- القرآن الكريم
- سور القرآن الكريم
- 1- سورة الفاتحة
- 2- سورة البقرة
- 3- سورة آل عمران
- 4- سورة النساء
- 5- سورة المائدة
- 6- سورة الأنعام
- 7- سورة الأعراف
- 8- سورة الأنفال
- 9- سورة التوبة
- 10- سورة يونس
- 11- سورة هود
- 12- سورة يوسف
- 13- سورة الرعد
- 14- سورة إبراهيم
- 15- سورة الحجر
- 16- سورة النحل
- 17- سورة الإسراء
- 18- سورة الكهف
- 19- سورة مريم
- 20- سورة طه
- 21- سورة الأنبياء
- 22- سورة الحج
- 23- سورة المؤمنون
- 24- سورة النور
- 25- سورة الفرقان
- 26- سورة الشعراء
- 27- سورة النمل
- 28- سورة القصص
- 29- سورة العنكبوت
- 30- سورة الروم
- 31- سورة لقمان
- 32- سورة السجدة
- 33- سورة الأحزاب
- 34- سورة سبأ
- 35- سورة فاطر
- 36- سورة يس
- 37- سورة الصافات
- 38- سورة ص
- 39- سورة الزمر
- 40- سورة غافر
- 41- سورة فصلت
- 42- سورة الشورى
- 43- سورة الزخرف
- 44- سورة الدخان
- 45- سورة الجاثية
- 46- سورة الأحقاف
- 47- سورة محمد
- 48- سورة الفتح
- 49- سورة الحجرات
- 50- سورة ق
- 51- سورة الذاريات
- 52- سورة الطور
- 53- سورة النجم
- 54- سورة القمر
- 55- سورة الرحمن
- 56- سورة الواقعة
- 57- سورة الحديد
- 58- سورة المجادلة
- 59- سورة الحشر
- 60- سورة الممتحنة
- 61- سورة الصف
- 62- سورة الجمعة
- 63- سورة المنافقون
- 64- سورة التغابن
- 65- سورة الطلاق
- 66- سورة التحريم
- 67- سورة الملك
- 68- سورة القلم
- 69- سورة الحاقة
- 70- سورة المعارج
- 71- سورة نوح
- 72- سورة الجن
- 73- سورة المزمل
- 74- سورة المدثر
- 75- سورة القيامة
- 76- سورة الإنسان
- 77- سورة المرسلات
- 78- سورة النبأ
- 79- سورة النازعات
- 80- سورة عبس
- 81- سورة التكوير
- 82- سورة الانفطار
- 83- سورة المطففين
- 84- سورة الانشقاق
- 85- سورة البروج
- 86- سورة الطارق
- 87- سورة الأعلى
- 88- سورة الغاشية
- 89- سورة الفجر
- 90- سورة البلد
- 91- سورة الشمس
- 92- سورة الليل
- 93- سورة الضحى
- 94- سورة الشرح
- 95- سورة التين
- 96- سورة العلق
- 97- سورة القدر
- 98- سورة البينة
- 99- سورة الزلزلة
- 100- سورة العاديات
- 101- سورة القارعة
- 102- سورة التكاثر
- 103- سورة العصر
- 104- سورة الهمزة
- 105- سورة الفيل
- 106- سورة قريش
- 107- سورة الماعون
- 108- سورة الكوثر
- 109- سورة الكافرون
- 110- سورة النصر
- 111- سورة المسد
- 112- سورة الإخلاص
- 113- سورة الفلق
- 114- سورة الناس
- سور القرآن الكريم
- تفسير القرآن الكريم
- تصنيف القرآن الكريم
- آيات العقيدة
- آيات الشريعة
- آيات القوانين والتشريع
- آيات المفاهيم الأخلاقية
- آيات الآفاق والأنفس
- آيات الأنبياء والرسل
- آيات الانبياء والرسل عليهم الصلاة السلام
- سيدنا آدم عليه السلام
- سيدنا إدريس عليه السلام
- سيدنا نوح عليه السلام
- سيدنا هود عليه السلام
- سيدنا صالح عليه السلام
- سيدنا إبراهيم عليه السلام
- سيدنا إسماعيل عليه السلام
- سيدنا إسحاق عليه السلام
- سيدنا لوط عليه السلام
- سيدنا يعقوب عليه السلام
- سيدنا يوسف عليه السلام
- سيدنا شعيب عليه السلام
- سيدنا موسى عليه السلام
- بنو إسرائيل
- سيدنا هارون عليه السلام
- سيدنا داود عليه السلام
- سيدنا سليمان عليه السلام
- سيدنا أيوب عليه السلام
- سيدنا يونس عليه السلام
- سيدنا إلياس عليه السلام
- سيدنا اليسع عليه السلام
- سيدنا ذي الكفل عليه السلام
- سيدنا لقمان عليه السلام
- سيدنا زكريا عليه السلام
- سيدنا يحي عليه السلام
- سيدنا عيسى عليه السلام
- أهل الكتاب اليهود النصارى
- الصابئون والمجوس
- الاتعاظ بالسابقين
- النظر في عاقبة الماضين
- السيدة مريم عليها السلام ملحق
- آيات الناس وصفاتهم
- أنواع الناس
- صفات الإنسان
- صفات الأبراروجزائهم
- صفات الأثمين وجزائهم
- صفات الأشقى وجزائه
- صفات أعداء الرسل عليهم السلام
- صفات الأعراب
- صفات أصحاب الجحيم وجزائهم
- صفات أصحاب الجنة وحياتهم فيها
- صفات أصحاب الشمال وجزائهم
- صفات أصحاب النار وجزائهم
- صفات أصحاب اليمين وجزائهم
- صفات أولياءالشيطان وجزائهم
- صفات أولياء الله وجزائهم
- صفات أولي الألباب وجزائهم
- صفات الجاحدين وجزائهم
- صفات حزب الشيطان وجزائهم
- صفات حزب الله تعالى وجزائهم
- صفات الخائفين من الله ومن عذابه وجزائهم
- صفات الخائنين في الحرب وجزائهم
- صفات الخائنين في الغنيمة وجزائهم
- صفات الخائنين للعهود وجزائهم
- صفات الخائنين للناس وجزائهم
- صفات الخاسرين وجزائهم
- صفات الخاشعين وجزائهم
- صفات الخاشين الله تعالى وجزائهم
- صفات الخاضعين لله تعالى وجزائهم
- صفات الذاكرين الله تعالى وجزائهم
- صفات الذين يتبعون أهواءهم وجزائهم
- صفات الذين يريدون الحياة الدنيا وجزائهم
- صفات الذين يحبهم الله تعالى
- صفات الذين لايحبهم الله تعالى
- صفات الذين يشترون بآيات الله وبعهده
- صفات الذين يصدون عن سبيل الله تعالى وجزائهم
- صفات الذين يعملون السيئات وجزائهم
- صفات الذين لايفلحون
- صفات الذين يهديهم الله تعالى
- صفات الذين لا يهديهم الله تعالى
- صفات الراشدين وجزائهم
- صفات الرسل عليهم السلام
- صفات الشاكرين وجزائهم
- صفات الشهداء وجزائهم وحياتهم عند ربهم
- صفات الصالحين وجزائهم
- صفات الصائمين وجزائهم
- صفات الصابرين وجزائهم
- صفات الصادقين وجزائهم
- صفات الصدِّقين وجزائهم
- صفات الضالين وجزائهم
- صفات المُضَّلّين وجزائهم
- صفات المُضِلّين. وجزائهم
- صفات الطاغين وجزائهم
- صفات الظالمين وجزائهم
- صفات العابدين وجزائهم
- صفات عباد الرحمن وجزائهم
- صفات الغافلين وجزائهم
- صفات الغاوين وجزائهم
- صفات الفائزين وجزائهم
- صفات الفارّين من القتال وجزائهم
- صفات الفاسقين وجزائهم
- صفات الفجار وجزائهم
- صفات الفخورين وجزائهم
- صفات القانتين وجزائهم
- صفات الكاذبين وجزائهم
- صفات المكذِّبين وجزائهم
- صفات الكافرين وجزائهم
- صفات اللامزين والهامزين وجزائهم
- صفات المؤمنين بالأديان السماوية وجزائهم
- صفات المبطلين وجزائهم
- صفات المتذكرين وجزائهم
- صفات المترفين وجزائهم
- صفات المتصدقين وجزائهم
- صفات المتقين وجزائهم
- صفات المتكبرين وجزائهم
- صفات المتوكلين على الله وجزائهم
- صفات المرتدين وجزائهم
- صفات المجاهدين في سبيل الله وجزائهم
- صفات المجرمين وجزائهم
- صفات المحسنين وجزائهم
- صفات المخبتين وجزائهم
- صفات المختلفين والمتفرقين من أهل الكتاب وجزائهم
- صفات المُخلَصين وجزائهم
- صفات المستقيمين وجزائهم
- صفات المستكبرين وجزائهم
- صفات المستهزئين بآيات الله وجزائهم
- صفات المستهزئين بالدين وجزائهم
- صفات المسرفين وجزائهم
- صفات المسلمين وجزائهم
- صفات المشركين وجزائهم
- صفات المصَدِّقين وجزائهم
- صفات المصلحين وجزائهم
- صفات المصلين وجزائهم
- صفات المضعفين وجزائهم
- صفات المطففين للكيل والميزان وجزائهم
- صفات المعتدين وجزائهم
- صفات المعتدين على الكعبة وجزائهم
- صفات المعرضين وجزائهم
- صفات المغضوب عليهم وجزائهم
- صفات المُفترين وجزائهم
- صفات المفسدين إجتماعياَ وجزائهم
- صفات المفسدين دينيًا وجزائهم
- صفات المفلحين وجزائهم
- صفات المقاتلين في سبيل الله وجزائهم
- صفات المقربين الى الله تعالى وجزائهم
- صفات المقسطين وجزائهم
- صفات المقلدين وجزائهم
- صفات الملحدين وجزائهم
- صفات الملحدين في آياته
- صفات الملعونين وجزائهم
- صفات المنافقين ومثلهم ومواقفهم وجزائهم
- صفات المهتدين وجزائهم
- صفات ناقضي العهود وجزائهم
- صفات النصارى
- صفات اليهود و النصارى
- آيات الرسول محمد (ص) والقرآن الكريم
- آيات المحاورات المختلفة - الأمثال - التشبيهات والمقارنة بين الأضداد
- نهج البلاغة
- تصنيف نهج البلاغة
- دراسات حول نهج البلاغة
- الصحيفة السجادية
- تصنيف الصحيفة السجادية
- تصنيف الصحيفة بالموضوعات
- الباب السابع : باب الاخلاق
- الباب الثامن : باب الطاعات
- الباب التاسع: باب الذكر والدعاء
- الباب العاشر: باب السياسة
- الباب الحادي عشر:باب الإقتصاد
- الباب الثاني عشر: باب الإنسان
- الباب الثالث عشر: باب الكون
- الباب الرابع عشر: باب الإجتماع
- الباب الخامس عشر: باب العلم
- الباب السادس عشر: باب الزمن
- الباب السابع عشر: باب التاريخ
- الباب الثامن عشر: باب الصحة
- الباب التاسع عشر: باب العسكرية
- الباب الاول : باب التوحيد
- الباب الثاني : باب النبوة
- الباب الثالث : باب الإمامة
- الباب الرابع : باب المعاد
- الباب الخامس: باب الإسلام
- الباب السادس : باب الملائكة
- تصنيف الصحيفة بالموضوعات
- أسماء الله الحسنى
- أعلام الهداية
- النبي محمد (صلى الله عليه وآله)
- الإمام علي بن أبي طالب (عليه السَّلام)
- السيدة فاطمة الزهراء (عليها السَّلام)
- الإمام الحسن بن علي (عليه السَّلام)
- الإمام الحسين بن علي (عليه السَّلام)
- لإمام علي بن الحسين (عليه السَّلام)
- الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السَّلام)
- الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السَّلام)
- الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السَّلام)
- الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السَّلام)
- الإمام محمد بن علي الجواد (عليه السَّلام)
- الإمام علي بن محمد الهادي (عليه السَّلام)
- الإمام الحسن بن علي العسكري (عليه السَّلام)
- الإمام محمد بن الحسن المهدي (عجَّل الله فرَجَه)
- تاريخ وسيرة
- "تحميل كتب بصيغة "بي دي أف
- تحميل كتب حول الأخلاق
- تحميل كتب حول الشيعة
- تحميل كتب حول الثقافة
- تحميل كتب الشهيد آية الله مطهري
- تحميل كتب التصنيف
- تحميل كتب التفسير
- تحميل كتب حول نهج البلاغة
- تحميل كتب حول الأسرة
- تحميل الصحيفة السجادية وتصنيفه
- تحميل كتب حول العقيدة
- قصص الأنبياء ، وقصص تربويَّة
- تحميل كتب السيرة النبوية والأئمة عليهم السلام
- تحميل كتب غلم الفقه والحديث
- تحميل كتب الوهابية وابن تيمية
- تحميل كتب حول التاريخ الإسلامي
- تحميل كتب أدب الطف
- تحميل كتب المجالس الحسينية
- تحميل كتب الركب الحسيني
- تحميل كتب دراسات وعلوم فرآنية
- تحميل كتب متنوعة
- تحميل كتب حول اليهود واليهودية والصهيونية
- المحقق جعفر السبحاني
- تحميل كتب اللغة العربية
- الفرقان في تفسير القرآن -الدكتور محمد الصادقي
- وقعة الجمل صفين والنهروان
الجزء
الرابع - باب المختار من الخطب والأوامر - ابن
ابي الحديد
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
بسم
الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الواحد العدل الحكيم؛ وصلى الله على رسوله الكريم |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
متفرقات
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومنها في ذكر يوم النحر وصفة الأضحية
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: ومن تمام
الأضحية استشراف أذنها، وسلامة عينها، فإذا سلمت الأذن والعين سلمت الأضحية
وتمت، ولو كانت عضباء القرن تجر رجلها إلى المسك. واستشراف
أذنها: انتصابها وارتفاعها، أذن شرفاء أي منتصبة. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
رأي الفقهاء في وجوب الأضحية
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
واختلف الفقهاء في وجوب الأضحية،
فقال أبو حنيفة: هي واجبة
على المقيمين من أهل الأمصار، ويعتبر في وجوبها
النصاب، وبه قال مالك والثوري، إلا أن مالكاً لم يعتبر الإقامة. ومعنى انتفاء سلامة الأضحية انتفاء إجزائها. وقال سائر الفقهاء:
تجزئ إلا أنه مكروه. وقد نقل أصحاب الشافعي عنه أن الأضحية إذا كانت مريضة
مرضاً يسيراً أجزأت. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن كلام له عليه السلام في ذكر البيعة
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: فتداكوا علي
تداك الإبل الهيم يوم وردها، وقد أرسلها راعيها، وخلعت مثانيها، حتى ظننت أنهم
قاتلي، أو بعضهم قاتل بعضٍ لدي. وقد قلبت هذا الأمر بطنه وظهره حتى منعني النوم،
فما وجدتني يسعني إلا قتالهم أو الجحود بما جاء به محمد صلى الله عليه وآله،
فكانت معالجة القتال أهون علي من معالجة العقاب، وموتات الدنيا أهون علي من
موتات الآخرة. والمثاني: الجبال، جمع مثناة ومثناة بالفتح والكسر،
وهو الحبل. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
بيعة علي عليه السلام
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
اختلف الناس في بيعة أمير المؤمنين عليه
السلام، فالذي عليه أكثر الناس
وجمهور أرباب السير أن طلحة والزبير بايعاه طائعين غير مكرهين، ثم تغيرت
عزائمهما، وفسدت نياتهما، وغدرا به. وذكر صاحب كتاب الأوائل أن الأشتر جاء إلى علي عليه السلام حين قتله عثمان، فقال: قم فبايع الناس، فقد اجتمعوا لك، ورغبوا فيك، والله
لئن نكلت عنها لتعصرن عليها عينيك مرة رابعة، فجاء حتى دخل بئر سكن،
واجتمع الناس، وحضر طلحة والزبير، لا يشكان أن
الأمر شورى، فقال الأشتر: أتنتظرون أحداً! قم يا طلحة فبايع، فتقاعس، فقال: قم يابن الصعبة ، وسل
سيفه، فقام طلحة يجر رجله؛ حتى بايع فقال قائل: أول من
بايعه أشل! لا يتم أمره ، ثم لا يتم، قال: قم يا
زبير، والله لا ينازع أحداً إلا وضربت قرطه بهذا السيف، فقام الزبير
فبايع؛ ثم انثال الناس عليه فبايعوا.
وقد
ذكرنا نحن في شرح الفصل الذي فيه أن الزبير أقر بالبيعة، وادعى الوليجة أن بيعة أمير المؤمنين لم تقع
إلا عن رضا جميع أهل المدينة، أولهم طلحة
والزبير، وذكرنا في ذلك ما يبطل رواية الزبير. فقال الناس بأجمعهم: قد رضينا، وهو عندنا ما ذكرتم وأفضل.
وقاموا
كلهم، فأتوا علياً عليه السلام، فاستخرجوه من داره، وسألوه بسط يده، فقبضها فتداكوا عليه
تداك الإبل الهيم على وردها، حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً، فلما رأى منهم ما رأى،
سألهم أن تكون بيعته في المسجد ظاهرة للناس. وقال: إن كرهني رجل واحد من
الناس لم أدخل في هذا الأمر. فأما أصحابنا
فإنهم يذكرون في كتبهم أن هؤلاء الرهط إنما اعتذروا بما اعتذروا به، لما ندبهم
إلى الشخوص معه لحرب أصحاب الجمل، وأنهم لم يتخلفوا عن
البيعة، وإنما تخلفوا عن الحرب. فقال علي عليه السلام:
ويحك! وهل ما كان عن طلب مني له! ألم يبلغك صنيعهم؟ قم عني يا أحمق، ما أنت وهذا
الكلام! فلما خرج أتى علياً
في اليوم الثالث آتٍ، فقال: إن ابن عمر قد خرج إلى مكة يفسد الناس عليك، فأمر
بالبعث في أثره، فجاءت أم كلثوم ابنته، فسألته
وضرعت إليه فيه، وقالت: يا أمير المؤمنين، إنما خرج إلى مكة ليقيم بها، وإنه ليس
بصاحب سلطان ولا هو من رجال هذا الشأن، وطلبت إليه أن يقبل شفاعتها في أمره؛
لأنه ابن بعلها. فأجابها
وكف عن البعثة إليه، وقال: دعوه وما أراده. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وقد استبطأ أصحابه إذنه لهم في القتال بصفين
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
أما قولكم: أكل ذلك كراهية الموت! فوالله ما أبالي؛ دخلت إلى الموت أو خرج الموت
إلي.
وهذا الكلام استعارة، شبه من عساه يلحق به من أهل الشام بمن يعشو ليلاً إلى
النار، وذلك لأن بصائر أهل الشام ضعيفة، فهم من الاهتداء بهداه عليه السلام كمن يعشو ببصرٍ ضعيف إلى النار في
الليل، قال: ذاك أحب إلي من أن أقتلهم على ضلالهم، وإن
كنت لو قتلتهم على هذه الحالة لباؤوا بآثامهم، أي رجعوا، قال سبحانه: " إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك " أي
ترجع. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
بعض ما جاء من أخبار في يوم صفين
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لما ملك أمير المؤمنين الماء بصفين ثم سمح لأهل
الشام بالمشاركة فيه والمساهمة، رجاء أن يعطفوا إليه، واستمالة لقلوبهم وإظهاراً
للمعدلة وحسن السيرة فيهم، مكث أياماً لا يرسل إلى معاوية، ولا يأتيه من عند
معاوية أحد، واستبطأ أهل العراق إذنه لهم في القتال، وقال:
يا أمير المؤمنين، خلفنا ذرارينا ونساءنا بالكوفة، وجئنا إلى أطراف الشام
لنتخذها وطناً، ائذن لنا في القتال، فإن الناس قد قالوا. قال لهم عليه السلام: ما قالوا؟ فقال منهم قائل: إن الناس
يظنون أنك تكره الحرب كراهية للموت، وإن من الناس من
يظن أنك في شك من قتال أهل الشام. فقال عليه السلام:
ومتى كنت كارهاً للحرب قط! إن من العجب حبي لها غلاماً ويفعاً، وكراهيتي لها
شيخاً بعد نفاد العمر وقرب الوقت! وأما شكي في القوم
فلو شككت فيهم لشككت في أهل البصرة، والله لقد ضربت هذا الأمر ظهراً
وبطناً، فما وجدت يسعني إلا القتال أو أن أعصي الله ورسوله، ولكني أستأني بالقوم، عسى أن يهتدوا أو تهتدي منهم طائفة،
فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي يوم خيبر: لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك مما طلعت
عليه الشمس. فقال له
شبث: يا أمير المؤمنين، ألا تطمعه في سلطان توليه إياه، ومنزلةٍ يكون له بها
أثرة عندك إن هو بايعك؟ فقال: ائتوه الآن والقوه واحتجوا عليه، وانظروا ما رأيه
في هذا. فقطع معاوية عليه الكلام وقال:
فهلا أوصيت صاحبك! فقال: سبحان الله! إن صاحبي
لا يوصى، إن صاحبي ليس مثلك، صاحبي أحق الناس بهذا الأمر في الفضل والدين
والسابقة في الإسلام والقرابة من الرسول. قال معاوية: فتقول ماذا؟ قال: أدعوك إلى تقوى ربك. وإجابة ابن عمك إلى ما يدعوك إليه من الحق، فإنه
أسلم لك في دينك، وخير لك في عاقبة أمرك. قال: ويطل دم عثمان! لا والرحمن لا أفعل
ذلك أبداً. ثم عتبت
بعد فيما لا علم لك به، ولقد كذبت ولؤمت أيها الأعرابي الجلف الجافي في كل ما
وصفت وذكرت. انصرفوا من عندي فإنه ليس بيني وبينكم
إلا السيف. قال: وعسكر علي عليه السلام على
الماء، وعسكر معاوية فوقه على الماء أيضاً، ومشت القراء فيما بين علي عليه
السلام ومعاوية، منهم عبيدة السلماني، وعلقمة بن قيس النخعي، وعبد الله بن عتبة،
وعامر بن عبد القيس - وقد كان في بعض تلك
السواحل - فانصرف إلى عسكر علي عليه
السلام، فدخلوا على معاوية فقالوا:
يا معاوية، ما الذي تطلب؟ قال: أطلب بدم عثمان، قالوا: ممن تطلب بدم عثمان؟ قال:
أطلبه من علي، قالوا: وعلي قتله؟ قال: نعم هو قتله، وآوى قتلته، فانصرفوا من عنده
فدخلوا على علي عليه السلام، فقالوا: إن معاوية يزعم أنك قتلت عثمان، قال: اللهم لكذب فيما قال، لم
أقتله. فرجعوا إلى علي عليه
السلام، فقالوا:
إن معاوية يقول لك: إن كنت صادقاً فادفع إلينا قتلة عثمان أو مكنا منهم، فقال لهم: إن القوم تأولوا عليه القرآن، ووقعت الفرقة،
فقتلوه في سلطانه، وليس على ضربهم قود، فخصم علي معاوية. فقال علي عليه السلام: إن الناس تبع المهاجرين والأنصار،
وهم شهود للمسلمين في البلاد على ولاتهم وأمراء دينهم، فرضوا بي وبايعوني، ولست
أستحل أن أدع ضرب معاوية يحكم بيده على الأمة ويركبهم ويشق عصاهم. فما بال من ههنا من المهاجرين والأنصار لم يدخلوا
في هذا الأمر ويؤامروا فيه . قال:
فكتب في سهم: من عبد الله الناصح، إني أخبركم أن
معاوية يريد أن يفجر عليكم الفرات فيغرقكم، فخذوا حذركم. ثم رمى بالسهم في
عسكر علي عليه السلام، فوقع السهم في يد رجل فقرأه ثم أقرأ
صاحبه، فلما قرأ وقرأته الناس وأقرأه من أقبل وأدبر، قالوا: هذا أخ لنا ناصح،
كتب إليكم يخبركم بما أراد معاوية؛ فلم يزل السهم يقرأ
ويرتفع حتى رفع إلى علي عليه السلام، وقد بعث معاوية مائتي رجل من العملة إلى عاقول من النهر، بأيديهم المرور
والزبل يحفرون فيها بحيال عسكر علي عليه السلام. فقال علي عليه السلام: ويحكم! إن الذي يعالج معاوية لا
يستقيم له، ولا يقوى عليه، إنما يريد أن يزيلكم عن مكانكم، فانتهوا عن ذلك،
فقالوا له: لا ندعهم والله يحفرون، فقال علي عليه السلام:
لا تكونوا ضعفي، ويحكم! لا تغلبوني على رأيي. فقالوا:
والله لنرتحلن، فإن شئت فارتحل، وإن شئت فأقم، فارتحلوا وصعدوا بعسكرهم ملياً، وارتحل علي عليه السلام في أخريات الناس، وهو يقول:
قال:
وارتحل معاوية حتى نزل معسكر علي عليه السلام الذي
كان فيه، فدعا علي عليه السلام الأشتر، فقال: ألم تغلبني
على رأيي أنت والأشعث! فدونكما. فقال الأشعث: أنا أكفيك يا أمير المؤمنين، سأداوي
ما أفسدت اليوم من ذلك، فجمع كندة فقال لهم: يا معشر كندة، لا تفضحوني اليوم ولا
تخزوني؛ فإني إنما أقارع بكم أهل الشام، فخرجوا معه رجالة يمشون، وبيده رمح له
يلقيه على الأرض، ويقول: امشوا قيد رمحي هذا، فيمشون، فلم يزل يقيس لهم الأرض
برمحه، ويمشون معه رجالة حتى لقي معاوية وسط بني سليم واقفاً على الماء، وقد
جاءه أداني عسكره، فاقتتلوا قتالاً شديداً على الماء ساعة، وانتهى أوائل أهل
العراق فنزلوا، وأقبل الأشتر في خيل من أهل العراق، فحمل على معاوية، والأشعث
يحارب في ناحية أخرى؛ فانحاز معاوية في بني سليم، فرد وجوه إبله ثلاثة فراسخ، ثم
نزل ووضع أهل الشام أثقالهم، والأشعث يهدر ويقول: أرضيتك يا أمير المؤمنين! ثم تمثل بقول طرفة بن العبد:
وقال الأشتر:
يا أمير المؤمنين، قد غلب الله لك على الماء، فقال
علي عليه السلام، أنتما كما قال الشاعر:
قال نصر:
فكان كل واحدٍ من علي ومعاوية يخرج الرجل الشريف في جماعة، فيقاتل مثله؛ وكانوا
يكرهون أن يتزاحفوا بجميع الفيلق مخافة الاستئصال والهلاك، فاقتتل الناس ذا
الحجة كله، فلما انقضى تداعوا إلى أن يكف بعضهم عن بعض إلى أن ينقضي المحرم، لعل
الله أن يجري صلحاً أو جماعاً، فكف الناس في المحرم بعضهم عن بعض. ندعوك إلى أفضل الناس سابقة، وأحسنهم في الإسلام
آثاراً؛ وقد اجتمع إليه الناس، وقد أرشدهم الله بالذي رأوا وأتوا، فلم يبق أحد
غيرك وغير من معك، فانته يا معاوية من قبل أن يصيبك
الله وأصحابك بمثل يوم الجمل. أما
والله إنك من المجلبين على عثمان، وإنك لمن قتلته، وإني لأرجو أن تكون ممن يقتله
الله. فقال له شبث بن ربعي وزياد بن خصفة،
وتنازعا كلاماً واحداً: أتيناك فيما يصلحنا وإياك، فأقبلت
تضرب لنا الأمثال، دع ما لا ينفع من القول والفعل،
وأجبنا فيما يعمنا وإياك نفعه. قال نصر:
وحدثنا سليمان بن أبي راشد، عن عبد الرحمن بن عبيد أبي الكنود، قال: بعث معاوية حبيب بن مسلمة الفهري إلى علي بن أبي طالب عليه السلام، وبعث معه شرحبيل بن
السمط ومعن بن يزيد بن الأخنس السلمي، فدخلوا على علي عليه السلام فتكلم حبيب بن مسلمة، فحمد
الله وأثنى عليه، وقال: أما بعد، فإن عثمان بن عفان كان خليفة
مهدياً، يعمل بكتاب الله ويثبت إلى أمر الله، فاستثقلتم حياته، واستبطأتم وفاته.
فعدوتم عليه قتلتموه؛ فادفع إلينا قتلة عثمان نقتلهم به، فإن قلت: إنك لم تقتله، فاعتزل الناس، فيكون أمرهم
هذا شورى بينهم، يولي الناس أمرهم من أجمع عليه رأيهم. فقال شرحبيل بن السمط:
إن كلمتك، فلعمري ما كلامي إلا نحو كلام صاحبي، فهل لي عندك جواب غير الجواب
الذي أجبته به؟ فقال: نعم، قال: فقله؛ فحمد الله علي
عليه السلام وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فإن الله سبحانه بعث محمداً
صلى الله عليه وسلم فأنقذ به من الضلالة، ونعش به من الهلكة، وجمع به بعد
الفرقة، ثم قبضه الله إليه، وقد أدى ما عليه، فاستخلف
الناس أبا بكر، ثم استخلف أبو بكر عمر، فأحسنا السيرة، وعدلا في الأمة، ووجدنا عليهما أن توليا الأمر دوننا، ونحن آل الرسول،
وأحق بالأمر، فغفرنا ذلك لهما، ثم ولي أمر الناس
عثمان، فعمل بأشياء عابها
الناس عليه، فسار إليه ناس فقتلوه، ثم أتاني الناس وأنا معتزل أمرهم،
فقالوا لي، بايع، فأبيت عليهم، فقالوا لي:
بايع، فإن الأمة لا ترضى إلا بك، وإنا نخاف إن لم تفعل أن يفترق الناس؛ فبايعتهم
فلم يرعني إلا شقاق رجلين قد بايعا، وخلاف معاوية إياي الذي لم يجعل الله له سابقة في
الدين، ولا سلف صدق في الإسلام، طليق ابن طليق، وحزب من الأحزاب؛ لم يزل لله ولرسوله وللمسلمين عدواً هو وأبوه حتى دخلا
في الإسلام كارهين مكرهين، فيا عجبا لكم، ولإجلابكم
معه، وانقيادكم له؛ وتدعون آل بيت نبيكم الذين لا ينبغي لكم شقاقهم ولا خلافهم،
ولا تعدلوا بهم أحداً من الناس، إني أدعوكم إلى كتاب ربكم وسنة نبيكم، وإماتة
الباطل، وإحياء معالم الدين، أقول قولي هذا وأستغفر الله لنا ولكل مؤمن ومؤمنة،
ومسلم ومسلمة. فقال علي عليه السلام: " إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا
مدبرين، وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون
" . ثم مكث الناس متوادعين إلى انسلاخ المحرم، فلما انسلخ واستقبل الناس صفراً من سنة سبع وثلاثين، بعث
علي عليه السلام نفراً
من أصحابه؛ حتى إذا كانوا من معسكر معاوية بحيث يسمعونهم الصوت، قام مرثد بن الحارث الجشمي، فنادى عند غروب الشمس: يا
أهل الشام إن أمير المؤمنين علياً وأصحاب رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقولون لكم: إنا لم نكف
عنكم شكاً في أمركم، ولا إبقاءً عليكم؛ وإنما كففنا
عنكم لخروج المحرم، وقد انسلخ؛ وإنا قد نبذنا إليكم على سواء، إن الله لا
يحب الخائنين. قال: فتحاجز الناس وثاروا على أمرائهم. قال: فثار الناس إلى أمرائهم ورؤوسائهم. عباد الله، اتقوا الله وغضوا أبصاركم، واخفضوا
الأصوات، وأقلوا الكلام، ووطنوا أنفسكم على المنازلة والمجاولة والمبارزة والمعانقة،
واثبتوا: " واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون " ، "ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله
مع الصابرين " . اللهم
ألهمهم الصبر، وأنزل عليهم النصر، وأعظم لهم الأجر. قال نصر: فأما رواية الشعبي التي رواها عنه إسماعيل بن أبي عميرة،
فإن علياً عليه السلام بعث على ميمنته عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي، وعلى
ميسرته عبد الله بن العباس، وعلى خيل الكوفة الأشتر، وعلى البصرة سهل بن حنيف،
وعلى رجالة الكوفة عمار بن ياسر، وعلى رجالة أهل البصرة قيس بن سعد - كان قد
أقبل من مصر إلى صفين - وجعل معه هاشم بن عتبة، وجعل مسعود بن فدكي التميمي على
قراء أهل البصرة، وأما قراء أهل الكوفة فصاروا إلى عبد الله بن بديل، وعمار بن
ياسر. فلما أراد الله أن يظهر دينه، وينصر رسوله أتى إلى
النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم،
وهو والله فيما يرى راهب غير راغب. ثم قبض الله رسوله، وإنا والله لنعرفه بعداوة
مسلم، ومودة المجرم! ألا وإنه معاوية، فقاتلوه والعنوه، فإنه ممن يطفئ نور الله،
ويظاهر أعداء الله. وروى نصر، عن عبد العزيز بن سياه، عن
حبيب بن أبي ثابت، قال: لما كان قتال صفين، قال رجل لعمار: يا
أبا اليقظان؛ ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قاتلوا الناس حتى
يسلموا؛ فإذا أسلموا عصموا مني دماءهم وأموالهم "؟ قال: بلى، ولكن والله ما
أسلموا؛ ولكن استسلموا، وأسروا الكفر حتى وجدوا عليه أعواناً. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
يذكر حروبه مع الرسول
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: ولقد كنا مع
رسول الله صلى الله عليه وآله، نقتل آباءنا وابناءنا وإخواننا وأعمامنا، ما
يزيدنا ذلك إلا إيماناً وتسليماً؛ ومضياً على اللقم، وصبراً على مضض الألم،
وجداً في جهاد العدو. ولقد كان الرجل منا والآخر من عدونا يتصاولان تصاول
الفحلين، يتخالسان أنفسهما؛ أيهما يسقي صاحبه كأس المنون، فمرة لنا من عدونا،
ومرة لعدونا منا، فلما رأى الله صدقنا أنزل بعدونا الكبت، وأنزل علينا النصر،
حتى استقر الإسلام ملقياً جرانه، ومتبوئاً أوطانه. الشرح: لقم الطريق:
الجادة الواضحة منها. والمضض: لذع الألم وبرحاؤه. والتصاول: أن يحمل كل
واحدٍ من القرنين على صاحبه. والتخالس: التسالب والانتهاب. والكبت: الإذلال. وجران البعير: مقدم عنقه. وتبوأت المنزل: نزلته. ويقال لمن أسرف في الأمر: لتحتلبن دماً، وأصله
الناقة يفرط في حلبها فيحلب الحالب الدم. وهذه ألفاظ مجازية من باب الاستعارة؛ وهي: قوله:
استقر الإسلام ملقياً جرانه، أي ثابتاً متمكناً كالبعير يلقي جرانه على الأرض. فقال عبد الله بن الحضرمي له: أنا سهم في كنانتك ،
وأنا من قد جربت، وعدو أهل حربك، وظهيرك على قتلة عثمان، فوجهني إليهم متى شئت. فقال: اخرج غداً إن شاء الله. فودعه وخرج من عنده. إني نظرت
في أمر أهل البصرة فوجدت معظم أهلها لنا ولياً
ولعلي وشيعته عدواً؛ وقد أوقع بهم علي الوقعة التي علمت، فأحقاد تلك الدماء
ثابتة في صدورهم لا تبرح ولا تريم، وقد علمت أن قتلنا
ابن أبي بكر، ووقعتنا بأهل مصر قد أطفأت
نيران أصحاب علي في الآفاق، ورفعت رؤوس أشياعنا أينما كانوا من البلاد؛ وقد بلغ
من كان بالبصرة على مثل رأينا من ذلك ما بلغ الناس، وليس أحد ممن يرى رأينا أكثر
عدداً، ولا أضر خلافاً على علي من أولئك، فقد رأيت أن
أبعث إليهم عبد الله بن عامر الحضرمي، فينزل في مضر
ويتودد الأزد، ويحذر ربيعة، ويبتغي دم ابن عفان؛ ويذكرهم وقعة علي بهم، التي
أهلكت لصالحي إخوانهم وآبائهم وأبنائهم. فقد رجوت عند ذلك أن يفسد على علي
وشيعته ذلك الفرج من الأرض؛ ومتى يؤتوا من خلفهم وأمامهم يضل سعيهم، ويبطل
كيدهم. فهذا رأيي. فما رأيك؟ فلا تحبس رسولي إلا
قدر مضي الساعة التي ينتظر فيها جواب كتابي هذا. أرشدنا الله وإياك، والسلام
عليك ورحمة الله وبركاته. فقام إليه الضحاك بن عبد الله الهلالي، فقال قبح الله ما جئتنا به، وما
دعوتنا إليه! جئتنا والله بمثل ما جاء به صاحباك
طلحة والزبير، أتيانا وقد بايعنا علياً، واجتمعنا له، فكلمتنا واحدة ونحن على
سبيل مستقيم، فدعوانا إلى الفرقة، وقاما فينا
بزخرف القول، حتى ضربنا بعضنا ببعضٍ عدواناً وظلماً؛ فاقتتلنا على ذلك، وايم
الله، ما سلمنا من عظيم وبال ذلك؛ ونحن الآن مجمعون على
بيع هذا العبد الصالح الذي أقال العثرة، وعفا عن المسيء وأخذ بيعة غائبنا
وشاهدنا. أفتأمرنا الآن أن نختلع أسيافنا من أغمادها، ثم يضرب بعضنا بعضاً، ليكون معاوية أميراً، وتكون له
وزيراً، ونعدل بهذا الأمر عن علي! والله ليوم من أيام علي مع رسول
الله صلى الله عليه وسلم خير من بلاء معاوية وآل
ومعاوية لو بقوا في الدنيا، ما الدنيا باقية. ثم أقبل على ابن
الحضرمي، فقال: نحن يدك وأنصارك؛ والقول ما قلت؛ وقد فهمنا عنك؛ فادعنا
أنى شئت! فقال الضحاك
لابن خازم: يابن السوداء؛ والله لا يعز من نصرت، ولا يذل بخذلانك من
خذلت؛ فتشاتما.
قال:
وهو القائل في بني العباس:
قال:
فقام عبد الرحمن بن عمير بن عثمان القرشي ثم التيمي، فقال
عباد الله؛ إنا لم ندعكم إلى الاختلاف والفرقة، ولا نريد أن تقتتلوا ولا
تتنابزوا؛ ولكنا إنما ندعوكم أن تجمعوا كلمتكم، وتوازروا إخوانكم الذين هم على
رأيكم، وأن تلموا شعثكم وتصلحوا ذات بينكم؛ فمهلاً مهلاً! رحمكم الله، استمعوا
لهذا الكتاب، وأطيعوا الذي يقرأ عليكم. أما
بعد، فإن سفك الدماء بغير حلها، وقتل النفوس التي حرم الله قتلها هلاك موبق،
وخسران مبين، لا يقبل الله ممن سفكها صرفاً ولا عدلاً، وقد رأيتم رحمكم الله
آثار ابن عفان وسيرته، وحبه للعافية، ومعدلته، وسده للثغور ، وإعطاؤه في الحقوق،
وإنصافه للمظلوم، وحبه الضعيف، حتى توثب عليه المتوثبون؛ وتظاهر عليه الظالمون،
فقتلوه مسلماً محرماً، ظمآن صائماً، لم يسفك فيهم دماً، ولم يقتل منهم أحداً ولا
يطلبونه بضربة سيف ولا سوطٍ، وإنما ندعوكم أيها
المسلمون إلى الطلب بدمه، وإلى قتال من قتله، فإنا وإياكم على أمر هدى واضح،
وسبيل مستقيم. إنكم إن جامعتمونا طفئت النائرة ، واجتمعت
الكلمة، واستقام أمر هذه الأمة، وأقر الظالمون المتوثبون الذين قتلوا إمامهم
بغير حق، فأخذوا بجرائرهم وما قدمت أيديهم. إن لكم أن أعمل فيكم بالكتاب، وأن أعطيكم في السنة عطاءين، ولا أحتمل فضلاً من فيئكم
عنكم أبداً. فسارعوا إلى ما تدعون إليه رحمكم الله! وقد
بعثت إليكم رجلاً من الصالحين؛ كان من أمناء خليفتكم المظلوم ابن عفان وعماله
وأعوانه على الهدى والحق، جعلنا الله وإياكم ممن يجيب
إلى الحق ويعرفه، وينكر الباطل ويجحده، والسلام عليكم ورحمة الله، قال: فلما قرئ عليهم الكتاب، قال معظمهم: سمعنا وأطعنا. قال إبراهيم بن هلال:
وروى محمد بن عبد الله، عن ابن أبي سيف، عن الأسود بن قيس، عن ثعلبة بن عباد، أن
الذي كان سدد لمعاوية رأيه في تسريح ابن الحضرمي
كتاب كتبه إليه عباس بن ضحاك العبدي، وهو ممن
كان يرى رأي عثمان، ويخالف قومه في حبهم علياً عليه
السلام ونصرتهم إياه؛ وكان الكتاب: أما بعد، فقد بلغنا بأهل مصر؛ الذين
بغوا على إمامهم، وقتلوا خليفتهم طمعاً وبغياً، فقرت بذلك العيون، وشفيت بذلك
النفوس؛ وبردت أفئدة أقوامٍ كانوا لقتل عثمان كارهين، ولعدوه مفارقين، ولكم
موالين، وبك راضين؛ فإن رأيت أن تبعث إلينا أميراً
طيباً ذكياً ذا عفاف ودين، إلى الطلب بدم عثمان فعلت، فإني لا أخال الناس إلا
مجمعين عليك، وإن ابن عباس غائب عن المصر. والسلام. هداك الله على رأيك الرشيد، فكأنك بالرجل الذي سألت
قد أتاك، وكأنك بالجيش قد أطل عليك فسررت وحبيت؛ والسلام. نحن ندع ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيد
المسلمين، وندخل في طاعة حزب من الأحزاب طاغ! والله لا يكون ذلك أبداً حتى نسير
كتيبة، ونفلق السيوف بالهام . فقال له: إن أنت أتيتني فنزلت في داري نصرتك
ومنعتك. فقال: إن أمير
المؤمنين معاوية أمرني أن أنزل في قومه من مضر، فقال: اتبع ما أمرك به. فقال:
بلى، إن تحملت حتى تنزل في داري منعتك، فقال: إني فاعل. قال: فرفع ذلك ابن عباس
إلى علي عليه السلام، وشاع في الناس بالكوفة ما كان من ذلك، وكانت بنو
تميم وقيس، ومن يرى رأي عثمان قد أمروا ابن الحضرمي أن يسير إلى قصر الإمارة حين
خلاه زياد، فلما تهيأ لذلك ودعا أصحابه، ركبت الأزد، وبعثت إليه وإليهم: إنا
والله لا ندعكم تأتون القصر فتنزلون فيه من لا نرضى، ومن نحن له كارهون؛ حتى
يأتي رجل لنا ولكم الرضا، فأبى أصحاب ابن الحضرمي إلا
أن يسيروا إلى القصر، وأبت الأزد إلا أن
يمنعوهم. فركب الأحنف، فقال لأصحاب
ابن الحضرمي: إنكم والله ما أنتم أحق بقصر الإمارة من القوم، وما لكم أن
تؤمروا عليهم من يكرهونه، فانصرفوا عنهم؛ ففعلوا، ثم
جاء إلى الأزد، فقال: إنه لم يكن ما تكرهون، ولا يؤتى إلا ما تحبون،
فانصرفوا رحمكم الله، ففعلوا. وإن لو كنت في بني تميم وابن الحضرمي فيكم لم أطمع
فيه أبداً وأنتم دونه، فلا يطمع ابن الحضرمي في وأنتم دوني، وليس ابن آكلة الأكباد في بقية الأحزاب وأولياء الشيطان بأدنى
إلى الغلبة من أمير المؤمنين في المهاجرين والأنصار؛ وقد أصبحت فيكم
مضموناً، وأمانة مؤداة، وقد رأينا وقعتكم يوم الجمل، فاصبروا مع الحق صبركم مع
الباطل، فإنكم لا تحمدون إلا على النجدة، ولا تعذرون على الجبن. فقال زياد: إنما كنت
مازحاً. فقال أمير المؤمنين عليه السلام:
مه ! تناهوا أيها الناس، وليردعكم الإسلام ووقاره
عن التباغي والتهاذي، ولتجتمع كلمتكم، والزموا دين الله
الذي لا يقبل من أحد غيره، وكلمة الإخلاص التي
هي قوام الدين، وحجة الله على الكافرين؛ واذكروا إذا كنتم قليلاً مشركين
متباغضين متفرقين، فألف بينكم بالإسلام فكثرتم، واجتمعتم وتحاببتم. فلا تفرقوا بعد إذ اجتمعتم، ولا تتباغضوا
بعد إذ تحاببتم؛ وإذا رأيتم الناس بينهم النائرة وقد
تداعوا إلى العشائر والقبائل؛ فاقصدوا لهامهم ووجوههم بالسيف حتى يفزعوا إلى
الله، وإلى كتابه وسنة نبيه، فأما تلك الحمية من خطرات
الشياطين فانتهوا عنها، لا أبا لكم تفلحوا وتنجحوا!. فكأني
أخاطب صماً بكماً لا يفقهون حواراً، ولا يجيبون نداءً، كل هذا جبناً عن البأس،
وحباً للحياة، لقد كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نقتل آباءنا وأبناءنا...
