومية، زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت:
لما نزلنا بأرض الحبشة جاورنا بها خير جار، النجاشي، أمنا على ديننا، وعبدنا
الله لا نؤذى كما كنا نؤذى بمكة، ولا نسمع شيئاً نكرهه، فلما بلغ ذلك قريشاً
ائتمروا بينهم أن يبعثوا إلى النجاشي في أمرنا رجلين منهم جلدين، وأن يهدوا
للنجاشي هدايا مما يستطرف من متاع مكة، وكان من أعجب ما يأتيه منه الأدم؛ فجمعوا
أدماً كثيراً، ولم يتركوا من بطارقته بطريقاً إلا أهدوا إليه هدية. ثم بعثوا بذلك مع عبد الله بن أبي
ربيعة بن المغيرة المخزومي وعمرو بن العاص بن وائل السهمي،
وأمروهما أمرهم، وقالوا لهما: ادفعا إلى كل بطريق هديته، قبل أن تكلما النجاشي
فيهم. قالت: ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاهم،
فلما جاءهم رسوله اجتمعوا، ثم قال بعضهم لبعض: ما تقولون للرجل إذا جئتموه؛
قالوا: نقول والله ما علمناه، وما أمرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم كائناً
في ذلك ما هو كائن، فلما جاءوه، وقد دعا النجاشي أساقفته، فنشروا مصاحفهم حوله،
سألهم فقال لهم: ما هذا الدين الذي فارقتم
فيه قومكم، ولم تدخلوا في ديني ولا في دين أحد من هذه الملل؛ قالت أم سلمة: وكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب فقال له:
أيها الملك إنا كنا قوماً في جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش،
ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف. فكنا على ذلك حتى بعث الله عز وجل علينا رسولاً
منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما
كنا عليه نحن وآباؤنا من دونه، من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء
الأمانة، وصلة الرحم، وحسن التجاور، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن سائر
الفواحش؛ وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله لا
نشرك به شيئاً، وبالصلاة وبالزكاة والصيام. فقال اقرأه علي، فقرأ عليه صدراً من "كهيعص"، فبكى حتى اخضلت لحيته، وبكت
أساقفته حتى أخضلوا لحاهم، ثم قال النجاشي:
والله إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة، والله لا أسلمكم إليهم. ثم غدا عليه من الغد، فقال: أيها الملك، إن
هؤلاء يقولون في عيسى بن مريم قولاً عظيماً؛ فأرسل إليهم فسلهم عما يقولون فيه،
فأرسل إليهم. فلما دخلوا عليه قال لهم: ما تقولون في عيسى بن
مريم؛ فقال جعفر: نقول إنه عبد الله ورسوله
وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول. ثم قال للمسلمين: اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي، أي
آمنون، من سبكم غرم، ثم من سبكم غرم، ثم من سبكم غرم، ما أحب أن لي دبراً ذهباً
وأني آذيت رجلاً منكم والدبر بلسان الحبشة:
الجبل ردوا عليهما هداياهما فلا حاجة لي فيها؛ فوالله ما أخذ الله مني الرشوة
حتى ردني إلى ملكي. فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس فيّ أفأطيعهم فيه! قالت: فخرج الرجلان من عنده مقبوحين مردوداً عليهما ما
جاءا به، وأقمنا عنده في خير دار مع خير جار، فوالله إنا لعلى ذلك، إذ نزل به
رجل من الحبشة ينازعه في ملكه. قالت: وسار إليه النجاشى وبينهما عرض
النيل، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم:
من
رجل يخرج حتى يحضر وقعة القوم ثم يأتينا بالخبر؛ فقال
الزبير بن العوام: أنا وكان من أحدث المسلمين سناً فنفخوا له قربة
فجعلناها تحت صدره، ثم سبح عليها حتى خرج إلى ناحية النيل التي بها يلتقي القوم،
ثم انطلق حتى حضرهم. قالت: ودعونا الله للنجاشي
بالظهور على عدوه والتمكين له في بلاده، فوالله إنا لعلى ذلك متوقعون لما هو
كائن، إذ طلع الزبير يسعى ويلوح بثوبه ويقول: ألا أبشروا، فقد ظهر النجاشي وأهلك
الله عدوه. فتبين لجعفر كيده وغائلته فلم يأكل بعدها عنده، وما زال
ابن الجزار عدواً لنا أهل البيت. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ابن العاص في صفين
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وأما خبر عمرو في صفين واتقائه حملة علي رضي الله عنه، بطرحه نفسه على الأرض
وإبداء سوأته؛ فقد ذكره كل من صنف في السير كتاباً، وخصوصاً الكتب الموضوعة
لصفين. وكان عمرو قلما جلس مجلساً إلا ذكر فيه الحارث
بن نضر الخثعمي وعابه، فقال الحارث:
فشاعت هذه الأبيات حتى بلغت عمراً، فأقسم بالله ليلقين علياً ولو مات ألف موتة. فلما
اختلطت الصفوف لقيه فحمل عليه برمحه، فتقدم علي رضي الله عنه وهو مخترط سيفاً معتقل
رمحاً، فلما رهقه همز فرسه ليعلو عليه، فألقى عمرو نفسه عن فرسه إلى الأرض
شاغراً برجليه؛ كاشفاً عورته، فانصرف عنه لافتاً وجهه مستدبراً له، فعد الناس
ذلك من مكارمه وسؤدده، وضرب بها المثل. وأما أنت يا
وليد، فقتل أباك صبراً، وأما أنت يا بن عامر،
فصرع أباك وسلب عمك. وأما أنت يا بن طلحة، فقتل أباك يوم الجمل، وأيتم إخوتك. وأما أنت يا مروان فكما قال الشاعر:
فقال معاوية:
هذا الإقرار فأين الغير؛ قال مروان: وأي غير تريد؟ قال: أريد أن تشجروه بالرماح. قال: والله يا معاوية ما أراك إلا هاذياً أو
هازئاً، وما أرانا إلا ثقلنا عليك، فقال ابن عقبة:
فغضب عمرو: وقال: إن كان الوليد صادقاً فليلق
علياً، أو فليقف حيث يسمع صوته، وقال عمرو:
وذكر أبو عمر بن عبد البر في كتاب الإستيعاب في باب بسر بن أرطاة
قال: كان بسر من الأبطال الطغاة، وكان مع
معاوية بصفين، فأمره أن يلقى علياً رضي الله عنه في القتال، وقال له: إني
سمعتك تتمنى لقاءه، فلو أظفرك الله به وصرعته حصلت على الدنيا والآخرة، ولم يزل
يشجعه ويمنيه حتى رأى علياًفي الحرب، فقصده، والتقيا فصرعه علي رضي الله عنه وعرض له معه مثل ما عرض له مع عمرو بن العاص في كشف السوأة.
وروى الواقدي قال: قال معاوية يوماً بعد استقرار الخلافة له
لعمرو بن العاص: يا
أبا عبد الله، لا أراك إلا ويغلبني الضحك؛ قال: بماذا؛ قال: أذكر يوم حمل عليك
أبو تراب في صفين، فأزريت نفسك فرقاً من شبا سنانه، وكشفت سوأتك له؛ فقال عمرو: أنا منك أشد ضحكاً؛ إني لأذكر يوم دعاك
إلى البراز فانتفخ سحرك، وربا لسانك في فمك، وغصصت بريقك، وارتعدت فرائصك، وبدا
منك ما أكره ذكره لك؛ فقال معاوية: لم يكن
هذا كله، وكيف يكون ودوني عك والأشعريون! قال:
إنك لتعلم أن الذي وصفت دون ما أصابك، وقد نزل ذلك بك ودونك عك والأشعريون، فكيف
كانت حالك لو جمعكما مأقط الحرب! فقال: يا أبا عبد
الله، خض بنا الهزل إلى الجد، إن الجبن والفرار من علي لا عار على أحد فيهما. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إسلام ابن العاص
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
فأما القول في إسلام عمرو بن العاص،
فقد ذكره محمد بن إسحاق في كتاب المغازي قال: حدثني زيد بن أبي حبيب، عن راشد مولى
حبيب بن أبي أوس الثقفي، عن حبيب بن أبي أوس، قال: حدثني عمرو بن العاص من فيه: قال: لما انصرفنا مع الأحزاب من الخندق، جمعت
رجالاً من قريش كانوا يرون رأي، ويسمعون مني، فقلت
لهم: والله إني لأرى أمر محمد يعلو الأمور علواً منكراً، وإني قد رأيت
رأياً، فما ترون فيه؛ فقالوا: ما رأيت؛ فقلت: أرى أن نلحق بالنجاشي، فنكون عنده، فإن ظهر محمد على قومه أقمنا عند النجاشي، فأن نكون تحت
يديه أحب إلينا من أن نكون تحت يدي محمد، فإن ظهر قومنا فنحن من قد
عرفوا، فلن يأتينا منهم إلا خير قالوا: إن هذا الرأي، فقلت:
فاجمعوا ما نهدي له وكان أحب ما يأتيه من أرضنا الأدم فجمعنا له أدماً كثيراً، ثم خرجنا حتى قدمنا عليه، فوالله إنا لعنده، إذ قدم عمرو
بن أمية الضمري، وكان رسول الله صلى
الله عليه وسلم بعثه إليه في شأن جعفر
بن أبي طالب وأصحابه. قال: وقد قيل إنه أسلم بين الحديبية وخيبر، والقول الأول أصح. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
بعث رسول الله عمراً إلى ذات السلاسل
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال أبو عمر: وبعث رسول الله عمراً
إلى ذات السلاسل من بلاد قضاعة في ثلاثمائة، وكانت أم
العاص بن وائل من بلي، فبعث رسول الله صلى
الله عليه وسلم عمراً إلى أرض
بلي وعذرة، يتألفهم لذلك ويدعوهم إلى الإسلام، فسار حتى إذا كان على ماء أرض
خذام، يقال له: السلاسل وقد سميت تلك الغزاة ذات السلاسل،خاف، فكتب إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم يستنجد،
فأمده بجيش فيه مائتا فارس، فيه أهل الشرف والسوابق من المهاجرين والأنصار، فيهم أبو بكر وعمر،
وأمر عليهم أبا عبيدة بن الجراح، فلما قدموا
على عمرو، قال عمرو: أنا أميركم وإنما أنتم
مددي، فقال أبو عبيدة: بل أنا أمير من معي وأنت أمير من معك، فأبى عمرو
ذلك، فقال أبو عبيدة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد
إلي فقال: إذا قدمت إلى عمرو فتطاوعا، ولا تختلفا، فإن خالفتني أطعتك، قال عمرو: فإني أخالفك، فسلم
إليه أبو عبيدة، وصلى خلفه في الجيش كله، وكان أميراً عليهم، وكانوا
خمسمائة. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ولايات عمرو بن العاص ونبذ من كلامه
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال أبو عمرو:
ثم ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عُمان، فلم يزل عليها حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمل
لعمر وعثمان ومعاوية، وكان عمر بن الخطاب
ولاه بعد موت يزيد بن أبي سفيان فلسطين
والأردن، وولى معاوية دمشق وبعلبك والبلقاء،
وولى سعيد بن عامر بن خذيم حمص. ثم جمع
الشام كلها لمعاوية، وكتب إلى عمرو بن العاص
أن يسير إلى مصر، فسار إليها فافتتحها، فلم
يزل عليها والياً حتى مات عمر فأمره عثمان عليها أربع
سنين ونحوها، ثم عزله عنها وولاها عبد الله
بن سعد العامري. قال أبو عمر: والصحيح أنه مات في سنة ثلاث وأربعين، ومات يوم عيد الفطر من
هذه السنة وعمره تسعون سنة، ودفن بالمقطم من ناحية
السفح، وصلى عليه ابنه عبد الله، ثم رجع
فصلى بالناس صلاة العيد، فولاه معاوية مكانه، ثم عزله وولى مكانه أخاه عتبة بن أبي سفيان. ونقلت
أنا من كتب متفرقة كلمات حكمية تنسب إلى عمرو بن
العاص، استحسنتها وأوردتها، لأني لا أجحد
لفاضل فضله، وإن كان دينه عندي غير مرضي. وقال: ليس العاقل الذي
يعرف الخير من الشر، لكن العاقل من يعرف خير
الشرين.
وقال لعائشة:
لوددت أنك قتلت يوم الجمل، قالت: ولم لا
أبالك؟! قال: كنت
تموتين بأجلك، وتدخلين الجنة، ونجعلك على علي بن
أبي طالب عليه السلام. واستراح من لا
عقل له. وقال:
جمع العجز إلى التواني فنتج بينهما الندامة،
وجمع الجبن إلى الكسل فنتج بينهما الحرمان. ووضع يده في موضع الغل، ثم
قال: اللهم لا قوي فأنتصر؛ ولا بريء فأعتذر، ولا مستكبر بل مستغفر، لا
إله إلا أنت؛ فلم يزل يرددها حتى مات. ولو كان ينفعني أن أطلب طلبت، ولو كان ينجيني أن
أهرب، هربت فقد صرت كالمنخنق بين السماء والأرض، لا
أرقى بيدين، ولا أهبط برجلين، فعظني بعظةٍ. أنتفع بها يا بن أخي، فقال ابن عباس: هيهات أبا عبد الله، صار ابن أخيك
أخاك، ولا تشاء أن تبلى إلا بليت، كيف يؤمر برحيلٍ من هو مقيم! فقال عمرو على حينها: من
حين ابن بضع وثمانين تقنطني من رحمة ربي! اللهم إن ابن عباس يقنطني من رحمتك،
فخذ مني حتى ترضى؛ فقال ابن عباس: هيهات أبا
عبد الله! أخذت جديداً وتعطي خلقا؛ قال عمرو: مالي
ولك يا بن عباس! ما أرسل كلمة إلا أرسلت نقيضها. فقال له:
لقد كنت على خير، فجعل يذكره صحبة رسول الله صلى
الله عليه وسلم، وفتحه بالشام، فقال له عمرو: تركت أفضل من ذلك شهادة أن لا إله
إلا الله، إني كنت على ثلاثة أطباق، ليس
منها طبق إلا عرفت نفسي فيه، كنت أول أمري كافراً،
فكنت أشد الناس على رسول الله صلى الله عليه
وسلم،
فلو مت حينئذ وجبت لي النار، فلما بايعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم ،
كنت أشد الناس حياء منه، فما ملأت منه عيني قط، فلو
مت يومئذ قال الناس: هنيئاً لعمرو! أسلم
وكان على خير، ومات على خير أحواله، فسرحوا له بالجنة؛ ثم تلبثت بعد ذلك بالسلطان وبأشياء، فلا أدري أعلي أم
لي؛ فإذا مت فلا تبكين علي باكية، ولا يتبعني نائح، ولا تقربوا من قبري
ناراً، وشدوا علي إزاري، فإني مخاصم، وشنوا علي التراب شناً؛ فإن جنبي الأيمن
ليس بأحق من جنبي الأيسر، ولا تجعلوا في قبري خشب ولا حجراً، وإذا واريتموني
فاقعدوا عندي قدر نحر جزور وتقطيعها؛ أستأنس بكم. وهذا اعتراف وندم، وهو معنى التوبة؛ قلت: إن قوله تعالى: "وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر
أحدهم الموت قال إني تبت الآن " يمنع من كون هذا توبة، وشروط التوبة وأركانها معلومة، وليس هذا الاعتراف والتأسف منها في شيء. وإلى هذا المعنى أشار عمرو بقوله لابنه: تركت أفضل من ذلك؛ شهادة أن لا إله إلا الله |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الإمام علي رجل العبادة لارجل الدعابة
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
فأما ما كان يقوله عمرو بن العاصي في علي صلى الله عليه وسلم لأهل الشام: "إن فيه
دعابة"، يروم أن يعيبه بذلك عندهم؛ فأصل
ذلك كلمة قالها فتلقفها، حتى جعلها أعداؤه عيباً له وطعناً عليه. قال: إي
والله يا بن عباس، إني فكرت فلم أدر فيمن
أجعل هذا الأمر بعدي. ثم قال:
لعلك ترى صاحبك لها أهلاً؟ قلت: وما يمنعه
من ذلك مع جهاده وسابقته وقرابته وعلمه! قال: صدقت، ولكنه امرؤ فيه دعابة؛ قلت: فأين أنت من طلح؟ قال:
هو ذو ألب أو بإصبعه المقطوعة. قلت: فعبد الرحمن؟
قال:
رجل ضعيف لو صار الأمر إليه لوضع خاتمه في يد
امرأته. قلت: فالزبيب؟ قال شاكس لقس ، اللاطم في البقيع في صاعٍ
من بر. قلت: فسعد بن أبي
وقاص؟ قال: صاحب مكتب وسلاح؛ قلت: فعثمان،
قال: أوه أوه؛ مراراً. ثم
قال: والله لئن وليها ليحملن بني أبي مغيظ على رقاب
الناس، ثم لتنهضن إليه العرب فتقتله. ثم
قال: يا بن عباس، إنه لا يصلح لهذا الأمر
إلا حصيف العقدة، قليل الغرة، لا تأخذه في الله لوم لائم؛ يكون شديداً ، لينًا
من غير ضعف، جوادًا من غير ممسكا من غير وكف. قال ابن عباس: وكانت
هذه صفات عمر، ثم أقبل علي فقال: إن أجراهم
أن يحملهم على كتاب ربهم وسنة نبيهم لصاحبك،
والله لئن وليها ليحملنهم على الحجة البيضاء والصراط المستقيم.
والشجاع يعيب الجبان وينسبه إلى الضعف، ويعتقد أن الجبن ذل ومهانة! وهكذا القول في جميع الأخلاق والسجايا
المقتسمة بين نوع الإنسان. ولما كان عمر شديد الغلظة وعر الجانب، خشن الملمس دائم العبوس،
كان يعتقد أن ذلك هو الفضيلة وأن خلافه نقص، حتى تلو كان سهلاً طلقاً مطبوعاً على البشاشة وسماحة الخلق،
لكان يعتقد أن ذاك هو الفضيلة وأن خلافه نقص، حتى لو قدرنا أن خلقه حاصل لعلي عليه السلام ، وخلق علي حاصل له، لقال في
علي: "لولا شراسة فيه ".فهو غير
ملوم عندي فيما قاله، ولا منسوب إلى أنه أراد الغض من علي، والقدح فيه، ولكنه
أخبر عن خلقه، ظاناً أن الخلافة لا تصلح إلا
لشديد الشكيمة، العظيم الوعورة. وبمقتضى ما كان يظنه من هذا المعنى، تمم خلافة
أبي بكر بمشاركته إياه في جميع تدبير أته وسياسته وسائر أحواله، لرفقٍ وسهولة
كانت في أخلاق أبي بكر، وبمقتضى هذا الخلق المتمكن
عنده، كان يشير على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مقامات كثيرة، وخطوب
متعددة، بقتل قوم كان يرى قتلهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرى استبقاءهم
واستصلاحها،
فلم يقبل عليه السلام
مشورته على هذا الخلق. وأما إشارته عليه يوم بدر بقتل الأسرى حيث أشار
أبو بكر بالفداء، فكان الصواب مع عمر ونزل القرآن بموافقته ، فلما كان في اليوم الثاني وهو يوم الحديبية أشار بالحرب، وكره الصلح، فنزل القران بضد ذلك، فليس
كل وقت يصلح تجريد السيف، ولا كل وقت يصلح إغماده، والسياسة لا تجري على منهاج واحد ولا تلزم نظاماً واحداً. وأنت إذا تأملت حال علي
عليه السلام في أيام رسول الله صلى
الله عليه وسلم ،
وجدته بعيداً عن أن ينسب إلى الدعابة والمزاح، لأنه
لم ينقل عنه شيء من ذلك أصلاً؛ لا في كتب الشيعة ولا في كتب المحدثين، وكذلك
إذا تأملت حاله في أيام الخليفتين أبي بكر وعمر،
لم تجد في كتب السيرة حديثاً واحداً يمكن أن يتعلق به متعلق في دعابته ومزاحه، فكيف يظن بعمر أنه نسبه إلى أمر لم ينقله عنه ناقل، ولا
ندد به صديق ولا عدو؛ وإنما أراد سهولة خلقه لا
غير، وظن أن ذلك مما يفضي به إلى ضعف إن ولي أمر الأمة، لاعتقاده أن قوام هذا الأمر إنما هو بالوعورة، بناء على ما قد
ألفته نفسه، وطبعت عليه سجيته، والحال في أيام عثمان، وأيام ولايته عليه السلام الأمر كالحال فيما تقدم، في أنه لم
يظهر منه دعابة، ولا مزاح يسمى الإنسان لأجله ذا دعابة ولعب. ومن تأمل كتب السير عرف صدق هذا القول، وعرف أن
عمرو بن العاص أخذ كلمة عمر إذ لم يقصد بها
العيب فجعلها عيباً، وزاد عليها أنه كثير اللعب، يعاف النساء ويمارسهن، وأنه صاحب هزل. هذا في أيام سلمه، فأما أيام حربه
فبالسيف الشهير، والسنان الحرير، وركوب الخيل، وقود الجيش، ومباشرة الحروب. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
المزاح وما قيل فيه
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ونحن نذكر من بعد ما
جاء في الأحاديث الصحاح والآثار المستفيضة، المتفق على نقلها مزاح رسول الله صلى
الله عليه وسلم، ومزاح الأشراف والأفاضل
والأكابر من أصحابه والتابعين له، ليعلم أن المزاح إذا لم يخرج عن القاعدة
الشرعية لم يكن قبيحا. وقيل لسفيان الثوري: المزاح
هجن؛ فقال: بل هو سنة، لقول رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "إني أمزح ولا أقول إلا الحق
". وجاء في الخبر أن رسول صلى الله عليه وسلم قال
لامرأة من الأنصار: "الحقي زوجك فإن في عينه
بياضا"، فسعت نحوه مرعوبة. فقال لها: ما
دهاك؟ فأخبرته، فقال: نعم إن في عيني بياضاً لا لسوء، فخفضي عليك. فهذا من مزاح رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي الخبر أيضا: أن امرأة استحملته، فقال: "آنا حاملوك إن شاء الله
تعالى على ولد الناقة"، فجعلت تقول: يا
رسول الله: وما أصنع بولد الناقة؟ وهل يستطيع أن يحملني! وهو يبتسم ويقول:
"لا أحملك إلا عليه "، حتى قال لها
أخيراً: "وهل يلد الإبل إلا النوق "وفي الخبر أنه عليه السلام
مر ببلال
وهو نائم فضربه برجله، وقال: أنائمة أم عمرو؟ فقام بلال مرعوباً، فضرب بيده إلى
مذاكيره، فقال له: ما بالك؟ قال: ظننت أني
تحولت امرأة. قيل: فلم يمزح رسول الله بعد هذه. وبنو أرفدة:
جنس من الحبش يرقصون. وجاء في الخبر أنه سابق عائشة فسبقته، ثم سابقها فسبقها فقال:
هذه بتلك. وجاءوا
إليه فوضعوا عمامته في عنقه، وذهبوا به، فلما جاء
أبو بكر أخبر بذلك، فرده وأعاد القلائص إليهم. فضحك
رسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من ذلك سنة. وجاء في الخبر أن
يحيى عليه السلام لقي عيسى عليه السلام
، وعيسى متبسم،
فقال يحيى عليه السلام:
مالي أراك لاهياً كأنك آمن؛ فقال عليه السلام : مالي أراك عابسا كأنك آيس؛ فقالا: لا نبرح حتى ينزل علينا الوحي، فأوحى الله إليهما: أحبكما إلي الطلق البسام، أحسنكما
ظناً بي. فبكت،
فقال: لا عليك، فإن الله تعالى هو خالق الخير وهو خالق الشر. وكان ابن سيرين ينشد:
ثم
يضحك حتى يسيل لعابه.
فلما
دخل عبد الرحمن وجلس، قال: يا أبا محمد، إنا إذا خلونا قلنا كما يقول الناس.
وكان سعيد بن المسيب ينشد:
ويضحك
حتى يستغرق، وكان يقال: لا بأس بقليل المزاح
يخرج منه الرجل عن حد العبوس. قال: ومن هو؟ قال: ابن
أخت خالتك .
فقال صلى الله عليه وسلم : "لأحرج إن شاء الله ". فقلت: يا أمير المؤمنين، أنا الأول من الحمارين، فقال: أنت
الثاني منهما. وكان طويس يتغنى في عرس، فدخل النعمان بن بشير الأنصاري العرس
وطويس يغنيهم:
فأشاروا إليه بالسكوت، فقال النعمان: دعوه إنه لم يقل بأساً، إنما قال:
وعمرة هذه أم النعمان؛ وفيها قيل هذا النسيب. فأما أمير المؤمنين علي عليه السلام، فإذا نظرت إلى كتب الحديث
والسير، لم تجد أحداً من خلق الله عدواً ولا صديقاً، روى عنه شيئاً من هذا الفن؟ لا
قولاً ولا فعلاً، ولم يكن جد أعظم من جده، ولا وقار أتم من وقاره، وما
هزل قط ولا لعب، ولا فارق الحق والناموس الديني سراً ولا جهراً؛ وكيف يكون هازلاً ومن كلامه المشهور عنه: ما مزح
امرؤ مزحة إلا ومج معها من عقله مجة! ولكنه خلق على
سجية لطيفة، وأخلاق سهلة، ووجه طلق، وقول حسن، وبشر ظاهر، وذلك من فضائله عليه
السلام ، وخصائصه التي منحه الله شرفها، واختصه بمزيتها، إنما كانت غلظته
وفظاظته فعلاً لا قولاً، وضرباً بالسيف لا جبهاً بالقول، وطعناً بالسنان
لا عضهاً باللسان؛ كما قال الشاعر:
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
حسن الخلق وما قيل فيه
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
فأما سوء الخلق فلم يكن من سجاياه، فقد
قال النبي صلى الله عليه وسلم : "خصلتان لا
يجتمعان في مؤمن: البخل وسوء الخلق ". وقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : " وإنك لعلى خلق عظيم " وقال أيضاً: "ولو
كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك ". وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما الشؤم! فقال: سوء الخلق. وصحب جابر
رجلا في طريق مكة، فآذاه سوء خلقه، فقال جابر: إني لأرحمه، نحن
نفارقه ويبقى معه سوء خلقه؛ وقيل لعبد الله بن جعفر: كيف تجاور بني زهرة
وفي أخلاقهم زعارة ؟ قال: لا يكون لي قبلهم شيء إلا
تركته، ولا يطلبون مني شيئاً لا أعطيتهم. وقال إبراهيم بن عباس الصولي:
لو وزنت كلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم : بمحاسن الخلق كلها لرجحت، قوله: "إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم
". عبد الله بن الداراني:
ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب. عائشة: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "إذا أراد الله بأهل بيت خيراً أدخل
عليهم باب رفق" وعنها، عنه صلى الله عليه وسلم : "من أعطي
حظه من الرفق أعطي حظه من خير الدنيا والآخرة". فقال أبو العباس: يا أبا جعفر! إنه من شدد نفر، ومن لان ألف، والتغافل من سجايا الكرام. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الغلظة والفظاظة
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ونحن نذكر بعد كلاماً كلياً في سبب
الغلظة والفظاظة، وهو الخلق المنافي للخلق الذي كان عليه أمير المؤمنين، فنقول: إنه قد يكون لأمر عائد إلى المزاج الجسماني، وقد يكون
لأمر راجع إلى النفس: فأما الأول؛ فإنما
يكون من غلبة الأخلاط السوداوية وترفدها، وعدم صفاء الدم وكزة كدرته وعكره، فإذا
غلظ الدم وثخن غلظ الروح النفساني وثخن أيضاً، لأنه متولد من الدم، فيحدث منه
نوع مما يحدث لأصحاب الفطرة، من الإستيحاش والنبوة عن الناس وعدم الإستئناس والبشاشة،
وصار صاحبه ذا جفاء وأخلاق غليظة، ويشبه أن يكون هذا سببا ماديا، فإن الذي يقوى
في نفسي أن النفوس إن صحت وثبتت مختلفة بالذات. وأما الراجع إلى النفس
فأن يجتمع عندها أسقاط وأنصباء من قوى مختلفة مذمومة، نحو أن تكون القوة الغضبية
عندها متوافرة، وينضاف إليها تصور الكمال في ذاتها وتوهم النقصان في غيرها،
فيعتقد أن حركات غيره واقعة على غير الصواب، وأن الصواب ما توهمه. وينضاف إلى ذلك
قلة أدب النفس وعدم الضبط لها واستحقارها للغير؛ ويقل التوقير له، وينضاف إلى ذلك لجاج، وضيق في النفس، وحدة
واستشاطة وقلة صبر عليه، فيتولد من مجموع هذه الأمور خلق دني؛ وهو الغلظة
والفظاظة، والوعورة والبادرة المكروهة، وعدم حبه الناس، ولقاؤهم بالأذى، وقلة
المراقبة لهم، واستعمال القهر في جميع الأمور، وتناول الأمر من السماء؛ وهو قادر
على أن يتناوله من الأرض. وأصل هذا الخلق الذي ذكرناه أنه مركب
من قوى مختلفة من شدة القوة الغضبية، فهي الحاملة
لصاحب هذا الحق على ما يصدر عنه من البادرة المكروهة والجبه والقحة؛ وقد رأينا
وشاهدنا من تشتد القوة الغضبية فيه، فيتجاوز الغضب على نوع الإنسان إلى البهائم
التي لا تعقل، وإلى الأواني التي لا تحس، وربما قام إلى الحمار وإلى البرذون ؛
فضربهما ولكمهما، وربما كسر الآنية لشدة غضبه، وربما عض القفل إذا تعسر عليه،
وربما كسر القلم إذا تعلقت به شعرة من الدواة واجتهد في إزالتها فلم تزل. وكان عبد الله بن الزبير كذلك،
ولقوة هذا الخلق عنده أضمر عبد الله بن عباس في خلافته إبطال القول بالعول
وأظهره بعده، فقيل له: هلا قلت هذا في أيام عمر!
فقال: هبته، وكان أميراً مهيباً. وهو القائل له: يا خليفة رسول الله؛ إنا كنا لا نحتمل شراسته وأنت حي تأخذ على يديه، فكيف
يكون حالنا معه وأنت ميت وهو الخليفة! واعلم أنا لا نريد بهذا القول ذمه رضي
الله عنه؛ وكيف نذمه وهو أولى
الناس بالمدح والتعظيم؛ ليمن نقيبته وبركة
خلافته، وكثرة الفتوح في أيامه، وانتظام أمور الإسلام على يده! ولكنا
أردنا أن نشرح حال العنف والرفق، وحال سعة الخلق وضيقه، وحال البشاشة والعبوس،
وحال الطلاقة والوعورة، فنذكر كل واحد منها ذكراً
كلياً، لا نخص به إنساناً بعينه. فأما عمر فإنه وإن كان وعراً شديداً خشناً،
فقد رزق من التوفيق والعناية الإلهية ونجح المساعي، وطاعة الرعية ونفوذ الحكم،
وقوة الدين وحسن النية وصحة الرأي، ما يربي محاسنه ومحامده على ما في ذلك الخلق
من نقص، وليس الكامل المطلق إلا الله تعالى وحده. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
في تعظيم الله وتمجيده
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: وأشهد
أن لا إله إلا الله وحدة لا شريك له، الأول لا شيء قبله، والآخر لا غاية له، لا
تقع الأوهام له على صفة، ولا تعقد القلوب منه على كيفية؛ ولا تناله التجزئة
والتبعيض، ولا تحيط به الأبصار والقلوب. الأولى:
أنه لا ثاني له سبحانه في الإلهية؛ والثانية:
أنه قديم لا أول له. فإن قلت: ليس يدل
كلامه على القدم، لأنه قال: الأول لا شيء قبله فيوهم كونه غير قديم بأن يكون محدثاً
وليس قبله شيء، لأنه محدث عن عدم والعدم ليس بشيء! قلت: إذا كان محدثاً كان له محدث؛ فكان ذلك المحدث
قبله، فثبت أنه متى صدق أنه ليس شيء قبله صدق كونه قديماً، والثالثة:
أنه أبدي لا انتهاء ولا انقضاء لذاته، والرابعة: نفي الصفات عنه- أعني المعاني والخامسة:
نفي كونه مكيفاً؛ لأن كيف إنما يسأل بها عن ذوي الهيئات والأشكال وهو منزه عنها،
والسادسة:
أنه غير متبعض لأنه ليس بجسم ولا عرض. والسابعة:
أنه لا يرى ولا يدرك، والثامنة:
أن ماهيته غير معلومة، وهو مذهب الحكماء وكثير من
المتكلمين من أصحابنا وغيرهم، وأدلة هذه المسائل مشروحة في كتبنا
الكلامية. والآي: جمع آية، ويجوز أن يريد بها آي القرآن، ويجوز أن يريد بها آيات الله في خلقه، وفي غرائب الحوادث في
العالم. وقوله: سائق وشهيد؛ وقد
فسر عليه السلام ذلك وقال: سائق يسوقها إلى محشرها، وشاهد يشهد
عليها بعملها؛ وقد قال بعض المفسرين: إن
الآية لا تقتضي كونهما اثنين، بل من الجائز أن يكون ملكاً واحداً جامعاً بين
الأمرين، كأنه قال: وجاءت كل نفس معها ملك
يسوقها ويشهد عليها. وكلام أمير المؤمنين يحتمل ذلك أيضاً، لأنه
لم يقل أحدهما؛ لكن الأظهر في الأخبار
والآثار أنهما ملكان. قلت:
يجوز
أن يكون في تقرير مثل ذلك في أنفس المكلفين في الدنيا ألطاف ومصالح لهم في أديانهم،
فيخاطبهم الله تعالى به لوجوب اللطف في حكمته، وإذا خاطبهم به وجب فعله في
الآخرة؟ لأن خبره سبحانه لا يجوز الخلف عليه. فإن قلت:
فما قولك في الحور والولدان والأطفال والمجانين؛ قلت: يكون الواصل إليهم نعيماً ولذة لا شبهة في
ذلك، ولكن لا ثواب لهم ولا ينالونه، والثواب أمر أخص من المنافع والنعيم، لأنه
منافع يقترن بها التعظيم والتبجيل، وهذا الأمر الأخص لا يحسن إيصاله إلا إلى
أرباب العمل. وقوله: لا
ينقطع نعيمها ولا يظعن مقيمها قول متفق عليه بين أهل الملة، إلا ما يحكى عن أبي الهذيل؛ أن حركات أهل الجنة
تنتهي إلى سكون دائم. وقد نزهه
قوم من أصحابنا عن هذا القول وأكذبوا رواته، ومن أثبته منهم عنه زعم أنه لم يقل
بانقطاع النعيم، لكن بانقطاع الحركة مع دوام النعيم، وإنما حمله على ذلك أنه لما
استدل على أن الحركة الماضية يستحيل ألا يكون لها أول، عورض بالحركات المستقبلة
لأهل الجنة والنار، فالتزم أنها متناهية، وإنما استبعد هذا عنه، لأنه كان أجل
قدراً من أن يذهب عليه الفرق بين الصورتين. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن خطبة له عليه السلام في الوعظ
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: قد
علم السرائر، وخبر الضمائر، له الإحاطة بكل شيء، والغلبة لكل شيء والقوة على كل
شيء، فليعمل العامل منكم في أيام مهله، قبل إرهاق أجله، وفي فراغه قبل أوان
شغله، وفي متنفسه قبل أن يؤخذ بكظمه؛ وليمهد لنفسه وقدمه، وليتزود من دار ظعنه
لدار إقامته. والضمائر:
جمع ضمير، وهو ما تضمره وتكنه في نفسك. وفي قوله:
له الإحاطة بكل شيء؛ وقد بينها ثلاث مسائل من
التوحيد: إحداهن: أنه تعالى عالم بكل المعلومات. والثانية:
أنه لا شريك له، وإذا ثبت كونه عالماً بكل شيء كان في ضمن ذلك نفي الشريك، لأن
الشريك لا يكون مغلوباً، والثالثة: أنه قادر
على كل ما يصح تعلق قادريته تعالى به، وأدلة هذه المسائل مذكورة في الكتب
الكلامية. والإرهاق:
مصدر أرهق، تقول: أرهقة قرنه في الحرب إرهاقاً إذا غشيه ليقتله، وزيد مرهق؛ قال الشاعر:
وفي
متنفسه، أي في سعة وقته؟ يقال: أنت في نفس من أمرك، أي في سعة. والكظم بفتحهما:
مخرج النفس، والجمع أكظام. ويجوز ظعنه وظعنه، بتحريك العين وتسكينها،
وقرىء بهما: "يوم ظعنكم "و "ظعنكم ". وقوله:
قد سمى آثاركم يفسر بتفسيرين: أحدهما: قد
بين لكم أعمالكم خيرها وشرها؛ كقوله تعالى:
"وهديناه النجدين"؛ والثاني:
قد أعلى مآثركم، أي رفع منازلكم إن أطعتم، ويكون سمى بمعنى أسمى، كما كان في الوجه الأول بمعنى أبان وأوضح. وقوله:
"حتى أكمل له ولكم دينه " من قوله تعالى: "اليوم
أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ". وقوله:
الذي رضي لنفسه من قوله تعالى: "وليمكنن لهم
دينهم الذي أرتضى لهم"؛ لأنه إذا ارتضى لهم فقد ارتضاه لنفسه، أي
ارتضى أن ينسب إليه، فيقال: هذا دين الحق. وأنهى إليكم:
عرفكم وأعلمكم. ومعنى قوله:
بين يدي عذاب شديد، أي أمامه وقبله؛ لأن ما بين يديك متقدم لك.
أي
حبست نفسًا عارفة. وفي الحديث النبوي في
رجل أمسك رجلاً وقتله الآخر، فقال عليه السلام : "اقتلوا القاتل واصبروا
الصابر"، أي احبسوا الذي أمسكه حتى يموت. والضمير
في فإنها قليل عائد إلى الأيام التي أمرهم باستدراكها. يقول: إن
هذه الأيام التي قد بقيت من أعماركم قليلة، بالنسبة والإضافة إلى الأيام التي
تغفلون فيها عن الموعظة. أو
لا تساهلوا أنفسكم في ترك تشديد المعصية، ولا تسامحوها وترخصوا إليها في ارتكاب
الصغائر والمحقرات من الذنوب، فتهجم بكم على الكبائر، لأن من مرن على أمر تدرج
من صغيره إلى كبيره. والمداهنة:
النفاق والمصانعة، والإدهان مثله؛ قال تعالى: "
ودوا لو تدهن فيدهنون" . والمغبوط:
الذي يتمنى مثل حاله، والذي يتمنى زوال حاله وانتقالها هو الحاسد، والحسد مذموم، والغبطة
غير مذمومة، يقال: غبطته بما نال، أغبطه
غبطاً وغبطة فاغتبط هو؛ كقولك منعته فامتنع، وحبسته
فاحتبس، قال الشاعر:
هكذا
أنشدوه بكسر الباء، وقالوا فيه: مغتبط، أي
مغبوط. وقوله عليه السلام منساة للإيمان؛ أي داعية إلى نسيان الإيمان وإهماله،
والإيمان الإعتقاد والعمل، ومحضرة للشيطان: موضع حضوره، كقولك: مسبعة، أي موضع السباع. ومفعاة، أي موضع الأفاعي. ثم أمر بإكذاب الأمل، ونهى عن الإعتماد عليه،
والسكون إليه، فإنه من باب الغرور. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ذم الكذب والكذابين
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
جاء في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إذا كذب العبد كذبة تباعد الملك منه مسيرة ميل، من نتن ما جاء به . قال عبد الله: فكانت هذه
الثلاث أحب إلي من ثلاث بدرات ياقوتاً. وكان يقال:
أمران لا يكاد أحدهما ينفك من الكذب: كثرة المواعيد
وشدة الإعتذار. يحيى بن خالد:
رأيت شريب خمر نزع، ولصاً أقلع، وصاحب فواحش ارتدع، ولم أر كاذباً رجع . قالوا في تفسير هذا: إن المولع بالكذب لا يكاد يصبر عنه، فقد عوتب إنسان عليه،
فقال لمعاتبه: يا بن أخي، لو تغرغرت به لما صبرت عنه. وجاء في بعض الأخبار المرفوعة: قيل له: يا رسول الله، أيكون المؤمن جباناً؟
قال: نعم، قيل: أفيكون بخيلاً؟ قال: نعم، قيل أفيكون كاذباً؟ قال: لا.
وكان يقال:
خذوا عن أهل الشرف، فإنهم قلما يكذبون. وكان يقال:
خصلتان لا يجتمعان: الكذب والمروءة.
شهد أعرابي عند معاوية بشهادة، فقال له: كذبت، فقال:
الكاذب والله المتزمل في ثيابك؛ فقال
معاوية: هذا جزاء من عجل.
فقال معاوية:
لقد شعرت بعدنا يا أبا بكر؛ ثم لم يلبث معاوية أن دخل عليه معن بن أوس المزني فقال: أقلت بعدنا شيئاً؟ قال
نعم، وأنشده:
حتى صار إلى الأبيات التي أنشدها ابن الزبير، فقال معاوية: يا أبا بكر، أما ذكرت آنفاً أن هذا
الشعر لك ؛ فقال: أنا أصلحت المعاني وهو ألف
الشعر وبعد، فهو ظئري وما قال من شيء فهو لي. وروى أبو العباس أيضاً
أن عمرو بن معد يكرب الزبيدي كان معروفاً بالكذب. وقيل لخلف الأحمر- وكان مولى لهم وشديد التعصب لليمن: أكان عمرو بن معد يكرب يكذب؟ قال: يكذب في المقال ويصدق في الفعال. قال أبو العباس: فروي لنا أن أهل الكوفة الأشراف،
كانوا يظهرون بالكناسة ، فيركبون على دوابهم حتى تطردهم الشمس ، فوقف عمرو بن معد يكرب الزبيدي، وخالد بن الصقعب النهدي-
وعمرو لا يعرفه، إنما يسمع باسمه- فأقبل
عمرو يحدثه، فقال: أغرنا مرة على بني نهد،
فخرجوا مسترعفين بخالد بن الصقعب، فحملت
عليه، فطعنته فأذريته ثم ملت عليه بالصمصامة ،
فأخذت رأسه، فقال خالد بن الصقعب: حلا أبا
ثور، إن قتيلك هو المحدث؛ فقال عمرو: يا هذا إذا حدثت فاستمع، فإنما نتحدث بمثل ما تستمع لنرهب به هذه المعدية. قوله:
مسترعفين أي مقدمين له. وقوله:
حلا أبا ثور أي استثن، يقال: حلف ولم يتحلل، أي لم يستثن والمعدية: مضر
وربيعة وإياد، بنو معد بن عدنان، وهم أعداء
اليمن في المفاخرة والتكاثر. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
في صفات من يحبه الله تعالى
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: عباد
الله؛ إن من أحب عباد الله إليه عبدا أعانه الله على نفسه، فاستشعر الحزن،
وتجلبب الخوف؛ فزهر مصباح الهدى في قلبه، وأعد القرى ليومه النازل به، فقرب على
نفسه البعيد، وهون الشديد. نظر فأبصر،
وذكر فاستكثر، وارتوى من عذبٍ فراتٍ، سهلت له موارده، فشرب نهلاً، وسلك سبيلاً
جدداً. قد خلع سرابيل الشهوات، وتخلى عن الهموم، إلا هماً
واحداً أنفرد به، فخرج من صفة العمى، ومشاركة أهل الهوى، وصار من مفاتيح أبواب
الهدى، ومغاليق أبواب الردى. قد أخلص لله فاستخلصة، فهو من معادن دينه، وأوتاد
أرضه، قد ألزم نفسة العدل، فكان أول عدله نفي الهوى عن نفسه. يصف الحق ويعمل به، لا يدع للخير غاية إلا أمها،
ولا مظنةً إلا قصدها، قد أمكن الكتاب من زمامه، فهو قائدة وإمامه، يحل حيث حل
ثقله، وينزل حيث كان منزله. الشرح: استشعر الحزن:
جعله كالشعار، وهو ما يلي الجسد من الثياب. وتجلبب الخوف: جعله جلباباُ، أي ثوباً. زهر مصباح الهدى: أضاء. وأعد القرى ليومه، أي أعد ما قدمه من الطاعات قرىً
لضيف الموت النازل به. والفرات:
العذب. وقطع غماره؛
يقال: بحر غمر، أي كثير الماء، وبحار غمار. واستمسك من العرا بأوثقها؛ أي من العقود الوثيقة، قال تعالى: "فقد أستمسك بالعروة الوثقى". كشاف عشوات:
جمع عشوة وعشوة وعشوة، بالحركات الثلاث، وهي الأمر الملتبس؛ يقال: أوطأني عشوة. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
العباد والزهاد والعارفون
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وأعلم أن هذا الكلام منه أخذ أصحاب
علم الطريقة والحقيقة علمهم، وهو تصريح بحال العارف ومكانته من الله تعالى. الطبقة الأولى:
حال العابد، وهو صاحب الصلاة الكثيرة، والصوم الدائم، والحج والصدقة. وأما العارف فإنه
بالحال التي وصفناها، ويستلزم مع وجودها أن يكون زاهداً، لأنه لا يتصور العرفان
مع تعلق النفس بملاذ الدنيا وشهواتها. نعم قد يحصل بعض العرفان لبعض العلماء
الفضلاء، مع تعلقهم بشهوات الدنيا، ولكنهم لا يكونون كاملين في أحوالهم، وإنما
تحصل الحالة الكاملة لمن رفض الدنيا وتخلى عنها، وتستلزم الحالة المذكورة أيضاً
أن يكون عابداً عبادةً ما، وليس يشترط في حصول حال العرفان أن يكون على قدم
عظيمة من العبادة، بل الإكثار من العبادة حجاب كما قيل ولكن لا بد من القيام
بالفرائض وشيء يسير من النوافل. فمن حصل له ذلك، فهو العارف؛ وإن لم يحصل له ذلك، فهو ناقص العرفان، وإن انضم
إلى ذلك استشعاره جلال الله تعالى وعظمته، ورياضة النفس والمجاهدة، والصبر
والرضا والتوكل، فقد ارتفع طبقة أخرى، فإن حصل له بعد ذلك الحب والوجد ، فقد ارتفع طبقة أخرى، فإن حصل له بعد ذلك
الإعراض عن كل شيء سوى الله، وأن يصير مسلوباً عن الموجودات كلها، فلا يشعر إلا
بنفسه وبالله تعالى، فقد ارتفع طبقة أخرى، وهي أرفع
الطبقات. واعلم أن هذه الصفات والشروط والنعوت التي
ذكرها في شرح حال العارف، إنما يعني بها نفسه عليه السلام ؛ وهو من الكلام الذي
له ظاهر وباطن؛ فظاهره أن يشرح حال العارف المطلق، وباطنه أن يشرح حال عارف معين، وهو نفسه عليه السلام. وسيأتي في آخر الخطبة ما يدل على ذلك. ونحن نذكر الصفات التي أشار عليه السلام إليها
واحدة واحدة: فأولها: أن يكون عبداً أعانه الله على نفسه،
ومعنى ذلك أن يخصه بألطاف، يختار عندها الحسن ويتجنب القبيح، فكأنه أقام النفس
في مقام العدو، وأقام الألطاف مقام المعونة التي يمده الله سبحانه بها، فيكسر
عادية العدو المذكور؟ وبهذا الإعتبار سمى قوم من المتكلمين اللطف عونا، وثانيها: أن يستشعر الحزن، أي يحزن على الأيام
الماضية، إن لم يكن اكتسب فيها من موجبات الإختصاص أضعاف ما اكتسبه، وثالثها: أن يتجلبب الخوف، أي يخاف من الإعراض
عنه، بأن يصدر عنه ما يمحوه من جريدة المخلصين، ورابعها: أن
يعد القرى لضيف المنية، وذلك بإقامة وظائف العبادة. و خامسها:
أن يقرب على نفسه البعيد، وذلك بأن يمثل الموت بين عينيه صباحاً ومساء، وألا
يطيل الأمل، وسادسها: أن
يهون عليه الشدائد، وذلك باحتمال كلف المجاهدة ورياضة النفس على عمل المشاق، وسابعها: أن يكون قد نظر فأبصر، وذلك بترتيب
المقدمات المطابقة لمعلقاتها ترتيباً صحيحاً، لتنتج العلم اليقيني، وثامنها: أن يذكر الله
تعالى فيستكثر من ذكره، لأن ذكره سبحانه والإكثار منه، يقتضي سكون النفس
وطمأنينتها، كما قال تعالى: "ألا بذكر الله
تطمئن القلوب "، وتاسعها: أن يرتوي من
حب الله تعالى، وهو العذب الفرات، الذي سهل موارده على من انتخبه الله، وجعله أهلا
للوصول إليه، فشرب منه ونهل، وسلك طريقاً لا عثار فيه ولا وعث، وعاشرها:
أن يخلع سرابيل الشهوات، لأن الشهوات تصدىء مرآة العقل، فلا تنطبع المعقولات
فيها كما ينبغي، وكذلك الغضب، وحادي عشرها: أن
يتخلى من الهموم كلها، لأنها تزيدات وقواطع عن المطلوب، إلا هماً واحداً وهو همه
بمولاه، الذي لذته وسروره الإهتمام به، والتفرد بمناجاته ومطالعة أنوار عزته،
فحينئذ يخرج عن صفة أهل العمى، ومن مشاركة أهل الهوى، لأنه قد امتاز عنهم بهذه
المرتبة والخاصية التي حصلت له فصار مفتاحاً لباب الهدى، ومغلاقاً لباب الضلال
والردى، قد أبصر طريق الهدى، وسلك سبيله، وعرف مناره، وقطع غماره. وثاني عشرها:
أن ينصب نفسه لله في أرفع الأمور، وهو الخلوة به، ومقابلة أنوار جلاله بمرآة
فكره، حتى تتكيف نفسه بتلك الكيفية العظيمة الإشراق، فهذا أرفع الأمور وأجلها
وأعظمها، وقد رمز في هذا الفصل، ومزجه بكلام خرج به
إلى أمر آخر، وهو فقه النفس في الدين، والأمور الشرعية النافعة للناس في دنياهم
وأخرهم؛ أما في دنياهم فلردع المفسد وكف الظالم، وأما في أخراهم فللفوز بالسعادة
باعتبار امتثال الأوامر الإلهية. فقال: في
إصدار كل وارد عليه؛ أي في فتيا كل مستفتٍ له، وهداية كل مسترشد له في الدين؛ ثم قال: وتصيير كل فرع إلى أصله. ويمكن أن يحتج
بهذا من قال بالقياس، ويمكن أن يقال: إنه لم
يرد ذلك، بل أراد تخريج الفروع العقلية، وردها إلى أصولها؛ كما يتكلف أصحابنا
القول في بيان حكمة القديم تعالى، في الآلام وذبح الحيوانات، رداً له إلى أصل
العدل، وهو كونه تعالى لا يفعل القبيح. وأقسام العدالة ثلاثة، هي الأصول وما عداها من الفضائل فروع
عليها: الأولى الشجاعة، ويدخل
فيها السخاء لأنه شجاعة وتهوين للمال، كما أن الشجاعة الأصلية تهوين للنفس،
فالشجاع في الحرب جواد بنفسه، والجواد بالمال شجاع في إنفاقه، ولهذا قال الطائي:
والثانية: الفقه، ويدخل فيها القناعة والزهد والعزلة، والثالثة: الحكمة، وهي أشرفها، ولم تحصل العدالة الكاملة لأحدٍ من البشر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا لهذا الرجل، ومن أنصف علم
صحة ذلك، فإن شجاعته وجوده، وعفته وقناعته وزهده، يضرب بها الأمثال. ولهذا
انتسب المتكلمون الذين لججوا في بحار
المعقولات إليه خاصة دون غيره، وسموه
أستاذهم ورئيسهم، واجتذبته كل فرقة من الفرق إلى
نفسها؛ ألا ترى أن أصحابنا ينتمون إلى واصل
بن عطاء، وواصل تلميذ أبي هاشم بن محمد بن الحنفية، وأبو هاشم تلميذ أبيه محمد،
ومحمد تلميذ أبيه علي صلى الله عليه وسلم ! فأما الشيعة من
الإمامية والزيدية والكيسانية، فانتماؤهم
إليه ظاهر. وأما الكرامية
فإن ابن الهيصم ذكر في كتاب المقالات أن أصل
مقالتهم وعقيدتهم تنتهي إلى علي عليه
السلام من طريقين: أحدهما:
بأنهم يسندون اعتقادهم عن شيخ بعد شيخ، إلى أن
ينتهي إلى سفيان الثوري، ثم قال: وسفيان الثوري من
الزيدية، ثم سأل نفسه فقال: إذا كان
شيخكم الأكبر الذي تنتمون إليه كان زيدياً،
فما بالكم لا تكونون زيدية؛ وأجاب بأن سفيان الثوري
رحمه الله تعالى، وإن اشتهر عنه
الزيدية، إلا أن تزيده إنما كان عبارة عن موالاة أهل البيت، وإنكار ما كان بنو أمية عليه من الظلم، وإجلال زيد بن علي وتعظيمه، وتصوينه في أحكامه وأحواله، ولم ينقل عن سفيان الثوري
أنه طعن في أحد من الصحابة. ثم إنه عليه
السلام ذكر حال هذا العارف العادل فقال: أول
عدله نفي الهوى عن نفسه، وذلك لأن من يأمر ولا يأتمر، وينهى ولا ينتهي، لا تؤثر
عظته، ولا ينفع إرشاده. ثم شرح ذلك فقال:
يصف الحق ويعمل به. ثم قال: لا يدع للخير غاية إلا أمها، ولا مظنةً
إلا قصدها؛ وذلك لأن الخير لذته وسروره وراحته، فمتى وجد إليه طريقاً سلكها، ثم قال: قد أمكن الكتاب يعني القرآن من زمامه أي
قد أطاع الأوامر الإلهية، فالقرآن قائده وإمامه، يحل حيث حل، وينزل حيث نزل. ألم أعمل
فيكم بالثقل الأكبر، وأترك فيكم الثقل الأصغر! قد ركزت فيكم راية الإيمان،
ووقفتكم على حدود الحلال والحرام، وألبستكم العافية من عدلي، وفرشتكم المعروف من
قولي وفعلي، وأريتكم كرائم الأخلاق من نفسي. والأضاليل:
الضلال، جمع لا واحد له من لفظه. وجاء في الخبر المرفوع المشهور:
الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والأحمق من أتبع نفسه هواها، وتمنى على
الله. وقوله:
اعتزل البدع، وبينها اضطجع؛ إشارة إلى تضعيف مذاهب
العامة والحشوية الذين رفضوا النظر العقلي، وقالوا: نعتزل البدع. وقال الشاعر:
قوله: "وذلك ميت الأحياء" كلمة فصيحة، وقد أخذها شاعر فقال:
إلا أن أمير المؤمنين عليه السلام أراد لجهله، والشاعر أراد
لبؤسه. وتعمهون: تتحيرون وتضلون. فإن قدر مقدر أنه على
طريق حذف المضافات؛
أي ابن ابن عم أب الأب؛ إلى عدد كثير في البنين والآباء، فكذلك أراد أبو بكر أنهم عترة أجداده، على طريق حذف
المضاف. وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم عترته من
هي، لما قال: إني تارك فيكم الثقلين، فقال: عترتي أهل بيتي، وبين في مقام آخر من
أهل بيته حيث طرح عليهم كساء. وقال حين نزلت: "إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت":
اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب الرجس عنهم. قلت: نص أبو
محمد بن متويه؛ رحمه الله تعالى في كتاب الكفاية على أن علياً عليه السلام معصوم، وإن لم يكن واجب العصمة، ولا العصمة شرط في الإمامة، لكن أدلة
النصوص قد دلت على عصمته؛ والقطع على باطنه
ومغيبه، وأن ذلك أمر اختص هو به دون غيره من الصحابة، والفرق
ظاهر بين قولنا: زيد معصوم، وبين قولنا: زيد واجب
العصمة، لأنه إمام؛ ومن شرط الإمام أن يكون معصوماً، فالاعتبار الأول مذهبنا، والإعتبار
الثاني مذهب الإمامية. ثم قال:
أيها الناس خذوها عن خاتم النبيين إلى قوله:
وليس ببالٍ هذا الموضع يحتاج إلى تلطف في الشرح، لأن
لقائل أن يقول: ظاهر هذا الكلام متناقض، لأنه
قال: يموت من مات منا وليس بميت، وهذا كما
تقول: يتحرك المتحرك وليس بمتحرك، وكذلك
قوله: ويبلى من بلي منا، وليس ببالٍ، ألا ترى أنه سلب وإيجاب لشيء واحد! فإن قلتم: أراد بقاء النفس بعد موت الجسد، كما قاله الأوائل وقوم من المتكلمين، قيل لكم: فلا اختصاص للنبي ولا لعلي بذلك؛ بل هذه
قضية عامة في جميع البشر، والكلام خرج مخرج التمدح والفخر. أحدهما:
أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم وعلي
ومن يتلوهما من أطايب العترة أحياءً بأبدانهم التي كانت في
الدنيا بأعيانها؛ قد رفعهم الله تعالى إلى ملكوت سماواته؛ وعلى هذا لو قدرنا أن
محتفراً احتفر تلك الأجداث الطاهرة عقب دفنهم لم يجد الأبدان في الأرض؛ وقد روي في الخبر النبوي مثل ذلك؛ وهو قوله صلى الله عليه وسلم : إن
الأرض لم تسلط علي، وإنها لا تأكل لي لحماً ولا تشرب لي دماً نعم يبقى الإشكال في قوله: ويبلى من بلي منا وليس
ببال؛ فإنه إن صح هذا التفسير في الكلام الأول،
وهو قوله: يموت من مات منا وليس بميت؛ فليس يصح في القضية الثانية، وهي حديث البلاء،
لأنها تقتضي أن الأبدان تبلى وذاك الإنسان لم يبل، فأحوج
هذا الإشكال إلى تقدير فاعل محذوف؛ فيكون
تقدير الكلام: يموت من مات حال موته وليس بميت فيما بعد ذلك من الأحوال
والأوقات، ويبلى كفن من بلي منا وليس هو ببال؛ فحذف
المضاف كقوله: "وإلى مدين"، أي وإلى أهل مدين؛ ولما كان الكفن كالجزء من الميت
لاشتماله عليه عبر بأحدهما عن الآخر للمجاورة
والاشتمال، كما عبروا عن المطر بالسماء،
وعن الخارج المخصوص بالغائط، وعن الخمر بالكأس. ويجوز
أن يحذف الفاعل كقوله تعالى: "حتى
توارت بالحجاب "؛ و "فلولا إذا
بلغت الحلقوم". وقول حاتم:
إذا حشرجت وحذف الفاعل كثير. وعلى الوجه الأول
لو أن محتفراً احتفر أجداثهم لوجد الأبدان فيها، وإن لم يعلم أن أصول تلك البنى
قد انتزعت منها ونقلت إلى الرفيق الأعلى؛ وهذا الوجه لا يحتاج إلى تقدير ما
قدرناه أولاً من الحذف، لأن الجسد يبلى في القبر إلا قدر ما انتزع منه ونقل إلى
محل القدس، وكذلك أيضاً يصدق على الجسد أنه ميت، وإن كان أصل بنيته لم يمت؛ وقد ورد في الخبر الصحيح: إن أرواح الشهداء من
المؤمنين في حواصل طيور خضر تدور في أفناء الجنان، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى
قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش، فإذا جاء هذا في الشهداء فما ظنك بموالي
الشهداء وساداتهم؛ فإن قلت: فهل يجوز أن
يتأول كلامه، فيقال:
لعله أراد بقاء الذكر والصيت؟ قلت: إنه
لبعيد، لأن غيرهم يشركهم في ذلك، ولأنه أخرج الكلام مخرج المستغرب المستعظم له. فإن قلت: فهل يمكن أن
يقال: إن الضمير يعود إلى النبي صلى
الله عليه وسلم؛ لأنه قد ذكره في قوله: خاتم النبيين فيكون التقدير: أنه يموت من مات منا والنبي صلى الله عليه وسلم ليس
بميت، ويبلى من بلي منا والنبي ليس ببالً. قلت: هذا أبعد من
الأول، لأنه لو أراد ذلك لقال: إن رسول الله صلى
الله عليه وسلم لا تبليه
الأرض، وإنه الأن حي، ولم يأت بهذا الكلام الموهم؛ ولأنه في سياق تعظيم العترة
وتبجيل أمرها؛ وفخره بنفسه وتمدحه بخصائصه ومزاياه؛ فلا يجوز أن يدخل في غضون
ذلك ما ليس منه. فإن قلت:
فهل هذا الكلام منه أم قاله مرفوعاً؟ قلت:
بل ذكره مرفوعاً، ألا تراه قال: خذوها عن
خاتم النبيين. ولفظت
الشيء من فمي، ألفظه لفظاً: رميته، وذلك الشيء اللفاظة واللفاظ؛ أي يلفظونها
كلها لا يبقى منها شيء معهم. أما والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، لا يرون الذي
ينتظرون حتى يهلك المتمنون. ويضمحل المحلون، ويتثبت المؤمنون، وقليل ما يكون،
والله والله لا ترون الذي تنتظرون حتى لا تدعون الله إلا إشارة بأيديكم وإيماضاً
بحواجبكم، وحتى لا تملكون من الأرض إلا مواضع أقدامكم، وحتى يكون موضع سلاحكم
على ظهوركم؛ فيومئذٍ لا ينصرني إلا الله بملائكته، ومن كتب على قلبه الإيمان،
والذي نفس علي بيده لا تقوم !عصابة تطلب لي أو لغيري حقاً، أو تدفع عنا ضيماً
إلا صرعتهم البلية، حتى تقوم عصابة شهدت مع محمد صلى الله عليه وسلم بدراً،
لا يودى قتيلهم، ولا يداوى جريحهم، ولا ينعش صريعهم. قال
المفسرون: هم الملائكة. ومن كلام الحسن البصري رحمه الله تعالى يذكر
فيه الحجاج: أتانا أعمش أخيمش يمد بيدٍ قصيرة البنان، ما عرق
فيها عنان في سبيل الله. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
في وصف ما عليه الناس من الخطأ
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
أما بعد فإن الله لم يقصم جباري دهر قط إلا بعد تمهيل ورخاء؛ ولم يجبر عظم أحدٍ
من الأمم إلا بعد أزلٍ وبلاء؛ وفي دون ما أستقبلتم من عتبٍ وما استدبرتم من خطبٍ
معتبر. وما كل ذي قلبٍ بلبيبٍ، ولا كل ذي سمعٍ بسميعٍ، ولا كل ذي ناظرٍ ببصيرٍ. ويروى رجاء وهو
التأخير أيضاً؛ والرواية المشهورة ورخاء، أي بعد إعطائهم من سعة العيش وخصب
الحال ما اقتضته المصلحة. ويقتصون: يتبعون،
قال سبحانه وتعالى: "وقالت لأخته قصيه ".
ويعفون، بكسر العين؛
عففت عن كذا، أعف عفاً وعفةً وعفافة، أي كففت، فأنا عف وعفيف، وامرأة عفة
وعفيفة، وقد أعفه الله، واستعف عن المسألة، أي عف. وتعفف
الرجل، أي تكلف العفة، ويروى: ولا
يعفون عن عيب، أي لا يصفحون. وروي:
بعراً وثيقات. وروي من عتب ، بفتح التاء جمع عتبة؛
يقال: لقد حمل فلان على عتبة، أي أمر كريه من البلاء؛ وفي
المثل: ما في هذا رتب ولا عتب ، أي شدة. وروي أيضاً من عنتٍ وهو الأمر الشاق.
وما استدبروه من خطب؛ يعني به ما تصرم عنهم من
الحروب والوقائع التي قضوها ونضوها واستدبروها. ويروى:
واستدبرتم من خصب ؛ وهو رخاء العيش؛ وهذا يقتضي المعنى الأول، أي وما خلفتم
وراءكم من الشباب والصحة وصفو العيشة. ثم قال:
وما كل ذي قلب بلبيب...الكلام إلى آخره، وهو مأخوذ من قول الله تعالى: "لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها
ولهم أذان لا يسمعون بها". ثم قال:
المعروف فيهم ما عرفوه، أي ليس المعروف عندهم ما دل الدليل على كونه معروفاً
وصوابأ وحقاً، بل المعروف عندهم ما ذهبوا إلى أنه حق، سواء كان حقاً في نفس
الأمر أو لم يكن، والمنكر عندهم ما أنكروه كما شرحناه في المعروف. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ذكر حال الناس قبل البعثة
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: أرسله
على حين فترةٍ من الرسل، وطول هجعة من الأمم، واعتزام من الفتن؛ وأنتشار من
الأمور، وتلظ من الحروب، والدنيا كاسفة النور، ظاهرة الغرور؛ على حين أصفرارٍ من
ورقها، وإياسٍ من ثمرها، وإعوارٍ من مائها. قد درست منار الهدى، وظهرت أعلام
الردى، فهي متجهمة لأهلها، عابسة في وجه طالبها، ثمرها الفتنة، وطعامها الجيفة،
وشعارها الخوف، ودثارها السيف. فاعتبروا عباد الله، وأذكروا تيك التي أباؤكم
وإخوانكم بها مرتهنون، وعليها محاسبون. ولعمري ما
تقادمت بكم ولا بهم العهود، ولا خلت فيما بينكم وبينهم الأحقاب والقرون، وما
أنتم اليوم من يوم كنتم في أصلابهم ببعيدٍ. والله ما
أسمعكم الرسول شيئاً إلا وها أنا ذا اليوم مسمعكموه، وما أسماعكم اليوم بدون أسماعكم
بالأمس، ولا شقت لهم الأبصار، ولا جعلت لهم الأفئدة في ذلك الزمان؛ إلا وقد
أعطيتم مثلها في هذا الزمان، ووالله ما بصرتم بعدهم شيئاً جهلوه، ولا أصفيتم به
وحرموه، ولقد نزلت بكم البلية جائلاً خطامها، رخواً بطانها؛ فلا يغرنكم ما أصبح
فيه أهل الغرور، فإنما هو ظل ممدود إلى أجل معدود. والهجعة: النومة ليلاً، والهجوع
مثله، وكذلك التهجاع، بفتح التاء، فأما الهجعة بكسر الهاء، فهي الهيئة كالجلسة من الجلوس. ويروى: واعتراض ، ويروى: واعترام بالراء المهملة من العرام، وهي
الشرة. والتلظي: التلهب. ومن رواه: وإغوارٍ من مائها، بالغين المعجمة، جعله من
غار الماء، أي ذهب، ومنه قوله تعالى: " أرايتم
إن أصبح ماؤكم غوراً"، ومتجهمة لأهلها:
كالحة في وجوههم. ثم قال:
ثمرها الفتنة أي نتيجتها وما يتولد عنها. وطعامها الجيفة، يعني أكل الجاهلية
الميتة، أو يكون على وجه الإستعارة، أي أكلها خبيث. ويروى الخيفة أي الخوف، ثم جعل الخوف والسيف شعارها
ودثارها، فالشعار ما يلي الجسد، والدثار فوق الشعار، وهذا
من بديع الكلام ومن جيد الصناعة، لأنه لما كان الخوف يتقدم السيف والسيف يتلوه،
جعل الخوف شعاراً لأنه الأقرب إلى الجسد، وجعل الدثار تالياً له. ثم قال: واذكروا تيك
كلمة إشارة إلى المؤنثة الغائبة، فيمكن أن يعني بها
الدنيا التي تقدم ذكرها، وقد جعل آباءهم وإخوانهم مرتهنين بها ومحاسبين
عليها، والإرتهان: الإحتباس، ويمكن أن يعني بها الأمانة التي عرضت على الإنسان
فحملها، والمراد بالأمانة الطاعة والعبادة وفعل الواجب وتجنب القبيح. وقال: تيك ولم يجر
ذكرها، كما قال تعالى:" آلم ذلك
الكتاب" ولم يجر ذكره لأن الإشارة إلى مثل هذا أعظم وأهيب وأشد روعة
في صدر المخاطب من التصريح. قوله: ولا خلت فيما
بينكم وبينهم الأحقاب ، أي لم يطل العهد، والأحقاب: المدد المتطاولة، والقرون: الأمم من الناس. وقال:
جائلاً خطامها لأن الناقة إذا أضطرب زمامها استصعبت على راكبها، ويسمى الزمام
خطاماً لكونه في مقدم الأنف، والخطم من، كل دابة.
مقدم أنفها وفمها، وإنما جعلها رخواً بطانها، لتكون أصعب على راكبها،
لأنه إذا استرخى البطان كان الراكب في معرض السقوط عنها، وبطان القتب هو الحزام
الذي يجعل، تحت بطن البعير. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
في عد بعض صفات الله تعالى
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:الحمد
لله المعروف من غير رؤية، والخالق من غير روية، الذي لم يزل قائماً دائماً، إذ
لا سماء ذات أبراجٍ، ولا حجب ذات إرتاجٍ، ولا ليل داجٍ، ولا بحر ساجٍ، ولا جبل
ذو فجاجٍ، ولا فج ذو اعوجاجٍ، ولا أرض ذات مهادٍ، ولا خلق ذو اعتمادٍ، وذلك
مبتدع الخلق ووارثه، وإله الخلق ورازقه، والشمس والقمر دائبان في مرضاته، يبليان
كل جديدٍ، ويقربان كل بعيد. قلت: نعم لا
منافاة بين القولين، لأن الفلك وإن كان كرة لكن فيه من المتممات ما يجري مجرى
أركان الحصن أو السور، فصح إطلاق لفظة الأبراج عليه، والمتممات أجسام في حشو
الفلك تخف في موضع؛ والناس كلهم أثبتوها. قلت: لا مانع من
ذلك، لأن هذا المسمى كان معلوماً متصوراً قبل نزول
القرآن، وكان أهل الإصطلاح قد وضعوا هذا اللفظ بإزائه، فجاز أن ينزل القرآن بموجبه؛ قال؛ تعالى: "والسماء ذات البروج "، وأخذها علي عليه السلام منه،
فقال: "إذ لا سماء ذات أبراج "، وارتفع سماء لأنه مبتدأ وخبره محذوف؛
وتقديره في الوجود. ويجوز أن يريد بالحجب السموات
أنفسها، لأنها حجبت الشياطين عن أن تعلم ما الملائكة فيه. والفجاج:
جمع فج؛ وهو الطريق الواسع بين جبلين. والمهاد:
الفراش. مبتدع
الخلق: مخرجه من العدم المحض، كقوله تعالى:
"بديع السماوات والأرض ". ودائبان:
تثنية دائب" وهو الجاد المجتهد المتعب، دأب في عمله أي جد وتعب دأباً
ودءوباً فهو دئيب، ودأبته أنا. وسمى الشمس والقمر دائبين لتعاقبهما على حال واحدة دائما
لا يفتران ولا يسكنان، وروي دائبين بالنصب على الحال ويكون خبر المبتدأ يبليان وهذه من الألفاظ القرآنية. ويمكن أن يعني به حركاتهم وتصرفاتهم وروي:
وعدد أنفاسهم على الإضافة. ومستقرهم، أي
في الأرحام. ومستودعهم، أي
في الأصلاب، وقد فسر ذلك فتكون من متعلقة
بمستودعهم ومستقرهم على إرادة تكررها، ويمكن أن
يقال: أراد مستقرهم ومأواهم على ظهر الأرض ومستودعهم في بطنها بعد الموت، وتكون
من هاهنا بمعنى مذ أي مذ زمان كونهم في الأرحام والظهور إلى أن تتناهى بهم
الغايات، أي إلى أن يحشروا في القيامة. وعلى التأويل الأول يكون تناهي الغايات بهم عبارة عن كونهم أحياء
في الدنيا. قاهر من عازه، ومدمر من شاقه؛ ومذل من ناواه،
وغالب من عاداه، من توكل عليه كفاه، ومن سأله أعطاه، ومن أقرضه قضاه، ومن شكره
جزاه. والمدمر:
المهلك، دمره ودمر عليه بمعنى، أي أهلكه. وشاقه:
عاداه، قيل إن أصله من الشق وهو النصف، لأن
المعادي يأخذ في شق والمعادى في شق يقابله. وناواه،
أي عاداه، واللفظة مهموزة، وإنما لينها لأجل
القرينة السجعية، وأصلها ناوأت الرجل مناوأة ونواء؛ ويقال
في المثل: إذا ناوأت الرجل فاصبر.
ثم قال: وانقادوا
قبل عنف السياق، هو العنف بالضم، وهو ضد الرفق، يقال عنف عليه وعنف به أيضاً، والعنيف: الذي لا رفق له بركوب الخيل، والجمع عنف.
