- القرآن الكريم
- سور القرآن الكريم
- 1- سورة الفاتحة
- 2- سورة البقرة
- 3- سورة آل عمران
- 4- سورة النساء
- 5- سورة المائدة
- 6- سورة الأنعام
- 7- سورة الأعراف
- 8- سورة الأنفال
- 9- سورة التوبة
- 10- سورة يونس
- 11- سورة هود
- 12- سورة يوسف
- 13- سورة الرعد
- 14- سورة إبراهيم
- 15- سورة الحجر
- 16- سورة النحل
- 17- سورة الإسراء
- 18- سورة الكهف
- 19- سورة مريم
- 20- سورة طه
- 21- سورة الأنبياء
- 22- سورة الحج
- 23- سورة المؤمنون
- 24- سورة النور
- 25- سورة الفرقان
- 26- سورة الشعراء
- 27- سورة النمل
- 28- سورة القصص
- 29- سورة العنكبوت
- 30- سورة الروم
- 31- سورة لقمان
- 32- سورة السجدة
- 33- سورة الأحزاب
- 34- سورة سبأ
- 35- سورة فاطر
- 36- سورة يس
- 37- سورة الصافات
- 38- سورة ص
- 39- سورة الزمر
- 40- سورة غافر
- 41- سورة فصلت
- 42- سورة الشورى
- 43- سورة الزخرف
- 44- سورة الدخان
- 45- سورة الجاثية
- 46- سورة الأحقاف
- 47- سورة محمد
- 48- سورة الفتح
- 49- سورة الحجرات
- 50- سورة ق
- 51- سورة الذاريات
- 52- سورة الطور
- 53- سورة النجم
- 54- سورة القمر
- 55- سورة الرحمن
- 56- سورة الواقعة
- 57- سورة الحديد
- 58- سورة المجادلة
- 59- سورة الحشر
- 60- سورة الممتحنة
- 61- سورة الصف
- 62- سورة الجمعة
- 63- سورة المنافقون
- 64- سورة التغابن
- 65- سورة الطلاق
- 66- سورة التحريم
- 67- سورة الملك
- 68- سورة القلم
- 69- سورة الحاقة
- 70- سورة المعارج
- 71- سورة نوح
- 72- سورة الجن
- 73- سورة المزمل
- 74- سورة المدثر
- 75- سورة القيامة
- 76- سورة الإنسان
- 77- سورة المرسلات
- 78- سورة النبأ
- 79- سورة النازعات
- 80- سورة عبس
- 81- سورة التكوير
- 82- سورة الانفطار
- 83- سورة المطففين
- 84- سورة الانشقاق
- 85- سورة البروج
- 86- سورة الطارق
- 87- سورة الأعلى
- 88- سورة الغاشية
- 89- سورة الفجر
- 90- سورة البلد
- 91- سورة الشمس
- 92- سورة الليل
- 93- سورة الضحى
- 94- سورة الشرح
- 95- سورة التين
- 96- سورة العلق
- 97- سورة القدر
- 98- سورة البينة
- 99- سورة الزلزلة
- 100- سورة العاديات
- 101- سورة القارعة
- 102- سورة التكاثر
- 103- سورة العصر
- 104- سورة الهمزة
- 105- سورة الفيل
- 106- سورة قريش
- 107- سورة الماعون
- 108- سورة الكوثر
- 109- سورة الكافرون
- 110- سورة النصر
- 111- سورة المسد
- 112- سورة الإخلاص
- 113- سورة الفلق
- 114- سورة الناس
- سور القرآن الكريم
- تفسير القرآن الكريم
- تصنيف القرآن الكريم
- آيات العقيدة
- آيات الشريعة
- آيات القوانين والتشريع
- آيات المفاهيم الأخلاقية
- آيات الآفاق والأنفس
- آيات الأنبياء والرسل
- آيات الانبياء والرسل عليهم الصلاة السلام
- سيدنا آدم عليه السلام
- سيدنا إدريس عليه السلام
- سيدنا نوح عليه السلام
- سيدنا هود عليه السلام
- سيدنا صالح عليه السلام
- سيدنا إبراهيم عليه السلام
- سيدنا إسماعيل عليه السلام
- سيدنا إسحاق عليه السلام
- سيدنا لوط عليه السلام
- سيدنا يعقوب عليه السلام
- سيدنا يوسف عليه السلام
- سيدنا شعيب عليه السلام
- سيدنا موسى عليه السلام
- بنو إسرائيل
- سيدنا هارون عليه السلام
- سيدنا داود عليه السلام
- سيدنا سليمان عليه السلام
- سيدنا أيوب عليه السلام
- سيدنا يونس عليه السلام
- سيدنا إلياس عليه السلام
- سيدنا اليسع عليه السلام
- سيدنا ذي الكفل عليه السلام
- سيدنا لقمان عليه السلام
- سيدنا زكريا عليه السلام
- سيدنا يحي عليه السلام
- سيدنا عيسى عليه السلام
- أهل الكتاب اليهود النصارى
- الصابئون والمجوس
- الاتعاظ بالسابقين
- النظر في عاقبة الماضين
- السيدة مريم عليها السلام ملحق
- آيات الناس وصفاتهم
- أنواع الناس
- صفات الإنسان
- صفات الأبراروجزائهم
- صفات الأثمين وجزائهم
- صفات الأشقى وجزائه
- صفات أعداء الرسل عليهم السلام
- صفات الأعراب
- صفات أصحاب الجحيم وجزائهم
- صفات أصحاب الجنة وحياتهم فيها
- صفات أصحاب الشمال وجزائهم
- صفات أصحاب النار وجزائهم
- صفات أصحاب اليمين وجزائهم
- صفات أولياءالشيطان وجزائهم
- صفات أولياء الله وجزائهم
- صفات أولي الألباب وجزائهم
- صفات الجاحدين وجزائهم
- صفات حزب الشيطان وجزائهم
- صفات حزب الله تعالى وجزائهم
- صفات الخائفين من الله ومن عذابه وجزائهم
- صفات الخائنين في الحرب وجزائهم
- صفات الخائنين في الغنيمة وجزائهم
- صفات الخائنين للعهود وجزائهم
- صفات الخائنين للناس وجزائهم
- صفات الخاسرين وجزائهم
- صفات الخاشعين وجزائهم
- صفات الخاشين الله تعالى وجزائهم
- صفات الخاضعين لله تعالى وجزائهم
- صفات الذاكرين الله تعالى وجزائهم
- صفات الذين يتبعون أهواءهم وجزائهم
- صفات الذين يريدون الحياة الدنيا وجزائهم
- صفات الذين يحبهم الله تعالى
- صفات الذين لايحبهم الله تعالى
- صفات الذين يشترون بآيات الله وبعهده
- صفات الذين يصدون عن سبيل الله تعالى وجزائهم
- صفات الذين يعملون السيئات وجزائهم
- صفات الذين لايفلحون
- صفات الذين يهديهم الله تعالى
- صفات الذين لا يهديهم الله تعالى
- صفات الراشدين وجزائهم
- صفات الرسل عليهم السلام
- صفات الشاكرين وجزائهم
- صفات الشهداء وجزائهم وحياتهم عند ربهم
- صفات الصالحين وجزائهم
- صفات الصائمين وجزائهم
- صفات الصابرين وجزائهم
- صفات الصادقين وجزائهم
- صفات الصدِّقين وجزائهم
- صفات الضالين وجزائهم
- صفات المُضَّلّين وجزائهم
- صفات المُضِلّين. وجزائهم
- صفات الطاغين وجزائهم
- صفات الظالمين وجزائهم
- صفات العابدين وجزائهم
- صفات عباد الرحمن وجزائهم
- صفات الغافلين وجزائهم
- صفات الغاوين وجزائهم
- صفات الفائزين وجزائهم
- صفات الفارّين من القتال وجزائهم
- صفات الفاسقين وجزائهم
- صفات الفجار وجزائهم
- صفات الفخورين وجزائهم
- صفات القانتين وجزائهم
- صفات الكاذبين وجزائهم
- صفات المكذِّبين وجزائهم
- صفات الكافرين وجزائهم
- صفات اللامزين والهامزين وجزائهم
- صفات المؤمنين بالأديان السماوية وجزائهم
- صفات المبطلين وجزائهم
- صفات المتذكرين وجزائهم
- صفات المترفين وجزائهم
- صفات المتصدقين وجزائهم
- صفات المتقين وجزائهم
- صفات المتكبرين وجزائهم
- صفات المتوكلين على الله وجزائهم
- صفات المرتدين وجزائهم
- صفات المجاهدين في سبيل الله وجزائهم
- صفات المجرمين وجزائهم
- صفات المحسنين وجزائهم
- صفات المخبتين وجزائهم
- صفات المختلفين والمتفرقين من أهل الكتاب وجزائهم
- صفات المُخلَصين وجزائهم
- صفات المستقيمين وجزائهم
- صفات المستكبرين وجزائهم
- صفات المستهزئين بآيات الله وجزائهم
- صفات المستهزئين بالدين وجزائهم
- صفات المسرفين وجزائهم
- صفات المسلمين وجزائهم
- صفات المشركين وجزائهم
- صفات المصَدِّقين وجزائهم
- صفات المصلحين وجزائهم
- صفات المصلين وجزائهم
- صفات المضعفين وجزائهم
- صفات المطففين للكيل والميزان وجزائهم
- صفات المعتدين وجزائهم
- صفات المعتدين على الكعبة وجزائهم
- صفات المعرضين وجزائهم
- صفات المغضوب عليهم وجزائهم
- صفات المُفترين وجزائهم
- صفات المفسدين إجتماعياَ وجزائهم
- صفات المفسدين دينيًا وجزائهم
- صفات المفلحين وجزائهم
- صفات المقاتلين في سبيل الله وجزائهم
- صفات المقربين الى الله تعالى وجزائهم
- صفات المقسطين وجزائهم
- صفات المقلدين وجزائهم
- صفات الملحدين وجزائهم
- صفات الملحدين في آياته
- صفات الملعونين وجزائهم
- صفات المنافقين ومثلهم ومواقفهم وجزائهم
- صفات المهتدين وجزائهم
- صفات ناقضي العهود وجزائهم
- صفات النصارى
- صفات اليهود و النصارى
- آيات الرسول محمد (ص) والقرآن الكريم
- آيات المحاورات المختلفة - الأمثال - التشبيهات والمقارنة بين الأضداد
- نهج البلاغة
- تصنيف نهج البلاغة
- دراسات حول نهج البلاغة
- الصحيفة السجادية
- تصنيف الصحيفة السجادية
- تصنيف الصحيفة بالموضوعات
- الباب السابع : باب الاخلاق
- الباب الثامن : باب الطاعات
- الباب التاسع: باب الذكر والدعاء
- الباب العاشر: باب السياسة
- الباب الحادي عشر:باب الإقتصاد
- الباب الثاني عشر: باب الإنسان
- الباب الثالث عشر: باب الكون
- الباب الرابع عشر: باب الإجتماع
- الباب الخامس عشر: باب العلم
- الباب السادس عشر: باب الزمن
- الباب السابع عشر: باب التاريخ
- الباب الثامن عشر: باب الصحة
- الباب التاسع عشر: باب العسكرية
- الباب الاول : باب التوحيد
- الباب الثاني : باب النبوة
- الباب الثالث : باب الإمامة
- الباب الرابع : باب المعاد
- الباب الخامس: باب الإسلام
- الباب السادس : باب الملائكة
- تصنيف الصحيفة بالموضوعات
- أسماء الله الحسنى
- أعلام الهداية
- النبي محمد (صلى الله عليه وآله)
- الإمام علي بن أبي طالب (عليه السَّلام)
- السيدة فاطمة الزهراء (عليها السَّلام)
- الإمام الحسن بن علي (عليه السَّلام)
- الإمام الحسين بن علي (عليه السَّلام)
- لإمام علي بن الحسين (عليه السَّلام)
- الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السَّلام)
- الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السَّلام)
- الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السَّلام)
- الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السَّلام)
- الإمام محمد بن علي الجواد (عليه السَّلام)
- الإمام علي بن محمد الهادي (عليه السَّلام)
- الإمام الحسن بن علي العسكري (عليه السَّلام)
- الإمام محمد بن الحسن المهدي (عجَّل الله فرَجَه)
- تاريخ وسيرة
- "تحميل كتب بصيغة "بي دي أف
- تحميل كتب حول الأخلاق
- تحميل كتب حول الشيعة
- تحميل كتب حول الثقافة
- تحميل كتب الشهيد آية الله مطهري
- تحميل كتب التصنيف
- تحميل كتب التفسير
- تحميل كتب حول نهج البلاغة
- تحميل كتب حول الأسرة
- تحميل الصحيفة السجادية وتصنيفه
- تحميل كتب حول العقيدة
- قصص الأنبياء ، وقصص تربويَّة
- تحميل كتب السيرة النبوية والأئمة عليهم السلام
- تحميل كتب غلم الفقه والحديث
- تحميل كتب الوهابية وابن تيمية
- تحميل كتب حول التاريخ الإسلامي
- تحميل كتب أدب الطف
- تحميل كتب المجالس الحسينية
- تحميل كتب الركب الحسيني
- تحميل كتب دراسات وعلوم فرآنية
- تحميل كتب متنوعة
- تحميل كتب حول اليهود واليهودية والصهيونية
- المحقق جعفر السبحاني
- تحميل كتب اللغة العربية
- الفرقان في تفسير القرآن -الدكتور محمد الصادقي
- وقعة الجمل صفين والنهروان
الجزء الخامس - باب المختار
من الخطب والأوامر - ابن ابي الحديد
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
والحمد لله رب العالمين، والصلاة
والسلام على خير خلقه محمد وآله وصحبه أجمعين الأصل: وقال
عليه السلام لما عزم على حرب الخوارج، وقيل
له: إن القوم قد عبروا جسر النهروان: مصارعهم
دون النطفة؟ والله لا يفلت منهم عشرة، ولا يهلك منكم عشرة. والأخبار على قسمين:
أحدهما: الأخبار
المجملة، ولا إعجاز فيها نحو أن يقول الرجل لأصحابه: إنكم ستنصرون على
هذه الفئة التي تلقونها غداً، فإن نصر جعل ذلك حجة له عند أصحابه وسماها معجزة،
وإن لم ينصر، قال لهم: تغيرت نياتكم وشككتم في قولي، فمنعكم الله نصره؟ ونحو ذلك
من القول، ولأنه قد جرت العادة أن الملوك والرؤساء يعدون أصحابهم بالظفر والنصر،
ويمنونهم الدول، فلا يدل وقوع ما يقع من ذلك على إخبار عن غيب يتضمن إعجازاً. والقسم الثاني: في
الأخبار المفصلة عن الغيوب، مثل هذا الخبر،
فإنه لا يحتمل التلبيس، لتقييده بالعدد المعين في أصحابه وفي الخوارج، ووقوع
الأمر بعد الحرب بموجبه من غير زيادة ولا نقصان، وذلك
أمر إلهي عرفه من جهة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرفه رسول الله صلى الله عليه وسلم من جهة الله سبحانه. والقوة
البشرية تقصر عن إدراك مثل هذا، ولقد كان له من هذا الباب ما لم يكن لغيره. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ظهور الغلاة
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وأول من جهر بالغلو
في أيامه عبد الله بن سبأ، قام إليه وهو يخطب،
فقال له: أنت أنت! وجعل يكررها، فقال له: ويلك!
من أنا. فقال: أنت الله، فأمر بأخذه وأخذ قوم كانوا معه على رأيه. أن علياً قال:
"يهلك في رجلان: محب مطر يضعني غير موضعي ويمدحني
بما ليس في، ومبغض مفتر يرميني بما أنا منه بريء".
وروى أصحابنا في كتب المقالات أنه لما حرقهم صاحوا إليه: الآن ظهر لنا ظهوراً بيناً أنك أنت
الإله! لأن ابن عمك الذي أرسلته قال: "لا يعذب بالنار إلا رب النار".
قال:
فلم يبرح واقفاً عليهم حتى صاروا حمماً. وقال لما بلغه
قتل علي: والله لو جئتمونا بدماغه في سبعين صرة، لعلمنا أنه لم يمت، ولا
يموت حتى يسوق العرب بعصاه. فلما بلغ ابن
عباس ذلك، قال: لو علمنا أنه يرجع لما تزوجنا نساءه، ولا قسمنا ميراثه. قال أصحاب المقالات: واجتمع إلى عبد الله بن سبأ
بالمدائن جماعة على هذا القول؟ منهم عبد الله بن صبرة الهمداني، وعبد الله بن
عمرو بن حرب الكندي، وآخرون غيرهما وتفاقم أمرهم. وقد أومأ بعض شعراء الإمامية إلى هذه المقالة، فجعلها من فضائله،
وذلك قوله:
وقالوا أيضاً:
إن بكرياً وشيعياً تجادلا، واحتكما إلى بعض أهل الذمة، ممن لا هوى له مع أحد
الرجلين في التفضيل، فأنشدهما:
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الإخبار عن الغيوب
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
فأما الإخبار عن الغيوب، فلمعترض أن
يقول:
قد يقع الإخبار عن الغيوب من طريق النجوم، فإن المنجمين قد اتفقوا على أن شكلاً
من أشكال الطالع إذا وقع لمولود، اقتضى أن يكون صاحبه متمكناً من الإخبار عن
الغيوب. وقد يقع
الإخبار عن الغيوب لأصحاب زجر الطير والبهائم، كما يحكى عن بني لهب في الجاهلية،
وقد يقع الإخبار عن الغيوب للقافة، كما يحكى عن بني مدلج. وقد يقع الإخبار عن الغيوب لأرباب النفس الناطقة
القوية الصافية، التي تتصل مادتها الروحانية على ما تقوله الفلاسفة. وقد يقع الإخبار عن الغيوب بطريق المنامات الصادقة؟
على ما رآه أكثر الناس، وقد وردت الشريعة نصاً به. وقد يقع الإخبار عن الغيوب بأمر صناعي يشبه
الطبيعي، كما رأيناه عن أبي البيان وابنه، وقد يقع
الإخبار عن الغيوب بواسطة إعلام ذلك الغيب إنساناً آخر، لنفسه بنفس ذلك
المخبر اتحاد أو كالاتحاد، وذلك كما يحكي أبو
البركات بن ملكا الطبيب في كتاب المعتبر، قال: والمرأة العمياء التي
رأيناها ببغداد، وتكررت مشاهدتنا لها منذ مدة مديدة، قدرها ما يقارب ثلاثين سنة؟
وهي على ذلك إلى الآن تعرض عليها الخبايا، فتدل عليها بأنواعها وأشكالها
ومقاديرها، وأعدادها ة غريبها ومألوفها دقيقها وجليلها، تجيب على أثر السؤال من
غيرتوقف ولا استعانة بشيء من الأشياء، إلا أنها كانت تلتمس أن ترى الذي يسأل عنه
أبوها، أو يسمعه في بعض الأوقات دون بعض، وعند قوم دون قوم، فيتصور في أمرها أن
الذي تقوله بإشارة من أبيها، وكان الني تقوله يبلغ الكثرة إلى ما يزيد على عشرين
كلمة، إذا قيل بصريح الكلام الذي هو الطريق الأخصر، وإنما كان أبوها يقول إذا
رأى ما يراه من أشياء كثيرة مختلفة الأنواع والأشكال في مدة واحدة كلمة واحدة،
وأقصاه كلمتان وهي التي يكررها في كل قول ومع كل ما يسمع ويرى: سلها وسلها
تخبرك، أو قولي له، أو قولي يا صغيرة. قلت: لك العلة التي تصلح في جواب لم، في نسبة
المحمول إلى الموضوع تكون الحد الأوسط في القياس وهذه، فالعلة الفاعلة الموجبة
لذلك فيها هي نفسها بقوتها وخاصتها، فما الذي أقوله في هذا! وهل لي أن أجعل ما
ليس بعلة علة! واعلم أنا لا ننكر أن يكون في نوع البشر أشخاص يخبرون عن الغيوب،
ولكن كل ذلك مستند إلى البارىء سبحانه بإقداره وتمكينه وتهيئة أسبابه، فإن كان
المخبر عن الغيوب ممن يدعي النبوة لم يجز أن يكون ذلك إلا بإذن الله سبحانه
وتمكينه، وأن يريد به تعالى استدلال المكلفين على صدق مدعي النبوة، لأنه لو كان
كاذباً لكان يجوز أن يمكن الله تعالى الجن من تعليمه ذلك إضلالا للمكلفين، وكذلك لا يجوز أن يمكن سبحانه الكاذب في ادعاء
النبوة من الإخبار عن الغيب بطريق السحر وتسخير الكواكب، والطلسمات، ولا بالزجر،
ولا بالقيافة، ولا بغير ذلك من الطرق المذكوره، لما فيه من استفساد البشر
وإغوائهم. وأما إذا لم يكن المخبرعن الغيوب مدعياً للنجوة، نظر في حاله، فإن كان ذلك من الصالحين الأتقياء نسب ذلك إلى أنه كرامة أظهرها الله تعالى على يده، إبانة
له وتمييزاً من غيره، كما في حق علي رضي
الله عنه ، وإن لم يكن كذلك أمكن
أن يكون ساحراً أو كاهناً، أو نحو ذلك. كلا والله، إنهم نطف في أصلاب الرجال،
وقرارات النساء، وكلما نجم منهم قرن قطع حتى يكون آخرهم لصوصاً سلابين. قرارات النساء: كناية لطيفة عن الأرحام. وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم
للحادى: "يا أنجشة، رفقاً
بالقوارير" ، يعني النساء. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الكناية وتوابعها
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
والكناية
إبدال لفظة يستحى من ذكرها، أو يستهجن ذكرها، أو يتطير بها، ويقتضي الحال رفضها
لأمير من الأمور بلفظة ليس فيها ذلك المانع، ومن هذا الباب قول امرىء القيس:
قوله:
فصرنا إلى الحسنى، كناية عن الرفث ومقدمات الجماع.
وأراد الشاعر وطب اللبن، فقال الأحنف: هو السخينة يا أمير المؤمنين، لأن
قريشا كانت تعيربأكل السخينة قبل الإسلام، لأن أكثر زمانها كان زمان قحط،
والسخينة ما يسخن بالنار ويذر عليه دقيق، وغلب ذلك على
قريش حتى سميت سخينة،
قال حسان:
فعبر
كل واحد من معاوية والأحنف عما أراده بلفظ غير
مستهجن ولا مستقبح، وعلم كل واحد منهما مراد صاحبه، ولم يفهم الحاضرون ما دار
بينهما، وهذا من باب التعريض، وهو قريب من الكناية.
وأنشد
الفرزدق في سليمان بن عبد الملك شعراً قال فيه:
فاستنكر سليمان ذلك وكان غيوراً جداً، وقال له: قد أقررت بالزنا، فلأجلدنك، فقال:
يا أمير المؤمنين إني شاعر، وإن الله يقول في الشعراء: "وإنهم
يقولون ما لا يفعلون"، وقد قلت ما لم أفعل، قال سليمان: نجوت بها. ورأى عبد الله بن سلام على إنسان ثوباً معصفراً ، فقال: لو أن ثوبك في تنور أهلك لكان خيراً لك، فذهب
الرجل فأحرق ثوبه في تنور أهله وظن أنه أراد الظاهر ة ولم يرد ابن سلام ذلك، وإنما أراد: لو صرف ثمنه في دقيق يخبزه في تنور أهله.
وقد
فسر قوم قوله تعالى: "وإذا مروا باللغو مروا
كراماً" فقالوا: أراد: وإذا عبروا عن اللفظ بما يقبح ذكره كنوا عنه،
فسمي التعبيرعن الشيء مروراً به، وسمي الكناية
عنه كرماً. فقالت: موضع لا يضع الراقي فيه أنفه كنت
بذلك عن السوأة.
وهذا من أبيات المعاني، يقول: هم أهل عز ومنعة، فسقى راعيهم إبلهم بالسمات التي على
الإبل، وعلم المزاحمون له في الماء أنه لا طاقة لهم بمنازعتهم عليه لعزهم، فكانت
السمات سببا لسقيها. والأوار: العطش،
فكنى سبحانه بقوله: "يأكلان الطعام"
عن إتيان الغائط؟ لما كان أكل الطعام سبباً له،
كما كنى الشاعر بالنار عن السمة، لما كانت النار سبب السمة.
وقد كنت العرب عن المرأة بالريحان، وبالسرحة، قال
ابن الرقيات:
أي
أقنع من النساء بالنظر، ولا أرتكب منهن محرماً، وقال
حميد بن ثور الهلالي:
والسرحة:
الشجرة.
ومن
الأخبار النبوية قوله صلى الله عليه وسلم: "من
كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسقين ماءه زرع غيره
" أراد النهي عن نكاح الحبائل لأنه إذا
وطئها فقد سقى ماءه زرع غيره. وفسر
قوم قوله تعالى: "وأمراته حمالة الحطب" عن النميمة، والعرب تقول لمن
ينم ويشي: يوقد بين الناس الحطب الرطب، وقال الشاعر يذكر امرأة:
أي لم تؤخذ على أمر تلام عليه، ولم تفسد بين الحي بالكذب والنميمة.
وأراد
الآخر قول بشار:
وكان
محمد بن عقال المجاشعي عند يزيد بن مزيد الشيباني، وعنده سيوف تعرض عليه، فدفع
سيفاً منها إلى يد محمد، فقال: كيف ترى هذا السيف. فقال: نحن أبصر بالتمر منا
بالسيوف، أراد يزيد قول جرير في الفرزدق:
وأراد
محمد قول مروان بن أبي حفصة:
وقال
محمد بن عميربن عطاء التميمي لشريك النميري، وعلى يده صقر: ليس في الجوارح أحب
إلي من البازي، فقال شريك: إذا كان يصيد القطا، أراد محمد قول جرير:
وأراد شريك قول الطرماح :
ودخل عبد الله بن ثعلبة المحاربي على عبد الملك بن يزيد
الهلالي،وهويومئذ والي أرمينية، فقال له: ماذا لقينا الليلة من شيوخ محارب! منعونا النوم بضوضائهم
ولغطهم، فقال عبد الله بن ثعلبة: إنهم أصلح الله الأمير، أضلوا الليلة برقعاً،
فكانوا يطلبونه. أراد عبد الملك قول الشاعر:
وأراد
عبد الله قول القائل:
وروى
أبو بكر بن عريد في كتاب الأمالي عن أبي حاتم، عن العتبي، عن أبيه،أنه عرض على
معاوية فرس، وعنده عبد الرحمن بن الحكم بن أبي العاص! فقال:
كيف ترى هذا الفرس يا أبا مطرف. قال أراه أجش هزيماً، قال معاوية: أجل، لكنه لا يطلع على الكنائن، قال: يا أمير المؤمنين؟ ما
استوجبت منك هذا الجواب كله، قال: قد عوضتك عنه عشرين ألفاً.
فلم يحتمل معاوية منه هذا المزاح،وقال: لكنه لا يطلع على الكنائن،لأن
عبد الرحمن كان يتهم بنساء إخوته. قال:
إنما عنيت عتبة أخاك وعتبة جالس فلم يقل معاوية ولا عتبة شيئاً. ويجمع
الناس إليه، فذكر ذلك للفرزدق، فقال: لأسوءنه،
فجاء إليه، فسمع شيئاً من شعره، فحسده عليه، فقال: ممن أنت؟ قال: من بني فقعس،
قال: كيف تركت القنان . فقال:
مقابل لصاف ،فقال: يا غلام، هل أنجدت أمك. قال: بل أنجد أبي. قال أبو العباس المبرد: أراد الفرزدق قول الشاعر:
والقنان
جبل في بلاد فقعس، يريد أن هذا الجبل يستر سوآتهم، وأراد
الغلام قول أبي المهوش:
ولصاف:
جبل في بلاد بني تميم، وأراد بقوله: "هل أنجدت أمك
"، أي إن كانت أنجدت فقد أصابها أبي،
فخرجت تشبهني،فقال: بل أنجد أبي،يريد بل أبي أصاب أمك فوجدها بغياً. فقال معد بن
غيلان العبدي: يا حبذا السخينة! ما أكلت أيها الأمير سخينةً ألذ من
هذه،فقال: إلا أنها تولد الرياح في الجوف كثيراً فقال: إن المعايب لا تذكر على
الخوان.
وكان
سنان بن أحمس النميري يساير الأميرعمر بن هبيرة الفزاري، وهو على بغلة له، فتقدمت
البغلة على فرس الأمير، فقال: اغضض بغلتك
يا سنان، فقال: أيها الأمير، إنها مكتوبة، فضحك
الأمير، أراد عمر بن هبيرة قول جرير:
وأراد
سنان قول ابن دارة:
وكانت
فزارة تعير بإتيان الإبل؟ ولذلك قال الفرزدق يهجو عمر بن هبيرة هذا، ويخاطب يزيد
بن عبد الملك:
الرافدان: دجلة
والفرات، وأحذ يد القميص، كناية عن السرقة والخيانة. وتفنق: تنعم وسمن، وجارية
فنق؟ أي سمينة، والبيت الآخر كناية عن إتيان الإبل الذي كانوا يعيرون به.
وكان
عبد الله بن معن إذا تقلد السيف ورأى من يرمقه
بان أثره عليه؟ فظهر الخجل منه.
وحكى
أبو عبيدة عن يونس، قال: قال عبد الملك بن مروان يوماً،وعنده رجال: هل تعلمون
أهل بيت قيل فيهم شعر، ودوا لو أنهم افتدوا منه بأموالهم. فقال أسماء بن خارجة
الفزاري: نحن يا أمير المؤمنين،قال: وما هو؟ قال: قول
الحارث بن ظالم المري:
فوالله
يا أمير المؤمنين، إني لألبس العمامة الصفيقة؟ فيخئل لي أن شعر قفاي قد بدا
منها.
كان
النميري يا أمير المؤمنين إذا قيل له: ممن أنت؟ قال: من نمير، فصار يقول بعد هذا
البيت: من عامر بن صعصعة. ومثل ذلك ما يروى أن النجاشي لما هجا بني العجلان
بقوله:
فكان الرجل منهم إذا سئل عن نسبه يقول: من بني كعب، وترك أن يقول: عجلاني. وكان
عبد الملك بن عمير القاضي، يقول: والله إن التنحنح والسعال ليأخذني وأنا في
الخلاء فأرده حياء من قول القائل:
ومن التعريضات اللطيفة، ما روي أن المفضل بن محمد الضبي بعث بأضحية هزيل إلى شاعر،
فلما لقيه سأله عنها، فقال: كانت قليلة الدم، فضحك المفضل، وقال: مهلاً يا أبا
فلان،أراد الشاعر قول القائل:
وروى ابن الأعرابي في الأمالي قال: رأى عقال بن شبة بن عقال المجاشعي
على أصبغ بن عنبس وضحاً ، فقال: ما هذا البياض على إصبعك يا أبا الجراح. فقال:
سلح النعامة يا بن أخي،أراد قول جرير:
وكان
شبة بن عقال قد برز يوم الطوانة مع العباس بن الوليد بن عبد الملك إلى رجل من
الروم، فحمل عليه الرومي، فنكص وأحدث، فبلغ ذلك جريراً باليمامة، فقال فيه ذلك. فقال: قد نفاها الأغريا أبا فراس،يريد قول
جرير في الفرزدق:
وذلك أن الفرزدق ورد المدينة، والأمير عليها عمر بن عبد العزيز، فأكرمه حمزة بن عبد الله بن الزبير
وأعطاه، وقعد عنه عبد الله بن عمرو بن عفان، وقصر به، فمدح الفرزدق حمزة بن عبد
الله، وهجا عبد الله، فقال:
فلما
تناشد الناس ذلك، بعث إليه عمر بن عبد العزيز، فأمره أن يخرج عن المدينة، وقال
له: إن وجدتك فيها بعد ثلاث عاقبتك، فقال الفرزدق: ما أراني إلا كثمود حين قيل
لهم: "تمتعوا في داركم ثلاثة أيام" فقال جرير
يهجوه:
وحكى أبوعبيدة، قال: بينا نحن على أشراف الكوفة وقوف،إذ جاء أسماء بن خارجة الفزاري فوقف،وأقبل ابن مكعبر الضبي فوقف متنحياً عنه، فأخذ أسماء
خاتماً كان في يده، فصه فيروز أزرق، فدفعه إلى غلامه، وأشار إليه أن يدفعه إلى ابن مكعبر، فأخذ ابن
مكعبرشسمع نعله،فربطه بالخاتم، وأعاده إلى أسماء،فتمازحا ولم يفهم أحذ من
الناس ما أرادا، أراد أسماء بن خارجة قول الشاعر:
وأراد ابن مكعبر قول الشاعر:
وكانت
فزارة تعير بإتيان الإبل؟ وعيرت أيضا بأكل جردان الحمار؟ لأن رجلاً منهم كان في
سفر فجاع، فاستطعم قوماً فدفعوا إليه جردان الحمار، فشواه وأكله، فأكثرت الشعراء
ذكرهم بذلك،وقال الفرزدق:
وفي كتب الأمثال أنه اصطحب ثلاثة: فزاري وتغلبي ومري، وكان اسم التغلبي
مرقمة فصادوا حماراً، وغاب عنهما الفزاري لحاجة، فقالوا: نخبأ له خردانه، نضحك
منه، وأكلوا سائره،فلما جاء دفعا إليه الجردان،وقالا:
هذا نصيبك، فنهسه فإذا هو صلب، فعرف أنهم عرضوا له بما تعاب به فزازة، فاستل
سيفه، وقال: لتأكلانه، ودفعه إلى مرقمة، فأبى أن يأكله، فضربه فقتله، فقال
المري: طاح مرقمة، قال: وأنت إن لم تلقمه! فأكله. ويحكى
أن بني فزارة وبني هلال بن عامر بن صعصعة تنافروا إلى أنس بن مدرك الخثعمي،
وتراضوا به، فقالت بنو هلال: أكلتم يا بني
فزارة أير الحمار، فقالت بنو فزارة: وأنتم
مدرتم الحوض بسلحكم، فقضى أنس لبني فزارة على بني
هلال،فأخذ الفزاريون منهم مائة بعير كانوا تخاطروا عليها، وفي مادر يقول
الشاعر:
وذكر أبو العباس محمد بن يزيد المبرد في كتاب الكامل، أن قتيبة بن مسلم لما فتح سمرقند،
أفضى إلى أثاث لم ير مثله، وآلات لم يسمع مثلها، فأراد أن يري الناس عظيم ما فتح الله عليه، ويعرفهم أقدار القوم الذين ظهر
عليهم، فأمر بدار ففرشت، وفي صحنها قدور يرتقى إليها بالسلاليم، فإذا بالحضين بن المنذر بن الحارث بن وعلة الرقاشي قد
أقبل، والناس جلوس على مراتبهم، والحضين شيخ كبير،
فلما رآه عبد الله بن مسلم قال لأخيه قتيبة:
ائذن لي في معاتبته، قال: لا ترده، فإنه خبيث الجواب، فأبى عبد الله إلا أن يأذن
له، وكان عبد الله يضعف وكان قد تسور حائطاً إلى امرأة قبل ذلك، فأقبل على الحضين، فقال: أمن الباب دخلت يا أبا ساسان. قال: أجل، أسن عمد
عن تسور الحيطان، قال: أرأيت هذه القدور. قال: هي أعظم من
ألا ترى، قال: ما أحمسب بكر بن وائل رأى مثلها، قال:
أجل، ولا عيلان،ولو رآها سمي شبعان، ولم يسم عيلان،
فقال عبد الله: أتعرف يا أبا ساسان الذي
يقول :
فقال:
أعرفه، وأعرف الذي يقول :
فقال:
أفتعرف الذي يقول:
قال:
نعم وأعرف الذي يقول:
قال: أما الشعر فأراك ترويه، فهل تقرأ من القرآن شيئاً، قال: نعم: أقرأ الأكثر الأطيب: "هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً
مذكوراً". فأغضبه، فقال: والله لقد بلغني أن امرأة الحضين
حملت إليه وهي حبلى من غيره،قال: فما تحرك
الشيخ عن هيئته الأولى، بل قال على رسله: وما يكون تلد غلاماً على فراشي، فيقال: فلان ابن الحضين، كمايقال:
عبد الله بن مسلم، فأقبل قتيبة على عبد الله، وقال
له: لايبعد الله غيرك. ومن التعريضات والرموز بالفعل لمحون القول ما ذكره مؤرج
بن عمرو السدوسي في كتاب الأمثال،
أن الأحوص بن جعفر الكلابي، أتاه آت من قومه، فقال: إن رجلاً لا
نعرفه جاءنا، فلما دنا منا حيث نراه، نزل عن راحلته، فعلق على شجرة وطباً من
لبن، ووضع في بعض أغصانها حنظلة، ووضع صرة من تراب، وحزمة من شوك، ثم أثار
راحلته، فاستوى عليها وذهب، وكان أيام حرب تميم
وقيس عيلان، فنظر الأحوص في ذلك، فعي به، فقال: أرسلوا إلى قيس بن زهير،
فأتوا قيساً، فجاءوا به إليه، فقال له: ألم تك أخبرتني أنه لا يرد عليك أمر إلا عرفت ما فيه ما لم
تر نواصي الخيل! قال: ما خبرك، فأعلمه،
فقال: قد بين الصبح لذي عينين ، هذا رجل قد أخذت عليه العهود ألا يكلمكم،
ولا يرسل إليكم، وإنه قد جاء فأنذركم. أما الحنظلة،
فإنه يخبركم أنه قد أتاكم بنو حنظلة، وأما الصرة من
التراب، فإنه يزعم أنهم عدد كثير،
وأما الشوك فيخبركم أن لهم شوكة، وأما الوطب فإنه يدلكم على
قرب القوم وبعدهم، فذوقوه، فإن كان حلواً
حليباً فالقوم قريب، وإن كان قارصاً
فالقوم بعيد، وإن كان المسيخ لا حلواً ولا
حامضاً فالقوم لا قريب ولا بعيد، فقاموا إلى
الوطب فوجدوه حليباً، فبادروا الاستعداد،
وغشيتهم الخيل فوجدتهم مستعدين. فقال قتيبة: مالي إن استخرجت لك ما أراد به. قال:
ولاية خراسان، قال: إنه ما يسرك أيها
الأمير، ويقر عينك، إنما أراد قول الشاعر:
أي أنت عندي مثل سالم عند هذا الشاعر، فولاه خراسان.
فقال له واحد منهم: يا أبا فلان، لو نقلت ما، من
غنائك إلى شرابك، لصلح غناؤنا ونبيذنا
جميعاً.
فقال الحجاج:
أصاب أمير المؤمنين فيما أوصاني،وأصاب البكري فيما أوصى به زيداً،وأصبت أيها الأعرابي، ودفع إليه الدراهم. وكتب إلى المهلب: إن أمير المؤمنين أوصاني بما أوصى به
البكري زيداً، وأنا أوصيك بذلك،وبما أوصى به الحارث بن كعب بنيه. الموت فى قوة وعز، خير من الحياة في ذل وعجز. فقال المهلب:
صمت البكري وأصاب، وصدق الحارث وأصاب. واعلم أن كثيراً مما ذكرناه داخل في باب التعريض، وخارج عن باب الكناية،وإنما ذكرناه لمشابهة
الكناية، وكونهما كالنوعين تحت جنس عام، وسنذكر كلاماً كلياً فيهما إذا انتهينا إلى آخر الفصل إن شاء الله. ومن الكنايات قول أبي نواس:
والكناية في البيت الأخير وهي ظاهرة.
فكنى
ب بئس الثرى، عن تنكر ذات بينهم، وبتهدم الأطواد عن خفة حلومهم وطيش عقولهم. ومنها قول أبي الطيب:
كنى بذلك عن سيف الدولة، وأنه يساوي بينه وبين غيره من
أراذل الشعراء وخامليهم في الصلة والقرب.
قال: إنه يصف فرساً، فقال:
حملك الله على مثله، وهذان البيتان من لطيف الكناية
ورشيقها، وإنما عنى العضو. وقريب
من هذه الكناية قول سعيد بن عبد الرحمن بن حسان،
وهو غلام يختلف إلى عبد الصمد بن عبد الأعلى مؤدب ولد هشام بن عبد الملك، وقد
جمشه عبد الصمد فأغضبه، فدخل إلى هشام، فقال له:
فقال
هشام: ولم ذلك. قال:
قال
هشام: وما هي. ويحك قال:
فضحك هشام، وقال: لو ضربته لم أنكر عليك، ومن هذا
الباب قول أبي نواس:
والكناية في قوله: أطراف الرماح ، وفي
قوله: في طرف السلاح.
أخذه الرضي رحمه الله تعالى فقال يرثي امرأة:
ومن الكنايات
ما يروى أن رجلاً من خواص كسرى أحب الملك امرأته، فكان
يختلف إليها سراً وتختلف إليه، فعلم بذلك، فهجرها
وترك فراشها، فأخبرت كسرى، فقال له
يوماً: بلغني أن لك عيناً
عذبة، وأنك لا
تشرب منها، فقال: بلغني أيها الملك أن الأسد يردها فخفته، فتركتها له، فاستحسن ذلك منه ووصله.
فكنى
بإسبال الستر عن الفعل، لأنه يقع عنده غالباً.
وقال الأخطل
في ضد ذلك يهجو رجلاً ويرميه بالزنا:
السبنتى: النمر، يريد أنه جريء وقح، وأن الكلب
لأنسه به وكثرة اختلافه إلى جاراته يعرفه، ويمضغ ثوبه، يطلب ما يطعمه، والعفيف ينكره الكلب ولا يأنس به، ثم أكد ذلك بأنه
قد صار له بكثرة تردده إلى ديار النساء طريق معروف. ومن جيد الكناية عن
العفة قول عقيل بن علفة المري:
ومن جيد ذلك
ومختاره قول مسكين الدارمي:
والعرب تكني عن
الفرج بالإزار،
فتقول: هو عفيف الإزار، وبالذيل، فتقول: هو طاهر الذيل،
وإنما كنوا بهما، لأن الذيل والإزار لا بد من رفعهما عند الفعل،وقد كنوا بالإزار
عن الزوجة في قول الشاعر:
يريد به
زوجتي،أو كنى بالإزار ههنا عن نفسه، وقال زهير:
ويقولون في الكناية عن العفيف: ما وضعت مومسة عنده قناعاً، ولا رفع عن مومسة ذيلاً، وقد أحسن ابن طباطبا في
قوله:
ومن الكناية عن العفة قول ابن ميادة:
فكنى
عن الفعل نفسه بحاجات النفوس، كما كنى أبو نواس عنه بذلك العمل في قوله:
وكما
كنى عنه ابن المعتز بقوله:
ومما تطيروا من ذكره، فكنوا عنه قولهم: مات، فإنهم
عبروا عنه بعبارات مختلفة داخلة في باب الكناية، نحو قولهم: لعق إصبعه. وقالوا: اصفرت
أنامله،لأن اصفرار الأنامل من صفات الموتى،
قال الشاعر:
وقال
لبيد:
يعني
الموت، ويقولون في الكناية عنه: صك لفلان على أبي يحيى، وأبو يحيى كنية الموت، كني عنه بضده، كما كنوا عن الأسود بالأبيض، وقال الخوارزمي:
وكنى
رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه بهادم اللذات،
فقال: أكثروا من ذكر هادم اللذات وقال أبو العتاهية:
وقالوا:
حلقت به العنقاء، وحلقت به عنقاء مغرب، قال:
وقالوا
فيه: زل الشراك عن قدمه، قال:
أي
حتى يموت، فيستغني عن لبس النعل.
ويقولون
فيه: شالت نعامته، قال:
أي
لا يشبعها كثرة التمر ولو نزلت هجر - وهجر كثيرة
النخل - ولا تروى ولو نزلت ذا قار، وهو موضع كثير الماء. ويقال أيضا للقوم
قد تفرقوا بجلاء عن منازلهم: شالت نعامتهم، وذلك لأن النعامة خفيفة
الطيران عن وجه الأرض، كأنهم خفوا عن منزلهم.
وقال دريد بن الصمة:
وكثيرممن لا يفهم يعتقد أنه أراد بقوله: خلى مكانه، أي فر،
ولو كان كذلك لكان هجاء.
أي
إذا مت، فأخذت ثمنك من تركتي، وقالوا: لحق باللطيف
الخبير، قال:
وقال أبو العلاء:
ويقولون:
قرض رباطه، أي كاد يموت جهداً وعطشاً.
وهذا
إنما يريد به وصفه،والتعجب منه،لا أنه يدعو عليه حقيقة، كما تقول لمن يجيد
الطعن: شلت يده، ما أحذقه.
ويقولون للمقتول: ركب الأشقر، كناية عن الدم، وإليه
أشار الحارث بن هشام المخزومي في شعره، الني يعتذر به عن فراره يوم بدر
عن أخيه أبي جهل بن هشام حين قتل:
أراد بدم أشقر، فحذف الموصوف وأقام الصفة مقامه كناية عنه،والعرب تقيم الصفة مقام الموصوف
كثيراً، كقوله تعالى: "وحملناه على ذات ألواح
ودسر"، أي على سفينة ذات ألواح، وكقول
عنترة:
أي كشدق الإنسان الأعلم، أو البعير الأعلم.
أي
تزكه قتيلاً مخلى بالفضاء.
وقال الحجاج للغضبان بن القبعثرى: لأحملنك على الأدهم، فتجاهل عليه، وقال:
مثل الأمير حمل على الأدهم والأشهب. وقد كنوا عن
القيد أيضاً بالأسمر، أنشد ابن عرفة لبعضهم:
وهذا من لطيف شعر العرب وتشبيهها. ومن كناياتهم عنه: ركب ردعه، وأصله في السهم يرمى به فيرتدع نصله
فيه، يقال: ارتدع السهم، إذا رجع النصل في السنخ
متجاوزاً، فقولهم: ركب ردعه، أي وقص فدخل عنقه في صدره، قال الشاعر وهو من شعر الحماسة:
وأنشد الجاحظ
في كتاب البيان والتبيين، لبعض الخوارج:
وقد تطيرت العرب
من لفظة البرص، فكنوا عنه بالوضح، فقالوا: جذيمة الوضاح، يريدون الأبرص، وكني عنه بالأبرش أيضاً، وكل أبيض عند العرب وضاح، وشسمون اللبن وضحاً، يقولون: ما أكثر الوضح عند بني فلان.
فأما من قال:
إن المفازة مفعلة، من فوز الرجل، أي هلك، فإنه
يخرج هذه اللفظة من باب الكنايات، ومن هذا
تسميتهم اللديغ سليماً، قال:
وقال
أبو تمام في الشيب:
ومن
هذا قولهم للأعور: ممتع، كأنهم أرادوا أنه قد متع ببقاء إحدى عينيه، ولم يحرم
ضوءهما معاً.
خص
الغراب بذلك لحمة نظره، أي فكيف غيره. ومن الكنايات اللطيفة أن عبد الملك بعث الشعبي
إلى أخيه عبد العزيز بن مروان وهو أمير مصر
يومئذ، ليسبر أخلاقه وسياسته، ويعود إليه فيخبره بحاله،
فلما عاد سأله فقال: وجدته أحوج الناس إلى بقائك يا
أمير المؤمنين، وكان عبد العزيز يضعف.
فرده،
لأنه توسم في أن بعض أعراقه ينزع إلى العجم، لما
رأى من بياض لونه وشقرته، ومنه قول جرير يذكر
العجم:
ومن
كناياتهم تعبيرهم عن المفاخرة بالمساجلة، وأصلها
من السجل، وهي الدلو
المليء كان الرجلان يستقيان، فأيهما غلب صاحبه كان الفوز والفخر له، قال الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب بن عبد المطلب:
ويقال: إن الفرزدق مر بالفضل وهو ينشد: من يساجلني، فقال: أنا أساجلك ونزع
ثيابه، فقال الفضل: برسول الله وابن عمه ، فلبس الفرزدق ثيابه، وقال: أغص الله من يساجلك بما
نفت الموالمي من بظر أمه، ورواها أبو بكر بن ثريد:
بما أبقت المواسي.
أي
إذا أعشبت الأرض اخضرت نعالهم من وطئهم إياها، فأغار بعضهم على بعض، والتناهق
ههنا: أصواتهم حين ينادون للغارة، ويدعو بعضهم بعضاً، ونظير هذا البيت قول
الآخر:
أي
إذا أخصبوا وشبعوا غزا بعضهم بعضاً. ومثله قول الآخر:
أي
تسفهوا لما رأوا من كثرة اللبن والخصب، فأفسدوا في الأرض، وأغار بعضهم على بعض.
والقرن: الجعبة. وقيل لبعضهم: متى يخاف من شر بني فلان، فقال: إذا ألبنوا . ومن
الكنايات الداخلة في باب الإيماء قول الشاعر:
لما
كان سلامة القميص من الخرق في موضع الخصر تابعاً لدقة الخصر، ووهنه في الكاهل
تابعاً لعظم الكاهل، ذكر ما دل بهما على دقة خصر هذا الممدوح وعظم كاهله، ومنه
قول مسلم بن الوليد:
فلما
كان قلق الوشاح تابعاً لدقة الخصر ذكره دالا به عليه، ومن هذا الباب قول القائل:
أومأ
بذلك إلى الجدب، لأن المكاء يألف الرياض، فإذا أجدبت الأرض سقط في غير روضة
وغرد، فالويل حينئذ لأهل الشاء والحمر، ومنه قول القائل:
القلب: السوار، يقول: نعم الحي هؤلاء إذا ريع الناس
وخافوا، حتى إن المرأة لشدة خوفها تلبس الخلخال مكان السوار، فاختصر الكلام
اختصاراً شديداً، ومنه قول الأفوه الأودي:
أشار
إلى الجدب وقلة السحب والمطر، أي الأيام التي كلها أيام شمس وصحو، لا غيم فيها
ولا مطر، فقد ذكرنا من الكنايات والتعريضات وما يدخل في ذلك ويجري مجراه من باب
الإيماء والرمز قطعة صالحة، وسنذكر شيئاً آخر من ذلك فيما بعد إن شاء الله
تعالى، إذا مررنا في شرح كلامه صلى الله عليه وسلم بما يقتضيه ويستدعيه. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الفرق بين الكناية والتعريض
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وقد
كنا وعدنا أن نذكر كلاماً كلياً في حقيقة
الكناية والتعريض، والفرق بينهما، فنقول: الكناية قسم من أقسام المجاز، وهو إبدال لفظة عرض في النطق بها مانع بلفظة لا
مانع عن النطق بها، كقوله صلى الله عليه وسلم: "قرارات
النساء"، لما وجد الناس قد تواضعوا على استهجان لفظة "أرحام النساء".