الفصل إلى آخره. ثم خرج من عنده؛ فأتى رحله، فجمع إليه رجالاً من
قومه، فحمد الله واثنى عليه ثم قال: يا قوم،
على ماذا تقتلون أنفسكم، وتهريقون دماءكم على الباطل مع السفهاء الأشرار! وإني
والله ما جئتكم حتى عبيت إليكم الجنود، فإن تنيبوا إلى الحق يقبل منكم، ويكف
عنكم؛ وإن أبيتم فهو والله استئصالكم وبواركم. فقالوا: بل نسمع ونطيع. فقال: انهضوا الان على بركة
الله عز وجل. فنهض بهم إلى جماعة ابن الحضرمي، فخرجوا إليه مع ابن الحضرمي
فصافوه وواقفهم عامة يومه يناشدهم الله، ويقول: يا قوم لا تنكثوا بيعتكم، ولا
تخالفوا إمامكم، ولا تجعلوا على أنفسكم سبيلاً، فقد رأيتم وجربتم كيف صنع الله
بكم عند نكثكم بيعتكم وخلافكم... فكفو عنه، ولم يكن بينه وبينهم قتال، وهم في
ذلك يشتمونه وينالون منه، فانصرف عنهم وهو منهم منتصف. فلما آوى إلى رحله تبعه عشرة نفر يظن
الناس أنهم خوارج، فضربوه بأسيافهم وهو على فراشه، ولا يظن أن الذي كان يكون،
فخرج يشتد عرياناً، فلحقوه في الطريق فقتلوه، فأراد زياد
أن يناهض ابن الحضرمي حين قتل أعين بجماعة من معه من الأزد وغيرهم من شيعة علي
عليه السلام، فأرسل بنو تميم إلى الأزد: والله ما عرضنا لجاركم إذ أجرتموه، ولا
لمالٍ هو له، ولا لأحدٍ ليس على رأينا؛ فما تريدون إلى حربنا وإلى جارنا! فكأن الأزد عند ذلك كرهت قتالهم. والسلام على أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته. سلام عليكم، أما بعد
فإن الله حليم ذو أناةٍ، لا يعجل بالعقوبة قبل البينة، ولا يأخذ المذنب عند أول
وهلة، ولكنه يقبل التوبة، ويستديم الأناة، ويرضى بالإنابة، ليكون أعظم للحجة،
وأبلغ في المعذرة؛ وقد كان من شقاق جلكم أيها الناس ما استحققتم أن تعاقبوا
عليه، فعفوت عن مجرمكم، ورفعت السيف عن مدبركم، وقبلت من مقبلكم، وأخذت بيعتكم،
فإن تفوا ببيعتي، وتقبلوا نصيحتي، وتستقيموا على طاعتي، أعمل فيكم بالكتاب
والسنة وقصد الحق، وأقم فيكم سبيل الهدى، فوالله ما أعلم أن والياً بعد محمد صلى
الله عليه وسلم
أعلم
بذلك مني، ولا أعمل بقولي. أقول قولي هذا صادقاً، غير ذامٍ لمن مضى، ولا منتقصاً
لأعمالهم، وإن خبطت بكم الأهواء المردية، وسفه الرأي
الجائر إلى منابذتي، تريدون خلافي! فها أنا ذا قربت جيادي، ورحلت ركابي، وايم
الله لئن الجأتموني إلى المسير إليكم لأوقعن بكم وقعةً، لا يكون يوم الجمل عندها
إلا كلعقة لاعق، وإني لظان ألا تجعلوا - إن شاء الله - على أنفسكم سبيلاً، وقد
قدمت هذا الكتاب إليكم حجة عليكم، ولن أكتب إليكم من بعده كتاباً، إن
أنتم استغششتم نصيحتي، ونابذتم رسولي، حتى أكون أنا الشاخص نحوكم، إن شاء الله
تعالى. والسلام. فإن اضطر إلى نصركم فسيروا إليه إن رأيتم ذلك. وهو يوم بيوم، وأمر بأمر، والله إلى الجزاء
بالإحسان أسرع منه إلى الجزاء بالسيئ، والتوبة مع الحق، والعفو مع الندم، ولو
كانت هذه فتنة لدعونا القوم إلى إبطال الدماء، واستئناف الأمور، ولكنها جماعة
دماؤها حرام، وجروحها قصاص، ونحن معك نحب ما أحببت، فعجب
زياد من كلامه، وقال: ما أظن في الناس مثل هذا. قال
إبراهيم: فأما جارية، فإنه كلم قومه فلم يجيبوه، وخرج
إليهم منهم أوباش فناوشوه بعد أن شتموه وأسمعوه، فأرسل إلى زياد والأزد،
يستصرخهم ويأمرهم أن يسيروا إليه، فسارت الأزد بزياد، وخرج إليهم ابن الحضرمي،
وعلى خيله عبد الله بن خازم السلمي، فاقتتلوا ساعة، وأقبل
شريك بن الأعور الحارثي - وكان من شيعة علي عليه السلام، وصديقاً لجارية بن قدامة - فقال:
ألا أقاتل معك عدوك؟ فقال: بلى، فما لبثت بنو تميم أن هزموهم واضطروهم إلى دار
سنبيل السعدي؛ فحصروا ابن الحضرمي وحدوه ، فأتى رجل من بني تميم، ومعه عبد الله
بن خازم السلمي، فجاءت أمه وهي سوداء حبشية اسمها عجلى، فنادته، فأشرف عليها،
فقالت: يا بني، إنزل إلي، فأبى فكشفت رأسها وأبدت قناعها، وسألته النزول فأبى، فقالت: والله لتنزلن أو لأتعرين، وأهوت بيدها إلى
ثيابها، فلما رأى ذلك نزل، فذهبت به، وأحاط جارية وزياد بالدار، وقال جارية: علي بالنار، فقالت الأزد: لسنا من الحريق بالنار
في شيء؛ وهم قومك وأنت أعلم، فحرق جارية الدار عليهم، فهلك ابن الحضرمي في سبعين رجلاً؛ أحدهم عبد الرحمن
بن عمير بن عثمان القرشي التيمي؛ وسمي جارية منذ ذلك
اليوم محرقاً، وسارت الأزد بزياد حتى أوطنوه قصر الإمارة، ومعه بيت المال، وقالت
له: هل بقي علينا من جوارك شيء؟ قال: لا، قالوا: فبرئنا منه؟ فقال: نعم؛
فانصرفوا عنه. وكتب زياد إلى أمير المؤمنين عليه السلام: أما بعد، فإن جارية بن قدامة العبد
الصالح قدم من عندك، فناهض جمع ابن الحضرمي بمن نصره وأعانه من الأزد، ففضه
واضطره إلى دارٍ من دور البصرة في عدد كثير من أصحابه، فلم يخرج حتى حكم الله
تعالى بينهما، فقتل ابن الحضرمي وأصحابه، منهم من أحرق بالنار، ومنهم من ألقي
عليه جدار؛ ومنهم من هدم عليه البيت من أعلاه، ومنهم من قتل بالسيف، وسلم منهم
نفر أنابوا وتابوا، فصفح عنهم، وبعداً لمن عصى وغوى! والسلام على أمير المؤمنين ورحمة الله
وبركاته. ثم قال لظبيان: أين منزلك منها؟ فقال: مكان كذا،
فقال: عليك بضواحيها، وقال ابن العرندس الأزدي يذكر
تحريق ابن الحضرمي، ويعير تميماً بذلك:
والخناق لقب قوم بني تميم. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن كلام له لأصحابه يخبر عن رجل يأمر بسبه
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
أما إنه سيظهر عليكم بعدي رجل رحب البلعوم، مندحق البطن، يأكل ما يجد، ويطلب ما
لا يجد، فاقتلوه - ولن تقتلوه. ألا وإنه سيأمركم بسبي والبراءة مني؛ فأما السب فسبوني، فإنه لي زكاة ولكم نجاة، وأما
البراءة فلا تتبرأوا مني؛ فإني ولدت على
الفطرة، وسبقت إلى الإيمان والهجرة. وسيظهر
سيغلب. ورحب
البلعوم: واسعه.
وفي هذا الفصل مسائل: الأولى: في تفسير قوله عليه السلام: فاقتلوه ولن تقتلوه، فنقول: إنه لا
تنافي بين الأمر بالشيء والإخبار عن أنه لا يقع، كما أخبر الحكيم سبحانه
عن أبا لهب لا يؤمن وأمره بالإيمان، وكما قال تعالى: "
فتمنوا الموت إن كنتم صادقين " ، ثم قال: " ولا يتمنونه أبداً
" ، وأكثر التكليفات على هذا المنهاج. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أهل العدل والمجبرة وبعض المسائل الكلامية
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
واعلم أن أهل العدل
والمجبرة لم يختلفوا في أنه تعالى قد يأمر بما يعلم أنه لا يقع، أو يخبر
عن أنه لا يقع، وإنما اختلفوا: هل يصح أن يريد
ما يعلم أنه لا يقع، أو يخبر عنه أنه لا يقع؟ فقال
أصحابنا: يصح ذلك، وقال المجبرة: لا يصح؛ لأن إرادة ما يعلم المريد لأنه
لا يقع قضية متناقضة، لأن تحت قولنا: أراد مفهوم
أن ذلك المراد مما يمكن حصوله، لأن إرادة المحال ممتنعة. وتحت قولنا:
إنه يعلم أنه لا يقع، مفهوم أن ذلك المراد مما لا يمكن حصوله، لأنا قد فرضنا أنه
لا يقع وما لا يقع لا يمكن حصوله مع فرض كونه لا يقع، فقال
لهم أصحابنا: هذا يلزمكم في الأمر، لأنكم قد أجزتم أن يأمر بما يعلم أنه
لا يقع، فقالوا في الجواب: نحن عندنا أنه لا
يأمر بما لا يريد، فإذا أمر بما يعلم أنه لا يقع، أو يخبر عن أنه لا يقع، كان
ذلك الأمر أمراً عارياً عن الإرادة، والمحال إنما نشأ من إرادة ما علم المريد
أنه لا يقع، وههنا لا إرادة. ولنا في هذا الموضع أبحاث دقيقة ذكرناها في كتبنا
الكلامية. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
معاوية يأمر بسب علي عليه السلام
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
المسألة الثانية: في قوله عليه
السلام: يأمركم بسبي
والبراءة مني، فنقول: إن معاوية أمر الناس
بالعراق والشام وغيرهما بسب علي عليه السلام والبراءة منه. وذكر شيخنا أبو عثمان الجاحظ أن
معاوية كان يقول في آخر خطبة الجمعة: اللهم إن أبا
تراب ألحد في دينك، وصد عن سبيلك فالعنه لعناً وبيلاً، وعذبه عذاباً أليماً. وكتب بذلك إلى الآفاق، فكانت هذه الكلمات يشار بها على
المنابر؛ إلى خلافة عمر بن عبد العزيز. وروى
أهل السيرة أن الوليد بن عبد الملك في خلافته ذكر علياً
عليه السلام، فقال: لعنه اللهِ، بالجر، كان لص ابن لص. وقال له متعرض به يوماً وهو راكب: أيها الأمير، إن أهلي عقوني فسموني علياً، فغير اسمي، وصلني بما أتبلغ به
فإني فقير. فقال: للطف ما توصلت به قد سميتك كذا، ووليتك
العمل الفلاني فاشخص إليه.
وقال الرضي أبو الحسن رحمه الله تعالى:
وروى ابن الكلبي، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن السائب، قال: قال الحجاج يوماً لعبد الله بن هانئ، وهو رجل من بني أود - حي بن يقظان - وكان شريفاً في قومه، قد شهد
مع الحجاج مشاهده كلها، وكان من أنصاره وشيعته:
والله ما كافأتك بعد! ثم أرسل إلى أسماء بن خارجة
سيد بني فزارة: أن زوج عبد الله بن هانئ بابنتك،
فقال: لا والله ولا كرامة! فدعا بالسياط، فلما
رأى الشر قال: نعم أزوجه، ثم بعث إلى سعيد بن قيس الهمداني رئيس اليمانية: زوج ابنتك من عبد الله بن أود، فقال: ومن أود! لا والله لا أزوجه ولا كرامة! فقال: علي
بالسيف، فقال: دعني حتى أشاور أهلي، فشاورهم، فقالوا:
زوجه ولا تعرض نفسك لهذا الفاسق، فزوجه. فقال الحجاج لعبد
الله: قد زوجتك بنت سيد فزارة وبنت سيد همدان،
وعظيم كهلان وما أود هناك! فقال: لا تقل أصلح الله الأمير ذاك! فإن لنا مناقب ليست لأحدٍ من
العرب، قال: وما هي؟
قال: ما سب أمير المؤمنين عبد الملك في نادٍ لنا قط، قال:
منقبة والله، قال: وشهد منا صفين مع أمير المؤمنين معاوية سبعون رجلاً،
ما شهد منا مع أبي تراب إلا رجل واحد، وكان والله ما علمته امرأ سوء، قال: منقبة والله، قال: ومنا نسوة نذرن: إن قتل الحسين بن علي أن تنحر كل واحدة عشر قلائص
، ففعلن، قال: منقبة والله، قال: وما منا رجل
عرض عليه شتم أبي تراب ولعنه إلا فعل وزاد ابنيه حسناً وحسيناً وأمهما فاطمة، قال: منقبة والله، قال: وما أحد من العرب له من
الصباحة والملاحة ما لنا، فضحك الحجاج، وقال: أما هذه
يا أبا هانئ فدعها. وكان عبد الله دميماً شديد الأدمة
مجدوراً ، في رأسه عجر ، مائل الشدق، أحول، قبيح الوجه؛ شديد الحول. وروى عمر بن شبة أيضاً عن سعيد بن جبير، قال: خطب عبد
الله بن الزبير، فنال من علي عليه
السلام، فبلغ ذلك محمد بن
الحنفية، فجاء وهو يخطب، فوضع له كرسي، فقطع عليه خطبته، وقال: يا معشر
العرب، شاهت الوجوه! أينتقص علي وأنتم حضور! إن علياً كان يد الله على أعداء
الله، وصاعقةً من أمره أرسله على الكافرين والجاحدين لحقه، فقتلهم بكفرهم فشنئوه
وأبغضوه، وأضمروا له الشنف والحسد، وابن عمه صلى الله عليه وسلم حي
بعد لم يمت، فلما نقله الله إلى جواره، وأحب له ما عنده؛ أظهرت له رجال أحقادها،
وشفت أضغانها، فمنهم من ابتز حقه، ومنهم من ائتمر به ليقتله، ومنهم من شتمه
وقذفه بالأباطيل؛ فإن لم يكن لذريته وناصري دعوته دولة تنشر عظامهم، وتحفر على
أجسادهم؛ والأبدان منهم يومئذ بالية، بعد أن تقتل الأحياء منهم، وتذل رقابهم،
فيكون رقابهم، فيكون الله عز اسمه قد عذبهم بأيدينا وأخزاهم، ونصرنا عليهم، وشفا
صدورنا منهم؛ إنه والله ما يشتم علياً إلا كافراً يسر
شتم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخاف أن يبوح به،
فيكني بشتم علي عليه السلام عنه. أما إنه قد تخطت المنية منكم من امتد عمره، وسمع
قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه:
" لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون"، فعاد ابن الزبير إلى خطبته، وقال: عذرت بني الفواطم يتكلمون؛ فما بال
ابن أم حنيفة! فقال محمد: يابن أم رومان؛
وما لي لا أتكلم! وهل فاتني من الفواطم إلا
واحدة! ولم يفتني فخرها؛ لأنها أم أخوي. أنا ابن فاطمة بنت عمران بن عائذ بن
مخزوم، جدة رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وأنا ابن فاطمة بنت أسد بن هاشم، كافلة رسول
الله صلى
الله عليه وسلم، والقائمة مقام أمه؛ أما والله لولا خديجة بنت خويلد ما تركت في بني أسد بن عبد العزى عظماً إلا هشمته! ثم
قام فانصرف. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأحاديث الموضوعة في ذم علي عليه السلام
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وذكر شيخنا أبو جعفر الإسكافي - رحمه
الله تعالى - وكان من المتحققين بموالاة علي عليه السلام، والمبالغين في تفضيله؛
وإن كان القول بالتفضيل عاماً شائعاً في البغداديين
من أصحابنا كافة، إلا
أن أبا جعفر أشدهم في ذلك قولاً، وأخلصهم
فيه اعتقاداً - أن
معاوية وضع قوماً من الصحابة وقوماً من التابعين على رواية أخبار قبيحة في علي عليه السلام، تقتضي الطعن فيه والبراءة منه؛
وجعل لهم على ذلك جعلاً يرغب في مثله؛ فاختلقوا ما أرضاه، منهم أبو هريرة وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة، ومن
التابعين عروة بن الزبير. قلت:
هذا الحديث أيضاً مخرج في صحيحي مسلم والبخاري
عن المسور بن مخرمة الزهري، وقد ذكره المرتضى في
كتابه المسمى تنزيه الأنبياء والأئمة، وذكر أنه رواية حسين الكرابيسي، وأنه مشهور بالإنحراف عن
أهل البيت عليهم السلام، وعداوتهم والمناصبة لهم، فلا تقبل روايته.
يقول
فيها:
وقد
روي هذا الخبر على وجوه مختلفة، وفيه زيادات متفاوتة؛
فمن الناس من يروي فيه: مهمنا ذمننا من صهرٍ فإنا لم نذم صهر أبي العاص بن
الربيع، ومن الناس من يروي فيه: ألا إن بني المغيرة أرسلوا إلى عليٍ ليزوجوه
كريمتهم... وغير ذلك. ولعل
الواقع كان بعض هذا الكلام فحرف وزيد فيه. ولو تأملت أحوال النبي صلى الله عليه وسلم مع زوجاته، وما كان
يجري بينه وبينهن من الغضب تارة، والصلح أخرى، والسخط تارة والرضا أخرى، حتى بلغ
الأمر إلى الطلاق مرة، وإلى الإيلاء مرة، وإلى الهجر والقطيعة مرة، وتدبرت ما ورد في الروايات
الصحيحة مما كن يلقينه عليه السلام به، ويسمعنه إياه، لعلمت أن الذي عاب الحسدة والشانئون علياً عليه السلام به بالنسبة إلى تلك الأحوال قطرة من البحر المحيط،
ولو لم يكن إلا قصة مارية وما جرى بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين تينك الامرأتين من
الأحوال والأقوال، حتى أنزل فيهما قرآن يتلى في المحاريب، ويكتب في المصاحف، وقيل لهما ما لا يقال للإسكندر ملك
الدنيا لو كان حياً، منابذاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "وإن
تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير
" ، ثم أردف بعد ذلك بالوعيد والتخويف: "
عسى ربه إن طلقكن... " الآيات بتمامها. ثم ضرب لهما مثلاً امرأة نوح
وامرأة لوط اللتين خانتا بعليهما، فلم يغنيا عنهما من الله شيئاً؛ وتمام الآية
معلوم. فهل ما روي في الخبر من تعصب فاطمة على علي عليه السلام وغيرتها من تعريض بني
المغيرة له بنكاح عقيلتهم، إذا قويس إلى هذه الأحوال وغيرها مما كان يجري إلا كنسبة
التأفيف إلى حرب البسوس! ولكن صاحب الهوى والعصبية لا علاج له. ثم نعود إلى حكاية كلام شيخنا أبي
جعفر الإسكافي رحمه الله تعالى. قال أبو جعفر:
وروى الأعمش، قال: لما قدم أبو هريرة العراق مع معاوية
عام الجماعة ، جاء إلى مسجد الكوفة، فلما رأى كثرة من استقبله من الناس
جثا على ركبتيه، ثم ضرب صلعته مراراً، وقال: يا أهل العراق، أتزعمون أني أكذب
على الله وعلى رسوله، وأحرق نفسي بالنار! والله لقد
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن لكل نبي
حرماً، وإن حرمي بالمدينة، ما بين عير إلى ثور ، فمن أحدث فيها حدثاً فعليه لعنة
الله والملائكة والناس أجمعين "، وأشهد بالله أن علياً أحدث فيها؛ فلما بلغ
معاوية قوله أجازه وأكرمه وولاه إمارة المدينة. وروى سفيان الثوري عن منصور، عن إبراهيم
التيمي، قال: كانوا لا
يأخذون عن أبي هريرة إلا ما كان من ذكر جنة أو نار. قال: وقد كان في المحدثين من يبغضه عليه السلام، ويروي فيه
الأحاديث المنكرة؛
منهم حريز بن عثمان، كان يبغضه وينتقصه، ويروي
فيه أخباراً مكذوبة، وقد روى المحدثون أن حريزاً
رئي في المنام بعد موته، فقيل له: ما فعل الله بك؟ قال:
كاد يغفر لي لولا بغض علي.
قال: فطلبوه
فغاب عنهم ولم يروا أحداً، فعلموا أنه من الجن. وأما
مروان ابنه فأخبث عقيدة، وأعظم إلحاداً وكفراً،
وهو الذي خطب يوم وصل إليه رأس الحسين عليه السلام
إلى المدينة؛ وهو يومئذ أميرها وقد حمل
الرأس على يديه فقال:
ثم
رمى بالرأس نحو قبر النبي، وقال: يا محمد، يوم بيوم
بدر. وهذا القول مشتق من الشعر الذي تمثل به
يزيد بن معاوية وهو شعر ابن الزبعرى يوم
وصل الرأس إليه، والخبر مشهور . ذكر ذلك أبو عبيدة في كتاب المثالب. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال: وروى الواقدي
أن معاوية لما عاد من العراق إلى الشام بعد بيعة الحسن عليه السلام واجتماع
الناس إليه خطب فقال: أيها الناس، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
لي: "إنك ستلي الخلافة من بعدي، فاختر
الأرض المقدسة، فإن فيها الأبدال "، وقد اخترتكم،
فالعنوا أبا تراب، فلعنوه. فلما كان من الغد كتب كتاباً، ثم جمعهم فقرأه
عليهم، وفيه: هذا كتاب أمير المؤمنين معاوية، صاحب وحي الله الذي بعث محمداً
نبياً، وكان أمياً لا يقرأ ولا يكتب، فاصطفى له من أهله
وزيراً كاتباً أميناً، فكان الوحي ينزل على محمد وأنا أكتبه، وهو لا يعلم
ما أكتب، فلم يكن بيني وبين الله أحد من خلقه، فقال له
الحاضرون كلهم: صدقت يا أمير المؤمنين. هذه الخلاصة ما ذكره شيخنا أبو جعفر رحمه الله
تعالى في هذا المعنى في كتاب التفضيل. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
فصل في ذكر المنحرفين عن علي عليه السلام
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وذكر جماعة من شيوخنا البغداديين أن
عدة من الصحابة والتابعين والمحدثين كانوا منحرفين
عن علي عليه السلام، قائلين
فيه السوء، ومنهم من كتم وأعان أعداءه ميلاً مع
الدنيا، وإيثاراً للعاجلة، فمنهم أنس بن مالك،
ناشد علي عليه السلام الناس في رحبة القصر - أو قال رحبة الجامع بالكوفة - : أيكم سمع رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول:
" من كنت مولاه فعلي مولاه "؟ فقام
اثنا عشر رجلاً فشهدوا بها، وأنس بن مالك في القوم لم
يقم، فقال له: يا أنس، ما يمنعك أن تقوم فتشهد،
ولقد حضرتها! فقال: يا أمير المؤمنين، كبرت ونسيت، فقال: اللهم إن كان كاذباً فارمه بها بيضاء لا تواريها العمامة. قال طلحة بن عمير:
فوالله لقد رأيت الوضح به بعد ذلك أبيض بين عينيه. وروى
أهل السيرة أن الأشعث خطب إلى عليٍ عليه السلام
ابنته، فزبره، وقال: يابن الحائك، أغرك ابن أبي قحافة. فقال الأشعث:
هذه إن قلتها فهي عليك لا لك، دعها ترحل عنك، فقال له:
وما علمك بما علي مما لي! منافق ابن كافر، حائك
ابن حائك! إني لأجد منك بنة الغزل. ثم التفت إلى عبيد الله بن عدي بن
الخيار، فقال: يا عبيد، إنك لتسمع خلافاً وترى عجباً، ثم أنشد:
وقد
ذكرنا في بعض الروايات المتقدمات أن سبب قوله: هذه عليك
لا لك، أمر آخر، والروايات تختلف. وروى واصل مولى أبي عيينة، عن جعفر بن محمد بن علي عليه السلام عن
آبائه، قال: كان لسمرة بن جندب نخل في بستان رجل
من الأنصار، فكان يؤذيه، فشكا الأنصاري ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث إلى سمرة، فدعاه فقال
له: بع نخلك من هذا، وخذ ثمنه، قال: لا أفعل، قال: فخذ نخلاً مكان نخلك، قال: لا
أفعل، قال: فاشتر منه بستانه، قال: لا أفعل، قال: فاترك لي هذا النخل ولك الجنة،
قال: لا أفعل، فقال صلى الله عليه وسلم للأنصاري: " اذهب فاقطع نخله، فإنه لا حق له فيه ". قلت: ولم ذاك؟
قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي وله والحذيفة
بن اليمان: " آخركم موتاً في النار "، فسبقنا حذيفة؛ وأن الآن
أتمنى أن أسبقه، قال: فبقي سمرة بن جندب حتى شهد مقتل
الحسين. وإن الصالح في ثقيف لغريب. وهذه
الآية من الآيات التي نزل فيها القرآن بموافقة علي عليه السلام، كما نزل في
مواضع بموافقة عمر؛ وسماه الله تعالى فاسقاً في آية
أخرى، وهو قوله تعالى: " إن جاءكم فاسق
بنبإٍ فتبينوا " ، وسبب نزولها مشهور؛ وهو
كذبه على بني المصطلق، وادعاؤه أنهم منعوا الزكاة وشهروا السيف، حتى أمر النبي صلى الله عليه وسلم
بالتجهيز للمسير إليهم؛ فأنزل الله تعالى في تكذيبه وبراءة ساحة القوم هذه
الآية. وورث ابنه الوليد الشنآن والبغضة لمحمد وأهله، فلم يزل عليهما إلى أن
مات. قال:
وذلك أن علياً عليه السلام لما قتل قصد بنوه أن يخفوا
قبره خوفاً من بني أمية أن يحدثوا في قبره حدثاً، فأوهموا الناس في موضع قبره
تلك الليلة - وهي ليلة دفنه - إيهاماتٍ مختلفة، فشدوا على جمل تابوتاً
موثقاً بالحبال، يفوح منه روائح الكافور، وأخرجوه من الكوفة من سواد الليل صحبة
ثقاتهم، يوهمون أنهم يحملونه إلى المدينة فيدفنونه عند فاطمة عليها السلام، وأخرجوا بغلاً وعليه جنازة مغطاة؛
يوهمون أنهم يدفنونه بالحيرة، وحفروا حفائر عدة، منها بالمسجد، ومنها برحبة
القصر، قصر الإمارة، ومنها في حجرة من دور آل جعدة بن هبيرة المخزومي، ومنها في
أصل دار عبد الله بن يزيد القسري بحذاء باب الوراقين مما يلي قبلة المسجد، ومنها
في الكناسة ، ومنها في الثوية ، فعمي على الناس موضع قبره، ولم يعلم دفنه على
الحقيقة إلا بنوه والخواص المخلصون من أصحابه؛ فإنهم خرجوا به عليه السلام وقت
السحر في الليلة الحادية والعشرين من شهر رمضان، فدفنوه في النجف، بالموضع
المعروف بالغري، بوصاة منه عليه السلام إليهم في ذلك، وعهدٍ كان عهد به إليهم،
وعمي موضع قبره على الناس؛ واختلفت الأراجيف في صبيحة ذلك اليوم اختلافاً
شديداً، وافترقت الأقوال في موضع قبره الشريف وتشعبت، وادعى قوم أن جماعة من طيئ
وقعوا على جملٍ في تلك الليلة، وقد أضله أصحابهم ببلادهم، وعليه صندوق، فظنوا
فيه مالاً، فلما رأوا ما فيه خافوا أن يطلبوا به، فدفنوا الصندوق بما فيه،
ونحروا البعير وأكلوه، وشاع ذلك في بني أمية وشيعتهم، واعتقدوه حقاً؛ فقال الوليد بن عقبة من أبيات يذكره عليه السلام فيها:
وروى الشيخ أبو القاسم البلخي أيضاً، عن جرير بن عبد الحميد، عن مغيرة
الضبي، قال: مر ناس بالحسن بن علي عليه السلام، وهم يريدون عيادة الوليد بن
عقبة، وهو في علة شديدة، فأتاه الحسن عليه السلام معهم عائداً، فقال للحسن: أتوب إلى الله تعالى مما كان بيني وبين جميع
الناس، إلا ما كان بيني وبين أبيك، فإني لا أتوب منه. قال الشيخ أبو القاسم البلخي: وقد روى كثير من أرباب الحديث عن
جماعة من الصحابة، قالوا: ما كنا نعرف المنافقين
على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ببغض علي بن أبي طالب.
ثم
خرج حتى أتى الرقة، وكذلك كان يصنع من يفارق
علياً عليه السلام، يبدأ بالرقة حتى يستأذن معاوية في القدوم عليه، وكانت الرقة والرها وقرقيسيا وحران من حيز معاوية، وعليها الضحاك بن قيس، وكانت هيت وعانات ونصيبين ودارا وآمد وسنجار من حيز علي عليه السلام؛ وعليها الأشتر، وكانا يقتتلان في كل شهر.
وبعد
ذلك ما لا نذكره.
قال ابن هلال:
وكتاب إلى العراق شعراً يذم فيه علياً عليه السلام
ويخبره أنه من أعدائه، فدعا عليه وقال لأصحابه عقيب
الصلاة: ارفعوا أيديكم فادعوا عليه، فدعا عليه وأمن أصحابه. وقام زياد بن خصفة - وكان من شيعة علي عليه
السلام - فقال: دعوا لي ابن عمي، فقال علي عليه السلام:
دعوا للرجل ابن عمه، فتركه الناس، فأخذ زياد بيده فأخرجه من المسجد، وجعل يمشي
معه يمسح التراب عن وجهه، وعفاق يقول: والله لا
أحبكم ما اختلفت الدرة والجرة، وزياد يقول: ذلك
أضر لك، ذلك شر لك، وقال زياد بن خصفة يذكر ضرب الناس عفاقاً:
فقال له عفاق:
لو كنت شاعراً لأجبتك، ولكني أخبركم عن ثلاث خصال كن
منكم، والله ما أرى أن تصيبوا بعدهن شيئاً مما يسركم: أما واحدة:
فإنكم سرتم إلى أهل الشام حتى إذا دخلتم عليهم بلادهم قاتلتموهم؛ فلما ظن القوم
أنكم لهم قاهرون رفعوا المصاحف، فسخروا بكم فردوكم عنهم، فلا والله لا تدخلونها بمثل ذلك الجد والحد والعدد الذي دخلتم
به أبداً. فجعل الصبيان يصيحون به: خري النجاشي! وجعل
يقول: كلا إنها يمانية وكاؤها شعر.
ثم
لحق معاوية، وهجا علياً عليه السلام، فقال:
وروى عبد الملك بن قريب الأصمعي، عن ابن أبي الزناد، قال: دخل
النجاشي على معاوية، وقد أذن للناس عامة، فقال لحاجبه: ادع النجاشي،
والنجاشي بين يديه، ولكن اقتحمته عينه، فقال: هأنذا
النجاشي بين يديك يا أمير المؤمنين، إن الرجال ليست بأجسامها؛ إنما لك من
الرجل أصغراه: قلبه ولسانه، قال: ويحك! أنت القائل:
ثم
ضرب بيده إلى ثديه، فقال: ويحك! إن مثلي لا تعدو به الخيل؛ فقال: يا أمير المؤمنين؛ إني لم أعنك، وإنما عنيت عتبة. فقال علي عليه
السلام: "وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين " ؛ يا أخا نهد؛ وهل
هو إلا رجل من المسلمين انتهك حرمة من حرم الله، فأقمنا عليه حداً كان كفارته!
إن الله تعالى يقول: " ولا يجر منكم شنآن قومٍ
على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى "
قال: فخرج طارق من عنده، فلقيه الأشتر، فقال:
يا طارق؛ أنت القائل لأمير المؤمنين: أوغرت صدورنا وشتت أمورنا؟ قال طارق: نعم، أنا قائلها، قال: والله ما ذاك كما
قلت، إن صدورنا له لسامعة، وإن أمورنا له الجامعة. فغضب طارق وقال:
ستعلم يا أشتر أنه غير ما قلت؛ فلما جنه الليل همس هو
والنجاشي إلى معاوية، فلما قدما عليه، دخل آذنه فأخبره بقدومهما، وعنده وجوه أهل
الشام؛ ومنهم عمرو بن مرة الجهني، وعمر بن صيفي وغيرهما، فلم دخلا نظر
إلى طارق، وقال: مرحباً بالمورق غصنه، والمعرق أصله، المسود غير المسود، من رجل
كانت منه هفوة ونبوة، باتباعه صاحب الفتنة، ورأس الضلالة والشبهة، الذي اغترز في
ركاب الفتنة حتى استوى على رجلها، ثم أوجف في عشوة ظلمتها وتيه ضلالها، واتبعه
رجرجة من الناس، وأشبابة من الحثالة لا أفئدة لهم: " أفلا يتدبرون القرآن
أم على قلوبٍ أقفالها " . أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولجميع المسلمين. فقال طارق: والله ما قمت بما
سمعتماه حتى خيل لي أن بطن الأرض خير لي من ظهرها عند سماعي ما أظهر من العيب
والنقص لمن هو خير منه في الدنيا والآخرة، وما زهت به نفسه، وملكه عجبه،
وعاب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم واستنقصهم، فقمت
مقاماً أوجب الله علي فيه ألا أقول إلا حقاً، وأي خير فيمن لا ينظر ما
يصير إليه غداً! فبلغ علياً عليه السلام قوله، فقال:
لو قتل النهدي يومئذ لقتل شهيداً. فغضب الوليد وقال:
والله لو أن أهل الأرض اشتركوا في قتله لأرهقوا صعوداً، وإن أخاك لأشد هذه الأمة
عذاباً، فقال: صه! والله إنا لنرغب بعبدٍ من عبيده عن
صحبة أبيك عقبة بن أبي معيط. قال: وقد روى يونس بن أرقم، عن يزيد بن أرقم، عن
ابن ناجية، مولى أم هانئ، قال: كنت عند علي عليه السلام؛
فأتاه رجل عليه زي السفر. فقال: يا أمير المؤمنين، إني أتيتك من
بلدة ما رأيت لك بها محباً، قال: من أين أتيت؟ قال: من البصرة،
قال: أنا إنهم لو يستطيعون أن يحبوني لأحبوني، إني وشيعتي في ميثاق الله لا يزاد
فينا رجل ولا ينقص إلى يوم القيامة. ورووا عنه أنه كان من المخذلين عن نصرته. فقلت: أهو خير من حمزة وجعفر؟ قال:
نعم، قلت: وخير من فاطمة وابنيها؟ قال: نعم، والله إنه خير آل محمد كلهم، ومن
يشك أنه خير منهم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: " وأبوهما خير منهما "! ولم يجر عليه اسم شرك، ولا شرب
خمر، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لفاطمة
عليها السلام: " زوجتك خير أمتي "، فلو كان في أمته خير منه
لاستثناه، ولقد آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم
بين أصحابه، فآخى بين علي ونفسه، فرسول الله صلى
الله عليه وسلم خير الناس نفساً، وخيرهم أخاً. فقلت: يا أبا سعيد،
فما هذا الذي يقال عنك إنك قلته في علي؟ فقال:
يابن أخي، أحقن دمي من هؤلاء الجبابرة، ولولا ذلك لشالت بي الخشب. وروى الفضل بن دكين، عن الحسن بن صالح، قال: لم يصل
أبو صادق على مرة الهمداني، قال الفضل بن دكين: وسمعت أن أبا صادق قال في أيام
حياة مرة: والله لا يظلني وإياه سقف بيتٍ أبداً، قال:
ولما مات لم يحضره عمرو بن شرحبيل، قال: لا أحضره لشيء كان في قلبه على علي بن
أبي طالب. قال: ثم كان عبد الله بن نمير يقول - وكذلك أنا؛ والله لو مات رجل في نفسه شيء على علي عليه السلام لم أحضره،
ولم أصل عليه. فسيره إليها فقضى بين اليهود شهرين. قال: وروى أبو عمر
الضرير، عن أبي عوانة، قال: كان بين عبد
الرحمن بن عطية وبين أبي عبد الرحمن السلمي شيء في أمر علي عليه السلام؛ فأقبل
أبو عبد الرحمن على حيان، فقال: هل تدري ما جرأ صاحبك على الدماء؟ يعني علياً،
قال: وما جرأه لا أبا لغيرك! قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال لأهل بدر: " اعملوا ما شئتم فقد
غفرت لكم "، أو كلاماً هذا معناه. فقال عمر: وأنا سمعت أبي يقول: ما كلمة حكمة في قلب منافق فيخرج من
الدنيا؛ حتى يتكلم بها. فقال سعيد: يابن أخي، جعلتني منافقاً! قال: هو ما
أقول لك، ثم انصرف، وكان الزهري من المنحرفين عنه عليه
السلام. فكتب إليه:
إن هذا المال لمن جاهد عليه؛ ولكن لي مالاً
بالمدينة فأصب منه ما شئت. وروى المحدثون عن حماد بن زيد، أنه
قال:
أرى أن أصحاب علي أشد حباً له من أصحاب العجل لعجلهم. وهذا
كلام شنيع. وينجو في ثلاثة: من
أحبني، ومن أحب محبي، ومن عادى عدوي؛ فمن أشرب قلبه بغضي أو ألب على بغضي؛ أو
انتقصني، فليعلم أن الله عدوه وخصمه، والله عدو للكافرين. وروى صاحب كتاب الغارات حديث البراءة على غير الوجه
المذكور في كتاب نهج البلاغة، قال: أخبرنا يوسف بن كليب المسعودي، عن يحيى بن
سليمان العبدي، عن أبي مريم الأنصاري، عن محمد بن علي الباقر عليه السلام، قال:
خطب علي عليه السلام على منبر الكوفة، فقال: سيعرض
عليكم سبي، وستذبحون عليه؛ فإن عرض عليكم سبي
فسبوني، وإن عرض عليكم البراءة مني، فإني على
دين محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يقل: فلا
تبرأوا مني. قال: قال علي عليه السلام: والله لتذبحن على سبي - وأشار بيده إلى حلقه - ثم قال: فإن أمروكم
بسبي فسبوني، وإن أمروكم أن تبرأوا مني
فإني على دين محمد صلى الله عليه وسلم. ولم ينههم عن إظهار البراءة. ثم إن رسول الله صلى الله عليه
وسلم وقف فوقفنا، فوضع رأسه على
رأس علي وبكى، فقال علي: ما يبكيك يا رسول الله؟ قال: " ضغائن في صدور قوم
لا يبدونها لك حتى يفقدوني "، فقال: يا رسول الله، أفلا أضع سيفي على عاتقي
فأبيد خضراءهم ! قال: " بل تصبر "، قال: فإن صبرت! قال: " تلاقي
جهداً"، قال: أفي سلامةٍ من ديني؟ قال: " نعم "، قال: فإذاً لا
أبالي. وروى صاحب كتاب الغارات عن
الأعمش، عن أنس بن مالك، قال: سمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول: " سيظهر على الناس رجل من أمتي، عظيم السرم ، واسع
البلعوم، يأكل ولا يشبع، يحمل وزر الثقلين، يطلب الإمارة يوماً، فإذا أدركتموه
فابقروا بطنه "، قال: وكان في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم قضيب، قد
وضع طرفه في بطن معاوية. قلت: هذا الخبر مرفوع مناسب لما قاله
علي عليه السلام في نهج البلاغة، ومؤكد لاختيارنا أن المراد به معاوية، دون ما
قاله كثير من الناس أنه زياد والمغيرة. ثم قال: أين المتكلم آنفاً؟ فلم يستطع
الإنكار، فقال: هأنذا يا أمير المؤمنين، فقال: أما إني لو أشاء لقلت، فقال: إن
تعف وتصفح، فأنت أهل ذلك؛ قال: قد عفوت وصفحت، فقيل لمحمد بن علي عليه السلام:
ما أراد أن يقول؟ قال: أراد أن ينسبه. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
سب علي عليه السلام عند الإكراه زكاة له
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
المسألة الثالثة:
في معنى قوله عليه السلام:
فسبوني فإنه لي زكاة ولكم
نجاة، فنقول:
إنه أباح لهم سبه عند الإكراه، لأن الله تعالى قد أباح عند الإكراه التلفظ بكلمة
الكفر، فقال: "
إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان " ، والتلفظ بكلمة الكفر أعظم من التلفظ
بسب الإمام.
واحتذيت أنا حذوه، فقلت لأبي المظفر هبة الله بن موسى الموسوي
رحمه الله تعالى في قصيدة أذكر فيها أباه:
وذكرنا
ههنا ما قبل المعنى وما بعده؛ لأن الشعر حديث، والحديث - كما قيل - يأخذ بعضه
برقاب بعض؛ ولأن ما قبل المعنى وما بعده مكمل له، وموضح مقصده. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
معنى السب والبراءة
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
المسألة الرابعة:
أن يقال: كيف قال عليه السلام: فأما السب فسبوني فإنه
لي زكاة ولكم نجاة، وأما البراءة فلا تبرأوا مني؟ وأي فرق بين السب والبراءة؟ وكيف أجاز لهم السب
ومنعهم عن التبرؤ، والسب أفحش من التبرؤ! والجواب؛ أما الذي يقوله أصحابنا في ذلك فإنه لا فرق عندهم بين سبه والتبرؤ منه، في أنهما حرام
وفسق وكبيرة، وأن المكره عليهما يجوز له فعلهما عند خوفه على نفسه، كما يجوز له
إظهار كلمة الكفر عند الخوف. فأما الإمامية فتروي عنه عليه السلام
أنه قال: إذا عرضتم على البراءة
منا فمدوا الأعناق. ويقولون: إنه لا يجوز
التبرؤ منه، وإن كان الحالف صادقاً، وإن عليه الكفارة. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
علي عليه السلام يقول إني ولدت على الفطرة
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
المسألة الخامسة:
أن يقال: كيف علل نهيه لهم على البراءة منه عليه السلام،، بقوله:
فإني ولدت على الفطرة، فإن هذا التعليل لا يختص به عليه
السلام، لأن كل أحدٍ يولد على الفطرة؛ قال النبي صلى
الله عليه وسلم: " كل مولود يولد على الفطرة،
وإنما أبواه يهودانه أو ينصرانه". وقد روي أن
السنة التي ولد فيها علي عليه السلام هي السنة التي بدئ فيها برسالة رسول الله
صلى الله عليه وسلم، فأسمع الهتاف من الأحجار والأشجار، وكشف عن بصره، فشاهد
أنواراً وأشخاصاً، ولم يخاطب فيها بشيء. وهذه السنة هي السنة التي ابتدأ فيها بالتبتل
والانقطاع والعزلة في جبل حراء، فلم يزل به حتى كوشف بالرسالة، وأنزل عليه
الوحي، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتيمن
بتلك السنة وبولادة علي عليه السلام فيها، ويسميها سنة الخير وسنة البركة، وقال
لأهله ليلة ولادته، وفيها شاهد ما شاهد من الكرامات والقدرة الإلهية، ولم يكن من
قبلها من شاهد من ذلك شيئاً: "
لقد ولد لنا الليلة مولود يفتح الله علينا به أبواباً كثيرة من النعمة والرحمة
"، وكان كما قال صلوات الله عليه،
فإنه عليه السلام كان
ناصره والمحامي عنه وكاشف الغماء عن وجهه، وبسيفه ثبت دين الإسلام، ورست دعائمه،
وتمهدت قواعده عليه السلام. وفي المسألة تفسير آخر؛
وهو أن يعني بقوله عليه السلام: فإني ولدت على الفطرة، أي على
الفطرة التي لم تتغير ولم تحل، وذلك أن معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "
كل مولود يولد عل الفطرة " أن كل مولود فإن الله تعالى قد هيأه بالعقل الذي
خلقه فيه وبصحة الحواس والمشاعر لأن يعلم التوحيد والعدل، ولم يجعل فيه مانعاً
يمنعه عن ذلك؛ ولكن التربية والعقيدة في الوالدين والإلف لاعتقادهما وحسن الظن
فيهما يصده عما فطر عليه؛ وأمير المؤمنين عليه
السلام دون غيره؛ ولد على الفطرة التي لم تحل ولم يصد عن
مقتضاها مانع؛ لا من جانب الأبوين ولا من جهة غيرهما، وغيره ولد على الفطرة،
ولكنه حال عن مقتضاها، وزال عن موجبها. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
المحققون من أهل السيرة علي عليه السلام أول من
أسلم
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
المسألة السادسة:
أن يقال: كيف قال: وسبقت إلى الإيمان، وقد قال قوم من الناس: إن أبا بكر سبقه، وقال قوم: إن زيد بن حارثة سبقه؟ والجواب: إن أكثر أهل الحديث وأكثر المحققين من
أهل السيرة رووا أنه عليه السلام أول من أسلم، ونحن نذكر
كلام أبي عمر يوسف بن عبد البر، المحدث في كتابه المعروف بالإستيعاب. قال أبو عمر: وقال ابن إسحاق:
أول من آمن بالله وبمحمد رسول الله صلى
الله عليه وسلم علي بن أبي
طالب عليه السلام؛ وهو
قول ابن شهاب، إلا أنه قال: من الرجال بعد خديجة. وروي عن أبي رافع مثل ذلك. قال: وقد روي حديث
زيد بن أرقم من وجوه، ذكرها النسائي وأسلم بن موسى وغيرهما؛ منها ما حدثنا به
عبد الوارث، قال: حدثنا قاسم، قال: حدثنا
أحمد بن زهير، قال: حدثنا علي بن الجعد، قال: حدثنا شعبة، قال: أخبرني عمرو بن
مرة، قال: سمعت أبا حمزة الأنصاري قال: سمعت زيد بن أرقم يقول: أول من صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب. قال:
وأخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن، قال: حدثنا إسماعيل بن علي الخطبي،
قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: حدثني حجين أبو عمر، قال: حدثنا
حبان، عن معروف، عن أبي معشر، قال: كان علي عليه السلام وطلحة والزبير في سنٍ
واحدة. وروى عنه هذا الكلام بعينه أبو محمد بن قتيبة
في كتاب المعارف وهو غير متهم في أمره.
ومن
جملتها:
والأخبار الواردة في هذا الباب كثيرة جداً لا يتسع هذا الكتاب
لذكرها، فلتطلب من مظانها .
ويروى
أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال لحسان : " هل قلت في أبي بكر شيئاً؟
" قال: نعم، وأنشده هذه الأبيات، وفيها بيت رابع:
فسر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: " أحسنت يا حسان "، وقد روي فيها بيت خامس:
وقال أبو عمر:
وروى شعبة، عن عمرو بن مرة، عن إبراهيم النخعي، قال:
أول من أسلم أبو بكر.
قال أبو عمر:
وروينا من وجوه، عن أبي أمامة الباهلي، قال: حدثني عمرو بن عبسة، قال: أتيت رسول
الله صلى الله عليه وسلم؛ وهو نازل بعكاظ ، فقلت: يا رسول الله، من اتبعك على
هذا الأمر؟ فقال: حر وعبد: أبو بكر وبلال. هذا مجموع ما ذكره أبو عمر بن عبد البر في هذا
الباب في ترجمة أبي بكر؛ ومعلوم أنه لا نسبة لهذه الروايات إلى الروايات التي
ذكرها في ترجمة علي عليه السلام الدالة على سبقه، ولا
ريب أن الصحيح ما ذكره أبو عمر أن علياً عليه السلام كان هو السابق، وأن أبا بكر
هو أول من أظهر إسلامه، فظن أن السبق له. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
علي عليه السلام من السابقين إلى الهجرة
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
المسألة السابعة:
أن يقال: كيف قال: إنه سبق إلى الهجرة، ومعلوم أن جماعة من المسلمين هاجروا
قبله، منهم عثمان بن مظعون وغيره؛ وقد هاجر أبو بكر قبله، لأنه هاجر في صحبة
النبي صلى الله عليه وسلم؛ وتخلف علي عليه
السلام عنهما، فبات على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ومكث أياماً يرد الودائع التي كانت
عنده، ثم هاجر بعد ذلك؟ والجواب، أنه عليه السلام لم يقل: وسبقت كل الناس إلى الهجرة، وإنما
قال: وسبقت، فقط. ولا يدل ذلك على سبقه الناس كافة، ولا شبهة
أنه سبق معظم المهاجرين إلى الهجرة، ولم يهاجر قبله أحد إلا نفر يسير جداً.
يا
هذا، إنك قد سألتنا فاجبناك، ولم نكتمك شيئاً، فممن الرجل؟ قال: من قريش، قال:
بخٍ بخٍ ! أهل الشرف والرياسة، فمن أي قريش أنت؟ قال: من تيم بن مرة، قال: أمكنت
والله الرامي من الثغرة، أمنكم قصي بن كلاب الذي جمع القبائل من فهر فكان يدعى
مجمعاً؟ قال: لا، قال: أفمنكم هاشم الذي هشم لقومه الثريد؟ قال:لا، قال: أفمنكم
شيبة الحمد، مطعم طير السماء؟ قال: لا، قال: أفمن المفيضين بالناس أنت؟ قال: لا،
قال: أفمن أهل الندوة أنت؟ قال: لا، قال: أفمن أهل الرفادة أنت؟ قال: لا، قال:
أفمن أهل الحجابة أنت؟ قال: لا، قال: أفمن أهل السقاية ؟ قال: لا، قال: فاجتذب
أبو بكر زمام ناقته، ورجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هارباً من الغلام؛ فقال دغفل:
أما
والله لو ثبت لأخبرتك أنك من زمعات قريش؛ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال علي عليه السلام لأبي بكر:
لقد وقعت يا أبا بكر من الأعرابي على باقعة؛ قال: أجل، إن لكل طامة طامة والبلاء
موكل بالمنطق، فذهبت مثلاً. وأما رواية محمد
بن إسحاق؛ فإنه قال: كان معه زيد بن حارثة وحده، وغاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مكة في هذه الهجرة أربعين يوماً؛ ودخل إليها في جوار مطعم
بن عدي. وكان قدوم جعفر عليه عام فتح خيبر ، فقال صلى الله عليه وسلم: " ما أدري بأيهما أنا أسر، أبقدوم جعفر أم بفتح خيبر
"!. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن كلام له كلم به الخوارج
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
أصابكم حاصب، ولا بقي منكر آبر. أبعد إيماني بالله، وجهادي مع رسول الله صلى الله عليه وآله، أشهد على نفسي بالكفر! لقد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين.
فأوبوا شر مآبٍ، وارجعوا على أثر الأعقاب.
فأما التفسيرات التي فسر بها الرضي رحمه الله تعالى قوله عليه
السلام:
آبر، فيمكن أن يزاد فيها، فيقال: يجوز أن يريد
بقوله: ولا بقي منكم آبر، أي تمام يفسد ذات البين؛ والمئبرة: النميمة، وأبر
فلان، أي نم، والآبر أيضاً: من يبغي القوم الغوائل خفيةً، مأخوذ من أبرت الكلب
إذا أطعمته الإبرة في الخبز، وفي الحديث: " المؤمن
كالكلب المأبور "؛ ويجوز أن يكون أصله هابر؛
أي من يضرب بالسيف فيقطع، وأبدلت الهاء همزة، كما قالوا في آل أهل، وإن صحت
الرواية الأخرى آثر بالثاء بثلاث نقط، فيمكن أن يريد به ساجي باطن خف البعير،
وكانوا يسجون باطن الخف بحديدة ليقتص أثره، رجل آثر وبعير مأثور. وقوله عليه السلام:
فأوبوا شر مآب، أي ارجعوا شر مرجع. والأعقاب: جمع
عقب بكسر القاف، وهو مؤخر القدم، وهذا كله دعاء عليهم، قال
لهم أولاً: أصابكم حاصب، وهذا من دعاء العرب، قال تميم بن أبي مقبل:
ثم قال لهم ثانياً:
لا بقي منكم مخبر. ثم قال لهم ثالثاً: ارجعوا شر مرجع، ثم قال لهم رابعاً: عودوا على أثر الأعقاب: وهو مأخوذ
من قوله تعالى: " ونرد على أعقابنا بعد إذ
هدانا الله" والمراد انعكاس حالهم؛ وعودهم من العز إلى الذل؛ ومن
الهداية إلى الضلال. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الخوارج رجالهم وحروبهم
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
واعلم أن الخوارج على أمير المؤمنين عليه
السلام كانوا أصحابه وأنصاره في
الجمل وصفين قبل التحكيم؛ وهذه المخاطبة لهم، وهذا الدعاء عليهم، وهذا
الإخبار عن مستقبل حالهم، وقد وقع ذلك؛ فإن الله تعالى سلط على الخوارج بعده
الذل الشامل، والسيف القاطع، والأثرة من السلطان، وما زالت حالهم تضمحل؛ حتى أفناهم الله تعالى وأفنى جمهوهم؛ ولقد كان لهم من
سيف المهلب بن أبي صفرة وبنيه الحتف القاضي، والموت الزؤام. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
عروة بن حدير
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
فمنهم عروة بن حدير أحد بني ربيعة بن حنظلة من بني
تميم؛ ويعرف بعروة ابن أدية، وأدية جدة له جاهلية، وكان له أصحاب وأتباع وشيعة، فقتله زياد في خلافة معاوية صبراً. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
نجدة بن عويمر الحنفي
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومنهم
نجدة بن عويمر الحنفي، كان من رؤسائهم؛ وله مقالة مفردة من مقالة الخوارج وله
أتباع وأصحاب؛ وإليهم أشار الصلتان العبدي بقوله:
وكان
نجدة يصلي بمكة بحذاء عبد الله بن الزبير في جمعه في كل جمعة، وعبد الله يطلب
الخلافة، فيمسكان عن القتال من أجل الحرم.