واعتنفت الأمر، أي أخذته بعنف، يقول:
انقادوا أنتم من أنفسكم قبل أن تقادوا وتسحاقوا بغير اختياركم سوقاً عنيفاً. ثم قال من لم يعنه الله على نفسه حتى يجعل
له منها واعظاً وزاجراً لم ينفعه الزجر والوعظ من غيرها أخذ هذا المعنى شاعر فقال:
فإن قلت:
أليس في هذا الكلام إشعار ما بالجبر؟ قلت:
إنه لا خلاف بين أصحابنا في أن لله تعالى ألطافاً يفعلها بعباده، فيقربهم من
الواجب، ويبعدهم من القبيح؛ ومن يعلم الله تعالى من حاله أنه لا لطف له لأن كل
ما يعرض لطفاً له فإنه لا يؤثر في حاله ولا يزداد به إلا إصراراً على القبيح
والباطل؛ فهو الذي عناه أمير المؤمنين عليه السلام
بقوله: من لم يعن على نفسه، لأنه ما قبل المعونة ولا انقاد إلى مقتضاها، وقد روي: واعلموا أنه من لم يعن على نفسه بكسر
العين أي من لم يعن الواعظين له والمنذرين على نفسه، ولم يكن معهم إلباً عليها
وقاهراً لها، لم ينتفع بالوعظ والزجر، لأن هوى نفسه
يغلب وعظ كل واعظ وزجر ثق زاجر. ومن خطبة له عليه السلام تعرف بخطبة
الأشباح وهي من جلائل خطبه عليه السلام الأصل: روى مسعدة بن صدقة عن الصادق جعفر بن
محمد عليهما السلام، أنه قال: خطب أمير المؤمنين به بهذه
الخطبة على منبر الكوفة، وذلك أن رجلاً أتاه، فقال:
يا أمير المؤمنين، صف لنا ربنا مثل ما نراه عياناً، لنزداد له حباً، وبه معرفة،
فغضب ونادى: الصلاة جامعةً، فاجتمع إليه حتى غص المسجد بأهله، فصعد المنبر وهو
مغضب متغير اللون، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم،
ثم قال: الحمد لله الذي لا يفره المنع والجمود، ولا يكديه
الإعطاء والجود، إذ كل معط منتقص سواه، وكل مانع مذموم ما خلاه؛ وهو المنان
بفوائد النعم، وعوائد المزيد والقسم، عياله الخلائق، ضمن أرزاقهم، ونهج سبيل
الراغبين إليه، والطالبين ما لديه، وليس بما سئل بأجود منه بما لم يسأل، الأول
الذي لم يكن له قبل فيكون شيء قبله، والآخر الذي لم يكن له بعد فيكون شيء بعده،
والرادع أناسي الأبصار عن أن تناله أو تدركه، ما أختلف عليه دهر فيختلف منه
الحال، ولا كان في مكان فيجوز عليه الانتقال. ويقال:
رجل مغضب، بفتح الضاد، أي قد اغضب، أي فعل
به ما يوجب غضبه. وفي أمثالهم: يوفر ويحمد هو من قولك وفرته عرضه
ووفرته ماله. وقد يحمل الكلام على وجه آخر أقرب متناولًا من هذا الوجه، وهو أن يكون
أراد: الذي
لم يكن محدثاً، أي موجوداً قد سبقه عدم، فيقال إنه
مسبوق بشيء من الأشياء إما المؤثر فيه أو الزمان المقدم عليه، وإنه ليس بذات
يمكن فناؤها وعدمها فيما لا يزال، فيقال: إنه ينقضي وينصرم، ويكون بعده شيء من
الأشياء، إما الزمان أو غيره، والوجه الأول أدق
وألطف، ويؤكد كونه مراداً قوله عقيبه: ما اختلف عليلا دهر فيختلف منه
الحال، وذلك لأن واجب الوجود أعلى من الدهر والزمان، فنسبة ذاته إلى الدهر
والزمان بجملته وتفصيل أجزائه نسبة متحدة. قلت:
كلا لا تجسيم في ذلك، فكما أن له عرشاً وكرسياً وليس بجسم، فكذلك أنوار عظيمة فوق العرش، وليس بجسم، فكيف
تنكر الأنوار، وقد نطق الكتاب العزيز بها في غير موضع، كقوله: "وأشرقت الأرض بنور ربها"، وكقوله: "مثل نوره كمشكاة فيها مصباح". والفلز:
اسم الأجسام الذائبة كالذهب والفضة والرصاص ونحوها. واللجين: اسم
الفضة جاء مصغراً، كالكميت والثريا. والعقيان:
الذهب الخالص، ويقال: هو ما ينبت نباتاً
وليس مما يحصل من الحجارة. ونثارة الدر:
ما تناثر منه، كالسقاطة والنخالة، وتأتي فعالة تارة للجيد المختار، وتارة للساقط
المتروك، فالأول نحو الخلاصة، والثاني نحو القلامة. وأرض حصبة ومحصبة، بالفتح: ذات حصباء. والمرجان: صغار
اللؤلؤ؛ وقد قيل إنه هذا الحجر، واستعمله بعض
المتأخرين فقال:
وتنفده:
تفنيه، نفد الشيء أي فني، وأنفدته أنا. ومطالب الأنام:
جمع مطلب، وهو المصدر، من طلبت الشيء طلباً ومطلباً، ويغيضه، بفتح حرف المضارعة:
ينقصه؛ ويقال: غاض الماء، فهذا لازم، وغاض
الله الماء، فهذا متعد" وجاء: أغاض الله
الماء، والإلحاح: مصدر ألح على الأمر، أي
أقام عليه دائماً، من ألح السحاب؛ إذا دام مطره، وألح البعير: حرن، كما تقول: خلأت الناقة، وروي ولا يبخله بالتخفيف؛ تقول: أبخلت زيداً، أي صادفته بخيلاً؛ وأجبنته: وجدته جباناً.
**** الأصل: فانظر
أيها السائل فما دلك القرآن عليه من صفته فائتم به، واستضئ بنور هدايته، وما
كلفك الشيطان علمه، مما ليس في الكتاب عليك فرضه، ولا في سنة النبي صلى الله عليه وآله وأئمة الهدى أثره، فكل علمه إلى الله سبحانه، فإن ذلك منتهى حق الله عليك. والاقتحام: الهجوم والدخول مغالبة. والسدد المضروبة:
جمع سدة؛ وهي الرتاج. وأما ما لم يأت الكتاب والسنة فيه بشيء فهو الذي حرم وحظر على المكلفين الفكر
فيه؛ كالكلام في الماهية التي يذهب ضرار
المتكلم إليها، وكإثبات صفات زائدة على الصفات المعقولة لذات البارىء سبحانه، وهي على قسمين:
أحدهما: ما لم يرد فيه نص كإثبات طائفة تعرف
بالماتريدية صفة سموها التكوين زائدة على القدرة والإرادة. وهذا التأويل غير صحيح، لأنه عليه السلام إنما أخرج
هذا الكلام مخرج المنكر على من سأله أن يصف له البارىء سبحانه، ولم يكن
السائل قد سأل عن العلة في أعداد الصلاة وكمية أجزاء
العبادات.
ويروى
ممزع، وقال النابغة:
والوجه الثاني أنها لفظة اصطلاحية، فجاز استعمالها لا على أنها مؤنث ذو بل
تستعمل ارتجالاً في مسماها الذي عبر عنه بها أرباب النظر الإلهي،
كما استعملوا لفظ الجوهر والعرض وغيرهما في غير ما كان أهل العربية واللغة
يستعملونهما فيه. والمهاوي: المهالك، الواحدة مهواة بالفتح، وهي ما
بين جبلين أو حائطين ونحو ذلك. والسدف:
جمع سدفة، وهي القطعة من الليل المظلم. وجبهت،
أي ردت، وأصله من جبهته، أي صككت جبهته. والجور: العدول عن
الطريق. والاعتساف:
قطع المسافة على غير جادة معلومة. واعلم أن هذا أحد الأسئلة التي يذكرها أصحابنا في باب كونه
عالماً،
لأنهم لما استدلوا على كونه تعالى عالماً بطريق إحكام العلم وإتقانه، سألوا أنفسهم فقالوا: لم لا يجوز أن يكون القديم
سبحانه أحدث العالم محتذياً لمثال مثله، وهيئة اقتضاها، والمحتذي لا يجب كونه
عالماً بما يفعله، ألا ترى أن من لا يحسن الكتابة
قد يحتذي خطاً مخصوصاً، فيكتب قريباً منه، وكذلك من يطبع الشمع بالخاتم ثم يطبع
فيه مثال الخاتم، فهو فعل الطابع، ولا يجب كونه عالماً.
وقال
في تفيسير قوله تعالى :"وإن من شيءٍ إلا يسبح
بحمده ولاكن لا تفقهون تسبيحهم" إنه عبارة عن هذا المعنى. *** الأصل: فأشهد أن من شبهك بتباين أعضاء خلقك، وتلاحم حقاق مفاصلهم
المحتجبة لتدبير حكمتك، لم يعقد غيب ضميره على معرفتك، ولم يباشر قلبه اليقين
بأنه لا ند لك، وكأنه لم يسمع تبرؤ التابعين عن المتبوعين؛ إذ يقولون: "تالله إن كنا لفي
ضلال مبين؛ إذ نسويكم برب العالمين ". كذب العادلون بك، إذ شبهوك بأصنامهم، ونحلوك حلية المخلوقين
بأوهامهم، وجزءوك تجزئة المجسمات بخواطرهم، وقدروك على الخلقة المختلفة ألقوى بقرائح عقولهم. وأشهد أن من ساواك بشي من خلقك فقد
عدل لك، والعاد ذلك كافر بما تنزلت به محكمات آياتك، او عنه شواهد حجج بيناتك،
وأنت الله الذي لم تتناه في ألعقول؟ فتكون في مهب فكرها مكيفا، ولا في رويات
خواطرها محدودا مصرفا. الشرح: حقاق المفاصل جمع حقة؟ وجاءفي
جمعهاحقاق وحمق وحق؟ ولماقال: "بتباين أعضاءخلقك، وتلاحم حقاق مفاصلهم
"؟ فأوقع التلاحم في مقابلة التباين صناعة وبديعا. وروي "المحتجة"، فمن قال:
"المحتجة"، أراد أنها بما فيها من لطيف الصنعة كالمحتحة المستدلة على
التدبير الحكمي من لدنه سبحانه، ومن قال: "المحتحمة" أراد المستترة،
لأن تركيبها الباطن خفي محجوب. الند: المثل. والعادلون لك: الذين حعلوا لك عديلا
ونظيرا. ونحلوك: أعطوك؟ وهي النحلة، وروي:
"لم يعقد"على مالم يسم فاعله. وغيب ضميره، بالرفع. والقرائح: جمع قرمحة، وهي القوة التي
تستنمط المعقولات وأصله من قريحة الشر، وهو أول مائها. ومعنى هذا الفصل أنه عتنه شهد بأن المجسم
كافر، وأنه لا يعرف الله، وأن من شبه الله بالمخلوقين ذوي الأعضاء "
المتباينة، والمفاصل المتلاحمة، لم يعرفه ولم يباشر قلبه اليقين، فإنه لا ند له
ولا مثل، ثم أكد ذلك بآيات من كتاب الله تعالى، وهي قوله تعالى: (فكبكبوا نجيها فم والغاوون ! وجنود إبليس اجمعون " قالوا
وهم فيها يختصمون ! تالله إن كنا لفي ضلالا مبين ! إذ نسويكم برب العالمين ! (سورة
الشعراء94-98). حكى سبحانه حكاية قول الكفار في
النار؟ وهم التابعون للذين أغووهم من الشياطين وهم المتبعون. لقد كنا ضالين إذ
سويناكم بالله
تعالى، وحعلناكم مثله، ووحه الححة أنه تعالى حكى ذلك حكاية منكر على من زعم أن
شيئا من الأشياء يجوز تسويته بالباري سبحانه، فلو كان الباري سبحانه جسما مصورا،
لكان مشابها لسائر الأجسام المصورة، فلم يكن لإنكاره على من سواه بالمخلوقات
معنى. ثم زاد عليه السلام فى تأكيد هذا المعنى؟
فقال: كذلك العادلون بك، المثشون لك نظيرا وشميها، يعني المشمهة والمجسمة، اذ
قالوا: إنك على صورة آدم، فشبهوك بالأصنام التي كانت الحاهلية تعبدها، وأعطوك
حلية المخلوقين لما اقتضت أوهامهم ذلك، من حيث لم يألفوا أن يكون القادر الفاعل
العالم إلا جسما، وجعلوك مركبا ومتجزئا، كما تتجزأ الأجسام، وقدروك على هذه
الخلقة، يعنى خلقة البشر المختلفة القوى، لأنها مركمة من عناصر مختلفة الطبائع. ثم كرر الشهادة فقال: أشهد أن من
ساواك بغيرك، وأثبت أنك جوهر أو جسم فهو عادل بك كافر. وقالت تلك الخارجية للحجاج:
"أشهد أنك قاسط عادل " فلم يفهم أهل الشام حوله ما قالت، حتى فسره
لهم، قال عليه السلام فمن يذهب إلى هذا المذهب فهوكافر بالكتاب، وبما ذلت عليه حجج
العقول. ثم قال: وإنك أنت الله، أي وأشهد أنك أنت
الله الذي لم تحط العقول بك، كإحاطتها بالأشياء المتناهية،احججا فتكون
ذاكيفيةا. وقوله: "في مهب فكرها"
استعارة حسنه، ثم قال: "ولا قي رويات خواطرها"، أي في أفكارها محدودا،
ذا حد مصرفا، أي قابلا للحركة والتغير. وقد استدل بعض المتكلمين على نفي كون
البارىء- سبحانه- جسما بما هومأخوذمن هذا الكلام، فقال: لوجازأن يكون البارىء
جسما، لجازأن يكون القمر هو إله العالم، لكن لا يجوزأن يكون القمر إله العالم،
فلا يجوزأن يكون البارى حسما، لبيان الملازمة أنه لو جازأن يكون البارىء جسما،
لما كان بين الإلهية وبين الجسممية منافاة عقلية، وإذا لم يكن بينهما منافاة
عقلية أمكن اجتماعهما، وإذا أمكن اجتماعهما جاز أن يكون القمر هو إله العالم،
لأنه لا مانع من كونه إله العالم إلا كونه جسما يجوز
عليه الحركة، والأفول، ونقصان ضوئه تارة، وامتلاؤه اخرى، فإذا لم يكن ذلك منافيا
للإلهية، جاز أن يكون القمر إته العالم، وبيان الثاني إجماع المسلمين على كفر من
أجاز كون القمر إله العالم، وإذا ثبتت الملازمة وثبتت المقدمة الثانية فقد تمت
الدلالة. *** الأصل: ومنها: قدر ما خلق فأحكم
نقديرة، ودبره فألطف تدبيره، ووجهه لوجهته فلم يتعد حدود منزلته، ولم يقصر دون
ألانتهاء إلى غايته، ولم يستصعب إذ أمر بالمضي على إرادته، فكيف وإنما صدرت
الأمور عن مشيئته! ألمنشىءأصناف الأشياء بلا روية فكر آل إليها، ولا قريحة كريزة
أضمر عليها، ولا تجربة أفادها من حوادث ألدهور، ولا شريك أعانه على أبتداع عجائب
الأمور، فتم خلقه بأمره وأذعن لطاعته، وأجاب إلى دعوته، لم يعترض دونه ريث
المبطىء، ولا أناة المتلكىء، فأقام من الأشياء أودها، ونهج حدودها، ولاءم بقدرته
بين متضادها، ووصل أسباب قرائنها، وفرقها أجناسا، فختلفات في ألحدود والأقدار،
والغرائز وألهيئات، بدايا خلائق أحكم صنعها، وفطرها على ما أراد وأبتدعها. اورخ: الوجهة، بالكسر: الجهة التي يثوجه
نحوها، قال تعالى: (ولكل وجهة هو موليها) (البقرة148)، والريث: البطء والمتلكىء: المتأخر. والأود: الإعوجاج. ولاءم بين كذا وكذا، أي جمع،
والقرائن هنا: الأنفس، واحدتها قرونة وقرينة، يقال: سمحت قرينته وقرونته؟ أي
أطاعته نفسه وذلت، وتابعته على الأمر. وبدايا ههنا: جمع بدية، وهي الحالة
العجيبة، أبدأ الرجل إذا جاء بالأمر البدىء، أي المعجب، والبدية أيضا: الحالة
المبتدأة المبتكرة، ومنه قولهم: فعله بادىء ذي بديء على وزن "فعيل "،
أي أول كل شيء. ويمكن أن يحمل كلامه أيضا على هذا الوجه. وأما خلائق؟ فيجوز أن يكون أضاف
"بدايا" إليها؟ ويجوز ألا يكون أضافه إليها، بل جعلها بدلا من
"أجناسا". ويروى "برايا" جمع برية. يقول عفنه: إنه تعالى
قدر الأشياء التي خلقها، فخلقها محكمة على حسب ما قدر. وألطف تدبيرها، أي جعله
لطيفا، وأمضى الامور إلى غاياتها وحدودها المقدرة لها، فهيأ الصقرة للإصطياد،
والخيل للركوب والطراد، والسيف للقطع، والقلم للكتابة، والفلك للدوران ونحو ذلك،
وفي هذا إشارة إلى قول النبي ص: "كل ميسر لما خلق له "؟
فلم تتعد هذه المخلوقات حدود منزلتها التي جعلت غايتها، ولا قصرت دون الإنتهاء
إليها، يقول: لم تقف على الغاية ولا تجاوزتها. ثم قال: ولا استصعبت وامتنعت إذ
أمرها بالمضي إلى تلك الغاية بمقتفى الإرادة الإلهية، وهذا كله من باب المجاز؟
كقوله تعالى: (فقال لها وللأرض ائتيا
طوعا أو كرها قالتا اتينا طائعين ! (سورة فصلت :11)، وخلاصة ذلك، الإبانة عن نفوذ إرادته ومشيئته. ثم علل نفي الإستصعاب فقال: وكيف
يستصعب، وإنما صدرت عن مشيئته! يقول: إذا كانت مشيئته هي المقتضيةلوجود هذه
المخلوقات، فكيف يستصعب عليه بلوغها إلى غاياتها التي جعلت لأجلها، وأصل وجودها
إنما هو مشيئته، فإذا كان أصل وجودها بمشيئته، فكيف يستصعب عليه توجيهها
لوجهتها، وهو فرع من فروع وجودها وتابع له!ثم أعاد معاني القول الأول، فقال: إنه
أنشأ الأشياء بغيرروية ولا فكرة ولا غريزة أضمر عليها خلق ما خلق عليها.
ولاتجربة أفادها، أي استفادها من حوادث مرت عليه من قبل، كما تكسب التجارب علوما
لم تكن، ولا بمساعدة شريك أعانه عليها. فتم خلقه بأمره إشارة إلى قوله:
"ولم يستصعب إذ أمر بالمضي "؟ فلما أثبت هناك كونها امرت أعاد لفظ
الأمر ها هنا، والكل مجاز، ومعناه نفوذ إرادته، وأنه إذا شاء أمرا استحال ألا
يقع، وهذا المجاز هو المجاز المستعمل في قوله تعالى: مال!إنما أمزه إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ! (سورة يس82 )؟ تعبيرا بهذا اللفظ عن سرعة
مواتاة الأمور له، وانقيادها تحت قدرته. ثم قال: ليس كالواحد منا يعترض دون مراده
ريث وبطء، وتأخير والتواء. ثم قال: وأقام العوج وأوضح الطريق،وبهع بين الأمور المتضادة،
ألا ترى أنه جمع في بدن الحيوانات والنبات بين الكيفيات المتباينة المتنافرة، من
الحرارة والبرودة، والرطوبة واليبوسة، ووصل أسباب أنفسها بتعديل أمزجتها، لأن
اعتدال المزاج أو القرب من الإعتدال سبب بقاء الروح، وفرقها أجناسا مختلفات
الحدود والأقدار، والخلق والأخلاق والأشكال. امور عجيبةبديعة مبتكرة الصنعة، غير محتذ بها حذو صانع سابق، بل نحلوقة على غيرمثال، قد أحكم سبحانه صنعها، وخققها على موجب ما
أراد، وأخرجها من العدم المحض إلى الوجود، وهو معنى الابتداع، فإن الخلق في الإصطلاح النظري على قسمين: أحدهما صورة تخلق في
مادة، والثاني ما لا مادة له، بل يكون وجود الثاني من الأول فقط، من غير تولسط
المادة، فالأول يسمى التكوين، والثاني يسمى الإبداع، ومرتبة الإبداع أعلى من
مرتبة التكوين. *** الأصلى: ومنها في صفة
السماء: ونظم بلا تعليق رهؤات فرجها، ولاحم صدوغ أنفراجها، ووشج بينهاوبين
أزواجها، وذلل للهابطين بأمره، والصاعدين بأعمال خلقه حزونة معراجها، وناداها بعد
إذ هي دخان، فالتحمت عرا أشراجها، وفتق بعد الارتتاق صوامت أبوابها، وأقام رصدا
من الشهب الثواقب على نقابها، وأمسكها من أن تمور في خرق الهواء بأيده، وأمرها
أن تقف مستسلمة لأمره، وجعل شمسها اية مبصرة لنهارها، وقمرها آية ممحوة من
ليلها، وأجراهما في مناقل مجراهما، وقدر سيرهما في مدارج درجهما، ليميز بين
الليل والنهار بهما، وليعلم عدذ السنين وألحساب بمقاديرهما، ثم علق في جوها
فلكها، وناط بها زينتها، من خفيات دراريها، ومصابيح كواكبها، ورمى مسترقي السمع
بثواقب شهبها، وأجراها عقى أذلال تسخيرها، من ثبات ثابتها، ومسير سائرها،
وهبوطها وصعودها، ونحوسها وسعودها. الشرح: الرهوات: جمع رهوة، وهي المكان
المرتفع والمنخفض أيضا، يجتمع فيه ماء المطر، وهو من الأضداد. والفرج: جمع فرجة، وهي المكان الخالي. ولاحم: ألصق. والصدع: الشق. ووشج، بالتشديد، أي شبك. ووشجت العروق والأغصان، بالتخفيف: اشتبكت،
وبيننا رحم واشجة، أي مشتبكة. وأزواجها: أقرانها وأشباهها، قال تعالى:
!وكنتم ازواجا ثلاثة! (سورة الواقعة7 )، أي أصنافا ثلاثة.والحزونة: ضد السهولة. وأشراجها: جمع شرج؟ وهو عرا
العيبة؟ وأشرجت العيبة، أي أقفلت أشراجها، وتسمىمجرة السماء شرجا؟ تشبيها بشرج
العيبة؟ وأشراج الوادي: ما انفسح منه واتسع.والارتتاق: الإرتتاج. والنقاب: جمع
نقب؟ وهو الطريق في الجبل. وتمور: تتحرك وتذهب وتجيء؟ قال تعالى:(يوم تمور السما" مورا ه! (سورة الطور9) والأيد: القوة. وناط بها: علق. والدراري: الكواكب المضيئة، نسبت إلى
الدر لبياضها؟ واحدها ذري، ويجوز كسر الدال، مثل بحر لجي ولجي. والثواقب: المضيئات. وتقول: افعل ما
أمرتك على أذلاله، أي على وجهه؟ ودعه في أذلاله؟ أي على حاله، وأمورالله جارية
على أذلالها؟ أي على مجاريها وطرقها. يقول عليه السلام: كانت
السماء أول ما خلقت غيرمنتظمة الأجزاء، بل بعضها أرفع وبعضها أخفض، فنظمها
سبحانه، فجعلها بسيطا واحدا، نظما اقتضته القدرة الإلهية؟ من غيرتعليق، أي لا
كما ينظم الإنسان ثوبا مع ثوب، أو عقدا مع عقد، بالتعليق والخياطة، وألصق تلك
الفروج والشقوف، فجعلها جسما متصلآ، وسطحا أملس لا نتوات فيه ولا فرج ولا ضدوع،
بل جعل كل جزء منها ملتصقا بمثله، وذلل للملائكة الهابطين بأمره، والصاعدين
بأعمال خلقه- لأنهم الكتبة الحافظون لها-حزونة العروج إليها، وهو الصعود. ثم قال: "وناداها بعد إذ هي "
روي بإضافة "بعد" إلى "إذ" وروي بضم "بعد"، أي
وناداها بعد ذلك إذ هي دخان؟والأول أحسن
وأصوب، لأنها على الضم تكون دخانا بعد نظمه
رهوات فروجها وملاحمة صدوعها؟ والحال تقتفي أن دخانها قبل ذلك لا بعده. فإن قلت: ما هذا النداء؟ قلت: هوقوله: (أئتيا
طوعا او كرها! (سورة ففصلت11)، فهوأمر في اللفظ
ونداء في المعنى، وهو على الحقيقة كناية عن سرعة الإبداع. ثم قال: وفتق بعد
الإرتتاق صوامت أبوابها، هذا صريح في أن للسماء أبوابا، وكذلك قوله: "على
نقابها"، وهو مطابق لقوله سبحانه وتعالى: الا
تفتخ لهم ابواب السماء! (سور الأعراف40)
والقرآن العظيم وكلام هذا الإمام المعظم أولى بالاتباع من كلام الفلاسفة، الذين
أحالوا الخرق على الفلك. وأما إقامة الرصد من الشهب الثواقب، فهو نص القرآن
العزيز (وأنا لمسنا ألسماء فوجدناها ملئت
حرسا شديدا وشهبا " وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له
شهابا رصدا! (سورة الجن8-9): والقول بإحراق
الشهب للشياطين اتباعا لنص الكتاب أولى من قول الفلاسفة الذين أحالوا الإنقضاض
على الكواكب. ثم قال: وأمسكها على الحركة بقوته،
وأمرها بالوقوف فاستمسكت ووقفت. ثم ذكره الشمس والقمرتذكرة مأخوذ منقول الله
تعالى: (وجعلنا ألليل والنهار آيتين فمحونا آيةالليل
وجعلناآية النهار مبصرة ) سورة الإسراء 12 قوله
تعالى: (والشمس تجري لمستقر لها! (سورة
يس28-29)،وقوله: (والقمر قدرناه منازل ! (5)،
وقوله: (ولتعلموا عدد السنين وألحساب ! (سورة
يونس5). ثم قال: (ثم علق في جوها فلكها") وهذا
يقتضي أن الفلك غير السماء، وهو خلاف قول الجمهور، وقد قال به قائلون، ويمكن أن
نفسر ذلك إذا أردنا موافقة قول الجمهور بأنه أراد بالفلك دائرة معدل النهار،
فإنها الدائرة العظمى في الفلك الأعظم، وهي في الإصطلاح النظري تسمى فلكا. ثم ذكر أنه زين السماء الدنيا بالكواكب،
وأنها رجوم لمسترقي السمع، وهو مأخوذ من قوله تعالى: (إنا زينا السماءالدنيا بزينة الكواكب كلو وحفظا من كل شيطان
مارد! لا يسمعون إلى المل! الأعلى ويقذفون من كل جانب " دحورا ولهم عذاب
واصب (سورة الصاات 6-9). ثم شرح حال الدنيا فقال: "من ثبات
ثابتها"، يعني الكواكب التي في كرة البروج و "مسير سائرها"، يعني
الخمسة والنيرين لأنها سائرة دائما. ثم قال: "وصعودها وهبوطها"، وذلك أن
للكواكب السيارة صعودا في الأوج، وهبوطا في الحضيض، فالأول هو البعدالأبعد عن
المركز، والثاني البعد الأقرب. فإن قلت: ما باله عليه السلام قال: "ونحوسها وسعودها"، وهو القائل لمن أشار عليه ألا يحارب في يوم مخصوص: "المنجم
كالكاهن، والكاهن كالساحر، والساحر كالكافر، والكافر في النار"؟ قلت: إنه عليه السلام إنما أنكر في ذلك القول على من يزعم أن النجوم
مؤثرة في الأمور الجزئية، كالذين يحكمون لأرباب المواليد وعليهم، وكمن يحكم في
حرب أو سلم، أو سفر أو مقام، بأنه للسعد أو النحس، وأنه لم ينكر على من قال: إن
النجوم تؤثر سعودا ونحوسا في الأمور الكلية، نحوأن تقتفي حرا أو بردا، أو تدل
على مرض عام أو قحط عام، أو مطر دائم،
ونحو ذلك من الأمور التي لا تخص إنسانا بعينه، وقد قدمنا في ذلك الفصل ما يدل
على تصويب هذا الرأي، وإفساد ما عداه. الأصل: ومنها في صفة الملائكة: ثم خلق سبحانه لإسكان سمواته، وعمارة الصفيح الأعلى
من ملكوته، خلقا بديعا من ملائكته، وملأ بهم فروج فجاجها، وحشى بهم فتوق أجوائها،
وبين فجوات تلك الفروج زجل المسبحين منهم في حظائر ألقدس، وسترات ألحجب وسرادقات
المجد، ووراء ذلك الرجيج ألذي تستك منه الأسماع سبحات نور تردع الأبصار عن
بلوغها فتقف خاسئة على حدودها. وأنشأهم على صور مختلفات، وأقدار
متفاوتات، أولي أجنحة تسبح جلال عزته، لا ينتحلون ما ظهر في الخلق من صنعه، ولا
يدعون أنهم يخلقون شيئا معه مما أنفرد به، (بل
عباد مكرمون- لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون ة! (سوررة الأنبياء26-27) جعلهم الله فيما هنالك أهل الأمانة على وحيه وحملهم إلى المرسلين
ودائع أمره ونهيه، وعصمهم من ريب الشبهات، فما منهم زاع عن سبيل مرضاته. وأمدفم بفوائد المعونة، وأشعر قلوبهم تواضع إخبات
السكينة، وفتح لهم أبوابا ذللا إلى تماجيده، ونصب لهم منارا واضحة على أعلام
توحيده، لم تثقلهم مؤصرات الآثام، ولم ترتحلهم عقب الليالي والأيام، ولم ترم
الشكوك بنوازعها عزيمة إيمانهم، ولم تعترك الظنون على معاقد يقينهم، ولا قدحت
قادحة الإحن فيما بينهم، ولا سلبتهم الحيرة ما لاق من معرفته بضمائرهم، وما سكن
من عظمته وهيبة جلاله في أثناء صدورهم، ولم تطمع فيهم الوساوس فتقترع برينها على
فكرهم. ومنهم من هو في خلق الغمام الدلح، وفي عظم 2 لجبال الشمخ،
وفي قترة الظلام الأيهم. ومنهم منقد خرقت أقدامهم تخوم الأرض السفلى؟ فهي كرايات
بيض قد نفذت في مخارق الهواء، وتحتها ريح هفافة تحبسها على حيث أنتهت من ألحدود
ألمتناهية؟ قد أستفرغتهم أشغال عبادته، ووصلت حقائق الإيمان بينهم وبين معرفته،
وقطعهم الإيقان به إلى ألوله إليه، ولم تجاوز رغباتهم ما عنده إلى ما عند غيره. قد ذاقوا حلاوة معرفته، وشربوا بالكأس ألروية من
محبته، وتمكنت من سويداوات قفوبهم وشيجة خيفته، فحنوا بطول الطاعة أعتدال
ظهورهم، ولم ينفد طوذ ألركبة إليه مادة تضرعهم، ولا أطلق عنهم عظيم الزلفة ربق
خشوعهم، ولم يتولهم الإعجاب فيستكث!وا ما سلف منهم، ولا تركت لهم أستكانة
الإجلال نصيبا في تعظيم حسناتهم. ولم تجر ألفترات فيهم على طول دءوبهم، ولم تغض
ركباتهم فيخالفوا عن رجاء ربهم، ولم تجف لطول ألمناجاة أسلات ألسنتهم، ولا
ملكتهم الأشغال فتنقطع بهمس الجؤار إليه أصواتهم، ولم تختلف في مقاوم الطاعة
منحبهم، ولم يثنوا إلى راحة التقصير في أمره رقابهم. ولا تعدو على عزيمة جدهم بلادة ألغفلات، ولا تنتضل
في هممهم خدائع الشهوات. قد أتخذوا ذا العرش !خيرة ليوم فاقتهم، ويمموه عند
أنقطاع ألخلق إلى المخلوقين برغبتهم، لا يقطعون أمد غاية عبادته، ولا يرجع بهم
ألاستهتار بلزوم طاعته، إلا إلى مواد من قلوبهم غير فنقطعة من رجائه ومخافته، لم
تنقطع أسباب الشفقة منهم فينوا في جدهم، ولم تا!سرهم الأطماع فيوثروا وشيك السعي
على أجتهادهم. لم يستعظموا ما مضى من أعمالهم، ولو أستعظموا ذلك لنسخ ألرجاء
منهم شفقات وجلهم، ولم يختلفوا في ربهم باستحواذ الشيطان عليهم. ولم يفرقهم سوء التقاطع، ولا تولاهم غل التحاسد،
ولا تشعبتهم مصارف ألريب، ولا أقتسمتهم أخياف ألهمم، فهم أسراء إيمان لم يفكهم
من ربقته زيغ ولا عدول، ولا ونى ولا فتور، وليس في أطباق السماء موضع إهاب إلا
وعليه ملك ساجد، أو ساع حافد، يزدادون على طول الطاعة بربهم علما، وتزداد عزة
ربهم في قلوبهم عظما. *** الشرح: هذا موضع
المثل: "إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل " (1)! إذا جاء هذا الكلام
الرباني، واللفظ القدسي،بطلت فصاحة العرب، وكانت نسبة الفصيح من كلامها إليه،
نسبة التراب إلى النضار الخالص، ولو فرضنا أن العرب تقدر على الألفاظ الفصيحة
المناسبة، أو المقاربة لهذه الألفاظ، من أين لهم المادة التي عبرت هذه الألفاظ
عنها؟ ومن أين تعرف الجاهلية بل الصحابة المعاصرون لرسول الله عب هذه المعاني
الغامضة السمائية؟ ليتهيأ لها التعبير عنها! أما الجاهلية فإنهم إنما كانت ئظهر
فصاحتهم في صفة بعير أو فرس أو حمار وحش، أو ثور فلاة، أو صفة جبال أو فلوات؟
ونحو ذلك. وأما الصحابة فالمذكورون منهم بفصاحة إنما كان
منتهى فصاحة أحدهم كلمات لا تتجاوز السطرين أو الثلاثة، إما في موعظة تتضمن ذكر
الموت أو ذم الدنيا، أو ما يتعلق بحرب وقتال؟ من ترغيب أو ترهيب؟ فأما الكلام في
الملائكة وصفاتها، وصورها وعباداتها، وتسبيحها ومعرفتها بخالقها وحبها له،
وولهها إليه، وما جرى مجرى ذلك مما تضمنه هذا الفصل على طوله، فإنه لم يكن
معروفا عندهم على هذا التفصيل؟ نعم ربما علموه جملة غيرمقسمة هذا التقسيم، ولا
مرتبة هذا الترتيب؟ بما سمعوه من ذكر الملائكة في القرآن العظيم؟ وأما من عنده علم من هذه المادة، كعبد
الله بن سلام وأمية بن أبي الصلت وغيرهم؟ فلم تكن لهم هذه العبارة، ولا قدروا
على هذه الفصاحة، فثبت أن الأمور الدقيقة في مثل هذه العبارة الفصيحة، لم تحصل
إلا لعلي وحده؟ وأقسم أن هذا الكلام إذا تأمله اللبيب
اقشعر جلده، ورجف قلبه، واستشعر عظمة الله العظيم في روعه وخلده، وهام نحوه وغلب
الوجد عليه؟ وكاد أن يخرج من مسكه شوقا؟ وأن يفارق هيكله صبابة ووجدا. ثم نعود إلى التفسيرفنقول: الصفيح الأعلى: سطح الفلك الأعظم؟ ويقال لوجه كل
شيء عريض: صفيح وصفحة، والفروج: الأماكن الخالية. والفجاج: جمع فج، والفج:
الطريق الواسع بين جبلين أو حائطين وأجوائها: جمع جو، وهو ما اتسع من الأودية،
ويقال لما بين السماء والأرض جو، ويروى: "أجوابها"، جمع جوبة، وهي
الفرجة في السحاب وغيره ويروى: "أجوازها" جمع جوز، وهو وسط الشيء.
والفجوات: جمع فجوة، وهي الفرجة بين الشيئين؟ تقول منه: تفاجى الشيء، إذا صار له
فجوة، ومنه الفجاء، وهوتباعد ما بين غرقوبي البعير. والزجل: الصوت. وحظائر القدس: لفظة وردت
في كلام رسول الله عب، وأصل "الحظيرة" ما يعمل شبه البيت للإبل من
الشجر ليقيها البرد؟ فسمى عليه السلام تلك المواطن الشريفة المقدسة العالية التي
فوق الفلك حظائر القدس، والقدس بتسكين الدال وضمها: الطهر، والتقديس: التطهير،
وتقدس: تطهر. والأرض المقدسة المطهرة، وبيت المقدس أيضا، والنسبة إليه قدلمي
ومقدلمي. والسترات: جمع شترة. والرجيج: الزلزلة والاضطراب؟
ومنه ارتج البحر. وتستك الأسماع: تنسد، قال النابغة: ونبئت خيرالناس أنك لمتني وتلك التي تستك منها المسامع سبحات النور، بضم السين والباء: عبارة عن
جلالة الله تعالى وعظمته. وتردع الأبصار تكفها. وخاسئة، أيسادرة، ومنه: !ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير! (سورة الملك4)، وخسأ بصره، خسأ وخسوءا، أي سدر (اي:كلا وأعيا). وقوله: "على حدودها" أي تقف
حيث تنتهي قوتها، لأن قوتها متناهية؟ فإذا بلغت حدها وقفت. وقوله: "أولي
اجنحة" من الألفاظ القرانية (جاعلا
الملائكة رسلا أولي أجنحة).(سورة فاطر) وقوله: "لا ينتحلون ما ظهرا في
الخلق من صنعة"، أي لا يدعون الإلهية لأنفسهم، وإن كان قوم من البشر
يدعونها لهم. وقوله: "لا يدعون أنهم يخلقون شيئا معه مما انفرد به "، فيه إشارة إلى مذهب أصحابنا في أن أفعال العباد مخلوقة
لهم، لأن فائدة هذا القيد، وهو قوله:
"انفرد به " إنما تظهر بذلك. وأما الايات المقدسة، فالرواية
المشهورة "مكرمون " وقرىء: "مكرمون
" بالتشديد، وقرىء " لا يسبقونه " بالضم، والمشهور القراءة
بالكسر، والمعنى
أنهم يتبعون قوله، ولا يقولون شيئا حتى يقوله، فلا يسبق قولهم قوله، وأراد أن
يقول: "لا يسبقونه بقولهم "، فحذف الضمير المضاف إليه، وأناب اللام
منابه.ثم قال: "وهم بأمره يعملون "؟ أي كما أن قولهم تابع لقوله؟
فعملهم أيضا كذلك فرع على أمره، لا يعملون عملا ما لم يؤمروا به، وجاء في الخر المرفوع عن
رسول الله عله: "أنه رأى جرائيل ليلة
المعراج ساقطا كالحلس من خشية الله
".والحلس: الكساء الخفيف. والزائغ: العادل عن الطريق،
والإخبات: التذلل والإستكانة. وأبوابا ذللا، أي سهلة وطيئة، ومنه: دابة ذلول؟
وتماجيده: الثناء عليه بالمجد. والمؤصرات: المثقلات والإصر: الثقل. وتقول: ارتحلت البعير، أي ركبته،
والعقبة: النوبة، والجمع غقب. ومعنى قوله: "ولم ترتحلهم عقب الليالي
والأيام ". أي لم تؤلر فيهم نوبات الليالي والأيام وكرورها، كما يؤثر
ارتحال الإنسان البعير في ظهره. ونوازعها: شهواتها النازعة المحركة، وروي:
"نوازغها" بالغين المعجمة، من نزغ بينهم، أي أفسد. ولم تعترك الظنون، أي لم تزدحم الظنون
على يقينهم الذي عقدوه. والإحن: جمع إحنة، وهي الحقد، يقول: لم
تقدح قوادح الحقد في ضمائرهم.وما لاق، أي ما التصق، وأثناء صدورهم: جمع ثني وهي
التضاعيف. والرين: الدنس والغلبة، قال تعالى:
(كلابل ران على قلوبهم ! (سورة المطففين82).وتقترع،
من الإقتراع بالسهام، بأن يتناوب كل من الوساوس عليها. ويروى: "فيفترع
" بالفاء، أي تعلو برينها، فرعه، أي علاه. والغمام: جمع غمامة، وهي السحابة.
والدلح: الثقال، جاء يدلح بجمله، أي جاء مثقلا به. والجبال الشمخ:العالية
الشاهقة. وقوله: "في قترة الظلام "، أي
سواده. والأيهم: لا يهتدى فيه، ومنه فلاة يهماء. والتخوم، بضم التاء: جمع تخم
وهو منتهى الأرض أو القرية، مثل فلس وفلوس، ويروى: "تخوم " بفتح التاء
على أنها واحد، والجمع تخم مثل صبور وصبر. وريح هفافة؟ أي ساكنة طيبة؟ يقول: كأن
أقدامهم التي خرقت الهواء إلى حضيض الأرض رايات بيض تحتها ريحساكنة ليس! مضطربة؟
فتموج تلك الرايات؟ بل هي ساكنة تحبسها حيث انتهت، وجاء في الخبرأن لإسرافيل
جناحين أحدهما في أقمى المشرق والاخر يخا أقمى المغرب، وأن العرش على كاهله،
وإنه ليتضاءل أحيانا لعظمة الله، حتى يعود مثل الوضع وهو العصفور. ثم قال: "قد استفرغتهم أشغال عبادته
تعالى" أي جعلتهم فارغين إلا منها. ويروى: "ووسلت حقائق الإيمان
"،بالسين المشددة، يقال: وسل فلان إلى ربه وسيلة، والوسيلة ما يتقرب به؟
والجمع وسيل ووسائل؟ ويقال: وسلت إليه وتوسلت إليه بمعنى. وسويداوات القلوب: جمع سويداء؟ وهي حبة.
القلب. والوشيجة في الأصل: عرق الشجرة، وهي هنا استعارة.وحنيت ضلعي، أي عوجتها.
والربق: جمع ربقة؟ وهي الحبل. قوله: "ولم يتولهم الإعجاب "؟
أي لم يستول عليهم. والدؤوب: الجد والإجتهاد. والأسلات: جمع أسلة؟ وهيطرف اللسان
ومستدقه، والجؤار: الصوت المرتفع، والهمس: الصوت الخفي، يقول: ليست لهم أشغال
خارجة عن العبادة، فيكون لأجلها أصواتهم المرتفعة خافية ساكنة. لا تعدو، من عدا
عليه، إذا قهره وظلمه، وهو هاهنا استعارة. ولا تنتضل الخدائع في هممهم؟ استعارة
أيضا من النضال؟ وهو المراماة بالسهام. وذو العرش: هو الله تعالى؟ وهذه!ه
قرآيخة؟ قال سبحانه:!إذا لابتغوا إلى ذي
العرش سبيلا! (سورة الإسراء42).
يعني لابتغوا إلى الله تعالى سبيلا. وقال
تعالى: !ذو ائعرش المجيد، فعال لما يريد (سورة البروج 15-16)،
والاستهتار: مصدر استهتر فلان بكذا، أي لازمه وأولع به. وقوله: " فينوا " أي فيضعفوا؟
وني: يني. والجد: الإجتهاد والإنكماش. ثم قال: إنهم لا يستعظمون عبادتهم، ولو
أن أحدا منهم استعظم عبادته لأذهب خوفه رجاءه الذي يتولد من استعظامتلك العبادة؟
يصفهم بعظم التقوى.والإستحواذ: الغلبة، والغل: الحقد، وتشعبتهم: تقسمتهم وفرقتهم؟ ومنه قيل للمنية
شعوب، أي مفرقة. وأخياف الهمم، أي الهمم المختلفة؟ وأصله من الخيف؟ وهو كحل إحدى
العينين دون الأخرى؟ ومنه المثل: الناس أخياف؟ أي مختلفون، والإهاب: الجلد.
والحافد: المسرع؟ ومنه الدعاء: اللهم إليك نسعى ونحفد. *** واعلم أنه عليه السلام إنما كرر وأكد
صفاتهم بما وصفهم به؟ ليكون ذلك مثالا يحتذي عليه أهل العرفان من البشر؟ فإن
أعلى درجات البشر أن يتشبه بالملك، وخلاصة ذلك أمور :منها العبادة القائمة، ومنها ألا يدعي أحذ لنفسه الحول!
والقوة، بل لا حول ولا قوة، ومنها أن يكون متواضعا ذا سكينةووقار، ومنها أن يكون ذا يقين لا تقدخ فيه
الشكوك والشبهات، ومنها ألا يكون في صدره إحنة (3) على
أحد من الناس، ومنها شدة التعظيم والهيبة لخالق الخلق، تبارك
اسمه، ومنها أن تستفرغه أشغال العبادة له عن
غيرها من الأشغال، ومنها أنه لا تتجاوزرغباته مما عند
الله تعالى إلى ما عند غيره سبحانه، ومنها أن يعقد ضميره وقلبه على محبة الله
تعالى، ويشرب بالكأس الروية من حبه، ومنها عظم التقوى بحيث يأمن كل شيء عدا
الله، ولا يهاب أحدا إلا الله، ومنها الخشوع والخضوع والإخبات والذل
لجلال عزته سبحانه، ومنها ألا يستكثر الطاعة والعمل، وإن
جل وعظم، ومنها عظم الرجاء الواقع في مقابلة عظم الخوف؟ فإن الله تعالى يحب أن
يرجى، كما يحب أن يخاف. أبحاث
تتعلق بالملائكة! واعلم أنه يجب أن تعلم أبحاث متعددة
تتعلق بالملائكة ويقصد فيها قصد حكاية المذهب خاصة، ونكل الاحتجاج والنظرإلى ما
هومذكور في كتبنا الكلامية. البحث الأول: في وجود الملائكة، قال قوم من الباطنية: السبيل إلى إثبات
الملائكة هو الحس والمشاهدة؟ وذلك أنالملائكة عندهم أهل الباطن. وقالت الفلاسفة: هي العقول المفارقة؟ وهي جواهر مجردة عن المادة لا تعلق لها
بالأجسمام تدبيرا، واحترزوا بذلك عن النفوس؟ لأنها جواهر مفارقة إلا أنها تدبر
الأبدال!، وزعموا أنهم أثبتوها نظرا. وقال أصحابنا المتكلمون: الطريق إلى إثبات الملائكة الخبر الصادق المدلول على صدقه؟ وفي
المتكلمين من زعم أنه أثبت الملائكة بطريق نظري؟ وهو أنه لما وجد خلقا من طين
وجا في العقل أن يكون في المخلوقات خلق من الهواء وخلق من النار فالمخلوق من
الهواء هو الملك، والمخلوق من النار هو الشيطان. البحث الثاني: في بنية الملائكة، وهيئة تركيبهم، قال
أصحابنا المتكلمون: إن الملائكة أجسائم لطاف،
وليسوا من لحمودم وعظام، كما خلق البشر من هذه الأشياء. وقال أبو حفص المعود القرينسي من
أصحابنا: إن الملائكة من أجسام من لحم وعظم، إنه لا فرق بينهم وبين البشر؟ وإنما
لم يروا لبعد المسافة بيننا وبينهم. وقد تبعه على هذا القول جماعة من
معتزلة ما وراء النهر، وهي مقالة ضعيفة
لأن القرآن يشهد بخلافه في قوله: ورسلنالديهم
يكتبون، (سورة التحريم 6)، وقوله: وإذ يتلقى ألمتلقيان عن أليمين وعن الشمال قعيذ (سورة الزخرف 80)،
فلو كانوا أجساما كثيفة كأجسامنا لرأ ينا هم. *** البحث الثالث: في تكليف الملائكة، حكي عن قوم من الحشوية أنهم يقولون: إن
الملائكة مضطرولن إلى جميع أفعالهم، وليسوا مكلفين.وقال جمهور أهل النظر: إنهم
مكلفون. وحكي عن أبي إسحاق النظام، أنه قال:
إن قوما من المعتزلة قالوا: إنهم جبلوا على
الطاعة لمخالفة خلقهم خلقة المكلفين، وأنهم قالوا: لو كانوا مكلفين لم يؤمن أن
يعصوا فيما امروا به، وقد قال تعالى: لا
يعصون الله ما امرهم ويفعلون ما يؤمر ون ! (سورة الزخرف 80). وقال قوم: إن أكثر الملائكة مكلفون، وإن فيهم من ليس بمكلف بل هو مسخر
للملائكة المكلفين، كما أن في الحيوانات ما هو غيرمكلف، بل هو مسخر للبشر ومحلوق
لمصالحهم. قالوا: ولا ننكر أن يكون الملائكة الذين ذكر منهم أنهم غلظ الأجسام وعظم
الخلق والتركيب بحيث تبلغ أقدامهم إلى قرار الأرض؟ قد جعلوا غمدا للسموات
والأرض؟ فهم يحملونها بمنزلة الأساطين التي تحمل السقوف العالية ولم يرشحوا لأمر
من الأمور سوى ذلك. *** البحث الرابع: فيما يجوز من الملائكة وما لا يجوز؟ قال شيخنا أبو القاسم:
حكى أبو الحسن الخياط عن قدماء المعتزلة،أنه لا يجوز أن يعمي أحذ من الملائكة؟
ولم يذكر عنهم علة في ذلك. وقال قوم: إنهم لا يعصون، ولا يجوز أن يعصوا؟ لأنهم غيرمطيقين الشهوة والغضب،
فلا داعي لهم إلى المعصية؟ والفاعل لا يفعل إلا بداع إلى الفعل. وقال قوم: إنهم لا يعصون، لأنهم يشاهدون من عجائب صنع الله واثار هيبته ما
يبهرهم عن فعل المعصية والقصدإليها، وكذلك قال تعالى: (وهم من خشيته مشفقون). (سورة الأنبياء 28 ). وقال قوم: إنما لم يجز أن يعصوا، لأن الله تعالى أخبرعنهم أنهم لا يعصون، ولا
ينكر مع ذلك أن يكون منهم من يتغيرحاله ويتبدل بها حالة اخرى ويعصي، على ما ورد
من خبر الملكين ببابل، وخبر إبليس، وإنما يسلب عنهم المعصية ما داموا على حالهم
التي هي عليها. وقال شيوخنا أصحاب أبي هاشم رحمه
الله تعالى: إن المعصية تجوز عليهم، كما تجوز علينا،
إلا أن الله تعالى علم أن لهم ألطافا يمتنعون معها من القبيح لفعلها، فامتنعوا
من فعل القبيح اختيارا، فكانت حالهم كحال الأنبياء من البشريقدرون على المعصية
ولا يفعلونها، اختيارا من أنفسهم باعتبار الألطاف المفعولة لهم، ولوكان لإبليس
أو فرعون أو نمرود ألطاف يعلم الله تعالى إذا فعلها فعلوا الواجب، وامتنعوا من
فعل القبيح لفعلها بهم، ولكانوا معصومين كالأنبياء والملائكة، لكنه تعالى علم
أنهم لا يؤمنون ولو فعل مهما فعل، فلا لطف في المعلوم، وهذا عندهم حكم عام لجميع المكلفين من الإنس والجن والملائكة. **** البحث الخامس: في أن أي القبيلين أفضل: الملائكة أو الأنبياء؟ قال أصحابنا: نوع الملائكة أفضل
من نوع البشر، والملائكة المقربون أفضل من نوع الأنبياء، وليس كل ملك عند
الإطلاق أفضل من محمد ص، بل بعض المقربين أفضل منه، وهو عليه السلام
أفضل من ملائكة اخرى غير الأولين، والمراد بالأفضل الأكثرثوابا، وكذلك القول في
موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء. والذي
يحكيه قوم من أرباب المقالات أن المعتزلة قالوا:
ان أدق ملك في السماء أفضل من محمد ص
ليس بصحيح عنهم.، وقال أهل الحديث والأشعرية: ان الأنبياء أفضل من الملائكة. وقال الشيعة: الأنبياء أفضل من
الملائكة، والأئمة أفضل من الملائكة. وقال قوم منهم ومن الحشوية: إن المؤمنين أفضل من الملائكة. *** البحث السادس: في قدم الملائكة وحدوثهم، أما
الفلاسفة القائلون بأنهم العقول المفارقة، فإنهم
يذهبون إلى قدم الملائكة. وقال غيرهم من أهل الملل: إنهم محدثون. وقال قوم من متأخري الحكماء: إن نفوس البشر إذا فارقت الأبدان بالموت بقيت قائمة بأنفسها
غيرمدبرة لشيء من الأبدان، فإن كانت خيرة
صالحة فهي الملائكة، وإن كانت شريرة رديئة الجوهر فهي
الشياطين؟ فالملائكة عند هؤلاء محدثون؟ وعندهم أن هذه النفوس تساعد نفوسا اخرى
متعلقة بتدبير الأبدان، إما على الخيرأو على الشر، فما ينسب في الكتب الإلهية
إلى إغواء الشياطين للناس وإضلالهم، فالمراد به تلك النفوس الشريرة، وما ينسب
فيها إلى إعانة الملائكة لهم على الخيروالصلاح، فالمراد به تلك النفوس الخيرة. *** البحث السابع : في إبليس، أهو من الملائكة أو ليس منها؟ قال شيخنا أبو عثمان وجماعة من أصحابنا: إنه من الملائكة،ولذلك استثناه الله تعالى، فقال: (فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس). (سورةص 73-74). وقال قوم: إنه كان من الملائكة بدلالة هذه الآية، لكن الله مسخه حيث خالف
الأمر، فهو بعد المسخ خارج عن الملائكة، وقد كان قبل ذلك ملكا، قالوا: ومعنى
قوله: (كان من الجن ! أي من خزان الجنة، وروي
ذلك عن ابن عباس، قالوا: ويحمل على معناه أنه صار من
الجن، فيكون "كان " بمعنى إصار" كقوله تعالى: (كيف نكلم من كان في المهد صبيا! (سورة مريم 29) 0 أي من صار، لأنها لوكانت "كان " على حقيقتها، لوجب ألا
يكفم بعضهم بعضا، لأنهم كانوا صبيانا في المهود. قالوا: ومعنى صيرورته من الجن صيرورته ضالأ، كما أن الجن ضالون، لأن الكفار بعضهم من بعض، كما قال تعالى: (و المنافقون وألمنافقات بعضهم من بعض ). (سورة التوبة 69). وقال معظم أصحابنا: إن إبليس ليس من الملائكة، ولا كان منها، وإنما استثناه الله تعالى
منهم، لأنه كان مأمورا بالسجود معهم، فهومستثنى من عموم المأمورين بالسجود، لا
من خصوص الملائكة. **** البحث الثامن: في هاروت وماروت ، هل هما من الملائكة أم لا؟ قال جمهور أصحابنا: إنهما
من الملائكة، وإن القران العظيم قد صرح بذلك في قوله: (وما انزل على الملكين ببابل هاروت وماروت )(سورة البقرة)، وإن الذي أنزل عليهما هو علم السحر، ابتلاء من كالله تعالى للناس،
فمن تعلمه منهم وعمل به كان كافرا، ومن تجنبه أوتعلمه لا ليعمل به ولكن ليتوقاه
كان مؤمنا: قالوا: وما كان هذان الملكان يعلمان أحدا حتى ينبهاه وينهياه
وينصحاه، ويقولا له: (أنما نحن فتنة )، أي ابتلاء واختبارمن الله، (فلا
تكفر)، ولا تتعلمه معتقدا أنه حق. وحكي عن الحسن البصري أن هاروت وماروت علجان أقلفان
(2) من أهل بابل، كانا يعلمان الناس السحر، وقرأ الحسن:( على الملكين ببابل
) بكسر اللام. وقال قوم: كانا من الملائكة، فعصيا الله تعالى بالحيف في الحكومة، وقد كان
استقضاهما في الأرض، وركب فيهما الشهوة والغضب، على نحو ما ركب في البشر،
امتحانا لهما، لأنهما قد كانا عيرا البشر بالمعصية، فلما عصيا حبسمهما الله
تعالى وعاقبهما بعذاب معجل، وألهمهما كلاما إذا تكلما به سكن بعض ما بهما من
الآلم، وإن السحرة يستمعون ذلك الكلام فيحفظونه، ويفرقون به بين المرء وزوجه،
فإنهما يتقدمان إلى من يحضرهما عندما يتكلمان بالزجر عن العمل بذلك الكلام،
ويقولان: (إنما نحن فتنة فلا تكفر)، وهما لم يكفرا، ولا دعوا إلى السحر؟ وإن عذابهما سيقطع وقد جاء في الأخبار
مما يوافق هذا. وقال قوم من الحشوية: إنهما شربا الخمر وقتلا
النفس، وزنيا بامرأة اسمها "باهيد" فمسخت؟ وهي الزهرة التي في السماء. الأصل: ومنها في صفة الأرض
ودحوها على الماء: كبس الأرض على مور أمواج مستفحلة، ولججبحار زاخرة،
تلتطم اواذي أمواجها، وتصطفق متقاذفات أثباجها، وتركوزبدا كالفحول عند هياجها،
فخضع جماح الماء المتلاطم لثقل حملها، وسكن هيج 2 رتمائه إذ وطئته بكلكلها، وذل
مستخذيا إذ تمعكت عليه بكواهلها؟ فأصبح بعد أصطخاب أمواجه ساجيا مقهورا، وفي
حكمة الذل منقادا أسيرا، و!سكنت الأرض مدحوة في لجة تياره، وردت من نخرة باوه
وأعتلائه، وشفوخ أنفه وسمو غلوائه، وكعمته على كظة جريته، فهمد بعد نزقاته، ولبد
بعد زيغان وثباته. فلما سكن هيج الماء من تحت أكنافها، وحمل
شواهق ألجبال الشمخ ألبذخ على أكتافها، فخر ينابيع ألعيون من عرانين انوفها،
وفرقها في سهوب بيدها وأخاديدها، وعدل حركاتها بالراسيات من جلاميدها، وذوات
الشناخيب الشم من صياخيدها، فسكنت من الميدان لرسوب ألجبال في قطع أديمها،
وتغلغلها متسربة في جوبات خياشيمها، وركوبها أعناق سهول الأرضين وجراثيمها، وفسح
بين ألجو وبينها، وأعد ألهواء متنسما لسمحنها، وأخرج إليها أهلها على تمام
مرافقها. ثم لم يدع جزز الأرض التي تقصر مياه ا
لعيون عن روابيها، ولا تجد جداول الأنهار ذريعة إلى بلوغها،حتى أنشا لها ناشئة
سحاب تحي مواتها، وتستخرج نباتها؟ ألف غمامها بعد أفتراق لمعه، وتباين قزعه، حتى
إذا تمخضت لجة المزن فيه، والتمع برقه في كففه، ولم ينم وميضه في كنهور ربابه،
ومتراكم سحابه، أرسلة سحا متداركا، قد أسف هيدبه، يمري ألجنوب درر أهاضيبه، ودفع
شابيبه. فلما ألقت السحاث برك بوانسيها، وبماع ما
أمستقلت به من العبء المحمول عليها، أخرج به من هوامد الأرض النبات، ومن زعر
الجبال الأعشاب، فهي تبهج بزينة رياضها، وتزدهي بما ألبسته من ريط أزاهيرها،
وحلية ما سمطت به من ناضر أنوارها، وجعل ذلك بلاغاً للأنام، ورزقاً للأنعام،
وخرق الفجاج في أفاقها، وأقام المنار للسالكين على جواد طرقها. *** الشرح: كبس
الأرض، أي أدخلها في الماء بقوة واعتماد شديد، ويقال لضرب من التمر: الكبيس لأنه يكبس حتى يتراص. والمور: مصدر مار أي ذهب وجاء. ومستفحلة: هائجة هيجان الفحول. واستفحل الأمر: تفاقم واشتد. وزاخرة، زخر الماء أي امتد جداً
وارتفع. والأثباج هاهنا: أعالي
الأمواج، وأصل الثب: ما بين الكاهل إلى
الظهر فنقل إلى هذا الموضع استعارة. وترغو: تصوت صوت البعير، والرغاء: صوت ذات الخف
وفي المثل: كفى برغائها مناديأ أي أن رغاء بعير
المضيف يقوم مقام ندائه للضيافة والقرى. وزبداً
على هذا منصوب بفعل مقدر تقديره: وترغو قاذفة
زبداً، والزبد: ما يظهر فوق السيل يقال: قد أزبد البحر والسيل، وبحر مزبد أي مالح يقذف بالزبد. والفحول عند هياجها فحول الإبل إذا هاجت للضراب. والجموح من الرجال: الذي يركب هواه فلا يمكن رده. وخضع: ذل. وهيج الماء: اضطرابه،
هاج هيجاً وهياجا وهيجاناً واهتاج، وتهيج، كله
بمعنى، أي ثار، وهاجه غيره، يتعدى ولا يتعدى. وهيج ارتمائه، يعني تقاذفه
وتلاطمه، يقال ارتمى القوم بالسهام وبالحجارة ارتماء.
وكلكلها:
صدرها وجاء كلكل وكلكال: وربما جاء في ضرورة
الشعر مشدداً، قال:
والمستخذي:
الخاضع، وقد يهمز. وقيل لأعرابي في مجلس أبي زيد:
كيف تقول: استخذأت؟ ليتعرف منه الهمزة.
واستعار الحكمة هاهنا، فجعل للذل حكمة ينقاد الماء بها ويذل
إليها.
وهذا الكلام استعارة يقال: كسرت الأرض سورة الماء الجامح كما تكسر سورة بأو الرجل
المتكبر المفتخر. والاعتلاء: التيه والتكبر. والشموخ: العلو، مصدر شمخ بأنفه أي تكبر، والجبال الشوامخ: الشاهقة والسمو: العلو، وسمو غلوائه أي غلوه وتجاوزه الحد. والزيفان: التبختر
في المشي، زاف البعير يزيف، والزيافة من
النوق المختالة، ويروى: ولبد بعد زفيان
وثباته، والزفيان: شدة هبوب الريح،
يقال زفته الريح زفياناً، أي طردته، وناقة زفيان:
سريعة، وقوس زفيان: سريعة الإرسال للسهم. وأكنافها: جوانبها، وكنفا الطائر جناحاه،
ويقال صلاء مكنف، أي أحيط به من جوانبه،
وتكنفه القوم واكتنفوه أحاطوا به. والعرنين أول الأنف تحت مجتمع الحاجبين. والينابيع:
جمع ينبوع، وهو ما انفجر من الأرض عن الماء. والسهوب: جمع سهب، وهو الفلاة. والبيد: جمع بيداء، وهي الفلاة
أيضاً. والراسيات:
الثقال. والشناخيب: رؤوس الجبال. والشم: العالية، والجلاميد: الصخور، واحدها جلمود. والصياخيد:
جمع صيخود، وهي الصخرة الصلبة. والميدان: التحرك والاضطراب، وماد الرجل يميد أي تبختر. ورسوب
الجبال: نزولها رسب الشيء في الماء، أي سفل
فيه، وسيف رسوب: ينزل في العظام. وقوله: في قطع أديمها جمع قطعة، يريد في أجزائها وأبعاضها. ويروى في قطع أديمها، بضم القاف
وفتح الطاء، جمع قطعة وهي القطعة مفروزة من الأرض،
وحكي أن أعرابياً قال ورثت من أبي قطعة. ويروى:
في قطع أديمها، بسكون الطاء، والقطع: طنفسة الرحل، فنقل ذلك إلى هذا الموضع
استعارة، كأنه جعل الأرض ناقة، وجعل لها قطعاً، وجعل الجبال ثابتة في ذلك القطع. وعروقه
متسربة، أي داخلة، تسرب الثعلب أي دخل السرب، وجوبات: جمع جوبة وهي الفرجة في
جبل أو غيره. وخياشيمها: جمع خيشوم وهو أقصى الأنف، وتقول. خشمت الرجل خشماً، أي
كسرت خيشومه. وجراثيمها:
جمع جرثومة، وهي أصل الشجر. وفسح:
أوسع. ومتنسماً، يعني موضع النسيم. والأرض الجرز التي لا نبات فيها لانقطاع
المطر عنها، وهذه من الألفاظ القرآنية والروابي:
التلاع وما علا من الأرض. والجداول: الأنهار الصغار، جمع جدول. والذريعة: الوصلة. والموات،
بفتح الميم: القفر من الأرض، واللمع: جمع لمعة، وهي القطعة من السحاب أو غيره.
وتباين قزعه، القزع: قطع من السحاب رقيقة واحدها قزعة، قال
الشاعر
وفي الحديث "كأنهم قزع الخريف ". وتباينها: افتراقها. وتمخضت:
تحركت بقوة، يقال: تمخض اللبن إذا تحرك في الممخضة، وتمخض الولد: تحرك في بطن
الحامل، والهاء في "فيه " ترجع إلى المزن، أي تحركت لجة المزن في
المزن نفسه، أي تحرك من السحاب وسطه وثبجه. والتمع البرق ولمع أي أضاء، وكففه: جمع كفة.
والكفة كالدارة تكون في السحاب. وكان الأصمعي يقول: كل
ما استطال فهو
كفة بالضم نحو كفة الثوب وهي حاشيته وكفة الرمل، والجمع كفاف، وكل ما استدار فهو كفة بالكسر نحو كفة الميزان،
وكفة الصائد وهي حبالته، والجمع كفف. ويقال أيضاً:
كفة الميزان بالفتح. والوميض: الضياء واللمعان. وسحاً:
صباً، وسحابة سحوح، وتسحسح الماء: سال، ومطر سحساح، أي يسح شديداً. ومتداركاً: يلحق بعضه بعضاً من غير انقطاع. وأسف:
دنا من الأرض. وهيدبه:
ما تهدب منه، أي تدلى كما يتدلى هدب العين على أشفارها. ويمري
الجنوب، وهو بمعنى يحلب ويستدر، ويروى تمتري الجنوب على أن يعدى الفعل إلى
مفعولين، كما تقول حلبت الناقة لبناً. ويروى: تمتري الجنوب وهو بمعنى تمري، من
مريت الفرس وامتريته، إذا استخرجت بالسوط ما عنده من الجري. وإنما خص الجنوب
بذلك لأنها الريح التي يكون عليها المطر. والدرر:
جمع درة، وهي كثرة اللبن وسيلانه وصبه. والأهاضيب:
جمع هضاب، والهضاب: جمع هضب، وهي حلبات القطر بعد القطر. والدفع:
جمع دفعة، بالضم وهي كالدفقة من المطر بالضم أيضاً والشآبيب: جمع شؤبوب وهي رشة
قوية من المطر، تنزل دفعة بشدة، والبرك: الصدر وبوانيها، تثنية بوان على فعال
بكسر الفاء وهو عمود الخيمة، والجمع بون بالضم، قال الشاعر:
ومن
روى: بوانيها أراد لواصقها، من قولك: قوس بانية إذا التصقت بالوتر. والرواية
الأولى أصح. وبعاع السحاب: ثقله بالمطر، قال امرؤ القيس:
والعبء:
الثقل، واستقلت: ارتفعت ونهضت، وهوامد الأرض، هي الأرضون التي لا نبات بها. وزعر
الجبال: جمع أزعر، والمراد به قلة العشب والخلى:
وأصله من الزعر، وهو قلة الشعر في الرأس،
قال:
وقد زعر الرجل يزعر: قل شعره. وتبهج:
تسر وتفرح، تقول: بهجني أمر كذا بالفتح، وأبهجني معاً، أي سرني. ومن رواه بضم الهاء أراد يحسن ويملح، من البهجة،
وهي الحسن، يقال بهج الرجل بالضم، بهاجة، فهو بهيج، أي حسن، قال الله تعالى: "من كل زوج بهيج"، وتقول: قد أبهجت
الأرض بالهمزة، أي بهج نباتها وحسن. وتزدهي، أي تتكبر، وهي
اللغة التي حكاها ابن دريد، قال: تقول: زها الرجل يزهو زهواً، أي تكبر
وعلى هذه اللغة تقول: ازدهى الرجل يزدهي، كما تقول من علا اعتلى يعتلي، ومن رمى
ارتمى يرتمي، وأما من رواها وتزدهى بما البسته على ما لم يسم فاعله، فهي اللغة المشهورة، تقول: زهي فلان علينا، وللعرب
أحرف تتكلم بها على سبيل المفعول به، وإن كانت بمعنى الفاعل، كقولهم: عني
بالأمر، ونتجت الناقة، فتقول على هذه اللغة: فلان يزدهى بكذا. والأزاهير:
النور ذو الألوان. وسمطت به: علق عليها السموط، جمع سمط وهو العقد، ومن رواه
شمطت بالشين المعجمة، أراد ما خالط سواد الرياض من النور الأبيض كالأقحوان
ونحوه، فصارت الرياض كالشعر الأشمط. والناضر ذو النضارة، وهي الحسن والطراوة. وينبغي أن نتكلم في هذا الموضع في
فصول: الفصل الأول: في كيفية
ابتداء خلق الأرض: ظاهر كلام أمير المؤمنين رضي الله عنه أن الماء خلق قبل
الأرض، وقد ذكرنا فيما تقدم أنه قول لبعض الحكماء، وأنه
موافق لما في التوراة إلا أن في كلامه رضي الله عنه في هذا الموضع إشكالاً، وذلك
أن لقائل أن يقول: كلامه يشعر بأن هيجان الماء وغليانه وموجه سكن بوضع الأرض
عليه، وهذا خلاف ما يشاهد، وخلاف ما يقتضيه العقل، لأن الماء الساكن إذا جعل فيه
جسم ثقيل اضطرب وتموج، وصعد علواً، فكيف الماء المتموج يسكن بطرح الجسم الثقيل
فيه والجواب أن الماء إذا كان تموجه من قبل ريح هائجة، جاز أن يسكن هيجانه بجسم
يحول بينه وبين تلك الريح، ولذلك إذا جعلنا في الإناء ماء وروحناه بمروحة تموجه،
فإنه يتحرك، فإن جعلنا على سطح الماء جسماً يملأ حافات الإناء وروحناه بالمروحة
فإن الماء لا يتحرك، لأن ذلك الجسم قد حال بين الهواء المجتلب بالمروحة وبين سطح
الماء، فمن الجائز أن يكون الماء الأول هائجاً لأجل ريح محركة له، فإذا وضعت
الأرض عليه حال بين سطح الماء وبين تلك الريح، وقد
مر في كلام أمير المؤمنين في الخطبة الأولى ذكر هذه الريح، فقال: "ريح
اعتقم مهبها، وأدام مربها وأعصف مجراها، وأبعد منشأها، فأمرها بتصفيق الماء
الزخار، وإثارة موج البحار، فمخضت مخض السقاء، وعصفت به عصفها بالفضاء". الفصل الثاني: في بيان قوله رضي الله
عنه: "فلما
سكن هيج الماء من تحت أكنافها، وحمل شواهق الجبال لبذخ على أكتافها، فجر ينابيع
العيون فيها، وعدل حركاتها بالراسيات من جلاميدها": وذلك لأن العامل في لما
يجب أن يكون أمراً مباينا لما اضيفت إليه، مثاله:
لما قام زيد قام عمرو، فقام الثانية هي العاملة في لما، فيجوز أن تكون أمراً
مبايناً لما أضيف لما إليه، وهو قيام زيد، وهاهنا قد قال رضي الله عنه:
لما حمل الله تعالى شواهق الجبال على الأرض عدل حركات الأرض بالجبال، ومعلوم أن
أحد الأمرين هو الآخر. الفصل الثالث: في قوله: "إن الجبال هي المسكنة للأرض ":
فنقول: إن هذا القول يخالف قول الحكماء لأن سكون الأرض عند الحكماء لم يكن لذلك،
بل لأنها تطلب المركز، وهي حاصلة في حيزها الطبيعي لكنا وإن كان مخالفاً لقول
الحكماء، فإنا نعتقده ديناً ومذهباً، ونعدل عن قول الحكماء، لأن اتباع قوله رضي
الله عنه أولى من اتباع أقوالهم. الفصل الرابع: في ذكر نظائر لما وصف
به المطر والسحاب: فمن ذلك ما
رواه عبد الرحمن، ابن أخي الأصمعي، عن عمه قال: سئل أعرابي عن مطر، فقال: استقل
سد مع انتشار الطفل، فشصا واحزأل، ثم اكفهرت أرجاؤه، واحمومت أرحاؤه، وانزعرت
فوارقه، وتضاحكت بوارقه، واستطار وادقه، وأرسعت جوبه، وارتعن هيدبه، وحسكت
أخلاقه، واستقلت أردافه، وانتشرت أكنافه فالرعد يرتجس، والبرق يختلس، والماء ينبجس،
فأترع الغدر، وأنبت الوجر، وخلط الأوعال بالآجال، وقرن الصيران بالرئال،
فللأودية هدير، وللشراج خرير، وللتلاع زفير، وحط النبع والعنم من القلل الشم إلى
القيعان الصحم، فلم يبق في القلل إلا معصم مجرجم، أو داحض محرجم، وذلك من فضل رب
العالمين، على عباده المذنبين. والطفل: اختلاط الظلام وانتشازه حال غروب الشمس. وشصا: ارتفع وعلا. واحزأل: انتصب. واكفهرت أرجاؤه: غفظت نواحيه وجوانبه وتراكمت. واحمومت:
اسودت مع مخالطة حمرة. وأرجاؤه: أوساطه. وانزعرت: تفرقت. والفوارق: قطع من السحاب تتفرق عنه مثل فرق الإبل
وهي النوق إذا أرادت الولادة فارقت الإبل وبعدت عنها حيث لا ترى. وتضاحكت
بوارقه: لمعت. واستطار: انتشر. والوادق: ذو الودق، وهو مطر كبار. وأرسعت جوبه. أي تلاءمت فرجه والتحمت. وارتعن: استرخى. وهيدبه: ما تدلى منه. وحسكت
أخلافه: امتلأت ضروعه. وأردافه: مآخره. وأكنافه:
نوا حيه، ويرتجس: يصوت، والرجس: الصوت. ويختلس: يستلب البصر. وينبجس ينصب. ف أترع الغدر: ملأها، جمع غدير. وأنبت الوجر: حفرها: جمع وجار وهو بيت الضبع. والآجال:
جمع إجل وهو قطيع البقر، والصيران مثله، جمع صوار. والرئال: جمع رال وهو فرخ النعام. والهدير: الصوت. والشراج:
جمع شرج وهو مسيل الماء إلى الحرة. وخرير الماء. صوته. وزفير التلاع: أن تزفر بالماء لفرط امتلائها. والنبع:
شجر، والعنم: شجر آخر وكلاهما لا ينبت إلا في رؤوس الجبال. والشم: العالية. والصحم:
السود التي تضرب إلى الصفرة، والمعصم: المعتصم الملتجىء. والمجرجم: المتقبض، والداحض: الزالق الواقع. والمجرجم: المصروع. وارتجس: صوت. والهمهمة: صوت الرعد. ودوى: أحدث
دوياً، فأظلم: أعدم الضوء من الأرض بتكاثفه. فأرك، أي
مطر ركاً، والرك: المطر الضعيف، وكذلك الدث والبغش والطش، وفوق ذلك القطقط. وديم: صار
ديمة وهي المطر أياماً لا يقلع. وأغمط، أي دام. وأثجم: أقام. ووبل: جاء بالوابل وهو المطر العظيم: وسجم: صب. وأنعم: بالغ. وقمس: غوص في الماء. وأفرط الزبى: ملأها، جمع زبية وهي حفيرة تحفر للوحوش
في مكان مرتفع. والحزون: جمع حزن، وهو ما غلظ من الأرض. والمتون: جمع محن وهو الصلب من الأرض. وتضحضحت: صار فوقها ضحضاح من الماء وهو الرقيق. قلت: نوء الجبهة
محمود عندهم للمطر، والقزعة: المطعة الصغيرة من السحاب. والقرص: الترس. والعين ما عن يمين قبلة العراق. وترجل
النهار: انبساط الشمس. والأدهم: أحد ليالي السرار، والأحضان: النواحي. واحمومت: اسودت. وبسق: علا. والعنان: ما يعترض من السحاب في الأفق. وانبعجت: انفتقت. وذمرت: حضت والعقائق: البروق. وارتعجت: اهتزت وارتعدت. وطبقاً، أي غطت الأرض. وهضب: جاء بالمطر دفعة فدفعة. وأحسب: كفى. وعل القيعان: سقاها مرة بعد أخرى، والغيطان: جمع
غائط وهو ما سفل من الأرض. وصوح الأضواج:
هدم الأجواف. وأترع
الشراج: ملأ المسيلات. وازلأم: انتصب. والمرتعج: المتدارك والمبتوج: العالي الصوت. والحدج: السحاب أول ما ينشأ. ويبتعج: يشقق. وأثجم: دام متحيراً، أي كأنه قد تحير لا وجه له
يقصده. والهثهاث: المداخل. وأخلافه حاشكة أي ضروعه ممتلئة. ودفعه متواشكة، أي مسرعة. وسوامه متعاركة، شبه قطع السحاب بسوام الإبل. ومنجماً: مقلعاً. ومتهماً: يسير نحو تهامة. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الفصل الخامس
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
في بيان أنه إمام أرباب صناعة البديع
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وذلك
لأن هذا الفن لا يوجد منه في كلام غيره ممن تقدمه إلا ألفاظ يسيرة غيرمقصودة
ولكنها واقعة بالإتفاق كما وقع التجنيس في القرآن العزيز اتفاقاً غير مقصود،
وذلك نحو قوله: "يا أسفا على يوسف"،
وكما وقعت المقابلة أيضاً غير مقصودة في قوله: "والسماء
رفعها ووضع الميزان"، على أنها ليست مقابلة في المعنى، بل من اللفظ
خاصة. ولما
تأمل العلماء شعر امرىء القيس ووجدوا فيه من الإستعارة بيتاً أو بيتين نحو قوله
يصف الليل:
وقوله:
ولم
ينشدوا مثل ذلك في أشعار الجاهلية، حكموا له بأنه إمام الشعراء ورئيسهم. وهذا الفصل من كلام أمير المؤمنين
رضي الله عنه قد اشتمل من الإستعارة العجيبة وغيرها من أبواب البديع على ما لو
كان موجوداً في ديوان شاعر مكثر، أو مترسل مكثر لكان مستحق التقديم بذلك
ألا تراه كيف وصف الأمواج بأنها مستفحلة، وأنها ترغو رغاء فحول الإبل. ثم جعل الماء جماحاً، ثم وصفه بالخضوع، وجعل للأرض
كلكلاً، وجعلها واطئة للماء به، ووصف الماء بالذل والاستخذاء لما جعل الأرض
متمعكة عليه كما يتمعك الحمار أو الفرس، وجعل لها كواهل، وجعل للذل حكمة، وجعل
الماء في حكمة الذل منقاداً أسيراً، وساجياً مقهوراً. وجعل الماء قد كان ذا نخوة وبأو واعتلاء، فردته
الأرض خاضعاً مسكيناً، وطأطأت من شموخ أنفه، ولسمو غلوائه، وجعلها كاعمة له،
وجعل الماء ذا كظة بامتلائه، كما تعتري الكظة المستكثرمن الأكل. ثم جعله
هامداً بعد أن كانت له نزقات، ولأبداً بعد أن كانت له وثبات، ثم جعل للأرض
أكتافاً وعرانين، وأنوفاً وخياشيم ثم نفى النوم عن وميض البرق، وجعل الجنوب
مارية درر السحاب، ثم جعل للسحاب صدراً وبوناً، ثم جعل الأرض مبتهجة مسرورة
مزدهاة، وجعل لها ريطاً من لباس الزهور، وشموطاً تحلى بها. فيالله وللعجب من قوم زعموا أن الكلام إنما يفضل
بعضه بعضاً لاشتماله على أمثال هذه الصنعة، فإذا وجدوا في مائة ورقة كلمتين أو
ثلاثاً منها، أقاموا القيامة، ونفخوا في الصور، ملأوا الصحف بالاستحسان لذلك
والاستظراف، ثم يمرون على هذا الكلام المشحون كله بهذه الصنعة على ألطف وجه،
وأرصع وجه، وأرشق عبارة، وأدق معنى، وأحسن مقصد، ثم يحملهم الهوى والعصبية على
السكوت عن تفضيله إذا أجملوا وأحسنوا، ولم يتعصبوا لتفضيل غيره عليه! على أنه لا عجب، فإنه كلام علي رضي الله عنه، وحظ الكلام
حظ المتكلم وأشبه امرأ بعض بزه. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الفهرس الجزءالسادس باب المختار من الخطب والأوامر - ابن ابي
الحديد.