فالتعريض
إذا هو التنبيه بفعل أو لفظ على معنى اقتضت الحال العدول عن التصريح به.
من باب الكناية، والصحيح أنه من باب التعريض. والثاني باطل،
لأن ذاك هو اللفظ المشترك، فإن أطلق من غيرقرينة مخصصة كان مبهماً غيرمفهوم، وإن
كان معه قرينة صار مخصصاً لشيء بعينه، والكناية أن
تتكلم بشيء وتريد غيره، وذلك مخالف للفظ المشترك
إذا أضيف إليه القرينة، لأنه يختص بشيء واحد بعينه، ولا يتعداه إلى غيره،
والثالث باطل أيضاً، لأن المجاز لا بد له من
حقيقة ينقل عنها لأنه فرع عليها.
فالبيت الأول
لو ورد بمفرده لكان كناية، لأنه لا يجوز حمله
على جانبي الحقيقة والمجاز فإذا نظرنا إلى الأبيات
بجملتها، كان البيت الأول المذكور استعارة لا
كناية. وعلى
هذا ورد تفسير التعريض في خطبة النكاح، كقولك للمرأة: أنت جميلة، أو إنك خلية
وأنا عزب. فإن هذا وشبهه لا يدل على طلب النكاح بالحقيقة ولا بالمجاز، والتعريض أخفى
من الكناية، لأن دلالة الكناية وضعية من جهة المجاز، ودلالة التعريض من
جهة المفهوم المركب، وليست وضعية، وإنما يسمى التعريض تعريضاً، لأن المعنى فيه
يفهم من عرض اللفظ المفهوم، أي من جانبه. قال:
ومن الكنايات المستحسنة قوله صلى الله عليه وسلم
للحادي بالنساء: "يا أنجشة رفقاً
بالقوارير". وقول امرأة لرجل قعد منها مقعد القابلة: لا يحل لك أن تفض الخاتم إلا بحقه. وقول بديل بن ورقاء الخزاعي لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن
قريشاً قد نزلت على ماء الحديبية معها العوذ المطافيل، وإنهم صادوك عن
البيت". قال: فهذه كناية عن النساء والصبيان، لأن العوذ
المطافيل: الإبل الحديثات النتاج ومعها أولادها.
لأن
الوهم يسبق في هذا الموضع إلى ما يقبح، وإنما سرقه من
قول الفرزدق في امرأته وقد ماتت بجمع:
فأخذه الرضي فأفسده ولم يحسن تصريفه. ولم
لا يتردد بين مجازين. وما استدللت به على ذلك لامعنى له. وأما ثالثاً
فلم لا يجوز أن يكون للفظ الدال على المجازين شركة في الدلالة على الحقيقة
أصلاً، بل يدل على المجازين فقط، فأما قولك إذا خرجت الحقيقة عن أن يكون لها في
ذلك شركة لم يكن الذي تكلمت به دالاً على ما تكلمت به وهومحال،
ومرادك بهذا الكلام المقلوب أنه إذا خرجت اللفظة عن أن يكون لها شركة في الدلالة
على الحقيقة التي هي موضوعة لها في الأصل لم يكن ما تكلم به الإنسان دالا على ما
تكلم به وهوحقيقة، ولا دالاً أيضاً على ما تكلم به وهو مجازة لأنه إذا لم يدل
على الحقيقة، وهي الأصل، لم يجز أن يدل على المجاز التي هو الفرع، لأن انتفاء الدلالة على الأصل، يوجب انتفاء الدلالة على
الفرع، وهكذا يجب أن يتأول استدلاله، وإلا لم يكن له معنى محصل، لأن اللفظ هو الدال على مفهوماته، وليس المفهوم دالاً على
اللفظ، ولا له شركة في الدلالة عليه، ولا على مفهوم أخر يعترض اللفظ
بتقدير انتقال اللفظ، اللهم إلا أن يكون دلالة عقلية، وكلامنا
في الألفاظ ودلالتها. ولم لا يجوز أن
يكون للحقيقة مجازان قد كثر استعمالهما حتى نسيت تلك الحقيقة، فإذا تكلم
الإنسان بذلك اللفظ كان دالاً به على أحد ذينك المجازين، ولا يكون له تعرض ما
بتلك الحقيقة، فلا يكون الذي تكلم به غير دال على ما تكلم به، لأن حقيقة تلك اللفظة قد صارت ملغاة منسية، فلا
يكون عدم إرادتها موجباً أن يكون اللفظ الذي يتكلم به المتكلم غير دال على ما
تكلم به، لأنها قد خرجت بترك الاستعمال، عن
أن تكون هي ماتكلم به المتكلم.
من باب الكناية، لأن أحداً لا يتصور أن الحقائب
- وهي جمادات - تثني وتشكر.
كناية، وإن كانت مستقبحة، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أنجشة رفقاً بالقوارير"،
وهو يحدو بالنساء كناية، فهل يجيز عاقل قط أو يتصور في الأذهان أن تكون المرأة غمداً للسيف، وهل يحمل أحد قط قوله
للحادي "رفقا بالقوارير" على أنه
يمكن أن يكون نهاه عن الغنف بالزجاج، أو يحمل أحد قط قول ابن سلام على أنه أراد
إحراق الثوب بالنار، أو يحمل قط أحد قوله:
"الميل في المكحلة" على حقيقتها، أو يحمل قط أحد قوله: "لا يحل لك فض الخاتم " على حقيقته، وهل
يشك عاقل قط في أن هذه الألفاظ ليست دائرة بين المحملين عوران اللمس والجماع
والمصافحة، وهذه مناقضة ظاهرة، ولا جواب عنها إلا
بإخراج هذه المواضع من باب الكناية، أو بحذف ذلك الشرط الذي اشترطته في حد
الكناية. فأما ما ذكره حكاية عن غيره في حد الكناية بأنها اللفظ الدال
على الشيء بغير الوضع الحقيقي، بوصف جامع بين الكناية والمكنى عنه، وقوله: هذا الحد هو حد التشبيه، فلا يجوز أن يكون حد الكناية. فلقائل أن يقول:
إذا قلنا: زيد أسد، كان ذلك لفظاً دالا على غير الوضع الحقيقي، وذلك المدلول هو
بعينه الوصف المشترك بين المشبه والمشبه به، ألا ترى أن المدلول هو الشجاعة،وهي
المشترك بين زيد والأسد، وأصحاب الحد قالوا في حدهم:
الكناية هي اللفظ الدال على الشيء بغير الوضبع الحقيقي، باعتبار وصف جامع
بينهما، فجعلوا المدلول أمراً والوصف الجامع أمراً آخر باعتباره وقت الدلالة،
ألا ترى أن لفظ "لامستم" له يدل على الجماع الذي لم يوضع لفظ "لامستم" له، وإنما يدل عليه باعتبار
أمر آخر، هو كون الملامسة مقدمة الجماع ومفضية إليه، فقد تغاير إذن حد التشبيه
وحد الكناية، ولم يكن أحدهما هو الآخر. فإن قال:
أردت أنه قد يقال: اللمس يصلح أن يكنى به عن الجماع، واللمس لفظ مفرد، قيل له: وقد يقال: التعزب يصلح أن يعرض به في طلب النكاح. وقد بينا بطلان اشتراط
ذلك، فبطل ما يتفرع عليه.
وقوله:
هذا مما يسبق الوهم فيه إلى ما يستقبح واستحسانه شعر الفرزدق وقوله: إن الرضي
أخذه منه فأساء الأخذ، فالوهم الذي يسبق إلى بيت الرضي يسبق مثله إلى بيت
الفرزدق، لأنه قد جعل هذه المرأة جفن السلاح، فإن كان الوهم يسبق هناك إلى قبيح
فهاهنا أيضاً يسبق إلى مثله. والظاهرة المجعولة فيها، وجعلناها بالقوى الفكرية
والخيالية المركبة في الدماغ راجمة وطاردة للشبه المضلة، وإن من حمل كلام الحكيم
سبحانه على ذلك فقد نسبه إلى الإلغاز والتعمية، وذلك يقدح في حكمته تعالى.
والمراد بالآية المقدم ذكرها ظاهرها، والمتكلف لحملها على غيرها سخيف العقل،
ويؤكد ذلك قوله تعالى: "ومما يوقدون عليه في
النار ابتغاء حلية أو متاع زبذ مثله" ، أفترى الحكيم سبحانه يقول:
إن للذهب والفضة زبداً مثل الجهل والضلال، ويبين ذلك قوله: "كذلك يضرب الله الأمثال" ، فضرب
سبحانه الماء الذي يبقى في الأرض فينتفع به الناس، والزبد الذي يعلو فوق الماء
فيذهب جفاء مثلا للحق والباطل، كما صرح به سبحانه فقال: "كذلك يضرب الله الحق والباطل"، ولو كانت هذه الآية
من باب الكنايات - وقد كنى سبحانه بالأودية عن
القلوب، وبالماء الذي أنزله من السماء عن العلم، وبالزبد عن الضلال - لما
جعل تعالى هذه الألفاظ أمثالاً، فإن الكناية خارجة عن باب المثل، ولهذا لا تقول
إن قوله تعالى: "أو لامستم النساء" من
باب المثل، ولهذا أفرد هذا الرجل في كتابه باباً
آخر غير باب الكناية، سماه باب المثل، وجعلهما قسمين متغايرين في علم
البيان، والأمر في هذا الموضع واضح، ولكن هذا الرجل كان يحب هذه الترهات، ويذهب
وقته فيها، وقد استقصينا في مناقضته والرد عليه في
كتابنا الذي أشرنا إليه. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الوليد بن طريف
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
فممن
انتهى أمره منهم إلى ذلك الوليد بن طريف الشيباني . في أيام الرشيد بن المهدي، فأشخص إليه يزيد بن
مزيد الشيباني فقتله، وحمل رأسه إلى الرشيد، وقالت أخته
ترثيه، وتذكر أنه كان من أهل التقى والدين، على قاعدة شعراء الخوارج، ولم
يكن الوليد كما زعمت:
وقال
مسلم بن الوليد يمدح يزيد بن مزيد، ويذكر قتله الوليد:
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
خروج ابن عمرو الخثعمي بالجزيرة
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ثم
خرج في أيام المتوكل ابن عمرو الخثعمي بالجزيرة
فقطع الطريق، وأخاف السبيل وتسمى بالخلافة، فحاربه أبو سعيد محمد بن يوسف الطائي
الثغري الصامتي، فقتل كثيراً من أصحابه، وأسر
كثيراً منهم ونجا بنفسه هارباً، فمدحه أبو عبادة البحتري، وذكر ذلك فقال:
وهذه
القصيدة من ناصع شعر البحتري ومختاره. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ذكر طائفة من جماعة الحوارج
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وقد خرج بعد هذين جماعة من الخوارج بأعمال كرمان
وجماعة اخرى من أهل عمان لا نباهة لهم، وقد ذكرهم
أبو إسحاق الصابي في الكتاب التاجي، وكلهم بمعزل عن طرائق سلفهم، وإنما
وكدهم وقصدهم إخافة السبيل، والفساد في الأرض، واكتساب الأموال من غير حلها. ولا
حاجة لنا إلى الإطالة بذكرهم. ومن المشهورين برأي الخوارج الذين تم
بهم صدق قول أمير المؤمنين رضي الله عنه: إنهم نطف في
أصلاب الرجال وقرارات النساء، عكرمة مولى ابن عباس، ومالك بن أنس الأصبحي
الفقيه، يروى عنه أنه كان يذكر علياً رضي
الله عنه وعثمان وطلحة والزبير، فيقول:
والله ما اقتتلوا إلا على الثريد الأعفر. الشرح: مراده أن
الخوارج ضلوا بشبهة دخلت عليهم،وكانوا يطلبون الحق، ولهم في الجملة تمسك بالدين،
ومحاماة عن عقيدة اعتقدوها، وإن أخطأوا فيها، وأما معاوية فلم يكن يطلب الحق،
وإنما كان ذا باطل، لا يحامي عن اعتقاد قد بناه على شبهة، وأحواله كانت تدل على
ذلك، فإنه لم يكن من أرباب الدين، ولا ظهر عنه نسك، ولا صلاح حال، وكان مترفاً
يذهب مال الفيء في مآربه، وتمهيد ملكه، ويصانع به عن سلطانه، وكانت أحواله كلها
مؤذيةً بانسلاخه عن العدالة، وإصراره على الباطل، وإذا كان كذلك لم يجز أن ينصر
المسلمون سلطانه، وتحارب الخوارج عليه وإن كانوا أهل ضلال، لأنهم أحسن حالاً
منه، فإنهم كانوا ينهون عن المنكر، ويرون الخروج على أئمة الجور واجباً. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
في ذكر الخوارج وحروبهم
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ذكر أبو العباس المبرد في الكتاب الكامل،
أن
عروة بن أدية أحد بني ربيعة بن حنظلة - ويقال إنه أول من حكم، حضر حرب النهروان،
ونجا فيها فيمن نجا، فلم يزل باقياً مدة من خلافة معاوية، ثم أخذ فأتي به زياد
ومعه مولى له، فسأله عن أبي بكر وعمر، فقال خيراً، فقال له: فما تقول في عثمان وفي أبي تراب، فتوك عثمان ست سنين
من خلافته، ثم شهد عليه بالكفر، وفعل في أمر علي رضي الله عنه مثل
ذلك إلى أن حكم ثم شهد عليه بالكفر. ثم سأله عن معاوية
فسبه سباً قبيحاً، ثم سأله عن نفسه، فقال: أولك لريبة، وآخرك لدعوة، وأنت بعد
عاص ربك. فأمر فضربت عنقه، ثم دعا مولاه، فقال: صف لي
أموره، فقال: أأطنب أم أختصر. قال: بل اختصر، قال: ما أتيته بطعام في
نهار قط ولا فرشت له فراشاً في ليل قط. قال: وحدثت أن واصل بن عطاء أبا حذيفة
أقبل في رفقة، فأحسوا بالخوارج، فقال واصل لأهل الرفقة:
إن هذا ليس من شأنكم فاعتزلوا، ودعوني وإياهم - وقد كانوا قد أشرفوا على العطب -
فقالوا: شأنك، فخرج إليهم، فقالوا: ما أنت وأصحابك. فقال:
قوم مشركون مستجيرون بكم، ليسمعوا كلام الله، ويفهموا حدوده، فقالوا: قد أجرناكم قال: فعلمونا، فجعلوا يعلمونهم
أحكامهم، وواصل يقول: قد قبلت أنا ومن معي،
قالوا: فامضوا مصاحبين فإنكم إخواننا، فقال: ليس ذاك إليكم، قال الله عز وجل: "وإن أحد من المشركين استجارك فأجره
حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه". فأبلغونا مأمننا. فنظر بعضهم إلى بعض، ثم قالوا: ذاك لكم، فساروا معهم
بجمعهم، حتى أبلغوهم المأمن. وقال أبو العباس: أتي عبد الملك بن مروان برجل من الخوارج، فبحثه فرأى منه ما شاء فهماً
وعلماً، ثم بحثه فرأى منه ما شاء أدباً وذهناً، فرغب
فيه، فاستدعاه إلى الرجوع عن مذهبه، فرآه مستبصراً محققاً، فزاده في
الاستدعاء، فقال: تغنيك الأولى عن الثانية،
وقد قلت وسمعت، فاسمع أقل، قال: قل، فجعل
يبسط من قول الخوارج ويزين له من مذهبهم بلسان طلق، وألفاظ بينة، ومعان قريبة. فقال عبد الملك بعد ذلك على معرفته وفضله: لقد كاد
يوقع في خاطري أن الجنة إنما خلقت لهم، وأني
أولى العباد بالجهاد معهم، ثم رجعت إلى ما ثبت الله علي من الحجة، وقرر في قلبي
من الحق، فقلت له: الدنيا والآخرة لله، وقد
سلطنا الله في الدنيا، ومكن لنا فيها، وأراك لست تجيبنا إلى ما نقول: والله
لأقتلنك إن لم تطع. فأنا في ذلك، إذ دخل علي بابني مروان. فأعجب ذلك من قوله عبد الملك، وقال له
متعجباً: أما يشغلك ما أنت فيه ويعرضك عن هذا، فقال: ما ينبغي أن يشغل المؤمن عن قول الحق شيء، فأمر
بحبسه، وصفح عن قتله، وقال بعد معتذراً إليه:
لولا أن تفسد بألفاظك أكثر رعيتي ما حبستك، ثم قال عبد
الملك: لقد شككني ووهمني حتى مالت بي عصمة الله، وغير بعيد أن يستهوي من
بعدي. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
مرداس بن حدير الناسك
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال أبو العباس:
وكان من المجتهدين من الخوارج البلجاء، وهي
امرأة من بني حرام بن يربوع بن حنظلة بن ملك بن زيد مناة بن تميم. فاجتمع إليه أصحابه زهاء ثلاثين
رجلاً، منهم حريث بن حجل وكهمس بن طلق الصريمي، وأرادوا أن
يولوا أمرهم حريثاً فأبى، فولوا أمرهم مرداساً، فلما مضى بأصحابه لقيه عبد الله
بن رباح الأنصاري - وكان له صديقاً - فقال:
يا أخي، أين تريد، قال: أريد أن أهرب بديني ودين أصحابي من أحكام هؤلاء الجورة،
فقال: أعلم بكم أحد. قال: لا، قال: فارجع، قال: أو تخاف علي نكراً، قال:
نعم،وأن يؤتى بك. قال: لا تخف،فإني لا أجرد سيفاً، ولا أخيف أحداً، ولا أقاتل
إلا من قاتلني. قال أبو العباس:
ولأبي بلال مرداس في الخروج أشعار، اخترت منها قوله:
قال أبو العباس: ثم إن عبيد الله بن زياد، ندب جيشاً إلى خراسان،
فحكى بعض من كان في ذلك الجيش، قال: مررنا بآسك، فإذا نحن بهم ستة وثلاثين رجلاً، فصاح بنا أبو
بلال: أقاصدون لقتالنا أنتم. قال: وكنت أنا وأخي قد دخلنا زرباً، فوقف أخي
ببابه، فقال: السلام عليكم، فقال مرداس: وعليكم السلام،
ثم قال لأخي: أجئتم لقتالنا؟ قال: لا، إنما نريد خراسان، قال: فأبلغوا من لقيتم
أنا لم نخرج لنفسد في الأرض، ولا لنروع أحداً، ولكن هرباً من الظلم. ولسنا نقاتل إلا من يقاتلنا، ولا نأخذ من الفيء إلا أعطياتنا، ثم قال: أندب لنا أحد، قلنا: نعم،
أسلم بن زرعة الكلابي، قال: فمتى ترونه يصل إلينا، قلنا: يوم كذا وكذا، فقال أبو
بلال: حسبنا الله ونعم الوكيل.
قال أبو العباس: أما قول حريث بن حجل: لا أما علمت أنه قتل بابن سعاد أربعة
برآ وأنا أحد قتلته، فابن سعاد هو المثلم بن مسروح الباهلي، وسعاد اسم أمه، وكان
من خبره أنه ذكر لعبيد الله بن زياد رجل من سدوس، يقال له خالد بن عباد، أو ابن
عبادة، وكان من نساك الخوارج، فوجه إليه فأخنه، فأتاه رجل من آل ثور فكذب عنه
وقال: هو صهري وفي ضمني، فخلى عنه، فلم يزل الرجل يتفقمه حتى تغيب، فأتى ابن
زياد فأخبره، فلم يزل يبعث إلى خالد بن عباد حتى ظفر به، فأخنه، فقال: أين كنت
في غيبتك هذه. قال: كنت عند قوم يذكرون الله ويسبحونه،
ويذكرون أئمة الجور، فيتبرأون منهم. قال:
ادللني عليهم، قال: إذن يسعدوا وتشقى، ولم أكن لأروعهم،قال:
فما تقول في أبي بكر وعمر. فقال: خيراً، قال: فما تقول في عثمان وفي معاوية،
أتتولاهما، فقال: إن كانا وليين لله فلست معاديهما، فأراغه مراراً ليرجع عن قوله فلم يفعل، فعزم على قتله، فأمر
بإخراجه إلى رحبة تعرف برحبة الرسي وقتله بها، فجعل الشرطة يتفادون من قتله
ويروغون عنه توقياً لأنه كان متقشفاً عليه أثر العبادة، حتى أتى المثلم بن مسروح الباهلي، وكان من الشرطة، فتقدم فقتله، فائتمر
به الخوارج أن يقتلوه، وكان مغرماً باللقاح يتبعها، فيشتريها من مظانها، وهم في
تفقده، فدسوا إليه رجلاً في هيئة الفتيان عليه ردع زعفران، فلقيه بالمربد وهو
يسأل عن لقحة صفي ، فقال له الفتى: إن كنت
تبتغي فعندي ما يغنيك عن غيره، فامض معي. فمضى المثلم معه على
فرسه، يمشي الفتى أمامه حتى أتى به بني
سعد، فدخل داراً، وقال له: أدخل على فرسك،
فلما دخل وتوغل في الدار أغلق الباب، وثارت به الخوارج، فاعتوره خريث بن حجل
وكهمس بن طلق الصريمي، فقتلاه، وجعلا دراهم كانت معه في بطنه، ودفناه في ناحية
الدار، وحكا آثار الدم وخليا فرسه في الليل، فأصيب في الغد في المربد وتجسس عنه
الباهليون، فلم يروا له أثراً، فاتهموا بني سدوس به، فاستعدوا عليهم السلطان،
وجعل السدوسية يحلفون، فتحامل ابن زياد مع الباهليين، فأخذ من السدوسيين أربع
ديات، وقال: ما أدري ما أصنع بهؤلاء
الخوارج، كلما أمرت بقتل رجل اغتالوا قاتله. فلم يعلم بمكان المثلم حتى خرج
مرداس وأصحابه، فلما واقفهم ابن زرعة الكلابي صاح بهم حريث، وقال: أههنا من باهلة أحد. قالوا:
نعم، قال: يا أعداء الله، أخذتم للمثلم من بني سدوس أربع ديات، وأنا قتلته،
وجعلت دراهم كانت معه في بطنه، وهو في موضع كذا مدفون، فلما انهزم ابن زرعة
وأصحابه صاروا إلى الدار، فأصابوا أشلاءه، ففي ذلك
يقول أبو الأسود:
قال أبو العباس: فأما ما كان من مرداس، فإن عبيد الله بن زياد ندب إليه
الناس، فاختار عباد بن أخضر المازني - وليس بابن أخضر، بل هو عباد بن علقمة
المازني وكان أخضر زوج أمه،وغلب عليه - فوجهه إلى مرداس وأصحابه في أربعة آلاف
فارس، وكانت الخوارج قد تنحت من موضعها، بدرابجراد من أرض فارس، فصار إليهم
عباد، فكان التقاؤهم في يوم جمعة، فناداه أبو بلال: أخرج إلي يا عباد، فإني أريد
أن أحاورك، فخرج إليه، فقال: ما الذي تبغي،
قال: أن اخذ بأقفيتكم فأردكم إلى الأميرعبيد الله بن زياد، قال: أو غيرذلك أن
نرجع، فإنا لا نخيف سبيلاً، ولا نذعر مسلماً، ولا نحارب إلا من يحاربنا، ولا
نجبي إلا ما حمينا. فقال عباد:
الأمر ما قلت لك، فقال له حريث بن حجل:
أتحاول أن ترد فئة من المسلمين إلى جبار عنيد ضال، فقال
لهم: أنتم أولى بالضلال منه، وما من ذاك من بد. قالوا: الشراة، فحمل عليهم ونشبت الحرب بينهم، فأخذت الخوارج القعقاع
أسيراً، فأتوا به أبا بلال، فقال له: من
أنت. قال:
ما أنا من أعدائك، إنما قدمت للحج، فحملت وغررت، فأطلقه، فرجع إلى عباد وأصلح من
شأنه، وحمل على الخوارج ثانية، وهو يقول:
فحمل عليه حريث بن حجل السدوسي وكهمس بن طلق الصريمي، فأسراه
وقتلاه، ولم يأتيا به أبا بلال. ولم يزل القوم يجتلدون حتى جاء وقت صلاة الجمعة، فناداهم أبو
بلال: يا قوم، هذا وقت الصلاة، فوادعونا حتى نصلي وتصلوا، قالوا: لك ذاك، فرمى القوم أجمعون بأسلحتهم،
وعمدوا للصلاة، فأسرع عباد ومن معه وقضوا صلاتهم، والحرورية مبطئون، فيهم ما بين
راكع وساجد، وقائم في الصلاة وقاعد، حتى مال عليهم عباد ومن معه، فقتلوهم جميعاً، وأتي برأس أبي بلال. قال:
ويرى الشراة أن مرداساً أبا بلال لما عقد على أصحابه، وعزم على الخروج رفع يديه،
فقال: اللهم إن كان ما نحن فيه حقاً فأرنا
آية، فرجف البيت، وقال آخرون: فارتفع السقف.
وقال
عمران بن حطان:
وقال
أيضاً:
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
فقيه الصفرية عمران بن حطان
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وقال أبو العباس: وعمران هذا، أحد بني عمرو بن يسار بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة
بن صعب بن عك بن بكر بن وائل، وكان رأس القعد من الصفرية وفقيههم وخطيبهم
وشاعرهم، وشعره هذا بخلاف شعر أبي خالد القناني وكان من قعد الخوارج أيضاً. وقد
كان كتب قطري بن الفجاءة المازني يلومه على القعود:
فكتب إليه أبو خالد:
وقال أبو العباس: ومما حدثني به العباس بن أبي الفرج الرياشي، عن محمد بن
سلام أن عمران بن حطان لما طرده الحجاج، جعل يتنقل في القبائل، وكان إذا نزل بحي
انتسب نسباً يقرب منهم، ففي ذلك يقول:
ثم
خرج حتى لقي روح بن زنباع الجذامي، وكان روح يقري الأضياف، وكان مسايراً لعبد
الملك بن مروان، أثيراً عنده. وقال ابن عبد
الملك فيه: من أعطي مثل ما أعطي أبو زرعة أعطي فقه الحجاز ودهاء أهل
العراق وطاعة أهل الشام. وانتمى
عمران إليه أنه من الأزد، فكان روح لا يسمع شعراً نادراً، ولا حديثاً غريباً عند
عبد الملك، فيسأل عنه عمران إلا عرفه وزاد فيه. فقال روح لعبد الملك: إن لي ضيفاً ما أسمع من أمير المؤمنين خبراً ولا شعراً إلا
عرفه وزاد فيه، فقال: أخبرني ببعض أخباره،
فأخبره وأنشده، فقال: إن اللغة لغة عدنانية، ولا أحسبه إلا عمران بن حطان، حتى
تذاكروا ليلة البيتين اللذين أولهما: يا ضربة.
ثم
ارتحل حتى نزل بزفر بن الحارث أحد بني عمر بن كلاب، فانتسب له أوزاعياً ، وكان
عمران يطيل الصلاة، فكان غلمان بني عامر يضحكون منه، فأتاه رجل ممن كان عند روح،
فسلم عليه، فدعاه زفر فقال له: من هذا. فقال: رجل من الأزد، رأيته ضيفاً لروح بن زنباع، فقال له زفر: يا هذا، أزدياً مرة وأوزاعياً أخرى،
إن كنت خائفاً أمناك، وإن كنت فقيراً جبرناك، فلما أمسى خلف في منزله رقعة، وهرب
فوجدوا فيها:
ثم ارتحل حتى أتى عمان، فوجدهم يعظمون أمر أبي بلال، ويظهر فيهم، فأظهر أمره فيهم،
فبلغ ذلك الحجاج، فكتب فيه إلى أهل عمان، فهرب حتى أتى قوماً من الأزد في سواد
الكوفة، فنزل بهم، فلم يزل عندهم حتى مات، وفي نزوله فيهم يقول:
قال أبو العباس: ومن الخثى ارج من مشى في الرمح وهو في صدره خارجاً من ظهره،
حتى خالط طاعنه فضربه بالسيف فقتله، وهو يقول:
"وعجلت إليك رب لترضى".
فخرج إليه علي فضربه بالسيف فقتله، فلما خالطه السيف قال: "يا حبذا الروحة إلى الجنة". ومنهم
القوم الذين وثب رجل منهم على رطبة سقطت من نخلة، فوضعها في فيه، فلفظها تورعاً. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الناسك المجتهد المستورد السعدي
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومنهم المستورد، أحد بني سعد بن زيد
بن مناة، كان ناسكاً مجتهداً، وهو أحد من ترأس على الخوارج في أيام علي، وله
الخطبة المشهورة التي أولها: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتانا
بالعدل تخفق راياته، وتلمع معالمه، فبلغنا عن ربه، ونصح لأمته، حتى قبضه الله
تعالى مخيراً مختاراً. ومن كلامه: إذا أفضيت بسري إلى صديقي فأفشاه لم
ألمه، لأني كنت أولى بحفظه. ومن كلامه:
كن أحرص على حفظ سرك منك على حقن دمك. وكان يقول: المال غير باق عليك، فاشتر به
من الحمد والأجر ما يبقى عليك. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
حوثرة الأسدي
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال أبو العباس: وخرج من الخوارج على معاوية بعد قتل علي حوثرة
الأسدي ، وحابس الطائي، خرجا في جمعهما، فصارا إلى مواضع أصحاب النخيلة، ومعاوية يومئذ بالكوفة قد
دخلها في عام الجماعة ، وقد نزل الحسن بن علي، وخرج يريد المدينة، فوجه إليه
معاوية - وقد تجاوز في طريقه - يسأله أن يكون المتولي لمحاربة الخوارج، فكان
جواب الحسن: والله لقد كففت عنك لحقن دماء المسلمين،وما أحسب ذاك يسعني، أفأقاتل
عنك قوماً أنت والله أولى بالقتال منهم.
فحمل عليه رجل من طيىء فقتله، فلمارأى أثرالسجود قد لوح جبهته
ندم على قتله. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الرهين الرادي
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وقال الرهين المراعي أحد فقهاء الخوارج ونساكها:
قال أبو العباس: وأكثرهم لم يكن يبالي بالقتل، وشيمتهم استعذاب
الموت، والاستهانة بالمنية. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
عباد بن أخضر المازني
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال: وأما عباد بن أخضر قاتل أيي بلال مرداس بن أدية - وقد ذكرنا قصته - فإنه لم يزل بعد قتله مرداساً محموداُ في المصر موصوفاً بما
كان منه، حتى ائتمر جماعة من الخوارج أن يقتلوه، فذمر بعضهم بعضاً على ذلك،
فجلسوا له يوم جمعة بعد أن أقبل على بغلته، وابنه رديفه، فقام إليه رجل منهم
فقال له: أسألك عن مسألة. قال:
قل، قال: رأيت رجلاً قتل رجلاً بغير حق، وللقاتل جاه وقدر وناحية من المسلطان،
ولم يعد عليه السلطان لجوره، ألولي ذلك المقتول أن يقتل القاتل إن قدر عليه،
فقال: بل يرفعه إلى السلطان. قال:
إن السلطان لا يعدي عليه لمكانه منه، ولعظم جاهه عنده، قال: أخاف عليه إن فتك به
فتك به السلطان. قال:
دع ما تخافه من السلطان، أيلحقه تبعة فيما بينه وبين الله. قال: لا،فحكم هو وأصحابه ثم خبطوه بأسيافهم،
ورمى عباد بابنه فنجا، وتناس الناس: قتل عباد، فاجتمعوا فأخذوا أفواه الطرق -
وكان مقتل عباد في سكة بني مازن عند مسجد بني كليب بن يربوع، فجاء معبد بن أخضر،
أخو عباد - وهومعبد بن علقمة، وأخضر زوج أمهما -
في جماعة من بني مازن، وصاحوا بالناس: دعونا
وثأرنا فأحجم الناس، فتقدم المازنيون، فحاربوا الخوارج حتى قتلوهم جميعاً، لم
يفلت منهم أحد إلا عبيدة بن هلال، فإنه خرق خصاً ونفذ فيه، ففي ذلك يقول
الفرزدق:
ثم
هجا كليب بن يربوع، رهط جرير بن الخطفي، لأنه قتل بحفرة مسجدهم ولم ينصروه، فقال
في كلمته هذه:
قال:
وكان مقتل عباد بن أخضر وعبيد الله بن زياد بالكوفة، وخليفته على البصرة عبيد
الله بن أبي بكرة، فكتب إليه يأمره ألا يدع أحداً يعرف بهذا الرأي إلا حبسه، فجد
في طلب من تغيب عنه، وجعل يتبعهم وي:أخذهم، فإذا شفع إليه أحد منهم كفله، إلى أن
يقدم به على ابن زياد، حتى أتوه بعروة بن أدية فأطلقه، وقال:
أنا كفيلك، فلما قدم ابن زياد أخذ من في الحبس، فقتلهم جميعاً، وطلب الكفلاء بمن
كفلوا به، فكل من جاء بصاحبه أطلقه وقتل الخارجي، ومن لم يأت بمن كفل به منهم
قتله. فلما أقيم عروة
بيئ يديه، قال: لم جهزت أخاك علي، يعني أبا بلال، فقال: والله لقد كنت به ضنيناً، وكان لي عزا، ولقد
أردت له ما أريد لنفسي، فعزم عزما فمضى عليه، وما أحب لنفسي إلا المقام وترك
الخروج. فقال له:
أفأنت على رأيه، قال: كلنا نعبد رباً واحداً، قال:
أما والله لامثلن بك، قال: اختر لنفسك من
القصاص ما شئت،فأمر به فقطعوا يديه ورجليه، ثم قال له:
كيف ترى. قال: أفسدت علي دنياي،
وأفسدت عليك آخرتك،فأمر به فصلب على باب داره. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أبو الوازع الراسبي
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال أبو العباس: وكان أبو الوازع الراسبي من مجتهدي
الخوارج ونساكها، وكان يذم نفسه ويلومها على القعود، وكان شاعراً، وكان
يفعل ذلك بأصحابه، فأق نافع بن الأزرق وهو في جماعة من أصحابه، يصف لهم جور
السلطان وفساد العامة، وكان نافع ذا لسان عضب واحتجاج وصي على المنازعة، فأتاه
أبو الوازع، فقال له: يا نافع، إنك اعطيت
لساناً صارماً، وقلباً كليلاً، فلولمحدت أن صرامة لسانك كانت لقلبك، وكلال قلبك
كان للسانك، أتحض على الحق وتقعد عنه، وتقبح الباطل وتقيم عليه، فقال نافع: يا أبا الوازع، إنما ننتظر الفرص، إلى
أن تجمع من أصحابك من تنكىء به عدوك، فقال أبو
الوازع:
يعني معاوية. ثم
قال: والله لا ألومك ونفسي ألوم، ولأغدون غدوة لا أنثني بعدها أبداً. ثم مضى فاشترى سيفاً، وأتى صيقلاً كان يذم
الخوارج، ويدل على عوراتهم، فشاوره لا السيف، فحمده، ثم
قال: اشحنه، فشحفه حتى إذا رضيه، خيط به الصيقل فقتله، وحمل على الناس
فهربوا منه، حتى أتى مقبرة بني يشكر، فدفع عليه رجل حائط ستره فشدخه، وأمر ابن زياد بصلبه. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
عمران بن الحارث الراسبي
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال أبو العباس: ومن نساكهم الذين قتلوا في الحرب عمران بن الحارث الراسبي،
قتل يوم دولاب ، التقى هو والحجاج بن باب الحميري -
وكان الأمير يومئذ على أهل البصرة، وصاحب رايتهم- فاختلفا ضربتين فخرا
ميتين، فقالت أم عمران ترثيه:
قال:
وممن قتل من رؤسائهم يوم لمحولاب نافع بن الأزرق
- وكان خليفتهم - خاطبوه بإمرة المؤمنين، فقال رجك
منهم يرثيه:
وقال
قطري بن الفجاءة يذكر يوم دولاب:
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
عبد الله بن يحيى طالب الحق
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن رؤساء الخوارج وكبارهم عبد الله
بن يحى الكندي الملقب طالب الحق، وصاحبه المختار بن عوف
الأزدي صاحب وقعة قديد، ونحن نذكر ما ذكره أبو الفرج الأصفهاني من قصتهما في كتاب الأغاني، مختصراً
محذوفاً منه ما لا حاجة بنا في هذا الموضع إليه. قلت: من كندة،
فقال: من أيهم. فقلت:
من بني شيطان، فقال: والله لتملكن وتبلغن واعي القرى، وذلك بعد أن تذهب إحدى
عينيك، وقد ذهبت وأنا أتخوف ما قال، وأستخير الله. فرأى باليمن جوراً ظاهراً، وعسفاً شديداً، وسيرة في
الناس قبيحة، فقال لأصحابه: إنه لا يحل لنا
المقام على ما نرى، ولا الصبر عليه وكتب إلى جماعة
من الإباضية بالبصرة وغيرها، يشاورهم في الخروج، فكتبوا إليه: إن استطعت ألا تقيم يوماً واحداً فافعل، فإن
المبادرة بالعمل الصالح أفضل، ولست تدري متى يأتي أجلك، ولله بقية خير من عباده،
يبعثهم إذا شاء بنصر دينه، ويختص بالشهادة منهم من يشاء. أوصيكم
بتقوى الله وحسن القيام على ما وكلتم بالقيام عليه، وقابلوا الله حسناً في أمره
وزجره أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. فقال أبو حمزة: نحن
بحجنا أضن، وعليه أشح، فصالحم على أنهم جميعاً آمنون بعضهم من بعض، حتى ينفر
الناس النفر الأخير، وأصبحوا من الغد، ووقفوا بحيال عبد الواحد بعرفة، ودفع عبد
الواحد بالناس، فلما كانوا بمنىً، قيل لعبد الواحد: قد أخطأت فيهم، ولو حملت عليهم الحاج ما كانوا إلا أكلة رأس . وبعث عبد الواحد إلى أبي حمزة عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي
طالب، ومحمد بن عبد الله بن عمروبن عثمان، وعبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي
بكر، وعبيد الله بن عمر بن حفص العمري، وربيعة بن عبد الرحمن، ورجالاً أمثالهم،
فلما قربوا من أبي حمزة أخذتهم مسالحه فأدخلوا على أبي حمزة، فوجدوه جالساً،
وعليه إزار قطري قد ربطه بحورة في قفاه، فلما دنوا، تقدم إليه عبد الله بن الحسن العلوي، ومحمد بن عبد الله العثماني،
فنسبهما، فلما انتسبا له عبس في وجوههما،
وأظهر الكراهية لهما، ثم تقدم إليه بعدهما البكري
والعمري فنسبهما فانتسبا له، فهش إليهما وتبسم
في وجوههما، وقال: والله ما خرجنا إلا لنسير
سيرة أبويكما، فقال له عبد الله بن حسن: والله ما جئناك لتفاخر بين آبائنا، ولكن
الأمير بعثنا إليك برسالة، وهذا ربيعة يخبركها، فلما أخبره ربيعة، قال
له: إن الأمير يخاف نقض العهد،قال: معاذ
الله أن ننقض العهد، أو نخيس به، والله لا أفعل ولو قطعت رقبتي هذه، ولكن إلى أن
تنقضي الهدنة بيننا وبينكم.
ثم مضى عبد الواحد حتى دخل المدينة ودعا بالديوان، فضرب على الناس البعث، وزادهم في
العطاء عشرة عشرة، واستعمل على الجيش عبد العزيز بن عبد الله بن عمرو بن عثمان
بن عفان فخرجوا، فلقيتهم جزر منحورة ،فتشاءم الناس
بها، فلما كانوا بالعقيق علق لواء عبد العزيز بسمرة فانكسر الرمح،
فتشاءموا بذلك أيضاً. وأما عمارة بن حمزة بن
مصعب بن الزبير فقاتل يومئذ حتى قتل، وكان يحمل ويتمثل:
والشعر للأغر بن حماد اليشكري. فأكثروا ذكر الله وتلاوة القرآن، ووطنوا أنفسكم على الموت. وصبحهم غداة الخميس لتسع
خلون من صفر سنة ثلاثين ومائة. قال أبو الفرج: وقال عبد العزيز لغلامه في تلك
الليلة: ابغنا علفاً، قال: هو غال، فقال:
ويحك، البواكي علينا غداً أغلى، وأرسل أبو حمزة إليهم بلج بن عقبة ليدعوهم،
فأتاهم في ثلاثين راكباً فذكرهم الله، وسألهم أن يكفوا عنهم، وقال لهم: خلوا سبيلنا إلى الشام، لنسير إلى من
ظلمكم، وجار في الحكم عليكم، ولا تجعلوا حدنا بكم، فإنا لا نريد قتالكم، فشتمهم
أهل المدينة، وقالوا: يا أعداء الله، أنحن
نخليكم، ونترككم تفسدون في الأرض فقالت الخوارج: يا
أعداء الله، أنحن نفسد في الأرض، إنما خرجنا لنكف الفساد، ونقاتل من قاتلنا
منكم، واستأثر بالفيء، فانظروا لأنفسكم، واخلعوا من لم يجعل الله له طاعة، فإنه
لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فادخلوا في السلم، وعاونوا أهل الحق.
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أبو حمزة الشاري
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال أبو الفرج:
ولما سار عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك إلى الشام، وخلف المدينة لبلج، أقبل
أبو حمزة من مكة حتى دخلها، فرقي المنبر، فحمد الله
وقال: يا أهل المدينة، سألناكم عن ولاتكم هؤلاء فأسأتم لعمري والله القول
فيهم، وسألناكم: هل يقتلون بالظن. فقلتم:
نعم، وسألناكم: هل يستحلون المال الحرام والفرج الحرام. فقلتم: نعم، فقلنا لكم:
تعالوا نحن وأنتم، فانشدوا الله وحده أن يتنحوا عنا وعنكم ليختار المسلمون
لأنفسهم، فقلتم: لا نفعل، فقلنا لكم: تعالوا
نحن وأنتم نلقاهم، فإن نظهر نحن وأنتم يأت من يقيم لنا كتاب الله وسنة نبيه،
ويعدل في أحكامكم، ويحملكم على سنة نبيكم، فأبيتم وقاتلتمونا، فقاتلناكم
وقتلناكم، فأبعدكم الله وأسحقكم يا أهل المدينة!
مررت بكم في زمن الأحول هشام بن عبد الملك، وقد أصابتكم عاهة في ثماركم، فركبتم
إليه تسألونه أن يضع خراجكم عنكم، فكتب بوضعه عن قوم من ذوي اليسار منكم، فزاد
الغني غنى، والفقير فقراً. وقلتم: جزاه الله خيراً، فلا جزاه خيراً ولا جزاكم! قال أبو الفرج: فأما خطبتا أبي حمزة المشهورتان اللتان خطب بهما في
المدينة، فإن أحداهما قوله: تعلمون
يا أهل المدينة، أنا لم نخرج من ديارنا وأموالنا أشراً ولا بطراً، ولا عبثاً ولا
لهواً، ولا لدولة ملك نريد أن نخوض فيه، ولا لثأر قديم نيل منا، ولكنا لما رأينا
مصابيح الحق قد أطفئت، ومعالم العدل قد عطلت، وعنف القائم بالحق، وقتل القائم
بالقسط، ضاقت علينا الأرض بما رحبت، وسمعنا داعياً يدعو إلى طاعة الرحمن، وحكم
القرآن، فأجبنا داعي الله، "ومن لا يجب داعي
الله فليس بمعجز في الأرض". يا أهل المدينة، الناس منا ونحن منهم، إلا مشركاً
عباد وثن، أو كافراً من أهل الكتاب، أو إماماً جائراً. يا أهل المدينة،
أخبروني عن ثمانية أسهم فرضها الله في كتابه على القوي والضعيف، فجاء تاسع ليس
له منها سهم، فأخذها جميعاً لنفسه، مكابراً محارباً لربه، ما تقولون فيه، وفيمن
عاونه على فعله؟ يا أهل المدينة، بلغني
أنكم تنتقصون أصحابي، قلتم: هم شباب أحداث، أعراب جفاة، ويحكم يا أهل المدينة! وهل كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا
شباباً أحداثاً! نعم والله إن أصحابي لشباب مكتهلون في شبابهم، غضيضة عن الشر
أعينهم، ثقيلة عن الباطل أقدامهم، قد باعوا أنفساً تموت غداً بأنفس لا تموت
أبداً، قد خلطوا كلالهم بكلالهم، وقيام ليلهم بصيام نهارهم، محنية أصلابهم على
أجزاء القرآن، كلما مروا بآية خوف شهقوا خوفاً من النار، وكلما مروا بآية رجاء
شهقوا شوقاً إلى الجنة، وإذا نظروا إلى السيوف وقد انتضيت، وإلى الرماح وقد
أشرعت، وإلى السهام وقد فوقت، وأرعدت الكتيبة بصواعق الموت استخفوا وعيدها عند
وعيد الله، وانغمسوا فيها. فطوبى لهم وحسن مآب فكم من عين في منقار طائر طالما
بكى بها صاحبها من خشية الله! وكم من يد قد أبينت عن ساعدها، طالما اعتمد عليها
صاحبها راكعاً وساجداً في طماعة الله! أقول قولي
هذا وأستغفر الله، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب. وأما الخطبة الثانية، فقوله:
يا أهل المدينة، مالي رأيت رسم الدين فيكم عافياً، وآثاره دارسة! لا تقبلون عليه
عظة، ولا تفقهون من أهله حجة، قد بليت فيكم جدته، وانطمست عنكم سنته، ترون
معروفه منكراً، والمنكر من غيره معروفاً، فإذا انكشفت لكم العبر، وأوضحت لكم
النذر، عميت عنها أبصاركم، وصمت عنها آذانكم، ساهين في غمرة، لاهين في غفلة،
تنبسط قلوبكم للباطل إذا نشر، وتنقبض عن الحق إذا ذكر، مستوحشة من العلم،
مستأنسة بالجهل، كلما وردت عليها موعظة زادتها عن الحق نفوراً، تحملون قلوباً في
صدوركم كالحجارة أو أشد قسوة من الحجارة، فهي لا تلين بكتاب الله، الذي لو أنزل
على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله! يا
أهل المدينة، إنه لا تغني عنكم صحة أبدانكم إذا سقمت قلوبكم، قد جعل الله
لكل شيء سبباً غالباً عليه، لينقاد إليه مطيع أمره، فجعل القلوب غالبة على
الأبدان، فإذا مالت القلوب ميلاً كانت الأبدان لها تبعاً، وإن القلوب لا تلين
لأهلها إلا بصحتها، ولا يصححها إلا المعرفة بالله، وقوة النية ونفاذ البصيرة،
ولو استشعرت تقوى الله قلوبكم، لاستعملت في طاعة الله أبدانكم. وأنتم أبناؤهم
ومن بقي من خلفهم، تتركون أن تقتدوا بهم، أو تأخذوا بسنتهم، عمي القلوب صم
الآذان. اتبعتم الهوى فأرداكم عن الهدى، وأسهاكم عن مواعظ القرآن، لا تزجركم
فتنزجرون، ولا تعظكم فتتعظون، ولا توقظكم فتستيقظون، لبئس الخلف أنتم من قوم
مضوا قبلكم! ما سرتم سيرتهم، ولا حفظتم وصيتهم، ولا أحتذيتم
مثالهم، لو شقت عنهم قبورهم فعرضت عليهم أعمالكم لعجبوا كيف صرف العذاب عنكم! ألا ترون
إلى خلافة الله وإمامة المسلمين كيف أضيعت، حتى تداولها بنو مروان، أهل بيت
اللعنة، وطرداء رسول الله، وقوم من الطلقاء، ليسوا من المهاجرين ولا الأنصار ولا
التابعين بإحسان! فأكلوا مال الله أكلاً، وتلعبوا بدين الله لعباً، واتخذوا عباد
الله عبيداً، يورث الأكبر منهم ذلك الأصغر، فيالها أمة ما أضعفها وأضيعها! ومضوا
على ذلك من سيئ أعمالهم واستخفافهم بكتاب الله، قد نبذوه وراء ظهورهم، فالعنوهم
لعنهم الله لعناً، كما يستحقونه. قال: ولم
يذكره بخير ولا بشر. ثم قال: وولي بعده يزيد بن عبد الملك، غلام سفيه ضعيف، غير مأمون على
شيء من أموال المسلمين، لم يبلغ أشده، ولم يؤنس رشده، وقد قال الله عز وجل: "فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم" وأمر
أمة محمد صلى الله عليه وسلم وأحكامها وفروجها ودماؤها أعظم عند الله من مال
اليتيم، وإن كان عند الله عظيماً، غلام مأبون في
فرجه وبطنه، يأكل الحرام، ويشرب الخمر، ويلبس بردين قد حيكاً من غير
حلهما، وصرفت أثمانهما في غير وجهها، بعد أن ضربت فيهما الأبشار، وحلقت فيهما
الأشعار، استحل ما لم يحله الله لعبد صالح، ولا
لنبي مرسل، فأجلس حبابة عن يمينه، وسلامة عن يساره، يغنيانه بمزامير الشيطان،
ويشرب الخمر الصراح، المحرمة نصاً بعينها، حتى إذا أخذت منه مأخذها، وخالطت روحه
ولحمه ودمه، وغلبت سورتها على عقله، مزق برديه، ثم التفت إليهما، فقال: أتأذنان
لي بأن أطير! نعم فطر إلى النار، طر إلى لعنة الله، طر إلى حيث لا يردك الله. ثم ذكر بني أمية وأعمالهم، فقال: أصابوا
إمرة ضائعة، وقوماً طغاماً جهالاً لا يقومون لله بحق، ولا يفرقون بين الضلالة
والهدى، ويرون أن بني أمية أرباب لهم، فملكوا الأمر، وتسلطوا فيه تسلط ربوبية،
بطشهم بطش الجبابرة، يحكمون بالهوى، ويقتلون على الغضب ويأخذون بالظن، ويعطلون
الحدود بالشفاعات، ويؤمنون الخونة، ويعصون ذوي الأمانة، ويتناولون الصدقة من غير
فرضها، ويضعونها غير موضعها، فتلك الفرقة الحاكمة بغير ما أنزل الله، فالعنوهم
لعنهم الله. قال: ثم ذكر شيعة آل أبي طالب، فقال:
وأما
إخواننا من الشيعة وليسوا بإخواننا في الدين، لكني سمعت الله يقول: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر أنثى وجعلناكم
شعوباً وقبائل لتعارفوا". فإنها فرقة تظاهرت بكتاب الله، وآثرت
الفرقة على الله، لا يرجعون إلى نظر نافذ في القران، ولا عقل بالغ في الفقه، ولا
تفتيش عن حقيقة الثواب، قد قلدوا أمورهم أهواءهم،
وجعلوا دينهم العصبية لحزب لزموه وأطاعوه، في جميع ما يقوله لهم: غياً
كان أو رشداً، ضلالة كان أو هدى، ينتظرون الدول في رجعة الموتى، ويؤمنون بالبعث
قبل الساعة، ويدعون علم الغيب لمخلوقين لا يعلم واحدهم ما في بيته، بل لا يعلم
ما ينطوي عليه ثوبه، أو يحويه جسمه، ينقمون المعاصي على أهلها، ويعملون بها ولا
يعلمون المخرج منها، جفاة في دينهم، قليلة عقولهم، قد قلدوا أهل بيت من العرب
دينهم، وزعموا أن موالاتهم لهم تغنيهم عن الأعمال الصالحة، وتنجيهم من عقاب
الأعمال السيئة، قاتلهم الله أنى يؤفكون. فكان رجل من أهل وادي القرى، يقال له العلاء بن أفلح مولى
أبي الغيث، يقول: لقيني في ذلك اليوم وأنا غلام رجل من أصحاب ابن عطية،
فقال لي: ما اسمك يا غلام؟ فقلت: العلاء، فقال: ابن من؟ قلت: ابن أفلح، قال:
أعربي أم مولى؟ فقلت: مولى، قال: مولى من؟ قلت: مولى أبي الغيث، قال: فأين نحن؟
قلت: بالمعلى، قال: فأين نحن غداً؟ قلت: بغالب، قال: فما كلمني حتى أردفني خلفه،
ومضى حتى أدخلني على ابن عطية، وقال له: أيها الأمير، سل الغلام ما اسمه؟ فسأل وأنا
أرد عليه القول؟ فسر بذلك، ووهب لي دراهم. قال أبو الفرج:
وقدم أبو حمزة، وأمامه بلج بن عقبة في ستمائة رجل،
ليقاتل عبد الملك بن عطية، فلقيه بوادي القرى، لأيام خلت من جمادى الأولى سنة
ثلاثين ومائة، فتواقفوا، ودعاهم بلج إلى الكتاب والسنة، وذكر بني أمية
وظلمهم، فشتمه أهل الشام، وقالوا: يا أعداء الله، أنتم أحق بهذا ممن ذكرتم. فحمل
بلج وأصحابه عليهم، وانكشفت طائفة من أهل الشام، وثبت ابن عطية في عصبة صبروا
معه، فناداهم: يا أهل الشام، يا أهل الحفاظ
ناضلوا عن دينكم وأميركم، واصبروا وقاتلوا قتالاً شديداً، فقتل بلج وأكثر
أصحابه، وانحازت قطعة من أصحابه نحو المائة إلى جبل اعتصموا به، فقاتلهم ابن
عطية ثلاثة أيام، فقتل منهم سبعين رجلاً، ونجا منهم
ثلاثون.