واستولى
نجدة على اليمامة، وعظم أمره؛ حتى ملك اليمن والطائف وعمان والبحرين ووادي تميم
وعامر، ثم إن أصحابه نقموا عليه أحكاماً أحدثها في مذهبهم، منها قوله: إن المخطئ
بعد الاجتهاد معذور، وإن الدين أمران: معرفة الله ومعرفة رسوله؛ وما سوى ذلك
فالناس معذورون بجهله؛ إلى أن تقوم عليهم الحجة، فمن استحل محرماً من طريق
الاجتهاد فهو معذور؛ حتى إن من تزوج أخته أو أمه مستحلاً لذلك بجهالة فهو معذور
ومؤمن؛ فخلعوه وجعلوا اختيار الإمام إليه؛ فاختار لهم أبا فديك، أحد بني قيس بن
ثعلبة، فجعله رئيسهم. ثم إن أبا فديك أنفذ إلى نجدة بعد من قتله، ثم تولاه بعد
قتله طوائف من أصحابه بعد أن تفرقوا عليه؛ وقالوا: قتل مظلوماً. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
المستورد بن سعد التميمي
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومنهم المستورد بن سعد أحد بني تميم؛ كان ممن شهد
يوم النخيلة ونجا بنفسه فيمن نجا من سيف علي عليه
السلام، ثم خرج بعد ذلك بمدة على المغيرة بن شعبة، وهو
والي الكوفة لمعاوية بن أبي سفيان في جماعة من الخوارج، فوجه المغيرة إليه معقل
بن قيس الرياحي، فلما تواقفا دعاه المستورد إلى المبارزة، وقال له: علام تقتل
الناس بيني وبينك؟ فقال معقل: النصف سألت، فأقسم عليه أصحابه، فقال: ما كنت لآبى
عليه، فخرج إليه فاختلفا ضربتين، خر كل واحد منهما من ضربة صاحبه قتيلاً، وكان
المستورد ناسكاً كثير الصلاة، وله آداب وحكم مأثورة. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
حوثر الأسدي
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومنهم حوثرة الأسدي، خرج على معاوية في عام الجماعة
في عصابة من الخوارج؛ فبعث إليه معاوية جيشاً من أهل الكوفة، فلما نظر حوثرة إليهم، قال لهم: يا أعداء الله أنتم بالأمس تقاتلون معاوية لتهدوا
سلطانه؛ وأنتم اليوم تقاتلون معه لتشدوا سلطانه! فلما التحمت الحرب قتل
حوثرة، قتله رجل من طيئ، وفضت جموعه. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قريب بن مرة وزحاف الطائي
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومنهم
قريب بن مرة الأزدي، وزحاف الطائي، كانا عابدين مجتهدين من أهل البصرة، فخرجا في
أيام معاوية في إمارة زياد، واختلف الناس: أيهما كان الرئيس؟ فاعترضا الناس،
فلقيا شيخاً ناسكاً من بني ضبيعة من ربيعة بن نزار فقتلاه - وكان يقال له رؤبة
الضبعي - وتنادى الناس، فخرج رجل من بني قطيعة، من الأزد، وفي يده السيف، فناداه
الناس من ظهور البيوت الحرورية: انج بنفسك؛ فنادوه: لسنا حرورية، نحن الشرط فوقف
فقتلوه؛ فبلغ أبا بلال مرداس بن أدية خبرهما، فقال: قريب، لا قربه الله! وزحاف
لا عفا الله عنه! ركباها عشواء مظلمة - يريد اعتراضهما الناس - ثم جعلا لا يمران
بقبيلة إلا قتلا من وجدا، حتى مرا على بني علي بن سود، من الأزد، وكانوا رماة،
كان فيهم مائة يجيدون الرمي؛ فرموهم شديداً فصاحوا: يا بني علي، البقيا، لا رماء
بيننا. فقال رجل من بني علي بن سود:
فعرد
عنهم الخوارج، وخافوا الطلب، واشتقوا مقبرة بني يشكر حتى نفذوا إلى مزينة
ينتظرون من يلحق بهم من مضر وغيرها، فجاءهم ثمانون، وخرجت إليهم بنو طاحية، من
بني سود، وقبائل من مزينة وغيرها، فاستقلت الخوارج، وحاربت حتى قتلت عن آخرها،
وقتل قريب وزحاف. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
نافع بن الأزرق الحنفي
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومنهم نافع بن الأزرق الحنفي، وكان
شجاعاً مقدماً في فقه الخوارج، وإليه تنسب الأزارقة،
وكان يفتي بأن الدار كفر، وأنهم جميعاً في النار، وكل من فيها كافر، إلا من أظهر
إيمانه، ولا يحل للمؤمنين أن يجيبوا داعياً منهم إلى الصلاة، ولا أن يأكلوا من
ذبائحهم، ولا أن يناكحوهم، ولا يتوارث الخارجي وغيره، وهم مثل كفار العرب وعبدة
الأوثان، لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف والقعد بمنزلتهم، والتقية لا تحل، لأن الله تعالى يقول: " إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية
" ، وقال فيمن كان على خلافهم: " يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائمٍ
" ، فتفرق عنه جماعة من الخوارج؛
منهم نجدة بن عامر، واحتج نجدة بقول الله تعالى: "
وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه " ،
فسار نجدة وأصحابه إلى اليمامة، وأضاف نافع إلى مقالته التي قدمناها، استحلاله
الغدر بأمانته لمن خالفه، فكتب نجدة إليه: أما بعد، فإن عهدي بك وأنت لليتيم كالأب الرحيم،
وللضعيف كالأخ البر، تعاضد قوي المسلمين، وتصنع للأخرق منهم؛ لا تأخذك في الله
لومة لائم؛ ولا ترى معونة ظالم، كذلك كنت أنت وأصحابك، أولا
تتذكر قولك: لولا أني أعلم أن للإمام العادل مثل أجر رعيته ما توليت أمر
رجلين من المسلمين! فلما شريت نفسك في طاعة ربك ابتغاء مرضاته، وأصبت من الحق
فصه ، وصبرت على مره، تجرد لك الشيطان؛ ولم يكن أحد أثقل عليه وطأة منك ومن
أصحابك؛ فاستمالك واستهواك، وأغواك فغويت، وأكفرت الذين عذرهم الله تعالى في
كتابه، من قعدة المسلمين وضعفتهم، قال الله عز وجل، وقوله الحق، ووعده الصادق: " ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا
يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله " : ثم سماهم تعالى أحسن
الأسماء فقال: " ما على المحسنين من سبيل "
ثم استحللت قتل الأطفال، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتلهم، وقال
الله جل ثناؤه: " ولا تزر وازرة وزر أخرى " ،
وقال سبحانه في القعدة خيراً، فقال: " وفضل
الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً " فتفضيله المجاهدين على القاعدين لا يدفع منزلة من هو دون
المجاهدين، أوما سمعت قوله تعالى: " لا يستوي
القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر" فجعلهم من المؤمنين وفضل
عليهم المجاهدين بأعمالهم ثم إنك لا تؤدي أمانةً إلى من خالفك، والله تعالى قد
أمر أن تؤدي الأمانات إلى أهلها. فاتق الله في نفسك، واتق فيه والد عن ولده، ولا
مولود هو جاز عن والده شيئاً فإن الله بالمرصاد، وحكمه العدل، وقوله الفصل.
والسلام. وقد عرفت ما قال الله تعالى
فيمن كان مثلهم، إذ قالوا: " كنا مستضعفين في الأرض " فقال: " ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها " ،
وقال سبحانه: " فرح المخلفون بمقعدهم خلاف
رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله " ،
وقال: " وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم
" فخبر بتعذيرهم، وأنهم كذبوا الله ورسوله، ثم قال: " سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم " فانظر
إلى أسمائهم وسماتهم. وكتب إلى من بالبصرة من المحكمة:
أما بعد، فإن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون. إنكم لتعلمون أن
الشريعة واحدة، والدين واحد، ففيم المقام بين أظهر الكفار ترون الظلم ليلاً
ونهاراً، وقد ندبكم الله عز وجل إلى الجهاد، فقال: " وقاتلوا المشركين
كافةً " ، ولم يجعل لكم في التخلف عذراً في حالٍ من الأحوال، فقال: " انفروا خفافاً وثقالاً " وإنما عذر
الضعفاء والمرضى، والذين لا يجدون ما ينفقون، ومن كانت إقامته لعلة، ثم فضل
عليهم مع ذلك المجاهدين فقال: " لا يستوي
القاعدون من المؤمنين غيرأولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله " ،
فلا تغتروا وتطمئنوا إلى الدنيا؛ فإنها غرارة مكارة، لذتها نافدة، ونعيمها بائد،
حفت بالشهوات اغتراراً، وأظهرت حبرة وأضمرت عبرة، فليس آكل منها أكلة تسره، ولا
شارب منها شربة تؤنقه إلا ودنا بها درجة إلى أجله، وتباعد بها مسافة من أمله،
وإنما جعلها الله دار المتزود منها، إلى النعيم المقيم، والعيش السليم، فليس
يرضى بها حازم داراً ولا حكيم قراراً، فاتقوا الله وتزودوا فإن خير الزاد
التقوى، والسلام على من اتبع الهدى. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
عبيد الله بن بشير بن الماحوز اليربوعي
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومنهم
عبيد الله بن بشير بن الماحوز اليربوعي، قام بأمر
الخوارج يوم دولاب بعد قتل نافع ابن الأزرق؛ وقام بأمر أهل البصرة عمر بن
عبيد الله بن معمر التيمي، ولاه عبد الله بن الزبير ذلك، ولقيه كتابه بالإمارة
وهو يريد الحج، وقد صار إلى بعض الطريق، فرجع فأقام بالبصرة، وولى أخاه عثمان بن
عبيد الله بن معمر محاربة الأزارقة، فخرج إليهم في اثني عشر ألفاً، فلقيه أهل
البصرة الذين كانوا في وجه الأزارقة، ومعهم حارثة بن بدر الغداني، يقوم بأمرهم
عن غير ولاية، وكان ابن الماحوز حينئذ في سوق الأهواز ، فلما عبر عثمان إليهم
دجيلاً ، نهضت إليه الخوارج، فقال عثمان لحارثة:
ما الخوارج إلا ما أرى؛ فقال حارثة: حسبك بهؤلاء! قال: لا جرم، لا أتغدى حتى
أناجزهم، فقال حارثة: إن هؤلاء القوم لا يقاتلون بالتعسف، فأبق على نفسك وجندك،
فقال: أبيتم يا أهل العراق إلا جبناً! وأنت يا حارثة ما علمك بالحرب! أنت والله
بغير هذا أعلم - يعرض له بالشراب، وكان حارثة بن بدر صاحب شراب - فغضب حارثة،
فاعتزل، وحاربهم عثمان يومه إلى أن غربت الشمس، فأجلت الحرب عنه قتيلاً، وانهزم
الناس، وأخذ حارثة بن بدر الراية، وصاح بالناس: أنا
حارثة بن بدر! فثاب إليه قوم فعبر بهم دجيلاً، وبلغ قتل عثمان البصرة،
فقال شاعر من بني تميم:
ووصل
الخبر إلى عبد الله بن الزبير بمكة، فكتب إلى عمر بن عبيد الله بن معمر بعزله،
وولى الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي المعروف بالقباع البصرة، فقدمها،
فكتب إليه حارثة بن بدر يسأله الولاية والمدد، فأراد توليته، فقال له رجل من بكر
وائل: إن حارثة ليس بذلك، إنما هو صاحب شراب، وكان
حارثة مستهتراً بالشراب، معاقراً للخمر، وفيه يقول رجل من قومه:
فكتب إليه القباع: تكفى حربهم إن شاء الله. فاقام حارثة يدافعهم حتى تفرق
أصحابه عنه وبقي في خف منهم؛ فاقام بنهر تيرى، فعبرت إليه الخوارج، فهرب من تخلف
معه من أصحابه؛ وخرج يركض حتى أتى دجيلاً، فجلس في
سفينة، واتبعه جماعة من أصحابه؛ فكانوا معه فيها؛ ووافاه رجل من بني تميم، عليه
سلاحه والخوارج وراءه، وقد توسط حارثة دجيلاً، فصاح به: يا حارثة، ليس مثلي
يضيع! فقال للملاح: قرب، فقرب إلى جرف ، ولا فرضة هناك، فطفر بسلاحه في السفينة،
فساخت بالقوم جميعاً، وهلك حارثة.
وقال:
قال:
كرنبوا، أي اطلبوا كرنبى، وهي قرية من الأهواز، ودولبوا: اطلبوا دولاب، وهي ضيعة
بينها وبين الأهواز أربعة فراسخ. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الزبير بن علي السليطي وظهور أمر المهلب
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومنهم
الزبير بن علي السليطي التميمي، كان على مقدمة ابن الماحوز، وكان ابن الماحوز
يخاطب بالخلافة، ويخاطب الزبير بالإمارة. ووصل الزبير بعد هلاك حارثة بن بدر،
وهرب أصحابه إلى البصرة، فخافه الناس خوفاً شديداً، وضج أهل البصرة إلى الأحنف،
فأتى القباع، فقال: أصلح الله الأمير! إن هذا العدو قد غلبنا على سوادنا وفيئنا،
فلم يبق إلا أن يحصرنا في بلدنا حتى نموت هزالاً، قال: فسموا إلي رجلاً يلي
الحرب، فقال الأحنف: لا أرى لها رجلاً إلا المهلب بن
أبي صفرة، فقال: أو هذا رأي جميع أهل البصرة؟ اجتمعوا إلي في غدٍ لأنظر،
وجاء الزبير حتى نزل على البصرة، وعقد الجسر ليعبر إليها، فخرج أكثر أهل البصرة
إليه، وانضم إلى الزبير جميع كور الأهواز وأهلها رغبة ورهبة، فوافاه البصريون في
السفن وعلى الدواب؛ فاسودت بهم الأرض، فقال الزبير لما
رآهم: أبى قومنا إلا كفراً؛ وقطع الجسر، وأقام الخوارج بإزائهم، واجتمع الناس
عند القباع، وخافوا الخوارج خوفاً شديداً،
وكانوا ثلاث فرق: سمى قوم المهلب، وسمى قوم مالك بن مسمع، وسمى قوم زياد
بن عمرو بن أشرف العتكي، فاختبر القباع ما عند مالك وزياد، فوجدهما متثاقلين عن الحرب، وعاد إليه من أشار بهما، وقالوا:
قد رجعنا عن رأينا؛ ما نرى لها إلا المهلب، فوجه إليه القباع فأتاه، فقال له: يا
أبا سعيد، قد ترى ما قد رهقنا من هذا العدو، وقد أجمع أهل مصرك عليك؛ وقال له الأحنف: يا أبا سعيد، إنا والله ما آثرناك، ولكنا لم
نر من يقوم مقامك.
وأبلى
مع المغيرة يومئذ عطية بن عمرو العنبري، من فرسان تميم وشجعانهم. ومن شعر عطية:
وقال
فيه شاعر من بني تميم:
فأقام المهلب أربعين ليلة يجبي
الخراج بكور دجلة، والخوارج بنهر تيرى، والزبير بن علي منفرد بعسكره عن عسكر ابن
الماحوز؛ فقضى المهلب التجار، وأعطى أصحابه، فأسرع الناس
إليه رغبة في مجاهدة العدو وطمعاً في الغنائم والتجارات، فكان فيمن أتاه محمد بن
واسع الأزدي وعبد الله بن رباح ومعاوية بن قرة المزني، وكان يقول: لو جاءت
الديلم من ههنا والحرورية من ههنا لحاربت الحرورية، وجاءه أبو عمران الجوني،
وكان يروى عن كعب أن قتيل الحرورية يفضل قتيل غيرهم بعشرة أبواب. ويقال:
حاص المهلب يومئذ حيصة. ويقول الأزد: بل كان يرد المنهزمة ويحمي أدبارهم، وبنو
تميم تزعم أنه فر، وقال شاعرهم:
وقال
آخر من بني تميم:
قوله:
الأعور الكذاب، يعني به المهلب، كانت عينه عارت بسهم أصابها، وسموه الكذاب، لأنه كان فقيهاً، وكان يتأول ما ورد في الأثر من أن كل كذب
يكتب كذباً إلا ثلاثة: الكذب في الصلح بين رجلين، وكذب الرجل لامرأته
بوعد، وكذب الرجل في الحرب بتوعد وتهدد. قالوا: وجاء
عنه صلى الله عليه وسلم: " إنما أنت رجل فخذل عنا ما استطعت ". وقال: " إنما
الحرب خدعة "، فكان المهلب ربما صنع الحديث
ليشد به من أمر المسلمين ما ضعف، ويضعف به من أمر الخوارج ما اشتد، وكان حي من
الأزد يقال لهم الندب، إذا رأوا المهلب رائحاً إليهم
قالوا: راح ليكذب، وفيه يقول رجل منهم:
فبات المهلب في ألفين، فلما أصبح رجع بعض المنهزمة، فصاروا في أربعة
آلاف، فخطب أصحابه، فقال:
والله ما بكم من قلة، وما ذهب عنكم إلا أهل الجبن والضعف والطبع والطمع، فإن
يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله؛ فسيروا إلى عدوكم على بركة الله.
فأقام المهلب في ذلك العاقول ثلاثة أيام ثم ارتحل، والخوارج بسلى
وسلبرى فنزل قريباً منهم، فقال ابن الماحوز لأصحابه: ما تنتظرون بعدوكم وقد هزمتموهم
بالأمس، وكسرت حدهم! فقال له واقد مولى أبي صفرة: يا أمير المؤمنين إنما تفرق
عنهم أهل الضعف والجبن، وبقي أهل النجدة والقوة، فإن أصبتهم لم يكن ظفراً هيناً،
لأني أراهم لا يصابون حتى يصيبوا، وإن غلبوا ذهب الدين. فقال أصحابه: نافق واقد،
فقال ابن الماحوز: لا تعجلوا على أخيكم، فإنه إنما قال هذا نظراً لكم. ثم نجم المهلب في مائة، وقد انغمس كماه في الدم، وعلى رأسه قلنسوة مربعة فوق المغفر
محشوة قزاً قد تمزقت، وإن حشوها ليتطاير وهو يلهث، وذلك في وقت الظهرفلم يزل
يحاربهم حتى أتى الليل، وكثر القتلى في الفريقين، فلما كان الغد غاداهم؛ وقد كان
وجه بالأمس رجلاً من طاحية بن سود بن مالك بن فهم، من الأزد من ثقاته وأصحابه،
يرد المنهزمين، فمر به عامر بن مسمع فرده، فقال: إن الأمير أذن لي في الانصراف،
فبعث إلى المهلب، فأعلمه، فقال: دعه فلا حاجة لي في مثله من أهل الجبن والضعف،
ثم غاداهم المهلب في ثلاثة آلاف، وقد تفرق عنه أكثر الناس، وقال لأصحابه: ما بكم
من قلة! أيعجز أحدكم أن يلقي رمحه ثم يتقدم فيأخذه! ففعل ذلك رجل من كندة، واتبعه
قوم، ثم قال المهلب لأصحابه: أعدوا مخالي
فيها حجارة، وارموا بها في وقت الغفلة، فإنها تصد الفارس، وتصرع الراجل، ففعلوا.
ثم أمر منادياً ينادي في أصحابه، يأمرهم بالجد والصبر، ويطمعهم في العدو، ففعل
ذلك حتى مر ببني العدوية، من بني مالك بن حنظلة، فنادى فيهم فضربوه، فدعا المهلب
بسيدهم - وهو معاوية بن عمرو - فجعل يركله برجله، فقال: أصلح الله الأمير! اعفني
من أم كيسان - والأزد تسمي الركبة أم كيسان - ثم حمل المهلب وحملوا، واقتتلوا
قتالاً شديداً، فجهد الخوارج، ونادى منادٍ منهم: ألا إن
المهلب قد قتل.
وقال
آخر:
وقال رجل من موالي المهلب: لقد صرعت يومئذ بحجر واحد ثلاثة، رميت به رجلاً فصرعته، ثم
رميت به رجلاً فأصبت به أصل أذنه فصرعته، ثم أخذت الحجر وصرعت به ثالثاً؛ وفي ذلك يقول رجل من الخوارج:
وقال
رجل من أصحاب المهلب في يوم سلى وسلبرى وقتل ابن الماحوز:
ويروى
أن رجلاً من الخوارج يوم سلى حمل على رجل من أصحاب المهلب؛ فطعنه، فلما خالطه
الرمح صاح: يا أمتاه! فصاح به المهلب: لا كثر الله منك في المسلمين! فضحك
الخارجي، وقال:
وكان
المغيرة بن المهلب إذا نظر إلى الرماح قد تشاجرت في وجهه، نكس على قربوس السرج،
وحمل من تحتها، فبراها بسيفه، وأثر في أصحابها، فتحوميت الميمنة من أجله، وكان أشد ما تكون الحرب استعاراً أشد ما يكون تبسماً.
وكان المهلب يقول: ما شهد معي حرباً قط إلا رأيت البشرى في وجهه! وقال رجل من
الخوارج في هذا اليوم:
فكتب المهلب إلى الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة القباع: أما بعد، فإنا لقينا الأزارقة بحد
وجد، فكانت في الناس جولة، ثم ثاب أهل الحفاظ والصبر بنيات صادقة، وأبدانٍ شداد،
وسيوف حداد، فأعقب الله خير عاقبة، وجاوز بالنعمة مقدار الأمل، فصاروا دريئة
رماحنا، وضرائب سيوفنا، وقتل الله أميرهم ابن الماحوز،
وأرجو أن يكون آخر هذه النعمة كأولها. والسلام. فلم يزل يقرأ الكتب وينظر في تضاعيفها، ويلتمس
كتاب الأحنف فلا يراه، فلما لم يره، قال لأصحابه: أما كتب أبو بحر؟ فقال له
الرسول: إنه حملني إليك رسالة، فأبلغه، فقال: هذا أحب إلي من هذه الكتب.
وقال المهلب يومئذ: ما وقفت في مضيق من الحرب إلا رأيت أمامي رجالاً من بني
الهجيم بن عمرو بن تميم يجالدون، وكأن لحاهم أذناب العقاعق وكانوا صبروا معه في
غير مواطن، وقال رجل من أصحاب المهلب من بني تميم:
وحمل
يومئذ الحارث بن هلال على قيس الإكاف، وكان من أنجد فرسان الخوارج؛ فطعنه فدق
صلبه، وقال:
وقد
كان بعض جيش المهلب يوم سلى وسلبرى صاروا إلى البصرة، فذكروا أن المهلب قد أصيب،
فهم أهل البصرة بالنقلة إلى البادية، حتى ورد كتابه بظفره، فأقام الناس؛ وتراجع
من كان ذهب منهم؛ فعند ذلك قال الأحنف: البصرة بصرة المهلب. وقدم رجل من كندة
يعرف بابن أرقم، فنعى ابن عم له، وقال: إني رأيت رجلاً من الخوارج، وقد مكن رمحه
من صلبه، فلم ينشب أن قدم المنعي سالماً، فقيل له ذلك، فقال: صدق ابن أرقم، لما
أحسست برمحه بين كتفي صحت به: البقية، فرفعه، وتلا: "
بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين " ووجه
المهلب بعقب هذه الوقعة رجلاً من الأزد، برأس عبيد الله بن الماحوز إلى الحارث
بن عبد الله، فلما صار بكربج دينار لقيته إخوة عبيد الله: حبيب وعبد الملك وعلي بنو بشير بن الماحوز فقالوا: ما
الخبر؟ وهو لا يعرفهم؛ فقال: قتل الله ابن الماحوز
المارق، وهذا رأسه معي، فوثبوا عليه فقتلوه وصلبوه، ودفنوا رأس أخيهم عبيد الله،
فلما ولي الحجاج دخل عليه علي بن بشير، وكان وسيماً جسيماً، فقال: من هذا؟ فخبره فقتله ووهب ابنه وابنته لأهل الأزدي المقتول،
وكانت زينب بنت بشير لهم مواصلة، فوهبوهما لها. فشخص فولاه الموصل
فخرج إليها، وصار مصعب إلى البصرة لينفر إلى أخيه بمكة. فشاور الناس فيمن يستكفيه أمر
الخوارج، فقال قوم: ول عبد الله بن أبي بكرة، وقال قوم: ول عمر بن عبيد الله بن
معمر، وقال قوم: ليس لهم إلا المهلب فاردده إليهم، وبلغت المشورة الخوارج
فأداروا الأمر بينهم، فقال قطري بن الفجاءة المازني - ولم يكن أمروه عليهم بعد
-: إن جاءكم عبد الله بن أبي بكرة أتاكم سيد سمح كريم جواد مضيع لعسكره، وإن
جاءكم عمر بن عبيد الله أتاكم فارس شجاع، بطل جاد، يقاتل لدينه ولملكه، وبطبيعة
لم أر مثلها لأحد، فقد شهدته في وقائع، فما نودي في القوم لحربٍ إلا كان أول
فارس؛ حتى يشد على قرنه ويضربه؛ وإن رد المهلب فهو من عرفتموه، إذا أخذتم بطرف
ثوب أخذ بطرفه الآخر، يمده إذا أرسلتموه، ويرسله إذا مددتموه، لا يبدؤكم إلا أن
تبدأوه، إلا أن يرى فرصة فينتهزها، فهو الليث المبر ، والثعلب الرواغ، والبلاء المقيم. فقال عمر:
اسكت، خلع الله قلبك! أتراك تموت قبل أجلك! وأقام هناك، فلما كان ذات ليلة بيته
الخوارج، فخرج إليهم فحاربهم حتى أصبح، فلم يظفروا منه بشيء. فأقبل على مالك بن
أبي حسان، فقال: كيف رأيت؟ فقال: قد سلم الله، ولم يكونوا يطمعون في مثلها من
المهلب، فقال: أما إنكم لو ناصحتموني مناصحتكم المهلب، لرجوت أن أنفي هذا العدو،
ولكنكم تقولون: قرشي حجازي، بعيد الدار خيره لغيرنا،
فتقاتلون معي تعذيراً . ثم زحف إلى الخوارج من غد
ذلك اليوم،
فقاتلهم قتالاً شديداً، حتى ألجأهم إلى قنطرةٍ، فنكاثف الناس عليها حتى سقطت،
فأقام حتى أصلحها، ثم عبر، وتقدم ابنه عبيد الله بن عمر - وأمه من بني سهم بن
عمرو بن هصيص بن كعب - فقاتلهم حتى قتل، فقال قطري
للخوارج: لا تقاتلوا عمر اليوم، فإنه موتور ، قد قتلتم ابنه - ولم يعلم عمر بقتل ابنه حتى أفضى إلى القوم، وكان معه ابنه
النعمان ابن عباد - فصاح به عمر: يا نعمان، أين ابني؟ قال: احتسبه فقد
استشهد صابراً مقبلاً غير مدبر، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون! ثم حمل على
الخوارج حملة لم ير مثلها، وحمل أصحابه بحملته؛ فقتلوا في وجههم ذلك تسعين رجلاً
من الخوارج، وحمل على قطري فضربه على جبينه ففلقه،
وانهزمت الخوارج وانتهبها، فلما استقروا ورأى ما نزل بهم، قال: ألم أشر
عليكم بالإنصراف! فجعلوه حينئذ من وجوههم؛ حتى خرجوا من فارس، وتلقاهم في ذلك
الوقت الفزر بن مهزم العبدي، فسألوه عن خبره، وأرادوا قتله، فأقبل على قطري،
وقال: إني مؤمن مهاجر، فسأله عن أقاويلهم فأجاب إليها، فخلوا عنه، ففي ذلك يقول
في كلمة له:
ثم
رجعوا وتكانفوا ، وعادوا إلى ناحية أرجان، فسار إليهم عمر بن عبيد الله، وكتب إلى مصعب: أما بعد: فإني لقيت الأزارقة؛ فرزق
الله عز وجل عبيد الله بن عمر الشهادة، ووهب له السعادة، ورزقنا بعد عليهم
الظفر، فتفرقوا شذر مذر . وبلغني
عنهم عودة فيممتهم، وبالله أستعين؛ وعليهم أتوكل.
قال: ثم عزل مصعب بن الزبير، وولى عبد الله بن الزبير العراق ابنه
حمزة بن عبد الله بن الزبير؛
فمكث قليلاً؛ ثم أعيد مصعب إلى العراق، والخوارج بأطراف أصبهان، والوالي عليها
عتاب بن ورقاء الرياحي؛ فأقام الخوارج هناك يجبون شيئاً من القرى، ثم أقبلوا إلى
الأهواز من ناحية فارس، فكتب مصعب إلى عمر بن عبيد
الله: ما أنصفتنا! أقمت بفارس تجبي الخراج؛ ومثل هذا العدو يجتاز بك لا
تحاربه! والله لو قاتلت ثم هزمت لكان أعذر لك! وخرج مصعب من البصرة يريدهم،
وأقبل عمر بن عبيد الله يريدهم، فتنحى الخوارج إلى السوس، ثم أتوا إلى المدائن؛
وبسطوا في القتل، فجعلوا يقتلون النساء والصبيان؛ حتى أتوا المذار ؛ فقتلوا أحمر
طيئ؛ وكان شجاعاً، وكان من فرسان عبيد الله بن الحر، وفي
ذلك يقول الشاعر:
ثم
خرجوا عامدين إلى الكوفة، فلما خالطوا سوادها - وواليها الحارث القباع - تثاقل
عن الخروج، وكان جباناً؛ فذمره إبراهيم بن الأشتر، ولامه الناس، فخرج متحاملاً
حتى أتى النخيلة، ففي ذلك يقول الشاعر:
وجعل
يعد الناس بالخروج ولا يخرج، والخوارج يعيثون؛ حتى أخذوا امرأة، فقتلوا أباها
بين يديها، وكانت جميلة، ثم أرادوا قتلها، فقالت:
أتقتلون من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين! فقال قائل منهم، دعوها،
فقالوا: قد فتنتك، ثم قدموها فقتلوها.
وأخذ
الخوارج حاجتهم، وكان شأن القباع التحصن منهم؛ ثم انصرفوا ورجع إلى الكوفة؛
وساروا من فورهم إلى أصبهان، فبعث عتاب بن ورقاء الرياحي إلى الزبير بن علي: أنا
ابن عمك، ولست أراك تقصد في انصرافك من كل حرب غيري. فبعث إليه الزبير: إن أدنى الفاسقين وأبعدهم في الحق سواء. فلما
أحس به الزبير خرج إلى الري - وبها يزيد الحارث بن رويم - فحاربه ثم حصره؛ فلما
طال عليه الحصار خرج إليه؛ فكان الظفر للخوارج، فقتل يزيد الحارث بن رويم؛ ونادى
يزيد ابنه حوشبا، ففر عنه وعن أمه لطيفة وكان علي بن
أبي طالب عليه السلام دخل على الحارث بن رويم يعود ابنه يزيد، فقال: عندي
جارية لطيفة الخدمة أبعث بها إليك، فسماها يزيد لطيفة،
فقتلت مع بعلها يزيد يومئذ. وقال الشاعر:
وقال
آخر:
قال:
ثم انحط الزبير على أصفهان، فحصر بها عتاب بن ورقاء سبعة أشهر، وعتاب يحاربه في
بعضهن؛ فلما طال به الحصار قال لأصحابه: ما تنتظرون! والله ما تؤتون من قلة؛
وإنكم لفرسان عشائركم؛ ولقد حاربتموهم مراراً فانتصفتم منهم؛ وما بقي مع هذا
الحصار إلا أن تفنى ذخائركم، فيموت أحدكم، فيدفنه أخوه، ثم يموت أخوه فلا يجد من
يدفنه؛ فقاتلوا القوم وبكم قوة من قبل أن يضعف أحدكم على أن يمشي إلى قرنه.
وقال
آخر:
قال:
وتزعم الرواة أنهم في أيام حصارهم كانوا يتواقفون، ويحمل بعضهم على بعض، وربما
كانت مواقفة بغير حرب، وربما اشتدت الحرب بينهم، وكان رجل من أصحاب عتاب - يقال
له: شريح، ويكنى أبا هريرة - إذا تحاجز القوم مع المساء نادى بالخوارج والزبير
بن علي:
فغاظهم
ذلك، فكمن له عبيدة بن هلال، فضربه بالسيف، واحتمله أصحابه، وظنت الخوارج أنه قد
قتل؛ فكانوا إذا تواقفوا نادوهم: ما فعل الهرار؟ فيقولون: ما به من بأس، حتى أبل
من علته، فخرج إليهم، فقال: يا أعداء الله، أترون بي بأساً؟ فصاحوا به: قد كنا
نرى أنك قد لحقت بأمك الهاوية، إلى النار الحامية. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قطري بن الفجاءة المازني
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومنهم قطري بن الفجاءة المازني، قال أبو العباس: لما قتل الزبير بن علي أدارت الخوارج
أمرها، فأرادوا تولية عبيدة بن هلال؛ فقال: أدلكم على من هو خير لكم مني؟ من
يطاعن في قبل، ويحمي في دبر؛ عليكم بقطري بن الفجاءة المازني. وقالوا: يا أمير
المؤمنين؛ امض بنا إلى فارس، فقال: إن فارس عمر بن عبيد الله بن معمر؛ ولكن نسير
إلى الأهواز، فإن خرج مصعب من البصرة دخلناها، فأتوا الأهواز ثم ترفعوا عنها على
إيذج ، - وكان المصعب قد عزم على الخروج إلى باجميرا - وقال لأصحابه: إن قطرياً
لمطل علينا؛ وإن خرجنا عن البصرة دخلها، فبعث إلى المهلب فقال: اكفنا هذا العدو،
فخرج إليهم المهلب؛ فلما أحس به قطري يمم نحو كرمان ، وأقام المهلب بالأهواز، ثم
كر عليه قطري، وقد استعد، وكانت الخوارج في حالاتهم أحسن عدة ممن يقاتلهم بكثرة
السلاح وكثرة الدواب، وحصانة الجنن . فحاربهم المهلب، فدفعهم فصاروا إلى رامهرمز
؛ وكان الحارث بن عميرة الهمداني قد صار إلى المهلب مراغماً لعتاب بن ورقاء، ويقال: إنه لم يرضه عن قتله الزبير بن
علي، وكان الحارث بن عميرة، هو الذي قتله وخاض إليه أصحابه، ففي ذلك يقول أعشى همدان:
قال
أبو العباس: وخرج مصعب إلى باجميرا، ثم أتى الخوارج خبر مقتله بمسكن ، ولم يأت
المهلب وأصحابه، فتواقفوا يوماً برامهرمز على الخندق، فناداهم
الخوارج: ما تقولون في مصعب؟ قالوا: إمام هدًى، قالوا: فما تقولون في عبد
الملك؟ قالوا: ضال مضل، فلما كان بعد يومين أتى المهلب قتل المصعب؛ وأن أهل
العراق قد اجتمعوا على عبد الملك، وورد عليه كتاب عبد الملك بولايته؛ فلما
توافقوا ناداهم الخوارج: ما تقولون في المصعب؟ قالوا:
لا نخبركم، قالوا: فما تقولون في عبد الملك؟ قالوا: إمام هدى، قالوا: يا
أعداء الله، بالأمس ضال مضل، واليوم إمام هدى! يا عبيد الدنيا عليكم لعنة الله! وروى أبو الفرج الأصفهاني في كتاب الأغاني، قال: كان الشراة والمسلمون في حرب المهلب
وقطري يتوافقون ويتساءلون بينهم عن أمر الدين وغير ذلك، على أمان وسكون، لا يهيج
بعضهم بعضاً، فتواقف يوماً عبيدة بن هلال اليشكري، وأبو حربة التميمي، فقال
عبيدة: يا أبا حزابة، إني أسألك عن أشياء، أفتصدقني عنها في الجواب؟ قال: نعم،
إن ضمنت لي مثل ذلك، قال: قد فعلت:، قال: فسل عما بدا لك، قال: ما تقولون في أئمتكم؟
قال: يبيحون الدم الحرام، قال: فكيف فعلهم في المال؟ قال: يجبونه من غير حله،
وينفقونه في غير وجهه، قال: فكيف فعلهم في اليتيم؟ قال: يظلمونه ماله، ويمنعونه
حقه، وينيكون أمه، قال: ويحك يا أبا حزابة! أمثل هؤلاء تتبع! قال: قد أجبتك،
فاسمع سؤالي، ودع عتابي على رأيي، قال: سل، قال: أي الخمر أطيب، خمر السهل أم
خمر الجبل؟ قال: ويحك! أمثلي يسأل عن هذا! قال: قد أوجبت على نفسك أن تجيب، قال:
أما إذا أبيت، فإن خمر الجبل أقوى وأسكر، وخمر السهل أحسن وأسلس، قال: فأي
الزواني أفره ؟ أزواني رامهرمز، أم زواني أرجان ؟ قال: ويحك! إن مثلي لا يسأل عن
هذا، قال: لا بد من الجواب أو تغدر.
قال:
جرير، قال: فهو أشعرهما.
والخوارج يفدونها بالآباء والأمهات، فما رأينا قبلها ولا بعدها
مثلها. وقد كان عبد الملك كتب إلى بشر بن مروان يأمره أن يمد خالداً
بجيش كثيف أميره عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، ففعل، فقدم عليه عبد الرحمن. فأقام قطري يغاديهم القتال ويراوحهم
أربعين يوماً؛ فقال المهلب لمولى أبي عيينة: سر إلى
ذلك الناوس، فبت عليه كل ليلة، فمتى أحسست خبراً للخوارج، أو حركة أو صهيل خيل،
فاعجل إلينا. فقاتل، وأبلى عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث
يومئذ بلاءً حسناً، وخرج فيروز حصين في مواليه،
وصرع عبد الرحمن هو ومن معه، فأثر أثراً جميلاً، وصرع يزيد بن المهلب يومئذ،
وصرع عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، فحامى عنهما أصحابهما حتى ركبا، وسقط فيروز
حصين في الخندق، فأخذ بيده رجل من الأزد، فاستنقذه؛ فوهب له فيروز عشرة آلاف،
وأصبح عسكر خالد كأنه حرة سوداء، فجعل لا يرى إلا قتيلاً أو جريحاً؛ فقال للمهلب: يا أبا سعيد، كدنا نفتضح! فقال: خندق على
نفسك، فإن لم تفعل عادوا إليك، فقال: اكفني أمر الخندق، فجمع له الأحماس فلم يبق
شريف إلا عمل فيه، فصاح بهم الخوارج: والله
لولا هذا الساحر المزوني، لكان الله قد دمر عليكم -
وكانت الخوارج تسمي المهلب الساحر-، لأنهم كانوا
يدبرون الأمر فيجدون المهلب قد سبق إلى نقض تدبيرهم.
ثم مضى قطري إلى كرمان؛ وانصرف خالد إلى البصرة؛ وأقام قطري
بكرمان شهراً، ثم عمد لفارس، فخرج خالد إلى الأهواز وندب الناس للرحيل، فجعلوا يطلبون المهلب، فقال خالد: ذهب
المهلب بخط هذا المصر، إني قد وليت أخي قتال الأزارقة. فولى أخاه عبد العزيز،
واستخلف المهلب على الأهواز في ثلاثمائة؛ ومضى عبد العزيز والخوارج بداربجرد وهو
في ثلاثين ألفاً، فجعل عبد العزيز يقول في طريقه: يزعم أهل البصرة أن هذا الأمر
لا يتم إلا بالمهلب؛ سيعلمون! قال صقعب بن يزيد: فلما خرج عبد العزيز عن
الأهواز، جاءني كردوس، حاجب المهلب، فدعاني، فجئت إلى المهلب وهو في سطح، وعليه
ثياب هروية، فقال: يا صقعب، أنا ضائع كأني أنظر إلى هزيمة عبد العزيز، وأخشى أن
توافيني الأزارقة ولا جند معي، فابعث رجلاً من قبلك يأتيني بخبرهم سابقاً إلي
به، فوجهت رجلاً من قبلي يقال له عمران بن فلان، وقلت
له: اصحب عسكر عبد العزيز، واكتب إلي بخبر يوم فيوم، فجعلت أورده على المهلب،
فلما قاربهم عبد العزيز وقف وقفة، فقال له الناس: هذا منزل، فينبغي أن
تنزل فيه أيها الأمير؛ حتى تطمئن ثم نأخذ أهبتنا، فقال: كلا، الأمر قريب؛ فنزل
الناس عن غير أمره، فلم يستتم النزول؛ حتى ورد عليه سعد الطلائع في خمسمائة
فارس؛ كأنهم خيط ممدود؛ فناهضهم عبد العزيز فواقفوه ساعة، ثم انهزموا عنه مكيدة،
واتبعهم فقال له الناس: لا تتبعهم، فإنا على
غير تعبية، فأبى؛ فلم يزل في آثارهم حتى اقتحموا عقبة، فاقتحمها وراءهم والناس
ينهونه ويأبى، وكان قد جعل على بني تميم عبس بن طلق الصريمي الملقب عبس الطعان،
وعلى بكر بن وائل مقاتل بن مسمع، وعلى شرطته رجلاً من بني ربيعة بن نزار. فنزلوا
عن العقبة، ونزل خلفهم وكان لهم في بطن العقبة كمين، فلما صاروا من ورائها؛ خرج
عليهم الكمين، وعطف سعد الطلائع، فترجل عبس بن طلق، فقتل وقتل مقاتل بن مسمع،
وقتل الضبيعي، صاحب شرطة عبد العزيز، وانحاز عبد العزيز واتبعهم الخوارج فرسخين
يقتلونهم كيف شاؤوا، وكان عبد العزيز قد أخرج معه أم حفص بنت المنذر بن الجارود
امرأته، فسبوا النساء يومئذ، وأخذوا أسارى لا تحصى، فقذفوهم في غار بعد أن شدوهم
وثاقاً، ثم سدوا عليهم بابه، حتى ماتوا فيه. وقال بعض من حضر ذلك اليوم: رأيت عبد العزيز، وإن ثلاثين رجلاً ليضربونه بسيوفهم؛ فما
تحيك في جنبه، ونودي على السبي يومئذ، فغولي بأم حفص، فبلغ بها رجل سبعين ألفاً،
وكان ذلك الرجل من مجوسٍ كانوا أسلموا، ولحقوا بالخوارج، ففرضوا لكل رجل منهم
خمسمائة، فكاد ذلك الرجل يأخذ أم حفص، فشق ذلك على قطري، وقال: ما ينبغي لرجل
مسلم أن يكون عنده سبعون ألفاً؛ إن هذه لفتنة! فوثب عليها أبو الحديد العبدي
فقتلها، فأتي به قطري، قال: مهيم يا أبا الحديد! فقال: يا أمير المؤمنين؛ رأيت
المؤمنين تزايدوا في هذه المشركة فخشيت عليهم الفتنة، فقال قطري: أحسنت، فقال
رجل من الخوارج:
وكان
العلاء بن مطرف السعدي ابن عم عمرو القنا، وكان يحب أن يلقاه في صدر مبارزة،
فلحقه عمرو القنا يومئذ؛ وهو منهزم، فضحك منه وقال متمثلاً:
ثم
صاح به: انج يا أبا المصدى ، وكان العلاء بن مطرف قد حمل معه امرأتين: إحداهما
من بني ضبة، يقال لها أم جميل، والأخرى بنت عمه، يقال لها فلانة بنت عقيل فطلق
الضبية؛ وحملها أولاً، وتخلص بابنة عمه، فقال في ذلك:
قال الصقعب بن يزيد: وبعثني المهلب لآتيه بالخبر؛ فصرت إلى قنطرة أربك على فرس
اشتريته بثلاثة آلاف درهم؛ فلم أحسن خبراً، فسرت مهجراً إلى أن أمسيت؛ فلما
أمسينا وأظلمنا، سمعت كلام رجل عرفته من الجهاضم، فقلت: ما وراءك؟ قال: الشر،
قلت: فأين عبد العزيز؟ قال: أمامك، فلما كان آخر الليل، إذا أنا بزهاء خمسين
فارساً معهم لواء، فقلت: لواء من هذا؟ قالوا: لواء عبد العزيز، فتقدمت إليه،
فسلمت عليه، وقلت: أصلح الله الأمير! لا
يكبرن عليك ما كان، فإنك كنت في شر جند وأخبثه، قال لي: أو كنت معنا؟ قلت: لا،
ولكن كأني شاهد أمرك، ثم أقبلت إلى المهلب وتركته، فقال لي: ما وراءك؟ قلت: ما
يسرك، هزم الرجل وفل جيشه، فقال: ويحك! وما يسرني من هزيمة رجل من قريش وفل جيشٍ
من المسلمين! قلت: قد كان ذلك، ساءك أو سرك،
فوجه رجلاً إلى خالد يخبره بسلامة أخيه. قال الرجل: فلما أخبرت خالداً، قال:
كذبت ولؤمت، ودخل رجل من قريش فكذبني، فقال لي خالد: والله لقد هممت أن أضرب
عنقك، فقلت: أصلح الله الأمير! إن كنت
كاذباً فاقتلني، وإن كنت صادقاً فأعطني مطرف هذا المتكلم، فقال خالد: لبئس ما أخطرت به دمك! فما برحت حتى دخل عليه
بعض الفل، وقدم عبد العزيز سوق الأهواز، فأكرمه المهلب وكساه، وقدم معه على
خالد، واستخلف المهلب ابنه حبيباً، وقال له: تجسس الأخبار، فإن أحسست
بخيل الأزارقة قريباً منك فانصرف إلى البصرة على نهر تيرى. فلما أحس حبيب بهم،
دخل البصرة وأعلم خالداً بدخوله، فغضب وخاف حبيب منه، فاستتر في بني عامر بن
صعصعة، وتزوج هناك في استتاره الهلالية، وهي أم
ابنه عباد بن حبيب. وقال الشاعر لخالد يفيل رأيه:
وقال
الحارث بن خالد المخزومي:
وكتب
خالد إلى عبد الملك بعذر عبد العزيز، وقال للمهلب: ما ترى أمير المؤمنين صانعاً
بي؟ قال: يعزلك، قال: أتراه قاطعاً رحمي! قال: نعم، قد أتته هزيمة أمية أخيك -
ففعل - يعني هرب أمية من سجستان - فكتب عبد الملك إلى خالد: أما بعد؛ فإني كنت حددت حداً في أمر المهلب؛ فلما
ملكت أمرك، نبذت طاعتي وراءك، واستبددت برأيك؛ فوليت المهلب الجباية، ووليت أخاك
حرب الأزارقة؛ فقبح الله هذا رأياً! أتبعث غلاماً غراً لم يجرب الأمور والحروب
للحرب؛ وتترك سيداً شجاعاً مدبراً حازماً قد مارس الحروب ففلج ؛ فشغلته
بالجباية! أما لو كافأتك على قدر ذنبك لأتاك من نكيري ما لا بقية لك معه! ولكن
تذكرت رحمك فكفتني عنك؛ وقد جعلت عقوبتك عزلك. والسلام. ففعل الشيخ ذلك؛ فقال له بشر: وما
أنت وذاك! ثم أعطى المهلب رجلاً ألف درهم، على أن يأتي بشراً فيقول له: أيها
الأمير، أعن المهلب بالشرطة والمقاتلة، ففعل الرجل ذلك؛ فقال له بشر: وما أنت
وذاك؟ فقال: نصيحة حضرتني للأمير والمسلمين؛ ولا أعود إلى مثلها، فأمده بشر
بالشرطة والمقاتلة، وكتب إلى خليفته على الكوفة أن يعقد لعبد الرحمن بن مخنف على
ثمانية آلاف، من كل ربع ألفين، ويوجه بهم مدداً للمهلب. فلما
صار القوم إلى فارس، وجه إليهم ابنه المغيرة، فقال
له عبد الرحمن بن صالح: أيها الأمير، إنه ليس لك برأيٍ قتل هذه الأكلب،
ولئن والله قتلتهم لتقعدن في بيتك، ولكن طاولهم، وكل بهم. فقال: ليس هذا من
الوفاء، فلم يلبث برامهرمز إلا شهراً، حتى أتاه موت بشر بن مروان.
