- القرآن الكريم
- سور القرآن الكريم
- 1- سورة الفاتحة
- 2- سورة البقرة
- 3- سورة آل عمران
- 4- سورة النساء
- 5- سورة المائدة
- 6- سورة الأنعام
- 7- سورة الأعراف
- 8- سورة الأنفال
- 9- سورة التوبة
- 10- سورة يونس
- 11- سورة هود
- 12- سورة يوسف
- 13- سورة الرعد
- 14- سورة إبراهيم
- 15- سورة الحجر
- 16- سورة النحل
- 17- سورة الإسراء
- 18- سورة الكهف
- 19- سورة مريم
- 20- سورة طه
- 21- سورة الأنبياء
- 22- سورة الحج
- 23- سورة المؤمنون
- 24- سورة النور
- 25- سورة الفرقان
- 26- سورة الشعراء
- 27- سورة النمل
- 28- سورة القصص
- 29- سورة العنكبوت
- 30- سورة الروم
- 31- سورة لقمان
- 32- سورة السجدة
- 33- سورة الأحزاب
- 34- سورة سبأ
- 35- سورة فاطر
- 36- سورة يس
- 37- سورة الصافات
- 38- سورة ص
- 39- سورة الزمر
- 40- سورة غافر
- 41- سورة فصلت
- 42- سورة الشورى
- 43- سورة الزخرف
- 44- سورة الدخان
- 45- سورة الجاثية
- 46- سورة الأحقاف
- 47- سورة محمد
- 48- سورة الفتح
- 49- سورة الحجرات
- 50- سورة ق
- 51- سورة الذاريات
- 52- سورة الطور
- 53- سورة النجم
- 54- سورة القمر
- 55- سورة الرحمن
- 56- سورة الواقعة
- 57- سورة الحديد
- 58- سورة المجادلة
- 59- سورة الحشر
- 60- سورة الممتحنة
- 61- سورة الصف
- 62- سورة الجمعة
- 63- سورة المنافقون
- 64- سورة التغابن
- 65- سورة الطلاق
- 66- سورة التحريم
- 67- سورة الملك
- 68- سورة القلم
- 69- سورة الحاقة
- 70- سورة المعارج
- 71- سورة نوح
- 72- سورة الجن
- 73- سورة المزمل
- 74- سورة المدثر
- 75- سورة القيامة
- 76- سورة الإنسان
- 77- سورة المرسلات
- 78- سورة النبأ
- 79- سورة النازعات
- 80- سورة عبس
- 81- سورة التكوير
- 82- سورة الانفطار
- 83- سورة المطففين
- 84- سورة الانشقاق
- 85- سورة البروج
- 86- سورة الطارق
- 87- سورة الأعلى
- 88- سورة الغاشية
- 89- سورة الفجر
- 90- سورة البلد
- 91- سورة الشمس
- 92- سورة الليل
- 93- سورة الضحى
- 94- سورة الشرح
- 95- سورة التين
- 96- سورة العلق
- 97- سورة القدر
- 98- سورة البينة
- 99- سورة الزلزلة
- 100- سورة العاديات
- 101- سورة القارعة
- 102- سورة التكاثر
- 103- سورة العصر
- 104- سورة الهمزة
- 105- سورة الفيل
- 106- سورة قريش
- 107- سورة الماعون
- 108- سورة الكوثر
- 109- سورة الكافرون
- 110- سورة النصر
- 111- سورة المسد
- 112- سورة الإخلاص
- 113- سورة الفلق
- 114- سورة الناس
- سور القرآن الكريم
- تفسير القرآن الكريم
- تصنيف القرآن الكريم
- آيات العقيدة
- آيات الشريعة
- آيات القوانين والتشريع
- آيات المفاهيم الأخلاقية
- آيات الآفاق والأنفس
- آيات الأنبياء والرسل
- آيات الانبياء والرسل عليهم الصلاة السلام
- سيدنا آدم عليه السلام
- سيدنا إدريس عليه السلام
- سيدنا نوح عليه السلام
- سيدنا هود عليه السلام
- سيدنا صالح عليه السلام
- سيدنا إبراهيم عليه السلام
- سيدنا إسماعيل عليه السلام
- سيدنا إسحاق عليه السلام
- سيدنا لوط عليه السلام
- سيدنا يعقوب عليه السلام
- سيدنا يوسف عليه السلام
- سيدنا شعيب عليه السلام
- سيدنا موسى عليه السلام
- بنو إسرائيل
- سيدنا هارون عليه السلام
- سيدنا داود عليه السلام
- سيدنا سليمان عليه السلام
- سيدنا أيوب عليه السلام
- سيدنا يونس عليه السلام
- سيدنا إلياس عليه السلام
- سيدنا اليسع عليه السلام
- سيدنا ذي الكفل عليه السلام
- سيدنا لقمان عليه السلام
- سيدنا زكريا عليه السلام
- سيدنا يحي عليه السلام
- سيدنا عيسى عليه السلام
- أهل الكتاب اليهود النصارى
- الصابئون والمجوس
- الاتعاظ بالسابقين
- النظر في عاقبة الماضين
- السيدة مريم عليها السلام ملحق
- آيات الناس وصفاتهم
- أنواع الناس
- صفات الإنسان
- صفات الأبراروجزائهم
- صفات الأثمين وجزائهم
- صفات الأشقى وجزائه
- صفات أعداء الرسل عليهم السلام
- صفات الأعراب
- صفات أصحاب الجحيم وجزائهم
- صفات أصحاب الجنة وحياتهم فيها
- صفات أصحاب الشمال وجزائهم
- صفات أصحاب النار وجزائهم
- صفات أصحاب اليمين وجزائهم
- صفات أولياءالشيطان وجزائهم
- صفات أولياء الله وجزائهم
- صفات أولي الألباب وجزائهم
- صفات الجاحدين وجزائهم
- صفات حزب الشيطان وجزائهم
- صفات حزب الله تعالى وجزائهم
- صفات الخائفين من الله ومن عذابه وجزائهم
- صفات الخائنين في الحرب وجزائهم
- صفات الخائنين في الغنيمة وجزائهم
- صفات الخائنين للعهود وجزائهم
- صفات الخائنين للناس وجزائهم
- صفات الخاسرين وجزائهم
- صفات الخاشعين وجزائهم
- صفات الخاشين الله تعالى وجزائهم
- صفات الخاضعين لله تعالى وجزائهم
- صفات الذاكرين الله تعالى وجزائهم
- صفات الذين يتبعون أهواءهم وجزائهم
- صفات الذين يريدون الحياة الدنيا وجزائهم
- صفات الذين يحبهم الله تعالى
- صفات الذين لايحبهم الله تعالى
- صفات الذين يشترون بآيات الله وبعهده
- صفات الذين يصدون عن سبيل الله تعالى وجزائهم
- صفات الذين يعملون السيئات وجزائهم
- صفات الذين لايفلحون
- صفات الذين يهديهم الله تعالى
- صفات الذين لا يهديهم الله تعالى
- صفات الراشدين وجزائهم
- صفات الرسل عليهم السلام
- صفات الشاكرين وجزائهم
- صفات الشهداء وجزائهم وحياتهم عند ربهم
- صفات الصالحين وجزائهم
- صفات الصائمين وجزائهم
- صفات الصابرين وجزائهم
- صفات الصادقين وجزائهم
- صفات الصدِّقين وجزائهم
- صفات الضالين وجزائهم
- صفات المُضَّلّين وجزائهم
- صفات المُضِلّين. وجزائهم
- صفات الطاغين وجزائهم
- صفات الظالمين وجزائهم
- صفات العابدين وجزائهم
- صفات عباد الرحمن وجزائهم
- صفات الغافلين وجزائهم
- صفات الغاوين وجزائهم
- صفات الفائزين وجزائهم
- صفات الفارّين من القتال وجزائهم
- صفات الفاسقين وجزائهم
- صفات الفجار وجزائهم
- صفات الفخورين وجزائهم
- صفات القانتين وجزائهم
- صفات الكاذبين وجزائهم
- صفات المكذِّبين وجزائهم
- صفات الكافرين وجزائهم
- صفات اللامزين والهامزين وجزائهم
- صفات المؤمنين بالأديان السماوية وجزائهم
- صفات المبطلين وجزائهم
- صفات المتذكرين وجزائهم
- صفات المترفين وجزائهم
- صفات المتصدقين وجزائهم
- صفات المتقين وجزائهم
- صفات المتكبرين وجزائهم
- صفات المتوكلين على الله وجزائهم
- صفات المرتدين وجزائهم
- صفات المجاهدين في سبيل الله وجزائهم
- صفات المجرمين وجزائهم
- صفات المحسنين وجزائهم
- صفات المخبتين وجزائهم
- صفات المختلفين والمتفرقين من أهل الكتاب وجزائهم
- صفات المُخلَصين وجزائهم
- صفات المستقيمين وجزائهم
- صفات المستكبرين وجزائهم
- صفات المستهزئين بآيات الله وجزائهم
- صفات المستهزئين بالدين وجزائهم
- صفات المسرفين وجزائهم
- صفات المسلمين وجزائهم
- صفات المشركين وجزائهم
- صفات المصَدِّقين وجزائهم
- صفات المصلحين وجزائهم
- صفات المصلين وجزائهم
- صفات المضعفين وجزائهم
- صفات المطففين للكيل والميزان وجزائهم
- صفات المعتدين وجزائهم
- صفات المعتدين على الكعبة وجزائهم
- صفات المعرضين وجزائهم
- صفات المغضوب عليهم وجزائهم
- صفات المُفترين وجزائهم
- صفات المفسدين إجتماعياَ وجزائهم
- صفات المفسدين دينيًا وجزائهم
- صفات المفلحين وجزائهم
- صفات المقاتلين في سبيل الله وجزائهم
- صفات المقربين الى الله تعالى وجزائهم
- صفات المقسطين وجزائهم
- صفات المقلدين وجزائهم
- صفات الملحدين وجزائهم
- صفات الملحدين في آياته
- صفات الملعونين وجزائهم
- صفات المنافقين ومثلهم ومواقفهم وجزائهم
- صفات المهتدين وجزائهم
- صفات ناقضي العهود وجزائهم
- صفات النصارى
- صفات اليهود و النصارى
- آيات الرسول محمد (ص) والقرآن الكريم
- آيات المحاورات المختلفة - الأمثال - التشبيهات والمقارنة بين الأضداد
- نهج البلاغة
- تصنيف نهج البلاغة
- دراسات حول نهج البلاغة
- الصحيفة السجادية
- تصنيف الصحيفة السجادية
- تصنيف الصحيفة بالموضوعات
- الباب السابع : باب الاخلاق
- الباب الثامن : باب الطاعات
- الباب التاسع: باب الذكر والدعاء
- الباب العاشر: باب السياسة
- الباب الحادي عشر:باب الإقتصاد
- الباب الثاني عشر: باب الإنسان
- الباب الثالث عشر: باب الكون
- الباب الرابع عشر: باب الإجتماع
- الباب الخامس عشر: باب العلم
- الباب السادس عشر: باب الزمن
- الباب السابع عشر: باب التاريخ
- الباب الثامن عشر: باب الصحة
- الباب التاسع عشر: باب العسكرية
- الباب الاول : باب التوحيد
- الباب الثاني : باب النبوة
- الباب الثالث : باب الإمامة
- الباب الرابع : باب المعاد
- الباب الخامس: باب الإسلام
- الباب السادس : باب الملائكة
- تصنيف الصحيفة بالموضوعات
- أسماء الله الحسنى
- أعلام الهداية
- النبي محمد (صلى الله عليه وآله)
- الإمام علي بن أبي طالب (عليه السَّلام)
- السيدة فاطمة الزهراء (عليها السَّلام)
- الإمام الحسن بن علي (عليه السَّلام)
- الإمام الحسين بن علي (عليه السَّلام)
- لإمام علي بن الحسين (عليه السَّلام)
- الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السَّلام)
- الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السَّلام)
- الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السَّلام)
- الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السَّلام)
- الإمام محمد بن علي الجواد (عليه السَّلام)
- الإمام علي بن محمد الهادي (عليه السَّلام)
- الإمام الحسن بن علي العسكري (عليه السَّلام)
- الإمام محمد بن الحسن المهدي (عجَّل الله فرَجَه)
- تاريخ وسيرة
- "تحميل كتب بصيغة "بي دي أف
- تحميل كتب حول الأخلاق
- تحميل كتب حول الشيعة
- تحميل كتب حول الثقافة
- تحميل كتب الشهيد آية الله مطهري
- تحميل كتب التصنيف
- تحميل كتب التفسير
- تحميل كتب حول نهج البلاغة
- تحميل كتب حول الأسرة
- تحميل الصحيفة السجادية وتصنيفه
- تحميل كتب حول العقيدة
- قصص الأنبياء ، وقصص تربويَّة
- تحميل كتب السيرة النبوية والأئمة عليهم السلام
- تحميل كتب غلم الفقه والحديث
- تحميل كتب الوهابية وابن تيمية
- تحميل كتب حول التاريخ الإسلامي
- تحميل كتب أدب الطف
- تحميل كتب المجالس الحسينية
- تحميل كتب الركب الحسيني
- تحميل كتب دراسات وعلوم فرآنية
- تحميل كتب متنوعة
- تحميل كتب حول اليهود واليهودية والصهيونية
- المحقق جعفر السبحاني
- تحميل كتب اللغة العربية
- الفرقان في تفسير القرآن -الدكتور محمد الصادقي
- وقعة الجمل صفين والنهروان
موسوعة التاريخ
الإسلامي الشيخ محمد هادي اليوسفي ج 1
|
الكتاب: موسوعة التأريخ الاسلامي / ج 1 المؤلف: الشيخ محمد هادي
اليوسفي الغروي الناشر: مجمع الفكر الإسلامي الطبعة: الاولى / ربيع الثاني 1417
ه. ق |
بسم الله الرحمن الرحيم
|
كلمة المجمع يعتبر التأريخ الإسلامي مصدرا مهما من مصادر المعرفة الإسلامية
باعتبارين. الأول: ان
التأريخ - بشكل عام - ترجمة حقيقية وتعبير واقعي عن الأفكار والآراء والمفاهيم
التي تبناها الإنسان على مدى التأريخ فجسدها في سلوكه ونشاطه. والثاني: ان
التأريخ مجموعة تجارب ودروس وعبر كلفت البشرية ضحايا هائلة وطاقات ضخمة، لذلك
كان جديرا بإمعان النظر فيه وبذل الجهود الحثيثة لتحليل أحداثه والاهتداء إلى سننه
لكي تتوضح للبشرية الحقائق التي ترسم لها خطي السعادة والشقاء. وتجلت في التأريخ الإسلامي
عظمة الإسلام وشموخه وحيويته، فكان مصدرا من مصادر فهم السيرة النبوية فضلا عن
قدرته على التعبير عن التجربة الاولى للإسلام القادر على صنع الإنسان الأمثل
والمجتمع الأمثل، ولهذا فهو جدير بالدراسة العلمية الموضوعية المعمقة. وتتمثل المهمة الاولى لكل باحث في التأريخ الإسلامي في البحث عن المادة الأساسية للتحليل التأريخي بعد ان كان التأريخ
بشكل عام والتأريخ الإسلامي بشكل خاص عرضة للإهمال والتحريف بدءا بمشكلة المنع
من تدوين الأحاديث والسنة النبوية الشريفة التي تشكل البنية الأساسية للتجربة
الإسلامية الفريدة وانتهاء بإخضاع المؤرخين ونتاجاتهم لأهواء الحكام علاوة على
المتاجرة بكل ما يمكن نسبته إلى رسول الإسلام (صلى الله عليه وآله) وصحابته الكرام من قبل الرواة والمحدثين غير الورعين. فكم من
حوادث مهمة لم تدون أو دونت مختزلة بحجة الاختصار أو لاستلزامها الطعن ببعض
الحكام من صحابة وتابعين، فأدت إلى تزييف الحقائق التأريخية وتشويهها بما لا
يتناسب وعظمة تأريخنا الإسلامي الوضاء. ومن هنا كان على الباحث الموضوعي والمؤرخ المحقق أن يقوم قبل كل شئ
بنقد موضوعي لكل ما جاء في كتب التأريخ والحديث والتراجم والرجال والتفسير بعد
عرضه على العقل السليم ونصوص القرآن الكريم ومحكمات السنة النبوية الشريفة، وهذا ما قام به المحقق المتضلع فضيلة الشيخ محمد هادي اليوسفي الغروي في كتابه هذا (موسوعة التأريخ
الإسلامي). إذ اعتمد على التتبع اللازم في المصادر الأصلية التي تحتوي على
حوادث تأريخية ترتبط بموضوع بحثه، ثم عرضها على القرآن الكريم واصول السنة
الشريفة والعقل السليم، وقد حاول من خلال بحوثه تفنيد ما أورده المستشرقون ومن
حذا حذوهم في تشويه معالم الصورة الإسلامية الناصعة، وتقديم الصورة الأقرب إلى
الواقع عن الإسلام من خلال تأريخه المجيد. وهذه هي الحلقة الاولى من هذه الموسوعة وتختص بالعهد المكي من العصر
النبوي بدءا بحوادث السنة الاولى للهجرة وسوف يستمر البحث في الحلقات الآتية -
إن شاء الله تعالى - عن تأريخ الرسول الأكرم وأهل بيته الطاهرين. ونحن إذ نبارك له جهده المشكور، نتمنى له التوفيق في مواصلة هذا
النشاط المبارك. وآخر دعوانا ان الحمد
لله رب العالمين. قسم التأريخ في مجمع الفكر الإسلامي 8 / 9 /
1373 |
تقديم
كيف ينبغي أن ندرس تأريخ الإسلام
|
التأريخ
قبل الإسلام:
|
التأريخ قبل الإسلام: لم يكن للناس قبل الإسلام مادة للتأريخ، اللهم إلا ما توارثوه
بالرواية، مما كان شائعا بينهم من أخبار آبائهم وأجدادهم وأنسابهم وشعوبهم
وقبائلهم وملوكهم، وما في حياة اولئك من قصص فيها البطولة والكرم والوفاء، وما
كان من خبر الأسر التي تناوبت الإمرة على الناس وما قاموا به من تجهيز الجيوش
وإقامة الحروب وبناء المدن والقصور، إلى أمثال ذلك، مما قامت فيه الذاكرة مقام الكتاب واللسان مقام القلم، يعي الناس منه ويحفظون ثم
يؤدونها كما هي أو
بإضافة أو نقيصة، وكثيرا ماكان بإضافات وتحريفات. كان هذا عند الفرس المجوس،
واليهود الإسرائيليين، والعرب الجاهليين المشركين، واختص هؤلاء بأخبار الجاهلية
الاولى وأنسابها، وما فيها من قصص عن البيت وزمزم وجرهم، وما كان من أمرها، ثم
ماكان من خبر الاسر التي تناوبت الزعامة والإمرة على قريش، وما جرى قبل ذلك لسد
مأرب في اليمن، وما تبعه من تفرق الناس في البلاد. |
التأريخ
بعد الإسلام:
|
التأريخ بعد الإسلام: ثم ظهرت الرسالة المحمدية بصفتها أعظم حادث في حياة البشر عامة
والعرب خاصة، فكان محور تأريخ البشر عامة والعرب خاصة، فما اجتمع ملأ منهم أو
تفرق إلا وحديثهم عنه، ولاتحركت جيوشهم وكتائبهم إلا له أو عليه، حتى تتوجت
جهوده بمعنى قوله سبحانه * (إذا
جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا) * فنبذوا ما كانوا فيه من الجاهلية الجهلاء والضلالة العمياء بهداية
القرآن والإسلام. ويومئذ وبظهور النبي (صلى الله عليه وآله) وظهور دعوته، ظهر مورد
جديد للتأريخ، وهي أحاديث الصحابة والتابعين وأهل بيته (عليهم السلام) عن ولادته
وحياته، وما قام به (صلى الله عليه وآله) من جهاد وجهود في سبيل الله، واصطدام
في ذلك مع المشركين، ودعوة إلى التوحيد، وما كان فيها من أثر للسيف والسنان واللسان والبيان، وأصبحت هذه هي
مواد التأريخ الجديد بصورة عامة وسيرة الرسول بصورة خاصة. |
تدوين
السيرة النبوية وتأريخ الإسلام:
|
تدوين
السيرة النبوية وتأريخ الإسلام:
|
تدوين السيرة النبوية وتأريخ الإسلام: ولم يدون في تأريخ الإسلام أو في سيرته (صلى
الله عليه وآله) شئ،
حتى مضت أيام الخلفاء، لم يدون في هذه المدة شئ سوى القرآن الكريم وتقويم إعرابه
بمبادئ وقواعد النحو على يد أبي الأسود الدؤلي بإملاء أمير المؤمنين علي ابن أبي
طالب (عليه السلام)، وقد كان رسول الله (صلى الله عليه
وآله) يحفز المسلمين على
كتابة القرآن حرصا على حفظه وصيانته، كما إن تفشي العجمة على ألسنة أبناء العرب
على أثر اختلاطهم بغيرهم عند اتساع الرقعة الإسلامية دفعت أبا الأسود الدؤلي إلى
عرض ذلك على علي (عليه السلام) فكان ذلك حافزا على تدوين النحو. وبهذا الاختلاط
ايضا تفشت فيهم أخبار الماضين من ملوك الفرس وبني إسرائيل، فلما كانت أيام
معاوية أحب أن يدون في التأريخ القديم كتاب فاستقدم عبيد بن شرية من صنعاء اليمن
فكتب له كتاب أخبار الماضين من ملوك اليمن من العرب البائدة وغيرهم ومنهم الفرس
والحبشة. وقد كان المسلمون يحبون أن يخلدوا آثار ما يتعلق بسيرة الرسول (صلى
الله عليه وآله)، وقد كان هذا يحقق ما في نفوسهم من تعلق به - عليه الصلاة
والسلام -، ولكنهم - ببالغ الأسف - منعوا عن تدوين أحاديثه مخافة أن يختلط
الحديث بالقرآن الكريم - كما زعموا -، بل منعوا حتى عن التحديث بحديثه، حاشا
أمير المؤمنين عليا (عليه السلام)، فإنه لم يشارك في هذا المنع ولم يؤيده، بل
كما أملى النحو على كاتبه أبي الأسود الدؤلي كتب هو أيضابعض الكتب في الفقه
والحديث، وأمر كاتبه الراتب عبيد الله بن أبي رافع أن يكتب المهم من أقضيته،
وأحكامه في فنون الفقه من الوضوء والصلاة وسائر الأبواب (انظر
رجال النجاشي: 4 - 7، ط. النشر الإسلامي.). وبهذا الموقف من أمير المؤمنين (عليه السلام)، وبفعل حاجة المسلمين
إلى أحاديث نبيهم ظهر فيهم غير واحد من حملة الأحاديث العلماء الفقهاء، ولكن حيث
استمر هذا المنع رسميا من قبل الخلفاء بعد علي وابنه الحسن (عليهما السلام) إلى
أيام عمر بن عبد العزيز، قام رجال كلهم محدثون، لم يدونوا في الحديث والفقه
شيئا، ولكنهم عوضوا عن
كتابة أحاديثه بكتابة شئ من سيرته (صلى الله عليه وآله). |
اصول
السيرة النبوية وتطورها في القرنين الأول والثاني:
|
اصول السيرة النبوية وتطورها في القرنين الأول والثاني: لا شك في الأهمية الكبرى التي كانت لأقوال النبي (صلى
الله عليه وآله)
وأعماله في حياته، وأكثر منها بعد وفاته. ومن الطبيعي أن تورث هذه
الأهمية عناية بتدوين تفاصيل حياته وجمع الأخبار والأحاديث عنه (صلى
الله عليه وآله).
وطبيعي أيضا أن تكون القصص الشعبية عن سيرته موجودة في حياته معتنى بها - كحال
الناس في العناية بقصص الأنبياء من قبل -. وطبيعي أيضا أن يكون بعض
الصحابة والتابعين قد تفوق على أقرانه في علمه بسيرته ومغازيه. |
كتاب
السيرة الأوائل:
|
إن أول من صنف في السيرة هو عروة بن الزبير بن العوام (ت 92 ه). وذكر ابن سعد في كتابه " الطبقات " ما يفيد: أن أول من تخصص فيها هو أبان بن عثمان بن عفان (ت 105 ه)، روى بعضها عنه المغيرة بن عبد الرحمن. ثم تنبه إلى جمع أخبارها
والتحديث بها وهب
بن منبه اليمني (ت 110 ه). ثم عاصم
بن عمر بن قتادة (ت 120 ه)
الذي يروي عنه ابن
إسحاق بعض أخبار سيرته كخبره
عن دعاء النبي للاستسقاء في طريق تبوك، وكثرة النفاق. ثم شرحبيل
بن سعد الشامي (ت 123 ه). ثم عبد
الله بن أبي بكر بن حزم القاضي (ت 135 ه) الذي طلب منه عمر بن عبد العزيز أن يكتب إليه ما عنده من الأحاديث
فنشرها بين الناس. ثم موسى
بن عقبة (ت 141 ه). ثم معمر
بن راشد (ت 150 ه). ثم محمد
بن إسحاق بن يسار المدني وقيل
بشار - بن خيار من سبي عين تمر بالعراق (ت 153 ه). ثم راويته زياد بن عبد الملك البكائي الكوفي العامري (ت 183 ه). ثم محمد
بن عمر بن واقد المعروف بالواقدي صاحب كتاب المغازي (ت 207 ه). ثم
راوية ابن زياد البكائي عن ابن إسحاق: عبد
الملك بن هشام الحميري اليمني البصري (ت 218 ه). ولم يصلنا من كتب هؤلاء شئ سوى سيرة ابن إسحاق برواية ابن هشام عن البكائي عن ابن
إسحاق، ومغازي الواقدي، اللهم
إلا روايات في طيات
امهات المصادر التأريخية فيما بعد. |
المؤرخون
الأوائل:
|
وإلى جانب هؤلاء ظهر من لم يقتصر على أخبار سيرة الرسول (صلى الله
عليه وآله)، بل جمع إليها أخبار الجاهلية قبل الإسلام، ثم أخبار الخلفاء بعده،
أو جمع أخبار بعض الخلفاء، أو الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) فقط، فكانوا مؤرخين بالمعنى العام. منهم: محمد بن السائب
الكلبي الكوفي النسابة (ت 146 ه) وأبو مخنف لوط بن يحيى الأزدي الكوفي (ت 157 ه). وهشام بن محمد الكلبي
الكوفي (ت 206 ه). ونصر بن مزاحم المنقري الكوفي (ت 212 ه). وعبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري (ت 274 ه). وأحمد بن يحيى بن جابر البلاذري (ت 279 ه). وإبراهيم بن محمد الثقفي
الكوفي الإصبهاني (ت 283 ه). وأبو الفرج علي بن الحسين الأموي الإصبهاني (ت 284 ه). وأحمد بن واضح بن يعقوب البغدادي (ت 292 ه). ومحمد بن جرير الطبري (ت 310 ه). وعلي بن الحسين المسعودي
البغدادي (ت 346 ه). ومحمد بن محمد بن النعمان التلعكبري المفيد (ت 413 ه). |
الأثر
الباقي في السيرة:
|
الأثر الباقي في السيرة: عرفنا أن الكتابة في سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله) كانت قد حصلت في التابعين وتابعي التابعين، كما رأينا قائمة
أسمائهم وتواريخ وفياتهم، ولكنها لم تكن كثيرة، بل هي مهما أطلنا الحديث عنها
كانت قليلة جدا، لا تعدو أن تكون صحفا فيها بعض الأخبار عن سيرة المختار (صلى الله عليه وآله). أما الكتاب الذي كتبت له
الموفقية والنجاح وشهرة الاعتماد والوثوق فهو سيرة محمد بن إسحاق، التي ألفها في
أوائل أيام العباسيين. يروون أنه دخل يوما على المنصور وبين يديه ابنه المهدي، فقال له المنصور: أتعرف هذا يابن إسحاق ؟ قال: نعم، هذا ابن أمير
المؤمنين: فقال: اذهب فصنف له كتابا منذ خلق الله آدم (عليه السلام) إلى يومك
هذا. فذهب ابن إسحاق فصنف
له الكتاب وأتاه به فلما رآه قال: لقد طولته يابن إسحاق فاذهب فاختصره. فاختصره، والقي الكتاب الكبير في خزانة الخليفة. وفي هذا المعنى روي عن
ابن عدي الرجالي المعروف أنه كان يقول في ابن إسحاق: " لو لم يكن لابن إسحاق من الفضل إلا أنه صرف الملوك عن
الاشتغال بكتب لا يحصل منها شئ للاشتغال بمغازي رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومبعثه ومبتدأ الخلق لكانت هذه فضيلة سبق بها ابن إسحاق، وقد فتشت
أحاديثه الكثيرة فلم أجد ماتهيئ أن يقطع عليه بالضعف، وربما أخطأ واتهم في الشئ
كما يخطئ غيره. ولم يتخلف في الرواية عنه الثقات والأئمة الاثبات، أخرج له مسلم
في المبايعات، واستشهد به البخاري في مواضع، وروى له أبو داود والترمذي والنسائي
وابن ماجه ". ثم أصبح ابن إسحاق في الحقيقة عمدة المؤلفين في السيرة، فما من كتاب في السيرة إلا وهو مستمد منه وراو عنه، اللهم إلا ما نأتي عليه من مغازي الواقدي ورواية كاتبه ابن سعد عنه،
وما روي عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، وكذلك أصبح كتاب ابن إسحاق عمدة
الكتب في السيرة لقرائها منذ أن كتبه إلى يومنا هذا ولاسيما بعد تهذيبها من قبل
ابن هشام - بحيث أنك لاتكاد تجد رجلا يدرس سيرة الرسول الكريم إلا وكتاب ابن
إسحاق كتابه الأول والام في ذلك. |
عمل
ابن هشام في سيرة ابن إسحاق:
|
وقد جاء بعده عبد
الملك بن هشام الحميري البصري (ت 218 ه) بنصف قرن تقريبا، فروى سيرة
ابن إسحاق برواية زياد بن عبد الملك البكائي العامري الكوفي (ت 183 ه) ولكنه لم يروها كما
هي بل تناولها بكثير من
التمرير والاختصار والاضافة والنقد أحيانا، والمعارضة بروايات اخر لغيره، عبر عن أعماله هذه بقوله في صدر سيرته: " وانا - إن شاء الله - مبتدئ هذا الكتاب بذكر إسماعيل بن إبراهيم، ومن ولد رسول الله من ولده، أولادهم لأصلابهم الأول فالأول من
إسماعيل إلى رسول الله، وما يعرض من حديثهم - وتارك ذكر غيرهم من ولد إسماعيل للاختصار
- إلى حديث سيرة رسول
الله. وتارك بعض ما
يذكره ابن إسحاق في
هذا الكتاب مما ليس لرسول الله
فيه ذكر ولانزل فيه من القرآن شئ، وليس سببا لشئ من هذا الكتاب ولاتفسيرا له ولا
شاهدا عليه، لما ذكرت من
الاختصار، وأشعارا ذكرها لم أر أحدا من أهل العلم بالشعر يعرفها، وأشياء
بعضها يشنع الحديث به (!)
وبعض يسوء بعض الناس ذكره (!) وبعض لم
يقر لنا البكائي بروايته (؟) ومستقص - إن شاء الله تعالى - ما سوى ذلك منه
بمبلغ الرواية له والعلم به
" (سيرة ابن هشام 1: 4.). |
إذن
فقد أسقط ابن هشام من عمل ابن إسحاق:
|
إذن فقد أسقط ابن هشام من عمل ابن إسحاق: تأريخ الأنبياء من آدم إلى إبراهيم، ومن ولد إسماعيل من ليس في
عمود النسب النبوي الشريف، كما
حذف من الأخبار ما يسوء بعض
الناس ! ومن الشعر ما لم
يثبت لديه. ولكنه زاد فيه
مما ثبتت لديه من رواية، ولذلك
نسبت السيرة إليه
وعرفت به، حتى لا يكاد يذكر
ابن إسحاق معه، فقد
عرفت سيرة ابن إسحاق بين العلماء منذ عهد بعيد
باسم سيرة ابن هشام، لما
له فيها من رواية وتهذيب. وبهذا الصدد قال
ابن خلكان في ترجمة ابن هشام: " وابن هشام هذا هو الذي جمع سيرة رسول الله من المغازي والسير
لابن إسحاق وهذبها ولخصها، وهي
السيرة الموجودة بأيدي الناس المعروفة بسيرة ابن هشام ". ولم تنقطع العناية بالتأليف في السيرة إلى يومنا هذا، إلا أن
الموضوع في ذاته ليس أمرا يقوم على التجارب، أو فكرة يقيمها برهان وينقضها
برهان، شأن النظريات العلمية التي نرى تجديدها وتغييرها على مر السنين، وإنما هو
من العلوم النقلية لا العقلية، فكان المشتغلون به أولا محدثين ناقلين، ثم جاء من
بعدهم جامعين مبوبين ثم ناقدين معلقين. ولم يكن قابلا للتجديد في جوهره، إلا
بمقدار قليل حسب النقد الدقيق، وإنما كان التجديد في أشكاله وصوره شرحا أو
اختصارا، أو شيئا من النقد قليلا مشيرا إلى ما فيه من أخطاء. ولعل الذين
تناولوا السيرة بالتلخيص والاختصار، إنما خففوا من ثقل الكتاب بعض أخباره التي
استبعدوها غير مؤمنين بصحتها، ناقلين من الأخبار ما يرون فيها القرب من الحق،
ومستبعدين مالايجري في ذلك مع فكرتهم وعقيدتهم مفندين إياه رادين له. ولعل من علل انتشار أخبار ابن إسحاق ثم كتابه في السيرة كثرة
رحلاته، فالراجح في تأريخ
مولده في المدينة أنه كان سنة 85 ه ولا يرتاب الرجاليون وأصحاب الطبقات في أنه
أمضى شبابه في المدينة فتى جميلا " فارسي الخلقة " جذاب الوجه له شعرة
حسنة ولذلك حكى ابن النديم بشأنه في فهرسته: أنه اتهم بأنه يجلس في مؤخر المسجد
للصلاة فيغازل بعض النساء، فأمر أمير المدينة بإحضاره وضربه اسواطا ونهاه عن
الجلوس في مؤخر المسجد. ولعله لهذا لم يرو عنه من أهل المدينة غير راو واحد هو
إبراهيم بن سعد فحسب (وانظر تهذيب التهذيب 9: 44.). ولعله لهذا رحل منها سنة 115 ه أي
في الثلاثين من عمره إلى الاسكندرية في مصر، ويظن أنها اولى رحلاته، فانفرد
برواية أحاديث عن عدة من رجال الحديث بها. ثم رحل إلى الكوفة والحيرة، ولعله بها التقى بالمنصور فصنف لابنه المهدي كتاب السيرة كما سبق، فرواها
عنه زياد بن عبد الملك البكائي العامري وغيره، ورحل إلى الجزيرة أي الموصل، والري حتى إذا بنيت بغداد فرجع إليها
وفيها ألقى عصا الترحال، وله من كل هذه البلدان رواة كثيرون. وعاش في بغداد حتى
توفي بها فدفن في مقابر الخيزران. وقد كان ابن إسحاق يعد
في طبقة تلامذة عبد الملك بن شهاب الزهري وأقرانه، وله عنه روايات، ونقل أصحاب
الطبقات أن شيخه ابن شهاب الزهري لم يكن يتهمه بشئ بل كان يوثقه، وتبعه في توثيق
ابن إسحاق من الفقهاء الأئمة: سفيان الثوري وشعبة، بالإضافة إلى راويته زياد ابن
عبد الملك البكائي عنه. وإن
كان هشام بن عروة بن الزبير من رواة السيرة، ومالك بن أنس من
أئمة الفقهاء يتحاملان
عليه بالجرح والتضعيف
ويتهمانه بالكذب والدجل والتدليس، والقول بالقدر، والنقل عن غير الثقات، وأخطاء
في الأنساب. ولكن
لعله لأن ابن إسحاق كان يطعن في نسب مالك وعلمه ويقول: إيتوني ببعض كتبه حتى ابين لكم عيوبه، فأنا بيطار كتبه (راجع
ترجمته وهذه الأقوال في الكامل في الضعفاء لابن عدي 6: 102 - 112. (2) مغازي
الواقدي: 29.) ! إذن فالحملة
متقابلة من الطرفين، والتضعيف ضعيف لأنه معلوم الوجه والعلة " الشخصية
". |
مغازي
الواقدي:
|
مغازي الواقدي: أما الواقدي محمد بن عمر بن واقد مولى بني سهم، فقد ذكر تلميذه ابن
سعد في " الطبقات الكبرى " أنه ولد في المدينة سنة 130 ه أي
بعد خروج ابن إسحاق منها بخمسة عشر عاما، ولذلك لم يرو عنه وإن كان قد روى عن
سائر رواة الأخبار عن الزهري، مع تشابه كبير بين فقرات كتاب السيرة لإبن إسحاق
وكتاب المغازي للواقدي، ولذلك زعم مستشرقان هما (فلهوزن وهورفتس) أنه سرق منه ولم يسنده إليه، وفند زعمهما مستشرق آخر هو (مارسدن جونس) محقق المغازي كما في مقدمته للكتاب (مغازي
الواقدي.29 ) ثم احتمل أن يكون الواقدي قد أعرض عن الرواية عن ابن إسحاق نظرا
إلى عدم توثيق علماء المدينة له. ثم قال: يبدو
واضحا للقارئ الحديث أن من أهم السمات التي تجعل الواقدي في منزلة خاصة بين
أصحاب السير والمغازي تطبيقه المنهج التأريخي العلمي الفني، فإنا نلاحظ عند الواقدي - أكثر مما نلاحظ عند غيره من المؤرخين المتقدمين - أنه كان يرتب التفاصيل المختلفة للحوادث بطريقة منطقية لا تتغير، فهو مثلا يبدأ مغازيه بذكر قائمة طويلة من الرجال الذين نقل عنهم
تلك الأخبار ثم يذكر المغازي واحدة واحدة مع تأريخ محدد للغزوة بدقة، وغالبا ما
يذكر تفاصيل جغرافية عن موقع الغزوة، ثم يذكر المغازي التي غزاها النبي بنفسه،
وأسماء الذين استخلفهم على المدينة أثناء غزواته، وأخيرا يذكر شعار المسلمين في القتال، كل ذلك بالإضافة إلى وصفه
لكل غزوة باسلوب موحد: فيذكر أولا اسم
الغزوة وتأريخها وأميرها. وكثيرا
ما يقدم لنا الواقدي قصة الواقعة
بإسناد جامع، أي يجمع الرجال والأسانيد في متن واحد. وإذا كانت الغزوة قد نزل
فيها آيات كثيرة من القرآن الكريم، فإن الواقدي
يفردها وحدها مع تفسيرها ويضعها في نهاية أخبار الغزوة، وفي المغازي المهمه يذكر الواقدي أسماء الذين استشهدوا فيها. وإن ما أورده في الكتاب
من التفاصيل الجغرافية ليوحي بجهده ومعرفته للدقائق في الأخبار التي جمعها في
رحلته إلى شرق الأرض وغربها طلبا للعلم (مقدمة
المحقق للمغازي 1: 31.). وقد روى الخطيب البغدادي وابن سيد الناس (تأريخ بغداد 3: 6، وعيون الاثر 1: 18.) عن
الواقدي أنه قال: ما أدركت رجلا من أبناء الصحابة وأبناء الشهداء ولا مولى لهم إلا
سألته: هل سمعت أحدا من أهلك يخبرك عن مشهده وأين قتل ؟ فإذا أعلمني مضيت إلى
الموضع فاعاينه، وما علمت غزاة إلا مضيت إلى الموضع فاعاينه، حتى لقد مضيت إلى
" المريسيع " فنظرت إليها. ورووا عن هارون الغروي قال: رأيت الواقدي بمكة ومعه ركوة فقلت: أين تريد ؟ قال: اريد أن أمضي
إلى حنين حتى أرى الموضع والوقعة. ويشهد لنباهة الواقدي بهذا الشأن ما قصه
تلميذه وراويته ابن سعد في الطبقات: إن هارون الرشيد ويحيى بن خالد البرمكي حين
زارا المدينة في حجتهما، طلبا من يدلهما على المشاهد وقبور الشهداء، فدلوهما على
الواقدي، فصحبهما في زيارتهما فلم يدع موضعا من المواضع ولامشهدا من المشاهد إلا
مر بهما عليه. فمنحه هارون الرشيد بعشرة آلاف درهم، فصرفها في قضاء ديون كانت قد
تراكمت عليه وزوج بعض ولده وبقي في يسر وسعة (انظر
الطبقات 5: 315.). ولكنه يعود فيقول: إنه لحقه دين بعد ذلك فذهب إلى العراق سنة 180
ه ((الطبقات 7: 77.) ويفصل الخطيب عن الواقدي يقول: كانت للناس في يدي مائة الف درهم
اضارب بها في الحنطة، وتلفت الدراهم، فشخصت إلى العراق فقصدت يحيى بن خالد
البرمكي (تأريخ بغداد 3: 4.)، ويفصل ابن سعد عنه أيضا يقول: ثم إن الدهر أعضنا، فقالت لي ام
عبد الله: يا أبا عبد الله ماقعودك وهذا وزير أمير المؤمنين قد عرفك وسألك أن
تسير إليه حيث استقرت به الدار. فرحلت من المدينة. ولما دخل بغداد وجد الخليفة
والبلاط قد انتقلوا إلى الرقة بالشام فرحل إليهم حتى لحق بهم (الطبقات
5: 315.) فيقول: صار إلي من السلطان ستمائة الف درهم ما وجبت علي فيها
الزكاة (تأريخ بغداد 3: 20.) ثم رجع معهم إلى بغداد وبقي بها، حتى قدمها المأمون فجعله قاضيا
لعسكر المهدي (الطبقات 7: 77.) وكان العسكر في الجانب الشرقي وكان الواقدي في الجانب الغربي فلما
انتقل حمل كتبه على عشرين ومائة وقر (تأريخ
بغداد 3: 5 وعيون الاثر 1: 18 والوافي بالوفيات 4: 238 وسير اعلام النبلاء 7:
118.) فولي القضاء مدة أربع سنوات قبل وفاته، وأوصى إلى المأمون فقبل
وصيته وأرسل إليه بأكفانه وقضى دينه (الطبقات
5: 315. الطبقات 5: 321 وتأريخ بغداد 3: 20 وتأريخ دمشق 11: 3 والوافي بالوفيات
4: 238.). ذكر ابن سعد - وهو تلميذه وكاتبه وراويته - يقول: مات
ببغداد ليلة الثلاثاء لإحدى عشرة ليلة خلت من ذي الحجة سنة سبع ومائتين ودفن يوم
الثلاثاء في مقابر الخيزران، وهو ابن ثمان وسبعين سنة (الطبقات
7: 77.). |
مكانة
الواقدي في الرواية والعلم:
|
وتتجلى مكانته في الرواية والعلم في وصف كاتبه وتلميذه ابن سعد له حيث يقول: كان عالما بالمغازي والسيرة والفتوح واختلاف الناس في الحديث
والأحكام، واجتماعهم على ما أجمعوا عليه، وقد فسر ذلك في كتب استخرجها ووضعها
وحدث بها (الطبقات 5: 144.). وقال عنه ابن النديم في الفهرست: إنه كان عنده غلامان يعملان ليلا ونهارا في نسخ الكتب، وقد ترك
عند وفاته ستمائة قمطر من الكتب يحتاج كل منها إلى رجلين لحمله (الفهرست:
144.). ونقل الخطيب البغدادي عن علي بن المديني: أن ما جمع الواقدي من الأحاديث بلغ عشرين ألف حديث (تأريخ
بغداد 3: 13.). ونقل ابن سيد الناس عن يحيى بن معين أنه قال: أغرب الواقدي على رسول الله في عشرين ألف حديث. ثم قال ابن سيد الناس: وقد روينا عنه من تتبعه آثار مواضع الوقائع وسؤاله من أبناء
الشهداء والصحابة ومواليهم عن أحوال سلفهم ما يقتضي انفرادا بالروايات وأخبارا
لا تدخل تحت الحصر (عيون الأثر 1: 20.). ونقل
الذهبي عن إبراهيم الحربي أنه كان يقول عنه: إنه كان أعلم الناس بأمر الإسلام، فأما أمر الجاهلية فلم يعلم
منها شيئا (سير الأعلام 7: 117.) ثم
ذكروا له زهاء ثلاثين كتابا. ونرى في قائمة كتبه كتاب الطبقات، ولنا أن نتمثله
في كتاب الطبقات الكبرى لتلميذه وكاتبه محمد بن سعد، فقد نقل عنه كثيرا ولاشك
أنه صنفه على غرار كتاب شيخه وروى فيه عن غيره أيضا. ومن كتبه كتاب الردة، ذكر فيه ارتداد العرب بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله)، ومحاربة الصحابة لطلحة بن خويلد الأسدي ومسيلمة الكذاب وسجاح في
اليمامة والأسود العنسي في اليمن. وقد نقل عنه تليمذه ابن سعد في الطبقات
والطبري في تأريخه أخبار الأحداث التي تلت وفاة النبي، وإنما هو من كتابه في
الردة. ويمكن القول بأن ما نقله ابن سعد، والطبري عنه عن الواقدي من أخبار الجاهلية فهو من
كتاب سموه: " كتاب التأريخ والمغازي والمبعث "، هكذا بتقديم المغازي على المبعث وتأخير المبعث عن المغازي، الذي
عدوه غير كتاب المغازي. والطبري ينقل المغازي عن الواقدي مباشرة ولكنه حين يورد
أخبار الجاهلية وما قبل الإسلام فإنه يرويها عن ابن سعد عن الواقدي، مما يدل على
أنه اعتمد في المغازي على كتاب المغازي للواقدي، وأما في أخبار الجاهلية فهي من
كتاب آخر له لعله هو التأريخ والمبعث. ومن كتبه " فتوح الشام وفتوح العراق "، وقد نقل البلاذري
في كتابه
" فتوح البلدان " عن الواقدي كثيرا،
وهو من تلامذة ابن سعد كاتب الواقدي، فهو قد روى كتاب شيخه له ورواه البلاذري كما نقل ابن كثير
في " البداية والنهاية " كثيرا من حوادث سنة 64 ه والطبري نقل عنه كثيرا من حوادث النصف الثاني من القرن الثاني أي التي عاشها الواقدي. |
حول
تشيع الواقدي وابن إسحاق
|
قال ابن النديم (الفهرست: 144، هذا وقد روى ابن عدي الرجالي عنه في كتاب الكامل في
الضعفاء 6: 242، برقم 1719 بسنده عن بشر بن سعيد، قال: سألت زيد الجهمي: أوصى
النبي إلى أحد ؟ فقال: لا.) في فهرسته عن
الواقدي: كان يتشيع، حسن
المذهب، يلزم التقية، وهو الذي روى ان عليا كان من معجزات النبي (صلى الله عليه
وآله) كالعصا لموسى واحياء الموتى لعيسى بن مريم (عليهما السلام)، وغير ذلك من
الأخبار (الفهرست:
144.). ونقل هذا القول عنه السيد الأمين العاملي صاحب "
أعيان الشيعة " وترجم
له (أعيان الشيعة 46: 171.)،
وكذلك ذكره آقا بزرك الطهراني في " الذريعة إلى تصانيف الشيعة " (الذريعة
3: 293.) عند الحديث عن تأريخ الواقدي. بينما لم يذكره الشيخ الطوسي في فهرسته ولارجاله ولاذكر كتابا من
كتبه حتى مقتل الحسين (عليه السلام). وابن أبي
الحديد حينما ينقل فقرة
طويلة عن الواقدي ثم يورد رواية اخرى مختلفة عن الاولى يبدؤها بقوله:
" وفي رواية الشيعة " (شرح نهج
البلاغة 3: 339.)، مما يدل على أنه لم يعتبره شيعيا ولاممثلا لهم. ومن الطريف أن
يلاحظ أن ابن إسحاق أيضا كان
يتهم بالتشيع (معجم الادباء 18: 7.). ولعل
السبب في وصفهما بالتشيع لا يرجع
إلى عقيدتهما الشخصية، بل
إلى ما ورد في كتابيهما من الأخبار التي يعرضونها مما
تقتضيه طبيعة التأليف في مثل هذه الموضوعات لا عن عقيدة صحيحة بها، وإلى ماأورداه في بعض المواضع من كتابيهما بشأن جماعة من الصحابة
منهم بعض الخلفاء فيذكر انهم بعبارات لاتضعهم في الموضع الموضوع لهما عند
كثير من المسلمين. ولذلك فان أكثر النقاد من المحدثين الأوائل كانوا يضعفون
الواقدي في الحديث. فقد قال البخاري والرازي
والنسائي والدارقطني: انه متروك الحديث،
ولكنهم لم يجمعوا على ذلك، فقد وصفه الدرآوردي
بأنه: أمير المؤمنين في الحديث. وقال يزيد بن هارون: الواقدي ثقة. ووثقه مصعب الزبيري، ومجاهد بن موسى، والمسيب وأبو عبيد القاسم
بن سلام، وأبو بكر الصغائي (تهذيب
التهذيب 9: 364.). وقال إبراهيم الحربي: هو آمن الناس على أهل الإسلام (عيون
الأثر 1: 18.). وقال ابن
النديم: كان عالما
بالمغازي والسير والفتوح واختلاف الناس في الحديث والفقه والأحكام والأخبار (الفهرست:
144.). أما بالنسبة لابن
إسحاق: فقد عقد الخطيب
البغدادي في كتابه "
تأريخ بغداد " وكذلك
ابن سيد الناس في كتابه "
عيون الأثر " فصلين
فندا فيهما جميع المطاعن التي وجهت إليه. وبالنسبة لتشيعه وقوله بالقدر قالا ما ملخصه: أما ما رمي به من التدليس والقدر والتشيع فلا يوجب رد روايته، ولا
يوقع فيها كبير وهن، أما
التدليس فمنه القادح وغير
القادح، ولا يحمل ما وقع هنا من مطلق التدليس على التدليس المقيد بالقادح في
العدالة، وكذلك القدر والتشيع لا يقتضيان الرد إلا بضميمة اخرى لم نجدها هنا. والعجيب أنك لاتجد شيئا من هذا التشكيك في عبد
الملك بن هشام مهذب سيرة ابن إسحاق، فلو كان العيب في هذا
الباقي من سيرة ابن إسحاق لشمل الشك ابن هشام أيضا. وعندئذ نطمئن إلى ان العيب ليس في هذا الباقي بل فيما
قال عنه ابن هشام: " وتارك بعض ما يذكره ابن
إسحاق في هذا الكتاب... أشياء بعضها يشنع الحديث به، وبعض يسوء بعض الناس ذكره، وبعض لم يقر لنا البكائي بروايته،
ومستقص ما سوى ذلك ". وعندئذ تجد محور
اتهام التشيع أيضا. وقد رأينا أنا إذا
استثنينا هذين المتهمين بالتشيع لم يبق لعامة المسلمين شئ يذكر في السيرة ولا
المغازي. وعندئذ ندرك أيضا
أن السابقين الأولين إلى تدوين سيرة الرسول ومغازيه أي الصدر الأول من تأريخ
الإسلام هم من شيعة أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أو المقاربين لهم المتهمين
بهم. |
نقد
كتب السيرة:
|
نقد كتب السيرة:
لعل النظر إلى تراث السلف الصالح - ولاسيما سيرة الرسول الكريم - بنظرة التقديس،
هو الذي أدى بالمؤلفين في السيرة على اختلاف طبقاتهم أن لايقفوا موقف الناقد
البصير، فلم نر منهم من يعرض لما تحمله السيرة بين دفتيها من أخبار ضعيفة بعيدة
عن الحقيقة لينقدها ويأتي على نقاط الضعف فيها، فهذا ما حرمه هذا العلم في جميع
أدواره السالفة إلى عهدنا هذا الأخير، حيث أخذ المستشرقون والمتأثرون بهم
يتناولون خبرا أو خبرين من السيرة وسيلة للطعن في شخص النبي الكريم (صلى الله
عليه وآله) أو ما يتصل به، فآمن بعض أصحاب الأقلام الجديدة بأن في السيرة أخبارا
لاتمت إلى الحق بصلة في قليل ولا كثير، ثم تجرؤوا فأقدموا على تهذيب السيرة مما
الصق بها وهي ليست منها، كقصة شق الصدر والغرانيق (انظر
ملخص القصة في ذيل الصفحة التالية.) وغرام
الرسول (صلى الله عليه
وآله) بزوجة زيد ربيبه ! إن
سيرة محمد (صلى الله عليه
وآله) كسائر العظماء اضيف
إليها ما ليس منها، إما عن حب وهوى وحسن نية وطوية، وإما عن حقد وسوء قصد متعمد،
ولكنها تمتاز عن سير جميع العظماء بأن شيئا كثيرا منها ضمه الوحي الإلهي وضمن
حفظه القرآن الكريم، وكثيرا منها مروي على لسان الحفاظ الثقات من المحدثين. فعلى
هذه الاسس الصحيحة يجب أن تبنى السيرة، وأن تحلل التحليل العلمي النزيه بملاحظة
ظروف الوسط وحال البيئة وجوانبها المختلفة من عقائد ونظم وعادات وتقاليد وطقوس،
وأن لايبنى الأساس على المعجزات والكرامات وخوارق العادات إلا ما خرج بالدليل بل
يبنى على أساس " إن الله أبى أن يجري الأشياء إلا بأسباب " (اصول
الكافي 1: 183، عن الصادق (عليه السلام) اللهم
إلا ما خرج بالدليل الثابت المعقول. |
الخلاف
في كتب السيرة وبينها:
|
إن الدارس لكتب السيرة والتأريخ يلاحظ أن ماروته من أنباء الخوارق والمعجزات وغيرها من كثير من الأنباء،
ينقص ثم يزيد بزيادة الأزمان التي وضعت فيها هذه الكتب، فقديمها أقل رواية
للخوارق من متأخرها، وما ورد من الخوارق في الكتب القديمة أقل بعدا عن مقتضى
العقل مما ورد في كتب المتأخرين. فهذه سيرة ابن هشام أو قل ابن إسحاق أقدم السير المعروفة اليوم
تغفل كثيرا عما ذكره أبو الفداء في تأريخه وما ذكره القاضي عياض في "
الشفاء " وعن جميع كتب المتأخرين تقريبا. فلا بد للباحث من أن يقبل لنفسه مقياسا يعرض عليه ما اتفقوا عليه
وما اختلفوا فيه، فما صدقه هذا المقياس أقره وأقر به وقربه، وما لم يصدقه فلم
يورده بل يرده " (مثلا:
إن قصة الغرانيق التي تذهب إلى أن النبي لما ضاق ذرعا بسادات قريش فتلا عليهم
سورة النجم حتى إذا بلغ فيها إلى قوله سبحانه * (أفرأيتم اللات والعزى ومناة
الثالثة الاخرى) * أضاف إليها * (تلك الغرانيق العلى منها الشفاعة ترتجى). وهناك سبب آخر يوجب تمحيص ما ورد في كتب السلف ونقده نقدا علميا دقيقا،
هو أن أقدمها كتب بعد وفاة النبي بمائة سنة أو أكثر، وبعد أن ثم أتم السورة فسجد وسجد
المسلمون والمشركون ! وقد
رواها ابن إسحاق ثم قال: إنها من وضع الزنادقة. وذكرها ابن كثير في
كتابه " البداية والنهاية " فقال " ذكروا قصة الغرانيق، وقد أحببنا الإضراب عن ذكرها صفحا لئلا
يسمعها من لا يضعها في مواضعها، إلا أن أصل القصة في الصحيح، ثم ذكر حديثا عن البخاري في أمرها وأردفه بقوله " انفرد به
البخاري دون مسلم ". أما الذي يتخذ عصمة الرسول في تبليغ الرسالة مقياسا للأخذ والرد، فلا
يتردد في نفي القصة من أساسها، بل يتفق مع ابن إسحاق في أنها من وضع الزنادقة،
ويكتفي في ردها بما فيها من نقض ما للرسول من عصمة في تبليغ رسالة ربه، كما
تقتضي ذلك قواعد النقد العلمي، كما فعل هيكل في كتابه: 48 و 161 - 147. فشت في الدولة الإسلامية دعايات سياسية وغير سياسية كان اختلاق
الروايات والأحاديث من وسائلها للغلبة على خصومها، فكيف بما كتب متأخرا في أشد أزمان الاضطرابات والقلاقل ؟ وكيف بما
ورد في المتأخر من كتب السيرة ؟ فهل يمكن الأخذ به بدون تمحيص بدقة علمية ؟ وقد أدت المنازعات السياسية وغيرها التي حدثت بعد الصدر الأول من
الإسلام، إلى اختلاق كثير من الروايات والأحاديث تأييدا لها، هذا والحديث لم يدون إلى أواخر عصر الأمويين. ذلك لأن عمر عزم على
ذلك فأصبح يوما يقول: إني
كنت أردت أن أكتب السنن، ثم عدلت عن كتابتها، فإني - والله - لا أشوب كتاب الله
بشئ أبدا ! ثم كتب إلى
الأمصار بذلك يقول: من كان عنده شئ غير القرآن فليمحه ! وظل
الأمر كذلك - ما عدا عهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وابنه الحسن (عليهما
السلام) - حتى أمر عمر بن
عبد العزيز بجمع الحديث (طبقات
ابن سعد 3: 206.). أما كيف روى مثل البخاري مثل قصة الغرانيق - مثلا - ؟ فقد اعتذر عن مثل ذلك النووي في شرحه لصحيح مسلم قال: "
أخذ جماعة على البخاري ومسلم أحاديث أخلا بشرطيهما فيها ونزلت عن درجة ما
التزماه " وقد التزما بمقياس السند والثقة بالرواية في قبول الحديث ورفضه، ولكنه وحده غير كاف لذلك. بل إن خير مقياس يقاس به الحديث والخبر عن النبي ما روي عنه - عليه
الصلاة والسلام - قال: " إنكم ستختلفون من بعدي، فما جاءكم عني فاعرضوه على
كتاب الله فما وافقه فمني وما خالفه فليس مني " (لم نعثر
على هذه الرواية بهذا النص في الجوامع الحديثية ولكن ورد مضمونها في البحار 2:
225.) فهو
مقياس صحيح أخذ به كثير من الثقات، وهو يتفق مع قواعد النقد العلمي، وقال ابن
خلدون بشأنه: " إنني لا
أعتقد صحة سند حديث ولاقول صحابي عالم يخالف ظاهر القرآن، وإن وثقوا رجاله، فرب راو يوثق للاغترار بظاهر حاله وهو سئ الباطن. ولو انتقدت الروايات من جهة فحوى متنها كما تنتقد من جهة سندها لقضت المتون على كثير من الأسانيد بالنقض. وقد قالوا: إن من علامة الحديث الموضوع: مخالفته لظاهر القرآن، أو
القواعد المقررة في الشريعة، أو لبرهان العقل، أو الحس والعيان وسائر اليقينيات
". حقا إن اختلاف
المسلمين بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) بلغ حدا دعا الدعاة فيهم إلى
اختلاق الآلاف المؤلفة من الأحاديث والروايات. لما قتل عثمان وبدأت الحروب الداخلية بين المسلمين بخصومة خصماء
علي (عليه السلام)، وأيد أمير المؤمنين من أيده، ثم استتب الأمر لبني امية جعل
المحدثون المتصلون ببني امية يضعفون ما يروى عن علي بن أبي طالب (عليه السلام)
وفضائله، وكما جعل أنصار عائشة يشيعون عنها ما يؤيد دعواها. ومن طريف ما يروى في ذلك: ما رواه الذهبي في ترجمة إسماعيل بن
المثنى الاسترآبادي: كان
يعظ بدمشق، فقام إليه رجل فسأله عن قول النبي: أنا مدينة العلم وعلي بابها ؟
فأطرق إسماعيل لحظة ثم رفع رأسه وقال: نعم لايعرف هذا الحديث عن النبي إلا من
كان في صدر الإسلام، إنما
قال النبي: أنا مدينة العلم
وأبو بكر أساسها وعمر حيطانها وعثمان سقفها وعلي بابها ! فسر الحاضرون بذلك،
فسألوه أن يخرج لهم إسناده، فوعدهم به (لسان
الميزان 1: 422.) وذكر القصة ابن عساكر فقال: فأنعم ولم يخرجه لهم (تأريخ
ابن عساكر 3: 34 وانظر كتاب: فتح الملك العلي بصحة حديث مدينة العلم علي: 156 ط
- الحيدرية - النجف الأشرف. بتحقيق الدكتور الشيخ محمد هادي الأميني النجفي.). أجل،
هكذا كانت الأحاديث تلفق لأغراض سياسية ولأهواء عاجلة حتى كثرت وشاعت. هذا، وقد
تولى كتاب السيرة كتابتها - كما مر خبرها - للخلفاء: فابن إسحاق
كتب سيرته للمنصور وابنه المهدي، والواقدي كتب
مغازيه للرشيد ووزيره يحيى بن خالد البرمكي، اللهم إلا هشام الكلبي والمدائني فإنهما لم يكتبا لأحد منهم، ولكنهم كلهم ماكان لهم أن ينازعوا مع
الخليفة في آرائه خوفا منه، ولذلك
فإنه لا ينطبق على ما كتبوه مقاييس الصحة بدقة. ومن أمثلة الاختلاف في النقل الذي يبدأ بذكر معجزة نراها تزيد
بزيادة الزمان إلى معاجز: ما حدث في أثناء مسيرة جيش العسرة إلى تبوك: فقد روى
ابن هشام قال: " قال ابن إسحاق: فلما أصبح الناس ولاماء معهم شكوا ذلك إلى
رسول الله - صلى الله عليه ج وآله ج وسلم - فدعا رسول الله، فأرسل الله سحابة
فأمطرت حتى ارتوى الناس واحتملوا حاجتهم من الماء " (السيرة
النبوية، لابن هشام 3 و 4: 522.). أما
صحيح مسلم فيروي قصة تبوك بصورة اخرى لا تقتصر على هذه المعجزة بل تزيدها زيادة
كثيرة على غير ما ورد في سيرة ابن إسحاق: فقد روى مسلم في صحيحه بسنده عن معاذ بن جبل: " أن النبي قال لمن سار معه إلى تبوك: إنكم ستأتون - إن شاء
الله - غدا عين تبوك، وإنكم لن تأتوها حتى يضحى النهار، فمن جاءها منكم فلا يمس
من مائها شيئا حتى آتي. فجئناها وقد سبقنا إليها رجلان، والعين مثل الشرك تبض
بشئ من ماء. فسألهما رسول الله: هل مسستما من مائها شيئا ؟ قالا: نعم، فسبهما
النبي وقال لهما ما شاء الله أن يقول (!) ثم غرفوا بأيديهم من العين قليلا قليلا
حتى اجتمع في شئ غسل رسول الله فيه يديه ووجهه ثم أعاده فيها فجرت العين بماء
منهمر - أو قال: غزير - حتى استقى الناس، ثم قال: يا معاذ يوشك - إن طالت بك
الحياة - أن ترى ما هاهنا قد ملئ جنانا " (صحيح
مسلم 7: 60 ط 1332.) فهل ارتوى المسلمون في طريق تبوك بماء العين المنهمر - بعد السباب
! - أم بمطر من سحاب بدعاء مستجاب من نبي مجاب ؟ أليس في القليل الأول غنى عن
الثاني الكثير ؟ ! اللهم إلا أن نبني على ترجيح الحديث الأكثر إعجازا ولانقتنع
بالقليل منه ! هذا وقد روى ابن إسحاق بعد روايته خبر السحابة خبرا آخر يؤيده قال: " فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة قال: قلت لمحمود بن لبيد: هل كان الناس يعرفون النفاق فيهم ؟ قال: نعم
والله إن كان الرجل ليعرفه من أخيه ومن أبيه ومن عمه وفي عشيرته، ثم يلبس بعضهم
بعضا على ذلك، ولقد أخبرني رجال من قومي قالوا: لما كان من أمر الماء بالحجر
ماكان ودعا رسول الله حين دعا فأرسل الله السحابة فأمطرت حتى ارتوى الناس قالوا:
أقبلنا على رجل من المنافقين معروف نفاقه كان يسير مع رسول الله حيث سار، فقلنا
له: ويحك ! هل بعد هذا شئ ؟ فقال: " سحابة مارة " اللهم إلا أن يكون
ذكر كثرة النفاق في بعض الصحابة مما يشنع ذكره ويسوء بعض الناس، وإن كان لم
يحذفه ابن هشام، واختار مسلم ما سلم من ذكره، وهذا هو الراجح في الظن. |
شرائط
دراسة التأريخ:
|
لا شك في أن البحث في التأريخ أمر خطير وعمل شاق جدا، فالباحث فيه كمن يريد أن يلج بحرا خضما هائجا، وإنما يمد ببصره إلى
قاعه ليغنم منه لآلئه ودراريه. والباحث في التأريخ إن كان يطمح من بحثه إلى
إحقاق الحق وازهاق الباطل، فإنه لا يتسنى له ذلك إلا إذا كان واسع الإطلاع، بعيد
النظر، شديد الحب للحق، موطنا نفسه على اتباعه، مبتعدا عن التعصب المذهبي
المقيت، ورعا في إصدار الأحكام، خبيرا بطرق الاستنباط، عارفا بأمراض التأريخ
وعلله، ملما بظروفه ومراحله، مؤثرا مصلحة الإسلام والمسلمين على ما سواها، متحرر
الفكر، غير مشدود لما ورثه من أهله وقومه. وذلك لمساس التأريخ - ولاسيما سيرة الرسول الكريم - بمختلف نواحي
الحياة. فمنه تؤخذ العقيدة
الدينية، وأحكام الإسلام، ومعارفه وعلومه، وأدبه وأخلاقه، وعلى أساسه تقول الأجيال
كلمتها في كل شئ، وعلى ضوئه تحكم على كل شئ. وقد ابتلي التأريخ والسيرة - ككثير
من الامور - بنظرتين مفرطة واخرى مفرطة: فمن مقبل على التأريخ والسيرة مكب على
أخذ ما فيه، غثه وسمينه، ينتهل منه ريه في كل جوانب الحياة، ويعتبره من أسلم
المسلمات بها، دون
حذر عما داخله من الدس والخرافات بعيدا عما نبه إليه الرسول من حتمية ظهور
المفترين عليه، غير معتبر بما اعترف به الزنادقة الملحدون مما رواه المؤرخون: أنهم
وضعوا آلاف الأحاديث كذبا على الله ورسوله حللوا بها الحرام وحرموا بها الحلال،
وأزالوا بها الحق عن نصابه، وزوروا كثيرا من الأحاديث الصحيحة وافتعلوا الكرامات
والمناقب حبا في المال والمناصب. وآخرون فرطوا فيه فغلبوا التشاؤم وتنكروا
للتأريخ جملة وتفصيلا، اتهموه ببعض ما فيه وتحاملوا عليه، وجعلوا ذلك حجة
لاعراضهم عنه وابتعادهم منه. وذلك ظلم قبيح وفصم لعرى الأجيال، وحرمان للمتأخرين
من دروس الماضي، وهدم لبناء الدين وطعن في تعاليم الأنبياء الذين حثوا على تدارس
الماضي والاستماع إليه، مع تمحيص الحق عما علق به من شوائب الباطل. وبين هاتين النزعتين المفرطة والمفرطة تنجلي النمرقة الوسطى
باهتمام مفكري المسلمين وعلمائهم بالدراسات التأريخية، وبذل الوسع لإماطة اللثام عن كثير من جوانبه التي بدت قائمة مشوهة
بفعل الدخلاء عليه، ممن جندوا أنفسهم لهدم الدين وطمس معالم الحق والتجني عليه (مقدمة:
دراسات في التأريخ الاسلامي: 8، 9 للشيخ محمد باقر الناصري بتصرف.). |
طمس
معالم الحق:
|
قلنا نعرض الروايات - التي يدعى أنها تسجل سيرة الرسول الكريم (صلى
الله عليه وآله) - على القرآن الحكيم، ذلك لانا لو راجعنا وصف هذا النبي العظيم في
القرآن الكريم، لوجدناه
يصفه بأنه: * (على خلق عظيم)
* (القلم: 4.) و * (خاتم النبيين) * (الاحزاب:
40.) ينهى الناس عن الإستخفاف به * (لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء
بعضكم بعضا) * (النور: 63.) ويلعن الذين يؤذونه * (إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله) * (الاحزاب:
57.). ولكنا لو راجعنا بعض تلك
الروايات التي يدعى أنها تسجل لنا سيرته لوجدناه فيها: طفلا كسائر الأطفال، ورجلا يتكلم كسائر الجهال، بل أضعف عقلا من
سائر العقال، فهو بحاجة دائمة إلى من يشرف عليه ويدبر شؤونه، ويأخذ بيده ويرشده،
ويحل له مشاكله ويشد قلبه ويطمئنه، ويؤيده ويساعده، وإلا فهو يغضب فيكون غضبه
عجزا واضطرابا بل وسبابا (كما مر عن صحيح مسلم.) ويرضى
فيكون رضاه سخفا وميوعة ! وإلا
فكيف نفسر: أنه رأى الرأي
فنزلت الآيات تصوب رأي غيره وتفند رأيه، فقعد يبكي ؟ ! وأنه كان له شيطان يعتريه
ويأتيه في صورة جبرئيل ! ثم أعانه الله عليه فأسلم ! ولعله من فعل شيطانه أنه مر
على سباطة قوم فبال قائما ! ثم شرب النبيذ ؟ ! ثم إنه رأى زوجة ابنه بالتبني في
حالة مثيرة فعشقها ! وإنه كان يعشق عائشة حتى أنه حملها على عاتقه بطلبها لتنظر
إلى رقص السودان في مسجده، وخدها على خده ! ثم إنه ترك الجيش لينفرد بزوجته
ليسابقها في الصحراء ! والطامة الكبرى التي شملت شيخ الأنبياء إبراهيم: انه كان أولى بالشك من إبراهيم ! إلى ما هنالك مما يزيد في قبحه
على ما ذكر أكثر بكثير، كل ذلك مما " قد فاجأتنا به الأنباء والسير "
في المجاميع الحديثة وكتب السيرة ! وفيها عن حياته الزوجية مانتذمر من ذكره فضلا
عن القيام بأمره ! وأدهى ما في الأمر وأمر أنها مدونة في الكتب التي توصف بأنها
أصح كتاب بعد الذكر الحكيم، وهي تحاول أن تصور لنا سيدنا ومولانا ونبينا أفضل
الأنبياء والمرسلين وأشرف السفراء المقربين ! ! قال محققو سيرة ابن هشام في مقدمتهم: " ولعل النظر إلى تراث السالفين ولاسيما ما يتصل منه بعلم
السير نظرة فيها الكثير من التقديس، هو الذي حال دون هؤلاء وهؤلاء أن يقفوا من
هذا العلم موقفا فقدناه في جميع المؤلفين المتقدمين على اختلاف طبقاتهم، فلم نر
منهم من عرض لما تحمله السير بين دفتيها من أخبار تتصف بالبعد عن الحقيقة،
فنقدها وأتى على مواضع الضعف منها. هذا ما حرمه هذا العلم في جميع أدواره السالفة
إلى ما قبل أيامنا هذه بقليل، إذ رأينا الإيمان بأن في السيرة أخبارا لا تتصل
بالحق في قليل ولا كثير، تصحبه الجرأة ثم الإقدام، ورأينا فكرة جديدة تجري بها
أقلام مجددة، يتناول أصحابها الخبر أو الخبرين من السيرة، مما كان يتخذ مطعنا
علينا في شخص النبي - صلى
الله عليه وآله - أو ما
يتصل به، فخلصوه مما لصق به مما ليس منه، وأقاموا حوله سياجا من الحجج
والبراهين، صح بها وأصبح حجة على الطاعنين فيه. ومثل هذا ما فعله الاستاذ الإمام الشيخ محمد عبده في قصة النبي - صلى الله عليه وآله -، وتزويجه زينب بنت جحش من زيد بن حارثة ثم ماكان من تزوج الرسول - صلى الله عليه وآله - إياها بعد تطليق
زيد لها مما أرجف فيه الطاعنون ولغوا لغوا كثيرا. ومنهم من عرض للكتاب في قصة أو
قصتين منه فصاغها في اسلوب جديد، ومثل للناس الخبر في قالب قصصي خرج به عن
أسانيده وذكر رواته - تلك الطريقة التي هي سر تقديس هذه الأخبار في هذه الكتب !
- فبدت المعاني في هذا القالب الجديد كما يبدو الجسد في الغلالة الرقيقة لاتكاد
تخفي منه شيئا. وهذا الاسلوب الجديد بما يتضمن من التهكم بالفكرة السقيمة والخبر
الغث، يخلق به المؤلف في القارئ روح التحفظ في قبول الأفكار وتسلمها. ومنهم من جرى مع ابن إسحاق في شوطه، فتناول السيرة كما تناولها ابن إسحاق، مبتدئا بميلاد الرسول (صلى الله عليه وآله) وما سبقه أو عاصره من حوادث، ثم جرى يذكر حياة الرسول إلى أن قبضه
الله إلى جواره، ناقلا من الأخبار ما يرى فيها القرب من الحق، ومستبعدا مالايجري
في ذلك مع فكرته ومايعتقد، مفندا مزاعم الطاعنين رادا على المكذبين. فجاء كتابه
سيرة للرسول جديدة في اسلوبها، نقية من اللغو والهراء " (مقدمة
سيرة ابن هشام 1: ح، ط.). أجل، إذا كان المراجع إلى هذه المراجع - الصحاح وغيرها - ملئ النفس بتقديس النص تقديسا عشوائيا ساذجا، فهو يمتنع ويمنع عن
تقويم النصوص تقويما سليما يزنها بميزان الإعتبار. ولا مبرر لهذا التقديس ما لم يثبت أن هذا الحديث مما صدر عنه أو
من شؤونه أو من صفاته، اللهم
إلا إذا كان لايعرف شيئا مما يجب أن يتوفر في شخص رسول الله وخليفته وحجته على
عباده، وكان خالي الذهن عن المنطلقات الأساسية والضوابط الحقيقية التي يجب أن
يتوفر عليها من يحاول دراسة التأريخ بصورة علمية، وسيرة الرسول الكريم بصورة
خاصة (انظر مقدمة الصحيح في السيرة 1: 16، 17.). |
سحاب
مركوم على الحق المظلوم:
|
أما كيف حدث كل هذا الحديث الموضوع للنيل من كرامة الرسول الكريم (صلى
الله عليه وآله) ؟ فنحن
نرى ذلك من التعتيم الذي اصطنعه بنو امية وبنو مروان على معالم الشخصية النبوية،
مستفيدين من سياسة المنع من الحديث عن النبي (صلى الله عليه وآله) بل إحراق ما كتبه كبار الصحابة عنه: ابتداء من الخليفة الأول إذ أحرق خمسمائة حديث كان قد جمعها هو من أحاديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) (راجع المصادر في كتاب النص والاجتهاد: 151.). ثم
اشتد الأمر على عهد الخليفة
الثاني فإنه جمع ما كتبه
الصحابة عن رسول الله (صلى
الله عليه وآله)
وأحرقه، ولعل ذلك بعد أن اتصل به كعب الأحبار الحبر اليهودي المسلم. ولقد كان اليهود على فرقتين: فرقة تؤمن بالكتابة والتدوين وهم الفريسيون، وفرقة اخرى تؤمن بوجوب
الحفظ وعدم جواز كتابة شئ غير التوراة، ويقال لهؤلاء: القراء (شرح ذلك
النوري في كتابه الفارسي: لؤلؤ ومرجان: وفصله محمد حسن ضاضا في كتابه: التفكير
الديني عند اليهود.) وضعف أمر الفريسيين وكثر القراء، ويظهر أن كعب الأحبار كان من
القراء، كما يظهر من جوابه لعمر حينما سأله عن الشعر، فكان مما قاله عن العرب: " قوما من ولد إسماعيل أناجيلهم في صدورهم (أي يحفظونها على
ظهر القلب) ينطقون بالحكمة " وقد كان كعب عند حسن ظن الخليفة به فكان مقربا
عنده، فلعله قبل هذه النظرية من كعب الأحبار. ويشهد لذلك ما رواه ابن سعد في " الطبقات " والخطيب
البغدادي في كتابه " تقييد العلم " ونقله عنهما الشيخ أبو رية في
كتابه " أضواء على السنة المحمدية " قالوا: كثرت الأحاديث على عهد عمر بن الخطاب، فأنشد الناس أن
يأتوه بها، فلما أتوه بها أمر بتحريقها ثم قال: مشناة كمشناة أهل الكتاب (تقييد
العلم: 52 والطبقات 5: 140 والأضواء: 47 والنص المثناة والصحيح ما أثبتناه وهي:
الروايات الشفوية.) أو قال: ذكرت قوما كانوا قبلكم كتبوا كتبا فاكبوا عليها وتركوا
كتاب الله، واني والله لا أشوب كتاب الله بشئ أبدا ! فمنع من الحديث عن النبي (صلى
الله عليه وآله) إلا بشاهد، ومنع كبار الصحابة عن الخروج من المدينة، واستعمل
على الأمصار صغارهم ممن لا اطلاع له في الدين ولا معرفة له بأحكامه (كأبي
موسى الأشعري حيث استعمله واليا على البصرة سنة 18 ه وله ثمان عشرة سنة إذ ولد
في السنة الاولى للهجرة.). وروى ابن سعد في "
الطبقات " والخطيب البغدادي في كتابه الآخر " جامع بيان العلم وفضله
" ونقله عنهما الشيخ أبو رية في كتابه " أضواء على السنة المحمدية
": إن الذين جاؤوا بعد عمر ساروا على نهجه في المنع عن الحديث إلا
حديثا كان على عهد عمر (الطبقات 3 ق 1: 206 وجامع بيان العلم 1: 64 والأضواء: 47.). فنتج
عن سياسة المنع عن الحديث وعن كتابته أن نسي الناس سنن الرسول (صلى الله عليه وآله) حتى
في الصلاة التي هي عمود الدين وركن الإسلام والكتاب الموقوت الذي يؤديه المسلمون
في كل يوم خمس مرات، أصبحوا لا يعرفون أحكامها وحدودها، حتى أقرب الناس إلى مهبط الوحي والتنزيل الذين يفترض فيهم أن
يكونوا أعرف بأحكام الإسلام وشرائع الدين... إذن فكيف بحال غيرهم من عوام الناس
؟ ! وما هو مدى معرفتهم بدينهم وشريعتهم والحال كذلك ؟ ! ولا سيما الناس البعداء
عن منابع الثقافة الإسلامية، وبالأخص فيما يقل الإبتلاء به. فقد روى البلاذري في " أنساب الأشراف " والبيهقي في
سننه والمتقي الهندي في " كنز العمال " عن عبد الرزاق وابن أبي شيبة: أن عمران بن الحصين صلى خلف علي (عليه السلام) فأخذ بيد مطرف بن
عبد الله وقال: لقد صلى صلاة محمد ولقد ذكرني صلاة محمد (انساب
الاشراف 2: 18 وسنن البيهقي 2: 68، وكنز العمال 8: 143.). ولا
شك في أن من سنن الرسول في الصلاة الجهر بالبسملة في الصلاة فكان علي (عليه
السلام) يجهر بها، فبالغ
بنو امية في المنع عن الجهر
بها سعيا في إبطال آثار علي (عليه السلام) (تفسير
النيسابوري بهامش تفسير الطبري 1: 79.) حتى
روى النسائي والبيهقي في سننهما عن ابن عباس أنه كان يقول: اللهم العنهم فقد تركوا السنة من بغض علي (تعليقة
السندي بهامش سنن النسائي 5: 253.) حتى
بلغ الحال بالناس على عهد علي بن الحسين (عليه السلام) أن كانوا لا يعرفون كيف
يحجون بل حتى كيف يصلون (كشف القناع عن حجية الاجماع: 67.) ولذلك
تجرأ ابن الزبير على أن يقدم الصلاة قبل الخطبة يوم الجمعة، كما رواه الشافعي في كتابه " الام " عن وهب بن كيسان، ثم قال: كل سنن رسول الله قد غيرت حتى الصلاة (كتاب
الام للشافعي 1: 208.). ولذلك نجد الإمام السجاد (عليه السلام) يقول في دعائه يوم الجمعة
ويوم الأضحى: " اللهم إن هذا المقام لخلفائك وأصفيائك، ومواضع امنائك في
الدرجة الرفيعة التي اختصصتهم بها قد ابتزوها. حتى عاد صفوتك وخلفاؤك مغلوبين
مقهورين مبتزين، يرون حكمك مبدلا وكتابك منبوذا، وفرائضك محرفة عن جهات شرعك،
وسنن نبيك متروكة " (الصحيفة السجادية: الدعاء 48.). وروى ابن سعد في "
الطبقات " عن الزهري قال:
دخلت على أنس ابن مالك بدمشق وهو وحده يبكي، فقلت: ما يبكيك ؟ قال: لا أعرف شيئا
مما أدركت، إلا هذه الصلاة وقد ضيعت (صحيح
الترمذي: 3: 302 وجامع بيان العلم 2: 244 والزهد والرقائق: 531 وضحى الإسلام 1:
365.). وروى الإمام مالك بن أنس بن مالك في كتابه " الموطأ "
عن جده مالك قال: ما أعرف شيئا مما أدركت الناس إلا النداء بالصلاة (الموطأ
1: 93 وشرحه 1: 122.). واستثنى الحسن البصري القبلة فقط فقال: لو خرج عليكم أصحاب رسول
الله ما عرفوا منكم إلا قبلكتم (جامع
بيان العلم 2: 244.). ولم يستثن عبد الله بن عمرو بن العاص شيئا إذ قال: لو أن رجلين
من أوائل هذه الامة خلوا بمصحفيهما في بعض هذه الأودية لأتيا الناس اليوم ولا
يعرفان شيئا مما كان عليه (الزهد والرقائق: 61.). ومع
هذه الحال فمن الطبيعي أن يروج سوق الوضاعين الكذابين وأن يصبحوا هم مصدر العلم
والمعرفة والثقافة للامة المسلمة. هكذا شاء الحكام، وهكذا استحق المحكومون إذ
ابتعدوا عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) (والموضوع
مهم وبحاجة إلى تحقيق وبحث، آمل أن اوفق لاخراج كتاب لي في هذا الموضوع.). أما
لماذا حاول بنو امية ورواتهم أن يستفيدوا من هذا الفراغ المفتعل بفضل المنع عن
الحديث، للنيل من كرامة الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله) وسائر المقدسات
الإسلامية ؟ فإن ذلك
يعود إلى: أ - أن
الحقد والعداء الاموي الموروث من القديم ضد بني هاشم - بما فيهم النبي (صلى الله عليه وآله) - لم يدعهم يقتنعوا
بأنه نبي مرسل حقا: فقد قال أبو سفيان
للعباس لما رأى كثرة زحام الناس على التبرك بماء وضوء النبي يوم فتح مكة: يا عباس ! والله لقد أصبح ملك ابن أخيك اليوم عظيما ! فقال: ويحك
إنها النبوة ! فقال: نعم ! وقال
معاوية لما سمع المؤذن يقول:
أشهد أن لاإله إلا الله: لله أبوك يابن عبد الله ! لقد كنت عالي الهمة، ما رضيت
لنفسك إلا أن يقرن اسمك باسم رب العالمين (انظر شرح
نهج البلاغة لابن أبي الحديد 10: 101 عن أحمد بن أبي طاهر في كتاب " أخبار
الملوك ".). وقال للمغيرة بن شعبة -
بعد أن ذكر ملك أبي بكر وعمر وعثمان وأنهم هلكوا فهلك ذكرهم -: وإن أخا هاشم ! يصرخ به في كل يوم خمس مرات: أشهد أن محمدا رسول
الله، فأي عمل يبقى مع هذا ؟ ! لا ام لك... لا والله إلا دفنا دفنا (الموفقيات
للزبير بن بكار: 577 ومروج الذهب 3: 454 وشرح نهج البلاغة 5: 120.)، ولما
سمع المأمون بالخبر أمر بلعنه (الطبري 10: 286.). وقال
- أو تمثل - ابنه يزيد بقول ابن الزبعرى: لعبت هاشم بالملك فلا *
خبر جاء ولاوحي نزل لست من خندف إن لم أنتقم * من بني أحمد ماكان فعل وتبعه الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان يقول: تلعب بالخلافة هاشمي * بلا وحي أتاه ولا كتاب فقل لله: يمنعني طعامي * وقل لله يمنعني شرابي (مروج
الذهب 3: 228.) وقرأ ذات يوم * (واستفتحوا
وخاب كل جبار عنيد من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد) * (إبراهيم: 15، 16.) فدعا بالمصحف فنصبه غرضا للنشاب وأقبل يرميه وهو يقول: اتوعد كل جبار عنيد *
فها أنا ذاك جبار عنيد إذا ماجئت ربك يوم حشر *
فقل: يا رب خرقني الوليد (مروج
الذهب 3: 229.) وكان الوليد هذا مهملا لأمره قليل العناية بأطرافه، وكان صاحب ملاه
وقيان، وإظهار للقتل والجور، وتشاغل عن امور الناس بشرب ومجون، فبلغ من مجونه
أنه أراد أن يبني على الكعبة بيتا يجلس فيه للهو، ووجه مهندسا لذلك (اليعقوبي
3: 75.) مجوسيا ليبني له على الكعبة مشربة للخمر، وأراد أن ينصب قبة ديباج
على الكعبة ويجلس فيها ومعه الخمر، فخوفه أصحابه من ثورة الناس فامتنع (عن
الأغاني والطبري في نهج الصباغة 5: 340.). ب - ولذلك
فهم - كما رأينا - كانوا يريدون القضاء على هذا الدين ودفنه نهائيا، وذلك لأنه
كان يقف في وجه شهواتهم ومآربهم ويضر بمصالحهم. ج -
وبالتصوير المشوه للرسول الكريم (صلى الله عليه وآله) والإسلام العظيم كانوا
يحاولون تبرير كل انحرافات وسخافات الجهاز الحاكم، والتقليل من فضاعتها وبشاعتها
في أعين الناس، وذلك برفع الفوارق الكبيرة بين مواقفهم ومواقف النبي الاعظم (صلى
الله عليه وآله). أما ما يمثل لنا شخصية الرسول الكريم المستهدفة للامويين فلنذكر منه نماذج: 1 - نسمع الكميت بن زيد
الأسدي يمدح الرسول الكريم فيقول في
قصيدته البائية: إلى السراج المنير أحمد،
لا * يعدلني عنه رغبة ولا رهب عنه إلى غيره، ولو رفع النا * س إلي العيون وارتقبوا وقيل: افرطت. بل قصدت ولو * عنفني القائلون، أو ثلبوا ! اليك ياخير من تضمنت الأر * ض وإن عاب قولي العيب لج بتفضيلك اللسان ولو *
اكثر فيك الضجاج واللجب فيا ترى من الذي يحاول أن يعدل به عن مدح النبي (صلى الله عليه وآله) بالترغيب والترهيب ؟ ومن يرتقبون أن يمدح عوضا عنه - عليه الصلاة والسلام - ؟ وياترى بماذا خاطب الكميت النبي (صلى الله عليه وآله) غير أن يقال له: ياخير من تضمنت الأرض ! حتى يقال له: أفرطت في
مدحه ! من الذي يعنفه ويثلبه ويعيبه ؟ ومن الذي يكثر الضجاج واللجب على النبي (صلى الله عليه وآله) ؟ ! ولعله قد أحس بأمر خطير خلف هذه السياسة الاموية فقال في اخرى: رضوا
بخلاف المهتدين، وفيهم * مخبأة اخرى تصان وتحجب فلعله يقصد بالمخبأة الاخرى تخريب دين النبي (صلى الله عليه وآله) بعد تشويه سمعة شخصه. أو ما ذكره الرجاليون وأصحاب الطبقات في
ترجمة خالد بن سلمة المخزومي الشهير بالفأفاء: أنه كان ينشد بني مروان هجو النبي (صلى
الله عليه وآله) (انظر
دلائل الصدق للمظفر 1: 29، وراجع: بحوث مع أهل السنة والسلفية: 101.). وقد
سبق هذا ما ذكروه في ترجمة عمرو بن العاص أنه لم يرض بضرب نصراني سب النبي (صلى الله عليه وآله) (الإصابة 3: 195 عن البخاري في تأريخه بإسناد صحيح، والإستيعاب بهامش
الإصابة 3: 193.). ولحق هذا ما رواه
المؤرخون في علل خروج زيد بن علي بن الحسين (رضي الله عنه): أنه دخل على هشام بن عبد الملك فسمع أن النبي (صلى الله عليه وآله) يسب عنده فلم يذكره ولم يغير على قائله (انظر كشف
الغمة للاربلي 2: 352 وكتب التراجم والرجال في ترجمة زيد (رضي الله عنه).). أو
أنه يقصد بالمخبأة ما رواه ابن عبد ربه الأندلسي في " العقد الفريد ":
أن الحجاج كتب إلى عبد الملك: أن خليفة الرجل في أهله أكرم عليه من رسوله إليهم،
وكذلك الخلفاء يا أمير المؤمنين أعلى منزلة من المرسلين (عن العقد
الفريد 2: 354.). ولئن كانت هذه مخبأة يوما فإن ذلك لم يدم طويلا حتى حج الحجاج
ورأى الحجاج يطوفون بقبر الرسول (صلى الله عليه
وآله) ومنبره بالمدينة فقال: تبا لهم إنما يطوفون بأعواد ورمة بالية !
هلا طافوا بقصر أمير المؤمنين عبد الملك ؟ ! ألا يعلمون أن خليفة المرء خير من
رسوله ؟ ! قال المبرد: إن ذلك مما كفرت به الفقهاء الحجاج (الكامل
للمبرد 1: 222 وسنن أبي داود 4: 209 وشرح نهج البلاغة 15: 242 عن كتاب "
افتراق هاشم وعبد شمس " لأبي العباس الدباس. والنصائح الكافية عن الجاحظ:
81، ونقل جدلا حوله الدكتور طه حسين في كتابه: الايام.).
وبهذه النظرة فلا مانع لديه أن يرمي الكعبة بالمنجنيق - بل كما قيل - بالعذرة
أيضا (عن الفتوح لابن الأعثم الكوفي المتوفى 310 ج 2: 482 وعقلاء المجانين:
178.). ولا يرى أية حرمة لمقام إبراهيم (عليه السلام) فيحاول أن يضع رجله
على المقام فيزجره عن ذلك محمد بن الحنفية (طبقات
ابن سعد 5: 84 والمصنف لعبد الرزاق 5: 49 وربيع الابرار 1: 843.). وعلى
هذه النظرة أيضا: " هلا طافوا بقصر أمير المؤمنين عبد الملك " فلا
استبعاد لما احتمله السيد المرتضى العاملي: أن
يكون الحجاج حين بنى مدينة (واسط) في العراق وسطا بين الكوفة والبصرة، حول
قبلتها من جهة الحجاز (الكعبة) إلى جهة الشام: إما قصر أمير المؤمنين (!) أو قبة
الصخرة التي بناها وأمر الناس بالحج إليها: فقد ذكر اليعقوبي: أنه لما استولى ابن الزبير على مكة والحجاز كان يأخذ الحجاج
بالبيعة له فلما رأى ذلك عبد الملك منعهم من الخروج إلى الحج، فضج الناس وقالوا:
تمنعنا من حج بيت الله الحرام وهو فرض من الله علينا ؟ ! فقال لهم: هذا ابن شهاب الزهري يحدثكم: أن رسول الله قال " لاتشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام،
ومسجدي، ومسجد بيت المقدس " فهو يقوم لكم مقام المسجد الحرام ! وهذه الصخرة التي يروى: أن رسول الله وضع قدمه عليها لما صعد إلى السماء، تقوم لكم مقام
الكعبة !. فبنى على الصخرة قبة وعلق عليها ستور الديباج وأقام لها سدنة، وأخذ
الناس بأن يطوفوا حولها كما يطوفون حول الكعبة ! وأقام بذلك أيام بني امية (تأريخ
اليعقوبي 3: 8، وحياة الحيوان 1: 66 والبداية والنهاية 8: 280 والانافة في معالم
الخلافة 1: 129. وانظر بحثا في هذا في السنة قبل التدوين: 502 - 506.). وإلى
هذا أشار الجاحظ في بعض آثاره فقال
في المفاضلة بين بني هاشم وبني امية: وتفخر هاشم بأنهم لم يهدموا الكعبة، ولم يحولوا القبلة، ولم
يجعلوا الرسول دون الخليفة (عن آثار الجاحظ: 205.).
ويفصل هذا أيضا في بعض رسائله فيقول:
حتى قام عبد الملك بن
مروان وابنه الوليد بالهدم وعلى حرم المدينة بالغزو، فهدموا الكعبة واستباحوا
الحرمة، وحولوا قبلة واسط -
إلى أن قال - فأحسب
أن تحويل القبلة كان غلطا، وهدم البيت كان تأويلا، وأحسب مارووا من كل وجه: أنهم
كانوا يزعمون: أن خليفة المرء في أهله أرفع عنده من رسوله إليهم (عن رسائل
الجاحظ 2: 16.)... واحتمل
السيد المرتضى العاملي: أن
يكون هذا هو سر استحباب التياسر في القبلة لأهل العراق دون غيرهم عند أئمة أهل
البيت (عليهم السلام)، ويظهر أن خصوم الشيعة قد التفتوا إلى هذا منهم، ولذلك كانوا
يتهمون من يتحرى القبلة بالرفض. فقد روى الخطيب البغدادي: أن قاضي واسط أسد بن
عمرو قد رأى قبلة واسط رديئة فتحرف فيها فاتهم بالرفض (عن تأريخ
بغداد 7: 16 ونشوار المحاضرة 6: 36.). 2 - والمقايسة بين الرسول والخليفة، والتوهين بالكعبة لم يكن
يقتصر على الحجاج، بل
روى أبو الفرج الإصبهاني الاموي: أن خالد بن عبد الله القسري عامل هشام بن عبد
الملك على مكة ذكر النبي (صلى
الله عليه وآله) فقال:
أيما أكرم: رسول الرجل في حاجته أو خليفته في أهله ؟ ! يعرض أن هشاما خير من
النبي (صلى الله عليه
وآله) (الاغاني
19: 60.). وروى عن أبي عبيدة قال: خطب خالد القسري يوما فقال: إن
إبراهيم الخليل استسقى الله ماء فسقاه الله ملحا اجاجا (يقصد زمزم) وإن أمير
المؤمنين استسقى الله ماء فسقاه عذبا نقاخا (الاغاني 19:
60.) يقصد العين التي أجراها لسليمان بن عبد الملك بمكة قبل أن يحج
إليها وأجراها إلى المسجد الحرام (اليعقوبي
3: 38.). وروى
أنه قال لغلامه يوما: ابن امي ! أيما أعظم: ركيتنا أم زمزم ؟ ! فقال له: أيها الأمير من يجعل الماء العذب النقاخ مثل الملح
الاجاج ؟ ! وكان يسمي زمزم: ام الجعلان (الاغاني
19: 59.). وروى عن المدائني: أن خالدا كان يقول: لو أمرني أمير المؤمنين
لنقضت الكعبة حجرا حجرا ونقلتها إلى الشام (الاغاني
19: 60.). وروى أنه حبس بعض التابعين فأعظم الناس ذلك وأنكروه فبلغه ذلك،
فخطب فقال: قد بلغني ما أنكرتم من أخذي عدو أمير المؤمنين ومن حاربه، والله لو
أمرني أمير المؤمنين أن أنقض هذه الكعبة حجرا حجرا لنقضتها ! والله لأمير
المؤمنين أكرم على الله من أنبيائه (الاغاني
19: 60.). 3 - وتحامل ابن الزبير
على بني هاشم تحاملا شديدا وأظهر
لهم العدواة والبغضاء، حتى بلغ ذلك منه أنه ترك الصلاة على محمد (صلى الله عليه وآله) في خطبته ! فقيل له: لم تركت الصلاة على النبي ؟ فقال: إن له أهيل
سوء يشرئبون لذكره ويرفعون رؤوسهم إذا سمعوا به ! وأخذ أربعة وعشرين رجلا من بني
هاشم منهم محمد بن الحنفية وعبد الله بن عباس امتنعوا عن بيعته فحبسهم وهددهم أن يحرقهم بالنار: وقام خطيبا فنال من علي بن أبي طالب (عليه السلام)
ولما عجز عنهم أخرجهم من مكة، فأخرج محمد بن الحنفية إلى
رضوى وعبد الله بن عباس إلى الطائف حتى توفي ابن عباس بها سنة 68 ه (اليعقوبي
3: 8.). واعتبروا أقوال الصحابة حجة كقول رسول الله (صلى الله عليه وآله): قال الشيخ أبو زهرة في كتابه عن الإمام مالك: ووجدنا مالكا يأخذ
بفتواهم - أي الصحابة - على أنها من السنة، ويوازن بينها وبين الأخبار المروية
إن تعارض الخبر مع فتوى صحابي ! وهذا ينسحب على كل حديث عنه - صلى الله عليه
وآله ج وسلم - حتى ولو كان صحيحا (عن كتاب:
الإمام مالك لابي زهرة: 290.).
ونقل هذا السيد المرتضى
العاملي في مقدمته لسيرته
ثم علق عليه يقول: وليس هذا إلا لأن شأن رسول الله لم يكن عند هؤلاء في المستوى
الطبيعي اللائق به كما هو ظاهر. ثم نقل عن " الرسائل المنيرية " قوله:
والعجب منهم من يستجيز مخالفة الشافعي لنص له آخر في مسألة بخلافه، ثم لا يرون
مخالفته لأجل نص رسول الله (الصحيح 1: 24 عن مجموعة الرسائل المنيرية: 32.). هذه هي صورة عن مكانة
النبي (صلى الله عليه
وآله) وتعاليمه وقيمة أقواله
لديهم، نكتفي منه بهذا. ونقول: إن وجود هذه الخطط التي استهدفت شخصية الرسول الكريم بل كل
المقدسات الإسلامية، توجب علينا أن نقوم نصوص سيرته وروايات تأريخه وتأريخ
الإسلام. |
بماذا
نقوم النصوص ؟
|
بماذا نقوم النصوص ؟ وإن نحن أردنا ذلك فمن الضروري أن نعتمد فيه قبل كل شئ على: 1 - عرضه على القرآن الكريم - كما مر - فقد روي عنه (صلى الله
عليه وآله) - كما مر أيضا - أنه قال: تكثر لكم الأحاديث بعدي، فإذا روي لكم عني حديث فاعرضوه على كتاب
الله، فما وافق كتاب الله فاقبلوه، وما خالف فردوه (عن اصول
الحنفية للشاشي: 43.). وعن علي
بن الحسين (عليه السلام)
قال عن القرآن: " وميزان قسط لا يحيف عن الحق لسانه، ونور هدى لا يطفأ عن
الشاهدين برهانه، وعلم نجاة لا يضل من أم قصد سنته ". وروى الكليني عن الإمام الصادق (عليه السلام)
قال: ما لم يوافق كتاب الله
فهو زخرف (عن اصول الكافي 1: 55.). وعن ابن عباس قال: إذا سمعتموني احدث عن رسول الله فلم تجدوه في كتاب الله أو حسنا
عند الناس، فاعلموا أني كذبت عليه (عن سنن
الدارمي 1: 146.). وعن ابن مسعود قال: فانظروا ما واطأ كتاب الله فخذوه وما خالف
كتاب الله فدعوه (عن المصنف 6: 112 وجامع بيان العلم 2: 42، وحياه الصحابة 3: 191.). وعن
معاذ بن جبل قال: فاعرضوا على الكتاب كل شئ من الكلام ولاتعرضوه على شئ من
الكلام (حياة الصحابة 3: 197 عن كنز العمال 8: 87 عن ابن عساكر.). وأوصى ابي بن كعب رجلا فقال له: إتخذ كتاب الله إماما وارض به قاضيا وحكما (عن حياة
الصحابة 3: 576 عن حلية الاولياء 1: 253.). وعن
أبي بكر في خطبة له: فإن كانت للباطل غزوة ولأهل الحق جولة يعفو لها الأثر وتموت
السنن، فالزموا المساجد واستشيروا القرآن (البيان
والتبيين 2: 44 وعيون الأخبار لابن قتيبة 2: 233. والعقد الفريد 4: 60.). ولن
ينقضي العجب من بعض أهل الزيغ حيث نسب هذا القول - وهو عرض الحديث على القرآن -
إلى أهل الزيغ فقال: وقد أمر الله عزوجل بطاعته - أي النبي (صلى
الله عليه وآله) - واتباعه أمرا مطلقا لم يقيد بشئ كما أمرنا باتباع كتاب الله، ولم يقل: ما
وافق كتاب الله، كما قال بعض أهل الزيغ (جامع
بيان العلم 2: 233 عن ابي عمر.). وأعجب من ذلك أن بعضهم نسب هذا الحديث إلى الزنادقة والخوارج !
فقال: الزنادقة والخوارج وضعوا ذلك الحديث، يعني ماروي عنه أنه قال: ماأتاكم عني فاعرضوه على كتاب الله فإن وافق كتاب الله فأنا قلته
وإن خالف كتاب الله فلم أقله. و: إنما أنا موافق كتاب الله وبه هداني الله. وهذه
الالفاظ لا تصح عنه عند أهل العلم بصحيح النقل من سقيمه، وقد عارض هذا الحديث
قوم من أهل العلم وقالوا:
نحن نعرض هذا الحديث على كتاب الله قبل كل شئ ونعتمد على ذلك، فلما عرضناه على
كتاب الله وجدناه مخالفا لكتاب الله، لأنا لم نجد في كتاب الله: أن لا يقبل شئ من حديث رسول الله، بل وجدنا كتاب الله يطلق التأسي
به والأمر بطاعته، وكذا ينهى عن المخالفة عن أمره، جملة على كل حال (بحوث مع
أهل السنة والسلفية: 68 نقلا عن جامع بيان العلم 2: 233.). وقال
أبو بكر البيهقي: والحديث الذي روي في عرض الحديث على القرآن باطل، فإنه ينعكس
على نفسه بالبطلان، فليس في القرآن دلالة على: عرض الحديث على القرآن (عن دلائل
النبوة للبيهقي 1: 26.). وقالوا بقول مطلق:
السنة قاضية على الكتاب، وليس الكتاب بقاض على السنة (سنن
الدارمي 1: 145 وتأويل مختلف الحديث: 199، جامع بيان العلم 2: 234 ومقالات الاسلاميين
2: 324.). وحاول الخطابي في شرحه لسنن أبي داود أن يجد من الحديث ما ينفي
أحاديث العرض على الكتاب، وذلك في شرحه لقوله (صلى الله عليه وآله) " لا
ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول: ما
ندري، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه ". قال الخطابي معلقا على هذا الحديث: في الحديث دلالة على أن لا حاجة إلى عرض الحديث على الكتاب، وأنه
مهما ثبت عن رسول الله شئ كان حجة بنفسه فأما ما رواه بعضهم أنه قال: إذا جاءكم الحديث فاعرضوه على كتاب الله فإن وافقه فخذوه... فإنه
حديث باطل لا أصل له. وقد حكى زكريا الساجي عن يحيى بن معين أنه قال: هذا حديث
وضعته الزنادقة (نقلا عن عون المعبود في شرح سنن ابي داود 4: 329 من الطبعة الحجرية.). وقد بحث هذا الموضوع العلامة المحقق السيد مهدي الروحاني في
كتابه " بحوث مع أهل السنة والسلفية " وخلص إلى القول: بأن هذه الأحاديث - أي أحاديث عرض الحديث على الكتاب - ناظرة إلى
قبول الموافق ورد المخالف، أما مالا يوافق ولا يخالف فهو باق تحت حجية الأخبار،
فعدم وجود معنى حديث ما في كتاب الله لا يفيد مخالفة هذا الحديث له. 2 - بالإعتماد على القرآن
الحكيم علينا أن نحدد معالم شخصية الرسول الكريم التي تمثل أسمى إنسان وجد ويوجد
على وجه الأرض، متصفا بصفات الفضل والكمال متخليا عما عداها، حتى جعله الله لنا
اسوة وقدوة مطلقا فقال: *
(ولكم في رسول الله اسوة حسنة) * (الممتحنة: 6.) فهو كما وصفه حفيده الإمام الهادي (عليه السلام) في الزيارة الجامعة: " عصمكم الله من الزلل وآمنكم من الفتن، وطهركم من الدنس،
وأذهب عنكم الرجس وطهركم تطهيرا " فهو المعصوم عن المعاصي والمبرأ من كل
عيب وعاهة وآفة منفرة للناس عنه، فلا يرى في اعماله أي تشتت أو ضعف، ولا في
اقواله أي تناقض أو تهافت أو سخف، بل الفضائل الكاملة، والصفات الإنسانية
الرفيعة الفاضلة: حكمة وعلما، وشجاعة وحزما، وسكينة ووقارا، و... وبكلمة: هو
خليفة الله في أرضه وحجته على عباده. فنلاحظ إن كان النص منسجما مع هذه الشخصية العظيمة قبلناه، وإلا رددناه. وإلا فكيف ننسب إلى هذه الشخصية أنه حمل حليلته عائشة على متنه لتشاهد أغاني السودان ؟ ! أو أنه شرب النبيذ ؟ ! أو أنه
بال قائما ؟ ! أو أنه شك في نبوته ؟ ! أو أنه أثنى على الأوثان تقريبا للمشركين
إلى نفسه ؟ ! وما شاكل ذلك. 3 - وبالإقتداء بالقرآن الكريم الذي إنما خاطب اولي الألباب
والعقول، وجعل العقل - القطعي الإتفاقي - حكما فيما يقول وذم العقلاء على
مخالفتهم لحكم عقولهم... فليكن
ذلك هو موقفنا في جميع
القضايا التأريخية أيضا، فنتأكد من إمكان حدوثه تأريخيا. هذا بعد التأكد من
سلامة النص من التناقض والمعارض، والنظر في طبقات
الرواة وعلاقاتهم السياسية
وغيرها، والتأكد من سلامة
سند النص من الوضاعين والكذابين وأصحاب الأهواء السياسية وغيرها. بعد كل ذلك وبالأخذ بنظر الإعتبار جميع تلك المقاييس، يكون
بإمكاننا أن نقوم النصوص غير القليلة التي تسعى أن تصور الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله) بمظهر صبي جاهل عاجز مهين ! فلا ندع لها فرصة التسلل إلى سيرته (صلى الله عليه وآله). وحينئذ يكون بإمكاننا أن نتقدم إلى المسلمين بنص من ثروة التراث
يكون مصدر فخر واعتزاز. وهذه
ميزة يمتاز بها تأريخ الإسلام،
وهي أنه ينطلق عن قواعد بإمكانها أن تهدي الباحث إلى الطرق الامينة والتي بإمكان
سالكها أن يصل بها إلى الحقيقة التي يريدها مطمئن النفس راضي الضمير، شريطة
التزامه بتلك القواعد والضمانات المشار إليها فيما مر. |
واستداركا
لما فات:
|
واستداركا لما مر نقول: إن المدون من تأريخ الإسلام - بما فيه مما مر ذكره - مع ذلك يعتبر أغنى تأريخ مطلقا، ذلك لإمتيازه بدقته وشموله، فتراه
يلمح اللمحات، ويلتفت مع اللفتات، ويتحرك مع الحركات، ويتحدث عن الأحداث، ويتكلم
بالكلمات، ويقف في المواقف بدقة وشمول منقطع النظير، ويملك لذلك من النصوص الشئ
الكثير، بحيث لا يشابهه أي تأريخ مطلقا، فإنه ليس بإمكان أي تأريخ آخر أن يثبت
الكثير من أحاديثه عن الحوادث الكبرى بصورة قطعية فضلا عن الجزئيات من الامور. لكن لا بد لمن يريد الإفادة من كتب التأريخ الإسلامي من أن يفتح
عينه ووعيه لكل كلمة منه، فيطالعها بوعي ويقظة وحذر، يسعى لاستخلاص ماينسجم منه
مع الواقع ويرد ما عداه، مما مال به القائل أو لعبت به الأهواء، ولاسيما ما
يتعلق منه بصدر الإسلام، مما
يتحكم فيه الهوى المذهبي والتزلف إلى الخلفاء والامراء والحكام فيذكر الأمر
منقطعا عن علله وعوامله ومنفصلا عن أسبابه وجذوره، وذلك بفعل التعصب البغيض
والظلم الكثير. فالمؤرخ كان لا يكتب ولا يثبت إلا ماينسجم مع نفسية الحاكم،
ويتفق وقوله، مهما كان مخالفا للواقع والحقيقة، ولإتجاه المؤرخ عقيدته أيضا، فهو يشوه امورا صدرت من الحاكم أو
غيره ويحيطها بالغموض والإبهام، أو يهمل أحداثا ويتجاهل شخصيات لها أثرها في
التأريخ، ويختلق أحداثا أو شخصيات لا وجود لها، أو يسهب الكلام في وصف غرام أو
مجلس رقص أو غناء وشراب ويعنى بامور حقيرة تافهة. بينما مهمة المؤرخ أن يعكس حياة الامة وما عرض لها من أزمات
فكرية واجتماعية وسياسية واقتصادية، وبصورة عامة كل ما مرت به من أوضاع وأحوال، وذلك بدقة وأمانة.
وليس بخاف ما في ذلك من الأثر الكثير في حياة الامة ووضعها في الحال الحاضر:
عقائديا وعلميا وادبيا واجتماعيا، حسب اختلاف الأحداث عمقا وشمولا. ولا ينفي ترتب هذا الأثر البارز أن يكون الحدث التأريخي قد مر
على تأريخه أكثر من ألف عام. قلنا: إن
المسلمين اهتموا بتدوين تأريخهم مالانراه لغيرهم، وإنه بالرغم مما ذكر فهو أثرى
تأريخ امة مطلقا. ولكن هذا لا يعني أن تدوينه لم يتأثر بالأهواء السياسية ومختلف
العصبيات المذهبية وغيرها، مما أدخل فيه الأباطيل والموضوعات. الأمر الذي فرض
علينا أن نتخذ من المبادئ القرآنية والإسلامية، وشخصية الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله)، مقياسا لتقييم كثير من النصوص والحكم عليها من خلال انسجامها مع
كل ذلك، وهكذا بالنسبة إلى كل شخصية من إمام معصوم وغيره حصلنا منه على علم عام
بسيرته وأخلاقه، مستعينين بالكثير من أدوات البحث الاخرى التي توفرها الممارسة
الطويلة في هذا الموضوع، كتناقض النصوص، أو التوصل إلى عدم إمكان وقوع ذلك الحدث
في تلك الفترة الزمنية أو بالنسبة إلى الشخصية المنسوب إليها. |
بحث
الأسناد:
|
إن هذه الحالة -
حالة عدم الأمانة التامة - لا
تدعنا نعتمد على الأسانيد لتكون ميزانا نهائيا ومقياسا مطلقا في موضوع التأريخ،
إذ إن ذلك يعني أن نحصر أنفسنا في حصار نصوص يسيرة تكاد لا تفي حتى بالفهرسة
الإجمالية لسيرة الرسول الكريم (صلى الله عليه
وآله) ومجمل تأريخ صدر
الإسلام، ويعني أن نفقد الكثير من النصوص الصحيحة التي لم تحتفظ بسند فيه أدنى
شرائط القبول، وسوف يفقد الناقد حرية حركته بين النصوص للإستنتاج. إذن، فلا يمكن
ملاحظة شروط الأسناد إلا بالنسبة لما روي عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام)،
أما في خصوص النصوص التأريخية فإنه
لا يتيسر ملاحظة ذلك، ذلك
لأن التأريخ قد
دون بأيد قد تكون أمينة ولكن لا على الإطلاق ولاسيما بالنسبة لأسناد ما دونوا من
أخبار، وعلى هذا، فلا بد
من ملاحظة أكثر ما يمكن للتأكد من عدم الجعل والتحريف فيها قبل قبولها على أنها
من التأريخ المعتمد عليه. وبكثرة
الأكاذيب والأباطيل في الأحاديث والأقاويل التأريخية، بسبب تلاعب الأهواء
المذهبية والسياسية كما سبق،
فان الاستناد إلى أفراد معينين من المؤرخين أو نوعية معينة من الكتب التأريخية ربما تحرم الباحث من كثير من الحقائق التأريخية المبعثرة هنا
وهناك، والتي أمكن لها أن تصل إلينا عبر الموانع المتعددة سليمة من كثير من
التحريف، بما أن الساسة لم يروها، أو لم يروا فيها ما يشكل خطرا عليهم، وكذلك
المتعصبون من أرباب المذاهب، فبقيت بعيدة عن متناول أيديهم ورماحهم وغوغائهم،
وآمنة من تعنت المتعصبين وجبروت الطواغيت كي نتلقفها اليوم بسلام. |
دراستنا
نحن للتأريخ:
|
دراستنا نحن للتأريخ: ونحن هنا نحاول بدورنا أن نستخلص صورة نقية واضحة ما أمكننا من
تأريخنا تأريخ الإسلام، وبصورة أساسية نهتم لنبتعد عن ذلك القسم الموضوع المكذوب
من النقول التأريخية، والتي لا تعدو في الحقيقة والواقع عن أوهام من خيالات
أصحاب الأهواء والأغراض من المحدثين والقصاصين. والبداية الطبيعية لتأريخ
الإسلام هي سيرة الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله)، وهذه البداية الطبيعية تفرض علينا أن نلاحظ أولا شيئا عن تأريخ
ما قبل البعثة النبوية الشريفة، كي نتعرف على المناخ والجو الذي ظهر فيه الإسلام
إلى العالم. واعتمدنا فيما كتبناه هنا - حتى الإمكان - على أسبق ما كتبه أورواه
السابقون الأولون ولاسيما من مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)
دون المتأخرين فضلا عن المعاصرين إلا قليلا، إذ هو علم نقلي ليس للمتأخر إلا ما
كتبه المتقدم اللهم إلا في كيفية الإخراج والتأليف والتصنيف والترتيب والتنظيم
والتنسيق، ثم توجيهه وتحليله كل في حدود إمكانه وطاقته. وقد أمسك اولئك المؤرخون
القدامى عن أية دراسة أو تحليل للحوادث والوقائع التأريخية، ولعله صيانة لنصوص
أحاديث تلك الحوادث، لا بشأن النبي (صلى الله عليه وآله) فحسب، بل إن التأريخ الإسلامي بصورة عامة كتب بدون دراسة أو تحليل
أو تحقيق. أجل إن أول من
فتح هذا الطريق بوجه المؤرخين الإسلاميين هو العالم العربي القاضي عبد الرحمن بن
محمد الخضري المالكي المعروف بابن خلدون (ت 808 ه)، فإنه أسس في " مقدمته
" اسس التأريخ التحليلي، وهي بما فيها من اشتباهات كثيرة في تحليل بعض
الحوادث تعد أثرا مفيدا جديدا مبتكرا في بابه. وقد كتبت بشأن النبي العظيم من النوعين الأول والثاني، أي التأريخ الوقائعي والتحليلي كتب كثيرة، ولكن يعوز النوع الأول: التحليل، ويعوز النوع الثاني في كثير من
الأحيان أنها على جانب كبير من الأخطاء العجيبة، حيث إنها اعتمدت على مصادر غير
معتبرة أو على كتب المستشرقين. فبالنظر إلى هذين الإشكالين الأساسيين
عمدنا في حدود إمكاننا
في دراستنا هذه أن
نتجنبهما، وذلك بأن: 1 - نسجل الحوادث المهمة التي تتميز بدروس لنا فيها، وأن ننقل ذلك من المصادر الأصلية الاولى المؤلفة في القرون الاولى الإسلامية.
2 - وأن
نقف عند ما أورده المعترضون
والمستشكلون من المستشرقين وغيرهم مما انتقدوا به الإسلام ورسوله، فنجيب على كل ذلك بأجوبة صحيحة قطعية واضحة بينة، وأن ندفع أية
شبهة أو إشكال قد يورد على التأريخ الإسلامي لدى شيعة أئمة أهل البيت (عليهم السلام)
حسب المصادر والشواهد التأريخية الناطقة. والله الموفق والمعين، وهو الهادي إلى الحق وإلى طريق مستقيم،
فهو حسبي ونعم الوكيل، نعم المولى ونعم النصير. محمد هادي اليوسفي الغروي |
الفصل
الاول البيئة العربية والظروف العالمية قبيل ظهور الإسلام
|
الجاهلية
في القرآن الكريم:
|
الجاهلية في القرآن الكريم: قلنا: إن البداية الطبيعية لتأريخ الإسلام
تفرض علينا أن نتعرف أولا على حالة العرب قبل الإسلام كي نتعرف على المناخ والجو
الذي انطلقت فيه الدعوة إلى الإسلام، وخير
كلام في هذا المقام كلام الإمام العلامة الطباطبائي في تفسيره " الميزان
" قال: إن القرآن يسمي عهد
العرب المتصل بظهور الإسلام بالجاهلية، وليس إلا إشارة منه إلى أن الحاكم فيهم
يومئذ الجهل دون العلم، وأن المسيطر عليهم في كل شئ الباطل دون الحق، وكذلك
كانوا، على مايقص القرآن من شؤونهم: قال تعالى: (يظنون بالله غير الحق ظن
الجاهلية) (آل عمران: 154.). وقال * (أفحكم الجاهلية يبغون) (المائدة: 50.). وقال: (إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية
حمية الجاهلية) (الفتح: 26.). وقال: (ولا تبرجن تبرج الجاهلية الاولى) (الأحزاب:
33.). كانت
العرب يومئذ تجاور في جنوبها الحبشة وهي نصرانية، وفي مغربها إمبراطورية
الروم وهي نصرانية أيضا، وفي شمالها الفرس وهم مجوس، وفي غير ذلك مصر والهند
وهما وثنيتان، وفي أرضهم طوائف من اليهود. وهم وثنيون يعيش أكثرهم عيشة القبائل،
وهذا كله هو الذي أوجد لهم اجتماعا همجيا بدويا فيه أخلاط من رسوم اليهودية
والنصرانية والمجوسية، وهم سكارى في جهالتهم. وكانت
العشائر البدو على ما لهم من خساسة
العيش ودناءته يعيشون بالغزوات وشن الغارات واختطاف ما في أيدي الآخرين من متاع
أو عرض، فلا أمن بينهم ولا أمانة، ولا سلم ولا سلامة، والأمر لمن غلب، والملك
لمن وضع يده عليه " ومن عز بز ". أما الرجال فالفضيلة بينهم سفك الدماء والحمية الجاهلية والكبر والغرور
واتباع الظالمين وهضم حقوق المظلومين، والتعادي والتنافس، والقمار وشرب الخمر
والزنا، وأكل الميتة وحشف التمر. وأما النساء فقد كن محرومات من مزايا المجتمع الإنساني لا يملكن من أنفسهن
إرادة ولا من أعمالهن عملا، ولا يملكن ميراثا، ويتزوج بهن الرجال من غير تحديد
بحد، كما عند اليهود وبعض الوثنيين، ومع ذلك فقد كن يتبرجن بالزينة ويدعن من
أحببن إلى أنفسهن، وفشا فيهن الزنا والسفاح حتى المحصنات المزوجات منهن، ومن
عجيب بروزهن أنهن ربما كن يطفن بالبيت ليلا عاريات من ثيابهن (لأنهن لا يجدن
إحراما طاهرا). وأما الأولاد فكانوا ينسبون إلى الآباء لكنهم لا يورثون صغارا ويذهب الكبار
بالإرث، ومن الإرث زوجة المتوفى، ويحرم الصغار - ذكورا أو إناثا - والنساء. نعم
لو ترك المتوفى صغيرا ورثه ولكن الأقوياء يتولون أمر اليتيم ويأكلون ماله، ولو
كان اليتيم بنتا تزوجوها وأكلوا مالها ثم طلقوها وخلوا سبيلها، فلا مال تقتات به
ولا راغب في نكاحها ينفق عليها. والإبتلاء بأمر الأيتام من أكثر الحوادث المبتلى
بها بينهم لدوام الحروب والغارات والغزوات فطبعا كان القتل شائعا بينهم. وكان من شقاء أولادهم أن بلادهم الخربة وأراضيهم القفرة البائرة كان يسرع إليها الجدب
والقحط، فكان الرجل يقتل أولاده خشية الإملاق: * (ولا تقتلوا أولادكم خشية
إملاق) * (الإسراء: 31.) وكانوا يئدون البنات: * (وإذا الموؤدة سئلت بأي
ذنب قتلت) * (التكوير: 8، 9.) وكان من أبغض
الأشياء أن يبشر الرجل بالانثى: * (وإذا بشر أحدهم بالانثى ظل وجهه مسودا وهو
كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا
ساء ما يحكمون) * (النحل: 58، 59.). وأما وضع الحكومة بينهم: فأطراف الجزيرة وإن كانت ربما ملك فيها ملوك تحت رعاية أقوى
الجيران وأقربها كإيران لنواحي الشمال، والروم لنواحي الغرب، والحبشة لنواحي
الجنوب، إلا أن قرى الأوساط كمكة ويثرب والطائف وغيرها كانت تعيش في وضع أشبه
بالجمهورية وليس بها، والعشائر في البدو بل حتى في داخل القرى كانت تدار بحكومة
رؤسائها وشيوخها، وربما تبدل الوضع بالسلطنة. وهذا هو الهرج (الفوضى) العجيب الذي كان يبرز في كل عدة معدودة منهم بلون، ويظهر في كل ناحية من
أرض شبه الجزيرة بشكل مع الرسوم العجيبة والاعتقادات الخرافية الدائرة بينهم.
أضف إلى ذلك بلاء الامية وفقدان التعليم والتعلم في بلادهم فضلا عن العشائر
والقبائل. وكل هذا الذي ذكرناه من أحوالهم
وأعمالهم والعادات والمراسيم الدائرة بينهم
هو مما يستفاد من سياق الآيات القرآنية والخطابات التي تخاطبهم بها، أوضح إفادة،
فتدبر في المقاصد التي ترومها الآيات والبيانات التي تلقيها إليهم بمكة أولا، ثم بعد ظهور الإسلام
وقوته بالمدينة ثانيا، وفي الأوصاف التى تصفهم بها، والامور التي تذمها منهم وتلومهم
عليها، والنواهي المتوجهة إليهم في شدتها وضعفها.. إذا تأملت كل ذلك تجد صحة ما
ذكرناه. والتأريخ كذلك يذكر كل ذلك ويعرض من تفاصيله ما لم نذكره، لإجمال الآيات
الكريمة وإيجازها القول فيه. وأوجز كلمة وأوفاها لإفادة مجمل هذه المعاني ما سمى
القرآن به هذا العهد " الجاهلية " فقد أجمل في معناها كل هذه
التفاصيل. هذا حال عالم العرب ذلك اليوم. وأما العالم المحيط بهم ذلك اليوم من الفرس
والروم والحبشة والهند وغيرهم، فالقرآن يجمل القول فيه أيضا. أما أهل الكتاب منهم أعني اليهود والنصارى ومن يلحق بهم (من المجوس
والصابئة) فقد كانت
مجتمعاتهم تدار بالأهواء الاستبدادية والتحكمات الفردية من الملوك والرؤساء
والحكام والعمال، فكانت
مقتسمة طبعا إلى طبقتين: طبقة
حاكمة فعالة لما تشاء، تعبث بالنفس والعرض والمال وطبقة محكومة مستعبدة مستذلة
لا أمن لها في مال ولا عرض ولا نفس ولا حرية ولا إرادة إلا ما وافق من يفوقها. وقد كانت الطبقة الحاكمة استمالت علماء الدين وحملة الشرع وائتلفت بهم، وأخذت مجامع قلوب
العامة وأفكارهم بأيديهم، فكانت بالحقيقة هي الحاكمة في دين الناس ودنياهم، تحكم
في دين الناس كيفما أرادت بلسان العلماء وأقلامهم، وفي دنياهم بالسوط والسيف. هذا وقد انقسمت الطبقة المحكومة أيضا حسب قوتها في السطوة والثروة
فيما بينهم، إلى طبقتي الأغنياء المترفين والضعفاء والعجزة والعبيد، وإلى رب البيت ومربوبيه من النساء والأولاد، وكذا إلى الرجال
المالكين لحرية الإرادة والعمل في جميع شؤون الحياة وإلى النساء المحرومات من
جميع ذلك والتابعات للرجال محضا والخادمات لهم فيما أرادوه منهن من غير استقلال
ولو يسيرا. ومجمل
هذه الحقيقة يظهر من قوله سبحانه: * (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم
أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله
فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون) * (آل عمران: 64.) وكذا
قوله سبحانه: *
(يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن
أكرمكم عند الله أتقاكم) * (الحجرات:
13.) وقوله في النساء: * (إني لا اضيع عمل عامل منكم من ذكر أو انثى بعضكم من بعض) * (آل عمران: 195.) وفيما
أوصى به في التزويج بالفتيات والإماء: * (بعضكم من بعض فانكحوهن بإذن أهلهن) * (النساء: 25 .) الميزان 4: 151 - 154.). |
الجاهلية
في نهج البلاغة:
|
وبعد استعراض هذه الآيات من القرآن الكريم بشأن الجاهلية يكفينا أن
نتذكر بعض ما جاء عن علي (عليه
السلام) في " نهج
البلاغة " في ذلك: " وأنتم معشر العرب على شر دين وفي شر دار، منيخون بين حجارة
خشن وحيات صم، تشربون الكدر وتأكلون الجشب، وتسفكون دماءكم وتقطعون أرحامكم،
الأصنام فيكم منصوبة والآثام فيكم معصوبة " (نهج
البلاغة، الخطبة: 91.). " والناس ضلال في حيرة، وحاطبون في فتنة، قد استهوتهم
الأهواء واستزلتهم الكبرياء واستخفتهم الجاهلية الجهلاء، حيارى في زلزال من
الأمر وبلاء من الجهل " (الخطبة: 95.). " والأحوال مضطربة، والأيدي مختلفة، والكثرة متفرقة، في بلاء
ازل وإطباق جهل: من بنات موؤدة وأصنام معبودة وأرحام مقطوعة وغارات مشنونة
" (الخطبة: 187.) |
معنى
الجاهلية:
|
معنى الجاهلية:
ومن مصاديق الحمية الجاهلية ما حاوله البعض أن يحرف في معنى الجاهلية من معنى
عدم العلم وفقدان المعرفة لديهم إلى أنها من الجهل بمعنى الحمية والغضب، كما قد
يقال: جهل زيد على عمرو بمعنى غضب عليه، وأنها ليست من الجهل بمعنى عدم العلم
والمعرفة. وهذا التوجيه ليس - كما
قلنا - إلا مصداقا من مصاديق الحمية الجاهلية، فإن الظاهر من إطلاق الجهل ليس
إلا بمعنى ما يقابل العلم والمعرفة، ولا تحمل على معنى الحمية والغضب إلا مجازا
بقرينة ما، كما فيما يستشهدون به من قولهم جهل عليه، فإن تعدية الجهل إلى
المفعول بلفظة " على " أجلى قرينة لفظية لذلك، وإلا فلا تحمل الكلمة
إلا على ما يقابل العلم فقط. وليت شعري ما يقول أصحاب هذا التوجيه غير الوجيه في معنى ما جاء في
الآيات الكريمة الأربع " ظن الجاهلية " و " حكم الجاهلية "
و " الحمية الجاهلية " و " تبرج الجاهلية " فهل يصح أن تفسر
الجاهلية في هذه الآيات بمعنى الغضب ؟ وقد رأينا أمير المؤمنين
(عليه السلام) وصف الجاهلية بالجهلاء تأكيدا للمعنى المعروف من الجاهلية، ثم
قال: " وبلاء من الجهل
" و " إطباق جهل " مما يؤكد ذلك أيضا ويدفع أي ترديد فيه. " لقد أوضح لنا الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في
كلماته المتقدمة حالة العرب ومستواهم العلمي والثقافي، وأنهم كانوا يعيشون في
ظلمات الجهل والحيرة والضياع.. وهذا يكذب كل ما يدعيه
الآخرون - كالآلوسي وغيره - من أن العرب كانوا قد تميزوا ببعض العلوم: كعلم الطب
والأنواء والقيافة والعيافة... " (الصحيح
من سيرة النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) 1: 48.). ويقول ابن خلدون بهذا الصدد " إن الملة - العربية - في أولها لم يكن فيها علم ولا صناعة،
وذلك لمقتضى أحوال السذاجة والبداوة.. فالقوم يومئذ عرب لم يعرفوا أمر التعليم
والتأليف والتدوين، ولا دفعوا إليه، ولا دعتهم إليه حاجة.. فالامية يومئذ صفة
عامة " (مقدمة ابن خلدون: 543.). ويقول عن علم الطب عند
العرب: ".. طب يبنونه
- في غالب الأمر - على تجربة قاصرة على بعض الاشخاص متوارثا عن مشايخ الحي وعجائزه،
وربما يصح منه البعض إلا أنه ليس على قانون طبيعي ولا على موافقة المزاج. وكان
عند العرب من هذا الطب كثير، وكان
فيهم أطباء معروفون كالحارث بن كلدة وغيره " (مقدمة ابن خلدون: 493.). ويكفي أن نذكر هنا ما
رواه البلاذري في
اميتهم: إن الإسلام دخل وفي قريش سبعة عشر رجلا، وفي الأوس والخزرج في المدينة إثنا عشر رجلا يعرفون القراءة والكتابة (فتوح
البلدان ق 3: 580.). ويقول ابن خلدون عن نوعية الخط عندهم " وكانت كتابة العرب بدوية وكان الخط العربي لأول الإسلام غير
بالغ إلى الغاية من الإحكام والإتقان والإجادة ولا إلى التوسط، ذلك لمكان العرب
من البداوة والتوحش وبعدهم عن الصنائع. وانظر ما وقع - لأجل ذلك - في رسمهم
المصحف حيث رسمه الصحابة بخطوطهم وكانت غير مستحكمة في الإجادة فخالف الكثير من
رسومهم ما اقتضته رسوم صناعة الخط عند أهلها، ثم اقتفى التابعون من السلف رسمهم
فيها تبركا بما رسمه اصحاب الرسول " (مقدمة
ابن خلدون: 419.). بل ربما كانوا يعتبرون القراءة والكتابة عيبا، فقد قال عيسى بن
عمر: قال لي ذو الرمة: ارفع هذا الحرف. فقلت له: أتكتب ؟ فقال بيده على فيه اي
اكتم علي، فإنه عندنا عيب (الشعر والشعراء لابن قتيبة: 334.). وقال ابن خلدون بهذا
الصدد: " مع ما
يلحقهم من الأنفة عن انتحال العلم حينئذ، لأنه من جملة الصنائع، والرؤساء - أبدا
- يستنكفون عن الصنائع والمهن وما يجر إليها " (مقدمة
ابن خلدون: 544، فصل " أن حملة العلم في الإسلام أكثرهم العجم ".). فالذي رواه الرواة والمؤرخون يفيد نفي وجود أي لون من ألوان
التعليم، أو وجوده ولكن بنسبة صغيرة جدا حيث لا يتجاوز عدد المتعلمين عدد
أصابع اليدين والرجلين في كل بلدان الحجاز وحواضره. ذهب بعض المتأخرين من المؤرخين العرب - منهم محمد عزة دروزة في
كتابه: القرآن المجيد - إلى أن هناك في المدن الحجازية فئة من المتعلمين بنسبة لا يمكن
تجاهلها. وكل ما سجله هؤلاء
في كتبهم لتأييد رأيهم هو: - أن البيئة الحجازية - ولا سيما مكة والمدينة - كانت بيئة تجارية -، كما أشار إلى ذلك القرآن الكريم في سورة قريش، فكانت - بحكم عملها
وطبيعتها - على اتصال وثيق ومستمر مع البلاد المجاورة من الشام واليمن والعراق
والتي كانت على جانب لا بأس به من العلم والثقافة. وكانت البيئة الحجازية تضم فئات كتابية: يهودية ومسيحية اصيلة ونازحة من البلاد المجاورة، والتي كانت
تتداول ما بينها الكتب الدينية وغيرها قراءة وكتابة. هذا من جهة، ومن جهة اخرى فقد ورد في القرآن العزيز أطول آية في سورة البقرة تطلب من الناس تسجيل كافة المعاملات والتصرفات وكتابتها نقدا أو
دينا صغيرة أو كبيرة ((البقرة: 282.)) فكيف تطلب هذه الآيات من الناس تحقيق كل ذلك دون وجود قسم من
المتعلمين في صفوفهم يكتبون ويدونون عن أنفسهم أو الآخرين. هذا بالاضافة إلى أن
كتبة الوحي بين يدي الرسول (صلى الله عليه وآله) بلغ عددهم أكثر من أربعين رجلا،
وأن كثيرا منهم كانوا مكيين، وهم الذين كتبوا القسم المكي من القرآن قبل هجرته (صلى
الله عليه وآله) إلى المدينة،
فهذا دليل على وجود المتعلمين في مكة وإن كانوا قليلين، سواء ممن كتب الوحي من
هؤلاء ومن لم يسلم بعد. كما إن الأسرى الفقراء من قريش الذين وقعوا في قبضة المسلمين في معركة بدر الكبرى في العام
الثاني للهجرة، والذين لم يستطيعوا أن يقدموا فدية نقدية لإطلاق سراحهم، كلف كل واحد منهم - ممن يجيد القراءة والكتابة - تعليم عشرة من
أطفال المسلمين في المدينة القراءة والكتابة لقاء إطلاق سراحهم، ويحدثنا البلاذري:
ان كثيرين منهم قاموا
بما كلفوا به من تعليم الأطفال في المدينة وأصبحوا بعدها أحرارا عادوا إلى مكة،
كما أسلم بعضهم بعدما لمسوا عدالة الإسلام وسماحته فكيف يعقل هنا أن يجيد قسم من الفقراء ومعدمي القرشيين القراءة
والكتابة ولا يتقنها أغنياؤهم وتجارهم وأرباب السلطان منهم ! (لمحات من تاريخ القرآن للسيد محمد علي الاشيقر، ط النجف: 36 و 37.). وخلاصة القول في جواب
هؤلاء هو أن نقول: إن
الجهل كان هو الحاكم المطلق ولا نلاحظ نحن فيهم أي شئ من العلوم قبل الإسلام بل
لا نرى إلا جهلا وحيرة وضياعا. أما ما استشهد به هؤلاء فلا يعدو أن يكون مما قام
به الإسلام لمحو الامية. أما أولوية أن يكون ذوو
الغنى والسلطان منهم يقرأون ويكتبون فقد عرفت فساده مما سبق عن ابن خلدون. وأما
عدد كتاب الوحي فقد
فند أكثر العدد العلامة السيد أبو الفضل مير محمدي في كتابه القيم " بحوث في تأريخ القرآن وعلومه ". ولا يفوتنا هنا أن ننوه إلى: أن اميتهم هذه كانت السبب في قوة حافظتهم التي امتازوا بها، فأصبح
الكثير منهم حفظة القرآن الكريم وأحاديث الرسول العظيم. لكن مستواهم الثقافي هذا كان السبب الطبيعي في أن ينظروا إلى أهل الكتاب عموما واليهود
خصوصا نظرة التلميذ إلى معلمه فتكون لهم الهيمنة الفكرية عليهم، مما بقيت آثاره
في أخبار رواتهم فيقول
الطبري: " عن
بعض أهل العلم من أهل الكتاب ". |
غيرة
وحمية، أم حمية جاهلية:
|
كما حاولوا أن يوجهوا الجاهلية بتفسيرها بمعنى الغضب لا عدم العلم
والمعرفة، كذلك حاولوا تحريف الحمية الجاهلية المذكورة في القرآن الكريم من
كونها صفة ذميمة إلى جعلها خصيصة ذات ميزة للعرب قبل الإسلام، وذلك بحذف صفة
الجاهلية وإضافة لفظة " الغيرة " إلى " الحمية ". والحقيقة هي أن الحمية صفة ذميمة، إذ هي تعني أن يكون النصر للقبيلة وذوي القرابة فقط، وإن العون لا
بد وأن يمحض لهم ظالمين كانوا أو مظلومين فلا بد من الوقوف إلى جانب ابن القبيلة
سواء كان الحق له أو عليه، حتى
قال شاعرهم يمتدحهم بذلك: لا يسألون أخاهم حين يندبهم *
في النائبات على ما قال برهانا وفي المقابل تتحمل
القبيلة عنه كل جناية وجريمة يرتكبها، وتحميه من كل من أراده بسوء. وهذا هو
التعصب القبلي الذي لا يرحم ولا يلين. فالتعصب القبلي كان من مميزات الإنسان العربي وخصائصه. ومن الطبيعي أن يكون شعور أفراد كل قبيلة بالنسبة لأبناء قبيلتهم
قويا جدا، وذلك بدافع من شعورهم بالحاجة إلى قبائلهم للدفاع عن أنفسهم. وهذا هو السر في شجاعتهم أيضا، وذلك أنهم بحكم بيئتهم وحياتهمفي الصحراء بلا حواجز وموانع طبيعية
أو غيرها، كانوا يشعرون بحاجتهم إلى حماية أنفسهم والدفاع عنها، ولا يرد عنه إلا
يده وسيفه ثم أهله وعشيرته، وهو يرى نفسه في كل حين عرضة للغزو والنهب والسلب
والغارات والثارات. إن حياة البادية والغزو
المفاجئ وعمليات الاغتيال ثأرا التي كانت تهددهم دائما، كل ذلك كان يستدعي سرعة الإقدام ومباشرة العمل فورا، فإذا اضيف إلى ذلك عدم شعورهم بالمسؤولية عما يفعلون، فإن الإقدام بلا ترو ولا تريث لا بد وأن يصبح هو الصفة المميزة
لهم والطاغية على تصرفاتهم.. ولذا فقد قل أن تجد فيهم حليما. وأخيرا فقد نعى القرآن
الكريم على الجاهلية هذه الحمية فعبر عنها بالحمية الجاهلية، وهذا يعني أنها
كانت من دون تثبت في الفكر والرأي بل للجهل، فكيف تكون ميزة ؟ ! أجل إن الإسلام
حاول أن يضع هذه الحمية في خطها الصحيح وأن يجعلها تنطلق من قواعد إنسانية وعواطف حقيقية وفضائل أخلاقية،
وبالأخص من إحساس ديني صحيح، وأن
يستفيد منها في بناء الامة على
اسس صحيحة وسليمة. فقد حاول أن يوجه العصبية القبلية وجهة بناءة ويقضي على كل
عناصر الشر والانحراف فيها، فدعى إلى بر الوالدين وإلى صلة الرحم، وجعل ذلك من
الواجبات وذلك لربط الامة المسلمة بعضها ببعض. وفي الوقت نفسه أدان كل تعصب لغير الحق وندد به وعاقب عليه،
واعتبر ذلك من دعوات الجاهلية المنتنة كما جاء في بعض نصوص الاحاديث. وكذلك حاول أن يوجه غيرتهم وحميتهم وشدتهم إلى حيث قال تعالى: * (أشداء على الكفار) * (الفتح: 29.). |
بناء
الكعبة المعظمة:
|
بناء الكعبة المعظمة: يجدر بنا ونحن نحاول دراسة التأريخ الإسلامي أن نتعرف على تأريخ
بناء الكعبة في مكة المكرمة، وذلك يجرنا إلى البدء بتأريخ بانيها إبراهيم (عليه
السلام)، فلنبدأ به: ومن اجمع ما يتضمن قصة الخليل (عليه السلام) ما جاء في "
روضة الكافي " بسنده عن علي بن إبراهيم القمي، عن زيد الكرخي قال: سمعت أبا عبد الله
الصادق (عليه السلام) يقول: إن
إبراهيم (عليه السلام)
كان مولده بكوثاريا وكان أبوه من أهلها، وكانت ام إبراهيم وام لوط (عليهما السلام)، سارة وورقة اختين، وهما ابنتان للاحج، وكان لاحج نبيا منذرا، ولم
يكن رسولا. وكان إبراهيم (عليه
السلام) في شبيبته على
الفطرة التي فطر الله عز وجل الخلق عليها حتى هداه الله تبارك وتعالى إلى دينه
واجتباه وانه تزوج سارة ابنة (قد علق العلامة المجلسي في الجزء 26 من مرآة العقول على ذلك بأنه لا
بد وأن تكون ابنة ابنة لاحج، ولعل السقط من النساخ حيث تصور أنها زائدة.) لاحج،
وهي ابنة خالته، وكانت سارة صاحبة ماشية كثيرة وأرض واسعة وحال حسنة، وكانت قد
ملكت إبراهيم
(عليه السلام) جميع
ما كانت تملكه، فقام فيه وأصلحه وكثرت الماشية والزرع حتى لم يكن بأرض كوثاريا
رجل أحسن حالا منه. وإن إبراهيم لما كسر اصنام نمرود وأمر به نمرود فاوثق، وعمل له
حايرا وجمع له فيه الحطب وألهب فيه النار، ثم قذف إبراهيم (عليه السلام)
في النار لتحرقه، ثم اعتزلوها حتى خمدت النار. ثم اشرفوا على الحاير فإذا
إبراهيم (عليه السلام) سليما مطلقا من وثاقه. فاخبر نمرود خبره، فأمرهم أن ينفوا إبراهيم (عليه السلام)
من بلاده، وأن يمنعوه من الخروج بماشيته وماله فحاجهم إبراهيم (عليه السلام) عند
ذلك فقال: إن أخذتم ماشيتي ومالي فإن حقي عليكم أن تردوا علي ما ذهب من عمري في
بلادكم ! واختصموا إلى
قاضي نمرود فقضى على اصحاب نمرود أن يردوا على إبراهيم (عليه السلام)
ماله ! وأخبر بذلك نمرود،
فأمرهم أن يخلوا سبيله وسبيل ماشيته وماله ويخرجوه وقال: إنه إن بقي في بلادكم
أفسد دينكم (!) وأضر بآلهتكم. فأخرجوا إبراهيم ولوطا (عليهما السلام) معه من بلادهم إلى الشام. فخرج إبراهيم
- ومعه لوط لا يفارقه - وسارة،
وقال لهم " إني ذاهب
إلى ربي سيهدين " يعني
إلى بيت المقدس. فتحمل إبراهيم بماشيته وماله، وعمل تابوتا وجعل فيه سارة وشد
عليها الاغلاق غيرة منه عليها. ومضى حتى خرج من سلطان نمرود، وصار إلى سلطان رجل
من القبط يقال له: عزارة، فمر بعاشر له فاعترضه العاشر ليعشر ما معه، فلما انتهى
إلى العاشر ومعه التابوت قال
العاشر لإبراهيم (عليه
السلام): إفتح هذا التابوت لنعشر ما فيه، فقال له إبراهيم (عليه السلام): قل ما شئت فيه من ذهب أو فضة حتى نعطي عشره ولا نفتحه. فأبى
العاشر إلا فتحه، وغضب إبراهيم (عليه السلام)
على فتحه. فلما بدت له سارة -
وكانت موصوفة بالحسن والجمال -
قال له العاشر: ما هذه المرأة منك ؟ قال إبراهيم (عليه
السلام): هي حرمتي وابنة
خالتي. فقال له العاشر: فما دعاك إلى أن خبيتها في هذا التابوت ؟ فقال إبراهيم (عليه
السلام): الغيرة عليها أن
يراها أحد ! فقال
له العاشر: لست أدعك تبرح
حتى اعلم الملك حالها وحالك. فبعث رسولا إلى الملك
فأعلمه، فبعث الملك رسولا من قبله ليأتوه بالتابوت، فأتوا ليذهبوا به فقال لهم إبراهيم (عليه السلام): إني لست افارق التابوت حتى يفارق روحي جسدي ! فاخبروا الملك بذلك،
فأرسل الملك: أن احملوه والتابوت معه. فحملوا إبراهيم (عليه السلام)
والتابوت وجميع ما كان معه حتى ادخل على الملك، فقال له الملك: افتح التابوت ! فقال له إبراهيم (عليه السلام):
أيها الملك إن فيه حرمتي وابنة خالتي وأنا مفتد فتحه بجميع ما معي. فغصب الملك إبراهيم (عليه السلام) على فتحه، فلما رأى سارة لم يملك حلمه سفهه أن مد يده إليها،
فأعرض إبراهيم
(عليه السلام)
وجهه عنها وعنه - غيرة
منه - وقال: اللهم احبس
يده عن حرمتي وابنة خالتي ! فلم تصل يده إليها ولم ترجع إليه ! فقال له الملك: إن إلهك هو الذي فعل بي هذا ؟ فقال له: نعم إن إلهي غيور يكره
الحرام، وهو الذي حال بينك وبين ما أردته من الحرام. فقال له الملك:
فادع إلهك يرد علي يدي، فإن أجابك فلن أعرض لها. فقال إبراهيم (عليه
السلام): إلهي رد إليه يده ليكف عن حرمتي، قال: فرد الله عز وجل إليه يده. فأقبل الملك نحوه ببصره ثم عاد بيده نحوها فأعرض إبراهيم عنه بوجهه
غيرة منه، وقال: اللهم احبس يده عنها. قال: فيبست يده ولم تصل إليها. فقال الملك لإبراهيم (عليه
السلام): إن إلهك لغيور، وإنك لغيور، فادع إلهك يرد إلي يدي، فإنه إن فعل
لم أعد ! فقال إبراهيم (عليه
السلام): أسأله ذلك على
أنك إن عدت لم تسألني أن أسأله ! فقال له الملك: نعم، فقال إبراهيم: نعم. فقال إبراهيم (عليه السلام): اللهم إن كان صادقا فرد يده عليه. فرجعت إليه يده. فلما رأى ذلك
الملك من الغيرة ما رأى، ورأى الآية في يده، عظم إبراهيم (عليه السلام) وهابه
وأكرمه واتقاه، وقال له: قد أمنت من أن أعرض لها أو لشئ مما معك فانطلق حيث شئت،
ولكن لي إليك حاجة ! فقال إبراهيم (عليه
السلام): ما هي ؟ فقال له: احب أن تأذن لي أن اخدمها قبطية عندي جميلة
عاقلة تكون لها خادما، فأذن إبراهيم (عليه السلام) فدعا بها فوهبها لسارة، وهى
هاجر ام إسماعيل (عليه
السلام). فسار إبراهيم (عليه السلام) بجميع ما معه،
وخرج الملك معه يمشي خلف إبراهيم (عليه السلام) إعظاما لإبراهيم وهيبة له، فأوحى الله تبارك وتعالى إلى إبراهيم (عليه السلام):
أن قف ولا تمش قدام الجبار المتسلط وهو يمشي خلفك، ولكن اجعله أمامك وامش خلفه
وعظمه وهبه فإنه مسلط، ولا بد من إمرة في الأرض برة أو فاجرة ! فوقف إبراهيم
(عليه السلام) وقال
للملك: امض، فإن إلهي أوحى إلي الساعة: أن اعظمك وأهابك، وأن اقدمك أمامي وأمشي
خلفك إجلالا لك ! فقال له الملك: أوحى إليك بهذا ؟ فقال إبراهيم (عليه السلام): نعم. فقال له الملك: أشهد أن إلهك لرفيق حليم كريم، وانك ترغبني
في دينك ! وودعه الملك. فسار إبراهيم (عليه السلام) حتى
نزل بأعلى الشامات وقد خلف لوطا (عليه السلام)
في أدنى الشامات. ثم إن إبراهيم (عليه السلام)
لما أبطأ عليه الولد قال لسارة: لو شئت لبعتني هاجر لعل الله أن يرزقنا منها ولدا
فيكون لنا خلفا ؟ ! فابتاع إبراهيم (عليه السلام)
هاجر من سارة فتزوج بها، فولدت إسماعيل (عليه السلام)
(روضة الكافي: 304 - 306 ط النجف الأشرف، وانظر تفسير القمي 1: 206،
207 ط النجف الأشرف.). وروى علي بن إبراهيم
القمي في تفسيره عن أبيه
عن هشام عن أبي عبد الله
الصادق (عليه السلام) قال:
إن إبراهيم (عليه السلام) كان نازلا في بادية الشام، فلما ولد له من هاجر إسماعيل اغتمت سارة
من ذلك غما شديدا لأنه لم يكن له منها ولد، فكانت تؤذي إبراهيم في هاجر وتغمه،
فشكى إبراهيم ذلك إلى الله عز وجل، فأوحى الله إليه، إنما مثل المرأة مثل الضلع
الأعوج، إن تركتها استمتعت بها وإن أقمتها كسرتها. |
موضع
البيت
|
ثم أمره أن يخرج إسماعيل وامه، فقال: يا رب إلى أي مكان ؟ قال: إلى حرمي وأمني وأول بقعة خلقتها من
الأرض وهي مكة. فأنزل الله عليه جبرئيل بالبراق فحمل هاجر وإسماعيل. وكان إبراهيم
لا يمر بموضع حسن فيه شجر ونخل وزرع إلا قال: يا جبرئيل إلى ها هنا ؟ إلى ها هنا
؟ فيقول: لا، امض، امض، حتى أتى مكة، فوضعه في موضع البيت. وقد كان إبراهيم (عليه السلام) عاهد سارة: أن لا ينزل حتى يرجع إليها، فلما نزلوا في ذلك المكان كان فيه
شجرة، فألقت هاجر على ذلك الشجر كساء كان معها فاستظلوا تحته، فلما سترهم ووضعهم
وأراد الانصراف منهم إلى سارة قالت له هاجر: يا إبراهيم لم تدعنا في موضع ليس
فيه أنيس ولا ماء ولا زرع ؟ ! فقال إبراهيم: الله الذي
أمرني أن أضعكم في هذا المكان حاضر عليكم. ثم انصرف عنهم فلما بلغ كداء - وهو
جبل بذي طوى - التفت إليهم إبراهيم فقال: * (ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير
ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم
وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون) * (ابراهيم: 37.) ثم مضى وبقيت هاجر.
فلما ارتفع النهار عطش
إسماعيل وطلب الماء، فقامت
هاجر في الوادي في موضع المسعى ونادت: هل في الوادي من أنيس ؟ ! فغاب عنها
إسماعيل، فصعدت على الصفا ولمع لها السراب في الوادي وظنت أنه ماء وسعت، فلما
بلغت المسعى غاب عنها، ثم لمع لها السراب في ناحية الصفا فعادت حتى بلغت الصفا،
حتى فعلت ذلك سبع مرات، فلما كان في الشوط السابع وهي على المروة نظرت إلى
إسماعيل وقد ظهر الماء من تحت رجله، فعادت حتى جمعت حوله رملا فزمته بما جعلته
حوله فلذلك سميت زمزم. وكانت جرهم نازلة بذي
المجاز وعرفات، فلما ظهر الماء بمكة عكفت الطير والوحش على الماء فنظرت جرهم إلى
تعكف الطير على ذلك المكان فاتبعوها حتى نظروا إلى امرأة وصبي في ذلك الموضع قد
استظلوا بشجرة، وقد ظهر الماء لهما. فقالوا لهاجر: من أنت وما شأنك وشأن هذا
الصبي ؟ فقالت: أنا ام ولد إبراهيم خليل الرحمن وهذا ابنه، أمره الله أن ينزلنا
ها هنا. فقالوا لها: أيتها المباركة أفتأذني لنا أن نكون بالقرب منكما ؟ فلما زارهم إبراهيم (عليه السلام) في اليوم الثالث قالت هاجر: يا خليل الله إن ها هنا قوما من جرهم يسألونك أن تأذن لهم حتى
يكونوا بالقرب منا، أفتأذن لهم في ذلك ؟ فقال إبراهيم: نعم. فأذنت، فنزلوا
بالقرب منهم وضربوا خيامهم، فأنست هاجر ام إسماعيل بهم. فلما زارهم إبراهيم في المرة الثالثة
نظر إلى كثرة الناس حولهم فسر بهم سرورا شديدا.
وكانت جرهم قد وهبوا لإسماعيل كل واحد منهم شاة وشاتين فكانت هاجر وإسماعيل
يعيشان بها. فلما بلغ إسماعيل مبلغ الرجال أمر الله
إبراهيم (عليه السلام) أن يبني البيت،
فقال: يا رب في أي بقعة ؟ قال: في البقعة التي أنزلت على آدم القبة فأضاء لها
الحرم فلم تزل البقعة التي أنزلتها على آدم قائمة حتى كان طوفان نوح فلما غرقت
الدنيا رفعت تلك القبة وغرقت الدنيا إلا موضع البيت. فبعث الله جبرئيل (عليه
السلام) فخط له موضع البيت، وأنزل الله عليه القواعد من الجنة، ونقل إسماعيل
الحجر من ذي طوى، وبنى إبراهيم البيت فرفعه إلى السماء تسعة إذرع. وكان الحجر
الذي أنزله الله على آدم أشد بياضا من الثلج، فاستخرجه إبراهيم (عليه السلام)
ووضعه في موضعه الذي هو فيه. وجعل له بابين: بابا إلى المشرق وبابا إلى المغرب
يسمى المستجار، ثم ألقى عليه الشجر والاذخر (الاذخر:
نبات طيب الرائحة.) وعلقت هاجر إلى بابه
كساء كان معها فكانوا يكنون تحته. فلما بناه وفرغ منه نزل عليهما
جبرئيل (عليه السلام) يوم التروية لثمان مضين من ذي الحجة فقال: يا إبراهيم قم فارتو من
الماء. لأنه لم يكن بمنى وعرفات ماء، فسميت التروية لذلك، ثم أخرجه إلى منى فبات
بها، ففعل به ما فعل بآدم (عليه السلام) (تفسير القمي 1: 60 - 62.). وروى علي بن إبراهيم القمي أيضا عن أبيه عن
معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: إن إبراهيم (عليه السلام) أتاه جبرئيل عند زوال الشمس من يوم التروية فقال: يا
إبراهيم ارتو من الماء لك ولأهلك -
ولم يكن بين مكة وعرفات ماء - فسميت التروية
بذلك. فذهب به حتى انتهى به إلى منى فصلى به الظهر والعصر والعشائين والفجر، حتى
إذا بزغت الشمس خرج إلى عرفات فنزل بنمرة، وهي بطن عرفة. فلما زالت الشمس خرج
واغتسل فصلى الظهر والعصر بأذان واحد وإقامتين، وصلى في موضع المسجد الذي بعرفات - وقد كانت ثمة أحجار بيض فادخلت في المسجد الذي بني - ثم مضى به إلى الموقف فقال: يا إبراهيم اعترف بذنبك، واعرف
مناسكك. ولذلك سميت عرفة. فأقام به حتى غربت الشمس، ثم أفاض به فقال: يا إبراهيم
ازدلف إلى المشعر الحرام - فسميت المزدلفة - وأتى به المشعر الحرام، فصلى به المغرب والعشاء الآخرة بأذان واحد
وإقامتين، ثم بات بها فرأى في النوم أنه يذبح ابنه... حتى إذا صلى بها صلاة
الصبح أراه الموقف. ثم أفاض إلى منى فأمره فرمى جمرة
العقبة عندما ظهر له إبليس لعنه الله، وأمر أهله فسارت إلى البيت، واحتبس
الغلام، فانطلق به إلى موضع الجمرة الوسطى، فاستشار ابنه وقال - كما حكى الله * (يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى) * فقال الغلام - كما حكى
الله * (يا أبت افعل ما تؤمر
ستجدني إن شاء الله من الصابرين) *
(الصافات: 102.). وأقبل
شيخ فقال: يا إبراهيم ما تريد من هذا الغلام ؟
قال: اريد أن أذبحه ! فقال: سبحان الله ! تذبح غلاما لم يعص الله طرفة عين ! فقال له إبراهيم: ويلك إن الذي بلغني هذا المبلغ
هو الذي أمرني به ! فقال: لا والله ما أمرك بهذا إلا الشيطان ! فقال إبراهيم: لا والله لا
اكلمك، ثم عزم إبراهيم على الذبح. فقال: يا إبراهيم إنك إمام يقتدى بك، وإنك إن
ذبحته ذبح الناس أولادهم ! فلم يكلمه. وأقبل إلى الغلام فاستشاره في الذبح، فقال
الغلام كما حكى الله: امض كما أمرك الله به، فلما أسلما جميعا لأمر الله قال
الغلام: يا أبت خمر (خمر:
استره بالخمار.) وجهي
وشد وثاقي ! فقال إبراهيم: يا بني ! الوثاق مع الذبح ؟ لا والله لا أجمعهما عليك اليوم، فرمى له
بقرطان الحمار (قرطان
الحمار: ما يجعل على ظهره من الجل والقماش.) ثم أضجعه عليه وأخذ المدية فوضعها على حلقه، ورفع رأسه إلى
السماء ثم انتحى عليه بالمدية فقلب جبرئيل المدية على قفاها وأثار الغلام من
تحته، واجتر الكبش من قبل ثبير الجبل الذي عن يمين مسجد منى وكان أملح أغبر أقرن
يمشي في سواد ويأكل في سواد، فوضعه مكان الغلام، ونودي من (قبل) مسجد الخيف * (أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين إن هذا
لهو البلاء المبين) * (الصافات:
104 - 106.). ولحق ابليس بام الغلام
بحذاء البيت في وسط الوادي فقال لها: رأيت شيخا ومعه وصيف قد أضجعه الشيخ وأخذ
المدية ليذبحه ! فقالت: كذبت، إن إبراهيم أرحم الناس، كيف يذبح ابنه ! قال: فورب السماء والأرض ورب هذا البيت، لقد رأيته أضجعه وأخذ
المدية ! فقالت: ولم ؟ قال: زعم أن ربه أمره بذلك. فوقع في نفسها أنه قد امر
في ابنها بأمر، فقالت: فحق له أن يطيع ربه. ولما قضت مناسكها أسرعت في الوادي
راجعة إلى منى. (تفسير القمي 2: 224 - 226.). وما جاء في خبر علي بن
إبراهيم القمي عن الإمام الصادق (عليه السلام): أن
الكعبة كانت قبل طوفان نوح قبة ضربها آدم (عليه السلام)
بموضع البيت، يؤيده
ما جاء في الخطبة المعروفة بالقاصعة للامام علي (عليه
السلام) انه قال: " ألا ترون أن الله سبحانه اختبر الأولين من لدن آدم - صلوات
الله عليه - وإلى الآخرين من هذا العالم، بأحجار لا تضر ولا تنفع ولا تبصر ولا
تسمع، فجعلها بيته الحرام الذي جعله للناس قياما. ثم وضعه بأوعر بقاع الأرض حجرا
وأقل نتائق الدنيا مدرا، وأضيق بطون الأودية قطرا، بين جبال خشنة ورمال دمثة،
وعيون وشلة وقرى منقطعة، لا يزكو بها خف ولا حافر ولا ظلف. ثم امر آدم وولده: أن
يثنوا اعطافهم نحوه، فصار مثابة لمنتجع اسفارهم وغاية لملتقى رحالهم، تهوى إليه
الأفئدة من مفاوز سحيقة.. " (نهج
البلاغة، الخطبة: 192، صبحي الصالح.). ولعل هذا هو معنى قوله تعالى * (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا
انك أنت السميع العليم ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا امة مسلمة لك وأرنا
مناسكنا وتب علينا انك أنت التواب الرحيم) * (البقرة: 127 و 128.) فان رفع القواعد يفيد انها
كانت قد وضعت قبل ذلك وإن إبراهيم هو الذي رفعها وشيد على أساسها وإن لم تكن
بقيت بعد طوفان نوح، حيث قرأنا في الخبر عن الإمام الصادق (عليه السلام) أن
جبرئيل هو الذي دل إبراهيم (عليه السلام) على موضع البيت. وحيث لاحظ إبراهيم (عليه السلام) أن البيت قد وضع في بقعة يصعب
فيها الحياة قال: * (ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم
ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم
يشكرون) * (إبراهيم: 37.).
واستجيبت دعوته فاصبحت الكعبة قبلة المسلمين ومهوى افئدة المؤمنين. |
شبه
الجزيرة العربية مهد الحضارة الإسلامية:
|
هي شبه جزيرة كبيرة تقع في جهة الجنوب الغربي من آسيا، تقدر
مساحتها بثلاثة ملايين كيلومتر مربع، وهذا يعني أنها اكبر من مساحة إيران مرتين،
واكبر من فرنسا ست مرات، وأكبر من إيطاليا عشر مرات، وأكبر من سويسرا ثمانين
مرة. وهي شبه جزيرة مستطيلة غير متوازية الأضلاع تحدها من شمالها الشام
وفلسطين، ومن شرقها أرض الرافدين من الكوفة إلى البصرة ثم خليج فارس - كما كان
يسمى - ومن جنوبها خليج عدن والمحيط الهندي، ومن غربها البحر الاحمر. فهي محصورة
من جنوبها وغربها وقسم من مشرقها بالبحار وفي قسم آخر من مشرقها وشمالها ببادية
الشام أو الاردن والعراق |
وقد
قسموها قديما إلى ثلاثة اقسام:
|
1 - القسم الشمالي والغربي وهو الحجاز. 2 - القسم الشرقي
والمركزي وهو المسمى بالصحراء العربية. 3 - القسم الجنوبي وهو
اليمن. وفي شبه الجزيرة صحاري رملية حارة واسعة غير قابلة للسكنى كثيرة
منها: صحراء النفوذ، والربع الخالي الذي يمتد حتى حواشي الخليج الفارسي. وقديما
كان يسمى قسم منه بصحراء الدهناء والقسم الآخر بالأحقاف. وهذه الصحاري تشكل اكثر من ثلث الجزيرة غير المسكون بلا ماء ولا
كلأ إلا ما قد يوجد فيها من
آثار الامطار فيرعى حولها بعض العرب ابلهم لفترة غير طويلة. والجو فيها حار جدا،
وجاف كذلك إلا في بعض السواحل، وبعض النقاط المعتدلة نسبيا. ولذلك لا يتجاوز عدد
نفوسها بمجموعها عن عشرين مليونا تقريبا. وكانت جبال اليمن قديما تحتوي على الاحجار الكريمة وشئ من الذهب
والفضة، وغالبا ما كانوا
يكتفون من تربية الحيوانات بالابل والخيل، ومن الطيور كان اكثر ما عندهم النعام
والحمام. وفي الجزيرة جبال تمتد من الجنوب إلى الشمال آخر حد لارتفاعها 2470
مترا. |
ونشرح
هذه الاقسام الثلاثة من الجزيرة فيما يلي:
|
1 - أما الحجاز، وهو القسم الشمالي والغربي للجزيرة، فهو يمتد من الاردن إلى اليمن في سواحل البحر الاحمر، وهي اراضي
جبلية صخرية تتخللها صحاري قاحلة. ولهذه المنطقة ذكر في التأريخ اكثر من غيرها وذلك لاشتمالها على
الكعبة المعظمة. |
الكعبة
المعظمة ومكة المكرمة: "
|
وقد كانت الكعبة مقدسة معظمة عند الامم المختلفة: فكان الهنود
يعظمونها ويقولون: إن روح سيفا - وهو الاقنوم الثالث عندهم - حلت في الحجر
الاسود حين زار مع زوجته بلاد الحجاز. وكانت الصابئة من الفرس
والكلدانيين يعدونها احد
البيوت السبعة المعظمة، وربما قيل: إنه بيت زحل عندهم لقدم عهده وطول بقائه.
وكان سائر الفرس يحرمونها أيضا زاعمين أن روح هرمز قد حل فيها، وربما حجوا إليها
زائرين. وكان اليهود يعظمونها ويعبدون الله فيها على دين إبراهيم، وكان بها صور وتماثيل، منها
تمثال إبراهيم وإسماعيل وبايديهما الازلام، ومنها صورة المسيح وامه، وهذا يشهد
بتعظيم النصارى لها أيضا. وكان العرب يعظمونها أيضا كل التعظيم ويحجون إليها على انها بيت الله بناها إبراهيم " (الميزان
3: 361، 362.). |
مدينة
مكة
|
ومدينة مكة من اشهر مدن العالم، واكثر مدن الحجاز نفوسا. وهي ترتفع عن سطح البحر 300 مترا تقريبا.
عدد نفوسها اليوم 150 الفا تقريبا. وتربتها غير زراعية. وللحجاز ميناءان على
البحر الاحمر: احدهما: جدة (جدة:
بكسر الجيم، بمعنى الصخور الساحلية. وفيها قبر بطول سبعة أمتار خمسة عشر ذراعا
منسوب إلى حواء ام البشر، قيل: ولذلك سميت جدة - بفتح الجيم - أي مرقد جدة البشر ! ولا يصح.)،
وهي ميناء مكة والاخرى:
ينبع، وهي كانت ميناء أهل
المدينة المنورة سابقا، واليوم اصبحت جدة هي الميناء الرئيسي في الحجاز. وفي
الحجاز من المدن المهمة بعد مكة: المدينة، والطائف. |
المدينة
المنورة:
|
المدينة المنورة: وهي تقع في شمال مكة على بعد خمسمائة كيلومتر تقريبا. وفي حواليها
نخيل وبعض البساتين لصلاح تربتها للزراعة نسبيا. وكان اسمها قبل الإسلام يثرب،
وبعد هجرة الرسول (صلى الله عليه وآله) إليها سميت: مدينة الرسول، وحذف المضاف
إليه تخفيفا فقيل: المدينة. ويقال: إن
العمالقة أول من سكنوا المدينة أو يثرب، وظلوا بها حتى نزلها اليهود في القرن
الثاني الميلادي على اثر اضطهاد الرومان لهم في فلسطين، والمظنون أنهم هاجروا من
موطنهم الأصلي في فلسطين إلى الجزيرة على إثر ضغوط القيصر نينوس عليهم وهدمه
لهيكلهم سنة 70 م وكذلك اصطدام القيصر هوريان بهم سنة 132 م ففي هذه الأثناء فر
كثير منهم إلى الحجاز (راجع: الجزء السادس من تأريخ العرب قبل الإسلام، لجواد علي.). ونرى أن الحجاز منطقة جرداء تقريبا لا تصلح للزراعة والعمل، فهي لا
تصلح للسكنى والحياة... وهذا قد جعل المنطقة في مأمن من فرض السيطرة عليها من
قبل الدولتين العظميين آنذاك: الروم والفرس، ولذلك لا نرى لهم أي أثر فيها، إذ
لم يكن لهم أي مغنم في تجهيز الجيوش إليها، فهم ان فعلوا ذلك كان عليهم أن
يرجعوا عنها خائبين خاسرين. وقد نقل بعض المؤرخين اليونانيين: أن القائد اليوناني الكبير: دمريوس، عزم على تسخير الجزيرة حتى وصل
إلى قرية: پترا - ولعلها ماء بدر - فقال له أهلها: أيها القائد اليوناني ! لماذا
تحاربنا ؟ فنحن نعيش في صحاري ليس فيها أي شئ للعيش، وقد اخترنا هذه الصحارى
القاحلة الجرداء كي لا نذعن لأمر احد، فاقبل هدايانا وانصرف عنا. والا فنحن
نعلمك أنك ستصاب بمصائب عظيمة ومشاكل كثيرة: واعلم أن أحدنا لا ينفك عما هو عليه
من الخلق والعادة، فلو تقدمت فينا وأسرت منا اناسا تريد أن تذهب بهم فإنك لن ترى
نفعا فيهم فإنهم سوف يقابلونكم بسوء الأعمال والنيات لا يغيرون شيئا مما هم عليه
! فقبل القائد اليوناني هداياهم وانصرف عن تسخير الجزيرة (بالفارسية، تمدن اسلام وعرب: 94.). |
2
- القسم المركزي والشرقي من الجزيرة يسمى الصحراء العربية وفيها صحراء النجد
|
2 - القسم المركزي والشرقي من الجزيرة يسمى الصحراء العربية
وفيها صحراء النجد، وهي
أراضي مرتفعة نسبيا وفيها قرى عامرة كذلك، منها " الرياض " التي أصبحت
في سلطة آل سعود عاصمة لهم، وهي الآن مدينة كبيرة. |
3
- القسم الجنوبي الغربي للجزيرة يسمى: اليمن،
|
3 - القسم الجنوبي الغربي للجزيرة يسمى: اليمن، طولها من الشمال إلى الجنوب يقرب من سبعمائة وخمسين كيلومتر، ومن
الغرب إلى الشرق يقرب من اربعمائة كيلومتر، وتقرب مساحتها من ستين ألف ميل مربع،
في جنوبها مدينة: عدن، وهي اكبر مدن اليمن، ويحدها من الشمال صحراء نجد ومن
المشرق صحراء الربع الخالي، ومن المغرب البحر الاحمر، وأكبر موانئها ميناء:
الحديدة. واليمن هي اخصب نقاط الجزيرة واكثرها بركة ونعمة، ولها تأريخ
حضاري عظيم، فهي مملكة التبابعة الذين حكموها سنين طويلة. وكانت المركز التجاري
المهم ومفترق الطرق، وبها الاحجار الكريمة والذهب والفضة. وبها آثار حضارية ما
زالت باقية حتى اليوم. وهذا
يعني أن عرب اليمن كانوا قد بنوا هذه الاثار المهمة بهممهم العالية في عهد لم
تتوفر فيه الامكانات لهذه الاعمال الضخمة. وكانوا قد تقدموا في الزراعة والري
إلى حد تقرير البرامج المقررة والمنفذة حكوميا بدقة. فمن آثارهم التاريخية
ذلك السد المعروف بسد مأرب،
والذي ما زالت آثاره باقية، وهو الذي تهدم بالسيل الذي اطلق عليه القرآن الكريم
قوله سبحانه * (فأرسلنا عليهم سيل العرم) * وذلك حيث قال تعالى * (لقد
كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة
طيبة ورب غفور فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي
اكل خمط وأثل وشئ من سدر قليل ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور
وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة وقدرنا فيها السير سيروا
فيها ليالي وأياما آمنين فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم فجعلناهم
أحاديث ومزقناهم كل ممزق إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور ولقد صدق عليهم ابليس
ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين) (سبأ:
15 - 20.) وفي سورة قريش إشارة إلى تجارتهم في الصيف إلى اليمن * (لإيلاف
قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع
وآمنهم من خوف) * (قريش:
1 - 4.). يقول جرجي زيدان: " إن الآثار التي ظهرت من الحفريات الاثرية للمستشرقين تدل
على الحضارة الراقية في اليمن من سد مارب وفي صنعاء، ومدينة بلقيس. وكانت في
مدينة مأرب (وهي مدينة سبأ) قصور عالية قد زينت ابوابها وسقوفها بالذهب، ووجد بها أوان من
الذهب والفضة، وسرر معدنية كثيرة " (بالفارسية:
تمدن اسلام وعرب: 96.). وروى الشيخ الطبرسي عن فروة بن مسيك قال: سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن سبأ أرجل هو أم امرأة ؟
فقال هو رجل من العرب ولد عشرة، تيامن منهم ستة وتشاءم اربعة، فأما الذين
تيامنوا فالازد وكندة ومذحج والأشعريون وأنمار وحمير. فقال رجل من القوم: ما
أنمار ؟ قال: الذين منهم خثعم وبجيلة، وأما الذين تشاءموا فعاملة وجذام ولخم
وغسان (مجمع البيان 8: 604، طبعة بيروت.). وفي " الكافي
" باسناده عن سدير: قال:
سأل رجل أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: * (قالوا
ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم) * الآية،
فقال: هؤلاء قوم كانت لهم قرى متصلة ينظر بعضهم إلى بعض، وأنهار جارية، وأموال
ظاهرة، فكفروا نعم الله عز وجل وغيروا مابأنفسهم من عافية الله فغير الله ما بهم
من نعمة، * (إن الله لا يغير
ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) * (الرعد:
11.) فأرسل الله عليهم سيل
العرم، فغرق قراهم وخرب ديارهم وذهب بأموالهم وأبدلهم مكان جنانهم * (جنتين
ذواتي اكل خمط وأثل وشئ من سدر قليل) * ثم قال: * (ذلك جزيناهم بما كفروا وهل
نجازي إلا الكفور) * (الميزان 16: 324.). وقوم سبأ من العرب
العاربة باليمن، سموا
باسم أبيهم سبأ بن يشجب ابن
يعرب بن قحطان، كما
نقل رواة التأريخ. |
العرب
قبل الإسلام:
|
أ
- العرب البائدة:
|
أ - العرب البائدة: لا ريب في أن جزيرة العرب كانت موطن قبائل كثيرة من العرب منذ
القدم، وقد باد بعضهم على اثر حوادث خاصة سماوية وارضية، وذلك لاعراضهم عن ذكر
الله كما قال تعالى في قوم سبأ: * (فأعرضوا
فأرسلنا عليهم سيل العرم... ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور...
وظلموا أنفسهم فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق... ولقد صدق عليهم ابليس ظنه
فاتبعوه) * (سبأ: 16 - 20.) ولذلك سمي هولاء بالبائدة. ولعل منهم قوم عاد المعاد ذكرهم في القرآن الكريم أكثر من عشرين مرة وقوم ثمود
المكرر ذكرهم في القرآن الكريم
اكثر من خمس وعشرين مرة. |
ب
- عاد قوم هود (عليه السلام):
|
ب - عاد قوم هود (عليه السلام): أما عاد فإنهم قوم من العرب من بشر ما قبل التأريخ كانوا يسكنون
الجزيرة انقطعت أخبارهم وانمحت آثارهم، ولا يحفظ التأريخ من حياتهم إلا أقاصيص
لا يطمأن إليها، وليس في التوراة الموجودة ذكر لهم. والذي يذكره القرآن الكريم من قصتهم هو: أن عادا كانوا يسكنون وادي أو صحراء الأحقاف (الأحقاف: 21.) وهو
واد بين عمان وأرض مهرة إلى حضرموت والأحقاف هي الرمال الملتوية. وأنهم من ذرية
من حملهم الله مع نوح (عليه السلام) وكانوا ذوي خلقة قوية عظيمة وطوالا (الأعراف:
69، والسجدة: 15، والشعراء: 130.) وكان لهم تقدم ورقي في
المدنية والحضارة، ولهم بلاد عامرة وأرض خصبة ذات جنات ونخيل وزروع ومقام كريم
وبعث الله فيهم أخاهم هودا يدعوهم إلى الحق ويرشدهم إلى أن يعبدوا الله ويرفضوا
عبادة الاوثان ويعملوا بالعدل والرحمة (الشعراء:
130.)، فبالغ في وعظهم وبث النصيحة فيهم وأنار الطريق وأوضح السبيل،
وقطع عليهم العذر، فقابلوه بالاباء والامتناع، وواجهوه بالجحد والانكار، ولم
يؤمن به إلا شرذمة منهم قليلون، وأصر جمهورهم على البغي والعناد، ورموه بالسفه
والجنون، والحوا عليه بان ينزل عليهم العذاب الذي كان ينذرهم ويتوعدهم به، فأرسل
الله عليهم العذاب وأرسل إليهم الريح العقيم ما تذر من شئ أتت عليه الا جعلته
كالرميم (الذاريات: 43.) كانت تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر (القمر:
20.)، ريحا صرصرا في أيام نحسات سبع ليال وثمانية أيام حسوما فترى
القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية (الحاقة:
7.) تدمر كل شئ بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم (الأحقاف:
25.). فأهلكهم الله جميعا إلا هودا والذين آمنوا معه (هود: 58.) ولعله
لهذا يسمى عادا المهلكة بعاد الاولى، والثانية هي الباقية منهم (النجم:
5.). |
ج
- ثمود قوم صالح (عليه السلام):
|
ج - ثمود قوم صالح (عليه السلام): وأما ثمود فهم قوم من العرب العاربة كانوا يسكنون وادي القرى بين
المدينة والشام، وهم من بشر ما قبل التأريخ أيضا لا يضبط التأريخ إلا شيئا يسيرا
من أخبارهم، ولقد عفت الدهور آثارهم، ولا اعتماد على ما يذكر من جزئيات قصصهم. والذي يقصه كتاب الله من أخبارهم هو: أنهم كانوا امة من العرب يدل
عليه اسم نبيهم صالح (عليه السلام) وهو منهم (هود: 61.)
جاءوا بعد قوم عاد، وكانت لهم حضارة ومدنية، يعمرون الارض ويتخذون من سهولها
قصورا ويتخذون من الجبال بيوتا آمنين (الأعراف:
74.)، ويفجرون العيون ويحرثون ويغرسون جنات النخيل (الشعراء:
148.)، وكان في مدينتهم شعوب وقبائل يتحكم فيهم شيوخهم وسادتهم، وفيهم
تسعة رهط يفسدون في الارض ولا يصلحون (النمل:
48.) فلما أسرفوا في أمرهم أرسل الله إليهم صالحا النبي (عليه السلام)،
وكان من بيت الشرف والفخار معروفا بالعقل والكفاءة (هود: 62،
والنمل: 49.) فدعاهم إلى توحيد الله سبحانه وأن يتركوا عبادة الاصنام وأن
يسيروا في مجتمعهم بالعدل والاحسان وأن لا يطغوا ولايسرفوا (هود
والشمس.) فقام بالدعوة إلى دين الله بالحكمة والموعظة الحسنة وصبر على
الأذى في جنب الله، فلم يؤمن به إلا جماعة قليلة من الضعفاء (الاعراف:
75.). أما الطغاة والمستكبرون وعامة من تبعهم فقد اصروا على كفرهم
واستذلوا الذين آمنوا به ورموه بالسفاهة والسحر (الاعراف:
66، والشعراء: 153، والنمل: 47.)