الحمد
لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله الطاهرين.
قصيدة أبي القاسم المغربي وتعصبه
للأنصار على قريش... المهاجرون والأنصار بعد بيعة أبي
بكر.
خبر أمر فاطمة مع أبي بكر وعمر.
ومن كلام له لما قلد محمد بن أبي
بكر مصر فملكت عليه وقتل. نسب هاشم بن عتبة بن أبي وقاص...
خطبة للإمام علي بعد فتح مصر...
وقال في سحرة اليوم الذي ضرب فيه.
مطاعن النظام على الإمام علي والرد
عليه.
خطبة له علم فيها الناس الصلاة على
النبي صلى الله عليه وأله وصحبه وسلم. معنى الصلاة على الرسول صلي الله
عليه وآله وسلم. كلام له قاله لمروان بن الحكم بالبصرة
نسب مروان بن الحكم وبعض أخباره
ومن كلام له لما عزموا علي بيعة
عثمان.
لما بلغه اتهام بني أمية له بالمشاركة
في دم عثمان.
ومن كلمات كان عليه السلام يدعو
بها
من الأدعية المأثورة عن عيسى عليه
السلام.
من الأدعية المأثورة عن بعض الصالحين..
بعد فراغه من حرب الجمل في ذم النساء.
ومن كلام له رضي الله عنه في الزهد.
ومن كلام له رضي الله عنه فى صفة
الدنيا
ومن الغراء وهي من الخطب العجيبة.
الحسن بن علي رضي الله عنه يفحم
رجالات من قريش... عبد الله بن جعفر وعمرو بن العاص
في مجلس معاوية. عبد الله بن العباس ورجالات قريش
في مجلس معاوية. عمارة بن الوليد وعمرو بن العاص
في الحبشة.
جعفر الطيار وابن العاص في الحبشة.
بعث رسول الله عمراً إلى ذات السلاسل.
ولايات عمرو بن العاص ونبذ من كلامه.
الإمام علي رجل العبادة لارجل الدعابة.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الجزءالسادس
باب المختار من الخطب والأوامر - ابن ابي الحديد
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الحمد
لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله الطاهرين. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن كلام له في معنى الأنصار
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل ومن:
قالوا: لما انتهت إلى أمير المؤمنين عليه السلام أنباء
السقيفة بعد وفاة رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم، قال عليه السلام: ما
قالت الأنصار؛ قالوا: قالت: منا أمير
ومنكم أمير، قال رضي الله عنه: فهلا احتججتم عليهم بأن رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم وصى
بأن يحسن إلى محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم! قالوا: وما في هذا من الحجة عليهم؛ فقال عليه
السلام: لو كانت
الإمامة فيهم لم تكن الوصية بهم. ثم قال عليه السلام:
فماذا قالت قريش؛ قالوا: احتجت بأنها شجرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ! فقال رضي
الله عنه: احتجوا بالشجرة، وأضاعوا الثمرة! الشرح: قد ذكرنا فيما تقدم طرفاً من أخبار السقيفة؛ فأما هذا الخبر الوارد في الوصية بالأنصار؛ فهو خبر صحيح، أخرجه الشيخان محمد بن إسماعيل البخاري ومسلم بن الحجاج القشيري في مسنديهما، عن أنس بن مالك، قال: مر أبو بكر والعباس رضي الله
تعالى عنهما بمجلس من الأنصار، في مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يبكون،
فقالا: ما يبكيكم؛ قالوا: ذكرنا محاسن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فدخلا على النبي صلى
الله عليه وسلم وأخبراه بذلك؛
فخرج صلى الله عليه وسلم وقد
عصب على رأسه حاشية بردة، فصعد المنبر- ولم يصعده
بعد ذلك اليوم- فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أوصيكم بالأنصار، فإنهم
كرشي وعيبتي، وقد قضوا الذي عليهم؛ وبقي الذي لهم، فأقبلوا من محسنهم، وتجاوزوا
عن مسيئهم". |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
خبر السقيفة
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ونحن نذكر خبر السقيفة؛
روى أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري في كتاب
"السقيفة" قال: أخبرني أحمد بن
إسحاق، قال: حدثنا أحمد بن سيار، قال: حدثنا سعيد بن كثير بن عفير الأنصاري
أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قبض،
اجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة، فقالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد
قبض، فقال سعد بن عبادة لابنه قيس- أو لبعض بنيه:
إني لا أستطيع أن أسمع الناس كلامي لمرضي؛ ولكن تلق مني قولي فأسمعهم. فكان سعد يتكلم، ويستمع ابنه ويرفع به صوته
ليسمع قومه؛ فكان من قوله بعد حمد الله والثناء عليه أن قال:
إن لكم سابقة إلى الدين، وفضيلة في الإسلام ليست لقبيلة من العرب. إن رسول الله صلى
الله عليه وسلم لبث في قومه
بضع عشرة سنة، يدعوهم إلى عبادة الرحمن، وخلع الأوثان؛ فما آمن به من قومه إلا
قليل، والله ما كانوا يقدرون أن يمنعوا رسول الله، ولا يعزوا دينه، ولا يدفعوا
عنه عداه؛ حتى أراد الله بكم خير الفضيلة، وساق إليكم الكرامة، وخصكم بدينه،
ورزقكم الإيمان به وبرسوله، والإعزاز لدينه، والجهاد لأعدائه؛ فكنتم أشد الناس
على من تخلف عنه منكم، وأثقله على عدوه من غيركم؛ حتى استقاموا لأمر الله طوعاً
وكرهاً، وأعطى البعيد المقادة صاغراً داخراً، حتى أنجز الله لنبيكم الوعد، ودانت
لأسيافكم العرب. ثم توفاه الله تعالى وهو عنكم راض؛ وبكم قرير عين؛
فشدوا يديكم بهذا الأمر، فإنكم أحق الناس وأولاهم به. نوليك هذا
الأمر، فأنت لنا مقنع، ولصالح المؤمنين رضاً. وأتى الخبر عمر، فأتى
منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجد أبا بكر في الدار وعلياً في جهاز رسول الله صلى الله عليه وسلم- وكان الذي أتاه بالخبر معن بن عدي-
فأخذ بيد عمر، وقال: قم، فقال عمر:
إني عنك مشغول، فقال: إنه لا بد من قيام، فقام معه، فقال
له: إن هذا الحي من الأنصار قد اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة، معهم سعد بن عبادة، يدورون حوله، ويقولون: أنت المرجى، ونجلك المرجى. وثم أناس من أشرافهم، وقد خشيت الفتنة، فانظر يا عمر ماذا ترى! واذكر لإخوتك من
المهاجرين، واختاروا لأنفسكم، فإني أنظر إلى باب فتنة قد فتح الساعة إلا أن
يغلقه الله. ففزع عمر أشد الفزع، حتى أتى أبا
بكر، فأخذ بيده، فقال: قم، فقال أبو بكر: إني عنك مشغول. فقال عمر: لا بد من
قيام؛ وسنرجع إن شاء الله. فتشهد أبو بكر، ثم قال: إن
الله جل ثناؤه بعث محمداً بالهدى ودين الحق، فدعا إلى الإسلام، فأخذ الله
بقلوبنا ونواصينا إلى ما دعانا إليه، وكنا -
معاشر المسلمين المهاجرين- أول
الناس إسلاماً، والناس لنا في ذلك تبع؛ ونحن عشيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأوسط العرب
أنساباً، ليس من قبائل العرب إلا ولقريش فيها ولادة؛ وأنتم
أنصار الله، وأنتم نصرتم رسول الله صلى
الله عليه وسلم، ثم أنتم وزراء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإخواننا في
كتاب الله وشركاؤنا في الدين؛ وفيما كنا فيه من خير؛ فأنتم أحم! الناس إلينا،
وأكرمهم علينا، وأحق الناس بالرضا بقضاء الله، والتسليم لما ساق الله إلى إخوانكم
من المهاجرين، وأحق الناس ألا تحسدوهم، فأنتم المؤثرون على أنفسهم حين الخصاصة،
وأحق الناس ألا يكون انتقاض هذا الدين واختلاطه على أيديكم، وأنا أدعوكم إلى أبي عبيدة وعمر؛ فكلاهما قد رضيت لهذا
الأمر، وكلاهما أراه له أهلاً. فقال عمر: هيهات! لا يجتمع سيفان في غمد؛ إن العرب لا ترضى أن تؤمركم
ونبيها من غيركم، وليس تمتنع العرب أن تولي أمرها من كانت النبوة فيهم؛ وأولو
الأمر منهم، لنا بذلك الحجة الظاهرة على من خالفنا، والسلطان المبين على من
نازعنا، من ذا يخاصمنا في سلطان محمد وميراثه؛ ونحن أولياؤه وعشيرته، إلا مدل
بباطل، أو متجانف لإثم، أو متورط في هلكة! فقام
الحباب، وقال: يا معشر الأنصار، لا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه، فيذهبوا
بنصيبكم من الأمر، فإن أبوا عليكم ما أعطيتموهم فأجلوهم عن بلادكم، وتولوا هذا
الأمر عليهم، فأنتم أولى الناس بهذا الأمر، إنه دان لهذا الأمر بأسيافكم من لم
يكن يدين له. أنا جذيلها المحكك، وعذيقها المرجب،
إن شئتم لنعيدنها جذعة، والله لا يرد أحد علي ما أقول إلا حطمت أنفه بالسيف. أبسط يدك نبايعك. فلما بسط يده،
وذهبا يبايعانه، سبقهما بشير بن سعد،
فبايعه، فناداه الحباب بن المنذر: يا
بشير، عقك عقاق؛ والله ما اضطرك إلى هذا الأمر إلا
الحسد لابن عمك. بايع، فقال:
أنا أحق بهذا الأمر منكم، لا أبايعكم وأنتم أولى بالبيعة لي، أخذتم هذا الأمر من
الأنصار، واحتججتم عليهم بالقرابة من رسول الله، فأعطوكم المقادة، وسلموا إليكم
الإمارة، وأنا أحتج عليكم بمثل ما احتججتم به على
الأنصار. فأنصفونا إن كنتم تخافون الله من
أنفسكم، واعرفوا لنا من الأمر مثل ما عرفت الأنصار لكم، وإلا فبوءوا بالظلم وأنتم تعلمون. فقال له علي: احلب يا عمر حلباً لك شطره! اشدد له اليوم أمره ليرد عليك غداً! ألا والله لا
أقبل قولك ولا أبايعه. فقال له أبو بكر:
فإن لم تبايعني لم أكرهك، فقال له أبو عبيدة:
يا أبا الحسن، إنك حديث السن، وهؤلاء مشيخة قريش قومك، ليس
لك مثل تجربتهم ومعرفتهم بالأمور، ولا أرى أبا بكر إلا أقوى على هذا
الأمر منك، وأشد احتمالاً له؛ واضطلاعاً به، فسلم له هذا الأمر وارض به، فإنك إن تعش ويطل عمرك فأنت لهذا الأمر خليق وبه حقيق؛
في فضلك وقرابتك، وسابقتك وجهادك. أما
كان منا القارئ لكتاب الله، الفقيه في دين الله، العالم بالسنة، المضطلع بأمر
الرعية! والله إنه لفينا، فلا تتبعوا الهوى،
فتزدادوا من الحق بعداً. فقال بشير بن
سعد: لو كان هذا الكلام سمعته منك الأنصار يا علي قبل بيعتهم لأبي بكر،
ما اختلف عليك اثنان، ولكنهم قد بايعوا وانصرف علي
إلى منزله، ولم يبايع، ولزم بيته حتى ماتت فاطمة فبايع.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قصيدة أبي القاسم المغربي وتعصبه للأنصار على قريش
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وحدثني أبو جعفر يحيى بن محمد بن زيد العلوي نقيب البصرة، قال: لما قدم أبو
القاسم علي بن الحسين المغربي من مصر إلى بغداد، استكتبه شرف الدولة أبو علي بن بويه، وهو يومئذ سلطان الحضرة، وأمير الأمراء بها،
والقادر خليفة، ففسدت الحال بينه وبين القادر؛ واتفق
لأبي القاسم المغربي أعداء سوء أوحشوا القادر منه،- وأوهموه أنه مع شرف
الدولة في القبض عليه وخلعه من الخلافة،
فأطلق لسانه في ذكره بالقبيح. وأوصل
القول فيه، والشكوى منه، ونسبه إلى الرفض وسب
السلف، وإلى كفران النعمة، وأنه هرب من يد الحاكم صاحب مصر بعد إحسانه
إليه.
فهذه الأبيات، هي نظيف القصيدة، التقطناها وحذفنا الفاحش،
وفي الملتقط المذكور أيضاً ما لا يجوز، وهو قوله: "نحن
الذين بنا استجار"، وقوله: "ألقى بها بيد"، وقوله: "فنجا
بمهجته... " البيت. وقوله عن أبي بكر: عبد تيم، وقوله: لولا
علي لقلت في الأربعة إنهم إستار لؤم، وذكره الثلاثة
رضي الله عنهم بما
ذكرهم ونسبهم إليه. وقوله:
"إن علياً كالنبي في الفضيلة"، وقوله:
"إن النبوة حظ أعطيه وحرمه علي رضي الله عنه". |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
المهاجرون والأنصار بعد بيعة أبي بكر
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وروى
الزبير بن بكار في الموفقيات قال:
لما بايع بشير بن سعد أبا بكر، وازدحم الناس
على أبي بكر فبايعوه، مر أبو سفيان بن حرب بالبيت
الذي فيه علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فوقف وأنشد:
فقال علي لأبي سفيان: إنك تريد أمراً لسنا من أصحابه، وقد عهد إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم عهدا
فأنا عليه؛ فتركه
أبو سفيان وعدل إلى العباس بن عبد المطلب في
منزله، فقال: يا أبا الفضل، أنت أحق بميراث ابن أخيك، امدد يدك لأبايعك،
فلا يختلف عليك الناس بعد بيعتي إياك. فضحك العباس،
وقال: يا أبا سفيان، يدفعها علي ويطلبها
العباس! فرجع أبو سفيان خائباً. وأما الأوس فتكره أيضاً أن ينسب أسيد
إلى أنه أول من نقض أمر سعد بن عبادة، كي لا
يرموه بالحسد للخزرج؛ لأن سعد بن عبادة خزرجي،
فيحيلون بانتقاض أمره على قبيلته-
وهم الخزرج- ويقولون:
إن أول من بايع أبا بكر ونقض دعوة سعد بن عبادة بشير
بن سعد. وكان بشير أعور. وعويم بن ساعدة، هو القائل لما نصب الأنصار سعداً:
يا معشر الخزرج؛ إن كان هذا الأمر فيكم دون
قريش فعرفونا ذلك وبرهنوا حتى نبايعكم عليه؛ وإن
كان لهم دونكم، فسلموا إليهم؛ فوالله ما هلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عرفنا أن أبا بكر خليفة حين أمره أن يصلي بالناس؛ فشتمه الأنصار وأخرجوه؛ فانطلق مسرعاً حتى التحق بأبي بكر، فشحذ عزمه على طلب الخلافة. ذكر هذا بعينه الزبير بن بكار في الموفقيات. قال الزبير بن بكار: فلما بويع أبو بكر، أقبلت الجماعة التي بايعته تزفه زفاً
إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما كان آخر النهار، افترقوا إلى منازلهم، فاجتمع قوم من
الأنصار وقوم من المهاجرين، فتعاتبوا فيما بينهم، فقال
عبد الرحمن بن عوف: يا معشر الأنصار، إنكم وإن كنتم أولي فضل ونصر
وسابقة؛ ولكن ليس فيكم مثل أبي بكر ولا عمر ولا علي
ولا أبي عبيدة، فقال زيد بن أرقم:
إنا لا ننكر فضل من ذكرت يا عبد الرحمن؛ وإن منا
لسيد الأنصار سعد بن عبادة، ومن أمر الله رسوله أن يقرئه السلام، وأن
يأخذ عنه القرآن أبي بن كعب، ومن يجيء يوم القيامة إمام العلماء معاذ بن جبل،
ومن أمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته
بشهادة رجلين خزيمة بن ثابت؛ وإنا لنعلم أن ممن
سميت من قريش من لو طلب هذا الأمر لم ينازعه فيه أحد؛ علي بن أبي طالب. قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.
وروى الزبير بن بكار، قال: روى محمد بن إسحاق أن
أبا بكر لما بويع افتخرت تيم بن مرة- قال: وكان عامة
المهاجرين وجل الأنصار لا يشكون أن علياً هو صاحب الأمر بعد رسول الله، صلى الله عليه وسلم فقال الفضل بن العباس: يا معشر
قريش، وخصوصاً يا بني تيم، إنكم إنما أخذتم الخلافة بالنبوة، ونحن أهلها دونكم،
ولو طلبنا هذا الأمر الذي نحن أهله لكانت كراهة الناس لنا أعظم من كراهتهم
لغيرنا؛ حسداً منهم لنا، وحقداً علينا، وإنا لنعلم أن عند صاحبنا عهدا هو ينتهي
إليه.
قال الزبير: فبعث إليه علي
فنهاه وأمره ألا يعود، وقال: سلامة الدين
أحب إلينا من غيره. قال الزبير: وكان
خالد بن الوليد شيعة لأبي بكر، ومن
المنحرفين عن علي، فقام خطيباً، فقال: أيها
الناس، إنا رمينا في بدء هذا الدين بأمر ثقل علينا- والله- محمله، وصعب علينا
مرتقاه؛ وكنا كأنا فيه على أوتار؛ ثم والله ما لبثنا أن خف علينا ثقله، وذل لنا
صعبه، وعجبنا ممن شك فيه بعد عجبنا ممن آمن به، حتى أمرنا بما كنا ننهى عنه،
ونهينا عما كنا نأمر به؛ ولا والله ما سبقنا إليه بالعقول؛ ولكنه التوفيق. ألا وإن الوحي لم ينقطع حتى أحكم؛ ولم يذهب
النبي صلى الله عليه وسلم فنستبدل
بعده نبياً؛ ولا بعد الوحي وحياً؛ ونحن اليوم أكثر منا أمس، ونحن أمس خير منا
اليوم؛ من دخل في هذا الدين كان ثوابه على حسب عمله، ومن تركه رددناه إليه، وإنه
والله ما صاحب الأمر- يعني أبا بكر- بالمسؤول
عنه، ولا المختلف فيه، ولا الخفي الشخص، ولا المغموز القناة.
قال الزبير: وحدثنا محمد بن موسى الأنصاري المعروف بابن مخرمة، قال: حدثني
إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، قال: لما بويع
أبو بكر واستقر أمره، ندم قوم كثير من
الأنصار على بيعته، ولام بعضهم بعضاً، وذكروا علي بن أبي طالب، وهتفوا باسمه؛ وإنه في داره لم يخرج إليهم، وجزع
لذلك المهاجرون، وكثر في ذلك الكلام. ثم قام عكرمة بن أبي جهل، فقال: والله لولا قول رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "الأئمة من قريش"،
ما أنكرنا إمرة الأنصار، ولكانوا لها أهلاً، ولكنه قول لا شك فيه ولا خيار، وقد
عجلت الأنصار علينا، والله ما قبضنا عليهم الأمر ولا أخرجناهم من الشورى؛ وإن الذي هم فيه من فلتات الأمور ونزعات الشيطان، وما لا
يبلغه المنى، ولا يحمله الأمل. أعذروا إلى القوم، فإن أبوا فقاتلوهم؛ فوالله لو لم يبق من قريش كلها إلا
رجل واحد لصير الله هذا الأمر فيه. قال: وحضر أبو
سفيان بن حرب، فقال: يا معشر قريش، إنه ليس للأنصار أن يتفضلوا على الناس
حتى يقروا بفضلنا عليهم، فإن تفضلوا فحسبنا حيث انتهى بنا، وإلا فحسبهم حيث
انتهى بهم. وايم الله لئن
بطروا المعيشة، وكفروا النعمة، لنضربنهم على الإسلام كما ضربوا عليه،
فأما علي بن أبي طالب فأهل والله أن يسود
على قريش، وتطيعه الأنصار.
فبلغ
شعر حسان قريشاً، فغضبوا وأمروا ابن أبي عزة شاعرهم أن يجيبه، فقال:
قال الزبير:
لما اجتمع جمهور لأبي بكر أكرمت قريش معن بن عدي
وعويم بن ساعدة؛ وكان لهما فضل قديم في الإسلام؛ فاجتمعت الأنصار لهما في
مجلس ودعوهما، فلما أحضرا أقبلت الأنصار عليهما
فعيروهما بانطلاقهما إلى المهاجرين، وأكبروا فعلهما في ذلك؛ فتكلم معن، فقال: يا معشر الأنصار. إن الذي أراد
الله بكم خير مما أردتم بأنفسكم، وقد كان منكم أمر عظيم البلاء، وصغرته
العاقبة؛ فلو كان لكم على قريش ما لقريش عليكم، ثم أردتموهم لما أرادوكم به لم
آمن عليهم منكم مثل ما آمن عليكم منهم؛ فإن تعرفوا
الخطأ فقد خرجتم منه وإلا فأنتم فيه. قلت: قوله: "وقد كان منكم أمر عظيم البلاء، وصغرته
العاقبة"
يعني عاقبة الكف والإمساك، يقول: قد كان
منكم أمر عظيم؛ وهو دعوى الخلافة لأنفسكم، وإنما جعل البلاء معظماً له، لأنه لو
لم يتعقبه الإمساك؛ لأحدث فتنة عظيمة؛ وإنما صغره سكونهم ورجوعهم إلى بيعة
المهاجرين. قال الزبير: ثم تكلم عويم بن ساعدة، فقال: يا معشر الأنصار؛ إن من نعم الله عليكم أنه تعالى لم يرد
بكم ما أردتم بأنفسكم، فاحمدوا الله على حسن البلاء، وطول العافية، وصرف هذه
البلية عنكم، وقد نظرت في أول فتنتكم وآخرها فوجدتها جاءت من الأماني والحسد؛ واحذروا
النقم؛ فوددت أن الله صير إليكم هذا الأمر بحقه فكنا نعيش فيه. فقال معن في ذلك:
وقال
غويم بن ساعدة في ذلك:
قال فروة بن عمر- وكان ممن تخلف عن بيعة أبي بكر، وكان ممن جاهد
مع رسول الله، وقاد فرسين في سبيل الله؛ وكان يتصدق من نخله بألف وسق في كل عام؛
وكان سيداً؛ وهو من أصحاب علي؛ وممن شهد معه يوم الجمل. قال:
فذكر معنا وعويماً، وعاتبهما على قولهما: خلفنا وراءنا قوما قد حلت دماؤهم
بفتنتهم:
قال الزبير: ثم
إن الأنصار أصلحوا بين هذين الرجلين وبين أصحابهما؛ ثم اجتمعت جماعة من قريش
يوماً وفيهم ناس من الأنصار وأخلاط من المهاجرين؛ وذلك بعد انصراف الأنصار عن
رأيها وسكون الفتنة؛ فاتفق ذلك عند قدوم عمرو بن
العاص من سفر كان فيه، فجاء إليهم، فأفاضوا في ذكر يوم السقيفة وسعد
ودعواه الأمر، فقال عمرو بن العاص: والله لقد دفع الله عنا من الأنصار عظيمة، ولما
دفع الله عنهم أعظم، كادوا والله أن يحلوا حبل الإسلام كما قاتلوا عليه، ويخرجوا
منه من أدخلوا فيه، والله لئن كانوا سمعوا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الأئمة من قريش"، ثم ادعوها لقد هلكوا وأهلكوا، وإن
كانوا لم يسمعوها فما هم كالمهاجرين، ولا سعد كأبي بكر، ولا المدينة كمكة، ولقد قاتلونا أمس فغلبونا على البدء، ولو قاتلناهم اليوم
لغلبناهم على العاقبة؛ فلم يجبه أحد، وانصرف
إلى منزله وقد ظفر، فقال:
فلما بلغ الأنصار مقالته وشعره، بعثوا إليه لسانهم وشاعرهم النعمان
بن العجلان- وكان رجلاً أحمر قصيراً، تزدريه العيون، وكان سيداً فخماً- فأتى عمراً وهو في جماعة من قريش، فقال: والله يا عمرو ما كرهتم من حربنا إلا ما كرهنا من حربكم،
وما كان الله ليخرجكم من الإسلام بمن أدخلكم فيه؛ إن كان النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الأئمة من
قريش"، فقد قال: "لو سلك الناس
شعباً، وسلك الأنصار شعباً، لسلكت شعب الأنصار"، والله ما أخرجناكم
من الأمر إذ قلنا: منا أمير ومنكم أمير، وأما
من ذكرت، فأبو بكر لعمري خير من سعد، لكن سعداً في
الأنصار أطوع من أبي بكر في قريش، فأما المهاجرون والأنصار، فلا فرق
بينهم أبداً، ولكنك يابن العاص، وترت بني عبد مناف
بمسيرك إلى الحبشة لقتل جعفر وأصحابه، ووترت بني مخزوم بإهلاك عمارة بن الوليد. ثم انصرف فقال:
فلما انتهى شعر النعمان وكلامه إلى قريش، غضب كثير منها، وألفى ذلك قدوم خالد بن سعيد بن العاص من اليمن وكان رسول الله
استعمله عليها، وكان له ولأخيه أثر قديم عظيم في
الإسلام؛ وهما من أول من أسلم من قريش؛
ولهما عبادة وفضل. فغضب للأنصار، وشتم عمرو بن العاص، وقال: يا معشر قريش؛ إن عمراً دخل في
الإسلام حين لم يجد بداً من الدخول فيه، فلما لم
يستطع أن يكيده بيده كاده بلسانه، وإن من كيده الإسلام تفريقه وقطعه بين
المهاجرين والأنصار. والله ما حاربناهم للدين ولا للدنيا؛ لقد بذلوا دماءهم لله تعالى فينا بم
وما بذلنا دماءنا لله فيهم، وقاسمونا ديارهم
وأموالهم، وما فعلنا مثل ذلك بهم، وآثرونا على الفقر، وحرمناهم على الغنى، ولقد
وصى رسول الله بهم، وعزاهم عن جفوة السلطان، فأعوذ
بالله أن أكون وإياكم الخلف المضيع، والسلطان الجاني!. قال معاوية:
فإذا قال لكم؛ قالوا: قال لنا: "فاصبروا حتى
تردوا علي الحوض"، قال: فافعلوا ما
أمركم به عساكم تلاقونه غداً عند الحوض كما أخبركم؛ وحرمهم ولم يعطهم شيئاً.
قال الزبير: ثم إن رجالاً من سفهاء قريش ومثيري الفتن منهم، اجتمعوا إلى
عمرو بن العاص، فقالوا له:
إنك لسان قريش ورجلها في الجاهلية والإسلام، فلا
تدع الأنصار وما قالت؛ وأكثروا عليه من ذلك، فراح إلى المسجد، وفيه ناس
من قريش وغيرهم، فتكلم وقال: إن الأنصار ترى
لنفسها ما ليس لها، وايم الله لوددت أن الله خلى عنا وعنهم، وقضى فيهم وفينا بما
أحب، ولنحن الذين أفسدنا على أنفسنا أحرزناهم عن كل مكروه، وقدمناهم إلى كل
محبوب؛ حتى أمنوا المخوف؛ فلما جاز لهم ذلك صغروا حقنا، ولم يراعوا ما أعظمنا من
حقوقهم. ثم رجع الفضل إلى علي فحدثه. فغضب وشتم عمراً. وقال: آذى الله ورسوله؛ ثم قام فأتى
المسجد، فاجتمع إليه كثير من قريش وتكلم مغضباً، فقال: يا معشر قريش، إن
حب الأنصار إيمان، وبغضهم نفاق، وقد قضوا ما عليهم، وبقي ما عليكم؛ واذكروا أن
الله رغب لنبيكم عن مكة، فنقله إلى المدينة. وكره له قريشاً؛ فنقله إلى الأنصار،
ثم قدمنا عليهم دارهم، فقاسمونا الأموال، وكفونا العمل، فصرنا منهم بين بذل
الغني وإيثار الفقير، ثم حاربنا الناس فوقونا بأنفسهم؛ وقد
أنزل الله تعالى فيهم آية من القرآن، جمع لهم فيها بين خمس نعم، فقال: "والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من
هاجر إليهم ولا يجذون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم
خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون" ألا وإن عمرو بن العاص قد قام مقاماً آذى فيه الميت والحي، ساء به
الواتر وسر به الموتور؛ فاستحق من المستمع الجواب، ومن الغائب المقت؛ وإنه من
أحب الله ورسوله أحب الأنصار، فليكفف عمرو عنا نفسه.
قال الزبير: وقال
علي للفضل: يا فضل، انصر الأنصار بلسانك
ويدك، فإنهم منك وإنك منهم، فقال الفضل:
ودخل الفضل على علي فأسمعه شعره، ففرح به، وقال وريت بك زنادي يا
فضل، أنت شاعر قريش وفتاها، فأظهر
شعرك وابعث به إلى الأنصار؛ فلما بلغ ذلك الأنصار، قالت:
لا أحد يجيب إلا حسان الحسام؛ فبعثوا إلى حسان
بن ثابت فعرضوا عليه شعر الفضل، فقال: كيف أصنع بجوابه؟ إن لم أتحر قوافيه فضحني، فرويدا حتى أقفو أثره في القوافي؛ فقال له خزيمة بن ثابت: اذكر علياً وآله يكفك عن
كل شيء، فقال:
قال الزبير:
وبعثت الأنصار بهذا الشعر إلى علي بن أبي طالب، فخرج
إلى المسجد، وقال لمن به من قريش وغيرهم. يا معشر قريش، إن الله جعل
الأنصار أنصاراً، فأثنى عليهم في الكتاب، فلا خير فيكم بعدهم؛ إنه لا يزال سفيه من سفهاء قريش وتره الإسلام، ودفعه عن
الحق، وأطفأ شرفه وفضل غيره عليه؛ يقوم مقاماً فاحشاً فيذكر الأنصار، فاتقوا
الله وارعوا حقهم، فوالله لو زالوا لزلت معهم؛ لأن رسول الله قال لهم:
"أزول معكم حيثما زلتم"؛ فقال المسلمون
جميعاً: رحمك الله يا أبا الحسن! قلت قولاً صادقاً. قال الزبير:
وترك عمرو بن العاص المدينة، وخرج عنها حتى رضي عنه علي والمهاجرون. قال الزبير: ثم
إن الوليد بن عقبة بن أبي معيط - وكان يبغض
الأنصار، لأنهم أسروا أباه يوم بدر، وضربوا عنقه بين يدي رسول الله- قام
يشتم الأنصار، وذكرهم بالهجر ، فقال: إن
الأنصار لترى لها من الحق علينا ما لا نراه، والله لئن كانوا آووا لقد عزوا بنا،
ولئن كانوا آسوا لقد منوا علينا، والله ما نستطيع مودتهم؛ لأنه لا يزال قائل
منهم يذكر ذلنا بمكة، وعزنا بالمدينة، ولا ينفكون يعيرون موتانا، ويغيظون
أحياءنا، فإن أجبناهم قالوا: غضبت قريش على
غاربها، ولكن قد هون علي ذلك منهم حرصهم على الدين أمس، واعتذارهم من الذنب
اليوم، ثم قال:
قال: ففشا شعره في الناس، فغضبت الأنصار، وغضب لها من قريش قوم،
منهم ضرار بن الخطاب الفهري، وزيد بن
الخطاب، ويزيد بن أبي سفيان، فبعثوا إلى الوليد فجاء. فتكلم
زيد بن الخطاب، فقال: يابن عقبة بن أبي معيط، أما
والله لو كنت من الفقراء المهاجرين الذين اخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون
فضلاً من الله ورضوانا، لأحببت الأنصار، ولكنك من الجفاة في الإسلام البطاء عنه،
الذين دخلوا فيه بعد أن ظهر أمر الله وهم كارهون؛ إنا نعلم أنا أتيناهم
ونحن فقراء، فأغنونا، ثم أصبنا الغنى فكفوا عنا. ولم يرزئونا شيئاً. فأما ذكرهم ذلة قريش بمكة وعزها بالمدينة، فكذلك كنا، وكذلك قال
الله تعالى: "وأذكروا إذ انتم قليل
مستضعفون في الأرض تخافون ان يتخطفكم الناس"، فنصرنا الله تعالى
بهم، وآوانا إلى مدينتهم. وأما
ذكرك الذي كان بالأمس، فدع المهاجرين والأنصار؛
فإنك لست من ألسنتهم في الرضا، ولا نحن من أيديهم في الغضب. فلم يجبه أحد من قريش، ثم سكت كل من الفريقين عن صاحبه، ورضي
القوم أجمعون، وقطعوا الخلاف والعصبية. قال أبو بكر: حدثني
أبو يوسف يعقوب بن شيبة، عن بحر بن آدم عن رجاله، عن سالم بن عبيد، قال: لما توفي رسول الله وقالت الأنصار: منا أمير
ومنكم أمير؛ أخذ عمر بيد أبي بكر، وقال سيفان في
غمد واحد! إذا لا يصلحان. ثم قال: من له هذه
الثلاث: "ثاني اثنين إذ هما في الغار"
من هما؟ "إذ يقول لصاحبه لا تحزن"، من صاحبه؟ "إن الله
معنا" مع من؟ ثم بسط يده إلى أبي بكر فبايعه،
فبايعه الناس أحسن بيعة، وأجملها. فقال عمر: قتل
الله سعداً فوثب رجل من الأنصار، فقال: أنا
جذيلها المحكك وعذيقها المرجب. فأخذ ووطئ في بطنه
ودسوا في فيه التراب. أما والله لئن شئت لأملأنها على أبي
فصيل خيلاً ورجلاً؛ ولأسدنها عليه من أقطارها، فقال علي: يا أبا سفيان، طالما كدت الإسلام وأهله، فما
ضرهم شيئاً، أمسك عليك؛ فإنا رأينا أبا بكر لها أهلاً. قال أبو بكر: وحدثنا
أبو يوسف يعقوب بن شيبة، عن خالد بن مخلد، عن يحيى بن عمر، قال: حدثني أبو جعفر
الباقر، قال جاء أعرابي إلى أبي بكر على عهد
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال له: أوصني، فقال: لا تتأمر على اثنين. ثم
إن الأعرابي شخص إلى االربذة، فبلغه بعد ذلك وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأل عن أمر
الناس: من وليه؛ فقيل: أبو بكر؛ فقدم الأعرابي إلى
المدينة، فقال لأبي بكر: ألست أمرتني ألا أتأمر على اثنين؛ قال: بلى،
قال: فما بالك؛ فقال أبو بكر: لم أجد لها
أحداً غيري أحق مني. إني قد صحبتك وإن لي عليك حقاً. فعلمني شيئاً أنتفع
به؛ فقال: قد كنت أريد ذلك لو لم تقل لي:
تعبد الله لا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة،
وتحج البيت، وتصوم شهر رمضان، ولا تتأمر على رجلين، فقلت:
أما العبادات فقد عرفتها؛ أرأيت نهيك لي عن الإمارة! وهل يصيب الناس الخير والشر
إلا بالإمارة؟ فقال: إنك استجهدتني فجهدت
لك، إن الناس دخلوا في الإسلام طوعاً وكرهاً فأجارهم الله من الظلم، فهم جيران
الله وعواد الله وفي ذمة الله، فمن يظلم منكم إنما يحقر ربه، والله إن أحدكم
ليأخذ شويهة جاره أو بعيره، فيظل عمله بأساً بجاره، والله من وراء جاره، قال: فلم يلبث إلا قليلاً حتى أتتنا وفاة رسول
الله صلى الله عليه وسلم، فسألت: من استخلف بعده؛ قيل: أبو بكر، قلت أصاحبي الذي
كان ينهاني عن الإمارة! فشددت على راحلتي، فأتيت المدينة، فجعلت أطلب
خلوته، حتى قدرت عليها، فقلت أتعرفني؛ أنا فلان ابن فلان، أتعرف وصية أوصيتني بها؛ قال: نعم إن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قبض والناس حديثو عهد بالجاهلية، فخشيت أن يفتتنوا، وإن أصحابي
حملونيها، فما زال يعتذر إلي حتى عذرته، وصار من أمري بعد أن صرت عريفاً.
قال أبو بكر أحمد بن عبد العزيز: وسمعت أبا زيد عمر بن شبة يحدث رجلاً
بحديث لم أحفظ إسناده، قال: مر المغيرة بن شعبة
بأبي بكر وعمر، وهما جالسان على باب النبي حين قبض، فقال: ما يقعدكما؛
قالا: ننتظر هذا الرجل يخرج فنبايعه- يعنيان علياً- فقال: أتريدون أن تنظروا حبل الحبلة من أهل هذا البيت! وسعوها
في قريش تتسع. قال: فقاما إلى سقيفة بني ساعدة، أو كلاما هذا معناه. فلحقته فقال لي: يابن
عباس؛ ما أظن القوم منعهم من صاحبك إلا أنهم استصغروه؛ فقلت
في نفسي: هذه شر من الأولى؛ فقلت: والله ما
استصغره الله حين أمره أن يأخذ سورة براءة من أبي بكر. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
خبر أمر فاطمة مع أبي بكر وعمر
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
فأما ما رواه البخاري ومسلم في
الصحيحين من كيفية المبايعة لأبي بكر بهذا اللفظ الذي أورده عليك؛ والإسناد إلى
عائشة: أن فاطمة والعباس أتيا أبا بكر يلتمسان ميراثهما
من النبي صلى الله عليه وسلم، وهما حينئذ
يطلبان أرضه من فدك، وسهمه من خيبر، فقال لهما أبو
بكر: إني سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول: "إنا معشر
الأنبياء لا نورث؛ ما تركناه صدقة، إنما يأكل آل محمد من هذا المال"؛ لأني
والله لا أدع أمراً رأيت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يصنعه إلا
صنعته. فهجرته فاطمة ولم تكلمه في ذلك حتى ماتت. فدفنها
في ليلاً، ولم يؤذن بها أبا بكر. وكان لعلي وجه من الناس في حياة فاطمة. فلما توفيت فاطمة انصرفت وجوه الناس عن علي، فمكثت فاطمة ستة أشهر ثم توفيت- فقال رجل للزهري وهو
الراوي لهذا الخبر عن عائشة: فلم يبايعه علي
ستة أشهر! قال: ولا أحد من بني هاشم حتى بايعه
علي.
فلما رأى ذلك ضرع إلى
مبايعة أبي بكر، فأرسل إلى أبي بكر
أن ائتنا، ولا يأت معك أحد، وكره أن يأتيه عمر لما
عرف من شدته، فقال عمر: لا تأتهم وحدك، فقال أبو
بكر: والله لآتينهم وحدي، وما دمى أن يصنعوا بي! فانطلق أبو بكر حتى دخل على علي، وقد
جمع بني هاشم عنده؛ فقام علي. فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله،
ثم قال: أما بعد، فإنه لم يمنعنا أن نبايعك يا أبا بكر
إنكار لفضلك، ولا منافسة لخير ساقه الله إليك،
ولكنا كنا نرى أن لنا في هذا الأمر حقاً، فاستبددتم به علينا. وذكر
قرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم وحقه،
فلم يزل علي يذكر ذلك حتى بكى أبو بكر، فلما
صمت علي تشهد أبو بكر، فحمد الله وأثنى عليه
بما هو أهله. ثم قال:
أما بعد فوالله لقرابة رسول الله صلى
الله عليه وسلم أحب إلي أن
أصلها من قرابتي، وإني والله ما آلوكم من هذه الأموال التي كانت بيني وبينكم إلا
الخير؛ ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"لا نورث ما تركناه صدقة؛ وإنما يأكل آل محمد من هذا
المال"، وإني والله لا أترك أمراً صنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا
صنعته إن شاء الله، قال علي: موعدك العشية
للبيعة، فلما صلى أبو بكر الظهر، أقبل على الناس ثم
عذر علياً ببعض ما اعتذر به، ثم قام علي فعظم من حق أبي بكر، وذكر فضله وسابقته،
ثم مضى إلى أبي بكر فبايعه، فأقبل الناس إلى علي، فقالوا: أصبت وأحسنت، وكان علي قريباً إلى الناس حين قارب
الأمر بالمعروف. فخرج إليه الزبير مصلتاً بالسيف،
فاعتنقه زياد بن لبيد الأنصاري ورجل آخر، فندر السيف من يده، فضرب به عمر الحجر
فكسره، ثم أخرجهم بتلابيبهم يساقون سوقاً عنيفاً؛ حتى بايعوا أبا بكر. قال أبو زيد: وروى
النضر بن شميل، قال: خل سيف الزبير لما ندر من يده
إلى أبي بكر وهو على المنبر يخطب، فقال: اضربوا به الحجر، قال أبو عمرو
بن حماس: ولقد رأيت الحجر وفيه تلك الضربة، والناس
يقولون: هذا أثر ضربة سيف الزبير.
يخاطب عمر ويقول له: مهلاً ورويداً يا عمر، أي ارفق واتئد ولا تعنف بنا. وما كنت
ملياً، أي وما كنت أهلاً لأن تخاطب بهذا وتستعطف، ولا كنت قادراً على ولوج دار
فاطمة على ذلك الوجه الذي ولجتها عليه، لولا أن أباها الذي كان بيتها يحترم
ويصان لأجله مات فطمع فيها من لم يكن يطمع. ثم قال:
أتموت أمنا وهي غضبى ونرضى نحن إذا لسنا بكرام، فإن
الولد الكريم يرضى لرضا أبيه وأمه ويغضب لغضبهما. قال أبو بكر:
وأخبرنا أبو زيد عمر بن شبة، قال: حدثنا محمد بن حاتم، عن رجاله، عن ابن عباس،
قال: مر عمر بعلي، وأنا معه بفناء داره فسلم عليه، فقال له علي: أين تريد؛ قال:
البقيع، قال: أفلا تصل صاحبك، ويقوم معك؛ قال: بلى، فقال
لي علي: قم معه، فقمت فمشيت إلى جانبه، فشبك
أصابعه في أصابعي، ومشينا قليلاً، حتى إذا خلفنا البقيع
قال لي: يابن عباس، أما والله إن صاحبك هذا لأولى الناس بالأمر
بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم،
إلا أنا خفناه على اثنين؛ قال ابن عباس:
فجاء بكلام لم أجد بداً من مسألته عنه، فقلت: ما
هما يا أمير المؤمنين؛ قال: خفناه على حداثة
سنه، وحبه بني عبد المطلب. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن كلام له لما قلد محمد بن أبي بكر مصر فملكت
عليه وقتل
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: وقد
أردت تولية مصر هاشم بن عتبة، ولو وليته إياها لما خلى لهم العرصة، ولا أنهزهم
الفرصة، بلا ذم لمحمد بن أبي بكر، فلقد كان إلي
حبيباً، وكان لي ربيباً. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
محمد بن أبي بكر
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الشرح:
أم محمد بن أبي بكر أسماء بنت عميس بن النعمان بن
كعب بن مالك بن قحافة بن خثعم؛ كانت تحت جعفر بن أبي طالب، وهاجرت معه إلى الحبشة، فولدت
له هناك عبد الله بن جعفر الجواد، ثم قتل عنها يوم مؤتة، فخلف عليها أبو
بكر الصديق، فأولدها محمداً، ثم مات عنها،
فخلف عليها علي بن أبي طالب؛ وكان محمد
ربيبه وخريجه، وجارياً عنده مجرى أولاده، رضع
الولاء والتشيع مذ زمن الصبا، فنشأ عليه؛ فلم يكن يعرف له أبا غير علي،
ولا يعتقد لأحد فضيلة غيره؛ حتى قال علي رضي الله
عنه: محمد ابني من صلب أبي بكر؛ وكان يكنى
أبا القاسم في قول ابن قتيبة. وقال غيره: بل كان يكنى أبا عبد الرحمن. ومن ولد محمد:
القاسم بن محمد بن أبي بكر فقيه الحجاز وفاضلها؛ ومن
ولد القاسم: عبد الرحمن بن القاسم بن محمد؛ كان من فضلاء قريش ويكنى أبا
محمد، ومن ولد القاسم أيضاً أم فروة، تزوجها
الباقر أبو جعفر محمد بن علي، فأولدها الصادق أبا عبد
الله جعفر بن محمد رضي الله عنه؛ وإلى أم فروة أشار
الرضي أبو الحسن بقوله:
قوله:
ولولا علي ما علوا سرواتها.. البيت.
والبيت
المنظور إليه منها قوله:
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
نسب هاشم بن عتبة بن أبي وقاص
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وأما
هاشم بن عتبة بن أبي وقاص مالك بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن
كعب بن لؤي بن غالب، فعمه سعد بن أبي وقاص، أحد
العشرة، وأبوه عتبة بن أبي وقاص، الذي كسر رباعية رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وكلم شفتيه وشج وجهه، فجعل يمسح الدم
عن وجهه، ويقول: "كيف يفلح قوم خضبوا وجه
نبيهم بالدم، وهو يدعوهم إلى ربهم"، فأنزل الله عز وجل: "ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم
ظالمون" وقال حسان بن ثابت في ذلك
اليوم:
وإنما
قال، عبد عذرة لأن عتبة بن أبي وقاص وأخوته وأقاربه في نسبهم كلام، ذكر قوم من
أهل النسب أنهم من عذرة، وأنهم أدعياء في قريش، ولهم خبر معروف، وقصة مذكورة في كتب النسب. وهاشم بن عتبة هو المرقال، سمي المرقال، لأنه كان يرقل في الحرب إرقالاً؛
وهو من شيعة علي، وسنفصل مقتله، إذا
انتهينا إلى فصل من كلامه يتضمن ذكر صفين. والهمزة للتعدية، يقال: أنهزت الفرصة، إذا أنهزتها
غيري. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ولاية قيس بن سعد علي مصر
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال إبراهيم:
حدثنا محمد بن عبد الله بن عثمان الثقفي، قال: حدثني علي بن محمد بن أبي سيف، عن
الكلبي، أن محمد بن أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، هو الذي حرض
المصريين على قتل عثمان وندبهم إليه، وكان حينئذ بمصر، فلما ساروا إلى عثمان
وحصروه، وثب هو بمصر على عامل عثمان عليها، وهو عبد
الله بن سعد بن أبي سرح، أحد بني عامر
بن لؤي، فطرده عنها، وصلى بالناس؛ فخرج ابن أبي سرح من
مصر، ونزل على تخوم أرضها مما يلي فلسطين، وانتظر
ما يكون من أمر عثمان، فطلع عليه راكب، فقال له: يا عبد الله، ما وراءك؛
ما خبر الناس بالمدينة؛ قال: قتل المسلمون عثمان، فقال
ابن أبي سرح: إنا لله وإنا إليه راجعون! ثم
صنعوا ماذا يا عبد الله؛ قال: بايعوا ابن عم رسول الله
علي بن أبي طالب، فقال ثانية: إنا لله وإنا إليه راجعون! فقال الرجل:
أرى أن ولاية علي عدلت عندك قتل عثمان! قال:
أجل، فنظر إليه متأملا له فعرفه، فقال أظنك عبد
الله بن سعد بن أبي سرح، أمير مصر! قال: أجل،
قال: إن كانت لك في الحياة حاجة فالنجاء النجاء؛ فإن رأي علي فيك وفي أصحابك إن
ظفر بكم قتلكم أو نفاكم عن بلاد المسلمين؛ وهذا أمير تقدم بعدي عليكم. قال: ومن الأمير؛ قال: قيس بن سعد بن عبادة. فقال ابن أبي سرح: أبعد الله ابن أبي حذيفة فإنه بغى على ابن عمه، وسعى عليه، وقد كان
كفله ورباه، وأحسن إليه، وأمن جواره؛ فجهز الرجال إليه حتى قتل، ووثب على عامله،
وخرج ابن أبي سرح حتى قدم على معاوية بدمشق. ثم إن
المسلمين من بعده استخلفوا أميرين منهم صالحين، فعملا بالكتاب والسنة وأحييا
السيرة؛ ولم يعدوا السنة. ثم توفيا رحمهما الله، فولي بعدهما وال أحدث
أحداثاً، فوجدت الأمة عليه مقالاً فقالوا، ثم نقموا فغيروا ثم جاءوني فبايعوني،
وأنا أستهدي الله الهدى، وأستعينه على التقوى. ألا وإن
لكم علينا العمل بكتاب الله وسنة رسوله والقيام بحقه، والنصح لكم بالغيب، والله
المستعان على ما تصفون، وحسبنا الله ونعم الوكيل. وقد بعثت لكم قيس بن سعد الأنصاري
أميراً، فوازروه وأعينوه على الحق، وقد أمرته بالإحسان إلى محسنكم، والشدة على
مريبكم، والرفق بعوامكم وخواصكم؛ وهو ممن أرضى هديه، وأرجو صلاحه ونصحه. نسأل
الله لنا ولكم عملاً زاكياً، وثواباً جزيلاً ورحمة واسعة، والسلام عليكم ورحمة
الله وبركاته، وكتبه عبد الله بن أبي رافع في صفر
سنة ست وثلاثين. أيها
الناس؛ إنا بايعنا خير من نعلم من بعد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ فقوموا
فبايعوا على كتاب الله وسنة رسوله، فإن نحن لم نعمل بكتاب الله وسنة رسوله فلا
بيعة لنا عليكم. فقام الناس فبايعوا، واستقامت مصر وأعمالها لقيس،
وبعث عليها عماله؛ إلا أن قرية منها قد أعظم أهلها قتل عثمان، وبها رجل من بني
كنانة يقال له يزيد بن الحارث، فبعث إلى قيس:
إنا لا نأتيك فابعث عمالك، فالأرض أرضك؛ ولكن أقرنا على حالنا حتى ننظر إلى ما
يصير أمر الناس. فأرسل إليه مسلمة:
إني كاف عنك ما دمت أنت والي مصر. فهادنهم وهادن مسلمة بن مخلد، وجبى الخراج؛ وليس
أحد ينازعه. فكتب معاوية إلى قيس، وعلي يومئذ بالكوفة قبل أن يسير إلى
صفين: من معاوية بن أبي سفيان إلى قيس بن سعد. سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا
هو، أما بعد؛ فإنكم إن كنتم نقمتم على عثمان في أثرة رأيتموها، أو ضربة سوط
ضربها، أو في شتمه رجلاً، أو تعييره واحداً، أو في استعماله الفتيان من أهله-
فإنكم قد علمتم إن كنتم تعلمون، أن دمه لم يحل لكم بذلك؛ فقد ركبتم عظيماً من
الأمر، وجئتم شيئاً إداً، فتب يا قيس إلى ربك، إن كنت من المجلبين على عثمان، إن
كانت التوبة قبل الموت تغني شيئاً. وأما صاحبك
فقد استيقنا أنه أغرى الناس بقتله، وحملهم على قتله حتى قتلوه، وأنه لم يسلم من
دمه عظم قومك، فإن استطعت يا قيس أن تكون ممن يطلب بدم عثمان فافعل، وتابعنا على
علي في أمرنا. هذا ولك
سلطان العراقين إن أنا ظفرت ما بقيت، ولمن أحبب! من أهل بيتك سلطان الحجاز ما
دام لي سلطان، وسلني عن غير هذا مما تحب، فإنك لا تسألني شيئاً إلا أتيته، واكتب
إلي رأيك فيما كتبت إليك. وذكرت أن صاحبي هو الذي أغرى الناس بعثمان ودسهم
إليه حتى قتلوه؛ وهذا أمر لم أطلع عليه. وذكرت لي أن عظم عشيرتي لم تسلم من دم
عثمان؛ فلعمري إن أولى الناس كان في أمره عشيرتي، وأما ما سألتني من مبايعتك على
الطلب بدمه، وما عرضته علي فقد فهمته، وهذا أمر لي نظر فيه وفكر، وليس هذا مما
يعجل إلى مثله، وأنا كاف عنك؛ وليس يأتيك من قبلي شيء تكرهه، حتى ترى ونرى، إن
شاء الله تعالى. والسلام عليك ورحمة الله وبركاته. ولم أرك تتباعد فأعدك حرباً، أراك كحبل الجرور؛
وليس مثلي يصانع بالخداع، ولا يخدع بالمكائد، ومعه عدد الرجال وأعنة الخيل، فإن
قبلت الذي عرضت عليك فلك ما أعطيتك؛ وإن أنت لم تفعل ملأت مصر عليك خيلاً
ورجلاً. والسلام. فلما قرأ قيس كتابه، وعلم أنه لا
يقبل منه المدافعة والمطاولة، أظهر له ما في نفسه، فكتب إليه: من
قيس بن سعد، إلى معاوية بن أبي سفيان: أما
بعد، فالعجب من استسقاطك رأي، والطمع في أن تسومني- لا أبا لغيرك- الخروج من
طاعة أولى الناس بالأمر؛ وأقولهم بالحق، وأهداهم سبيلاً، وأقربهم من رسول الله
وسيلة. وتأمرني بالدخول في طاعتك وطاعة أبعد الناس من هذا الأمر؛ وأقولهم
بالزور، وأضلهم سبيلاً، وأدونهم من رسول الله وسيلة؛ ولديك قوم ضالون مضلون. طواغيت
من طواغيت إبليس. وأما قولك
إنك تملأ علي مصر خيلاً ورجلاً، فلئن لم أشغلك عن ذلك حتى يكون منك، إنك لذو جد.
والسلام. وقرأ عليهم
كتابه الذي لان فيه وقاربه، واختلق كتاباً نسبه إلى
قيس فقرأه على أهل الشام: للأمير معاوية بن
أبي سفيان من قيس بن سعد: أما بعد؛ إن قتل عثمان كان حدثاً في الإسلام
عظيماً؛ وقد نظرت لنفسي وديني، فلم أر يسعني مظاهرة قوم قتلوا إمامهم مسلماً
محرماً براً تقياً، فنستغفر الله سبحانه لذنوبنا، ونسأله العصمة لديننا. ألا وإني قد ألقيت إليكم بالسلام، وأجبتك إلى قتال
قتلة إمام الهدى المظلوم؛ فاطلب مني ما أحببت من الأموال والرجال أعجله إليك إن
شاء الله. والسلام على الأمير ورحمة الله
وبركاته. قال علي:
والله إني غير مصدق بهذا على قيس. فقال عبد الله: اعزله يا أمير المؤمنين، فإن كان
ما قد قيل حقاً فلا يعتزل لك أن عزلته؛ قال: وإنهم لكذلك إذ جاءهم كتاب من قيس
بن سعد، فيه: أما بعد، فإني اخبر يا أمير المؤمنين- أكرمك الله وأعزك- أن قبلي
رجالاً معتزلين سألوني أن أكف عنهم وأدعهم على حالهم حتى يستقيم أمر الناس فنرى
ويرون، وقد رأيت أن أكف عنهم ولا أعجل بحربهم، وأن أتألفهم فيما بين ذلك، لعل
الله أن يقبل بقلوبهم، ويفرقهم عن ضلالتهم إن شاء الله
فقال عبد الله بن جعفر: يا أمير المؤمنين، إنك إن أطعته في تركهم
واعتزالهم استشرى الأمر وتفاقمت الفتنة، وقعد عن بيعتك كثير ممن تريده على
الدخول فيها، ولكن مره بقتالهم. فكتب إليه: أما بعد؛ فسر إلى القوم الذين ذكرت،
فإن دخلوا فيما دخل فيه المسلمون وإلا فناجزهم، والسلام. وكان عبد الله بن جعفر أخا محمد بن أبي بكر
لأمه؛ وكان يحب أن يكون له إمرة وسلطان؛ فاستعمل علي رضي الله عنه محمد بن أبي
بكر على مصر، لمحبة له ولهوى عبد الله بن جعفر أخيه فيه؛ وكتب معه كتاباً إلى
أهل مصر، فسار حتى قدمها، فقال له قيس: ما بال أمير
المؤمنين! ما غيره! أدخل أحد بيني وبينه! قال:
لا وهذا السلطان سلطانك.- وكان بينهما نسب، كان تحت قيس قريبة بنت أبي قحافة أخت
أبي بكر الصديق، فكان قيس زوج عمته- فقال قيس:
لا والله لا أقيم معك ساعة واحدة، وغضب حين عزله علي عنها، وخرج منها مقبلاً إلى
المدينة ولم يمض إلى علي بالكوفة. قال إبراهيم:
وكان قيس مع شجاعته ونجدته جواداً مفضالاً؛ فحدثني علي بن محمد بن أبي سيف، عن
هاشم، عن عروة، عن أبيه، قال: لما خرج قيس بن سعد من مصر، فمر بأهل بيت من
بلقين، فنزل بمائهم، فنحر له صاحب المنزل جزوراً
وأتاه بها، فلما كان الغد نحر له أخرى، ثم حبستهم السماء اليوم الثالث، فنحر لهم
ثالثة، ثم إن السماء أقلعت فلما أراد قيس أن يرتحل، وضع عشرين ثوباً من ثياب
مصر، وأربعة آلاف درهم عند امرأة الرجل؛ وقال
لها: إذا جاء صاحبك، فادفعي هذه إليه، ثم
رحل؛ فما أتت عليه إلا ساعة حتى لحقه الرجل صاحب المنزل على فرس، ومعه رمح،
والثياب والدراهم بين يديه، فقال: يا هؤلاء خذوا ثيابكم ودراهمكم فقال قيس: انصرف
أيها الرجل، فإنا لم نكن لنأخذها، قال: والله لتأخذنها، فقال قيس: لله أبوك! ألم تكرمنا وتحسن ضيافتنا فكافأناك! فليس بهذا
بأس؛ فقال! الرجل: إنا لا نأخذ لقرى الأضياف
ثمناً؛ والله لا آخذها أبداً. فقال قيس: أما إذ أبى ألا يأخذها فخذوها؛ فوالله
ما فضلني رجل من العرب غيره. قال إبراهيم: وقال أبو
المنذر: مر قيس في طريقه برجل من بلي، يقال له:
الأسود ابن فلان، فأكرمه، فلما أراد قيس أن يرتحل
وضع عند امرأته ثياباً ودراهم، فلما جاء الرجل دفعته إليه، فلحقه فقال: ما أنا بائع
ضيافتي؛ والله لتأخذن هذا أو لأنفذن الرمح بين جنبيك! فقال قيس: ويحكم خذوه!. فزجره قيس وقال:
يا أعمى القلب، يا أعمى البصر، والله لولا ألقى بين رهطي ورهطك حربا لضربت عنقك. ثم أخرجه
من عنده. فقال له أبو بكر:
إن هذا لا يقوم له مال إليك فأمسك يدك. فلما قدموا
من سفرهم قال سعد بن عبادة لأبي بكر: أردت
أن تبخل ابني! إنا لقوم لا نستطيع البخل. اللهم وسع علي فإن القليل لا يسعني ولا أسعه. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ولاية محمد بن أبي بكر |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال إبراهيم: وكان عهد علي إلى محمد
بن أبي بكر الذي قرئ بمصر: هذا ما عهد عبد الله علي أمير
المؤمنين إلى محمد بن أبي بكر حين ولاه مصر؛ أمره بتقوى الله في السر والعلانية،
وخوف الله تعالى في المغيب والمشهد، وأمره باللين على المسلم، والغلظ على
الفاجر، وبالعدل على أهل الذمة، وبالإنصاف للمظلوم، وبالشدة على الظالم، وبالعفو
عن الناس وبالإحسان ما استطاع؛ والله يجزي المحسنين. وأمره أن يدعو من قبله إلى الطاعة والجماعة؛ فإن
لهم في ذلك من العاقبة وعظم المثوبة ما لا يقدر قدره ولا يعرف كنهه. وأمره أن يجبي خراج الأرض على ما كانت تجبى عليه من
قبل، ولا ينتقص ولا يبتدع، ثم يقسمه بين أهله كما كانوا يقسمونه عليه من قبل؛
وإن تكن لهم حاجة يواس بينهم في مجلسه ووجهه؛ ليكون القريب والبعيد عنده على
سواء. وأمره أن يحكم بين الناس بالحق، وأن يقوم بالقسط،
ولا يتبع الهوى، ولا يخاف في الله لومة لائم؛ فإن الله جمع من اتقاه وآثر طاعته
على من سواه. وكتبه عبد الله بن أبي رافع مولى رسول الله لغرة
شهر رمضان سنة ست وثلاثين. واعلموا- عباد الله- أنكم إذا اتقيتم ربكم، وحفظتم
نبيكم في أهل بيته، فقد عبدتموه بأفضل ما عبد، وذكرتموه بأفضل ما ذكر، وشكرتموه
بأفضل ما شكر، وأخذتم بأفضل الصبر، وجاهدتم بأفضل الجهاد؛ وإن كان غيركم أطول
صلاة منكم، وأكثر صياماً، إذا كنتم أتقى لله وأنصح لأولياء الله من آل محمد صلى
الله عليه وسلم وأخشع. واحذروا عباد الله الموت ونزوله، وخذوله، فإنه يدخل
بأمر عظيم؛ خير لا يكون معه شر أبداً، أو شر لا يكون معه خير أبداً. وليس أحد من
الناس يفارق روحه جسده، حتى يعلم إلى أي المنزلتين يصير؛ إلى الجنة أم إلى
النار! أعدو هو لله أم ولي له! فإن كان ولياً فتحت له أبواب الجنة، وشرع له
طريقها، ونظر إلى ما أعد الله عز وجل لأوليائه فيها؛ فرغ من كل شغل، ووضع عنه كل
ثقل؛ وإن كان عدواً فتحت له أبواب النار، وسهل له طريقها، ونظر إلى ما أعد الله
فيها لأهلها، واستقبل كل مكروه، وفارق كل سرور، قال الله تعالى: "الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم فألقوا السلم
ما كنا نعمل من سوء بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون" فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى
المتكبرين". قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أكثروا ذكر الموت فإنه هادم اللذات" .