وهرب
سوار بن المضرب السعدي من الحجاج، وقال:
في قصيدة مشهورة له.
ويروى
عن أبي البئر، قال: إنا لنتغدى معه يوماً، إذا جاءه رجل من بني سليم برجل يقوده،
فقال: أصلح الله الأمير! إن هذا عاصٍ، فقال له الرجل:
أنشدك الله أيها الأمير في دمي! فوالله ما قبضت ديواناً قط، ولا شهدت عسكراً قط،
وإني لحائك، أخذت من تحت الحف . فقال: اضربوا عنقه. فلما أحس بالسيف سجد، فلحقه
السيف وهو ساجد، فأمسكنا عن الأكل، فأقبل علينا، وقال: مالي أراكم قد
صفرت أيديكم، واصفرت وجوهكم، وحد نظركم من قتل رجل واحد! ألا إن العاصي يجمع
خلالاً، يخل بمركزه؛ ويعصي أميره، ويغر المسلمين، وهو أجير لهم؛ وإنما يأخذ الأجرة
لما يعمل، والوالي مخير فيه، إن شاء قتل، وإن شاء عفا.
ثم كتب الحجاج إلى المهلب يستحثه: أما بعد، فإنه قد بلغني أنك قد أقبلت على جباية الخراج،
وتركت قتال العدو، وإني وليتك وأنا أرى مكان عبد الله بن حكيم المجاشعي. وعباد
بن الحصين الحبطي، واخترتك وأنا من أهل عمان، ثم رجل من الأزد، فالقهم يوم كذا
في مكان كذا، وإلا أشرعت إليك صدر الرمح، فشاور بنيه،
فقالوا: أيها الأمير، لا تغلظ عليه في الجواب. فلما
انتصف الليل، وقد رجع المغيرة إلى أبيه، سرى صالح بن مخراق في القوم الذين كان
أعدهم للبيات إلى ناحية بني تميم، ومعه عبيدة بن هلال، وهو يقول:
فوجد
بني تميم أيقاظاً متحارسين، وخرج إليهم الحريش بن هلال، وهو يقول:
ثم حمل على الخوارج، فرجعوا عنه، فاتبعهم ثم صاح بهم: إلى أين يا كلاب النار! فقالوا: إنما
أعدت لك ولأصحابك، فقال الحريش: كل مملوك لي حر إن لم تدخلوا النار، ما دخلها
مجوسي فيما بين سفوان وخراسان.
فترجل
عبد الرحمن تلك الليلة يجالدهم، حتى قتل وقتل معه سبعون رجلاً من القراء، فيهم
نفر من أصحاب علي بن أبي طالب، ونفر من أصحاب ابن مسعود. وبلغ الخبر المهلب - وجعفر ابن عبد الرحمن بن مخنف عند المهلب
- فجاءهم مغيثاً فقاتل حتى ارتث ، ووجه المهلب إليهم ابنه حبيباً، فكشفهم، ثم
جاء المهلب حتى صلى على عبد الرحمن بن مخنف وأصحابه، وصار جنده في جند المهلب،
فضمهم إلى ابنه حبيب، فعيرهم البصريون، وسموا جعفراً خضفة الجمل ، وقال رجل منهم
لجعفر بن عبد الرحمن بن مخنف:
فلام المهلب أهل البصرة، وقال: بئسما قلتم، والله ما فروا ولا جبنوا؛ ولكنهم خالفوا
أميرهم؛ أفلا تذكرون فراركم بدولاب عني، وفراركم بدارس عن عثمان! ووجه الحجاج
البراء بن قبيصة إلى المهلب يستحثه في مناجزة القوم، وكتب إليه: إنك تحب بقاءهم
لتأكل بهم، فقال المهلب لأصحابه: حركوهم، فخرج فرسان من أصحابه، فخرج إليهم من
الخوارج جمع كثير، فاقتتلوا إلى الليل: فقال لهم
الخوارج: ويلكم! أما تملون! فقالوا: لا، حتى تملوا، فقالوا: فمن أنتم؟
قالوا: تميم، فقالت الخوارج: ونحن تميم أيضاً، فما أمسوا افترقوا، فلما كان الغد
خرج عشرة من أصحاب المهلب، وخرج إليهم من الخوارج عشرة، واحتفر كل واحدٍ منهم
حفيرة، وأثبت قدميه فيها، كلما قتل رجل جاء رجل من أصحابه فاجتره وقام مكانه حتى
أعتموا ، فقال لهم الخوارج: ارجعوا، فقالوا: بل ارجعوا أنتم، قالوا لهم: ويلكم
من أنتم! قالوا: تميم، قالوا: ونحن تميم أيضاً. فرجع
البراء بن قبيصة إلى الحجاج فقال له: مهيم ؟ قال: رأيت أيها الأمير قوماً لا
يعين عليه إلا الله.
فقال
له المهلب: ويحك! والله إني لأقيكم بنفسي وولدي، قال: جعلني الله فداء الأمير!
فذاك الذي نكره منك، ما كلنا يحب الموت. قال: ويحك! وهل عنه من محيص! ققال: لا،
ولكنا نكره التعجيل؛ وأنت تقدم عليه إقداماً، قال المهلب: ويلك أما سمعت قول
الكلحبة اليربوعي:
فقال:
بلى، قد سمعت، ولكن قولي أحب إلي منه:
فقال
المهلب: بئس حشو الكتيبة أنت والله يا أبا حرملة! إن شئت أذنت لك فانصرفت إلى
أهلك. قال: بل أقيم معك أيها الأمير، فوهب له المهلب وأعطاه، فقال يمدحه:
قال:
وكان المهلب يقول: ما يسرني أن في عسكري ألف شجاع مكان
بيهس بن صهيب، فيقال له: أيها الأمير، بيهس ليس بشجاع،
فيقول: أجل، ولكنه سديد الرأي، محكم العقل، وذو الرأي حذر سؤول ، فأنا
آمن أن يغتفل، ولو كان مكانه ألف شجاع لخلت أنهم ينشامون حيث يحتاج إليهم.
فخرج إليه سعد بن نجد القردوسي، من الأزد، فتجاولا ساعة ثم طعنه
سعد فقتله، والتقى الناس، فصرع المغيرة يومئذ، فحامى عليه سعد بن نجد ودينار
السجستاني وجماعة من الفرسان، حتى ركب وانكشف الناس عند سقطة المغيرة حتى صاروا
إلى المهلب، فقالوا:
قتل المغيرة، فأتاه دينار السجستاني، فأخبره بسلامته، فأعتق كل مملوك كان
بحضرته. قال: ووجه الحجاج الجراح بن عبد الله إلى المهلب يستبطئه في مناجزة
القوم، وكتب إليه: أما بعد، فإنك جبيت الخراج بالعلل، وتحصنت بالخنادق، وطاولت
القوم وأنت أعز ناصراً، وأكثر عدداً، وما أظن بك مع هذا معصية ولا جبناً، ولكن
اتخذتهم أكلاً ، وكان بقاؤهم أيسر عليك من قتالهم، فناجزهم وإلا أنكرتني، والسلام.
قال: وكتب الحجاج إلى عتاب بن ورقاء الرياحي؛ من بني رياح بن
يربوع - وهو والي أصفهان - يأمره بالمسير إلى المهلب، وأن يضم إليه جند عبد
الرحمن بن مخنف، فكل بلدٍ يدخلانه من فتوح أهل البصرة فالمهلب أمير الجماعة فيه،
وأنت على أهل الكوفة،
فإذا دخلتم بلداً فتحه أهل الكوفة فأنت أمير الجماعة، والمهلب على أهل البصرة. فاقتتلوا
أشد قتال؛ فقتل زياد بن عبد الرحمن العامري، وفقد الثقفي. ثم باكروهم في اليوم
الثاني؛ وقد وجد الثقفي، فدعا به المهلب، ودعا بالغداء، فجعل النبل يقع قريباً
منهم ويتجاوزهم، والثقفي يعجب من أمر المهلب؛ فقال الصلتان العبدي:
فلم
يزل عتاب بن ورقاء مع المهلب ثمانية أشهر حتى ظهر شبيب بن يزيد، فكتب الحجاج إلى
عتاب يأمره بالمصير إليه ليوجهه إلى شبيب، وكتب إلى المهلب يأمره أن يرزق الجند،
فرزق أهل البصرة، وأبى أن يرزق أهل الكوفة، فقال له عتاب: ما أن ببارحٍ حتى ترزق
أهل الكوفة، فأبى، فجرت بينهما غلظة، فقال له عتاب: قد كان يبلغني أنك شجاع،
فرأيتك جباناً، وكان يبلغني أنك جواد، فرأيتك بخيلاً. فقال له المهلب: يابن
اللخناء ؛ فقال له عتاب: لكنك معم مخول! فغضبت بكر بن وائل للمهلب للحلف، ووثب
نعيم بن هبيرة، ابن أخي مصقلة بن هبيرة على عتاب فشتمه، وقد كان المهلب كارهاً
للحلف، فلما رأى نصرة بكر بن وائل له سره، واغتبط به، فلم يزل يؤكده، وغضبت تميم
البصرة لعتاب، وغضبت أزد الكوفة للمهلب؛ فلما رأى ذلك المغيرة مشى بين أبيه وبين
عتاب؛ وقال لعتاب: يا أبا ورقاء، إن الأمير يصير إلى كل ما تحب، وسأل أباه أن
يرزق أهل الكوفة، ففعل فصلح الأمر، فكانت تميم قاطبة وعتاب بن ورقاء يحمدون
المغيرة بن المهلب، وكان عتاب يقول: إني لأعرف فضله على
أبيه.
قال: وكان المهلب يقول لبنيه: لا تبدأوا الخوارج بقتال حتى يبدأوكم،
ويبغوا عليكم، فإنهم إذا بغوا عليكم نصرتم عليهم. فوقع الكتاب إلى قطري، فدعا بأبزى، فقال: ما هذا الكتاب؟ قال: لا أدري، قال: فما
هذه الدراهم؟ قال: لا أعلم، فأمر به فقتل. فجاءه عبد ربه الصغير مولى بني قيس بن
ثعلبة، فقال له: أقتلت رجلاً على غير ثقةٍ ولا تبين! قال
قطري: فما حال هذه الألف؟ قال: يجوز أن يكون أمرها كذباً، ويجوز أن يكون
حقاً، فقال قطري: إن قتل رجلٍ في صلاح الناس غير
منكر، وللإمام أن يحكم بما رآه صلاحاً؛ وليس للرعية أن تعترض عليه. فتنكر له عبد
ربه في جماعة معه، ولم يفارقوه. فقام رجل من الخوارج إلى
النصراني فقتله؛ فأنكر قطري ذلك عليه، وأنكر قوم
من الخوارج إنكاره.
فتهايج
القوم، وأسرع بعضهم إلى بعض، وكانت الوقعة؛ وأبلى يومئذ المغيرة بن المهلب، وصار
في وسط الأزارقة، فجعلت الرماح تحطه وترفعه، واعتورت رأسه السيوف، وعليه ساعد
حديد، فوضع يده على رأسه؛ فلم يعمل السيف فيه شيئاً، واستنقذه
فرسان من الأزد بعد أن صرع، وكان الذي صرعه
عبيدة بن هلال بن يشكر بن بكر بن وائل، وكان يقول يومئذ:
فقال رجل للمغيرة: كنا نعجب كيف تصرع، والآن نعجب كيف تنجو! وقال المهلب لبنيه: إن سرحكم لغار، ولست آمنهم عليه،
أفوكلتم به أحداً؟ قالوا: لا، فلم يستتم الكلام حتى
أتاه آتٍ، فقال: إن صالح بن مخراق قد أغار على السرح، فشق على المهلب،
وقال: كل أمرٍ لا أليه بنفسي فهو ضائع، وتذمر عليهم؛
فقال له بشر بن المغيرة: أرح نفسك؛ فإن كنت إنما تريد مثلك فوالله ما
يعدل خيرنا شسع نعلك، فقال: خذوا عليهم الطريق، فبادر بشر بن المغيرة، ومدرك
والمفضل ابنا المهلب، فسبق بشر إلى الطريق، فإذا رجل أسود من الأزارقة يشل
السرح، وهو يقول:
ولحقه
المفضل ومدرك، فصاحا برجل من طيئ: اكفنا الأسود؛ فاعتوره الطائي وبشر بن المغيرة
فقتلاه، وأسرا رجلاً من الأزارقة من همدان، واستردا السرح.
فقال المهلب ليزيد ابنه: حرك القوم، فحركهم فتهايجوا؛ وذلك في قرية من قرى إصطخر؛
فحمل رجل من الخوارج على رجل من أصحاب المهلب وطعنه، فشك فخذه بالسرج، فقال
المهلب للسلمي والكلبي: كيف يقاتل قوم هذا طعنهم! وحمل يزيد عليهم؛ وقد جاء
الرقاد -وهو من فرسان المهلب - وهو أحد بني مالك بن ربيعة، على فرسٍ له أدهم،
وبه نيف وعشرون جراحة، وقد وضع عليها القطن، فلما حمل يزيد ولى الجمع، وحماهم
فارسان منهم؛ فقال يزيد لقيس الخشني، مولى العتيك: من لهذين؟ قال: أنا، فحمل
عليهما، فعطف عليه أحدهما فطعنه قيس فصرعه، وحمل عليه الآخر فتعانقا، فسقطا
جميعاً إلى الأرض، فصاح قيس الخشني: اقتلونا جميعاً، فحملت خيل هؤلاء وخيل
هؤلاء، فحجزوا بينهما، فإذا معانق قيس امرأة،
فقام قيس مستحيياً، فقال له يزيد: يا أبا بشر،
أما أنت فبارزتها على أنها رجل، فقال: أرأيت لو قتلت،
أما كان يقال: قتلته امرأة! وأبلى يومئذٍ ابن المنجب السدوسي، فقال غلام
له يقال له خلاج: والله لوددنا أنا فضضنا عسكرهم حتى نصير إلى مستقرهم، فأستلب
مما هناك جاريتين. فقال له مولاه ابن المنجب: وكيف تمنيت ويحك اثنتين! فقال:
لأعطيك إحداهما وآخذ الأخرى، فقال ابن المنجب:
قال:
وكان بدر بن الهذيل من أصحاب المهلب شجاعاً، وكان لحانة؛ كان إذا أحس بالخوارج
ينادي: يا خيل الله اركبي؛ وإليه يشير القائل:
قال:
وكان بشر بن المغيرة بن أبي صفرة أبلى يومئذ
بلاءً حسناً مكانه فيه؛ وكانت بينه وبين المهلب جفوة،
فقال لبنيه: يا بني عم، إني قد قصرت عن شكاة العاتب؛ وجاوزت شكاة المستعتب ؛ حتى
كأني لا موصول ولا محروم؛ فاجعلوا لي فرجة أعيش بها، وهبوني امرأً رجوتم نصره،
أو خفتم لسانه. فرجعوا له ووصلوه، وكلموا فيه المهلب،
فوصله.
فكتب المهلب إلى الحجاج يسأله أن يتجافى له عن إصطخر ودارا بجرد لأرزاق الجند.
ففعل. وقد كان قطري هدم مدينة إصطخر، لأن أهلها كانوا
يكاتبون المهلب بأخباره؛ وأراد مثل ذلك بمدينة فسا ، فاشتراها منه آزاذ مرد بن
الهربذ بمائة ألف درهم فلم يهدمها. فواقعه وجه المهلب فهزمه. فنفاه إلى
كرمان، وأتبعه المغيرة ابنه؛ وقد كان دفع إليه سيفاً وجه به الحجاج إلى المهلب،
وأقسم عليه أن يتقلده، فدفعه إلى المغيرة بعدما تقلده، فرجع به المغيرة إليه وقد
دماه، فسر المهلب، وقال: ما يسرني أن يكون كنت دفعته إلى غيرك من ولدي؛ وقال له:
اكفني جباية خراج هاتين الكورتين، وضم إليه الرقاد، فجعلا يجبيان، ولا يعطيان
الجند شيئاً، ففي ذلك يقول رجل من بني تميم في كلمة له:
أي
وقع فيها السوس. ثم اختلفت كلمة الخوارج،
وكان سبب ذلك أن عبيدة بن هلال اتهم بامرأة رجل نجار،
رأوه يدخل مراراً إليها بغير إذن، فأتى قطرياً فذكروا ذلك له، فقال لهم: إن عبيدة من الدين بحيث علمتم، ومن الجهاد
بحيث رأيتم، فقالوا: إنا لا نقار على الفاحشة،
فقال: انصرفوا، ثم بعث إلى عبيدة، فأخبره، وقال له: أنا لا أقار على الفاحشة، فقال: بهتوني يا أمير المؤمنين فما ترى؟ قال: إني جامع
بينك وبينهم، فلا تخضع خضوع المذنب، ولا تتطاول تطاول البريء؛ فجمع بينهم،
فتكلموا، فقام عبيدة، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم، " إن الذين جاؤوا
بالإفك عصبة منكم " ... حتى تلا الآيات ، فبكوا وقاموا إليه فاعتنقوه،
وقالوا: استغفر لنا. ففعل، فقال عبد ربه الصغير مولى بني قيس بن ثعلبة: والله
لقد خدعكم، فتابع عبد ربه منهم ناس كثير؛ ولم يظهروا، ولم يجدوا على عبيدة في
إقامة الحد ثبتاً. فشاور عبيدة في ذلك، فقال له:
إن تبت لم يقبلوا منك، فقل: إني استفهمت فقلت:
أرجعتم بعدي كفاراً؟ فقال لهم ذلك، فقبلوا منه، فرجع إلى منزله. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
عبد ربه الصغير
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومنهم عبد ربه الصغير، أحد مولى قيس بن ثعلبة. ويجب على الإمام أن يعفي الرعية مما كرهت. فأبى قطري
أن يعزل المقعطر، فقال له القوم: فإنا قد خلعناك وبايعنا عبد ربه الصغير - وكان
عبد ربه هذا معلم كتاب، وكان عبد ربه الكبير بائع رمان، وكلاهما من موالي فيس بن
ثعلبة - فانفصل إلى عبد ربه الصغير أكثر من شطرهم؛ وجلهم الموالي والعجم، وكان
منهم هناك ثمانية آلاف وهم القراء، ثم ندم صالح بن مخراق، وقال لقطري: هذه نفخة من نفخات الشيطان فأعفنا من
المقعطر، وسر بنا إلى عدونا وعدوك، فأبى قطري إلا المقعطر، وحمل فتىً من الشراة
على صالح بن مخراق، فطعنه فأنفذه، وأوجره الرمح.
ثم
قال: أصبح المهلب يرجو منا ما كنا نطمع منه فيه.
ووجه المهلب يزيد ابنه إلى الحجاج يخبره بأنه قد نزل منزل قطري، وأنه
مقيم على عبد ربه، ويسأله أن يوجه في أثر قطري رجلاً جلداً . فسر بذلك الحجاج سروراً
أظهره. ثم كتب إلى المهلب يستحثه لمناجزة القوم مع عبيد بن موهب: أما بعد؛ فإنك تتراخى عن الحرب حتى
تأتيك رسلي فيرجعون بعذرك، وذلك أنك تمسك حتى تبرأ الجراح، وتنسى القتلى، وتحمل
الكال ثم تلقاهم، فتحمل منهم ثقل ما يحتملون منك من وحشة القتل، وألم الجراح،
ولو كنت تلقاهم بذلك الجد لكان الداء قد حسم، والقرن قد قصم، ولعمري ما أنت
والقوم سواء، لأن من ورائك رجالاً، وأمامك أموالاً، وليس للقوم إلا ما نعهد، ولا
يدرك الوجيف بالدبيب، ولا الظفر بالتعذير. فغضب
وقال للناس: ردوهم عن وجههم، وقال لبنيه: تفرقوا في الناس؛ وقال لعبيدة بن أبي
ربيعة: كن مع يزيد، فخذه بالمحاربة أشد الأخذ؛ وقال لأحد الأمينين: كن مع
المغيرة، ولا ترخص له في الفتور. فاقتتلوا
قتالاً شديداً، حتى عقرت الخيل، وصرع الفرسان، وقتلت الرجالة؛ وجعلت الخوارج
تقاتل عن القدح يؤخذ منها، والسوط والعلف والحشيش أشد قتال.
فلما عظم الخطب في ذلك الرمح بعث المهلب إلى المغيرة: خل لهم عن الرمح؛ عليهم لعنة الله!
فخلوا لهم عنه، ومضت الخوارج فنزلت على أربعة فراسخ من جيرفت، فدخلها المهلب،
وأمر بجمع ما كان لهم من متاع، وما خلفوه من دقيق، وجثم عليه هو والثقفي
والأمينان، ثم اتبعهم فوجدهم قد نزلوا على ماء وعين لا يشرب منها أحد إلا قوي،
يأتي الرجل بالدلو قد شدها في طرف رمحه فيستقي بها، وهناك قرية فيها أهلها،
فغاداهم القتال، وضم الثقفي إلى ابن يزيد، وأحد الأمينين إلى المغيرة، فاقتتل
القوم إلى نصف النهار.
وقال لمعن بن المغيرة بن أبي صفرة: احمل، فقال: لا، إلا أن تزوجني
ابنتك أم مالك، فقال: قد زوجتك، فحمل على الخوارج فكشفهم، وطعن فيهم،
وقال:
قوله:
ملكة، أي تزويجاً ونكاحاً.
فقال
المهلب للأمين الآخر: ينبغي أن تتوجه مع ابني حبيب في ألف رجل؛ حتى تبيتوا
عسكرهم، فقال: ما تريد أيها الأمير إلا أن تقتلني كما فعلت بصاحبي! فضحك المهلب، وقال: ذاك إليك. ولم يكن للقوم خنادق،
فكان كل حذراً من صاحبه، غير أن الطعام والعدة مع المهلب، وهو في زهاء ثلاثين
ألفاً، فلما أصبح أشرف على وادٍ فإذا هو برجلٍ معه رمح مكسور مخضوب بالدم، وهو
ينشد:
فقال له:
أتميمي أنت؟ قال: نعم، قال: أحنظلي؟ قال: نعم، قال: أيربوعي؟ قال: نعم، قال: أمن
آل نويرة؟ قال: نعم، أنا ولد مالك بن نويرة، قال: قد
عرفتك بالشعر. وقال عبد الله بن رزام الحارثي للمهلب:
احملوا، فقال المهلب: أعرابي مجنون - وكان من أهل نجران - فحمل وحده، فاخترق
القوم حتى خرج من ناحية أخرى، ثم كر ثانية ففعل فعلته الأولى، وتهايج الناس،
فترجلت الخوارج، وعقروا دوابهم، فناداهم عمرو القنا - ولم يترجل هو ولا أصحابه
وهم زهاء أربعمائة - فقال: موتوا على ظهور دوابكم كراماً، ولا تعقروها، فقالوا:
إنا إذا كنا على الدواب ذكرنا الفرار، فاقتتلوا، ونادى
المهلب بأصحابه: الأرض الأرض! وقال لبنيه: تفرقوا في الناس ليروا وجوهكم،
ونادت الخوارج: ألا إن العيال لمن غلب؛ فصبر بنو
المهلب؛ وقاتل يزيد بين يدي أبيه قتالاً شديداً، أبلى فيه، فقال له أبوه: يا
بني، أني أرى موطناً لا ينجو فيه إلا من صبر، وما مر بي يوم مثل هذا منذ مارست
الحروب. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
المهلب وبنوه
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ووجه
كعب بن معدان الأشقري ومرة بن بليد الأزدي، فوردا على الحجاج، فلما طلعا عليه،
تقدم كعب فأنشده:
فقال الحجاج:
أشاعر أم خطيب؟ قال: شاعر، فأنشده القصيدة؛ فأقبل عليه الحجاج، وقال: خبرني عن بني المهلب، قال: المغيرة سيدهم
وفارسهم، وكفى بيزيد فارساً شجاعاً! وجوادهم وسخيهم قبيصة، ولا يستحي الشجاع أن
يفر من مدرك، وعبد الملك سم ناقع، وحبيب موت ذعاف ، ومحمد ليث غاب، وكفاك بالفضل
نجدة! فقال له: فكيف خلفت جماعة الناس؟ قال: خلفتهم بخير، قد أدركوا ما أملوا،
وأمنوا ما خافوا، قال: فكيف كان بنو المهلب فيهم؟ قال: كانوا حماة السرح فإذا
أليلوا ففرسان البيات، قال: فأيهم كان أنجد؟ قال: كانوا كالحلقة المفرغة، لا
يدرى أين طرفاها، قال: فكيف كنتم أنتم وعدوكم؟ قال: كنا إذا أخذنا عفونا وإذا
أخذوا يئسنا منهم؛ وإذا اجتهدنا واجتهدوا طمعنا فيهم. قال الحجاج: إن العاقبة
للمتقين، فكيف أفلتكم قطري؟ قال: كدناه وظن أن قد كادنا، بأن صرنا منه إلى التي
نحب، قال: فهلا اتبعتموه؟ قال: كان حرب الحاضر آثر عندنا من اتباع الفل، قال: فكيف كان المهلب لكم وكنتم له؟ قال: كان لنا منه
شفقة الوالد، وله منا بر الولد، قال: فكيف كان اغتباط الناس به؟ قال: نشأ فيهم
الأمن، وشملهم النفل . قال: أكنت أعددت لي هذا الجواب؟ قال: لا يعلم الغيب إلا
الله، قال: هكذا والله تكون الرجال! المهلب كان أعلم
بذلك حيث بعثك. هذه رواية أبي العباس.
يذكر
فيها حروب المهلب مع الخوارج، ويصف وقائعه فيهم في بلد؛ وهي طويلة، ومن جملتها:
فضحك الحجاج، وقال:
إنك لمنصف يا كعب، ثم قال له: كيف كانت حالكم مع عدوكم؟ قال: كنا إذا لقيناهم بعفونا
وعفوهم يئسنا منهم، وإذا لقيناهم بجدنا وجدهم طمعنا فيهم. قال: فكيف كان بنو
المهلب؟ قال: حماة الحريم نهاراً، وفرسان الليل تيقظاً؛ قال: فأين السماع من
العيان؟ قال: السماع دون العيان، قال: صفهم لي رجلاً رجلاً. قال: المغيرة فارسهم
وسيدهم، نار ذاكية ، وصعدة عالية. وكفى بيزيد فارساً شجاعاً! ليث غاب، وبحر جم
العباب. وجوادهم قبيصة، ليث المغار، وحامي الذمار؛ ولا يستحي الشجاع أن يفر من
مدرك؛ وكيف لا يفر من الموت الحاضر، والأسد الخادر ! وعبد الملك سم ناقع ، وسيف
قاطع؛ وحبيب الموت الذعاف، طود شامخ، وبحر باذخ ؛ وأبو عيينة البطل الهمام،
والسيف الحسام، وكفاك بالمفضل نجدة؛ ليث هدار وبحر موار ! ومحمد ليث غاب، وحسام
ضراب. قال: فأيهم أفضل؟ قال: هم كالحلقة المفرغة لا يعرف طرفاها؛ قال: فكيف
جماعة الناس؟ قال: على أحسن حال، أرضاهم العدل، وأغناهم النفل. قال: فكيف رضاهم
بالمهلب؟ قال: أحسن رضا، لا يعدمون منه إشفاق الوالد، ولا يعدم منهم بر الولد.
وذكر تمام الحديث.
قال
أبو الفرج: وهذا الشعر من قصيدة لكعب، يمدح بها المهلب؛ ويذكر الخوارج، ومنها:
الأبيات
المتقدمة. قال:
وقام كعب الأشقري إلى المهلب، فأنشده بحضرة رسول الحجاج:
فبلغت أبياته الحجاج، فكتب إلى المهلب يأمره بإشخاص كعب الأشقري
إليه؛ فأعلم المهلب كعباً بذلك، وأوفده إلى عبد الملك من ليلته، وكتب إليه
يستوهبه منه؛
فقدم كعب على عبد الملك برسالة المهلب، فاستنطقه فأعجبه،
وأوفده إلى الحجاج؛ وكتب إليه يقسم عليه أن يصفح، ويعفو عما بلغه من شعره؛
فلما دخل قال: إيه يا كعب!
فقال:
أيها الأمير، والله لوددت في بعض ما شاهدته من تلك الحروب، وما أوردناه المهلب
من خطرها، أن أنجو منها وأكون حجاماً أو حائكاً، قال: أولى لك! لولا قسم أمير
المؤمنين ما نفعك ما تقول، الحق بصاحبك، ورده إلى المهلب.
وروي
أنه قام إليه رجل فقال: أصلح الله الأمير! والله لكأني أسمع الساعة قطرياً وهو
يقول لأصحابه: المهلب والله كما قال لقيط الإيادي، ثم أنشد هذا الشعر. فسر الحجاج حتى امتلأ سروراً؛ فقال المهلب: أما والله
ما كنا أشد من عدونا ولا أحد، ولكن دمغ الحق الباطل، وقهرت الجماعة الفتنة،
والعاقبة للمتقين، وكان ما كرهناه من المطاولة خيراً لنا مما أحببناه من
المعاجلة. فقال الحجاج: صدقت، اذكر لي القوم الذين أبلوا، وصف لي بلاءهم، فأمر
الناس فكتبوا ذلك إلى الحجاج، فقال لهم المهلب: ما ذخر الله لكم خير لكم من عاجل الدنيا إن شاء الله،
فذكرهم المهلب على مراتبهم في البلاء، وتفاضلهم في الغناء، وقدم بنيه: المغيرة،
ويزيد، ومدركاً، وحبيباً، وقبيصة، والمفضل وعبد الملك، ومحمداً، وقال: والله لو
واحد يقدمهم في البلاء لقدمته عليهم، ولولا أن أظلمهم لأخرتهم. فقال الحجاج:
صدقت، وما أنت أعلم بهم مني، وإن حضرت وغبت إنهم لسيوف من سيوف الله. ثم ذكر معن
بن المغيرة والرقاد وأشباههما.
وقال
المغيرة الحنظلي من أصحاب المهلب:
وقال
حبيب بن عوف من قواد المهلب:
وقال
عبيدة بن هلال الخارجي يذكر رجلاً من أصحابه:
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
شبيب بن يزيد الشيباني
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومنهم شبيب بن يزيد الشيباني؛ وكان في ابتداء أمره
يصحب صالح بن مسرح؛ أحد الخوارج الصفرية؛ وكان ناسكاً مصفر الوجه، صاحب عبادة،
وله أصحاب يقرئهم القرآن، ويفقههم ويقص عليهم؛ ويقدم الكوفة، فيقيم بها الشهر
والشهرين. وكان بأرض الموصل والجزيرة، وكان إذا فرغ من التحميد والصلاة على
النبي صلى الله عليه وسلم، ذكر أبا بكر فأثنى عليه، وثنى بعمر، ثم ذكر عثمان وما
كان من أحداثه؛ ثم علياً عليه السلام وتحكيمه الرجال في دين الله؛ ويتبرأ من
عثمان وعلي، ثم يدعو إلى مجاهدة أئمة الضلال، وقال: تيسروا يا إخواني للخروج من
دار الفناء إلى دار البقاء؛ واللحاق بإخواننا المؤمنين؛ الذين باعوا الدنيا
بالآخرة، ولا تجزعوا من القتل في الله، فإن القتل أيسر من الموت، والموت نازل
بكم؛ مفرق بينكم وبين آبائكم وإخوانكم، وأبنائكم وحلائلكم ودنياكم؛ وإن اشتد
لذلك جزعكم؛ ألا فبيعوا أنفسكم طائعين وأموالكم؛ تدخلوا الجنة... وأشباه هذا من
الكلام. فسار من حران في ألف رجل، وكأنما يساقون إلى الموت
- وكان عدي رجلاً ناسكاً - فلما نزل دوغان نزل بالناس، وأنفذ إلى صالح بن مسرح
رجلاً دسه إليه فقال: إن عدياً بعثني إليك يسألك أن تخرج عن هذا البلد، وتأتي
بلداً آخر فتقاتل أهله؛ فإني للقتال كاره، فقال له صالح: ارجع إليه، فقل له: إن
كنت ترى رأينا، فأرنا من ذلك ما نعرف، ثم نحن، مدلجون عنك، وإن كنت على رأي
الجبابرة وأئمة السوء، رأينا رأينا، فإما بدأنا بك، وإلا رحلنا إلى غيرك. قالوا: ابسط يدك، فبايعوه، فلما جاؤوا إلى الباب،
وجدوه جمراً، فاتوه باللبود فبلوها بالماء، ثم القوها عليه وخرجوا فلم يشعر
الحارث بن عمير إلا وشبيب وأصحابه يضربونهم بالسيوف في جوف عسكرهم، فضارب الحارث
حتى صرع، واحتمله أصحابه، وانهزموا وخلوا لهم المعسكر وما فيه، ومضوا حتى نزلوا
المدائن، وكان ذلك الجيش أول جيش هزمه شبيب. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
بين شبيب والحجاج
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ثم ارتفع في أداني أرض الموصل، ثم ارتفع إلى نحو
أذربيجان يجبي الخراج، وكان سفيان ابن أبي العالية قد أمر أن يحارب صاحب
طبرستان، فأمر بالقفول نحو شبيب، وأن يصالح طبرستان، فصالحه، فأقبل في ألف فارس،
وقد ورد عليه كتاب من الحجاج: أما بعد، فأقم بالدسكرة فيمن معك، حتى يأتيك جيش
الحارث بن عميرة. قاتل صالح بن مسرح، ثم سر إلى شبيب حتى نناجزه. فاستعمل على عسكره حازم بن قدامة، وانتخب ثلاثمائة من شجعان
أصحابه، ثم أقبل بهم حتى قرب من النهروان، وبات وقد أذكى الحرس، ثم بيتهم؛ فلما دنا أصحاب سورة منهم
نذروا بهم، فاستووا على خيولهم، وتعبوا تعبيتهم؛ فلما انتهى إليهم سورة وأصحابه،
أصابوهم وقد نذروا، فحمل عليهم سورة، فصاح شبيب بأصحابه، فحمل عليهم حتى تركوا
له العرصة، وحمل شبيب، وجعل يضرب ويقول:
فرجع
سورة مفلولاً، قد هزم فرسانه وأهل القوة من أصحابه، وأقبل نحو المدائن، وتبعه
شبيب؛ حتى انتهى سورة إلى بيوت المدائن، وانتهى شبيب إليهم، وقد دخل الناس
البيوت، وخرج ابن أبي عصيفر، وهو أمير المدائن يومئذ في جماعة، فلقيهم في شوارع
المدائن، ورماهم الناس بالنبل والحجارة من فوق البيوت. فقال لأخيه وللأمراء الذين ذكرناهم: إني أريد
أن أبيت الليلة هذا العسكر، فأتهم أنت يا مصاد من قبل حلوان ، وسآتيهم أنا من
أمامهم من قبل الكوفة، وأتهم أنت يا سويد من قبل المشرق، وأتهم أنت يا مجلل من
قبل المغرب، وليلج كل امرئٍ منكم على الجانب الذي يحمل عليه، ولا تقلعوا عنهم
حتى يأتيكم أمري. فمنعهم أصحابهم أن يدخلوا عليهم، ورشقوهم بالنبل،
وكانت لهم عيون قد أتتهم فأخبرتهم بمكاننا، وكان الجزل قد خندق عليهم وتحرز،
ووضع هذه المسلحة الذين لقيناهم بدير الخرارة، ووضع مسلحة أخرى مما يلي حلوان. فخرج إليهم وهو يحكم ، وحمل حملة
عظيمة، فجعل سعيد وأصحابه يرجعون القهقرى، حتى صار بينهم وبين الدير ميل، وشبيب
يصيح:
أتاكم الموت الزؤام! فاثبتوا، وسعيد يصيح: يا معشر همدان، إلي إلي، أنا ابن ذي
مران! فقال شبيب لمصاد: ويحك! استعرضهم استعراضاً؛ فإنهم قد تقطعوا، وإني حامل
على أميرهم، وأثكلنيك الله إن لم أثكله ولده؛ ثم حمل على سعيد فعلاه بالعمود؛
فسقط ميتاً وانهزم أصحابه، ولم يقتل يومئذ من الخوارج إلا رجل واحد. وخرج الحجاج من الكوفة إلى البصرة حيث بعد شبيب، واستخلف على
الكوفة عروة بن المغيرة بن شعبة، فما شعر الناس إلا بكتاب من مادارست، دهقان بابل مهروز إلى
عروة بن المغيرة بن سعبة، أن تاجراً من تجار الأنبار من أهل بلادي أتاني يذكر أن
شبيباً يريد أن يدخل الكوفة في أول هذا الشهر المستقبل، وأحببت إعلامك ذلك لترى
رأيك، وإني لم ألبث بعد ذلك إذ جائني اثنان من جيراني فحدثاني أن شبيباً قد نزل
خانيجار .
ثم
أقحم هو وأصحابه المسجد الجامع، ولا يفارقه قوم يصلون فيه، فقتل منهم جماعة، ومر
هو بدار حوشب - وكان هو على شرطة الحجاج - فوقف على بابه في جماعة، فقالوا: إن
الأمير - يعنون الحجاج - يدعو حوشباً، وقد أخرج ميمون غلامه برذونه ليركب، فكأنه
أنكرهم، فظنوا أنه قد اتهمهم فأراد أن يدخل إلى صاحبه، فقالوا له: كما أنت حتى
يخرج صاحبك إليك، فسمع حوشب الكلام، فأنكر القوم، وذهب لينصرف فعجلوا نحوه،
فأغلق الباب دونه، فقتلوا غلامه ميموناً، وأخذوا برذونه، ومضوا حتى مروا بالجحاف
بن نبيط الشيباني، من رهط حوشب. فقال له سويد: انزل إلينا، فقال: ما تصنع
بنزولي! فقال: انزل، إني لم أقضك ثمن البكرة التي ابتعتها منك بالبادية، فقال
الجحاف: بئس ساعة القضاء هذه! وبئس المكان لقضاء الدين هذا. ويحك! أما ذكرت أداء
أمانتك إلا والليل مظلم، وأنت على متن فرسك! قبح الله يا سويد ديناً لا يصلح إلا
بقتل الأنفس وسفك الدماء. ثم مروا بمسجد بني ذهل، فلقوا ذهل بن الحارث، وكان
يصلي في مسجد قومه، فيطيل الصلاة إلى الليل، فصادفوه منصرفاً إلى منزله فقتلوه
ثم خرجوا متوجهين نحو الردمة ؛ وأمر الحجاج المنادي: يا خيل الله اركبي وأبشري،
وهو فوق باب القصر، وهناك مصباح مع غلام له قائم. وبعث الحجاج بشر بن غالب الأسدي في
ألفي رجل، وزياد بن قدامة في ألفين، وأبا الضريس مولى تميم في ألفٍ من الموالي،
وأعين صاحب حمام أعين لبشر بن مروان في ألف، وجماعة غيرهم،
فاجتمعت تلك الأمراء في أسفل الفرات، وترك شبيب الوجه الذي فيه جماعة هؤلاء
القواد، وأخذ نحو، القادسية، فوجه الحجاج زحر بن
قيس في جريدة خيل، نقاوة ، عدتها ألف وثمانمائة فارس، وقال له: اتبع شبيباً حتى
تواقعه حيثما أدركته، فخرج زحر بن قيس حتى انتهى إلى السيلحين ، وبلغ
شبيباً مسيره إليه فأقبل نحوه، فالتقيا، وقد جعل زحر على ميمنته عبد الله بن
كناز، وكان شجاعاً، وعلى ميسرته عدي بن عميرة الكندي، وجمع شبيب خيله كلها كبكبة
واحدة، ثم اعترض بها الصف يوجف وجيفاً، حتى انتهى إلى زحر بن قيس، فنزل زحر، فقاتل حتى صرع وانهزم أصحابه، وظن أنه قد قتل. وقال أصحاب شبيب لشبيب؛ وهم يظنون أنهم قد قتلوا
زحراً: قد هزمنا جندهم، وقتلنا أميراً من أمرائهم عظيماً؛ فانصرف بنا الآن
موفورين. فقال لهم:
إن قتلكم هذا الرجل وهزيمتكم هذا الجند قد أرعب هؤلاء الأمراء، فاقصدوا بنا
قصدهم؛ فوالله لئن نحن قتلناهم ما دون قتل الحجاج وأخذ الكوفة شيء. فقالوا له: نحن طوع لأمرك ورأيك. فانقض بهم جاداً؛
حتى أتى ناحية عين التمر ؛ واستخبر عن القوم، فعرف اجتماعهم في روذبار في أسفل
الفرات، على رأس أربعة وعشرين فرسخاً من الكوفة. ثم إن مصاداً حمل على بشر بن غالب في الميسرة فصبر
وكرم وأبلى، ونزل معه رجال من أهل البصرة نحو خمسين، فضاربوا بأسيافهم حتى
قتلوا، ثم انهزم أصحابه فشددنا على أبي الضريس فهزمناه، ثم انتهينا إلى موقف
أعين، ثم شددنا على أعين، فهزمناهم حتى انتهينا إلى زائدة بن قدامة، فلما انتهوا
إليه، نزل ونادى: يا أهل الإسلام، الأرض الأرض! ألا لا يكونون على كفرهم أصبر
منكم على إيمانكم. فقاتلوا عامة الليل إلى السحر. فقالوا لشبيب: إنه قد رغب عنا إليك، قال: فما ظنكم
بمن يرغب عن الأشراف! ثم برز له، وقال له: أنشدك الله يا محمد في دمك، فإن لك
جواراً! فأبى إلا قتاله، فحمل عليه بعموده الحديد، وكان فيه اثنا عشر رطلاً،
فهشم رأسه وبيضة كانت عليه فقتله؛ ونزل إليه فكفنه ودفنه. وتتبع ما غنم الخوارج
من عسكره؛ فبعث به إلى أهله، واعتذر إلى أصحابه، وقال: هو جاري بالكوفة، ولي أن
أهب ما غنمت. فقل له أصحابه: ما دون الكوفة الآن أحد يمنعك، فنظر فإذا أصحابه قد
فشا فيهم الجراح، فقال: ليس عليكم أكثر مما قد فعلتم. وبلغ
الحجاج أن شبيباً قد أخذ نحو نفر، فظن أنه يريد المدائن؛ وهي باب الكوفة؛ ومن
أخذ المدائن كان ما في يديه من أرض الكوفة أكثر، فهال ذلك الحجاج، وبعث إلى
عثمان بن قطن، فسرحه إلى المدائن، وولاه منبرها والصلاة ومعونة جوخى كلها، وخراج
الأستان، فجاء مسرعاً حتى نزل المدائن، وعزل الحجاج ابن أبي عصيفر عن المدائن،
وكان الجزل مقيماً بها يداوي جراحاته، وكان ابن أبي عصيفر يعوده ويكرمه، ويلطفه
، فلما قدم عثمان بن قطن لم يكن يتعاهده ولا يلطفه بشيء، فكان الجزل يقول: اللهم
زد ابن أبي عصيفر فضلاً وكرماً، وزد عثمان بن قطن ضيقاً وبخلاً. وارتحل عبد الرحمن بالناس حتى مر
بالمدائن، فنزل بها يوماً ليشتري أصحابه منها حوائجهم، ثم نادى في الناس
بالرحيل؛ وأقبل حتى دخل على عثمان بن قطن مودعاً؛ ثم أتى الجزل عائداً، فسأله عن
جراحاته، وحادثه، فقال الجزل: يابن عم، إنك تسير إلى فرسان
العرب وأبناء الحرب وأحلاس الخيل، والله لكأنما خلقوا من ضلوعها؛ ثم ربوا على
ظهورها؛ ثم هم أسد الأجم، الفارس منهم أشد من مائة، إن لم يبدأ به بدأ هو، وإن
هجهج أقدم، وإني قد قاتلتهم وبلوتهم ، فإذا أصحرت لهم انتصفوا مني، وكان لهم
الفضل علي، وإذا خندقت أو قاتلت في مضيق نلت منهم ما أحب؛ وكانت لي عليهم، فلا
تلقهم وأنت تستطيع إلا وأنت في تعبية أو خندق، ثم ودعه، وقال له: هذه فرسي
الفسيفساء خذها فإنها لا تجارى، فأخذها ثم خرج بالناس نحو شبيب، فلما دنا منه
ارتفع شبيب عنه إلى دقوقاء وشهرزور، فخرج عبد الرحمن في طلبه؛ حتى إذا كان على
تخوم تلك الأرض أقام، وقال: إنما هو في أرض الموصل؛ فليقاتل أمير الموصل وأهلها
عن بلادهم أو فليدعوا. فوثبوا
إليه، وقالوا: ننشدك الله! هذا المساء قد غشينا، والناس لم يوطنوا أنفسهم على
القتال فبت الليلة ثم اخرج على تعبية، فجعل يقول: لأناجزنهم الليلة، ولتكونن
الفرصة لي أو لهم، فأتاه عبد الرحمن بن محمد ابن الأشعث، فأخذ بعنان بغلته،
وناشده الله لما نزل، وقال له عقيل بن شداد السلولي: إن الذي تريده من مناجزتهم
الساعة أنت فاعله غداً، وهو خير لك وللناس، إن هذه ساعة ريح قد اشتدت مساءً،
فانزل، ثم أبكر بنا غدوة. وكان لشبيب يخرج إليهم، فلما رآهم لا يخرجون إليه
أقام، فلما كان الغد خرج عثمان يعبي الناس على أرباعهم، وسألهم: من كان على
ميمنتكم وميسرتكم؟ فقالوا: خالد بن نهيك بن قيس الكندي على ميسرتنا، وعقيل بن
شداد السلولي على ميمنتنا، فدعاهما وقال لهما: قفا في مواقفكما التي كنتما بهما،
فقد وليتكما المجنبتين، فاثبتا ولا تفرا، فوالله لا أزول حتى تزول نخيل راذان عن
أصولها. فقالا: نحن والله الذي لا إله إلا هو لا نفر حتى نظفر أو نقتل، فقال
لهما: جزاكما الله خيراً! ثم أقام حتى صلى بالناس الغداة، ثم خرج بالخيل، فنزل
يمشي في الرجال، وخرج شبيب ومعه يومئذ مائة وأحد وثمانون رجلاً، فقطع إليهم
النهر؛ وكان هو في ميمنة أصحابه، وجعل على الميسرة سويد بن سليم، وجعل في القلب
مصاداً أخاه وزحفوا، وكان عثمان بن قطن يقول لأصحابه فيكثر: " قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل
وإذا لا تمتعون إلا قليلاً " . فقال الحجاج: قد لعمري فعلت، ذلك أولى لك! وخلي
سبيله. فأقبل القوم سراعاً، وقدم عتاب بن
ورقاء في الليلة التي قال الحجاج إنه فيها قادم؛ فأمره الحجاج؛ فخرج بالناس،
وعسكر بحمام أعين وأقبل شبيب حتى انتهى إلى كلواذى ، فقطع منها دجلة، وأقبل حتى
نزل بهرسير وصار بينه وبين مطرف بن المغيرة بن شعبة جسر دجلة، فقطع مطرف الجسر،
ورأى رأياً صالحاً كاد به شبيباً؛ حتى حبسه عن وجهه، وذلك أنه بعث إليه:
أن ابعث إلي رجالاً من فقهاء أصحابك وقرائهم، وأظهر له أنه يريد أن يدارسهم
القرآن، وينظر فيما يدعون إليه، فإن وجد حقاً اتبعه، فبعث إليه شبيب رجالاً،
فيهم قعنب وسويد والمجلل، ووصاهم ألا يدخلوا السفينة حتى يرجع رسوله من عند
مطرف، وأرسل إلى مطرف: أن ابعث إلي من أصحابك ووجوه فرسانك بعدة أصحابي، ليكونوا
رهناً في يدي، حتى ترد علي أصحابي. فقال مطرف لرسوله: القه، وقل له: كيف آمنك
الآن على أصحابي، إذ أبعثهم إليك، وأنت لا تأمنني على أصحابك! فأبلغه الرسول،
فقال: قل له: قد علمت أنا لا نستحل الغدر في ديننا، وأنتم قوم غدر تستحلون الغدر
وتفعلونه. فبعث إليه مطرف جماعةً من وجوه أصحابه، فلما صاروا في يد شبيب، سرح
إليه أصحابه، فعبروا إليه في السفينة، فأتوه، فمكثوا أربعة أيام يتناظرون، ولم يتفقواعلى
شيء، فلما تبين لشبيب أن مطرفاً كاده، وأنه غير متابع له، تعبى للمسير، وجمع
إليه أصحابه، وقال لهم: إن هذا الثقفي قطعني عن رأيي منذ أربعة أيام، وذلك أني
هممت أن أخرج في جريدة من الخيل، حتى ألقى هذا الجيش المقبل من الشام، وأرجو أن
أصادف غرتهم قبل أن يحذروا، وكنت ألقاهم منقطعين عن المصر، ليس عليهم أمير
كالحجاج يستندون إليه، ولا لهم مصر كالكوفة يعتصمون به، وقد جاءني عيون أن
أوائلهم قد دخلوا عين التمر، فهم الآن قد شارفوا الكوفة، وجاءني أيضاً عيون من
نحو عتاب أنه نزل بحمام أعين بجماعة أهل الكوفة وأهل البصرة، فما أقرب ما بيننا
وبينهم! فتيسروا بنا للمسير إلى عتاب. فلم يجبه أحد، فقال: أين القصاص يقصون على الناس،
ويحرضونهم؟ فلم يتكلم أحد، فقال: أين من يروي شعر عنترة، فيحرك الناس؟ فلم يجبه
أحد ولا رد عليه كلمة؛ فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله؛ والله لكأني بكم وقد
تفرقتم عن عتاب وتركتموه تسفي في إسته الريح، ثم أقبل حتى جلس في القلب، ومعه
زهرة بن حوية، وعبد الرحمن بن محمد بن الأشعث. وأقبل شبيب في ستمائة، وقد تخلف عنه من الناس
أربعمائة؛ فقال: إنه لم يتخلف عني إلا من لا أحب أن أراه معي، فبعث سويد بن سليم
في مائتين إلى الميسرة، وبعث المجلل بن وائل في مائتين إلى القلب، ومضى هو في
مائتين إلى الميمنة، وذلك بين المغرب والعشاء الآخرة، حين أضاء القمر؛ فناداهم:
لمن هذه الرايات؟ قالوا: رايات همدان. فقال: رايات طالما نصرت الحق، وطالما نصرت
الباطل، لها في كل نصيب؛ أنا أبو المدلة اثبتوا إن شئتم. ثم حمل عليهم، وهم على
مسناة أمام الخندق، ففضهم ، وثبت أصحاب رايات قبيصة بن والق. وقال سفيان بن الأبرد للحجاج:
ابعثني إلى شبيب أستقبله قبل أن يرد الكوفة، فقال: لا، ما أحب أن نفترق حتى
ألقاه في جماعتكم، والكوفة في ظهرنا؛ وأقبل شبيب حتى نزل حمام أعين، ودعا الحجاج
الحارث بن معاوية بن أبي زرعة بن مسعود الثقفي فوجهه في ناس لم يكونوا شهدوا يوم
عتاب. فخرج في ألف رجل؛ حتى انتهى إلى شبيب ليدفعه عن الكوفة؛ فلما رآه شبيب حمل
عليه فقتله؛ وفل أصحابه. فجاؤوا حتى
دخلوا الكوفة، وبعث شبيب البطين في عشرة فوارس يرتادون له منزلاً على شاطئ
الفرات، في دار الرزق، فوجه الحجاج حوشب ابن يزيد، في جمع من أهل الكوفة، فأخذوا
بأفواه السكك، فقاتلهم البطين فلم يقو عليهم، فبعث إلى شبيب، فأمده بفوارس من
أصحابه، فعقروا فرس حوشب وهزموه، فنجا بنفسه، ومضى البطين إلى دار الرزق في
أصحابه، ونزل شبيب بها، ولم يوجه إليه الحجاج أحداً، فابتنى مسجداً في أقصى
السبخة، وأقام ثلاثاً لم يوجه إليه الحجاج أحداً، ولا يخرج إليه من أهل الكوفة،
ولا من أهل الشام أحد، وكانت امرأته غزالة نذرت أن تصلي في مسجد الكوفة ركعتين،
تقرأ فيهما البقرة وآل عمران. فشدوا شدة عظيمة، فلم يزل أهل الشام عن مراكزهم،
فقال شبيب: الأرض! دبوا دبيباً تحت تراسكم، حتى إذا صارت أسنة أصحاب الحجاج
فوقها، فأذلقوها صعداً، وادخلوا تحتها، واضربوا سوقهم وأقدامهم، وهي الهزيمة
بإذن الله. فأقبلوا يدبون دبيباً تحت الجحف: صمداً صمداً، نحو أصحاب الحجاج. حتى ركب شبيب، وقال لأصحابه الذين نزلوا معه:
اركبوا، وتوجه بهم منصرفاً عنا. فقال فروة بن لقيط الخارجي - وكان شهد معه مواطنه
كلها - قال لنا ليلتئذ، وقد رأى بنا كآبة ظاهرة، وجراحاتٍ شديدة: ما أشد هذا
الذي بنا لو كنا نطلب الدنيا! وما أيسر هذا في طاعة الله وثوابه! فقال أصحابه:
صدقت يا أمير المؤمنين. فقال يزيد السكسكي - وكان من أصحاب
سفيان يومئذ: كر علينا شبيب واصحابه أكثر من ثلاثين
كرة، ولا يزول من صفنا أحد، فقال لنا سفيان: لا تحملوا عليهم متفرقين، ولكن
لتزحف عليهم الرجال زحفاً؛ ففعلنا، وما زلنا نطاعنهم حتى اضطررناهم إلى الجسر،
فقاتلونا عليه أشد قتال يكون لقوم قط. ثم نزل شبيب، ونزل معه نحو مائة رجل؛ فما
هو إلا أن نزلوا حتى أوقعوا بنا من الضرب والطعن شيئاً ما رأينا مثله قط، ولا
ظنناه يكون؛ فلما رأى سفيان أنه لا يقدر عليهم، ولا يأمن ظفرهم، دعا الرماة
فقال: ارشقوهم بالنبل؛ وذلك عند المساء، وكان الالتقاء ذلك اليوم نصف النهار،
فرشقهم أصحابه؛ وقد كان سفيان صفهم على حدة، وعليهم أمير، فلما رشقوهم شدوا
عليهم، فشددنا نحن، وشغلناهم عنهم، فلما رأوا ذلك ركب شبيب وأصحابه، وكروا على
أصحاب النبل كرة شديدة، صرعوا منهم فيها أكثر من ثلاثين رامياً، ثم عطف علينا
يطاعننا بالرماح، حتى اختلط الظلام، ثم انصرف عنا، فقال
سفيان بن الأبرد لأصحابه: يا قوم، دعوهم لا تتبعوهم؛ يا قوم دعوهم لا
تتبعوهم حتى نصبحهم . قال: فكففنا عنهم وليش شيء أحب إلينا من أن ينصرفوا
عنا. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الفهرس الجزء الرابع - باب
المختار من الخطب والأوامر - ابن ابي الحديد. ومنها
في ذكر يوم النحر وصفة الأضحية. ومن
كلام له عليه السلام في ذكر البيعة. وقد
استبطأ أصحابه إذنه لهم في القتال بصفين... بعض ما
جاء من أخبار في يوم صفين... ومن
كلام له لأصحابه يخبر عن رجل يأمر بسبه. أهل
العدل والمجبرة وبعض المسائل الكلامية. معاوية
يأمر بسب علي عليه السلام. الأحاديث
الموضوعة في ذم علي عليه السلام. فصل في
ذكر المنحرفين عن علي عليه السلام. سب علي
عليه السلام عند الإكراه زكاة له.. علي
عليه السلام يقول إني ولدت على الفطرة المحققون
من أهل السيرة علي عليه السلام أول من أسلم. علي
عليه السلام من السابقين إلى الهجرة عبيد
الله بن بشير بن الماحوز اليربوعي... الزبير
بن علي السليطي وظهور أمر المهلب... |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الجزء
الرابع - باب المختار من الخطب والأوامر - ابن
ابي الحديد
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
بسم
الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الواحد العدل الحكيم؛ وصلى الله على رسوله الكريم |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
متفرقات
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومنها في ذكر يوم النحر وصفة الأضحية
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: ومن تمام
الأضحية استشراف أذنها، وسلامة عينها، فإذا سلمت الأذن والعين سلمت الأضحية
وتمت، ولو كانت عضباء القرن تجر رجلها إلى المسك. واستشراف
أذنها: انتصابها وارتفاعها، أذن شرفاء أي منتصبة. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
رأي الفقهاء في وجوب الأضحية
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
واختلف الفقهاء في وجوب الأضحية،
فقال أبو حنيفة: هي واجبة
على المقيمين من أهل الأمصار، ويعتبر في وجوبها
النصاب، وبه قال مالك والثوري، إلا أن مالكاً لم يعتبر الإقامة. ومعنى انتفاء سلامة الأضحية انتفاء إجزائها. وقال سائر الفقهاء:
تجزئ إلا أنه مكروه. وقد نقل أصحاب الشافعي عنه أن الأضحية إذا كانت مريضة
مرضاً يسيراً أجزأت. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن كلام له عليه السلام في ذكر البيعة
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: فتداكوا علي
تداك الإبل الهيم يوم وردها، وقد أرسلها راعيها، وخلعت مثانيها، حتى ظننت أنهم
قاتلي، أو بعضهم قاتل بعضٍ لدي. وقد قلبت هذا الأمر بطنه وظهره حتى منعني النوم،
فما وجدتني يسعني إلا قتالهم أو الجحود بما جاء به محمد صلى الله عليه وآله،
فكانت معالجة القتال أهون علي من معالجة العقاب، وموتات الدنيا أهون علي من
موتات الآخرة. والمثاني: الجبال، جمع مثناة ومثناة بالفتح والكسر،
وهو الحبل. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
بيعة علي عليه السلام
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
اختلف الناس في بيعة أمير المؤمنين عليه
السلام، فالذي عليه أكثر الناس
وجمهور أرباب السير أن طلحة والزبير بايعاه طائعين غير مكرهين، ثم تغيرت
عزائمهما، وفسدت نياتهما، وغدرا به. وذكر صاحب كتاب الأوائل أن الأشتر جاء إلى علي عليه السلام حين قتله عثمان، فقال: قم فبايع الناس، فقد اجتمعوا لك، ورغبوا فيك، والله
لئن نكلت عنها لتعصرن عليها عينيك مرة رابعة، فجاء حتى دخل بئر سكن،
واجتمع الناس، وحضر طلحة والزبير، لا يشكان أن
الأمر شورى، فقال الأشتر: أتنتظرون أحداً! قم يا طلحة فبايع، فتقاعس، فقال: قم يابن الصعبة ، وسل
سيفه، فقام طلحة يجر رجله؛ حتى بايع فقال قائل: أول من
بايعه أشل! لا يتم أمره ، ثم لا يتم، قال: قم يا
زبير، والله لا ينازع أحداً إلا وضربت قرطه بهذا السيف، فقام الزبير
فبايع؛ ثم انثال الناس عليه فبايعوا.