وطلبوا منه البينة على كلامه وسألوه آية معجزة تدل على صدقه في دعوى الرسالة،
واقترحوا له أن يخرج لهم من صخر الجبل ناقة، فأتاهم بناقة على ما وصفوها له،
وقال لهم: إن الله يأمركم أن تشربوا من عين مائكم يوما وتكفوا عنها يوما فتشربها
الناقة، فلها شرب يوم ولكم شرب يوم معلوم، وأن تذروها تأكل في أرض الله ولا
تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب (الاعراف:
72، والشعراء: 156، وهود: 64.) وكان الأمر على ذلك حينا. ثم إنهم مكروا وطغوا وبعثوا أشقاهم لقتل
الناقة فعقرها. وقالوا لصالح: إئتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين. قال صالح
(عليه السلام): تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب (هود: 65.). ثم مكرت شعوب المدينة وأرهاطها بصالح * (تقاسموا
بالله لنبيتنه وأهله ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون) * (النمل: 49.) * (فأخذتهم
الصاعقة وهم ينظرون) * (الذاريات:
44.) * (فأصبحوا
في دارهم جاثمين) * (الأعراف:
78.) * (وأنجينا
الذين آمنوا وكانوا يتقون)
* (النمل: 53.). وفي " الكافي
" بسنده عن أبي بصير قال:
قلت لأبي عبد الله الصادق (عليه
السلام): * (كذبت
ثمود بالنذر فقالوا أبشرا منا واحدا نتبعه إنا إذا لفي ضلال وسعر) * (القمر:
23، 24.). قال: بعث الله إليهم صالحا فلم يجيبوه وعتوا عليه وكانت صخرة
يعظمونها ويعبدونها ويذبحون عندها في رأس كل سنة ويجتمعون عندها. فقالوا: إن كنت
تزعم نبيا رسولا فادع لنا إلهك حتى يخرج لنا من هذه الصخرة الصماء ناقة عشراء
(أي ذات حمل في الشهر العاشر) فأخرجها
الله كما طلبوا منه (و) أوحى الله تبارك وتعالى إليه: أن يا صالح قل لهم: إن الله قد جعل لهذه الناقة شرب يوم ولكم شرب
يوم. فكانت الناقة إذا كان يومها شربت الماء ذلك اليوم، فيحبسونها فلا
يبقى صغير ولا كبير إلا شرب من لبنها يومهم ذلك، فإذا كان الليل وأصبحوا غدوا
إلى مائهم فشربوا منه ذلك اليوم ولم تشرب الناقة ذلك اليوم فمكثوا بذلك ما شاء
الله. ثم إنهم عتوا على الله ومشى بعضهم إلى بعض قال: اعقروا هذه
الناقة واستريحوا منها، لا نرضى أن يكون لنا شرب يوم ولها شرب يوم. ثم قالوا: من الذي يلي قتلها ونجعل له جعلا ما أحب ؟ ! فجاءهم رجل أحمر أزرق
ولد زنا لا يعرف له أب، يقال له: قدار، شقي من الأشقياء مشؤم عليهم فجعلوا له
جعلا. فلما توجهت الناقة إلى الماء الذي كانت ترده تركها حتى شربت وأقبلت
راجعة فقعد لها في طريقها فضربها بالسيف فلم يعمل شيئا فضربها ضربة اخرى فقتلها،
وخرت على الأرض على جنبها وهرب فصيلها حتى صعد إلى الجبل، فرغا ثلاث مرات إلى
السماء وجاء قوم صالح فلم يبق منهم أحد إلا شركه في ضربته واقتسموا لحمها فيما
بينهم فلم يبق منهم صغير ولا كبير إلا أكل منها. فلما رأى صالح أقبل إليهم وقال: يا قوم ما دعاكم إلى ما صنعتم ؟ أعصيتم أمر ربكم ؟ فأوحى الله
تبارك وتعالى إلى صالح (عليه السلام): أن قومك قد طغوا وبغوا وقتلوا ناقة بعثها
الله إليهم حجة عليهم، ولم يكن لهم فيها ضرر، وكان لهم أعظم المنفعة، فقل لهم: إني مرسل إليهم عذابي إلى ثلاثة أيام فإن هم تابوا
قبلت توبتهم وصددت عنهم، وإن هم لم يتوبوا ولم يرجعوا بعثت إليهم عذابي في اليوم
الثالث. فأتاهم صالح وقال: يا قوم إني رسول ربكم إليكم وهو يقول لكم: إن تبتم ورجعتم
واستغفرتم غفرت لكم وتبت عليكم. فلما قال لهم ذلك كانوا أعتى وأخبث * (وقالوا يا صالح ائتنا بماتعدنا إن كنت من المرسلين) * (الأعراف:
77.) قال: يا قوم إنكم تصبحون غدا ووجوهكم مصفرة، واليوم الثاني
وجوهكم محمرة، واليوم الثالث وجوهكم مسودة. فلما كان أول يوم أصبحوا ووجوههم مصفرة فمشى بعضهم إلى بعض وقالوا قد جاءكم ما قال صالح. فقال العتاة
منهم: لا نسمع قول صالح ولا نقبل قوله وإن كان عظيما. فلما كان اليوم الثاني أصبحت وجوههم محمرة، فمشى بعضهم إلى بعض فقالوا: يا قوم قد جاءكم
ما قال لكم صالح فقال العتاة منهم: لو أهلكنا جميعا ما سمعنا قول صالح ولا تركنا
آلهتنا التي كان آباؤنا يعبدونها، ولم يتوبوا ولم يرجعوا، فلما كان اليوم الثالث أصبحوا ووجوههم مسودة فمشى بعضهم إلى بعض فقالوا يا قوم أتاكم ما
قال لكم صالح. فقال العتاة منهم:
قد أتانا ما قال لنا صالح. فلما كان نصف الليل أتاهم جبرئيل فصرخ بهم صرخة خرقت
أسماعهم وفلقت قلوبهم وصدعت أكبادهم، فماتوا جميعا في طرفة عين صغيرهم وكبيرهم،
ولم يبق لهم ناعقة ولا راغية ولا شئ إلا أهلكه الله، وأصبحوا في ديارهم ومضاجعهم
موتى، وأرسل الله إليهم مع الصيحة النار من السماء فأحرقهم أجمعين (الميزان
10: 314، 316.). |
2
- القحطانيون:
|
2 - القحطانيون: هم
ابناء يعرب بن قحطان الذين كانوا يسكنون اليمن وجنوب جزيرة العرب، ويسمون بالعرب
العاربة أيضا. واليمنيون اليوم بصورة عامة والأوس والخزرج هم من نسل قحطان. وقد سبق أن قوم سبأ أيضا
كانوا من نسل قحطان، وكانت لهم حكومات ومساع عمرانية وحضارية أثرية ولهم خط يسمى
بالخط المسند. وكل ما يقال عن حضارة العرب قبل الإسلام فإنما هو من هؤلاء في
اليمن. |
3
- العدنانيون:
|
3 - العدنانيون: وهم ابناء إسماعيل بن إبراهيم الخليل (عليه السلام) الذي قد تبين
لنا أنه امر بأن يذهب بابنه إسماعيل وامه هاجر إلى أرض مكة، فسار بهم إبراهيم
(عليه السلام) من أرض فلسطين إلى بطن واد منخفض بلا ماء ولا كلأ باسم مكة، فأجرى
الله لهم ماء زمزم. وكبر
إسماعيل فتزوج من قبيلة جرهم
الذين استأذنوا إبراهيم أن يسكنوا مكة فأذن لهم، فكان لإسماعيل نسل كثير، ومن
أحفاده عدنان، وقد تفرعت منه فروع عديدة أشهرها قبيلة قريش ومنهم بنو هاشم. |
أخلاق
العرب قبل الإسلام:
|
ونعني بالأخلاق هنا تلك الآداب الإجتماعية التي كانت رائجة بينهم
قبل الإسلام. وبصورة عامة نستطيع أن نلخص الخصال المحمودة العامة للعرب في بضعة
سطور فنقول: إن عرب الجاهلية - ولا سيما العرب المستعربة من نسل إسماعيل (عليه السلام) - كانوا
بالطبع أسخياء يكرمون من استضافهم، ولا يخونون أماناتهم إلا قليلا، ويرون نقض
العهد ذنبا لا يغتفر، وكانوا صريحين في أقوالهم، أقوياء في حفظهم، أقوياء في
فنون من الشعر والخطابة، يضرب بهم المثل في شجاعتهم وجرأتهم، مهرة في ركض الخيل
والرمي، يرون الفرار من الزحف عارا لا يغتسل. وفي مقابل هذه الصفات كانوا قد تلوثوا من مساوئ الأخلاق بما يذهب بكل كمال من هذه الخصال
ولولا أن تداركهم رحمة من ربهم بأن بعث فيهم رسولا من انفسهم يزكيهم ويعلمهم
الكتاب والحكمة، لما كنا نعايش اليوم نسلا من عدنان، بل كانوا قد التحقوا بالعرب
البائدة، وكانت تتجدد قصة اخرى عن هؤلاء البائدين. إن شيوع الجهل والخرافات والفساد فيهم كان قد قرب حياتهم من حياة الحيوانات، بحيث ينقل لنا التأريخ قصصا متعددة عن حروب امتدت خمسين سنة بل
مائة، ولم تبدأ إلا على مواضع
حقيرة لا يعبأ بها. إن عدم وجود حكومة متنفذة بينهم تضرب على أيدي الطغاة
والبغاة من ناحية، ومن ناحية اخرى سوء الوضع الجغرافي للجزيرة من حيث الماء
والكلأ، كانا عاملين جعلا أكثر العرب من البدو الرحل يجوبون الصحاري برواحلهم كل
عام سعيا وراء الماء والكلأ، وإذا رأوا أثرا منهما نصبوا خيامهم حولها، وإذا
علموا - أو أخبرهم رائدهم - بمكان أنفع مما هم فيه بدأوا الرحلة من جديد. إن الجهل والفقر وفقدان
النظام كان قد خيم على بيئة الجزيرة العربية بصورة ظاهرة بحيث أصبحت لهم تلك
العادات القبيحة امورا اعتيادية، فكثرت فيهم الغارات، واسر بعضهم، وتداول فيهم الربا والخمر
والميسر. انهم كانوا يثنون على المروة ويمجدون بالشجاعة، لكن مفهوم الشجاعة
لديهم كان عبارة عن قتل أكبر عدد ممكن وسفك الدماء أكثر فأكثر. وكذلك الغيرة
كانت لديهم بمعنى وأد البنات في القبور وهن أحياء. ويرون الوفاء ان ينصروا
عشيرتهم وحلفاءهم في كل شئ سواء كانوا على حق أم باطل. لا يسألون أخاهم حين يندبهم * في النائبات على ما قال
برهانا . |
هل
كانت للعرب حضارة قبل الإسلام ؟
|
لا شك أنه كانت هناك في جزيرة العرب بعض الحضارات، إلا أنها لم تكن في كل الجزيرة بل عدة نقاط منها، كحضارة قوم سبأ أصحاب سد مأرب في اليمن، فإنها حضارة لا تنكر، ففضلا عما ذكر عنها في التوراة الحاضرة وما نقل عن
" هرودوت " و " ارتميدور " المؤرخين اليونانيين قبل
الميلاد، نرى المؤرخ
الشهير المسعودي يقول في وصفها: " ذكر أصحاب التأريخ القديم: أن أرض سبأ كانت من أخصب أرض اليمن وأثراها وأغدقها، وأكثرها جنانا
وغيطانا وأفسحها مروجا، مع بنيان حسن وشجر مصفوف، ومساكب للماء متكاثفة وأنهار
متفرقة. وكانت مسيرة أكثر من شهر للراكب المجد على هذه الحالة، وفي العرض مثل
ذلك، وإن الراكب والمار كان يسير في تلك الجنان من أولها إلى أن ينتهي إلى آخرها
لا تواجهه الشمس ولا تعارضه لاستتار الأرض بالعمارة الشجرية. واستيلائها عليها
وإحاطتها بها. وكان أهلها في أطيب عيش وأرفهه، وأهنأ حال وأرغد قرى، وفي نهاية
الخصب وطيب الهواء وصفاء الفضاء وتدفق الماء، وقوة الشوكة واجتماع الكلمة ونهاية
المملكة، وكانت بلادهم في الأرض مثلا، وكانوا على طريقة حسنة من اتباع شريف
الأخلاق، وطلب الأفضال بحسب الإمكان وما توجبه القدرة من الحال، فمكثوا على ذلك
ما شاء الله من الأعصار، لا يعاندهم ملك إلا قصموه، ولا يوافيهم جبار في جيش إلا
كسروه، فذلت لهم البلاد، وأذعن لطاعتهم العباد، فصاروا تاج الأرض " (مروج
الذهب 2: 181.). إلا
أن وجود هذه المستندات لا تدلنا على حضارة تسود كل أقطار الجزيرة العربية، ولا سيما منطقة الحجاز التي لم تكن تتمتع بهذه الحضارة بل لم تشم
شيئا من نسيمها، وهذا هو الذي جعلها مصونة عن تصرف المتصرفين بالبلاد، فلم يتوجه
إليها نهم الروم والفرس اللذين كانا يقتسمان العالم آنذاك. والمقطوع به هو أنه لم يبق من هذه الحضارة حين ظهور الإسلام شئ
يذكر. |
قصة
أسعد بن زرارة الخزرجي مع رسول الله
|
ونحن هنا نأتي بذكر قصة أسعد بن زرارة الخزرجي، التي تبين لنا نقاطا كثيرة من حياة الناس في الحجاز: روى الشيخ الطبرسي في كتابه " إعلام الورى بأعلام الهدى
" عن علي بن إبراهيم أنه قال: " كان بين الأوس
والخزرج حرب قد بغوا فيها دهورا طويلة، وكانوا لا يضعون السلاح لا بالليل ولا
بالنهار، وكان آخر حرب بينهم
يوم بغاث وكانت للأوس على
الخزرج، فخرج أسعد بن زرارة وذكوان إلى مكة في عمرة رجب يسألون الحلف على الأوس،
وكان أسعد بن زرارة صديقا لعتبة بن ربيعة، فنزل عليه فقال له: إنه كان بيننا
وبين قومنا حرب وقد جئناكم نطلب الحلف عليهم. فقال عتبة: بعدت دارنا عن داركم ولنا شغل لا نتفرغ معه لشئ ! قال: وما شغلكم وأنتم في حرمكم وأمنكم ؟ قال عتبة: خرج فينا رجل يدعي أنه رسول الله، سفه أحلامنا وسب
آلهتنا وأفسد شبابنا وفرق جماعتنا. فقال له أسعد: من هو منكم ؟ قال: ابن عبد الله بن عبد
المطلب من أوسطنا شرفا وأعظمنا بيتا. وكان أسعد وذكوان وجميع الأوس والخزرج يسمعون من اليهود الذين
كانوا بينهم - النظير وقريظة وقينقاع -: إن هذا
أوان نبي يخرج بمكة يكون مهاجره بالمدينة، لنقتلنكم به يا معشر العرب. فلما سمع أسعد ما سمع من
عتبة وقع في قلبه ما كان سمعه من اليهود، وقال: فأين هو ؟ وكان هذا في وقت
محاصرة بني هاشم في الشعب فقال عتبة: إنهم
لا يخرجون من شعبهم إلا في الموسم، وها هو جالس في الحجر، فلا تسمع منه ولا
تكلمه فإنه ساحر يسحرك بكلامه. فقال أسعد: فكيف أصنع
وأنا معتمر لا بد لي أن أطوف بالبيت ؟ فقال: ضع في اذنيك
القطن. فحشا أسعد في اذنيه القطن ودخل المسجد ورسول الله جالس في الحجر مع قوم
من بني هاشم، فطاف أسعد بالبيت ونظر إلى رسول الله نظرة وجازه، فلما كان في الشوط
الثاني قال في نفسه: ما
أجد أجهل مني ! أيكون مثل هذا الحديث بمكة فلا نعرفه حتى أرجع إلى قومي فاخبرهم
؟ ! فأخذ القطن من اذنيه ورمى به وقال لرسول الله: أنعم صباحا ! فرفع رسول الله رأسه إليه وقال: قد ابدلنا الله به ما هو أحسن من هذا، تحية أهل الجنة: السلام
عليكم. فقال اسعد: إن
عهدك بهذا لقريب ! إلام تدعو ؟ يا محمد ! قال: إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، وأدعوكم * (أن لا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم
من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا
النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون ولا تقربوا مال
اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ اشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف
نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم
به لعلكم تذكرون) * (الانعام: 151، 152.). فلما سمع أسعد هذا قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأنك رسول الله. كانت هاتان الآيتان من
سورة الأنعام تتضمنان الداء والدواء لامة متحاربة جاهلة، ولذلك خلفت أثرا عميقا
في قلب أسعد وذكوان الخزرجيين فأسلما فورا " ثم قالا: يا رسول الله ! ابعث معنا رجلا يعلمنا القرآن ويدعو الناس
إلى أمرك. فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) مصعب بن عمير بالخروج معهما،
فخرج هو معهما إلى المدينة حتى قدموا على قومهم " (إعلام الورى:
56، طبعة النجف.). إن النظر في مفاد هاتين
الآيتين يغنينا عن أي بحث آخر عن أوضاع العرب قبل الإسلام، فإن هاتين الآيتين تبينان ما كان يسود حياة العرب في الجاهلية من
الأمراض الخلقية المزمنة، وإن مضمون هاتين الآيتين شاهد على ابتلاء العرب بجميع
هذه الأوصاف الرذيلة، ولهذا تلاهما رسول الله على أسعد في أول لقائه به وبذلك
عرفه برسالته. |
الدين
في جزيرة العرب:
|
إن آيات القرآن الكريم تشير إلى أرباب العرب وآلهتهم ورموزها من
أصنامهم وأوثانهم، والقرآن *
(أحسن القصص) * وفيه
الكفاية: قال عز وجل: * (وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب أجعل
الآلهة إلها واحدا إن هذا لشئ عجاب وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على
آلهتكم إن هذا لشئ يراد ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق) * (ص: 4 - 7.). وإذا كانت إيران
قد اتخذت الزرادشتية
(المجوسية) دينا رسميا لها طلبا للإستقلال العقائدي عن الروم المسيحية (الإسلام
وإيران 2: 32.)،
وهما في حرب دؤوب، فطبيعي أن تحاول إيران نشر عقيدتها الثنوية بالإلهين: إله
الخير وإله الشر بين الشعوب المغلوبة المستعمرة لها من حولها، فتتفشى المجوسية
في بعض القبائل العربية من تميم والبحرين وعمان واليمن (تأريخ
العرب قبل الإسلام 6: 284 فما بعد.) ونحن
نعلم أن المجوس ثنويون يؤمنون
بإلهين يدبران العالم
فللخير يزدان وللشر اهريمن ولهما رمزان فليزدان الخير النور، ولاهريمن الشر
الظلمة. أما أكثر العرب في
الجاهلية فكانوا وثنيين يؤمنون بقوى الهية كثيرة منبثة في مظاهر الطبيعة، وبقوى
خفية كثيرة في بعض الحيوانات والنباتات وحتى الجمادات، فكانوا يتعبدون لأصنام وحتى أوثان كثيرة اتخذوها رمزا لتلك الآلهة
ومنها الكواكب والنجوم. فكان عرب الجنوب في اليمن يرجعون بآلهتهم إلى ثالوث مقدس هو:
القمر، واسمه عند المعينيين
(أوائل الألف الأول قبل الميلاد) (العصر
الجاهلي: 25 لشوقي ضيف.) ود، وكان إلههم الاكبر، وهو الزوج الذكر، ولذلك لفظه مذكر. وتليه الشمس، وهي اللات، وفيها
تاء الإناث، ولذا اعتبروها زوجة القمر ولذلك لفظها مؤنث ! ومنها ولدت العزى أي
الزهرة أو عشتر، أو فينوس بالرومية، أو ناهيد بالفارسية. ولهم الهات اخرى رمز عن
بعض النجوم أو بعض مظاهر الطبيعة أو بعض الطيور، وكانوا قد بنوا عليها الهياكل
ويقدمون لها القرابين ويقوم عليها كهنة ذوو نفوذ كبير. وقوافل التجارة والهجرة
كانت متبادلة بينهم وبين عرب الشمال العدنانيين أو النزاريين الحجازيين فحملوا
دينهم معهم إليهم (انظر العصر الجاهلي: 29 لشوقي ضيف.). وأشار القرآن الكريم إلى عبادتهم للشمس في قوله سبحانه حكاية عن الهدهد من طيور سليمان بن داود، إذ
تفقدها وكان الهدهد غائبا فلم يره * (فمكث غير بعيد) * إذ جاء، * (فقال
أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين إني وجدت امرأة تملكهم... وجدتها
وقومها يسجدون للشمس من دون الله) * (النمل: 22 - 24.). ويضيف
القمر في آية اخرى تخاطب العرب المشركين: * (لا تسجدوا للشمس ولا للقمر) * (فصلت: 37.). ومن قبل أضاف إليهما
الكوكب فيما حكاه عن خليله إبراهيم (عليه السلام) قال: * (فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا
احب الآفلين) * ولعله كان عشتر (الزهرة)، ولعل الليلة كانت من أواخر الشهر القمري
إذ يظهر القمر متأخرا فبدأ بالكوكب ثم قال: * (فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني
ربي لأكونن من القوم الضالين)
* فالليلة كانت من أوائل العشر الأخيرة من الشهر القمري إذ يظهر القمر متأخرا ثم
يأفل ولا يبقى حتى الصباح، ولما بزغت الشمس صباحا * (فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر) * ولعله بهذا يعترض على تقديمهم للقمر (الأصغر) على الشمس (الأكبر) * (فلما أفلت قال يا قوم إني برئ مما تشركون) * (الأنعام:
76 - 78.). ولعل شرك هؤلاء الصابئة البابليين هو منشأ شرك أهل اليمن ثم الحجاز (العصر
الجاهلي: 89 لشوقي ضيف.). أما الهدهد فطبيعي أنه إنما اهتدى إليهم نهارا فوجدهم يسجدون للشمس،
ولم يذكر القمر والزهرة ولم ينفهما. وقد أشار القرآن الكريم
إليها بأسمائها المعينية اليمنية لدى النزاريين الحجازيين مع خمسة آلهة اخرى
لهم، في آيتين من سورتين هما
قوله سبحانه: *
(أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الاخرى) * ثم
أشار إلى انوثتهما لديهم فقال: * (ألكم الذكر وله
الانثى) * (النجم: 19 - 21.). والآية الاخرى من سورة نوح وعن لسانه (عليه السلام) * (قال نوح رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا
خسارا ومكروا مكرا كبارا وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث
ويعوق ونسرا) * ثم لم
يجعلها إناثا بل ذكرها في الضمير إليها فقال: * (وقد أضلوا كثيرا) * ثم حكى دعاء نوح عليهم قال: * (ولا تزد الظالمين إلا ضلالا) * (نوح: 21 - 24.). إذن فلغة (ود) رجعت إلى
أقدم من المعينيين باليمن (أوائل الألف الأول - ق م) وإلى أقدم من قوم إبراهيم ببابل العراق (أوائل الالف الثالث ق م)
إلى ما قبل الطوفان (أوائل الألف الرابع ق م) ومن حيث المكان قرب مكان إبراهيم
ببابل العراق في الكوفة (ففي روضة الكافي عن الصادق (عليه السلام) قال: عمل نوح سفينته في
مسجد الكوفة... ثم التفت وأشار بيده إلى موضع وقال: وهنا نصبت أصنام قوم نوح:
يغوث ويعوق ونسر - الميزان 20 - 35. وعليه فلعل هذه الأسماء سريانية دخلت في
المعينية.) ولذلك نقل الطوسي في " التبيان " عن الضحاك وابن زيد وقتادة عن ابن عباس قال: هذه الاصنام المذكورة
كان يعبدها قوم نوح ثم عبدتها العرب فيما بعد (التبيان
10: 141.). ونقله الطبرسي في "
مجمع البيان " وفي تفصيله نقل عن ابن عباس أيضا قال: نحت إبليس خمسة
أصنام وحمل الكفار فيما بين
آدم ونوح على عبادتها،
وهي: ود وسواع ويعوق ويغوث ونسر. فلما
كان الطوفان دفن تلك الأصنام وطمها بالتراب فلم تزل مدفونة، حتى أخرجها الشيطان
لمشركي العرب: فاتخذت قضاعة ودا
فعبدوه بدومة الجندل، توارثوه حتى صار إلى كلب. وأخذ بطنان من طي
يغوث فذهبوا به إلى مراد فعبدوه زمانا، ثم إن بني ناجية أرادوا أن ينزعوه منهم
ففروا به إلى بني الحرث بن كعب، فجاء الإسلام وهو عندهم. وأما يعوق فكان
لكهلان (اليمن) ثم
توارثوه حتى صار إلى همدان
(اليمن) فجاء الإسلام وهو
فيهم. وأما نسر فكان لخثعم
(اليمن) يعبدونه. وسواع كان لآل
ذي الكلاع (الحميري اليمني) يعبدونه. وفي كيفية حمل إبليس
لاولئك الأوائل على عبادتها نقل عن محمد بن كعب القرظي قال: هذه أسماء قوم ممن
كان بين آدم ونوح صالحين، فلما
ماتوا ونشأ نسلهم بعدهم قال لهم إبليس: لو صورتم صورهم، ففعلوا وكانوا يقدسونها، فلما ماتوا ونشأ نسلهم
بعدهم قال لهم إبليس: إن الذين كانوا قبلكم كانوا يعبدونها، فعبدوها فكان ذلك مبدأ
عبادة الأوثان (مجمع البيان 10: 547. ونقله السيوطي عن ابن عباس أيضا في الدر
المنثور. وقد رواه الصدوق عن الصادق (عليه السلام) في علل الشرائع.). أما الآيات فقد أشارت إلى أن عبادتها كانت مكرا مكره أصحاب الأموال
والأولاد، ولعله لاستثمار الضعفاء منهم. ولعل في الفصل بين الآلهة وهذه الأصنام
في قوله: * (وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا...) * إشارة إلى أنهم جعلوا هذه الأصنام رموزا للآلهة لا نفسها. ثم نقل الطبرسي عن قتادة قائمة بنسبة أكثر من هذه الأصنام الخمسة إلى قبائل العرب قال: إن أوثان قوم نوح صارت إلى العرب، فكان ود بدومة الجندل. وسواع برهاط لهذيل. وكان يغوث لمراد (اليمن)
وكان يعوق لهمدان (اليمن) وكان نسر لآل ذي الكلاع من حمير (اليمن) وكان اللات
لثقيف، وأما العزى فلسليم وغطفان وجسم ونضر وسعد، وأما مناة فكانت لفديد، وأما
أساف ونائلة وهبل فلأهل مكة: كان اساف حيال الحجر الأسود، وكانت نائلة حيال
الركن اليماني وكان هبل في جوف الكعبة. ونقل عن الواقدي قال: كان ود على صورة
رجل، وسواع على صورة امرأة ويغوث على صورة أسد، ويعوق على صورة فرس، ونسر على
صورة نسر من الطير. ويقال إن اللات كانت صخرة مربعة بيضاء بنت عليه ثقيف بيتا، وكانت قريش وجميع العرب يعظمونه وكعبتها هي كعبة الطائف (الأصنام للكلبي: 16 والمحبر لابن حبيب: 315 ومعجم البلدان في اللات.) ولذلك
نرى في أسمائهم: وهب اللات وعبد شمس. وكانت مناة - الهة الموت
والآجال والأعمار والأقدار -
صخرة منصوبة على ساحل البحر بين مكة والمدينة في هذيل وخزاعة، وكان الأوس
والخزرج يحجون إلى مكة ويقفون مع الناس المواقف الثلاثة ولكنهم لا يحلقون
رؤوسهم، ولا يرون تمام حجتهم إلا أن ينصرفوا إلى مناة فيحلقوا رؤوسهم عندها (الأصنام
للكلبي: 14، والمحبر لابن حبيب: 316، ومعجم البلدان في مناة.). وكانت العزى شجرة بوادي نخلة شرقي مكة إلى الطائف لغطفان، حتى قطعها الإسلام (الأصنام
للكلبي: 17 ونقل الطبرسي عن مجاهد 9: 266 ومعجم البلدان في العزى.). ومن ثنويتهم في وثنيتهم ما تدل عليه معاني: يعوق ويغوث وسواع، ففي
الأخير ما يدل على أنه كان إله الهلاك والشر، وبإزائه يعوق أي يكون عائقا عنه،
ويغوث أي يغيث منه (العصر الجاهلي: 90 لشوقي ضيف.).
ولعلها في أصلها مقتبسة من ثنوية المجوسية، ولا سيما أنهم كانوا يقدمون قرابين
النيران، ويوقدونها لاستمطار السماء والاستسقاء، وعند عقد أيمانهم وأحلافهم (الحيوان
للجاحظ 4: 461 فما بعد.). وكان هبل من عقيق أحمر
على صورة إنسان، يده اليمنى من ذهب. والقداح أمامه، فإذا اختصموا في أمر أو أرادوا سفرا أو عملا أتوه
فاستقسموا بالقداح عنده فما خرج انتهوا إليه وعملوا به، ومنه، فعل عبد المطلب
لذبح ابنه عبد الله. ومنها للزواج، ومنها للمواليد، فإذا شكوا في مولود أهدوا
إليه هدية ثم ضربوا بسهام الأزلام (القداح) فإن خرج (الصريح) كان الوليد صريحا
في نسبه وأما إذا خرج (ملصق) دفعوه (الأصنام
للكلبي: 28. وسيأتي تفصيل الأزلام في الصفحة: 90.). ومن الأصنام المشهورة: ذو الخلصة، وهو صنم خثعم وبجيلة وأزد السراة، وكان صخرة بيضاء عند
منقوطة (مروة) منقوش عليها كهيئة التاج، وكان في تبالة وله بيت يحجون إليه (الأصنام
للكلبي والمحبر: 317) ولا يخفى أن تركيب اسم الصنم (ذو الخلصة) يمني وكعبتها هي الكعبة
اليمانية. وكان في حاضرة إمارة النبط (ق 3 م - ق 2 م) في " سلع "
كما جاء في التوراة: أو
" بطرا " كما هو اسمها لدى اليونان ولعله ترجمة يونانية لسلع العبرية
أو السريانية معبد كبير لصنمهم ذي الشري (الأصنام
للكلبي: 37 ومادة الشري في لسان العرب وتاج العروس.) إله
الخصب والخمر ! وقال الكلبي في كتابه " الأصنام ": واستهترت العرب في عبادة الأصنام، فمنهم من اتخذ بيتا، ومنهم من
اتخذ صنما، ومن لم يقدر على بناء البيت ولا اتخاذ الصنم اتخذ حجرا من الحرم أو
مما استحسن ثم طاف به كطوافه بالبيت، فكان الرجل إذا سافر فنزل منزلا أخذ أربعة
أحجار فنظر إلى أحسنها فاتخذه ربا وجعل الثلاثة الاخرى أثافي لقدره فإذا ارتحل
تركها. وكانوا يذبحون وينحرون عندها ويتقربون بذلك إليها (الأصنام
للكلبي: 33.). ومن تقديسهم لدماء
ذبائحهم القرابين لهياكل الأصنام والأوثان ينصبون لديها أحجارا هي النصب
والأنصاب، يصبون عليها دماء
ذبائحهم التي يتقربون بها إلى الهتهم، فالأنصاب والأزلام كانت من لوازم الأوثان
والأصنام في كلام الله تعالى: *
(والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون) * (المائدة: 90.). وكان لها سدنة وحجاب. وبجانب سدنة البيوت المقدسة كان هناك كهان يدعون أنه سخر لهم طائف
من الجن يسرق لهم السمع فيعرفون منهم ما كتب الله للناس في ألواحهم، رجالا
ونساء. فممن عرف من رجالهم: سطيح الذئبي، وسلمة الخزاعي، وسواد بن قارب الدوسي، وشق بن مصعب
الأغاري، وعزى سلمة، وعوف بن ربيعة الأسدي (ابن هشام
1: 16 والأغاني 9 و 15: 70 و 84 ويقال: قيل لسطيح: من أين لك هذا العلم ؟ قال:
من صاحبي من الجن كان استمع أخبار السماء حين كلم الله موسى في طور سيناء !). ومن الكاهنات: كاهنة
ذي الخلصة، والكاهنة السعدية، والكاهنة الشعثاء، والزرقاء بنت زهير وطريفة
الكاهنة امرأة عمرو بن عامر (مجمع الأمثال للميداني 1: 19 و 2: 54 وابن هشام 1: 16 في الهامش.) وكان
قد يلتحق ببعضها بغايا أيضا (المحبر: 184.)، ويسمون الذي يخبر الكاهن: الرئي. ولذلك فهم كانوا يؤمنون بالجن ويخافونها ويتعبدونها ويجعلون
بينها وبين الله نسبا، وإن
كانت هي مظاهر الشر عندهم، وكما كانوا يجعلون الملائكة بنات الله وهي مظاهر
الخير والرحمة: *
(وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم) * (الأنعام: 100.) ولعلها من ثنوية هؤلاء الوثنيين متسربة إليهم من ثنوية المجوس
أيضا. صحيح أن كثيرا من هؤلاء كانوا يعدون الجن والملك والأرواح
والأوثان والأصنام من شفعائهم عند الله كما حكى القرآن الكريم: * (والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى
الله زلفى) *
(الزمر: 3.) لكنها لم تكن
للنجاة من النار بل * (اتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا) * (مريم: 81.)
و * (اتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون) * (يس: 74.). ذلك أنهم كانوا لا يؤمنون ببعث ولا نشور: * (وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا
الدهر) * (الجاثية: 24.) و * (قالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين) * (الأنعام: 29.)
و * (ضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم) * (يس: 78.)
فلم تكن قرباهم للنجاة
من النار. نعم كان حجهم الأعظم إلى الكعبة الإبراهيمية وقد بقي فيهم منه ومن حجه بعض السنن مزيجا بالبدع الجاهلية: منها
أشهر الحج المعلومات الحرم: رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم، فكانت فرصة
لبعدائهم عن الأماكن المقدسة للوصول إليها دون أن تمس نذورهم، فكانوا فيها
يتجرون ويميرون ويقيمون أسواقهم كسوق عكاظ. ويقول ابن حبيب في " المحبر ": كانوا يلبون، فكانت قريش تقول: لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك إلا
شريك هو لك، تملكه وما ملك. تخاطب إساف. وكانت تلبيتهم لود: لبيك
اللهم لبيك، لبيك معذرة إليك. وكانت تلبيتهم للات: لبيك اللهم لبيك، كفى بيتنا بنيه، ليس بمهجور
ولا بليه، لكنه من تربة زكيه، أربابه من صالحي البريه. وكانت تلبيتهم للعزى: لبيك اللهم لبيك، لبيك وسعديك ما أحبنا إليك.
وكانت تلبيتهم لذي الخلصة: لبيك اللهم لبيك، لبيك بما هو أحب إليك (أخبار
مكة للأزرقي 1: 114.). فالحمس من قريش وكنانة
وخزاعة يطوفون بثيابهم، والحلة يطوفون عرايا. ويصور الأزرقي في كتابه " أخبار مكة " طواف العريان
فيقول: يبدأ بإساف
فيستلمه ثم يستلم الركن الأسود، ثم يجعل الكعبة عن يمينه ويطوف سبعا فإذا ختم
استلم الحطيم أو ركن الحجر الأسود ثم استلم نائلة فختم طوافه، ثم يخرج فيجد
ثيابه فيلبسها ويمضي (المصدر نفسه.). وقد فصل الكلبي المؤرخ
الشهير المتوفى في 206 ه ديانات العرب قبل الإسلام فقال: " إن حمير كانت تعبد
الشمس وكنانة كانت تعبد القمر وقيس كانت تعبد الشعرى، ولخم كانت تعبد المشتري،
وطئ كانت تعبد نجمة السهيل، وأسد كانت تعبد العطارد، وتميم كانت تعبد الدبران،
وبنو مليح كانوا يعبدون الجن، وأكثر العرب الأوثان والأصنام. وإن أول من جاء بها إلى مكة هو: عمرو بن لحي، وكانوا في أول
أمرهم يقولون: *
(ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) * (الزمر: 3.)
ثم رأوا فيهم قوة دون قدرة الله، فكانوا يتمسحون بها إذا أرادوا السفر، واتخذوا
من أحجار الصحراء أصناما يعبدونها كما يتخذون عددا آخر منها أثافي لقدورهم.
كانوا يرون أنهم بالقربان للأوثان يجلبون رضاها، فإذا قربوا لها قربانا تلطخوا
بدمائه، وكانوا يتقاسمون بالأزلام عندها، وهي سهام اصطلحوا على بعضها أنها أمر
وعلى بعضها الآخر أنها نهي، فيعملون كما تخرج لهم، وقد أصبحت الكعبة بيتا مركزيا
للأوثان أكثر من ثلاثمائة وستين، منها اللات والعزى ومناة، اللاتي كانت قريش
تزعم أنها بنات الله تعالى فتعبدها واللات بدورها ام سائر الآلهة وكان مقرها
بالطائف، وأما مناة فهي رب الأعمار والآجال، ومقرها بين مكة والمدينة " (الأصنام
للكلبي: 22.). |
أزلام
العرب:
|
قال تعالى: *
(حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما اهل لغير الله به والمنخنقة
والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن
تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق) * (المائدة: 3.). قال القمي في تفسيره
للنصب: إن قريشا كانوا
يعبدون الصخور فيذبحون لها. و " الأزلام " كانوا يعمدون إلى الجزور
فيجزئونه عشرة أجزاء، ثم يجتمعون عليه فيخرجون سهاما عشرة: سبعة لها أنصباء
وثلاثة لا أنصباء لها، فالتي لها أنصباء هي: الفذ والتوأم، والمسبل، والنافس،
والحلس، والرقيب، والمعلى، فالفذ له سهم، والتوأم له سهمان، والمسبل له ثلاثة
أسهم، والنافس له أربعة أسهم، والحلس له خمسة أسهم، والرقيب له ستة أسهم،
والمعلى له سبعة أسهم. والتي لا أنصباء لها هي: السفح، والمنيح، والوغد. وكان ثمن الجزور على من لم يخرج له من
الأنصباء شئ. وهذا قمار، حرمه الله عز وجل (تفسير
القمي 1: 161، 162 وعنه في مجمع البيان 3: 244 عن الصادقين (عليهما السلام).
وقال الطوسي في التبيان 3: 433: هي سهام كانت للجاهلية، مكتوب على بعضها: أمرني
ربي، وعلى بعضها: نهاني ربي. فإذا أرادوا سفرا أو أمرا يهتم به ضربوا تلك
القداح، فإن خرج الأمر مضى لحاجته، وإن خرج النهي لم يمض، وإن خرج ما ليس عليه
شئ اعادوها. فبين الله تعالى أن ذلك يحرم العمل به. ونقله في مجمع البيان عن
الحسن وجماعة من المفسرين: مجمع البيان 3: 244.). وقد عقد اليعقوبي في تأريخه فصلا خاصا بعنوان " أزلام العرب
" قال فيه:
" وكانت العرب تستقسم بالأزلام في كل امورها، وهي القداح، ولا يكون لها سفر
ولا مقام ولا معرفة حال إلا رجعت إلى القداح. وكانت القداح سبعة: فواحد عليه " الله عز وجل " والآخر " لكم "
والآخر " عليكم " والآخر " نعم " والآخر " منكم "
والآخر " من غيركم " والآخر " الوعد ". فكانوا إذا أرادوا أمرا
رجعوا إلى القداح فضربوا بها ثم عملوا بما تخرج القداح، لا يتعدونه ولا يجوزونه. وكان لهم امناء على القداح لا يثقون
بغيرهم. وكانت العرب إذا كان
الشتاء ونالهم القحط وقلت ألبان الإبل استعملوا الميسر بالأزلام، فضربوا بالقداح وتقامروا عليها إلا أن قداح الميسر عشرة: سبعة
منها لها أنصب، وثلاثة لا أنصب بها. فالسبعة التي لها أنصب يقال لأولها "
الفذ " وله جزء واحد، و " التوأم " وله جزءان، و " الرقيب
" وله ثلاثة أجزاء، و " الحلس " وله أربعة أجزاء، و "
النافس " وله خمسة أجزاء، والثلاثة التي لا أنصب لها يقال لها: المنيح
والسفيح والوغد. فكانت الجزور تشترى بما بلغت ولا ينقد الثمن، ثم يدعى الجزار فيقسمها عشرة أجزاء، فإذا قسمت أجزاؤها على السواء
أخذ الجزار الرأس والأرجل، ثم احضرت القداح العشرة، واجتمع فتيان الحي، فأخذ كل
فرقة على قدر حالهم ويسارهم وقدر احتمالهم، فيأخذ الأول الفذ والثاني التوأم
وكذلك سائر القداح على ما سمينا منها. فإذا عرف كل رجل منهم قدحه دفعوا القداح إلى رجل أخس لا ينظر
إليها معروف أنه لم يأكل لحما قط بثمن ويسمى " الحرضة " يؤتى " بالمجعول " وهو ثوب شديد البياض فيجعل على يده،
ويعمد إلى " السلفة " وهي قطعة من جراب فيعصب بها على كفه لئلا يجد مس
قدح يكون له في صاحبه هوى فيخرجه، ويأتي رجل فيجلس خلف الحرضة يسمى "
الرقيب " ثم يفيض الحرضة بالقداح فإذا نشز منها قدح استله " الحرضة
" فلم ينظر إليه حتى يدفعه إلى " الرقيب " فإن خرج من الثلاثة
الأغفال التي لا نصيب لها رد من ساعته، وإن خرج أولا " الفذ " أخذ
صاحبه نصيبه وضربوا بباقي القداح على التسعة الأجزاء الاخر، فإن خرج التوأم أخذ
صاحبه جزأين وضربوا بباقي الأقداح على الثمانية الأجزاء الاخر، فإن خرج المعلى
أخذ صاحبه نصيبه وهو السبعة الأجزاء التي بقيت. ووقع غرم ثمن الجزور على من
خاب سهمه وهم أربعة: صاحب
" الرقيب " و " الحلس " و " النافس " و "
المسبل " ولهذه الأقداح ثمانية عشر سهما فيجزأ الثمن على ثمانية عشر جزءا
ويأخذ كل واحد من الغرم مثل الذي كان نصيبه من اللحم لو فاز قدحه. وإن خرج " المعلى " أول القداح أخذ صاحبه سبعة أجزاء الجزور، وكان الغرم على أصحاب القداح التي
خابت، واحتاجوا أن ينحروا جزورا اخرى، لأن في قداحهم المسبل، وله ستة أجزاء ولم
يبق من اللحم إلا ثلاثة أجزاء. فإن نحروا الجزور الثانية، وضربوا عليها القداح
فخرج " المسبل " أخذ صاحبه ستة أجزاء الثلاثة الباقية من الجزور
الاولى وثلاثة أجزاء من الجزور الثانية، ولزمه الغرم في الجزور الاولى ولم يلزمه
في الثانية شئ لأن قدحه قد فاز. وبقي من الجزور الثانية سبعة أجزاء فيضرب عليها
بقداح من بقي، فإن خرج " النفاس " أخذ صاحبه خمسة أجزاء ولم يغرم من
ثمن الجزور الثانية شيئا، لأن قدحه قد فاز، ولزمه الغرم من الاولى وبقي جزءان من
اللحم، وفيما بقي من القداح " الحلس " له أربعة أجزاء، فيحتاجون أن
ينحروا جزورا اخرى لتتمة أربعة. وإن نحروا الجزور الثالثة وفاز " الحلس " أخذ صاحبه أربعة
أجزاء: جزأين من الجزور
الثانية وجزأين من الجزور الثالثة، ولم يغرم من الجزور الثالثة شيئا فإن قدحه قد
فاز ويبقى ثمانية أجزاء من الجزور الثالثة، فيضرب بباقي القداح عليها حتى يخرج
قداحهم وفقا لأجزاء الجزور، فهذا حساب غرمهم الثمن. وربما كانت أجزاء اللحم
موافقة لأجزاء القداح فلا يحتاجون إلى نحر شئ، وإنما تنحر الجزور إذا قصرت أجزاء
اللحم عن بعض القداح، فإن عاد بعض من فاز قدحه ثانية فخاب، غرم من ثمن الجزور
التي خاب قدحه منها على هذا الحساب. فإن فضل من أجزاء اللحم شئ وقد خرجت القداح
كلها، كانت تلك الأجزاء لأهل المسكنة من العشيرة، فهذا تفسير " الميسر
". وكانوا يفتخرون به ويرون أنه من فعال الكرم والشرف، ولهم في هذا أشعار
كثيرة يفتخرون بها (اليعقوبي 1: 259 - 261، طبعة بيروت.). |
اليهود
في يثرب والنصارى في نجران والشام:
|
اليهود في يثرب والنصارى في نجران والشام: استولى القيصر الرومي تيتوس على الشام وفلسطين والقدس فهدم هيكل
اليهود سنة 70 م، ثم اضطهدهم القيصر هدريان سنة 132 م، ففر في هذه الأثناء كثير
منهم إلى الحجاز وغير قليل منهم إلى اليمن، أي في أواخر القرن الأول وأوائل
القرن الثاني الميلادي. ويظن أن القياصرة الرومان في صراعهم على السلطة أرادوا النفوذ إلى اليمن لبسط سلطانهم على
هذه البلاد بما لها من قوافل تجارية، فكان ذلك من أهم الأسباب لنفوذ النصرانية
هناك بالبعثات التبشيرية المسيحية التي كان يشجعها القياصرة، ويظن أن انتشارها
في اليمن بدأ منذ القرن الرابع الميلادي، ولا نصل إلى العصر الجاهلي (الخامس)
حتى نرى النصرانية منتشرة في نجران وغيرها، ونجران كانت أهم مواطنها. ويرى نسابة العرب أن الغساسنة في الشام من أصل يمني، فهم من عرب
الجنوب الذين نزحوا إلى الشمال معها قبائل كثيرة اخرى منها جذام وعاملة وقضاعة
وكلب. ويقال إنهم اصطدموا
هناك بعرب من الضجاعمة فتغلبوا عليهم وسادوا هناك، ويزعم مؤرخو العرب أن مؤسس
سلالتهم جفنة بن عمرو فهم آل جفنة، فأقاموا إمارتهم في شرقي الاردن، وكأنهم ظلوا
بدوا يرحلون بخيامهم وإبلهم وأنعامهم من مكان إلى مكان في الجابية وجلولاء والجولان
وحتى جلق قرب دمشق، وقربهم الرومان البيزنطيون ومنحوهم ألقابهم واتخذوهم حاجزا
بينهم وبين البدو وغاراتهم، ومساعدا لهم في حروبهم ضد من يؤيد الفرس من عرب
مناذرة الحيرة في العراق. وليس بأيدينا من الوثائق
التأريخية ما تبين بدقة تأريخ نشأة هذه
الإمارة، إلا أنها ظهرت على صفحة التأريخ إثر قضاء
الرومان على مملكة تدمر فدمروها سنة 273 م، ولكن تأريخها قبل أواخر القرن الخامس
الهجري يحيط به الإبهام والغموض، وأول ملك يمكن الاطمئنان إلى أخباره من الوجهة
التأريخية هو جبلة الذي غزا فلسطين سنة 497 م. وانتشرت النصرانية بين عرب
الشام من الغساسنة وعاملة وقضاعة وكلب وجذام، وكانوا على مذهب المنوفستيين أو
اليعاقبة المنسوبين إلى يعقوب البرادعي حوالي الخمسمائة الميلادية، الذي كان يرى
للمسيح إقنوما واحدا أي طبيعة بشرية واحدة غير إلهية. وبكر بن وائل كانوا في ديار بكر فيما بين الشام إلى العراق ويليهم
إلى شمال العراق إياد وتغلب، فنفذت النصرانية اليعقوبية فيهم أيضا، بل وتغلغلت
في الحيرة قرب الكوفة فسموا العباديين نسبة إلى عبادة الله، ولكنهم غير يعاقبة بل نساطرة نسبة إلى نسطوريوس المتوفى سنة 450 م
الذي كان يرى أن للمسيح إقنومين أي طبيعتين: اللاهوت مع الناسوت، وحتى دخل في
النصرانية أواخرهم: النعمان بن المنذر واخته هند بنت المنذر وبنت ديرا. وكان في مكة جوار روميات (اسد
الغابة 1: 387.) وعبدان نصرانيان من عين تمر بالعراق (أسباب
النزول للواحدي: 213 - 220.) ورقيق حبشي نصراني كثير، وفي الطائف عداس النصراني من نينوى في
شمال العراق، وتنصر في مكة قوم قبيل الإسلام منهم عتبة بن أبي لهب، وعثمان بن
الحويرث وورقة بن نوفل (تأريخ اليعقوبي 1: 257، طبعة بيروت.). وفي أواخر القرن السادس الميلادي استطاع يهود اليمن أن يؤثروا في ذي
نؤاس ملك اليمن، وربما
كان السبب الحقيقي لاستجابته لليهود أنهم خوفوه من تغلغل النصرانية في بلاده
وبذلك تفتح أبواب اليمن لنصارى الحبشة من دون مقاومة، فأدخلوه في دينهم، ثم انتقموا به من النصارى فدفعوه إلى التنكيل بنصارى نجران وتحريقهم
بالنار في ما حفروه لهم من حفر الاخدود في الأرض، وإذ كانت النصرانية يومئذ أحق من اليهودية قال الله تعالى: * (قتل أصحاب الاخدود النار ذات الوقود إذ هم عليها قعود، وهم
على ما يفعلون بالمؤمنين شهود، وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز
الحميد) * (البروج: 4 - 8.) وانتقم
نصارى الحبشة لإخوانهم فأزالوا دولة ذي نؤاس سنة 525 م بقيادة أبرهة، وظلوا هناك خمسين عاما. فدعمت النصرانية واعتنقها كثيرون وبنيت لها كنائس في أكثر من بلد
من أشهرها كنيسة نجران أنشأها أبرهة كما أنشأ كنائس كثيرة في مدن اليمن، واهتم
بزينتها وزخرفتها. ومن أشهرها القليس في صنعاء، والكلمة تعريب لكلمة الكليسة اليونانية، فيقال: إنه نقشها بالذهب والفضة والفسيفساء وألوان الأصباغ وصنوف
الجواهر، وكان ينقل إليها آلات البناء كالرخام المجزع والحجارة المنقوشة بالذهب،
ونصب فيها صلبانا من الذهب والفضة ومنابر من الأبنوس والعاج (تفسير الطبري 3: 193.) وقد
حولها المسلمون إلى مسجد لا يزال اليوم قائما (العصر
الجاهلي لشوقي ضيف: 97 - 100.).
وكانت هذه الفترة سببا في خروج اليهود من اليمن وتفرقهم في البلاد، وبقي منهم جماعة حتى دخل الإسلام فدخلوا فيه، منهم كعب الأحبار
ووهب بن منبه. وأهم من يهود اليمن يهود الحجاز، وكانوا قبائل وجماعات كثيرة انتشرت في واحات الحجاز: يثرب وخيبر ووادي القرى وتيماء، وكان في يثرب منهم عشائر كثيرة أهمها: بنو النضير وبنو قريظة وبنو قينقاع وبنو تهدل، وقد نزل بينهم
الأوس والخزرج وثنيين. |
من
سنن الجاهلية في الابل والغنم:
|
من سنن الجاهلية في الابل والغنم: البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي... وقد جاء في القرآن الكريم
عنها: * (ما جعل الله من
بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب
واكثرهم لا يعقلون) * (المائدة:
103.). وروى العياشي في تفسيره
لها عن الامام الصادق (عليه السلام) قال: إن أهل الجاهلية كانوا إذا ولدت الناقة ولدين في بطن قالوا: وصلت،
فلا يستحلون ذبحها ولا اكلها، وإذا ولدت عشرا جعلوها سائبة فلا يستحلون اكلها
ولا ظهرها. والحامي: فحل الابل، لم يكونوا يستحلون (اكله) فأنزل الله أنه لم يحرم شيئا
من هذا (تفسير العياشي 1: 347.). ونقل الشيخ الطوسي في
" التبيان " عن محمد بن اسحاق قال: الوصيلة: هي الشاة إذا ولدت عشر اناث متتابعات في خمسة أبطن، كل بطن توأم
اناث ليس فيها ذكر، قالوا: قد وصلت، وجعلوها وصيلة، وكان ما ولدت بعد ذلك للذكور
دون الاناث ! والسائبة: هي الناقة إذا تابعت بين عشر اناث ليس فيهن ذكر، سيبت
فلم يركبوها ولم يجزوا وبرها ولم يشرب لبنها إلا ضيف. والبحيرة: هي ما نتجت
السائبة بعد ذلك من انثى شق اذنها ثم خلي سبيلها مع امها، فلم يركب ظهرها ولم
يجز وبرها، ولم يشرب لبنها الاضيف (التبيان
4: 38 وعن ابن اسحاق في السيرة 1: 91.). ونقل عن أهل اللغة
قالوا: الوصيلة: هي
الشاة كانت إذا ولدت انثى فهي لهم، وإذا ولدت ذكرا ذبحوه لآلهتهم في زعمهم، وإذا
ولدت ذكرا وانثى قالوا: وصلت أخاها، فلم يذبحوه لآلهتهم. وفي البحيرة: قال:
كانوا في الجاهلية إذا نتجت الناقة خمسة أبطن وكان آخرها ذكرا، بحروا اذنها أي
شقوها، وامتنعوا من ركوبها وذبحها، ولم تطرد عن رعي ولاماء. وفي السائبة: قال:
كانوا في الجاهلية إذا نذر أحدهم لقدوم من سفر أو برء من مرض أو ما أشبه ذلك
قال: ناقتي سائبة، فكانت كالبحيرة في التخلية (التبيان 4: 38.).
وأسند الطبرسي في " مجمع البيان " قول أهل اللغة هذا
الى الزجاج. وفي الحامي قال: هو
الذكر من الابل، كانت العرب إذا أنتجت من صلب الفحل عشرة أبطن قالوا: قدحمى
ظهره، فلا يحمل عليه، ولا يمنع من ماء ولا مرعى، رواه عن الزجاج وأبي عبيدة،
وابن مسعود وابن عباس. ثم نقل عن المفسرين عن
ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: إن
عمرو ابن لحي بن قمعة بن خندف، كان قد ملك مكة، وكان
هو أول من غير دين اسماعيل واتخذ الأصنام ونصب الأوثان، وبحر البحيرة وسيب السائبة ووصل الوصيلة وحمى الحامي، فلقد
رأيته في النار يؤذي أهل النار ريح قصبه (مجمع
البيان 3: 390. ورواه ابن اسحاق بسنده عن ابن حزم وبسند آخر عن أبي هريرة -
السيرة 1: 78، 79.). |
حماس
العرب قبل الاسلام:
|
بإمكاننا ان نقول:
إن العربي قبل الإسلام كان نموذجا تاما لشره البشر وحرصه على مصالحه ومنافعه،
فكان ينظر إلى كل شئ من زاوية منافعه الخاصة، وكان يدعي لنفسه في كل ذلك أنواعا
من الشرف والكرامة والرفعة على الآخرين، يحب الحرية غاية الحب، وينفر من أي قيد
أو حد. وقد قال ابن خلدون بهذا الصدد: " إن العرب إذا تغلبوا على (تحف
العقول: 30 ط بيروت.) أوطان أسرع إليها الخراب، وذلك أنهم امة قد استحكمت فيهم أسباب التوحش
فصار لهم خلقا وجبلة، وكان عندهم الخروج عن ربقة الحكم وعدم الانقياد للسياسة
ملذوذا. وهذه الطبيعة منافية
للعمران ومناقضة له، فان
حالتهم العادية هي الرحلة والتغلب، وهذا مناقض للسكون الذي به العمران ومناف له.
وأيضا فطبيعتهم انتهاب ما في أيدي الناس، وأن رزقهم في ظلال رماحهم، وليس عندهم
في أخذ أموال الناس حد ينتهون إليه، بل كلما امتدت أعينهم الى مال أو متاع أو
ماعون انتهبوه " (مقدمة ابن خلدون: 149 ط دار الفكر.). أجل، إن العرب قبل الإسلام كانوا قد
اعتادوا على الحرب والقتال، وكان
منطقهم السائد: لا يغسل الدم الا الدم، وكذلك كانوا قد
اعتادوا الإغارة على أموال الآخرين حتى أن أحدهم كان يعد غاراته على أموال الناس مفخرة له، وحتى
أن الشاعر الجاهلي حينما يشاهد عجز قومه عن الغارة يتمنى ان لو كان له عن قومه
هؤلاء قوم آخرون يشنون الغارات: فليت لي بهم قوما إذا ركبوا *
شنوا الإغارة فرسانا وركبانا والى هذه الحالة يشير الذكر الحكيم إذا يقول لهم: * (وكنتم
على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها) * (آل عمران: 103.). |
الخرافات
عند العرب:
|
إن القرآن الكريم يبين أن من أهداف بعثة رسول الله (صلى الله عليه
وآله) أنه (يضع عنهم اصرهم والأغلال التي كانت عليهم) (الاعراف: 157.). فما هو الإصر وماهي الأغلال التي كانت عليهم ؟ لا شك أنها لم تكن
أغلالا من حديد، بل الغرض منها هي تلك الأوهام والخرافات التي كانت تمنع عقولهم
وافكارهم عن الرشد والنمو، ولا شك أنها لا تقل عن أغلال الحديد ثقلا وضررا، إذ
هذه الأغلال قد لا تنفك عن صاحبها حتى الموت وهي تمنعه عن كل حركة حتى لحلها، في
حين لو كان الإنسان ذا عقل حر سليم كان بإمكانه ان يكسر كل طوق أو قيد. إن من مفاخر رسول الإسلام (صلى الله عليه وآله) أنه كافح الخرافات والأوهام، وغسل العقل البشري منها. إن ساسة العالم
الذين لا يهمهم شئ سوى الرئاسة على الناس، يحاولون الإفادة من كل شئ في سبيل
أغراضهم ومقاصدهم، فإذا كانت العقائد الخرافية والقصص القديمة مما يمكن ان تؤيد
حكومتهم ورئاستهم، فلا مانع لهم من أن يروجوا لها ويفتحوا السبيل أمامها، وحتى
لو كانوا اناسا مفكرين ذوي رأي ومنطق فإنهم سوف يدافعون عن هذه الخرافات باسم
احترام آراء الناس وأفكارهم واعتقاداتهم. اما رسول الله فانه
لم يمنع عن تلك العقائد الخرافية التي تضر بالمجتمع فحسب، بل كان يكافح حتى
الأفكار التي كانت قد تؤيده وتدعم هدفه، وكان يسعى الى ان يكون الناس أبناء
الدليل والمنطق لا القصص والخرافات. فقد روى البرقي في كتابه " المحاسن " بسنده عن أبي الحسن
موسى بن جعفر (عليه السلام) أنه قال: لما قبض ابراهيم ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله) جرت
في موته ثلاث سنن: أما واحدة: فانه لما قبض
انكسفت الشمس فقال الناس: انما انكسفت الشمس لموت ابن رسول الله، فصعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) المنبر فحمد الله
وأثنى عليه ثم قال: " ايها الناس ! إن
الشمس والقمر آيتان من آيات الله يجريان بأمره مطيعان له، لا ينكسفان لموت أحد
ولا لحياته. فإذا انكسفا أو أحدهما صلوا ". ثم نزل من المنبر فصلى
بالناس الكسوف (المحاسن للبرقي: 313.). إن فكرة كسوف الشمس لموت ابن رسول الله كان مما يرسخ العقيدة برسول الله في نفوس الناس، وهو من ثم يؤدي
الى انتشار رسالته ولكنه (صلى
الله عليه وآله) لم يرض أن يتأيد بالخرافة. إن كفاح رسول الله (صلى
الله عليه وآله) ضد الخرافات وعلى رأسها عبادة الأصنام والأوثان واتخاذ بعض
المخلوقات أربابا لم يكن دأبه في رسالته فحسب بل إنه كان يكافح الأوهام والخرافات حتى في دور طفولته وصباه. فقد روى المحدث المجلسي
في موسوعته " بحار الأنوار " عن كتاب " المنتقى في أحوال المصطفى
" للكازروني من العامة، بسنده عن ابن عباس عن حليمة السعدية أنها قالت " فلما تم له ثلاث سنين قال لي يوما: يا اماه ! مالي لا أرى
أخوي بالنهار ؟ قلت له: يا بني انهما يرعيان غنيمات، قال: فمالي لا أخرج معهما ؟ قلت له:
تحب ذلك ؟ قال: نعم. فلما أصبح دهنته وكحلته وعلقت في عنقه خيطا فيه جزع يمانية فنزعها ثم قال لي: مهلا يا اماه ! فإن معي من يحفظني " (بحار
الانوار 15: 392.). |
الخرافات
في عقائد العرب الجاهليين:
|
إن عقائد جميع امم العالم كانت حين طلوع فجر الإسلام خليطا بأنواع من الخرافات والأساطير، فالأساطير الساسانية واليونانية كانت تسود على أفكار امم كانت تعد من أرقي أمم العالم يومذاك.
وحتى اليوم يوجد بين امم العالم خرافات كثيرة لا تستطيع الحضارة الحاضرة أن
تنفيها من حياة الناس. وقد سجل التأريخ خرافات وأساطير كثيرة للناس في شبه جزيرة العرب، جمع
كثيرا منها السيد محمود الآلوسي في كتاب أسماه " بلوغ الأرب في معرفة أحوال
العرب " مع ذكر
شواهد لها من الشعر الجاهلي وغيره، بمراجعة هذا الكتاب ومثله يواجه المرء شيئا كثيرا من الخرافات قد
ملأت عقول العرب الجاهليين، وكانت
هذه الأساطير احدى عوامل التخلف فيهم عن سائر امم العالم آنذاك، وكانت كذلك أكبر
سد أمام تقدم الإسلام فيهم أيضا، ولهذا كان النبي (صلى الله عليه وآله) يسعى جاهدا أن يحبط تلك الأساطير والأوهام من آثار الجاهلية،
فحينما أرسل " معاذ بن جبل " الى اليمن أمرة قائلا: " وأمت
الجاهلية الا ماسنه الإسلام، وأظهر أمر الإسلام كله صغيره وكبيره " (تحف
العقول: 25.). |
وهنا
نأتي نحن بنماذج من خرافاتهم:
|
أ - إشعال النار للاستسقاء: كانت الجزيرة العربية تواجه الجفاف في أكثر فصول السنة، فكان
الناس يجمعون حطبا من شجر القشر والسلع فيربطونها بذيل الثور ثم يسوقونه الى سفح
الجبل فيضرمون النار في حزمة الحطب فتشتعل، ويبدأ الثور يركض ويخور وهم يرون ذلك
تقليدا للبرق والرعد، فالبرق النار في الحطب والرعد خوار الثور والبقر، ويرون
ذلك مفيدا لهطول الأمطار ! ب - يضربون الثور لتشرب
البقرة: كانوا يردون بقطيع
البقر الماء وقد يشرب الثور ولا تشرب الأبقار، فيرون ذلك من وجود الجن في قرون
الثور فيضربون الثور لتشرب البقر ! ويقول شاعرهم في ذلك: فإني إذا كالثور يضرب
جنبه * إذا لم يعف شربا وعافت صواحبه ! ج - يكوون الجمل السالم لتصح الإبل: كانوا إذا مرضت الإبل وظهر في فمها أو على أطرافها قروح أو بثور،
يأتون ببعير سالم فيكوون شفاهه وساعديه وذراعيه، لتصح سائر الإبل كما يتوهمون
حسب خرافاتهم. وقد يحتمل بعض المتأخرين من المؤرخين أن ذلك كان عملا وقائيا بل
علاجا علميا ! لكننا حينما نرى أنهم يفعلون ذلك بواحد من الإبل بدلا من الكل،
نعلم أن ذلك لم يكن الا خرافة ووهما. د - يحبسون بعيرا على القبر ليحشر الميت عليه: كانوا إذا مات كبير
منهم حفروا قرب قبره حفيرة وحبسوا بها بعيرا وتركوه يموت جوعا وعطشا، يزعمون ان
الميت يركبه ولا يبقى راجلا بلا راحلة !. ه - يعقرون بعيرا عند قبر الميت: كانوا إذا مات كريم منهم كان ينحر الإبل لاضيافه، يعقر أقرباؤه
بعيرا عند قبره تكريما للميت وثناء عليه ! وحارب الإسلام كل هذه الأوهام، بل
انها انما كانت ظلما للحيوان، وإذا ماقارناها نحن بأحكام الإسلام بشأن حماية
الحيوان رأينا أن الإسلام كان ثورة على هذه الأفكار السائدة في ذلك المحيط
الجاهل. ويكفينا من بين عشرات الأحكام أن الإسلام قرر للحيوان حقوقا على صاحبه (انظر
بهذا الصدد كتاب من لا يحضره الفقيه 2: 286 - 292.). و - علاج المرضى: كانوا يرون أن الملدوغ والملسوع لو كان معه شئ من النحاس مات،
وكانوا يعالجونها بإناطة عقود وقلائد الذهب والفضة برقبتهما وكانوا يعالجون عضة
الكلب المكلوب (داء الكلب) بدم كبير القبيلة أو شيخ العشيرة يضعونه على موضع
الجراح ! وقد جاء هذا المعنى
في هذا البيت المعروف: أحلامكم لسقام الجهل
شافية * كما دماؤكم تشفي من الكلب وكانوا إذا ظهرت على أحد منهم سمات مس الجنون لجؤوا لطرد الأرواح الشريرة منه الى عظام الموتى والأقمشة الملوثة
بالأوساخ والقاذورات فعلقوها برقبته. ولدفع الجنون عن
الجنين والبنين كانوا يعلقون سن السنور والثعلب بخيط فيعلقونها برقابهم. وكانت الام إذا رأت في فم أو شفاه أولادها بثورا حملت على رأسها طبقا
وطافت على دور
القبيلة فجمعت شيئا من الخبز والتمر وأطعمتها الكلاب ليطيب بنوها. وكان نساء
الحي يراقبن أبناءهن كيلا يأكلوا شيئا من ذلك الخبز والتمر فيصابوا بذلك الداء. وإذا استمر مرض أحدهم قالوا انه قتل حية أو غيرها من الجن، وللاعتذار من الجن كانوا
يصنعون بعيرا من الطين يحملونه التمر والحنطة والشعير ويتركونه ببعض شعاب
الجبال، فإذا رأوا الحمل بعد ذلك قد تغير شئ منه قالوا ان الهدية قبلت وسيطيب
المريض، وإلا قالوا: إنهم استقلوا الهدية فلم يقبلوا بها !. وكانوا إذا دخلوا قرية وخافوا الجن أو الطاعون صاحوا في مدخل القرية عشر مرات بصوت الحمير (النهيق) وقد يعلقون
برقابهم عظم الثعلب ! وكانوا إذا ضلوا في البيداء نزعوا ملابسهم فلبسوها
بالمقلوب كي ينقلبوا الى أهلهم ! وكانوا عند السفر يربطون خيطا بغصن شجرة أو
فرعها، فإذا رجعوا ووجدوه كما هو اطمأنوا الى وفاء أزواجهم وعدم خيانتهن لهم،
أما إذا فقدوه أو وجدوه قد حل اتهموا أزواجهم بخيانتهم من ورائهم. وكانوا إذا
سقط سن من أسنان أطفالهم رموا به الى جهة الشمس وقالوا: أيتها الشمس اعطينا سنا
أحسن من هذا ! وكانت المرأة التي لا يبقى لها أولادها تطأ القتيل سبع مرات ويرون
أن ذلك نافع لها ليبقى لها ولدها بعد هذا. هذه نماذج من الخرافات التي كانت قد خيمت على محيط حياة العرب في
عهد الجاهلية فجعلت منه عهدا مظلما أسود ومنعت عقولهم من الرقي والنمو. |
المرأة
في المجتمع الجاهلي:
|
كانت المرأة لديهم كسلعة تباع وتشترى، تماما كالحيوانات، ولا
يورثونها، ويرثونها مع التركة، ولا حد لتزويج الرجال منهن، ويعظلوهن ليذهبوا
ببعض ما آتوهن - كما في القرآن الكريم - ويتزوجون بزوجات آبائهم، ويمنعون
أزواجهم إذا طلقوهن ان يتزوجن بغيرهم الا بإذنهن، ولا يكون ذلك الا بمال. اما الإسلام فيكفينا منه تغييرا
لهذا الوضع واصلاحا له قول رسول الله (صلى الله عليه
وآله) في خطبته في حجة الوداع: " أيها
الناس: ان لنسائكم عليكم حقا ولكم عليهن حقا، فحقكم عليهن ان لا يوطئن أحدا
فرشكم، ولا يدخلن أحدا تكرهونه بيوتكم الا بإذنكم، وان لا يأتين بفاحشة، فإن
الله قد أذن لكم ان تعظلوهن وتهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضربا غير مبرح، فإذا
انتهين واطعنكم فعليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف اخذتموهن بأمانة الله واستحللتم
فروجهن بكتاب الله، فاتقوا الله في النساء واستوصوا بهن خيرا " (تحف
العقول: 30 ط بيروت). |
مبدأ
العرب، والعرب العاربة:
|
إن ما كتبه العرب عنهم بعد الاسلام مزيج بالأساطير، وقد ظل تأريخهم
تأريخا مبهما حتى أواسط القرن الماضي حيث جد علماء الآثار والحفريات الأثرية
التاريخية من الغربيين في قراءة آثارهم المنقوشة بالخط المسند على الأبراج
والهياكل والنصب والأحجار، فاستقر
رأي هؤلاء الباحثين الغربيين على أن العرب الجنوبيين في اليمن هم من الموجة
السامية الأخيرة التي بدأت في أواخر الألف الثاني ق م، أي في حدود الألف قبل
الميلاد، أي قرابة خمسة عشر قرنا قبل الاسلام، اتجهت من شمال الجزيرة الى جنوبها، لامن بابل العراق (العصر
الجاهلي، لشوقي ضيف: 25 - 28.)
بينما نرى في التاريخ النقلي المتوارث أن الهجرة كانت من بابل الى اليمن، فمثلا: ذكر المسعودي في أوائل من تكلموا بالعربية عن نسل نوح ببابل العراق
بعد الطوفان قال: وكان من تكلم بالعربية: يعرب وجرهم، وعاد، وثمود، وعملاق، وطسم، وجديس، ووبار، وعبيل وعبد
ضخم، فسار يعرب بن قحطان بن عابر بن شالخ بن ارفخشد بن سام بن نوح (اي الجيل
الخامس بعد نوح) بمن تبعه من ولده.. فحل باليمن. وسار بعده عاد بن عوص بن ارم بن سام بن نوح بولده ومن تبعه، فحل بالأحقاف
وأداني الرمل بين عمان وحضرموت واليمن وتفرق هؤلاء في الأرض فانتشر منهم ناس كثير: منهم جيرون بن سعد بن عاد حل بدمشق فمصر مصرها، وجمع عمد الرخام
والمرمر إليها وشيد بنيانها وسماها " ارم ذات العماد ". قال المسعودي: وهذا
الموضع بدمشق في هذا الوقت - وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة - سوق من أسواقها
عند باب المسجد الجامع يعرف
بجيرون، وهو بنيان عظيم
كان قصر هذا الملك (جيرون) عليه أبواب من نحاس عجيبة، بعضها على ما كانت عليه،
وبعضها من مسجد الجامع. وسار بعد
عاد بن عوص: ثمود بن عابر بن ارم بن سام بن نوح، بولده ومن تبعه، فنزلوا الحجر الى فرع، نحو وادي القرى بين الشام والحجاز ونبيهم صالح (عليه السلام). وسار بعد ثمود:
جديس بن عابر بن ارم بن سام بن نوح، بولده ومن تبعه، وهؤلاء نزلوا اليمامة. وسار بعد جديس: عملاق بن لاوذ بن ارم بن سام بن نوح، بولده ومن تبعه فنزل هؤلاء
أكناف الحرم والتهائم، ثم انضافوا الى ملوك الروم فملكتهم الروم على مشارف الشام
والغرب والجزيرة من ثغور الشام فيما بينهم وبين فارس، منهم السميدع بن هوبر،
ومنهم اذينة بن السميدع. ثم سار طسم بن لاوذ بن ارم بن سام بن نوح بعد عملاق بن لاوذ بولده
ومن تبعه، فكان منزلهم
باليمامة، واسمها إذ ذاك جر، وكانت أفضل البلاد وأكثرها خيرا فيها صنوف الشجر
والأعناب، وهي حدائق ملتفة وقصور مصطفة، وكثرت طسم فملكت عليها عملوق بن جديس. فكان عملوق يحكم
طسم وجديس، ولكن كثرت جديس فملكت عليها الأسود بن غفار. وكان عملوق ظلوما غشوما
لاينهاه شئ عن هواه، وكان قد قهر على جديس وتعدى عليهم. وترافع إليه زوجان من
جديس تنازعا في ولدهما عمن يكون بعد الطلاق فحكم الملك أن يؤخذ الولد منهما
ويجعل في غلمانه، فقالت فيه شعرا ذمته به وبلغ قولها الملك فغضب، وأمر أن لا
تتزوج امرأة من جديس فتزف الى زوجها حتى تحمل إليه فيفترعها قبل زوجها، فلقوا من
ذلك ذلا طويلا، ولم تزل تلك حالتهم حتى تزوجت اخت الأسود ملك جديس ففعل بها
كسائر نسائها، فخرجت تقول شعرا تحرض به قومها جديس على طسم. فصنع الأسود طعاما
كثيرا ودعا إليه عملوق ومن معه من رؤساء طسم باليمامة فأجابوه، فوثبت جديس عليهم
بأسيافهم فقتلوهم عن آخرهم ومضوا الى ديارهم فانتهبوها. قال المسعودي: وسار بعد طسم بن لاوذ: وبار بن اميم بن لاوذ بن ارم بن سام بن نوح، بولده ومن تبعه من
قومه، فنزل برمل عالج، وأصابهم نقمة من الله فهلكوا لبغيهم في الأرض. وسار بعد وبار بن اميم:
عبد ضخم بن ارم بن سام بن نوح بولده ومن تبعه فنزلوا الطائف، ثم هلك هؤلاء ببعض
غوائل الدهر فدثروا، ولهم ذكر في الشعر الجاهلي. وسار بعد عبد ضخم بن ارم:
جرهم بن قحطان بولده ومن تبعه، وطافوا البلاد حتى أتوا مكة فنزلوها (بعرفات،
وبعد ظهور زمزم نزلوا حول البيت بمكة). وسار اميم بن لاوذ بن ارم
بعد جرهم بن قحطان فحل بأرض فارس، فالفرس من ولد كيومرث بن اميم بن لاوذ بن ارم
بن سام بن نوح على خلاف في ذلك. ونزل ولد كنعان بن حام بن
نوح بلاد الشام فبهم عرفت تلك الديار فقيل: بلاد كنعان. قال المسعودي: وقد
ذكر جماعة من أهل السير والأخبار: ان جميع من ذكرنا من هذه القبائل كانوا أهل
خيم وبدوا مجتمعين في مساكنهم من الأرض. وان اميما وأولاده (أي الفرس) هم أول من
ابتنى البنيان ورفع الحيطان وقطع الأشجار وسقف السقوف واتخذ السطوح. وقد كان من ذكرنا من الامم
لايجحد الصانع عزوجل، ويعلمون
أن نوحا (عليه السلام) كان نبيا. ثم دخلت عليهم بعد ذلك شبه ومالت نفوسهم الى ما تدعو إليه الطبائع
من الملاذ والتقليد، وكان في نفوسهم هيبة الصانع والتقرب إليه بالتماثيل
وعبادتها لظنهم أنها مقربة لهم إليه. وكان عبيل بن عوص بن ارم بن سام بن نوح نزل هو وولده ومن تبعه بلاد
الجحفة بين مكة والمدينة، فهلكوا بالسيل فسمي ذلك الموضع بالجحفة لإجحافها بهم. وكان يثرب بن قامة بن مهليل بن ارم بن عبيل نزل هو وولده ومن تبعه
المدينة فسميت به يثرب، وهؤلاء أيضا هلكوا ببعض غوائل الدهر وآفاته. وقد أخبر الله جلت قدرته عمن اهلك من قوم عاد وثمود فقال تعالى * (كذبت ثمود وعاد بالقارعة فأما ثمود فاهلكوا بالطاغية وأما عاد
فاهلكوا بريح صرصر عاتية) * (الحاقة:
4 - 6.) ارسل الله على عاد الريح العقيم فخرجت عليهم من واد لهم (بصورة
سحاب مركوم) * (فلما
رأوه... قالوا هذا عارض ممطرنا) * وتباشروا بذلك، فلما سمع هو ذلك منهم قال لهم * (بل
هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب اليم) * (الأحقاف: 24.). ولما دثرت هذه الامم من
العرب والقبائل خلت منهم الديار فسكنها غيرهم من الناس، فنزل قوم من بني حنيفة اليمامة واستوطنوها. وقد كانوا نزلوا
بلاد الجحفة بين مكة والمدينة.
واختلفوا في بني حضور فقيل إنهم من ولد يافث بن نوح، ومنهم من الحقهم بمن ذكرنا من
العرب البائدة ممن سمينا، وكانت امة عظيمة ذات بطش وشدة. ومنهم من رأى أن ديارهم
كانت بلاد جند قنسرين الى تل ماسح الى خناصرة الى بلاد سورية، وهذه المدن في هذا
الوقت مضافة الى أعمال حلب من بلاد قنسرين من أرض الشام. ومن الناس من رأى أنهم
كانوا بأرض السماوة وأنها كانت عمائر متصلة ذات جنان ومياه متدفقة، وذلك بين
العراق الى حد الحجاز والشام، وهي الآن براري وقفار وديار خراب. وقد كان الله بعث إليهم شعيب بن مهدم بن حضور بن عدي: نبيا ناهيا لهم عما كانوا عليه، وهو غير شعيب بن نويل. فجد شعيب
بن مهدم في دعائهم وخوفهم وتوعدهم، وظهرت له معجزات ودلائل أظهرها الله على يديه
تدل على صدقه وتثبت حجته على قومه، فقتلوه. وكان في عصره نبي آخر هو برخيا بن اجنيا بن رزنائيل بن شالتان، من
أسباط يهودا بن اسرائيل بن اسحاق بن ابراهيم، فأوحى الله إليه أن يأمر بعض الملوك في الشام بغزو العرب أصحاب
شعيب بن مهدم، فسار إليهم في جنوده وغشى دارهم بعساكره، فاستعدوا لحربه ولكن
انفضت جنودهم وتفرقت جموعهم وولت كتائبهم وأخذهم السيف فحصدوا أجمعين وبشأنهم -
قيل - قال الله تعالى * (فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون) * (مروج الذهب 2: 109 - 131 بتصرف - الأنبياء: 12.). |
العرب
من ولد قحطان:
|
قال المسعودي: "
ودثرت العرب العاربة عدا ولد قحطان من يعرب، فدثرت عاد وثمود والعمالقة وجرهم
وطسم وجديس ووبار وعبيل، وسائر من سمينا، ودخل من بقي ممن ذكرنا في العرب
الباقية الى هذا الوقت، وهم ولد قحطان ومعد، ولا نعلم أن قبيلا بقي يشار إليه في
الأرض من العرب الأولى غير معد وقحطان " (مروج
الذهب 2: 24 ط بيروت.). وقال: " الواضح من
أنساب اليمن وما تدين به كهلان
وحمير ابنا قحطان الى هذا الوقت قولا وعملا، وينقله الباقي عن الماضي والصغير عن
الكبير، والذي وجدت عليه التواريخ القديمة للعرب وغيرها من الامم، ووجدت عليه
الأكثر من شيوخ ولد قحطان من حمير وكهلان بأرض اليمن والتهائم والأنجاد، وبلاد
حضرموت والشحر والأحقاف، وبلاد عمان وغيرها من الأمصار: أن الصحيح في نسب قحطان: أنه قحطان بن عابر ابن شالخ بن قنان بن ارفخشد بن سام بن نوح. وكان لعابر ثلاثة أولاد: فالغ وقحطان وملكان. وولد لقحطان أحد وثلاثون ذكرا منهم يعرب، وولد ليعرب: يشجب، وولد
ليشجب: عبد شمس فتملك وقاتل وسبى فلقب: بالسبأ لسبيه السبايا. وولد لسبأ: حمير
وكهلان، وانما العقب في قحطان من ولد هذين: حمير وكهلان. هذا هو المتفق عليه عند
أهل الخبرة والمتيقن لديهم. وكان قحطان سرياني اللسان وانما تكلم يعرب بالعربية
بخلاف لسان قحطان أبيه " (مروج الذهب 2: 45، 46 ط بيروت.). |
ملوك
اليمن:
|
قال المسعودي " وفد عبيد
بن شرية الجرهمي على معاوية فسأله عن أخبار اليمن
وملوكها وتواريخ سنيها، فذكر: أن اول ملوك اليمن: سبأ بن
يشجب بن يعرب بن قحطان، ثم ملك بعده الحارث بن شداد بن ملظاظ ابن عمرو. ثم ملك
بعده ابرهة بن الرائش وهو ابرهة ذو المنار، ثم ملك بعده افريقس بن ابرهة. ثم ملك
بعده أخوه العبد بن ابرهة، ثم ملك بعده الهدهاد بن شرحبيل بن عمرو وهوذ والصرح،
ثم ملكت بعده بلقيس بنت الهدهاد سبع سنين، ثم ملك سليمان بن داود (عليهما
السلام) ثلاثا وعشرين سنة. ثم ملك بعده ارحبعم بن سليمان سنة، ثم رجع الملك الى
حمير فملك من بعد ارحبعم بن سليمان: ناشر النعم بن يعفر بن عمرو ذي الأذعار، ثم
ملك بعده عمرو بن شمر بن افريقس، ثم ملك بعده تبع الأقرن بن عمرو، وهو تبع
الأكبر، ثم ملك بعده ابنه ملكيكرب بن تبع. ثم ملك بعده تبع أبو كرب اسعد بن
ملكيكرب، ثم ملك بعده كلال بن مثوب، ثم ملك بعده تبع بن حسان بن تبع، ثم ملك
بعده مرثد، ثم ملك بعده ابرهة بن الصباح، ثم ملك بعده ذو شناتر بن زرعة، ثم ملك
بعده لخنيعة ذو شناتر، في مجموع مدة ألف وتسعمائة وسبع وعشرين سنة. هذا ما حكي
عن عبيد بن شرية في ترتيب ملوك اليمن (مروج
الذهب: 2: 60 - 62 ط بيروت.).
ونترك
هنا ذكر بقية ملوك اليمن وما وقع على عهدهم، لنأتي على
ذلك بعد ذكر انتشار العرب من اليمن الى الحجاز ويثرب والعراق والشام. ورجحنا ذكر خبر عبيد بن شرية الجرهمي في هذا الباب للاختصار، ولترجيح
المسعودي له بقوله
" ولم يصح عند كثير من الاخباريين - أي المؤرخين - من أخبار من وفد على
معاوية من أهل الدراية بأخبار الماضين وسير الغابرين العرب وغيرهم من المتقدمين
فيها، الا خبر عبيد بن شرية واخباره اياه عما سلف من الأيام وما كان فيها من
الكوائن والحوادث وتشعب الأنساب. وكتاب عبيد بن شرية متداول في أيدي الناس مشهور
" (مروج الذهب: 251 ط بيروت.). |
سيل
العرم وتفرق الأزد في البلدان:
|
ذكر الله تعالى في القرآن الكريم أنه أرسل على أهل بلاد سبأ سيلا
سماه سيل العرم،
وقال المسعودي: " لا خلاف
بين ذوي الرواية والدراية:
أن العرم هو المسناة التي قد احكم عملها لتكون حاجزا بين ضياعهم وبين السيل (مروج
الذهب 2: 163، 164.)، وكان فرسخا في فرسخ، بناه لقمان بن عاد بن عاديا الأكبر (مروج الذهب 2: 161.).
وهذا السد هو الذي كان يرد عنهم السيل فيما سلف من الدهر إذا حان أن يغشى
أموالهم وقد كانت أرض سبأ قبل ذلك يركبها السيل، وكان ملك القوم في ذلك الزمان
يقرب الحكماء ويدنيهم ويؤثرهم ويحسن إليهم، فجمعهم من أقطار الأرض للالتجاء الى
رأيهم والأخذ من محض عقولهم، فشاور في دفع ذلك السيل وحصره، وكان ينحدر من أعالي
الجبال هابطا على رأسه حتى يهلك الزرع ويسوق من حملته البناء. فأجمع القوم رأيهم
على عمل مصاريف له الى البراري تقذف به الى البحر. فحضر الملك المصارف حتى انحدر
الماء وانصرف وتدافع الى تلك الجهة، واتخذ السد في الموضع الذي كان فيه بدء
جريان الماء، من الجبل الى الجبل، من الحجر الصلد والحديد بطول فرسخ، وكان وراء
السد والجبال أنهار عظام وقد اتخذوا من تلك المياة نهرا بمقدار معلوم ينتهي في
جريانه الى المخراق، وكان في هذا المخراق للأخذ من تلك الأنهار ثلاثون نقبا
مستديرة في استدارة الذراع طولا وعرضا مدورة على أحسن هندسة وأكمل تقدير، وكانت
المياه تخرج من تلك الأنقاب في مجاريها حتى تأتي الجنان فترويها سقيا، وتعم شرب
القوم. ثم إن تلك الأمم بادت وضربها الدهر بضرباته وطحنها بكلكله، ومرت
عليها السنون، وعمل الماء في اصول ذلك المخراق وأضعفه ممر السنين عليه وتدافع
الماء حوله. وأتى
أبناء قحطان الى هذه الديار وتغلبوا على من كان فيها من القطان، ولم يعلموا الآفة في السد والمخراق وضعفه، وعند تناهي السد
والبنيان في الضعف عن تحمله غلب الماء على السد والمخراق والبنيان إبان زيادة
الماء، فقذف به في جريه ورمى به في تياره واستولى الماء على تلك الديار والجنان
والعمائر والبنيان، حتى انقرض سكان تلك الأرض وزالوا عن تلك المواطن (مروج
الذهب 2: 162، 163 ط بيروت.)، وذلك عندما انتهت الرئاسة فيهم الى عمرو بن عامر بن ماء السماء
بن حارثة الغطريف بن ثعلبة بن امرئ القيس بن مازن بن الأزد بن الغوث بن كهلان بن
سبأ " (مروج الذهب 2: 161 ط بيروت.). قال المسعودي:
" ورأى عمرو في النوم سيل العرم، فعلم أن ذلك واقع بهم وأن بلادهم ستخرب،
فكتم ذلك واخفاه وأجمع ان يبيع كل شئ له بأرض سبأ ويخرج منها هو وولده فابتاع
الناس منه جميع ماله بأرض مأرب. فلما اجتمعت لعمرو بن عامر أمواله أخبر الناس بشأن سيل العرم فقال: قد رأيت انكم ستمزقون كل ممزق، واني أصف لكم البلدان فاختاروا
أيها شئتم. فنزل جمع من الأزد
بقصر عمان المشيد فقيل لهم:
أزد عمان. ولحق وادعة بن عمرو الأزدي وجمع معه بشعب كرود وهي أرض همدان فانتسبوا إليهم. وسكن جمع منهم ببطن مر فسموا خزاعة لانخزاعهم عمن كان معهم من
الناس وهم بنو عمرو بن لحي. ولحق الأوس والخزرج ابنا حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن
عامر بيثرب فسكنوه. ولحق بنو غسان ببصرى وحفير من أرض الشام. ولحق مالك بن فهم
الأزدي وولده بالعراق فسكنوه. وخرج من كان بمأرب من
الأزد يريدون أرضا يقيمون بها، فساروا حتى إذا كانوا بنجران تخلف أبو حارثة بن
عمرو بن عامر ودعبل بن كعب فانتسبوا الى مذحج، وخرج عمرو بن عامر وولده من مأرب
فسار حتى إذا كان بين السراة ومكة أقام هنالك اناس من بني نصر من الأزد. وسار
عمرو بن عامر وبنو مازن حتى نزلوا بين بلاد الأشعريين وعك على ماء يقال له غسان
بين واديين يقال لهما زبيد ورمع، فأقاموا على غسان فسموا به، والسراة: جبل يقال
له الحجاز أيضا سكن الأزد في سهله وجبله وما قاربه من ظهره، وانما سمي السراة
ظهر هذا الجبل كما يقال لظهر الدابة السراة، وهو جبل يبدأ من تخوم الشام يفرز
بين الحجاز وبين ما يلي أعمال دمشق والأردن وبلاد فلسطين " (مروج
الذهب 2: 170 - 174 ط بيروت.).
" وتخلف في مأرب مالك بن اليمان بن بهم بن عدي بن عمرو بن مازن بن
الأزد، فأصبح ملك مأرب بعد من خرج منه الى ان كان من امرهم ماكان من الهلاك
" (مروج الذهب 2: 172.). قال المسعودي: وكان
أهل مأرب يعبدون الشمس، فبعث الله إليهم رسلا يدعونهم الى الله ويزجرونهم عما هم
عليه، ويذكرونهم آلاء الله ونعمته عليهم، فجحدوا قولهم وردوا كلامهم وأنكروا ان
يكون لله عليهم نعمة وقالوا لهم: ان كنتم رسلا فادعوا الله ان يسلبنا ما انعم به
علينا ويذهب عنا ما أعطانا فدعت عليهم رسلهم فأرسل الله عليهم سيلا هدم سدهم
وغشى الماء أرضهم فأهلك شجرهم وأباد خضرا عمهم وأزال أنعامهم وأموالهم ! فأتوا
رسلهم فقالوا: ادعوا الله أن يخلف علينا نعمتنا ويخصب بلادنا ويرد علينا ما شرد
من أنعامنا، ونعطيكم موثقا ان لانشرك بالله شيئا. فسألت الرسل ربها فأجابهم الى
ذلك وأعطاهم ما سألوا. فأخصبت بلادهم واتسعت عمائرهم الى أرض فلسطين والشام قرى
ومنازل وأسواقا. فأتتهم رسلهم فقالوا: موعدكم ان تؤمنوا بالله، فأبوا الا طغيانا
وكفرا فمزقهم الله كل ممزق " (مروج
الذهب 2: 174، 175.). ولابد هنا من استدراك: كان هذا مهذب ما كتبه العرب عنهم بعد الاسلام، تأريخا نقليا ظنيا،
بل مزيجا بالأساطير. وظل هكذا
مبهما حتى أواسط القرن الماضي،
حيث جد علماء الآثار والحفريات الأثرية التاريخية الغربيون في قراءة آثارهم
المنقوشة بالخط المسند على الأبراج والهياكل والنصب والأحجار، فاستقر رأي الباحثين من علماء العرب على ما يلي موجزا: إن العرب الجنوبيين في اليمن ليسوا من هجرة بابل بالعراق، بل هم من الموجة السامية الأخيرة التي بدأت في أواخر
(الألف الثاني ق م وأوائل الألف
ق م)، أي في حدود خمسة عشر
قرنا قبل الاسلام، متجهة من شمال الجزيرة نحو جنوبها، لا من خارجها وكانت مملكة سبأ في جنوب اليمن وعاصمتها مأرب، ولهجتهم السبائية هي
احدى اللهجتين الأساسيتين:
المنبثقة في اللغة اليمنية العربية القريبة من العربية الشمالية الحجازية
والتهامية، والحبشية. واللهجة الاخرى:
المعينية لمملكة معين في جوف اليمن، وهي المملكة الثانية من الممالك الخمس هناك. والمملكة الثالثة:
مملكة قتبان في الجنوب الغربي لسبأ، وعاصمتها تمنع. والمملكة الرابعة:
الاوسانية جنوبي قتبان. والمملكة الخامسة:
مملكة حضرموت، وعاصمتها شبوة. وكانت الدولة المعينية في
القرن العاشر قبل الميلاد، واستولت على مملكة قتبان ومملكة حضرموت، ووجدت نقوشهم
في شمالي الحجاز في دادان من منطقة العلا، وفي الحجر أو مدائن صالح (عليه
السلام). وفي (القرن السابع ق م) غلب السبائيون على المعينيين بل على الجنوب كله والشمال، واتخذوا
مأرب حاضرة لهم، ومنهم
بلقيس، نحو (270 ق م). وفي (115 ق م)
نازعهم ملوك ظفار وذي ريدان الحميريون وغلبوا عليهم وعلى الدول الجنوبية فتلقبوا باسم ملوك ذي ريدان واليمان وسبأ وحضرموت، وكانت لهم تجارات الى الهند ومصر وافريقية الشرقية. وفي (24 ق م) اتجه
الرومان الى الملاحة في البحر الأحمر فاستولوا على ميناء عدن وأتخذوها قاعدة
لتموين سفنهم، فشلوا بذلك تجارة الحميريين، فساءت أحوالهم الاقتصادية، وأهملوا
شؤونهم العمرانية، وأخذ الخراب يدب في البلاد. وفي منتصف القرن الرابع الميلادي حاربهم ملوك الحبشة واستولوا على
بلادهم وظلوا بها عشرين عاما.
وأخذت القبائل الحجازية تغير عليها. فأخذ كثير من عشائر اليمن يهاجرون الى الشمال. وهكذا اختلطت بل امتزجت
لغتهم مما أعد لانتصار العربية الشمالية الحجازية على العربية الجنوبية اليمنية
في أواخر العصر الجاهلي. وسبب المنافسة الشديدة بين
فارس وبيزنطة بعثات دينية مسيحية الى اليمن، فاعتنقها أهل نجران في القرن الخامس الميلادي. وناهضها ملوك
حمير وآخرهم ذو نؤاس وحاول القضاء على المسيحيين بنجران (أصحاب الاخدود). فأوعزت بيزنطة الى النجاشي أن يغزو اليمن، فغزاها في (525 م)
واستولى عليهم وضمها الى بلاده. وظل هذا الاحتلال الحبشي لليمن نحو خمسين عاما. وأخيرا استنجد أهلها (سيف بن ذي يزن) بالفرس، فردوا الأحباش وظلوا بها حتى سنة (638 م) إذ اعتنق الاسلام الحاكم الفارسي على اليمن بادان (العصر الجاهلي لشوقي ضيف: 27، 28.) في السنة السابعة للهجرة، فأقره رسول الله على عمله على اليمن، فكان
عليها حتى توفي رسول الله (صلى الله عليه وآله). ومن أجل أن نصل الى مدى
عظمة الحضارة الحديثة الإسلامية فان علينا ان ندرس الحضارات السائدة يومئذ: |
الحضارة
في الامبراطوريتين الفارسية والرومية:
|
يهمنا للوصول الى مدى بركات الدعوة الإسلامية أن نطلع على حال
الناس: أولا - في
محيط نزول القرآن الكريم، وبيئة ظهور الإسلام وتناميه. ثانيا - في أرقي نقاط العالم يومئذ فكرا وأدبا واخلاقا وحضارة. لا نرى التأريخ يعرفنا
بأرقى نقطة في ذلك العهد سوى
الإمبراطوريتين الفارسية والرومية، وان من تمام البحث أن ندرس أوضاع هاتين الدولتين من مختلف النواحي
كي يتضح لنا مدى أهمية الحضارة التي أتى بها الإسلام. ونحن إذ نتبين نقاط الضعف في العرب أو الفرس أو الروم قبل الإسلام لا
نريد من ذلك إلا الوصول الى الحقائق في تعاليم الإسلام السامية، ولامانع لدينا
عن تبين الواقع وتشريح الحقائق وبيان العقائد الخرافية والواقع السئ قبل ظهور
الإسلام وحينه، سواء كنا عربا أو فرسا أم من الروم. |
دولة
الفرس حين ظهور الاسلام:
|
المعروف أن بعثة رسول الإسلام (صلى الله عليه وآله) كانت في سنة
(611 م) المصادف لعهد خسرو پرويز (590 - 628 م) وعلى عهده هاجر الرسول (صلى الله
عليه وآله) من مكة المكرمة الى المدينة المنورة (622 م) وهو مبدأ التأريخ الهجري القمري والشمسي. وفي هذه الأيام كان يحكم القسم الأعظم من العالم المتحضر يومئذ
الدولتان الكبيرتان والقويتان الروم الشرقية وايران الساسانية، وكانت هاتان منذ
مدة مديدة في حرب مستمرة في سبيل الاستيلاء على الحكم في العالم، امتدت هذه
الحروب من عهد السلطان انو شيروان (531 - 589 م) وحتى عهد خسرو پرويز أي أكثر من
أربعة وعشرين عاما. وقد اثرت الخسائر الفادحة والمصاريف الباهضة التي كانتا
تتحملانها في هذه الحروب في قدرتها حتى لم يبق منها سوى شبح مخيف خاو. ونحن من أجل أن ندرس
أحوال الناس في ظل الفرس من مختلف الجهات علينا أن نطلع على أوضاع الحكومات من
بعد انوشيروان وحتى دخول المسلمين الى ايران. |
الحضارة
الايرانية:
|
إن اكبر نقد يرد على الحكم القائم يومئذ هو أنه كان حكما
ديكتاتوريا استبداديا فرديا، ولاشك أن العقل الفردي ليس كالعقل الجماعي، فالظلم
والمساومة أقل في الحكومة الجماعية من الحكومة الفردية. ولاشك ان شكل الحكم مما
يؤثر في كيفية سلوك الناس. ان الملوك الساسانيين كانوا ذوي ابهة وفخفخة، فالبلاط الساساني
وجماله وبهاؤه كان مما يحار فيه الناظرون، وذلك من كثرة ما جمعوا فيه من الجواهر
والأشياء النفيسة والثمينة ومن الصور والنقوش مايحير العقول. وقد شرح بعض المؤرخين بعض ترف خسرو پرويز، منهم حمزة الإصفهاني في كتابه " سني ملوك الأرض " إذ كتب يقول:
" كان لخسرو پرويز ثلاثة آلاف امرأة، واثنا عشر ألف جارية مطربة وراقصة.
وله ستة آلاف حارس. وله ثمانية آلاف وخمسمائة من الخيل الجياد للطراد، واثنا عشر
ألف من البغال لحمل أثقاله مع ألف بعير. وله تسعمائة وستون فيلا للقتال " (سني ملوك
الارض: 420.). إن نظام المجتمع على عهد الساسانيين كان نظاما طبقيا بل كان من قبل
ذلك قديما وانما اشتد على عهدهم. كتب أحد المحققين من المؤرخين الإيرانيين بشأن الطبقات في عهدهم يقول: " إن من أشد عوامل
التفرقة في الايرانيين هو النظام الطبقي المتشدد الذي كان يطبقه الساسانيون في
ايران، وان كانت جذوره ممتدة منذ القدم إلا ان الساسانيين كانوا قد تشددوا في
تطبيقه جدا: فالملكية الفردية كانت محصورة تقريبا في سبع اسر خاصة بينما كان
عامة الناس محرومين من ذلك تقريبا. ونفوس ايران إذ ذاك مائة وأربعون مليونا
تقريبا، وإذا افترضنا أن الاسر السبع كانت تبلغ سبعمائة ألف، وأضفنا الى ذلك
امراء الثغور وأصحاب الأملاك الصغار الذين كانوا يتمتعون بشئ من حق الملكية
وافترضنا انهم أيضا سبعمائة ألف، كان الذي يتمتع بحق الملكية مليونا ونصف
المليون من مجموع مائة وأربعين مليونا " (بالفارسية:
تاريخ اجتماعي ايران 2: 24 - 26.). وقد نقل مؤلف كتاب " ايران في عهد الساسانيين " عن أحد
المؤرخين الغربيين أنه يقول:
" إن العمال والفلاحين في ايران على عهد الساسانيين كانوا يعيشون بمنتهى
الذلة والمسكنة والتعاسة، وكان من تكليفهم في الحروب أن يمشوا من وراء العسكر
كأنهم قد كتب عليهم أن يكونوا عبيدا أرقاء، من دون أن ينالوا على أعمالهم هذه
الشاقة شيئا " (بالفارسية: ايران در زمان ساسانيان: 424.). وذكر الكاتب الإسلامي شكيب أرسلان يقول: " إن العمال والفلاحين كانوا محرومين من أي شئ من الحقوق
الاجتماعية بل كان عليهم عب ء مصارف الأشراف وثقلهم، فلم يكن لهم أي نفع في حفظ
هذا النظام، ولذلك كان كثير من الفلاحين والطبقات السفلى في المجتمع قد تركوا
أعمالهم فرارا عن أداء الضرائب والمكوس يلتجئون الى الصوامع والدير والكنائس
والبيع " (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين: 70 - 71.). أجل، إن نسبة قليلة أقل من
الواحد والنصف في المائة من المجتمع الإيراني كان يتمتع بكل شئ، اما أكثر من
ثمان وتسعين بالمائة من الناس في إيران كانوا كالعبيد الأرقاء. |
اختصاص
التعليم بالطبقة الممتازة:
|
إن أطفال الأثرياء واولي النعمة والجاه فقط هم الذين كان لهم الحق
في ان يتعلموا، أما
الطبقات الوسطى وسائر الناس
فقد كانوا ممنوعين عن ذلك ! وقد اعترف بهذا النقص في الحضارة الفارسية القديمة
حتى اولئك الذين كانوا يحاولون الاعتزاز بتلك الحضارة. فقد ذكر الفردوسي الشاعر
الحماسي الفارسي في ديوان شعره الحماسي قصة تشهد على ذلك، وقد وقعت القصة على عهد أنوشيروان أي في العهد الساساني الذهبي،
وتشهد هذه القصة على أن الأكثرية الساحقة من الناس لم يكن لهم حق التعلم. يقول الفردوسي:
كان أنوشيروان بحاجة الى المعونة المالية لقتال الروم، فان أكثر من ثلاثمائة ألف
جندي ايراني كانوا يحاربون الروم وهم في إعواز شديد للأسلحة والطعام. وكانوا قد
أبلغوا انوشيروان بذلك، فاضطرب انوشيروان وخاف على مصيره من ذلك، ودعا إليه وزيره العالم " بزرك مهر " ليشاوره في الأمر، ويقول انوشيروان:
إن على الوزير أن يذهب الى بلاد مازندران ليجمع المال اللازم لذلك من الناس، ويقول بزرك مهر:
إن الخطر قريب وعلينا أن نفكر في الخلاص السريع ولذلك يقترح على الملك أن يقترض
من الناس فيقبل الملك على أن يعجل في الأمر، ويبعث بزرك مهر رسله الى القرى
والمدن القريبة ليبلغوا أغنياءها بالأمر. ويحضر تاجر يعمل في تجارة الأحذية
ويستعد لدفع جميع مصارف الحرب بشرط واحد هو: أن يسمح لولده بالتعلم والوزير لا
يرى مانعا عن اجابة ملتمسه، فيسرع الى خسرو أنوشيروان ويبلغ الملك أمل الرجل، فيغضب أنوشيروان لذلك وينهر وزيره ويقول له: ما هذا الطلب الذي تتقدم به أنت ؟ ! ليس من الصلاح أن نستجيب لهذا
الطلب، فإنه بخروجه عن طبقته ينخر في كيان النظام الطبقي، وهذا ضره أكثر من نفع
ما يدفعه من الذهب والفضة ! فان ابن التاجر إذا تعلم فأصبح عالما ذا فن وهب له علمه آذانا
صاغية وعيونا ناظرة، فإذا جلس ابني على سرير الملك واحتاج الى كاتب استخدمه ولم
يبق للعلماء من أبناء البيوتات والاسر سوى أن يتحسروا ويحسدوا ابن التاجر ! (بالفارسية:
تاريخ اجتماعي ايران: 618.) ومع هذا
وصفوه بالعادل. وفي فتنة
مزدك قتل ثمانين الفا من
أصحابه (مروج الذهب 1: 264.) ليقتلع جذور الفتنة ! بينما جذور الفتنة كانت تكمن في التمايز
الطبقي وكنز الثروات بيد الأثرياء الأغنياء، وحكر الثراء والمقام بأيدي طبقة
خاصة، الى جانب حرمان الأكثرية الساحقة، وسائر المفاسد الاخرى. في حين يحاول أنوشيروان ان يسكت الناس بالضغط وقوة السلاح ! وبصدد توجيه نسبة صفة
العدالة الى أنوشيروان يقول
إدوارد براون:
" وذلك لشدة بطشه بالزنادقة المزدكيين مما حببه الى مؤبد المجوس، وهم الذين
أثبتوا له هذه الصفة " (بالفارسية:
تاريخ ادبى ايران 1: 246.).
ووصفوه بأنه كان قد علق خارج قصره سلسلة ليحركها المظلومون، فينبهونه بذلك
ويدعونه الى العدل بشأنهم (بالفارسية: تاريخ اجتماعي ايران 11: 618.). ودليل الكذب فيه هو أنهم يقولون بعد ذلك: أنه لم يحركها في طول هذه المدة الا حمار ! وكذلك قالوا
" كان فيمن وفد إليه من رسل الملوك وهداياها والوفود من المماليك في
العراق: رسول لملك الروم قيصر بهدايا والطاف، فنظر الرسول الى إيوانه وحسن
بنيانه، ومع ذلك اعوجاج ميدانه ! فقال: كان ينبغي أن يكون الصحن مربعا ؟ فقيل له: إن
عجوزا لها منزل في جانب الاعوجاج منه، وأن الملك أرادها على بيعه وارغبها فأبت
فلم يكرهها الملك وبقي الاعوجاج من ذلك على ما ترى ! فقال الرومي: هذا
الاعوجاج الآن أحسن من ذلك الاستواء " (مروج
الذهب 1: 264.). عجيب ! الا يحضر من يريد أن يبني هكذا قصر عظيم هندسة وتصميما خاصا
له وهكذا يقدم على البناء بدون أرضية كافية وهندسة خاصة ؟ ! فيخرج القصر معوج
الميدان. - كما نقل المسعودي -، من يصدق هذا ؟ ! أجل لا يبعد أن يكون موابذة
المجوس وأصحاب البلاط قد وضعوا هذه القصص له شكرا له على ما قدمه لهم من خدمات
تذكر فتشكر. وأعجب من ذلك ان حاول بعض الشعوبيين ان يضع حديثا على لسان رسول
الله (صلى الله عليه وآله) يصف انوشيروان (بالفارسية:
تاريخ اجتماعي ايران 11: 618.) بالعدالة: " ولدت في زمن الملك العادل " وخبرا يقول: إن
عليا (عليه السلام) حينما دخل مدائن كسرى نزل في ايوانه وأخرج جمجمة فأحيى
صاحبها وسأله عن حاله فقال: انه انوشيروان وهو لكفره محروم عن الجنة ولكنه لعدله
لا يعذب بالنار ! ومما يشهد على أن أصحاب البلاط كانوا يمدحونه ويثنون عليه
وينشرون عنه الجميل مما ليس فيه ما يذكره الفردوسي في " الشاهنامة ":
أن الوزير بزرك مهر كان وزيرا لانوشيروان مدة ثلاثة عشر عاما، ثم غضب عليه خسرو
پرويز فألقاه في السجن وكتب إليه رسالة قال له فيها: ان علمك هو الذي أدى بك الى
القتل ! فكتب بزرك مهر في جوابه يقول له: كنت أفيد من عقلي ما كان الحظ يساعدني،
والآن إذ ليس لي حظ فسأفيد من حلمي وصبري إن كنت قد حرمت من كثير من أعمال الخير
والبر، فقد استرحت أيضا من كثير من أعمال السوء والشر، إن كنت قد سلبت منصب
الوزارة فقد اعفيت من ألم الظلم فيها أيضا، فما يضرني ذلك ؟ ! فلما بلغت هذه الرسالة ليد خسرو پرويز حضر عليه وأمر ان يجدع أنفه
وتقطع شفتاه ! فلما سمع بزرك مهر ذلك قال: أجل إن شفتي يستحقان أكثر من ذلك !
فقال خسرو: لماذا ؟ قال بزرك مهر: لأني أثنيت عليك بهما عند الخاصة والعامة بما
لم يكن فيك، ونشرت عنك جميلا لم تكن أهلا له، يا أسوأ الملوك ! بعد أن أيقنت
بطهري وبري أردت قتلي بسوء الظنون ؟ ! اذن فمن يأمل عدلك ومن يعتمد قولك ؟ ! فغضب خسرو پرويز من هذا
الكلام وأمر بضرب عنقه (الشاهنامة 6: 260 - 257. وروى القصة المسعودي في مروج الذهب 10: 276.). وكذلك كان أكثر الحكام
الساسانيين ذوي سياسة خشنة بالعصا الغليظة، وحتى العلماء وأصحاب الأعمال لم تكن
لهم قيمة لدى بلاطهم، إذ كان القادة الساسانيون مستبدين بآرائهم بحيث لا يجرؤ
أحد على اظهار نظره لديهم، ولهذا كان عامة الإيرانيين غير راضين عنهم ولكنهم
كانوا خائفين منهم (بالفارسية: ايران در زمان ساسانيان: 318.). وقتل خسرو پرويز ابنه شيرويه ليصل الى الملك كما نقل المسعودي (مروج
الذهب 1: 280.). وملك بعد شيرويه حتى يزدجرد آخر ملوك الساسانيين عدد يتراوح ذكرهم
في التأريخ بين ستة الى أربعة عشر رجلا وامراة وهذا يعني أن الحكومة تغيرت في
مدة أربع سنين أكثر من ست مرات الى أربع عشرة مرة. فما حال دولة يحدث فيها أربعة
عشر انقلابا دمويا في مدة أربع سنين فقط ! فكل من يصل للملك يقتل كل من يدعيه
غيره، ويفعل ما يراه موطدا لأركان ملكه، فالأب يقتل ابنه والابن يقتل أباه، وكل
من كان يصل الى الملك كان يقتل أقرباءه أي أبناء الملوك الآخرين دفعا للخطر، كان
القادة ينادون بالملك للأطفال والنساء وبعد عدة أسابيع يقتلونهم ويجلسون آخرين
بمكانهم. وهكذا كانت الدولة الساسانية تسير الى هاوية الهلاك. |
حروب
ايران والروم:
|
بعد وقوع عدد من الحروب بين ايران والروم عقد أنوشيروان صلحا مع
الروم اسموه بالصلح الدائم. وبعد مدة ساءت ظنون أنوشيروان بالروم فأعد العدة
وجهز الجيوش للهجوم على الروم واشتعلت نيران الحرب، وفي فترة قليلة نسبيا فتح
الفرس سورية وأحرقوا مدينة انطاكية ونهبوا آسيا الصغرى، واستمرت الحروب حتى
عشرين عاما وحتى فقد كل من المعسكرين امكاناتهم وطاقاتهم فيها، وبعد خسائر كثيرة
عقدوا الصلح بينهم مرة اخرى ورجعوا الى حدودهم السابقة كما كانت شريطة ان يدفع
الروم كل عام عشرين ألف دينار من الذهب الى ايران. وبعد أن تملك في الروم
" تي پاريوس " بدأ هجوما عنيفا على ايران بغية الانتقام منها، واستمرت
هذه الحروب سبع سنين. ومات عنها أنوشيروان وتملك بعده ابنه خسرو پرويز وفي عام
614 م بدأ پرويز هجوما عنيفا على الروم وفتح في الحملة الأولى الشام وفلسطين
وأفريقيا، ونهب اورشليم وأحرق كنيسة القيامة ومزار السيد المسيح وهدم المدن،
وانتهت هذه الحروب بقتل أكثر من تسعين ألف مسيحي ! وكان هذا بعد بعثة رسول الإسلام (صلى الله عليه وآله) فتفاءل
المشركون بغلبة الفرس عبدة النيران على الروم المسيحيين واغتم المسلمون لذلك،
وانتظر رسول الله (صلى الله عليه وآله) الوحي فنزلت الآيات الأوائل من سورة
الروم * (الم غلبت
الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن
بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء) * (الروم: 1 - 5.). وقد تحقق نبأ القرآن الكريم بشأن الروميين بعد عشر سنين أي في
سنة 627 م تقريبا فاستعاد هرقل مدينة نينوى (الموصل) ولم يمض شئ حتى قتل خسرو
پرويز على يد ابنه شيرويه، ومات شيرويه بعد ثمانية أشهر، وبعد شيرويه حكم ايران
في مدة أربع سنين اكثر من عشرة قادة أربعة منهم نساء وانتهى الأمر بهجوم العرب
المسلمين وقد ساعدت هذه الحروب التي استمرت أكثر من خمسين عاما على تقدم
الفتوحات الإسلامية مساعدة جادة مؤثرة، وذلك إذ تعلقت مشيئة الله بأن ينتشر نور
الإسلام. |
اضطراب
الوضع الديني:
|
وأهم اضطراب كان يسود ايران على عهد الساسانيين هو الاضطراب
الديني. إن " أردشير بابكان " مؤسس سلسلة الساسانيين كان ابن موبذ من
موابذة المجوس ووصل الى السلطة بمساعدة علماء المجوس، ولذلك قام بنشر دينهم في
أطراف مملكته بكل ما قدر عليه. فأصبح الدين الرسمي والعام لإيران على عهد
الساسانيين هي المجوسية، وبما أن سلطة الساسانيين إنما تحققت بتأييد موابذة
المجوس لذلك كانوا في رعاية تامة من قبل البلاط الساساني، وكانوا أقوى طبقة في
المجتمع الطبقي الإيراني، وكان الحكام الساسانيون في الواقع متعينين بتعيين من
الموابذة المجوس، فإذا تمرد أحد الحكام على العلماء الروحيين كانوا يقابلونه
بشدة، وكذلك كان الملوك الساسانيون يقبلون على طبقة رجال الدين أكثر من أية طبقة
اخرى، ولذلك كان الموابذة في اطراد وكثرة، وكان الساسانيون يفيدون منهم لتأييد سلطانهم،
ويقيمون لهم في أطراف ايران معابد النيران وفي كل منها عدد كثير منهم، حتى كتبوا
أن خسرو پرويز بنى معابد نيران كانت تسع لإثني عشر ألف " هيربد " من
العباد يصلون ويتلون الأناشيد الدينية (بالفارسية:
تاريخ تمدن ساسانى 1: 1.). وهكذا كانت المجوسية دين
البلاط الرسمي، وكان الموابذة المجوس يسعون لتهدئة الطبقات الكادحة والمحرومة من
المجتمع بحيث لا يحسون كثيرا بآلامهم. وهذه الصلاحيات اللامحدودة المخولة للموابذة المجوس وضغطهم الشديد
على عموم الناس أثر في ابعاد الناس عن المجوسية، فكان أكثر الناس يحاولون أن
يجدوا لانفسهم دينا غير دين طبقة الأشراف. ومن ناحية اخرى:
فان دين المجوس كان قد فقد حقيقته تماما، فقد بلغ تقديس النيران الى تحريم ضرب
الحديدة المحماة بالنار بالمطرقة لأنها بمجاورتها النار كانت قد تقدست بقداسة
النار المقدسة ! وهكذا شكلت الخرافات والأساطير أكثر اصول عقائد زرادشت، أما
حقائق دينه فقد تركت المجال لعدد من الشعائر الخاوية الميتة التي كان الموابذة
يضيفون كل يوم إليها خرافات جديدة. ومن ناحية ثالثة:
كانت الثقافة الرومانية والهندية قد وجدت طريقها الى ايران على عهد أنوشيروان،
وسبب اصطكاك العقائد الزرادشتية مع العقائد المسيحية والأديان الاخرى يقظة
الايرانيين وأصبحوا يتألمون مما في الدين الزرادشتي من الخرافات والمطاليب
الواهية، وسبب كل هذا اختلاف العقائد والآراء في ايران وشيوع الأديان والمذاهب
الاخرى، والشك والتردد في آخرين، حتى ترك أكثر الناس ما كانوا يعتقدون به قبل
ذلك، وشمل الإلحاد والاضطراب كل أنحاء ايران (بالفارسية:
تاريخ اجتماعي ايران 2: 20 فما بعد.). |
الحضارة
الرومية:
|
أما الروم فلم تكن بأحسن حالا من ايران، فالحروب الداخلية
والخارجية التي كانت تكابدها دائما ضد ايران على أراضي " أرمنستان "
وغيرها كانت قد أعجزت الناس وجعلتهم مستعدين لاستقبال أي تغيير للأوضاع الراهنة
آنذاك. إن رجال الكنيسة حينما اخذوا زمام الحكم بأيديهم في الروم جعلوا يمارسون
الضغط الشديد بالنسبة الى الوثنيين ولم تكن الفتنة تنطفئ بين الوثنيين
والمسيحيين فكانت الاختلافات الدينية أكثر من كل شئ في الروم، وكان ضغط رجال
الكنيسة قد أدى بكثير من الناس الى الحرمان والفقر، وكانت هذه الاختلافات تنخر
في كيان قدرة الامبراطورية الرومية. وعدا هذا فقد كان البيض في
شمال الروم في إصكاك وصدام مع الصفر في شرق الروم في سبيل الحصول على أكثر
النقاط صلاحا للزراعة والاستثمار، وكانت هذه الصدامات أحيانا تؤدي الى خسائر
فادحة عظيمة من الطرفين، وكان هذا
قد تسبب في انقسام الامبراطورية الرومية الى قسمين: شرقي وغربي. ويرى المؤرخون أن الأوضاع الاجتماعية والمالية
والسياسية الرومية في القرن السادس كانت في اضطراب شديد، ولا يرون في اقتدار
الروم على استعادة سلطتها على بعض النقاط المسلوبة منها دلالة على قدرة الروم،
بل يرون ذلك من فقدان النظام الحاكم في ايران لانضباطه وكيانه القوي. اذن: فالامبراطوريتان اللتان كانتا تدعيان السيادة السياسية على
العالم يومئذ كانتا حين طلوع فجر الإسلام تعيشان مرحلة الشيخوخة والهرم، ومن البديهي أن هذه الأوضاع المضطربة كانت قد أوجدت في الشعبين
استعدادا بل استقبالا لدين جديد ينظم أوضاعهم هذه من جديد منقذا لهم مما هم فيه
من الاضطراب والقلق. وإذ قرأنا هذا عن أوضاع هاتين الامبراطوريتين فلنقرأ عن
دويلتين عربيتين تابعتين لهما: |
ملوك
الحيرة من اليمن:
|
بعد قرنين من الميلاد وفي أوائل القرن الثالث، هبط بعض الطوائف
العربية من بني لخم اليمنيين في الأراضي المجاورة للفرات في العراق، على عهد
الفرس الساسانيين. وكان الفرس الساسانيون يحكمون العراق، ولكن القرى والمزارع العراقية الساسانية كانت تتعرض من حين لآخر
لغارات القبائل العربية البدوية من ناحية بادية الصحراء الحجازية، فكانوا بحاجة
الى عرب يملكونهم على ثغور العراق فيكفونهم غارات البدو، فملكوا هؤلاء اللخميين.
وبنى هؤلاء اللخميون في هذه المنطقة عددا من المدن أو القرى والقلاع أهمها
الحيرة قرب الكوفة على حافة بادية الصحراء الحجازية، ولفظ الحيرة تحرف عن حرتا
السريانية وتعني القبة والحرم، أو المعسكر والمخيم (العصر
الجاهلي، لشوقي ضيف: 44.) وساعد جو هذا البلد ومناخه وماؤه على عمرانه والحضارة فيه، ومن
مظاهر الحضارة فيه أنهم تعرفوا على الخط والكتابة به، ومنهم انتقل الى عرب
الحجاز (فتوح البلدان: 457 ط اورپا.). ومن تاريخهم المنقول نكتفي نحن هنا بما ذكره اليعقوبي والمسعودي
ونعلق عليه بما يلزم: نقل اليعقوبي عن أهل العلم بالرواية قالوا: لما تفرق أهل اليمن،
قدم مالك بن فهم بن غنم بن دوس، حتى نزل أرض العراق في أيام ملوك الطوائف (الفرس) فأصاب قوما من
العرب من معد وغيرهم بالجزيرة (الموصل) فملكوه عليهم عشرين سنة. وتكهن جذيمة الأبرش (التنوخي)، وعمل صنمين سماهما (الضيزنان) واستهوى بهما أحياء من العرب، وصار بهم الى العراق، فسار من ارض
البصرة الى ارض الجزيرة (الموصل) حتى صار الى ناحية على شط الفرات بالقرب من
الأنبار يقال لها: بقة. وكان يملك تلك الناحية امرأة يقال لها الزباء (محرفة كلمة: زنوبة ملكة تدمر النبطية التي كانت تحكم الأنباط بالشام
عن الرومان، وطغت فتمردت عليهم، فحاربوها حتى قضوا عليها عام (273 م) - العصر الجاهلي، لشوقي ضيف: 32.). فلما صار جذيمة الى أرض الأنبار، واجتمع له من أجناده ما اجتمع قال
لهم: اني عزمت على أن أرسل الى الزباء (زنوبة) فأتزوجها فأجمع ملكها الى ملكي ! فقال غلام له يقال له قصير: إن الزباء (زنوبة) لو كانت ممن تقبل
نكاح الرجال لسبقت إليها !. فكتب إليها. فكتبت إليه: أن أقبل الي أزوجك نفسي ! فارتحل إليها.
فلما دخل عليها.. قتلته فقطعته " وكان يعاصر اردشير بن بابك وشاهپور ابن
اردشير " (مروج الذهب 2: 65.).
فلما قتل جذيمة ملك مكانه ابن اخته: عمرو بن عدي (ومن هنا سموا:
بني عدي) بن نصر (ومن هنا سموا: بنى نصر) ابن ربيعة (فهم من بني ربيعة) ابن عمرو
بن الحارث بن مالك بن غنم بن نمارة بن لخم ومن هنا سموا: اللخميين، ولتكرار اسم
المنذر فيهم بعد هذا سموا بمناذرة العراق بازاء غساسنة الشام. قال المسعودي: وكان
على الحيرة ابن عم جذيمة: عمرو بن عبد الحي التنوخي، فلما صرف عمرو بن عدي وجوه
جندخاله جذيمة التنوخي الى نفسه ومناهم بالمال والحال، فانصرف إليه منهم بشر
كثير، التقى هو وعمرو ابن عبد الحي التنوخي بالقتال حتى خافوا الفناء، فخضع
التنوخي لابن عدي وتم الأمر له (مروج
الذهب 2: 71 فكان ملكه مائة سنة 2: (66 و 74)، وفي اليعقوبي 1: 209 خمسا وخمسين
سنة. بل نصبه شاهپور بن اردشير الساساني في (241 - 271 م) أي ثلاثين سنة فقط -
العصر الجاهلي لشوقي ضيف: 44.).
قال اليعقوبي: ثم
ملك امرؤ القيس بن عمرو (ملك (272
م)، وكأنه غزا لبنان فهلك
على شرقي جبل الدروز ودفن هناك سنة (328 م) كما في نقش النمارة على قبره في أطلال معهد روماني اكتشفه دوسو
وماكلر عام (1901 م) كما في العصر الجاهلي: 35، فقد ملك (58)، ويقاربه المسعودي
2: 74 ستين سنة، وفي اليعقوبي 1: 209 (35) سنة.). ثم ملك أخوه الحارث بن عمرو. ثم ملك عمرو بن امرئ
القيس. قال المسعودي: ثم
ملك النعمان بن امرئ القيس (مروج الذهب 2: 74.). قال اليعقوبي: ثم
ملك المنذر بن (النعمان بن) امرئ القيس. ثم ملك النعمان (ابن المنذر) وحكم ثماني
وثلاثين سنة، عاصر فيها من ملوك الفرس: يزدجر الأول (من 399 -
420 م. العصر الجاهلي لشوقي ضيف: 44.)
وبهرام گور. وكان من اشد ملوك العرب نكاية في أعدائه. غزا الشام مرارا وأكثر من
المصائب في أهلها وسبى وغنم. وجند الجند على نظام خاص عرف به، فكان عنده من
الجيش كتيبتان: احداهما مؤلفة من رجال الفرس اسمها " الشهباء "
والأخرى من عرب تنوخ اسمها " الدوسر " فكان يغزو بهما من لا يدين له
من العرب (للتفصيل انظر: العرب قبل الاسلام لجرجي زيدان.). تتبع
أخباره بالتفصيل جرجي زيدان في كتابه " العرب قبل الاسلام ". قال
اليعقوبي: وهو الذي بنى " الخورنق " (وكان سبب
بنائه الخورنق: ان يزدجرد بن بهرام شاه بن شاهپور ذي الأكتاف، ولد له ابنه
بهرام، فسأل عن منزل بري مري صحيح من الأدواء والأسقام فدل على ظهر الحيرة، فأمر
يزدجرد النعمان هذا ببناء مسكن له ولابنه بهرام، فامر النعمان رجلا يقال له
سنمار أن يبني له ذلك فبناه، فلما فرغ من بنائه تعجبوا من حسنه واتقان عمله
فوفوه أجره، فقال: لو علمت انكم تصفون بي ما انا اهله وتوفونني أجري لكنت بنيته
بناء يدور مع الشمس حيثما دارت ! فغضب النعمان وقال: كنت قادرا على ان تبني ما
هو افضل منه ولم تبنه كذلك ؟ ! ثم امر به فطرح من اعلى الجوسق من رأس الخورنق،
فجرى ذلك مثلا في العرب يقال: جزاه جزاء سنمار (الطبري 2: 65)، (الاغاني 2: 144
- 146 ط دار الكتب).. والجوسق معرب كلمة: كوشك، وهو الغرفة العالية الخاصة في
أعلى القصر. والخورنق كذلك معرب كلمة: خورنگاه أي المطعم.)
فبينما هو جالس ينظر منه الى مابين يديه من الفرات وما عليه من النخل والأجنة
والأشجار إذ ذكر الموت فقال: وما ينفع هذا مع نزول الموت وفراق الدنيا ؟ ! فتنسك
واعتزل الملك. واياه عنى عدي بن زيد العبادي حيث يقول: وتفكر رب الخورنق إذ أش * - رف يوما وللهدى تفكير سره حاله وكثرة ما يم * - سك، والبحر معرض والسدير فارعوى قلبه وقال: وما غب * - طة حي الى الممات يصير (اليعقوبي
1: 209، 210 ط بيروت.) قال المسعودي: وملك
(بعده ابنه) الأسود بن النعمان. وملك (بعده ابنه) المنذر بن الأسود (مروج
الذهب 2: 74 وفي اليعقوبي 1: 210: المنذر بن النعمان. من (515 م) معاصرا لقباد
الساساني وفي عهده كان الحارث الغساني قد أقام دولته في الشام للروم، فاشتبك
المنذر معه في حروب طاحنة أسر فيها ابنا للحارث فقتله سنة (544 م) وهو صاحب يوم
حليمة المعروف بالقرب من قنسرين وفيها قتل (554 م)، فملك أربعين عاما تقريبا،
وقال المسعودي: (34)، واليعقوبي: (30).). ثم
ملك بعده عمرو بن المنذر (مروج الذهب 2: 74. من (554 - 569 م) وساءت العلاقة بينه وبين قباد
الساساني في أوائل ملكه (قبل 559 م) فعزله قباد وولى مكانه الحارث بن عمرو أمير
كندة، ثم توفى قباد (نحو 559 م) وتملك خسرو أنوشيروان فأعاد المنذر الى حكم
الحيرة فحارب الحارث فهزمه وقتله. ولقب محرق العرب لأنه حرق قوما من العرب من
بني تميم في يوم أوارة باليمامة وفاء بنذره - العصر الجاهلي، لشوقي ضيف: 45.
وحيث عاد الى الحكم توهم اليعقوبي التعدد فقال: ثم ملك عمرو بن المنذر الثاني 1:
210 ط بيروت.) قال اليعقوبي: وهو
ابن هند، وكان يلقب بمضرط الحجارة (لشدته على العرب). وكان قد جعل الدهر يومين:
يوما يصيد فيه ويوما يشرب، فإذا جلس لشربه أخذ الناس بالوقوف على بابه حتى يرتفع
مجلس شرابه.. فلم يزل طرفة بن العبد يهجوه ويهجو أخاه قابوسا ويذكرهما بالقبيح
ويشبب باخت عمرو ويذكرها بالعظيم.. ويساعده على هجائه المتلمس. فقال لهما عمرو:
قد طال ثواكما، ولا مال قبلي، ولكن قد كتبت لكما الى عاملي بالبحرين يدفع لكل
واحد منكما مائة ألف درهم ! فأخذ كل واحد منهما صحيفة. واستراب المتلمس بأمره،
فلما صارا عند نهر الحيرة لقيا غلاما عباديا (أي نصرانيا، أهل عبادة، وقراءة في الكتب.) فقال له المتلمس: أتحسن أن تقرأ ؟ قال: نعم. قال: اقرأ هذه الصحيفة: فإذا فيها: إذا أتاك المتلمس
فاقطع يديه ورجليه. فطرح الصحيفة وقال لطرفة: في صحيفتك مثل هذا ! قال: لا يجترئ
على قومي بهذا وأنا بذلك البلد أعز منه ! ومضى الى عامل البحرين بصحيفته دون أن
يقرأها. فلما قرأ العامل صحيفته قطع يديه ورجليه وصلبه !. ثم ملك أخوه قابوس بن المنذر (اليعقوبي 1: 211 وهو الذي اشتبك مع المنذر بن الحارث التنوخي الغساني
في معارك أهمها معركة عين أباغ سنة (570 م) هزم فيها من المنذر الغساني - العصر
الجاهلي، لشوقي ضيف: 41.). قال المسعودي: وملك
النعمان بن المنذر (الرابع) وهو الذي يقال له: أبيت اللعن، اثنتين وعشرين سنة (مروج
الذهب 2: 75، من (580 - 602) العصر الجاهلي لشوقي ضيف: 46.)
ولتكرار اسم المنذر فيهم سموا: المناذرة. قال اليعقوبي: وكان
مع المنذر أهل بيت من امرئ القيس بن زيد، وكان من أهل ذلك البيت عدي بن زيد
العبادي (النصراني) وكان خطيبا شاعرا قد كتب العربية والفارسية، وكان المنذر قد
جعل عندهم ابنه النعمان فأرضعوه وكان في حجورهم. وكتب كسرى الى المنذر بأن يبعث له بقوم من العرب يترجمون له الكتب. فبعث بعدي بن زيد
وأخوين له، فكانوا في كتابه يترجمون له. فلما مات المنذر قال كسرى لعدي بن زيد:
هل بقي من أهل هذا البيت من يصلح للملك ؟ قال: نعم، ان للمنذر ثلاثة
عشر ولدا كلهم يصلح لما يريد الملك ! فبعث فأقدمهم ومعهم النعمان الذي رباه أهل بيت عدي بن زيد. فأنزلهم
عدي بن زيد كل واحد على حدته، وكان يفضل اخوة النعمان عليه في النزل ويريهم أنه
لا يرجوه، ويخلو بهم رجلا رجلا ويقول لهم: ان سألكم الملك: هل تكفوني العرب ؟
فقولوا له: لن نكفيكهم ! الا النعمان فقد قال له: ان سألك الملك عن اخوتك فقل:
ان عجزت عنهم فأنا عن العرب اعجز ! فلما امر كسرى عدي بن زيد أن يدخلهم عليه، جعل يدخلهم رجلا رجلا،
فإذا سألهم: هل تكفوني ما كنتم تكفون ؟ قالوا: لن نكفيك العرب ! الا النعمان
فانه لما دخل عليه قال له: هل تستطيع أن تكفيني العرب ؟ قال: نعم ! قال: فكيف
تصنع باخوتك ؟ قال: ان عجزت عنهم فأنا عن غيرهم أعجز !. فملكه وكساه وألبسه
اللؤلؤ ! فخرج وقد ملك عليهم. وكان الأسود بن المنذر يحضنه أهل بيت أشراف من الحيرة يقال لهم
بنومرينا، وكان منهم رجل شاعر مارد يقال له عدي بن أوس بن مرينا، لما رأى ذلك
أمر قوما من خاصة النعمان وأصحابه أن يذكروا عدي بن زيد عنده ويقولوا: انه يزعم
أن الملك (النعمان بن المنذر) عامله وأنه هو ولاه ولولاه ماولي، وكلاما نحو هذا
! فلم يزالوا يتكلمون بذلك بحضرة النعمان حتى أحفظوه وأغضبوه على عدي
بن زيد. فكتب النعمان إليه: عزمت عليك الازرتني ! فاستأذن كسرى، وقدم عليه، فأمر
النعمان بحبسه في حبس لا يصل إليه فيه أحد !. فجعل عدي يقول الشعر في محبسه ويستعطف النعمان ويذكر له حرمته
ويعظه بذكر الملوك المتقدمين، فلم ينفعه ذلك. وجعل أعداؤه من آل مرينا يحملون
عليه النعمان ويقولون له: إن أفلت قتلك وكان سبب هلاكك !. وكان لعدي عند كسرى أخوان يقال لأحدهما، ابي، والآخر: سمي، وابنه عمرو
بن عدي، فكتب إليهم شعرا.. فقام أخوه وابنه ومن معهما الى كسرى فكلماه في أمره.
فكتب كسرى الى النعمان يأمره بتخلية سبيله، ووجه في ذلك رسولا... وابتدأ الرسول
به... فبلغ النعمان مصير رسول كسرى الى عدي، فلما خرج من عنده وجه إليه النعمان
من قتله: وضع على وجهه وسادة حتى مات: ثم قال للرسول: إن عديا قد مات. وأعطاه
وأجازه وتوثق منه أن لا يخبر كسرى الا أنه وجده ميتا ! وكتب الى كسرى: أنه قد
مات !. انتقام ابن عدي لأبيه: وقال: وكان عمرو بن عدي يعمل لكسرى عمل أبيه في ترجمة الكتب...
وطلب كسرى يوما جارية وصف صفتها فلم توجد له، فقال له عمرو بن عدي: أيها الملك !
عند عبدك النعمان بنات له وقرابات على اكثر مما يطلب الملك، ولكنه يرغب بنفسه عن
الملك ويزعم أنه خير منه !. فوجه كسرى الى النعمان يأمره أن يبعث إليه ابنته ليتزوجها ! فقال
النعمان: أما في عين السواد وفارس ما يبلغ الملك حاجته ؟ ! فلما انصرف الرسول
أخبر كسرى بقول النعمان. فقال كسرى: وما يعني بالعين ؟ فقال عمرو بن عدي: أراد البقر ! ذهابا بابنته عن الملك ! فغضب الملك وقال: رب عبد قد صار الى اكبر من هذا ثم صار أمره الى
تباب ! وأمسك عنه شهرا، ثم كتب إليه بالقدوم عليه. وبلغت النعمان كلمته فعلم ما أراد، فحمل سلاحه وما قوى عليه ولحق
بجبلي طئ، وهو مصاهرهم على سعدى بنت حارثة منهم، فسأل طيئا أن يمنعوه من كسرى
فقالوا: لا قوة لنا به ! فانصرف عنهم. وجعلت العرب تمتنع من
قبوله. حتى نزل في بطن ذي قار في بني شيبان، فلقي هانئ بن مسعود الشيباني، فدفع
إليه سلاحه وأودعه بنته وحرمته ومضى الى كسرى فنزل ببابه، فأمر به فقيد، ثم وجه
به الى " خانقين " وطرح تحت الفيلة فداسته حتى قتلته فقرب للاسود
فاكلته !. ووجه كسرى الى هانئ بن مسعود: أن ابعث الي مال عبدي الذي عندك وسلاحه
وبناته ! (اليعقوبي 1: 212 - 215. ونقل الطبري 2: 206 عن أبي عبيدة معمر بن
المثنى عن بعضهم: أن هانئ بن مسعود لم يدرك هذا الأمر، وانما هو هانئ بن قبيصة
بن هانئ بن مسعود. وهو الثبت عندي. وكذلك ذكره المسعودي في التنبيه والإشراف:
207.) قال: وكان النعمان أودعه
ابنته وأربعة آلاف درع. فأبى هانئ وقومه أن يفعلوا، فوجه كسرى بالجيوش من العرب
والعجم، فالتقوا بذي قار، فأتاهم حنظلة بن ثعلبة العجلي فقلدوه أمرهم قالوا
لهانئ: ذمتك ذمتنا ولا نخفر ذمتنا ! فحاربوا الفرس، فهزموهم ومن معهم من العرب،
فكان أول يوم انتصرت فيه العرب من العجم (اليعقوبي
1: 215.). فيروى عن رسول الله أنه قال: هذا أول يوم انتصفت فيه العرب من العجم، وبي نصروا (اليعقوبي
1: 212 والمسعودي في التنبيه والاشراف: 208 قال: قيل: إن ذلك كان قبل الهجرة،
وان اناسا من بكر بن وائل من البحرين واليمامة جاؤوا الموسم، كانوا يريدون المضي الى بكر بن وائل مع بني شيبان بالعراق لنجدتهم، فوقف
عليهم النبي (صلى الله عليه وآله) يعرض نفسه عليهم، ودعاهم الى الايمان بالله..
فوعدوا النبي (صلى الله عليه وآله) ان نصرهم الله على الأعاجم آمنوا به وصدقوا
بنبوته ! فدعا لهم النبي بالنصر. فلما بلغه ظهورهم على الأعاجم قال: هذا أول يوم
انتصفت فيه العرب من العجم، وبي نصروا. وقال
في مروج الذهب 1: 307: وكان حرب ذي قار في ملك خسرو
پرويز، وهو اليوم الذي قال فيه النبي (صلى الله عليه وآله): هذا أول يوم انتصفت
فيه العرب من العجم، ونصرت عليهم بي. وكانت بعد بعثته لتمام أربعين سنة من
مولده، وفي رواية اخرى: بعد وقعة بدر بأربعة أشهر. وروى
القصة بالتفصيل الطبري 2: 193 - 212 عن محمد بن هشام الكلبي عن كتاب حماد
الراوية الكوفي، ولكنه روى عن الكلبي قال: اني كنت
استخرج أخبار العرب وأنساب آل نصر بين ربيعة ومبالغ أعمار من عمل منهم لآل كسرى
وتاريخ سنيهم، من بيع الحيرة. وعزز ذلك الطبري فقال: وكان أمر آل نصر بن ربيعة
ومن كان من ولاة ملوك الفرس وعمالهم على ثغر العرب الذين هم ببادية العراق،
متعالما (معلوما) عند أهل الحيرة مثبتا عندهم في أسفارهم وكنائسهم - الطبري 1:
628. وعلى صحة الحديث النبوي لعل العلة فيه هو أن بنات النعمان كن نصارى
مترهبات، وكان خسرو پرويز كافرا مجوسيا زرادشتيا لا تحل له النصرانية. ويدل
على ذلك خبران رواهما المسعودي في مروج الذهب قال: كانت
حرقة بنت النعمان بن المنذر إذا خرجت الى بيعتها يفرش لها طريقها بالحرير
والديباج، مغشى بالخز والوشي، فتقبل في جواريها حتى تصل الى بيعتها وترجع الى
منزلها. ولما وفد سعد بن أبي وقاص القادسية أميرا عليها قتل رستم وهزم الله
الفرس، أتت حرقة بنت النعمان في حفدة من قومها وجواريها وهن في زيها عليهن
المسوح والمقطعات السود، مترهبات، يطلبن صلته - 2: 79. وقال: وكانت هند بنت النعمان بن المنذر مترهبة في دير لها بالحيرة،
فركب المغيرة بن شعبة إليها وهو أمير الكوفة يومئذ. وهند قد عميت، فلما جاء
المغيرة الى الدير استأذن عليها، فاتتها جاريتها فقالت لها: هذا المغيرة بن شعبة
يستأذن عليك ؟ فقالت هند لجاريتها: القي إليه أثاثا، فألقت له وسادة من شعر،
ودخل المغيرة فقعد عليها وقال: أنا المغيرة: فقالت له: قد عرفتك عامل المدرة
(الكوفة) فما جاء بك ؟ قال: أتيتك خاطبا اليك نفسك ! فقالت: أما والصليب لو
أردتني لدين أو جمال ما رجعت الا بحاجتك، ولكني اخبرك الذي أردت له ! قال: وما
هو ؟ قالت: أردت أن تتزوجني حتى تقوم في الموسم في العرب فتقول: تزوجت ابنة
النعمان ! قال: ذلك أردت ! - مروج الذهب 3: 25 ط بيروت. وعليه
فهن نصارى مترهبات لا يحلن لكافر مجوسي زرادشتي. وعلى
أي حال فالعباديون النصارى وهم أخلاط من العرب وغيرهم، والأحلاف من الأنباط من
بقايا سكان العراق من الآراميين والأكديين كانوا يجاورون الاكثرية العرب في
الحيرة، وكانت فيهم جالية فارسية تمتهن الحرف والمهن، وفيهم بعض اليهود، فكانت
الحيرة سوقا تجارية وزراعية كبرى، ومتأثرة بالثقافة الفارسية العامة في المنطقة
- العصر الجاهلي: 47.) |
سائر
ملوك الحيرة ومصيرها:
|
قال المسعودي:
" ثم ملك الحيرة جماعة من الفرس، حتى بلغ عدد الملوك بالحيرة ثلاثة وعشرين
ملكا من بني نصر وغيرهم من العرب والفرس، وكان مدة ملكهم ستمائة واثنتين وعشرين
سنة وثمانية أشهر. وبدأ عمران الحيرة من أوائل المائة الثانية من هؤلاء الملوك
فكان عمرانها من بدوه الى أن بنيت الكوفة فتناقص عمرانها: خمسمائة وبضعا وثلاثين
سنة (وروي في الطبري عن الكلبي: ان الحيرة بنيت مع الأنبار على عهد بختنصر
(نبوخذنصر) فلما هلك بختنصر تحول أهلها الى الأنبار فخربت الحيرة، الى أن عمرت
الحيرة مرة أخرى باتخاذ عمرو بن عدي اللخمي اياها منزلا لنفسه، فعمرت الحيرة
خمسمائة وبضعا وثلاثين سنة الى أن وضعت الكوفة ونزلها الاسلام (الطبري 2: 43))، ثم لم يزل عمرانها يتناقص
الى أيام المعتضد حيث استولى عليها الخراب. وكان جماعة من خلفاء بني العباس
كالسفاح والمنصور والرشيد وغيرهم ينزلونها ويطيلون المقام بها، لطيب هوائها
وصفاء جوهرها وصحة تربتها وصلابتها، وقرب الخورنق والنجف منها. وقد كان فيها
أديرة كثيرة فيها كثير من الرهبان، فلما تداعى الخراب إليها لحقوا بغيرها. قال المسعودي
" وهي في هذا الوقت ليس بها إلا الصدى والبوم " (مروج
الذهب 2: 81 ط 2.). |
غساسنة
الشام:
|
وفي القرن الخامس الميلادي هاجرت جماعات من أطراف الجزيرة الى جهة
شمالها الغربي بجوار حدود المملكة الرومية فأسسوا دولة الغساسنة التي كانت تحت
حماية الامراء الروميين تبعا للقسطنطينية، كما كان حكام الحيرة عمالا لملوك الفرس.
وتحضرت دولة الغساسنة نوعا ما، فهي كانت تجاور " دمشق " من ناحية
ومدينة " بصرى " التأريخية من ناحية اخرى، فهي كانت تحت تأثير الحضارة
الرومية. وبما أن الغساسنة كانوا في خلاف مع مناذرة الحيرة اللخميين ومن ورائهم
الفرس، لذلك كانوا يوالون الرومانيين. وقد بلغ عدد امرائهم بضعة عشر رجلا، واليك
تفصيل خبرهم: |
ملوك
الشام من اليمن:
|
قال المسعودي:
" وتفرقت قبائل العرب لما كان بمأرب فسارت غسان الى الشام (هذا، وقد
سبق آنفا أن هجرتهم كانت في القرن الخامس الميلادي، أي بعد سيل العرم بعديد من
القرون، فالتاريخ الأثري اي المستند على المكتشف من آثارهم لا يدل على أسبق من
ذلك.)، وهم من ولد مازن بن الأزد، وانما غسان ماء لم يزل عمرو بن عامر
حين خرج من مأرب مقيما على هذا الماء، وهو مابين زبيد ورمع وادي الأشعريين بأرض
اليمن. وكانت قضاعة بن مالك بن
حمير بن سبأ أول من نزل الشام من عرب اليمن، واتصلوا بملوك الروم ودخلوا في
النصرانية، فملكوهم على من بالشام من العرب. وأول من ملك منهم النعمان بن عمرو
بن مالك، ثم ملك بعده عمرو بن النعمان بن عمرو، ثم ملك بعده الحواري بن النعمان.
ثم وردت سليح من قضاعة أيضا الشام فغلبت على تنوخ من قضاعة وتنصرت فملكها الروم
على العرب الذين بالشام، وهم ولد سليح بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة
أيضا. فلما سارت غسان الى الشام غلبت على من بالشام من العرب فملكها
الروم على العرب، فكان أول ملك من ملوك غسان بالشام: الحارث بن عمرو بن عامر بن
حارثة، ثم ملك بعده الحارث بن ثعلبة بن جفنة بن عمرو بن عامر بن حارثة، وملك
بعده النعمان بن الحارث بن جبلة بن الحارث بن ثعلبة، ثم ملك بعده المنذر بن
الحارث بن جبلة بن ثعلبة بن جفنة بن عمرو، ثم ملك بعده عوف بن المنذر، ثم ملك
بعده الحارث بن المنذر، وكان هذا على عهد بعثة رسول الله (صلى الله عليه وآله)
ودعاه النبي (صلى الله عليه وآله) الى الإسلام ورغبه فيه ولم يسلم، وملك بعده
جبلة بن الأيهم بن جبلة بن الحارث، وهو الذي أسلم وارتد عن دينه خوف العار
والقود. فجميع من ملك من ملوك غسان بالشام أحد عشر ملكا، وكانت ديار ملوك غسان
باليرموك والجولان وغيرهما من غوطة دمشق واعمالها، ومنهم من نزل الأردن من أرض
الشام (مروج الذهب 2: 83 - 86 ط بيروت.). وقال اليعقوبي:
" كانت قضاعة أول من قدم الشام من العرب، فصارت الى ملوك الروم ودخلوا في
النصرانية فملكوهم فكان أولهم: تنوخ ابن مالك بن فهم بن تيم الله بن الأسد بن
وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة. ثم ورد بنو سليح بن حلوان
بن عمران بن الحاف بن قضاعة الى الشام فغلبوا على تنوخ من بني قضاعة، ودخلوا في
ذمة الروم وتنصروا وأقاموا على ذلك. فلما تفرقت الأزد بسيل العرم وصار من صار
منهم الى تهامة، ومن صار الى يثرب، ومن صار الى عمان، صارت غسان الى الشام
فقدموا أرض البلقاء " (اليعقوبي 1: 206 ط بيروت.). وقال اليعقوبي:
" فسأل بنو غسان بني سليح أن يدخلوا معهم فيما دخلوا فيه من طاعة ملك
الروم، وأن يقيموا في بلادهم لهم مالهم وعليهم ما عليهم. فكتب رئيس سليح وهو
يومئذ " دهمان بن العملق " الى ملك الروم، وهو يومئذ " نوشر
" وكان منزله بانطاكية، فأجابهم الى ذلك بشروط (منها دفع أتاوة يقبضها ملك
الروم) فأقاموا بذلك أزمانا حتى وقعت بين رجل من غسان يقال له " جذع "
ورجل من أصحاب ملك الروم مشاجرة على الأتاوة حتى ضرب الغساني الرومي بسيفه
فقتله. فحمل عليهم صاحب الروم من قبل ملك الروم بجماعة من العرب من قضاعة،
فأقاموا مليا يحاربونه ببصرى من أرض دمشق، ثم صاروا الى " المخفق "
فلما رأى ملك الروم صبرهم على الحرب ومقاومتهم جيوشه كره ان تكون ثلمة عليهم،
وطلب القوم الصلح على ان لا يكون عليهم ملك من غيرهم، فأجابهم ملك الروم الى
ذلك، وكان رئيس غسان يومئذ " جفنة بن علية بن عمرو بن عامر "، فملك
عليهم، وتنصرت غسان، واستقام الذي بينهم وبين الروم وصارت امورهم واحدة، فأقاموا
بالشام مملكة من قبل صاحب الروم. وكان أول ملك جل قدره وعلا ذكره من غسان بعد جفنة بن علية: الحارث
بن مالك بن الحارث بن غضب بن جشم بن الخزرج بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر
بن ثعلبة بن حارثة. وملك بعده: الحارث الأكبر ابن كعب بن علية بن عمرو بن عامر.
ثم ملك أخوه الحارث الأعرج بن كعب فنزل الجولان. ثم ملك أخوه الحارث الأصغر، ثم
ملك. جبلة بن المنذر. ثم ملك الحارث بن جبلة. ثم ملك الأيهم بن جبلة. ثم جبلة بن
الأيهم " (اليعقوبي 1: 206، 207 ط بيروت.). والحارث بن جبلة
منهم هو الذي وقعت بينه وبين المنذر بن امرئ القيس اللخمي المعركة الهائلة في
" قنسرين " فكان من جرائها قتل المنذر ودخول " قنسرين " في
حوزة الحارث بن جبلة، فأعجب الروم بشجاعته وهابوا سطوته فبالغوا في ترقيته
وتقريبه والخلع عليه، ومنحه الامبراطور جوستينان سنة 529 م لقب (البطريرك). وغزا
الفرس بلادهم سنة 614 م فاستولوا على اورشليم ودمشق الشام فانحط أمرهم (سيرة
المصطفى: 17.). وذكر المسعودي من أواخر ملوك غسان: الحارث بن المنذر وقال: وكان هذا على عهد بعثة رسول الله، ودعاه
النبي (صلى الله عليه وسلم) الى الإسلام ورغبه فيه فلم يسلم. وملك بعده جبلة بن
الأيهم بن جبلة، وهو الذي أسلم وارتد عن الإسلام خوف القود والعار (مروج
الذهب 2: 84، 85 ط بيروت.) وذلك أن رجلا فزاريا وطأ ازاره، وكان الخليفة الثاني قد أحسن
وفادته ورفع من شأنه ووضعه في مرتبة المهاجرين الأولين، فلطم الفزاري على رأسه،
فشكاه الفزاري الى الخليفة فلما أحس بان الخليفة سيقتص منه للفزاري فر الى
القسطنطينية. وروى اليعقوبي في حوادث
السنة الثالثة عشرة في بداية خلافة الخليفة الثاني: " أن جبلة بن الأيهم الغساني كان في ثلاثين الفا من قومه مع
الروم في وقعة اليرموك، فلما انهزم الروم في اليرموك رجعوا الى مواضعهم، فأرسل
إليه يزيد بن أبي سفيان: أن اقطع على أرضك بالخراج والجزية، فأبى وقال: أنا رجل
من العرب، وانما يؤدي الجزية العلوج ! (اليعقوبي
1: 142 ط بيروت.) وأتى جبلة الى الخليفة فقال له: خذ مني الصدقة - يعني الزكاة -
كما تصنع بالعرب ؟ قال: بل الجزية - إذ لم تسلم - والا فالحق بمن هو على دينك،
يريد الروم. فخرج جبلة في ثلاثين الفا من قومه وهم نصارى حتى لحق بأرض الروم.
فندم عمر على ماكان منه في أمر جبلة وقومه " (اليعقوبي
1: 137 ط النجف.). |
ولد
اسماعيل بن ابراهيم (عليه السلام):
|
بدأ اليعقوبي في أواخر الجزء الأول من تاريخه فصلا بهذا العنوان وقال
في بدايته " وانما
أخرنا خبر اسماعيل وولده وختمنا بهم أخبار الامم، لأن الله - عزوجل - ختم بهم
النبوة والملك، واتصل خبرهم بخبر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) " (اليعقوبي
1: 221 ط بيروت.) وكذلك فعلنا نحن: وقد سبق نقل مقال المسعودي إذ قال: الواضح من
أنساب اليمن وما تدين به كهلان وحمير أبناء قحطان إلى هذا الوقت قولا وعملا،
وينقله الباقي عن الماضي والصغير عن الكبير، والذي وجدت عليه التواريخ القديمة
للعرب وغيرها من الامم، وعليه وجدت الأكثر من شيوخ ولد قحطان من حمير وكهلان
بأرض اليمن والتهائم والأنجاد، وبلاد حضرموت والشحر والأحقاف، وبلاد عمان وغيرها
من الأمصار: أن الصحيح في نسب قحطان: أنه قحطان بن عابر بن شالخ بن قينان بن
أرفخشد بن سام بن نوح، وقد كان لعابر ثلاثة أولاد: فالغ وقحطان وملكان وولد
لقحطان أحد وثلاثون ذكرا منهم يعرب بن قحطان، وكان قحطان سرياني اللسان، وقد ثبت
ان قحطان هو يقطن بالسريانية وانما عرب فقيل: قحطان وزعم الهيثم بن عدي: ان جرهم
بن عابر بن سبأ بن يقطن، هو قحطان (مروج
الذهب 2: 45 ونؤكد هنا ما قدمناه في عنوان: مبدأ العرب، ص: 107.). وتكلم يعرب وجرهم وعاد وثمود وعملاق ووبار وعبيل وجديس وعبد ضخم
بالعربية فسار يعرب بن قحطان من بابل حتى حل باليمن (مروج الذهب
2: 110.). وسار عبد ضخم بن ارم بن نوح بولده ومن تبعه فنزلوا " الطائف
" وسار جرهم بن قحطان بولده ومن تبعه وطافوا البلاد حتى أتوا " مكة
" فنزلوها (مروج الذهب 2: 121 و 122.). وقال عند ذكره أخبار مكة وبناء البيت ومن تداوله من جرهم وغيرها:
ان جرهم بادروا نحو مكة وعليهم الحارث بن مضاض بن عمرو ابن سعد بن الرقيب بن
ظالم بن هيني بن نبت بن جرهم، حتى أتوا الوادي ونزلوا مكة واستوطنوها مع
اسماعيل. وقال قبل هذا: ان
بني كركر وعليهم السميدع بن هوبر بن لاوي بن قيطور بن كركر بن حيدان، عدمت الماء
والمرعى واشتد بها الجهد، فيممت نحو تهامة يطلبون الماء والمرعى والدار الخصبة،
فأشرف روادهم وهم المتقدمون منهم لطلب الماء على الوادي فنظروا الطير ترتفع
وتنخفض، فهبطوا الوادي ونظروا الى العريش على الربوة الحمراء الذي اتخذته هاجر
ليكون مسكنا لها وفيه هاجر واسماعيل، وقد زمت حول الماء بالأحجار ومنعته من
الجريان فسلم الرواد عليها واستأذنوها في نزولهم وشربهم من الماء، فأنست إليهم
وأذنت لهم في النزول. فتلقوا من وراءهم من أهليهم وأخبروهم خبر الماء، فنزلوا
الوادي مطمئنين مستبشرين بالماء، وبما أضاء الوادي من نور النبوة وموضع البيت
الحرام فرحين، وتكلم اسماعيل بالعربية خلاف لغة أبيه. فقيل في بني كركر هؤلاء: انهم من جرهم، وقيل انهم من العماليق، وان جرهم تسامعت ببني كركر
ونزولهم الوادي وما فيه من الخصب وإدرار الضرع فبادروا نحو مكة (لا يخفى
ان هذا خلاف ما مر من خبر القمي في تفسيره عن الصادق (عليه السلام)، وأن جرهم
كانت نازلة بعرفات، وأنها أول من التقى بهاجر وسكن معها حول زمزم.)
واستوطنوها مع اسماعيل، وتزوج اسماعيل: سامة بنت مهلهل بن سعد بن عوف بن هيني بن
نبت بن جرهم. وعاش اسماعيل مائة وسبعا وثلاثين سنة، وولد له اثنا عشر ولدا ذكرا
وهم: نابت، وقيدار، وأدبيل، وميشام، ومشمع، ودوما، ودوام، ومشا، وحداد، وثيما،
ويطور، ونافش، وكل هؤلاء قد انسل. وقبض اسماعيل وله مائة وسبع وثلاثون سنة، فدفن في المسجد الحرام
حيال الموضع الذي فيه الحجر الأسود (كذا في
مروج الذهب 2: 19 - 21 وسيأتي الصحيح عن اليعقوبي انه دفن في الحجر، ولذلك سمي
حجر اسماعيل، لاحيال الحجر الأسود. ولعل الأسود زيادة تحريف من النساخ.). وقال اليعقوبي:
ان ولد جرهم بن عامر لما صار أخوتهم من بني قحطان بن عامر (كذا، وقد
مر تأكيد المسعودي في نسب قحطان: أنه قحطان بن عابر، وأن جرهم هو ابن قحطان. وفي
موضع آخر ان جرهم هو الجد الثامن للحارث بن مضاض الجرهمي الذي نزل ببني جرهم
بمكة. وهو الصحيح الذي يدل عليه ما مر من خبر علي بن ابراهيم القمي عن الصادق
(عليه السلام)، في تفسيره: 1: 61.) الى
اليمن فملكوا، صاروا هم الى أرض تهامة فجاوروا اسماعيل بن ابراهيم. فتزوج اسماعيل:
الحنفاء بنت الحارث بن مضاض الجرهمي، فولدت له اثني عشر ذكرا " ثم ذكر
أسماءهم فقال " وهذه الأسماء تختلف في الهجاء واللغة لأنها مترجمة من
العبرانية " ثم قال: فلما كملت لإسماعيل مائة وثلاثون سنة توفي فدفن في
الحجر. فلما توفي اسماعيل ولي البيت بعده نابت بن اسماعيل. ثم افترق ولد اسماعيل فمنهم من افترق في البلاد
يطلبون السعة وهم الكبار منهم، وكان من بقي منهم في الحرم من ولد اسماعيل صغارا
فولي البيت المضاض بن عمرو الجرهمي جد ولد اسماعيل. ولم يكن أحد يقوم بأمر
الكعبة في ايام جرهم غير ولد اسماعيل وكانت جرهم في ايامها تطيعهم، تعظيما منهم
لهم ومعرفة بقدرهم، غير ان ولد اسماعيل كانوا يسلمون ملك مكة لجرهم للخؤولة. فقام بأمر الكعبة بعد نابت أمين ثم يشجب بن أمين ثم الهميسع ثم ادد
ثم عدنان بن ادد ثم معد بن عدنان، ثم نزار بن معد، ثم إياد (اليعقوبي
1: 221 - 226 ط بيروت.) ثم خرجت ولاية البيت من أيديهم الى خزاعة (اليعقوبي
1: 238، ومروج الذهب 2: 29.)، وسنذكر خبره فيما يأتي. هذا ماقاله اليعقوبي بشأن الجمع بين
ولاية البيت وملك مكة. وقال المسعودي: لما قبض اسماعيل قام بالبيت بعده نابت بن
اسماعيل، ثم غلبت جرهم على ولد اسماعيل من بعد نابت فقام بأمر البيت بعده اناس
من جرهم: أولهم الحارث بن
مضاض. وكان ينزل هناك في
الموضع المعروف بقعيقعان في أعلى مكة وكان كل من دخل مكة بتجارة عشرها عليه. وكان السميدع بن هوبر بن
لاوي بن قبطور بن كركر بن حيدان ينزل ببني كركر في أجياد من أسفل مكة، فأخذ يعشر
من دخل مكة من ناحيته، فنازع الحارث بن مضاض سلطانه. فخرج الحارث بن مضاض ملك
جرهم تتقعقع معه الرماح والدرق، فسمي الموضع بقعيقعان لما ذكرنا، وخرج السميدع
ملك العماليق ومعه الجياد من الخيل، فعرف الموضع بأجياد الى هذا الوقت. فكانت
للعماليق وهم على جياد الخيل على جرهم، فسمي الموضع فاضحا الى هذا الوقت لفضيحة
جرهم. وصارت ولاية البيت وملك مكة الى العماليق. ثم اصطلحوا ونحروا الجزر
وطبخوا فسمي الموضع ب - (المطابخ) الى الآن (ورواه
ابن هشام في سيرته عن ابن اسحاق: 1: 117.). ثم
كانت بينهم وقعة اخرى كانت لجرهم على العماليق، وأقاموا ولاة البيت نحو ثلاثمائة
سنة، آخر ملوكهم الحارث بن مضاض الأصغر بن عمرو ابن الحارث بن مضاض الأكبر،
وزادوا في بناء البيت ورفعوه على ماكان عليه من بناء ابراهيم (عليه السلام) (مروج
الذهب 2: 22 - 23 ط بيروت.).
وقال اليعقوبي:
ان السميدع كان ملك العمالقة نازع المضاض سلطانه فلما ظهر عليه المضاض مضى
السميدع والعمالقة الى الشام فكان هناك ملك العمالقة بالشام واستقام الأمر لمضاض
حتى توفي. ثم ملك بعده الحارث بن مضاض، ثم ملك عمرو بن الحارث بن مضاض، ثم ملك
المعتسم بن الظليم، ثم ملك الحواس بن جحش بن مضاض، ثم ملك عداد بن صداد ابن
الجندل بن مضاض، ثم ملك فينحاص بن عداد بن صداد، ثم ملك الحارث بن مضاض بن عمرو.
وكان هذا آخر من ملك من جرهم. وطغت جرهم وبغت وفسقت في الحرم، فسلط الله عليهم
الذر فاهلكوا به عن آخرهم وذلك في عصر ادد بن الهميسع بن أمين من ذرية اسماعيل،
وكان ينكر على جرهم أفعالهم فلما هلكت عظم شأنه في قومه وجل قدره (اليعقوبي
1: 222 ط بيروت.). وقال المسعودي:
وبغت جرهم في الحرم وطغت، حتى فسق رجل منهم في الحرم يسمى اساف، بامرأة تدعى
نائلة، فمسخهما الله عزوجل حجرين صيرا بعد ذلك وثنين وعبدا تقربا بهما الى الله
تعالى. فبعث الله على جرهم الرعاف والنمل وغير ذلك من الآفات، فهلك كثير منهم.
وكثر ولد اسماعيل وصاروا ذوي قوة ومنعة فغلبوا على أخوالهم جرهم وأخرجوهم من مكة
فلحقوا بجهينة في موضع يقال له: أضم، فأتاهم في بعض الليالي السيل فذهب بهم.
وصارت ولاية البيت في ولد اياد بن نزار ابن معد ثم الى خزاعة. ثم الى قصي (مروج
الذهب 2: 23 - 31. وروى ابن هشام في سيرته عن ابن اسحاق: أن جرهما بغوا بمكة
واستحلوا حلالا من الحرمة، فظلموا من دخلها من غير أهلها، وأكلوا ماكان يهدى الى
الكعبة من مال، فلما رأى بنو كنانة وبنو خزاعة ذلك أجمعوا لحربهم واخراجهم من
مكة، فآذنوا بالحرب فاقتتلوا، فغلبت كنانة وخزاعة على جرهم فنفوهم من مكة فخرج عمرو بن الحارث بن
مضاض الجرهمي بغزالي الكعبة وبحجر الركن فدفنها في زمزم (سيرة ابن هشام 1: 119).
ودفن زمزم (سيرة ابن هشام: 1: 118). وانطلق هو ومن معه من جرهم الى اليمن،
فحزنوا على ما فارقوا من أمر مكة حزنا شديدا (سيرة ابن هشام 1: 120)). وقد روى الكليني في (فروع الكافي) عن الصادق (عليه السلام) قال: إن جرهم غلبت بمكة على ولاية البيت، فكان يلي ذلك منهم كابر عن
كابر، حتى بغوا واستحلوا حرمتها وأكلوا مال الكعبة وظلموا من دخلها، فلما بغوا
وعتوا واستحلوا فيها بعث الله عزوجل عليهم الرعاف والنمل وأفناهم (فروع
الكافي 4: 211.). نقل المجلسي ذلك في (البحار) ثم نقل عن الفيروز آبادي أن النملة هي قروح في الجنب كالنمل وبثور تخرج في الجسد بالتهاب
واحتراق ثم يرم مكانها يسيرا ثم يدب الى موضع آخر كالنمل (وتجده كذلك في سائر كتب اللغة ومنها: المنجد.). وننتقل هنا الى ذكر خبر المدينة يثرب، واتيان تبان أسعد أبي كرب
اليمني إليها وتهوده بها ومروره في رجوعه بمكة، ثم خبر أصحاب الاخدود باليمن، ثم
دخول الأحباش النصارى الى اليمن وأصحاب الفيل منهم، ثم دخول الفرس المجوس إليها.
ثم نرجع الى بقية أخبار مكة والبيت الحرام وولاته ولاسيما انتقال الأمر الى
خزاعة، وانما قدمنا هنا ما تقدم منها على خبر تبان أسعد وأصحاب الفيل. |
يثرب
بين اليهود والأوس والخزرج:
|
نقلنا فيما مر رواية المسعودي في سبب انتشار العرب من اليمن بعد
سيل العرم، ونزول الأوس والخزرج يثرب " المدينة " وهنا ننقل خبر
اليعقوبي في ذلك لما فيه من التفصيل الخاص بهذا الصدد: قال اليعقوبي: ان تفرق
أهل اليمن في البلاد وخروجهم عن ديارهم كان بسبب سيل العرم، وكان رئيس القوم
عمرو بن عامر بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد، وكان كاهنا،
فتكهن أن بلاد اليمن تغرق، فأظهر غضبه على بعض ولده وباع مرباعه وخرج هو وأهل
بيته، فصاروا الى بلاد " عك " ثم ارتحلوا الى " نجران "
فحاربتهم مذحج، ثم ارتحلوا عن نجران فمروا " بمكة " وبها يومئذ "
جرهم " فحاربوهم حتى أخرجوهم عن البلد، فصاروا الى " الجحفة " ثم
ارتحلوا الى " يثرب " فتخلف بها الأوس والخزرج ابنا حارثة ابن ثعلبة
بن عمرو بن عامر، ولحق بهما جماعة من الأزد من غير ابني حارثة فصاروا حلفاء لهم. وكانت يثرب منازل اليهود،
وكانوا أكثر من الأزد والأوس والخزرج فغلبوهم وقهروهم، حتى كان الرجل من اليهود
ليأتي منزل الأوسي أو الخزرجي أو الأزدي فلا يمكنه دفعه عن ماله وأهله (اليعقوبي
1: 203، ونؤكد أيضا ما قدمناه في عنوان: مبدأ العرب: 107.)، وكان
رجل يقال له " الفطيون " قد تملك على اليهود فتملك على الأزد والأوس
والخزرج فسامهم سوء العذاب. فخرج
مالك بن العجلان الخزرجي الى
تبع أبي كرب تبان أسعد بن ملكليكرب (تبان
أسعد اسم مركب كمعد يكرب، وتبان من التبانة بمعنى الفطانة.)
فأعلمه بغلبة قريظة والنضير عليهم (اليعقوبي 1: 197.) فسار أبو كرب اليمني إليهم
بجيشه حتى قتل من اليهود مقتلة عظيمة (اليعقوبي 1: 204.)
وخلف فيهم ابنا له بين اظهرهم فقتله اليهود، فزحف إليهم وحاربهم (اليعقوبي 1: 197.). وروى الطبري وابن هشام عن ابن اسحاق: أن تبان أسعد قد أقبل من قبل المشرق على المدينة وخلف بين أظهرهم
ابنا له فقتل غيلة. فقدمها مرة أخرى لاستئصال اهلها وهدمها. وكان في المدينة من أحبار
اليهود حبران عالمان راسخان في العلم من بني قريظة أحدهما كعب
والآخر أسد، فلما سمعا بما يريده تبان أسعد من هلاك أهل المدينة وهدمها جاءا
إليه فقالا له: أيها الملك ! لا تفعل ذلك، فانك ان أبيت الا ما تريد حيل بينك
وبينها ولم نأمن عليك عاجل العقوبة ! فقال لهما: ولم ذلك ؟ فقالا: هي مهاجر نبي
يخرج من هذا الحرم من قريش في آخر الزمان تكون داره وقراره ! فتناهى عند ذلك عما
كان يريد بالمدينة. وكان تبع تبان أسعد وقومه
أصحاب أوثان يعبدونها، فلما سمع منهما ذلك أعجبه فاتبع دينهما اليهودية وانصرف
عن المدينة واصطحبهما معه (تهذيب سيرة ابن هشام 1: 20 والطبري 2: 105.). وروى ابن شهر آشوب في (المناقب) عن ابن اسحاق: أن تبع الأول لما سار في الآفاق فوصل الى مكة فلم يعظمه أهلها،
غضب عليهم، فقال له وزيره عمياريسا: انهم جاهلون ومعجبون بهذا البيت ! فعزم الملك
على أن يخرب البيت، فأخذه الله بالصداع وبدأ ينزل من اذنيه وعينيه وأنفه وفمه
ماء نتن، وعجز أطباؤه عنه، فلما أمسى جاء عالم من العلماء الذين كانوا معه الى
وزيره واستأذن منه على الملك، فاستاذن له الوزير، فلما خلا بالملك قال له: هل
أنت نويت في هذا البيت أمرا ؟ قال: أجل، فقال العالم: تب من ذلك ولك خير الدنيا
والآخرة ! فقال: قد تبت مما كنت نويت. فعوفي في الساعة ! فآمن بالله وبإبراهيم
الخليل، وخلع على الكعبة سبعة أثواب. وهو أول من كسا الكعبة. ثم خرج الى يثرب - وهي أرض فيها عين ماء - فاعتزل أربعمائة عالم من
الذين كانوا معه وجاؤا الى باب الملك وقالوا: انا خرجنا من بلداننا وطفنا معك
زمانا حتى جئنا الى هذا المكان، والآن نحن نريد المقام هنا الى آخر أعمارنا !
فسألهم الوزير عن حكمة ذلك ؟ قالوا: أيها الوزير ! ان شرف البيت بمكة بشرف محمد
صاحب القبلة إليها وصاحب القرآن والمنبر واللواء، مولده بمكة وهجرته الى ها هنا،
وإنا على رجاء ان ندركه أو يدركه أولادنا ! فلما سمع الملك ذلك أذن لهم وبنى لهم
دورا (المناقب 1: 15 ط قم المقدسة.). وهذا الخبر وان لم يصرح
بكون العلماء الذين كانوا مع تبع اليمني الأول يهودا فالظاهر منه أنهم
كانوا يهودا وأن نبأهم بمولد رسول الله ومهاجره كان من بشائر شريعة موسى (عليه
السلام) وأيضا لم ينص الخبر على يهودية تبع بل فيه أنه لما تاب مما كان قد نواه
من هدم البيت وعوفي آمن بالله وبإبراهيم الخليل، لكن يظهر من اصطحابه لعلماء
اليهود مكرما لهم سامعا منهم أن المقصود بإيمانه بالله انه كان قبل ذلك فاسقا
غير مؤمن في العمل بدينه. وعلى هذا فهذا الخبر أكثر انسجاما مع ما أخبر به
القرآن الكريم من سبق اليهودية الى اليمن على عهد بلقيس وسليمان وهم قبل تبع
بسبعة قرون تقريبا، بينما الخبر المعروف في أكثر التواريخ بأن تبع الأول كان أول
من آمن باليهودية بدعوة علماء اليهود في مدينة يثرب وأنه أول من دعا أهل اليمن
الى ذلك، لا يوافق كتاب الله كما يأتي. بل روى الصدوق عن ابن عباس انه كان يقول: لايشتبهن عليكم أمر تبع فإنه كان مسلما، وروي عن الصادق (عليه
السلام) أنه قال: إن تبع قال للأوس والخزرج: كونوا ها هنا حتى يخرج هذا النبي،
فأما أنا فلو أدركته لخدمته وخرجت معه (اكمال
الدين: 168 ط النجف.). وروى الطبرسي عن سهل بن سعد عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه
قال: لاتسبوا تبعا فإنه كان قد أسلم (مجمع
البيان 9: 66، وبه قال البيضاوي في أنوار التنزيل 2: 419.). فقرب النفر الذين أشاروا
عليه من هذيل فقطع أيديهم وأرجلهم، ثم مضى حتى قدم مكة، فطاف بالبيت وحلق رأسه،
وأقام بمكة ستة أيام ينحر بها للناس ويطعم أهلها ويسقيهم. وأمره ولاة البيت من جرهم
بتطهيره، وأن لايقربوه دما ولا ميتة، وجعل له بابا ومفتاحا، وكساه ثيابا يمنية.
ثم خرج متوجها الى اليمن بمن معه من جنوده والحبرين. فلما وصل الى اليمن دعا
قومه الى الدخول في اليهودية. وكانت باليمن نار يتحاكمون إليها فيما يختلفون
فيه، فتأكل الظالم ولا تضر المظلوم. فأبوا عليه اليهودية حتى يحاكموه الى النار.
فخرج رجال من قومه بأوثانهم وما يتقربون به في دينهم حتى قعدوا للنار عند مخرجها
التي تخرج منه، وخرج الحبران متقلدين مصاحفهما في اعناقهما حتى قعدوا عند مخرج
النار، فخرجت النار إليهم فأكلت الأوثان وماقربوا معها ومن حملها من رجال حمير،
ولما أقبلت نحو الحبرين هابوها وحادوا عنها، فذمرهم من حضرهم من الناس وأمروهم
بالصبر لها، فصبروا حتى غشيتهم، وخرج الحبران بمصاحفهما في أعناقهما تعرق
جباههما ولم تضرهما. فأجمعت
عند ذلك حمير على اليهودية.
فكذلك كان أصل اليهودية باليمن (تهذيب
سيرة ابن هشام 20، 21. والطبري 2: 105 - 108 كذا، وتبع هذا هو الملك العشرون من
ملوك اليمن المعروفين المعدودين في كتب التاريخ، والعاشر هي بلقيس ثم سليمان بن
داود ثم ابنه أرحبعم بن سليمان. وسليمان من أنبياء بني اسرائيل من بعد موسى،
والبعد الزمني بين بلقيس وسليمان وتبع هذا حسب كتب التأريخ سبعة قرون تقريبا،
ومعنى هذا أن اليمن كانت مسبوقة باليهودية كما حكى القرآن الكريم * (وجدتها
وقومها يسجدون للشمس من دون الله) * (النمل: 24) لا الأوثان والعجب ان لم اجد من
المؤرخين من تنبه لذلك أو تعرض له.). ولا يظهر من خبر تبع تبان أسعد بن كليكرب هذا وتهود اليمن معه أكان
قبل نسخ اليهودية بشريعة عيسى (عليه السلام) أو بعد ذلك، الا انه كان بعد بلقيس
وسليمان بن داود - وهو من أنبياء بني اسرائيل بعد موسى - كان بعدهم بسبعة قرون
تقريبا كما في التواريخ، وبعد تبع تبان أسعد هذا بمدة غير قصيرة استولى على
اليمن الثالث من أولاده بعد حسان وعمرو: زرعة ابن تبان أسعد، يكنى ذا نؤاس، وشاع
أتباع دين المسيح (عليه السلام) على عهده في مدينة نجران، فجعل يطلبهم ويحرقهم
بالاخدود. وروى ابن هشام عن ابن اسحاق (سيرة ابن
هشام 1: 31، 32.) والطبري عنه وعن الكلبي (الطبري
2: 119.): ان زرعة ذا نؤاس تهود فتسمى يوسف والتبس هذا على المسعودي فذكره:
يوسف ذو نؤاس بن زرعة (مروج الذهب 2: 52.). |
أصحاب
الاخدود:
|
روى القمي في تفسيره بسنده عن عطاء عن ابن عباس: أن ذا نؤاس - وهو
آخر من ملك اليمن من حمير - تهود، واجتمعت معه حمير على اليهودية، وسمى نفسه
يوسف، وأقام على ذلك حينا من الدهر. ثم أخبر أن بنجران بقايا قوم على دين
النصرانية، وكانوا على دين عيسى (عليه السلام) وعلى حكم الانجيل ورأس ذلك الدين:
عبد الله بن بريا (تفسير القمي: 2: 414. وروى العياشي في
تفسيره بإسناده عن جابر عن الامام الباقر (عليه السلام) أنه قال: أرسل علي (عليه
السلام) الى اسقف نجران يسأله عن أصحاب الاخدود، فأخبره بشئ: فقال (عليه
السلام): ليس كما ذكرت، ولكن سأخبرك عنهم: ان الله بعث رجلا حبشيا نبيا - وهم
حبشية - فكذبوه فقاتلهم فقتلوا أصحابه وأسروهم وأسروه ثم بنوا له حيرا ثم ملؤوه
نارا، ثم جمعوا الناس فقالوا: من كان على ديننا وأمره فليعتزل، ومن كان على دين
هؤلاء فليرم نفسه في النار ! فجعل أصحابه يتهافتون في النار ! فجاءت امرأة معها
صبي لها ابن شهر، فلما هجمت هابت ورقت على ابنها، فنادى الصبي لا تهابي وارميني
ونفسك في النار، فان هذا - والله - في الله قليل ! فرمت بنفسها في النار وصبيها.
رواه العلامة الطباطبائي في تفسيره ثم قال: ورواه السيوطي في الدر المنثور عن
علي (عليه السلام) بطريقين وعن الحسن (عليه السلام) أيضا (الميزان 20: 257).
وروى ذيل الخبر عن المرأة وطفلها المسعودي في (مروج الذهب 2: 78). وروى الطبرسي
في (مجمع البيان) عن سعيد بن جبير: أن اهل اسفندهان كانوا مجوسا فلما انهزموا
قال عمر: ماهم يهود ولا نصارى فليسوا من أهل الكتاب. فقال علي (عليه السلام):
بلى قد كان لهم كتاب رفع، وذلك أن ملكا لهم سكر فوقع على ابنته أو قال: على اخته
فلما أفاق قال لها: كيف المخرج مما وقعت فيه ؟ قالت: تجمع أهل مملكتك وتخبرهم
أنك ترى نكاح البنات وتأمرهم أن يحلوه ! فجمعهم فأخبرهم ! فأبوا أن يتابعوه، فخد
لهم اخدودا في الأرض، وأوقد فيه النيران وعرضهم عليها فمن أبى قبول ذلك قذفه في
النار، ومن أجاب خلى سبيله. رواه الطباطبائي... في (الميزان 20: 256) ثم قال ورواه السيوطي في
(الدر المنثور). وقيل: ان الذين خدوا الاخدود ثلاثة: تبع صاحب اليمن، وقسطنطين
بن هلائي حين صرف النصارى عن التوحيد الى عبادة الصليب، ونبوخذنصر ملك بابل حين
ادعى الربوبية وأمر الناس أن يسجدوا له فامتنع دانيال وأصحابه، فألقاهم في النار
! نقله محققو سيرة ابن هشام 1: 32. واحتمل التعدد العلامة
الطباطبائي في تفسيره (الميزان 2: 257). وقال السيد هاشم الحسني في كتابه (سيرة
المصطفى: 22) " ذلك - ويقصد به خبر اخدود اليمني - جاء في بعض التفاسير
ولكن لاتؤكده التفاسير الموثوقة، وليس بعيدا أن يكون من الاسرائيليات التي
أدخلها كعب الأحبار وأمثاله ". من هنا يظهر ان السيد الحسني سامحه الله لم يحسن النظر في روايات
أخبار القصة، والا فليس في طريق أي رواية من أخبارها كعب الأحبار وأمثاله، نعم
احدى روايات ابن اسحاق تنتهي الى وهب بن منبه اليماني، وهو مثل كعب الأحبار،
ولكن هذا الخبر لا يتناسب أن يعد من الاسرائيليات، فانه ليس لصالح بني اسرائيل
واليهود بل لصالح النصارى على اليهود، فكيف يكون من الإسرائيليات ؟ !) فحمله
أهل دينه على ان يسير إليهم ويحملهم على اليهودية ويدخلهم فيها، فسار حتى قدم
نجران، فجمع من كان بها على دين النصرانية ثم عرض عليهم اليهودية والدخول فيها،
فأبوا عليه، فجادلهم وحرص الحرص كله فأبوا عليه وامتنعوا من اليهودية والدخول
فيها واختاروا القتل فخد لهم اخدودا جعل فيه الحطب وأشعل فيه النار، فمنهم من
أحرق بالنار ومنهم من قتل بالسيف، ومثل بهم كل مثلة. فبلغ عدد من قتل وأحرق
بالنار عشرين الفا. وأفلت منهم رجل يدعى دوس ذو ثعلبان على فرس له (تفسير
القمي 2: 414 ط النجف الأشرف.). - أو جبار، أو حيار، أو حيان، ابن فيض، أو قيض (الطبري
2: 137.) - حتى قدم على صاحب الروم فأخبره بما بلغ ذو نؤاس منهم، واستنصره
عليه. فقال له قيصر: بعدت بلادك من بلادنا ونأت عنا، فلا نقدر على ان نتناولها
بالجنود، ولكني سأكتب لك الى ملك الحبشة - فانه على هذا الدين وهو أقرب الى
بلادكما منا - فينصرك. وكتب معه قيصر الى ملك الحبشة يأمره بنصرهم على من بغى
عليهم. هذا على رواية ابن اسحاق (الطبري
2: 124.). وعلى رواية هشام الكلبي: قدم على ملك الحبشة رأسا، ومعه إنجيل قد أحرقت النار بعضه،
فأعلمه ما ركبه ذو نؤاس منهم. فقال له: الرجال عندي كثير وليست عندي سفن، وأنا
كاتب الى قيصر أن يبعث الي بسفن أحمل فيها الرجال. فكتب الى قيصر بذلك وبعث إليه
بالإنجيل المحرق. فبعث إليه قيصر بسفن كثيرة (الطبري
2: 124.). فوجه النجاشي الى اليمن أربعة آلاف رجل عليهم أرياط بن أصحمة (الطبري
2: 132 بخمسة أسانيد عن ابن عباس وعطاء بن يسار وغيرهما. وذكر العدد عن الكلبي
وابن اسحاق سبعين ألفا والأول أوفق بوسائط النقل القديمة قطعا، والثاني أبعد
جدا. أما الاسم: أرياط بن أصحمة، فهو كما في تهذيب سيرة ابن هشام 1: 24 ومروج
الذهب 2: 52، وفي اليعقوبي 1: 200: أرياط فقط.) فعبرت
الحبشة الى اليمن من بلاد ناصع والزيلع - وهو ساحل الحبشة - الى بلاد غلافقة من
ساحل زبيد من أرض اليمن (مروج الذهب 2: 52.) وعرض البحر بين الساحلين: مسيرة ثلاثة أيام، وهو أقل المواضع في
البحر عرضا، وبين الساحلين جزيرة الى جانب الحبشة تسمى سقطرة، واخرى الى جانب
اليمن تسمى العقل (مروج الذهب 1: 439.).
فسار إليهم ذو نؤاس، فلما التقوا افترق قومه وانهزموا بعد حروب
طويلة، فلما رأى ذو نؤاس ضرب فرسه فاقتحم به البحر فأغرق نفسه خوفا من العار (تهذيب
سيرة ابن هشام 1: 24 واليعقوبي 1: 199 ومروج الذهب 2: 52.). وهو الذي أخبر الله تعالى عنه في كتابه فقال: * (قتل أصحاب الاخدود
النار ذات الوقود إذ هم عليها قعود وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود وما نقموا
منهم الا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد الذي له ملك السموات والأرض والله على
كل شئ شهيد) * (البروج 4: 9. وورد خبره في سيرة ابن هشام عن ابن اسحاق 1: 37. وفي
الطبري عنه أيضا 2: 123، وعن هشام الكلبي 2: 19. واليعقوبي 1: 200. والمسعودي 2:
51. وكان هذا بدء نفوذ الأحباش النصارى في اليمن وتهامة وما جاورها سنة 525 م. ) |
أرياط
أو أبرهة:
|
روى ابن هشام (سيرة
ابن هشام 1: 41.)
والطبري (الطبري 2: 125.) عن ابن اسحاق، وعن غيره بخمسة طرق (الطبري 2: 137.)
واليعقوبي (اليعقوبي 1: 173.) والمسعودي (مروج
الذهب 2: 78.): أن
الذي بعثه النجاشي على الأحباش الى اليمن هو أرياط بن أصحمة. وأنه أقام باليمن
في سلطانه سنين، ثم نازعه في أمر الحبشة باليمن ابرهة الحبشي، وكان في جنده، حتى
تفرقت الحبشة عليهما، فانحاز الى كل واحد منهما طائفة منهم، واستعدوا للحرب
بينهم (الطبري 2: 128.). وروى الطبري بالطرق الخمسة: ان أرياط لما غلب على اليمن أعطى الملوك - ويعني بهم شيوخ العشائر
والقبائل اليمنية - واستذل الفقراء. فقام رجل من الحبشة يقال له: ابرهة أبو
يكسوم، فدعا الى طاعته فأجابوه، فقاتل أرياط (الطبري 2: 137.).
وروى عن هشام الكلبي: أن النجاشي لما بلغه ماكان من ذي نؤاس جهز إليه سبعين ألفا عليهم
قائدان: أحدهما ابرهة - ولم يذكر الآخر - فلما صاروا الى صنعاء ورأى ذو نؤاس ان
لا طاقة له بهم ركب فرسه واقتحم البحر فكان آخر العهد به ذلك. وأقام ابرهة ملكا
على اليمن، ولكنه لم يبعث الى النجاشي بشئ فقيل للنجاشي: إنه قد خلع طاعتك ورأى
أنه استغنى بنفسه عنك. فوجه إليه جيشا عليه رجل من أصحابه يقال له: أرياط فلما
حل بساحته بعث إليه ابرهة: أنه يجمعني واياك البلاد والدين، والواجب علي وعليك
ان ننظر لأهل بلادنا وديننا ممن معي ومعك، فإن شئت فبارزني، فأينا ظفر بصاحبه
كان الملك له، ولم تقتل الحبشة فيما بيننا ؟ ! فرضي أرياط بذلك، فاتعدوا موضعا
يلتقيان فيه. وعزم ابرهة على المكر بأرياط فأكمن له عبدا له يقال له: ارنجدة، في وهدة قريبة من الموضع الذي التقيا فيه، فلما التقيا
سبق أرياط فطعنه بحربته يريد رأسه، وزالت الحربة عن رأس ابرهة ولكنها شرمت أنفه،
فلقب بالأشرم من ذلك. ونهض ارنجدة من الحفرة فزرق بحربته المزراق رأس أرياط
فأنفذها فيه فقتله بها. وكتب الى النجاشي بما رضي به عنه وأقره على عمله (الطبري
2: 128 وعن ابن اسحاق 2: 129.). |
أصحاب
الفيل:
|
روى الطبري بالطرق الخمسة عن ابن عباس وعطاء بن يسار وغيرهما: أن ابرهة الأشرم أبا يكسوم لما غلب على اليمن رأى الناس أيام
الموسم يتجهزون للحج الى البيت الحرام، فسأل: أين يذهب هؤلاء الناس ؟ قالوا:
يحجون الى بيت الله بمكة، قال: مم هو ؟ قالوا: من حجارة، قال: فما كسوته ؟
قالوا: ما يذهب به إليه من ها هنا من الوسائل، فقال: قسما بالمسيح لأبنين لكم
خيرا منه ! فبنى لهم كنيسة عملها
بالرخام الأسود والأصفر والأبيض والأحمر، وحلاه بالذهب والفضة، وحفها بالجواهر،
وجعل لها أبوابا عليها صفائح الذهب، وجعل لها حجابا، كانوا يلطخون جدرها بالمسك
ويوقدون فيها بالمندل (أو الصندل، وهو عود هندي طيب الرائحة لاسيما عند
الاحتراق) وأمر الناس أن يحجوا إليها فحج إليها كثير من قبائل العرب سنين، ومكث
فيه رجال يتعبدون ويتألهون ويتنسكون له (الطبري 2: 137.)
وروي عن ابن اسحاق: انه سماها " القليس " (الطبري 2: 130.)
أي البناء المرتفع كالقبلة (قاله السهيلي في: الروض الانف في شرح السيرة. وقيل: ان ابرهة كان قد
جشم أهل اليمن في بنيان هذه الكنيسة ان ينقلوا إليها الحجارة والرخام من قصر
بلقيس على فراسخ.). وروى الشيخ الطبرسي في (مجمع البيان) عن محمد بن اسحاق قال: إن ابرهة أبا يكسوم بنى بيتا باليمن وجعل لها قبابا من ذهب وأمر
أهل مملكته بالحج إليها يضاهي بها البيت الحرام. فخرج رجل من بني كنانة حتى قدم اليمن فقعد فيها - يعني لحاجة الانسان - فدخلها ابرهة فوجد العذرة بها
فقال: من اجترأ علي بهذا ؟ فقيل له في ذلك فقال: ونصرانيتي لأهدمن ذلك البيت حتى
لايحجه حاج أبدا ! وآذن قومه ومن اتبعه من أهل اليمن بالخروج، فتتبعه ناس أكثرهم
من عك والأشعريين وخثعم، فخرج يحث السير حتى أتى الطائف فطلب منهم دليلا، فبعثوا
معه دليلا من هذيل يقال له: نفيل فخرج بهم يهديهم، حتى إذا كانوا بالمغمس - وهو
على ستة أميال من مكة - نزلوا وبعثوا مقدمتهم الى مكة. فقالت قريش: لا
طاقة لنا اليوم بقتال هؤلاء القوم، وخرجوا الى رؤوس الجبال، ولم يبق بمكة غير عبد المطلب بن هاشم، وأخذ بعضادتي الباب يقول: لا هم ان المرء يمنع
رحله فامنع حلالك (الحلال
بالكسر جمع الحلة: القوم النزول فيهم كثرة.) * لا يغلبوا بصليبهم
ومحالهم عدوا محالك (المحال
بالكسر: القوة والشدة.) أن يدخلوا البيت الحرام
إذا فأمر ما بدالك (مجمع
البيان 10: 540 - 542 باختصار وفي سيرة ابن هشام: إن كنت تاركهم وقبلتنا فامر ما
بدالك. وقد روى الكليني بسنده عن الصادق (عليه السلام) قال: يبعث عبد المطلب امة
وحده عليه بهاء الملوك وسيماء الأنبياء، وذلك أنه أول من قال بالبداء، وذلك..