واعلموا عباد الله أن ما بعد الموت أشد من الموت؛ لمن لم يغفر الله له ويرحمه. واحذروا القبر وضمته وضيقه وظلمته؛
فإنه الذي يتكلم كل يوم: أنا بيت التراب، وأنا بيت الغربة، وأنا بيت الدود. والقبر
روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار. إن المسلم إذا مات قالت له الأرض
مرحباً وأهلاً؛ قد كنت ممن أحب أن تمشي على ظهري، فإذ
وليتك فستعلم كيف صنعي بك! فيتسع له مد بصره. وإذا دفن الكافر قالت له الأرض:
لا مرحباً ولا أهلاً؛ قد كنت ممن أبغض أن تمشي على ظهري، فإذ وليتك فستعلم كيف
صنعي بك! فتنضم عليه حتى تلتقي أضلاعه. أما إن شر ذلك اليوم وفزعه استطار حتى فزعت منه
الملائكة الذين ليست لهم ذنوب، والسبع الشداد، والجبال الأوتاد، والأرضون
المهاد. وانشقت السماء فهي يومئذ واهية، وتغيرت فكانت وردة
كالدهان، وكانت الجبال سراباً، بعدما كانت صماً صلاباً؛ يقول الله سبحانه: "ونفخ في
الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله". فكيف بمن يعصيه بالسمع والبصر، واللسان واليد،
والفرج والبطن؛ إن لم يغفر الله ويرحم!. واعلموا- عباد الله- أن ما بعد ذلك اليوم أشد
وأدهى؛ نار قعرها بعيد، وحرها شديد، وعذابها جديد، ومقامعها حديد، وشرابها صديد،
لا يفتر عذابها، ولا يموت ساكنها؛ دار ليست لله سبحانه فيها رحمة، ولا يسمع فيها
دعوة؛ ومع هذا رحمة الله التي وسعت كل شيء، لا تعجز عن العباد، وجنة عرضها كعرض
السماء والأرض، خير لا يكون بعده شر أبداً، وشهوة لا تنفد أبداً، ولذة لا تفنى
أبداً، ومجمع لا يتفرق أبداً. قوم قد جاوروا الرحمن، وقام بين أيديهم الغلمان،
بصحاف من ذهب فيها الفاكهة والريحان. وإن أهل الجنة يزورون الجبار سبحانه في كل
جمعة، فيكون أقربهم منه على منابر من نور، والذين يلونهم على منابر من ياقوت؛
والذين يلونهم على منابر من مسك، فبينا هم كذلك ينظرون الله جل جلاله، وينظر
الله في وجوههم؛ إذ أقبلت سحابة تغشاهم فتمطر عليهم من النعمة واللذة والسرور
والبهجة ما لا يعلمه إلا الله سبحانه ومع هذا ما هو أفضل منه، رضوان الله
الأكبر. ووضوؤك من تمام الصلاة، فأت به على وجهه؛
فالوضوء نصف الإيمان. أسأل الله
الذي يرى ولا يرى وهو بالمنظر الأعلى، أن يجعلنا وإياك من المتقين الذين لا خوف
عليهم ولا هم يحزنون. وإياكم ودعوة الكذاب ابن هند. وتأملوا واعلموا أنه لا سوى إمام الهدى وإمام
الردى. ووصي النبي وعدو النبي؛ جعلنا الله وإياكم ممن يحب ويرضى. ولقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إني لا أخاف على أمتي مؤمناً ولا مشركاً؛ أما
المؤمن فيمنعه الله بإيمانه، وأما المشرك فيخزيه الله بشركه؛ ولكني أخاف عليهم
كل منافق اللسان؛ يقول ما تعرفون، ويفعل ما تنكرون". وانصح لمن استشارك، واجعل نفسك أسوة
لقريب المسلمين وبعيدهم. جعل الله خلف وودنا خلة المتقين وود
المخلصين، وجمع بيننا وبينكم في دار الرضوان إخواناً على سرر متقابلين. إن شاء الله. فقال الوليد:
إن كنت تعجب من علمه وقضائه فعلام تقاتله! فقال: لولا أن أبا تراب قتل عثمان ثم أفتانا لأخذنا
عنه. ثم سكت هنيهة، ثم نظر إلى جلسائه
فقال:
إنا لا نقول: إن هذه من كتب علي بن أبي طالب؛ ولكن
نقول: هذه من كتب أبي بكر الصديق كانت عند
ابنه محمد، فنحن ننظر فيها، ونأخذ منها. قال: فلم تزل تلك الكتب في خزائن بني أمية؛ حتى ولي عمر بن عبد
العزيز، فهو الذي أظهر أنها من أحاديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
فقلنا:
ما بالك يا أمير المؤمنين؛ فقال: إني
استعملت محمد بن أبي بكر على مصر؛ فكتب إلي
أنه لا علم لي بالسنة، فكتبت إليه كتاباً فيه أدب
وسنة، فقتل وأخذ الكتاب. فبعثوا إليه:
إنا لا نفعل، فدعنا حتى ننظر إلى ما يصير إليه أمر الناس، فلا تعجل علينا. فأبى
عليهم، فامتنعوا منه وأخذوا حذرهم. ثم كانت وقعة صفين؛ وهم لمحمد هائبون؛ فلما أتاهم خبر معاوية وأهل الشام، ثم
صار الأمر إلى الحكومة، وأن علياً وأهل العراق قد قفلوا عن معاوية والشام إلى
عراقهم، اجترأوا على محمد بن أبي بكر، وأظهروا
المنابذة له. فلما رأى محمد ذلك بعث إليهم ابن جمهان البلوي ومعه يزيد بن
الحارث الكناني فقاتلاهم، فقتلوهما. ثم
بعث إليهم رجلاً من كلب فقتلوه أيضاً. وخرج معاوية بن خديج من السكاسك يدعو إلى الطلب بدم عثمان، فأجابه
القوم وناس كثير آخرون، وفسدت مصر على محمد بن أبي بكر؛ فبلغ علياً توثبهم عليه، فقال ما أرى لمصر إلا أحد الرجلين: صاحبنا الذي عزلنا
بالأمس- يعني قيس بن سعد بن عبادة- أو مالك بن الحارث الأشتر. وكان علي
حين رجع عن صفين، رد الأشتر إلى عمله
بالجزيرة، وقال لقيس بن سعد: أقم أنت معي
على شرطتي حتى نفرغ من أمر هذه الحكومة، ثم اخرج إلى أذربيجان، فكان قيس مقيماً
على شرطته، فلما أن انقضى أمر الحكومة كتب علي إلى
الأشتر، وهو يومئذ بنصيبين: أما بعد، فإنك ممن استظهر به على إقامة
الدين، وأقمع به نخوة الأثيم، وأسد به الثغر المخوف. وقد
كنت وليت محمد بن أبي بكر ممر، فخرجت عليه خوارج، وهو غلام حدث السن، ليس بذي
تجربة للحروب، فاقدم علي لننظر فيما ينبغي، واستخلف على عملك أهل الثقة والنصيحة
من أصحابك. والسلام. لا نأكل من قدم، ولا واه في عزم، من أشد عباد الله
بأساً، وأكرمهم حسباً، أضر على الفجار من حريق النار، وأبعد الناس من دنس أو
عار، وهو مالك بن الحارث الأشتر، حسام صارم، لا نابي الضريبة ، ولا كليل الحد،
حليم في السلم، رزين في الحرب، ذو رأي أصيل، وصبر جميل. فاسمعوا له وأطيعوا
أمره، فإن أمركم بالنفر فانفروا، وإن أمركم أن تقيموا فأقيموا، فإنه لا يقدم ولا
يحجم إلا بأمري. وقد آثرتكم به على نفسي؛ نصيحة لكم، وشدة شكيمة على عدوكم. عصمكم الله بالهدى، وثبتكم بالتقوى، ووفقنا وإياكم
لما يحب ويرضى. والسلام عليكم ورحمة الله. وقد كان معاوية قال لأهل الشام لما
دس إليه مولى آل عمر: ادعوا على الأشتر، فدعوا عليه؛ فلما بلغه موته قال: ألا ترون كيف
استجيب لكم!. والصحيح أنه سقي سما فمات قبل أن يبلغ مصر. اللهم إني أحتسبه عندك، فإن موته من
مصائب الدهر. ثم قال: رحم الله
مالكاً؛ فلقد وفى بعهده، وقضى نحبه، ولقي ربه، مع أنا قد وطنا أنفسنا أن نصبر
على كل مصيبة بعد مصابنا برسول الله صلى الله عليه وسلم فإنها من أعظم المصيبات. قال إبراهيم:
وقد كان أمير المؤمنين كتب على يد الأشتر كتاباً إلى أهل مصر؛ روى ذلك الشعبي عن صعصعة بن صوحان: من عبد الله علي
أمير المؤمنين إلى من بمصر من المسلمين: سلام الله عليكم، فإني أحمد الله إليكم،
الذي لا إله إلا هو؛ أما بعد فإني قد بعثت إليكم عبداً من عباد الله، لا ينام
أيام الخوف، ولا ينكل عن الأعداء حذار الدوائر. لا نأكل من قدم، ولا واه في عزم، من أشد عباد الله
بأساً، وأكرمهم حسباً، أضر على الفجار من حريق النار، وأبعد الناس من دنس أو
عار، وهو مالك بن الحارث الأشتر، حسام صارم، لا نابي الضريبة ، ولا كليل الحد،
حليم في السلم، رزين في الحرب، ذو رأي أصيل، وصبر جميل. فاسمعوا له وأطيعوا أمره، فإن
أمركم بالنفر فانفروا، وإن أمركم أن تقيموا فأقيموا، فإنه لا يقدم ولا يحجم إلا
بأمري. وقد آثرتكم به على نفسي؛ نصيحة لكم، وشدة
شكيمة على عدوكم. عصمكم الله بالهدى، وثبتكم بالتقوى،
ووفقنا وإياكم لما يحب ويرضى. والسلام عليكم ورحمة الله. وقد كان معاوية قال لأهل الشام لما دس إليه مولى آل عمر:
ادعوا على الأشتر، فدعوا عليه؛ فلما بلغه موته
قال: ألا ترون كيف استجيب لكم!. اللهم إني أحتسبه عندك، فإن موته من مصائب الدهر. ثم قال: رحم الله مالكاً؛ فلقد وفى بعهده،
وقضى نحبه، ولقي ربه، مع أنا قد وطنا أنفسنا أن نصبر على كل مصيبة بعد مصابنا
برسول الله صلى الله عليه وسلم فإنها من أعظم المصيبات. قال إبراهيم: وحدثنا محمد بن عبد
الله، عن المدائني، قال: حدثنا مولى للأشتر، قال: لما هلك الأشتر أصيب في ثقله رسالة علي إلى أهل
مصر: من عبد الله أمير المؤمنين إلى النفر من المسلمين الذين غضبوا لله إذ عصي
في الأرض، وضرب الجور برواقه على البر والفاجر، فلا حق يستراح إليه، ولا منكر
يتناهى عنه. سلام
عليكم؛ فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو. فأصحر
لعدوك وشمر للحرب، وادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة؛ وأكثر ذكر الله
والاستعانة به، والخوف منه. يكفك ما همك، ويعنك على ما ولاك. أعاننا الله وإياك
على ما لا ينال إلا برحمته؛ والسلام. قال معاوية:
أهمك ما أهمك يابن العاص! وذلك أن عمراً كان بايع معاوية على قتال علي، وأن مصر
له طعمة ما بقي. فأقبل معاوية على أصحابه، وقال: إن هذا- يعني ابن
العاص- قد ظن وحقق ظنه، قالوا: ولكنا لا ندري، ولعل أبا عبد الله قد أصاب؛ فقال
عمرو: وأنا أبو عبد الله، إن أفضل الظنون ما شابه اليقين. ولقد جاءوكم وهم لا يشكون أنهم يستأصلون بيضتكم
ويجوزون بلادكم، ما كانوا يرون إلا أنكم في أيديهم، فردهم الله بغيظهم لم ينالوا
خيراً، وكفى الله المؤمنين القتال، وكفاكم مؤنتهم. وحاكمتموهم إلى الله فحكم لكم
عليهم. ثم جمع كلمتنا، وأصلح ذات بيننا، وجعلهم أعداء متفرقين؛ يشهد بعضهم على
بعض بالكفر، وسفك بعضهم دم بعض؛ والله إني لأرجو أن يتم الله لنا هذا الأمر؛ وقد
رأيت أن أحاول حرب مصر، فما ترون؛. فقال معاوية: إن عمراً قد عزم وصرم بما قال، ولم يفسر
كيف ينبغي أن نصنع!. إنك يابن العاص لامرؤ بورك لك في العجلة، وبورك لي في التؤدة
. وبعث بالكتاب مع مولى له يقال له سبيع، فخرج بكتابه
حتى قدم به عليهما بمصر، ومحمد بن أبي بكر يومئذ أميرها قد ناصبه هؤلاء النفر
الحرب؛ وهم هائبون الإقدام عليه؛ فدفع الكتاب إلى مسلمة
بن مخلد، فقرأه فقال: الق به معاوية بن حديج، ثم القني به حتى أجيب عني وعنه. فانطلق
الرسول بكتاب معاوية فأقرأه إياه، ثم قال له إن مسلمة قد أمرني أن أرد الكتاب
إليه لكي يجيب عنك وعنه. قال: قل له
فليفعل، فأتى مسلمة بالكتاب. فكتب الجواب عنه وعن معاوية بن حديج: أما بعد، فإن هذا
الأمر الذي قد ندبنا له أنفسنا، وابتغينا الله به على عدونا، أمر نرجو به ثواب
ربنا، والنصر على من خالفنا، وتعجيل النقمة على من سعى على إمامنا، وطأطأ الركض
في مهادنا، ونحن بهذه الأرض قد نفينا من كان بها من أهل البغي، وأنهضنا من كان
بها من أهل القسط والعدل وقد ذكرت موازرتك في سلطانك وذات يدك؛ وبالله إنه لا من
أجل مال نهضنا، ولا إياه أردنا، فإن يجمع الله لنا ما نريد ونطلب أو يرينا ما
تمنينا، فإن الدنيا والآخرة لله رب العالمين، وقد يثوبهما الله جميعاً عالماً من
خلقه، كما قال في كتابه: "فآتاهم الله ثواب
الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين". عجل لنا بخيلك ورجلك؛
فإن عدونا قد كان علينا جريئاً، وكنا فيهم قليلاً، وقد أصبحوا لنا هائبين،
وأصبحنا لهم نابذين، فإن يأتنا مدد من قبلك يفتح الله عليك؛ ولا قوة إلا بالله؛ وهو حسبنا ونعم الوكيل. وقد بعثت إليك قوماً حناقاً عليك، يسفكون دمك،
ويتقربون إلى الله عز وجل بجهادك؛ وقد أعطوا الله عهداً ليقتلنك؛ ولو لم يكن
منهم إليك ما قالوا لقتلك الله بأيديهم أو بأيدي غيرهم من أوليائه؛ وأنا أحذرك
وأنذرك؛ فإن الله مقيد منك، ومقتص لوليه وخليفته بظلمك له، وبغيك عليه ووقيعتك
فيه، وعداوتك يوم الدار عليه، تطعن بمشاقصك فيما بين أحشائه وأوداجه؛ ومع هذا
فإني أكره قتلك، ولا احب أن أتولى ذلك منك؛ ولن يسلمك الله من النقمة أين كنت أبداً،
فتنح وانج بنفسك. والسلام. قال: فكتب إليه علي:
أما بعد، فقد أتاني رسولك بكتابك؛ تذكر أن ابن العاص قد نزل في جيش جرار، وأن من
كان على مثل رأيه قد خرج إليه. وخروج من كان يرى رأيه خير لك من إقامته عندك. وذكرت أنك قد رأيت ممن قبلك فشلاً، فلا تفشل وإن
فشلوا؛ حصن قريتك، واضمم إليك شيعتك، وأذك الحرس في عسكرك، واندب إلى القوم
كنانة بن بشر، المعروف بالنصيحة والتجربة والبأس، وأنا نادب إليك الناس على
الصعب والذلول. فاصبر لعدوك وامض على بصيرتك، وقاتلهم على نيتك،
وجاهدهم محتسباً الله سبحانه؛ وإن كانت فئتك أقل
الفئتين؛ فإن الله تعالى يعين القليل ويخذل الكثير. وقد قرأت كتابي الفاجرين المتحابين على المعصية،
والمتلائمين على الضلالة، والمرتشيين على الحكومة، والمتكبرين على أهل الدين؛
الذين استمتعوا بخلاقهم؛ كما استمتع الذين من قبلهم بخلاقهم، فلا يضرنك إرعادهما
وإبراقهما، وأجبهما إن كنت لم تجبهما بما هما أهله، فإنك تجد مقالاً ما شئت. والسلام. وقد زعمت
أن أهل البلد قد رفضوني، وندفوا على أتباعي؛ فأولئك حزبك وحزب الشيطان الرجيم؛
وحسبنا الله رب العالمين ونعم الوكيل، وتوكلت على الله العزيز الرحيم، رب العرش
العظيم. انتدبوا
رحمكم الله مع كنانة بن بشر. ثم ندب معه
نحو ألفي رجل، وتخلف محمد في ألفين، واستقبل عمرو
بن العاص كنانة وهو على مقدمة محمد، فلما دنا عمرو من كنانة سرح إليه
الكتائب؛ كتيبة بعد كتيبة، فلم تأته من كتائب الشام كتيبة إلا شد عليها بمن معه
فيضربها حتى يلحقها بعمرو، ففعل ذلك مراراً. فلما رأى
عمرو ذلك بعث إلى معاوية بن حديج الكندي، فأتاه في مثل الدهم. فلما رأى
كنانة ذلك الجيش، نزل عن فرسه؛ ونزل معه أصحابه فضاربهم بسيفه، وهو يقول: "وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتاباً
مؤجلاً". فلم يزل يضاربهم بالسيف حتى
استشهد رحمه الله. قال ابن حديج: هو هو ورب الكعبة، فانطلقوا يركضون، حتى دخلوا على محمد، فاستخرجوه وقد كاد يموت عطشاً، فأقبلوا به نحو الفسطاط. قال: ووثب أخوه عبد الرحمن بن أبي بكر إلى عمرو بن العاص، وكان في
جنده، فقال: لا والله لا تقتل أخي صبراً، ابعث إلى معاوية بن حديج فانهه، فأرسل عمرو بن العاص: أن ائتني بمحمد، فقال معاوية: أقتلتم كنانة بن بشر، ابن عمي، وأخلي عن
محمد؛ هيهات! "أكفاركم خير من أولئكم أم
لكم براءة في الزبر". فقال محمد: اسقوني قطرة من الماء، فقال له معاوية بن حديج: لا سقاني الله إن سقيتك
قطرة أبداً؛ إنكم منعتم عثمان أن يشرب الماء حتى
قتلتموه صائماً محرماً، فسقاه الله من الرحيق المختوم؛ والله لأقتلنك يابن أبي بكر وأنت ظمآن، ويسقيك الله من
الحميم والغسلين، فقال له محمد: يابن اليهودية
النساجة؛ ليس ذلك اليوم إليك ولا إلى عثمان، إنما ذلك إلى الله يسقي أولياءه
ويظمئ أعداءه؛ وهم أنت وقرناؤك ومن تولاك وتوليته، والله لو كان سيفي في يدي ما
بلغتم مني ما بلغتم. فقال له معاوية بن حديج:
أتدري ما أصنع بك؛ أدخلك جوف هذا الحمار الميت ثم أحرقه
عليك بالنار. قال: إن فعلتم ذلك
بي فطالما فعلتم ذاك بأولياء الله، وايم الله إني لأرجو أن يجعل الله هذه النار
التي تخوفني بها برداً وسلاماً، كما جعلها الله على إبراهيم خليله، وأن يجعلها
عليك وعلى أوليائك، كما جعلها على نمرود وأوليائه، وإني لأرجو أن يحرقك الله
وإمامك معاوية، وهذا- وأشار إلى عمرو بن العاص- بنار
تلظى، كلما خبت زادها الله عليكم سعيراً. فقال له معاوية بن حديج:
إني لا أقتلك ظلماً، إنما أقتلك بعثمان بن عفان، قال
محمد: وما أنت وعثمان! رجل عمل بالجور، وبدل حكم
الله والقرآن، وقد قال الله عز وجل: "ومن
لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، "فأولئك هم الظالمون"، "فأولئك هم الفاسقون"؛ فنقمنا عليه
أشياء عملها، فأردنا أن يخلع من الخلافة علناً، فلم يفعل، فقتله من قتله من
الناس. فغضب معاوية بن حديج، فقدمه فضرب عنقه، ثم ألقاه في جوف حمار وأحرفه بالنار. قال: فكان كما أخبر صلى الله عليه وسلم. قال إبراهيم: حدثنا محمد بن عبد الله، عن المدائني، قال: فكتب عمرو بن العاص
إلى معاوية بن أبي سفيان عند قتل محمد بن أبي بكر وكنانة بن بشر: أما
بعد، فإنا لقينا محمد بن أبي بكر وكنانة بن بشر في جموع من أهل مصر، فدعوناهم
إلى الكتاب والسنة، فعصوا الحق، فتهولوا في الضلال،
فجاهدناهم، واستنصرنا الله جل وعز عليهم، فضرب الله وجوههم وأدبارهم،
ومنحنا أكتافهم؛ فقتل محمد بن أبي بكر وكنانة بن بشر،
والحمد لله رب العالمين. فلما كان
العشي بعث إلى الأشراف فجمعهم، فدخلوا عليه القصر، وهو كئيب حزين، فقال: الحمد لله على ما قضى من أمر، وقدر من فعل،
وابتلاني بكم أيها الفرقة التي لا تطيع إذا أمرتها، ولا تجيب إذا دعوتها. لا أبا لغيركم! ماذا تنتظرون بنصركم، والجهاد على
حقكم! الموت خير من الذل في هذه الدنيا لغير الحق؛ والله إن جاءني الموت-
وليأتيني- لتجدنني لصحبتكم جد قالٍ. ألا دين يجمعكم! ألا حمية تغضبكم! ألا تسمعون
بعدوكم ينتقص بلادكم، ويشن الغارة عليكم! أو ليس عجباً أن معاوية يدعو الجفاة
الطغام الظلمة، فيتبعونه على غير عطاء ولا معونة، ويجيبونه في السنة المرة
والمرتين والثلاث، إلى أي وجه شاء، ثم أنا أدعوكم- وأنتم أولو النهى وبقية
الناس- تختلفون وتفترقون عني، وتعصونني وتخالفون علي!. قال:
وحزن علي على محمد بن أبي بكر حتى رئي ذلك فيه، وتبين في وجهه، وقام في الناس
خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ألا وإن مصر
قد افتتحها الفجرة أولياء الجور والظلم، الذين صدوا عن سبيل الله، وبغوا الإسلام
عوجاً. ألا وإن محمد بن أبي بكر قد استشهد رحمة
الله عليه، وعند الله نحتسبه. أما والله لقد كان - ما علمت - ينتظر القضاء، ويعمل
للجزاء، ويبغض شكل الفاجر، ويحب سمت المؤمن؛ إني والله لا ألوم نفسي على تقصير
ولا عجز؛ وإني بمقاساة الحرب لجد بصير، إني لأقدم على الحرب، وأعرف وجه الحزم،
وأقوم بالرأي المصيب، فأستصرخكم معلناً، وأناديكم مستغيثاً؛ فلا تسمعون لي
قولاً، ولا تطيعون لي أمراً؛ حتى تصير الأمور إلى عواقب المساءة. وأنتم القوم لا
يدرك بكم الثأر؛ ولا تنقض بكم الأوتار؛ دعوتكم إلى غياث إخوانكم منذ بضع وخمسين
ليلة؛ فجرجرتم علي جرجرة الجمل الأسر، وتثاقلتم إلى الأرض تثاقل من لا نية له في
الجهاد، ولا رأي له في الاكتساب للأجر، ثم خرج إلي منكم جنيد متذائب ضعيف، كأنما
يساقون إلى الموت وهم ينظرون. فأفٍّ لكم ثم نزل فدخل رحله. وقد كنت
كتبت إلى الناس، وتقدمت إليهم في بدء الأمر، وأمرتهم بإغاثته قبل الوقعة،
ودعوتهم سراً وجهراً، وعوداً وبدءاً، فمنهم الآتي
كارهاً، ومنهم المتعلل كاذباً، ومنهم القاعد خاذلاً. أسأل الله أن يجعل لي منهم
فرجاً، وأن يريحني منهم عاجلاً؛ فو الله لولا طمعي عند لقاء عدوي في
الشهادة، وتوطيني نفسي عند ذلك، لأحببت ألا أبقى مع
هؤلاء يوماً واحداً. عزم الله
لنا ولك على تقواه وهداه، إنه على كل شيء قدير. والسلام
عليك ورحمة الله وبركاته. سلام على أمير المؤمنين، ورحمة الله وبركاته: أما بعد؛ فقد بلغني كتابك تذكر فيه افتتاح مصر وهلاك
محمد بن أبي بكر، وأنك سألت الله ربك أن يجعل لك من رعيتك التي ابتليت بها فرجاً
ومخرجاً، وأنا أسأل الله أن يعلي كلمتك، وأن يغشيك بالملائكة عاجلاً. واعلم أن
الله صانع لك، ومعز دعوتك، وكابت عدوك. وأخبرك يا أمير المؤمنين أن الناس ربما
تباطأوا ثم نشطوا؛ فارفق بهم يا أمير المؤمنين ودارهم ومنهم، واستعن بالله
عليهم. كفاك الله الهم والسلام عليك ورحمة الله
وبركاته. قال المدائني: وقيل لعلي رضي الله عنه: لقد جزعت على محمد بن أبي
بكر يا أمير المؤمنين. فقال:
وما يمنعني إنه كان لي ربيباً، وكان لبني أخاً، وكنت له والداً. أعده ولداً. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
خطبة للإمام علي بعد فتح مصر
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وروى إبراهيم، عن رجاله، عن عبد الرحمن بن جندب، عن أبيه، قال: خطب علي رضي الله عنه بعد فتح مصر،
وقتل محمد بن أبي بكر، فقال:
أما بعد، فإن الله بعث محمداً نذيراً للعالمين، وأميناً على التنزيل، وشهيداً
على هذه الامة؛ وأنتم معاشر العرب يومئذ على شر دين، وفي شر دارٍ، منيخون على
حجارةٍ خشن، وحيات صم، وشوكٍ مبثوث في البلاد، تشربون الماء الخبيث، وتأكلون
الطعام الخبيث؛ تسفكون دماءكم، وتقتلون أولادكم، وتقطعون أرحامكم؛ وتأكلون
أموالكم بينكم بالباطل. سبلكم خائفة، والأصنام فيكم منصوبة، ولا يؤمن أكثرهم بالله
إلا وهم مشركون. فمن الله - عز وجل - عليكم بمحمد، فبعثه إليكم
رسولاً من أنفسكم، فعلمكم الكتاب والحكمة، والفرائض والسنن، وأمركم بصلة أرحامكم
وحقن دمائكم وصلاح ذات البين، وأن تؤدوا الامانات إلى أهلها، وأن توفوا بالعهد،
ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها، وأن تعاطفوا وتباروا وتراحموا. ونهاكم عن التناهب والتظالم والتحاسد والتباغم
والتقاذف، وعن شرب الخمر وبخس المكيال، ونقص الميزان. وتقدم إليكم فيما يتلى عليكم:
ألا تزنوا ولا تربوا، ولا تاكلوا أموال اليتامى ظلماً، وأن تؤدوا الأمانات إلى
أهلها، ولا تعثوا في الأرض مفسدين، ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين، وكل
خيرٍ يدني إلى الجنة، ويباعد عن النار أمركم به، وكل شر يدني إلى النار ويباعد
عن الجنة نهاكم عنه. وتولى عمر
الأمر، فكان مرضي السيرة، ميمون النقيبة؛ حتى إذا
احتضر، فقلت في نفسي: لن يعدلها عني؛ ليس يدافعها عني، فجعلني سادس ستة؛ فما
كانوا لولاية أحد منهم أشد كراهة لولايتي عليهم؛ كانوا
يسمعون عند وفاة رسول الله صلى
الله عليه وسلم لجاج أبي بكر، وأقول:
يا معشر قريش، إنا - أهل البيت - أحق بهذا الأمر منكم ما كان فينا من يقرأ
القرآن، ويعرف السنة، ويدين بدين الحق. فخشي القوم
- إن أنا وليت عليهم - ألا يكون لهم من الأمر نصيب ما بقوا، فأجمعوا إجماعاً
واحداً، فصرفوا الولاية إلى عثمان، وأخرجوني منها؛ رجاء أن ينالوها، ويتداولوها
إذ يئسوا أن ينالوا بها من قبلي؛ ثم قالوا: هلم فبايع وإلا جاهدناك؛
فبايعت مستكرهاً، وصبرت محتسباً، فقال قائلهم:
يا بن أبي طالب، إنك على هذا الأمر لحريصٌ؛ فقلت أنتم أحرص مني وأبعد؛ أينا
أحرص؛ أنا الذي طلبت ميراثي وحقي الذي جعلني الله ورسوله أولى به، أم أنتم إذ
تضربون وجهي دونه، وتحولون بيني وبينه فبهتوا، والله لا يهدي القوم الظالمين. فنظرت فإذا ليس معي رافد ولا ذاب ولا
ناصر ولا ساعد إلا أهل بيتي، فضننت بهم عن المنية، وأغضيت على القذى، وتجرعت
ريقي على الشجى؛ وصبرت من كظم الغيظ على أمر من العلقم، وآلم للقلب من حز
الشفار، حتى إذا نقمتم على عثمان أتيتموه فقتلتموه؛ ثم جئتموني لتبايعوني، فأبيت
عليكم، وأمسكت يدي فنازعتموني ودافعتموني، وبسطتم يدي نكففتها، ومددتموها
فقبضتها، وازدحمتم علي حتى ظننت أن بعضكم قاتل بعضكم أو أنكم قاتلي. فقلتم: بايعنا لا نجد غيرك، ولا نرضى إلا بك،
بايعنا لا نفترق ولا تختلف كلمتنا. فبايعتكم ودعوت الناس إلى بيعتى، فمن بايع طوعاً
قبلته؛ ومن أبى لم اكرهه وتركته. ومنهم طائفة غضبوا لله ولي، فشهروا
سيوفهم وضربوا بها، حتى لقوا الله عز وجل صادقين؛
فوالله لو لم يصيبوا منهم إلا رجلاً واحداً متعمدين لقتله لحل لي به قتل ذلك
الجيش بأسره، فدع ما أنهم قد قتلوا من المسلمين أكثرمن العدة التي دخلوا بها
عليهم؛ وقد أدال الله منهم، فبعداً للقوم الظالمين. ثم إني نظرت في أمر أهل الشام، فإذا أعراب أحزاب وأهل طمع
جفاة طغاة، يجتمعون من كل أوب؛ من كان ينبغي أن يؤدب وأن يولى عليه، ويؤخذ على
يده؛ ليسوا من الأنصار ولا المهاجرين ولا التابعين بإحسان. فسرت
إليهم، فدعوتهم إلى الطاعة والجماعة، فأبوا إلا شقاقاً وفراقاً. ونهضوا في وجوه
المسلمين ينضحونهم بالنبل، ويشجرونهم بالرماح؛ فهناك
نهدت إليهم بالمسلمين فقاتلتهم، فلما عضهم السلاح. ووجدوا ألم الجراح، رفعوا المصاحف
يدعونكم إلى ما فيها؛ فأنبأتكم أنهم ليسوا بأهل دين ولا قرآن،
وأنهم رفعوها مكيدة وخديعة ووهناً وضعفاً، فامضوا على حقكم وقتالكم. فأبيتم علي وقلتم:
اقبل منهم؛ فإن أجابوا إلى ما في الكتاب جامعونا على ما نحن عليه من الحق، وإن
أبوا كان أعظم لحجتنا عليهم. فقبلت منهم، وكففت
عنهم؛ إذ ونيتم وأبيتم؛ فكان الصلح بينكم وبينهم على رجلين، يحييان ما أحيا
القرآن، ويميتان ما أمات القرآن؛ فاختلف رأيهما، وتفرق حكمهما، ونبذا ما في
القران، وخالفا ما في الكتاب، فجنبهما الله السداد، ودلاهما في الضلالة، فانحرفت
فرقة منا فتركناهم ما تركونا؛ حتى إذا عثوا في الأرض يقتلون ويفسدون،
أتيناهم فقلنا: ادفعوا إلينا قتلة إخواننا، ثم
كتاب الله بيننا وبينكم. قالوا: كلنا قتلهم؛
وكلنا استحل دماءهم. وشدت علينا خيلهم ورجالهم، فصرعهم الله مصارع الظالمين. فلما كان ذلك من شأنهم أمرتكم أن تمضوا من فوركم
إلى عدوكم، فقلتم: كلت سيوفنا، ونفدت نبالنا، ونصلت أسنة رماحنا، وعاد أكثرها
قصداً، فارجع بنا إلى ممعرنا لنستعد بأحسن عدتنا، فإذا رجعت زدت في مقاتلتنا عدة
من هلك منا وفارقنا؛ فإن ذلك أقوى لنا على عدونا. فأقبلت بكم،
حتى إذا أطللتم على الكوفة أمرتكم أن تنزلوا بالنخيلة، وأن تلزموا معسكركم، وأن
تضموا قواصيكم، وأن توطنوا على الجهاد أنفسكم، ولا تكثروا زيارة أبنائكم
ونسائكم، فإن أهل الحرب المصابروها، وأهل التشمير فيها الذين لا ينقادون من سهر
ليلهم ولا ظمإ نهارهم، ولا خمص بطونهم، ولا نصب أبدانهم، فنزلت طائفة منكم معي
معذرة، ودخلت طائفة منكم المصر عاصية؛ فلا من بقي منكم صبر وثبت، ولا من دخل
المصر عاد ورجع، فنظرت إلى معسكري، وليس فيه خمسون رجلاً؛ فلما رأيت ما أتيتم،
دخلت إليكم فلم أقدر على أن تخرجوا معي إلى يومنا هذا، فما تنتظرون أما ترون
أطرافكم قد انتقصت، وإلى مصر قد فتحت، وإلما شيعتي بها قد قتلت؛ وإلى مسالحكم
تعرى، وإلى بلادكم تغزى وأنتم ذوو عدد كثير، وشوكة وبأس شديد؛ فما بالكم لله أنتم من أين تؤتون وما لكم تؤفكون وأنى
تسحرون. ولو أنكم عزمتم وأجمعتم لم تراموا؛ إلا أن القوم
تراجعوا وتناشبوا وتناصحوا، وأنتم قد ونيتم وتغاششتم وافترقتم، ما إن أنتم إن
ألممتم عندي على هذا بسعداء؛ فانتهوا بأجمعكم، وأجمعوا على حقكم، وتجردوا لحرب
عدوكم؛ وقد أبدت الرغوة عن الصريح، وبين الصبح لذي
عينين؛ إنما تقاتلون الطلقاء، وأبناء الطلقاء وأولي الجفاء، ومن أسلم كرهاً؛
وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنف الإسلام كله حرباً؛
أعداء الله والسنة والقرآن، وأهل البدع والأحداث، ومن كان بوائقه تتقى، وكان عن
الإسلام منحرفاً، أكلة الرشا، وعبدة الدنيا؛ لقد أنهي إلي أن ابن النابغة لم يبايع معاوية حتى أعطاه، وشرط له أن يؤتيه ما هي أعظم مما في
يده من سلطانه. ألا صفرت يد هذا البائع دينه بالدنيا،
وخزيت أمانة هذا المشتري نصرة فاسق غادر بأموال المسلمين؛ وإن فيهم من قد شرب
فيكم الخمر وجلد الحد؛ يعرف بالفساد في الدين، والفعل السيىء؛ وإن فيهم من لم
يسلم حتى رضخ له رضيخة. ولأنتم - على ما كان فيكم من تواكل وتخاذل - خير
منهم وأهدى سبيلاً؛ فيكم العلماء والفقهاء، والنجباء والحكماء، وحملة الكتاب
والمتهجدون بالأسحار، وعمار المساجد بتلاوة القرآن؛ أفلا
تسخطون وتهتمون أن ينازعكم الولاية عليكم سفهاؤكم، والأشرار الأراذل منكم. ألا إنه ليس أولياء الشيطان من أهل الطمع والمكر
والجفاء بأولى في الجد في غيهم وضلالتهم من أهل البر والزهادة والإخبات في حقهم
وطاعة ربهم؛ إني والله لو لقيتهم فرداً وهم ملء الأرض؛ ما باليت ولا استوحشت؛ وإني من ضلالتهم التي هم فيها، والهدى الذي نحن عليه،
لعلى ثقة وبينة، ويقين وبصيرة؛ وإني إلى لقاء ربي لمشتاق، ولحسن ثوابه لمنتظر؛
ولكن أسفاً يعتريني، وحزناً يخامرني، أن يلي أمر
هذه الأمة سفهاؤها وفجارها، فيتخذوا مال الله دولاً، وعباده خولاً، والفاسقين
حزباً. وايم الله
لولا ذلك ما أكثرت تأنيبكم وتحريضكم، ولتركتكم إذ ونيتم وأبيتم حتى ألقاهم
بنفسي؛ متى حم لي لقاؤهم. فوالله إني لعلى الحق، وإني للشهادة لمحب، فانفروا
خفافاً وثقالاً، وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله، ذلكم خير لكم إن كنتم
تعلمون. ولا تثاقلوا إلى الأرض فتقروا بالخسف، وتبوءوا
بالذل، ويكن نصيبكم الخسران. إن أخا
الحرب اليقظان، ومن ضعف أودى، ومن ترك الجهاد كان كالمغبون المهين. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
مقتل محمد بن أبي حذيفة،
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال إبراهيم:
وحدثني محمد بن عبد الله بن عثمان، عن المدائني، أن
محمد بن أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، اصيب لما فتح عمرو بن العاص مصر،
فبعث به إلى معاوية بن أبي سفيان وهو يومئذ بفلسطين، فحبسه معاوية في سجن له،
فمكث فيه غير كثير، ثم هرب - وكان ابن خال معاوية -
فأرى معاوية الناس أنه كره انفلاته من السجن؛ وكان يحب أن ينجو، فقال لأهل الشام: من يطلبه؛ فقال رجل من خثعم -
يقال له عبيد الله بن عمرو بن ظلام، وكان شجاعاً وكان
عثمانياً: أنا أطلبه، فخرج في خيل فلحقه بحوارين، وقد دخل بغارٍ هناك،
فجاءت حمرٌ فدخلته، فلما رأت الرجل في الغار فزعت ونفرت؛ فقال حمارون كانوا قريباً من الغار: إن لهذه الحمر
لشأناً، ما نفرها من هذا الغار إلا أمر فذهبوا ينظرون؛ فإذا هم به؛ فخرجوا به؛
فوافاهم عبد الله بن عمرو بن ظلام؛ فسألهم ووصفه لهم فقالوا:
ها هو هذا؛ فجاء حتى استخرجه، وكره أن يصير به إلى
معاوية فيخلي سبيله، فضرب عنقه. رحمه الله
تعالى. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن كلام له في ذم أصحابه
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
كم أداريكم كما تدارى أبكار العمدة، والثياب المتداعية كلما حيص من جانبٍ تهتكت
من آخر، كلما أطل عليكم مفسرٌ من مناصر أهل الشام أغلق كل رجلٍ منكم بابه، وانجح
أنجحا الضبة في جحرها، والضبع في وجارها. إنكم والله
لكثير في البائحات، قليل تحت الرايات، وإني لعالم بما بصلحكم، ويقيم أودكم،
ولكني والله لا أرى إصلاحكم لإفساد نفسي. الشرح أبكار: جمع بكر، وهو الفتي من الإبل. والعمدة: التي قد
أنشدت أسمتها من داخل وظاهرها صحيح؛ وذلك لكثرة ركوبها، والثياب المتداعية. الأسمال التي قد أخلق؛ وإنما
سميت متداعية، لأن بعضها يتخرق فيدعو بعضها إلى مثل حاله، وحيت: خيطت، والحوض: الخياطة. وتهتكت: تخرقت. أطل عليكم، أي أشرف، وروي:
"أظل" بالظاء المعجم، والمعنى واحد. ومفسر: قطعة من
الجيش تمر قدام الجيش الكثير، والأفصح "منس" بكسر الميم وفتح السين،
ويجوز "مفسر" بفتح الميم وكسر السين. وانجح: استتر في بيته، آجرت
الضب، إذا ألجأته إلى جحره فانجح. والضبة: أنثى الضباب، وإنما أوقع التشبيه على
الضبة مبالغة في وصفهم بالجبن والفرار؛ لأن الأنثى أجبن وأذل من الذكر. والجار: بيت الضبع. والسهم الأنوف:
الفاصل المكسور أتفوق، المنزوع النصل، أتفوق:
موضع الوتر من السهم، يقال نصل السهم إذا خرج منه النصل فهو فاصل؛ وهذا مثل يضرب
لمن استنجد بمن لا ينجده. والبائحات: جمع باحة، وهي ساحة الدار. والأود: العوج، أود الشيء بكسر الواو أود أوداً؛ أي
اعوج، وتأود، أي تعوج. وأضرع الله خدودكم: أذل وجوهكم. ضرع الرجل ذل وأضرعه غيره، ومنه المثل: "الحمى
أضرعته لك". وأتعس جدودكم، أي أحال حظوظكم وسعودكم وأهلكها
فجعلها إدباراً ونحساً. والتعس: الهلاك.
وأصله الكب؛ وهو ضد الإنتعاش. تعس الرجل، بفتح العين يتعس تعساً. يقول: كم اداريكم
كما يداري راكب البعير بعيره المنفضخ السنام، وكما يداري لابس الثوب السمل ثوبه
المتداعي، الذي كلما خيط منه جانب تمزق جانب. ثم ذكر خبثهم وذلهم، وقلة انتصار
من ينتصر بهم، وأنهم كثير في الصورة، قليل في المعنى. ثم قال: إني عالم بما
يصلحكم؛ يقول: إنما يصلحكم في السياسة السيف؛
وصدق فإن كثيراً لا يصلح إلا عليه. كما فعل الحجاج بالجيش الذي تقاعد
بالمهلب، فإنه نادى مناديه: من وجدناه بعد ثالثة لم يلتحق
بالمهلب فقد حل لنا دمه؛ ثم قتل عمير بن ضابىء وغيره؛ فخرج الناس يهرعون إلى
المهلب. وأمير المؤمنين لم يكن ليستحل من دماء أصحابه ما
يستحله من يريد الدنيا وسياسة الملك وانتظام الدولة،
قال رضي الله عنه: "لكني لا أرى إصلاحكم بإفساد نفسي"، أي بإفساد ديني
عند الله تعالى. فإن قلت: أليست نصرة
الإمام واجبة عليهم؛ فلم لا يقتلهم إذ أخلوا بهذا الواجب؟ قلت: ليس كل إخلال بواجب يكون عقوبته القتل، كمن
أخل بالحج. وأيضاً فإنه كان يعلم أن عاقبة القتل فسادهم عليه
واضطرابهم؛ فلو أسرع في قتلهم لشغبوا عليه شغباً يفضي إلى أن يقتلوه ويقتلوا
أولاده، أو يسلموه وسلموهم إلى معاوية؛ ومتى علم هذا أو غلب على ظنه لم يجز له
أن يسوسهم بالقتل الذي يفضي إلى هذه المفسدة، فلو ساسهم بالقتل والحال هذه: لكان
آثماً عند الله تعالى، ومواقعاً للقبيح؛ وفي ذلك إفساد دينه كما قال: "لا تعرفون الحق كمعرفتكم الباطل" إلى
آخر الفصل؛ فكأنه قال: لا تعتقدون الصواب والحق كما تعتقدون الخطأ
والباطل؛ أي اعتقادكم الحق قليل، واعتقادكم الباطل كثير؛ فعبر عن الاعتقاد العام
بالمعرفة الخاصة؛ وهي نوع تحت جنسه مجازاً. ثم قال: ولا تسرعون في نقض الباطل سرعتكم في نقض الحق
وهدمه. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ذم الجبن في شعر الشعراء
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
واعلم
أن الهجاء بالجبن والذل والفرق كثير جداً،
ونظير قوله: "إنكم لكثير في الباحات، قليل تحت
الرايات" قول معدان الطائي:
ونحو
قول قراد بن حنش، وهو من شعر الحماسة:
ومن
شعر الحماسة في هذا المعنى:
ومن
الهجاء بالجبن والفرار، قول بعض بني طيىء يهجو حاتماً، وهو من شعر الحماسة
أيضاً:
ونظير
المعنى الأول أيضاً قول بعضهم من شعر الحماسة:
ومنه
قول عويف القوافي:
وممن
حسن الجبن والفرار بعض الشعراء في قوله:
ومن
هذا قول أيمن بن خريم الأسدي:
وممن
عرف بالجبن أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد، عيره عبد الملك بن مروان فقال:
وقال
أخر:
وقال
أخر:
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أخبار الجبناء ونوادرهم
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن أخبار الجبناء ما رواه ابن قتيبة في كتاب "عيون
الأخبار" قال: رأى عمرو بن العاص معاوية يوماً فضحك، وقال: مم
تضحك يا أمير المؤمنين، أضحك الله سنك؛ قال: أضحك
من حضور ذهنك عند إبدائك سوءتك يوم ابن أبي
طالب؛ والله لقد وجدته مناناً كريماً ولوشاء
أن يقتلك لقتلك فقال عمرو: يا أمير
المؤمنين، أما والله إني لعن يمينك حين دعاك إلى البراز فاحولت عيناك، وانتفخ سحرك، وبدا منك ما أكره ذكره لك؛
فمن نفسك فاضحك أو فدع. قال ابن قتيبة: وقدم
الحجاج على الوليد بن عبد الملك، وعليه درعٌ
وعمامة سوداء وقوس عربية وكنانة، فبعثت أم البنين
بنت عبد العزيز بن مروان إلى الوليد - وهي تحته يومئذ: من هذا الأعرابي
المستلئم في السلاح عندك على خلوة، وأنت في غلالة؟ فأرسل
إليها الوليد: إنه الحجاج، فأعادت عليه الرسول: والله
لأن يخلو بك ملك الموت أحب إلي من أن يخلو بك الحجاج، فضحك وأخبر الحجاج
بقولها وهو يمازحه، فقال الحجاج: يا أمير
المؤمنين، دع عنك مفاكهة النساء بزخرف القول،
فإنما المرأة ريحانة وليست بقهرمانة؛ فلا تطلعها
على سرك، ومكايدة عدوك. أما والله لو نفض
نساء أمير المؤمنين الطيب من غدائرهن فبعنه في أعطية أهل الشام حين كنت في أضيق
من القرن، قد أظلتك الرماح، وأثخنك الكفاح؛ وحين كان أمير المؤمنين أحب
إليهم من آبائهم وأبنائهم؛ فأنجاك الله من عدو أمير المؤمنين بحبهم إياه؛ قاتل الله القائل حين ينظر إليك وسنان غزالة بين كتفيك:
ثم قالت لجواريها: أخرجنه، فأخرج. ومن طريف حكايات الجبناء ما ذكره ابن قتيبة أيضاً في الكتاب
المذكور؛ قال
كان بالبصرة شيخٌ من بني نهشل بن دارم، يقال له عروة بن مرثد، ويكنى أبا الأعز،
ينزل في بني أخت له من الأزد في سكة بني مازن، فخرج رجالهم إلى ضياعهم في شهر
رمضان، وخرج النساء يصلين في مسجدهم، ولم يبق في
الدار إلا إماء، فدخل كلب يتعسس، فرأى بيتاً مفتوحاً فدخله، وانصفق الباب
عليه، فسمع بعض الإماء الحركة، فظنوا أنه لص دخل
الدار، فذهبت إحداهن إلى أبي الأعز، فأخبرته، فقال
أبو الأعز: إلام يبتغي اللص عندنا وأخذ عصاه، وجاء حتى وقف بباب البيت، وقال: إيه يا فلان؛ أما والله إني بك لعارف، فهل
أنت من لصوص بني مازن؛ شربت حامضاً خبيثاً، حتى إذا دارت في رأسك منتك نفسك
الأماني، وقلت: أطرق دور بني عمرو، والرجال
خلوف، والنساء يصلين في مسجدهن، فأسرقهم. سوءةً لك والله ما يفعل هذا ولد
الأحرار وايم الله لتخرجن أو لأهتفن هتفة مشؤومة
يلتقي فيها الحيان: عمرو وحنظلة، وتجيء سعد عدد الحمى، وتسيل عليك
الرجال، من هنا وهنا، ولئن فعلت لتكونن أشأم مولود. ولو عرفتني لقنعت بقولي، واطمأننت إلى ابن
أختي البار الوصول، أنا- فديتك - أبو الأعز النهشليح وأنا
خال القوم، وجلدة بين أعينهم؛ لا يعصونني، ولا تضار الليلة وأنت في ذمتي، وعندي
قوصرتان، أهداهما إلي ابن أختي البار الوصول، فخذ إحداهما، فانبذها حلالاً من
الله ورسوله. سبحان
الله؛ ما أكثرها وأطيبها؛ والله ما أنت ببعيد من تابعها، والرسوب في تيار لجتها.
وقال
آخر يعيره بذلك:
ومن كلام ابن المقفع في ذم الجبن: الجبن
مقتلة، والحرص محرمة؛ فانظر فيما رأيت وسمعت: من قتل في الحرب مقبلاً أكثر أم من
قتل مدبراً؛ وانظر من يطلب إليك بالإجمال والتكرم أحق أن تسخو نفسك له بالعطية،
أم من يطلب ذلك بالشره والحرص. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وقال في سحرة اليوم الذي ضرب فيه
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: ملكتني
عيني وأنا جالس، فسنح لي رسول الله صلى الله عليه وآله، فقلت: يا رسول الله ماذا
لقيت من أمتك من الأود واللدد؛ فقال: أدع عليهم، فقلت: أبدلني الله بهم خيراً
منهم، وأبدلهم بي شراً لهم قال الرضي رحمه الله:
يعني بالأود الاعوجاج، وباللدد الخصام، وهذا من
أفصح الكلام. و
"شراً" ههنا لا يدل على أن فيه شراً، كقوله: "قل
أذلك خيرٌ أم جنة الخلد" لا يدل على أن في النار خيراً. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
مقتل الامام علي عليه السلام
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ويجب أن نذكر في هذا الموضع مقتله
رضي الله عنه؛ وأصح ما ورد في ذلك ما ذكره أبو الفرج علي بن الحسين الأصفهاني في كتاب "مقاتل
الطالبيين". فتعاقدوا عند انقضاء الحج، فقال عبد الرحمن بن ملجم: أنا
أكفيكم علياً، وقال واحد: أنا أكفيكم
معاوية، وقال الثالث: أنا أكفيكم عمرو بن
العاص، فتعاقدوا وتواثقوا على الوفاء، وألا ينكل أحد منهم عن صاحبه الذي يتوجه
إليه ولا عن قتله، واتعدوا لشهر رمضان، في الليلة
التي قتل فيها ابن ملجم علياً. قال أبو الفرج: قال أبو
مخنف: قال أبو زهير العبسي: الرجلان
الاخران البرك بن عبد الله التميمي؛ وهو
صاحب معاوية، وعمرو بن بكر التميمي، وهو
صاحب عمرو بن العاص. هذه رواية إسماعيل بن راشد. وقال غيره من الرواة:
بل قتله من وقته.
قال أبو الفرج:
وقد روي لنا من طرق غير هذه، أن علياً أعطى الناس، فلما
بلغ ابن ملجم أعطاه، وقال له:
قال أبو الفرج:
وحدثني أحمد بن عيسى العجلي بإسناد ذكره في الكتاب،
إلى أبي زهير العبسي، قال: كان ابن ملجم من مراد وعداده في كندة، فأقبل حتى قدم الكوفة، فلقي بها أصحابه وكتمهم أمره،
وطوى عنهم ما تعاقد هو وأصحابه عليه بمكة من قتل أمراء المسلمين مخافة أن ينتشر،
وزار رجلاً من أصحابه ذات يوم من بني تيم الرباب،
فصادف عنده قطام بنت الأخضر، من بني تيم الرباب - وكان علي قتل أخاها وأباها بالنهروان، وكانت من أجمل نساء أهل
زمانها - فلما رآها شغف بها، واشتد إعجابه فخطبها، فقالت
له: ما الذي تسمي لي من الصداق؟ فقال: احتكمي ما بدا لك، فقالت: أحتكم عليك ثلاثة آلاف درهم ووصيفاً وخادماً، وأن
تقتل علي بن أبي طالب. فقال لها: لك جميع ما سألت، وأما قتل علي فأني لي بذلك؛ قالت تلتمس غرته، فإن أنت قتلته شفيت نفسي؛ وهنأك العيش معي؛ وإن قتلت فما
عند الله خير لك من الدنيا، فقال لها: أما والله ما أقدمني هذا المصر،
وقد كنت هارباً منه لأمن أهله، إلا ما سألتني من
قتل علي. قال أبو الفرج:
فدعت لهم بحريرٍ فعصبت به صدورهم، وتقلدوا سيوفهم، ومضوا فجلسوا مقابل السدة
التي كان يخرخ منها علي رضي الله عنه إلى الصلاة. قال أبو الفرج:
وللأشعث بن قيس في انحرافه عن أمير المؤمنين أخبار
يطول شرحها، منها حديث حدثنيه محمد بن الحسين الأشنانداني، قال: حدثني
إسماعيل بن موسى: قال: حدثنا علي بن مسهر، عن الأجلح، عن موسى بن أبي النعمان قال: جاء الأشعث إلى علي يستأذن عليه، فرده قنب، فأدمى
الأشعث أنفه، فخرج علي وهو يقول: مالي ولك يا أشعث؛ أما والله لو بعبد
ثقيف تمرست لاقشعرت شعيراتك؛ قيل: يا أمير
المؤمنين، ومن عبد ثقيف؛ قال: غلامٌ لهم لا يبقي
أهل بيت من العرب إلا أدخلهم ذلاً، قيل: يا أمير المؤمنين، كم يلي - أو كم يمكث؟
قال: عشرين، إن بلغها. قال أبو مخنف: فهمدان تذكر
أن رجلاً منهم، يكنى أبا أدماء أخذ ابن ملجم. وقال غيرهم: بل أخذه المغيرة بن الحارث بن عبد المطلب، طرح عليه قطيفة ثم
صرعه، وأخذ السيف من يده وجاء به. قال أبو مخنف: فحدثني أبي، عن عبد الله بن محمد الأزدي، قال: أدخل ابن ملجم على علي رضي الله عنه، ودخلت عليه
فيمن دخل، فسمعت علياً يقول: النفس بالنفس، إن أنا مت فاقتلوه كما قتلني،
وإن سلمت رأيت فيه رأيي؛ فقال ابن ملجم: ولقد
اشتربته بألفٍ - يعني السيف -، وسممته بألف، فإن خانني فأبعده الله؛ قال: فنادته أم كلثوم: يا عدو الله، قتلت أمير
المؤمنين؛ قال إنما قتلت أباك، قالت: يا عدو
الله؛ إني لأرجو ألا يكون عليه بأس، قال: فأراك
إنما تبكين علياً إذاً والله لقد ضربته ضربة لو قسمت بين أهل الأرض لأهلكتهم.
قال:
وانصرف الناس من صلاة الصبح، فأحدقوا بابن ملجم،
ينهشون لحمه بأسنانهم كأنهم السباع، ويقولون: يا
عدو الله، ماذا صنعت؛ أهلكت أمة محمد، وقتلت خير الناس؛ وإنه لصامت ما ينطق. قال أبو الفرج: ثم جمع له أطباء الكوفة، فلم يكن منهم أحدٌ أعلم بجرحه من
أثير بن عمرو بن هانئ السكوني – وكان متطبباً صاحب
كرسي يعالج الجراحات، وكان من الأربعين غلاماً الذين كان خالد بن الوليد أصابهم
في عين التمر فسباهم - فلما نظر أثير إلى جرح أمير المؤمنين دعا برئة شاة حارة،
فاستخرج منها عرقاص، وأدخله في الجرح، ثم نفخه، ثم استخرجه، وإذا عليه بياض الدماغ، فقال:
يا أمير المؤمنين، اعهد عهدك؛ فإن عدو الله قد وصلت
ضربته إلى أم رأسك. فدعا علي رضي الله عنه عند ذلك بدواة
وصحيفة، وكتب وصيته: هذا ما أوصى به أمير
المؤمنين علي بن أبي طالب؛ أوصى بأنه يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده
ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون؛ صلوات
الله وبركاته عليه؛ إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له،
وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين. اوصيك يا حسن وجميع ولدي وأهل بيتي ومن بلغه
كتابي هذا بتقوى الله ربنا وربكم، ولا تموتن إلا وأنتم
مسلمون، واعتصموا بحبل الله جميعاًولا تفرقوا، فإني
سمعت رسول الله يقول: "صلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام،
وإن المبيرة حالقة الدين إفساد ذات البين، ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. انظروا إلى
ذوي أرحامكم فصلوها يهون الله عليكم الحساب. والله الله في الأيتام فلا تغيرن
أفواههم بجفوتكم. والله الله في جيرانكم، فإنها وصية رسول الله صلى الله عليه
وسلم؛ فما زال يوصينا بهم حتى ظننا أنه سيورثهم الله؛ والله الله في القرآن فلا
يسبقنكم بالعمل به غيركم، والله الله في الصلاة، فإنها عماد دينكم، والله الله
في صيام شهر رمضان فإنه جنة من النار. والله الله في الجهاد بأموالكم وأنفسكم، والله الله
في زكاة أموالكم، فإنها تطفىء غضب ربكم، والله الله في أهل بيت نبيكم فلا يظلمن
بين أظهركم، والله الله في أصحاب نبيكم فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى
بهم. والله الله في الفقراء والمساكين فأشركوهم في
معايشكم. والله الله فيما ملكت أيمانكم فإنه كانت آخر وصية رسول الله صلى الله
عليه وسلم إذ قال: "أوصيكم بالضعيفين؛ فيما ملكت أيمانكم"، ثم الصلاة
الصلاة لا تخافوا في الله لومة لائم يكفكم من بغى عليكم، ومن أرادكم بسوء. قولوا للناس حسناً، كما أمركم الله به، ولا تتركوا
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيتولى ذلك غيركم، وتدعون فلا يستجاب لكم.
عليكم بالتواضع والتباذل والتبار، وإياكم والتقاطع والتفرق والتدابر، تعاونوا
على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان، واتقوا الله إن الله شديد
العقاب. حفظكم الله من أهل بيت، وحفظ فيكم نبيه، أستودعكم الله
خيرمستودع، وعليكم سلام الله ورحمته. أحدهما لا
تجيعوهم، فإن المجائع يخلف فمه، وتتغير نكهته. والثاني:
لا تحوجوهم إلى تكرار الطلب والسؤال، فإن السائل ينضب ريقه وتنشف لهواته، ويتغير
ريح فمه. وقوله
حكاية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أوصيكم بالضعيفين فيما ملكت أيمانكم". يعني به الحيوان الناطق والحيوان
الأعجم. قال أبو الفرج:
قال: حدثني أحمد بن عيسى، قال: حدثنا الحسين بن نصر، قال: حدثنا زيد بن المعدل،
عن يحيى بن شعيب، عن أبي مخنف، عن فضيل بن خديج، عن الأسود الكندي والأجلح؛
قالا، توفي علي رضي الله عنه وهو
ابن أربع وستين سنة في عام أربعين من الهجرة، ليلة الأحد لإحدى وعشرين ليلة مضت
من شهر رمضان، وولي غسله ابنه الحسن وعبد الله بن العباس، وكفن في ثلاثة أثواب
ليس فيها قميص، وصلى عليه ابنه الحسن، فكبر خس
تكبيرات، ودفن بالرحبة، مما يلي أبواب كندة عند صلاة الصبح، هذه رواية أبي مخنف. قال أبو الفرج: وحدثني أحمد
بن سعيد، قال: حدثنا يحيى بن الحسن العلوي، قال: حدثنا يعقوب بن زيد، عن ابن أبي
عمير، عن الحسن بن علي الخلال، عن جده، قال: قلت للحسين بن علي رضي الله عنه: أين دفنتم أمير المؤمنين رضي الله عنه؟ قال: خرجنا به ليلاً من منزله حتى مررنا به على منزل
الأشعث بن قيس، ثم خرجنا به إلى الظهر بجنب الغري. قلت: وهذه
الرواية هي الحق وعليها العمل؛ وقد قلنا فيما تقدم أن أبناء الناس أعرف
بقبور آبائهم من غيرهم من الأجانب، وهذا القبر الذي بالغري، هو الذي كان بنو علي
يزورونه قديماً وحديثاً؛ ويقولون: هذا قبر
أبينا، لا يشك أحد في ذلك من الشيعة، ولا من غيرهم؛ أعني بني علي من ظهر الحسن والحسين
وغيرهما من سلالته، المتقدمين منهم والمتأخرين، ما زاروا ولا وقفوا إلا على هذا
القبر بعينه. وأنشدني قول الشاعر يرثي زياداً، وقد ذكره أبو تمام في الحماسة:
وسألت قطب الدين نقيب الطالبيين أبا عبد الله الحسين بن الأقساسي
رحمه الله تعالى عن ذلك، فقال:
صدق من أخبرك؛ نحن وأهلها كافة نعرف مقابر ثقيف إلى الثوية، وهي إلى اليوم
معروفة، وقبر المغيرة فيها، إلا أنها لا تعرف، وقد ابتلعها السبخ وزبد الأرض
وفورانها، فطمست واختلط بعضها ببعض. ثم قال: إن شئت
أن تتحقق أن قبر المغيرة في مقابر ثقيف فانظر إلى كتاب الأغاني لأبي الفرج علي
بن الحسين، والمح ما قاله في ترجمة المغيرة، وأنه مدفون في مقابر ثقيف، ويكفيك
قول أبي الفرج، فإنه الناقد البصير، والطبيب الخبير؛ فتصفحت ترجمة المغيرة في
الكتاب المذكور، فوجدت الأمر كما قاله النقيب. قال أبو الفرج:
كان مصقلة بن هبيرة الشيباني قد لاحى المغيرة في شيء كان بينهما منازعة، فضرع له
المغيرة وتواضع في كلامه، حتى طمع فيه مصقلة، فاستعلى عليه وشتمه، وقال: إني
لأعرف شبهي في عروة ابنك، فأشهد المغيرة على قوله هذا شهوداً، ثم قدمه إلى شريح
القاضي، فأقام عليه البينة، فضربه شريح الحد وآلى مصقلة ألا يقيم ببلدة فيها
المغيرة، فلم يدخل الكوفة، حتى مات المغيرة، فدخلها، فتلقاه قومه فسلموا عليه،
فما فرغ من السلام حتى سألهم عن مقابر ثقيف، فأرشدوه إليها، فجعل قوم من مواليه
يلتقطون الحجارة، فقال لهم: ما هذا؟ فقالوا: نظن
أنك تريد أن ترجم قبر المغيرة، فقال: ألقوا ما في أيديكم فانطلق حتى وقف
على قبره، ثم قال: والله لقد كنت - ما علمت
- نافعاً لصديقك، ضاراً لعدوك، وما مثلك إلا كما قال
مهلهل في كليب أخيه:
قال أبو الفرج:
فأما ابن ملجم، فإن الحسن بن علي بعد دفنه
أمير المؤمنين دعا به وأمر بضرب عنقه، فقال له: إن رأيت أن تأخذ علي العهود أن
أرجع إليك حتى أضع يدي في يدك، بعد أن أمضي إلى الشام، فأنظر ما صنع صاحبي
بمعاوية، فإن كان قتله وإلا قتلته ثم عدت إليك حتى تحكم في حكمك. فقال: هيهات،
والله لا تشرب الماء البارد حتى تلحق روحك بالنار، ثم ضرب عنقه، واستوهبت أم
الهيثم بنت الأسود النخعية جثته منه، فوهبها لها، فأحرقتها بالنار. وقال ابن أبي مياس الفزاري، وهو من الخوارج:
وقال
عبد الله بن العباس بن عبد المطلب:
قال أبو الفرج: وأنشدني عمي الحسن بن محمد، قال: أنشدني محمد بن سعد، لبعض
بني عبد المطلب، يرثي علياً، ولم يذكر اسمه:
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن كلام له في ذم أهل العراق
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: أما
بعد يا أهل العراق، فإنما أنتم كالمرأة الحامل، حملت فلما أتمت أملصت ومات
قيمها، وطال تأيمها، وورثها أبعدها. أما والله
ما أتيتكم أختياراً؛ ولكن جئت إليكم سوقاً، ولقد
بلغني أنكم تقولون: عليٌ يكذب، قاتلكم الله تعالى؛ فعلى من أكذب؛ أعلى
الله فأنا أول من آمن به؛ أم على نبيه؛ فأنا أول من صدق به؛ كلا والله؛ لكنها
لهجةٌ غبتم عنها، ولم تكونوا من أهلها، ويل امه كيلاً بغير ثمنٍ لو كان له وعاء،
ولتعلمن نبأه بعد حين. الشرح: أملصت الحامل:
ألقت ولدها سقاطاً وقيمها: بعلها. وتأيمها:
خلوها عن الأزواج؛ يقول: لما شارفتم استئصال أهل
الشام، وظهرت أمارات الظفر لكم، ودلائل الفتح، نكصتم وجنحتم إلى السلم والإجابة
إلى التحكيم عند رفع المصاحف، فكنتم كالمرأة الحامل لما أتمت أشهر حملها
ألقت ولدها إلقاء غير طبيعي؛ نحو أن تلقيه لسقطةٍ أو ضربة أو عارض يقتضي أن
تلقيه هالكاً. ثم لم يكتف لهم بذلك، حتى قال:
"ومات بعلها، وطال تأيمها، وورثها أبعدها"، أي لم يكن لها ولد وهو
أقرب المخلفين إلى الميت، ولم يكن لها بعل فورثها الأباعد عنها، كالسافلين من
بني عم، وكالمولاة تموت من غير ولد ولا من يجري مجراه، فيرثها
مولاها ولا نسب بينها وبينه. ثم أقسم أنه لم يأتهم اختياراً، ولكن المقادير
ساقته إليهم سوقاً، يعني اضطراراً. وصدق رضي الله عنه،
لأنه لولا يوم الجمل لم يحتج إلى الخروج من المدينة إلى العراق، وإنما استنجد بأهل الكوفة على أهل البصرة، اضطراراً
إليهم، لأنه لم يكن جيشه الحجازي وافياً
بأهل البصرة الذين أصفقوا على حربه ونكث بيعته، ولم يكن خروجه عن المدينة - وهي دار الهجرة - ومفارقته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقبر
فاطمة عن إيثار ومحبة؛ ولكن الأحوال تحكم وتسوق
الناس إلى ما لا يختارونه ابتداء. وقد روي هذا الكلام على وجه آخر: "ما أتيتكم
اختياراً، ولا جئت إليكم شوقاً" بالشين المعجمة. ثم قال: "بلغني أنكم
تقولون: يكذب"؛ وكان كثيراً ما يخبر عن الملاحم والكائنات ويومىء
إلى أمور أخبره بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول
المنافقون من أصحابه: يكذب كما كان المنافقون الأولون في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون
عنه: يكذب. وروى صاحب كتاب " الغارات" عن الأعمش، عن
رجاله، قال: خطب علي رضي الله عنه، فقال:
والله لو أمرتكم فجمعتم من خياركم مائة، ثم
لو شئت لحدثتكم من غدوة إلى
أن تغيب الشمس؛ لا أخبرتكم إلا حقاً؛ ثم لتخرجن فلتزعمن أني أكذب الناس وأفجرهم. وقد روى صاحب هذا الكتاب وغيره من الرواة أنه قال:
إن أمرنا صعب مستصعب، لا يحمله إلا ملك مقرب، أو نبيٌ مرسل، أو عبدٌ امتحن الله
قلبه للإيمان. وهذا
الكلام منه كلام عارفٍ عالم بأن في الناس من لا يصدقه فيما يقول؛ وهذا أمر مركوز
في الجبلة البشرية، وهو استبعاد الأمور الغريبة، وتكذيب الإخبار بها. وإذا تأملت
أحواله في خلافته كلها وجدتها هي مختصرة من أحوال
رسول الله صلى الله عليه وسلم فى حياته؛ كأنها نسخة
منتسخة منها، في حربه وسلمه، وسيرته وأخلاقه، وكثرة شكايته من المنافقين من
أصحابه والمخالفين لأمره؛ وإذا أردت أن تعلم ذلك علماً واضحاً، فاقرأ سورة
"براءة" ففيها الجم الغفير من المعنى الذي أشرنا إليه. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
مطاعن النظام على الإمام علي والرد عليه
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
واعلم أن النظام لما تكلم في كتاب
"النكت"، وانتصر لكون الإجماع ليس بحجة،
اضطر إلى ذكر عيوب الصحابة، فذكر لكل منهم
عيباً، ووجه إلى كل واحد منهم طعناً، وقال في علي: إنه
لما حارب الخوارج يوم النهروان، كان يرفع رأسه إلى
السماء تارة ينظر إليها، ثم يطرق إلى الأرض فينظر إليها تارةً أخرى، يوهم أصحابه
أنه يوحى إليه، ثم يقول: "ما كذبت ولا
كذبت"، فلما فرغ من قتالهم وأديل عليهم، ووضعت الحروب أوزارها، قال الحسن ابنه: يا أمير المؤمنين، أكان رسول الله
صلى الله عليه وسلم تقدم
إليك في أمر هؤلاء بشيء؛ فقال: لا، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني بكل حق، ومن الحق أن أقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين. قال النظام:
وقوله: "ما كذبت ولا كذبت"، ورفعه
رأسه أحياناً إلى السماء وإطراقه إلى الأرض إيهام؛ إما
لنزول الوحي عليه، أو لأنه قد اوصي من قبل في شأن الخوارج بأمر. ثم هو يقول:
ما أوصي فيهم على خصوصيتهم بأمر؛ وإنما أوصي بكل الحق، وقتالهم من الحق، وهذا عجيب طريف. فنقول:
إن النظام أخطأ عندنا في تعريضه بهذا الرجل خطأ قبيحاً، وقال قولاً منكراً؛ نستغفر الله له من عقابه، ونسأله عفوه عنه؛ وليست الرواية التي رواها عن الحسن وسؤاله لأبيه وجوابه له،
بصحيحة ولا معروفة، والمشهور
المعروف المنقول نقلاً يكاد يبلغ درجة المتواتر من الأخبار، ما روي عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم في
معنى الخوارج بأعيانهم وذكرهم بصفاتهم، وقوله صلى الله عليه
وسلم
لعلي
رضي الله عنه: "إنك مقاتلهم وقاتلهم،
وإن المخدج ذا الثدية منهم؛ وإنك ستقاتل بعدي الناكثين والقاسطين
والمارقين"؛ فجعلهم أصنافاً ثلاثة حسب ما وقعت
الحال عليه. وهذا من معجزات الرسول صلى
الله عليه وسلم، وإخباره عن
الغيوب المفصلة. فما أعلم من أي كتاب نقل النظام هذه
الرواية، ولا عن أي محدث رواها، ولقد كان رحمه الله لعالى بعيداً عن معرفة
الأخبار والسير منصباً فكره، مجهداً نفسه في الأمور النظرية الدقيقة. كمسألة الجزء، ومداخلة الأجسام وغيرهما، ولم يكن الحديث والسير من فنونه ولا من علومه؛ ولا
ريب أنه سمعها ممن لا يوثق بقوله، فنقلها كما
سمعها. فأما كونه رضي الله عنه كان ينظر تارةً إلى السماء، وتارةً إلى الأرض. وقوله: "ما كذبت ولا
كذبت"، فصحيح وموثوق بنقله، لاستقامته
وشهرته وكثرة رواته؛ والوجه في ذلك أنه استبطأ وجود المخدج حيث طلبه في جملة
القتلى. فلما طال الزمان، وأشفق من دخول شبهة على أصحابه لما كان قدمه إليهم من
الأخبار قلق واهتم. وجعل يكرر قوله: "ما كذبت
ولا كذبت" أي ما كذبت على رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا كذبني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما
أخبرني به. فأما رفعه رأسه إلى السماء تارة، وإطراقه إلى الأرض أخرى؛ فإنه حيث
كان يرفع رأسه، كان يدعو ويتضرع إلى الله في تعجيل
الظفر بالمخدج؛ وحيث يطرق كان يغلبه الهم والفكر فيطرق. ثم حين يقول: "ما كذبت ولا كذبت"،
كيف ينتظر نزول الوحي، فإن من نزل عليه الوحي لا يحتاج أن يسند الخبر إلى غيره،
ويقول: ما كذبت فيما أخبرتكم به عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم. ومما طعن له النظام عليه أنه رضي
الله عنه قال: إذا
حدثتكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو
كما حدثتكم، فوالله لأن أخر من السماء أحب إلي من أن أكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا
سمعتموني أحدثكم فيما بيني وبينكم؛ فإنما الحرب خدعة. قال النظام: هذا يجري مجرى التدليس في الحديث، ولو لم يحدثهم عن رسول الله بالمعاريض؛ وعلى
طريق الإيهام لما اعتذر من ذلك. فنقول في الجواب:
إن النظام قد وهم وانعكس عليه مقصد أمير المؤمنين؛
وذلك أنه رضي الله عنه لشدة
ورعه أراد أن يفصل للسامعين بين ما يخبر به عن نفسه، وبين ما يرويه عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لأن
الضرورة ربما تدعوه إلى استعماله المعاريض، لا سيما في الحرب المبنية على
الخديعة والرأي؛ فقال لهم: كلما أقول لكم
قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاعلموا
أنه سليمٌ من المعاريض، خالٍ من الرمز والكناية، لأني لا أستجيز ولا أستحل أن
اعمي أو ألغز في حديث رسول الله صلى
الله عليه وسلم. وما حدثتكم به عن نفسي، فربما أستعمل فيه المعاريض؛
لأن الحرب خدعة. وهذا كلام رجل قد استعمل التقوى والورع في جميع أموره، وبلغ من
تعظيم أمر الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام، وإجلال قدره واحترام حديثه ألا
يرويه إلا بألفاظه لا بمعانيه، ولا بأمر يقتضي فيه إلباساً وتعميةً، ولو كان مضطراً إلى
ذلك؛ ترجيحاً للجانب الذي على جانب مصلحته في خاص نفسه. فأما إذا هو قال
كلاماً يبتدىء به من نفسه، فإنه قد يستعمل فيه المعاريض إذا اقتضت الحكمة
والتدبير ذلك؛ فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم باتفاق الرواة كافة إذا أراد أن
يغزو وجهاً ورى عنه بغيره، ولما خرج رضي الله عنه من
المدينة لفتح مكة، قال لأصحابه كلاماً يقتضي أنه
يقصد بني بكر بن عبد مناة من كنانة، فلم يعلموا حقيقة حاله حتى شارف مكة.
وقال حين هاجر وصحبه أبو بكر الصديق لأعرابي
لقيهما: من أين أنت؟ وممن أنت؟ فلما انتسب لهما، قال له الأعرابي: أما أنا فقد
أطلعتكما طلع أمري؛ فممن أنت؟ فقال: من ماء، لم يزده على ذلك؛ فجعل
الأعرابي يفكر، ويقول: من أي ماء؟ من ماء بني فلان، من ماء بني فلان؛ فتركه ولم
يفسر له؛ وإنما أراد رضي الله عنه أنه مخلوقٌ من نطفة. فأما قول النظام: "لو لم يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمعاريض لما اعتذر من ذلك"؛ فليس في كلامه اعتذار؛
ولكنه نفى أن يدخل المعاريض في روايته؛ وأجازها فيما يبتدىء عن نفسه؛ وليس يتضمن
هذا اعتذاراً. وقوله: "لأن
أخر من السماء" يدل على أنه ما فعل ذلك ولا يفعله. أو يقول:
كنت معه يوم كذا؛ فسمعت منادياً يناديه من السماء: افعل كذا، أو نحو ذلك من
الإخبار بأمور لا تستند إلى حديث الرسول. ويمكن أن يعني بها لهجته هو، فيقول: إنها لهجة غبتم عن منافعها، وأعدمتم
أنفسكم ثمن مناصحتها. فقال:
"ويلمه"، وهذه كلمة تقال للتعجب
والاستعظام؛ يقال: "ويلمه فارساً"
وتكتب موصولة كما هي بهذه الصورة، وأصله "ويل أمه" مرادهم التعظيم والمدح،
وإن كان اللفظ موضوعاً لضد ذلك، كقوله عليه الصلاة
والسلام: "فاظفر بذات الدين تربت يداك"، وكقولهم للرجل يصفونه
ويقرظونه: "لا أبا له". وقال الحسن
البصري؛ وهو يذكر علياً رضي الله عنه، ويصف كونه على الحق في جميع أموره؛ حتى قال: "فلما شارف الظفر وافق على
التحكيم، وما لك في التحكيم والحق في يدك، لا أبا لك".