وقد
ذكرنا نحن في شرح الفصل الذي فيه أن الزبير أقر بالبيعة، وادعى الوليجة أن بيعة أمير المؤمنين لم تقع
إلا عن رضا جميع أهل المدينة، أولهم طلحة
والزبير، وذكرنا في ذلك ما يبطل رواية الزبير. فقال الناس بأجمعهم: قد رضينا، وهو عندنا ما ذكرتم وأفضل.
وقاموا
كلهم، فأتوا علياً عليه السلام، فاستخرجوه من داره، وسألوه بسط يده، فقبضها فتداكوا عليه
تداك الإبل الهيم على وردها، حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً، فلما رأى منهم ما رأى،
سألهم أن تكون بيعته في المسجد ظاهرة للناس. وقال: إن كرهني رجل واحد من
الناس لم أدخل في هذا الأمر. فأما أصحابنا
فإنهم يذكرون في كتبهم أن هؤلاء الرهط إنما اعتذروا بما اعتذروا به، لما ندبهم
إلى الشخوص معه لحرب أصحاب الجمل، وأنهم لم يتخلفوا عن
البيعة، وإنما تخلفوا عن الحرب. فقال علي عليه السلام:
ويحك! وهل ما كان عن طلب مني له! ألم يبلغك صنيعهم؟ قم عني يا أحمق، ما أنت وهذا
الكلام! فلما خرج أتى علياً
في اليوم الثالث آتٍ، فقال: إن ابن عمر قد خرج إلى مكة يفسد الناس عليك، فأمر
بالبعث في أثره، فجاءت أم كلثوم ابنته، فسألته
وضرعت إليه فيه، وقالت: يا أمير المؤمنين، إنما خرج إلى مكة ليقيم بها، وإنه ليس
بصاحب سلطان ولا هو من رجال هذا الشأن، وطلبت إليه أن يقبل شفاعتها في أمره؛
لأنه ابن بعلها. فأجابها
وكف عن البعثة إليه، وقال: دعوه وما أراده. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وقد استبطأ أصحابه إذنه لهم في القتال بصفين
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
أما قولكم: أكل ذلك كراهية الموت! فوالله ما أبالي؛ دخلت إلى الموت أو خرج الموت
إلي.
وهذا الكلام استعارة، شبه من عساه يلحق به من أهل الشام بمن يعشو ليلاً إلى
النار، وذلك لأن بصائر أهل الشام ضعيفة، فهم من الاهتداء بهداه عليه السلام كمن يعشو ببصرٍ ضعيف إلى النار في
الليل، قال: ذاك أحب إلي من أن أقتلهم على ضلالهم، وإن
كنت لو قتلتهم على هذه الحالة لباؤوا بآثامهم، أي رجعوا، قال سبحانه: " إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك " أي
ترجع. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
بعض ما جاء من أخبار في يوم صفين
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لما ملك أمير المؤمنين الماء بصفين ثم سمح لأهل
الشام بالمشاركة فيه والمساهمة، رجاء أن يعطفوا إليه، واستمالة لقلوبهم وإظهاراً
للمعدلة وحسن السيرة فيهم، مكث أياماً لا يرسل إلى معاوية، ولا يأتيه من عند
معاوية أحد، واستبطأ أهل العراق إذنه لهم في القتال، وقال:
يا أمير المؤمنين، خلفنا ذرارينا ونساءنا بالكوفة، وجئنا إلى أطراف الشام
لنتخذها وطناً، ائذن لنا في القتال، فإن الناس قد قالوا. قال لهم عليه السلام: ما قالوا؟ فقال منهم قائل: إن الناس
يظنون أنك تكره الحرب كراهية للموت، وإن من الناس من
يظن أنك في شك من قتال أهل الشام. فقال عليه السلام:
ومتى كنت كارهاً للحرب قط! إن من العجب حبي لها غلاماً ويفعاً، وكراهيتي لها
شيخاً بعد نفاد العمر وقرب الوقت! وأما شكي في القوم
فلو شككت فيهم لشككت في أهل البصرة، والله لقد ضربت هذا الأمر ظهراً
وبطناً، فما وجدت يسعني إلا القتال أو أن أعصي الله ورسوله، ولكني أستأني بالقوم، عسى أن يهتدوا أو تهتدي منهم طائفة،
فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي يوم خيبر: لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك مما طلعت
عليه الشمس. فقال له
شبث: يا أمير المؤمنين، ألا تطمعه في سلطان توليه إياه، ومنزلةٍ يكون له بها
أثرة عندك إن هو بايعك؟ فقال: ائتوه الآن والقوه واحتجوا عليه، وانظروا ما رأيه
في هذا. فقطع معاوية عليه الكلام وقال:
فهلا أوصيت صاحبك! فقال: سبحان الله! إن صاحبي
لا يوصى، إن صاحبي ليس مثلك، صاحبي أحق الناس بهذا الأمر في الفضل والدين
والسابقة في الإسلام والقرابة من الرسول. قال معاوية: فتقول ماذا؟ قال: أدعوك إلى تقوى ربك. وإجابة ابن عمك إلى ما يدعوك إليه من الحق، فإنه
أسلم لك في دينك، وخير لك في عاقبة أمرك. قال: ويطل دم عثمان! لا والرحمن لا أفعل
ذلك أبداً. ثم عتبت
بعد فيما لا علم لك به، ولقد كذبت ولؤمت أيها الأعرابي الجلف الجافي في كل ما
وصفت وذكرت. انصرفوا من عندي فإنه ليس بيني وبينكم
إلا السيف. قال: وعسكر علي عليه السلام على
الماء، وعسكر معاوية فوقه على الماء أيضاً، ومشت القراء فيما بين علي عليه
السلام ومعاوية، منهم عبيدة السلماني، وعلقمة بن قيس النخعي، وعبد الله بن عتبة،
وعامر بن عبد القيس - وقد كان في بعض تلك
السواحل - فانصرف إلى عسكر علي عليه
السلام، فدخلوا على معاوية فقالوا:
يا معاوية، ما الذي تطلب؟ قال: أطلب بدم عثمان، قالوا: ممن تطلب بدم عثمان؟ قال:
أطلبه من علي، قالوا: وعلي قتله؟ قال: نعم هو قتله، وآوى قتلته، فانصرفوا من عنده
فدخلوا على علي عليه السلام، فقالوا: إن معاوية يزعم أنك قتلت عثمان، قال: اللهم لكذب فيما قال، لم
أقتله. فرجعوا إلى علي عليه
السلام، فقالوا:
إن معاوية يقول لك: إن كنت صادقاً فادفع إلينا قتلة عثمان أو مكنا منهم، فقال لهم: إن القوم تأولوا عليه القرآن، ووقعت الفرقة،
فقتلوه في سلطانه، وليس على ضربهم قود، فخصم علي معاوية. فقال علي عليه السلام: إن الناس تبع المهاجرين والأنصار،
وهم شهود للمسلمين في البلاد على ولاتهم وأمراء دينهم، فرضوا بي وبايعوني، ولست
أستحل أن أدع ضرب معاوية يحكم بيده على الأمة ويركبهم ويشق عصاهم. فما بال من ههنا من المهاجرين والأنصار لم يدخلوا
في هذا الأمر ويؤامروا فيه . قال:
فكتب في سهم: من عبد الله الناصح، إني أخبركم أن
معاوية يريد أن يفجر عليكم الفرات فيغرقكم، فخذوا حذركم. ثم رمى بالسهم في
عسكر علي عليه السلام، فوقع السهم في يد رجل فقرأه ثم أقرأ
صاحبه، فلما قرأ وقرأته الناس وأقرأه من أقبل وأدبر، قالوا: هذا أخ لنا ناصح،
كتب إليكم يخبركم بما أراد معاوية؛ فلم يزل السهم يقرأ
ويرتفع حتى رفع إلى علي عليه السلام، وقد بعث معاوية مائتي رجل من العملة إلى عاقول من النهر، بأيديهم المرور
والزبل يحفرون فيها بحيال عسكر علي عليه السلام. فقال علي عليه السلام: ويحكم! إن الذي يعالج معاوية لا
يستقيم له، ولا يقوى عليه، إنما يريد أن يزيلكم عن مكانكم، فانتهوا عن ذلك،
فقالوا له: لا ندعهم والله يحفرون، فقال علي عليه السلام:
لا تكونوا ضعفي، ويحكم! لا تغلبوني على رأيي. فقالوا:
والله لنرتحلن، فإن شئت فارتحل، وإن شئت فأقم، فارتحلوا وصعدوا بعسكرهم ملياً، وارتحل علي عليه السلام في أخريات الناس، وهو يقول:
قال:
وارتحل معاوية حتى نزل معسكر علي عليه السلام الذي
كان فيه، فدعا علي عليه السلام الأشتر، فقال: ألم تغلبني
على رأيي أنت والأشعث! فدونكما. فقال الأشعث: أنا أكفيك يا أمير المؤمنين، سأداوي
ما أفسدت اليوم من ذلك، فجمع كندة فقال لهم: يا معشر كندة، لا تفضحوني اليوم ولا
تخزوني؛ فإني إنما أقارع بكم أهل الشام، فخرجوا معه رجالة يمشون، وبيده رمح له
يلقيه على الأرض، ويقول: امشوا قيد رمحي هذا، فيمشون، فلم يزل يقيس لهم الأرض
برمحه، ويمشون معه رجالة حتى لقي معاوية وسط بني سليم واقفاً على الماء، وقد
جاءه أداني عسكره، فاقتتلوا قتالاً شديداً على الماء ساعة، وانتهى أوائل أهل
العراق فنزلوا، وأقبل الأشتر في خيل من أهل العراق، فحمل على معاوية، والأشعث
يحارب في ناحية أخرى؛ فانحاز معاوية في بني سليم، فرد وجوه إبله ثلاثة فراسخ، ثم
نزل ووضع أهل الشام أثقالهم، والأشعث يهدر ويقول: أرضيتك يا أمير المؤمنين! ثم تمثل بقول طرفة بن العبد:
وقال الأشتر:
يا أمير المؤمنين، قد غلب الله لك على الماء، فقال
علي عليه السلام، أنتما كما قال الشاعر:
قال نصر:
فكان كل واحدٍ من علي ومعاوية يخرج الرجل الشريف في جماعة، فيقاتل مثله؛ وكانوا
يكرهون أن يتزاحفوا بجميع الفيلق مخافة الاستئصال والهلاك، فاقتتل الناس ذا
الحجة كله، فلما انقضى تداعوا إلى أن يكف بعضهم عن بعض إلى أن ينقضي المحرم، لعل
الله أن يجري صلحاً أو جماعاً، فكف الناس في المحرم بعضهم عن بعض. ندعوك إلى أفضل الناس سابقة، وأحسنهم في الإسلام
آثاراً؛ وقد اجتمع إليه الناس، وقد أرشدهم الله بالذي رأوا وأتوا، فلم يبق أحد
غيرك وغير من معك، فانته يا معاوية من قبل أن يصيبك
الله وأصحابك بمثل يوم الجمل. أما
والله إنك من المجلبين على عثمان، وإنك لمن قتلته، وإني لأرجو أن تكون ممن يقتله
الله. فقال له شبث بن ربعي وزياد بن خصفة،
وتنازعا كلاماً واحداً: أتيناك فيما يصلحنا وإياك، فأقبلت
تضرب لنا الأمثال، دع ما لا ينفع من القول والفعل،
وأجبنا فيما يعمنا وإياك نفعه. قال نصر:
وحدثنا سليمان بن أبي راشد، عن عبد الرحمن بن عبيد أبي الكنود، قال: بعث معاوية حبيب بن مسلمة الفهري إلى علي بن أبي طالب عليه السلام، وبعث معه شرحبيل بن
السمط ومعن بن يزيد بن الأخنس السلمي، فدخلوا على علي عليه السلام فتكلم حبيب بن مسلمة، فحمد
الله وأثنى عليه، وقال: أما بعد، فإن عثمان بن عفان كان خليفة
مهدياً، يعمل بكتاب الله ويثبت إلى أمر الله، فاستثقلتم حياته، واستبطأتم وفاته.
فعدوتم عليه قتلتموه؛ فادفع إلينا قتلة عثمان نقتلهم به، فإن قلت: إنك لم تقتله، فاعتزل الناس، فيكون أمرهم
هذا شورى بينهم، يولي الناس أمرهم من أجمع عليه رأيهم. فقال شرحبيل بن السمط:
إن كلمتك، فلعمري ما كلامي إلا نحو كلام صاحبي، فهل لي عندك جواب غير الجواب
الذي أجبته به؟ فقال: نعم، قال: فقله؛ فحمد الله علي
عليه السلام وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فإن الله سبحانه بعث محمداً
صلى الله عليه وسلم فأنقذ به من الضلالة، ونعش به من الهلكة، وجمع به بعد
الفرقة، ثم قبضه الله إليه، وقد أدى ما عليه، فاستخلف
الناس أبا بكر، ثم استخلف أبو بكر عمر، فأحسنا السيرة، وعدلا في الأمة، ووجدنا عليهما أن توليا الأمر دوننا، ونحن آل الرسول،
وأحق بالأمر، فغفرنا ذلك لهما، ثم ولي أمر الناس
عثمان، فعمل بأشياء عابها
الناس عليه، فسار إليه ناس فقتلوه، ثم أتاني الناس وأنا معتزل أمرهم،
فقالوا لي، بايع، فأبيت عليهم، فقالوا لي:
بايع، فإن الأمة لا ترضى إلا بك، وإنا نخاف إن لم تفعل أن يفترق الناس؛ فبايعتهم
فلم يرعني إلا شقاق رجلين قد بايعا، وخلاف معاوية إياي الذي لم يجعل الله له سابقة في
الدين، ولا سلف صدق في الإسلام، طليق ابن طليق، وحزب من الأحزاب؛ لم يزل لله ولرسوله وللمسلمين عدواً هو وأبوه حتى دخلا
في الإسلام كارهين مكرهين، فيا عجبا لكم، ولإجلابكم
معه، وانقيادكم له؛ وتدعون آل بيت نبيكم الذين لا ينبغي لكم شقاقهم ولا خلافهم،
ولا تعدلوا بهم أحداً من الناس، إني أدعوكم إلى كتاب ربكم وسنة نبيكم، وإماتة
الباطل، وإحياء معالم الدين، أقول قولي هذا وأستغفر الله لنا ولكل مؤمن ومؤمنة،
ومسلم ومسلمة. فقال علي عليه السلام: " إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا
مدبرين، وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون
" . ثم مكث الناس متوادعين إلى انسلاخ المحرم، فلما انسلخ واستقبل الناس صفراً من سنة سبع وثلاثين، بعث
علي عليه السلام نفراً
من أصحابه؛ حتى إذا كانوا من معسكر معاوية بحيث يسمعونهم الصوت، قام مرثد بن الحارث الجشمي، فنادى عند غروب الشمس: يا
أهل الشام إن أمير المؤمنين علياً وأصحاب رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقولون لكم: إنا لم نكف
عنكم شكاً في أمركم، ولا إبقاءً عليكم؛ وإنما كففنا
عنكم لخروج المحرم، وقد انسلخ؛ وإنا قد نبذنا إليكم على سواء، إن الله لا
يحب الخائنين. قال: فتحاجز الناس وثاروا على أمرائهم. قال: فثار الناس إلى أمرائهم ورؤوسائهم. عباد الله، اتقوا الله وغضوا أبصاركم، واخفضوا
الأصوات، وأقلوا الكلام، ووطنوا أنفسكم على المنازلة والمجاولة والمبارزة والمعانقة،
واثبتوا: " واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون " ، "ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله
مع الصابرين " . اللهم
ألهمهم الصبر، وأنزل عليهم النصر، وأعظم لهم الأجر. قال نصر: فأما رواية الشعبي التي رواها عنه إسماعيل بن أبي عميرة،
فإن علياً عليه السلام بعث على ميمنته عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي، وعلى
ميسرته عبد الله بن العباس، وعلى خيل الكوفة الأشتر، وعلى البصرة سهل بن حنيف،
وعلى رجالة الكوفة عمار بن ياسر، وعلى رجالة أهل البصرة قيس بن سعد - كان قد
أقبل من مصر إلى صفين - وجعل معه هاشم بن عتبة، وجعل مسعود بن فدكي التميمي على
قراء أهل البصرة، وأما قراء أهل الكوفة فصاروا إلى عبد الله بن بديل، وعمار بن
ياسر. فلما أراد الله أن يظهر دينه، وينصر رسوله أتى إلى
النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم،
وهو والله فيما يرى راهب غير راغب. ثم قبض الله رسوله، وإنا والله لنعرفه بعداوة
مسلم، ومودة المجرم! ألا وإنه معاوية، فقاتلوه والعنوه، فإنه ممن يطفئ نور الله،
ويظاهر أعداء الله. وروى نصر، عن عبد العزيز بن سياه، عن
حبيب بن أبي ثابت، قال: لما كان قتال صفين، قال رجل لعمار: يا
أبا اليقظان؛ ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قاتلوا الناس حتى
يسلموا؛ فإذا أسلموا عصموا مني دماءهم وأموالهم "؟ قال: بلى، ولكن والله ما
أسلموا؛ ولكن استسلموا، وأسروا الكفر حتى وجدوا عليه أعواناً. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
يذكر حروبه مع الرسول
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل: ولقد كنا مع
رسول الله صلى الله عليه وآله، نقتل آباءنا وابناءنا وإخواننا وأعمامنا، ما
يزيدنا ذلك إلا إيماناً وتسليماً؛ ومضياً على اللقم، وصبراً على مضض الألم،
وجداً في جهاد العدو. ولقد كان الرجل منا والآخر من عدونا يتصاولان تصاول
الفحلين، يتخالسان أنفسهما؛ أيهما يسقي صاحبه كأس المنون، فمرة لنا من عدونا،
ومرة لعدونا منا، فلما رأى الله صدقنا أنزل بعدونا الكبت، وأنزل علينا النصر،
حتى استقر الإسلام ملقياً جرانه، ومتبوئاً أوطانه. الشرح: لقم الطريق:
الجادة الواضحة منها. والمضض: لذع الألم وبرحاؤه. والتصاول: أن يحمل كل
واحدٍ من القرنين على صاحبه. والتخالس: التسالب والانتهاب. والكبت: الإذلال. وجران البعير: مقدم عنقه. وتبوأت المنزل: نزلته. ويقال لمن أسرف في الأمر: لتحتلبن دماً، وأصله
الناقة يفرط في حلبها فيحلب الحالب الدم. وهذه ألفاظ مجازية من باب الاستعارة؛ وهي: قوله:
استقر الإسلام ملقياً جرانه، أي ثابتاً متمكناً كالبعير يلقي جرانه على الأرض. فقال عبد الله بن الحضرمي له: أنا سهم في كنانتك ،
وأنا من قد جربت، وعدو أهل حربك، وظهيرك على قتلة عثمان، فوجهني إليهم متى شئت. فقال: اخرج غداً إن شاء الله. فودعه وخرج من عنده. إني نظرت
في أمر أهل البصرة فوجدت معظم أهلها لنا ولياً
ولعلي وشيعته عدواً؛ وقد أوقع بهم علي الوقعة التي علمت، فأحقاد تلك الدماء
ثابتة في صدورهم لا تبرح ولا تريم، وقد علمت أن قتلنا
ابن أبي بكر، ووقعتنا بأهل مصر قد أطفأت
نيران أصحاب علي في الآفاق، ورفعت رؤوس أشياعنا أينما كانوا من البلاد؛ وقد بلغ
من كان بالبصرة على مثل رأينا من ذلك ما بلغ الناس، وليس أحد ممن يرى رأينا أكثر
عدداً، ولا أضر خلافاً على علي من أولئك، فقد رأيت أن
أبعث إليهم عبد الله بن عامر الحضرمي، فينزل في مضر
ويتودد الأزد، ويحذر ربيعة، ويبتغي دم ابن عفان؛ ويذكرهم وقعة علي بهم، التي
أهلكت لصالحي إخوانهم وآبائهم وأبنائهم. فقد رجوت عند ذلك أن يفسد على علي
وشيعته ذلك الفرج من الأرض؛ ومتى يؤتوا من خلفهم وأمامهم يضل سعيهم، ويبطل
كيدهم. فهذا رأيي. فما رأيك؟ فلا تحبس رسولي إلا
قدر مضي الساعة التي ينتظر فيها جواب كتابي هذا. أرشدنا الله وإياك، والسلام
عليك ورحمة الله وبركاته. فقام إليه الضحاك بن عبد الله الهلالي، فقال قبح الله ما جئتنا به، وما
دعوتنا إليه! جئتنا والله بمثل ما جاء به صاحباك
طلحة والزبير، أتيانا وقد بايعنا علياً، واجتمعنا له، فكلمتنا واحدة ونحن على
سبيل مستقيم، فدعوانا إلى الفرقة، وقاما فينا
بزخرف القول، حتى ضربنا بعضنا ببعضٍ عدواناً وظلماً؛ فاقتتلنا على ذلك، وايم
الله، ما سلمنا من عظيم وبال ذلك؛ ونحن الآن مجمعون على
بيع هذا العبد الصالح الذي أقال العثرة، وعفا عن المسيء وأخذ بيعة غائبنا
وشاهدنا. أفتأمرنا الآن أن نختلع أسيافنا من أغمادها، ثم يضرب بعضنا بعضاً، ليكون معاوية أميراً، وتكون له
وزيراً، ونعدل بهذا الأمر عن علي! والله ليوم من أيام علي مع رسول
الله صلى الله عليه وسلم خير من بلاء معاوية وآل
ومعاوية لو بقوا في الدنيا، ما الدنيا باقية. ثم أقبل على ابن
الحضرمي، فقال: نحن يدك وأنصارك؛ والقول ما قلت؛ وقد فهمنا عنك؛ فادعنا
أنى شئت! فقال الضحاك
لابن خازم: يابن السوداء؛ والله لا يعز من نصرت، ولا يذل بخذلانك من
خذلت؛ فتشاتما.
قال:
وهو القائل في بني العباس:
قال:
فقام عبد الرحمن بن عمير بن عثمان القرشي ثم التيمي، فقال
عباد الله؛ إنا لم ندعكم إلى الاختلاف والفرقة، ولا نريد أن تقتتلوا ولا
تتنابزوا؛ ولكنا إنما ندعوكم أن تجمعوا كلمتكم، وتوازروا إخوانكم الذين هم على
رأيكم، وأن تلموا شعثكم وتصلحوا ذات بينكم؛ فمهلاً مهلاً! رحمكم الله، استمعوا
لهذا الكتاب، وأطيعوا الذي يقرأ عليكم. أما
بعد، فإن سفك الدماء بغير حلها، وقتل النفوس التي حرم الله قتلها هلاك موبق،
وخسران مبين، لا يقبل الله ممن سفكها صرفاً ولا عدلاً، وقد رأيتم رحمكم الله
آثار ابن عفان وسيرته، وحبه للعافية، ومعدلته، وسده للثغور ، وإعطاؤه في الحقوق،
وإنصافه للمظلوم، وحبه الضعيف، حتى توثب عليه المتوثبون؛ وتظاهر عليه الظالمون،
فقتلوه مسلماً محرماً، ظمآن صائماً، لم يسفك فيهم دماً، ولم يقتل منهم أحداً ولا
يطلبونه بضربة سيف ولا سوطٍ، وإنما ندعوكم أيها
المسلمون إلى الطلب بدمه، وإلى قتال من قتله، فإنا وإياكم على أمر هدى واضح،
وسبيل مستقيم. إنكم إن جامعتمونا طفئت النائرة ، واجتمعت
الكلمة، واستقام أمر هذه الأمة، وأقر الظالمون المتوثبون الذين قتلوا إمامهم
بغير حق، فأخذوا بجرائرهم وما قدمت أيديهم. إن لكم أن أعمل فيكم بالكتاب، وأن أعطيكم في السنة عطاءين، ولا أحتمل فضلاً من فيئكم
عنكم أبداً. فسارعوا إلى ما تدعون إليه رحمكم الله! وقد
بعثت إليكم رجلاً من الصالحين؛ كان من أمناء خليفتكم المظلوم ابن عفان وعماله
وأعوانه على الهدى والحق، جعلنا الله وإياكم ممن يجيب
إلى الحق ويعرفه، وينكر الباطل ويجحده، والسلام عليكم ورحمة الله، قال: فلما قرئ عليهم الكتاب، قال معظمهم: سمعنا وأطعنا. قال إبراهيم بن هلال:
وروى محمد بن عبد الله، عن ابن أبي سيف، عن الأسود بن قيس، عن ثعلبة بن عباد، أن
الذي كان سدد لمعاوية رأيه في تسريح ابن الحضرمي
كتاب كتبه إليه عباس بن ضحاك العبدي، وهو ممن
كان يرى رأي عثمان، ويخالف قومه في حبهم علياً عليه
السلام ونصرتهم إياه؛ وكان الكتاب: أما بعد، فقد بلغنا بأهل مصر؛ الذين
بغوا على إمامهم، وقتلوا خليفتهم طمعاً وبغياً، فقرت بذلك العيون، وشفيت بذلك
النفوس؛ وبردت أفئدة أقوامٍ كانوا لقتل عثمان كارهين، ولعدوه مفارقين، ولكم
موالين، وبك راضين؛ فإن رأيت أن تبعث إلينا أميراً
طيباً ذكياً ذا عفاف ودين، إلى الطلب بدم عثمان فعلت، فإني لا أخال الناس إلا
مجمعين عليك، وإن ابن عباس غائب عن المصر. والسلام. هداك الله على رأيك الرشيد، فكأنك بالرجل الذي سألت
قد أتاك، وكأنك بالجيش قد أطل عليك فسررت وحبيت؛ والسلام. نحن ندع ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيد
المسلمين، وندخل في طاعة حزب من الأحزاب طاغ! والله لا يكون ذلك أبداً حتى نسير
كتيبة، ونفلق السيوف بالهام . فقال له: إن أنت أتيتني فنزلت في داري نصرتك
ومنعتك. فقال: إن أمير
المؤمنين معاوية أمرني أن أنزل في قومه من مضر، فقال: اتبع ما أمرك به. فقال:
بلى، إن تحملت حتى تنزل في داري منعتك، فقال: إني فاعل. قال: فرفع ذلك ابن عباس
إلى علي عليه السلام، وشاع في الناس بالكوفة ما كان من ذلك، وكانت بنو
تميم وقيس، ومن يرى رأي عثمان قد أمروا ابن الحضرمي أن يسير إلى قصر الإمارة حين
خلاه زياد، فلما تهيأ لذلك ودعا أصحابه، ركبت الأزد، وبعثت إليه وإليهم: إنا
والله لا ندعكم تأتون القصر فتنزلون فيه من لا نرضى، ومن نحن له كارهون؛ حتى
يأتي رجل لنا ولكم الرضا، فأبى أصحاب ابن الحضرمي إلا
أن يسيروا إلى القصر، وأبت الأزد إلا أن
يمنعوهم. فركب الأحنف، فقال لأصحاب
ابن الحضرمي: إنكم والله ما أنتم أحق بقصر الإمارة من القوم، وما لكم أن
تؤمروا عليهم من يكرهونه، فانصرفوا عنهم؛ ففعلوا، ثم
جاء إلى الأزد، فقال: إنه لم يكن ما تكرهون، ولا يؤتى إلا ما تحبون،
فانصرفوا رحمكم الله، ففعلوا. وإن لو كنت في بني تميم وابن الحضرمي فيكم لم أطمع
فيه أبداً وأنتم دونه، فلا يطمع ابن الحضرمي في وأنتم دوني، وليس ابن آكلة الأكباد في بقية الأحزاب وأولياء الشيطان بأدنى
إلى الغلبة من أمير المؤمنين في المهاجرين والأنصار؛ وقد أصبحت فيكم
مضموناً، وأمانة مؤداة، وقد رأينا وقعتكم يوم الجمل، فاصبروا مع الحق صبركم مع
الباطل، فإنكم لا تحمدون إلا على النجدة، ولا تعذرون على الجبن. فقال زياد: إنما كنت
مازحاً. فقال أمير المؤمنين عليه السلام:
مه ! تناهوا أيها الناس، وليردعكم الإسلام ووقاره
عن التباغي والتهاذي، ولتجتمع كلمتكم، والزموا دين الله
الذي لا يقبل من أحد غيره، وكلمة الإخلاص التي
هي قوام الدين، وحجة الله على الكافرين؛ واذكروا إذا كنتم قليلاً مشركين
متباغضين متفرقين، فألف بينكم بالإسلام فكثرتم، واجتمعتم وتحاببتم. فلا تفرقوا بعد إذ اجتمعتم، ولا تتباغضوا
بعد إذ تحاببتم؛ وإذا رأيتم الناس بينهم النائرة وقد
تداعوا إلى العشائر والقبائل؛ فاقصدوا لهامهم ووجوههم بالسيف حتى يفزعوا إلى
الله، وإلى كتابه وسنة نبيه، فأما تلك الحمية من خطرات
الشياطين فانتهوا عنها، لا أبا لكم تفلحوا وتنجحوا!. فكأني
أخاطب صماً بكماً لا يفقهون حواراً، ولا يجيبون نداءً، كل هذا جبناً عن البأس،
وحباً للحياة، لقد كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نقتل آباءنا وأبناءنا...
الفصل إلى آخره. ثم خرج من عنده؛ فأتى رحله، فجمع إليه رجالاً من
قومه، فحمد الله واثنى عليه ثم قال: يا قوم،
على ماذا تقتلون أنفسكم، وتهريقون دماءكم على الباطل مع السفهاء الأشرار! وإني
والله ما جئتكم حتى عبيت إليكم الجنود، فإن تنيبوا إلى الحق يقبل منكم، ويكف
عنكم؛ وإن أبيتم فهو والله استئصالكم وبواركم. فقالوا: بل نسمع ونطيع. فقال: انهضوا الان على بركة
الله عز وجل. فنهض بهم إلى جماعة ابن الحضرمي، فخرجوا إليه مع ابن الحضرمي
فصافوه وواقفهم عامة يومه يناشدهم الله، ويقول: يا قوم لا تنكثوا بيعتكم، ولا
تخالفوا إمامكم، ولا تجعلوا على أنفسكم سبيلاً، فقد رأيتم وجربتم كيف صنع الله
بكم عند نكثكم بيعتكم وخلافكم... فكفو عنه، ولم يكن بينه وبينهم قتال، وهم في
ذلك يشتمونه وينالون منه، فانصرف عنهم وهو منهم منتصف. فلما آوى إلى رحله تبعه عشرة نفر يظن
الناس أنهم خوارج، فضربوه بأسيافهم وهو على فراشه، ولا يظن أن الذي كان يكون،
فخرج يشتد عرياناً، فلحقوه في الطريق فقتلوه، فأراد زياد
أن يناهض ابن الحضرمي حين قتل أعين بجماعة من معه من الأزد وغيرهم من شيعة علي
عليه السلام، فأرسل بنو تميم إلى الأزد: والله ما عرضنا لجاركم إذ أجرتموه، ولا
لمالٍ هو له، ولا لأحدٍ ليس على رأينا؛ فما تريدون إلى حربنا وإلى جارنا! فكأن الأزد عند ذلك كرهت قتالهم. والسلام على أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته. سلام عليكم، أما بعد
فإن الله حليم ذو أناةٍ، لا يعجل بالعقوبة قبل البينة، ولا يأخذ المذنب عند أول
وهلة، ولكنه يقبل التوبة، ويستديم الأناة، ويرضى بالإنابة، ليكون أعظم للحجة،
وأبلغ في المعذرة؛ وقد كان من شقاق جلكم أيها الناس ما استحققتم أن تعاقبوا
عليه، فعفوت عن مجرمكم، ورفعت السيف عن مدبركم، وقبلت من مقبلكم، وأخذت بيعتكم،
فإن تفوا ببيعتي، وتقبلوا نصيحتي، وتستقيموا على طاعتي، أعمل فيكم بالكتاب
والسنة وقصد الحق، وأقم فيكم سبيل الهدى، فوالله ما أعلم أن والياً بعد محمد صلى
الله عليه وسلم
أعلم
بذلك مني، ولا أعمل بقولي. أقول قولي هذا صادقاً، غير ذامٍ لمن مضى، ولا منتقصاً
لأعمالهم، وإن خبطت بكم الأهواء المردية، وسفه الرأي
الجائر إلى منابذتي، تريدون خلافي! فها أنا ذا قربت جيادي، ورحلت ركابي، وايم
الله لئن الجأتموني إلى المسير إليكم لأوقعن بكم وقعةً، لا يكون يوم الجمل عندها
إلا كلعقة لاعق، وإني لظان ألا تجعلوا - إن شاء الله - على أنفسكم سبيلاً، وقد
قدمت هذا الكتاب إليكم حجة عليكم، ولن أكتب إليكم من بعده كتاباً، إن
أنتم استغششتم نصيحتي، ونابذتم رسولي، حتى أكون أنا الشاخص نحوكم، إن شاء الله
تعالى. والسلام. فإن اضطر إلى نصركم فسيروا إليه إن رأيتم ذلك. وهو يوم بيوم، وأمر بأمر، والله إلى الجزاء
بالإحسان أسرع منه إلى الجزاء بالسيئ، والتوبة مع الحق، والعفو مع الندم، ولو
كانت هذه فتنة لدعونا القوم إلى إبطال الدماء، واستئناف الأمور، ولكنها جماعة
دماؤها حرام، وجروحها قصاص، ونحن معك نحب ما أحببت، فعجب
زياد من كلامه، وقال: ما أظن في الناس مثل هذا. قال
إبراهيم: فأما جارية، فإنه كلم قومه فلم يجيبوه، وخرج
إليهم منهم أوباش فناوشوه بعد أن شتموه وأسمعوه، فأرسل إلى زياد والأزد،
يستصرخهم ويأمرهم أن يسيروا إليه، فسارت الأزد بزياد، وخرج إليهم ابن الحضرمي،
وعلى خيله عبد الله بن خازم السلمي، فاقتتلوا ساعة، وأقبل
شريك بن الأعور الحارثي - وكان من شيعة علي عليه السلام، وصديقاً لجارية بن قدامة - فقال:
ألا أقاتل معك عدوك؟ فقال: بلى، فما لبثت بنو تميم أن هزموهم واضطروهم إلى دار
سنبيل السعدي؛ فحصروا ابن الحضرمي وحدوه ، فأتى رجل من بني تميم، ومعه عبد الله
بن خازم السلمي، فجاءت أمه وهي سوداء حبشية اسمها عجلى، فنادته، فأشرف عليها،
فقالت: يا بني، إنزل إلي، فأبى فكشفت رأسها وأبدت قناعها، وسألته النزول فأبى، فقالت: والله لتنزلن أو لأتعرين، وأهوت بيدها إلى
ثيابها، فلما رأى ذلك نزل، فذهبت به، وأحاط جارية وزياد بالدار، وقال جارية: علي بالنار، فقالت الأزد: لسنا من الحريق بالنار
في شيء؛ وهم قومك وأنت أعلم، فحرق جارية الدار عليهم، فهلك ابن الحضرمي في سبعين رجلاً؛ أحدهم عبد الرحمن
بن عمير بن عثمان القرشي التيمي؛ وسمي جارية منذ ذلك
اليوم محرقاً، وسارت الأزد بزياد حتى أوطنوه قصر الإمارة، ومعه بيت المال، وقالت
له: هل بقي علينا من جوارك شيء؟ قال: لا، قالوا: فبرئنا منه؟ فقال: نعم؛
فانصرفوا عنه. وكتب زياد إلى أمير المؤمنين عليه السلام: أما بعد، فإن جارية بن قدامة العبد
الصالح قدم من عندك، فناهض جمع ابن الحضرمي بمن نصره وأعانه من الأزد، ففضه
واضطره إلى دارٍ من دور البصرة في عدد كثير من أصحابه، فلم يخرج حتى حكم الله
تعالى بينهما، فقتل ابن الحضرمي وأصحابه، منهم من أحرق بالنار، ومنهم من ألقي
عليه جدار؛ ومنهم من هدم عليه البيت من أعلاه، ومنهم من قتل بالسيف، وسلم منهم
نفر أنابوا وتابوا، فصفح عنهم، وبعداً لمن عصى وغوى! والسلام على أمير المؤمنين ورحمة الله
وبركاته. ثم قال لظبيان: أين منزلك منها؟ فقال: مكان كذا،
فقال: عليك بضواحيها، وقال ابن العرندس الأزدي يذكر
تحريق ابن الحضرمي، ويعير تميماً بذلك:
والخناق لقب قوم بني تميم. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن كلام له لأصحابه يخبر عن رجل يأمر بسبه
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
أما إنه سيظهر عليكم بعدي رجل رحب البلعوم، مندحق البطن، يأكل ما يجد، ويطلب ما
لا يجد، فاقتلوه - ولن تقتلوه. ألا وإنه سيأمركم بسبي والبراءة مني؛ فأما السب فسبوني، فإنه لي زكاة ولكم نجاة، وأما
البراءة فلا تتبرأوا مني؛ فإني ولدت على
الفطرة، وسبقت إلى الإيمان والهجرة. وسيظهر
سيغلب. ورحب
البلعوم: واسعه.
وفي هذا الفصل مسائل: الأولى: في تفسير قوله عليه السلام: فاقتلوه ولن تقتلوه، فنقول: إنه لا
تنافي بين الأمر بالشيء والإخبار عن أنه لا يقع، كما أخبر الحكيم سبحانه
عن أبا لهب لا يؤمن وأمره بالإيمان، وكما قال تعالى: "
فتمنوا الموت إن كنتم صادقين " ، ثم قال: " ولا يتمنونه أبداً
" ، وأكثر التكليفات على هذا المنهاج. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أهل العدل والمجبرة وبعض المسائل الكلامية
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
واعلم أن أهل العدل
والمجبرة لم يختلفوا في أنه تعالى قد يأمر بما يعلم أنه لا يقع، أو يخبر
عن أنه لا يقع، وإنما اختلفوا: هل يصح أن يريد
ما يعلم أنه لا يقع، أو يخبر عنه أنه لا يقع؟ فقال
أصحابنا: يصح ذلك، وقال المجبرة: لا يصح؛ لأن إرادة ما يعلم المريد لأنه
لا يقع قضية متناقضة، لأن تحت قولنا: أراد مفهوم
أن ذلك المراد مما يمكن حصوله، لأن إرادة المحال ممتنعة. وتحت قولنا:
إنه يعلم أنه لا يقع، مفهوم أن ذلك المراد مما لا يمكن حصوله، لأنا قد فرضنا أنه
لا يقع وما لا يقع لا يمكن حصوله مع فرض كونه لا يقع، فقال
لهم أصحابنا: هذا يلزمكم في الأمر، لأنكم قد أجزتم أن يأمر بما يعلم أنه
لا يقع، فقالوا في الجواب: نحن عندنا أنه لا
يأمر بما لا يريد، فإذا أمر بما يعلم أنه لا يقع، أو يخبر عن أنه لا يقع، كان
ذلك الأمر أمراً عارياً عن الإرادة، والمحال إنما نشأ من إرادة ما علم المريد
أنه لا يقع، وههنا لا إرادة. ولنا في هذا الموضع أبحاث دقيقة ذكرناها في كتبنا
الكلامية. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
معاوية يأمر بسب علي عليه السلام
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
المسألة الثانية: في قوله عليه
السلام: يأمركم بسبي
والبراءة مني، فنقول: إن معاوية أمر الناس
بالعراق والشام وغيرهما بسب علي عليه السلام والبراءة منه. وذكر شيخنا أبو عثمان الجاحظ أن
معاوية كان يقول في آخر خطبة الجمعة: اللهم إن أبا
تراب ألحد في دينك، وصد عن سبيلك فالعنه لعناً وبيلاً، وعذبه عذاباً أليماً. وكتب بذلك إلى الآفاق، فكانت هذه الكلمات يشار بها على
المنابر؛ إلى خلافة عمر بن عبد العزيز. وروى
أهل السيرة أن الوليد بن عبد الملك في خلافته ذكر علياً
عليه السلام، فقال: لعنه اللهِ، بالجر، كان لص ابن لص. وقال له متعرض به يوماً وهو راكب: أيها الأمير، إن أهلي عقوني فسموني علياً، فغير اسمي، وصلني بما أتبلغ به
فإني فقير. فقال: للطف ما توصلت به قد سميتك كذا، ووليتك
العمل الفلاني فاشخص إليه.