انه أخذ بحلقة باب الكعبة وجعل يقول: يا رب إن نهلك فامر ما بدالك. (اصول الكافي
1: 447 ط آخوندي).) وروى الشيخ المفيد في (الأمالي) بسنده عن الصادق (عليه السلام) عن
أبيه عن جده قال: لما قصد ابرهة بن الصباح ملك الحبشة مكة لهدم البيت تسرعت
الحبشة فأغاروا عليها وأخذوا سرحا لعبد المطلب بن هاشم، فجاء عبد المطلب الى
الملك فاستأذن عليه فأذن له، وهو في قبة ديباج على سرير له، فسلم عليه فرد ابرهة
السلام وجعل ينظر في وجهه فراقه حسنه وجماله وهيئته، فقال له: هل كان في آبائك
هذا النور والجمال الذي أراه لك ؟ قال: نعم أيها الملك كل آبائي كان لهم هذا النور والجمال والبهاء !
فقال له ابرهة: لقد فقتم الملوك فخرا وشرفا ويحق أن تكون سيد قومك ! ثم أجلسه
معه على سريره... ثم قال لعبد المطلب: فيم
جئت ؟ فقد بلغني سخاؤك وكرمك وفضلك، ورأيت من هيئتك وجمالك وجلالك ما يقتضي ان
انظر في حاجتك، فسلني ما شئت. فقال له عبد المطلب: إن اصحابك عدوا على سرح لي فذهبوا به فمرهم
برده ! فتغيظ الحبشي من ذلك وقال
لعبد المطلب: لقد سقطت من عيني ! جئتني تسألني في سرحك وأنا قد جئت لهدم شرفك
وشرف قومك، ومكرمتكم التي تتميزون بها من كل جيل، وهو البيت الذي يحج إليه من كل
صقع في الأرض، فتركت مسألتي في ذلك وسألتني في سرحك ! فقال له عبد المطلب: لست
برب البيت الذي قصدت لهدمه، وأنا رب سرحي الذي أخذه أصحابك، فجئت أسألك فيما أنا
ربه، وللبيت رب هو أمنع له من الخلق كلهم وأولى به منهم ! فقال الملك: ردوا عليه سرحه. وانصرف عبد المطلب الى مكة. ودخل
الملك بالفيل الأعظم وكان فيلا أبيض عظيم الخلقة له نابان مرصعان بأنواع الدرر
والجوهر وقد زين بكل زينة حسنة وكان الملك يباهي به ملوك الأرض فدخل ومعه الجيش
لهدم البيت، فكانوا إذا حملوه على دخول الحرم أناخ وإذا تركوه رجع مهرولا ! فقال عبد المطلب لغلمانه:
ادعوا الي ابني... فلما جاؤا بعبد الله أقبل إليه وقال: اذهب يا بني حتى تصعد
أبا قبيس، ثم اضرب ببصرك ناحية البحر فانظر أي شئ يجئ من هناك وخبرني به. فصعد عبد الله أبا قبيس
فما لبث أن جاء طير أبابيل مثل السيل والليل، فجاء عبد الله الى أبيه فأخبره
الخبر. فقال: انظر يا بني ما يكون من أمرها بعده، فاخبرني به. فنظرها فإذا هي قد
أخذت نحو عسكر الحبشة، فأخبر عبد المطلب بذلك، فخرج عبد المطلب وهو يقول: يا أهل
مكة اخرجوا الى المعسكر فخذوا غنائمكم ! فخرجوا ينظرون الى الطير فإذا ليس من الطير الا ومعه ثلاثة أحجار:
في منقاره ورجليه يقتل بكل حصاة واحدا من القوم. فلما أتوا على جميعهم انصرف
الطير، ولم ير قبل ذلك الوقت ولا بعده. وأتوا العسكر فإذا هم أمثال الخشب النخرة
(امالي المفيد: 184 ط النجف، و 312 ط غفاري. والبحار 15: 130 نقلا عنه
وعن مجالس ابن الشيخ الطوسي: 50.). وروى الكليني في (روضة الكافي) والصدوق في (علل الشرائع) بسندهما عن
الباقر (عليه السلام) قال:
أرسل الله عليهم طيرا جاءتهم من قبل البحر... مع كل طير ثلاثة أحجار: حجران في
مخالبه وحجر في منقاره، فجعلت ترميهم بها حتى جدرت أجسادهم، فقتلهم الله عزوجل
بها. وما كانوا قبل ذلك رأوا شيئا من ذلك الطير ولا شيئا من الجدري (روضة
الكافي: 84 ط طهران، وعلل الشرائع: 176 ط طهران.). وقال القمي في تفسيره: كانت الطيور ترفرف على رؤوسهم وترمي أدمغتهم، فيدخل الحجر في
دماغهم ويخرج من أدبارهم فتنتقض أبدانهم، فكانوا كما قال الله تعالى كالعصف
المأكول وهو التبن الذي أكل بعضه وبقي بعضه. ثم روى عن الصادق (عليه السلام): أن
أصل الجدري من ذلك الذي أصابهم في زمانهم (تفسير القمي
2: 442.). وروى الشيخ الطبرسي في (مجمع البيان) عن العياشي باسناده الى هشام بن
سالم عن الصادق (عليه السلام) قال: أرسل الله على أصحاب الفيل طيرا مثل الخطاف أو نحوه، في منقاره
حجر مثل العدسة، فكان يحاذي برأس الرجل فيرميه بالحجر فيخرج من دبره، فلم تزل
بهم حتى أتت عليهم (مجمع البيان 10: 540 - 542.). وفي خبر الصدوق في (علل الشرائع) بسنده عن الصادق (عليه السلام) قال: ومن أفلت منهم انطلقوا حتى بلغوا حضرموت - واد باليمن - فأرسل
الله عليهم سيلا فغرقهم، فلذلك سمي حضرموت حين ماتوا فيه (علل
الشرائع: 176 ط طهران.). وروى الطبري بخمسة طرق: أن الطير أقبلت من البحر أبابيل، مع كل طير منها ثلاثة أحجار:
حجران في رجليه وحجر في منقاره، فقذفت الحجارة عليهم، لا تصيب شيئا الا هشمته،
والا نفط ذلك الموضع، فكان ذلك أول ماكان الجدري والحصبة والأشجار المرة،
فأهمدتهم الحجارة، وبعث الله سيلا فذهب بهم فألقاهم في البحر (الطبري
2: 138 وعن ابن اسحاق. ورواه ابن هشام في السيرة عنه أيضا 1: 56.). قال المسعودي: وكان قدومه مكة يوم الأحد لسبع عشرة ليلة خلت من المحرم (مروج
الذهب 2: 54 ط بيروت.)، وكان ملك ابرهة على اليمن الى أن هلك ثلاثا وأربعين سنة، لأربعين
سنة من ملك كسرى، قبل مولد رسول الله بخمسين يوما (مروج
الذهب 2: 53 و 274 ط بيروت.).
قال ابن اسحاق:
ولما رد الله الحبشة عن مكة وأصابهم بما أصابهم به من النقمة قالت العرب بشأن
قريش: انهم أهل الله، فقد قاتل الله عنهم وكفاهم مؤونة عدوهم، وكان شعراء قريش
يفخرون بذلك في شعرهم كثيرا. فلما بعث الله تعالى محمدا - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - جعل
قصة اصحاب الفيل مما يعده على قريش من نعمته وفضله عليهم (سيرة ابن هشام 1: 59.) فقال تعالى * (الم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ألم يجعل كيدهم
في تضليل وأرسل عليهم طيرا أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول) *. قال ابن هشام: الأبابيل: الجماعات، وأما السجيل، فقد ذكر بعض المفسرين: أنهما كلمتان
بالفارسية: سنج يعني الحجر، وجل يعني الطين، جعلتهما العرب كلمة واحدة تعني
الحجارة من هذين الجنسين: الحجر والطين، وهي حجارة شديدة صلبة. والعصف المأكول
هو ورق الزرع الذي لم يقصب (سيرة ابن هشام 1: 55، ورواه الطوسي في التبيان 10: 411 وعنه في مجمع
البيان 5: 281 عن سعيد بن جبير عن ابن عباس.) أي
أصابته آكلة الديدان فأكلت بعضه وبقي بعضه الاخر. بينما رجح الشيخ محمد عبده في تفسيره: أن الطير الذي ورد في الآية الكريمة من الجائز ان يكون من نوع
البعوض أو الذباب الذي يحمل جراثيم بعض الأمراض الفتاكة، وأن تكون تلك الحجارة
من الطين المسموم الذي تحمله الرياح يتعلق بأرجل تلك الطيور، فإذا أصاب انسانا
انتقل المكروب الى جسده، فأحدث فيه بعض الجروح، وبالتالي ينتهي الى فساد الجسم !
ولا نجد نحن وجها لهذا التفسير بل التأويل مادام القرآن ينص على أنها طيور مرسلة
بالحجارة. نعم أصيبوا بها بالجدري فماتوا به كما مر في الخبر عن الصادق (عليه
السلام). وما احب أن أعرض لتأويل
هذه الطير الأبابيل التي رمت الحبشة بحجارة من سجيل فجعلتهم كعصف مأكول لأني
أوثر دائما أن أقبل النص وأفهمه كما قبله وفهمه المسلمون الأولون حين تلاه النبي
- صلى الله عليه [ وآله ] وسلم (مرآة
الإسلام لطه حسين: 29.) -. وكانت هذه القصة في الفترة
بين عيسى ونبينا - على نبينا وآله وعليه السلام - وقبل بعثته بأربعين عاما، في
عام ميلاده (صلى الله عليه وآله)، فالفترة كانت فترة شريعة عيسى (عليه السلام)
وهؤلاء كانوا نصارى، ولكنهم كانوا منحرفين فيها عن الحق، وعملهم هذا لم يكن حربا
مع المشركين لردعهم عن شركهم ودعوتهم الى شريعة عيسى (عليه السلام)، بل كان هدما
لبيت ابراهيم (عليه السلام) بل بيت الله، ولم يكن هذا من شريعة عيسى (عليه
السلام) بل خروجا عنه وبغيا وعدوانا وطغيانا وعتوا فلذلك اهلكوا. |
دخول
الفرس المجوس الى اليمن:
|
وكان من ظلم ابرهة ان بعث الى أبي مرة يوسف بن ذي يزن وكان من
أشراف اليمن فنزع منه امراته ريحانة بنت ذي جدن، وكانت ذات جمال وقد ولدت لأبي
مرة معديكرب، فولدت لأبرهة: مسروق بن ابرهة. وهرب أبو مرة سيف بن ذي يزن (الطبري
2: 130 عن ابن اسحاق و 142 عن هشام الكلبي وعنه سائر الحديث.). فروى الطبري عن الكلبي: ان أبا مرة سيف بن ذي يزن خرج من اليمن فلحق بعمرو بن المنذر من
ملوك بني المنذر بالحيرة، فسأله ان يكتب له الى كسرى كتابا يعلمه فيه بقدره
وشرفه وما فزع إليه فيه. فقال عمرو: لا تعجل، فإن لي عليه في كل سنة وفادة، وهذا
وقتها. فأقام قبله حتى وفد عليه معه، فدخل عمرو بن المنذر على كسرى فذكر
له شرف ذي يزن وحاله، واستأذن له. فأذن له كسرى. فدخل، فأوسع عمرو له فلما رأى
كسرى ذلك عرف شرفه وقد كان ابن ذي يزن قال قصيدة بالحميرية في مدح كسرى، فلما
ترجمت له اعجب بها، فأقبل عليه ولطف به وسأله: ما الأمر الذي نزع بك ؟ قال: أيها
الملك ! إن السودان قد غلبونا على بلادنا وركبوا منا امورا شنيعة اجل الملك عن
ذكرها، فلو أن الملك تناولنا بنصره من غير أن نستنصره لكان بذلك حقيقا لفضله
وكرمه وتقدمه على سائر الملوك، فكيف وقد نزعنا إليه مؤملين له، راجين أن يقصم
الله عدونا وينصرنا عليهم وينتقم لنا به منهم ! فان رأى الملك أن يصدق ظننا
ويحقق رجاءنا، ويوجه معي جيشا ينفون هذا العدو عن بلادنا فيزدادها الى ملكه فعل،
فانها من أخصب البلدان وأكثرها خيرا، وليست كما يلي الملك من بلاد العرب. فقال
انوشيروان: قد علمت أن بلادكم كما وصفت، فأي السودان غلبوا عليها: الحبشة أم
السند ؟ قال ابن ذي يزن: بل الحبشة. قال أنوشيروان:
اني لاحب ان اصدق ظنك وان تنصرف بحاجتك، ولكن مسلك الجيش الى بلادك مسلك صعب
أكره أن اغرر جندي به، وسأنظر فيما سألت. فلم يزل مقيما عنده حتى هلك. ونشأ معديكرب بن ذي يزن مع امه ريحانة في حجر ابرهة، وأخبرته امه ان أباه هو سيف بن ذي يزن، واقتصت عليه خبره، فلبث
حتى مات الأشرم ومات ابنه يكسوم، وتملك اخوه مسروق، فخرج ابن ذي يزن الى ملك
الروم، ولم يذهب الى كسرى لابطائه عن أبيه، ولكنه وجد قيصر أو هرقل لموافقته
للحبشة في دينهم يحامي عنهم، فانكفأ راجعا الى كسرى، فاعترضه يوما - وقد ركب -
فصاح به: أيها الملك ان لي عندك ميراثا ! فدعا به كسرى وقال: من أنت ؟ وما ميراثك ؟ قال: أنا ابن الشيخ اليماني ذي يزن الذي وعدته أن
تنصره فمات بحضرتك، فتلك العدة حق لي وميراث يجب عليك الخروج لي منه. فقال له:
أقم حتى أنظر في أمرك. ثم ان كسرى استشار وزراءه في توجيه الجند معه، فقال المؤبد ان (لقب عالم المجوس، ومن هنا يظهر ان الاستشارة كانت استفتاء شرعيا: هل
يجب عليه شئ أو لا ؟) إن
لهذا الغلام حقا بوعدك لأبيه وموته ببابك وفزع هذا اليك. وفي سجون الملك رجال
ذووا نجدة وبأس، فلو أن الملك وجههم معه، فإن أصابوا ظفرا كان له، وان هلكوا كان
قد استراح وأراح أهل مملكته منهم، ولم يكن ذلك ببعيد عن الصواب. قال كسرى: هذا الرأي. وأمر
بمن كان في السجون من هذا الضرب أن يحصوهم، فأحصوا فبلغوا ثمانمائة نفر، فقود
عليهم قائدا من أساورته (جمع
الاسوار، وهو كما يقال اليوم في الفارسية: الاستوار، رتبة من الرتب العسكرية.) يقال له: وهرز - أو بهروز - كانوا يعدلونه بألف استوار، وقواهم
وجهزهم وأمر بحملهم في ثماني سفن في كل سفينة مائة رجل. فركبوا البحر فغرقت من السفن الثمانية سفينتان، وسلمت ست سفن،
وخرجوا بساحل حضرموت، فنزل وهرز على سيف البحر فجعل البحر وراء ظهره. ولحق
بمعديكرب بن سيف بشر كثير. وسار إليهم مسروق في مائة
ألف من الحبشة وحمير والأعراب فلما نظر مسروق الى قلة من مع وهرز أرسل إليه: ما
جاء بك وليس معك الا من ارى، ومعي من ترى ؟ قد غررت بنفسك وأصحابك، فإن أحببت
اذنت لك فرجعت الى بلادك، وان أحببت أجلتك حتى تشاور أصحابك وتنظر في أمرك، وان
أحببت ناجزتك الساعة. ورأى وهرز انه لا طاقة له بهم، فأرسل الى مسروق: بل تضرب بيني
وبينك اجلا، وتعطيني موثقا وعهدا الا يقاتل بعضنا بعضا حتى ينقضي الأجل ونرى
رأينا. ففعل مسروق ذلك. وأقام كل واحد منهما في عسكره حتى مضت عشرة أيام، وكان مع وهرز
ابنه، فخرج ذات يوم على فرس له حمله الى عسكرهم فقتلوه. فلما لم يبق من الأجل
الا يوم واحد أمر بالسفن التي كانوا فيها فأحرقت، وأمر بما كان معهم من فضل كسوة
فاحرق ولم يدع منه الا ما كان على أجسادهم، ثم أمر بفضل الزاد فألقي في البحر، ثم
قام فيهم خطيبا فقال: أما ما حرقت من سفنكم فأني اردت ان تعلموا أنه لا سبيل الى
بلادكم أبدا، وأما ماحرقت من ثيابكم فانه كان يغيظني ان ظفرت بكم الحبش ان يصير
ذلك إليهم، وأما ما ألقيت من زادكم في البحر فأني كرهت ان يطمع احد منكم ان يكون
معه زاد يعيش به يوما واحدا بعد اليوم، فإن كنتم قوما تقاتلون معي وتصبرون
فاعلموني ذلك. فقالوا: نقاتل معك حتى نموت عن آخرنا أو نظفر ! فلما كان صبح اليوم الذي
انقضى فيه الأجل عبأ أصحابه وأقبل عليهم يحضهم على الصبر. وأمرهم أن يوتروا
ويعدوا قسيهم، ولم يكن لليمنيين نشاب قبل ذلك اليوم، فقال لأصحابه: إذا امرتكم
ان ترموا فارموهم رشقا بالپنجكان (كلمة
فارسية من پنج بمعنى الخمسة، تعني: النشاب ذو شعب خمسة من النصال الحديدية.). وأقبل مسروق في جمع لا يرى طرفاه طويلا يمينا ويسارا، وهو على فيل
وعلى رأسه تاج وبين عينيه ياقوتة حمراء مثل البيضة. ثم نزل من الفيل فركب فرسا،
فأخرج وهرز نشابة فوضعها في كبد قوسه وقال لهم: ارموا، فرموا، ورمى مسروقا في
جبهته فسقط عن دابته، وقتل من ذلك الرشق الواحد جماعة كثيرة من جيش الأحباش،
ولما رأوا صاحبهم مسروقا صريعا انفضوا، حتى كان الاستوار يأخذ من الحبشة ومن حمير
والأعراب الخمسين والستين فيسوقهم مكتفين لا يمتنعون منه، ولكن وهرز قال لهم:
اقصدوا قصد السودان فلا تبقوا منهم أحدا أما حمير والأعراب فكفوا عنهم، فقتل
أكثر الحبشة، وغنم الفرس من عسكرهم مالا يعد ولا يحصى كثرة. وأقبل وهرز حتى دخل صنعاء وفرق عماله في مخاليف اليمن فغلب على
البلاد (الطبري 2: 142 - 147.) وكان
ذلك سنة 575 م (سيرة المصطفى: 23.).
قال المسعودي: فتوج
وهرز: معديكرب بن سيف بتاج كان معه والبسه بدنة (البدنة هنا: شئ شبه الدرع الا أنها تصير قدر البدن فقط.) وقفازات من الفضة ورتبه في ملكه على اليمن وكتب بالفتح الى
انوشيروان. وأتت معديكرب الوفود تهنئه بعود الملك إليه، من أشراف العرب
وزعمائها، وفيهم: عبد المطلب بن هاشم، وأمية بن عبد شمس، وخويلد بن أسد، وأبو
الصلت الثقفي، فدخلوا إليه وهو في أعلى قصره بمدينة صنعاء، المعروف بغمدان (غمدان
كعثمان، قصر باليمن بناه يشرخ بن يحصب على أربعة وجوه: أحمر وأبيض وأصفر وأخضر،
وبنى في داخله قصرا بسبعة سقوف بين كل سقفين أربعون ذراعا، وجعل في أعلاه مجلسا
بناه بالرخام الملون وجعل سقفه رخامة واحدة، وجعل على كل ركن من أركانه تمثال
أسد من شبه كانت الريح تدخل في دبره وتخرج من فيه فيسمع له صوت كالزئير، وخربه
عثمان بن عفان قاله المسعودي وقال: ورأيته قد انهدم بنيانه وصار تلا عظيما من
تراب، كأن لم يكن. مروج الذهب 2: 229.) وعلى
يمينه ويساره أبناء المقاول والملوك. فتقدم عبد المطلب بن هشام فتمدحه، فرحب بهم معديكرب بن سيف. وأقام معديكرب ملكا على اليمن، واصطنع عبيدا من الحبشة يمشون بين
يديه بالحراب، فركب في بعض الأيام من باب قصره المعروف بغمدان بمدينة صنعاء، فلما صار الى رحبتها عطفت عليه الحراب من الحبشة فقتلوه بحرابهم.
وكان ملكه أربع سنين، وهو آخر ملوك اليمن من قحطان، فعدد ملوكهم سبعة وثلاثون ملكا.
ولما قتلت الحبشة معديكرب في الرحبة بحرابهم، كان بصنعاء خليفة لوهرز في جماعة من العجم، ممن كان ضمهم وهرز الى
معديكرب، فركب وأتى على من كان هنالك من الحبشة وضبط البلد. وكتب بذلك الى وهرز
وهو بباب أنوشيروان الملك (مات ابرهة لأربعين من ملك كسرى وملك يكسوم عشرين سنة ثم ملك مسروق
ثلاث سنين ثم ملك معديكرب أربع سنين، ومجموع ملك كسرى: ثمان وأربعون سنة، فلا
يتم التوفيق بين هذا كله.) وذلك بمدائن طيسفون من أرض العراق، فاعلم وهرز الملك بذلك، فسيره
في البر في أربعة آلاف من الأساورة وأمره ان لا يبقي على أحد من بقايا الحبشة
ولا على جعد قطط الشعر (الجعد
والقطط: قصر الشعر وفتله.) شرك
السودان في نسبه. فأتى وهرز اليمن حتى نزل في صنعاء فلم يترك بها أحدا من
السودان الا قتلهم. وملك أنوشيروان وهرز على اليمن الى ان هلك بصنعاء (مروج
الذهب 2: 57 - 62 ط بيروت.).
وعن الكلبي: انه
لما بلغ أنوشيروان موت وهرز بعث الى اليمن استوارا يدعى " وين " وكان
جبارا مسرفا، وكان ذلك في آخر ملك أنوشيروان، فلما مات أنوشيروان وخلفه إبنه
هرمز عزل " وين " واستعمل مكانه المروزان (الطبري
2: 171 وأظن ان اسمه: المهروزان وكان ملك كسرى أنوشيروان ثمانيا وأربعين سنة كما
في الطبري: 2: 172.)، فلما ملك ابن هرمز: خسرو پرويز كتب الى المروزان: أن استخلف من
شئت واقبل الي، فاستخلف المروزان ابنه خور خسرو على اليمن وسار فمات في الطريق
وحمل الى خسرو پرويز، ثم بلغ خسرو پرويز ان خور خسرو يتأدب بآداب العرب ويروي
أشعارهم فعزله وولى بمكانه بادان، وهو آخر من قدم من ولاة العجم (الطبري
2: 215 وجاء اسمه في الطبري 3: 227: بادام، وهو الراجح حسب المعنى في الفارسية،
وهو الذي بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله) على عهده، وفي آخر السنة السادسة
للهجرة بعث رسول الله الى خسرو پرويز كتابا يدعوه فيه الى الاسلام، فغضب خسرو
پرويز وبعث الى بادام هذا بأن يرسل إليه رسول الله مقيدا، وبعث بادام رجالا الى
المدينة فأخبرهم رسول الله بهلاك خسرو پرويز فقيدوا ذلك ولما رجعوا الى اليمن
ووصل الرسول بهلاك خسرو پرويز أسلم بادام ومن معه من أبناء الفرس في اليمن وبعثوا
باسلامهم الى رسول الله، فأقره رسول الله على عمله فكان عليه حتى توفي رسول الله
(صلى الله عليه وآله). راجع سيرة ابن هشام 2: 71.). وذكر المسعودي مساحة اليمن وحدوده فقال: وبلد اليمن طويل عريض، حده مما يلي مكة الى الموضع المعروف بطلحة
الملك سبع مراحل - والمرحلة
من خمسة فراسخ الى ستة - ومن
صنعاء الى عدن تسع مراحل، ومن وادي وحا الى ما بين مفاوز حضرموت وعمان عشرون
مرحلة، والوجه الآخر هو بحر اليمن وهو بحر الهند والصين والقلزم، وجميع ذلك
يكون: عشرين مرحلة في ست عشرة مرحلة (مروج
الذهب 2: 64 ط بيروت.). وذكر اليعقوبي سواحل اليمن وهي: عدن ساحل صنعاء، والمندب، وغلافقة، والحردة، والشرجة، وعثر،
والحمضة، والسرين، وحدة (أو الحديدة) وقال: وتسمى كور اليمن: المخاليف، وهي:
أربعة وثمانون مخلافا. ثم أتى باسمائها وقال: هذه بلدان مملكة اليمن وبلادها.
وكان ملوك اليمن في صدر عهدهم يدينون بعبادة الأصنام، ثم إن احبارا من اليهود
صاروا إليهم (مع تبع تبان أسعد) فعلموهم دين اليهودية فدانوا بدين اليهود وتلوا
التوراة. ولم يكونوا يتجاوزون اليمن إلا أنهم ربما أغاروا على بعض البلدان
فيرجعون الى بلادهم ودار ملكهم (اليعقوبي
1: 200، 201. وقد علقنا على هذا سابقا بمعارضته لنقل القرآن الكريم بأن الهدهد
أخبر سليمان بن داود عنهم بقوله * (اني وجدت امرأة تملكهم... واني وجدتها وقومها
يسجدون للشمس من دون الله) * وان بلقيس قالت * (اني اسلمت مع سليمان لله رب
العالمين) * ونقل المؤرخون ان سليمان بن داود حكم اليمن عشرين عاما ثم ملكها
ابنه أرحبعم بن سليمان، وان بلقيس كانت قبل تبع تبان الأسعد بعشرة ملوك في
سبعمائة سنة قريبا. فأظن الخبر هذا من الاسرائيليات.). |
أسواق
العرب:
|
وكانت للعرب في اليمن وغيره أسواق يجتمعون بها في تجاراتهم،
ويأمنون فيها على دمائهم وأموالهم بخفارة خاصة: فمنها سوق " عدن " كان يقوم في أول يوم من شهر رمضان
وكان بخفارة الأبناء - أي أبناء الفرس حكام اليمن - وهم كانوا يعشرونهم بها لقاء
خفارتهم لهم، ومنها كان يحمل الطيب الى سائر الآفاق. ثم سوق " صنعاء " كان
يقوم في النصف من شهر رمضان بخفارة الأبناء أيضا. ثم سوق " الرابية " بحضرموت، ولم يكن يوصل إليها الا بخفارة خاصة، لأنها لم تكن أرض مملكة،
فكان من عز بها بز، وكانت الخفارة فيها لكندة. ثم سوق " عكاظ
" بأعلى نجد، كان يقوم في شهر ذي القعدة، وكان أكثر من يحضرها من مضر وسائر
قريش وقليل من سائر العرب، وبها كانت مفاخرات العرب ومهادناتهم بعد حمالاتهم -
أي دياتهم. ثم سوق " ذي المجاز "
يرتحلون منها الى مكة للحج. ومنها " دومة الجندل " كان
يقوم في شهر ربيع الأول، وكانت بين بني كلاب والغساسنة أيهم غلب قام بها. ثم سوق " المشقر " في مدينة هجر،
كانت في جمادى الأولى، يقوم بها بنو تميم. ثم سوق " صحار " كان يقوم في أول يوم من رجب، ولم تكن بحاجة الى الخفارة لأنها في
الشهر الحرام. ثم سوق " ريا " بخفارة آل الجلندي وهو كان يعشرهم بها لذلك. ثم سوق " الشحر " شحر مهره، في ظل الجبل الذي عليه قبر هود النبي (عليه السلام)، وكان يقوم بها بنو مهرة بلا خفارة خاصة. وكان في العرب قوم يحضرون
هذه الأسواق فيستحلون بها المظالم، ولذلك كانوا يسمون (المحلون) (وبعد الإسلام انتقل هذا الإسم الى الخوارج.) كانوا
من قبائل أسد وطئ وبني بكر وبني عامر. وكان من العرب من ينصب نفسه لنصرة المظلوم
والمنع من سفك الدماء وارتكاب المنكر يسمون (الذادة المحرمون) كانوا من بني عمرو
بن تميم وبني حنظلة، ومن هذيل، وبني شيبان، وبني كلب، فكان هؤلاء يلبسون السلاح
للدفاع عن الناس (اليعقوبي 1: 270، 271 ط بيروت.). وكانت العرب تقيم الشعر مقام الحكمة والعلم، فإذا كان في القبيلة الشاعر الماهر المميز الكلام المصيب المعاني
احضروه في أسواقهم هذه التي كانت تقوم لهم في السنة حتى تجتمع العشائر والقبائل
فتسمع شعره، ويجعلون ذلك فخرا من فخرهم وشرفا من شرفهم، وكانوا به يتفاضلون
ويتناضلون ويمدحون ويعابون، ويتمثلون ويختصمون. وقد عد اليعقوبي عددا كثيرا من
شعرائهم (اليعقوبي 1: 262 - 269.). وكان للعرب حكام يتحاكمون إليهم في منافراتهم ومواريثهم ومياههم
ودمائهم، فكانوا يحكمون اهل
الشرف والصدق والأمانة والرئاسة والسن والمجد والتجربة، إذ لم يكن لهم دين
يرجعون الى شرعه. وقد عد اليعقوبي عددا غير قليل من هؤلاء الحكام القضاة: قضاة
التحكيم (اليعقوبي 1: 258.). وكانت اديان العرب مختلفة باختلاف المجاورات لأهل الملل: فدخل قوم من العرب في دين اليهود، ودخل آخرون في النصرانية،
وتزندق منهم قوم فقالوا بالثنوية: فأما من تهود منهم فان قوما من الأوس والخزرج
بعد خروجهم من اليمن لمجاورتهم يهود خيبر وقريظة والنضير تهودوا، وتهود قوم من
بني الحارث بن كعب وقوم من بني غسان، وقوم من جذام، وان تبع اليمني حمل حبرين من
أحبار اليهود فأبطل الأوثان وتهود من باليمن (مر مفصل
هذا الخبر وعلقنا عليه بأنه مناف لما في القرآن الكريم من سبق اليهودية الى
اليمن على عهد بلقيس وسليمان أي قبل تبع هذا بسبعة قرون.). وأما من تنصر من احياء
العرب: فقوم من قريش من بني أسد بن عبد العزى منهم ورقة بن نوفل، ومن بني تميم،
وبني تغلب، ومن اليمن طئ ومذحج وبهراء وسليح وتنوخ وغسان ولخم وتزندق جمع منهم
حجر بن عمرو الكندي وغيره (اليعقوبي 1: 254 - 257.). وروى الكليني في (فروع
الكافي) بسنده عن الباقر (عليه السلام) قال: كان في أيديهم أشياء كثيرة من الحنيفية من تحريم الأمهات والبنات
وما حرم الله في النكاح، الا انهم كانوا يستحلون امرأة الأب وابنة الأخت والجمع
بين الأختين، وكان في أيديهم الحج والتلبية والغسل من الجنابة الا ما أحدثوا في
تلبيتهم وفي حجهم من الشرك (فروع الكافي 1: 223.). وروى
أيضا بسنده عن الصادق (عليه السلام) قال: ان العرب لم يزالوا على شئ من
الحنيفية: يصلون الرحم، ويقرون الضيف، ويحجون البيت، ويتقون مال اليتيم، ويكفون
عن أشياء من المحارم مخافة العقوبة، وكانوا يأخذون من لحاء شجر الحرم فيعلقونه
في أعناق الأبل فلا يجترئ أحد ان يأخذ من تلك الأبل حيثما ذهبت (فروع
الكافي 1: 223.). |
أولاد
معد بن عدنان:
|
نرجع هنا الى ذكر بقية أخبار مكة وولاة البيت من أولاد عدنان،
فنقول: قال اليعقوبي: كان عدنان أول من كسا الكعبة (هذا، وقد سبق أن أول من كساه تبع تبان أسعد اليمني، وقبله هاجر ام
اسماعيل.) ونصب أنصاب الحرم
بمكة. وكان أشرف أولاده معد ابن عدنان، ولما ضاقت مكة بهم وخرج كثير من ولد
اسماعيل لم يخرج هو منها، وكان له عشرة أولاد، منهم قضاعة وبه كان يكنى، وانتقل
قضاعة بأهله وأولاده الى اليمن وأصبح لهم عدد كثير، فانتسب جميع من كان باليمن
من ولد معد الى قضاعة، وانتمت قضاعة الى حمير فحسبوا معهم. وساد من ولد معد نزار بن
معد فأقام بمكة فكان سيد بني أبيه وعظيمهم. وأصبح له من الولد أربعة: مضر وإياد
وربيعة وأنمار، ولما حضرت نزار الوفاة قسم ميراثه على ولده هؤلاء الأربعة: فأعطى
مضر ناقته الحمراء فسمي مضر الحمراء، وأعطى ربيعة فرسه فسمي ربيعة الفرس، وأعطى
إياد غنمه وكانت برقاء (البرقاء
من الشياة التي في خلال صوفها الأبيض طاقات سود - مجمع البحرين.) فسمي إياد البرقاء، وأعطى أنمارا جارية له تسمى بجيلة فسمي بها،
وارتحل أنمار بن نزار الى اليمن فتزوج في بجيلة وخثعم، فانتسب ولده الى أخوالهم
فمنهم في بجيلة ومنهم في خثعم، فحسبوا معهم. وصار ربيعة بن نزار الى بطن عرق (من مواقيت الاحرام ومنازل طريق الحجاز الى العراق، آخر العقيق وأول
تهامة عن مكة على نحو مرحلتين - مجمع البحرين.) ثم كثر ولده وولد ولده فانتشروا حتى امتلأت بطون وديان الفرات في
العراق من جماهير قبائل ربيعة: من عنزة بن أسد، والنمر بن قاسط وبكر بن وائل بن
قاسط، وعجل ابن لجيم، وحنيفة بن لجيم، وتيم بن ثعلبة وقيس بن ثعلبة، وعبد القيس
بن أفصى. ووقع حرب بين بني النمر بن
قاسط وعبد القيس فسارت عبد القيس حتى نزلت اليمامة من أرض اليمن، فكان فيها وفي
تهامة جمع من أولاد معد ابن عدنان، فأقبلت إليهم مذحج تريد غزوهم فالتقوا في
موضع سلان، فكان الظفر لبني ربيعة بن معد بن عدنان وهزمت مذحج، فسمي " يوم
السلان ". وأقبل بنو كندة من
اليمنيين لحرب ربيعة أيضا، وعلى كندة سلمة بن الحارث الكندي، وقد استمد من بعض
الملوك لذلك، فالتقوا بموضع خزاز، ففضت جموع كندة، فصالحهم سلمة، فسمي "
يوم خزاز ". ثم تحارب سلمة مع أخيه شرحبيل بن الحارث الكندي، فاقتسمت ربيعة
فكان بنو عبد القيس مع شرحبيل وسائر ربيعة مع سلمة، فكان لهم العلو على قيس وقتل
شرحبيل الكندي، فسمي " يوم الكلاب ". ومن عشائر ربيعة: بنو شيبان وبنو تغلب، وقتل جساس بن مرة
الشيباني: كليب بن ربيعة التغلبي، فاشتبكت الحروب بينهم ودامت أربعين سنة سميت
" حروب البسوس ". وتشارك بنو شيبان وبنو عجل
من بني بكر بن وائل من عشائر ربيعة في الدفاع عن هانئ بن مسعود الشيباني أمام
جيوش كسرى من العجم ومن معهم من العرب من بني معد بن عدنان وقحطان مع إياس بن
قبيصة الطائي، فالتقوا بذي قار فتحاربوا فهزم بنو عجل وبنو شيبان اولئك، فكان
أول يوم انتصرت فيه العرب من العجم في " يوم ذي قار ". وصار إياد بن نزار بن معد بن عدنان الى اليمامة فولد له أولاد
انتسبوا في القبائل، ثم انتقل قسم منهم الى الحيرة فنزلوا الخورنق والسدير
وبارق، وأجلاهم كسرى عن ديارهم فأنزلهم تكريت - مدينة قديمة على شط دجلة من أرض
الموصل - ثم أخرجهم عن تكريت الى بلاد الروم فنزلوا بأنقرة من أرض الروم،
وجماهير قبائلهم: نزار ومالك ويقدم وحذاقة. وساد من ولد نزار من
معد: مضر بن نزار فكان سيد ولد أبيه وكان كريما حكيما. فولد مضر بن نزار:
الياس بن مضر وعيلان بن مضر. فولد عيلان بن مضر: قيس بن عيلان وأصبح العدد والمنعة في ولد قيس، وجماهير قبائلهم:
عدوان، وفهم، ومحارب، وباهلة، وفزارة، وسليم، وعامر، ومازن، وسلول، وثقيف،
وكلاب، وعقيل، وقشر، والحريش، وعوف. ولقبائل قيس عيلان عشرة حروب مشهورة، منها حرب داحس والغبراء بين
فزارة وعبس. وبان فضل الياس بن مضر
وشرفه، وظهرت منه امور جميلة حتى رضوا به رضا لم يرضوا بأحد من ولد اسماعيل
مثله، فأنكر عليهم ماغيروا من
سنن آبائهم فردهم الى سنن آبائهم حتى رجعت سنتهم على أولها، فكانت العرب تعظم الياس تعظيم أهل الحكمة. وله من الولد: عامر،
وعمرو، وعمير، وألقابهم: مدركة، وطابخة، وقمعة. وولد لطابخة بن الياس: اد بن طابخة، فتفرعت من ولده أربع قبائل هي:
الرباب، وضبة، ومزينة، وتميم. وأصبح العدد في تميم حتى امتلأ بهم البلاد. فمن
جماهير قبائلهم: كعب، وحنظلة، وبنو دارم، وبنو زرارة، وبنو عمرو بن تميم، وبنو
أسد بن تميم، ولهم حروب معروفة (اليعقوبي 1: 223 - 229.). وكان بنو عمرو بن عامر بن
ربيعة قد نزلوا مدينة مأرب باليمن، فلما انهد السد بسيل العرم اعتزلوا سائر
ربيعة وانخزعوا الى مكة فسموا خزاعة لانخزاعهم هذا (مروج الذهب: 2: 29.)
وتزوج منهم قمعة بن الياس فانتسب ولده إليهم (اليعقوبي 1: 223.).
وكانت حجابة البيت لإياد بن نزار (اليعقوبي 1: 238.)،
فنازعه عليها مضر، وثارت الحرب بينهما وكانت على اياد (مروج الذهب 2: 29.)
فلما أرادوا الرحيل عن مكة قلعوا الحجر الأسود وحملوه على جمل فلم ينهض فدفنوه
وخرجوا، وبصرت بهم امرأة من خزاعة حين دفنوه. فلما بعدت اياد اشتد ذلك على مضر
وأعظمه قريش وسائر مضر، فقالت الخزاعية لقومها: اشترطوا على قريش وسائر مضر أن
يصيروا اليكم حجابة البيت حتى أدلكم على الركن، ففعلوا ذلك، فلما أظهروا الركن
صيروا إليهم الحجابة (اليعقوبي
1: 238.) ووليت خزاعة أمر
البيت وأول من وليه منهم (مروج
الذهب 2: 29.) عمرو
بن لحي بن قمعة بن الياس - فهو من مضر التي انتمت الى خزاعة - وهو أول من غير
دين ابراهيم (عليه السلام) (اليعقوبي 1: 238. واسمه في المسعودي: عمرو بن لحي بن عامر 2: 29 ط
بيروت.). وولد مدركة بن الياس: هذيلا، وخزيمة، وغالبا، وحارثة: وكان العدد منهم في بني سعد بن
هذيل، وكانوا فصحاء شعراء أصحاب نجدة وحروب وغارات على تعبير اليعقوبي. وأما
حارثة بن مدركة فدرج صغيرا ومات، وأما بنو غالب فانتسبوا في بني خزيمة، لأنه كان
يعد له الفضل والسؤدد حتى كان أحد حكام العرب. فولد خزيمة بن مدركة: أسد، والهون، وكنانة. وانتقل ولد أسد الى اليمن، وهم: دودان،
وكاهل، وعمرو، وهند، والصعب، وتغلب. وكان العدد في بني دودان، ومنه تفرقت قبائل
بني أسد: قعين، وفقعس، ومنقذ، وديان ووالبة، ولاحق، وحرثان، ورئاب، وبنو
الصيداء، وانتشر ولده في اليمن، ومن قبائلهم: جذام، ولخم، وعاملة، وبنو عمرو بن
أسد، وكانت منتشرة من تهامة الى قصور الحيرة: الخورنق والسدير وبارق، وكانت
محاربة لكندة في اليمن ومحالفة لطئ في العراق، ثم تحاربوا وأخذ بعضهم من بعض
سبايا، ثم ردوا الظعائن. وولد كنانة بن خزيمة: النضر، وحدال، وسعدا، ومالكا، وعوفا، ومخرمة، وعليا، وغزوان،
وجرولا، والحارث، وعبد مناة. والعدد في أبناء عبد مناة هذا، فمنهم: بنو ليث،
وبنو الدئل، وبنو ضرة، وبنو غفار، وبنو جذيمة، وبنو مدلج. فهذه جماهير قبائل
كنانة. والنضر بن كنانة
هو الذي سمته امه قريشا وهو تصغير قرش وهي دويبة بحرية، فولد النضر بن كنانة:
الصلت ويخلد ومالك، وكان
النضر يكنى أبا الصلت، وصار
ولد الصلت مع خزاعة ولم يبق من يخلد أحد يعرف. وانما أصبح مالك بن النضر عظيم الشأن، وكان له من الولد: فهر
والحارث وشيبان، واختلفوا في اسم فهر هل اسمه فهر ؟ أو اسمه قريش ولقبه فهر،
ومنه القرشيون فقط. وظهر في فهر بن مالك علامات فضل في حياة أبيه، فلما هلك أبوه
قام مقامه. وكان لفهر بن مالك من الولد: غالب، والحارث، ومحارب وجندلة، وكان
غالب أفضلهم وأظهرهم مجدا، فلما مات هو شرف غالب وعلا أمره. وكان له من الولد:
لؤي، وتيم، وتغلب، ووهب، وكثير، وحراق. وساد لؤي من بينهم، فلما مات غالب بن فهر
قام لؤي بن غالب مقامه. وكان للؤي من الولد: كعب، وعامر، وسامة، وخزيمة، وعوف،
والحارث الجشم، وسعد، فصار عامر الى عمان وتزوج امرأة من مدينة قرن في اليمن،
وكان له من الولد: حسل ومعيص وعويص. ونزح خزيمة الى بني شيبان فانتسب ولده الى
بني ربيعة. ونزح الحارث الجشم وسعد الى هزان فانتسبوا إليهم. وانتمى عوف بن لؤي
الى عوف بن سعد بن ذبيان في أرض غطفان. وكان أعظم هؤلاء شرفا وقدرا كعب بن لؤي حتى أن قريشا أرخت من موته، وكان له من الولد: مرة، وعدي، ومنه
بنو عدي رهط عمر بن الخطاب، وهصيص ومنه بنو جمح وبنو سهم. وساد مرة بن كعب، وولد له: يقظة وتيم ومنه بنو تيم رهط أبي بكر ابن أبي قحافة عتيق التيمي،
وكلاب، وساد من بينهم كلاب هذا. وكان لكلاب بن مرة من الولد: قصي، وزهرة. وكان اسم قصي: زيدا،
الا أن أباه كلابا مات وهو صغير في حجر امه، وقدم رجل من بني عذرة من قضاعة يقال
له: ربيعة بن حرام العذري فتزوجها وخرج بها الى قومه وحملت زيدا معها فلما بعد
من دار قومه سمته قصيا. فلما شب عرف أنه ابن كلاب بن مرة وأن قومه كانوا آل الله
وفي حرمه فكره قصي الغربة وأحب أن يخرج الى قومه، وخرج في الشهر الحرام في حجاج
قضاعة حتى قدم مكة وأقام بها وتزوج حبى ابنة حليل الخزاعي (اليعقوبي
1: 229 - 239.) وهو آخر من ولي البيت من خزاعة (سيرة ابن
هشام 1: 123 ومروج الذهب 2: 31.) فولدت
له عبد مناف، وعبد الدار، وعبد العزى، وعبد قصي. قال المسعودي: وكانت ولاية البيت ثلاث خصال: الاجازة بالناس من عرفة، والإفاضة
بالناس غداة النحر الى منى، والنسئ للشهور الحرم. وكانت النسأة في بني مالك بن
كنانة، وذلك ان العرب كانت إذا فرغت من الحج وأرادت الرجوع اجتمعت الى شريف
كنانة فيقوم فيهم فيقول: اللهم اني قد أحللت أحد الصفرين: الصفر الأول، وأنسأت
الآخر للعام المقبل (مروج الذهب 2: 30 ويقصد بالصفر الأول: محرم.). قال اليعقوبي: وكان
الحج واجازة الناس من عرفات للغوث بن مر الملقب بالصوفة، وكانت الحجابة لخزاعة.
فلما حضر الحج جمع قصي إليه قومه من بني فهر بن مالك وحال بين صوفة وبين
الإجازة، فعلمت بنو بكر وخزاعة ان قصيا سيصنع بهم كما صنع بصوفة فسيحول بينهم
وبين الأمر بمكة وحجابة البيت. فانحازوا عنه وصاروا الى صوفة، فأجمع قصي لحربهم
واستمد من اخوانه من الرضاعة في بني عذرة من قضاعة، وقيل انهم وافوا يريدون الحج
فأعانوه، فاقتتلوا قتالا شديدا بالأبطح وكثرت القتلى في الفريقين ثم تداعوا الى
الصلح بالتحاكم الى يعمر بن عوف من بني كنانة، فقضى بينهم بأن قصيا أولى بالبيت
وأمر مكة من خزاعة، وأن كل دم أصابه قصي من خزاعة وبني بكر فهو موضوع، وأن ما
اصابت خزاعة وبنو بكر من قريش ففيه الدية، فودوا خمسا وعشرين بدنة وثلاثين حرجا،
أي قطيعا من الغنم. وروى بعضهم: أ نه
لما تزوج قصي حبى ابنة حليل الخزاعي، أوصى حليل عند موته بولاية البيت الى قصي. وقال آخرون: بل
دفع حليل الخزاعي مفتاح البيت الى أبي غبشان سليمان بن عمرو، فاشتراه قصي منه
بزق خمر على ابل قعود - وهي الناقة التي يقتعدها الراعي في كل حاجته - فجرى مثلا
في العرب فقالوا: أخس من صفقة أبي غبشان. ووثبت خزاعة فقالت: لا نرضى بما صنع
أبو غبشان، فوقعت بينهم الحرب. فولي قصي البيت وأمر مكة
والحكم (اليعقوبي
1: 238 - 240 وكان ذلك في النصف الأول من القرن الخامس الميلادي كما في سيرة
المصطفى: 30.) واستقام أمره فعشر على من دخل مكة من غير قريش (مروج
الذهب 2: 32.) ولم يكن في الحرم بمكة بيت، انما كانوا يكونون بها نهارا فإذا
امسوا خرجوا، وكانوا في الشعاب ورؤوس الجبال، فجمع قصي قبائل قريش فقسم بينهم
منازلهم فأمر لقبائل قريش بالأبطح بمكة، وقسمه بينهم أرباعا، فكانت قريش كلها
بالأبطح خلا بني محارب والحارث ابن فهر، وبني تميم الأدرم، وبني عامر بن لؤي،
فانهم نزلوا الظواهر. فلما استقامت له الامور قدم البيت فبناه بنيانا لم يبنه
أحد، كان طول جدرانه تسع أذرع فجعله ثماني عشرة ذراعا، وسقف البيت بخشب شجر
الدوم - وهو شجر ضخم يشبه النخل - وبنى دار الندوة الى جانب الصفا. فكانوا لا
يتشاورون في أمر ولا يعقدون لواء للحرب ولا يختنون، ولا يتناكحون الا في دار
الندوة. وحفر بئر العجول (اليعقوبي
1: 240.). وقال ابن اسحاق:
حدثني أبي اسحاق بن يسار عن الحسن بن محمد ابن علي بن أبي طالب رضي الله عنه
قال: سمعته يقول: فولي قصي البيت وأمر مكة، فكانت إليه الحجابة - وهي مفاتيح
البيت - والسقاية، والرفادة واتخذ لنفسه دار الندوة (صارت
الدار في الإسلام الى حكيم بن حزام بن خويلد فاشتراها منه معاوية بمائة ألف درهم
وأدخلها في المسجد.) جعل بابها الى جهة الكعبة، فكانت قريش تقضي امورها فيه، فكانوا لا
يتشاورون في أمر نزل بهم، ولايعقدون لواء لحرب قوم من غيرهم الا في داره - دار
الندوة - يعقده لهم أحد ولده، حتى الجارية من قريش كانت إذا بلغت ان تتدرع - أي
تلبس الدراعة وهي ستر كالعباءة القصيرة - لم تكن تتدرع الا في داره - دار الندوة
- ففيها كان يشق لها دراعتها ثم ينطلق بها أهلها (سيرة ابن
هشام 1: 131 - 132.). وكان قصي هو الذي فرض الرفادة على قريش وأمرهم بها فقال " يا معشر قريش ! إنكم جيران الله وأهل بيته، أهل الحرم، وان
الحاج ضيف الله وزوار بيته، وهم أحق الضيف بالكرامة، فاجعلوا لهم طعاما وشرابا
أيام الحج حتى يصدروا عنكم ". فكانوا يخرجون لذلك كل عام من أموالهم خرجا فيدفعونه إليه فيصنعه
طعاما للناس ايام منى، فيأكله من لم يكن له سعة ولا زاد وجرى ذلك فيهم حتى ظهر
الإسلام. فلما كبر قصي ودق عظمه، رأى أن عبد مناف قد شرف في زمانه وهو
ثاني أبنائه وبكره هو عبد الدار، فقال له: أما والله يا بني لالحقنك بهم وان كانوا قد شرفوا عليك: لا يدخل
الكعبة رجل حتى تفتحها انت لهم، ولا يعقد أحد لواء حرب لقريش الا انت، ولا يشرب
احد بمكة الا من سقايتك، ولا يأكل أحد من أهل الموسم طعاما الا من طعامك، ولا
تقطع قريش أمرا من امورها الا في دارك. فأعطاه الحجابة واللواء والسقاية
والرفادة ودار الندوة التي لا تقضي أمرا من أمورها الا فيها، فجعل إليه قصي كل
ما كان بيده من أمر قومه، وكان قصي لا يخالف ولا يرد عليه شئ صنعه (سيرة ابن
هشام 1: 136 - 137.). وقال اليعقوبي:
ان قصيا قسم أمره بين ولده: فجعل السقاية والرئاسة لعبد مناف، والدار لعبد
الدار، والرفادة لعبد العزى، وحافتي الوادي لعبد قصي. ومات قصي ودفن بالحجون. ورأس عبد مناف بن قصي وجل قدره وعظم شرفه، ولما كبر أمره جاءته خزاعة وبنو الحارث من
كنانة فسألوه أن يعقد بينهم الحلف ليعزوا به، فعقد بينهم الحلف الذي يقال له:
حلف الأحابيش. وولد لعبد مناف: هاشم -
واسمه عمرو - وعبد شمس، والمطلب ونوفل، وأبو عمرو، وحنة، وتماضر، وأربع بنات. وشرف هاشم بعد أبيه وجل
أمره، واصطلحت قريش على ان يولوا هاشما الرئاسة والسقاية والرفادة
(اليعقوبي:242:1). وروى ابن اسحاق عن أبيه اسحاق بن يسار، عن الحسن بن محمد ابن علي بن أبي طالب انه قال
لنبيه بن وهب الهاشمي: ان قصي بن كلاب جعل كل ما كان بيده من أمر قومه الى عبد
الدار، وكان قصي لا يخالف ولا يرد عليه شئ صنعه، فأقامت قريش على ذلك ليس بينهم
اختلاف وتنازع، حتى انتهى الأمر في عبد الدار الى حفيده: عامر بن هاشم بن عبد
مناف بن عبد الدار ! ثم أجمع بنو عبد مناف بن قصي: عبد شمس وهاشم والمطلب ونوفل، اجمعوا
على ان يأخذوا مابأيدي بني عبد الدار بن قصي جعله إليهم من الحجابة واللواء
والسقاية والرفادة، ورأوا انهم اولى بذلك منهم لشرفهم عليهم وفضلهم في قومهم،
فتفرقت عند ذلك قريش: فكانت طائفة مع بني عبد مناف على رأيهم يرون أ نهم أحق به
من بني عبد الدار لمكانهم في قومهم، وطائفة مع بني عبد الدار يرون ان لا ينزع
منهم ماكان قصي جعل إليهم. فكان مع بني عبد مناف بنو أسد بن عبد العزى بن قصي، وبنو زهرة ابن
كلاب، وبنو تميم بن مرة، وبنو الحارث بن فهر. وكان مع بني عبد الدار: بنو مخزوم، وبنو سهم، وبنو جمح، وبنو عدي
بن كعب. وعقد كل قوم على أمرهم حلفا مؤكدا على أن لا يتخاذلوا ولا يسلم
بعضهم بعضا: فيزعمون ان بعض نساء بني
عبد مناف أخرجت لهم جفنة مملؤة طيبا، فوضعوها لأحلافهم في المسجد عند الكعبة، ثم
غمس القوم أيديهم فيها، فتعاقدوا وتعاهدوا مع حلفائهم ثم مسحوا الكعبة بأيديهم
توكيدا على أنفسهم، فسموا (المطيبين). وتعاقد
بنو عبد الدار
وتعاهدوا مع حلفائهم عند الكعبة حلفا مؤكدا على أن لا يتخاذلوا ولا يسلم بعضهم
بعضا، فسموا (الأحلاف). ثم تداعوا الى الصلح على
أن يعطوا بني عبد مناف: السقاية والرفادة، وأن تكون الحجابة واللواء والندوة
لبني عبد الدار كما كانت، فرضي كل واحد من الفريقين بذلك وتحاجزوا عن الحرب (سيرة ابن
هشام 1: 137 - 140.) هكذا يقتصر هذا الخبر على ذكر بني عبد مناف وبني عبد الدار دون
ذكر شخص خاص منهم، ولكنه بدأ بذكر عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن
قصي، من بني عبد الدار، فلا يناسب أن يكون معارضه المعاصر هاشم بن عبد مناف بن
قصي، بل إما عبد المطلب أو أحد أبنائه ليمكن أن يكون متزامنا معه معاصرا له من
حيث سلسلة النسب. واختصر اليعقوبي هذا فقال: واصطلحت قريش على ان يولوا هاشما الرئاسة والسقاية والرفادة (اليعقوبي 1: 242.) والظاهر أ نه يريد من " هاشما " هنا بني هاشم لا هاشم
نفسه، والمقصود من بني هاشم هو عبد المطلب ابنه، كما أ نه قد ذكر بشأن عبد
المطلب: أن بني عبد الدار لما رأوا حال عبد المطلب وأ نه قد حاز الفخر مشوا الى
بني سهم فقالوا لهم: امنعونا من بني عبد مناف ! فلما رأى ذلك بنو عبد مناف: بنو
المطلب وبنو هاشم وبنو نوفل - واختلف في بني عبد شمس فقال الزبيري: لم يكونوا
فيهم - اجتمعوا، فخرجت ام حكيم بنت عبد المطلب وأخرجت طيبا في جفنة فوضعتها في
الحجر، فتطيب بنو عبد مناف، وأسد، وزهرة، وبنو تيم، وبنو الحارث، فسمي حلفهم: حلف المطيبين. فلما سمعت بذلك بنو سهم ذبحوا
بقرة وقالوا: من أدخل يده في دمها ولعق منه فهو منا، فأدخلت أيديها بنو عبد
الدار، وبنو سهم، وبنو جمح، وبنو عدي، وبنو مخزوم، فسمي حلفهم: حلف اللعقة (اليعقوبي
1: 248. وفي ج 2: 17 ذكر حلف الفضول فقال " وحضر رسول الله حلف الفضول وقد
جاوز العشرين " وقد قال في وفاة عبد المطلب: وتوفي عبد المطلب ولرسول الله
ثماني سنين 2: 13 إذن فحلف الفضول كان بعد اثني عشر عاما بعد عبد المطلب: أما
الذي كان على عهد عبد المطلب فانما هو حلف اللعقة (حلف الأحلاف) دون حلف الفضول،
أما حلف الفضول فقد تأخر عنه بأكثر من اثني عشر عاما ولم أر من تنبه له.). قال اليعقوبي: وكان هاشم
أول من سن الرحلتين: رحلة
الشتاء الى الشام ورحلة الصيف الى الحبشة واليمن. وذلك أن تجارة قريش كانت لا تعدو مكة فكانوا في ضيق، حتى ركب هاشم
الى الشام الى قيصر، فقال له: أيها الملك ان لي قوما من تجار العرب، فتكتب لهم كتابا
يؤمنهم ويؤمن من تجاراتهم حتى يأتوا بما يستطرف من أدم (الادم بفتحتين: جمع الأديم: الجلد المدبوغ، والادم بضمتين: جمع
الأدام للطعام.)
الحجاز وثيابه. ففعل قيصر ذلك، فانصرف هاشم فجعل كلما مر بحي من أحياء العرب أخذ
من أشرافهم الأيلاف - أي العهد - أن يأمنوا عندهم وفي أرضهم، فأخذ الإيلاف من
الشام الى مكة (اليعقوبي
1: 244.) وذلك قول الله
تعالى: * (لأيلاف قريش
ايلافهم رحلة الشتاء والصيف فليعبدوا رب هذا البيت الذي اطعمهم من جوع وآمنهم من
خوف) * (قريش: 1 - 4.). وخرج هاشم بتجارات عظيمة يريد الشام، فجعل يمر بأشراف العرب فيحمل
لهم التجارات ولا يلزمهم لها مؤونة حتى صار الى " غزة " فتوفي بها.
وانما لقب بهاشم - واسمه عمرو - لانه كان يهشم الخبز ويصب عليه المرق واللحم
فيطعمهم بمكة ومنى وعرفات والمزدلفة يثرد لهم الخبز في السمن واللحم والسويق،
ويأمر بحياض من أدم فتجعل في موضع زمزم، فيسقي الناس فيها من الآبار التي بمكة (اليعقوبي
1: 242 - 244.) أما زمزم فقد كانت جرهم طمته ولم يحفر بعد. وقد نقل اليعقوبي
خبرا عن تاجر من بني كلاب حضر موسم الحج فوصف لنا كيفية رفادة هاشم فقال: قال الأسود بن شعر الكلبي: كنت عسيفا - أي عاملا -
لعقيلة من عقائل الحي، أركب الصعبة والذلول، لا ابقي مطرحا من البلاد أرتجي فيه
ربحا من الأموال الا ركبت إليه من الشام بأثاثه وخرثيه - أي متاعه - أريد كبة
العرب أي جماعتهم. فعدت من الشام وقد دهم الموسم، فدفعت الى الموسم مسدفا - أي
ليلا - فحبست الركاب حتى انجلى عني قميص الليل، وإذا جزر تنحر واخرى تساق للنحر،
وطهاة يطهون الطعام للأكل. فبهرني ما رأيت فتقدمت اريد عميدهم. وعرف رجل شأني
فقال: أمامك، فدنوت، فإذا رجل على عرش سام، تحته نمرقة، قد كار - اي لف - عمامة
سوداء، وأخرج من ملاثمها جمة شعر فينانة - اي كفنن الشجر في الطول والحسن - كان
الشعرى تطلع من جبينه وفي يده مخصرة، وحوله مشيخة جلة، منكسوا الأذقان، ما منهم
احد يفيض بكلمة، ودونهم خدم مشمرون الى أنصافهم، وإذا برجل مجهر على نشز من
الأرض ينادي: يا وفد الله هلموا الى الغداء، وانسيان على طريق من طعم يناديان:
يا وفد الله من تغد فليرجع الى العشاء. فقلت لرجل كان الى جانبي: من هذا ؟ اريد
العميد ؟ فقال: أبو نضلة هاشم بن عبد مناف. فخرجت وأنا اقول: هذا والله المجد،
لامجد آل جفنة ! وكان هاشم لما
أراد الخروج الى الشام حمل امرأته وابنه شيبة بن هاشم ليجعل أهله عند أهلها
بالمدينة " يثرب " بني عدي بن النجار. ولما بلغ نبأ وفاة هاشم الى مكة قام بأمر مكة بعده أخوه المطلب بن عبد مناف. فلما كبر شيبة بن
هاشم وبلغ المطلب بن عبد مناف وصف حال شيبة ابن أخيه هاشم، خرج الى المدينة حتى
دخلها عشاء - أي قرب العشية - فأتى بني عدي بن النجار وعرفه القوم ورأى غلاما
على ما وصف له فقال: هذا ابن هاشم ؟ قال القوم: نعم، فذهب به معه. ودخل المطلب مكة وخلفه شيبة بن هاشم، والناس في أسواقهم ومجالسهم،
فقاموا يرحبون به ويحيونه ويسألونه: من هذا معك ؟ فيقول: عبدي ابتعته بيثرب ! ثم
دخل سوق الحزورة - الى جانب المسجد الحرام - فابتاع له حلة، ثم أدخله داره. فلما كان العشي - أي العصر - ألبسه الحلة، ثم خرج به معه فأجلسه
معه في مجلس بني عبد مناف فأخبرهم خبره. ولكن غلب عليه اسم: عبد المطلب. وأراد المطلب أن يشارك في رحلة الشتاء الى اليمن، فقال لعبد المطلب:
أنت يا بن أخي أولى بموضع أبيك، فقم بأمر مكة. ثم رحل فتوفي في سفره ذلك بردمان
- من حصون اليمن - فقام عبد المطلب بأمر مكة وساد وشرف. وأقرت له قريش بالشرف (اليعقوبي
1: 244 - 246.). |
حفر
بئر زمزم:
|
قال ابن اسحاق:
كانت جرهم قد دفنت زمزم حين ظعنوا من مكة (سيرة ابن
هشام 1: 116.). وقال اليعقوبي:
قال محمد بن الحسن: لما تكامل لعبد المطلب مجده وأقرت له قريش بالفضل رأى في
المنام وهو في الحجر ان آتيا أتاه فقال له: قم يا أبا البطحاء واحفر زمزم حفيرة
الشيخ الأعظم (اليعقوبي 1: 246.). وروى ابن اسحاق بثلاث
وسائط عن علي (عليه السلام) انه قال: قال عبد المطلب: اني لنائم في الحجر إذ أتاني آت فقال: احفر طيبة،
قال: قلت: وماطيبة ؟ قال: ثم ذهب عني. فلما كان الغد رجعت الى مضجعي فنمت فيه،
فجاءني فقال: احفر برة، قال: قلت: فما برة ؟ قال: ثم ذهب عني ؟. فلما كان الغد
رجعت الى مضجعي فنمت فيه، فجاءني فقال: احفر المضنونة، قال: فقلت: وما المضنونة
؟ قال: ثم ذهب عني فلما كان الغد رجعت الى مضجعي فنمت فيه فجاءني فقال: احفر
زمزم، قال: قلت: وما زمزم ؟ قال: لا تنزف أبدا ولا تذم، تسقي الحجيج الأعظم، وهي
بين الفرث والدم، عند نقرة الغراب الأعصم (الغراب الذي في جناحيه بياض.)، عند قرية النمل. فلما بين له شأنها ودل على
موضعها وعرف انه قد صدق الرؤيا غدا بمعوله ومعه ابنه الحارث بن عبد المطلب - ليس
له يومئذ ولد غيره - فحفر فيها. فلما بدا لعبد المطلب الحجارات التي طوي بها البئر عرفت قريش أ نه
قد أدرك حاجته، فقاموا إليه فقالوا: يا عبد المطلب إنها بئر أبينا اسماعيل، وان
لنا فيها حقا فاشركنا معك فيها، قال: ما أنا بفاعل إن هذا الأمر قد خصصت به
دونكم وأعطيته من بينكم. فقالوا له: فانصفنا فإنا غير تاركيك حتى نخاصمك فيها !
قال: فاجعلوا بيني وبينكم من شئتم احاكمكم إليه قالوا: كاهنة بني سعد: هذيم.
قال: نعم. وكانت باشراف الشام. فركب عبد المطلب ومعه نفر من بني أبيه بني عبد مناف، وركب من كل
قبيلة من قريش نفر، فخرجوا حتى إذا كانوا ببعض المفاوز بين الحجاز والشام فني
ماء عبد المطلب وأصحابه فظمئوا حتى أيقنوا بالهلكة، فاستسقوا من معهم من قبائل
قريش فأبوا عليهم وقالوا: إنا بمفازة، ونحن نخشى على أنفسنا مثل ما أصابكم. فلما رأى عبد المطلب ما صنع القوم وما يتخوف منه على نفسه وأصحابه قال لهم: اني أرى أن
يحفر كل رجل منكم حفرته لنفسه بما بكم الآن من القوة، فكلما مات رجل دفعه أصحابه
في حفرته ثم واروه، حتى يكون آخركم واحدا، فضيعة رجل واحد أيسر من ضيعة ركب
جميعا. قالوا: نعم، وقام كل واحد منهم فحفر حفرته ثم قعدوا ينتظرون الموت عطشا. ثم قال عبد المطلب لأصحابه: ارتحلوا فعسى الله أن يرزقنا ماء ببعض البلاد، وتقدم عبد المطلب
الى راحلته فركبها، فلما انبعثت به انفجرت من تحت خفها عين من ماء عذب، فكبر عبد
المطلب وكبر أصحابه، ثم نزل فشرب وشرب أصحابه واستقوا حتى ملأوا أسقيتهم. ثم دعا
سائر قريش فقال: هلموا الى الماء فقد سقانا الله فاشربوا واستقوا. فجاؤا فشربوا
واستقوا، ثم قالوا: قد - والله - قضى لك علينا يا عبد المطلب، فلا نخاصمك في
زمزم أبدا، فإن الذي سقاك هذا الماء بهذه الفلاة لهو الذي سقاك زمزم، فارجع الى
سقايتك راشدا. فرجعوا (سيرة ابن هشام 1: 150 - 153. ورواه عنه ابن أبي الحديد في شرح النهج
3: 465 ط 4 مجلدات واختصره اليعقوبي 1: 248.). وروى اليعقوبي عن محمد بن الحسن أ نه قال: كانت قريش تفسد ذلك الحوض الذي كان يسقي منه عبد المطلب وتكسره،
فرأى في المنام أيضا: أن قم فقل: اللهم اني لا احله لمغتسل انما هو حل للشارب.
فقام عبد المطلب فقال ذلك، فلم يكن يفسد ذلك الحوض أحد الا رمي بداء من ساعته،
فتركوه. وكان - لما حفر - وجد سيوفا وسلاحا وغزالا - من ذهب - مقرطا مجزعا
ذهبا وفضة ! فلما رأت قريش ذلك قالوا: يا أبا الحارث ! أعطنا من هذا المال الذي
أعطاك الله فإنها بئر أبينا اسماعيل فاشركنا معك، فقال: امهلوني. فلما استقام له
الأمر جعل الذهب صفائح على باب الكعبة، وكان أول من حلى الكعبة بعد حليها على
عهد جرهم (اليعقوبي 1: 246، 247 ورواه الكليني عن علي بن ابراهيم مرفوعا في
فروع الكافي 1: 225.). وقال المسعودي:
حفر عبد المطلب بن هاشم بئر زمزم، وكانت مطوية، وذلك في ملك كسرى قباد، فاستخرج
منها غزالتي ذهب عليهما الدرر والجوهر وغير ذلك من الحلي، وسبعة أسياف قلعية
وسبعة أدرع سوابغ، فضرب من الأسياف بابا للكعبة، وجعل احدى الغزالين صفائح ذهب
في الباب، وجعل الاخرى في الكعبة وجعل باب الكعبة مذهبا (مروج
الذهب 2: 103.). |
|
الفصل
الثاني كيف نشأ النبي (صلى الله عليه وآله)
|
آباء
النبي (صلى الله عليه وآله)
|
ايمان
عبد المطلب:
|
قال المسعودي: قد
تنازع الناس في عبد المطلب: فمنهم من رأى ان عبد المطلب وغيره من آباء النبي -
صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - كان مشركا الا من صح ايمانه. ومنهم من رأى ان عبد
المطلب كان مؤمنا موحدا وأ نه لم يشرك بالله عز وجل، ولا احد من آباء النبي -
صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - وانه نقل في الأصلاب الطاهرة، وانه - صلى الله
عليه [ وآله ] وسلم - اخبر: انه ولد من نكاح لا من سفاح. وهذا موضع فيه تنازع
بين الإمامية وغيرهم من الفرق في النص والأختيار: وليس كتابنا هذا للحجاج فنذكر
حجة كل فريق منهم. وكان عبد المطلب يوصي ولده بصلة الأرحام واطعام الطعام
ويرغبهم ويرهبهم فعل من يرقب معادا وبعثا ونشورا، وقد أوصى أبا طالب بالنبي - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - (مروج
الذهب 2: 103 و 108.).
وروى الصدوق في (الخصال) بسنده عن الصادق (عليه السلام): ان النبي - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - قال لعلي (عليه السلام): ان عبد المطلب سن في الجاهلية خمس سنن
أجراها الله له في الإسلام: حرم نساء الآباء على الأبناء وأنزل الله عزوجل * (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء) * (النساء:
22.) ووجد كنزا (يمكن أن يكون المقصود منه ما وجده مما كانت جرهم قد دفنته في بئر
زمزم من هدايا الكعبة، كما مر.)
فأخرج منه الخمس وتصدق به، وأنزل الله عزوجل * (واعلموا ان ما غنمتم من شئ فان لله خمسه) * (الأنفال:
41.). ولما حفر بئر زمزم
سماها: سقاية الحاج، وأنزل الله عز وجل * (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم
الآخر) * (التوبة: 19.). وسن
عبد المطلب في القتل مائة من الإبل فأجرى الله ذلك في الإسلام. ولم يكن للطواف
عدد عند قريش فسن فيهم عبد المطلب سبعة أشواط فأجرى الله ذلك في الإسلام. يا علي
! ان عبد المطلب كان لا يستقسم بالأزلام، ولا يعبد الأصنام، ولا يأكل ما ذبح على
النصب، ويقول: أنا على دين أبي ابراهيم (عليه السلام) (الخصال:
312 ط غفاري.). وروى
الكليني في (الكافي) رواية عن الصادق (عليه السلام) بثلاث طرق: عن مقرن وزرارة ومفضل بن عمر عنه (عليه السلام) قال: يحشر عبد
المطلب يوم القيامة أمة وحده، عليه سيماء الأنبياء وهيبة الملوك (اصول
الكافي 1: 446 و 447، اي وحده في الايمان دون معاصريه.). وروى
الشيخ المفيد في (الإختصاص) بسنده عن عبد الرحمن بن خالد مولى المنصور العباسي
قال: اخرج الي بعض ولد سليمان بن علي العباسي كتابا بخط عبد المطلب وإذا هو شبيه
بخط الصبيان وهو: بسمك اللهم، ذكر حق عبد المطلب بن هاشم من اهل مكة على فلان بن
فلان الحميري من اهل زول (ذكره
ياقوت في معجم البلدان فقال: اسم مكان باليمن وجد بخط عبد المطلب بن هاشم.) صنعاء، عليه ألف درهم فضة طيبة كيلا بالحديد، ومتى دعاه بها
أجابه، شهد الله والملكان (الإختصاص: 123 ط غفاري وذكره ابن النديم في الفهرست. ولا نؤكد نسبة
الكتاب الى الشيخ المفيد.). وهذا يدل على ايمانه بالله والملائكة. وقال اليعقوبي: انه كان
يوحد الله عزوجل، وقد رفض عبادة الأصنام، وسن سننا سنها رسول الله ونزل بها
القرآن، وهي: الوفاء بالنذر، ومائة من الإبل في الدية، وان لا تنكح ذات محرم،
ولا تؤتى البيوت من ظهورها، وقطع يد السارق، والنهي عن قتل الموؤدة والمباهلة،
وتحريم الخمر، وتحريم الزنا والحد عليه، والقرعة، وأن لا يطوف أحد بالبيت
عريانا، واضافة الضيف، وان لا ينفقوا إذا حجوا الا من طيب أموالهم، وتعظيم
الأشهر الحرم، ونفي ذوات الريات فكانت قريش تقول: عبد المطلب ابراهيم الثاني (اليعقوبي
2: 10، 11 ط بيروت.). وقال الشهرستاني في (الملل والنحل): كان يأمر ولده بترك الظلم والبغي ويحثهم على مكارم الأخلاق
وينهاهم عن دنيات الامور، وكان يقول في وصاياه: إنه لن يخرج من الدنيا ظلوم حتى
ينتقم منه وتصيبه عقوبة، وهلك رجل ظلوم لم تصبه عقوبة فقيل لعبد المطلب في ذلك
ففكر فقال: والله إن وراء هذه الدار دارا يجزى فيها المحسن بإحسانه ويعاقب فيها
المسئ بإساءته (الملل والنحل للشهرستاني نقلا عن البحار 15: 121. وللتفصيل انظر
الصحيح 1: 149 - 154.). |
أبناء
عبد المطلب والذبيح منهم:
|
روى الصدوق في (الخصال) بسنده عن الصادق عن أبيه (عليهما السلام) عن
جابر بن عبد الله الأنصاري قال: سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن ولد عبد المطلب فقال: عشرة
والعباس. يعني أحد عشر رجلا. ثم قال الصدوق:
أسنهم الحارث - وبه كان يكنى عبد المطلب - وعبد العزى وهو أبو لهب، وأبو طالب -
وهو عبد مناف - وضرار، والزبير، والغيداق، والمقوم، والحجل، وحمزة، والعباس،
وعبد الله (الخصال: 452، 453.). وروى فيه بسنده عن الباقر (عليه السلام) قال: كان عبد المطلب ولد له تسعة، فنذر في العاشر: إن رزقه الله غلاما:
ان يذبحه فلما ولد عبد الله لم يكن يقدر ان يذبحه ورسول الله (صلى الله عليه
وآله) في صلبه، فجاء بعشر من الأبل وساهم عليها وعلى عبد الله، فخرجت السهام على
عبد الله، فزاد عشرا، فلم تزل السهام تخرج على عبد الله ويزيد عشرا، فلما ان
بلغت مائة خرجت السهام على الإبل، فقال عبد المطلب: ما أنصفت ربي، فأعاد السهام
ثلاثا فخرجت على الإبل فقال: الآن علمت ان ربي قد رضي، فنحرها (الخصال: 156.). وروى في (عيون الأخبار)
بسنده عن علي بن الحسين بن فضال قال: سألت الرضا (عليه السلام) عن معنى قول النبي (صلى الله عليه وآله):
أنا ابن الذبيحين ؟ قال: " يعني اسماعيل بن ابراهيم الخليل (عليه السلام)
وعبد الله بن عبد المطلب " الى ان قال: " فان عبد المطلب كان قد تعلق
بحلقة باب الكعبة ودعا الله ان يرزقه عشرة بنين، ونذر لله عزوجل ان يذبح واحدا
منهم متى أجاب الله دعوته. فلما بلغوا عشرة قال: قد وفى الله لي، فلأوفين لله عزوجل: فأدخل ولده الكعبة وأسهم
بينهم، فخرج سهم عبد الله أبي رسول الله (صلى الله عليه وآله) وكان أحب ولده
إليه، ثم اجالها ثانية فخرج سهم عبد الله، ثم اجالها ثالثة فخرج سهم عبد الله !
فأخذه وعزم على ذبحه ! فاجتمعت قريش ومنعته من ذلك، واجتمع نساء عبد المطلب
يبكين ويصحن، وقالت ابنته عاتكة: يا أبتاه اعذر فيما بينك وبين الله في قتل
ابنك. قال: وكيف اعذر يا بنيه ؟ قالت: اعمد الى تلك السوائم التي لك في الحرم
فاضرب القداح على ابنك وعلى الإبل واعط ربك حتى يرضى. فبعث عبد المطلب الى ابله فأحضرها وعزل منها عشرا وضرب بالسهام
فخرج سهم عبد الله، فما
زال يزيد عشرا عشرا حتى بلغت مائة، فضرب فخرج السهم على الإبل، فكبرت قريش
تكبيرة ارتجت لها جبال تهامة ! فقال عبد المطلب: لا، حتى اضرب بالقداح ثلاث مرات
فضرب ثلاثا كل ذلك يخرج السهم على الإبل ! فلما كانت في الثالثة اجتذبه الزبير
وأبو طالب واخواتهما من تحت رجليه فحملوه - وكان خده على الأرض فانسلخت جلدة خده
- وأقبلوا يرفعونه ويقبلونه ويمسحون عنه التراب. وأمر عبد المطلب أن تنحر الإبل
بالحزورة (الحزورة كدحرجة: تل معروف في مكة كان يتخذ سوقا - كما في الصحاح وقد
نقل الخبر ابن اسحاق في سيرته يقول: فيما يزعمون. ثم جاء بالخبر ناسبا الى عبد
المطلب أنه ذبح للأصنام: وهو مردود بما رويناه سندا معتبرا عن أئمة أهل البيت
(عليهم السلام).) ولا يمنع أحد منها. فكانت لعبد المطلب خمس من
السنن اجراها الله عزوجل في الإسلام: حرم نساء الآباء على الأبناء، وسن الدية في
القتل مئة من الإبل، وكان يطوف بالبيت سبعة أشواط، ووجد كنزا (لعله -
كما سبق - هو مادفنته جرهم في زمزم من هدايا الكعبة.) فأخرج
منه الخمس، وسمى زمزم حين حفرها: سقاية الحاج. ولولا ان عبد المطلب كان حجة وان
عزمه على ذبح ابنه عبد الله شبيها بعزم ابراهيم على ذبح ابنه اسماعيل لما افتخر
النبي (صلى الله عليه وآله) بالانتساب اليهما لأجل انهما الذبيحان، في قوله: أنا
ابن الذبيحين. والعلة التي من اجلها دفع الله عزوجل الذبح عن اسماعيل هي العلة
التي من اجلها دفع القبح عن عبد الله، وهي كون النبي والأئمة المعصومين - صلوات
الله عليهم - في صلبيهما، فببركة النبي والأئمة (عليهم السلام) دفع الله الذبح
عنهما (عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 1: 212 ط لاجوردي.). قال اليعقوبي: وكان
اسم عبد الله (عبد الدار) و (عبد قصي) فلماكان الفداء قال عبد المطلب: هذا عبد
الله فسماه به (اليعقوبي 2: 9.)
وكان ذلك بعد حفر زمزم
بعشر سنين (اليعقوبي 2: 9 يعلم ذلك مما ذكره في سن زواج عبد الله.)،
ولعبد الله 20 سنة. فربما يقال هنا:
ان عبد المطلب الذي قال عنه المؤرخون: انه كان يقطع يد السارق، ويمنع من طواف
العراة، وينهى عن دنيات الامور، تاركا للأصنام مجاب الدعوة.. كيف يسمي أبناءه
عبد مناف، ومناف اسم صنم، وعبد العزى، والعزى كذلك وثن من الأوثان، ثم كيف جاز
له التصرف في شخص غيره - ولو ابنه - هذا التصرف ؟ وهل لأحد أن يرى صحة نذر كهذا
تكون الضحية فيه نفسا محترمة مثل عبد الله ؟ ! طرح هذا السؤال السيد
المرتضى في (الصحيح من
السيرة) (الصحيح من سيرة النبي الأعظم (ص) السيرة 1: 65 - 70.) ثم نقل عن المحقق السيد محمد مهدي الروحاني القمي انه أشار الى:
اننا نلاحظ ان عبد المطلب قد سار في ايمانه سيرا تكامليا، فنجده في أول أمره
يسمي أبناءه عبد مناف وعبد العزى، ولكنه يتقدم في إيمانه حدا يرهب به ابرهة
الحبشي صاحب الفيل، ويقول عنه المؤرخون ما ذكروه وذكرناه، ولا شك انه بعد ميلاد
حفيده محمد (صلى الله عليه وآله) لما رأى وسمع الكثير من العلامات الدالة على
نبوته، وشهد وعاين الكثير من الدلالات والكرامات بام عينيه، بلغ الحد الأعلى في
إيمانه. وعليه فلا مانع من ان
يكون في أول أمره يرى
لنفسه ان ينذر نذرا كهذا، وقد امر الله نبيه ابراهيم بذبح ولده اسماعيل، ونذرت
امرأة عمران ما في بطنها محررا لخدمة بيت المقدس. كما أشار الى هذا ابن شهر آشوب
فقال وتصور عبد المطلب ان ذبح الولد أفضل قربة لما علم من أمر اسماعيل، ثم ذكر
الخبر (مناقب ابن شهر آشوب 1: 20 ط قم.). |
الزواج
الميمون تزويج عبد الله بآمنة:
|
قال اليعقوبي: وبعد
حفر زمزم بعشر سنين، وبعد الفداء عن عبد الله بسنة واحدة كان تزويجه بآمنة بنت
وهب، وكان سنه يوم تزويجها أربعا وعشرين سنة (اليعقوبي
2: 9.). وقال ابن اسحاق: خرج عبد المطلب بابنه عبد الله حتى أتى به الى دار وهب بن عبد
مناف بن زهرة - وهو يومئذ سيد بني زهرة نسبا وشرفا - فخطب ابنته آمنة لعبد الله،
وكانت آمنة أفضل امرأة في قريش نسبا وموضعا، فزوجه اياها وأملكها. وفي داره دخل
عبد الله على آمنة، فحملت برسول الله - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - (سيرة ابن
هشام 1: 165، ورواه عنه الطبري 2: 243. هذا، وقد أورد المجلسي في (البحار) في باب بدء خلقته خبرا يتضمن تفصيلا مطولا
في خطبة آمنة وزفافها استغرق من الطبعة الحديثة من ص 26 الى 104، أي ثماني
وسبعين صفحة من الجزء 15، قال في أوله " قال الشيخ أبو الحسن البكري استاذ
الشهيد الثاني في كتابه المسمى بكتاب الأنوار: حدثنا أشياخنا وأسلافنا الرواة
لهذا الحديث عن أبى عمرو الأنصاري سألت كعب الأحبار ووهب بن منبه وابن عباس
قالوا جميعا: لما أراد الله ان يخلق محمدا قال لملائكته... وقال المجلسي في آخر الخبر: " أقول: انما أوردت هذا الخبر مع
غرابته وارساله للإعتماد على مؤلفه واشتماله على كثير من الآيات والمعجزات التي
لا تنافيها سائر الاخبار بل تؤيدها " هذا، والشهيد الثاني استشهد سنة 966 وقد حكى محقق البحار: الشيخ الرباني عن " رياض العلماء "
عن بعض المؤرخين: انه رأى نسخة عتيقة من كتاب " الأنوار الكبرى "
تأريخ كتابتها سنة 696 والسمهودي في كتابه " تأريخ المدينة " الذي
ألفه سنة 888 ذكر البكري صاحب الأنوار فقال: ان سيرة البكري الكذب والبطلان ! وعلى هذا فكيف يمكن ان يكون من مشايخ الشهيد الثاني ؟ ! أما أبو
الحسن البكري من مشايخ الشهيد الثاني فهو الصديقي الشافعي المتوفى بالقاهرة سنة
952 كما في " شذرات الذهب " وليس هو صاحب كتاب الأنوار، ولكن التبس
عند الشيخ المجلسي أحدهما بالآخر فأحسن به الظن كما قال، وأورد أخباره الباطلة
الكاذبة في بحاره. سامحه الله وغفر له ولنا. (*)). وروى الطبرسي في (الأحتجاج) عن الكاظم عن علي (عليهما السلام)
انه قال: ان آمنة بنت وهب
رأت في المنام انه قيل لها: ان ما في بطنك سيد، فإذا ولدته فسميه محمدا. ثم قال
علي (عليه السلام): فاشتق الله له اسما من أسمائه، فإن الله المحمود وهذا محمد (الاحتجاج
1: 321.). وفي هذا المعنى روى
الطبرسي في (إعلام الورى) عن سفيان بن عيينه أ نه قال: أحسن بيت قالته العرب هو قول أبي طالب للنبي (صلى الله عليه وآله). وشق له من إسمه كي يجله
* فذو العرش محمود وهذا محمد ثم قال: وقال غيره: ان هذا
البيت لحسان بن ثابت في قطعة له أولها: ألم تر ان الله أرسل عبده *
ببرهانه والله أعلى وأمجد (وروى
السيد زيني دحلان: أن امه ذكرت ما فات لعبد المطلب فسماه محمدا (ص) ولكنها هي
سمته أحمد، ثم ذكر خمسة أبيات من شعر أبي طالب (رض) يسمي النبي فيها بأحمد
(انسان العيون في سيرة الأمين المأمون، المعروف بالسيرة الحلبية 92 - 100).) وقال ابن اسحاق: ويتحدث
الناس: ان آمنة بنت وهب
كانت تحدث: ا نها حين حملت رأت أ نه خرج منها نور رأت به قصور بصرى من أرض
الشام، وقيل لها: انك قد حملت بسيد هذه الامة فإذا وقع الى الأرض فقولي: اعيذه
بالواحد من شر كل حاسد، ثم سميه محمدا (سيرة ابن
هشام 1: 166 ورواه عنه الطبري 2: 156 ورواه عنه ابن شهر آشوب في المناقب 1: 29.
وقال في (الروض الانف) وابن فورك في (الفصول): ان اميحة بن جلاح وحمران بن ربيعة
وسفيان بن مجاشع كانوا قد التقوا بمن له علم بالكتاب الأول فأخبروهم بمبعث النبي
وباسمه، فلما سمعوا بذكر رسول الله وقرب زمانه وأنه من الحجاز طمعوا أن يكون
ولدا لهم فسموا أبناءهم باسمه محمدا، ولا يعرف من تسمى بهذا الاسم قبله الا
هؤلاء الثلاثة في العرب. هذا، ولكن السيد زيني دحلان في (السيرة الحلبية 1: 93)
بلغ بعدد من تسمى بهذا الاسم الى ستة عشر رجلا وذكر شعرا في ذلك يقول: ان الذين سموا باسم محمد *
من قبل خير الناس ضعف ثمان). ثم روى بسنده عن عبد
الله بن جعفر بن أبي طالب أنه
حدث عن حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية عن آمنة بنت وهب أ نها قالت لها: رأيت حين
حملت به انه خرج مني نور أضاء لي قصور بصرى من أرض الشام، ثم والله ما رأيت من
حمل قط كان أخف علي ولا أيسر منه، ووقع حين ولدته واضعا يديه على الأرض رافعا
رأسه الى السماء. ثم روى بسنده عن ثور بن يزيد: أن نفرا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - قالوا له: يارسول الله أخبرنا عن نفسك، قال: نعم، أنا دعوة أبي
ابراهيم وبشرى أخي عيسى، وحين حملت بي أمي رأت ا نه خرج منها نور اضاء لها قصور
الشام (سيرة ابن هشام 1: 171 - 175 وروى الطبري بسنده عن ثور بن يزيد الشامي
عن مكحول الشامي عن شداد بن أوس، قال: بينا نحن جلوس عند رسول الله ! إذ أقبل
شيخ كبير من بني عامر وهو سيدهم، يتوكأ على عصا، فمثل بين يدي النبي قائما وقال:
يا بن عبد المطلب ! اني انبئت انك تزعم انك رسول الله الى الناس، ارسلك بما أرسل
به ابراهيم وموسى وعيسى وغيرهم من الأنبياء، ألا وانك فوهت بعظيم، وانما كانت
الأنبياء والخلفاء في بيتين من بني اسرائيل، وأنت ممن (أي من قوم) يعبد هذه
الحجارة والأوثان فمالك وللنبوة ؟ ! ولكن لكل قول حقيقة فأنبئني بحقيقة قولك
وبدء شأنك. فأعجب النبي بمسألته وقال له: يا أخا بني عامر ! ان لهذا الحديث الذي
تسألني عنه نبأ ومجلسا، فاجلس، فثنى رجليه وجلس. فقال له النبي: يا أخا بني عامر
ان حقيقة قولي وبدء شأني: اني دعوة ابي ابراهيم وبشرى أخي عيسى بن مريم، واني
كنت بكر أمي.. ثم ان أمي رأت في المنام ان الذي في بطنها نور، وانها قالت: فجعلت
أتبع بصري النور والنور يسبق بصري حتى أضاءت لي مشارق الأرض ومغاربها (الطبري 2:
161). ورواه بنفس السند (الكازروني) في (المنتقى في مولود المصطفى) وقد
اخرج ابن أبي الحديد مختصره في (شرح نهج البلاغة) عن الطبري. والظاهر أن هذا الخبر
هو ما رواه ابن اسحاق عن ثور بن يزيد الا انه نسي السند بعده فقال: " عن
بعض أهل العلم ولا أحسبه الا عن خالد بن معدان الكلاعي " وقد توفي خالد سنة
108 كما عن (تهذيب التهذيب) ولعله لهذا انما نقل قطعة من الخبر بالمعنى.). فلعل
قوله في بداية هذا الحديث قبل هذا " ويتحدث الناس " ليس اشارة الى وهن
الخبر بل الى اشتهاره بين الناس، كما رواه الطبرسي في (اعلام الورى) وبدأ بقوله: فمن ذلك ما استفاض في الحديث أن ام رسول الله (صلى الله عليه
وآله) لما وضعته رأت نورا (اعلام الورى: 10.).
وروى اليعقوبي عن الصادق (عليه السلام): انه كان بين تزويج أبي رسول الله بامه وبين مولده عشرة أشهر.
|
الميلاد
الميمون
|
قال: وروى عن امه انها قالت: لما وضعته رأيت نورا ساطعا بدا مني
حتى افزعني، ولم أر شيئا مما يرينه النساء. قال: وروى بعضهم:
انها قالت: سطع مني النور حتى رأيت قصور الشام. ولما وقع الى الارض قبض قبضة من
تراب، ثم رفع رأسه الى السماء (روى مفصل الخبر علي بن ابراهيم القمي في تفسيره مرسلا: عن آمنة ام
النبي انها قالت: لما حملت برسول الله لم اشعر بالحمل ولم يصبني ما أصاب النساء
من ثقل الحمل، ورأيت في نومي كأن آتيا أتاني فقال لي: قد حملت بخير الأنام. ثم
وضعته يتقي الأرض بيديه وركبتيه، ورفع رأسه الى السماء وخرج مني نور أضاء ما بين
السماء الى الارض، ورميت الشياطين بالنجوم وحجبوا من السماء، ورأت قريش الشهب
تتحرك وتزول وتسير في السماء، ففزعوا وقالوا: هذا قيام الساعة، واجتمعوا الى
الوليد بن المغيرة - وكان شيخا كبيرا مجربا - فسألوه عن ذلك فقال: انظروا الى
هذه النجوم التي يهتدى بها في ظلمات البر والبحر، فإن كانت قد زالت فهي الساعة،
وان كانت هذه ثابتة فهو لأمر قد حدث. وكان بمكة رجل يهودي يقال له: يوسف، فلما رأى النجوم تتحرك وتسير في
السماء خرج الى نادي قريش فقال: يا معشر قريش ! هل ولد فيكم الليلة مولود ؟
فقالوا: لا، فقال: أخطأتم والتوراة. قد ولد في هذه الليلة آخر الأنبياء وأفضلهم،
وهو الذي نجده في كتبنا انه إذا ولد ذلك النبي رجمت الشياطين وحجبوا من السماء.
فرجع كل واحد الى منزله يسأل أهله: فقالوا: قد ولد لعبد الله بن عبد المطلب إبن. فقال اليهودي: اعرضوه علي.
فمشوا معه الى باب آمنة فقالوا لها: أخرجي ابنك ينظر إليه هذا اليهودي. فأخرجته
في قماطه، فنظر في عينيه وكشف عن كتفه فرأى شامة سوداء عليه شعرات. فسقط الى
الأرض مغشيا عليه، فضحكوا منه. فقال: أتضحكون ؟ يا معشر قريش ! هذا نبي السيف
ليبيدنكم، وذهبت النبوة من بني اسرائيل الى آخر الأبد. وتفرق الناس يتحدثون بخبر
اليهودي. قال علي بن ابراهيم: فلما
رميت الشياطين بالنجوم وأنكروا ذلك اجتمعوا الى ابليس فقالوا: قد منعنا من
السماء وقد رمينا بالشهب. فقال: اطلبوا فان أمرا قد حدث في الدنيا. فرجعوا
وقالوا: لم نر شيئا. فقال ابليس: أنا له بنفسي. فجال ما بين المشرق والمغرب حتى
انتهى الى الحرم فرآه محفوفا بالملائكة وجبريل على باب الحرم بيده حربة. فأراد
ابليس أن يدخل فصاح به جبرئيل: اخسأ يا ملعون: فجاء من قبل حراء فصار مثل الصد
(الجبل المرتفع) ثم قال: يا جبرئيل حرف اسألك عنه ؟ قال: وما هو ؟ قال: ما هذا ؟
وما اجتماعكم في الدنيا ؟ فقال: هذا نبي هذه الامة قد ولد وهو آخر الأنبياء
وأفضلهم. قال: هل لي فيه نصيب ؟ قال: لا. قال: ففي امته ؟ قال: بلى. قال: قد
رضيت (تفسير القمي 1: 373، 374 ط النجف)... ولنحتفظ في الذاكرة بقوله: "
قال: هل لي فيه نصيب ؟ قال: لا " لنقارنه بما سنقرأه في قصة شق صدره (صلى
الله عليه وآله) من ان جبرئيل خاصة أخرج من صدره نصيب الشيطان ! ومع قول يوسف اليهودي في مكة في آخر الخبر السابق عن آمنة: "
ذهبت النبوة من بني اسرائيل الى آخر الأبد " لا يمكن أن نرمي الخبر بانه
يهودي من الاسرائيليات. نعم في الخبر من الاستبعاد ان الوليد بن المغيرة معروف
بما وصف به في الخبر ولكن عند ظهور الاسلام، فهل كان كذلك قبل ذلك بأكثر من
أربعين عاما، اي من قبل الأربعين من عمره حتى بعد الثمانين ؟ !) حملت به امه في أيام التشريق عند الجمرة الوسطى. وكانت في منزل عبد
الله. وولدته في شعب أبي طالب في دار محمد بن يوسف (قال
المجلسي في هامش البحار: قال المؤرخون: كانت هذه الدار للنبي (صلى الله عليه
وآله) فوهبها لعقيل بن أبي طالب، فباعها أولاده لمحمد بن يوسف أخ الحجاج الثقفي
فاشتهرت بدار محمد بن يوسف فأدخلها في قصره الذي كانوا يسمونه البيضاء وبعد
انقضاء دولة بني امية حجت خيزران أم الهادي والرشيد فأفرزتها من القصر وجعلتها
مسجدا، وهو الآن يصلى ويزار فيه (البحار
15: 250، 252) وقال السيد الأمين في (أعيان الشيعة): وبقي المسجد في حالته تلك حتى استولى الوهابيون على مكة فهدموه
ومنعوا من زيارته، على عادتهم في المنع عن التبرك بآثار الأنبياء والصالحين، بل
جعلوه مربضا للدواب (أعيان الشيعة 3: 7).) في الزاوية القصوى عن يسار الداخل للدار، وقد أخرجت الخيزران ذلك
البيت فصيرته مسجدا يصلي فيه الناس (اصول
الكافي 1: 439، وذكره المسعودي 2: 174.). ونقل المجلسي عن كتاب (حدائق الرياض) و (التواريخ الشرعية) للشيخ
المفيد ا نه قال:
السابع عشر من ربيع الأول مولد سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) عند طلوع
الفجر من يوم الجمعة عام الفيل (بحار
الانوار 15: 251.). وقال الطبرسي: ولد
يوم الجمعة عند طلوع الشمس، السابع عشر من شهر ربيع الأول عام الفيل، وذلك لأربع
وثلاثين سنة مضت من ملك كسرى أنوشيروان (اعلام
الورى: 5. ووصف كسرى فقال: " وهو قاتل مزدك والزنادقة ومبيرهم، وهو الذي
زعموا ان رسول الله عناه فقال: ولدت في زمن الملك العادل الصالح " وهذا أول
كتاب نراه ينقل هذا مرسلا بل موهنا له بأنه من زعم من زعمه من بعض الناس ! ولم
اجده قبل نقل الشيخ الطبرسي في أي كتاب من العامة والخاصة، بل مر خبر يخالفه انه
قال (صلى الله عليه وآله): " هذا أول يوم انتصف فيه العرب من العجم، وبي
نصروا " وقد انتصروا على كسرى انوشيروان فكيف يصفه بأنه العادل الصالح ؟ !
وقال ابن شهر آشوب: ولد بمكة عند طلوع الفجر من يوم الجمعة السابع عشر من شهر
ربيع الأول بعد خمسة وخمسين يوما من هلاك أصحاب الفيل. وقالت العامة: يوم الاثنين
الثامن أو العاشر منه. وروى رواية الطبرسي في انوشيروان 1: 172.). وقال السيد ابن طاووس في
(الإقبال): إن الذين أدركناهم
من العلماء كان علمهم على أن ولادته المقدسة (صلى الله عليه وآله) كانت يوم
الجمعة السابع عشر من ربيع الأول في عام الفيل عند طلوع فجره (بحار الانوار 15: 251.). ولذلك قال الشيخ المجلسي (قدس سره): اعلم ا نه اتفقت الإمامية - الا من شذ منهم - على أن ولادته (صلى
الله عليه وآله) كانت في السابع عشر من شهر ربيع الأول، وذهب أكثر المخالفين إلى
أ نها كانت في الثاني عشر منه، واختاره الكليني (رحمه الله) (بحار
الأنوار 15: 248. وأشار الشيخ الإربلي الى الاختلاف في تأريخ ولادته (صلى الله
عليه وآله) ثم قال: أقول: ان اختلافهم في يوم ولادته سهل، إذ لم يكونوا عارفين
به وبما يكون منه، وكانوا اميين لا يعرفون ضبط مواليد أبنائهم، فأما اختلافهم في
موته فعجيب ! ولا عجب من هذا أيضا مع اختلافهم في الأذان والإقامة، بل اختلافهم
في موته أعجب، فان الاذان ربما ادعى كل قوم أنهم رووا فيه رواية، فأما يوم موته
فيجب أن يكون معينا معلوما (كشف الغمة 1: 15). ونقل السيد المرتضى في (الصحيح)
هذا الكلام للاربلي ثم علق عليه يقول: وأعجب من ذلك اختلافهم في الكثير الكثير
من الامور التي كانوا يمارسونها مع النبي (صلى الله عليه وآله) عدة مرات يوميا
طيلة أعوام عديدة، حتى انك لتجدهم يروون التناقضات عنه (صلى الله عليه وآله) في
أفعال الوضوء والصلاة، وهم كانوا يؤدونها معه خمس مرات يوميا، بل قد تجد بعضهم
يقول: إنهم كانوا يعرفون أنه يقرأ في صلاة الظهر والعصر من اضطراب لحيته (الصحيح
1: 80 نقلا عن الصحيح للبخاري 6: 90 و 93 ط 1309 ومسند أحمد 5: 10 و 12 والسنن
الكبرى للبيهقي 2: 37 و 54 عن الصحيحين).). |
الوليد
لدى جده وعمه:
|
قال ابن اسحاق:
فلما وضعته امه -
صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - أرسلت الى جده عبد المطلب: انه قد ولد لك غلام فأته فانظر إليه.
فأتاه فنظر إليه. فحدثته بما رأت حين حملت به وما قيل لها فيه وما امرت به ان
تسميه. فأخذه عبد المطلب فدخل به الكعبة وقام يدعو الله ويشكر له ما أعطاه (سيرة ابن
هشام 1: 168، 169 ورواه الطبري عنه 2: 157 بزيادة.). روى ابن الشيخ في أماليه بسنده عن كتاب أبان بن عثمان الأحمر
الكوفي مولى بني بجلة من أصحاب الصادق (عليه السلام) عنه قال: اتي به عبد المطلب لينظر إليه وقد بلغه ما قالت امه، فأخذه فوضعه
في حجره ثم عوذه بأركان الكعبة وقال فيه شعرا: الحمد لله الذي أعطاني
* هذا الغلام الطيب الأردان قد ساد في المهد على الغلمان (أمالي
ابن الشيخ: 171 كما في البحار 15: 258.) وروى ابن شهر آشوب عن (كتاب
الإبانة) لابن بسطة قال: ولد
النبي (صلى الله عليه وآله) مقطوع السرة مختونا، فحكي ذلك لجده عبد المطلب فقال:
ليكونن لإبني هذا شأن (المناقب 1: 32.). وروى الكليني بسنده
عن الصادق (عليه السلام) قال:
لما جاء آمنة بنت وهب داء المخاض حضرتها فاطمة بنت أسد امرأة أبي طالب فلم تزل
معها حتى طلقت ووضعت، فقالت احداهما للاخرى: هل ترين ما أرى ؟ فقالت: وما ترين ؟
قالت: هذا النور الذي قد سطع ما بين المشرق والمغرب. وجاء أبو طالب فأخبرته
فاطمة بالنور الذي قد رأت، فقال أبو طالب: أما انك ستلدين غلاما يكون وصي هذا
المولود (روضة الكافي 302. وروى مثله بسند آخر ابن شهر آشوب في المناقب 1: 23.). |
وفاة
عبد الله:
|
روى اليعقوبي عن الصادق (عليه السلام) أ نه توفي بعد شهرين من مولد محمد - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - ثم قال: وقال بعضهم: انه توفي قبل أن يولد، وهذا غير صحيح، لان الاجماع
على ا نه توفي بعد مولده ! وقال آخرون: بعد سنة من مولده. وكانت وفاته بالمدينة
في دار تعرف بدار النابغة بين أخواله بني النجار (اليعقوبي
2: 10.). والمعروف ممن قال ان عبد
الله توفي قبل ان يولد محمد (صلى الله عليه وآله) محمد ابن اسحاق فقد ذكر -
كما في سيرة ابن هشام والطبري والطبرسي -: ان عبد الله لم يلبث ان هلك وام رسول الله حامل به (سيرة ابن
هشام 1: 167. والطبري 2: 165 واعلام الورى: 9.). ثم الواقدي، فقد روى الطبري عنه عن الزهري: ان عبد المطلب كان قد بعث عبد الله الى المدينة كي يحمل لهم تمرا
فمات بالمدينة، فحين أبطأ عبد الله على عبد المطلب بعث ابنه الحارث في طلبه
فوجده قد مات. ثم قال الواقدي: والثبت عندنا ان عبد الله بن عبد المطلب أقبل من
الشام في عير لقريش، فنزل بالمدينة وهو مريض، فأقام بها حتى توفي، ودفن في الدار
الصغرى للنابغة على اليسار إذا دخلت الدار، ليس بين أصحابنا في هذا اختلاف (الطبري
2: 165 و 246. وقال في 165: أما هشام الكلبي فأنه قال: توفي عبد الله بعد ما أتى
على رسول الله ثمانية وعشرون شهرا. وأما الدار التي دفن فيها أبو النبي فقد كانت
قائمة حتى بعد عام 1390 ه ثم هدمت في توسيع فلكة مسجد النبي (صلى الله عليه
وآله) ولم يبق لها أي أثر.).
ولعل اليعقوبي يقابل بالإجماع هذه الدعوى بعدم الخلاف في ذلك، سيما وهو يروي خبره بوفاته بعد ميلاد الرسول بشهرين عن الصادق
جعفر ابن محمد (عليه السلام) فيرى على نفسه ان يدافع عنه ولو بمقابلة دعوى عدم
الخلاف بدعوى الإجماع. ويوافق اليعقوبي الكليني من دون نسبة الى الصادق (عليه السلام)
فيقول: وتوفي أبوه عبد الله بالمدينة عند أخواله، وهو ابن شهرين (اصول
الكافي 1: 439.) فلعله لم يعتد برواية اليعقوبي لإرسالها، أو لم يطلع عليها. أما المسعودي فقد ذهب
الى ما ذهب إليه ابن اسحاق والواقدي إذ قال: وكان أبوه عبد الله غائبا بأرض الشام فانصرف مريضا فمات بالمدينة
ورسول الله (صلى الله عليه وآله) حمل. ثم قال: ومنهم من قال: انه مات بعد مولد
النبي بشهر، ومنهم من قال: انه مات في السنة الثانية من مولده (مروج
الذهب 2: 274.). وروى المجلسي عن
(المنتقى في مولد المصطفى) للكازروني من العامة: ان عبد الله خرج الى الشام في عير من قريش يحملون تجارات، ففرغوا
من تجاراتهم ثم انصرفوا فمروا بالمدينة، وعبد الله يومئذ مريض فقال اتخلف عند
أخوالي بني عدي بن النجار فأقام عندهم مريضا شهرا، ومضى أصحابه فقدموا مكة
فسألهم عبد المطلب عن عبد الله فقالوا: خلفناه عند أخواله بني عدي وهو مريض.
فبعث إليه عبد المطلب أكبر ولده الحارث، فوجده قد توفي، فأخبره أخواله بمرضه
وبقيامهم عليه. وما ولوا من أمره حتى قبروه، فرجع الحارث الى أبيه فأخبره فحزن
عليه وإخوته وأخواته حزنا ووجدا شديدا. ورسول الله يومئذ حمل. ولعبد الله يوم
توفي خمس وعشرون سنة. ثم قال: وروي: ا نه توفي بعد ما أتى على رسول الله سبعة
أشهر، ويقال: ثمانية وعشرون شهرا. ثم روى الكازروني عن
الواقدي: ان عبد الله ترك
من الارث قطيع غنم وخمسة جمال ومولاته بركة وهي ام أيمن حاضنة رسول الله (البحار
15: 124، 125 عن المنتقى في مولد المصطفى لمحمد بن مسعود الكازروني وفي ص 116
نقل عن كتاب العدد: انه ورث ذلك عن امه) وقال الطبرسي: عاش (صلى الله عليه وآله) مع أبيه سنتين وأربعة
أشهر. ثم قال: وقيل: إن أباه (صلى الله عليه وآله) مات والنبي ابن سبعة أشهر (إعلام
الورى: 9 ط النجف.). وقال الأربلي: عاش
مع أبيه سنتين وأربعة أشهر. ثم قال: وقيل: مات أبوه وعمره سبعة أشهر (كشف
الغمة 1: 16 ط تبريز.). والاربلي في كلامه هذا يحاكي كلام الطبرسي، والقول الأول هو قول هشام الكلبي كما قال الطبري: وأما هشام الكلبي
فأ نه قال: توفي عبد الله أبو رسول الله بعد ما أتى على رسول الله ثمانية وعشرون
شهرا (الطبري 2: 165 ط المعارف.). ومما
يؤيد رواية ابن اسحاق بوفاة عبد الله قبل ميلاد الرسول انا لا نعثر على أي خبر
أو أثر عن عبد الله حين ميلاد الرسول، وانما نجد جده عبد المطلب يلتمس له
المرضع. |
رضاع
النبي (صلى الله عليه وآله):
|
روى المجلسي عن الكازروني في (المنتقى) عن برة الخزاعية: ان أول من أرضع رسول الله - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - ثويبة -
مولاة أبي لهب عم النبي - بلبن
ابن لها يقال له مسروح، قبل أن تقدم حليمة، أياما. وكانت قد أرضعت قبله حمزة بن
عبد المطلب وأرضعت بعده أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي. وكانت - ثويبة - تدخل على
رسول الله - صلى الله عليه
[ وآله ] وسلم -
فيكرمها، وكان يبعث إليها رسول الله بعد الهجرة بكسوة وصلة، وكانت قد اسلمت،
فماتت بعد فتح خيبر (البحار 15: 384 عن المنتقى في مولد المصطفى لمحمد بن مسعود الكازروني). وروى عن الكليني في (فروع الكافي) بسنده عن الصادق (عليه السلام)
قال: ان عليا ذكر لرسول الله
ابنة حمزة، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أما علمت انها ابنة أخي من
الرضاعة. ثم قال الصادق (عليه السلام): وكان رسول الله وعمه حمزة قد رضعا من
امرأة (البحار 15: 340 عن فروع الكافي 2: 41 و 42 ورواه الصدوق في الفقيه3:
260 والطوسي في التهذيب 7: 292. وراجع مفتاح الكتب الأربعة 14: 340 و 343.). وقال اليعقوبي:
كان أول لبن شربه بعد امه لبن " ثويبة " مولاة أبي لهب. وقد أرضعت
ثويبة هذه حمزة بن عبد المطلب، وجعفر بن أبي طالب، وأبا سلمة بن عبد الأسد
المخزومي (اليعقوبي 2: 9.). والطبري روى الخبر نفسه الذي رواه الكازروني، بسنده الى برة ابنة أبي تجزأة عن طريق الواقدي (الطبري 2: 158.).
وقال الطبرسي في (اعلام
الورى): وكانت ثويبة مولاة
أبي لهب بن عبد المطلب أرضعت النبي (صلى الله عليه وآله) بلبن ابنها مسروح، قبل
أن تقدم حليمة، وتوفيت ثويبة مسلمة سنة سبع من الهجرة، ومات ابنها قبلها. وكانت
ثويبة قد أرضعت قبل حمزة بن عبد المطلب عمه، فلذلك قال رسول الله لابنة حمزة:
انها ابنة أخي من الرضاعة. وكان حمزة أسن من رسول الله بأربع سنين (اعلام
الورى: 6 ط النجف. ويقال: انه (صلى الله عليه وآله) لما افتتح مكة سأل عنها وعن
ابنها فاخبر انهما ماتا، كما عن الاستيعاب والروض الانف وشرح المواهب.). وروى ابن شهر آشوب رواية
الطبري (المناقب 1: 173 ط قم.). وقال الاربلي في (كشف الغمة): أرضعته ثويبة مولاة أبي لهب، قبل قدوم حليمة أياما بلبن ابنها
مسروح، وتوفيت ثويبة مسلمة سنة سبع من الهجرة، ومات ابنها قبلها. وكانت ثويبة قد
أرضعت قبله عمه حمزة (رضي الله عنه)، فلهذا قال (صلى الله عليه وآله) وقد حودث
في التزويج بابنة حمزة: انها ابنة أخي من الرضاعة. وكان حمزة أسن منه بأربع سنين
(كشف الغمة 1: 15، والعبارة هي عبارة الطبرسي في إعلام الورى بدون
اسناد. وقد ثقل على بعض غلاة ولاة أئمة أهل البيت (عليهم السلام) ان يقروا
لمولاة ابي لهب ان تكون أول من أرضعت النبي (صلى الله عليه وآله)، فلم يسلموا
لها بذلك، ثم حاولوا ان يسدوا هذا الفراغ الزمني بعد ميلاده وقبل دفعه الى حليمة
السعدية بما رواه الكليني (قدس سره) بسنده الى علي بن أبي حمزة البطائني عن أبي
بصير عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: لما ولد النبي مكث أياما ليس له لبن، فألقاه
أبو طالب على ثدي نفسه فأنزل الله فيه لبنا فرضع منه أياما ! حتى وقع أبو طالب
على حليمة السعدية فدفعه إليها (اصول الكافي 1: 448) هذا، وقد روى الكشي في
رجاله في ذم علي بن أبي حمزة البطائني أخبارا كثيرة تتهمه بالكذب وتلعنه، فلعنة
الله عليه. غفر الله للكليني وابن شهر آشوب والمجلسي إذ رووا هذا الكذب، ورحم
الله الشيخ الرباني الشيرازي محقق البحار (15) إذ علق على هذا الكذب بقوله:
الحديث لا يخلو عن غرابة، وفي اسناده جماعة لا يحتج بحديثهم (البحار 15: 340).). |
الرضاع
الميمون رضاعه من حليمة السعدية:
|
الرضاع الميمون رضاعه من حليمة السعدية: روى ابن اسحاق بسنده الى
عبد الله بن جعفر بن أبي طالب عن حليمة بنت ابي ذؤيب السعدية انها كانت تقول: انها خرجت من بلدها مع زوجها الحارث بن عبد العزى من بني هوازن
ومعها رضيعها عبد الله بن الحارث، ومعها نسوة من بني سعد كل واحدة منهن تلتمس
رضيعا ترضعه ترجو المعروف من أبيه. وذلك في سنة مجدبة لم تبق لهم شيئا، وما أرض
أجدب من بلاد بني سعد. فما كان في ثدييها ما يغني صبيها الرضيع حتى كانوا ما
ينامون ليلهم من بكائه من الجوع، ومعها ناقة لها مسنة ما ترشح بشئ يغذيهم، وكانت
هي على أتان يتخلف عن الركب ضعفا وهزالا. حتى قدموا الى مكة، فما
بقيت امرأة ممن مع حليمة الا أخذت رضيعا لها سوى حليمة وكلما كان يعرض رسول الله
(صلى الله عليه وآله) على امرأة منهن يقال لها انه يتيم، كانت تأباه ليتمه.
وبقيت حليمة لم تأخذ رضيعا، ولم يبق رضيع سوى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، قالت حليمة: فقلت
لزوجي: والله اني لأكره ان ارجع وانا بين صواحبي لم آخذ رضيعا، والله لاذهبن الى
ذلك اليتيم فلاخذنه، قال صاحبي: لا عليك ان تفعلي عسى الله ان يجعل لنا فيه
بركة. قالت: فذهبت إليه فأخذته - وما حملني على أخذه الا اني لم أجد غيره -
ورجعت به الى رحلي ووضعته في حجري وأقبل عليه ثدياي بما شاء من لبن فشرب حتى
روي، وشرب معه أخوه فروي. وقام زوجي الى ناقتنا فإذا ضرعها ملئ باللبن فحلب ما
شرب وشربت معه حتى روينا، فقال لي صاحبي: يا حليمة لقد اخذت نسمة مباركة، فقلت
والله اني لأرجو ذلك. ثم قدمنا منازلنا من بلاد
بني سعد، فلم نزل نتعرف من الله الزيادة والخير، وكانت غنمي ترجع الينا بعد
العصر شباعا قد امتلأ ضرعها من اللبن، وترجع غنم القوم جياعا لا ترشح بقطرة لبن.
وكان رسول الله -
صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - يشب ما لا يشبه الغلمان، فلم يبلغ سنتيه من الرضاعة حتى غلظ واشتد
جسمه، حتى إذا مضت سنتاه وفصلته، فقدمنا به على امه ونحن أحرص شئ على مكثه فينا
لما نرجو من بركته، فكلمنا امه فلم نزل بها حتى ردته معنا فرجعنا به. قالت حليمة: وبعد مقدمنا به بأشهر احتملناه فقدمنا به على امه. فقالت آمنة: ما
أقدمك به وقد كنت حريصة عليه وعلى مكثه عندك ؟ فقلت: قد
بلغ الله بابني وقضيت الذي علي، وتخوفت الأحداث عليه، فأديته اليك كما كنت
تحبين. فقالت:
افتخوفت عليه الشيطان ؟ قالت: قلت: نعم. قالت: كلا والله ما للشيطان عليه من
سبيل. ثم أخبرتها بما رأته منه حين حمله ووضعه. قال ابن اسحاق:
حدثني بعض أهل العلم: ان مما هاج امه السعدية على رده الى امه: ان نفرا من نصارى
الحبشة رأوه فنظروا إليه وسألوها عنه وقلبوه ثم قالوا لها: انه يكون لهذا الغلام
شأن نحن نعرف أمره، وأرادوا ان يأخذوه الى بلدهم، حتى كادت ان لا تنفلت به منهم. قال ابن اسحاق: يتحدث الناس: انها لما قدمت به الى مكة نحو اهله افتقدته في
الناس، وكلما التمسته لم تجده، فأتت عبد المطلب فقالت له: اني قد قدمت بمحمد
البارحة، فلما كنت بأعلى مكة افتقدته فو الله ما أدري أين هو ؟ فقام عبد المطلب
عند الكعبة يدعو الله ان يرده عليه، فوجده رجلان من قريش أحدهما ورقة بن نوفل بن
أسد - ابن عم خديجة - فأتيا به عبد المطلب فقالا له: هذا ابنك وجدناه بأعلى مكة.
فأخذه عبد المطلب فجعله على عنقه وطاف به الكعبة يعوذه ويدعو له ثم أرسل به الى
امه آمنة (سيرة
ابن هشام 1: 171 - 177 بتصرف ورواه عنه الطبري 2: 158، 160، ورواه عنهما ابن أبي
الحديد في شرح النهج 3: 252، 253 وروى المجلسي عن الكازروني في (المنتقى): ان
رسول الله لما تزوج بخديجة سمعت به حليمة فقدمت على رسول الله فشكت إليه جدب
البلاد وهلاك الماشية. فكلم رسول الله خديجة فأعطتها أربعين شاة وبعيرا، فانصرفت
الى أهلها. وبعد الإسلام قدمت عليه فاستأذنت عليه، فقال: امي امي، وعمد الى
ردائه فبسطه لها فقعدت عليه (البحار 15: 401).). |
قصة
شق الصدر !
|
ان خبر رضاع النبي (صلى الله عليه وآله) من حليمة السعدية من
المسلم به من أخبار التأريخ اجمالا، الا ان عمدة ما ورد بتفصيل الخبر فيه خبران
ذكرهما الطبري: الخبر الأول: رواية
ابن اسحاق عن الجهم بن أبي الجهم عن عبد الله ابن جعفر بن ابي طالب، عن حليمة
السعدية. وقد رواها الطبري عن ابن اسحاق يصف الجهم بأ نه مولى عبد الله بن جعفر،
بينما رواها عنه ابن هشام في سيرته يصف الجهم بأ نه مولى الحارث بن حاطب الجمحي.
وفي الخبر عن حليمة أ نها قالت: انه (صلى الله عليه وآله) كان - بعد رجوعنا به
من امه بأشهر - مع أخيه - عبد الله بن الحارث السعدي - في بهم (البهم: الصغار من الغنم.) لنا خلف بيوتنا إذ أتانا أخوه يشتد ويقول: ان أخي القرشي قد أخذه
رجلان عليهما ثياب بيض، فأضجعاه فشقا بطنه و... ! فخرجت أنا وأبوه نحوه فوجدناه
قائما منتقعا وجهه ! فقلنا له: ما لك يا بني ؟ قال: جاءني رجلان عليهما ثياب بيض
فأضجعاني وشقا بطني فالتمسا فيه شيئا لا أدري ما هو ! (سيرة ابن
هشام 1: 171 - 174، والطبري 2: 158 - 160.). والخبر الثاني:
رواية الطبري أيضا بسنده عن ثور بن يزيد الشامي، عن مكحول الشامي، عن شداد بن
أوس. والظاهر أن هذا الخبر
هو ما رواه ابن اسحاق عن ثور بن يزيد أيضا الا أ نه نسي ما بعد ثور من السند
فقال " عن بعض اهل
العلم، ولا أحسبه الا عن خالد بن معدان الكلاعي " ثم اختصره وتصرف فيه ما
قد نسيه كالسند، فقرب فيه من الخبر السابق إذ قال فيه عن النبي (صلى الله عليه
وآله) ا نه قال: استرضعت في بني سعد، فبينا أنا مع أخ لي خلف بيوتنا نرعى بهما
لنا، إذ أتاني رجلان عليهما ثياب بيض بطست من ذهب مملوؤة ثلجا، ثم أخذاني فشقا بطني،
واستخرجا قلبي فشقاه، فاستخرجا منه علقة سوداء فطرحاها، ثم غسلا قلبي وبطني بذلك
الثلج حتى أنقياه (سيرة ابن هشام 1: 175) بينما نرى في رواية الطبري. بسنده عن ثور بن يزيد نفسه عن مكحول الشامي عن شداد بن أوس عن
النبي - صلى الله عليه
[ وآله ] وسلم - ا نه
قال: وكنت مسترضعا في بني ليث بن بكر، فبينا أنا ذات يوم منتبذ من أهلي في بطن
واد مع أتراب لي من الصبيان نتقاذف بالجلة (الجلة بالفتح: بعر البعير، ومنه الإبل الجلالة، والحيوان الجلال،
وهذا ما يبعدنا عن تصديق الخبر أيضا.) إذ أتانا رهط ثلاثة معهم طست من ذهب ملئ ثلجا، فأخذوني من بين
أصحابي، فخرج أصحابي هرابا حتى انتهوا الى شفير الوادي... ثم انطلقوا هرابا
مسرعين الى الحي يؤذنونهم ويستصرخونهم على القوم. فعمد أحدهم فأضجعني على
الأرض... ثم شق ما بين مفرق صدري الى منتهى عانتي... ثم أخرج أحشاء بطني فغسلها
بذلك الثلج... ثم أعادها مكانها. ثم قام الثاني منهم... ثم أدخل يده في جوفي
فأخرج قلبي، فصدعه ثم أخرج منه مضغة سوداء فرمى بها... فإذا أنا بخاتم في يده...
فختم به قلبي فامتلأ نورا وذلك نور النبوة والحكمة، ثم أعاده مكانه فوجدت برد ذلك الخاتم في قلبي دهرا. ثم قام
الثالث... فأمر يده ما بين مفرق صدري الى منتهى عانتي فالتأم ذلك الشق بإذن
الله، ثم أخذ بيدي فأنهضني (الطبري 2: 160 - 162.). فنرى رواية الطبري هذه عن شداد بن أوس تختلف عن رواية ابن اسحاق في: المكان الذي جرى فيه
الحادث، وفي: عدد الأشخاص الذين جاؤوه، وفي: الكيفية التي وقع عليها، الى غير
ذلك مما اشتملت عليه رواية الطبري من الخصوصيات التفصيلية التي لم تتفق معها
رواية ابن اسحاق، مع أن كلتيهما تمران بثور بن يزيد الكلاعي الشامي المتوفى في
155 كما في كتب الرجال ومنها " تهذيب التهذيب "، ولذلك نرى ابن اسحاق يسحق موارد الخلاف في هذا الخبر باختصاره للتفصيلات الواردة فيه،
وبالتصرف في عدد الملائكة، فبينما نجد خبر ثور بن يزيد عن شداد بن أوس يذكر عدد
الملائكة الحاضرين للقيام بالعملية على رسول الله: ثلاثة، نجد ابن اسحاق قد
أعاد العدد الى اثنين كي يتوافق العدد فيه مع ما في خبر الجهم عن عبد الله بن
جعفر. وكذلك في عدد من معه، فبينما نجد خبر ثور عن شداد يذكر " مع أتراب لي من الصبيان
" نرى ابن اسحاق قد أعاد العدد الى فرد بنفس النسبة التي في خبر الجهم عن
ابن جعفر " مع أخ لي "، وكذلك بالتصرف في المكان الذي جرى فيه الحادث،
فبينما نجد خبر ثور عن شداد يذكر مكان الحادث " منتبذ من أهلي في بطن واد
" نرى ابن اسحاق قد أعاده الى " خلف بيوتنا ". وكذلك بالتصرف في حال الرسول حينئذ: فبينما نرى خبر ثور عن شداد يذكر " نتقاذف بالجلة " نرى
ابن اسحاق قد أبى على النبي اللعب بالجلة ولو في صغره وأصر على تكرير ما في خبر
الجهم " نرعى بهما لنا " أي نرعى الصغار من الغنم، وليت شعري إذا كان
الذي أو الذين معه أترابه وهو كما في خبر الجهم بعد أشهر من فصاله فكيف يرعى
الغنم ؟ ! وان هذا لعمري لدليل على وضع الخبر وقصر حبل الكذب ! وهذا الإختلاف بذاته لمن الدواعي التي تثير الشكوك حول هذه
الحادثة، وبخاصة إذا نظرنا الى أسانيد هذه الروايات وعرضناها على الاصول التي
لابد من توفرها لقبول الرواية، وان كان لم يقنع بهذا القدر من التشكيك كثير من
كتاب السيرة (السيد الحسني في كتابه: سيرة المصطفى: 46 بعد ان اعترف بما في ذلك من
التشكيك.). وحينما نراجع تراجم الرجال
نجد ان ارباب التراجم قد رجموا ثور ابن يزيد بأ نه: شامي كان يرى القدر، أي هو
من القدرية وأنا أرى أن القدرية التي ينسب إليها الشاميون في شعاع أفكار
الأمويين هي أن أعمال العباد بقدر مقدر قد قضى به الله، لا القدر بمعنى يجتمع مع
ارادة الإنسان واختياره. وعلى هذا فهو متهم بوضع ما يؤيد به مذهبه القدري
الجبري، كما قال السيد
المرتضى العاملي: " ألا تعني هذه الرواية ا نه (صلى الله عليه وآله) كان مجبرا
على عمل الخير، وليس لارادته فيه أي أثر أو فعالية أو دور ؟ ! لأن حظ الشيطان قد
ابعد عنه بشكل قطعي وقهري، وبعملية جراحية، وهل إذا كان الله يريد أن لا يكون
عبده شريرا احتاج في اعمال قدرته الى عمليات جراحية كهذه على مرأى من الناس
ومسمع ؟ ! " (الصحيح من سيرة النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) 1: 86.) هذا
الى خمس نقاط اخرى نقد بها السيد المرتضى هذا الخبر. ولعله أخذ هذا المعنى عن رواية جاهلية عن امية بن أبي الصلت: أ نه دخل على اخته فنام على سرير في ناحية البيت، فانشق جانب من
السقف في البيت، وإذا بطائرين قد وقع أحدهما على صدره ووقف الآخر مكانه، فشق
الواقع على صدره صدره، فأخرج قلبه، فقال الطائر الواقف للطائر الذي على صدره:
أوعى ؟ قال: وعى، قال: اقبل ؟ قال: أبى، ثم رد قلبه بموضعه. (كما في
الأغاني 3: 188 - 190.) هذا، وقد روى المجلسي في بحاره هذا الخبر عن الكازروني في كتابه
(المنتقى في مولد المصطفى) بنفس السند ثم علق عليه الكازروني يقول: هذا حديث حسن غريب بهذا السياق، يعد في أفراد محمد بن يعلى، وكان
يلقب بزنبور، وليس بذاك، ولمكحول عن شداد أحاديث غير ا نها مرسلة. ثم علق المحقق
الرباني الشيرازي يقول: محمد بن يعلى ضعفه ابن حجر في " التقريب "
وحكى عن أبي حاتم ا نه قال: متروك، وقال الخطيب: يتكلم فيه. توفي 205 (البحار
15: 396 - 400.). أما الخبر الأول عن عبد الله بن جعفر فهو عن مولاه الجهم بن أبي الجهم، وان كان عبد الله بن جعفر يخالط
بني امية بجسده ولا يخالطهم بفكره وعقيدته، فما مولاه من ذلك ببعيد (ولعله هو مولاه أبو اللسلاس الذي روى فيه الطبري عن أبي مخنف: انه
دخل على مولاه والناس يعزونه بمقتل الحسين (عليه السلام)، فقال: هذا ما لقينا
ودخل علينا من الحسين ! فحذفه عبد الله بن جعفر بنعله وقال: يا بن اللخناء
اللحسين تقول هذا ! (الطبري
5: 466). ولا يحضرني ألآن كتاب عبد الكريم الخطيب إذ نقل عنه السيد
المرتضى: ا نه ناقش في كتابه سند رواية ابن اسحاق إذ قال " عن بعض أهل
العلم " (الصحيح 1: 84 عن كتاب: النبي محمد: 196.).). وكذلك
محمد حسين هيكل في كتابه (حياة محمد: 73.).
وقد ناقش هذا الخبر الشيخ أبو رية، نقاشا موضوعيا سليما في كتابه القيم " أضواء على السنة
المحمدية " فنقل
تشكيك استاذه الشيخ محمد عبده في تفسيره إذ قال " والمحقق عندنا ا نه ليس للشيطان سلطان على عباد
الله المخلصين، وخيرهم الأنبياء والمرسلون. أما ما ورد في حديث ازالة حظ الشيطان
من قلبه - صلى الله عليه
[ وآله ] وسلم - فهو
من الأخبار الظنية، لأ نه من رواية الآحاد، ولما كان موضوعها عالم الغيب،
والايمان بالغيب من قسم العقائد، وهي لا يؤخذ فيها بالظن، لقوله تعالى * (ان الظن لا يغني من الحق شيئا) * كنا غير مكلفين بالايمان بمضمون تلك الأحاديث في عقائدنا " (تفسير
القرآن الحكيم 3: 291، 292 كما في الأضواء: 188.). والشيخ عبده إذ ينفي سلطان الشيطان على المخلصين من عباد الله
يستند الى ما جاء في سورة الحجر من الكتاب العزيز في قوله سبحانه * (قال رب بما أغويتني لازينن لهم في الأرض ولاغوينهم أجمعين الا
عبادك منهم المخلصين قال هذا صراط علي مستقيم ان عبادي ليس لك عليهم سلطان الا
من اتبعك من الغاوين) * (الحجر:
39 - 42.) وقد جاء أبو رية بهذه الآيات ثم قال: فكيف يدفعون الكتاب بالسنة، أو يعارضون المتواتر الذي يفيد
اليقين، بأحاديث الآحاد التي لا تفيد الا الظن ان صحت (أضواء: 188.). وقال: وقد نصت هذه الروايات على ان صدره - صلوات الله عليه - قد شق
واخرجت منه العلقة السوداء ! وحظ الشيطان كما يقولون، وكأن العملية الاولى لم
تنجح فاعيد شق صدره، ووقع ذلك مرات عديدة بلغت خمسا، أربع منها بإتفاق كما
يقولون: في الثالثة من عمره، وفي العاشرة، وعند مبعثه، وعند الإسراء، ومرة خامسة
فيها خلاف. وقد قالوا: ان تكرار الشق انما هو زيادة في تشريف النبي (اضواء: 187.). وفي تفسير الآية الاولى
من سورة الإسراء وبمناسبة حديث الإسراء قال الشيخ الطبرسي في تفسيره " وقد وردت روايات كثيرة في قصة المعراج في عروج نبينا الى السماء
ورواها كثير من الصحابة. وتنقسم جملتها الى أربعة وجوه " الى ان قال "
ورابعها: ما لا يصح ظاهره ولا يمكن تأويله الا على التعسف البعيد، فالأولى ان لا
نقبله " الى ان قال " وأما الرابع: فنحو ما روي أنه شق بطنه وغسلته
الملائكة، ذلك لانه (صلى
الله عليه وآله) كان
طاهرا مطهرا من كل سوء وعيب، وكيف يطهر القلب وما فيه من الاعتقاد، بالماء (مجمع
البيان 6: 69 ط بيروت.). ولهذا لم يذكر هذا الخبر
ضمن أخباره عن النبي (صلى الله عليه وآله) في كتابه (إعلام الورى). وفي نفس الوقت نرى البعض يعتبر هذا الخبر من ارهاصات النبوة ومثار
اعجاب وتقدير خص به نبينا (صلى الله عليه وآله) ولم يحصل لأي من الأنبياء
السابقين كالحلبي في كتابه: (انسان العيون في سيرة الأمين المأمون) (المعروف
بالسيرة الحلبية 1: 368.) والبوطي في كتابه: (فقه السيرة) (فقه السيرة: 53.) والسيد الحسني
في كتابه: (سيرة المصطفى) مع الإعتراف بضعف مستنده (سيرة المصطفى: 46.). وعلق عليه السيد المرتضى فقال متسائلا: ولم اختص نبينا بهذه العملية ولم تحصل لأي من الانبياء السابقين ؟
! أفهل يعقل ان يكون هو بحاجة الى هذه العملية فقط دون سائر الانبياء ؟ اذن فكيف
يكون أكملهم وأفضلهم ؟ ! أم يقولون: قد كان فيهم للشيطان حظ أيضا ولكنه لم يقتطع
منهم بعملية جراحية كهذه، ولذلك أصبح هذا أفضلهم وأكملهم ؟ ! (الصحيح
في السيرة 1: 86.). ولا تخلو كتب السيرة والحديث عند غير الإمامية عن هذه الرواية
غالبا حتى بعض الصحاح كصحيح مسلم، فقد روى بسنده عن أنس بن مالك قال: ان رسول الله أتاه جبرئيل وهو يلعب مع الغلمان فأخذه وصرعه فشق عن
قلبه فاستخرج القلب فاستخرج منه علقة فقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله في طست
من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه ثم أعاده الى مكانه. وجاء الغلمان يسعون الى امه -
يعني ظئره - فقالوا: ان محمدا قد قتل، فاستقبلوه وهو منتقع اللون ! قال انس: وقد
كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره (صحيح
مسلم 1: 101 - 102 بأربعة طرق.).
وهي عند الإمامية قصة لم يصححها حديث ولا اعتبار، وهم برآء من هذه وأمثالها. وقد نقلها المحدث المجلسي في بحاره عن
كتاب (فضائل شاذان بن جبرئيل القمي) نقلا عمن يسميه الواقدي. ثم قال المجلسي:
أقول: هذا الخبر - وان لم نعتمد عليه كثيرا، لكونه من طرق المخالفين - انما
أوردته لما فيه من الغرائب ! وعلق عليه المحقق الرباني الشيرازي يقول: نحن في غنى من ان نسرد كل ما عثرنا عليه مما جاء في فضائله من
المعاجز وخوارق العادات كما كان كاتبو سيرته من القدماء يفعلون ذلك، فنحن لا
نحتاج في اثبات عظمته إليها، بعد ما ملأت فضائله الآفاق (البحار
15: 353 - 357 - الهامش.). وأين هذه الصورة عن النبي (صلى الله عليه وآله) عن ذلك الوصف
الذي يصفه به صنوه وصهره وأخوه ثم وصيه علي (عليه السلام) إذ قال في كلام له " ولقد قرن الله به من لدن ان كان فطيما أعظم ملك من ملائكته،
يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره " (نهج
البلاغة، القسم الأول: الخطبة القاصعة: 192، المقطع 118 عن مسعدة بن صدقة عن
الامام الباقر (عليه السلام).). وروى ابن أبي الحديد: ان بعض أصحاب الامام الباقر (عليه السلام) سأله عن قوله سبحانه * (الا من ارتضى من رسول فانه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا) * (الجن:
27.) ؟ فقال (عليه السلام):
" يوكل الله تعالى بأنبيائه ملائكة يحصون أعمالهم ويؤدون إليهم تبليغ
الرسالة، ووكل بمحمد ملكا عظيما منذ فصل من الرضاع، يرشده الى الخيرات ومكارم
الأخلاق، ويصده عن الشر ومكاره الأخلاق " (شرح
النهج للمعتزلي 13: 207، وعنه في البحار 15: 361 |
وفود
عبد المطلب على سيف بن ذي يزن:
|
روى الصدوق في (اكمال الدين) بسنده عن ابن عباس قال: لما ظفر سيف بن ذي يزن بالحبشة - وذلك بعد مولد النبي (صلى الله عليه وآله) بسنتين - أتاه وفد العرب وأشرافها وشعراؤها بالتهنئة، تمدحه وتذكر
ماكان من بلائه وطلبه بثأر قومه. فأتاه وفد من قريش ومعهم عبد المطلب بن هاشم،
وأمية بن عبد شمس، وعبد الله بن جدعان، واسيد بن خويلد بن عبد العزى (كذا)، ووهب
بن عبد مناف (أبو آمنة أم النبي) وأناس من وجوه قريش. فقدموا عليه في صنعاء، فاستأذنوا فإذا هو في رأس قصر يقال له
(غمدان) فدخل عليه الآذن فأخبره بمكانهم فأذن لهم، فلما دخلوا عليه دنا عبد
المطلب منه فاستأذنه في الكلام، فقال: ان كنت ممن يتكلم بين يدي الملوك فقد أذنا
لك. فتكلم عبد المطلب فقال فيما قال: نحن - أيها الملك - أهل حرم الله وسدنة
بيته، أشخصنا اليك الذي أبهجنا من كشف الكرب الذي فدحنا، فنحن وفد التهنئة لا
وفد المرزئة. قال: وأيهم أنت أيها المتكلم ؟ قال: أنا عبد المطلب بن هاشم. فأقبل
عليه وعلى القوم فقال: مرحبا وأهلا ومستناخا سهلا، قد سمع الملك مقالتكم وقبل
وسيلتكم، فلكم الكرامة ماأقمتم والحباء إذا ظعنتم. ثم أمر بهم الى دار ضيافة الوفود فأقاموا شهرا لا يصلون إليه ولا يأذن لهم بالانصراف، ثم انتبه لهم
فأرسل الى عبد المطلب فأخلى له مجلسه وأدناه، ثم قال له: يا عبد المطلب: اني
مفوض اليك من سر على أمر ما لو كان غيرك لم أبح له به، ولكني رأيتك معدنه
فاطلعتك عليه، فليكن عندك مطويا حتى يأذن الله فيه فإن الله بالغ أمره: إني أجد
في الكتاب المكنون والعلم المخزون الذي اخترناه لأنفسنا وحجبناه دون غيرنا خبرا
عظيما وخطرا جسيما فيه شرف الحياة وفضيلة الوفاة، للناس عامة ولرهطك كافة ولك
خاصة. فقال عبد المطلب: فما هو ؟ فقال: إذا ولد
بتهامة غلام بين كتفيه شامة، كانت له: الإمامة ولكم به الدعامة الى يوم القيامة. هذا حينه الذي يولد فيه أو قد ولد، اسمه محمد، يموت أبوه وامه ويكفله جده وعمه. وقد ولد سرارا والله باعثه جهارا وجاعل له منا أنصارا، ليعز بهم
أولياءه ويذل بهم أعداءه، يضرب بهم الناس عن عرض (العرض بضم العين: من يعترض لهم.) ويستبيح بهم كرائم الأرض، يكسر الأوثان ويخمد النيران ويعبد
الرحمان ويزجر الشيطان، قوله فصل وحكمه عدل، يأمر بالمعروف ويفعله وينهى عن المنكر
ويبطله. فقال عبد المطلب:
فهل الملك ساري بإفصاح فقد أوضح لي بعض الأيضاح ؟ فقال ابن ذي يزن:
والبيت ذي الحجب، والعلامات على النصب، انك يا عبد المطلب لجده غير كذب، فخر عبد
المطلب ساجدا لله ! فقال له
ابن ذي يزن: فهل أحسست شيئا
مما ذكرته ؟ قال: كان لي ابن كنت به معجبا وعليه رفيقا، فزوجته بكريمة من كرائم
قومي: اسمها آمنة بنت وهب، فجاءت بغلام سميته محمدا، مات أبوه وامه، وكفلته أنا
وعمه ! فقال سيف بن ذي يزن: ان الذي قلت لك كما قلت، فاحتفظ بابنك واحذر عليه اليهود فإنهم له
أعداء ولن يجعل الله لهم عليه سبيلا ! ثم أمر لكل رجل من القوم بعشرة أعبد وعشر اماء وحلي من البرود
ومائة من الابل وخمسة أرطال ذهب وعشرة أرطال فضة وكرش مملوؤة عنبرا ! وأمر لعبد
المطلب بعشرة أضعاف ذلك وقال: إذا حال الحول فأتني فمات ابن ذي يزن قبل أن يحول
الحول (اكمال الدين: 174 - 177 ط النجف.). هذا، وقد سبق في ذكر ملوك اليمن قول المسعودي بأن يكسوم بن
ابرهة الأشرم ملك اليمن بعد
هلاك أبيه ابرهة بالأبابيل عشرين عاما، ثم ملك أخوه مسروق بن أبرهة ثلاث سنين، وان سيف بن ذي يزن كان قد مضى الى قيصر يستنجده - وذلك قبل هلاك يكسوم بأربع سنين - فأبى أن ينجده وقال:
أنتم يهود والحبشة نصارى، وليس
في الديانة أن ننصر المخالف على الموافق. فمضى الى كسرى انوشيروان فاستنجده، فوعده انوشيروان بالنصرة على السودان، ولكنه شغل بحرب الروم فمات سيف بن ذي يزن. على بابه. فأتى بعده ابنه
معديكرب بن سيف، فوجه
معه اصپهبد الديلم ويعرف في أهل السجون، فقتل وهرز من الحبشة ثلاثين ألفا، ثم
توج وهرز معديكرب بتاج كان معه ورتبه في ملكه على اليمن. وأتت معديكرب الوفود من
العرب تهنيه بعود الملك إليه، وفيهم عبد المطلب بن هاشم وامية بن عبد شمس،
وخويلد بن أسد بن عبد العزى، وأبو الصلت الثقفي أبو امية بن أبي الصلت، فدخلوا
عليه في أعلى قصره المعروف بغمدان بمدينة صنعاء وقد تقدمهم عبد المطلب فتكلم
فقال فيما قال: نحن أهل حرم الله وسدنة بيته... الى آخر ما مر من الخبر السابق
عن (اكمال الدين) ثم قال المسعودي: ولمعديكرب بن سيف بن ذي يزن كلام كثير مع عبد
المطلب، وكوائن أخبره بها في أمر النبي وبدء ظهوره، بشر به عبد المطلب وأخبره عن
أحواله وما يكون من أمره (مروج الذهب 2: 58.).
ولاحظنا ان رواية الصدوق عن ابن عباس كانت مصحفة في اسم أبي خديجة: خويلد بن اسيد بن عبد العزى الى: اسيد بن خويلد بن عبد العزى. وقد
ذكره المسعودي صحيحا. وروى الطبرسي الخبر مرفوعا الى ابن عباس أيضا وقال في آخره: روى هذا الحديث الشيخ أبو بكر البيهقي في كتابه (دلائل
النبوة) من طريقين (إعلام
الورى: 15 - 17.) والظاهر أنهما ما أورده الصدوق عن ابن عباس. ورواه الكراجكي في كتابه (الكنز) كذلك بنفس السند، كما في البحار (كنز
الكراجكي: 82 - 84 كما في البحار 15: 191.) ومن
المعلوم أن ابن عباس لم يدرك ذلك. لكن الكازروني نقل الخبر في كتابه (المنتقى في
مولد المصطفى) باسناده الى محمد بن عبد العزيز عن أبيه عبد العزيز بن عفير، عن
أبيه عفير بن عبد العزيز عن أبيه عبد العزيز بن السفر عن أبيه السفر بن عفير، عن
أبيه عفير بن زرعة بن سيف ابن ذي يزن قال: لما ظفر جدي سيف على الحبشة - وذلك
بعد مولد النبي بسنتين - أتت وفود العرب وأشرافها وشعراؤها لتهنئته، وتذكر ما
كان من بلائه وطلبه بثأر قومه.. ثم ساق الحديث مثل ما تقدم برواية الصدوق، ثم قال الكازروني:
هذا الحديث دال على أن الوفادة الى ابن ذي يزن كان في سنة ثلاث من مولد رسول
الله (صلى الله عليه وآله)، والأصح أ نها كانت في سنة سبع، لأ نه يقول عبد
المطلب فيه: توفي أبوه وامه وكفلته أنا وعمه. وام رسول الله لم تمت حتى بلغ ست
سنين. فنرى ان الكازروني قد تنبه الى هذه الغلطة ولكنه لم يغلطها بل
غلط بداية الرواية إذ قالت:
وذلك بعد مولد النبي بسنتين. بدون أي مرجح فيما بين هذين النصين. ثم لم يغلط
قوله: وكفلته أنا وعمه. فما معنى ذكر كفالة عمه أبي طالب الى جانب جده عبد
المطلب ؟ ! ثم لم ير أي تناقض بين هاتين الجملتين: هذا حينه الذي يولد فيه أو قد
ولد. وقوله: وقد ولد سرارا ! والمسعودي
قد اختصر الخبر على عادته في (مروج الذهب) ولكنه صرح: بأن سيف بن ذي يزن كان يهوديا ولذلك أبى قيصر أن ينصره،
وأبى هو ان يتنصر أو يظهر له النصرانية فينصره، بل عدل الى الملك غير العادل
انوشيروان عابد النيران فطلب منه الأعوان على الأحباش النصارى. وهؤلاء وان كانوا
على غير حقيقة النصرانية ولذلك أهلك الله كثيرا منهم بطير أبابيل، ولكن فما
الدليل على العقيدة الحقة لدى سيف اليمن ؟ أفهل يكفي لذلك رواية أبنائه المسلمين
بعد المائتين بل أكثر من الهجرة، تقص على المسلمين جملة جمة من مجد جدهم سيف
اليمن ؟ ! وانما قلت بعد المائتين بل أكثر من الهجرة،، إذ لا نرى أي أثر لهذا
الخبر لا عند ابن اسحاق ولا في سيرة ابن هشام ولا الطبري، بل نراه في اليعقوبي
باختصار (اليعقوبي 2: 12.)، ثم في (اكمال الدين) للصدوق منقولا عن ابن السائب الكلبي عن أبي
صالح عن ابن عباس وابن عباس لم يدرك الأمر ولم يسنده ولم يسند عنه، وانما ينتهي
اسناده الى أحفاد سيف لامجاد الاجداد. وليس في رواية الشيخ
الصدوق للخبر حجة بعد ذكره المرفوع المقطوع، وقد روى (رحمه الله) أكثر من ستين
صفحة من نفس الكتاب قصة الملك الهندي بلوهرو والحكيم الهندي بوذاسف، ثم عقبه بقوله: ليس هذا الحديث وما شاكله من أخباره مما أعتمده...
وجميعها في الصحة من طريق الرواية دون ما قد صح من الأخبار. ثم قال: ولا يراد
لهذا الحديث وما يشاكله في هذا الكتاب معنى آخر، وهو: أن جميع أهل الوفاق
والخلاف يميلون الى مثله من الأحاديث، فإذا ظفروا به من هذا الكتاب حرصوا على
الوقوف على سائر ما فيه (اكمال الدين: 600. نعم روى في (قرب الاسناد) عن الحسن بن ظريف عن
معمر عن الرضا عن أبيه موسى بن جعفر (عليهم السلام) انه قال في كرامات رسول الله
" ومن ذلك أن سيف بن ذي يزن حين ظفر بالحبشة، وفد عليه وفد من قريش فيهم
عبد المطلب فسألهم عنه ووصف لهم صفته، فأقروا جميعا بأن هذه الصفة في محمد،
فقال: هذا أوان مبعثه، ومستقره أرض يثرب وموته بها " قرب الأسناد: 132 -
140 كما في البحار 17: 226. فإذا قبلنا بهذا الاجمال فالتفاصيل المشتملة على ذلك
التهافت مردودة.). |
الاستسقاء
برسول الله (صلى الله عليه وآله):
|
روى المجلسي عن الكازروني في (المنتقى) في ما حدث سنة سبع من
مولده (صلى الله عليه وآله) بسنده الى مخرمة بن نوفل القرشي عن امه رقيقة بنت
صيفي قالت: تتابعت على قريش
سنون اقحلت الفرع وارمت العظم، فبينا أنا راقدة - اللهم - أو مهومة ومعي صنوي،
فإذا أنا بهاتف صيت يصرخ ويقول: يا معشر قريش ! ان هذا النبي المبعوث منكم هذا
ابان نجومه، فحي هلا بالحيا والخصب، ألا فانظروا رجلا منكم طوالا عظاما أبيض
بضا، أشم العرنين، سهل الخدين، له فخر يكظم عليه، ألا فليخلص هو وولده وليدلف
إليه من كل بطن رجل، ألا فليشنوا من الماء، وليمسوا من الطيب، وليطوفوا بالبيت
سبعا، ألا وليكن فيهم الطيب الطاهر لذاته، ألا فليستق الرجل وليؤمن القوم، ألا
فغثتم - إذا شئتم - وعشتم ! قالت: فأصبحت مذعورا قد قف جلدي وولد عقلي، واقتصصت
رؤياي، فوالحرمة والحرم ان بقي أبطحي الا قال: هذا شيبة الحمد. فتتامت إليه قريش، وانقض
إليه من كل بطن رجل، فشنوا ومسوا واستلموا وطوفوا، ثم ارتقوا أبا قبيس، وطفق
القوم يدلفون حوله حتى قروا بذروة الجبل، واستكنفوا جانبيه. ومعه ابن ابنه محمد
وهو يومئذ غلام قد أيفع، فاعتضده فرفعه على عاتقه ثم قال: " اللهم ساد
الخلة وكاشف الكربة، أنت عالم غير معلم ومسؤول غير مبخل، وهذه عبيدك وإماؤك
بفناء حرمك، يشكون اليك سنتهم التي اذهبت الخف والظلف، فاسمعن اللهم وامطرن
علينا غيثا مريعا مغدقا ". قالت: فما
راموا البيت حتى انفجرت السماء بمائها واكتظ الوادي بثجيجه (الثجيج:
الماء المصبوب، أو صوته.) فقلت شعرا: بشيبة
الحمد أسقى الله بلدتنا فقد فقدنا
الحيا واجلوذ المطر (اجلوذ: كثر وامتد وقت تأخره.) فجاد بالماء جوني له سبل
سحا، فعاشت به الأنعام والشجر (الجون: اللون الأسود، والجوني نسبة إليه، والمراد هنا: السحاب الأسود
المركوم. والسبل بفتحتين: المطر النازل قبل الوصول للأرض. وله سبل اي له جريان.
سحا: أي منصبا.) مبارك الأسم يستسقى الغمام به ما في الأنام له عدل ولا خطر (البحار
15: 403، 404 عن المنتقى في مولد المصطفى للكازروني: الباب الرابع من القسم
الثاني، وأخرج الحديث ابن الأثير في اسد الغابة 5: 454 وابن حجر في الإصابة 4:
296 والحلبي في السيرة 1: 131.)
ورواه اليعقوبي في تأريخه (اليعقوبي 2: 12.)،
والسهيلي في (الروض
الانف) عن البستي
النيسابوري باسناده عن دقيقة ايضا، مستشهدا به لمعنى قول أبي طالب بشأن النبي (صلى الله عليه وآله)
إذ قال: وأبيض يستسقى الغمام
بوجهه * ثمال اليتامى عصمة للأرامل قال: فان قيل: كيف قال أبو طالب هذا، ولم يره استسقى قط، وانما
كانت استسقاءاته (عليه السلام) بالمدينة في الحضر والسفر، وفيها شوهد سرعة اجابة
الله له ؟ ! فالجواب: إن
أبا طالب قد شاهد من ذلك في حياة عبد المطلب ما دله على ما قال. وانما قال
السهيلي هذا تعليقا على رواية ابن هشام: دعا النبي (صلى الله عليه وآله) للناس
حين القحط، فنزل المطر، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لو أدرك أبو طالب
هذا اليوم لسره ! فقال له بعض أصحابه: كأ نك يا رسول الله أردت قوله - وقرأ
البيت - قال: أجل (سيرة ابن هشام 1: 300 في المتن وعن الروض الانف في الهامش.). |
وفاة
ام النبي (صلى الله عليه وآله)، وكفالة جده وعمه له:
|
قال ابن اسحاق " وكان رسول الله -
صلى الله عليه [ وآله ] وسلم -
مع أمه آمنة بنت وهب وجده عبد المطلب بن هاشم في كلاءة الله وحفظه، ينبته الله
نباتا حسنا لما يريد به من كرامة ". ثم روى عن عبد الله بن
حزم انه " لما بلغ
رسول الله ست سنين قدمت به الى أخواله من بني النجار لزيارتهم، فلما رجعت الى
مكة ماتت بالأبواء بين مكة والمدينة ". وفسر ابن هشام خؤولة بني
النجار لرسول الله بان ام عبد المطلب كانت من بني النجار (سيرة ابن
هشام 1: 177.). وروى المجلسي عن الكازروني في (المنتقى) عن ابن عباس وغيره: أن رسول الله -
صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - كان مع امه آمنة، فلما بلغ ست سنين خرجت به الى أخواله بني النجار
بالمدينة تزورهم به، ومعه ام أيمن تحضنه، وهم على بعيرين، فنزلت به في دار
النابغة - التي توفي ودفن فيها عبد الله - فأقامت عندهم شهرا... ثم رجعت به امه
الى مكة، فلما كانت بالأبواء توفيت فقبرت هناك. ورجعت ام أيمن بالنبي الى مكة (ثم لما
مر رسول الله في عمرة الحديبية بالأبواء قال: ان الله قد أذن لي في زيارة قبر
امي. فأتى رسول الله قبرها فبكى عنده وقال: أدركتني رحم، رحمتها فبكيت. ثم أصلح
قبرها. وروي عن بريرة قال: لما فتح رسول الله مكة أتى قبرا فجلس إليه وجلس الناس
حوله وهو يبكي، ثم قام. فاستقبله عمر فقال: يا رسول الله ما الذي أبكاك ؟ قال:
هذا قبر امي، سألت ربي الزيارة فأذن لي. كما في البحار 15: 162 عن المنتقى،
الفصل الثالث فيما كان سنة ست من مولده. وروى مسلم في صحيحه حديث الرسول في
زيارة امه هكذا: استأذنت ربي في زيارة امي فأذن لي، فزوروا القبور تذكركم الموت.
كما في صحيح مسلم 3: 65 ط 1334 كتاب الجنائز. ورواه عنه الطبرسي في إعلام الورى:
9. ورواه عنه أيضا الاربلي في كشف الغمة 1: 16 ط تبريز.). والظاهر أن هذه الرواية للكازروني عن ابن عباس هي ما رواه الصدوق في (اكمال الدين) بسنده عن عكرمة
عن ابن عباس قال: لما تمت لرسول الله ست سنين قدمت به امه آمنة على أخواله من
بني النجار فماتت بالأبواء بين مكة والمدينة. فبقي رسول الله (صلى الله عليه وآله) يتيما لا اب له ولا ام، فازداد عبد المطلب رقة له وحفظا. فكان يوضع لعبد المطلب فراش في
ظل الكعبة لا يجلس عليه أحد اجلالا له، وكان بنوه يجلسون حوله حتى يخرج عبد
المطلب. فكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يخرج وهو غلام فيمشي حتى يجلس على
الفراش ! فيعظمون ذلك أعمامه ويأخذونه ليؤخروه، فيقول لهم عبد المطلب إذا رأى
ذلك منهم: دعوا ابني فوالله إن له لشأنا عظيما ! اني أرى انه سيأتي عليكم يوم
وهو سيدكم، إني أرى عزته عزة تسود الناس ! (وروى
الكليني بسنده عن الصادق (عليه السلام) نحوه (اصول الكافي 1: 448) وذكر مثله
(اليعقوبي 2: 9) وفي تأريخ وفاة آمنة قال الكليني: وماتت امه آمنة وهو ابن أربع
سنين (اصول الكافي 1: 439).) ثم يحمله فيجلسه معه ويمسح
ظهره ويقبله ويقول: ما رأيت قبله من هو أطيب منه ولا أطهر قط، ولا جسدا ألين منه
ولا أطيب ! ثم يحمله على عنقه فيطوف به اسبوعا. وكانت هذه حالته حتى ادركت عبد المطلب الوفاة. فبعث الى ابي طالب، فدخل عليه وهو في غمرات الموت ومحمد على صدره،
فبكى وقال لأبي طالب: يا أبا طالب ! انظر أن يكون هذا من جسدك بمنزلة كبدك، فإني
قد تركت بني كلهم وأوصيتك به، لأ نك من ام أبيه. يا أبا طالب ! ان ادركت أيامه فاعلم أ ني كنت من أبصر الناس وأعلم
الناس به، فإن استطعت أن تتبعه فافعل، وانصره بلسانك ويدك ومالك، فانه والله
سيسودكم ويملك ما لم يملك أحد من بني آبائي. يا أبا طالب ! ما أعلم
أحدا من آبائك مات عنه أبوه على حال أبيه، ولا امه على حال امه، فاحفظ الوحدة. هل قبلت وصيتي ؟ فقال: نعم، قد قبلت، والله علي بذلك شهيد. فقال عبد المطلب: فمد يدك
الي. فضرب يده على يده. ثم قال عبد المطلب: الآن خفف علي الموت ! ثم لم يزل يقبله ويقول:
أشهد اني لم اقبل أحدا من ولدي أطيب ريحا منك، ولا أحسن وجها منك. ثم مات. ورسول
الله ابن ثماني سنين (روى المجلسي عن الكازروني في المنتقى قال: مات عبد المطلب وهو ابن
ثنتين وثمانين سنة. وقالت ام أيمن: رأيت رسول الله يبكي خلف سرير عبد المطلب.
وسئل رسول الله: أتذكر موت عبد المطلب ؟ فقال: نعم أنا يومئذ ابن ثماني سنين
(البحار 15: 162 عن المنتقى: الفصل الثالث) ورواه عن (العدد) وأضاف: حتى دفن
بالحجون (البحار 15: 156).) وبه قال الكليني في الكافي (اصول
الكافي 1: 439.). فضمه أبو طالب الى نفسه لا يفارقه ساعة من ليل ولا نهار، وكان ينام
معه حتى بلغ، لا يأتمن عليه أحدا (ثم روى
الصدوق بسنده الى ابن اسحاق عن العباس بن عبد الله، عن ابيه عبد الله بن معبد،
عن ابيه معبد بن العباس بن عبد المطلب - أو بعض اهله - قال: كان يوضع لعبد
المطلب جد رسول الله فراش في ظل الكعبة، فكان لا يجلس عليه أحد من بنيه اجلالا
له، وكان رسول الله يأتي حتى يجلس عليه، فيذهب أعمامه يؤخرونه، فيقول جده عبد
المطلب: دعوا ابني فيمسح ظهره ويقول: ان لابني هذا لشأنا. ثم قال: فتوفي عبد
المطلب والنبي (صلى الله عليه وآله) ابن ثماني سنين: بعد عام الفيل ثماني سنين.
(والخبر في سيرة ابن هشام 1: 178، وفي تهذيب السيرة: 41) ثم قال الشيخ الصدوق: ان ابا طالب كان مؤمنا ولكنه كان يستر الإيمان
ويظهر الشرك ليكون أشد تمكنا من تصرف رسول الله (صلى الله عليه وآله). ثم روى
بسنده عن الاصبغ بن نباتة قال: سمعت أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: والله ما
عبد أبي - ولا جدي عبد المطلب ولا هاشم ولا عبد مناف - صنما قط. قيل: فما كانوا
يعبدون ؟ قال: كانوا يصلون الى البيت على دين ابراهيم (عليه السلام) متمسكين به. ثم روى بسنده عن الصادق
(عليه السلام) قال: ان أبا طالب أظهر الكفر وأسر الإيمان، فلما حضرته الوفاة
أوحى الله الى رسول الله: اخرج منها فليس لك بها ناصر ! فهاجر الى المدينة
(اكمال الدين: 169 - 172). وروي في (الخصال) بسنده عن الصادق (عليه السلام) قال: هبط جبرئيل على
رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: يا محمد ! ان الله عزوجل قد شفعك في خمسة.
في بطن حملك، وهي آمنة بنت وهب بن عبد مناف، وفي صلب أنزلك، وهو عبد الله بن عبد
المطلب. وفي حجر كفلك، وهو عبد المطلب بن هاشم، وفي بيت آواك، وهو عبد مناف بن
عبد المطلب أبو طالب، وفي أخ كان لك في الجاهلية. قيل: يا رسول الله ! من هذا
الأخ ؟ فقال: كان انسي وكنت انسه، وكان سخيا يطعم الطعام. ثم قال الصدوق: اسمه:
الجلاس بن علقمة (الخصال 1: 292، 294) وروى مثله بسند آخر في معاني الأخبار: 45 والأمالي 6 ورواه الكليني
في اصول الكافي 1: 446 وروى الصفار في (قرب الإسناد: 27) بسنده عن الصادق (عليه السلام)
قال: قال رسول الله: اني مستوهب من ربي أربعة، وهو واهبهم لي ان شاء الله تعالى:
آمنة بنت وهب، وعبد الله ابن عبد المطلب، وأبو طالب بن عبد المطلب، ورجل من
الأنصار جرت بيني وبينه ملحة، وروى الطبرسي في (إعلام الورى: 10) عن هشام بن عروة عن أبيه قال: قال
رسول الله (صلى الله عليه وآله): ما زالت قريش كاعة عني حتى مات أبو طالب (عليه
السلام).). قال ابن اسحاق:
وكان عبد المطلب يوصي برسول الله عمه أبا طالب، وذلك أن عبد الله وأبا طالب كانا
أخوين لام واحدة هي فاطمة بنت عمرو المخزومي. فكان رسول الله - صلى الله عليه [
وآله ] وسلم - بعد عبد المطلب مع عمه أبي طالب، وكان أبو طالب هو الذي يلي أمر
رسول الله - صلى الله عليه
[ وآله ] وسلم - بعد
جده، فكان إليه ومعه. وولي بعده السقاية على زمزم أصغر أبنائه العباس (فلم تزل
إليه حتى قام الاسلام، وهي بيده، فأقرها رسول الله له على ما مضى من ولايته، فهي
الى آل العباس بولاية العباس اياها الى هذا اليوم (سيرة ابن هشام 1: 189)). وقال اليعقوبي:
وأوصى عبد المطلب الى أبي طالب برسول الله وقال له: اوصيك يا عبد مناف بعدي
* بمفرد بعد أبيه فرد فارقه وهو ضجيع المهد *
فكنت كالام له في الوجد تدنيه من أحشائها والكبد
* فأنت من أرجى بني بعدي لدفع ضيم، أو
لشد عقد قال: وأوصى إليه بسقاية زمزم. وأوصى بالحكومة وأمر الكعبة الى ابنه
الزبير. وأعظمت قريش موته، وغسلوه بالماء والسدر، ولفوه في حلتين من حلل
اليمن قيمتها ألف مثقال ذهب ! وطرح عليه المسك حتى ستره، وحمل على أيدي الرجال
عدة أيام ! اعظاما واكراما واكبارا لتغييبه في التراب (وروى عن
رسول الله انه قال: ان الله يبعث جدي عبد المطلب امة وحده، في هيئة الأنبياء وزي
الملوك (اليعقوبي 2: 13) ورواها الكليني في اصول الكافي بأسانيد ثلاثة مختلفة
والفاظ متقاربة (اصول الكافي 1: 446، 447).). ولما غيب عبد المطلب، احتبى ابنه الزبير بفناء الكعبة مدعيا
للرئاسة، وادعاها معه الوليد بن ربيعة المخزومي، وابن جدعان التيمي. وكفل رسول الله بعده عمه
أبو طالب، فكان خير كافل. فكان أبو طالب سيدا شريفا مطاعا مهيبا، مع املاقه ! (ثم روى
عن علي (عليه السلام) أنه قال: ساد أبي فقيرا، وما ساد فقير قبله، (اليعقوبي 2:
14).) وربته فاطمة بنت أسد بن هاشم امرأة أبي طالب وام أولاده (قال:
وأسلمت فكانت مسلمة فاضلة، فلما توفيت قال رسول الله كما يروى: اليوم ماتت امي !
ثم كفنها بقميصه، ونزل في قبرها واضطجع في لحدها. فقيل له: يا رسول الله ! لقد
اشتد جزعك على فاطمة ؟ قال: انها كانت امي، إذ كانت لتجيع صبيانها وتشبعني،
وتشعثهم وتدهنني ! وكانت امي ! (اليعقوبي 2: 14).). وروى ابن شهر آشوب عن
الأوزاعي (عبد الرحمن بن عمرو
بن أبي عمرو الأوزاعي الفقيه: ثقة جليل من السابقة مات سنة 157 (تقريب التهذيب).) قال: كان النبي في حجر عبد المطلب، فلما أتى عليه اثنان ومائة
سنة ورسول الله ابن ثماني سنين، جمع بنيه وقال: محمد يتيم فآووه وعائل فاغنوه
واحفظوا وصيتي فيه. فقال أبو لهب: أنا له ! فقال: كف شرك عنه ! فقال عباس: أنا له، فقال: أنت غضبان لعلك تؤذيه !
فقال أبو طالب: أنا له، فقال: أنت له. فأمسكه أبو طالب في حجره وقام بأمره يحميه بنفسه وماله وجاهه في
صغره من اليهود المرصدة له بالعداوة، ومن غيرهم من بني أعمامه، ومن العرب قاطبة،
الذين يحسدونه على ما آتاه الله من النبوة. وروى عن الخرگوشي في (شرف المصطفى): أنه
لما حضرت عبد المطلب الوفاة دعا ابنه أبا طالب فقال له: يا بني ! قد علمت شدة حبي
لمحمد ووجدي به، فانظر كيف تحفظني فيه ! فقال أبو طالب: يا أبه لا توصني بمحمد،
فإنه ابني وابن أخي ! فلما
توفي عبد المطلب كان
أبو طالب يؤثره بالنفقة والكسوة على نفسه وعلى جميع أهله، وكان إذا أراد أن يعشي
أولاده أو يغديهم يقول: كما أنتم حتى يحضر ابني، فيأتي محمد فيأكلون (المناقب
1: 35 - 36.). |
سفر
النبي (صلى الله عليه وآله) الأول مع عمه الى الشام:
|
روى الصدوق في (اكمال الدين) بسنده الى ابن عباس عن أبيه العباس
بن عبد المطلب عن أبي طالب قال: خرجت الى الشام تاجرا سنة ثمان من مولد النبي، وكان في أشد ما يكون
من الحر، فلما أجمعت على المسير قال لي رجال من قومي ما تريد أن تفعل بمحمد ؟
وعلى من تخلفه ؟ فقلت: لا اريد أن أخلفه على أحد من الناس، اريد أن يكون معي. فقيل:
غلام صغير في حر مثل هذا تخرجه ؟ فقلت: والله لا يفارقني حيث ما توجهت أبدا،
فإني لاوطئ له الرحل. فذهبت فحشوت له حشية كساء وكتانا. وكنا ركبانا كثيرا، فكان
والله البعير الذي عليه محمد أمامي لا يفارقني فكان يسبق الركب كله، فكان إذا
اشتد الحر جاءت سحابة بيضاء مثل قطعة ثلج فتقف على رأسه لا تفارقه وهي تسير معنا
(اكمال الدين: 178.) وفي التفسير المنسوب الى
الأمام الحسن العسكري عن أبيه الهادي (عليهما السلام) قال: ان رسول الله كان يسافر الى الشام مضاربا لخديجة بنت خويلد، وكان
من مكة الى بيت المقدس مسيرة شهر، فكانوا في حمارة القيظ يصيبهم حر تلك البوادي
وربما عصفت عليهم فيها الرياح وسفت عليهم الرمال والتراب وكان الله تعالى في تلك
الأحوال يبعث لرسول الله غمامة تظله فوق رأسه تقف بوقوفه وتزول بزواله، ان تقدم
تقدمت وان تأخر تأخرت وان تيامن تيامنت وان تياسر تياسرت، فكانت تكف عنه حر
الشمس من فوقه. وكانت تلك الرياح المثيرة لتلك الرمال والتراب تسفيها في وجوه
قريش ورواحلها حتى إذا دنت من محمد (صلى الله عليه وآله) هدأت وسكنت ولم تحمل
شيئا من رمل ولا تراب وهبت عليه ريحا باردة لينة، حتى كانت قوافل قريش يقول
قائلها: جوار محمد أفضل من خيمة، فكانوا يلوذون به ويتقربون إليه، فكان الروح
يصيبهم بقربه وان كانت الغمامة مقصورة عليه (تفسير
الإمام: 60 كما في البحار 17: 308.). وفي رواية الصدوق عن ابن
عباس عن أبي طالب قال فلما
قربنا من بصرى الشام (بصرى هي مدينة حوران، فتحت صلحا لخمس بقين من ربيع الأول سنة ثلاث
عشرة، وهي أول مدينة فتحت بالشام. وردها رسول الله مرتين: هذه هي الاولى.) إذا
نحن بصومعة، فنزلنا تحت شجرة عظيمة قريبة من الراهب قليلة الأغصان ليس لها حمل،
كان الركبان ينزلون تحتها، فلما رأى بحيرا الراهب (حسبه
المسعودي من عبد قيس من عرب الشام، مروج الذهب 2: 102.) ذلك
اتخذ طعاما ثم جاء به فأكل وأكلنا معه. ثم قال: يا غلام أسألك عن ثلاث خصال بحق اللات والعزى الا
أخبرتنيها. فغضب رسول الله (صلى الله عليه وآله) عند ذكر اللات والعزى وقال: لا
تسألني بهما، فوالله ما أبغضت شيئا كبغضهما، وإنهما صنمان من حجارة لقومي. فقال
بحيرا: هذه واحدة. ثم قال: فبالله الا ما أخبرتني. فقال: سل عما بدا لك، فأ نك
قد سألتني بإلهي والهك الذي ليس كمثله شئ. فقال: أسألك عن نومك وهيئتك وامورك
ويقظتك. فأخبره عن نومه وهيئته واموره وجميع شأنه، فوافق ذلك ما عند بحيرا من
صفته التي عنده. فانكب عليه بحيرا فلم يزل يقبل يديه مرة ورجليه مرة ويقول فيما
يقول: أنت دعوة ابراهيم وبشرى عيسى، أنت المقدس المطهر من أنجاس الجاهلية. ثم
التفت الي وقال: ما يكون هذا الغلام منك فإني أراك لا تفارقه ؟ قال أبو طالب:
فقلت: هو ابني، فقال: ما هو بابنك وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون والده الذي
ولده حيا ولا أمه. فقال: قلت: انه ابن أخي وقد مات أبوه وامه حاملة به، وماتت
امه وهو ابن ست سنين. فقال: صدقت، هكذا هو، ولكن أرى لك ان ترده الى بلده عن هذا
الوجه، فلئن رأوا هذا الغلام وعرفوا منه الذي عرفت أنا لابتغوه شرا، وأكثر ذلك
هؤلاء اليهود ! قال أبو
طالب: فقلت: كلا، لم يكن الله
ليضيعه !. ثم خرجنا به الى الشام فلما توصلنا الشام ازدحم الناس ينظرون الى
وجه رسول الله (صلى الله عليه وآله) وجاء حبر عظيم كان اسمه نسطورا ينظر إليه لا
يتكلم بشئ، فعل ذلك ثلاثة أيام متوالية، فلما كان اليوم الثالث دار خلفه كأنه
يلتمس منه شيئا، فقلت له: يا راهب كأ نك تريد منه شيئا ؟ فقال: أجل اني اريد منه
شيئا، ما اسمه ؟ قلت: محمد بن عبد الله، فتغير لونه ثم قال: فترى أن تأمره أن
يكشف لي عن ظهره لانظر إليه، فكشف عن ظهره فلما رأى الخاتم (روى
السهيلي في (الروض الانف) خبرا عن الخاتم هذا يفيد أنه كان كبيض الحمام على
غضروف كتفه الأيسر حوله نقاط من الخال عليها شعرات. وقال ابن هشام كان مثل أثر
محجمة الحجامة القابضة على اللحم، كما في سيرته 1: 193، متنا وهامشا.) انكب
عليه يقبله ويبكي، ثم قال: يا هذا اسرع برد هذا الغلام الى موضعه الذي ولد فيه،
فانك لو تدري كم عدوا له في أرضنا لم تكن بالذي تقدمه معك. وروى
بسنده الى يعلى بن سيابة (في اكمال الدين: يعلى النسابة، والصحيح عن المناقب 1: 40.) قال:
كان مع رسول الله سنة خروجه الى الشام: خالد بن أسيد بن أبي العاص وطليق بن أبي
سفيان بن امية، فكانا يحكيان أ نهما لما توسطا سوق بصرى إذا بقوم من الرهبان
قالوا لهم: نحب ان تأتوا كبيرنا هاهنا في الكنيسة العظمى. فذهبنا معهم حتى دخلنا
معهم الكنيسة العظيمة البنيان، فإذا كبيرهم قد توسطهم وحوله تلامذته وقد نشر
كتابا بين يديه فأخذ ينظر الينا مرة وفي الكتاب مرة، ثم قال لأصحابه: ما صنعتم
شيئا، لم تأتوني بالذي اريد، وهو الآن ها هنا ! ثم قال لنا: من أنتم ؟ فقلنا: رهط من قريش، فقال: من أي قريش ؟
فقلنا من بني عبد شمس، فقال لنا: معكم غيركم ؟ فقلنا: بلى (كذا) معنا شاب من بني
هاشم نسميه يتيم بني عبد المطلب، فقام واتكى على صليب من صلبانه وهو يفكر، وحوله
ثمانون رجلا من البطارقة والتلامذة، فقال لنا: فيجب عليكم ان ترونيه، فقلنا له:
نعم فجاء معنا. وفي سوق بصرى إذا
نحن بمحمد قائم في السوق، فأردنا ان نقول للقس: هو هذا، فإذا هو سبقنا فقال: هو
هو، قد عرفته والمسيح، فدنا منه وقبل رأسه وقال: أنت المقدس، ثم أخذ يسأله عن
أشياء من علاماته، فأخذ يخبره النبي (صلى الله عليه وآله) فسمعناه يقول: لئن
ادركت زمانك لأعطين السيف حقه ! ثم قال لنا: أتعلمون ما معه ؟ معه الحياة
والموت، من تعلق به حيي طويلا، ومن زاغ عنه مات موتا لا يحيى بعد أبدا هذا الذي
معه الذبح الأعظم ! ثم قبل رأسه ورجع راجعا (اكمال
الدين: 178 - 185 بتصرف واختصار. وخبر بحيرا رواه ابن شهر آشوب في المناقب 1:
38، 39 عن الطبري والظاهر انه الطبري الامامي صاحب (دلائل الإمامة) والا فالخبر
لا يطابق ما في تأريخ الطبري. واختار الطبرسي أن يرويه عن ابن اسحاق: إعلام
الورى: 17، 18. وكذلك الاربلي في كشف الغمة 1: 22 نقل ما ذكره ابن اسحاق. والخبر
في سيرة ابن هشام 1: 191 - 194. وفي الطبري 2: 277 - 278. وأشار إليه اليعقوبي
2: 11 واختصره المسعودي 1: 89. وقال: واسم بحيرا في النصارى سرجيس، وكان للنبي
اثنتا عشرة سنة.). وقد نقل ابن اسحاق خبر بحيرا بلا اسناد فقال فيه: كان في بصرى من أرض الشام صومعة لم يزل فيها أبدا راهب كان إليه
علم النصرانية عن كتاب لهم يتوارثونه كابرا عن كابر، فكان فيها إذ ذاك راهب يقال
له بحيرا، كانوا كثيرا ما يمرون به قبل ذلك، فلا يكلمهم ولا يعرض لهم، حتى خرج
أبو طالب في ركب ذلك العام تاجرا الى الشام، وتعلق به رسول الله فرق له أبو طالب
فخرج به معه، فلما كان الركب قريبا من صومعة بحيرا، كان قد رأى - وهو في صومعته
- رسول الله وقد أظلته من بين الركب غمامة، ونزلوا في ظل شجرة قريبا منه، فاظلت
الغمامة الشجرة وتدلت أغصانها على رسول الله. فلما رأى ذلك بحيرا نزل من
صومعته وصنع لهم طعاما كثيرا ثم ارسل إليهم فقال: يا معشر قريش اني قد صنعت لكم
طعاما فاحب ان تحضروه كلكم كبيركم وصغيركم حركم وعبدكم ! فانتم ضيف وقد أحببت ان
اكرمكم وأصنع لكم طعاما تأكلون منه. فاجتمعوا إليه وتخلف رسول الله من بين القوم
في رحال القوم تحت الشجرة، فقال
بحيرا: يا معشر قريش ! لا
يتخلفن أحد منكم عن طعامي. قالوا له: يا بحيرا ! ما تخلف عنك أحد ينبغي له أن
يأتيك، إلا غلام أحدث القوم سنا تخلف في رحالهم، فقال: ادعوه فليحضر هذا الطعام
معكم، فقام إليه رجل منهم فاحتضنه حتى أجلسه مع القوم. فلما رآه بحيرا جعل يلحظه لحظا شديدا وينظر الى أشياء من جسده قد
كان يجدها عنده من صفته، حتى إذا فرغ القوم من طعامهم وتفرقوا قام إليه بحيرا
فقال له: يا غلام ! أسألك
بحق اللات والعزى الا ما أخبرتني عما أسألك عنه. فقال رسول الله: لا تسألني
باللات والعزى، فو الله ما أبغضت شيئا قط كبغضهما ! فقال بحيرا: فبالله الا ما
أخبرتني عما أسألك عنه، فقال له: سلني عما بدا لك، فجعل يسأله عن أشياء من حاله
في نومه وهيئته واموره، وجعل رسول الله يخبره، فكان يوافق ذلك ما عند بحيرا من
صفته. ثم نظر الى ظهره فرأى خاتم النبوة بين كتفيه على موضعه من صفته التي عنده.
فلما فرغ أقبل على عمه أبي طالب فقال له: ما هذا الغلام منك ؟ قال: ابني، قال
بحيرا: ما هو بابنك، وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حيا ! قال: فانه ابن
أخي. قال: فما فعل أبوه قال: مات وامه حبلى به. قال: صدقت، فارجع بابن أخيك الى
بلده واحذر عليه اليهود، فو الله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليبغنه شرا، فانه
كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم، فاسرع به الى بلاده. فلما فرغ عمه من تجارته
خرج به حتى أقدمه مكة (سيرة ابن هشام 1: 191 - 194 والخبر في السيرة بلا سند، وأسنده الطبري
إليه عن عبد الله بن أبي بكر. وذكر مثله الكازروني في (المنتقى) بسند طويل الى
داود بن الحصين (البحار 15: 409).). هكذا ينتهي الخبر عند ابن اسحاق، وهكذا نقله عنه الطبري في
تأريخه، ولكنه روى بعده
رواية اخرى أسندها الى أبي موسى
الأشعري الأنصاري - المدني - من دون ان يسندها الى أحد قبله، قال في آخرها: فلم يزل يناشده حتى رده، وزوده الراهب بزيت وكعك
وبعث معه أبو بكر بلالا ! (الطبري 2: 277 - 272 ط المعارف وص 34 ط الإستقامة. والسيرة الحلبية
1: 120 وسيرة دحلان 1: 49 والبداية والنهاية 2: 285 والثقات لأبن حبان 1: 44.). ورواه الديار بكري في كتابه (تأريخ الخميس) ثم نقل عن الحافظ الدمياطي أ نه أشكل على هذا الخبر - ارسال أبي
بكر بلالا مع الرسول - بأن أبا بكر لم يكن يومئذ يملك بلالا بل كان يملكه امية
بن خلف، وانما اشتراه أبو بكر بعد ثلاثين عاما ! ثم ذهب الى ان أبا بكر لم يكن
في ذلك السفر أصلا ! ولذلك قال الذهبي بشأن هذا الخبر: اظنه موضوعا، بعضه باطل (تأريخ
الخميس 1: 259 والسيرة الحلبية 1: 120 وسيرة مغلطاي: 11.) ورواه
الترمذي في سننه ثم
قال: حسن غريب ! وقد نقل الطبري عن الكلبي: ان أبا طالب خرج برسول الله الى بصرى وهو ابن تسع سنين (الطبري
2: 278.). والمعروف أن أبا بكر كان أصغر من النبي (صلى الله عليه وآله) بأكثر
من سنتين، فكيف يكون ما ذكر ؟ ! وقد ألمح الى التشكيك فيها جماعة من المؤرخين - كما سبق - منهم
أبو الفداء في تأريخه الكبير، وجاء فيه: ان أحد رواتها هو أبو بكر بن أبي موسى عن أبيه الأشعري، وقد دخل
في الإسلام في السنة السابعة من الهجرة، ولابد أن تكون حينئذ من مرسلات الصحابة.
وشكك في الرواية: أ نها اشتملت على أن أبا طالب أرجع النبي (صلى الله عليه وآله)
- كما زعم الرواي - مع بلال الحبشي وأبي بكر، وقد كانا يوم ذاك أصغر منه سنا،
حيث إن أبا بكر في ذلك الوقت لم يتجاوز العاشرة، وبلال الحبشي كان أقل من ذلك
فكيف يصح أن يرده أبو طالب الى مكة من تلك المسافة البعيدة وفي تلك الصحراء
المخيفة مع طفلين صغيرين ؟ ! (البداية والنهاية 2: 285.) ثم الرواية - كما مر - عن أبي موسى الأشعري، وهو أنصاري مدني،
والمعروف أ نه ولد قبل البعثة بثماني سنين، وقدم الى المدينة بعد الهجرة بسبع
سنين، ورحلة الرسول مع عمه أبي طالب الى الشام كانت قبل البعثة باثنتين وثلاثين
سنة، وقبل الهجرة بخمس وأربعين سنة، وقبل أتصال أبي موسى بالرسول بأكثر من خمسين سنة، فكيف روى هذا الخبر بلا اسناد الى أحد قبله ؟ !