قال: فلما قدم ابن عطية أتاه عمر بن عبد الرحمن، فقال له: أصلحك الله! إني جمعت قضي وقضيضي، فقاتلت هؤلاء الشراة فلقبه أهل المدينة: قضي وقضيضي.
وقتلت الخوارج قتلاً ذريعاً، وأسر منهم أربعمائة، فقال لهم ابن عطية: ويلكم! ما دعاكم
إلى الخروج مع هذا؟ فقالوا: ضمن لنا الجنة، يريدون الجنة، فقتلهم كلهم، وصلب أبا حمزة وأبرهة بن الصباح على شعب الخيف، ودخل علي
بن الحصين داراً من دور قريش، فأحدق أهل الشام بها فأحرقوها، فرمى بنفسه عليهم
وقاتل، فأسر وقتل وصلب مع أبي حمزة، فلم يزالوا مصلوبين حتى أفضى الأمر إلى بني
هاشم، فأنزلوا في خلافة أبي العباس. فقال ابن عطية:
نضعه في جوف الجوالق، قالوا: فما تقولون في اليتيم؟ قالوا: نأكل ماله ونفجر
بأمه، في أشياء بلغني أنهم سئلوا عنها، فلما سمعوا كلامهم قاتلوهم حتى أمسوا، فصاحت الشراة: ويحك يابن عطية! إن الله جل وعز قد جعل الليل سكناً فاسكن ونسكن، فأبى وقاتلهم حتى أفناهم. قال:
وقد كان اتبعه على رأيه قوم من أهل المدينة وبايعوه، منهم
بشكست النحوي، فلما جاءهم قتله وثب الناس على أصحابه فقتلوهم؟ وكان ممن
قتلوه بشكست النحوي، فلما جاءهم قتله وثب الناس على أصحابه فقتلوهم، وكان ممن
قتلوه بشكست النحوي، طلبوه فرقي في درجة دار، فلحقوه فأنزلوه، وقتلوه وهو يصيح:
يا عباد الله، فيم تقتلونني! فقيل فيه:
قال أبو الفرج:
وحدثني بعض أصحابنا أنه رأى رجلاً واقفاً على سطح يرمي بالحجارة قوم أبي حمزة
بمكة، فقيل له: ويلك! أتدري من ترمي مع اختلاط الناس، فقال: والله ما أبالي من
رميت، إنما يقع حجري في شام أو شار، والله ما أبالي أيهما قتلت.
وقال
عمرو بن الحصين العنبري، يرثي أبا حمزة وغيره من الشراة، وهذه القصيدة من مختار شعر العرب:
قال أبو الفرج:
وأقام ابن عطية بحضرموت بعد ظفره بالخوارج حتى أتاه
كتاب مروان، يأمره بالتعجيل إلى مكة، فيحج بالناس، فشخص إلى مكة متعجلاً
مخفاً في تسعة عشر فارساً، وندم مروان على ما كتبه، وقال:
قتلت ابن عطية، وسوف يخرج متعجلاً مخفاً من اليمن ليلحق الحج فيقتله الخوارج، فكان كما قال، صادفه في طريقه جماعة متلففة، فمن كان منهم إباضياً قال: ما ننتظر أن ندرك ثأر
إخواننا، ومن لم يكن منهم إباضياً ظن أنه إباضي منهزم من ابن عطية، فصمد له سعيد
وجمانة ابنا الأخنس الكنديان في جماعة من قومهما، وكانوا على رأي الخوارج، فعطف
ابن عطية على سعيد فضربه بالسيف، وطعنه جمانة فصرعه، فنزل إليه سعيد، فقعد على
صدره، فقال له ابن عطية: هل لك في أن تكون
أكرم العرب أسيراً؟ فقال سعيد: يا عدو الله، أتظن الله يهملك! أو تطمع في
الحياة، وقد قتلت طالب الحق وأبا حمزة وبلجاً وأبرهة فذبحه. وقتل أصحابه أجمعون. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أما أنكر علي معاوية
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وقدطعن كثير من أصحابنا في
دين معاوية، ولم يقتمروا على تفسيقه، وقالوا عنه إنه كان ملحداً لا يعتقد
النبوة، ونقلوا عنه في فلتات كلامه وسقطات ألفاظه ما يدل على ذلك. قال المطرف بن المغيرة بن شعبة: دخلت مع أبي على معاوية، وكان أبي يأتيه، فيتحدث معه، ثم
ينصرف إلي فيذكر معاوية وعقله، ويعجب بما يرى منه، إذ
جاء ذات ليلة، فأمسك عن العشاء، ورأيته مغتماً فانتظرته ساعة، وظننت أنه
لأمر حدث فنا، فقلت: ما لي أراك مغتماً منذ الليلة؟ فقال:
يا بني، جئت من عند أكفر الناس وأخبثهم، قلت:
وما ذاك؟ قال: قلت له وقد خلوت به: إنك قد بلغت
سناً يا أمير المؤمنين، فلو أظهرت عدلاً، وبسطت خيراً فإنك قد كبرت ولو نظرت إلى
إخوتك من بني هاشم، فوصلت أرحامهم فوالله ما عندهم اليوم شيء تخافه، وإن ذلك مما
يبقى لك ذكره وثوابه، فقال: هيهات هيهات! أي ذكر
أرجو بقاءه ملك أخو تيم فعدل، وفعل ما فعل، فما
عدا أن هلك حتى هلك ذكره، إلا أن يقول قائل: أبو
بكر، ثم ملك أخو عدي، فاجتهد وشمر عشر سنين، فما
عدا أن هلك حتى هلك ذكره، إلا أن يقول قائل:
عمر، وإن ابن أبي كبشة ليصاح به كل يوم خمس مرات: أشهد أن محمداً رسول الله، فأي عمل يبقى؟ وأي ذكر يدوم بعد هذا لا أبا لك لا والله إلا دفناً دفناً.
فقال ابن الزبير:
لو شايعني الترك والديلم على محاربة بني أمية
لشايعتهم وانتصرت بهم. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
من كلام له لما خوف من الغيلة
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: وإن علي جنة
حصينة، فإذا جاء يومي انفرجت عني وأسلمتني، فحينئذ لا يطيش السهم، ولا يبرأ الكلم. الشرح:
الغيلة: القتل على غير علم ولا شعور. والجنة:
الدرع وما يجن به، أي يستتر من ترس وغيره. وطاش السهم، إذا صدف عن الغرض.
والكلم: الجرح، ويعني بالجنة ههنا الأجل، وعلى هذا المعنى الشعر المنسوب إليه رضي الله عنه:
ومنه
قول صاحب الزنج:
ومثله:
والأصل في هذا كله
قوله تعالى: "وما كان لنفس أن تموت إلا لإذن
الله كتاباً مؤجلاً". وقوله تعالى: "فإذا
جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون". |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الآجال واختلاف الناس فيها
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
واختلف الناس في الآجال، فقالت
الفلاسفة والأطباء: لا أجل مضروب لأحد من الحيوان كله من البشر ولا من
غيرهم. والموت عندهم على ضربين: قسري وطبيعي. فإن قال: عنيت الأول، قيل له: نعم للناس آجال مضروبه
بمعنى معلومة، فإن الله تعالى عالم بكل شيء. وإن قال: عنيت الثاني،
قيل: لا يجوز عندنا إطلاق القول بذلك، لأنه قد
تبطل حياة نبي أو ولي بقتل ظالم، والبارئ تعالى لا يريد عندنا ذلك. وقد يكون ذلك لطفاً لبعض المكلفين. ولو توهمنا في التقدير، أنه يمتنع من قتله، لكان
الإنسان يموت لأجل ذلك، لأنهما أمران مؤجلان بأجل
واحد، فأحدهما
قتل القاتل إياه، والثاني تصرم مدة عمره وحلول
الموت به، فلو قدرنا امتناع القاتل من قتله،
لكان لا يجب بذلك ألا يقع المؤجل الثاني الذي هو حلول الموت به، بل كان يجب أن يموت
بأجله. فأما مشايخنا أبو علي وأبو هاشم فتوقفا
في هذه المسألة، وشكا في حياة المقتول وموته، وقالا:
لا يجوز أن يبقى لو لم يقتل، ويجوز أن يموت، قالا: لأن حياته وموته مقدوران لله
عز وجل، وليس في العقل ما يدل على قبح واحد منهما، ولا في الشرع ما يدل على حصول
واحد منهما، فوجب الشك فيهما، إذ لا دليل يدل على واحد منهما. فأما شيخنا أبو الحسين فاختار الشك أيضاً في
الأمرين إلا
في صورة واحدة، فإنه قطع فيها على دوام الحياة، وهي
أن الظالم قد يقتل في الوقت الواحد الألوف الكثيرة في المكان الواحد، ولم تجر
العادة بموت مثلهم في حالة واحدة في المكان الواحد، واتفاق ذلك نقض العادة، وذلك
لا يجوز. وقد ذكرت في كتبي المبسوطة في علم الكلام في
هذا الباب ما ليس هذا الشرح موضوعاً لاستقصائه. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن خطبة له يحذر من فتنة الدنيا
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: ألا وإن
الدنيا دار لا يسلم منها إلا فيها، ولا ينجى بشيء كان لها. ابتلي
الناس بها فتنة فما أخذوه منها لها أخرجوا منه وحوسبوا عليه، وما أخذوه منها
لغيرها قدموا عليه، وأقاموا فيه، فإنها عند ذوي العقول كفيء الظل، بينا تراه
سابغاً حتى قلص، وزائداً حتى نقص. أحدهما: الإجماع على المنع من تجويز استحقاق ثواب أو
عقاب في الآخرة. والثاني: أن الإجماع
حاصل على أن أهل الجنة يشكرون الله تعالى، والشكر عبادة
وذلك يستدعي استحقاق الثواب!. والجواب عن الأول أن قوله: "كلوا وأشربوا" عند شيخنا أبي علي رحمه الله تعالى ليس بأمر على الحقيقة، وإن كانت
له صورته، كما في قوله تعالى: "كونوا حجارة أو حديدا". ولا يجوز أن يلجأوا إلى النظر لأنهم لو ألجئوا إلى
النظر لكان ألجأهم إلى المعرفة أولاً، وإلجاؤهم إلى المعرفة يمنع من إلجائهم إلى
النظر، ولا يجوز وقوعها عند تذكر النظر، لأن المتذكر للنظر تعرض له الشبه،
ويلزمه دفعها، وفي ذلك عود الأمر إلى التكليف، وليس معاينة الآيات بمانع عن وقوع
الشبه، كما لم تمنع معاينة المعجزات والإعلام عن وقوعها، ولا يجوز أن يكون
الإلجاء إلى المعرفة، لأن الإلجاء إلى أفعال القلوب لا يصح إلا من الله تعالى،
فيجب أن يكون الملجأ إلى المعرفة عارفاً بهذه القضية، وفي ذلك استغناؤه بتقدم
هذه المعرفة على الإلجاء إليها. ثم قال رضي الله عنه: وإنها عند ذوي العقول كفيء
الظل" إلى آخر الفصل: وإنما قال: كفيء
الظل" لأن العرب تضيف الشيء إلى نفسه، قال تأبط شراً:
ويمكن أن يقال:
الظل أعم من الفيء، لأن الفيء لا يكون إلا بعد الزوال، وكل فيء ظل، وليس كل ظل
فيئاً، فلما كان فيهما تغاير معنوي بهذا الاعتبار صحت الإضافة، والسابغ: التام.
وقلص، أي انقبض.
وغيره
يرفع ما بعد بينا وبينما على الابتداء والخبر، وينشد هذا البيت على الرفع، وهذا
المعنى متداول، قال الشاعر:
وقال
آخر:
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن خطبة في الاستعداد للموت
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: فاتقوا الله
عباد الله، وبادروا آجالكم بأعمالكم، ابتاعوا ما يبقى لكم بما يزول عنكم،
وترحلوا فقد جد بكم، استعدوا للموت فقد أظلكم، وكونوا قوماً صيح بهم فانتبهوا،
وعلموا أن الدنيا ليست لهم بدار فاستبدلوا فإن الله سبحانه لم يخلقكم عبثاً ولم
يترككم سدى، وما بين أحدكم وبين الجنة أو النار إلا الموت أن ينزل به. البدار: العجلة، وابتاعوا الآخرة الباقية بالدنيا
الفانية الزائلة. ويمكن أن
يكون بمعنى الطلب كما تقول: استطعم، أي طلب
الطعام، فيكون بالاعتبار الأول، كأنه قال: أعدوا للموت عدة، وبمعنى الاعتبار الثاني كأنه قال: اطلبوا للموت عدة،
وأظلكم: قرب منكم، كأنه ألقى عليهم ظله، وهذا من باب الإستعارة، والعبث: اللعب،
أو ما لا غرض فيه، أو ما لا غرض صحيح فيه. وقد روي: اتقى عبد ربه
بلا فاء، بتقدير هلا، ومعناه التحضيض. وقد روي
ليسوفها بكسر الواو وفتحها والضمير في الرواية الأولى يرجع إلى نفسه، وقد تقدم ذكرها قبل بكلمات يسيرة. ويجوز
أن يعني به: ليسوف التوبة، كأنه جعلها مخاطبة يقول لها: سوف
أوقعك والتسويف أن يقول في نفسه: سوف أفعل وأكثر ما يستعمل للوعد الذي لا نجاز
له. ومن روى بفتح الواو جعله فعل ما لم يسم فاعله، وتقديره: ويمنيه الشيطان
التوبة، أي يجعلها في أمنيته ليكون مسوفاً إياها أي يعد من المسوفين المخدوعين. ويجوز أن يكون المدعو غير الحسرة، كأنه قال: يا
للرجال للحسرة! فتكون لامها مكسورة نحو الأصل لأنها المدعو إليه، إلا أنها لما
كانت للضمير فتحت، أي أدعوكم أيها الرجال لتقضوا العجب من هذه الحسرة. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
من مواعظ الحسن البصري
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وهذا الكلام من
مواعظ أمير المؤمنين البالغة ونحوه من كلام الحسن
البصري ذكره شيخنا أبو عثمان في البيان
والتبيين: ابن آدم، بع دنياك بآخرتك تربحهما جميعاً، ولا تبع آخرتك
بدنياك فتخسرهما جميعاً، وإذا رأيت الناس في الخير فقاسمهم فيه، وإذا رأيتهم في
الشر فلا تغبطهم عليه. البقاء
ههنا قليل، والبقاء هناك طويل، أمتكم آخر الأمم وأنتم آخر أمتكم، وقد أسرع
بخياركم فما تنتظرون المعاينة! فكأن قد. هيهات هيهات، ذهبت
الدنيا بحاليها وبقيت الأعمال قلائد في الأعناق. فيا لها موعظة لو وافقت
من القلوب حياة! ألا إنه لا أمة بعد أمتكم، ولا نبي بعد نبيكم، ولا كتاب بعد
كتابكم. أنتم تسوقون الناس والساعة تسوقكم، وإنما
ينتظر بأولكم أن يلحق آخركم. من رأى محمداً صلوات الله وسلامه عليه، فقد رآه
غادياً رائحاً، لم يضع لبنة على لبنة، ولا قصبة على قصبة رفع له علم فسما إليه،
فالوحى الوحى. النجاء النجاء! على ماذا تعرجون! ذهب أماثلكم وأنتم ترذلون كل
يوم، فما تنتظرون!. ألا إن الحق قد أجهد أهله، وحال بينهم وبين
شهواتهم، وما يصبر عليه إلا من عرف فضله، ورجا عاقبته، فمن حمد الدنيا ذم
الآخرة، ولا يكره لقاء الله إلا مقيم على ما يسخطه. إن الإيمان ليس بالتمني ولا بالتشهي، ولكن ما وقر
في القلوب وصدقته الأعمال. وهذا كلام حسن وموعظة بالغة
إلا أنه في الجزالة والفصاحة دون كلام أمير المؤمنين رضي الله عنه بطبقات. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
خطبتان لعمر بن عبد العزيز
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن خطب عمر بن عبد العزيز: إن لكل سفر زاداً لا محالة، فتزودوا لسفركم من
الدنيا إلى الآخرة فكونوا كمن عاين ما أعد الله تعالى من ثوابه وعقابه، فرغبوا
ورهبوا، ولا يطولن عليكم الأمر فتقسو قلوبكم، وتنقادوا لعدوكم، فإنه والله ما
بسط أمل من لا يدري لعله لا يصبح بعد إمسائه، ولا يمسي بعد إصباحه، وربما كانت
بين ذلك خطفات المنايا. فكم رأينا وأنتم من كان بالدنيا مغتراً فأصبح في حبائل
خطوبها ومناياها أسيراً وإنما تقر عين من وثق بالنجاة من عذاب الله، وإنما يفرح
من أمن من أهوال يوم القيامة، فأما من لا يبرأ من كلم إلا أصابه جارح من ناحية
أخرى فكيف يفرح أعوذ بالله أن أخبركم بما أنهى عنه نفسي، فتخيب صفقتي، وتظهر
عورتي، وتبدو مسكنتي، في يوم يبدو فيه الغني والفقير، والموازين منصوبة،
والجوارح ناطقة. لقد عنيتم بأمر لو عنيت به النجوم لانكدرت، ولو عنيت به الجبال
لذابت، أو الأرض لانفطرت، أما تعلمون أنه ليس بين الجنة والنار منزلة، وأنكم
صائرون إلى أحدهما!. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
خطبة لابن نباتة
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن خطب ابن نباتة الجيدة في ذكر الموت:
أيها الناس، ما أسلس قياد من كان الموت جريره، وأبعد سداد من كان هواه أميره
وأسرع فطام من كانت الدنيا ظئره، وأمنع جناب من أضحت التقوى ظهيره! فاتقوا الله عباد الله حق تقواه، وراقبوه
مراقبة من يعلم أنه يراه، وتأهبوا لوثبات المنون،
فإنها كامنة في الحركات والسكون، بينما ترى المرء
مسروراً بشبابه، مغروراً بإعجابه، مغموراً بسعة اكتسابه، مستوراً عما خلق له لما
يغرى به، إذ أسعرت فيه الأسقام شهابها، وكدرت له
الأيام شرابها، وحومت عليه المنية عقوبها، وأعلقت فيه ظفرها ونابها، فسرت فيه
أوجاعه، وتنكرت عليه طباعه، وأظل رحيله ووداعه وقل عنه منعه ودفاعه، فأصبح ذا
بصر حائر، وقلب طائر، ونفس غابر، في قطب هلاك دائر، قد أيقن بمفارقة أهله ووطنه،
وأذعن بانتزاع روحه عن بدنه، حتى إذا تحقق منه اليأس، وحل به المحذور والبأس،
أومأ إلى خاص عواده، موصياً لهم بأصاغر أولاده، جزعاً عليهم من ظفر أعدائه
وحساده والنفس بالسياق يجذب، والموت بالفراق يقرب، والعيون لهول مصرعه تسكب،
والحامة عليه تعدد وتندب، حتى تجلى له ملك الموت من حجبه، فقضى فيه قضاء أمر
ربه، فعافه الجليس، وأوحش معه الأنيس، وزود من ماله كفنا، وحمر في الأرض بعمله
مرتهناً، وحيداً على كثرة الجيران، بعيداً على قرب المكان، مقيماً بين قوم كانوا
فزالوا، وحوت عليهم الحادثات فحالوا لا يخبرون بما إليه آلوا، ولو قدروا على
المقال لقالوا، قد شربوا من الموت كأساً مرة، ولم يفقدوا من أعمالهم من ذرة،
وآلى عليهم الدهر ألية برة، ألا يجعل لهم الدنيا كرة، كأنهم لم يكونوا للعيون
قرة، ولم يعدوا في الأحياء مرة، أسكتهم الذي أنطقهم، وأبادهم الذي خلقهم
وسيوجدهم كما خلقهم، ويجمعهم كما فرقهم، يوم يعيد الله العالمين خلقاً جديداً، ويجعل
الله الظالمين لنار جهنم وقوداً: "يوم تجد كل
نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً
بعيداً". |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن خطبة له في تنزيه الله وتقديسه
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: الحمد لله
الذي لم يسبق له حال حالاً، فيكون أولاً قبل أن يكون آخراً، ويكون ظاهراً قبل أن
يكون باطناً كل مسمى بالوحدة غيره قليل، وكل عزيز غيره ذليل، وكل قوي غيره ضعيف،
وكل مالك مملوك، وكل عالم غيره متعلم، وكل قادر غيره يقدر ويعجز، وكل سميع غيره
يصم عن لطيف الأصوات، ويصمه كبيرها، ويذهب عنه ما بعد منها، وكل بصير غيره يعمى
عن خفي الألوان ولطيف الأجسام، وكل ظاهر غيره غير باطن، وكل باطن غيرة غير ظاهر. فيكون معنى الكلام على هذا التفسير
نفي كونه تعالى ذا صفة، بكونه أولاً وآخراً، بل إنما المرجع بذلك إلى إضافات لا
وجود لها في الأعيان، ولا يكون ذلك من أحوال ذاته الراجعة إليها كالعالمية
ونحوها، لأن تلك أحوال ثابتة، ونحن إنما ننفي عنه بهذه الحجة الأحوال المتعاقبة. وأما قوله:
كل مسمى بالوحدة غيره قليل، فلأن الواحد أقل
العدد، ومعنى كونه واحداً يباين ذلك، لأن معنى كونه واحداً إما نفي الثاني في
الإلهية، أو كونه يستحيل عليها الانقسام، وعلى كلا
التفسيرين يسلب عنها مفهوم القلة.
وأما قوله:
وكل عزيز غيره ذليل فهو حق، لأن غيره من الملوك وإن كان عزيزاً فهو ذليل في قبضة
القضاء والقدر، وهذا هو تفسير قوله: وكل قوي غيره ضعيف، وكل مالك غيره مملوك. وأما قوله:
وكل قادر غيره يقدر ويعجز فهو حق، لأنه تعالى قادر لذاته، ويستحيل عليه العجز،
وغيره قادر لأمر خارج عن ذاته، إما لقدرة، كما قاله قوم، أو لبنية وتركيب كما
قاله قوم آخرون، والعجز على من عداه غير ممتنع، وعليه مستحيل. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
اختلاف الفلاسفة والمجوس والمانوية ومتكلمي الإسلام
في خلق العالم
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
فأما قوله:
لم يخلق ما خلقه لتشديد سلطانه إلى قوله: عباد داخرون، فاعلم أن الناس اختلفوا
في كمية خلقه تعالى للعالم ما هي؟ على أقوال: القول
الأول: قول الفلاسفة: قال محمد بن زكريا الرازي عن أرسطاطاليس: إنه زعم أن
العالم كان عن البارئ تعالى، لأن جوهره وذاته جوهر وذات مسخرة للمعدوم أن يكون
مسخراً موجوداً. قالوا: لكن تمثل
نظام العالم في علم واجب الوجود، يقتضي فيض ذلك النظام منه، قالوا: وهذا معنى قول الحكماء الأوائل: إن علمه تعالى فعلي لا
انفعالي، وإن العلم على قسمين: أحدهما: ما يكون
المعلوم سبباً له، والثاني ما يكون هو سبب
المعلوم، مثال الأول أن نشاهد صورة فنعلمها، ومثال الثاني أن يتصور الصائغ أو النجار أو البناء
كيفية العمل فيوقعه في الخارج على حسب ما تصوره. وواحد من الخمسة منفعل غير حي، وهو
الهيولى، واثنان لا حيان ولا فاعلان ولا
منفعلان، وهما الدهر والقضاء. قالوا: والبارئ تعالى هو مبدأ العلوم والمنفعلات،
وهو قائم العلم والحكمة، كما أن النفس مبدأ الأرواح والنفوس، العلوم والمنفعلات
تفيض من البارئ سبحانه فيض النور عن قرص الشمس، والنفوس والأرواح تفيض عن النفس
الكلية فيض النور عن القرص، إلا أن النفوس جاهلة
لا تعرف الأشياء إلا على أحد وجهين: إما أن يفيض فيض البارئ تعالى عليها تعقلاً وإدراكاً، وإما أن تمارس غيرها وتمازجه، فتعرف ما تعرف باعتبار
الممارسة والمخالطة معرفة ناقصة، وكان البارئ تعالى في الأزل عالماً بأن النفس
تميل إلى التعلق بالهيولى وتعشقها، وتطلب اللذة الجسمانية، وتكره مفارقة
الأجسام، وتنسى نفسها، ولما كان البارئ سبحانه قائم العلم والحكمة، اقتضت حكمته
تركب الهيولى لما تعلقت النفس بها ضروباً مختلفة من التراكيب، فجعل منها أفلاكاً
وعناصر وحيوانات ونباتات، فأفاض على النفوس تعقلاً وشعوراً جعله سبباً لتذكرها
عالمها الأول، ومعرفتها أنها ما دامت في هذا العالم مخالطة للهيولى لم تنفك عن
الآلام، فيصير ذلك مقتضياً شوقها إلى عالمها الأول الذي لها فيه اللذات الخالية
عن الآلام، ورفضها هذا العالم الذي هو سبب أذاها ومضرتها. قال قوم منهم:
إن البارئ تعالى استوحش، ففكر فكرة رديئة، فتولد منها الشيطان، وقال آخرون: بل شك شكاً رديئاً، فتولد الشيطان من
شكه. وقال آخرون:
بل تولد من عفونة رديئة قديمة، وزعموا أن الشيطان حارب البارئ سبحانه، وكان في
الظلم لم يزل بمعزل عن سلطان البارئ سبحانه، فلم يزل يزحف حتى رأى النور، فوثب
وثبة عظيمة، فصار في سلطان الله تعالى في النور، وأدخل معه الآفات والبلايا
والسرور، فبنى الله سبحانه هذه الأفلاك والأرض والعناصر شبكة له، وهو فيها
محبوس، لا يمكنه الرجوع إلى سلطانه الأول، وصار في الظلمة، فهو أبداً يضطرب
ويرمي الآفات على خلق الله سبحانه، فمن أحياه الله رماه الشيطان بالموت، ومن
أصحه رماه الشيطان بالسقم، ومن سره رماه بالحزن والكآبة، فلا يزال كذلك، وكل يوم
ينتقص سلطانه وقوته، لأن الله تعالى يحتال له كل يوم، ويضعفه إلى أن تذهب قوته
كلها، وتجمد وتصير جماداً لا حراك به، فيضعه الله تعالى حينئذ في الجو، والجو
عندهم هو الظلمة، ولا منتهى له، فيصير في الجو جماداً جامداً هوائياً، ويجمع الله تعالى أهل الأديان فيعذبهم بقدر ما يطهرهم،
ويصفيهم من طاعة الشيطان، ويغسلهم من الأدناس، ثم يدخلهم الجنة، وهي جنة لا أكل
فيها ولا شرب ولا تمتع، ولكنها موضع لذة وسرور. وأما الثاني،
فإما أن يكون ذلك الغرض عائداً عليه سبحانه بنفع أو دفع ضرر، أو يعود على غيره. والأول باطل، لأنه غني لذاته، يستحيل عليه المنافع
والمضار ولا يجوز أن يفعله لمضرة يوصلها إلى غيره، لأن القصد إما الإضرار
بالحيوان من غير استحقاق ولا منفعة يوصل إليها بالمضرة قبيح، تعالى الله عنه فثبت أنه سبحانه إنما خلق الحيوان لنفعه، وأما غير
الحيوان فلو لم يفعله لينفع به الحيوان، لكان خلقه عبثاً، والبارئ تعالى لا يجوز
عليه العبث، فإذاً جميع ما في العالم إنما خلقه لينفع
به الحيوان. وأما قوله:
المأمول مع النقم، المرهوب مع النعم فمعنى لطيف، وإليه وقعت الإشارة بقوله
تعالى: "أفامن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا
بياتاً وهم نائمون أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون"،
وقوله سبحانه: "سنستدرجهم من حيث لا يعلمون"، وقوله تعالى: "فإن مع العسر يسراً إن مع العسر يسرا"،
وقوله سبحانه: "فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل
الله فيه خيراً كثيراً" وإليه نظر الشاعر في قوله: من عاش لاقى
مايسو_ء من الأمور وما يسر
وقال
البحتري:
وقال
آخر:
وقال
سعيد بن حميد:
وقال
آخر:
وقال
آخر:
وقال
آخر:
وقال
الحلاج:
وقال
آخر:
وقال
آخر:
ومن شعري الذي أناجي به البارئ سبحانه في خلواتي، وهو فن أطويه وأكتمه عن الناس، وإنما
ذكرت بعضه في هذا الموضع، لأن المعنى ساق إليه، والحديث ذو شجون:
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
كان يقول لأصحابه في بعض أيام صفين
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: معاشر
المسلمين، استشعروا الخشية، وتجلببوا السكينة، وعضوا على النواجذ، فإنه أنبى
للسيوف عن الهام. وأكملوا اللأمة، وقلقلوا السيوف في أغمادها قبل
سلها. والحظوا الخزر، وأطعنوا الشزر، ونافخوا بالظبا، وسلوا السيوف بالخطا. فعاودوا الكر، واستحيوا من الفر، فإنه عار في
الأعقاب، ونار يوم الحساب. وطيبوا عن
أنفسكم نفساً، وأمشوا إلى الموت مشياً سجحاً، وعليكم بهذا السواد الأعظم،
والرواق المطنب، فاضربوا ثبجه، فإن الشيطان كامن في كسره، وقد قدم للوثبة يداً،
وأخر للنكوص رجلاً فصمداً صمداً حتى ينجلي لكم عمود الحق، وأنتم الأعلون، والله
معكم ولن يتركم أعمالكم. قوله:
وعضوا على النواجذ جمع ناجذ، وهو أقصى الأضراس،
وللإنسان أربعة نواجذ في كل شق، والنواجذ بعد
الأرحاء، ويسمى الناجذ ضرس الحلم، لأنه ينبت بعد البلوغ وكمال العقل، ويقال: إن العاض على نواجذه
ينبو السيف عن هامته نبواً ما، وهذا مما يساعد التعليل الطبيعي عليه، وذلك أنه
إذا عض على نواجذه تصلبت الأعصاب والعضلات المتصلة
بدماغه، وزال عنها الاسترخاء، فكانت على
مقاومة السيف أقدر، وكان تأثير السيف فيها أقل.
فإن
كان قد جاء مسكناً فتسكينه جائز للسجعة الثانية، وهي قوله. واطعنوا الشزر.
والطعن شزراً، هو الطعن عن اليمين والشمال، ولا يسمى الطعن تجاه الإنسان شزراً. وأكثر ما تستعمل لفظة الشزر في الطعن، لما كان عن
اليمين خاصة، وكذلك إدارة الرحا. وخزراً وشزراً، صفتان
لمصدرين محذوفين، تقديره: الحظوا لحظاً خزراً،
واطعنوا طعناً شزراً، وعين اطعنوا مضمومة، يقال:
طعنت بالرمح أطعن، بالضم، وطعنت في نسبه أطعن، بالفتح، أي قدحت، قال:
قوله:
نافحوا بالظبا أي ضاربوا نفحة بالسيف، أي ضربة، ونفحت الناقة برجلها، أي ضربت. والظبا: جمع ظبة، وهي طرف
السيف.
قالوا:
بكسر نضارب لأنه معطوف على موضع جزاء الشرط، الذي هو إذا. وقال آخر:
وأنشدني شيخنا أبو القاسم الحسين بن عبد الله العكبري، ولم يسم
قائله، ووجدته بعد لنابغة بني الحارث بن كعب:
وقال
حميد بن ثور الهلالي:
وهذه
الأبيات من قطعة لحميد جيدة، ومن جملتها:
ومن
المعنى الذي نحن في ذكره، ما روي أن رجلاً من الأزد، رفع إلى المهلب سيفاً له
فقال: يا عم، كيف ترى سيفي هذا فقال: إنه لجيد لولا أنه قصير قال: أطوله يا عم
بخطوتي، فقال: والله يابن أخي، إن المشي إلى الصين أو إلى أذربيجان على أنياب
الأفاعي أسهل من تلك الخطوة، ولم يقل المهلب ذلك جبناً، بل قال ما توجبه الصورة
إذ كانت تلك الخطوة قريبة للموت، قال أبو سعد المخزومي في هذا المعنى:
من
الناس من يرويها في ديوانه لجاني بالجيم، أي حملت الحمالة عنه، ومنهم منيرويها
بالحاء، يعني الخمار. ومن المعنى المذكور أولاً قول بعض الشعراء، يمدح صخر بن
عمرو بن الشريد الأسلمي.
ومثله
قول الراجز:
ومثله:
ومنها:
ومثله
قول وداك بن ثميل المازني:
وقال
آخر:
وقال
آخر:
وقال
بعض الرجاز:
قوله رضي الله عنه: واعلموا أنكم بعين الله أي يراكم ويعلم أعمالكم، والباء
ههنا كالباء في قوله: أنت بمرأى مني ومسمع، قوله:
فعاودوا الكر أي إذا كررتم على العدو كرة فلا تقتصروا عليها، بل كروا كرة أخرى
بعدها، ثم قال لهم: واستحيوا من الفرار، فإنه عار في
الأعقاب، أي في الأولاد، فإن الأبناء يعيرون بفرار الآباء. ويجوز أن يريد
بالأعقاب جمع عقب، وهو العاقبة وما يؤول إليه الأمر،
قال سبحانه: "خير ثواباً وخير عقباً"،
أي خير عاقبة، فيعني على هذا الوجه أن الفرار عار في عاقبة أمركم، وما يتحدث به
الناس في مستقبل الزمان عنكم. والكسر: جانب الخباء. وقوله: فإن الشيطان
كامن في كسره، يحتمل وجهين، أحدهما: أن يعني به
الشيطان الحقيقي، وهو إبليس، والثاني: أن يعني
به معاوية. والثاني هو الأظهر للقرينة التي تؤيده،
وهي قوله: قد قدم للوثبة يداً، وأخر للنكوص رجلاً، أي إن جبنتم وثب، وإن شجعتم
نكص، أي تأخر وفر، ومن حمله على الوجه الأول
جعله من باب المجاز، أي أن إبليس كالإنسان الذي
يعتوره دواع مختلفة بحسب المتجددات، فإن أنتم صدقتم عدوكم القتال فر عنكم بفرار
عدوكم، وإن تخاذلتم وتواكلتم طمع فيكم بطمعه، وأقدم عليكم بإقدامه. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وقعة صفين
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال نصر: كان علي رضي
الله عنه يركب بغلة له يستلذها، قبل أن تلتقي الفئتان بصفين، فلما حضرت الحرب
وبات تلك الليلة يعبي الكتائب حتى أصبح قال: ائتوني بفرس، فأتي بفرس له ذنوب
أدهم، يقاد بشطنين، يبحث الأرض بيديه جميعاً، له حمحمة وصهيل، فركبه، وقال: "سبحان الذي
سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين"، لا حول
ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. قال نصر: فحدثني
عمر بن سعد، عن مالك بن أعين، عن زيد بن وهب، قال: لما خرج علي رضي الله عنه إليهم غداة ذلك اليوم
فاستقبلوه، رفع يديه إلى السماء، وقال: اللهم رب هذا السقف المحفوظ المكفوف،
الذي جعلته محيطاً بالليل والنهار، وجعلت فيه مجرى الشمس والقمر، ومنازل الكواكب
والنجوم، وجعلت سكانه سبطاً من الملائكة لا يسأمون العبادة، ورب هذه الأرض التي
جعلتها قراراً للأنام والهوام والأنعام، وما لا يحصى مما يرى ومما لا يرى، من
خلقك العظيم، ورب الفلك التي تجري في البحر المحيط بما ينفع الناس، ورب السحاب
المسخر بين السماء والأرض، ورب البحر المسجور، المحيط بالعالمين، ورب الجبال
الرواسي التي جعلتها للأرض أوتاداً، وللخلق متاعاً، إن أظهرتنا على عدونا،
فجنبنا البغي، وسددنا للحق. وإن أظهرتهم علينا فارزقنا الشهادة، واعصم بقية
أصحابي من الفتنة. ثم إن عبيد الله بن عمر
أرسل إلى محمد بن الحنفية: أن اخرج إلي أبارزك، فقال: نعم، ثم خرج إليه، فبصر بهما علي رضي الله عنه، فقال: من
هذان المتبارزان، قيل: محمد بن الحنفية وعبيد الله بن عمر، فحرك دابته، ثم دعا
محمداً إليه، فجاءه فقال: أمسك دابتي، فأمسكها، فمضى راجلاً بيده سيفه نحو عبيد
الله، وقال له: أنا أبارزك، فهلم إلي، فقال عبيد الله: لا حاجة بي إلى مبارزتك، قال: بلى، فهلم إلي، قال: لا أبارزك، ثم رجع إلى صفه، فرجع
علي رضي الله عنه فقال ابن الحنفية: يا أبت لم منعتني من مبارزته، فوالله لو تركتني
لرجوت أن أقتله قال: يا بني، لو بارزته أنا لقتلته، ولو بارزته أنت لرجوت
لك أن تقتله، وما كنت آمن أن يقتلك، قال: يا أبت أتبرز بنفسك إلى هذا
الفاسق اللئيم عدو الله والله لو أبوه يسألك المبارزة لرغبت بك عنه، فقال: يا
بني لا تذكر أباه، ولا تقل فيه إلا خيراً، رحم الله
أباه. فقام معاوية في أهل الشام خطيباً، فقال:
أيها الناس: أعيرونا جماجمكم وأنفسكم، لا تقتتلوا ولا تتجادلوا، فإن اليوم يوم
خطار، ويوم حقيقة وحفاظ، إنكم لعلى حق، وبأيديكم حجة، إنما تقاتلون من نكث
البيعة، وسفك الدم الحرام، فليس له في السماء عاذر، قدموا أصحاب السلاح
المستلئمة، وأخروا الحاسر، واحملوا بأجمعكم، فقد بلغ الحق مقطعه، وإنما هو ظالم
ومظلوم. ألا إن شرائع الدين واحدة، وسبله قاصدة،
من أخذ بها لحق، ومن فارقها محق، ومن تركها مرق. ليس المسلم بالخائن إذا ائتمن،
ولا بالمخلف إذا وعد، ولا بالكذاب إذا نطق. نحن أهل بيت الرحمة، وقولنا الصدق،
وفعلنا القصد، ومنا خاتم النبيين، وفينا قادة الإسلام، وفينا حملة الكتاب. ألا إنا ندعوكم إلى الله وإلى رسوله،
وإلى جهاد عدوه والشدة في أمره، وابتغاء مرضاته، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة،
وحج البيت، وصيام شهر رمضان، وتوفير الفيء على أهله
ألا وإن من أعجب، العجائب أن معاوية بن أبي سفيان
الأموي وعمرو بن العاص السهمي، أصبحا يحرضان الناس على طلب الدين بزعمهما، ولقد
علمتم أني لم أخالف رسول الله صلى الله عليه
وسلم قط، ولم أعصه في أمر، أقيه
نفسي في المواطن التي ينكص فيها الأبطال، وترعد فيها الفرائص، بنجدة أكرمني الله
سبحانه بها، وله الحمد. ولقد قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن رأسه لفي حجري، ولقد وليت غسله بيدي وحدي، تقلبه الملائكة
المقربون معي. وايم الله ما اختلفت أمة قط بعد نبيها
إلا ظهر أهل باطلها على أهل حقها، إلا ما شاء قال أبو
سنان الأسلمي: فأشهد لقد سمعت عمار بن ياسر،
يقول للناس: أما أمير المؤمنين فقد
أعلمكم أن الأمة لم تستقم عليه أولاً، وأنها لن تستقيم عليه آخراً. وقد ساقتنا
وهؤلاء القوم الأقدار، حتى لفت بيننا في هذا الموضع، ونحن من ربنا بمرأى ومسمع،
ولو شاء لعجل النقمة، ولكان منه النصر، حتى يكذب الله الظالم، ويعلم الحق أين
مصيره. ولكنه جعل الدنيا دار الأعمال، والآخرة
دار الجزاء والقرار "ليجزي الذين
أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى". ألا إنكم ملاقو العدو غداً إن شاء الله، فأطيلوا الليلة القيام،
وأكثروا تلاوة القرآن، واسألوا الله الصبر والنصر، والقوهم بالجد والحزم، وكونوا
صادقين. قال: فوثب
الناس إلى رماحهم وسيوفهم ونبالهم يصلحونها، وخرج رضي الله عنه فعبى الناس ليلته تلك كلها حتى أصبح، وعقد الألوية، وأمر
الأمراء، وكتب الكتائب، وبعث إلى أهل الشام منادياً نادى فيهم: اغدوا على
مصافكم. فضج أهل الشام في معسكرهم، واجتمعوا إلى معاوية
فعبى خيله، وعقد ألويته، وأمر أمراءه، وكتب كتائبه، وأحاط به أهل حمص في راياتهم، وعليهم أبو
الأعور السلمي، وأهل الأردن في راياتهم،
وعليهم عمرو بن العاص، وأهل قنسرين وعليهم زفر بن الحارث الكلابي،
وأهل دمشق وهم القلب وعليهم الضحاك بن قيس الفهري، فأطافوا كلهم بمعاوية، وكان أهل الشام أكثر من أهل العراق بالضعف، وسار أبو
الأعور وعمرو بن العاص ومن معهما، حتى وقفا بحيال أهل العراق، فنظرا إليهم،
واستقلا جمعهم، وطمعا فيهم، ونصب لمعاوية منبر، فقعد عليه في قبة ضربها، ألقى
عليها الثياب والأرائك، وأحاط به أهل يمن، وقال:
لا يقربن هذا المنبر أحد لا تعرفونه إلا قتلتموه كائناً من كان.
قال نصر: وقال
معاوية: من في ميسره أهل العراق، فقيل: ربيعة،
فلم يجد في الشام ربيعة، فجاء بحمير، فجعلها بإزاء
ربيعة على قرعة أقرعها بين حمير وعك، فقال ذو الكلاع الحميري: باستك من سهم لم
تبغ الضراب كأنه أنف عن أن تكون حمير بإزاء ربيعة، فبلغ ذلك جحدراً الحنفي، فحلف
بالله إن عاينه ليقتلنه أو ليموتن دونه، فجاءت حمير حتى وقفت بإزاء ربيعة، وجعل السكاسك والسكون بإزاء كندة،
وعليهما الأشعث بن قيس، وجعل بإزاء همدان العراق الأزد،
وبإزاء مذحج العراق عكا.