وقال الرضي أبو الحسن رحمه الله تعالى:
وروى ابن الكلبي، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن السائب، قال: قال الحجاج يوماً لعبد الله بن هانئ، وهو رجل من بني أود - حي بن يقظان - وكان شريفاً في قومه، قد شهد
مع الحجاج مشاهده كلها، وكان من أنصاره وشيعته:
والله ما كافأتك بعد! ثم أرسل إلى أسماء بن خارجة
سيد بني فزارة: أن زوج عبد الله بن هانئ بابنتك،
فقال: لا والله ولا كرامة! فدعا بالسياط، فلما
رأى الشر قال: نعم أزوجه، ثم بعث إلى سعيد بن قيس الهمداني رئيس اليمانية: زوج ابنتك من عبد الله بن أود، فقال: ومن أود! لا والله لا أزوجه ولا كرامة! فقال: علي
بالسيف، فقال: دعني حتى أشاور أهلي، فشاورهم، فقالوا:
زوجه ولا تعرض نفسك لهذا الفاسق، فزوجه. فقال الحجاج لعبد
الله: قد زوجتك بنت سيد فزارة وبنت سيد همدان،
وعظيم كهلان وما أود هناك! فقال: لا تقل أصلح الله الأمير ذاك! فإن لنا مناقب ليست لأحدٍ من
العرب، قال: وما هي؟
قال: ما سب أمير المؤمنين عبد الملك في نادٍ لنا قط، قال:
منقبة والله، قال: وشهد منا صفين مع أمير المؤمنين معاوية سبعون رجلاً،
ما شهد منا مع أبي تراب إلا رجل واحد، وكان والله ما علمته امرأ سوء، قال: منقبة والله، قال: ومنا نسوة نذرن: إن قتل الحسين بن علي أن تنحر كل واحدة عشر قلائص
، ففعلن، قال: منقبة والله، قال: وما منا رجل
عرض عليه شتم أبي تراب ولعنه إلا فعل وزاد ابنيه حسناً وحسيناً وأمهما فاطمة، قال: منقبة والله، قال: وما أحد من العرب له من
الصباحة والملاحة ما لنا، فضحك الحجاج، وقال: أما هذه
يا أبا هانئ فدعها. وكان عبد الله دميماً شديد الأدمة
مجدوراً ، في رأسه عجر ، مائل الشدق، أحول، قبيح الوجه؛ شديد الحول. وروى عمر بن شبة أيضاً عن سعيد بن جبير، قال: خطب عبد
الله بن الزبير، فنال من علي عليه
السلام، فبلغ ذلك محمد بن
الحنفية، فجاء وهو يخطب، فوضع له كرسي، فقطع عليه خطبته، وقال: يا معشر
العرب، شاهت الوجوه! أينتقص علي وأنتم حضور! إن علياً كان يد الله على أعداء
الله، وصاعقةً من أمره أرسله على الكافرين والجاحدين لحقه، فقتلهم بكفرهم فشنئوه
وأبغضوه، وأضمروا له الشنف والحسد، وابن عمه صلى الله عليه وسلم حي
بعد لم يمت، فلما نقله الله إلى جواره، وأحب له ما عنده؛ أظهرت له رجال أحقادها،
وشفت أضغانها، فمنهم من ابتز حقه، ومنهم من ائتمر به ليقتله، ومنهم من شتمه
وقذفه بالأباطيل؛ فإن لم يكن لذريته وناصري دعوته دولة تنشر عظامهم، وتحفر على
أجسادهم؛ والأبدان منهم يومئذ بالية، بعد أن تقتل الأحياء منهم، وتذل رقابهم،
فيكون رقابهم، فيكون الله عز اسمه قد عذبهم بأيدينا وأخزاهم، ونصرنا عليهم، وشفا
صدورنا منهم؛ إنه والله ما يشتم علياً إلا كافراً يسر
شتم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخاف أن يبوح به،
فيكني بشتم علي عليه السلام عنه. أما إنه قد تخطت المنية منكم من امتد عمره، وسمع
قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه:
" لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون"، فعاد ابن الزبير إلى خطبته، وقال: عذرت بني الفواطم يتكلمون؛ فما بال
ابن أم حنيفة! فقال محمد: يابن أم رومان؛
وما لي لا أتكلم! وهل فاتني من الفواطم إلا
واحدة! ولم يفتني فخرها؛ لأنها أم أخوي. أنا ابن فاطمة بنت عمران بن عائذ بن
مخزوم، جدة رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وأنا ابن فاطمة بنت أسد بن هاشم، كافلة رسول
الله صلى
الله عليه وسلم، والقائمة مقام أمه؛ أما والله لولا خديجة بنت خويلد ما تركت في بني أسد بن عبد العزى عظماً إلا هشمته! ثم
قام فانصرف. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأحاديث الموضوعة في ذم علي عليه السلام
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وذكر شيخنا أبو جعفر الإسكافي - رحمه
الله تعالى - وكان من المتحققين بموالاة علي عليه السلام، والمبالغين في تفضيله؛
وإن كان القول بالتفضيل عاماً شائعاً في البغداديين
من أصحابنا كافة، إلا
أن أبا جعفر أشدهم في ذلك قولاً، وأخلصهم
فيه اعتقاداً - أن
معاوية وضع قوماً من الصحابة وقوماً من التابعين على رواية أخبار قبيحة في علي عليه السلام، تقتضي الطعن فيه والبراءة منه؛
وجعل لهم على ذلك جعلاً يرغب في مثله؛ فاختلقوا ما أرضاه، منهم أبو هريرة وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة، ومن
التابعين عروة بن الزبير. قلت:
هذا الحديث أيضاً مخرج في صحيحي مسلم والبخاري
عن المسور بن مخرمة الزهري، وقد ذكره المرتضى في
كتابه المسمى تنزيه الأنبياء والأئمة، وذكر أنه رواية حسين الكرابيسي، وأنه مشهور بالإنحراف عن
أهل البيت عليهم السلام، وعداوتهم والمناصبة لهم، فلا تقبل روايته.
يقول
فيها:
وقد
روي هذا الخبر على وجوه مختلفة، وفيه زيادات متفاوتة؛
فمن الناس من يروي فيه: مهمنا ذمننا من صهرٍ فإنا لم نذم صهر أبي العاص بن
الربيع، ومن الناس من يروي فيه: ألا إن بني المغيرة أرسلوا إلى عليٍ ليزوجوه
كريمتهم... وغير ذلك. ولعل
الواقع كان بعض هذا الكلام فحرف وزيد فيه. ولو تأملت أحوال النبي صلى الله عليه وسلم مع زوجاته، وما كان
يجري بينه وبينهن من الغضب تارة، والصلح أخرى، والسخط تارة والرضا أخرى، حتى بلغ
الأمر إلى الطلاق مرة، وإلى الإيلاء مرة، وإلى الهجر والقطيعة مرة، وتدبرت ما ورد في الروايات
الصحيحة مما كن يلقينه عليه السلام به، ويسمعنه إياه، لعلمت أن الذي عاب الحسدة والشانئون علياً عليه السلام به بالنسبة إلى تلك الأحوال قطرة من البحر المحيط،
ولو لم يكن إلا قصة مارية وما جرى بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين تينك الامرأتين من
الأحوال والأقوال، حتى أنزل فيهما قرآن يتلى في المحاريب، ويكتب في المصاحف، وقيل لهما ما لا يقال للإسكندر ملك
الدنيا لو كان حياً، منابذاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "وإن
تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير
" ، ثم أردف بعد ذلك بالوعيد والتخويف: "
عسى ربه إن طلقكن... " الآيات بتمامها. ثم ضرب لهما مثلاً امرأة نوح
وامرأة لوط اللتين خانتا بعليهما، فلم يغنيا عنهما من الله شيئاً؛ وتمام الآية
معلوم. فهل ما روي في الخبر من تعصب فاطمة على علي عليه السلام وغيرتها من تعريض بني
المغيرة له بنكاح عقيلتهم، إذا قويس إلى هذه الأحوال وغيرها مما كان يجري إلا كنسبة
التأفيف إلى حرب البسوس! ولكن صاحب الهوى والعصبية لا علاج له. ثم نعود إلى حكاية كلام شيخنا أبي
جعفر الإسكافي رحمه الله تعالى. قال أبو جعفر:
وروى الأعمش، قال: لما قدم أبو هريرة العراق مع معاوية
عام الجماعة ، جاء إلى مسجد الكوفة، فلما رأى كثرة من استقبله من الناس
جثا على ركبتيه، ثم ضرب صلعته مراراً، وقال: يا أهل العراق، أتزعمون أني أكذب
على الله وعلى رسوله، وأحرق نفسي بالنار! والله لقد
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن لكل نبي
حرماً، وإن حرمي بالمدينة، ما بين عير إلى ثور ، فمن أحدث فيها حدثاً فعليه لعنة
الله والملائكة والناس أجمعين "، وأشهد بالله أن علياً أحدث فيها؛ فلما بلغ
معاوية قوله أجازه وأكرمه وولاه إمارة المدينة. وروى سفيان الثوري عن منصور، عن إبراهيم
التيمي، قال: كانوا لا
يأخذون عن أبي هريرة إلا ما كان من ذكر جنة أو نار. قال: وقد كان في المحدثين من يبغضه عليه السلام، ويروي فيه
الأحاديث المنكرة؛
منهم حريز بن عثمان، كان يبغضه وينتقصه، ويروي
فيه أخباراً مكذوبة، وقد روى المحدثون أن حريزاً
رئي في المنام بعد موته، فقيل له: ما فعل الله بك؟ قال:
كاد يغفر لي لولا بغض علي.
قال: فطلبوه
فغاب عنهم ولم يروا أحداً، فعلموا أنه من الجن. وأما
مروان ابنه فأخبث عقيدة، وأعظم إلحاداً وكفراً،
وهو الذي خطب يوم وصل إليه رأس الحسين عليه السلام
إلى المدينة؛ وهو يومئذ أميرها وقد حمل
الرأس على يديه فقال:
ثم
رمى بالرأس نحو قبر النبي، وقال: يا محمد، يوم بيوم
بدر. وهذا القول مشتق من الشعر الذي تمثل به
يزيد بن معاوية وهو شعر ابن الزبعرى يوم
وصل الرأس إليه، والخبر مشهور . ذكر ذلك أبو عبيدة في كتاب المثالب. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال: وروى الواقدي
أن معاوية لما عاد من العراق إلى الشام بعد بيعة الحسن عليه السلام واجتماع
الناس إليه خطب فقال: أيها الناس، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
لي: "إنك ستلي الخلافة من بعدي، فاختر
الأرض المقدسة، فإن فيها الأبدال "، وقد اخترتكم،
فالعنوا أبا تراب، فلعنوه. فلما كان من الغد كتب كتاباً، ثم جمعهم فقرأه
عليهم، وفيه: هذا كتاب أمير المؤمنين معاوية، صاحب وحي الله الذي بعث محمداً
نبياً، وكان أمياً لا يقرأ ولا يكتب، فاصطفى له من أهله
وزيراً كاتباً أميناً، فكان الوحي ينزل على محمد وأنا أكتبه، وهو لا يعلم
ما أكتب، فلم يكن بيني وبين الله أحد من خلقه، فقال له
الحاضرون كلهم: صدقت يا أمير المؤمنين. هذه الخلاصة ما ذكره شيخنا أبو جعفر رحمه الله
تعالى في هذا المعنى في كتاب التفضيل. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
فصل في ذكر المنحرفين عن علي عليه السلام
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وذكر جماعة من شيوخنا البغداديين أن
عدة من الصحابة والتابعين والمحدثين كانوا منحرفين
عن علي عليه السلام، قائلين
فيه السوء، ومنهم من كتم وأعان أعداءه ميلاً مع
الدنيا، وإيثاراً للعاجلة، فمنهم أنس بن مالك،
ناشد علي عليه السلام الناس في رحبة القصر - أو قال رحبة الجامع بالكوفة - : أيكم سمع رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول:
" من كنت مولاه فعلي مولاه "؟ فقام
اثنا عشر رجلاً فشهدوا بها، وأنس بن مالك في القوم لم
يقم، فقال له: يا أنس، ما يمنعك أن تقوم فتشهد،
ولقد حضرتها! فقال: يا أمير المؤمنين، كبرت ونسيت، فقال: اللهم إن كان كاذباً فارمه بها بيضاء لا تواريها العمامة. قال طلحة بن عمير:
فوالله لقد رأيت الوضح به بعد ذلك أبيض بين عينيه. وروى
أهل السيرة أن الأشعث خطب إلى عليٍ عليه السلام
ابنته، فزبره، وقال: يابن الحائك، أغرك ابن أبي قحافة. فقال الأشعث:
هذه إن قلتها فهي عليك لا لك، دعها ترحل عنك، فقال له:
وما علمك بما علي مما لي! منافق ابن كافر، حائك
ابن حائك! إني لأجد منك بنة الغزل. ثم التفت إلى عبيد الله بن عدي بن
الخيار، فقال: يا عبيد، إنك لتسمع خلافاً وترى عجباً، ثم أنشد:
وقد
ذكرنا في بعض الروايات المتقدمات أن سبب قوله: هذه عليك
لا لك، أمر آخر، والروايات تختلف. وروى واصل مولى أبي عيينة، عن جعفر بن محمد بن علي عليه السلام عن
آبائه، قال: كان لسمرة بن جندب نخل في بستان رجل
من الأنصار، فكان يؤذيه، فشكا الأنصاري ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث إلى سمرة، فدعاه فقال
له: بع نخلك من هذا، وخذ ثمنه، قال: لا أفعل، قال: فخذ نخلاً مكان نخلك، قال: لا
أفعل، قال: فاشتر منه بستانه، قال: لا أفعل، قال: فاترك لي هذا النخل ولك الجنة،
قال: لا أفعل، فقال صلى الله عليه وسلم للأنصاري: " اذهب فاقطع نخله، فإنه لا حق له فيه ". قلت: ولم ذاك؟
قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي وله والحذيفة
بن اليمان: " آخركم موتاً في النار "، فسبقنا حذيفة؛ وأن الآن
أتمنى أن أسبقه، قال: فبقي سمرة بن جندب حتى شهد مقتل
الحسين. وإن الصالح في ثقيف لغريب. وهذه
الآية من الآيات التي نزل فيها القرآن بموافقة علي عليه السلام، كما نزل في
مواضع بموافقة عمر؛ وسماه الله تعالى فاسقاً في آية
أخرى، وهو قوله تعالى: " إن جاءكم فاسق
بنبإٍ فتبينوا " ، وسبب نزولها مشهور؛ وهو
كذبه على بني المصطلق، وادعاؤه أنهم منعوا الزكاة وشهروا السيف، حتى أمر النبي صلى الله عليه وسلم
بالتجهيز للمسير إليهم؛ فأنزل الله تعالى في تكذيبه وبراءة ساحة القوم هذه
الآية. وورث ابنه الوليد الشنآن والبغضة لمحمد وأهله، فلم يزل عليهما إلى أن
مات. قال:
وذلك أن علياً عليه السلام لما قتل قصد بنوه أن يخفوا
قبره خوفاً من بني أمية أن يحدثوا في قبره حدثاً، فأوهموا الناس في موضع قبره
تلك الليلة - وهي ليلة دفنه - إيهاماتٍ مختلفة، فشدوا على جمل تابوتاً
موثقاً بالحبال، يفوح منه روائح الكافور، وأخرجوه من الكوفة من سواد الليل صحبة
ثقاتهم، يوهمون أنهم يحملونه إلى المدينة فيدفنونه عند فاطمة عليها السلام، وأخرجوا بغلاً وعليه جنازة مغطاة؛
يوهمون أنهم يدفنونه بالحيرة، وحفروا حفائر عدة، منها بالمسجد، ومنها برحبة
القصر، قصر الإمارة، ومنها في حجرة من دور آل جعدة بن هبيرة المخزومي، ومنها في
أصل دار عبد الله بن يزيد القسري بحذاء باب الوراقين مما يلي قبلة المسجد، ومنها
في الكناسة ، ومنها في الثوية ، فعمي على الناس موضع قبره، ولم يعلم دفنه على
الحقيقة إلا بنوه والخواص المخلصون من أصحابه؛ فإنهم خرجوا به عليه السلام وقت
السحر في الليلة الحادية والعشرين من شهر رمضان، فدفنوه في النجف، بالموضع
المعروف بالغري، بوصاة منه عليه السلام إليهم في ذلك، وعهدٍ كان عهد به إليهم،
وعمي موضع قبره على الناس؛ واختلفت الأراجيف في صبيحة ذلك اليوم اختلافاً
شديداً، وافترقت الأقوال في موضع قبره الشريف وتشعبت، وادعى قوم أن جماعة من طيئ
وقعوا على جملٍ في تلك الليلة، وقد أضله أصحابهم ببلادهم، وعليه صندوق، فظنوا
فيه مالاً، فلما رأوا ما فيه خافوا أن يطلبوا به، فدفنوا الصندوق بما فيه،
ونحروا البعير وأكلوه، وشاع ذلك في بني أمية وشيعتهم، واعتقدوه حقاً؛ فقال الوليد بن عقبة من أبيات يذكره عليه السلام فيها:
وروى الشيخ أبو القاسم البلخي أيضاً، عن جرير بن عبد الحميد، عن مغيرة
الضبي، قال: مر ناس بالحسن بن علي عليه السلام، وهم يريدون عيادة الوليد بن
عقبة، وهو في علة شديدة، فأتاه الحسن عليه السلام معهم عائداً، فقال للحسن: أتوب إلى الله تعالى مما كان بيني وبين جميع
الناس، إلا ما كان بيني وبين أبيك، فإني لا أتوب منه. قال الشيخ أبو القاسم البلخي: وقد روى كثير من أرباب الحديث عن
جماعة من الصحابة، قالوا: ما كنا نعرف المنافقين
على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ببغض علي بن أبي طالب.
ثم
خرج حتى أتى الرقة، وكذلك كان يصنع من يفارق
علياً عليه السلام، يبدأ بالرقة حتى يستأذن معاوية في القدوم عليه، وكانت الرقة والرها وقرقيسيا وحران من حيز معاوية، وعليها الضحاك بن قيس، وكانت هيت وعانات ونصيبين ودارا وآمد وسنجار من حيز علي عليه السلام؛ وعليها الأشتر، وكانا يقتتلان في كل شهر.
وبعد
ذلك ما لا نذكره.
قال ابن هلال:
وكتاب إلى العراق شعراً يذم فيه علياً عليه السلام
ويخبره أنه من أعدائه، فدعا عليه وقال لأصحابه عقيب
الصلاة: ارفعوا أيديكم فادعوا عليه، فدعا عليه وأمن أصحابه. وقام زياد بن خصفة - وكان من شيعة علي عليه
السلام - فقال: دعوا لي ابن عمي، فقال علي عليه السلام:
دعوا للرجل ابن عمه، فتركه الناس، فأخذ زياد بيده فأخرجه من المسجد، وجعل يمشي
معه يمسح التراب عن وجهه، وعفاق يقول: والله لا
أحبكم ما اختلفت الدرة والجرة، وزياد يقول: ذلك
أضر لك، ذلك شر لك، وقال زياد بن خصفة يذكر ضرب الناس عفاقاً:
فقال له عفاق:
لو كنت شاعراً لأجبتك، ولكني أخبركم عن ثلاث خصال كن
منكم، والله ما أرى أن تصيبوا بعدهن شيئاً مما يسركم: أما واحدة:
فإنكم سرتم إلى أهل الشام حتى إذا دخلتم عليهم بلادهم قاتلتموهم؛ فلما ظن القوم
أنكم لهم قاهرون رفعوا المصاحف، فسخروا بكم فردوكم عنهم، فلا والله لا تدخلونها بمثل ذلك الجد والحد والعدد الذي دخلتم
به أبداً. فجعل الصبيان يصيحون به: خري النجاشي! وجعل
يقول: كلا إنها يمانية وكاؤها شعر.
ثم
لحق معاوية، وهجا علياً عليه السلام، فقال:
وروى عبد الملك بن قريب الأصمعي، عن ابن أبي الزناد، قال: دخل
النجاشي على معاوية، وقد أذن للناس عامة، فقال لحاجبه: ادع النجاشي،
والنجاشي بين يديه، ولكن اقتحمته عينه، فقال: هأنذا
النجاشي بين يديك يا أمير المؤمنين، إن الرجال ليست بأجسامها؛ إنما لك من
الرجل أصغراه: قلبه ولسانه، قال: ويحك! أنت القائل:
ثم
ضرب بيده إلى ثديه، فقال: ويحك! إن مثلي لا تعدو به الخيل؛ فقال: يا أمير المؤمنين؛ إني لم أعنك، وإنما عنيت عتبة. فقال علي عليه
السلام: "وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين " ؛ يا أخا نهد؛ وهل
هو إلا رجل من المسلمين انتهك حرمة من حرم الله، فأقمنا عليه حداً كان كفارته!
إن الله تعالى يقول: " ولا يجر منكم شنآن قومٍ
على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى "
قال: فخرج طارق من عنده، فلقيه الأشتر، فقال:
يا طارق؛ أنت القائل لأمير المؤمنين: أوغرت صدورنا وشتت أمورنا؟ قال طارق: نعم، أنا قائلها، قال: والله ما ذاك كما
قلت، إن صدورنا له لسامعة، وإن أمورنا له الجامعة. فغضب طارق وقال:
ستعلم يا أشتر أنه غير ما قلت؛ فلما جنه الليل همس هو
والنجاشي إلى معاوية، فلما قدما عليه، دخل آذنه فأخبره بقدومهما، وعنده وجوه أهل
الشام؛ ومنهم عمرو بن مرة الجهني، وعمر بن صيفي وغيرهما، فلم دخلا نظر
إلى طارق، وقال: مرحباً بالمورق غصنه، والمعرق أصله، المسود غير المسود، من رجل
كانت منه هفوة ونبوة، باتباعه صاحب الفتنة، ورأس الضلالة والشبهة، الذي اغترز في
ركاب الفتنة حتى استوى على رجلها، ثم أوجف في عشوة ظلمتها وتيه ضلالها، واتبعه
رجرجة من الناس، وأشبابة من الحثالة لا أفئدة لهم: " أفلا يتدبرون القرآن
أم على قلوبٍ أقفالها " . أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولجميع المسلمين. فقال طارق: والله ما قمت بما
سمعتماه حتى خيل لي أن بطن الأرض خير لي من ظهرها عند سماعي ما أظهر من العيب
والنقص لمن هو خير منه في الدنيا والآخرة، وما زهت به نفسه، وملكه عجبه،
وعاب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم واستنقصهم، فقمت
مقاماً أوجب الله علي فيه ألا أقول إلا حقاً، وأي خير فيمن لا ينظر ما
يصير إليه غداً! فبلغ علياً عليه السلام قوله، فقال:
لو قتل النهدي يومئذ لقتل شهيداً. فغضب الوليد وقال:
والله لو أن أهل الأرض اشتركوا في قتله لأرهقوا صعوداً، وإن أخاك لأشد هذه الأمة
عذاباً، فقال: صه! والله إنا لنرغب بعبدٍ من عبيده عن
صحبة أبيك عقبة بن أبي معيط. قال: وقد روى يونس بن أرقم، عن يزيد بن أرقم، عن
ابن ناجية، مولى أم هانئ، قال: كنت عند علي عليه السلام؛
فأتاه رجل عليه زي السفر. فقال: يا أمير المؤمنين، إني أتيتك من
بلدة ما رأيت لك بها محباً، قال: من أين أتيت؟ قال: من البصرة،
قال: أنا إنهم لو يستطيعون أن يحبوني لأحبوني، إني وشيعتي في ميثاق الله لا يزاد
فينا رجل ولا ينقص إلى يوم القيامة. ورووا عنه أنه كان من المخذلين عن نصرته. فقلت: أهو خير من حمزة وجعفر؟ قال:
نعم، قلت: وخير من فاطمة وابنيها؟ قال: نعم، والله إنه خير آل محمد كلهم، ومن
يشك أنه خير منهم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: " وأبوهما خير منهما "! ولم يجر عليه اسم شرك، ولا شرب
خمر، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لفاطمة
عليها السلام: " زوجتك خير أمتي "، فلو كان في أمته خير منه
لاستثناه، ولقد آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم
بين أصحابه، فآخى بين علي ونفسه، فرسول الله صلى
الله عليه وسلم خير الناس نفساً، وخيرهم أخاً. فقلت: يا أبا سعيد،
فما هذا الذي يقال عنك إنك قلته في علي؟ فقال:
يابن أخي، أحقن دمي من هؤلاء الجبابرة، ولولا ذلك لشالت بي الخشب. وروى الفضل بن دكين، عن الحسن بن صالح، قال: لم يصل
أبو صادق على مرة الهمداني، قال الفضل بن دكين: وسمعت أن أبا صادق قال في أيام
حياة مرة: والله لا يظلني وإياه سقف بيتٍ أبداً، قال:
ولما مات لم يحضره عمرو بن شرحبيل، قال: لا أحضره لشيء كان في قلبه على علي بن
أبي طالب. قال: ثم كان عبد الله بن نمير يقول - وكذلك أنا؛ والله لو مات رجل في نفسه شيء على علي عليه السلام لم أحضره،
ولم أصل عليه. فسيره إليها فقضى بين اليهود شهرين. قال: وروى أبو عمر
الضرير، عن أبي عوانة، قال: كان بين عبد
الرحمن بن عطية وبين أبي عبد الرحمن السلمي شيء في أمر علي عليه السلام؛ فأقبل
أبو عبد الرحمن على حيان، فقال: هل تدري ما جرأ صاحبك على الدماء؟ يعني علياً،
قال: وما جرأه لا أبا لغيرك! قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال لأهل بدر: " اعملوا ما شئتم فقد
غفرت لكم "، أو كلاماً هذا معناه. فقال عمر: وأنا سمعت أبي يقول: ما كلمة حكمة في قلب منافق فيخرج من
الدنيا؛ حتى يتكلم بها. فقال سعيد: يابن أخي، جعلتني منافقاً! قال: هو ما
أقول لك، ثم انصرف، وكان الزهري من المنحرفين عنه عليه
السلام. فكتب إليه:
إن هذا المال لمن جاهد عليه؛ ولكن لي مالاً
بالمدينة فأصب منه ما شئت. وروى المحدثون عن حماد بن زيد، أنه
قال:
أرى أن أصحاب علي أشد حباً له من أصحاب العجل لعجلهم. وهذا
كلام شنيع. وينجو في ثلاثة: من
أحبني، ومن أحب محبي، ومن عادى عدوي؛ فمن أشرب قلبه بغضي أو ألب على بغضي؛ أو
انتقصني، فليعلم أن الله عدوه وخصمه، والله عدو للكافرين. وروى صاحب كتاب الغارات حديث البراءة على غير الوجه
المذكور في كتاب نهج البلاغة، قال: أخبرنا يوسف بن كليب المسعودي، عن يحيى بن
سليمان العبدي، عن أبي مريم الأنصاري، عن محمد بن علي الباقر عليه السلام، قال:
خطب علي عليه السلام على منبر الكوفة، فقال: سيعرض
عليكم سبي، وستذبحون عليه؛ فإن عرض عليكم سبي
فسبوني، وإن عرض عليكم البراءة مني، فإني على
دين محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يقل: فلا
تبرأوا مني. قال: قال علي عليه السلام: والله لتذبحن على سبي - وأشار بيده إلى حلقه - ثم قال: فإن أمروكم
بسبي فسبوني، وإن أمروكم أن تبرأوا مني
فإني على دين محمد صلى الله عليه وسلم. ولم ينههم عن إظهار البراءة. ثم إن رسول الله صلى الله عليه
وسلم وقف فوقفنا، فوضع رأسه على
رأس علي وبكى، فقال علي: ما يبكيك يا رسول الله؟ قال: " ضغائن في صدور قوم
لا يبدونها لك حتى يفقدوني "، فقال: يا رسول الله، أفلا أضع سيفي على عاتقي
فأبيد خضراءهم ! قال: " بل تصبر "، قال: فإن صبرت! قال: " تلاقي
جهداً"، قال: أفي سلامةٍ من ديني؟ قال: " نعم "، قال: فإذاً لا
أبالي. وروى صاحب كتاب الغارات عن
الأعمش، عن أنس بن مالك، قال: سمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول: " سيظهر على الناس رجل من أمتي، عظيم السرم ، واسع
البلعوم، يأكل ولا يشبع، يحمل وزر الثقلين، يطلب الإمارة يوماً، فإذا أدركتموه
فابقروا بطنه "، قال: وكان في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم قضيب، قد
وضع طرفه في بطن معاوية. قلت: هذا الخبر مرفوع مناسب لما قاله
علي عليه السلام في نهج البلاغة، ومؤكد لاختيارنا أن المراد به معاوية، دون ما
قاله كثير من الناس أنه زياد والمغيرة. ثم قال: أين المتكلم آنفاً؟ فلم يستطع
الإنكار، فقال: هأنذا يا أمير المؤمنين، فقال: أما إني لو أشاء لقلت، فقال: إن
تعف وتصفح، فأنت أهل ذلك؛ قال: قد عفوت وصفحت، فقيل لمحمد بن علي عليه السلام:
ما أراد أن يقول؟ قال: أراد أن ينسبه. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
سب علي عليه السلام عند الإكراه زكاة له
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
المسألة الثالثة:
في معنى قوله عليه السلام:
فسبوني فإنه لي زكاة ولكم
نجاة، فنقول:
إنه أباح لهم سبه عند الإكراه، لأن الله تعالى قد أباح عند الإكراه التلفظ بكلمة
الكفر، فقال: "
إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان " ، والتلفظ بكلمة الكفر أعظم من التلفظ
بسب الإمام.
واحتذيت أنا حذوه، فقلت لأبي المظفر هبة الله بن موسى الموسوي
رحمه الله تعالى في قصيدة أذكر فيها أباه:
وذكرنا
ههنا ما قبل المعنى وما بعده؛ لأن الشعر حديث، والحديث - كما قيل - يأخذ بعضه
برقاب بعض؛ ولأن ما قبل المعنى وما بعده مكمل له، وموضح مقصده. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
معنى السب والبراءة
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
المسألة الرابعة:
أن يقال: كيف قال عليه السلام: فأما السب فسبوني فإنه
لي زكاة ولكم نجاة، وأما البراءة فلا تبرأوا مني؟ وأي فرق بين السب والبراءة؟ وكيف أجاز لهم السب
ومنعهم عن التبرؤ، والسب أفحش من التبرؤ! والجواب؛ أما الذي يقوله أصحابنا في ذلك فإنه لا فرق عندهم بين سبه والتبرؤ منه، في أنهما حرام
وفسق وكبيرة، وأن المكره عليهما يجوز له فعلهما عند خوفه على نفسه، كما يجوز له
إظهار كلمة الكفر عند الخوف. فأما الإمامية فتروي عنه عليه السلام
أنه قال: إذا عرضتم على البراءة
منا فمدوا الأعناق. ويقولون: إنه لا يجوز
التبرؤ منه، وإن كان الحالف صادقاً، وإن عليه الكفارة. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
علي عليه السلام يقول إني ولدت على الفطرة
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
المسألة الخامسة:
أن يقال: كيف علل نهيه لهم على البراءة منه عليه السلام،، بقوله:
فإني ولدت على الفطرة، فإن هذا التعليل لا يختص به عليه
السلام، لأن كل أحدٍ يولد على الفطرة؛ قال النبي صلى
الله عليه وسلم: " كل مولود يولد على الفطرة،
وإنما أبواه يهودانه أو ينصرانه". وقد روي أن
السنة التي ولد فيها علي عليه السلام هي السنة التي بدئ فيها برسالة رسول الله
صلى الله عليه وسلم، فأسمع الهتاف من الأحجار والأشجار، وكشف عن بصره، فشاهد
أنواراً وأشخاصاً، ولم يخاطب فيها بشيء. وهذه السنة هي السنة التي ابتدأ فيها بالتبتل
والانقطاع والعزلة في جبل حراء، فلم يزل به حتى كوشف بالرسالة، وأنزل عليه
الوحي، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتيمن
بتلك السنة وبولادة علي عليه السلام فيها، ويسميها سنة الخير وسنة البركة، وقال
لأهله ليلة ولادته، وفيها شاهد ما شاهد من الكرامات والقدرة الإلهية، ولم يكن من
قبلها من شاهد من ذلك شيئاً: "
لقد ولد لنا الليلة مولود يفتح الله علينا به أبواباً كثيرة من النعمة والرحمة
"، وكان كما قال صلوات الله عليه،
فإنه عليه السلام كان
ناصره والمحامي عنه وكاشف الغماء عن وجهه، وبسيفه ثبت دين الإسلام، ورست دعائمه،
وتمهدت قواعده عليه السلام. وفي المسألة تفسير آخر؛
وهو أن يعني بقوله عليه السلام: فإني ولدت على الفطرة، أي على
الفطرة التي لم تتغير ولم تحل، وذلك أن معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "
كل مولود يولد عل الفطرة " أن كل مولود فإن الله تعالى قد هيأه بالعقل الذي
خلقه فيه وبصحة الحواس والمشاعر لأن يعلم التوحيد والعدل، ولم يجعل فيه مانعاً
يمنعه عن ذلك؛ ولكن التربية والعقيدة في الوالدين والإلف لاعتقادهما وحسن الظن
فيهما يصده عما فطر عليه؛ وأمير المؤمنين عليه
السلام دون غيره؛ ولد على الفطرة التي لم تحل ولم يصد عن
مقتضاها مانع؛ لا من جانب الأبوين ولا من جهة غيرهما، وغيره ولد على الفطرة،
ولكنه حال عن مقتضاها، وزال عن موجبها. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
المحققون من أهل السيرة علي عليه السلام أول من
أسلم
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
المسألة السادسة:
أن يقال: كيف قال: وسبقت إلى الإيمان، وقد قال قوم من الناس: إن أبا بكر سبقه، وقال قوم: إن زيد بن حارثة سبقه؟ والجواب: إن أكثر أهل الحديث وأكثر المحققين من
أهل السيرة رووا أنه عليه السلام أول من أسلم، ونحن نذكر
كلام أبي عمر يوسف بن عبد البر، المحدث في كتابه المعروف بالإستيعاب. قال أبو عمر: وقال ابن إسحاق:
أول من آمن بالله وبمحمد رسول الله صلى
الله عليه وسلم علي بن أبي
طالب عليه السلام؛ وهو
قول ابن شهاب، إلا أنه قال: من الرجال بعد خديجة. وروي عن أبي رافع مثل ذلك. قال: وقد روي حديث
زيد بن أرقم من وجوه، ذكرها النسائي وأسلم بن موسى وغيرهما؛ منها ما حدثنا به
عبد الوارث، قال: حدثنا قاسم، قال: حدثنا
أحمد بن زهير، قال: حدثنا علي بن الجعد، قال: حدثنا شعبة، قال: أخبرني عمرو بن
مرة، قال: سمعت أبا حمزة الأنصاري قال: سمعت زيد بن أرقم يقول: أول من صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب. قال:
وأخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن، قال: حدثنا إسماعيل بن علي الخطبي،
قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: حدثني حجين أبو عمر، قال: حدثنا
حبان، عن معروف، عن أبي معشر، قال: كان علي عليه السلام وطلحة والزبير في سنٍ
واحدة. وروى عنه هذا الكلام بعينه أبو محمد بن قتيبة
في كتاب المعارف وهو غير متهم في أمره.
ومن
جملتها:
والأخبار الواردة في هذا الباب كثيرة جداً لا يتسع هذا الكتاب
لذكرها، فلتطلب من مظانها .
ويروى
أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال لحسان : " هل قلت في أبي بكر شيئاً؟
" قال: نعم، وأنشده هذه الأبيات، وفيها بيت رابع:
فسر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: " أحسنت يا حسان "، وقد روي فيها بيت خامس:
وقال أبو عمر:
وروى شعبة، عن عمرو بن مرة، عن إبراهيم النخعي، قال:
أول من أسلم أبو بكر.
قال أبو عمر:
وروينا من وجوه، عن أبي أمامة الباهلي، قال: حدثني عمرو بن عبسة، قال: أتيت رسول
الله صلى الله عليه وسلم؛ وهو نازل بعكاظ ، فقلت: يا رسول الله، من اتبعك على
هذا الأمر؟ فقال: حر وعبد: أبو بكر وبلال. هذا مجموع ما ذكره أبو عمر بن عبد البر في هذا
الباب في ترجمة أبي بكر؛ ومعلوم أنه لا نسبة لهذه الروايات إلى الروايات التي
ذكرها في ترجمة علي عليه السلام الدالة على سبقه، ولا
ريب أن الصحيح ما ذكره أبو عمر أن علياً عليه السلام كان هو السابق، وأن أبا بكر
هو أول من أظهر إسلامه، فظن أن السبق له. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
علي عليه السلام من السابقين إلى الهجرة
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
المسألة السابعة:
أن يقال: كيف قال: إنه سبق إلى الهجرة، ومعلوم أن جماعة من المسلمين هاجروا
قبله، منهم عثمان بن مظعون وغيره؛ وقد هاجر أبو بكر قبله، لأنه هاجر في صحبة
النبي صلى الله عليه وسلم؛ وتخلف علي عليه
السلام عنهما، فبات على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ومكث أياماً يرد الودائع التي كانت
عنده، ثم هاجر بعد ذلك؟ والجواب، أنه عليه السلام لم يقل: وسبقت كل الناس إلى الهجرة، وإنما
قال: وسبقت، فقط. ولا يدل ذلك على سبقه الناس كافة، ولا شبهة
أنه سبق معظم المهاجرين إلى الهجرة، ولم يهاجر قبله أحد إلا نفر يسير جداً.
يا
هذا، إنك قد سألتنا فاجبناك، ولم نكتمك شيئاً، فممن الرجل؟ قال: من قريش، قال:
بخٍ بخٍ ! أهل الشرف والرياسة، فمن أي قريش أنت؟ قال: من تيم بن مرة، قال: أمكنت
والله الرامي من الثغرة، أمنكم قصي بن كلاب الذي جمع القبائل من فهر فكان يدعى
مجمعاً؟ قال: لا، قال: أفمنكم هاشم الذي هشم لقومه الثريد؟ قال:لا، قال: أفمنكم
شيبة الحمد، مطعم طير السماء؟ قال: لا، قال: أفمن المفيضين بالناس أنت؟ قال: لا،
قال: أفمن أهل الندوة أنت؟ قال: لا، قال: أفمن أهل الرفادة أنت؟ قال: لا، قال:
أفمن أهل الحجابة أنت؟ قال: لا، قال: أفمن أهل السقاية ؟ قال: لا، قال: فاجتذب
أبو بكر زمام ناقته، ورجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هارباً من الغلام؛ فقال دغفل:
أما
والله لو ثبت لأخبرتك أنك من زمعات قريش؛ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال علي عليه السلام لأبي بكر:
لقد وقعت يا أبا بكر من الأعرابي على باقعة؛ قال: أجل، إن لكل طامة طامة والبلاء
موكل بالمنطق، فذهبت مثلاً. وأما رواية محمد
بن إسحاق؛ فإنه قال: كان معه زيد بن حارثة وحده، وغاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مكة في هذه الهجرة أربعين يوماً؛ ودخل إليها في جوار مطعم
بن عدي. وكان قدوم جعفر عليه عام فتح خيبر ، فقال صلى الله عليه وسلم: " ما أدري بأيهما أنا أسر، أبقدوم جعفر أم بفتح خيبر
"!. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن كلام له كلم به الخوارج
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأصل:
أصابكم حاصب، ولا بقي منكر آبر. أبعد إيماني بالله، وجهادي مع رسول الله صلى الله عليه وآله، أشهد على نفسي بالكفر! لقد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين.
فأوبوا شر مآبٍ، وارجعوا على أثر الأعقاب.
فأما التفسيرات التي فسر بها الرضي رحمه الله تعالى قوله عليه
السلام:
آبر، فيمكن أن يزاد فيها، فيقال: يجوز أن يريد
بقوله: ولا بقي منكم آبر، أي تمام يفسد ذات البين؛ والمئبرة: النميمة، وأبر
فلان، أي نم، والآبر أيضاً: من يبغي القوم الغوائل خفيةً، مأخوذ من أبرت الكلب
إذا أطعمته الإبرة في الخبز، وفي الحديث: " المؤمن
كالكلب المأبور "؛ ويجوز أن يكون أصله هابر؛
أي من يضرب بالسيف فيقطع، وأبدلت الهاء همزة، كما قالوا في آل أهل، وإن صحت
الرواية الأخرى آثر بالثاء بثلاث نقط، فيمكن أن يريد به ساجي باطن خف البعير،
وكانوا يسجون باطن الخف بحديدة ليقتص أثره، رجل آثر وبعير مأثور. وقوله عليه السلام:
فأوبوا شر مآب، أي ارجعوا شر مرجع. والأعقاب: جمع
عقب بكسر القاف، وهو مؤخر القدم، وهذا كله دعاء عليهم، قال
لهم أولاً: أصابكم حاصب، وهذا من دعاء العرب، قال تميم بن أبي مقبل:
ثم قال لهم ثانياً:
لا بقي منكم مخبر. ثم قال لهم ثالثاً: ارجعوا شر مرجع، ثم قال لهم رابعاً: عودوا على أثر الأعقاب: وهو مأخوذ
من قوله تعالى: " ونرد على أعقابنا بعد إذ
هدانا الله" والمراد انعكاس حالهم؛ وعودهم من العز إلى الذل؛ ومن
الهداية إلى الضلال. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الخوارج رجالهم وحروبهم
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
واعلم أن الخوارج على أمير المؤمنين عليه
السلام كانوا أصحابه وأنصاره في
الجمل وصفين قبل التحكيم؛ وهذه المخاطبة لهم، وهذا الدعاء عليهم، وهذا
الإخبار عن مستقبل حالهم، وقد وقع ذلك؛ فإن الله تعالى سلط على الخوارج بعده
الذل الشامل، والسيف القاطع، والأثرة من السلطان، وما زالت حالهم تضمحل؛ حتى أفناهم الله تعالى وأفنى جمهوهم؛ ولقد كان لهم من
سيف المهلب بن أبي صفرة وبنيه الحتف القاضي، والموت الزؤام. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
عروة بن حدير
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
فمنهم عروة بن حدير أحد بني ربيعة بن حنظلة من بني
تميم؛ ويعرف بعروة ابن أدية، وأدية جدة له جاهلية، وكان له أصحاب وأتباع وشيعة، فقتله زياد في خلافة معاوية صبراً. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
نجدة بن عويمر الحنفي
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومنهم
نجدة بن عويمر الحنفي، كان من رؤسائهم؛ وله مقالة مفردة من مقالة الخوارج وله
أتباع وأصحاب؛ وإليهم أشار الصلتان العبدي بقوله:
وكان
نجدة يصلي بمكة بحذاء عبد الله بن الزبير في جمعه في كل جمعة، وعبد الله يطلب
الخلافة، فيمسكان عن القتال من أجل الحرم.
واستولى
نجدة على اليمامة، وعظم أمره؛ حتى ملك اليمن والطائف وعمان والبحرين ووادي تميم
وعامر، ثم إن أصحابه نقموا عليه أحكاماً أحدثها في مذهبهم، منها قوله: إن المخطئ
بعد الاجتهاد معذور، وإن الدين أمران: معرفة الله ومعرفة رسوله؛ وما سوى ذلك
فالناس معذورون بجهله؛ إلى أن تقوم عليهم الحجة، فمن استحل محرماً من طريق
الاجتهاد فهو معذور؛ حتى إن من تزوج أخته أو أمه مستحلاً لذلك بجهالة فهو معذور
ومؤمن؛ فخلعوه وجعلوا اختيار الإمام إليه؛ فاختار لهم أبا فديك، أحد بني قيس بن
ثعلبة، فجعله رئيسهم. ثم إن أبا فديك أنفذ إلى نجدة بعد من قتله، ثم تولاه بعد
قتله طوائف من أصحابه بعد أن تفرقوا عليه؛ وقالوا: قتل مظلوماً. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
المستورد بن سعد التميمي
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومنهم المستورد بن سعد أحد بني تميم؛ كان ممن شهد
يوم النخيلة ونجا بنفسه فيمن نجا من سيف علي عليه
السلام، ثم خرج بعد ذلك بمدة على المغيرة بن شعبة، وهو
والي الكوفة لمعاوية بن أبي سفيان في جماعة من الخوارج، فوجه المغيرة إليه معقل
بن قيس الرياحي، فلما تواقفا دعاه المستورد إلى المبارزة، وقال له: علام تقتل
الناس بيني وبينك؟ فقال معقل: النصف سألت، فأقسم عليه أصحابه، فقال: ما كنت لآبى
عليه، فخرج إليه فاختلفا ضربتين، خر كل واحد منهما من ضربة صاحبه قتيلاً، وكان
المستورد ناسكاً كثير الصلاة، وله آداب وحكم مأثورة. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
حوثر الأسدي
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومنهم حوثرة الأسدي، خرج على معاوية في عام الجماعة
في عصابة من الخوارج؛ فبعث إليه معاوية جيشاً من أهل الكوفة، فلما نظر حوثرة إليهم، قال لهم: يا أعداء الله أنتم بالأمس تقاتلون معاوية لتهدوا
سلطانه؛ وأنتم اليوم تقاتلون معه لتشدوا سلطانه! فلما التحمت الحرب قتل
حوثرة، قتله رجل من طيئ، وفضت جموعه. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قريب بن مرة وزحاف الطائي
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومنهم
قريب بن مرة الأزدي، وزحاف الطائي، كانا عابدين مجتهدين من أهل البصرة، فخرجا في
أيام معاوية في إمارة زياد، واختلف الناس: أيهما كان الرئيس؟ فاعترضا الناس،
فلقيا شيخاً ناسكاً من بني ضبيعة من ربيعة بن نزار فقتلاه - وكان يقال له رؤبة
الضبعي - وتنادى الناس، فخرج رجل من بني قطيعة، من الأزد، وفي يده السيف، فناداه
الناس من ظهور البيوت الحرورية: انج بنفسك؛ فنادوه: لسنا حرورية، نحن الشرط فوقف
فقتلوه؛ فبلغ أبا بلال مرداس بن أدية خبرهما، فقال: قريب، لا قربه الله! وزحاف
لا عفا الله عنه! ركباها عشواء مظلمة - يريد اعتراضهما الناس - ثم جعلا لا يمران
بقبيلة إلا قتلا من وجدا، حتى مرا على بني علي بن سود، من الأزد، وكانوا رماة،
كان فيهم مائة يجيدون الرمي؛ فرموهم شديداً فصاحوا: يا بني علي، البقيا، لا رماء
بيننا. فقال رجل من بني علي بن سود:
فعرد
عنهم الخوارج، وخافوا الطلب، واشتقوا مقبرة بني يشكر حتى نفذوا إلى مزينة
ينتظرون من يلحق بهم من مضر وغيرها، فجاءهم ثمانون، وخرجت إليهم بنو طاحية، من
بني سود، وقبائل من مزينة وغيرها، فاستقلت الخوارج، وحاربت حتى قتلت عن آخرها،
وقتل قريب وزحاف. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
نافع بن الأزرق الحنفي
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومنهم نافع بن الأزرق الحنفي، وكان
شجاعاً مقدماً في فقه الخوارج، وإليه تنسب الأزارقة،
وكان يفتي بأن الدار كفر، وأنهم جميعاً في النار، وكل من فيها كافر، إلا من أظهر
إيمانه، ولا يحل للمؤمنين أن يجيبوا داعياً منهم إلى الصلاة، ولا أن يأكلوا من
ذبائحهم، ولا أن يناكحوهم، ولا يتوارث الخارجي وغيره، وهم مثل كفار العرب وعبدة
الأوثان، لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف والقعد بمنزلتهم، والتقية لا تحل، لأن الله تعالى يقول: " إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية
" ، وقال فيمن كان على خلافهم: " يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائمٍ
" ، فتفرق عنه جماعة من الخوارج؛
منهم نجدة بن عامر، واحتج نجدة بقول الله تعالى: "
وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه " ،
فسار نجدة وأصحابه إلى اليمامة، وأضاف نافع إلى مقالته التي قدمناها، استحلاله
الغدر بأمانته لمن خالفه، فكتب نجدة إليه: أما بعد، فإن عهدي بك وأنت لليتيم كالأب الرحيم،
وللضعيف كالأخ البر، تعاضد قوي المسلمين، وتصنع للأخرق منهم؛ لا تأخذك في الله
لومة لائم؛ ولا ترى معونة ظالم، كذلك كنت أنت وأصحابك، أولا
تتذكر قولك: لولا أني أعلم أن للإمام العادل مثل أجر رعيته ما توليت أمر
رجلين من المسلمين! فلما شريت نفسك في طاعة ربك ابتغاء مرضاته، وأصبت من الحق
فصه ، وصبرت على مره، تجرد لك الشيطان؛ ولم يكن أحد أثقل عليه وطأة منك ومن
أصحابك؛ فاستمالك واستهواك، وأغواك فغويت، وأكفرت الذين عذرهم الله تعالى في
كتابه، من قعدة المسلمين وضعفتهم، قال الله عز وجل، وقوله الحق، ووعده الصادق: " ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا
يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله " : ثم سماهم تعالى أحسن
الأسماء فقال: " ما على المحسنين من سبيل "
ثم استحللت قتل الأطفال، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتلهم، وقال
الله جل ثناؤه: " ولا تزر وازرة وزر أخرى " ،
وقال سبحانه في القعدة خيراً، فقال: " وفضل
الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً " فتفضيله المجاهدين على القاعدين لا يدفع منزلة من هو دون
المجاهدين، أوما سمعت قوله تعالى: " لا يستوي
القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر" فجعلهم من المؤمنين وفضل
عليهم المجاهدين بأعمالهم ثم إنك لا تؤدي أمانةً إلى من خالفك، والله تعالى قد
أمر أن تؤدي الأمانات إلى أهلها. فاتق الله في نفسك، واتق فيه والد عن ولده، ولا
مولود هو جاز عن والده شيئاً فإن الله بالمرصاد، وحكمه العدل، وقوله الفصل.