والرواية الاولى
نقلناها عن الصدوق في (اكمال
الدين) بسنده الى ابن
عباس، وكانت تنتهي بقول أبي طالب: وعجلت به حتى رددته الى مكة (اكمال
الدين: 182.). وقد ذكر الديار بكري الرواية عن ابن عباس أيضا ولكنه جاء في
آخرها: فوقع في قلب أبي بكر
اليقين والتصديق قبل ما نبئ (تأريخ الخميس 1: 261.) وعلى
هذا يكون ايمان أبي بكر قد سبق نبوة النبي فضلا عن ميلاد علي (عليه السلام) ! ولهذا قال الصفوري الشافعي: وكان إسلامه قبل ان يولد علي بن أبي طالب (نزهة المجالس 2: 147.) وتوهم النووي أن سن أبي بكر في هذه السفرة كان خمس عشرة، بل عشرين سنة، فقال كان
أبو بكر أسبق الناس اسلاما، أسلم وهو ابن عشرين سنة وقيل: خمس عشرة سنة (الغدير
7: 272.) وقد مر أن خبر ابن عباس كان خليا عن هذه الاضافة، وان المعروف ان أبا بكر كان أصغر من النبي بأكثر من سنتين، ولم يكن مع النبي في رحلته هذه، كما ذهب إليه مغلطاي في سيرته (سيرة
مغلطاي: 11.) والدمياطي كما في (تأريخ الخميس) (تأريخ
الخميس 1: 259.) ولا أظنه الا موضوعا باطلا كما ذهب إليه الذهبي (تأريخ
الخميس 2: 259 والسيرة الحلبية 1: 120. وقال الحسني في سيرته: ولكن تلك المرويات
على كثرتها وشهرتها بين المؤرخين والمؤلفين في سيرته لا يكاد يثبت منها شئ عند
عرضها على اصول علم الدراية، كما أشرنا الى بعض عيوبها في كتابنا (الموضوعات في
الآثار والأخبار): (سيرة المصطفى: 49) ولكنه عاد في ص 56 فقال " وإذا كنت
قد وقفت موقف المتصلب في كتابي (الموضوعات) من بعض المرويات التي يرويها المدائني
عن بعض من تستروا بصحبة النبي (صلى الله عليه وآله) ورواها غيره من المؤرخين
(كما رواها الصدوق في (اكمال الدين واتمام النعمة) فإني لا أقف نفس الموقف من
حديث بحيرا الراهب، فمن الجائز أن يكون قد رأى النبي ولكن دوره معه لا يعدو أن
يكون دور من يرقب له النبوة عندما وجد فيه بعض العلامات التي وصفته بها الكتب
القديمة كالتوراة والانجيل وغيرهما.. أما بقية الأحداث والخوارق التي روتها كتب
التأريخ والحديث وادعت وقوعها في تلك الرحلة، فلو صحت لتركت أثرا في مكة وما
جاورها بل في شبه الجزيرة بكاملها، ولم يحدث شئ من ذلك ". وفصل هذا المعنى فقال: " ان تلك الأحداث والكرامات التي يدعيها
الرواة، وبخاصة ما كان منها في طريقه الى الشام مع تلك الحشود لم تترك أثرا على
المكيين الذين رافقوه في تلك الرحلة، فلا محمد قد احتج بها عليهم يوم كانوا
يطاردونه من بيت الى بيت وفي شعاب مكة وبطاحها، ولا حدث أحد من المؤرخين بان
رفاقه في تلك الرحلة كانوا يتحدثون بها لمن رجعوا إليهم في مكة وما جاورها، كل
ذلك مما يرجح استبعادها ". وقال: " نبهت في كتابي
(الموضوعات) على ما يرويه المحدثون والمؤرخون مما جرى له في طريقه الى الشام وهو
في قافلة تتألف من مائة وثمانين من التجار ومعاونيهم: كحديث الغمامة التي كانت
تظلله، والمياه التي كانت تتفجر من بطون الصحراء التي كانت تتعرض فيها حياة
العشرات من المسافرين للموت عطشا، والأشجار اليابسة التي كانت تعود إليها الحياة
فتثمر من ساعتها أنواعا من الثمار، الى كثير من أمثال ذلك هذا، ولم يكن فيما
رويناه الا تظليل الغمامة إذا اشتد الحر، وعند نزوله عند الشجرة. ".) من
موضوعات معاوية كما روى خبرها ابن أبي الحديد في شرحه لنهج البلاغة عن المدائني.
|
كان
الله يسلك بالنبي (صلى الله عليه وآله) طريق المكارم:
|
روى الشريف الرضي في " نهج البلاغة " عن علي (عليه
السلام) أنه قال في وصف الرسول (صلى الله عليه وآله): " ولقد قرن الله به من لدن كان فطيما أعظم ملك من ملائكته،
يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره " (نهج
البلاغة: الخطبة القاصعة: 192 / المقطع 118 عن سعدة بن صدقة عن الباقر (عليه
السلام).). وروى ابن أبي الحديد في شرحه: أن بعض أصحاب الإمام الباقر (عليه السلام) سأله عن قول الله تعالى
* (الا من ارتضى من رسول فانه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا) * (الجن: 27.) فقال
(عليه السلام): يوكل الله تعالى بأنبيائه ملائكة يحصون أعمالهم، ويؤدون إليهم
تبليغهم الرسالة، ووكل بمحمد ملكا عظيما منذ فصل عن الرضاع يرشده الى الخيرات
ومكارم الأخلاق، ويصده عن الشر ومساوئ الأخلاق (شرح نهج
البلاغة لابن أبي الحديد 13: 207 وعنه في البحار 15: 361.). وروى الطبري في تأريخه
بسنده عن محمد بن الحنفية عن أبيه علي (عليه السلام) قال: سمعت رسول الله يقول: ما هممت بشئ مما كان أهل الجاهلية يعملون به
غير مرتين، كل ذلك يحول الله بيني وبين ما اريد من ذلك، ثم ما هممت بسوء حتى
أكرمني الله برسالته. قلت ليلة لغلام من قريش كان يرعى معي بأعلى مكة: لو أبصرت لي غنمي،
حتى أدخل مكة فأسمر (سهرة
الليل.) بها كما يسمر
الشباب فخرجت اريد ذلك، حتى إذا جئت أول دار من دور مكة سمعت عزفا بالدف
والمزامير، فقلت: ما هذا ؟ قالوا: هذا فلان تزوج ابنة فلان. فجلست أنظر إليهم،
فضرب الله على اذني فنمت، فما أيقظني الا مس الشمس، فرجعت الى صاحبي، فقال: ما
فعلت ؟ فقلت: ما صنعت شيئا. ثم أخبرته الخبر. ثم قلت له ليلة اخرى مثل ذلك، فقال: افعل. فخرجت فسمعت حين دخلت مكة مثل ما سمعت حين دخلتها تلك
الليلة، فجلست أنظر، فضرب الله على اذني، فما أيقظني الا مس الشمس، فرجعت الى
صاحبي فأخبرته الخبر. ثم ما هممت بعدها بسوء، حتى أكرمني الله برسالته (الطبري
2: 279 ورواه عنه أبن أبي الحديد 13: 207.). وقال ابن اسحاق:
شب رسول الله - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - والله تعالى يكلؤه ويحفطه ويحوطه
من أقذار الجاهلية، لما يريد به من كرامة ورسالة، حتى بلغ أن كان رجلا، أفضل
قومه مروءة، وأحسنهم خلقا، وأكرمهم حسبا، وأحسنهم جوارا، وأعظمهم حلما، وأصدقهم
حديثا، وأعظمهم أمانة حتى ما اسمه في قومه الا الأمين، وأبعدهم عن الفحش
والأخلاق التي تدنس الرجال، تنزها وتكرما، جمع الله فيه كل ذلك (سيرة ابن
هشام 1: 194 ثم قال: وذكر لي: ان رسول الله - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - كان
مما يحدث به عما كان الله يحفظه به في صغره وأمر جاهليته أنه قال: لقد رأيتني في
غلمان قريش ننقل الحجارة لبعض ما نلعب به، فإني اقبل معهم وادبر، وكلنا قد أخذ
إزاره فجعله على عاتقه لي0حمل عليه الحجارة فتعرى ! إذ لكمني لاكم ثم قال: شد
عليك ازارك، وما أراه ! فأخذته وشددته علي، ثم جعلت أحمل الحجارة على رقبتي
وازاري علي من بين أصحابي. وقال السهيلي في (الروض الانف) في التعليق على هذه
القصة " وهذه القصة انما وردت في الحديث الصحيح (!) في حين بنيان الكعبة:
ان رسول الله كان ينقل الحجارة مع قومه إليها، وكانوا يحملون ازرهم على عواتقهم
لتقيهم الحجارة ! وكان رسول الله يحملها على عاتقه وازاره مشدود عليه، فقال له
العباس: يابن أخي لو جعلت ازارك على عاتقك. ففعل فسقط مغشيا عليه ! فضمه العباس
الى نفسه وسأله عن شأنه، فأخبره أنه نودي من السماء: ان اشدد عليك إزارك يا محمد
! ثم قال: ازاري ازاري ! فشد عليه ازاره، فقام يحمل الحجارة " ثم قال:
" فإن صح حديث ابن اسحاق ان ذلك كان في صغره إذ كان يلعب مع الغلمان، فحمله
على ان هذا الأمر كان مرتين: مرة في صغره، ومرة في أول اكتهاله (!) عند بنيان
الكعبة " ! وقال القسطلاني قريبا منه في فتح الباري 1: 401. اما نحن فنقول:
ان صح من هذه القصة شئ فإنما نحتمل قصة ابن اسحاق - وقد روى نحوه ابن أبي الحديد
عن أمالي محمد بن حبيب - اما انه كان ذلك عند اكتهاله ! بأمر عمه العباس ! ومعه
رجال قومه كذلك ! فهذا مما لا يحتمله عقل أي عاقل قط. وللتفصيل انظر الصحيح
للسيد جعفر مرتضى 1: 136 - 144.). |
حرب
الفجار:
|
روى أبو الفرج الإصبهاني: أ نه كانت للعرب حروب أربع سميت بالفجار، لما استحل فيها من
المحارم: فالفجار الأول:
كان بين كنانة وهوازن. وكان
السبب فيه: أن بدر ابن معشر
الكناني كان حدثا منيعا في نفسه، فحضر سوق عكاظ ومعه حي من كنانة، وعقد لنفسه
مجلسا يفتخر فيه، فتصدى له الاحيمر بن مازن ومعه حي من بني هوازن، فكادت الحرب
أن تقع ثم رأوا أن الخطب يسير فتراجعوا عن الحرب، وحيث كان سوق عكاظ في رجب
الحرام سميت الحادثة فجارا. والفجار الثاني:
كان بين قريش وهوازن. وكان
السبب فيه: أن فتية من قريش
تعرضوا لامرأة من هوازن، فهاجت الحرب ووقع القتال واريقت دماء يسيرة، وكان على
قريش حرب بن امية بن عبد شمس فتحمل دية ما وقع وتصالح. والفجار الثالث:
كان بين كنانة وهوازن أيضا. وكان
السبب فيه: أن رجلا من كنانة
كانت عليه دية لرجل من هوازن فافتقر وعجز عنها فلما حضروا سوق عكاظ قام الرجل
صاحب الدية من هوازن فعير بني كنانة بذلك، فقام إليه كناني فضربه، فتهايج الحيان
الى الحرب، ثم رأوا أن الخطب يسير فتحملت كنانة الدية فتراجعوا. والفجار الرابع:
كان بين كنانة وقريش وبين هوازن وقيس عيلان. وكان السبب فيه:
ان النعمان بن المنذر ملك الحيرة كان يبعث في كل عام قافلة تجارة بالبز والطيب
الى سوق عكاظ لتباع هناك، ثم يشترى له بثمنها من ادم الطائف ما يحتاج إليه (الأغاني 19: 74 - 80 ط بولاق، باختصار. والادم بفتحتين: جمع الاديم:
الجلد المدبوغ.) وكان
لا يعرض لها أحد من العرب حتى قتل النعمان رجلا من قيس فكان بلعاء بن قيس بعد
ذلك يغير على قافلة النعمان وكان البراض بن قيس الكناني بمكة في جوار حرب بن
امية بن عبد شمس فوثب على رجل من هذيل فقتله، فأخرجه حرب بن امية من جواره فلحق
بالنعمان بن المنذر، فاجتمع عنده بعروة الرحال من هوازن، فقال النعمان لهما: من
منكما يجير لطائمي - أي القوافل التجارية - فتصدى عروة لذلك، ونازعه البراض،
فلما توجه عروة لينصرف بالقافلة (اليعقوبي 2: 15.)
قال له البراض الكناني: اتجيرها على كنانة ؟ ! قال: نعم وعلى الخلق كله ! فخرج
فيها عروة الرحال، وخرج البراض يطلب غفلته، حتى إذا كان في وادي تيمن بعالية نجد
(سيرة ابن هشام 2: 196.) أو أوارة قريبة من تيمن الى جانب فدك، نزل عروة ليلة وجلس في
سهرة تغنيه قينة ويشرب فيها الخمر، الى أن قام فنام، فدخل عليه البراض الكناني
ليقتله، فاعتذر إليه عروة فلم يسمع منه وقتله (الأغاني 19: 75.)
في الشهر الحرام (سيرة ابن
هشام 1: 196.) شهر
رجب (اليعقوبي 2: 15.) فلذلك سمي الفجار. وكانت قريش وكنانة في
الشهر الحرام بعكاظ، وهوازن كذلك، فأتى آت قريشا وقال لهم: ان البراض الكناني قد
قتل عروة الرحال من هوازن ! فارتحلت كنانة وقريش ولم تشعر هوازن بالأمر ثم بلغ
الخبر الى هوازن فاتبعوا قريشا فأدركوهم قبل أن يدخلوا الحرم، فاقتتلوا حتى جاء
الليل، والتقوا بعد هذا اليوم أياما وعلى كل قبيل من قريش وكنانة رئيس منهم،
وعلى كل قبيل من قيس وهوازن رئيس منهم. قال ابن اسحاق: وكان قائد قريش وكنانة
حرب بن امية بن عبد شمس (سيرة ابن
هشام 1: 196 - 198.)
فاقتتلوا في رجب، وكان عندهم الشهر الحرام الذي لا تسفك فيه الدماء، فسمي الفجار
لأنهم فجروا في شهر حرام. أما
بنو هاشم من قريش، فقد روي:
أن أبا طالب قال: هذا ظلم وعدوان وقطيعة واستحلال للشهر الحرام، فلا أحضره ولا
أحد من أهلي ! فقال حرب بن امية وعبد الله بن جدعان التيمي: لا نحضر أمرا تغيب
عنه بنو هاشم، فاخرج الزبير بن عبد المطلب مستكرها على رأس قبيل من بني هاشم. وقالوا لأبي طالب:
يابن مطعم الطير وساقي الحجيج ! لا تغب عنا، فإنا نرى مع حضورك الظفر والغلبة.
قال: فاجتنبوا الظلم والعدوان، والقطيعة والبهتان فإني لا أغيب عنكم. فقالوا: ذلك
لك. فلم يزل يحضر حتى فتح عليهم. فقيل: ان
أبا طالب كان يحضر ومعه رسول الله، فإذا حضر هزمت كنانة قيسا، فعرفوا البركة
بحضوره. وروي عن رسول الله انه قال: شهدت الفجار مع عمي أبي طالب، وأنا غلام. وروى بعضهم: ا نه
شهد الفجار وهو ابن عشرين سنة، وطعن أبا براء ملاعب الأسنة فأرداه عن فرسه، وجاء
الفتح من قبله (اليعقوبي 2: 115 - 116 وقال قبل هذا: شهد رسول الله الفجار وله سبع
عشرة سنة. وقال ابن هشام: حدثني أبو عبيدة النحوي، عن أبي عمرو بن العلاء: انه
لما بلغ رسول الله أربع عشرة سنة أو خمس عشرة سنة، هاجت حرب الفجار بين قريش
وكنانة وبين قيس عيلان. وشهد رسول الله بعض أيامهم، أخرجه أعمامه معهم. وقال رسول الله " كنت انبل مع أعمامي " أي أرد عليهم
نبل عدوهم إذا رموهم بها. وقال ابن اسحاق: هاجت حرب الفجار ورسول الله ابن عشرين
سنة. وانما سمي يوم الفجار بما استحل هذان الحيان: كنانة وقيس عيلان من المحارم
بينهم فيه (سيرة ابن هشام 1: 195 - 198). ولهذا قال في (السيرة الحلبية 1: 128):
ان سبب الفجار كان في رجب الحرام اما الحرب فكان في شعبان. وبهذا برر مشاركة أبي
طالب ومعه رسول الله في الحرب. ولكن السيد المرتضى رأى ان هذا التوجيه لا يعتمد
على أي سند تأريخي، فلم يجد مجالا للتعويل عليه، وشك في صحة القصة. (الصحيح 1:
95). ولا يخفى ان ابن اسحاق
والطبري لم يرويا مشاركة النبي ولا حضوره في الحرب، وانما روى ابن هشام حضوره مع
أعمامه ومساعدته لهم في الحرب وهو ابن خمس عشرة سنة. وروى اليعقوبي حضوره فقط
وله سبع عشرة سنة،، ثم روى عن غيره حضوره ومشاركته في الحرب وهو ابن عشرين سنة
(اليعقوبي 2: 15). وقال المسعودي: كان مولده عليه الصلاة والسلام عام الفيل،
وكان بين عام الفيل وعام الفجار عشرون سنة (2: 268) وقال: وقد قدمنا في كتابنا
الأوسط أخبار الأحلاف والفجارات الأربعة: فجار الرجل - أو فجار بدر بن معشر -
وفجار القرد، وفجار المرأة، والفجار الرابع هو فجار البراض الذي كان فيه القتال
وكان النبي - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - قد حضر وشاهد الفجار الرابع (2:
276) وقال: انه (عليه السلام) شهد يوم حرب
الفجار وذلك في سنة احدى وعشرين (من مولده) وهي حرب كانت بين قريش وقيس عيلان،
وكانت لقيس على قريش، وان النبي صلى الله عليه [ وآله ] وسلم لما شاهدها صارت
لقريش على قيس، وكان على قريش يومئذ عبد الله بن جدعان التيمي، وكانت هذه احدى
الدلائل المنذرة بنبوته (عليه السلام) التيمن بحضوره (2: 286). وقد يكون
الاختلاف في سن النبي في حضوره الفجار ناشئا من تعدد الفجارات ووقوعها في طول
هذه السنين وعدم تعيين حضوره في الرابع منها.
). |
ميلاد
علي (عليه السلام):
|
قال الكليني في " اصول الكافي ": " بعد عام الفيل بثلاثين سنة ولد أمير المؤمنين (عليه
السلام) " (اصول الكافي 1: 452 وبعده: وبقي بعد قبض النبي ثلاثين سنة وقتل سنة
أربعين من الهجرة وهو ابن ثلاث وستين سنة. ثم روى بسنده عن الصادق (عليه السلام)
قال: كان بين رسول الله وأمير المؤمنين ثلاثون سنة. وكأنه استند الى هذا الخبر
في تأريخ ميلاد علي (عليه السلام).). وقال الشريف الرضي في " خصائص الأئمة ": ولثلاث عشرة ليلة خلت من رجب، بعد عام الفيل بثلاثين سنة، ولد في
البيت الحرام علي (عليه السلام) (خصائص الأئمة: 39 ط مشهد.). وقال شيخه المفيد في " الارشاد ": في " يوم الجمعة الثالث عشر من شهر رجب سنة ثلاثين من عام
الفيل، ولد - علي (عليه السلام) - بمكة في البيت الحرام - ولم يولد قبله ولا
بعده مولود في بيت الله تعالى - سواه، اكراما من الله تعالى جل اسمه له، واجلالا
لمحله في التعظيم " (الإرشاد: 9 ط الحيدرية ومسار الشيعة: 51 ط مصر.). وذكره معاصراه: المسعودي في " مروج الذهب " قال: " وكان مولده في الكعبة.. " (مروج
الذهب 2: 348 ط بيروت.) والآخر:
الحسن بن محمد القمي في كتابه " تأريخ قم " الذي الفه للصاحب بن عباد سنة 378 قال: " سنة ثلاثين من عام
الفيل، وفي رواية: سنة ثمان وعشرين منه، كانت ولادة أمير المؤمنين في الكعبة..
" (عن الترجمة الفارسية للحسن بن علي القمي، ترجمه للوزير فخر الدين سنة
865 ص 191 ط سنة 1353 ه.). وكشف الشيخ الطوسي عن مصدر القول الأخير في كتابه " مصباح
المتهجد " فقال: " عن عتاب بن أسيد: ولد.. وللنبي ثمان وعشرون سنة، وقبل نبوته
باثنتي عشرة سنة، وكذلك عن ابن عياش " (مصباح
المتهجد: 560 ط حجر. وروى الفتال النيسابوري في " روضة الواعظين " عن جابر
بن عبد الله الأنصاري قال:
سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن ميلاد علي بن أبي طالب (عليه السلام)،
فقال: " لقد سألتني عن خير مولود ولد في شبه المسيح (عليه السلام) كان في
زماننا رجل زاهد عابد يقال له: المبرم بن دعيب بن الشقيان، قد عبد الله مائتين
وسبعين سنة، لم يسأل الله حاجة. فبعث الله إليه أبا طالب، فلما أبصره المبرم قام
إليه وقبل رأسه وأجلسه بين يديه، ثم قال له: من أنت ؟ فقال: رجل من تهامة، فقال:
من أي تهامة ؟ قال: من بني هاشم. فوثب العابد فقبل رأسه مرة ثانية ثم قال: يا
هذا، ان العلي الأعلى ألهمني الهاما. قال أبو طالب: وما هو ؟ قال: ولد يولد من
ظهرك، وهو ولي الله عزوجل. فلما كانت الليلة التي
ولد فيها علي (عليه السلام) أشرقت
الأرض، فخرج أبو طالب وهو يقول: أيها الناس، ولد في الكعبة ولي الله عزوجل
" (روضة الواعظين: 96.) ورواه ابن شهر آشوب في " المناقب " (المناقب
1: 358 ط قم.).) والكنجي الشافعي (ت 658) في كتابه " كفاية الطالب في مناقب
علي بن أبي طالب " مسندا (كفاية
الطالب :260). وروى المغازلي في "
المناقب " مرفوعا الى علي بن الحسين (عليهما السلام) قال: كنا عند الحسين (عليه السلام) إذ اقبلت امرأة قالت: أنا زبدة بنت
قريبة بن العجلان من بني ساعدة. فقلت لها: فهل عندك شئ تحدثينا به ؟ فقالت: إي
والله، حدثتني ام عمارة الساعدية: أ نها كانت ذات يوم في نساء العرب، إذ أقبل
أبو طالب كئيبا حزينا فقلت له: ما شأنك ؟ فقال: ان فاطمة بنت أسد في شدة من
المخاض. ثم أخذ بيدها وجاء بها الى الكعبة وقال لها: اجلسي على اسم الله " (المناقب
لابن المغازلي المالكي: ورواه عنه ابن الصباغ المالكي في الفصول المهمة: 14
ورواه عنه ابن البطريق الحلي من المائة السادسة مسندا الى علي بن الحسين (عليه
السلام)، كما في كتاب: علي وليد الكعبة: 47 ط النجف.). وروى ابن الصباغ المالكي
بسنده عن موسى بن جعفر (عليه
السلام) قال: " دخل النبي (صلى الله عليه وآله) المسجد الحرام يوما فرأى فيه أبا طالب مهموما مغموما. فقال له: يا
عم، ما لي أراك مغموما ؟ فقال: ان فاطمة قد أخذها الطلق. فأخذ النبي بيد أبي
طالب وأتيا بفاطمة الى الكعبة وادخلها النبي الكعبة وقال لها: اجلسي باسم الله،
فإن هذا المولود المكرم ينبغي أن يولد في هذا الموضع المحرم " (الفصول
المهمة: 14 ط الحيدرية.). وروى الصدوق في "
الأمالي " و " علل الشرائع " و " معاني الأخبار "
بسنده عن أبي حمزة الثمالي ثابت بن دينار عن سعيد بن جبير قال: قال يزيد بن
قعنب: " كنت جالسا
مع العباس بن عبد المطلب وفريق من بني عبد العزى، بإزاء بيت الله الحرام إذا
اقبلت فاطمة بنت أسد ام أمير المؤمنين، وكانت حاملا به لتسعة أشهر، وقد أخذها
الطلق، فقالت: " يا رب إني مؤمنة بك
وبما جاء من عندك من رسل وكتب، واني مصدقة بكلام جدي ابراهيم الخليل، وانه بنى
البيت العتيق فبحق الذي بنى هذا البيت، وبحق المولود الذي في بطني.. الا ما يسرت
علي ولادتي ". فرأينا البيت قد انشق عن ظهره ودخلت فاطمة فيه وغابت عن
أبصارنا وعاد الى حاله. فرمنا أن ينفتح لنا قفل الباب فلم ينفتح، فعلمنا ان ذلك
من أمر الله تعالى " (امالي الصدوق: 114 وعلل الشرائع 1: 135 ط النجف. ومعاني الأخبار: 60
ط النجف.). ورواه الطوسي في "
أماليه " بسنده عن الصادق (عليه السلام) عن آبائه، قال: " كان العباس بن عبد المطلب ويزيد بن قعنب جالسين ما بين
فريق من بني هاشم الى فريق من عبد العزى، بإزاء بيت الله الحرام، إذ أتت فاطمة
بنت أسد حاملة بأمير المؤمنين.. فوقفت بإزاء البيت الحرام - وقد أخذها الطلق -
فرمت بطرفها نحو السماء ودعت.. فلما دعت رأينا البيت قد انفتح من ظهره ودخلت
فاطمة فيه وغابت عن أبصارنا ثم عادت الفتحة والتزقت بإذن الله.. وبقيت فاطمة في البيت ثلاثة أيام، وأهل مكة يتحدثون بذلك في أفواه السكك، وتتحدث المخدرات في
خدروهن. فلما كان بعد ثلاثة أيام انفتح البيت من الموضع الذي كانت دخلت فيه،
فخرجت فاطمة وعلي على يديها "
(أمالي الطوسي 2: 317
بثلاثة طرق ورواه ابن شهر آشوب في المناقب 1: 359 عنه (عليه السلام) مختصرا.). وروى الفتال النيسابوري
في " روضة الواعظين " خبرا مختصرا عن علي بن الحسين (عليهما السلام) قال: " إن فاطمة بنت أسد، ضربها الطلق وهي في الطواف، فدخلت
الكعبة، فولدت أمير المؤمنين فيها " (روضة
الواعظين: 100.). وفي آخر خبر موسى بن جعفر (عليه السلام) قال: " فولدت عليا في الكعبة، طاهرا مطهرا لم يكن فيه كثافة (كذا)
وولد مختونا مقطوع السرة، ووجهه يضئ كالشمس، فسماه أبو طالب عليا، وحمله النبي
وأتى به الى البيت " (الفصول المهمة: 14 ط الحيدرية.). وفي عام الولادة قال
صاحب مجلة " العمران " المصرية: عبد المسيح الانطاكي: " وعام مولده عليه صلوات الله هو العام المبارك الذي بدئ فيه
برسول الله (صلى الله عليه وآله)، فأخذ يسمع الهتاف من الأحجار والأشجار ومن
السماء، وكشف عن بصره فشاهد أنوارا واشخاصا، وفي هذا العام ابتدأ بالتبتل
والإنقطاع والعزلة في جبل حراء. وكان (صلى الله عليه وآله) ييمن بذلك العام
وبولادة سيدنا علي (عليه السلام)، وكان يسميه " سنة الخير والبركة ". وعندما بلغته البشرى بولادة المرتضى قال المصطفى: " لقد ولد لنا الليلة
مولود، يفتح الله علينا به أبوابا كثيرة من النعمة والرحمة " وكان قوله هذا
أول نبؤته، فإن المرتضى - عليه صلوات الله - كان ناصره والمحامي عنه وكاشف
الغماء عن وجهه، وبسيفه ثبت الإسلام ورسخت دعائمه وتمهدت قواعده " (مجلة
العمران المصرية، كما في كتاب: علي وليد الكعبة: 61 ولم يعين عدد المجلة ولا
سنتها. علق الصحافي المصري عبد المسيح الأنطاكي بكلامه هذا على قصيدته "
العلوية المباركة " التي تحتوي على خمسة آلاف بيت في حياة أمير المؤمنين
(عليه السلام) من دون أن يستند في ذلك الى مصدر من حديث أو تأريخ، وان كان كلامه
هذا مما يساعد عليه الاعتبار بسائر الأخبار المعتبرة. وعلى المعتبر من الخبر في
تأريخ ولادته (عليه السلام) يكون عمره عند بعثة الرسول (صلى الله عليه وآله) عشر
سنين، وعلى ما رواه الطوسي عن ابن عياش وابن غياث يكون عمره في الثانية عشرة
وعلى الأكثر في الثالثة عشرة، وعند اعلان الدعوة وتعميمها في الخامسة عشرة أو
السادسة عشرة من عمره.). |
حلف
الفضول:
|
وانتهى الفجار في شوال، وفي ذي القعدة كان حلف الفضول (مروج الذهب 2: 270.). قال اليعقوبي " وكان سبب حلف الفضول: أن قريشا تحالفت أحلافا كثيرة على الحمية
والمنعة: فتحالف المطيبون، وهم: بنو عبد مناف، وبنو أسد، وبنو زهرة، وبنو " تيم "،
وبنو الحارث بن فهر، على أن لا يسلموا الكعبة، ما أقام جراء، وثبير، وما بل بحر
صوفة وصنعت عاتكة أو البيضاء بنت عبد المطلب طيبا فغمسوا أيديهم فيه (فسموا المطيبين). وتحالفت اللعقة، وهم: بنو عبد الدار، وبنو مخزوم، وبنو جمح، وبنو سهم، وبنو عدي، على أن
يمنع بعضهم بعضا ويعقل بعضهم عن بعض، وذبحوا بقرة فغمسوا أيديهم في دمها، (فسموا لعقة الدم، والأحلاف). فكانت قريش (أي الأحلاف) تظلم
في الحرم الغريب ومن لا عشيرة له: حتى أتى رجل من بني أسد بن خزيمة بتجارة
فاشتراها رجل من بني سهم (صرح البلاذري في أنساب الأشراف 2: 12 وكذلك المسعودي أنه: العاص بن
وائل السهمي أبو عمرو بن العاص، ولعل الرواة اتقوه فكنوا عنه ولم يصرحوا به.
ورواها ابن أبي الحديد 15: 25 عن الزبير بن بكار وزاد في الشعر: هل منصف من بني
سهم فمرتجع * ما غيبوا، ام حلال مال معتمر)
فأخذها السهمي وأبى أن يعطيه الثمن، فكلم قريشا واستجار بها وسألها اعانته على
أخذ حقه فلم يأخذ له أحد بحقه، فصعد الأسدي أبا قبيس فنادى بأعلى صوته: يا آل فهر لمظلوم بضاعته * ببطن مكة نائي الأهل والنفر إن الحرام لمن تمت
كرامته * ولا حرام لثوب الفاجر الغدر وقيل: إن
الرجل كان قيس بن شيبة السلمي باع متاعا من أبي خلف الجمحي وذهب بحقه، فقال هذا
الشعر. وقيل: بل قال: يا آل قصي كيف هذا في
الحرم * وحرمة البيت وأخلاق الكرم
اظلم، لا يمنع مني من ظلم
(اليعقوبي
2: 17.). فكان أول من سعى في ذلك
الزبير بن عبد المطلب فمشى في قبائل قريش فاجتمعوا في دار الندوة، وهم: بنو
هاشم، وبنو المطلب، وبنو زهرة، وبنو تيم، وبنو الحارث بن فهر، فاتفقوا على أ نهم
ينصفون المظلوم من الظالم. ثم ساروا الى دار عبد الله بن جدعان فتحالفوا هنالك. وقال الزبير ابن عبد المطلب في ذلك: حلفت لنعقدن حلفا عليهم
* وان كنا جميعا أهل دار نسميه الفضول إذا عقدنا
* يعز به الغريب لدى الجوار ويعلم من حوالي البيت أنا * اباة الضيم نهجر كل عار (مروج
الذهب 2: 271. الطبقات الكبرى 1: 129 ط بيروت.) ثم انصفوا الرجل التاجر الغريب من القرشي العاص بن وائل السهمي (البداية والنهاية 2: 292 والسيرة الحلبية 1: 132 وسيرة دحلان 1: 53.). فروى ابن اسحاق بسنده عن رسول الله - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - أ نه كان يقول
لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما احب أن لي به حمر النعم، ولو ادعى به
في الإسلام لأجبت " (سيرة ابن هشام 1: 141 وأنساب الأشراف 2: 12 - 15 بخمسة طرق وألفاظ
متقاربة واليعقوبي 2: 17 والبداية والنهاية 2: 293 وتأريخ الخميس 1: 261 والسيرة
الحلبية 1: 131 والسيرة النبوية لدحلان 1: 53 وروى البلاذري انه قدم مكة رجل
تاجر من خثعم ومعه ابنة له يقال لها: القتول، فعلقها نبيه بن الحجاج السهمي فلم
يبرح حتى نقلها الى منزله بالقهر والغلبة ! فدل أبوها على أهل حلف الفضول فأتاهم
فأخذوها من نبيه ودفعوها الى أبيها (أنساب الأشراف 2: 14).). ثم روى: أ نه كان بين الحسين بن علي (عليه السلام) وبين الوليد بن عتبة بن
أبي سفيان - والوليد يومئذ أمير على المدينة أمره عليها عمه معاوية بن أبي سفيان
- منازعة في مال كان بينهما بذي المروة - قرية بوادي القرى - فكان الوليد تحامل
على الحسين (عليه السلام) في حقه، فقال له الحسين: أحلف بالله لتنصفني من حقي أو
لآخذن سيفي ثم لأقومن في مسجد رسول الله، ثم لأدعون بحلف الفضول !. وكان عبد الله بن الزبير عند
الوليد فقال: وأنا
أحلف بالله لئن دعا به لآخذن سيفي ثم لأقومن معه حتى ينصف من حقه أو نموت جميعا
!. وبلغ هذا المسور بن مخرمة
بن نوفل الزهري فقال مثل ذلك !. وبلغ ذلك الى عبد الرحمن
بن عثمان التيمي فقال مثل ذلك !. فلما بلغ ذلك الوليد بن عتبة انصف الحسين من
حقه حتى رضي (عليه السلام) (سيرة ابن هشام 1: 142 وأنساب الأشراف 2: 14 والبداية والنهاية 2: 293
والسيرة الحلبية 1: 132 والسيرة النبوية لدحلان 1: 53 والكامل لابن الأثير 2:
42.) ثم روى: أن محمد بن جبير بن مطعم العدوي قدم على عبد الملك بن
مروان - وكان محمد بن جبير أعلم الناس بقريش - فقال له عبد الملك: يا أبا سعيد
ألم نكن نحن وانتم - يعني بني عبد شمس وبني نوفل ابن عبد مناف - في حلف الفضول ؟
قال: أنت أعلم، قال عبد الملك: لتخبرني يا أبا سعيد بالحق من ذلك. فقال: لا
والله، لقد خرجنا نحن وأنتم منه ! قال: صدقت (سيرة ابن
هشام 1: 143 والبلاذري في أنساب الأشراف 2: 14 عن الواقدي والكلبي وشرح النهج
للمعتزلي 15: 227 عن الزبير بن بكار.). وقد روى أبو هلال
العسكري الخبر الذي رواه ابن اسحاق عن تحامل الوليد على حق الإمام الحسين (عليه
السلام) في أرض له بذي المروة، على غير ما رواه ابن اسحاق، فقال: كان بين الحسين (عليه السلام) وبين معاوية كلام في أرض للحسين.
فقال الحسين لابن الزبير: خيره في ثلاثة والرابعة الصيلم - أي الصدام المسلح -:
أن يجعلك أو ابن عمر بيني وبينه، أو يشتريه مني، أو يقر بحقي ثم يسألني أن أهبه
له، فإن أبى فوالذي نفسي بيده لأهتفن بحلف الفضول (الأوائل
1: 73، 74.). وليس مفاد نداء ابن الزبير بحلف الفضول الى جانب الإمام الحسين
(عليه السلام) أ نه كان وفيا مخلصا في ذلك، بل كان الى معاوية وعامله الوليد
أقرب منه الى الحسين (عليه السلام)، ولكنه كان يتعزز بهذا وأمثاله. فقد جاء في رواية لأبي الفرج: أن معاوية قدم المدينة فلم يزره الإمام الحسين (عليه السلام)
فأظهر معاوية انزعاجه من ذلك، فأغراه به ابن الزبير ! فلم يستجب له معاوية، فقال
له ابن الزبير: أما والله اني واياه ليد عليك بحلف الفضول ! فقال له معاوية: من
أنت وحلف الفضول ؟ ! (الأغاني 8: 108 ط ساسي.). ومما ورد في قدوم محمد بن جبير بن مطعم على عبد الملك بن مروان
وسؤاله منه عن دخول بني عبد شمس في حلف الفضول، يظهر أ نهم كانوا بصدد تقرير هذا
المعنى على الناس، ولذلك روى راويتهم أبو هريرة: أن بني امية كانوا في حلف
الفضول، وأن أبا سفيان كان ممن دعا الناس إليه مع العباس بن عبد المطلب، ولعل
حشر العباس معه لتبعيد التهمة عن الرواية. وإن كان لم يتابعه عليه أحد بل أنكره
غير واحد من المؤرخين (السنن الكبرى للبيهقي. والبداية والنهاية 2: 291 والسيرة الحلبية 1:
131 والسيرة النبوية لدحلان 1: 53.). وقد قرر غير واحد من المؤرخين أن سببه كان عصيان العاص بن وائل
السهمي على الرجل التاجر الغريب وحبسه حقه، وقد سبق أن بني
سهم وبني عبد شمس كانوا
من الأحلاف في لعقة الدم، فيكون
معنى دعوة أبي سفيان إليه ودخول بني امية فيه أنهم
دخلوا في حلف خلاف حلف الأحلاف في لعقة الدم، وهذا ما لم يقله أحد. وقد روى ابن اسحاق عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أ نه قال: ما كان من حلف في الجاهلية فإن الإسلام لم يزده الا شدة (سيرة ابن
هشام 1: 140 وعن الترمذي 4: 146 وفتح الباري 8: 173 والمصنف للحافظ عبد الرزاق
10: 370 وفي هامشه عن مسلم والدارمي.). وروى ابن منظور هذا
الحديث في " لسان العرب " فقال: يريد المعاقدة على الخير ونصرة الحق، وبذا يجتمع هذا الحديث وحديث
آخر له هو " لا حلف في الإسلام " على أن يكون المراد من هذا الحديث
الثاني النهي عما كانت تفعله الجاهلية من المحالفة على الفتن والقتال بين
القبائل والغارات. وقيل: ان الحديث الثاني وهو " لا حلف في الإسلام " جاء لاحقا، قاله الرسول - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - زمن الفتح، فهو ناسخ للحديث الأول (لسان
العرب مادة حلف، وعنه في هامش سيرة ابن هشام 1: 140.). ولعل خصوصية بعد الفتح أن يشمل امضاؤه (صلى الله عليه وآله) في هذا
الحديث للحلف الذي كان قد عقده جده عبد المطلب مع جمع من خزاعة، فلما قتلت قريش
عددا من خزاعة استنصروا النبي استنادا إليه فكان فتح مكة مستندا إليه. وهذا يدل
على أن الإسلام بما أ نه مع مقتضيات العقل والفطرة الطبيعية الإنسانية لذلك
يستجيب لكل ما ينسجم مع أهدافه السامية مما فيه خير الانسان وصلاحه. وقد أمضى
هذين الحلفين من عبد المطلب مع خزاعة والزبير في حلف الفضول لما فيهما من الفضل
والعدل، ولو كان هناك أي حلف آخر ينسجم مع أهدافه لأمضاه كذلك. أما ما رووه عنه (صلى
الله عليه وآله) مما يدل على لزوم التمسك بكل الأحلاف الجاهلية فإنما هي دعوة
خبيثة مريضة في أغراضها اللا إسلامية. أما عن علل استجابة من استجاب لهذا الحلف فبإمكاننا أن نعد ثلاثة
عوامل: أ - استجابة لنداء الوجدان
الاخلاقي الانساني والدافع الفطري وحكم عقولهم. ب - حفاظا على قدسية مكة المكرمة وكرامة أهلها في نفوس العرب أي
ثأرا لكرامتهم. ج - دفاعا عن منافعهم ومصالحهم المادية في قوافلهم ورحلاتهم
التجارية ووفود العرب إليهم. |
رعي
النبي (صلى الله عليه وآله) للغنم:
|
لم يرو عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أن
رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يرعى الأغنام، اللهم الا ما رواه الشيخ
الصدوق في (علل الشرائع)، بسنده الى الامام
الصادق (عليه السلام) أ نه قال " ما بعث الله نبيا قط حتى يسترعيه الغنم،
يعلمه بذلك رعيه الناس " وأيضا فيه عنه
(عليه السلام) قال: " إن الله عزوجل أحب
لأنبيائه من الأعمال: الحرث والرعي، لئلا يكرهوا شيئا من قطر السماء " (علل الشرائع: 23.) ورواه الكليني في (فروع الكافي) هكذا " إن الله جعل أرزاق أنبيائه في الزرع والضرع، لئلا
يكرهوا شيئا من قطر السماء " (فروع الكافي
1: 403 أضف الى ذلك ما رواه الطبري في تأريخه بسنده عن محمد ابن الحنفية عن أبيه
علي (عليه السلام) قال: " سمعت رسول الله يقول: " قلت ليلة لغلام من
قريش كان يرعى معي بأعلى مكة - لو أبصرت لي غنمي حتى أدخل مكة - " (الطبري
2: 279 ورواه عنه ابن أبي الحديد في شرح النهج). وأضف إليه ما نقله الشيخ
الطبرسي في " إعلام الورى " عن علي بن ابراهيم القمي في كتابه قال:
" وكان بين الجبال يرعى غنما لأبي طالب " (اعلام الورى: 36 والمناقب
1: 43 وليس في تفسيره).). ورواه البخاري بسنده الى أبي
هريرة عنه أ نه كان يقول
" ما بعث الله نبيا الا رعى الغنم. فقال أصحابه: وأنت ؟ قال: نعم، كنت
أرعاها على قراريط، لأهل مكة " (فتح
الباري وبهامشه البخاري 4: 363 وسيرة ابن هشام 1: وعنه في السيرة الحلبية 1: 125
وسيرة دحلان 1: 51.) وبما أن الخبر مشتمل على جملة " لأهل مكة " لذلك ذكره
البخاري في كتاب الإجارة، ولذلك فسروا القراريط بأ نها: أجزاء الدراهم والدنانير
يشترى بها الحوائج الحقيرة ! ولكن في شرح الحديث في (فتح الباري) نقل عن ابراهيم الحربي انه
كان يقول: ان العرب ما كانت
تعرف القراريط، وانما هي اسم لمكان في مكة. ويؤيد هذا أن لفظ الخبر في بعض رواياته:
بالقراريط، وفي اخرى: بأجياد، مما يفيد أن القراريط وأجيادا اسم لمكان واحد أو
متداخل أو متقارب. ولا يضر لفظ: على قراريط، إذ هو اسم جبل كما نقله الطريحي في
(المجمع) عن الجوهري قال " وأما القيراط الذي جاء في الحديث فقد جاء تفسيره
فيه: أ نه مثل جبل احد " فيكون المعنى: أنه (صلى الله عليه وآله) قد رعى
الغنم على ذلك الجبل بأجياد، وهذا هو الأوفق بالاعتبار فان الرعي لا يكون في سهل
مكة في البلد. وحاول بعضهم أن يوجه فهم البخاري للحديث بما نقل في (فتح الباري)
عن بعضهم قولهم: لا
يعرف مكان في مكة بهذا الاسم. ورده السيد المرتضى العاملي بقوله: ان عدم
معروفيته الان لا يستلزم عدم معروفيته في ذلك الزمان (الصحيح
1: 109.). فلا يبقى الا أن نشك قويا في أن يكون (صلى الله عليه وآله) قد رعى
لغير أهله بأجر، ولا يجدي البخاري لفظ رواية عن أبي هريرة: لأهل مكة، فإن بعضها
يقول: لأهلي. وإذا كان الراوي هو أبو هريرة فلم يبق ما يعين معنى إجارة رسول الله نفسه لأهل مكة. على أن أبا هريرة ممن لا
يمكن الاعتماد عليه أصلا. هذا، وقد روى
اليعقوبي وابن كثير عن عمار بن ياسر أ نه قال: " أ نه ما كان أجيرا لأحد قط " (اليعقوبي
2: 21. والبداية والنهاية: 296.). وقد تقول في (فتح الباري) شرحا لفلسفة رعيه للغنم، وتبعه بعض كتاب السيرة كالحلبي وزيني دحلان (فتح
الباري 4: 364 وسيرة دحلان 1: 51 والسيرة الحلبية 1: 126 وقال فيه: ان رعي الغنم
صعب لأنه أصعب البهائم، وهو يوجب أن يستشعر القلب رأفة ولطفا، فإذا انتقل الى
رعاية البشر كان قد هذب أولا من الحدة الطبيعية والظلم الغريزي !.) ولا
نراه يتفق والقواعد العقائدية بشأن الأنبياء والمرسلين. فان صح رعيه للغنم أصلا
- وهو الصحيح - فلا علة له سوى
ما جاء في رواية الشيخ الصدوق عن الإمام الصادق (عليه السلام)، في كتابه (علل
الشرائع). ويمكن تفصيل ذلك التعليل بما نقله السيد
المرتضى العاملي من
قول البعض: إن الرعي فيه تحمل مسؤولية آحاد متفرقة، وهو يناسب المهمة التي سوف
توكل إليه، الأمر الذي من شأنه أن يروض النفس ويزيدها اندفاعا نحو طلب الخير
للآخرين من رعايته لهم والحرص على ما ينفعهم. وقد كان الله تعالى يهتم في رفع
مستوى تحمل وملكات وقدرات نبيه ليواجه المسؤولية العظمى، ولكن بالطرق العادية
والطبيعية، كما هو معلوم " (الصحيح 1: 110.). |
السفر
الثاني للنبي (صلى الله عليه وآله) الى الشام، وزواجه بخديجة:
|
روى القطب الراوندي في كتابه (الخرائج والجرائح)، عن جابر أ نه
قال: كان سبب تزويج خديجة
محمدا: أن أبا طالب قال: يا محمد: إني اريد أن ازوجك، ولا مال لي اساعدك به، وإن
خديجة قرابتنا، وتخرج كل سنة قريشا في مالها مع غلمانها، يتجر الرجل لها ويأخذ
وقر بعير مما أتى به. فهل لك أن تخرج ؟ قال: نعم. فخرج أبو طالب إليها وقال لها ذلك، ففرحت وقالت لغلامها ميسرة: أنت
وهذا المال كله بحكم محمد (صلى الله عليه وآله). وربحا في ذلك السفر ربحا
كثيرا. فلما انصرفا قال ميسرة: لو تقدمت يا محمد الى مكة وبشرت خديجة بما قد
ربحنا لكان أنفع لك ! فتقدم محمد على راحلته. وكانت خديجة في ذلك اليوم جالسة في غرفة لها مع نسوة، فظهر لها
محمد راكبا، ونظرت خديجة الى غمامة عالية على رأسه تسير بسيره !. فقالت: إن لهذا
الراكب لشأنا عظيما ليته جاء الى داري ! فإذا هو محمد قاصد الى دارها، فنزلت
حافية الى باب الدار ! فلما رجع ميسرة حدث: أ نه ما مر بشجرة ولا مدرة الا قالت:
السلام عليك يا رسول الله ! ولما رأى بحيرا الراهب الغمامة تسير على رأسه حيثما
سار تظلله النهار، خدمنا. فقالت: يا محمد اخرج واحضرني عمك أبا طالب الساعة. ثم بعثت الى (ابن (فيه وفي
الكافي 5: 375 والسيرة الحلبية 1: 129 أن ورقة كان عم خديجة، وهو غير صحيح لأن
ورقة هو ابن نوفل بن أسد وخديجة هي بنت خويلد بن أسد، فهما ابنا عم.) عمها
ورقة بن نوفل بن أسد: أن زوجني من محمد إذا دخل عليك. فلما حضر أبو طالب قالت: اخرجا الى (ابن) عمي ليزوجني من محمد، فقد قلت له في ذلك، فقاما
ودخلا على (ابن) عمها، وخطبها أبو طالب منه (البحار
16: 3 و 4 عن الخرائج: 140 بتصرف.). |
الخاطب
أبو طالب:
|
وروى الكليني في (فروع الكافي) بسنده عن أبي عبد الله الصادق (عليه
السلام) أ نه قال: لما أراد رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يتزوج خديجة بنت
خويلد، أقبل أبو طالب في أهل بيته ومعه نفر من قريش حتى دخل على ورقة بن نوفل
(ابن) عم خديجة، فابتدأ أبو طالب بالكلام فقال: " الحمد لرب هذا البيت،
الذي جعلنا من زرع ابراهيم وذرية اسماعيل، وأنزلنا حرما آمنا، وجعلنا الحكام على
الناس، وبارك لنا في بلدنا الذي نحن فيه. ثم ان ابن أخي هذا - يعني رسول الله - لا يوزن برجل من قريش الا رجح، ولا يقاس بأحد منهم الا عظم عنه،
ولا عدل له في الخلق، وان كان مقلا في المال، فإن المال رفد جار وظل زائل. وله
في خديجة رغبة ولها فيه رغبة. وقد جئناك لنخطبها اليك برضاها وأمرها. والمهر علي
في مالي، الذي سألتموه، عاجله وآجله. وله - ورب هذا البيت - حظ
عظيم ودين شائع ورأي كامل " ثم سكت أبو طالب. فتكلم ابن عمها وتلجلج،
وقصر عن جواب أبي طالب وأدركه القطع والبهر، وكان رجلا من القسيسين (وعليه
فلا يصح ما رواه في البحار 16: 19 عن الكازروني في كتابه (المنتقى) عن الواقدي
قال: فلما أتم أبو طالب خطبته تكلم ورقة بن نوفل فقال: " الحمد لله الذي
جعلنا كما ذكرت، وفضلنا على ما عددت، فنحن سادة العرب وقادتها، وأنتم أهل ذلك
كله، لا تنكر العشيرة فضلكم، ولا يرد أحد من الناس فخركم وشرفكم. وقد رغبنا
بالاتصال بحبلكم وشرفكم. فاشهدوا علي - معاشر قريش - بأني قد زوجت خديجة بنت
خويلد من محمد بن عبد الله على أربعمائة دينار " ثم سكت ورقة. وتكلم أبو
طالب وقال: قد احببت أن يشركك عمها، فقال عمها: اشهدوا علي - يا معشر قريش - أني
قد أنكحت محمد بن عبد الله خديجة بنت خويلد، وشهد علي بذلك صناديد قريش. فأمرت
خديجة جواريها أن يرقصن ويضربن بالدفوف ! وقالت: يا محمد مر عمك أبا طالب ينحر
بكرة من بكراتك واطعم الناس على الباب ! وهلم فنم القيلولة مع أهلك !.). فقالت خديجة مبتدئة: يا (ابن) عماه انك وان كنت أولى بنفسي مني في (الغياب) فلست أولى
بي من نفسي في الشهود. قد زوجتك يا محمد نفسي، والمهر علي في مالي، فأمر عمك
فلينحر ناقة فليولم بها، وادخل على أهلك. فقال أبو طالب: اشهدوا
عليها بقبولها محمدا، وضمانها المهر في مالها. فقال بعض قريش: وا عجباه ! المهر
على النساء للرجال ؟ ! فغضب أبو طالب غضبا شديدا
وقام على قدميه وقال: إذا
كانوا مثل ابن أخي هذا طلبت الرجال بأغلى الأثمان وأعظم المهر، وإذا كانوا
أمثالكم لم يزوجوا الا بالمهر الغالي ! ونحر أبو طالب ناقة. ودخل
رسول الله (صلى الله عليه
وآله) بأهله (البحار
16: 13، 14 عن فروع الكافي 5: 374.). |
من
تولى تزويج خديجة ؟ !
|
وروى الصدوق في: (كتاب من لا يحضره الفقيه)
مرسلا: أنه لما تزوج النبي خديجة بنت خويلد
خطبها أبو طالب الى أبيها - ومن الناس من يقول الى عمها - ثم روى الخطبة ثم قال:
فتزوجها ودخل بها من الغد، فكان أول ما حملت ولدت عبد الله بن محمد (صلى الله
عليه وآله) (البحار
عن كتاب من لا يحضره الفقيه 3: 397 ح 4398 وروى الخطبة الطبرسي في اعلام الورى:
140 وابن شهر آشوب في المناقب 1: 41، 42 عن الجويني في السيرة عن الحسن والواقدي
وأبي صالح والعتبي، وعن ابن بطة في الابانة، وعن الزمخشري في ربيع الابرار وفي
تفسيره، وعن الخرگوشي في شرف المصطفى وروى الخطبة اليعقوبي في تأريخه عن عمار بن
ياسر 2: 20 والأوائل 1: 162. والسيرة الحلبية 1: 139.). وروى ابن اسحاق في سيرته: أن خديجة بنت خويلد عرضت على رسول الله أن يخرج في مالها الى
الشام تاجرا مع غلامها ميسرة، فقبل رسول الله وخرج حتى قدم الشام، فباع سلعته
واشترى ما أراد، ثم أقبل قافلا الى مكة ومعه ميسرة، فلما قدم مكة على خديجة
حدثها ميسرة عن قول الراهب وعما كان يرى من اظلال الملكين اياه. فلما أخبرها
ميسرة بما أخبرها به بعثت الى رسول الله فقالت له: يابن عم، اني قد رغبت فيك
لقرابتك وسطتك في قومك وأمانتك وحسن خلقك وصدق حديثك. ثم عرضت عليه نفسها. فلما
قالت ذلك لرسول الله ذكر ذلك لأعمامه. فخرج معه عمه حمزة ابن عبد المطلب حتى دخل
على خويلد بن أسد، فخطبها إليه فتزوجها (سيرة ابن
هشام 1: 199 - 201 وليس في سيرة ابن هشام ما رواه الحلبي في سيرته 1: 138 عن ابن
اسحاق: أن خديجة قالت له: يا محمد الا تتزوج ؟ قال من ؟ قالت: أنا ! قال: ومن لي
بك ؟ أنت أيم قريش وأنا يتيم قريش ! وترده الأخبار المعتبرة في الباب سيما ما في
خطبة أبي طالب من نعت النبي (صلى الله عليه وآله) وبني هاشم.). بل مر أن الذي نهض معه (صلى الله عليه وآله) هو أبو طالب، وهو الذي
خطب خطبة النكاح، وكان أسن من حمزة، وهو الذي كفل محمدا، فلم يكن حمزة ليتزعم
الأمر دون أبي طالب، وأبو طالب هو أخو عبد الله لامه دون سائر إخوانه أبناء عبد
المطلب. وحمزة لا يكبر النبي الا بسنتين أو أربع. وانفرد ابن اسحاق
بأن خويلدا أبرم هذا الزواج، أما غير ابن اسحاق فقد ذكروا أن خويلدا كان قد قتل
في حرب الفجار أو مات في عامه (الخبر في طبقات ابن سعد 1: 132، 133 عن الواقدي قال: الثبت عندنا
المحفوظ عن أهل العلم من حديث عروة بن الزبير عن عائشة، وعن عكرمة عن ابن عباس:
أن عمها عمرو بن أسد زوجها رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم وأن أباها مات
قبل الفجار. وذكره الطبري 2: 282. والكامل 1: 25 ونقل أصل خبر وفاته في عام
الفجار المجلسي في البحار 16: 19 عن الكازروني في المنتقى عن الواقدي أيضا. وذكر
الخبر اليعقوبي 2: 20. وتأريخ الخميس 1: 264. والسيرة الحلبية 1: 138. وكشف
الغمة 2: 139 عن كتاب معالم العترة النبوية للجنابذي الحنبلي عن ابن عباس أيضا.
وذكر الطبرسي مثل ابن اسحاق في إعلام الورى: 139 ثم قال: وقيل: زوجها عمها عمرو
بن أسد.) وأن الذي زوج خديجة ابن عمها ورقة بن نوفل بن أسد كما مر، أو عمها
عمرو بن أسد (المصادر السابقة في الهامش 1.)، أو
أخوها عمرو بن خويلد بن أسد، كما في (الروض الانف) و (شرح المواهب). |
خديجة
تعرض نفسها على النبي (صلى الله عليه وآله):
|
وجاء في رواية اليعقوبي عن عمار بن ياسر ما يفيد أن خبر سفر النبي بأموال خديجة الى الشام وأن خديجة احبته حيث
حدثها غلامها ميسرة بأخباره، وأ نها بعثت الى النبي (صلى الله عليه وآله) فعرضت نفسها عليه... كان هذا قد شاع في الناس يومذاك فكانوا
يقولون: إنها استاجرته بشئ من أموالها، وكان عمار بن ياسر يقول " أنا أعلم
الناس بتزويج رسول الله خديجة بنت خويلد ... انه ما كان مما يقول الناس انها
استأجرته بشئ، ولا كان اجيرا لأحد قط... بل كنا نمشي يوما بين الصفا والمروة إذ بخديجة بنت خويلد واختها
هالة، فلما رأت رسول الله
جاءتني هالة اختها فقالت: يا عمار ما لصاحبك حاجة في خديجة ؟ قلت: والله ما
أدري. فرجعت فذكرت ذلك له، فقال: ارجع فواضعها وعدها يوما نأتيها فيه، ففعلت. فلما كان ذلك اليوم أرسلت الى عمرو بن أسد (عمها) وطرحت عليه حبرا
ودهنت لحيته بدهن أصفر... ثم جاء رسول الله في نفر
من أعمامه، يتقدمهم أبو طالب، فخطب أبو طالب فقال. ثم روى الخطبة المذكورة ثم
قال: فتزوجها وانصرف (اليعقوبي 2: 20 والبداية والنهاية: 295. ونقل الخبر محقق البحار
المرحوم الرباني الشيرازي بهامش البحار 16: 19 وعلق عليه يقول: " قلت: فيها
غرابة وشذوذ، ولم يرد ذلك من طرق الإمامية بل ورد من طريق لا يعتمد عليه "
وذلك لأنه يشتمل على أن خديجة سقته ذلك اليوم، أي الخمر، فلما أصبح أنكر ثم
أمضاه !). هذا، ولم يرد لفظ الاستيجار فيما نعلم من الأخبار الا في أخبار
ثلاثة: الأول: ما رواه الصدوق في (اكمال الدين) بسنده الى بكر بن عبد الله
الأشجعي عن آبائه: أن رفاق رسول الله في سفره الى الشام قالوا لابي المويهب الراهب عنه: انه يتيم أبي طالب أجير خديجة (كشف
الغمة 2: 135، 136. وذكر مثله الطبرسي في اعلام الورى: 139.). ورواه ابن شهر آشوب في (المناقب) (اكمال الدين: 186.).
الثاني: ما
ساقه ابن شهر آشوب في " المناقب " أيضا قال: كانت خديجة قد استأجرت
النبي (صلى الله عليه
وآله) على أن تعطيه بكرين
ويسير مع غلامها ميسرة الى الشام (مناقب آل
أبي طالب 1: 41 ط قم.). الثالث: ما
رواه الدولابي الحنفي في " الذرية الطاهرة " بسنده عن الزهري قال: لما
استوى رسول الله وبلغ أشده - وليس له كثير مال - استأجرته خديجة - بنت خويلد الى
سوق حباشة - وهو سوق بتهامة واستأجرت معه رجلا آخر من قريش. فقال رسول الله: ما
رأيت من صاحبة لأجير خيرا من خديجة (الذرية
الطاهرة: 49 ورواه الاربلي في كشف الغمة 2: 135، 136 ط تبريز عن كتاب "
معالم العترة النبوية " للجنابذي الحنبلي بسنده عن الزهري أيضا. وذكر مثله الطبرسي
في إعلام الورى: 139 ط النجف.) ورواه الطبري في تأريخه عن ابن سعد صاحب الطبقات بسنده عن الزهري
أيضا، لكنه عقبه يقول: " قال محمد بن سعد: قال الواقدي: فكل هذا مخلط
" (الطبري 3: 281، 282.). |
هل
كان النبي (صلى الله عليه وآله) أجيرا لخديجة أو مضاربا ؟
|
ولئن كان ما افتتحنا به الفصل من خبر (الخرائج) عن جابر لا يعين
نوع المعاملة وانما يقول " يتجر الرجل لها ويأخذ وقر بعير مما أتى به
" مما هو أعم من الإجارة والوكالة والمضاربة، فان ما جاء في التفسير
المنسوب الى الإمام الحسن العسكري عن أبيه الهادي (عليهما السلام) يصرح بذلك
فيقول: ان رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يسافر الى الشام مضاربا لخديجة
بنت خويلد (التفسير المنسوب الى
الإمام العسكري (عليه السلام): 16 كما في البحار 17: 308.) وكذلك
ابن اسحاق يقول " كانت
خديجة بنت خويلد امرأة تاجرة ذات مال وشرف، تستأجر الرجال في مالها وتضاربهم
اياه بشئ تجعله لهم منه " (سيرة ابن
هشام 1: 199 ورواه عنه الطبري 2: 280 وعنه الجنابذي الحنبلي في معالم العترة
النبوية كما في كشف الغمة 2: 134. وعلق المحقق في سيرة ابن هشام يقول: المضاربة
المقارضة. وقال الإمام الخميني في تحرير الوسيلة 1: 608 " وتسمى المضاربة
قراضا، وهي عقد واقع بين شخصين على أن يكون رأس المال في التجارة لأحدهما والعمل
من الآخر، ولو حصل ربح يكون بينهما " ولعل الأمر قد التبس على المحقق.). وعلى هذا فقد يكون سفره (صلى الله عليه وآله) الى الشام لا لكونه
أجيرا لخديجة، بل مضاربا بأموالها. ومجمل القول: إن
رواية اليعقوبي عن عمار بن ياسر تنفي أن يكون النبي أجيرا لأحد حتى خديجة، كما
تنفي أن يكون قد رعى الغنم لأحد من المكيين، كما ادعي عن أبي هريرة. والعمل لا يتنافى مع العبقريات والنبوات، ولا يضع من شأن الانسان
مهما كان، بل هو من أفضل الطاعات إذا كان في سبيل العيال والأولاد وخير الناس،
ولكن تأريخ محمد منذ ولادته الى أن بلغ سن الرجولة وأصبح زوجا لخير امرأة عرفها
تأريخ المرأة، ومواقف جده ثم عمه والمراحل التي عاش فيها معهما عزيزا موفور
الكرامة، لا يفارقهما في ليل أو نهار، يبذلان في سبيل راحته واطمئنانه الغالي
والنفس، من تتبع ذلك وأدرك أنهما منذ طفولته كانا يترقبان له مستقبلا يهز العالم
من أقصاه الى أقصاه ويحدث تحولا في تأريخ البشرية، وأنهما كانا يخافان عليه دعاة
الأديان وطواغيت العرب.. لابد وأن يقف على أقل التقادير موقف المشكك من تلك المرويات
التي تنص على أ نه كان يرعى الغنم للمكيين بالقراريط، ويذهب بعد ذلك أجيرا الى
الشام في تجارة خديجة بقسم من الأرباح، سيما بعد رواية اليعقوبي عن عمار بن ياسر
أ نه لم يكن أجيرا لأحد من الناس، وأن زواجه من خديجة لم يكن مسبوقا بمعاملة
بينهما، بل كان بناء على رغبتها بعد أن وجدت فيه الرجل الذي يمكن أن ترتاح إليه،
وقد بلغت الأربعين، وأشراف قريش يطمعون في زواجها بالطمع في ثرائها. أما محمد بن
عبد الله (صلى الله عليه وآله) فقد وجدت فيه حسب المعلومات التي توفرت لديها عنه
ضربا آخر من الرجال لا تستغويه متعة الدنيا، فطلبته الى نفسها وأرسلت إليه من
يشجعه على خطبتها من عمها أو ابن عمها. وليس بغريب على المرأة الفاضلة كخديجة أن تطلب لنفسها محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله) وتفضله على
سادة مكة وأشرافها، فلقد كان في القمة في صفاته التي لم يعرف العرب لها مثيلا
ماضيهم وحاضرهم. واجتهد خصومه أن يجدوا في حياته ولو نزوة تخدش تأريخه المجيد،
أو مغمزة منه لنيل جاه أو اصطياد ثروة أو انحراف مع غرائز الشباب التي تثور
وتتمرد أحيانا على العقل والخلق والحكمة، فلم يجدوا شيئا من ذلك. وكان قد جمع
الى ذلك من صباحة الوجه وجمال التركيب ما لم يتوفر في أحد سواه كما وصفوه: فقد جاء في رواية عمرو بن شمر عن جابر أ نه قال: قلت لأبي جعفر محمد بن علي الباقر صف لي رسول الله. قال: كان نبي
الله أبيض الوجه مشربا بحمرة، أدعج العينين، مقرون الحاجبين، شثن الأطراف كأن
الذهب افرغ على براثنه، عظيم مشاشة المنكبين. إذا التفت التفت جميعا من شدة
استرساله. سربته سائلة من لبته الى سرته كأنها وسط الفضة المصفاة، وكأن عنقه الى
كاهله إبريق فضة، يكاد أنفه إذا شرب الماء أن يرد الماء. وإذا مشى تكفأ كأنه
ينزل من صبب، لم ير مثل نبي الله قبله ولا بعده (الكافي 1: 443.).
إذن، فليس بغريب إذا خطبته خديجة لنفسها، وظلت تشاطره آلامه وتناصره بقلبها وعقلها ومالها حتى لحقت بربها
قبل هجرته الى المدينة بسنة أو سنتين عن خمسة وستين عاما (انظر
سيرة المصطفى: 62، 63.). |
أوهام
واهية:
|
ولكن ليس معنى هذا أن نصدق ما نقله الحلبي في سيرته: أ نه دخل على
خديجة قبل التزويج، فأخذت يده فضمته الى صدرها ! (السيرة
الحلبية 1: 140.) كما لا نشك في كذب ما نقله: أن عمها كان يأنف من أن يزوجها من محمد يتيم أبي طالب فاحتالت
عليه هي حتى سقته الخمر، فزوجها في حال سكره، فلما أفاق ووجد نفسه أمام الأمر
الواقع لم يجد بدا من القبول (السيرة الحلبية 1: 138، 140.) مما يتناقض وأخلاق الرسول الكريم وخديجة ام المؤمنين، ولا نراه الا كذبا موضوعا لم يقصد به سوى الحط والوضع من كرامة
النبي الكريم وتنقيصه من قبل أعداء الاسلام أو الحمقى والمغفلين. ونعوذ بالله من
هذا الهراء (انظر الصحيح للسيد المرتضى 1: 117 - 119.). وان كون خديجة هي التي عرضت نفسها على النبي، وأ نه لم يكن هو الذي
تقدم بطلب يدها، لخير جواب لما جاء في كلمات بعض المستشرقين من اتهام باطل بأ نه
(صلى الله عليه وآله) انما تزوج خديجة طمعا في مالها. ولم يبق هذا التقدير والحب
من خديجة للنبي من طرف واحد، بل قابله النبي بالحب والتقدير لها في أيام حياتها
وبعد مماتها، حتى لقد كان ذلك يثير بعض أزواجه. ويرى الشيخ آل ياسين هذا دليلا
آخر على بطلان هذه الدعوى الواهية (كتاب
النبوة: 63.). بل إن حياة النبي من بدايتها الى نهايتها لخير شاهد على أ نه ما
كان يقيم للمال أي وزن ! وقد انفقت خديجة أموالها برغبتها في سبيل الله والدعوة
الى دينه وليس على النبي وملذاته. وهكذا تفعل الحرة العاقلة اللبيبة كما فعلت خديجة، فلا تغرها بهرجة الدنيا وزخرفها وزبرجها، ولا تبحث عن المال
والشهرة، ولا عن اللذة والشهوة.. وانما يكون نظرها الى الأخلاق الفاضلة والسجايا
الكريمة، لأنها هي التي تسخر المال والجاه والقوة في سبيل الانسانية (انظر:
الصحيح للسيد المرتضى 1: 119، 120.). |
دوافع
زواج النبي (صلى الله عليه وآله):
|
والماديون الذين ينظرون الى كل شئ من ناحية المال والمادة، يزعمون:
أن خديجة بما أ نها كانت ذات مال تتاجر به، كانت أحوج ما تكون الى رجل "
أمين " لإدارة امور تجارتها، لذلك اندفعت للزواج بمحمد " الصادق
الأمين " وكان النبي (صلى الله عليه وآله) يعلم بوضعها المالي وحياتها
الكريمة لذلك قبل خطوبتها مع ما بينهما من تفاوت العمر ! الا أن الذي نراه في التأريخ هو أن دوافع خديجة للزواج بالصادق الأمين كانت دوافع معنوية لا
مادية، والشاهد لذلك: 1 - ما رواه ابن اسحاق قال: وكانت خديجة قد ذكرت لورقة بن نوفل بن أسد - ابن عمها -. ما ذكر
لها غلامها ميسرة من قول الراهب، وما كان يرى منه إذ كان الملكان يظلانه. وكان
ورقة نصرانيا قد تتبع الكتب وعلم من علم الناس فقال لها: لئن كان هذا حقا يا
خديجة فان محمدا لنبي هذه الامة، وقد عرفت ا نه كائن لهذه الامة نبي ينتظر، هذا
زمانه (سيرة ابن هشام 1:
203.). 2 - ان سبقها الى الإيمان بالإسلام ورسالة رسول الله (صلى الله عليه
وآله) بحيث كانت أول امرأة
آمنت به، لما يشهد في صفحات التأريخ بأن زواجها كان منبعثا من ايمانها وبطهارة
الصادق الأمين، وان حياة خديجة وما ورد بشأنها من الروايات والأحاديث لما يوضح
هذا الموضوع بما لا يدع فيه أي شبهة، على من أراد التفصيل في ذلك أن يراجع
الروايات الواردة في فضلها وفضيلتها. |
عمر
خديجة ومهرها:
|
روى الدولابي في كتابه: " الذرية الطاهرة " بسنده عن عمار بن أبي عمار، عن ابن عباس.. ثم قال: وبلغني أن رسول
الله (صلى الله عليه وآله) تزوج خديجة على اثنتي عشرة اوقية ذهبا، وهي يومئذ
ابنة ثمان وعشرين سنة (الذرية الطاهرة: 52 وعنه في كشف الغمة 2: 139. وروى الصفار عن حماد
بن عيسى قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: قال أبي: ما زوج رسول الله (صلى
الله عليه وآله) شيئا من بناته ولا تزوج شيئا من نسائه على أكثر من اثنتي عشرة
اوقية ونش، يعني نصف اوقية (البحار 22: 197، 198 عن قرب الاسناد: 10). وروى الخبر الكليني بسنده عنه قال: سمعته يقول: قال أبي: ما زوج رسول
الله (صلى الله عليه وآله) ساير بناته ولا تزوج شيئا من نسائه على أكثر من اثنتي
عشرة اوقية ونش. والاوقية: أربعون درهما، والنش: عشرون درهما. ثم روى عن حماد عن ابراهيم
بن أبي يحيى عن الصادق (عليه السلام) قال: وكانت الدراهم وزن ستة يومئذ. وروى
بسنده عن حذيفة بن منصور عنه (عليه السلام) قال: كان صداق النبي (صلى الله عليه
وآله) اثنتي عشرة اوقية ونشا، والاوقية: أربعون درهما، والنش: عشرون درهما، وهو
نصف الاوقية. وروى بسنده عن معاوية بن وهب قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام)
يقول: ساق رسول الله (صلى الله عليه وآله) الى أزواجه اثنتي عشرة اوقية ونشا،
والاوقية: اربعون درهما، والنش: نصف الاوقية: عشرون درهما، فكان ذلك خمسمائة
درهم. قلت: بوزننا ؟ قال: نعم. وروى بسنده عن أبي العباس قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن
الصداق هل له وقت (يعني الحد للمهر قال: لا، ثم قال: كان صداق النبي (صلى الله
عليه وآله) اثنتي عشرة اوقية ونشا، والنش نصف الاوقية، والاوقية: اربعون درهما،
فذلك خمسمائة درهم (البحار 22: 205، 206 عن فروع الكافي 2: 20). وروى الصدوق بسنده عن الصادق
(عليه السلام) قال: ما تزوج رسول الله (صلى الله عليه وآله) شيئا من نسائه ولا
زوج شيئا من بناته على اكثر من اثنتي عشرة أوقية ونش، والاوقية: أربعون درهما،
والنش: عشرون درهما (البحار 22: 198 عن معاني الأخبار: 64، 65). وكذلك ذكر المهر الطبرسي في إعلام الورى: 140 مرسلا وابن شهر آشوب في
المناقب 1: 161 عن (تاج التراجم). ويبدو من لحن هذه الأخبار أنها ناظرة الى رد
ما كان يروى بغير هذا المعنى في مبلغ صداق ازواج النبي (صلى الله عليه وآله) ولا
سيما خديجة رضي الله عنها.). ونقل ذلك عنه الإربلي في " كشف الغمة " بواسطة كتاب
الجنابذي (كشف الغمة 2: 137.)، ثم نقل عن الجنابذي قوله: " وعن ابن عباس: أ نه تزوجها وهي
ابنة ثمان وعشرين سنة " (كشف الغمة 2: 139.) ولم يسنده الى أي سند، وما في كتاب الدولابي ليس كذلك، بل روى
خبرا عن عمار بن أبي عمار، عن ابن عباس - فيما يحسب ابن حماد - (كما في الكتاب)
في تزويج خديجة بمباشرة أبيها ووليمتها لذلك. ثم قال:
وبلغني.. وذكر مهرها وعمرها كما مر. والظاهر أن القائل: وبلغني هو ابن حماد
الدولابي - كما فهم كذلك الاربلي - ولا ابن عباس، ولكن خلط ابن الخشاب الجنابذي
فنابذ الفهم والنقل الصحيح فنسب ذلك الى ابن عباس على غير أساس. والله هو العاصم من الخطأ في القياس والمقياس، ومن وساوس الخناس
في صدور الناس. وعلى هذا، فينحصر الخبر بكون
عمر خديجة عند زواجها بالرسول في الثامنة والعشرين، في مرفوعة الدولابي فحسب،
ومن دون أن تصح نسبة ذلك الى ابن عباس. أما الخبر المشتهر عن كونها
في الأربعين من عمرها:
فاليعقوبي لم يصرح بذلك ولكنه ذكر في وفاتها أنها توفيت " ولها خمس وستون
سنة " (اليعقوبي
2: 35.) وهذا يقتضي أن
يكون عمرها حين زواجها حسب المشهور أربعين سنة. أما الطبري فقد نقل عن الكلبي قوله: " وخديجة يومئذ ابنة أربعين سنة " (الطبري
3: 280.). والمسعودي في " مروج الذهب " قال: " وهي يومئذ بنت أربعين " وفي " التنبيه والإشراف
" أ نها توفيت ولها خمس وستون سنة (مروج
الذهب 2: 287 والتنبيه والاشراف: 199، 200.). ونقل سبط ابن الجوزي عن الواقدي قوله: توفيت وهي بنت خمس وستين سنة (تذكرة
الخواص: 304 ط النجف.) والاربلي
في " كشف الغمة "
نقل عن " معالم العترة النبوية " للجنابذي عن ابن سعد صاحب الطبقات:
يرفعه الى حكيم بن حزام قال: " توفيت خديجة في شهر رمضان سنة عشر من
النبوة، وهي ابنة خمس وستين " (كشف
الغمة 2: 139.) فيكون عمرها في زواجها أربعين سنة. والكازروني قال: " فتزوجها وهو ابن خمس وعشرين سنة، وخديجة يومئذ بنت أربعين
سنة " (بحار الأنوار 16: 19.). ومعنى كل هذا أن المؤرخين القدامى
كالكلبي والواقدي وكاتبه ابن سعد واليعقوبي متفقون على المشهور في سن خديجة في
زواجها أي الأربعين، وان كان الاسناد الوحيد
ينحصر في حكيم بن حزام إذ يذكر تأريخ وفاتها
(عليها السلام) وهي عمته، إذ هو حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد، فهو أعلم بها، ولا يعارضه شئ اللهم
الا ما انفرد به ابن حماد الدولابي بقوله: وبلغني.. من غير اسناد، فلا يصح
اعتماده. |
هل
كانت خديجة متزوجة ؟
|
قال ابن هشام:
" وكانت قبله عند أبي هالة بن مالك.. فولدت له هند بن أبي هالة، وزينب بنت
أبي هالة. وكانت قبل أبي هالة عند عتيق ابن عابد المخزومي فولدت له: عبد الله،
وجارية تزوجها صيفي بن أبي رفاعة " (ابن هشام
4: 293.). أما الطبري فقد
روى عن الكلبي عن أبيه قال: " وكانت قبله عند عتيق بن عابد المخزومي...
فولدت لعتيق جارية، ثم توفي عنها. وخلف عليها أبو هالة بن زرارة بن نباش... ثم
توفي عنها فخلف عليها رسول الله وعندها هند بن أبي هالة " (الطبري
3: 161.). وروى الدولابي في " الذرية الطاهرة " بذلك أخبارا ثلاثة عن الزهري ومحمد بن اسحاق وقتادة بن دعامة،
وروى رابعا عن الليث بن سعد فعكس فذكر أبا هالة ثم عتيق (الذرية
الطاهرة: 45 - 47.) فهو مردود، وخبر قتادة نقله الاربلي في كتابه (كشف
الغمة 2: 138، 139.). وقال ابن شهر آشوب في كتابه (المناقب) في ترتيب أزواجه: تزوج بمكة أولا خديجة بنت خويلد. قالوا: وكانت
عند عتيق بن عائذ المخزومي، ثم عند أبي هالة زرارة بن نباش الاسيدي (مناقب آل
أبي طالب 1: 159.). وروى أحمد البلاذري وأبو
القاسم الكوفي في كتابيهما، والمرتضى في (الشافي) وأبو جعفر في (تلخيص الشافي): أن النبي تزوج بها وكانت عذراء. يؤكد ذلك ما ذكر في كتابي (الأنوار) و (البدع): أن رقية وزينب كانتا ابنتي هالة اخت خديجة (المناقب
1: 159. والظاهر أنه يقصد بكتاب الأنوار: كتاب الأنوار ومفتاح السرور والأفكار
لأبي الحسن البكري المتقدم الذكر سابقا، وهو مخطوط، سرد عنه المجلسي قصة زواجه
من صفحة 20 الى 77 ج 16 ثم قال " انما أوردت تلك الحكاية (!) لاشتمالها على
بعض المعجزات والغرائب (!) وان لم نثق بجميع ما اشتملت عليه، لعدم الاعتماد على
سندها كما أومأنا إليه، وان كان مؤلفه من الأفاضل والأماثل " يقول ذلك لأنه
التبس عليه ببكري آخر هو من مشايخ الشيخ الشهيد، كما قال قبل هذا، وعلق عليه
المحقق الرباني الشيرازي بأن هذا البكري ليس هو البكري من مشايخ الشيخ الشهيد،
بل هو متقدم عليه وعلى ابن تيمية المتوفى 728 ه ومعروف بالكذب وقد حكى هو أيضا:
انها كانت قد تزوجت قبله برجلين أحدهما عمرو الكندي (!) والثاني عتيق بن عائذ
(البحار 16: 22). وكتاب (البدع) هو كتاب أبي القاسم الكوفي المذكور قبل ذلك، وهو
(الاستغاثة في بدع الثلاثة) وقال فيه: ان إلاجماع من الخاص والعام من أهل الآثار
ونقلة الأخبار على أنه لم يبق من اشراف قريش ومن ساداتهم وذوي النجدة منهم الا
من خطب خديجة ورام تزويجها فامتنعت على جميعهم من ذلك، فكيف يجوز - في نظر أهل
الفهم - أن تكون خديجة يتزوجها أعرابي من تميم، وتمتنع من سادات قريش وأشرافها ؟
! ألا يعلم ذوو التمييز والنظر أنه من أبين المحال وافظع المقال ؟ ! (ص 70). والإجماع - فيما نعلم - من أهل الآثار ونقلة الأخبار من الخاص والعام
على خطبة خديجة من قبل جميع أشراف قريش، اللهم الا ما انفرد بحكايته (!) البكري
المذكور آنفا فيما حكاه مما هو أشبه بقصص العامة من التأريخ المسند والخبر
المعتبر قال: فلما ماتا خطبها عقبة بن أبي معيط، والصلت بن أبي مهاب - ولكل
منهما أربعمائة عبد وأمة - وخطبها أبو جهل بن هشام، وأبو سفيان، وخديجة لا ترغب
في واحد منهم (البحار 16: 22). وأما (تلخيص الشافي) فلا يبقى الا هو، والظاهر أنه أخذه من كتاب
أبي القاسم الكوفي، وقد عرفت حاله ومستنده.) ! أما الطبرسي فقد ذكر الخبر بلا خلاف فيه (اعلام الورى: 139.)
ونقله عنه المجلسي في (البحار) كذلك أيضا (البحار
22: 220 وعكس في (الاستيعاب) وفي (شرح المواهب) فقالا: كانت تحت أبي هالة بن
زرارة التميمي (لا التيمي) ومات أبو هالة في الجاهلية وقد ولدت له هندا، فهو أخو
فاطمة بنت خديجة، وكان هند فصيحا بليغا وصافا فروى عنه الحسن (عليه السلام) حديث
صفة النبي قال: حدثني خالي هند بن أبي هالة (*). وقد شهد بدرا وقيل: احدا. وقتل
مع علي (عليه السلام) يوم الجمل. وولدت خديجة لأبي هالة أيضا هالة بن أبي هالة.
وبعد تزوجها عتيق بن عابد (كذا) المخزومي فولدت له هندا بنت عتيق، وقد أسلمت
وصحبت. راجع ترجمة خديجة في (الاستيعاب).). |
أولاد
خديجة من النبي (صلى الله عليه وآله):
|
روى الصفار بسنده عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: ولد لرسول الله (صلى
الله عليه وآله) من
خديجة: القاسم والطاهر، وأم كلثوم، ورقية، وزينب وفاطمة (البحار
22: 151 عن قرب الإسناد: 6 الصواب تقديم زينب على فاطمة طبقا للخبر التالي. (*)
روى الحديث الشيخ الصدوق في معاني الأخبار: 79 الحيدري. والشيخ الطوسي في مكارم
الاخلاق: 7 وابن الأثير في اسد الغابة 5: 72 ط. اسماعيليان. وراجع: نسب قريش
لمصعب الزبيري: 22 واسد الغابة 5: 12 و 13 و 71 والإصابة 3: 611، 612 والسيرة
الحلبية 1: 140. فمن الصعب جدا دعوى ابن شهر آشوب بكارتها وانكار زوجيها
السابقين وأولادها منهم بما يتضمن ذلك من خبر الحسن المجتبى عن خاله هند في صفة
النبي 9 ثم ما الداعي الى ذلك ؟ !). وروى
الصدوق بسنده عن الصادق (عليه السلام) قال: ولد لرسول الله (صلى الله عليه وآله) من خديجة: القاسم
والطاهر - وهو عبد الله - وام كلثوم، ورقية، وزينب وفاطمة (المصدر
عن الخصال 2: 37. وروى فيه بسنده عن الصادق عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)
في خبر قال: " وان خديجة رحمها الله ولدت مني طاهرا - وهو عبد الله وهو
المطهر - وولدت مني القاسم، وفاطمة ورقية وام كلثوم وزينب ".). وقال الكليني: ولد
له منها قبل مبعثه: القاسم، ورقية، وزينب وام كلثوم، وولد له بعد المبعث: الطيب
والطاهر وفاطمة وروى أيضا: أنه لم يولد بعد المبعث إلا فاطمة (عليها السلام)،
وان الطيب والطاهر ولدا قبل مبعثه (اصول الكافي 1: 439، 440.). وقال الشيخ الطبرسي: فأول ما حملت ولدت عبد الله بن محمد وهو
الطيب " الطاهر " والناس يغلطون فيقولون: ولد له منها أربعة بنين
القاسم وعبد الله والطيب والطاهر، وانما ولد له منها ابنان، الثاني: القاسم،
وقيل: ان القاسم أكبر، وهو بكره، وبه كان يكنى. وأربع بنات: زينب ورقية وام
كلثوم وفاطمة (اعلام
الورى: 140.). وقال ابن شهر آشوب: أولاده: وله من خديجة: القاسم وعبد الله، وهما الطاهر والطيب، وأربع بنات: زينب ورقية
وام كلثوم وفاطمة.. وفي (الأنوار)، و (الكشف)، و (اللمع)، وكتاب البلاذري: أن
زينب ورقية كانتا ربيبتيه من جحش. فأما القاسم والطيب فماتا بمكة صغيرين، مكث
القاسم سبع ليال (المناقب 1: 161، 162.). وروى المجلسي عن الكازروني عن ابن عباس قال: أول من ولد لرسول الله بمكة قبل النبوة القاسم وبه كان يكنى، ثم
ولد له زينب، ثم رقية، ثم فاطمة، ثم ام كلثوم، ثم ولد له في الإسلام عبد الله
فسمي الطيب والطاهر. وامهم جميعا خديجة بنت خويلد. وكان أول من مات من ولده
القاسم ثم مات عبد الله بمكة، فقال العاص بن وائل السهمي. قد انقطع ولده فهو
ابتر، فأنزل الله تعالى * (ان شانئك هو الأبتر) * (الكوثر: 3.). وقيل: ان الذكور من أولاده ثلاثة والبنات أربع: أولهن زينب، ثم القاسم، ثم ام كلثوم، ثم فاطمة، ثم رقية، ثم عبد
الله وهو الطيب والطاهر (البحار
22: 166 عن (المنتقى في مولد المصطفى) الباب الثامن فيما كان سنة خمس وعشرين من
مولده.). وقال ابن اسحاق:
ولدت لرسول الله ولده: القاسم - وبه كان يكنى - والطاهر، والطيب، وزينب، ورقية،
وام كلثوم، وفاطمة (عليهم السلام). فأما القاسم والطيب والطاهر فهلكوا في
الجاهلية، وأما بناته فكلهن أدركن الإسلام فأسلمن وهاجرن. وقال ابن هشام:
أكبر بنيه القاسم، ثم الطيب، ثم الطاهر، وأكبر بناته رقية، ثم زينب، ثم ام
كلثوم، ثم فاطمة (سيرة ابن
هشام 1: 202.). وقال اليعقوبي:
ولدت له قبل أن يبعث: القاسم، ورقية، وزينب، وام كلثوم، وبعد ما بعث: عبد الله
وهو الطيب والطاهر، - لانه ولد في الإسلام. وفاطمة (اليعقوبي 2: 20.).
روى الطبري عن هشام الكلبي عن أبيه قال: فولدت لرسول الله ثمانية: القاسم والطيب، والطاهر، وعبد الله،
وزينب، ورقية، وام كلثوم، وفاطمة (الطبري 3: 161.). وقال المسعودي:
ولد له - من خديجة -
القاسم - وبه كان يكنى وكان
أكبر بنيه سنا - ورقية، وام كلثوم، وولد له بعد ما بعث: عبد الله - وهو الطيب
والطاهر لانه ولد في الإسلام، وفاطمة (مروج
الذهب 2: 291.). وعلق المحقق على قول ابن اسحاق بموت القاسم قبل الإسلام يقول: في موت القاسم في الجاهلية خلاف، فقد ذكر السهيلي في (الروض
الانف) عن الزبير " أن القاسم مات رضيعا، وأن رسول الله - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - دخل على خديجة بعد موت القاسم وهي تبكي، فقالت: يا رسول الله لقد
درت لبينة القاسم، فلو كان عاش حتى يستكمل رضاعه لهون علي ! فقال: ان شئت أسمعتك صوته في الجنة ؟ فقالت: بل اصدق الله ورسوله ثم قال: وفي هذا دليل على أن القاسم
لم يهلك في الجاهلية (هامش سيرة ابن هشام 1: 202 عن (الروض الانف).). وروى الكليني في (فروع الكافي) بسنده عن عمرو بن شمر عن جابر عن
الإمام الباقر (عليه السلام) قال: دخل رسول الله على خديجة حين مات القاسم ابنها وهي تبكي، فقال
لها: ما يبكيك ؟ فقالت: درت دريرة فبكيت. فقال: يا خديجة أما ترضين إذا كان يوم
القيامة أن تجيئي الى باب الجنة وهو قائم فيأخذ بيدك فيدخلك الجنة وينزلك
أفضلها. وذلك لكل مؤمن. إن الله أحكم وأكرم أن يسلب المؤمن ثمرة فؤاده ثم يعذبه
بعدها أبدا (البحار 16: 16 و 19 عن فروع الكافي 1: 59.). والقاسم - كما مر -
بكر أولاده وأكبرهم ولا اختلاف في ا نه ولد وبعده ثلاثة من اخواته في الجاهلية،
وقد نقل المجلسي عن الكازروني قال: قيل: كان بين كل ولدين لخديجة سنة، وقيل: ان
القاسم - والطيب - عاشا سبع ليال، وعن جبير بن مطعم قال: مات القاسم وهو ابن
سنتين (البحار 22: 166 عن
(المنتقى...) للكازروني.) اذن فلا يكون موته الا في الجاهلية أيضا. وقد روى الكليني في (فروع الكافي) بسند آخر عن عمرو بن شمر عن جابر عن الإمام الباقر (عليه السلام)
أيضا قال: توفي طاهر ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله) فنهى رسول الله خديجة عن البكاء، فدخل عليها وهي تبكي فقال لها: ما يبكيك ؟ ألم أنهك ؟ ! فقالت:
بلى يا رسول الله، ولكن درت عليه الدريرة فبكيت. فقال لها: أما ترضين أن تجديه
قائما على باب الجنة، فإذا رآك أخذ بيدك فأدخلك أطهرها مكانا وأطيبها ؟ قالت:
وان ذلك كذلك ؟ قال: فإن الله أعز وأكرم من أن يسلب عبدا ثمرة فؤاده فيصبر
ويحتسب ويحمد الله عزوجل ثم يعذبه (البحار
16: 16 عن فروع الكافي 1: 60.). فهذا هو الصحيح الراجح ولا أتردد في عدم وحدة الخبرين ولا أحتمل التعدد بل أحتمل ا نه وقع
سهو من أحد الرواة للخبر في الطريق السابق فأخطأ اسم الطاهر والتبس عليه
بالقاسم. وأما خبر
(الروض...) عن الزبير، فهي مرسلة لا أظنها الا مسروقة عن خبر عمرو بن شمر عن جابر
بالطريق الذي وقع فيه الخطأ والالتباس، ولا يقع من هذا أي تشكيك في موت القاسم
قبل الإسلام، كما لا ريب في موت عبد الله الطيب الطاهر بعد البعثة (خلافا
(لهيكل) في كتابه إذ قال: أما القاسم وعبد الله فلم يعرف عنهما الا أنهما ماتا
طفلين في الجاهلية لم يتركا أثرا يبقى أو يذكر، لكنهما من غير شك قد ترك موتهما
في نفس أبويهما ما يتركه موت الابن من أثر عميق، وترك موتهما من غير شك في نفس
خديجة ما جرح امومتها جرحين داميين وهي لا ريب (!) وقد اتجهت عند موت كل واحد
منهما في الجاهلية الى آلهتها الأصنام تسألها: ما بالها لم تشملها برحمتها
وبرها. (حياة محمد: 128) ولا ريب في بطلان ظنونه، فلا مستند لزعمه هذا، وليس الا
حدسا ناشئا من قياس خديجة بسائر نساء قريش. ونحن إذ تبينا أن دوافع زواجها برسول
الله إنما كانت دوافع معنوية، وذلك لأنها كانت قد سمعت من ابن عمها ورقة بن نوفل
النصراني وغلامها ميسرة عن الراهب النصراني أن محمدا نبي آخر الزمان فتزوجت به
لذلك، وأضفنا الى ذلك كراهته للاصنام حتى انه حينما أقسم عليه بحيرا الراهب
بالأوثان قال: إنها أبغض خلق الله إليه.. فلا يمكنا مع ذلك أن نقول: إنها كانت
تلجأ في موت أولادها الى الأصنام وهن أبغض خلق الله الى حبيبها محمد (صلى الله عليه وآله). ولا يفوتنا هنا أن ننوه الى أن القسطلاني قال: قيل: ولد له ولد قبل
المبعث يقال له عبد مناف (!) ومع هذا يكون أولاده اثني عشر كلهم ولدوا في
الإسلام سوى هذا (المواهب اللدنية 1: 196) والظاهر أن مستنده ما نقله المقدسي عن
قتادة قال: ولدت خديجة لرسول الله عبد مناف في الجاهلية، وولدت له في الإسلام
غلامين وأربع بنات: القاسم وبه كان يكنى: أبا القاسم فعاش حتى مشى ثم مات، وعبد
الله مات صغيرا. وأم كلثوم، وزينب، ورقية، وفاطمة (البدء والتأريخ 4: 139، 5:
16) وقول قتادة هذا شاذ يتنافى مع كل ما تقدم عن غيره وهو كثير مستفيض
مشهور، كما مر ويشبه هذا في الشذوذ ما ذهب إليه أبو القاسم الكوفي إذ قال: كانت
لخديجة اخت اسمها هالة، تزوجها رجل مخزومي فولدت له بنتا اسمها هالة، ثم خلف
عليها رجل تميمي يقال له أبو هند، فأولدها ولدا اسمه هند، وكان لهذا التميمي
امرأة اخرى قد ولدت له زينب ورقية فماتت ومات التميمي فلحق ولده هند بقومه،
وبقيت هالة - اخت خديجة - والطفلتان من التميمي وزوجته الاخرى فضمتهم خديجة
إليها. وبعد أن تزوجت بالرسول (صلى الله عليه وآله) ماتت هالة فبقيت الطفلتان في
حجر خديجة والرسول (صلى الله عليه وآله)، وكان العرب يزعمون أن الربيبة بنت
فنسبتها إليه، مع أنهما ابنتا أبي هند زوج اختها (الاستغاثة: 68). وروى الحافظ عبد الرزاق في
مصنفه عن عمر بن دينار عن الحسن بن محمد بن علي قال: ان أبا العاص بن الربيع كان
زوجا لبنت خديجة (المصنف 5: 224). وقال مغلطاي في سيرته: وخلف عليها (خديجة) أبو
هالة النباش بن زرارة فولدت له هندا والحرث وزينب (سيرة مغلطاي: 12). فعلى الأول تكون زينب ورقية
من ضرة هالة اخت خديجة، وعلى الثاني والثالث تكون زينب بنت خديجة من زوجها
السابق أو الأسبق. ولكن لا مجال لهذه الأقوال بعد تصريح نص الخبرين المعتبرين
للصفار والصدوق المسندين الى الإمامين الباقر والصادق (عليهما السلام) " ولد
لرسول الله من خديجة " وفيهم رقية وزينب، وليست العبارة نسبة الابوة أو
البنوة لتحمل على عادة العرب في نسبة الربائب فنحتمل صدق مقال صاحب الاستغاثة:
كان العرب يزعمون أن الربيبة بنت فنسبتا إليه.). |
مولد
فاطمة (عليها السلام):
|
مر في خبر الصفار عن الإمام الباقر (عليه السلام)، والصدوق في
" الخصال " عن الإمام الصادق (عليه السلام) أيضا: أن عدت فاطمة (عليها
السلام) في آخر عداد أولاد
خديجة من رسول الله (صلى
الله عليه وآله). وكذلك كان في كلام كل من الكليني والطبرسي وابن شهر آشوب. وفي
قول ابن اسحاق وابن هشام واليعقوبي والطبرسي والمسعودي. وافتتح الكليني في
" اصول الكافي ":
" باب مولد فاطمة
" وقبل أن يفتتح الباب وفي آخر الباب السابق حسب النسخ الموجودة من الكتاب،
أورد بسند صحيح عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: " ولدت فاطمة بنت محمد
(صلى الله عليه وآله) بعد مبعث رسول الله بخمس سنين. وتوفيت ولها ثمان عشرة سنة
وخمسة وسبعون يوما " (اصول الكافي 1: 457.) ثم
افتتح الباب فقال: ولدت فاطمة - عليها وعلى بعلها السلام -، بعد مبعث رسول الله
بخمس سنين، وتوفيت ولها ثمان عشرة سنة وخمسة وسبعون يوما، بقيت بعد أبيها خمسة
وسبعين يوما " (اصول الكافي 1: 458.) وكذلك
في " روضة الكافي " قال: ولدت بعد البعثة بخمس سنين (روضة
الكافي: 281.). والظاهر أ نه يستند في ذلك الى ما رواه في الاصول قبيل الباب،
صحيحا. والخبر - كما مر - ليس
فيه جملة " وقريش حينئذ تبني البيت " مما جاء فيما رواه عنه (عليه السلام)
الاربلي في " كشف الغمة " عن كتاب " تأريخ مواليد ووفيات أهل
البيت " لابن الخشاب يرفعه عن أبي جعفر محمد بن علي قال: " ولدت فاطمة
بعد ما أظهر الله نبوة نبيه وأنزل عليه الوحي بخمس سنين، وقريش تبني البيت، وتوفيت ولها ثمان عشرة سنة وخمسة وسبعون يوما " ثم قال: "
وفي رواية صدقة:
" ثمان عشرة سنة وشهر وخمسة عشر يوما ثم قال " وكان عمرها مع أبيها
بمكة ثمانية سنين " (كشف الغمة 3: 75 ط تبريز.). وهكذا مر الاربلي على هذا
الخبر المرفوع لابن الخشاب مرور الكرام من دون أن يلاحظ عليه التناقض فيه، فهو
من جانب يقول: ولدت فاطمة بعد البعثة، ومن جانب آخر يقول: وقريش تبني الكعبة !
وهذان الأمران لا يجتمعان، فإن البيت بني قبل البعثة بخمس سنين لا بعدها. اللهم
الا أن نقول بأن الجملة: " وقريش تبني البيت " مزيد مردود من الراوي،
والا فأصل الخبر مردود الى أهله. ويشبه هذا الخبر المرفوع لابن الخشاب عن أبي جعفر الباقر (عليه
السلام) في جملة:
" وقريش تبني الكعبة " خبر آخر مسند لابن حماد الدولابي " الحنفي
" في كتابه " الذرية الطاهرة " بسنده عن يحيى بن شبل عن أبي جعفر
قال: " دخل العباس على علي بن أبي طالب وفاطمة بنت رسول الله وأحدهما يقول
لصاحبه: أينا أكبر ؟ فقال العباس: ولدت يا علي قبل بناء قريش البيت بسبع سنوات،
وولدت ابنتي وقريش تبني البيت، ورسول الله يومئذ ابن خمس وثلاثين سنة، قبل
النبوة بخمس سنين " (الذرية
الطاهرة: 152.). والظاهر أن المراد بأبي جعفر هو الباقر (عليه السلام) كما في أخبار
اخرى عنه مصرحة باسمه في الكتاب ومنها خبر قبل هذا عن أبي جعفر محمد بن علي قال:
" توفيت فاطمة بعد النبي (صلى الله عليه وآله) بخمس وتسعين ليلة في سنة
احدى عشرة ". وان كان الراوي المباشر للخبر السابق: يحيى بن شبل، لم أجده في مظانه من كتب الرجال. والغريب أن الاربلي روى الخبرين وغيرهما بادئا لها بقوله: " ونقلت من كتاب: " الذرية الطاهرة " للدولابي،
ولكنه حذف الأسناد بادئا لهذا الخبر بقوله: " وقيل.. " من دون أن يشير
الى أ نه يرويه عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام). فلعله لم يتنبه لذلك (كشف الغمة 2: 128، 129 ط تبريز.). وعلى أي حال فالخبران عاميان معارضان لما رواه الكليني عنه (عليه
السلام) بسند صحيح. أما عن الصادق (عليه
السلام) فقد روى الطبري الإمامي في " دلائل الإمامة " بسنده عنه (عليه
السلام) قال: " ولدت فاطمة في جمادى الآخرة: اليوم العشرين منها سنة خمس
وأربعين من مولد النبي (صلى الله عليه وآله) فأقامت بمكة ثمان سنين " (دلائل الإمامة: 10.).
وقال اليعقوبي: " وبعد ما بعث: عبد الله - وهو الطيب والطاهر، لأ نه ولد في
الإسلام - وفاطمة " (تأريخ
اليعقوبي 2: 20.)
ومثله المسعودي (مروج
الذهب 2: 291.). وكذلك ذكر ابن عبد البر في (الاستيعاب) في ترجمة خديجة: أن الطيب قد ولد بعد النبوة، وولدت بعده ام كلثوم، ثم فاطمة. ولكن الشيخ المفيد قال: " كان مولد السيدة الزهراء سنة اثنتين من المبعث " (كما في
بحار الأنوار 43: 9 عن الإقبال عن حدائق الرياض للشيخ المفيد.) وتبعه
تلميذه الشيخ الطوسي فقال في " المصباح ": " في اليوم العشرين من
جمادى الآخرة سنة اثنتين من المبعث كان مولد فاطمة في بعض الروايات " ثم
قال: " وفي رواية اخرى: سنة خمس من المبعث " ثم قال: " والعامة
تروي أن مولدها قبل المبعث بخمس سنين " (المصباح
للطوسي 554 ط الهند.). وأقدم نص على ذلك منهم
فيما بأيدينا هو ما رواه ابن حماد الدولابي " الحنفي " في كتابه
" الذرية الطاهرة " وقال به الاصفهاني (ت 356 ه) في " مقاتل
الطالبيين " (مقاتل الطالبيين: 30 ط النجف.) وقال
سبط ابن الجوزي في " تذكرة الخواص ": " وأما فاطمة (عليها
السلام) قال علماء السير: ولدتها خديجة وقريش تبني البيت الحرام قبل النبوة بخمس
سنين، وهي أصغر بنات رسول الله " (تذكرة
الخواص: 306 ط النجف.) والمحب الطبري في " ذخائر العقبى " (ذخائر
العقبى: 53.) روى رواية ابن حماد الدولابي عن الباقر (عليه السلام) عن عباس.
وقال الزرندي الحنفي في " نظم درر السمطين " (نظم درر
السمطين: 175.) ومغلطاي في سيرته (سيرة مغلطاي: 17.)
والديار بكري في " تاريخ الخميس " وأضاف القول بسبع سنين قبل البعثة،
بل واثنتي عشرة سنة قبلها (تأريخ الخميس 1: 277.). وإن كان المحب الطبري والديار بكري عقبا ذلك بنقل ما يدل من الحديث
على أن نطفة فاطمة قد انعقدت من ثمر جاء به جبرئيل الى النبي (صلى الله عليه
وآله) من الجنة، وقد نقل ذلك المرعشي النجفي في ملحقات " احقاق الحق "
عنهما وعن ميزان الاعتدال، ولسان الميزان، والروض الفائق، ونزهة المجالس، ومجمع
الزوائد، وكنز العمال ومنتخبه، ومحاضرة الأوائل، ومقتل الحسين للخوارزمي، وتأريخ
بغداد للخطيب البغدادي، ومفتاح النجاة، ومستدرك الحاكم، وتلخيصه للذهبي، وأخبار
الدول، والمناقب لابن المغازلي، والمناقب لعبد الله الشافعي، واللآلي المصنوعة،
وإعراب ثلاثين سورة (إحقاق الحق 10: 1 - 10.). ومن
الخاصة عن العامة عن الصحابة عن النبي (صلى الله عليه وآله) روى الصدوق بسنده عن
طاووس اليماني عن ابن عباس عن عائشة عن النبي (صلى الله عليه وآله) (علل
الشرائع 1: 183 ط النجف الأشرف.) وروى
في " عيون المعجزات " عن حارثة بن قدامة عن سلمان عن عمار عن فاطمة
(عليها السلام) (عيون المعجزات، كما في البحار 43: 8.). ومن الخاصة عن الأئمة (عليهم السلام) روى الصدوق في " علل
الشرائع " عن الباقر (عليه السلام) (علل
الشرائع 1: 183 ط النجف الأشرف.) وفي
" معاني الأخبار " عن الصادق (عليه السلام) (معاني الأخبار: 377 ط النجف الأشرف.) والقمي في تفسيره كذلك (تفسير
القمي، كما في البحار 43: 6.)
والصدوق أيضا في
(الأمالي) و (العيون) عن الرضا (عليه السلام) (عيون
أخبار الرضا (عليه السلام) 1: 116 ط قم وعنه في البحار 43: 4 وعن أمالي الصدوق.). كل ذلك مما يؤيد أو يدل
على كون ولادتها بعد البعثة. وقد تقدم أن المشهور في سن خديجة حين الزواج بالنبي
هو أنها كانت في الأربعين والنبي في الخمس والعشرين وقد بعث في الأربعين، فخديجة
حينئذ فيما بعد الخمس والخمسين، وهو سن اليأس من الحمل ولكن لغير القرشية
والكنانية والنبطية، كما هو مقرر في الفقه، وخديجة قرشية، وهذا يعني أن قابلية
الحمل كانت موجودة لا تزال عند خديجة، وأن عمرها حينئذ كان، لا يأبى من الحمل (صحيح أن
حمل المرأة في هذه السن العالية نادر الوقوع، ولكن قد وقع في التأريخ نماذج منه،
وحتى اليوم: فقد نشرت جريدة " اطلاعات " الإيرانية بتأريخ 20 اردبيهشت
1351 هجري شمسي: أن أمرأة تدعى " شوشنا " وضعت في " اصفهان
" ولدا ولها من العمر 66 عاما، ولها ثمانية أولاد أكبرهم عمره 50 وأصغرهم
25 سنة. وبتأريخ 28 بهمن 1351 هجري شمسي أيضا نشرت: أن امرأة علوية تدعى "
أكرم موسوي " ولها 66 عاما ولزوجها 74 عاما، وضعت توأما في " بندر عباس
". ونقلت الجريدة عن الطبيب: أن أكبر امرأة ولدت لحد الآن عمرها 67 عاما.). |
علي
عند النبي (صلى الله عليه وآله):
|
نص بعض المؤرخين أ نه بعد بناء البيت بسنة، وقبل البعثة بالنبوة
بأربع سنين كانت سنة إصابة قريش بقحط شديد كان من آثاره أن تكفل الرسول (صلى
الله عليه وآله) بعيشة علي (عليه السلام) عنده في داره مع أولاده (وقال ابن
شهر آشوب في " المناقب ": ذكر أبو القاسم في أخبار أبي رافع من ثلاثة
طرق: أن النبي (صلى الله عليه وآله) حين تزوج خديجة قال لعمه أبي طالب: اني أحب
أن تدفع الي بعض ولدك يعينني على أمري ويكفيني، وأشكر لك بلاءك عندي. فقال أبو
طالب: خذ أيهم شئت. فأخذ عليا (عليه السلام) (المناقب 2: 180). ولا يمكن التسليم
لظاهر هذا الخبر، إذ كيف يمكن أن يكون النبي (صلى الله عليه وآله) أخذه إليه
" حين تزوج خديجة " في حين أن عليا (عليه السلام) ولد بعد ثلاثين سنة
من عام الفيل - على المشهور - وهو (صلى الله عليه وآله) قد تزوج خديجة قبل ذلك
بخمس سنين على المشهور أيضا ! اللهم الا أن يحمل الخبر على خلاف المشهور في
ميلاد علي أو زواج خديجة (عليهما السلام) أو المسامحة في قوله " حين تزوج
خديجة " بأكثر من سبع سنين.) فقد
نقل الطبرسي في " إعلام الورى " عن " دلائل النبوة "
للبيهقي (ت 548 ه) بسنده عن مجاهد بن جبر (ت 101) قال: " كان مما أنعم
الله على علي بن أبي طالب (عليه السلام) وأراد به الخير: أن قريشا أصابتهم أزمة
شديدة، وكان أبو طالب ذا عيال كثيرة، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله)
للعباس عمه - وكان من أيسر بني هاشم -: يا عباس ! إن أخاك أبا طالب كثير العيال،
وأصاب الناس ما ترى من هذه الأزمة، فانطلق حتى تخفف عنه من عياله. فانطلقا إليه وقالا له ذلك، فقال: اتركوا لي عقيلا وخذوا من شئتم.
فأخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله) عليا فضمه إليه. فلم يزل علي مع رسول الله (صلى
الله عليه وآله) حتى بعثه الله نبيا فاتبعه علي وآمن به وصدقه " (إعلام
الورى: 38، 39.). ونقل
ابن شهر آشوب في " المناقب " عن مغازي محمد بن اسحاق، والبلاذري
والطبرسي، والبستي، والخرگوشي، والثعلبي، والواحدي، والخوارزمي في أربعينه،
والنسوي في المعرفة، عن مجاهد.. وفيه: وأخذ رسول الله عليا وهو ابن ست سنين، كسنه يوم أخذه أبو طالب (مناقب آل أبي طالب 2: 179، 180.). أي من أبيه عبد المطلب عند وفاته. ونقله الاربلي في " كشف الغمة " عن " المناقب " للخوارزمي عن ابن اسحاق (كشف الغمة 1: 79.).
ونقله البحراني في " حلية الأبرار " بسند الصدوق الى محمد بن اسحاق عن مجاهد بن جبر (حلية
الأبرار 1: 231.) وفي موضع آخر عن تفسير الثعلبي عنه (حلية الأبرار 1: 239.). ومجاهد بن جبر المكي
الكوفي مولى بني مخزوم (ت 101) هو راوي الخبر لابن اسحاق. والخبر موجود في "
سيرة ابن هشام " عن
ابن اسحاق عن ابن جبر (سيرة ابن هشام 1: 262، 263.) وكذلك
في الطبري (الطبري 2: 313.) وكذلك في " المستدرك على الصحيحين " للحاكم النيسابوري
(المستدرك على الصحيحين 3:
136.). وقال البلاذري في " أنساب الأشراف ": " قالوا: وكان أبو طالب قد أقل وأقتر، فأخذ رسول الله - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - عليا ليخفف عنه مؤونته، فنشأ عنده " (أنساب
الأشراف 2: 90.). وروى الخبر أبو الفرج في
" مقاتل الطالبيين "
بسنده عن سهل بن سعد الساعدي قال: " كان رسول الله - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - قد أخذ عليا من أبيه وهو صغير، في سنة أصابت قريشا وقحط نالهم،
وأخذ حمزة جعفرا، وأخذ العباس طالبا، ليكفوا أباهم مؤونتهم ويخففوا عنه ثقلهم،
وكان أبو طالب يحب عقيلا ولذلك قال: دعوا لي عقيلا وخذوا من شئتم. فقال رسول الله:
اخترت من اختار الله لي عليكم: عليا " (مقاتل
الطالبيين: 15، هذا وفي بعض التواريخ، ويحضرني الأن منها " شرح الأخبار
" للقاضي النعمان المصري المغربي التميمي الشيعي الفاطمي الإسماعيلي، فيه
أنه كان بين كل واحد من ولد أبي طالب عشر سنين (ج 1: 188) فإذا كان لعلي (عليه
السلام) يومئذ ست سنين كان لجعفر ست عشرة سنة ولعقيل ست وعشرون سنة ولطالب ست
وثلاثون سنة، ولذلك يبدو الخبر غريبا. ولعله لهذا انفرد القاضي بذكر سبب آخر
لذلك سوى القحط قال: ان سببه في ذلك: أن أشراف العرب والسادات منهم كانوا إذا شب
لأحدهم الولد وأراد تقويمه وتأديبه، دفعه الى شريف من أشراف قومه ليلي ذلك منه
ويستخدمه فيما يقومه به، لئلا يدل في ذلك عليه دلالة الولد على الوالد. وكان
لأبي طالب ثلاثة من الولد (كذا) فلما شب عقيل دفعه أبو طالب الى عباس أخيه، ولما
شب جعفر دفعه الى حمزة أخيه، ولما شب علي دفعه الى رسول الله - صلوات الله عليه
وآله -. وفي رواية اخرى: أنه دفع جعفرا الى عباس، وعليا (عليه السلام) الى رسول
الله (صلى الله عليه وآله)، وأبقى عقيلا عنده. فلما لحق رسول الله (صلى الله
عليه وآله) بالرجال وبان بنفسه وتأهل كان علي (عليه السلام) عند رسول الله (ج 1:
188). فالمغربي وان أغرب في خبره هذا ولكنه ابتعد بذلك عن الغرابة في أعمار
هؤلاء الأبناء.). ونقله ابن أبي الحديد في " شرح النهج " عن البلاذري
والإصفهاني هكذا: ان
قريشا أصابتها أزمة وقحط، فقال رسول الله - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - لعميه
حمزة والعباس: ألا نحمل ثقل أبي طالب في هذا المحل ؟ فجاؤوا إليه وسألوه أن يدفع
إليهم ولده ليكفوه أمرهم، فقال: دعوا لي عقيلا وخذوا من شئتم - وكان شديد الحب
لعقيل - فأخذ العباس طالبا وأخذ حمزة جعفرا، وأخذ محمد - صلى الله عليه [ وآله ]
وسلم - عليا (عليه السلام) وقال
لهم: قد اخترت من اختاره
الله لي عليكم: عليا. قالوا: فكان علي (عليه السلام) في حجر رسول الله - صلى
الله عليه [ وآله ] وسلم - منذ كان عمره ست سنين. وهذا يطابق قوله (عليه السلام): " لقد عبدت الله قبل أن يعبده أحد من هذه الامة سبع سنين
" وقوله: " كنت أسمع الصوت وابصر الضوء سنين سبعا، ورسول الله حينئذ
صامت ما اذن له في الإنذار والتبليغ ". وذلك لأ نه إذا كان عمره
يوم إظهار الدعوة ثلاث عشرة سنة، وتسليمه الى رسول الله من أبيه وهو ابن ست، فقد
صح أ نه كان يعبد الله قبل الناس بأجمعهم سبع سنين، وابن ست تصح منه العبادة إذا
كان ذا تمييز، على أن عبادة مثله هي التعظيم والإجلال وخشوع القلب واستخذاء
الجوارح إذا شاهد شيئا من جلال الله سبحانه وآياته الباهرة. ومثل هذا موجود في
الصبيان (شرح النهج 1: 15.). هذا ما نقله ابن أبي الحديد في " شرح النهج " عن البلاذري والإصفهاني، وقد مر عليك
خبرهما ورأيت البلاذري قد اختصر الخبر جدا في سطر ونصف تقريبا، والإصفهاني رواه
بسنده عن سهل بن سعد الساعدي، وقد خلا كلاهما عن ذكر عمر علي (عليه السلام)
يومذاك. ولعله نقله عن نسخة اخرى منهما. نعم نقل الخبر ابن شهر آشوب في " المناقب " عن عدة
منهم البلاذري والطبري والخوارزمي والخرگوشي والواحدي والثعلبي والبستي والنسوي،
ومغازي محمد بن اسحاق، عن مجاهد أيضا، وفيه: وأخذ رسول الله عليا وهو ابن ست سنين، كسنه يوم أخذه أبو
طالب (مناقب آل أبي طالب 2: 179
- 180.) أي من أبيه عبد المطلب عند وفاته. ولم يعين ذلك عن أي واحد ممن أخذ
منهم الخبر. ومهما كان، فان كلام ابن أبي الحديد توجيه وجيه لكلام الإمام (عليه
السلام). |
الفصل
الثالث البعثة النبوية المباركة
|
كان النبي (صلى الله عليه وآله) منذ
بدء أمره محدثا مسددا: |
روى الشريف الرضي في " نهج البلاغة " عن علي (عليه السلام)
أ نه قال في وصف الرسول (صلى
الله عليه وآله):
" ولقد قرن الله به من لدن أن كان فطيما أعظم ملك من ملائكته، يسلك به طريق
المكارم ومحاسن أخلاق العالم، ليله ونهاره " (نهج
البلاغة، الخطبة القاصعة: 292 / المقطع: 118 عن مسعدة بن صدقة عن الباقر (عليه
السلام).). وروى ابن أبي الحديد في شرحه: أن بعض أصحاب الإمام الباقر (عليه السلام) سأله عن قول الله
تعالى: * (الا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا) * (الجن: 27.) فقال
(عليه السلام): " يوكل الله تعالى بأنبيائه ملائكة يحصون أعمالهم، ويؤدون
إليهم تبليغهم الرسالة. ووكل بمحمد ملكا عظيما منذ فصل عن الرضاع يرشده الى
الخيرات ومكارم الأخلاق، ويصده عن الشر ومساوئ الأخلاق " (شرح
النهج 13: 207.). ولعل من مصاديق ذلك ما رفعه ابن اسحاق يقول: ذكر لي: أن رسول الله - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - كان مما يحدث به عما كان الله يحفظه به في صغره وأمر جاهليته ! أ
نه قال: " لقد رأيتني في غلمان قريش ننقل الحجارة لبعض ما نلعب به، فإني
اقبل معهم وادبر، وكلنا قد أخذ إزاره فجعله على عاتقه ليحمل عليه الحجارة فتعرى
! إذ لكمني لاكم ثم قال: شد عليك إزارك، وما أراه فأخذته وشددته علي، ثم جعلت
أحمل الحجارة على رقبتي وإزاري علي من بين أصحابي " (ابن هشام
1: 194.). وان كان الطبري يروي في
تأريخه بسنده عن محمد بن الحنفية عن أبيه علي (عليه السلام) قال: " سمعت رسول الله يقول: ما هممت بشئ مما كان أهل الجاهلية
يعملون به غير مرتين، كل ذلك يحول الله بيني وبين ما اريد من ذلك، ثم ما هممت
بسوء حتى أكرمني الله برسالته. قلت ليلة لغلام من قريش
كان يرعى معي بأعلى مكة: لو أبصرت لي غنمي حتى أدخل مكة فأسمر بها كما يسمر
الشباب (!) فخرجت اريد ذلك، حتى إذا جئت أول دار من دور مكة، سمعت عزفا بالدف
والمزامير، فقلت: ما هذا ؟ قالوا: هذا فلان تزوج ابنة فلان. فجلست أنظر إليهم،
فضرب الله على اذني فنمت، فما أيقظني الا مس الشمس، فرجعت الى صاحبي، فقال: ما
فعلت ؟ فقلت: ما صنعت شيئا، ثم أخبرته الخبر. ثم قلت له ليلة اخرى مثل ذلك، فقال: افعل، فخرجت فسمعت حين دخلت مكة مثل ما سمعت حين دخلتها تلك
الليلة، فجلست أنظر، فضرب الله على اذني، فما أيقظني الا مس الشمس، فرجعت الى صاحبي فأخبرته الخبر، ثم ما هممت بعدها بسوء حتى
أكرمني الله برسالته "
(الطبري 2: 279 ورواه عنه
ابن أبي الحديد 13: 207.). هذا من مصاديق التسديد في السيرة، وأما في الفكرة: فمنه ما رواه الصدوق في " اكمال الدين
" بسنده عن العباس بن عبد المطلب عن أبي طالب في خبر بحيرا الراهب أ نه قال
للنبي (صلى الله عليه وآله): " يا غلام ! أسألك بحق اللات والعزى... فزعموا
أن رسول الله قال له: لا تسألني باللات والعزى، فوالله ما أبغضت شيئا قط بغضهما
" (اكمال الدين: 178 - 185. وابن هشام 1: 193 عن ابن اسحاق مرفوعا.). أما قوله في الخبر السابق: " لكمني لاكم ثم قال: شد عليك إزارك، وما أراه " فنفهم
منه أنه - بناء على ذلك وعلى ما ورد في كثير من الأخبار - كان محدثا، من ذلك: ما
رواه الصفار (ت 290 ه) في كتابه " بصائر الدرجات " بسنده عن زرارة
قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام): من الرسول ؟ من النبي ؟ من المحدث ؟ فقال:
" الرسول: الذي يأتيه جبرئيل فيكلمه قبلا كما يرى أحدكم صاحبه الذي يكلمه،
فهذا الرسول " الى قوله: " وأما المحدث، فهو: الذي يسمع كلام الملك
فيحدثه، من غير أن يراه، ومن غير أن يأتيه في النوم " (كما في
البحار 18: 270 عن بصائر الدرجات: 109. ونحوه خبر آخر فيه عنه عن الباقر (عليه
السلام) أيضا وآخر عنه عن الصادق (عليه السلام).). وما رواه الكليني في " اصول الكافي " بسنده عن الأحول قال: سألت أبا جعفر عن الرسول والنبي والمحدث ؟ قال: " الرسول:
الذي يأتيه جبرئيل قبلا فيراه ويكلمه، فهذا الرسول " الى قوله: " وأما
المحدث، فهو: الذي يحدث فيسمع، ولا يعاين، ولا يرى في منامه " (اصول
الكافي 1: 176 ونحوه خبران آخران فيه عنه وعن الرضا (عليه السلام).). |
ثم
كان نبيا مبشرا:
|
وفي نفس الخبرين عن معنى النبوة المجردة أي بلا رسالة، قال في
الخبر الأول: " والنبي: الذي يؤتى في النوم، نحو رؤيا ابراهيم (عليه
السلام)، ونحو ما كان يأخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله) من السبات إذا أتاه
جبرئيل في النوم. فهكذا النبي " وقال في الخبر الثاني: " وأما النبي
فهو: الذي يرى في منامه نحو رؤيا ابراهيم (عليه السلام)، ونحو ما كان رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله) من أسباب النبوة قبل الوحي، حتى أتاه جبرئيل من عند الله بالرسالة
". وروى ابن أبي الحديد في " شرح النهج " عن الإمام الباقر (عليه السلام): " وكل (الله) بمحمد (صلى الله عليه وآله) ملكا عظيما منذ فصل عن الرضاع، يرشده الى الخيرات ومكارم الأخلاق،
ويصده عن الشر ومساوئ الأخلاق. وهو الذي كان يناديه: السلام عليك يا محمد يا
رسول الله وهو شاب لم يبلغ درجة الرسالة بعد، فيظن أن ذلك من الحجر والأرض،
فيتأمل فلا يرى شيئا " (شرح نهج البلاغة 13: 207.). وفي التفسير المنسوب الى الإمام الحسن العسكري (عليه
السلام) عن أبيه قال: "
إن رسول الله (صلى
الله عليه وآله) لما
ترك التجارة الى الشام، وتصدق بكل ما رزقه الله تعالى من تلك التجارات، كان يغدو
كل يوم الى حراء يصعده وينظر من قلله الى آثار رحمة الله، والى أنواع عجائب
رحمته وبدائع حكمته، وينظر الى أكناف السماء وأقطار الأرض والبحار والمفاوز
والفيافي، فيعتبر بتلك الآثار، ويتذكر بتلك الآيات، ويعبد الله حق عبادته "
(التفسير المنسوب الى الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) كما في
البحار 18: 205.). وقال القطب الراوندي في " قصص الأنبياء ": ذكر علي بن ابراهيم وهو من أجل رواة أصحابنا قال: " ان النبي
(صلى الله عليه وآله) لما أتى له سبع وثلاثون سنة، كان يرى في نومه كأن آتيا أتاه
فيقول: يا رسول الله ! وكان بين الجبال يرعى غنما (لأبي طالب)، فنظر الى شخص
يقول له: يا رسول الله، فقال له: من أنت ؟ قال: أنا جبرئيل، أرسلني الله اليك
ليتخذك رسولا. وكان رسول الله يكتم ذلك، فأنزل جبرئيل بماء من السماء فقال: يا
محمد قم فتوضأ، فعلمه الوضوء على الوجه واليدين من المرفق، ومسح الرأس والرجلين
الى الكعبين وعلمه الركوع والسجود " (قصص
الأنبياء: 318 وليس في تفسير القمي فالظاهر أن الطبرسي نقله عن الراوندي في
" إعلام الورى ": 36، وعنه ابن شهر آشوب في المناقب 1: 43 ولعله لهذا
نقله المجلسي عن المناقب. وفي آخر خبر الطبرسي: فلما تم له أربعون سنة أمره
بالصلاة وعلمه حدودها، ولم ينزل عليه أوقاتها فكان يصلي ركعتين ركعتين في كل وقت
".). ونقل ذلك ابن شهر آشوب
في كتابه " المناقب " وقبل ذلك بدأ فصل المبعث ببيان درجات البعثة فقال: " ولبعثته
درجات: أولها: الرؤيا الصادقة، والثانية: ما رواه الشعبي، وداود بن عامر (كذا في
المناقب 1: 41 والصحيح: ما رواه داود عن عامر الشعبي.): أن
الله قرن جبرئيل بنبوة نبيه ثلاث سنين يسمع حسه ولا يرى شخصه، ويعلمه الشئ بعد
الشئ، ولا ينزل عليه القرآن. فكان في هذه المدة مبشرا غير مبعوث الى الامة
". ويقصد بما رواه الشعبي: ما رواه ابن سعد في " الطبقات " عن
الواقدي بسنده عنه قال: قرن اسرافيل بنبوة رسول الله ثلاث سنين، يسمع حسه ولا
يرى شخصه، ثم كان بعد ذلك جبرئيل (عليه السلام) (الطبقات
1: 191 والطبري 2: 386 عنه.).
ويقصد بما رواه داود عن عامر الشعبي أيضا: ما رواه عنه الطبري أيضا قال: انزلت عليه النبوة وهو ابن أربعين
سنة، فقرن بنبوته اسرافيل ثلاث سنين، فكان يعلمه الكلمة والشئ، ولم ينزل القرآن
على لسانه. فلما مضت ثلاث سنين قرن بنبوته جبرئيل (عليه السلام). فنزل القرآن
على لسانه عشر سنين بمكة، وعشر سنين بالمدينة (الطبري
2: 387.). وقال الطبري بعد هذا: فلعل الذين قالوا: كان مقامه بمكة بعد الوحي عشرا، عدوا مقامه بها
من حين أتاه جبرئيل بالوحي من الله عزوجل، وأظهر الدعاء الى التوحيد وعد الذين
قالوا: كان مقامه ثلاث عشرة سنة، من أول الوقت الذي استنبئ فيه، وكان المقرون به
اسرافيل، وهي السنون الثلاث التي لم يكن أمر فيها بإظهار الدعوة (الطبري
2: 387 ورواه ابن سعد في الطبقات 1: 127 وابن كثير في البداية والنهاية 3: 4
واليعقوبي 2: 23 مرسلا. وروى الحاكم في المستدرك 2: 61 عن سعيد بن المسيب أن
القرآن نزل على الرسول وهو ابن ثلاث وأربعين.). ولكن يبقى أن ابن شهر آشوب بدل جبرئيل بإسرافيل سهوا. أما من طرقنا فلا أقل مما ذكره الشيخ المفيد في " الاختصاص
" قال: "
قرن اسرافيل برسول الله (صلى
الله عليه وآله) ثلاث
سنين، يسمع الصوت ولا يرى شيئا، ثم قرن به جبرئيل (عليه السلام)
عشر سنين، وذلك حيث اوحي إليه، فأقام بمكة عشر سنين ثم هاجر الى المدينة فأقام
بها عشر سنين (الاختصاص:
130، ولا نؤكد نسبة الاختصاص الى الشيخ المفيد.). وهذا يعني أن
تلك السنوات الثلاث كانت منذ بدء البعثة في الأربعين من عمره (صلى الله عليه
وآله) الى الثالث والأربعين، كما نص عليه داود بن عامر في خبره. وابن داود لم
يذكر أ نه لم يكن يرى شخصه، وانما نص عليه خبر الشعبي وما ذكره الشيخ المفيد
وابن شهر آشوب. فعلى ماذا كان قبل البعثة ؟ قبل أن نقف واياكم على مختلف الأخبار في هذا المضمار، لنعد فنعيد
النظرة على واقع حال الرسول (صلى
الله عليه وآله) فيما
قبل البعثة من حيث العبادة والديانة. والحقيقة هي أن واقع الحال في البعثة وما قبلها غير بين، فالقرآن الكريم يقول: * (ماكنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان) * (الشورى:
52.) فحيث لم يكن يدري قبل
بعثته ما الكتاب ولا الإيمان فهل لم يكن كذلك يؤمن ويتدين بكتاب أو دين كما هو
ظاهر لفظ القرآن الكريم ؟ أم ماذا ؟ وأقدم ما نعلم من السابقة التأريخية لهذا التساؤل - مع الأسف - ليس
عصر الرسول نفسه أو المعصومين من عترته (عليهم السلام)، بل حتى بعد عصر الغيبة الصغرى وفي بدايات الغيبة الكبرى، فقد طرح
هذا السؤال نفسه ضمن مسائل علم الاصول، واليك نماذج من ذلك: السيد المرتضى علم الهدى
(رضي الله عنه) يقول في كتابه " الذريعة الى اصول الشريعة ": " قد استقصينا هذا الكلام وفرغناه في كتاب " الذخيرة
" (حقق الكتاب المحقق السيد أحمد الحسيني، وطبع في مؤسسة النشر الإسلامي
بقم المقدسة سنة 1411 ه في 607 صفحة، يبدأ فيه باب النبوات من 322 الى 408 ولم
أجد الكلام المذكور فيه ولا في سائر أبواب الكتاب، بل التحويل على الذخيرة لا
يوجد في الذريعة أيضا 2: 595 ط جامعة طهران.) ويقرره كذلك في " الذريعة " فيقول: " هل كان رسول الله (صلى
الله عليه وآله)
متعبدا بشرائع من تقدمه من الأنبياء (عليهم السلام)
؟ في هذا الباب مسألتان:
احداهما: قبل النبوة،
والاخرى: بعدها. وفي المسألة
الاولى ثلاثة مذاهب: احدها: أ نه (صلى الله عليه وآله) ما كان متعبدا قطعا. والآخر: أ نه
كان متعبدا قطعا. والثالث: التوقف. وهذا هو الصحيح. والذي يدل عليه: أن العبادة بالشرائع
تابعة لما يعلمه الله تعالى من المصلحة بها في التكليف العقلي، ولا يمتنع أن
يعلم الله تعالى أن لا مصلحة للنبي قبل نبوته في العبادة بشئ من الشرائع، كما أ
نه غير ممتنع أن يعلم أن له في ذلك مصلحة، وإذا كان كل واحد من الأمرين جائزا،
ولا دلالة توجب القطع على أحدهما، وجب التوقف. وليس يقتضي علمه (صلى
الله عليه وآله) بأن
غيره نبي أن يتعبد بشريعته، بل لابد من أمر زائد على هذا العلم. ولو ثبت أ نه حج
أو اعتمر قبل نبوته لقطع به على أ نه كان متعبدا، وبالتظني لا يثبت مثل ذلك. ولم
يثبت أ نه تولى التذكية بيده، ولو ثبت أ نه ذكى بيده لجاز أن يكون من شرع غيره
في ذلك الوقت أن يستعين بغيره في الذكاة فذكى على سبيل المعونة لغيره، ولا شبهة
في أن أكل لحم المذكى غير موقوف على الشرع، لأ نه بعد الذكاة يصير مثل كل مباح. وليس لمن قطع على أ نه ما كان متعبدا أن يتعلق بالقول: بأ نه لو
كان تعبد بشئ من الشرائع لكان فيه متبعا لصاحب تلك الشريعة ومقتديا به، وذلك لا
يجوز، لأ نه أفضل الخلق، واتباع الأفضل للمفضول قبيح. ذلك أ نه غير ممتنع أن
يوجب الله تعالى عليه بعض ما قامت عليه الحجة به من بعض الشرائع المتقدمة لا على
وجه الاقتداء بغيره فيها ولا الاتباع " (الذريعة
الى اصول الشريعة 2: 595، 596 ط جامعة طهران.). وقال المحقق أبو القاسم
الحلي - طيب الله رمسه - في اصوله: " لو كان متعبدا بشرع من قبله لكان طريقه الى ذلك إما الوحي
أو النقل، ويلزم من الأول: أن يكون شرعا له لا شرعا لغيره، ومن الثاني: التعويل
على نقل اليهود، وهو باطل، لأنه ليس بتواتر، لما تطرق إليه من القدح المانع من
إفادة اليقين. ونقل الآحاد منهم لا يوجب العمل، لعدم الثقة. ولو كان متعبدا بشرع غيره لوجب عليه البحث عن ذلك الشرع، لكن ذلك
باطل، لأنه لو وجب لفعله، ولو فعله لاشتهر، ولوجب على الصحابة والتابعين
والمسلمين الى يومنا هذا متابعته على الخوض فيه، ونحن نعلم من الدين خلاف ذلك
" (كما في البحار 18: 275 - 276 باختصار. أما في كتابه " معارج
الاصول " المطبوع فكما يلي: فائدة: اختلف الناس في النبي (صلى الله عليه
وآله) هل كان متعبدا بشرع من قبله ؟ أم لا ؟ وهذا الخلاف عديم الفائدة، لأنا لا
نشك في أن جميع ما أتى به لم يكن نقلا عن الأنبياء (عليهم السلام)، بل عن الله
تعالى بواسطة الملك، ونجمع على أنه (صلى الله عليه وآله) أفضل الأنبياء، وإذا
أجمعنا على ثمرة المسألة فالدخول بعد ذلك فيها كلفة: 121. انتهى، وقد ذكر
العلامة الطهراني للمحقق كتابا آخر في الاصول باسم " نهج الوصول "
الذريعة 24: 426، 427 فلعل المجلسي نقل كلامه من ذلك الكتاب، ولم يسمه.). فالسيد المرتضى توقف، والمحقق نفى وأنكر، ولكن تلميذه العلامة
عاد فتوقف: فقد قال - قدس
الله روحه - في شرحه على
" مختصر الاصول " لابن الحاجب: " اختلف الناس في أن النبي (صلى الله عليه وآله) هل كان
متعبدا بشرع أحد من الأنبياء قبله قبل النبوة ؟ أم لا ؟ فذهب جماعة الى أ نه كان
متعبدا. ونفاه آخرون. والمثبتون اختلفوا:
فذهب بعضهم الى أ نه: كان متعبدا بشرع نوح، وآخرون: بشرع ابراهيم، وآخرون: بشرع
موسى، وآخرون: بشرع عيسى، وآخرون: بما ثبت أ نه من الشرع ". ولم يتكلم العلامة فيه
بما ينم عن مختاره وانما
قرر مختار ابن الحاجب
الشافعي (ت 646 ه) بأ نه
كان متعبدا بما ثبت بالتواتر أ نه من شرع قبله، عيسى بل موسى
(عليهما السلام)، فإن
شريعة عيسى هي شريعة موسى (عليه السلام) في الأعم الأغلب. وقرر استدلاله لذلك "
بما نقل نقلا -
يقارب التواتر - أنه
كان يصلي ويحج ويعتمر ويطوف بالبيت، ويتجنب الميتة ويذكي ويأكل اللحم، ويركب
الحمار (!) وهذه امور لا
يدركها العقل، فلا مصير إليها الا من الشرع ". ولكنه رد استدلال غيره على هذا المذهب نفسه: " بأن عيسى كان مبعوثا الى جميع المكلفين، والنبي كان من
المكلفين، فيكون عيسى مبعوثا إليه " فقال: " لا نسلم عموم دعوة من
تقدمه ". ولكنه قال: إن
الشرع المنقول إليه إن كان آحادا فهو غير مقبول وأما إذا كان متواترا فقد كان
يعمل به من دون لزوم المخالطة لأرباب تلك الشريعة، حتى يلزم عدم تعبده به من عدم مخالطة لهم. فالنتيجة: أ نه كان
يعمل بما ثبت بالتواتر ا نه شرع قبله، بدليل نقلي يقارب التواتر كما قال. وقد
تقدم من السيد المرتضى: أ نه لو ثبت لقطع به على أ نه كان متعبدا، ولكنه لم يثبت
عنه، التظني لا يثبت مثل ذلك. أما النصوص المتقدمة
فإنما دلت على أ نه (صلى الله عليه وآله) كان في فكره وسلوكه الديني العقائدي
العقلي والعملي محدثا مسددا. وبخصوص الصلاة فقد
مر خبر القطب الراوندي عن علي بن ابراهيم القمي: أ نه بعد ما " أتى عليه سبع
وثلاثون سنة... نزل عليه جبرئيل وأنزل عليه ماء من السماء وعلمه الوضوء والركوع
والسجود " (قصص الأنبياء: 317، 318.) فقط،
لا الصلاة بحدودها وأوقاتها ففي تمام الخبر: " فلما تم له أربعون سنة علمه
حدود الصلاة ولم ينزل عليه أوقاتها، فكان يصلي ركعتين ركعتين في كل وقت " (اعلام
الورى: 36 ط النجف الأشرف.) مما يدل عليه كثير من
معتبر الأخبار، في تفصيل تشريع الصلوات في أبواب عديدة من " وسائل الشيعة
" وكذلك لدى العامة أيضا. وأما شأنه (صلى الله عليه
وآله) في كثير من المناسك والمناهي والتروك فليكن كشأن آبائه وأجداده الأمجاد
مما دل عليه كثير من الأخبار التأريخية وغيرها كما مر في محله، أما أكثر من ذلك
التحنث بالحنيفية " الإبراهيمية " فلا نص يصرح به، ولا دليل عليه. وان كان المولى المجلسي
- قدس الله سره - قال:
" إن الذي ظهر لي من الأخبار المعتبرة والآثار المستفيضة هو: أ نه (صلى
الله عليه وآله) كان قبل بعثته - منذ أكمل الله عقله في بدو سنه - نبيا مؤيدا
بروح القدس، يكلمه الملك ويسمع الصوت، ويرى في المنام... وكان يعبد الله بصنوف
العبادات إما موافقا لما أمر به الناس بعد التبليغ، وهو أظهر، أو على وجه آخر،
اما مطابقا لشريعة ابراهيم (عليه السلام) أو غيره ممن تقدمه من الأنبياء، لا على
وجه كونه تابعا لهم وعاملا بشريعتهم، بل بأن ما اوحي إليه كان مطابقا لبعض
شرائعهم، أو على وجه آخر، نسخ بما نزل عليه بعد الإرسال. ولا أظن أن يخفى صحة ما
ذكرت على ذي فطرة مستقيمة وفطنة غير سقيمة... ولنذكر بعض الوجوه لزيادة
الاطمئنان، على وجه الإجمال " ثم ذكر وجوها ستة (بحار الأنوار 18: 277 - 281.). ولنعد لنستثني من نفينا لنص صريح في الإجابة على السؤال بهذا
الشأن: ما رواه الكليني
في " اصول الكافي " بسنده عن أبي حمزة الثمالي قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن العلم أهو شئ يتعلمه
العالم [ منكم ] من أفواه الرجال ؟ أم في الكتاب عندكم تقرؤونه فتعلمون منه ؟ قال: الأمر أعظم من ذلك
وأوجب، أما سمعت قول الله عزوجل: * (وكذلك أوحينا اليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا
الايمان) * (الشورى: 52)
ثم قال: أي شئ يقول أصحابكم في هذه الآية ؟ أيقرون أ نه كان في حال لا يدري ما
الكتاب ولا الايمان ؟ فقلت: لا أدري - جعلت فداك - ما يقولون، فقال: بلى قد كان في حال لا يدري ما الكتاب ولا
الإيمان، حتى بعث الله - عزوجل - الروح التي ذكر في الكتاب، فلما أوحاها إليه
علم بها العلم والفهم، وهي الروح التي يعطيها الله - عزوجل - من شاء، فإذا
أعطاها عبدا علمه الفهم " (اصول
الكافي 1: 273، 274.). فسؤال الثمالي في هذا الخبر من الإمام الصادق (عليه السلام) وان كان عن مصدر العلم للعالم الإلهي الرباني، ولم يكن السؤال عن
حال الرسول (صلى الله عليه وآله) قبل البعثة من حيث الديانة والعبادة الا أن الإمام أجابه بما
اشتمل على ذلك إذ قال: بأن مصدر العلم للعالم الإلهي الرباني هي الروح التي
يعطيها الله من شاء من عباده، فإذا أعطاها عبدا علمه الفهم، بعد ما كان في حال
لا يدري ما الكتاب ولا الايمان، كما في نص القرآن. ولكن المولى المجلسي فسر الروح هنا بروح القدس وقال كما مر: " كان منذ أكمل الله عقله في بدو سنه نبيا مؤيدا بروح القدس
" ولذلك أجاب عن الاستدلال بالآية يقول: " وأما استدلالهم بقوله
تعالى: * (ما كنت تدري
ما الكتاب ولا الايمان) * فلا
يدل الا على أ نه (صلى الله عليه وآله) كان في حال لم يكن يعلم القرآن وبعض شرائع الإيمان، ولعل ذلك كان
في حال ولادته قبل تأييده بروح القدس، كما دلت عليه رواية أبي حمزة وغيرها
" (البحار 18: 281.). اذن يبقى علينا أن نبين
معنى الروح: قد روى الكليني في
" اصول الكافي " بسنده عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله تبارك وتعالى: * (وكذلك أوحينا اليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا
الإيمان) * ؟ قال: " خلق من خلق الله أعظم من جبرئيل وميكائيل، كان مع رسول
الله (صلى الله عليه وآله) يخبره ويسدده، وهو مع الأئمة من بعده " (اصول
الكافي 1: 273.). وروى فيه بسنده عنه أيضا قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عزوجل: * (يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي) * (الإسراء: 85.)
قال: " خلق أعظم من
جبرئيل وميكائيل، كان مع رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وهو مع الأئمة، وهو من الملكوت " (اصول
الكافي 1: 273.). وروى فيه بسنده عنه أيضا قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: *
(يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي) * قال: خلق أعظم من جبرئيل وميكائيل، لم يكن مع أحد ممن مضى غير
محمد (صلى الله عليه وآله)، وهو مع الأئمة يسددهم، وليس كل من طلب وجد " (اصول
الكافي 1: 273.). وروى فيه بسنده عن المفضل بن عمر قال: سألته عن علم الإمام بما في أقطار الأرض وهو في بيته، مرخى عليه
ستره ؟ فقال: " يا مفضل، ان الله تبارك وتعالى جعل في النبي (صلى
الله عليه وآله) خمسة
أرواح: روح الحياة فبه دب ودرج، وروح القوة فبه نهض وجاهد، وروح الشهوة فبه أكل
وشرب، وأتى النساء من الحلال، وروح الإيمان فبه امن وعدل، وروح القدس فبه حمل
النبوة - فإذا قبض النبي (صلى الله عليه وآله) انتقل روح القدس فصار الى الإمام - وروح القدس لا ينام ولا يغفل
ولا يلهو ولا يسهو - والأربعة الأرواح تنام وتغفل وتلهو وتسهو - وروح القدس كان
يرى به " (اصول الكافي 1: 273.). ونقله المجلسي وقال في
بيانه: " أي كان يرى
النبي والإمام بروح القدس ما غاب عنه في أقطار الأرض والسماء وما دون العرش
" (بحار الأنوار 1: 264.). فإذا
ضممنا الى ذلك أ نه لم يكن يرى جبرئيل ولا أي ملك قبل نزول وحي القرآن عليه
وإنما كان يسمع ويحس ولا يرى الشخص، كما مر في الخبر المعتبر، أنتج: أن هذا
الروح - روح القدس - أيضا لم يكن معه قبل نزول وحي القرآن عليه، وإنما اوتيه بعد
ذلك أو معه، لا قبله منذ اكتمال عقله في بدو سنه كما ذهب إليه المولى المجلسي - قدس الله سره -. وتعليق الكلام على الوصف ان كان مشعرا بالعلية - كما هو الحق - فقد علق الإمام (عليه السلام) وجود هذه الروح على وصف الرسالة:
" كان مع رسول الله " في الخبرين الأولين، وليس حتى النبوة، مما يشعر
بأن هذه الروح -
روح القدس - كانت
مصاحبة مع وصف الرسالة ومتزامنة في البداية معها، لا قبلها، حتى مع النبوة، فضلا
عما قبلها. ولا يقدح في هذا خلو الخبر الثالث من هذا التعليق، فانه بصدد النفي
عن غيره لا الإثبات له. وبعد كل ما تقدم، فإن ما نستطيع الجزم به هو: أ نه (صلى الله عليه وآله) كان مؤمنا موحدا يعبد الله ويلتزم بما ثبت له أ نه شرع الله
تعالى، وبما يؤدي إليه عقله الفطري السليم، والمؤيد المسدد، فكان أفضل الخلق
واكملهم خلقا وخلقا وعقلا... وعليه
فما يذكر عنه مما يتنافى مع التسديد وفقا لشرع الله، لا أساس له من الصحة... كالخبر عن استلامه الأصنام ! ذلك ما نقله القاضي عياض في كتابه
" الشفا في أحوال المصطفى " ثم نقل عن أحمد بن حنبل: أ نه حديث موضوع (كما في
السيرة الحلبية 1: 125 و 270. والسيرة النبوية لدحلان 1: 51. راجع الصحيح 1:
158.). مع أن المؤرخين - ومنهم
المسعودي - عدوا عددا من العرب
الجاهليين لم يشاركوا الجاهلية في شركها، كقس بن ساعدة الإيادي، وامية بن أبي
الصلت الثقفي، وزيد بن عمرو بن نفيل العدوي، وأبيه عمرو بن نفيل أخي الخطاب بن
نفيل أبي عمر بن الخطاب، وكان زيد يرغب عن عبادة الأصنام ويعيبها، فأولع به عمه
الخطاب سفهاء مكة وسلطهم عليه فآذوه، فصار الى الشام يبحث عن الدين فسمته النصارى
ومات بالشام (مروج الذهب 1: 82 - 89.). فعدوا ابنه سعيد بن زيد
أحد العشرة المبشرة بالجنة (مروج الذهب 1: 84.) وعدوه من الحنفاء حتى أ نهم رووا: أن زيدا مر على النبي (صلى الله
عليه وآله) وهو يأكل مع سفيان ابن الحرث من سفرة قدمت لهما فيها شاة ذبحت لغير الله
تعالى، فدعواه الى الطعام فرفض زيد وقال: أنا لا آكل مما تذبحون على أنصابكم،
ولا آكل الا ما ذكر اسم الله عليه ! فمنذ ذلك اليوم لم ير النبي يأكل مما ذبح
على النصب حتى بعث ! (صحيح البخاري 5: 50 و 7: 118 وفي شرحه: فتح الباري في شرح صحيح
البخاري 7: 108 و 109. ومسند أحمد 1: 189. والسيرة الحلبية 1: 123. والروض الانف
1: 256. والأخير تنبه الى تساؤل فطرحه يقول: " كيف وفق الله زيدا الى ترك
ما ذبح على النصب وما لم يذكر اسم الله عليه، ورسوله - صلى الله عليه [ وآله ]
وسلم - كان أولى بهذه الفضيلة في الجاهلية، لما ثبت من عصمة الله له ".
ولكنه تساهل في الجواب على هذا التساؤل فقال يعتذر لذلك: " ليس في الرواية
أنه - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - قد أكل من السفرة (!) وعلى فرض أنه قد أكل
فإن شرع ابراهيم (عليه السلام) انما جاء بتحريم الميتة لا بتحريم ما ذبح لغير الله
تعالى (!) أما زيد فلعله امتنع عن أكل ما ذبح لغير الله برأي رآه، لا بشرع متقدم
" ! وكذلك رجح العسقلاني في " فتح الباري في شرح صحيح البخاري "
أن زيدا قد أدرك ذلك برأيه (!) ونقول: لئن أدرك ذلك زيد برأيه ولم يدرك النبي (صلى
الله عليه وآله) ذلك، فلقد كانت النبوة بزيد أليق منها به (صلى الله عليه وآله)،
والعياذ بالله من فضيلة لابن عم الخليفة تمحق حتى فضيلة النبوة !.). |
ثم
كان نبيا رسولا:
|
روى الصفار بسنده عن زرارة قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام): من الرسول ؟ من النبي ؟ من المحدث ؟
فقال: " الرسول... والنبي... ومنهم من تجمع له الرسالة والنبوة، فكان رسول
الله رسولا نبيا: يأتيه جبرئيل قبلا فيكلمه ويراه، ويأتيه في النوم " (بصائر
الدرجات: 371 ط 1381 ه.). وروى الكليني بسنده عن
الأحول قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن الرسول ؟ والنبي ؟ والمحدث ؟ قال: الرسول... وأما النبي... وكان محمد (صلى الله عليه
وآله) حين جمعت له النبوة وجاءته الرسالة من عند الله يجيئه بها جبرئيل ويكلمه
بها قبلا " (اصول الكافي 1: 176.). وقد مر ما ذكره الشيخ
المفيد: " قرن اسرافيل
برسول الله (صلى الله عليه وآله) ثلاث سنين، يسمع الصوت ولا يرى شيئا. ثم قرن به
جبرئيل عشرين سنة، وذلك حيث اوحي إليه. فأقام بمكة عشر سنين، ثم هاجر الى
المدينة فأقام بها عشر سنين. وقبض وهو ابن ثلاث وستين سنة " (الاختصاص:
130 ط الغفاري. ولا نؤكد صحة نسبة الكتاب الى الشيخ المفيد). وروى الصدوق بسنده عن محمد بن مسلم عن الباقر (عليه السلام) قال:
" لقد مكث رسول
الله (صلى الله عليه وآله) بمكة ثلاث سنين مختفيا خائفا يترقب، ويخاف قومه
والناس. وما أجاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) أحد قبل علي بن أبي طالب
وخديجة - صلوات الله عليهما - " (اكمال
الدين: 189 و 197 كما في البحار 18: 177 و 188.). فأولا - كان
الخوف والإختفاء حتى عن قومه فضلا عن سائر الناس. وثانيا - مع
ذلك كانت الدعوة قد شملت عليا وخديجة واستجابا له ومعه. وروى فيه بسنده عن الحلبي عن الصادق (عليه السلام) قال: " مكث رسول الله (صلى الله عليه وآله) بمكة بعد ما جاءه الوحي عن الله - تبارك وتعالى - ثلاثة عشر سنة، منها ثلاث سنين مختفيا خائفا لا يظهر، حتى أمره
الله أن يصدع بما امر به، فأظهر الدعوة حينئذ " (اكمال
الدين: 189 و 197 كما في البحار 18: 177 و 188.). وروي فيه بسنده عنه عن الصادق (عليه السلام)
أيضا قال: " كان رسول
الله مختفيا بمكة خائفا ثلاث سنين ليس يظهر أمره، وعلي معه وخديجة، ثم أمره الله
أن يصدع بما امر به، فظهر رسول الله وأظهر أمره " (اكمال
الدين: 197.). وروى علي بن ابراهيم القمي قال: " سئل الصادق (عليه السلام) عن قوله [ تعالى ]: * (شهر رمضان الذي انزل فيه القرآن) * كيف كان ؟ وانما انزل القرآن في طول عشرين سنة ؟ فقال: إنه نزل
جملة واحدة في شهر رمضان الى البيت المعمور ثم نزل من البيت المعمور الى النبي
في طول عشرين سنة " (تفسير القمي 1: 66.).
ورواه العياشي في تفسيره (تفسير العياشي 1: 80.) ورواه الكليني في " اصول الكافي " بإسناده عن القمي عن
أبيه الى حفص بن غياث عنه (عليه السلام) (اصول
الكافي 1: 628.) واستند إليه الشيخ الصدوق في عقائده (عقائد
الصدوق: 56.). واليه
يعود ما رواه الطبري في تأريخه بسنده عن ابن عباس وسعيد ابن المسيب قالا: " انزل
على رسول الله الوحي وهو ابن ثلاث وأربعين سنة " (الطبري
2: 292. ورواه الحاكم في المستدرك 2: 610.). وأوضح منه ما مر عن
الطبري أيضا بسنده عن عامر الشعبي قال: " إن رسول الله نزلت عليه النبوة وهو ابن أربعين سنة، فقرن
بنبوته إسرافيل ثلاث سنين، فكان يعلمه الكلمة والشئ ولم ينزل القرآن. فلما مضت
ثلاث سنين قرن بنبوته جبرئيل فنزل القرآن على لسانه عشرين سنة: عشرا بمكة وعشرا
بالمدينة " (الطبري 2: 387 وابن سعد في الطبقات 1: 127 ومثله اليعقوبي مرسلا 2:
23 وابن كثير في البداية والنهاية 3: 4 عن ابن حنبل، والسيوطي في الإتقان 1: 045). والذي نريده من هذه الروايات هو أن مبدأ نزول القرآن الكريم كان
متأخرا عن النبوة بثلاث سنين،
فإذا لاحظنا الروايات القائلة بأن مده نزول القرآن على النبي استغرقت عشرين عاما، مع الروايات القائلة بأن مدة مكث النبي بعد النبوة بمكة كانت ثلاث عشرة سنة،
استنتجنا: أن مبدأ نزول
القرآن كان بعد النبوة بثلاث سنين، إذ لا شك أن القرآن كان ينزل عليه حتى عام
وفاته (التمهيد 1: 82.). نعم روى الطبري كذلك عن ابن سعد عن الواقدي بسنده عن الشعبي أيضا
قال: " قرن إسرافيل
بنبوة رسول الله -
صلى الله عليه [ وآله ] وسلم -
ثلاث سنين، يسمع حسه ولا يرى شخصه، ثم كان بعد ذلك جبرئيل (عليه السلام) "
قال الواقدي: فذكرت ذلك لمحمد بن صالح بن دينار فقال: والله يابن أخي لقد سمعت
عبد الله بن أبي بكر بن حزم، وعاصم بن عمر ابن قتادة يحدثان في المسجد ورجل
عراقي يقول لهما هذا، فانكراه جميعا وقالا: ما سمعنا ولا علمنا الا أن جبرئيل هو
الذي قرن به، وكان يأتيه الوحي من يوم نبئ الى أن توفي - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - (الطبري 2: 387 وفي الطبقات 1: 191.). ولكن قال عنه صاحب " التمهيد ": " هذه الرواية وان كان فيها أشياء لا نعرفها، ولعلها من
اجتهاد الشعبي الخاص، لكن الذي نريده من هذه الرواية هو جانب تحديد نزول القرآن
في مدة عشرين عاما وأن نزوله تأخر عن البعثة بثلاث سنين " (التمهيد
1: 83.). وقد مر أن
الطبري جمع بهذا القول بين القول
المشهور بأن مقام الرسول بمكة بعد الدعوة كان الى ثلاث عشرة سنة، وبين ما
رواه هو عن ابن عباس بأن مقامه بها كان الى عشر سنين، فالعشر سنين من حين أتاه
جبرئيل بالوحي القرآني من الله عزوجل واظهاره الدعوة الى التوحيد، وثلاث عشرة
سنة من أول البعثة بالنبوة (الطبري 2: 387.).
ولا نريد بنقل قول الشعبي
أو ما قاله الشيخ المفيد في " الاختصاص "
اثبات اختصاص اسرافيل بالثلاث سنين الاولى من
النبوة، واختصاص جبرئيل بالوحي القرآني بعد ذلك، على خلاف المعروف والمشهور في
أخبار البعثة. |
أخبار
البعثة:
|
وقبل أن نقف على طرف من أخبار البعثة: لنقف على الأخبار التي تعين يوم المبعث، ولا تعوزنا النصوص فيه: فقد روى الكليني بسنده
عن الصادق (عليه السلام) قال:
" لا تدع صيام يوم سبع وعشرين من رجب، فإنه اليوم الذي انزلت فيه النبوة
على محمد (صلى الله عليه وآله) " (الفروع
من الكافي 2: 149 ط الآخوندي.)
ورواه الصدوق (من لا يحضره الفقيه 2: 90 عن الحسن بن راشد عن الصادق (عليه السلام).
وثواب الأعمال: 99 ط الغفاري.) والطوسي (تهذيب الأحكام 1: 438.) وروى مثله ابن الشيخ الطوسي في أماليه (أمالي
ابن الشيخ: 28.). وروى الكليني عنه (عليه السلام) أيضا قال:
" يوم سبعة وعشرين من رجب نبئ فيه رسول الله (صلى
الله عليه وآله)
" (الفروع من الكافي 1: 469 ط الآخوندي.). وروى بسنده عن الرضا
(عليه السلام) قال: "
بعث الله عزوجل محمدا رحمة للعالمين، في سبع وعشرين من رجب، فمن صام ذلك اليوم
كتب الله له صيام ستين شهرا " (الفروع
من الكافي 2: 149 ط الآخوندي.)
ورواه الطوسي (تهذيب
الأحكام 1: 438.). وروى الصدوق بسنده عنه
(عليه السلام) أيضا قال:
" بعث الله محمدا (صلى الله عليه وآله) لثلاث ليال بقين من رجب، وصوم ذلك
اليوم كصوم سبعين عاما " (ثواب الأعمال: 83 ط الغفاري.). وروى الطوسي بسنده عن
الهادي (عليه السلام) قال:
" يوم السابع والعشرين من رجب يوم بعث الله محمدا (صلى الله عليه وآله) الى
خلقه رحمة للعالمين " (التهذيب 1: 438 الى خبرين آخرين رواهما الشيخ في مجالسه: 349 عن
الصادق (عليه السلام) وفي مصباح المتهجد عن الجواد (عليه السلام) في صيام ذلك
اليوم من دون ذكر للبعثة. وراجع وسائل الشيعة 7: 329.). وروى ابن شهر آشوب عن ابن عباس وأنس بن مالك قالا: " أوحى الله الى محمد (صلى الله عليه وآله) يوم الإثنين السابع والعشرين من رجب " (المناقب
1: 173.) ومن العامة روى
المتقي الهندي في " كنز العمال " عن البيهقي في " شعب الإيمان "، عن سلمان الفارسي قال: " في رجب يوم وليلة من صام ذلك اليوم وقام تلك الليلة كان
كمن صام مائة سنة وقام مائة سنة، وهو لثلاث بقين من رجب، وفيه بعث الله محمدا
" (منتخب كنز العمال بهامش المسند 3: 362.). وأورد الحلبي في سيرته
عن الدمياطي في سيرته عن أبي هريرة قال: " من صام يوم سبع وعشرين من رجب، كتب الله تعالى له صيام
ستين شهرا، وهو اليوم الذي نزل فيه جبرئيل على النبي بالرسالة، وأول يوم هبط فيه
جبرئيل " (السيرة الحلبية 1: 384 وفي آخره دعم لدعوى الشعبي.). وان كانت النصوص من جانب العامة تعوزهم في تعيين يوم المبعث
الشريف، فقد مر ما لا إعواز معه من النصوص في ذلك من طريق أئمة أهل البيت (عليهم
السلام)، ولكن لابد لنا ولا محيص عن الاعتراف بإعواز النصوص في كيفية بدء
البعثة. |
كيفية
بدء البعثة:
|
روي أن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)
قال وهو يصف بعثة النبي محمد (صلى الله عليه وآله): "... حتى استكمل سن الأربعين، ووجد الله قلبه الكريم أفضل
القلوب وأجلها، وأطوعها وأخشعها، فأذن لأبواب السماء ففتحت، وأذن للملائكة
فنزلوا ومحمد (صلى
الله عليه وآله) ينظر
الى ذلك، فنزلت عليه الرحمة من لدن ساق العرش، ونظر الى الروح الأمين جبرئيل
المطوق بالنور طاووس الملائكة، هبط إليه وأخذ بضبعه وهزه وقال: يا محمد ! إقرأ،
قال: ما أقرأ ؟ قال: يا محمد ! * (إقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق إقرأ وربك الأكرم
الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم) * (العلق: 1 - 5.) ثم أوحى إليه ما أوحى وصعد جبرئيل الى ربه. ونزل محمد من الجبل وقد غشيه من عظمة الله وجلال ابهته ما ركبه
الحمى النافضة، وقد اشتد عليه ما كان يخافه من تكذيب قريش إياه ونسبته الى
الجنون، وقد كان أعقل خلق الله واكرم بريته، وكان أبغض الأشياء إليه الشياطين
وأفعال المجانين، فأراد الله أن يشجع قلبه ويشرح صدره، فجعل كلما يمر بحجر وشجر
ناداه: السلام عليك يا رسول الله " (التفسير
المنسوب الى الإمام الحسن العسكري (عليه السلام). كما في البحار 18: 206.). هذا الخبر هو مما يدل على أن أول سورة نزلت - أو الآيات الاولى - هي هذه الآيات الخمس الاول من سورة العلق، ولكنه الخبر الوحيد الذي يدل على أ نها نزلت في بداية البعثة في
اليوم 27 رجب. |
أول
ما نزل من القرآن:
|
أما ما يدل على أ نها أول ما نزل: ففي تفسير القمي عن أبي الجارود
عن الباقر (عليه السلام) في قوله سبحانه:
* (ما ودعك ربك وما قلى) * (الضحى:
3.) قال: ذلك أن أول سورة
نزلت كانت * (اقرأ باسم
ربك الذي خلق) * ثم
أبطأ جبرئيل عن رسول الله (صلى
الله عليه وآله). فقالت
خديجة: لعل ربك قد تركك فلا يرسل اليك ؟ فأنزل الله تبارك وتعالى: * (ما ودعك ربك وما قلى) * (تفسير
القمي 2: 428.). وروى الكليني بسنده عن
الصادق (عليه السلام) قال:
" أول ما نزل على رسول الله (صلى الله عليه وآله): *
(بسم الله الرحمن الرحيم إقرأ باسم ربك الذي خلق) * وآخر ما نزل عليه * (إذا جاء نصر الله) * (اصول الكافي 2: 628.) ورواه
الصدوق أيضا (عيون أخبار الرضا 2: 6.). ونقل العلامة الطبرسي عن
كتاب " الإيضاح " لأحمد الزاهد بإسناده عن سعيد بن المسيب عن علي بن
أبي طالب (عليه السلام) قال:
" سألت النبي (صلى
الله عليه وآله) عن
ثواب القرآن، فأخبرني بثواب سورة سورة على نحو ما نزلت من السماء، فأول ما نزل
عليه بمكة: فاتحة الكتاب، ثم اقرأ
باسم ربك، ثم ن والقلم " (مجمع
البيان 10: 405.). هذه الأخبار هي كل ما جاءنا في أخبار الأئمة الأطهار (عليهم
السلام) في أول ما نزل من القرآن غير مقيدة له ببداية البعثة، اللهم الا ما مر
أولا عن تفسير الإمام (عليه السلام). والتفسير هذا فيه ما لا يعرف بل ينكر، مما طعن به بعض المحققين في
نسبته الى الإمام (عليه السلام)، ولكن ذلك لا يقتضي أكثر من استظهار أن الراوي
كان يحضر عند الإمام (عليه السلام)
فيسأله عن أشياء من تفسير القرآن، وبعد رجوعه الى داره كان يثبت ذلك لديه نقلا
بالمعنى كما فهمه، فربما زاد أو نقص أو أخل حسبما تتحمله طاقته وتسعه ظرفيته.
وهذا انما يقتضي الاحتياط في تلقي ما جاء فيه بالقبول، باشتراط مطابقته أو
موافقته لسائر الآثار الصحيحة، ولا أقل من عدم مخالفته لها، ولا يقتضي عدم
الاعتماد عليه اطلاقا (انظر التمهيد 1: 73.). وليس لنا في كيفية البعثة غير هذا الخبر المنفرد كما ترى - من تفسير الإمام - سوى نص علي بن ابراهيم القمي، فيما إذا تلقيناه كالنص عند إعواز النصوص. قال: " وكان بين الجبال يرعى غنما لأبي طالب، فنظر الى شخص، يقول
له: يا رسول الله ! فقال له: من أنت ؟ قال: جبرئيل، أرسلني الله اليك ليتخذك
رسولا... ونزل جبرئيل وأنزل عليه ماء من السماء وقال: يا محمد ! قم وتوضأ
للصلاة. وعلمه جبرئيل الوضوء وغسل الوجه واليدين من المرفق، ومسح الرأس والرجلين
الى الكعبين، وعلمه السجود والركوع. فلما تم له (صلى الله عليه وآله) أربعون سنة أمره بالصلاة وعلمه حدودها، ولم ينزل عليه أوقاتها،
فكان رسول الله (صلى
الله عليه وآله) يصلي
ركعتين ركعتين في كل وقت. وكان علي بن أبي طالب يألفه ويكون معه في مجيئه وذهابه ولا يفارقه،
فدخل علي (عليه السلام) الى رسول الله
(صلى الله عليه وآله) وهو
يصلي، فلما نظر إليه يصلي قال: يا أبا القاسم ! ما هذه ؟ قال: الصلاة التي أمرني
الله بها. فدعاه الى الإسلام، فأسلم وصلى معه. وأسلمت خديجة. فكان لا يصلي الا
رسول الله وعلي وخديجة. فلما أتى لذلك أيام دخل
أبو طالب الى رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومعه جعفر، فنظر الى رسول الله
وعلي (عليهما السلام) بجنبه يصليان، فقال لجعفر: يا جعفر صل جناح ابن عمك. فوقف
جعفر بن أبي طالب من الجانب الآخر، فلما وقف جعفر على يساره برز رسول الله (صلى
الله عليه وآله) من بينهما وتقدم. فلما أسلم علي وخديجة وجعفر أسلم زيد (بن حارثة الكلبي) بعدهم.
فكان يصلي خلف رسول الله: علي وجعفر وزيد وخديجة (إعلام
الورى: 36، 37 ولم نجده في تفسيره، ورواه عنه ابن شهر آشوب بتغيير يسير كما مر.). وهذا النص من القمي وان
لم يكن نصا من امام معصوم كما هو المفروض في الخبر عن تفسير الإمام (عليه السلام)،
ولكنه على أحسن الظن بالقمي، وباستبعاد أكيد أن يكون قد أخذ ذلك عن غيرهم (عليهم السلام)، لا
يقل شأنا عن النص عند اعواز النص، بل يفضل النص السابق عن تفسير الإمام،
بإنفراده - خبر التفسير - وتظافر أخبار غير قليلة من الخاصة والعامة تنص على بدء
بعثة الرسول بصلاته ثم صلاة علي وخديجة ثم زيد وجعفر بن أبي طالب بتوصية أبيه
أبي طالب، من دون نص على نزول شئ من القرآن، ببدء بعثة النبي (صلى الله عليه
وآله) في الأربعين من عمره. وسننقل هنا عينة من هذه الأخبار. وقبل ذلك لنتريث
قليلا في خبر علي بن ابراهيم القمي عندما يلفت النظر من ذكر السجود قبل الركوع،
فهل في ذلك عناية خاصة ؟ لم نقف على عناية خاصة في
ذلك حتى عثرنا على رواية رواها ابن أبي الحديد في " شرح النهج " بسنده
عن حكيم مولى زاذان قال: سمعت عليا (عليه السلام)
يقول: " صليت قبل الناس سبع سنين، وكنا نسجد ولا نركع. وأول صلاة ركعنا
فيها صلاة العصر، فقلت: يا رسول الله، ما هذا ؟ قال: امرت به " (شرح
النهج 13: 229.). |
أخبار
الصلاة:
|
مر تحت عنوان " علي عند النبي " عن ابن ابي الحديد ما
تمامه: " اختلف في سن علي (عليه السلام)
حين أظهر النبي (صلى
الله عليه وآله)
الدعوة إذ تكامل له أربعون سنة: فالأشهر من الروايات انه كان ابن عشر، وذكر
شيخنا أبو القاسم البلخي وغيره من شيوخنا وكثير من أصحابنا المتكلمين: أنه كان
ابن ثلاث عشرة سنة، ثم ذكر خبر البلاذري والإصفهاني في ضم النبي عليا إليه منذ
كان عمره ست سنين، ثم قال: وهذا يطابق قوله (عليه السلام):
" لقد عبدت الله قبل أن يعبده أحد من هذه الامة سبع سنين " وقوله:
" كنت أسمع الصوت وابصر الضوء سنين سبعا، ورسول الله (صلى الله عليه وآله) حينئذ صامت ما اذن له في الإنذار والتبليغ ". وذلك لأ نه إذا كان عمره يوم اظهار الدعوة ثلاث عشرة سنة، وتسليمه
الى رسول الله (صلى
الله عليه وآله) من
أبيه وهو ابن ست، فقد صح أ نه كان يعبد الله قبل الناس بأجمعهم سبع سنين (شرح
النهج 1: 15.). وروى الكليني بسنده عن
سعيد بن المسيب قال: سألت علي بن الحسين (عليه السلام): ابن كم كان علي بن أبي طالب يوم أسلم ؟ فقال: أو كان كافرا قط ؟ !
إنما كان لعلي (عليه
السلام) حيث بعث الله
عزوجل رسوله (صلى
الله عليه وآله) عشر
سنين، ولم يكن يومئذ كافرا، ولقد آمن بالله تبارك وتعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله) وسبق الناس كلهم الى الإيمان بالله ورسوله، والى الصلاة ثلاث
سنين، وكانت أول صلاة صلاها مع رسول الله الظهر ركعتين (روضة
الكافي: 279.). وروى الشيخ المفيد في " الإرشاد " بسنده الى يحيى بن
عفيف بن قيس الكندي عن أبيه عفيف قال: كنت جالسا مع العباس بن عبد المطلب (رضي الله عنه)
بمكة قبل أن يظهر أمر النبي (صلى
الله عليه وآله)، فجاء
شاب فنظر الى السماء حين تملقت الشمس، ثم استقبل الكعبة فقام يصلي. ثم جاء غلام
فقام عن يمينه، ثم جاءت امرأة فقامت خلفهما، فركع الشاب فركع الغلام والمرأة، ثم
رفع الشاب فرفعا، ثم سجد الشاب فسجدا. فقلت: يا عباس، أمر عظيم ! فقال العباس:
أمر عظيم، أتدري من هذا الشاب ؟ هذا محمد بن عبد الله ابن عبد المطلب، ابن أخي،
أتدري من هذا الغلام ؟ هذا علي بن أبي طالب ابن أخي، أتدري من هذه المرأة ؟ هذه
خديجة بنت خويلد. ان ابن أخي هذا حدثني أن
ربه رب السماوات والأرض أمره بهذا الدين الذي هو عليه، ولا والله ما على ظهر
الأرض على هذا الدين غير هؤلاء الثلاثة (الإرشاد:
20، 21. ومن أقدم من بحث هذا الموضوع كلاميا هو المتكلم المعتزلي الأقدم الشيخ
أبو جعفر الإسكافي المتوفى في 240 ه في كتابه: المعيار والموازنة: 66 - 78
بتحقيق الشيخ المحقق المحمودي. وقد أكثر النقل عن الإسكافي ابن أبي الحديد
المعتزلي في شرح النهج. ومن الباحثين الأقدمين في الموضوع بعد الإسكافي: القاضي
النعمان المصري في كتابه: شرح الأخبار: 178 - 191، فراجع.). وروى الطبرسي خبر ضم النبي عليا إليه في صغره عن كتاب "
دلائل النبوة " للبيهقي (ت 458) بسنده عن ابن اسحاق عن ابن جبر، وروى قبله
بسند البيهقي عن عفيف الكندي قال: كنت امرأ تاجرا، فقدمت منى
أيام الحج، وكان العباس بن عبد المطلب امرأ تاجرا، فأتيته أبتاع منه وأبيعه.
فبينا نحن كذلك إذ خرج رجل من خباء، وأخذ يصلي تجاه الكعبة، ثم خرجت امرأة فقامت
تصلي معه بصلاته، وخرج غلام وأخذ يصلي معه بصلاته. فقلت: يا عباس، ما هذا الدين
؟ فقال: هذا محمد بن عبد الله يزعم أن الله أرسله، وأن كنوز كسرى وقيصر ستفتح
عليه، وهذه امرأته خديجة بنت خويلد، آمنت به، وهذا الغلام ابن عمه علي بن أبي
طالب آمن به، قال عفيف: فليتني كنت آمنت به يومئذ فكنت أكون ثانيا تابعه (إعلام
الورى: 38.). وروى الخبر هذا ابن شهر آشوب في " المناقب " عن كتاب " المبعث
" لابن اسحاق، و " تأريخ الطبري " بثلاثة طرق، و " الإبانة
" للعكبري، بأربعة
طرق، و " تأريخ النسوي
"، والماوردي، ومسند أبي يعلى ويحيى بن معين، وتفسير الثعلبي وعن عبد الله
بن أحمد بن حنبل (مسند الامام أحمد 1: 209.)
بأسانيدهم عن عفيف الكندي وأ نه أخو الأشعث بن قيس الكندي (ورواه
القاضي النعمان في شرح الأخبار 1: 179 قال: أتيت مكة لأبتاع من عطرها وثيابها.) وأن
العباس قال له: ان ابن أخي هذا حدثني: أن ربه رب السماوات والأرض أمر بهذا
الدين، ثم قال: والله ما على ظهر الأرض على هذا الدين غير هؤلاء الثلاثة. وعن ابن اسحاق عن عفيف قال: فلما خرجت من مكة إذا أنا بشاب جميل على فرس قال: يا عفيف ما رأيت
في سفرك هذا ؟ فقصصت عليه فقال: لقد صدقك العباس، والله إن دينه لخير الأديان،
وان امته أفضل الامم. قلت: فلمن الأمر من بعده ؟ قال: لابن عمه وختنه على بنته،
يا عفيف الويل كل الويل لمن يمنعه حقه. ثم نقل عن ابن اسحاق قال: ان النبي كان إذا حضرت الصلاة خرج الى شعاب مكة وخرج معه علي بن
أبي طالب مستخفيا من قومه، فيصليان الصلوات فيها، فإذا أمسيا رجعا. فمكثا كذلك
زمانا . ثم ان أبا طالب رأى النبي وعليا يصليان فسأل عن ذلك فقال النبي:
ان هذا دين الله ودين ملائكته ودين رسله ودين أبينا ابراهيم (عليه السلام).
وقال علي: يا أبت آمنت بالله وبرسوله وصدقته بما جاء به وصليت معه لله. فقال له:
اما إنه لا يدعو الا الى خير، فالزمه. ولكنه نقل عن كتاب الشيرازي قال: ان النبي (صلى
الله عليه وآله) لما
نزل الوحي عليه أتى المسجد الحرام وقام يصلي فيه، فاجتاز به علي - وكان ابن تسع سنين - فناداه: يا علي أقبل الي، فأقبل إليه ملبيا، فقال له: اني رسول
الله اليك خاصة، والى الخلق عامة، تعال يا علي فقف عن يميني وصل معي. فقال: يا
رسول الله حتى أمضي وأستاذن والدي ! قال: اذهب فإنه سيأذن لك. فانطلق يستأذنه في
اتباعه، فقال: يا ولدي: تعلم أن محمدا - والله -
أمين منذ كان، امض واتبعه ترشد وتفلح. فأتى علي (عليه السلام)
ورسول الله قائم يصلي في المسجد، فقام عن يمينه يصلي معه، فاجتاز بهما أبو طالب
وهما يصليان، فقال: يا محمد ما تصنع ؟ قال: أعبد إله السماوات والأرض، ومعي أخي
علي يعبد ما أعبد يا عم... فضحك أبو طالب حتى بدت نواجذه. ولكنه نقل عن ابن
الفياض في " شرح الأخبار " عن أمير المؤمنين (عليه السلام)
قال: مر علينا أبو طالب ونحن ساجدان، فأخذ بيدي وجعل يرغبني في ذلك ويمضي عليه (شرح
الأخبار: 177 و 179 للقاضي النعمان المصري المغربي التميمي الشيعي الفاطمي
الاسماعيلي، المتوفى في 363 ه -. وقد أطلق ابن شهر آشوب عليه لقب: الفياض هنا
وفي كتابه الآخر: معالم العلماء: 136 قال: " ابن الفياض القاضي النعمان ابن
محمد، ليس بامامي، وكتبه حسان ". ولم نجد أحدا غير ابن شهر آشوب لقبه بهذا.