وقال راجز من أهل الشام:
قال:
وطرحت عك حجراً بين أيديهم، وقالوا: لا نفر حتى يفر هذا الحكر بالكاف وعك تقلب
الجيم كافاً وصف القلب خمسة صفوف، وفعل أهل العراق أيضاً مثل ذلك، ونادى عمرو بن العاص بأعلى صوته:
فرد
أهل العراق وقالوا:
ثم
نادى عمرو بن العاص ثانية برفع صوته:
فرد
عليه أهل العراق:
وقال
إبراهيم بن أوس بن عبيدة من أهل الشام:
قال نصر: وبات علي رضي الله عنه ليلته يعبئ الناس حتى إذا أصبح زحف
بهم، وخرج إليه معاوية في أهل الشام فجعل يقول: من هذه القبيلة، ومن هذه القبيلة، يعني قبائل أهل الشام،
فيسمون له حتى إذا عرفهم، وعرف مراكزهم قال للأزد: اكفوني الأزد، وقال لخثعم:
اكفوني خثعماً، وأمر كل قبيلة من العراق أن تكفيه أختها
من أهل الشام، إلا قبيلة ليس منهم بالعراق إلا القليل مثل بجيلة، فإن
لخماً كانت بإزائها. ثم تناهض القوم يوم الأربعاء سادس
صفر واقتتلوا إلى آخر نهارهم، وانصرفوا عند المساء، وكل غير غالب. من يفعل هذا يمقته
الله، فلا تعرضوا لمقت الله، فإنما مردكم إلى الله، قال الله تعالى لقوم عابهم: "لن
ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تمتعون إلا قليلاً"، وايم الله لئن فررتم من سيف العاجلة لا تسلمون من سيف
الآخرة، استعينوا بالصدق والصبر فإنه بعد الصبر ينزل النصر. قال نصر: وحدثنا عمرو بن شمر، عن جابر،
عن الشعبي، عن مالك بن قدامة الأرحبي، قال: قام سعيد بن
قيس يخطب أصحابه بقناصرين فقال: الحمد لله الذي هدانا لدينه، وأورثنا كتابه،
وامتن علينا بنبيه، فجعله رحمة للعالمين، وسيداً للمرسلين، وقائداً للمؤمنين،
وخاتماً للنبيين، وحجة الله العظيم على الماضين والغابرين، ثم كان فيما قضى الله
وقدره وله الحمد على ما أحببنا وكرهنا أن ضمنا وعدونا بقناصرين، فلا يجمل بنا
اليوم الحياص وليس هذا بأوان انصراف، ولات حين مناص وقد خصنا الله بمنه برحمة لا
نستطيع أداء شكرها، ولا نقدر قدرها، إن أصحاب محمد المصطفين الأخيار معنا، وفي
حيزنا، فوالله الذي هو بالعباد بصير أن لو كان قائدنا رجلاً مجدعاً، إلا أن معنا
من البدريين سبعين رجلاً لكان ينبغي لنا أن تحسن بصائرنا، وتطيب أنفسنا، فكيف
وإنما رئيسنا ابن عم نبينا، بدري صدق، صلى صغيراً، وجاهد مع نبيكم كثيراً،
ومعاوية طليق من وثاق الإسار وابن طليق. ألا إنه
أغوى جفاة فأوردهم النار، وأوردهم العار، والله محل بهم الذل والصغار. ألا إنكم ستلقون عدوكم غداً، فعليكم بتقوى الله، من
الجد والحزم، والصدق والصبر فإن الله مع الصابرين. ألا إنكم
تفوزون بقتلهم، ويشقون بقتلكم، والله لا يقتل رجل منكم رجلاً منهم إلا أدخل الله
القاتل جنات عدن، وأدخل المقتول ناراً تلظى "لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون"، عصمنا
الله وإياكم بما عصم به أولياءه، وجعلنا وإياكم ممن أطاعه واتقاه، وأستغفر الله
العظيم لي ولكم وللمؤمنين، ثم قال الشعبي: ولقد صدق فعله ما قال في خطبته. فقام عمرو فقال: معاشر أهل الشام، سووا صفوفكم قص
الشارب، وأعيرونا جماجمكم ساعة، فقد بلغ الحق مقطعه، فلم يبق إلا ظالم أو مظلوم. قال نصر: وحدثنا
عمرو بن شمر، عن جابر، عن الفضل بن أدهم، عن أبيه أن
الأشتر قام يخطب الناس بقناصرين، وهو يومئذ على فرس أدهم، مثل حلك الغراب، فقال:
الحمد لله الذي خلق السموات العلى "الرحمن على العرش استوى له ما في
السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى"، أحمده على حسن البلاء،
وتظاهر النعماء حمداً كثيراً، بكرة وأصيلاً، من هداه الله فقد اهتدى، ومن يضلل
فقد غوى، أرسل محمداً بالصواب والهدى، فأظهره على الدين كله ولو كره المشركون
صلى الله عليه وآله وسلم. ثم قد كان
مما قضى الله سبحانه وقدر أن ساقتنا المقادير إلى أهل هذه البلدة من الأرض، فلفت بيننا وبين عدو الله وعدونا، فنحن بحمد الله ونعمه، ومنه
وفضله، قريرة أعيننا، طيبة أنفسنا، نرجو بقتالهم حسن الثواب، والأمن من العقاب،
معنا ابن عم نبينا، وسيف
من سيوف الله علي بن أبي طالب، صلى مع رسول الله، لم يسبقه إلى الصلاة
ذكر حتى كان شيخاً، لم تكن له صبوة ولا نبوة ولا هفوة ولا سقطة، فقيه في دين
الله تعالى، عالم بحدود الله، ذو رأي أصيل، وصبر جميل، وعفاف قديم، فاتقوا الله
وعليكم بالحزم والجد، واعلموا أنكم على الحق، وأن القوم على الباطل، إنما تقاتلون معاوية وأنتم مع البدريين، قريب من مائة
بدري، سوى من حولكم من أصحاب محمد، أكثر ما معكم رايات قد كانت مع رسول الله، ومع معاوية رايات قد كانت مع المشركين على رسول الله، فما يشك
في قتال هؤلاء إلا ميت القلب، أنتم على إحدى الحسنيين، إما الفتح وإما الشهادة،
عصمنا الله وإياكم بما عصم به من أطاعه واتقاه، وألهمنا وإياكم طاعته وتقواه،
وأستغفر الله لي ولكم. قال نصر: وحدثنا عمرو
بن شمر، عن جابر، عن الشعبي، عن صعصعة بن صوحان، عن زامل بن عمرو الجذامي، قال: طلب معاوية إلى ذي الكلاع أن يخطب الناس ويحرضهم على قتال علي رضي الله عنه ومن معه من أهل العراق،
فعقد فرسه، وكان من أعظم أصحاب معاوية خطراً، وخطب الناس، فقال: الحمد لله حمداً
كثيراً، نامياً واضحاً منيراً، بكرة وأصيلاً، أحمده وأستعينه، وأومن به، وأتوكل
عليه، وكفى بالله وكيلاً وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن
محمداً عبده ورسوله، أرسله بالفرقان إماماً، وبالهدى ودين الحق، حين ظهرت
المعاصي، ودرست الطاعة، وامتلأت الأرض جوراً وضلالة، واضطرمت الدنيا نيرانا
وفتنة، وورك عدو الله إبليس، على أن يكون قد عبد في أكنافها، واستولى على جميع
أهلها، فكان محمد صلى الله عليه وسلم هو الذي أطفأ الله به نيرانها، ونزع به
أوتادها وأوهن به قوى إبليس وآيسه مما كان قد طمع فيه من ظفره بهم، وأظهره على
الدين كله ولو كره المشركون، ثم كان من قضاء الله أن ضم
بيننا وبين أهل ديننا بصفين، وإنا لنعلم أن فيهم
قوماً قد كانت لهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سابقة ذات شأن وخطر عظيم،
ولكني ضربت الأمر ظهراً وبطناً، فلم أر يسعني أن يهدر دم عثمان صهر نبينا صلى
الله عليه وسلم، الذي جهز جيش العسرة، وألحق في مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيتاً، وبنى سقاية، بايع له نبي الله بيده اليمنى على اليسرى، واختصه
بكريمتيه: أم كلثوم ورقية، فإن كان قد أذنب ذنباً فقد أذنب من هو خير منه، قال
الله سبحانه لنبيه: "ليغفر
لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر" وقتل
موسى نفساً، ثم استغفر الله فغفر له، وقد أذنب
نوح، ثم استغفر الله فغفر له، وقد أذنب أبوكم
آدم، ثم استغفر الله فغفر له، ولم يعر أحدكم من
الذنوب، وإنا لنعلم أنه قد كانت لابن أبي طالب
سابقة حسنة مع رسول الله صلى الله عليه
وسلم، فإن لم يكن مالأ على قتل
عثمان فلقد خذله، وإنه لأخوه في دينه وابن عمه وسلفه وابن عمته. ثم قد
أقبلوا من عراقهم حتى نزلوا شامكم، وبلادكم
وبيضتكم وإنما عامتهم بين قاتل وخاذل، فاستعينوا بالله واصبروا، فلقد ابتليتم
أيتها الأمة ولقد رأيت في منامي في ليلتي هذه، لكأنا وأهل العراق اعتورنا مصحفاً
نضربه بسيوفنا، ونحن في ذلك جميعاً ننادي: ويحكم الله! ومع أنا والله لا نفارق
العرصة حتى نموت، فعليكم بتقوى الله، ولتكن النيات لله، فإني سمعت عمر بن الخطاب يقول: سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنما يبعث المقتتلون على النيات" أفرغ
الله علينا وعليكم الصبر وأعز لنا ولكم النصر وكان لنا ولكم في كل أمر، وأستغفر
الله لي ولكم. قال نصر: وحدثنا
عمرو بن شمر، عن ابن عامر، عن صعصعة العبدي،
عن أبرهة بن الصباح، قال: قام يزيد بن أسد
البجلي في أهل الشام يخطب الناس بصفين، وعليه قباء من خز، وعمامة سوداء، آخذاً
بقائم سيفه، واضعاً نصل السيف في الأرض، متوكئاً عليه. قال صعصعة:
فذكر لي أبرهة أنه كان يومئذ من أجمل العرب وأكرمها وأبلغها، فقال: الحمد لله الواحد الفرد، ذي الطول والجلال،
العزيز الجبار، الحكيم الغفار، الكبير المتعال، ذي العطاء والفعال، والسخاء
والنوال، والبهاء والجمال، والمن والإفضال، مالك اليوم الذي لا بيع فيه ولا
خلال، أحمده على حسن البلاء، وتظاهر النعماء، وفي كل حال من شدة أو رخاء. أحمده
على نعمه التوام، وآلائه العظام، حمداً يستنير بالليل والنهار. وأشهد أن لا إله
إلا الله وحده لا شريك له، كلمة النجاة في الحياة، وعند الوفاة، وفيها الخلاص
يوم القصاص، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، النبي المصطفى، وإمام الهدى صلى الله عليه وسلم. ثم كان من قضاء الله أن
جمعنا وأهل ديننا في هذه الرقعة من الأرض، والله يعلم أني كنت كارهاً لذلك ولكنهم لم يبلعونا ريقنا، ولم
يتركونا نرتاد لأنفسنا، وننظر لمعادنا، حتى نزلوا بين أظهرنا، وفي حريمنا
وبيضتنا. وقد علمنا أن في القوم أحلاماً وطغاماً، ولسنا نأمن من طغامهم على
ذرارينا ونسائنا،
ولقد كنا نحب ألا نقاتل أهل ديننا، فأخرجونا حتى صارت
الأمور إلى أن قاتلناهم غداً حمية فإنا لله وإنا إليه راجعون، والحمد لله
رب العالمين أما والذي بعث محمداً بالرسالة، لوددت أني
مت منذ سنة، ولكن الله إذا أراد أمراً لم يستطع
العباد رده، فنستعين بالله العظيم، وأستغفر الله لي ولكم.
ويروى:
قال:
فأجابه شاعر من شعراء أهل العراق:
قال نصر: فحدثنا
عمرو بن شمر، عن جابر، عن الشعبي أن أول فارسين التقيا
في هذا اليوم وهو اليوم السابع من صفر، وكان من الأيام العظيمة في صفين، ذا
أهوال شديدة حجر الخير وحجر الشر أما حجر الخير فهو حجر بن عدي، صاحب أمير
المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأما حجر الشر فابن عمه، كلاهما من
كندة، وكان من أصحاب معاوية، فاطعنا برمحيهما، وخرج رجل من بني أسد، يقال
له خزيمة، من عسكر معاوية، فضرب حجر بن عدي ضربة برمحه،
فحمل أصحاب علي رضي الله عنه فقتلوا خزيمة الأسدي، ونجا حجر الشر هارباً، فالتحق
بصف معاوية. ثم برز حجر الشر ثانية، فبرز إليه الحكم بن أزهر من أهل العراق،
فقتله حجر الشر فخرج إليه رفاعة بن ظالم الحميري، من صف العراق فقتله، وعاد إلى
أصحابه يقول: الحمد لله الذي قتل حجر الشر بالحكم بن أزهر. ثم إن عليا رضي الله عنه دعا أصحابه إلى أن يذهب واحد منهم بمصحف كان
في يده إلى أهل الشام، فقال:
من يذهب إليهم، فيدعوهم إلى ما في هذا المصحف، فسكت الناس، وأقبل فتى اسمه سعيد،
فقال: أنا صاحبه، فأعاد القول ثانية، فسكت الناس، وتقدم
الفتى، فقال: أنا صاحبه، فسلمه إليه فقبضه بيده، ثم أتاهم فأنشدهم الله،
ودعاهم إلى ما فيه فقتلوه، فقال علي رضي الله عنه لعبد الله بن بديل بن ورقاء
الخزاعي: احمل
عليهم الآن. فحمل عليهم بمن معه من أهل الميمنة، وعليه يومئذ سيفان ودرعان، فجعل
يضرب بسيفه قدماً، ويقول:
فلم يزل يحمل حتى انتهى إلى معاوية، والذين بايعوه إلى الموت، فأمرهم أن يصمدوا لعبد الله بن بديل،
وبعث إلى حبيب بن مسلمة الفهري وهو في الميسرة، أن يحمل عليه بجميع من معه،
واختلط الناس، واضطرم الفيلقان، ميمنة أهل العراق وميسرة أهل الشام، وأقبل عبد الله بن بديل يضرب الناس بسيفه قدماً، حتى أزال
معاوية عن موقفه وجعل ينادي: يا ثارات عثمان وإنما يعني أخاً له قد قتل، وظن معاوية وأصحابه أنه يعني عثمان بن عفان، وتراجع
معاوية عن مكانه القهقرى كثيراً وأشفق على نفسه، وأرسل إلى حبيب بن مسلمة مرة
ثانية، وثالثة، يستنجده ويستصرخه، ويحمل حبيب حملة شديدة بميسرة معاوية على
ميمنة العراق، فكشفها حتى لم يبق مع ابن بديل إلا نحو
مائة إنسان من القراء، فاستند بعضهم إلى بعض، يحمون أنفسهم، ولجج ابن
بديل في الناس وصمم على قتل معاوية، وجعل يطلب موقفه، ويصمد نحوه، حتى انتهى إليه، ومع معاوية عبد الله بن عامر واقفاً، فنادى
معاوية في الناس: ويلكم الصخر والحجارة إذا عجزتم عن السلاح. فرضخه الناس
بالصخر والحجارة، حتى أثخنوه فسقط، فأقبلوا عليه بسيوفهم، فقتلوه.
ثم قال: إن نساء خزاعة لو قدرت على أن تقاتلني فضلاً عن رجالها،
لفعلت. قال نصر:
فحدثنا عمرو، قال: حدثنا مالك بن أعين، عن زيد بن وهب، قال:
لقد مر علي رضي الله عنه يومئذ
ومعه بنوه نحو الميسرة، ومعه ربيعة وحدها، وإني لأرى النبل
يمر بين عاتقه ومنكبيه، وما من بنيه إلا من يقيه بنفسه، فيكره علي رضي الله عنه ذلك.
فيتقدم عليه، ويحول بينه وبين أهل الشام ويأخذه بيده إذا فعل ذلك، فيلقيه من
ورائه، ويبصر به أحمر مولى بني أمية، وكان
شجاعاً، وقال علي رضي الله عنه:
ورب الكعبة، قتلني الله إن لم أقتلك! فأقبل نحوه، فخرج
إليه كيسان مولى علي رضي الله عنه، فاختلفا ضربتين، فقتله أحمر، وخالط علياً ليضربه بالسيف، وينتهزه علي، فتقع يده في جيب
درعه، فجذبه عن فرسه، فحمله على عاتقه، فوالله لكأني أنظر إلى رجلي أحمر تختلفان
على عنق علي، ثم ضرب به الأرض، فكسر منكبه وعضديه، وشد ابنا علي: حسين ومحمد
فضرباه بأسيافهما حتى برد، فكأني أنظر إلى علي قائماً، وشبلاه يضربان
الرجل حتى إذا أتيا عليه، أقبلا على أبيهما، والحسن قائم معه، فقال له علي: يا
بني، ما منعك أن تفعل كما فعل أخواك، فقال: كفياني يا أمير المؤمنين. فقالوا: خذ بنا حيث أحببت، فصمد بهم نحو عظمهم واستقبله أشباههم من
همدان،
وهم نحو ثمانمائة مقاتل قد انهزموا آخر الناس، وكانوا
قد صبروا في ميمنة علي رضي الله عنه حتى قتل منهم مائة وثمانون رجلاً، وأصيب منهم أحد عشر رئيساً، كلما
قتل منهم رئيس أخذ الراية آخر،
وهم بنو شريح الهمدانيون وغيرهم من رؤساء العشيرة، فأول
من أصيب منهم كريب بن شريح، وشرحبيل بن شريح، ومرثد بن شريح، وهبيرة بن شريح،
وهريم بن شريح، وشهر بن شريح، وشمر بن شريح، قتل هؤلاء
الإخوة الستة في وقت واحد. فانصرفوا وهم يقولون:
ليت لنا عديداً من العرب يحالفوننا على الموت، ثم نستقدم نحن وهم فلا ننصرف حتى
نظفر أو نقتل، فمروا بالأشتر وهم يقولون هذا القول فقال لهم الأشتر: أنا أحالفكم وأعاقدكم على
ألا نرجع أبداً، حتى نظفر أو نهلك، فوقفوا معه
على هذه النية والعزيمة، فهذا معنى قول كعب بن جعيل:
قال: وزحف الأشتر نحو الميمنة، وثاب إليه أناس تراجعوا من أهل
الصبر والوفاء والحياء،
فأخذ لا يصمد لكتيبة إلا كشفها، ولا لجمع إلا حازه ورده، فإنه لكذلك إذ مر بزياد
بن النضر مستلحماً، فقال الأشتر: هذا والله
الصبر الجميل، هذا والله الفعل الكريم إلي، وقد كان هو وأصحابه في ميمنة العراق،
فتقدم فرفع رايته لهم، فصبروا وقاتل حتى صرع، ثم لم يلبث الأشتر إلا يسيراً كلا
شيء حتى مر بهم يزيد بن قيس الأرحبي مستلحماً أيضاً محمولاً، فقال الأشتر: من هذا، قالوا: يزيد بن قيس، لما صرع
زياد بن النضر دفع رايته لأهل الميمنة، فقاتل تحتها حتى صرع، فقال الأشتر: هذا والله الصبر الجميل، هذا والله
الفعل الكريم، ألا يستحي الرجل أن ينصرف لم يقتل ولم يقتل ولم يشف به على القتل! قال نصر: وحدثنا
عمرو عن الحارث بن الصباح، قال: كان بيد الأشتر يومئذ صفيحة له يمانية، إذا
طأطأها خلت فيها ماء ينصب، وإذا رفعها يكاد يعشي البصر شعاعها، ومر يضرب الناس
بها قدماً، ويقول:
قال:
فبصر به الحارث بن جمهان الجعفي، والأشتر مقنع في الحديد فلم يعرفه، فدنا منه،
وقال له: جزاك الله منذ اليوم عن أمير المؤمنين وعن جماعة المسلمين خيراً. فعرفه الأشتر
فقال: يابن جمهان، أمثلك يتخلف اليوم عن مثل موطني هذا! فتأمله ابن جمهان
فعرفه وكان الأشتر من أعظم الرجال وأطولهم، إلا أن في لحمه خفة قليلة فقال له:
جعلت فداك! لا والله ما علمت مكانك حتى الساعة، ولا والله لا أفارقك حتى أموت. قال نصر:
وحدثنا عمرو، عن مالك بن أعين، عن زيد بن وهب، أن علياً
رضي الله عنه لما رأى ميمنته قد عادت إلى موقفها ومصافها، وكشفت من بإزائها حتى
ضاربوهم في مواقفهم ومراكزهم، أقبل حتى انتهى إليهم، فقال: إني قد رأيت
جولتكم وانحيازكم من صفوفكم، يحوزكم الجفاة الطغاة وأعراب أهل الشام، وأنتم
لهاميم العرب، والسنام الأعظم، وعمار الليل بتلاوة القرآن، وأهل دعوة الحق، إذ
ضل الخاطئون. فلولا إقبالكم بعد إدباركم وكركم بعد
انحيازكم، وجب عليكم ما وجب على المولي يوم الزحف دبره، وكنتم فيما أرى من
الهالكين، ولقد هون علي بعض وجدي، وشفى بعض لاعج نفسي، أني رأيتكم بأخرة،
حزتموهم كما حازوكم، وأزلتموهم عن مصافهم كما أزالوكم تحشونهم بالسيوف، يركب
أولهم آخرهم، كالإبل المطرودة الهيم، فالآن فاصبروا،
نزلت عليكم السكينة وثبتكم الله باليقين، وليعلم المنهزم أنه يسخط ربه، ويوبق
نفسه، وفي الفرار موجدة الله عليه، والذل اللازم له، وفساد العيش. وإن الفار لا
يزيد الفرار في عمره، ولا يرضي ربه، فموت الرجل محقاً قبل إتيان هذه الخصال، خير
من الرضا بالتلبس بها، والإصرار عليها. فغضب عبد الله بن
حنش، قال: اللهم قيض له وهب بن مسعود يعني رجلاً من خثعم الكوفة، كان
شجاعاً يعرفونه في الجاهلية لم يبارزه رجل قط إلا قتله فخرج إليه وهب بن مسعود فقتله، ثم اضطربوا ساعة، واقتتلوا أشد قتال، فجعل أبو كعب يقول لأصحابه: يا معشر خثعم! خدموا، أي اضربوا
موضع الخدمة، وهي الخلخال، يعني اضربوهم في سوقهم، فناداه عبد الله بن حنش: يا أبا كعب، الكل
قومك فأنصف، قال: إي والله وأعظم. واشتد قتالهم، فحمل شمر بن
عبد الله الخثعمي، من خثعم الشام، على أبي كعب، فطعنه فقتله، ثم انصرف يبكي، ويقول: يرحمك الله أبا كعب! لقد
قتلتك في طاعة قوم أنت أمس بي رحماً منهم، وأحب إلي منهم نفساً، ولكني والله لا
أدري ما أقول، ولا أرى الشيطان إلا قد فتننا، ولا أرى قريشاً إلا وقد لعبت بنا قال: ووثب كعب بن أبي كعب إلى راية أبيه، فأخذها ففقئت عينه
وصرع، ثم أخذها شريح بن مالك الخثعمي، فقاتل القوم تحتها حتى صرع منهم حول
رايتهم نحو ثمانين رجلاً، وأصيب من خثعم الشام مثلهم، ثم ردها شريح بن مالك بعد
ذلك إلى كعب بن أبي كعب.
ثم قاتل حتى قتل،
فأخذها بعده أخوه عبد الرحمن بن قلع، فقاتل حتى قتل، ثم أخذها عفيف بن إياس
الأحمسي، فلم تزل بيده حتى تحاجز الناس. قال: وهل منه بد! والله لأقتلنه، أو ليلحقني بقائد
بن بكير. فبرز له ومعه جحفة من جلود الإبل فدنا منه، فإذا الحديد مفرغ على
الكلاعي لا يبين من نحره إلا مثل شراك النعل من عنقه بين بيضته ودرعه، فضربه
الكلاعي، فقطع جحفته إلا نحواً من شبر، فضربه عياش على ذلك الموضع، فقطع نخاعه،
فقتله، وخرج ابن الكلاعي ثائراً بأبيه، فقتله بكير بن
وائل. ثم أخذها عبد الله بن كعب فقتل، ثم أخذها سلمة بن
خذيم بن جرثومة، فارتث وصرع، ثم أخذها عبد الله بن عمرو بن كبشة، فارتث، ثم
أخذها أبو مسبح بن عمرو فقتل، ثم أخذها عبد الله بن النزال فقتل، ثم أخذها ابن أخيه
عبد الرحمن بن زهير، فقتل، ثم أخذها مولاه مخارق فقتل، حتى
صارت إلى عبد الرحمن بن محنف الأزدي. فقال محنف:
أعزبك الله في التيه! والله ما علمتك صغيراً ولا كبيراً إلا مشؤوماً، والله ما
ميلنا في الرأي بين أمرين قط أيهما نأتي وأيهما ندع في جاهلية ولا إسلام إلا
أخترت أعسرهما وأنكدهما. اللهم أن تعافينا أحب إلي من أن تبتلينا، اللهم أعط كل
رجل منا ما سألك. فتقدم جندب بن زهير، فبارز أزدياً من
أزد الشام، فقتله الشامي. اللهم
إنا نحتسب أنفسنا عندك، فاستقدموا جميعاً، وقاتلوا حتى قتلوا.
فقتل
مالك ذلك اليوم. وقال أخوه نهشل بن حري التميمي يرثيه:
وقال
أيضاً يرثيه:
قال نصر: وحدثنا عمرو، قال: حدثني يونس بن أبي إسحاق، قال: قال لنا أدهم بن محرز الباهلي، ونحن
معه لأذرح، هل رأى أحد منكم شمر بن ذي الجوشن،
فقال عبد الله بن كبار النهدي وسعيد بن حازم البلوي: نحن رأيناه، قال: فهل
رأيتما ضربة بوجهه، قالا: نعم، قال: أنا والله ضربته تلك الضربة بصفين.
ثم
حمل على أدهم وهو يعرف وجهه وأدهم ثابت له لم ينصرف فطعنه، فوقع عن فرسه، وحال
أصحابه دونه، فانصرف شمر وقال: هذه بتلك.
قال نصر:
فلما انقضى هذا اليوم بما فيه، أصبحوا في اليوم الثامن
من صفين، والفيلقان متقابلا، فخرج رجل من أهل
الشام فسأل المبارزة، فخرج إليه رجل من أهل العراق، فاقتتلا بين الصفين قتالاً
شديداً. ثم إن العراقي أعتنقه فوقعا جميعاً، وغار الفرسان. ثم إن العراقي
قهره، فجلس على صدره، وكشف المغفر عنه، يريد ذبحه، فإذا
هو أخوه لأبيه وأمه، فصاح به أصحاب علي رضي
الله عنه: ويحك أجهز عليه! قال: إنه أخي، قالوا:
فاتركه، قال: لا والله حتى يأذن أمير المؤمنين، فأخبر
علي رضي الله عنه بذلك،
فأرسل إليه أن دعه، فتركه، فقام فعاد إلى صف معاوية. وإن معاوية دعاه، فقال له: يا حريث، اتق علياً
وضع رمحك حيث شئت. فأتاه عمرو بن العاص، فقال: يا حريث، إنك والله لو كنت قرشياً لأحب لك معاوية أن تقتل
علياً، ولكن كره أن يكون لك حظها، فإن رأيت فرصة
فاقتحم. قال: وخرج علي رضي الله عنه في هذا اليوم أمام
الخيل، فحمل عليه حريث. قال نصر:
فحدثني عمرو بن شمر، عن جابر، قال: برز حريث مولى
معاوية هذا اليوم، وكان شديداً أيداً ذا بأس لا يرام، فصاح: يا علي، هل لك في المبارزة، فأقدم أبا حسن إن
شئت، فأقبل علي رضي الله عنه، وهو يقول:
ثم خالطه فما أمهله أن ضربه ضربة واحدة، فقطعه نصفين.
قال نصر:
فلما قتل حريث برز عمرو
بن الحصين السكسكي، فنادى: يا أبا حسن، هلم إلى
المبارزة، فأومأ رضي الله عنه إلى سعيد بن قيس
الهمداني، فبارزه فضربه بالسيف فقتله.
قال نصر: فحدثني
عمم و بن شمر، قال: ثم قام علي رضي الله عنه بين
الصفين، ونادى. يا معاوية، يكررها، فقال معاوية: سلوه ما شأنه، قال: أحب
أن يظهر لي فأكلمه كلمة واحدة. فبرز معاوية ومعه عمرو
بن العاص، فلما قارباه، لم يلتفت إلى عمرو، وقال
لمعاوية: ويحك! علام يقتتل الناس بيني وبينك، ويضرب
بعضهم بعضاً! أبرز إلي، فأينا قتل صاحبه فالأمر له. فالتفت معاوية إلى
عمرو، فقال: ما ترى يا أبا عبد الله، قال: قد أنصفك
الرجل، واعلم أنك إن نكلت عنه لم يزل سبة عليك وعلى عقبك ما بقي على ظهر الأرض
عربي. فقال معاوية: يابن العاص، ليس مثلي يخدع
عن نفسه، والله ما بارز ابن أبي طالب شجاع قط إلا وسقى الأرض من دمه، ثم
انصرف معاوية راجعاً حتى انتهى إلى آخر الصفوف وعمرو معه، فلما رأى علي رضي الله عنه ذلك ضحك، وعاد إلى موقفه. قال نصر: قال: وحقدها
معاوية على عمرو باطناً، وقال له ظاهراً: ما أظنك قلت ما قلته يا أبا عبد الله
إلا مازحاً! فلما جلس معاوية مجلسه، أقبل عمرو يمشي حتى جلس إلى جانبه، فقال معاوية:
فقال عمرو:
أيها الرجل، أتجبن عن خصمك، وتتهم نصيحك وقال
مجيباً له:
وروى ابن قتيبة في كتابه المسمى عيون الأخبار قال: قال أبو الأغر التميمي: بينا أنا
واقف بصفين، مر بي العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد
المطلب، مكفراً بالسلاح، وعيناه تبصان من تحت المغفر، كأنهما عينا أرقم،
وبيده صفيحة يمانية يقلبها، وهو على فرس له صعب، فبينا هو يمغثه، ويلين من
عريكته، هتف به هاتف من أهل الشام، يعرف بعرار بن أدهم:
يا عباس، هلم إلى البراز قال العباس: فالنزول إذاً فإنه إياس من القفول، فنزل الشامي، وهو يقول:
وثنى العباس رجله، وهو يقول:
ثم
عصب فضلات درعه في حجزته، ودفع فرسه إلى غلام له أسود، يقال له أسلم، كأني والله
أنظر إلى فلافل شعره، ثم دلف كل واحد منهما إلى صاحبه، فذكرت
قول أبي ذؤيب:
وكفت
الناس أعنة خيولهم ينظرون ما يكون من الرجلين، فتكافحا بسيفيهما ملياً من
نهارهما لا يصل واحد منهما إلى صاحبه لكمال لأمته إلى أن لحظ العباس وهناً في
درع الشامي، فأهوى إليه بيده، فهتكه إلى ثندوته، ثم عاد لمجاولته، وقد أصحر له
مفتق الدرع، فضر به العباس ضربة انتظم بها جوانح صدره،
فخر الشامي لوجهه، وكبر الناس تكبيرة ارتجت لها الأرض من تحتهم، وسما العباس في
الناس، فإذا قائل يقول من ورائي: "قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم
ويشف صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء"، فالتفت فإذا أمير المؤمنين رضي الله عنه، فقال لي: يا
أبا الأغر، من المنازل لعدونا، قلت: هذا ابن أخيكم، هذا العباس بن ربيعة، فقال:
وإنه لهو يا عباس الم أنهك، وابن عباس، أن تخلا بمراكزكما، وأن تباشرا حرباً
قال: إن ذلك كان، قال: فما عدا مما بداً قال: يا أمير المؤمنين، أفأدعى
إلى البراز فلا أجيب! قال: نعم طاعة إمامك أولى من إجابة عدوك، ثم تغيظ واستطار حتى قلت: الساعة الساعة. ثم سكن وتطامن،
ورفع يديه مبتهلاً، فقال: اللهم أشكر للعباس مقامه، واغفر ذنبه، إني قد غفرت له،
فاغفر له. قال: ولهف معاوية على عرار، وقال: متى ينتطح
فحل لمثله أيطل دمه لاها الله إذاً! ألا رجل يشري نفسه لله، يطلب بدم عرار! فانتدب له رجلان من لخم فقال لهما: اذهبا، فأيكما
قتل العباس برازاً فله كذا، فأتياه، فدعواه للبراز، فقال: إن لي سيداً أريد أن
أؤامره. فأتى علياً رضي الله عنه، فأخبره الخبر، فقال علي رضي الله عنه، والله
لود معاوية أنه ما بقي من بني هاشم نافخ ضرمة إلا طعن في بطنه، إطفاء لنور الله: "ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره
المشركون" أما والله ليملكنهم منا رجال ورجال يسومونهم الخسف، حتى
يحتفروا الآبار، ويتكففوا الناس، ويتوكلوا على المساحي ثم
قال: يا عباس، ناقلني سلاحك بسلاحي، فناقله، ووثب على فرس العباس، وقصد
اللخميين، فما شكا أنه هو، فقالا: أذن لك
صاحبك، فحرج أن يقول: نعم، فقال: "أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم
لقدير، فبرز إليه أحدهما، فكأنما اختطفه، ثم برز
له الآخر فألحقه بالأول، ثم أقبل وهو يقول:
"الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه
بمثل ما اعتدى عليكم" ثم قال: يا عباس، خذ سلاحك وهات سلاحي، فإن
عاد لك أحد فعد إلي. قال نصر بن مزاحم:
وحدثنا عمرو، قال: حدثني فضيل بن خديج، قال: خرج رجل من أهل الشام يدعو إلى
المبارزة، فخرج إليه عبد الرحمن بن محرز الكندي ثم الطمحي، فتجاولا ساعة. ثم إن
عبد الرحمن حمل على الشامي، فطعنه في نقرة نحره فصرعه، ثم نزل إليه فسلبه درعه
وسلاحه، فإذا هو عبد أسود، فقال: إنا لله! أخطرت نفسي بعبد أسود. قال: وخرج رجل
من عك، فسأل البراز، فخرج إليه قيس بن فهران الكندي، فما ألبثه أن طعنه فقتله،
وقال:
قال:
وحمل عبد الله بن الطفيل البكائي على صفوف أهل الشام، فلما انصرف حمل عليه رجل
من بني تميم يقال له قيس بن فهد الحنظلي اليربوعي، فوضع الرمح بين كتفي عبد
الله، فاعترضه يزيد بن معاوية البكائي، ابن عم عبد الله بن الطفيل، فوضع الرمح
بين كتفي التميمي، وقال: والله لئن طعنته لأطعننك، فقال: عليك عهد الله لئن رفعت
السنان عن ظهر صاحبك لترفعنه عن ظهري قال: نعم، لك
العهد والميثاق بذلك. فرفع السنان عن ظهر عبد الله، فرفع يزيد السنان عن التميمي، فوقف التميمي، وقال ليزيد: ممن أنت، قال: من بني عامر، قال: جعلني الله فداكم، أينما لقيناكم، لقيناكم كراماً، أما
والله إني لآخر أحد عشر رجلاً من بني تميم قتلتموهم اليوم.
قال
نصر: وخرج ابن مقيدة الحمار الأسدي وكان ذا بأس وشجاعة،
وهو من فرسان الشام فطلب البراز، فقام المقطع العامري، وكان شيخاً كبيراً، فقال
علي رضي الله عنه له: اقعد، فقال: يا أمير المؤمنين لا تردني، إما أن تقتلني
فأتعجل الجنة وأستريح من الحياة الدنيا في الكبر والهرم، أو أقتله فأريحك منه.
قال نصر: وأبلت محارب يومئذ مع أمير المؤمنين رضي الله عنه بلاء حسناً، وكان عنتر بن عبيد بن خالد بن
المحاربي أشجع الناس يومئذ، فلما رأى أصحابه متفرقين،
ناداهم: يا معشر قيس، أطاعة الشيطان أبر عندكم من طاعة الرحمن! ألا إن
الفرار فيه معصية الله وسخطه، وإن الصبر فيه طاعة الله ورضوانه، أفتختارون سخط
الله على رضوانه، ومعصيته على طاعته! ألا إنما الراحة
بعد الموت لمن مات محتسباً لنفسه، ثم يرتجز فيقول:
وقاتل
حتى ارتث. وكان يقول: لقد كنت
أحب أن أبصر أخي في نومي، فرأيته، فقلت له: يا أخي، ما الذي قدمتم عليه، فقال لي: التقينا نحن وأهل الشام بين يدي الله سبحانه،
فاحتججنا عنده، فحججناهم. فما سررت بشيء منذ عقلت سروري
بتلك الرؤيا.
قلت: هكذا روى نصر بن مزاحم، وسائر الرواة رووا له رضي الله عنه الأبيات
الستة الأولى، ورووا باقي الأبيات، من
قوله: وقد صبرت عك للحضين بن المنذر صاحب الراية. فقام إليه رجل من ربيعة، وقال: قد ضاع والله أمر ربيعة حين جعلت
أمرها إليك، تأمرنا ألا نحول ولا نزول، حتى نقتل أنفسنا، ونسفك دماءنا. ثم خرج نحو خمسمائة فارس أو أكثر من أصحاب علي رضي الله عنه على
رؤوسهم البيض وهم غائصون في الحديد، لا يرى منهم إلا الحدق، وخرج إليهم من أهل
الشام نحوهم في العدة، فاقتتلوا
بين الصفين، والناس وقوف تحت راياتهم، فلم يرجع
من هؤلاء ولا من هؤلاء مخبر، لا عراقي ولا شامي، قتلوا
جميعاً بين الصفين.
وقال
شبث بن ربعي التميمي:
قال نصر:
ثم ذهب هذا اليوم بما فيه، فأصبحوا في اليوم التاسع من صفر، وقد خطب معاوية أهل
الشام وحرضهم، فقال: إنه قد نزل بكم من الأمر ما ترون، وحضركم ما حضركم، فإذا
نهدتم إليهم إن شاء الله، فقدموا الدارع ، وأخروا الحاسر، وصفوا الخيل وأجنبوها،
وكونوا كقص الشارب، وأعيرونا جماجمكم ساعة، فإنما هو ظالم أو مظلوم، وقد بلغ
الحق مقطعه. قال نصر: وكانت
التعبية في هذا اليوم كالتعبية في الذي قبله، وحمل عبيد
الله بن عمر في قراء أهل الشام، ومعه ذو الكلاع في حمير على ربيعة، وهي
في ميسرة علي رضي الله عنه، فقاتلوا قتالاً شديداً، فأتى زياد بن خصفة إلى عبد
القيس، فقال لهم: لا بكر بن وائل بعد اليوم! إن ذا الكلاع وعبيد الله أبادا
ربيعة، فانهضوا لهم وإلا هلكوا. فركبت عبد القيس، وجاءت كأنها غمامة سوداء فشدت
أزر الميسرة، فعظم القتال، فقتل ذو الكلاع الحميري،
قتله رجل من بكر بن وائل، اسمه خندف، وتضعضعت أركان حمير، وثبتت بعد قتل ذي
الكلاع تحارب مع عبيد الله بن عمر، وأرسل عبيد
الله إلى الحسن بن علي رضي الله عنه: إن لي إليك حاجة فالقني، فلقيه الحسن رضي
الله عنه، فقال له عبيد الله: إن أباك قد وتر
قريشاً أولاً وآخراً، وقد شنئه الناس، فهل لك في خلعه، وأن تتولى أنت هذا الأمر!
فقال: كلا والله، لا يكون ذلك. ثم
قال: يا بن الخطاب، والله لكأني أنظر إليك مقتولاً في
يومك أو غدك. أما إن الشيطان قد زين لك وخدعك، حتى أخرجك مخلقاً بالخلوق،
ترى نساء أهل الشام موقفك، وسيصرعك الله، ويبطحك لوجهك قتيلاً.
فحمل
عليه حريث بن جابر الحنفي، وقال:
قال
نصر: فقال كعب بن جعيل التغلبي يرثي عبيد الله، وكان كعب شاعر أهل الشام:
قلت: هذا الشعر نظمه كعب بن جعيل بعد رفع المصاحف وتحكيم الحكمين
يذكر فيه ما مضى هم من الحرب على عادة شعراء العرب، والضمير في قوله: دعاهن فاستسمعن من أين صوته يرجع إلى نساء عبيد الله، وكانت تحته أسماء بنت عطارد
بن حاجب بن زرارة التميمي وبحرية بنت هانئ بن قبيصة الشيباني، وكان عبيد الله قد
أخرجهما معه إلى الحرب ذلك اليوم لينظرا إلى قتاله، فوقفتا راجلتين، وإلى أسماء
بنت عطارد، أشار كعب بن جعيل بقوله: تبدل من أسماء
أسياف وائل والشعر يدل على أن ربيعة قتلته، لا همدان ولا حضرموت.
وقال
الصلتان العبدي يذكر مقتل عبيد الله، وأن حريث بن جابر الحنفي قتله:
قال نصر: فأما ذو الكلاع فقد ذكرنا مقتله، وأن قاتله خندف البكري. قال نصر:
فحدثنا عمرو، قال: حدثنا الحارث بن حصيرة أن ابن ذي الكلاع، أرسل إلى الأشعث بن
قيس رسولاً يسأله أن يسلم إليه جثة أبيه، فقال الأشعث: إني أخاف أن يتهمني أمير
المؤمنين في أمره، فاطلبه من سعيد بن قيس فهو في الميمنة، فذهب إلى معاوية فاستأذنه أن يدخل إلى عسكر علي رضي الله عنه،
يطلب أباه بين القتلى، فقال له: إن علياً قد منع أن يدخل أحد منا إلى معسكره،
يخاف أن يفسد عليه جنده، فخرج ابن ذي الكلاع، فأرسل إلى سعيد بن قيس الهمداني
يستأذنه في ذلك، فقال سعيد: إنا لا نمنعك من دخول العسكر؛ إن أمير المؤمنين لا
يبالي من دخل منكم إلى معسكره؛ فادخل، فدخل من قبل الميمنة، فطاف فلم
يجده، ثم أتى الميسرة فطاف فلم يجده، ثم وجده وقد ربطت رجله بطنب من أطناب بعض
فساطيط العسكر فجاء فوقف على باب الفسطاط، فقال:
السلام عليكم يا أهل البيت فقيل له: وعليك السلام فقال: أتأذنون لنا في
طنب من أطناب فسطاطكم؛ ومعه عبد أسود لم يكن معه غيره. فقالوا: قد أذنا لكم، وقالوا له: معذرة إلى الله وإليكم أما إنه لولابغيه علينا ما
صنعنا به ما ترون فنزل ابنه إليه، فوجده قد انتفخ- وكان من أعظم الناس
خلقاً- فلم يطق احتماله، فقال: هل من فتى معوان؛ فخرج إليه خندف البكري
فقال: تنحوا عنه فقال ابنه: ومن الذي يحمله إذا تنحينا عنه؛ قال: يحمله قاتله.
فاحتمله خندف حتى رمى به على ظهر بغل، ثم شده بالحبال، فانطلقا به.
فنادى منادي مذحج؛
يا لمذحج! خدموا- أي اضربوا السوق مواضع الخدمة، وهي الخلاخيل- فاعترضت مذحج سوق
القوم، فكان فيه بوار عامتهم ونادى منادي جذام حين طحنت رحا القوم وخاضت الخيل
والرجال في الدماء: الله لله في جذام، ألا تذكرون الأرحام، أفنيتم لخما الكرام،
والأشعرين وآل ذي حمام! أين النهى والأحلام! هذي النساء
تبكي الأعلام. قال: إنه لا غنى بك عن ذلك، ولكن أعرها عمك ساعة، فما أسرع ما ترجع إليك! قال
الحضين: فقلت: إنه قد استقتل، وإنه يريد أن يموت
مجاهداً، فقلت له: خذها فأخذها، ثم قال لأصحابه: إن عمل الجنة كره كله وثقيل، وإن عمل الناس خف كله وخبيث، إن الجنة لا
يدخلها إلا الصابرون الذين صبروا أنفسهم على فرائض الله وأمره، وليس شيء مما
افترض الله على العباد أشد من الجهاد، هو أفضل الأعمال ثواباً عند الله، فإذا
رأيتموني قد شددت فشدوا، ويحكم! أما تشتاقون إلى الجنة! أما تحبون أن يغفر الله
لكم! فشد وشدوا معه، فقاتلوا قتالاً شديداً،
فقتل أبو عرفاء رحمه الله تعالى، وشدت ربيعة بعده شدة عظيمة على صفوف أهل الشام فنقضتها.
وقال مجزأة بن ثور:
قال نصر:
وكان حريث بن جابر يومئذ نازلاً بين الصفين في
قبة له حمراء، يسقي أهل العراق اللبن والماء
والسويق، ويطعمهم اللحم والثريد، فمن شاء أكل، ومن شاء شرب، ففي ذلك يقول
شاعرهم:
قلت:
هذا حريث بن جابر؛ هو الذي كتب معاوية إلى زياد
في أمره بعد عام الجماعة - وحريث عامل لزياد على همدان-
أما بعد فاعزل حريث بن جابر عن عمله فما ذكرت مواقفه
بصفين إلا كانت حزازة في صدري. فكتب إليه زياد: خفض
عليك يا أمير المؤمنين، فإن حريثاً قد بلغ من الشرف مبلغاً لا تزيده الولاية، ولا ينقصه
العزل.
ثم قال لعمرو: يا
عمرو، ما ترى! قال: أرى ألا تحنث أخوالي اليوم. فقام معاوية وخلى لهم سرادقه
ورحله وخرج فاراً عنه لائذاً ببعض مضارب العسكر في أخريات الناس فدخله، وانتهبت ربيعة سرادقه ورحله وبعث إلى خالد بن المعمر: إنك قد ظفرت ولك إمرة خراسان إن
لم تتم. فقطع خالد القتال ولم يتمه، وقال لربيعة:
قد برت أيمانكم فحسبكم فلما كان عام الجماعة، وبايع
الناس معاوية، أمره معاوية على خراسان، وبعثه إليها فمات قبل أن يبلغها. ثم
إن خيل أهل الشام حملت على خيل أهل العراق، فاقتطعوا من أصحاب علي رضي الله عنه ألف رجل أو أكثر، فأحاطوا بهم، وحالوا
بينهم وبين أصحابهم فلم يروهم، فنادى علي رضي الله عنه
يومئذ: ألا رجل يشري نفسه لله ويبيع دنياه بآخرته! فأتاه رجل من جعف يقال! له عبد
العزيز بن الحارث، على فرس أدهم، كأنه غراب مقنع في
الحديد، لا يرى منه إلا عيناه، فقال: يا أمير المؤمنين، مرني بأمرك، فوالله لا
تأمرني بشيء إلا صنعته، فقال علي رضي الله عنه:
يا أبا الحارث، شد الله ركنك، احمل على أهل الشام، حتى تأتي أصحابك
فتقول لهم: إن أمير المؤمنين يقرأ عليكم السلام؛ ويقول لكم: هللوا وكبروا من
ناحيتكم، ونهلل نحن ونكبر من هاهنا، واحملوا من جانبكم، ونحمل نحن من جانبنا على
أهل الشام. فضرب الجعفي فرسه؛
حتى إذا أقامه على أطراف سنابكه، حمل على أهل الشام المحيطين بأصحاب علي رضي
الله عنه، فطاعنهم ساعة، وقاتلهم، فأفرجوا له حتى خلص
إلى أصحابه، فلما رأوه استبشروا به وفرحوا، وقالوا: ما فعل أمير المؤمنين؛ قال:
صالح، يقرئكم السلام ويقول لكم: هللوا وكبروا واحملوا حملة شديدة من جانبكم،
ونهلل نحن ونكبر ونحمل من جانبنا، ففعلوا ما أمرهم به، وهللوا وكبروا، وهلل علي
رضي الله عنه وكبر هو وأصحابه، وحمل على أهل الشام وحملوا هم من وسط أهل الشام، فانفرج القوم عنهم وخرجوا؛ وما أصيب منهم رجل واحد ولقد قتل
من فرسان الشام يومئذ زهاء سبعمائة إنسان.
فقام
أبو الطفيل عامر بن واثلة الكناني، وعمير بن
عطارد بن حاجب بن زرارة التميمي، وقبيصة بن جابر الأسدي، وعبد الله بن الطفيل العامري في وجوه قبائلهم، فأتوا علياً رضي
الله عنه، فتكلم أبو الطفيل، فقال إنا
والله يا أمير المؤمنين ما نحسد قوماً خصهم الله منك بخير وإن هذا الحي من ربيعة
قد ظنوا أنهم أولى بك منا، فأعفهم عن القتال أياماً،
واجعل لكل امرئ منا يوماً يقاتل فيه فإنا إذا اجتمعنا
اشتبه عليك بلاؤنا. فقال علي رضي الله عنه: نعم
أعطيكم ما طلبتم، وأمر ربيعة أن تكف عن القتال،
وكانت بإزاء اليمن من صفوف أهل الشام، فغدا أبو الطفيل
عامر بن واثلة في قومه من كنانة، وهم جماعة عظيمة، فتقدم أمام الخيل، وهو
يقول: طاعنوا وضاربوا. ثم حمل. وارتجز فقال:
فاقتتلوا
قتالاً شديداً ثم انصرف أبو الطفيل إلى علي رضي
الله عنه، فقال: يا أمير المؤمنين، إنك أنبأتنا أن أشرف
القتل الشهادة، وأحظى الأمر الصبر، وقد والله صبرنا حتى أصبنا، فقتيلنا شهيد،
وحينا سعيد، فليطلب من بقي ثأر من مضى فإنا وإن كنا قد ذهب صفونا، وبقي كدرنا، فإن
لنا ديناً لا يميل به الهوى، ويقينا لا تزحمه الشبهة فأثنى علي رضي الله
عنه عليه خيراً. ثم
غدا في اليوم الثاني عمير بن عطارد بجماعة من بني تميم-
وهو يومئذ سيد مضر الكوفة- فقال يا قوم، إني
أتبع آثار أبي الطفيل، فاتبعوا آثار كنانة، ثم قدم رايته وارتجز فقال:
ثم طعن برايته حتى خضبها، وقاتل أصحابه قتالاً شديداً حتى أمسوا،
وانصرف عمير إلى علي رضي الله عنه، وعليه سلاحه، فقال: يا أمير المؤمنين، قد كان ظني بالناس
حسناً، وقد رأيت منهم فوق ظني بهم قاتلوا من كل جهة، وبلغوا من علوهم جهد عدوهم،
وهم لهم إن شاء الله.
فقاتل
القوم إلى أن دخل الليل، ثم انصرفوا.