والسلام. وقد عرفت ما قال الله تعالى
فيمن كان مثلهم، إذ قالوا: " كنا مستضعفين في الأرض " فقال: " ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها " ،
وقال سبحانه: " فرح المخلفون بمقعدهم خلاف
رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله " ،
وقال: " وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم
" فخبر بتعذيرهم، وأنهم كذبوا الله ورسوله، ثم قال: " سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم " فانظر
إلى أسمائهم وسماتهم. وكتب إلى من بالبصرة من المحكمة:
أما بعد، فإن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون. إنكم لتعلمون أن
الشريعة واحدة، والدين واحد، ففيم المقام بين أظهر الكفار ترون الظلم ليلاً
ونهاراً، وقد ندبكم الله عز وجل إلى الجهاد، فقال: " وقاتلوا المشركين
كافةً " ، ولم يجعل لكم في التخلف عذراً في حالٍ من الأحوال، فقال: " انفروا خفافاً وثقالاً " وإنما عذر
الضعفاء والمرضى، والذين لا يجدون ما ينفقون، ومن كانت إقامته لعلة، ثم فضل
عليهم مع ذلك المجاهدين فقال: " لا يستوي
القاعدون من المؤمنين غيرأولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله " ،
فلا تغتروا وتطمئنوا إلى الدنيا؛ فإنها غرارة مكارة، لذتها نافدة، ونعيمها بائد،
حفت بالشهوات اغتراراً، وأظهرت حبرة وأضمرت عبرة، فليس آكل منها أكلة تسره، ولا
شارب منها شربة تؤنقه إلا ودنا بها درجة إلى أجله، وتباعد بها مسافة من أمله،
وإنما جعلها الله دار المتزود منها، إلى النعيم المقيم، والعيش السليم، فليس
يرضى بها حازم داراً ولا حكيم قراراً، فاتقوا الله وتزودوا فإن خير الزاد
التقوى، والسلام على من اتبع الهدى. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
عبيد الله بن بشير بن الماحوز اليربوعي
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومنهم
عبيد الله بن بشير بن الماحوز اليربوعي، قام بأمر
الخوارج يوم دولاب بعد قتل نافع ابن الأزرق؛ وقام بأمر أهل البصرة عمر بن
عبيد الله بن معمر التيمي، ولاه عبد الله بن الزبير ذلك، ولقيه كتابه بالإمارة
وهو يريد الحج، وقد صار إلى بعض الطريق، فرجع فأقام بالبصرة، وولى أخاه عثمان بن
عبيد الله بن معمر محاربة الأزارقة، فخرج إليهم في اثني عشر ألفاً، فلقيه أهل
البصرة الذين كانوا في وجه الأزارقة، ومعهم حارثة بن بدر الغداني، يقوم بأمرهم
عن غير ولاية، وكان ابن الماحوز حينئذ في سوق الأهواز ، فلما عبر عثمان إليهم
دجيلاً ، نهضت إليه الخوارج، فقال عثمان لحارثة:
ما الخوارج إلا ما أرى؛ فقال حارثة: حسبك بهؤلاء! قال: لا جرم، لا أتغدى حتى
أناجزهم، فقال حارثة: إن هؤلاء القوم لا يقاتلون بالتعسف، فأبق على نفسك وجندك،
فقال: أبيتم يا أهل العراق إلا جبناً! وأنت يا حارثة ما علمك بالحرب! أنت والله
بغير هذا أعلم - يعرض له بالشراب، وكان حارثة بن بدر صاحب شراب - فغضب حارثة،
فاعتزل، وحاربهم عثمان يومه إلى أن غربت الشمس، فأجلت الحرب عنه قتيلاً، وانهزم
الناس، وأخذ حارثة بن بدر الراية، وصاح بالناس: أنا
حارثة بن بدر! فثاب إليه قوم فعبر بهم دجيلاً، وبلغ قتل عثمان البصرة،
فقال شاعر من بني تميم:
ووصل
الخبر إلى عبد الله بن الزبير بمكة، فكتب إلى عمر بن عبيد الله بن معمر بعزله،
وولى الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي المعروف بالقباع البصرة، فقدمها،
فكتب إليه حارثة بن بدر يسأله الولاية والمدد، فأراد توليته، فقال له رجل من بكر
وائل: إن حارثة ليس بذلك، إنما هو صاحب شراب، وكان
حارثة مستهتراً بالشراب، معاقراً للخمر، وفيه يقول رجل من قومه:
فكتب إليه القباع: تكفى حربهم إن شاء الله. فاقام حارثة يدافعهم حتى تفرق
أصحابه عنه وبقي في خف منهم؛ فاقام بنهر تيرى، فعبرت إليه الخوارج، فهرب من تخلف
معه من أصحابه؛ وخرج يركض حتى أتى دجيلاً، فجلس في
سفينة، واتبعه جماعة من أصحابه؛ فكانوا معه فيها؛ ووافاه رجل من بني تميم، عليه
سلاحه والخوارج وراءه، وقد توسط حارثة دجيلاً، فصاح به: يا حارثة، ليس مثلي
يضيع! فقال للملاح: قرب، فقرب إلى جرف ، ولا فرضة هناك، فطفر بسلاحه في السفينة،
فساخت بالقوم جميعاً، وهلك حارثة.
وقال:
قال:
كرنبوا، أي اطلبوا كرنبى، وهي قرية من الأهواز، ودولبوا: اطلبوا دولاب، وهي ضيعة
بينها وبين الأهواز أربعة فراسخ. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الزبير بن علي السليطي وظهور أمر المهلب
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومنهم
الزبير بن علي السليطي التميمي، كان على مقدمة ابن الماحوز، وكان ابن الماحوز
يخاطب بالخلافة، ويخاطب الزبير بالإمارة. ووصل الزبير بعد هلاك حارثة بن بدر،
وهرب أصحابه إلى البصرة، فخافه الناس خوفاً شديداً، وضج أهل البصرة إلى الأحنف،
فأتى القباع، فقال: أصلح الله الأمير! إن هذا العدو قد غلبنا على سوادنا وفيئنا،
فلم يبق إلا أن يحصرنا في بلدنا حتى نموت هزالاً، قال: فسموا إلي رجلاً يلي
الحرب، فقال الأحنف: لا أرى لها رجلاً إلا المهلب بن
أبي صفرة، فقال: أو هذا رأي جميع أهل البصرة؟ اجتمعوا إلي في غدٍ لأنظر،
وجاء الزبير حتى نزل على البصرة، وعقد الجسر ليعبر إليها، فخرج أكثر أهل البصرة
إليه، وانضم إلى الزبير جميع كور الأهواز وأهلها رغبة ورهبة، فوافاه البصريون في
السفن وعلى الدواب؛ فاسودت بهم الأرض، فقال الزبير لما
رآهم: أبى قومنا إلا كفراً؛ وقطع الجسر، وأقام الخوارج بإزائهم، واجتمع الناس
عند القباع، وخافوا الخوارج خوفاً شديداً،
وكانوا ثلاث فرق: سمى قوم المهلب، وسمى قوم مالك بن مسمع، وسمى قوم زياد
بن عمرو بن أشرف العتكي، فاختبر القباع ما عند مالك وزياد، فوجدهما متثاقلين عن الحرب، وعاد إليه من أشار بهما، وقالوا:
قد رجعنا عن رأينا؛ ما نرى لها إلا المهلب، فوجه إليه القباع فأتاه، فقال له: يا
أبا سعيد، قد ترى ما قد رهقنا من هذا العدو، وقد أجمع أهل مصرك عليك؛ وقال له الأحنف: يا أبا سعيد، إنا والله ما آثرناك، ولكنا لم
نر من يقوم مقامك.
وأبلى
مع المغيرة يومئذ عطية بن عمرو العنبري، من فرسان تميم وشجعانهم. ومن شعر عطية:
وقال
فيه شاعر من بني تميم:
فأقام المهلب أربعين ليلة يجبي
الخراج بكور دجلة، والخوارج بنهر تيرى، والزبير بن علي منفرد بعسكره عن عسكر ابن
الماحوز؛ فقضى المهلب التجار، وأعطى أصحابه، فأسرع الناس
إليه رغبة في مجاهدة العدو وطمعاً في الغنائم والتجارات، فكان فيمن أتاه محمد بن
واسع الأزدي وعبد الله بن رباح ومعاوية بن قرة المزني، وكان يقول: لو جاءت
الديلم من ههنا والحرورية من ههنا لحاربت الحرورية، وجاءه أبو عمران الجوني،
وكان يروى عن كعب أن قتيل الحرورية يفضل قتيل غيرهم بعشرة أبواب. ويقال:
حاص المهلب يومئذ حيصة. ويقول الأزد: بل كان يرد المنهزمة ويحمي أدبارهم، وبنو
تميم تزعم أنه فر، وقال شاعرهم:
وقال
آخر من بني تميم:
قوله:
الأعور الكذاب، يعني به المهلب، كانت عينه عارت بسهم أصابها، وسموه الكذاب، لأنه كان فقيهاً، وكان يتأول ما ورد في الأثر من أن كل كذب
يكتب كذباً إلا ثلاثة: الكذب في الصلح بين رجلين، وكذب الرجل لامرأته
بوعد، وكذب الرجل في الحرب بتوعد وتهدد. قالوا: وجاء
عنه صلى الله عليه وسلم: " إنما أنت رجل فخذل عنا ما استطعت ". وقال: " إنما
الحرب خدعة "، فكان المهلب ربما صنع الحديث
ليشد به من أمر المسلمين ما ضعف، ويضعف به من أمر الخوارج ما اشتد، وكان حي من
الأزد يقال لهم الندب، إذا رأوا المهلب رائحاً إليهم
قالوا: راح ليكذب، وفيه يقول رجل منهم:
فبات المهلب في ألفين، فلما أصبح رجع بعض المنهزمة، فصاروا في أربعة
آلاف، فخطب أصحابه، فقال:
والله ما بكم من قلة، وما ذهب عنكم إلا أهل الجبن والضعف والطبع والطمع، فإن
يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله؛ فسيروا إلى عدوكم على بركة الله.
فأقام المهلب في ذلك العاقول ثلاثة أيام ثم ارتحل، والخوارج بسلى
وسلبرى فنزل قريباً منهم، فقال ابن الماحوز لأصحابه: ما تنتظرون بعدوكم وقد هزمتموهم
بالأمس، وكسرت حدهم! فقال له واقد مولى أبي صفرة: يا أمير المؤمنين إنما تفرق
عنهم أهل الضعف والجبن، وبقي أهل النجدة والقوة، فإن أصبتهم لم يكن ظفراً هيناً،
لأني أراهم لا يصابون حتى يصيبوا، وإن غلبوا ذهب الدين. فقال أصحابه: نافق واقد،
فقال ابن الماحوز: لا تعجلوا على أخيكم، فإنه إنما قال هذا نظراً لكم. ثم نجم المهلب في مائة، وقد انغمس كماه في الدم، وعلى رأسه قلنسوة مربعة فوق المغفر
محشوة قزاً قد تمزقت، وإن حشوها ليتطاير وهو يلهث، وذلك في وقت الظهرفلم يزل
يحاربهم حتى أتى الليل، وكثر القتلى في الفريقين، فلما كان الغد غاداهم؛ وقد كان
وجه بالأمس رجلاً من طاحية بن سود بن مالك بن فهم، من الأزد من ثقاته وأصحابه،
يرد المنهزمين، فمر به عامر بن مسمع فرده، فقال: إن الأمير أذن لي في الانصراف،
فبعث إلى المهلب، فأعلمه، فقال: دعه فلا حاجة لي في مثله من أهل الجبن والضعف،
ثم غاداهم المهلب في ثلاثة آلاف، وقد تفرق عنه أكثر الناس، وقال لأصحابه: ما بكم
من قلة! أيعجز أحدكم أن يلقي رمحه ثم يتقدم فيأخذه! ففعل ذلك رجل من كندة، واتبعه
قوم، ثم قال المهلب لأصحابه: أعدوا مخالي
فيها حجارة، وارموا بها في وقت الغفلة، فإنها تصد الفارس، وتصرع الراجل، ففعلوا.
ثم أمر منادياً ينادي في أصحابه، يأمرهم بالجد والصبر، ويطمعهم في العدو، ففعل
ذلك حتى مر ببني العدوية، من بني مالك بن حنظلة، فنادى فيهم فضربوه، فدعا المهلب
بسيدهم - وهو معاوية بن عمرو - فجعل يركله برجله، فقال: أصلح الله الأمير! اعفني
من أم كيسان - والأزد تسمي الركبة أم كيسان - ثم حمل المهلب وحملوا، واقتتلوا
قتالاً شديداً، فجهد الخوارج، ونادى منادٍ منهم: ألا إن
المهلب قد قتل.
وقال
آخر:
وقال رجل من موالي المهلب: لقد صرعت يومئذ بحجر واحد ثلاثة، رميت به رجلاً فصرعته، ثم
رميت به رجلاً فأصبت به أصل أذنه فصرعته، ثم أخذت الحجر وصرعت به ثالثاً؛ وفي ذلك يقول رجل من الخوارج:
وقال
رجل من أصحاب المهلب في يوم سلى وسلبرى وقتل ابن الماحوز:
ويروى
أن رجلاً من الخوارج يوم سلى حمل على رجل من أصحاب المهلب؛ فطعنه، فلما خالطه
الرمح صاح: يا أمتاه! فصاح به المهلب: لا كثر الله منك في المسلمين! فضحك
الخارجي، وقال:
وكان
المغيرة بن المهلب إذا نظر إلى الرماح قد تشاجرت في وجهه، نكس على قربوس السرج،
وحمل من تحتها، فبراها بسيفه، وأثر في أصحابها، فتحوميت الميمنة من أجله، وكان أشد ما تكون الحرب استعاراً أشد ما يكون تبسماً.
وكان المهلب يقول: ما شهد معي حرباً قط إلا رأيت البشرى في وجهه! وقال رجل من
الخوارج في هذا اليوم:
فكتب المهلب إلى الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة القباع: أما بعد، فإنا لقينا الأزارقة بحد
وجد، فكانت في الناس جولة، ثم ثاب أهل الحفاظ والصبر بنيات صادقة، وأبدانٍ شداد،
وسيوف حداد، فأعقب الله خير عاقبة، وجاوز بالنعمة مقدار الأمل، فصاروا دريئة
رماحنا، وضرائب سيوفنا، وقتل الله أميرهم ابن الماحوز،
وأرجو أن يكون آخر هذه النعمة كأولها. والسلام. فلم يزل يقرأ الكتب وينظر في تضاعيفها، ويلتمس
كتاب الأحنف فلا يراه، فلما لم يره، قال لأصحابه: أما كتب أبو بحر؟ فقال له
الرسول: إنه حملني إليك رسالة، فأبلغه، فقال: هذا أحب إلي من هذه الكتب.
وقال المهلب يومئذ: ما وقفت في مضيق من الحرب إلا رأيت أمامي رجالاً من بني
الهجيم بن عمرو بن تميم يجالدون، وكأن لحاهم أذناب العقاعق وكانوا صبروا معه في
غير مواطن، وقال رجل من أصحاب المهلب من بني تميم:
وحمل
يومئذ الحارث بن هلال على قيس الإكاف، وكان من أنجد فرسان الخوارج؛ فطعنه فدق
صلبه، وقال:
وقد
كان بعض جيش المهلب يوم سلى وسلبرى صاروا إلى البصرة، فذكروا أن المهلب قد أصيب،
فهم أهل البصرة بالنقلة إلى البادية، حتى ورد كتابه بظفره، فأقام الناس؛ وتراجع
من كان ذهب منهم؛ فعند ذلك قال الأحنف: البصرة بصرة المهلب. وقدم رجل من كندة
يعرف بابن أرقم، فنعى ابن عم له، وقال: إني رأيت رجلاً من الخوارج، وقد مكن رمحه
من صلبه، فلم ينشب أن قدم المنعي سالماً، فقيل له ذلك، فقال: صدق ابن أرقم، لما
أحسست برمحه بين كتفي صحت به: البقية، فرفعه، وتلا: "
بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين " ووجه
المهلب بعقب هذه الوقعة رجلاً من الأزد، برأس عبيد الله بن الماحوز إلى الحارث
بن عبد الله، فلما صار بكربج دينار لقيته إخوة عبيد الله: حبيب وعبد الملك وعلي بنو بشير بن الماحوز فقالوا: ما
الخبر؟ وهو لا يعرفهم؛ فقال: قتل الله ابن الماحوز
المارق، وهذا رأسه معي، فوثبوا عليه فقتلوه وصلبوه، ودفنوا رأس أخيهم عبيد الله،
فلما ولي الحجاج دخل عليه علي بن بشير، وكان وسيماً جسيماً، فقال: من هذا؟ فخبره فقتله ووهب ابنه وابنته لأهل الأزدي المقتول،
وكانت زينب بنت بشير لهم مواصلة، فوهبوهما لها. فشخص فولاه الموصل
فخرج إليها، وصار مصعب إلى البصرة لينفر إلى أخيه بمكة. فشاور الناس فيمن يستكفيه أمر
الخوارج، فقال قوم: ول عبد الله بن أبي بكرة، وقال قوم: ول عمر بن عبيد الله بن
معمر، وقال قوم: ليس لهم إلا المهلب فاردده إليهم، وبلغت المشورة الخوارج
فأداروا الأمر بينهم، فقال قطري بن الفجاءة المازني - ولم يكن أمروه عليهم بعد
-: إن جاءكم عبد الله بن أبي بكرة أتاكم سيد سمح كريم جواد مضيع لعسكره، وإن
جاءكم عمر بن عبيد الله أتاكم فارس شجاع، بطل جاد، يقاتل لدينه ولملكه، وبطبيعة
لم أر مثلها لأحد، فقد شهدته في وقائع، فما نودي في القوم لحربٍ إلا كان أول
فارس؛ حتى يشد على قرنه ويضربه؛ وإن رد المهلب فهو من عرفتموه، إذا أخذتم بطرف
ثوب أخذ بطرفه الآخر، يمده إذا أرسلتموه، ويرسله إذا مددتموه، لا يبدؤكم إلا أن
تبدأوه، إلا أن يرى فرصة فينتهزها، فهو الليث المبر ، والثعلب الرواغ، والبلاء المقيم. فقال عمر:
اسكت، خلع الله قلبك! أتراك تموت قبل أجلك! وأقام هناك، فلما كان ذات ليلة بيته
الخوارج، فخرج إليهم فحاربهم حتى أصبح، فلم يظفروا منه بشيء. فأقبل على مالك بن
أبي حسان، فقال: كيف رأيت؟ فقال: قد سلم الله، ولم يكونوا يطمعون في مثلها من
المهلب، فقال: أما إنكم لو ناصحتموني مناصحتكم المهلب، لرجوت أن أنفي هذا العدو،
ولكنكم تقولون: قرشي حجازي، بعيد الدار خيره لغيرنا،
فتقاتلون معي تعذيراً . ثم زحف إلى الخوارج من غد
ذلك اليوم،
فقاتلهم قتالاً شديداً، حتى ألجأهم إلى قنطرةٍ، فنكاثف الناس عليها حتى سقطت،
فأقام حتى أصلحها، ثم عبر، وتقدم ابنه عبيد الله بن عمر - وأمه من بني سهم بن
عمرو بن هصيص بن كعب - فقاتلهم حتى قتل، فقال قطري
للخوارج: لا تقاتلوا عمر اليوم، فإنه موتور ، قد قتلتم ابنه - ولم يعلم عمر بقتل ابنه حتى أفضى إلى القوم، وكان معه ابنه
النعمان ابن عباد - فصاح به عمر: يا نعمان، أين ابني؟ قال: احتسبه فقد
استشهد صابراً مقبلاً غير مدبر، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون! ثم حمل على
الخوارج حملة لم ير مثلها، وحمل أصحابه بحملته؛ فقتلوا في وجههم ذلك تسعين رجلاً
من الخوارج، وحمل على قطري فضربه على جبينه ففلقه،
وانهزمت الخوارج وانتهبها، فلما استقروا ورأى ما نزل بهم، قال: ألم أشر
عليكم بالإنصراف! فجعلوه حينئذ من وجوههم؛ حتى خرجوا من فارس، وتلقاهم في ذلك
الوقت الفزر بن مهزم العبدي، فسألوه عن خبره، وأرادوا قتله، فأقبل على قطري،
وقال: إني مؤمن مهاجر، فسأله عن أقاويلهم فأجاب إليها، فخلوا عنه، ففي ذلك يقول
في كلمة له:
ثم
رجعوا وتكانفوا ، وعادوا إلى ناحية أرجان، فسار إليهم عمر بن عبيد الله، وكتب إلى مصعب: أما بعد: فإني لقيت الأزارقة؛ فرزق
الله عز وجل عبيد الله بن عمر الشهادة، ووهب له السعادة، ورزقنا بعد عليهم
الظفر، فتفرقوا شذر مذر . وبلغني
عنهم عودة فيممتهم، وبالله أستعين؛ وعليهم أتوكل.
قال: ثم عزل مصعب بن الزبير، وولى عبد الله بن الزبير العراق ابنه
حمزة بن عبد الله بن الزبير؛
فمكث قليلاً؛ ثم أعيد مصعب إلى العراق، والخوارج بأطراف أصبهان، والوالي عليها
عتاب بن ورقاء الرياحي؛ فأقام الخوارج هناك يجبون شيئاً من القرى، ثم أقبلوا إلى
الأهواز من ناحية فارس، فكتب مصعب إلى عمر بن عبيد
الله: ما أنصفتنا! أقمت بفارس تجبي الخراج؛ ومثل هذا العدو يجتاز بك لا
تحاربه! والله لو قاتلت ثم هزمت لكان أعذر لك! وخرج مصعب من البصرة يريدهم،
وأقبل عمر بن عبيد الله يريدهم، فتنحى الخوارج إلى السوس، ثم أتوا إلى المدائن؛
وبسطوا في القتل، فجعلوا يقتلون النساء والصبيان؛ حتى أتوا المذار ؛ فقتلوا أحمر
طيئ؛ وكان شجاعاً، وكان من فرسان عبيد الله بن الحر، وفي
ذلك يقول الشاعر:
ثم
خرجوا عامدين إلى الكوفة، فلما خالطوا سوادها - وواليها الحارث القباع - تثاقل
عن الخروج، وكان جباناً؛ فذمره إبراهيم بن الأشتر، ولامه الناس، فخرج متحاملاً
حتى أتى النخيلة، ففي ذلك يقول الشاعر:
وجعل
يعد الناس بالخروج ولا يخرج، والخوارج يعيثون؛ حتى أخذوا امرأة، فقتلوا أباها
بين يديها، وكانت جميلة، ثم أرادوا قتلها، فقالت:
أتقتلون من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين! فقال قائل منهم، دعوها،
فقالوا: قد فتنتك، ثم قدموها فقتلوها.
وأخذ
الخوارج حاجتهم، وكان شأن القباع التحصن منهم؛ ثم انصرفوا ورجع إلى الكوفة؛
وساروا من فورهم إلى أصبهان، فبعث عتاب بن ورقاء الرياحي إلى الزبير بن علي: أنا
ابن عمك، ولست أراك تقصد في انصرافك من كل حرب غيري. فبعث إليه الزبير: إن أدنى الفاسقين وأبعدهم في الحق سواء. فلما
أحس به الزبير خرج إلى الري - وبها يزيد الحارث بن رويم - فحاربه ثم حصره؛ فلما
طال عليه الحصار خرج إليه؛ فكان الظفر للخوارج، فقتل يزيد الحارث بن رويم؛ ونادى
يزيد ابنه حوشبا، ففر عنه وعن أمه لطيفة وكان علي بن
أبي طالب عليه السلام دخل على الحارث بن رويم يعود ابنه يزيد، فقال: عندي
جارية لطيفة الخدمة أبعث بها إليك، فسماها يزيد لطيفة،
فقتلت مع بعلها يزيد يومئذ. وقال الشاعر:
وقال
آخر:
قال:
ثم انحط الزبير على أصفهان، فحصر بها عتاب بن ورقاء سبعة أشهر، وعتاب يحاربه في
بعضهن؛ فلما طال به الحصار قال لأصحابه: ما تنتظرون! والله ما تؤتون من قلة؛
وإنكم لفرسان عشائركم؛ ولقد حاربتموهم مراراً فانتصفتم منهم؛ وما بقي مع هذا
الحصار إلا أن تفنى ذخائركم، فيموت أحدكم، فيدفنه أخوه، ثم يموت أخوه فلا يجد من
يدفنه؛ فقاتلوا القوم وبكم قوة من قبل أن يضعف أحدكم على أن يمشي إلى قرنه.
وقال
آخر:
قال:
وتزعم الرواة أنهم في أيام حصارهم كانوا يتواقفون، ويحمل بعضهم على بعض، وربما
كانت مواقفة بغير حرب، وربما اشتدت الحرب بينهم، وكان رجل من أصحاب عتاب - يقال
له: شريح، ويكنى أبا هريرة - إذا تحاجز القوم مع المساء نادى بالخوارج والزبير
بن علي:
فغاظهم
ذلك، فكمن له عبيدة بن هلال، فضربه بالسيف، واحتمله أصحابه، وظنت الخوارج أنه قد
قتل؛ فكانوا إذا تواقفوا نادوهم: ما فعل الهرار؟ فيقولون: ما به من بأس، حتى أبل
من علته، فخرج إليهم، فقال: يا أعداء الله، أترون بي بأساً؟ فصاحوا به: قد كنا
نرى أنك قد لحقت بأمك الهاوية، إلى النار الحامية. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قطري بن الفجاءة المازني
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومنهم قطري بن الفجاءة المازني، قال أبو العباس: لما قتل الزبير بن علي أدارت الخوارج
أمرها، فأرادوا تولية عبيدة بن هلال؛ فقال: أدلكم على من هو خير لكم مني؟ من
يطاعن في قبل، ويحمي في دبر؛ عليكم بقطري بن الفجاءة المازني. وقالوا: يا أمير
المؤمنين؛ امض بنا إلى فارس، فقال: إن فارس عمر بن عبيد الله بن معمر؛ ولكن نسير
إلى الأهواز، فإن خرج مصعب من البصرة دخلناها، فأتوا الأهواز ثم ترفعوا عنها على
إيذج ، - وكان المصعب قد عزم على الخروج إلى باجميرا - وقال لأصحابه: إن قطرياً
لمطل علينا؛ وإن خرجنا عن البصرة دخلها، فبعث إلى المهلب فقال: اكفنا هذا العدو،
فخرج إليهم المهلب؛ فلما أحس به قطري يمم نحو كرمان ، وأقام المهلب بالأهواز، ثم
كر عليه قطري، وقد استعد، وكانت الخوارج في حالاتهم أحسن عدة ممن يقاتلهم بكثرة
السلاح وكثرة الدواب، وحصانة الجنن . فحاربهم المهلب، فدفعهم فصاروا إلى رامهرمز
؛ وكان الحارث بن عميرة الهمداني قد صار إلى المهلب مراغماً لعتاب بن ورقاء، ويقال: إنه لم يرضه عن قتله الزبير بن
علي، وكان الحارث بن عميرة، هو الذي قتله وخاض إليه أصحابه، ففي ذلك يقول أعشى همدان:
قال
أبو العباس: وخرج مصعب إلى باجميرا، ثم أتى الخوارج خبر مقتله بمسكن ، ولم يأت
المهلب وأصحابه، فتواقفوا يوماً برامهرمز على الخندق، فناداهم
الخوارج: ما تقولون في مصعب؟ قالوا: إمام هدًى، قالوا: فما تقولون في عبد
الملك؟ قالوا: ضال مضل، فلما كان بعد يومين أتى المهلب قتل المصعب؛ وأن أهل
العراق قد اجتمعوا على عبد الملك، وورد عليه كتاب عبد الملك بولايته؛ فلما
توافقوا ناداهم الخوارج: ما تقولون في المصعب؟ قالوا:
لا نخبركم، قالوا: فما تقولون في عبد الملك؟ قالوا: إمام هدى، قالوا: يا
أعداء الله، بالأمس ضال مضل، واليوم إمام هدى! يا عبيد الدنيا عليكم لعنة الله! وروى أبو الفرج الأصفهاني في كتاب الأغاني، قال: كان الشراة والمسلمون في حرب المهلب
وقطري يتوافقون ويتساءلون بينهم عن أمر الدين وغير ذلك، على أمان وسكون، لا يهيج
بعضهم بعضاً، فتواقف يوماً عبيدة بن هلال اليشكري، وأبو حربة التميمي، فقال
عبيدة: يا أبا حزابة، إني أسألك عن أشياء، أفتصدقني عنها في الجواب؟ قال: نعم،
إن ضمنت لي مثل ذلك، قال: قد فعلت:، قال: فسل عما بدا لك، قال: ما تقولون في أئمتكم؟
قال: يبيحون الدم الحرام، قال: فكيف فعلهم في المال؟ قال: يجبونه من غير حله،
وينفقونه في غير وجهه، قال: فكيف فعلهم في اليتيم؟ قال: يظلمونه ماله، ويمنعونه
حقه، وينيكون أمه، قال: ويحك يا أبا حزابة! أمثل هؤلاء تتبع! قال: قد أجبتك،
فاسمع سؤالي، ودع عتابي على رأيي، قال: سل، قال: أي الخمر أطيب، خمر السهل أم
خمر الجبل؟ قال: ويحك! أمثلي يسأل عن هذا! قال: قد أوجبت على نفسك أن تجيب، قال:
أما إذا أبيت، فإن خمر الجبل أقوى وأسكر، وخمر السهل أحسن وأسلس، قال: فأي
الزواني أفره ؟ أزواني رامهرمز، أم زواني أرجان ؟ قال: ويحك! إن مثلي لا يسأل عن
هذا، قال: لا بد من الجواب أو تغدر.
قال:
جرير، قال: فهو أشعرهما.
والخوارج يفدونها بالآباء والأمهات، فما رأينا قبلها ولا بعدها
مثلها. وقد كان عبد الملك كتب إلى بشر بن مروان يأمره أن يمد خالداً
بجيش كثيف أميره عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، ففعل، فقدم عليه عبد الرحمن. فأقام قطري يغاديهم القتال ويراوحهم
أربعين يوماً؛ فقال المهلب لمولى أبي عيينة: سر إلى
ذلك الناوس، فبت عليه كل ليلة، فمتى أحسست خبراً للخوارج، أو حركة أو صهيل خيل،
فاعجل إلينا. فقاتل، وأبلى عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث
يومئذ بلاءً حسناً، وخرج فيروز حصين في مواليه،
وصرع عبد الرحمن هو ومن معه، فأثر أثراً جميلاً، وصرع يزيد بن المهلب يومئذ،
وصرع عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، فحامى عنهما أصحابهما حتى ركبا، وسقط فيروز
حصين في الخندق، فأخذ بيده رجل من الأزد، فاستنقذه؛ فوهب له فيروز عشرة آلاف،
وأصبح عسكر خالد كأنه حرة سوداء، فجعل لا يرى إلا قتيلاً أو جريحاً؛ فقال للمهلب: يا أبا سعيد، كدنا نفتضح! فقال: خندق على
نفسك، فإن لم تفعل عادوا إليك، فقال: اكفني أمر الخندق، فجمع له الأحماس فلم يبق
شريف إلا عمل فيه، فصاح بهم الخوارج: والله
لولا هذا الساحر المزوني، لكان الله قد دمر عليكم -
وكانت الخوارج تسمي المهلب الساحر-، لأنهم كانوا
يدبرون الأمر فيجدون المهلب قد سبق إلى نقض تدبيرهم.
ثم مضى قطري إلى كرمان؛ وانصرف خالد إلى البصرة؛ وأقام قطري
بكرمان شهراً، ثم عمد لفارس، فخرج خالد إلى الأهواز وندب الناس للرحيل، فجعلوا يطلبون المهلب، فقال خالد: ذهب
المهلب بخط هذا المصر، إني قد وليت أخي قتال الأزارقة. فولى أخاه عبد العزيز،
واستخلف المهلب على الأهواز في ثلاثمائة؛ ومضى عبد العزيز والخوارج بداربجرد وهو
في ثلاثين ألفاً، فجعل عبد العزيز يقول في طريقه: يزعم أهل البصرة أن هذا الأمر
لا يتم إلا بالمهلب؛ سيعلمون! قال صقعب بن يزيد: فلما خرج عبد العزيز عن
الأهواز، جاءني كردوس، حاجب المهلب، فدعاني، فجئت إلى المهلب وهو في سطح، وعليه
ثياب هروية، فقال: يا صقعب، أنا ضائع كأني أنظر إلى هزيمة عبد العزيز، وأخشى أن
توافيني الأزارقة ولا جند معي، فابعث رجلاً من قبلك يأتيني بخبرهم سابقاً إلي
به، فوجهت رجلاً من قبلي يقال له عمران بن فلان، وقلت
له: اصحب عسكر عبد العزيز، واكتب إلي بخبر يوم فيوم، فجعلت أورده على المهلب،
فلما قاربهم عبد العزيز وقف وقفة، فقال له الناس: هذا منزل، فينبغي أن
تنزل فيه أيها الأمير؛ حتى تطمئن ثم نأخذ أهبتنا، فقال: كلا، الأمر قريب؛ فنزل
الناس عن غير أمره، فلم يستتم النزول؛ حتى ورد عليه سعد الطلائع في خمسمائة
فارس؛ كأنهم خيط ممدود؛ فناهضهم عبد العزيز فواقفوه ساعة، ثم انهزموا عنه مكيدة،
واتبعهم فقال له الناس: لا تتبعهم، فإنا على
غير تعبية، فأبى؛ فلم يزل في آثارهم حتى اقتحموا عقبة، فاقتحمها وراءهم والناس
ينهونه ويأبى، وكان قد جعل على بني تميم عبس بن طلق الصريمي الملقب عبس الطعان،
وعلى بكر بن وائل مقاتل بن مسمع، وعلى شرطته رجلاً من بني ربيعة بن نزار. فنزلوا
عن العقبة، ونزل خلفهم وكان لهم في بطن العقبة كمين، فلما صاروا من ورائها؛ خرج
عليهم الكمين، وعطف سعد الطلائع، فترجل عبس بن طلق، فقتل وقتل مقاتل بن مسمع،
وقتل الضبيعي، صاحب شرطة عبد العزيز، وانحاز عبد العزيز واتبعهم الخوارج فرسخين
يقتلونهم كيف شاؤوا، وكان عبد العزيز قد أخرج معه أم حفص بنت المنذر بن الجارود
امرأته، فسبوا النساء يومئذ، وأخذوا أسارى لا تحصى، فقذفوهم في غار بعد أن شدوهم
وثاقاً، ثم سدوا عليهم بابه، حتى ماتوا فيه. وقال بعض من حضر ذلك اليوم: رأيت عبد العزيز، وإن ثلاثين رجلاً ليضربونه بسيوفهم؛ فما
تحيك في جنبه، ونودي على السبي يومئذ، فغولي بأم حفص، فبلغ بها رجل سبعين ألفاً،
وكان ذلك الرجل من مجوسٍ كانوا أسلموا، ولحقوا بالخوارج، ففرضوا لكل رجل منهم
خمسمائة، فكاد ذلك الرجل يأخذ أم حفص، فشق ذلك على قطري، وقال: ما ينبغي لرجل
مسلم أن يكون عنده سبعون ألفاً؛ إن هذه لفتنة! فوثب عليها أبو الحديد العبدي
فقتلها، فأتي به قطري، قال: مهيم يا أبا الحديد! فقال: يا أمير المؤمنين؛ رأيت
المؤمنين تزايدوا في هذه المشركة فخشيت عليهم الفتنة، فقال قطري: أحسنت، فقال
رجل من الخوارج:
وكان
العلاء بن مطرف السعدي ابن عم عمرو القنا، وكان يحب أن يلقاه في صدر مبارزة،
فلحقه عمرو القنا يومئذ؛ وهو منهزم، فضحك منه وقال متمثلاً:
ثم
صاح به: انج يا أبا المصدى ، وكان العلاء بن مطرف قد حمل معه امرأتين: إحداهما
من بني ضبة، يقال لها أم جميل، والأخرى بنت عمه، يقال لها فلانة بنت عقيل فطلق
الضبية؛ وحملها أولاً، وتخلص بابنة عمه، فقال في ذلك:
قال الصقعب بن يزيد: وبعثني المهلب لآتيه بالخبر؛ فصرت إلى قنطرة أربك على فرس
اشتريته بثلاثة آلاف درهم؛ فلم أحسن خبراً، فسرت مهجراً إلى أن أمسيت؛ فلما
أمسينا وأظلمنا، سمعت كلام رجل عرفته من الجهاضم، فقلت: ما وراءك؟ قال: الشر،
قلت: فأين عبد العزيز؟ قال: أمامك، فلما كان آخر الليل، إذا أنا بزهاء خمسين
فارساً معهم لواء، فقلت: لواء من هذا؟ قالوا: لواء عبد العزيز، فتقدمت إليه،
فسلمت عليه، وقلت: أصلح الله الأمير! لا
يكبرن عليك ما كان، فإنك كنت في شر جند وأخبثه، قال لي: أو كنت معنا؟ قلت: لا،
ولكن كأني شاهد أمرك، ثم أقبلت إلى المهلب وتركته، فقال لي: ما وراءك؟ قلت: ما
يسرك، هزم الرجل وفل جيشه، فقال: ويحك! وما يسرني من هزيمة رجل من قريش وفل جيشٍ
من المسلمين! قلت: قد كان ذلك، ساءك أو سرك،
فوجه رجلاً إلى خالد يخبره بسلامة أخيه. قال الرجل: فلما أخبرت خالداً، قال:
كذبت ولؤمت، ودخل رجل من قريش فكذبني، فقال لي خالد: والله لقد هممت أن أضرب
عنقك، فقلت: أصلح الله الأمير! إن كنت
كاذباً فاقتلني، وإن كنت صادقاً فأعطني مطرف هذا المتكلم، فقال خالد: لبئس ما أخطرت به دمك! فما برحت حتى دخل عليه
بعض الفل، وقدم عبد العزيز سوق الأهواز، فأكرمه المهلب وكساه، وقدم معه على
خالد، واستخلف المهلب ابنه حبيباً، وقال له: تجسس الأخبار، فإن أحسست
بخيل الأزارقة قريباً منك فانصرف إلى البصرة على نهر تيرى. فلما أحس حبيب بهم،
دخل البصرة وأعلم خالداً بدخوله، فغضب وخاف حبيب منه، فاستتر في بني عامر بن
صعصعة، وتزوج هناك في استتاره الهلالية، وهي أم
ابنه عباد بن حبيب. وقال الشاعر لخالد يفيل رأيه:
وقال
الحارث بن خالد المخزومي:
وكتب
خالد إلى عبد الملك بعذر عبد العزيز، وقال للمهلب: ما ترى أمير المؤمنين صانعاً
بي؟ قال: يعزلك، قال: أتراه قاطعاً رحمي! قال: نعم، قد أتته هزيمة أمية أخيك -
ففعل - يعني هرب أمية من سجستان - فكتب عبد الملك إلى خالد: أما بعد؛ فإني كنت حددت حداً في أمر المهلب؛ فلما
ملكت أمرك، نبذت طاعتي وراءك، واستبددت برأيك؛ فوليت المهلب الجباية، ووليت أخاك
حرب الأزارقة؛ فقبح الله هذا رأياً! أتبعث غلاماً غراً لم يجرب الأمور والحروب
للحرب؛ وتترك سيداً شجاعاً مدبراً حازماً قد مارس الحروب ففلج ؛ فشغلته
بالجباية! أما لو كافأتك على قدر ذنبك لأتاك من نكيري ما لا بقية لك معه! ولكن
تذكرت رحمك فكفتني عنك؛ وقد جعلت عقوبتك عزلك. والسلام. ففعل الشيخ ذلك؛ فقال له بشر: وما
أنت وذاك! ثم أعطى المهلب رجلاً ألف درهم، على أن يأتي بشراً فيقول له: أيها
الأمير، أعن المهلب بالشرطة والمقاتلة، ففعل الرجل ذلك؛ فقال له بشر: وما أنت
وذاك؟ فقال: نصيحة حضرتني للأمير والمسلمين؛ ولا أعود إلى مثلها، فأمده بشر
بالشرطة والمقاتلة، وكتب إلى خليفته على الكوفة أن يعقد لعبد الرحمن بن مخنف على
ثمانية آلاف، من كل ربع ألفين، ويوجه بهم مدداً للمهلب. فلما
صار القوم إلى فارس، وجه إليهم ابنه المغيرة، فقال
له عبد الرحمن بن صالح: أيها الأمير، إنه ليس لك برأيٍ قتل هذه الأكلب،
ولئن والله قتلتهم لتقعدن في بيتك، ولكن طاولهم، وكل بهم. فقال: ليس هذا من
الوفاء، فلم يلبث برامهرمز إلا شهراً، حتى أتاه موت بشر بن مروان.
وهرب
سوار بن المضرب السعدي من الحجاج، وقال:
في قصيدة مشهورة له.
ويروى
عن أبي البئر، قال: إنا لنتغدى معه يوماً، إذا جاءه رجل من بني سليم برجل يقوده،
فقال: أصلح الله الأمير! إن هذا عاصٍ، فقال له الرجل:
أنشدك الله أيها الأمير في دمي! فوالله ما قبضت ديواناً قط، ولا شهدت عسكراً قط،
وإني لحائك، أخذت من تحت الحف . فقال: اضربوا عنقه. فلما أحس بالسيف سجد، فلحقه
السيف وهو ساجد، فأمسكنا عن الأكل، فأقبل علينا، وقال: مالي أراكم قد
صفرت أيديكم، واصفرت وجوهكم، وحد نظركم من قتل رجل واحد! ألا إن العاصي يجمع
خلالاً، يخل بمركزه؛ ويعصي أميره، ويغر المسلمين، وهو أجير لهم؛ وإنما يأخذ الأجرة
لما يعمل، والوالي مخير فيه، إن شاء قتل، وإن شاء عفا.
ثم كتب الحجاج إلى المهلب يستحثه: أما بعد، فإنه قد بلغني أنك قد أقبلت على جباية الخراج،
وتركت قتال العدو، وإني وليتك وأنا أرى مكان عبد الله بن حكيم المجاشعي. وعباد
بن الحصين الحبطي، واخترتك وأنا من أهل عمان، ثم رجل من الأزد، فالقهم يوم كذا
في مكان كذا، وإلا أشرعت إليك صدر الرمح، فشاور بنيه،
فقالوا: أيها الأمير، لا تغلظ عليه في الجواب. فلما
انتصف الليل، وقد رجع المغيرة إلى أبيه، سرى صالح بن مخراق في القوم الذين كان
أعدهم للبيات إلى ناحية بني تميم، ومعه عبيدة بن هلال، وهو يقول:
فوجد
بني تميم أيقاظاً متحارسين، وخرج إليهم الحريش بن هلال، وهو يقول:
ثم حمل على الخوارج، فرجعوا عنه، فاتبعهم ثم صاح بهم: إلى أين يا كلاب النار! فقالوا: إنما
أعدت لك ولأصحابك، فقال الحريش: كل مملوك لي حر إن لم تدخلوا النار، ما دخلها
مجوسي فيما بين سفوان وخراسان.
فترجل
عبد الرحمن تلك الليلة يجالدهم، حتى قتل وقتل معه سبعون رجلاً من القراء، فيهم
نفر من أصحاب علي بن أبي طالب، ونفر من أصحاب ابن مسعود. وبلغ الخبر المهلب - وجعفر ابن عبد الرحمن بن مخنف عند المهلب
- فجاءهم مغيثاً فقاتل حتى ارتث ، ووجه المهلب إليهم ابنه حبيباً، فكشفهم، ثم
جاء المهلب حتى صلى على عبد الرحمن بن مخنف وأصحابه، وصار جنده في جند المهلب،
فضمهم إلى ابنه حبيب، فعيرهم البصريون، وسموا جعفراً خضفة الجمل ، وقال رجل منهم
لجعفر بن عبد الرحمن بن مخنف:
فلام المهلب أهل البصرة، وقال: بئسما قلتم، والله ما فروا ولا جبنوا؛ ولكنهم خالفوا
أميرهم؛ أفلا تذكرون فراركم بدولاب عني، وفراركم بدارس عن عثمان! ووجه الحجاج
البراء بن قبيصة إلى المهلب يستحثه في مناجزة القوم، وكتب إليه: إنك تحب بقاءهم
لتأكل بهم، فقال المهلب لأصحابه: حركوهم، فخرج فرسان من أصحابه، فخرج إليهم من
الخوارج جمع كثير، فاقتتلوا إلى الليل: فقال لهم
الخوارج: ويلكم! أما تملون! فقالوا: لا، حتى تملوا، فقالوا: فمن أنتم؟
قالوا: تميم، فقالت الخوارج: ونحن تميم أيضاً، فما أمسوا افترقوا، فلما كان الغد
خرج عشرة من أصحاب المهلب، وخرج إليهم من الخوارج عشرة، واحتفر كل واحدٍ منهم
حفيرة، وأثبت قدميه فيها، كلما قتل رجل جاء رجل من أصحابه فاجتره وقام مكانه حتى
أعتموا ، فقال لهم الخوارج: ارجعوا، فقالوا: بل ارجعوا أنتم، قالوا لهم: ويلكم
من أنتم! قالوا: تميم، قالوا: ونحن تميم أيضاً. فرجع
البراء بن قبيصة إلى الحجاج فقال له: مهيم ؟ قال: رأيت أيها الأمير قوماً لا
يعين عليه إلا الله.
فقال
له المهلب: ويحك! والله إني لأقيكم بنفسي وولدي، قال: جعلني الله فداء الأمير!
فذاك الذي نكره منك، ما كلنا يحب الموت. قال: ويحك! وهل عنه من محيص! ققال: لا،
ولكنا نكره التعجيل؛ وأنت تقدم عليه إقداماً، قال المهلب: ويلك أما سمعت قول
الكلحبة اليربوعي:
فقال:
بلى، قد سمعت، ولكن قولي أحب إلي منه:
فقال
المهلب: بئس حشو الكتيبة أنت والله يا أبا حرملة! إن شئت أذنت لك فانصرفت إلى
أهلك. قال: بل أقيم معك أيها الأمير، فوهب له المهلب وأعطاه، فقال يمدحه:
قال:
وكان المهلب يقول: ما يسرني أن في عسكري ألف شجاع مكان
بيهس بن صهيب، فيقال له: أيها الأمير، بيهس ليس بشجاع،
فيقول: أجل، ولكنه سديد الرأي، محكم العقل، وذو الرأي حذر سؤول ، فأنا
آمن أن يغتفل، ولو كان مكانه ألف شجاع لخلت أنهم ينشامون حيث يحتاج إليهم.
فخرج إليه سعد بن نجد القردوسي، من الأزد، فتجاولا ساعة ثم طعنه
سعد فقتله، والتقى الناس، فصرع المغيرة يومئذ، فحامى عليه سعد بن نجد ودينار
السجستاني وجماعة من الفرسان، حتى ركب وانكشف الناس عند سقطة المغيرة حتى صاروا
إلى المهلب، فقالوا:
قتل المغيرة، فأتاه دينار السجستاني، فأخبره بسلامته، فأعتق كل مملوك كان
بحضرته. قال: ووجه الحجاج الجراح بن عبد الله إلى المهلب يستبطئه في مناجزة
القوم، وكتب إليه: أما بعد، فإنك جبيت الخراج بالعلل، وتحصنت بالخنادق، وطاولت
القوم وأنت أعز ناصراً، وأكثر عدداً، وما أظن بك مع هذا معصية ولا جبناً، ولكن
اتخذتهم أكلاً ، وكان بقاؤهم أيسر عليك من قتالهم، فناجزهم وإلا أنكرتني، والسلام.