قال: أشهد أن لا أب له ولا صاحبة ولا ولد، فأخرجها
أحسن مخرج. ثم قال رضي الله عنه:
"كيلاً بغير ثمن لو كان له وعاء"، انتصب "كيلاً" لأنه مصدر
في موضع الحال، ويمكن أن ينتصب على التمييز، كقولهم:
لله دره فارساً يقول: أنا أكيل لكم العلم والحكمة كيلاً ولا أطلب لذلك ثمناً لو
وجدت وعاء أي حاملاً للعلم؛ وهذا مثل قوله رضي الله عنه: ها
إن بين جنبي علماً جماً لو أجد له حملةً. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
خطبة بعد انقضاء أمر النهروان
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وروى المدائني في كتاب
"صفين"، قال: خطب علي رضي
الله عنه بعد انقضاء أمر النهروان، فذكر طرفاً من الملاحم، قال: إذا كثرت
فيكم الأخلاط، واستولت الأنباط؛ دنا خراب العراق، ذاك إذا بنيت مدينة ذات أثلٍ
وأنهار. فإذا غلت فيها الأسعار، وشيد فيها البنيان، وحكم
فيها الفساق، واشتد البلاء، وتفاخر الغوغاء؛ دنا خسوف البيداء، وطاب الهرب
والجلاء. وستكون قبل
الجلاء أمورٌ يشيب منها الصغير، ويعطب الكبير، ويخرس الفصيح ويبهت اللبيب؛
يعاجلون بالسيف صلتاً، وقد كانوا قبل ذلك في غضارة من عيشهم يمرحون. فيا لها
مصيبة حينئذ من البلاء العقيم، والبكاء الطويل، والويل والعويل، وشدة الصريخ؛ في
ذلك أمر الله - وهو كائن، وقتاً - يريج. فيا بن حرة الإماء، متى تنتظر أبشر
بنصرٍ قريب من رب رحيم. ألا فويلٌ للمتكبرين؛ عند حصاد الحاصدين، وقتل
الفاسقين. عصاة ذي العرش العظيم؛ فبأبي وأمي من عدة قليلة؛ أسماؤهم في الأرض
مجهولة. قد دنا حينئذ ظهورهم، ولو شئت لأخبرتكم بما يأتي
ويكون من حوادث دهركم ونوائب زمانكم، وبلايا أيامكم، وغمرات ساعاتكم، ولكنه
أفضيه إلى من أفضيه إليه، مخافة عليكم، ونظراً لكم؛ علماً مني بما هو كائن وما
يكون من البلاء الشامل؛ ذلك عند تمرد الأشرار، وطاعة أولي الخسار ذاك أوان الحتف
والدمار، ذاك إدبار أمركم، وانقطاع أصلكم وتشتت إلفتكم؛ وإنما يكون ذلك عند ظهور
العصيان، وانتشار الفسوق؛ حيث يكون الضرب بالسيف أهون على المؤمنين من اكتساب
درهم حلال؛ حين لا تنال المعيشة إلا بمعصية الله في سمائه، حين تسكرون من غير
شراب، وتحلفون من غير اضطرار، وتظلمون من غير منفعة، وتكذبون من غير إحراج. تتفكهون
بالفسوق، وتبادرون بالمعصية. قولكم البهتان، وحديثكم الزور، وأعمالكم الغرور؛
فعند ذلك لا تأمنون البيات، فيا له من بيات ما أشد ظلمته؛ ومن صائح ما أفظع
صوته؛ ذلك بيات لا ينمي صاحبه؛ فعند ذلك تقتلون، وبأنواع البلاء تضربون، وبالسيف
تحصدون، وإلى النار تصيرون، ويعضكم البلاء كما يعض الغارب القتب. يا عجباً كل
العجب، ببن جمادى ورجب؛ من جمع أشتات، وحصد نبات، ومن أصوات بعدها أصوات. ثم قال: سبق القضاء سبق القضاء. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
بعض مما قاله عليه السلام
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وروى المدائني أيضاً، قال: خطب علي رضي
الله عنه، فقال:
لو كسرت لي الوسادة لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم، وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم،
وبين أهل الفرقان بفرقانهم، وما من آية في كتاب الله أنزلت في سهل أو جبل إلا
وأنا عالم متى أنزلت، وفيمن أنزلت. وروى صاحب كتاب "الغارات"
عن المنهال بن عمرو، عن عبد الله بن الحارث، قال: سمعت علياً يقول على المنبر: ما
أحدٌ جرت عليه الموالمي إلا وقد أنزل الله فيه قرآناً؛ فقام إليه رجل، فقال: يا
أمير المؤمنين، فما أنزل الله تعالى فيك؛ قال: يريد تكذيبه. فقام الناس إليه
يلكزونه في صدره وجنبه، فقال: دعوه، أقرأت سورة هود؟ قال نعم، قال: أقرأت قوله سبحانه: "أفمن كان على بينةٍ من ربه ويتلوه شاهدٌ
منه" قال: نعم، قال: صاحب البينة محمد، والتالي الشاهد أنا. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
خطبة له علم فيها الناس الصلاة على النبي صلى الله
عليه وأله وصحبه وسلم
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: اللهم
داحي المدحوات، وداعم المسموكات، وجابل القلوب على فطراتها شقيها وسعيدها؛ اجعل
شرائف صلواتك، ونوامي بركاتك، على محمدٍ عبدك ورسولك. الخاتم لما سبق، والفاتح
لما انغلق، والمعلن الحق بالحق، والدافع جيشات الأباطيل، والدامغ صولات
الأضاليل. كما
حمل فاضطلع، قائماً بأمرك، مستوفزاً في مرضاتك، غير ناكلٍ عن قدمٍ، ولا واهٍ في
عزمٍ، واعياً لوحيك، حافظاً لعهدك. ماضياً
على نفاذ أمرك؛ حتى أورى قبس القابس، وأضاء الطريق للخابط، وهديت به القلوب بعد
خوضات الفتن والآثام. وأقام بموضحات الأعلام ونيرات الأحكام، فهو أمينك المأمون،
وخازن علمك المخزون، وشهيدك يوم الدين، وبعيثك بالحق، ورسولك إلى الخلق. وداحي
المدحوات، ينتصب لأنه منادى مضاف، تقديره: يا باسط الأرضين المبسوطات. قوله:
"وداعم المسموكات"، أي حافظ السموات المرفوعات؛ دعمت الشيء إذا حفظته
من الهوي بدعامة، والمسموك: المرفوع، قال:
ويجوز
أن يكون عنى بكونها مسموكة كونها ثخينة. وسمك
الجسم هو البعد الذي يعبر عنه المتكلمون بالعمق وهو قسيم الطول والعرض، ولا شيء
أعظم ثخناً من الأفلاك. قوله: "وجابل القلوب" أي خالقها،
والجبل الخلق، وجبلة الإنسان: خلقته، وفطراتها: بكسر الفاء وفتح الطاء: جمع
فطرة، ويجوز كسر الطاء، كما قالوا في سدرة: سدرات وسدرات، والفطرة: الحالة التي يفطر الله عليها الإنسان، أي
يخلقه عليها خالياً من الآراء والديانات والعقائد والأهوية؛ وهي ما يقتضيه محض
العقل؛ وإنما يختار الإنسان بسوء نظره ما يفضي به إلى الشقوة؛ وهذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "كل مولود
يولد على الفطرة، فإنما أبواه يهودانه أو ينصرانه". والنوامي:
الزوائد. والخاتم لما سبق؛ أي لما سبق من الملل. والفاتح لما انغلق من أمر الجاهلية. والمعلن
الحق بالحق، أي المظهر للحق الذي هو خلاف الباطل بالحق، أي بالحرب والخصومة؛
يقال: حاق فلان فلاناً فحقه، أي خاصمه فخصمه. ويقال: ما فيه حق أي خصومة. قوله: "والدافع جيشات الأباطيل"، جمع جيشة، من جاشت القدر إذا ارتفع
غليانها. والأباطيل:
جمع باطل على غير قياس؛ والمراد أنه قامع ما نجم من الباطل. والدامغ: المهلك، من دمغه أي شجه حتى بلغ
الدماغ؛ ومع ذلك يكون الهلاك. والصولات:
جمع صولة وهي السطوة. والأضاليل: جمع ضلال على غير قياس.
أي
هذه الضربة لبغيك علينا، وتعديك، وقوله: "كما حمل" يعني حمل أعباء
الرسالة. فاضطلع، أي نهض بها قوياً؛ فرس ضليع أي قوي؛ وهي الضلاعة، أي القوة.
مستوفزاً، أي غير بطيء، بل يحث نفسه ويجهدها في رضا الله سبحانه، والوفز:
العجلة، والمستوفز: المستعجل. غير ناكلٍ عن قدم، أي غير جبان ولا متأخر عن
إقدام، والمقدام: المتقدم؛ يقال مضى قدماً أي تقدم وسار ولم يعرج. واعياً لوحيك، أي فاهماً، وعيت الحديث، أي
فهمته وعقلته. ماضياً
على نفاذ أمرك، في الكلام حذف تقديره: ماضياً مصراً على نفاذ أمرك، كقوله تعالى:
"في تسع أيات إلى فرعون"، ولم
يقل: "مرسلاً" لأن الكلام يدل
بعضه على بعض. والقبس:
شعلة من النار؛ والمراد بالقبس ههنا نور الحق، والقابس:
الذي يطلب النار، يقال: قبست منه ناراً،
وأقبسني ناراً؛ أي أعطانيها. وقال الراوندي: أقبست
الرجل علماً، وقبسته ناراً؛ أعطيته؛ فإن كنت طلبتها له قلت: أقبسته ناراً. وهذه الألفاظ كلها
استعارات ومجازات. والأعلام
جمع علم، وهو ما يستدل به على الطريق، كالمنارة ونحوها. والموضحة:
التي توضح للناس الأمور وتكشفها. والنيرات:
ذوات النور.
وخازن علمك، المخزون بالجر صفة "علمك" والعلم الإلهي
المخزون:
هو ما أطلع الله تعالى عليه رسوله من الأمور الخفية التي لا تتعلق بالأحكام
الشرعية كالملاحم وأحكام الآخرة وغير ذلك، لأن الأمور الشرعية لا يجوز أن تكون
مخزونة عن المكلفين . وقوله: "وأعل على بناء البانين بناءه"، أي اجعل منزلته في دار الثواب أعلى
المنازل. وأتمم له نوره، من قوله تعالى: "ربنا
أتمم لنا نورنا". وقد روي أنه تطفأ سائر الأنوار إلا نور محمد صلى الله عليه وسلم، ثم يعطى المخلصون من أصحابه أنواراً
يسيرة يبصرون بها مواطىء الأقدام، فيدعون إلى الله تعالى بزيادة تلك الأنوار
وإتمامها. ثم إن الله تعالى يتم نور محمد صلى الله عليه وسلم، فيستطيل حتى يملأ
الآفاق، فذلك هو إتمام نوره صلى الله عليه وسلم . وقوله: "ذا
منطق عدل"، أي عادل، وهو مصدر أقيم مقام اسم الفاعل؛ كقولك: رجل فطر وصوم، أي مفطر وصائم. وقوله: "وخطبة فصل"
أي يخطب خطبة فاصلة يوم القيامة، كقوله تعالى: "إنه
لقولٌ فصلٌ، وما هو بالهزل"، أي فاصل يفصل بين الحق والباطل؛ وهذا
هو المقام المحمود الذي ذكره الله تعالى في الكتاب، فقال: "عسى أن يبعثك ربك مقاماً محوداً"، وهو الذي يشار إليه في الدعوات في قولهم: "اللهم آت محمداً الوسيلة والفضيلة، والدرجة
الرفيعة، وأبعثه المقام المحمود". قوله: "في برد العيش"؛
تقول العرب: عيش بارد ومعيشة باردة، أي لا حرب فيها ولا نزاع، لأن البرد والسكون
متلازمان كتلازم الحر والحركة. ومنى الشهوات:
ما تتعلق به الشهوات من الأماني. وأهواء اللذات: ما تهواه النفوس وتستلذه. والرخاء، المصدر من قولك: رجل رخي البال فهو بين
الرخاء، أي واسع الحال. والدعة: السكون والطمأنينة، وأصلها الواو. ومنتهى الطمأنينة،
غايتها التي ليس بعدها غاية، والتحف: جمع
تحفة؛ وهي ما يكرم به الإنسان من
البر واللطف، ويجوز فتح الحاء. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
معنى الصلاة على الرسول صلي الله عليه وآله وسلم
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
فإن قلت: ما
معنى الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم،
التي قال الله تعالى فيها: "إن الله وملائكته
يصلون على النبي يا أيها الذين أمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً". فمن الناس من لم يقل بوجوبها، وجعل الأمر في هذه
الآية للندب ومنهم من قال: إنها واجبة. واختلفوا في حال وجويها؛ فمنهم من أوجبها كلما جرى
ذكره، وفي الحديث: "من ذكرت عنده فلم يصل علي دخل النار وأبعده الله"؛
ومنهم من قال: تجب في كل مجلس مرة واحدة،
وإن تكرر ذكره. ومنهم من أوجبها في العمر مرة واحدة، وكذلك قال في
إظهار الشهادتين. وروي عن إبراهيم النخعي
أنهم كانوا يكتفون - يعني الصحابة - عنها بالتشهد، وهو:
"السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته"، وأوجبها الشافعي
وأصحابه. واختلف أصحابه في وجوب الصلاة على آل محمد صلى الله عليه وسلم،
فالأكثرون
على أنها واجبة، وأنها
شرط في صحة الصلاة. فإن قلت: فما تقول في
الصلاة على الصحابة والصالحين من المسلمين؛ قلت: القياس جواز الصلاة على كل مؤمن، لقوله
تعالى: "هو الذي يصلي عليكم وملائكته"،
وقوله: "وصل عليهم إن صلاتك سكنٌ لهم"؛
وقوله: "أولئك عليهم صلواتٌ من ربهم
ورحمةٌ"؛ ولكن العلماء قالوا: إذا
ذكر أحد من المسلمين تبعاً للنبي صلى
الله عليه وسلم فلا كلام في
جواز ذلك؛ وأما إذا افردوا أو ذكر أحد منهم؛ فأكثر الناس كرهوا الصلاة عليه؛ لأن
ذلك شعار رسول الله فلا يشركه فيه غيره. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
كلام له قاله لمروان بن الحكم بالبصرة
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: قالوا:
أخذ مروان بن الحكم أسيراً يوم الجمل فاستشفع الحسن والحسين عليهما السلام إلى
أمير المؤمنين عليه السلام، فكلماه فيه فخلى سبيله، فقالا
له: يبايعك يا أمير المؤمنين. قال عليه السلام: أولم يبايعني بعد قتل عثمان؛ لا
حاجة لي في بيعته؛ إنها كفٌ يهوديةٌ، لو بايعني بيده لغدر بسبته. أما إن له
إمرةً كلعقة الكلب أنفه، وهو أبو الأكبش الأربعة، وستلقى الأمة منه ومن ولده
يوماً أحمر. وقوله: "فاستشفع الحسن والحسين إلى أمير المؤمنين
رضي الله عنه"، هو الوجه، يقال: استشفعت فلاناً إلى فلان؛ أي سألته
أن يشفع لي إليه، وتشفعت إلى فلان في فلان فشفعني فيه تشفيعاً. وقول الناس: "استشفعت بفلان إلى
فلان" بالباء ليس بذلك الجيد. وقول أمير المؤمنين رضي الله عنه: "أو
لم يبايعني بعد قتل عثمان"؛ أي وقد غدر؛ وهكذا لو بايعني الآن. ومعنى قوله: "إنها كفٌ يهودية" أي غادرة،
واليهود تنسب إلى الغدر والخبث، وقال تعالى: "لتجدن
أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود". أحدهما: أن كون ذكر السبة إهانة له وغلظة عليه،
والعرب تسلك مثل ذلك في خطبها وكلامها؛ قال المتوكل
لأبي العيناء: إلى متى تمدح الناس وتذمهم؟ فقال: ما أحسنوا وأساءوا ثم قال: يا أمير المؤمنين، إن الله تعالى رضي عن واحد
فمدحه، وسخط على آخر فهجاه وهجا أمه؛ قال: "نعم
العبد إنه أوابٌ"، وقال: "عتل بعد
ذلك زنيمٍ"؛ والزنيم ولد الزنا. الوجه الثاني: أن يريد
بالكلام حقيقة لا مجازاً؛ وذلك لأن الغادر
من العرب كان إذا عزم على الغدر بعد عهد قد عاهده أو عقد قد عقده، حبق استهزاء
بما كان قد أظهره من اليمين والعهد؛ وسخرية وتهكماً. وقوله: "كلعقة
الكلب أنفه"، يريد قصر المدة، وكذلك
كانت مدة خلافة مروان، فإنه ولي تسعة أشهر. وهم: عبد الملك،
وعبد العزيز، وبشر، ومحمد؛ وكانوا كباشاً أبطالاً أنجاداً، أما عبد الملك فولي الخلافة، وأما بشر فولي
العراق، وأما محمد فولي الجزيرة، وأما عبد العزيز فولي مصر، ولكل منهم آثار مشهورة. وهذا التفسير أولى؛ لأن الوليد وإخوته أبناء ابنه، وهؤلاء بنوه لصلبه. ويقال لليوم الشديد: يوم
أحمر. وللسنة ذات الجدب: سنة حمراء،
وكل ما أخبر به أمير المؤمنين رضي الله عنه
في هذا الكلام وقع كما أخبر به؛ وكذلك قوله:
"يحمل راية ضلالة بعد ما يشيب صدغاه"،
فإنه ولي الخلافة وهو ابن خمسة وستين في أعدل
الروايات. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
نسب مروان بن الحكم وبعض أخباره
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ونحن ذاكرون في هذا الموضع نسبه،
وجملاً من أمره وولايته للخلافة؛ ووفاته على سبيل الاختصار: هو
مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، وأمه آمنة بنت
علقمة بن صفوان بن أمية الكناني. يكنى أبا عبد الملك، ولد على عهد
رسول الله صلى الله عليه وسلم: منذ سنة اثنتين من الهجرة، وقيل عام الخندق، وقيل يوم أحد؛
وقيل غير ذلك. وقال قومٌ: بل ولد بمكة،
وقيل: ولد بالطائف. ذكر ذلك كله أبو عمر بن عبد البر في كتاب
"الاستيعاب". قال أبو عمر:
وممن قال بولادته يوم أحد مالك بن أنس، وعلى قوله يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم قد
توفي، وعمره ثمان سنين أو نحوها. وقيل: إنه لما نفي مع أبيه إلى الطائف كان طفلاً
لا يعقل، وإنه لم ير رسول الله صلى
الله عليه وسلم، وكان
الحكم أبوه قد طرده رسول الله عن المدينة، وسيره إلى الطائف؛ فلم يزل بها
حتى ولي عثمان، فرده إلى المدينة، فقدمها هو وولده في خلافة عثمان، وتوفي، فاستكتبه عثمان وضمه إليه، فاستولى عليه إلى أن
قتل. والحكم بن أبي العاص هو عم عثمان بن عفان، كان من مسلمة الفتح،
ومن المؤلفة قلوبهم، وتوفي الحكم في خلافة عثمان قبل قتله بشهور. واختلف في السبب الموجب لنفي رسول
الله صلى الله عليه وسلم له فقيل: إنه كان يتحيل ويستخفي ويتسمع ما يسره رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أكابر الصحابة في مشركي قريش وسائر الكفار والمنافقين،
ويفشي ذلك عنه، حتى ظهر ذلك عنه. وقيل كان يتجسس
على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عند نسائه، ويسترق السمع، ويصغي إلى ما
يجري هناك مما لا يجوز الاطلاع عليه، ثم يحدث به المنافقين على طريق الاستهزاء.
قال صاحب الاستيعاب: أما قول عبد الرحمن بن حسان "إن
اللعين أبوك" فإنه روي عن عائشة من طرق ذكرها ابن أبي خيثمة وغيره،
أنها قالت لمروان إذ قال في أخيها عبد الرحمن
إنه أنزل فيه: "والذي قال لوالديه أفٍّ لكما
أتعدانني أن أخرج وقد خلت القرون من قبلي وهما يستغيثان الله ويلك آمن إن وعد
الله حق فيقول ما هذا إلا أساطير الأولين": أما أنت يا مروان فأشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن أباك وأنت فى صلبه. قال صاحب "الاستيعاب": ونظر علي رضي الله عنه يوماً إلى مروان، فقال له:
"ويل لك، وويل لأمة محمد منك ومن بنيك إذا شاب صدغاك". وكان
مروان يدعى خيط باطل؛ قيل: لأنه كان طويلاً مضطرباً.
وقيل:
إنما قال له أخوه عبد الرحمن ذلك حين ولاه معاوية إمرة المدينة، وكان كثيراً ما
يهجوه؛ ومن شعره فيه:
وقال
مالك بن الريب يهجو مروان بن الحكم:
ومن
شعر أخيه عبد الرحمن فيه:
ولما صار أمر الخلافة إلى معاوية، ولى مروان المدينة، ثم جمع له إلى
المدينة مكة والطائف، ثم عزله وولى سعيد بن العاص،
فلما مات يزيد بن معاوية، وولي ابنه أبو ليلى معاوية بن يزيد في سنة أربع وستين، عاش في الخلافة أربعين يوماً ومات، فقالت له أمه أم خالد بنت أبي هاشم بن عتبة بن ربيعة بن
عبد شمس: أجعل الخلافة من بعدك لأخيك، فأبى وقال: لا يكون لي مرها ولكم حلوها،
فوثب مروان عليها، وأنشد:
وذكر أبو الفرج علي بن الحسين الأصفهاني في كتاب
"الأغاني":
أن معاوية لما عزل مروان
بن الحكم عن إمرة المدينة والحجاز، وولى مكانه سعيد
بن العاص، وجه مروان أخاه عبد الرحمن بن الحكم أمامه إلى معاوية، وقال له: القه
قبلي فعاتبه لي واستصلحه.
فقال له معاوية: أزائراً جئت أم مفاخراً
مكابراً؟ فقال: أي ذلك شئت؛ فقال: ما أشاء
من ذلك شيئاً؛ وأراد معاوية أن يقطعه عن كلامه الذي عن له، فقال له: على أي ظهر جئتنا؟ فقال: على فرس، قال: ما صفته؟ قال: أجش هزيم - يعرض بقول النجاشي في معاوية يوم صفين:
فغضب معاوية، وقال: إلا أنه لا يركبه صاحبه في الظلم إلى الريب؛ ولا هو ممن
يتسور على جاراته، ولا يتوثب بعد هجعة الناس على كنائنه - وكان عبد الرحمن يتهم بذلك في امرأة أخيه - فخجل عبد الرحمن، وقال: يا أمير المؤمنين، ما حملك على عزل ابن عمك؟ ألخيانةٍ أوجبت ذلك، أم
لرأي رأيته وتدبير استصلحته؟ قال: بل لتدبير
استصلحته، قال: فلا بأس بذلك. فخرج من عنده فلقي أخاه مروان، فأخبره بما دار بينه وبين معاوية، فاستشاط
غيظاً وقال لعبد الرحمن: قبحك الله، ما أضعفك؛ عرضت
للرجل بما أغضبه، حتى إذا انتصر منك أحجمت عنه. ثم لبس خلته، وركب فرسه، وتقلد سيفه، ودخل على معاوية، فقال له حين رآه وتبين الغضب في وجهه: مرحباً بأبي عبد الملك؛ لقد
زرتنا عند اشتياق منا إليك، فقال: لا ها
الله، ما زرتك لذلك ولا قدمت عليك فألفيتك إلا عاقاً قاطعاً؛ والله ما أنصفتنا
ولا جزيتنا جزاءنا، لقد كانت السابقة من بني عبد شمس لآل أبي العاص، والصهر عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم،
والخلافة منهم، فوصلوكم يا بني حرب وشرفوكم وولوكم، فما عزلوكم ولا آثروا عليكم؛
حتى إذا وليتم وأفضى الأمر إليكم أبيتم إلا أثرة وسوء صنيعة وقبح قطيعة، فرويداً
رويداً فقد بلغ بنو الحكم وبنو بنيه نيفاً وعشرين، وإنما هي أيام قلائل حتى
يكملوا أربعين، ثم يعلم امرؤ ما يكون منهم حينئذ؛ ثم هم للجزاء بالحسنى والسوء
بالمرصاد. قال أبو الفرج: فقال له معاوية: مهلاً أبا عبد
الملك، إني لم أعزلك عن خيانة، وإنما عزلتك لثلاثةٍ لو لم يكن منهن إلا واحدة
لأوجبت عزلك: إحداهن أني أمرتك على عبد الله بن عامر، وبينكما ما بينكما،
فلن تستطيع أن تشتفي منه، والثانية كراهيتك
لإمرة زياد، والثالثة أن ابنتي رملة استعدتك
على زوجها عمرو بن عثمان، فلم تعدها. فقال مروان:
أما ابن عامر فإني لا أنتصر منه في سلطاني، ولكن
إذا تساوت الأقدام علم أين موقعه، وأما كراهتي
لإمرة زياد فإن سائر بني أمية كرهوه؛ وجعل الله لنا في ذلك الكره خيراً كثيراً. وأما استعداء رملة على عمرو؛ فوالله إنه ليأتي علي سنة أو أكثر وعندي بنت عثمان، فما
أكشف لها ثوباً - يعرض بأن رملة إنما تستعدي على
عمرو بن عثمان طلب النكاح - فغضب معاوية، فقال:
يا بن الوزغ؛ لست هناك؛ فقال مروان: هو
ما قلت لك؛ وإني الآن لأبو عشرة، وأخو عشرة، وعم
عشرة، وقد كاد ولد أبي أن يكملوا العدة -
يعني أربعين؛ ولو قد بلغوها لعلمت أين تقع مني.
فانخزل معاوية، وقال:
ثم استخذى معاوية في يد مروان وخضع، وقال: لك العتبى، وأنا رادك إلى عملك. فوثب مروان، وقال: كلا وعيشك لارأيتني عائداً وخرج. فقال الأحنف لمعاوية: ما رأيت قط لك سقطةً مثلها؛ ما
هذا الخضوع لمروان؛ وأي شيء يكون منه ومن بني أبيه إذا بلغوا أربعين؛ وما
الذي تخشاه منهم؛ فقال: ادن مني أخبرك ذلك، فدنا
الأحنف منه، فقال له: إن الحكم بن أبي العاص
كان أحد من قدم مع أختي أم حبيبة لما زفت
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وهويتولى نقلها إليه، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يحد النظر إليه، فلما خرج من عنده، قيل:
يا رسول الله، لقد أحددت النظر إلى الحكم فقال: ابن
المخزومية، ذاك رجل إذا بلغ بنو أبيه ثلاثين أو أربعين، ملكوا الأمر من بعدي،
فوالله لقد تلقاها مروان من عين صافية. فقال الأحنف: رويداً
يا أمير المؤمنين؛ لا يسمع هذا منك أحد؛ فإنك تضع من قدرك وقدر ولدك بعدك؛ وإن
يقض الله أمراً يكن. فقال معاوية: اكتمها
يا أبا بحر علي إذاً، فقد لعمرك صدقت ونصحت.
قال: وهذا حمق شديد، وضعف عظيم؛ قال:
وإنما ساد مروان وذكر بابنه عبد الملك، كما ساد بنوه، ولم يكن في
نفسه هناك. فأما خلافة مروان،
فذكر أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في
التاريخ أن عبد الله بن الزبير لما أخرج بني أمية عن الحجاز إلى الشام في خلافة
يزيد بن معاوية، خرجوا وفيهم مروان، وابنه عبد
الملك، ولم تطل مدة يزيد، فتوفي، ومات ابنه
بعده بأيام يسيرة. وكان من رأي مروان أن يدخل إلى ابن الزبير بمكة
فيبايعه بالخلافة، فقدم عبيد الله بن زياد، وقد أخرجه أهل البصرة عنها بعد وفاة
يزيد، فاجتمع هو وبنو أمية؛ وأخبروه بما قد أجمع عليه مروان، فجاء إليه، وقال: استحييت لك أبا عبد الملك، فما تريد، أنت
كبير قريش وسيدها تصنع ما تصنع، وتشخص إلى أبي خبيبٍ فتبايعه بالخلافة؛ فقال مروان: ما فات شيء بعد؛ فقام مروان، واجتمع إليه بنو أمية ومواليهم وعبيد
الله بن زياد وكثير من أهل اليمن وكثير من كلب، فقدم
دمشق وعليها الضحاك بن قيس الفهري، قد بايعه
الناس على أن يصلي بهم، ويقيم لهم أمرهم، حتى
يجتمع الناس على إمام، وكان هوى الضحاك مع ابن
الزبير إلا أنه لم يبايع له بعد، وكان زفر بن الحارث الكلابي
بقنسرين يخطب لابن الزبير، والنعمان بن بشير
الأنصاري بحمص يخطب لابن الزبير، وكان حسان بن مالك بن بحدل الكلبي بفلسطين يهوى هوى بني
أمية، ثم من بينهم بني حرب، لأنه كان عاملاً
لمعاوية، ثم ليزيد بن معاوية من بعده، وكان حسان
بن مالك مطاعاً في قومه، عظيماً عندهم؛ فخرج
عن فلسطين يريد الأردن، واستخلف على
فلسطين روح بن زنباع الجذامي، فوثب عليه بعد شخوص حسان
بن مالك وناتل بن قيس الجذامي أيضاً، فأخرجه
عن فلسطين، وخطب لابن الزبير، وكان له فيه هوىً، فاستوثقت
الشام كلها لابن الزبير، ما عدا الأردن؛ فإن حسان بن مالك الكلبي كان يهوى هوى بني أمية، ويدعو
إليهم؛ فقام في أهل الأردن فخطبهم؛ وقال لهم: ما شهادتكم على ابن الزبير
وقتلى المدينة بالحرة؟ قالوا: نشهد أن ابن الزبير
كان منافقاً؛ وأن قتلى أهل المدينة بالحرة في النار، قال: فما شهادتكم
على يزيد بن معاوية وقتلاكم بالحرة؟ قالوا نشهد أن يزيد بن معاوية كان مؤمناً، وكان قتلانا بالحرة في
الجنة، قال: وأنا أشهد أنه إن كان
دين يزيد بن معاوية وهو حي حقا، إنه اليوم لعلى حق هو وشيعته، وإن كان ابن الزبير يومئذ هو وشيعته على باطل؛ إنه
اليوم وشيعته على باطل؛ قالوا: صدقت، نحن نبايعك
على أن نقاتل معك من خالفك من الناس وأطاع
ابن الزبير، على أن تجنبنا ولاية هذين
الغلامين ابني يزيد بن معاوية، وهما خالد
وعبد الله، فإنهما حديثة أسنانهما ونحن نكره أن يأتينا الناس بشيخ
ونأتيهم بصبي. قال: وقد كان الضحاك
بن قيس يوالي ابن الزبير باطناً، ويهوى هواه،
ويمنعه إظهار ذلك بدمشق والبيعة له أن بني
أمية وكلباً كانوا بحضرته، وكلب أخوال يزيد
بن معاوية وبنيه، ويطلبون الإمرة لهم، فكان الضحاك يعمل في ذلك
سراً، وبلغ حسان بن مالك بن بحدل ما أجمع عليه الضحاك،
فكتب إليه كتاباً يعظم فيه حق بني أمية، ويذكر الطاعة والجماعة وحسن بلاء بني
أمية عنده وصنيعهم إليه، ويدعوه إلى بيعتهم وطاعتهم ويذكر
ابن الزبير ويقع فيه ويشتمه، ويذكر أنه منافق قد خلع خليفتين، وأمره أن
يقرأ كتابه على الناس؛ ثم دعا رجلاً من كلب يقال له ناغضة، فسرح بالكتاب معه إلى الضحاك
بن قيس، وكتب حسان نسخة ذلك الكتاب، ودفعه إلى ناغضة، وقال له: إن قرأ الضحاك كتابي على الناس، وإلا فقم أنت واقرأ هذا الكتاب عليهم، وكتب حسان إلى بني أمية يأمرهم أن يحضروا ذلك، فقدم ناغضة بالكتاب على الضحاك، فدفعه إليه، ودفع
كتاب بني أمية إليهم
سراً. فلما كان يوم الجمعة، وصعد
الضحاك على المنبر، وقدم إليه ناغضة، فقال:
أصلح الله الأمير؛ ادع بكتاب حسان فاقرأه على الناس،
فقال له الضحاك: اجلس، فجلس ثم قام
ثانية فتكلم مثل ذلك، فقال له: اجلس،
فجلس ثم قام ثالثة وكان كالثانية والأولى، فلما
رآه ناغضة لا يقرأ الكتاب أخرج الكتاب الذي معه، فقرأه على الناس، فقام الوليد بن عتبة
بن أبي سفيان، فصدق حسان، وكذب ابن الزبير وشتمه،
وقام يزيد أبي النمس الغساني، فصدق مقالة حسان
وكتابه، وشتم ابن الزبير، وقام سفيان بن أبرد الكلبي، فصدق مقالة حسان
وشتم ابن الزبير، وقام عمر بن يزيدالحكمي، فشتم حسان، وأثنى على ابن الزبير، فاضطرب الناس، ونزل الضحاك
بن قيس، فأمر بالوليد بن عتبة، وسفيان بن الأبرد، ويزيد بن أبي النمس الذين
كانوا صدقوا حسان، وشتموا ابن الزبير فحبسوا،
وجال الناس بعضهم في بعض، ووثبت كلب على عمر بن
يزيد الحكمي فضربوه، وخرقوا ثيابه. وقد كان قام خالد بن
يزيد بن معاوية فصعد مرقاتين من المنبر؛ وهو
يومئذ غلام، والضحاك بن قيس فوق المنبر، فتكلم بكلام أوجز فيه، لم يسمع بمثله، ثم
نزل. ثم إن الضحاك بن قيس خرج إلى مسجد دمشق، فجلس فيه؛ وذكر يزيد بن معاوية فوقع
فيه، فقام إليه سنان من كلب ومعه عصا؛ فضربه
بها؛ والناس جلوس حلقاً. متقلدي السيوف. فقام بعضهم إلى بعض في المسجد. فاقتتلوا، فكانت قيس عيلان قاطبةً تدعو إلى ابن الزبير ومعها
الضحاك،
وكلب تدعو إلى بني
أمية، ثم إلى خالد بن يزيد، فيتعصبون له، فدخل الضحاك
دار الإمارة، وأصبح الناس، فلم يخرج الضحاك
إلى صلاة الفجر. فمال الضحاك بمن معه
من الناس، وانخزل من بني أمية ومن معهم من
قبائل اليمن فنزل مرج راهط. وقال غيره: في سنة أربع وستين. قال أبو جعفر: وسارت بنو أمية ولفيفها حتى وافوا حسان بالجابية، فصلى
بهم أربعين يوماً، والناس يتشاورون، وكتب الضحاك بن
قيس من مرج راهط إلى النعمان بن بشير الأنصاري، وهو على حمص يستنجده؛ وإلى زفر
بن الحارث وهو في قنسرين، وإلى ناتل بن قيس وهو على فلسطين ليستمدهم؛ وكلهم على
طاعة ابن الزبير، فأمدوه، فاجتمعت الأجناد إليه بمرج راهط، وأما الذين
بالجابية فكانت أهواؤهم مختلفة، فأما مالك بن هبيرة السكوني، فكان يهوى هوى يزيد بن معاوية،
ويحب أن تكون الخلافة في ولده، وأما حصين بن نمير
السكوني؛ فكان يهوى هوى بني أمية؛ ويحب أن تكون الخلافة لمروان بن الحكم؛
فقال مالك بن هبيرة للحصين
بن نمير: هلم فلنبايع لهذا الغلام الذي نحن ولدنا أباه؛ وهو ابن أختنا؛ فقد عرفت منزلتنا التي كانت من أبيه؛
إنك إن تبايعه يحملك غداً على رقاب العرب - يعني خالد
بن يزيد - فقال الحصين: لا لعمر الله؛ لا يأتينا
العرب بشيخ؛ ونأتيها بصبي؛ فقال مالك: أظن هواك
في مروان؛ والله إن استخلفت مروان
ليحسدنك على سوطك وشراك نعليك، وظل شجرة تستظل بها. إن مروان أبو عشرة، وأخو عشرة وعم عشرة، فإن
بايعتموه كنتم عبيداً لهم، ولكن عليكم بابن أختكم
خالد بن يزيد فقال الحصين: إني رأيت
في المنام قنديلاً معلقاً من السماء، وأنه جاء كل من يمد عنقه إلى الخلافة
ليتناوله، فلم يصل إليه. وجاء مروان فتناوله، والله لنستخلفنه. فلما اجتمع رأيهم على بيعته، واستمالوا حسان بن بحدل إليها،
قام روح بن
زنباع الجذامي، فحمد الله وأثنى عليه، فقال:
أيها الناس؛ إنكم تذكرون لهذا الأمر عبد الله بن عمر بن الخطاب، وتذكرون
صحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم،
وقدمه في الإسلام، وهو كما تذكرون؛ لكنه رجل ضعيف، وليس صاحب أمة محمد بالضعيف؛
وأما عبد الله بن الزبير وما يذكر الناس من
أمره، وأن أباه حواري رسول الله صلى
الله عليه وسلم، وأمه أسماء بنت أبى بكر ذات
النطاقين؛ فهو لعمري كما تذكرون ولكنه منافق قد خلع
خليفتين: يزيد وأباه معاوية، وسفك الدماء، وشق عصا المسلمين؛ وليس صاحب أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالمنافق؛
وأما مروان بن الحكم فوالله ما كان في
الإسلام صدع قط إلا كان مروان ممن يشعب ذلك الصدع، وهو
الذي قاتل عن عثمان بن عفان يوم الدار، والذي قاتل علي بن أبي طالب يوم الجمل؛ وإنا نرى للناس أن يبايعوا الكبير، ويستشبوا الصغير - يعني
بالكبير مروان، وبالصغير خالد بن يزيد. فاجتمع رأي الناس على البيعة لمروان، ثم لخالد بن يزيد بعده؛ ثم لعمرو بن سعيد بن العاص
بعدهما، على أن تكون في أيام خلافة مروان إمرة دمشق لعمرو
بن سعيد، وإمرة
حمص لخالد بن يزيد. فلما استقر الأمر على ذلك، دعا حسان بن بحدل خالد بن يزيد؛ فقال: يابن أختي؛ إن الناس قد أبوك
لحداثة سنك، وإني والله ما أريد هذا الأمر إلا لك ولأهل بيتك؛ وما ابايع مروان
إلا نظراً لكم، فقال خالد: بل عجزت عنا، فقال: لا والله لم أعجز عنك، ولكن الرأي لك ما رأيت. ثم إن حسان دعا مروان بن الحكم، فقال
له:
يا مروان، إن الناس كلهم لا يرضون بك، فما ترى؟ فقال
مروان: إن يرد الله أن يعطينيها لم يمنعنيها أحد من خلقه؛ وإن يرد أن
يمنعنيها لا يعطينيها أحد من خلقه، فقال حسان:
صدقت. ثم صعد حسان المنبر، فقال:
أيها الناس؛ إني مستخلف في غد أحدكم إن شاء الله؛ فاجتمع الناس بكرة الغد
ينتظرون، فصعد حسان المنبر، وبايع لمروان، وبايع
الناس؛ وسار من الجابية حتى نزل بمرج راهط؛
حيث الضحاك بن قيس نازل،
فجعل مروان على ميمنته عمرو بن سعيد بن العاص، وعلى ميسرته عبيد الله بن زياد؛
وجعل الضحاك على ميمنته زياد بن عمرو بن معاوية العتكي، وعلى ميسرته ثور بن معن
السلمي؛ وكان يزيد
بن أبي النمس الغساني بدمشق، لم يشهد
الجابية، وكان مريضاً؛ فلما حصل الضحاك بمرج راهط ثار بأهل دمشق في عبيده وأهله،
فغلب عليها، وأخرج عامل الضحاك منها؛ وغلب على الخزائن وبيت المال، وبايع لمروان، وأمده من
دمشق بالرجال والمال والسلاح؛ فكان ذلك أول
فتح فتح لمروان. ثم وقعت الحرب بين مروان والضحاك؛ فاقتتلوا بمرج راهط عشرين ليلة؛
فهزم أصحاب الضحاك وقتلوا؛ وقتل
أشراف الناس من أهل الشام؛ وقتلت قيس مقتلة لم تقتل
مثلها في موطن قط، وقتل ثور بن معن السلمي الذي رد الضحاك عن رأيه. قال أبو جعفر: وروي أن بشير بن مروان كان صاحب
الراية ذلك اليوم، وأنه كان ينشد:
وصرع ذلك اليوم عبد العزيز بن مروان ثم استنقذ.
قال أبو جعفر:
وخرج الناس منهزمين بعد قتل الضحاك؛ فانتهى
أهل حمص إلى حمص؛ وعليها النعمان بن بشير، فلما
عرف الخبر خرج هارباً ومعه ثقله وولده، وتحير ليلته كلها، وأصبح وهو بباب مدينة
حمص، فرآه أهل حمص فقتلوه، وخرج زفر بن الحارث
الكلابي من قنسرين هارباً، فلحق
بقرقيسياء؛ وعليها عياض بن أسلم الجرشي فلم
يمكنه من دخولها، فحلف له زفر بالطلاق والعتاق أنه إذا دخل حمامها خرج منها، وقال له: إن لي حاجة إلى دخول الحمام، فلما دخلها لم
يدخل حمامها وأقام بها وأخرج عياضاً منها، وتحصن
فيها، وثابت إليه قيس عيلان؛ وخرج ناتل بن قيس
الجذامي من فلسطين هارباً؛ فالتحق بابن الزبير بمكة،
وأطبق أهل الشام على مروان، واستوثقوا له، واستعمل عليهم عماله، ففي ذلك يقول زفر بن الحارث:
وقال زفر بن الحارث أيضاً، وهو من شعر الحماسة:
وأما وفاة مروان، والسبب فيها أنه قد استقر الأمر بعده لخالد بن يزيد بن معاوية على ما قدمنا ذكره، فلما
استوثق له لأمر، أحب أن يبايع لعبد الملك وعبد العزيز
ابنيه، فاستشار في ذلك، فاشير عليه أن يتزوج أم خالد بن يزيد،
وهي ابنة أبي هاشم بن عتبة بن ربيعة ليصغر شأنه
فلا يرشح للخلافة، فتزوجها. ثم قال لخالد يوماً في كلام دار بينهما والمجلس
غاص بأهله؛ اسكت يابن الرطبة، فقال خالد: أنت لعمري
مؤتمن وخبير. ثم قام باكياً من مجلسه - وكان
غلاماً حينئذ - فدخل على أمه، فأخبرها، فقالت له: لا
يعرفن ذلك فيك، واسكت فأنا أكفيك أمره. فلما دخل عليها مروان، قال لها:
ما قال لك خالد؟ قالت: وما عساه يقول؛ قال: ألم يشكني إليك؟ قالت: إن خالداً أشد إعظاماً لك من أن يشتكيك، فصدقها.
ثم مكثت أياماً، فنام عندها وقد واعدت جواريها، وقمن إليه، فجعلن الوسائد والبراذع
عليه، وجلسن عليه حتى خنقنه، وذلك بدمشق في شهر رمضان. وهو ابن ثلاث وستين سنة،
في قول الواقدي. وقال: كان ابن إحدى وثمانين، عاش في
الخلافة تسعة أشهر. وقيل عشرة أشهر،
وكان في أيام كتابته لعثمان بن عفان أكثر حكماً،
وأشد تلطفاً وتسلطاً منه في أيام خلافته، وكان
ذلك من أعظم الأسباب الداعية إلى خلع عثمان وقتله. وقد قال قوم: إن الضحاك بن قيس لما نزل مرج راهط لم يدع إلى ابن الزبير، وإنما دعا إلى نفسه. وبويع
بالخلافة، وكان قرشياً. والأكثر الأشهر أنه
كان يدعو إلى ابن الزبير. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن كلام له لما عزموا علي بيعة عثمان
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: لقد
علمتم أني أحق بها من غيري؛ ووالله لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين؛ ولم يكن فيها
جورٌ إلا علي خاصة، ألتماساً لأجر ذلك وفضله، وزهداً فيما تنافستموه من زخزفه
وزبرجه. والزخرف: الذهب، ثم شبه به كل مموه مزور، قال
تعالى: "حتى إذا أخذت الأرض زخرفها"
والمزخرف: المزين، والزبرج: الزينة من وشيٍ أو جوهر، ونحو ذلك، ويقال: الزبرج الذهب أيضاً. يقول لأهل الشورى:
إنكم تعلمون أني أحق بالخلافة من غيري، وتعدلون عني. ثم أقسم
ليسلمن وليتركن المخالفة لهم، إذا كان في تسليمه ونزوله عن حقه سلامة أمور
المسلمين، ولم يكن الجور والحيف إلا عليه خاصة،
وهذا كلام مثله رضي الله عنه، لأنه إذا علم
أو غلب على ظنه أنه إن نازع وحارب دخل على الإسلام وهن وثلم لم يختر له
المنازعة، وإن كان يطلب بالمنازعة ما هو حق؛ وإن علم أو غلب على ظنه بالإمساك عن
طلب حقه أنما يدخل الثلم والوهن عليه خاصة، ويسلم الإسلام من الفتنة، وجب عليه
أن يغضي ويصبر على ما أتوا إليه من أخذ حقه، وكف يده؛ حراسةً للإسلام من الفتنة.
فإن قلت: فهلا سلم إلى معاوية وإلى أصحاب
الجمل، وأغضى على اغتصاب حقه حفظاً للإسلام من الفتنة؟ قلت:
إن الجور الداخل عليه من أصحاب الجمل ومن معاوية وأهل الشام، لم يكن مقصوراً
عليه خاصة؛ بل كان يعم الإسلام والمسلمين جميعاً؛ لأنهم لم يكونوا عنده ممن يصلح
لرياسة الأمة وتحمل أعباء الخلافة، فلم يكن الشرط الذي اشترطه متحققاً، وهو قوله: "ولم يكن فيه جور إلا علي خاصة". |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الامام قبل المبايعة لعثمان
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ونحن نذكر في هذا الموضع ما استفاض
في الروايات من مناشدته أصحاب الشورى، وتعديده فضائله وخصائصه التي بان بها منهم
ومن غيرهم. قد روى الناس ذلك فأكثروا؛ والذي صح عندنا أنه لم
يكن الأمر كما روي من تلك التعديدات الطويلة؛ ولكنه
قال لهم بعد أن بايع عبد الرحمن والحاضرون عثمان، وتلكأ هو رضي الله عنه عن
البيعة: إن لنا حقاً إن نعطه نأخذه، وإن نمنعه نركب أعجاز الإبل وإن طال
السرى؛ في كلام قد ذكره أهل السيرة، وقد
أوردنا بعضه فيما تقدم، ثم قال لهم: أنشدكم
الله أفيكم أحدٌ آخى رسول الله صلى
الله عليه وسلم بينه وبين
نفسه؛ حيث آخى بين بعض المسلمين وبعض غيري؛ فقالوا: لا؛ فقال: أفيكم أحدٌ قال له
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من
كنت مولاه فهذا مولاه " غيري؟ فقالوا: لا، فقال: أفيكم أحدٌ قال له رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "أنت
مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي" غيري؟ قالوا: لا، قال:
أفيكم من ائتمن سورة براءة، وقال له رسول الله صلى الله عليه
وسلم
إنه
لا يؤدي عني إلا أنا أو رجل مني غيري؟ قالوا: لا، قال: ألا تعلمون أن أصحاب رسول
الله صلى الله عليه وسلم فروا عنه في
مأقط الحرب في غير موطن، وما فررت قط؟ قالوا: بلى، قال: ألا تعلمون أني أول
الناس إسلاماً؟ قالوا: بلى. قال: فأينا أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نسباً؟
قالوا: أنت. فقطع عليه عبد الرحمن بن عوف كلامه،
وقال: يا علي؛ قد أبى الناس إلا على عثمان، فلا تجعلن على نفسك سبيلاً،
ثم قال: يا أبا طلحة، ما الذي أمرك به عمر؟ قال: أن أقتل من شق عصا الجماعة، فقال عبد الرحمن لعلي:
بايع إذن؛ وإلا كنت متبعاً غيرسبيل المؤمنين، وأنفذنا فيك ما امرنا به. فقال: "لقد علمتم أني أحق بها من غيري، والله
لأسلمن" الفصل إلى آخره، ثم مد يده
فبايع. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لما بلغه اتهام بني أمية له بالمشاركة في دم عثمان
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: أو لم ينه بني أمية علمها بي
عن قرفي أو ما وزع الجهال سابقتي عن تهمتي؛ ولما وعظهم الله به أبلغ من لساني. والتهمة، بفتح الهاء؛ هي اللغة الفصيحة؛ وأصل التاء فيه واو. والحجيج كالخصيم:
ذو الحجاج والخصومة. يقول رضي
الله عنه: أما كان في علم بني أمية بحالي ما ينهاها عن قرفي
بدم عثمان؛ وحاله التي أشار إليها؛ وذكر أن علمهم بها يقتضي ألا يقرفوه بذلك؛ هي
منزلته في الدين التي لا منزلة أعلى منها، وما نطق به الكتاب الصادق من طهارته
وطهارة بني وزوجته؛ في قوله: "إنما يريد الله
ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً". وقول
النبي صلى الله عليه وسلم: فأنت
مني بمنزلة هارون من موسى"، وذلك يقتضي عصمته عن الدم الحرام؛ كما أن هارون
معصوم عن مثل ذلك. وترادف الأقوال والأفعال من رسول الله صلى
الله عليه وسلم
في
أمره التي يضطر معها الحاضرون لها والمشاهدون إياها إلى أن مثله لا يجوز أن يسعى
في إراقة دم أمير مسلم، لم يحدث حدثاً يستوجب به إحلال دمه. ثم قال: "أنا
حجيج المارقين، وخصيم المرتابين"، يعني يوم القيامة؛ روي عنه رضي
الله عنه أنه
قال: "أنا
أول من يجثو للحكومة بين يدي الله تعالى"، وقد
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك مرفوعاً في قوله تعالى: "هذان
خصمان اختصموا في ربهم" وأنه صلى
الله عليه وسلم سئل عنها،
فقال: "علي وحمزة وعبيدة، وعتبة وشيبة والوليد"، وكانت حادثتهم
أول حادثة وقعت فيها مبارزة أهل الإيمان لأهل الشرك، وكان المقتول الأول
بالمبارزة الوليد بن عتبة، قتله علي رضي
الله عنه، ضربه على رأسه فبدرت عيناه على وجنته، فقال النبي
صلى الله عليه وسلم فيه
وفي أصحابه ما قال، وكان علي رضي الله عنه يكثرمن
قوله: "أنا حجيج المارقين"، ويشير إلى هذا المعنى. ثم قال: "بما في
الصدور تجازى العباد" إن كنت قتلت عثمان أو مالأت عليه؛ فإن الله
تعالى سيجازيني بذلك، وإلا فسوف يجازي بالعقوبة والعذاب من اتهمني به، ونسبه
إلي. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن خطبة له في الزهد
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: رحم الله امرأً سمع حكماً
فوعى، ودعي إلى رشادٍ فدنا، وأخذ بحجزة هادٍ فنجا. راقب ربه، وخاف ذنبه، قدم
خالصاً، وعمل صالحاً. اكتسب مذخوراً، واجتنب محذوراً. رمى غرضاً، وأحرز عوضاً. كابر هواه، وكذب مناه. ودنا: قرب. والحجزة: معقد الإزار؛ وأخذ فلان بحجزة فلان إذا
اعتصم به ولجأ إليه. ثم حذف رضي الله عنه الواو
في اللفظات الاخر فلم يقل: "وراقب ربه"، ولا "وقدم خالصاً"، وكذلك إلى آخر اللفظات؛ وهذا نوع من الفصاحة كثير في استعمالهم. واكتسب، بمعنى كسب، يقال: كسبت الشيء واكتسبته
بمعنى. والعوض المحرز ههنا:
هو الثواب. وقوله: "كابر هواه" أي غالبه. وروي "كاثر"
بالثاء المنقوطة بالثلاث؛ أي غالب هواه بكثرة عقله، يقال:
كاثرناهم فكثرناهم، أي غلبناهم بالكثرة. والطريقة الغراء: البيضاء. والمهل: النظر والتؤدة. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
في حال بني أمية
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: إن
بني أمية ليفوقونني تراث محمدٍ صلى الله عليه وآله تفويقاً، والله لئن بقيت لهم
لأنفضنهم نفض اللحام الوذام التربة. والوذام التربة:
جمع وذمةٍ، وهي الحزة من الكرش أو الكبد تقع في التراب فتنفض. فلما أتيت علياً رضي
الله عنه وقرأ كتابه، قال:
"لشد ما يحظر علي بنو أمية تراث محمد صلى الله عليه
وسلم
أما
والله لئن وليتها لأنفضنها نفض القصاب التراب الوذمة". قال: وقد حدثني
بذلك أحمد بن عبد العزيز الجوهري عن أبي زيد عمر بن شبة، بإسناد ذكره في الكتاب،
أن سعيد بن العاص حيث كان أمير الكوفة، بعث مع ابن أبي عائشة مولاه إلى علي بن
أبي طالب صلى الله عليه وسلم بصلة،
فقال علي رضي الله عنه: والله لا يزال غلام
من غلمان بني أمية يبعث إلينا مما أفاء الله على رسوله بمثل قوت الأرملة؛ والله
لئن بقيت لأنفضنها نفض القصاب الوذام التربة. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن كلمات كان عليه السلام يدعو بها
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: اللهم أغفر لي ما أنت أعلم به مني؛ فإن عدت فعد علي
بالمغفرة. اللهم اغفر لي ما وأيت من نفسي، ولم تجد له
وفاءً عندي. اللهم أغفر لي ما تقربت به إليك
بلساني، ثم خالفه قلبي. اللهم اغفر لي رمزات الألحاظ، وسقطات
الألفاظ وسهوات الجنان، وهفوات اللسان. ورمزات الألحاظ:
الإشارة بها. والألحاظ: جمع لحظ،
بفتح اللام، وهو مؤخر العين وسقطات الألفاظ:
لغوها، وسهوات الجنان: غفلاته، والجنان: القلب. وهفوات اللسان:
زلاته. والجواب؛
أنه لا يمتنع أن يحسن الدعاء بما يعلم أن القديم يفعله لا محالة، ويكون وجه
حسنه، صدوره عن المكلف على سبيل الانقطاع إلى الخالق سبحانه. وإن لم يظهر هذا الشرط في دعائه وجب
أن يضمره في نفسه، فمتى سأل النبي ربه تعالى أمراً فلم
يفعله لم يجز أن يقال: إنه ما أجيبت دعوته، لأنه يكون قد سأل بشرط ألا يكون
مفسدة؛ فإذا لم يقع ما يطلبه؛ فلأن المطلوب قد علم الله فيه من المفسدة ما لم
يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم؛ فلا يقال: إنه ما أجيب دعاءه كان مشروطاً، وإنما يصدق قولنا: ما أجيب دعاؤه على من طلب أمراً
طلباً مطلقاً غير مشروط فلم ويقع، والنبي صلى
الله عليه وسلم لا يتحقق ذلك
في حقه. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
من أدعية رسول الله المأثورة
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ونحن نذكر في هذا الموضع جملة من
الأدعية المأثورة طلباً لبركتها، ولينتفع قارىء الكتاب بها:
كان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا
أصبح أن يقول: "أصبحنا وأصبح الملك والكبرياء
والعظمة والجلال والخلق والأمر والليل والنهار وما يسكن فيهما لله عز وجل وحده
لا شريك له. اللهم
اجعل أول يومي هذا صلاحاً، وأوسطه فلاحاً، وآخره نجاحاً. اللهم إني أسألك خير الدنيا والآخرة
يا أرحم الراحمين. اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك،
ومن طاعتنا ما تبلغنا به رحمتك؛ ومن اليقين ما تهون به علينا مصيبات الدنيا،
اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا؛ واجعلهما الوارث منا، وانصرنا على من ظلمنا، ولا
تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط
علينا من لا يرحمنا". |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
من أدعية الصحيفة السجادية
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن دعاء أمير المؤمنين رضي الله
عنه، وكان يدعو به زين العابدين علي بن الحسين رضي الله عنهما؛ وهو من أدعية
الصحيفة: يا من يرحم من لا يرحمه العباد، ويا من يقبل من لا
تقبله البلاد، ويا من لا يحتقر أهل الحاجة إليه؛ يا من لا يجبه بالرد أهل
الإلحاح إليه. يا من لا يخفى عليه صغير ما يتحف به، ولا يضيع يسير
ما يعمل له. يا من يشكر على القليل، ويجازي بالجليل. يا من يدنو
إلى من دنا منه. يا من يدعو إلى نفسه من أدبر عنه. يا من لا يغير
النعمة، ولا يبادر بالنقمة. يا من يثمر الحسنة حتى ينميها، ويتجاوز عن السيئة
حتى يعفيها؛ انصرفت دون مدى كرمك الحاجات، وامتلأت ببعض جودك أوعية الطلبات،
وتفسخت دون بلوغ نعتك الصفات. فلك العلو
الأعلى فوق كل عال، والجلال الأمجد فوق كل جلال، كل جليل عندك حقير، وكل شريف في
جنب شرفك صغير، خاب الوافدون على غيرك، وخسر المتعرضون إلا لك، وضاع الملمون إلا
بك، وأجدب المنتجعون إلا من انتجع فضلك، لأنك ذو غاية قريبة من الراغبين، وذو
مجد مباح للسائلين؛ لا يخيب لديك الآملون، ولا يخفق من عطائك المتعرضون، ولا
يشقى بنقمتك المستغفرون؛ رزقك مبسوط لمن عصاك، وحلمك معرض لمن ناواك، وعادتك الإحسان
إلى المسيئين، وسنتك الإبقاء على المعتدين، حتى لقد غرتهم أناتك عن النزوع،
وصدهم إمهالك عن الرجوع، وإنما تأنيت لهم ليفيئوا إلى أمرك، وأمهلتهم ثقة بدوام
ملكك، فمن كان من أهل السعادة اختصت له بها، ومن كان من أهل الشقاوة خذلته لها. ما أكثر تقلبه في عذابك، وما أعظم تردده في عقابك،
وما أبعد غايته من الفرج، وما أثبطه من سهولة المخرج عدلاً من قضائك لا تجور
فيه، وإنصافاً من حكمك لا تحيص عليه؛ قد ظاهرت الحجج، وأزلت الأعذار، وتقدمت
بالوعيد، وتلطفت في الترغيب؛ وضربت الأمثال، وأطلت الإمهال، وأخرت وأنت تستطيع
المعاجلة، وتأنيت وأنت ملىء بالمبادرة. كل ذلك كان
ولم يزل، وهو كائن لا يزول. نعمتك أجل من أن توصف بكلها، ومجدك أرفع من أن يحد
بكنهه، وإحسانك أكبر من أن يشكر على أقله، فقد أقصرت ساكتاً عن تحميدك، وتهيبت
ممسكاً عن تمجيدك، لا رغبةً يا إلهي عنك بل عجزاً، ولا زهداً فيما عندك بل
تقصيراً، وها أنذا يا إلهي أؤمل بالوفادة، وأسألك حسن الرفادة، فاسمع ندائي،
واستجب دعائي؛ ولا تختم عملي بخيبتي، ولا تجبهني بالرد في مسألتي، وأكرم من عندك
منصرفي؛ إنك غير ضائق عما تريد، ولا عاجز عما تشاء؛ وأنت على كل شيء قدير. اللهم فلا تخيب من لا يجد معطياً غيرك، ولا تخذل من
لا يستغني عنك بأحدٍ دونك. اللهم لا تعرض عني وقد أقبلت عليك، ولا تحرمني وقد
رغبت إليك، ولا تجبهني بالرد وقد انتصبت بين يديك. أنت الذي وصفت نفسك بالرحمة،
وأنت الذي سميت نفسك بالعفو، فارحمني واعف عني؛ فقد ترى يا سيدي فيض دموعي من
خيفتك، ووجيب قلبي من خشيتك، وانتفاض جوارحي من هيبتك، كل ذلك حياءً منك بسوء
عملي، وخجلاً منك لكثرة ذنوبي؛ قد كل لساني عن مناجاتك؛ وخمد صوتي عن الدعاء
إليك. اللهم وهذه رقبتي قد أرقتها الذنوب فأعتقها بعفوك؛
وقد أثقلتها الخطايا فخفف عنها بمنك. اللهم إني لو بكيت حتى تسقط أشفار عيني؛
وانتحبت حتى ينقطع صوتي، وقمت لك حتى تنتشر قدماي، وركعت لك حتى ينجذع صلبي،
وسجدت لك حتى تتفقأ حدقتاي، وأكلت التراب طول عمري، وشربت ماء الرماد آخر دهري؛
وذكرتك في خلال ذلك حتى يكل لساني، ثم لم أرفع طرفي إلى آفاق السماء استحياء
منك؛ لما استوجبت بذلك محو سيئة واحدة من سيئاتي؛ فإن كنت تغفر لي حين أستوجب
مغفرتك، وتعفو عني حين أستحق عفوك؛ فإن ذلك غير واجب لي بالاستحقاق، ولا أنا أهل
له على الاستيجاب؛ إذ كان جزائي منك من أول ما عصيتك النار؛ فإن تعذبني فإنك غير
ظالم. وحلمت عني بتفضلك فلم تغير نعمك علي، ولم تكدر
معروفك عندي، فارحم طول تضرعي، وشدة مسكنتي، وسوء موقفي. اللهم قد أشرف على كل خطايا الأعمال علمك، وانكشف
كل مستور عند خبرك؛ فلا ينطوي عنك دقائق الأمور، ولا يعزب عنك خفايا السرائ؛ وقد
هربت إليك من صغائر ذنوب موبقة، وكبائر أعمال مردية، فلا شفيع يشفع لي إليك، ولا
خفير يؤمنني منك، ولا حصن يحجبني عنك، ولا ملاذ الجأ إليه غيرك، هذا مقام العائذ
بك، ومحل المعترف لك، فلا يضيقن عني فضلك، ولا يقصرن دوني عفوك، ولا أكون أخيب عبادك
التائبين، ولا أقنط وفودك الآملين؛ واغفر لي إنك خير الغافرين. اللهم صل على محمد وآل محمد إذا ذكر الأبرار، وصل
على محمد وآل محمد ما اختلف الليل والنهار، صلاة لا ينقطع مددها، ولا يحصى
عددها، صلاة تشحن الهواء، وتملأ الأرض والسماء. ثم له الحمد مكان كل نعمة له علينا، وعلى جميع
عباده الماضين والباقين، عدد ما أحاط به علمه، ومن جميع الأشياء أضعافاً مضاعفة،
أبداً سرمداً إلى يوم القيامة، وإلى ما لا نهاية له من بعد القيامة؛ حمداً لا
غاية لحده، ولا حساب لعده، ولا مبلغ لأعداده، ولا انقطاع لآماده؛ حمداً يكون
وصلة إلى طاعته، وسبباً إلى رضوانه، وذريعة إلى مغفرته، وطريقاً إلى جنته،
وخفيراً من نقمته وأمناً من غضبه، وظهيراً على طاعته، وحاجزاً عن معصيته؛ وعوناً
على تأدية حقه ووظائفه؛ حمداً نسعد به في السعداء من أوليائه، وننتظم به في نظام
الشهداء بسيوف أعدائه. والحمد لله الذي من علينا بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم دون الأمم
الماضية، والقرون السالفة؛ لقدرته التي لا تعجز عن شيء وإن عظم، ولا يفوتها شيء
وإن لطف. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
من الأدعية المأثورة عن عيسى عليه السلام
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن الأدعية المروية عن عيسى بن مريم
عليهما السلام: اللهم أنت إله من في السماء، وإله من
في الأرض، لا إله فيهما غيرك، وأنت حكيم من في السماء، وحكيم من في الأرض؛ لا
حكيم فيهما غيرك؛ وأنت ملك من لا السماء، وملك من في الأرض، لا ملك فيهما غيرك؛
قدرتك في السماء كقدرتك فى الأرض، وسلطانك في السماء كسلطانك في الأرض؛ أسألك
باسمك الكريم، ووجهك المنير، وملكك القديم أن تفعل بي كذا وكذا. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
من الأدعية المأثورة عن بعض الصالحين
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وكان بعض الصالحين يدعو فيقول:
اللهم لا تدخلنا النار بعد أن أسكنت قلوبنا توحيدك، وإني لأرجو ألا تفعل؛ وإن
فعلت لتجمعن بيننا وبين قوم عاديناهم فيك. فيقال: إن
إنساناً حضر ذلك الدعاء، فرأى تلك الليلة رسول الله
صلى الله عليه وسلم فى منامه يقول له: أبلغ الأعرابي أن الله قد غفر له. وروي أن علياً رضي الله عنه اعتمر، فرأى رجلاً متعلقاً بأستار الكعبة، وهو يقول: يا من لا يشغله سمع عن سمع؛ يا من لا
تقلقه المسائل ولا يبرمه إلحاح الملحين؛ أذقني برد عفوك، وحلاوة مغفرتك، وعذوبة
عافيتك؛ والفوز بالجنة، والنجاة من النار. ومن دعاء بعضهم: اللهم اجعل الموت خير غائب ننتظره، واجعل القبر خير بيت
نعمره؛ واجعل ما بعده خيراً لنا منه. اللهم
إليك عجت الأصوات بصنوف اللغات تسألك الحاجات، وحاجتي إليك أن تذكرني عند طول
البلى، إذا نسيني أهل الدنيا. اللهم
اجعلنا نستحييك ونتقيك، ونخافك ونخشاك، ونرجوك ونطيعك في السر والعلانية. اللهم
استرنا بالمعافاة والغنى؛ أستعين الله على أموري، وأستغفر الله لذنوبي، وأعوذ بك
من شر نفسي. ويروى أن رجلاً أعمى جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشكا اليه ذهاب بصره، فقال صلى الله عليه وسلم له: قل: يا سبوح يا قدوس، يا نور
الأنوار، يا نور السموات والأرض، يا أول الأولين، ويا آخر الآخرين، ويا أرحم
الراحمين، أسألك أن تغفر لي الذنوب التي تغير النعم، والذنوب التي تنزل النقم،
والذنوب التي تهتك العصم، والذنوب التي توجب البلاء، والذنوب التي تقطع الرجاء،
والذنوب التي تحبس الدعاء، والذنوب التي تكشف الغطاء، والذنوب التي تعجل الفناء،
والذنوب التي تظلم الهواء، وأسألك باسمك العظيم، ووجهك الكريم، أن ترد علي بصري،
فدعا بذلك فرد عليه بصره. وقام الثاني، فقال: اللهم إنك أمرتنا أن نعفو عمن ظلمنا، وقد ظلمنا أنفسنا فاعف
عنا، ثم جلس. وقام الثالث فقال: اللهم إنا على ثقة أنك لم تخلق خلقاً أوسع من مغفرتك، فاجعل
لنا في سعتها نصيباً؛ فرفع عنهم العذاب. ثم قال: هذا أمية
بن أبي الصلت يقول لابن جدعان:
وقال:
هذا مخلوق يقول لمخلوق، فما ظنكم برب العالمين. ومن دعائه رضي الله عنه: "اللهم ارزقني عينين هطالتين تسقيان القلوب مذروف
الدموع، قبل أن يكون الدمع دماً، وقرع الضرس ندماً". ومن دعائه رضي الله عنه:
"اللهم طهر لساني من الكذب، وقلبي من النفاق، وعملي من الرياء، وبصري من
الخيانة، فإنك تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور". " عمر
بن ذر: اللهم إن كنا عصيناك فقد تركنا من معاصيك أبغضها إليك؛ وهو الإشراك، وإن
كنا قصرنا عن بعض طاعتك، فقد تمسكنا منها بأحبها إليك، وهو شهادة أن لا إله إلا
أنت، وأن رسلك جاءت بالحق من عندك. كان المأمون إذا رفعت المائدة من بين يديه
يقول:
الحمد لله الذي جعل أرزاقنا أكثر من أقواتنا. علي رضي
الله عنه: جعل في يديك
مفاتيح خزائنه بما أذن لك فيه من مسألته، فمتى شئت استفتحت بالدعاء أبواب نعمته،
واستمطرت شآبيب رحمته، فلا يقنطنك إبطاء إجابته، فإن العطية على قدر النية،
وربما أخرت عنك الإجابة، ليكون ذلك أعظم لأجر السائل، وأجزل لعطاء الأمل؛ وربما
سألت الشيء فلا تؤتاه، واوتيت خيراً منه، أو صرف عنك بما هو لك خير. واعلم أنه رب أمرٍ قد طلبت؛ فيه هلاك دينك لو
أوتيته. فدعا بها
فلم يرعه إلا الواعية بالليل. فسأل، فقيل: مات فلان فجأة. اللهم إني
أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، وأسألك شكر نعمتك وحسن عبادتك،
وأسألك قلباً سليماً، ولساناً صادقاً، وأسألك من خير ما تعلم؛ وأعوذ بك من شر ما
تعلم، وأستغفرك لما تعلم، إنك أنت علام الغيوب. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
آداب الدعاء
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قالوا:
ومن آداب الدعاء أن ترصد له الأوقات الشريفة، كما بين الأذان والإقامة، وكوقت
السجود ووقت السحر؛ ويستحب أن يدعو مستقبل القبلة
رافعاً يديه؛ لما روى سلمان عن النبي صلى الله عليه
وسلم:
"إن ربكم كريم يستحي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفراً"، ويستحب أن يمسح بهما وجهه بعد الدعاء، فإن ذلك قد روي عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم. وقد روي أن عمر سمع
رجلاً يجهر بالدعاء، فقال: لكن زكريا نادى
ربه نداء خفياً. ويكره أن يتكلف الكلام المسجوع،
وشمتحب الإتيان بالمطبوع منه، لقوله صلى
الله عليه وسلم:
"إياكم والسجع في الدعاء، بحسب أحدكم أن يقول:
اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، وأعوذ بك من النار
وما قرب إليها من قول أوعمل ". اللهم إني
أعوذ بك أن أقول حقاً ليس فيه رضاك، ألتمس به أحداً سواك، وأعوذ بك أن أتزين
للناس بشيء يشينني عندك، وأعوذ بك أن أكون عبرة لأحد من خلقك، وأن يكون أحد من
خلقك أسعد بما علمتني مني، وأعوذ بك أن أستعين بمعصية لك على ضر يصيبني. اللهم احملني على عفوك، ولا تحملني على عدلك. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن كلام له عليه السلام
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: ومن
كلام له رضي الله عنه قاله لبعض أصحابه لما عزم على المسير إلى الخوارج، وقد قال له: إن سرت يا أمير المؤمنين في هذا
الوقت، خشيت ألا تظفر بمرادك من طريق علم النجوم، فقال
رضي الله عنه: أتزعم أنك تهدي إلى الساعة التي من سار فيها صرت عنه
السوء، وتخوف من الساعة التي من سار فيها حاق به الضر؛ فمن صدقك بهذا فقد كذب
القرآن، وأستغنى عن استعانة بالله في نيل المحبوب ودفع المكروه. وتبتغي في قولك
للعامل بأمرك أن يوليك الحمد دون ربه؛ لأنك - بزعمك - أنت هديته إلى الساعة التي
نال فيها النفع، وأمن الضر. والكاهن: واحد الكهان وهم الذين كانوا يخبرون عن
الشياطين بكثير من الغائبات. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
اختلاف الناس في أحكام النجوم
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
واعلم أن الناس قد اختلفوا في أحكام
النجوم، فأنكرها جمهور المسلمين والمحققون من الحكماء؛ ونحن نتكلم ههنا في ذلك
ونبحث فيه بحثين: بحثاً كلامياً، وبحثاً حكمياً. أما البحث الكلامي؛ هو أن يقال: إما أن يذهب المنجمون إلى أن النجوم
مؤثرة، أو أمارات. فإن ادعى مدعٍ أن الوصلة هي الهواء، فعن ذلك أجوبة: أحدها: أن الهواء لا يجوز أن يكون
وصلة وآلة في الحركات الشديدة وحمل الأثقال، لا سيما إذا لم يتموج، والثاني: أنه كان يجب أن نحس بذلك، ونعلم أن
الهواء يحركنا ويصرفنا؛ كما نعلم في الجسم إذا حركنا وصرفنا بآلة موضع تحريكه
لنا بتلك الآلة، والثالث: أن في الأفعال
الحادثة فينا ما لا يجوز أن يفعل بآلة، ولا يتولد عن سبب؛ كالإرادات والاعتقادات
ونحوها. وقد دلل أصحابنا أيضاً على إبطال كون
الكواكب فاعلة للأفعال فينا، بأن ذلك يقتضي سقوط الأمر والنهي، والمدح والذم،
ويلزمهم ما يلزم المجبرة، وهذا الوجه يبطل كون الكواكب فاعلة فينا بالإيجاب، كما
يبطل كونها فاعلة بالاختيار. وأما القول بأنها أمارات على ما يحدث
ويتجدد؛ فيمكن أن ينصر بأن يقال: لم لا يجوز
أن يكون الله تعالى أجرى العادة، بأن يفعل أفعالاً مخصوصة عند طلوع كوكب أو
غروبه أو اتصاله بكوكب آخر. فقال المنجم: هذا مما لا
يجوز، بل الواجب أن تكون سلامة البصراء أكثرمن سلامة العميان. فقال المتكلم:
فقد بطل قولكم؛ لأن مسألتنا نظير هذه الصورة، فإن
مثال البصراء هم الذين يعرفون أحكام النجوم، ويميزون مساعدها من مناحسها،
ويتوقون بهذه المعرفة مضار الوقت والحركات ويتخطونها ويعتمدون منافعها
ويقصدونها، ومثال العميان كل من لا يحسن علم
النجوم؛ ولا يقولون به من أهل العلم والعامة، وهم أضعاف أضعاف عدد المنجمين. ومثال الطريق الذي فيه الآبار،
الزمان الذي مضى ومر على الخلق أجمعين، ومثال آباره مصائبه ومحنه. وقد كان يجب - لو صح
علم أحكام النجوم لا - أن سلامة المنجمين أكثر ومصائبهم أقل؛ لأنهم
يتوقون المحن ويتخطونها لعلمهم بها قبل كونها، وأن تكون محن المعرضين عن علم
أحكام النجوم على كثرتهم أوفر وأظهر؛ حتى تكون سلامة كل واحد منهم هي الطريقة
الغريبة؛ والمعلوم خلاف ذلك، فإن السلامة والمحن في الجميع متقاربة متناسبة غير
متفاوتة. وأما البحث الحكمي في هذا الموضع؛ فهو أن الحادث
في عالم العناصر عند حلول الكوكب المخصوص في البرج المخصوص؛ إما أن يكون المقتضي له مجرد ذلك الكوكب أو مجرد ذلك البرج،
أو حلول ذلك الكوكب في ذلك البرج. فالأولان باطلان؛
وإلا لوجب أن يحدث ذلك الأمر قبل أن يحدث، والثالث
باطل أيضاً؛ لأنه إما أن يكون ذلك البرج مساوياً لغيره من البروج في
الماهية، أو مخالفاً. والأول يقتضي حدوث ذلك الحادث حال
ما كان ذلك الكوكب حالاً في غيره من البروج؛ لأن حكم الشيء حكم مثله، والثاني يقتضي كون كرة البروج متخالفة الأجزاء في أنفسها؛
ويلزم في ذلك كونها مركبة، وقد قامت الدلالة على أنه لا شيء من الأفلاك بمركب. وأما الوجه الثاني فلا جواب عنه. فأما إن كانوا يطلبون الظن فإن هذه
الحجة لا تفسد قولهم. فأما أبو البركات بن ملكا البغدادي
صاحب كتاب "المعتبر" فإنه أبطل أحكام النجوم من وجه وأثبته من وجه. قال: أما
من يريد تطبيق علم أحكام النجوم على قاعدة العلم الطبيعي فإنه لا سبيل له إلى
ذلك، فإنا لا نتعلق من أقوالهم إلا بأحكام يحكمون بها من غير دليل؛ نحو القول
بحر الكواكب وبردها أو رطوبتها، وببوستها واعتدالها، كقولهم:
إن زحل بارد يابس، والمشتري معتدل؛ والاعتدال خير والإفراط شر، وينتجون من ذلك
أن الخير يوجب سعادة، والشر يوجب منحسة، وما جانس ذلك مما لم يقل به علماء
الطبيعيين ولم تنتجه ممدماتهم في أنظارهم؛ وإنما الذي أنتجته هو أن الأجرام السماوية
فعالة فيما تحويه وتشتمل عليه وتتحرك حوله فعلاً على الإطلاق غير محدود بوقت؛
ولا مقدر بتقدير، والقائلون بالأحكام ادعوا حصول علمهم بذلك؛ من توقيف وتجربة لا
يطابق نظر الطبيعي. وقد ذهبت منه الكواكب التي كان بها أسدا كأن ذلك
الملك بيت للشمس، مع انتقال الساكن وكذلك السرطان للقمر. والحق أنه لا ينقلب الحمل ولا يثبت
الثور؛ بل هما على حالهما في كل وقت. ثم كيف يبقى دهره منقلباً مع خروج الشمس منه
وحلولها فيه! أتراها تخلف فيه أثراً أو تحيل منه طباعاً؛ وتبقى تلك الاستحالة
إلى أن تعود فتجددها! ولم لا يقول! قائل: إن السرطان حار يابس، لأن الشمس إذا
نزلت فيه يشتد حر الزمان؛ وما يجانس هذا مما لا يلزم؛ لا هو ولا ضده، فليس في
الفلك اختلاف يعرفه الطبيعي، إلا بما فيه من الكواكب، وهو في نفسه واحد متشابه
الجوهر والطبع؛ ولكنها أقوال قال بها قائل فقبلها قابل، ونقلها ناقل، فحسن فيها
ظن السامع، واغتر بها من لا خبرة له ولا قدرة له على النظر. لأنه كلام لا بأس به، قال: إن بعض المصدقين بأحكام النجوم وكل المكذبين بها، قد
زاغوا عن طريق الحق والصواب فيها. فإن الكثيرمن المصدقين بها
قد أدخلوا فيها ما ليس منها، وادعوا ما لم يكن إدراكه بها، حتى كثر فيها خطؤهم،
وظهر كذبهم، وصار ذلك سبباً لتكذيب أكثر الناس بهذا العلم. فأما المكذبون به
فقد بلغوا من إنكار صحيحه ورد ظاهره إلى أن قالوا: إنه لا يصح منه شيء أصلاً،
ونسبوا أهله إلى الزرق والاحتيال والخداع والتمويه، فلذلك رأينا أن نبتدىء
بتبيين صحة هذه الصناعة، ليظهر فساد قول المكذبين لها بأسرها، ثم نبين ما يمكن
إدراكه بها ليبطل دعوى المدعين فيها ما يمتنع وجوده بها. فإنهم يعلمون أشياء كثيرة من الآثار التي يؤثرها
القمر وأنوار الكواكب الثابتة، كالمد والجزر، وحركات الرياح والأمطار وأوقاتها
عند الحدوث، وما يوافق من أوقات الزراعات وما لا يوافق، وأوقات اللقاح والنتاج. قلت: هذا اعتراف
بأن جميع الأحداث المتعلقة باختيار الإنسان وغيره من الحيوان لا مدخل لعلم أحكام
النجوم فيه، فعلى هذا لا يصح قول من يقول منهم لزيد مثلا: إنك تتزوج أو تشتري
فرساً، أو تقتل عدواً أو تسافر إلى بلد ونحو ذلك، وهو أكثر ما يقولونه ويحكمون
به. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
بعد فراغه من حرب الجمل في ذم النساء
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: معاشر
الناس؛ إن النساء نواقص الإيمان، نواقص الحظوظ، نواقص العقول. فأما نقصان
إيمانهن فقعودهن عن الصلاة والصيام في أيام حيضهن، وأما
نقصان عقولهن فشهادة أمرأتين منهن كشهادة الرجل الواحد، وأما نقصان حظوظهن فمواريثهن على الأنصاف من
مواريث الرجال. وهذا الفصل كله رمز إلى عائشة، ولا يختلف أصحابنا في أنها أخطأت فيما فعلت ثم تابت وماتت
تائبة، وأنها من أهل الجنة. وروى المدائني في كتاب "الجمل
"، قال: لما قتل عثمان، كانت عائشة بمكة، وبلغ
قتله إليها وهي بشراف، فلم تشك في أن طلحة هو صاحب الأمر، وقالت: بعداً لنعثل
وسحقاً! إيه ذا الإصبع! إيه أبا شبل!