قال
نصر: وحدثنا عمرو، عن الأشعث بن سويد، عن كردوس، قال:
كتب عقبة بن مسعود عامل علي على الكوفة إلى سليمان بن صرد الخزاعي؛ وهو مع علي
بصفين: أما بعد: فإنهم "إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في
ملتهم ولن تفلحوا إذا أبداً" فعليك بالجهاد والصبر مع أمير المؤمنين. والسلام. والله إنا على الحق وإنهم
على الباطل فلا يجتمعن على باطلهم وتتفرقوا عن حقكم حتى يغلب باطلهم حقكم
"قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم"، فإن لم تفعلوا يعذبهم بأيدي غيركم. ثم نهض إلى القوم فاقتتلوا من حين طلعت الشمس
حتى غاب الشفق الأحمر، وما كانت صلاة القوم في ذلك
اليوم إلا تكبيراً. قال: وحدثنا عمرو بن شمر، عن جابر، عن الشعبي، عن
صعصعة بن صوحان، قال: برز في بعض أيام صفين رجل من
حمير، من آل ذي يزن، اسمه كريب بن الصباح، ليس في الشام يومئذ رجل أشهر بالبأس
والنجدة منه، فنادى: من يبارز؟ فخرج إليه المرتفع
بن الوضاح الزبيدي، فقتله، ثم نادى: من يبارز؟ فخرج إليه الحارث بن الجلاح، فقتله، ثم نادى: من يبارز؟ فخرج
إليه عابد بن مسروق الهمداني فقتله، ثم رمى بأجسادهم بعضها فوق بعض، وقام عليها بغياً واعتداء،
ونادى: من يبارز؟ فخرج إليه علي، وناداه:
ويحك يا كريب! إني أحذرك الله وبأسه ونقمته،
وأدعوك إلى سنة الله وسنة رسوله، ويحك! لا يدخلنك
معاوية النار؛ فكان جوابه له أن قال: ما أكثر ما قد سمعت منك هذه المقالة! ولا
حاجة لنا فيها، أقدم إذا شئت، من يشتري سيفي وهذا أثره؛ فقال علي: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم مشى إليه فلم يمهله أن ضربه
ضربة خر منها قتيلاً يشحط في دمه، ثم نادى: من يبرز؟ فبرز إليه الحارث بن وادعة الحميري، فقتله، ثم نادى: من يبرز؟
فبرز إليه المطاع بن مطلب العنسي، فقتله، ثم
نادى: من يبرز؟ فلم يبرز إليه أحد، فنادى: يا معشر المسلمين، "الشهر الحرام بالشهر
الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا
الله واعلموا إن الله مع المتقين"، ويحك يا
معاوية! هلم إلي فبارزني؛ ولا يقتلن الناس فيما بيننا. فقال عمرو بن العاص: اغتنمه منتهزاً؛ قد
قتل ثلاثة من أبطال العرب وإني أطمع أن يظفرك الله به، فقال معاوية: والله لن
تريد إلا أن أقتل فتصيب الخلافة بعدي؛ اذهب، إليك عني، فليس مثلي يخدع. أو لا
تعلمون أن صلاتنا وصلاتهم، وصيامنا وصيامهم، وحجنا وحجهم، وقتلنا وقتلهم، وديننا
ودينهم واحد؛ ولكن الأهواء مختلفة؛ اللهم أصلح
هذه الأمة بما أصلحت به أولها، واحفظ فيما بينها؛ مع أن
القوم قد وطئوا بلادكم، وبغوا عليكم، فجدوا في قتال عدوكم، واستعينوا
بالله ربكم، وحافظوا على حرماتكم. ثم جلس. الحمد لله رب العالمين؛ الذي دحا تحتنا سبعاً، وسمك
فوقنا سبعاً، وخلق فيما بينهن خلقاً؛ وأنزل لنا منهن رزقاً، ثم جعل كل شيء قدراً
يبلى ويفنى غير وجهه الحي القيوم، الذي يحيا ويبقى. إن الله تعالى بعث أنبياء ورسلاً؛ فجعلهم حججاً على
عباده، عذراً أو نذراً، لا يطاع إلا بعلمه وإذنه، يمن بالطاعة على من يشاء من
عباده، ثم يثيب عليها، ويعمى بعلم منه، فيعفو ويغفر بحلمه، لا يقدر قدره، ولا
يبلغ شيء مكانه، أحمى كل شيء عدداً، وأحاط بكل شيء علماً. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد
أن محمداً عبده ورسوله، إمام الهدى، والنبي المصطفى، وقد
ساقنا قدر الله إلى ما ترون، حتى كان مما اضطرب من حبل هذه الأمة، وانتشر من
أمرها، أن معاوية بن أبي سفيان، وجد من طغام
الناس أعواناً، على علي ابن عم رسول الله وصهره، وأول ذكر صلى معه، بدري، قد شهد
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كل مشاهده التي فيها الفضل ومعاوية مشرك، كان يعبد الأصنام،
والذي ملك الملك وحده، وبأن به وكان أهله، لقد قاتل علي بن أبي طالب مع رسول
الله، وهو يقول: صدق الله ورسوله، ومعاوية يقول: كذب الله ورسوله، فعليكم بتقوى
الله، والجد والحزم والصبر، والله إنا لنعلم إنكم لعلى حق، وإن القوم لعلى باطل،
فلا يكونن أولى بالجد على باطلهم منكم في حقكم، وإنا لنعلم أن الله سيعذبهم
بأيديكم أو بأيدي غيركم، اللهم أعنا ولا تخذلنا؛ وانصرنا على عدونا، ولا تحل
عنا؛ وافتح بيننا وبين قومنا بالحق، وأنت خير الفاتحين. اللهم إنك تعلم أني لو أعلم أن رضاك أن أضع ظبة
سيفي في بطني ثم أنحني عليه حتى يخرج من ظهري لفعلت؛ اللهم إني أعلم مما علمتني
أني لا أعمل عملاً صالحاً هذا اليوم، هو أرضى من جهاد هؤلاء الفاسقين، ولو أعلم
اليوم عملاً هو أرضى لك منه لفعلته. وروى ابن ديزيل في كتاب صفين، عن صيف الضبي، قال: سمعت الصعب بن حكيم
بن شريك بن نملة المحاربي يروي عن أبيه عن جده شريك، قال: كان الناس من أهل العراق وأهل
الشام يقتتلون أيام صفين، ويتزايلون، فلا يستطيع الرجل أن يرجع إلى مكانه حتى
يسفر الغبار عنه، فاقتتلوا يوماً، وتزايلوا وأسفر الغبار، فإذا علي تحت رايتنا- يعني
بني محارب- فقال: هل من ماء؟ فأتيته بإداوة فخنثتها له ليشرب، فقال: لا إنا
نهينا أن نشرب من أفواه الأسقية. ثم علق سيفه وإنه لمخضب بالدم من ظبته إلى
قائمه، فصببت له على يديه فغسلهما حتى أنقاهما، ثم شرب بيديه حتى إذا روي رفع
رأسه، ثم قال: أين مضر؛ فقلت: أنت فيهم يا أمير المؤمنين، فقال: من أنتم بارك
الله فيكم؛ فقلنا: نحن بنو محارب، فعرف موقفه، ثم رجع إلى موضعه.
وروى ابن ديزيل، عن يحيى بن سليمان الجعفي، قال: حدثنا مسهر بن عبد الملك بن سلع
الهمداني، قال: حدثني أبي عن عبد خير الهمداني، قال: كنت أنا وعبد خير في سفر،
قلت: يا أبا عمارة، حدثني عن بعض ما كنتم فيه بصفين، فقال لي: يابن أخي، وما
سؤالك؛ فقلت: أحببت أن أسمع منك شيئاً، فقال: يابن أخي؛ إنا كنا لنصلي الفجر،
فنصف ويصف أهل الشام، ونشرع الرماح إليهم ويشرعون بها نحونا، أما لو دخلت تحتها
لأظلتك؛ والله يابن أخي، إنا كنا لنقف ويقفون في الحرب لا نفتر ولا يفترون، حتى
نصلي العشاء الآخرة؛ ما يعرف الرجل منا طول ذلك اليوم من عن يمينه ولا من عن
يساره، من شدة الظلمة والنقع إلا بقرع الحديد بعضه على بعض، فيبرز منه شعاع
كشعاع الشمس، فيعرف الرجل من عن يمينه ومن عن يساره؛ حتى إذا صلينا العشاء
الآخرة جررنا قتلانا إلينا فتوسدناهم حتى نصبح، وجروا قتلاهم فتوسدوهم حتى
يصبحوا. قال:
قلت له يا أبا عمارة، هذا والله الصبر. قلت: ليت شعري! لم برأ نفسه، وكان
رأسا في الفتنة! بل لولاه لم تكن؛ ولكن الله تعالى أنطقه بهذا الكلام وأشباهه؛
ليظهر بذلك شكه، وأنه لم يكن على بصيرة من أمره. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الفهرس الجزء
الخامس - باب المختار من الخطب والأوامر - ابن ابي الحديد. الفرق
بين الكناية والتعريض....
خروج
ابن عمرو الخثعمي بالجزيرة الناسك
المجتهد المستورد السعدي.. ومن
خطبة له يحذر من فتنة الدنيا ومن
خطبة له في تنزيه الله وتقديسه. اختلاف
الفلاسفة والمجوس والمانوية ومتكلمي الإسلام في خلق العالم.
كان
يقول لأصحابه في بعض أيام صفين... |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الجزء الخامس - باب المختار
من الخطب والأوامر - ابن ابي الحديد
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
والحمد لله رب العالمين، والصلاة
والسلام على خير خلقه محمد وآله وصحبه أجمعين الأصل: وقال
عليه السلام لما عزم على حرب الخوارج، وقيل
له: إن القوم قد عبروا جسر النهروان: مصارعهم
دون النطفة؟ والله لا يفلت منهم عشرة، ولا يهلك منكم عشرة. والأخبار على قسمين:
أحدهما: الأخبار
المجملة، ولا إعجاز فيها نحو أن يقول الرجل لأصحابه: إنكم ستنصرون على
هذه الفئة التي تلقونها غداً، فإن نصر جعل ذلك حجة له عند أصحابه وسماها معجزة،
وإن لم ينصر، قال لهم: تغيرت نياتكم وشككتم في قولي، فمنعكم الله نصره؟ ونحو ذلك
من القول، ولأنه قد جرت العادة أن الملوك والرؤساء يعدون أصحابهم بالظفر والنصر،
ويمنونهم الدول، فلا يدل وقوع ما يقع من ذلك على إخبار عن غيب يتضمن إعجازاً. والقسم الثاني: في
الأخبار المفصلة عن الغيوب، مثل هذا الخبر،
فإنه لا يحتمل التلبيس، لتقييده بالعدد المعين في أصحابه وفي الخوارج، ووقوع
الأمر بعد الحرب بموجبه من غير زيادة ولا نقصان، وذلك
أمر إلهي عرفه من جهة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرفه رسول الله صلى الله عليه وسلم من جهة الله سبحانه. والقوة
البشرية تقصر عن إدراك مثل هذا، ولقد كان له من هذا الباب ما لم يكن لغيره. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ظهور الغلاة
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وأول من جهر بالغلو
في أيامه عبد الله بن سبأ، قام إليه وهو يخطب،
فقال له: أنت أنت! وجعل يكررها، فقال له: ويلك!
من أنا. فقال: أنت الله، فأمر بأخذه وأخذ قوم كانوا معه على رأيه. أن علياً قال:
"يهلك في رجلان: محب مطر يضعني غير موضعي ويمدحني
بما ليس في، ومبغض مفتر يرميني بما أنا منه بريء".
وروى أصحابنا في كتب المقالات أنه لما حرقهم صاحوا إليه: الآن ظهر لنا ظهوراً بيناً أنك أنت
الإله! لأن ابن عمك الذي أرسلته قال: "لا يعذب بالنار إلا رب النار".
قال:
فلم يبرح واقفاً عليهم حتى صاروا حمماً. وقال لما بلغه
قتل علي: والله لو جئتمونا بدماغه في سبعين صرة، لعلمنا أنه لم يمت، ولا
يموت حتى يسوق العرب بعصاه. فلما بلغ ابن
عباس ذلك، قال: لو علمنا أنه يرجع لما تزوجنا نساءه، ولا قسمنا ميراثه. قال أصحاب المقالات: واجتمع إلى عبد الله بن سبأ
بالمدائن جماعة على هذا القول؟ منهم عبد الله بن صبرة الهمداني، وعبد الله بن
عمرو بن حرب الكندي، وآخرون غيرهما وتفاقم أمرهم. وقد أومأ بعض شعراء الإمامية إلى هذه المقالة، فجعلها من فضائله،
وذلك قوله:
وقالوا أيضاً:
إن بكرياً وشيعياً تجادلا، واحتكما إلى بعض أهل الذمة، ممن لا هوى له مع أحد
الرجلين في التفضيل، فأنشدهما:
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الإخبار عن الغيوب
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
فأما الإخبار عن الغيوب، فلمعترض أن
يقول:
قد يقع الإخبار عن الغيوب من طريق النجوم، فإن المنجمين قد اتفقوا على أن شكلاً
من أشكال الطالع إذا وقع لمولود، اقتضى أن يكون صاحبه متمكناً من الإخبار عن
الغيوب. وقد يقع
الإخبار عن الغيوب لأصحاب زجر الطير والبهائم، كما يحكى عن بني لهب في الجاهلية،
وقد يقع الإخبار عن الغيوب للقافة، كما يحكى عن بني مدلج. وقد يقع الإخبار عن الغيوب لأرباب النفس الناطقة
القوية الصافية، التي تتصل مادتها الروحانية على ما تقوله الفلاسفة. وقد يقع الإخبار عن الغيوب بطريق المنامات الصادقة؟
على ما رآه أكثر الناس، وقد وردت الشريعة نصاً به. وقد يقع الإخبار عن الغيوب بأمر صناعي يشبه
الطبيعي، كما رأيناه عن أبي البيان وابنه، وقد يقع
الإخبار عن الغيوب بواسطة إعلام ذلك الغيب إنساناً آخر، لنفسه بنفس ذلك
المخبر اتحاد أو كالاتحاد، وذلك كما يحكي أبو
البركات بن ملكا الطبيب في كتاب المعتبر، قال: والمرأة العمياء التي
رأيناها ببغداد، وتكررت مشاهدتنا لها منذ مدة مديدة، قدرها ما يقارب ثلاثين سنة؟
وهي على ذلك إلى الآن تعرض عليها الخبايا، فتدل عليها بأنواعها وأشكالها
ومقاديرها، وأعدادها ة غريبها ومألوفها دقيقها وجليلها، تجيب على أثر السؤال من
غيرتوقف ولا استعانة بشيء من الأشياء، إلا أنها كانت تلتمس أن ترى الذي يسأل عنه
أبوها، أو يسمعه في بعض الأوقات دون بعض، وعند قوم دون قوم، فيتصور في أمرها أن
الذي تقوله بإشارة من أبيها، وكان الني تقوله يبلغ الكثرة إلى ما يزيد على عشرين
كلمة، إذا قيل بصريح الكلام الذي هو الطريق الأخصر، وإنما كان أبوها يقول إذا
رأى ما يراه من أشياء كثيرة مختلفة الأنواع والأشكال في مدة واحدة كلمة واحدة،
وأقصاه كلمتان وهي التي يكررها في كل قول ومع كل ما يسمع ويرى: سلها وسلها
تخبرك، أو قولي له، أو قولي يا صغيرة. قلت: لك العلة التي تصلح في جواب لم، في نسبة
المحمول إلى الموضوع تكون الحد الأوسط في القياس وهذه، فالعلة الفاعلة الموجبة
لذلك فيها هي نفسها بقوتها وخاصتها، فما الذي أقوله في هذا! وهل لي أن أجعل ما
ليس بعلة علة! واعلم أنا لا ننكر أن يكون في نوع البشر أشخاص يخبرون عن الغيوب،
ولكن كل ذلك مستند إلى البارىء سبحانه بإقداره وتمكينه وتهيئة أسبابه، فإن كان
المخبر عن الغيوب ممن يدعي النبوة لم يجز أن يكون ذلك إلا بإذن الله سبحانه
وتمكينه، وأن يريد به تعالى استدلال المكلفين على صدق مدعي النبوة، لأنه لو كان
كاذباً لكان يجوز أن يمكن الله تعالى الجن من تعليمه ذلك إضلالا للمكلفين، وكذلك لا يجوز أن يمكن سبحانه الكاذب في ادعاء
النبوة من الإخبار عن الغيب بطريق السحر وتسخير الكواكب، والطلسمات، ولا بالزجر،
ولا بالقيافة، ولا بغير ذلك من الطرق المذكوره، لما فيه من استفساد البشر
وإغوائهم. وأما إذا لم يكن المخبرعن الغيوب مدعياً للنجوة، نظر في حاله، فإن كان ذلك من الصالحين الأتقياء نسب ذلك إلى أنه كرامة أظهرها الله تعالى على يده، إبانة
له وتمييزاً من غيره، كما في حق علي رضي
الله عنه ، وإن لم يكن كذلك أمكن
أن يكون ساحراً أو كاهناً، أو نحو ذلك. كلا والله، إنهم نطف في أصلاب الرجال،
وقرارات النساء، وكلما نجم منهم قرن قطع حتى يكون آخرهم لصوصاً سلابين. قرارات النساء: كناية لطيفة عن الأرحام. وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم
للحادى: "يا أنجشة، رفقاً
بالقوارير" ، يعني النساء. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الكناية وتوابعها
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
والكناية
إبدال لفظة يستحى من ذكرها، أو يستهجن ذكرها، أو يتطير بها، ويقتضي الحال رفضها
لأمير من الأمور بلفظة ليس فيها ذلك المانع، ومن هذا الباب قول امرىء القيس:
قوله:
فصرنا إلى الحسنى، كناية عن الرفث ومقدمات الجماع.
وأراد الشاعر وطب اللبن، فقال الأحنف: هو السخينة يا أمير المؤمنين، لأن
قريشا كانت تعيربأكل السخينة قبل الإسلام، لأن أكثر زمانها كان زمان قحط،
والسخينة ما يسخن بالنار ويذر عليه دقيق، وغلب ذلك على
قريش حتى سميت سخينة،
قال حسان:
فعبر
كل واحد من معاوية والأحنف عما أراده بلفظ غير
مستهجن ولا مستقبح، وعلم كل واحد منهما مراد صاحبه، ولم يفهم الحاضرون ما دار
بينهما، وهذا من باب التعريض، وهو قريب من الكناية.
وأنشد
الفرزدق في سليمان بن عبد الملك شعراً قال فيه:
فاستنكر سليمان ذلك وكان غيوراً جداً، وقال له: قد أقررت بالزنا، فلأجلدنك، فقال:
يا أمير المؤمنين إني شاعر، وإن الله يقول في الشعراء: "وإنهم
يقولون ما لا يفعلون"، وقد قلت ما لم أفعل، قال سليمان: نجوت بها. ورأى عبد الله بن سلام على إنسان ثوباً معصفراً ، فقال: لو أن ثوبك في تنور أهلك لكان خيراً لك، فذهب
الرجل فأحرق ثوبه في تنور أهله وظن أنه أراد الظاهر ة ولم يرد ابن سلام ذلك، وإنما أراد: لو صرف ثمنه في دقيق يخبزه في تنور أهله.
وقد
فسر قوم قوله تعالى: "وإذا مروا باللغو مروا
كراماً" فقالوا: أراد: وإذا عبروا عن اللفظ بما يقبح ذكره كنوا عنه،
فسمي التعبيرعن الشيء مروراً به، وسمي الكناية
عنه كرماً. فقالت: موضع لا يضع الراقي فيه أنفه كنت
بذلك عن السوأة.
وهذا من أبيات المعاني، يقول: هم أهل عز ومنعة، فسقى راعيهم إبلهم بالسمات التي على
الإبل، وعلم المزاحمون له في الماء أنه لا طاقة لهم بمنازعتهم عليه لعزهم، فكانت
السمات سببا لسقيها. والأوار: العطش،
فكنى سبحانه بقوله: "يأكلان الطعام"
عن إتيان الغائط؟ لما كان أكل الطعام سبباً له،
كما كنى الشاعر بالنار عن السمة، لما كانت النار سبب السمة.
وقد كنت العرب عن المرأة بالريحان، وبالسرحة، قال
ابن الرقيات:
أي
أقنع من النساء بالنظر، ولا أرتكب منهن محرماً، وقال
حميد بن ثور الهلالي:
والسرحة:
الشجرة.
ومن
الأخبار النبوية قوله صلى الله عليه وسلم: "من
كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسقين ماءه زرع غيره
" أراد النهي عن نكاح الحبائل لأنه إذا
وطئها فقد سقى ماءه زرع غيره. وفسر
قوم قوله تعالى: "وأمراته حمالة الحطب" عن النميمة، والعرب تقول لمن
ينم ويشي: يوقد بين الناس الحطب الرطب، وقال الشاعر يذكر امرأة:
أي لم تؤخذ على أمر تلام عليه، ولم تفسد بين الحي بالكذب والنميمة.
وأراد
الآخر قول بشار:
وكان
محمد بن عقال المجاشعي عند يزيد بن مزيد الشيباني، وعنده سيوف تعرض عليه، فدفع
سيفاً منها إلى يد محمد، فقال: كيف ترى هذا السيف. فقال: نحن أبصر بالتمر منا
بالسيوف، أراد يزيد قول جرير في الفرزدق:
وأراد
محمد قول مروان بن أبي حفصة:
وقال
محمد بن عميربن عطاء التميمي لشريك النميري، وعلى يده صقر: ليس في الجوارح أحب
إلي من البازي، فقال شريك: إذا كان يصيد القطا، أراد محمد قول جرير:
وأراد شريك قول الطرماح :
ودخل عبد الله بن ثعلبة المحاربي على عبد الملك بن يزيد
الهلالي،وهويومئذ والي أرمينية، فقال له: ماذا لقينا الليلة من شيوخ محارب! منعونا النوم بضوضائهم
ولغطهم، فقال عبد الله بن ثعلبة: إنهم أصلح الله الأمير، أضلوا الليلة برقعاً،
فكانوا يطلبونه. أراد عبد الملك قول الشاعر:
وأراد
عبد الله قول القائل:
وروى
أبو بكر بن عريد في كتاب الأمالي عن أبي حاتم، عن العتبي، عن أبيه،أنه عرض على
معاوية فرس، وعنده عبد الرحمن بن الحكم بن أبي العاص! فقال:
كيف ترى هذا الفرس يا أبا مطرف. قال أراه أجش هزيماً، قال معاوية: أجل، لكنه لا يطلع على الكنائن، قال: يا أمير المؤمنين؟ ما
استوجبت منك هذا الجواب كله، قال: قد عوضتك عنه عشرين ألفاً.
فلم يحتمل معاوية منه هذا المزاح،وقال: لكنه لا يطلع على الكنائن،لأن
عبد الرحمن كان يتهم بنساء إخوته. قال:
إنما عنيت عتبة أخاك وعتبة جالس فلم يقل معاوية ولا عتبة شيئاً. ويجمع
الناس إليه، فذكر ذلك للفرزدق، فقال: لأسوءنه،
فجاء إليه، فسمع شيئاً من شعره، فحسده عليه، فقال: ممن أنت؟ قال: من بني فقعس،
قال: كيف تركت القنان . فقال:
مقابل لصاف ،فقال: يا غلام، هل أنجدت أمك. قال: بل أنجد أبي. قال أبو العباس المبرد: أراد الفرزدق قول الشاعر:
والقنان
جبل في بلاد فقعس، يريد أن هذا الجبل يستر سوآتهم، وأراد
الغلام قول أبي المهوش:
ولصاف:
جبل في بلاد بني تميم، وأراد بقوله: "هل أنجدت أمك
"، أي إن كانت أنجدت فقد أصابها أبي،
فخرجت تشبهني،فقال: بل أنجد أبي،يريد بل أبي أصاب أمك فوجدها بغياً. فقال معد بن
غيلان العبدي: يا حبذا السخينة! ما أكلت أيها الأمير سخينةً ألذ من
هذه،فقال: إلا أنها تولد الرياح في الجوف كثيراً فقال: إن المعايب لا تذكر على
الخوان.
وكان
سنان بن أحمس النميري يساير الأميرعمر بن هبيرة الفزاري، وهو على بغلة له، فتقدمت
البغلة على فرس الأمير، فقال: اغضض بغلتك
يا سنان، فقال: أيها الأمير، إنها مكتوبة، فضحك
الأمير، أراد عمر بن هبيرة قول جرير:
وأراد
سنان قول ابن دارة:
وكانت
فزارة تعير بإتيان الإبل؟ ولذلك قال الفرزدق يهجو عمر بن هبيرة هذا، ويخاطب يزيد
بن عبد الملك:
الرافدان: دجلة
والفرات، وأحذ يد القميص، كناية عن السرقة والخيانة. وتفنق: تنعم وسمن، وجارية
فنق؟ أي سمينة، والبيت الآخر كناية عن إتيان الإبل الذي كانوا يعيرون به.
وكان
عبد الله بن معن إذا تقلد السيف ورأى من يرمقه
بان أثره عليه؟ فظهر الخجل منه.
وحكى
أبو عبيدة عن يونس، قال: قال عبد الملك بن مروان يوماً،وعنده رجال: هل تعلمون
أهل بيت قيل فيهم شعر، ودوا لو أنهم افتدوا منه بأموالهم. فقال أسماء بن خارجة
الفزاري: نحن يا أمير المؤمنين،قال: وما هو؟ قال: قول
الحارث بن ظالم المري:
فوالله
يا أمير المؤمنين، إني لألبس العمامة الصفيقة؟ فيخئل لي أن شعر قفاي قد بدا
منها.
كان
النميري يا أمير المؤمنين إذا قيل له: ممن أنت؟ قال: من نمير، فصار يقول بعد هذا
البيت: من عامر بن صعصعة. ومثل ذلك ما يروى أن النجاشي لما هجا بني العجلان
بقوله:
فكان الرجل منهم إذا سئل عن نسبه يقول: من بني كعب، وترك أن يقول: عجلاني. وكان
عبد الملك بن عمير القاضي، يقول: والله إن التنحنح والسعال ليأخذني وأنا في
الخلاء فأرده حياء من قول القائل:
ومن التعريضات اللطيفة، ما روي أن المفضل بن محمد الضبي بعث بأضحية هزيل إلى شاعر،
فلما لقيه سأله عنها، فقال: كانت قليلة الدم، فضحك المفضل، وقال: مهلاً يا أبا
فلان،أراد الشاعر قول القائل:
وروى ابن الأعرابي في الأمالي قال: رأى عقال بن شبة بن عقال المجاشعي
على أصبغ بن عنبس وضحاً ، فقال: ما هذا البياض على إصبعك يا أبا الجراح. فقال:
سلح النعامة يا بن أخي،أراد قول جرير:
وكان
شبة بن عقال قد برز يوم الطوانة مع العباس بن الوليد بن عبد الملك إلى رجل من
الروم، فحمل عليه الرومي، فنكص وأحدث، فبلغ ذلك جريراً باليمامة، فقال فيه ذلك. فقال: قد نفاها الأغريا أبا فراس،يريد قول
جرير في الفرزدق:
وذلك أن الفرزدق ورد المدينة، والأمير عليها عمر بن عبد العزيز، فأكرمه حمزة بن عبد الله بن الزبير
وأعطاه، وقعد عنه عبد الله بن عمرو بن عفان، وقصر به، فمدح الفرزدق حمزة بن عبد
الله، وهجا عبد الله، فقال:
فلما
تناشد الناس ذلك، بعث إليه عمر بن عبد العزيز، فأمره أن يخرج عن المدينة، وقال
له: إن وجدتك فيها بعد ثلاث عاقبتك، فقال الفرزدق: ما أراني إلا كثمود حين قيل
لهم: "تمتعوا في داركم ثلاثة أيام" فقال جرير
يهجوه:
وحكى أبوعبيدة، قال: بينا نحن على أشراف الكوفة وقوف،إذ جاء أسماء بن خارجة الفزاري فوقف،وأقبل ابن مكعبر الضبي فوقف متنحياً عنه، فأخذ أسماء
خاتماً كان في يده، فصه فيروز أزرق، فدفعه إلى غلامه، وأشار إليه أن يدفعه إلى ابن مكعبر، فأخذ ابن
مكعبرشسمع نعله،فربطه بالخاتم، وأعاده إلى أسماء،فتمازحا ولم يفهم أحذ من
الناس ما أرادا، أراد أسماء بن خارجة قول الشاعر:
وأراد ابن مكعبر قول الشاعر:
وكانت
فزارة تعير بإتيان الإبل؟ وعيرت أيضا بأكل جردان الحمار؟ لأن رجلاً منهم كان في
سفر فجاع، فاستطعم قوماً فدفعوا إليه جردان الحمار، فشواه وأكله، فأكثرت الشعراء
ذكرهم بذلك،وقال الفرزدق:
وفي كتب الأمثال أنه اصطحب ثلاثة: فزاري وتغلبي ومري، وكان اسم التغلبي
مرقمة فصادوا حماراً، وغاب عنهما الفزاري لحاجة، فقالوا: نخبأ له خردانه، نضحك
منه، وأكلوا سائره،فلما جاء دفعا إليه الجردان،وقالا:
هذا نصيبك، فنهسه فإذا هو صلب، فعرف أنهم عرضوا له بما تعاب به فزازة، فاستل
سيفه، وقال: لتأكلانه، ودفعه إلى مرقمة، فأبى أن يأكله، فضربه فقتله، فقال
المري: طاح مرقمة، قال: وأنت إن لم تلقمه! فأكله. ويحكى
أن بني فزارة وبني هلال بن عامر بن صعصعة تنافروا إلى أنس بن مدرك الخثعمي،
وتراضوا به، فقالت بنو هلال: أكلتم يا بني
فزارة أير الحمار، فقالت بنو فزارة: وأنتم
مدرتم الحوض بسلحكم، فقضى أنس لبني فزارة على بني
هلال،فأخذ الفزاريون منهم مائة بعير كانوا تخاطروا عليها، وفي مادر يقول
الشاعر:
وذكر أبو العباس محمد بن يزيد المبرد في كتاب الكامل، أن قتيبة بن مسلم لما فتح سمرقند،
أفضى إلى أثاث لم ير مثله، وآلات لم يسمع مثلها، فأراد أن يري الناس عظيم ما فتح الله عليه، ويعرفهم أقدار القوم الذين ظهر
عليهم، فأمر بدار ففرشت، وفي صحنها قدور يرتقى إليها بالسلاليم، فإذا بالحضين بن المنذر بن الحارث بن وعلة الرقاشي قد
أقبل، والناس جلوس على مراتبهم، والحضين شيخ كبير،
فلما رآه عبد الله بن مسلم قال لأخيه قتيبة:
ائذن لي في معاتبته، قال: لا ترده، فإنه خبيث الجواب، فأبى عبد الله إلا أن يأذن
له، وكان عبد الله يضعف وكان قد تسور حائطاً إلى امرأة قبل ذلك، فأقبل على الحضين، فقال: أمن الباب دخلت يا أبا ساسان. قال: أجل، أسن عمد
عن تسور الحيطان، قال: أرأيت هذه القدور. قال: هي أعظم من
ألا ترى، قال: ما أحمسب بكر بن وائل رأى مثلها، قال:
أجل، ولا عيلان،ولو رآها سمي شبعان، ولم يسم عيلان،
فقال عبد الله: أتعرف يا أبا ساسان الذي
يقول :
فقال:
أعرفه، وأعرف الذي يقول :
فقال:
أفتعرف الذي يقول:
قال:
نعم وأعرف الذي يقول:
قال: أما الشعر فأراك ترويه، فهل تقرأ من القرآن شيئاً، قال: نعم: أقرأ الأكثر الأطيب: "هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً
مذكوراً". فأغضبه، فقال: والله لقد بلغني أن امرأة الحضين
حملت إليه وهي حبلى من غيره،قال: فما تحرك
الشيخ عن هيئته الأولى، بل قال على رسله: وما يكون تلد غلاماً على فراشي، فيقال: فلان ابن الحضين، كمايقال:
عبد الله بن مسلم، فأقبل قتيبة على عبد الله، وقال
له: لايبعد الله غيرك. ومن التعريضات والرموز بالفعل لمحون القول ما ذكره مؤرج
بن عمرو السدوسي في كتاب الأمثال،
أن الأحوص بن جعفر الكلابي، أتاه آت من قومه، فقال: إن رجلاً لا
نعرفه جاءنا، فلما دنا منا حيث نراه، نزل عن راحلته، فعلق على شجرة وطباً من
لبن، ووضع في بعض أغصانها حنظلة، ووضع صرة من تراب، وحزمة من شوك، ثم أثار
راحلته، فاستوى عليها وذهب، وكان أيام حرب تميم
وقيس عيلان، فنظر الأحوص في ذلك، فعي به، فقال: أرسلوا إلى قيس بن زهير،
فأتوا قيساً، فجاءوا به إليه، فقال له: ألم تك أخبرتني أنه لا يرد عليك أمر إلا عرفت ما فيه ما لم
تر نواصي الخيل! قال: ما خبرك، فأعلمه،
فقال: قد بين الصبح لذي عينين ، هذا رجل قد أخذت عليه العهود ألا يكلمكم،
ولا يرسل إليكم، وإنه قد جاء فأنذركم. أما الحنظلة،
فإنه يخبركم أنه قد أتاكم بنو حنظلة، وأما الصرة من
التراب، فإنه يزعم أنهم عدد كثير،
وأما الشوك فيخبركم أن لهم شوكة، وأما الوطب فإنه يدلكم على
قرب القوم وبعدهم، فذوقوه، فإن كان حلواً
حليباً فالقوم قريب، وإن كان قارصاً
فالقوم بعيد، وإن كان المسيخ لا حلواً ولا
حامضاً فالقوم لا قريب ولا بعيد، فقاموا إلى
الوطب فوجدوه حليباً، فبادروا الاستعداد،
وغشيتهم الخيل فوجدتهم مستعدين. فقال قتيبة: مالي إن استخرجت لك ما أراد به. قال:
ولاية خراسان، قال: إنه ما يسرك أيها
الأمير، ويقر عينك، إنما أراد قول الشاعر:
أي أنت عندي مثل سالم عند هذا الشاعر، فولاه خراسان.
فقال له واحد منهم: يا أبا فلان، لو نقلت ما، من
غنائك إلى شرابك، لصلح غناؤنا ونبيذنا
جميعاً.
فقال الحجاج:
أصاب أمير المؤمنين فيما أوصاني،وأصاب البكري فيما أوصى به زيداً،وأصبت أيها الأعرابي، ودفع إليه الدراهم. وكتب إلى المهلب: إن أمير المؤمنين أوصاني بما أوصى به
البكري زيداً، وأنا أوصيك بذلك،وبما أوصى به الحارث بن كعب بنيه. الموت فى قوة وعز، خير من الحياة في ذل وعجز. فقال المهلب:
صمت البكري وأصاب، وصدق الحارث وأصاب. واعلم أن كثيراً مما ذكرناه داخل في باب التعريض، وخارج عن باب الكناية،وإنما ذكرناه لمشابهة
الكناية، وكونهما كالنوعين تحت جنس عام، وسنذكر كلاماً كلياً فيهما إذا انتهينا إلى آخر الفصل إن شاء الله. ومن الكنايات قول أبي نواس:
والكناية في البيت الأخير وهي ظاهرة.
فكنى
ب بئس الثرى، عن تنكر ذات بينهم، وبتهدم الأطواد عن خفة حلومهم وطيش عقولهم. ومنها قول أبي الطيب:
كنى بذلك عن سيف الدولة، وأنه يساوي بينه وبين غيره من
أراذل الشعراء وخامليهم في الصلة والقرب.
قال: إنه يصف فرساً، فقال:
حملك الله على مثله، وهذان البيتان من لطيف الكناية
ورشيقها، وإنما عنى العضو. وقريب
من هذه الكناية قول سعيد بن عبد الرحمن بن حسان،
وهو غلام يختلف إلى عبد الصمد بن عبد الأعلى مؤدب ولد هشام بن عبد الملك، وقد
جمشه عبد الصمد فأغضبه، فدخل إلى هشام، فقال له:
فقال
هشام: ولم ذلك. قال:
قال
هشام: وما هي. ويحك قال:
فضحك هشام، وقال: لو ضربته لم أنكر عليك، ومن هذا
الباب قول أبي نواس:
والكناية في قوله: أطراف الرماح ، وفي
قوله: في طرف السلاح.
أخذه الرضي رحمه الله تعالى فقال يرثي امرأة:
ومن الكنايات
ما يروى أن رجلاً من خواص كسرى أحب الملك امرأته، فكان
يختلف إليها سراً وتختلف إليه، فعلم بذلك، فهجرها
وترك فراشها، فأخبرت كسرى، فقال له
يوماً: بلغني أن لك عيناً
عذبة، وأنك لا
تشرب منها، فقال: بلغني أيها الملك أن الأسد يردها فخفته، فتركتها له، فاستحسن ذلك منه ووصله.
فكنى
بإسبال الستر عن الفعل، لأنه يقع عنده غالباً.
وقال الأخطل
في ضد ذلك يهجو رجلاً ويرميه بالزنا:
السبنتى: النمر، يريد أنه جريء وقح، وأن الكلب
لأنسه به وكثرة اختلافه إلى جاراته يعرفه، ويمضغ ثوبه، يطلب ما يطعمه، والعفيف ينكره الكلب ولا يأنس به، ثم أكد ذلك بأنه
قد صار له بكثرة تردده إلى ديار النساء طريق معروف. ومن جيد الكناية عن
العفة قول عقيل بن علفة المري:
ومن جيد ذلك
ومختاره قول مسكين الدارمي:
والعرب تكني عن
الفرج بالإزار،
فتقول: هو عفيف الإزار، وبالذيل، فتقول: هو طاهر الذيل،
وإنما كنوا بهما، لأن الذيل والإزار لا بد من رفعهما عند الفعل،وقد كنوا بالإزار
عن الزوجة في قول الشاعر:
يريد به
زوجتي،أو كنى بالإزار ههنا عن نفسه، وقال زهير:
ويقولون في الكناية عن العفيف: ما وضعت مومسة عنده قناعاً، ولا رفع عن مومسة ذيلاً، وقد أحسن ابن طباطبا في
قوله:
ومن الكناية عن العفة قول ابن ميادة:
فكنى
عن الفعل نفسه بحاجات النفوس، كما كنى أبو نواس عنه بذلك العمل في قوله:
وكما
كنى عنه ابن المعتز بقوله:
ومما تطيروا من ذكره، فكنوا عنه قولهم: مات، فإنهم
عبروا عنه بعبارات مختلفة داخلة في باب الكناية، نحو قولهم: لعق إصبعه. وقالوا: اصفرت
أنامله،لأن اصفرار الأنامل من صفات الموتى،
قال الشاعر:
وقال
لبيد:
يعني
الموت، ويقولون في الكناية عنه: صك لفلان على أبي يحيى، وأبو يحيى كنية الموت، كني عنه بضده، كما كنوا عن الأسود بالأبيض، وقال الخوارزمي:
وكنى
رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه بهادم اللذات،
فقال: أكثروا من ذكر هادم اللذات وقال أبو العتاهية:
وقالوا:
حلقت به العنقاء، وحلقت به عنقاء مغرب، قال:
وقالوا
فيه: زل الشراك عن قدمه، قال:
أي
حتى يموت، فيستغني عن لبس النعل.
ويقولون
فيه: شالت نعامته، قال:
أي
لا يشبعها كثرة التمر ولو نزلت هجر - وهجر كثيرة
النخل - ولا تروى ولو نزلت ذا قار، وهو موضع كثير الماء. ويقال أيضا للقوم
قد تفرقوا بجلاء عن منازلهم: شالت نعامتهم، وذلك لأن النعامة خفيفة
الطيران عن وجه الأرض، كأنهم خفوا عن منزلهم.
وقال دريد بن الصمة:
وكثيرممن لا يفهم يعتقد أنه أراد بقوله: خلى مكانه، أي فر،
ولو كان كذلك لكان هجاء.
أي
إذا مت، فأخذت ثمنك من تركتي، وقالوا: لحق باللطيف
الخبير، قال:
وقال أبو العلاء:
ويقولون:
قرض رباطه، أي كاد يموت جهداً وعطشاً.
وهذا
إنما يريد به وصفه،والتعجب منه،لا أنه يدعو عليه حقيقة، كما تقول لمن يجيد
الطعن: شلت يده، ما أحذقه.
ويقولون للمقتول: ركب الأشقر، كناية عن الدم، وإليه
أشار الحارث بن هشام المخزومي في شعره، الني يعتذر به عن فراره يوم بدر
عن أخيه أبي جهل بن هشام حين قتل:
أراد بدم أشقر، فحذف الموصوف وأقام الصفة مقامه كناية عنه،والعرب تقيم الصفة مقام الموصوف
كثيراً، كقوله تعالى: "وحملناه على ذات ألواح
ودسر"، أي على سفينة ذات ألواح، وكقول
عنترة:
أي كشدق الإنسان الأعلم، أو البعير الأعلم.
أي
تزكه قتيلاً مخلى بالفضاء.
وقال الحجاج للغضبان بن القبعثرى: لأحملنك على الأدهم، فتجاهل عليه، وقال:
مثل الأمير حمل على الأدهم والأشهب. وقد كنوا عن
القيد أيضاً بالأسمر، أنشد ابن عرفة لبعضهم:
وهذا من لطيف شعر العرب وتشبيهها. ومن كناياتهم عنه: ركب ردعه، وأصله في السهم يرمى به فيرتدع نصله
فيه، يقال: ارتدع السهم، إذا رجع النصل في السنخ
متجاوزاً، فقولهم: ركب ردعه، أي وقص فدخل عنقه في صدره، قال الشاعر وهو من شعر الحماسة:
وأنشد الجاحظ
في كتاب البيان والتبيين، لبعض الخوارج:
وقد تطيرت العرب
من لفظة البرص، فكنوا عنه بالوضح، فقالوا: جذيمة الوضاح، يريدون الأبرص، وكني عنه بالأبرش أيضاً، وكل أبيض عند العرب وضاح، وشسمون اللبن وضحاً، يقولون: ما أكثر الوضح عند بني فلان.
فأما من قال:
إن المفازة مفعلة، من فوز الرجل، أي هلك، فإنه
يخرج هذه اللفظة من باب الكنايات، ومن هذا
تسميتهم اللديغ سليماً، قال:
وقال
أبو تمام في الشيب:
ومن
هذا قولهم للأعور: ممتع، كأنهم أرادوا أنه قد متع ببقاء إحدى عينيه، ولم يحرم
ضوءهما معاً.
خص
الغراب بذلك لحمة نظره، أي فكيف غيره. ومن الكنايات اللطيفة أن عبد الملك بعث الشعبي
إلى أخيه عبد العزيز بن مروان وهو أمير مصر
يومئذ، ليسبر أخلاقه وسياسته، ويعود إليه فيخبره بحاله،
فلما عاد سأله فقال: وجدته أحوج الناس إلى بقائك يا
أمير المؤمنين، وكان عبد العزيز يضعف.
فرده،
لأنه توسم في أن بعض أعراقه ينزع إلى العجم، لما
رأى من بياض لونه وشقرته، ومنه قول جرير يذكر
العجم:
ومن
كناياتهم تعبيرهم عن المفاخرة بالمساجلة، وأصلها
من السجل، وهي الدلو
المليء كان الرجلان يستقيان، فأيهما غلب صاحبه كان الفوز والفخر له، قال الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب بن عبد المطلب:
ويقال: إن الفرزدق مر بالفضل وهو ينشد: من يساجلني، فقال: أنا أساجلك ونزع
ثيابه، فقال الفضل: برسول الله وابن عمه ، فلبس الفرزدق ثيابه، وقال: أغص الله من يساجلك بما
نفت الموالمي من بظر أمه، ورواها أبو بكر بن ثريد:
بما أبقت المواسي.
أي
إذا أعشبت الأرض اخضرت نعالهم من وطئهم إياها، فأغار بعضهم على بعض، والتناهق
ههنا: أصواتهم حين ينادون للغارة، ويدعو بعضهم بعضاً، ونظير هذا البيت قول
الآخر:
أي
إذا أخصبوا وشبعوا غزا بعضهم بعضاً. ومثله قول الآخر:
أي
تسفهوا لما رأوا من كثرة اللبن والخصب، فأفسدوا في الأرض، وأغار بعضهم على بعض.
والقرن: الجعبة. وقيل لبعضهم: متى يخاف من شر بني فلان، فقال: إذا ألبنوا . ومن
الكنايات الداخلة في باب الإيماء قول الشاعر:
لما
كان سلامة القميص من الخرق في موضع الخصر تابعاً لدقة الخصر، ووهنه في الكاهل
تابعاً لعظم الكاهل، ذكر ما دل بهما على دقة خصر هذا الممدوح وعظم كاهله، ومنه
قول مسلم بن الوليد:
فلما
كان قلق الوشاح تابعاً لدقة الخصر ذكره دالا به عليه، ومن هذا الباب قول القائل:
أومأ
بذلك إلى الجدب، لأن المكاء يألف الرياض، فإذا أجدبت الأرض سقط في غير روضة
وغرد، فالويل حينئذ لأهل الشاء والحمر، ومنه قول القائل:
القلب: السوار، يقول: نعم الحي هؤلاء إذا ريع الناس
وخافوا، حتى إن المرأة لشدة خوفها تلبس الخلخال مكان السوار، فاختصر الكلام
اختصاراً شديداً، ومنه قول الأفوه الأودي:
أشار
إلى الجدب وقلة السحب والمطر، أي الأيام التي كلها أيام شمس وصحو، لا غيم فيها
ولا مطر، فقد ذكرنا من الكنايات والتعريضات وما يدخل في ذلك ويجري مجراه من باب
الإيماء والرمز قطعة صالحة، وسنذكر شيئاً آخر من ذلك فيما بعد إن شاء الله
تعالى، إذا مررنا في شرح كلامه صلى الله عليه وسلم بما يقتضيه ويستدعيه. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الفرق بين الكناية والتعريض
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وقد
كنا وعدنا أن نذكر كلاماً كلياً في حقيقة
الكناية والتعريض، والفرق بينهما، فنقول: الكناية قسم من أقسام المجاز، وهو إبدال لفظة عرض في النطق بها مانع بلفظة لا
مانع عن النطق بها، كقوله صلى الله عليه وسلم: "قرارات
النساء"، لما وجد الناس قد تواضعوا على استهجان لفظة "أرحام النساء".
فالتعريض
إذا هو التنبيه بفعل أو لفظ على معنى اقتضت الحال العدول عن التصريح به.
من باب الكناية، والصحيح أنه من باب التعريض. والثاني باطل،
لأن ذاك هو اللفظ المشترك، فإن أطلق من غيرقرينة مخصصة كان مبهماً غيرمفهوم، وإن
كان معه قرينة صار مخصصاً لشيء بعينه، والكناية أن
تتكلم بشيء وتريد غيره، وذلك مخالف للفظ المشترك
إذا أضيف إليه القرينة، لأنه يختص بشيء واحد بعينه، ولا يتعداه إلى غيره،
والثالث باطل أيضاً، لأن المجاز لا بد له من
حقيقة ينقل عنها لأنه فرع عليها.
فالبيت الأول
لو ورد بمفرده لكان كناية، لأنه لا يجوز حمله
على جانبي الحقيقة والمجاز فإذا نظرنا إلى الأبيات
بجملتها، كان البيت الأول المذكور استعارة لا
كناية. وعلى
هذا ورد تفسير التعريض في خطبة النكاح، كقولك للمرأة: أنت جميلة، أو إنك خلية
وأنا عزب. فإن هذا وشبهه لا يدل على طلب النكاح بالحقيقة ولا بالمجاز، والتعريض أخفى
من الكناية، لأن دلالة الكناية وضعية من جهة المجاز، ودلالة التعريض من
جهة المفهوم المركب، وليست وضعية، وإنما يسمى التعريض تعريضاً، لأن المعنى فيه
يفهم من عرض اللفظ المفهوم، أي من جانبه. قال:
ومن الكنايات المستحسنة قوله صلى الله عليه وسلم
للحادي بالنساء: "يا أنجشة رفقاً
بالقوارير". وقول امرأة لرجل قعد منها مقعد القابلة: لا يحل لك أن تفض الخاتم إلا بحقه. وقول بديل بن ورقاء الخزاعي لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن
قريشاً قد نزلت على ماء الحديبية معها العوذ المطافيل، وإنهم صادوك عن
البيت". قال: فهذه كناية عن النساء والصبيان، لأن العوذ
المطافيل: الإبل الحديثات النتاج ومعها أولادها.
لأن
الوهم يسبق في هذا الموضع إلى ما يقبح، وإنما سرقه من
قول الفرزدق في امرأته وقد ماتت بجمع:
فأخذه الرضي فأفسده ولم يحسن تصريفه. ولم
لا يتردد بين مجازين. وما استدللت به على ذلك لامعنى له. وأما ثالثاً
فلم لا يجوز أن يكون للفظ الدال على المجازين شركة في الدلالة على الحقيقة
أصلاً، بل يدل على المجازين فقط، فأما قولك إذا خرجت الحقيقة عن أن يكون لها في
ذلك شركة لم يكن الذي تكلمت به دالاً على ما تكلمت به وهومحال،
ومرادك بهذا الكلام المقلوب أنه إذا خرجت اللفظة عن أن يكون لها شركة في الدلالة
على الحقيقة التي هي موضوعة لها في الأصل لم يكن ما تكلم به الإنسان دالا على ما
تكلم به وهوحقيقة، ولا دالاً أيضاً على ما تكلم به وهو مجازة لأنه إذا لم يدل
على الحقيقة، وهي الأصل، لم يجز أن يدل على المجاز التي هو الفرع، لأن انتفاء الدلالة على الأصل، يوجب انتفاء الدلالة على
الفرع، وهكذا يجب أن يتأول استدلاله، وإلا لم يكن له معنى محصل، لأن اللفظ هو الدال على مفهوماته، وليس المفهوم دالاً على
اللفظ، ولا له شركة في الدلالة عليه، ولا على مفهوم أخر يعترض اللفظ
بتقدير انتقال اللفظ، اللهم إلا أن يكون دلالة عقلية، وكلامنا
في الألفاظ ودلالتها. ولم لا يجوز أن
يكون للحقيقة مجازان قد كثر استعمالهما حتى نسيت تلك الحقيقة، فإذا تكلم
الإنسان بذلك اللفظ كان دالاً به على أحد ذينك المجازين، ولا يكون له تعرض ما
بتلك الحقيقة، فلا يكون الذي تكلم به غير دال على ما تكلم به، لأن حقيقة تلك اللفظة قد صارت ملغاة منسية، فلا
يكون عدم إرادتها موجباً أن يكون اللفظ الذي يتكلم به المتكلم غير دال على ما
تكلم به، لأنها قد خرجت بترك الاستعمال، عن
أن تكون هي ماتكلم به المتكلم.
من باب الكناية، لأن أحداً لا يتصور أن الحقائب
- وهي جمادات - تثني وتشكر.
كناية، وإن كانت مستقبحة، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أنجشة رفقاً بالقوارير"،
وهو يحدو بالنساء كناية، فهل يجيز عاقل قط أو يتصور في الأذهان أن تكون المرأة غمداً للسيف، وهل يحمل أحد قط قوله
للحادي "رفقا بالقوارير" على أنه
يمكن أن يكون نهاه عن الغنف بالزجاج، أو يحمل أحد قط قول ابن سلام على أنه أراد
إحراق الثوب بالنار، أو يحمل قط أحد قوله:
"الميل في المكحلة" على حقيقتها، أو يحمل قط أحد قوله: "لا يحل لك فض الخاتم " على حقيقته، وهل
يشك عاقل قط في أن هذه الألفاظ ليست دائرة بين المحملين عوران اللمس والجماع
والمصافحة، وهذه مناقضة ظاهرة، ولا جواب عنها إلا
بإخراج هذه المواضع من باب الكناية، أو بحذف ذلك الشرط الذي اشترطته في حد
الكناية. فأما ما ذكره حكاية عن غيره في حد الكناية بأنها اللفظ الدال
على الشيء بغير الوضع الحقيقي، بوصف جامع بين الكناية والمكنى عنه، وقوله: هذا الحد هو حد التشبيه، فلا يجوز أن يكون حد الكناية. فلقائل أن يقول:
إذا قلنا: زيد أسد، كان ذلك لفظاً دالا على غير الوضع الحقيقي، وذلك المدلول هو
بعينه الوصف المشترك بين المشبه والمشبه به، ألا ترى أن المدلول هو الشجاعة،وهي
المشترك بين زيد والأسد، وأصحاب الحد قالوا في حدهم:
الكناية هي اللفظ الدال على الشيء بغير الوضبع الحقيقي، باعتبار وصف جامع
بينهما، فجعلوا المدلول أمراً والوصف الجامع أمراً آخر باعتباره وقت الدلالة،
ألا ترى أن لفظ "لامستم" له يدل على الجماع الذي لم يوضع لفظ "لامستم" له، وإنما يدل عليه باعتبار
أمر آخر، هو كون الملامسة مقدمة الجماع ومفضية إليه، فقد تغاير إذن حد التشبيه
وحد الكناية، ولم يكن أحدهما هو الآخر. فإن قال:
أردت أنه قد يقال: اللمس يصلح أن يكنى به عن الجماع، واللمس لفظ مفرد، قيل له: وقد يقال: التعزب يصلح أن يعرض به في طلب النكاح. وقد بينا بطلان اشتراط
ذلك، فبطل ما يتفرع عليه.