قال: وكتب الحجاج إلى عتاب بن ورقاء الرياحي؛ من بني رياح بن
يربوع - وهو والي أصفهان - يأمره بالمسير إلى المهلب، وأن يضم إليه جند عبد
الرحمن بن مخنف، فكل بلدٍ يدخلانه من فتوح أهل البصرة فالمهلب أمير الجماعة فيه،
وأنت على أهل الكوفة،
فإذا دخلتم بلداً فتحه أهل الكوفة فأنت أمير الجماعة، والمهلب على أهل البصرة. فاقتتلوا
أشد قتال؛ فقتل زياد بن عبد الرحمن العامري، وفقد الثقفي. ثم باكروهم في اليوم
الثاني؛ وقد وجد الثقفي، فدعا به المهلب، ودعا بالغداء، فجعل النبل يقع قريباً
منهم ويتجاوزهم، والثقفي يعجب من أمر المهلب؛ فقال الصلتان العبدي:
فلم
يزل عتاب بن ورقاء مع المهلب ثمانية أشهر حتى ظهر شبيب بن يزيد، فكتب الحجاج إلى
عتاب يأمره بالمصير إليه ليوجهه إلى شبيب، وكتب إلى المهلب يأمره أن يرزق الجند،
فرزق أهل البصرة، وأبى أن يرزق أهل الكوفة، فقال له عتاب: ما أن ببارحٍ حتى ترزق
أهل الكوفة، فأبى، فجرت بينهما غلظة، فقال له عتاب: قد كان يبلغني أنك شجاع،
فرأيتك جباناً، وكان يبلغني أنك جواد، فرأيتك بخيلاً. فقال له المهلب: يابن
اللخناء ؛ فقال له عتاب: لكنك معم مخول! فغضبت بكر بن وائل للمهلب للحلف، ووثب
نعيم بن هبيرة، ابن أخي مصقلة بن هبيرة على عتاب فشتمه، وقد كان المهلب كارهاً
للحلف، فلما رأى نصرة بكر بن وائل له سره، واغتبط به، فلم يزل يؤكده، وغضبت تميم
البصرة لعتاب، وغضبت أزد الكوفة للمهلب؛ فلما رأى ذلك المغيرة مشى بين أبيه وبين
عتاب؛ وقال لعتاب: يا أبا ورقاء، إن الأمير يصير إلى كل ما تحب، وسأل أباه أن
يرزق أهل الكوفة، ففعل فصلح الأمر، فكانت تميم قاطبة وعتاب بن ورقاء يحمدون
المغيرة بن المهلب، وكان عتاب يقول: إني لأعرف فضله على
أبيه.
قال: وكان المهلب يقول لبنيه: لا تبدأوا الخوارج بقتال حتى يبدأوكم،
ويبغوا عليكم، فإنهم إذا بغوا عليكم نصرتم عليهم. فوقع الكتاب إلى قطري، فدعا بأبزى، فقال: ما هذا الكتاب؟ قال: لا أدري، قال: فما
هذه الدراهم؟ قال: لا أعلم، فأمر به فقتل. فجاءه عبد ربه الصغير مولى بني قيس بن
ثعلبة، فقال له: أقتلت رجلاً على غير ثقةٍ ولا تبين! قال
قطري: فما حال هذه الألف؟ قال: يجوز أن يكون أمرها كذباً، ويجوز أن يكون
حقاً، فقال قطري: إن قتل رجلٍ في صلاح الناس غير
منكر، وللإمام أن يحكم بما رآه صلاحاً؛ وليس للرعية أن تعترض عليه. فتنكر له عبد
ربه في جماعة معه، ولم يفارقوه. فقام رجل من الخوارج إلى
النصراني فقتله؛ فأنكر قطري ذلك عليه، وأنكر قوم
من الخوارج إنكاره.
فتهايج
القوم، وأسرع بعضهم إلى بعض، وكانت الوقعة؛ وأبلى يومئذ المغيرة بن المهلب، وصار
في وسط الأزارقة، فجعلت الرماح تحطه وترفعه، واعتورت رأسه السيوف، وعليه ساعد
حديد، فوضع يده على رأسه؛ فلم يعمل السيف فيه شيئاً، واستنقذه
فرسان من الأزد بعد أن صرع، وكان الذي صرعه
عبيدة بن هلال بن يشكر بن بكر بن وائل، وكان يقول يومئذ:
فقال رجل للمغيرة: كنا نعجب كيف تصرع، والآن نعجب كيف تنجو! وقال المهلب لبنيه: إن سرحكم لغار، ولست آمنهم عليه،
أفوكلتم به أحداً؟ قالوا: لا، فلم يستتم الكلام حتى
أتاه آتٍ، فقال: إن صالح بن مخراق قد أغار على السرح، فشق على المهلب،
وقال: كل أمرٍ لا أليه بنفسي فهو ضائع، وتذمر عليهم؛
فقال له بشر بن المغيرة: أرح نفسك؛ فإن كنت إنما تريد مثلك فوالله ما
يعدل خيرنا شسع نعلك، فقال: خذوا عليهم الطريق، فبادر بشر بن المغيرة، ومدرك
والمفضل ابنا المهلب، فسبق بشر إلى الطريق، فإذا رجل أسود من الأزارقة يشل
السرح، وهو يقول:
ولحقه
المفضل ومدرك، فصاحا برجل من طيئ: اكفنا الأسود؛ فاعتوره الطائي وبشر بن المغيرة
فقتلاه، وأسرا رجلاً من الأزارقة من همدان، واستردا السرح.
فقال المهلب ليزيد ابنه: حرك القوم، فحركهم فتهايجوا؛ وذلك في قرية من قرى إصطخر؛
فحمل رجل من الخوارج على رجل من أصحاب المهلب وطعنه، فشك فخذه بالسرج، فقال
المهلب للسلمي والكلبي: كيف يقاتل قوم هذا طعنهم! وحمل يزيد عليهم؛ وقد جاء
الرقاد -وهو من فرسان المهلب - وهو أحد بني مالك بن ربيعة، على فرسٍ له أدهم،
وبه نيف وعشرون جراحة، وقد وضع عليها القطن، فلما حمل يزيد ولى الجمع، وحماهم
فارسان منهم؛ فقال يزيد لقيس الخشني، مولى العتيك: من لهذين؟ قال: أنا، فحمل
عليهما، فعطف عليه أحدهما فطعنه قيس فصرعه، وحمل عليه الآخر فتعانقا، فسقطا
جميعاً إلى الأرض، فصاح قيس الخشني: اقتلونا جميعاً، فحملت خيل هؤلاء وخيل
هؤلاء، فحجزوا بينهما، فإذا معانق قيس امرأة،
فقام قيس مستحيياً، فقال له يزيد: يا أبا بشر،
أما أنت فبارزتها على أنها رجل، فقال: أرأيت لو قتلت،
أما كان يقال: قتلته امرأة! وأبلى يومئذٍ ابن المنجب السدوسي، فقال غلام
له يقال له خلاج: والله لوددنا أنا فضضنا عسكرهم حتى نصير إلى مستقرهم، فأستلب
مما هناك جاريتين. فقال له مولاه ابن المنجب: وكيف تمنيت ويحك اثنتين! فقال:
لأعطيك إحداهما وآخذ الأخرى، فقال ابن المنجب:
قال:
وكان بدر بن الهذيل من أصحاب المهلب شجاعاً، وكان لحانة؛ كان إذا أحس بالخوارج
ينادي: يا خيل الله اركبي؛ وإليه يشير القائل:
قال:
وكان بشر بن المغيرة بن أبي صفرة أبلى يومئذ
بلاءً حسناً مكانه فيه؛ وكانت بينه وبين المهلب جفوة،
فقال لبنيه: يا بني عم، إني قد قصرت عن شكاة العاتب؛ وجاوزت شكاة المستعتب ؛ حتى
كأني لا موصول ولا محروم؛ فاجعلوا لي فرجة أعيش بها، وهبوني امرأً رجوتم نصره،
أو خفتم لسانه. فرجعوا له ووصلوه، وكلموا فيه المهلب،
فوصله.
فكتب المهلب إلى الحجاج يسأله أن يتجافى له عن إصطخر ودارا بجرد لأرزاق الجند.
ففعل. وقد كان قطري هدم مدينة إصطخر، لأن أهلها كانوا
يكاتبون المهلب بأخباره؛ وأراد مثل ذلك بمدينة فسا ، فاشتراها منه آزاذ مرد بن
الهربذ بمائة ألف درهم فلم يهدمها. فواقعه وجه المهلب فهزمه. فنفاه إلى
كرمان، وأتبعه المغيرة ابنه؛ وقد كان دفع إليه سيفاً وجه به الحجاج إلى المهلب،
وأقسم عليه أن يتقلده، فدفعه إلى المغيرة بعدما تقلده، فرجع به المغيرة إليه وقد
دماه، فسر المهلب، وقال: ما يسرني أن يكون كنت دفعته إلى غيرك من ولدي؛ وقال له:
اكفني جباية خراج هاتين الكورتين، وضم إليه الرقاد، فجعلا يجبيان، ولا يعطيان
الجند شيئاً، ففي ذلك يقول رجل من بني تميم في كلمة له:
أي
وقع فيها السوس. ثم اختلفت كلمة الخوارج،
وكان سبب ذلك أن عبيدة بن هلال اتهم بامرأة رجل نجار،
رأوه يدخل مراراً إليها بغير إذن، فأتى قطرياً فذكروا ذلك له، فقال لهم: إن عبيدة من الدين بحيث علمتم، ومن الجهاد
بحيث رأيتم، فقالوا: إنا لا نقار على الفاحشة،
فقال: انصرفوا، ثم بعث إلى عبيدة، فأخبره، وقال له: أنا لا أقار على الفاحشة، فقال: بهتوني يا أمير المؤمنين فما ترى؟ قال: إني جامع
بينك وبينهم، فلا تخضع خضوع المذنب، ولا تتطاول تطاول البريء؛ فجمع بينهم،
فتكلموا، فقام عبيدة، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم، " إن الذين جاؤوا
بالإفك عصبة منكم " ... حتى تلا الآيات ، فبكوا وقاموا إليه فاعتنقوه،
وقالوا: استغفر لنا. ففعل، فقال عبد ربه الصغير مولى بني قيس بن ثعلبة: والله
لقد خدعكم، فتابع عبد ربه منهم ناس كثير؛ ولم يظهروا، ولم يجدوا على عبيدة في
إقامة الحد ثبتاً. فشاور عبيدة في ذلك، فقال له:
إن تبت لم يقبلوا منك، فقل: إني استفهمت فقلت:
أرجعتم بعدي كفاراً؟ فقال لهم ذلك، فقبلوا منه، فرجع إلى منزله. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
عبد ربه الصغير
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومنهم عبد ربه الصغير، أحد مولى قيس بن ثعلبة. ويجب على الإمام أن يعفي الرعية مما كرهت. فأبى قطري
أن يعزل المقعطر، فقال له القوم: فإنا قد خلعناك وبايعنا عبد ربه الصغير - وكان
عبد ربه هذا معلم كتاب، وكان عبد ربه الكبير بائع رمان، وكلاهما من موالي فيس بن
ثعلبة - فانفصل إلى عبد ربه الصغير أكثر من شطرهم؛ وجلهم الموالي والعجم، وكان
منهم هناك ثمانية آلاف وهم القراء، ثم ندم صالح بن مخراق، وقال لقطري: هذه نفخة من نفخات الشيطان فأعفنا من
المقعطر، وسر بنا إلى عدونا وعدوك، فأبى قطري إلا المقعطر، وحمل فتىً من الشراة
على صالح بن مخراق، فطعنه فأنفذه، وأوجره الرمح.
ثم
قال: أصبح المهلب يرجو منا ما كنا نطمع منه فيه.
ووجه المهلب يزيد ابنه إلى الحجاج يخبره بأنه قد نزل منزل قطري، وأنه
مقيم على عبد ربه، ويسأله أن يوجه في أثر قطري رجلاً جلداً . فسر بذلك الحجاج سروراً
أظهره. ثم كتب إلى المهلب يستحثه لمناجزة القوم مع عبيد بن موهب: أما بعد؛ فإنك تتراخى عن الحرب حتى
تأتيك رسلي فيرجعون بعذرك، وذلك أنك تمسك حتى تبرأ الجراح، وتنسى القتلى، وتحمل
الكال ثم تلقاهم، فتحمل منهم ثقل ما يحتملون منك من وحشة القتل، وألم الجراح،
ولو كنت تلقاهم بذلك الجد لكان الداء قد حسم، والقرن قد قصم، ولعمري ما أنت
والقوم سواء، لأن من ورائك رجالاً، وأمامك أموالاً، وليس للقوم إلا ما نعهد، ولا
يدرك الوجيف بالدبيب، ولا الظفر بالتعذير. فغضب
وقال للناس: ردوهم عن وجههم، وقال لبنيه: تفرقوا في الناس؛ وقال لعبيدة بن أبي
ربيعة: كن مع يزيد، فخذه بالمحاربة أشد الأخذ؛ وقال لأحد الأمينين: كن مع
المغيرة، ولا ترخص له في الفتور. فاقتتلوا
قتالاً شديداً، حتى عقرت الخيل، وصرع الفرسان، وقتلت الرجالة؛ وجعلت الخوارج
تقاتل عن القدح يؤخذ منها، والسوط والعلف والحشيش أشد قتال.
فلما عظم الخطب في ذلك الرمح بعث المهلب إلى المغيرة: خل لهم عن الرمح؛ عليهم لعنة الله!
فخلوا لهم عنه، ومضت الخوارج فنزلت على أربعة فراسخ من جيرفت، فدخلها المهلب،
وأمر بجمع ما كان لهم من متاع، وما خلفوه من دقيق، وجثم عليه هو والثقفي
والأمينان، ثم اتبعهم فوجدهم قد نزلوا على ماء وعين لا يشرب منها أحد إلا قوي،
يأتي الرجل بالدلو قد شدها في طرف رمحه فيستقي بها، وهناك قرية فيها أهلها،
فغاداهم القتال، وضم الثقفي إلى ابن يزيد، وأحد الأمينين إلى المغيرة، فاقتتل
القوم إلى نصف النهار.
وقال لمعن بن المغيرة بن أبي صفرة: احمل، فقال: لا، إلا أن تزوجني
ابنتك أم مالك، فقال: قد زوجتك، فحمل على الخوارج فكشفهم، وطعن فيهم،
وقال:
قوله:
ملكة، أي تزويجاً ونكاحاً.
فقال
المهلب للأمين الآخر: ينبغي أن تتوجه مع ابني حبيب في ألف رجل؛ حتى تبيتوا
عسكرهم، فقال: ما تريد أيها الأمير إلا أن تقتلني كما فعلت بصاحبي! فضحك المهلب، وقال: ذاك إليك. ولم يكن للقوم خنادق،
فكان كل حذراً من صاحبه، غير أن الطعام والعدة مع المهلب، وهو في زهاء ثلاثين
ألفاً، فلما أصبح أشرف على وادٍ فإذا هو برجلٍ معه رمح مكسور مخضوب بالدم، وهو
ينشد:
فقال له:
أتميمي أنت؟ قال: نعم، قال: أحنظلي؟ قال: نعم، قال: أيربوعي؟ قال: نعم، قال: أمن
آل نويرة؟ قال: نعم، أنا ولد مالك بن نويرة، قال: قد
عرفتك بالشعر. وقال عبد الله بن رزام الحارثي للمهلب:
احملوا، فقال المهلب: أعرابي مجنون - وكان من أهل نجران - فحمل وحده، فاخترق
القوم حتى خرج من ناحية أخرى، ثم كر ثانية ففعل فعلته الأولى، وتهايج الناس،
فترجلت الخوارج، وعقروا دوابهم، فناداهم عمرو القنا - ولم يترجل هو ولا أصحابه
وهم زهاء أربعمائة - فقال: موتوا على ظهور دوابكم كراماً، ولا تعقروها، فقالوا:
إنا إذا كنا على الدواب ذكرنا الفرار، فاقتتلوا، ونادى
المهلب بأصحابه: الأرض الأرض! وقال لبنيه: تفرقوا في الناس ليروا وجوهكم،
ونادت الخوارج: ألا إن العيال لمن غلب؛ فصبر بنو
المهلب؛ وقاتل يزيد بين يدي أبيه قتالاً شديداً، أبلى فيه، فقال له أبوه: يا
بني، أني أرى موطناً لا ينجو فيه إلا من صبر، وما مر بي يوم مثل هذا منذ مارست
الحروب. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
المهلب وبنوه
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ووجه
كعب بن معدان الأشقري ومرة بن بليد الأزدي، فوردا على الحجاج، فلما طلعا عليه،
تقدم كعب فأنشده:
فقال الحجاج:
أشاعر أم خطيب؟ قال: شاعر، فأنشده القصيدة؛ فأقبل عليه الحجاج، وقال: خبرني عن بني المهلب، قال: المغيرة سيدهم
وفارسهم، وكفى بيزيد فارساً شجاعاً! وجوادهم وسخيهم قبيصة، ولا يستحي الشجاع أن
يفر من مدرك، وعبد الملك سم ناقع، وحبيب موت ذعاف ، ومحمد ليث غاب، وكفاك بالفضل
نجدة! فقال له: فكيف خلفت جماعة الناس؟ قال: خلفتهم بخير، قد أدركوا ما أملوا،
وأمنوا ما خافوا، قال: فكيف كان بنو المهلب فيهم؟ قال: كانوا حماة السرح فإذا
أليلوا ففرسان البيات، قال: فأيهم كان أنجد؟ قال: كانوا كالحلقة المفرغة، لا
يدرى أين طرفاها، قال: فكيف كنتم أنتم وعدوكم؟ قال: كنا إذا أخذنا عفونا وإذا
أخذوا يئسنا منهم؛ وإذا اجتهدنا واجتهدوا طمعنا فيهم. قال الحجاج: إن العاقبة
للمتقين، فكيف أفلتكم قطري؟ قال: كدناه وظن أن قد كادنا، بأن صرنا منه إلى التي
نحب، قال: فهلا اتبعتموه؟ قال: كان حرب الحاضر آثر عندنا من اتباع الفل، قال: فكيف كان المهلب لكم وكنتم له؟ قال: كان لنا منه
شفقة الوالد، وله منا بر الولد، قال: فكيف كان اغتباط الناس به؟ قال: نشأ فيهم
الأمن، وشملهم النفل . قال: أكنت أعددت لي هذا الجواب؟ قال: لا يعلم الغيب إلا
الله، قال: هكذا والله تكون الرجال! المهلب كان أعلم
بذلك حيث بعثك. هذه رواية أبي العباس.
يذكر
فيها حروب المهلب مع الخوارج، ويصف وقائعه فيهم في بلد؛ وهي طويلة، ومن جملتها:
فضحك الحجاج، وقال:
إنك لمنصف يا كعب، ثم قال له: كيف كانت حالكم مع عدوكم؟ قال: كنا إذا لقيناهم بعفونا
وعفوهم يئسنا منهم، وإذا لقيناهم بجدنا وجدهم طمعنا فيهم. قال: فكيف كان بنو
المهلب؟ قال: حماة الحريم نهاراً، وفرسان الليل تيقظاً؛ قال: فأين السماع من
العيان؟ قال: السماع دون العيان، قال: صفهم لي رجلاً رجلاً. قال: المغيرة فارسهم
وسيدهم، نار ذاكية ، وصعدة عالية. وكفى بيزيد فارساً شجاعاً! ليث غاب، وبحر جم
العباب. وجوادهم قبيصة، ليث المغار، وحامي الذمار؛ ولا يستحي الشجاع أن يفر من
مدرك؛ وكيف لا يفر من الموت الحاضر، والأسد الخادر ! وعبد الملك سم ناقع ، وسيف
قاطع؛ وحبيب الموت الذعاف، طود شامخ، وبحر باذخ ؛ وأبو عيينة البطل الهمام،
والسيف الحسام، وكفاك بالمفضل نجدة؛ ليث هدار وبحر موار ! ومحمد ليث غاب، وحسام
ضراب. قال: فأيهم أفضل؟ قال: هم كالحلقة المفرغة لا يعرف طرفاها؛ قال: فكيف
جماعة الناس؟ قال: على أحسن حال، أرضاهم العدل، وأغناهم النفل. قال: فكيف رضاهم
بالمهلب؟ قال: أحسن رضا، لا يعدمون منه إشفاق الوالد، ولا يعدم منهم بر الولد.
وذكر تمام الحديث.
قال
أبو الفرج: وهذا الشعر من قصيدة لكعب، يمدح بها المهلب؛ ويذكر الخوارج، ومنها:
الأبيات
المتقدمة. قال:
وقام كعب الأشقري إلى المهلب، فأنشده بحضرة رسول الحجاج:
فبلغت أبياته الحجاج، فكتب إلى المهلب يأمره بإشخاص كعب الأشقري
إليه؛ فأعلم المهلب كعباً بذلك، وأوفده إلى عبد الملك من ليلته، وكتب إليه
يستوهبه منه؛
فقدم كعب على عبد الملك برسالة المهلب، فاستنطقه فأعجبه،
وأوفده إلى الحجاج؛ وكتب إليه يقسم عليه أن يصفح، ويعفو عما بلغه من شعره؛
فلما دخل قال: إيه يا كعب!
فقال:
أيها الأمير، والله لوددت في بعض ما شاهدته من تلك الحروب، وما أوردناه المهلب
من خطرها، أن أنجو منها وأكون حجاماً أو حائكاً، قال: أولى لك! لولا قسم أمير
المؤمنين ما نفعك ما تقول، الحق بصاحبك، ورده إلى المهلب.
وروي
أنه قام إليه رجل فقال: أصلح الله الأمير! والله لكأني أسمع الساعة قطرياً وهو
يقول لأصحابه: المهلب والله كما قال لقيط الإيادي، ثم أنشد هذا الشعر. فسر الحجاج حتى امتلأ سروراً؛ فقال المهلب: أما والله
ما كنا أشد من عدونا ولا أحد، ولكن دمغ الحق الباطل، وقهرت الجماعة الفتنة،
والعاقبة للمتقين، وكان ما كرهناه من المطاولة خيراً لنا مما أحببناه من
المعاجلة. فقال الحجاج: صدقت، اذكر لي القوم الذين أبلوا، وصف لي بلاءهم، فأمر
الناس فكتبوا ذلك إلى الحجاج، فقال لهم المهلب: ما ذخر الله لكم خير لكم من عاجل الدنيا إن شاء الله،
فذكرهم المهلب على مراتبهم في البلاء، وتفاضلهم في الغناء، وقدم بنيه: المغيرة،
ويزيد، ومدركاً، وحبيباً، وقبيصة، والمفضل وعبد الملك، ومحمداً، وقال: والله لو
واحد يقدمهم في البلاء لقدمته عليهم، ولولا أن أظلمهم لأخرتهم. فقال الحجاج:
صدقت، وما أنت أعلم بهم مني، وإن حضرت وغبت إنهم لسيوف من سيوف الله. ثم ذكر معن
بن المغيرة والرقاد وأشباههما.
وقال
المغيرة الحنظلي من أصحاب المهلب:
وقال
حبيب بن عوف من قواد المهلب:
وقال
عبيدة بن هلال الخارجي يذكر رجلاً من أصحابه:
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
شبيب بن يزيد الشيباني
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومنهم شبيب بن يزيد الشيباني؛ وكان في ابتداء أمره
يصحب صالح بن مسرح؛ أحد الخوارج الصفرية؛ وكان ناسكاً مصفر الوجه، صاحب عبادة،
وله أصحاب يقرئهم القرآن، ويفقههم ويقص عليهم؛ ويقدم الكوفة، فيقيم بها الشهر
والشهرين. وكان بأرض الموصل والجزيرة، وكان إذا فرغ من التحميد والصلاة على
النبي صلى الله عليه وسلم، ذكر أبا بكر فأثنى عليه، وثنى بعمر، ثم ذكر عثمان وما
كان من أحداثه؛ ثم علياً عليه السلام وتحكيمه الرجال في دين الله؛ ويتبرأ من
عثمان وعلي، ثم يدعو إلى مجاهدة أئمة الضلال، وقال: تيسروا يا إخواني للخروج من
دار الفناء إلى دار البقاء؛ واللحاق بإخواننا المؤمنين؛ الذين باعوا الدنيا
بالآخرة، ولا تجزعوا من القتل في الله، فإن القتل أيسر من الموت، والموت نازل
بكم؛ مفرق بينكم وبين آبائكم وإخوانكم، وأبنائكم وحلائلكم ودنياكم؛ وإن اشتد
لذلك جزعكم؛ ألا فبيعوا أنفسكم طائعين وأموالكم؛ تدخلوا الجنة... وأشباه هذا من
الكلام. فسار من حران في ألف رجل، وكأنما يساقون إلى الموت
- وكان عدي رجلاً ناسكاً - فلما نزل دوغان نزل بالناس، وأنفذ إلى صالح بن مسرح
رجلاً دسه إليه فقال: إن عدياً بعثني إليك يسألك أن تخرج عن هذا البلد، وتأتي
بلداً آخر فتقاتل أهله؛ فإني للقتال كاره، فقال له صالح: ارجع إليه، فقل له: إن
كنت ترى رأينا، فأرنا من ذلك ما نعرف، ثم نحن، مدلجون عنك، وإن كنت على رأي
الجبابرة وأئمة السوء، رأينا رأينا، فإما بدأنا بك، وإلا رحلنا إلى غيرك. قالوا: ابسط يدك، فبايعوه، فلما جاؤوا إلى الباب،
وجدوه جمراً، فاتوه باللبود فبلوها بالماء، ثم القوها عليه وخرجوا فلم يشعر
الحارث بن عمير إلا وشبيب وأصحابه يضربونهم بالسيوف في جوف عسكرهم، فضارب الحارث
حتى صرع، واحتمله أصحابه، وانهزموا وخلوا لهم المعسكر وما فيه، ومضوا حتى نزلوا
المدائن، وكان ذلك الجيش أول جيش هزمه شبيب. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
بين شبيب والحجاج
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ثم ارتفع في أداني أرض الموصل، ثم ارتفع إلى نحو
أذربيجان يجبي الخراج، وكان سفيان ابن أبي العالية قد أمر أن يحارب صاحب
طبرستان، فأمر بالقفول نحو شبيب، وأن يصالح طبرستان، فصالحه، فأقبل في ألف فارس،
وقد ورد عليه كتاب من الحجاج: أما بعد، فأقم بالدسكرة فيمن معك، حتى يأتيك جيش
الحارث بن عميرة. قاتل صالح بن مسرح، ثم سر إلى شبيب حتى نناجزه. فاستعمل على عسكره حازم بن قدامة، وانتخب ثلاثمائة من شجعان
أصحابه، ثم أقبل بهم حتى قرب من النهروان، وبات وقد أذكى الحرس، ثم بيتهم؛ فلما دنا أصحاب سورة منهم
نذروا بهم، فاستووا على خيولهم، وتعبوا تعبيتهم؛ فلما انتهى إليهم سورة وأصحابه،
أصابوهم وقد نذروا، فحمل عليهم سورة، فصاح شبيب بأصحابه، فحمل عليهم حتى تركوا
له العرصة، وحمل شبيب، وجعل يضرب ويقول:
فرجع
سورة مفلولاً، قد هزم فرسانه وأهل القوة من أصحابه، وأقبل نحو المدائن، وتبعه
شبيب؛ حتى انتهى سورة إلى بيوت المدائن، وانتهى شبيب إليهم، وقد دخل الناس
البيوت، وخرج ابن أبي عصيفر، وهو أمير المدائن يومئذ في جماعة، فلقيهم في شوارع
المدائن، ورماهم الناس بالنبل والحجارة من فوق البيوت. فقال لأخيه وللأمراء الذين ذكرناهم: إني أريد
أن أبيت الليلة هذا العسكر، فأتهم أنت يا مصاد من قبل حلوان ، وسآتيهم أنا من
أمامهم من قبل الكوفة، وأتهم أنت يا سويد من قبل المشرق، وأتهم أنت يا مجلل من
قبل المغرب، وليلج كل امرئٍ منكم على الجانب الذي يحمل عليه، ولا تقلعوا عنهم
حتى يأتيكم أمري. فمنعهم أصحابهم أن يدخلوا عليهم، ورشقوهم بالنبل،
وكانت لهم عيون قد أتتهم فأخبرتهم بمكاننا، وكان الجزل قد خندق عليهم وتحرز،
ووضع هذه المسلحة الذين لقيناهم بدير الخرارة، ووضع مسلحة أخرى مما يلي حلوان. فخرج إليهم وهو يحكم ، وحمل حملة
عظيمة، فجعل سعيد وأصحابه يرجعون القهقرى، حتى صار بينهم وبين الدير ميل، وشبيب
يصيح:
أتاكم الموت الزؤام! فاثبتوا، وسعيد يصيح: يا معشر همدان، إلي إلي، أنا ابن ذي
مران! فقال شبيب لمصاد: ويحك! استعرضهم استعراضاً؛ فإنهم قد تقطعوا، وإني حامل
على أميرهم، وأثكلنيك الله إن لم أثكله ولده؛ ثم حمل على سعيد فعلاه بالعمود؛
فسقط ميتاً وانهزم أصحابه، ولم يقتل يومئذ من الخوارج إلا رجل واحد. وخرج الحجاج من الكوفة إلى البصرة حيث بعد شبيب، واستخلف على
الكوفة عروة بن المغيرة بن شعبة، فما شعر الناس إلا بكتاب من مادارست، دهقان بابل مهروز إلى
عروة بن المغيرة بن سعبة، أن تاجراً من تجار الأنبار من أهل بلادي أتاني يذكر أن
شبيباً يريد أن يدخل الكوفة في أول هذا الشهر المستقبل، وأحببت إعلامك ذلك لترى
رأيك، وإني لم ألبث بعد ذلك إذ جائني اثنان من جيراني فحدثاني أن شبيباً قد نزل
خانيجار .
ثم
أقحم هو وأصحابه المسجد الجامع، ولا يفارقه قوم يصلون فيه، فقتل منهم جماعة، ومر
هو بدار حوشب - وكان هو على شرطة الحجاج - فوقف على بابه في جماعة، فقالوا: إن
الأمير - يعنون الحجاج - يدعو حوشباً، وقد أخرج ميمون غلامه برذونه ليركب، فكأنه
أنكرهم، فظنوا أنه قد اتهمهم فأراد أن يدخل إلى صاحبه، فقالوا له: كما أنت حتى
يخرج صاحبك إليك، فسمع حوشب الكلام، فأنكر القوم، وذهب لينصرف فعجلوا نحوه،
فأغلق الباب دونه، فقتلوا غلامه ميموناً، وأخذوا برذونه، ومضوا حتى مروا بالجحاف
بن نبيط الشيباني، من رهط حوشب. فقال له سويد: انزل إلينا، فقال: ما تصنع
بنزولي! فقال: انزل، إني لم أقضك ثمن البكرة التي ابتعتها منك بالبادية، فقال
الجحاف: بئس ساعة القضاء هذه! وبئس المكان لقضاء الدين هذا. ويحك! أما ذكرت أداء
أمانتك إلا والليل مظلم، وأنت على متن فرسك! قبح الله يا سويد ديناً لا يصلح إلا
بقتل الأنفس وسفك الدماء. ثم مروا بمسجد بني ذهل، فلقوا ذهل بن الحارث، وكان
يصلي في مسجد قومه، فيطيل الصلاة إلى الليل، فصادفوه منصرفاً إلى منزله فقتلوه
ثم خرجوا متوجهين نحو الردمة ؛ وأمر الحجاج المنادي: يا خيل الله اركبي وأبشري،
وهو فوق باب القصر، وهناك مصباح مع غلام له قائم. وبعث الحجاج بشر بن غالب الأسدي في
ألفي رجل، وزياد بن قدامة في ألفين، وأبا الضريس مولى تميم في ألفٍ من الموالي،
وأعين صاحب حمام أعين لبشر بن مروان في ألف، وجماعة غيرهم،
فاجتمعت تلك الأمراء في أسفل الفرات، وترك شبيب الوجه الذي فيه جماعة هؤلاء
القواد، وأخذ نحو، القادسية، فوجه الحجاج زحر بن
قيس في جريدة خيل، نقاوة ، عدتها ألف وثمانمائة فارس، وقال له: اتبع شبيباً حتى
تواقعه حيثما أدركته، فخرج زحر بن قيس حتى انتهى إلى السيلحين ، وبلغ
شبيباً مسيره إليه فأقبل نحوه، فالتقيا، وقد جعل زحر على ميمنته عبد الله بن
كناز، وكان شجاعاً، وعلى ميسرته عدي بن عميرة الكندي، وجمع شبيب خيله كلها كبكبة
واحدة، ثم اعترض بها الصف يوجف وجيفاً، حتى انتهى إلى زحر بن قيس، فنزل زحر، فقاتل حتى صرع وانهزم أصحابه، وظن أنه قد قتل. وقال أصحاب شبيب لشبيب؛ وهم يظنون أنهم قد قتلوا
زحراً: قد هزمنا جندهم، وقتلنا أميراً من أمرائهم عظيماً؛ فانصرف بنا الآن
موفورين. فقال لهم:
إن قتلكم هذا الرجل وهزيمتكم هذا الجند قد أرعب هؤلاء الأمراء، فاقصدوا بنا
قصدهم؛ فوالله لئن نحن قتلناهم ما دون قتل الحجاج وأخذ الكوفة شيء. فقالوا له: نحن طوع لأمرك ورأيك. فانقض بهم جاداً؛
حتى أتى ناحية عين التمر ؛ واستخبر عن القوم، فعرف اجتماعهم في روذبار في أسفل
الفرات، على رأس أربعة وعشرين فرسخاً من الكوفة. ثم إن مصاداً حمل على بشر بن غالب في الميسرة فصبر
وكرم وأبلى، ونزل معه رجال من أهل البصرة نحو خمسين، فضاربوا بأسيافهم حتى
قتلوا، ثم انهزم أصحابه فشددنا على أبي الضريس فهزمناه، ثم انتهينا إلى موقف
أعين، ثم شددنا على أعين، فهزمناهم حتى انتهينا إلى زائدة بن قدامة، فلما انتهوا
إليه، نزل ونادى: يا أهل الإسلام، الأرض الأرض! ألا لا يكونون على كفرهم أصبر
منكم على إيمانكم. فقاتلوا عامة الليل إلى السحر. فقالوا لشبيب: إنه قد رغب عنا إليك، قال: فما ظنكم
بمن يرغب عن الأشراف! ثم برز له، وقال له: أنشدك الله يا محمد في دمك، فإن لك
جواراً! فأبى إلا قتاله، فحمل عليه بعموده الحديد، وكان فيه اثنا عشر رطلاً،
فهشم رأسه وبيضة كانت عليه فقتله؛ ونزل إليه فكفنه ودفنه. وتتبع ما غنم الخوارج
من عسكره؛ فبعث به إلى أهله، واعتذر إلى أصحابه، وقال: هو جاري بالكوفة، ولي أن
أهب ما غنمت. فقل له أصحابه: ما دون الكوفة الآن أحد يمنعك، فنظر فإذا أصحابه قد
فشا فيهم الجراح، فقال: ليس عليكم أكثر مما قد فعلتم. وبلغ
الحجاج أن شبيباً قد أخذ نحو نفر، فظن أنه يريد المدائن؛ وهي باب الكوفة؛ ومن
أخذ المدائن كان ما في يديه من أرض الكوفة أكثر، فهال ذلك الحجاج، وبعث إلى
عثمان بن قطن، فسرحه إلى المدائن، وولاه منبرها والصلاة ومعونة جوخى كلها، وخراج
الأستان، فجاء مسرعاً حتى نزل المدائن، وعزل الحجاج ابن أبي عصيفر عن المدائن،
وكان الجزل مقيماً بها يداوي جراحاته، وكان ابن أبي عصيفر يعوده ويكرمه، ويلطفه
، فلما قدم عثمان بن قطن لم يكن يتعاهده ولا يلطفه بشيء، فكان الجزل يقول: اللهم
زد ابن أبي عصيفر فضلاً وكرماً، وزد عثمان بن قطن ضيقاً وبخلاً. وارتحل عبد الرحمن بالناس حتى مر
بالمدائن، فنزل بها يوماً ليشتري أصحابه منها حوائجهم، ثم نادى في الناس
بالرحيل؛ وأقبل حتى دخل على عثمان بن قطن مودعاً؛ ثم أتى الجزل عائداً، فسأله عن
جراحاته، وحادثه، فقال الجزل: يابن عم، إنك تسير إلى فرسان
العرب وأبناء الحرب وأحلاس الخيل، والله لكأنما خلقوا من ضلوعها؛ ثم ربوا على
ظهورها؛ ثم هم أسد الأجم، الفارس منهم أشد من مائة، إن لم يبدأ به بدأ هو، وإن
هجهج أقدم، وإني قد قاتلتهم وبلوتهم ، فإذا أصحرت لهم انتصفوا مني، وكان لهم
الفضل علي، وإذا خندقت أو قاتلت في مضيق نلت منهم ما أحب؛ وكانت لي عليهم، فلا
تلقهم وأنت تستطيع إلا وأنت في تعبية أو خندق، ثم ودعه، وقال له: هذه فرسي
الفسيفساء خذها فإنها لا تجارى، فأخذها ثم خرج بالناس نحو شبيب، فلما دنا منه
ارتفع شبيب عنه إلى دقوقاء وشهرزور، فخرج عبد الرحمن في طلبه؛ حتى إذا كان على
تخوم تلك الأرض أقام، وقال: إنما هو في أرض الموصل؛ فليقاتل أمير الموصل وأهلها
عن بلادهم أو فليدعوا. فوثبوا
إليه، وقالوا: ننشدك الله! هذا المساء قد غشينا، والناس لم يوطنوا أنفسهم على
القتال فبت الليلة ثم اخرج على تعبية، فجعل يقول: لأناجزنهم الليلة، ولتكونن
الفرصة لي أو لهم، فأتاه عبد الرحمن بن محمد ابن الأشعث، فأخذ بعنان بغلته،
وناشده الله لما نزل، وقال له عقيل بن شداد السلولي: إن الذي تريده من مناجزتهم
الساعة أنت فاعله غداً، وهو خير لك وللناس، إن هذه ساعة ريح قد اشتدت مساءً،
فانزل، ثم أبكر بنا غدوة. وكان لشبيب يخرج إليهم، فلما رآهم لا يخرجون إليه
أقام، فلما كان الغد خرج عثمان يعبي الناس على أرباعهم، وسألهم: من كان على
ميمنتكم وميسرتكم؟ فقالوا: خالد بن نهيك بن قيس الكندي على ميسرتنا، وعقيل بن
شداد السلولي على ميمنتنا، فدعاهما وقال لهما: قفا في مواقفكما التي كنتما بهما،
فقد وليتكما المجنبتين، فاثبتا ولا تفرا، فوالله لا أزول حتى تزول نخيل راذان عن
أصولها. فقالا: نحن والله الذي لا إله إلا هو لا نفر حتى نظفر أو نقتل، فقال
لهما: جزاكما الله خيراً! ثم أقام حتى صلى بالناس الغداة، ثم خرج بالخيل، فنزل
يمشي في الرجال، وخرج شبيب ومعه يومئذ مائة وأحد وثمانون رجلاً، فقطع إليهم
النهر؛ وكان هو في ميمنة أصحابه، وجعل على الميسرة سويد بن سليم، وجعل في القلب
مصاداً أخاه وزحفوا، وكان عثمان بن قطن يقول لأصحابه فيكثر: " قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل
وإذا لا تمتعون إلا قليلاً " . فقال الحجاج: قد لعمري فعلت، ذلك أولى لك! وخلي
سبيله. فأقبل القوم سراعاً، وقدم عتاب بن
ورقاء في الليلة التي قال الحجاج إنه فيها قادم؛ فأمره الحجاج؛ فخرج بالناس،
وعسكر بحمام أعين وأقبل شبيب حتى انتهى إلى كلواذى ، فقطع منها دجلة، وأقبل حتى
نزل بهرسير وصار بينه وبين مطرف بن المغيرة بن شعبة جسر دجلة، فقطع مطرف الجسر،
ورأى رأياً صالحاً كاد به شبيباً؛ حتى حبسه عن وجهه، وذلك أنه بعث إليه:
أن ابعث إلي رجالاً من فقهاء أصحابك وقرائهم، وأظهر له أنه يريد أن يدارسهم
القرآن، وينظر فيما يدعون إليه، فإن وجد حقاً اتبعه، فبعث إليه شبيب رجالاً،
فيهم قعنب وسويد والمجلل، ووصاهم ألا يدخلوا السفينة حتى يرجع رسوله من عند
مطرف، وأرسل إلى مطرف: أن ابعث إلي من أصحابك ووجوه فرسانك بعدة أصحابي، ليكونوا
رهناً في يدي، حتى ترد علي أصحابي. فقال مطرف لرسوله: القه، وقل له: كيف آمنك
الآن على أصحابي، إذ أبعثهم إليك، وأنت لا تأمنني على أصحابك! فأبلغه الرسول،
فقال: قل له: قد علمت أنا لا نستحل الغدر في ديننا، وأنتم قوم غدر تستحلون الغدر
وتفعلونه. فبعث إليه مطرف جماعةً من وجوه أصحابه، فلما صاروا في يد شبيب، سرح
إليه أصحابه، فعبروا إليه في السفينة، فأتوه، فمكثوا أربعة أيام يتناظرون، ولم يتفقواعلى
شيء، فلما تبين لشبيب أن مطرفاً كاده، وأنه غير متابع له، تعبى للمسير، وجمع
إليه أصحابه، وقال لهم: إن هذا الثقفي قطعني عن رأيي منذ أربعة أيام، وذلك أني
هممت أن أخرج في جريدة من الخيل، حتى ألقى هذا الجيش المقبل من الشام، وأرجو أن
أصادف غرتهم قبل أن يحذروا، وكنت ألقاهم منقطعين عن المصر، ليس عليهم أمير
كالحجاج يستندون إليه، ولا لهم مصر كالكوفة يعتصمون به، وقد جاءني عيون أن
أوائلهم قد دخلوا عين التمر، فهم الآن قد شارفوا الكوفة، وجاءني أيضاً عيون من
نحو عتاب أنه نزل بحمام أعين بجماعة أهل الكوفة وأهل البصرة، فما أقرب ما بيننا
وبينهم! فتيسروا بنا للمسير إلى عتاب. فلم يجبه أحد، فقال: أين القصاص يقصون على الناس،
ويحرضونهم؟ فلم يتكلم أحد، فقال: أين من يروي شعر عنترة، فيحرك الناس؟ فلم يجبه
أحد ولا رد عليه كلمة؛ فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله؛ والله لكأني بكم وقد
تفرقتم عن عتاب وتركتموه تسفي في إسته الريح، ثم أقبل حتى جلس في القلب، ومعه
زهرة بن حوية، وعبد الرحمن بن محمد بن الأشعث. وأقبل شبيب في ستمائة، وقد تخلف عنه من الناس
أربعمائة؛ فقال: إنه لم يتخلف عني إلا من لا أحب أن أراه معي، فبعث سويد بن سليم
في مائتين إلى الميسرة، وبعث المجلل بن وائل في مائتين إلى القلب، ومضى هو في
مائتين إلى الميمنة، وذلك بين المغرب والعشاء الآخرة، حين أضاء القمر؛ فناداهم:
لمن هذه الرايات؟ قالوا: رايات همدان. فقال: رايات طالما نصرت الحق، وطالما نصرت
الباطل، لها في كل نصيب؛ أنا أبو المدلة اثبتوا إن شئتم. ثم حمل عليهم، وهم على
مسناة أمام الخندق، ففضهم ، وثبت أصحاب رايات قبيصة بن والق. وقال سفيان بن الأبرد للحجاج:
ابعثني إلى شبيب أستقبله قبل أن يرد الكوفة، فقال: لا، ما أحب أن نفترق حتى
ألقاه في جماعتكم، والكوفة في ظهرنا؛ وأقبل شبيب حتى نزل حمام أعين، ودعا الحجاج
الحارث بن معاوية بن أبي زرعة بن مسعود الثقفي فوجهه في ناس لم يكونوا شهدوا يوم
عتاب. فخرج في ألف رجل؛ حتى انتهى إلى شبيب ليدفعه عن الكوفة؛ فلما رآه شبيب حمل
عليه فقتله؛ وفل أصحابه. فجاؤوا حتى
دخلوا الكوفة، وبعث شبيب البطين في عشرة فوارس يرتادون له منزلاً على شاطئ
الفرات، في دار الرزق، فوجه الحجاج حوشب ابن يزيد، في جمع من أهل الكوفة، فأخذوا
بأفواه السكك، فقاتلهم البطين فلم يقو عليهم، فبعث إلى شبيب، فأمده بفوارس من
أصحابه، فعقروا فرس حوشب وهزموه، فنجا بنفسه، ومضى البطين إلى دار الرزق في
أصحابه، ونزل شبيب بها، ولم يوجه إليه الحجاج أحداً، فابتنى مسجداً في أقصى
السبخة، وأقام ثلاثاً لم يوجه إليه الحجاج أحداً، ولا يخرج إليه من أهل الكوفة،
ولا من أهل الشام أحد، وكانت امرأته غزالة نذرت أن تصلي في مسجد الكوفة ركعتين،
تقرأ فيهما البقرة وآل عمران. فشدوا شدة عظيمة، فلم يزل أهل الشام عن مراكزهم،
فقال شبيب: الأرض! دبوا دبيباً تحت تراسكم، حتى إذا صارت أسنة أصحاب الحجاج
فوقها، فأذلقوها صعداً، وادخلوا تحتها، واضربوا سوقهم وأقدامهم، وهي الهزيمة
بإذن الله. فأقبلوا يدبون دبيباً تحت الجحف: صمداً صمداً، نحو أصحاب الحجاج. حتى ركب شبيب، وقال لأصحابه الذين نزلوا معه:
اركبوا، وتوجه بهم منصرفاً عنا. فقال فروة بن لقيط الخارجي - وكان شهد معه مواطنه
كلها - قال لنا ليلتئذ، وقد رأى بنا كآبة ظاهرة، وجراحاتٍ شديدة: ما أشد هذا
الذي بنا لو كنا نطلب الدنيا! وما أيسر هذا في طاعة الله وثوابه! فقال أصحابه:
صدقت يا أمير المؤمنين. فقال يزيد السكسكي - وكان من أصحاب
سفيان يومئذ: كر علينا شبيب واصحابه أكثر من ثلاثين
كرة، ولا يزول من صفنا أحد، فقال لنا سفيان: لا تحملوا عليهم متفرقين، ولكن
لتزحف عليهم الرجال زحفاً؛ ففعلنا، وما زلنا نطاعنهم حتى اضطررناهم إلى الجسر،
فقاتلونا عليه أشد قتال يكون لقوم قط. ثم نزل شبيب، ونزل معه نحو مائة رجل؛ فما
هو إلا أن نزلوا حتى أوقعوا بنا من الضرب والطعن شيئاً ما رأينا مثله قط، ولا
ظنناه يكون؛ فلما رأى سفيان أنه لا يقدر عليهم، ولا يأمن ظفرهم، دعا الرماة
فقال: ارشقوهم بالنبل؛ وذلك عند المساء، وكان الالتقاء ذلك اليوم نصف النهار،
فرشقهم أصحابه؛ وقد كان سفيان صفهم على حدة، وعليهم أمير، فلما رشقوهم شدوا
عليهم، فشددنا نحن، وشغلناهم عنهم، فلما رأوا ذلك ركب شبيب وأصحابه، وكروا على
أصحاب النبل كرة شديدة، صرعوا منهم فيها أكثر من ثلاثين رامياً، ثم عطف علينا
يطاعننا بالرماح، حتى اختلط الظلام، ثم انصرف عنا، فقال
سفيان بن الأبرد لأصحابه: يا قوم، دعوهم لا تتبعوهم؛ يا قوم دعوهم لا
تتبعوهم حتى نصبحهم . قال: فكففنا عنهم وليش شيء أحب إلينا من أن ينصرفوا
عنا. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الفهرس الجزء الرابع - باب
المختار من الخطب والأوامر - ابن ابي الحديد. ومنها
في ذكر يوم النحر وصفة الأضحية. ومن
كلام له عليه السلام في ذكر البيعة. وقد
استبطأ أصحابه إذنه لهم في القتال بصفين... بعض ما
جاء من أخبار في يوم صفين... ومن
كلام له لأصحابه يخبر عن رجل يأمر بسبه. أهل
العدل والمجبرة وبعض المسائل الكلامية. معاوية
يأمر بسب علي عليه السلام. الأحاديث
الموضوعة في ذم علي عليه السلام. فصل في
ذكر المنحرفين عن علي عليه السلام. سب علي
عليه السلام عند الإكراه زكاة له.. علي
عليه السلام يقول إني ولدت على الفطرة المحققون
من أهل السيرة علي عليه السلام أول من أسلم. علي
عليه السلام من السابقين إلى الهجرة عبيد
الله بن بشير بن الماحوز اليربوعي... الزبير
بن علي السليطي وظهور أمر المهلب... |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||