إيه يا بن عم؛ لكأني أنظر إلى إصبعه وهو
يبايع له: حثوا الإبل ودعدعوها. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أخبار عائشة
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وقال أبو مخنف لوط بن يحمى الأزدي في
كتابه: إن عائشة لما بلغها قتل عثمان وهي بمكة، أقبلت مسرعة، وهي تقول: إيه ذا الإصبع! لله أبوك! أما إنهم وجدوا طلحة لها كفواً.
فلما انتهت إلى شراف استقبلها عبيد
بن أبي سلمة الليثي، فقالت له: ما عندك؛ قال: قتل عثمان، قالت: ثم ماذا؛ قال: ثم
حارت بهم الأمور إلى خير محار؛ بايعوا علياً، فقالت: لوددت أن
السماء انطبقت على الأرض إن تم هذا، ويحك! انظر
ما تقول! قال: هو ما قلت لك يا أم المؤمنين، فولولت،
فقال لها: ما شأنك يا أم المؤمنين! والله ما
أعرف بين لابتيها أحداً أولى بها منه ولا أحق؛ ولا أرى له نظيراً في جميع
حالاته، فلماذا تكرهين ولايته؛ قال: فما ردت عليه جواباً. قال: وقد
روى قيس بن أبي حازم أنه حج في العام الذي قتل فيه عثمان وكان مع عائشة لما
بلغها قتله، فتحمّل إلى المدينة، قال: فسمعها تقول
في بعض الطريق: إيه ذا الإصبع! وإذا ذكرت عثمان قالت:
أبعده الله! حتى أتاها خبر بيعة علي، فقالت:
لوددت أن هذه وقعت على هذه، ثم أمرت برد ركائبها إلى مكة فردت معها، ورأيتها
في سيرها إلى مكة تخاطب نفسها، كأنها تخاطب أحداً:
قتلوا ابن عفان مظلوماً، فقلت لها: يا أم المؤمنين، الم أسمعك آنفاً تقولين: أبعده
الله، وقد رأيتك قبل أشد الناس عليه وأقبحهم فيه قولاً! فقالت: لقد كان ذلك،
ولكني نظرت في أمره، فرأيتهم استتابوه حتى إذا تركوه كالفضة البيضاء أتوه صائماً
محرماً لا شهر حرام فقتلوه. فأقبل رسول الله صلى
الله عليه وسلم عليّ،
وهوغضبان محمر الوجه، فقال: ارجعي وراءك، والله لا
يبغضه أحد من أهل بيتي ولا من غيرهم من الناس إلا وهو خارج من الإيمان، فرجعت
نادمةً ساقطة! قالت عائشة: نعم أذكر ذلك. قالت:
وأذكرك أيضاً كنت أنا وأنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر له، وكان علي يتعاهد نعلي رسول! الله صلى الله عليه وسلم فيخصفها، ويتعاهد أثوابه فيغسلها،
فنقبت له نعل، فأخذها يومئذ يخصفها، وقعد في ظل سمرة، وجاء
أبوك ومعه عمر، فاستأذنا عليه، فقمنا إلى الحجاب، ودخلا يحادثانه فيما
أرادا، ثم قالا: يا رسول الله إنا لا ندري
قدر ما تصحبنا، فلو أعلمتنا من يستخلف علينا، ليكون لنا بعدك مفزعاً؟ فقال لهما: أما إني قد أرى مكانه، ولو فعلت
لتفرقتم عنه. كما
تفرقت بنو إسرائيل عن هارون بن عمران، فسكتا ثم خرجا، فلما
خرجنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت له، وكنت أجرأ عليه منا: من كنت يا رسول الله، مستخلفاً
عليهم؟ فقال: خاصف النعل، فنظرنا فلم نر أحداً إلا علياً، فقلت: يا رسول الله،
ما أرى إلا علياً، فقال: هو ذاك، فقالت عائشة: نعم أذكر ذلك، فقالت: فأي خروج تخرجين بعد هذا؛ فقالت: إنما أخرج للإصلاح بين الناس وأرجو فيه
الأجر إن شاء الله، فقالت: أنت ورأيك،
فانصرفت عائشة عنها، وكتبت أم سلمة بما قالت وقيل
لها إلى علي رضي الله عنه. قال: فلما قدم عمر على علي رضي الله عنه أكرمه، ولم يزل مقيماً معه حتى شهد مشاهده
كلها، ووجهه أميراً على البحرين. وقال لابن عم له: بلغني أن عمر يقول الشعر، فابعث إلي من شعره،
فبعث إليه بأبيات له أولها:
فعجب علي رضي الله عنه من شعره واستحسنه. ما كنت قائلة
لرسول الله صلى الله عليه وسلم لو لقيك ناصّة قلوص قعودك من منهل إلى منهل قد
تركت عهيداه، وهتكت ستره،
إن عمود الدين لا يقوم بالنساء، وصدعه لا يرأب بهن، حماديات النساء خفض الأصوات
وخفر الأعراض، اجعلي قاعدة البيت قبرك حتى تلقينه،
وأنت على ذلك. فقالت عائشة:
ما أعرفني بنصحك، وأقبلني لوعظك! وليس الأمر حيث تذهبين؛ ما أنا بعمية عن رأيك، فإن أقم ففي غير حرج، وإن أخرج ففي
إصلاح بين فئتين من المسلمين، وقد ذكر هذا الحديث أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة في كتابه المصنف في
"غريب الحديث " في باب أم سلمة، على ما أورده عليك، قال: لما أرادت عائشة الخروج إلى البصرة، أتتها أم
سلمة، فقالت لها: إنك سدة بين محمد رسول الله صلى
الله عليه وسلم وبين أمته،
وحجابك مضروب على حرمته، قد جمع القرآن ذيلك فلا تندحيه، وسكن عقيراك فلا
تصحريها، الله من وراء هذه الأمة، لو أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن
يعهد إليك عهداً علت علت؛ بل قد نهاك عن الفرطة في البلاد؛ إن عمود الإسلام لا
يثأث بالنساء إن مال، ولا يرأب بهن إن صدع، حماديات النساء غض الأطراف وخفر
الأعراض وقصر الوهازة؛ ما كنت قائلة لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عارضك
بعد الفلوات، ناصةً قلوصاً من منهل إلى آخر، إن بعين الله مهواك، وعلى رسوله
تردين؛ وقد وجهت سدافته ويروى سجافته وتركت عهيداه. لو
سرت مسيرك هذا ثم قيل لي: ادخلي الفردوس لاستحييت أن ألقى محمداً صلى الله عليه وسلم هاتكةً
حجاباً، وقد ضربه عليَّ، اجعلي حصنك بيتك، ووقاعة الستر قبرك، حتى تلقينه، وأنت
على تلك أطوع ما تكونين لله بالرقبة، وأنصر ما تكونين للدين ما حلت عنه. لو ذكرتك قولاً تعرفينه لنهشت به نهش الرقشاء
المطرقة. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
تفسير غريب هذا الخبر
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
السدة:
الباب؛ ومنه حديث رسول الله صلى الله عليه
وسلم
أنه
ذكر أول من يرد عليه الحوض، فقال: الشعث رؤوساً، الدنس ثياباً، الذين لا تفتح
لهم السدد، ولا ينكحون المتنعمات؛ وأرادت أم سلمة
أنك باب بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين الناس، فمتى أصيب ذلك الباب بشيء فقد دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في
حرمه وحوزته، واستبيح ما حماه، تقول: فلا تكوني
أنت سبب ذلك بالخروج الذي لا يجب عليك، فتحوجي الناس إلى أن يفعلوا ذلك. وهذا مثل قول نعمان بن مقرن للمسلمين
في غزاة نهاوند: ألا وإنكم باب بين المسلمين والمشركين،
إن كسر ذلك الباب دخل عليهم منه. ومن روى
"تبدحيه" بالياء فإنه من البداح وهو المتسع من الأرض؛ وهو معنى الأول. قال ابن قتيبة: ولم أسمع
"بعقيرا" إلا في هذا الحديث. ومن الناس من يرويه "عِلت
عِلت" بكسر العين، أي ذهبت في البلاد وأبعدت السير، يقال: عال فلان في
البلاد، أي ذهب وأبعد؛ ومنه قيل للذئب: عيال. قولها:
"حماديات النساء" يقال: حُماداك أن تفعل كذا مثل "قصاراك أن تفعل
كذا". أي جهدك وغايتك. قولها: "وتركت عهيداه"، لفظة مصغرة مأخوذة من العهد، مشابهة لما سلف من
قولها: "عقيراك" و "حماديات
النساء".
والأفعى
يوصف بالإطراق؛ وكذلك الأسد والنمر والرجل الشجاع؛ وكان معاوية يقول في علي رضي الله عنه: الشجاع المطرق، وقال الشاعر وذكر
أفعى:
قولها؛
"فئتان متناجزتان"، أي تسرع كل واحدة منهما إلى نفوس الأخرى، ومن رواه
"متناحرتان" أراد الحرب وطعن النحور بالأسنة، ورشقها بالسهام. وقال أبو مخنف: لما انتهت عائشة في
مسيرها إلى الحوأب، وهو ماء لبني عامر بن صعصعة، نبحتها الكلاب، حتى نفرت صعاب
إبلها، فقال قائل من أصحابها: ألا ترون، ما أكثر كلاب الحوأب،
وما أشد نباحها! فأمسكت زمام بعيرها، وقالت: وإنها لكلاب
الحوأب! ردوني ردوني؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: .
. . وذكرت
الخبر، فقال لها قائل: مهلاً يرحمك الله! فقد جزنا ماء الحوأب؛ فقالت: فهل من شاهد؛ فلفقوا
لها خمسين أعرابياً، جعلوا لهم جعلاً، فحلفوا لها: إن هذا ليس بماء الحوأب، فسارت لوجهها. لما نزل علي رضي الله عنه بالبصرة، كتبت
عائشة إلى زيد بن صوحان العبدي: من عائشة بنت
أبي بكر الصديق زوج النبي صلى الله عليه وسلم
إلى ابنها الخالص زيد بن صوحان؛ أما بعد فأقم في بيتك، وخذل الناس عن علي،
وليبلغني عنك ما أحب، فإنك أوثق أهلي عندي، والسلام. كان الجمل لواء عسكر البصرة لم يكن
لواء غيره. خطب علي رضي الله عنه لما تواقف الجمعان، فقال: "لا تقاتلوا القوم حتى
يبدأوكم فإنكم بحمد الله على حجة؛ وكفكم عنهم حتى يبدأوكم حجة أخرى، وإذا
قاتلتموهم فلا تجهزوا على جريح، وإذا هزمتموهم فلا تتبعوا فدبراً، ولا تكشفوا
عورة، ولا تمثلوا بقتيل، وإذا وصلتم إلى رحال القوم فلا تهتكوا ستراً، ولا
تدخلوا داراً، ولا تأخذوا من أموالهم شيئاً، ولا تهيجوا امرأة بأذىً، وإن شتمن
أعراضكم وسببن أمراءكم وصلحاءكم، فإنهن ضعاف القوى والأنفس والعقول؛ لقد كنا
نؤمر بالكف عنهن وإنهن لمشركات، وإن كان الرجل ليتناول المرأة بالهراوة والجريدة،
فيعير بها وعقبه من بعده". فحرضت الأزد بذلك؛ فقاتلوا قتالاً شديداً، ورمي
الجمل بالنبل حتى صارت القبة عليه كهيئة القنفذ.
قال: فبكت حتى سمع نحيبها من وراء الحجاب، ثم قالت: إني معجلة الرحيل إلى بلادي إن شاء
الله تعالى، والله ما من بلد أبغض إلي من بلد أنتم
فيه، قلت: ولم ذاك! فوالله لقد
جعلناك للمؤمنين أماً، وجعلنا أباك صديقاً، قالت: يا
بن عباس، أتمن علي برسول الله؟ قلت: ما لي لا أمن عليك بمن لو كان منك لمننت به علي!
ثم أتيت علياً رضي الله عنه فأخبرته بقولها وقولي،
فسر بذلك، وقال لي: "ذريةً بعضها من
بعض والله سميع عليم"؛ وفي رواية: أنا
كنت أعلم بك حيث بعثتك. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن كلام له رضي الله عنه في الزهد
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: أيها
الناس؛ الزهادة قصر الأمل، والشكر عند النعم، والتورع عند المحارم، فإن عزب ذلك
عنكم فلا يغلب الحوام صبركم، ولا تنسوا عند النعم شكركم؛ فقد أعذر الله إليكم
بحجج مسفرة ظاهرة؛ وكتب بارزة العذر واضحة. واعلم أن الزهد في العرف المشهور هو
الإعراض عن متاع الدنيا وطيباتها، لكنه لما كانت الأمور الثلاثة طريقاً موطئة
إلى ذلك أطلق رضي الله عنه لفظ الزهد عليها على وجه المجاز. وقوله: "فقد أعذر الله
إليكم" أي بالغ؛ يقال:
أعذر فلان في الأمر أي بالغ فيه، ويقال: ضرب فلان فأعذر، أي أشرف على الهلاك؛
وأصل اللفظة من العذر؛ يريد أنه قد أوضح لكم بالحجج النيرة المشرقة ما يجب
اجتنابه، وما يجب فعله؛ فإن خالفتم استوجبتم العقوبة؛ فكان له في تعذيبكم العذر. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ما جاء في الزهد من أخبار
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
والآثار الواردة في الزهد كثيرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفلح الزاهد في الدنيا، حظي بعز
العاجلة وبثواب الآخرة".
بعض الصالحين:
المستغني عن الدنيا بالدنيا، كالمطفىء النار بالتبن.
وقال رجل: يا رسول الله، كيف لي أن
أعلم أمري؛ قال: "إذا أردت شيئاً من أمور الدنيا
فعسر عليك؛ فاعلم أنك بخير، وإذا أردت شيئاً من أمور الدنيا فيسر لك؛ فاعلم أنه
شر لك". وقال أبو الدرداء: أضحكتني ثلاث، وأبكتني
ثلاث: أضحكني مؤمل الدنيا والموت يطلبه،
وغافل وليس بمغفول عنه، وضاحك ملء فيه لا يدري أراض عنه الله أم ساخط! وأبكاني فراق محمد وحزبه، وأبكاني هول الموت،
وأبكاني هول الموقف، يوم تبدو السرائر حين لا أدري أيؤخذ بي إلى جنة أم إلى نار! وكان عبد الله بن صغير يقول:
أتضحك ولعل أكفانك قد خرجت من عند القصار! وكان
يقال: من أتى الذنب ضاحكاً، دخل النار باكياً. ورأى رجل رجلاً من ولد معاوية يعمل على بعير له، فقال: هذا بعد ما كنتم فيه من
الدنيا! قال: رحمك الله يا بن أخي، ما فقدنا
إلا الفضول.
وقال الحسن: ما
أطال عبد الأمل إلا أساء العمل.
وقال
آخر:
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن كلام له رضي الله عنه فى صفة الدنيا
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: ما أصف من دار، أولها عناء، وأخزها فناء! في حلالها حساب،
وفي حرامها عقاب، من أستغنى فيها فتن، ومن أفتقر فيها حزن ومن ساعاها فاتته، ومن
قعد عنها واتته، ومن أبصر بها بصرته، ومن أبصر إليها أعمتة.
ونظر إلى قوله رضي الله عنه: "في حلالها حساب، وفي حرامها
عقاب"
بعض الشعراء، فقال:
ومن
المعنى أيضاً قول بعضهم:
ونظر الحسن البصري إلى قوله رضي الله عنه: "من استغنى فيها فتن، ومن افتقر
فيها حزن"، فقال، وقد جاءه إنسان يبشره بمولود
له ذكر: ليهنك الفارس يا أبا سعيد، فقال: بل الراجل! ثم قال: لا مرحباً
بمن إن كان غنياً فتنني، وإن كان فقيراً أحزنني، وإن عاش كدني، وإن مات هدني، ثم
لا أرضى بسعيي له سعياً، ولا بكدحي له كدحاً؛ حتى أهتم بما يصيبه بعد موتي، وأنا
في حال لا ينالني بمساءته حزن، ولا بسروره جذل.
فإن قلت:
المسموع: أبصرت زيداً، ولم يسمع أبصرت إلى زيد، قلت:
يجوز أن يكون قوله رضي الله عنه: "ومن أبصر إليها"، أي ومن
أبصر متوجهاً إليها، كقوله عز وجل: "في تسع
آيات إلى فرعون". ولم يقل
مرسلاً؛ ويجوز أن يكون أقام ذلك مقام قوله "نظر إليها" لما كان مثله،
كما قالوا في دخلت البيت، ودخلت إلى البيت أجروه مجرى ولجت إلى البيت لما كان
نظيره. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن الغراء وهي من الخطب العجيبة
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
الحمد لله الذي علا بحوله، ودنا بطوله، مانح كل
غنيمة وفضل، وكاشف كل عظيمة وأزل. والأول
نقيض الآخر أصله أوءل على أفعل مهموز الوسط، قلبت الهمزة واواً وأدغم، يدل على
ذلك قولهم: هذا أول منك والإتيان بحرف الجر دليل على أنه أفعل، كقولهم: هذا أفضل
منك؛ وجمعه على أوائل وأوال أيضاً على القلب. وقال قوم: أصله ووّل على فوعل
فقلبت الواو الأولى همزة، وإنما لم يجمع على ووال لاستثقالهم اجتماع الواوين
وبينهما ألف الجمع. وإذا
جعلت الأول صفة لم تصرفه، تقول: لقيته عاماً أول، لاجتماع وزن الفعل، وتقول: ما
رأيته مذ عام أول، كلاهما بغير تنوين؛ فمن رفع جعله صفة لعام؛ كأنه قال: أول من
عامنا، ومن نصب جعله كالظرف، كأنه قال: مذ عام قبيل عامنا، فإن قلت: ابدأ بهذا
أول، ضممته على الغاية.
وفي هذا الفصل ضروب من البديع؛ فمنها أن دنا في مقابلة علا لفظاً
ومعنى؛ وكذلك حوله وطوله. قلت: إن
أصحابنا لا يمتنعون من إطلاق قولهم: إن لله قوة وقدرة وحولاً، وحاش لله أن يذهب
ذاهب منهم إلى منع ذلك! ولكنهم يطلقونه ويعنون به حقيقته العرفية، وهي كون الله
تعالى قوياً قادراً، كما نقول نحن والمخالف: إن لله وجوداً وبقاءً وقِدماً، ولا
نعني بذلك أن وجوده أو بقاءه أو قِدمه معان زائدة على نفسه، لكنا نعني كلنا
بإطلاق هذه الألفاظ عليه كونه موجوداً أو باقياً أو قديماً، وهذا هو العرف
المستعمل في قول الناس: لا قوة لي على ذلك و لا قدرة لي على فلان لا يعنون نفي
المعنى، بل يعنون كون الإنسان قادراً على ذلك. ومنها وهو
ألطف ما يستعمله أرباب هذه الصناعة؛ أنه جعل قريباً هادياً، مع قوله: أستهديه، لأن الدليل القريب منك أجدر بأن
يهديك من البعيد النازح، ولم يجعله مع قوله:
وأستعينه؛ وجعل مع الاستعانة قاهراً قادراً لأن القادر القاهر يليق أن يستعان
ويستنجد به؛ ولم يجعله قادراً وقاهراً مع التوكل عليه، وجعل مع التوكل كافياً
ناصراً؛ لأن الكافي الناصر أهلٌ لأن يتوكل عليه. ويجوز أن ينصب بأنه مفعول به، ويكون ذلك على وجهين: أحدهما: أن يكون من حاط ثلاثيا، تقول: حاط
فلان كرمه، أي جعل عليه حائطاً، فكأنه جعل الإحصاء والعد كالحائط المدار عليهم،
لأنهم لا يبعدون منه ولا يخرجون عنه.
قوله:
وأرصد يعني أعد، وفي الحديث: "إلا أن أرصده
لدين علي". والرفدة والرفد واحد، وهي العطية والصلة ورفدت
فلاناً رفداً بالفتح، والمضارع أرفده بكسر الفاء، ويجوز أرفدته بالهمزة. قوله:
"رنق الماء" بالكسر ورنقته أنا ترنيقا، أي كدرته والرواية المشهورة في
هذا الفصل "رنق مشربها" بالكسر أقامه مقام قولهم: "عيش رنق
"، ومن رواه "رنق مشربها" بالسكون- وهم الأقلون- أجرى اللفظ على
حقيقته. وناكرها:
فاعل، من نكرت كذا، أي أنكرته. وقمصت بأرجلها، قمص الفرس وغيره يقمص ويقمص قمصاً
وقماصاً، أي استن؛ وهو أن يرفع يديه ويطرحهما معا، وشجن برجليه، وفي المثل
المضروب لمن ذل بعد عزة: "ما لعير من
قماص". ومن رواه بالحاء
فهو جمع رحل الناقة، وأقصدت: قتلت مكانها من غير تأخير. وأعلقت المرء الأوهاق: جعلت الأوهاق عالقة به. والضنك:
الضيق، والمضجع: المصدر أو المكان، والفعل ضجع الرجل جنبه بالأرض، بالفتح، يضجع
ضجوعاً وضجعاً، فهو ضاجع؛ ومثله أضجع، والمرجع:
مصدر رجع، ومنه قوله تعالى: "ثم إلى
ربكم مرجعكم"، وهو شاذ، لأن المصادر
من فعل يفعل بكسر العين؛ إنما يكون بالفتح. وقال ابن السكيت:
يقال جئت في عقب شهر كذا، بالضم، إذا جئت بعدما يمضي كله، وجئت في عقب، بكسر
القاف إذا جئت وقد بقيت منه بقية. وقد روي:
يعقب السلف، أي يتبع. وارعوى: كف
عن الأمر وأمسك، وأصل فعله الماضي رعى يرعو، أي كف عن الأمر، وفلان حسن الرعوة
والرعوة والرعوى والارعواء. والاجترام، افتعال من الجرم، وهو
الذنب، ومثله الجريمة، يقال: جرم وأجرم بمعنى. الشرح:
تصرمت الأمور: تقطعت، ومثله تقضت الدهور. وأزف: قرب ودنا، يأزف أزفاً؛ ومنه قوله
تعالى: "أزفت الآزفة" أي القيامة،
الفاعل ازف، والضرائح: جمع ضريح وهو الشق في
وسط القبر. واللحد:
ما كان في جانب القبر، وضرحت ضرحاً، إذا حفرت الضريح، والأوكار:
جمع وكر بفتح الواو، وهو عش الطائر، وجمع الكثرة وكور، وكر الطائر يكر وكراً، أي
دخل وكره، والوكن بالفتح مثل الوكر، أي العش، وأوجرة السباع: جمع وِجار بكسر
الواو، ويجوز فتحها، وهو بيت السبع والضبع ونحوهما، مهطعين:
مسرعين. والرعيل: القطعة من الخيل. واللبوس، بفتح
اللام: ما يلبس، قال:
ومنه
قوله تعالى: "وعلمناه صنعة لبوس لكم". والضرع:
الخشوع والضعف، ضرع الرجل يضرع، وأضرعه غيره. ويروى وأثجم
العرق، أي كثر ودام.
وأرعدت الأسماع: عرتها الرعدة. وزبرة الداعي: صوته، ولا يقال للصوت زبرة إلا
إذا خالطه زجر وانتهار، زبرته أزبره، بالضم. الأصل:
عباد مخلوقون اقتداراً، ومر بوبون أقتساراً، ومقبوضون أحتضاراً، وضمنون أجداثاً؛
وكائنون رفاتاً، ومبعوثون أفراداً، ومدينون جزاء، ومميزون حساباً. قد أمهلوا في
طلب المخرج، وهدوا سبيل المنهج، وعمروا مهل المستعتب، وكشفت عنهم سدف الريب،
وخلوا لمضمار الجياد، وروية الارتياد، وأناة المقتبس الفرتاد، فى مدة الأجل،
ومضطرب المهل؛ الشرح: مربوبون: مملوكون. والاقتسار: الغلبة والقهر، والاحتضار: حضور الملائكة عند الميت؛ وهو حينئذ
محتضر، وكانت العرب تقول: لبن محتضر: أي فاسد ذو
آفة، يعنون أن الجن حضرته، يقال: اللبن محتضر فغط إناءك. والأجداث: جمع جدث، وهو القبر؛ واجتدث الرجل؛
اتخذ جدثاً، ويقال: جدف بالفاء. والدين:
الجزاء؛ ومنه "مالك يوم الدين". قوله:
قد أمهلوا في طلب المخرج، أي انظروا ليفيئوا إلى الطاعة ويخلصوا التوبة، لأن
إخلاص التوبة هو المخرج الذي من سلكه خرج من ربقة المعصية. ومثله قوله: وهدوا سبيل المنهج، والمنهج: الطريق
الواضح. وقد قيل: السدفة: اختلاط الضوء والظلمة كوقت ما بين طلوع الفجر إلى الإسفار، والسدف: الصبح وإقباله، وأسدف الليل، أظلم؛ وأسدف الصبح
أضاء، يقال: أسدف الباب، أي افتحه حتى يضيء البيت؛ وفي لغة هوازن أسدفوا؛
أي أسرجوا، من السراج، والريب: الشبهة، جمع ريبة.
والمضمار: الموضع الذي تضمر فيه الخيل، والمضمار أيضاً المدة التي تضمر
فيها. والتضمير: أن
تعلف الفرس حتى يسمن؛ ثم ترده إلى قوته الأولى؛ وذلك في أربعين يوماً، وقد يطلق
التضمير على نقيض ذلك؛ وهو التجويع حتى يهزل ويخف لحمه. ضمر
الفرس بالفتح، يضمر بالضم، ضموراً، وجاء ضمر الفرس بالضم، وأضمرته أنا، وضمرته
فاضطمر هو، ولؤلؤ مضطمر: في وسطه بعض الانضمام. رجل لطيف الجسم، ضمير البطن،
وناقة ضامر وضامرة أيضاً. يقول:
مكنهم الحكيم سبحانه وخلاهم وأعمالهم، كما تمكن الخيل التي تستبق في المضمار
ليعلم أيها أسبق. والأناة:
التؤدة والانتظار، مثل القناة.
والمقتبس:
متعلم العلم ههنا، ولا بد له من أناة ومهل ليبلغ حاجته، فضرب مثلاً، وجاء في بعض الروايات: ومقبوضون اختضاراً بالخاء
المعجمة؛ وهو موت الشاب غضاً أخضر، أي مات شاباً، وكان
فتيان يقولون لشيخ: أجززت يا أبا فلان، فيقول: أي بني، وتختضرون! أجز الحشيش: آن
أن يجز، ومنه قيل للشيخ كاد يموت: قد أجز، والرواية
الأولى أحسن، لأنها أعم. الأصل: فيا
لها أمثالاً صائبةً، ومواعظ شافية، لو صادفت قلوباً زاكية، وأسماعاً واعية،
واراءً عازمة، وألباباً حازمة! فاتقوا
الله تقية من سمع فخشع، وأقترف فاعترف، ووجل فعمل، وحاذر فبادر، وأيقن فأحسن،
وعبر فاعتبر، وحذر فحذر، وزجر فآزدجر، وأجاب فأناب، وراجع فتاب، وأقتدى فاحتذى،
وأري فرأى، فأسرع طالباً، ونجا هارباً؛ فأفاد ذخيرة، وأطاب سريرة، وعمر معاداً،
واستظهر زاداً، ليوم رحيله، ووجه سبيله، وحال حاجته، وموطن فاقته، وقدم أمامة
لدار مقامه. والقلوب الزاكية:
الطاهرة، والأسماع الواعية: الحافظة. والآراء العازمة: ذات العزم. والألباب:
العقول، والحازمة: ذات الحزم، والحزم: ضبط الرجل أمره. والزجر:
النهي والمنع، زجر أي منع، وازدجر مطاوع ازدجر؛ اللفظ فيهما واحد، تقول: ازدجرت
زيداً عن كذا فازدجر هو، وهذا غريب؛ وإنما جاء مطاوع ازدجر في زجر لأنهما كالشيء
الواحد؛ وفي بعض الروايات ازدجر فازدجر، فلا يحتاج مع هذه الرواية إلى تأويل،
وأناب الرجل إلى الله، أي أقبل وتاب. واقتدى
بزيد؛ فعل مثل فعله، واحتذى مثله. نصب جهة بفعل مقدر، تقديره:
واقصدوا جهة ما خلقكم له يعني العبادة،
لأنه تعالى قال: "وما خلقت الجن
والإنس إلا ليعبدون". فحذف الفعل، واستغنى
عنه بقوله: فاتقوا الله لأن التقوى ملازمة لقصد المكلف العبادة، فدلت عليه
واستغنى بها عن إظهاره.
أي
بعد حيال، فيكون قد حذف المفعول، وحذفه جائز، لأنه فضلة؛ ويكون التقدير: لتجلو الأذى بعد عشاها، والعشا، مقصور: مصدر عشي، بكسر الشين، يعشى؛ فهو
عش، إذا أبصر نهاراً ولم يبصر ليلاً. فإن قلت:
فأي معنى في قوله: أعضاء تجمع أعضاءها؛ وكيف يجمع الشيء نفسه؛ قلت: أراد رضي الله عنه بالأشلاء ههنا الأعضاء
الظاهرة، وبالأعضاء الجوارح الباطنة؛ ولا ريب أن الأعضاء الظاهرة تجمع الأعضاء
الباطنة وتضمها. والملائمة: الموافقة. والأحناء: الجوانب والجهات. ووجه الموافقة
والملاءمة أن كون اليد في الجانب أولى من كونها في الرأس أو في أسفل القدم؛
لأنها إذا كانت في الجانب كان البطش وتناول ما يراد ودفع ما يؤذي أسهل؛ وكذلك
القول في جعل العين في الموضع الذي جعلت به، لأنها كديدبان السفينة البحرية، ولو
جعلت في أم الرأس لم ينتفع بها هذا الحد من الانتفاع الآن؛ وإذا تأملت سائر
أدوات الجسد وأعضاءه وجدتها كذلك. والمرفق من الأمر: ما ارتفقت به وانتفعت، ويروى: بأرماقها، والرمق:
بقية الروح. ومجللات النعم، تجفل الناس، أي تعمهم؛ من قولهم:
إسحاب مجلل أي يطبق الأرض، وهذا من باب إضافة الصفة إلى الموصوف، كقولك: أنا في سابغ ظلك وعميم فضلك، كأنه قال: في
نعمه المجفلة؛ وكذلك القول في موجبات مننه، أي في مننه التي توجب الشكر. ويروى وحواجز بليته، وقد فسر قوله: حواجز عافيته؛
على أن يراد به ما يحجز العافية ويمنعها عن الزوال والعدم. وأرهقتهم المنايا: أدركتهم مسرعة. والمرهق: الذي أدرك ليقتل. وشذبهم
عنها: قطعهم وفرقهم؛ من تشذيب الشجرة؛ وهو تقشيرها، وتخرمت زيد المنية: استأصلته
واقتطعته. والغضارة: طيب العيش،
ومنه المثل: أباد الله غضراءهم، أي خيرهم وخصبهم، وآونة الفناء جمع أوان؛ وهو
الحين، كزمان وأزمنة، وفلان يصنع ذلك الأمر آونة كقولك: تارات، أي يصنعه مراراً
ويدعه مراراً، والزيال: مصدر زايله مزايلة
وزيالاً، أي فارقه، والأزوف: مصدر أزف، أي دنا، والعلز: قلق
وخفة وهلع يصيب الإنسان، وقد علز بالكسر، وبات علزاً، أي وجعاً قلقاً. والمضض: الوجع،
أمضني الجرح ومضني؛ لغتان، وقد مضضت يا رجل، بالكسر، والغصص:
جمع غصة، وهي الشجا، والغصص بالفتح: مصدر قولك غصصت يا رجل تغص بالطعام،
فأنت غاص وغصان، وأغصصته أنا. والجريض:
الريق يغص به؛ جرض بريقه بالفتح، يجرض بالكسر، مثل كسر يكسر؛ وهو أن يبلع ريقه على هم وحزن بالجهد. والجريض: الغصة، وفي المثل: حال
الجريض دون القريض، وفلان يجرض بنفسه إذا كان يموت، وأجرضه الله بريقه
أغصه. وشحبة: هالكة،
والشحب: الهلاك، شحب الرجل بالكسر، يشحب،
وجاء شحب، بالفتح يشحب بالضم؛ أي هلك؛ وشحبه الله يشحبه، يتعدّى ولا يتعدى،
ونخرة: بالية، والأعباء: الأثقال، واحدها
عبء. ثم ذكر قساوة القلوب وضلالها عن رشدها، وقال: كأن
المعني سواها؛ هذا مثل قول النبي صلى
الله عليه وسلم: "كأن الموت فيها على غيرنا كتب،
وكأن الحق فيها على غيرنا وجب". قالوا: لأن مثل ذلك لا يكون طريقاً للماضي، ولا
يتمكن من المشي عليه؛ ولو أمكن لم يصح التكليف في الآخرة، ليؤمر العقلاء بالمرور
عليه على وجه التعبد. ثم سأل أصحابنا أنفسهم، فقالوا: أي فائدة في عمل هذا السور؛ وأي فائدة في كون الطريق الذي
هو الصراط منتهياً إلى باب النار منفرجاً منها إلى الجنة؛ ألستم تعللون أفعال
البارىء تعالى بالمصالح، والآخرة ليست دار تكليف ليفعل فيها هذه الأفعال
للمصالح!. وتارات
أهواله، كقوله: دفعات أهواله؛ وإنما جعل أهواله تارات: لأن الأمور الهائلة إذا
استمرت لم تكن في الإزعاج والترويع، كما تكون إذا طرأت تارة، وسكنت تارة. وأنصب
الخوف بدنه: أتعب؛ والنصب: التعب. والتهجد هنا: صلاة
الليل، وأصله: السهر؛ وقد
جاء التهجد بمعنى النوم
أيضاً؛ وهو من الأضداد. والمخالج:
الأمور المختلجة، أي الجاذبة، خلجه واختلجه، أي جذبه، وأقصد المسالك: أقومها. وطريق
قاصد، أي مستقيم، وفتله عن كذا، أي رده وصرفه، وهو قلب الفت، ويروى: قد عبر معبر العاجلة حميداً، وقدم زاد
الآجلة سعيداً".
ومن رواه بالتسكين، جاز أن يعني به هذا ويكون قد خفف، كما
قالوا: حلم وحلم. وجاز أن يجعله مصدراً، من قدم الرجل بالفتح، يقدم
قدماً، أي تقدم، قال الله تعالى: "يقدم قومه
يوم القيامة"، أي يتقدمهم إلى ورودها؛ كأنه قال: ونظر بين يديه
متقدماً لغيره وسابقاً إياه إلى ذلك والباء في بالجنة و بالنار و بالله وبالكتاب
زائدة، والتقدير: كفى الله، وكفى الكتاب!. وفي قوله: نفذ في الصدور، مناسبة لقوله صلى الله عليه وسلم: "الشيطان يجري
من بني آدم مجرى الدم"،
والنجي؛ الذي يساره، والجمع الأنجية، قال:
وقد يكون النجي جماعة مثل الصديق، قال الله تعالى: "خلصوا
نجيا"، أي متناجين، القرينة ههنا:
الإنسان الذي قارنه الشيطان، ولفظه لفظ التأنيث؛ وهو مذكر، أراد القرين، قال
تعالى: "فبئس القرين"، ويجوز أن
يكون أراد بالقرينة النفس، ويكون الضمير عائداً إلى غير مذكور لفظاً لما دل
المعنى عليه؛ لأن قوله: فأضل وأردى، ووعد فمنى معناه أضل الإنسان وأردى، ووعده
فمنى، فالمفعول محذوف لفظاً، وإليه رجع الضمير على هذا الوجه؛ ويقال: غلق الرهن
إذا لم يفتكه الراهن في الوقت المشروط، فاستحقه المرتهن. وهذا الكلام مأخوذ من قوله تعالى: "وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق
ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلأ أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا
تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي". وغلام
يفع ويفعة وغلمان أيفاع ويفعة أيضاً. والمائح:
الذي نزل البئر إذا قل ماؤها، فيملأ الدلاء. وسئل بعض أئمة اللغة عن الفرق بين الماتح والمائح، فقال: اعتبر نقطتي الإعجام، فالأعلى
للأعلى، والأدق للأدق، والغرب: الدلو
العظيمة. والكدح:
شدة السعي والحركة، قال تعالى: "يا أيها
الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً". لم يفد عوضاً، أي لم يكتسب، وغبر جماحه:
بقاياه، قال أبو كبيرالهذلي:
والجماح الشرة
وارتكاب الهوى. وسنن مراحه، السنن: الطريقة، والمراح: شدة الفرح والنشاط. قوله:
فظل سادراً، السادر ههنا غير السادر الأول، لأنه ههنا المغمى عليه كأنه سكران؛
وأصله من سدر البعير من شدة الحر وكثرة الطلاء بالقطران، فيكون كالنائم لا يحس، ومراده رضي الله عنه ههنا أنه بدأ به المرض. ولادمة للصدر: ضاربة له، والتدام النساء:
ضربهن الصدور عند النياحة. سكرة فلهثة: تجعل الإنسان لاهثاً لشدتها لهث يلهث
لهثاناً ولهاثاً، ويروى ملهية بالياء، أي تلهي الإنسان وتشغله. والسوقة:
من سياق الروح عند الموت. والمبلس:
الذي ييئس من رحمة الله، ومنه سمي إبليس. والإبلاس
أيضاً: الإنكسار والحزن. والسلس: السهل المقادة. والأعواد
خشب الجنازة، ورجيع وصب: الرجيع المعنى الكال؛ والوصب:
الوجع، وصب الرجل يوصب، فهو واصب، وأوصبه الله فهو موصب. والموصب
بالتشديد: الكثير الأوجاع. والنضو:
الهزيل. وحشدة
الإخوان: جمع حاشد؛ وهو المتأهب المستعد. ودار غربته: قبره. وكذلك
منقطع زورته، لأن الزيارة تنقطع عنده. ونزول الحميم وتصلية الجحيم، من الألفاظ الشريفة القرآنية.
ويقولون:
الفقر الموت الأحمر، واستعمالهم مثل ذلك كثير جداً. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
القبر وسؤال منكر ونكير
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
واعلم أن لقاضي القضاة في كتاب طبقات
المعتزلة في باب القبر وسؤال منكر ونكير؛ كلاماً
أنا اورد هاهنا بعضه، قال رحمه الله تعالى: إن عذاب القبر إنما أنكره ضرار بن عمرو، ولما كان ضرار من أصحاب واصل بن عطاء، ظن كثير من الناس أن ذلك مما أنكرته المعتزلة؛ وليس الأمر كذلك؛ بل المعتزلة رجلان: أحدهما يجوز عذاب القبر، ولا يقطع
به؛ وهم الأقلون، والآخر يقطع على ذلك؛ وهم
أكثر أصحابنا لظهور الأخبار الواردة فيه؛ وإنما
تنكر المعتزلة قول طائفة من الجهلة إنهم
يعذبون وهم موتى، لأن العقل يمنع من ذلك؛
وإذا كان الإنسان مع قرب العهد بموته؛ ولما يدفن يعلمون أنه لا يسمع ولا يبصر
ولا يدرك، ولا يألم ولا يلتذ، فكيف يجوز عليه ذلك
وهو ميت في قبره! وما روي من أن الموتى
يسمعون لا يصح إلا أن يراد به أن الله تعالى أحياهم، وقوى حاسة سمعهم،
فسمعوا وهم أحياء. وأجاب بأنّا لم نقل: إن ذلك من مصالحه وهو ميت؛ وإنما نقول إنه مصلحة أن نعلم في
الدنيا ذلك من حال الموت؛ لأنه إذا تصور أنه مات عوجل بضرب من العقاب في القبر،
كان أقرب إلى أن ينصرف عن كثير من المعاصي. وقد يجوز أن يكون ذلك لطفاً للملائكة الذين
يتولون هذا التعذيب. وأنظروا: أمهلوا. والذنوب
المورطة: التي تلقي أصحابها في الورطة؛ وهي الهلاك؛ قال رؤبة :
وأصله
أرض مطمئنة لا طريق فيها، وقد أورطت زيداً وورطته توريطاً فتورط. ثم قال رضي الله
عنه: أولي الأبصار والأسماع، ناداهم نداءً ثانياً بعد النداء الذي في أول
الفصل، وهو قوله: عباد الله؛ فقال: يا من منحهم الله أبصاراً وأسماعاً، وأعطاهم
عافية، ومتعهم متاعاً هل من مناص؛ وهو الملجأ والمفر؛ يقال: ناص عن قرنه مناصاً،
أي فر وراوغ، قال سبحانه: "ولات حين مناص". والروح يذكر ويؤنث. والفينة:
الوقت، ويروى وفينة الإرتياد؛ وهو الطلب. وأنف المشية: أول
أوقات الإرادة والإختيار.
والغائب المنتظر؛ هو الموت. قال أبو عثمان: وكان جعفر يعجب أيضاً بقول علي رضي الله عنه:
أين من جد واجتهد، وجمع واحتشد، وبنى فشيد، وفرش فمهد، وزخرف فنجد، قال: ألا ترى أن كل لفظة منها آخذة بعنق قرينتها،
جاذبةً إياها إلى نفسها، دالة عليها بذاتها! قال أبوعثمان: فكان جعفر يسميه فصيح
قريش. وبحق ما قال معاوية لمحقن الضبي، لما
قال له: جئتك من عند أعيا الناس: يا بن
اللخناء، ألعلي تقول هذا؛ وهل سن الفصاحة لقريش
غيره! واعلم أن تكلف الإستدلال على أن الشمس مضيئة يتعب، وصاحبه منسوب
إلى السفه، وليس جاحد الأمور المعلومة علماً ضرورياً بأشد سفها ممن رام
الإستدلال بالأدلة النظرية عليها. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن ذكر عمرو بن العاص
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: عجباً لابن النابغة! يزعم لأهل الشام أن فيّ دعابةً، وأني أمرؤ تلعابة، أعافس
وأمارس! لقد قال باطلاً، ونطق آثما. أما وشر القول الكذب إنه ليقول فيكذب، ويعد
فيخلف، ويسأل فيبخل، ويسأل فيلحف، ويخون العهد، ويقطع الإل؛ فإذا كان عند الحرب
فأي زاجر وآمر هو! ما لم تأخذ السيوف مآخذها؛ فإذا كان ذلك كان أكبر مكيدته أن
يمنح القوم سبته. ورضخ له رضخاً: أعطاه عطاء بالكثير، وهي الرضيخة؛
لما يعطى. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أخبار عمرو بن العاص
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ونحن نذكر طرفاً من نسب عمرو بن
العاص وأخباره إلى حين وفاته إن شاء الله. أبوه العاص بن وائل، أحد المستهزئين لرسول الله صلى الله عليه
وسلم، والمكاشفين له بالعداوة والأذى، وفيه وفي أصحابه انزل قوله تعالى: "إنا
كفيناك المستهزئين". روى ذلك الواقدي. وروى الواقدي أيضاً وغيره من أهل الحديث؛ أن عمرو بن العاص هجا رسول الله صلى الله عليه وسلم هجاءً كثيراً، كان يعلمه صبيان مكة، فينشدونه ويصيحون لرسول
الله إذا مر بهم، رافعين أصواتهم لذلك الهجاء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي بالحجر: "اللهم
إن عمرو بن العاص هجاني، ولست بشاعر؛ فالعنه بعدد ما هجاني".
وقال أبو عمر بن عبد البر صاحب كتاب الإستيعاب: كان اسمها
سلمى وتلقبت بالنابغة بنت حرملة من بني جلاّن بن عنزة بن أسد بن ربيعة بن
نزار أصابها سباء، فصارت إلى العاص بن وائل بعد جماعة من قريش، فأولدها عمراً. قال أبو عمر:
يقال إنه جعل لرجل ألف درهم على أن يسأل عمراً وهو على المنبر: من أمه؛ فسأله، فقال: أمي سلمى بنت حرملة؛ تلقب بالنابغة، من بني عنزة ثم أحد بني جلان وأصابتها راح العرب فبيعت بعكاظ، فاشتراها الفاكه بن المغيرة، ثم اشتراها منه عبد الله بن خدعان، ثم صارت إلى العاص بن وائل، فولدت فأنجبت، فإن كان جعل لك شيء فخذ. وذكر هذا الخبر وقال: إنها لم تكن في موضع مرضي، قال
المبرد: وقال المنذر بن الجارود مرة لعمرو بن العاص: أي رجل أنت لولا أن
أمك أمك! فقال: إني أحمد الله إليك، لقد
فكرت البارحة فيها فأقبلت أنقلها في قبائل العرب ممن أحب أن تكون منها، فما خطرت
لي عبد القيس على بال! وقال المبرد: ودخل
عمرو بن العاص مكة؛ فرأى قوماً من قريش قد
جلسوا حلقةً، فلما رأوه رمقوه بأبصارهم، فعدل إليهم
فقال: أحسبكم كنتم في شيء من ذكري!
قالوا: أجل؛ كنا نمثل بينك وبين أخيك هشام بن
العاص، أيكما أفضل؛ فقال عمرو: إن لهشام علي
أربعة: أمه بنت هشام بن المغيرة، وأمي من قد عرفتم؛ وكان أحب إلى أبيه
مني، وقد علمتم معرفة الوالد بولده، وأسلم قبلي، واستشهد وبقيت.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الحسن بن علي رضي الله عنه يفحم رجالات من قريش
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وروى الزبير بن بكار في كتاب
المفاخرات؛ قال: اجتمع عند معاوية عمرو بن العاص،
والوليد بن عقبة بن أبي معيط، وعتبة بن أبي سفيان بن حرب، والمغيرة بن شعبة، وقد كان بلغهم عن الحسن بن علي رضي الله عنه قوارص، وبلغه
عنهم مثل ذلك، فقالوا: يا أمير المؤمنين؛ إن الحسن قد أحيا أباه وذكره،
وقال فصدق، وأمر فأطيع، وخفقت له النعال، وإن ذلك لرافعه إلى ما هو أعظم منه،
ولا يزال يبلغنا عنه ما يسوؤنا. ثم قال: يا جارية، ابغيني ثيابي، اللهم إني أعوذ بك
من شرورهم، وأدرأ بك في نحورهم، وأستعين بك عليهم، فاكفنيهم كيف شئت وأنى شئت،
بحول منك وقوة، يا أرحم الراحمين! ثم قام، فلما دخل على معاوية، أعظمه وأكرمه،
وأجلسه إلى جانبه، وقد ارتاد القوم، وخطروا خطران الفحول، بغياً في أنفسهم
وعلوا، ثم قال: يا أبا محمد؛ إن هؤلاء بعثوا إليك وعصوني. فتكلم عمرو بن العاص، فحمد الله وصلى على رسوله، ثم ذكرعلياً رضي
الله عنه، فلم يترك شيئاً يعيبه به إلا قاله، وقال: إنه شتم أبا بكر وكره خلافته، وامتنع
من بيعته، ثم بايعه مكرهاً، وشرك في دم عمر، وقتل عثمان ظلماً. وادعى
من الخلافة ما ليس له. ثم
إنك يا حسن، تحدث نفسك أن الخلافة صائرة إليك، وليس عندك عقل ذلك ولا لبه، كيف
ترى الله سبحانه سلبك عقلك، وتركك أحمق قريش، يسخر منك ويهزأ بك، وذلك لسوء عمل
أبيك! وإنما دعوناك لنسبك وأباك، فأما أبوك
فقد تفرد الله به وكفانا أمره، وأما أنت فإنك في أيدينا نختار فيك الخصال، ولو
قتلناك ما كان علينا إثم من الله، ولا عيب من الناس، فهل تستطيع أن ترد علينا
وتكذبنا؛ فإن كنت ترى أنا كذبنا في شيء فاردده
علينا فيما قلنا، وإلا فاعلم أنك وأباك ظالمان. وأنشدكم الله هل
تعلمون أنه أول الناس إيماناً، وأنك يا معاوية وأباك من المؤلفة قلوبهم تسرون
الكفر، وتظهرون الإسلام، وتستمالون بالأموال!
وأنشدكم الله، ألستم تعلمون أنه كان صاحب راية رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم
بدر، وأن راية المشركين كانت مع معاوية ومع أبيه، ثم لقيكم يوم أحد ويوم الأحزاب،
ومعه راية رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعك ومع أبيك راية الشرك؛ وفي كل ذلك يفتح الله. أتنسى
يا معاوية الشعر الذي كتبته إلى أبيك لما هم أن يسلم، تنهاه عن ذلك:
والله لما أخفيت من أمرك أكبر مما أبديت. وأنشدكم الله أيها الرهط؛ أتعلمون أن علياً حرم الشهوات على نفسه بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل فيه: "يا أيها الذين
آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم"، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أكابر أصحابه إلى بني قريظة
فنزلوا من حصنهم. ثم إنك تعلم وكل هؤلاء الرهط يعلمون أنك هجوت
رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبعين
بيتاً من الشعر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم إني لا أقول
الشعر ولا ينبغي لي، اللهم العنه بكل حرفٍ ألف لعنة"؛ فعليك إذاً من الله
ما لا يحصى من اللعن. ثم
حبست نفسك إلى معاوية، وبعت دينك بدنياه، فلسنا
نلومك على بغض، ولا نعاتبك على ودّ، وبالله
ما نصرت عثمان حياً ولا غضبت له مقتولاً، ويحك يا بن العاص! ألست القائل في بني هاشم لما خرجت من مكة إلى النجاشي:
فهذا جوابك، هل سمعته! وأما أنت يا وليد؛ فوالله ما ألومك على بغض علي، وقد
جلدك ثمانين في الخمر، وقتل أباك بين يدي رسول الله صبراً، وأنت الذي سماه الله
الفاسق، وسمى علياً المؤمن، حيث تفاخرتما فقلت له: اسكت يا علي، فأنا
أشجع منك جناناً، وأطول منك لساناً، فقال لك علي:
اسكت يا وليد، فأنا مؤمن وأنت فاسق؛ فأنزل الله تعالى في موافقة قوله: "أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون"،
ثم أنزل فيك على موافقة قوله أيضاً: "إن جاءكم
فاسق بنبأ فتبينوا".
وما أنت وقريش؛ إنما أنت علج من أهل صفورية، واقسم بالله لأنت أكبر في الميلاد،
وأسن ممن تدعى إليه. وأما أنت يا عتبة؛ فوالله ما أنت بحصيف فأجيبك، ولا عاقل فأحاورك وأعاتبك، وما
عندك خير يرجى، ولا شر يتقى، وما عقلك وعقل أمتك إلا سواء، وما يضر علياً لو
سببته على رؤوس الأشهاد! وأما وعيدك إياي بالقتل، فهلاّ
قتلت اللحياني إذ وجدته على فراشك! أما تستحي من
قول نصر بن حجاج فيك:
وبعد هذا، ما أربأ بنفسي عن ذكره لفحشه؛ فكيف يخاف أحد سيفك، ولم تقتل فاضحك! وكيف ألومك على بغض علي، وقد قتل خالك الوليد مبارزة يوم بدر، وشرك حمزة في قتل
جدك عتبة، وأوحدك من أخيك حنظلة في مقام واحد! وأما أنت يا مغيرة؛ فلم تكن بخليق أن تقع في هذا وشبهه، وإنما مثلك مثل البعوضة إذ قالت للنخلة: استمسكي؛
فإني طائرة عنك، فقالت النخلة: وهل علمت بك
واقعة علي فأعلم بك طائرةً عني! والله ما نشعر بعداوتك إيانا، ولا اغتممنا إذ علمنا بها، ولا يشق
علينا كلامك،
وإن حد الله في الزنا لثابت عليك، ولقد درأ
عمر عنك حقاً الله سائله عنه! ولقد سألت
رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل ينظر الرجل إلى المرأة يريد أن يتزوجها؛ فقال: "لا بأس لذلك يا مغيرة ما لم ينو الزنا"،
لعلمه بأنك زان. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
عمرو بن العاص ومعاوية
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وروى الشعبي، قال: دخل
عمرو بن العاص على معاوية يسأله حاجة، وقد كان بلغ معاوية عنه ما كرهه، فكره
قضاءها وتشاغل، فقال عمرو: يا معاوية؛ إن السخاء فطنة، واللؤم تغافل، والجفاء ليس من أخلاق
المؤمنين. فقال معاوية: يا عمرو؛
بماذا تستحق منا قضاء الحوائج العظام؛ فغضب عمرو
وقال: بأعظم حق وأوجبه، إذ كنت في بحر عجاج، فلولا
عمرو لغرقت في أقل مائه وأرقه، ولكني دفعتك
فيه فصرت في وسطه، ثم دفعتك فيه أخرى فصرت
في أعلى المواضع منه، فمضى حكمك، ونفذ أمرك، وانطلق لسانك بعد تلجلجه، وأضاء
وجهك بعد ظلمته، وطمست لك الشمس بالعهن المنفوش، وأظلمت لك القمر بالليلة المدلهمة. فقال بعض جلسائه: يا أمير المؤمنين؛
إن الحوائج لتقضى على ثلاث خصال: إما أن يكون
السائل لقضاء الحاجة مستحقاً فتقضى له بحقه، وإما أن يكون السائل لئيماً فيصون الشريف
نفسه عن لسانه فيقضي حاجته، وإما أن يكون المسؤول كريماً فيقضيها لكرمه؛ صغرت أو كبرت. فضحك معاوية، فقال:
ما أريدك يا أبا عبد الله بالكلمة، وإنما كانت آية تلوتها من كتاب الله عرضت
بقلبي، فاصنع ما شئت. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
عبد الله بن جعفر وعمرو بن العاص في مجلس معاوية
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وروى المدائني قال: بينما معاوية يوماً
جالساً عنده عمرو بن العاص، إذ قال الآذن:
قد جاء عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، فقال عمرو: والله لأسوءنه اليوم، فقال معاوية: لا تفعل يا أبا عبد الله، فإنك لا
تنصف منه، ولعلك أن تظهر لنا من منقبته ما هو خفي عنا، وما لا نحب أن نعلمه منه.
ثم حسر عن ذراعيه، وقال: يا معاوية، حتام نتجرع غيظك؛ وإلى كم الصبرعلى
مكروه قولك، وسيىء أدبك، وذميم أخلاقك! هبلتك الهبول! أما يزجرك ذمام المجالسة
عن القذع لجليسك إذا لم تكن لك حرمة من دينك تنهاك عما لا يجوز لك! أما
والله لو عطفتك أواصر الأرحام، أو حاميت على سهمك من الإسلام، ما أرعيت بني
الإماء آلمتك، والعبيد الصك أعراض قومك. فاقصد
لمنهج الحق، فقد طال عمهك عن سبيل الرشد، وخبطك في بحور ظلمة الغي. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
عبد الله بن العباس ورجالات قريش في مجلس معاوية
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وروى المدائني أيضاً قال: وفد
عبد الله بن عباس على معاوية مرة، فقال معاوية لابنه يزيد، ولزياد بن سمية، وعتبة بن أبي
سفيان، ومروان بن الحكم، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، وسعيد بن العاص،
وعبد الرحمن بن أم الحكم: إنه قد طال العهد بعبد الله بن عباس، وما كان
شجر بيننا وبينه وبين ابن عمه، ولقد كان نصبه للتحكيم فدفع عنه، فحركوه على
الكلام لنبلغ حقيقة صفته، ونقف على كنه معرفته، ونعرف ما صرف عنا من شبا حده،
وزوي عنا من دهاء رأيه، فربما وصف المرء بغير ما هو فيه، وأعطي من النعت والإسم
ما لا يستحقه. فقال عبد الرحمن بن أم الحكم: لله در ابن ملجم! فقد بلغ الأمل، وأمن الوجل، وأحد الشفرة
وألان المهرة، وأدرك الثار، ونفى العار، وفاز بالمنزلة العليا، ورقى الدرجة
القصوى.
فقال المغيرة بن شعبة: أما والله لقد أشرت على علي بالنصيحة فآثر رأيه، ومضى على
غلوائه، فكانت العاقبة عليه لا له، وإني لأحسب أن خلفه يقتدون بمنهجه.
فلتكونن منهم بحيث أعددت ليلة الهرير للهرب فرسك، وكان أكبر همك سلامة حشاشة نفسك، ولولا طغام من أهل الشام وقوك بأنفسهم، وبذلوا دونك
مهجهم، حتى إذا ذاقوا وخز الشفار، وأيقنوا بحلول الدمار، رفعوا المصاحف مستجيرين
بها، وعائذين بعصمتها لكنت شلواً مطروحاً
بالعراء، تسفي عليك رياحها، ويعتورك ذبابها. قال
عتبة: بجهدي. قال. فقمت فقعدت إلى جانبه، فلما
أخذ القوم في الكلام أقبلت عليه بالحديث، فقرع يدي، وقال:
ليست ساعة حديث؛ قال: فأظهرت غضباً، وقلت:
يا بن عباس، إن ثقتك بأحلامنا أسرعت بك إلى أعراضنا، وقد والله تقدم من
قبل العذر، وكثر منا الصبر؛ ثم أقذعته فجاش لي
مرجله وارتفعت أصواتنا، فجاء القوم فأخذوا بأيدينا فنحوه عني ونحوني عنه،
فجئت فقربت من عمرو بن العاص، فرماني بمؤخر عينيه
وقال: ما صنعت؛ فقلت: كفيتك التقوالة، فحمحم كما يحمحم الفرس للشعير. قال: وفات ابن عباس أول الكلام، فكره أن يتكلم في
آخره. وقد ذكرنا نحن هذا الخبر فيما تقدم
في أخبار صفين على وجه آخر غير هذا الوجه. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
عمارة بن الوليد وعمرو بن العاص في الحبشة
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
فأما خبر عمارة بن الوليد بن المغرة
المخزومي، أخي خالد بن الوليد مع عمرو بن العاص فقد ذكره ابن إسحاق في كتاب
المغازي قال: كان غمارة بن الوليد بن المغيرة وعمرو
بن العاص بن وائل، بعد مبعث رسول الله صلى الله عليه
وسلم،
خرجا إلى أرض الحبشة على شركهما، وكلاهما كان شاعراً عارماً فاتكاً. وكان عمارة بن الوليد رجلاً جميلاً وسيماً تهواه النساء،
صاحب محادثة لهن؛ فركبا البحر ومع عمرو بن العاص امرأته، حتى إذا صاروا في البحر
ليالي، أصابا من خمر معهما، فلما انتشى عمارة قال لامرأة عمرو بن العاص: قبليني،
فقال لها عمرو: قبلي ابن عمك، فقبلته فهويها عمارة، وجعل يراودها عن
نفسها، فامتنعت منه. ثم إن عمراً جلس على منجاف
السفينة يبول، فدفعه عمارة في البحر فلما وقع عمرو سبح، حتى أخذ بمنجاف السفينة،
فقال له عمارة: أما والله لو علمت أنك سابح ما طرحتك، ولكنني كنت أظن أنك لا تحسن السباحة، فضغن عمرو عليه في
نفسه، وعلم أنه كان أراد قتله؛ ومضيا على وجههما ذلك؛ حتى قدما أرض
الحبشة؛ فلما نزلاها كتب عمرو إلى أبيه العاص بن وائل؛ أن اخلعني وتبرأ من
جريرتي إلى بني المغيرة وسائر بني مخزوم، وخشي على أبيه أن يتبع بجريرته. فلما قدم الكتاب على العاص بن وائل، مشى إلى رجال بني
المغيرة وبني مخزوم، فقال: إن هذين الرجلين قد خرجا حيث علمتم، وكلاهما
فاتك صاحب شر، غير مأمونين على أنفسهما، ولا أدري ما يكون منهما، وإني أبرأ إليكم من عمرو وجريرته، فقد خلعته. فقال عند ذلك بنو المغيرة وبنو مخزوم: وأنت تخاف عمراً على عمارة! ونحن فقد خلعنا عمارة وتبرأنا إليك من جريرته، فخل بين
الرجلين. قال: قد فعلت، فخلعوهما وبرىء كل قوم
من صاحبهم وما يجري منه. لقد أصبت
شيئاً ما أصاب أحد من العرب مثله قط، ونلت من امرأة الملك شيئاً ما سمعنا بمثل
هذا. وكانوا أهل جاهلية وشباناً، وذلك في أنفسهم فضل لمن
أصابه وقدر عليه. وهذا دهنك قد أعطته وادهن به. فخرج هارباً في الوحش، فلم يزل في أرض الحبشة، حتى كانت
خلافة عمر بن الخطاب، فخرج إليه رجال من بني المغيرة، منهم عبد الله بن
أبي ربيعة بن المغيرة وكان اسم عبد الله قبل أن يسلم بجيراً، فلما أسلم، سماه
رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد
الله فرصدوه على ماء بأرض الحبشة، كان يرده
مع الوحش، فزعموا أنه أقبل في حمر من حمر الوحش ليرد معها، فلما وجد ريح الإنس، هرب منه، حتى إذا أجهده
العطش، ورد فشرب حتى تملأ، وخرجوا في طلبه. قال عبد الله: فضبطته فمات في يدي مكانه، فواروه ثم انصرفوا.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
جعفر الطيار وابن العاص في الحبشة
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وأما خبر عمرو بن العاص في شخوصه إلى
الحبشة، ليكيد جعفر بن أبي طالب والمهاجرين من المؤمنين عند النجاشي، فقد
رواه كل من صنف في السيرة، قال محمد بن إسحاق في
كتاب المغازي قال: حدثني محمد بن مسلم بن عبد الله بن شهاب الزهري، عن
أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي، عن
أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة المخزومية، زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت:
لما نزلنا بأرض الحبشة جاورنا بها خير جار، النجاشي، أمنا على ديننا، وعبدنا
الله لا نؤذى كما كنا نؤذى بمكة، ولا نسمع شيئاً نكرهه، فلما بلغ ذلك قريشاً
ائتمروا بينهم أن يبعثوا إلى النجاشي في أمرنا رجلين منهم جلدين، وأن يهدوا
للنجاشي هدايا مما يستطرف من متاع مكة، وكان من أعجب ما يأتيه منه الأدم؛ فجمعوا
أدماً كثيراً، ولم يتركوا من بطارقته بطريقاً إلا أهدوا إليه هدية. ثم بعثوا بذلك مع عبد الله بن أبي
ربيعة بن المغيرة المخزومي وعمرو بن العاص بن وائل السهمي،
وأمروهما أمرهم، وقالوا لهما: ادفعا إلى كل بطريق هديته، قبل أن تكلما النجاشي
فيهم. قالت: ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاهم،
فلما جاءهم رسوله اجتمعوا، ثم قال بعضهم لبعض: ما تقولون للرجل إذا جئتموه؛
قالوا: نقول والله ما علمناه، وما أمرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم كائناً
في ذلك ما هو كائن، فلما جاءوه، وقد دعا النجاشي أساقفته، فنشروا مصاحفهم حوله،
سألهم فقال لهم: ما هذا الدين الذي فارقتم
فيه قومكم، ولم تدخلوا في ديني ولا في دين أحد من هذه الملل؛ قالت أم سلمة: وكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب فقال له:
أيها الملك إنا كنا قوماً في جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش،
ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف. فكنا على ذلك حتى بعث الله عز وجل علينا رسولاً
منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما
كنا عليه نحن وآباؤنا من دونه، من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء
الأمانة، وصلة الرحم، وحسن التجاور، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن سائر
الفواحش؛ وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله لا
نشرك به شيئاً، وبالصلاة وبالزكاة والصيام. فقال اقرأه علي، فقرأ عليه صدراً من "كهيعص"، فبكى حتى اخضلت لحيته، وبكت
أساقفته حتى أخضلوا لحاهم، ثم قال النجاشي:
والله إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة، والله لا أسلمكم إليهم. ثم غدا عليه من الغد، فقال: أيها الملك، إن
هؤلاء يقولون في عيسى بن مريم قولاً عظيماً؛ فأرسل إليهم فسلهم عما يقولون فيه،
فأرسل إليهم. فلما دخلوا عليه قال لهم: ما تقولون في عيسى بن
مريم؛ فقال جعفر: نقول إنه عبد الله ورسوله
وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول. ثم قال للمسلمين: اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي، أي
آمنون، من سبكم غرم، ثم من سبكم غرم، ثم من سبكم غرم، ما أحب أن لي دبراً ذهباً
وأني آذيت رجلاً منكم والدبر بلسان الحبشة:
الجبل ردوا عليهما هداياهما فلا حاجة لي فيها؛ فوالله ما أخذ الله مني الرشوة
حتى ردني إلى ملكي. فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس فيّ أفأطيعهم فيه! قالت: فخرج الرجلان من عنده مقبوحين مردوداً عليهما ما
جاءا به، وأقمنا عنده في خير دار مع خير جار، فوالله إنا لعلى ذلك، إذ نزل به
رجل من الحبشة ينازعه في ملكه. قالت: وسار إليه النجاشى وبينهما عرض
النيل، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم:
من
رجل يخرج حتى يحضر وقعة القوم ثم يأتينا بالخبر؛ فقال
الزبير بن العوام: أنا وكان من أحدث المسلمين سناً فنفخوا له قربة
فجعلناها تحت صدره، ثم سبح عليها حتى خرج إلى ناحية النيل التي بها يلتقي القوم،
ثم انطلق حتى حضرهم. قالت: ودعونا الله للنجاشي
بالظهور على عدوه والتمكين له في بلاده، فوالله إنا لعلى ذلك متوقعون لما هو
كائن، إذ طلع الزبير يسعى ويلوح بثوبه ويقول: ألا أبشروا، فقد ظهر النجاشي وأهلك
الله عدوه. فتبين لجعفر كيده وغائلته فلم يأكل بعدها عنده، وما زال
ابن الجزار عدواً لنا أهل البيت. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ابن العاص في صفين
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وأما خبر عمرو في صفين واتقائه حملة علي رضي الله عنه، بطرحه نفسه على الأرض
وإبداء سوأته؛ فقد ذكره كل من صنف في السير كتاباً، وخصوصاً الكتب الموضوعة
لصفين. وكان عمرو قلما جلس مجلساً إلا ذكر فيه الحارث
بن نضر الخثعمي وعابه، فقال الحارث:
فشاعت هذه الأبيات حتى بلغت عمراً، فأقسم بالله ليلقين علياً ولو مات ألف موتة. فلما
اختلطت الصفوف لقيه فحمل عليه برمحه، فتقدم علي رضي الله عنه وهو مخترط سيفاً معتقل
رمحاً، فلما رهقه همز فرسه ليعلو عليه، فألقى عمرو نفسه عن فرسه إلى الأرض
شاغراً برجليه؛ كاشفاً عورته، فانصرف عنه لافتاً وجهه مستدبراً له، فعد الناس
ذلك من مكارمه وسؤدده، وضرب بها المثل. وأما أنت يا
وليد، فقتل أباك صبراً، وأما أنت يا بن عامر،
فصرع أباك وسلب عمك. وأما أنت يا بن طلحة، فقتل أباك يوم الجمل، وأيتم إخوتك. وأما أنت يا مروان فكما قال الشاعر:
فقال معاوية:
هذا الإقرار فأين الغير؛ قال مروان: وأي غير تريد؟ قال: أريد أن تشجروه بالرماح. قال: والله يا معاوية ما أراك إلا هاذياً أو
هازئاً، وما أرانا إلا ثقلنا عليك، فقال ابن عقبة:
فغضب عمرو: وقال: إن كان الوليد صادقاً فليلق
علياً، أو فليقف حيث يسمع صوته، وقال عمرو:
وذكر أبو عمر بن عبد البر في كتاب الإستيعاب في باب بسر بن أرطاة
قال: كان بسر من الأبطال الطغاة، وكان مع
معاوية بصفين، فأمره أن يلقى علياً رضي الله عنه في القتال، وقال له: إني
سمعتك تتمنى لقاءه، فلو أظفرك الله به وصرعته حصلت على الدنيا والآخرة، ولم يزل
يشجعه ويمنيه حتى رأى علياًفي الحرب، فقصده، والتقيا فصرعه علي رضي الله عنه وعرض له معه مثل ما عرض له مع عمرو بن العاص في كشف السوأة.