والخبر: عن حبة العرني قال: رأيت عليا (عليه السلام) ضحك على المنبر، ولم أره
ضحك ضحكا أكثر منه حتى بدت نواجذه، ثم قال: بينما أنا ورسول الله (صلى الله عليه
وآله) ببطن نخلة نصلي إذ ظهر علينا أبو طالب، فقال: ما تصنعان يابن أخي ؟ فدعاه
رسول الله (صلى الله عليه وآله) ورغبه في الإسلام فقال: ما أرى بالذي تقول وتصنع
بأسا... ثم قال علي (عليه السلام): اللهم لا أعرف عبدا من هذه الامة عبدك قبلي
غير نبيها - قالها ثلاث مرات ثم قال - لقد صليت قبل أن يصلي أحد سبعا - يعني سبع
سنين. ورواه ابن حنبل في المسند 1: 99.). ونقل عنه عن أبي أيوب
الأنصاري قال: سمعت
النبي يقول: لقد صلت الملائكة علي وعلى علي بن أبي طالب سبع سنين، وذلك أ نه لم
يؤمن بي ذكر قبله. ونقل عن ابن شيرويه الديلمي في " الفردوس " عن جابر
قال: قال النبي (صلى الله
عليه وآله): لقد صلت الملائكة علي وعلى علي بن أبي طالب سبع سنين قبل الناس،
وذلك أ نه كان يصلي ولا يصلي معنا غيرنا. أو: لم يصل فيها غيري وغيره. أو: لم
يصل معي رجل غيره. ونقل عن (مسند أحمد بسنده) عن ابن عباس (مسند الامام أحمد 1: 373
ط 1.). وعن تأريخ الطبري
والبلاذري وجامع الترمذي و " الإبانة " للعكبري، و " الفردوس
" للديلمي و " فضائل الصحابة " لابن حنبل بسندهم عن زيد بن أرقم
عن النبي (صلى الله عليه
وآله) قال: أول من صلى معي
علي (ورواه البلاذري في أنساب الأشراف 2: 93.). ونقل عن ابن حنبل في " مسند العشرة " و " فضائل الصحابة "
والترمذي في " الجامع الصحيح " والنسوي في " المعرفة " وابن
بطة العكبري في " الإبانة " بسندهم عن حبة العرني قال: سمعت عليا يقول: " أنا أول من
صلى مع رسول الله ". وفي " مسند العشرة
" و " فضائل الصحابة " لابن حنبل عن العرني عن علي (عليه السلام) بلفظ: " اللهم لا
أعرف أن عبدا من هذه الامة عبدك قبلي، غير نبيك " قالها ثلاث مرات. وفي مسند أبي يعلى بلفظ: " ما أعلم أحدا من هذه الامة بعد نبيها عبد الله غيري
". وفي مسندي أحمد وأبي
يعلى عن العرني عنه (عليه السلام) قال: " صليت قبل أن يصلي الناس سبعا " (في مسند
أبي يعلي، الورق 31 / بسنده عن حبة العرني عنه (عليه السلام): خمس سنين. أو: سبع
سنين.). ونقل عن سنن ابن ماجة
القزويني وتأريخ الطبري عن عباد بن عبد الله الرواجني قال: سمعت عليا قال: " أنا عبد الله وأخو رسول الله، وأنا الصديق
الأكبر، لا يقولها بعدي الا كاذب مفتر، صليت مع رسول الله سبع سنين ". ونقل عن سنن ابن ماجة وتفسير الثعلبي عن عبد الله بن أبي رافع عن
أبيه قال: ان عليا صلى
مستخفيا مع النبي سبع سنين وأشهر. ونقل عن " شرف النبي " للخرگوشي قال: جاء جبرئيل الرسول بأعلى مكة وعلمه الصلاة فانفجرت من الوادي عين
حتى توضأ جبرئيل بين يدي رسول الله، وتعلم رسول الله (صلى الله عليه وآله) من
الطهارة، ثم أمر به عليا (عليه السلام) (مناقب آل
أبي طالب 2: 14 - 19. هذا هو الفصل الثاني في الجزء الثاني من الكتاب، والفصل
الأول: المسابقة في الإسلام من 4 الى 13. وأما خبر ابن اسحاق في ضم النبي عليا
(عليه السلام) إليه، فقد نقله في فصل الطهارة والرتبة: 179 عن الطبري والبلاذري
والواحدي والثعلبي وشرف النبي وأربعين الخوارزمي ومغازي ابن اسحاق..). والاربلي في " كشف الغمة " ذكر خبر ابن اسحاق في ضم النبي عليا إليه، وأخبار مسند أحمد بن
حنبل، ثم نقل عن " المناقب " للخوارزمي عن عبد الله بن مسعود خبرا
يشبه خبر عفيف الكندي، قال: ان أول شئ علمته من أمر رسول الله (صلى الله عليه
وآله): أ ني قدمت مكة في عمومة لي فأرشدونا على العباس بن عبد المطلب فانتهينا
إليه وهو جالس الى من ثم، فجلسنا إليه. فبينا نحن عنده إذ أقبل رجل من باب الصفا
تعلوه حمرة، وله وفرة جعدة الى أنصاف اذنيه، أقنى الأنف، براق الثنايا، أدعج العينين،
كث اللحية، دقيق المسربة (المسربة: الشعر الدقيق من الصدر الى السرة.) شثن
الكفين، حسن الوجه، معه مراهق أو محتلم، تقفوه امرأة، قد سترت محاسنها، حتى
قصدوا نحو الحجر فاستلمه، ثم استلم الغلام ثم استلمته المرأة، ثم طاف بالبيت
سبعا، والغلام والمرأة يطوفان معه. فقلنا: يا أبا الفضل ان هذ الدين لم نكن
نعرفه فيكم، أو شئ حدث ؟ قال: هذا ابن أخي محمد بن عبد الله، والغلام علي بن أبي
طالب، والمرأة امرأته خديجة بنت خويلد، ما على وجه الأرض أحد يعبد الله تعالى
بهذا الدين الا هؤلاء الثلاثة. ثم قال: ومثله عن عفيف
الكندي... وقال: وكان
عفيف ابن عم الأشعث بن قيس. ورواه أحمد بن حنبل في مسنده والنطنزي في "
الخصائص " ثم نقل عن " الخصائص " في قوله تعالى: * (واركعوا مع الراكعين) * (البقرة:
43.) قال: إنما نزلت في
النبي وعلي خاصة، لأ نهما أول من صلى وركع (ونقله
ابن شهر آشوب في المناقب 2: 13 عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس. وعن الباقر
(عليه السلام).)، فعن علي (عليه
السلام) قال: قال رسول
الله (صلى الله عليه وآله): " نزلت علي النبوة يوم الإثنين، وصلى علي معي يوم الثلاثاء
". ونقل خبر ابن أبي رافع بهذا المعنى عن " المناقب "
للخوارزمي قال: صلى
النبي يوم الإثنين وصلى علي من الغد يوم الثلاثاء، قبل أن يصلي الناس مع النبي
سبع سنين وأشهر. ونقل عن مسند أحمد بن
حنبل بسنده عن علي (عليه السلام) قوله - الذي نقله ابن شهر آشوب عن سنن ابن ماجة
وتأريخ الطبري - "
أنا عبد الله وأخو رسوله (صلى الله عليه وآله)، وأنا الصديق الأكبر، لا يقولها
بعدي الا كاذب مفتر، ولقد
صليت قبل الناس بسبع سنين " (كشف الغمة 1: 79 - 89.). وروى البحراني خبر ابن
اسحاق عن مجاهد بن جبر في ضم النبي عليا (عليه السلام) وهو صغير، في " حلية
الأبرار " عن الصدوق بسنده عن ابن اسحاق (حلية
الأبرار 1: 232.) وفي موضع آخر عن تفسير الثعلبي (حلية
الأبرار 1: 239.) ثم روى الأخبار المارة عن مسند أحمد بن حنبل، ومناقب ابن شهر
آشوب، والكليني والصدوق. ومن العامة بعدما نقل ابن اسحاق خبر المجاهد بن جبر قال: ذكر بعض أهل العلم:
أن رسول الله كان إذا حضرت الصلاة خرج الى شعاب مكة وخرج معه علي بن أبي طالب
مستخفيا من أبيه ومن جميع أعمامه وسائر قومه، فيصليان الصلوات فيها فإذا أمسيا
رجعا. فمكثا كذلك ما شاء الله أن يمكثا. ثم ان أبا طالب عثر عليهما
يوما وهما يصليان، فقال لرسول الله: يابن أخي، ما هذا الدين الذي أراك تدين به ؟
قال: أي عم، هذا دين الله ودين ملائكته ودين رسله ودين أبينا ابراهيم، بعثني
الله به رسولا الى العباد. وذكروا: أ نه قال لعلي: أي
بني، ما هذا الدين الذي أنت عليه ؟ فقال: يا أبت، آمنت بالله وبرسول الله،
وصدقته بما جاء به، وصليت معه لله واتبعته، فقال له: اما انه لم يدعك الا الى
خير فالزمه (السيرة النبوية ابن هشام 1: 263، 264.). وقال البلاذري: " وصلى مع رسول الله - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - وهو ابن احدى عشرة سنة، وهو الثبت " ثم نقل أقل من ذلك (أنساب
الأشراف 2: 90.). ثم روى بسنده عن زيد بن أرقم قال: أول من صلى مع رسول الله علي بن أبي طالب (أنساب
الأشراف 2: 92، 93.). ونقل المحقق بهامشه عن مسند أبي يعلى بسنده عن حبة العرني عنه أ نه
قال: ما أعلم أحدا من هذه الامة بعد نبيها عبد الله قبلي، لقد عبدته قبل أن
يعبده أحد منهم خمس سنين. أو قال: سبع سنين. وعنه قال: بعث رسول الله يوم
الإثنين وأسلمت يوم الثلاثاء (هامش أنساب الأشراف 2: 92.). أجل، هذه عينة وافية من
أخبار الباب، وهي كما رأيناها خالية عن ذكر القرآن ونزوله والقراءة منه في
صلاتهم ولكن - قال صاحب التمهيد - " لا شك أن النبي (صلى الله عليه وآله)
كان يصلي منذ بعثته، وكان يصلي معه علي (عليه السلام) وجعفر وزيد بن حارثة
وخديجة، " ولا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب "... فلابد أن سورة
الفاتحة كانت مقرونة بالبعثة "
(التمهيد 1: 96.). " وإن كان أول ما نزل من القرآن سورة العلق أو آي منها فلم سميت
سورة الحمد بفاتحة الكتاب ؟
إذ ليس المعنى: أ نها كتبت في بدء المصحف، لأن هذا الترتيب شئ حصل بعد وفاة
النبي (صلى الله عليه وآله) أو لا أقل في عهد متأخر من حياته فرضا، في حين أ نها
كانت تسمى بفاتحة الكتاب منذ بدايات نزولها ". وللإجابة يقول:
" أما الآيات الخمس من سورة العلق فهي أول آيات نزلت، وأما سورة الحمد فهي
أول سورة كاملة نزلت، ولذلك سميت بفاتحة الكتاب، ثم لم ينزل من القرآن تباعا الا
بعد الفترة " (التمهيد 1: 80 - 83.). |
فترة
الوحي:
|
في تفسير القمي عن أبي الجارود عن الباقر (عليه السلام) في قوله
سبحانه: * (ما ودعك ربك وما قلى) * قال: ذلك أن أول سورة نزلت كانت * (اقرأ باسم ربك الذي خلق) * ثم أبطأ جبرئيل عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقالت خديجة: لعل ربك قد تركك فلا يرسل اليك ؟ فأنزل الله تبارك
وتعالى: * (ما ودعك ربك
وما قلى) * (تفسير
القمي 2: 428.). وهذا اللفظ المروي هنا في
هذا الخبر عن خديجة (عليها السلام) أخف وطأة والأمر فيه أيسر مما رواه الطبري
بسنده عن عبد الله بن شداد قال: ثم أبطأ عليه جبرئيل فقالت له خديجة: ما أرى ربك
الا قد قلاك (!) فأنزل الله عزوجل: * (والضحى) * (الطبري 2: 300، والتفسير 30: 162.) وقد
خلا عنه ما رواه ابن اسحاق والطبري عنه عن عبد الله بن الحسن عن امه فاطمة بنت
الحسين عن جدتها خديجة في بدء نبوة الرسول (سيرة ابن
هشام 1: 255، والطبري عنه 2: 303.) بل
كأن ابن اسحاق أراد أن يبرئ خديجة عن نسبة تلك المقولة إليها فبدأ برواية خبر عن
عبد الله بن جعفر عن رسول الله قال: امرت أن ابشر خديجة ببيت
من قصب (أي ذهب) لا صخب فيه ولا نصب. وقال: حدثني من أثق به: أن جبرئيل (عليه السلام)
أتى رسول الله فقال: أقرئ خديجة السلام من ربها. فقال رسول الله: يا خديجة، هذا
جبرئيل يقرئك السلام من ربك. فقالت خديجة: الله السلام ومنه السلام وعلى جبرئيل
السلام. ثم قال ابن اسحاق: ثم فتر الوحي عن رسول الله
فترة من ذلك حتى شق ذلك عليه فأحزنه، فجاءه جبرئيل بسورة الضحى: يقسم له ربه - وهو الذي أكرمه بما أكرمه به - أ نه ما ودعه وما قلاه، ويقول: ما صرمك فتركك وما أبغضك منذ أحبك،
وما عندي من مرجعك الي خير لك مما عجلت لك من الكرامة في الدنيا * (ولسوف يعطيك ربك) * من الفلج (الفلج:
الفوز والغلبة.) في
الدنيا والثواب في الآخرة *
(فترضى) * ثم يعرفه الله ما
ابتدأه به من كرامة في عاجل أمره ومنه عليه في يتمه وعيلته وضلالته، واستنقاذه
من ذلك كله برحمته * (وأما
بنعمة ربك) * بما
جاءك من الله من نعمته وكرامته من النبوة فاذكرها وادع إليها. فجعل رسول الله - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - يذكر ما أنعم الله به عليه وعلى العباد به من النبوة سرا الى من
يطمئن إليه من أهله (سيرة ابن هشام 1: 257 - 259.). ولو كان كذلك فلا ينسجم
هذا مع ما رواه الطبرسي عن ابن عباس قال: احتبس الوحي عنه (صلى الله عليه وآله) خمسة عشر يوما، فقال المشركون: ان محمدا قد ودعه ربه وقلاه، ولو
كان أمره من الله لتتابع الوحي عليه، فنزلت السورة (مجمع
البيان 10: 764.). وهذا لا ينسجم مع ما روى الطبري عن ابن عباس أيضا في سنوات
البعثة إذ قال: بعث
رسول الله لأربعين سنة، فمكث بمكة ثلاث عشرة سنة (الطبري
2: 292 بطريقين.) فهل عنى بذلك أ نه (صلى الله عليه وآله) قرأ القرآن على المشركين
معلنا لهم الدعوة منذ بدء البعثة حتى إذا احتبس عنه الوحي خمسة عشر يوما قالوا
فيه ذلك ؟ وروى الطبري عن ابن شهاب عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو يحدث عن فترة الوحي: بينا
أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء فرفعت رأسي، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس
على كرسي بين السماء والأرض. قال رسول الله - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم -: فجئثت منه فرقا (جئثت: خفت وفزعت، وفرقا. خوفا وفزعا.) وجئت
فقلت: زملوني، زملوني ! فدثروني فأنزل الله عزوجل: * (يا أيها المدثر قم فأنذر
وربك فكبر) * (المدثر:
1 - 3.) الى قوله: * (والرجز فاهجر) * قال: ثم تتابع الوحي (الخبر في
التفسير 29: 90 ط بولاق وفي التأريخ 3: 306 ط دار المعارف. ونقله الطوسي في
التبيان 10: 171.). وحسب تعبير الخبر
فان جابرا يصف حديث رسول الله أ نه كان يحدث عن فترة الوحي، والفترة من الفتور،
وهو لا يكون في الوحي الا بين وحيين، فلا يكون الا بعد بدء الوحي، وفي نفس الخبر
نص بالإشارة الى سبق نزول ملك الوحي إليه في حراء: " فإذا الملك الذي جاءني
بحراء جالس على كرسي " وفي آخر الخبر: " ثم تتابع الوحي " في
مقابل " فتر الوحي ". فالخبر اذن لا يدل على أن الآيات من سورة المدثر هي أول ما نزل
عليه (كما في الميزان 20: 83.) وإن
نقل ذلك عن جابر نفسه، كما في ما روى الطبري عن ابن شهاب عن ابن سلمة قال: سألت جابر بن عبد الله: أي القرآن انزل أول ؟ فقال: * (يا أيها المدثر) * فقلت: *
(إقرأ باسم ربك الذي خلق) *
فقال: لا اخبرك الا ما حدثنا النبي قال: جاورت في حراء فلما قضيت جواري هبطت
فاستبطنت الوادي فنوديت فنظرت عن يميني وعن شمالي وخلفي وقدامي فلم أر شيئا،
فنظرت فوق رأسي فإذا هو جالس على عرش بين السماء والأرض... ". وفي لفظ آخر:
" فنظرت عن يميني فلم أر شيئا، وعن شمالي فلم أر شيئا، ونظرت امامي فلم أر
شيئا، ونظرت خلفي فلم أر شيئا، فرفعت رأسي فرأيت شيئا... ". نعم ليس في هذين اللفظين
من الخبر ما مر في اللفظ الأسبق " فإذا الملك الذي جاءني بحراء "
وأيضا ليس فيهما ما كان في الأسبق أ نه (صلى الله عليه وآله) كان يحدث عن فترة الوحي، مع أن الراوي هو أبو سلمة بن عبد الرحمن
نفسه، وهذا غريب ! والراوي
عنه هو الزهري، ولكنه
لم يفهم من الخبر ما ادعاه أبو سلمة بل ونسبه الى جابر في اللفظين المتأخرين من
الخبر دون الأول، ولذلك فإن الزهري فيما رواه عنه الطبري في حديثه عن فترة الوحي
روى اللفظ الأول للخبر ثم
قال: وكان أول شئ أنزل عليه * (إقرأ باسم ربك الذي خلق) * حتى بلغ *
(ما لم يعلم) * (الخبر في
التفسير 29: 90 ط بولاق وفي التأريخ 3: 304 - 306. وفي البخاري 1: 4 وفي صحيح
مسلم 1: 98، 99.) فقد عول على الخبر بلفظه الأول لا الأخيرين، كما فعل البخاري
فرواه دونهما، وان كان مسلم قد رواهما معا. فالمعول على اللفظ الأول
للخبر دون الآخرين، حيث
أقر راوي الخبر أبو سلمة بنقله عن جابر من دون القول بأن أول ما نزل سورة
المدثر، وان كان قد أضاف ذلك إليه في اللفظين الأخيرين (فالعهدة) فيهما على
الراوي دون جابر، فليس من باب الظن والاجتهاد من جابر، كما في " التمهيد
" (التمهيد 1: 94.) وعلى هذا فليس القول بإن أول ما نزل هو سورة المدثر من جابر، بل
هو من نسبة أبي سلمة الى جابر، دون ثبات على هذه النسبة فقد روى هو عنه خلافها
أيضا. نعم لا يمكن تأييد ما في الخبر عنه (صلى الله عليه وآله) أ نه قال:
" فجئثت منه فرقا " أي خفت منه خوفا أو فزعت منه فزعا، لأ نه بظاهره
يتنافى مع ما رواه العياشي في تفسيره عن زرارة قال: قلت لأبي عبد الله (عليه
السلام): كيف لم يخف رسول الله فيما يأتيه من قبل الله أن يكون ذلك مما ينزغ به
الشيطان ؟ فقال (عليه السلام): " إن الله إذا اتخذ عبدا رسولا أنزل عليه
السكينة والوقار، فكان يأتيه من قبل الله عزوجل مثل الذي يراه بعينه " (تفسير العياشي - وعنه في البحار 18: 262.). وروى الصدوق في " التوحيد " بسنده عن محمد بن مسلم
ومحمد بن مروان عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال: " ما علم رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن جبرئيل (عليه
السلام) من قبل الله الا بالتوفيق " (التوحيد:
242 وعنه في البحار 18: 256.). إذن فالتوفيق الإلهي بالوقار والسكينة المنزلة على رسول لا يتركه
ليفزع خوفا من النظر الى ملك الوحي جبرئيل حتى ولو كان بصورته الأصلية إن صح
التعبير. أما اليعقوبي فقد
قال في نزول سورة المدثر: وبعث رسول الله لما استكمل أربعين سنة... وعلى جبرئيل
جبة سندس، وأخرج له درنوكا من درانيك الجنة، فأجلسه عليه، وأعلمه أ نه رسول الله
وبلغه عن الله وعلمه: *
(إقرأ باسم ربك الذي خلق) *
وأتاه من غد وهو متدثر فقال: *
(يا أيها المدثر قم فأنذر) * (تأريخ اليعقوبي 2: 23.). |
هل
نزل القرآن في دور الكتمان ؟
|
ومما يؤيد عدم نزول القرآن في دور الكتمان أننا لا نجد من آيات
القرآن، مما لا خلاف في نزوله قبل سورة الحجر التي في أواخرها قوله سبحانه: * (فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين) * (الحجر: 94.) وهي السورة الرابعة والخمسون في ترتيب النزول، وقبلها في النزول
سورة الشعراء وهي السابعة والأربعون التي في أواخرها قوله سبحانه: * (وأنذر عشيرتك الأقربين) * (الشعراء: 214.) لا نجد في كل ذلك ما يتناسب مع مرحلة الكتمان، بل من خصائص السور
المكية - ومنها هذه
السور - خطابها المشركين
وجدالها معهم في شركهم وكفرهم وجحودهم للمبدأ والمعاد، مما لا يتناسب بظاهره مع
الكتمان بل الإعلان. فسور النمل والقصص والإسراء ويونس وهود ويوسف وحتى الحجر،
وهي السور النازلة بعد الشعراء وقبل الحجر، هي سور تساور المشركين وتحاورهم في
كثير من آياتها، وسورة الحجر بالخصوص تقول في بدايتها: * (ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين ذرهم يأكلوا ويتمتعوا
ويلههم الأمل فسوف يعلمون وما أهلكنا من قرية الا ولها كتاب معلوم ما تسبق من
امة أجلها وما يستأخرون وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر انك لمجنون لو ما
تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين) * (الحجر: 2 - 7.) فهل هي من الكتمان في شئ ؟ ! بل قال العلامة الطباطبائي في تفسيره في التعريف بسورة الحجر: " تشتمل السورة على الكلام حول استهزاء الكفار بالنبي (صلى
الله عليه وآله) ورميه بالجنون، ورمي القرآن الكريم بأ نه من أهذار الشياطين.
ففيها تعزية للنبي (صلى الله عليه وآله) وأمر بالصبر والثبات والصفح عنهم وتطييب
لنفسه الشريفة وانذار وتبشير. وتشتمل السورة على قوله تعالى: *
(فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين) * والآية تقبل الانطباق على ما ضبطه التأريخ أن النبي (صلى الله عليه وآله) اكتتم في أول البعثة - ثلاث سنين أو أربعا أو خمسا - لا يعلن دعوته، لا شتداد الأمر عليه، فكان لا يدعو الا آحادا ممن
يرجو منهم الإيمان، يدعوهم خفية ويسر إليهم الدعوة، حتى أذن له ربه في ذلك وأمره
أن يعلن دعوته. وتؤيده الروايات المأثورة من طرق الشيعة وأهل السنة: أ نه (صلى
الله عليه وآله) كان
يكتتم في أول بعثته سنين لا يظهر فيها دعوته لعامة الناس حتى أنزل الله عليه: * (فاصدع بما تؤمر واعرض عن المشركين انا كفيناك المستهزئين) * فخرج الى الناس وأظهر الدعوة. فالسورة مكية نازلة في أول الدعوة
العلنية " (الميزان 12: 95، 96.). ثم لم يبين أ نه (صلى
الله عليه وآله) إذا
كان - كما قال - لا يدعو الا آحادا خفية وسرا ممن يرجو منهم الإيمان، فأين كان
المستهزئون وبماذا كانوا يستهزئون ؟ وكيف كان استهزاؤهم حتى ان الرسول (صلى الله عليه وآله) دعا عليهم فكفاه الله شرهم وشر استهزائهم ؟ وإذا كان آخر هذه
السورة بداية الإذن بالإعلان فما معنى أن تكون السورة لتعزية الرسول وصبره ؟ ! ولا يختص هذا الإشكال بالعلامة الطباطبائي، فقد درج الجميع على هذا القول بلا بيان لهذا الإجمال. ولعله التفاتا الى هذا الإشكال ودفعا له قال السيد المرتضى في
" الصحيح ": بعد
أن أنذر عشيرته الأقربين انتشر أمر نبوته في مكة، وبدأت قريش تتعرض لشخصه (صلى
الله عليه وآله) بالاستهزاء والسخرية وأنواع التهم (الصحيح
2: 26.). ومن
قبله السيد الحسني فقال في " سيرة المصطفى ": لقد تحدث - بعد دعوته (صلى الله عليه وآله) عشيرته الأقربين - جميع الناس في مكة عن دعوته، وتسربت أنباؤها
لخارج مكة ولم يعد أمرها خافيا على أحد من سكان مكة وجوارها بعد أن أعلنها
بصراحة على بني عمومته وعشيرته (سيرة
المصطفى: 133.). ومعنى ذلك أن الأمر
اختلف بعد دعوة العشيرة عما قبلها فإنما تسربت الدعوة بعد ذلك أما ما قبلها فالسر والكتمان. ولكننا
لا نجد فيما اوحي قبل ذلك ما يختلف عما بعده بل نجد الأمر نفسه قبله. فنجد بداية سورة الشعراء تقول: *
(لعلك باخع نفسك أن لا يكونوا مؤمنين إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت
أعناقهم لها خاضعين وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث الا كانوا عنه معرضين فقد
كذبوا فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزؤن) * (الشعراء: 3 - 6.). وتقول في أواخرها:
* (نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين وإنه لفي
زبر الأولين أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل ولو نزلناه على بعض
الأعجمين فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين كذلك سلكناه في قلوب المجرمين لا
يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم فيأتيهم بغتة وهم لا يشعرون فيقولوا هل نحن
منظرون أفبعذابنا يستعجلون أفرأيت ان متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ما
أغنى عنهم ما كانوا يمتعون وما أهلكنا من قرية الا لها منذرون ذكرى وما كنا
ظالمين وما تنزلت به الشياطين وما ينبغي لهم وما يستطيعون إنهم عن السمع
لمعزولون فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين وأنذر عشيرتك الأقربين
واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين) * (الشعراء: 193 - 215.). فماذا يعني كل هذا الخطاب والعتاب بل التهديد بالعذاب والاعذار
بالانذار ؟ وهل كل هذا من
الكتمان في شئ ؟ والآية الأخيرة هل تعني أن يخفض جناحه لمن اتبعه من المؤمنين
بالدعوة الخاصة، خاصة ؟ أم مع من يؤمن به من عشيرته الأقربين في هذه الدعوة
الخاصة فحسب ؟ أو يؤخذ باطلاق الآية وعمومها ؟ والعلامة الطباطبائي في تفسيره قال في بيان الغرض من هذه السورة:
" غرض هذه السورة تسلية النبي (صلى الله عليه وآله) قبال ما كذبه قومه وكذبوا بكتابه النازل عليه من ربه. وقد رموه
تارة بأ نه مجنون واخرى بأ نه شاعر، وفيها تهديدهم مشفعا ذلك بإيراد قصص جمع من
الأنبياء وهم: موسى وابراهيم ونوح وهود وصالح ولوط وشعيب (عليهم السلام)،
وما انتهت إليه عاقبة تكذيبهم، لتتسلى به نفس النبي (صلى الله عليه وآله) ولا
يحزن بتكذيب أكثر قومه، وليعتبر المكذبون. والسورة من عتائق السور المكية
وأوائلها نزولا، وقد اشتملت على قوله تعالى: * (وأنذر عشيرتك الأقربين) * " (الميزان
15: 249، 250.). ثم
لم يبين متى كان تكذيب أكثر قومه له ؟ وأين كان المكذبون ؟ وبماذا كانوا يكذبون
؟ وبماذا يعتبرون ؟ وهو
بعد لم يدع عشيرته الأقربين وانما يدعوهم بعد نزول الآية في آخر هذه السورة
نفسها ! فكيف التوفيق ؟ ! والسورة التي تسبق
الشعراء في ترتيب النزول هي سورة الواقعة، وهي في أوائلها تثلث الناس يوم
القيامة: * (وكنتم أزواجا ثلثة فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب
المشئمة ما أصحاب المشئمة والسابقون السابقون اولئك المقربون في جنات النعيم) * ثم تقسم هؤلاء السابقين من أصحاب اليمين الى: * (ثلة من الأولين وقليل من الآخرين) * (الواقعة: 13 - 14.) وتعود فتقول: *
(لأصحاب اليمين ثلة من الأولين وثلة من الآخرين وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال
في سموم وحميم وظل من يحموم لا بارد ولا كريم) * (الواقعة: 38 - 44.) وتتابع النعوت والأوصاف فتقول: * (فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة نعيم وأما ان كان
من أصحاب اليمين فسلام لك من أصحاب اليمين وأما ان كان من المكذبين الضالين فنزل
من حميم وتصلية جحيم) * (الواقعة:
88 - 94.) فما معنى الأولين
والآخرين من السابقين من أصحاب اليمين ؟ فهل كل ذلك فيمن استجاب للدعوة الخاصة
السرية ؟ ومن هم ؟ وكم هم ؟ وما معنى أصحاب الشمال ولم تشملهم الدعوة ؟ وكذلك
سائر السور التي سبقت الواقعة. ولكن في مقابل كل ذلك مما يؤيد
سرية المرحلة الاولى من الدعوة ونزول القرآن فيها: هو - من جانب - التناسب الكمي فيما
بين ما نزل من القرآن الى سورة الحجر مع تلك الفترة، ومن جانب آخر: عدم التناسب أو
على الأقل استبعاد أن تكون دعوة العشيرة الأقربين قد حصلت حسب آية: * (وأنذر عشيرتك
الأقربين) * من
سورة الشعراء السابعة والأربعين في
ترتيب النزول من دون أن تكون المرحلة السابقة سرية مكتومة، أي بعد أن تمر على
الدعوة زهاء ثلاث سنين من الدعوة العلنية العامة، مما لا يتناسب ودعوة العشيرة
خاصة بعد كل هذه المدة الطويلة من الدعوة العامة. |
حديث
الإنذار:
|
اللهم الا أن نلتزم بأن الدعوة كانت بعد مقاطعة قريش للرسول
وحصارهم اياه وبني هاشم في شعب أبي طالب في حدود السنة السادسة للبعثة، على ما
رواه فرات بن ابراهيم الكوفي في تفسيره مسندا عن أبي رافع - مولى العباس بن عبد
المطلب - قال: إن رسول الله جمع ولد عبد المطلب في الشعب، وهم يومئذ - ولده
لصلبه وأولادهم - أربعون رجلا. فصنع لهم رجل شاة وثرد لهم ثريدة فصب عليه ذلك
المرق واللحم، ثم قدموها إليهم فأكلوا منه حتى شبعوا، ثم سقاهم عسا واحدا من لبن
فشربوا كلهم من ذلك العس حتى رووا (العس: القدح الكبير.). فقال أبو لهب: والله إن منا نفرا يأكل أحدهم الجفرة (الجفرة مؤنث الجفر وهو من أولاد المعز ما فصل عن امه وبدأ بالرعي بعد
أربعة أشهر، كما في النهاية للجزري.) وما يصلحها فما تكاد تشبعه، ويشرب الفرق من النبيذ فما يرويه،
وان ابن أبي كبشة (هو رجل
من خزاعة خالف قريشا في عبادة الأوثان، شبهوه به، كما في النهاية للجزري.) دعانا على رجل شاة وعس من شراب فشبعنا وروينا، إن هذا لهو السحر
المبين ! ثم دعاهم، فقال لهم: ان الله أمرني أن انذر عشيرتي الأقربين ورهطي المخلصين، وانكم
عشيرتي الأقربون ورهطي المخلصون، وان الله لم يبعث نبيا الا جعل له أخا من أهله
ووارثا ووصيا ووزيرا، فأيكم فيبايعني على أ نه أخي ووزيري ووارثي دون أهلي،
ووصيي وخليفتي (في أهلي) ويكون مني بمنزلة هارون من موسى غير أ نه لا نبي بعدي ؟
! فأمسك القوم. فقال: والله ليقومن قائمكم أو لتكونن في غيركم ثم لتندمن ! فقام علي (عليه السلام) وهم ينظرون إليه كلهم، فبايعه وأجابه الى ما دعاه إليه (تفسير
فرات: 113 كما في البحار 18: 212.). وقد يؤيد دعوى ابن أبي رافع بأن ذلك الجمع وتلك الدعوة كانت في
الشعب أي بعد الإعلان: أن
أبا لهب يلتهب بمشاهدته المعجزة فيتهم الرسول بالسحر وينبزه بكنية ابن أبي كبشة
مما اعتاد عليه المشركون بالنسبة إليه (صلى الله عليه وآله) فالحالة ليست حالة مفاجأة بعد سر وكتمان وانما تناسب سابق خبر أو
علم أو اعلان. وكذلك يؤيد كون ذلك في الشعب بعد الإعلان: أن الأمر أمر انذار لا إخبار، والتبشير أنسب ببدء الإخبار من
الإنذار، وأن الرسول لم يبدأهم بالدعوة إليه والى رسالته، بل الى بيعته ليكون
خليفته بعده، ثم أنذرهم: ليقومن قائمكم أو لتكون في غيركم ثم لتندمن ! فالحالة
والموقف - كذلك - ليس موقف مفاجأة ومبادأة بعد سر وكتمان، بل تناسب سابق علم
وإعلان. ولعله (صلى
الله عليه وآله) امر
بهذه الدعوة في الشعب تحديا لكبرياء قريش، ولما فيها من يأس للكافرين. والظاهر أن خبر أبي رافع
خبر حاضر ناظر مباشر إذ هو مولى العباس بن عبد المطلب وهو من بني هاشم المدعوين
والمجتمعين، فلعله كان مصطحبا لمولاه هذا، ولا نجد فيما بأيدينا مباشرا غيره سوى
علي (عليه السلام)، ورجل من أصحاب النبي من ولد عبد المطلب، لم يعرف بسوى هذا - روى
عنه الخبر: السيد ابن طاووس
في " سعد السعود " عن الجزء الخامس من تفسير محمد بن العباس الحجام
بسنده عن مبارك بن فضالة والحسن
البصري قالا: إن قوما خاضوا في أمر علي (عليه السلام) بعد الذي كان من وقعة
الجمل، فقال رجل من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله): ويلكم ما تريدون من أول
سابق بالإيمان بالله والإقرار بما جاء من عند الله ؟ لقد كنت عاشر عشرة من ولد
عبد المطلب إذ أتانا علي بن أبي طالب (عليه السلام) فقال: أجيبوا رسول الله الى
غداء غد في منزل أبي طالب. فلما ولى تغامزنا وقلنا: أترى محمدا أن يشبعنا اليوم ؟ وما منا
يومئذ من العشرة رجلا الا وهو يأكل الجذعة (الجذعة: الغنم له سنة تامة - مجمع البحرين.) السمينة ويشرب الفرق (الفرق: بالفتح أو الكسر فالسكون: السقاء الممتلئ، وكيل كبير للبن، من
أكيال المدينة.) من
اللبن. فغدوا عليه في منزل أبي
طالب، وإذا نحن برسول الله، فحييناه بتحية الجاهلية وحيانا هو بتحية الإسلام:
فأول ما أنكرنا منه ذلك. ثم أمر بجفنة من خبز ولحم فقدمت الينا، ووضع يده اليمنى
على ذروتها وقال: بسم الله، كلوا على اسم الله. فتغيرنا لذلك ثم تمسكنا لحاجتنا
الى الطعام، وذلك أننا جوعنا أنفسنا للميعاد بالأمس. فأكلنا حتى أنهينا، والجفنة
كما هي مدفقة ثم دفع الينا عسا من لبن - وكان علي يخدمنا - فشربنا كلنا حتى
روينا والعس على حاله. حتى إذا فرغنا قال:
يا بني عبد المطلب: اني نذير لكم من الله عز وجل، اني أتيتكم بما لم يأت به أحد
من العرب، فإن تطيعوني ترشدوا وتفلحوا وتنجحوا. ان هذه مائدة أمرني الله بها
فصنعتها لكم كما صنع عيسى بن مريم (عليه السلام) لقومه، فمن كفر بعد ذلك منكم
فإن الله يعذبه عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين، واتقوا الله واسمعوا ما أقول
لكم. واعلموا - يا بني
عبد المطلب - أن
الله لم يبعث رسولا الا جعل له أخا ووزيرا ووصيا ووارثا من أهله، وقد جعل لي
وزيرا كما جعل للأنبياء قبلي، وإن الله قد أرسلني الى الناس كافة وأنزل علي: * (وأنذر عشيرتك الأقربين) * وقد والله أنبأني به وسماه لي، ولكن أمرني أن أدعوكم وأنصح لكم
واعرض لكم، لئلا يكون لكم الحجة فيما بعد، وأنتم عشيرتي وخالص رهطي، فأيكم يسبق
إليها على أن يؤاخيني في الله ويؤازرني في الله عز وجل، ومع ذلك يكون لي يدا على
جميع من خالفني فأتخذه وصيا ووليا ووزيرا يؤدي عني ويبلغ رسالتي ويقضي ديني من
بعدي وعداتي مع أشياء أشترطها ؟ ! فسكتوا. فأعادها ثلاث مرات ويسكتون، ويثب فيها
علي (عليه السلام) فلما سمعها أبو لهب قال: تبا لك يا محمد ولما جئتنا به، ألهذا
دعوتنا ؟ ! فقال (صلى الله عليه وآله): أما والله لتقومن أو يكون في غيركم ! فوثب علي (عليه السلام)
فقال: يا رسول الله أنا لها. فقال رسول الله: يا أبا الحسن أنت لها، قضي القضاء وجف القلم، يا
علي اصطفاك الله بأولها وجعلك ولي آخرها (سعد
السعود: 106 ط الحيدرية.). فهذا خبر آخر عن مباشر آخر لم يعرف بأكثر من انه عاشر عشرة من
المدعوين من العشيرة الأقربين بني عبد المطلب، ومن أصحاب رسول الله. ويختلف عن
خبر أبي رافع بإبدال موعد الدعوة من الشعب الى منزل أبي طالب - ولا يهم هذا بعد
أن كان منزل أبي طالب في شعبه لأكثر من عامين - ومن عدد الأربعين الى العشيرة،
وسيأتي الجمع بينهما، وبتفصيل أكثر أيضا. ولكنه يشترك مع خبر أبي رافع في استبعاد أن تكون الدعوة للإعلان
بالنبوة بعد الكتمان. بل
تقريب أن تكون مسبوقة بالإعلان لا الكتمان، فمقال الرسول لا زال لا يناسب ذلك. سوى علي (عليه السلام) وهذين الصحابيين: أبي رافع ورجل من آل عبد المطلب لانجد فيما بأيدينا من رواة الخبر
مباشرا آخر. ولعله لدفع وهم عدم اشتهار القصة قال الشيخ الطبرسي في " مجمع
البيان ": وقد فعل ذلك النبي واشتهرت القصة بذلك عند الخاص والعام. ثم أورد عن الثعلبي في
تفسيره الخبر المأثور عن البراء بن عازب الأنصاري - وهو ثالث صحابي راو للخبر
غير مباشر فيه - قال: لما
نزلت هذه الآية جمع رسول الله بني عبد المطلب - وهم يومئذ أربعون رجلا - الرجل
منهم يأكل المسنة (الجفرة) ويشرب العس. فأمر عليا (عليه السلام) برجل شاة فأدمها
(أدمها: صنع منها أداما أي
طعاما.)، ثم قال: ادنوا
بسم الله، فدنا القوم عشرة عشرة فأكلوا حتى صدروا، ثم دعا بقعب (القعب: إناء من خشب للسوائل.) من لبن فجرع منه جرعة ثم قال لهم: اشربوا بسم الله، فشربوا حتى
رووا. فبدرهم أبو لهب فقال: هذا ما سحركم به الرجل. فسكت يومئذ ولم يتكلم. ثم دعاهم من الغد
على مثل ذلك من الطعام والشراب، ثم أنذرهم رسول الله فقال: يا بني عبد المطلب !
اني أنا النذير اليكم - من الله عزوجل - والبشير، فأسلموا وأطيعوني تهتدوا، ثم
قال: من يؤاخيني ويؤازرني ويكون وليي ووصيي بعدي وخليفتي (في أهلي) يقضي ديني،
فسكت القوم، فأعادها ثلاثا كل ذلك يسكت القوم ويقول علي (عليه السلام): أنا.
فقال المرة الثالثة: أنت. فقام القوم وهم يقولون لأبي طالب: أطع ابنك فقد أمره
عليك ؟ ! (مجمع البيان للطبرسي 7: 322 عن تفسير الثعلبي.). ولا يمتاز الخبر عن الأولين بشئ سوى ما يمكن أن
يجمع به بين عددي المدعوين في الخبرين: العشرة والأربعين، وذلك أن ابن عازب قال: فدنا القوم عشرة عشرة.
وقد قال من قال: وهم يومئذ أربعون رجلا. وسوى الخبر السابق عن
تفسير الحجام لا نجد فيما بأيدينا أي خبر آخر عن أي رجل آخر من بني هاشم بل بني
عبد المطلب من العشيرة الأقربين للنبي (صلى الله عليه وآله) المدعوين بهذه
الدعوة الخاصة، حتى عن العباس عمه الحاضر في تلك الدعوة والمحجم عن الاستجابة
لدعوة الرسول، مما جعله علي (عليه السلام) سببا لوراثته من ابن عمه النبي دون عمه
العباس، إن صح التعبير بالوارثة، وذلك: فيما رواه السيد ابن
طاووس في " سعد السعود " عن تفسير الحجام أيضا عن الحسين بن الحكم
الجري بأسناده ومنها
عن الطبري بسنده عن ربيعة
بن ناجد: أن رجلا قال لعلي (عليه السلام): يا أمير المؤمنين لم ورثت ابن عمك دون عمك ؟ فقال علي (عليه
السلام): هاؤم ! ثلاث مرات حتى أشرأب الناس ونشروا آذانهم ثم قال: دعا رسول
الله، أو جمع بني عبد المطلب، كلهم يأكل الجذعة ويشرب الفرق، فصنع لهم مدا من
طعام فأكلوا حتى شبعوا، وبقي الطعام كما هو كأنه لم يمس ثم دعا بغمر (الغمر: القدح الصغير.) فشربوا حتى رووا وبقي الشراب كأ نه لم يمس ولم يشربوا (التكملة
من الطبري 2: 321.) ثم قال: يا بني عبد المطلب إني بعثت إليكم خاصة، والى الناس عامة،
وقد رأيتم من هذه الآية ما رأيتم، فأيكم يبايعني على أن يكون أخي وصاحبي ووارثي
؟ فلم يقم إليه أحد. فقمت - وكنت أصغر القوم
سنا - فقال: اجلس. ثم قال
(قوله) ثلاث مرات كل ذلك أقوم إليه فيقول لي: اجلس حتى كانت الثالثة، فضرب يده
على يدي. فلذلك ورثت ابن عمي دون عمي (سعد
السعود: 104، 105 ط الحيدرية. واسم الراوي في النسخة المطبوعة: أبي ربيعة بن
ماجد، وفي البحار 18: 214 أبي ربيعة بن ناجد وفي علل الشرائع ربيعة ابن ناجد
وكذلك في الطبري 3: 321 وهو الصحيح.). ورواه الصدوق في "
علل الشرائع " بسنده عن ربيعة بن ناجد (علل
الشرائع: 67 كما في البحار 18: 177.). وكذلك
الطبري في تأريخه (تأريخ
الطبري 2: 321.) ولم
نجد الخبر في كتاب الحبري المطبوع في طبعتين (طبعة
السيد أحمد الحسيني. وطبعة السيد محمد رضا الحسيني الجلالي.). وهذا الخبر كالأخبار السابقة إنما ينسجم مع كون الدعوة في الشعب أو
بعد الإعلان لا مع السر والكتمان، ولا سيما بالنظر الى قوله (صلى الله عليه وآله): " إني بعثت اليكم خاصة، والى الناس عامة ". وهذه الجملة
وان كانت تنسجم مع المبادأة بالدعوة الا أن سائر الجمل في كلام الرسول لا تنسجم
وذلك. والخبر ليس فيه عدد المدعوين، ولكن... روى مختصره فرات بن ابراهيم في تفسيره مسندا عن علي (عليه
السلام) قال: دعاهم
فجمعهم على فخذة شاة وقعب من لبن، وإن فيهم يومئذ ثلاثين رجلا (تفسير
فرات: 111 و 112، كما في البحار 18: 211، 212.). ونقله القمي في تفسيره فقال: نزلت بمكة فجمع رسول الله بني هاشم وهم أربعون رجلا، كل واحد منهم
يأكل الجذعة ويشرب القربة، فاتخذ لهم طعاما يسيرا، وأكلوا حتى شبعوا، فقال رسول
الله: من يكون وصيي ووزيري وخليفتي ؟ فقال لهم أبو لهب: جزما سحركم محمد.
فتفرقوا. فلما كان اليوم الثاني
أمر رسول الله ففعل لهم مثل ذلك، فقال لهم رسول الله: أيكم يكون وصيي ووزيري وخليفتي ؟ فقال أبو
لهب: جزما سحركم محمد. فتفرقوا. فلما كان اليوم الثالث أمر رسول الله ففعل لهم مثل ذلك فقال لهم رسول الله: أيكم يكون
وزيري وينجز عداتي ويقضي ديني ؟ فقام علي (عليه السلام) فقال: أنا يا رسول الله.
فقال رسول الله: أنت هو. وكان أصغرهم سنا وأحمشهم - أي أدقهم - ساقا وأقلهم مالا (تفسير
القمي 2: 124 ط النجف الأشرف.).
وأول ما في هذا الخبر المختص بل المختزل بل المنقول بالمعنى لا
النص هو أ نه عبر عن المدعوين
ببني هاشم لا بني عبد المطلب، ففوت
المطعن على ابن تيمية ومن شاكله ممن طعن في الخبر بأن بني عبد المطلب
لم يبلغوا يومئذ أربعين
رجلا. ولكن الخبر كسوابقه
إنما ينسجم مع كون الدعوة في الشعب أو بعد الإعلان لا مع السر والكتمان، ولا مع
مبادأتهم بالدعوة.
والطريق المسند للخبر عن علي (عليه السلام) غير منحصر بربيعة بن ناجد فالسيد كما رواه عنه في " سعد
السعود " رواه في " الطرف " عن الأعمش (علل
الشرائع: 68 كما في البحار 18: 178.)،
والصدوق الذي رواه عن بن ناجد رواه أيضا بسند الأعمش عن عبد الله ابن الحارث بن
نوفل عن علي (عليه السلام) قال: لما انزلت *
(وأنذر عشيرتك الأقربين) * أي
رهطك المخلصين، دعا رسول الله (صلى
الله عليه وآله) بني
عبد المطلب وهم إذ ذاك أربعون رجلا يزيدون رجلا أو ينقصون رجلا، فقال: أيكم يكون
أخي ووارثي ووزيري ووصيي وخليفتي فيكم بعدي ؟ فعرض عليهم ذلك رجلا رجلا، كلهم
يأبى ذلك حتى أتى علي فقلت: أنا يا رسول الله، فقال: يا بني عبد المطلب هذا أخي
ووارثي ووصيي ووزيري وخليفتي فيكم بعدي. فقام القوم يضحك بعضهم الى بعض ويقولون
لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع وتطيع لهذا الغلام (الطرف: 7
كما في البحار 18: 179.). والخبر كسوابقه إنما ينسجم مع كون الدعوة في الشعب أو بعد الإعلان
لا مع السر والكتمان، ولا مع مبادأتهم بالدعوة، بل فيه تعريض بأبي طالب وكأنه
عرف بالسماع للرسول. والسيد ابن طاووس والشيخ الصدوق قد اختصرا الخبر متنا وسندا،
وأكملهما: الشيخ الطوسي في
أماليه بطريقين عن الأعمش عن عبد الله بن الحارث بن نوفل عن عبد الله بن عباس عن
علي (عليه السلام) قال: لما نزلت هذه الآية * (وأنذر عشيرتك الأقربين) * على رسول الله (صلى الله عليه وآله) دعاني فقال لي: يا علي، إن الله
تعالى أمرني أن انذر عشيرتي الأقربين، فضقت بذلك ذرعا وعرفت أ ني متى اباديهم
بهذا الأمر أرى منهم ما أكره، فصمت على ذلك، فجاءني جبرئيل فقال: يا محمد انك ان
لم تفعل ما امرت به عذبك ربك ! فاصنع لنا يا علي - صاعا من طعام واجعل عليه رجل
شاة، واملأ لنا عسا من لبن. ثم اجمع لي بني عبد المطلب حتى اكلمهم وابلغهم ما
امرت به. ففعلت ما أمرني به ثم
دعوتهم أجمع، وهم يومئذ أربعون رجلا يزيدون رجلا أو ينقصون رجلا، فيهم أعمامه:
أبو طالب وحمزة والعباس وأبو لهب... فلما اجتمعوا له دعاني بالطعام الذي صنعت
لهم، فجئت به، فلما وضعته تناول رسول الله جذمة (الجذمة: القطعة، وفي الطبري: حذية من اللحم: ما قطع طولا.) من اللحم فنتفها بأسنانه ثم ألقاها في نواحي الصفحة ثم قال: خذوا
بسم الله. فأكل القوم حتى صدروا مالهم بشئ من الطعام حاجة، وما أرى الا مواضع
أيديهم. وأيم الله الذي نفس علي بيده ان كان الرجل الواحد منهم ليأكل ما قدمت
لجميعهم. ثم جئتهم بذلك العس فشربوا حتى رووا جميعا، وأيم الله ان كان الرجل
الواحد منهم ليشرب مثله. فلما أراد رسول الله أن يكلمهم بدره أبو لهب الى الكلام
فقال: لشد ما سحركم صاحبكم ! فتفرق القوم ولم يكلمهم رسول الله. فقال لي من الغد:
يا علي، ان هذا الرجل قد سبقني الى ما سمعت من القول فتفرق القوم قبل أن اكلمهم.
فعد لنا من الطعام بمثل ما صنعت ثم اجمعهم لي. ففعلت ثم جمعتهم فدعاني بالطعام
فقربته لهم، ففعل كما فعل بالأمس، وأكلوا حتى مالهم به من حاجة، ثم قال: اسقهم،
فجئتهم بذلك العس فشربوا حتى رووا منه جميعا. ثم تكلم رسول الله فقال: يا بني عبد المطلب اني - والله - ما أعلم شابا في العرب جاء قومه
بأفضل مما جئتكم به، اني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله عزوجل أن
أدعوكم إليه، فأيكم يؤمن بي ويؤازرني على أمري فيكون أخي ووصيي ووزيري وخليفتي
(في أهلي) من بعدي ؟ فأمسك القوم وأحجموا عنها
جميعا. فقمت... فقلت: أنا - يا نبي الله - أكون وزيرك على ما بعثك الله
به. فأخذ بيدي - واني لأحدثهم سنا وأرمصهم عينا وأعظمهم بطنا وأحمشهم ساقا - ثم
قال: ان هذا أخي ووصيي ووزيري وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا... فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع
(امالي الطوسي: 20، 21 كما في البحار 18: 191، 192 وروى مثله فرات بن
ابراهيم في تفسيره: 108، 109.). وانما كنى (عليه السلام)
بدقة الساق وعظم البطن ورمص العين أي وسخه عن صغر سنه ويختلف هذا اللفظ من الخبر
عن سوابقه بالنص على المبادأة بأمره معهم بهذه الدعوة. وان كان ينقص عن خبر
تفسير الحجام بعدم " انذار " فيه، كسوابقه. ورواية الخبر عن عبد
الله بن عباس نوع اعتراف بعدم اسلام أبيه العباس يومذاك بهذه الدعوة الخاصة المكررة ثلاثا، بينما فيه - ما كان في
الخبر السابق - من التعريض بأبي طالب وكأ نه قد عرف فيهم بالسمع والطاعة للرسول،
كما فيه - وكما في سوابقه - معرفة أبي لهب السابقة عن النبي بما وصفه بالسحر،
فكأ نه أمر قد عرف من قبل، وان كان نص الخبر بالمباد أة. وأحد الطريقين اللذين روى بهما الطوسي الخبر هو طريق الطبري
الى ابن عباس (وطريق
الطبري هكذا: حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة قال: حدثني محمد بن اسحاق (صاحب
المغازي) عن عبد الغفار بن القاسم، عن المنهال بن عمرو، عن عبد الله بن الحارث
بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، عن عبد الله بن عباس، عن علي بن أبي طالب
قال... ولكن الخبر لا يوجد في سيرة ابن هشام بصفته تهذيبا (!) لسيرة ابن اسحاق.
ولكن نقل نص ابن اسحاق القاضي النعمان المصري في كتابه: شرح الأخبار 1: 106، 107
لا بلفظ المتكلم عن علي (عليه السلام) بل بلفظ حكاية الغائب وقول أبي لهب فيه
هكذا: لو لم تستدلوا على سحر صاحبكم الا بما رأيتموه صنع في هذا الطعام واللبن
لكفاكم. وهذا يدل على سابق معرفتهم باتهام النبي بالسحر. وقول الرسول فيه "
وخليفتي فيكم " وليس خليفتي في أهلي.) في تأريخه وتفسيره (تأريخ
الطبري 3: 319 - 321 وتفسيره 19: 74، 75 ط بولاق ولكنه في تفسيره حذف جملة
" خليفتي فيكم " واستبدلها بجملة " كذا وكذا " في الموضعين
فقال في الموضع الأول: " فأيكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي وكذا
وكذا " ! وفي الموضع الثاني: " ان هذا أخي وكذا وكذا " ! أما ابن
كثير الشامي فكأ نه استكثر هذه الجملة على علي (عليه السلام) فمع اعتماده في
تأريخه على تأريخ الطبري مع ذلك لم يعتمد عليه هنا بل عول على تفسيره كما فعل
ذلك في تفسيره 3: 315 والبداية والنهاية 3: 40 والسيرة النبوية له 1: 459. وجاء في " فلسفة التوحيد والولاية " للمرحوم الشيخ محمد
جواد مغنية ما معناه: أن من القدماء الذين رووا نص النبي على علي بالخلافة عندما
دعا عشيرته وبلغهم رسالة ربه كل من: ابن حنبل في مسنده وابن الأثير في كامله.
ومن المتأخرين: محمد عبد الله عنان في " تأريخ الجمعيات " ومحمد حسين
هيكل في الطبعة الاولى من " حياة محمد " ولكنه في الطبعة الثانية فما
بعد في مقابل " خمسمائة جنيه " ! أخذها من " جماعة " حرف
منه جملة " خليفتي من بعدي " الى " خليفتي في أهلي " وبهذا
قد مسخ الحديث المذكور. انظر: فلسفة التوحيد والولاية: 179 و 132. وجاء في التعليقة على "
أعيان الشيعة " أن الدكتور هيكل في مقابل شراء الف نسخة من كتابه قد حرف
الحديث ومسخه في الطبعة الثانية منه واقتصر على جملة: أيكم يؤازرني على هذا
الأمر. هذا ما حكاه السيد الحسني في " سيرة المصطفى: 13، 131 ".
والصحيح ما في " الصحيح ": أن هيكل بعد أن ذكر في الطبعة الاولى من
حياة محمد: 104 نص الطبري في التأريخ: عاد في الطبعة الثانية 1354 ه صفحة: 139
فحذف " خليفتي فيكم " واقتصر على قوله: " ويكون أخي ووصيي "
أما الخمسمائة جنيه فإنها كانت ثمن الف نسخة من كتابه كل نسخة بنصف جنيه. فلا
منافاة ولا خلاف، ولكنه الاعتساف وخلاف الشرع والإنصاف.) واللفظ في الموضعين " وخليفتي فيكم " لا " خليفتي
في أهلي " والواسطة بين الطوسي والطبري: جماعة عن أبي المفضل عن الطبري،
فمن أضاف أو حرف ؟ ليت شعري ! وقد مر عن
الطبرسي أ نه روى الخبر في
تفسيره " مجمع البيان " عن تفسير الثعلبي عن البراء بن عازب. ورواه في
" إعلام الورى "
عن تفسيري الثعلبي النيسابوري وأبي سعيد الخرگوشي، بعنوان: مما ذكره الرواة، من
دون تعيين راو خاص قال: جمع بني عبد المطلب في دار
أبي طالب وهم أربعون رجلا يومئذ يزيدون رجلا أو ينقصون رجلا، وكان قد صنع لهم
فخذ شاة مع مد من البر وأعد لهم صاعا من اللبن، وقد كان الرجل منهم يأكل الجذعة
في مقام واحد ويشرب القربة من الشراب. ثم أمر بتقديمه لهم، فقدم وأكلت الجماعة
من ذلك اليسير حتى علوا منه، ولم يبين فيه ما أكلوه وما شربوه منه. ثم قال لهم بعد أن شبعوا ورووا: يا بني عبد المطلب ان الله قد بعثني الى الخلق كافة، وبعثني اليكم
خاصة فقال: * (وأنذر عشيرتك
الأقربين) * وأنا أدعوكم الى
كلمتين خفيفتين في الميزان تملكون بها العرب والعجم وتنقاد لكم بهما الامم
وتدخلون بهما الجنة وتنجون بهما من النار: شهادة أن لا اله الا الله وأ ني رسول
الله. فمن يجيبني الى هذا الأمر ويؤازرني على القيام به حتى يكون أخي ووصيي
ووزيري ووارثي وخليفتي من بعدي ؟ ! فلم يجب أحد منهم. فقام علي (عليه السلام) وقال:
أنا يا رسول الله اؤازرك على هذا الأمر، فقال: اجلس فأنت أخي ووصيي ووارثي
وخليفتي من بعدي، فنهض القوم وهم يقولون لأبي طالب: يهنك اليوم أن دخلت في دين
ابن أخيك وقد جعل ابنك أميرا عليك (اعلام
الورى: 162، 163.). ولم يذكر الطبرسي لهذه الرواية اسم راو خاص، وقد يكون نقلا بالمعنى دون لفظ خاص، ومهما كان فإن هذا اللفظ
ينسجم مع المبادأة بالدعوة، ويشترك مع سوابقه في عدم الإنذار فيه اللهم الا
مفهوم قوله: " وتنجون بهما من النار " بلا بيان النار أي نار هي ؟
وأيضا في أخره ما يشعر باستشعار القوم الميل الى دينه من أبي طالب (رضي الله
عنه) فنهوه عن ذلك. أما ابن شهر آشوب في " المناقب " فقد أشار الى ما ذكره الطبري في تأريخه وقبله محمد بن اسحاق في
كتابه وأحمد في مسنده وفضائل الصحابة والخرگوشي في تفسيره عن أبي رافع والبراء
بن عازب وابن عباس وربيعة ابن ناجد وأضاف ابن جبير، وأدخل أخبارهم بعضها في بعض
ثم نقل نظم الخبر في شعر دعبل الخزاعي وستة مقاطع من شعر الحميري ومقطعين من
العوني (المناقب 1: 24 - 26. وذكر مختصر الخبر الاربلي في " كشف الغمة
1: 327 - 328 عن ابن البطريق في " العمدة " وقال: " سبق ذكره
أبسط من هذا ". ولكني لم أجده فيه قبل هذا.). هذا ما ذكره بعنوان
" مسابقته في البيعة " في فضائل علي (عليه السلام)، ولكنه قبل ذلك في مبعث النبي قال:
روى أ نه لما نزل قوله: * (وأنذر عشيرتك الأقربين) * صعد رسول الله ذات يوم
الصفا فقال: يا صباحاه ! فاجتمعت إليه قريش فقالوا: مالك ؟ قال: أرايتكم ان
أخبرتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم ما كنتم تصدقونني ؟ قالوا: بلى. قال: فإني
نذير لكم بين يدي عذاب شديد ! فقال أبو لهب: تبا لك ألهذا دعوتنا ! فنزلت سورة
تبت (المناقب 1: 46.)
واكتفى المجلسي في باب المبعث (البحار
18: 197.) من " المناقب " بهذا الفصل وهذا النقل فقط، فبدا وكأن
هذا كل ما يرويه ابن شهر اشوب في هذه الآية. بينما الخبر مرسل، أول ما
فيه أ نه ليس انذرا للأقربين بل لقريش فهو على خلاف لفظ الآية. ولعله لهذا قدم الطبري في تأريخه حول الآية رواية ابن عباس ثم ابن
ناجد السابقين، وقد نقل الأول عن ابن اسحاق، ثم عاد فنقل عنه - وجعله ثالثا وآخر
ما نقل حول الآية - عن الحسن البصري قال: لما نزلت هذه الآية على رسول الله: *
(وأنذر عشيرتك الأقربين) * قام رسول الله بالأبطح ثم قال: يا بني عبد المطلب، يا
بني عبد مناف، يا بني قصي، ثم فخذ قريشا قبيلة قبيلة حتى مر على آخرهم فقال: إني
أدعوكم الى الله وانذركم عذابه (الطبري
3: 322 والخبر في التفسير 19: 75 ط بولاق.). ولكن الطبري - كالمازندراني - لم يذكر ما في مثل هذا النقل من ضعف
الإرسال في السند ومن الإشكال في متنه ودلالته، وكأ
نهما لم يريا بين معنى الآية وما نقلاه من عمل الرسول بها أي تناف أو خلاف. والظاهر أن ما أرسله ابن
شهر آشوب هو ما في " الدر المنثور " عن البخاري وابن جرير وابن المنذر
وابن مردويه وابن أبي حاتم وسعيد بن منصور عن ابن عباس. وعلى هذا فتكون الرواية عن ابن عباس على صورتين: الاولى عنه عن علي (عليه السلام) في يوم الدار والدعوة، والثانية هذه
الموقوفة عليه من دون اسناد عن أبيه العباس أو علي (عليه السلام)، فالاولى هي الأولى بالقبول سندا وموافقة للكتاب، والثانية مقطوعة مخالفة لظاهر الآية: " الأقربين " فهي هراء. وأظهر منها هراء
ما في " الدر المنثور " أيضا عن أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وابن
جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في " شعب الإيمان
" وفي " الدلائل " عن أبي هريرة قال: لما نزلت هذه الآية *
(وأنذر عشيرتك الأقربين) * دعا رسول الله قريشا وعم وخص فقال: يا معشر قريش
أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم ضرا ولا نفعا. يا معشر بني كعب بن
لؤي... يا معشر بني قصي... يا معشر بني عبد مناف... يا بني عبد المطلب... - في
كلها يقول: أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم ضرا ولانفعا - وفي آخر
الخبر: يا فاطمة بنت محمد انقذي نفسك من النار فإني لا أملك لك ضرا ولا نفعا،
الا أن لكم رحما وسابلها ببلالها ! فهذه الرواية أبعد ما تكون من الآية حيث تقول: إنه (صلى الله عليه وآله) جعل يدعو قريشا قبيلة قبيلة، فكأن أبا
هريرة يعمم الإنذار قريشا عامة، بينما الآية تصرح بالعشيرة الأقربين، وهم إما
بنو عبد المطلب أو بنو هاشم. وكأن أبا هريرة - أو من أجرى هذا الهراء على لسانه
- كان ناظرا الى هذا الإشكال بالخلاف بين عمل الرسول بالتعميم ومفاد الآية
بالتخصيص، فقال: " وعم وخص " وهو لا يرفع الإشكال. ثم كيف دعاهم
فجمعهم فأنذرهم بهذا ؟ وكيف جمع معهم ابنته فاطمة وكم كان عمرها يومئذ ؟ واين
كان أبو هريرة يوم نزول الآية وقد أسلم قبل وفاة النبي ببضع سنين والخبر مقطوع
عليه. فهو مردود. وأبعد من
ذلك في الابتعاد بمفاد
الآية عن الإمام علي (عليه السلام) وفضله وسبقه ما في " الدر المنثور
" أيضا عن الطبراني وابن مردويه عن أبي امامة قال: لما نزلت * (وأنذر عشيرتك الأقربين) * جمع رسول الله بني هاشم فأجلسهم على الباب، وجمع نساءه وأهله
فأجلسهم في البيت، ثم اطلع عليهم فقال: يا بني هاشم اشتروا أنفسكم من النار،
واسعوا في فكاك رقابكم وافتكوها بأنفسكم من الله فإني لا أملك لكم من الله شيئا.
ثم أقبل على أهل بيته فقال: يا عائشة بنت أبي بكر ويا حفصة بنت عمر ويا ام سلمة
ويا فاطمة بنت محمد، ويا ام الزبير عمة رسول الله، اشتروا (كذا) أنفسكم من الله
واسعوا في فكاك رقابكم فإني لا أملك لكم من الله شيئا ولا اغني ! نقل كل ذلك العلامة الطباطبائي في تفسيره " الميزان " وعلق
على هذه الرواية الثالثة فقال:
فقوله تعالى: *
(وأنذر عشيرتك الأقربين) * آية
مكية في سورة مكية، ولم يقل أحد بنزول الآية بالمدينة، فأين كانت يوم نزولها
عائشة وحفصة وام سلمة ولم يتزوج النبي (صلى الله عليه وآله) بهن الا في المدينة
؟ ثم قال: فالمعتمد من الروايات ما يدل على أ نه (صلى الله عليه وآله) خص
بالإنذار يوم نزول الآية بني هاشم أو بني عبد المطلب. ثم يقول: ومن عجيب الكلام
قول الآلوسي بعد نقل الروايات: وإذا صح الكل (بنقل الصحاح) فطريق الجمع أن يقال
بتعدد الانذار ! (الميزان 15: 333 - 335.). ومن نافلة القول أن نقول: لا يرد عندنا أي احتمال في افتعال هذه الأقوال حول هذه الآية، سوى
الابتعاد بمفادها حسب الخبر الصحيح عما في ذلك من الدليل على سبق علي (عليه
السلام) في الإيمان وسبق قول الرسول له: " أنت أخي ووصيي ووارثي وخليفتي من
بعدي ". ولكن لاحافظة لكذوب: ومهما تكن عند امرئ من
خليقة * وان خالها تخفى على الناس تعلم نعم من الرواة من لم
يكن يفكر في شئ سوى الفخر بأسلافه، فلم يأبه بذكر شئ سوى ذلك. نجد مثال ذلك في هذا الموضوع عند اليعقوبي حيث روى الخبر عن
الفضل بن عبد الرحمن الهاشمي من ولد ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب. قال: أمره
الله عزوجل أن ينذر عشيرته الأقربين، فوقف على " المروة " ثم نادى
بأعلى صوته: يا آل فهر، فاجتمعت إليه بطون قريش حتى لم يبق أحد منهم، فقال له أبو لهب:
هذه فهر، فنادى: يا آل غالب فانصرف غيرهم (وهكذا... حتى نادى) يا آل هاشم فأقام
بنو عبد المطلب، فقال أبو
لهب: هذه هاشم قد اجتمعت.
فجمعهم في دار الحارث بن عبد المطلب (!) وكانوا أربعين رجلا يزيدون رجلا أو
ينقصونه. فصنع لهم طعاما فأكلوا عشرة عشرة حتى شبعوا، وكان جميع طعامهم رجل شاة
وشرابهم عسا من لبن، وان منهم من يأكل الجذعة ويشرب الفرق. ثم أنذرهم وأعلمهم
تفضيل الله اياهم واختصاصه لهم إذ بعثه بينهم وأمره أن ينذرهم (!) فقال أبو لهب: خذوا
على يد صاحبكم قبل أن يأخذ على يده غيركم، فإن منعتموه (أي حاميتموه) قتلتم، وان
تركتموه ذللتم ! فقال أبو طالب:
يا عورة، والله لننصرنه ثم لنعيننه. يابن أخي إذا أردت أن تدعو الى ربك فأعلمنا
حتى نخرج معك بالسلاح. وأسلم يومئذ جعفر بن أبي
طالب، وعتبة بن الحارث (اليعقوبي 2: 27.). أما علي فلا كلام عنه !
وأما هذه الدعوة بهذه الكيفية فقد انفرد بها اليعقوبي، وهي عجيبة غريبة، بعيدة
عن الحكمة والمعقول، فهي مردودة. ولا يفوتني في الخاتمة أن الفت نظر القراء الكرام الى أن ما عدا هذا الخبر الأخير من
أخبار الإنذار في يوم الدار للأقربين من العشيرة، تكاد تجمع على
أن المعد للطعام وطابخه لهم هو
علي (عليه السلام) دون سواه لا خديجة ولا جواريها ولا فاطمة بنت أسد... قد يكون في ذلك سر إلهي... وقد يكون ذلك مما يؤيد كون الدعوة أيام
المحاصرة في شعب أبي طالب (رضي الله عنه). |
الفصل
الرابع إعلان الدعوة
|
مرحلة
الدعوة العلنية العامة:
|
روى الصدوق في " إكمال الدين " بإسناده عن عبد الله بن
علي الحلبي عن الصادق (عليه السلام) قال: مكث
رسول الله (صلى الله عليه
وآله) بمكة بعد ما جاءه الوحي
عن الله تبارك وتعالى ثلاث عشرة سنة، مستخفيا منها ثلاث سنين، خائفا لا يظهر حتى
أمر الله عزوجل أن يصدع بما امر، فأظهر حينئذ الدعوة (اكمال
الدين: 197 كما في البحار 18: 177.). وروى العياشي في تفسيره عن الحلبي عن الصادق (عليه السلام) قال: اكتتم رسول الله (صلى
الله عليه وآله) بمكة
سنين ليس يظهر، وعلي معه وخديجة، ثم أمره الله أن يصدع بما يؤمر، فظهر رسول الله
(صلى الله عليه وآله) فجعل يعرض نفسه على قبائل العرب، فإذا أتاهم قالوا: كذاب، امض عنا (تفسير
العياشي 2: 253.). وروى الصدوق في " معاني الأخبار " و " الخصال
" بسنده عن أبان بن عثمان الأحمر البجلي الكوفي قال: كان المستهزئون (برسول الله) خمسة من قريش:
الوليد بن المغيرة المخزومي، والعاص بن وائل السهمي، والأسود بن عبد يغوث
الزهري، والأسود بن المطلب، والحارث بن الطلاطلة الثقفي (الخصال
1: 278، 279.). ورواه العياشي بزيادة: فلما قال الله تعالى: *
(إنا كفيناك المستهزئين) *
علم رسول الله أنه قد أخزاهم، فأماتهم الله بشر ميتات (تفسير
العياشي 2: 252.). وقال القمي في تفسيره: ان النبوة نزلت على رسول الله يوم الاثنين وأسلم علي يوم الثلاثاء
ثم أسلمت خديجة زوج النبي (صلى
الله عليه وآله)، ثم
دخل أبو طالب الى النبي وهو يصلي وعلي بجنبه، وكان مع أبي طالب جعفر، فقال له
أبو طالب: صل جناح ابن عمك، فوقف جعفر على يسار رسول الله، فبدر رسول الله من
بينهما. فكان رسول الله يصلي، وعلي وجعفر وزيد بن حارثة وخديجة يأتمون به. فلما أتى لذلك ثلاث سنين
أنزل الله عليه *
(فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين انا كفيناك المستهزئين) * (الحجر: 94 - 95.).
|
المستهزئون
برسول الله
|
والمستهزئون برسول الله خمسة: الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل السهمي، والأسود بن المطلب،
والأسود بن عبد يغوث، والحرث بن طلاطلة الخزاعي. أما الوليد: فكان
رسول الله دعا عليه - لما كان يبلغه من ايذائه واستهزائه - فقال: اللهم اعم بصره
واثكله بولده ! فعمي بصره... ومر برجل من خزاعة وهو يريش نبالا له فوطأ على
بعضها فأصاب عقبه قطعة من ذلك فدميت. فمر برسول الله ومعه جبرئيل فقال جبرئيل:
يا محمد، هذا الوليد بن المغيرة، وهو من المستهزئين بك ؟ قال: نعم، فلما مر أشار
جبرئيل الى ذلك الموضع (من النبل في عقبه) فرجع الوليد الى منزله ونام على
سريره، فسال منه الدم حتى صار الى فراش ابنته، فانتبهت فقالت: انحل وكاء القربة
! قال الوليد: ما هذا وكاء القربة ولكنه دم أبيك، فاجمعي لي ولدي وولد أخي فإني
ميت. فجمعتهم. فقال لعبد الله بن أبي ربيعة: ان عمارة بن الوليد بأرض الحبشة بدار مضيعة، فخذ كتابا من محمد
الى النجاشي أن يرده ! ثم فاضت نفسه. ومر ربيعة بن الأسود (كذا، ولم يذكر كذلك من قبل، والظاهر أن ربيعة هنا مصحف: أبي زمعة
الأسود بن المطلب !)
برسول الله، فأشار جبرئيل الى بصره فعمي ومات. ومر به الأسود بن عبد يغوث فأشار جبرئيل الى بطنه فلم يزل يستسقي حتى
انشق بطنه. ومر العاص بن وائل فأشار
جبرئيل الى رجليه، فدخل عود في أخمص قدميه وخرج من ظاهره ومات. ومر به الحارث بن طلاطلة
فأشار جبرئيل الى وجهه، فخرج الى جبال تهامة فأصابته من السماء ديم فاستسقى حتى
انشق بطنه. فهذا هو قول الله:
* (انا كفيناك المستهزئين) *. فخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقام على الحجر فقال: " يا معشر قريش، يا معشر العرب، ادعوكم الى شهادة أن لا اله
الا الله وأ ني رسول الله، وآمركم بخلع الأنداد والأصنام، فأجيبوني تملكوا بها
العرب وتدين لكم العجم، وتكونوا ملوكا في الجنة ". فاستهزأوا به وقالوا: جن محمد بن عبد الله. ولم يجسروا عليه لموضع أبي طالب (تفسير
القمي 1: 379.). وظاهر هذا الأخير هو
المبادأة بالدعوة العلنية، بعد ثلاث سنين من نزول النبوة عليه (صلى الله عليه وآله) كما صرح به في أول مقاله، وكما مر في الخبر الأول عن تفسير
العياشي عن الصادق (عليه
السلام). وأيضا ظاهر الأخير من كلام
القمي أن ذلك كان بعد هلاك المستهزئين به لا قبله، ولكن مقاله خلو من الاجابة
على أن هؤلاء المستهزئين بماذا كانوا يستهزئون في مرحلة الكتمان ؟ أما طلب الوليد من عبد الله بن ربيعة أن يأخذ من محمد كتابا الى النجاشي بأرض الحبشة أن يرد عمارة بن
الوليد الى مكة، فلا يلازم سابق الإعلان فقط بل يستلزم أن يكون ذلك بعد الهجرة
الى الحبشة واكتشاف ميل النجاشي الى الدين الجديد ! والقمي في مقاله هذا مر عليه
مرور الكرام وكأ نه لم يلتفت الى هذه المفارقة الواضحة، وكذلك كل من نقل عنه
مقاله هذا. أما الطبرسي في تفسيره
فقد قال: * (فاصدع بما تؤمر) * عن
ابن عباس وابن جريج ومجاهد وابن زيد والزجاج: أي أظهر وأعلن وأبن وصرح بما امرت به غير خائف. وقال الزجاج:
والصدع في الزجاج والجدار بينونة بعضه عن بعض. وعن أبي مسلم: * (وأعرض عن المشركين) * أي لا تلتفت إليهم ولا تخف منهم. * (انا كفيناك المستهزئين) * أي شر المستهزئين واستهزاءهم بأن أهلكناهم. فعن ابن عباس وابن جبير: أنهم كانوا خمسة
نفر من قريش: العاص بن وائل،
والوليد بن المغيرة، وأبو زمعة الأسود بن المطلب، والأسود بن عبد يغوث، والحرث
بن قيس. وعن محمد بن ثور: كانوا ستة رهط، وسادسهم: الحارث بن الطلاطلة. قالوا: أتى جبرئيل النبي (صلى الله عليه وآله) والمستهزئون يطوفون بالبيت، فقام جبرئيل ورسول الله الى جنبه، فمر
به الوليد بن المغيرة المخزومي فأومى بيده الى ساقه، فمر الوليد على قين لخزاعة
وهو يجر ثيابه فتعلقت بثوبه شوكة، فمنعه الكبر أن يخفض رأسه فينزعها، وجعلت تضرب
ساقه فخدشته، فلم يزل مريضا حتى مات. ومر به العاص بن وائل السهمي فأشار جبرئيل
الى رجله فوطأ العاص على شوكة فدخلت في أخمص رجله فلم يزل يحكها حتى مات. ومر به الأسود بن المطلب
بن عبد مناف فأشار الى عينه فعمي. وقيل: رماه بورقة خضراء فعمي وجعل يضرب رأسه على الجدار حتى هلك. ومر به الأسود بن عبد يغوث فأشار الى بطنه فاستسقى حتى مات. وقيل: أصابته السموم فصار أسود، فأتى أهله فلم يعرفوه فطردوه فمات. ومر به الحارث بن الطلاطلة
فأومى الى رأسه فامتخط قيحا فمات وقيل: ان الحرث بن قيس أكل
حوتا مالحا فأصابه العطش فما زال يشرب حتى انقد بطنه فمات (مجمع
البيان 6: 533، 534.). ولئن كان الطبرسي صاحب
التفسير هذا قد لخص
بعض الأخبار عن غير الأئمة الأطهار (عليهم السلام) بشأن هؤلاء المستهزئين، في
كتابه هذا " مجمع البيان " تبعا للشيخ الطوسي في كتابه " التبيان
" وان كانت رواية ابن عباس فيما رواه مقطوعة عليه دون أن يسندها الى علي (عليه السلام)
فإن الطبرسي الآخر صاحب " الاحتجاج " قد روى بشأن المستهزئين خبرا
مبسوطا عن الإمام الكاظم عن جده الحسين (عليه السلام)
فيما أجاب به علي
(عليه السلام) حبرا
يهوديا شاميا جاء الى مجلس فيه أصحاب رسول الله: أبو معبد الجهني وعبد الله بن
مسعود وعبد الله بن عباس (الاحتجاج 2: 314 - 322.) مما
يكشف لنا عن مصدر خبر ابن عباس عن ذلك. ولئن كان الخبر في " الاحتجاج " مرسلا مرفوعا فقد رواه
الصدوق في كتابيه " معاني الأخبار " و " الخصال " مسندا، قال: فأما
المستهزئون فقال الله عزوجل له: * (انا كفيناك المستهزئين) * فقتل الله خمستهم، قد قتل كل واحد منهم بغير قتلة صاحبهم، في يوم واحد: أما الوليد بن المغيرة: فإنه مر بنبل لرجل من بني خزاعة قد راشه
في الطريق، فأصابته شظية منه فانقطع أكحله (الاكحل: عرق الحياة في اليد - القاموس.) حتى أدماه فمات وهو يقول: قتلني رب محمد. وأما العاص بن وائل السهمي: فإنه قد خرج في حاجة إلى كداء (كداء - كسماء - جبل بأعلى مكة. القاموس ومراصد الإطلاع.) فتدهده (تدهده:
تدحرج.) تحته حجر فسقط
فتقطع قطعة قطعة فمات وهو يقول: قتلني رب محمد. وأما الأسود بن عبد يغوث: فإنه خرج يستقبل ابنه زمعة ومعه غلام له، فاستظل بشجرة تحت كداء،
فأتاه جبرئيل (عليه السلام) فأخذ رأسه فنطح به الشجرة فقال لغلامه: امنع هذا
عني: فقال: ما أرى أحدا يصنع بك شيئا الا نفسك ! فقتله وهو يقول: قتلني رب محمد. قال الصدوق: وفي
خبر آخر قول آخر: أن النبي (صلى الله عليه وآله) قد دعا عليه أن يعمي الله بصره
وأن يثكله ولده، فلما كان ذلك اليوم جاء حتى صار الى كداء فأتاه جبرئيل (عليه
السلام) بورقة خضراء فضرب بها وجهه فعمي، وبقي حتى أثكله الله بولده يوم بدر ثم مات. وأما الحارث بن الطلاطلة: فإنه خرج من بيته في السموم فتحول حبشيا فرجع الى أهله فقال: أنا
الحارث فغضبوا عليه فقتلوه وهو
يقول: قتلني رب محمد. وأما الأسود بن المطلب: فإنه أكل حوتا مالحا فأصابه غلبة العطش فلم يزل يشرب الماء حتى
انشق بطنه فمات وهو يقول: قتلني رب محمد. وذلك أنهم كانوا بين يدي رسول الله (صلى
الله عليه وآله) فقالوا له: يا محمد ننتظر بك الى الظهر فإن رجعت عن قولك والا
قتلناك ! فدخل النبي منزله فأغلق
عليه بابه مغتما بقولهم. فأتاه جبرئيل (عليه السلام) ساعة فقال له: يا محمد، السلام يقرئك السلام وهو يقول: * (فاصدع بما تؤمر) * أظهر أمرك لأهل مكة وادع، * (وأعرض عن المشركين) * قال: يا جبرئيل كيف أصنع بالمستهزئين وما أوعدوني ؟ قال له: * (إنا كفيناك المستهزئين) * قال: يا جبرئيل كانوا عندي الساعة بين يدي ؟ فقال: قد كفيتهم. فأظهر
أمره عند ذلك (الخصال 1: 279، 280.). أما هذا المقطع الأخير من الخبر فهو صريح في أن قوله سبحانه: * (فاصدع بما تؤمر) * ليس بداية مرحلة الدعوة العلنية، بل كان بادئا بها من قبل مواجها
ومقابلا بها المشركين ومنهم هؤلاء المستهزئون، قد بلغت المواجهة بعد الاستهزاء
الى حد التهديد بالقتل إن لم يرجع عن قوله، وأن قوله سبحانه * (فاصدع بما تؤمر) * ليس الا اخبارا برفع المانع بعد وجود المقتضي كما يقولون، لا
ايجادا للمقتضي. فكيف التوفيق ؟ وعلى هذا فمعنى الإعراض عن المشركين هنا هو عدم
الاعتناء والاعتداد بتهديدهم. ومعنى قوله * (فاصدع) * هو
عدم ترتيب الأثر على تهديدهم بدخول الدار وغلق الباب والامتناع عن الدعوة
بالرسالة، وليس البدء بها. وقد مر في خبر الطبرسي: قالوا: أتى جبرئيل النبي (صلى الله عليه وآله) والمستهزئون يطوفون
بالبيت... ولا نجد هذا في خبر الكاظم عن علي (عليه السلام)، ومتى كان ذلك هل قبل
نزول الآية أم بعدها ؟ نجد جواب ذلك فيما رواه
الراوندي في " الخرائج والجرائح " قال: روي أنه لما نزل * (فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين انا كفيناك المستهزئين) * بشر النبي أصحابه: أن الله كفاه أمرهم يعني خمسة نفر، فأتى الرسول
(صلى الله عليه وآله) البيت والقوم في الطواف وجبرئيل عن يمينه. فمر الأسود بن المطلب، فرمى (جبرئيل) بورقة في وجهه خضراء فأعمى الله بصره وأثكله بولده.
ومر به الأسود بن عبد يغوث فأومأ الى بطنه فاستسقى ماء فمات حبنا (حبنا: من عظم البطن تورما من الاستسقاء.). ومر به الوليد
بن المغيرة فأومأ الى جرح كان
في أسفل رجله فانتقض بذلك فقتله. ومر به العاص بن وائل السهمي فأشار الى أخمص رجله فخرج على حمار له يريد الطائف فدخلت في (أخمص
رجله) شوكة فقتلته. ومر به الحارث بن طلاطلة فأومأ إليه فتقيأ قيحا فمات (البحار
18: 240.). إذن فإتيان جبرئيل بالرسول
الى البيت ومرور هؤلاء المستهزئين به في طوافهم حول البيت، وايماء الرسول إليهم
بالتعريف وايماء جبرئيل إليهم بالعذاب، كان بعد نزول جبرئيل عليه بالآيات
وتبشيره لأصحابه بها وبهلاك المستهزئين حسب ما جاء فيها. أما ما اختصره الطبرسي في تفسيره عن ابن عباس وابن جبير ومحمد
ابن ثور، فقد نقله ابن شهر آشوب عنهم فقال: كان المستهزئون به جماعة منهم: الوليد بن المغيرة المخزومي،
والأسود بن عبد يغوث الزهري، وأبو زمعة الأسود بن المطلب، والعاص بن وائل
السهمي، والحرث بن قيس السهمي، وعقبة بن أبي معيط وقهيلة بن عامر الفهري،
والأسود بن الحرث، وأبو اجيحة سعيد بن العاص، والنضر بن الحرث العبدي، والحكم بن
العاص بن امية، وعتبة بن ربيعة، وطعيمة بن عدي، والحرث بن عامر بن نوفل، وأبو
البختري العاص بن هاشم بن أسد، وأبو جهل، وأبو لهب. وكلهم قد أفناهم الله بأشد نكال. وكانوا قالوا له: يا محمد ننتظر بك الى الظهر، فإن رجعت عن قولك
والا قتلناك ! فدخل منزله وأغلق عليه بابه، فأتاه جبرئيل ساعته فقال له: يا
محمد، السلام يقرأ عليك السلام وهو يقول: * (اصدع بما تؤمر) * وأنا معك وقد أمرني ربي بطاعتك. فلما أتى البيت رمى الأسود بن المطلب
في وجهه بورقة خضراء وقال: اللهم اعم بصره واثكله بولده. فعمي وأثكله الله
بولده. وروى: أنه أشار الى عينه فعمي فكان يضرب رأسه على الجدار حتى هلك. ثم مر به الأسود بن عبد يغوث فأومى الى بطنه فاستسقى ماء ومات حبنا. ومر به الوليد فأومى الى جرح اندمل في بطن رجله من نبل فتعلقت به شوكة فنن فخدشت
ساقه ولم يزل مريضا حتى مات. ومر به العاص
فعابه، فخرج من بيته فلفحته السموم، فلما انصرف الى داره لم يعرفوه فباعدوه فمات
غما. وروى أنهم غضبوا عليه فقتلوه. وروى أنه وطأ على شبرقة (الشبرق: نبت حجازي يؤكل وله شوكة.) فدخلت في أخمص رجله فقال: لدغت فلم يزل يحكها حتى ما ت ومر به الحارث بن طلاطلة فأومى الى رأسه فتقيأ قيحا. ويقال: لدغته الحية. ويقال: خرج الى
كداء فتدهده عليه حجر فتقطع. وأما الأسود بن الحارث: فإنه أكل حوتا مالحا فأصابه العطش فلم يزل يشرب الماء حتى انشقت
بطنه. فأما قهيلة بن عامر: فخرج يريد الطائف ففقد ولم يوجد. وأما عيطلة: فإنه اتي بشوك فأصاب عينيه فسالت حدقته على وجهه. وقيل: استسقى
فمات. وأما أبو لهب: فإنه
(مات بعد بدر والخبر عن أبي رافع قال) سأل أبا سفيان عن قصة بدر (ونحن حضور)
فقال: انا لقيناهم فلقينا رجالا بيضا على خيل بلق بين السماء والأرض لا يقوم لها
شئ، وأيم الله مع ذلك ما مكث الناس، لقيناهم فمنحناهم أكتافنا فجعلوا يقتلوننا
ويأسروننا كيف شاؤوا. (قال أبو رافع)
فقلت لام الفضل زوجة العباس: تلك الملائكة (فسمعني أبو لهب) فجعل يضربني، فضربت
ام الفضل على رأسه بعمود الخيمة، ففلقت رأسه بشجة منكرة، ورماه الله بالعدسة
(الطاعونية) فعاش سبع ليال (ومات) وكانت قريش تتقي العدسة، فتركه ابناه ثلاثا لا
يدفنانه، حتى رمته قريش على جدار بأعلى مكة وقذفوا عليه الحجارة حتى واروه بها (المناقب
1: 73 - 75.). وروى ابن اسحاق خبر المستهزئين عن عروة بن الزبير قال: كان عظماء المستهزئين خمسة نفر من ذوي الأسنان والشرف في قومهم: من بني أسد بن عبد العزى: الأسود بن المطلب. ومن بني زهرة:
الأسود بن عبد يغوث. ومن بني مخزوم:
الوليد بن المغيرة. ومن بني سهم: العاص
بن وائل. ومن بني خزاعة:
الحارث بن الطلاطلة. فلما تمادوا في الشر وأكثروا برسول الله الاستهزاء، أنزل الله
تعالى عليه * (فاصدع بما تؤمر) * وأتى جبرئيل رسول الله وهم يطوفون بالبيت، فقام وقام رسول الله الى
جنبه، فمر به الأسود بن عبد المطلب فرمى في وجهه بورقة خضراء فعمي. ومر به
الأسود بن عبد يغوث فأشار الى بطنه فاستقى بطنه فمات حبنا (أي انتفاخا) ومر به
الوليد بن المغيرة فأشار الى أثر جرح بأسفل كعب رجله كان قد أصابه قبل ذلك
بسنين، فانتقض به فقتله. ومر به العاص بن وائل فأشار الى أخمص رجله فخرج على
حمار له يريد الطائف فربض به على شبارقة (شجرة) فدخلت في أخمص رجله شوكة فقتلته.
ومر به الحارث بن الطلاطلة فأشار الى رأسه فامتخط قيحا فقتله (سيرة ابن
هشام 2: 50 - 52). والخبر السابق نقله ابن شهر آشوب عن تفسير محمد بن ثور وهو عن التابعي سعيد بن جبير وعن ابن عباس
مقطوعا عليه، وانما جاء اسم أبي رافع في أخر الخبر، ولعله هو الراوي المعاصر
الناقل لابن عباس. وقد مر في خبر الصدوق عن الكاظم عن علي (عليهما السلام) أن
ابن عباس كان حاضرا في المجلس سامعا للخبر عن علي (عليه السلام)، فلعل ما بين
الخبرين من خلاف جاء من رواية أبي رافع أو ادخال ابن عباس للخبرين بعضهما في بعض.
والمستهزئون في هذا الخبر سبعة عشر رجلا فصل مقتل تسعة منهم
وأجمل الباقين، وآخر
المذكورين بالتفصيل أبو لهب مع التصريح بمقتله بعد بدر، والمومى إليه منهم خمسة
فحسب فلعل هذا هو وجه الجمع المعقول بين الخبرين، ولعله هو وجه اختصار الخبر عند
الطبرسي. وإذا استثنينا خبر تفسير القمي بما فيه مما يلازم حدوثه بعد
الهجرة الى الحبشة، فلا
يبقى في سائر الأخبار الا عدم وضوح باعث الاستهزاء في حال اختفاء الدعوة، مما لم
نجد الجواب المقنع عنه، اللهم الا أن نقول - كما في خبر الصدوق وابن عباس - بأن
الصدع بالأمر لم يكن بداية اعلان بل كان عن امتناع وقع للتهديد الأكيد من هؤلاء
المستهزئين كما مر، وهو المتعين الراجح. وقد مر في خبر الراوندي في " الخرائج " والطبرسي في
" المجمع " وابن شهر آشوب في " المناقب " عن ابن عباس وابن
جبير وتفسير محمد بن ثور: أن الرسول (صلى الله عليه وآله) أتى البيت ومعه جبرئيل
عن يمينه والقوم في الطواف. فأي طواف كان هذا لهم جميعا بعد تهديدهم اياه ؟ لعلنا نجد جواب هذا فيما رواه ابن هشام عن ابن اسحاق في سيرته: أن نفرا من قريش اجتمعوا
الى الوليد بن المغيرة - وكان ذا سن فيهم وقد حضر الموسم - فقال لهم: يا معشر قريش
! انه قد حضر هذا الموسم. وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر
صاحبكم هذا، فأجمعوا فيه رأيا واحدا ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا، ويرد قولكم
بعضه بعضا (سيرة ابن هشام 1: 288). لنا من هذا النص التصريح بأن مناسبة عقد هذا المؤتمر بل المؤامرة على الرسول (صلى الله
عليه وآله) كانت هي حضور موسم الحج أو العمرة ووفود العرب إليهم لذلك وهم قد
سمعوا بأمره (صلى الله عليه وآله). وتختلف صورة الخبر لدى
القمي في تفسيره قال: كان
الوليد بن المغيرة شيخا كبيرا مجربا من دهاة العرب... وكان له مال كثير وحدائق
(في الطائف) وكان له عشرة بنين بمكة، وعشرة عبيد عند كل عبد ألف دينار يتجر بها
- وتلك هي القنطار في ذلك الزمان - ولذا كان قد قال لقريش: أنا أتوحد بكسوة
البيت سنة وعليكم في جماعتكم سنة، ولذلك سماه الله * (ذرني ومن خلقت وحيدا) * (المدثر:
11.). وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقعد في الحجر فيقرأ القرآن...
فاجتمعت قريش الى الوليد فقالوا: يا أبا عبد شمس، ما هذا الذي يقول محمد ؟ أشعر هو ؟ أم كهانة ؟ أم
خطب ؟ فقال: دعوني أسمع كلامه. فدنا من رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: يا
محمد أنشدني من شعرك ! قال: ما هو شعر، ولكنه كلام الله الذي ارتضاه لملائكته
وأنبيائه. فقال: اتل علي منه شيئا. فقرأ رسول الله * (حم السجدة) * فلما بلغ الى قوله: * (فان أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود) * (فصلت:
13.) اقشعر الوليد وقامت كل
شعرة في رأسه ولحيته. ومر الى بيته ولم يرجع الى قريش من ذلك. فمشوا الى أبي جهل (عمرو
بن هشام بن المغيرة المخزومي) فقالوا له: يا أبا الحكم، ان أبا عبد شمس قد صبا الى دين محمد، أما تراه لم
يرجع الينا ! فغدا أبو جهل إليه فقال له: يا عم، نكست رؤوسنا وفضحتنا وأشمت بنا عدونا وصبوت الى دين محمد ؟
! فقال: ما صبوت الى دينه ولكني سمعت منه كلاما صعبا تقشعر منه
الجلود ! فقال له أبو جهل: أخطب
هو ؟ قال: لا، ان الخطب كلام متصل، وهذا كلام منثور ولا يشبه بعضه بعضا. قال:
أفشعر هو ؟ قال: لا، أما اني قد سمعت أشعار العرب بسيطها ومديدها ورملها ورجزها،
وما هو بشعر. قال: فما هو ؟ قال: دعني افكر فيه ! فلما كان من الغد قالوا: يا أبا عبد شمس، ما تقول فيما قلناه ؟ قال: قولوا: هو سحر فإنه آخذ
بقلوب الناس. فأنزل الله على رسوله في
ذلك: * (ذرني ومن خلقت
وحيدا وجعلت له مالا ممدودا وبنين شهودا ومهدت له تمهيدا ثم يطمع أن أزيد كلا
انه كان لآياتنا عنيدا سارهقه صعودا انه فكر وقدر فقتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر
ثم نظر ثم عبس وبسر ثم أدبر واستكبر فقال إن هذا الا سحر يؤثر إن هذا الا قول
البشر ساصليه سقر وما أدراك ما سقر...) * (المدثر: 11 - 27.) وكان من المستهزئين برسول الله (تفسير
القمي 2: 393، 394 وعنه في اعلام الورى: 41، 42.). وعلى هذا فقوله سبحانه: * (ساصليه سقر) * و * (سارهقه صعودا) * كان تصعيدا في تهديده وإنذاره قبل تبشير الرسول بكفاية شره بهلاكه
والمستهزئين معه بقوله *
(إنا كفيناك المستهزئين) *
وهذا أيضا مما يلازم كون الصدع بأمره قبل هذا بغير قليل، حتى تكون وفود العرب في
الموسم - كما قال الوليد - قد سمعوا بأمره (صلى الله عليه وآله)، فإن الدعوة
السرية أو غير العلنية لا يبلغ صداها هذا الحد أبدا، بحيث يحتار المشركون في
كيفية مواجهتهم لهم في الموسم. ولعل الوليد بعد موقفه هذا ونزول هذه الآيات فيه بالتهديد قابل
هو وأصحابه النبي بالتهديد الشديد والأكيد لتحديد دعوته دون حضور الموسم، ثم
حضروا طواف الموسم فوسمهم جبرئيل بعذاب الله الشديد في الدنيا قبل الآخرة، وبذلك كفى رسول الله شرهم وشر استهزائهم له ولرسالته. فانطلق
الرسول بخطبته العامة في الموسم على حجر اسماعيل حول البيت في مطاف المسجد
الحرام. ومما يؤيد ذلك تعبير
الرسول (صلى
الله عليه وآله) في
تلك الخطبة، إذ هي بالإضافة الى مخاطبة قريش تحتوي على الخطاب للعرب، وهو إذا ضم
الى مخاطبة قريش -
مثلا - دل على العرب مما
عداهم لا هم. فلننظر
الى نص الخطاب: |
خطب
النبي (صلى الله عليه وآله) للدعوة العلنية:
|
بعد أن حكى القمي في تفسيره قصة هلاك المستهزئين قال: " فخرج
رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقام على " الحجر " فقال: " يا معشر قريش، يا
معشر العرب، أدعوكم الى شهادة أن لا اله الا الله وأ ني رسول الله، وآمركم بخلع
الأنداد والأصنام، فأجيبوني تملكوا بها العرب وتدين لكم العجم، وتكونوا ملوكا في
الجنة ". فاستهزأوا منه وقالوا: جن
محمد بن عبد الله. ولم يجسروا عليه لموضع أبي طالب (تفسير
القمي 1: 379. وعنه في اعلام الورى: 39.). فالخطاب لقريش عامة وللعرب بالأعم، والمقام الذي اختاره لخطابه العام هذا هو حجر اسماعيل حول البيت
في مطاف المسجد الحرام أي أجمع مجامع الحج وأشرف مواقفه فكان كما روى ابن هشام
عن ابن اسحاق: وصدرت العرب من ذلك الموسم بأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله)،
فانتشر ذكره في بلاد العرب كلها (سيرة ابن
هشام 1: 291.). وهذا هو ما كان يحذره اولئك المستهزئون المهددون لمنعه عن الإعلان
بدعوته في ذلك الموسم العام. ولكن هل كان هذا هو البيان الأول العام لدعوته العلنية العامة ؟
أما اليعقوبي فيقول: وأقام رسول الله بمكة ثلاث سنين... يدعو الى توحيد الله
عزوجل وعبادته، والاقرار بنبوته ويكتم أمره... حتى قالت قريش: ان فتى ابن عبد
المطلب ليكلم من السماء... ثم أمره الله أن يصدع بما أرسله به فأظهر أمره وقام
" بالأبطح " فقال: " اني رسول الله، أدعوكم الى عبادة الله وحده وترك عبادة
الأصنام التي لا تنفع ولا تضر، ولا تخلق ولا ترزق، ولا تحيي ولا تميت "
فاستهزأت به قريش وآذته. وكان المؤذون له جماعة منهم: أبو لهب، والحكم بن أبي العاص، وعقبة بن أبي معيط، وعدي بن حمراء
الثقفي، وعمرو بن الطلاطلة الخزاعي. وكان المستهزئون به: العاص بن وائل السهمي والحارث بن قيس بن عدي السهمي، والأسود بن
المطلب بن أسد، والوليد بن المغيرة المخزومي، والأسود بن عبد يغوث الزهري.
وكانوا يوكلون به صبيانهم وعبيدهم فيلقونه بما لا يحب (اليعقوبي
2: 24.). فهو
يروي أول خطبة له بالأبطح لا الحجر، فلعله قبل الموسم. ثم هو يرى قصة المستهزئين بعد الصدع بالأمر،
وكأ نه يرى صدعه بالأمر بمعنى أنه " عاب عليهم آلهتهم، وذكر هلاك آبائهم
الذين ماتوا كفارا " (اليعقوبي 2: 24.)
أو هو مرحلة ما بعد
الصدع. ثم هو يرى فرقا بين المؤذين له وهم خمسة والمستهزئين به وهم خمسة
آخرون. فلعل محمد بن ثور الذي عدهم سبعة عشر رجلا قد خلط بينهم. وقبله قال ابن اسحاق: فلما بادى رسول الله (صلى الله عليه وآله) قومه بالإسلام - وصدع به
كما أمره الله - لم يبعد منه قومه ولم يردوا عليه حتى ذكر آلهتهم وعابها، فلما
فعل ذلك أعظموه وناكروه وأجمعوا على خلافه وعداوته الا من عصم الله منهم
بالإسلام (سيرة ابن هشام 1: 22.). فهل يعني ذلك أنه لما بادى قومه لم يبعد منه قومه ولم يردوا عليه حتى صدع بأمره
كما أمره الله فذكر آلهتهم وعابها، فأنكروا ذلك وأعظموه وعادوه وأجمعوا على
خلافه ؟ لعله يعني ذلك. وإذا كان كذلك فلعله (صلى الله عليه وآله) بعد مرحلة الدعوة
السرية، وبعد مرحلة الدعوة الخاصة للأربعين للأقربين من العشيرة بني عبد المطلب
أو بني هاشم، بادى قومه بدعوته العامة العلنية دون هذا المعنى من الصدع بالأمر،
فبدأ بخطبته على " الصفا " الخالية من هذا المعنى من الصدع بالأمر أي
عيب الآلهة وذكرها بالسوء كما في " المناقب " لابن شهر آشوب قال: روي
أنه لما نزل قوله * (وأنذر عشيرتك الأقربين) * (أي بعد هذه المرحلة) صعد رسول
الله - ذات يوم - الصفا، فقال: يا صباحاه ! فاجتمعت إليه قريش فقالوا: مالك ؟
قال: أرأيتكم ان أخبرتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم ما كنتم تصدقونني ؟ قالوا:
بلى، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. قال قتادة: ثم
إنه خطب فقال: أيها الناس، ان الرائد لا يكذب أهله، ولو كنت كاذبا لما كذبتكم،
والله الذي لا اله الا هو، اني رسول الله اليكم حقا خاصة والى الناس عامة، والله
لتموتون كما تنامون، ولتبعثون كما تستيقظون، ولتحاسبون كما تعملون، ولتجزون
بالإحسان احسانا وبالسوء سوءا، وانها الجنة أبدا أو النار أبدا. وانكم أول من
انذرتم (المناقب 1: 46، 47.). وهذه الجملة الأخيرة من هذه الخطبة على " الصفا " هي التي تحملنا على القول: بأ نها أول خطبة، فالخطبة "
بالأبطح " ثم الخطبة " بالحجر " في الموسم. فلعل هذا هو وجه
الجمع المعقول بين الخطب الثلاث. |
من
هم المقتسمون ؟
|
وكأننا نجد فيما رواه الطوسي ثم الطبرسي في تفسيرهما عن ابن عباس
ومقاتل، نجد فيه المتمم لأمر هذا الموسم، فقد قال مقاتل في قوله سبحانه: * (كما أنزلنا على المقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين) * (الحجر:
90، 91.) إنهم هم الذين
اقتسموا طرق مكة يصدون عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) والايمان به. وقال ابن عباس:
انهم كانوا ستة عشر رجلا بعثهم الوليد بن المغيرة " أيام الموسم "
يقولون لمن أتى مكة: لا تغتروا بالخارج منا المدعي النبوة. فأنزل الله بهم عذابا
فماتوا شر ميتة. وجعلوا القرآن عضين أي
جزؤوه أجزاء فقالوا: سحر، وقالوا: مفترى، وقالوا: أساطير الأولين (مجمع
البيان 6: 531.) وكذلك روى الطبرسي في " مجمع البيان " عن الكلبي: أن
المقتسمين كانوا ستة عشر رجلا خرجوا الى عقاب مكة أيام الحج على طريق الناس
(الحجاج) على كل عقبة أربعة منهم، ليصدوا الناس عن النبي (صلى الله عليه وآله)،
وإذا سألهم الناس عما انزل على رسول الله قالوا: أحاديث الأولين وآباطيلهم (مجمع
البيان 6: 549.). فلعل الوليد في بدايات
الموسم بعث هؤلاء الستة عشر رجلا على طرق مكة مقتسمينها فيما بينهم يصدون من اتى
مكة عن الإيمان برسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولكنهم كما اقتسموا طرق مكة
فيما بينهم قد اقتسموا القول في القرآن بين مكذب وقائل: إنه سحر وقائل إنه
أساطير الأولين. ثم إن الوليد جمع إليه هؤلاء النفر من قريش وقال لهم: اجمعوا فيه
رأيا واحدا ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا ويرد قولكم بعضه بعضا. فقالوا: فأنت
يا أبا عبد شمس فقل وأقم لنا رأيا نقول به... ثم قال لهم: إن أقرب القول فيه أن
تقولوا هو ساحر جاء بقول هو سحر يفرق به بين المرء وأبيه وبين المرء وأخيه وبين
المرء وزوجه وبين المرء وعشيرته. فتفرقوا عنه بذلك، فجعلوا يجلسون بسبل الناس
حين قدموا الموسم لا يمر بهم أحد الا حذروه إياه وذكروا لهم أمره، فأنزل الله
فيه قوله: * (ذرني ومن خلقت
وحيدا...) * (سيرة ابن
هشام 1: 288، 289.). ثم نزل فيه خاصة وفي خمسة من أصحابه: *
(إنا كفيناك المستهزئين) *
ولعل سائر السبعة عشر رجلا الذين عدهم محمد بن ثور في تفسيره عن ابن عباس وابن
جبير - على رواية ابن شهر آشوب - من المستهزئين، هم من المقتسمين مع المستهزئين،
الذين روى الطبرسي هنا عن ابن عباس أنهم كانوا ستة عشر رجلا بعثهم الوليد، فمعه
يكونون سبعة عشر رجلا. وقد ذكر عذاب ثلاثة منهم عدا المستهزئين وان كان لم يذكر
عذاب الجميع الا بالاجمال، دون التفصيل. والموسم - كما لاحظتهم - ذكر في كلا الأمرين: المقتسمين، والمستهزئين، من دون تفريق
بينهما مما يحمل بظاهره
على أول موسم بعد اعلان الدعوة العامة، فإن كانت طبيعة الامور تقتضي فاصلا زمنيا
أطول من موسم واحد بين الأمرين - كما هو ظاهر الحال - فمن المحتمل أن يكون الاقتسام في الموسم الأول، ثم محاولة
الاعتبار بالتجربة من اختلاف آرائهم وأقوالهم في الرسول والقرآن، فالسعي في
توحيد آرائهم وأقوالهم فيهما في الموسم الثاني، وأن ما نزل في الوليد والمستهزئين
والمقتسمين في سورتي الحجر
والمدثر كان في الموسم
الثاني بعد اعلان الدعوة لا الأول. |
ما
نزل من القرآن قبل " فاصدع ":
|
إذ وقفنا على الحوادث المشار إليها بقوله سبحانه * (كما أنزلنا على المقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين) * (الحجر: 90، 91.) وقوله سبحانه *
(فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين انا كفيناك المستهزئين) * (الحجر: 94، 95.) والآيات من أواخر سورة الحجر، وهي الرابعة والخمسون في ترتيب
النزول (التمهيد: 1: 105 وتلخيصه 1: 98.) أي
يسبقها من القرآن في النزول ست وخمسون سورة، ولنا فيها آيات واشارات الى ما يسبق
ما اشير إليه في هذه الآيات الأخيرة من سورة الحجر مما يدخل في تأريخ الإسلام،
فلنقف عليها على ترتيبها على التوالي: رتبوا في ترتيب النزول بعد سورة العلق: سورة القلم التي تفتتح
بالآية: * (ن والقلم وما
يسطرون ما أنت بنعمة ربك بمجنون) * مما يوحي الى أن هذه الجملة انما هي تنزيه له عما اتهمه به
المشركون من الجنون، كما في الآية بعدها: * (فستبصر ويبصرون بأيكم المفتون) * وكما في الآية بعدها: * (فلا تطع المكذبين) * و * (ولا
تطع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم مناع للخير معتد أثيم عتل بعد ذلك زنيم أن كان
ذا مال وبنين إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين) * (القلم: 10 - 15.) وليس من التأويل إذا بحث الدارس لهذه الآيات عن الشخص المعين
المعني بها، بل الظاهر من الآيات هو ذلك وما عداه خلاف الظاهر. ونقل الطبرسي ثلاثة أقوال في ذلك: قيل يعني الوليد بن المغيرة فإنه عرض على النبي المال ليرجع عن
دينه. وقيل يعني: الأخنس بن شريق الثقفي. وقيل: يعني: الأسود بن عبد يغوث (مجمع
البيان 10: 501.) بينما لم نجد خلافا في المعني بأوصاف سورة المدثر: * (ذرني ومن خلقت وحيدا وجعلت له مالا ممدودا وبنين شهودا) * أ نه الوليد. وحقا وجدناه الوحيد الذي يوصف في الأخبار التأريخية
بذلك الوصف في المال والبنين ليس سواه ولم يوصف الآخران معه بذلك الوصف في المال
والبنين، فهو الأولى أن يكون المقصود عند الإطلاق والترديد. أما متى تليت عليه
الآيات ؟ وأي آيات ؟ ومن تلى ؟ وكيف ؟ وما هو تفصيل عرضه المال على الرسول ليرجع
عن دينه أو عن الإعلان به ودعوته إليه ؟ وكيف منع عن هذا الخير ؟ فلم يبق لنا من
تفسير المفسرين الأوائل، ولا الأخبار التأريخية الا هذه الأقوال الثلاثة على
الترديد فقط، فضلا
عما يحل لنا التنافي بين هذه الآيات من القرآن ودور الكتمان. وأسطع من ذلك ما في
أواسط السورة من قوله سبحانه:
* (إن للمتقين عند ربهم جنات النعيم أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف
تحكمون) * (القلم: 34 - 36.) فهل
يمكننا أن نحكم أن هذا أيضا من القرآن في دور الكتمان ؟ ! بل هو إعلام واعلان. بل روى ابن شهر آشوب في " المناقب " عن ابن عباس: أن الوليد ابن المغيرة أتى قريشا فقال: ان الناس يجتمعون غدا
بالموسم وقد فشا أمر هذا الرجل في الناس، وهم يسألونكم عنه فما تقولون ؟ فقال أبو جهل: أقول
انه مجنون، وقال أبو لهب: أقول انه شاعر، وقال
عقبة بن أبي معيط: أقول
انه كاهن. فقال الوليد: بل أقول هو ساحر يفرق بين الرجل والمرأة وبين الرجل وأخيه وأبيه. فأنزل الله تعالى:
* (ن والقلم وما
يسطرون) * (مناقب ابن شهر آشوب 1: 48.). وفي العلق قبل القلم قالوا: إن المعني بالآية: * (أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى) * هو
الوليد أيضا إذ كان ينهى
الناس عن أن يطاع رسول الله وعن الصلاة (تفسير
القمي 2: 430.) وقيل: هو أبو
جهل، فإنه حاول أن يطأ رقبة
الرسول في سجدته في الصلاة في المسجد الحرام (مجمع
البيان 10: 782 عن صحيح مسلم.) ولكني عبرته الى القلم، إذ قالوا ان النازل من العلق قبل القلم انما هي الآيات الخمس الأوائل، وأما هذه
الآية فهي متأخرة في النزول
عن تلك، فلعلنا نعود إليها فيما بعد. وثالثة السور - " المزمل ": وعاشرة آياتها: * (واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا وذرني والمكذبين اولي
النعمة ومهلهم قليلا) * (المزمل:
10، 11.) قال في "
المجمع ": قيل:
نزلت في صناديد قريش والمستهزئين (مجمع
البيان 10: 573.) وأليس من الإعلان الآيات التالية في السورة: * (إنا أرسلنا اليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا الى فرعون
رسولا... فكيف تتقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا... إن هذه تذكرة فمن شاء
اتخذ الى ربه سبيلا) * (المزمل:
15 - 19.). ورابعة السور - "
المدثر ": وفيها
الآيات بشأن الوليد بن المغيرة المخزومي، وقد مر خبره مع المستهزئين. وقد مر قبل
خبر جابر بن عبد الله الأنصاري عن الرسول (صلى الله عليه وآله) أنها أول سورة
نزلت عليه بعد الفترة بعد حراء، وعليه تكون ثانية السور لا الرابعة، ويمكن الجمع
بينهما بمثل الكلام في سورة العلق، بأن ما نزل ثانيا بعد الفترة هي حتى الآية
العاشرة، أي الى ما قبل ما يتعلق بالوليد، ثم نزل باقيها - بعد المزمل - رابعا. وبهذا الصدد قال العلامة
الطباطبائي "
والسورة مكية من العتائق النازلة في أوائل البعثة وظهور الدعوة " لكنه قال
بعد هذا: واحتمل بعضهم أن تكون السورة أول ما نزل على النبي (صلى الله عليه
وآله) عند الأمر بإعلان الدعوة بعد إخفائها مدة في أول البعثة. ثم قال "
وهذا لا يتعدى طور الإحتمال " (الميزان
20: 79.) فما معنى قوله " في أوائل البعثة وظهور الدعوة " ؟ أما
أن تكون هي أول سورة نزلت من القرآن فقد قال: يكذبه نفس آيات السورة الصريحة في
سبق قراءته القرآن على القوم وتكذيبهم به وإعراضهم عنه ورميهم له بأ نه "
سحر يؤثر " (الميزان 20: 79.) ويصدق مثل ذلك في سابقتيه المزمل والقلم، ولم يقل بمثل هذا هناك.
بل قبل أن تكون العلق أول سورة كاملة (الميزان
20: 322.). وفيها *
(أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى أرأيت ان كذب وتولى... كلا لئن لم ينته لنسفعا
بالناصية ناصية كاذبة خاطئة فليدع ناديه) * أفليست هذه أيضا كتلك الآيات صريحة في سبق أمره بالتقوى وتكذيبهم
له واعراضهم عنه ؟ ولم يقل مثل ذلك هنا، والأمر واحد. السورة الخامسة - " الفاتحة ": فقد قال اليعقوبي: إنها الفاتحة (اليعقوبي 2: 33.) والظاهر أنها هي رواية جابر بن زيد (التمهيد
1: 103 وتلخيصه 1: 95.) أما خبر ابن عباس فلم يعرض للفاتحة. ومر ترجيح أن تكون الفاتحة -
كما هو معنى الفاتحة - فاتحة كتاب الله. وقد يوجه عدم ذكر ابن عباس للفاتحة بأن
العلق فما بعد من القرآن في دور الإعلان والفاتحة كانت نازلة من قبل. وهي السورة
الوحيدة - في عداد هذه السور الأوائل - التي ليس فيها ما يقتضي أو يستدعي سبق شئ
من القرآن أو الإسلام قبلها. سادسة السور - " المسد ": سورة تبت أو أبي لهب أو
المسد، قال القمي في تفسيرها: إن ام جميل بنت صخر بن حرب " أبي سفيان
" (كذا في القمي، وهو غلط، فهي بنت حرب اخت ابي سفيان كما يأتي عن مجمع
البيان.) كانت تنم على رسول الله أي تنقل أحاديثه الى الكفار، ولما اجتمع
زوجها أبو لهب مع قريش في " دار الندوة " وبايعهم على قتل محمد رسول
الله، نزلت السورة (تفسير القمي 2: 448)
وهذا يعني أن السورة
نزلت بعد مؤتمر قريش بقتل الرسول، وهذا لا يتفق مع كونها السورة السادسة أي
الأوائل، فهو مردود. ومن
الطبرسي يعلم أن ما قاله
القمي في معنى
" حمالة الحطب "
هو قول عن ابن عباس (مجمع البيان 10: 852.) أما
في سبب نزولها فقد
روى عن البخاري عن سعيد ابن جبير عن ابن عباس قال: صعد رسول الله
(صلى الله عليه وآله) ذات
يوم الصفا فقال: يا صباحاه ! فأقبلت إليه قريش فقالوا له: مالك ؟ فقال: أرأيتم
لو أخبرتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم أما كنتم تصدقوني ؟ قالوا بلى. فقال: فإني
نذير لكم بين يدي عذاب شديد ! فقال أبو لهب تبا لك، ألهذا دعوتنا جميعا ؟ !
فأنزل الله هذه السورة (مجمع البيان 10: 851.). وهذا كما ترى صريح في حصر ما نزل من القرآن في دور الكتمان في
السور الخمس الأوائل السابقة على المسد، وأما المسد فهي أول سورة من دور
الإعلان. والخبر مروي عن ابن جبير عن ابن عباس، وعنهما روى خبر الإنذار في يوم الدار للعشيرة الأقربين أي الدعوة
الخاصة بين الكتمان والإعلان كما مر، وذلك لا يتفق مع هذا عنهما. ولكن لا ريب أن سورة اللهب لا تناسب الكتمان أيضا، فكيف التوفيق ؟
وروى الطبرسي أيضا في قوله سبحانه * (وأنذر عشيرتك الأقربين) * عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية صعد رسول الله على الصفا فقال: يا صباحاه ! فاجتمعت إليه قريش، فقالوا: مالك ؟ فقال... فقال أبو
لهب: تبا لك ألهذا دعوتنا جميعا ؟ فأنزل الله تعالى: * (تبت يدا أبي لهب وتب) * الى آخر السورة (مجمع البيان 8: 323.) وهذا
أيضا كذلك يتنافى مع الدعوة الخاصة ليوم الدار للأقربين من العشيرة من ناحية،
وأيضا من ناحية اخرى يتنافى مع خبر ابن عباس في ترتيب النزول إذ يقتضي نزول
المسد بعد الشعراء أو العكس أو استثناء آية الإنذار وما يلازمها من الشعراء ولم
ينقل ذلك عنه. ولكن روى الطبرسي أيضا ما يصلح شأنا لنزول السورة من دون هذه
الملازمات، قال: عن
سعيد بن المسيب قال: كانت لام جميل بنت حرب اخت أبي سفيان قلادة فاخرة من جوهر
فقالت: لانفقنها في عداوة محمد ! قال الطبرسي: ولما أنذر النبي أبا لهب بالنار
قال: إن كان ما تقول حقا فإني أفتدي بمالي وولدي (مجمع
البيان 10: 852.) فأنزل الله: *
(ما أغنى عنه ماله وما كسب سيصلى نارا ذات لهب وامرأته حمالة الحطب في جيدها حبل
من مسد) * بدل القلادة. وهذا
لا يستلزم ما كان يستلزمه الخبران عن ابن عباس، ولكنه يستلزم سبق الإعلان
والمجاهرة حتى حد العداء الحاد من أبي لهب وامرأته. وقد روى الطبرسي أيضا في شدة عدائه ونصبه للنبي ما يدل على ذلك في أوائل الإعلان: عن طارق المحاربي قال: بينا أنا
بسوق ذي المجاز، إذ أنا بشاب (كذا) يقول: أيها الناس قولوا: لا اله الا الله
تفلحوا. وإذا برجل خلفه يرميه قد أدمى ساقيه وعرقوبيه ويقول: يا أيها الناس إنه
كذاب فلا تصدقوه. فقلت: من هذا ؟ فقالوا: هو محمد يزعم أنه نبي، وهذا عمه أبو
لهب يزعم أنه كذاب (مجمع البيان 10: 852.). فقوله: هو محمد يزعم أنه نبي، في جواب: من هذا، يشعر بأن هذا كان
في بداياته. السورة الثامنة - " الأعلى " (السر في عدم ذكرنا لبعض السور هو عدم اشتمالها على الآيات ذات
الإشارة الى الحوادث التأريخية): وروى العياشي في تفسيره عن عقبة بن عامر الجهني قال: لما نزلت *
(سبح اسم ربك الأعلى) * قال
رسول الله (صلى الله عليه وآله): اجعلوها في سجودكم. ورواه أيضا في " الدر المنثور " عن أحمد وأبي داود وابن ماجة وابن المنذر وابن مردويه عن عقبة عنه
(صلى الله عليه وآله) (الميزان 20: 270.).
وتمام الخبر: ولما
نزل: * (فسبح باسم ربك
العظيم) * (الواقعة: 74.) قال (صلى
الله عليه وآله):
اجعلوها في ركوعكم. والواقعة
هي السورة السادسة والأربعون،
وهذا يدل على ما مر عن أن الصلاة كانت في اوائل تشريعها بسجود بلا ركوع، ثم شرع
الركوع بعد ذلك. ومر عن ابن شهر آشوب في
" المناقب " عن تفسير القطان عن ابن مسعود: أن عليا (عليه السلام) سأل رسول الله: ما أقول في السجود في
الصلاة ؟ فنزل: *
(سبح اسم ربك الأعلى) *
وسأله: ما أقول في الركوع ؟ فنزل: * (فسبح باسم ربك العظيم) * فكان أول من قال ذلك (مناقب آل
أبي طالب 2: 14 - 19.). والسورة العاشرة - " الضحى ": أو الحادية
عشرة هي " سورة الضحى
" وفي تفسير القمي
في سبب نزولها روى عن أبي الجارود عن الباقر (عليه السلام) في قوله: * (ما ودعك ربك وما قلى) * قال: ذلك إن أول سورة نزلت كانت * (اقرأ باسم ربك الذي خلق) * ثم أبطأ عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقالت خديجة: لعل ربك قد تركك فلا يرسل اليك. فأنزل الله تبارك
وتعالى: * (ما ودعك ربك
وما قلى) * (تفسير القمي 2: 428.) وهذا
يقتضي أن تكون الضحى الثانية لا العاشرة. وقيل: سألت اليهود رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن ذي القرنين وأصحاب الكهف وعن الروح. فقال. سأخبركم غدا. ولم
يقل: ان شاء الله، فاحتبس عنه الوحي هذه الأيام، فاغتم لشماتة الأعداء. فنزلت
السورة تسلية لقلبه (مجمع البيان 10: 764.) وهذا
يقتضي أن تكون السورة مدنية بعد الثمانين لا عاشرة المكيات. وعن ابن عباس قال:
احتبس الوحي عنه (صلى
الله عليه وآله) خمسة
عشر يوما فقال المشركون: ان محمدا قد ودعه ربه وقلاه، ولو كان أمره من الله
لتتابع عليه (مجمع البيان 10: 764.). وقيل: ان
النبي (صلى الله عليه
وآله) رمي بحجر في اصبعه فقال
يخاطبها: هل أنت الا اصبع رميت *
وفي سبيل الله ما لقيت فمكث ليلتين أو ثلاثا لا يوحى إليه، فقالت له ام جميل بنت حرب امرأة أبي لهب: يا محمد ما أرى شيطانك الا قد تركك، لم أره قربك منذ ليلتين أو
ثلاث ! فنزلت السورة (مجمع البيان 10: 764.). ولايتنافى خبر ابن عباس مع هذا الأخير الا في عدد أيام احتباس
الوحي عنه (صلى الله عليه
وآله) فقد تكون ام جميل هي
السبب في اشاعة الخبر بين المشركين مما أشاع بينهم ذلك، فهي حمالة الحطب، وهذا
من حطبها. أما العدد المذكور في خبر ام جميل: (ليلتين أو ثلاث)، فهو يوحي كأ نما الوحي كان قبل ذلك مستمرا كل
يوم وليلة، وهذا لم يعهد عنه (صلى
الله عليه وآله) ولم
ينقل، فالراجح هو عدد ابن عباس: خمسة عشر يوما، أو مقاتل: أربعين يوما (مجمع
البيان 10: 764.). ولكن عن البرقي بإسناده عن رجل من أهل البصرة قال: رأيت الحسين بن علي (عليه السلام) يطوف بالبيت فسألته عن قول الله
تعالى: * (وأما بنعمة ربك فحدث) * فقال: أمره أن يحدث بما أنعم الله عليه من
دينه (تفسير البرهان 4: 474.). وقال
القمي في معنى الآية: أي بما أنزل الله عليك وأمرك به (تفسير
القمي 2: 428.). ونقل الطبرسي عن مجاهد والزجاج: أي بلغ ما ارسلت به وحدث بالنبوة التي آتاكها الله، وهي أجل
النعم. وعن الكلبي (هشام
بن محمد ت 206) قال:
يريد بالنعمة: القرآن إذ كان القرآن أعظم ما أنعم الله عليه به، فأمره أن يقرأه (مجمع
البيان 10: 768.). وقال ابن اسحاق:
ثم فتر الوحي عن رسول الله فترة من ذلك حتى شق ذلك عليه فأحزنه، فجاءه جبرئيل
بسورة الضحى يقسم له ربه وهو الذي أكرمه بما أكرمه به: أنه ما ودعه وما قلاه،
ويقول: ما صرمك فتركك وما أبغضك منذ أحبك، وما عندي من مرجعك إلي خير لك مما
عجلت من الكرامة في الدنيا *
(ولسوف يعطيك ربك) * من
الفلج (الفوز والغلبة) في الدنيا والثواب في الآخرة * (فترضى) *.
ثم يعرفه الله ما ابتدأه به من كرامته في عاجل أمره ومنه عليه في يتمه وعيلته
وضلالته واستنقاذه من ذلك كله برحمته... * (وأما بنعمة ربك) * بما جاءك من الله من نعمته وكرامته من النبوة فاذكرها وادع إليها.
فجعل رسول الله -
صلى الله عليه [ وآله ] وسلم -
يذكر ما أنعم الله به عليه وعلى العباد به من النبوة سرا الى من يطمئن إليه من
أهله (سيرة ابن هشام 1: 257 - 259.). ثم يقول: فلما دخل الناس في الإسلام أرسالا من الرجال والنساء حتى فشا ذكر
الإسلام بمكة وتحدث به... قال الله تعالى له: * (فاصدع بما تؤمر وأعرض عن
المشركين) * فأمر رسوله أن يصدع بما جاءه منه وأن يبادي الناس بأمره وأن يدعو
إليه. وكان - فيما بلغني - بين ما أخفى رسول الله أمره واستتر به من مبعثه الى
أن أمره الله تعالى بإظهار دينه ثلاث سنين... كان فيها أصحابه إذا أرادوا الصلاة
ذهبوا الى شعاب مكة فاستخفوا بصلاتهم من قومهم. فبينا رسول الله في نفر من
أصحابه في شعب من شعاب مكة يصلون إذ ظهر عليهم نفر من المشركين، فعابوا عليهم ما
يصنعون (سيرة ابن هشام 1: 280 - 282.)، وكأن
هذه الحادثة كانت هي المناسبة لإعلان الدعوة. أما قبل ذلك فإنما كان يذكر النبوة
لمن كان يطمئن إليه من أهله سرا. إذن فكيف اطلعت عليه أم جميل فاحتطبت عليه الى
المشركين فأشاعوا عليه أن الوحي منقطع عنه ؟ ! اللهم الا أن نخلص من ذلك كما خلص
ابن اسحاق فلم يقل بشئ من ذلك، وانما قال: ثم فتر الوحي عنه فترة حتى شق عليه
وأحزنه فجاءه جبرئيل بسورة الضحى. ولم يقل ما الذي نزل من
القرآن قبلها حتى في ابتداء تنزيله، ولكنه بعد أن ذكر ابتداء النزول في شهر
رمضان قال: ثم تتام الوحي إليه - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - وهو مؤمن بالله ومصدق بما جاءه منه قد قبله بقبوله وتحمل منه ما
حمله على رضا العباد وسخطهم... فمضى على أمر الله على ما يلقى من قومه من الخلاف
والأذى (سيرة ابن هشام 1: 257.) ثم
يقول: ثم فتر الوحي... فلو كان (صلى الله عليه وآله) إنما جعل يذكر النبوة سرا
الى من يطمئن إليه من أهله بعد قوله * (وأما بنعمة ربك فحدث) * (ابن هشام 1: 258.) فكيف ومن أين علم به قومه فيتحمل ما يلقاه منهم من الخلاف والأذى
؟ ! والسورة الثانية عشرة - " الشرح ": هي متتالية للضحى ان لم نقل بوحدتهما كما نقل ذلك الفخر الرازي عن
طاووس بن كيسان اليماني وعمر بن عبد العزيز، وجاء في بعض أخبار الأئمة الأطهار
(عليهم السلام) (الميزان
20: 365.) وأفتى به بعض
فقهائنا (المحقق الحلي
في الشرائع والمعتبر.). واختلفوا في معنى الوزر في قوله: *
(ووضعنا عنك وزرك) * ويبدو
لي بقرينة وحدة سياق السورتين أن المقصود بالوزر ما تحمله من ثقل انقطاع الوحي
عنه واحتباسه، وهو العسر الذي تحمله واليسر بعده تجديد الوحي إليه واليوم وقد
فرغ من ذلك الهم والغم فعليه أن ينصب في التحديث بما أنعم الله عليه من النبوة * (فإذا فرغت فانصب والى ربك فارغب) *. وقال صاحب كتاب النظم في تفسير السورة: إن الله بعث نبيه وهو مقل مخف وكانت قريش تعيره بذلك حتى قالوا له:
ان كان بك من هذا القول الذي تدعيه طلب الغنى جمعنا لك مالا حتى تكون أيسر أهل
مكة. فكره النبي ذلك وظن أن قومه انما يكذبوه لفقره، فوعده الله سبحانه الغنى ليسليه
بذلك عما خامره من الهم فقال: * (ان مع العسر يسرا) * أي لا يحزنك ما يقولون وما
أنت فيه من الإقلال، فإن مع العسر يسرا في الدنيا عاجلا. ثم أنجز ما وعده فلم
يمت حتى فتح عليه الحجاز وما والاها من القرى العربية وعامة بلاد اليمن، فكان
يعطي المائتين من الإبل ويهب الهبات السنية، ويعد لأهله قوت سنته (مجمع
البيان 10: 772.) فهل كان بين الضحى والشرح من التحديث بنعمة النبوة منه (صلى الله
عليه وآله) ما جر المشركين الى اقتراح تقديم المال إليه ردعا له عن دعوته ؟ ! السورة الثالثة عشرة - " العصر ": وقال الطبرسي: قيل: المراد بالإنسان هو الوليد بن المغيرة وأبو جهل (مجمع
البيان 10: 815.) ونسب السيوطي الى ابن عباس القول بأ نه أبو جهل (الدر
المنثور 6: 391.). وعلى هذا فلا يخلو قوله * (وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر) * عن تعريض به أو بهما إذ كانا يتواصيان بالباطل والصبر عليه في
مواجهة الحق. وهذا أيضا مما يقتضي الإعلان، كما يقتضيه اطلاق قوله: * (الا الذين آمنوا وعملوا الصالحات) *. السورة الرابعة عشرة - " العاديات ": روى الطبرسي في " مجمع البيان " مرسلا، وقبله الطبري
في تفسيره مسندا الى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: بينما أنا في الحجر جالس إذ أتاني رجل فسأل عن * (العاديات ضبحا) * فقلت له: الخيل حين تغير في سبيل الله ثم تأوي الى الليل فيصنعون
طعامهم ويورون نارهم. فانفتل الرجل عني وذهب الى علي بن أبي طالب وهو تحت سقاية زمزم،
فسأله عن * (العاديات
ضبحا) * فقال: سألت عنها
أحدا قبلي ؟ قال: نعم سألت عنها ابن عباس فقال: الخيل حين تغير في سبيل الله...
قال: فاذهب فادعه لي. فلما وقفت على رأسه قال: تفتي الناس بما لا علم لك به،
والله إن كانت لأول غزوة في الإسلام، بدر وما كانت معنا الا فرسان: فرس للزبير
وفرس للمقداد بن الأسود، فكيف تكون العاديات الخيل ؟ ! بل * (العاديات ضبحا) *:
الإبل من عرفة الى مزدلفة ومن مزدلفة الى منى. قال ابن عباس: فرغبت
عن قولي ورجعت الى الذي قاله علي (عليه السلام) (مجمع
البيان 10: 803 وجامع البيان 30: 177 والدر المنثور 6: 383.) وعليه
فلا يصح ما روى عن مقاتل (مجمع البيان 10: 802.) وعنه
على الرأي الأول (الدر المنثور 6: 383.) ولا
ما في تفسير القمي وفي طريقه من الضعفاء الحسن بن علي البطائني (تفسير
القمي 2: 434 - 438.)، وما رواه الطبرسي في " مجمع البيان " مما يستلزم كون
السورة مدنية، فإنها أخبار متعارضة وفيها تمحل وتهافت ظاهر (التمهيد
1: 128.). وإذا كنا هنا نحاول أن نواكب في السور المكية الأوائل الآيات
المشيرة الى الحوادث الزمنية المعاصرة لها يومئذ، فعلى الخبر الأول عن ابن عباس
عن علي (عليه السلام) لعل
نزول هذه السورة كان في أيام الإفاضة في الحج لأول موسم بعد البعثة ونزول القرآن،
مشيرة الى تقرير القبول باصول مناسك الحج. السورة الخامسة عشرة - " الكوثر ": قال القمي في تفسير
الكوثر: نهر في الجنة،
أعطاه الله محمدا عوضا عن ابنه ابراهيم (كذا) وكان الرجل - في الجاهلية - إذا لم
يكن له ولد سمي أبتر، فدخل رسول الله المسجد وفيه عمرو بن العاص والحكم بن أبي
العاص، فقال له عمرو: يا أبا الأبتر ! (كذا) ثم قال عمرو: اني لأشنأ محمدا. أي:
ابغضه، فأنزل الله على رسوله السورة (تفسير
القمي 2: 443.). ونقله الطباطبائي في
" الميزان " وعلق عليه يقول: الخبر - على إرساله واضماره - معارض لسائر الروايات (الميزان
20: 373.) ثم لم يأخذ عليه ما فيه من تهافت في اسم ابن النبي المتوفى حيث
ذكر ابراهيم ابن مارية القبطية المتوفى بعد الهجرة بالمدينة، ثم عرج على معنى
الأبتر في الجاهلية، ثم ذكر دخول الرسول الى المسجد وفيه عمرو بن العاص وليس هو
الا المسجد الحرام بمكة. ثم ذكر أنه قال له: يا أبا الأبتر بينما هو الأبتر، فيا
لضعف النص ! وروى الدولابي في " الذرية الطاهرة " بسنده عن جابر
الجعفي عن محمد بن علي الباقر (عليه السلام) قال: كان القاسم ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد بلغ أن يركب
الدابة ويسير على النجيب (الابل) فلما قبضه الله قال (العاص بن وائل السهمي): قد أصبح محمد أبتر من ابنه، فأنزل الله على نبيه: * (انا أعطيناك الكوثر) * عوضا عن مصيبتك في القاسم * (فصل لربك وانحر ان شانئك هو الأبتر) * (الذرية الطاهرة: 67.). أما الطبرسي فقد روى عن
ابن عباس: انه كان قد توفي عبد
الله بن محمد (صلى
الله عليه وآله) من
خديجة، وكانوا يسمون من ليس له ابن: أبتر، واتفق أن التقى العاص بن وائل السهمي
عند باب بني سهم برسول الله وهو يخرج من المسجد فتحادثا، وكان اناس من صناديد
قريش جلوسا في المسجد، فلما دخل العاص سألوه: من كنت تتحدث معه ؟ قال: ذلك
الأبتر، فسمته قريش بالأبتر (مجمع
البيان 10: 836.). وجاء مختصر الخبر عنه في
" الدر المنثور " قال: مات عبد الله، فقال العاص بن وائل السهمي، قد انقطع نسله فهو
أبتر، فأنزل الله *
(إن شانئك هو الأبتر) * (الدر
المنثور 6: 401، سورة الكوثر.).
ولكنه أخرج عن الصادق (عليه السلام) قال: توفي " القاسم " ابن رسول الله بمكة، فمر رسول الله - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - وهو آت من جنازته على العاص بن وائل وابنه عمرو، فقال (عمرو) حين
رأى رسول الله: إني لأشنؤه ! فقال العاص بن وائل: لا جرم لقد أصبح أبتر، فأنزل
الله: * (إن شانئك هو
الأبتر) * (الدر المنثور 6: 401، سورة الكوثر.). يمتاز هذا الخبر عما مر بذكر عمرو بن العاص وأ نه هو الشانئ الأبتر وان كان أبوه العاص هو
النابز للنبي بلقب الأبتر، ويؤيده ما في " الاحتجاج " للطبرسي عن
الحسن بن علي (عليهما السلام) في حديث يخاطب فيه عمرو بن العاص يقول له: ثم قمت
خطيبا وقلت: أنا شانئ محمدا، وقال العاص بن وائل (ولم يقل أبوك لأ نه عاهر): إن
محمدا رجل أبتر لا ولد له فلو قد مات انقطع ذكره. فأنزل الله تبارك وتعالى: * (إن شانئك هو الأبتر) * (الاحتجاج 1: 411، ط. النجف الأشرف.). فالخبران الأولان عن ابن عباس انما ذكرا نابز النبي بلقب الأبتر وأ نه كان العاص بن وائل أبا عمرو بن
العاص، ثم لم يذكرا الشانئ له (صلى
الله عليه وآله) المجاهر
له الشنآن. والخبران الآخران عن الصادق والمجتبى (عليهما السلام) ذكراهما، فلا منافاة بينهما، ولعل ابن عباس سالم عمرو بن العاص أو
اتقاه فاكتفى بذكر أبيه دونه. كما فعل كذلك السدي فقال: كانت قريش إذا مات ذكور الرجل تقول: بتر فلان والأبتر: الفرد !
فلما مات ولد للنبي قال العاص بن وائل: بتر الرجل (الميزان
20: 372.). وكما فعل ابن اسحاق قال: بلغني أنه كان العاص بن وائل السهمي إذا ذكر رسول الله قال: دعوه
فإنما هو رجل أبتر لا عقب له، لو مات لا نقطع ذكره واسترحتم منه. فأنزل الله في
ذلك: * (انا أعطيناك
الكوثر) * أي ما هو خير لك من
الدنيا وما فيها (سيرة ابن هشام 2: 34. وانظر الميزان 20: 370 في معنى الكوثر.). والذي تشير إليه السورة
وتدل عليه الأخبار التأريخية والتفسيرية هو أيضا مما يقتضي الإعلان لا الكتمان، بل المجاهرة بالإحن والشنآن، والحنق والعدوان. السورة السادسة عشرة -
" التكاثر ": روى الطبرسي عن مقاتل
والكلبي قالا: نزلت
في حيين من قريش: بني عبد مناف بن قصي، وبني سهم بن عمرو، تكاثروا وعدوا
أشرافهم، فكثرهم بنو عبد مناف، ثم قالوا: نعد موتانا ! حتى زاروا القبور فعدوهم
قالوا: هذا قبر فلان وهذا قبر فلان، فكثرهم بنو سهم لأ نهم كانوا أكثر عددا في
الجاهلية (مجمع البيان 10: 811.) فنزلت
السورة. وعليه فلا يصح ما قيل من مثل ذلك في الأنصار أو اليهود مما يقتضي مدنية السورة.
ولا ننسى هنا ما كان من معاوية وبني امية وبني مروان وقريش عموما من العداء
للأنصار، مما يدفعهم الى أن يعطفوا ما كان من الذم القرآني عليهم الى من سواهم
ولا سيما الأنصار وفيهم الأوتار. السورة السابعة عشرة -
" الماعون ": روى الطبرسي عن ابن جريج قال: نزلت في أبي سفيان بن حرب، كان ينحر في كل اسبوع جزورين، فأتاه
يتيم فسأله شيئا فقرعه بعصاه. وعن السدي ومقاتل بن حيان قالا: نزلت في الوليد بن
المغيرة. وعن الكلبي قال:
نزلت في العاص بن وائل السهمي. وعن عطاء عن ابن عباس قال: نزلت في رجل من المنافقين (مجمع
البيان 10: 834.) وأظن هنا في عطاء أنه قد ناله في هذا القول عطاء بني امية أو
أصابه سهم من سهام وزرائهم من بني سهم، ليعطف عنهم ذما قرآنيا مكيا الى رجل من
المنافقين في المدينة. وفي السورة آية:
* (فويل للمصلين الذين
هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراؤون ويمنعون الماعون) * مما يشير الى وجود مصلين وفيهم مراؤون، فهل يتفق هذا وقول ابن
اسحاق: أنهم قبل اعلان الدعوة كانوا إذا أرادوا الصلاة ذهبوا الى شعاب مكة
فاستخفوا بصلاتهم فيها ؟ فمن كان يرائي لمن ؟ السورة الثامنة عشرة - " الكافرون ": قال الطبرسي نزلت السورة في نفر من قريش منهم: الحارث بن قيس السهمي والعاص بن وائل السهمي، والوليد بن المغيرة
المخزومي، والأسود بن عبد يغوث الزهري، والأسود بن المطلب بن أسد، وامية بن خلف
(وهم المستهزئون) قالوا: هلم يا محمد فاتبع ديننا نتبع دينك ونشركك في أمرنا كله،
تعبد آلهتنا سنة ونعبد الهك سنة، فإن كان الذي جئت به خيرا مما بأيدينا كنا قد
شركناك فيه وأخذنا بحظنا منه، وان كان الذي بأيدينا خيرا مما في يديك كنت قد
شركتنا في أمرنا وأخذت بحظك منه. قال: معاذ الله أن اشرك به غيره. قالوا: فاستلم
بعض آلهتنا نصدقك ونعبد إلهك. فقال: حتى انظر ما يأتي من عند ربي. فنزل: (قل يا أيها الكافرون). فعدل رسول الله (صلى الله عليه وآله) الى المسجد الحرام وفيه الملأ
من قريش، فقام على رؤوسهم ثم قرأ عليهم حتى فرغ من السورة، فأيسوا عند ذلك فآذوه
وآذوا أصحابه (مجمع البيان 10: 840.) وروى
قريبا منه الشيخ في أماليه عن ميناء (أمالي
المفيد: 346 بسنده عن ابن اسحاق. ورواه الطبري 2: 337.). وقال ابن اسحاق في
السيرة: بلغني أنه اعترض
رسول الله وهو يطوف بالكعبة: الأسود بن المطلب، والوليد بن المغيرة، وامية بن
خلف، والعاص بن وائل السهمي، وكانوا ذوي أسنان في قومهم فقالوا: يا محمد هلم
فلنعبد ما تعبد وتعبد ما نعبد فنشترك نحن وأنت في الأمر، فإن كان الذي تعبد خيرا
مما نعبد كنا قد أخذنا بحظنا منه، وان كان ما نعبد خيرا مما تعبد كنت قد أخذت
بحظك منه. فأنزل الله فيهم: *
(قل يا أيها الكافرون) * (سيرة ابن
هشام 1: 388.). وروى الطبري بسنده عن ابن
عباس قال: ان قريشا
وعدوا رسول الله -
صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - أن يعطوه مالا فيكون أغنى رجل بمكة، ويزوجوه ما أراد من النساء،
وقالوا له: هذا لك عندنا يا محمد وكف عن شتم آلهتنا فلا تذكرها بسوء، فإن لم
تفعل فإنا نعرض عليك خصلة واحدة فهي لك، ولنا فيها صلاح. قال: ما هي ؟ قالوا:
تعبد آلهتنا اللات والعزى سنة، ونعبد إلهك سنة ! فقال النبي: حتى أنظر ما يأتي
من عند ربي ! فجاء الوحي من اللوح المحفوظ: * (قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون) * (الطبري 30: 337.).
وعليه فهذه هي بداية أذية
المشركين للرسول والمسلمين، وهي تقتضي الإعلان لا الكتمان. وكأن أذى أبي لهب
وزوجته للرسول من قبل كان خاصا به وبهما فاختصت السورة بهما. السورتان العشرون والواحدة والعشرون - " المعوذتان ": قال القمي: حدثني أبي، عن
بكر بن محمد، عن الصادق
(عليه السلام) قال:
كان سبب نزول المعوذتين أنه وعك رسول الله (صلى الله عليه وآله) فنزل جبرئيل بهاتين السورتين فعوذه بهما (تفسير
القمي 2: 450.). وروى الطبرسي عنه (عليه السلام) قال: جاء جبرئيل الى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو شاك، فرقاه بالمعوذتين و * (قل هو الله أحد) * وقال: باسم الله ارقيك، والله يشفيك من كل داء يؤذيك، خذها
فلتهنيك (مجمع البيان 10: 867.). وروى عن أبيه الباقر (عليه السلام) قال: ان رسول الله اشتكى شكوى شديدة ووجع وجعا شديدا، فأتاه جبرئيل
وميكائيل، فقعد جبرئيل عند رأسه وميكائيل عند رجليه، فعوذه جبرئيل ب * (قل أعوذ برب الفلق) *، وعوذه ميكائيل ب * (قل أعوذ برب الناس) * (مجمع
البيان 10: 867.). وعن كتاب " طب الأئمة " عن الصادق (عليه السلام): أن جبرئيل أتى النبي (صلى الله عليه وآله) وقال له: إن فلانا
اليهودي سحرك، ووصف له السحر وموضعه، فبعث النبي (صلى الله عليه وآله) عليا
(عليه السلام) حتى أتى القليب فبحث عنه فلم يجده، ثم اجتهد في طلبه حتى وجده
فأتى به النبي (صلى الله عليه وآله) وإذا هو حقة فيها قطعة كرب نخل، في جوفه وتر
عليها احدى عشرة عقدة، وكان جبرئيل (عليه السلام) قد انزل المعوذتين، فأمر النبي
عليا أن يقرأهما على الوتر، فجعل كلما قرأ آية انحلت عقدة حتى فرغ منها، فكشف
الله عن نبيه ما سحر به وعافاه (طب الأئمة: 118.). ونقل المجلسي في باب معجزاته في كفاية شر الأعداء عن كتاب "
الخرائج والجرائح " للقطب الراوندي قال: روى أن امرأة من اليهود عملت له سحرا فظنت أنه ينفذ فيه كيدها.
والسحر باطل محال، الا أن الله دله عليه فبعث من استخرجه، وكان على الصفة التي
ذكرها وعلى عدد العقد التي عقد فيها ووصف، ما لو عاينه معاين لغفل عن بعض ذلك (بحار الأنوار 18: 57.). ولعله أخذ القول باليهودية مما اختصره ابن جزي الكلبي في "
التسهيل " قال: قيل: ان بنات " لبيد " كن ساحرات، فهن - وأبوهن -
سحرن رسول الله وعقدن له احدى عشرة عقدة، فأنزل الله المعوذتين: احدى عشرة آية
بعدد العقد، وشفى الله رسوله (التسهيل
4: 225.). وشاء الراوي - في خبر آخر - أن يحذف اسمه ويكتفي بوصفه باليهودية
فقال: سحر النبي يهودي
فاشتكى، فأتاه جبرئيل بالمعوذتين وقال: ان رجلا من اليهود سحرك، والسحر في بئر
فلان. فأرسل عليا (عليه السلام) فجاء به، فأمره أن يحل العقد ويقرأ آية، فجعل
يقرأ ويحل حتى قام النبي كأ نما نشط من عقال (الدر
المنثور 6: 417.). وأخرج مفصله البيهقي في
" دلائل النبوة " عن طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس عن عائشة
قالت: كان لرسول الله غلام يهودي يخدمه يقال له: لبيد بن أعصم، فلم تزل
به اليهود حتى سحر النبي، فكان يذوب (أو: يدور) ولا يدري ما وجعه. فبينا رسول
الله ذات ليلة نائم إذ أتاه ملكان فجلس أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه فقال
الأول للثاني: ما وجعه ؟ قال: مطبوب (أي مسحور) قال: من طبه ؟ قال: لبيد ابن
أعصم ؟ قال: بم طبه ؟ قال: بمشط ومشاطة وجف طلعة نخل ذكر بذي أروان (بئر) وهي
تحت راعوفة البئر (الصخرة على فم البئر). فلما أصبح رسول الله غدا ومعه أصحابه الى البئر فنزل رجل (؟)
فاستخرج الجف، فإذا فيها مشط رسول الله ومن مشاطة رأسه (شعر رأسه) وإذا تمثال من
شمع تمثال رسول الله وإذا فيها ابر مغروزة، وإذا وتر فيه احدى عشرة عقدة. فأتاه
جبرئيل بالمعوذتين فقال: يا محمد * (قل أعوذ برب الفلق) * وحل عقدة، * (من
شر ما خلق) *، وحل
عقدة، حتى فرغ منها وحل العقد كلها، وجعل لا ينزع ابرة الا يجد لها ألما ثم يجد
بعد ذلك راحة، فقيل: يا رسول الله لو قتلت اليهودي ؟ ! فقال: قد عافاني الله،
وما وراءه من عذاب الله أشد (كما في الدر المنثور 6: 417.). وقد قالوا: ان أوهى الطرق الى ابن عباس هو طريق الكلبي عن أبي صالح
عنه (الإتقان 2: 189.) وابن عباس رواه عن عائشة، وان أوهم الطبرسي فقال: عن ابن عباس
وعائشة (مجمع البيان 10: 865.) ولكن
عائشة من أين علمت وأخبرت عن الملكين ؟ ونجد الجواب فيما رواه الشيخان في
الصحيحين عنها قالت: سحر رسول الله رجل من يهود بني زريق يقال له: لبيد بن
الأعصم، حتى كان يخيل إليه أنه يفعل الشئ وما يفعله ! حتى إذا كان ذات يوم أو
ذات ليلة دعا رسول الله ثم دعا ثم دعا. ثم قال: يا عائشة: جاءني رجلان فقعد
أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي، فقال الذي عند رأسي للذي عند رجلي: ما وجع الرجل
؟ قال: مطبوب، قال: من طبه ؟ قال: لبيد بن الأعصم، قال: في أي شئ ؟ قال: في مشط
ومشاطة، وجف طلعة نخل ذكر قال: فأين هو ؟ قال: في بئر ذي أروان (أو: ذروان). قالت: فأتاها رسول الله
في اناس من أصحابه ثم رجع وقال: يا عائشة، والله لكأن ماءها نقاعة الحناء ولكأن نخلها رؤوس
الشياطين. فقلت: هلا استخرجته ؟ فقال: لا، أما أنا فقد شفاني الله، وخشيت أن
يثير ذلك على الناس شرا (!) ثم أمر بالبئر فدفنت (البخاري
4: 148 و 7: 176 ومسلم 7: 14.).
وعليه بنى السيوطي فقال: المختار أن المعوذتين مدنيتان لانهما نزلتا في قصة سحر لبيد بن
الأعصم (الإتقان 1: 14.) ولعل اليعقوبي عدهما من أواخر المدنيات لذلك أيضا (اليعقوبي 2: 43.) ومر في خبر" الدر المنثور " و" طب الأئمة " أن الرسول أرسل عليا فجاءه بالسحر، وفي خبر " الصحيحين
" و " دلائل النبوة " أنه خرج مع ناس من أصحابه فنزل إليه رجل
منهم فاستخرج السحر، وأمر بالبئر فطمت، ومن الطبيعي القطعي أن ينقطع لبيد بعد
ذلك عن خدمته، ومع ذلك لم يرو الخبر عن غير ابن عباس عن عائشة ! والغريب أن ابن عباس كأ نه لم ير في الخبر تنافيا مع ما رواه في ترتيب نزول السور وأن
المعوذتين من أوائل المكيات لا من أواخر المدنيات ! (التمهيد
1: 103 وتلخيصه 1: 95). أما الأخبار الثلاثة
الاول عن القمي عن الصادق (عليه السلام) وعن الطبرسي عنه، وعن الباقر (عليه
السلام)، فهي خلو مما ينافي شأن النبي ومكية السورتين، وأما الخبر الرابع
عن " طب الأئمة " عن الصادق (عليه السلام) فهو عن محمد بن سنان عن
المفضل بن عمر، وكلاهما معروفان في الرجال بالضعف، ولا أراه الا متسربا من غيرهم
(عليهم السلام). السورة الثانية والعشرون - " التوحيد ": قال القمي في تفسيره:
كان سبب نزولها: أن
اليهود جاءت الى رسول الله فقالت: ما نسب ربك ؟ فأنزل الله: * (قل هو الله أحد) * (تفسير القمي 2: 448.).
ورواه الكليني في " الكافي " بسنده عن الصادق (عليه السلام) قال: إن
اليهود سألوا رسول الله فقالوا: انسب لنا ربك. فلبث ثلاثا لا يجيبهم ثم نزلت *
(قل هو الله أحد) * الى آخرها
(كما في الميزان 20: 390.) ورواه
الطبرسي في " مجمع البيان " (مجمع
البيان 10: 859.). وفي " الإحتجاج " للطبرسي عن العسكري (عليه السلام) أن
السائل هو عبد الله بن صوريا اليهودي (كما في
الميزان 20: 390 عن الاحتجاج، ولم اجده في أخبار العسكري (عليه السلام).). وروى الطبرسي عن الضحاك وقتادة ومقاتل قالوا: جاء اناس من أحبار اليهود الى النبي (صلى الله عليه وآله) فقالوا:
يا محمد صف لنا ربك لعلنا نؤمن بك، فإن الله أنزل نعته في التوراة. فنزلت السورة
(مجمع البيان 10: 859.). الى هنا تبدو هذه الأخبار وكأ نها تستلزم مدنية السورة، ولكن روى
الطبرسي عن تفسير القاضي
ما يدفع هذه الدلالة قال: ان عبد الله بن سلام انطلق الى رسول الله وهو بمكة،
فقال له رسول الله: انشدك بالله هل تجدني في التوراة رسول الله، فقال: انعت لنا
ربك. فنزلت هذه السورة فقرأها النبي (صلى الله عليه وآله) فكانت سبب اسلامه الا
أنه كان يكتم ذلك الى أن هاجر النبي الى المدينة ثم أظهر الإسلام (مجمع
البيان 10: 859.) فلعله كان هو وعبد الله بن صوريا اليهودي كما مر عن خبر "
الاحتجاج " عن العسكري (عليه السلام). ولكن روى القمي أيضا عن
الضحاك عن ابن عباس قال: قالت
قريش للنبي بمكة: صف لنا ربك لنعرفه فنعبده. فأنزل الله على النبي (صلى الله
عليه وآله): *
(قل هو الله أحد) * (تفسير
القمي 2: 448.) وروى الطبرسي تفصيله عنه أيضا قال: إن عامر بن الطفيل وأربد بن
ربيعة - أخا لبيد الشاعر - أتيا النبي (صلى الله عليه وآله)، فقال له عامر ابن
الطفيل: الى ما تدعونا يا محمد ؟ فقال: الى الله فقال: صفه لنا أمن ذهب هو أم من
فضة أم من حديد أم من خشب ؟ فنزلت السورة. وأرسل الله الصاعقة على أربد فأحرقته
وطعن عامر في خنصره فمات (مجمع البيان 10: 859.). وقد يجمع بينهما بأن النبي (صلى الله عليه وآله) تلى التوحيد
عليهم، فاستهزأوا به فنزل العذاب بهم، أما نزول السورة فقد كان من قبل لليهود
القادمين إليه من المدينة، فلا تنافي. وفي اتيان اليهود إليه من المدينة دلالة على
انتشار خبره وبلوغه إليها، وهذا
أيضا مما لا يتلاءم مع دور
الكتمان، بل الإعلان. السورة الثالثة والعشرون - " النجم " ومعراج الرسول (صلى
الله عليه وآله): قال
القمي: النجم رسول الله و *
(إذا هوى) * أي لما
اسري به الى السماء. فهو قسم برسول الله ورد على من أنكر المعراج (تفسير
القمي 2: 333. وجاء في اللغة: هوى في الجبل أي صعد فيه، فهوى من الأضداد). ولعله أخذ ذلك من خبر
رواه الطبرسي عن الصادق (عليه السلام) قال: ان محمدا (صلى الله عليه وآله) لما نزل من السماء السابعة ليلة
المعراج (مجمع البيان 10: 261.) مع ما
بين النصين من الفرق. وروى القمي عن الصادق
(عليه السلام) قال: بينا
رسول الله (صلى الله عليه وآله) راقد بالأبطح وعلى يمينه علي (عليه السلام) وعن
يساره جعفر وحمزة بين يديه... إذ أدركه اسرافيل بالبراق وأسرى به الى بيت المقدس
وعرض عليه محاريب الأنبياء وآيات الأنبياء، فصلى فيها، ورده من ليلته الى مكة.
فمر في رجوعه بعير لقريش وإذا لهم ماء في آنية فشرب منه وأهرق باقي ذلك. وقد
كانوا أضلوا بعيرا لهم وكانوا يطلبونه. فلما أصبح (صلى الله عليه وآله) قال لقريش: ان الله قد أسرى بي في هذه الليلة الى بيت المقدس، فعرض علي
محاريب الأنبياء وآيات الأنبياء، واني مررت بعير لكم في موضع كذا وكذا وإذا لهم
ماء في آنية فشربت منه وأهرقت باقي ذلك، وقد كانوا أضلوا بعيرا لهم. فقال أبو جهل - لعنه الله -: قد أمكنكم الفرصة من محمد، سلوه كم الأساطين فيها والقناديل.
فقالوا: يا محمد ان ها هنا من قد دخل بيت المقدس، فصف لنا كم أساطينه وقناديله
ومحاريبه ؟ فجاء جبرئيل فعلق صورة البيت المقدس تجاه وجهه فجعل يخبرهم بما
سألوه. فلما أخبرهم قالوا: حتى تجئ العير ونسألهم عما قلت. فقال لهم: وتصديق ذلك
أن العير تطلع عليكم مع طلوع الشمس يقدمها جمل أحمر. فلما أصبحوا أقبلوا ينظرون الى العقبة ويقولون: هذه الشمس تطلع الساعة. فبينا هم كذلك إذا طلعت العير مع طلوع
الشمس يقدمها جمل أحمر. فسألوهم عما قال رسول الله، فقالوا: لقد كان هذا: ضل جمل
لنا في موضع كذا وكذا، ووضعنا ماء باردا وأصبحنا وقد اهريق الماء. فلم يزدهم ذلك
الا عتوا (تفسير القمي 2: 13، 14 ورواه الطبرسي في إعلام الورى: 49.). رواه القمي مرسلا
بلا اسناد، ورواه الصدوق في
أماليه عن أبيه عن القمي
عن أبيه عن ابن أبي عمير عن أبان بن عثمان بن الأحمر البجلي عن الصادق (عليه
السلام) (أمالي الصدوق: 363. وروى بعده خبرا باسناده الى عبد الرحمن بن غنم في
الإسراء والمعراج، قريب من سابقه. وفي: 480 روى خبرا آخر عن الباقر (عليه
السلام).). هذا الخبر كما مر ذكر
الإسراء من مكة الى المسجد الأقصى وهو بيت المقدس فقط ولم يذكر عروجه (صلى الله
عليه وآله) منه الى السماوات العلى. وقال الطبرسي: فمن
جملة الأخبار الواردة في قصة المعراج ما روى: أن النبي (صلى الله عليه وآله)
قال: أتاني جبرئيل (عليه السلام) وأنا بمكة فقال: قم يا محمد. فقمت معه وخرجت
الى الباب فإذا جبرئيل ومعه ميكائيل واسرافيل، فأتى جبرئيل (عليه السلام)
بالبراق... فقال: اركب، فركبت ومضيت حتى انتهيت الى بيت المقدس. ثم ساق الحديث
الى أن قال: ثم أخذ جبرئيل (عليه السلام) بيدي الى الصخرة فأقعدني عليها، فإذا
معراج الى السماء لم أر مثلها حسنا وجمالا، فصعدت الى السماء الدنيا ورأيت
عجائبها وملكوتها... ثم صعد بي جبرئيل الى السماء الثانية... ثم صعد بي الى
السماء الثالثة... ثم صعد بي الى السماء الرابعة... ثم صعد بي الى السماء
الخامسة... ثم صعد بي الى السماء السادسة... ثم صعد بي الى السماء السابعة... ثم
جاوزناها متصاعدين الى أعلى عليين. ووصف ذلك الى أن قال: ثم كلمني ربي وكلمته،
ورأيت الجنة والنار، ورأيت العرش، وسدرة المنتهى. ثم رجعت الى مكة، فلما
أصبحت حدثت به الناس فكذبني أبو جهل والمشركون، وقال مطعم بن عدي: أتزعم أنك سرت مسيرة شهرين في ساعة ؟ ! أشهد
أنك كاذب ! ثم قالوا: أخبرنا عما رأيت. فقال مررت بعير بني فلان وقد أضلوا بعيرا
لهم وهم في طلبه وفي رحلهم قعب مملوء من ماء فشربت الماء ثم غطيته كما كان. قال:
ومررت بعير بني فلان فنفرت بكرة فلان فانكسرت يدها قالوا: فأخبرنا عن عيرنا.
قال: مررت بها بالتنعيم يتقدمها جمل أورق (أي أحمر) عليه قرارتان محيطتان، ويطلع
عليكم عند طلوع الشمس. قالوا: فخرجوا يشتدون نحو الثنية وهم يقولون: لقد قضى
محمد بيننا وبينه قضاء بينا وجلسوا ينتظرون متى تطلع الشمس فيكذبوه. فقال قائل:
والله ان الشمس قد طلعت، وقال آخر: والله هذه الإبل قد طلعت يقدمها بعير أورق.
فبهتوا ولم يؤمنوا (مجمع البيان 6: 609، 610) ورواه محمد بن اسحاق عن ام هانئ بنت أبي طالب - رضي الله عنهما -
قالت: ان رسول الله - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - ليلة اسري به صلى العشاء الآخرة في بيتي ثم نام عندي تلك الليلة
في بيتي ونمنا. فلما كان قبيل الفجر أيقظنا رسول الله - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم -، فلما صلى الصبح وصلينا معه قال: يا ام هانئ لقد صليت معكم العشاء
الآخرة كما رأيت بهذا الدار ثم ذهبت الى بيت المقدس فصليت فيه ثم ها أنا قد صليت
معكم الآن صلاة الغداة كما ترين. ثم قام ليخرج، فأخذ بطرف ردائه فقلت له: يا نبي
الله لاتحدث بهذا الناس فيكذبوك ويؤذوك ! قال: والله لاحدثنهم به. فقلت لجارية لي حبشية: ويحك اتبعي رسول الله - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - حتى تسمعي ما يقول الناس وما يقولون له. فقالت: لما خرج رسول الله
الى الناس أخبرهم فعجبوا وقالوا: ما آية ذلك يا محمد ؟ فإنا لم نسمع بمثل هذا قط
! قال: آية ذلك: أني مررت وأنا متوجه الى الشام بعير بني فلان بوادي كذا وكذا
فانفرهم حس الدابة فشذ عنهم بعير فدللتهم عليه. ثم أقبلت حتى إذا كنت بوادي
ضجنان (على بريد من مكة بوادي تهامة) مررت بعير بني فلان فوجدت القوم نياما،
ولهم إناء فيه ماء قد غطوا عليه بشئ، فكشفت غطاءه وشربت ما فيه ثم غطيت عليه كما
كان، وآية ذلك أن عيرهم الآن تصوب من البيضاء ثنية " التنعيم " يقدمها
جمل أورق (بين الغبرة والسواد) عليه غرارتان: احداهما سوداء والاخرى بألوان مختلفة.
قالت (ام هانئ عن جاريتها) فابتدر القوم الثنية فلم يلقهم شئ قبل الجمل كما وصف لهم، وسألوهم
عن الإناء فأخبروهم أنهم وضعوه مملوءا ماء ثم غطوه وأ نهم هبوا (من نومهم)
فوجدوه مغطى كما غطوه ولم يجدوا فيه ماء، وسألوا الآخرين وهم بمكة، فقالوا: صدق
والله، لقد انفرنا في الوادي الذي ذكر، وند لنا بعير، فسمعنا صوت رجل يدعونا
إليه حتى أخذناه (سيرة ابن هشام 2: 43، 44.). وفي تمام الخبر السابق عن الصادق (عليه السلام) قال: لما نزلت السورة واخبر بذلك عتبة بن أبي لهب فجاء الى النبي (صلى
الله عليه وآله) وتفل في وجهه وقال: كفرت بالنجم وبرب النجم، وطلق ابنته (صلى
الله عليه وآله). فدعا عليه وقال: اللهم سلط عليه كلبا من كلابك. فخرج عتبة الى الشام فنزل في بعض الطريق، وألقى الله عليه الرعب
فقال لأصحابه: أنيموني بينكم ليلا. ففعلوا، فجاء أسد فافترسه من بين الناس. وفي ذلك قال (بعد ذلك)
حسان: سائل بني الأصفر إن جئتهم *
ما كان أنباء بني واسع لا وسع الله له قبره
* بل ضيق الله على القاطع رمى رسول الله من بينهم
* دون قريش، رمية القاذع واستوجب " الدعوة " منه بما * بين للناظر والسامع فسلط الله به " كلبه " * يمشي الهوينا مشية الخادع والتقم الرأس بيافوخه *
والنحر منه قفزة الجائع من يرجع العام الى أهله
؟ * فما " أكيل السبع "
بالراجع قد كان هذا لكم عبرة
* للسيد المتبوع والتابع (مجمع البيان 10: 261.). وعن قولهم له: صف
لنا بيت المقدس وأخبرنا عن عيرنا في طريق الشام وغير ذلك، مما جادلوه به عبر
الله تعالى بقوله سبحانه: *
(ما كذب الفؤاد ما رأى أفتمارونه على ما يرى) * (النجم: 11، 12.) وفي السورة قوله سبحانه: * (أفرأيت الذي تولى وأعطى قليلا وأكدى أعنده علم الغيب فهو يرى)
* (النجم: 33 - 35.) وقد مر في الخبر السابق عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه سمى من
المكذبين لحديثه عن إسرائه ومعراجه: أبا جهل ومطعم بن عدي. ثم مر خبر عتبة بن
أبي لهب وأ نه كان أشدهم تكذيبا له. فهل الآية تشير الى أحد هؤلاء المكذبين ؟ سمى المفسرون أحد ثلاثة أشخاص من صناديد مشركي قريش مصداقا لهذه الآية، وخبرا
رابعا تسمي مسلما مصداقا معينا لها. ليس الا واحدا من الثلاثة المشركين مذكورا في المكذبين لحديث
الرسول عن إسرائه ومعراجه هو أبو جهل، فيما نقله الطبرسي عن محمد بن كعب القرظي:
أن الآية في أبي جهل، وذلك أنه قال: والله ما يأمرنا محمد الا بمكارم الأخلاق !
فذلك قوله سبحانه: *
(وأعطى قليلا وأكدى) * أي
أعطى قليلا من نفسه تصديقا ثم لم يؤمن. وعن السدي قال: نزلت في العاص بن وائل
السهمي وذلك أنه كان يوافق رسول الله في بعض الامور. وعن مجاهد وابن زيد قالا:
نزلت في الوليد بن المغيرة. وعن
الكلبي عن السدي عن ابن عباس:
أن عثمان بن عفان كان ينفق ويتصدق من ماله، فقال له أخوه من الرضاعة: عبد الله
بن سعد بن أبي سرح: ما هذا الذي تصنع ؟ يوشك أن لا يبقى لك شئ ! فقال عثمان: ان
لي ذنوبا واني أطلب بما أصنع رضا الله وأرجو عفوه. فقال له عبد الله: أعطني
ناقتك وأنا أتحمل عنك ذنوبك كلها ! فأعطاه وأشهد عليه وأمسك عن الصدقة، فنزلت: * (أفرأيت الذي تولى وأعطى قليلا) * ثم قطع نفقته، الى قوله: * (وأن سعيه سوف يرى) * (مجمع البيان 9: 271 وقبله الزمخشري في الكشاف 4: 33. وبعده الواحدي
في أسباب النزول: 335، 336 ط الجميلي.). وهذا الخبر دل - فيما دل
- على اسلام عثمان، كما دل الخبر السابق عن تفسير القمي في إسراء النبي (صلى الله عليه وآله) على اسلام حمزة أيضا، كما دل خبر ابن اسحاق عن ام هانئ بنت أبي
طالب على اسلامها واسلام بيتها وزوجها أبي هبيرة المخزومي. وإذا لم يكن للأخير خبر في تأريخ الإسلام فلنمر على أخبار اسلام حمزة وعثمان. |
إسلام
حمزة عم النبي (صلى الله عليه وآله):
|
أما اسلام حمزة: فكذلك فعل
الطبرسي في "
اعلام الورى " إذ جعله الخبر السابق لخبر إسرائه (صلى الله عليه
وآله) الى بيت المقدس، نقلا
عن علي بن ابراهيم ابن هاشم باسناده قال: كان أبو جهل قد تعرض لرسول الله وآذاه
بالكلام، واجتمعت بنو هاشم وكان حمزة في الصيد فأقبل ونظر الى اجتماع الناس
فقال: ما هذا ؟ فقالت له امرأة: يا أبا يعلى إن عمرو بن هشام (أبا جهل) قد تعرض
لمحمد وآذاه. فغضب حمزة ومر نحو أبي جهل وأخذ قوسه فضرب بها رأسه ثم احتمله فجلد
به الأرض. واجتمع الناس فقالوا: يا أبا يعلى صبوت الى دين ابن أخيك ؟ قال: نعم،
أشهد أن لا اله الا الله وأن محمدا رسول الله. على جهة الغضب والحمية. ورجع الى
منزله. وغدا على رسول الله فقال: يابن أخ أحق ما تقول ؟ فقرأ عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله)
سورة من القرآن فاستبصر، وثبت على دين الإسلام، وفرح رسول الله (صلى الله عليه
وآله)، وسر أبو طالب بإسلامه وقال
في ذلك: فصبرا أبا يعلى على دين
أحمد * وكن مظهرا للدين
- وفقت - صابرا وحط من أتى بالدين من عند ربه * بصدق وحق، لا تكن - حمز - كافرا فقد سرني إذ قلت: انك مؤمن * فكن لرسول الله - في الله -
ناصرا وناد قريشا بالذي قد اتيته * جهارا وقل: ما كان
أحمد ساحرا (إعلام الورى: 48.).
وروى الخبر ابن اسحاق عن رجل من أسلم قال: إن أبا جهل مر برسول الله عند الصفا فآذاه وشتمه ونال منه بعض ما
يكره من العيب لدينه والتضعيف لأمره، فلم يكلمه رسول الله (صلى الله عليه وآله).
ثم انصرف عنه فعمد الى ناد من قريش عند الكعبة فجلس معهم. وكانت مولاة لعبد الله بن
جدعان في مسكن لها تسمع ذلك. فلم يلبث أبو جهل حتى أقبل حمزة بن عبد المطلب
متوشحا قوسه راجعا من الصيد، وكان إذا رجع من ذلك لم يصل الى أهله حتى يطوف
بالكعبة، وكان إذا فعل ذلك لم يمر على ناد من قريش الا وقف وسلم وتحدث معهم،
وكان أعز فتى في قريش وأشد شكيمة. وكان رسول الله قد رجع الى بيته. فلما مر حمزة
بمولاة ابن جدعان قالت له: يا أبا عمارة لو رأيت ما لقي ابن أخيك محمد آنفا من
أبي الحكم بن هشام: وجده هاهنا جالسا فآذاه وسبه وبلغ منه ما يكره ثم انصرف عنه،
ولم يكلمه محمد -
صلى الله عليه [ وآله ] وسلم -. فاحتمل حمزة الغضب... فخرج يسعى ولم يقف على أحد، معدا لأبي جهل
إذا لقيه أن يوقع به. فلما دخل المسجد نظر إليه جالسا في القوم فأقبل نحوه، حتى
إذا قام على رأسه رفع القوس فضربه بها فشجه شجة منكرة ثم قال: أتشتمه وأنا على
دينه أقول ما يقول، فرد ذلك علي إن استطعت ! فقامت رجال من بني مخزوم الى حمزة
لينصروا أبا جهل، فقال أبو جهل: دعوا أبا عمارة فإني والله قد سببت ابن أخيه سبا
قبيحا. فلما أسلم حمزة عرفت قريش أن رسول الله - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - قد عز وامتنع،
وأن حمزة سيمنعه، فكفوا عن بعض ما كانوا ينالون منه (سيرة ابن
هشام 1: 311، 312.). وزاد المقدسي يقول: " عز به النبي - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - وأهل الإسلام، فشق ذلك على المشركين فعدلوا عن المنابذة الى
المعاتبة، وأقبلوا يرغبونه في المال والأنعام، ويعرضون عليه الازواج " (البدء
والتأريخ 4: 148، 149 و 5: 98.).
أما اسلام عثمان: فقد قال ابن اسحاق: بلغني أنه أسلم بعد أبي بكر (سيرة ابن
هشام 1: 267.). وروى ابن عبد البر في " الاستيعاب " عن المدائني عن عمر بن عثمان عن أبيه: أنه دخل على خالته أروى بنت
عبد المطلب، فدخل رسول الله -
صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - فجعل ينظر إليه وقد ظهر شأنه، فجرى له معه حديث وقرأ عليه بعض
الآيات ثم قام فخرج. قال عثمان: فخرجت خلفه فأدركته وأسلمت (الاستيعاب
4: 225.). وخبر ابن اسحاق يتضمن
الدلالة على سبق اسلام أبي بكر، كما عده هو فيمن أسلم بعد علي (عليه السلام) وخديجة وزيد بن حارثة، وأ نه أسلم بعد عثمان: الزبير بن العوام،
وعبد الرحمن بن عوف الزهري، وسعد بن أبي وقاص الزهري، وطلحة بن عبيدالله التيمي
وأ نهم استجابوا لأبي بكر فجاء بهم الى رسول الله (صلى
الله عليه وآله)
فأسلموا وصلوا. وحيث جاء في عبارة ابن اسحاق أنهم استجابوا لأبي بكر فجاء بهم الى النبي (صلى الله عليه وآله) بينما لم
يصرح ابن اسحاق بأ نهم أسلموا بدعوة أبي بكر، لذلك اضاف ابن
هشام هذه الكلمة: " بدعائه " ثم نبه عليه فقال: قوله " بدعائه " عن غير ابن اسحاق (سيرة ابن
هشام: 266 - 269.) وهذا من أمانته، ولكنه اجتهاد من ابن هشام، ولا دليل عليه، بل ظاهر
قول ابن اسحاق أنهم انما استجابوا لأبي بكر ليأتوا الى الرسول، وأ نهم انما
أسلموا على يد الرسول نفسه، فالعبارة
لا تدل على أنهم أسلموا بدعوة أبي بكر اياهم، بل هي في خلاف ذلك أظهر كما
هو واضح. وكما روى ابن عبد البر في " الاستيعاب " ما دل على عدم اسلام عثمان بدعوة أبي بكر بل بدعوة الرسول نفسه،
كذلك روى المقدسي في " البدء والتأريخ " رواية مفادها أن طلحة ذهب
بنفسه الى الرسول فأسلم، وقالوا: إنه كان في بصرى الشام، فسمع من راهب فيه خروج
نبي في ذلك الشهر اسمه " أحمد " فلما قدم مكة سمع الناس يقولون: تنبأ
محمد بن عبد الله، فأتى الى أبي بكر فسأله فأخبره ثم أدخله على رسول الله فأسلم (البدء
والتأريخ 5: 82 والبداية والنهاية 3: 29 ومستدرك الحاكم 3: 369.). روى تفصيله الطبرسي عن " دلائل النبوة " بسنده عن
ابراهيم بن محمد بن طلحة، عن أبيه عن جده طلحة بن عبيد الله التيمي قال: حضرت سوق بصرى فإذا
راهب في صومعته قال: سلوا
أهل هذا الموسم: أفيهم أحد من أهل الحرم ؟ فقلت: نعم، أنا. فقال: قد ظهر أحمد أم
بعد ؟ قال: قلت: ومن أحمد ؟ قال: ابن عبد الله بن عبد المطلب، هذا شهره الذي
يخرج فيه، وهو آخر الأنبياء، مخرجه من الحرم ومهاجره الى حرة وسباخ ونخل. قال
طلحة: فوقع في قلبي ما قال، فخرجت سريعا حتى قدمت مكة فقلت: هل كان من حدث ؟
قالوا: نعم، محمد بن عبد الله الأمين قد تنبأ، وقد تبعه ابن أبي قحافة. قال:
فخرجت حتى دخلت على أبي بكر فقلت: اتبعت هذا الرجل ؟ قال: نعم فانطلق إليه وادخل
عليه فإنه يدعو الى الحق. قال طلحة: فأخبرته بما قال الراهب. فخرج بي أبو بكر
فدخل بي على رسول الله فأسلمت وأخبرته بما قال الراهب، فسر رسول الله بذلك. قال الراوي: فلما
أسلم أبو بكر وطلحة أخذهما نوفل بن خويلد بن العدوية فشدهما في حبل واحد فلم
يمنعهما بنو تيم (الطبرسي في إعلام الورى: 40 عن دلائل البيهقي 1: 419.) فهذا
يؤيد قول ابن اسحاق دون ابن هشام. وقال المقدسي في " البدء والتأريخ " في اسلام سعد ابن
أبي وقاص: كان سبب اسلامه
أنه قال: رأيت في المنام كأ ني في ظلام فأضاء قمر فاتبعته، فإذا أنا بعلي وزيد - وروى: فإذا أنا بزيد وأبي بكر - قد سبقاني إليه. ثم بلغني أن رسول الله يدعو الى الإسلام مستخفيا،
فلقيته بأجياد فأسلمت (البدء والتاريخ 5: 85.). وأما الزبير بن العوام: فقد نقل ابن أبي الحديد في " شرح النهج " عن " نقض
العثمانية " لأبي جعفر الإسكافي أنه قال: ان الزبير كان قد أسلم قبل أبي
بكر (شرح النهج 13: 224.). وعلى هذا فلم يبق ممن
أسماهم ابن اسحاق أو ابن هشام سوى
عبد الرحمن بن عوف فقط. وقد نقل ابن
اسحاق قسما من
أخبار الإسراء والمعراج عن
عبد الله بن مسعود وأبي سعيد الخدري، مما يدل على سبق اسلامهما أيضا (سيرة ابن
هشام 2: 37.). |
فرض
الصلوات:
|
قال ابن اسحاق:
وفيما بلغني من حديث عبد الله بن مسعود عن النبي - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم -: أن جبرئيل انتهى به الى السماء السابعة ثم انتهى به الى ربه ففرض
عليه خمسين صلاة كل يوم ! قال رسول الله:
فأقبلت راجعا، فلما مررت بموسى بن عمران سألني: كم فرض عليك من الصلاة ؟ فقلت:
خمسين صلاة كل يوم. فقال: ان الصلاة ثقيلة وان امتك ضعيفة، فارجع الى ربك فاسأله
أن يخفف عنك وعن امتك. فرجعت فسألت ربي أن يخفف عني وعن امتي، فوضع عني عشرا، ثم
انصرفت، فمررت على موسى فقال لي مثل ذلك، فرجعت فسألت ربي فوضع عني عشرا، ثم
انصرفت فمررت به على موسى فقال لي مثل ذلك، فرجعت فسألته فوضع عني عشرا، ثم لم
يزل يقول لي مثل ذلك كلما رجعت إليه قال: فارجع فاسأل، حتى انتهيت الى أن وضع
ذلك عني الا خمس صلوات في كل يوم وليلة، ثم رجعت الى موسى فقال لي مثل ذلك فقلت:
قد راجعت ربي وسألته حتى استحييت منه، فما أنا بفاعل. ثم قال: فمن أداهن منكم ايمانا واحتسابا لهن كان له أجر خمسين صلاة مكتوبة
(سيرة ابن هشام 2: 5.) وفي
هذا المعنى الأخير روى الصدوق في " الخصال " بسنده عن الزهري عن أنس قال: فرضت على النبي (صلى الله عليه وآله)
ليلة اسري به الصلاة خمسين، ثم نقصت فجعلت خمسا، ثم نودي: يا محمد * (إنه لا يبدل القول لدي) * ان لك بهذه الخمس خمسين. وفيه بسنده عن الصادق
(عليه السلام) قال: لما
خفف الله عن النبي (صلى
الله عليه وآله) حتى
صارت خمس صلوات، أوحى الله إليه: يا محمد خمس بخمسين. وباسناده عن زيد بن علي عن سيد العابدين قال: لما هبط رسول الله الى الأرض نزل عليه جبرئيل فقال: يا محمد، ان
ربك يقرئك السلام ويقول:
انها خمس بخمسين، *
(ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد) * (العلل: 55، والأمالي: 275 والتوحيد: 176 والفقيه 1: 197 ط الغفاري.). وحكى علي بن ابراهيم بن
هاشم القمي في تفسيره عن أبيه عن محمد ابن أبي عمير عن هشام بن سالم عن الصادق
(عليه السلام) أنه
حدث بحديث معراج الرسول عن لسانه الى أن قال: ثم غشيتني صبابة (أو سحابة) فخررت
ساجدا فناداني ربي: إني قد فرضت على كل نبي كان قبلك خمسين صلاة، وفرضتها عليك
وعلى امتك، فقم بها أنت في امتك. قال رسول الله: فانحدرت حتى مررت على ابراهيم فلم يسألني عن شئ، حتى انتهيت الى
موسى فقال: ما صنعت يا محمد ؟ فقلت: قال ربي: فرضت على كل نبي كان قبلك خمسين
صلاة، وفرضتها عليك وعلى امتك. فقال موسى: يا محمد ان امتك آخر الامم وأضعفها.
وان ربك لا يرد عليك شيئا، وان امتك لا تستطيع أن تقوم بها، فارجع الى ربك
فاسأله التخفيف لامتك. فرجعت الى ربي حتى انتهيت الى سدرة المنتهى فخررت ساجدا
ثم قلت: فرضت علي وعلى امتي خمسين صلاة ولا اطيق ذلك ولا امتي فخفف عني. فوضع
عني عشرا. فرجعت الى موسى فأخبرته فقال: لا تطيق، فرجعت الى ربي، فوضع عني عشرا.
فرجعت الى موسى فأخبرته فقال: ارجع. وفي كل رجعة ارجع إليه أخر ساجدا، حتى رجع
الى عشر صلوات، فرجعت الى موسى فأخبرته فقال: لا تطيق، فرجعت الى ربي فوضع عني
خمسا، فرجعت الى موسى فأخبرته، فقال: لا تطيق، فقلت: قد استحييت من ربي ولكن
أصبر عليها. فناداني (ربي):
كما صبرت عليها فهذه الخمس بخمسين، كل صلاة بعشر، ومن هم من امتك بحسنة يعملها
كتبت له عشرة، وان لم يعملها كتبت واحدة. ومن هم من امتك بسيئة فعملها كتبت عليه
واحدة، وان لم يعملها لم أكتب عليه شيئا (تفسير
القمي 2: 12.). ونقله الصدوق في
" من لا يحضره الفقيه " مرسلا (من لا
يحضره الفقيه 1: 197 ط الغفاري.). وبإسناده عن زيد بن علي قال: سألت أبي سيد العابدين (عليه السلام) فقلت له: يا أبه أخبرني عن
جدنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) لما عرج به الى السماء وأمره ربه عزوجل
بخمسين صلاة، كيف لم يسأله التخفيف عن امته حتى قال له موسى بن عمران: ارجع الى
ربك فاسأله التخفيف فإن امتك لا تطيق ذلك ؟ فقال: يا بني ان رسول الله (صلى الله عليه وآله) لا يقترح على ربه عزوجل ولا
يراجعه في شئ يأمره به، فلما سأله موسى ذلك وصار شفيعا لامته إليه لم يجز له رد
شفاعة أخيه موسى، فرجع الى ربه فسأله التخفيف، إلى أن ردها الى خمس صلوات. فقلت له: يا أبت
فلم لم يرجع الى ربه عزوجل ولم يسأله التخفيف من خمس صلوات وقد سأله موسى (عليه
السلام) أن يرجع الى ربه عزوجل ويسأله التخفيف ؟ فقال: يا بني أراد
(عليه السلام) أن يحصل لامته التخفيف مع أجر خمسين صلاة، لقول الله عزوجل: * (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) * (الأمالي:
371، طبعة مؤسسة الأعلمي بيروت، والتوحيد: 176 والعلل: 55 ومن لا يحضره
الفقيه 1: 197 ط الغفاري.). وقد تعرض السيد المرتضى في " تنزيه الأنبياء " للمسألة
فقال: إن قيل: فما الوجه
في الرواية المشهورة: أن النبي ليلة المعراج لما خوطب بفرض الصلاة راجع ربه
تعالى مرة بعد اخرى حتى رجعت الى خمس، وفي الرواية: أن موسى (عليه السلام) هو
القائل له: ان امتك لا تطيق هذا، وكيف ذهب ذلك على النبي (صلى الله عليه وآله)
حتى نبهه موسى عليه ؟ وكيف يجوز المراجعة منه مع علمه بأن العبادة تابعة للمصلحة
وكيف يجاب عن ذلك مع أن المصلحة بخلافه ؟ ! ثم قال: أما هذه الرواية فهي من طريق
الآحاد التي لا توجب علما وهي مع ذلك مضعفة (تنزيه
الأنبياء: 121.) ثم أجاب سائر الأسئلة بناء على أن تكون الرواية صحيحة. وقال اليعقوبي:
وفي الليلة التي اسري به افتقده أبو طالب فخاف أن تكون قريش قد اغتالته أو
قتلته، فجمع سبعين رجلا من بني عبد المطلب معهم الشفار، وأمرهم أن يجلس كل رجل
منهم الى جانب رجل من قريش، وقال لهم: إن رأيتموني ومحمدا معي فأمسكوا حتى
آتيكم، والا فليقتل كل رجل منكم جليسه ولا تنظروني. فوجدوه على باب ام هانئ،
فأتى به بين يديه حتى وقف على قريش فعرفهم ما كان منه، فأعظموا ذلك وجل في
صدورهم، وعاهدوه وعاقدوه أنهم لا يؤذون رسول الله ولا يكون منهم إليه شئ يكرهه
أبدا (تأريخ اليعقوبي 2: 26). وقال ابن شهر آشوب:
روى أنه افتقده أبو طالب في تلك الليلة يزل يطلبه، ووجه الى بني هاشم يقول:
يالها من عظيمة إن لم أر رسول الله الى الفجر ! فبينا هو كذلك إذ تلقاه رسول
الله وقد نزل من السماء على باب ام هانئ، فقال له: انطلق معي. فأدخله بين يديه المسجد ودخل بنو هاشم، فسل أبو طالب سيفه عند الحجر وقال لبني هاشم: أخرجوا ما معكم يا
بني هاشم ! ثم التفت الى قريش فقال: والله لو لم أره ما بقيت منكم عين تطرف !
فقالت قريش: لقد ركبت منا عظيما (مناقب
ابن شهر آشوب 1: 18.). السورة الرابعة والعشرون - " عبس ": * (عبس وتولى أن جاءه
الأعمى وما يدريك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى أما من استغنى فأنت له تصدى
وما عليك ألا يزكى وأما من جاءك يسعى وهو يخشى فأنت عنه تلهى كلا إنها تذكرة فمن
شاء ذكره) * (عبس:
1 - 12.). روى الطبرسي في " مجمع البيان ": عن الصادق (عليه
السلام): " أنها نزلت
في رجل من بني امية كان عند النبي (صلى الله عليه وآله)، فجاء ابن أم مكتوم،
فلما رآه تقذر منه وجمع نفسه وعبس وأعرض بوجهه عنه، فحكى الله سبحانه ذلك وأنكره
عليه ". ولكنه روى بعد هذا خبرا
آخر عنه (عليه السلام) قال: "
كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذا رأى عبد الله بن ام مكتوم قال: " مرحبا، مرحبا، لا والله لا يعاتبني الله فيك أبدا
" وكان يصنع به من
اللطف حتى كان يكف عن النبي مما يفعل به ". وهذا يناسب مع المعروف والمشهور في شأن نزول السورة: أن ابن ام مكتوم -
وهو عبد الله بن شريح العامري - أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو يناجي أبيا وامية ابني
خلف، وأبا جهل بن هشام، والعباس بن عبد المطلب، وعتبة ابن أبي ربيعة، يدعوهم الى
الله ويرجو اسلامهم. فقال: يا رسول الله أقرئني وعلمني مما علمك الله. فجعل يناديه
ويكرر النداء ولا يدري أنه مشتغل مقبل على غيره، حتى ظهرت الكراهة في وجه رسول
الله لقطعه كلامه، فأعرض عنه وأقبل على القوم الذين يكلمهم، فنزلت الآيات. وكان رسول الله بعد ذلك يكرمه ويقول: مرحبا بمن
عاتبني فيه ربي. ثم قال الطبرسي:
فان قيل: فلو صح هذا الخبر فهل يكون العبوس ذنبا أم لا ؟ فالجواب: أن
العبوس والانبساط مع الأعمى سواء، إذ لا يشق عليه ذلك، فلا يكون ذنبا، فيجوز أن
يكون عاتب الله سبحانه بذلك نبيه (صلى الله عليه وآله) ليأخذه بأوفر محاسن الأخلاق، وينبهه بذلك على عظم المؤمن المسترشد، ويعرفه أن تأليف المؤمن
ليقيم على ايمانه أولى من تأليف المشرك طمعا في ايمانه (مجمع
البيان 10: 663، 664.). هذا والمعنى الأول الذي رواه عن الصادق (عليه السلام) جاء في أصل
الكتاب: " التبيان " للشيخ الطوسي هكذا: وقال قوم: ان هذه
الآيات نزلت في رجل من بني امية كان واقفا مع النبي، فلما أقبل ابن ام مكتوم تنفر منه وجمع نفسه وعبس وجهه،
فحكى الله تعالى ذلك
وأنكره معاتبة على ذلك (التبيان
10: 269.) وقريب منه في تفسير القمي (تفسير
القمي 2: 404.). وفي هذه السورة آية ربط خبرها بسورة النجم قبلها، وذلك قوله سبحانه: * (قتل الانسان ما أكفره من أي شئ خلقه...) * (عبس: 17، 18.)
قال الطبرسي: عن مقاتل والكلبي: هو عتبة بن أبي لهب إذ قال: كفرت برب النجم إذا
هوى (مجمع البيان 10: 665.). ورواه السيوطي في "
الدر المنثور " عن عكرمة عن ابن عباس قال: نزلت في عتبة بن أبي لهب حين قال: كفرت برب النجم إذا هوى. فدعا
عليه النبي (صلى الله عليه
وآله) فأخذه الأسد بطريق
الشام (الدر المنثور 6: 215.). السورة الخامسة والعشرون - " القدر ": فهي أول سورة وآيات ذكر فيها " ليلة القدر " وأ نها سلام حتى مطلع الفجر بل خير من ألف شهر، وأن الملائكة
والروح تنزل فيها بإذن ربهم من كل أمر، وقد نزلت فيها بالقرآن على رسول الله (صلى
الله عليه وآله)، والنازل منه إذ ذاك هذه الخمس والعشرون سورة. السورة التاسعة والعشرون
- " قريش ": وليس قبلها الفيل ولا في رواية، فلا مجال للقول بتعلق
اللام في بداية هذه السورة:
" لإيلاف قريش " بكيفية
هلاك أصحاب الفيل، فضلا
عن القول بوحدة السورتين، بل المترجح
المتعين ما نقله الطبرسي في " مجمع البيان " عن الخليل وسيبويه: أن " لإيلاف " يتعلق ب " فليعبدوا " أي: ليجعلوا عبادتهم شكرا لنعمة ايلافهم واعترافا بها (مجمع
البيان 10: 829، وانظر رد الطباطبائي لأخبار وحدة السورتين 20: 364.). السورة الثانية والثلاثون - " الهمزة ": روى الطبرسي عن مقاتل
قال: نزلت في الوليد بن
المغيرة، وكان يغتاب النبي من ورائه ويطعن عليه في وجهه. وهذا يوافق قول قتادة
وسعيد بن جبير في معنى الهمزة وبأ نه المغتاب، واللمزة بأ نه الطعان. وقال ابن عباس والحسن وأبو العالية وعطاء بن أبي رباح بالعكس أي أن
الهمزة هو الذي يطعن في
الوجه بالعيب، واللمزة
الذي يغتاب عند الغيبة
(مجمع البيان 10: 818.). وعلى أي حال فالسورة - على هذا - من أول ما نزل في
ذم الوليد وتقريعه لما
كان يناله من النبي (صلى
الله عليه وآله) قبل
ما أصابه وسائر أصحابه من المستهزئين. عن ابن اسحاق: أنها
نزلت في امية بن خلف الجمحي، وكان يهمز النبي (صلى الله عليه وآله) (سيرة ابن
هشام 1: 382.) وفي "
روح المعاني " أنها
في العاص بن وائل (روح
المعاني.) وهما أيضا من المستهزئين برسول الله (صلى
الله عليه وآله). السورة الثالثة
والثلاثون - " المرسلات ": وفيها روى السيوطي في " الدر المنثور " عن عبد الله بن مسعود قال: بينا نحن مع النبي - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - في غار بمنى إذ نزلت عليه سورة * (والمرسلات عرفا) * (الدر
المنثور 6: 302.). السورة الرابعة والثلاثون - " ق ": وفيها
قوله سبحانه: *
(القيا في جهنم كل كفار عنيد مناع للخير معتد مريب الذي جعل مع الله إلها آخر
فالقياه في العذاب الشديد) * (ق: 24 - 26.)