وقوله:
هذا مما يسبق الوهم فيه إلى ما يستقبح واستحسانه شعر الفرزدق وقوله: إن الرضي
أخذه منه فأساء الأخذ، فالوهم الذي يسبق إلى بيت الرضي يسبق مثله إلى بيت
الفرزدق، لأنه قد جعل هذه المرأة جفن السلاح، فإن كان الوهم يسبق هناك إلى قبيح
فهاهنا أيضاً يسبق إلى مثله. والظاهرة المجعولة فيها، وجعلناها بالقوى الفكرية
والخيالية المركبة في الدماغ راجمة وطاردة للشبه المضلة، وإن من حمل كلام الحكيم
سبحانه على ذلك فقد نسبه إلى الإلغاز والتعمية، وذلك يقدح في حكمته تعالى.
والمراد بالآية المقدم ذكرها ظاهرها، والمتكلف لحملها على غيرها سخيف العقل،
ويؤكد ذلك قوله تعالى: "ومما يوقدون عليه في
النار ابتغاء حلية أو متاع زبذ مثله" ، أفترى الحكيم سبحانه يقول:
إن للذهب والفضة زبداً مثل الجهل والضلال، ويبين ذلك قوله: "كذلك يضرب الله الأمثال" ، فضرب
سبحانه الماء الذي يبقى في الأرض فينتفع به الناس، والزبد الذي يعلو فوق الماء
فيذهب جفاء مثلا للحق والباطل، كما صرح به سبحانه فقال: "كذلك يضرب الله الحق والباطل"، ولو كانت هذه الآية
من باب الكنايات - وقد كنى سبحانه بالأودية عن
القلوب، وبالماء الذي أنزله من السماء عن العلم، وبالزبد عن الضلال - لما
جعل تعالى هذه الألفاظ أمثالاً، فإن الكناية خارجة عن باب المثل، ولهذا لا تقول
إن قوله تعالى: "أو لامستم النساء" من
باب المثل، ولهذا أفرد هذا الرجل في كتابه باباً
آخر غير باب الكناية، سماه باب المثل، وجعلهما قسمين متغايرين في علم
البيان، والأمر في هذا الموضع واضح، ولكن هذا الرجل كان يحب هذه الترهات، ويذهب
وقته فيها، وقد استقصينا في مناقضته والرد عليه في
كتابنا الذي أشرنا إليه. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الوليد بن طريف
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
فممن
انتهى أمره منهم إلى ذلك الوليد بن طريف الشيباني . في أيام الرشيد بن المهدي، فأشخص إليه يزيد بن
مزيد الشيباني فقتله، وحمل رأسه إلى الرشيد، وقالت أخته
ترثيه، وتذكر أنه كان من أهل التقى والدين، على قاعدة شعراء الخوارج، ولم
يكن الوليد كما زعمت:
وقال
مسلم بن الوليد يمدح يزيد بن مزيد، ويذكر قتله الوليد:
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
خروج ابن عمرو الخثعمي بالجزيرة
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ثم
خرج في أيام المتوكل ابن عمرو الخثعمي بالجزيرة
فقطع الطريق، وأخاف السبيل وتسمى بالخلافة، فحاربه أبو سعيد محمد بن يوسف الطائي
الثغري الصامتي، فقتل كثيراً من أصحابه، وأسر
كثيراً منهم ونجا بنفسه هارباً، فمدحه أبو عبادة البحتري، وذكر ذلك فقال:
وهذه
القصيدة من ناصع شعر البحتري ومختاره. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ذكر طائفة من جماعة الحوارج
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وقد خرج بعد هذين جماعة من الخوارج بأعمال كرمان
وجماعة اخرى من أهل عمان لا نباهة لهم، وقد ذكرهم
أبو إسحاق الصابي في الكتاب التاجي، وكلهم بمعزل عن طرائق سلفهم، وإنما
وكدهم وقصدهم إخافة السبيل، والفساد في الأرض، واكتساب الأموال من غير حلها. ولا
حاجة لنا إلى الإطالة بذكرهم. ومن المشهورين برأي الخوارج الذين تم
بهم صدق قول أمير المؤمنين رضي الله عنه: إنهم نطف في
أصلاب الرجال وقرارات النساء، عكرمة مولى ابن عباس، ومالك بن أنس الأصبحي
الفقيه، يروى عنه أنه كان يذكر علياً رضي
الله عنه وعثمان وطلحة والزبير، فيقول:
والله ما اقتتلوا إلا على الثريد الأعفر. الشرح: مراده أن
الخوارج ضلوا بشبهة دخلت عليهم،وكانوا يطلبون الحق، ولهم في الجملة تمسك بالدين،
ومحاماة عن عقيدة اعتقدوها، وإن أخطأوا فيها، وأما معاوية فلم يكن يطلب الحق،
وإنما كان ذا باطل، لا يحامي عن اعتقاد قد بناه على شبهة، وأحواله كانت تدل على
ذلك، فإنه لم يكن من أرباب الدين، ولا ظهر عنه نسك، ولا صلاح حال، وكان مترفاً
يذهب مال الفيء في مآربه، وتمهيد ملكه، ويصانع به عن سلطانه، وكانت أحواله كلها
مؤذيةً بانسلاخه عن العدالة، وإصراره على الباطل، وإذا كان كذلك لم يجز أن ينصر
المسلمون سلطانه، وتحارب الخوارج عليه وإن كانوا أهل ضلال، لأنهم أحسن حالاً
منه، فإنهم كانوا ينهون عن المنكر، ويرون الخروج على أئمة الجور واجباً. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
في ذكر الخوارج وحروبهم
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ذكر أبو العباس المبرد في الكتاب الكامل،
أن
عروة بن أدية أحد بني ربيعة بن حنظلة - ويقال إنه أول من حكم، حضر حرب النهروان،
ونجا فيها فيمن نجا، فلم يزل باقياً مدة من خلافة معاوية، ثم أخذ فأتي به زياد
ومعه مولى له، فسأله عن أبي بكر وعمر، فقال خيراً، فقال له: فما تقول في عثمان وفي أبي تراب، فتوك عثمان ست سنين
من خلافته، ثم شهد عليه بالكفر، وفعل في أمر علي رضي الله عنه مثل
ذلك إلى أن حكم ثم شهد عليه بالكفر. ثم سأله عن معاوية
فسبه سباً قبيحاً، ثم سأله عن نفسه، فقال: أولك لريبة، وآخرك لدعوة، وأنت بعد
عاص ربك. فأمر فضربت عنقه، ثم دعا مولاه، فقال: صف لي
أموره، فقال: أأطنب أم أختصر. قال: بل اختصر، قال: ما أتيته بطعام في
نهار قط ولا فرشت له فراشاً في ليل قط. قال: وحدثت أن واصل بن عطاء أبا حذيفة
أقبل في رفقة، فأحسوا بالخوارج، فقال واصل لأهل الرفقة:
إن هذا ليس من شأنكم فاعتزلوا، ودعوني وإياهم - وقد كانوا قد أشرفوا على العطب -
فقالوا: شأنك، فخرج إليهم، فقالوا: ما أنت وأصحابك. فقال:
قوم مشركون مستجيرون بكم، ليسمعوا كلام الله، ويفهموا حدوده، فقالوا: قد أجرناكم قال: فعلمونا، فجعلوا يعلمونهم
أحكامهم، وواصل يقول: قد قبلت أنا ومن معي،
قالوا: فامضوا مصاحبين فإنكم إخواننا، فقال: ليس ذاك إليكم، قال الله عز وجل: "وإن أحد من المشركين استجارك فأجره
حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه". فأبلغونا مأمننا. فنظر بعضهم إلى بعض، ثم قالوا: ذاك لكم، فساروا معهم
بجمعهم، حتى أبلغوهم المأمن. وقال أبو العباس: أتي عبد الملك بن مروان برجل من الخوارج، فبحثه فرأى منه ما شاء فهماً
وعلماً، ثم بحثه فرأى منه ما شاء أدباً وذهناً، فرغب
فيه، فاستدعاه إلى الرجوع عن مذهبه، فرآه مستبصراً محققاً، فزاده في
الاستدعاء، فقال: تغنيك الأولى عن الثانية،
وقد قلت وسمعت، فاسمع أقل، قال: قل، فجعل
يبسط من قول الخوارج ويزين له من مذهبهم بلسان طلق، وألفاظ بينة، ومعان قريبة. فقال عبد الملك بعد ذلك على معرفته وفضله: لقد كاد
يوقع في خاطري أن الجنة إنما خلقت لهم، وأني
أولى العباد بالجهاد معهم، ثم رجعت إلى ما ثبت الله علي من الحجة، وقرر في قلبي
من الحق، فقلت له: الدنيا والآخرة لله، وقد
سلطنا الله في الدنيا، ومكن لنا فيها، وأراك لست تجيبنا إلى ما نقول: والله
لأقتلنك إن لم تطع. فأنا في ذلك، إذ دخل علي بابني مروان. فأعجب ذلك من قوله عبد الملك، وقال له
متعجباً: أما يشغلك ما أنت فيه ويعرضك عن هذا، فقال: ما ينبغي أن يشغل المؤمن عن قول الحق شيء، فأمر
بحبسه، وصفح عن قتله، وقال بعد معتذراً إليه:
لولا أن تفسد بألفاظك أكثر رعيتي ما حبستك، ثم قال عبد
الملك: لقد شككني ووهمني حتى مالت بي عصمة الله، وغير بعيد أن يستهوي من
بعدي. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
مرداس بن حدير الناسك
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال أبو العباس:
وكان من المجتهدين من الخوارج البلجاء، وهي
امرأة من بني حرام بن يربوع بن حنظلة بن ملك بن زيد مناة بن تميم. فاجتمع إليه أصحابه زهاء ثلاثين
رجلاً، منهم حريث بن حجل وكهمس بن طلق الصريمي، وأرادوا أن
يولوا أمرهم حريثاً فأبى، فولوا أمرهم مرداساً، فلما مضى بأصحابه لقيه عبد الله
بن رباح الأنصاري - وكان له صديقاً - فقال:
يا أخي، أين تريد، قال: أريد أن أهرب بديني ودين أصحابي من أحكام هؤلاء الجورة،
فقال: أعلم بكم أحد. قال: لا، قال: فارجع، قال: أو تخاف علي نكراً، قال:
نعم،وأن يؤتى بك. قال: لا تخف،فإني لا أجرد سيفاً، ولا أخيف أحداً، ولا أقاتل
إلا من قاتلني. قال أبو العباس:
ولأبي بلال مرداس في الخروج أشعار، اخترت منها قوله:
قال أبو العباس: ثم إن عبيد الله بن زياد، ندب جيشاً إلى خراسان،
فحكى بعض من كان في ذلك الجيش، قال: مررنا بآسك، فإذا نحن بهم ستة وثلاثين رجلاً، فصاح بنا أبو
بلال: أقاصدون لقتالنا أنتم. قال: وكنت أنا وأخي قد دخلنا زرباً، فوقف أخي
ببابه، فقال: السلام عليكم، فقال مرداس: وعليكم السلام،
ثم قال لأخي: أجئتم لقتالنا؟ قال: لا، إنما نريد خراسان، قال: فأبلغوا من لقيتم
أنا لم نخرج لنفسد في الأرض، ولا لنروع أحداً، ولكن هرباً من الظلم. ولسنا نقاتل إلا من يقاتلنا، ولا نأخذ من الفيء إلا أعطياتنا، ثم قال: أندب لنا أحد، قلنا: نعم،
أسلم بن زرعة الكلابي، قال: فمتى ترونه يصل إلينا، قلنا: يوم كذا وكذا، فقال أبو
بلال: حسبنا الله ونعم الوكيل.
قال أبو العباس: أما قول حريث بن حجل: لا أما علمت أنه قتل بابن سعاد أربعة
برآ وأنا أحد قتلته، فابن سعاد هو المثلم بن مسروح الباهلي، وسعاد اسم أمه، وكان
من خبره أنه ذكر لعبيد الله بن زياد رجل من سدوس، يقال له خالد بن عباد، أو ابن
عبادة، وكان من نساك الخوارج، فوجه إليه فأخنه، فأتاه رجل من آل ثور فكذب عنه
وقال: هو صهري وفي ضمني، فخلى عنه، فلم يزل الرجل يتفقمه حتى تغيب، فأتى ابن
زياد فأخبره، فلم يزل يبعث إلى خالد بن عباد حتى ظفر به، فأخنه، فقال: أين كنت
في غيبتك هذه. قال: كنت عند قوم يذكرون الله ويسبحونه،
ويذكرون أئمة الجور، فيتبرأون منهم. قال:
ادللني عليهم، قال: إذن يسعدوا وتشقى، ولم أكن لأروعهم،قال:
فما تقول في أبي بكر وعمر. فقال: خيراً، قال: فما تقول في عثمان وفي معاوية،
أتتولاهما، فقال: إن كانا وليين لله فلست معاديهما، فأراغه مراراً ليرجع عن قوله فلم يفعل، فعزم على قتله، فأمر
بإخراجه إلى رحبة تعرف برحبة الرسي وقتله بها، فجعل الشرطة يتفادون من قتله
ويروغون عنه توقياً لأنه كان متقشفاً عليه أثر العبادة، حتى أتى المثلم بن مسروح الباهلي، وكان من الشرطة، فتقدم فقتله، فائتمر
به الخوارج أن يقتلوه، وكان مغرماً باللقاح يتبعها، فيشتريها من مظانها، وهم في
تفقده، فدسوا إليه رجلاً في هيئة الفتيان عليه ردع زعفران، فلقيه بالمربد وهو
يسأل عن لقحة صفي ، فقال له الفتى: إن كنت
تبتغي فعندي ما يغنيك عن غيره، فامض معي. فمضى المثلم معه على
فرسه، يمشي الفتى أمامه حتى أتى به بني
سعد، فدخل داراً، وقال له: أدخل على فرسك،
فلما دخل وتوغل في الدار أغلق الباب، وثارت به الخوارج، فاعتوره خريث بن حجل
وكهمس بن طلق الصريمي، فقتلاه، وجعلا دراهم كانت معه في بطنه، ودفناه في ناحية
الدار، وحكا آثار الدم وخليا فرسه في الليل، فأصيب في الغد في المربد وتجسس عنه
الباهليون، فلم يروا له أثراً، فاتهموا بني سدوس به، فاستعدوا عليهم السلطان،
وجعل السدوسية يحلفون، فتحامل ابن زياد مع الباهليين، فأخذ من السدوسيين أربع
ديات، وقال: ما أدري ما أصنع بهؤلاء
الخوارج، كلما أمرت بقتل رجل اغتالوا قاتله. فلم يعلم بمكان المثلم حتى خرج
مرداس وأصحابه، فلما واقفهم ابن زرعة الكلابي صاح بهم حريث، وقال: أههنا من باهلة أحد. قالوا:
نعم، قال: يا أعداء الله، أخذتم للمثلم من بني سدوس أربع ديات، وأنا قتلته،
وجعلت دراهم كانت معه في بطنه، وهو في موضع كذا مدفون، فلما انهزم ابن زرعة
وأصحابه صاروا إلى الدار، فأصابوا أشلاءه، ففي ذلك
يقول أبو الأسود:
قال أبو العباس: فأما ما كان من مرداس، فإن عبيد الله بن زياد ندب إليه
الناس، فاختار عباد بن أخضر المازني - وليس بابن أخضر، بل هو عباد بن علقمة
المازني وكان أخضر زوج أمه،وغلب عليه - فوجهه إلى مرداس وأصحابه في أربعة آلاف
فارس، وكانت الخوارج قد تنحت من موضعها، بدرابجراد من أرض فارس، فصار إليهم
عباد، فكان التقاؤهم في يوم جمعة، فناداه أبو بلال: أخرج إلي يا عباد، فإني أريد
أن أحاورك، فخرج إليه، فقال: ما الذي تبغي،
قال: أن اخذ بأقفيتكم فأردكم إلى الأميرعبيد الله بن زياد، قال: أو غيرذلك أن
نرجع، فإنا لا نخيف سبيلاً، ولا نذعر مسلماً، ولا نحارب إلا من يحاربنا، ولا
نجبي إلا ما حمينا. فقال عباد:
الأمر ما قلت لك، فقال له حريث بن حجل:
أتحاول أن ترد فئة من المسلمين إلى جبار عنيد ضال، فقال
لهم: أنتم أولى بالضلال منه، وما من ذاك من بد. قالوا: الشراة، فحمل عليهم ونشبت الحرب بينهم، فأخذت الخوارج القعقاع
أسيراً، فأتوا به أبا بلال، فقال له: من
أنت. قال:
ما أنا من أعدائك، إنما قدمت للحج، فحملت وغررت، فأطلقه، فرجع إلى عباد وأصلح من
شأنه، وحمل على الخوارج ثانية، وهو يقول:
فحمل عليه حريث بن حجل السدوسي وكهمس بن طلق الصريمي، فأسراه
وقتلاه، ولم يأتيا به أبا بلال. ولم يزل القوم يجتلدون حتى جاء وقت صلاة الجمعة، فناداهم أبو
بلال: يا قوم، هذا وقت الصلاة، فوادعونا حتى نصلي وتصلوا، قالوا: لك ذاك، فرمى القوم أجمعون بأسلحتهم،
وعمدوا للصلاة، فأسرع عباد ومن معه وقضوا صلاتهم، والحرورية مبطئون، فيهم ما بين
راكع وساجد، وقائم في الصلاة وقاعد، حتى مال عليهم عباد ومن معه، فقتلوهم جميعاً، وأتي برأس أبي بلال. قال:
ويرى الشراة أن مرداساً أبا بلال لما عقد على أصحابه، وعزم على الخروج رفع يديه،
فقال: اللهم إن كان ما نحن فيه حقاً فأرنا
آية، فرجف البيت، وقال آخرون: فارتفع السقف.
وقال
عمران بن حطان:
وقال
أيضاً:
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
فقيه الصفرية عمران بن حطان
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وقال أبو العباس: وعمران هذا، أحد بني عمرو بن يسار بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة
بن صعب بن عك بن بكر بن وائل، وكان رأس القعد من الصفرية وفقيههم وخطيبهم
وشاعرهم، وشعره هذا بخلاف شعر أبي خالد القناني وكان من قعد الخوارج أيضاً. وقد
كان كتب قطري بن الفجاءة المازني يلومه على القعود:
فكتب إليه أبو خالد:
وقال أبو العباس: ومما حدثني به العباس بن أبي الفرج الرياشي، عن محمد بن
سلام أن عمران بن حطان لما طرده الحجاج، جعل يتنقل في القبائل، وكان إذا نزل بحي
انتسب نسباً يقرب منهم، ففي ذلك يقول:
ثم
خرج حتى لقي روح بن زنباع الجذامي، وكان روح يقري الأضياف، وكان مسايراً لعبد
الملك بن مروان، أثيراً عنده. وقال ابن عبد
الملك فيه: من أعطي مثل ما أعطي أبو زرعة أعطي فقه الحجاز ودهاء أهل
العراق وطاعة أهل الشام. وانتمى
عمران إليه أنه من الأزد، فكان روح لا يسمع شعراً نادراً، ولا حديثاً غريباً عند
عبد الملك، فيسأل عنه عمران إلا عرفه وزاد فيه. فقال روح لعبد الملك: إن لي ضيفاً ما أسمع من أمير المؤمنين خبراً ولا شعراً إلا
عرفه وزاد فيه، فقال: أخبرني ببعض أخباره،
فأخبره وأنشده، فقال: إن اللغة لغة عدنانية، ولا أحسبه إلا عمران بن حطان، حتى
تذاكروا ليلة البيتين اللذين أولهما: يا ضربة.
ثم
ارتحل حتى نزل بزفر بن الحارث أحد بني عمر بن كلاب، فانتسب له أوزاعياً ، وكان
عمران يطيل الصلاة، فكان غلمان بني عامر يضحكون منه، فأتاه رجل ممن كان عند روح،
فسلم عليه، فدعاه زفر فقال له: من هذا. فقال: رجل من الأزد، رأيته ضيفاً لروح بن زنباع، فقال له زفر: يا هذا، أزدياً مرة وأوزاعياً أخرى،
إن كنت خائفاً أمناك، وإن كنت فقيراً جبرناك، فلما أمسى خلف في منزله رقعة، وهرب
فوجدوا فيها:
ثم ارتحل حتى أتى عمان، فوجدهم يعظمون أمر أبي بلال، ويظهر فيهم، فأظهر أمره فيهم،
فبلغ ذلك الحجاج، فكتب فيه إلى أهل عمان، فهرب حتى أتى قوماً من الأزد في سواد
الكوفة، فنزل بهم، فلم يزل عندهم حتى مات، وفي نزوله فيهم يقول:
قال أبو العباس: ومن الخثى ارج من مشى في الرمح وهو في صدره خارجاً من ظهره،
حتى خالط طاعنه فضربه بالسيف فقتله، وهو يقول:
"وعجلت إليك رب لترضى".
فخرج إليه علي فضربه بالسيف فقتله، فلما خالطه السيف قال: "يا حبذا الروحة إلى الجنة". ومنهم
القوم الذين وثب رجل منهم على رطبة سقطت من نخلة، فوضعها في فيه، فلفظها تورعاً. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الناسك المجتهد المستورد السعدي
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومنهم المستورد، أحد بني سعد بن زيد
بن مناة، كان ناسكاً مجتهداً، وهو أحد من ترأس على الخوارج في أيام علي، وله
الخطبة المشهورة التي أولها: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتانا
بالعدل تخفق راياته، وتلمع معالمه، فبلغنا عن ربه، ونصح لأمته، حتى قبضه الله
تعالى مخيراً مختاراً. ومن كلامه: إذا أفضيت بسري إلى صديقي فأفشاه لم
ألمه، لأني كنت أولى بحفظه. ومن كلامه:
كن أحرص على حفظ سرك منك على حقن دمك. وكان يقول: المال غير باق عليك، فاشتر به
من الحمد والأجر ما يبقى عليك. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
حوثرة الأسدي
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال أبو العباس: وخرج من الخوارج على معاوية بعد قتل علي حوثرة
الأسدي ، وحابس الطائي، خرجا في جمعهما، فصارا إلى مواضع أصحاب النخيلة، ومعاوية يومئذ بالكوفة قد
دخلها في عام الجماعة ، وقد نزل الحسن بن علي، وخرج يريد المدينة، فوجه إليه
معاوية - وقد تجاوز في طريقه - يسأله أن يكون المتولي لمحاربة الخوارج، فكان
جواب الحسن: والله لقد كففت عنك لحقن دماء المسلمين،وما أحسب ذاك يسعني، أفأقاتل
عنك قوماً أنت والله أولى بالقتال منهم.
فحمل عليه رجل من طيىء فقتله، فلمارأى أثرالسجود قد لوح جبهته
ندم على قتله. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الرهين الرادي
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وقال الرهين المراعي أحد فقهاء الخوارج ونساكها:
قال أبو العباس: وأكثرهم لم يكن يبالي بالقتل، وشيمتهم استعذاب
الموت، والاستهانة بالمنية. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
عباد بن أخضر المازني
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال: وأما عباد بن أخضر قاتل أيي بلال مرداس بن أدية - وقد ذكرنا قصته - فإنه لم يزل بعد قتله مرداساً محموداُ في المصر موصوفاً بما
كان منه، حتى ائتمر جماعة من الخوارج أن يقتلوه، فذمر بعضهم بعضاً على ذلك،
فجلسوا له يوم جمعة بعد أن أقبل على بغلته، وابنه رديفه، فقام إليه رجل منهم
فقال له: أسألك عن مسألة. قال:
قل، قال: رأيت رجلاً قتل رجلاً بغير حق، وللقاتل جاه وقدر وناحية من المسلطان،
ولم يعد عليه السلطان لجوره، ألولي ذلك المقتول أن يقتل القاتل إن قدر عليه،
فقال: بل يرفعه إلى السلطان. قال:
إن السلطان لا يعدي عليه لمكانه منه، ولعظم جاهه عنده، قال: أخاف عليه إن فتك به
فتك به السلطان. قال:
دع ما تخافه من السلطان، أيلحقه تبعة فيما بينه وبين الله. قال: لا،فحكم هو وأصحابه ثم خبطوه بأسيافهم،
ورمى عباد بابنه فنجا، وتناس الناس: قتل عباد، فاجتمعوا فأخذوا أفواه الطرق -
وكان مقتل عباد في سكة بني مازن عند مسجد بني كليب بن يربوع، فجاء معبد بن أخضر،
أخو عباد - وهومعبد بن علقمة، وأخضر زوج أمهما -
في جماعة من بني مازن، وصاحوا بالناس: دعونا
وثأرنا فأحجم الناس، فتقدم المازنيون، فحاربوا الخوارج حتى قتلوهم جميعاً، لم
يفلت منهم أحد إلا عبيدة بن هلال، فإنه خرق خصاً ونفذ فيه، ففي ذلك يقول
الفرزدق:
ثم
هجا كليب بن يربوع، رهط جرير بن الخطفي، لأنه قتل بحفرة مسجدهم ولم ينصروه، فقال
في كلمته هذه:
قال:
وكان مقتل عباد بن أخضر وعبيد الله بن زياد بالكوفة، وخليفته على البصرة عبيد
الله بن أبي بكرة، فكتب إليه يأمره ألا يدع أحداً يعرف بهذا الرأي إلا حبسه، فجد
في طلب من تغيب عنه، وجعل يتبعهم وي:أخذهم، فإذا شفع إليه أحد منهم كفله، إلى أن
يقدم به على ابن زياد، حتى أتوه بعروة بن أدية فأطلقه، وقال:
أنا كفيلك، فلما قدم ابن زياد أخذ من في الحبس، فقتلهم جميعاً، وطلب الكفلاء بمن
كفلوا به، فكل من جاء بصاحبه أطلقه وقتل الخارجي، ومن لم يأت بمن كفل به منهم
قتله. فلما أقيم عروة
بيئ يديه، قال: لم جهزت أخاك علي، يعني أبا بلال، فقال: والله لقد كنت به ضنيناً، وكان لي عزا، ولقد
أردت له ما أريد لنفسي، فعزم عزما فمضى عليه، وما أحب لنفسي إلا المقام وترك
الخروج. فقال له:
أفأنت على رأيه، قال: كلنا نعبد رباً واحداً، قال:
أما والله لامثلن بك، قال: اختر لنفسك من
القصاص ما شئت،فأمر به فقطعوا يديه ورجليه، ثم قال له:
كيف ترى. قال: أفسدت علي دنياي،
وأفسدت عليك آخرتك،فأمر به فصلب على باب داره. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أبو الوازع الراسبي
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال أبو العباس: وكان أبو الوازع الراسبي من مجتهدي
الخوارج ونساكها، وكان يذم نفسه ويلومها على القعود، وكان شاعراً، وكان
يفعل ذلك بأصحابه، فأق نافع بن الأزرق وهو في جماعة من أصحابه، يصف لهم جور
السلطان وفساد العامة، وكان نافع ذا لسان عضب واحتجاج وصي على المنازعة، فأتاه
أبو الوازع، فقال له: يا نافع، إنك اعطيت
لساناً صارماً، وقلباً كليلاً، فلولمحدت أن صرامة لسانك كانت لقلبك، وكلال قلبك
كان للسانك، أتحض على الحق وتقعد عنه، وتقبح الباطل وتقيم عليه، فقال نافع: يا أبا الوازع، إنما ننتظر الفرص، إلى
أن تجمع من أصحابك من تنكىء به عدوك، فقال أبو
الوازع:
يعني معاوية. ثم
قال: والله لا ألومك ونفسي ألوم، ولأغدون غدوة لا أنثني بعدها أبداً. ثم مضى فاشترى سيفاً، وأتى صيقلاً كان يذم
الخوارج، ويدل على عوراتهم، فشاوره لا السيف، فحمده، ثم
قال: اشحنه، فشحفه حتى إذا رضيه، خيط به الصيقل فقتله، وحمل على الناس
فهربوا منه، حتى أتى مقبرة بني يشكر، فدفع عليه رجل حائط ستره فشدخه، وأمر ابن زياد بصلبه. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
عمران بن الحارث الراسبي
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال أبو العباس: ومن نساكهم الذين قتلوا في الحرب عمران بن الحارث الراسبي،
قتل يوم دولاب ، التقى هو والحجاج بن باب الحميري -
وكان الأمير يومئذ على أهل البصرة، وصاحب رايتهم- فاختلفا ضربتين فخرا
ميتين، فقالت أم عمران ترثيه:
قال:
وممن قتل من رؤسائهم يوم لمحولاب نافع بن الأزرق
- وكان خليفتهم - خاطبوه بإمرة المؤمنين، فقال رجك
منهم يرثيه:
وقال
قطري بن الفجاءة يذكر يوم دولاب:
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
عبد الله بن يحيى طالب الحق
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن رؤساء الخوارج وكبارهم عبد الله
بن يحى الكندي الملقب طالب الحق، وصاحبه المختار بن عوف
الأزدي صاحب وقعة قديد، ونحن نذكر ما ذكره أبو الفرج الأصفهاني من قصتهما في كتاب الأغاني، مختصراً
محذوفاً منه ما لا حاجة بنا في هذا الموضع إليه. قلت: من كندة،
فقال: من أيهم. فقلت:
من بني شيطان، فقال: والله لتملكن وتبلغن واعي القرى، وذلك بعد أن تذهب إحدى
عينيك، وقد ذهبت وأنا أتخوف ما قال، وأستخير الله. فرأى باليمن جوراً ظاهراً، وعسفاً شديداً، وسيرة في
الناس قبيحة، فقال لأصحابه: إنه لا يحل لنا
المقام على ما نرى، ولا الصبر عليه وكتب إلى جماعة
من الإباضية بالبصرة وغيرها، يشاورهم في الخروج، فكتبوا إليه: إن استطعت ألا تقيم يوماً واحداً فافعل، فإن
المبادرة بالعمل الصالح أفضل، ولست تدري متى يأتي أجلك، ولله بقية خير من عباده،
يبعثهم إذا شاء بنصر دينه، ويختص بالشهادة منهم من يشاء. أوصيكم
بتقوى الله وحسن القيام على ما وكلتم بالقيام عليه، وقابلوا الله حسناً في أمره
وزجره أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. فقال أبو حمزة: نحن
بحجنا أضن، وعليه أشح، فصالحم على أنهم جميعاً آمنون بعضهم من بعض، حتى ينفر
الناس النفر الأخير، وأصبحوا من الغد، ووقفوا بحيال عبد الواحد بعرفة، ودفع عبد
الواحد بالناس، فلما كانوا بمنىً، قيل لعبد الواحد: قد أخطأت فيهم، ولو حملت عليهم الحاج ما كانوا إلا أكلة رأس . وبعث عبد الواحد إلى أبي حمزة عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي
طالب، ومحمد بن عبد الله بن عمروبن عثمان، وعبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي
بكر، وعبيد الله بن عمر بن حفص العمري، وربيعة بن عبد الرحمن، ورجالاً أمثالهم،
فلما قربوا من أبي حمزة أخذتهم مسالحه فأدخلوا على أبي حمزة، فوجدوه جالساً،
وعليه إزار قطري قد ربطه بحورة في قفاه، فلما دنوا، تقدم إليه عبد الله بن الحسن العلوي، ومحمد بن عبد الله العثماني،
فنسبهما، فلما انتسبا له عبس في وجوههما،
وأظهر الكراهية لهما، ثم تقدم إليه بعدهما البكري
والعمري فنسبهما فانتسبا له، فهش إليهما وتبسم
في وجوههما، وقال: والله ما خرجنا إلا لنسير
سيرة أبويكما، فقال له عبد الله بن حسن: والله ما جئناك لتفاخر بين آبائنا، ولكن
الأمير بعثنا إليك برسالة، وهذا ربيعة يخبركها، فلما أخبره ربيعة، قال
له: إن الأمير يخاف نقض العهد،قال: معاذ
الله أن ننقض العهد، أو نخيس به، والله لا أفعل ولو قطعت رقبتي هذه، ولكن إلى أن
تنقضي الهدنة بيننا وبينكم.
ثم مضى عبد الواحد حتى دخل المدينة ودعا بالديوان، فضرب على الناس البعث، وزادهم في
العطاء عشرة عشرة، واستعمل على الجيش عبد العزيز بن عبد الله بن عمرو بن عثمان
بن عفان فخرجوا، فلقيتهم جزر منحورة ،فتشاءم الناس
بها، فلما كانوا بالعقيق علق لواء عبد العزيز بسمرة فانكسر الرمح،
فتشاءموا بذلك أيضاً. وأما عمارة بن حمزة بن
مصعب بن الزبير فقاتل يومئذ حتى قتل، وكان يحمل ويتمثل:
والشعر للأغر بن حماد اليشكري. فأكثروا ذكر الله وتلاوة القرآن، ووطنوا أنفسكم على الموت. وصبحهم غداة الخميس لتسع
خلون من صفر سنة ثلاثين ومائة. قال أبو الفرج: وقال عبد العزيز لغلامه في تلك
الليلة: ابغنا علفاً، قال: هو غال، فقال:
ويحك، البواكي علينا غداً أغلى، وأرسل أبو حمزة إليهم بلج بن عقبة ليدعوهم،
فأتاهم في ثلاثين راكباً فذكرهم الله، وسألهم أن يكفوا عنهم، وقال لهم: خلوا سبيلنا إلى الشام، لنسير إلى من
ظلمكم، وجار في الحكم عليكم، ولا تجعلوا حدنا بكم، فإنا لا نريد قتالكم، فشتمهم
أهل المدينة، وقالوا: يا أعداء الله، أنحن
نخليكم، ونترككم تفسدون في الأرض فقالت الخوارج: يا
أعداء الله، أنحن نفسد في الأرض، إنما خرجنا لنكف الفساد، ونقاتل من قاتلنا
منكم، واستأثر بالفيء، فانظروا لأنفسكم، واخلعوا من لم يجعل الله له طاعة، فإنه
لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فادخلوا في السلم، وعاونوا أهل الحق.
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أبو حمزة الشاري
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال أبو الفرج:
ولما سار عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك إلى الشام، وخلف المدينة لبلج، أقبل
أبو حمزة من مكة حتى دخلها، فرقي المنبر، فحمد الله
وقال: يا أهل المدينة، سألناكم عن ولاتكم هؤلاء فأسأتم لعمري والله القول
فيهم، وسألناكم: هل يقتلون بالظن. فقلتم:
نعم، وسألناكم: هل يستحلون المال الحرام والفرج الحرام. فقلتم: نعم، فقلنا لكم:
تعالوا نحن وأنتم، فانشدوا الله وحده أن يتنحوا عنا وعنكم ليختار المسلمون
لأنفسهم، فقلتم: لا نفعل، فقلنا لكم: تعالوا
نحن وأنتم نلقاهم، فإن نظهر نحن وأنتم يأت من يقيم لنا كتاب الله وسنة نبيه،
ويعدل في أحكامكم، ويحملكم على سنة نبيكم، فأبيتم وقاتلتمونا، فقاتلناكم
وقتلناكم، فأبعدكم الله وأسحقكم يا أهل المدينة!
مررت بكم في زمن الأحول هشام بن عبد الملك، وقد أصابتكم عاهة في ثماركم، فركبتم
إليه تسألونه أن يضع خراجكم عنكم، فكتب بوضعه عن قوم من ذوي اليسار منكم، فزاد
الغني غنى، والفقير فقراً. وقلتم: جزاه الله خيراً، فلا جزاه خيراً ولا جزاكم! قال أبو الفرج: فأما خطبتا أبي حمزة المشهورتان اللتان خطب بهما في
المدينة، فإن أحداهما قوله: تعلمون
يا أهل المدينة، أنا لم نخرج من ديارنا وأموالنا أشراً ولا بطراً، ولا عبثاً ولا
لهواً، ولا لدولة ملك نريد أن نخوض فيه، ولا لثأر قديم نيل منا، ولكنا لما رأينا
مصابيح الحق قد أطفئت، ومعالم العدل قد عطلت، وعنف القائم بالحق، وقتل القائم
بالقسط، ضاقت علينا الأرض بما رحبت، وسمعنا داعياً يدعو إلى طاعة الرحمن، وحكم
القرآن، فأجبنا داعي الله، "ومن لا يجب داعي
الله فليس بمعجز في الأرض". يا أهل المدينة، الناس منا ونحن منهم، إلا مشركاً
عباد وثن، أو كافراً من أهل الكتاب، أو إماماً جائراً. يا أهل المدينة،
أخبروني عن ثمانية أسهم فرضها الله في كتابه على القوي والضعيف، فجاء تاسع ليس
له منها سهم، فأخذها جميعاً لنفسه، مكابراً محارباً لربه، ما تقولون فيه، وفيمن
عاونه على فعله؟ يا أهل المدينة، بلغني
أنكم تنتقصون أصحابي، قلتم: هم شباب أحداث، أعراب جفاة، ويحكم يا أهل المدينة! وهل كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا
شباباً أحداثاً! نعم والله إن أصحابي لشباب مكتهلون في شبابهم، غضيضة عن الشر
أعينهم، ثقيلة عن الباطل أقدامهم، قد باعوا أنفساً تموت غداً بأنفس لا تموت
أبداً، قد خلطوا كلالهم بكلالهم، وقيام ليلهم بصيام نهارهم، محنية أصلابهم على
أجزاء القرآن، كلما مروا بآية خوف شهقوا خوفاً من النار، وكلما مروا بآية رجاء
شهقوا شوقاً إلى الجنة، وإذا نظروا إلى السيوف وقد انتضيت، وإلى الرماح وقد
أشرعت، وإلى السهام وقد فوقت، وأرعدت الكتيبة بصواعق الموت استخفوا وعيدها عند
وعيد الله، وانغمسوا فيها. فطوبى لهم وحسن مآب فكم من عين في منقار طائر طالما
بكى بها صاحبها من خشية الله! وكم من يد قد أبينت عن ساعدها، طالما اعتمد عليها
صاحبها راكعاً وساجداً في طماعة الله! أقول قولي
هذا وأستغفر الله، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب. وأما الخطبة الثانية، فقوله:
يا أهل المدينة، مالي رأيت رسم الدين فيكم عافياً، وآثاره دارسة! لا تقبلون عليه
عظة، ولا تفقهون من أهله حجة، قد بليت فيكم جدته، وانطمست عنكم سنته، ترون
معروفه منكراً، والمنكر من غيره معروفاً، فإذا انكشفت لكم العبر، وأوضحت لكم
النذر، عميت عنها أبصاركم، وصمت عنها آذانكم، ساهين في غمرة، لاهين في غفلة،
تنبسط قلوبكم للباطل إذا نشر، وتنقبض عن الحق إذا ذكر، مستوحشة من العلم،
مستأنسة بالجهل، كلما وردت عليها موعظة زادتها عن الحق نفوراً، تحملون قلوباً في
صدوركم كالحجارة أو أشد قسوة من الحجارة، فهي لا تلين بكتاب الله، الذي لو أنزل
على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله! يا
أهل المدينة، إنه لا تغني عنكم صحة أبدانكم إذا سقمت قلوبكم، قد جعل الله
لكل شيء سبباً غالباً عليه، لينقاد إليه مطيع أمره، فجعل القلوب غالبة على
الأبدان، فإذا مالت القلوب ميلاً كانت الأبدان لها تبعاً، وإن القلوب لا تلين
لأهلها إلا بصحتها، ولا يصححها إلا المعرفة بالله، وقوة النية ونفاذ البصيرة،
ولو استشعرت تقوى الله قلوبكم، لاستعملت في طاعة الله أبدانكم. وأنتم أبناؤهم
ومن بقي من خلفهم، تتركون أن تقتدوا بهم، أو تأخذوا بسنتهم، عمي القلوب صم
الآذان. اتبعتم الهوى فأرداكم عن الهدى، وأسهاكم عن مواعظ القرآن، لا تزجركم
فتنزجرون، ولا تعظكم فتتعظون، ولا توقظكم فتستيقظون، لبئس الخلف أنتم من قوم
مضوا قبلكم! ما سرتم سيرتهم، ولا حفظتم وصيتهم، ولا أحتذيتم
مثالهم، لو شقت عنهم قبورهم فعرضت عليهم أعمالكم لعجبوا كيف صرف العذاب عنكم! ألا ترون
إلى خلافة الله وإمامة المسلمين كيف أضيعت، حتى تداولها بنو مروان، أهل بيت
اللعنة، وطرداء رسول الله، وقوم من الطلقاء، ليسوا من المهاجرين ولا الأنصار ولا
التابعين بإحسان! فأكلوا مال الله أكلاً، وتلعبوا بدين الله لعباً، واتخذوا عباد
الله عبيداً، يورث الأكبر منهم ذلك الأصغر، فيالها أمة ما أضعفها وأضيعها! ومضوا
على ذلك من سيئ أعمالهم واستخفافهم بكتاب الله، قد نبذوه وراء ظهورهم، فالعنوهم
لعنهم الله لعناً، كما يستحقونه. قال: ولم
يذكره بخير ولا بشر. ثم قال: وولي بعده يزيد بن عبد الملك، غلام سفيه ضعيف، غير مأمون على
شيء من أموال المسلمين، لم يبلغ أشده، ولم يؤنس رشده، وقد قال الله عز وجل: "فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم" وأمر
أمة محمد صلى الله عليه وسلم وأحكامها وفروجها ودماؤها أعظم عند الله من مال
اليتيم، وإن كان عند الله عظيماً، غلام مأبون في
فرجه وبطنه، يأكل الحرام، ويشرب الخمر، ويلبس بردين قد حيكاً من غير
حلهما، وصرفت أثمانهما في غير وجهها، بعد أن ضربت فيهما الأبشار، وحلقت فيهما
الأشعار، استحل ما لم يحله الله لعبد صالح، ولا
لنبي مرسل، فأجلس حبابة عن يمينه، وسلامة عن يساره، يغنيانه بمزامير الشيطان،
ويشرب الخمر الصراح، المحرمة نصاً بعينها، حتى إذا أخذت منه مأخذها، وخالطت روحه
ولحمه ودمه، وغلبت سورتها على عقله، مزق برديه، ثم التفت إليهما، فقال: أتأذنان
لي بأن أطير! نعم فطر إلى النار، طر إلى لعنة الله، طر إلى حيث لا يردك الله. ثم ذكر بني أمية وأعمالهم، فقال: أصابوا
إمرة ضائعة، وقوماً طغاماً جهالاً لا يقومون لله بحق، ولا يفرقون بين الضلالة
والهدى، ويرون أن بني أمية أرباب لهم، فملكوا الأمر، وتسلطوا فيه تسلط ربوبية،
بطشهم بطش الجبابرة، يحكمون بالهوى، ويقتلون على الغضب ويأخذون بالظن، ويعطلون
الحدود بالشفاعات، ويؤمنون الخونة، ويعصون ذوي الأمانة، ويتناولون الصدقة من غير
فرضها، ويضعونها غير موضعها، فتلك الفرقة الحاكمة بغير ما أنزل الله، فالعنوهم
لعنهم الله. قال: ثم ذكر شيعة آل أبي طالب، فقال:
وأما
إخواننا من الشيعة وليسوا بإخواننا في الدين، لكني سمعت الله يقول: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر أنثى وجعلناكم
شعوباً وقبائل لتعارفوا". فإنها فرقة تظاهرت بكتاب الله، وآثرت
الفرقة على الله، لا يرجعون إلى نظر نافذ في القران، ولا عقل بالغ في الفقه، ولا
تفتيش عن حقيقة الثواب، قد قلدوا أمورهم أهواءهم،
وجعلوا دينهم العصبية لحزب لزموه وأطاعوه، في جميع ما يقوله لهم: غياً
كان أو رشداً، ضلالة كان أو هدى، ينتظرون الدول في رجعة الموتى، ويؤمنون بالبعث
قبل الساعة، ويدعون علم الغيب لمخلوقين لا يعلم واحدهم ما في بيته، بل لا يعلم
ما ينطوي عليه ثوبه، أو يحويه جسمه، ينقمون المعاصي على أهلها، ويعملون بها ولا
يعلمون المخرج منها، جفاة في دينهم، قليلة عقولهم، قد قلدوا أهل بيت من العرب
دينهم، وزعموا أن موالاتهم لهم تغنيهم عن الأعمال الصالحة، وتنجيهم من عقاب
الأعمال السيئة، قاتلهم الله أنى يؤفكون. فكان رجل من أهل وادي القرى، يقال له العلاء بن أفلح مولى
أبي الغيث، يقول: لقيني في ذلك اليوم وأنا غلام رجل من أصحاب ابن عطية،
فقال لي: ما اسمك يا غلام؟ فقلت: العلاء، فقال: ابن من؟ قلت: ابن أفلح، قال:
أعربي أم مولى؟ فقلت: مولى، قال: مولى من؟ قلت: مولى أبي الغيث، قال: فأين نحن؟
قلت: بالمعلى، قال: فأين نحن غداً؟ قلت: بغالب، قال: فما كلمني حتى أردفني خلفه،
ومضى حتى أدخلني على ابن عطية، وقال له: أيها الأمير، سل الغلام ما اسمه؟ فسأل وأنا
أرد عليه القول؟ فسر بذلك، ووهب لي دراهم. قال أبو الفرج:
وقدم أبو حمزة، وأمامه بلج بن عقبة في ستمائة رجل،
ليقاتل عبد الملك بن عطية، فلقيه بوادي القرى، لأيام خلت من جمادى الأولى سنة
ثلاثين ومائة، فتواقفوا، ودعاهم بلج إلى الكتاب والسنة، وذكر بني أمية
وظلمهم، فشتمه أهل الشام، وقالوا: يا أعداء الله، أنتم أحق بهذا ممن ذكرتم. فحمل
بلج وأصحابه عليهم، وانكشفت طائفة من أهل الشام، وثبت ابن عطية في عصبة صبروا
معه، فناداهم: يا أهل الشام، يا أهل الحفاظ
ناضلوا عن دينكم وأميركم، واصبروا وقاتلوا قتالاً شديداً، فقتل بلج وأكثر
أصحابه، وانحازت قطعة من أصحابه نحو المائة إلى جبل اعتصموا به، فقاتلهم ابن
عطية ثلاثة أيام، فقتل منهم سبعين رجلاً، ونجا منهم
ثلاثون.
قال: فلما قدم ابن عطية أتاه عمر بن عبد الرحمن، فقال له: أصلحك الله! إني جمعت قضي وقضيضي، فقاتلت هؤلاء الشراة فلقبه أهل المدينة: قضي وقضيضي.
وقتلت الخوارج قتلاً ذريعاً، وأسر منهم أربعمائة، فقال لهم ابن عطية: ويلكم! ما دعاكم
إلى الخروج مع هذا؟ فقالوا: ضمن لنا الجنة، يريدون الجنة، فقتلهم كلهم، وصلب أبا حمزة وأبرهة بن الصباح على شعب الخيف، ودخل علي
بن الحصين داراً من دور قريش، فأحدق أهل الشام بها فأحرقوها، فرمى بنفسه عليهم
وقاتل، فأسر وقتل وصلب مع أبي حمزة، فلم يزالوا مصلوبين حتى أفضى الأمر إلى بني
هاشم، فأنزلوا في خلافة أبي العباس. فقال ابن عطية:
نضعه في جوف الجوالق، قالوا: فما تقولون في اليتيم؟ قالوا: نأكل ماله ونفجر
بأمه، في أشياء بلغني أنهم سئلوا عنها، فلما سمعوا كلامهم قاتلوهم حتى أمسوا، فصاحت الشراة: ويحك يابن عطية! إن الله جل وعز قد جعل الليل سكناً فاسكن ونسكن، فأبى وقاتلهم حتى أفناهم. قال:
وقد كان اتبعه على رأيه قوم من أهل المدينة وبايعوه، منهم
بشكست النحوي، فلما جاءهم قتله وثب الناس على أصحابه فقتلوهم؟ وكان ممن
قتلوه بشكست النحوي، فلما جاءهم قتله وثب الناس على أصحابه فقتلوهم، وكان ممن
قتلوه بشكست النحوي، طلبوه فرقي في درجة دار، فلحقوه فأنزلوه، وقتلوه وهو يصيح:
يا عباد الله، فيم تقتلونني! فقيل فيه:
قال أبو الفرج:
وحدثني بعض أصحابنا أنه رأى رجلاً واقفاً على سطح يرمي بالحجارة قوم أبي حمزة
بمكة، فقيل له: ويلك! أتدري من ترمي مع اختلاط الناس، فقال: والله ما أبالي من
رميت، إنما يقع حجري في شام أو شار، والله ما أبالي أيهما قتلت.