وروى الواقدي قال: قال معاوية يوماً بعد استقرار الخلافة له
لعمرو بن العاص: يا
أبا عبد الله، لا أراك إلا ويغلبني الضحك؛ قال: بماذا؛ قال: أذكر يوم حمل عليك
أبو تراب في صفين، فأزريت نفسك فرقاً من شبا سنانه، وكشفت سوأتك له؛ فقال عمرو: أنا منك أشد ضحكاً؛ إني لأذكر يوم دعاك
إلى البراز فانتفخ سحرك، وربا لسانك في فمك، وغصصت بريقك، وارتعدت فرائصك، وبدا
منك ما أكره ذكره لك؛ فقال معاوية: لم يكن
هذا كله، وكيف يكون ودوني عك والأشعريون! قال:
إنك لتعلم أن الذي وصفت دون ما أصابك، وقد نزل ذلك بك ودونك عك والأشعريون، فكيف
كانت حالك لو جمعكما مأقط الحرب! فقال: يا أبا عبد
الله، خض بنا الهزل إلى الجد، إن الجبن والفرار من علي لا عار على أحد فيهما. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إسلام ابن العاص
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
فأما القول في إسلام عمرو بن العاص،
فقد ذكره محمد بن إسحاق في كتاب المغازي قال: حدثني زيد بن أبي حبيب، عن راشد مولى
حبيب بن أبي أوس الثقفي، عن حبيب بن أبي أوس، قال: حدثني عمرو بن العاص من فيه: قال: لما انصرفنا مع الأحزاب من الخندق، جمعت
رجالاً من قريش كانوا يرون رأي، ويسمعون مني، فقلت
لهم: والله إني لأرى أمر محمد يعلو الأمور علواً منكراً، وإني قد رأيت
رأياً، فما ترون فيه؛ فقالوا: ما رأيت؛ فقلت: أرى أن نلحق بالنجاشي، فنكون عنده، فإن ظهر محمد على قومه أقمنا عند النجاشي، فأن نكون تحت
يديه أحب إلينا من أن نكون تحت يدي محمد، فإن ظهر قومنا فنحن من قد
عرفوا، فلن يأتينا منهم إلا خير قالوا: إن هذا الرأي، فقلت:
فاجمعوا ما نهدي له وكان أحب ما يأتيه من أرضنا الأدم فجمعنا له أدماً كثيراً، ثم خرجنا حتى قدمنا عليه، فوالله إنا لعنده، إذ قدم عمرو
بن أمية الضمري، وكان رسول الله صلى
الله عليه وسلم بعثه إليه في شأن جعفر
بن أبي طالب وأصحابه. قال: وقد قيل إنه أسلم بين الحديبية وخيبر، والقول الأول أصح. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
بعث رسول الله عمراً إلى ذات السلاسل
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال أبو عمر: وبعث رسول الله عمراً
إلى ذات السلاسل من بلاد قضاعة في ثلاثمائة، وكانت أم
العاص بن وائل من بلي، فبعث رسول الله صلى
الله عليه وسلم عمراً إلى أرض
بلي وعذرة، يتألفهم لذلك ويدعوهم إلى الإسلام، فسار حتى إذا كان على ماء أرض
خذام، يقال له: السلاسل وقد سميت تلك الغزاة ذات السلاسل،خاف، فكتب إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم يستنجد،
فأمده بجيش فيه مائتا فارس، فيه أهل الشرف والسوابق من المهاجرين والأنصار، فيهم أبو بكر وعمر،
وأمر عليهم أبا عبيدة بن الجراح، فلما قدموا
على عمرو، قال عمرو: أنا أميركم وإنما أنتم
مددي، فقال أبو عبيدة: بل أنا أمير من معي وأنت أمير من معك، فأبى عمرو
ذلك، فقال أبو عبيدة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد
إلي فقال: إذا قدمت إلى عمرو فتطاوعا، ولا تختلفا، فإن خالفتني أطعتك، قال عمرو: فإني أخالفك، فسلم
إليه أبو عبيدة، وصلى خلفه في الجيش كله، وكان أميراً عليهم، وكانوا
خمسمائة. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ولايات عمرو بن العاص ونبذ من كلامه
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال أبو عمرو:
ثم ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عُمان، فلم يزل عليها حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمل
لعمر وعثمان ومعاوية، وكان عمر بن الخطاب
ولاه بعد موت يزيد بن أبي سفيان فلسطين
والأردن، وولى معاوية دمشق وبعلبك والبلقاء،
وولى سعيد بن عامر بن خذيم حمص. ثم جمع
الشام كلها لمعاوية، وكتب إلى عمرو بن العاص
أن يسير إلى مصر، فسار إليها فافتتحها، فلم
يزل عليها والياً حتى مات عمر فأمره عثمان عليها أربع
سنين ونحوها، ثم عزله عنها وولاها عبد الله
بن سعد العامري. قال أبو عمر: والصحيح أنه مات في سنة ثلاث وأربعين، ومات يوم عيد الفطر من
هذه السنة وعمره تسعون سنة، ودفن بالمقطم من ناحية
السفح، وصلى عليه ابنه عبد الله، ثم رجع
فصلى بالناس صلاة العيد، فولاه معاوية مكانه، ثم عزله وولى مكانه أخاه عتبة بن أبي سفيان. ونقلت
أنا من كتب متفرقة كلمات حكمية تنسب إلى عمرو بن
العاص، استحسنتها وأوردتها، لأني لا أجحد
لفاضل فضله، وإن كان دينه عندي غير مرضي. وقال: ليس العاقل الذي
يعرف الخير من الشر، لكن العاقل من يعرف خير
الشرين.
وقال لعائشة:
لوددت أنك قتلت يوم الجمل، قالت: ولم لا
أبالك؟! قال: كنت
تموتين بأجلك، وتدخلين الجنة، ونجعلك على علي بن
أبي طالب عليه السلام. واستراح من لا
عقل له. وقال:
جمع العجز إلى التواني فنتج بينهما الندامة،
وجمع الجبن إلى الكسل فنتج بينهما الحرمان. ووضع يده في موضع الغل، ثم
قال: اللهم لا قوي فأنتصر؛ ولا بريء فأعتذر، ولا مستكبر بل مستغفر، لا
إله إلا أنت؛ فلم يزل يرددها حتى مات. ولو كان ينفعني أن أطلب طلبت، ولو كان ينجيني أن
أهرب، هربت فقد صرت كالمنخنق بين السماء والأرض، لا
أرقى بيدين، ولا أهبط برجلين، فعظني بعظةٍ. أنتفع بها يا بن أخي، فقال ابن عباس: هيهات أبا عبد الله، صار ابن أخيك
أخاك، ولا تشاء أن تبلى إلا بليت، كيف يؤمر برحيلٍ من هو مقيم! فقال عمرو على حينها: من
حين ابن بضع وثمانين تقنطني من رحمة ربي! اللهم إن ابن عباس يقنطني من رحمتك،
فخذ مني حتى ترضى؛ فقال ابن عباس: هيهات أبا
عبد الله! أخذت جديداً وتعطي خلقا؛ قال عمرو: مالي
ولك يا بن عباس! ما أرسل كلمة إلا أرسلت نقيضها. فقال له:
لقد كنت على خير، فجعل يذكره صحبة رسول الله صلى
الله عليه وسلم، وفتحه بالشام، فقال له عمرو: تركت أفضل من ذلك شهادة أن لا إله
إلا الله، إني كنت على ثلاثة أطباق، ليس
منها طبق إلا عرفت نفسي فيه، كنت أول أمري كافراً،
فكنت أشد الناس على رسول الله صلى الله عليه
وسلم،
فلو مت حينئذ وجبت لي النار، فلما بايعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم ،
كنت أشد الناس حياء منه، فما ملأت منه عيني قط، فلو
مت يومئذ قال الناس: هنيئاً لعمرو! أسلم
وكان على خير، ومات على خير أحواله، فسرحوا له بالجنة؛ ثم تلبثت بعد ذلك بالسلطان وبأشياء، فلا أدري أعلي أم
لي؛ فإذا مت فلا تبكين علي باكية، ولا يتبعني نائح، ولا تقربوا من قبري
ناراً، وشدوا علي إزاري، فإني مخاصم، وشنوا علي التراب شناً؛ فإن جنبي الأيمن
ليس بأحق من جنبي الأيسر، ولا تجعلوا في قبري خشب ولا حجراً، وإذا واريتموني
فاقعدوا عندي قدر نحر جزور وتقطيعها؛ أستأنس بكم. وهذا اعتراف وندم، وهو معنى التوبة؛ قلت: إن قوله تعالى: "وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر
أحدهم الموت قال إني تبت الآن " يمنع من كون هذا توبة، وشروط التوبة وأركانها معلومة، وليس هذا الاعتراف والتأسف منها في شيء. وإلى هذا المعنى أشار عمرو بقوله لابنه: تركت أفضل من ذلك؛ شهادة أن لا إله إلا الله |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الإمام علي رجل العبادة لارجل الدعابة
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
فأما ما كان يقوله عمرو بن العاصي في علي صلى الله عليه وسلم لأهل الشام: "إن فيه
دعابة"، يروم أن يعيبه بذلك عندهم؛ فأصل
ذلك كلمة قالها فتلقفها، حتى جعلها أعداؤه عيباً له وطعناً عليه. قال: إي
والله يا بن عباس، إني فكرت فلم أدر فيمن
أجعل هذا الأمر بعدي. ثم قال:
لعلك ترى صاحبك لها أهلاً؟ قلت: وما يمنعه
من ذلك مع جهاده وسابقته وقرابته وعلمه! قال: صدقت، ولكنه امرؤ فيه دعابة؛ قلت: فأين أنت من طلح؟ قال:
هو ذو ألب أو بإصبعه المقطوعة. قلت: فعبد الرحمن؟
قال:
رجل ضعيف لو صار الأمر إليه لوضع خاتمه في يد
امرأته. قلت: فالزبيب؟ قال شاكس لقس ، اللاطم في البقيع في صاعٍ
من بر. قلت: فسعد بن أبي
وقاص؟ قال: صاحب مكتب وسلاح؛ قلت: فعثمان،
قال: أوه أوه؛ مراراً. ثم
قال: والله لئن وليها ليحملن بني أبي مغيظ على رقاب
الناس، ثم لتنهضن إليه العرب فتقتله. ثم
قال: يا بن عباس، إنه لا يصلح لهذا الأمر
إلا حصيف العقدة، قليل الغرة، لا تأخذه في الله لوم لائم؛ يكون شديداً ، لينًا
من غير ضعف، جوادًا من غير ممسكا من غير وكف. قال ابن عباس: وكانت
هذه صفات عمر، ثم أقبل علي فقال: إن أجراهم
أن يحملهم على كتاب ربهم وسنة نبيهم لصاحبك،
والله لئن وليها ليحملنهم على الحجة البيضاء والصراط المستقيم.
والشجاع يعيب الجبان وينسبه إلى الضعف، ويعتقد أن الجبن ذل ومهانة! وهكذا القول في جميع الأخلاق والسجايا
المقتسمة بين نوع الإنسان. ولما كان عمر شديد الغلظة وعر الجانب، خشن الملمس دائم العبوس،
كان يعتقد أن ذلك هو الفضيلة وأن خلافه نقص، حتى تلو كان سهلاً طلقاً مطبوعاً على البشاشة وسماحة الخلق،
لكان يعتقد أن ذاك هو الفضيلة وأن خلافه نقص، حتى لو قدرنا أن خلقه حاصل لعلي عليه السلام ، وخلق علي حاصل له، لقال في
علي: "لولا شراسة فيه ".فهو غير
ملوم عندي فيما قاله، ولا منسوب إلى أنه أراد الغض من علي، والقدح فيه، ولكنه
أخبر عن خلقه، ظاناً أن الخلافة لا تصلح إلا
لشديد الشكيمة، العظيم الوعورة. وبمقتضى ما كان يظنه من هذا المعنى، تمم خلافة
أبي بكر بمشاركته إياه في جميع تدبير أته وسياسته وسائر أحواله، لرفقٍ وسهولة
كانت في أخلاق أبي بكر، وبمقتضى هذا الخلق المتمكن
عنده، كان يشير على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مقامات كثيرة، وخطوب
متعددة، بقتل قوم كان يرى قتلهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرى استبقاءهم
واستصلاحها،
فلم يقبل عليه السلام
مشورته على هذا الخلق. وأما إشارته عليه يوم بدر بقتل الأسرى حيث أشار
أبو بكر بالفداء، فكان الصواب مع عمر ونزل القرآن بموافقته ، فلما كان في اليوم الثاني وهو يوم الحديبية أشار بالحرب، وكره الصلح، فنزل القران بضد ذلك، فليس
كل وقت يصلح تجريد السيف، ولا كل وقت يصلح إغماده، والسياسة لا تجري على منهاج واحد ولا تلزم نظاماً واحداً. وأنت إذا تأملت حال علي
عليه السلام في أيام رسول الله صلى
الله عليه وسلم ،
وجدته بعيداً عن أن ينسب إلى الدعابة والمزاح، لأنه
لم ينقل عنه شيء من ذلك أصلاً؛ لا في كتب الشيعة ولا في كتب المحدثين، وكذلك
إذا تأملت حاله في أيام الخليفتين أبي بكر وعمر،
لم تجد في كتب السيرة حديثاً واحداً يمكن أن يتعلق به متعلق في دعابته ومزاحه، فكيف يظن بعمر أنه نسبه إلى أمر لم ينقله عنه ناقل، ولا
ندد به صديق ولا عدو؛ وإنما أراد سهولة خلقه لا
غير، وظن أن ذلك مما يفضي به إلى ضعف إن ولي أمر الأمة، لاعتقاده أن قوام هذا الأمر إنما هو بالوعورة، بناء على ما قد
ألفته نفسه، وطبعت عليه سجيته، والحال في أيام عثمان، وأيام ولايته عليه السلام الأمر كالحال فيما تقدم، في أنه لم
يظهر منه دعابة، ولا مزاح يسمى الإنسان لأجله ذا دعابة ولعب. ومن تأمل كتب السير عرف صدق هذا القول، وعرف أن
عمرو بن العاص أخذ كلمة عمر إذ لم يقصد بها
العيب فجعلها عيباً، وزاد عليها أنه كثير اللعب، يعاف النساء ويمارسهن، وأنه صاحب هزل. هذا في أيام سلمه، فأما أيام حربه
فبالسيف الشهير، والسنان الحرير، وركوب الخيل، وقود الجيش، ومباشرة الحروب. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
المزاح وما قيل فيه
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ونحن نذكر من بعد ما
جاء في الأحاديث الصحاح والآثار المستفيضة، المتفق على نقلها مزاح رسول الله صلى
الله عليه وسلم، ومزاح الأشراف والأفاضل
والأكابر من أصحابه والتابعين له، ليعلم أن المزاح إذا لم يخرج عن القاعدة
الشرعية لم يكن قبيحا. وقيل لسفيان الثوري: المزاح
هجن؛ فقال: بل هو سنة، لقول رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "إني أمزح ولا أقول إلا الحق
". وجاء في الخبر أن رسول صلى الله عليه وسلم قال
لامرأة من الأنصار: "الحقي زوجك فإن في عينه
بياضا"، فسعت نحوه مرعوبة. فقال لها: ما
دهاك؟ فأخبرته، فقال: نعم إن في عيني بياضاً لا لسوء، فخفضي عليك. فهذا من مزاح رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي الخبر أيضا: أن امرأة استحملته، فقال: "آنا حاملوك إن شاء الله
تعالى على ولد الناقة"، فجعلت تقول: يا
رسول الله: وما أصنع بولد الناقة؟ وهل يستطيع أن يحملني! وهو يبتسم ويقول:
"لا أحملك إلا عليه "، حتى قال لها
أخيراً: "وهل يلد الإبل إلا النوق "وفي الخبر أنه عليه السلام
مر ببلال
وهو نائم فضربه برجله، وقال: أنائمة أم عمرو؟ فقام بلال مرعوباً، فضرب بيده إلى
مذاكيره، فقال له: ما بالك؟ قال: ظننت أني
تحولت امرأة. قيل: فلم يمزح رسول الله بعد هذه. وبنو أرفدة:
جنس من الحبش يرقصون. وجاء في الخبر أنه سابق عائشة فسبقته، ثم سابقها فسبقها فقال:
هذه بتلك. وجاءوا
إليه فوضعوا عمامته في عنقه، وذهبوا به، فلما جاء
أبو بكر أخبر بذلك، فرده وأعاد القلائص إليهم. فضحك
رسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من ذلك سنة. وجاء في الخبر أن
يحيى عليه السلام لقي عيسى عليه السلام
، وعيسى متبسم،
فقال يحيى عليه السلام:
مالي أراك لاهياً كأنك آمن؛ فقال عليه السلام : مالي أراك عابسا كأنك آيس؛ فقالا: لا نبرح حتى ينزل علينا الوحي، فأوحى الله إليهما: أحبكما إلي الطلق البسام، أحسنكما
ظناً بي. فبكت،
فقال: لا عليك، فإن الله تعالى هو خالق الخير وهو خالق الشر. وكان ابن سيرين ينشد:
ثم
يضحك حتى يسيل لعابه.
فلما
دخل عبد الرحمن وجلس، قال: يا أبا محمد، إنا إذا خلونا قلنا كما يقول الناس.
وكان سعيد بن المسيب ينشد:
ويضحك
حتى يستغرق، وكان يقال: لا بأس بقليل المزاح
يخرج منه الرجل عن حد العبوس. قال: ومن هو؟ قال: ابن
أخت خالتك .
فقال صلى الله عليه وسلم : "لأحرج إن شاء الله ". فقلت: يا أمير المؤمنين، أنا الأول من الحمارين، فقال: أنت
الثاني منهما. وكان طويس يتغنى في عرس، فدخل النعمان بن بشير الأنصاري العرس
وطويس يغنيهم:
فأشاروا إليه بالسكوت، فقال النعمان: دعوه إنه لم يقل بأساً، إنما قال:
وعمرة هذه أم النعمان؛ وفيها قيل هذا النسيب. فأما أمير المؤمنين علي عليه السلام، فإذا نظرت إلى كتب الحديث
والسير، لم تجد أحداً من خلق الله عدواً ولا صديقاً، روى عنه شيئاً من هذا الفن؟ لا
قولاً ولا فعلاً، ولم يكن جد أعظم من جده، ولا وقار أتم من وقاره، وما
هزل قط ولا لعب، ولا فارق الحق والناموس الديني سراً ولا جهراً؛ وكيف يكون هازلاً ومن كلامه المشهور عنه: ما مزح
امرؤ مزحة إلا ومج معها من عقله مجة! ولكنه خلق على
سجية لطيفة، وأخلاق سهلة، ووجه طلق، وقول حسن، وبشر ظاهر، وذلك من فضائله عليه
السلام ، وخصائصه التي منحه الله شرفها، واختصه بمزيتها، إنما كانت غلظته
وفظاظته فعلاً لا قولاً، وضرباً بالسيف لا جبهاً بالقول، وطعناً بالسنان
لا عضهاً باللسان؛ كما قال الشاعر:
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
حسن الخلق وما قيل فيه
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
فأما سوء الخلق فلم يكن من سجاياه، فقد
قال النبي صلى الله عليه وسلم : "خصلتان لا
يجتمعان في مؤمن: البخل وسوء الخلق ". وقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : " وإنك لعلى خلق عظيم " وقال أيضاً: "ولو
كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك ". وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما الشؤم! فقال: سوء الخلق. وصحب جابر
رجلا في طريق مكة، فآذاه سوء خلقه، فقال جابر: إني لأرحمه، نحن
نفارقه ويبقى معه سوء خلقه؛ وقيل لعبد الله بن جعفر: كيف تجاور بني زهرة
وفي أخلاقهم زعارة ؟ قال: لا يكون لي قبلهم شيء إلا
تركته، ولا يطلبون مني شيئاً لا أعطيتهم. وقال إبراهيم بن عباس الصولي:
لو وزنت كلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم : بمحاسن الخلق كلها لرجحت، قوله: "إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم
". عبد الله بن الداراني:
ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب. عائشة: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "إذا أراد الله بأهل بيت خيراً أدخل
عليهم باب رفق" وعنها، عنه صلى الله عليه وسلم : "من أعطي
حظه من الرفق أعطي حظه من خير الدنيا والآخرة". فقال أبو العباس: يا أبا جعفر! إنه من شدد نفر، ومن لان ألف، والتغافل من سجايا الكرام. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الغلظة والفظاظة
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ونحن نذكر بعد كلاماً كلياً في سبب
الغلظة والفظاظة، وهو الخلق المنافي للخلق الذي كان عليه أمير المؤمنين، فنقول: إنه قد يكون لأمر عائد إلى المزاج الجسماني، وقد يكون
لأمر راجع إلى النفس: فأما الأول؛ فإنما
يكون من غلبة الأخلاط السوداوية وترفدها، وعدم صفاء الدم وكزة كدرته وعكره، فإذا
غلظ الدم وثخن غلظ الروح النفساني وثخن أيضاً، لأنه متولد من الدم، فيحدث منه
نوع مما يحدث لأصحاب الفطرة، من الإستيحاش والنبوة عن الناس وعدم الإستئناس والبشاشة،
وصار صاحبه ذا جفاء وأخلاق غليظة، ويشبه أن يكون هذا سببا ماديا، فإن الذي يقوى
في نفسي أن النفوس إن صحت وثبتت مختلفة بالذات. وأما الراجع إلى النفس
فأن يجتمع عندها أسقاط وأنصباء من قوى مختلفة مذمومة، نحو أن تكون القوة الغضبية
عندها متوافرة، وينضاف إليها تصور الكمال في ذاتها وتوهم النقصان في غيرها،
فيعتقد أن حركات غيره واقعة على غير الصواب، وأن الصواب ما توهمه. وينضاف إلى ذلك
قلة أدب النفس وعدم الضبط لها واستحقارها للغير؛ ويقل التوقير له، وينضاف إلى ذلك لجاج، وضيق في النفس، وحدة
واستشاطة وقلة صبر عليه، فيتولد من مجموع هذه الأمور خلق دني؛ وهو الغلظة
والفظاظة، والوعورة والبادرة المكروهة، وعدم حبه الناس، ولقاؤهم بالأذى، وقلة
المراقبة لهم، واستعمال القهر في جميع الأمور، وتناول الأمر من السماء؛ وهو قادر
على أن يتناوله من الأرض. وأصل هذا الخلق الذي ذكرناه أنه مركب
من قوى مختلفة من شدة القوة الغضبية، فهي الحاملة
لصاحب هذا الحق على ما يصدر عنه من البادرة المكروهة والجبه والقحة؛ وقد رأينا
وشاهدنا من تشتد القوة الغضبية فيه، فيتجاوز الغضب على نوع الإنسان إلى البهائم
التي لا تعقل، وإلى الأواني التي لا تحس، وربما قام إلى الحمار وإلى البرذون ؛
فضربهما ولكمهما، وربما كسر الآنية لشدة غضبه، وربما عض القفل إذا تعسر عليه،
وربما كسر القلم إذا تعلقت به شعرة من الدواة واجتهد في إزالتها فلم تزل. وكان عبد الله بن الزبير كذلك،
ولقوة هذا الخلق عنده أضمر عبد الله بن عباس في خلافته إبطال القول بالعول
وأظهره بعده، فقيل له: هلا قلت هذا في أيام عمر!
فقال: هبته، وكان أميراً مهيباً. وهو القائل له: يا خليفة رسول الله؛ إنا كنا لا نحتمل شراسته وأنت حي تأخذ على يديه، فكيف
يكون حالنا معه وأنت ميت وهو الخليفة! واعلم أنا لا نريد بهذا القول ذمه رضي
الله عنه؛ وكيف نذمه وهو أولى
الناس بالمدح والتعظيم؛ ليمن نقيبته وبركة
خلافته، وكثرة الفتوح في أيامه، وانتظام أمور الإسلام على يده! ولكنا
أردنا أن نشرح حال العنف والرفق، وحال سعة الخلق وضيقه، وحال البشاشة والعبوس،
وحال الطلاقة والوعورة، فنذكر كل واحد منها ذكراً
كلياً، لا نخص به إنساناً بعينه. فأما عمر فإنه وإن كان وعراً شديداً خشناً،
فقد رزق من التوفيق والعناية الإلهية ونجح المساعي، وطاعة الرعية ونفوذ الحكم،
وقوة الدين وحسن النية وصحة الرأي، ما يربي محاسنه ومحامده على ما في ذلك الخلق
من نقص، وليس الكامل المطلق إلا الله تعالى وحده. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
في تعظيم الله وتمجيده
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: وأشهد
أن لا إله إلا الله وحدة لا شريك له، الأول لا شيء قبله، والآخر لا غاية له، لا
تقع الأوهام له على صفة، ولا تعقد القلوب منه على كيفية؛ ولا تناله التجزئة
والتبعيض، ولا تحيط به الأبصار والقلوب. الأولى:
أنه لا ثاني له سبحانه في الإلهية؛ والثانية:
أنه قديم لا أول له. فإن قلت: ليس يدل
كلامه على القدم، لأنه قال: الأول لا شيء قبله فيوهم كونه غير قديم بأن يكون محدثاً
وليس قبله شيء، لأنه محدث عن عدم والعدم ليس بشيء! قلت: إذا كان محدثاً كان له محدث؛ فكان ذلك المحدث
قبله، فثبت أنه متى صدق أنه ليس شيء قبله صدق كونه قديماً، والثالثة:
أنه أبدي لا انتهاء ولا انقضاء لذاته، والرابعة: نفي الصفات عنه- أعني المعاني والخامسة:
نفي كونه مكيفاً؛ لأن كيف إنما يسأل بها عن ذوي الهيئات والأشكال وهو منزه عنها،
والسادسة:
أنه غير متبعض لأنه ليس بجسم ولا عرض. والسابعة:
أنه لا يرى ولا يدرك، والثامنة:
أن ماهيته غير معلومة، وهو مذهب الحكماء وكثير من
المتكلمين من أصحابنا وغيرهم، وأدلة هذه المسائل مشروحة في كتبنا
الكلامية. والآي: جمع آية، ويجوز أن يريد بها آي القرآن، ويجوز أن يريد بها آيات الله في خلقه، وفي غرائب الحوادث في
العالم. وقوله: سائق وشهيد؛ وقد
فسر عليه السلام ذلك وقال: سائق يسوقها إلى محشرها، وشاهد يشهد
عليها بعملها؛ وقد قال بعض المفسرين: إن
الآية لا تقتضي كونهما اثنين، بل من الجائز أن يكون ملكاً واحداً جامعاً بين
الأمرين، كأنه قال: وجاءت كل نفس معها ملك
يسوقها ويشهد عليها. وكلام أمير المؤمنين يحتمل ذلك أيضاً، لأنه
لم يقل أحدهما؛ لكن الأظهر في الأخبار
والآثار أنهما ملكان. قلت:
يجوز
أن يكون في تقرير مثل ذلك في أنفس المكلفين في الدنيا ألطاف ومصالح لهم في أديانهم،
فيخاطبهم الله تعالى به لوجوب اللطف في حكمته، وإذا خاطبهم به وجب فعله في
الآخرة؟ لأن خبره سبحانه لا يجوز الخلف عليه. فإن قلت:
فما قولك في الحور والولدان والأطفال والمجانين؛ قلت: يكون الواصل إليهم نعيماً ولذة لا شبهة في
ذلك، ولكن لا ثواب لهم ولا ينالونه، والثواب أمر أخص من المنافع والنعيم، لأنه
منافع يقترن بها التعظيم والتبجيل، وهذا الأمر الأخص لا يحسن إيصاله إلا إلى
أرباب العمل. وقوله: لا
ينقطع نعيمها ولا يظعن مقيمها قول متفق عليه بين أهل الملة، إلا ما يحكى عن أبي الهذيل؛ أن حركات أهل الجنة
تنتهي إلى سكون دائم. وقد نزهه
قوم من أصحابنا عن هذا القول وأكذبوا رواته، ومن أثبته منهم عنه زعم أنه لم يقل
بانقطاع النعيم، لكن بانقطاع الحركة مع دوام النعيم، وإنما حمله على ذلك أنه لما
استدل على أن الحركة الماضية يستحيل ألا يكون لها أول، عورض بالحركات المستقبلة
لأهل الجنة والنار، فالتزم أنها متناهية، وإنما استبعد هذا عنه، لأنه كان أجل
قدراً من أن يذهب عليه الفرق بين الصورتين. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن خطبة له عليه السلام في الوعظ
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: قد
علم السرائر، وخبر الضمائر، له الإحاطة بكل شيء، والغلبة لكل شيء والقوة على كل
شيء، فليعمل العامل منكم في أيام مهله، قبل إرهاق أجله، وفي فراغه قبل أوان
شغله، وفي متنفسه قبل أن يؤخذ بكظمه؛ وليمهد لنفسه وقدمه، وليتزود من دار ظعنه
لدار إقامته. والضمائر:
جمع ضمير، وهو ما تضمره وتكنه في نفسك. وفي قوله:
له الإحاطة بكل شيء؛ وقد بينها ثلاث مسائل من
التوحيد: إحداهن: أنه تعالى عالم بكل المعلومات. والثانية:
أنه لا شريك له، وإذا ثبت كونه عالماً بكل شيء كان في ضمن ذلك نفي الشريك، لأن
الشريك لا يكون مغلوباً، والثالثة: أنه قادر
على كل ما يصح تعلق قادريته تعالى به، وأدلة هذه المسائل مذكورة في الكتب
الكلامية. والإرهاق:
مصدر أرهق، تقول: أرهقة قرنه في الحرب إرهاقاً إذا غشيه ليقتله، وزيد مرهق؛ قال الشاعر:
وفي
متنفسه، أي في سعة وقته؟ يقال: أنت في نفس من أمرك، أي في سعة. والكظم بفتحهما:
مخرج النفس، والجمع أكظام. ويجوز ظعنه وظعنه، بتحريك العين وتسكينها،
وقرىء بهما: "يوم ظعنكم "و "ظعنكم ". وقوله:
قد سمى آثاركم يفسر بتفسيرين: أحدهما: قد
بين لكم أعمالكم خيرها وشرها؛ كقوله تعالى:
"وهديناه النجدين"؛ والثاني:
قد أعلى مآثركم، أي رفع منازلكم إن أطعتم، ويكون سمى بمعنى أسمى، كما كان في الوجه الأول بمعنى أبان وأوضح. وقوله:
"حتى أكمل له ولكم دينه " من قوله تعالى: "اليوم
أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ". وقوله:
الذي رضي لنفسه من قوله تعالى: "وليمكنن لهم
دينهم الذي أرتضى لهم"؛ لأنه إذا ارتضى لهم فقد ارتضاه لنفسه، أي
ارتضى أن ينسب إليه، فيقال: هذا دين الحق. وأنهى إليكم:
عرفكم وأعلمكم. ومعنى قوله:
بين يدي عذاب شديد، أي أمامه وقبله؛ لأن ما بين يديك متقدم لك.
أي
حبست نفسًا عارفة. وفي الحديث النبوي في
رجل أمسك رجلاً وقتله الآخر، فقال عليه السلام : "اقتلوا القاتل واصبروا
الصابر"، أي احبسوا الذي أمسكه حتى يموت. والضمير
في فإنها قليل عائد إلى الأيام التي أمرهم باستدراكها. يقول: إن
هذه الأيام التي قد بقيت من أعماركم قليلة، بالنسبة والإضافة إلى الأيام التي
تغفلون فيها عن الموعظة. أو
لا تساهلوا أنفسكم في ترك تشديد المعصية، ولا تسامحوها وترخصوا إليها في ارتكاب
الصغائر والمحقرات من الذنوب، فتهجم بكم على الكبائر، لأن من مرن على أمر تدرج
من صغيره إلى كبيره. والمداهنة:
النفاق والمصانعة، والإدهان مثله؛ قال تعالى: "
ودوا لو تدهن فيدهنون" . والمغبوط:
الذي يتمنى مثل حاله، والذي يتمنى زوال حاله وانتقالها هو الحاسد، والحسد مذموم، والغبطة
غير مذمومة، يقال: غبطته بما نال، أغبطه
غبطاً وغبطة فاغتبط هو؛ كقولك منعته فامتنع، وحبسته
فاحتبس، قال الشاعر:
هكذا
أنشدوه بكسر الباء، وقالوا فيه: مغتبط، أي
مغبوط. وقوله عليه السلام منساة للإيمان؛ أي داعية إلى نسيان الإيمان وإهماله،
والإيمان الإعتقاد والعمل، ومحضرة للشيطان: موضع حضوره، كقولك: مسبعة، أي موضع السباع. ومفعاة، أي موضع الأفاعي. ثم أمر بإكذاب الأمل، ونهى عن الإعتماد عليه،
والسكون إليه، فإنه من باب الغرور. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ذم الكذب والكذابين
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
جاء في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إذا كذب العبد كذبة تباعد الملك منه مسيرة ميل، من نتن ما جاء به . قال عبد الله: فكانت هذه
الثلاث أحب إلي من ثلاث بدرات ياقوتاً. وكان يقال:
أمران لا يكاد أحدهما ينفك من الكذب: كثرة المواعيد
وشدة الإعتذار. يحيى بن خالد:
رأيت شريب خمر نزع، ولصاً أقلع، وصاحب فواحش ارتدع، ولم أر كاذباً رجع . قالوا في تفسير هذا: إن المولع بالكذب لا يكاد يصبر عنه، فقد عوتب إنسان عليه،
فقال لمعاتبه: يا بن أخي، لو تغرغرت به لما صبرت عنه. وجاء في بعض الأخبار المرفوعة: قيل له: يا رسول الله، أيكون المؤمن جباناً؟
قال: نعم، قيل: أفيكون بخيلاً؟ قال: نعم، قيل أفيكون كاذباً؟ قال: لا.
وكان يقال:
خذوا عن أهل الشرف، فإنهم قلما يكذبون. وكان يقال:
خصلتان لا يجتمعان: الكذب والمروءة.
شهد أعرابي عند معاوية بشهادة، فقال له: كذبت، فقال:
الكاذب والله المتزمل في ثيابك؛ فقال
معاوية: هذا جزاء من عجل.
فقال معاوية:
لقد شعرت بعدنا يا أبا بكر؛ ثم لم يلبث معاوية أن دخل عليه معن بن أوس المزني فقال: أقلت بعدنا شيئاً؟ قال
نعم، وأنشده:
حتى صار إلى الأبيات التي أنشدها ابن الزبير، فقال معاوية: يا أبا بكر، أما ذكرت آنفاً أن هذا
الشعر لك ؛ فقال: أنا أصلحت المعاني وهو ألف
الشعر وبعد، فهو ظئري وما قال من شيء فهو لي. وروى أبو العباس أيضاً
أن عمرو بن معد يكرب الزبيدي كان معروفاً بالكذب. وقيل لخلف الأحمر- وكان مولى لهم وشديد التعصب لليمن: أكان عمرو بن معد يكرب يكذب؟ قال: يكذب في المقال ويصدق في الفعال. قال أبو العباس: فروي لنا أن أهل الكوفة الأشراف،
كانوا يظهرون بالكناسة ، فيركبون على دوابهم حتى تطردهم الشمس ، فوقف عمرو بن معد يكرب الزبيدي، وخالد بن الصقعب النهدي-
وعمرو لا يعرفه، إنما يسمع باسمه- فأقبل
عمرو يحدثه، فقال: أغرنا مرة على بني نهد،
فخرجوا مسترعفين بخالد بن الصقعب، فحملت
عليه، فطعنته فأذريته ثم ملت عليه بالصمصامة ،
فأخذت رأسه، فقال خالد بن الصقعب: حلا أبا
ثور، إن قتيلك هو المحدث؛ فقال عمرو: يا هذا إذا حدثت فاستمع، فإنما نتحدث بمثل ما تستمع لنرهب به هذه المعدية. قوله:
مسترعفين أي مقدمين له. وقوله:
حلا أبا ثور أي استثن، يقال: حلف ولم يتحلل، أي لم يستثن والمعدية: مضر
وربيعة وإياد، بنو معد بن عدنان، وهم أعداء
اليمن في المفاخرة والتكاثر. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
في صفات من يحبه الله تعالى
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: عباد
الله؛ إن من أحب عباد الله إليه عبدا أعانه الله على نفسه، فاستشعر الحزن،
وتجلبب الخوف؛ فزهر مصباح الهدى في قلبه، وأعد القرى ليومه النازل به، فقرب على
نفسه البعيد، وهون الشديد. نظر فأبصر،
وذكر فاستكثر، وارتوى من عذبٍ فراتٍ، سهلت له موارده، فشرب نهلاً، وسلك سبيلاً
جدداً. قد خلع سرابيل الشهوات، وتخلى عن الهموم، إلا هماً
واحداً أنفرد به، فخرج من صفة العمى، ومشاركة أهل الهوى، وصار من مفاتيح أبواب
الهدى، ومغاليق أبواب الردى. قد أخلص لله فاستخلصة، فهو من معادن دينه، وأوتاد
أرضه، قد ألزم نفسة العدل، فكان أول عدله نفي الهوى عن نفسه. يصف الحق ويعمل به، لا يدع للخير غاية إلا أمها،
ولا مظنةً إلا قصدها، قد أمكن الكتاب من زمامه، فهو قائدة وإمامه، يحل حيث حل
ثقله، وينزل حيث كان منزله. الشرح: استشعر الحزن:
جعله كالشعار، وهو ما يلي الجسد من الثياب. وتجلبب الخوف: جعله جلباباُ، أي ثوباً. زهر مصباح الهدى: أضاء. وأعد القرى ليومه، أي أعد ما قدمه من الطاعات قرىً
لضيف الموت النازل به. والفرات:
العذب. وقطع غماره؛
يقال: بحر غمر، أي كثير الماء، وبحار غمار. واستمسك من العرا بأوثقها؛ أي من العقود الوثيقة، قال تعالى: "فقد أستمسك بالعروة الوثقى". كشاف عشوات:
جمع عشوة وعشوة وعشوة، بالحركات الثلاث، وهي الأمر الملتبس؛ يقال: أوطأني عشوة. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
العباد والزهاد والعارفون
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وأعلم أن هذا الكلام منه أخذ أصحاب
علم الطريقة والحقيقة علمهم، وهو تصريح بحال العارف ومكانته من الله تعالى. الطبقة الأولى:
حال العابد، وهو صاحب الصلاة الكثيرة، والصوم الدائم، والحج والصدقة. وأما العارف فإنه
بالحال التي وصفناها، ويستلزم مع وجودها أن يكون زاهداً، لأنه لا يتصور العرفان
مع تعلق النفس بملاذ الدنيا وشهواتها. نعم قد يحصل بعض العرفان لبعض العلماء
الفضلاء، مع تعلقهم بشهوات الدنيا، ولكنهم لا يكونون كاملين في أحوالهم، وإنما
تحصل الحالة الكاملة لمن رفض الدنيا وتخلى عنها، وتستلزم الحالة المذكورة أيضاً
أن يكون عابداً عبادةً ما، وليس يشترط في حصول حال العرفان أن يكون على قدم
عظيمة من العبادة، بل الإكثار من العبادة حجاب كما قيل ولكن لا بد من القيام
بالفرائض وشيء يسير من النوافل. فمن حصل له ذلك، فهو العارف؛ وإن لم يحصل له ذلك، فهو ناقص العرفان، وإن انضم
إلى ذلك استشعاره جلال الله تعالى وعظمته، ورياضة النفس والمجاهدة، والصبر
والرضا والتوكل، فقد ارتفع طبقة أخرى، فإن حصل له بعد ذلك الحب والوجد ، فقد ارتفع طبقة أخرى، فإن حصل له بعد ذلك
الإعراض عن كل شيء سوى الله، وأن يصير مسلوباً عن الموجودات كلها، فلا يشعر إلا
بنفسه وبالله تعالى، فقد ارتفع طبقة أخرى، وهي أرفع
الطبقات. واعلم أن هذه الصفات والشروط والنعوت التي
ذكرها في شرح حال العارف، إنما يعني بها نفسه عليه السلام ؛ وهو من الكلام الذي
له ظاهر وباطن؛ فظاهره أن يشرح حال العارف المطلق، وباطنه أن يشرح حال عارف معين، وهو نفسه عليه السلام. وسيأتي في آخر الخطبة ما يدل على ذلك. ونحن نذكر الصفات التي أشار عليه السلام إليها
واحدة واحدة: فأولها: أن يكون عبداً أعانه الله على نفسه،
ومعنى ذلك أن يخصه بألطاف، يختار عندها الحسن ويتجنب القبيح، فكأنه أقام النفس
في مقام العدو، وأقام الألطاف مقام المعونة التي يمده الله سبحانه بها، فيكسر
عادية العدو المذكور؟ وبهذا الإعتبار سمى قوم من المتكلمين اللطف عونا، وثانيها: أن يستشعر الحزن، أي يحزن على الأيام
الماضية، إن لم يكن اكتسب فيها من موجبات الإختصاص أضعاف ما اكتسبه، وثالثها: أن يتجلبب الخوف، أي يخاف من الإعراض
عنه، بأن يصدر عنه ما يمحوه من جريدة المخلصين، ورابعها: أن
يعد القرى لضيف المنية، وذلك بإقامة وظائف العبادة. و خامسها:
أن يقرب على نفسه البعيد، وذلك بأن يمثل الموت بين عينيه صباحاً ومساء، وألا
يطيل الأمل، وسادسها: أن
يهون عليه الشدائد، وذلك باحتمال كلف المجاهدة ورياضة النفس على عمل المشاق، وسابعها: أن يكون قد نظر فأبصر، وذلك بترتيب
المقدمات المطابقة لمعلقاتها ترتيباً صحيحاً، لتنتج العلم اليقيني، وثامنها: أن يذكر الله
تعالى فيستكثر من ذكره، لأن ذكره سبحانه والإكثار منه، يقتضي سكون النفس
وطمأنينتها، كما قال تعالى: "ألا بذكر الله
تطمئن القلوب "، وتاسعها: أن يرتوي من
حب الله تعالى، وهو العذب الفرات، الذي سهل موارده على من انتخبه الله، وجعله أهلا
للوصول إليه، فشرب منه ونهل، وسلك طريقاً لا عثار فيه ولا وعث، وعاشرها:
أن يخلع سرابيل الشهوات، لأن الشهوات تصدىء مرآة العقل، فلا تنطبع المعقولات
فيها كما ينبغي، وكذلك الغضب، وحادي عشرها: أن
يتخلى من الهموم كلها، لأنها تزيدات وقواطع عن المطلوب، إلا هماً واحداً وهو همه
بمولاه، الذي لذته وسروره الإهتمام به، والتفرد بمناجاته ومطالعة أنوار عزته،
فحينئذ يخرج عن صفة أهل العمى، ومن مشاركة أهل الهوى، لأنه قد امتاز عنهم بهذه
المرتبة والخاصية التي حصلت له فصار مفتاحاً لباب الهدى، ومغلاقاً لباب الضلال
والردى، قد أبصر طريق الهدى، وسلك سبيله، وعرف مناره، وقطع غماره. وثاني عشرها:
أن ينصب نفسه لله في أرفع الأمور، وهو الخلوة به، ومقابلة أنوار جلاله بمرآة
فكره، حتى تتكيف نفسه بتلك الكيفية العظيمة الإشراق، فهذا أرفع الأمور وأجلها
وأعظمها، وقد رمز في هذا الفصل، ومزجه بكلام خرج به
إلى أمر آخر، وهو فقه النفس في الدين، والأمور الشرعية النافعة للناس في دنياهم
وأخرهم؛ أما في دنياهم فلردع المفسد وكف الظالم، وأما في أخراهم فللفوز بالسعادة
باعتبار امتثال الأوامر الإلهية. فقال: في
إصدار كل وارد عليه؛ أي في فتيا كل مستفتٍ له، وهداية كل مسترشد له في الدين؛ ثم قال: وتصيير كل فرع إلى أصله. ويمكن أن يحتج
بهذا من قال بالقياس، ويمكن أن يقال: إنه لم
يرد ذلك، بل أراد تخريج الفروع العقلية، وردها إلى أصولها؛ كما يتكلف أصحابنا
القول في بيان حكمة القديم تعالى، في الآلام وذبح الحيوانات، رداً له إلى أصل
العدل، وهو كونه تعالى لا يفعل القبيح. وأقسام العدالة ثلاثة، هي الأصول وما عداها من الفضائل فروع
عليها: الأولى الشجاعة، ويدخل
فيها السخاء لأنه شجاعة وتهوين للمال، كما أن الشجاعة الأصلية تهوين للنفس،
فالشجاع في الحرب جواد بنفسه، والجواد بالمال شجاع في إنفاقه، ولهذا قال الطائي:
والثانية: الفقه، ويدخل فيها القناعة والزهد والعزلة، والثالثة: الحكمة، وهي أشرفها، ولم تحصل العدالة الكاملة لأحدٍ من البشر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا لهذا الرجل، ومن أنصف علم
صحة ذلك، فإن شجاعته وجوده، وعفته وقناعته وزهده، يضرب بها الأمثال. ولهذا
انتسب المتكلمون الذين لججوا في بحار
المعقولات إليه خاصة دون غيره، وسموه
أستاذهم ورئيسهم، واجتذبته كل فرقة من الفرق إلى
نفسها؛ ألا ترى أن أصحابنا ينتمون إلى واصل
بن عطاء، وواصل تلميذ أبي هاشم بن محمد بن الحنفية، وأبو هاشم تلميذ أبيه محمد،
ومحمد تلميذ أبيه علي صلى الله عليه وسلم ! فأما الشيعة من
الإمامية والزيدية والكيسانية، فانتماؤهم
إليه ظاهر. وأما الكرامية
فإن ابن الهيصم ذكر في كتاب المقالات أن أصل
مقالتهم وعقيدتهم تنتهي إلى علي عليه
السلام من طريقين: أحدهما:
بأنهم يسندون اعتقادهم عن شيخ بعد شيخ، إلى أن
ينتهي إلى سفيان الثوري، ثم قال: وسفيان الثوري من
الزيدية، ثم سأل نفسه فقال: إذا كان
شيخكم الأكبر الذي تنتمون إليه كان زيدياً،
فما بالكم لا تكونون زيدية؛ وأجاب بأن سفيان الثوري
رحمه الله تعالى، وإن اشتهر عنه
الزيدية، إلا أن تزيده إنما كان عبارة عن موالاة أهل البيت، وإنكار ما كان بنو أمية عليه من الظلم، وإجلال زيد بن علي وتعظيمه، وتصوينه في أحكامه وأحواله، ولم ينقل عن سفيان الثوري
أنه طعن في أحد من الصحابة. ثم إنه عليه
السلام ذكر حال هذا العارف العادل فقال: أول
عدله نفي الهوى عن نفسه، وذلك لأن من يأمر ولا يأتمر، وينهى ولا ينتهي، لا تؤثر
عظته، ولا ينفع إرشاده. ثم شرح ذلك فقال:
يصف الحق ويعمل به. ثم قال: لا يدع للخير غاية إلا أمها، ولا مظنةً
إلا قصدها؛ وذلك لأن الخير لذته وسروره وراحته، فمتى وجد إليه طريقاً سلكها، ثم قال: قد أمكن الكتاب يعني القرآن من زمامه أي
قد أطاع الأوامر الإلهية، فالقرآن قائده وإمامه، يحل حيث حل، وينزل حيث نزل. ألم أعمل
فيكم بالثقل الأكبر، وأترك فيكم الثقل الأصغر! قد ركزت فيكم راية الإيمان،
ووقفتكم على حدود الحلال والحرام، وألبستكم العافية من عدلي، وفرشتكم المعروف من
قولي وفعلي، وأريتكم كرائم الأخلاق من نفسي. والأضاليل:
الضلال، جمع لا واحد له من لفظه. وجاء في الخبر المرفوع المشهور:
الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والأحمق من أتبع نفسه هواها، وتمنى على
الله. وقوله:
اعتزل البدع، وبينها اضطجع؛ إشارة إلى تضعيف مذاهب
العامة والحشوية الذين رفضوا النظر العقلي، وقالوا: نعتزل البدع. وقال الشاعر:
قوله: "وذلك ميت الأحياء" كلمة فصيحة، وقد أخذها شاعر فقال:
إلا أن أمير المؤمنين عليه السلام أراد لجهله، والشاعر أراد
لبؤسه. وتعمهون: تتحيرون وتضلون. فإن قدر مقدر أنه على
طريق حذف المضافات؛
أي ابن ابن عم أب الأب؛ إلى عدد كثير في البنين والآباء، فكذلك أراد أبو بكر أنهم عترة أجداده، على طريق حذف
المضاف. وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم عترته من
هي، لما قال: إني تارك فيكم الثقلين، فقال: عترتي أهل بيتي، وبين في مقام آخر من
أهل بيته حيث طرح عليهم كساء. وقال حين نزلت: "إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت":
اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب الرجس عنهم. قلت: نص أبو
محمد بن متويه؛ رحمه الله تعالى في كتاب الكفاية على أن علياً عليه السلام معصوم، وإن لم يكن واجب العصمة، ولا العصمة شرط في الإمامة، لكن أدلة
النصوص قد دلت على عصمته؛ والقطع على باطنه
ومغيبه، وأن ذلك أمر اختص هو به دون غيره من الصحابة، والفرق
ظاهر بين قولنا: زيد معصوم، وبين قولنا: زيد واجب
العصمة، لأنه إمام؛ ومن شرط الإمام أن يكون معصوماً، فالاعتبار الأول مذهبنا، والإعتبار
الثاني مذهب الإمامية. ثم قال:
أيها الناس خذوها عن خاتم النبيين إلى قوله:
وليس ببالٍ هذا الموضع يحتاج إلى تلطف في الشرح، لأن
لقائل أن يقول: ظاهر هذا الكلام متناقض، لأنه
قال: يموت من مات منا وليس بميت، وهذا كما
تقول: يتحرك المتحرك وليس بمتحرك، وكذلك
قوله: ويبلى من بلي منا، وليس ببالٍ، ألا ترى أنه سلب وإيجاب لشيء واحد! فإن قلتم: أراد بقاء النفس بعد موت الجسد، كما قاله الأوائل وقوم من المتكلمين، قيل لكم: فلا اختصاص للنبي ولا لعلي بذلك؛ بل هذه
قضية عامة في جميع البشر، والكلام خرج مخرج التمدح والفخر. أحدهما:
أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم وعلي
ومن يتلوهما من أطايب العترة أحياءً بأبدانهم التي كانت في
الدنيا بأعيانها؛ قد رفعهم الله تعالى إلى ملكوت سماواته؛ وعلى هذا لو قدرنا أن
محتفراً احتفر تلك الأجداث الطاهرة عقب دفنهم لم يجد الأبدان في الأرض؛ وقد روي في الخبر النبوي مثل ذلك؛ وهو قوله صلى الله عليه وسلم : إن
الأرض لم تسلط علي، وإنها لا تأكل لي لحماً ولا تشرب لي دماً نعم يبقى الإشكال في قوله: ويبلى من بلي منا وليس
ببال؛ فإنه إن صح هذا التفسير في الكلام الأول،
وهو قوله: يموت من مات منا وليس بميت؛ فليس يصح في القضية الثانية، وهي حديث البلاء،
لأنها تقتضي أن الأبدان تبلى وذاك الإنسان لم يبل، فأحوج
هذا الإشكال إلى تقدير فاعل محذوف؛ فيكون
تقدير الكلام: يموت من مات حال موته وليس بميت فيما بعد ذلك من الأحوال
والأوقات، ويبلى كفن من بلي منا وليس هو ببال؛ فحذف
المضاف كقوله: "وإلى مدين"، أي وإلى أهل مدين؛ ولما كان الكفن كالجزء من الميت
لاشتماله عليه عبر بأحدهما عن الآخر للمجاورة
والاشتمال، كما عبروا عن المطر بالسماء،
وعن الخارج المخصوص بالغائط، وعن الخمر بالكأس. ويجوز
أن يحذف الفاعل كقوله تعالى: "حتى
توارت بالحجاب "؛ و "فلولا إذا
بلغت الحلقوم". وقول حاتم:
إذا حشرجت وحذف الفاعل كثير. وعلى الوجه الأول
لو أن محتفراً احتفر أجداثهم لوجد الأبدان فيها، وإن لم يعلم أن أصول تلك البنى
قد انتزعت منها ونقلت إلى الرفيق الأعلى؛ وهذا الوجه لا يحتاج إلى تقدير ما
قدرناه أولاً من الحذف، لأن الجسد يبلى في القبر إلا قدر ما انتزع منه ونقل إلى
محل القدس، وكذلك أيضاً يصدق على الجسد أنه ميت، وإن كان أصل بنيته لم يمت؛ وقد ورد في الخبر الصحيح: إن أرواح الشهداء من
المؤمنين في حواصل طيور خضر تدور في أفناء الجنان، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى
قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش، فإذا جاء هذا في الشهداء فما ظنك بموالي
الشهداء وساداتهم؛ فإن قلت: فهل يجوز أن
يتأول كلامه، فيقال:
لعله أراد بقاء الذكر والصيت؟ قلت: إنه
لبعيد، لأن غيرهم يشركهم في ذلك، ولأنه أخرج الكلام مخرج المستغرب المستعظم له. فإن قلت: فهل يمكن أن
يقال: إن الضمير يعود إلى النبي صلى
الله عليه وسلم؛ لأنه قد ذكره في قوله: خاتم النبيين فيكون التقدير: أنه يموت من مات منا والنبي صلى الله عليه وسلم ليس
بميت، ويبلى من بلي منا والنبي ليس ببالً. قلت: هذا أبعد من
الأول، لأنه لو أراد ذلك لقال: إن رسول الله صلى
الله عليه وسلم لا تبليه
الأرض، وإنه الأن حي، ولم يأت بهذا الكلام الموهم؛ ولأنه في سياق تعظيم العترة
وتبجيل أمرها؛ وفخره بنفسه وتمدحه بخصائصه ومزاياه؛ فلا يجوز أن يدخل في غضون
ذلك ما ليس منه. فإن قلت:
فهل هذا الكلام منه أم قاله مرفوعاً؟ قلت:
بل ذكره مرفوعاً، ألا تراه قال: خذوها عن
خاتم النبيين. ولفظت
الشيء من فمي، ألفظه لفظاً: رميته، وذلك الشيء اللفاظة واللفاظ؛ أي يلفظونها
كلها لا يبقى منها شيء معهم. أما والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، لا يرون الذي
ينتظرون حتى يهلك المتمنون. ويضمحل المحلون، ويتثبت المؤمنون، وقليل ما يكون،
والله والله لا ترون الذي تنتظرون حتى لا تدعون الله إلا إشارة بأيديكم وإيماضاً
بحواجبكم، وحتى لا تملكون من الأرض إلا مواضع أقدامكم، وحتى يكون موضع سلاحكم
على ظهوركم؛ فيومئذٍ لا ينصرني إلا الله بملائكته، ومن كتب على قلبه الإيمان،
والذي نفس علي بيده لا تقوم !عصابة تطلب لي أو لغيري حقاً، أو تدفع عنا ضيماً
إلا صرعتهم البلية، حتى تقوم عصابة شهدت مع محمد صلى الله عليه وسلم بدراً،
لا يودى قتيلهم، ولا يداوى جريحهم، ولا ينعش صريعهم. قال
المفسرون: هم الملائكة. ومن كلام الحسن البصري رحمه الله تعالى يذكر
فيه الحجاج: أتانا أعمش أخيمش يمد بيدٍ قصيرة البنان، ما عرق
فيها عنان في سبيل الله. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
في وصف ما عليه الناس من الخطأ
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
أما بعد فإن الله لم يقصم جباري دهر قط إلا بعد تمهيل ورخاء؛ ولم يجبر عظم أحدٍ
من الأمم إلا بعد أزلٍ وبلاء؛ وفي دون ما أستقبلتم من عتبٍ وما استدبرتم من خطبٍ
معتبر. وما كل ذي قلبٍ بلبيبٍ، ولا كل ذي سمعٍ بسميعٍ، ولا كل ذي ناظرٍ ببصيرٍ. ويروى رجاء وهو
التأخير أيضاً؛ والرواية المشهورة ورخاء، أي بعد إعطائهم من سعة العيش وخصب
الحال ما اقتضته المصلحة. ويقتصون: يتبعون،
قال سبحانه وتعالى: "وقالت لأخته قصيه ".
ويعفون، بكسر العين؛
عففت عن كذا، أعف عفاً وعفةً وعفافة، أي كففت، فأنا عف وعفيف، وامرأة عفة
وعفيفة، وقد أعفه الله، واستعف عن المسألة، أي عف. وتعفف
الرجل، أي تكلف العفة، ويروى: ولا
يعفون عن عيب، أي لا يصفحون. وروي:
بعراً وثيقات. وروي من عتب ، بفتح التاء جمع عتبة؛
يقال: لقد حمل فلان على عتبة، أي أمر كريه من البلاء؛ وفي
المثل: ما في هذا رتب ولا عتب ، أي شدة. وروي أيضاً من عنتٍ وهو الأمر الشاق.
وما استدبروه من خطب؛ يعني به ما تصرم عنهم من
الحروب والوقائع التي قضوها ونضوها واستدبروها. ويروى:
واستدبرتم من خصب ؛ وهو رخاء العيش؛ وهذا يقتضي المعنى الأول، أي وما خلفتم
وراءكم من الشباب والصحة وصفو العيشة. ثم قال:
وما كل ذي قلب بلبيب...الكلام إلى آخره، وهو مأخوذ من قول الله تعالى: "لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها
ولهم أذان لا يسمعون بها". ثم قال:
المعروف فيهم ما عرفوه، أي ليس المعروف عندهم ما دل الدليل على كونه معروفاً
وصوابأ وحقاً، بل المعروف عندهم ما ذهبوا إلى أنه حق، سواء كان حقاً في نفس
الأمر أو لم يكن، والمنكر عندهم ما أنكروه كما شرحناه في المعروف. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ذكر حال الناس قبل البعثة
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: أرسله
على حين فترةٍ من الرسل، وطول هجعة من الأمم، واعتزام من الفتن؛ وأنتشار من
الأمور، وتلظ من الحروب، والدنيا كاسفة النور، ظاهرة الغرور؛ على حين أصفرارٍ من
ورقها، وإياسٍ من ثمرها، وإعوارٍ من مائها. قد درست منار الهدى، وظهرت أعلام
الردى، فهي متجهمة لأهلها، عابسة في وجه طالبها، ثمرها الفتنة، وطعامها الجيفة،
وشعارها الخوف، ودثارها السيف. فاعتبروا عباد الله، وأذكروا تيك التي أباؤكم
وإخوانكم بها مرتهنون، وعليها محاسبون. ولعمري ما
تقادمت بكم ولا بهم العهود، ولا خلت فيما بينكم وبينهم الأحقاب والقرون، وما
أنتم اليوم من يوم كنتم في أصلابهم ببعيدٍ. والله ما
أسمعكم الرسول شيئاً إلا وها أنا ذا اليوم مسمعكموه، وما أسماعكم اليوم بدون أسماعكم
بالأمس، ولا شقت لهم الأبصار، ولا جعلت لهم الأفئدة في ذلك الزمان؛ إلا وقد
أعطيتم مثلها في هذا الزمان، ووالله ما بصرتم بعدهم شيئاً جهلوه، ولا أصفيتم به
وحرموه، ولقد نزلت بكم البلية جائلاً خطامها، رخواً بطانها؛ فلا يغرنكم ما أصبح
فيه أهل الغرور، فإنما هو ظل ممدود إلى أجل معدود. والهجعة: النومة ليلاً، والهجوع
مثله، وكذلك التهجاع، بفتح التاء، فأما الهجعة بكسر الهاء، فهي الهيئة كالجلسة من الجلوس. ويروى: واعتراض ، ويروى: واعترام بالراء المهملة من العرام، وهي
الشرة. والتلظي: التلهب. ومن رواه: وإغوارٍ من مائها، بالغين المعجمة، جعله من
غار الماء، أي ذهب، ومنه قوله تعالى: " أرايتم
إن أصبح ماؤكم غوراً"، ومتجهمة لأهلها:
كالحة في وجوههم. ثم قال:
ثمرها الفتنة أي نتيجتها وما يتولد عنها. وطعامها الجيفة، يعني أكل الجاهلية
الميتة، أو يكون على وجه الإستعارة، أي أكلها خبيث. ويروى الخيفة أي الخوف، ثم جعل الخوف والسيف شعارها
ودثارها، فالشعار ما يلي الجسد، والدثار فوق الشعار، وهذا
من بديع الكلام ومن جيد الصناعة، لأنه لما كان الخوف يتقدم السيف والسيف يتلوه،
جعل الخوف شعاراً لأنه الأقرب إلى الجسد، وجعل الدثار تالياً له. ثم قال: واذكروا تيك
كلمة إشارة إلى المؤنثة الغائبة، فيمكن أن يعني بها
الدنيا التي تقدم ذكرها، وقد جعل آباءهم وإخوانهم مرتهنين بها ومحاسبين
عليها، والإرتهان: الإحتباس، ويمكن أن يعني بها الأمانة التي عرضت على الإنسان
فحملها، والمراد بالأمانة الطاعة والعبادة وفعل الواجب وتجنب القبيح. وقال: تيك ولم يجر
ذكرها، كما قال تعالى:" آلم ذلك
الكتاب" ولم يجر ذكره لأن الإشارة إلى مثل هذا أعظم وأهيب وأشد روعة
في صدر المخاطب من التصريح. قوله: ولا خلت فيما
بينكم وبينهم الأحقاب ، أي لم يطل العهد، والأحقاب: المدد المتطاولة، والقرون: الأمم من الناس. وقال:
جائلاً خطامها لأن الناقة إذا أضطرب زمامها استصعبت على راكبها، ويسمى الزمام
خطاماً لكونه في مقدم الأنف، والخطم من، كل دابة.
مقدم أنفها وفمها، وإنما جعلها رخواً بطانها، لتكون أصعب على راكبها،
لأنه إذا استرخى البطان كان الراكب في معرض السقوط عنها، وبطان القتب هو الحزام
الذي يجعل، تحت بطن البعير. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
في عد بعض صفات الله تعالى
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:الحمد
لله المعروف من غير رؤية، والخالق من غير روية، الذي لم يزل قائماً دائماً، إذ
لا سماء ذات أبراجٍ، ولا حجب ذات إرتاجٍ، ولا ليل داجٍ، ولا بحر ساجٍ، ولا جبل
ذو فجاجٍ، ولا فج ذو اعوجاجٍ، ولا أرض ذات مهادٍ، ولا خلق ذو اعتمادٍ، وذلك
مبتدع الخلق ووارثه، وإله الخلق ورازقه، والشمس والقمر دائبان في مرضاته، يبليان
كل جديدٍ، ويقربان كل بعيد. قلت: نعم لا
منافاة بين القولين، لأن الفلك وإن كان كرة لكن فيه من المتممات ما يجري مجرى
أركان الحصن أو السور، فصح إطلاق لفظة الأبراج عليه، والمتممات أجسام في حشو
الفلك تخف في موضع؛ والناس كلهم أثبتوها. قلت: لا مانع من
ذلك، لأن هذا المسمى كان معلوماً متصوراً قبل نزول
القرآن، وكان أهل الإصطلاح قد وضعوا هذا اللفظ بإزائه، فجاز أن ينزل القرآن بموجبه؛ قال؛ تعالى: "والسماء ذات البروج "، وأخذها علي عليه السلام منه،
فقال: "إذ لا سماء ذات أبراج "، وارتفع سماء لأنه مبتدأ وخبره محذوف؛
وتقديره في الوجود. ويجوز أن يريد بالحجب السموات
أنفسها، لأنها حجبت الشياطين عن أن تعلم ما الملائكة فيه. والفجاج:
جمع فج؛ وهو الطريق الواسع بين جبلين. والمهاد:
الفراش. مبتدع
الخلق: مخرجه من العدم المحض، كقوله تعالى:
"بديع السماوات والأرض ". ودائبان:
تثنية دائب" وهو الجاد المجتهد المتعب، دأب في عمله أي جد وتعب دأباً
ودءوباً فهو دئيب، ودأبته أنا. وسمى الشمس والقمر دائبين لتعاقبهما على حال واحدة دائما
لا يفتران ولا يسكنان، وروي دائبين بالنصب على الحال ويكون خبر المبتدأ يبليان وهذه من الألفاظ القرآنية. ويمكن أن يعني به حركاتهم وتصرفاتهم وروي:
وعدد أنفاسهم على الإضافة. ومستقرهم، أي
في الأرحام. ومستودعهم، أي
في الأصلاب، وقد فسر ذلك فتكون من متعلقة
بمستودعهم ومستقرهم على إرادة تكررها، ويمكن أن
يقال: أراد مستقرهم ومأواهم على ظهر الأرض ومستودعهم في بطنها بعد الموت، وتكون
من هاهنا بمعنى مذ أي مذ زمان كونهم في الأرحام والظهور إلى أن تتناهى بهم
الغايات، أي إلى أن يحشروا في القيامة. وعلى التأويل الأول يكون تناهي الغايات بهم عبارة عن كونهم أحياء
في الدنيا. قاهر من عازه، ومدمر من شاقه؛ ومذل من ناواه،
وغالب من عاداه، من توكل عليه كفاه، ومن سأله أعطاه، ومن أقرضه قضاه، ومن شكره
جزاه. والمدمر:
المهلك، دمره ودمر عليه بمعنى، أي أهلكه. وشاقه:
عاداه، قيل إن أصله من الشق وهو النصف، لأن
المعادي يأخذ في شق والمعادى في شق يقابله. وناواه،
أي عاداه، واللفظة مهموزة، وإنما لينها لأجل
القرينة السجعية، وأصلها ناوأت الرجل مناوأة ونواء؛ ويقال
في المثل: إذا ناوأت الرجل فاصبر.
ثم قال: وانقادوا
قبل عنف السياق، هو العنف بالضم، وهو ضد الرفق، يقال عنف عليه وعنف به أيضاً، والعنيف: الذي لا رفق له بركوب الخيل، والجمع عنف.
واعتنفت الأمر، أي أخذته بعنف، يقول:
انقادوا أنتم من أنفسكم قبل أن تقادوا وتسحاقوا بغير اختياركم سوقاً عنيفاً. ثم قال من لم يعنه الله على نفسه حتى يجعل
له منها واعظاً وزاجراً لم ينفعه الزجر والوعظ من غيرها أخذ هذا المعنى شاعر فقال:
فإن قلت:
أليس في هذا الكلام إشعار ما بالجبر؟ قلت:
إنه لا خلاف بين أصحابنا في أن لله تعالى ألطافاً يفعلها بعباده، فيقربهم من
الواجب، ويبعدهم من القبيح؛ ومن يعلم الله تعالى من حاله أنه لا لطف له لأن كل
ما يعرض لطفاً له فإنه لا يؤثر في حاله ولا يزداد به إلا إصراراً على القبيح
والباطل؛ فهو الذي عناه أمير المؤمنين عليه السلام
بقوله: من لم يعن على نفسه، لأنه ما قبل المعونة ولا انقاد إلى مقتضاها، وقد روي: واعلموا أنه من لم يعن على نفسه بكسر
العين أي من لم يعن الواعظين له والمنذرين على نفسه، ولم يكن معهم إلباً عليها
وقاهراً لها، لم ينتفع بالوعظ والزجر، لأن هوى نفسه
يغلب وعظ كل واعظ وزجر ثق زاجر. ومن خطبة له عليه السلام تعرف بخطبة
الأشباح وهي من جلائل خطبه عليه السلام الأصل: روى مسعدة بن صدقة عن الصادق جعفر بن
محمد عليهما السلام، أنه قال: خطب أمير المؤمنين به بهذه
الخطبة على منبر الكوفة، وذلك أن رجلاً أتاه، فقال:
يا أمير المؤمنين، صف لنا ربنا مثل ما نراه عياناً، لنزداد له حباً، وبه معرفة،
فغضب ونادى: الصلاة جامعةً، فاجتمع إليه حتى غص المسجد بأهله، فصعد المنبر وهو
مغضب متغير اللون، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم،
ثم قال: الحمد لله الذي لا يفره المنع والجمود، ولا يكديه
الإعطاء والجود، إذ كل معط منتقص سواه، وكل مانع مذموم ما خلاه؛ وهو المنان
بفوائد النعم، وعوائد المزيد والقسم، عياله الخلائق، ضمن أرزاقهم، ونهج سبيل
الراغبين إليه، والطالبين ما لديه، وليس بما سئل بأجود منه بما لم يسأل، الأول
الذي لم يكن له قبل فيكون شيء قبله، والآخر الذي لم يكن له بعد فيكون شيء بعده،
والرادع أناسي الأبصار عن أن تناله أو تدركه، ما أختلف عليه دهر فيختلف منه
الحال، ولا كان في مكان فيجوز عليه الانتقال. ويقال:
رجل مغضب، بفتح الضاد، أي قد اغضب، أي فعل
به ما يوجب غضبه. وفي أمثالهم: يوفر ويحمد هو من قولك وفرته عرضه
ووفرته ماله. وقد يحمل الكلام على وجه آخر أقرب متناولًا من هذا الوجه، وهو أن يكون
أراد: الذي
لم يكن محدثاً، أي موجوداً قد سبقه عدم، فيقال إنه
مسبوق بشيء من الأشياء إما المؤثر فيه أو الزمان المقدم عليه، وإنه ليس بذات
يمكن فناؤها وعدمها فيما لا يزال، فيقال: إنه ينقضي وينصرم، ويكون بعده شيء من
الأشياء، إما الزمان أو غيره، والوجه الأول أدق
وألطف، ويؤكد كونه مراداً قوله عقيبه: ما اختلف عليلا دهر فيختلف منه
الحال، وذلك لأن واجب الوجود أعلى من الدهر والزمان، فنسبة ذاته إلى الدهر
والزمان بجملته وتفصيل أجزائه نسبة متحدة. قلت:
كلا لا تجسيم في ذلك، فكما أن له عرشاً وكرسياً وليس بجسم، فكذلك أنوار عظيمة فوق العرش، وليس بجسم، فكيف
تنكر الأنوار، وقد نطق الكتاب العزيز بها في غير موضع، كقوله: "وأشرقت الأرض بنور ربها"، وكقوله: "مثل نوره كمشكاة فيها مصباح". والفلز:
اسم الأجسام الذائبة كالذهب والفضة والرصاص ونحوها. واللجين: اسم
الفضة جاء مصغراً، كالكميت والثريا. والعقيان:
الذهب الخالص، ويقال: هو ما ينبت نباتاً
وليس مما يحصل من الحجارة. ونثارة الدر:
ما تناثر منه، كالسقاطة والنخالة، وتأتي فعالة تارة للجيد المختار، وتارة للساقط
المتروك، فالأول نحو الخلاصة، والثاني نحو القلامة. وأرض حصبة ومحصبة، بالفتح: ذات حصباء. والمرجان: صغار
اللؤلؤ؛ وقد قيل إنه هذا الحجر، واستعمله بعض
المتأخرين فقال:
وتنفده:
تفنيه، نفد الشيء أي فني، وأنفدته أنا. ومطالب الأنام:
جمع مطلب، وهو المصدر، من طلبت الشيء طلباً ومطلباً، ويغيضه، بفتح حرف المضارعة:
ينقصه؛ ويقال: غاض الماء، فهذا لازم، وغاض
الله الماء، فهذا متعد" وجاء: أغاض الله
الماء، والإلحاح: مصدر ألح على الأمر، أي
أقام عليه دائماً، من ألح السحاب؛ إذا دام مطره، وألح البعير: حرن، كما تقول: خلأت الناقة، وروي ولا يبخله بالتخفيف؛ تقول: أبخلت زيداً، أي صادفته بخيلاً؛ وأجبنته: وجدته جباناً.
**** الأصل: فانظر
أيها السائل فما دلك القرآن عليه من صفته فائتم به، واستضئ بنور هدايته، وما
كلفك الشيطان علمه، مما ليس في الكتاب عليك فرضه، ولا في سنة النبي صلى الله عليه وآله وأئمة الهدى أثره، فكل علمه إلى الله سبحانه، فإن ذلك منتهى حق الله عليك. والاقتحام: الهجوم والدخول مغالبة. والسدد المضروبة:
جمع سدة؛ وهي الرتاج. وأما ما لم يأت الكتاب والسنة فيه بشيء فهو الذي حرم وحظر على المكلفين الفكر
فيه؛ كالكلام في الماهية التي يذهب ضرار
المتكلم إليها، وكإثبات صفات زائدة على الصفات المعقولة لذات البارىء سبحانه، وهي على قسمين:
أحدهما: ما لم يرد فيه نص كإثبات طائفة تعرف
بالماتريدية صفة سموها التكوين زائدة على القدرة والإرادة. وهذا التأويل غير صحيح، لأنه عليه السلام إنما أخرج
هذا الكلام مخرج المنكر على من سأله أن يصف له البارىء سبحانه، ولم يكن
السائل قد سأل عن العلة في أعداد الصلاة وكمية أجزاء
العبادات.
ويروى
ممزع، وقال النابغة:
والوجه الثاني أنها لفظة اصطلاحية، فجاز استعمالها لا على أنها مؤنث ذو بل
تستعمل ارتجالاً في مسماها الذي عبر عنه بها أرباب النظر الإلهي،
كما استعملوا لفظ الجوهر والعرض وغيرهما في غير ما كان أهل العربية واللغة
يستعملونهما فيه. والمهاوي: المهالك، الواحدة مهواة بالفتح، وهي ما
بين جبلين أو حائطين ونحو ذلك. والسدف:
جمع سدفة، وهي القطعة من الليل المظلم. وجبهت،
أي ردت، وأصله من جبهته، أي صككت جبهته. والجور: العدول عن
الطريق. والاعتساف:
قطع المسافة على غير جادة معلومة. واعلم أن هذا أحد الأسئلة التي يذكرها أصحابنا في باب كونه
عالماً،
لأنهم لما استدلوا على كونه تعالى عالماً بطريق إحكام العلم وإتقانه، سألوا أنفسهم فقالوا: لم لا يجوز أن يكون القديم
سبحانه أحدث العالم محتذياً لمثال مثله، وهيئة اقتضاها، والمحتذي لا يجب كونه
عالماً بما يفعله، ألا ترى أن من لا يحسن الكتابة
قد يحتذي خطاً مخصوصاً، فيكتب قريباً منه، وكذلك من يطبع الشمع بالخاتم ثم يطبع
فيه مثال الخاتم، فهو فعل الطابع، ولا يجب كونه عالماً.