وقال الطبرسي في " مجمع
البيان ": قيل:
إنها نزلت في الوليد بن المغيرة حين استشاره بنو اخيه في الاسلام فمنعهم. فيكون
المراد بالخير الذي يمنع عنه هو الاسلام (مجمع
البيان 10: 220.). السورة الخامسة والثلاثون - " البلد ": وفيها: * (أيحسب أن لن يقدر
عليه أحد يقول أهلكت مالا لبدا أيحسب أن لم يره أحد) * (البلد: 5 - 7.) قال
الطبرسي في " مجمع البيان " قال مقاتل الكلبي: هو الحرث بن عامر بن
نوفل بن عبد مناف، وذلك أنه دخل في الاسلام وأذنب ذنبا فاستفتى رسول الله فأمره
أن يكفر، فقال: لقد ذهب مالي في الكفارات والنفقات منذ دخلت في دين محمد... وكان
كاذبا لم ينفق ما قاله، فقال الله سبحانه: أيظن أن الله تعالى لم ير ذلك فعل أو
لم يفعل أنفق أو لم ينفق. وقيل: هو أبو الأسد بن كلدة الجمحي، وكان قويا شديد الخلق بحيث كان يجلس على أديم عكاظي فتجره العشرة
من تحته فيتقطع ولا يبرح من مكانه، وكان قد انفق مالا كثيرا في عداوة النبي (صلى
الله عليه وآله): فأخبر الله عن مقالته * (يقول: أهلكت مالا لبدا) * يفتخر بذلك (مجمع البيان 10: 748.). السورة السابعة والثلاثون - " القمر ": روى القمي في تفسيره
بسنده عن الامام الصادق (عليه السلام) قال: اجتمعوا أربعة عشر رجلا أصحاب العقبة ليلة أربعة عشر من ذي الحجة،
فقالوا للنبي: ما من نبي الا وله آية، فما آيتك في ليلتك هذه ؟ فقال النبي: ما
الذي تريدون ؟ فقالوا: ألم يكن لك عند ربك قدر ؟ ! فأمر القمر أن ينقطع قطعتين ! فهبط جبرئيل وقال:
يا محمد ان الله يقرؤك السلام ويقول لك: اني قد أمرت كل شئ بطاعتك. فرفع رأسه
فأمر القمر أن ينقطع قطعتين ! فانقطع قطعتين ! فسجد النبي (صلى الله عليه وآله)
شكرا لله... ثم رفع النبي رأسه ورفعوا رؤوسهم ثم قالوا: يعود كما كان ؟ فعاد كما
كان ؟ ثم قالوا: ينشق رأسه ! فأمره فانشق. فسجد النبي شكرا لله... فقالوا: يا محمد
حين يقدم مسافرونا من
الشام واليمن فنسألهم ما رأوا في هذه الليلة ؟ فإن يكونوا رأوا مثل ما رأينا علمنا أنه من ربك، وان لم يروا مثل
ما رأينا علمنا أنه سحر سحرتنا به ! فأنزل الله * (اقتربت الساعة وانشق القمر) *
الى آخر السورة (تفسير القمي 2: 341.). وعليه فهذه هي المرة الثانية لتجربتهم صدق مقال الرسول (صلى الله عليه وآله) بتصديق المسافرين
له، بعد أخباره عن الاسراء به الى بيت المقدس. ولعلهم قالوا ذلك بعد أن قالوا:
سحرنا محمد، فقال رجل - كما رواه الطبرسي عن جبير بن مطعم - ان كان سحركم فلم
يسحر الناس كلهم. قال الطبرسي: وقد
روى حديث انشقاق القمر جماعة كثيرة من الصحابة منهم: عبد الله بن مسعود وأنس بن
مالك وحذيفة بن اليمان وابن عمر وابن عباس وعليه جماعة المفسرين، بل أجمع المسلمون
على ذلك، فلا يعتد بخلاف من خالف فيه. قال: ومن طعن في ذلك: بأ نه لو وقع انشقاق القمر في عهد رسول الله لما كان يخفى على أحد
من أهل الأقطار. فقوله باطل. لأ نه قد وقع ذلك ليلا فيجوز أن يكون الناس كانوا
نياما فلم يعلموا بذلك، على أن الناس ليس كلهم يتأملون ما يحدث في السماء وفي
الجو من آية وعلامة، فيكون مثل انقضاض الكواكب وغيره مما يغفل الناس عنه، ولأ نه
يجوز أن يكون الله قد حجبه عنهم بغيم ونحوه (مجمع
البيان 10: 282.). وقد روى السيوطي في
" الدر المنثور " بأسناده عن ابن مسعود قال: انشق القمر... فقالت قريش: هذا سحر ابن أبي كبشة، فقالوا: انتظروا
ما يأتيكم به المسافرون فإن محمدا لايستطيع أن يسحر الناس كلهم. فجاء المسافرون
فسألوهم فقالوا: نعم قد رأيناه. فأنزل الله * (اقتربت الساعة وانشق القمر) * (الدر المنثور 6: 132، سورة القمر.). السورة الثامنة
والثلاثون - " ص ": وفيها قوله سبحانه: * (وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب أجعل
الآلهة إلها واحدا إن هذا لشئ عجاب وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على
آلهتكم إن هذا لشئ يراد ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا الا اختلاق) * (ص: 4 - 7.). روى الكليني في "
اصول الكافي " بسنده
عن جابر عن ابي جعفر الباقر (عليه السلام) قال: أقبل أبو جهل بن هشام ومعه قوم
من قريش فدخلوا على أبي طالب فقالوا: ان ابن أخيك قد آذانا وآذى آلهتنا، فادعه
ومره فليكف عن الهتنا ونكف عن الهه ! فبعث أبو طالب الى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فدعاه، فلما دخل النبي لم ير في البيت الا مشركا فقال: السلام على من
اتبع الهدى، ثم جلس. فأخبره أبو طالب بما جاؤوا به. فقال: أو هل لهم في كلمة خير
لهم من هذا، يسودون بها العرب ويطأون أعناقهم ! فقال أبو جهل: نعم وما هذه
الكلمة ؟ قال: تقولون: لا اله الا الله. فوضعوا أصابعهم في آذانهم وخرجوا وهم
يقولون: * (ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة ان هذا الا اختلاق) * فأنزل الله في قولهم * (ص
والقرآن ذي الذكر) * الى
قوله * (الا اختلاق) * (اصول الكافي 2: 649) ونقله القمي في تفسيره
بمعناه بلا اسناد وأضاف: نزلت
بمكة لما أظهر رسول الله الدعوة اجتمعت قريش الى أبي طالب فقالوا: يا أبا طالب !
إن ابن أخيك قد سفه أحلامنا، وسب آلهتنا، وأفسد شبابنا، وفرق جماعتنا. فان كان
الذي يحمله على ذلك العدم جمعنا له مالا حتى يكون أغنى رجل في قريش ونملكه علينا
! فأخبر أبو طالب رسول الله (صلى الله عليه وآله) بذلك فقال: والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري ما أردته، ولكن
يعطونني كلمة يملكون بها العرب ويدين لهم بها العجم ويكونوا ملوكا في الجنة.
فقال لهم أبو طالب ذلك فقالوا: نعم وعشر كلمات ! فقال لهم رسول الله: تشهدون أن لا اله الا الله وأ ني رسول الله ! فقالوا: ندع
ثلاثمائة وستين الها ونعبد الها واحدا ؟ ! فأنزل الله *
(وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب أجعل الآلهة الها واحدا
ان هذا لشئ عجاب وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم ان هذا لشئ يراد
ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة ان هذا الا اختلاق أانزل عليه الذكر من بيننا بل
هم في شك من ذكري بل لما يذوقوا عذاب أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب أم
لهم ملك السموات والأرض وما بينهما فليرتقوا في الأسباب) * (ص: 4 - 10. تفسير القمي 2: 228 وذكر مختصره ابن شهر آشوب في المناقب 1: 54،
ومثله الطبري 2: 324 عن السدي و 325 عن ابن عباس. وأورد الخبرين في تفسيره: 23:
79 - 81 ط بولاق.). وروى الطبرسي في " مجمع البيان " أنهم كانوا خمسة
وعشرين من أشراف قريش منهم
أبو جهل بن هشام كما مر في خبر الكليني ومنهم الوليد ابن المغيرة والنضر بن
الحارث، وابي وامية ابنا خلف الجمحي وعتبة وشيبة ابنا ربيعة المخزومي. أتوا أبا
طالب وقالوا: أنت شيخنا وكبيرنا، وقد أتيناك لتقضي بيننا وبين ابن اخيك، فإنه
سفه أحلامنا وشتم آلهتنا ! فدعا أبو طالب رسول الله
فقال: يا ابن أخي ! إن هؤلاء
قومك يسألونك. فقال: ماذا يسألونني ؟ قالوا: دعنا وآلهتنا ندعك والهك ! فقال: أو
تعطوني كلمة واحدة تملكون بها العرب والعجم ؟ ! فقال أبو جهل: لله
أبوك نعطيك ذلك وعشرا أمثالها، فقال: قولوا لا اله الا الله. فقاموا وقالوا:
" أجعل الآلهة الها واحدا " فنزلت هذه الآيات. قال: وروي أن النبي (صلى
الله عليه وآله) استعبر ثم قال: يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في
شمالي، على أن أترك هذا الأمر، ما تركته حتى ينفذه الله أو أمضي دونه ! فقال له أبو طالب:
امض لأمرك، فوالله لا أخذلك أبدا (سيرة ابن هشام 1: 285 وعنه الطبري 2: 326.). وخرجوا من مجلسهم الذي كانوا فيه عند أبي طالب وهم يقولون - وقيل:
إن القائل هو عقبة بن أبي معيط الاموي -: اثبتوا على عبادة آلهتكم واصبروا على
دينكم وتحملوا المشاق لأجله، فإن هذا الذي نراه من زيادة أصحاب محمد أمر يراد
بنا من زوال نعمة أو نزول شدة (مجمع
البيان 8: 725 - 727.). ولا أحسب القمي متحققا من قوله إذ قال: نزلت بمكة لما أظهر رسول الله الدعوة ؟ بمعنى أن نزول هذه السورة كانت هي نقطة النقلة من المرحلة السرية الى
الدعوة العلنية ؟ ولكن
كلامه هذا على أي حال، بل القصة
برمتها كسابقاتها
تستلزم عدم سرية المرحلة. وقد نقلنا قبل هذا لقاء آخر لهم بأبي طالب (رضي الله عنه) فلعل هذا هو اللقاء الثاني المتكرر، وان كانت كلمات القوم خلوا من الاشارة الى ذلك. السورة التاسعة والثلاثون - " الأعراف ": وأولها: *
(المص كتاب انزل اليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين) * (الأعراف: 1 - 2.) فهل
هذا يعني الانذار الخاص والسري، وذكرى للمؤمنين كذلك ؟ بل الظاهر غير ذلك. وفيها قوله سبحانه: * (يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا
إنه لا يحب المسرفين قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل
هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم
يعلمون قل انما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والاثم والبغي بغير الحق
وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) * (الاعراف: 31 - 33.). قال القمي في تفسيره: ان اناسا كانوا يطوفون عراة بالبيت، الرجال بالنهار والنساء
بالليل، وكانوا لا يأكلون الا قوتا، فأمرهم الله بلبس الثياب، وأن يأكلوا
ويشربوا ولا يسرفوا (تفسير القمي 1: 228.) ورواه
الطبرسي عن جماعة من المفسرين
(مجمع البيان 4: 637.). وروى السيوطي في "
الدر المنثور " باسناده عن ابن عباس قال: كان رجال يطوفون بالبيت عراة فأمرهم الله بالزينة، * (خذوا زينتكم
عند كل مسجد) * والزينة اللباس، وهو ما يواري السوآت، وما سوى ذلك من جيد البز
والمتاع. وفيه بسنده عنه أيضا قال: كان أهل الجاهلية يحرمون أشياء أحلها الله من الثياب وغيرها،
فأنزل الله: * (قل من حرم
زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة
الدنيا) * ثم يخلص الله
الطيبات في الآخرة للذين آمنوا وليس للمشركين فيها شئ " خالصة يوم القيامة
". وفيه بسنده عن مولاه عكرمة فصل القول في هؤلاء من أهل الجاهلية وما كانوا يحرمون ولماذا
فقال: كانت الحمس من قريش وبطون من كنانة ومن يأخذ مأخذها من قبائل العرب: بني
عامر بن صعصعة وخزاعة وثقيف والأوس والخزرج لا يأكلون اللحم (في الحج) ولا يأتون
البيوت الا من أدبارها، ولا يضربون وبرا ولا شعرا وانما يضربون الأدم، وإذا
قدموا (للحج) طرحوا ثيابهم التي قدموا فيها وقالوا: هذه ثيابنا التي نريد أن
نتطهر الى ربنا عما فيها من الذنوب والخطايا فمن يعيرنا مئزرا، فان لم يجدوا
طافوا عراة، فإذا فرغوا من طوافهم اخذوا ثيابهم التي كانوا قد وضعوها. وفيه بسنده عن سعيد بن جبير قال: كان الناس يطوفون بالبيت عراة يقولون: لا نطوف في ثياب اذنبنا
فيها. فجاءت امرأة فألقت ثيابها وطافت وهي واضعة يدها على قبلها وتقول: اليوم يبدو بعضه أو كله
* فما بد ا منه فلا احله فنزلت هذه الآية: * (يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد) * (الدر
المنثور 3: 75، سورة الأعراف.). وفي السورة قوله سبحانه: * (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون) * (الأعراف: 204.). وروى الطبرسي في " مجمع البيان " عن أبي جعفر الامام
الباقر (عليه السلام) والزهري ومجاهد عن سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير عن ابن
مسعود وابن عباس قالا: كان
المسلمون يتكلمون في صلاتهم ويسلم بعضهم على بعض، وإذا دخل داخل فقال لهم: كم
صليتم أجابوه. فنهوا عن ذلك وامروا بالاستماع (مجمع
البيان 4: 791.). السورة الحادية والأربعون - " يس ": * (يس والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين) * فهو من الأنبياء المرسلين، وظاهر الخطاب بل صريحه فعليته العامة
لا شأنيته بالقوة، ولا الفعلية السرية أو الخاصة، بل * (لتنذر قوما ما انذر آباؤهم فهم غافلون لقد حق القول على
أكثرهم فهم لا يؤمنون انا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي الى الأذقان فهم مقمحون
وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون) * (يس: 6 - 9.).
وهنا قال القمي في تفسيره: إنها نزلت في أبي جهل بن هشام ونفر من أهل بيته، وذلك أنه حلف أبو جهل: لئن رأى النبي يصلي ليدمغنه، فجاء والنبي قائم يصلي (حول الكعبة)
ومعه حجر، ولكنه جعل كلما رفع الحجر ليرميه أثبت الله يده الى عنقه ولا يدور
الحجر بيده، ولما يرجع الى أصحابه يسقط الحجر من يده. فقام رجل آخر من رهطه فقال: أنا أقتله ! فلما دنا منه سمع قراءة رسول الله فارعب، فرجع الى أصحابه وقال:
حال بيني وبينه كهيئة الفحل يخطر بذنبه، فخفت أن أتقدم. فلم يؤمن من أولئك الرهط
من بني مخزوم أحد (تفسير القمي 2: 212 ونقل مثله الطبرسي في مجمع البيان 10: 649.). وروى السيوطي في " الدر المنثور " زيادة عن ابن عباس
قال: كان النبي (صلى الله
عليه وآله) يقرأ في المسجد فيجهر بالقراءة حتى تأذى به ناس من قريش حتى قاموا
ليأخذوه، وإذا أيديهم مجموعة الى أعناقهم، وإذا هم لا يبصرون. فجاؤوا، الى النبي
فقالوا: ننشدك الله والرحم - يا محمد - فدعا النبي حتى ذهب ذلك عنهم، فنزلت * (يس والقرآن الحكيم...) * (الدر المنثور 5: 269، سورة يس.) ولعله
كان هذا بعد رد الرسول لهم عند عمه أبي طالب، كرد فعل من أبي جهل بعد فعل الرسول
ذلك. وفي السورة قوله سبحانه: * (أولم ير الانسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين وضرب
لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم) * (س: 77، 78.) وروى الطبرسي في " مجمع البيان " عن الصادق (عليه
السلام): أن القائل هو أبي
بن خلف الجمحي. وقال الحسن: هو امية بن خلف، أخوه. وقال ابن جبير: هو العاص بن
وائل السهمي (مجمع البيان 10: 678.). وهم ثلاثة من المستهزئين الستة. ورواية
الصادق (عليه السلام) في كلام الطبرسي هي رواية العياشي عن الحلبي عنه (عليه السلام) قال: جاء ابي بن خلف فأخذ عظما باليا من حائط ففته ثم قال:... إذا كنا
عظاما ورفاتا أإنا لمبعثون خلقا ؟ فأنزل الله: * (قال من يحيي العظام وهي رميم) * (الميزان
17: 118 ونقل معناه ابن شهر آشوب في المناقب 1: 56.). السورة الثانية
والأربعون - " الفرقان ": * (تبارك الذي نزل
الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا... وقال الذين كفروا إن هذا الا إفك
افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاؤوا ظلما وزورا وقالوا أساطير الأولين
اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا) * (الفرقان: 1 - 5.). في تفسير القمي: في
رواية أبي الجارود عن أبي جعفر الامام الباقر (عليه السلام) في قوله: * (وأعانه عليه قوم آخرون) * يعنون: أبا فكيهة وجبرا وعداسا وعابسا مولى حويطب. وقوله: * (وقالوا أساطير الأولين) * هو قول النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة " اكتتبها "
قال القمي: قالوا: هذا الذي يقرأه محمد ويخبرنا به انما يتعلمه ويكتبه عن رجل من
علماء النصارى يقال له: ابن قبيطة (تفسير
القمي 2: 111 وسيرة ابن اسحاق 1: 321.). ونقل الطبرسي في "
مجمع البيان " عن مجاهد قالوا: أعان محمدا (صلى الله عليه وآله) على هذا القرآن: عداس مولى حويطب
بن عبد العزى، ويسار غلام العلاء ابن الحضرمي، وحبر مولى عامر، وكانوا من أهل
الكتاب (مجمع البيان 7: 253.) ونقل
ابن شهر آشوب مثله في " المناقب " (مناقب
ابن شهر آشوب 1: 49 وذكر: حميرا مولى عامر !.). وفيها قوله: * (وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا
انزل إليه ملك فيكون معه نذيرا أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها) * (الفرقان:
7، 8.) روى السيوطي في
" الدر المنثور " بأسناده عن ابن عباس: أن عتبة وشيبة ابني ربيعة، وأبا سفيان بن حرب، والنضر بن الحارث،
وأبا البختري، والأسود بن المطلب، وزمعة بن الأسود، والوليد بن المغيرة، وأبا
جهل بن هشام، وعبد الله بن امية، وامية بن خلف، والعاصي ابن وائل، ونبيه بن
الحجاج، اجتمعوا فقال بعضهم لبعض: ابعثوا الى محمد فكلموه وخاصموه حتى تعذروا
منه. فبعثوا إليه: إن
أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك. فجاءهم رسول الله فقالوا له: يا محمد ! انا
بعثنا اليك لنعذر منك، فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالا، جمعنا لك من
أموالنا، وان كنت تطلب الشرف فنحن نسودك، وان كنت تطلب ملكا ملكناك. فقال رسول الله:
ما بي مما تقولون، ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا
الملك عليكم. ولكن الله بعثني اليكم رسولا وأنزل علي كتابا وأمرني أن أكون لكم
بشيرا ونذيرا، فبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو
حظكم في الدنيا والآخرة، وان تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني
وبينكم. قالوا: يا محمد ! فإن كنت غير قابل منا شيئا عرضناه عليك فسل لنفسك ربك أن يبعث معك
ملكا يصدقك بما تقول ويراجعنا عنك، وسله أن يجعل لك جنانا وقصورا من ذهب وفضة
تغنيك عما تبتغي - فإنك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه - حتى نعرف فضلك
ومنزلتك من ربك ان كنت رسولا كما تزعم. فقال لهم رسول الله: ما أنا بفاعل، ما أنا بالذي يسأل ربه هذا وما بعثت اليكم بهذا،
ولكن الله بعثني بشيرا ونذيرا. فأنزل الله في
قولهم ذلك: * (وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام...) * (الدر المنثور: 5: 62 وروى القصة مرة اخرى عن ابن عباس أيضا سببا
لنزول الآيات: 90 - 93 من سورة الاسراء 4: 202 كما سيأتي، ورواها الطبرسي في
مجمع البيان في سورة الاسراء 6: 678). وفيها قوله سبحانه: * (ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول
سبيلا يا ويلتا ليتني لم أتخذ فلانا خليلا لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان
الشيطان للانسان خذولا) * (الفرقان:
27 - 29.). نقل الطبرسي في "
مجمع البيان " عن ابن عباس قال: نزل قوله: *
(يوم يعض الظالم على يديه) *
في عقبة بن أبي معيط وابي بن خلف الجمحي، وكانا متخالين،
وذلك: أن عقبة كان لا يقدم من سفر الا صنع طعاما فدعا إليه أشراف قومه. وكان
يكثر مجالسة الرسول. فقدم من سفره ذات يوم فصنع طعاما ودعا الناس فدعا رسول الله
الى طعامه. فلما قربوا الطعام قال رسول الله: ما أنا بآكل من طعامك حتى تشهد أن لا اله الا الله وأ ني رسول
الله. فقال عقبة: أشهد أن لا اله الا الله وأشهد أن محمدا رسول الله. وبلغ ذلك ابي بن خلف، فأتاه وقال له: صبوت يا عقبة ؟ ! قال: لا - والله - ما صبوت، ولكن دخل علي رجل
فأبى أن يطعم من طعامي الا أن أشهد له، فاستحييت أن يخرج من بيتي ولم يطعم،
فشهدت له فطعم. فقال ابي: ما كنت براض عنك أبدا حتى تأتيه فتبزق في وجهه، ففعل
ذلك عقبة، وارتد، وأخذ رحم دابة فألقاها بين كتفيه ! فقال النبي (صلى الله عليه وآله): لا ألقاك خارج مكة الا علوت
رأسك بالسيف. فوقع يوم بدر أسيرا بيد
المسلمين فأمر رسول الله بتنفيذ حلفه فيه من بين سائر اسارى المشركين، ولم يقتل
من الاسارى يومئذ غيره. (مجمع
البيان 7: 260، 261 وفيه: وأما ابي بن خلف فقد قتله النبي يوم احد بيده في
المبارزة. وروى الخبر السيوطي بسنده عن ابن عباس أيضا في الدر المنثور 5: 68.).
وعليه، فالظالم في
الآية: عقبة بن أبي معيط الاموي، وفلان خليله ابي بن خلف الجمحي، والذكر الذي
جاءه شهادته بالشهادتين ولو أخذت منه حياء، وضلاله بعد الذكر استجابته لطلبة
خليله بالارتداد والبصاق في وجه رسول الله (صلى الله عليه وآله). السورة الرابعة والأربعون - " مريم ": وهي التي قرأ شطرا منها
جعفر بن أبي طالب الطيار على النجاشي ملك الحبشة في الهجرة إليها، فيعلم أنها نزلت قبل ذلك وأن الهجرة إليها بعد هذه السورة. وفيها قوله سبحانه: * (أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لاوتين مالا وولدا...) * (مريم: 77) قال الطبرسي: روي في
الصحيح: عن خباب بن الأرت قال:
كنت رجلا غنيا وكان لي على العاص بن وائل دين فأتيته أتقاضاه فقال لي: لا أقضيك
حتى تكفر بمحمد ! فقلت: لن أكفر به حتى تموت وتبعث. قال: فإني لمبعوث بعد الموت
فسوف أقضيك دينك إذا رجعت الى مال وولد. فنزلت الآية * (أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لاوتين مالا وولدا) * (مجمع البيان 6: 816 ويقصد بالصحيح البخاري ومسلم كما في أسباب النزول
للواحدي: 248 ط الجميلي وفي ابن هشام 1: 383، ومثله في مناقب ابن شهر آشوب 1:
53.). السورة السادسة
والأربعون - " الواقعة ": وفيها قوله سبحانه: * (فسبح باسم ربك العظيم) * (الواقعة: 74 )
وروى العياشي في تفسيره
عن عقبة بن عامر الجهني قال: لما نزلت: * (فسبح باسم ربك العظيم) * قال رسول الله (صلى
الله عليه وآله):
اجعلوها في ركوعكم. ورواه أيضا في "
الدر المنثور " عن
أحمد وأبي داود وابن ماجة وابن المنذر وابن مردويه عن عقبة عنه (صلى الله عليه
وآله) (الميزان 20: 270.). وهذا مما يؤيد ما مر عن أن الصلاة في أوائل تشريعها كانت بسجود
بلا ركوع، ثم شرع فيه الركوع بعد ذلك. السورة السابعة والأربعون - "
الشعراء ": وفيها آية *
(وأنذر عشيرتك الأقربين) * وقد
سبق القول فيها. وفيها أيضا قوله سبحانه: * (والشعراء يتبعهم الغاوون) * (الشعراء: 224)
ونقل الطبرسي في
" مجمع البيان " عن مقاتل: أنهم شعراء المشركين وكلهم من قريش منهم أبو سفيان بن الحرث بن عبد
المطلب، وأبو عزة عمرو بن عبد الله، وعبد الله بن الزبعرى السهمي، ومسافع بن عبد
مناف الجمحي، وهبيرة بن أبي وهب المخزومي... اجتمعوا وقالوا: نحن نقول مثل ما
قال محمد، قالوا الشعر وتكلموا بالكذب والباطل ويهجون النبي، واجتمع إليهم غواة
من قومهم يستمعون أشعارهم ويروون عنهم هجوهم (مجمع
البيان 7: 325.). السورة التاسعة والأربعون - " القصص ": وفيها قوله سبحانه: * (ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم
يتذكرون ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت الينا
رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا اوتي
مثل ما اوتي موسى أولم يكفروا بما اوتي موسى من قبل وقالوا سحران تظاهرا وقالوا
إنا بكل كافرون) * (القصص:
46 - 48.) ونقل الطبرسي في " مجمع البيان " عن الكلبي قال: كانت مقالتهم هذه حين بعثوا الرهط منهم الى رؤوس اليهود بالمدينة
في عيد لهم، يسألونهم عن محمد (صلى الله عليه وآله). فأخبروهم بنعته وصفته في
كتابهم التوراة فرجع الرهط الى قريش فأخبروهم بقول اليهود، فقالوا عند ذلك:
سحران تظاهرا (مجمع البيان 7: 402.). والعلامة الطباطبائي مع أنه يذكر في بحوثه الروائية روايات أسباب
النزول لم يذكر هذا الخبر عن "
مجمع البيان " ولكنه
قال في تفسير الآيات: سياق الآيات يشهد بأن
المشركين من قوم النبي (صلى الله عليه وآله) راجعوا بعض أهل الكتاب واستفتوهم في أمره وعرضوا عليهم بعض القرآن
النازل عليه، وهو مصدق للتوراة. فأجابوهم بتصديقه والايمان بما يتضمنه القرآن من المعارف الحقة، وأ نهم كانوا يعرفونه بأوصافه قبل أن يبعث كما قال الله تعالى: * (وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من
قبله مسلمين) * (القصص:
53). فساء المشركين ذلك وشاجروهم وأغلظوا عليهم في القول وقالوا: إن
القرآن سحر والتوراة سحر مثله * (سحران تظاهرا وقالوا انا بكل كافرون) * فأعرض
الكتابيون عنهم وقالوا: * (سلام عليكم لانبتغي الجاهلين) * (القصص: 55.) هذا ما تلوح به الآيات الكريمة بسياقها (الميزان
16: 47، 48.). ولم يذكر الخبر من
هؤلاء العلماء اليهود من أهل يثرب الذين صدقوا بالقرآن فأغضبوا المشركين، وأثنى عليهم القرآن في هذه
الآيات ؟ ولعلهم هم الذين
أسلموا منهم فيما بعد: تميم
الداري والجارود العبدي وعبد الله بن سلام، الذين نقل الطبرسي في " مجمع البيان " عن قتادة: أنهم لما أسلموا نزلت فيهم الآيات: * (الذين آتيناهم الكتاب) * بينما الآيات مكية من سورة
مكية قبل الهجرة الى
المدينة. وقد ذكر في الخبر
معهم سلمان الفارسي أيضا، وهو
غريب ! (مجمع البيان 7: 403). |
ايمان
أبي طالب:
|
وفيها بعده قوله سبحانه: * (انك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين)
* (القصص: 56.). قال القمي في تفسيره: نزلت في أبي طالب (عليه السلام)، فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يقول: يا عم قل: لا إله
الا الله، أنفعك بها يوم القيامة، فيقول: يابن أخي أنا أعلم بنفسي. ولكنه لم يمت
حتى شهد العباس بن عبد المطلب عند رسول الله: أنه تكلم بها عند الموت، فقال رسول
الله (صلى الله عليه وآله): أرجو أن تنفعه يوم القيامة. وقال: لو قمت المقام
المحمود لشفعت في أبي وامي وعمي، وأخ كان لي مواخيا في الجاهلية (تفسير
القمي 2: 142.). وروى القمي هذا الأخير قبل هذا عن أبيه عن محمد بن أبي عمير عن معاوية وهشام عن الصادق (عليه
السلام) عن رسول الله (صلى
الله عليه وآله) (تفسير
القمي 2: 25.). وقال الطبرسي: رووا
عن ابن عباس وغيره أن قوله:
* (انك لا تهدي من أحببت) * نزلت
في أبي طالب، فإن النبي (صلى الله عليه وآله) كان يحب اسلامه فنزلت فيه هذه
الآية... وفي هذا نظر كما ترى، فإن النبي لا يجوز أن يخالف الله سبحانه في
ارادته، كما لا يجوز أن يخالفه في أوامره ونواهيه، وإذا كان الله تعالى - على ما
زعم القوم - لم يرد ايمان أبي طالب وأراد كفره وأراد النبي ايمانه، فقد حصل غاية
الخلاف بين ارادتي الرسول والمرسل، فكأ نه سبحانه يقول: انك - يا محمد - تريد
ايمانه ولا اريد ايمانه... مع تكفله بنصرتك وبذل مجهوده في اعانتك والذب عنك
ومحبته لك ونعمته عليك... وفي هذا ما فيه (مجمع
البيان 7: 405، 406.) وقال في سورة الأنعام: وقد ثبت اجماع أهل البيت (عليهم السلام)
على ايمان أبي طالب، واجماعهم حجة، لأنهم أحد الثقلين اللذين أمر النبي (صلى الله عليه وآله) بالتمسك بهما بقوله: " إن تمسكتم بهما لن تضلوا ". ويدل على ذلك ما رواه ابن عمر: أن أبا بكر جاء بأبيه أبي قحافة يوم الفتح الى رسول الله فأسلم
وكان أعمى فقال (صلى
الله عليه وآله): ألا
تركت الشيخ فآتيه ؟ فقال أبو بكر: أردت أن يأجره الله تعالى، والذي بعثك بالحق
لأنا كنت باسلام أبي طالب أشد فرحا مني بإسلام أبي التمس بذلك قرة عينك. فقال (صلى الله عليه وآله): صدقت. وروى الطبري بأسناده: أن رؤساء قريش لما رأوا ذب أبي طالب عن النبي اجتمعوا عليه
وقالوا: جئناك بفتى قريش جمالا وجودا وشهامة: عمارة بن الوليد، ندفعه اليك وتدفع
الينا ابن أخيك الذي فرق جماعتنا وسفه أحلامنا فنقتله ! فقال أبو طالب: ما انصفتموني، تعطوني ابنكم فأغذوه واعطيكم ابني فتقتلونه، بل
فليأت كل امرئ منكم بولده فأقتله. وقال: معنا الرسول رسول المليك *
ببيض تلالأ كلمع البروق أذود وأحمي رسول المليك
* حماية حام عليه شفيق قال: وأقواله وأشعاره المنبئة عن اسلامه كثيرة مشهورة لا تحصى، فمن ذلك قوله: ألم تعلموا أنا وجدنا محمدا *
نبيا كموسى خط في أول الكتب أليس أبونا هاشم شد أزره *
وأوصى بنيه بالطعان وبالحرب وقوله من قصيدة: وقالوا لأحمد: أنت امرؤ
* خلوف اللسان ضعيف السبب الا إن أحمد قد جاءهم *
بحق ولم يأتهم بالكذب وقوله في حديث الصحيفة وهو
من معجزات النبي (صلى الله عليه وآله): وقد كان في أمر الصحيفة
عبرة * متى ما يخبر غائب القوم يعجب محا الله منها كفرهم وعقوقهم * وما نقموا من ناطق الحق معرب وأمسى ابن عبد الله فينا مصدقا * على سخط من قومنا غير معتب وقوله في قصيدة يحض أخاه حمزة على اتباع النبي والصبر في طاعته: فصبرا - أبا يعلى - على
دين أحمد * وكن مظهرا للدين - وفقت -
صابرا فقد سرني إذ قلت إنك مؤمن * فكن لرسول الله - في الله - ناصرا وقوله في وصيته وقد حضرته الوفاة: اوصي بنصر النبي الخير مشهده * عليا ابني وشيخ القوم عباسا وحمزة الأسد الحامي حقيقته *
وجعفرا: أن يذودا دونه الناسا كونوا - فداء لكم امي وما ولدت - * في نصر أحمد دون الناس أتراسا
في أمثال هذه الأبيات مما هو موجود في قصائده المشهورة، ووصاياه
وخطبه، ما يطول به الكتاب (مجمع البيان 3: 446.) فإن
استيفاء ذلك جميعه لا تتسع له الطوامير، وما روى من ذلك في كتب المغازي وغيرها
أكثر من أن يحصى، يكاشف فيها من كاشف النبي ويناضل عنه ويصحح نبوته... ولا شك في
أنه لم يختر تمام مجاهرة الأعداء استصلاحا لهم ولحسن تدبيره في دفع كيدهم، لئلا
يلجئوا الرسول الى ما ألجأوه إليه بعد موته (مجمع
البيان 7: 406.). وقال العلامة الطباطبائي: وروايات أئمة أهل البيت (عليهم السلام) مستفيضة على ايمانه،
والمنقول من أشعاره مشحون بالإقرار على صدق النبي وحقيقة دينه، وهو الذي آوى
النبي صغيرا وحماه بعد البعثة وقبل الهجرة، وقد كان أثر مجاهدته وحده في حفظ
نفسه الشريفة في العشر سنين قبل الهجرة يعدل أثر مجاهدة المهاجرين والأنصار
بأجمعهم في العشر سنين بعد الهجرة (الميزان
16: 57.). وقال في تفسير الآية: لما بين في الآيات السابقة حرمان المشركين - وهم قوم النبي - من
نعمة الهداية، وضلالهم باتباع الهوى، واستكبارهم عن الحق النازل عليهم، وايمان
أهل الكتاب به واعترافهم بالحق، ختم هذا الفصل من الكلام بأن أمر الهداية الى
الله لا اليك، يهدي هؤلاء من أهل الكتاب وهم من غير قومك الذين تدعوهم، ولا يهدي
هؤلاء وهم قومك الذين تحب اهتداءهم، وهو أعلم بالمهتدين (الميزان
16: 55.). وفي السورة قوله سبحانه: * (وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا) * (القصص: 57.)
قال الطبرسي: قيل: إنما قاله الحرث بن نوفل بن عبد مناف فإنه قال للنبي (صلى الله عليه وآله): إنا لنعلم أن قولك حق، ولكن يمنعنا أن نتبع الهدى معك ونؤمن بك
مخافة أن يتخطفنا العرب من أرضنا، ولا طاقة لنا بالعرب (مجمع
البيان 7: 406.). وروى السيوطي بأسناده عن ابن عباس: أن القائل هو: الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف (الدر المنثور 5: 134، سورة القصص.). وفيها قوله سبحانه: * (أفمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه كمن متعناه متاع الحياة
الدنيا ثم هو يوم القيامة من المحضرين) * (القصص: 61.)
ونقل الطبرسي عن السدي
ومحمد بن كعب القرظي أنها
نزلت في [ رسول الله ] وعلي بن أبي طالب والحمزة بن عبد المطلب [ وعمار بن ياسر ] وفي أبي جهل [
والوليد بن المغيرة ] ثم
قال: والأولى أن يكون عاما فيمن يكون بهذه الصفة (مجمع
البيان 7: 408.). السورة الخمسون - "
الإسراء ": وقد سبق القول عن المعراج في "
سورة النجم " وكانت
السورة الثالثة والعشرين، وكان الحديث فيها مع المشركين قبل هذه. وفيها قوله سبحانه: * (وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة
حجابا مستورا) * (الإسراء:
45.) روى الطبرسي عن الزجاج
والجبائي قالا: نزلت
في قوم كانوا إذا صلى النبي (صلى الله عليه وآله) وتلا القرآن عند الكعبة ليلا
يرمونه بالحجارة ويمنعونه عن دعاء الناس الى الدين. وقال الكلبي: هم أبو سفيان
وأبو جهل وامرأة أبي لهب والنضر بن الحرث، حجب الله رسوله عن أبصارهم عند قراءته
للقرآن، فكانوا يأتونه ويمرون به ولا يرونه، حال الله بينه وبينهم حتى لايؤذوه (مجمع
البيان 7: 645). وبعدها قوله سبحانه: *
(نحن أعلم بما يستمعون به إذ يستمعون اليك واذ هم نجوى إذ يقول الظالمون إن
تتبعون الا رجلا مسحورا) * (الإسراء:
47.) قال الطبرسي قيل: يعني به أبا جهل وزمعة بن الأسود وعمرو بن هشام وحويطب بن عبد
العزى، اجتمعوا وتشاوروا في أمر النبي، فقال أبو جهل: هو مجنون، وقال زمعة: هو
شاعر، وقال حويطب: هو كاهن. ثم أتوا الوليد بن المغيرة وعرضوا ذلك عليه فقال: هو
ساحر (مجمع البيان 7: 646.). وبعدها قوله سبحانه: * (وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم إن
الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا) * (الإسراء: 53.) روى الطبرسي عن الكلبي قال: كان المشركون يؤذون أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) بمكة،
فيقولون: يا رسول الله ائذن لنا في قتالهم ! فيقول لهم: اني لم اؤمر فيهم بشئ،
فنزلت (مجمع البيان 7: 650.). وبعدها قوله سبحانه: * (وما منعنا أن نرسل بالآيات الا أن كذب بها الأولون) * (الإسراء: 59.) فاستحقوا العقاب بالتكذيب بالآية التي هم طلبوها بالتعيين اقتراحا
على نبيهم. وفي تفسير القمي في رواية
أبي الجارود عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: ذلك أن محمدا سأله قومه أن يأتيهم بآية، فنزل جبرئيل فقال: إن
الله يقول: * (وما منعنا أن
نرسل بالآيات) * الى
قومك * (الا أن كذب بها
الأولون) * وكنا إذا أرسلنا
الى قرية آية فلم يؤمنوا أهلكناهم، فلذلك أخرنا عن قومك الآيات (تفسير
القمي 2: 21.). وروى السيوطي بأسناده عن ابن عباس قال: سأل أهل مكة النبي (صلى الله عليه وآله) أن يجعل لهم الصفا ذهبا
وأن ينحي عنهم الجبال فيزرعون. فأوحي إليه: ان شئت أن نتأ نى بهم، وان شئت أن
نؤتيهم الذي سألوا فإن كفروا اهلكوا كما اهلكت من قبلهم من الامم ؟ قال: لا، بل
أستأني بهم. فانزل الله: *
(وما منعنا أن نرسل) * (الدر المنثور 4: 190، سورة الإسراء). وذكر
هذا في معنى الآية الشيخ الطبرسي (مجمع
البيان 7: 653) بلا أسناد الى رواية. وبعدها قوله سبحانه: * (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك الا فتنة للناس والشجرة
الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم الا طغيانا كبيرا) * (الإسراء: 60.). روى الطبرسي عن ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن وقتادة ومجاهد
قالوا: إن المراد ب * (الرؤيا التي أريناك) * ما أراه في إسرائه الى المسجد الأقصى برؤية العين لا رؤيا المنام،
ولكنه حيث رأى ذلك ليلا وأخبر بها حين أصبح سماها رؤيا. وروي عن الحسن وابن عباس أن الشجرة الملعونة في القرآن هي شجرة
الزقوم. وتقدير الآية: (وما
جعلنا الرؤيا التي أريناك والشجرة الملعونة في القرآن الا فتنة للناس). وأراد بالفتنة الامتحان وشدة التكليف، ليعرض المصدق بذلك لجزيل
ثوابه والمكذب لأليم عقابه. وانما كانت شجرة الزقوم فتنة لما روى: أن أبا جهل قال: إن محمدا يوعدكم بنار تحرق الحجارة ثم يزعم أنه تنبت فيها الشجرة
! فقال المشركون: إن النار تحرق الشجرة فكيف تنبت الشجرة في النار ؟ ! وصدق بها
المؤمنون (مجمع البيان 7: 654، 655.). وقال فيه: روي
أن قريشا لما سمعت الآية: *
(ذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم) * (الصافات: 62.)
قالوا: ما نعرف هذه الشجرة، فقال
ابن الزبعرى:
الزقوم بلغة اليمن أو البربر: الزبد والتمر ! فقال أبو جهل لجاريته: يا جارية
زقمينا ! فأتته الجارية بتمر وزبد، فقال لأصحابه: تزقموا بهذا الذي يخوفكم به
محمد فيزعم أن النار تنبت الشجرة، والنار تحرق الشجرة. فأنزل الله: * (انا جعلناها فتنة للظالمين) * (مجمع
البيان 8: 694 والآية في الصافات: 63.). وأول ما ذكرت شجرة
الزقوم في القرآن ذكرت في سورة الواقعة السادسة والأربعين، في قوله سبحانه: *
(ثم انكم أيها الضالون المكذبون لآكلون من شجر من زقوم فمالئون منها البطون
فشاربون عليه من الحميم) *
(الواقعة: 51 - 54.) فالظاهر أن استهزاء أبي جهل والمشركين كان هنا لأول مرة، وفي سورة
الإسراء بعد أربع سور من الواقعة أشار الى فتنتهم بهذه الشجرة المذمومة في
القرآن في سورة الواقعة. ثم كرر ذلك في سورة الصافات، والا فالصافات قد نزلت بعد
الاسراء. وروى السيوطي باسناده عن جماعة منهم البخاري والترمذي والنسائي
وأحمد بن حنبل والطبري والطبراني والبيهقي
في " دلائل النبوة " عن ابن عباس في قوله: * (وما جعلنا الرؤيا) * أنها ليست رؤيا منام بل هي رؤيا عين لما رآه ليلة اسري به الى بيت
المقدس. وأن *
(الشجرة الملعونة) * هي
شجرة الزقوم. ورواه أيضا عن ابن عساكر وابن سعد وأبي يعلى عن ام هانئ (الدر
المنثور 4: 191، سورة الإسراء.). وفيها قوله سبحانه: * (وان كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون
خلافك الا قليلا) * (الإسراء:
76.) وقال ابن شهر آشوب في " المناقب ": قال قريش مكة... إن هذه الأرض ليست بأرض الأنبياء وانما أرض
الأنبياء الشام فائت الشام. فنزلت * (وان كادوا...) * (المناقب 1: 49.) ورواه الطبرسي عن مجاهد
وقتادة (مجمع البيان 6: 667.). ومنها قوله سبحانه: *
(ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي) * (الإسراء: 85.). روى السيوطي بإسناده عن
ابن عباس قال: قالت
قريش لليهود: اعطونا شيئا نسأل هذا الرجل. فقالوا: سلوه عن الروح (الدر
المنثور 4: 195، سورة الإسراء.) فان أجابكم فليس بنبي، وان لم يجبكم فهو نبي، فإنا نجد في كتبنا
ذلك. فوكلهم الله في معرفة الروح الى ما في عقولهم ليكون ذلك علما على صدقه
ودلالة لنبوته (مجمع
البيان 6: 674.). ومنها قوله سبحانه: *
(وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا أو تكون لك جنة من نخيل وعنب
فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله
والملائكة قبيلا أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى
تنزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت الا بشرا رسولا) * (الإسراء: 90 - 93.). روى الطبرسي عن ابن عباس: أن جماعة من قريش وهم: عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبو سفيان بن حرب،
والأسود بن المطلب، وزمعة بن الأسود، والوليد بن المغيرة، وأبو جهل بن هشام،
وعبد الله بن أبي امية، وامية بن خلف، والعاص بن وائل، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج،
والنضر بن الحارث، وابو البختري بن هشام... اجتمعوا عند الكعبة وقال بعضهم لبعض:
ابعثوا الى محمد فكلموه وخاصموه. فبعثوا إليه: إن أشراف قومك قد اجتمعوا لك. وكان (صلى الله عليه وآله) حريصا على رشدهم، فظن أنهم بدا لهم في أمره، ولذلك بادر إليهم.
فقالوا: يا محمد ! إنا دعوناك لنعذر اليك، فلا نعلم أحدا أدخل على قومه ما ادخلت
على قومك: شتمت الآلهة وعبت الدين وسفهت الأحلام وفرقت الجماعة، فإن كنت جئت
بهذا لتطلب مالا اعطيناك، وإن كنت تطلب الشرف سودناك علينا، وإن كانت بك علة
غلبت عليك طلبنا لك الأطباء ! فقال (صلى الله عليه وآله): ليس شئ من ذلك، بل بعثني الله اليكم رسولا، وأنزل كتابا، فإن
قبلتم ما جئت به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه أصبر حتى يحكم الله
بيننا. قالوا: إذن فليس أحد أضيق بلدا منا، فاسأل ربك أن يسير هذه الجبال ويجري
لنا أنهارا كأنهار الشام والعراق، وأن يبعث لنا من مضى وليكن فيهم قصي - فإنه
شيخ صدوق - لنسألهم عما تقول: أحق هو أم باطل ؟ فقال: ما بهذا بعثت. قالوا: فإن لم تفعل ذلك فاسأل ربك أن يبعث
ملكا يصدقك ويجعل لنا جنات وكنوزا وقصورا من ذهب. فقال: ما بهذا بعثت، وقد
جئتكم بما بعثني الله به، فإن قبلتم، والا فهو يحكم بيني وبينكم. قالوا: فاسقط علينا السماء
كما زعمت أن ربك إن شاء فعل ذلك - قال: ذاك الى الله إن شاء فعل. وقال قائل منهم:
لا نؤمن حتى تأتي بالله والملائكة قبيلا. فقام النبي (صلى الله عليه وآله)، وقام
معه عبد الله بن أبي امية المخزومي ابن عمته عاتكة بنت عبد المطلب فقال: يا محمد
! عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله، ثم سألوك لأنفسهم امورا فلم تفعل، ثم سألوك
أن تعجل ما تخوفهم به فلم تفعل، فو الله لا اؤمن بك أبدا حتى تتخذ سلما الى
السماء ثم ترقى فيه وأنا انظر ويأتي معك نفر من الملائكة يشهدون لك وكتاب يشهد
لك. وقال أبو جهل: إنه أبى الا سب الآلهة وشتم الآباء، وأنا أعاهد الله لأحملن
حجرا، فإذا سجد ضربت به رأسه ! فانصرف رسول الله حزينا لما رأى من قومه، فأنزل الله سبحانه الآيات (مجمع
البيان 6: 678، 679. ورواه السيوطي في الدر المنثور 3: 202 وكذلك رواه سببا
لنزول الآيتين 7 و 8 من سورة الفرقان 5: 63، وكلاهما عن ابن عباس والقصة واحدة.) وذكر
مختصره ابن شهر آشوب في " المناقب " (مناقب
ابن شهر آشوب 1: 55.). ومنها قوله سبحانه: * (ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا) * (الإسراء: 110.) روى
العياشي عن زرارة وحمران ومحمد بن مسلم عن الباقر والصادق (عليهما السلام) قالا:
كان رسول الله (صلى
الله عليه وآله) إذ كان
بمكة يجهر بصلاته فيعلم بمكانه المشركون فكانوا يؤذونه، فانزلت هذه الآية عند
ذلك (تفسير العياشي 2: 318.) وكأن
في قولهما (عليهما السلام) " إذ كان بمكة " إشعار بأن ذلك كان في حالة خاصة، وليس
مطلقا. والى هذه الرواية من العياشي يشير الطبرسي يقول: روي عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام): أن النبي (صلى
الله عليه وآله) كان إذا صلى فجهر في صلاته تسمع له المشركون وذلك بمكة في أول
الأمر، فيؤذونه ويشتمونه، فأمره سبحانه بترك الجهر (مجمع
البيان 6: 689.). وروى الطوسي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: أن النبي كان إذا صلى جهر في صلاته بمكة في أول الأمر، فيسمعه
المشركون فيشتمونه ويؤذونه وأصحابه، فأمر الله بترك الجهر (التبيان
6: 534.) ورواه عن ابن عباس ابن
اسحاق في سيرته (سيرة ابن اسحاق 1: 335.). السورة الحادية والخمسون
- " يونس " : وفيها
قوله سبحانه: *
(وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو
بدله قل ما يكون لي ان ابدله من تلقاء نفسي ان اتبع الا ما يوحى الي اني اخاف ان
عصيت ربي عذاب يوم عظيم قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا ادراكم به فقد لبثت
فيكم عمرا من قبله افلا تعقلون فمن اظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته
إنه لا يفلح المجرمون) *
(يونس: 15 - 17.). روى الطبرسي عن مقاتل قال: نزلت في خمسة نفر: عبد الله بن امية المخزومي، والوليد بن مغيرة
المخزومي، ومكرز بن حفص، والعاص بن عامر ابن هاشم، وعمرو بن عبد الله العامري،
قالوا للنبي (صلى الله عليه وآله): ائت بقرآن ليس فيه ترك عبادة اللات والعزى
ومناة وهبل وليس فيه عيبها. ومثله عن الكلبي مختصرا (مجمع
البيان 5: 146 ورواه الواحدي في أسباب النزول: 216 ط الجميلي.) وقبله نقل الطوسي عن الزجاج قال: كان غرضهم إسقاط ما فيه من عيب آلهتهم وتسفيه أحلامهم، ومن ذكر
البعث والنشور، فأمر الله تعالى نبيه أن يقول لهم في جواب ذلك: * (ما يكون لي أن ابدله من تلقاء نفسي) * (التبيان 5: 350.).
السورة الثانية والخمسون - " هود ": *
(الر كتاب احكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ألا تعبدوا الا الله إنني لكم
منه نذير وبشير) * فالبشارة: * (وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا الى أجل
مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله) *
والانذار: *
(وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير الى الله مرجعكم وهو على كل شئ قدير)
* وأما كيفية مواجهتهم له ولكتابه هذا ففي قوله: *
(ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه الا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما
يعلنون إنه عليم بذات الصدور) * (هود: 1 - 5.). روى الكليني في " الكافي " باسناده عن سدير الصيرفي
الكوفي عن الامام الباقر (عليه السلام) قال: أخبرني جابر بن عبد الله: أن المشركين كانوا إذا مروا برسول الله (صلى الله عليه وآله) حول البيت، طأطأ أحدهم رأسه وظهره (هكذا) وغطى رأسه بثوبه لا يراه
رسول الله، فأنزل الله: *
(ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه) * ورواه العياشي، وعنه
الطبرسي في " مجمع البيان " والبحراني في " البرهان "
والفيض الكاشاني في " الصافي " (تفسير
العياشي 2: 139 ومجمع البيان 5: 215 والبرهان 2: 206 والصافي 1: 777.) ورواه
السيوطي بإسناده عن أبي زرين قال: كان أحدهم يحني ظهره ويستغشي بثوبه (الدر
المنثور 3: 320، سورة هود). وفيها قوله سبحانه: * (فلعلك تارك بعض ما يوحى اليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا
انزل عليه كنز أو جاء معه ملك إنما أنت نذير والله على كل شئ وكيل) * (هود: 12.). وروى الطبرسي عن ابن عباس: أن رؤساء مكة من قريش أتوا رسول الله (صلى الله عليه وآله)
فقالوا: يا محمد إن كنت رسولا فحول لنا جبال مكة ذهبا أو ائتنا بملائكة يشهدون
لك بالنبوة ! فأنزل الله تعالى: * (فلعلك تارك بعض ما يوحى اليك وضائق به صدرك أن يقولوا...) * (مجمع البيان 5: 221.). وبعدها قوله سبحانه: * (أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من
استطعتم من دون الله ان كنتم صادقين) * (هود: 13). السورة الرابعة والخمسون - " الحجر ": وفيها قوله سبحانه: * (فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين انا كفيناك المستهزئين) * (الحجر: 94، 95.) وما مر فيها من أبحاث. والآن وبعد أن استعرضنا
ما نزل من القرآن الكريم قبل هذه الآية مما فيه إشارة الى حوادث البعثة وما
بعدها، فهل كان فيه ما
ينسجم مع سرية الدعوة حتى نزول هذه الآية وبداية الإعلان للعموم بها مع نزول هذه
الآية ؟ أم كان جله أو كله مما لا ينسجم الا مع الإعلان بالدعوة للعموم منذ
الأول أو الأوائل ؟ مما يؤيد الخبر والقول بتقدم المرحلة السرية على نزول
القرآن، وبدء الدعوة العلنية العامة مع بدء نزول القرآن أو قريبا منه، وقد مر
خبره والقول به قبل هذا وسبق أيضا في معنى قوله سبحانه: * (فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين) * عدم التسليم لما اشتهر في معناه أنه امر بإظهار الدعوة العامة
والإعلان بها، واختيار خبر المفيد أن الآية أمر بالإعراض عن تهديد المشركين
المستهزئين الستة المقتسمين الأبواب الستة لمنع الحجاج والمعتمرين عن الاستماع
والاستجابة للرسول الأمين، الذين أمهلوه الى الزوال ليترك أمره أو يقتلوه.
فالآية أمر له بالاعراض عن هذا التهديد لهؤلاء المشركين والصدع بأمره، لا ابتداء
به بل استمرارا واستدامة فيه. وسبق أن لولا هذا المعنى لما كان أي معنى مناسب
للاعراض عن المشركين في الآية، بل كان الأنسب أن يؤمر بالتصدي لهم لا بالاعراض
عنهم. وكذلك ما كان من المناسب أن يتواجد هناك مستهزئون معروفون بذلك، مقتسمون
لأبواب مكة للمنع عنه في حين أن دعوته سرية. إذن فالصدع بالأمر وإعلان الدعوة لم يكن الحدث الآخر المشار إليه
في هذه الآيات الأواخر من "
سورة الحجر " بل هو
الحدث الأول المشار إليه بالآيات الأوائل من سورة القلم أو المدثر أو الضحى. ويبقى أهم الأحداث المشار إليها فيما نزل من القرآن الى آخر "
سورة الحجر ": المعراج في (سورة النجم: 23) ثم إنذار العشيرة الأقربين في (سورة الشعراء: 42) ثم الإسراء في (سورة
الإسراء: 50). إذن
فالإنذار كان بين المعراج والإسراء، بعد المعراج بكثير وقبل الإسراء بقليل. فمتى
كانت هذه الحوادث ؟ وقبل الوصول الى جواب
هذا السؤال أقول: إنما
فرقت هنا بين المعراج والإسراء وقدمت ذكر المعراج على الإسراء تبعا لسورتي النجم
والإسراء في ترتيب النزول، وسورة النجم لم تذكر الإسراء وسورة الإسراء لم تذكر
أكثر من الإسراء، بل إن الضمائر في آيات سورة النجم غير صريحة في الرجوع الى
الرسول (صلى الله عليه
وآله) بل هي مرددة بينه
وجبرئيل (عليه السلام) لولا أن الأخبار والروايات والأحاديث فسرتها بالمعراج وبعد
الإسراء، بل إن الآيات إنما أشارت الى ما كان قد تحدث عنه الرسول فجادله فيه
المشركون " أفتمارونه على ما يرى " وفي سورة الإسراء أضافت الاخبار
بالمعراج بعد الإسراء، فلم تجعل المعراج بلا إسراء، ولا الإسراء بلا معراج فكان
كلاهما إسراء ومعراجا، مما جعل أخبارهما متداخلة غير متمايز أولها عن الثاني، بل
ولا أحدهما عن الآخر. ومن المحتمل أن تكون
الآية الاولى من سورة الإسراء إنما
تذكر بما تضمنته وأضمرت عنه وأشارت إليه سورة النجم السابقة، لولا أن الأخبار
أفادت التكرار مرتين (انظر اصول الكافي 1: 442 والمناقب 1: 177 وسعد السعود: 100 والميزان
13: 270.)، ولكنهما غير متمايزتين حتى في تأريخهما. |
الفصل
الخامس الإسراء والمعراج
|
تأريخ
المعراج والاسراء:
|
وفي تأريخ الإسراء: روى
القطب الراوندي في
" الخرائج والجرائح " عن علي (عليه السلام)
أنه: لما كان بعد ثلاث سنين من مبعثه (صلى الله عليه وآله) اسري به الى بيت المقدس وعرج به منه الى السماء ليلة المعراج،
فلما أصبح من ليلته حدث قريشا بخبر معراجه (الخرائج
والجرائح 1: 141 ط قم.). ومجموع ما نقله المجلسي في باب المعراج في تأريخه كما يلي: ذكر خبر " الخرائج " (بحار
الأنوار 18: 379.) ونقل عن " المناقب " عن ابن عباس أنه: كان في شهر ربيع الأول بعد النبوة بسنتين. وفيه عن الواقدي والسدي
أنه: كان قبل الهجرة بستة أشهر في السابع عشر من شهر رمضان (بحار
الأنوار 18: 381.). وعن الواقدي أيضا في " المنتقى " للكازروني قال: كان المسرى في ليلة السبت لسبع عشرة ليلة خلت من شهر رمضان في
السنة الثانية عشرة من النبوة قبل الهجرة بثمانية عشر شهرا. وفيه قيل: ليلة سبع
عشرة من ربيع الأول قبل الهجرة بسنة، من شعب أبي طالب الى بيت المقدس. وقيل:
ليلة سبع وعشرين من رجب. وقيل: كان الإسراء قبل الهجرة بسنة وشهرين وذلك سنة
ثلاث وخمسين من عام الفيل (بحار الأنوار 18: 302.). وعن " العدد القوية
" قال: في
ليلة احدى وعشرين من رمضان قبل الهجرة بستة أشهر كان الإسراء برسول الله. وقيل:
في السابع عشر من شهر رمضان ليلة السبت. وقيل: ليلة الاثنين من شهر ربيع الأول
بعد النبوة بسنتين. وفيه عن كتاب " التذكرة ": في
ليلة السابع والعشرين من رجب السنة الثانية من الهجرة كان الإسراء (بحار الأنوار 18: 319.).
فالاختلاف من سنة بعد
البعثة الى سنتين بعد الهجرة ! ويبدو أن الراجح من هذه الأقوال والروايات هو رواية الراوندي عن علي (عليه السلام)،
فلننظر في سائر المرجحات. أما
سورة النجم فإنها نزلت بعد
اثنتين أو ثلاث وعشرين سورة، وقد نزل بعدها أربع وستون سورة في مكة (راجع
مجمع البيان 10: 612 في سورة الانسان والتمهيد: 105 وتلخيصه: 95.) فالطبيعي أن تكون قد نزلت فيما بين الثلثين الأول والثاني من
العشر سنين مدة التنزيل بمكة قبل الهجرة، أي في نهاية السنة الثالثة أو بدايات
العام الرابع من تلك المدة. الا أنه يمكن القول بأن السور الأوائل من القصار المفصلات، بينما ما يليها من المئين
والمثاني المطولات، فمن المحتمل أن تكون السور العشرون الأوائل نازلة في السنة
الاولى من تلك المدة، والسور الستون البواقي نازلة في السنين التسع البواقي،
وعليه فيكون المعراج ونزول سورته في أواخر السنة الاولى من تلك المدة. وقد مر في خبر القمي في
تفسيره: أن اسماعيل الملك
سأل جبرئيل: من هذا معك ؟ فقال: محمد، قال: أو قد بعث ؟ قال: نعم (تفسير
القمي 2: 5.) أو: أو قد ارسل إليه ؟ (تأريخ
الخميس 1: 310 ومجمع الزوائد 1: 70 عن المواهب اللدنية 2: 6.) وإنما
يتناسب هذا التساؤل مع أوائل البعثة بالنبوة أو الرسالة والتنزيل عليه، لا بعد
ذلك بكثير، فضلا عما بعد الهجرة. ومع الالتفات الى التفريق بين البعثة بالنبوة والرسالة ينتفي
الخلاف بين عمدة الأقوال: السنة
الثانية والخامسة، فالثانية من الرسالة والتنزيل هي الخامسة من البعثة بالنبوة،
وسيما وأن رواية السنة الثانية تنتهي الى ابن عباس وهو المعروف بالقول بنزول
القرآن في عشر سنين، فكأنه لا يحسب الثلاث سنوات الاولى لاعتبار أنه (صلى الله عليه وآله) إنما امر بالانذار بعدها. وابن عباس أدرك مدة قصيرة من حياة الرسول (صلى
الله عليه وآله) ولم
يكن معه حين معراجه حتى يكون شاهدا بتأريخه، فلابد أنه نقله من شخص آخر لم
يذكره، فهو نقل تأريخي لم يذكر المصدر فيه فلا قيمة له عند التحقيق، لولا أنا
نعلم أن أكثر علم ابن عباس هو من علم علي (عليه السلام)،
فيبدو أنه ينقله عنه (عليه
السلام)، الا أن النقل
اختلف عنهما بين الاثنين والثلاث. ولعل الذين أرخوا المعراج بعام ونصف أو بخمسة عشر شهرا بعد مبعثه (سيرة
مغلطاي: 27.) أو بعد البعثة بستة عشر شهرا (شرح
الشفا للقاري 1: 222.) أخذوا السنتين عن ابن عباس واجتهدوا فيها بالمداقة في شهورها مختلفين. ولعل من أقوى ما يدل على
تأريخ المعراج بأوائل السنة الخامسة: ما مر من اثبات ميلاد فاطمة الزهراء (عليها السلام)
في السنة الخامسة من النبوة،
بالاضافة الى ما روى عن الامام الصادق (عليه السلام)
وابن عباس وسعد بن مالك وسعد بن أبي وقاص وعائشة: أنها إذ عاتبته على كثرة تقبيله لا بنته الزهراء قال لها: يا عائشة
! لما اسري بي الى السماء أدخلني جبرئيل الجنة، فناولني منها تفاحة، فأكلتها،
فصارت نطفة في صلبي، ففاطمة من تلك النطفة، ففاطمة حوراء إنسية، وكلما اشتقت الى
الجنة قبلتها (بحار الأنوار 18: 315 و 350 و 364 عن تفسير القمي وعلل الشرائع
والمختصر. وملحقات إحقاق الحق للمرعشي 10: 1 - 11. أخبار الدول: 87 وتأريخ بغداد
5: 87 وذخائر العقبى: 36. وكنز العمال 30: 94 و 14: 97. ومجمع الزوائد 9: 202.
ومحاضرات الأوائل: 88. ومستدرك الحاكم 3: 156 وتلخيصه للذهبي والمطالب السنية: 239.
ومفتاح النجا: 98 مخطوط. ومقتل الخوارزمي: 64 ومناقب المغازلي: 358 والمواهب
اللدنية 2: 29، وميزان الاعتدال 1: 38 و 253 و 2: 26 و 84 و 160 و 297 ونزهة
المجالس 2: 179. ونظم درر السمطين: 77. ووسيلة المآل: 78. وينابيع المودة: 97.). وقد علم مما مر أن فاطمة
ولدت بعد البعثة بخمس سنين أي في السنة الثانية من الرسالة والتنزيل - وهو محمل
قول الشيخ المفيد ومن
قال بولادتها في السنة
الثانية - وإذا كان ظهور نطفة
فاطمة واستقرارها في موضعها طبيعيا اقتضى أن يكون المعراج قبل ذلك بأكثر من تسعة أشهر ولا أقل منها، ولكن لا يدرى هل هي من المعراج الأول أو الثاني ؟ فلو كانت من الأول اقتضى ذلك ترجيح القول الأول بأن
المعراج كان بعد سنة من الرسالة، ليكون ميلاد الصديقة في السنة الثانية. وبما أن التأريخ بسنة
البعثة بالنبوة لا السنة العربية بدءا بمحرم، فالحساب من شهر شعبان - بعد البعثة في أواخر شهر رجب - واليه،
وعليه فيترجح القول بكون المعراج الأول في شهر رمضان ولعله في احدى ليالي القدر: التاسع عشر أو الحادي والعشرين كما مر عن " العدد القوية
" وكما مر عن " المنتقى " عن الواقدي، وعن " المناقب "
عن الواقدي والسدي. وبعد تسعة أشهر من شهر رمضان يكون شهر جمادى الثانية ميلاد
الصديقة (عليها السلام). وفي شهر رجب بعد الجمادى الثانية تنتهي السنة الثانية
للرسالة والخامسة للنبوة. وعليه فيكون ما في
" الخرائج " عن علي (عليه السلام) من تأريخ المعراج بالسنة الثالثة تأريخا للإسراء والمعراج
الثاني، فإما كذلك في شهر
رمضان أيضا أو في شهر ربيع الأول في ليلة السابع عشر منه أي ميلاد الرسول (صلى
الله عليه وآله) كما
عن " الاقبال " (الاقبال: 601.) ومر عن " العدد القوية " و " المنتقى " وعن
" المناقب " عن ابن عباس. أما إذا افترضنا ميلاد
الزهراء (عليها السلام) بعد الإسراء والمعراج الثاني، وافترضنا ما في " الخرائج
" عن علي (عليه
السلام) تأريخا له - أي
للثاني - فإن ميلاد الزهراء سيكون في السنة الثالثة من الرسالة والسادسة من
النبوة، مما لا يتفق مع
القول المعول عليه والروايات المعتمدة. وكذلك أيضا إذا افترضنا السنة الثالثة
تأريخا للمعراج الأول. اللهم الا أن نقول بتأخير الولادة عن الإسراء والمعراج
الى السنة الخامسة من الرسالة،
أي بعد سنتين من المعراج في السنة الثالثة، ولكنه خلاف ظاهر الأخبار، نعم الا أن نقول بأن الإسراء والمعراج
الثاني كان في السنة الخامسة من الرسالة والولادة بعدها فيها كذلك. ولكن هذا
يقتضي أن يكون عمر الصديقة حين الهجرة خمس سنين وحين الزواج ست سنين مما لم يقل
به أحد ولا يعقل. فنرجع الى ترجيح كونها من المعراج الأول وميلادها بعده كما مر،
وحيث لم يتفق ذلك مع كون المعراج الأول في السنة الثالثة من الرسالة كما مر
آنفا، فليكن ذلك تأريخا للإسراء والمعراج الثاني. ويبقى أننا لو رجحنا أن تكون السنة الثالثة فيما رواه "
الخرائج " عن علي (عليه السلام) تأريخا للإسراء والمعراج الثاني، فهنا
اشكالان: الأول: أن
الخبر بصدد بيان ما يتعلق بالمعراج بالتفصيل، فلماذا لم يبين بل لم يشر الى
المعراج الأول السابق - أو الآخر اللاحق - لا من قريب ولا من بعيد ؟ وكذلك أكثر
أخبار الإسراء والمعراج. الثاني: أننا
لو رجحنا القول بكون الإسراء والمعراج الثاني في السنة الخامسة من الرسالة كان
ذلك منسجما مع كون سورة الإسراء السورة الخمسين في ترتيب النزول، ونزل في الخمس
سنين بعدها زهاء ثلاثين سورة من المئين أو المثاني المطولات نسبيا بينما لو رجحنا السنة الثالثة تأريخا للإسراء والمعراج الثاني استلزم أن يكون النازل في مدة هذه السنين الثلاثة خمسين سورة، بينما النازل في السبع سنين البواقي ثلاثين سورة. اللهم أن
يلتزم بذلك بحجة أن السور الأوائل قصار مفصلات والبواقي مئين أو مثان مطولات
نسبيا. ولعل مما يؤيد هذا ما رواه السيوطي في " الدر المنثور " باسناده عن عبد الله بن مسعود قال عن سورة الإسراء ومريم والكهف:
إنهن من العتاق الاول (الدر المنثور 4: 136 عن ابن الضريس وابن مردويه وصحيح البخاري 3: 96.) هذا
وهو من المهاجرين الى الحبشة، وهي كانت في السنة الخامسة. والظاهر أن المقصود
بالخامسة هي الخامسة من النبوة لا الرسالة والتنزيل، أي بعد الرسالة والتنزيل بعامين، ولكن حتى لو كانت الخامسة من
الرسالة فإن ظاهر الخبر
أن سورة الإسراء كانت قد نزلت قبل الهجرة الى الحبشة بمدة ليست بقصيرة بل طويلة.
|
تأريخ
يوم الدار:
|
أما تأريخ انذار يوم الدار فهو يتبع تأريخ الإسراء والمعراج
الثاني قبله بمدة تسع وتتناسب لنزول سورتي: النمل
48 وآياتها 92 والقصص 49 وآياتها 88. فلو قلنا بكون المعراج الثاني في السنة الخامسة أو الثالثة، فلو كان في
الربيع الأول منها وهو الشهر الثامن منها كان من الممكن
أن يكون الانذار في أوائلها أواخر شهر رجب أو شعبان أو رمضان منها، أما لو كان المعراج في شهر رمضان اقتضى أن يكون الانذار في أوائل
السنة السابقة: الرابعة أو الثانية من الرسالة. ويكون عمر علي (عليه السلام) يومئذ - على أن ميلاده بعد عام
الفيل بثلاثين سنة - في السنة الثانية من الرسالة: خمس
عشرة سنة، وفي السنة الرابعة منها: ست عشرة سنة. وحيث جرنا البحث عن
المرحلة السرية والعلنية الى ملاحظة سير الحوادث بعد البعثة والتنزيل من خلال
الآيات الكريمة حتى آخر السورة الرابعة والخمسين، سورة الحجر، فلا بأس بأن نستمر
على هذه الطريقة لنلاحظ سير الحوادث من خلال نزول التنزيل. السورة الخامسة والخمسون - " الأنعام ": التي نزلت جملة واحدة كما
في خبر ابي بن كعب عن النبي (صلى
الله عليه وآله) كما في
" مجمع البيان " (مجمع البيان 4: 421 وعن عكرمة وقتادة.). وخبر
العياشي عن الامام الصادق (عليه السلام) (تفسير
العياشي 1: 353.) والقمي عن الرضا (عليه السلام) (تفسير
القمي 1: 193.) وفيها قوله سبحانه: * (ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين
كفروا ان هذا الا سحر مبين وقالوا لولا انزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي
الأمر ثم لا ينظرون ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون) * (الأنعام: 7 - 9.). وروى الطبرسي عن الكلبي
قال: نزلت في عبد الله بن
أبي امية ونضر بن الحارث ونوفل بن خويلد، قالوا: يا محمد لن نؤمن لك حتى تأتينا
بكتاب من عند الله ومعه أربعة من الملائكة يشهدون عليه أنه من عند الله وأنك
رسوله (مجمع البيان 4: 428.) وكذلك
رواه ابن شهر آشوب في المناقب (مناقب ابن شهر آشوب 1: 48.). وفيها قوله سبحانه: * (قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السموات والأرض وهو يطعم ولا
يطعم قل إني امرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونن من المشركين قل إني أخاف إن
عصيت ربي عذاب يوم عظيم) * (الأنعام:
14 - 15.). قال الطبرسي قيل: إن أهل مكة قالوا لرسول الله: يا محمد تركت ملة قومك، وقد علمنا
أنه لا يحملك على ذلك الا الفقر، فإنا نجمع لك من أموالنا حتى تكون أغنانا،
فنزلت الآية (مجمع البيان 4: 433.) ونقله
كذلك ابن شهر آشوب في " المناقب " (مناقب
ابن شهر آشوب 1: 49.). وفيها قوله سبحانه: * (قل أي شئ أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم واوحي إلي هذا
القرآن لانذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة اخرى قل لا أشهد قل
إنما هو إله واحد وانني برئ مما تشركون الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون
أبناءهم الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون) * (الأنعام: 19، 20.). في " تفسير القمي
" برواية أبي الجارود عن الامام الباقر (عليه السلام) قال: إن مشركي أهل مكة في أول ما دعاهم رسول الله قالوا له: يا محمد !
ما وجد الله رسولا يرسله غيرك ؟ ! ما نرى أحدا يصدقك بالذي تقول، ولقد سألنا عنك
اليهود والنصارى فزعموا أنه ليس لك ذكر عندهم. فأتنا بمن يشهد أنك رسول الله.
فقال رسول الله: *
(الله شهيد بيني وبينكم) *
(تفسير القمي 1: 195.) وروى
الطبرسي مثله عن الكلبي (مجمع البيان 4: 436 والواحدي في أسباب النزول: 174 عن الكلبي أيضا.) وكذلك
ابن شهر آشوب في " المناقب " (المناقب
للسروي 1: 50.). وفيها قوله سبحانه: * (ومنهم من يستمع اليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي
آذانهم وقرا وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها حتى إذا جاؤوك يجادلونك يقول الذين
كفروا ان هذا الا أساطير الأولين) * (الأنعام: 25.). قال الطبرسي في " مجمع البيان " قيل: إن نفرا من مشركي مكة منهم: أبو سفيان بن حرب وعتبة وشيبة ابنا ربيعة،
والنضر بن الحارث والوليد بن المغيرة (كذا، والمفروض أنه هلك مع المستهزئين الستة قبل نزول الأنعام.) وغيرهم، جلسوا الى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو يقرأ
القرآن، فقالوا للنضر: ما يقول محمد ؟ فقال: أساطير الأولين مثل ما كنت احدثكم
عن القرون الماضية، فأنزل الله هذه الآية. وروي: أن النبي (صلى الله
عليه وآله) كان يصلي بالليل
ويقرأ القرآن في الصلاة جهرا، رجاء أن يستمع الى قراءته انسان فيتدبر معانيه
ويؤمن به، فكان المشركون إذا سمعوه آذوه ومنعوه عن الجهر بالقراءة، فكان الله
تعالى يلقي عليهم النوم أو يجعل في قلوبهم أكنة ليقطعهم عن مرادهم (مجمع
البيان 4: 442.). وفيها قوله سبحانه: * (وهم ينهون عنه وينأون عنه وإن يهلكون الا أنفسهم وما يشعرون)
* (الأنعام: 26.) قال
الطبرسي: أي ينهون الناس عن
اتباع النبي ويتباعدون عنه فرارا منه، أو ينهون الناس عن استماع القرآن ويتباعدون
عن استماعه، كما عن محمد بن الحنفية وابن عباس والحسن والسدي وقتادة ومجاهد،
وقال مقاتل وعطاء: عنى به أبا طالب بن عبد المطلب ! وهذا لا يصح، لأن
هذه الآية معطوفة على ما تقدمها وما تأخر عنها معطوف عليها، وكلها في ذم الكفار
المعاندين (مجمع البيان 4: 444.) وفيها
قوله سبحانه: *
(قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله
يجحدون) * (الأنعام: 33.). قال الطبرسي في مجمع
البيان: روي: أن
أبا جهل قال للنبي (صلى الله عليه وآله): ما نتهمك ولا نكذبك، ولكنا نتهم الذي
جئت به ونكذبه (مجمع البيان 3: 456 ونقله الواحدي في أسباب النزول: 176 عن أبي ميسرة
وخبرا آخر عن السدي وقولا آخر عن مقاتل.). وفيها قوله سبحانه: * (وإن كان كبر عليك اعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض
أو سلما في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من
الجاهلين) * (الأنعام:
35.). في " تفسير القمي " في خبر أبي الجارود عن الامام
الباقر (عليه السلام) قال:
كان رسول الله (صلى
الله عليه وآله) يحب
اسلام الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف، دعاه رسول الله أن يسلم فغلب عليه
الشقاء، فشق ذلك على رسول فأنزل الله قوله: * (وان كان كبر عليك إعراضهم) * (تفسير القمي 1: 198.).
وفيها قوله سبحانه: * (وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا الى ربهم ليس لهم من دونه
ولي ولا شفيع لعلهم يتقون ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه
ما عليك من حسابهم من شئ وما من حسابك عليهم من شئ فتطردهم فتكون من الظالمين
وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهولاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم
بالشاكرين وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه
الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم) * (الأنعام: 51 - 54.). روى الطبرسي عن الثعلبي باسناده عن عبد الله بن مسعود قال: مر الملأ من قريش على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعنده صهيب
وخباب وبلال وعمار وغيرهم من ضعفاء المسلمين، فقالوا: يا محمد ! أرضيت بهؤلاء عن
قومك ؟ ! أفنحن نكون تبعا لهم ؟ ! أهؤلاء من الله عليهم ؟ ! اطردهم عنك، فلعلك
إن طردتهم تبعناك ! فأنزل الله في ذلك قوله سبحانه: * (ولا تطرد...) * (مجمع
البيان 4: 472 ورواه الواحدي في أسباب النزول: 176 والسيوطي في لباب النقول:
107.). وفيها قوله سبحانه: * (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال اوحي الي ولم يوح
إليه شئ ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت
والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون
على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول
مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم
شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون) * (الأنعام: 93، 94.). روى السيوطي في "
الدر المنثور " عن عكرمة عن ابن عباس: أن النضر بن الحارث لفق جملات هكذا: والطاحنات طحنا والعاجنات عجنا...
يقابل بها سورة المرسلات (الثالثة
والثلاثين في النزول) فنزلت
الآية (الدر المنثور 3: 30.). وقال الطوسي: قال عكرمة إن الآية * (ولقد جئتمونا فرادى...) * نزلت في النضر بن الحارث بن كلدة حيث قال سوف يشفع في اللات
والعزى (التبيان 4: 208 وعنه في مجمع البيان 4: 521.). وفيها قوله سبحانه: * (وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في
حديث غيره وأما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين وما على
الذين يتقون من حسابهم من شئ ولكن ذكرى لعلهم يتقون) * (الأنعام: 68 - 69.). روى الطبرسي عن الامام
الباقر (عليه السلام) قال:
لما نزلت * (فلا تقعد بعد
الذكرى مع القوم الظالمين) *
قال المسلمون: إن كان كلما استهزأ المشركون بالقرآن قمنا وتركناهم فلا ندخل
المسجد الحرام ولا نطوف بالبيت الحرام ؟ ! فأنزل الله: * (وما على الذين يتقون من حسابهم من شئ ولكن ذكرى لعلهم يتقون)
* أمرهم بتذكيرهم
وتبصيرهم ما استطاعوا. ثم نقل عن البلخي قال: كان ذلك في أول الاسلام وكان يختص
بالنبي (صلى الله عليه وآله) ورخص المؤمنين في ذلك بقوله: * (وما على الذين يتقون من حسابهم من شئ) * ولما كثر المسلمون
نسخت هذه الآية بقوله: * (فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم) * (مجمع البيان 4: 489 وروى السيوطي في ذلك خبرين عن ابن عباس وابن جريج
في الدر المنثور: الأنعام.). وفيها قوله سبحانه: * (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم
كذلك زينا لكل امة عملهم ثم الى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون) * (الأنعام: 108.). روى القمي في تفسيره بسنده عن الامام الصادق (عليه السلام) قال: كان المؤمنون يسبون ما يعبد المشركون من دون الله، وكان المشركون
يسبون ما يعبد المؤمنون، فنهى الله المؤمنين عن سب آلهتهم لكي لا يسب الكفار اله
المؤمنين (تفسير القمي 1: 213. وفي التبيان 4: 232 عن الحسن وفي أسباب النزول:
148.). وأضاف الطبرسي عن ابن عباس: أن المشركين قالوا لرسول الله: يا محمد ! لتنتهين عن سب آلهتنا أو
لنهجون ربك ! فنزلت: *
(ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله) * (مجمع البيان 4: 537. وفي التبيان عن الحسن البصري، وهو ممن أخذ عن
ابن عباس.). ومنها قوله سبحانه: * (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها قل
إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون ونقلب أفئدتهم
وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون ولو أننا نزلنا
إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شئ قبلا ما كانوا ليؤمنوا الا أن
يشاء الله ولكن أكثرهم يجهلون) * (الأنعام: 109 - 111.). روى الطبرسي عن الكلبي ومحمد بن كعب القرظي: قالت قريش: يا محمد ! تخبرنا أن موسى كان معه عصا يضرب بها الحجر
فتنفجر منه اثنتا عشرة عينا، وتخبرنا أن عيسى كان يحيي الموتى، وتخبرنا أن ثمود
كانت لهم ناقة... فأتنا بآية من الآيات حتى نصدقك. فقال رسول الله (صلى الله
عليه وآله): أي شئ تحبون أن آتيكم به ؟ قالوا: اجعل لنا الصفا
ذهبا ! وابعث لنا بعض موتانا حتى نسألهم أحق ما تقول أم باطل ؟ وأرنا الملائكة
يشهدون لك، أو ائتنا بالله والملائكة قبيلا ! فقال رسول الله: فإن فعلت بعض ما تقولون أتصدقونني ؟ قالوا: نعم، والله لئن فعلت
لنتبعنك أجمعين. وسأل المسلمون رسول الله أن ينزلها عليهم حتى
يؤمنوا. فقام رسول الله يدعو أن يجعل الله الصفا ذهبا
! فجاءه جبرئيل فقال له: إن شئت أصبح الصفا ذهبا، ولكن إن لم يصدقوا عذبتهم ! وإن شئت
تركتهم حتى يتوب تائبهم. فقال رسول الله: بل يتوب تائبهم. فأنزل الله تعالى هذه
الآية (مجمع البيان 4: 540. ومعناه في التبيان 4: 236. وفي أسباب النزول:
180) في الآيات العشر من الآية 112 الى الآية 122 بدأ الله بتسلية رسوله عن أقوال الكفار تخرصا أمام آيات الكتاب
المنزل عليه، وأن من اتبع غيره ضل وأضل، وأن أعداء الانبياء شياطين من الجن
والانس، وأن أقوالهم زخرف وافتراء واقتراف للاثم والباطل، وحكم بغير ما أنزل
الله، ومن أطاعهم فقد ضل عن سبيل الله الى اتباع الظنون والتخرصات، والله أعلم
بالمهتدين والضالين عن سبيله، ثم قال: * (فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين ومالكم
ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم الا ما اضطررتم إليه
وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بالمعتدين) * (الأنعام: 118، 119.). وفي قوله سبحانه: * (وقد فصل لكم ما حرم عليكم) * قال الطبرسي قيل: هو ما ذكر في سورة المائدة من قوله: * (حرمت عليكم الميتة والدم...) * واعترض على هذا: بأن سورة المائدة نزلت بعد الأنعام بمدة فلا يصح
أن يقال: انه فصل. الا أن يحمل على أنه بين على لسان الرسول (صلى الله عليه وآله) وبعد ذلك نزل به القرآن (مجمع
البيان 4: 552 والواحدي في أسباب النزول: 180 رواية في سبب نزول الآية راجعها.). وقال الطباطبائي:
ويظهر من الآية أن محرمات الأكل نزلت قبل سورة الأنعام، وقد وقعت في سورة النحل
من السور المكية، فهي نازلة قبل الأنعام (الميزان
7: 332.). والآيات من سورة النحل هي من الآية 114 الى 118 وهي: * (وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل) * فلو كان قوله: *
(فصل لكم) * في سورة
الأنعام يجعلنا نقول بنزول
النحل قبل الأنعام، فان هذه الآية من النحل: * (قصصنا عليك من قبل) * يجعلنا نسلم للأخبار الدالة على نزول الأنعام قبل النحل، فالأنعام الخامسة والخمسون والنحل السبعون في الترتيب. أما قوله * (وقد فصل لكم) * في الأنعام فنقبل
فيه قول الطبرسي بأن
يكون المراد به بيان النبي لا القرآن. وبعدها قوله سبحانه: * (وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما اوتي رسل الله
الله أعلم حيث يجعل رسالته سيصيب الذين اجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما
كانوا يمكرون) * (الأنعام:
124.). روى الطبرسي في "
مجمع البيان " عن مقاتل قال: ان أبا جهل بن هشام قال: زاحمنا بنو عبد مناف في الشرف حتى إذا
صرنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي يوحى إليه ! والله لا نؤمن به ولا نتبعه الا أن
يأتينا وحي كما يأتيه (مجمع البيان 4: 559.) ونقل
مثله ابن شهر آشوب في " المناقب " (مناقب
ابن شهر آشوب 1: 50، 51.). وفي الآيات العشر من
الآية 136 الى 146 يبين الله اعتقادات المشركين الفاسدة وخصالهم الذميمة
ومقالاتهم الباطلة، حيث جعلوا بعض الأشياء لله وبعضها للأصنام وحرموا الحلال
وقتلوا أولادهم لاعتقاداتهم الباطلة ومقالاتهم الفاسدة: فجعلوا لله مما ذرأ من
الحرث والأنعام نصيبا، وزينوا لأنفسهم قتل أولادهم: البنين والبنات خيفة العيلة والفقر والعار، وحرموا ركوب ظهور بعض
الأنعام، ولم يلتزموا بذكر اسم الله عليها عند التذكية، وحرموا بعض ما في بطون
الأنعام على النساء وخصصوه للرجال، وأباحوه لكليهما إن كان ميتة. ثم بين
المحرمات حاصرا لها في أن تكون: ميتة، أو دما مسفوحا، أو لحم خنزير، أو ما اهل
لغير الله به فلم يذكر اسم الله عليه عند التذكية، ثم ذكر أن اليهود بغوا فحرم
ملوكهم على فقرائهم شحوم البقر والغنم ولحوم كل ذي ظفر من الطيور، فجزاهم الله
ببغيهم هذا أن حرم ذلك عليهم جميعا إلا ما كان من الشحوم في ظهور البقر والغنم
وحوايا هما أي الأمعاء حتى المباعر. ومن الآية: 151
عقب ما سبق بذكر سائر المحرمات: فالشرك، وقتل الأولاد خشية الاملاق، وقتل النفس
التي حرم الله، ما ظهر منها وما بطن من الفواحش، ومال اليتيم، وبضمنها عد بعض
الفرائض: فبالوالدين احسانا، والوفاء بعهد الله، والقسط في الكيل والميزان،
ورعاية العدالة في الشهادة ولو لذي القربى، واتباع الصراط المستقيم، واتباع هذا
الكتاب المبارك الكريم، وتقوى الله. وفي الآية: 161 ذكر أن الصراط المستقيم والدين القيم هو ملة
ابراهيم الحنيف والطاهر من الشرك، وأن رسول الله ممن هداه الله الى ذلك الصراط المستقيم والدين
القيم فمحياه ومماته لله تعالى. وهنا قال الطبرسي: قيل: ان الكفار قالوا للنبي (صلى الله عليه وآله): اتبعنا وعلينا وزرك
ان كان خطأ ! فأنزل الله هذا (مجمع البيان 4: 606.). هذا وقد روي في أول تفسيره للسورة عن قتادة وعكرمة عن ابي ابن
كعب وعن النبي (صلى الله عليه وآله): أنها نزلت بمكة جملة واحدة ليلا (مجمع
البيان 4: 421.) فكيف التوفيق بين هذا وبين أخبار أسباب نزول الآيات من هذه السورة
؟ ويصدق هذا القول قبل الطبرسي على القمي والعياشي أيضا وكثير من المفسرين
الآخرين كذلك. أما العلامة الطباطبائي
فقد خصص الجزء السابع من تفسيره " الميزان " بتفسير سورة الأنعام،
وقطعها الى أكثر من عشرة مقاطع وختم كل مقطع ببحث روائي شمل عددا غير قليل من
أخبار شأن نزول آيات منها، وعلق في موارد متعددة عليها بأنها تنافي نزول السورة
جملة واحدة بمكة، منها
فيما رواه - ورويناه - عن القمي عن الامام الباقر (عليه السلام): أن رسول الله
كان يحب اسلام الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف... فقال: إنها لا تلائم
الروايات الكثيرة الدالة على نزول السورة دفعة. ولكنه عاد فقال:
وان كان يمكن توجيهها بوقوع السبب قبل نزول السورة ثم الاشارة بالآية الى السبب
المحقق (الميزان 7: 68.) ويمكن هذا التوجيه في جميع ما نقلناه من أخبار أسباب النزول لآيات
هذه السورة. السورة السابعة والخمسون - " لقمان ": وفيها قوله سبحانه: * (ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم
ويتخذها هزوا اولئك لهم عذاب مهين وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم
يسمعها كأن في اذنيه وقرا فبشره بعذاب أليم) * (لقمان: 6، 7.) في تفسير القمي:
في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر الامام الباقر (عليه السلام) قال: هو النضر بن
الحارث بن علقمة بن كلدة، وكان راويا لأحاديث الناس وأشعارهم (تفسير
القمي 2: 161.). ولعله
هو الرجل الذي روى فيه الكليني في " اصول الكافي " بسنده عن موسى بن
جعفر (عليه السلام) قال: دخل
رسول الله (صلى الله عليه
وآله) المسجد فإذا جماعة قد
أطافوا برجل، فقال: ما هذا ؟ فقيل: علامة، فقال: وما العلامة ؟ فقالوا له: أعلم
الناس بأنساب العرب ووقائعها وأيام الجاهلية والأشعار العربية. فقال النبي (صلى الله عليه وآله): ذاك علم لا يضر من جهله، ولا ينفع من علمه، ثم قال النبي (صلى
الله عليه وآله): إنما العلم ثلاثة: آية محكمة، أو فريضة عادلة، أو سنة قائمة،
وما خلاهن فهو فضل (اصول
الكافي 1: 32.). وروى الخبر الأول
الطبرسي عن الكلبي قال: نزل
قوله: * (ومن الناس من يشتري لهو الحديث) * في النضر بن الحارث بن علقمة بن
كلدة، كان يتجر فيخرج الى فارس فيشتري أخبار الأعاجم فيحدث بها قريشا ويقول لهم:
ان محمدا يحدثكم بحديث عاد وثمود، وأنا احدثكم بحديث رستم واسفنديار وأخبار
الأكاسرة. فيتركون استماع القرآن ليستمعوا الى حديثه (مجمع
البيان 8: 490 وروى الخبر عن ابن عباس في التفسير المنسوب إليه: تنوير المقباس:
344. ورواه ابن اسحاق في سيرته 1: 321. ورواه الواحدي في أسباب النزول عن مقاتل
والكلبي: 287 ط الجميلي. السيوطي عنه في الدر المنثور سورة لقمان.) وروى
مثله ابن شهر آشوب في " المناقب " (مناقب
ابن شهر آشوب 1: 52.). وكان قد دعاه رسول الله (صلى
الله عليه وآله) الى الإسلام،
ففي رواية أبي الجارود في " تفسير القمي " عن الامام الباقر (عليه
السلام) أيضا قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) للنضر بن الحارث: اتبع ما
انزل اليك من ربك. فقال: بل أتبع ما وجدت عليه آبائي، وذلك قوله سبحانه: * (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير
وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا أو لو كان
الشيطان يدعوهم الى عذاب السعير) * (تفسير القمي 2: 166 والآية من لقمان: 20، 21.). ومنها قوله سبحانه: * (ما خلقكم ولا بعثكم الا كنفس واحدة ان الله سميع بصير) * (لقمان: 28.)
في رواية أبي الجارود في " تفسير القمي ": بلغنا - والله أعلم - عن الامام الباقر
(عليه السلام) قال:
إنهم قالوا: يا محمد ! خلقنا أطوارا: نطفا ثم علقا، ثم انشئنا خلقا آخر كما
تزعم، وتزعم أنا نبعث في ساعة واحدة ! فقال الله: * (ما خلقكم ولا بعثكم الا كنفس واحدة) * (تفسير
القمي 2: 167.). وفي آخر السورة: * (ان الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما
تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت ان الله عليم خبير) * (لقمان: 34.).
وفي " أسباب النزول
" للواحدي: أن رجلا من بني مازن يقال له: الحارث بن عمرو جاء الى النبي - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - وقال له: يا محمد ! قد علمت بأي أرض ولدت فبأي أرض أموت ؟ وقد
تركت امرأتي حبلى فمتى تلد ؟ وقد أجدبت بلادنا فمتى تخصب ؟ وقد علمت ما كسبت
اليوم فماذا اكسب غدا ؟ ومتى تقوم الساعة ؟ فنزلت هذه الآية (أسباب
النزول: 289 ورواه السيوطي في الدر المنثور عن عكرمة، وسمي الرجل: الوراث.). السورة الستون - " الزمر ": ويظهر من خلال آيات السورة أن المشركين من قومه (صلى الله عليه وآله) سألوه أن ينصرف عما هو
عليه من التوحيد والدعوة إليه والتعرض لآلهتهم، وخوفوه بآلهتهم، فنزلت السورة... تؤكد الأمر بأن يخلص دينه لله سبحانه ولا يعبأ
بآلهتهم وأن يعلمهم أنه مأمور بالتوحيد واخلاص الدين... وذكرت المشركين وأنذرتهم
بما سيلحقهم من الخسران وعذاب الآخرة مضافا الى ما يصيبهم في الدنيا، ولعذاب
الآخرة أكبر... ووصفت المؤمنين بأجمل أوصافهم وبشرتهم بما سيثيبهم الله في
الآخرة مرة بعد مرة " (الميزان 17: 231، 232.). ومنها قوله سبحانه: * (قل يا عبادي الذين آمنوا اتقوا ربكم للذين أحسنوا في هذه
الدنيا حسنة وأرض الله واسعة إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) * (الزمر: 10.)
قال الطباطبائي: هذا حث
وترغيب لهم في الهجرة من مكة، إذ كان التوقف فيها صعبا على المؤمنين بالنبي،
والمشركون يزيدون كل يوم في التشديد عليهم وفتنتهم... والذي ينطبق على مورد
الآية هو الصبر على مصائب الدنيا وخاصة ما يصيب من جهة أهل الكفر والفسوق من آمن
بالله وأخلص له دينه واتقاه (الميزان 17: 244.) ولم ينسبه الى أحد. والظاهر أنه أخذه من الطبرسي قال: هذا حث لهم
على الهجرة من مكة، عن ابن عباس، أي لا عذر لأحد في ترك طاعة الله، فان لم يتمكن
منها في أرض فليتحول الى اخرى يتمكن منها فيها، كقوله: * (ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها) * (مجمع البيان 8: 767.) وقبله
روى الطوسي معناه عن مجاهد (البيان 9: 13.). فالكلام رواية عن مجاهد
عن ابن عباس، وهي لا تصرح بمقصد الهجرة من مكة الى أين، ولم يرد دليل أو اشارة
الى أن تعيين الهجرة الى الحبشة كان وحيا، بل الظاهر أن النبي (صلى الله عليه وآله) رأى أن خير مصداق لسعة أرض الله لهم هي الحبشة، وعبر عن ذلك
بقوله: " هي أرض صدق، فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد " (سيرة ابن
هشام 1: 344 ورواه الطبرسي في مجمع البيان 3: 360 عن المفسرين.). وعن ظروف نزول هذه الآية في سورة الزمر قال
الطبرسي في " مجمع البيان ": قال المفسرون: ائتمرت قريش أن يفتنوا المؤمنين عن دينهم، فوثبت كل قبيلة على من
فيها من المسلمين يؤذونهم ويعذبونهم، فافتتن من افتتن وعصم الله منهم من شاء.
ومنع الله رسوله بعمه أبي طالب. فلما رأى رسول الله ما بأصحابه ولم يقدر على
منعهم ولم يؤمر بعد بالجهاد، أمرهم بالخروج الى أرض الحبشة وقال: ان بها ملكا
صالحا لا يظلم ولا يظلم عنده أحد، فاخرجوا إليه حتى يجعل الله للمسلمين فرجا.
وأراد به النجاشي، واسمه أصحمة -
وهو بالحبشة: عطية - وإنما النجاشي اسم
الملك كقولهم: كسرى وقيصر. فخرج إليها سرا أحد عشر رجلا
وأربع نسوة... فخرجوا الى البحر وأخذوا سفينة
الى أرض الحبشة بنصف دينار. وذلك في رجب في السنة الخامسة من مبعث رسول الله.
وهذه هي الهجرة الاولى (مجمع البيان 3: 360 وفي البحار عن المنتقى للكازروني قال: وكان
مخرجهم في رجب في الخامسة، وخرجت قريش في آثارهم ففاتوهم، فأقاموا عند النجاشي
شعبان ورمضان ورجعوا في شوال. البحار 18: 422.) فالسورة نزلت في
الخامسة. وبما أن هجرة المسلمين إنما هي من
جراء تعذيب قريش للمسلمين، لذلك نبدأ هنا
بذكر أخبار عن ذلك. |
ظلم
المشركين للمستضعفين من المسلمين:
|
قال ابن اسحاق:
ثم إن المشركين عدوا على من أسلم واتبع رسول الله من أصحابه، فوثبت كل قبيلة على
من فيها من المسلمين من استضعفوه منهم، فجعلوا يحبسونهم ويعذبونهم، بالضرب
والجوع والعطش، وبرمضاء مكة إذا اشتد الحر، ليفتنوهم عن دينهم، فمنهم من يصلب
لهم ويعصمه الله منهم، ومنهم من يفتن من شدة البلاء الذي يصيبه... وكان أبو جهل الفاسق في رجال من قريش يغرون بالمسلمين، وكان إذا
سمع بالرجل أسلم وله شرف ومنعة، انبه وأخزاه وقال له: تركت دين أبيك وهو خير منك
! لنسفهن حلمك ولنفيلن (نخطئن) رأيك ولنضعن شرفك ! وان كان تاجرا قال له: لنكسدن
تجارتك ولنهلكن مالك ! وان كان ضعيفا ضربه وأغرى به غيره. حتى أن الوليد بن الوليد
بن المغيرة المخزومي حين أسلم، مشى رجال من بني مخزوم الى أخيه هشام بن الوليد (من هنا
يعلم أن هذا كان بعد هلاك الوليد في المستهزئين الستة)
ليأخذه وفتية آخرين منهم قد أسلموا منهم: سلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة، فقالوا لهشام: إنا
قد أردنا أن نعاتب هؤلاء الفتية على هذا الدين الذي أحدثوه لنأمن بذلك من غيرهم.
فقال هشام في أخيه الوليد: فعليكم به فعاتبوه واحذروا على نفسه ! فتركوه. وكانوا يخرجون بعمار بن ياسر وبأبيه وامه إذا حميت الظهيرة
يعذبونهم برمضاء مكة. فبلغني أن رسول الله كان يمر بهم فيقول لهم: صبرا آل ياسر
فإن موعدكم الجنة. وعن ابن عباس قال: كانوا يضربون أحدهم ويجيعونه ويعطشونه حتى ما يقدر أن يستوي جالسا
من شدة الضر الذي نزل به حتى يعطيهم ما سألوه من الفتنة... افتداء منهم مما
يبلغون من جهده، حتى ان الجعل يمر بهم فيقولون له: أهذا الجعل الهك ؟ فيقول: نعم
! (من هنا يعلم أن هذا كان بعد تقية عمار ونزول القرآن بصحة عمله وتصريح
الرسول بذلك، كما سيأتي.). وعن هشام بن عروة بن
الزبير: أن عمر بن الخطاب
- وهو يومئذ مشرك - كان يعذب جارية مسلمة من حيهم فيضربها لتترك الإسلام حتى إذا
مل قال لها مستهزئا !: إني أعتذر اليك ! إني لم أتركك الا ملالة، فتقول له: كذلك
فعل الله بك ! فابتاعها أبو بكر فأعتقها. واعتق النهدية وبنتها، وام عبيس وزنيرة، واصيب بصرها حين اعتقها،
فقالت قريش: ما أذهب بصرها الا اللات والعزى، فقالت: كذبوا وبيت الله ما تضر
اللات والعزى وما تنفعان، فرد الله بصرها. وأعتق عامر بن فهيرة وشهد بدرا واحدا
وقتل شهيدا يوم بئر معونة. ومر ببلال بن رباح، وكان امية بن خلف الجمحي يخرجه إذا حميت
الظهيرة فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ويقول له: لا تزال هكذا
حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى ! فيقول وهو في ذلك البلاء: أحد أحد.
وكان دار أبي بكر في بني جمح، فمر به وهم يصنعون به ذلك، فقال لامية بن خلف: ألا
تتقي الله في هذا المسكين ؟ حتى متى ! قال: أنت الذي أفسدته فأنقذه مما ترى.
فقال أبو بكر: أفعل، عندي غلام أسود أجلد منه وأقوى، على دينك، اعطيكه به. قال:
قد قبلت. فقال: هو لك. فأعطاه أبو بكر عنه غلامه وأخذه فأعتقه (سيرة ابن
هشام 1: 339 - 343 بتصرف. هذا وقد روى الإسكافي في نقض العثمانية عن ابن اسحاق
والواقدي أن عامر بن فهيرة وبلالا اعتقهما رسول الله، كما في شرح النهج للمعتزلي
13: 273. ولذلك عد ابن شهر آشوب بلالا من موالي النبي (صلى الله عليه وآله) ج 1:
171. وقال ابن هشام في عامر بن فهيرة: أنه كان أسود من مولدي الأسد 1: 277.
ومعنى ما رواه ابن اسحاق هو أن أبا بكر لم يكن من المستضعفين فلم يعذب في الله،
بل اطلق واعتق عددا منهم. ولكن ابن هشام ذكر أن نوفل بن خويلد بن أسد (ابن عم
خديجة، وهل هو أبو ورقة بن نوفل ؟ !) وكان من شياطين قريش، قرن بين أبي بكر وطلحة بن عبد الله في حبل،
فبذلك كانا يسميان: القرينين، كما في سيرة ابن هشام 1: 301. وأضاف الجاحظ في
العثمانية قال: ضربه نوفل بن خويلد مرتين حتى أدماه، وشده مع طلحة بن عبيد الله
في قرن. وجعلهما في الهاجرة عمير بن عثمان، ولذلك كانا يدعيان القرينين، كما في
العثمانية: 28 وعنها في شرح النهج للمعتزلي 13: 253. ورد عليه الإسكافي في نقض
العثمانية فقال: انتم في أبكر بين أمرين: تارة تجعلونه رئيسا متبعا وكبيرا
مطاعا، وتارة تجعلونه دخيلا ساقطا وهجينا رذيلا مستضعفا ذليلا، فإنا لا نعلم أن
العذاب كان واقعا الا بعبد أو عسيف (الأجير) أو لمن لا عشيرة له تمنعه. كما في
شرح النهج للمعتزلي 13: 255. )
. وقال اليعقوبي:
وأسلم خلق عظيم وظهر أمرهم وكثرت عدتهم وعاندوا ذوي أرحامهم من المشركين، فأخذت
قريش من استضعفت منهم الى الرجوع عن الاسلام والشتم لرسول الله، فكان ممن يعذب
في الله: عمار بن ياسر وياسر أبوه وسمية امه... وخباب بن الأرت، وصهيب بن سنان،
وابو فكيهة الأزدي، وعامر بن فهيرة، وبلال بن رباح واشتد على القوم العذاب
ونالهم منه أمر عظيم، فرجع عن الأسلام خمسة نفر، منهم: أبو قيس بن الوليد بن
المغيرة، وأبو قيس الفاكه بن المغيرة (اليعقوبي 2: 28.).
|
الفصل
السادس الهجرة الاولى
|
الفصل
السادس الهجرة الى الطائف
|
الهجرة
الى الحبشة:
|
قال ابن اسحاق : فلما رأى
رسول الله -
صلى الله عليه [ وآله ] وسلم -
ما يصيب أصحابه من البلاء وما هو فيه
من العافية بمكانه من الله ومن عمه أبي طالب، وأنه لا يقدر على أن يمنعهم مما هم
فيه من البلاء، قال لهم: لو خرجتم الى أرض الحبشة،
فان بها ملكا لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم
فيه. فخرج عند ذلك المسلمون
من أصحاب رسول الله الى أرض الحبشة، مخافة الفتنة،
وفرارا الى الله بدينهم، فكانت أول هجرة في
الإسلام. وكان أول من خرج من المسلمين:
أبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي، ومعه امرأته
ام سلمة بنت أبي امية بن المغيرة المخزومي. وعثمان بن عفان بن أبي العاص بن امية، ومعه امرأته رقية بنت رسول الله. وأبو حذيفة بن
عتبة بن ربيعة، ومعه امرأته سهلة بنت سهيل ابن عمرو، وولدت له بأرض الحبشة محمد بن أبي حذيفة. وعامر بن ربيعة العدوي، ومعه امرأته ليلى
بنت أبي حثمة العدوي. والزبير بن العوام بن خويلد بن أسد. ومصعب بن عمير، من بني عبد الدار. وعبد الرحمن بن عوف الزهري. وأبو سبرة بن أبي رهم العامري. وسهيل بن وهب الفهري. وعثمان بن مظعون الجمحي (سيرة ابن
هشام 1: 322، 323 عن ابن اسحاق، وأضاف الواقدي: عبد الله بن مسعود كما في
الطبقات 1: 204 وعنه في الطبري 2: 330.) وكان
عليهم عثمان بن مظعون، في قول ابن هشام (سيرة ابن هشام 1: 324 منه.) وروى الواقدي: أن
الذين هاجروا الهجرة الاولى خرجوا متسللين سرا، وكانوا أحد عشر رجلا وأربع نسوة، حتى انتهوا الى الشعيبة، منهم الراكب ومنهم الماشي، ووفق الله للمسلمين
- ساعة جاؤوا - سفينتين للتجار حملوهم فيهما الى أرض الحبشة بنصف دينار، وكان مخرجهم في: رجب في السنة الخامسة من حين نبئ رسول الله - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - وخرجت قريش في آثارهم حتى جاؤوا البحر، حيث ركبوا، فلم يدركوا
منهم أحدا (طبقات ابن سعد 1: 204 وعنه في الطبري 2: 329.). وقال اليعقوبي:
لما رأى رسول الله ما فيه أصحابه من الجهد والعذاب وما هو فيه من الأمن بمنع أبي
طالب عمه اياه، قال لهم: ارحلوا مهاجرين الى أرض الحبشة الى النجاشي، فإنه يحسن الجوار.
فخرج في المرة الاولى: اثنا عشر
رجلا. وفي المرة الثانية: سبعون رجلا، سوى أبنائهم ونسائهم.
وكان لهم عند النجاشي منزلة (اليعقوبي: 2: 29.).
وقد مر خبر ابن اسحاق وقد وصف رحلة من عدهم مع عثمان بن مظعون
الى الحبشة بالهجرة الاولى،
ولكنه بعد عدهم قال: "
ثم خرج جعفر ابن أبي طالب (رضي الله عنه) وتتابع المسلمون حتى اجتمعوا بأرض
الحبشة فكانوا بها، منهم
من خرج بأهله معه، ومنهم من خرج بنفسه لا أهل له معه " ثم أخذ في عدهم
وأنسابهم، فعد من بني هاشم
رجلا واحدا هو: جعفر بن أبي طالب ومعه امرأته أسماء بنت عميس الخثعمية، وولدت له بأرض الحبشة عبد الله بن جعفر.
ثم عد من بني امية وحلفائهم سبعة نفر، فعد أولهم: عثمان بن
عفان ومعه رقية ابنة رسول الله، وعمرو بن سعيد بن العاص، وخالد بن سعيد بن العاص، ومعهما نساؤهما.
ومن حلفائهم: عبد الله
بن جحش وأخوه عبيد الله (وهو الذي تنصر في الحبشة) معه امرأته ام حبيبة
بنت أبي سفيان، وقيس
بن عبد الله ومعه امرأته بركة مولاة أبي سفيان. ثم عد من بني نوفل
رجلا، ومن بني عبد بن قصي رجلا، ومن بني
عبد شمس رجلين، ومن بني أسد من قريش أربعة نفر منهم
الزبير بن العوام ابن
خويلد بن أسد، والأسود بن نوفل بن خويلد بن أسد، ويزيد بن زمعة ابن الأسود بن
المطلب بن أسد (وزمعة
أو أبوه الأسود احد المستهزئين الستة). ومن بني عبد
الدار خمسة نفر منهم: مصعب
بن عمير. ومن بني زهرة وحلفائهم من بهراء وهذيل ستة نفر منهم: عبد الرحمن بن عوف، وأبو وقاص وابنه عامر، وعبد الله بن مسعود
وأخوه عتبة، والمقداد بن عمرو من قضاعة، وكان قد تبناه في الجاهلية الأسود بن عبد يغوث من بني زهرة، فكان يقال له: المقداد بن الأسود. ومن بني تيم رجلين. ومن بني
مخزوم وحلفائهم ثمانية نفر منهم: أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد ومعه امرأته ام
سلمة هند بنت أبي امية بن المغيرة المخزومي، وهشام بن أبي حذيفة بن المغيرة، وعياش
بن أبي ربيعة بن المغيرة. وسلمة بن هشام. ومن بني جمح أربعة عشر رجلا منهم:
عثمان بن مظعون، وابنه السائب بن عثمان، وأخواه قدامة بن مظعون، وعبد الله بن
مظعون، ومن بني سهم أربعة عشر
رجلا. ومن بني عدي خمسة نفر.
ومن بني عامر ثمانية نفر. ومن بني الحارث
بن فهر ثمانية نفر منهم:
أبو عبيدة عامر بن عبد
الله بن الجراح. ثم قال ابن اسحاق:
فكان جميع من لحق بأرض الحبشة وهاجر إليها من المسلمين - سوى أبنائهم الذين
خرجوا بهم معهم صغارا أو ولدوا بها - ثلاثة وثمانين رجلا، ان كان عمار بن ياسر
فيهم، وهو يشك فيه (سيرة ابن هشام 1: 345 - 353 ونقله الطبري بعبارة: وقال آخرون. وذكر
العدد: اثنين وثمانين، الطبري 2: 330 ورواه عن محمد بن اسحاق كذلك 2: 331.). إذن فهو في هذا العد يعدد أهل الهجرة الثانية الى الحبشة وعليهم جعفر بن أبي طالب، ولعله في عدده - ثلاثة وثمانين رجلا - قد جمع أهل الهجرة الاولى
مع الثانية، بينما اليعقوبي جرد
أعداد الهجرة الثانية فقط فقال بالسبعين، أو باستثناء النساء والأطفال كما قال. وكذلك فعل القمي في تفسيره إذ قال: لما اشتدت قريش في أذى رسول الله وأصحابه أمرهم رسول الله أن
يخرجوا الى الحبشة، وأمر جعفر ابن أبي طالب أن يخرج معهم، فخرج جعفر وخرج معه سبعون رجلا من المسلمين حتى ركبوا البحر (تفسير
القمي 1: 176.). |
كتاب
النبي الى النجاشي:
|
وهنا روى الطبرسي في " إعلام الورى " عن الحافظ الحسكاني عن ابن اسحاق، والطبري عن ابن اسحاق أيضا قال: " بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله) عمرو بن امية الضمري الى النجاشي في شأن جعفر بن أبي طالب وأصحابه
وكتب معه كتابا " ثم ذكر صورة الكتاب، وجواب النجاشي (إعلام
الورى: 45، 46 وفي مستدرك الحاكم 2: 623، 624 والطبري 2: 652، 653.). ولا يوجد الخبر في سيرة ابن هشام، وظاهر الطبرسي أن هذا الكتاب كان من مكة حين خرج عمرو بن العاص مع
عمارة بن الوليد الى الحبشة، حسب
خبر الطبرسي نفسه، ومع
عبد الله بن أبي ربيعة حسب خبر ابن اسحاق عن ام سلمة كما يأتي وفي الكتاب أمر
بإكرام جعفر وأصحابه وقراهم، فالمناسب أن يكون في بداية الهجرة مع جعفر، أو مع
خروج عمرو بن العاص الى الحبشة سفيرا من قبل معاندي مكة لا يذاء جعفر وأصحابه. ويظهر من الحلبي في السيرة: أن عمرو بن العاص خرج الى الحبشة بعد غزوة بدر وان رسول الله لما
بلغه ذلك بعث عمرو بن امية الى النجاشي بكتاب يوصي فيه بالمسلمين، قال: "
لما أوقع الله بالمشركين يوم بدر ورجعوا خائبين قالوا: إن ثارنا بأرض الحبشة، فأرسلوا عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة الى النجاشي ليدفع اليهما من عنده من المسلمين، فلما بلغ ذلك رسول الله بعث الى النجاشي عمرو بن امية الضمري بكتاب يوصي فيه بالمسلمين " (سيرة
الحلبي 3: 212. وانظر: مكاتيب الرسول 1: 120 - 130 ط الاولى.). واتفقوا على أن
الرسول الى النجاشي هو عمرو
بن امية الضمري،
ولكنهم اختلفوا في إسلامه:
ففي " اسد الغابة " عن
أبي نعيم: أنه أسلم قديما وهاجر الى الحبشة، ثم هاجر الى المدينة وأول مشاهده
بئر معونة (اسد الغابة 1: 61، 99.) وعليه فلا اشكال لا في حمله الكتاب الأول ولا في حمله الكتاب
الثاني بعد صلح الحديبية وقبل
خيبر في تجهيز المسلمين من الحبشة الى المدينة. ولكن في " الاستيعاب " و " الاصابة " عن ابن سعد
(الطبقات 1: 258.): أنه شهد بدرا واحدا مع المشركين، وأسلم
بعد احد. وعليه فلم يكن وقتئذ مسلما، فلا يصح حمله الكتاب الأول حتى بعد بدر بناء
على خبر الحلبي
بإرسال المشركين لعمرو ابن العاص الى الحبشة بعد بدر. ولذا فقد أورد الحلبي على نفسه بذلك، وفي
الجواب رجح خبر إرسال
المشركين لعمرو الى الحبشة بعد
الأحزاب، في السنة الخامسة
للهجرة. وقد روى الخبر هذا ابن اسحاق في السيرة بسنده الى عمرو بن العاص
نفسه قال: لما انصرفنا مع
الأحزاب عن الخندق جمعت رجالا من قريش كانوا يرون رأيي ويسمعون مني، فقلت لهم:
تعلمون - والله - اني أرى أمر محمد يعلو الامور علوا منكرا، واني قد رأيت أمرا فما
ترون فيه ؟ قالوا: وماذا رأيت ؟ قلت: رأيت أن نلحق بالنجاشي فنكون عنده، فإن ظهر محمد على قومنا كنا عند النجاشي، فإنا
أن نكون تحت يديه أحب
الينا من أن نكون تحت يدي محمد، وإن ظهر قومنا فنحن من قد عرفوا، فلن يأتينا منهم الا خير. قالوا: ان هذا الرأي. قلت: فاجمعوا لنا ما نهدي له. وكان أحب ما
يهدى إليه من أرضنا الأدم. فجمعنا له أدما كثيرا، ثم خرجنا حتى قدمنا عليه. فوالله إنا لعنده إذ جاءه عمرو بن امية الضمري - وكان رسول الله - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - قد بعثه إليه في شأن جعفر وأصحابه، فدخل عليه وخرج من عنده - فقلت لأصحابي: هذا عمرو بن امية الضمري، لو قد دخلت على النجاشي وسألته إياه فأعطانيه فضربت عنقه، فإذا
فعلت ذلك رأت قريش أني قد أجزأت عنها حين قتلت رسول محمد. فدخلت عليه فسجدت له -
كما كنت أصنع - فقال: مرحبا بصديقي، أهديت إلي من بلادك شيئا ؟ قلت: نعم أيها
الملك، قد أهديت اليك أدما كثيرا، ثم قربته إليه، فأعجبه. ثم قلت له: أيها
الملك، اني قد رأيت رجلا خرج من عندك وهو رسول رجل عدو لنا، فأعطينه لأقتله،
فإنه قد أصاب من أشرفنا وخيارنا. قال: فغضب ثم مد يده فضرب بها أنفي ضربة ظننت أنه قد كسره، فلو
انشقت لي الأرض لدخلت فيها فرقا منه. فقلت له: والله
لو ظننت أنك تكره هذا ما سألتكه. قال: أتسألني أن اعطيك رسول رجل يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي
موسى لتقتله ! قلت:
أيها الملك، أكذلك هو ؟ قال: ويحك يا عمرو أطعني واتبعه، فإنه والله لعلى الحق،
وليظهرن على من خالفه كما ظهر موسى على فرعون وجنوده... فخرجت الى أصحابي وقد حال رأيي عما كان عليه. ثم خرجت عامدا الى رسول
الله - صلى الله عليه [
وآله ] وسلم - فلقيت
خالد بن الوليد وذلك قبيل الفتح... فقدمنا المدينة على رسول الله (سيرة ابن
هشام 3: 289، 290 بتلخيص آخر الخبر.). هذا وقد قال من قبل: " لما انصرفنا مع الأحزاب عن الخندق " ثم خرجنا فقدمنا عليه، فوالله إنا لعنده إذ جاءه عمرو بن امية الضمري، وكان رسول الله قد
بعثه إليه في شأن جعفر وأصحابه ". ان ارسال رسول الله لعمرو
بن امية الى النجاشي في شأن جعفر وأصحابه إما كان في بداية هجرتهم لطلب ايوائهم
وحمايتهم والارفاق بهم، أو
في نهايتها في تجهيز المسلمين الى المدينة في السنة السابعة قبل خيبر. فرحلة عمرو بن العاص هذه أما كانت بعد الأحزاب في أواخر السنة
الخامسة، لأن غزوة الأحزاب كانت في شوال سنة خمس من الهجرة، أو كانت رحلته في
أوائل السادسة، وبعد عام في أوائل السابعة ورد عليهم عمرو بن امية حاملا كتاب
النبي الى النجاشي، حينما كتب الى الملوك والرؤساء. وهنا تختلف نسخ الكتاب: فأكثر نسخ الكتاب يشتمل على الوصية بجعفر وأصحابه، وبعضها خلو عنها: " كصبح الأعشى " (صبح
الأعشى في صناعة الانشاء 6: 379.)
للقلقشندي (ت 821) و " المواهب اللدنية في السيرة النبوية " (المواهب
اللدنية بشرح الزرقاني 3: 379.) للقسطلاني (ت 923) و " انسان العيون في سيرة الأمين المأمون
" (السيرة الحلبية 3: 279.) المعروف
بالسيرة الحلبية لبرهان الدين الحلبي (ت 1044) وهذا ما تأيد به البروفيسور حميد الله المستوفي في كتابه القيم " الوثائق السياسية " فقال:
" ومما يجدر ذكره أن الحلبي والقسطلاني والقلقشندي لا يذكرون عبارة: وقد
بعثت اليك ابن عمي... " في متن المكتوب، وهي لا توجد في متن المكتوب الذي
اكتشف حديثا... فنظن: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد اعطى ابن عمه جعفرا كتابا
الى النجاشي وقت هجرته الى الحبشة... " (الوثائق
السياسية: 46 - 48 رقم 23.). بينما سائر المصادر تذكر هذه العبارة، وكلها بما فيها هذه الثلاثة تذكر جواب النجاشي الى النبي (صلى الله عليه وآله) وفيه: " وقد عرفنا ما بعثت به الينا، وقد قرينا ابن عمك وأصحابه،
وقد بايعتك وبايعت ابن عمك واسلمت على يديه لله رب العالمين " (الطبري
2: 652، 653 واعلام الورى: 45، 46 والكامل 2: 63 واسد الغابة 1: 62 والبداية 3:
84 وزاد المعاد 3: 61 وصبح الأعشى 6: 466 والسيرة الحلبية وزيني دحلان وإعلام
السائلين.). ثم الكتاب خلو عن تجهيز المسلمين من الحبشة إليه الى المدينة، كما
هو خلو عن خطبته لام حبيبة ابنة أبي سفيان بواسطة النجاشي، بينما من المستبعد
جدا أن يكون كلا الأمرين متأخرين عن عهد هذه الرسالة. ولعل الجواب الصحيح
هو ما رواه الطبري عن
الواقدي قال: أرسل
رسول الله - صلى الله عليه
[ وآله ] وسلم - الى
النجاشي ليزوجه ام حبيبة بنت أبي سفيان، ويبعث بها إليه مع من عنده من المسلمين (الطبري
2: 653) من دون ذكر كتاب في ذلك. ولم يذكر الواقدي ولا الطبري اسم الرسول بهذه
الرسالة الشفوية ولا ألفاظها،
ولكن ابن سعد ذكر أن الرسول هو
عمرو بن امية نفسه
وذكر شطرا من رسالته الشفوية
الى النجاشي ولكن من دون ذكر خطبة النبي لام حبيبة ولا طلب تجهيز المسلمين إليه الى المدينة، قال: قال عمرو بن امية:
يا أصحمة ! (كذا) ان علي القول وعليك الاستماع ! إنك كأنك في الرقة علينا منا،
وكأنا في الثقة بك منك، لأنا لم نظن بك خيرا قط الا نلناه ولم نحفظك على شر قط
الا أمناه، وقد أخذنا الحجة عليك من قبل آدم، والانجيل بيننا وبينك شاهد لا يرد
وقاض لا يجور [
فأسلم ] وفي ذلك موقع
الخير واصابة الفضل، والا فأنت في هذا النبي الامي كاليهود في عيسى بن مريم، وقد
فرق رسله الى الناس، فرجاك لما لم يرجهم له، وأمنك على ما خافهم عليه، لخير سالف
وأجر ينتظر. فقال
النجاشي: أشهد بالله أنه
النبي الذي ينتظره أهل الكتاب، وأن بشارة موسى براكب الحمار كبشارة عيسى براكب
الجمل، وانه ليس الخبر كالعيان، ولكن أعواني من الحبشة قليل، فأنظرني حتى اكثر
الأعوان والين القلوب، ولو استطيع أن آتيه لأتيته (الطبقات 1: 259 وعنه في سيرة الحلبي 3: 279 وزيني دحلان بهامش سيرة
الحلبي 3: 67.). ولنعد الآن الى ذكر نص
كتاب النبي الى النجاشي بالروايتين: الخالية عن ذكر جعفر والتي فيها ذكره، على التوالي: " بسم الله الرحمن
الرحيم، من محمد رسول الله الى النجاشي عظيم الحبشة، سلام على من اتبع الهدى،
أما بعد: فإني أحمد اليك الله الذي لا اله الا هو الملك القدوس السلام المؤمن
المهيمن، وأشهد أن عيسى بن مريم روح الله وكلمته ألقاها الى مريم البتول الطيبة
الحصينة، فحملت بعيسى من روحه ونفخه، كما خلق آدم بيده. واني أدعوك الى الله وحده لا شريك له، والموالاة على طاعته، وأن
تتبعني وتوقن بالذي جاءني، فإني رسول الله، واني أدعوك وجنودك الى الله عزوجل. وقد بلغت ونصحت، فاقبلوا
نصيحتي. والسلام على من اتبع الهدى (صبح
الأعشى 6: 379. والمواهب اللدنية بشرح الزرقاني 3: 379. والسيرة الحلبية 3: 279.). " بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله الى النجاشي
الأصحم ملك الحبشة، سلام عليك، فإني أحمد اليك الله الملك القدوس السلام المؤمن
المهيمن، وأشهد أن عيسى بن مريم روح الله وكلمته، ألقاها الى مريم البتول الطيبة
الحصينة، فحملت بعيسى فخلقه من روحه ونفخه، كما خلق آدم بيده ونفخه. واني أدعوك الى الله وحده لا شريك له، والموالاة على طاعته، وأن
تتبعني وتؤمن بالذي جائني فإني رسول الله، وقد بعثت اليكم ابن عمي جعفرا ومعه
نفر من المسلمين، فإذا جاؤوك فاقرهم ودع التجبر. واني أدعوك وجنودك الى الله
عزوجل. وقد بلغت ونصحت فاقبلوا
نصحي. والسلام على من اتبع الهدى (أقدم من
نقله عن ابن اسحاق: الطبري 2: 652 ثم الحاكم الحسكاني في المستدرك 2: 624. ثم
الطبرسي في إعلام الورى: 45. ثم ابن الأثير في اسد الغابة 1: 62 والكامل 2: 63.
وروى الرسالة ابن كثير في البداية 3: 84 وابن القيم في زاد المعاد 3: 61 وأشار
ابن سعد في الطبقات 1: 258 ورواها المستوفي في الوثائق السياسية: 46 عن مصادر
منها اعلام السائلين لابن طولون. وبحث حولها المحقق الأحمدي في مكاتيب الرسول 1:
121 - 131.). فلما وصل الكتاب الى النجاشي أخذه ووضعه على عينيه ونزل عن سريره
وجلس على الأرض اجلالا واعظاما، ثم اسلم ودعا بحق من عاج وجعل فيه الكتاب (مكاتيب
الرسول 1: 128 عن الطبقات والسيرة الحلبية وزيني دحلان بهامش الحلبية 3: 67.). ثم أحضر جعفرا وأصحابه
وأسلم على يدي جعفر وكتب بذلك الى رسول الله: " بسم الله الرحمن الرحيم،
الى محمد رسول الله، من النجاشي: الأصحم بن أبجر، سلام عليك يا نبي الله ورحمة
الله وبركاته، من الله الذي لا إله الا هو، الذي هداني الى الإسلام. أما بعد، فقد بلغني كتابك
- يا رسول الله - فيما ذكرت من أمر عيسى، فورب السماء والأرض إن عيسى ما يزيد
على ما ذكرت ثفروقا (الثفروق: قمع التمر، ويكنى به عن قلة الشئ، يقال: ماله ثفروق، أي ليس
له شئ.) انه كما قلت. وقد عرفنا ما بعثت به الينا، وقد قرينا ابن عمك
وأصحابه، فأشهد أنك رسول الله صادقا مصدقا، وقد بايعتك وبايعت ابن عمك، وأسلمت
على يديه لله رب العالمين. وقد بعثت اليك بابني أزها
ابن الأصحم بن أبجر (في الروض الانف: أن عليا وجد أبا نيزر ابن النجاشي عند تاجر بمكة
فاشتراه منه واعتقه مكافأة لما صنع أبوه بالمسلمين. ويقال: إن الحبشة ارسلوا
وفدا منهم الى أبي نيزر بعد أبيه النجاشي ليملكوه فأبى عليهم وقال: ما كنت لا
طلب الملك بعد أن من الله علي بالاسلام. ولم يكن لونه لون الحبشة بل كان حسن
الوجه طويلا.)، فإني لا أملك الا نفسي، وان شئت أن آتيك فعلت يا رسول الله، فإني
أشهد أن ما تقول حق، والسلام عليك يا رسول الله " (الطبري
2: 653 عن ابن اسحاق، وعنه في المستدرك 2: 624 وعنه في إعلام الورى: 46 واسد
الغابة 1: 62 والكامل 2: 63 والبداية 3: 84 وزاد المعاد 3: 61 وصبح الاعشى 6:
379 والمواهب اللدنية بشرح الزرقاني 3: 379 والسيرة الحلبية 3: 279 وسيرة زيني
دحلان بهامش الحلبية 3: 67. ومجموعة الوثائق السياسية: 46، ومكاتيب الرسول 1:
121 - 131. ومن الغريب مع كل هذه المصادر تشكيك السيد الحسني في سيرته في صحة
رواية اسلام النجاشي بعد أن نقل رواية الرسالة عن البداية لابن كثير، سيرة
المصطفى: 183، 184.). هذه هي اجابة النجاشي على كتاب النبي إليه في
دعوته الى الإسلام ضمن كتبه الى الملوك والرؤساء بعد
صلح الحديبية وقبل خيبر في أوائل السنة السابعة من
الهجرة، على ما يبدو من فحوى الرسالة، كما في كل المصادر التأريخية تقريبا، ومن المستعبد أن يكون كتاب النبي (صلى الله عليه وآله)
إليه وهذا الجواب من النجاشي عليه متزامنا مع بداية هجرة الحبشة كما يبدو هذا من
الطبرسي في " اعلام الورى " عن الحاكم الحسكاني (وقد
تزامن مع هذا الكتاب والجواب أمران آخران هما: خطبة النبي لام حبيبة بواسطة
النجاشي، وتجهيزه المسلمين من الحبشة إليه الى المدينة، وكتاب النبي (صلى الله
عليه وآله) خلو منهما بروايتيه، وقد مر تقريب أن يكون ذلك برسالة شفوية مع حامل
الكتاب عمرو بن امية الضمري، ولم يرو كتاب آخر في ذلك، ومن المستبعد ذلك أيضا.
وتفرد من بين المصادر مصدران نقلا جوابين آخرين للنجاشي على كتابين آخرين للنبي (صلى
الله عليه وآله) في الأمرين، هما " سواطع الأنوار " و " الطراز
المنقوش ": أن النجاشي كتب إليه في جواب كتابه في تزويج ام حبيبة: "
بسم الله الرحمن الرحيم، الى محمد - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - من النجاشي
أصحمة (كذا) سلام عليك يا رسول الله من الله ورحمة الله وبركاته. أما بعد، فإني
قد زوجتك امرأة من قومك وعلى دينك، وهي السيدة ام حبيبة بنت أبي سفيان، وأهديتك
هدية جامعة: قميصا وسراويل وعطافا وخفين ساذجين. والسلام عليك ورحمة الله
وبركاته ". وكتب إليه (صلى الله عليه وآله) في جواب كتابه (صلى الله عليه
وآله) في تجهيز المسلمين الى المدينة: " بسم الله الرحمن الرحيم، الى محمد
- صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - من النجاشي أصحمة (كذا) سلام عليك يا رسول الله
من الله ورحمة الله وبركاته، لا إله الا الذي هداني للإسلام، أما بعد فقد ارسلت
اليك - يا رسول الله - من كان عندي من أصحابك المهاجرين من مكة الى بلادي، وها
أنا ارسلت اليك ابني اريجا (كذا) في ستين رجلا من أهل الحبشة، وان شئت أتيتك
بنفسي فعلت يا رسول الله، فإني أشهد أن ما تقول حق، والسلام عليك يا رسول الله
ورحمة الله وبركاته " كما في الوثائق السياسية: 48 عن الباب الأول من
الطراز المنقوش وسواطع الأنوار: 81.). |
وفد
قريش الى النجاشي:
|
قال علي بن ابراهيم القمي في تفسيره: لما اشتدت قريش في أذى رسول الله وأصحابه الذين آمنوا به بمكة قبل
الهجرة، أمرهم رسول الله (صلى
الله عليه وآله) أن
يخرجوا الى الحبشة، وأمر جعفر بن أبي طالب أن يخرج معهم. فخرج جعفر، ومعه سبعون
رجلا من المسلمين حتى ركبوا البحر. فلما بلغ قريش خروجهم بعثوا عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد الى
النجاشي، ليردوهم إليهم، وكان عمرو وعمارة متعاديين... فبرئت بنو مخزوم من جناية عمارة،
وبرئت بنو سهم من جناية
عمرو بن العاص (فلما ركبوا السفينة شربوا الخمر، فقال عمارة لعمرو بن العاص - وكان
قد اخرج معه أهله - قل لأهلك تقبلني، فقال
عمرو: لا يجوز هذا ! فسكت عمارة، ولما انتشى عمرو -
وكان على صدر السفينة - دفعه عمارة والقاه في البحر، فتشبث عمرو بصدر
السفينة وأدركوه فأخرجوه.). فوردوا على النجاشي،
وكانوا قد حملوا إليه هدايا فقبلها منهم. ثم قال عمرو بن العاص: أيها الملك، ان قوما منا خالفونا في ديننا وسبوا آلهتنا وصاروا
اليك، فردهم الينا. فبعث النجاشي الى جعفر فجاؤوا به. فقال له: يا
جعفر، ما يقول هؤلاء ؟ قال
جعفر: أيها الملك وما يقولون
؟ قال: يسألون أن أردكم إليهم. قال: أيها الملك، سلهم: أعبيد نحن لهم ؟ فقال
عمرو: لا، بل أحرار كرام. قال:
فسلهم: ألهم علينا ديون
يطالبوننا بها ؟ قال: لا، مالنا عليكم ديون. قال: فلكم في أعناقنا دماء
تطالبوننا بها ؟ قال عمرو: لا. قال: فما تريدون منا ؟ ! آذيتمونا فخرجنا من
بلادكم. فقال عمرو بن العاص:
أيها الملك خالفونا في ديننا وسبوا آلهتنا وأفسدوا شبابنا وفرقوا جماعتنا، فردهم
الينا لنجمع أمرنا. فقال جعفر: نعم
أيها الملك، خالفناهم بأنه بعث الله فينا نبيا أمر بخلع الأنداد، وترك الاستقسام
بالأزلام، وأمرنا بالصلاة والزكاة (وردت الزكاة في السور المكية منها في المزمل في قوله سبحانه: * (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأقرضوا الله قرضا حسنا) * (المزمل: 20)
وهي السورة الثالثة أو الرابعة، وفي سورة الأعراف قوله سبحانه: * (ورحمتي وسعت كل شئ فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة) * (الأعراف: 156) وهي
السورة التاسعة والثلاثون أو الأربعون في النزول، فهي قبل سورة مريم الرابعة والأربعين التي تلا منها جعفر على النجاشي. نعم
يدعى أنها آيات مدنيات في سور مكية، لأن تشريع الزكاة
لم يكن في مكة قبل الهجرة بل في المدينة بعد
الهجرة ببضع سنين ولكن لا
ملازمة بين التسليم بتشريع الزكاة في المدينة وبين
قبول هذه الدعوى بكون الآيات مدنية في سور مكية، الا
إذا سلمنا بأن الزكاة في هذه الآيات بمعنى الزكاة
المفروضة دون المندوبة، ولنا مندوحة عن قبول ذلك بترجيح تفسير الزكاة في
هذه الآيات بالزكاة بالمعنى اللغوي العام أي
الصدقات المستحبة المندوب إليها. وبذلك نتوسع في معنى
الأمر في كلام جعفر بما يعم الندب أيضا. وبهذا نتفصى عن الاشكال بورود
الزكاة في كلام جعفر. ولكن لا مناص عن اشكال ورود
الصيام في كلامه أيضا. الا ان ذلك لا يقودنا الى القول بأن الرواية موضوعة كما ذهب إليه أحمد أمين في فجر الإسلام: 76، كما لا يقودنا ذلك الى الالتزام بأن الصيام قد شرع في
مكة قبل الهجرة أي قبل نزول آيتها في السنة
الثانية بعد الهجرة ضمن آيات سورة البقرة. بل
نحتمل السهو في حديث ام سلمة أو أحد الرواة، أو أن يكون ذلك مرجحا لكون هذه المناظرة بعد وقعة الأحزاب أو
بعد بدر كما رواه الحلبي في سيرته كما مر، ولكن
يلازم ذلك أن نلتزم بأن التشريعات الجديدة كانت تصلهم في الحبشة كيفما كان، وليس
ذلك ببعيد.)، وحرم الظلم والجور، وسفك الدماء
بغير حقها، والزنا، والربا، والميتة والدم (ان
أول ما نزل من القرآن في تحريم الميتة في الآية: 121 من سورة الأنعام، وهي
السورة 55 في ترتيب النزول، فيحتمل أن تكون الهجرة بعدها، ولا نجزم به إذ فيها: * (وقد فصل لكم ما حرم
عليكم) * وقبلنا فيه بقول الطبرسي بأن المراد به
بيان النبي لا القرآن.) وأمرنا بالعدل والاحسان، وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء
والمنكر والبغي. فقال النجاشي: بهذا بعث الله عيسى بن مريم (عليه السلام) ! ثم قال: يا جعفر، هل
تحفظ مما أنزل الله على نبيك شيئا ؟ قال: نعم، ثم قرأ عليه " سورة مريم
" فلما بلغ الى قوله:
* (وهزي اليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا فكلي واشربي وقري عينا) *. فلما سمع النجاشي بهذا بكى بكاء شديدا وقال: هذا والله هو الحق. فقال عمرو بن العاص: أيها الملك، ان هذا
مخالفنا فرده الينا. فرفع النجاشي يده
فضرب بها وجه عمرو، ثم قال: اسكت، والله - يا هذا -
لئن ذكرته بسوء لا فقدنك نفسك ! فقام عمرو بن العاص
من عنده والدماء تسيل على وجهه، وهو يقول: ان كان هذا كما تقول - أيها الملك -
فإنا لا نتعرض له. ورجع عمرو الى قريش فأخبرهم أن جعفرا في أرض الحبشة في اكرم كرامة (وكانت
على رأس النجاشي وصيفة له تذب عنه، فنظرت الى عمارة بن الوليد، فلما رجع عمرو بن
العاص الى منزله قال لعمارة: لو راسلت جارية الملك، فراسلها فأجابته، فقال له عمرو: قل لها: تبعث
اليك من طيب الملك شيئا. فقال لها، فبعثت إليه، فأخذ عمرو من ذلك الطيب، فادخل
عمرو الطيب على النجاشي وقال: أيها الملك ان حرمة الملك
عندنا وطاعته علينا وما يكرمنا إذا دخلنا بلاده ونأمن فيه: أن لا نغشه ولا
نريبه، وان صاحبي هذا الذي معي قد أرسل الى حرمتك وخدعها فبعثت إليه من طيبك. ثم وضع الطيب بين يديه فغضب
النجاشي وهم بقتل عمارة، ثم قال: لا يجوز قتله فانهم دخلوا بلادي فلهم أمان، ثم
دعا السحرة فقال لهم: اعملوا به شيئا أشد عليه من القتل، فأخذوه ونفخوا في
احليله الزئبق فصار مع الوحش يغدو ويروح ولا يأنس بالناس، فبعثت قريش بعد ذلك
فكمنوا له في موضع حتى ورد الماء مع الوحش فأخذوه، فما زال يضطرب في أيديهم
ويصيح حتى مات، كما في تفسير القمي 1: 176 - 178 وعنه في اعلام الورى: 43 - 45
بلا أسناد وكذلك اليعقوبي 2: 30 والإصفهاني عن الواقدي في الأغاني 8: 50.). وروى ابن اسحاق بسنده عن زوج رسول الله ام سلمة هند ابنة أبي
امية بن المغيرة المخزومي أنها قالت: لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها النجاشي خير جار: أمنا على ديننا
وعبدنا الله تعالى لا نؤذى ولا نسمع شيئا نكرهه. فلما بلغ ذلك قريشا ائتمروا بينهم أن يبعثوا الى النجاشي فينا
رجلين منهم جلدين، وأن يهدوا للنجاشي هدايا مما يستطرف من متاع مكة، وكان من
أعجب ما يأتيه منها الأدم، فجمعوا له أدما كثيرا، فلم يتركوا من بطارقته بطريقا
الا أهدوا له هدية. وبعثوا بذلك عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص، وأمروهما
بأمرهم فقالوا لهما: ادفعا الى كل بطريق هديته قبل أن تكلما النجاشي فيهم، ثم
قدما الى النجاشي هداياه، ثم سلاه أن يسلمهم اليكما قبل أن يكلمهم. فخرجا حتى قدما على النجاشي... فلم يبق من بطارقته بطريق الا دفعا إليه هديته قبل أن يكلما
النجاشي، وقالا لكل بطريق منهم: أنه قد لجأ الى بلد الملك منا غلمان سفهاء
فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينكم وجاؤوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم،
وقد بعثنا الى الملك فيهم أشراف قومهم ليردهم إليهم، فإذا كلمنا الملك فيهم
فأشيروا عليه بأن يسلمهم الينا ولا يكلمهم، فان قومهم أعلم بما عابوا عليهم.
فقالوا لهما، نعم. ثم انهما قدما هداياهما الى النجاشي فقبلها منهما، ثم كلماه فقالا
له: أيها الملك، انه قد لجأ الى بلدك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ولم
يدخلوا في دينك، وجاؤوا بدين ابتدعوه لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا اليك
أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم، لتردهم إليهم، فهم أعلم بما عابوا
عليهم وعاتبوهم فيه. فقالت بطارقته من حوله: صدقا أيها الملك، فان قومهم اعلم بما عابوا عليهم، فأسلمهم اليهما
فليرداهم الى بلادهم وقومهم. فغضب النجاشي وقال: لا ها الله، إذا لا أسلمهم اليهما، ولا يكاد لقوم جاوروني ونزلوا
بلادي واختاروني على من سواي، حتى ادعوهم فأسألهم عما يقول هذان في أمرهم، فان
كان كما يقولان أسلمتهم اليهما ورددتهم الى قومهم، وان كانوا على غير ذلك منعتهم
منهما وأحسنت جوارهم ما جاوروني. ثم أرسل الى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - فدعاهم فلما جاءهم رسوله اجتمعوا وقال بعضهم لبعض: ما تقولون للرجل
إذا جئتموه ؟ قالوا: نقول - والله - ما علمنا وما أمرنا به نبينا - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - كائنا في ذلك ما هو كائن. فلما جاؤوا سألهم النجاشي - وقد دعا أساقفته حوله - فقال لهم: ما
هذا الدين الذي قد فارقتم فيه قومكم ؟ ولم تدخلوا في ديني ولا في دين أحد من هذه
الملل ؟ فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب فقال له: أيها الملك، كنا قوما أهل جاهلية: نعبد الأصنام، ونأكل الميتة،
ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسئ الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على
ذلك، حتى بعث الله الينا رسولا منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا الى
الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة
والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم وحسن الجوار، والكف عن
المحارم والدماء ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف
المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة -
وعدد عليه امور الإسلام ثم قال - فصدقناه وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به من
الله: فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئا، وحرمنا ما حرم علينا وأحللنا ما أحل
لنا. فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا من عبادة الله الى
عبادة الأوثان، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث. فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا
علينا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا الى بلادك واخترناك على من سواك ورغبنا في
جوارك ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك. فقال له النجاشي:
هل معك مما جاء به عن الله من شئ ؟ فقال جعفر: نعم. قال النجاشي:
فاقرأه علي. فقرأ صدرا من *
(كهيعص) * (مريم: 1،) وهي
السورة الرابعة والأربعون في ترتيب النزول.) فبكى - والله - النجاشي حتى اخضلت لحيته وبكت أساقفته حتى أخضلوا
مصاحفهم حين سمعوا ماتلا عليهم، ثم قال النجاشي:
إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة. ثم قال لعمرو وعبيد الله: انطلقا فلا - والله - لا اسلمهم اليكما ولا يكادون. فخرجا من
عنده. وقال عمرو بن العاص: والله لآتينه غدا عنهم بما استأصل به خضراءهم، والله لاخبرنه أنهم
يزعمون أن عيسى بن مريم عبد. وكان عبد الله بن ربيعة أتقى الرجلين فقال: لا أفعل
فان لهم أرحاما. فغدا عليه عمرو من الغد فقال له: أيها الملك، انهم يقولون في عيسى ابن مريم قولا عظيما،
فأرسل إليهم فسلهم عما يقولون فيه: فأرسل إليهم ليسألهم عنه. فاجتمع القوم فقال بعضهم
لبعض: ماذا تقولون في عيسى
بن مريم إذا سألكم عنه ؟
قالوا: نقول - والله - ما قال الله وما جاء به نبينا، كائنا في ذلك ما هو كائن. فلما دخلوا عليه قال لهم:
ماذا تقولون في عيسى بن مريم ؟ فقال جعفر بن أبي طالب: نقول فيه بالذي جاء به نبينا - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم -: هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته، ألقاها الى مريم العذراء البتول. فضرب النجاشي بيده الى الأرض فأخذ منها عودا ثم قال: والله ما عدا عيسى بن مريم ما قلت هذا العود (أي بمقداره) فتناخرت
بطارقته حوله، فقال لهم: وإن نخرتم والله. ثم قال للمسلمين: اذهبوا فانتم شيوم (آمنون) ومن سبكم غرم، من سبكم غرم، وما احب أن
لي دبرا (اي جبلا) من ذهب وأني آذيت رجلا منكم. ثم قال لرجاله: ردوا
عليهما هداياهما فلا حاجة لي بهما. فخرجا من عنده مقبوحين مردودا عليهما ما جاءا به. وأقمنا عنده بخير دار مع
خير جار (سيرة ابن هشام 1: 357 - 362.). رضي الله عن أم المؤمنين ام سلمة إذ سلم لنا حديثها هذا المسند الوحيد عن هجرة الحبشة ووفد قريش إليها في طلبهم، وهي أحد المهاجرين إليها الأكثر من ثمانين رجلا وامرأة، ولم يسلم لنا سواه
حديث مسند آخر عن أحد سواها
من سائر المهاجرين الثمانين. اللهم الا ما نقلناه عن القمي في تفسيره مرسلا وبلا
اسناد، وما مر عن عمرو بن العاص، مع ما بين هذه الأخبار الثلاثة من تفاوت بين،
ولا سيما بين خبري ام سلمة وعمرو بن العاص، ولا سيما من جهة عدم اشارته الى أي
شئ مما حدثت عنه ام سلمة مما يتعلق به وبلقائه السابق بالنجاشي كوافد من قبل قريش في طلب المهاجرين، بل هويتحدث عن لقائه هذا الأخير وكأنه أول لقاء له به فيما يرتبط
بالإسلام، وان كان ينقل عنه أنه قال فيه: " مرحبا بصديقي " وأنه سجد له كما كان يصنع، فكأنه يتنكر لما كان منه في الوفادة عن قريش الى الحبشة. |
خروج
الحبشة على النجاشي:
|
قال ابن اسحاق:
وحدثني جعفر بن محمد عن أبيه (ولذلك عد الشيخ الطوسي ابن اسحاق من أصحاب الصادق (عليه السلام) في
رجاله: 281. كما عده في أصحاب الباقر (عليه السلام): 135.) قال:
اجتمعت الحبشة فقالوا
للنجاشي: انك قد فارقت
ديننا. فأرسل الى جعفر وأصحابه
فهيأ لهم سفنا وقال: اركبوا فيها وكونوا كما أنتم، فان هزمت فامضوا حتى تلحقوا
بحيث شئتم، وان ظفرت فاثبتوا. ثم عمد الى كتاب فكتب فيه: هو يشهد أن لا اله الا
الله، وأن محمدا عبده ورسوله، ويشهد أن عيسى بن مريم عبده ورسوله وروحه وكلمته،
القاها الى مريم، ثم جعله في قبائه عند المنكب الأيمن، وخرج الى الحبشة فقال: يا معشر الحبشة ! ألست أحق
الناس بكم ؟ قالوا: بلى، قال: فكيف رأيتم سيرتي فيكم ؟ قالوا: خير سيرة، قال:
فما بالكم ؟ قالوا: فارقت ديننا وزعمت أن عيسى عبد ! قال: فما تقولون أنتم في
عيسى ؟ قالوا: نقول: هو ابن الله، فوضع يده على صدره على قبائه وقال: هو يشهد أن
عيسى بن مريم لم يزد على هذا شيئا. - وهو يعني ما كتب - فرضوا وانصرفوا عنه (سيرة ابن
هشام 1: 365.) . وقد روى في آخر خبر ام سلمة قالت: فو الله انا لعلى ذلك إذ نزل به
رجل من الحبشة ينازعه في ملكه... وسار إليه النجاشي وبينهما عرض النيل (كذا). فقال أصحاب رسول الله: من رجل يخرج حتى يحضر الوقيعة ثم يأتينا بالخبر ؟ فقال الزبير بن
العوام - وكان من أحدث القوم سنا - أنا، قالوا: فأنت، فنفخوا له قربة فجعلها في
صدره ثم سبح عليها حتى خرج الى ناحية النيل التي بها ملتقى القوم، ثم انطلق حتى
حضرهم. فو الله انا لعلى ذلك، متوقعون لما هو كائن، إذ طلع الزبير وهو يسعى فلمع
بثوبه وهو يقول: ألا أبشروا، فقد ظفر النجاشي وأهلك الله عدوه ومكن له في
بلاده... ورجع النجاشي وقد أهلك
الله عدوه ومكن له في بلاده واستوسق عليه أمر الحبشة. فكنا عنده في خير منزل حتى
قدمنا على رسول الله وهو بمكة
(سيرة ابن هشام 1: 362.). روى ابن اسحاق هذا الخبر
عن ابن شهاب الزهري عن ام سلمة بواسطة قريبها أبي بكر بن عبد الرحمن المخزومي،
ثم قال ابن اسحاق: قال
الزهري: فحدثت عروة بن الزبير حديث أبي بكر بن عبد الرحمن عن ام سلمة (سيرة ابن
هشام 1: 363.) وغاية ما يفيده هذا الخبر تقرير عروة بن الزبير لخبر ام سلمة عن
الزبير، ولم يرد الحديث بذلك عن هجرة الحبشة عن الزبير نفسه ولا بواسطة أحد
أبنائه ولا سيما عروة المحدث المؤرخ ! وبعد هذا حدث ابن اسحاق بحديث الامام
الصادق (عليه السلام) عن خروج الحبشة على النجاشي، وغاية ما فيه: أنهم خرجوا
عليه فأرسل الى جعفر وأصحابه قال: فان هزمت فامضوا... وان ظفرت فاثبتوا... وخرج
الى الحبشة وقد صفوا له... فرضوا وانصرفوا... وليس فيه أن الله أهلك عدوه وظفر
النجاشي. فهذه زيادة في خبر ام سلمة. بينما يعوزه ما في حديث الامام الصادق
(عليه السلام) من تهيئة السفن وركوبهم فيها وانتظارهم لخبره. وإذا كان لابد من
ترجيح ففي حديث الامام الصادق (عليه السلام) من المرجحات ما ليس في الخبر عن ام
سلمة. ولا يفوتنا آخر خبر ام سلمة إذ قالت: حتى قدمنا على رسول الله وهو بمكة. ثم ليس في الخبر ولم يذكر ابن اسحاق أو ابن هشام متى كان هذا الرجوع ؟ ثم هي تقول:
قدمنا، ولا تستثني أحدا. ولكن الظاهر أنها عولت على المعلوم يوم حديثها لقريبها
أبي بكر المخزومي. بينما
يقول ابن اسحاق: وبلغ
أصحاب رسول الله الذين خرجوا الى أرض الحبشة إسلام أهل مكة، فأقبلوا لما بلغهم
ذلك، حتى إذا دنوا من مكة بلغهم أن ما كانوا تحدثوا به من اسلام أهل مكة كان
باطلا، فلم يدخل أحد الا بجوار أو مستخفيا (سيرة ابن
هشام 2: 3.) منهم: عثمان بن عفان ومعه امرأته رقية بنت رسول الله - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - وأبو سلمة المخزومي ومعه امرأته ام سلمة المخزومية. والسكران بن
عمرو ومعه امرأته سودة بنت زمعة بن قيس. وأبو سبرة بن أبي رهم معه امرأته ام
كلثوم بنت سهيل بن عمرو، وعديله أبو حذيفة بن عتبة ومعه امرأته سهلة بنت سهيل بن
عمرو، وأخوها عبد الله بن سهيل بن عمرو. وعامر بن ربيعة ومعه امرأته ليلى بنت
أبي حمنة. فهؤلاء عشرة أزواج. ومن غيرهم: الزبير بن العوام، ومصعب بن عمير، وعبد
الرحمن بن عوف وأبو عبيدة بن الجراح والمقداد بن عمرو، وعبد الله ابن مسعود،
وعمار بن ياسر، وعثمان بن مظعون، وأخواه: عبد الله وقدامة، وابنه السائب بن
عثمان. ومن ثم يقول ابن اسحاق: فجميع من قدم مكة من أصحابه - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - من أرض الحبشة ثلاثة وثلاثون رجلا (سيرة ابن
هشام 2: 3 - 10.). هذا وقد سبق منه القول
بأنهم كانوا: اثنين
وثمانين رجلا وامرأة (سيرة ابن هشام 1: 353.). وقال عن جميع من قدم
المدينة من الذين حملهم النجاشي مع عمرو ابن امية الضمري في السفينتين الى رسول
الله (صلى الله عليه وآله) إنهم كانوا ستة عشر رجلا، ومحمد والحارث ابنا حاطب
الجمحي مع امهم فاطمة بنت المجلل، وعبد الله بن المطلب الزهري مع امه رملة بنت
أبي عوف السهمي، قدمتا بأبنائهما بعد هلاك أزواجهما في الحبشة، في احدى
السفينتين. ثم عد تسعة (سيرة ابن هشام 4: 10 عد سبعة ثم عد رجلا من أبنائهم، وفي 4: 7 عد ممن
هلك المطلب بن أزهر الزهري، ثم لم يعده ضمن الثمانية.) نفر
ممن هلك من الرجال بأرض الحبشة مسلمين، وواحدا منهم تنصر بها، هو عبيد الله بن
جحش حليف بني امية وصهر أبي سفيان على ابنته رملة ام حبيبة، لما قدم أرض الحبشة
تنصر بها فكان إذا مر بالمسلمين من أصحاب رسول الله قال: فقحنا وصأصأتم (ان الجرو
- ولد الكلب - إذا أراد أن يفتح عينيه للنظر صأصأ - أي صوت - قبل ذلك، فإذا فتح
عينيه أول ما يفتح وهو صغير قيل: فقح الجرو، واستعارهما هنا للانسان فضربه لهم
وله مثلا !) أي: انا قد فتحنا أعيننا
فأبصرنا ولم تفتحوا أعينكم فتبصروا وأنتم تلتمسون ذلك ! ومات بها نصرانيا. ولذلك
تزوج امرأته رسول الله بواسطة النجاشي قبل رجوعهم الى المدينة بعد الحديبية وقبل
خيبر. وكان معها ابنتها حبيبة، وبها كانت تكنى. وعد ممن هلك بماء شربوه في
طريق الرجوع: موسى بن الحارث واختيه عائشة وزينب وامهم ريطة ابنتي الحارث ولم
يبق من الاسرة سوى ابنتهم فاطمة. وبالجملة فقد عد ابن
اسحاق عدا من قدم على رسول
الله (صلى الله عليه وآله) مكة، وسوى من حملهم النجاشي في السفينتين، ممن تخلف
عن بدر وقدم بعد ذلك، عدهم: أربعة وثلاثين رجلا (سيرة ابن هشام 4: 10.) فهؤلاء مع من قدم مكة: ثلاثة وثلاثون رجلا، ومن حملهم النجاشي في
السفينتين: ستة عشر رجلا، فيكون
المجموع: أربعة وثمانين رجلا،
سوى النساء. وقد عد جميع من هاجر الى أرض الحبشة من النساء: ست عشرة امرأة، سوى بناتهن
اللاتي ولدن هنالك (سيرة ابن
هشام 4: 10.) وعد ممن ولد من أبنائهم بأرض الحبشة: خمسة، ومن البنات: خمسا أيضا (سيرة ابن
هشام 4: 11.) فيكون
المجموع: مائة وعشرة أشخاص من الرجال والنساء والبنين والبنات، وهم مع من مات
منهم والذي تنصر مائة
وعشرون. |
جوار
أبي طالب، والوليد:
|
قال ابن اسحاق: كانت ام أبي سلمة المخزومي: برة بنت عبد المطلب، اخت أبي طالب، فكان أبو طالب خال أبي سلمة،
ولذلك دخل مكة في جواره. ثم روى عن أبيه اسحاق بن يسار، عن حفيد أبي سلمة: سلمة بن عبد الله بن عمر بن أبي سلمة، أنه حدثه: أن أبا سلمة لما
استجار بأبي طالب مشى إليه رجال من بني مخزوم فقالوا له: يا أبا طالب، لقد منعت
منا ابن أخيك محمدا، فمالك ولصاحبنا تمنعه منا ؟ قال: انه استجار بي، وهو ابن
اختي، وان أنا لم أمنع ابن اختي لم أمنع ابن أخي. فقام أبو لهب فقال:
يا معشر قريش، والله لقد اكثرتم على هذا الشيخ، ما تزالون تتواثبون عليه في
جواره من بين قومه، والله لتنتهن عنه أو لنقومن معه في كل ما قام فيه حتى يبلغ
ما أراد ! فقالوا: بل ننصرف عما تكره
يا أبا عتبة. فحين سمعه أبو طالب يقول ما يقول رجا فيه أن يقوم معه في شأن رسول الله، فقال (قصيدة) يحرض بها أبا
لهب على نصرته ونصرة رسول الله
- صلى الله عليه [ وآله ] وسلم -. ثم
ذكر عشرة أبيات منها قوله: جزى الله عنا: عبد شمس،
ونوفلا * وتيما، ومخزوما: عقوقا
وماثما (بتخفيف
الهمزة من المأثم، وهذا من شواهد ما أشتهر عن قريش
أنهم كانوا يخففون الهمزة، همزة
الوسط لا الأول.) بتفريقهم من بعد ود والفة * جماعتنا، كيما
ينالوا المحارما كذبتم - وبيت الله - نبزي محمدا * ولما تروا يوما - لدى الشعب – قائما (نبزي
أي: ننفي محمدا عن أنفسنا.) (سيرة ابن
هشام 2: 8 - 11.) ويظهر من هذا البيت الأخير أن ذلك كان في حين حصار الشعب، فالنبي كان بجوار عمه أبي طالب،
ودخل فيه معه ابن عمة النبي أبو سلمة، وكذلك احتمى ذوو البيوتات والاسر
بعشائرهم، وهاجر بعضهم ومن سواهم الى الحبشة، ورجع منهم من رجع بجوار أو اختفى، وبقي الباقون في الحبشة، فرجع بعضهم الى المدينة بعد بدر، وكان آخر من رجع العشرون رجلا
وأمرأة في السفينتين بعد الحديبية وقبل خيبر. وان كان أبو سلمة المخزومي قد ترك حمى عشيرته بني مخزوم مستجيرا بخاله أبي طالب، فان عثمان
بن مظعون الجمحي دخل بجوار من الوليد بن المغيرة المخزومي (فهذا الخبر أيضا من الأخبار التي تنافي هلاك الوليد مع
المستهزئين الستة.)،
ولكنه: لما رأى ما فيه أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) من البلاء وهو يغدو
ويروح في أمان من الوليد بن المغيرة، قال: والله ان غدوي ورواحي آمنا بجوار رجل
من أهل الشرك، وأصحابي وأهل ديني يلقون من البلاء والأذى في الله مالا يصيبني،
لنقص كبير في نفسي. ثم مشى الى الوليد بن المغيرة فقال له: يا أبا عبد شمس، وفت ذمتك، قد رددت اليك جوارك... قال: فانطلق الى
المسجد فاردد علي جواري علانية كما أجرتك علانية. فانطلقا فخرجا حتى أتيا
المسجد، فقال الوليد: هذا عثمان قد جاء يرد علي جواري. قال: صدق، قد وجدته وفيا
كريم الجوار ولكني قد أحببت أن لا أستجير بغير الله، فقد رددت عليه جواره. ثم
انصرف. وكان لبيد بن ربيعة الشاعر جالسا في مجلس قريش ينشدهم، فجلس معهم عثمان، فقال لبيد: الأكل شئ - ما خلا الله
- باطل. فقال عثمان: صدقت.
قال لبيد: وكل نعيم - لا
محالة - زائل. فقال
عثمان: نعيم الجنة لا يزول. فقال لبيد: يا
معشر قريش، والله ما كان يؤذى جليسكم فمتى حدث هذا فيكم ؟ فقال رجل من القوم: ان هذا سفيه في سفهاء معه قد فارقوا ديننا، فلا تجدن في نفسك من
قوله. فرد عليه عثمان حتى استشرى أمرهما وعظم، فقام إليه الرجل فلطم عينه
فخضرها (سيرة ابن هشام 2: 8 - 10 وقد اطلق الخضرة على السواد هنا كما قد يطلق
السواد على الخضرة فيقال: سواد العراق يراد خضرة زروعها، إذ الخضرة من بعيد
زرقاء داكنة مكدرة اللون.). والحوار في الخبر - إن صح
- بين الرجل من قريش ولبيد الشاعر يشعر بعدم انتشار أخبار الإسلام بما يبلغ
الشاعر لبيد بن ربيعة، وكذلك ينم عن عدم منابذة المسلمين للمشركين كافة بما
يحترز معه ابن مظعون عن مجالستهم في أنديتهم ومجالسهم والاستماع الى شعرائهم. بينما مر في خبر أبي سلمة المخزومي شعر أبي طالب يقول: كذبتم وبيت الله نبزي
محمدا * ولما تروا يوما - لدى الشعب
- قائما ويظهر منه - كما مر - أن ذلك كان في حين حصار الشعب، وقد ذكر القمي
والطبرسي والراوندي وابن شهر آشوب أن مدة الحصار كانت أربع سنين (تفسير
القمي 1: 380 إعلام الورى: 50 وقصص الأنبياء: 329 والمناقب 1: 65.) وقد
قال الثلاثة - ما عدا القمي -: إن أبا طالب مات بعد ذلك بشهرين. وقد روى الصدوق
عن الصادق (عليه السلام): أن أبا طالب لما حضرته الوفاة أوحى الله عزوجل الى
رسول الله: اخرج منها فليس لك بها ناصر فهاجر الى المدينة (اكمال
الدين: 172.) وروى العياشي عن علي بن الحسين (عليهما السلام): أن رسول الله لما
فقد عمه أبا طالب أوحى الله إليه: يا محمد اخرج من القرية الظالم أهلها وهاجر
الى المدينة فليس لك اليوم بمكة ناصر (تفسير
العياشي 1: 257.). وعليه فان بدء حصار الشعب كان متزامنا أو متقاربا مع بداية الهجرة الى الحبشة، في شهر رجب من السنة الخامسة من مبعث رسول الله (صلى
الله عليه وآله) (مجمع
البيان 3: 360 والمنتقى للكازروني: 44 كما في البحار 18: 422.) وبما أن بعثته كانت في شهر رجب على مذهب أهل البيت (عليهم السلام) كما مرت أخباره، فذلك
يعني أن هجرة الحبشة كانت في نهاية السنة الخامسة وبداية السادسة. وعلى قول ابن شهر آشوب: فلما توفي أبو طالب خرج النبي (صلى الله عليه وآله) الى الطائف وأقام فيه شهرا ثم انصرف الى مكة ومكث بها سنة وستة
أشهر في جوار المطعم بن عدي (مناقب ابن شهر آشوب 1: 173 ط قم.) فالمجموع اكثر من عشر سنين بعد البعثة. ولذلك فنحن ننتقل هنا الى حديث شعب أبي طالب (رضي الله عنه).
|
حديث
شعب أبي طالب (رضي الله عنه):
|
ذكر أبو جعفر الاسكافي في كتابه " نقض العثمانية ": أن
أمير المؤمنين عليا (عليه
السلام) قال في خطبة له
مشهورة: " فتعاقدوا أن لا يعاملونا ولا يناكحونا، وأوقدت الحرب علينا
نيرانها، واضطرونا الى جبل وعر، مؤمننا يرجو الثواب، وكافرنا يحامي عن الأهل،
ولقد كانت القبائل كلها اجتمعت عليهم، وقطعوا عنهم المارة والميرة، فكانوا
يتوقعون الموت جوعا، صباحا ومساء، لا يرون وجها ولا فرجا، قد اضمحل عزمهم وانقطع
رجاؤهم " (نقض
العثمانية للاسكافي: وعنه في شرح النهج للمعتزلي 13: 254.). قال الشيخ الطبرسي في " إعلام الورى ": اجتمعوا في دار الندوة وكتبوا بينهم صحيفة: أن لا يواكلوا بني
هاشم ولا يكلموهم ولا يبايعوهم ولا يزوجوهم ولا يتزوجوا إليهم ولا يحضروا معهم، حتى يدفعوا إليهم (رسول الله) ليقتلوه، وأنهم يد واحدة على محمد، يقتلونه غيلة أو صراحا. وختموا الصحيفة
بأربعين خاتما ختمها كل رجل من رؤساء قريش بخاتمه وعلقوها في الكعبة، وتابعهم أبو لهب على ذلك، ولم يدخل فيها مطعم
بن عدي بن نوفل بن عبد المطلب
(اعلام الورى: 49 و 50 وتلميذه الراوندي في قصص الأنبياء: 329.). وقال القمي في تفسيره: فلما اجتمعت قريش على قتل رسول الله (صلى
الله عليه وآله)
وكتبوا الصحيفة القاطعة جمع أبو طالب بني هاشم وحلف لهم بالبيت والركن والمقام
والمشاعر في الكعبة: لئن شاكت محمدا شوكة لأثبن عليكم، أو لآتين عليكم ! وأدخله
" الشعب " وكان يحرسه بالليل والنهار قائما على رأسه بالسيف أربع سنين
(تفسير القمي 1: 380.). وقال الطبرسي: وكان
يحرسه بالليل والنهار: فإذا جاء الليل قام بالسيف عليه ورسول الله مضطجع، ثم
يقيمه ويضجعه في موضع آخر، فلا يزال الليل كله هكذا. ووكل به ولده وولد أخيه (؟)
يحرسونه بالنهار. وكان أبو جهل، والعاص بن وائل السهمي، والنضر بن الحارث بن
كلدة، وعقبة بن أبي معيط يخرجون الى الطرقات التي تدخل مكة، فمن رأوا معه ميرة
نهوه أن يبيع بني هاشم شيئا، ويحذرونه إن باع شيئا أن ينهبوا ماله. فكان من يدخل من العرب مكة
لا يجسر أن يبيع بني هاشم
شيئا، ومن دخلها وباعهم شيئا
انتهبوا ماله. وكانت خديجة لها مال كثير فانفقته على رسول الله في الشعب. وبقوا في الشعب أربع سنين لا
يأمنون إلا في الموسم، ولا يشترون ولا يبايعون الا في الموسم، وكان يقوم بمكة في
كل سنة موسمان: موسم العمرة في رجب، وموسم الحج في ذي الحجة، فكان إذا جاء
الموسم خرج بنو هشام من الشعب فيشترون ويبيعون، ثم لا يجسر أحد منهم أن يخرج،
الى الموسم الثاني: فأصابهم الجهد بذلك. وكان رسول الله
(صلى الله عليه وآله)
يخرج في كل موسم ويدور على قبائل العرب فيقول لهم: تمنعون جانبي حتى أتلو عليكم كتاب الله ربي، وثوابكم على الله
الجنة ؟ وأبو لهب في أثره
يقول: لا تقبلوا منه فانه ابن
أخي وهو ساحر كذاب. وكان أبو العاص بن الربيع - وهو ختن رسول الله على ابنته زينب - يجئ بالعير بالليل عليها البر والتمر الى باب الشعب ثم يصيح بها
فتدخل الشعب. ولذا قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " لقد صاهرنا أبو العاص فأحمد صهرنا، لقد كان يعمد الى
العير - ونحن في الحصار - فيرسلها في الشعب ليلا ". |
إيمان
أبي طالب (رضي الله عنه):
|
وبعثت قريش الى أبي طالب: ادفع الينا محمدا لنقتله ونملكك علينا ! فقال أبو طالب قصيدته
الطويلة التي يقول فيها: الم تعلموا أن ابننا لا
مكذب * لدينا ولا يعنى بقول الأباطل وأبيض يستسقى الغمام
بوجهه * ثمال اليتامى، عصمة للأرامل يطوف به الهلاك من آل
هاشم * فهم عنده في نعمة وفواضل كذبتم - وبيت الله - نبزي محمدا * ولما نطاعن دونه ونناضل ونسلمه، حتى نصرع دونه
* ونذهل عن أبنائنا والحلائل لعمري لقد كلفت وجدا بأحمد *
وأحببته حب الحبيب المواصل وجدت بنفسي دونه وحميته
* ودافعت عنه بالذرا والكلاكل فلا زال في الدنيا جمالا لأهلها * وشينا لمن عادى، وزين المحافل حليما رشيدا حازما غير
طائش * يوالي اله الحق ليس بما حل فأيده رب العباد بنصره
* وأظهر دينا حقه غير
باطل فلما سمعوا هذه القصيدة
أيسوا منه (إعلام
الورى: 50، 51. وذكرها تلميذه القطب الراوندي في: قصص الأنبياء: 339.). وذكر الخبر ابن
شهر آشوب وأضاف: كان النبي (صلى الله عليه وآله) إذا أخذ مضجعه ونامت العيون جاء
أبو طالب فأنهضه عن مضجعه وأضجع عليا مكانه ووكل عليه ولده وولد أخيه (؟) فقال علي (عليه السلام): يا أبتاه اني مقتول ذات ليلة. فقال أبو طالب: اصبرن يا بني فالصبر
أحجى * كل حي مصيره لشعوب (الشعوب:
الموت.) قد بلوناك والبلاء شديد * لفداء النجيب وابن النجيب لفداء الأعز ذي الحسب الثا * قب والباع والفناء الرحيب إن تصبك المنون بالنبل تبرى * فمصيب منها وغير مصيب كل حي وان تطاول عمرا
* آخذ من سهامها بنصيب فقال علي (عليه السلام): أتأمرني بالصبر في نصر
أحمد * ووالله ما قلت الذي قلت
جازعا ولكنني أحببت أن تر
نصرتي * وتعلم أني لم أزل لك
طائعا وسعيي لوجه الله في نصر
أحمد * نبي الهدى المحمود طفلا
ويافعا وقبل هذا روى من شعر أبي طالب في الحصار: وقالوا: خطة جورا وحمقا
* وبعض القول أبلج مستقيم: لتخرج هاشم فيصير منها
* بلاقع بطن مكة والحطيم فمهلا قومنا لا تركبونا * بمظلمة لها أمر وخيم فيندم بعضكم ويذل بعض
* وليس بمفلح أبدا ظلوم فلا - والراقصات بكل خرق *
الى معمور مكة لا يريم (الخرق: القفر.) طوال الدهر - حتى تقتلونا * ونقتلكم وتلتقي الخصوم ويعلم معشر قطعوا وعقوا * بأنهم هم الجلد الظليم أرادوا قتل أحمد ظالميه * وليس لقتله فيهم زعيم ودون محمد فتيان قوم
* هم العرنين والعضو الصميم وروى من قصيدة اخرى له يقول: ألم تعلموا أنا وجدنا
محمدا * نبيا كموسى خط في أول الكتب أليس أبونا هاشم شد أزره
* وأوصى بنيه
بالطعان وبالضرب وإن الذي علقتم من كتابكم * يكون لكم يوما كراغية السقب (يشير بذلك الى قصة فصيل ناقة صالح، فالراغية من الرغاء وهو صوت الابل، والسقب: ولد الناقة.) أفيقوا أفيقوا قبل أن يحفر الثرى * ويصبح من لم يجن ذنبا كذي الذنب (مناقب آل
أبي طالب 1: 63 - 65.) وروى هذه القصيدة ابن اسحاق وأضاف: ولا تتبعوا أمر الوشاة وتقطعوا * أواصرنا بعد المودة والقرب وتستجلبوا حربا عوانا وربما * أمر - على من ذاقه - جلب
الحرب فلسنا - ورب البيت -
نسلم أحمدا * لعزاء من عض الزمان ولا
كرب (العزاء: الشدة.) ولما تبن منا ومنكم * وأيد اترت بالقساسية الشهب
سوالف (السوالف: صفحات الأعناق.) (اترت: قطعت. والقساسية نسبة الى قساس جبل فيه معدن حديد.) بمعترك ضيق ترى كسر القنا * به، والنسور الطخم يعكفن كالشرب ولسنا نمل الحرب حتى تملنا *
ولا نشتكي ما قد ينوب من النكب و لكننا أهل الحفائظ والنهى * إذا طار أرواح الكماة من الرعب (الشرب:
الجماعة من القوم - أو الحيوان - يشربون.) قال ابن اسحاق: ويذكرون أن أبا جهل بن هشام لقي حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد،
ومعه غلام يحمل قمحا يريد به عمته خديجة بنت خويلد وهي مع رسول الله في الشعب،
فتعلق أبو جهل بحكيم وقال له: أتذهب بالطعام الى بني هاشم ؟ والله لا تبرح أنت وطعامك حتى افضحك
بمكة ! فجاء أبو البختري بن هشام فقال له: مالك وله ؟ فقال: يحمل الطعام الى بني
هاشم ! فقال له أبو البختري: طعام كان لعمته عنده فبعثت إليه فيه، افتمنعه أن
يأتيها بطعامها ! خل سبيل الرجل، فأبى أبو جهل حتى نال أحدهما من صاحبه، فأخذ
أبو البختري لحي بعير فضربه به فشجه ووطأه وطأ شديدا. قال: وكان كاتب الصحيفة
منصور بن عكرمة فدعا عليه رسول الله فشل بعض أصابعه (سيرة ابن
هشام 1: 377 - 380 وروى الخبر بألفاظه الطبري 2: 336 بدون ما يتعلق بأبي طالب !.) وقال اليعقوبي: فشلت يده. كما بالغ في عدد المتعاقدين المتعاهدين على الصحيفة
فقال: وختموا على الصحيفة بثمانين خاتما (اليعقوبي
2: 31.) بينما قال الطبرسي: وختموا الصحيفة بأربعين خاتما ختمها كل رجل من
رؤساء قريش بخاتمه وعلقوها في الكعبة (إعلام
الورى: 50.) ولا أرى رؤساء قريش يزيدون عن أربعين رجلا في مكة. وقال اليعقوبي
في تأريخ الحصار ومدته: ثم حصرت قريش رسول الله وأهل بيته من بني هاشم وبني
المطلب في الشعب الذي يقال له: شعب بني هاشم، بعد ست سنين من مبعثه. فأقام -
ومعه جميع بني هاشم وبني المطلب - في الشعب ثلاث سنين. حتى انفق رسول الله ماله،
وأنفق أبو طالب ماله، وانفقت خديجة مالها، وصاروا الى حد الضر والفاقة (اليعقوبي
2: 31.) بينما قلل ابن
اسحاق فقال: فأقاموا على ذلك
سنتين أو ثلاثا، حتى جهدوا، لا يصل إليهم شئ الا سرا مستخفيا به من أراد صلتهم
من قريش (سيرة ابن هشام 1: 379.) وقد
مر عن القمي والطبرسي انها كانت أربع سنين انتهت قبل هجرته بقليل. وحيث انتقلنا بالآية
العاشرة من سورة الزمر الى حديث هجرة الحبشة، ثم بتقريب أن بداية حصار الشعب كان قريبا من بدايات هجرة الحبشة
انتقلنا الى حديث الشعب، يلزمنا الاذعان بأن نزول السور بعد الزمر كان في أيام
حصار الشعب، الا ما كان نزوله أيام موسمي العمرة والحج وبعد الشعب قبل الهجرة،
اذن فما كان من الآيات يفيد حوارا بين النبي والمشركين كان مما يحتمل نزولها في أيام المواسم. السورة الحادية والستون
- " السجدة (فصلت) ": وفيها قوله سبحانه: * (كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون بشيرا ونذيرا فأعرض
اكثرهم فهم لا يسمعون وقالوا قلوبنا في اكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن
بيننا وبينك حجاب فاعمل اننا عاملون) * (فصلت: 3 - 5.).
وروى الطبرسي في " مجمع البيان " عن مقاتل: قال: إن أبا جهل رفع ثوبا
بينه وبين النبي (صلى
الله عليه وآله) فقال:
يا محمد ! أنت من ذلك الجانب ونحن من هذا الجانب، فاعمل أنت على دينك ومذهبك
اننا عاملون على ديننا ومذهبنا (مجمع
البيان 9: 4، 5.) فنزلت سورة السجدة. ونقل مثله ابن شهر آشوب في " المناقب
" (مناقب ابن شهر آشوب 1: 56 ولا يخفى أن هذا مما يناسب التزامن مع بدء
الحصار في شعب أبي طالب.). وبعده قوله سبحانه: * (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى الي أنما إلهكم اله واحد
فاستقيموا إليه واستغفروه وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم
كافرون) * (فصلت: 6، 7.). وروى الطبرسي عن الفراء قال: كانت قريش تطعم الحاج وتسقيهم، فحرموا ذلك على من آمن بمحمد (صلى
الله عليه وآله)، فهذا هو الزكاة في هذا الموضع (مجمع
البيان 9: 6.). السورة الثالثة والستون - " الزخرف ": وفيها قوله سبحانه: * (وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم) * (الزخرف: 31.). روى الطبرسي في " الاحتجاج " عن أبي محمد الحسن
العسكري أنه قال: قلت
لأبي علي بن محمد (عليه السلام):
هل كان رسول الله (صلى
الله عليه وآله) يناظر
المشركين إذا عاتبوه ويحاجهم ؟ قال: بلى مرارا كثيرة، منها ما حكى الله من قولهم... * (وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم) *... وذلك أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان قاعدا ذات يوم بمكة
بفناء الكعبة، إذ اجتمع جماعة من رؤساء قريش منهم: الوليد بن المغيرة المخزومي
(كذا) وأبو البختري ابن هشام، وأبو جهل، والعاص بن وائل السهمي، وعبد الله بن
أبي امية المخزومي، وكان
معهم جمع ممن يليهم كثير.
ورسول الله (صلى الله عليه
وآله) في نفر من أصحابه يقرأ
عليهم كتاب الله ويؤدي إليهم عن الله أمره ونهيه. فقال المشركون بعضهم لبعض: لقد استفحل أمر محمد وعظم خطبه، فتعالوا نبدأ (كذا) بتقريعه
وتبكيته وتوبيخه والاحتجاج عليه وابطال ما جاء به، ليهون خطبه على أصحابه ويصغر
قدره عندهم، فلعله ينزع عما هو فيه من غيه وباطله وتمرده وطغيانه، فان انتهى
والا عاملناه بالسيف الباتر ! قال أبو جهل: فمن ذا الذي
يلي كلامه ومجادلته ؟ قال عبد الله بن أبي امية
المخزومي: أنا لذلك، أفما ترضاني له قرنا حسيبا ومجادلا كفيا ؟ فاتوه بأجمعهم، فابتدأ عبد
الله بن أبي امية المخزومي فقال: يا محمد ! لقد ادعيت دعوى عظيمة وقلت مقالا هائلا: زعمت أنك رسول
رب العالمين، وما ينبغي لرب العالمين وخالق الخلق أجمعين أن يكون رسوله: بشر
مثلك تأكل كما نأكل وتشرب كما نشرب وتمشي في الأسواق كما نمشي ! وهذا ملك الروم
وهذا ملك الفرس لا يبعثان رسولا الا كثير المال عظيم الحال، له قصور ودور،
وفساطيط وخيام، وعبيد وخدام، ورب العالمين فوق هؤلاء كلهم فهم عبيده، فلو كنت
نبيا لكان معك ملك يصدقك ونشاهده. بل لو أراد الله أن يبعث الينا نبيا لكان إنما
يبعث الينا ملكا لا بشرا مثلنا. فقال رسول الله (صلى الله
عليه وآله): فهل بقي من كلامك
شئ ؟ قال: نعم، لو أراد أن يبعث
الينا رسولا لبعث أجل من فيما بيننا اكثرهم مالا وأحسنهم حالا، فهلا أنزل هذا
القرآن، - الذي تزعم أن الله
أنزله عليك وابتعثك به رسولا - على رجل من القريتين عظيم: إما الوليد بن المغيرة بمكة، وإما عروة بن مسعود الثقفي بالطائف. فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا عبد الله، أما ما
ذكرت... الى أن قال: " وأما قولك:
* (لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم) *: الوليد ابن المغيرة بمكة أو عروة بالطائف. فان الله ليس يستعظم
مال الدنيا كما تستعظمه أنت ولا خطر له عنده كما له عندك، بل لو كانت الدنيا
عنده تعدل جناح بعوضة لما سقى كافرا به مخالفا له شربة ماء، وليس قسمة الله
اليك، بل الله هو القاسم للرحمات والفاعل لما يشاء في عبيده وإمائه، وليس هو ممن
يخاف أحدا كما تخافه أنت لماله وحاله، ولا ممن يطمع في أحد في ماله أو في حاله
كما تطمع أنت فيخصه بالنبوة لذلك، ولا ممن يحب أحدا محبة الهواء كما تحب أنت
فيقدم من لا يستحق التقديم، وانما معاملته بالعدل، فلا يؤثر لأفضل مراتب الدين
وجلاله الا الأفضل في طاعته والأجد في خدمته، وكذلك لا يؤخر في مراتب الدين
وجلاله الا أشدهم تباطؤا عن طاعته. وإذا كان هذا صفته لم ينظر الى مال ولا الى
حال، بل هذا المال والحال من تفضله، وليس لأحد من عباده عليه ضريبة لازبة، فلا
يقال له: إذا تفضلت بالمال على عبد فلابد أن تتفضل عليه بالنبوة ايضا، لأنه ليس
لأحد إكراهه على خلاف مراده ولا الزامه تفضلا، لأنه تفضل قبله بنعمه ". وذلك قوله تعالى: * (وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم أهم
يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض
درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمة ربك خير مما يجمعون) * (الزخرف: 31 - 32.) أي ما يجمعه هؤلاء من أموال الدنيا (الاحتجاج
1: 26 - 32 باختصار.). هذا، وقد روى فيه فيما أجاب به أبو الحسن علي بن محمد العسكري (عليه السلام) نفسه في رسالته الى أهل الأهواز حين سألوه عن الجبر والتفويض أنه
قال: إليه الصفوة يصطفي من يشاء من عباده، اصطفى محمدا -
صلوات الله عليه وآله - وبعثه بالرسالة الى خلقه، ولو فوض اختيار اموره الى عباده لأجاز
لقريش اختيار امية
بن أبي الصلت وأبي مسعود الثقفي، إذ كانا عندهم أفضل من محمد (صلى الله عليه وآله)، لما قالوا: * (لولا انزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم) * يعنونهما بذلك (الاحتجاج 2: 255. والطباطبائي نقل الخبر الأول ولم ينقل الثاني في
الميزان 18: 106.) . والخبر الأول في
ذكره في رؤساء قريش الوليد بن المغيرة المخزومي يعارض ما رواه الطبرسي نفسه في
" الاحتجاج " عن أمير المؤمنين (عليه السلام) إذ
عده من المستهزئين الخمسة أو الستة (الاحتجاج
1: 321 و 322.) وهو ما رواه الصدوق أيضا مسندا في " الخصال " (الخصال
1: 280.) وفيه أنهم ماتوا في يوم واحد حين نزول قوله سبحانه: * (إنا كفيناك المستهزئين) * من سورة الحجر النازلة قبل السجدة بخمس عشرة سورة. فيبقى الخبر
الثاني عن الامام الهادي (عليه
السلام) بلا معارض، وفيه بدل الوليد امية بن أبي الصلت الثقفي نفسه. ويشترك مع الخبر الأول من " الاحتجاج " في ذكر الوليد، ما نقله الطبرسي في " مجمع البيان " عن قتادة عن ابن عباس. ووافق خبر قتادة خبري " الاحتجاج " في رجل الطائف أنه: عروة بن مسعود الثقفي. وانفرد مجاهد فيهما
أنهما: عتبة بن أبي ربيعة من مكة، وابن عبد ياليل من الطائف، وانفرد ابن عباس في رجل الطائف: أنه حبيب بن عمرو الثقفي (مجمع
البيان 9: 6. وفي لباب النقول: 138: أبو مسعود الثقفي.) ووافق
القمي في تفسيره خبري " الاحتجاج " وقتادة في رجل الطائف أنه عروة بن
مسعود، وقال: هو عم المغيرة بن شعبة الثقفي، ولم يذكر رجل مكة (تفسير
القمي 2: 283.) ومسعود وحبيب وعبد ياليل اخوة ابناء عمرو بن مسعود الثقفي كما في
" مجمع البيان "
(مجمع البيان 9: 139.) السورة الرابعة والستون
- " الدخان ": وفيها قوله سبحانه: * (ان شجرة الزقوم طعام الأثيم) * وفي تفسير القمي قال: نزلت في أبي جهل (تفسير
القمي 2: 292.) وفي " مجمع البيان ": الأثيم أي الآثم وهو أبو جهل.