وقال
عمرو بن الحصين العنبري، يرثي أبا حمزة وغيره من الشراة، وهذه القصيدة من مختار شعر العرب:
قال أبو الفرج:
وأقام ابن عطية بحضرموت بعد ظفره بالخوارج حتى أتاه
كتاب مروان، يأمره بالتعجيل إلى مكة، فيحج بالناس، فشخص إلى مكة متعجلاً
مخفاً في تسعة عشر فارساً، وندم مروان على ما كتبه، وقال:
قتلت ابن عطية، وسوف يخرج متعجلاً مخفاً من اليمن ليلحق الحج فيقتله الخوارج، فكان كما قال، صادفه في طريقه جماعة متلففة، فمن كان منهم إباضياً قال: ما ننتظر أن ندرك ثأر
إخواننا، ومن لم يكن منهم إباضياً ظن أنه إباضي منهزم من ابن عطية، فصمد له سعيد
وجمانة ابنا الأخنس الكنديان في جماعة من قومهما، وكانوا على رأي الخوارج، فعطف
ابن عطية على سعيد فضربه بالسيف، وطعنه جمانة فصرعه، فنزل إليه سعيد، فقعد على
صدره، فقال له ابن عطية: هل لك في أن تكون
أكرم العرب أسيراً؟ فقال سعيد: يا عدو الله، أتظن الله يهملك! أو تطمع في
الحياة، وقد قتلت طالب الحق وأبا حمزة وبلجاً وأبرهة فذبحه. وقتل أصحابه أجمعون. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أما أنكر علي معاوية
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وقدطعن كثير من أصحابنا في
دين معاوية، ولم يقتمروا على تفسيقه، وقالوا عنه إنه كان ملحداً لا يعتقد
النبوة، ونقلوا عنه في فلتات كلامه وسقطات ألفاظه ما يدل على ذلك. قال المطرف بن المغيرة بن شعبة: دخلت مع أبي على معاوية، وكان أبي يأتيه، فيتحدث معه، ثم
ينصرف إلي فيذكر معاوية وعقله، ويعجب بما يرى منه، إذ
جاء ذات ليلة، فأمسك عن العشاء، ورأيته مغتماً فانتظرته ساعة، وظننت أنه
لأمر حدث فنا، فقلت: ما لي أراك مغتماً منذ الليلة؟ فقال:
يا بني، جئت من عند أكفر الناس وأخبثهم، قلت:
وما ذاك؟ قال: قلت له وقد خلوت به: إنك قد بلغت
سناً يا أمير المؤمنين، فلو أظهرت عدلاً، وبسطت خيراً فإنك قد كبرت ولو نظرت إلى
إخوتك من بني هاشم، فوصلت أرحامهم فوالله ما عندهم اليوم شيء تخافه، وإن ذلك مما
يبقى لك ذكره وثوابه، فقال: هيهات هيهات! أي ذكر
أرجو بقاءه ملك أخو تيم فعدل، وفعل ما فعل، فما
عدا أن هلك حتى هلك ذكره، إلا أن يقول قائل: أبو
بكر، ثم ملك أخو عدي، فاجتهد وشمر عشر سنين، فما
عدا أن هلك حتى هلك ذكره، إلا أن يقول قائل:
عمر، وإن ابن أبي كبشة ليصاح به كل يوم خمس مرات: أشهد أن محمداً رسول الله، فأي عمل يبقى؟ وأي ذكر يدوم بعد هذا لا أبا لك لا والله إلا دفناً دفناً.
فقال ابن الزبير:
لو شايعني الترك والديلم على محاربة بني أمية
لشايعتهم وانتصرت بهم. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
من كلام له لما خوف من الغيلة
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: وإن علي جنة
حصينة، فإذا جاء يومي انفرجت عني وأسلمتني، فحينئذ لا يطيش السهم، ولا يبرأ الكلم. الشرح:
الغيلة: القتل على غير علم ولا شعور. والجنة:
الدرع وما يجن به، أي يستتر من ترس وغيره. وطاش السهم، إذا صدف عن الغرض.
والكلم: الجرح، ويعني بالجنة ههنا الأجل، وعلى هذا المعنى الشعر المنسوب إليه رضي الله عنه:
ومنه
قول صاحب الزنج:
ومثله:
والأصل في هذا كله
قوله تعالى: "وما كان لنفس أن تموت إلا لإذن
الله كتاباً مؤجلاً". وقوله تعالى: "فإذا
جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون". |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الآجال واختلاف الناس فيها
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
واختلف الناس في الآجال، فقالت
الفلاسفة والأطباء: لا أجل مضروب لأحد من الحيوان كله من البشر ولا من
غيرهم. والموت عندهم على ضربين: قسري وطبيعي. فإن قال: عنيت الأول، قيل له: نعم للناس آجال مضروبه
بمعنى معلومة، فإن الله تعالى عالم بكل شيء. وإن قال: عنيت الثاني،
قيل: لا يجوز عندنا إطلاق القول بذلك، لأنه قد
تبطل حياة نبي أو ولي بقتل ظالم، والبارئ تعالى لا يريد عندنا ذلك. وقد يكون ذلك لطفاً لبعض المكلفين. ولو توهمنا في التقدير، أنه يمتنع من قتله، لكان
الإنسان يموت لأجل ذلك، لأنهما أمران مؤجلان بأجل
واحد، فأحدهما
قتل القاتل إياه، والثاني تصرم مدة عمره وحلول
الموت به، فلو قدرنا امتناع القاتل من قتله،
لكان لا يجب بذلك ألا يقع المؤجل الثاني الذي هو حلول الموت به، بل كان يجب أن يموت
بأجله. فأما مشايخنا أبو علي وأبو هاشم فتوقفا
في هذه المسألة، وشكا في حياة المقتول وموته، وقالا:
لا يجوز أن يبقى لو لم يقتل، ويجوز أن يموت، قالا: لأن حياته وموته مقدوران لله
عز وجل، وليس في العقل ما يدل على قبح واحد منهما، ولا في الشرع ما يدل على حصول
واحد منهما، فوجب الشك فيهما، إذ لا دليل يدل على واحد منهما. فأما شيخنا أبو الحسين فاختار الشك أيضاً في
الأمرين إلا
في صورة واحدة، فإنه قطع فيها على دوام الحياة، وهي
أن الظالم قد يقتل في الوقت الواحد الألوف الكثيرة في المكان الواحد، ولم تجر
العادة بموت مثلهم في حالة واحدة في المكان الواحد، واتفاق ذلك نقض العادة، وذلك
لا يجوز. وقد ذكرت في كتبي المبسوطة في علم الكلام في
هذا الباب ما ليس هذا الشرح موضوعاً لاستقصائه. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن خطبة له يحذر من فتنة الدنيا
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: ألا وإن
الدنيا دار لا يسلم منها إلا فيها، ولا ينجى بشيء كان لها. ابتلي
الناس بها فتنة فما أخذوه منها لها أخرجوا منه وحوسبوا عليه، وما أخذوه منها
لغيرها قدموا عليه، وأقاموا فيه، فإنها عند ذوي العقول كفيء الظل، بينا تراه
سابغاً حتى قلص، وزائداً حتى نقص. أحدهما: الإجماع على المنع من تجويز استحقاق ثواب أو
عقاب في الآخرة. والثاني: أن الإجماع
حاصل على أن أهل الجنة يشكرون الله تعالى، والشكر عبادة
وذلك يستدعي استحقاق الثواب!. والجواب عن الأول أن قوله: "كلوا وأشربوا" عند شيخنا أبي علي رحمه الله تعالى ليس بأمر على الحقيقة، وإن كانت
له صورته، كما في قوله تعالى: "كونوا حجارة أو حديدا". ولا يجوز أن يلجأوا إلى النظر لأنهم لو ألجئوا إلى
النظر لكان ألجأهم إلى المعرفة أولاً، وإلجاؤهم إلى المعرفة يمنع من إلجائهم إلى
النظر، ولا يجوز وقوعها عند تذكر النظر، لأن المتذكر للنظر تعرض له الشبه،
ويلزمه دفعها، وفي ذلك عود الأمر إلى التكليف، وليس معاينة الآيات بمانع عن وقوع
الشبه، كما لم تمنع معاينة المعجزات والإعلام عن وقوعها، ولا يجوز أن يكون
الإلجاء إلى المعرفة، لأن الإلجاء إلى أفعال القلوب لا يصح إلا من الله تعالى،
فيجب أن يكون الملجأ إلى المعرفة عارفاً بهذه القضية، وفي ذلك استغناؤه بتقدم
هذه المعرفة على الإلجاء إليها. ثم قال رضي الله عنه: وإنها عند ذوي العقول كفيء
الظل" إلى آخر الفصل: وإنما قال: كفيء
الظل" لأن العرب تضيف الشيء إلى نفسه، قال تأبط شراً:
ويمكن أن يقال:
الظل أعم من الفيء، لأن الفيء لا يكون إلا بعد الزوال، وكل فيء ظل، وليس كل ظل
فيئاً، فلما كان فيهما تغاير معنوي بهذا الاعتبار صحت الإضافة، والسابغ: التام.
وقلص، أي انقبض.
وغيره
يرفع ما بعد بينا وبينما على الابتداء والخبر، وينشد هذا البيت على الرفع، وهذا
المعنى متداول، قال الشاعر:
وقال
آخر:
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن خطبة في الاستعداد للموت
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: فاتقوا الله
عباد الله، وبادروا آجالكم بأعمالكم، ابتاعوا ما يبقى لكم بما يزول عنكم،
وترحلوا فقد جد بكم، استعدوا للموت فقد أظلكم، وكونوا قوماً صيح بهم فانتبهوا،
وعلموا أن الدنيا ليست لهم بدار فاستبدلوا فإن الله سبحانه لم يخلقكم عبثاً ولم
يترككم سدى، وما بين أحدكم وبين الجنة أو النار إلا الموت أن ينزل به. البدار: العجلة، وابتاعوا الآخرة الباقية بالدنيا
الفانية الزائلة. ويمكن أن
يكون بمعنى الطلب كما تقول: استطعم، أي طلب
الطعام، فيكون بالاعتبار الأول، كأنه قال: أعدوا للموت عدة، وبمعنى الاعتبار الثاني كأنه قال: اطلبوا للموت عدة،
وأظلكم: قرب منكم، كأنه ألقى عليهم ظله، وهذا من باب الإستعارة، والعبث: اللعب،
أو ما لا غرض فيه، أو ما لا غرض صحيح فيه. وقد روي: اتقى عبد ربه
بلا فاء، بتقدير هلا، ومعناه التحضيض. وقد روي
ليسوفها بكسر الواو وفتحها والضمير في الرواية الأولى يرجع إلى نفسه، وقد تقدم ذكرها قبل بكلمات يسيرة. ويجوز
أن يعني به: ليسوف التوبة، كأنه جعلها مخاطبة يقول لها: سوف
أوقعك والتسويف أن يقول في نفسه: سوف أفعل وأكثر ما يستعمل للوعد الذي لا نجاز
له. ومن روى بفتح الواو جعله فعل ما لم يسم فاعله، وتقديره: ويمنيه الشيطان
التوبة، أي يجعلها في أمنيته ليكون مسوفاً إياها أي يعد من المسوفين المخدوعين. ويجوز أن يكون المدعو غير الحسرة، كأنه قال: يا
للرجال للحسرة! فتكون لامها مكسورة نحو الأصل لأنها المدعو إليه، إلا أنها لما
كانت للضمير فتحت، أي أدعوكم أيها الرجال لتقضوا العجب من هذه الحسرة. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
من مواعظ الحسن البصري
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وهذا الكلام من
مواعظ أمير المؤمنين البالغة ونحوه من كلام الحسن
البصري ذكره شيخنا أبو عثمان في البيان
والتبيين: ابن آدم، بع دنياك بآخرتك تربحهما جميعاً، ولا تبع آخرتك
بدنياك فتخسرهما جميعاً، وإذا رأيت الناس في الخير فقاسمهم فيه، وإذا رأيتهم في
الشر فلا تغبطهم عليه. البقاء
ههنا قليل، والبقاء هناك طويل، أمتكم آخر الأمم وأنتم آخر أمتكم، وقد أسرع
بخياركم فما تنتظرون المعاينة! فكأن قد. هيهات هيهات، ذهبت
الدنيا بحاليها وبقيت الأعمال قلائد في الأعناق. فيا لها موعظة لو وافقت
من القلوب حياة! ألا إنه لا أمة بعد أمتكم، ولا نبي بعد نبيكم، ولا كتاب بعد
كتابكم. أنتم تسوقون الناس والساعة تسوقكم، وإنما
ينتظر بأولكم أن يلحق آخركم. من رأى محمداً صلوات الله وسلامه عليه، فقد رآه
غادياً رائحاً، لم يضع لبنة على لبنة، ولا قصبة على قصبة رفع له علم فسما إليه،
فالوحى الوحى. النجاء النجاء! على ماذا تعرجون! ذهب أماثلكم وأنتم ترذلون كل
يوم، فما تنتظرون!. ألا إن الحق قد أجهد أهله، وحال بينهم وبين
شهواتهم، وما يصبر عليه إلا من عرف فضله، ورجا عاقبته، فمن حمد الدنيا ذم
الآخرة، ولا يكره لقاء الله إلا مقيم على ما يسخطه. إن الإيمان ليس بالتمني ولا بالتشهي، ولكن ما وقر
في القلوب وصدقته الأعمال. وهذا كلام حسن وموعظة بالغة
إلا أنه في الجزالة والفصاحة دون كلام أمير المؤمنين رضي الله عنه بطبقات. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
خطبتان لعمر بن عبد العزيز
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن خطب عمر بن عبد العزيز: إن لكل سفر زاداً لا محالة، فتزودوا لسفركم من
الدنيا إلى الآخرة فكونوا كمن عاين ما أعد الله تعالى من ثوابه وعقابه، فرغبوا
ورهبوا، ولا يطولن عليكم الأمر فتقسو قلوبكم، وتنقادوا لعدوكم، فإنه والله ما
بسط أمل من لا يدري لعله لا يصبح بعد إمسائه، ولا يمسي بعد إصباحه، وربما كانت
بين ذلك خطفات المنايا. فكم رأينا وأنتم من كان بالدنيا مغتراً فأصبح في حبائل
خطوبها ومناياها أسيراً وإنما تقر عين من وثق بالنجاة من عذاب الله، وإنما يفرح
من أمن من أهوال يوم القيامة، فأما من لا يبرأ من كلم إلا أصابه جارح من ناحية
أخرى فكيف يفرح أعوذ بالله أن أخبركم بما أنهى عنه نفسي، فتخيب صفقتي، وتظهر
عورتي، وتبدو مسكنتي، في يوم يبدو فيه الغني والفقير، والموازين منصوبة،
والجوارح ناطقة. لقد عنيتم بأمر لو عنيت به النجوم لانكدرت، ولو عنيت به الجبال
لذابت، أو الأرض لانفطرت، أما تعلمون أنه ليس بين الجنة والنار منزلة، وأنكم
صائرون إلى أحدهما!. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
خطبة لابن نباتة
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن خطب ابن نباتة الجيدة في ذكر الموت:
أيها الناس، ما أسلس قياد من كان الموت جريره، وأبعد سداد من كان هواه أميره
وأسرع فطام من كانت الدنيا ظئره، وأمنع جناب من أضحت التقوى ظهيره! فاتقوا الله عباد الله حق تقواه، وراقبوه
مراقبة من يعلم أنه يراه، وتأهبوا لوثبات المنون،
فإنها كامنة في الحركات والسكون، بينما ترى المرء
مسروراً بشبابه، مغروراً بإعجابه، مغموراً بسعة اكتسابه، مستوراً عما خلق له لما
يغرى به، إذ أسعرت فيه الأسقام شهابها، وكدرت له
الأيام شرابها، وحومت عليه المنية عقوبها، وأعلقت فيه ظفرها ونابها، فسرت فيه
أوجاعه، وتنكرت عليه طباعه، وأظل رحيله ووداعه وقل عنه منعه ودفاعه، فأصبح ذا
بصر حائر، وقلب طائر، ونفس غابر، في قطب هلاك دائر، قد أيقن بمفارقة أهله ووطنه،
وأذعن بانتزاع روحه عن بدنه، حتى إذا تحقق منه اليأس، وحل به المحذور والبأس،
أومأ إلى خاص عواده، موصياً لهم بأصاغر أولاده، جزعاً عليهم من ظفر أعدائه
وحساده والنفس بالسياق يجذب، والموت بالفراق يقرب، والعيون لهول مصرعه تسكب،
والحامة عليه تعدد وتندب، حتى تجلى له ملك الموت من حجبه، فقضى فيه قضاء أمر
ربه، فعافه الجليس، وأوحش معه الأنيس، وزود من ماله كفنا، وحمر في الأرض بعمله
مرتهناً، وحيداً على كثرة الجيران، بعيداً على قرب المكان، مقيماً بين قوم كانوا
فزالوا، وحوت عليهم الحادثات فحالوا لا يخبرون بما إليه آلوا، ولو قدروا على
المقال لقالوا، قد شربوا من الموت كأساً مرة، ولم يفقدوا من أعمالهم من ذرة،
وآلى عليهم الدهر ألية برة، ألا يجعل لهم الدنيا كرة، كأنهم لم يكونوا للعيون
قرة، ولم يعدوا في الأحياء مرة، أسكتهم الذي أنطقهم، وأبادهم الذي خلقهم
وسيوجدهم كما خلقهم، ويجمعهم كما فرقهم، يوم يعيد الله العالمين خلقاً جديداً، ويجعل
الله الظالمين لنار جهنم وقوداً: "يوم تجد كل
نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً
بعيداً". |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن خطبة له في تنزيه الله وتقديسه
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: الحمد لله
الذي لم يسبق له حال حالاً، فيكون أولاً قبل أن يكون آخراً، ويكون ظاهراً قبل أن
يكون باطناً كل مسمى بالوحدة غيره قليل، وكل عزيز غيره ذليل، وكل قوي غيره ضعيف،
وكل مالك مملوك، وكل عالم غيره متعلم، وكل قادر غيره يقدر ويعجز، وكل سميع غيره
يصم عن لطيف الأصوات، ويصمه كبيرها، ويذهب عنه ما بعد منها، وكل بصير غيره يعمى
عن خفي الألوان ولطيف الأجسام، وكل ظاهر غيره غير باطن، وكل باطن غيرة غير ظاهر. فيكون معنى الكلام على هذا التفسير
نفي كونه تعالى ذا صفة، بكونه أولاً وآخراً، بل إنما المرجع بذلك إلى إضافات لا
وجود لها في الأعيان، ولا يكون ذلك من أحوال ذاته الراجعة إليها كالعالمية
ونحوها، لأن تلك أحوال ثابتة، ونحن إنما ننفي عنه بهذه الحجة الأحوال المتعاقبة. وأما قوله:
كل مسمى بالوحدة غيره قليل، فلأن الواحد أقل
العدد، ومعنى كونه واحداً يباين ذلك، لأن معنى كونه واحداً إما نفي الثاني في
الإلهية، أو كونه يستحيل عليها الانقسام، وعلى كلا
التفسيرين يسلب عنها مفهوم القلة.
وأما قوله:
وكل عزيز غيره ذليل فهو حق، لأن غيره من الملوك وإن كان عزيزاً فهو ذليل في قبضة
القضاء والقدر، وهذا هو تفسير قوله: وكل قوي غيره ضعيف، وكل مالك غيره مملوك. وأما قوله:
وكل قادر غيره يقدر ويعجز فهو حق، لأنه تعالى قادر لذاته، ويستحيل عليه العجز،
وغيره قادر لأمر خارج عن ذاته، إما لقدرة، كما قاله قوم، أو لبنية وتركيب كما
قاله قوم آخرون، والعجز على من عداه غير ممتنع، وعليه مستحيل. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
اختلاف الفلاسفة والمجوس والمانوية ومتكلمي الإسلام
في خلق العالم
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
فأما قوله:
لم يخلق ما خلقه لتشديد سلطانه إلى قوله: عباد داخرون، فاعلم أن الناس اختلفوا
في كمية خلقه تعالى للعالم ما هي؟ على أقوال: القول
الأول: قول الفلاسفة: قال محمد بن زكريا الرازي عن أرسطاطاليس: إنه زعم أن
العالم كان عن البارئ تعالى، لأن جوهره وذاته جوهر وذات مسخرة للمعدوم أن يكون
مسخراً موجوداً. قالوا: لكن تمثل
نظام العالم في علم واجب الوجود، يقتضي فيض ذلك النظام منه، قالوا: وهذا معنى قول الحكماء الأوائل: إن علمه تعالى فعلي لا
انفعالي، وإن العلم على قسمين: أحدهما: ما يكون
المعلوم سبباً له، والثاني ما يكون هو سبب
المعلوم، مثال الأول أن نشاهد صورة فنعلمها، ومثال الثاني أن يتصور الصائغ أو النجار أو البناء
كيفية العمل فيوقعه في الخارج على حسب ما تصوره. وواحد من الخمسة منفعل غير حي، وهو
الهيولى، واثنان لا حيان ولا فاعلان ولا
منفعلان، وهما الدهر والقضاء. قالوا: والبارئ تعالى هو مبدأ العلوم والمنفعلات،
وهو قائم العلم والحكمة، كما أن النفس مبدأ الأرواح والنفوس، العلوم والمنفعلات
تفيض من البارئ سبحانه فيض النور عن قرص الشمس، والنفوس والأرواح تفيض عن النفس
الكلية فيض النور عن القرص، إلا أن النفوس جاهلة
لا تعرف الأشياء إلا على أحد وجهين: إما أن يفيض فيض البارئ تعالى عليها تعقلاً وإدراكاً، وإما أن تمارس غيرها وتمازجه، فتعرف ما تعرف باعتبار
الممارسة والمخالطة معرفة ناقصة، وكان البارئ تعالى في الأزل عالماً بأن النفس
تميل إلى التعلق بالهيولى وتعشقها، وتطلب اللذة الجسمانية، وتكره مفارقة
الأجسام، وتنسى نفسها، ولما كان البارئ سبحانه قائم العلم والحكمة، اقتضت حكمته
تركب الهيولى لما تعلقت النفس بها ضروباً مختلفة من التراكيب، فجعل منها أفلاكاً
وعناصر وحيوانات ونباتات، فأفاض على النفوس تعقلاً وشعوراً جعله سبباً لتذكرها
عالمها الأول، ومعرفتها أنها ما دامت في هذا العالم مخالطة للهيولى لم تنفك عن
الآلام، فيصير ذلك مقتضياً شوقها إلى عالمها الأول الذي لها فيه اللذات الخالية
عن الآلام، ورفضها هذا العالم الذي هو سبب أذاها ومضرتها. قال قوم منهم:
إن البارئ تعالى استوحش، ففكر فكرة رديئة، فتولد منها الشيطان، وقال آخرون: بل شك شكاً رديئاً، فتولد الشيطان من
شكه. وقال آخرون:
بل تولد من عفونة رديئة قديمة، وزعموا أن الشيطان حارب البارئ سبحانه، وكان في
الظلم لم يزل بمعزل عن سلطان البارئ سبحانه، فلم يزل يزحف حتى رأى النور، فوثب
وثبة عظيمة، فصار في سلطان الله تعالى في النور، وأدخل معه الآفات والبلايا
والسرور، فبنى الله سبحانه هذه الأفلاك والأرض والعناصر شبكة له، وهو فيها
محبوس، لا يمكنه الرجوع إلى سلطانه الأول، وصار في الظلمة، فهو أبداً يضطرب
ويرمي الآفات على خلق الله سبحانه، فمن أحياه الله رماه الشيطان بالموت، ومن
أصحه رماه الشيطان بالسقم، ومن سره رماه بالحزن والكآبة، فلا يزال كذلك، وكل يوم
ينتقص سلطانه وقوته، لأن الله تعالى يحتال له كل يوم، ويضعفه إلى أن تذهب قوته
كلها، وتجمد وتصير جماداً لا حراك به، فيضعه الله تعالى حينئذ في الجو، والجو
عندهم هو الظلمة، ولا منتهى له، فيصير في الجو جماداً جامداً هوائياً، ويجمع الله تعالى أهل الأديان فيعذبهم بقدر ما يطهرهم،
ويصفيهم من طاعة الشيطان، ويغسلهم من الأدناس، ثم يدخلهم الجنة، وهي جنة لا أكل
فيها ولا شرب ولا تمتع، ولكنها موضع لذة وسرور. وأما الثاني،
فإما أن يكون ذلك الغرض عائداً عليه سبحانه بنفع أو دفع ضرر، أو يعود على غيره. والأول باطل، لأنه غني لذاته، يستحيل عليه المنافع
والمضار ولا يجوز أن يفعله لمضرة يوصلها إلى غيره، لأن القصد إما الإضرار
بالحيوان من غير استحقاق ولا منفعة يوصل إليها بالمضرة قبيح، تعالى الله عنه فثبت أنه سبحانه إنما خلق الحيوان لنفعه، وأما غير
الحيوان فلو لم يفعله لينفع به الحيوان، لكان خلقه عبثاً، والبارئ تعالى لا يجوز
عليه العبث، فإذاً جميع ما في العالم إنما خلقه لينفع
به الحيوان. وأما قوله:
المأمول مع النقم، المرهوب مع النعم فمعنى لطيف، وإليه وقعت الإشارة بقوله
تعالى: "أفامن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا
بياتاً وهم نائمون أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون"،
وقوله سبحانه: "سنستدرجهم من حيث لا يعلمون"، وقوله تعالى: "فإن مع العسر يسراً إن مع العسر يسرا"،
وقوله سبحانه: "فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل
الله فيه خيراً كثيراً" وإليه نظر الشاعر في قوله: من عاش لاقى
مايسو_ء من الأمور وما يسر
وقال
البحتري:
وقال
آخر:
وقال
سعيد بن حميد:
وقال
آخر:
وقال
آخر:
وقال
آخر:
وقال
الحلاج:
وقال
آخر:
وقال
آخر:
ومن شعري الذي أناجي به البارئ سبحانه في خلواتي، وهو فن أطويه وأكتمه عن الناس، وإنما
ذكرت بعضه في هذا الموضع، لأن المعنى ساق إليه، والحديث ذو شجون:
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
كان يقول لأصحابه في بعض أيام صفين
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: معاشر
المسلمين، استشعروا الخشية، وتجلببوا السكينة، وعضوا على النواجذ، فإنه أنبى
للسيوف عن الهام. وأكملوا اللأمة، وقلقلوا السيوف في أغمادها قبل
سلها. والحظوا الخزر، وأطعنوا الشزر، ونافخوا بالظبا، وسلوا السيوف بالخطا. فعاودوا الكر، واستحيوا من الفر، فإنه عار في
الأعقاب، ونار يوم الحساب. وطيبوا عن
أنفسكم نفساً، وأمشوا إلى الموت مشياً سجحاً، وعليكم بهذا السواد الأعظم،
والرواق المطنب، فاضربوا ثبجه، فإن الشيطان كامن في كسره، وقد قدم للوثبة يداً،
وأخر للنكوص رجلاً فصمداً صمداً حتى ينجلي لكم عمود الحق، وأنتم الأعلون، والله
معكم ولن يتركم أعمالكم. قوله:
وعضوا على النواجذ جمع ناجذ، وهو أقصى الأضراس،
وللإنسان أربعة نواجذ في كل شق، والنواجذ بعد
الأرحاء، ويسمى الناجذ ضرس الحلم، لأنه ينبت بعد البلوغ وكمال العقل، ويقال: إن العاض على نواجذه
ينبو السيف عن هامته نبواً ما، وهذا مما يساعد التعليل الطبيعي عليه، وذلك أنه
إذا عض على نواجذه تصلبت الأعصاب والعضلات المتصلة
بدماغه، وزال عنها الاسترخاء، فكانت على
مقاومة السيف أقدر، وكان تأثير السيف فيها أقل.
فإن
كان قد جاء مسكناً فتسكينه جائز للسجعة الثانية، وهي قوله. واطعنوا الشزر.
والطعن شزراً، هو الطعن عن اليمين والشمال، ولا يسمى الطعن تجاه الإنسان شزراً. وأكثر ما تستعمل لفظة الشزر في الطعن، لما كان عن
اليمين خاصة، وكذلك إدارة الرحا. وخزراً وشزراً، صفتان
لمصدرين محذوفين، تقديره: الحظوا لحظاً خزراً،
واطعنوا طعناً شزراً، وعين اطعنوا مضمومة، يقال:
طعنت بالرمح أطعن، بالضم، وطعنت في نسبه أطعن، بالفتح، أي قدحت، قال:
قوله:
نافحوا بالظبا أي ضاربوا نفحة بالسيف، أي ضربة، ونفحت الناقة برجلها، أي ضربت. والظبا: جمع ظبة، وهي طرف
السيف.
قالوا:
بكسر نضارب لأنه معطوف على موضع جزاء الشرط، الذي هو إذا. وقال آخر:
وأنشدني شيخنا أبو القاسم الحسين بن عبد الله العكبري، ولم يسم
قائله، ووجدته بعد لنابغة بني الحارث بن كعب:
وقال
حميد بن ثور الهلالي:
وهذه
الأبيات من قطعة لحميد جيدة، ومن جملتها:
ومن
المعنى الذي نحن في ذكره، ما روي أن رجلاً من الأزد، رفع إلى المهلب سيفاً له
فقال: يا عم، كيف ترى سيفي هذا فقال: إنه لجيد لولا أنه قصير قال: أطوله يا عم
بخطوتي، فقال: والله يابن أخي، إن المشي إلى الصين أو إلى أذربيجان على أنياب
الأفاعي أسهل من تلك الخطوة، ولم يقل المهلب ذلك جبناً، بل قال ما توجبه الصورة
إذ كانت تلك الخطوة قريبة للموت، قال أبو سعد المخزومي في هذا المعنى:
من
الناس من يرويها في ديوانه لجاني بالجيم، أي حملت الحمالة عنه، ومنهم منيرويها
بالحاء، يعني الخمار. ومن المعنى المذكور أولاً قول بعض الشعراء، يمدح صخر بن
عمرو بن الشريد الأسلمي.
ومثله
قول الراجز:
ومثله:
ومنها:
ومثله
قول وداك بن ثميل المازني:
وقال
آخر:
وقال
آخر:
وقال
بعض الرجاز:
قوله رضي الله عنه: واعلموا أنكم بعين الله أي يراكم ويعلم أعمالكم، والباء
ههنا كالباء في قوله: أنت بمرأى مني ومسمع، قوله:
فعاودوا الكر أي إذا كررتم على العدو كرة فلا تقتصروا عليها، بل كروا كرة أخرى
بعدها، ثم قال لهم: واستحيوا من الفرار، فإنه عار في
الأعقاب، أي في الأولاد، فإن الأبناء يعيرون بفرار الآباء. ويجوز أن يريد
بالأعقاب جمع عقب، وهو العاقبة وما يؤول إليه الأمر،
قال سبحانه: "خير ثواباً وخير عقباً"،
أي خير عاقبة، فيعني على هذا الوجه أن الفرار عار في عاقبة أمركم، وما يتحدث به
الناس في مستقبل الزمان عنكم. والكسر: جانب الخباء. وقوله: فإن الشيطان
كامن في كسره، يحتمل وجهين، أحدهما: أن يعني به
الشيطان الحقيقي، وهو إبليس، والثاني: أن يعني
به معاوية. والثاني هو الأظهر للقرينة التي تؤيده،
وهي قوله: قد قدم للوثبة يداً، وأخر للنكوص رجلاً، أي إن جبنتم وثب، وإن شجعتم
نكص، أي تأخر وفر، ومن حمله على الوجه الأول
جعله من باب المجاز، أي أن إبليس كالإنسان الذي
يعتوره دواع مختلفة بحسب المتجددات، فإن أنتم صدقتم عدوكم القتال فر عنكم بفرار
عدوكم، وإن تخاذلتم وتواكلتم طمع فيكم بطمعه، وأقدم عليكم بإقدامه. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وقعة صفين
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال نصر: كان علي رضي
الله عنه يركب بغلة له يستلذها، قبل أن تلتقي الفئتان بصفين، فلما حضرت الحرب
وبات تلك الليلة يعبي الكتائب حتى أصبح قال: ائتوني بفرس، فأتي بفرس له ذنوب
أدهم، يقاد بشطنين، يبحث الأرض بيديه جميعاً، له حمحمة وصهيل، فركبه، وقال: "سبحان الذي
سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين"، لا حول
ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. قال نصر: فحدثني
عمر بن سعد، عن مالك بن أعين، عن زيد بن وهب، قال: لما خرج علي رضي الله عنه إليهم غداة ذلك اليوم
فاستقبلوه، رفع يديه إلى السماء، وقال: اللهم رب هذا السقف المحفوظ المكفوف،
الذي جعلته محيطاً بالليل والنهار، وجعلت فيه مجرى الشمس والقمر، ومنازل الكواكب
والنجوم، وجعلت سكانه سبطاً من الملائكة لا يسأمون العبادة، ورب هذه الأرض التي
جعلتها قراراً للأنام والهوام والأنعام، وما لا يحصى مما يرى ومما لا يرى، من
خلقك العظيم، ورب الفلك التي تجري في البحر المحيط بما ينفع الناس، ورب السحاب
المسخر بين السماء والأرض، ورب البحر المسجور، المحيط بالعالمين، ورب الجبال
الرواسي التي جعلتها للأرض أوتاداً، وللخلق متاعاً، إن أظهرتنا على عدونا،
فجنبنا البغي، وسددنا للحق. وإن أظهرتهم علينا فارزقنا الشهادة، واعصم بقية
أصحابي من الفتنة. ثم إن عبيد الله بن عمر
أرسل إلى محمد بن الحنفية: أن اخرج إلي أبارزك، فقال: نعم، ثم خرج إليه، فبصر بهما علي رضي الله عنه، فقال: من
هذان المتبارزان، قيل: محمد بن الحنفية وعبيد الله بن عمر، فحرك دابته، ثم دعا
محمداً إليه، فجاءه فقال: أمسك دابتي، فأمسكها، فمضى راجلاً بيده سيفه نحو عبيد
الله، وقال له: أنا أبارزك، فهلم إلي، فقال عبيد الله: لا حاجة بي إلى مبارزتك، قال: بلى، فهلم إلي، قال: لا أبارزك، ثم رجع إلى صفه، فرجع
علي رضي الله عنه فقال ابن الحنفية: يا أبت لم منعتني من مبارزته، فوالله لو تركتني
لرجوت أن أقتله قال: يا بني، لو بارزته أنا لقتلته، ولو بارزته أنت لرجوت
لك أن تقتله، وما كنت آمن أن يقتلك، قال: يا أبت أتبرز بنفسك إلى هذا
الفاسق اللئيم عدو الله والله لو أبوه يسألك المبارزة لرغبت بك عنه، فقال: يا
بني لا تذكر أباه، ولا تقل فيه إلا خيراً، رحم الله
أباه. فقام معاوية في أهل الشام خطيباً، فقال:
أيها الناس: أعيرونا جماجمكم وأنفسكم، لا تقتتلوا ولا تتجادلوا، فإن اليوم يوم
خطار، ويوم حقيقة وحفاظ، إنكم لعلى حق، وبأيديكم حجة، إنما تقاتلون من نكث
البيعة، وسفك الدم الحرام، فليس له في السماء عاذر، قدموا أصحاب السلاح
المستلئمة، وأخروا الحاسر، واحملوا بأجمعكم، فقد بلغ الحق مقطعه، وإنما هو ظالم
ومظلوم. ألا إن شرائع الدين واحدة، وسبله قاصدة،
من أخذ بها لحق، ومن فارقها محق، ومن تركها مرق. ليس المسلم بالخائن إذا ائتمن،
ولا بالمخلف إذا وعد، ولا بالكذاب إذا نطق. نحن أهل بيت الرحمة، وقولنا الصدق،
وفعلنا القصد، ومنا خاتم النبيين، وفينا قادة الإسلام، وفينا حملة الكتاب. ألا إنا ندعوكم إلى الله وإلى رسوله،
وإلى جهاد عدوه والشدة في أمره، وابتغاء مرضاته، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة،
وحج البيت، وصيام شهر رمضان، وتوفير الفيء على أهله
ألا وإن من أعجب، العجائب أن معاوية بن أبي سفيان
الأموي وعمرو بن العاص السهمي، أصبحا يحرضان الناس على طلب الدين بزعمهما، ولقد
علمتم أني لم أخالف رسول الله صلى الله عليه
وسلم قط، ولم أعصه في أمر، أقيه
نفسي في المواطن التي ينكص فيها الأبطال، وترعد فيها الفرائص، بنجدة أكرمني الله
سبحانه بها، وله الحمد. ولقد قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن رأسه لفي حجري، ولقد وليت غسله بيدي وحدي، تقلبه الملائكة
المقربون معي. وايم الله ما اختلفت أمة قط بعد نبيها
إلا ظهر أهل باطلها على أهل حقها، إلا ما شاء قال أبو
سنان الأسلمي: فأشهد لقد سمعت عمار بن ياسر،
يقول للناس: أما أمير المؤمنين فقد
أعلمكم أن الأمة لم تستقم عليه أولاً، وأنها لن تستقيم عليه آخراً. وقد ساقتنا
وهؤلاء القوم الأقدار، حتى لفت بيننا في هذا الموضع، ونحن من ربنا بمرأى ومسمع،
ولو شاء لعجل النقمة، ولكان منه النصر، حتى يكذب الله الظالم، ويعلم الحق أين
مصيره. ولكنه جعل الدنيا دار الأعمال، والآخرة
دار الجزاء والقرار "ليجزي الذين
أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى". ألا إنكم ملاقو العدو غداً إن شاء الله، فأطيلوا الليلة القيام،
وأكثروا تلاوة القرآن، واسألوا الله الصبر والنصر، والقوهم بالجد والحزم، وكونوا
صادقين. قال: فوثب
الناس إلى رماحهم وسيوفهم ونبالهم يصلحونها، وخرج رضي الله عنه فعبى الناس ليلته تلك كلها حتى أصبح، وعقد الألوية، وأمر
الأمراء، وكتب الكتائب، وبعث إلى أهل الشام منادياً نادى فيهم: اغدوا على
مصافكم. فضج أهل الشام في معسكرهم، واجتمعوا إلى معاوية
فعبى خيله، وعقد ألويته، وأمر أمراءه، وكتب كتائبه، وأحاط به أهل حمص في راياتهم، وعليهم أبو
الأعور السلمي، وأهل الأردن في راياتهم،
وعليهم عمرو بن العاص، وأهل قنسرين وعليهم زفر بن الحارث الكلابي،
وأهل دمشق وهم القلب وعليهم الضحاك بن قيس الفهري، فأطافوا كلهم بمعاوية، وكان أهل الشام أكثر من أهل العراق بالضعف، وسار أبو
الأعور وعمرو بن العاص ومن معهما، حتى وقفا بحيال أهل العراق، فنظرا إليهم،
واستقلا جمعهم، وطمعا فيهم، ونصب لمعاوية منبر، فقعد عليه في قبة ضربها، ألقى
عليها الثياب والأرائك، وأحاط به أهل يمن، وقال:
لا يقربن هذا المنبر أحد لا تعرفونه إلا قتلتموه كائناً من كان.
قال نصر: وقال
معاوية: من في ميسره أهل العراق، فقيل: ربيعة،
فلم يجد في الشام ربيعة، فجاء بحمير، فجعلها بإزاء
ربيعة على قرعة أقرعها بين حمير وعك، فقال ذو الكلاع الحميري: باستك من سهم لم
تبغ الضراب كأنه أنف عن أن تكون حمير بإزاء ربيعة، فبلغ ذلك جحدراً الحنفي، فحلف
بالله إن عاينه ليقتلنه أو ليموتن دونه، فجاءت حمير حتى وقفت بإزاء ربيعة، وجعل السكاسك والسكون بإزاء كندة،
وعليهما الأشعث بن قيس، وجعل بإزاء همدان العراق الأزد،
وبإزاء مذحج العراق عكا.
وقال راجز من أهل الشام:
قال:
وطرحت عك حجراً بين أيديهم، وقالوا: لا نفر حتى يفر هذا الحكر بالكاف وعك تقلب
الجيم كافاً وصف القلب خمسة صفوف، وفعل أهل العراق أيضاً مثل ذلك، ونادى عمرو بن العاص بأعلى صوته:
فرد
أهل العراق وقالوا:
ثم
نادى عمرو بن العاص ثانية برفع صوته:
فرد
عليه أهل العراق:
وقال
إبراهيم بن أوس بن عبيدة من أهل الشام:
قال نصر: وبات علي رضي الله عنه ليلته يعبئ الناس حتى إذا أصبح زحف
بهم، وخرج إليه معاوية في أهل الشام فجعل يقول: من هذه القبيلة، ومن هذه القبيلة، يعني قبائل أهل الشام،
فيسمون له حتى إذا عرفهم، وعرف مراكزهم قال للأزد: اكفوني الأزد، وقال لخثعم:
اكفوني خثعماً، وأمر كل قبيلة من العراق أن تكفيه أختها
من أهل الشام، إلا قبيلة ليس منهم بالعراق إلا القليل مثل بجيلة، فإن
لخماً كانت بإزائها. ثم تناهض القوم يوم الأربعاء سادس
صفر واقتتلوا إلى آخر نهارهم، وانصرفوا عند المساء، وكل غير غالب. من يفعل هذا يمقته
الله، فلا تعرضوا لمقت الله، فإنما مردكم إلى الله، قال الله تعالى لقوم عابهم: "لن
ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تمتعون إلا قليلاً"، وايم الله لئن فررتم من سيف العاجلة لا تسلمون من سيف
الآخرة، استعينوا بالصدق والصبر فإنه بعد الصبر ينزل النصر. قال نصر: وحدثنا عمرو بن شمر، عن جابر،
عن الشعبي، عن مالك بن قدامة الأرحبي، قال: قام سعيد بن
قيس يخطب أصحابه بقناصرين فقال: الحمد لله الذي هدانا لدينه، وأورثنا كتابه،
وامتن علينا بنبيه، فجعله رحمة للعالمين، وسيداً للمرسلين، وقائداً للمؤمنين،
وخاتماً للنبيين، وحجة الله العظيم على الماضين والغابرين، ثم كان فيما قضى الله
وقدره وله الحمد على ما أحببنا وكرهنا أن ضمنا وعدونا بقناصرين، فلا يجمل بنا
اليوم الحياص وليس هذا بأوان انصراف، ولات حين مناص وقد خصنا الله بمنه برحمة لا
نستطيع أداء شكرها، ولا نقدر قدرها، إن أصحاب محمد المصطفين الأخيار معنا، وفي
حيزنا، فوالله الذي هو بالعباد بصير أن لو كان قائدنا رجلاً مجدعاً، إلا أن معنا
من البدريين سبعين رجلاً لكان ينبغي لنا أن تحسن بصائرنا، وتطيب أنفسنا، فكيف
وإنما رئيسنا ابن عم نبينا، بدري صدق، صلى صغيراً، وجاهد مع نبيكم كثيراً،
ومعاوية طليق من وثاق الإسار وابن طليق. ألا إنه
أغوى جفاة فأوردهم النار، وأوردهم العار، والله محل بهم الذل والصغار. ألا إنكم ستلقون عدوكم غداً، فعليكم بتقوى الله، من
الجد والحزم، والصدق والصبر فإن الله مع الصابرين. ألا إنكم
تفوزون بقتلهم، ويشقون بقتلكم، والله لا يقتل رجل منكم رجلاً منهم إلا أدخل الله
القاتل جنات عدن، وأدخل المقتول ناراً تلظى "لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون"، عصمنا
الله وإياكم بما عصم به أولياءه، وجعلنا وإياكم ممن أطاعه واتقاه، وأستغفر الله
العظيم لي ولكم وللمؤمنين، ثم قال الشعبي: ولقد صدق فعله ما قال في خطبته. فقام عمرو فقال: معاشر أهل الشام، سووا صفوفكم قص
الشارب، وأعيرونا جماجمكم ساعة، فقد بلغ الحق مقطعه، فلم يبق إلا ظالم أو مظلوم. قال نصر: وحدثنا
عمرو بن شمر، عن جابر، عن الفضل بن أدهم، عن أبيه أن
الأشتر قام يخطب الناس بقناصرين، وهو يومئذ على فرس أدهم، مثل حلك الغراب، فقال:
الحمد لله الذي خلق السموات العلى "الرحمن على العرش استوى له ما في
السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى"، أحمده على حسن البلاء،
وتظاهر النعماء حمداً كثيراً، بكرة وأصيلاً، من هداه الله فقد اهتدى، ومن يضلل
فقد غوى، أرسل محمداً بالصواب والهدى، فأظهره على الدين كله ولو كره المشركون
صلى الله عليه وآله وسلم. ثم قد كان
مما قضى الله سبحانه وقدر أن ساقتنا المقادير إلى أهل هذه البلدة من الأرض، فلفت بيننا وبين عدو الله وعدونا، فنحن بحمد الله ونعمه، ومنه
وفضله، قريرة أعيننا، طيبة أنفسنا، نرجو بقتالهم حسن الثواب، والأمن من العقاب،
معنا ابن عم نبينا، وسيف
من سيوف الله علي بن أبي طالب، صلى مع رسول الله، لم يسبقه إلى الصلاة
ذكر حتى كان شيخاً، لم تكن له صبوة ولا نبوة ولا هفوة ولا سقطة، فقيه في دين
الله تعالى، عالم بحدود الله، ذو رأي أصيل، وصبر جميل، وعفاف قديم، فاتقوا الله
وعليكم بالحزم والجد، واعلموا أنكم على الحق، وأن القوم على الباطل، إنما تقاتلون معاوية وأنتم مع البدريين، قريب من مائة
بدري، سوى من حولكم من أصحاب محمد، أكثر ما معكم رايات قد كانت مع رسول الله، ومع معاوية رايات قد كانت مع المشركين على رسول الله، فما يشك
في قتال هؤلاء إلا ميت القلب، أنتم على إحدى الحسنيين، إما الفتح وإما الشهادة،
عصمنا الله وإياكم بما عصم به من أطاعه واتقاه، وألهمنا وإياكم طاعته وتقواه،
وأستغفر الله لي ولكم. قال نصر: وحدثنا عمرو
بن شمر، عن جابر، عن الشعبي، عن صعصعة بن صوحان، عن زامل بن عمرو الجذامي، قال: طلب معاوية إلى ذي الكلاع أن يخطب الناس ويحرضهم على قتال علي رضي الله عنه ومن معه من أهل العراق،
فعقد فرسه، وكان من أعظم أصحاب معاوية خطراً، وخطب الناس، فقال: الحمد لله حمداً
كثيراً، نامياً واضحاً منيراً، بكرة وأصيلاً، أحمده وأستعينه، وأومن به، وأتوكل
عليه، وكفى بالله وكيلاً وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن
محمداً عبده ورسوله، أرسله بالفرقان إماماً، وبالهدى ودين الحق، حين ظهرت
المعاصي، ودرست الطاعة، وامتلأت الأرض جوراً وضلالة، واضطرمت الدنيا نيرانا
وفتنة، وورك عدو الله إبليس، على أن يكون قد عبد في أكنافها، واستولى على جميع
أهلها، فكان محمد صلى الله عليه وسلم هو الذي أطفأ الله به نيرانها، ونزع به
أوتادها وأوهن به قوى إبليس وآيسه مما كان قد طمع فيه من ظفره بهم، وأظهره على
الدين كله ولو كره المشركون، ثم كان من قضاء الله أن ضم
بيننا وبين أهل ديننا بصفين، وإنا لنعلم أن فيهم
قوماً قد كانت لهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سابقة ذات شأن وخطر عظيم،
ولكني ضربت الأمر ظهراً وبطناً، فلم أر يسعني أن يهدر دم عثمان صهر نبينا صلى
الله عليه وسلم، الذي جهز جيش العسرة، وألحق في مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيتاً، وبنى سقاية، بايع له نبي الله بيده اليمنى على اليسرى، واختصه
بكريمتيه: أم كلثوم ورقية، فإن كان قد أذنب ذنباً فقد أذنب من هو خير منه، قال
الله سبحانه لنبيه: "ليغفر
لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر" وقتل
موسى نفساً، ثم استغفر الله فغفر له، وقد أذنب
نوح، ثم استغفر الله فغفر له، وقد أذنب أبوكم
آدم، ثم استغفر الله فغفر له، ولم يعر أحدكم من
الذنوب، وإنا لنعلم أنه قد كانت لابن أبي طالب
سابقة حسنة مع رسول الله صلى الله عليه
وسلم، فإن لم يكن مالأ على قتل
عثمان فلقد خذله، وإنه لأخوه في دينه وابن عمه وسلفه وابن عمته. ثم قد
أقبلوا من عراقهم حتى نزلوا شامكم، وبلادكم
وبيضتكم وإنما عامتهم بين قاتل وخاذل، فاستعينوا بالله واصبروا، فلقد ابتليتم
أيتها الأمة ولقد رأيت في منامي في ليلتي هذه، لكأنا وأهل العراق اعتورنا مصحفاً
نضربه بسيوفنا، ونحن في ذلك جميعاً ننادي: ويحكم الله! ومع أنا والله لا نفارق
العرصة حتى نموت، فعليكم بتقوى الله، ولتكن النيات لله، فإني سمعت عمر بن الخطاب يقول: سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنما يبعث المقتتلون على النيات" أفرغ
الله علينا وعليكم الصبر وأعز لنا ولكم النصر وكان لنا ولكم في كل أمر، وأستغفر
الله لي ولكم. قال نصر: وحدثنا
عمرو بن شمر، عن ابن عامر، عن صعصعة العبدي،
عن أبرهة بن الصباح، قال: قام يزيد بن أسد
البجلي في أهل الشام يخطب الناس بصفين، وعليه قباء من خز، وعمامة سوداء، آخذاً
بقائم سيفه، واضعاً نصل السيف في الأرض، متوكئاً عليه. قال صعصعة:
فذكر لي أبرهة أنه كان يومئذ من أجمل العرب وأكرمها وأبلغها، فقال: الحمد لله الواحد الفرد، ذي الطول والجلال،
العزيز الجبار، الحكيم الغفار، الكبير المتعال، ذي العطاء والفعال، والسخاء
والنوال، والبهاء والجمال، والمن والإفضال، مالك اليوم الذي لا بيع فيه ولا
خلال، أحمده على حسن البلاء، وتظاهر النعماء، وفي كل حال من شدة أو رخاء. أحمده
على نعمه التوام، وآلائه العظام، حمداً يستنير بالليل والنهار. وأشهد أن لا إله
إلا الله وحده لا شريك له، كلمة النجاة في الحياة، وعند الوفاة، وفيها الخلاص
يوم القصاص، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، النبي المصطفى، وإمام الهدى صلى الله عليه وسلم. ثم كان من قضاء الله أن
جمعنا وأهل ديننا في هذه الرقعة من الأرض، والله يعلم أني كنت كارهاً لذلك ولكنهم لم يبلعونا ريقنا، ولم
يتركونا نرتاد لأنفسنا، وننظر لمعادنا، حتى نزلوا بين أظهرنا، وفي حريمنا
وبيضتنا. وقد علمنا أن في القوم أحلاماً وطغاماً، ولسنا نأمن من طغامهم على
ذرارينا ونسائنا،
ولقد كنا نحب ألا نقاتل أهل ديننا، فأخرجونا حتى صارت
الأمور إلى أن قاتلناهم غداً حمية فإنا لله وإنا إليه راجعون، والحمد لله
رب العالمين أما والذي بعث محمداً بالرسالة، لوددت أني
مت منذ سنة، ولكن الله إذا أراد أمراً لم يستطع
العباد رده، فنستعين بالله العظيم، وأستغفر الله لي ولكم.