وقال
في تفيسير قوله تعالى :"وإن من شيءٍ إلا يسبح
بحمده ولاكن لا تفقهون تسبيحهم" إنه عبارة عن هذا المعنى. *** الأصل: فأشهد أن من شبهك بتباين أعضاء خلقك، وتلاحم حقاق مفاصلهم
المحتجبة لتدبير حكمتك، لم يعقد غيب ضميره على معرفتك، ولم يباشر قلبه اليقين
بأنه لا ند لك، وكأنه لم يسمع تبرؤ التابعين عن المتبوعين؛ إذ يقولون: "تالله إن كنا لفي
ضلال مبين؛ إذ نسويكم برب العالمين ". كذب العادلون بك، إذ شبهوك بأصنامهم، ونحلوك حلية المخلوقين
بأوهامهم، وجزءوك تجزئة المجسمات بخواطرهم، وقدروك على الخلقة المختلفة ألقوى بقرائح عقولهم. وأشهد أن من ساواك بشي من خلقك فقد
عدل لك، والعاد ذلك كافر بما تنزلت به محكمات آياتك، او عنه شواهد حجج بيناتك،
وأنت الله الذي لم تتناه في ألعقول؟ فتكون في مهب فكرها مكيفا، ولا في رويات
خواطرها محدودا مصرفا. الشرح: حقاق المفاصل جمع حقة؟ وجاءفي
جمعهاحقاق وحمق وحق؟ ولماقال: "بتباين أعضاءخلقك، وتلاحم حقاق مفاصلهم
"؟ فأوقع التلاحم في مقابلة التباين صناعة وبديعا. وروي "المحتجة"، فمن قال:
"المحتجة"، أراد أنها بما فيها من لطيف الصنعة كالمحتحة المستدلة على
التدبير الحكمي من لدنه سبحانه، ومن قال: "المحتحمة" أراد المستترة،
لأن تركيبها الباطن خفي محجوب. الند: المثل. والعادلون لك: الذين حعلوا لك عديلا
ونظيرا. ونحلوك: أعطوك؟ وهي النحلة، وروي:
"لم يعقد"على مالم يسم فاعله. وغيب ضميره، بالرفع. والقرائح: جمع قرمحة، وهي القوة التي
تستنمط المعقولات وأصله من قريحة الشر، وهو أول مائها. ومعنى هذا الفصل أنه عتنه شهد بأن المجسم
كافر، وأنه لا يعرف الله، وأن من شبه الله بالمخلوقين ذوي الأعضاء "
المتباينة، والمفاصل المتلاحمة، لم يعرفه ولم يباشر قلبه اليقين، فإنه لا ند له
ولا مثل، ثم أكد ذلك بآيات من كتاب الله تعالى، وهي قوله تعالى: (فكبكبوا نجيها فم والغاوون ! وجنود إبليس اجمعون " قالوا
وهم فيها يختصمون ! تالله إن كنا لفي ضلالا مبين ! إذ نسويكم برب العالمين ! (سورة
الشعراء94-98). حكى سبحانه حكاية قول الكفار في
النار؟ وهم التابعون للذين أغووهم من الشياطين وهم المتبعون. لقد كنا ضالين إذ
سويناكم بالله
تعالى، وحعلناكم مثله، ووحه الححة أنه تعالى حكى ذلك حكاية منكر على من زعم أن
شيئا من الأشياء يجوز تسويته بالباري سبحانه، فلو كان الباري سبحانه جسما مصورا،
لكان مشابها لسائر الأجسام المصورة، فلم يكن لإنكاره على من سواه بالمخلوقات
معنى. ثم زاد عليه السلام فى تأكيد هذا المعنى؟
فقال: كذلك العادلون بك، المثشون لك نظيرا وشميها، يعني المشمهة والمجسمة، اذ
قالوا: إنك على صورة آدم، فشبهوك بالأصنام التي كانت الحاهلية تعبدها، وأعطوك
حلية المخلوقين لما اقتضت أوهامهم ذلك، من حيث لم يألفوا أن يكون القادر الفاعل
العالم إلا جسما، وجعلوك مركبا ومتجزئا، كما تتجزأ الأجسام، وقدروك على هذه
الخلقة، يعنى خلقة البشر المختلفة القوى، لأنها مركمة من عناصر مختلفة الطبائع. ثم كرر الشهادة فقال: أشهد أن من
ساواك بغيرك، وأثبت أنك جوهر أو جسم فهو عادل بك كافر. وقالت تلك الخارجية للحجاج:
"أشهد أنك قاسط عادل " فلم يفهم أهل الشام حوله ما قالت، حتى فسره
لهم، قال عليه السلام فمن يذهب إلى هذا المذهب فهوكافر بالكتاب، وبما ذلت عليه حجج
العقول. ثم قال: وإنك أنت الله، أي وأشهد أنك أنت
الله الذي لم تحط العقول بك، كإحاطتها بالأشياء المتناهية،احججا فتكون
ذاكيفيةا. وقوله: "في مهب فكرها"
استعارة حسنه، ثم قال: "ولا قي رويات خواطرها"، أي في أفكارها محدودا،
ذا حد مصرفا، أي قابلا للحركة والتغير. وقد استدل بعض المتكلمين على نفي كون
البارىء- سبحانه- جسما بما هومأخوذمن هذا الكلام، فقال: لوجازأن يكون البارىء
جسما، لجازأن يكون القمر هو إله العالم، لكن لا يجوزأن يكون القمر إله العالم،
فلا يجوزأن يكون البارى حسما، لبيان الملازمة أنه لو جازأن يكون البارىء جسما،
لما كان بين الإلهية وبين الجسممية منافاة عقلية، وإذا لم يكن بينهما منافاة
عقلية أمكن اجتماعهما، وإذا أمكن اجتماعهما جاز أن يكون القمر هو إله العالم،
لأنه لا مانع من كونه إله العالم إلا كونه جسما يجوز
عليه الحركة، والأفول، ونقصان ضوئه تارة، وامتلاؤه اخرى، فإذا لم يكن ذلك منافيا
للإلهية، جاز أن يكون القمر إته العالم، وبيان الثاني إجماع المسلمين على كفر من
أجاز كون القمر إله العالم، وإذا ثبتت الملازمة وثبتت المقدمة الثانية فقد تمت
الدلالة. *** الأصل: ومنها: قدر ما خلق فأحكم
نقديرة، ودبره فألطف تدبيره، ووجهه لوجهته فلم يتعد حدود منزلته، ولم يقصر دون
ألانتهاء إلى غايته، ولم يستصعب إذ أمر بالمضي على إرادته، فكيف وإنما صدرت
الأمور عن مشيئته! ألمنشىءأصناف الأشياء بلا روية فكر آل إليها، ولا قريحة كريزة
أضمر عليها، ولا تجربة أفادها من حوادث ألدهور، ولا شريك أعانه على أبتداع عجائب
الأمور، فتم خلقه بأمره وأذعن لطاعته، وأجاب إلى دعوته، لم يعترض دونه ريث
المبطىء، ولا أناة المتلكىء، فأقام من الأشياء أودها، ونهج حدودها، ولاءم بقدرته
بين متضادها، ووصل أسباب قرائنها، وفرقها أجناسا، فختلفات في ألحدود والأقدار،
والغرائز وألهيئات، بدايا خلائق أحكم صنعها، وفطرها على ما أراد وأبتدعها. اورخ: الوجهة، بالكسر: الجهة التي يثوجه
نحوها، قال تعالى: (ولكل وجهة هو موليها) (البقرة148)، والريث: البطء والمتلكىء: المتأخر. والأود: الإعوجاج. ولاءم بين كذا وكذا، أي جمع،
والقرائن هنا: الأنفس، واحدتها قرونة وقرينة، يقال: سمحت قرينته وقرونته؟ أي
أطاعته نفسه وذلت، وتابعته على الأمر. وبدايا ههنا: جمع بدية، وهي الحالة
العجيبة، أبدأ الرجل إذا جاء بالأمر البدىء، أي المعجب، والبدية أيضا: الحالة
المبتدأة المبتكرة، ومنه قولهم: فعله بادىء ذي بديء على وزن "فعيل "،
أي أول كل شيء. ويمكن أن يحمل كلامه أيضا على هذا الوجه. وأما خلائق؟ فيجوز أن يكون أضاف
"بدايا" إليها؟ ويجوز ألا يكون أضافه إليها، بل جعلها بدلا من
"أجناسا". ويروى "برايا" جمع برية. يقول عفنه: إنه تعالى
قدر الأشياء التي خلقها، فخلقها محكمة على حسب ما قدر. وألطف تدبيرها، أي جعله
لطيفا، وأمضى الامور إلى غاياتها وحدودها المقدرة لها، فهيأ الصقرة للإصطياد،
والخيل للركوب والطراد، والسيف للقطع، والقلم للكتابة، والفلك للدوران ونحو ذلك،
وفي هذا إشارة إلى قول النبي ص: "كل ميسر لما خلق له "؟
فلم تتعد هذه المخلوقات حدود منزلتها التي جعلت غايتها، ولا قصرت دون الإنتهاء
إليها، يقول: لم تقف على الغاية ولا تجاوزتها. ثم قال: ولا استصعبت وامتنعت إذ
أمرها بالمضي إلى تلك الغاية بمقتفى الإرادة الإلهية، وهذا كله من باب المجاز؟
كقوله تعالى: (فقال لها وللأرض ائتيا
طوعا أو كرها قالتا اتينا طائعين ! (سورة فصلت :11)، وخلاصة ذلك، الإبانة عن نفوذ إرادته ومشيئته. ثم علل نفي الإستصعاب فقال: وكيف
يستصعب، وإنما صدرت عن مشيئته! يقول: إذا كانت مشيئته هي المقتضيةلوجود هذه
المخلوقات، فكيف يستصعب عليه بلوغها إلى غاياتها التي جعلت لأجلها، وأصل وجودها
إنما هو مشيئته، فإذا كان أصل وجودها بمشيئته، فكيف يستصعب عليه توجيهها
لوجهتها، وهو فرع من فروع وجودها وتابع له!ثم أعاد معاني القول الأول، فقال: إنه
أنشأ الأشياء بغيرروية ولا فكرة ولا غريزة أضمر عليها خلق ما خلق عليها.
ولاتجربة أفادها، أي استفادها من حوادث مرت عليه من قبل، كما تكسب التجارب علوما
لم تكن، ولا بمساعدة شريك أعانه عليها. فتم خلقه بأمره إشارة إلى قوله:
"ولم يستصعب إذ أمر بالمضي "؟ فلما أثبت هناك كونها امرت أعاد لفظ
الأمر ها هنا، والكل مجاز، ومعناه نفوذ إرادته، وأنه إذا شاء أمرا استحال ألا
يقع، وهذا المجاز هو المجاز المستعمل في قوله تعالى: مال!إنما أمزه إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ! (سورة يس82 )؟ تعبيرا بهذا اللفظ عن سرعة
مواتاة الأمور له، وانقيادها تحت قدرته. ثم قال: ليس كالواحد منا يعترض دون مراده
ريث وبطء، وتأخير والتواء. ثم قال: وأقام العوج وأوضح الطريق،وبهع بين الأمور المتضادة،
ألا ترى أنه جمع في بدن الحيوانات والنبات بين الكيفيات المتباينة المتنافرة، من
الحرارة والبرودة، والرطوبة واليبوسة، ووصل أسباب أنفسها بتعديل أمزجتها، لأن
اعتدال المزاج أو القرب من الإعتدال سبب بقاء الروح، وفرقها أجناسا مختلفات
الحدود والأقدار، والخلق والأخلاق والأشكال. امور عجيبةبديعة مبتكرة الصنعة، غير محتذ بها حذو صانع سابق، بل نحلوقة على غيرمثال، قد أحكم سبحانه صنعها، وخققها على موجب ما
أراد، وأخرجها من العدم المحض إلى الوجود، وهو معنى الابتداع، فإن الخلق في الإصطلاح النظري على قسمين: أحدهما صورة تخلق في
مادة، والثاني ما لا مادة له، بل يكون وجود الثاني من الأول فقط، من غير تولسط
المادة، فالأول يسمى التكوين، والثاني يسمى الإبداع، ومرتبة الإبداع أعلى من
مرتبة التكوين. *** الأصلى: ومنها في صفة
السماء: ونظم بلا تعليق رهؤات فرجها، ولاحم صدوغ أنفراجها، ووشج بينهاوبين
أزواجها، وذلل للهابطين بأمره، والصاعدين بأعمال خلقه حزونة معراجها، وناداها بعد
إذ هي دخان، فالتحمت عرا أشراجها، وفتق بعد الارتتاق صوامت أبوابها، وأقام رصدا
من الشهب الثواقب على نقابها، وأمسكها من أن تمور في خرق الهواء بأيده، وأمرها
أن تقف مستسلمة لأمره، وجعل شمسها اية مبصرة لنهارها، وقمرها آية ممحوة من
ليلها، وأجراهما في مناقل مجراهما، وقدر سيرهما في مدارج درجهما، ليميز بين
الليل والنهار بهما، وليعلم عدذ السنين وألحساب بمقاديرهما، ثم علق في جوها
فلكها، وناط بها زينتها، من خفيات دراريها، ومصابيح كواكبها، ورمى مسترقي السمع
بثواقب شهبها، وأجراها عقى أذلال تسخيرها، من ثبات ثابتها، ومسير سائرها،
وهبوطها وصعودها، ونحوسها وسعودها. الشرح: الرهوات: جمع رهوة، وهي المكان
المرتفع والمنخفض أيضا، يجتمع فيه ماء المطر، وهو من الأضداد. والفرج: جمع فرجة، وهي المكان الخالي. ولاحم: ألصق. والصدع: الشق. ووشج، بالتشديد، أي شبك. ووشجت العروق والأغصان، بالتخفيف: اشتبكت،
وبيننا رحم واشجة، أي مشتبكة. وأزواجها: أقرانها وأشباهها، قال تعالى:
!وكنتم ازواجا ثلاثة! (سورة الواقعة7 )، أي أصنافا ثلاثة.والحزونة: ضد السهولة. وأشراجها: جمع شرج؟ وهو عرا
العيبة؟ وأشرجت العيبة، أي أقفلت أشراجها، وتسمىمجرة السماء شرجا؟ تشبيها بشرج
العيبة؟ وأشراج الوادي: ما انفسح منه واتسع.والارتتاق: الإرتتاج. والنقاب: جمع
نقب؟ وهو الطريق في الجبل. وتمور: تتحرك وتذهب وتجيء؟ قال تعالى:(يوم تمور السما" مورا ه! (سورة الطور9) والأيد: القوة. وناط بها: علق. والدراري: الكواكب المضيئة، نسبت إلى
الدر لبياضها؟ واحدها ذري، ويجوز كسر الدال، مثل بحر لجي ولجي. والثواقب: المضيئات. وتقول: افعل ما
أمرتك على أذلاله، أي على وجهه؟ ودعه في أذلاله؟ أي على حاله، وأمورالله جارية
على أذلالها؟ أي على مجاريها وطرقها. يقول عليه السلام: كانت
السماء أول ما خلقت غيرمنتظمة الأجزاء، بل بعضها أرفع وبعضها أخفض، فنظمها
سبحانه، فجعلها بسيطا واحدا، نظما اقتضته القدرة الإلهية؟ من غيرتعليق، أي لا
كما ينظم الإنسان ثوبا مع ثوب، أو عقدا مع عقد، بالتعليق والخياطة، وألصق تلك
الفروج والشقوف، فجعلها جسما متصلآ، وسطحا أملس لا نتوات فيه ولا فرج ولا ضدوع،
بل جعل كل جزء منها ملتصقا بمثله، وذلل للملائكة الهابطين بأمره، والصاعدين
بأعمال خلقه- لأنهم الكتبة الحافظون لها-حزونة العروج إليها، وهو الصعود. ثم قال: "وناداها بعد إذ هي "
روي بإضافة "بعد" إلى "إذ" وروي بضم "بعد"، أي
وناداها بعد ذلك إذ هي دخان؟والأول أحسن
وأصوب، لأنها على الضم تكون دخانا بعد نظمه
رهوات فروجها وملاحمة صدوعها؟ والحال تقتفي أن دخانها قبل ذلك لا بعده. فإن قلت: ما هذا النداء؟ قلت: هوقوله: (أئتيا
طوعا او كرها! (سورة ففصلت11)، فهوأمر في اللفظ
ونداء في المعنى، وهو على الحقيقة كناية عن سرعة الإبداع. ثم قال: وفتق بعد
الإرتتاق صوامت أبوابها، هذا صريح في أن للسماء أبوابا، وكذلك قوله: "على
نقابها"، وهو مطابق لقوله سبحانه وتعالى: الا
تفتخ لهم ابواب السماء! (سور الأعراف40)
والقرآن العظيم وكلام هذا الإمام المعظم أولى بالاتباع من كلام الفلاسفة، الذين
أحالوا الخرق على الفلك. وأما إقامة الرصد من الشهب الثواقب، فهو نص القرآن
العزيز (وأنا لمسنا ألسماء فوجدناها ملئت
حرسا شديدا وشهبا " وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له
شهابا رصدا! (سورة الجن8-9): والقول بإحراق
الشهب للشياطين اتباعا لنص الكتاب أولى من قول الفلاسفة الذين أحالوا الإنقضاض
على الكواكب. ثم قال: وأمسكها على الحركة بقوته،
وأمرها بالوقوف فاستمسكت ووقفت. ثم ذكره الشمس والقمرتذكرة مأخوذ منقول الله
تعالى: (وجعلنا ألليل والنهار آيتين فمحونا آيةالليل
وجعلناآية النهار مبصرة ) سورة الإسراء 12 قوله
تعالى: (والشمس تجري لمستقر لها! (سورة
يس28-29)،وقوله: (والقمر قدرناه منازل ! (5)،
وقوله: (ولتعلموا عدد السنين وألحساب ! (سورة
يونس5). ثم قال: (ثم علق في جوها فلكها") وهذا
يقتضي أن الفلك غير السماء، وهو خلاف قول الجمهور، وقد قال به قائلون، ويمكن أن
نفسر ذلك إذا أردنا موافقة قول الجمهور بأنه أراد بالفلك دائرة معدل النهار،
فإنها الدائرة العظمى في الفلك الأعظم، وهي في الإصطلاح النظري تسمى فلكا. ثم ذكر أنه زين السماء الدنيا بالكواكب،
وأنها رجوم لمسترقي السمع، وهو مأخوذ من قوله تعالى: (إنا زينا السماءالدنيا بزينة الكواكب كلو وحفظا من كل شيطان
مارد! لا يسمعون إلى المل! الأعلى ويقذفون من كل جانب " دحورا ولهم عذاب
واصب (سورة الصاات 6-9). ثم شرح حال الدنيا فقال: "من ثبات
ثابتها"، يعني الكواكب التي في كرة البروج و "مسير سائرها"، يعني
الخمسة والنيرين لأنها سائرة دائما. ثم قال: "وصعودها وهبوطها"، وذلك أن
للكواكب السيارة صعودا في الأوج، وهبوطا في الحضيض، فالأول هو البعدالأبعد عن
المركز، والثاني البعد الأقرب. فإن قلت: ما باله عليه السلام قال: "ونحوسها وسعودها"، وهو القائل لمن أشار عليه ألا يحارب في يوم مخصوص: "المنجم
كالكاهن، والكاهن كالساحر، والساحر كالكافر، والكافر في النار"؟ قلت: إنه عليه السلام إنما أنكر في ذلك القول على من يزعم أن النجوم
مؤثرة في الأمور الجزئية، كالذين يحكمون لأرباب المواليد وعليهم، وكمن يحكم في
حرب أو سلم، أو سفر أو مقام، بأنه للسعد أو النحس، وأنه لم ينكر على من قال: إن
النجوم تؤثر سعودا ونحوسا في الأمور الكلية، نحوأن تقتفي حرا أو بردا، أو تدل
على مرض عام أو قحط عام، أو مطر دائم،
ونحو ذلك من الأمور التي لا تخص إنسانا بعينه، وقد قدمنا في ذلك الفصل ما يدل
على تصويب هذا الرأي، وإفساد ما عداه. الأصل: ومنها في صفة الملائكة: ثم خلق سبحانه لإسكان سمواته، وعمارة الصفيح الأعلى
من ملكوته، خلقا بديعا من ملائكته، وملأ بهم فروج فجاجها، وحشى بهم فتوق أجوائها،
وبين فجوات تلك الفروج زجل المسبحين منهم في حظائر ألقدس، وسترات ألحجب وسرادقات
المجد، ووراء ذلك الرجيج ألذي تستك منه الأسماع سبحات نور تردع الأبصار عن
بلوغها فتقف خاسئة على حدودها. وأنشأهم على صور مختلفات، وأقدار
متفاوتات، أولي أجنحة تسبح جلال عزته، لا ينتحلون ما ظهر في الخلق من صنعه، ولا
يدعون أنهم يخلقون شيئا معه مما أنفرد به، (بل
عباد مكرمون- لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون ة! (سوررة الأنبياء26-27) جعلهم الله فيما هنالك أهل الأمانة على وحيه وحملهم إلى المرسلين
ودائع أمره ونهيه، وعصمهم من ريب الشبهات، فما منهم زاع عن سبيل مرضاته. وأمدفم بفوائد المعونة، وأشعر قلوبهم تواضع إخبات
السكينة، وفتح لهم أبوابا ذللا إلى تماجيده، ونصب لهم منارا واضحة على أعلام
توحيده، لم تثقلهم مؤصرات الآثام، ولم ترتحلهم عقب الليالي والأيام، ولم ترم
الشكوك بنوازعها عزيمة إيمانهم، ولم تعترك الظنون على معاقد يقينهم، ولا قدحت
قادحة الإحن فيما بينهم، ولا سلبتهم الحيرة ما لاق من معرفته بضمائرهم، وما سكن
من عظمته وهيبة جلاله في أثناء صدورهم، ولم تطمع فيهم الوساوس فتقترع برينها على
فكرهم. ومنهم من هو في خلق الغمام الدلح، وفي عظم 2 لجبال الشمخ،
وفي قترة الظلام الأيهم. ومنهم منقد خرقت أقدامهم تخوم الأرض السفلى؟ فهي كرايات
بيض قد نفذت في مخارق الهواء، وتحتها ريح هفافة تحبسها على حيث أنتهت من ألحدود
ألمتناهية؟ قد أستفرغتهم أشغال عبادته، ووصلت حقائق الإيمان بينهم وبين معرفته،
وقطعهم الإيقان به إلى ألوله إليه، ولم تجاوز رغباتهم ما عنده إلى ما عند غيره. قد ذاقوا حلاوة معرفته، وشربوا بالكأس ألروية من
محبته، وتمكنت من سويداوات قفوبهم وشيجة خيفته، فحنوا بطول الطاعة أعتدال
ظهورهم، ولم ينفد طوذ ألركبة إليه مادة تضرعهم، ولا أطلق عنهم عظيم الزلفة ربق
خشوعهم، ولم يتولهم الإعجاب فيستكث!وا ما سلف منهم، ولا تركت لهم أستكانة
الإجلال نصيبا في تعظيم حسناتهم. ولم تجر ألفترات فيهم على طول دءوبهم، ولم تغض
ركباتهم فيخالفوا عن رجاء ربهم، ولم تجف لطول ألمناجاة أسلات ألسنتهم، ولا
ملكتهم الأشغال فتنقطع بهمس الجؤار إليه أصواتهم، ولم تختلف في مقاوم الطاعة
منحبهم، ولم يثنوا إلى راحة التقصير في أمره رقابهم. ولا تعدو على عزيمة جدهم بلادة ألغفلات، ولا تنتضل
في هممهم خدائع الشهوات. قد أتخذوا ذا العرش !خيرة ليوم فاقتهم، ويمموه عند
أنقطاع ألخلق إلى المخلوقين برغبتهم، لا يقطعون أمد غاية عبادته، ولا يرجع بهم
ألاستهتار بلزوم طاعته، إلا إلى مواد من قلوبهم غير فنقطعة من رجائه ومخافته، لم
تنقطع أسباب الشفقة منهم فينوا في جدهم، ولم تا!سرهم الأطماع فيوثروا وشيك السعي
على أجتهادهم. لم يستعظموا ما مضى من أعمالهم، ولو أستعظموا ذلك لنسخ ألرجاء
منهم شفقات وجلهم، ولم يختلفوا في ربهم باستحواذ الشيطان عليهم. ولم يفرقهم سوء التقاطع، ولا تولاهم غل التحاسد،
ولا تشعبتهم مصارف ألريب، ولا أقتسمتهم أخياف ألهمم، فهم أسراء إيمان لم يفكهم
من ربقته زيغ ولا عدول، ولا ونى ولا فتور، وليس في أطباق السماء موضع إهاب إلا
وعليه ملك ساجد، أو ساع حافد، يزدادون على طول الطاعة بربهم علما، وتزداد عزة
ربهم في قلوبهم عظما. *** الشرح: هذا موضع
المثل: "إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل " (1)! إذا جاء هذا الكلام
الرباني، واللفظ القدسي،بطلت فصاحة العرب، وكانت نسبة الفصيح من كلامها إليه،
نسبة التراب إلى النضار الخالص، ولو فرضنا أن العرب تقدر على الألفاظ الفصيحة
المناسبة، أو المقاربة لهذه الألفاظ، من أين لهم المادة التي عبرت هذه الألفاظ
عنها؟ ومن أين تعرف الجاهلية بل الصحابة المعاصرون لرسول الله عب هذه المعاني
الغامضة السمائية؟ ليتهيأ لها التعبير عنها! أما الجاهلية فإنهم إنما كانت ئظهر
فصاحتهم في صفة بعير أو فرس أو حمار وحش، أو ثور فلاة، أو صفة جبال أو فلوات؟
ونحو ذلك. وأما الصحابة فالمذكورون منهم بفصاحة إنما كان
منتهى فصاحة أحدهم كلمات لا تتجاوز السطرين أو الثلاثة، إما في موعظة تتضمن ذكر
الموت أو ذم الدنيا، أو ما يتعلق بحرب وقتال؟ من ترغيب أو ترهيب؟ فأما الكلام في
الملائكة وصفاتها، وصورها وعباداتها، وتسبيحها ومعرفتها بخالقها وحبها له،
وولهها إليه، وما جرى مجرى ذلك مما تضمنه هذا الفصل على طوله، فإنه لم يكن
معروفا عندهم على هذا التفصيل؟ نعم ربما علموه جملة غيرمقسمة هذا التقسيم، ولا
مرتبة هذا الترتيب؟ بما سمعوه من ذكر الملائكة في القرآن العظيم؟ وأما من عنده علم من هذه المادة، كعبد
الله بن سلام وأمية بن أبي الصلت وغيرهم؟ فلم تكن لهم هذه العبارة، ولا قدروا
على هذه الفصاحة، فثبت أن الأمور الدقيقة في مثل هذه العبارة الفصيحة، لم تحصل
إلا لعلي وحده؟ وأقسم أن هذا الكلام إذا تأمله اللبيب
اقشعر جلده، ورجف قلبه، واستشعر عظمة الله العظيم في روعه وخلده، وهام نحوه وغلب
الوجد عليه؟ وكاد أن يخرج من مسكه شوقا؟ وأن يفارق هيكله صبابة ووجدا. ثم نعود إلى التفسيرفنقول: الصفيح الأعلى: سطح الفلك الأعظم؟ ويقال لوجه كل
شيء عريض: صفيح وصفحة، والفروج: الأماكن الخالية. والفجاج: جمع فج، والفج:
الطريق الواسع بين جبلين أو حائطين وأجوائها: جمع جو، وهو ما اتسع من الأودية،
ويقال لما بين السماء والأرض جو، ويروى: "أجوابها"، جمع جوبة، وهي
الفرجة في السحاب وغيره ويروى: "أجوازها" جمع جوز، وهو وسط الشيء.
والفجوات: جمع فجوة، وهي الفرجة بين الشيئين؟ تقول منه: تفاجى الشيء، إذا صار له
فجوة، ومنه الفجاء، وهوتباعد ما بين غرقوبي البعير. والزجل: الصوت. وحظائر القدس: لفظة وردت
في كلام رسول الله عب، وأصل "الحظيرة" ما يعمل شبه البيت للإبل من
الشجر ليقيها البرد؟ فسمى عليه السلام تلك المواطن الشريفة المقدسة العالية التي
فوق الفلك حظائر القدس، والقدس بتسكين الدال وضمها: الطهر، والتقديس: التطهير،
وتقدس: تطهر. والأرض المقدسة المطهرة، وبيت المقدس أيضا، والنسبة إليه قدلمي
ومقدلمي. والسترات: جمع شترة. والرجيج: الزلزلة والاضطراب؟
ومنه ارتج البحر. وتستك الأسماع: تنسد، قال النابغة: ونبئت خيرالناس أنك لمتني وتلك التي تستك منها المسامع سبحات النور، بضم السين والباء: عبارة عن
جلالة الله تعالى وعظمته. وتردع الأبصار تكفها. وخاسئة، أيسادرة، ومنه: !ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير! (سورة الملك4)، وخسأ بصره، خسأ وخسوءا، أي سدر (اي:كلا وأعيا). وقوله: "على حدودها" أي تقف
حيث تنتهي قوتها، لأن قوتها متناهية؟ فإذا بلغت حدها وقفت. وقوله: "أولي
اجنحة" من الألفاظ القرانية (جاعلا
الملائكة رسلا أولي أجنحة).(سورة فاطر) وقوله: "لا ينتحلون ما ظهرا في
الخلق من صنعة"، أي لا يدعون الإلهية لأنفسهم، وإن كان قوم من البشر
يدعونها لهم. وقوله: "لا يدعون أنهم يخلقون شيئا معه مما انفرد به "، فيه إشارة إلى مذهب أصحابنا في أن أفعال العباد مخلوقة
لهم، لأن فائدة هذا القيد، وهو قوله:
"انفرد به " إنما تظهر بذلك. وأما الايات المقدسة، فالرواية
المشهورة "مكرمون " وقرىء: "مكرمون
" بالتشديد، وقرىء " لا يسبقونه " بالضم، والمشهور القراءة
بالكسر، والمعنى
أنهم يتبعون قوله، ولا يقولون شيئا حتى يقوله، فلا يسبق قولهم قوله، وأراد أن
يقول: "لا يسبقونه بقولهم "، فحذف الضمير المضاف إليه، وأناب اللام
منابه.ثم قال: "وهم بأمره يعملون "؟ أي كما أن قولهم تابع لقوله؟
فعملهم أيضا كذلك فرع على أمره، لا يعملون عملا ما لم يؤمروا به، وجاء في الخر المرفوع عن
رسول الله عله: "أنه رأى جرائيل ليلة
المعراج ساقطا كالحلس من خشية الله
".والحلس: الكساء الخفيف. والزائغ: العادل عن الطريق،
والإخبات: التذلل والإستكانة. وأبوابا ذللا، أي سهلة وطيئة، ومنه: دابة ذلول؟
وتماجيده: الثناء عليه بالمجد. والمؤصرات: المثقلات والإصر: الثقل. وتقول: ارتحلت البعير، أي ركبته،
والعقبة: النوبة، والجمع غقب. ومعنى قوله: "ولم ترتحلهم عقب الليالي
والأيام ". أي لم تؤلر فيهم نوبات الليالي والأيام وكرورها، كما يؤثر
ارتحال الإنسان البعير في ظهره. ونوازعها: شهواتها النازعة المحركة، وروي:
"نوازغها" بالغين المعجمة، من نزغ بينهم، أي أفسد. ولم تعترك الظنون، أي لم تزدحم الظنون
على يقينهم الذي عقدوه. والإحن: جمع إحنة، وهي الحقد، يقول: لم
تقدح قوادح الحقد في ضمائرهم.وما لاق، أي ما التصق، وأثناء صدورهم: جمع ثني وهي
التضاعيف. والرين: الدنس والغلبة، قال تعالى:
(كلابل ران على قلوبهم ! (سورة المطففين82).وتقترع،
من الإقتراع بالسهام، بأن يتناوب كل من الوساوس عليها. ويروى: "فيفترع
" بالفاء، أي تعلو برينها، فرعه، أي علاه. والغمام: جمع غمامة، وهي السحابة.
والدلح: الثقال، جاء يدلح بجمله، أي جاء مثقلا به. والجبال الشمخ:العالية
الشاهقة. وقوله: "في قترة الظلام "، أي
سواده. والأيهم: لا يهتدى فيه، ومنه فلاة يهماء. والتخوم، بضم التاء: جمع تخم
وهو منتهى الأرض أو القرية، مثل فلس وفلوس، ويروى: "تخوم " بفتح التاء
على أنها واحد، والجمع تخم مثل صبور وصبر. وريح هفافة؟ أي ساكنة طيبة؟ يقول: كأن
أقدامهم التي خرقت الهواء إلى حضيض الأرض رايات بيض تحتها ريحساكنة ليس! مضطربة؟
فتموج تلك الرايات؟ بل هي ساكنة تحبسها حيث انتهت، وجاء في الخبرأن لإسرافيل
جناحين أحدهما في أقمى المشرق والاخر يخا أقمى المغرب، وأن العرش على كاهله،
وإنه ليتضاءل أحيانا لعظمة الله، حتى يعود مثل الوضع وهو العصفور. ثم قال: "قد استفرغتهم أشغال عبادته
تعالى" أي جعلتهم فارغين إلا منها. ويروى: "ووسلت حقائق الإيمان
"،بالسين المشددة، يقال: وسل فلان إلى ربه وسيلة، والوسيلة ما يتقرب به؟
والجمع وسيل ووسائل؟ ويقال: وسلت إليه وتوسلت إليه بمعنى. وسويداوات القلوب: جمع سويداء؟ وهي حبة.
القلب. والوشيجة في الأصل: عرق الشجرة، وهي هنا استعارة.وحنيت ضلعي، أي عوجتها.
والربق: جمع ربقة؟ وهي الحبل. قوله: "ولم يتولهم الإعجاب "؟
أي لم يستول عليهم. والدؤوب: الجد والإجتهاد. والأسلات: جمع أسلة؟ وهيطرف اللسان
ومستدقه، والجؤار: الصوت المرتفع، والهمس: الصوت الخفي، يقول: ليست لهم أشغال
خارجة عن العبادة، فيكون لأجلها أصواتهم المرتفعة خافية ساكنة. لا تعدو، من عدا
عليه، إذا قهره وظلمه، وهو هاهنا استعارة. ولا تنتضل الخدائع في هممهم؟ استعارة
أيضا من النضال؟ وهو المراماة بالسهام. وذو العرش: هو الله تعالى؟ وهذه!ه
قرآيخة؟ قال سبحانه:!إذا لابتغوا إلى ذي
العرش سبيلا! (سورة الإسراء42).
يعني لابتغوا إلى الله تعالى سبيلا. وقال
تعالى: !ذو ائعرش المجيد، فعال لما يريد (سورة البروج 15-16)،
والاستهتار: مصدر استهتر فلان بكذا، أي لازمه وأولع به. وقوله: " فينوا " أي فيضعفوا؟
وني: يني. والجد: الإجتهاد والإنكماش. ثم قال: إنهم لا يستعظمون عبادتهم، ولو
أن أحدا منهم استعظم عبادته لأذهب خوفه رجاءه الذي يتولد من استعظامتلك العبادة؟
يصفهم بعظم التقوى.والإستحواذ: الغلبة، والغل: الحقد، وتشعبتهم: تقسمتهم وفرقتهم؟ ومنه قيل للمنية
شعوب، أي مفرقة. وأخياف الهمم، أي الهمم المختلفة؟ وأصله من الخيف؟ وهو كحل إحدى
العينين دون الأخرى؟ ومنه المثل: الناس أخياف؟ أي مختلفون، والإهاب: الجلد.
والحافد: المسرع؟ ومنه الدعاء: اللهم إليك نسعى ونحفد. *** واعلم أنه عليه السلام إنما كرر وأكد
صفاتهم بما وصفهم به؟ ليكون ذلك مثالا يحتذي عليه أهل العرفان من البشر؟ فإن
أعلى درجات البشر أن يتشبه بالملك، وخلاصة ذلك أمور :منها العبادة القائمة، ومنها ألا يدعي أحذ لنفسه الحول!
والقوة، بل لا حول ولا قوة، ومنها أن يكون متواضعا ذا سكينةووقار، ومنها أن يكون ذا يقين لا تقدخ فيه
الشكوك والشبهات، ومنها ألا يكون في صدره إحنة (3) على
أحد من الناس، ومنها شدة التعظيم والهيبة لخالق الخلق، تبارك
اسمه، ومنها أن تستفرغه أشغال العبادة له عن
غيرها من الأشغال، ومنها أنه لا تتجاوزرغباته مما عند
الله تعالى إلى ما عند غيره سبحانه، ومنها أن يعقد ضميره وقلبه على محبة الله
تعالى، ويشرب بالكأس الروية من حبه، ومنها عظم التقوى بحيث يأمن كل شيء عدا
الله، ولا يهاب أحدا إلا الله، ومنها الخشوع والخضوع والإخبات والذل
لجلال عزته سبحانه، ومنها ألا يستكثر الطاعة والعمل، وإن
جل وعظم، ومنها عظم الرجاء الواقع في مقابلة عظم الخوف؟ فإن الله تعالى يحب أن
يرجى، كما يحب أن يخاف. أبحاث
تتعلق بالملائكة! واعلم أنه يجب أن تعلم أبحاث متعددة
تتعلق بالملائكة ويقصد فيها قصد حكاية المذهب خاصة، ونكل الاحتجاج والنظرإلى ما
هومذكور في كتبنا الكلامية. البحث الأول: في وجود الملائكة، قال قوم من الباطنية: السبيل إلى إثبات
الملائكة هو الحس والمشاهدة؟ وذلك أنالملائكة عندهم أهل الباطن. وقالت الفلاسفة: هي العقول المفارقة؟ وهي جواهر مجردة عن المادة لا تعلق لها
بالأجسمام تدبيرا، واحترزوا بذلك عن النفوس؟ لأنها جواهر مفارقة إلا أنها تدبر
الأبدال!، وزعموا أنهم أثبتوها نظرا. وقال أصحابنا المتكلمون: الطريق إلى إثبات الملائكة الخبر الصادق المدلول على صدقه؟ وفي
المتكلمين من زعم أنه أثبت الملائكة بطريق نظري؟ وهو أنه لما وجد خلقا من طين
وجا في العقل أن يكون في المخلوقات خلق من الهواء وخلق من النار فالمخلوق من
الهواء هو الملك، والمخلوق من النار هو الشيطان. البحث الثاني: في بنية الملائكة، وهيئة تركيبهم، قال
أصحابنا المتكلمون: إن الملائكة أجسائم لطاف،
وليسوا من لحمودم وعظام، كما خلق البشر من هذه الأشياء. وقال أبو حفص المعود القرينسي من
أصحابنا: إن الملائكة من أجسام من لحم وعظم، إنه لا فرق بينهم وبين البشر؟ وإنما
لم يروا لبعد المسافة بيننا وبينهم. وقد تبعه على هذا القول جماعة من
معتزلة ما وراء النهر، وهي مقالة ضعيفة
لأن القرآن يشهد بخلافه في قوله: ورسلنالديهم
يكتبون، (سورة التحريم 6)، وقوله: وإذ يتلقى ألمتلقيان عن أليمين وعن الشمال قعيذ (سورة الزخرف 80)،
فلو كانوا أجساما كثيفة كأجسامنا لرأ ينا هم. *** البحث الثالث: في تكليف الملائكة، حكي عن قوم من الحشوية أنهم يقولون: إن
الملائكة مضطرولن إلى جميع أفعالهم، وليسوا مكلفين.وقال جمهور أهل النظر: إنهم
مكلفون. وحكي عن أبي إسحاق النظام، أنه قال:
إن قوما من المعتزلة قالوا: إنهم جبلوا على
الطاعة لمخالفة خلقهم خلقة المكلفين، وأنهم قالوا: لو كانوا مكلفين لم يؤمن أن
يعصوا فيما امروا به، وقد قال تعالى: لا
يعصون الله ما امرهم ويفعلون ما يؤمر ون ! (سورة الزخرف 80). وقال قوم: إن أكثر الملائكة مكلفون، وإن فيهم من ليس بمكلف بل هو مسخر
للملائكة المكلفين، كما أن في الحيوانات ما هو غيرمكلف، بل هو مسخر للبشر ومحلوق
لمصالحهم. قالوا: ولا ننكر أن يكون الملائكة الذين ذكر منهم أنهم غلظ الأجسام وعظم
الخلق والتركيب بحيث تبلغ أقدامهم إلى قرار الأرض؟ قد جعلوا غمدا للسموات
والأرض؟ فهم يحملونها بمنزلة الأساطين التي تحمل السقوف العالية ولم يرشحوا لأمر
من الأمور سوى ذلك. *** البحث الرابع: فيما يجوز من الملائكة وما لا يجوز؟ قال شيخنا أبو القاسم:
حكى أبو الحسن الخياط عن قدماء المعتزلة،أنه لا يجوز أن يعمي أحذ من الملائكة؟
ولم يذكر عنهم علة في ذلك. وقال قوم: إنهم لا يعصون، ولا يجوز أن يعصوا؟ لأنهم غيرمطيقين الشهوة والغضب،
فلا داعي لهم إلى المعصية؟ والفاعل لا يفعل إلا بداع إلى الفعل. وقال قوم: إنهم لا يعصون، لأنهم يشاهدون من عجائب صنع الله واثار هيبته ما
يبهرهم عن فعل المعصية والقصدإليها، وكذلك قال تعالى: (وهم من خشيته مشفقون). (سورة الأنبياء 28 ). وقال قوم: إنما لم يجز أن يعصوا، لأن الله تعالى أخبرعنهم أنهم لا يعصون، ولا
ينكر مع ذلك أن يكون منهم من يتغيرحاله ويتبدل بها حالة اخرى ويعصي، على ما ورد
من خبر الملكين ببابل، وخبر إبليس، وإنما يسلب عنهم المعصية ما داموا على حالهم
التي هي عليها. وقال شيوخنا أصحاب أبي هاشم رحمه
الله تعالى: إن المعصية تجوز عليهم، كما تجوز علينا،
إلا أن الله تعالى علم أن لهم ألطافا يمتنعون معها من القبيح لفعلها، فامتنعوا
من فعل القبيح اختيارا، فكانت حالهم كحال الأنبياء من البشريقدرون على المعصية
ولا يفعلونها، اختيارا من أنفسهم باعتبار الألطاف المفعولة لهم، ولوكان لإبليس
أو فرعون أو نمرود ألطاف يعلم الله تعالى إذا فعلها فعلوا الواجب، وامتنعوا من
فعل القبيح لفعلها بهم، ولكانوا معصومين كالأنبياء والملائكة، لكنه تعالى علم
أنهم لا يؤمنون ولو فعل مهما فعل، فلا لطف في المعلوم، وهذا عندهم حكم عام لجميع المكلفين من الإنس والجن والملائكة. **** البحث الخامس: في أن أي القبيلين أفضل: الملائكة أو الأنبياء؟ قال أصحابنا: نوع الملائكة أفضل
من نوع البشر، والملائكة المقربون أفضل من نوع الأنبياء، وليس كل ملك عند
الإطلاق أفضل من محمد ص، بل بعض المقربين أفضل منه، وهو عليه السلام
أفضل من ملائكة اخرى غير الأولين، والمراد بالأفضل الأكثرثوابا، وكذلك القول في
موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء. والذي
يحكيه قوم من أرباب المقالات أن المعتزلة قالوا:
ان أدق ملك في السماء أفضل من محمد ص
ليس بصحيح عنهم.، وقال أهل الحديث والأشعرية: ان الأنبياء أفضل من الملائكة. وقال الشيعة: الأنبياء أفضل من
الملائكة، والأئمة أفضل من الملائكة. وقال قوم منهم ومن الحشوية: إن المؤمنين أفضل من الملائكة. *** البحث السادس: في قدم الملائكة وحدوثهم، أما
الفلاسفة القائلون بأنهم العقول المفارقة، فإنهم
يذهبون إلى قدم الملائكة. وقال غيرهم من أهل الملل: إنهم محدثون. وقال قوم من متأخري الحكماء: إن نفوس البشر إذا فارقت الأبدان بالموت بقيت قائمة بأنفسها
غيرمدبرة لشيء من الأبدان، فإن كانت خيرة
صالحة فهي الملائكة، وإن كانت شريرة رديئة الجوهر فهي
الشياطين؟ فالملائكة عند هؤلاء محدثون؟ وعندهم أن هذه النفوس تساعد نفوسا اخرى
متعلقة بتدبير الأبدان، إما على الخيرأو على الشر، فما ينسب في الكتب الإلهية
إلى إغواء الشياطين للناس وإضلالهم، فالمراد به تلك النفوس الشريرة، وما ينسب
فيها إلى إعانة الملائكة لهم على الخيروالصلاح، فالمراد به تلك النفوس الخيرة. *** البحث السابع : في إبليس، أهو من الملائكة أو ليس منها؟ قال شيخنا أبو عثمان وجماعة من أصحابنا: إنه من الملائكة،ولذلك استثناه الله تعالى، فقال: (فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس). (سورةص 73-74). وقال قوم: إنه كان من الملائكة بدلالة هذه الآية، لكن الله مسخه حيث خالف
الأمر، فهو بعد المسخ خارج عن الملائكة، وقد كان قبل ذلك ملكا، قالوا: ومعنى
قوله: (كان من الجن ! أي من خزان الجنة، وروي
ذلك عن ابن عباس، قالوا: ويحمل على معناه أنه صار من
الجن، فيكون "كان " بمعنى إصار" كقوله تعالى: (كيف نكلم من كان في المهد صبيا! (سورة مريم 29) 0 أي من صار، لأنها لوكانت "كان " على حقيقتها، لوجب ألا
يكفم بعضهم بعضا، لأنهم كانوا صبيانا في المهود. قالوا: ومعنى صيرورته من الجن صيرورته ضالأ، كما أن الجن ضالون، لأن الكفار بعضهم من بعض، كما قال تعالى: (و المنافقون وألمنافقات بعضهم من بعض ). (سورة التوبة 69). وقال معظم أصحابنا: إن إبليس ليس من الملائكة، ولا كان منها، وإنما استثناه الله تعالى
منهم، لأنه كان مأمورا بالسجود معهم، فهومستثنى من عموم المأمورين بالسجود، لا
من خصوص الملائكة. **** البحث الثامن: في هاروت وماروت ، هل هما من الملائكة أم لا؟ قال جمهور أصحابنا: إنهما
من الملائكة، وإن القران العظيم قد صرح بذلك في قوله: (وما انزل على الملكين ببابل هاروت وماروت )(سورة البقرة)، وإن الذي أنزل عليهما هو علم السحر، ابتلاء من كالله تعالى للناس،
فمن تعلمه منهم وعمل به كان كافرا، ومن تجنبه أوتعلمه لا ليعمل به ولكن ليتوقاه
كان مؤمنا: قالوا: وما كان هذان الملكان يعلمان أحدا حتى ينبهاه وينهياه
وينصحاه، ويقولا له: (أنما نحن فتنة )، أي ابتلاء واختبارمن الله، (فلا
تكفر)، ولا تتعلمه معتقدا أنه حق. وحكي عن الحسن البصري أن هاروت وماروت علجان أقلفان
(2) من أهل بابل، كانا يعلمان الناس السحر، وقرأ الحسن:( على الملكين ببابل
) بكسر اللام. وقال قوم: كانا من الملائكة، فعصيا الله تعالى بالحيف في الحكومة، وقد كان
استقضاهما في الأرض، وركب فيهما الشهوة والغضب، على نحو ما ركب في البشر،
امتحانا لهما، لأنهما قد كانا عيرا البشر بالمعصية، فلما عصيا حبسمهما الله
تعالى وعاقبهما بعذاب معجل، وألهمهما كلاما إذا تكلما به سكن بعض ما بهما من
الآلم، وإن السحرة يستمعون ذلك الكلام فيحفظونه، ويفرقون به بين المرء وزوجه،
فإنهما يتقدمان إلى من يحضرهما عندما يتكلمان بالزجر عن العمل بذلك الكلام،
ويقولان: (إنما نحن فتنة فلا تكفر)، وهما لم يكفرا، ولا دعوا إلى السحر؟ وإن عذابهما سيقطع وقد جاء في الأخبار
مما يوافق هذا. وقال قوم من الحشوية: إنهما شربا الخمر وقتلا
النفس، وزنيا بامرأة اسمها "باهيد" فمسخت؟ وهي الزهرة التي في السماء. الأصل: ومنها في صفة الأرض
ودحوها على الماء: كبس الأرض على مور أمواج مستفحلة، ولججبحار زاخرة،
تلتطم اواذي أمواجها، وتصطفق متقاذفات أثباجها، وتركوزبدا كالفحول عند هياجها،
فخضع جماح الماء المتلاطم لثقل حملها، وسكن هيج 2 رتمائه إذ وطئته بكلكلها، وذل
مستخذيا إذ تمعكت عليه بكواهلها؟ فأصبح بعد أصطخاب أمواجه ساجيا مقهورا، وفي
حكمة الذل منقادا أسيرا، و!سكنت الأرض مدحوة في لجة تياره، وردت من نخرة باوه
وأعتلائه، وشفوخ أنفه وسمو غلوائه، وكعمته على كظة جريته، فهمد بعد نزقاته، ولبد
بعد زيغان وثباته. فلما سكن هيج الماء من تحت أكنافها، وحمل
شواهق ألجبال الشمخ ألبذخ على أكتافها، فخر ينابيع ألعيون من عرانين انوفها،
وفرقها في سهوب بيدها وأخاديدها، وعدل حركاتها بالراسيات من جلاميدها، وذوات
الشناخيب الشم من صياخيدها، فسكنت من الميدان لرسوب ألجبال في قطع أديمها،
وتغلغلها متسربة في جوبات خياشيمها، وركوبها أعناق سهول الأرضين وجراثيمها، وفسح
بين ألجو وبينها، وأعد ألهواء متنسما لسمحنها، وأخرج إليها أهلها على تمام
مرافقها. ثم لم يدع جزز الأرض التي تقصر مياه ا
لعيون عن روابيها، ولا تجد جداول الأنهار ذريعة إلى بلوغها،حتى أنشا لها ناشئة
سحاب تحي مواتها، وتستخرج نباتها؟ ألف غمامها بعد أفتراق لمعه، وتباين قزعه، حتى
إذا تمخضت لجة المزن فيه، والتمع برقه في كففه، ولم ينم وميضه في كنهور ربابه،
ومتراكم سحابه، أرسلة سحا متداركا، قد أسف هيدبه، يمري ألجنوب درر أهاضيبه، ودفع
شابيبه. فلما ألقت السحاث برك بوانسيها، وبماع ما
أمستقلت به من العبء المحمول عليها، أخرج به من هوامد الأرض النبات، ومن زعر
الجبال الأعشاب، فهي تبهج بزينة رياضها، وتزدهي بما ألبسته من ريط أزاهيرها،
وحلية ما سمطت به من ناضر أنوارها، وجعل ذلك بلاغاً للأنام، ورزقاً للأنعام،
وخرق الفجاج في أفاقها، وأقام المنار للسالكين على جواد طرقها. *** الشرح: كبس
الأرض، أي أدخلها في الماء بقوة واعتماد شديد، ويقال لضرب من التمر: الكبيس لأنه يكبس حتى يتراص. والمور: مصدر مار أي ذهب وجاء. ومستفحلة: هائجة هيجان الفحول. واستفحل الأمر: تفاقم واشتد. وزاخرة، زخر الماء أي امتد جداً
وارتفع. والأثباج هاهنا: أعالي
الأمواج، وأصل الثب: ما بين الكاهل إلى
الظهر فنقل إلى هذا الموضع استعارة. وترغو: تصوت صوت البعير، والرغاء: صوت ذات الخف
وفي المثل: كفى برغائها مناديأ أي أن رغاء بعير
المضيف يقوم مقام ندائه للضيافة والقرى. وزبداً
على هذا منصوب بفعل مقدر تقديره: وترغو قاذفة
زبداً، والزبد: ما يظهر فوق السيل يقال: قد أزبد البحر والسيل، وبحر مزبد أي مالح يقذف بالزبد. والفحول عند هياجها فحول الإبل إذا هاجت للضراب. والجموح من الرجال: الذي يركب هواه فلا يمكن رده. وخضع: ذل. وهيج الماء: اضطرابه،
هاج هيجاً وهياجا وهيجاناً واهتاج، وتهيج، كله
بمعنى، أي ثار، وهاجه غيره، يتعدى ولا يتعدى. وهيج ارتمائه، يعني تقاذفه
وتلاطمه، يقال ارتمى القوم بالسهام وبالحجارة ارتماء.
وكلكلها:
صدرها وجاء كلكل وكلكال: وربما جاء في ضرورة
الشعر مشدداً، قال:
والمستخذي:
الخاضع، وقد يهمز. وقيل لأعرابي في مجلس أبي زيد:
كيف تقول: استخذأت؟ ليتعرف منه الهمزة.
واستعار الحكمة هاهنا، فجعل للذل حكمة ينقاد الماء بها ويذل
إليها.
وهذا الكلام استعارة يقال: كسرت الأرض سورة الماء الجامح كما تكسر سورة بأو الرجل
المتكبر المفتخر. والاعتلاء: التيه والتكبر. والشموخ: العلو، مصدر شمخ بأنفه أي تكبر، والجبال الشوامخ: الشاهقة والسمو: العلو، وسمو غلوائه أي غلوه وتجاوزه الحد. والزيفان: التبختر
في المشي، زاف البعير يزيف، والزيافة من
النوق المختالة، ويروى: ولبد بعد زفيان
وثباته، والزفيان: شدة هبوب الريح،
يقال زفته الريح زفياناً، أي طردته، وناقة زفيان:
سريعة، وقوس زفيان: سريعة الإرسال للسهم. وأكنافها: جوانبها، وكنفا الطائر جناحاه،
ويقال صلاء مكنف، أي أحيط به من جوانبه،
وتكنفه القوم واكتنفوه أحاطوا به. والعرنين أول الأنف تحت مجتمع الحاجبين. والينابيع:
جمع ينبوع، وهو ما انفجر من الأرض عن الماء. والسهوب: جمع سهب، وهو الفلاة. والبيد: جمع بيداء، وهي الفلاة
أيضاً. والراسيات:
الثقال. والشناخيب: رؤوس الجبال. والشم: العالية، والجلاميد: الصخور، واحدها جلمود. والصياخيد:
جمع صيخود، وهي الصخرة الصلبة. والميدان: التحرك والاضطراب، وماد الرجل يميد أي تبختر. ورسوب
الجبال: نزولها رسب الشيء في الماء، أي سفل
فيه، وسيف رسوب: ينزل في العظام. وقوله: في قطع أديمها جمع قطعة، يريد في أجزائها وأبعاضها. ويروى في قطع أديمها، بضم القاف
وفتح الطاء، جمع قطعة وهي القطعة مفروزة من الأرض،
وحكي أن أعرابياً قال ورثت من أبي قطعة. ويروى:
في قطع أديمها، بسكون الطاء، والقطع: طنفسة الرحل، فنقل ذلك إلى هذا الموضع
استعارة، كأنه جعل الأرض ناقة، وجعل لها قطعاً، وجعل الجبال ثابتة في ذلك القطع. وعروقه
متسربة، أي داخلة، تسرب الثعلب أي دخل السرب، وجوبات: جمع جوبة وهي الفرجة في
جبل أو غيره. وخياشيمها: جمع خيشوم وهو أقصى الأنف، وتقول. خشمت الرجل خشماً، أي
كسرت خيشومه. وجراثيمها:
جمع جرثومة، وهي أصل الشجر. وفسح:
أوسع. ومتنسماً، يعني موضع النسيم. والأرض الجرز التي لا نبات فيها لانقطاع
المطر عنها، وهذه من الألفاظ القرآنية والروابي:
التلاع وما علا من الأرض. والجداول: الأنهار الصغار، جمع جدول. والذريعة: الوصلة. والموات،
بفتح الميم: القفر من الأرض، واللمع: جمع لمعة، وهي القطعة من السحاب أو غيره.
وتباين قزعه، القزع: قطع من السحاب رقيقة واحدها قزعة، قال
الشاعر
وفي الحديث "كأنهم قزع الخريف ". وتباينها: افتراقها. وتمخضت:
تحركت بقوة، يقال: تمخض اللبن إذا تحرك في الممخضة، وتمخض الولد: تحرك في بطن
الحامل، والهاء في "فيه " ترجع إلى المزن، أي تحركت لجة المزن في
المزن نفسه، أي تحرك من السحاب وسطه وثبجه. والتمع البرق ولمع أي أضاء، وكففه: جمع كفة.
والكفة كالدارة تكون في السحاب. وكان الأصمعي يقول: كل
ما استطال فهو
كفة بالضم نحو كفة الثوب وهي حاشيته وكفة الرمل، والجمع كفاف، وكل ما استدار فهو كفة بالكسر نحو كفة الميزان،
وكفة الصائد وهي حبالته، والجمع كفف. ويقال أيضاً:
كفة الميزان بالفتح. والوميض: الضياء واللمعان. وسحاً:
صباً، وسحابة سحوح، وتسحسح الماء: سال، ومطر سحساح، أي يسح شديداً. ومتداركاً: يلحق بعضه بعضاً من غير انقطاع. وأسف:
دنا من الأرض. وهيدبه:
ما تهدب منه، أي تدلى كما يتدلى هدب العين على أشفارها. ويمري
الجنوب، وهو بمعنى يحلب ويستدر، ويروى تمتري الجنوب على أن يعدى الفعل إلى
مفعولين، كما تقول حلبت الناقة لبناً. ويروى: تمتري الجنوب وهو بمعنى تمري، من
مريت الفرس وامتريته، إذا استخرجت بالسوط ما عنده من الجري. وإنما خص الجنوب
بذلك لأنها الريح التي يكون عليها المطر. والدرر:
جمع درة، وهي كثرة اللبن وسيلانه وصبه. والأهاضيب:
جمع هضاب، والهضاب: جمع هضب، وهي حلبات القطر بعد القطر. والدفع:
جمع دفعة، بالضم وهي كالدفقة من المطر بالضم أيضاً والشآبيب: جمع شؤبوب وهي رشة
قوية من المطر، تنزل دفعة بشدة، والبرك: الصدر وبوانيها، تثنية بوان على فعال
بكسر الفاء وهو عمود الخيمة، والجمع بون بالضم، قال الشاعر:
ومن
روى: بوانيها أراد لواصقها، من قولك: قوس بانية إذا التصقت بالوتر. والرواية
الأولى أصح. وبعاع السحاب: ثقله بالمطر، قال امرؤ القيس:
والعبء:
الثقل، واستقلت: ارتفعت ونهضت، وهوامد الأرض، هي الأرضون التي لا نبات بها. وزعر
الجبال: جمع أزعر، والمراد به قلة العشب والخلى:
وأصله من الزعر، وهو قلة الشعر في الرأس،
قال:
وقد زعر الرجل يزعر: قل شعره. وتبهج:
تسر وتفرح، تقول: بهجني أمر كذا بالفتح، وأبهجني معاً، أي سرني. ومن رواه بضم الهاء أراد يحسن ويملح، من البهجة،
وهي الحسن، يقال بهج الرجل بالضم، بهاجة، فهو بهيج، أي حسن، قال الله تعالى: "من كل زوج بهيج"، وتقول: قد أبهجت
الأرض بالهمزة، أي بهج نباتها وحسن. وتزدهي، أي تتكبر، وهي
اللغة التي حكاها ابن دريد، قال: تقول: زها الرجل يزهو زهواً، أي تكبر
وعلى هذه اللغة تقول: ازدهى الرجل يزدهي، كما تقول من علا اعتلى يعتلي، ومن رمى
ارتمى يرتمي، وأما من رواها وتزدهى بما البسته على ما لم يسم فاعله، فهي اللغة المشهورة، تقول: زهي فلان علينا، وللعرب
أحرف تتكلم بها على سبيل المفعول به، وإن كانت بمعنى الفاعل، كقولهم: عني
بالأمر، ونتجت الناقة، فتقول على هذه اللغة: فلان يزدهى بكذا. والأزاهير:
النور ذو الألوان. وسمطت به: علق عليها السموط، جمع سمط وهو العقد، ومن رواه
شمطت بالشين المعجمة، أراد ما خالط سواد الرياض من النور الأبيض كالأقحوان
ونحوه، فصارت الرياض كالشعر الأشمط. والناضر ذو النضارة، وهي الحسن والطراوة. وينبغي أن نتكلم في هذا الموضع في
فصول: الفصل الأول: في كيفية
ابتداء خلق الأرض: ظاهر كلام أمير المؤمنين رضي الله عنه أن الماء خلق قبل
الأرض، وقد ذكرنا فيما تقدم أنه قول لبعض الحكماء، وأنه
موافق لما في التوراة إلا أن في كلامه رضي الله عنه في هذا الموضع إشكالاً، وذلك
أن لقائل أن يقول: كلامه يشعر بأن هيجان الماء وغليانه وموجه سكن بوضع الأرض
عليه، وهذا خلاف ما يشاهد، وخلاف ما يقتضيه العقل، لأن الماء الساكن إذا جعل فيه
جسم ثقيل اضطرب وتموج، وصعد علواً، فكيف الماء المتموج يسكن بطرح الجسم الثقيل
فيه والجواب أن الماء إذا كان تموجه من قبل ريح هائجة، جاز أن يسكن هيجانه بجسم
يحول بينه وبين تلك الريح، ولذلك إذا جعلنا في الإناء ماء وروحناه بمروحة تموجه،
فإنه يتحرك، فإن جعلنا على سطح الماء جسماً يملأ حافات الإناء وروحناه بالمروحة
فإن الماء لا يتحرك، لأن ذلك الجسم قد حال بين الهواء المجتلب بالمروحة وبين سطح
الماء، فمن الجائز أن يكون الماء الأول هائجاً لأجل ريح محركة له، فإذا وضعت
الأرض عليه حال بين سطح الماء وبين تلك الريح، وقد
مر في كلام أمير المؤمنين في الخطبة الأولى ذكر هذه الريح، فقال: "ريح
اعتقم مهبها، وأدام مربها وأعصف مجراها، وأبعد منشأها، فأمرها بتصفيق الماء
الزخار، وإثارة موج البحار، فمخضت مخض السقاء، وعصفت به عصفها بالفضاء". الفصل الثاني: في بيان قوله رضي الله
عنه: "فلما
سكن هيج الماء من تحت أكنافها، وحمل شواهق الجبال لبذخ على أكتافها، فجر ينابيع
العيون فيها، وعدل حركاتها بالراسيات من جلاميدها": وذلك لأن العامل في لما
يجب أن يكون أمراً مباينا لما اضيفت إليه، مثاله:
لما قام زيد قام عمرو، فقام الثانية هي العاملة في لما، فيجوز أن تكون أمراً
مبايناً لما أضيف لما إليه، وهو قيام زيد، وهاهنا قد قال رضي الله عنه:
لما حمل الله تعالى شواهق الجبال على الأرض عدل حركات الأرض بالجبال، ومعلوم أن
أحد الأمرين هو الآخر. الفصل الثالث: في قوله: "إن الجبال هي المسكنة للأرض ":
فنقول: إن هذا القول يخالف قول الحكماء لأن سكون الأرض عند الحكماء لم يكن لذلك،
بل لأنها تطلب المركز، وهي حاصلة في حيزها الطبيعي لكنا وإن كان مخالفاً لقول
الحكماء، فإنا نعتقده ديناً ومذهباً، ونعدل عن قول الحكماء، لأن اتباع قوله رضي
الله عنه أولى من اتباع أقوالهم. الفصل الرابع: في ذكر نظائر لما وصف
به المطر والسحاب: فمن ذلك ما
رواه عبد الرحمن، ابن أخي الأصمعي، عن عمه قال: سئل أعرابي عن مطر، فقال: استقل
سد مع انتشار الطفل، فشصا واحزأل، ثم اكفهرت أرجاؤه، واحمومت أرحاؤه، وانزعرت
فوارقه، وتضاحكت بوارقه، واستطار وادقه، وأرسعت جوبه، وارتعن هيدبه، وحسكت
أخلاقه، واستقلت أردافه، وانتشرت أكنافه فالرعد يرتجس، والبرق يختلس، والماء ينبجس،
فأترع الغدر، وأنبت الوجر، وخلط الأوعال بالآجال، وقرن الصيران بالرئال،
فللأودية هدير، وللشراج خرير، وللتلاع زفير، وحط النبع والعنم من القلل الشم إلى
القيعان الصحم، فلم يبق في القلل إلا معصم مجرجم، أو داحض محرجم، وذلك من فضل رب
العالمين، على عباده المذنبين. والطفل: اختلاط الظلام وانتشازه حال غروب الشمس. وشصا: ارتفع وعلا. واحزأل: انتصب. واكفهرت أرجاؤه: غفظت نواحيه وجوانبه وتراكمت. واحمومت:
اسودت مع مخالطة حمرة. وأرجاؤه: أوساطه. وانزعرت: تفرقت. والفوارق: قطع من السحاب تتفرق عنه مثل فرق الإبل
وهي النوق إذا أرادت الولادة فارقت الإبل وبعدت عنها حيث لا ترى. وتضاحكت
بوارقه: لمعت. واستطار: انتشر. والوادق: ذو الودق، وهو مطر كبار. وأرسعت جوبه. أي تلاءمت فرجه والتحمت. وارتعن: استرخى. وهيدبه: ما تدلى منه. وحسكت
أخلافه: امتلأت ضروعه. وأردافه: مآخره. وأكنافه:
نوا حيه، ويرتجس: يصوت، والرجس: الصوت. ويختلس: يستلب البصر. وينبجس ينصب. ف أترع الغدر: ملأها، جمع غدير. وأنبت الوجر: حفرها: جمع وجار وهو بيت الضبع. والآجال:
جمع إجل وهو قطيع البقر، والصيران مثله، جمع صوار. والرئال: جمع رال وهو فرخ النعام. والهدير: الصوت. والشراج:
جمع شرج وهو مسيل الماء إلى الحرة. وخرير الماء. صوته. وزفير التلاع: أن تزفر بالماء لفرط امتلائها. والنبع:
شجر، والعنم: شجر آخر وكلاهما لا ينبت إلا في رؤوس الجبال. والشم: العالية. والصحم:
السود التي تضرب إلى الصفرة، والمعصم: المعتصم الملتجىء. والمجرجم: المتقبض، والداحض: الزالق الواقع. والمجرجم: المصروع. وارتجس: صوت. والهمهمة: صوت الرعد. ودوى: أحدث
دوياً، فأظلم: أعدم الضوء من الأرض بتكاثفه. فأرك، أي
مطر ركاً، والرك: المطر الضعيف، وكذلك الدث والبغش والطش، وفوق ذلك القطقط. وديم: صار
ديمة وهي المطر أياماً لا يقلع. وأغمط، أي دام. وأثجم: أقام. ووبل: جاء بالوابل وهو المطر العظيم: وسجم: صب. وأنعم: بالغ. وقمس: غوص في الماء. وأفرط الزبى: ملأها، جمع زبية وهي حفيرة تحفر للوحوش
في مكان مرتفع. والحزون: جمع حزن، وهو ما غلظ من الأرض. والمتون: جمع محن وهو الصلب من الأرض. وتضحضحت: صار فوقها ضحضاح من الماء وهو الرقيق. قلت: نوء الجبهة
محمود عندهم للمطر، والقزعة: المطعة الصغيرة من السحاب. والقرص: الترس. والعين ما عن يمين قبلة العراق. وترجل
النهار: انبساط الشمس. والأدهم: أحد ليالي السرار، والأحضان: النواحي. واحمومت: اسودت. وبسق: علا. والعنان: ما يعترض من السحاب في الأفق. وانبعجت: انفتقت. وذمرت: حضت والعقائق: البروق. وارتعجت: اهتزت وارتعدت. وطبقاً، أي غطت الأرض. وهضب: جاء بالمطر دفعة فدفعة. وأحسب: كفى. وعل القيعان: سقاها مرة بعد أخرى، والغيطان: جمع
غائط وهو ما سفل من الأرض. وصوح الأضواج:
هدم الأجواف. وأترع
الشراج: ملأ المسيلات. وازلأم: انتصب. والمرتعج: المتدارك والمبتوج: العالي الصوت. والحدج: السحاب أول ما ينشأ. ويبتعج: يشقق. وأثجم: دام متحيراً، أي كأنه قد تحير لا وجه له
يقصده. والهثهاث: المداخل. وأخلافه حاشكة أي ضروعه ممتلئة. ودفعه متواشكة، أي مسرعة. وسوامه متعاركة، شبه قطع السحاب بسوام الإبل. ومنجماً: مقلعاً. ومتهماً: يسير نحو تهامة. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الفصل الخامس
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
في بيان أنه إمام أرباب صناعة البديع
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وذلك
لأن هذا الفن لا يوجد منه في كلام غيره ممن تقدمه إلا ألفاظ يسيرة غيرمقصودة
ولكنها واقعة بالإتفاق كما وقع التجنيس في القرآن العزيز اتفاقاً غير مقصود،
وذلك نحو قوله: "يا أسفا على يوسف"،
وكما وقعت المقابلة أيضاً غير مقصودة في قوله: "والسماء
رفعها ووضع الميزان"، على أنها ليست مقابلة في المعنى، بل من اللفظ
خاصة. ولما
تأمل العلماء شعر امرىء القيس ووجدوا فيه من الإستعارة بيتاً أو بيتين نحو قوله
يصف الليل:
وقوله:
ولم
ينشدوا مثل ذلك في أشعار الجاهلية، حكموا له بأنه إمام الشعراء ورئيسهم. وهذا الفصل من كلام أمير المؤمنين
رضي الله عنه قد اشتمل من الإستعارة العجيبة وغيرها من أبواب البديع على ما لو
كان موجوداً في ديوان شاعر مكثر، أو مترسل مكثر لكان مستحق التقديم بذلك
ألا تراه كيف وصف الأمواج بأنها مستفحلة، وأنها ترغو رغاء فحول الإبل. ثم جعل الماء جماحاً، ثم وصفه بالخضوع، وجعل للأرض
كلكلاً، وجعلها واطئة للماء به، ووصف الماء بالذل والاستخذاء لما جعل الأرض
متمعكة عليه كما يتمعك الحمار أو الفرس، وجعل لها كواهل، وجعل للذل حكمة، وجعل
الماء في حكمة الذل منقاداً أسيراً، وساجياً مقهوراً. وجعل الماء قد كان ذا نخوة وبأو واعتلاء، فردته
الأرض خاضعاً مسكيناً، وطأطأت من شموخ أنفه، ولسمو غلوائه، وجعلها كاعمة له،
وجعل الماء ذا كظة بامتلائه، كما تعتري الكظة المستكثرمن الأكل. ثم جعله
هامداً بعد أن كانت له نزقات، ولأبداً بعد أن كانت له وثبات، ثم جعل للأرض
أكتافاً وعرانين، وأنوفاً وخياشيم ثم نفى النوم عن وميض البرق، وجعل الجنوب
مارية درر السحاب، ثم جعل للسحاب صدراً وبوناً، ثم جعل الأرض مبتهجة مسرورة
مزدهاة، وجعل لها ريطاً من لباس الزهور، وشموطاً تحلى بها. فيالله وللعجب من قوم زعموا أن الكلام إنما يفضل
بعضه بعضاً لاشتماله على أمثال هذه الصنعة، فإذا وجدوا في مائة ورقة كلمتين أو
ثلاثاً منها، أقاموا القيامة، ونفخوا في الصور، ملأوا الصحف بالاستحسان لذلك
والاستظراف، ثم يمرون على هذا الكلام المشحون كله بهذه الصنعة على ألطف وجه،
وأرصع وجه، وأرشق عبارة، وأدق معنى، وأحسن مقصد، ثم يحملهم الهوى والعصبية على
السكوت عن تفضيله إذا أجملوا وأحسنوا، ولم يتعصبوا لتفضيل غيره عليه! على أنه لا عجب، فإنه كلام علي رضي الله عنه، وحظ الكلام
حظ المتكلم وأشبه امرأ بعض بزه. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الفهرس الجزءالسادس باب المختار من الخطب والأوامر - ابن ابي
الحديد.
الحمد
لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله الطاهرين.
قصيدة أبي القاسم المغربي وتعصبه
للأنصار على قريش... المهاجرون والأنصار بعد بيعة أبي
بكر.
خبر أمر فاطمة مع أبي بكر وعمر.
ومن كلام له لما قلد محمد بن أبي
بكر مصر فملكت عليه وقتل. نسب هاشم بن عتبة بن أبي وقاص...
خطبة للإمام علي بعد فتح مصر...
وقال في سحرة اليوم الذي ضرب فيه.
مطاعن النظام على الإمام علي والرد
عليه.
خطبة له علم فيها الناس الصلاة على
النبي صلى الله عليه وأله وصحبه وسلم. معنى الصلاة على الرسول صلي الله
عليه وآله وسلم. كلام له قاله لمروان بن الحكم بالبصرة
نسب مروان بن الحكم وبعض أخباره
ومن كلام له لما عزموا علي بيعة
عثمان.
لما بلغه اتهام بني أمية له بالمشاركة
في دم عثمان.
ومن كلمات كان عليه السلام يدعو
بها
من الأدعية المأثورة عن عيسى عليه
السلام.
من الأدعية المأثورة عن بعض الصالحين..
بعد فراغه من حرب الجمل في ذم النساء.
ومن كلام له رضي الله عنه في الزهد.
ومن كلام له رضي الله عنه فى صفة
الدنيا
ومن الغراء وهي من الخطب العجيبة.
الحسن بن علي رضي الله عنه يفحم
رجالات من قريش... عبد الله بن جعفر وعمرو بن العاص
في مجلس معاوية. عبد الله بن العباس ورجالات قريش
في مجلس معاوية. عمارة بن الوليد وعمرو بن العاص
في الحبشة.
جعفر الطيار وابن العاص في الحبشة.
بعث رسول الله عمراً إلى ذات السلاسل.
ولايات عمرو بن العاص ونبذ من كلامه.
الإمام علي رجل العبادة لارجل الدعابة.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||