روى: أن أبا جهل اتي بتمر وزبد فقال: هذا هو الزقوم الذي يخوفنا به محمد (مجمع
البيان 9: 102 وابن اسحاق في سيرته 1: 388.) وقد
مر عنه تفصيله في سورة الصافات. السورة السادسة والستون
- " الأحقاف ": وفيها قوله سبحانه: * (وإذ صرفنا اليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا
أنصتوا فلما قضي ولوا الى قومهم منذرين قالوا يا قومنا انا سمعنا كتابا انزل من
بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي الى الحق والى طريق مستقيم) * (الأحقاف:
29، 30.). وروى الطبرسي في " مجمع البيان " عن الزهري قال: لما توفي أبو طالب اشتد البلاء على رسول الله (صلى الله عليه وآله)،
فعمد لثقيف بالطائف، رجاء أن يؤوه... ورجع رسول الله (صلى
الله عليه وآله) الى مكة حتى إذا كان (بنخلة) قام في جوف الليل يصلي فمر به نفر من جن أهل (نصيبين) فوجدوه يصلي
صلاة الغداة ويتلو القرآن فاستمعوا له. وهو مروي عن جماعة منهم سعيد بن جبير (مجمع
البيان 9: 139، 140.). هذا ما نقله هنا الطبرسي
مما يقتضي وفاة أبي طالب (رضي الله عنه) قبل نزول سورة الأحقاف (السادسة
والستين) وقد بقي من السور
المكية عشرون سورة يقتضي أنها نزلت بمكة بعد وفاة أبي طالب وبعد الهجرة الى
الطائف وقبل الهجرة الى المدينة مما يخالف خبري العياشي والصدوق (تفسير
العياشي 1: 257 واكمال الدين: 172.) أما
القمي فقد قال: كان سبب نزول هذه الآية (كذا) أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) خرج من مكة الى سوق عكاظ - ومعه زيد بن حارثة - يدعو الناس الى الاسلام فلم يجبه أحد ولم يجد من يقبله، فرجع الى
مكة. فلما بلغ موضعا يقال له " وادي مجنة " تهجد بالقرآن في جوف الليل
فمر به نفر من الجن فلما سمعوا قراءة رسول الله (صلى الله عليه وآله) استمعوا له ولما سمعوا قراءته قال بعضهم لبعض: أنصتوا، فلما فرغ
رسول الله من القراءة ولوا الى قومهم منذرين قالوا: * (يا قومنا إنا سمعنا كتابا...) * ثم قال القمي: فأنزل الله على نبيه: * (قل اوحي إلي أنه استمع نفر من الجن) * السورة كلها وفيها حكى الله قولهم (تفسير
القمي 2: 299، 300.). وخلط القمي بهذا بين السورتين: الأحقاف والجن، وفي سورة الجن قال:
وقد كتبنا خبرهم في سورة الأحقاف (مجمع
البيان 10: 554.) أي جعل السبب نفس السبب في السورتين، بينما سورة الجن هي الأربعون في النزول والأحقاف السادسة
والستون، مع ظهور في سورة الجن بأنها كانت الاولى: *
(وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا وأنا لا ندري
أشر اريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا) * (الجن: 9، 10.). ونقل الطبرسي في " مجمع البيان " خبر سوق عكاظ عن البخاري ومسلم والواحدي باسنادهم عن سعيد بن جبير
عن ابن عباس قال: انطلق رسول الله (صلى الله عليه وآله) في طائفة من أصحابه عامدين الى سوق عكاظ، وكان قد حيل بين الشياطين
وبين خبر السماء وارسلت عليهم الشهب، فلما رجعوا الى قومهم قالوا: ما ذاك الا من
شئ حدث فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها. فمر النفر الذين أخذوا نحو تهامة بالنبي
وهو بنخل (ومر في خبر
الزهري: في نخلة)
عامدين الى سوق عكاظ وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا له
وقالوا: هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء، فرجعوا الى قومهم وقال: * (انا سمعنا قرآنا عجبا يهدي الى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا
أحدا) * فأوحى الله الى نبيه: *
(قل اوحي إلي أنه استمع نفر من الجن) * (مجمع البيان 1: 544. ولا يوجد الخبر في أسباب النزول المطبوع للواحدي
في الأحقاف، ولم يذكر الجن.) اذن فخبر سوق عكاظ وبطن نخلة لسورة الجن لا الأحقاف. وقال الطبرسي: قال آخرون: امر رسول الله أن ينذر الجن ويدعوهم الى الله ويقرأ عليهم القرآن،
فصرف الله إليه نفرا من الجن من نينوى (العراق) فقال (صلى الله عليه وآله) لأصحابه: اني امرت أن أقرأ على الجن الليلة، فأيكم يتبعني ؟ فاتبعه عبد الله بن مسعود. قال عبد الله: ولم يحضر معه احد غيري، فانطلقنا حتى إذا كنا بأعلى
مكة دخل رسول الله شعب الحجون وخط لي خطا أمرني أن أجلس فيه قال: لا تخرج منه
حتى أعود اليك. ثم انطلق حتى قام فافتتح القرآن، فغشيته أسودة كثيرة حتى حالت
بيني وبينه حتى لم أسمع صوته، ثم طفقوا يتقطعون مثل قطع السحاب ذاهبين حتى بقي
منهم رهط، وفرغ رسول الله مع الفجر، فانطلق وقال لي: هل رأيت شيئا ؟ قلت: نعم،
رأيت رجالا سودا عليهم ثياب بيض. قال: اولئك جن نصيبين (مجمع
البيان 9: 140.). ولكنه نفسه روى بعد ذلك
عن علقمة بن قيس قال: قلت
لعبد الله ابن مسعود: من كان منكم مع النبي (صلى الله عليه وآله) ليلة الجن ؟
فقال: ما كان منا معه أحد، فقدناه
ذات ليلة ونحن بمكة، فقلنا
اغتيل رسول الله (صلى الله عليه وآله) أو استطير ! فانطلقنا نطلبه من الشعاب.
فلقيناه مقبلا من نحو حراء، فقلنا:
يا رسول الله ! أين كنت ؟ لقد
أشفقنا عليك وقلنا له: بتنا الليلة بشر ليلة بات بها قوم حين فقدناك ! فقال لنا:
إنه أتاني داعي الجن فذهبت اقرئهم القرآن. ثم ذهب بنا فأرانا آثارهم وآثار
نيرانهم. فأما أن يكون صحبه منا أحد فلم يصحبه (مجمع
البيان 9: 140 و 10: 544.). ويبدو أن المتعين للقبول من هذين الخبرين الأخيرين عن ابن مسعود هو الأخير، إذ هو
المنسجم مع الآية من سورة الأحقاف: * (واذ صرفنا اليك نفرا من الجن) *: " أتاني داعي الجن " لا الخبر السابق: " إني امرت أن أقرأ على الجن الليلة ". فلا داعي للأخذ
بما مر عن الزهري تفسيرا للآية من الأحقاف، فيما كان معنى الخبر هو خبر سعيد بن
جبير المشتمل على بطن نخلة وقد مر عن البخاري ومسلم والواحدي أن خبره عن سورة الجن. السورة التاسعة والستون
- " الكهف ": وروى القمي في تفسيره بسنده عن الامام الصادق (عليه السلام) قال:
كان سبب نزولها (يعني الكهف): أن قريشا بعثوا ثلاثة نفر الى نجران: النضر بن الحارث بن كلدة،
وعقبة بن أبي معيط، والعاص بن وائل السهمي ليتعلموا من اليهود والنصارى مسائل
يسألونها رسول الله (صلى
الله عليه وآله)،
فخرجوا الى نجران الى علماء اليهود فسألوهم فقالوا: سلوه عن ثلاث مسائل، فان
أجابكم فيها على ما عندنا فهو صادق، ثم سلوه عن مسألة واحدة فان ادعى علمها فهو كاذب. قالوا: وما هذه المسائل ؟ قالوا:
سلوه عن فتية كانوا في الزمن الأول فخرجوا وغابوا وناموا وكم بقوا في نومهم حتى
انتبهوا ؟ وكم كان عددهم ؟ وأي شئ كان معهم من غيرهم ؟ وما كان قصتهم ؟ واسألوه عن موسى حين أمره الله أن يتبع العالم ويتعلم منه، من هو ؟ وكيف
تبعه ؟وما كانت قصته معه ؟ واسألوه عن طائف طاف مغرب الشمس ومطلعها حتى بلغ سد يأجوج ومأجوج، من هو ؟
وكيف كانت قصته ؟ ثم أملوا عليهم أخبار هذه الثلاث مسائل وقالوا لهم: إن أجابكم بما قد أملينا عليكم فهو صادق، وان أخبركم بخلاف ذلك
فلا تصدقوه. قالوا: فما المسألة الرابعة ؟ قالوا: سلوه متى تقوم الساعة ؟ فان ادعى علمها فهو كاذب، فان قيام
الساعة لا يعلمها الا الله تبارك وتعالى. فرجعوا الى مكة واجتمعوا الى أبي طالب (رضي الله عنه) فقالوا: يا أبا طالب ! ان ابن أخيك يزعم أن خبر السماء يأتيه ونحن
نسأله عن مسائل فان أجابنا عنها علمنا أنه صادق، وان لم يجبنا علمنا أنه كاذب. فقال أبو طالب: سلوه عما بدا لكم، فسألوه عن الثلاث مسائل. فقال رسول الله (صلى
الله عليه وآله): غدا
اخبركم. ولم يستثن (أي لم
يقل: إن شاء الله.)
فاحتبس الوحي عليه أربعين يوما حتى اغتم النبي (صلى الله عليه وآله) وشك
أصحابه الذين كانوا آمنوا به، وفرحت
قريش واستهزؤا وآذوا. وحزن أبو طالب. فلما كان بعد
أربعين يوما نزل عليه جبرئيل بسورة الكهف. فقال
رسول الله: يا جبرئيل لقد أبطأت
! فقال: انا لا نقدر أن
ننزل إلا باذن الله (تفسير القمي 2: 31، 32 وسند الخبر: حدثني أبي عن ابن أبي عمير عن أبي
بصير عنه (عليه السلام)، فهو صحيح لولا ما يبدو فيه من الانقطاع بين ابراهيم بن
هاشم وابن أبي عمير. والخبر يقتضي أن تكون فترة الوحي الأربعون يوما قبل نزول
سورة الكهف، وستأتي الفترة كذلك في خبر ابن اسحاق الا أنها خمس عشرة ليلة). ونقل الطبرسي في " مجمع البيان " مثله عن محمد بن
اسحاق عن سعيد ابن جبير وعكرمة عن ابن عباس: أن قريشا انفذوا النضر بن الحارث بن كلدة وعقبة بن أبي معيط الى
أحبار اليهود بالمدينة وقالا لهم: إنهم أهل الكتاب الأول وعندهم من علم الأنبياء
ما ليس عندنا، فصفا لهم صفة محمد وخبراهم بقوله وسلاهم عنه. فخرجا حتى قدما المدينة
فسألا أحبار اليهود عن النبي (صلى
الله عليه وآله) وقالا
لهم ما قالت قريش. فقال لهما أحبار اليهود: اسألوه عن ثلاث فان أخبركم بهن فهو
نبي مرسل وان لم يفعل فهو رجل متقول، فروا فيه رأيكم: سلوه عن فتية ذهبوا في
الدهر الأول ما كان أمرهم، فانه قد كان لهم حديث عجيب. وسلوه عن رجل طواف قد بلغ
مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبأه ؟ وسلوه عن الروح ما هو ؟ فان أخبركم عن
الثنتين ولم يخبركم بالروح فهو نبي. فانصرفا الى مكة فقالا: يا معشر قريش قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد. وقصا عليهم
القصة. فجاؤوا الى النبي (صلى الله عليه وآله) فسألوه، فقال: اخبركم بما سألتم عنه غدا ولم يستثن: فانصرفوا
عنه. فمكث (صلى الله عليه
وآله) خمس عشرة ليلة لا يحدث
الله إليه في ذلك وحيا ولا يأتيه جبرئيل، حتى أرجف أهل مكة وتكلموا في ذلك، فشق
على رسول الله (صلى
الله عليه وآله) ما
يتكلم به أهل مكة عليه. ثم جاءه جبرئيل عن الله
سبحانه بسورة الكهف، وفيها ما سألوه عنه من أمر الفتية والرجل الطواف، وفيه * (يسألونك عن الروح) *. وقال
رسول الله (صلى الله عليه
وآله) لجبرئيل حين جاءه: لقد احتبست عني يا جبرئيل ؟ فقال له جبرئيل: * (وما نتنزل الا بأمر ربك) * (مجمع
البيان 6: 697. وفي سيرة ابن هشام 1: 321.). وفي قوله سبحانه في السورة: * (ولا تقولن لشئ اني فاعل ذلك غدا الا أن يشاء الله) * (الكهف: 23، 24.) قال: قد ذكرنا فيما قبل ما جاء في الرواية: أن النبي (صلى الله
عليه وآله) سئل عن قصة أصحاب الكهف وذي القرنين فقال: اخبركم عنه غدا. ولم
يستثن، فاحتبس الوحي عنه أياما حتى شق عليه، فأنزل الله تعالى هذه الآية بأمره
بالاستثناء بمشيئة الله تعالى (مجمع البيان 6: 712. وفي سيرة ابن هشام 1: 327). السورة السبعون - "
النحل ": قال القمي في تفسيره: نزلت لما سألت قريش رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن ينزل عليهم العذاب، فأنزل الله تعالى: * (أتى أمر الله فلا تستعجلوه) * (تفسير
القمي 1: 382.). وروى الطبرسي في " مجمع البيان " عن الحسن البصري قال: إن المشركين قالوا للنبي (صلى الله عليه وآله): ائتنا بعذاب الله،
فقال سبحانه ما معناه: ان أمر الله آت وكل ما هو آت قريب، فمعنى * (أتى أمر الله) * اي قرب أمر الله بعقاب هؤلاء المشركين المقيمين على الكفر
والتكذيب بيوم القيامة وبعذاب الله، وكانوا يستعجلونه كما حكى الله سبحانه عنهم
قولهم: * (فأمطر علينا
حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب اليم) * فتقديره: قل لهؤلاء الكفار: لا تستعجلوا القيامة والعذاب فان الله سيأتي بكل واحد منهما في
وقته وحينه كما تقتضيه حكمته (مجمع
البيان 6: 537.). ويدعم هذا المعنى ما رواه العياشي في تفسيره عن هشام بن سالم عن
بعض أصحابه قال سألت الصادق (عليه السلام) عن قول الله:
* (أتى أمر الله فلا تستعجلوه) * فقال: إذا أخبر الله النبي (صلى الله عليه وآله) بشئ الى وقت أنه كائن فكأنه قد كان، فهو قوله: * (أتى امر الله فلا تستعجلوه) * حتى يأتي ذلك الوقت (تفسير
العياشي 1: 254.). ومنها قوله سبحانه: * (وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت
مفتر بل أكثرهم لا يعلمون قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا
وهدى وبشرى للمسلمين ولقد نعلم أنهم يقولون انما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون
إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين) * (النحل: 101 - 103.). قال القمي في تفسيره:
الأعجمي الذي يلحدون إليه هو أبو فكهية مولى ابن الحضرمي، كان من أهل الكتاب وكان قد اتبع نبي الله وآمن به، وكان أعجمي
اللسان. فقالت قريش: هذا -
والله - يعلم محمدا بلسانه
(تفسير القمي 1: 390.).
ومنها قوله سبحانه: *
(وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين ليحملوا أوزارهم كاملة يوم
القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون) * (النحل: 24، 25.). وروى الطبرسي عن الكلبي قال: نزلت في المقتسمين، وهم ستة عشر رجلا خرجوا الى عقاب مكة أيام الحج
على طريق الناس، على كل عقبة أربعة منهم، ليصدوا الناس عن النبي (صلى الله عليه
وآله)، فإذا سألهم الناس عما انزل على رسول الله (صلى الله عليه وآله) قالوا: أحاديث الأولين وأباطيلهم (مجمع
البيان 6: 549.) ونقل مثله في " المناقب " (مناقب
ابن شهر آشوب 1: 49.). روى السيوطي في "
الدر المنثور " مفصله عن السدي قال: اجتمعت قريش فقالوا: ان محمدا رجل حلو اللسان إذا كلمه الرجل ذهب
بعقله، فانظروا اناسا من أشرافكم المعدودين المعروفة أنسابهم فابعثوهم في كل
طريق من طرق مكة، على رأس كل ليلة أو ليلتين (كذا) فمن جاء يريده فردوه عنه. فخرج ناس منهم في كل طريق، فكان إذا أقبل الرجل وافدا لقومه ينظر
ما يقول محمد فينزل بهم، قالوا له: أنا فلان بن فلان فيعرفه بنسبه ويقول: أنا اخبرك بمحمد فلا يريد أن تعني إليه، هو رجل كذاب لم يتبعه على
أمره الا السفهاء والعبيد ومن لا خير فيه، وأما شيوخ قومه وخيارهم فمفارقون له. فيرجع بعضهم، وذلك قوله سبحانه: * (وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين) *. وإذا كان الوافد ممن عزم
الله له على الرشاد فقالوا
له مثل ذلك في محمد قال: بئس
الوافد أنا لقومي ان كنت جئت حتى بلغت، الا مسيرة ليلة، رجعت قبل أن القى هذا
الرجل وأنظر ما يقول وآتي قومي ببيان أمره. فيدخل مكة فيلقى المؤمنين فيسألهم:
ماذا يقول محمد ؟ يقولون: * (خيرا للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير) * (الدر المنثور 4: 116.). وخبر
السدي هذا لا يبعد أن يعد تفصيلا لمختصر خبر الكلبي السابق قبله، ولكن الكلبي
قال " في عقاب مكة أيام
الحج " والسدي: " في كل طريق من طرق مكة على رأس كل ليلة أو ليلتين فإذا اقبل
الرجل وافدا لقومه " ثم لا يذكر الحج والاعتبار يساعد على الاول لا الثاني. والثاني لا ينص على عنوان " المقتسمين " ولا على عددهم " الستة عشر رجلا " كما هو في الكلبي. هذا
وقد مر خبر المقتسمين مع المستهزئين الستة الذين كفى الله رسوله شرهم بهلاكهم في
يوم واحد باشارة جبرئيل إليهم ودعاء الرسول عليهم، فهل يعني الكلبي أن المقتسمين
كانوا مستمرين على عملهم ذلك بعد هلاك المستهزئين، من لدن نزول سورة الحجر
الرابعة والخمسين حتى بعد نزول سورة النحل وهي السبعون ؟ أم يعني أن الآية نزلت
تحكي شأنهم القديم غير المستمر ؟ أو أنه أمر حاضر متكرر ؟ والظاهر الأخير. وقد يبدو للنظر:
أن تكون هذه الفترة بين نزولي سورتي الحجر الرابعة والخمسين والنحل السبعين، هي
فترة حصار الرسول وبني هاشم في شعب أبي طالب بالحجون، وهي الفترة الفاصلة بين
المقتسمين الأوائل وبين تجديد عملهم مرة اخرى حين نزول سورة النحل. ويدفعه: أن
موسم الحج في الأشهر الحرم كان
مستثنى من حكم الحصار، ولذلك
كان الرسول يخرج من الحصار فيه بشيرا ونذيرا، وقد ورد الخبر بالنص على مزاولة
المشركين لعملهم ذلك في الصد عنه (صلى الله عليه وآله) في أيام الموسم أيام الحصار في الشعب، فلا فترة في البين. وحصر المشركين للرسول وبني هاشم مدة ثلاث سنين أو نحوها من جملة
الحوادث المهمة في تأريخ الإسلام بعد البعثة وقبل الهجرة، وهي: إنذار يوم الدار، والاسراء والمعراج، والهجرة الى الحبشة، والهجرة
الى الطائف، ثم الهجرة الى المدينة. وقد وردت الاشارة في آيات القرآن الكريم الى الانذار والاسراء
والمعراج بالاجمال في سورتي الاسراء والنجم، وكذلك الهجرة
الأخيرة الى المدينة، أما حادث الحصار والهجرة الى الحبشة والهجرة الى الطائف فلا نجد في آيات القرآن الكريم إشارة إليها حسب التفسير المشهور. ولتبين مدى صحة دعوى المرحلة
السرية مع نزول القرآن فيها، استعرضت ما نزل من القرآن حتى سورة الحجر التي فيها
* (فاصدع بما تؤمر) * وبعد ذلك اردت الدخول في سرد الحوادث، ولكن حيث لاحظت الخلاف في
ترتيبها وتواريخها رجعت الى مواكبة السور المكية حسب ترتيب النزول. وهنا في سورة النحل في الآية
الحادية والأربعين نقف على ذكر الهجرة في قوله سبحانه: *
(والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة
أكبر لو كانوا يعلمون) * (النحل:
41.). وهي أول آية تذكر الهجرة، وهي في عداد آيات سورة النحل المكية، وهي السورة السبعون، وبعدها
ست عشرة سورة نزلت في مكة قبل الهجرة، فهل المعني بها الهجرة الاولى الى الحبشة
؟ أم الثانية الى المدينة ؟ نقل الطبرسي في " مجمع البيان " عن الحسن وقتادة: أن قوله *
(والذين هاجروا في الله) * الى
آخر السورة مدنية (مجمع البيان 6: 535.) وكذلك
نقل السيوطي في " الاتقان " (الاتقان
1: 15.) ثم ذكر الطبرسي سائر الأقوال بسائر الاستثناءات في الآيات، ولم يتظافر النقل باستثناء قتادة، بل روى السيوطي في " الدر
المنثور " عن قتادة نفسه أيضا أنها الهجرة الى الحبشة (الدر
المنثور 5: 118 والتمهيد 1: 153.). وسنذكر أن هذه السورة هي
آخر سورة نزلت في شعب أبي طالب، ونذكر بعد ذلك أن بيعة العقبة الاولى أيضا كذلك
كانت في آخر موسم عمرة قبل الخروج من الشعب، وأن النبي أذن لأصحابه بعد ذلك بالهجرة الى المدينة تدريجيا. فلو
كانت الآية العاشرة من سورة الزمر بقوله سبحانه فيها * (وأرض الله واسعة) * مبدأ إذن النبي بالهجرة الى الحبشة، فمن المحتمل أن تكون هذه الآية
مبدأ إذن الرسول هذه المرة بالهجرة الى المدينة، مع وضوح الفرق بين الفترتين في
حال البلدين. ولكننا لا نجد شيئا في ذلك عند رواة الحديث والتفسير والتأريخ. ومن المحتمل كذلك أيضا
أن تكون الآية بل السورة مما نزل في أواخر السنة الحادية عشرة للبعثة، قبل بيعة
أصحاب العقبة بسنة، إذ
كان قد قدم مكة من أرض الحبشة أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد المخزومي مع زوجته
ام سلمة، فلما آذته قريش وبلغه اسلام من أسلم من الأنصار خرج الى المدينة مهاجرا
فكان أول من هاجر الى المدينة من أصحاب رسول الله (سيرة ابن
هشام 2: 112.) . ومنها قوله سبحانه: *
(ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان
عربي مبين) * (النحل:
103.). قال القمي في تفسيره: هو لسان أبي فكهية مولى ابن الحضرمي، كان أعجمي اللسان، وكان قد
اتبع نبي الله وآمن به، وكان من أهل الكتاب، فقالت قريش: هذا - والله - يعلم
محمدا بلسانه (تفسير القمي 1: 390.). ونقل الطبرسي عن مجاهد وقتادة قالا: أرادوا به عبدا لبني الحضرمي روميا يقال له عائش، صاحب كتاب، أسلم
وحسن اسلامه. وعن عبد الله بن مسلم قال: كان في الجاهلية غلامان
نصرانيان من أهل عين التمر
(في العراق) اسم أحدهما يسار والآخر خير، كانا يقرءان كتابا لهما بلسانهم، وكان رسول الله (صلى الله عليه
وآله) ربما مر بهما واستمع لقراءتهما، فقالوا: إنما يتعلم منهما (أسباب
النزول للواحدي: 231 ط الجميلي.). وعن ابن عباس قال: قالت قريش: إنما يعلمه بلعام، وكان قينا روميا نصرانيا بمكة (مجمع
البيان 6: 595 وروى السيوطي عنه أيضا قال: كان رسول الله يعلم قينا بمكة اسمه
بلعام - وكان أعجمي اللسان - فكان المشركون يرون رسول الله يدخل عليه ويخرج من
عنده، فقالوا إنما يعلمه بلعام، الدر المنثور 4: 131 وروى روايات اخرى باسماء:
أبي اليسر، ومقيس.). وقال ابن اسحاق: بلغني أن رسول الله كان كثيرا ما يجلس عند المروة الى مبيعة غلام
نصراني يقال له: جبر عبد لبني الحضرمي، فكانوا يقولون: والله ما يعلم محمدا
كثيرا مما يأتي به الا جبر النصراني غلام بني الحضرمي. فأنزل الله تعالى في ذلك:
* (ولقد نعلم أنهم
يقولون انما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين) * (سيرة ابن هشام عن ابن اسحاق 2: 33.). |
مقتل
ياسر وسمية وتعذيب ابنهما عمار:
|
ومنها قوله سبحانه: * (إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله واولئك هم
الكاذبون من كفر بالله من بعد ايمانه الا من اكره وقلبه مطمئن بالايمان ولكن من
شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم ذلك بأنهم استحبوا الحياة
الدنيا على الآخرة وأن الله لا يهدي القوم الكافرين اولئك الذين طبع الله على
قلوبهم وسمعهم وأبصارهم واولئك هم الغافلون لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون
ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور
رحيم) * (النحل: 105 -
110.). روى العياشي في تفسيره عن الصادق (عليه السلام) قال: إن عمار بن ياسر اخذ بمكة فقالوا له: ابرأ من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فبرأ منه، فأنزل الله عذره: * (الا من اكره وقلبه مطمئن بالايمان) *. وروى فيه عنه (عليه السلام) قال: أما سمعت قول الله في عمار: * (الا من اكره وقلبه مطمئن بالايمان) *. وروى فيه عنه (عليه
السلام) قال: إن
هذه الآية نزلت في عمار وأصحابه: * (الا من اكره وقلبه مطمئن بالايمان) * (تفسير
العياشي 2: 271، 272.). ولذلك قال القمي في
تفسير هذه الآية: هو
عمار بن ياسر أخذته قريش بمكة، فعذبوه بالنار حتى أعطاهم بلسانه ما أرادوا،
وقلبه مطمئن بالايمان... ثم قال في عمار أيضا: * (ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن
ربك من بعدها لغفور رحيم) *
(تفسير القمي 1: 390، 391.). وروى الكليني في (الكافي) بسنده عن الصادق (عليه السلام) أيضا
قال: إن عمار بن ياسر اكرهه
أهل مكة وقلبه مطمئن بالايمان، فقال له النبي (صلى الله عليه وآله) عندها: يا عمار ان عادوا فعد، فقد أنزل الله عذرك: * (الا من اكره وقلبه مطمئن بالايمان) * وأمرك أن تعود إن عادوا (اصول الكافي 2: 219 عن القمي أيضا.). وروى الطبرسي في " مجمع البيان " عن قتادة وابن عباس
قال: نزلت الآية في جماعة
اكرهوا على الكفر، وهم: عمار وياسر أبوه وامه سمية وصهيب وبلال وخباب، عذبوا حتى
قتل أبو عمار وامه، فاعطاهم عمار بلسانه ما أرادوا منه، فأخبر الله سبحانه بذلك
رسوله، فقال قوم: كفر عمار، فقال (صلى الله عليه وآله): كلا إن عمارا ملئ ايمانا
من قرنه الى قدمه واختلط الايمان بلحمه ودمه. وجاء عمار الى رسول الله وهو يبكي،
فقال (صلى الله عليه وآله): ما وراءك ؟ فقال: شر يا رسول الله، ما تركت حتى نلت منك وذكرت
آلهتهم بخير ! فجعل رسول الله (صلى
الله عليه وآله) يمسح
عينيه ويقول: إن عادوا لك فعد لهم بما قلت. ثم قال: فنزلت الآية (مجمع
البيان 6: 597.). بينما مر في خبر الكليني عن الصادق (عليه السلام) أن
النبي قال له:
" ان عادوا فعد فقد أنزل الله عذرك وأمرك أن تعود إن عادوا " مما
ظاهره أن الآية كانت قد نزلت عليه (صلى الله عليه وآله) قبل مقابلة عمار له لا
بعدها. وقد مر في خبر الطبرسي نفسه: أن الله أخبر بذلك رسوله قبل مجئ عمار الى
الرسول، فالظاهر أن نزول الآيات كان قبل المقابلة لا بعدها، وعليه فلا محل لقوله: " فنزلت الآية " كما لا محل لما
أخرجه السيوطي في (الدر المنثور) عن مصنف عبد الرزاق، وطبقات ابن سعد، وتفسير ابن جرير الطبري،
والبيهقي في (دلائل النبوة) من طريق أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر، عن أبيه
عن آبائه قال: أخذ المشركون عمار بن ياسر فلم يتركوه حتى سب النبي - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - وذكر آلهتهم بخير، ثم تركوه. فلما أتى رسول الله قال له: ما وراءك
؟ قال: شر، ما تركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير ! قال: فكيف تجد قلبك ؟ قال:
مطمئن بالايمان، قال: فان عادوا فعد، فنزلت.
وبقوله: فان عادوا فعد، لا محل لما أخرجه السيوطي فيه عن ابن عباس قال: لما أراد رسول الله - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - أن يهاجر الى المدينة قال لأصحابه... فأصبح بلال وخباب وعمار...
فأخذهم المشركون... وأما عمار فقال لهم كلمة أعجبتهم، تقية، ثم خلوا عن بلال
وخباب وعمار فلحقوا برسول الله فأخبروه بالذي كان من أمرهم... وأنزل الله: * (الا من اكره وقلبه مطمئن بالايمان) * (الدر المنثور 4: 132، 133.). وكذا لا محل لما رواه
قبله الواحدي في (أسباب النزول) عن ابن عباس قال: ان المشركين أخذوا عمارا وأباه ياسرا وامه سمية وبلالا وخبابا
وسالما. فأما سمية فانها ربطت بين بعيرين ووجئ قبلها بحربة فقتلت، وقتل زوجها
ياسر، فهما أول قتيلين في الإسلام، وأما عمار فانه أعطاهم ما أرادوا بلسانه
مكرها. فاخبر النبي بأن
عمارا كفر ! فقال: كلا، ان
عمارا ملئ ايمانا من قرنه الى قدمه، واختلط الايمان بدمه ولحمه ! فأتى عمار رسول
الله وهو يبكي، فجعل رسول الله يمسح عينيه وقال: ان عادوا لك فعد لهم بما قلت.
فأنزل الله (أسباب النزول للواحدي: 231 ط الجميلي.). وبهذا المعنى ما رواه الكشي في رجاله بسنده عن الليث بن سعد
(كاتب الواقدي) عن عمر مولى غفرة قال: حبس عمار فيمن حبس وعذب، فانفلت فيمن انفلت من الناس فقدم على
رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: أفلح أبو اليقظان ! قال: ما أفلح ولا أنجح
لنفسه، لأنهم لم يزالوا يعذبونه حتى نال منك ! قال: إن سألوا من ذاك فزدهم (رجال
الكشي: 35 ط مشهد.). بل روى فيه بسنده عن محمد المحمودي المروزي قال: ان عمار بن ياسر قتلت قريش أبويه ورسول الله يقول: صبرا آل ياسر
فان موعدكم الجنة، ما تريدون من عمار ؟ عمار مع الحق والحق مع عمار حيث كان،
عمار جلدة بين عيني وأنفي، تقتله الفئة الباغية، يدعوهم الى الجنة ويدعونه الى
النار. وألقته قريش في النار فقال
فيه رسول الله (صلى
الله عليه وآله): يا
نار كوني بردا وسلاما على عمار كما كنت بردا وسلاما على ابراهيم. فلم تصله النار
ولم يصبه منها مكروه (رجال الكشي: 30 ط مشهد. وروى مختصر الخبر ابن هشام عن ابن اسحاق 1:
342.) وهذا يدل على وجود الرسول في مكة حينذاك، فلعل ذلك كان في أيام
الموسم إذ كان يخرج فيه النبي وبنو هاشم وسيأتي أن الآيات الاولى من آخر سورة مكية هي " العنكبوت
" نزلت في عمار بن ياسر أيضا، ولعلنا
نجد في ذلك حلا للاشكال، ومحملا لهذه الأخبار التي تفيد أن عمارا عذب قبيل هجرته
بل وقد هاجر الرسول (صلى
الله عليه وآله)، وأنه
هاجر الى المدينة ولكنه لم يواجه الرسول حياء منه لما قاله من كلمة الكفر، أو
واجهه وهو يبكي من ذلك، حتى
طمأنه النبي بعدم الاثم عليه.
فان هذه الأخبار انما
تناسب تلك الفترة لا قبلها.
وأيضا نجد بالقول
بتعدد الموقف لعمار، محملا جميلا لطيفا لقول الرسول له: " إن عادوا لك فعد
لهم " بأنها كلمة قالها له في هذه المرة مشيرا له بلطف الى أن هذا الأمر
سيتكرر منهم ومنك، وأن الاشارة الى تكرار ذلك أيام هجرته. ولكن الرواة خلطوا
فجعلوا هذه الجملة مقولة له من الرسول (صلى الله عليه وآله) في المدينة بعد الهجرة حيث لا توقع بعودة مشركي قريش الى تعذيب
عمار لافتتانه عن دينه. فما معنى أن يقول له الرسول: ان عادوا فعد لهم ؟. ونجد بذلك أيضا محملا لخلط بعض
الرواة حيث رووا ما يفيد أن هذه الآية من
سورة النحل المكية نزلت بعد الهجرة في عمار، كما مر عن السيوطي في " الدر
المنثور " (الدر المنثور 4: 132، 133.) مما استلزم استثناء هذه الآيات من مكية السورة بلا موجب. |
صحيفة
المقاطعة الظالمة:
|
ومنها قوله سبحانه: * (ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي
أحسن ان ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين) * (النحل: 125.). ذكر ابن شهر آشوب في
" المناقب " عن " شرف المصطفى " للخركوشي: أن الآية: *
(ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن) * نزلت على النبي (صلى
الله عليه وآله) في
أواخر أيام الحصار في شعب أبي طالب، فقال (صلى الله عليه وآله): كيف ادعوهم وقد صالحوا على تركي الدعوة ؟ فنزل جبرئيل فأخبر النبي: أن
الله بعث على صحيفتهم الأرضة، فلحستها. فأخبر النبي أبا طالب، فدخل أبو طالب على
قريش في المسجد، فعظموه وقالوا: أردت مواصلتنا وأن تسلم ابن اخيك الينا ؟ قال:
والله ماجئت لهذا، ولكن ابن اخي أخبرني - ولم يكذبني - أن الله قد أخبره بحال
صحيفتكم، فابعثوا الى صحيفتكم، فان كان حقا فاتقوا الله وارجعوا عما أنتم عليه
من الظلم وقطيعة الرحم، وان كان باطلا دفعته اليكم. فأتوا بها وفكوا الخواتيم، فإذا فيها "
باسمك اللهم " واسم " محمد " فقط ! فقال
لهم أبو طالب: اتقوا
الله وكفوا عما أنتم عليه. فسكتوا وتفرقوا. واجتمع سبعة نفر من قريش على نقضها وقالوا: أخرقها الله، وهم: مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف، الذي أجار
النبي لما انصرف من الطائف. وزهير بن أبي امية المخزومي زوج عاتكة بنت أبي طالب (وسيأتي عن ابن اسحاق ان امه عاتكة، بنت عبد المطلب وابن اسحاق
اقرب الى الاتقان.) وهشام
ابن عمرو بن لؤي بن غالب، وأبو البختري بن هشام، وزمعة بن الأسود ابن المطلب...
وعزموا أن يقطعوا يمين كاتبها: منصور بن عكرمة، فوجدوها شلاء، فقالوا: قطعها
الله. وفي ذلك قال أبو
طالب: الأهل أتى بحرينا صنع ربنا * على نأيهم ؟ والله
بالناس أرود فيخبرهم: أن الصحيفة مزقت * وأن كل ما لم يرضه الله
يفسد يراوحها إفك وسحر مجمع
* ولم تلق سحرا
آخر الدهر يصعد (يقصد المهاجرين الى الحبشة. وذكر القصيدة ابن اسحاق في سيرة ابن هشام
1: 17 - 19، ستة وعشرين بيتا.) وله أيضا في ذلك: وقد كان من أمر الصحيفة
عبرة * متى ما يخبر
غائب القوم يعجب محا الله منها كفرهم وعقوقهم * وما نقموا من ناطق الحق
معرب و أصبح ما قالوا من الأمر باطلا * ومن يختلق ما ليس بالحق يكذب وأمسى ابن عبد الله فينا
مصدقا * على سخط من قومنا،
غير معتب وله أيضا في ذلك: تطاول ليلي بهم نصب
* ودمعي كسح السقاء السرب ولعب قصي بأحلامها
* وهل يرجع الحلم بعد اللعب ونفي قصي بني هاشم
* كنفي الطهاة لطاف الحطب (أي: كما ينفي الطباخ الخشب الجيد عن الاحتراق.) وقالوا لأحمد: أنت امرؤ
* خلوف الحديث ضعيف النسب وان كان أحمد قد جاءهم * بحق ولم يأتهم بالكذب على أن إخواننا وازروا:
* بني هاشم وبني المطلب ورمتم بأحمد مارمتم *
على الآصرات وقرب النسب فأني وماحج من راكب *
وكعبته مكة ذات الحجب تنالون أحمد ؟ أو تصطلوا *
بروس الرماح وحد القضب (مناقب آل أبي طالب 1: 65 - 67 ونقل المقطوعة والتي قبلها السيد هاشم
البحراني في حلية الأبرار 1: 62 - 64 عن المستدرك لابن بطريق عن مغازي ابن
اسحاق.) وروى قبله القطب
الراوندي في " قصص الأنبياء ": أنه لما أتى على رسول الله (صلى الله عليه وآله) في الشعب أربع سنين، بعث الله على صحيفتهم القاطعة دابة الأرض
فلحست جميع ما فيها من قطيعة رحم وظلم وجور، وتركت اسم الله، ونزل جبرئيل عليه
فأخبره بذلك (قصص الأنبياء: 329.). ثم ذكر الخبر الى أن قال: فتفرق القوم ولم يتكلم أحد منهم، وعند ذلك قال نفر من بني عبد
مناف وبني قصي ورجال من قريش ولدتهم نساء بني هاشم منهم: مطعم بن عدي -
وكان شيخا كبيرا كثير المال له أولاد - وأبو البختري بن هشام، وزهير بن امية
المخزومي في رجال من أشرافهم، قالوا: نحن براء مما في هذه الصحيفة. وقال أبو
جهل: هذا أمر قضي بليل ! ورجع أبو طالب الى الشعب وخرج منه هو والنبي ورهطه،
وخالطوا الناس (قصص الأنبياء: 330.)
والظاهر أنه نقله من
كتاب شيخه الطبرسي: " إعلام الورى " (إعلام
الورى: 51، 52.). وذكر الخبر ابن هشام في
سيرته قال: ذكر بعض أهل
العلم: أن رسول الله (صلى
الله عليه وآله) قال
لأبي طالب: يا عم، ان ربي الله قد سلط الأرضة على صحيفة قريش، فلم تدع فيها اسما
لله الا أثبتته فيها، ونفت منها الظلم والقطيعة والبهتان. فقال: أربك أخبرك بهذا
؟ قال: نعم، قال: فوالله ما يدخل عليك أحد. ثم خرج الى قريش، فقال: يا معشر
قريش، ان ابن أخي أخبرني بكذا وكذا، فهلم صحيفتكم،
فان كان كما قال ابن أخي فانتهوا عن قطيعتنا وانزلوا عما فيها، وان كان كاذبا
دفعت اليكم ابن أخي. فقال القوم: رضينا،
فتعاقدوا على ذلك ثم نظروا، فإذا هي كما قال رسول الله - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - فزادهم ذلك شرا. فعند ذلك صنع الرهط من قريش في نقض الصحيفة ما صنعوا (سيرة ابن
هشام 2: 16، 17.). ونقل الخبر السيد هاشم البحراني عن كتاب " المستدرك "
ليحيى بن الحسن ابن البطريق الحلي عن كتاب " المغازي " لابن اسحاق
قال: ثم ان الله أرسل على
صحيفة قريش - التي كتبوا فيها تظاهرهم على بني هاشم - الارضة، فلم يدع فيها اسما
لله تعالى الا اكلته وبقى فيها الظلم والقطيعة والبهتان (بعكس السابق) فأخبر الله بذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأخبر أبا طالب. فقال له أبو طالب: يابن أخي من حدثك بهذا ؟ وليس يدخل علينا أحد ولا تخرج أنت الى
أحد، ولست في نفسي من أهل الكذب. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
أخبرني ربي بهذا. فقال له عمه: ان ربك الحق
وأنا أشهد أنك صادق. ثم جمع أبو طالب رهطه،
ولم يخبرهم بما أخبره به رسول الله (صلى الله عليه وآله)، كراهية أن يفشوا ذلك الخبر فيبلغ المشركين فيحتالوا للصحيفة
الخب والمكر. وانطلق
أبو طالب برهطه حتى دخل المسجد، والمشركون من قريش في ظل الكعبة. فلما أبصروه
تباشروا به وظنوا أن الحصر والبلاء حملهم على أن يدفعوا رسول الله فيقتلوه. فلما
انتهى إليهم أبو طالب ورهطه رحبوا به وقالوا: قد آن لك أن تطيب نفسك عن قتل رجل
في قتله صلاحكم وجماعتكم وفي حياته فرقتكم وفسادكم ! فقال أبو طالب:
قد جئتكم في أمر لعله يكون فيه صلاح وجماعة، فاقبلوا ذلك منا، هلموا صحيفتكم
التي فيها تظاهركم علينا. فجاؤوا بها وهم لا يشكون أنهم سيدفعون رسول الله إليهم إذا نشروها. فلما جاؤوا بصحيفتهم قال أبو
طالب: صحيفتكم بيني وبينكم،
فان ابن أخي قد أخبرني ولم يكذبني: أن الله عزوجل قد بعث على صحيفتكم الأرضة فلم
تدع لله تعالى اسما الا اكلته وبقي فيها الظلم والقطيعة والبهتان. فان كان كاذبا
فلكم علي أن أدفعه اليكم تقتلونه، وان كان صادقا فهل ذلك ناهيكم عن تظاهركم
علينا ؟ فأخذ عليهم المواثيق
واخذوا عليه. فلما نشروها فإذا هي كما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) فاستسر أبو طالب وأصحابه وقالوا: أرأيتم أينا أولى بالحز والقطيعة والبهتان ؟ ! فقام المطعم بن عدي بن نوفل بن مناف، وهشام بن عمرو من بني عامر
بن لؤي، فقالوا: نحن
براء من هذه الصحيفة القاطعة العادية الظالمة، ولن نمالي أحدا في فساد أمرنا.
وتتابع على ذلك ناس من أشراف قريش. فخرج القوم من شعبهم وقد أصابهم الجهد الشديد
(حلية الأبرار 1: 61، 62.). وقال ابن اسحاق في
السيرة: مشى هشام بن عمرو
بن ربيعة الى زهير بن أبي امية ابن المغيرة المخزومي - وكانت امه عاتكة بنت عبد المطلب - فقال له: يا زهير، أقد رضيت أن تأكل الطعام وتلبس الثياب...
وأخوالك حيث قد علمت لا يباعون ولا يبتاع منهم ؟ ! أما إني أحلف بالله أن لو
كانوا أخوال أبي
الحكم بن هشام (أبي جهل) ثم
دعوته الى ما دعاك إليه منهم ما أجابك إليه أبدا. قال: ويحك يا هشام فما أصنع ؟ انما أنا رجل واحد،
والله أن لو كان معي رجل آخر لقمت في نقضها حتى انقضها. قال: قد وجدت رجلا، قال: فمن هو ؟ قال: أنا، قال:
ابغنا رجلا ثالثا. فذهب (هشام) الى المطعم بن عدي فقال له: يا مطعم، أقد رضيت ان يهلك بطنان من بني عبد مناف (بنو هاشم وبنو المطلب) وأنت شاهد على ذلك موافق لقريش فيه ؟ أما والله لئن أمكنتموهم من
هذه لتجدنهم إليها منكم سراعا ! قال: ويحك فما أصنع ؟ انما أنا رجل واحد. قال: قد وجدت ثانيا. قال:
من هو ؟ قال: أنا قال: ابغنا
ثالثا. قال: قد فعلت. قال:
من هو ؟ قال: زهير بن أبي امية. قال: ابغنا رابعا. فذهب (هشام) الى أبي البختري بن هشام فقال له ما قال للمطعم.
فقال: وهل من أحد يعين على
هذا ؟ قال: نعم، قال: من هو ؟ قال: زهير ابن أبي امية والمطعم بن عدي، وأنا معك.
قال: ابغنا خامسا. فذهب (هشام) الى زمعة بن الاسود بن المطلب، فكلمه وذكر له قرابتهم وحقهم. فقال له: وهل على هذا الأمر الذي تدعوني إليه من أحد ؟ قال: نعم، وسمى له
القوم. فاتعدوا ليلا بأعلى مكة في مقدم الحجون (قرب الشعب). فاجتمعوا هناك وتعاقدوا على القيام في الصحيفة حتى ينقضوها وقال زهير:
أنا أبدؤكم فاكون أول من يتكلم. فلما أصبحوا غدوا الى أنديتهم، وغدا زهير بن أبي امية، فطاف بالبيت سبعا
ثم أقبل على الناس فقال: يا
أهل مكة ! أنأكل الطعام
ونلبس الثياب وبنو هاشم هلكى لا يباعون ولا يبتاع منهم ؟ ! والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة. وكان أبو جهل في ناحية المسجد فقال: كذبت، والله لا تشق. فقال زمعة بن الأسود: أنت - والله - اكذب، ما رضينا كتابها حيث كتبت. وقال أبو البختري: صدق زمعة، لا نرضى ماكتب فيها، ولا نقر به. وقال المطعم بن عدي: صدقتما، وكذب من قال غير ذلك، نبرأ الى الله منها ومما كتب فيها. فقال أبو جهل: هذا أمر قضي بليل، تشوور فيه بغير هذا المكان. فقام
المطعم الى الصحيفة ليشقها فوجد الأرضة قد اكلتها الا " باسمك اللهم
". وكان أبو طالب حاضرا
في ناحية المسجد (سيرة ابن هشام 2: 14 - 16.). أما الآية التالية: *
(وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين) * (النحل: 126.) فقد
اشتهر أن الآية نزلت بعد مقتل حمزة سيد الشهداء في احد في الثالثة بعد الهجرة،
وبمثله قال القمي في تفسيره (تفسير القمي في آخر الجزء الأول.) ورواه
العياشي في تفسيره (تفسير العياشي 1: 275.)، عن
الصادق (عليه السلام). وعليه عد الآية بعضهم من مستثنيات السورة. ولكن نقل الطبرسي في " مجمع البيان " عن الحسن قال: نزلت الآية قبل أن يؤمر النبي بقتال المشركين، على العموم، وانما
امر بقتال من قاتله. وعن ابراهيم وابن سيرين ومجاهد: أن الآية عامة في كل ظلم
كغصب ونحوه، فانما يجازى بمثل ما عمل (مجمع
البيان 6: 605.) فان صح الخبر عن
الصادق (عليه السلام) فيمكن
حمله على تعدد النزول، أو التذكير بالآية. وعليه فلعل قوله:
* (وان عاقبتم) * أي عاقبتم مقاطعة المشركين وقطعهم لأرحامهم معكم بحصاركم في شعب
أبي طالب، فعاقبوهم بمثل ما عاملوكم به من القطيعة والهجران. ثم يقول في الآية التالية: *
(واصبر...) * عن
المقابلة بالمثل *
(ولا تحزن عليهم) * لعدم
هدايتهم واصرارهم على ضلالهم
* (ولاتك في ضيق مما يمكرون) * من مكرهم السابق بحصركم في الشعب، ومكرهم اللاحق * (ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك) * وفي الآية التالية خاتمة السورة: * (ان الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون) * ولذلك فانهم *
(يمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين) *. وعليه
فالآية تشير الى آخر أمر حصر الرسول وبني هاشم في شعب أبي طالب، وتكون سورة النحل آخر سورة نزلت قبل نهايته. وإذا قربنا أن حصار الشعب بدأ قريبا من بداية
هجرة الحبشة بعد الاذن فيها في الآية العاشرة من سورة الزمر، وهي الستون في
ترتيب النزول، وها نحن هنا قربنا أن تكون سورة النحل السبعون في النزول آخر ما
نزل في آخر أيام حصار الشعب، وقد مر أن مختار
مؤرخينا الطبرسي والراوندي وابن شهر آشوب أن مدة
الحصار كانت أربع سنين (إعلام الورى: 50 وقصص الأنبياء: 339 والمناقب 1: 65.) فمن الطريف أن لازم ذلك أن ستين سورة الى سورة الزمر نزلت في مدة
خمس سنين، ولكن في مدة أربع سنين اخرى كان فيها
الرسول في حصار الشعب معه بعض المسلمين من بني هاشم وبني عبد المطلب.
والمستضعفون من المسلمين الثمانين في هجرة الحبشة، وآخرون منهم في مكة في جوار
أو حلف أو استضعاف معزولون عن الرسول الا في أيام المواسم، لم ينزل من القرآن سوى عشر سور تقريبا. وتبقى من السور المكية ست عشرة
سورة تتناسب أن تكون قد نزلت في مدة سنة وستة أشهر مكث فيها النبي في مكة بعد وفاة أبي طالب وهجرة الطائف في قول ابن
شهر آشوب (مناقب
ابن شهر آشوب 1: 173 ط قم.) حسب كيفية النزول قبل حصار الشعب. |
وفاة
أبي طالب وخديجة:
|
روى العياشي في تفسيره عن سعيد بن المسيب عن علي بن الحسين
(عليهما السلام) قال: كانت
خديجة قد ماتت قبل الهجرة بسنة، ومات أبو طالب بعد موت خديجة بسنة. فلما فقدهما رسول الله (صلى الله عليه وآله) سئم المقام بمكة
ودخله حزن شديد، وأشفق على نفسه من كفار قريش، فشكى الى جبرئيل ذلك، فأوحى الله إليه:
يا محمد اخرج من القرية الظالم أهلها، وهاجر الى المدينة فليس لك اليوم بمكة
ناصر (تفسير العياشي 1: 257.). وروى الشيخ الصدوق بسنده
عن الصادق (عليه السلام) قال: إن
أبا طالب اظهر الكفر وأسر الايمان، فلما حضرته الوفاة أوحى الله عزوجل الى رسول
الله: اخرج منها فليس لك بها ناصر، فهاجر الى المدينة (اكمال
الدين: 172.). ولكن روى الطوسي في أماليه بسنده عن هند بن أبي هالة الاسيدي
ربيب رسول الله من خديجة قال: كان
الله عزوجل يمنع عن نبيه بعمه أبي طالب (عليه السلام)، فما كان يخلص إليه من
قومه أمر يسوؤه مدة حياته. فلما
مات أبو طالب نالت
قريش من رسول الله بغيتها وأصابته بعظيم من الأذى حتى تركته لقى فقال: لأسرع ما
وجدنا فقدك يا عم، وصلتك رحم، وجزيت خيرا يا عم. ثم ماتت خديجة بعد أبي طالب
بشهر، واجتمع بذلك على رسول الله حزنان حتى عرف ذلك فيه (أمالي
الطوسي: 259 كما في البحار 19: 57.). وقال الشيخ الطبرسي في
" إعلام الورى ":
خرج النبي ورهطه من الشعب وخالطوا الناس، ومات أبو طالب بعد ذلك بشهرين، وماتت
خديجة بعد ذلك، وورد على رسول الله (صلى الله عليه وآله) أمران عظيمان وجزع جزعا شديدا، ودخل على أبي طالب وهو يجود بنفسه
وقال: يا عم ربيت صغيرا ونصرت كبيرا وكفلت يتيما، فجزاك الله عني خير الجزاء (إعلام
الورى: 52.) ونقله تلميذه القطب الراوندي في " قصص الأنبياء " بلا اسناد عنه (قصص الأنبياء: 330.). وقال الراوندي في وفاة
أبي طالب: توفي أبو طالب عم
النبي وله (صلى الله عليه
وآله) ست وأربعون سنة وثمانية
أشهر وأربعون يوما. ثم قال: والصحيح أن أبا طالب توفي في آخر السنة العاشرة من
مبعث رسول الله (صلى
الله عليه وآله). ثم
توفيت خديجة بعد أبي طالب بثلاثة أيام، فسمى رسول الله ذلك العام: عام الحزن (قصص
الأنبياء: 317.). وتبعهما ابن شهر آشوب في أن أبا طالب توفي بعد خروجه من الشعب
بشهرين، وأضاف تعيين السنة فقال: بعد النبوة بتسع سنين وثمانية أشهر. ثم قال: فلما توفي أبو طالب
خرج النبي (صلى الله عليه
وآله) الى الطائف وأقام فيه
شهرا، ثم انصرف الى مكة ومكث بها سنة وستة أشهر في جوار المطعم بن عدي (مناقب
ابن شهر آشوب 1: 173 ط قم.) فالمجموع احدى عشرة سنة وبضعة أشهر، وهو خلاف المشهور في مدة مكث
الرسول بمكة قبل الهجرة. أما ابن اسحاق فبعد أن
ذكر الهجرة الى الحبشة وصحيفة المقاطعة وحصار الشعب وفكه، قال: ثم ان خديجة بنت خويلد وأبا طالب هلكا في عام واحد، فتتابعت على
رسول الله المصائب بهلاك خديجة - وكانت له وزير صدق على الاسلام يشكو إليها -
وبهلاك عمه أبي طالب، وكان له عضدا وحرزا في أمره ومنعة وناصرا على قومه. وذلك
قبل مهاجره الى المدينة بثلاث سنين. فلما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله من الأذى ما لم تكن
تطمع به في حياة أبي طالب - حتى
- حدثني هشام بن عروة
بن الزبير عن أبيه عن جده قال:
اعترضه سفيه من سفهاء قريش فنثر على رأسه ترابا، فدخل رسول الله بيته والتراب
على رأسه، فقامت إليه احدى بناته فجعلت تغسل عنه التراب وهي تبكي، ورسول الله
يقول لها: لا تبكي يا بنية، فان الله مانع أباك. وقال: ما نالت مني قريش شيئا
حتى مات أبو طالب (سيرة ابن هشام 2: 57، 58 ثم روى هنا خبرا عن العباس بن عبد الله بن
معبد عن بعض أهله عن ابن عباس، في اجتماع وجوه من قريش الى أبي طالب عند ثقل
حاله في مرضه الذي توفي فيه، وفي آخره نزول سورة (ص). بينما هي السورة السابعة
والثلاثون على رواية ابن عباس نفسه، ولذلك فنحن نقلنا الخبر في شأن نزول السورة
عند ذكرها. وفي سند الخبر هنا إرسال " عن بعض أهله " فلا عبرة به. ثم
من غير المعقول أن تكون قريش قد طمعت في أبي طالب مرة اخرى بعد ذلك الحصار الذي
طال أربع سنين !). والطبرسي في " اعلام الورى " نقل صدر مقال ابن اسحاق،
ثم نقل عن كتاب " المعرفة " لابن مندة قول الواقدي كذلك: أنهم خرجوا من الشعب قبل الهجرة بثلاث سنين، وفي هذه السنة توفيت
خديجة وأبو طالب وبينهما خمس وثلاثون ليلة (إعلام الورى: 53.). وابن شهر آشوب نقل قول الواقدي كذلك: أنهم خرجوا من الشعب قبل الهجرة بثلاث سنين، وفي هذه السنة توفي
أبو طالب. الا أنه قال: وتوفيت خديجة بعده بستة أشهر (مناقب ابن شهر آشوب 1: 173 ط قم.). ولم يستند الواقدي فيما ذهب إليه الى نص خبر، ولكن الظاهر أنه يستند في وفاة خديجة الى نص خبر رواه عنه تلميذه
وكاتبه ابن سعد بسنده عن حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد قال: توفيت خديجة في شهر
رمضان سنة عشر من النبوة، فخرجنا بها من منزلها حتى دفناها بالحجون، فنزل رسول الله في حفرتها. قيل: ومتى ذلك يا ابا خالد ؟ قال: بعد خروج بني هاشم من الشعب
بيسير، وقبل الهجرة بثلاث سنوات أو نحوها (كشف
الغمة 2: 139 عن معالم العترة النبوية للجنابذي عن الطبقات لابن سعد.) . ونقل سبط ابن الجوزي عن ابن سعد عن الواقدي عن علي (عليه السلام)
قال: " لما توفي أبو
طالب اخبرت رسول الله (صلى الله عليه وآله) فبكى بكاء شديدا ثم قال: اذهب فغسله وكفنه وواره، غفر الله له
ورحمه. فقال له العباس: يا رسول الله، انك لترجو له ؟ فقال: اي والله انى لأرجو
له. وجعل رسول الله (صلى الله عليه وآله) يستغفر له أياما لا يخرج من بيته " (تذكرة
الامة بخصائص الأئمة: 8.). وكذلك قال اليعقوبي: وتوفيت خديجة بنت خويلد في شهر رمضان قبل الهجرة بثلاث سنين، ولها خمس
وستون سنة. ودخل عليها رسول
الله وهي تجود بنفسها فقال: بالكره مني ما أرى، ولعل الله أن يجعل في الكره خيرا
كثيرا، إذا لقيت ضراتك
في الجنة - يا خديجة - فأقرئيهن السلام. قالت: ومن
هن يا رسول الله ؟ قال:
ان الله زوجنيك في الجنة، وزوجني مريم بنت عمران، وآسيا بنت مزاحم، وكلثوم اخت
موسى. ولما توفيت خديجة جعلت فاطمة تتعلق برسول الله وهي تبكي وتقول: أين امي ؟ أين امي ؟ فنزل جبرئيل فقال:
قل لفاطمة: ان الله تعالى بنى لامك بيتا في الجنة من قصب، لا نصب فيه ولا صخب. وتوفي أبو طالب بعد
خديجة بثلاثة أيام، وله ست
وثمانون سنة، وقيل: تسعون سنة. ولما قيل لرسول الله: ان أبا طالب قد مات ! عظم ذلك في
قلبه واشتد له جزعه، ثم دخل عليه فمسح جبينه الأيمن أربع مرات، وجبينه الأيسر
ثلاث مرات، ثم قال: يا عم ربيت صغيرا وكفلت يتيما ونصرت كبيرا، فجزاك الله عني
خيرا. ومشى بين يدي سريره وجعل يعرض له ويقول: وصلتك رحم وجزيت خيرا. وقال: اجتمعت على هذه الامة في هذه الأيام مصيبتان لا أدري بأيهما أنا أشد جزعا. يعني مصيبة خديجة وأبي طالب. وروي عنه أنه قال:
ان الله عزوجل وعدني في أربعة: في أبي وامي وعمي وأخ كان لي في الجاهلية. واجترأت قريش على رسول
الله (صلى الله عليه وآله) بعد موت أبي طالب وطمعت فيه وهموا به مرة بعد اخرى. وكان رسول الله يعرض نفسه على قبائل العرب لا يسألهم الا أن يؤوه
ويمنعوه ويقول: إنما اريد أن تمنعوني مما يراد بي من القتل حتى ابلغ رسالات ربي.
فكانوا يقولون: قوم الرجل أعلم به. ولم يقبله احد منهم (اليعقوبي
2: 28، 29.). وقال البلاذري: قالوا: مات أبو
طالب في السنة العاشرة من
المبعث وهو ابن بضع وثمانين
سنة، ودفن بمكة في الحجون (أنساب
الأشراف 2: 29.). ثم روى بسنده عن أبي صالح مولى ابن عباس قال: لما مرض أبو طالب قيل له: لو أرسلت الى ابن أخيك فأتاك بعنقود من
جنته لعله يشفيك ؟ ! فأتاه الرسول بذلك وأبو بكر عنده، فقال له أبو بكر: * (ان الله حرمهما على الكافرين) * (الأعراف: 50.)
[ فلما رجع الرسول الى
ابي طالب بجواب أبي بكر ] قال:
ليس هذا جواب ابن أخي (أنساب الأشراف 2: 34. وقريب منه ما رواه ابن حنبل في كتاب الفضائل من
مسنده بسنده عن أنس بن مالك قال: لما مرض أبو طالب مرضه الذي مات فيه أرسل الى
النبي - صلى الله عليه و [ آله ] وسلم -: ادع ربك أن يشفيني فان ربك يطيعك وابعث
الي بقطاف من قطاف الجنة. فارسل إليه النبي: وأنت يا عم ان أطعت الله عزوجل
أطاعك. الحديث: 274 ولا منافاة بين الخبرين.). وطابق الطبري في تأريخه ابن اسحاق راويا عنه لم يزد عليه شيئا
(الطبري 2: 343، 344.).
وافتقد التوفيق المسعودي بين كتابيه، فقال
في: " مروج الذهب
": وفي سنة ست
وأربعين (من مولده) كان حصار قريش للنبي وبني هاشم وبني المطلب في الشعب. وفي سنة
خمسين كان خروجه ومن تبعه من الشعب، وفي هذه السنة كانت وفاة خديجة زوجه (مروج
الذهب 2: 294.) وقال في:
" التنبيه والإشراف
": وتوفي عمه أبو
طالب وله بضع وثمانون سنة، وزوجته خديجة بنت خويلد ولها خمس وستون سنة في العاشرة من مبعثه، بينهما ثلاثة أيام، وقيل أكثر من
ذلك. وذلك بعد إبطال
الصحيفة وخروج بني هاشم وبني عبد المطلب من الحصار في الشعب بسنة وستة أشهر. وكان مدة مقامهم في الحصار ثلاث سنين وقيل: سنتين ونصفا، وقيل:
سنتين على ما في ذلك من التنازع. ثم
يقول: وفي هذه السنة سنة خمسين من مولده... (التنبيه
والاشراف: 200.) نعم، انما الخلاف بين الكتابين في مدة الحصار، فاختار في " مروج الذهب "
أنها أربع سنين آخرها الخمسون من عمر الرسول وفيها وفاة خديجة وأبي طالب، وبينما اختار في " الإشراف " أنها ثلاث سنين وبعدها
بسنة ونصف كانت وفاتهما. ونقل الشيخ الطوسي في " المصباح " عن ابن عياش أن وفاة أبي طالب كان في السادس والعشرين من شهر رجب (المصباح: 566.). |
الفصل
السابع: الهجرة الى الطائف
|
الهجرة
الى الطائف
|
النبي
(صلى الله عليه وآله) يعرض نفسه على القبائل:
|
النبي (صلى الله عليه وآله) يعرض نفسه على القبائل:
وله (صلى الله عليه وآله)
هجرات الى بعض القبائل قبل الطائف، فقد نقل المعتزلي أنه عقيب وفاة أبي طالب،
اوحي إليه (صلى الله عليه وآله):
أن اخرج منها فقد مات ناصرك. فخرج الى بني عامر بن صعصعة ومعه علي (عليه
السلام) وحده، فعرض نفسه عليهم وسألهم
النصر وتلا عليهم القرآن، فلم يجيبوه. فعادا الى مكة. وكانت مدة غيبته في هذه
الهجرة عشرة أيام، وهي أول هجرة هاجرها بنفسه
(شرح النهج 4: 128.). وروى عن المدائني عن المفضل الضبي:
أن رسول الله لما خرج عن مكة يعرض نفسه على قبائل العرب، خرج الى ربيعة، ومعه
علي (عليه السلام) وأبو بكر، فدفعوا الى مجلس من مجالس العرب. وكان أبو بكر
نسابة فتقدم فسلم، فردوا عليه السلام فقال: ممن القوم ؟ قالوا: من ربيعة، قال:
أمن هامتها أم من لهازمها (اللهازم:
اصول الحنكين كنى بها عن الوسط في مقابل الهامة اي الرأس.)
قالوا: من هامتها العظمى، فقال: من أي هامتها العظمى أنتم ؟ قالوا: من ذهل
الاكبر، قال: أفمنكم عوف الذي يقال: لا حر بوادي عوف ؟ قالوا: لا، قال: أفمنكم
بسطام ذو اللواء ومنتهى الأحياء ؟ قالوا: لا، قال: أفمنكم جساس حامي الذمار
ومانع الجار ؟ قالوا: لا، قال: أفمنكم الحوفزان قاتل الملوك وسالبها أنفسها ؟
فقالوا: لا، قال: أفمنكم المزدلف صاحب العمامة الفردة ؟ قالوا: لا، قال: أفأنتم
أخوال الملوك من كندة ؟ قالوا: لا، قال: فلستم اذن ذهلا الاكبر، أنتم ذهل
الأصغر. فقام إليه غلام قد بقل
وجهه (بقل: أنبت.) اسمه دغفل فقال: يا هذا انك قد سألتنا فأجبناك ولم نكتمك شيئا،
فممن الرجل ؟ قال: من قريش، قال: بخ بخ أهل الشرف والرياسة، فمن أي قريش أنت ؟
قال: من تيم بن مرة قال: أمكنت والله الرامي من صفاء الثغرة، أفمنكم قصي بن كلاب
الذي جمع القبائل من فهر فكان يدعى مجمعا ؟ قال: لا، قال: أفمنكم هاشم الذي هشم
لقومه الثريد " ورجال مكة مسنتون عجاف " ؟ قال: لا، قال: أفمنكم شيبة
الحمد مطعم طير السماء الذي كان في وجهه " قمر يضئ ظلام ليل داج "
قال: لا، قال: أفمن المفيضين بالناس أنت ؟ قال: لا، قال: أفمن أهل الندوة أنت ؟
قال: لا، قال: أفمن أهل الرفادة أنت ؟ قال: لا، قال: أفمن أهل الحجابة أنت ؟
قال: لا، قال: أفمن أهل السقاية ؟ قال أبو بكر: لا ثم اجتذب زمام ناقته هاربا من الغلام راجعا الى رسول
الله، فقال دغفل: "
صادف درء السيل درء يصدعه " أما والله لو ثبت لأخبرتك أنك من زمعات قريش.
فذهب قوله مثلا. وقال
علي (عليه السلام) لأبي بكر: يا
أبا بكر لقد وقعت من الأعرابي على باقعة. قال: أجل، ان لكل طامة طامة، والبلاء
موكل بالمنطق. فذهب قوله كذلك مثلا (شرح
النهج للمعتزلي 4: 126 - 127، وروى الخبر قبله الميلاني في مجمع الأمثال: 17،
18.). وهاجر (صلى
الله عليه وآله) الى
بني شيبان، فما اختلف أحد من
أهل السيرة أن عليا (عليه
السلام) وأبا بكر كانا
معه، وأنهم غابوا عن مكة ثلاثة عشر يوما، ولما لم يجدوا عند بني شيبان ما أرادوا
من النصرة عادوا الى مكة (شرح النهج للمعتزلي 4: 126 ط دار المعارف - أبو الفضل ابراهيم.). ولقد هاجر النبي (صلى الله عليه وآله) عن مكة مرارا يطوف على أحياء العرب وينتقل من أرض قوم الى غيرها،
وكان علي (عليه السلام) معه دون غيره
(شرح النهج 4: 125، 126.). |
هجرته
(صلى الله عليه وآله) الى الطائف:
|
وأما هجرته (صلى
الله عليه وآله) الى
الطائف فكان معه علي (عليه السلام)
وزيد بن حارثة، في
رواية أبي الحسن المدائني، نعم لم يروه
محمد بن اسحاق. وغاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن مكة في هذه الهجرة أربعين يوما (شرح
النهج 4: 127، 128. وفي 14: 96 نقل عن الطبري أنه أقام بالطائف عشرة أيام،
وقيل... شهرا، وذلك في شوال من سنة عشر للنبوة. ولم أجده في الطبري.). وقال ابن اسحاق: خرج رسول الله - صلى الله عليه [ وآله ] - وسلم إلى الطائف يلتمس النصر من ثقيف والمنعة بهم من قومه، ورجاء أن
يقبلوا منه ما جاءهم به من الله عزوجل. وروى عن محمد بن كعب
القرظي (القرظي منسوب الى بني قريظة بالمدينة، ولد سنة أربعين وتوفي سنة 120
يروي عن ابن عمر وابن عباس وغيرهما.) قال:
لما انتهى رسول الله -
صلى الله عليه [ وآله ] - وسلم
إلى الطائف عمد الى نفر من ثقيف هم يومئذ سادة ثقيف وأشرافهم، وهم اخوة ثلاثة:
عبد ياليل بن عمرو، ومسعود بن عمرو، وحبيب بن عمرو. فجلس إليهم رسول الله - صلى الله عليه [ وآله ] - وسلم فدعاهم الى الله وكلمهم بما جاءهم له من نصرته على الاسلام
والقيام معه على من خالفه من قومه. فقال له أحدهم: أنا أمرط (أمرط:
أنزع وأرمي به.) ثياب
الكعبة ان كان الله أرسلك ! وقال الآخر: أما
وجد الله أحدا يرسله غيرك ؟ ! وقال الثالث: والله لا اكلمك أبدا، لئن كنت رسولا من الله - كما تقول - لأنت
أعظم خطرا من أن أرد عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن اكلمك (وذكر
اليعقوبي خبر هؤلاء الاخوة الثلاثة 2: 36.). فقام
رسول الله من عندهم وقد يئس من خير ثقيف. وأغروا به سفهاءهم
وعبيدهم، فأخذوا يصيحون به ويسبونه، حتى ألجؤوه الى حائط (بستان) لعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة، وهما فيه، ورجع عنه من كان يتبعه من سفهاء ثقيف. |
لجوء
النبي (صلى الله عليه وآله) الى حائط بني مخزوم:
|
فعمد الى ظل حبلة من عنب فجلس إليه، فلما اطمأن قال:
" اللهم اليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، يا أرحم
الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي. الى من تكلني ؟ إلى بعيد يتجهمني (تجهمه: استقبله بوجه كريه.) أم الى عدو ملكته أمري ؟. ان لم يكن بك علي غضب فلا ابالي، ولكن
عافيتك هي أوسع لي. أعوذ - بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا
والآخرة - من أن تنزل بي غضبك أو يحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا
قوة الا بك ". فلما رآه ابنا ربيعة:
عتبة وشيبة، ورأيا ما لقي، تحركت له رحمهما، فدعوا غلاما لهما نصرانيا يقال له
" عداس " فقالا
له: خذ قطفا من هذا العنب فضعه في هذا الطبق ثم اذهب به الى ذلك الرجل فقل له:
يأكل منه. ففعل عداس ثم أقبل به حتى وضعه بين يدي رسول الله - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - ثم قال له: كل: فلما وضع رسول الله فيه يده قال: باسم الله ثم
أكل، فنظر عداس في وجهه ثم قال: والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد. فقال له رسول الله:
ومن أهل أي البلاد أنت يا عداس وما دينك: قال: نصراني من أهل نينوى. فقال رسول الله: من
قرية الرجل الصالح يونس بن متى ؟ فقال له عداس: وما يدريك ما يونس بن متى ؟ فقال رسول الله:
ذاك أخي، كان نبيا وأنا نبي. فاكب
عداس على رسول الله يقبل
رأسه ويديه وقدميه (وأشار اليعقوبي الى اسلام عداس 2: 36، ونقل الواقدي 1: 33 أنه بقي
معهما حتى خرج معهما الى بدر فقتل معهما: ولكنه تردد فيه ورجح القول بأنه لم
يخرج ولم يقتل معهم 1: 35.). فلما رجع عداس قال له ابنا ربيعة: ويلك يا عداس مالك تقبل رأس هذا الرجل وقدميه ؟ ! قال يا سيدي ما في الأرض
أحد خير من هذا، لقد أخبرني بأمر لا يعلمه إلا نبي ! قالا له: ويحك يا عداس لا يصرفنك عن دينك فان دينك خير من دينه !. ولما يئس رسول الله من خير
ثقيف انصرف راجعا من الطائف الى مكة (ونقل
الطبرسي خبر هجرة الطائف والاخوة الثلاثة وعداس، عن دلائل النبوة للبيهقي عن
الزهري: 53، 54.). ثم روى ابن اسحاق اخبارا
عن عرضه نفسه على القبائل في موسم العمرة أو الحج، وكأن هذه الأخبار عن فعله ذلك بعد رجوعه من الطائف، مما أدى الى
بيعة الحجاج من الأنصار له في العقبة: فحدث عن ابن شهاب الزهري
قال: ان النبي (صلى الله عليه
وآله) أتى كندة في منازلهم وفيهم سيد لهم يقال له مليح: فدعاهم الى الله وعرض
عليهم نفسه فأبوا عليه. وأتى بني عامر بن صعصعة
فدعاهم الى الله وعرض عليهم نفسه، فقال له رجل منهم: أرأيت إن نحن بايعناك على
أمرك، ثم أظهرك الله على من خالفك، أيكون لنا الأمر من بعدك ؟ فقال له رسول الله:
الأمر الى الله يضعه حيث يشاء. فقال له الرجل: أفتهدف
نحورنا للعرب دونك فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا ؟ لا حاجة لنا بأمرك. وروى أنه أتى بطنا من كلب يقال لهم بنو عبد الله، فدعاهم الى الله وعرض
عليهم نفسه... فلم يقبلوا منه ما عرض عليهم. وروى أنه
أتى بني حنيفة في منازلهم فدعاهم الى الله وعرض عليهم نفسه، فلم يكن أحد من
العرب أقبح ردا عليه منهم (سيرة ابن هشام 2: 60 - 66 باختصار.) وقال اليعقوبي: وكان رسول الله يعرض نفسه على قبائل العرب في كل موسم ويكلم شريف
كل قوم، ويقول: لا اكره أحدا منكم، إنما اريد أن تمنعوني مما يراد بي من القتل
حتى ابلغ رسالات ربي ! فلم يقبله أحد منهم. وكانوا يقولون: قوم الرجل أعلم به (اليعقوبي 2: 36. ونقله
الطبرسي عن دلائل النبوة للبيهقي عن الزهري: 53. ثم روى عن القمي خبر رجوع النبي
الى مكة معتمرا بجوار جبير بن مطعم العدوي يوما واحدا: 55. ولو كانت هجرة الطائف
في شوال شهرا تاما بل اربعين يوما، فمرجعه كان في أشهر الحج الحرم، فلا حاجة
للجوار. ولم يذكره ابن اسحاق ولا اليعقوبي، ولم يسنده الطبري وانما قال: وذكر
بعضهم 2: 347، وان أشار إليه ابن هشام 2: 20 و الواقدي 1: 110 وعن تلميذه ابن
سعد في الطبقات 1: 210، وعنهما ابن الأثير في البداية والنهاية 3: 137.). |
أول
لقاء الخزرج بالنبي في موسم العمرة:
|
روى الطبرسي في " اعلام الورى " عن القمي قال: كان بين الأوس والخزرج حرب قد بغوا فيها دهورا طويلة، وكانوا لا
يضعون السلاح لا بالليل ولا بالنهار، وكان آخر حرب بينهم يوم بغاث، وكانت للأوس
على الخزرج. وكان عبد الله بن ابي بن سلول من أشراف الخزرج، (ولكنه لما دعي
معهم) قال: هذا ظلم منكم للأوس ولا اعين على الظلم. فلم يدخل مع قومه الخزرج في
حرب بغاث ولم يعن على الأوس (فلما كانت يوم بغاث للأوس على الخزرج) رضيت به
الأوس والخزرج واجتمعت عليه على أن يملكوه عليهم لشرفه وسخائه. وأعدوا له إكليلا
(وانما بقي منه واسطة العقد) فاحتاجوا لاتمامه الى واسطة وكانوا يطلبونها. (ولكن) أسعد بن زرارة
وذكوان بن عبد القيس الخزرجيين
خرجا في موسم من مواسم العرب في عمرة رجب الى مكة، يسألون الحلف على الأوس. وكان
هذا في وقت محاصرة بني هاشم في الشعب. وكان أسعد بن زرارة صديقا لعتبة بن ربيعة
فنزل عليه، وقال له: إنه كان بيننا وبين قومنا حرب، وقد جئناكم نطلب الحلف
عليهم. فقال عتبة: بعدت
دارنا عن داركم، ولنا شغل لانتفرغ معه لشئ. قال أسعد: وما
شغلكم وأنتم في حرمكم وأمنكم ؟ قال عتبة: خرج
فينا رجل يدعي أنه رسول الله، سفه أحلامنا وسب آلهتنا وأفسد شبابنا وفرق
جماعتنا. قال أسعد: من هو
منكم ؟ قال: ابن عبد الله بن عبد المطلب، من أوسطنا شرفا وأعظمنا بيتا. وكان أسعد وذكوان وجميع الأوس والخزرج يسمعون من اليهود الذين
كانوا بينهم:
النضير وقريظة وقينقاع: أن هذا أوان نبي يخرج بمكة يكون مهاجره الى المدينة،
لنقتلكم به يا معشر العرب. فلما سمع ذلك أسعد وقع في قلبه ما كان سمعه من
اليهود. قال: فأين هو ؟ قال: جالس في الحجر، وإنهم لا يخرجون من شعبهم الا في
الموسم فلا تسمع منه ولا تكلمه فانه ساحر يسحرك بكلامه. فقال له أسعد: فكيف أصنع وأنا معتمر لابد لي من أن أطوف بالبيت ؟ فقال عتبة: ضع في اذنيك القطن. فدخل أسعد المسجد وقد حشا اذنيه من القطن فطاف
بالبيت ورسول الله جالس في الحجر مع قوم من بني هاشم، فنظر إليه نظرة فجازه،
فلما كان في الشوط الثاني قال في نفسه: ما أجد أجهل مني: أيكون مثل هذا الحديث
بمكة فلا نعرفه حتى ارجع الى قومي فاخبرهم. ثم أخذ القطن من اذنيه ورمى به وقال لرسول الله: أنعم صباحا. فرفع
رسول الله رأسه إليه وقال:
قد أبدلنا الله به ما
هو أحسن من هذا تحية أهل الجنة: السلام عليكم. فقال له: أسعد: ان عهدك بهذا لقريب، الى ما تدعو يا محمد ؟ قال: الى شهادة أن لا اله الا الله، وأني رسول الله، وأدعوكم الى * (ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين احسانا ولا تقتلوا أولادكم من
إملاق نحن نرزقكم واياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا
النفس التي حرم الله الا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون ولا تقربوا مال
اليتيم الا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف
نفسا الا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم
به لعلكم تذكرون) * (الأنعام:
151 - 152.). فلما سمع أسعد هذا قال: أشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك له، وأنك رسول الله. ثم
قال: يارسول الله بأبي أنت وامي أنا من أهل يثرب من الخزرج، وبيننا وبين اخواننا
من الأوس حبال مقطوعة، فان وصلها الله بك فلا أحد أعز منك. ومعي رجل من قومي فان
دخل في هذا الأمر رجوت أن يتمم الله لنا أمرنا فيك. والله يارسول الله لقد كنا
نسمع من اليهود خبرك، وكانوا يبشروننا بمخرجك ويخبروننا بصفتك، وأرجو أن تكون
دارنا هجرتك وعندنا مقامك، فقد أعلمنا اليهود ذلك، فالحمد لله الذي ساقني اليك.
والله ماجئت الا لنطلب الحلف على قومنا، وقد أتانا الله بأفضل مما أتيت له. ثم أقبل ذكوان فقال له أسعد: هذا رسول الله الذي كانت اليهود تبشرنا به وتخبرنا بصفته، فهلم
وأسلم. فأسلم ذكوان. ثم قالا:
يارسول الله ابعث معنا رجلا يعلمنا القرآن ويدعو الناس الى أمرك. وكان مصعب بن
عمير (عمير بن هاشم بن عبد مناف، فهو من بني هاشم ولذلك كان معهم في الشعب.) فتى
حدثا مترفا بين ابويه يكرمانه ويفضلانه على أولادهم فلما أسلم جفاه أبواه. وكان
لم يخرج من مكة (الى الحبشة) فكان مع رسول الله في الشعب حتى تغير وأصابه الجهد.
وكان قد تعلم من القرآن كثيرا. فأمره رسول الله بالخروج مع أسعد. فخرج معه الى
المدينة فكان مصعب نازلا على أسعد بن زرارة، وكان يخرج في كل يوم يطوف فيه على
مجالس الخزرج يدعوهم الى الاسلام فيجيبه الأحداث، من كل بطن الرجل والرجلان.
وفتر امر عبد الله بن ابي بن سلول فكره ما جاء به أسعد وذكوان. وقال أسعد لمصعب: إن خالي سعد بن معاذ من رؤساء الأوس، وهو رجل عاقل شريف مطاع في
بني عمرو بن عوف، فان دخل في هذا الأمر تم لنا أمرنا، فهلم فأتهم. فجاء مصعب مع أسعد الى محلة سعد بن معاذ فقعد على بئر من آبارهم، واجتمع إليه قوم من أحداثهم، فأخذ يقرأ عليهم القرآن. فبلغ ذلك سعد بن معاذ، فقال
لاسيد بن حضير: بلغني
أن أبا امامة أسعد بن زرارة قد جاء الى محلتنا مع هذا القرشي (مصعب بن عمير)
يفسد شبابنا ! فأته وانهه. فجاء اسيد بن حضير، فنظر إليه أسعد فقال لمصعب بن عمير: ان هذا الرجل شريف فان دخل في
هذا الأمر رجوت أن يتم أمرنا، فاصدق الله فيه. فلما قرب اسيد منهم قال: يا أبا أمامة ! يقول لك خالك: لاتأتنا في نادينا ولا تفسد شبابنا،
واحذر الأوس على نفسك !. فقال
مصعب: أو تجلس فنعرض عليك
أمرا فان أحببته دخلت فيه، وإن كرهته نحينا عنك ما تكرهه. فجلس، فقرأ عليه سورة
من القرآن. فقال اسيد: كيف تصنعون إذا دخلتم في هذا الأمر ؟ قال: نغتسل ونلبس
ثوبين طاهرين، ونشهد الشهادتين، ونصلي ركعتين. فرمى اسيد بنفسه مع
ثيابه في البئر، ثم خرج وعصر ثوبه ثم قال: أعرض علي. فعرض عليه شهادة أن لا اله الا الله وأن محمدا رسول
الله. فقالها، ثم صلى ركعتين ثم قال لأسعد: يا أبا أمامة، أنا أبعث اليك الآن
خالك، وأحتال عليه في أن يجيئك. فرجع اسيد الى سعد بن معاذ، فلما نظر إليه سعد قال: اقسم أن اسيدا قد رجع الينا بغير الوجه الذي ذهب به من عندنا. وأتاهم سعد بن معاذ، فقرأ عليه مصعب: * (بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل من الرحمن الرحيم...) * (فصلت: 1 - 2.)
فلما سمعها بعث الى منزله فاتي بثوبين طاهرين، واغتسل وشهد الشهادتين وصلى
ركعتين. ثم قام وأخذ بيد مصعب وحوله إليه. ثم جاء فوقف في بني عمرو بن عوف،
فصاح: يا بني عمرو بن عوف لا يبقين رجل ولا امرأة بكر ولا ذات بعل، ولا شيخ ولا
صبي الا أن يخرج، فليس هذا يوم ستر ولا حجاب. فلما اجتمعوا أخذ بيد مصعب وقال له: اظهر أمرك وادع الناس علانية ولا تهابن أحدا. ثم قال لهم أسعد:
كيف حالي عندكم ؟ قالوا: أنت سيدنا والمطاع فينا ولا نرد لك أمرا فمرنا بما شئت.
فقال: كلام رجالكم ونسائكم وصبيانكم علي حرام حتى تشهدوا أن لا اله الا الله وأن
محمدا رسول الله، والحمد لله الذي أكرمنا بذلك، وهو الذي كانت اليهود تخبرنا به.
فما بقي دار من دور عمرو بن عوف في ذلك اليوم الا وفيها مسلم أو
مسلمة. وشاع الاسلام بالمدينة وكثر، ودخل فيه أشراف البطنين (الأوس والخزرج)
وذلك لما عندهم من أخبار اليهود. وكتب مصعب بذلك الى رسول الله (صلى الله عليه وآله). فكان
رسول الله يأمر من يعذبه قومه بالخروج الى المدينة، فأخذوا يتسللون رجل فرجل
فيصيرون الى المدينة فينزلهم الأوس والخزرج عليهم ويواسونهم (إعلام
الورى: 55 - 59، ونقله تلميذه القطب الراوندي في قصص الأنبياء: 331 - 333 بلا
اسناد عنه، ولا يوجد الخبر في تفسير القمي.). السورة الثالثة والسبعون
- " الأنبياء ": وفيها قوله سبحانه: * (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون) * (الأنبياء: 98.
(3) مجمع البيان 7: 103.). قال الطبرسي في " مجمع البيان " قالوا: لما نزلت هذه الآية أتى عبد الله بن الزبعرى رسول الله (صلى الله
عليه وآله) وقال: يا محمد، ألست تزعم أن عزيرا رجل صالح ؟ وأن عيسى رجل صالح،
وأن مريم امرأة صالحة ؟ قال: بلى، قال: فان هؤلاء يعبدون من دون الله، فهم في
النار ؟ ! فأنزل الله: *
(إن الذين سبقت لهم منا الحسنى اولئك عنها مبعدون) * (مجمع
البيان7, 103.). بينما في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال: لما نزلت هذه الآية وجد منها أهل مكة وجدا شديدا، فدخل عليهم عبد
الله بن الزبعرى وكفار قريش يخوضون في هذه الآية، فقال ابن الزبعري: أمحمد تكلم
بهذه الآية ؟ قالوا: نعم، قال ابن الزبعرى: ان اعترف بها لأخصمنه ! فجمع بينهما (كذا) فقال: يا محمد، أرأيت الآية التي قرأت آنفا
أفينا وفي آلهتنا أم في الامم الماضية وآلهتهم ؟ قال: بل فيكم وفي آلهتكم وفي
الامم الماضية الا من استثنى الله. فقال ابن الزبعرى: خاصمتك والله، ألست تثني
على عيسى خيرا ؟ وقد عرفت
أن النصارى يعبدون عيسى وامه، وان طائفة من الناس يعبدون الملائكة أفليس هؤلاء
مع الآلهة في النار ؟ فقال
رسول الله: لا، فضحكت قريش
وضحك، وقالت قريش: خصمك ابن
الزبعرى ! فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): قلتم الباطل، أما قلت: الا من
استثنى الله ؟ وهو قوله: *
(ان الذين سبقت لهم منا الحسنى اولئك عنها مبعدون) * (تفسير
القمي 2: 76.). وهذه الرواية أتم واكمل، وليس فيها أن الاستثناء نزل بعد اعتراض ابن الزبعرى، بل فيها أن
الاستثناء كان من قبل وأن الرسول أشار إليه في حديثه. والخبر - كسابقه -
بظاهره لا ينسجم مع أيام حصار الشعب، الا إذا كان في أيام الموسم. السورة التاسعة والسبعون
- " المعارج ": * (سأل سائل بعذاب واقع
للكافرين ليس له دافع...) * (المعارج:
1، 2.) روى الطبرسي في " مجمع البيان " عن الحسن قال: سأل المشركون النبي فقالوا: لمن هذا العذاب الذي
تذكر يا محمد ! فجاء جوابه بأنه * (للكافرين ليس له دافع) * وعن
مجاهد قال: ان السائل هو
النضر بن الحارث بن كلدة وقال: اللهم ان كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا
حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم، فيكون المعنى: دعا داع على نفسه بعذاب
واقع، مستعجلا له، وهو واقع بهم لا محالة (مجمع
البيان 10: 529.). والظاهر أن مجاهد نقل ذلك عن شيخه ابن عباس، كما روى عنه
ذلك السيوطي في " الدر المنثور " بأسناده. ورواه عن السدي
قال: نزلت بمكة في النضر بن الحارث، وكان عذابه يوم بدر (التبيان
8: 228.) وفي بعض الروايات أن القائل هو الحارث لكنه ابن علقمة من بني عبد
الدار، وفي بعضها أنه هو أبو جهل بن هشام المخزومي. وعليه فلا محل لما رواه
الطبرسي في " مجمع البيان " عن الحاكم الحسكاني بسنده عن سفيان بن عيينة عن الصادق (عليه
السلام): أن الآية نزلت في النعمان بن الحارث الفهري حينما أنكر على رسول الله (صلى
الله عليه وآله) نصبه لعلي (عليه السلام) يوم الغدير (مجمع
البيان 10: 530.) اللهم الا أن تكون حادثة ثانية مشابهة تليت فيها الآيات
بالمناسبة. السورة الرابعة
والثمانون - " الروم ": * (الم غلبت الروم في
أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين) * (الروم: 1 - 4.). قال الشيخ الطوسي في
" التبيان ": روي:
أن سبب ذلك هو أن الروم لما غلبتها فارس فرح المشركون بذلك وقالوا: أهل فارس لا
كتاب لهم غلبوا أهل الروم وهم أهل كتاب، فنحن لا كتاب لنا نغلب محمدا الذي معه
كتاب. فأنزل الله تعالى هذه الآيات تسلية للنبي والمؤمنين بأن الروم وان غلبتها
فارس فانها ستغلب فارس في ما بعد بضع سنين. قال أبو سعيد الخدري: كان النصر يوم
بدر للفريقين: للنبي على قريش وللروم على فارس، ففرح المؤمنون بالنصرين. وقيل:
كان يوم الحديبية (التبيان 8: 461.).
ونقل الطبرسي القول الأول عن مقاتل قال: فلما كان يوم بدر غلب المسلمون كفار مكة وأخبر رسول الله: أن
الروم غلبت فارسا ففرح المؤمنون بذلك. ونقل القول الثاني عن الزهري قال: كان
ظهور فارس على الروم في تسع سنين، ثم أظهر الله الروم على فارس زمن الحديبية
ففرح المسلمون بظهور أهل الكتاب (مجمع
البيان 8: 461.). اما عن معنى " أدنى الأرض " فقد نقل عن الزجاج قال: أي في أدنى الأرض من أرض العرب. ثم عينها عن عكرمة فقال: يريد أذرعات وكسكر (مجمع البيان 8: 460.) ونقل
الطبري عن عطاء عن يحيى بن يعمر أن أذرعات وبصرى هي أدنى أرض الشام الى العرب (الطبري 2: 185.). وعن أذرعات قال الطبري
في تأريخه: مدينة أذرعات
وبصرى من كور حوران من الشام (الطبري 10: 122.) بينما قال
الحموي في " معجم البلدان ": بلد في
أطراف الشام مما يلي البلقاء وعمان (معجم
البلدان 1: 162.). وهذا هو الأدنى من أرض العرب في الحجاز دون بصرى وحوران الشام. وأما كسكر فانها
من أرض السواد أي العراق كانت في أسفل دجلة بعد المدائن قرب الواسط، ولعلها هي أو قريبة من قلعة سكر، وكانت الأدنى من أرض العرب من جهة العراق. ونقل الطبرسي في " مجمع البيان " عن مجاهد أن المقصود
من " أدنى الأرض
" هو أدنى الأرض من أرض الشام الى أرض فارس يريد الجزيرة، فهي
أقرب أرض الروم الى فارس (مجمع البيان 8: 460.) وقال الشيخ الطوسي في " التبيان ": والمراد أدنى الأرض الى جهة عدوهم (التبيان 8: 229.)
بينما قال الشيخ الطبرسي في " مجمع البيان ": كان
بيت المقدس لأهل الروم كالكعبة للمسلمين فدفعتهم فارس عنه، وهو قوله * (في أدنى الأرض) * (مجمع البيان 8: 460.). وما أسرع ما يتبادر الى الذاكرة تذكر أن القرآن قد عبر عن مسجد بيت
المقدس بالمسجد الأقصى، فليس مقبولا أن تكون الأرض أدنى والمسجد فيها المسجد
الأقصى. أما تمام الخبر عن عكرمة
فهو ما رواه الطبري في تفسيره وتأريخه بسنده عنه قال: اقتتل فارس والروم في أدنى الأرض وهي يومئذ أذرعات فهزمت الروم،
فبلغ ذلك النبي -
صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - وأصحابه وهم بمكة، فشق ذلك عليهم. وكان النبي - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - يكره أن يظهر الاميون من المجوس على أهل الكتاب من الروم، وفرح
الكفار بمكة وشمتوا، فلقوا أصحاب النبي - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - فقالوا: انكم أهل كتاب والنصارى أهل كتاب ونحن اميون، وقد ظهر
اخواننا من أهل فارس على اخوانكم من أهل الكتاب، وانكم ان قاتلتمونا لنظهرن
عليكم فأنزل الله: *
(الم غلبت الروم) *. فخرج أبو بكر الى الكفار
فقال: أفرحتم بظهور إخوانكم
على إخواننا ! فلا تفرحوا ولا يقرن الله أعينكم، فوالله ليظهرن الروم على فارس،
أخبرنا بذلك نبينا. فقام إليه ابي بن خلف الجمحي فقال: كذبت يا أبا فصيل ! فقال له أبو بكر: أنت اكذب يا عدو الله !. فقال: اناحبك (اراهنك) عشر قلائص مني وعشر قلائص منك، فان ظهرت
الروم على فارس غرمت، وإن ظهرت فارس غرمت، الى ثلاث سنين. ثم جاء أبو بكر الى النبي - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - فأخبره. فقال: ما
هكذا ذكرت، انما البضع: ما بين الثلاث الى التسع، فزايده في الخطر (أي الرهن)
وماده في الأجل. فخرج أبو بكر فلقي ابيا فقال: لعلك ندمت، قال: لا، تعال ازايدك في الخطر (الرهن) ومدني في
الأجل، فنجعلها مائة قلوص الى تسع سنين، فقبل ابي (تأريخ
الطبري 2: 184 - 145 وفي التفسير 20: 13 ط بولاق.). روى الطبري ذلك وقال: قيل: ان قول الله تعالى * (الم غلبت الروم) * نزل فيما كان بين ملك الروم هرقل وملك فارس پرويز (تأريخ
الطبري 2: 184.). وقال عنه: هو
خسرو پرويز بن هرمز. وكان جميع مدة ملك هرمز اثنتي عشرة سنة (الطبري
2: 176.) وروى عن هشام الكلبي قال: في سنة احدى عشرة من ملك هرمز، خرج عليه
الترك في ثلاثمائة الف مقاتل حتى صاروا الى هراة وبادغيس، وان ملك الروم (موريقي
قيصر (مختصر الدول لابن العبري: 90 في السنة السادسة من ملكه وملك عشرين
سنة.) صار الى الضواحي في ثمانين الف مقاتل قاصدا إليه. وان ملك الخزر
صار في جمع عظيم الى باب الأبواب (دربند) فعاث وأخرب، وإن رجلين من العرب
أحدهما: عباس الأحول، وعمرو الأزرق، نزلا في جمع عظيم من العرب بشاطئ الفرات
وشنوا الغارة على أهل السواد... فاستفظع هرمز ما ورد عليه من ذلك وشاور فيه فاجمعوا على أن يبدأ
بملك الترك (شابه) فوجه إليه رجلا من أهل الري هو بهرام چوبين في اثني عشر الف
رجل اختارهم بهرام من الكهول دون الشباب. فجرت بينهما حروب حتى قتل بهرام شابه
برمية رماه اياها، فوافاه برموذة بن شابه وكان يعدل بأبيه، فحاربه فانهزم وتحصن
في حصن فحاصره (الطبري 2: 174.) فطلب برموذة بن شابه الأمان على أن يكون ذلك من هرمز الملك، فكتب بهرام الى هرمز فأجابه وكتب له كتاب أمان، وكتب الى بهرام أن يسرحه إليه. فخرج
برموذة بن شابه من الحصن وصار الى هرمز، فأكرمه وبره واجلسه معه على السرير (اليعقوبي
1: 167.). وغنم بهرام ما كان في الحصن، وكانت كنوزا عظيمة، فحملها الى هرمز على مائتين وخمسين الف بعير، فشكر هرمز لبهرام ما كان منه وللغنائم التي صارت إليه (الطبري
2: 175.). وأخبر برموذة هرمز بما صار الى بهرام من الأموال والكنوز العظام،
وأنه قد كتم ذلك عن امناء هرمز، وأن الذي بعث به قليل من كثير. فكتب هرمز الى بهرام يأمره أن يحمل إليه ما في يده من الأموال. فغلظ ذلك على بهرام وأخبر به جنده، فذكروا هرمز أقبح ذكر، وخلعوه.
وبعث الى هرمز بسفط فيه سكاكين معوجة الرؤوس، فلما رآها هرمز علم أنه قد عصى
فقطع أطراف السكاكين وردها إليه، فعلم بهرام ما أراد، فارسل الى خاقان ملك الترك
يطلب صلحه على أن يرد عليه كل أرض حازها من بلاده، فقبل خاقان، ففعل بهرام ذلك،
ثم سار حتى صار الى الري. وكان قد بلغ هرمز
أن قوما قد حملوا ابنه پرويز على أن يثور على أبيه، وكان بهرام يعلم بذلك، فدبر
ليوقع شرا بين هرمز وبين ابنه خسرو پرويز، فضرب دراهم كثيرة كتب عليها اسم پرويز
وبعث بها الى مدينة هرمز فكثرت في أيدي الناس حتى بلغ هرمز خبرها، فأراد أن يحبس
ابنه خسرو پرويز، فلما بلغ الخبر پرويز هرب الى آذربايجان، فاجتمع إليه من بها
من رؤسائها والمرازبة أهل الثغور فبايعوه. وكان جند هرمز كارهين لولايته فكتبوا
الى ابنه پرويز، فقدم بجيش من آذربايجان، فخلعوا هرمز، وملكوا پرويز، وسملوا عين
هرمز وحبسوه. واستقام الأمر لپرويز. فقصده بهرام بجنده، فخرج پرويز إليه حتى تواقفوا
في النهروان، فكلمه پرويز وعظم عليه الأمر، فأجابه بهرام بجواب غليظ شديد،
والتحموا فانكشف عن پرويز جنده وأسلمه أصحابه، فهرب ومضى حتى صار الى "
الرها " يريد موريقي ملك الروم، فكتب صاحب " الرها " الى موريقي ملك الروم يخبره أنه أتاه لينصره. فأجابه ملك الروم فوجه إليه پرويز بثلاثة نفر من أصحابه فشرط عليهم كل ما أراد، وزوج پرويز ابنته ووجه معهم بجيش عظيم، وعليهم أخ له يقال له ثيادوس،
فابتنى پرويز بابنة ملك الروم موريق ثم سار بجيشه الى ناحية آذربايجان، وكان خاله بندي صار الى آذربايجان ليجد جندا، فلما علم بمكان
پرويز لقيه في جيش عظيم، فزحف پرويز بهم الى بهرام فحاربه محاربة شديدة وأخذت
الحرب من الفريقين، واشتدت الحرب حتى انهزم پرويز وصعد في الجبل وكاد يهلك، ثم
ثاب إليه جنده، فثابوا الى الحرب حتى انهزم بهرام چوبين فمضى منصرفا لا يلوي على
شئ متوجها الى ملك الترك. واستقام الأمر لخسرو پرويز، فكتب الى صاحب الروم بذلك، وكتب في النصارى أن يكرموا ويقدموا ويبرزوا ويخبروا بما قد جرى
بينه وبين الرومي من العصمة واللحمة والموادعة. وأهدى إليه ملك الروم ثوبين
فيهما الصلب فلبسهما (اليعقوبي 1: 167 - 169.). ويقال: إن پرويز كتب للنصارى كتابا أطلق فيه عمارة بيعهم، وأن يدخل في ملتهم من أحب الدخول فيها من
غير المجوس، واحتج في
ذلك أن أنوشيروان كان
هادن قيصر في الأتاوة التي أخذها منه على استصلاح من في بلده من أهل بلده واتخاذ
بيوت النيران هنالك، وإن قيصر (موريقي) اشترط مثل ذلك في النصارى. ولم يزل پرويز
يبر بموريقي ويلطف له (الطبري 2: 180 - 181.). كان
هذا ما في تأريخي اليعقوبي
والطبري المسلمين، أما ابن العبري المسيحي
فقد أرخ للموضوع بالسنة
الثامنة من ملك موريقي، قال:
وفي السنة الثامنة لموريقي وثب
الفرس على هرمز
فسملوا عينيه ثم قتلوه وملكوا عليهم بهرام المرزبان. وكان لهرمز ابن حدث اسمه كسرى (پرويز) فتنكر كأنه سائل وشق سلطان الفرس حتى جاء نصيبين وصار الى الرها
ومنها الى منبج، وكتب الى
موريقي كتابا نسخته: " للأب المبارك والسيد المقدم موريقي ملك الروم، من كسرى بن
هرمز ابنه، السلام. أما بعد فاني اعلم الملك: أن بهرام ومن معه من عبيد أبي،
جهلوا قدرهم ونسوا أنهم عبيد وأنا مولاهم، وكفروا نعم آبائي لديهم، فاعتدوا علي
وأرادوا قتلي: فهممت أن أفزع الى مثلك فأعتصم بفضلك وأكون خاضعا لك، لأن الخضوع
لملك مثلك وإن كان عدوا أيسر من الوقوع في أيدي العبيد المردة، ولئن يكون موتي
على أيدي الملوك أفضل وأقل عارا من أن يجري على أيدي العبيد. ففزعت اليك ثقة
بفضلك ورجاء أن تترأف على مثلي، وتمدني بجيوشك لأقوى بهم على محاربة العدو وأصير
لك ولدا سامعا ومطيعا، إن شاء الله تعالى ". فلما قرأ موريقي كتاب كسرى (پرويز) بن هرمز عزم على اجابة
مسألته... وكتب إليه كتابا نسخته: " من
موريقي عبد ايشوع المسيح، الى كسرى ملك الفرس، ولدي وأخي، السلام، أما بعد،
فقرأت كتابك وفهمت ما ذكرت فيه من أمر العبيد الذين تمردوا عليك وكونهم غمطوا
أنعم آبائك وأسلافك غمطا، وخروجهم عليك ودحضهم إياك عن ملكك، فداخلني من ذلك أمر
حركني على الترؤف بك وعليك وامدادك بما سألت. فأما ما ذكرت من أن الاستتار تحت
جناح ملك عدو، والاستظلال بكنفه آثر من الوقوع في أيدي العبيد المردة، والموت
على أيدي الملوك أفضل من الموت على أيدي العبيد. فانك اخترت أفضل الخصال، ورغبت
الينا في ذلك، فقد صدقنا قولك وقبلنا كلامك وحققنا أملك وأتممنا بغيتك وقضينا
حاجتك وحمدنا سعيك وشكرنا حسن ظنك بنا. ووجهنا اليك بما سألت من الجيوش
والأموال، وصيرتك لي ولدا وكنت لك أبا. فاقبض الأموال مباركا لك فيها، وقد
الجيوش وسر على بركة الله وعونه، ولا يعترينك الضجر والهلع، بل تشمر لعدوك ولا
تقصر فيما يجب لك إذا تطأطأت من درجتك وانحططت عن مرتبتك، فاني أرجو أن يظفرك
الله بعدوك ويكبه تحت موطئ قدميك ويرد كيده في نحره ويعيدك الى مرتبتك برجاء
الله تعالى ". وأنجده بعشرين ألفا (لا ستون الف مقاتل كما سبق عن الطبري عن الكلبي)
وسير له الأموال أربعين قنطارا ذهبا. فلما وردت الجيوش على كسرى وقبض الأموال
وقرأ الكتاب سار مع جيوش الروم نحو بهرام فلقيه بين المدائن وواسط (لا النهروان
ولا آذربايجان) فصارت الهزيمة على بهرام وقتل أصحابه كلهم، واستباح كسرى پرويز عساكر بهرام ورجع الى مملكته فجلس فيها وبايعه الناس. ثم دعا بالروم فاحسن جائزتهم
وصرفهم الى صاحبهم، وبعث
معهم الى موريقي من الألطاف والأموال أضعاف ما كان أخذ منه، ورد دارا وميا
فارقين الى الروم، وأمر
ببناء هيكلين للنصارى بالمدائن
وجعل أحدهما باسم السيدة
(مريم) والآخر باسم مار سرجيس الشهيد.
أما موريقي فبعد مصالحته للفرس قطع أرزاق جنوده، فاجتمع عظماء الروم الى مدينة هرقلة وأرادوا
تمليك أخيه فطري فهرب، وهرب موريقي الى خلقيدونية، فلحقته الروم فألفوه وعليه
خلقان في زي الفقراء والسؤال فقتلوه
في العشرين من ملكه وملكوا عليهم رجلا من بطارقتهم يقال له فوقا. فلما بلغ كسرى بن هرمز قتل موريقي، نقض العهد، وغزا دارا
فافتتحها، وافتتح أيضا آمد وحلب، ثم عطف على قنسرين ورجع الى الرها. وفي السنة الثامنة من ملك فوقا خرج عليه هرقل بن هرقل من
افريقية، وركب البحر بجيوشه
والفاه هادئا ساكنا فسبق الى القسطنطينية ودخلها وقتل فوقا وتملك هو بمكانه بعده احدى وثلاثين سنة وخمسة أشهر. وفي أول سنة من ملكه أرسل
وفدا الى ملك الفرس ليصالحه فلم يجبه الى ذلك بل غزا أنطاكية وفامية وحمص
وقيسارية وافتتحها، وفي السنة الخامسة من ملكه افتتح الفرس البيت المقدس، وبعد
ثلاث سنين افتتحوا الاسكندرية ومصر ووصلوا الى النوبة وغزوا خلقيدونية
فافتتحوها، وفي السنة الخامسة عشرة من ملكه غزا الفرس جزيرة روديسيا فافتتحوها، وأمر كسرى (پرويز)
أن يؤخذ رخام الكنائس التي في جميع المدن التي فتحها الى المدائن. ولكن في آخر هذه السنة غزا هرقل الفرس فافتتحوا مدينة كسرى وسبوا منها خلقا كثيرا وانصرفوا (مختصر
تاريخ الدول لابن العبري الملطي ت 685 ه -: 90 - 92.). ويفيد تاريخ ابن العبري أن اجتماع عظماء الروم لخلع موريقي من الملك ونصب أخيه فطري
بمكانه وفي النهاية تمليك البطريق فوقا كان بعد عشرين سنة من ملك موريقي واثنتي
عشرة سنة من ملك خسرو پرويز (مختصر تاريخ الدول لابن العبري: 90.).
بينما يحكي الطبري عن
الكلبي يقول: حتى مر على ملك
پرويز أربع عشرة سنة فخلع الروم موريقي وقتلوه وأبادوا ورثته، وملكوا عليهم رجلا
يقال له فوقا. فلما بلغ پرويز نكث الروم
عهد موريقي وقتلهم اياه، امتعض من ذلك وأنف منه، وأخذته الحفيظة له، وهرب ابن
موريقي فالتجأ الى پرويز فآواه وملكه على الروم ووجه له الى بلاد الروم ثلاثة من
قواده في جنود كثيفة (الطبري 2: 181.). ثم تسمي رواية الطبري
القواد الثلاثة على التوالي: دميران
أو رميوزان، والآخر: شاهين، والثالث: فرهان وتدعى مرتبته شهر براز. وتؤرخ لحملة القائد الأول: دميران على الشام وفلسطين وبيت المقدس خاصة بأربع وعشرين من ملك
پرويز، وهو يطابق ما في
تأريخ ابن العبري: أن
الفرس في السنة الخامسة من ملك هرقل افتتحوا البيت المقدس (مختصر
تاريخ الدول: 91.) وما في سائر التواريخ الفارسية والأجنبية: أن ذلك كان في السنة
السادسة للبعثة و 615 م (بالفارسية: تاريخ ايران قديم: 222 تأليف: پيرنيا، وعن الترجمة
الفارسية: تاريخ ايران للجنرال السير پرسي سايكس 1: 665 - 670. هذا إذا بنينا
على أن ميلاد الرسول كان في السنة الأربعين من ملك كسرى و 570 م وأن بعثته كانت
في 610 م.). وتؤرخ - رواية الطبري عن الكلبي - لحملة القائد الآخر، شاهين على أفريقيا ومنها مصر والاسكندرية
خاصة بسنة ثمان وعشرين من ملك پرويز، وهذا يقارب من تأريخ ابن العبري لذلك حيث قال: وبعد ثلاث سنين - من فتح بيت المقدس - افتتحوا
الاسكندرية ومصر ووصلوا الى بلاد النوبة (مختصر
تأريخ الدول: 91، 92.) (أي
في سنة 618 م). وتؤرخ رواية الطبري عن
الكلبي لحملة القائد الثالث:
فرهان وتدعى مرتبته شهر براز متجها الى القسطنطينية بأمرين: أولا بقتل فوقا
الملك وتملك هرقل، وهذا كان في سنة 610 م سنة البعثة، بعد ثماني سنين من قتل
موريقي وتملك فوقا وبدء الحملات 602 م. وتؤرخ لها - ثانيا - بحملة هرقل على
مملكة الفرس حتى كان قريبا من المدائن، ويؤرخ ابن العبري لذلك بالسنة الخامسة
عشرة من ملك هرقل، أي سنة 625 م، والفاصل بين التأريخين: خمس عشرة سنة، مما لا
يحتمل معه أن تكون الحملة حملة واحدة، بل حملتين هما مع حملتي القائدين السابقين
تكون الحملات في رواية الطبري عن الكلبي أربع حملات على التوالي: شهر براز فرهان
في 610 م ودميران في 615 م وشاهين في 618 م وشهر براز فرهان أيضا في 625 م. اولى
هذه الحملات في سنة 610 م أي بعد قتل موريقي واستخلاف فوقا بثمان سنين بينما
الحملات - ولا سيما الاولى - موصوفة بأنها كانت للانتقام لحمي پرويز موريقي
ولتمليك ابنه اللاجئ الى پرويز بعد ابيه، فهل كان ذلك بعد هذه المدة ؟ ! ولا تذكر التواريخ الاسلامية حملة قبل ذلك. ولكن التواريخ الفارسية والأجنبية تؤرخ لحملة في سنة 605 م حاصرت مدينة دارا فيما بين النهرين
وافتتحتها بعد عدة أشهر. وفي سنة 607 م لثلاث سنين قبل البعثة سخرت مدن ديار
بكر: آمد، وإدس، وحران، وقلاعا رومية اخرى، وعبرت الفرات في سورية واستولت على
مدينة حلب وتقدمت حتى قرب بيروت الحالية (بالفارسية:
تاريخ ايران قديم: 222 تأليف: پيرنيا، وعن الترجمة الفارسية: تاريخ ايران للسير
پرسي سايكس 1: 665 - 670.) وعن هذه الحملات قال ابن العبري: فلما بلغ كسرى بن هرمز قتل
موريقي، نقض العهد وغزا دارا فافتتحها وافتتح أيضا آمد وحلب، ثم عطف على قنسرين
ورجع الى الرها (مختصر تاريخ الدول: 91.). وهنا تأتي الحملة الاولى
التي ذكرتها رواية الطبري عن الكلبي للقائد الفارسي: فرهان والذي تدعى مرتبته: شهر براز: أمره كسرى (پرويز) فقصد
القسطنطينية وخرب بلاد الروم غضبا مما انتهكوا من موريقي وانتقاما له منهم حتى
أناخ في ضفة الخليج القريب من القسطنطينية وخيم هناك، ولم يخضع لابن موريقي من
الروم أحد ولم يمنحه الطاعة، غير أنهم قتلوا فوقا الملك، وملكوا عليهم رجلا يقال
له هرقل (الطبري 2: 182.) وكان ذلك في سنة 610 م سنة البعثة، وكان هرقل (هراكليوس) قائدا روميا
في كاراتاز (تونس حاليا) ومنها قدم الى القسطنطينية وتقلد أزمة الامور بمساعدة
الشعب (التاريخان الفارسيان السابقان.) وكان
هرقل بن فوق (كذا) بن مرقس يختلف من مدينة سلونيقية - وهو من أهلها - الى
القسطنطينية بالزاد في البحر وهم محاصرون (بحصار شهر براز) فبانت شهامته وظهرت شجاعته وأحبه أهل القسطنطينية، فخلا
بالبطارقة وذوي المراتب فاغراهم بفوقاس، وذكر لهم ما نزل بهم في أيامه وذكرهم
بسوء آثاره فيهم وغلبة الفرس على ملكهم بسوء تدبيره وقبح سياسته واقدامه على
الدماء، ودعاهم الى الفتك
به، فأجابوه الى ذلك فقتلوه. واجتمعت البطارقة وغيرهم من ذوي المراتب من الروم
وغيرهم بعد قتل فوقاس لاختيار من يصلح للملك، فوقع اختيارهم - بعد خطب طويل وتنازع كثير - على
هرقل، فملكوه. ذكر
ذلك المسعودي في " التنبيه والاشراف " ولكنه قال: كان ملكه (هرقل) لثلاث وثلاثين سنة خلت من ملك
كسرى پرويز ملك بابل، فملك خمسا وعشرين سنة - وقيل اكثر من ذلك - وفي
أول سنة من ملكه كانت هجرة رسول الله - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - (التنبيه
والإشراف: 133، 134.). بينما قال قبل ذلك في " مروج الذهب ": ثم ملك هرقل وكان قبل ذلك بطريقا في بعض الجزائر، ولسبع (أو تسع)
سنين من ملكه كانت هجرة النبي
- صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - من مكة الى المدينة. وهو الذي ضرب الدنانير والدراهم الهرقلية، وكان ملكه خمس عشرة سنة. وفي تواريخ أصحاب السير: أن رسول الله - صلى
الله عليه [ وآله ] وسلم -
هاجر وملك الروم قيصر بن موريق. وفي تواريخ ملوك الروم ممن سلف وخلف: أن ملك الروم كان في وقت ظهور الاسلام " هرقل " (مروج
الذهب 1: 361، 362 ط بيروت.).
ومن تواريخ الروم " تأريخ مختصر الدول " لغريغوريوس
الملطي المعروف بابن العبري المتوفى في سنة 685 م قال: ملك هرقل قيصر احدى وثلاثين سنة وخمسة أشهر، وفي أول سنة من ملكه
أرسل وفدا الى ملك الفرس ليصالحه فلم يجبه الى ذلك. بل غزا أنطاكية وفامية وحمص
وقيسارية وافتتحها (تاريخ مختصر الدول: 91.) . وقال المسعودي:
وسير (خسرو پرويز) شهريار مرزبان المغرب الى حرب الروم فنزل أنطاكية، فكانت له
مع الروم وپرويز أخبار ومكاتبات وحيل الى أن خرج ملك الروم الى حرب شهريار وقدم
خزائنه في البحر في الف مركب، فألقتها الريح الى ساحل انطاكية، فغنمها شهريار
وحملها الى پرويز، فسميت خزائن الريح (مروج الذهب 1: 306.). أما عن تاريخ هذه الحملة: فالذي يتفق مع تاريخ ابن العبري ولا يختلف مع المسعودي هو ما جاء
في الترجمة الفارسية لتأريخ ايران للسير پرسي سايكس أن ذلك كان في سنة 611 م أي
السنة الثانية للبعثة. وفي السنة الخامسة للبعثة
(614 م) استولى الفرس على دمشق. و في السنة السادسة للبعثة (615 م) حاصروا بيت المقدس حتى افتتحوها
ونهبوها بمعونة ستة وعشرين الف يهودي فيها. وبحثوا عن الصليب الذي كان النصارى
يعتقدون أن المسيح صلب عليه، فكان لهم أقدس شئ على وجه الأرض، حتى حصلوا عليه
فبعثوا به الى عاصمتهم تيسفون (بغداد
حاليا تقريبا) فأرسل
پرويز رسالة الى هرقل قال
فيها: " من خسرو شاهنشاه:
ملك الملوك ورب الأرض، الى هراگليوس عبده الحقير عديم الغيرة ! أنتم الذين
تقولون انكم معتمدون على ربكم المسيح ومتوكلون عليه، فلما لم يقدر أن يخلص بيت
المقدس من يدي لا تخدعوا أنفسكم بالباطل بهذه العقيدة الفارغة التي لكم بالمسيح،
فانه لم يقدر حتى على أن يخلص نفسه من مخالب اليهود، حتى صلبوه ووتدوا بدنه
وقتلوه بذلك الوضع الفضيع " (عن
الترجمة الفارسية لتأريخ ايران 1: 665 - 670 للسير پرسي سايكس وتاريخ ايران
قديم: 222 تأليف پيرنيا.). وعن هذه الحملة حكى
الطبري عن الكلبي قال: وجه
(پرويز) القائد دميران أو رميوزان الى بلاد الشام فدوخها حتى انتهى الى أرض
فلسطين، وورد مدينة بيت المقدس. وكانت خشبة الصليب قد وضعت في تابوت من ذهب
وطمرت في بستان وزرع فوقه مبقلة، فأخذ (دميران) اسقفها ومن كان فيها من القسيسين
وسائر النصارى وألح عليهم حتى دلوه على موضعها، فاحتفر عنها بيده واستخرجها وبعث
بها الى كسرى، في أربع وعشرين من ملكه (الطبري
2: 181.). وأرخها ابن العبري من جانبه قال: وفي السنة الخامسة لهرقل افتتح الفرس بيت المقدس (تأريخ
مختصر الدول: 91.). وقال السير پرسي سايكس: في السنة 616 م (أي السابعة للبعثة) وصل
القائد الايراني شهر براز الى مصر بالعبور من صحراء سيناء، واستولى على
الاسكندرية ذلك الميناء التجاري الشهير، وبلغ بحدود ايران الى حدودها على العهد
الهخامنشي (تأريخ ايران 1: 665 - 670.). ولكن ابن العبري قال: وبعد ثلاث سنين (من فتح الفرس لبيت المقدس) افتتحوا الاسكندرية
ومصر، ووصلوا الى بلاد النوبة (افريقية) وغزوا خلقيدونية فافتتحوها (تأريخ
مختصر الدول: 91، 92.) وهذا يقرب مما حكاه الطبري عن الكلبي قال: وأما القائد الآخر -
وكان يقال له شاهين وكان فادوسبان المغرب - فانه سار حتى احتوى على مصر
والاسكندرية وبلاد نوبة، وبعث الى كسرى بمفاتيح مدينة الاسكندرية في سنة ثمان
وعشرين من ملكه (الطبري 2: 182.).
وقال السير پرسي سايكس: وفي السنة 617 م (أي الثامنة للبعثة) عبر قائد ايراني آخر باسم شاهين، مدينة كاپادوكية واستولى على مدن
تركية الحالية واحدة بعد اخرى حتى وصل الى مدينة كالسدون قرب القسطنطينية. وفي
لقاء بين هراگليوس وشاهين نصحه شاهين أن يرسل رسولا للصلح الى بلاط خسرو پرويز،
وقبل ذلك هراگليوس ففعل... ولكن خسرو پرويز وهو في سكر فتوحاته أمر بحبس سفير
الروم، وهدد قائده: لماذا لم يبعث إليه بامبراطور الروم مقيدا مغلولا ! وفي السنة الثامنة للبعثة سقطت مدينة كالسدونة، ووصل الجيش الايراني الى أبواب مدينة
القسطنطينية على ساحل بحر البوسفور (التأريخان
الفارسيان السابقان.). ويبدو أن ابن العبري يشير الى هذه الحملة إذ يقول: وفي
السنة الخامسة عشرة لهرقل غزا الفرس جزيرة رودس (روديسيا) فافتتحوها، وأمر كسرى
(پرويز) أن يؤخذ رخام الكنائس التي في جميع المدن التي فتحها وتحدر الى المدائن
ولقي فيه الناس جهدا جهيدا. وفي هذه السنة غزا هرقل
الفرس فافتتح مدينة كسرى
وسبوا منها خلقا كثيرا وانصرفوا (تاريخ
مختصر الدول: 92.). وفي
رواية الطبري عن الكلبي قال: فلما رأى هرقل عظيم ما فيه بلاد الروم من تخريب جنود فارس اياها
وقتلها مقاتلتهم وسبيهم ذراريهم واستباحتهم أموالهم وانتهاكهم ما بحضرتهم...، [ فشاور عظماء الروم ف - ] - أشاروا عليه أن يغزوهم، فاستعد لذلك. وكان كسرى (پرويز) قد تقدم الى شهربراز أن يجثم مرابطا في الموضع
الذي كان فيه، وكان قد غضب على شاهين فادوسبان المغرب فأحضره لديه وعزله عن ذلك
الثغر. فاستخلف هرقل ابنا
له على مدينة قسطنطينية، وأخذ غير الطريق الذي فيه شهر براز وسار حتى أوغل في
بلاد أرمينية ونزل نصيبين بعد سنة. وكان كسرى يومئذ مقيما
بدسكرة الملك فلما بلغه خبر تساقط هرقل في جنوده الى نصيبين، وجه لمحاربته رجلا
من قواده يقال له: راهزار في اثني عشر ألف مقاتل، وأمره أن يقيم بنينوى من مدينة
الموصل على شاطئ دجلة ويمنع الروم أن يجوزوها. فنفذ راهزار لامره وعسكر حيث
أمره. فقطع هرقل دجلة في موضع آخر الى الناحية التي كان فيها جند فارس. ولما أخبرت العيون راهزار أن هرقل في سبعين الف مقاتل أيقن أنه ومن
معه من الجنود عاجزون عن مناهضة سبعين الف مقاتل، فكتب الى كسرى غير مرة دهم
هرقل إياه بمن لا طاقة له ولمن معه بهم لكثرتهم وحسن عدتهم. وفي كل ذلك كان يجيبه كسرى في كتابه أنه: ان عجز عن اولئك الروم فلن يعجز عن بذل دمه ودمائهم في طاعته.
فعبأ جنده وناهض الروم فقتل وقتل معه ستة الاف منهم وانهزم بقيتهم وهربوا على
وجوههم. وبلغ كسرى ذلك فأغار من دسكرة الملك الى المدائن وتحصن فيها، وأخذ
يستعد لقتال هرقل، وسار هرقل حتى كان قريبا من المدائن ثم انصرف الى أرض الروم (الطبري
2: 182، 183.) هكذا تذكر رواية الطبري عن الكلبي أن هرقل أخذ غير الطريق الذي
فيه شهربراز وهو مرابط للموضع الذي هو فيه، وكان شاهين فادوسبان المغرب قد عزله
كسرى پرويز عن ثغر نصيبين لموجدة كانت من كسرى عليه، فكان بباب كسرى حين سار
هرقل حتى أوغل في بلاد أرمينية ونزل نصيبين، بعد سنة من مسيره. بينما المسعودي يقول: كان جيش كسرى پرويز محاصرا للقسطنطينية، وكان صاحب جيشه ذلك
شهربراز، وفسد الأمر بينه وبين كسرى پرويز، فأتاه هرقل ومالأه على پرويز، فخرج
هرقل في مراكب كثيرة في الخليج الى بحر الخزر وسار الى طرابزندة وأبواب لازقة
(كذا) واستنجد هناك ملوك الأعاجم من اللان والخزر والسير والأبخاز وكرزان
والأرمن وغيرهم، حتى صار الى بلاد أران والبيلقان وآذربايجان والماهات من أرض
الجبل، وأتصلت جيوشه بأرض العراق فشن الغارات وقتل وسبى، فاحتال عليه پرويز
بحيلة صرفته فرجع الى القسطنطينية (التنبيه
والاشراف: 134.). وفي هذه العبارة كأن هرقل هو الذي أفسد الأمر بين شهربراز
وپرويز، ومالأه عليه، فخرج
عليه، وتغاضى عنه شهربراز فتجاوزه حتى فعل ما فعل. ولكنه عكس الأمر قبل ذلك
في " مروج الذهب " فيقول: ثم فسدت الحال بين پرويز وشهريار (كذا) ومايل شهريار ملك الروم،
فسيره شهريار نحو العراق، الى أن انتهى الى النهروان، فاحتال عليه پرويز بكتب
كتبها إليه مع بعض من كان في ذمته من أساقفة النصارى في العراق، فأفسد الحال
بينه وبين شهريار حتى رده الى القسطنطينية (مروج الذهب 1: 306.) والأول أولى من هذا الثاني البعيد جدا: أن يكون شهر براز أو شهريار هو الذي سير هرقل نحو العراق. ويترجح ما في " التنبيه والاشراف " على ما في "
مروج الذهب " إذ نسخة الثاني الموجودة والمتداولة هي نسخة سنة 332 ه. في
موارد متعددة من الكتاب، والأول ألفه سنة 345 كما في موارد متعددة من الكتاب أيضا، وهي سنة وفاة المسعودي، قد نبه في " التنبيه " على أنه حين تأليفه قد بدل كثيرا من العبارات والمعاني من نسخة
" مروج الذهب " التي ألفها سنة 332 ه وزاد
فيها كثيرا بحيث اصبحت اضعاف النسخة الاولى (التنبيه
والاشراف: 84، 85 و: 149.) ومعنى ذلك أن ما في " المروج " منسوخ بما في " التنبيه " وأن الثاني تنبيه على ما في الأول من منسوخ قد رجع عنه. ولكن الصحيح هو ما في " مروج الذهب ": أن هرقل سار نحو
العراق حتى انتهى الى النهروان ثم انصرف راجعا
الى القسطنطينية، لا
ما مر عن ابن العبري، فأحرجهم بهذا الكتاب الى الخلاف عليه وطلب الحيل لنجاة
أنفسهم منه (الطبري 2: 183.). وللطبري رواية عن عكرمة تفصل السبب في فساد الحال بين كسرى
وشهربراز وأخيه فرخان فتقول:
بلغ كسرى أن فرخان شرب خمرا وقال: لقد رأيتني جالس على سرير كسرى، فكتب الى
شهربراز: إذا أتاك كتابي فابعث الي برأس فرخان. فكتب شهربراز الى پرويز: أيها الملك، إنك لن تجد مثل فرخان، إن له نكاية وصوتا في العدو،
فلا تفعل. فكتب إليه پرويز: إن في رجال فارس خلفا منه، فعجل علي برأسه. فراجعه
شهربراز أيضا، فغضب كسرى فلم يجبه. ثم استعمل فرخان على فارس وأمره بقتل أخيه شهربراز، فلما قرأ الكتاب قدم أخاه شهربراز ليضرب عنقه، فقال له: لا تعجل
حتى اكتب وصيتي، قال: نعم، فدعا بسفط فاعطاه ثلاث صحائف وقال: كل هذا راجعت فيك
كسرى، وأنت أردت أن تقتلني بكتاب واحد. فامتنع فرخان،
واتفقا على التمرد على كسرى، فكتب
شهربراز الى قيصر ملك الروم (هرقل): ان لي اليك حاجة لا تحملها البرد ولا تبلغها الصحف، فالقني ولا
تلقني الا في خمسين روميا، فاني القاك في خمسين فارسيا. فأقبل قيصر في خمسمائة ألف رومي، وجعل يضع العيون بين يديه في الطريق مخافة أن يكون قد مكر به،
فأتاه عيونه أن شهربراز ليس معه الا خمسون رجلا. فبسط لهما والتقيا في قبة ديباج
ضربت لهما، مع كل واحد منهما سكين. ودعوا ترجمانا بينهما. فقال شهربراز لهرقل: ان الذين خربوا مدائنك أنا وأخي بكيدنا وشجاعتنا، وان كسرى حسدنا
فأراد أن أقتل أخي فأبيت، ثم أمر أخي أن يقتلني، فقد خلعناه جميعا، فنحن نقاتله
معك. قال هرقل: قد أصبتما. ثم أشار
أحدهما الى صاحبه: أن
السر بين اثنين فإذا جاوز اثنين فشا، فقتلا الترجمان بسكينهما. ثم يقول عكرمة:
فأهلك الله كسرى وجاء الخبر الى رسول الله يوم الحديبية، ففرح ومن معه (الطبري
2: 186 وفي التفسير 20: 13، 14.). بينما روى رواية اخرى عن يحيى بن يعمر: أن كسرى (پرويز) بعث شهربراز بجيش الى الشام، وبعث قيصر الروم
(هرقل) بجيش من الروم لدفع شهربراز، عليهم رجل يقال له قطمة، فالتقيا ببصرى
وأذرعات - وهي أدنى الأرض اليكم - فلقيت فارس الروم فغلبتهم فارس، ففرح بذلك
كفار قريش وكرهه المسلمون فأنزل الله * (الم غلبت الروم في أدنى الأرض) * فلم يبرح شهربراز يطؤهم ويخرب مدائنهم حتى بلغ خليج القسطنطينية،
ثم مات كسرى (پرويز) فبلغهم موته، فانهزم شهربراز وأصحابه، وعند ذلك اديلت عليهم
الروم فاتبعوهم يقتلونهم (الطبري 2: 185.). فهاتان الروايتان عن يحيى بن يعمر ومن قبل عن عكرمة، تتفقان على أن غلبة الفرس على
الروم كانت بأذرعات من أواخر أراضي الشامات الى صحراء العرب، وأن غلبة الروم على
الفرس كانت بموت كسرى وهزيمة شهربراز وأصحابه وهجوم الروم عليهم حينئذ، وأن الخبر بذلك جاء رسول الله يوم الحديبية ففرح ومن معه. وهذا يتفق مع ما
حكاه الطبري عن الكلبي أن
بعثة الرسول كانت في
العشرين من ملك كسرى
پرويز، وهجرته كانت في
الثلاث والثلاثين من
ملكه (الطبري 2: 187.) أو لمضي اثنتين وثلاثين سنة وخمسة اشهر، وكان ملكه
ثمانيا وثلاثين سنة (الطبري 2: 218 و 227 و 229.). أما القول الذي رواه الطوسي عن أبي
سعيد الخدري (التبيان 8: 228.) والطبرسي عن مقاتل (مجمع البيان 8: 461.) أنه لما كان يوم بدر وغلب المسلمون كفار مكة أخبر رسول الله أن
الروم غلبت فارسا... فان يوم بدر كان في منتصف السنة الثانية للهجرة، أي قبل موت كسرى
پرويز وهزيمة الفرس أمام الروم بخمس سنين أو خمس
سنين وستة أشهر، واذ
ذاك لم يؤرخ للروم انتصار على الفرس ولم تؤرخ على الفرس هزيمة أمام الروم بل
كانت الفتوحات تتوالى لهم على الروم. ولكن مما وقع على عهد خسرو پرويز ما ذكره الطبري قال: ومن ذلك ما كان من أمر ربيعة والجيش الذي كان أنفذه إليهم كسرى
پرويز لحربهم فالتقوا بذي قار، وذكر عن النبي - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - أنه لما بلغه ما كان من هزيمة ربيعة لجيش كسرى قال: " هذا
أول يوم انتصف العرب من العجم، وبي نصروا " (الطبري
2: 193 و 207.). وقد قال المسعودي:
وفي ملك پرويز كان حرب ذي قار، وهو اليوم الذي قال فيه النبي - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم -: " هذا أول يوم انتصفت فيه العرب من العجم، ونصرت عليهم بي
" وفي رواية أنها كانت
بعد وقعة بدر بأشهر وكانت
بين بكر بن وائل والهامرز صاحب كسرى پرويز (مروج
الذهب 1: 307 وذكر الخبر اليعقوبي 1: 214، 215.) فمن
المحتمل قويا أن يكون الانتصار الذي جاء الخبر به الى رسول الله فأخبر به أصحابه هو
انتصار العرب على الفرس دون الروم. أما وقعة أذرعات وكسكر، فلم أجد فيما بيدي من كتب التأريخ الرومي والفارسي والعربي نقلا عنهما شيئا يخصهما، والمحتمل القريب من الحملات التي مر ذكرها هي حملات ثلاث: حملة فتح أنطاكية، وحملة فتح دمشق، وحملة فتح القدس، فمن المحتمل أن تكون احدى هذه
الحملات قد طالت أذرعات في أواخر حدود الاردن نحو
الحجاز ولكنها لا تتناسب مع زمان نزول سورة الروم قبيل الهجرة بقليل، إذ الاولى كانت في 611 م أي الثانية للبعثة، والثانية كانت
في 614 م أي في الخامسة للبعثة، والثالثة كانت
في 615 م أي السادسة للبعثة. بينما القريب المحتمل أن لا تكون
الوقعة في أقل من السنة الثامنة للبعثة أي سنة 617 م وفيها كانت حملة القائد الايراني شاهين على كاپادوكية وكالسدونة ووصولهم الى أبواب مدينة
القسطنطينية على ساحل بحر البوسفور. فهذه الحملة تحتمل الانطباق على قول الشيخ
الطوسي بأن المراد أدنى الأرض من جهة عدوهم (التبيان
8: 229.) والذي نقله الطبرسي عن مجاهد بأن المقصود من "
أدنى الأرض " هو
أدنى الأرض الى أرض فارس، أقرب أرض الروم الى فارس (مجمع
البيان 8: 460 وقال: يريد الجزيرة أي الموصل.). أما ماقاله الطبرسي: كان بيت المقدس لأهل الروم كالكعبة للمسلمين، فدفعتهم فارس عنه،
وروي أنهم استردوا بيت المقدس وأن ملك الروم مشى إليه شكرا وبسطت له الرياحين
فمشى عليها (مجمع البيان 8: 460، 461.). فقد مر أن القرآن قد عبر عن المسجد في مدينة القدس بجوار بيت المقدس ب " المسجد الأقصى " ولا يسعنا التصديق بأن المسجد أقصى والأرض أدنى " في أدنى
الأرض " وليس مقبولا أن تكون الأرض أدنى والمسجد أقصى. ثم إن استرداد الروم لبيت المقدس لم ينقل تأريخيا أن يكون على عهد خسرو پرويز وهرقل معاصرا للرسول الكريم (صلى
الله عليه وآله). ومما يؤيد أن هذا الانتصار الرومي على فارس كان بعد وقعة بدر بكثير ما رواه الطبرسي في " مجمع البيان " أن أبا بكر لما أراد الهجرة تعلق به ابي بن خلف وأخذ ابنه عبد
الله بن أبي بكر وأخذ منه ابنه كفيلا، وجرح ابي في احد وعاد الى مكة فمات من تلك
الجراحة، جرحه رسول الله (صلى الله عليه وآله). وروى عن
الشعبي قال: لم تمض تلك المدة
(تسع سنين) التي عقدها أبو بكر مع ابي بن خلف حتى غلبت الروم فارسا وربطوا
خيولهم بالمدائن... فأخذ أبو بكر الخطر (الرهانة) من ورثته وجاء به الى رسول
الله (صلى الله عليه وآله) فتصدق به (مجمع
البيان 8: 461، 462 والكشاف للزمخشري 3: 214.). السورة الخامسة
والثمانون - " العنكبوت ": * (الم أحسب الناس أن
يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله
الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين) * (العنكبوت: 1، 2.). روى الطبرسي في "
مجمع البيان " عن الشعبي: أن الآية نزلت في اناس مسلمين كانوا بمكة فخرجوا الى المدينة
فاتبعهم المشركون فآذوهم، فمنهم من نجا ومنهم من قتل. وعن ابن عباس: أنه أراد ب " الناس ": الذين آمنوا بمكة: عمار بن ياسر، والوليد بن الوليد بن المغيرة
المخزومي، وعياش ابن أبي ربيعة المخزومي، وسلمة بن هشام المخزومي. وعن ابن جريج:
أن الآية نزلت في عمار بن ياسر، وكان يعذب في الله (مجمع
البيان 8: 427.). ولعل هذا هو مورد ما رواه الكشي في رجاله بسنده عن الليث بن سعد
(كاتب الواقدي) عن عمر مولى غفرة قال: حبس عمار فيمن حبس وعذب، فانفلت فيمن انفلت من الناس، فقدم على
رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: أفلح أبو
اليقظان ! قال: ما
أفلح ولا أنجح لنفسه، لأنهم لم يزالوا يعذبونه حتى نال منك ! (رجال
الكشي: 35 ط مشهد.). وما أخرجه السيوطي عن ابن عباس قال: لما أراد الرسول أن يهاجر الى المدينة قال لأصحابه... فأصبح بلال
وخباب وعمار... فأخذهم
المشركون... وأما عمار فقال
لهم كلمة أعجبتهم، تقية... ثم خلوا عنهم (الدر
المنثور 4: 132.). فهذه الأخبار تناسب هذه
الفترة وهذه المرة أي حين الهجرة، ولا ترتبط بما حدث له في المرة الاولى حين نزول سورة النحل أواخر
أيام حصار الشعب، من
تعذيب مشركي قريش له ولوالديه وقتلهما وتقيته وافلاته بها، وقول الرسول له يومئذ
" ان عادوا لك فعد لهم " مشيرا الى تكرار الأمر هذه المرة حين الهجرة،
فكان كما أشار وألمح (صلى
الله عليه وآله). وعليه فما في الخبر عن
ابن عباس: " أن أبا جهل
أسر عمارا وبقر بطن امه "
وما في آخره: "
أن النبي جعل يمسح عينيه ويقول: " إن عادوا لك فعد لهم بما قلت " خلط
ووهم، إذ كيف يقول له الرسول ذلك في المدينة بعد الهجرة حيث لا يتوقع عودة مشركي
قريش الى تعذيب عمار ؟ ! وكذلك
أيضا ما في آخر خبر الكشي عن ابن سعد كاتب الواقدي: أنه قال له: " إن سألوا من ذلك فزدهم " إذ كيف يسألونه
ذلك بعد أن قدم على رسول الله المدينة كما في الخبر. كما أن ذيل خبر السيوطي: " ثم خلوا عن بلال وخباب وعمار فلحقوا برسول الله فأخبروه بالذي كان
من أمرهم... وأنزل الله: *
(إلا من اكره وقلبه مطمئن بالايمان) * خلط لما نزل من القرآن في عمار في المرة الاولى - في سورة النحل - بما كان على عمار وصاحبيه بلال وخباب في هذه المرة الثانية حين هجرتهم الى المدينة، مما يستلزم استثناء هذه الآيات من مكية
سورة النحل بلا موجب. كما
مر ذلك عند الكلام حول الآيات من سورة النحل. ومنها قوله سبحانه: * (ووصينا الانسان بوالديه حسنا وان جاهداك لتشرك بي ما ليس لك
به علم فلا تطعهما الي مرجعكم فانبئكم بما كنتم تعملون والذين آمنوا وعملوا
الصالحات لندخلنهم في الصالحين ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا اوذي في الله
جعل فتنة الناس كعذاب الله ولئن جاء نصر من ربك ليقولن انا كنا معكم أو ليس الله
بأعلم بما في صدور العالمين وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين) * (العنكبوت:
8 - 11.). روى السيوطي في "
الدر المنثور " عن سعد بن أبي وقاص قال: قالت امي: لا آكل طعاما ولا أشرب شرابا حتى تكفر بمحمد، فامتنعت
من الطعام والشراب، فنزلت الآية: * (ووصينا الانسان بوالديه حسنا) *. وروى الطبرسي في "
مجمع البيان " عن الكلبي قال: نزلت الآية *
(ومن الناس من يقول آمنا بالله) * في عياش بن أبي ربيعة المخزومي، وذلك أنه أسلم فخاف أهل بيته
فهاجر الى المدينة قبل أن يهاجر النبي (صلى الله عليه وآله)، فحلفت امه أسماء بنت مخزمة التميمي: أن لا تأكل ولا تشرب ولا
تغسل رأسها ولا تدخل بيتا حتى يرجع إليها. فلما رأى ابناها أبو جهل بن هشام والحرث بن هشام جزعها، ركبا في طلبه
حتى أتيا المدينة، فلقياه وذكرا له القصة، فلم يزالا به حتى أخذ عليهما المواثيق
أن لا يصرفاه عن دينه، فتبعهما. فلما خرجا به من المدينة أخذاه وأوثقاه كتافا وجلداه حتى برئ من
دين محمد (صلى الله عليه
وآله) جزعا من الضرب وقال ما
لا ينبغي، فنزلت الآية (مجمع البيان 8: 429.). وعليه فالآية تتنبأ عن عودته عند حصول نصر الله لرسوله، ثم لا تستبعد الآية
أن يكون مؤمنا بباطنه فالله أعلم به، وكذلك كان، فان تمام خبر الطبرسي عن
الكلبي: أنه لما هاجر النبي (صلى
الله عليه وآله) والمؤمنون
الى المدينة هاجر عياش وحسن اسلامه وحيث كان أشد أخويه عليه الحرث لذلك كان عياش
قد حلف لئن قدر عليه خارجا من الحرم ليضربن عنقه، وأسلم الحرث وهاجر الى المدينة
وبايع النبي (صلى
الله عليه وآله) على
الاسلام، وكان عياش خارجا عن المدينة فلم يشعر باسلامه حتى لقيه يوما بظهر قبا
فضرب عنقه، ولما علم باسلامه بكى واسترجع، ونزلت فيه: * (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا الا خطأ) * (مجمع البيان 8: 429، 430.)
فأنبأت عن ايمانهما. وعليه فلعل الاشارة بالمنافقين الى السابق: سعد بن أبي وقاص
بلحاظ ما بعد النبي (صلى
الله عليه وآله). وبعدها قوله سبحانه: * (وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم
وما هم بحاملين من خطاياهم من شئ إنهم لكاذبون وليحملن أثقالهم وأثقالا مع
أثقالهم وليسئلن يوم القيامة عما كانوا يفترون) * (العنكبوت: 12، 13.). قال القمي في تفسيرها: كان الكفار يقولون للمؤمنين: كونوا معنا، فان الذي تخافون انتم
ليس بشئ، فان كان حقا فانا نتحمل ذنوبكم. فيعذبهم الله مرتين مرة بذنوبهم ومرة
بذنوب غيرهم (تفسير القمي 2: 149. وروي السيوطي في الدر المنثور بسنده عن محمد بن
الحنفية قال: كان أبو جهل وصناديد قريش إذا جاء الناس يسلمون يتلقونهم فيقولون:
انه يحرم الخمر ويحرم الزنا فارجعوا ونحن نحمل أو زاركم فنزلت الآية.). ومنها قوله سبحانه: * (يا عبادي الذين آمنوا ان أرضي واسعة فاياي فاعبدون) * (العنكبوت: 56.) روى الطبرسي في " مجمع البيان " عن مقاتل والكلبي قالا:
نزلت في المستضعفين من المؤمنين بمكة امروا بالهجرة عنها (مجمع البيان 8: 455.). ومنها قوله سبحانه: * (وكأي
من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها واياكم وهو السميع العليم) * (العنكبوت: 60.) روى
الطبرسي في " مجمع
البيان " عن
مقاتل والكلبي قالا: نزلت في جماعة كان يؤذيهم المشركون بمكة فامروا بالهجرة الى
المدينة، فقالوا: كيف نخرج إليها وليس لنا بها دار ولا عقار، ومن يطعمنا ومن
يسقينا ؟ فنزلت فيهم (مجمع البيان 8: 455.). وتختم السورة توصيتها المسلمين بالصبر والجهاد بقوله سبحانه: * (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين)
*. واختلف الخبر هنا عن ابن عباس في آخر سورة نزلت بمكة قبل الهجرة،
فبينما يروي الطبرسي في " مجمع البيان " عن الحاكم الحسكاني عن عطاء عن ابن عباس أنه ذكر في آخر السور المكية
بعد العنكبوت: سورة
المطففين (مجمع البيان 10: 613.) وكذلك الزركشي في
" البرهان " والسيوطي في " الاتقان " (الاتقان: 1: 11 عن ابن ضريس من القرن
الخامس.) وابن النديم في " الفهرست " عن محمد
بن النعمان بن بشير الأنصاري،
ولكنه قال: ويقال انها مدنية (الفهرست: 37 ط مصر.) والسيوطي في " الاتقان " نقل خبرا آخر عن ابن عباس وآخر
عن البيهقي عن عكرمة عن ابن عباس، اختلفا في ترتيب السور ولكنهما اتفقا على
اعتبار سورة المطففين من السور المدنية بخلاف الخبر السابق الذي ذكر أنها مكية (الاتقان
1: 10.) وأضاف الطبرسي في " مجمع البيان " القول بذلك عن الحسن
والضحاك (مجمع البيان 10: 685.) وأضاف عن عكرمة عن ابن عباس سببا لنزولها قال: لما قدم رسول الله (صلى الله عليه وآله) المدينة كانوا من أخبث
الناس كيلا، فأنزل الله عز وجل: * (ويل للمطففين) * فأحسنوا الكيل بعد ذلك. وروى عن السدي قال: لما قدم (صلى الله عليه
وآله) المدينة كان بها رجل يقال له أبو جهينة ومعه صاعان يكيل بأحدهما ويكتال
بالآخر، فنزلت الآيات (مجمع البيان 10: 687.) بل
في رواية أبي الجارود في " تفسير القمي " عن أبي جعفر الباقر (عليه
السلام) قال: نزلت
(سورة المطففين) على نبي الله حين قدم المدينة وهم يومئذ أسوأ الناس كيلا،
فأحسنوا الكيل (تفسير القمي 2: 410.) وهذا هو معنى ما رواه عكرمة عن ابن عباس. فهو
المختار. وعليه فان آخر ما نزل من القرآن بمكة هي سورة العنكبوت، وفيها الأمر
بالهجرة كما مر، فأمر الرسول (صلى الله عليه وآله) أصحابه بالهجرة فهاجروا
زرافات ووحدانا، ولحق هو بهم. |
الفصل
الثامن بيعة العقبة وانتشار الإسلام في المدينة
|
بيعة
العقبة:
|
بيعة العقبة: قال القمي في تفسيره: لما قدمت الأوس والخزرج مكة،
وكان اكثرهم مشركين على دينهم، وفيهم عبد الله بن ابي بن سلول (سلول: اسم جدته لأبيه.)، وفيهم ممن أسلم بشر كثير. وكان رسول الله نازلا في دار عبد
المطلب (في منى في أيام موسم الحج) ومعه علي (عليه السلام) وحمزة والعباس.
فجاءهم رسول الله وقال لهم: تمنعون جانبي حتى أتلو عليكم كتاب ربكم، وثوابكم على
الله الجنة ؟ قالوا: نعم يارسول الله فخذ لنفسك وربك ما شئت. فقال: موعدكم
العقبة في الليلة الوسطى من ليالي التشريق فاحضروا دار عبد المطلب على العقبة،
ولا تنبهوا نائما. فلما حجوا رجعوا الى منى، وجاءه منهم سبعون رجلا من الأوس والخزرج فدخلوا الدار. فلما اجتمعوا قال لهم رسول الله: تمنعون جانبي حتى أتلو عليكم
كتاب ربكم وثوابكم على الله الجنة ؟ فقال أسعد بن زرارة والبراء بن معرور وعبد الله بن حرام (أبو جابر
بن عبد الله الأنصاري، من شهداء احد.): نعم يا رسول الله، فاشترط لنفسك ولربك. فقال رسول الله: تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم، وتمنعون أهلي مما تمنعون منه
أهليكم ؟ قالوا: فما لنا على
ذلك ؟ قال: تملكون بها العرب في الدنيا، وتدين لكم العجم وتكونوا ملوكا في الجنة. فقالوا: قد رضينا. فقام العباس بن نضلة الأوسي فقال: يا معشر الأوس والخزرج، تعلمون على ماتقدمون عليه ؟ إنما تقدمون
على حرب الأحمر والأبيض وعلى حرب ملوك الدنيا، فان علمتم أنه إذا أصابتكم
المصيبة في أنفسكم خذلتموه وتركتموه فلا تغروه، فان رسول الله - وان كان قومه
خالفوه - فهو في عز ومنعة. فقال له عبد الله بن حرام وأسعد بن زرارة وأبو الهيثم ابن التيهان: مالك وللكلام ؟ ! ثم قالوا: يا رسول الله، بل دمنا بدمك وأنفسنا
بنفسك، فاشترط لربك ولنفسك ما شئت. فقال رسول الله: أخرجوا الي منكم اثني عشر نقيبا
يكفلون عليكم بذلك، كما أخذ موسى
من بني اسرائيل اثني
عشر نقيبا. فقالوا: اختر من شئت. فأشار جبرئيل (عليه السلام)
إليهم، فقال: هذا نقيب، وهذا
نقيب حتى اختار تسعة من الخزرج
وهم: أسعد بن زرارة، والبراء
بن معرور، وعبد الله بن حرام - وهو أبو جابر بن عبد الله الأنصاري - ورافع بن
مالك، وسعد بن عبادة، والمنذر بن عمرو، وعبد الله بن رواحة، وسعد بن الربيع،
وعبادة ابن الصامت. وثلاثة من الأوس وهم: أبو الهيثم بن التيهان اليمني حليف بني
عمرو بن عوف، واسيد بن حضير، وسعد بن خيثمة. فلما اجتمعوا وبايعوا رسول الله صاح بهم ابليس: يا معشر قريش والعرب، هذا محمد والصباة من الأوس والخزرج على هذه
العقبة يبايعونه على حربكم فأسمع أهل منى، فهاجت قريش وأقبلوا بالسلاح. وسمع رسول الله النداء فقال للأنصار: تفرقوا. فقالوا: يارسول الله ان أمرتنا أن نميل عليهم بأسيافنا
فعلنا. فقال رسول الله: لم اؤمر بذلك، ولم يأذن الله في محاربتهم. فقالوا: يا رسول الله فتخرج معنا. قال: انتظر أمر الله
(بالهجرة) فتفرقوا. وخرج حمزة وعلي بن أبي طالب فوقف حمزة على العقبة ومعه السيف. فجاءت قريش عن
بكرة أبيها قد أخذوا
السلاح،فلما نظروا الى حمزة قالوا له: ماهذا الذي اجتمعتم عليه ؟ قال: ما اجتمعنا، وما ها هنا أحد، ووالله لا يجوز أحد هذه العقبة
الا ضربته بسيفي ! فرجعوا. ورجع رسول الله الى مكة. (ولم يطلع المسلمون من الأوس
والخزرج المشركين منهم، وفيهم عبد الله بن ابي بن سلول، فغدت قريش إليه) وقالوا
له: قد بلغنا أن قومك بايعوا محمدا على حربنا ؟ فحلف لهم عبد الله: أنهم لم
يفعلوا ولا علم له بذلك، فصدقوه (تفسير
القمي 1: 272، 273.). ذكر ذلك القمي في
تفسيره، ونقله عنه الطبرسي في " اعلام الورى " والقطب الراوندي في
" قصص الأنبياء " ولم يتبعه تلميذه ابن شهر آشوب في " مناقب آل
أبي طالب " بل قال: كان النبي يعرض نفسه على قبائل العرب في الموسم، فلقي
رهطا من الخزرج ستة نفر، فقال: أفلا تجلسون احدثكم ؟ قالوا: بلى، فجلسوا إليه
فدعاهم الى الله وعرض عليهم الإسلام وتلا عليهم القرآن، فقال بعضهم لبعض: والله
إنه للنبي الذي كان يوعدكم به اليهود، فلا تسبقنكم إليه (فصدقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الاسلام) وقالوا له: إنا تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر مثل
ما بينهم، فعسى أن يجمع الله بينهم بك، فسنقدم عليهم وندعوهم الى أمرك (ونعرض
عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فان يجمعهم الله بك فلا رجل أعز منك، ثم
انصرفوا عن رسول الله راجعين الى بلادهم وقد آمنوا وصدقوا). فلما كان العام المقبل أتى من الأنصار الى الموسم اثنا عشر رجلا فلقوا النبي (صلى الله
عليه وآله) فبايعوه على " بيعة النساء " (اصطلح
المسلمون فيما بعد باسم بيعة النساء على البيعة التي وردت في الآية الثانية عشرة
من سورة الممتحنة، وانما يكنى بها عن بيعة لا قتال فيها في مقابل بيعة الحرب.
وسورة الممتحنة نازلة بعد صلح الحديبية، فالتسمية متأخرة.) وبعث
معهم مصعب بن عمير ابن هاشم يصلي بهم (فكان يصلي بهم ويقرئهم القرآن حتى سمي) بينهم بالمقرئ، وحتى لم تبق دار في المدينة إلا وفيها رجال ونساء
مسلمون. (وفي الموسم القادم) خرج جمع من الأنصار مع حجاج قومهم، فاجتمعوا في ليلة من ليالي التشريق في الشعب عند العقبة، ثلاثة وسبعون رجلا وامرأتان. (فقام فيهم رسول الله) فقال: ابايعكم على الإسلام ؟ فقال له بعضهم: نريد أن تعرفنا
- يا رسول الله - ما
لله علينا وما لك علينا وما لنا على الله ؟ فقال: أما ما لله عليكم: فأن تعبدوه
ولا تشركوا به شيئا، وأما ما لي عليكم: فتنصروني مثل نسائكم وأبنائكم، وأن
تصبروا على عض السيف وأن يقتل خياركم (وهذا معناه أن بيعة النساء السابقة تغيرت هنا الى بيعة القتال
والحرب.). قالوا: فإذا فعلنا ذلك فما
لنا على الله ؟ قال: أما في الدنيا
فالظهور على من عاداكم، وفي الآخرة الرضوان والجنة. فقال أبو الهيثم ابن التيهان: إن بيننا وبين الرجال حبالا، فهل عسيت إن نحن قطعناها أو قطعوها
ثم أظهرك الله أن ترجع الى قومك وتدعنا ؟ فتبسم رسول الله ثم قال: بل الدم الدم والهدم الهدم احارب من حاربتم واسالم من سالمتم. فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال: والذي بعثك بالحق لنمنعنك بما نمنع به ازرنا فبايعنا يا رسول الله
فنحن والله أهل الحروب وأهل الحلقة، ورثناها كبارا عن كبار. فقال رسول الله: أخرجوا إلي منكم اثني عشر نقيبا. فاختاروا. فقال لهم: ابايعكم كبيعة عيسى بن مريم للحواريين، كفلاء على قومكم،
على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم. فبايعوه على ذلك. فصرخ الشيطان
في العقبة: يا أهل الجباجب (الجباجب:
جمع جبجبة: الوعاء من أدم ونحوه، وتطلق على منازلهم في منى لأنها أوعية لهم.) هل لكم في محمد والصباة معه ؟ ! فانهم قد اجتمعوا على حربكم.
ففشا الخبر ونفر الناس وخرجوا في الطلب، فلم يدركوا منهم الا سعد بن عبادة
والمنذر بن عمرو، فأما المنذر فاعجز القوم هربا، وأما سعد فأدركوه فأخذوه وربطوه بحبل رحله وأدخلوه مكة يضربونه. فبلغ خبره الى جبير بن
مطعم والحارث بن حرب بن امية (أخي أبي سفيان صخر بن حرب) فأتياه وخلصاه (مناقب آل
أبي طالب 1: 181، 182. وهو مختصر خبر ابن اسحاق كما في سيرة ابن هشام 2: 70 - 93). هذا ما ذكره ابن شهر آشوب في فصل هجرته (صلى
الله عليه وآله)، وقد قال
في الفصل السابق في أحواله وتواريخه: كان حصار الشعب
أربع سنين. وقال قبله: توفي أبو طالب بعد نبوته بتسع سنين وثمانية أشهر، وذلك بعد
خروجه من الشعب بشهرين. وتوفيت خديجة بعده بستة أشهر. ولبث بعدها بمكة ثلاثة
أشهر فأمر أصحابه بالهجرة الى الحبشة (!) فخرج جماعة من أصحابه بأهاليهم، وذلك
بعد خمس من نبوته (!) وقال: فلما توفي أبو طالب
خرج الى الطائف وأقام فيه شهرا، ثم انصرف الى
مكة ومكث فيها سنة وستة أشهر في جوار مطعم
بن عدي. ثم ذكر مختصر خبر بيعة العقبة الاولى والعقبة الثانية، ولكنه أضاف
ذكر أسماءهم فقال: كانت بيعة العقبة الاولى بمنى، بايعه خمسة نفر من الخزرج وواحد من
الأوس، في خفية من قومهم " بيعة النساء " وهم: جابر بن عبد الله (لا يوجد جابر فيمن شهد العقبة بل ابوه عبد الله بن عامر بن حرام. بل
يعد جابر من أتراب الحسين (عليه
السلام).)، وقطبة بن عامر بن حرام، وعوف بن الحارث، وحارثة بن ثعلبة (ولا يوجد هذا الاسم أيضا في الستة الاولى ولا الأخيرة، بل هو جد
الأوس والخزرج، اليعقوبي 2: 30.)، ومرثد ابن الأسد، وأبو أمامة ثعلبة بن عمرو، ويقال: هو أسعد بن
زرارة. وفي السنة القابلة - وهي العقبة الثانية - أنفذوا معهم ستة اخرى بالاسلام والبيعة، وهم: أبو الهيثم بن
التيهان، وعبادة بن الصامت، وذكوان ابن عبد الله، ونافع بن مالك بن العجلان،
وعباس بن عبادة بن نضلة، ويزيد بن ثعلبة حليف له. ويقال: مسعود بن الحارث، وعويم
بن ساعدة حليف لهم. ثم أنفذ النبي (عليه السلام) معهم
ابن عمه: مصعب بن
(عمير) بن هاشم، فنزل دار أسعد بن زرارة، فاجتمعوا عليه وأسلم أكثرهم. وفي السنة القابلة كانت " بيعة الحرب " (في الكتاب: الحرث، أو الحرس، ولا ريب أن الحرس مصحف الحرث، وهو
مصحف الحرب، فهو الصحيح ولا معنى لغيره.) كانوا سبعين رجلا وامراتين من الأوس والخزرج، واختار منهم اثني
عشر نقيبا ليكونوا كفلاء قومهم: تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس، فمن الخزرج:
أسعد بن زرارة، وجابر ابن عبد الله الأنصاري (روى
الكشي في رجاله بسنده عن الباقر (عليه السلام) قال: كان عبد الله أبو جابر بن
عبد الله من السبعين ومن الاثني عشر، وجابر من السبعين وليس من الاثني عشر. رجال
الكشي: 41 ط مشهد.) والبراء بن معرور، وعبد الله بن عمرو بن حرام، وسعد بن عبادة،
والمنذر بن عمرو، وعبد الله بن رواحة، وسعد بن الربيع. ومن القواقل: عبادة بن
الصامت. ومن الأوس: أبو الهيثم بن التيهان، واسيد بن حضير، وسعد بن خيثمة (مناقب آل
أبي طالب 1: 174، 175 وهو مختصر خبر ابن اسحاق كما في سيرة ابن هشام 2: 73 - 75
و 81 - 87. ومنها ما بين الأقواس). وظاهره - كما ترى - أنه يعدد ثلاث بيعات في ثلاث سنوات متواليات، ولم يسند الخبر لا هنا ولا في فصل هجرته (صلى الله عليه وآله) ولم
يذكر سيرة ابن هشام أو ابن اسحاق عند ذكره لطرقه الى كتب العامة في مقدمة كتابه،
نعم ذكر طريقه الى مغازيه (مناقب آل أبي طالب 1: 10.) ومع
ذلك فاني لا أراه الا أنه اختصر خبره من سيرته كما في سيرة ابن هشام، مع فارق:
أن ابن اسحاق يبدأ في خبر اسلام الأنصار، فيذكر عرض الرسول نفسه على العرب
ولقاءه بالستة من الخزرج عند العقبة، وأنهم: أجابوه فيما دعاهم إليه بأن صدقوه
وقبلوا منه ما عرض عليهم من الاسلام... ثم انصرفوا عن رسول الله راجعين الى
بلادهم وقد آمنوا وصدقوا. ثم يسميهم. ولا يذكر شيئا عن البيعة ولا يسميهما " بيعة النساء " ولا " العقبة الاولى
" وابن شهر آشوب سماهما: بيعة
العقبة الاولى، وبيعة النساء. والعقبة
الاولى التي اضيف فيها
الى الستة الاولى ستة آخرون فكان الجميع اثني عشر رجلا وبعث معهم مصعب بن
عمير، يسميها: العقبة
الثانية. والعقبة الثانية التي كان الأنصار فيها: ثلاثة وسبعين رجلا وامرأتين يسميها بيعة
الحرب، وهي كذلك، ولكنه يجعلها البيعة الثالثة في السنة القابلة أي الثالثة. ولعل
منشأ الشبهة له هو أن
ابن اسحاق أو ابن هشام لا
يسمي اللقاء الأول (سيرة ابن هشام 2: 70.)، ويسمي اللقاء الثاني بالعقبة الاولى (ابن هشام
2: 73.) ويسمي اللقاء الثالث بالعقبة الثانية (ابن هشام
2: 81.) ثم يعود على شروط هذه البيعة بعنوان: شروط البيعة في العقبة
الأخيرة: قال ابن اسحاق:
وكانت بيعة الحرب (ابن هشام 2: 97.) فلعله وهم أن
البيعة الأخيرة بيعة
الحرب غير بيعة العقبة
الثانية، فهي الثالثة. وابن اسحاق يروي الخبر الأول عن اللقاء الأول للنبي بالستة من
الخزرج عن عاصم بن عمر بن
قتادة عن أشياخ قومه (سيرة ابن هشام 2: 70.) وخبر العقبة الاولى
عن عبادة بن الصامت بثلاث وسائط (ابن هشام 2: 75.)،
وبطريق آخر عنه بواسطتين (ابن هشام 2: 76.) وخبر
العقبة الثانية عن
كعب بن مالك الخزرجي بواسطة ابنه معبد عن أخيه عبد الله عن أبيه كعب (ابن هشام
2: 81.) وخبر أسر سعد بن عبادة عن عبد الله بن أبي بكر عنه (ابن هشام
2: 92.). ويوهم قوله: كانت
البيعة الاولى على بيعة النساء، وذلك أن الله لم يكن قد أذن لرسوله - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - في الحرب، فلما أذن الله له فيها وبايعهم رسول الله (ابن هشام
2: 97.) وقوله: وكان رسول الله قبل بيعة العقبة لم يؤذن له في الحرب ولم
تحلل له الدماء... فلما عتت قريش على الله عزوجل... أذن الله عزوجل لرسوله في
القتل والانتصار ممن ظلمهم وبغى عليهم... بلغني عن عروة بن الزبير وغيره من
العلماء: أن أول آية انزلت في اذنه له في الحرب وإحلاله له الدماء والقتال لمن
بغى عليهم قول الله تبارك وتعالى: * (اذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير) * (الحج: 39.)... فلما أذن الله تعالى له في الحرب وبايعه هذا الحي من الأنصار (ابن هشام
2: 110 - 111.) يوهم قوله هذا:
أن الاذن له بالحرب صدر بهذه الآية قبل بيعة الحرب في العقبة الثانية قبل الهجرة، ولذلك بايعهم النبي بيعة الحرب. ويرده ما رواه ابن اسحاق عن معبد
بن كعب عن اخيه عبد الله بن كعب عن أبيه كعب بن مالك: أن العباس بن عبادة بن
نضلة قال له: إن شئت لنميلن على
أهل منى غدا بأسيافنا ؟ ! فقال
رسول الله: لم نؤمر بذلك، ولكن ارجعوا الى رحالكم (سيرة ابن
هشام 2: 90.). والآية من سورة الحج، وهي بعد المائة في ترتيب النزول، أي النازلة بعد عشرين سورة نزلت بعد الهجرة، تقريبا، مما لا يناسب معه نزولها حتى قبل وقعة بدر في منتصف السنة
الثانية للهجرة، بل يناسب نزولها بعد ذلك تحكي علة الاذن في ذلك، فضلا عن أن
تكون قد نزلت قبل بيعة
الحرب في العقبة الثانية قبل
الهجرة، مما يوهمه ظاهر
مقال ابن اسحاق، ولكن الحديث اختلط بعضه ببعض في غير
وضوح. نعم كان يفهم من بيعة الحرب أن ذلك
سيكون، وكانت لابن اسحاق رواية عن عروة ابن
الزبير وغيره عن أول آية انزلت في الاذن في الحرب والقتال، فانتقل الى نقل الرواية جملة معترضة، ومثله كثير في الكتب
القديمة. |
انتشار
الاسلام في المدينة:
|
مر في تعبير القمي في تفسيره: أن رسول الله (صلى
الله عليه وآله) بعث
الى المدينة مع
الاثني عشر نقيبا في
بيعة العقبة الاولى: مصعب بن عمير بن هاشم يصلي بهم. فكان يصلي بهم ويقرئهم القرآن حتى
سمي بينهم بالمقرئ، وحتى لم تبق دار في المدينة الا وفيها رجال ونساء مسلمون. ومر في تعبير ابن شهر آشوب في " المناقب ": ثم أنفذ النبي (عليه السلام) معهم (ابن عمه) مصعب بن عمير بن
هاشم، فنزل دار أسعد بن زرارة، فاجتمعوا عليه وأسلم اكثرهم. أما لماذا نزل دار
أسعد بن زرارة ؟ فقد مر في أخبار حصار قريش
لبني هاشم في شعب أبي طالب
(رضي الله عنه) عن
الطبرسي في " إعلام الورى " عن علي بن ابراهيم القمي قال: كان بين الأوس والخزرج حرب قد بغوا فيها دهورا طويلة، وكانوا لا
يضعون السلاح لا بالليل ولا بالنهار، وكان آخر حرب بينهم " يوم بعاث "
وكانت للأوس على الخزرج. وكان عبد الله بن ابي بن سلول شريفا في الخزرج، ولكنه لم يدخل مع
قومه الخزرج في حرب بعاث ولم يعنهم على الأوس وقال: هذا ظلم منكم للأوس ولا اعين على الظلم. فرضيت به الأوس
والخزرج واجتمعوا على أن يملكوه عليهم لشرفه وسخائه، وحتى أنهم اتخذوا له اكليلا
احتاجوا في تمامه الى واسطة كانوا يطلبونها... وكان أسعد بن زرارة (الخزرجي من بني النجار أخوال الرسول) صديقا لعتبة بن ربيعة المخزومي، فخرج هو وذكوان الى مكة في عمرة
رجب يسألون الحلف على الأوس، فلما نزل على عتبة قال له: انه
كان بيننا وبين قومنا حرب، وقد جئناكم نطلب الحلف عليهم. فقال عتبة: بعدت دارنا عن داركم، ولنا شغل لا نتفرغ معه لشئ ! قال أسعد: وما
شغلكم وأنتم في حرمكم وأمنكم ؟ قال له عتبة: خرج
فينا رجل يدعي أنه رسول الله، سفه أحلامنا وسب آلهتنا وأفسد شبابنا وفرق
جماعتنا. فقال له أسعد: من هو
منكم ؟ قال: ابن عبد الله بن عبد المطلب، من أوسطنا شرفا وأعظمنا بيتا. وكان أسعد وذكوان وجميع الأوس والخزرج يسمعون من اليهود الذين كانوا بينهم: النضير وقريظة وقينقاع: أن
هذا أوان نبي يخرج بمكة يكون مهاجره الى المدينة، لنقتلنكم به يا معشر العرب !
فلما سمع ذلك الكلام من عتبة وقع في قلبه ما كان سمعه من اليهود فقال: أين هو ؟
قال: جالس في الحجر، وإنهم لا يخرجون من شعبهم الا في الموسم، فلا تسمع منه ولا
تكلمه فانه ساحر يسحرك بكلامه. فقال له أسعد: فكيف
أصنع وأنا معتمر لابد لي أن أطوف بالبيت ؟ فقال: ضع في اذنيك القطن. فدخل أسعد المسجد وقد حشا اذنيه من القطن. فطاف بالبيت ورسول الله (صلى الله عليه وآله) جالس في الحجر مع
قوم من بني هاشم، فنظر
إليه نظرة فجازه، فلما
كان في الشوط الثاني قال في
نفسه: ما أجد أجهل مني ! أيكون مثل هذا الحديث بمكة فلا نعرفه حتى أرجع الى قومي فاخبرهم ؟ ! ثم أخرج القطن من اذنيه ورمى به وقال لرسول الله:
أنعم صباحا ! فرفع
رسول الله رأسه إليه وقال:
قد أبدلنا الله به ما هو أحسن من هذا، تحية أهل الجنة:
السلام عليكم. فقال له
أسعد: ان عهدك بهذا لقريب. الى ما تدعو يا محمد ؟ قال: الى شهادة أن لا اله الا الله وأني رسول الله، وأدعوكم الى: * (ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين احسانا ولا تقتلوا أولادكم من
املاق نحن نرزقكم واياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا
النفس التي حرم الله الا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون ولا تقربوا مال
اليتيم الا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف
نفسا الا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم
به لعلكم تذكرون) * (الأنعام:
151، 152). فلما سمع أسعد هذا قال: أشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك له، وأنك رسول الله. يا رسول الله، بأبي
أنت وامي، أنا من أهل يثرب من الخزرج وبيننا وبين اخواننا من الأوس حبال مقطوعة،
فان وصلها الله بك فلا أجد أعز منك، ومعي رجل من قومي فان دخل في هذا الأمر رجوت
أن يتمم الله لنا أمرنا فيك. والله يارسول الله لقد كنا نسمع من اليهود خبرك، وكانوا يبشروننا بمخرجك، ويخبروننا بصفتك، وأرجو أن تكون دارنا دار هجرتك وعندنا مقامك، فقد أعلمنا اليهود ذلك، فالحمد لله الذي ساقني اليك. والله ما جئت الا لنطلب الحلف على
قومنا، وقد آتانا الله بأفضل مما أتيت له. ثم أقبل ذكوان.
فقال له أسعد: هذا رسول الله الذي كانت اليهود تبشرنا به وتخبرنا بصفته، فهلم وأسلم. فأسلم
ذكوان. ثم قالا: يا رسول الله، ابعث معنا رجلا يعلمنا القرآن ويدعو الناس الى
أمرك. وكان مصعب بن عمير بن
هاشم فتى حدثا مترفا بين أبويه يكرمانه ويفضلانه على أولادهم، فلما أسلم جفاه
أبواه، ولم يخرج من مكة فكان
مع رسول الله في الشعب حتى تغير وأصابه الجهد، وقد كان تعلم من القرآن كثيرا. فأمره رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالخروج
مع أسعد فخرج هو مع أسعد الى المدينة، فكان نازلا على
أسعد بن زرارة، يخرج
معه في كل يوم يطوف على مجالس الخزرج يدعوهم الى الاسلام فيجيبه من كل بطن الرجل
والرجلان من الأحداث. فقال أسعد لمصعب: ان خالي سعد بن معاذ من رؤساء الأوس،
وهو رجل عاقل شريف مطاع في بني عمرو بن عوف، فان دخل في هذا الأمر تم لنا أمرنا،
فهلم نأتي محلتهم. فجاء مصعب مع أسعد الى محلة سعد بن معاذ. فبلغ
ذلك سعد بن معاذ فقال
لاسيد بن حضير وكان من أشرافهم:
بلغني إن أبا أمامة أسعد بن زرارة قد جاء الى محلتنا مع هذا القرشي يفسد شبابنا، فاته وانهه عن ذلك. فجاء اسيد بن حضير فنظر إليه أسعد فقال
لمصعب بن عمير: ان
هذا الرجل شريف، فان دخل في هذا الأمر رجوت أن يتم أمرنا فاصدق الله فيه. فلما قرب اسيد منهم قال: يا أبا أمامة، يقول
لك خالك: لا تأتنا في
نادينا ولا تفسد شبابنا واحذر الأوس على نفسك ! فقال مصعب: أو
تجلس فنعرض عليك أمرا فان أحببته دخلت فيه وإن كرهته نحينا عنك ما تكرهه. فجلس، فقرأ
عليه سورة من القرآن. فقال: كيف تصنعون إذا دخلتم في هذا الأمر ؟ قال: نغتسل ونلبس ثوبين طاهرين ونشهد الشهادتين ونصلي ركعتين. فرمى بنفسه مع ثيابه في البئر ثم خرج وعصر ثوبه ثم قال: اعرض علي. فعرض
عليه: شهادة أن لا اله الا
الله وأن محمدا رسول الله. فقالها،
ثم صلى ركعتين، ثم
قال لأسعد: يا أبا أمامة، أنا
أبعث اليك الآن خالك واحتال عليه في أن يجيئك ! فرجع اسيد الى سعد بن معاذ، فلما نظر إليه سعد قال: اقسم أن اسيدا قد رجع الينا بغير الوجه
الذي ذهب به من عندنا ! (إعلام الورى: 55 - 58 وليس في التفسير.). فلما وقف على النادي قال له سعد: ما فعلت ؟ قال: كلمت الرجلين فوالله ما رأيت بهما بأسا، وقد
نهيتهما فقالا: نفعل ما أحببت، وقد حدثت أن بني حارثة قد خرجوا الى أسعد بن زرارة ليقتلوه ! -
وذلك أنهم قد عرفوا أنه ابن خالتك - ليخفروك ! فقام سعد مغضبا مبادرا تخوفا للذي ذكر له من بني حارثة،
فأخذ الحربة من يد اسيد ثم قال: والله ما أراك أغنيت شيئا ! ثم خرج اليهما. فلما رآه أسعد قال لمصعب: أي مصعب، جاءك - والله - سيد من وراءه من قومه ان يتبعك لا يتخلف
عنك منهم اثنان ! ولما
رآهما سعد مطمئنين عرف أن اسيدا انما أراد منه أن يسمع منهما، فوقف عليهما متشمتا وقال لأسعد: يا
أبا أمامة، أما والله لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت هذا مني !
أتغشانا في ديارنا بما نكره ؟ ! فقال له مصعب: أو
تقعد فتسمع، فان رضيت أمرا ورغبت فيه قبلته، وان كرهت عزلنا عنك ما تكره ؟ قال سعد: أنصفت. ثم
ركز الحربة وجلس، فعرض
عليه الاسلام وقرأ عليه من القرآن (سيرة ابن هشام 2: 78.) *
(حم تنزيل من الرحمن الرحيم) * (فصلت: 1 - 2.) فلما سمعها بعث الى منزله فاتي بثوبين طاهرين فاغتسل وشهد
الشهادتين وصلى ركعتين، ثم قام وأخذ بيد مصعب وحوله إليه وقال: أظهر أمرك ولا تهابن أحدا. ثم جاء فوقف في بني عمرو بن عوف وصاح: يا بني عمرو بن عوف، لا يبقين رجل ولا امرأة ولا بكر ولا ذات بعل ولا شيخ ولا صبي الا
أن يخرج، فليس هذا يوم ستر ولا حجاب. فلما اجتمعوا قال: كيف حالي عندكم ؟
قالوا: أنت سيدنا والمطاع فينا ولا نرد لك أمرا فمرنا بما شئت. فقال: كلام رجالكم ونسائكم وصبيانكم علي حرام حتى تشهدوا أن لا اله الا الله وأن محمدا رسول الله، والحمد لله الذي أكرمنا بذلك، وهو الذي كانت اليهود تخبرنا به. فما بقي دار من دور بني عمرو بن عوف في ذلك اليوم الا وفيها مسلم أو
مسلمة. وشاع الاسلام بالمدينة
وكثر، ودخل فيه من البطنين أشرافهم، وذلك لما كان عندهم من أخبار اليهود. وكتب مصعب الى رسول الله
بأن الأوس والخزرج قد دخلوا في الاسلام، فلما بلغ ذلك رسول الله أمرهم بالخروج الى المدينة، فكانوا يتسللون إليها رجلا رجلا، فينزلهم الأوس والخزرج عندهم
ويواسونهم (إعلام الورى: 58، 59. وقد مر الخبر ضمن أخبار حصار الشعب، ولكني
كررته هنا ابرازا لدور أسعد بن زرارة الخزرجي وسعد بن معاذ الأوسي في انتشار
الاسلام في المدينة. والخبر في سيرة ابن هشام 2: 77 - 80 باختلاف في بعض
الألفاظ.). روى ذلك الطبرسي
في " إعلام الورى " عن علي بن ابراهيم القمي، ولا يوجد الخبر في الموجود المطبوع من تفسيره، وروى في تفسيره " مجمع البيان " عن ابن سيرين (ت 110) قال: اجتمع الأنصار الى أسعد بن زرارة وقالوا له: لليهود يوم
يجتمعون فيه كل سبعة أيام، وللنصارى يوم أيضا مثل ذلك، فلنجعل يوما نجتمع فيه
فنذكر الله عزوجل ونشكره. فلليهود يوم السبت وللنصارى يوم الأحد فاجعلوا يومنا يوم العروبة (وهي اسم الجمعة في الجاهلية فتوافقوا
عليه). فاجتمعوا فيه الى أسعد بن زرارة، فذبح لهم شاة، ثم ذكرهم وصلى بهم،
ثم تغدوا وظلوا حتى تعشوا عنده من تلك الشاة، وذلك لقلتهم، فسموه يوم الجمعة لاجتماعهم إليه فيه. فهذه أول جمعة جمعت في الاسلام (مجمع
البيان 10: 432.) حيث صلوا فيه مع أسعد بن زرارة فريضة ظهر يوم الجمعة جماعة، قبل قدوم الرسول وتشريع صلاة الجمعة والخطبتين قبلها. وروى ابن اسحاق بسنده عن كعب بن مالك الأنصاري قال: كان (أسعد
بن زرارة) أول من جمع بنا
بالمدينة في هزم (بني) النبيت من حرة بني بياضة في نقيع يقال له: نقيع الخضمات. وهم يومئذ أربعون رجلا (سيرة ابن
هشام 2: 77.). ولعله كان بعد رجوع مصعب
بن عمير الى مكة قبل بيعة العقبة الثانية (سيرة ابن
هشام 2: 81.). |
كانت
الصلاة يومئذ الى بيت المقدس: قال ابن اسحاق
|
فلما انصرف عنه القوم (من بيعة العقبة الاولى) بعث رسول الله معهم مصعب بن عمير بن هاشم، وأمره أن يقرئهم القرآن
ويعلمهم الاسلام ويفقههم في الدين... وكان يصلي بهم (سيرة ابن
هشام 2: 76، 77.) ولم يقل عن القبلة شيئا. ولكنه روى عن معبد بن كعب، عن أخيه عبد الله بن كعب، عن أبيه كعب
بن مالك (الخزرجي) قال: ما بلغنا أن نبينا يصلي الا الى الشام فكنا إذا حضرت
الصلاة صلينا الى الشام (يعني القدس)... فلما خرجنا من المدينة في حجاج قومنا...
وتوجهنا لسفرنا... وسيدنا وكبيرنا البراء ابن معرور، قال لنا: يا هؤلاء، اني قد
رأيت رأيا فوالله ما أدري أتوافقونني عليه أم لا ؟ ! قلنا: وما ذاك ؟ قال: قد رأيت أن لا أدع هذه البنية (الكعبة) بظهري بل اصلي إليها. فقلنا: والله ما بلغنا أن نبينا يصلي الا الى الشام وما نريد أن
نخالفه. فكنا إذا حضرت الصلاة صلينا الى الشام، وصلى هو الى الكعبة، وقد عبنا
عليه ما صنع، وأبى الا الاقامة على ذلك وقال: إني لمصل إليها... حتى قدمنا مكة. فلما قدمنا مكة قال لي: يابن أخي لقد وقع في نفسي مما صنعت في سفري شئ: لما رأيت من
خلافكم إياي فيه، فانطلق بنا الى رسول الله حتى نسأله عما صنعت. وكان العباس بن عبد المطلب عم النبي يقدم علينا تاجرا، فكنا نعرف العباس (ويعرفنا) وكنا لا نعرف رسول
الله ولم نره قبل ذلك، فخرجنا
نسأل عنه، فلقينا رجلا من
أهل مكة فسألناه عن رسول
الله، فقال: هل تعرفانه ؟ فقلنا: لا، فقال:
فهل تعرفان العباس عمه ؟ قلنا:
نعم، قال: فإذا دخلتما
المسجد فهو الرجل الجالس مع العباس. فدخلنا المسجد، فإذا العباس جالس، ورسول الله جالس معه. فسلمنا ثم جلسنا إليه. فقال رسول الله للعباس: هل تعرف هذين الرجلين يا أبا الفضل ؟ قال: نعم، هذا البراء بن
معرور سيد قومه، وهذا
كعب بن مالك، فقال رسول الله: الشاعر ؟ قال العباس: نعم. فقال له البراء بن معرور: يا رسول الله، قد هداني الله للاسلام، وقد خرجت في سفري هذا،
فرأيت أن لا أجعل هذه البنية بظهري فصليت إليها، وخالفني أصحابي في ذلك حتى وقع
في نفسي من ذلك شئ، فماذا
ترى يا رسول الله ؟ قال: قد كنت على قبلة لو صبرت عليها. فرجع البراء الى قبلة رسول
الله وصلى معنا الى الشام (سيرة ابن هشام 2: 81، 82.). |
كان
العباس يحضر النبي ويتوثق له:
|
وكما روى ابن اسحاق
هنا عن معبد بن كعب عن أخيه عبد الله بن كعب عن أبيه كعب بن مالك الخزرجي: أن العباس كان يجالس رسول الله (صلى الله عليه وآله) في المسجد الحرام أيام الموسم ويعرفه بالناس...