ويروى:
قال:
فأجابه شاعر من شعراء أهل العراق:
قال نصر: فحدثنا
عمرو بن شمر، عن جابر، عن الشعبي أن أول فارسين التقيا
في هذا اليوم وهو اليوم السابع من صفر، وكان من الأيام العظيمة في صفين، ذا
أهوال شديدة حجر الخير وحجر الشر أما حجر الخير فهو حجر بن عدي، صاحب أمير
المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأما حجر الشر فابن عمه، كلاهما من
كندة، وكان من أصحاب معاوية، فاطعنا برمحيهما، وخرج رجل من بني أسد، يقال
له خزيمة، من عسكر معاوية، فضرب حجر بن عدي ضربة برمحه،
فحمل أصحاب علي رضي الله عنه فقتلوا خزيمة الأسدي، ونجا حجر الشر هارباً، فالتحق
بصف معاوية. ثم برز حجر الشر ثانية، فبرز إليه الحكم بن أزهر من أهل العراق،
فقتله حجر الشر فخرج إليه رفاعة بن ظالم الحميري، من صف العراق فقتله، وعاد إلى
أصحابه يقول: الحمد لله الذي قتل حجر الشر بالحكم بن أزهر. ثم إن عليا رضي الله عنه دعا أصحابه إلى أن يذهب واحد منهم بمصحف كان
في يده إلى أهل الشام، فقال:
من يذهب إليهم، فيدعوهم إلى ما في هذا المصحف، فسكت الناس، وأقبل فتى اسمه سعيد،
فقال: أنا صاحبه، فأعاد القول ثانية، فسكت الناس، وتقدم
الفتى، فقال: أنا صاحبه، فسلمه إليه فقبضه بيده، ثم أتاهم فأنشدهم الله،
ودعاهم إلى ما فيه فقتلوه، فقال علي رضي الله عنه لعبد الله بن بديل بن ورقاء
الخزاعي: احمل
عليهم الآن. فحمل عليهم بمن معه من أهل الميمنة، وعليه يومئذ سيفان ودرعان، فجعل
يضرب بسيفه قدماً، ويقول:
فلم يزل يحمل حتى انتهى إلى معاوية، والذين بايعوه إلى الموت، فأمرهم أن يصمدوا لعبد الله بن بديل،
وبعث إلى حبيب بن مسلمة الفهري وهو في الميسرة، أن يحمل عليه بجميع من معه،
واختلط الناس، واضطرم الفيلقان، ميمنة أهل العراق وميسرة أهل الشام، وأقبل عبد الله بن بديل يضرب الناس بسيفه قدماً، حتى أزال
معاوية عن موقفه وجعل ينادي: يا ثارات عثمان وإنما يعني أخاً له قد قتل، وظن معاوية وأصحابه أنه يعني عثمان بن عفان، وتراجع
معاوية عن مكانه القهقرى كثيراً وأشفق على نفسه، وأرسل إلى حبيب بن مسلمة مرة
ثانية، وثالثة، يستنجده ويستصرخه، ويحمل حبيب حملة شديدة بميسرة معاوية على
ميمنة العراق، فكشفها حتى لم يبق مع ابن بديل إلا نحو
مائة إنسان من القراء، فاستند بعضهم إلى بعض، يحمون أنفسهم، ولجج ابن
بديل في الناس وصمم على قتل معاوية، وجعل يطلب موقفه، ويصمد نحوه، حتى انتهى إليه، ومع معاوية عبد الله بن عامر واقفاً، فنادى
معاوية في الناس: ويلكم الصخر والحجارة إذا عجزتم عن السلاح. فرضخه الناس
بالصخر والحجارة، حتى أثخنوه فسقط، فأقبلوا عليه بسيوفهم، فقتلوه.
ثم قال: إن نساء خزاعة لو قدرت على أن تقاتلني فضلاً عن رجالها،
لفعلت. قال نصر:
فحدثنا عمرو، قال: حدثنا مالك بن أعين، عن زيد بن وهب، قال:
لقد مر علي رضي الله عنه يومئذ
ومعه بنوه نحو الميسرة، ومعه ربيعة وحدها، وإني لأرى النبل
يمر بين عاتقه ومنكبيه، وما من بنيه إلا من يقيه بنفسه، فيكره علي رضي الله عنه ذلك.
فيتقدم عليه، ويحول بينه وبين أهل الشام ويأخذه بيده إذا فعل ذلك، فيلقيه من
ورائه، ويبصر به أحمر مولى بني أمية، وكان
شجاعاً، وقال علي رضي الله عنه:
ورب الكعبة، قتلني الله إن لم أقتلك! فأقبل نحوه، فخرج
إليه كيسان مولى علي رضي الله عنه، فاختلفا ضربتين، فقتله أحمر، وخالط علياً ليضربه بالسيف، وينتهزه علي، فتقع يده في جيب
درعه، فجذبه عن فرسه، فحمله على عاتقه، فوالله لكأني أنظر إلى رجلي أحمر تختلفان
على عنق علي، ثم ضرب به الأرض، فكسر منكبه وعضديه، وشد ابنا علي: حسين ومحمد
فضرباه بأسيافهما حتى برد، فكأني أنظر إلى علي قائماً، وشبلاه يضربان
الرجل حتى إذا أتيا عليه، أقبلا على أبيهما، والحسن قائم معه، فقال له علي: يا
بني، ما منعك أن تفعل كما فعل أخواك، فقال: كفياني يا أمير المؤمنين. فقالوا: خذ بنا حيث أحببت، فصمد بهم نحو عظمهم واستقبله أشباههم من
همدان،
وهم نحو ثمانمائة مقاتل قد انهزموا آخر الناس، وكانوا
قد صبروا في ميمنة علي رضي الله عنه حتى قتل منهم مائة وثمانون رجلاً، وأصيب منهم أحد عشر رئيساً، كلما
قتل منهم رئيس أخذ الراية آخر،
وهم بنو شريح الهمدانيون وغيرهم من رؤساء العشيرة، فأول
من أصيب منهم كريب بن شريح، وشرحبيل بن شريح، ومرثد بن شريح، وهبيرة بن شريح،
وهريم بن شريح، وشهر بن شريح، وشمر بن شريح، قتل هؤلاء
الإخوة الستة في وقت واحد. فانصرفوا وهم يقولون:
ليت لنا عديداً من العرب يحالفوننا على الموت، ثم نستقدم نحن وهم فلا ننصرف حتى
نظفر أو نقتل، فمروا بالأشتر وهم يقولون هذا القول فقال لهم الأشتر: أنا أحالفكم وأعاقدكم على
ألا نرجع أبداً، حتى نظفر أو نهلك، فوقفوا معه
على هذه النية والعزيمة، فهذا معنى قول كعب بن جعيل:
قال: وزحف الأشتر نحو الميمنة، وثاب إليه أناس تراجعوا من أهل
الصبر والوفاء والحياء،
فأخذ لا يصمد لكتيبة إلا كشفها، ولا لجمع إلا حازه ورده، فإنه لكذلك إذ مر بزياد
بن النضر مستلحماً، فقال الأشتر: هذا والله
الصبر الجميل، هذا والله الفعل الكريم إلي، وقد كان هو وأصحابه في ميمنة العراق،
فتقدم فرفع رايته لهم، فصبروا وقاتل حتى صرع، ثم لم يلبث الأشتر إلا يسيراً كلا
شيء حتى مر بهم يزيد بن قيس الأرحبي مستلحماً أيضاً محمولاً، فقال الأشتر: من هذا، قالوا: يزيد بن قيس، لما صرع
زياد بن النضر دفع رايته لأهل الميمنة، فقاتل تحتها حتى صرع، فقال الأشتر: هذا والله الصبر الجميل، هذا والله
الفعل الكريم، ألا يستحي الرجل أن ينصرف لم يقتل ولم يقتل ولم يشف به على القتل! قال نصر: وحدثنا
عمرو عن الحارث بن الصباح، قال: كان بيد الأشتر يومئذ صفيحة له يمانية، إذا
طأطأها خلت فيها ماء ينصب، وإذا رفعها يكاد يعشي البصر شعاعها، ومر يضرب الناس
بها قدماً، ويقول:
قال:
فبصر به الحارث بن جمهان الجعفي، والأشتر مقنع في الحديد فلم يعرفه، فدنا منه،
وقال له: جزاك الله منذ اليوم عن أمير المؤمنين وعن جماعة المسلمين خيراً. فعرفه الأشتر
فقال: يابن جمهان، أمثلك يتخلف اليوم عن مثل موطني هذا! فتأمله ابن جمهان
فعرفه وكان الأشتر من أعظم الرجال وأطولهم، إلا أن في لحمه خفة قليلة فقال له:
جعلت فداك! لا والله ما علمت مكانك حتى الساعة، ولا والله لا أفارقك حتى أموت. قال نصر:
وحدثنا عمرو، عن مالك بن أعين، عن زيد بن وهب، أن علياً
رضي الله عنه لما رأى ميمنته قد عادت إلى موقفها ومصافها، وكشفت من بإزائها حتى
ضاربوهم في مواقفهم ومراكزهم، أقبل حتى انتهى إليهم، فقال: إني قد رأيت
جولتكم وانحيازكم من صفوفكم، يحوزكم الجفاة الطغاة وأعراب أهل الشام، وأنتم
لهاميم العرب، والسنام الأعظم، وعمار الليل بتلاوة القرآن، وأهل دعوة الحق، إذ
ضل الخاطئون. فلولا إقبالكم بعد إدباركم وكركم بعد
انحيازكم، وجب عليكم ما وجب على المولي يوم الزحف دبره، وكنتم فيما أرى من
الهالكين، ولقد هون علي بعض وجدي، وشفى بعض لاعج نفسي، أني رأيتكم بأخرة،
حزتموهم كما حازوكم، وأزلتموهم عن مصافهم كما أزالوكم تحشونهم بالسيوف، يركب
أولهم آخرهم، كالإبل المطرودة الهيم، فالآن فاصبروا،
نزلت عليكم السكينة وثبتكم الله باليقين، وليعلم المنهزم أنه يسخط ربه، ويوبق
نفسه، وفي الفرار موجدة الله عليه، والذل اللازم له، وفساد العيش. وإن الفار لا
يزيد الفرار في عمره، ولا يرضي ربه، فموت الرجل محقاً قبل إتيان هذه الخصال، خير
من الرضا بالتلبس بها، والإصرار عليها. فغضب عبد الله بن
حنش، قال: اللهم قيض له وهب بن مسعود يعني رجلاً من خثعم الكوفة، كان
شجاعاً يعرفونه في الجاهلية لم يبارزه رجل قط إلا قتله فخرج إليه وهب بن مسعود فقتله، ثم اضطربوا ساعة، واقتتلوا أشد قتال، فجعل أبو كعب يقول لأصحابه: يا معشر خثعم! خدموا، أي اضربوا
موضع الخدمة، وهي الخلخال، يعني اضربوهم في سوقهم، فناداه عبد الله بن حنش: يا أبا كعب، الكل
قومك فأنصف، قال: إي والله وأعظم. واشتد قتالهم، فحمل شمر بن
عبد الله الخثعمي، من خثعم الشام، على أبي كعب، فطعنه فقتله، ثم انصرف يبكي، ويقول: يرحمك الله أبا كعب! لقد
قتلتك في طاعة قوم أنت أمس بي رحماً منهم، وأحب إلي منهم نفساً، ولكني والله لا
أدري ما أقول، ولا أرى الشيطان إلا قد فتننا، ولا أرى قريشاً إلا وقد لعبت بنا قال: ووثب كعب بن أبي كعب إلى راية أبيه، فأخذها ففقئت عينه
وصرع، ثم أخذها شريح بن مالك الخثعمي، فقاتل القوم تحتها حتى صرع منهم حول
رايتهم نحو ثمانين رجلاً، وأصيب من خثعم الشام مثلهم، ثم ردها شريح بن مالك بعد
ذلك إلى كعب بن أبي كعب.
ثم قاتل حتى قتل،
فأخذها بعده أخوه عبد الرحمن بن قلع، فقاتل حتى قتل، ثم أخذها عفيف بن إياس
الأحمسي، فلم تزل بيده حتى تحاجز الناس. قال: وهل منه بد! والله لأقتلنه، أو ليلحقني بقائد
بن بكير. فبرز له ومعه جحفة من جلود الإبل فدنا منه، فإذا الحديد مفرغ على
الكلاعي لا يبين من نحره إلا مثل شراك النعل من عنقه بين بيضته ودرعه، فضربه
الكلاعي، فقطع جحفته إلا نحواً من شبر، فضربه عياش على ذلك الموضع، فقطع نخاعه،
فقتله، وخرج ابن الكلاعي ثائراً بأبيه، فقتله بكير بن
وائل. ثم أخذها عبد الله بن كعب فقتل، ثم أخذها سلمة بن
خذيم بن جرثومة، فارتث وصرع، ثم أخذها عبد الله بن عمرو بن كبشة، فارتث، ثم
أخذها أبو مسبح بن عمرو فقتل، ثم أخذها عبد الله بن النزال فقتل، ثم أخذها ابن أخيه
عبد الرحمن بن زهير، فقتل، ثم أخذها مولاه مخارق فقتل، حتى
صارت إلى عبد الرحمن بن محنف الأزدي. فقال محنف:
أعزبك الله في التيه! والله ما علمتك صغيراً ولا كبيراً إلا مشؤوماً، والله ما
ميلنا في الرأي بين أمرين قط أيهما نأتي وأيهما ندع في جاهلية ولا إسلام إلا
أخترت أعسرهما وأنكدهما. اللهم أن تعافينا أحب إلي من أن تبتلينا، اللهم أعط كل
رجل منا ما سألك. فتقدم جندب بن زهير، فبارز أزدياً من
أزد الشام، فقتله الشامي. اللهم
إنا نحتسب أنفسنا عندك، فاستقدموا جميعاً، وقاتلوا حتى قتلوا.
فقتل
مالك ذلك اليوم. وقال أخوه نهشل بن حري التميمي يرثيه:
وقال
أيضاً يرثيه:
قال نصر: وحدثنا عمرو، قال: حدثني يونس بن أبي إسحاق، قال: قال لنا أدهم بن محرز الباهلي، ونحن
معه لأذرح، هل رأى أحد منكم شمر بن ذي الجوشن،
فقال عبد الله بن كبار النهدي وسعيد بن حازم البلوي: نحن رأيناه، قال: فهل
رأيتما ضربة بوجهه، قالا: نعم، قال: أنا والله ضربته تلك الضربة بصفين.
ثم
حمل على أدهم وهو يعرف وجهه وأدهم ثابت له لم ينصرف فطعنه، فوقع عن فرسه، وحال
أصحابه دونه، فانصرف شمر وقال: هذه بتلك.
قال نصر:
فلما انقضى هذا اليوم بما فيه، أصبحوا في اليوم الثامن
من صفين، والفيلقان متقابلا، فخرج رجل من أهل
الشام فسأل المبارزة، فخرج إليه رجل من أهل العراق، فاقتتلا بين الصفين قتالاً
شديداً. ثم إن العراقي أعتنقه فوقعا جميعاً، وغار الفرسان. ثم إن العراقي
قهره، فجلس على صدره، وكشف المغفر عنه، يريد ذبحه، فإذا
هو أخوه لأبيه وأمه، فصاح به أصحاب علي رضي
الله عنه: ويحك أجهز عليه! قال: إنه أخي، قالوا:
فاتركه، قال: لا والله حتى يأذن أمير المؤمنين، فأخبر
علي رضي الله عنه بذلك،
فأرسل إليه أن دعه، فتركه، فقام فعاد إلى صف معاوية. وإن معاوية دعاه، فقال له: يا حريث، اتق علياً
وضع رمحك حيث شئت. فأتاه عمرو بن العاص، فقال: يا حريث، إنك والله لو كنت قرشياً لأحب لك معاوية أن تقتل
علياً، ولكن كره أن يكون لك حظها، فإن رأيت فرصة
فاقتحم. قال: وخرج علي رضي الله عنه في هذا اليوم أمام
الخيل، فحمل عليه حريث. قال نصر:
فحدثني عمرو بن شمر، عن جابر، قال: برز حريث مولى
معاوية هذا اليوم، وكان شديداً أيداً ذا بأس لا يرام، فصاح: يا علي، هل لك في المبارزة، فأقدم أبا حسن إن
شئت، فأقبل علي رضي الله عنه، وهو يقول:
ثم خالطه فما أمهله أن ضربه ضربة واحدة، فقطعه نصفين.
قال نصر:
فلما قتل حريث برز عمرو
بن الحصين السكسكي، فنادى: يا أبا حسن، هلم إلى
المبارزة، فأومأ رضي الله عنه إلى سعيد بن قيس
الهمداني، فبارزه فضربه بالسيف فقتله.
قال نصر: فحدثني
عمم و بن شمر، قال: ثم قام علي رضي الله عنه بين
الصفين، ونادى. يا معاوية، يكررها، فقال معاوية: سلوه ما شأنه، قال: أحب
أن يظهر لي فأكلمه كلمة واحدة. فبرز معاوية ومعه عمرو
بن العاص، فلما قارباه، لم يلتفت إلى عمرو، وقال
لمعاوية: ويحك! علام يقتتل الناس بيني وبينك، ويضرب
بعضهم بعضاً! أبرز إلي، فأينا قتل صاحبه فالأمر له. فالتفت معاوية إلى
عمرو، فقال: ما ترى يا أبا عبد الله، قال: قد أنصفك
الرجل، واعلم أنك إن نكلت عنه لم يزل سبة عليك وعلى عقبك ما بقي على ظهر الأرض
عربي. فقال معاوية: يابن العاص، ليس مثلي يخدع
عن نفسه، والله ما بارز ابن أبي طالب شجاع قط إلا وسقى الأرض من دمه، ثم
انصرف معاوية راجعاً حتى انتهى إلى آخر الصفوف وعمرو معه، فلما رأى علي رضي الله عنه ذلك ضحك، وعاد إلى موقفه. قال نصر: قال: وحقدها
معاوية على عمرو باطناً، وقال له ظاهراً: ما أظنك قلت ما قلته يا أبا عبد الله
إلا مازحاً! فلما جلس معاوية مجلسه، أقبل عمرو يمشي حتى جلس إلى جانبه، فقال معاوية:
فقال عمرو:
أيها الرجل، أتجبن عن خصمك، وتتهم نصيحك وقال
مجيباً له:
وروى ابن قتيبة في كتابه المسمى عيون الأخبار قال: قال أبو الأغر التميمي: بينا أنا
واقف بصفين، مر بي العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد
المطلب، مكفراً بالسلاح، وعيناه تبصان من تحت المغفر، كأنهما عينا أرقم،
وبيده صفيحة يمانية يقلبها، وهو على فرس له صعب، فبينا هو يمغثه، ويلين من
عريكته، هتف به هاتف من أهل الشام، يعرف بعرار بن أدهم:
يا عباس، هلم إلى البراز قال العباس: فالنزول إذاً فإنه إياس من القفول، فنزل الشامي، وهو يقول:
وثنى العباس رجله، وهو يقول:
ثم
عصب فضلات درعه في حجزته، ودفع فرسه إلى غلام له أسود، يقال له أسلم، كأني والله
أنظر إلى فلافل شعره، ثم دلف كل واحد منهما إلى صاحبه، فذكرت
قول أبي ذؤيب:
وكفت
الناس أعنة خيولهم ينظرون ما يكون من الرجلين، فتكافحا بسيفيهما ملياً من
نهارهما لا يصل واحد منهما إلى صاحبه لكمال لأمته إلى أن لحظ العباس وهناً في
درع الشامي، فأهوى إليه بيده، فهتكه إلى ثندوته، ثم عاد لمجاولته، وقد أصحر له
مفتق الدرع، فضر به العباس ضربة انتظم بها جوانح صدره،
فخر الشامي لوجهه، وكبر الناس تكبيرة ارتجت لها الأرض من تحتهم، وسما العباس في
الناس، فإذا قائل يقول من ورائي: "قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم
ويشف صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء"، فالتفت فإذا أمير المؤمنين رضي الله عنه، فقال لي: يا
أبا الأغر، من المنازل لعدونا، قلت: هذا ابن أخيكم، هذا العباس بن ربيعة، فقال:
وإنه لهو يا عباس الم أنهك، وابن عباس، أن تخلا بمراكزكما، وأن تباشرا حرباً
قال: إن ذلك كان، قال: فما عدا مما بداً قال: يا أمير المؤمنين، أفأدعى
إلى البراز فلا أجيب! قال: نعم طاعة إمامك أولى من إجابة عدوك، ثم تغيظ واستطار حتى قلت: الساعة الساعة. ثم سكن وتطامن،
ورفع يديه مبتهلاً، فقال: اللهم أشكر للعباس مقامه، واغفر ذنبه، إني قد غفرت له،
فاغفر له. قال: ولهف معاوية على عرار، وقال: متى ينتطح
فحل لمثله أيطل دمه لاها الله إذاً! ألا رجل يشري نفسه لله، يطلب بدم عرار! فانتدب له رجلان من لخم فقال لهما: اذهبا، فأيكما
قتل العباس برازاً فله كذا، فأتياه، فدعواه للبراز، فقال: إن لي سيداً أريد أن
أؤامره. فأتى علياً رضي الله عنه، فأخبره الخبر، فقال علي رضي الله عنه، والله
لود معاوية أنه ما بقي من بني هاشم نافخ ضرمة إلا طعن في بطنه، إطفاء لنور الله: "ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره
المشركون" أما والله ليملكنهم منا رجال ورجال يسومونهم الخسف، حتى
يحتفروا الآبار، ويتكففوا الناس، ويتوكلوا على المساحي ثم
قال: يا عباس، ناقلني سلاحك بسلاحي، فناقله، ووثب على فرس العباس، وقصد
اللخميين، فما شكا أنه هو، فقالا: أذن لك
صاحبك، فحرج أن يقول: نعم، فقال: "أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم
لقدير، فبرز إليه أحدهما، فكأنما اختطفه، ثم برز
له الآخر فألحقه بالأول، ثم أقبل وهو يقول:
"الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه
بمثل ما اعتدى عليكم" ثم قال: يا عباس، خذ سلاحك وهات سلاحي، فإن
عاد لك أحد فعد إلي. قال نصر بن مزاحم:
وحدثنا عمرو، قال: حدثني فضيل بن خديج، قال: خرج رجل من أهل الشام يدعو إلى
المبارزة، فخرج إليه عبد الرحمن بن محرز الكندي ثم الطمحي، فتجاولا ساعة. ثم إن
عبد الرحمن حمل على الشامي، فطعنه في نقرة نحره فصرعه، ثم نزل إليه فسلبه درعه
وسلاحه، فإذا هو عبد أسود، فقال: إنا لله! أخطرت نفسي بعبد أسود. قال: وخرج رجل
من عك، فسأل البراز، فخرج إليه قيس بن فهران الكندي، فما ألبثه أن طعنه فقتله،
وقال:
قال:
وحمل عبد الله بن الطفيل البكائي على صفوف أهل الشام، فلما انصرف حمل عليه رجل
من بني تميم يقال له قيس بن فهد الحنظلي اليربوعي، فوضع الرمح بين كتفي عبد
الله، فاعترضه يزيد بن معاوية البكائي، ابن عم عبد الله بن الطفيل، فوضع الرمح
بين كتفي التميمي، وقال: والله لئن طعنته لأطعننك، فقال: عليك عهد الله لئن رفعت
السنان عن ظهر صاحبك لترفعنه عن ظهري قال: نعم، لك
العهد والميثاق بذلك. فرفع السنان عن ظهر عبد الله، فرفع يزيد السنان عن التميمي، فوقف التميمي، وقال ليزيد: ممن أنت، قال: من بني عامر، قال: جعلني الله فداكم، أينما لقيناكم، لقيناكم كراماً، أما
والله إني لآخر أحد عشر رجلاً من بني تميم قتلتموهم اليوم.
قال
نصر: وخرج ابن مقيدة الحمار الأسدي وكان ذا بأس وشجاعة،
وهو من فرسان الشام فطلب البراز، فقام المقطع العامري، وكان شيخاً كبيراً، فقال
علي رضي الله عنه له: اقعد، فقال: يا أمير المؤمنين لا تردني، إما أن تقتلني
فأتعجل الجنة وأستريح من الحياة الدنيا في الكبر والهرم، أو أقتله فأريحك منه.
قال نصر: وأبلت محارب يومئذ مع أمير المؤمنين رضي الله عنه بلاء حسناً، وكان عنتر بن عبيد بن خالد بن
المحاربي أشجع الناس يومئذ، فلما رأى أصحابه متفرقين،
ناداهم: يا معشر قيس، أطاعة الشيطان أبر عندكم من طاعة الرحمن! ألا إن
الفرار فيه معصية الله وسخطه، وإن الصبر فيه طاعة الله ورضوانه، أفتختارون سخط
الله على رضوانه، ومعصيته على طاعته! ألا إنما الراحة
بعد الموت لمن مات محتسباً لنفسه، ثم يرتجز فيقول:
وقاتل
حتى ارتث. وكان يقول: لقد كنت
أحب أن أبصر أخي في نومي، فرأيته، فقلت له: يا أخي، ما الذي قدمتم عليه، فقال لي: التقينا نحن وأهل الشام بين يدي الله سبحانه،
فاحتججنا عنده، فحججناهم. فما سررت بشيء منذ عقلت سروري
بتلك الرؤيا.
قلت: هكذا روى نصر بن مزاحم، وسائر الرواة رووا له رضي الله عنه الأبيات
الستة الأولى، ورووا باقي الأبيات، من
قوله: وقد صبرت عك للحضين بن المنذر صاحب الراية. فقام إليه رجل من ربيعة، وقال: قد ضاع والله أمر ربيعة حين جعلت
أمرها إليك، تأمرنا ألا نحول ولا نزول، حتى نقتل أنفسنا، ونسفك دماءنا. ثم خرج نحو خمسمائة فارس أو أكثر من أصحاب علي رضي الله عنه على
رؤوسهم البيض وهم غائصون في الحديد، لا يرى منهم إلا الحدق، وخرج إليهم من أهل
الشام نحوهم في العدة، فاقتتلوا
بين الصفين، والناس وقوف تحت راياتهم، فلم يرجع
من هؤلاء ولا من هؤلاء مخبر، لا عراقي ولا شامي، قتلوا
جميعاً بين الصفين.
وقال
شبث بن ربعي التميمي:
قال نصر:
ثم ذهب هذا اليوم بما فيه، فأصبحوا في اليوم التاسع من صفر، وقد خطب معاوية أهل
الشام وحرضهم، فقال: إنه قد نزل بكم من الأمر ما ترون، وحضركم ما حضركم، فإذا
نهدتم إليهم إن شاء الله، فقدموا الدارع ، وأخروا الحاسر، وصفوا الخيل وأجنبوها،
وكونوا كقص الشارب، وأعيرونا جماجمكم ساعة، فإنما هو ظالم أو مظلوم، وقد بلغ
الحق مقطعه. قال نصر: وكانت
التعبية في هذا اليوم كالتعبية في الذي قبله، وحمل عبيد
الله بن عمر في قراء أهل الشام، ومعه ذو الكلاع في حمير على ربيعة، وهي
في ميسرة علي رضي الله عنه، فقاتلوا قتالاً شديداً، فأتى زياد بن خصفة إلى عبد
القيس، فقال لهم: لا بكر بن وائل بعد اليوم! إن ذا الكلاع وعبيد الله أبادا
ربيعة، فانهضوا لهم وإلا هلكوا. فركبت عبد القيس، وجاءت كأنها غمامة سوداء فشدت
أزر الميسرة، فعظم القتال، فقتل ذو الكلاع الحميري،
قتله رجل من بكر بن وائل، اسمه خندف، وتضعضعت أركان حمير، وثبتت بعد قتل ذي
الكلاع تحارب مع عبيد الله بن عمر، وأرسل عبيد
الله إلى الحسن بن علي رضي الله عنه: إن لي إليك حاجة فالقني، فلقيه الحسن رضي
الله عنه، فقال له عبيد الله: إن أباك قد وتر
قريشاً أولاً وآخراً، وقد شنئه الناس، فهل لك في خلعه، وأن تتولى أنت هذا الأمر!
فقال: كلا والله، لا يكون ذلك. ثم
قال: يا بن الخطاب، والله لكأني أنظر إليك مقتولاً في
يومك أو غدك. أما إن الشيطان قد زين لك وخدعك، حتى أخرجك مخلقاً بالخلوق،
ترى نساء أهل الشام موقفك، وسيصرعك الله، ويبطحك لوجهك قتيلاً.
فحمل
عليه حريث بن جابر الحنفي، وقال:
قال
نصر: فقال كعب بن جعيل التغلبي يرثي عبيد الله، وكان كعب شاعر أهل الشام:
قلت: هذا الشعر نظمه كعب بن جعيل بعد رفع المصاحف وتحكيم الحكمين
يذكر فيه ما مضى هم من الحرب على عادة شعراء العرب، والضمير في قوله: دعاهن فاستسمعن من أين صوته يرجع إلى نساء عبيد الله، وكانت تحته أسماء بنت عطارد
بن حاجب بن زرارة التميمي وبحرية بنت هانئ بن قبيصة الشيباني، وكان عبيد الله قد
أخرجهما معه إلى الحرب ذلك اليوم لينظرا إلى قتاله، فوقفتا راجلتين، وإلى أسماء
بنت عطارد، أشار كعب بن جعيل بقوله: تبدل من أسماء
أسياف وائل والشعر يدل على أن ربيعة قتلته، لا همدان ولا حضرموت.
وقال
الصلتان العبدي يذكر مقتل عبيد الله، وأن حريث بن جابر الحنفي قتله:
قال نصر: فأما ذو الكلاع فقد ذكرنا مقتله، وأن قاتله خندف البكري. قال نصر:
فحدثنا عمرو، قال: حدثنا الحارث بن حصيرة أن ابن ذي الكلاع، أرسل إلى الأشعث بن
قيس رسولاً يسأله أن يسلم إليه جثة أبيه، فقال الأشعث: إني أخاف أن يتهمني أمير
المؤمنين في أمره، فاطلبه من سعيد بن قيس فهو في الميمنة، فذهب إلى معاوية فاستأذنه أن يدخل إلى عسكر علي رضي الله عنه،
يطلب أباه بين القتلى، فقال له: إن علياً قد منع أن يدخل أحد منا إلى معسكره،
يخاف أن يفسد عليه جنده، فخرج ابن ذي الكلاع، فأرسل إلى سعيد بن قيس الهمداني
يستأذنه في ذلك، فقال سعيد: إنا لا نمنعك من دخول العسكر؛ إن أمير المؤمنين لا
يبالي من دخل منكم إلى معسكره؛ فادخل، فدخل من قبل الميمنة، فطاف فلم
يجده، ثم أتى الميسرة فطاف فلم يجده، ثم وجده وقد ربطت رجله بطنب من أطناب بعض
فساطيط العسكر فجاء فوقف على باب الفسطاط، فقال:
السلام عليكم يا أهل البيت فقيل له: وعليك السلام فقال: أتأذنون لنا في
طنب من أطناب فسطاطكم؛ ومعه عبد أسود لم يكن معه غيره. فقالوا: قد أذنا لكم، وقالوا له: معذرة إلى الله وإليكم أما إنه لولابغيه علينا ما
صنعنا به ما ترون فنزل ابنه إليه، فوجده قد انتفخ- وكان من أعظم الناس
خلقاً- فلم يطق احتماله، فقال: هل من فتى معوان؛ فخرج إليه خندف البكري
فقال: تنحوا عنه فقال ابنه: ومن الذي يحمله إذا تنحينا عنه؛ قال: يحمله قاتله.
فاحتمله خندف حتى رمى به على ظهر بغل، ثم شده بالحبال، فانطلقا به.
فنادى منادي مذحج؛
يا لمذحج! خدموا- أي اضربوا السوق مواضع الخدمة، وهي الخلاخيل- فاعترضت مذحج سوق
القوم، فكان فيه بوار عامتهم ونادى منادي جذام حين طحنت رحا القوم وخاضت الخيل
والرجال في الدماء: الله لله في جذام، ألا تذكرون الأرحام، أفنيتم لخما الكرام،
والأشعرين وآل ذي حمام! أين النهى والأحلام! هذي النساء
تبكي الأعلام. قال: إنه لا غنى بك عن ذلك، ولكن أعرها عمك ساعة، فما أسرع ما ترجع إليك! قال
الحضين: فقلت: إنه قد استقتل، وإنه يريد أن يموت
مجاهداً، فقلت له: خذها فأخذها، ثم قال لأصحابه: إن عمل الجنة كره كله وثقيل، وإن عمل الناس خف كله وخبيث، إن الجنة لا
يدخلها إلا الصابرون الذين صبروا أنفسهم على فرائض الله وأمره، وليس شيء مما
افترض الله على العباد أشد من الجهاد، هو أفضل الأعمال ثواباً عند الله، فإذا
رأيتموني قد شددت فشدوا، ويحكم! أما تشتاقون إلى الجنة! أما تحبون أن يغفر الله
لكم! فشد وشدوا معه، فقاتلوا قتالاً شديداً،
فقتل أبو عرفاء رحمه الله تعالى، وشدت ربيعة بعده شدة عظيمة على صفوف أهل الشام فنقضتها.
وقال مجزأة بن ثور:
قال نصر:
وكان حريث بن جابر يومئذ نازلاً بين الصفين في
قبة له حمراء، يسقي أهل العراق اللبن والماء
والسويق، ويطعمهم اللحم والثريد، فمن شاء أكل، ومن شاء شرب، ففي ذلك يقول
شاعرهم:
قلت:
هذا حريث بن جابر؛ هو الذي كتب معاوية إلى زياد
في أمره بعد عام الجماعة - وحريث عامل لزياد على همدان-
أما بعد فاعزل حريث بن جابر عن عمله فما ذكرت مواقفه
بصفين إلا كانت حزازة في صدري. فكتب إليه زياد: خفض
عليك يا أمير المؤمنين، فإن حريثاً قد بلغ من الشرف مبلغاً لا تزيده الولاية، ولا ينقصه
العزل.
ثم قال لعمرو: يا
عمرو، ما ترى! قال: أرى ألا تحنث أخوالي اليوم. فقام معاوية وخلى لهم سرادقه
ورحله وخرج فاراً عنه لائذاً ببعض مضارب العسكر في أخريات الناس فدخله، وانتهبت ربيعة سرادقه ورحله وبعث إلى خالد بن المعمر: إنك قد ظفرت ولك إمرة خراسان إن
لم تتم. فقطع خالد القتال ولم يتمه، وقال لربيعة:
قد برت أيمانكم فحسبكم فلما كان عام الجماعة، وبايع
الناس معاوية، أمره معاوية على خراسان، وبعثه إليها فمات قبل أن يبلغها. ثم
إن خيل أهل الشام حملت على خيل أهل العراق، فاقتطعوا من أصحاب علي رضي الله عنه ألف رجل أو أكثر، فأحاطوا بهم، وحالوا
بينهم وبين أصحابهم فلم يروهم، فنادى علي رضي الله عنه
يومئذ: ألا رجل يشري نفسه لله ويبيع دنياه بآخرته! فأتاه رجل من جعف يقال! له عبد
العزيز بن الحارث، على فرس أدهم، كأنه غراب مقنع في
الحديد، لا يرى منه إلا عيناه، فقال: يا أمير المؤمنين، مرني بأمرك، فوالله لا
تأمرني بشيء إلا صنعته، فقال علي رضي الله عنه:
يا أبا الحارث، شد الله ركنك، احمل على أهل الشام، حتى تأتي أصحابك
فتقول لهم: إن أمير المؤمنين يقرأ عليكم السلام؛ ويقول لكم: هللوا وكبروا من
ناحيتكم، ونهلل نحن ونكبر من هاهنا، واحملوا من جانبكم، ونحمل نحن من جانبنا على
أهل الشام. فضرب الجعفي فرسه؛
حتى إذا أقامه على أطراف سنابكه، حمل على أهل الشام المحيطين بأصحاب علي رضي
الله عنه، فطاعنهم ساعة، وقاتلهم، فأفرجوا له حتى خلص
إلى أصحابه، فلما رأوه استبشروا به وفرحوا، وقالوا: ما فعل أمير المؤمنين؛ قال:
صالح، يقرئكم السلام ويقول لكم: هللوا وكبروا واحملوا حملة شديدة من جانبكم،
ونهلل نحن ونكبر ونحمل من جانبنا، ففعلوا ما أمرهم به، وهللوا وكبروا، وهلل علي
رضي الله عنه وكبر هو وأصحابه، وحمل على أهل الشام وحملوا هم من وسط أهل الشام، فانفرج القوم عنهم وخرجوا؛ وما أصيب منهم رجل واحد ولقد قتل
من فرسان الشام يومئذ زهاء سبعمائة إنسان.
فقام
أبو الطفيل عامر بن واثلة الكناني، وعمير بن
عطارد بن حاجب بن زرارة التميمي، وقبيصة بن جابر الأسدي، وعبد الله بن الطفيل العامري في وجوه قبائلهم، فأتوا علياً رضي
الله عنه، فتكلم أبو الطفيل، فقال إنا
والله يا أمير المؤمنين ما نحسد قوماً خصهم الله منك بخير وإن هذا الحي من ربيعة
قد ظنوا أنهم أولى بك منا، فأعفهم عن القتال أياماً،
واجعل لكل امرئ منا يوماً يقاتل فيه فإنا إذا اجتمعنا
اشتبه عليك بلاؤنا. فقال علي رضي الله عنه: نعم
أعطيكم ما طلبتم، وأمر ربيعة أن تكف عن القتال،
وكانت بإزاء اليمن من صفوف أهل الشام، فغدا أبو الطفيل
عامر بن واثلة في قومه من كنانة، وهم جماعة عظيمة، فتقدم أمام الخيل، وهو
يقول: طاعنوا وضاربوا. ثم حمل. وارتجز فقال:
فاقتتلوا
قتالاً شديداً ثم انصرف أبو الطفيل إلى علي رضي
الله عنه، فقال: يا أمير المؤمنين، إنك أنبأتنا أن أشرف
القتل الشهادة، وأحظى الأمر الصبر، وقد والله صبرنا حتى أصبنا، فقتيلنا شهيد،
وحينا سعيد، فليطلب من بقي ثأر من مضى فإنا وإن كنا قد ذهب صفونا، وبقي كدرنا، فإن
لنا ديناً لا يميل به الهوى، ويقينا لا تزحمه الشبهة فأثنى علي رضي الله
عنه عليه خيراً. ثم
غدا في اليوم الثاني عمير بن عطارد بجماعة من بني تميم-
وهو يومئذ سيد مضر الكوفة- فقال يا قوم، إني
أتبع آثار أبي الطفيل، فاتبعوا آثار كنانة، ثم قدم رايته وارتجز فقال:
ثم طعن برايته حتى خضبها، وقاتل أصحابه قتالاً شديداً حتى أمسوا،
وانصرف عمير إلى علي رضي الله عنه، وعليه سلاحه، فقال: يا أمير المؤمنين، قد كان ظني بالناس
حسناً، وقد رأيت منهم فوق ظني بهم قاتلوا من كل جهة، وبلغوا من علوهم جهد عدوهم،
وهم لهم إن شاء الله.
فقاتل
القوم إلى أن دخل الليل، ثم انصرفوا.
قال
نصر: وحدثنا عمرو، عن الأشعث بن سويد، عن كردوس، قال:
كتب عقبة بن مسعود عامل علي على الكوفة إلى سليمان بن صرد الخزاعي؛ وهو مع علي
بصفين: أما بعد: فإنهم "إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في
ملتهم ولن تفلحوا إذا أبداً" فعليك بالجهاد والصبر مع أمير المؤمنين. والسلام. والله إنا على الحق وإنهم
على الباطل فلا يجتمعن على باطلهم وتتفرقوا عن حقكم حتى يغلب باطلهم حقكم
"قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم"، فإن لم تفعلوا يعذبهم بأيدي غيركم. ثم نهض إلى القوم فاقتتلوا من حين طلعت الشمس
حتى غاب الشفق الأحمر، وما كانت صلاة القوم في ذلك
اليوم إلا تكبيراً. قال: وحدثنا عمرو بن شمر، عن جابر، عن الشعبي، عن
صعصعة بن صوحان، قال: برز في بعض أيام صفين رجل من
حمير، من آل ذي يزن، اسمه كريب بن الصباح، ليس في الشام يومئذ رجل أشهر بالبأس
والنجدة منه، فنادى: من يبارز؟ فخرج إليه المرتفع
بن الوضاح الزبيدي، فقتله، ثم نادى: من يبارز؟ فخرج إليه الحارث بن الجلاح، فقتله، ثم نادى: من يبارز؟ فخرج
إليه عابد بن مسروق الهمداني فقتله، ثم رمى بأجسادهم بعضها فوق بعض، وقام عليها بغياً واعتداء،
ونادى: من يبارز؟ فخرج إليه علي، وناداه:
ويحك يا كريب! إني أحذرك الله وبأسه ونقمته،
وأدعوك إلى سنة الله وسنة رسوله، ويحك! لا يدخلنك
معاوية النار؛ فكان جوابه له أن قال: ما أكثر ما قد سمعت منك هذه المقالة! ولا
حاجة لنا فيها، أقدم إذا شئت، من يشتري سيفي وهذا أثره؛ فقال علي: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم مشى إليه فلم يمهله أن ضربه
ضربة خر منها قتيلاً يشحط في دمه، ثم نادى: من يبرز؟ فبرز إليه الحارث بن وادعة الحميري، فقتله، ثم نادى: من يبرز؟
فبرز إليه المطاع بن مطلب العنسي، فقتله، ثم
نادى: من يبرز؟ فلم يبرز إليه أحد، فنادى: يا معشر المسلمين، "الشهر الحرام بالشهر
الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا
الله واعلموا إن الله مع المتقين"، ويحك يا
معاوية! هلم إلي فبارزني؛ ولا يقتلن الناس فيما بيننا. فقال عمرو بن العاص: اغتنمه منتهزاً؛ قد
قتل ثلاثة من أبطال العرب وإني أطمع أن يظفرك الله به، فقال معاوية: والله لن
تريد إلا أن أقتل فتصيب الخلافة بعدي؛ اذهب، إليك عني، فليس مثلي يخدع. أو لا
تعلمون أن صلاتنا وصلاتهم، وصيامنا وصيامهم، وحجنا وحجهم، وقتلنا وقتلهم، وديننا
ودينهم واحد؛ ولكن الأهواء مختلفة؛ اللهم أصلح
هذه الأمة بما أصلحت به أولها، واحفظ فيما بينها؛ مع أن
القوم قد وطئوا بلادكم، وبغوا عليكم، فجدوا في قتال عدوكم، واستعينوا
بالله ربكم، وحافظوا على حرماتكم. ثم جلس. الحمد لله رب العالمين؛ الذي دحا تحتنا سبعاً، وسمك
فوقنا سبعاً، وخلق فيما بينهن خلقاً؛ وأنزل لنا منهن رزقاً، ثم جعل كل شيء قدراً
يبلى ويفنى غير وجهه الحي القيوم، الذي يحيا ويبقى. إن الله تعالى بعث أنبياء ورسلاً؛ فجعلهم حججاً على
عباده، عذراً أو نذراً، لا يطاع إلا بعلمه وإذنه، يمن بالطاعة على من يشاء من
عباده، ثم يثيب عليها، ويعمى بعلم منه، فيعفو ويغفر بحلمه، لا يقدر قدره، ولا
يبلغ شيء مكانه، أحمى كل شيء عدداً، وأحاط بكل شيء علماً. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد
أن محمداً عبده ورسوله، إمام الهدى، والنبي المصطفى، وقد
ساقنا قدر الله إلى ما ترون، حتى كان مما اضطرب من حبل هذه الأمة، وانتشر من
أمرها، أن معاوية بن أبي سفيان، وجد من طغام
الناس أعواناً، على علي ابن عم رسول الله وصهره، وأول ذكر صلى معه، بدري، قد شهد
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كل مشاهده التي فيها الفضل ومعاوية مشرك، كان يعبد الأصنام،
والذي ملك الملك وحده، وبأن به وكان أهله، لقد قاتل علي بن أبي طالب مع رسول
الله، وهو يقول: صدق الله ورسوله، ومعاوية يقول: كذب الله ورسوله، فعليكم بتقوى
الله، والجد والحزم والصبر، والله إنا لنعلم إنكم لعلى حق، وإن القوم لعلى باطل،
فلا يكونن أولى بالجد على باطلهم منكم في حقكم، وإنا لنعلم أن الله سيعذبهم
بأيديكم أو بأيدي غيركم، اللهم أعنا ولا تخذلنا؛ وانصرنا على عدونا، ولا تحل
عنا؛ وافتح بيننا وبين قومنا بالحق، وأنت خير الفاتحين. اللهم إنك تعلم أني لو أعلم أن رضاك أن أضع ظبة
سيفي في بطني ثم أنحني عليه حتى يخرج من ظهري لفعلت؛ اللهم إني أعلم مما علمتني
أني لا أعمل عملاً صالحاً هذا اليوم، هو أرضى من جهاد هؤلاء الفاسقين، ولو أعلم
اليوم عملاً هو أرضى لك منه لفعلته. وروى ابن ديزيل في كتاب صفين، عن صيف الضبي، قال: سمعت الصعب بن حكيم
بن شريك بن نملة المحاربي يروي عن أبيه عن جده شريك، قال: كان الناس من أهل العراق وأهل
الشام يقتتلون أيام صفين، ويتزايلون، فلا يستطيع الرجل أن يرجع إلى مكانه حتى
يسفر الغبار عنه، فاقتتلوا يوماً، وتزايلوا وأسفر الغبار، فإذا علي تحت رايتنا- يعني
بني محارب- فقال: هل من ماء؟ فأتيته بإداوة فخنثتها له ليشرب، فقال: لا إنا
نهينا أن نشرب من أفواه الأسقية. ثم علق سيفه وإنه لمخضب بالدم من ظبته إلى
قائمه، فصببت له على يديه فغسلهما حتى أنقاهما، ثم شرب بيديه حتى إذا روي رفع
رأسه، ثم قال: أين مضر؛ فقلت: أنت فيهم يا أمير المؤمنين، فقال: من أنتم بارك
الله فيكم؛ فقلنا: نحن بنو محارب، فعرف موقفه، ثم رجع إلى موضعه.
وروى ابن ديزيل، عن يحيى بن سليمان الجعفي، قال: حدثنا مسهر بن عبد الملك بن سلع
الهمداني، قال: حدثني أبي عن عبد خير الهمداني، قال: كنت أنا وعبد خير في سفر،
قلت: يا أبا عمارة، حدثني عن بعض ما كنتم فيه بصفين، فقال لي: يابن أخي، وما
سؤالك؛ فقلت: أحببت أن أسمع منك شيئاً، فقال: يابن أخي؛ إنا كنا لنصلي الفجر،
فنصف ويصف أهل الشام، ونشرع الرماح إليهم ويشرعون بها نحونا، أما لو دخلت تحتها
لأظلتك؛ والله يابن أخي، إنا كنا لنقف ويقفون في الحرب لا نفتر ولا يفترون، حتى
نصلي العشاء الآخرة؛ ما يعرف الرجل منا طول ذلك اليوم من عن يمينه ولا من عن
يساره، من شدة الظلمة والنقع إلا بقرع الحديد بعضه على بعض، فيبرز منه شعاع
كشعاع الشمس، فيعرف الرجل من عن يمينه ومن عن يساره؛ حتى إذا صلينا العشاء
الآخرة جررنا قتلانا إلينا فتوسدناهم حتى نصبح، وجروا قتلاهم فتوسدوهم حتى
يصبحوا. قال:
قلت له يا أبا عمارة، هذا والله الصبر. قلت: ليت شعري! لم برأ نفسه، وكان
رأسا في الفتنة! بل لولاه لم تكن؛ ولكن الله تعالى أنطقه بهذا الكلام وأشباهه؛
ليظهر بذلك شكه، وأنه لم يكن على بصيرة من أمره. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الفهرس الجزء
الخامس - باب المختار من الخطب والأوامر - ابن ابي الحديد. الفرق
بين الكناية والتعريض....
خروج
ابن عمرو الخثعمي بالجزيرة الناسك
المجتهد المستورد السعدي.. ومن
خطبة له يحذر من فتنة الدنيا ومن
خطبة له في تنزيه الله وتقديسه. اختلاف
الفلاسفة والمجوس والمانوية ومتكلمي الإسلام في خلق العالم.
كان
يقول لأصحابه في بعض أيام صفين... |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||