يستمر فيروي عنه: أنه (صلى
الله عليه وآله) جاءنا
- في العقبة الثانية - ومعه عمه العباس بن عبد المطلب وهو يومئذ على دين قومه،
الا أنه أحب أن يحضر أمر ابن اخيه ويتوثق له. فلما جلس كان أول من تكلم العباس فقال: يا معشر الخزرج: ان محمدا منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا
ممن هو على مثل رأينا فيه، فهو في عز من قومه ومنعة في بلده (؟ !) وانه قد أبى
الا الانحياز اليكم واللحوق بكم (؟) فان كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه
إليه ومانعوه ممن خالفه، فانتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه
وخاذلوه بعد الخروج به اليكم، فمن الآن فدعوه، فانه في عز ومنعة من قومه وبلده
(؟ !). فقلنا له: قد سمعنا ما
قلت. فتكلم يا رسول الله فخذ لنفسك ولربك ما أحببت. فتكلم رسول الله فتلا القرآن ودعا الى الله ورغب في الاسلام ثم قال: ابايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم (سيرة ابن
هشام 2: 84.). ثم يروي عن عاصم بن عمر
بن قتادة عن أشياخ قومه قالوا:
ان القوم لما اجتمعوا لبيعة رسول الله -
صلى الله عليه [ وآله ] وسلم -
قال العباس بن عبادة بن نضلة الأنصاري: يا معشر الخزرج، هل تدرون علام تبايعون
هذا الرجل ؟ قالوا: نعم، قال: إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس،
فان كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة وأشرافكم قتلا أسلمتموه فمن الآن،
فهو - والله إن فعلتم - خزي الدنيا والآخرة، وان كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه
إليه على نهكة الأموال وقتل الأشراف فخذوه، فهو - والله - خير الدنيا والآخرة. قالوا: فانا نأخذه على
مصيبة الأموال وقتل الأشراف. فمالنا بذلك يا رسول الله ان نحن وفينا بذلك ؟ قال:
الجنة. قالوا: ابسط يدك، فبسط يده فبايعوه. وما قال ذلك العباس الا
ليشد العقد لرسول الله في أعناقهم (سيرة ابن
هشام 2: 88، 89.). وكأنه يروي الخبر كذلك عن عبد الله بن أبي بكر، وأنه قال في آخر
الخبر: قال ذلك العباس
ليؤخر القوم تلك الليلة رجاء أن يحضرها عبد الله ابن ابي بن سلول، فيكون أقوى
لأمر القوم (ابن هشام
2: 89.) وكأن ابن اسحاق
تخيل اختلافا بين القولين فقال: فالله أعلم أي ذلك كان. فان كان بين القولين خلاف في ارادة العباس بن عبادة بقوله ذلك تأخير القوم تلك الليلة يرجو
أن يحضرها عبد الله بن ابي بن سلول. فلا خلاف في أنه قال ذلك ليشد العقد لرسول الله ويقوي أمره وأمرهم، سواء أراد ذلك من خلال حضور ابن سلول أم لا. هذا، ولكن قول ابن أبي بكر يدل على أن طلب رسول الله منهم البيعة على " بيعة الحرب " لم يكن طلبا قد تقدم به الى القوم من ذي قبل بل كأنه فاجأهم أو
فاجأ جمعهم بذلك. وتتقارب مقالة العباس بن عبادة مع مقالة العباس بن عبد المطلب،
وكلاهما يريد شد العقد لرسول الله ويتوثق له، فيقول أحدهم: وإن
كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه فمن الآن فدعوه. ويقول الآخر: فان كنت ترون أنكم
إذا... أسلمتموه فمن الآن. وكل من المقالتين للرجلين في روايتين، ولا تجمعهما
رواية واحدة. فهل
كان كلاهما ؟ أو أحدهما ؟ وان
كان أحدهما فهل هو العباس بن عبادة أو العباس بن عبد المطلب ؟ وهل صحيح ما جاء فيما روي عن العباس عم النبي (صلى الله عليه وآله) أنه في عز من قومه ومنعة في بلده ؟ ! وأنه قد منعه عن قومه ممن هو
على مثل رأيه ؟ ! كما في
النص. وهل صحيح أنه:
أبى الا الانحياز الى الخزرج واللحوق بهم ؟ ! وهل كانت هجرته مجاهرا بها منذ بيعة العقبة الثانية ؟ ! بل يقول ابن اسحاق:
وأقام رسول الله بمكة ينتظر أن يأذن له ربه في الخروج والهجرة من مكة الى
المدينة (سيرة ابن هشام 2: 111.). أم أن الصحيح هي
رواية عاصم بن عمر بن قتادة عن أشياخ قومه ورواية عبد الله بن أبي بكر، وأن المتكلم كان العباس بن عبادة، لا العباس بن عبد المطلب على رواية معبد بن
كعب. ولا ننسى أن هذه
السيرة لابن اسحاق اختصره
من كتابه الكبير في التاريخ
الذي صنفه للمهدي بن المنصور العباسي بأمر المنصور (مقدمة
سيرة ابن هشام 1: ط، ي. وزاد عليه اليعقوبي - مولى بني العباس - فقال: قال
العباس للنبي: دعني فداك أبي وامي آخذ العهد عليهم، فجعل ذلك إليه، فأخذ عليهم
العهود والمواثيق. اليعقوبي 2: 31.). |
قصة
صنم عمرو بن الجموح :
|
ومن القصص المروية في أخبار إسلام الأنصار: قصة معاملة معاذ بن
عمرو بن الجموح مع
صنم أبيه عمرو بن الجموح، قالوا: كان الأشراف يتخذون لأنفسهم آلهة يطهرونها ويعظمونها، وكان عمرو بن الجموح سيدا من سادات بني سلمة وشريفا من أشرافهم، وكان قد اتخذ في داره
صنما من خشب يسميه مناة (أي
الآلهة التي يمنى أي يراق لديها الدماء قربانا لها) وكان ابنه معاذ بن عمرو بن الجموح ممن شهد العقبة وبايع رسول الله بها، فكان هو وأصحابه يدلجون بالليل على صنم عمرو بن الجموح فيحملونه
فيطرحونه في بعض حفر بني سلمة منكسا على رأسه. فإذا أصبح عمرو غدا يلتمسه، حتى
إذا وجده غسله وطهره وطيبه. فإذا أمسى عمرو عدوا عليه ففعلوا به مثل ذلك، فيغدو فيجده في مثل ما كان فيه من الأذى، فيغسله ويطهره ويطيبه. ثم إذا أمسى يعدون عليه فيفعلون به مثل ذلك، فاستخرجه من حيث
ألقوه فغسله وطهره وطيبه، ثم
جاء بسيفه فعلقه عليه ثم قال له: اني والله ما أعلم من يصنع بك ما ترى، فان كان فيك خير فامتنع فهذا السيف معك.
فلما أمسى ونام عمرو، عدوا عليه فأخذوا السيف من عنقه ثم ألقوه في بئر من آبار
بني سلمة ثم أخذوا كلبا ميتا فقرنوه به بحبل. فلما غدا عمرو خرج تتبعه حتى وجده
في تلك البئر منكسا مقرونا بكلب ميت، فلما أبصره ورآه قال يذكر صنمه ذلك وما أبصر من أمره: والله لو كنت الها لم تكن * أنت وكلب وسط بئر في قرن اف لملقاك الها مستدن *
الآن فتشناك عن سوء الغبن وكلمه من أسلم من رجال قومه، فأسلم برحمة الله وحسن اسلامه (سيرة ابن
هشام 2: 95، 96.).
|
الفصل
التاسع هجرة المسلمين الى المدينة
|
إذن
النبي (صلى الله عليه وآله) لأصحابه بالهجرة الى المدينة:
|
إذن النبي (صلى
الله عليه وآله) لأصحابه
بالهجرة الى المدينة: قال
ابن شهر آشوب: كان النبي (صلى
الله عليه وآله) لم
يؤمر الا بالدعاء والصبر على الأذى والصفح عن الجاهل، فطالت قريش على المسلمين،
فلما كثر عتوهم أمر بالهجرة فقال (صلى الله عليه وآله): إن الله قد جعل لكم دارا تأمنون بها واخوانا. فخرجوا أرسالا، حتى
لم يبق مع النبي الا علي (عليه
السلام) وأبو بكر (مناقب آل
أبي طالب 1: 182.). وقال قبله محمد بن اسحاق: كان رسول الله - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - قبل بيعة العقبة لم يؤذن له في الحرب ولم تحلل له الدماء، إنما
كان يؤمر بالدعاء الى الله والصبر على الأذى والصفح عن الجاهل. وكانت قريش قد اضطهدت من اتبعه من المهاجرين حتى فتنوهم عن دينهم
ونفوهم من بلادهم، فهم بين مفتون في دينه، وبين معذب في أيديهم وبين هارب في
البلاد فرارا منهم: منهم من بأرض الحبشة، ومنهم من بالمدينة، وفي كل وجه. فلما عتت قريش على الله عز
وجل وردوا عليه ما أرادهم به من الكرامة، وكذبوا نبيه - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم -، وعذبوا ونفوا من عبده ووحده وصدق نبيه واعتصم بدينه، أذن الله
عزوجل لرسوله في
(أخذ البيعة) للقتال والانتصار
ممن ظلمهم وبغى عليهم... لما أذن الله تعالى له في (أخذ البيعة) للحرب، وبايعه هذا الحي من الأنصار على الاسلام والنصرة له ولمن تبعه وأوى
إليهم من المسلمين، أمر رسول الله أصحابه من المهاجرين من قومه ومن معه بمكة من
المسلمين بالخروج الى المدينة والهجرة إليها واللحوق بإخوانهم من الأنصار، وقال لهم: ان
الله عز وجل قد جعل لكم إخوانا ودارا تأمنون بها. فخرجوا أرسالا (جمعا فجمعا). وأقام رسول
الله بمكة ينتظر أن يأذن له ربه في الخروج من مكة والهجرة الى المدينة (سيرة ابن هشام 2: 110،
111. ومن المقارنة بين عبارة ابن شهر آشوب وابن اسحاق يبدو أن كلام ابن شهر آشوب
انما هو مختصر ما ذكره ابن اسحاق، من دون اسناد.). |
هجرة
أبي سلمة الى المدينة:
|
كان من المسلمين المهاجرين الى الحبشة: أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد المخزومي مع ام سلمة، ومر أن عددا
منهم لما سمعوا باسلام جمع من قريش رجعوا الى مكة فوجدوا الخبر كاذبا، وأخذهم
المشركون ليعذبوهم فتفرقوا. منهم أبو سلمة. وقال ابن اسحاق في النص
السابق: منهم من بأرض
الحبشة ومنهم من بالمدينة وفي كل وجه. ويفهم منه أن منهم من هاجر الى المدينة
قبل بدء الهجرة وقبل بيعة العقبة، وصرح به ابن هشام فقال: كان قدم على رسول الله
من أرض الحبشة، فلما آذته قريش وبلغه اسلام من أسلم من الأنصار (في اللقاء الأول قبل العقبة الاولى) هاجر الى المدينة قبل بيعة أصحاب العقبة بسنة. ثم روى ابن اسحاق عن أبيه عن سلمة بن عبد الله عن أبيه عبد الله ابن
عمر عن امه ام سلمة قالت: لما
أجمع أبو سلمة على الخروج الى المدينة جهز لي بعيره فأركبني ومعي ابني سلمة في
حجري، ثم خرج يقود بعيري. فلما رأته رجال بني مخزوم قاموا إليه فقالوا: هذه نفسك
غلبتنا عليها، فعلام نتركك تسير بصاحبتك ؟ ! ثم نزعوا خطام البعير من يده
فأخذوني منه. وقال رهط
أبي سلمة: إذ نزعتموها من
صاحبنا فلا نترك ابننا عندها. فتجاذبوا
بني سلمة بينهم حتى خلعوا يده وانطلق به رهط أبي سلمة. وحبسني أهلي عندهم. وانطلق زوجي أبو سلمة الى المدينة. قال: فكنت أخرج كل غداة فأجلس بالأبطح فما أزال أبكي حتى امسي، سنة
أو قريبا منها. حتى مر بي رجل من بني عمي
فرأى مابي فرحمني، فقال
لهم: ألا تخرجون هذه
المسكينة، فرقتم بينها وبين زوجها وبين ولدها ؟ فعند ذلك ردوا إلي ابني وقالوا
لي: إن شئت فالحقي بزوجك. قالت: فارتحلت بعيري وابني في حجري، وخرجت اريد زوجي بالمدينة وما
معي أحد من خلق الله، وانما قلت (في نفسي): أتبلغ
بمن لقيت حتى أقدم على زوجي. فلما
كنت بالتنعيم (على
فرسخين من مكة) لقيت عثمان بن طلحة من بني عبد الدار فقال لي: يا بنت أبي امية الى
أين ؟ فقلت: اريد زوجي
بالمدينة. قال: أوما معك أحد
؟ قلت: لا والله الا الله وابني هذا. فقال: والله
مالي أن أتركك، ثم أخذ بخطام البعير فانطلق بي، حتى إذا بلغ المنزل أناخ بي ثم
تأخر عني، حتى إذا نزلت أخذ بعيري فحط عنه ثم قيده في شجرة، ثم تنحى عني الى
شجرة فاضطجع تحتها. فإذا دنا الرواح قام الى بعيري فقدمه ثم تأخر عني وقال:
اركبي، فإذا ركبت أتى فأخذ بخطامه فقاده، فلم يزل يصنع ذلك بي حتى أقدمني المدينة، فلما نظر الى قرية بني عمرو بن عوف بقباء، قال: زوجك في هذه
القرية فادخليها على بركة الله. ثم انصرف راجعا الى مكة (سيرة ابن
هشام 2: 112، 113 بتصرف يسير في الألفاظ.). |
المهاجرون
بعد أبي سلمة:
|
ثم قدم المدينة من المهاجرين بعد أبي سلمة: عامر بن ربيعة ومعه امرأته ليلى بنت أبي حثمة. ثم عبد
الله بن جحش مع أهله وأخيه عبد بن جحش وكان
شاعرا ضرير البصر، وكان
صهر أبي سفيان على ابنته الفرعة، وكانوا حلفاء بني امية. وقال في ذلك شعرا. فكان منزل أبي سلمة، وعامر بن ربيعة، وعبد الله بن جحش، وأخيه عبد
بن جحش على مبشر بن عبد المنذر من بني عمرو بن عوف في قباء (سيرة ابن
هشام 2: 112 - 116.). ثم خرج عمر بن الخطاب، وعياش بن أبي ربيعة المخزومي، فروى ابن اسحاق عن نافع مولى عبد الله بن عمر، عن عبد الله بن
عمر، عن أبيه عمر قال: لما أردنا الهجرة الى المدينة أنا وعياش بن أبي ربيعة
وهشام ابن العاصي بن وائل السهمي، تواعدنا (أشجار) التناضب فوق (منزل) سرف (على
ستة أميال من مكة) وقلنا: أينا لم يصبح عندها فقد حبس فليمض صاحباه. فأصبحت أنا
وعياش بن أبي ربيعة عند (أشجار) التناضب، وحبس عنا هشام وفتن فافتتن. فلما قدمنا المدينة نزلنا في بني عمرو بن عوف في قباء. وكان عياش بن أبي ربيعة
المخزومي ابن عم أبي جهل بن هشام المخزومي بل أخاه لامه، فخرج
أبو جهل وأخوه الحارث حتى قدما علينا المدينة، وقالا له: إن
امك قد نذرت أن لا يمس رأسها مشط ولا تستظل من شمس حتى تراك ! فقلت له: يا
عياش إنه والله ان يريدك القوم الا ليفتنوك عن دينك فاحذرهم. فقال: ابر
قسمي ولي هناك مال فاخذه، فأبى الا أن يخرج معهما. فخرج معهما، حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال له أبو جهل:
يا أخي والله لقد استغلظت بعيري هذا أفلا تعقبني على ناقتك هذه ؟ قال: بلى.
فأناخ وأناخا ليتحول، فلما استووا بالأرض عدوا عليه فأوثقاه وربطاه، ثم دخلا به
مكة وفتناه فافتتن. وكان عمر بن الخطاب حين قدم
المدينة قد نزل على رفاعة بن عبد المنذر من بني عمرو بن عوف في قباء، ولحق به من
أهله وقومه: اخوه زيد ابن
الخطاب، وصهره خنيس بن حذافة السهمي، وحلفاؤهم: واقد بن عبد الله التميمي، وخولي
بن أبي خولي وأخوه مالك، وسعيد بن زيد وإياس بن بكير، وإخوانه: عاقل وعامر
وخالد. ونزل عثمان بن عفان على أوس بن ثابت أخي حسان بن ثابت من بني النجار. وهاجر عبد الرحمن بن عوف فنزل على سعد بن الربيع الخزرجي. وهاجر صهيب بن سنان (الرومي) فروى ابن هشام عن أبي عثمان النهدي قال: لما
اراد صهيب الهجرة قال له كفار قريش: أتيتنا صعلوكا حقيرا فكثر مالك عندنا وبلغت الذي بلغت ثم تريد ان
تخرج بمالك ونفسك ؟ ! والله لا يكون ذلك ! فقال لهم صهيب:
أرأيتم إن جعلت لكم مالي أتخلون سبيلي ؟ ! قالوا: نعم. قال: فاني جعلت لكم مالي.
ثم هاجر فنزل على خبيب بن أساف الخزرجي بالسنخ ومعه طلحة بن عبيد الله. فلما بلغ
رسول الله أمر صهيب قال: ربح صهيب ! ربح صهيب ! ونزل الزبير بن العوام على منذر بن محمد من بني جحجبي بالعصبة، ومعه أبو سبرة. ونزل:
مصعب بن عمير بن هاشم على سعد بن معاذ (هذه المرة). وهاجر من بني عبد المطلب: حمزة بن عبد المطلب فنزل على أسعد ابن زرارة (مكان مصعب). وهاجر
معه موالي رسول الله: زيد بن حارثة وأبو كبشة، وأنسة، وحليفا حمزة: أبو مرثد
الغنوي وابنه مرثد، فنزلوا على كلثوم بن هدم من بني عمرو بن عوف في قباء، أو:
سعد بن خيثمة، وكان
عزبا فنزل عليه العزاب منهم. ومن بني المطلب: مسطح بن اثاثة بن عباد بن المطلب، وبنو الحارث ابن المطلب. عبيدة
وأخواه الطفيل والحصين. ومعهم سويبط بن سعد من بني عبد الدار، وطليب بن عمير،
وخباب (بن الأرت) مولى عتبة بن غزوان، فنزلوا على عبد الله بن سلمة في قباء. ونزل مولى خباب:
عتبة بن غزوان وابو حذيفة عتبة بن ربيعة، وسالم مولاه، على عباد بن بشر من بني
عبد الأشهل. ولم يتخلف بمكة أحد من المهاجرين الا من حبس أو فتن، الا علي ابن أبي طالب وأبو بكر بن أبي قحافة. وأقام رسول الله بمكة وبعض أصحابه من المهاجرين ينتظر أن يؤذن له في الهجرة (سيرة ابن هشام 2: 118 - 123.). وعلم من هنا أن حمزة بن عبد
المطلب، وعبيدة بن الحارث بن المطلب واخوانه وموالي رسول الله: زيد بن حارثة وأبا كبشة وأنسة كانوا قد هاجروا،
ولعل ذلك كان قبل بيعة
العقبة الاولى فضلا عن الثانية ولذلك لا يوجد لهم ذكر أو أثر فيها، بل روى ابن اسحاق أن العباس
حضرها يتوثق لابن أخيه وهو على دين قومه، وقد مر الكلام فيه. وقد ذكر عن ابن عباس قال: كان أبي من المستضعفين من الرجال، وامي كانت من المستضعفات من
النساء، وكنت أنا من المستضعفين من الولدان، غلاما صغيرا (مجمع
البيان 3: 150.) ويقصد
بالمستضعفين قوله سبحانه: *
(إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في
الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فاولئك مأواهم جهنم وساءت
مصيرا إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون
سبيلا فاولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا) * (النساء: 97 - 99.) فإن صح قوله عن نفسه وامه فالله أعلم بأبيه.
|
الفصل
العاشر المؤامرة لقتل النبي (صلى الله عليه وآله)
|
شورى
دار الندوة:
|
روى العياشي في تفسيره عن زرارة وحمران ومحمد بن مسلم عن أحدهما
قال: إن قريشا اجتمعت فخرج
من كل بطن اناس، فانطلقوا الى دار الندوة ليشاوروا فيما يصنعون برسول الله (صلى الله عليه وآله)، فإذا هم بشيخ قائم على الباب، واذ ذهبوا ليدخلوا قال: أدخلوني
معكم. قالوا: ومن أنت ؟ يا شيخ، قال: أنا شيخ من مضر، ولي رأي اشير به عليكم. فدخلوا وجلسوا وتشاوروا وهو جالس، وأجمعوا أمرهم على أن يخرجوه. فقال: ليس هذا لكم برأي، ان اخرجتموه أجلب عليكم الناس فقاتلوكم. قالوا: صدقت ما هذا برأي. ثم تشاوروا فأجمعوا أمرهم على أن يوثقوه.
قال: هذا ليس بالرأي، إن فعلتم هذا، ومحمد رجل حلو اللسان أفسد
عليكم أبناءكم وخدمكم، وما ينفع أحدكم إذا فارقه أخوه وابنه أو امرأته ؟ ! ثم تشاوروا فأجمعوا أمرهم
على أن يقتلوه، يخرجون من كل بطن منهم بشاب فيضربونه بأسيافهم جميعا (تفسير
العياشي 2: 54.). وروى الصدوق في " الخصال " بسنده عن جابر الجعفي عن
الباقر عن علي (عليه السلام) قال: إن قريشا لم تزل تجيل الآراء وتعمل الحيل في قتل النبي حتى كان
آخر ما اجتمعت عليه في يوم الدار دار الندوة... فلم تزل تضرب أمرها ظهرا لبطن
حتى اجتمعت آراؤها على أن ينتدب من كل فخذ من قريش رجل، ثم يأخذ كل رجل منهم سيفه ثم يأتي النبي وهو نائم على فراشه،
فيضربونه جميعا بأسيافهم ضربة رجل واحد فيقتلوه، فإذا قتلوه منعت قريش رجالها ولم تسلمهم، فيمضي دمه هدرا (الخصال: 367.). وقال القمي في تفسيره: اجتمعوا في دار الندوة، وكان لا يدخل دار الندوة الا من أتى عليه
أربعون سنة، فدخلوا أربعون رجلا من مشايخ قريش. وجاء ابليس في صورة شيخ
كبير، فقال له البواب: من
أنت ؟ فقال: أنا شيخ من أهل نجد (نقل
السهيلي في (الروض الانف) عن بعض أهل السيرة أنهم قالوا: لا يدخلن معكم في
المشاورة أحد من أهل تهامة لأن هواهم مع محمد، فلذلك تمثل لهم ابليس في صورة شيخ
نجدي. كما عنه في هامش سيرة ابن هشام 2: 124، والخبر في السيرة عن ابن عباس.)، لا
يعدمكم مني رأي صائب، إني حيث بلغني اجتماعكم في أمر هذا الرجل جئت لاشير عليكم.
فقال الرجل: ادخل، فدخل ابليس. فلما أخذوا مجلسهم قال أبو جهل: يا معشر قريش، إنه لم يكن أحد من العرب أعز منا، نحن أهل الله
تغدوا الينا العرب في السنة مرتين، ويكرموننا، ونحن في حرم الله لا يطمع فينا
طامع، فلم نزل كذلك حتى نشأ فينا محمد بن عبد الله، فكنا نسميه الأمين لصلاحه
وسكونه وصدق لهجته، حتى إذا بلغ ما بلغ واكرمناه ادعى أنه رسول الله وأن أخبار
السماء تأتيه، فسفه أحلامنا وسب آلهتنا وأفسد شبابنا وفرق جماعتنا، وزعم أنه من
مات من أسلافنا ففي النار، فلم يرد علينا شئ أعظم من هذا ! وقد رأيت فيه رأيا. قالوا: وما رأيت ؟ قال:
رأيت أن ندس إليه رجلا منا ليقتله فان طلبت بنو هاشم بديته أعطيناهم عشر ديات. فقال الخبيث: هذا
رأي خبيث ! قالوا: وكيف ذلك ؟ قال: لأن قاتل محمد مقتول لا محالة، فمن ذا الذي
يبذل نفسه للقتل منكم ؟ فانه إذا قتل محمد تعصب بنو هاشم وحلفاؤهم من خزاعة، وإن
بني هاشم لا ترضى أن يمشي قاتل محمد على الأرض فتقع بينكم الحروب في حرمكم
وتتفانوا. فقال آخر منهم: فعندي رأي آخر. قالوا: وما هو ؟ قال: نثبته في بيت
ونلقي إليه قوته حتى يأتي عليه ريب المنون، فيموت، كما مات زهير والنابغة وامرؤ
القيس. فقال ابليس: هذا أخبث من الآخر ! قالوا: وكيف ذلك ؟ قال: لأن بني هاشم لا ترضى بذلك، فإذا جاء موسم من مواسم العرب
استغاثوا بهم واجتمعوا عليكم فأخرجوه. قال آخر منهم: لا،
ولكنا نخرجه من بلادنا ونتفرغ لعبادة آلهتنا. قال ابليس: هذا أخبث من الرأيين
المتقدمين ! قالوا: وكيف ذلك ؟ قال: لانكم تعمدون الى أصبح
الناس وجها وأنطق الناس لسانا وأفصحهم لهجة فتحملونه الى وادي العرب فيخدعهم
ويسحرهم بلسانه، فلا يفجأكم الا وقد ملأها عليكم خيلا ورجلا. فبقوا حائرين... ثم قالوا لابليس:
فما الرأي فيه يا شيخ ؟ قال: ما فيه الا رأي واحد. قالوا: وما هو ؟ قال:
يجتمع من كل بطن من بطون قريش واحد، ويكون معهم من بني هاشم رجل، فيأخذون سكينة
أو حديدة أو سيفا فيدخلون عليه فيضربونه كلهم ضربة واحدة حتى يتفرق دمه في قريش
كلها فلا يستطيع بنو هاشم أن يطلبوا بدمه وقد شاركوا فيه، فان سألوكم أن تعطوا
الدية فاعطوهم ثلاث ديات. فقالوا: نعم وعشر ديات... ثم قالوا: الرأي رأي الشيخ
النجدي. ونزل جبرئيل على رسول الله وأخبره الخبر (تفسير
القمي 1: 273 - 275.). وروى الطوسي في أماليه بسنده عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر حديثا في مبيت علي (عليه السلام)
على فراش رسول الله وهجرته الى المدينة، صدره عن سنان بن أبي سنان عن هند بن أبي
هالة ربيب رسول الله (صلى
الله عليه وآله) من
خديجة، وسايره عن أبيه محمد بن عمار عن أبيه عمار بن ياسر، وعن عبيد الله بن أبي
رافع عن أبيه أبي رافع مولى النبي (صلى الله عليه وآله)، قالوا: انطلق ذوو الطول والشرف من قريش الى دار الندوة ليرتأوا ويأتمروا
في رسول الله (صلى
الله عليه وآله)
وأسروا ذلك فيما بينهم. فقال بعضهم - وهم العاص بن وائل السهمي وامية بن أبي خلف الجمحي - نبني له علما ويترك برحا نستودعه فيه، فلا يخلص إليه أحد من
الصباة فيه، ولا يزال في رفق من العيش حتى يتضيفه ريب المنون. فقال أبو سفيان وعتبة وشيبة
ابنا ربيعة: إنا نرى أن نرحل
بعيرا صعبا ونوثق محمدا عليه كتافا وشدا، ثم نقصع البعير بأطراف الرماح فيوشك أن
يقطعه بين الدكادك اربا اربا ! فقال صاحب رأيهم:
إنكم لم تصنعوا بقولكم هذا شيئا، أرأيتم إن خلص به البعير سالما الى بعض
الأفاريق فأخذ بقلوبهم سحره وبيانه وطلاقة لسانه فصبأ القوم إليه واستجابت
القبائل له قبيلة فقبيلة، فليسيرن اليكم حينئذ بالكتائب والمقانب، فلتهلكن كما
هلكت اياد ومن كان قبلكم. قولوا قولكم. فقال أبو جهل: لكن
أرى لكم أن تعمدوا الى قبائلكم العشرة فتندبوا من كل قبيلة منها رجلا نجدا، ثم
تسلحوا سلاحا عضبا، وتتمهد الفتية حتى إذا غسق الليل وغور بيتوا بابن أبي كبشة
بياتا، فيذهب دمه في قبائل قريش جميعا، فلا يستطيع بنو هاشم وبنو المطلب مناهضة
قبائل قريش في صاحبهم، فيرضون حينئذ بالعقل (العقل
هنا: الدية، ومنه عاقلة الرجل.) منهم. فقال صاحب رأيهم أصبت يا أبا الحكم. ثم أقبل عليهم فقال: هذا الرأي
فلا تعدلن به رأيا، وأوكئوا في ذلك أفواهكم حتى يستتب أمركم. ثم خرج القوم. فسبقهم جبرئيل بالوحي بما كان من كيدهم. |
علي
(عليه السلام) والمبيت في فراش النبي (صلى الله عليه وآله):
|
لما أخبر النبي جبرئيل (عليه السلام)
بأمر الله في ذلك ووحيه وما عزم له من الهجرة، دعا رسول الله علي بن أبي طالب
لوقته فقال له: يا علي، ان الروح هبط علي يخبرني أن قريش اجتمعت على المكر بي
وقتلي، وانه اوحي الي عن ربي عزوجل أن أهجر دار قومي وأن أنطلق الى غار ثور تحت
ليلتي، وإنه أمرني أن آمرك بالمبيت على مضجعي لتخفي بمبيتك عليه أثري، فما أنت
صانع ؟ فقال علي (عليه السلام): أو تسلمن بمبيتي هناك يا نبي الله ؟ قال: نعم. فتبسم علي ضاحكا
وأهوى الى الأرض ساجدا شكرا لما أنبأه رسول الله به من سلامته، فكان علي - صلوات الله عليه - أول من سجد لله شكرا، وأول من وضع وجهه على الأرض بعد سجدته من
هذه الامة بعد رسول الله (صلى
الله عليه وآله) . فلما رفع رأسه قال له علي (عليه السلام): إمض بما امرت، فداك سمعي وبصري وسويداء قلبي، ومرني بما شئت...
وإن توفيقي الا بالله... فقال له: فارقد على فراشي واشتمل ببردي الحضرمي، ثم اني
اخبرك يا علي أن الله تعالى يمتحن أولياءه على قدر إيمانهم ومنازلهم من دينه،
فأشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، وقد امتحنك يابن عم وامتحنني فيك
بمثل ما امتحن به خليله ابراهيم والذبيح اسماعيل (عليهما السلام)، فصبرا صبرا،
فان رحمة الله قريب من المحسنين، ثم ضمه النبي (صلى الله عليه وآله) الى صدره وبكى وجدا به، وبكى علي (عليه السلام)
جشعا لفراق رسول الله (صلى
الله عليه وآله). |
كيفية هجرة النبي (صلى الله عليه وآله) الى المدينة:
|
واستتبع رسول الله أبا بكر بن أبي قحافة (روى
العياشي في تفسيره 1: 101 عن ابن عباس قال: وجاء أبو بكر - وعلي (عليه السلام)
نائم - وهو يحسب أنه نبي الله (فلما رآه عليا) قال: أين نبي الله ؟ قال علي: ان
نبي الله قد انطلق نحو بئر ميمون، فأدركه. فانطلق أبو بكر فدخل معه الغار. وقال الطبري في تاريخه 2: 374 مشيرا الى هذا: وقد زعم بعضهم: أن أبا
بكر أتى عليا فسأله عن نبي الله، فأخبره: أنه لحق بالغار من ثور وقال: ان كانت
لك فيه حاجة فالحقه. فخرج أبو بكر مسرعا فلحق نبي الله في الطريق، فسمع جرس أبي
بكر في ظلمة الليل فحسبه من المشركين، فأسرع رسول الله المشي فانقطع قبال نعله
ففلق ابهامه حجر فكثر دمها، وأسرع السعي، فخاف أبو بكر أن يشق على رسول الله (صلى
الله عليه وآله) فرفع صوته وتكلم فعرفه رسول الله فأقام حتى أتاه، فانطلقا، ورجل
رسول الله تستن دما حتى انتهى الى الغار مع الصبح فدخلاه. وأصبح الرهط الذين
كانوا يرصدون رسول الله فدخلوا الدار، وقام علي (عليه السلام) عن فراشه، فلما
دنوا منه عرفوه فقالوا له: أين صاحبك ؟ قال: لاأدري أو كنت رقيبا عليه، أمرتموه
بالخروج فخرج، فانتهروه وضربوه وأخرجوه الى المسجد فحبسوه ساعة ثم تركوه. وجاء الحبس في خبر رواه
الرضي في " الخصائص " عن علي (عليه السلام) قال: كنت على فراش رسول
الله وقد طرح علي ريطته، فأقبلت قريش مع كل رجل منهم هراوة فيها شوكها، فلم
يبصروا رسول الله حيث خرج، فأقبلوا علي يضربوني بما في أيديهم حتى تنفض جسدي
وصار مثل البيض، ثم انطلقوا بي يريدون قتلي، فقال بعضهم: لا تقتلوه الليلة، ولكن
أخروه واطلبوا محمدا. فأوثقوني بالحديد وجعلوني في بيت قرب البيت الحرام)
واستوثقوا مني ومن الباب بقفل فبينا أنا كذلك، إذ سمعت صوتا من جانب البيت يقول:
يا علي ! فسكن الوجع الذي كنت أجده، وذهب الورم الذي كان في جسدي، ثم سمعت صوتا
آخر يقول: يا علي فإذا الحديد الذي علي قد تقطع، ثم سمعت صوتا: يا علي، فإذا
الباب قد تساقط ما عليه وفتح. فقمت وخرجت، وقد كانوا جاؤوا بعجوز كمهاء لاتبصر
ولا تنام تحرس الباب، فخرجت عليها وهي لاتعقل من النوم. كما في حلية الأبرار 1:
97، وعن الخرائج في البحار 19: 76. ومن المستبعد جدا أن يكون أبو بكر قد علم باتجاه الرسول بالسؤال من
علي (عليه السلام) في فراش الرسول في حصار المشركين وهم يرمونه، بل المتجه ما
ذكره القطب الراوندي في الخرائج والجرائح: قال النبي لأصحابه: لا يخرج الليلة
أحد من داره. كما في البحار 19: 73.) وهند
بن أبي هالة فأمرهما أن يقعدا له بمكان ذكره لهما من طريقه الى الغار. ولبث رسول
الله بمكانه مع علي (عليه السلام) يوصيه ويأمره في ذلك بالصبر حتى صلى العشاءين،
ثم خرج في فحمة العشاء الآخرة، والرصد من قريش قد أطافوا بداره ينتظرون أن ينتصف
الليل وتنام الأعين، فخرج وهو يقرأ هذه الآية: * (وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فاغشيناهم فهم لا
يبصرون) * (يس: 9.) وأخذ
بيده قبضة من تراب فرمى بها على رؤوسهم، فما شعر القوم به حتى تجاوزهم ومضى حتى
أتى الى هند وأبي بكر فنهضا معهم حتى وصلوا الى الغار، ثم رجع هند الى مكة بما
أمره به رسول الله، ودخل رسول الله وأبو بكر الغار. فلما غلق الليل أبوابه وأسدل أستاره وانقطع الأثر أقبل القوم على
علي (عليه السلام) يقذفونه بالحجارة فلا يشكون أنه رسول الله حتى إذا برق الفجر
وأشفقوا أن يفضحهم الصبح هجموا على علي (عليه السلام) - وكانت دور مكة يومئذ
سوائب لا أبواب لها - فلما بصر بهم علي (عليه السلام) قد انتضوا السيوف وأقبلوا
عليه بها يقدمهم خالد بن الوليد بن المغيرة وثب علي فختله وهمز يده فجعل خالد
يقمص قماص البكر ويرغو رغاء الجمل ويذعر ويصيح، وهم في عرج الدار من خلفه، وشد
عليهم علي (عليه السلام) بسيفه - يعني سيف خالد - فاجفلوا أمامه إجفال النعم الى
ظاهر الدار، وتبصروه فإذا علي (عليه السلام)، قالوا: وانك لعلي ؟ قال: أنا علي،
قالوا: فانا لم نردك فما فعل صاحبك ؟ قال: لا علم لي به. فاذكت قريش عليه العيون
وركبت في طلبه الصعب والذلول (أمالي الطوسي 2: 78 وعنه في البحار 19: 58 - 63 وحلية الأبرار: 83 -
90.). وقال القمي في تفسيره: فلما أمسى رسول الله جاءت قريش ليدخلوا عليه فقال أبو لهب: لا
أدعكم أن تدخلوا بالليل فان في الدار صبيانا ونساء ولا نأمن أن تقع بهم يد
خاطئة، فنحرسه الليلة فإذا أصبحنا دخلنا عليه. فناموا حول حجر رسول الله (صلى
الله عليه وآله). وأمر رسول الله أن يفرش له ففرش له، فقال لعلي بن أبي طالب:
أفدني بنفسك، قال: نعم يا رسول الله. قال: نم على فراشي والتحف ببردتي. فنام على فراش رسول الله والتحف ببردته. وجاء جبرئيل فأخذ بيد رسول
الله فأخرجه على قريش وهم نيام وهو يقرأ عليهم: * (وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن
خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون) * وقال له جبرئيل: خذ على طريق ثور. وهو جبل
على طريق منى له سنام كسنام الثور. فدخل الغار (تفسير
القمي 1: 275، 276 ونقله الطبرسي في اعلام الورى: 61، 63 والقطب الراوندي في قصص
الأنبياء: 335 - 337.). وروى الطوسي في أماليه بسند عن الواقدي بسنده عن ابن عباس قال: اجتمع المشركون في دار الندوة ليتشاوروا في أمر رسول الله، وأتى
جبرئيل رسول الله فأخبره الخبر، وأمره أن لا ينام في مضجعه تلك الليلة. فلما
أراد رسول الله المبيت أمر عليا (عليه السلام) أن يبيت في مضجعه (صلى الله عليه
وآله). فبات علي (عليه السلام) وتغشى ببرد أخضر حضرمي كان لرسول الله ينام فيه،
وجعل السيف الى جنبه. فلما اجتمع اولئك النفر من قريش يطوفون ويرصدونه يريدون
قتله، خرج رسول الله وهم جلوس على الباب خمسة وعشرون رجلا، فأخذ حفنة من البطحاء
ثم جعل يذرها على رؤوسهم وهو يقرأ * (يس والقرآن الحكيم) * حتى بلغ * (فأغشيناهم
فهم لا يبصرون) * فقال لهم قائل: ما تنتظرون ؟ قالوا: محمدا. قال: خبتم وخسرتم
قد والله مر بكم فما منكم رجل الا وقد جعل على رأسه ترابا ! قالوا: والله ما
أبصرناه ! (أمالي الطوسي 2: 60 وعنه في البحار 19: 53، 54 ورواه ابن اسحاق عن
محمد ابن كعب القرظي 2: 127.). وروى الحبري في " ما
نزل من القرآن في أهل البيت " بسنده عن ابن عباس أيضا قال: لما انطلق النبي
(صلى الله عليه وآله) الى الغار فأنام عليا (عليه السلام) مكانه وألبسه برده
وجاءت قريش تريد أن تقتل النبي (صلى الله عليه وآله) فجعلوا يرمون عليا وهم يرون
أنه النبي (صلى الله عليه وآله) فجعل يتضور (التضور: التلوي والأنين من الألم.) فنظروا فإذا هو علي (عليه السلام) فقالوا: إنك النائم ؟ ! لو كان صاحبك ما تضور، لقد استنكرنا ذلك (ما نزل
من القرآن في أهل البيت (عليهم السلام): 47 ط قم ورواه العياشي 1: 101 والفرات:
9 والبرهان 1: 207 وروى مختصره الطبرسي في إعلام الورى: 190. هذان خبران عن ابن
عباس وليس فيهما ما رواه عنه ابن اسحاق في سيرته برواية ابن هشام قال: قال لعلي
بن أبي طالب: نم على فراشي وتسج ببردي هذا الحضرمي الأخضر فنم فيه، فانه لن يخلص
اليك شئ تكرهه منهم. سيرة ابن هشام 2: 126، 127 بل سيأتي في رواية الطوسي عن
الثلاثة: عمار بن ياسر وأبي رافع وهند بن أبي هالة: أن الرسول (صلى الله عليه
وآله) انما قال ذلك له بعد نهاية الأمر حين اللقاء به في الغار. بل روى عن الحسن
البصري عن أنس بن مالك: أن عليا بات تلك الليلة موطنا نفسه على القتل. ولكنهم
وضعوا ذلك ليضيعوا من معنى التضحية والفداء في زوج الزهراء (عليها السلام).). وروى الطوسي في أماليه بسنده عن الحسن البصري عن أنس بن مالك قال: لما توجه رسول الله الى الغار - ومعه أبو بكر - أمر النبي عليا أن
ينام على فراشه ويتغشى ببردته. فبات علي موطنا نفسه على القتل. وجاءت رجال من
قريش من بطونها يريدون قتل رسول الله، فلما أرادوا أن يضعوا أسيافهم فيه لا
يشكون أنه محمد، أيقظوه فرأوه عليا فتركوه وتفرقوا في طلب رسول الله (أمالي
الطوسي 2: 61 وعنه في البحار 19: 55.). وقال القمي في تفسيره: فلما أصبحت قريش أتوا الى الحجرة وقصدوا الفراش، فوثب علي (عليه
السلام) في وجوهم وقال: ما شأنكم ؟ قالوا له: أين محمد ؟ قال: أجعلتموني عليه
رقيبا ؟ ألستم قلتم نخرجه من بلادنا ؟ ! فقد خرج عنكم. فأقبلوا يضربون أبا لهب
ويقولون له: أتخدعنا منذ الليلة ؟ ! وكان فيهم رجل من خزاعة يقال له: أبو كرز،
يقفو الآثار، فقالوا له: يا أبا كرز اليوم اليوم ! فوقف بهم على حجرة رسول الله
فقال: هذه قدم محمد، والله انها لاخت القدم التي في المقام (مقام ابراهيم، وهي قدمه.) هذه قدم ابن أبي قحافة أو أبيه، فما زال بهم حتى أوقفهم على باب
الغار ثم قال: ما جاوزوا هذا المكان، اما أن يكونا صعدا الى السماء أو دخلا تحت
الأرض. وبعث الله العنكبوت فنسجت على باب الغار... وصرفهم الله عن رسوله فتفرقوا
(تفسير القمي 1: 273 - 276 ونقله الطبرسي في اعلام الورى: 61 - 63
والقطب الراوندي في قصص الأنبياء: 335 - 337 وفي الخرائج والجرائح 1: 44 ح 231
وذكر اسم الرجل: أبا كريز.) . وقال الطبرسي في " إعلام الورى ": وخرج القوم في طلبه، فعمى الله أثره وهو نصب أعينهم، وصدهم عنه
وأخذ بأبصارهم دونه، وهم دهاة العرب، وبعث الله العنكبوت فنسجت في وجه الغار
فسترته وأيسهم ذلك من الطلب. وبعث الله حمامتين وحشيتين فوقفتا بفم الغار (نقله ابن
شهر آشوب عن زيد بن أرقم بن مالك والمغيرة بن شعبة في المناقب 1: 128.). وأقبل فتيان قريش من كل
بطن رجل بعصيهم وهراويهم وسيوفهم حتى إذا كانوا من النبي بقدر أربعين ذراعا
(عشرين مترا) تقدم رجل منهم لينظر من في الغار، ورجع الى أصحابه فقالوا له: ما
لك لا تنظر في الغار ؟ فقال: رأيت حماما بفم الغار فعلمت أن ليس فيه أحد. وسمع النبي ما
قال فدعا لهن وفرض جزاءهن فاتخذن في الحرم (ونقله
ابن شهر آشوب عن الزهري في المناقب 1: 128.). وفي ذلك يقول السيد الحميري في قصيدته المعروفة بالمذهبة: حتى إذا قصدوا لباب مغارة * الفوا عليه نسيج غزل العنكب صنع الاله له، فقال
فريقهم: * ما في المغار
لطالب من مطلب ميلوا. وصدهم المليك،
ومن يرد * عنه الدفاع مليكه، لم
يعطب (إعلام
الورى: 25.) وأمهل علي (عليه السلام) حتى إذا أعتم في الليلة القابلة فانطلق هو
وهند بن أبي هالة حتى دخلا على رسول الله في الغار، فأمر رسول الله هندا أن
يبتاع له ولصاحبه بعيرين، فقال أبو بكر: قد كنت أعددت لي ولك - يا نبي الله -
راحلتين نرتحلهما الى يثرب. فقال (صلى الله عليه وآله): اني لا آخذها ولا
احداهما الا بالثمن. فقال: فهي لك بذلك. فأمر (صلى الله عليه وآله) عليا (عليه
السلام) فأقبضه الثمن (وقال بمعناه ابن اسحاق، كما في سيرة ابن هشام 2: 131.) ثم
وصاه بحفظ ذمته وأداء أمانته. وكانت قريش في الجاهلية تدعو محمدا: الأمين، فكانت تستودعه
وتستحفظه أموالها وأمتعتها، وكذلك من يقدم مكة من العرب في الموسم، وجاءته
النبوة والرسالة والأمر كذلك. فأمر عليا (عليه السلام) أن يقيم صارخا يهتف
بالابطح غدوة وعشيا: من كان له قبل محمد أمانة أو وديعة فليأت فلنؤد إليه
أمانته. ثم قال له: انهم لن يصلوا اليك من الآن - يا علي - بأمر تكرهه حتى تقدم
علي، فأد أمانتي على أعين الناس ظاهرا. ثم إني مستخلفك على ابنتي فاطمة، ومستخلف ربي عليكما ومستحفظه
فيكما. ثم أمره أن يبتاع رواحل له
وللفواطم ومن أزمع للهجرة من بني هاشم وقال له: فإذا قضيت ما أمرتك من أمر فكن
على اهبة الهجرة الى الله ورسوله، وسر الي لقدوم كتابي عليك ولا تلبث. ثم مكث في
الغار ثلاثا ثم انطلق لوجهه يؤم المدينة (أمالي
الطوسي: 300 كما في البحار 19: 63 وحلية الأبرار: 90.). وقال الطبرسي: خلفه
النبي (صلى الله عليه وآله) ليخرج أهله فأخرجهم، وأمره أن يؤدي عنه أماناته
ووصاياه وما كان بمؤتمن عليه. فأدى علي (عليه السلام) اماناته كلها (إعلام الورى: 190.). وقال ابن شهر آشوب: واستخلفه الرسول لرد الودائع، لأنه كان أمينا... قام على الكعبة
فنادى بصوت رفيع: يا أيها الناس، هل من صاحب أمانة ؟ هل من صاحب وصية ؟ هل من
صاحب عدة له قبل رسول الله. فلما لم يأت احد لحق بالنبي (صلى الله عليه وآله) (مناقب آل
أبي طالب 2: 57.). ولكن الطبرسي في " إعلام الورى " نقل ما قاله القمي في تفسيره وأضاف: خرج رسول الله من الغار فرأى راعيا لبعض قريش يقال له: ابن اريقط،
فدعاه رسول الله وقال له: يابن اريقط، أءتمنك على دمي ؟ قال: إذا أحرسك وأحفظك
ولا أدل عليك، فأين تريد يا محمد ؟ قال: يثرب. قال: والله لأسلكن بك مسلكا لا يهتدي إليه أحد... فقال له رسول
الله: إئت عليا وبشره بأن الله قد أذن لي في الهجرة فيهئ لي زادا وراحلة. وقال
له أبو بكر: إئت أسماء بنتي وقل لها: تهئ لي زادا وراحلتين، وأعلم عامر بن فهيرة
أمرنا - وكان من موالي أبي بكر وقد أسلم - وقل له: ائتنا بالزاد والراحلتين. فجاء ابن اريقط الى علي
(عليه السلام) وأخبره بذلك. فبعث علي بن أبي طالب الى رسول الله بزاد وراحلة،
وبعث ابن فهيرة بزاد وراحلتين (إعلام الورى: 63، 64.). ولكنه (الطبرسي) عاد في ذكر مقامات علي (عليه السلام) فروى مختصر خبر ابن أبي رافع عن علي بن ابراهيم بن هاشم قال: كان
علي (عليه السلام) يجهز النبي (صلى الله عليه وآله) حين كان في الغار يأتيه
بالطعام والشراب، واستأجر له ثلاث رواحل للنبي ولأبي بكر ولدليلهم (اعلام
الورى: 190 عن القمي ولم نجده في تفسيره.). ونقل ابن شهر آشوب
عن الثعلبي في تفسيره وابن عقب في ملحمته وأبي السعادات في (فضائل العشرة)،
والغزالي في (الاحياء) وفي (كيمياء
السعادة) برواياتهم عن أبي
اليقظان (عمار بن ياسر) ومن الخاصة: ابن بابويه وابن شاذان والكليني والطوسي
وابن عقدة وابن فياض والعبد لي والصفواني والثقفي بأسانيدهم عن ابن عباس وأبي
رافع وهند بن أبي هالة عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: أوحى الله الى جبرئيل وميكائيل أني آخيت بينكما وجعلت عمر
أحدكما أطول من عمر صاحبه. فأيكما يؤثر أخاه ؟ فكلاهما كرها الموت. فأوحى الله اليهما:
ألا كنتما مثل وليي
علي بن أبي طالب: آخيت
بينه وبين محمد نبيي فآثره بالحياة على نفسه، فظل على فراشه يقيه بمهجته، اهبطا
الى الأرض فاحفظاه من عدوه. فهبط جبرئيل فجلس عند رأسه وميكائيل عند رجليه وجعل جبرئيل يقول:
بخ بخ ! من مثلك يابن
أبي طالب والله يباهي به الملائكة ؟ ! وأنزل الله فيه: * (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله) * (مناقب آل أبي طالب 2: 64، 65 والكليني في الروضة: 119 والطوسي في
الأمالي: 300 والكراجكي في كنز الفوائد عن الخطيب الخوارزمي في مناقبه. واليعقوبي
2: 39 ط بيروت. والآية في البقرة: 207.). |
منازل
الطريق:
|
قال الطبرسي في " إعلام الورى " في تتمة خبر علي بن
ابراهيم القمي: وخرج
رسول الله من الغار وأخذ به ابن اريقط على طريق نخلة بين الجبال، فلم يرجعوا الى
الطريق (الأعظم) الا بقديد (قاله ابن اسحاق في سيرته وأضاف: ثم أجاز بهما فسلك بهما الخرار، ثم
سلك بهما ثنية المرة، ثم سلك بهما لفتا أو لقفا، ثم أجاز بهما مدلجة لقف، ثم
استبطن بهما مدلجة مجاح أو محاج، ثم سلك بهما مرجح مجاح، ثم تبطن بهما مرجح ذي
الغضوين أو العضوين ثم بطن وادي ذي كثر، ثم أخذ بهما على الجداجد ثم على الأجرد،
ثم سلك بهما ذا سلم من بطن مدلجة تعهن، ثم على العبابيد أو العبابيب أو
العيثانة، ثم أجاز بهما الفاجة أو القاحة، ثم هبط بهما العرج، ثم خرج بهما
دليلهما من العرج فسلك بهما ثنية العائر أو الغائر عن يمين ركوبة، حتى هبط بطن
يرئم، ثم هبط بهما قباء على بني عمرو بن عوف لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول
يوم الاثنين حين اشتد الضحى بل كادت الشمس أن تعتدل. سيرة ابن هشام 2: 136.). فنزلوا على ام معبد هناك (إعلام
الورى: 64.). وكانت امرأة برزة تحتبئ وتجلس بفناء الخيمة، فسألوا تمرا ولحما
ليشتروه فلم يصيبوا عندها شيئا من ذلك، وإذا القوم مرملون، وقالت: لو كان عندنا
شئ ما أعوزكم القرى. فنظر رسول الله في كسر خيمتها فقال: ما هذه الشاة يا ام
معبد ؟ قالت: شاة خلفها الجهد عن الغنم. فقال: هل بها من لبن ؟ قالت: هي أجهد من
ذلك. قال: أتأذنين لي أن أحلبها ؟ قالت: نعم بأبي أنت وامي ان رأيت بها حلبا
فاحلبها. فدعا رسول الله بها فمسح ضرعها وذكر اسم الله وقال: اللهم بارك في
شاتها. فتفاجت ودرت ! فدعا رسول الله باناء لها يريض الرهط فحلب فيه ثجا حتى
علته ثمالته فسقاها، فشربت حتى رويت، ثم سقى أصحابه فشربوا حتى رووا، فشرب هو آخرهم
وقال: ساقي القوم آخرهم شربا. فشربوا جميعا علا بعد نهل حتى أراضوا، ثم حلب فيه
ثانيا عودا على بدء فغدوا عندها ثم ارتحلوا عنها. فقلما لبثت أن جاء زوجها أبو معبد يسوق عنزا عجافا هزلا، ومخاجهن
قليل، فلما رأى اللبن قال: من أين لكم هذا ؟ والشاة عازب ولا حلوب في البيت ؟
قالت: لا والله الا أنه مر بنا رجل مبارك كان من حديثه كيت وكيت (إعلام
الورى: 24 وذكره في الخرائج 1: 146، 147، خ 234 وفيه أنه قصد رسول الله فآمن هو
وأهله.). وروى الكليني في "
روضة الكافي " بسنده عن الصادق (عليه السلام) قال: كانت قريش قد جعلت لمن يأخذ رسول الله لما خرج من الغار متوجها الى
المدينة مائة من الابل، فخرج سراقة بن مالك بن جعشم فيمن يطلب، فلحق برسول الله،
فقال رسول الله: اللهم اكفني شر سراقة بما شئت. فساخت قوائم فرسه، فثنى رجله
وقال: يا محمد، اني علمت أن الذي أصاب قوائم فرسي إنما هو من قبلك، فادع الله أن
يطلق لي فرسي، فلعمري ان لم يصبكم مني خير لم يصبكم مني شر. فدعا رسول الله (صلى
الله عليه وآله) فأطلق الله عزوجل فرسه، فعاد في طلب رسول الله (صلى الله عليه
وآله)، فعل ذلك ثلاث مرات، كل ذلك يدعو رسول الله فتأخذ الأرض قوائم فرسه، فلما
أطلقه في الثالثة قال: يا محمد، هذه ابلي بين يديك فيها غلامي، وإن احتجت الى
ظهر أو لبن فخذ منه، وهذا سهم من كنانتي علامة، وأنا أرجع فأرد عنك الطلب. فقال:
لا حاجة لي فيما عندك (روضة الكافي: 219 وفي البحار 19: 88 عنه.). وذكر الطبرسي الخبر في
" إعلام الورى " بلا رواية قال: وتبعه (صلى الله عليه وآله) وهو متوجه الى المدينة سراقة بن جعشم
المدلجي طالبا غرته ليحظى بذلك عند قريش، حتى إذا أمكنته الفرصة في نفسه وأيقن
أن قد ظفر ببغيته، ساخت قوائم فرسه، حتى تغيبت بأجمعها في الأرض، وهو بموضع جدب
وقاع صفصف. فعلم أن الذي أصابه سماوي فنادى: يا محمد أدع ربك يطلق لي فرسي وذمة
الله علي أن لا أدل عليك أحدا. فدعا له، فوثب جواده كأنه أفلت من انشوطة، وكان
رجلا داهية فعلم بما رأى أنه سيكون له نبأ فقال: اكتب لي أمانا فكتب له وانصرف (إعلام
الورى: 24.). فلما كان من الغد وافته قريش فقالوا: يا سراقة هل لك علم بمحمد ؟
قال: قد بلغني أنه قد خرج عنكم، وقد نفضت هذه الناحية لكم ولم أر أحدا ولا أثرا،
فارجعوا فقد كفيتكم ما ها هنا (إعلام الورى: 64.)
فقال أبو جهل في أمر
سراقة أبياتا، فأجابه سراقة: أبا حكم، والله لو كنت
شاهدا * لأمر جوادي إذ تسيخ
قوائمه علمت ولم تشكك بأن محمدا * نبي ببرهان، فمن ذا يقاومه عليك بكف الناس عنه، فانني * أرى أمره يوما ستبدو معالمه (إعلام
الورى: 24 نقلا عن محمد بن اسحاق، ولا توجد في سيرته برواية ابن هشام، فرواها
المحققون في الهامش 2: 135 عن الروض الانف للسهيلي. فلعل الطبرسي نقلها عن سيرة
ابن اسحاق نفسه، وقد صرح ابن هشام في مقدمته بحذفه كثيرا من الأشعار. وتمام خبر
الكتاب عند ابن اسحاق عن سراقة قال: فكتب لي كتابا في عظم أو رقعة أو خزفة (!)
ثم ألقاه الي فأخذته فجعلته في كنانتي ورجعت وسكت حتى إذا كان فتح مكة وفرغ من
حنين والطائف فخرجت ومعي الكتاب لألقاه فلقيته بالجعرانة... فدنوت منه فاسلمت ثم
رجعت الى قومي فسقت صدقتي إليه. سيرة ابن هشام 2: 635. وروى البيتين الاوليين
اليعقوبي 2: 40 ط بيروت.) ونقله كذلك القطب
الراوندي في " الخرائج والجرائح " قال: ولما خرج النبي (صلى الله عليه وآله) وهؤلاء أصبحوا من تلك الليلة
التي خرجوا فيها في حي سراقة ابن جعشم، فلما نظر سراقة الى رسول الله قال: أتخذ
يدا عند قريش، وركب فرسه وقصد محمدا. فقال أصحابه: لحق بنا هذا الشيطان ! فقال:
ان الله سكيفينا شره، فلما قرب قال: اللهم خذه ! فارتطم فرسه في الارض، فصاح: يا
محمد خلص فرسي، لا سعيت في مكروه أبدا. وعلم أن ذلك بدعاء محمد (صلى الله عليه
وآله) فقال: اللهم ان كان صادقا فخلصه، فوثب الفرس فقال: يا أبا القاسم ستمر
برعائي وعبيدي، فخذ سوطي، فكل من تمر به فخذ ما شئت فقد حكمتك في مالي. فقال: لا
حاجة في مالك. قال: فسلني حاجة قال: رد عنا من يطلبنا من قريش. فانصرف سراقة
فاستقبله جماعة من قريش في الطلب فقال لهم: انصرفوا عن هذا الطريق فلم يمر فيه
أحد وأنا اكفيكم هذا، وعليكم بطريق اليمن والطائف (الخرائج
والجرائح 1: 145 ط قم..).
|
خروج
علي (عليه السلام) بالفواطم:
|
في خبر الطوسي في أماليه عن عمار بن ياسر وأبي رافع قالا: ثم كتب رسول الله الى علي بن أبي طالب (عليه السلام) كتابا
يأمره فيه بالمسير إليه وقلة التلوم، وكان الرسول إليه أبا واقد الليثي. فلما أتاه كتاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) تهيأ للخروج والهجرة، فآذن من كان معه من ضعفاء المؤمنين وأمرهم
أن يتسللوا ويتحفظوا إذا ملأ الليل بطن الوادي الى ذي طوى (أمالي
الطوسي 2: 84 وعنه في البحار 19: 64.). ونقل ابن شهر آشوب في
" المناقب " عن البكري والطبراني والنجدي والواقدي: أن عليا (عليه
السلام) لما عزم على
الهجرة قال له العباس: ان محمدا (صلى
الله عليه وآله) ما
خرج الا خفيا، وقد طلبته قريش أشد الطلب، وأنت تخرج جهارا في إناث وهوادج ومال
ورجال ونساء وتقطع بهم السباسب والشعاب من بين قبائل قريش ؟ ! ما أرى لك أن تمضي
الا في خفارة خزاعة. فقال علي
(عليه السلام): ان المنية شربة مودودة * لاتنزعن، وشد للترحيل ان ابن آمنة النبي محمدا
* رجل صدوق قال عن جبريل أرخ الزمام ولا تخف من
عائق * فالله يرديهم عن التنكيل اني بربي واثق وبأحمد
* وسبيله متلاحق بسبيلي قالوا: فكمن مهلع غلام حنظلة
بن أبي سفيان في طريقه بالليل، فلما رآه سل سيفه ونهض إليه، فصاح علي صيحة فخر
منها على وجهه وجلله بسيفه، فلما أصبح توجه نحو المدينة، فلما شارف ضجنان أدركه
الطلب ثمانية فوارس (مناقب آل أبي طالب 2: 59.). وخرج علي (عليه
السلام) بفاطمة بنت رسول
الله (صلى الله عليه وآله)، وامه فاطمة بنت أسد ابن هاشم، وفاطمة بنت الزبير بن عبد المطلب -
وقيل: هي ضباعة - وتبعهم أيمن ابن ام أيمن مولى رسول الله وأبو واقد رسول
رسول الله، فجعل يسوق بالرواحل فأعنف بهم، فقال علي (عليه السلام):
إرفق بالنسوة أبا واقد ! إنهن من الضعائف. قال: اني أخاف أن يدركنا الطلب. فقال علي (عليه
السلام): اربع عليك، فان رسول الله قال لي: يا علي إنهم لن يصلوا من الآن
اليك بأمر تكرهه. ثم جعل علي (عليه
السلام) يسوق بهن سوقا
رفيقا وهو يقول: وليس الا الله فارفع
ضنكا * يكفيك رب الناس ماأهمكا فلما شارف ضجنان أدركه الطلب سبعة فوارس من قريش مستلئمين متلثمين،
وثامنهم مولى الحارث بن امية يدعى جناحا. فأقبل علي على أيمن وأبي واقد وقد
تراءى القوم فقال لهما: انيخا الابل واعقلاها. وتقدم حتى أنزل النسوة. ودنا القوم فاستقبلهم علي
منتضيا سيفه، فأقبلوا عليه وقالوا: ظننت أنك يا غدار ناج بالنسوة، ارجع لا أبا
لك. قال: فان لم أفعل ؟ قالوا: لترجعن راغما أو لنرجعن باكثرك شعرا، وأهون بك من
هالك ! ودنا الفوارس من النسوة
والمطايا ليثوروها، فحال علي (عليه
السلام) بينهم وبينها،
فأهوى له جناح بسيفه، فراغ علي
(عليه السلام) عن
ضربته، وتختله علي (عليه
السلام) فضربه على عاتقه
فأسرع السيف مضيا فيه حتى مس كاثبة فرسه. فكان علي (عليه السلام)
يشد على قدمه كشد الفارس على فرسه، فشد عليهم بسيفه وهو يقول: خلوا سبيل الجاهد المجاهد * آليت لا أعبد غير الواحد فتصدع القوم عنه وقالوا: احبس نفسك عنا يابن أبي طالب. قال: فاني منطلق الى ابن عمي رسول
الله بيثرب، فمن سره أن افري لحمه واهريق دمه فليتبعني أو فليدن مني. ثم أقبل
على صاحبيه: أيمن وأبي واقد فقال لهما: أطلقا مطاياكما. ثم سار ظاهرا قاهرا حتى نزل ضجنان، فلبث بها قدر يومه وليلته، ولحق
به نفر من المستضعفين من المؤمنين وفيهم ام أيمن مولاة رسول الله (صلى الله عليه وآله). وبات هو تلك الليلة ومعه الفواطم: امه فاطمة بنت أسد -
رضي الله عنها -
وفاطمة بنت رسول الله، وفاطمة بنت الزبير يصلون ويذكرون الله قياما وقعودا وعلى
جنوبهم، ولم يزالوا كذلك حتى طلع الفجر فصلى بهم علي (عليه السلام)
صلاة الفجر، ثم سار لوجهه يجوب منزلا بعد منزل لايفتر عن ذكر الله، وكذلك
الفواطم وغيرهن ممن صحبه حتى قدموا المدينة، وقد نزل الوحي قبل قدومهم بما كان
من شأنهم (فتلاه عليهم): *
(إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لاولي الألباب الذين
يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما
خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار ربنا إنك من تدخل النار فقد اخزيته وما
للظالمين من أنصار ربنا اننا سمعنا مناديا ينادي للايمان أن آمنوا بربكم فآمنا
ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار ربنا وآتنا ما وعدتنا
على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة انك لا تخلف الميعاد فاستجاب لهم ربهم أني لا
اضيع عمل عامل منكم من ذكر أو انثى بعضكم من بعض) * فالذكر
علي (عليه السلام) والانثى الفواطم المتقدم ذكرهن، فعلي (عليه
السلام) من الفواطم وهن من
علي (عليه السلام) * (فالذين
هاجروا واخرجوا من ديارهم واوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لاكفرن عنهم سيئاتهم
ولا دخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا من عند الله والله عنده حسن
الثواب) * (آل
عمران: 190 - 195.) وقال له: يا
علي، أنت أول هذه الامة ايمانا بالله ورسوله، وأولهم هجرة الى الله ورسوله
وآخرهم عهدا برسوله، لا يحبك - والذي نفسي بيده - الا مؤمن قد امتحن الله قلبه
للايمان، ولا يبغضك الا منافق أو كافر. قال عبيد الله بن أبي رافع: وقال علي بن أبي طالب يذكر مبيته على الفراش ومقام رسول الله في
الغار: وقيت بنفسي خير من وطأ الحصى * ومن طاف بالبيت العتيق وبالحجر وبت اراعيهم متى
يأسرونني (أو ينشرونني) * وقد وطنت
نفسي على القتل والأسر وبات رسول الله في الغار
آمنا * هناك وفي حفظ الاله
وفي ستر أقام ثلاثا ثم زمت قلائص
* قلائص يفرين الحصا
اينما يفري (أمالي الطوسي 2: 83 وعنه في البحار 19: 66، 67 وحلية الأبرار 1: 91.
وأولهم هجرة ليس بمعنى العدد بل كقوله سبحانه: " وأنا أول المسلمين "
أي من حيث النية والبصيرة والاقدام فهو مستعد تماما لأن يكون الأول. ولعل قوله
سبحانه " قاتلوا " كناية عن مقاومة علي (عليه السلام)
للمشركين دفاعا عن الفواطم، وقوله سبحانه: " وقتلوا " كناية عمن قتل
استضعافا كياسر وسمية.). قال الطوسي في "
المصباح ": في
أول ليلة من شهر ربيع الأول كان مبيت أمير المؤمنين (عليه
السلام) على فراش النبي (صلى الله عليه وآله) إذ هاجر من مكة وكانت ليلة الخميس، وفي ليلة الرابع منه كان خروجه
من الغار متوجها الى المدينة (مصباح المتهجد: أول أعمال ربيع الأول.). وهو وان لم يستند في ذلك
الى خبر خاص ولكنه لعله يستند فيما يستند إليه الى ما رواه الكليني في "
روضة الكافي " بسنده عن علي بن الحسين (عليه السلام)
قال: كان خروج رسول الله من
مكة في أول يوم من ربيع
الأول يوم الخميس من سنة ثلاث عشرة من المبعث، وقدم المدينة لاثنتي
عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول مع زوال الشمس فصلى
الظهر ركعتين (روضة
الكافي: 280 والبحار 19: 115 عنه.). تم المجلد الأول من الكتاب بعون الملك الوهاب ضحى يوم الجمعة
الثامن من شهر شوال المكرم من شهور سنة 1410 ه ق وهو يوم هدم قبور أئمة البقيع
- عليهم الصلاة والسلام -.
|
الفهرس موسوعة التاريخ الإسلامي الشيخ محمد هادي اليوسفي ج 1. تقديم كيف ينبغي أن ندرس تأريخ الإسلام
تدوين السيرة النبوية وتأريخ الإسلام:
تدوين السيرة النبوية وتأريخ الإسلام:
اصول السيرة النبوية وتطورها في القرنين الأول والثاني:
عمل ابن هشام في سيرة ابن إسحاق: إذن فقد أسقط ابن هشام من عمل ابن إسحاق:
مكانة الواقدي في الرواية والعلم: الفصل
الاول البيئة العربية والظروف العالمية قبيل ظهور الإسلام
شبه الجزيرة العربية مهد الحضارة الإسلامية:
وقد قسموها قديما إلى ثلاثة اقسام:
ونشرح هذه الاقسام الثلاثة من الجزيرة فيما يلي:
الكعبة المعظمة ومكة المكرمة: "
2 - القسم المركزي والشرقي من الجزيرة يسمى الصحراء
العربية وفيها النجد،
3 - القسم الجنوبي الغربي للجزيرة يسمى: اليمن،
ب - عاد قوم هود (عليه السلام): ج - ثمود قوم صالح (عليه السلام): هل كانت للعرب حضارة قبل الإسلام ؟
قصة أسعد بن زرارة الخزرجي مع رسول الله.
اليهود في يثرب والنصارى في نجران والشام:
من سنن الجاهلية في الابل والغنم: الخرافات في عقائد العرب الجاهليين:
وهنا نأتي نحن بنماذج من خرافاتهم:
سيل العرم وتفرق الأزد في البلدان:
الحضارة في الامبراطوريتين الفارسية والرومية:
اختصاص التعليم بالطبقة الممتازة: ولد اسماعيل بن ابراهيم (عليه السلام):
يثرب بين اليهود والأوس والخزرج: الفصل
الثاني كيف نشأ النبي (صلى الله عليه وآله) آباء النبي (صلى الله عليه وآله) أبناء عبد المطلب والذبيح منهم: الزواج الميمون تزويج عبد الله بآمنة:
رضاع النبي (صلى الله عليه وآله): الرضاع الميمون رضاعه من حليمة السعدية:
وفود عبد المطلب على سيف بن ذي يزن:
الاستسقاء برسول الله (صلى الله عليه وآله):
وفاة ام النبي (صلى الله عليه وآله)، وكفالة جده وعمه له: سفر النبي (صلى الله عليه وآله) الأول مع عمه الى الشام:
كان الله يسلك بالنبي (صلى الله عليه وآله) طريق المكارم:
رعي النبي (صلى الله عليه وآله) للغنم:
السفر الثاني للنبي (صلى الله عليه وآله) الى الشام،
وزواجه بخديجة:
خديجة تعرض نفسها على النبي (صلى الله عليه وآله):
هل كان النبي (صلى الله عليه وآله) أجيرا لخديجة أو مضاربا
؟
دوافع زواج النبي (صلى الله عليه وآله):
أولاد خديجة من النبي (صلى الله عليه وآله):
علي عند النبي (صلى الله عليه وآله):
الفصل
الثالث البعثة النبوية المباركة هل نزل القرآن في دور الكتمان ؟ خطب النبي (صلى الله عليه وآله) للدعوة العلنية:
ما نزل من القرآن قبل " فاصدع ":
إسلام حمزة عم النبي (صلى الله عليه وآله):
الفصل
الخامس الإسراء والمعراج.
ظلم المشركين للمستضعفين من المسلمين:
الفصل السادس الهجرة الى الطائف.. حديث شعب أبي طالب (رضي الله عنه):
إيمان أبي طالب (رضي الله عنه): مقتل ياسر وسمية وتعذيب ابنهما عمار:
الفصل
السابع: الهجرة الى الطائف.. النبي (صلى الله عليه وآله) يعرض نفسه على القبائل:
هجرته (صلى الله عليه وآله) الى الطائف:
لجوء النبي (صلى الله عليه وآله) الى حائط بني مخزوم:
أول لقاء الخزرج بالنبي في موسم العمرة:
الفصل
الثامن بيعة العقبة وانتشار الإسلام في المدينة كانت الصلاة يومئذ الى بيت المقدس: قال ابن اسحاق.
كان العباس يحضر النبي ويتوثق له: الفصل
التاسع هجرة المسلمين الى المدينة إذن النبي (صلى الله عليه وآله) لأصحابه بالهجرة الى
المدينة:
الفصل
العاشر المؤامرة لقتل النبي (صلى الله عليه وآله) علي (عليه السلام) والمبيت في فراش النبي (صلى الله عليه
وآله):
|
موسوعة التاريخ
الإسلامي الشيخ محمد هادي اليوسفي ج 1
|
الكتاب: موسوعة التأريخ الاسلامي / ج 1 المؤلف: الشيخ محمد هادي
اليوسفي الغروي الناشر: مجمع الفكر الإسلامي الطبعة: الاولى / ربيع الثاني 1417
ه. ق |
بسم الله الرحمن الرحيم
|
كلمة المجمع يعتبر التأريخ الإسلامي مصدرا مهما من مصادر المعرفة الإسلامية
باعتبارين. الأول: ان
التأريخ - بشكل عام - ترجمة حقيقية وتعبير واقعي عن الأفكار والآراء والمفاهيم
التي تبناها الإنسان على مدى التأريخ فجسدها في سلوكه ونشاطه. والثاني: ان
التأريخ مجموعة تجارب ودروس وعبر كلفت البشرية ضحايا هائلة وطاقات ضخمة، لذلك
كان جديرا بإمعان النظر فيه وبذل الجهود الحثيثة لتحليل أحداثه والاهتداء إلى سننه
لكي تتوضح للبشرية الحقائق التي ترسم لها خطي السعادة والشقاء. وتجلت في التأريخ الإسلامي
عظمة الإسلام وشموخه وحيويته، فكان مصدرا من مصادر فهم السيرة النبوية فضلا عن
قدرته على التعبير عن التجربة الاولى للإسلام القادر على صنع الإنسان الأمثل
والمجتمع الأمثل، ولهذا فهو جدير بالدراسة العلمية الموضوعية المعمقة. وتتمثل المهمة الاولى لكل باحث في التأريخ الإسلامي في البحث عن المادة الأساسية للتحليل التأريخي بعد ان كان التأريخ
بشكل عام والتأريخ الإسلامي بشكل خاص عرضة للإهمال والتحريف بدءا بمشكلة المنع
من تدوين الأحاديث والسنة النبوية الشريفة التي تشكل البنية الأساسية للتجربة
الإسلامية الفريدة وانتهاء بإخضاع المؤرخين ونتاجاتهم لأهواء الحكام علاوة على
المتاجرة بكل ما يمكن نسبته إلى رسول الإسلام (صلى الله عليه وآله) وصحابته الكرام من قبل الرواة والمحدثين غير الورعين. فكم من
حوادث مهمة لم تدون أو دونت مختزلة بحجة الاختصار أو لاستلزامها الطعن ببعض
الحكام من صحابة وتابعين، فأدت إلى تزييف الحقائق التأريخية وتشويهها بما لا
يتناسب وعظمة تأريخنا الإسلامي الوضاء. ومن هنا كان على الباحث الموضوعي والمؤرخ المحقق أن يقوم قبل كل شئ
بنقد موضوعي لكل ما جاء في كتب التأريخ والحديث والتراجم والرجال والتفسير بعد
عرضه على العقل السليم ونصوص القرآن الكريم ومحكمات السنة النبوية الشريفة، وهذا ما قام به المحقق المتضلع فضيلة الشيخ محمد هادي اليوسفي الغروي في كتابه هذا (موسوعة التأريخ
الإسلامي). إذ اعتمد على التتبع اللازم في المصادر الأصلية التي تحتوي على
حوادث تأريخية ترتبط بموضوع بحثه، ثم عرضها على القرآن الكريم واصول السنة
الشريفة والعقل السليم، وقد حاول من خلال بحوثه تفنيد ما أورده المستشرقون ومن
حذا حذوهم في تشويه معالم الصورة الإسلامية الناصعة، وتقديم الصورة الأقرب إلى
الواقع عن الإسلام من خلال تأريخه المجيد. وهذه هي الحلقة الاولى من هذه الموسوعة وتختص بالعهد المكي من العصر
النبوي بدءا بحوادث السنة الاولى للهجرة وسوف يستمر البحث في الحلقات الآتية -
إن شاء الله تعالى - عن تأريخ الرسول الأكرم وأهل بيته الطاهرين. ونحن إذ نبارك له جهده المشكور، نتمنى له التوفيق في مواصلة هذا
النشاط المبارك. وآخر دعوانا ان الحمد
لله رب العالمين. قسم التأريخ في مجمع الفكر الإسلامي 8 / 9 /
1373 |
تقديم
كيف ينبغي أن ندرس تأريخ الإسلام
|
التأريخ
قبل الإسلام:
|
التأريخ قبل الإسلام: لم يكن للناس قبل الإسلام مادة للتأريخ، اللهم إلا ما توارثوه
بالرواية، مما كان شائعا بينهم من أخبار آبائهم وأجدادهم وأنسابهم وشعوبهم
وقبائلهم وملوكهم، وما في حياة اولئك من قصص فيها البطولة والكرم والوفاء، وما
كان من خبر الأسر التي تناوبت الإمرة على الناس وما قاموا به من تجهيز الجيوش
وإقامة الحروب وبناء المدن والقصور، إلى أمثال ذلك، مما قامت فيه الذاكرة مقام الكتاب واللسان مقام القلم، يعي الناس منه ويحفظون ثم
يؤدونها كما هي أو
بإضافة أو نقيصة، وكثيرا ماكان بإضافات وتحريفات. كان هذا عند الفرس المجوس،
واليهود الإسرائيليين، والعرب الجاهليين المشركين، واختص هؤلاء بأخبار الجاهلية
الاولى وأنسابها، وما فيها من قصص عن البيت وزمزم وجرهم، وما كان من أمرها، ثم
ماكان من خبر الاسر التي تناوبت الزعامة والإمرة على قريش، وما جرى قبل ذلك لسد
مأرب في اليمن، وما تبعه من تفرق الناس في البلاد. |
التأريخ
بعد الإسلام:
|
التأريخ بعد الإسلام: ثم ظهرت الرسالة المحمدية بصفتها أعظم حادث في حياة البشر عامة
والعرب خاصة، فكان محور تأريخ البشر عامة والعرب خاصة، فما اجتمع ملأ منهم أو
تفرق إلا وحديثهم عنه، ولاتحركت جيوشهم وكتائبهم إلا له أو عليه، حتى تتوجت
جهوده بمعنى قوله سبحانه * (إذا
جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا) * فنبذوا ما كانوا فيه من الجاهلية الجهلاء والضلالة العمياء بهداية
القرآن والإسلام. ويومئذ وبظهور النبي (صلى الله عليه وآله) وظهور دعوته، ظهر مورد
جديد للتأريخ، وهي أحاديث الصحابة والتابعين وأهل بيته (عليهم السلام) عن ولادته
وحياته، وما قام به (صلى الله عليه وآله) من جهاد وجهود في سبيل الله، واصطدام
في ذلك مع المشركين، ودعوة إلى التوحيد، وما كان فيها من أثر للسيف والسنان واللسان والبيان، وأصبحت هذه هي
مواد التأريخ الجديد بصورة عامة وسيرة الرسول بصورة خاصة. |
تدوين
السيرة النبوية وتأريخ الإسلام:
|
تدوين
السيرة النبوية وتأريخ الإسلام:
|
تدوين السيرة النبوية وتأريخ الإسلام: ولم يدون في تأريخ الإسلام أو في سيرته (صلى
الله عليه وآله) شئ،
حتى مضت أيام الخلفاء، لم يدون في هذه المدة شئ سوى القرآن الكريم وتقويم إعرابه
بمبادئ وقواعد النحو على يد أبي الأسود الدؤلي بإملاء أمير المؤمنين علي ابن أبي
طالب (عليه السلام)، وقد كان رسول الله (صلى الله عليه
وآله) يحفز المسلمين على
كتابة القرآن حرصا على حفظه وصيانته، كما إن تفشي العجمة على ألسنة أبناء العرب
على أثر اختلاطهم بغيرهم عند اتساع الرقعة الإسلامية دفعت أبا الأسود الدؤلي إلى
عرض ذلك على علي (عليه السلام) فكان ذلك حافزا على تدوين النحو. وبهذا الاختلاط
ايضا تفشت فيهم أخبار الماضين من ملوك الفرس وبني إسرائيل، فلما كانت أيام
معاوية أحب أن يدون في التأريخ القديم كتاب فاستقدم عبيد بن شرية من صنعاء اليمن
فكتب له كتاب أخبار الماضين من ملوك اليمن من العرب البائدة وغيرهم ومنهم الفرس
والحبشة. وقد كان المسلمون يحبون أن يخلدوا آثار ما يتعلق بسيرة الرسول (صلى
الله عليه وآله)، وقد كان هذا يحقق ما في نفوسهم من تعلق به - عليه الصلاة
والسلام -، ولكنهم - ببالغ الأسف - منعوا عن تدوين أحاديثه مخافة أن يختلط
الحديث بالقرآن الكريم - كما زعموا -، بل منعوا حتى عن التحديث بحديثه، حاشا
أمير المؤمنين عليا (عليه السلام)، فإنه لم يشارك في هذا المنع ولم يؤيده، بل
كما أملى النحو على كاتبه أبي الأسود الدؤلي كتب هو أيضابعض الكتب في الفقه
والحديث، وأمر كاتبه الراتب عبيد الله بن أبي رافع أن يكتب المهم من أقضيته،
وأحكامه في فنون الفقه من الوضوء والصلاة وسائر الأبواب (انظر
رجال النجاشي: 4 - 7، ط. النشر الإسلامي.). وبهذا الموقف من أمير المؤمنين (عليه السلام)، وبفعل حاجة المسلمين
إلى أحاديث نبيهم ظهر فيهم غير واحد من حملة الأحاديث العلماء الفقهاء، ولكن حيث
استمر هذا المنع رسميا من قبل الخلفاء بعد علي وابنه الحسن (عليهما السلام) إلى
أيام عمر بن عبد العزيز، قام رجال كلهم محدثون، لم يدونوا في الحديث والفقه
شيئا، ولكنهم عوضوا عن
كتابة أحاديثه بكتابة شئ من سيرته (صلى الله عليه وآله). |
اصول
السيرة النبوية وتطورها في القرنين الأول والثاني:
|
اصول السيرة النبوية وتطورها في القرنين الأول والثاني: لا شك في الأهمية الكبرى التي كانت لأقوال النبي (صلى
الله عليه وآله)
وأعماله في حياته، وأكثر منها بعد وفاته. ومن الطبيعي أن تورث هذه
الأهمية عناية بتدوين تفاصيل حياته وجمع الأخبار والأحاديث عنه (صلى
الله عليه وآله).
وطبيعي أيضا أن تكون القصص الشعبية عن سيرته موجودة في حياته معتنى بها - كحال
الناس في العناية بقصص الأنبياء من قبل -. وطبيعي أيضا أن يكون بعض
الصحابة والتابعين قد تفوق على أقرانه في علمه بسيرته ومغازيه. |
كتاب
السيرة الأوائل:
|
إن أول من صنف في السيرة هو عروة بن الزبير بن العوام (ت 92 ه). وذكر ابن سعد في كتابه " الطبقات " ما يفيد: أن أول من تخصص فيها هو أبان بن عثمان بن عفان (ت 105 ه)، روى بعضها عنه المغيرة بن عبد الرحمن. ثم تنبه إلى جمع أخبارها
والتحديث بها وهب
بن منبه اليمني (ت 110 ه). ثم عاصم
بن عمر بن قتادة (ت 120 ه)
الذي يروي عنه ابن
إسحاق بعض أخبار سيرته كخبره
عن دعاء النبي للاستسقاء في طريق تبوك، وكثرة النفاق. ثم شرحبيل
بن سعد الشامي (ت 123 ه). ثم عبد
الله بن أبي بكر بن حزم القاضي (ت 135 ه) الذي طلب منه عمر بن عبد العزيز أن يكتب إليه ما عنده من الأحاديث
فنشرها بين الناس. ثم موسى
بن عقبة (ت 141 ه). ثم معمر
بن راشد (ت 150 ه). ثم محمد
بن إسحاق بن يسار المدني وقيل
بشار - بن خيار من سبي عين تمر بالعراق (ت 153 ه). ثم راويته زياد بن عبد الملك البكائي الكوفي العامري (ت 183 ه). ثم محمد
بن عمر بن واقد المعروف بالواقدي صاحب كتاب المغازي (ت 207 ه). ثم
راوية ابن زياد البكائي عن ابن إسحاق: عبد
الملك بن هشام الحميري اليمني البصري (ت 218 ه). ولم يصلنا من كتب هؤلاء شئ سوى سيرة ابن إسحاق برواية ابن هشام عن البكائي عن ابن
إسحاق، ومغازي الواقدي، اللهم
إلا روايات في طيات
امهات المصادر التأريخية فيما بعد. |
المؤرخون
الأوائل:
|
وإلى جانب هؤلاء ظهر من لم يقتصر على أخبار سيرة الرسول (صلى الله
عليه وآله)، بل جمع إليها أخبار الجاهلية قبل الإسلام، ثم أخبار الخلفاء بعده،
أو جمع أخبار بعض الخلفاء، أو الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) فقط، فكانوا مؤرخين بالمعنى العام. منهم: محمد بن السائب
الكلبي الكوفي النسابة (ت 146 ه) وأبو مخنف لوط بن يحيى الأزدي الكوفي (ت 157 ه). وهشام بن محمد الكلبي
الكوفي (ت 206 ه). ونصر بن مزاحم المنقري الكوفي (ت 212 ه). وعبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري (ت 274 ه). وأحمد بن يحيى بن جابر البلاذري (ت 279 ه). وإبراهيم بن محمد الثقفي
الكوفي الإصبهاني (ت 283 ه). وأبو الفرج علي بن الحسين الأموي الإصبهاني (ت 284 ه). وأحمد بن واضح بن يعقوب البغدادي (ت 292 ه). ومحمد بن جرير الطبري (ت 310 ه). وعلي بن الحسين المسعودي
البغدادي (ت 346 ه). ومحمد بن محمد بن النعمان التلعكبري المفيد (ت 413 ه). |
الأثر
الباقي في السيرة:
|
الأثر الباقي في السيرة: عرفنا أن الكتابة في سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله) كانت قد حصلت في التابعين وتابعي التابعين، كما رأينا قائمة
أسمائهم وتواريخ وفياتهم، ولكنها لم تكن كثيرة، بل هي مهما أطلنا الحديث عنها
كانت قليلة جدا، لا تعدو أن تكون صحفا فيها بعض الأخبار عن سيرة المختار (صلى الله عليه وآله). أما الكتاب الذي كتبت له
الموفقية والنجاح وشهرة الاعتماد والوثوق فهو سيرة محمد بن إسحاق، التي ألفها في
أوائل أيام العباسيين. يروون أنه دخل يوما على المنصور وبين يديه ابنه المهدي، فقال له المنصور: أتعرف هذا يابن إسحاق ؟ قال: نعم، هذا ابن أمير
المؤمنين: فقال: اذهب فصنف له كتابا منذ خلق الله آدم (عليه السلام) إلى يومك
هذا. فذهب ابن إسحاق فصنف
له الكتاب وأتاه به فلما رآه قال: لقد طولته يابن إسحاق فاذهب فاختصره. فاختصره، والقي الكتاب الكبير في خزانة الخليفة. وفي هذا المعنى روي عن
ابن عدي الرجالي المعروف أنه كان يقول في ابن إسحاق: " لو لم يكن لابن إسحاق من الفضل إلا أنه صرف الملوك عن
الاشتغال بكتب لا يحصل منها شئ للاشتغال بمغازي رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومبعثه ومبتدأ الخلق لكانت هذه فضيلة سبق بها ابن إسحاق، وقد فتشت
أحاديثه الكثيرة فلم أجد ماتهيئ أن يقطع عليه بالضعف، وربما أخطأ واتهم في الشئ
كما يخطئ غيره. ولم يتخلف في الرواية عنه الثقات والأئمة الاثبات، أخرج له مسلم
في المبايعات، واستشهد به البخاري في مواضع، وروى له أبو داود والترمذي والنسائي
وابن ماجه ". ثم أصبح ابن إسحاق في الحقيقة عمدة المؤلفين في السيرة، فما من كتاب في السيرة إلا وهو مستمد منه وراو عنه، اللهم إلا ما نأتي عليه من مغازي الواقدي ورواية كاتبه ابن سعد عنه،
وما روي عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، وكذلك أصبح كتاب ابن إسحاق عمدة
الكتب في السيرة لقرائها منذ أن كتبه إلى يومنا هذا ولاسيما بعد تهذيبها من قبل
ابن هشام - بحيث أنك لاتكاد تجد رجلا يدرس سيرة الرسول الكريم إلا وكتاب ابن
إسحاق كتابه الأول والام في ذلك. |
عمل
ابن هشام في سيرة ابن إسحاق:
|
وقد جاء بعده عبد
الملك بن هشام الحميري البصري (ت 218 ه) بنصف قرن تقريبا، فروى سيرة
ابن إسحاق برواية زياد بن عبد الملك البكائي العامري الكوفي (ت 183 ه) ولكنه لم يروها كما
هي بل تناولها بكثير من
التمرير والاختصار والاضافة والنقد أحيانا، والمعارضة بروايات اخر لغيره، عبر عن أعماله هذه بقوله في صدر سيرته: " وانا - إن شاء الله - مبتدئ هذا الكتاب بذكر إسماعيل بن إبراهيم، ومن ولد رسول الله من ولده، أولادهم لأصلابهم الأول فالأول من
إسماعيل إلى رسول الله، وما يعرض من حديثهم - وتارك ذكر غيرهم من ولد إسماعيل للاختصار
- إلى حديث سيرة رسول
الله. وتارك بعض ما
يذكره ابن إسحاق في
هذا الكتاب مما ليس لرسول الله
فيه ذكر ولانزل فيه من القرآن شئ، وليس سببا لشئ من هذا الكتاب ولاتفسيرا له ولا
شاهدا عليه، لما ذكرت من
الاختصار، وأشعارا ذكرها لم أر أحدا من أهل العلم بالشعر يعرفها، وأشياء
بعضها يشنع الحديث به (!)
وبعض يسوء بعض الناس ذكره (!) وبعض لم
يقر لنا البكائي بروايته (؟) ومستقص - إن شاء الله تعالى - ما سوى ذلك منه
بمبلغ الرواية له والعلم به
" (سيرة ابن هشام 1: 4.). |
إذن
فقد أسقط ابن هشام من عمل ابن إسحاق:
|
إذن فقد أسقط ابن هشام من عمل ابن إسحاق: تأريخ الأنبياء من آدم إلى إبراهيم، ومن ولد إسماعيل من ليس في
عمود النسب النبوي الشريف، كما
حذف من الأخبار ما يسوء بعض
الناس ! ومن الشعر ما لم
يثبت لديه. ولكنه زاد فيه
مما ثبتت لديه من رواية، ولذلك
نسبت السيرة إليه
وعرفت به، حتى لا يكاد يذكر
ابن إسحاق معه، فقد
عرفت سيرة ابن إسحاق بين العلماء منذ عهد بعيد
باسم سيرة ابن هشام، لما
له فيها من رواية وتهذيب. وبهذا الصدد قال
ابن خلكان في ترجمة ابن هشام: " وابن هشام هذا هو الذي جمع سيرة رسول الله من المغازي والسير
لابن إسحاق وهذبها ولخصها، وهي
السيرة الموجودة بأيدي الناس المعروفة بسيرة ابن هشام ". ولم تنقطع العناية بالتأليف في السيرة إلى يومنا هذا، إلا أن
الموضوع في ذاته ليس أمرا يقوم على التجارب، أو فكرة يقيمها برهان وينقضها
برهان، شأن النظريات العلمية التي نرى تجديدها وتغييرها على مر السنين، وإنما هو
من العلوم النقلية لا العقلية، فكان المشتغلون به أولا محدثين ناقلين، ثم جاء من
بعدهم جامعين مبوبين ثم ناقدين معلقين. ولم يكن قابلا للتجديد في جوهره، إلا
بمقدار قليل حسب النقد الدقيق، وإنما كان التجديد في أشكاله وصوره شرحا أو
اختصارا، أو شيئا من النقد قليلا مشيرا إلى ما فيه من أخطاء. ولعل الذين
تناولوا السيرة بالتلخيص والاختصار، إنما خففوا من ثقل الكتاب بعض أخباره التي
استبعدوها غير مؤمنين بصحتها، ناقلين من الأخبار ما يرون فيها القرب من الحق،
ومستبعدين مالايجري في ذلك مع فكرتهم وعقيدتهم مفندين إياه رادين له. ولعل من علل انتشار أخبار ابن إسحاق ثم كتابه في السيرة كثرة
رحلاته، فالراجح في تأريخ
مولده في المدينة أنه كان سنة 85 ه ولا يرتاب الرجاليون وأصحاب الطبقات في أنه
أمضى شبابه في المدينة فتى جميلا " فارسي الخلقة " جذاب الوجه له شعرة
حسنة ولذلك حكى ابن النديم بشأنه في فهرسته: أنه اتهم بأنه يجلس في مؤخر المسجد
للصلاة فيغازل بعض النساء، فأمر أمير المدينة بإحضاره وضربه اسواطا ونهاه عن
الجلوس في مؤخر المسجد. ولعله لهذا لم يرو عنه من أهل المدينة غير راو واحد هو
إبراهيم بن سعد فحسب (وانظر تهذيب التهذيب 9: 44.). ولعله لهذا رحل منها سنة 115 ه أي
في الثلاثين من عمره إلى الاسكندرية في مصر، ويظن أنها اولى رحلاته، فانفرد
برواية أحاديث عن عدة من رجال الحديث بها. ثم رحل إلى الكوفة والحيرة، ولعله بها التقى بالمنصور فصنف لابنه المهدي كتاب السيرة كما سبق، فرواها
عنه زياد بن عبد الملك البكائي العامري وغيره، ورحل إلى الجزيرة أي الموصل، والري حتى إذا بنيت بغداد فرجع إليها
وفيها ألقى عصا الترحال، وله من كل هذه البلدان رواة كثيرون. وعاش في بغداد حتى
توفي بها فدفن في مقابر الخيزران. وقد كان ابن إسحاق يعد
في طبقة تلامذة عبد الملك بن شهاب الزهري وأقرانه، وله عنه روايات، ونقل أصحاب
الطبقات أن شيخه ابن شهاب الزهري لم يكن يتهمه بشئ بل كان يوثقه، وتبعه في توثيق
ابن إسحاق من الفقهاء الأئمة: سفيان الثوري وشعبة، بالإضافة إلى راويته زياد ابن
عبد الملك البكائي عنه. وإن
كان هشام بن عروة بن الزبير من رواة السيرة، ومالك بن أنس من
أئمة الفقهاء يتحاملان
عليه بالجرح والتضعيف
ويتهمانه بالكذب والدجل والتدليس، والقول بالقدر، والنقل عن غير الثقات، وأخطاء
في الأنساب. ولكن
لعله لأن ابن إسحاق كان يطعن في نسب مالك وعلمه ويقول: إيتوني ببعض كتبه حتى ابين لكم عيوبه، فأنا بيطار كتبه (راجع
ترجمته وهذه الأقوال في الكامل في الضعفاء لابن عدي 6: 102 - 112. (2) مغازي
الواقدي: 29.) ! إذن فالحملة
متقابلة من الطرفين، والتضعيف ضعيف لأنه معلوم الوجه والعلة " الشخصية
". |
مغازي
الواقدي:
|
مغازي الواقدي: أما الواقدي محمد بن عمر بن واقد مولى بني سهم، فقد ذكر تلميذه ابن
سعد في " الطبقات الكبرى " أنه ولد في المدينة سنة 130 ه أي
بعد خروج ابن إسحاق منها بخمسة عشر عاما، ولذلك لم يرو عنه وإن كان قد روى عن
سائر رواة الأخبار عن الزهري، مع تشابه كبير بين فقرات كتاب السيرة لإبن إسحاق
وكتاب المغازي للواقدي، ولذلك زعم مستشرقان هما (فلهوزن وهورفتس) أنه سرق منه ولم يسنده إليه، وفند زعمهما مستشرق آخر هو (مارسدن جونس) محقق المغازي كما في مقدمته للكتاب (مغازي
الواقدي.29 ) ثم احتمل أن يكون الواقدي قد أعرض عن الرواية عن ابن إسحاق نظرا
إلى عدم توثيق علماء المدينة له. ثم قال: يبدو
واضحا للقارئ الحديث أن من أهم السمات التي تجعل الواقدي في منزلة خاصة بين
أصحاب السير والمغازي تطبيقه المنهج التأريخي العلمي الفني، فإنا نلاحظ عند الواقدي - أكثر مما نلاحظ عند غيره من المؤرخين المتقدمين - أنه كان يرتب التفاصيل المختلفة للحوادث بطريقة منطقية لا تتغير، فهو مثلا يبدأ مغازيه بذكر قائمة طويلة من الرجال الذين نقل عنهم
تلك الأخبار ثم يذكر المغازي واحدة واحدة مع تأريخ محدد للغزوة بدقة، وغالبا ما
يذكر تفاصيل جغرافية عن موقع الغزوة، ثم يذكر المغازي التي غزاها النبي بنفسه،
وأسماء الذين استخلفهم على المدينة أثناء غزواته، وأخيرا يذكر شعار المسلمين في القتال، كل ذلك بالإضافة إلى وصفه
لكل غزوة باسلوب موحد: فيذكر أولا اسم
الغزوة وتأريخها وأميرها. وكثيرا
ما يقدم لنا الواقدي قصة الواقعة
بإسناد جامع، أي يجمع الرجال والأسانيد في متن واحد. وإذا كانت الغزوة قد نزل
فيها آيات كثيرة من القرآن الكريم، فإن الواقدي
يفردها وحدها مع تفسيرها ويضعها في نهاية أخبار الغزوة، وفي المغازي المهمه يذكر الواقدي أسماء الذين استشهدوا فيها. وإن ما أورده في الكتاب
من التفاصيل الجغرافية ليوحي بجهده ومعرفته للدقائق في الأخبار التي جمعها في
رحلته إلى شرق الأرض وغربها طلبا للعلم (مقدمة
المحقق للمغازي 1: 31.). وقد روى الخطيب البغدادي وابن سيد الناس (تأريخ بغداد 3: 6، وعيون الاثر 1: 18.) عن
الواقدي أنه قال: ما أدركت رجلا من أبناء الصحابة وأبناء الشهداء ولا مولى لهم إلا
سألته: هل سمعت أحدا من أهلك يخبرك عن مشهده وأين قتل ؟ فإذا أعلمني مضيت إلى
الموضع فاعاينه، وما علمت غزاة إلا مضيت إلى الموضع فاعاينه، حتى لقد مضيت إلى
" المريسيع " فنظرت إليها. ورووا عن هارون الغروي قال: رأيت الواقدي بمكة ومعه ركوة فقلت: أين تريد ؟ قال: اريد أن أمضي
إلى حنين حتى أرى الموضع والوقعة. ويشهد لنباهة الواقدي بهذا الشأن ما قصه
تلميذه وراويته ابن سعد في الطبقات: إن هارون الرشيد ويحيى بن خالد البرمكي حين
زارا المدينة في حجتهما، طلبا من يدلهما على المشاهد وقبور الشهداء، فدلوهما على
الواقدي، فصحبهما في زيارتهما فلم يدع موضعا من المواضع ولامشهدا من المشاهد إلا
مر بهما عليه. فمنحه هارون الرشيد بعشرة آلاف درهم، فصرفها في قضاء ديون كانت قد
تراكمت عليه وزوج بعض ولده وبقي في يسر وسعة (انظر
الطبقات 5: 315.). ولكنه يعود فيقول: إنه لحقه دين بعد ذلك فذهب إلى العراق سنة 180
ه ((الطبقات 7: 77.) ويفصل الخطيب عن الواقدي يقول: كانت للناس في يدي مائة الف درهم
اضارب بها في الحنطة، وتلفت الدراهم، فشخصت إلى العراق فقصدت يحيى بن خالد
البرمكي (تأريخ بغداد 3: 4.)، ويفصل ابن سعد عنه أيضا يقول: ثم إن الدهر أعضنا، فقالت لي ام
عبد الله: يا أبا عبد الله ماقعودك وهذا وزير أمير المؤمنين قد عرفك وسألك أن
تسير إليه حيث استقرت به الدار. فرحلت من المدينة. ولما دخل بغداد وجد الخليفة
والبلاط قد انتقلوا إلى الرقة بالشام فرحل إليهم حتى لحق بهم (الطبقات
5: 315.) فيقول: صار إلي من السلطان ستمائة الف درهم ما وجبت علي فيها
الزكاة (تأريخ بغداد 3: 20.) ثم رجع معهم إلى بغداد وبقي بها، حتى قدمها المأمون فجعله قاضيا
لعسكر المهدي (الطبقات 7: 77.) وكان العسكر في الجانب الشرقي وكان الواقدي في الجانب الغربي فلما
انتقل حمل كتبه على عشرين ومائة وقر (تأريخ
بغداد 3: 5 وعيون الاثر 1: 18 والوافي بالوفيات 4: 238 وسير اعلام النبلاء 7:
118.) فولي القضاء مدة أربع سنوات قبل وفاته، وأوصى إلى المأمون فقبل
وصيته وأرسل إليه بأكفانه وقضى دينه (الطبقات
5: 315. الطبقات 5: 321 وتأريخ بغداد 3: 20 وتأريخ دمشق 11: 3 والوافي بالوفيات
4: 238.). ذكر ابن سعد - وهو تلميذه وكاتبه وراويته - يقول: مات
ببغداد ليلة الثلاثاء لإحدى عشرة ليلة خلت من ذي الحجة سنة سبع ومائتين ودفن يوم
الثلاثاء في مقابر الخيزران، وهو ابن ثمان وسبعين سنة (الطبقات
7: 77.). |
مكانة
الواقدي في الرواية والعلم:
|
وتتجلى مكانته في الرواية والعلم في وصف كاتبه وتلميذه ابن سعد له حيث يقول: كان عالما بالمغازي والسيرة والفتوح واختلاف الناس في الحديث
والأحكام، واجتماعهم على ما أجمعوا عليه، وقد فسر ذلك في كتب استخرجها ووضعها
وحدث بها (الطبقات 5: 144.). وقال عنه ابن النديم في الفهرست: إنه كان عنده غلامان يعملان ليلا ونهارا في نسخ الكتب، وقد ترك
عند وفاته ستمائة قمطر من الكتب يحتاج كل منها إلى رجلين لحمله (الفهرست:
144.). ونقل الخطيب البغدادي عن علي بن المديني: أن ما جمع الواقدي من الأحاديث بلغ عشرين ألف حديث (تأريخ
بغداد 3: 13.). ونقل ابن سيد الناس عن يحيى بن معين أنه قال: أغرب الواقدي على رسول الله في عشرين ألف حديث. ثم قال ابن سيد الناس: وقد روينا عنه من تتبعه آثار مواضع الوقائع وسؤاله من أبناء
الشهداء والصحابة ومواليهم عن أحوال سلفهم ما يقتضي انفرادا بالروايات وأخبارا
لا تدخل تحت الحصر (عيون الأثر 1: 20.). ونقل
الذهبي عن إبراهيم الحربي أنه كان يقول عنه: إنه كان أعلم الناس بأمر الإسلام، فأما أمر الجاهلية فلم يعلم
منها شيئا (سير الأعلام 7: 117.) ثم
ذكروا له زهاء ثلاثين كتابا. ونرى في قائمة كتبه كتاب الطبقات، ولنا أن نتمثله
في كتاب الطبقات الكبرى لتلميذه وكاتبه محمد بن سعد، فقد نقل عنه كثيرا ولاشك
أنه صنفه على غرار كتاب شيخه وروى فيه عن غيره أيضا. ومن كتبه كتاب الردة، ذكر فيه ارتداد العرب بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله)، ومحاربة الصحابة لطلحة بن خويلد الأسدي ومسيلمة الكذاب وسجاح في
اليمامة والأسود العنسي في اليمن. وقد نقل عنه تليمذه ابن سعد في الطبقات
والطبري في تأريخه أخبار الأحداث التي تلت وفاة النبي، وإنما هو من كتابه في
الردة. ويمكن القول بأن ما نقله ابن سعد، والطبري عنه عن الواقدي من أخبار الجاهلية فهو من
كتاب سموه: " كتاب التأريخ والمغازي والمبعث "، هكذا بتقديم المغازي على المبعث وتأخير المبعث عن المغازي، الذي
عدوه غير كتاب المغازي. والطبري ينقل المغازي عن الواقدي مباشرة ولكنه حين يورد
أخبار الجاهلية وما قبل الإسلام فإنه يرويها عن ابن سعد عن الواقدي، مما يدل على
أنه اعتمد في المغازي على كتاب المغازي للواقدي، وأما في أخبار الجاهلية فهي من
كتاب آخر له لعله هو التأريخ والمبعث. ومن كتبه " فتوح الشام وفتوح العراق "، وقد نقل البلاذري
في كتابه
" فتوح البلدان " عن الواقدي كثيرا،
وهو من تلامذة ابن سعد كاتب الواقدي، فهو قد روى كتاب شيخه له ورواه البلاذري كما نقل ابن كثير
في " البداية والنهاية " كثيرا من حوادث سنة 64 ه والطبري نقل عنه كثيرا من حوادث النصف الثاني من القرن الثاني أي التي عاشها الواقدي. |
حول
تشيع الواقدي وابن إسحاق
|
قال ابن النديم (الفهرست: 144، هذا وقد روى ابن عدي الرجالي عنه في كتاب الكامل في
الضعفاء 6: 242، برقم 1719 بسنده عن بشر بن سعيد، قال: سألت زيد الجهمي: أوصى
النبي إلى أحد ؟ فقال: لا.) في فهرسته عن
الواقدي: كان يتشيع، حسن
المذهب، يلزم التقية، وهو الذي روى ان عليا كان من معجزات النبي (صلى الله عليه
وآله) كالعصا لموسى واحياء الموتى لعيسى بن مريم (عليهما السلام)، وغير ذلك من
الأخبار (الفهرست:
144.). ونقل هذا القول عنه السيد الأمين العاملي صاحب "
أعيان الشيعة " وترجم
له (أعيان الشيعة 46: 171.)،
وكذلك ذكره آقا بزرك الطهراني في " الذريعة إلى تصانيف الشيعة " (الذريعة
3: 293.) عند الحديث عن تأريخ الواقدي. بينما لم يذكره الشيخ الطوسي في فهرسته ولارجاله ولاذكر كتابا من
كتبه حتى مقتل الحسين (عليه السلام). وابن أبي
الحديد حينما ينقل فقرة
طويلة عن الواقدي ثم يورد رواية اخرى مختلفة عن الاولى يبدؤها بقوله:
" وفي رواية الشيعة " (شرح نهج
البلاغة 3: 339.)، مما يدل على أنه لم يعتبره شيعيا ولاممثلا لهم. ومن الطريف أن
يلاحظ أن ابن إسحاق أيضا كان
يتهم بالتشيع (معجم الادباء 18: 7.). ولعل
السبب في وصفهما بالتشيع لا يرجع
إلى عقيدتهما الشخصية، بل
إلى ما ورد في كتابيهما من الأخبار التي يعرضونها مما
تقتضيه طبيعة التأليف في مثل هذه الموضوعات لا عن عقيدة صحيحة بها، وإلى ماأورداه في بعض المواضع من كتابيهما بشأن جماعة من الصحابة
منهم بعض الخلفاء فيذكر انهم بعبارات لاتضعهم في الموضع الموضوع لهما عند
كثير من المسلمين. ولذلك فان أكثر النقاد من المحدثين الأوائل كانوا يضعفون
الواقدي في الحديث. فقد قال البخاري والرازي
والنسائي والدارقطني: انه متروك الحديث،
ولكنهم لم يجمعوا على ذلك، فقد وصفه الدرآوردي
بأنه: أمير المؤمنين في الحديث. وقال يزيد بن هارون: الواقدي ثقة. ووثقه مصعب الزبيري، ومجاهد بن موسى، والمسيب وأبو عبيد القاسم
بن سلام، وأبو بكر الصغائي (تهذيب
التهذيب 9: 364.). وقال إبراهيم الحربي: هو آمن الناس على أهل الإسلام (عيون
الأثر 1: 18.). وقال ابن
النديم: كان عالما
بالمغازي والسير والفتوح واختلاف الناس في الحديث والفقه والأحكام والأخبار (الفهرست:
144.). أما بالنسبة لابن
إسحاق: فقد عقد الخطيب
البغدادي في كتابه "
تأريخ بغداد " وكذلك
ابن سيد الناس في كتابه "
عيون الأثر " فصلين
فندا فيهما جميع المطاعن التي وجهت إليه. وبالنسبة لتشيعه وقوله بالقدر قالا ما ملخصه: أما ما رمي به من التدليس والقدر والتشيع فلا يوجب رد روايته، ولا
يوقع فيها كبير وهن، أما
التدليس فمنه القادح وغير
القادح، ولا يحمل ما وقع هنا من مطلق التدليس على التدليس المقيد بالقادح في
العدالة، وكذلك القدر والتشيع لا يقتضيان الرد إلا بضميمة اخرى لم نجدها هنا. والعجيب أنك لاتجد شيئا من هذا التشكيك في عبد
الملك بن هشام مهذب سيرة ابن إسحاق، فلو كان العيب في هذا
الباقي من سيرة ابن إسحاق لشمل الشك ابن هشام أيضا. وعندئذ نطمئن إلى ان العيب ليس في هذا الباقي بل فيما
قال عنه ابن هشام: " وتارك بعض ما يذكره ابن
إسحاق في هذا الكتاب... أشياء بعضها يشنع الحديث به، وبعض يسوء بعض الناس ذكره، وبعض لم يقر لنا البكائي بروايته،
ومستقص ما سوى ذلك ". وعندئذ تجد محور
اتهام التشيع أيضا. وقد رأينا أنا إذا
استثنينا هذين المتهمين بالتشيع لم يبق لعامة المسلمين شئ يذكر في السيرة ولا
المغازي. وعندئذ ندرك أيضا
أن السابقين الأولين إلى تدوين سيرة الرسول ومغازيه أي الصدر الأول من تأريخ
الإسلام هم من شيعة أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أو المقاربين لهم المتهمين
بهم. |
نقد
كتب السيرة:
|
نقد كتب السيرة:
لعل النظر إلى تراث السلف الصالح - ولاسيما سيرة الرسول الكريم - بنظرة التقديس،
هو الذي أدى بالمؤلفين في السيرة على اختلاف طبقاتهم أن لايقفوا موقف الناقد
البصير، فلم نر منهم من يعرض لما تحمله السيرة بين دفتيها من أخبار ضعيفة بعيدة
عن الحقيقة لينقدها ويأتي على نقاط الضعف فيها، فهذا ما حرمه هذا العلم في جميع
أدواره السالفة إلى عهدنا هذا الأخير، حيث أخذ المستشرقون والمتأثرون بهم
يتناولون خبرا أو خبرين من السيرة وسيلة للطعن في شخص النبي الكريم (صلى الله
عليه وآله) أو ما يتصل به، فآمن بعض أصحاب الأقلام الجديدة بأن في السيرة أخبارا
لاتمت إلى الحق بصلة في قليل ولا كثير، ثم تجرؤوا فأقدموا على تهذيب السيرة مما
الصق بها وهي ليست منها، كقصة شق الصدر والغرانيق (انظر
ملخص القصة في ذيل الصفحة التالية.) وغرام
الرسول (صلى الله عليه
وآله) بزوجة زيد ربيبه ! إن
سيرة محمد (صلى الله عليه
وآله) كسائر العظماء اضيف
إليها ما ليس منها، إما عن حب وهوى وحسن نية وطوية، وإما عن حقد وسوء قصد متعمد،
ولكنها تمتاز عن سير جميع العظماء بأن شيئا كثيرا منها ضمه الوحي الإلهي وضمن
حفظه القرآن الكريم، وكثيرا منها مروي على لسان الحفاظ الثقات من المحدثين. فعلى
هذه الاسس الصحيحة يجب أن تبنى السيرة، وأن تحلل التحليل العلمي النزيه بملاحظة
ظروف الوسط وحال البيئة وجوانبها المختلفة من عقائد ونظم وعادات وتقاليد وطقوس،
وأن لايبنى الأساس على المعجزات والكرامات وخوارق العادات إلا ما خرج بالدليل بل
يبنى على أساس " إن الله أبى أن يجري الأشياء إلا بأسباب " (اصول
الكافي 1: 183، عن الصادق (عليه السلام) اللهم
إلا ما خرج بالدليل الثابت المعقول. |
الخلاف
في كتب السيرة وبينها:
|
إن الدارس لكتب السيرة والتأريخ يلاحظ أن ماروته من أنباء الخوارق والمعجزات وغيرها من كثير من الأنباء،
ينقص ثم يزيد بزيادة الأزمان التي وضعت فيها هذه الكتب، فقديمها أقل رواية
للخوارق من متأخرها، وما ورد من الخوارق في الكتب القديمة أقل بعدا عن مقتضى
العقل مما ورد في كتب المتأخرين. فهذه سيرة ابن هشام أو قل ابن إسحاق أقدم السير المعروفة اليوم
تغفل كثيرا عما ذكره أبو الفداء في تأريخه وما ذكره القاضي عياض في "
الشفاء " وعن جميع كتب المتأخرين تقريبا. فلا بد للباحث من أن يقبل لنفسه مقياسا يعرض عليه ما اتفقوا عليه
وما اختلفوا فيه، فما صدقه هذا المقياس أقره وأقر به وقربه، وما لم يصدقه فلم
يورده بل يرده " (مثلا:
إن قصة الغرانيق التي تذهب إلى أن النبي لما ضاق ذرعا بسادات قريش فتلا عليهم
سورة النجم حتى إذا بلغ فيها إلى قوله سبحانه * (أفرأيتم اللات والعزى ومناة
الثالثة الاخرى) * أضاف إليها * (تلك الغرانيق العلى منها الشفاعة ترتجى). وهناك سبب آخر يوجب تمحيص ما ورد في كتب السلف ونقده نقدا علميا دقيقا،
هو أن أقدمها كتب بعد وفاة النبي بمائة سنة أو أكثر، وبعد أن ثم أتم السورة فسجد وسجد
المسلمون والمشركون ! وقد
رواها ابن إسحاق ثم قال: إنها من وضع الزنادقة. وذكرها ابن كثير في
كتابه " البداية والنهاية " فقال " ذكروا قصة الغرانيق، وقد أحببنا الإضراب عن ذكرها صفحا لئلا
يسمعها من لا يضعها في مواضعها، إلا أن أصل القصة في الصحيح، ثم ذكر حديثا عن البخاري في أمرها وأردفه بقوله " انفرد به
البخاري دون مسلم ". أما الذي يتخذ عصمة الرسول في تبليغ الرسالة مقياسا للأخذ والرد، فلا
يتردد في نفي القصة من أساسها، بل يتفق مع ابن إسحاق في أنها من وضع الزنادقة،
ويكتفي في ردها بما فيها من نقض ما للرسول من عصمة في تبليغ رسالة ربه، كما
تقتضي ذلك قواعد النقد العلمي، كما فعل هيكل في كتابه: 48 و 161 - 147. فشت في الدولة الإسلامية دعايات سياسية وغير سياسية كان اختلاق
الروايات والأحاديث من وسائلها للغلبة على خصومها، فكيف بما كتب متأخرا في أشد أزمان الاضطرابات والقلاقل ؟ وكيف بما
ورد في المتأخر من كتب السيرة ؟ فهل يمكن الأخذ به بدون تمحيص بدقة علمية ؟ وقد أدت المنازعات السياسية وغيرها التي حدثت بعد الصدر الأول من
الإسلام، إلى اختلاق كثير من الروايات والأحاديث تأييدا لها، هذا والحديث لم يدون إلى أواخر عصر الأمويين. ذلك لأن عمر عزم على
ذلك فأصبح يوما يقول: إني
كنت أردت أن أكتب السنن، ثم عدلت عن كتابتها، فإني - والله - لا أشوب كتاب الله
بشئ أبدا ! ثم كتب إلى
الأمصار بذلك يقول: من كان عنده شئ غير القرآن فليمحه ! وظل
الأمر كذلك - ما عدا عهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وابنه الحسن (عليهما
السلام) - حتى أمر عمر بن
عبد العزيز بجمع الحديث (طبقات
ابن سعد 3: 206.). أما كيف روى مثل البخاري مثل قصة الغرانيق - مثلا - ؟ فقد اعتذر عن مثل ذلك النووي في شرحه لصحيح مسلم قال: "
أخذ جماعة على البخاري ومسلم أحاديث أخلا بشرطيهما فيها ونزلت عن درجة ما
التزماه " وقد التزما بمقياس السند والثقة بالرواية في قبول الحديث ورفضه، ولكنه وحده غير كاف لذلك. بل إن خير مقياس يقاس به الحديث والخبر عن النبي ما روي عنه - عليه
الصلاة والسلام - قال: " إنكم ستختلفون من بعدي، فما جاءكم عني فاعرضوه على
كتاب الله فما وافقه فمني وما خالفه فليس مني " (لم نعثر
على هذه الرواية بهذا النص في الجوامع الحديثية ولكن ورد مضمونها في البحار 2:
225.) فهو
مقياس صحيح أخذ به كثير من الثقات، وهو يتفق مع قواعد النقد العلمي، وقال ابن
خلدون بشأنه: " إنني لا
أعتقد صحة سند حديث ولاقول صحابي عالم يخالف ظاهر القرآن، وإن وثقوا رجاله، فرب راو يوثق للاغترار بظاهر حاله وهو سئ الباطن. ولو انتقدت الروايات من جهة فحوى متنها كما تنتقد من جهة سندها لقضت المتون على كثير من الأسانيد بالنقض. وقد قالوا: إن من علامة الحديث الموضوع: مخالفته لظاهر القرآن، أو
القواعد المقررة في الشريعة، أو لبرهان العقل، أو الحس والعيان وسائر اليقينيات
". حقا إن اختلاف
المسلمين بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) بلغ حدا دعا الدعاة فيهم إلى
اختلاق الآلاف المؤلفة من الأحاديث والروايات. لما قتل عثمان وبدأت الحروب الداخلية بين المسلمين بخصومة خصماء
علي (عليه السلام)، وأيد أمير المؤمنين من أيده، ثم استتب الأمر لبني امية جعل
المحدثون المتصلون ببني امية يضعفون ما يروى عن علي بن أبي طالب (عليه السلام)
وفضائله، وكما جعل أنصار عائشة يشيعون عنها ما يؤيد دعواها. ومن طريف ما يروى في ذلك: ما رواه الذهبي في ترجمة إسماعيل بن
المثنى الاسترآبادي: كان
يعظ بدمشق، فقام إليه رجل فسأله عن قول النبي: أنا مدينة العلم وعلي بابها ؟
فأطرق إسماعيل لحظة ثم رفع رأسه وقال: نعم لايعرف هذا الحديث عن النبي إلا من
كان في صدر الإسلام، إنما
قال النبي: أنا مدينة العلم
وأبو بكر أساسها وعمر حيطانها وعثمان سقفها وعلي بابها ! فسر الحاضرون بذلك،
فسألوه أن يخرج لهم إسناده، فوعدهم به (لسان
الميزان 1: 422.) وذكر القصة ابن عساكر فقال: فأنعم ولم يخرجه لهم (تأريخ
ابن عساكر 3: 34 وانظر كتاب: فتح الملك العلي بصحة حديث مدينة العلم علي: 156 ط
- الحيدرية - النجف الأشرف. بتحقيق الدكتور الشيخ محمد هادي الأميني النجفي.). أجل،
هكذا كانت الأحاديث تلفق لأغراض سياسية ولأهواء عاجلة حتى كثرت وشاعت. هذا، وقد
تولى كتاب السيرة كتابتها - كما مر خبرها - للخلفاء: فابن إسحاق
كتب سيرته للمنصور وابنه المهدي، والواقدي كتب
مغازيه للرشيد ووزيره يحيى بن خالد البرمكي، اللهم إلا هشام الكلبي والمدائني فإنهما لم يكتبا لأحد منهم، ولكنهم كلهم ماكان لهم أن ينازعوا مع
الخليفة في آرائه خوفا منه، ولذلك
فإنه لا ينطبق على ما كتبوه مقاييس الصحة بدقة. ومن أمثلة الاختلاف في النقل الذي يبدأ بذكر معجزة نراها تزيد
بزيادة الزمان إلى معاجز: ما حدث في أثناء مسيرة جيش العسرة إلى تبوك: فقد روى
ابن هشام قال: " قال ابن إسحاق: فلما أصبح الناس ولاماء معهم شكوا ذلك إلى
رسول الله - صلى الله عليه ج وآله ج وسلم - فدعا رسول الله، فأرسل الله سحابة
فأمطرت حتى ارتوى الناس واحتملوا حاجتهم من الماء " (السيرة
النبوية، لابن هشام 3 و 4: 522.). أما
صحيح مسلم فيروي قصة تبوك بصورة اخرى لا تقتصر على هذه المعجزة بل تزيدها زيادة
كثيرة على غير ما ورد في سيرة ابن إسحاق: فقد روى مسلم في صحيحه بسنده عن معاذ بن جبل: " أن النبي قال لمن سار معه إلى تبوك: إنكم ستأتون - إن شاء
الله - غدا عين تبوك، وإنكم لن تأتوها حتى يضحى النهار، فمن جاءها منكم فلا يمس
من مائها شيئا حتى آتي. فجئناها وقد سبقنا إليها رجلان، والعين مثل الشرك تبض
بشئ من ماء. فسألهما رسول الله: هل مسستما من مائها شيئا ؟ قالا: نعم، فسبهما
النبي وقال لهما ما شاء الله أن يقول (!) ثم غرفوا بأيديهم من العين قليلا قليلا
حتى اجتمع في شئ غسل رسول الله فيه يديه ووجهه ثم أعاده فيها فجرت العين بماء
منهمر - أو قال: غزير - حتى استقى الناس، ثم قال: يا معاذ يوشك - إن طالت بك
الحياة - أن ترى ما هاهنا قد ملئ جنانا " (صحيح
مسلم 7: 60 ط 1332.) فهل ارتوى المسلمون في طريق تبوك بماء العين المنهمر - بعد السباب
! - أم بمطر من سحاب بدعاء مستجاب من نبي مجاب ؟ أليس في القليل الأول غنى عن
الثاني الكثير ؟ ! اللهم إلا أن نبني على ترجيح الحديث الأكثر إعجازا ولانقتنع
بالقليل منه ! هذا وقد روى ابن إسحاق بعد روايته خبر السحابة خبرا آخر يؤيده قال: " فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة قال: قلت لمحمود بن لبيد: هل كان الناس يعرفون النفاق فيهم ؟ قال: نعم
والله إن كان الرجل ليعرفه من أخيه ومن أبيه ومن عمه وفي عشيرته، ثم يلبس بعضهم
بعضا على ذلك، ولقد أخبرني رجال من قومي قالوا: لما كان من أمر الماء بالحجر
ماكان ودعا رسول الله حين دعا فأرسل الله السحابة فأمطرت حتى ارتوى الناس قالوا:
أقبلنا على رجل من المنافقين معروف نفاقه كان يسير مع رسول الله حيث سار، فقلنا
له: ويحك ! هل بعد هذا شئ ؟ فقال: " سحابة مارة " اللهم إلا أن يكون
ذكر كثرة النفاق في بعض الصحابة مما يشنع ذكره ويسوء بعض الناس، وإن كان لم
يحذفه ابن هشام، واختار مسلم ما سلم من ذكره، وهذا هو الراجح في الظن. |
شرائط
دراسة التأريخ:
|
لا شك في أن البحث في التأريخ أمر خطير وعمل شاق جدا، فالباحث فيه كمن يريد أن يلج بحرا خضما هائجا، وإنما يمد ببصره إلى
قاعه ليغنم منه لآلئه ودراريه. والباحث في التأريخ إن كان يطمح من بحثه إلى
إحقاق الحق وازهاق الباطل، فإنه لا يتسنى له ذلك إلا إذا كان واسع الإطلاع، بعيد
النظر، شديد الحب للحق، موطنا نفسه على اتباعه، مبتعدا عن التعصب المذهبي
المقيت، ورعا في إصدار الأحكام، خبيرا بطرق الاستنباط، عارفا بأمراض التأريخ
وعلله، ملما بظروفه ومراحله، مؤثرا مصلحة الإسلام والمسلمين على ما سواها، متحرر
الفكر، غير مشدود لما ورثه من أهله وقومه. وذلك لمساس التأريخ - ولاسيما سيرة الرسول الكريم - بمختلف نواحي
الحياة. فمنه تؤخذ العقيدة
الدينية، وأحكام الإسلام، ومعارفه وعلومه، وأدبه وأخلاقه، وعلى أساسه تقول الأجيال
كلمتها في كل شئ، وعلى ضوئه تحكم على كل شئ. وقد ابتلي التأريخ والسيرة - ككثير
من الامور - بنظرتين مفرطة واخرى مفرطة: فمن مقبل على التأريخ والسيرة مكب على
أخذ ما فيه، غثه وسمينه، ينتهل منه ريه في كل جوانب الحياة، ويعتبره من أسلم
المسلمات بها، دون
حذر عما داخله من الدس والخرافات بعيدا عما نبه إليه الرسول من حتمية ظهور
المفترين عليه، غير معتبر بما اعترف به الزنادقة الملحدون مما رواه المؤرخون: أنهم
وضعوا آلاف الأحاديث كذبا على الله ورسوله حللوا بها الحرام وحرموا بها الحلال،
وأزالوا بها الحق عن نصابه، وزوروا كثيرا من الأحاديث الصحيحة وافتعلوا الكرامات
والمناقب حبا في المال والمناصب. وآخرون فرطوا فيه فغلبوا التشاؤم وتنكروا
للتأريخ جملة وتفصيلا، اتهموه ببعض ما فيه وتحاملوا عليه، وجعلوا ذلك حجة
لاعراضهم عنه وابتعادهم منه. وذلك ظلم قبيح وفصم لعرى الأجيال، وحرمان للمتأخرين
من دروس الماضي، وهدم لبناء الدين وطعن في تعاليم الأنبياء الذين حثوا على تدارس
الماضي والاستماع إليه، مع تمحيص الحق عما علق به من شوائب الباطل. وبين هاتين النزعتين المفرطة والمفرطة تنجلي النمرقة الوسطى
باهتمام مفكري المسلمين وعلمائهم بالدراسات التأريخية، وبذل الوسع لإماطة اللثام عن كثير من جوانبه التي بدت قائمة مشوهة
بفعل الدخلاء عليه، ممن جندوا أنفسهم لهدم الدين وطمس معالم الحق والتجني عليه (مقدمة:
دراسات في التأريخ الاسلامي: 8، 9 للشيخ محمد باقر الناصري بتصرف.). |
طمس
معالم الحق:
|
قلنا نعرض الروايات - التي يدعى أنها تسجل سيرة الرسول الكريم (صلى
الله عليه وآله) - على القرآن الحكيم، ذلك لانا لو راجعنا وصف هذا النبي العظيم في
القرآن الكريم، لوجدناه
يصفه بأنه: * (على خلق عظيم)
* (القلم: 4.) و * (خاتم النبيين) * (الاحزاب:
40.) ينهى الناس عن الإستخفاف به * (لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء
بعضكم بعضا) * (النور: 63.) ويلعن الذين يؤذونه * (إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله) * (الاحزاب:
57.). ولكنا لو راجعنا بعض تلك
الروايات التي يدعى أنها تسجل لنا سيرته لوجدناه فيها: طفلا كسائر الأطفال، ورجلا يتكلم كسائر الجهال، بل أضعف عقلا من
سائر العقال، فهو بحاجة دائمة إلى من يشرف عليه ويدبر شؤونه، ويأخذ بيده ويرشده،
ويحل له مشاكله ويشد قلبه ويطمئنه، ويؤيده ويساعده، وإلا فهو يغضب فيكون غضبه
عجزا واضطرابا بل وسبابا (كما مر عن صحيح مسلم.) ويرضى
فيكون رضاه سخفا وميوعة ! وإلا
فكيف نفسر: أنه رأى الرأي
فنزلت الآيات تصوب رأي غيره وتفند رأيه، فقعد يبكي ؟ ! وأنه كان له شيطان يعتريه
ويأتيه في صورة جبرئيل ! ثم أعانه الله عليه فأسلم ! ولعله من فعل شيطانه أنه مر
على سباطة قوم فبال قائما ! ثم شرب النبيذ ؟ ! ثم إنه رأى زوجة ابنه بالتبني في
حالة مثيرة فعشقها ! وإنه كان يعشق عائشة حتى أنه حملها على عاتقه بطلبها لتنظر
إلى رقص السودان في مسجده، وخدها على خده ! ثم إنه ترك الجيش لينفرد بزوجته
ليسابقها في الصحراء ! والطامة الكبرى التي شملت شيخ الأنبياء إبراهيم: انه كان أولى بالشك من إبراهيم ! إلى ما هنالك مما يزيد في قبحه
على ما ذكر أكثر بكثير، كل ذلك مما " قد فاجأتنا به الأنباء والسير "
في المجاميع الحديثة وكتب السيرة ! وفيها عن حياته الزوجية مانتذمر من ذكره فضلا
عن القيام بأمره ! وأدهى ما في الأمر وأمر أنها مدونة في الكتب التي توصف بأنها
أصح كتاب بعد الذكر الحكيم، وهي تحاول أن تصور لنا سيدنا ومولانا ونبينا أفضل
الأنبياء والمرسلين وأشرف السفراء المقربين ! ! قال محققو سيرة ابن هشام في مقدمتهم: " ولعل النظر إلى تراث السالفين ولاسيما ما يتصل منه بعلم
السير نظرة فيها الكثير من التقديس، هو الذي حال دون هؤلاء وهؤلاء أن يقفوا من
هذا العلم موقفا فقدناه في جميع المؤلفين المتقدمين على اختلاف طبقاتهم، فلم نر
منهم من عرض لما تحمله السير بين دفتيها من أخبار تتصف بالبعد عن الحقيقة،
فنقدها وأتى على مواضع الضعف منها. هذا ما حرمه هذا العلم في جميع أدواره السالفة
إلى ما قبل أيامنا هذه بقليل، إذ رأينا الإيمان بأن في السيرة أخبارا لا تتصل
بالحق في قليل ولا كثير، تصحبه الجرأة ثم الإقدام، ورأينا فكرة جديدة تجري بها
أقلام مجددة، يتناول أصحابها الخبر أو الخبرين من السيرة، مما كان يتخذ مطعنا
علينا في شخص النبي - صلى
الله عليه وآله - أو ما
يتصل به، فخلصوه مما لصق به مما ليس منه، وأقاموا حوله سياجا من الحجج
والبراهين، صح بها وأصبح حجة على الطاعنين فيه. ومثل هذا ما فعله الاستاذ الإمام الشيخ محمد عبده في قصة النبي - صلى الله عليه وآله -، وتزويجه زينب بنت جحش من زيد بن حارثة ثم ماكان من تزوج الرسول - صلى الله عليه وآله - إياها بعد تطليق
زيد لها مما أرجف فيه الطاعنون ولغوا لغوا كثيرا. ومنهم من عرض للكتاب في قصة أو
قصتين منه فصاغها في اسلوب جديد، ومثل للناس الخبر في قالب قصصي خرج به عن
أسانيده وذكر رواته - تلك الطريقة التي هي سر تقديس هذه الأخبار في هذه الكتب !
- فبدت المعاني في هذا القالب الجديد كما يبدو الجسد في الغلالة الرقيقة لاتكاد
تخفي منه شيئا. وهذا الاسلوب الجديد بما يتضمن من التهكم بالفكرة السقيمة والخبر
الغث، يخلق به المؤلف في القارئ روح التحفظ في قبول الأفكار وتسلمها. ومنهم من جرى مع ابن إسحاق في شوطه، فتناول السيرة كما تناولها ابن إسحاق، مبتدئا بميلاد الرسول (صلى الله عليه وآله) وما سبقه أو عاصره من حوادث، ثم جرى يذكر حياة الرسول إلى أن قبضه
الله إلى جواره، ناقلا من الأخبار ما يرى فيها القرب من الحق، ومستبعدا مالايجري
في ذلك مع فكرته ومايعتقد، مفندا مزاعم الطاعنين رادا على المكذبين. فجاء كتابه
سيرة للرسول جديدة في اسلوبها، نقية من اللغو والهراء " (مقدمة
سيرة ابن هشام 1: ح، ط.). أجل، إذا كان المراجع إلى هذه المراجع - الصحاح وغيرها - ملئ النفس بتقديس النص تقديسا عشوائيا ساذجا، فهو يمتنع ويمنع عن
تقويم النصوص تقويما سليما يزنها بميزان الإعتبار. ولا مبرر لهذا التقديس ما لم يثبت أن هذا الحديث مما صدر عنه أو
من شؤونه أو من صفاته، اللهم
إلا إذا كان لايعرف شيئا مما يجب أن يتوفر في شخص رسول الله وخليفته وحجته على
عباده، وكان خالي الذهن عن المنطلقات الأساسية والضوابط الحقيقية التي يجب أن
يتوفر عليها من يحاول دراسة التأريخ بصورة علمية، وسيرة الرسول الكريم بصورة
خاصة (انظر مقدمة الصحيح في السيرة 1: 16، 17.). |
سحاب
مركوم على الحق المظلوم:
|
أما كيف حدث كل هذا الحديث الموضوع للنيل من كرامة الرسول الكريم (صلى
الله عليه وآله) ؟ فنحن
نرى ذلك من التعتيم الذي اصطنعه بنو امية وبنو مروان على معالم الشخصية النبوية،
مستفيدين من سياسة المنع من الحديث عن النبي (صلى الله عليه وآله) بل إحراق ما كتبه كبار الصحابة عنه: ابتداء من الخليفة الأول إذ أحرق خمسمائة حديث كان قد جمعها هو من أحاديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) (راجع المصادر في كتاب النص والاجتهاد: 151.). ثم
اشتد الأمر على عهد الخليفة
الثاني فإنه جمع ما كتبه
الصحابة عن رسول الله (صلى
الله عليه وآله)
وأحرقه، ولعل ذلك بعد أن اتصل به كعب الأحبار الحبر اليهودي المسلم. ولقد كان اليهود على فرقتين: فرقة تؤمن بالكتابة والتدوين وهم الفريسيون، وفرقة اخرى تؤمن بوجوب
الحفظ وعدم جواز كتابة شئ غير التوراة، ويقال لهؤلاء: القراء (شرح ذلك
النوري في كتابه الفارسي: لؤلؤ ومرجان: وفصله محمد حسن ضاضا في كتابه: التفكير
الديني عند اليهود.) وضعف أمر الفريسيين وكثر القراء، ويظهر أن كعب الأحبار كان من
القراء، كما يظهر من جوابه لعمر حينما سأله عن الشعر، فكان مما قاله عن العرب: " قوما من ولد إسماعيل أناجيلهم في صدورهم (أي يحفظونها على
ظهر القلب) ينطقون بالحكمة " وقد كان كعب عند حسن ظن الخليفة به فكان مقربا
عنده، فلعله قبل هذه النظرية من كعب الأحبار. ويشهد لذلك ما رواه ابن سعد في " الطبقات " والخطيب
البغدادي في كتابه " تقييد العلم " ونقله عنهما الشيخ أبو رية في
كتابه " أضواء على السنة المحمدية " قالوا: كثرت الأحاديث على عهد عمر بن الخطاب، فأنشد الناس أن
يأتوه بها، فلما أتوه بها أمر بتحريقها ثم قال: مشناة كمشناة أهل الكتاب (تقييد
العلم: 52 والطبقات 5: 140 والأضواء: 47 والنص المثناة والصحيح ما أثبتناه وهي:
الروايات الشفوية.) أو قال: ذكرت قوما كانوا قبلكم كتبوا كتبا فاكبوا عليها وتركوا
كتاب الله، واني والله لا أشوب كتاب الله بشئ أبدا ! فمنع من الحديث عن النبي (صلى
الله عليه وآله) إلا بشاهد، ومنع كبار الصحابة عن الخروج من المدينة، واستعمل
على الأمصار صغارهم ممن لا اطلاع له في الدين ولا معرفة له بأحكامه (كأبي
موسى الأشعري حيث استعمله واليا على البصرة سنة 18 ه وله ثمان عشرة سنة إذ ولد
في السنة الاولى للهجرة.). وروى ابن سعد في "
الطبقات " والخطيب البغدادي في كتابه الآخر " جامع بيان العلم وفضله
" ونقله عنهما الشيخ أبو رية في كتابه " أضواء على السنة المحمدية
": إن الذين جاؤوا بعد عمر ساروا على نهجه في المنع عن الحديث إلا
حديثا كان على عهد عمر (الطبقات 3 ق 1: 206 وجامع بيان العلم 1: 64 والأضواء: 47.). فنتج
عن سياسة المنع عن الحديث وعن كتابته أن نسي الناس سنن الرسول (صلى الله عليه وآله) حتى
في الصلاة التي هي عمود الدين وركن الإسلام والكتاب الموقوت الذي يؤديه المسلمون
في كل يوم خمس مرات، أصبحوا لا يعرفون أحكامها وحدودها، حتى أقرب الناس إلى مهبط الوحي والتنزيل الذين يفترض فيهم أن
يكونوا أعرف بأحكام الإسلام وشرائع الدين... إذن فكيف بحال غيرهم من عوام الناس
؟ ! وما هو مدى معرفتهم بدينهم وشريعتهم والحال كذلك ؟ ! ولا سيما الناس البعداء
عن منابع الثقافة الإسلامية، وبالأخص فيما يقل الإبتلاء به. فقد روى البلاذري في " أنساب الأشراف " والبيهقي في
سننه والمتقي الهندي في " كنز العمال " عن عبد الرزاق وابن أبي شيبة: أن عمران بن الحصين صلى خلف علي (عليه السلام) فأخذ بيد مطرف بن
عبد الله وقال: لقد صلى صلاة محمد ولقد ذكرني صلاة محمد (انساب
الاشراف 2: 18 وسنن البيهقي 2: 68، وكنز العمال 8: 143.). ولا
شك في أن من سنن الرسول في الصلاة الجهر بالبسملة في الصلاة فكان علي (عليه
السلام) يجهر بها، فبالغ
بنو امية في المنع عن الجهر
بها سعيا في إبطال آثار علي (عليه السلام) (تفسير
النيسابوري بهامش تفسير الطبري 1: 79.) حتى
روى النسائي والبيهقي في سننهما عن ابن عباس أنه كان يقول: اللهم العنهم فقد تركوا السنة من بغض علي (تعليقة
السندي بهامش سنن النسائي 5: 253.) حتى
بلغ الحال بالناس على عهد علي بن الحسين (عليه السلام) أن كانوا لا يعرفون كيف
يحجون بل حتى كيف يصلون (كشف القناع عن حجية الاجماع: 67.) ولذلك
تجرأ ابن الزبير على أن يقدم الصلاة قبل الخطبة يوم الجمعة، كما رواه الشافعي في كتابه " الام " عن وهب بن كيسان، ثم قال: كل سنن رسول الله قد غيرت حتى الصلاة (كتاب
الام للشافعي 1: 208.). ولذلك نجد الإمام السجاد (عليه السلام) يقول في دعائه يوم الجمعة
ويوم الأضحى: " اللهم إن هذا المقام لخلفائك وأصفيائك، ومواضع امنائك في
الدرجة الرفيعة التي اختصصتهم بها قد ابتزوها. حتى عاد صفوتك وخلفاؤك مغلوبين
مقهورين مبتزين، يرون حكمك مبدلا وكتابك منبوذا، وفرائضك محرفة عن جهات شرعك،
وسنن نبيك متروكة " (الصحيفة السجادية: الدعاء 48.). وروى ابن سعد في "
الطبقات " عن الزهري قال:
دخلت على أنس ابن مالك بدمشق وهو وحده يبكي، فقلت: ما يبكيك ؟ قال: لا أعرف شيئا
مما أدركت، إلا هذه الصلاة وقد ضيعت (صحيح
الترمذي: 3: 302 وجامع بيان العلم 2: 244 والزهد والرقائق: 531 وضحى الإسلام 1:
365.). وروى الإمام مالك بن أنس بن مالك في كتابه " الموطأ "
عن جده مالك قال: ما أعرف شيئا مما أدركت الناس إلا النداء بالصلاة (الموطأ
1: 93 وشرحه 1: 122.). واستثنى الحسن البصري القبلة فقط فقال: لو خرج عليكم أصحاب رسول
الله ما عرفوا منكم إلا قبلكتم (جامع
بيان العلم 2: 244.). ولم يستثن عبد الله بن عمرو بن العاص شيئا إذ قال: لو أن رجلين
من أوائل هذه الامة خلوا بمصحفيهما في بعض هذه الأودية لأتيا الناس اليوم ولا
يعرفان شيئا مما كان عليه (الزهد والرقائق: 61.). ومع
هذه الحال فمن الطبيعي أن يروج سوق الوضاعين الكذابين وأن يصبحوا هم مصدر العلم
والمعرفة والثقافة للامة المسلمة. هكذا شاء الحكام، وهكذا استحق المحكومون إذ
ابتعدوا عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) (والموضوع
مهم وبحاجة إلى تحقيق وبحث، آمل أن اوفق لاخراج كتاب لي في هذا الموضوع.). أما
لماذا حاول بنو امية ورواتهم أن يستفيدوا من هذا الفراغ المفتعل بفضل المنع عن
الحديث، للنيل من كرامة الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله) وسائر المقدسات
الإسلامية ؟ فإن ذلك
يعود إلى: أ - أن
الحقد والعداء الاموي الموروث من القديم ضد بني هاشم - بما فيهم النبي (صلى الله عليه وآله) - لم يدعهم يقتنعوا
بأنه نبي مرسل حقا: فقد قال أبو سفيان
للعباس لما رأى كثرة زحام الناس على التبرك بماء وضوء النبي يوم فتح مكة: يا عباس ! والله لقد أصبح ملك ابن أخيك اليوم عظيما ! فقال: ويحك
إنها النبوة ! فقال: نعم ! وقال
معاوية لما سمع المؤذن يقول:
أشهد أن لاإله إلا الله: لله أبوك يابن عبد الله ! لقد كنت عالي الهمة، ما رضيت
لنفسك إلا أن يقرن اسمك باسم رب العالمين (انظر شرح
نهج البلاغة لابن أبي الحديد 10: 101 عن أحمد بن أبي طاهر في كتاب " أخبار
الملوك ".). وقال للمغيرة بن شعبة -
بعد أن ذكر ملك أبي بكر وعمر وعثمان وأنهم هلكوا فهلك ذكرهم -: وإن أخا هاشم ! يصرخ به في كل يوم خمس مرات: أشهد أن محمدا رسول
الله، فأي عمل يبقى مع هذا ؟ ! لا ام لك... لا والله إلا دفنا دفنا (الموفقيات
للزبير بن بكار: 577 ومروج الذهب 3: 454 وشرح نهج البلاغة 5: 120.)، ولما
سمع المأمون بالخبر أمر بلعنه (الطبري 10: 286.). وقال
- أو تمثل - ابنه يزيد بقول ابن الزبعرى: لعبت هاشم بالملك فلا *
خبر جاء ولاوحي نزل لست من خندف إن لم أنتقم * من بني أحمد ماكان فعل وتبعه الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان يقول: تلعب بالخلافة هاشمي * بلا وحي أتاه ولا كتاب فقل لله: يمنعني طعامي * وقل لله يمنعني شرابي (مروج
الذهب 3: 228.) وقرأ ذات يوم * (واستفتحوا
وخاب كل جبار عنيد من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد) * (إبراهيم: 15، 16.) فدعا بالمصحف فنصبه غرضا للنشاب وأقبل يرميه وهو يقول: اتوعد كل جبار عنيد *
فها أنا ذاك جبار عنيد إذا ماجئت ربك يوم حشر *
فقل: يا رب خرقني الوليد (مروج
الذهب 3: 229.) وكان الوليد هذا مهملا لأمره قليل العناية بأطرافه، وكان صاحب ملاه
وقيان، وإظهار للقتل والجور، وتشاغل عن امور الناس بشرب ومجون، فبلغ من مجونه
أنه أراد أن يبني على الكعبة بيتا يجلس فيه للهو، ووجه مهندسا لذلك (اليعقوبي
3: 75.) مجوسيا ليبني له على الكعبة مشربة للخمر، وأراد أن ينصب قبة ديباج
على الكعبة ويجلس فيها ومعه الخمر، فخوفه أصحابه من ثورة الناس فامتنع (عن
الأغاني والطبري في نهج الصباغة 5: 340.). ب - ولذلك
فهم - كما رأينا - كانوا يريدون القضاء على هذا الدين ودفنه نهائيا، وذلك لأنه
كان يقف في وجه شهواتهم ومآربهم ويضر بمصالحهم. ج -
وبالتصوير المشوه للرسول الكريم (صلى الله عليه وآله) والإسلام العظيم كانوا
يحاولون تبرير كل انحرافات وسخافات الجهاز الحاكم، والتقليل من فضاعتها وبشاعتها
في أعين الناس، وذلك برفع الفوارق الكبيرة بين مواقفهم ومواقف النبي الاعظم (صلى
الله عليه وآله). أما ما يمثل لنا شخصية الرسول الكريم المستهدفة للامويين فلنذكر منه نماذج: 1 - نسمع الكميت بن زيد
الأسدي يمدح الرسول الكريم فيقول في
قصيدته البائية: إلى السراج المنير أحمد،
لا * يعدلني عنه رغبة ولا رهب عنه إلى غيره، ولو رفع النا * س إلي العيون وارتقبوا وقيل: افرطت. بل قصدت ولو * عنفني القائلون، أو ثلبوا ! اليك ياخير من تضمنت الأر * ض وإن عاب قولي العيب لج بتفضيلك اللسان ولو *
اكثر فيك الضجاج واللجب فيا ترى من الذي يحاول أن يعدل به عن مدح النبي (صلى الله عليه وآله) بالترغيب والترهيب ؟ ومن يرتقبون أن يمدح عوضا عنه - عليه الصلاة والسلام - ؟ وياترى بماذا خاطب الكميت النبي (صلى الله عليه وآله) غير أن يقال له: ياخير من تضمنت الأرض ! حتى يقال له: أفرطت في
مدحه ! من الذي يعنفه ويثلبه ويعيبه ؟ ومن الذي يكثر الضجاج واللجب على النبي (صلى الله عليه وآله) ؟ ! ولعله قد أحس بأمر خطير خلف هذه السياسة الاموية فقال في اخرى: رضوا
بخلاف المهتدين، وفيهم * مخبأة اخرى تصان وتحجب فلعله يقصد بالمخبأة الاخرى تخريب دين النبي (صلى الله عليه وآله) بعد تشويه سمعة شخصه. أو ما ذكره الرجاليون وأصحاب الطبقات في
ترجمة خالد بن سلمة المخزومي الشهير بالفأفاء: أنه كان ينشد بني مروان هجو النبي (صلى
الله عليه وآله) (انظر
دلائل الصدق للمظفر 1: 29، وراجع: بحوث مع أهل السنة والسلفية: 101.). وقد
سبق هذا ما ذكروه في ترجمة عمرو بن العاص أنه لم يرض بضرب نصراني سب النبي (صلى الله عليه وآله) (الإصابة 3: 195 عن البخاري في تأريخه بإسناد صحيح، والإستيعاب بهامش
الإصابة 3: 193.). ولحق هذا ما رواه
المؤرخون في علل خروج زيد بن علي بن الحسين (رضي الله عنه): أنه دخل على هشام بن عبد الملك فسمع أن النبي (صلى الله عليه وآله) يسب عنده فلم يذكره ولم يغير على قائله (انظر كشف
الغمة للاربلي 2: 352 وكتب التراجم والرجال في ترجمة زيد (رضي الله عنه).). أو
أنه يقصد بالمخبأة ما رواه ابن عبد ربه الأندلسي في " العقد الفريد ":
أن الحجاج كتب إلى عبد الملك: أن خليفة الرجل في أهله أكرم عليه من رسوله إليهم،
وكذلك الخلفاء يا أمير المؤمنين أعلى منزلة من المرسلين (عن العقد
الفريد 2: 354.). ولئن كانت هذه مخبأة يوما فإن ذلك لم يدم طويلا حتى حج الحجاج
ورأى الحجاج يطوفون بقبر الرسول (صلى الله عليه
وآله) ومنبره بالمدينة فقال: تبا لهم إنما يطوفون بأعواد ورمة بالية !
هلا طافوا بقصر أمير المؤمنين عبد الملك ؟ ! ألا يعلمون أن خليفة المرء خير من
رسوله ؟ ! قال المبرد: إن ذلك مما كفرت به الفقهاء الحجاج (الكامل
للمبرد 1: 222 وسنن أبي داود 4: 209 وشرح نهج البلاغة 15: 242 عن كتاب "
افتراق هاشم وعبد شمس " لأبي العباس الدباس. والنصائح الكافية عن الجاحظ:
81، ونقل جدلا حوله الدكتور طه حسين في كتابه: الايام.).
وبهذه النظرة فلا مانع لديه أن يرمي الكعبة بالمنجنيق - بل كما قيل - بالعذرة
أيضا (عن الفتوح لابن الأعثم الكوفي المتوفى 310 ج 2: 482 وعقلاء المجانين:
178.). ولا يرى أية حرمة لمقام إبراهيم (عليه السلام) فيحاول أن يضع رجله
على المقام فيزجره عن ذلك محمد بن الحنفية (طبقات
ابن سعد 5: 84 والمصنف لعبد الرزاق 5: 49 وربيع الابرار 1: 843.). وعلى
هذه النظرة أيضا: " هلا طافوا بقصر أمير المؤمنين عبد الملك " فلا
استبعاد لما احتمله السيد المرتضى العاملي: أن
يكون الحجاج حين بنى مدينة (واسط) في العراق وسطا بين الكوفة والبصرة، حول
قبلتها من جهة الحجاز (الكعبة) إلى جهة الشام: إما قصر أمير المؤمنين (!) أو قبة
الصخرة التي بناها وأمر الناس بالحج إليها: فقد ذكر اليعقوبي: أنه لما استولى ابن الزبير على مكة والحجاز كان يأخذ الحجاج
بالبيعة له فلما رأى ذلك عبد الملك منعهم من الخروج إلى الحج، فضج الناس وقالوا:
تمنعنا من حج بيت الله الحرام وهو فرض من الله علينا ؟ ! فقال لهم: هذا ابن شهاب الزهري يحدثكم: أن رسول الله قال " لاتشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام،
ومسجدي، ومسجد بيت المقدس " فهو يقوم لكم مقام المسجد الحرام ! وهذه الصخرة التي يروى: أن رسول الله وضع قدمه عليها لما صعد إلى السماء، تقوم لكم مقام
الكعبة !. فبنى على الصخرة قبة وعلق عليها ستور الديباج وأقام لها سدنة، وأخذ
الناس بأن يطوفوا حولها كما يطوفون حول الكعبة ! وأقام بذلك أيام بني امية (تأريخ
اليعقوبي 3: 8، وحياة الحيوان 1: 66 والبداية والنهاية 8: 280 والانافة في معالم
الخلافة 1: 129. وانظر بحثا في هذا في السنة قبل التدوين: 502 - 506.). وإلى
هذا أشار الجاحظ في بعض آثاره فقال
في المفاضلة بين بني هاشم وبني امية: وتفخر هاشم بأنهم لم يهدموا الكعبة، ولم يحولوا القبلة، ولم
يجعلوا الرسول دون الخليفة (عن آثار الجاحظ: 205.).
ويفصل هذا أيضا في بعض رسائله فيقول:
حتى قام عبد الملك بن
مروان وابنه الوليد بالهدم وعلى حرم المدينة بالغزو، فهدموا الكعبة واستباحوا
الحرمة، وحولوا قبلة واسط -
إلى أن قال - فأحسب
أن تحويل القبلة كان غلطا، وهدم البيت كان تأويلا، وأحسب مارووا من كل وجه: أنهم
كانوا يزعمون: أن خليفة المرء في أهله أرفع عنده من رسوله إليهم (عن رسائل
الجاحظ 2: 16.)... واحتمل
السيد المرتضى العاملي: أن
يكون هذا هو سر استحباب التياسر في القبلة لأهل العراق دون غيرهم عند أئمة أهل
البيت (عليهم السلام)، ويظهر أن خصوم الشيعة قد التفتوا إلى هذا منهم، ولذلك كانوا
يتهمون من يتحرى القبلة بالرفض. فقد روى الخطيب البغدادي: أن قاضي واسط أسد بن
عمرو قد رأى قبلة واسط رديئة فتحرف فيها فاتهم بالرفض (عن تأريخ
بغداد 7: 16 ونشوار المحاضرة 6: 36.). 2 - والمقايسة بين الرسول والخليفة، والتوهين بالكعبة لم يكن
يقتصر على الحجاج، بل
روى أبو الفرج الإصبهاني الاموي: أن خالد بن عبد الله القسري عامل هشام بن عبد
الملك على مكة ذكر النبي (صلى
الله عليه وآله) فقال:
أيما أكرم: رسول الرجل في حاجته أو خليفته في أهله ؟ ! يعرض أن هشاما خير من
النبي (صلى الله عليه
وآله) (الاغاني
19: 60.). وروى عن أبي عبيدة قال: خطب خالد القسري يوما فقال: إن
إبراهيم الخليل استسقى الله ماء فسقاه الله ملحا اجاجا (يقصد زمزم) وإن أمير
المؤمنين استسقى الله ماء فسقاه عذبا نقاخا (الاغاني 19:
60.) يقصد العين التي أجراها لسليمان بن عبد الملك بمكة قبل أن يحج
إليها وأجراها إلى المسجد الحرام (اليعقوبي
3: 38.). وروى
أنه قال لغلامه يوما: ابن امي ! أيما أعظم: ركيتنا أم زمزم ؟ ! فقال له: أيها الأمير من يجعل الماء العذب النقاخ مثل الملح
الاجاج ؟ ! وكان يسمي زمزم: ام الجعلان (الاغاني
19: 59.). وروى عن المدائني: أن خالدا كان يقول: لو أمرني أمير المؤمنين
لنقضت الكعبة حجرا حجرا ونقلتها إلى الشام (الاغاني
19: 60.). وروى أنه حبس بعض التابعين فأعظم الناس ذلك وأنكروه فبلغه ذلك،
فخطب فقال: قد بلغني ما أنكرتم من أخذي عدو أمير المؤمنين ومن حاربه، والله لو
أمرني أمير المؤمنين أن أنقض هذه الكعبة حجرا حجرا لنقضتها ! والله لأمير
المؤمنين أكرم على الله من أنبيائه (الاغاني
19: 60.). 3 - وتحامل ابن الزبير
على بني هاشم تحاملا شديدا وأظهر
لهم العدواة والبغضاء، حتى بلغ ذلك منه أنه ترك الصلاة على محمد (صلى الله عليه وآله) في خطبته ! فقيل له: لم تركت الصلاة على النبي ؟ فقال: إن له أهيل
سوء يشرئبون لذكره ويرفعون رؤوسهم إذا سمعوا به ! وأخذ أربعة وعشرين رجلا من بني
هاشم منهم محمد بن الحنفية وعبد الله بن عباس امتنعوا عن بيعته فحبسهم وهددهم أن يحرقهم بالنار: وقام خطيبا فنال من علي بن أبي طالب (عليه السلام)
ولما عجز عنهم أخرجهم من مكة، فأخرج محمد بن الحنفية إلى
رضوى وعبد الله بن عباس إلى الطائف حتى توفي ابن عباس بها سنة 68 ه (اليعقوبي
3: 8.). واعتبروا أقوال الصحابة حجة كقول رسول الله (صلى الله عليه وآله): قال الشيخ أبو زهرة في كتابه عن الإمام مالك: ووجدنا مالكا يأخذ
بفتواهم - أي الصحابة - على أنها من السنة، ويوازن بينها وبين الأخبار المروية
إن تعارض الخبر مع فتوى صحابي ! وهذا ينسحب على كل حديث عنه - صلى الله عليه
وآله ج وسلم - حتى ولو كان صحيحا (عن كتاب:
الإمام مالك لابي زهرة: 290.).
ونقل هذا السيد المرتضى
العاملي في مقدمته لسيرته
ثم علق عليه يقول: وليس هذا إلا لأن شأن رسول الله لم يكن عند هؤلاء في المستوى
الطبيعي اللائق به كما هو ظاهر. ثم نقل عن " الرسائل المنيرية " قوله:
والعجب منهم من يستجيز مخالفة الشافعي لنص له آخر في مسألة بخلافه، ثم لا يرون
مخالفته لأجل نص رسول الله (الصحيح 1: 24 عن مجموعة الرسائل المنيرية: 32.). هذه هي صورة عن مكانة
النبي (صلى الله عليه
وآله) وتعاليمه وقيمة أقواله
لديهم، نكتفي منه بهذا. ونقول: إن وجود هذه الخطط التي استهدفت شخصية الرسول الكريم بل كل
المقدسات الإسلامية، توجب علينا أن نقوم نصوص سيرته وروايات تأريخه وتأريخ
الإسلام. |
بماذا
نقوم النصوص ؟
|
بماذا نقوم النصوص ؟ وإن نحن أردنا ذلك فمن الضروري أن نعتمد فيه قبل كل شئ على: 1 - عرضه على القرآن الكريم - كما مر - فقد روي عنه (صلى الله
عليه وآله) - كما مر أيضا - أنه قال: تكثر لكم الأحاديث بعدي، فإذا روي لكم عني حديث فاعرضوه على كتاب
الله، فما وافق كتاب الله فاقبلوه، وما خالف فردوه (عن اصول
الحنفية للشاشي: 43.). وعن علي
بن الحسين (عليه السلام)
قال عن القرآن: " وميزان قسط لا يحيف عن الحق لسانه، ونور هدى لا يطفأ عن
الشاهدين برهانه، وعلم نجاة لا يضل من أم قصد سنته ". وروى الكليني عن الإمام الصادق (عليه السلام)
قال: ما لم يوافق كتاب الله
فهو زخرف (عن اصول الكافي 1: 55.). وعن ابن عباس قال: إذا سمعتموني احدث عن رسول الله فلم تجدوه في كتاب الله أو حسنا
عند الناس، فاعلموا أني كذبت عليه (عن سنن
الدارمي 1: 146.). وعن ابن مسعود قال: فانظروا ما واطأ كتاب الله فخذوه وما خالف
كتاب الله فدعوه (عن المصنف 6: 112 وجامع بيان العلم 2: 42، وحياه الصحابة 3: 191.). وعن
معاذ بن جبل قال: فاعرضوا على الكتاب كل شئ من الكلام ولاتعرضوه على شئ من
الكلام (حياة الصحابة 3: 197 عن كنز العمال 8: 87 عن ابن عساكر.). وأوصى ابي بن كعب رجلا فقال له: إتخذ كتاب الله إماما وارض به قاضيا وحكما (عن حياة
الصحابة 3: 576 عن حلية الاولياء 1: 253.). وعن
أبي بكر في خطبة له: فإن كانت للباطل غزوة ولأهل الحق جولة يعفو لها الأثر وتموت
السنن، فالزموا المساجد واستشيروا القرآن (البيان
والتبيين 2: 44 وعيون الأخبار لابن قتيبة 2: 233. والعقد الفريد 4: 60.). ولن
ينقضي العجب من بعض أهل الزيغ حيث نسب هذا القول - وهو عرض الحديث على القرآن -
إلى أهل الزيغ فقال: وقد أمر الله عزوجل بطاعته - أي النبي (صلى
الله عليه وآله) - واتباعه أمرا مطلقا لم يقيد بشئ كما أمرنا باتباع كتاب الله، ولم يقل: ما
وافق كتاب الله، كما قال بعض أهل الزيغ (جامع
بيان العلم 2: 233 عن ابي عمر.). وأعجب من ذلك أن بعضهم نسب هذا الحديث إلى الزنادقة والخوارج !
فقال: الزنادقة والخوارج وضعوا ذلك الحديث، يعني ماروي عنه أنه قال: ماأتاكم عني فاعرضوه على كتاب الله فإن وافق كتاب الله فأنا قلته
وإن خالف كتاب الله فلم أقله. و: إنما أنا موافق كتاب الله وبه هداني الله. وهذه
الالفاظ لا تصح عنه عند أهل العلم بصحيح النقل من سقيمه، وقد عارض هذا الحديث
قوم من أهل العلم وقالوا:
نحن نعرض هذا الحديث على كتاب الله قبل كل شئ ونعتمد على ذلك، فلما عرضناه على
كتاب الله وجدناه مخالفا لكتاب الله، لأنا لم نجد في كتاب الله: أن لا يقبل شئ من حديث رسول الله، بل وجدنا كتاب الله يطلق التأسي
به والأمر بطاعته، وكذا ينهى عن المخالفة عن أمره، جملة على كل حال (بحوث مع
أهل السنة والسلفية: 68 نقلا عن جامع بيان العلم 2: 233.). وقال
أبو بكر البيهقي: والحديث الذي روي في عرض الحديث على القرآن باطل، فإنه ينعكس
على نفسه بالبطلان، فليس في القرآن دلالة على: عرض الحديث على القرآن (عن دلائل
النبوة للبيهقي 1: 26.). وقالوا بقول مطلق:
السنة قاضية على الكتاب، وليس الكتاب بقاض على السنة (سنن
الدارمي 1: 145 وتأويل مختلف الحديث: 199، جامع بيان العلم 2: 234 ومقالات الاسلاميين
2: 324.). وحاول الخطابي في شرحه لسنن أبي داود أن يجد من الحديث ما ينفي
أحاديث العرض على الكتاب، وذلك في شرحه لقوله (صلى الله عليه وآله) " لا
ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول: ما
ندري، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه ". قال الخطابي معلقا على هذا الحديث: في الحديث دلالة على أن لا حاجة إلى عرض الحديث على الكتاب، وأنه
مهما ثبت عن رسول الله شئ كان حجة بنفسه فأما ما رواه بعضهم أنه قال: إذا جاءكم الحديث فاعرضوه على كتاب الله فإن وافقه فخذوه... فإنه
حديث باطل لا أصل له. وقد حكى زكريا الساجي عن يحيى بن معين أنه قال: هذا حديث
وضعته الزنادقة (نقلا عن عون المعبود في شرح سنن ابي داود 4: 329 من الطبعة الحجرية.). وقد بحث هذا الموضوع العلامة المحقق السيد مهدي الروحاني في
كتابه " بحوث مع أهل السنة والسلفية " وخلص إلى القول: بأن هذه الأحاديث - أي أحاديث عرض الحديث على الكتاب - ناظرة إلى
قبول الموافق ورد المخالف، أما مالا يوافق ولا يخالف فهو باق تحت حجية الأخبار،
فعدم وجود معنى حديث ما في كتاب الله لا يفيد مخالفة هذا الحديث له. 2 - بالإعتماد على القرآن
الحكيم علينا أن نحدد معالم شخصية الرسول الكريم التي تمثل أسمى إنسان وجد ويوجد
على وجه الأرض، متصفا بصفات الفضل والكمال متخليا عما عداها، حتى جعله الله لنا
اسوة وقدوة مطلقا فقال: *
(ولكم في رسول الله اسوة حسنة) * (الممتحنة: 6.) فهو كما وصفه حفيده الإمام الهادي (عليه السلام) في الزيارة الجامعة: " عصمكم الله من الزلل وآمنكم من الفتن، وطهركم من الدنس،
وأذهب عنكم الرجس وطهركم تطهيرا " فهو المعصوم عن المعاصي والمبرأ من كل
عيب وعاهة وآفة منفرة للناس عنه، فلا يرى في اعماله أي تشتت أو ضعف، ولا في
اقواله أي تناقض أو تهافت أو سخف، بل الفضائل الكاملة، والصفات الإنسانية
الرفيعة الفاضلة: حكمة وعلما، وشجاعة وحزما، وسكينة ووقارا، و... وبكلمة: هو
خليفة الله في أرضه وحجته على عباده. فنلاحظ إن كان النص منسجما مع هذه الشخصية العظيمة قبلناه، وإلا رددناه. وإلا فكيف ننسب إلى هذه الشخصية أنه حمل حليلته عائشة على متنه لتشاهد أغاني السودان ؟ ! أو أنه شرب النبيذ ؟ ! أو أنه
بال قائما ؟ ! أو أنه شك في نبوته ؟ ! أو أنه أثنى على الأوثان تقريبا للمشركين
إلى نفسه ؟ ! وما شاكل ذلك. 3 - وبالإقتداء بالقرآن الكريم الذي إنما خاطب اولي الألباب
والعقول، وجعل العقل - القطعي الإتفاقي - حكما فيما يقول وذم العقلاء على
مخالفتهم لحكم عقولهم... فليكن
ذلك هو موقفنا في جميع
القضايا التأريخية أيضا، فنتأكد من إمكان حدوثه تأريخيا. هذا بعد التأكد من
سلامة النص من التناقض والمعارض، والنظر في طبقات
الرواة وعلاقاتهم السياسية
وغيرها، والتأكد من سلامة
سند النص من الوضاعين والكذابين وأصحاب الأهواء السياسية وغيرها. بعد كل ذلك وبالأخذ بنظر الإعتبار جميع تلك المقاييس، يكون
بإمكاننا أن نقوم النصوص غير القليلة التي تسعى أن تصور الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله) بمظهر صبي جاهل عاجز مهين ! فلا ندع لها فرصة التسلل إلى سيرته (صلى الله عليه وآله). وحينئذ يكون بإمكاننا أن نتقدم إلى المسلمين بنص من ثروة التراث
يكون مصدر فخر واعتزاز. وهذه
ميزة يمتاز بها تأريخ الإسلام،
وهي أنه ينطلق عن قواعد بإمكانها أن تهدي الباحث إلى الطرق الامينة والتي بإمكان
سالكها أن يصل بها إلى الحقيقة التي يريدها مطمئن النفس راضي الضمير، شريطة
التزامه بتلك القواعد والضمانات المشار إليها فيما مر. |
واستداركا
لما فات:
|
واستداركا لما مر نقول: إن المدون من تأريخ الإسلام - بما فيه مما مر ذكره - مع ذلك يعتبر أغنى تأريخ مطلقا، ذلك لإمتيازه بدقته وشموله، فتراه
يلمح اللمحات، ويلتفت مع اللفتات، ويتحرك مع الحركات، ويتحدث عن الأحداث، ويتكلم
بالكلمات، ويقف في المواقف بدقة وشمول منقطع النظير، ويملك لذلك من النصوص الشئ
الكثير، بحيث لا يشابهه أي تأريخ مطلقا، فإنه ليس بإمكان أي تأريخ آخر أن يثبت
الكثير من أحاديثه عن الحوادث الكبرى بصورة قطعية فضلا عن الجزئيات من الامور. لكن لا بد لمن يريد الإفادة من كتب التأريخ الإسلامي من أن يفتح
عينه ووعيه لكل كلمة منه، فيطالعها بوعي ويقظة وحذر، يسعى لاستخلاص ماينسجم منه
مع الواقع ويرد ما عداه، مما مال به القائل أو لعبت به الأهواء، ولاسيما ما
يتعلق منه بصدر الإسلام، مما
يتحكم فيه الهوى المذهبي والتزلف إلى الخلفاء والامراء والحكام فيذكر الأمر
منقطعا عن علله وعوامله ومنفصلا عن أسبابه وجذوره، وذلك بفعل التعصب البغيض
والظلم الكثير. فالمؤرخ كان لا يكتب ولا يثبت إلا ماينسجم مع نفسية الحاكم،
ويتفق وقوله، مهما كان مخالفا للواقع والحقيقة، ولإتجاه المؤرخ عقيدته أيضا، فهو يشوه امورا صدرت من الحاكم أو
غيره ويحيطها بالغموض والإبهام، أو يهمل أحداثا ويتجاهل شخصيات لها أثرها في
التأريخ، ويختلق أحداثا أو شخصيات لا وجود لها، أو يسهب الكلام في وصف غرام أو
مجلس رقص أو غناء وشراب ويعنى بامور حقيرة تافهة. بينما مهمة المؤرخ أن يعكس حياة الامة وما عرض لها من أزمات
فكرية واجتماعية وسياسية واقتصادية، وبصورة عامة كل ما مرت به من أوضاع وأحوال، وذلك بدقة وأمانة.
وليس بخاف ما في ذلك من الأثر الكثير في حياة الامة ووضعها في الحال الحاضر:
عقائديا وعلميا وادبيا واجتماعيا، حسب اختلاف الأحداث عمقا وشمولا. ولا ينفي ترتب هذا الأثر البارز أن يكون الحدث التأريخي قد مر
على تأريخه أكثر من ألف عام. قلنا: إن
المسلمين اهتموا بتدوين تأريخهم مالانراه لغيرهم، وإنه بالرغم مما ذكر فهو أثرى
تأريخ امة مطلقا. ولكن هذا لا يعني أن تدوينه لم يتأثر بالأهواء السياسية ومختلف
العصبيات المذهبية وغيرها، مما أدخل فيه الأباطيل والموضوعات. الأمر الذي فرض
علينا أن نتخذ من المبادئ القرآنية والإسلامية، وشخصية الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله)، مقياسا لتقييم كثير من النصوص والحكم عليها من خلال انسجامها مع
كل ذلك، وهكذا بالنسبة إلى كل شخصية من إمام معصوم وغيره حصلنا منه على علم عام
بسيرته وأخلاقه، مستعينين بالكثير من أدوات البحث الاخرى التي توفرها الممارسة
الطويلة في هذا الموضوع، كتناقض النصوص، أو التوصل إلى عدم إمكان وقوع ذلك الحدث
في تلك الفترة الزمنية أو بالنسبة إلى الشخصية المنسوب إليها. |
بحث
الأسناد:
|
إن هذه الحالة -
حالة عدم الأمانة التامة - لا
تدعنا نعتمد على الأسانيد لتكون ميزانا نهائيا ومقياسا مطلقا في موضوع التأريخ،
إذ إن ذلك يعني أن نحصر أنفسنا في حصار نصوص يسيرة تكاد لا تفي حتى بالفهرسة
الإجمالية لسيرة الرسول الكريم (صلى الله عليه
وآله) ومجمل تأريخ صدر
الإسلام، ويعني أن نفقد الكثير من النصوص الصحيحة التي لم تحتفظ بسند فيه أدنى
شرائط القبول، وسوف يفقد الناقد حرية حركته بين النصوص للإستنتاج. إذن، فلا يمكن
ملاحظة شروط الأسناد إلا بالنسبة لما روي عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام)،
أما في خصوص النصوص التأريخية فإنه
لا يتيسر ملاحظة ذلك، ذلك
لأن التأريخ قد
دون بأيد قد تكون أمينة ولكن لا على الإطلاق ولاسيما بالنسبة لأسناد ما دونوا من
أخبار، وعلى هذا، فلا بد
من ملاحظة أكثر ما يمكن للتأكد من عدم الجعل والتحريف فيها قبل قبولها على أنها
من التأريخ المعتمد عليه. وبكثرة
الأكاذيب والأباطيل في الأحاديث والأقاويل التأريخية، بسبب تلاعب الأهواء
المذهبية والسياسية كما سبق،
فان الاستناد إلى أفراد معينين من المؤرخين أو نوعية معينة من الكتب التأريخية ربما تحرم الباحث من كثير من الحقائق التأريخية المبعثرة هنا
وهناك، والتي أمكن لها أن تصل إلينا عبر الموانع المتعددة سليمة من كثير من
التحريف، بما أن الساسة لم يروها، أو لم يروا فيها ما يشكل خطرا عليهم، وكذلك
المتعصبون من أرباب المذاهب، فبقيت بعيدة عن متناول أيديهم ورماحهم وغوغائهم،
وآمنة من تعنت المتعصبين وجبروت الطواغيت كي نتلقفها اليوم بسلام. |
دراستنا
نحن للتأريخ:
|
دراستنا نحن للتأريخ: ونحن هنا نحاول بدورنا أن نستخلص صورة نقية واضحة ما أمكننا من
تأريخنا تأريخ الإسلام، وبصورة أساسية نهتم لنبتعد عن ذلك القسم الموضوع المكذوب
من النقول التأريخية، والتي لا تعدو في الحقيقة والواقع عن أوهام من خيالات
أصحاب الأهواء والأغراض من المحدثين والقصاصين. والبداية الطبيعية لتأريخ
الإسلام هي سيرة الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله)، وهذه البداية الطبيعية تفرض علينا أن نلاحظ أولا شيئا عن تأريخ
ما قبل البعثة النبوية الشريفة، كي نتعرف على المناخ والجو الذي ظهر فيه الإسلام
إلى العالم. واعتمدنا فيما كتبناه هنا - حتى الإمكان - على أسبق ما كتبه أورواه
السابقون الأولون ولاسيما من مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)
دون المتأخرين فضلا عن المعاصرين إلا قليلا، إذ هو علم نقلي ليس للمتأخر إلا ما
كتبه المتقدم اللهم إلا في كيفية الإخراج والتأليف والتصنيف والترتيب والتنظيم
والتنسيق، ثم توجيهه وتحليله كل في حدود إمكانه وطاقته. وقد أمسك اولئك المؤرخون
القدامى عن أية دراسة أو تحليل للحوادث والوقائع التأريخية، ولعله صيانة لنصوص
أحاديث تلك الحوادث، لا بشأن النبي (صلى الله عليه وآله) فحسب، بل إن التأريخ الإسلامي بصورة عامة كتب بدون دراسة أو تحليل
أو تحقيق. أجل إن أول من
فتح هذا الطريق بوجه المؤرخين الإسلاميين هو العالم العربي القاضي عبد الرحمن بن
محمد الخضري المالكي المعروف بابن خلدون (ت 808 ه)، فإنه أسس في " مقدمته
" اسس التأريخ التحليلي، وهي بما فيها من اشتباهات كثيرة في تحليل بعض
الحوادث تعد أثرا مفيدا جديدا مبتكرا في بابه. وقد كتبت بشأن النبي العظيم من النوعين الأول والثاني، أي التأريخ الوقائعي والتحليلي كتب كثيرة، ولكن يعوز النوع الأول: التحليل، ويعوز النوع الثاني في كثير من
الأحيان أنها على جانب كبير من الأخطاء العجيبة، حيث إنها اعتمدت على مصادر غير
معتبرة أو على كتب المستشرقين. فبالنظر إلى هذين الإشكالين الأساسيين
عمدنا في حدود إمكاننا
في دراستنا هذه أن
نتجنبهما، وذلك بأن: 1 - نسجل الحوادث المهمة التي تتميز بدروس لنا فيها، وأن ننقل ذلك من المصادر الأصلية الاولى المؤلفة في القرون الاولى الإسلامية.
2 - وأن
نقف عند ما أورده المعترضون
والمستشكلون من المستشرقين وغيرهم مما انتقدوا به الإسلام ورسوله، فنجيب على كل ذلك بأجوبة صحيحة قطعية واضحة بينة، وأن ندفع أية
شبهة أو إشكال قد يورد على التأريخ الإسلامي لدى شيعة أئمة أهل البيت (عليهم السلام)
حسب المصادر والشواهد التأريخية الناطقة. والله الموفق والمعين، وهو الهادي إلى الحق وإلى طريق مستقيم،
فهو حسبي ونعم الوكيل، نعم المولى ونعم النصير. محمد هادي اليوسفي الغروي |
الفصل
الاول البيئة العربية والظروف العالمية قبيل ظهور الإسلام
|
الجاهلية
في القرآن الكريم:
|
الجاهلية في القرآن الكريم: قلنا: إن البداية الطبيعية لتأريخ الإسلام
تفرض علينا أن نتعرف أولا على حالة العرب قبل الإسلام كي نتعرف على المناخ والجو
الذي انطلقت فيه الدعوة إلى الإسلام، وخير
كلام في هذا المقام كلام الإمام العلامة الطباطبائي في تفسيره " الميزان
" قال: إن القرآن يسمي عهد
العرب المتصل بظهور الإسلام بالجاهلية، وليس إلا إشارة منه إلى أن الحاكم فيهم
يومئذ الجهل دون العلم، وأن المسيطر عليهم في كل شئ الباطل دون الحق، وكذلك
كانوا، على مايقص القرآن من شؤونهم: قال تعالى: (يظنون بالله غير الحق ظن
الجاهلية) (آل عمران: 154.). وقال * (أفحكم الجاهلية يبغون) (المائدة: 50.). وقال: (إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية
حمية الجاهلية) (الفتح: 26.). وقال: (ولا تبرجن تبرج الجاهلية الاولى) (الأحزاب:
33.). كانت
العرب يومئذ تجاور في جنوبها الحبشة وهي نصرانية، وفي مغربها إمبراطورية
الروم وهي نصرانية أيضا، وفي شمالها الفرس وهم مجوس، وفي غير ذلك مصر والهند
وهما وثنيتان، وفي أرضهم طوائف من اليهود. وهم وثنيون يعيش أكثرهم عيشة القبائل،
وهذا كله هو الذي أوجد لهم اجتماعا همجيا بدويا فيه أخلاط من رسوم اليهودية
والنصرانية والمجوسية، وهم سكارى في جهالتهم. وكانت
العشائر البدو على ما لهم من خساسة
العيش ودناءته يعيشون بالغزوات وشن الغارات واختطاف ما في أيدي الآخرين من متاع
أو عرض، فلا أمن بينهم ولا أمانة، ولا سلم ولا سلامة، والأمر لمن غلب، والملك
لمن وضع يده عليه " ومن عز بز ". أما الرجال فالفضيلة بينهم سفك الدماء والحمية الجاهلية والكبر والغرور
واتباع الظالمين وهضم حقوق المظلومين، والتعادي والتنافس، والقمار وشرب الخمر
والزنا، وأكل الميتة وحشف التمر. وأما النساء فقد كن محرومات من مزايا المجتمع الإنساني لا يملكن من أنفسهن
إرادة ولا من أعمالهن عملا، ولا يملكن ميراثا، ويتزوج بهن الرجال من غير تحديد
بحد، كما عند اليهود وبعض الوثنيين، ومع ذلك فقد كن يتبرجن بالزينة ويدعن من
أحببن إلى أنفسهن، وفشا فيهن الزنا والسفاح حتى المحصنات المزوجات منهن، ومن
عجيب بروزهن أنهن ربما كن يطفن بالبيت ليلا عاريات من ثيابهن (لأنهن لا يجدن
إحراما طاهرا). وأما الأولاد فكانوا ينسبون إلى الآباء لكنهم لا يورثون صغارا ويذهب الكبار
بالإرث، ومن الإرث زوجة المتوفى، ويحرم الصغار - ذكورا أو إناثا - والنساء. نعم
لو ترك المتوفى صغيرا ورثه ولكن الأقوياء يتولون أمر اليتيم ويأكلون ماله، ولو
كان اليتيم بنتا تزوجوها وأكلوا مالها ثم طلقوها وخلوا سبيلها، فلا مال تقتات به
ولا راغب في نكاحها ينفق عليها. والإبتلاء بأمر الأيتام من أكثر الحوادث المبتلى
بها بينهم لدوام الحروب والغارات والغزوات فطبعا كان القتل شائعا بينهم. وكان من شقاء أولادهم أن بلادهم الخربة وأراضيهم القفرة البائرة كان يسرع إليها الجدب
والقحط، فكان الرجل يقتل أولاده خشية الإملاق: * (ولا تقتلوا أولادكم خشية
إملاق) * (الإسراء: 31.) وكانوا يئدون البنات: * (وإذا الموؤدة سئلت بأي
ذنب قتلت) * (التكوير: 8، 9.) وكان من أبغض
الأشياء أن يبشر الرجل بالانثى: * (وإذا بشر أحدهم بالانثى ظل وجهه مسودا وهو
كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا
ساء ما يحكمون) * (النحل: 58، 59.). وأما وضع الحكومة بينهم: فأطراف الجزيرة وإن كانت ربما ملك فيها ملوك تحت رعاية أقوى
الجيران وأقربها كإيران لنواحي الشمال، والروم لنواحي الغرب، والحبشة لنواحي
الجنوب، إلا أن قرى الأوساط كمكة ويثرب والطائف وغيرها كانت تعيش في وضع أشبه
بالجمهورية وليس بها، والعشائر في البدو بل حتى في داخل القرى كانت تدار بحكومة
رؤسائها وشيوخها، وربما تبدل الوضع بالسلطنة. وهذا هو الهرج (الفوضى) العجيب الذي كان يبرز في كل عدة معدودة منهم بلون، ويظهر في كل ناحية من
أرض شبه الجزيرة بشكل مع الرسوم العجيبة والاعتقادات الخرافية الدائرة بينهم.
أضف إلى ذلك بلاء الامية وفقدان التعليم والتعلم في بلادهم فضلا عن العشائر
والقبائل. وكل هذا الذي ذكرناه من أحوالهم
وأعمالهم والعادات والمراسيم الدائرة بينهم
هو مما يستفاد من سياق الآيات القرآنية والخطابات التي تخاطبهم بها، أوضح إفادة،
فتدبر في المقاصد التي ترومها الآيات والبيانات التي تلقيها إليهم بمكة أولا، ثم بعد ظهور الإسلام
وقوته بالمدينة ثانيا، وفي الأوصاف التى تصفهم بها، والامور التي تذمها منهم وتلومهم
عليها، والنواهي المتوجهة إليهم في شدتها وضعفها.. إذا تأملت كل ذلك تجد صحة ما
ذكرناه. والتأريخ كذلك يذكر كل ذلك ويعرض من تفاصيله ما لم نذكره، لإجمال الآيات
الكريمة وإيجازها القول فيه. وأوجز كلمة وأوفاها لإفادة مجمل هذه المعاني ما سمى
القرآن به هذا العهد " الجاهلية " فقد أجمل في معناها كل هذه
التفاصيل. هذا حال عالم العرب ذلك اليوم. وأما العالم المحيط بهم ذلك اليوم من الفرس
والروم والحبشة والهند وغيرهم، فالقرآن يجمل القول فيه أيضا. أما أهل الكتاب منهم أعني اليهود والنصارى ومن يلحق بهم (من المجوس
والصابئة) فقد كانت
مجتمعاتهم تدار بالأهواء الاستبدادية والتحكمات الفردية من الملوك والرؤساء
والحكام والعمال، فكانت
مقتسمة طبعا إلى طبقتين: طبقة
حاكمة فعالة لما تشاء، تعبث بالنفس والعرض والمال وطبقة محكومة مستعبدة مستذلة
لا أمن لها في مال ولا عرض ولا نفس ولا حرية ولا إرادة إلا ما وافق من يفوقها. وقد كانت الطبقة الحاكمة استمالت علماء الدين وحملة الشرع وائتلفت بهم، وأخذت مجامع قلوب
العامة وأفكارهم بأيديهم، فكانت بالحقيقة هي الحاكمة في دين الناس ودنياهم، تحكم
في دين الناس كيفما أرادت بلسان العلماء وأقلامهم، وفي دنياهم بالسوط والسيف. هذا وقد انقسمت الطبقة المحكومة أيضا حسب قوتها في السطوة والثروة
فيما بينهم، إلى طبقتي الأغنياء المترفين والضعفاء والعجزة والعبيد، وإلى رب البيت ومربوبيه من النساء والأولاد، وكذا إلى الرجال
المالكين لحرية الإرادة والعمل في جميع شؤون الحياة وإلى النساء المحرومات من
جميع ذلك والتابعات للرجال محضا والخادمات لهم فيما أرادوه منهن من غير استقلال
ولو يسيرا. ومجمل
هذه الحقيقة يظهر من قوله سبحانه: * (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم
أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله
فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون) * (آل عمران: 64.) وكذا
قوله سبحانه: *
(يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن
أكرمكم عند الله أتقاكم) * (الحجرات:
13.) وقوله في النساء: * (إني لا اضيع عمل عامل منكم من ذكر أو انثى بعضكم من بعض) * (آل عمران: 195.) وفيما
أوصى به في التزويج بالفتيات والإماء: * (بعضكم من بعض فانكحوهن بإذن أهلهن) * (النساء: 25 .) الميزان 4: 151 - 154.). |
الجاهلية
في نهج البلاغة:
|
وبعد استعراض هذه الآيات من القرآن الكريم بشأن الجاهلية يكفينا أن
نتذكر بعض ما جاء عن علي (عليه
السلام) في " نهج
البلاغة " في ذلك: " وأنتم معشر العرب على شر دين وفي شر دار، منيخون بين حجارة
خشن وحيات صم، تشربون الكدر وتأكلون الجشب، وتسفكون دماءكم وتقطعون أرحامكم،
الأصنام فيكم منصوبة والآثام فيكم معصوبة " (نهج
البلاغة، الخطبة: 91.). " والناس ضلال في حيرة، وحاطبون في فتنة، قد استهوتهم
الأهواء واستزلتهم الكبرياء واستخفتهم الجاهلية الجهلاء، حيارى في زلزال من
الأمر وبلاء من الجهل " (الخطبة: 95.). " والأحوال مضطربة، والأيدي مختلفة، والكثرة متفرقة، في بلاء
ازل وإطباق جهل: من بنات موؤدة وأصنام معبودة وأرحام مقطوعة وغارات مشنونة
" (الخطبة: 187.) |
معنى
الجاهلية:
|
معنى الجاهلية:
ومن مصاديق الحمية الجاهلية ما حاوله البعض أن يحرف في معنى الجاهلية من معنى
عدم العلم وفقدان المعرفة لديهم إلى أنها من الجهل بمعنى الحمية والغضب، كما قد
يقال: جهل زيد على عمرو بمعنى غضب عليه، وأنها ليست من الجهل بمعنى عدم العلم
والمعرفة. وهذا التوجيه ليس - كما
قلنا - إلا مصداقا من مصاديق الحمية الجاهلية، فإن الظاهر من إطلاق الجهل ليس
إلا بمعنى ما يقابل العلم والمعرفة، ولا تحمل على معنى الحمية والغضب إلا مجازا
بقرينة ما، كما فيما يستشهدون به من قولهم جهل عليه، فإن تعدية الجهل إلى
المفعول بلفظة " على " أجلى قرينة لفظية لذلك، وإلا فلا تحمل الكلمة
إلا على ما يقابل العلم فقط. وليت شعري ما يقول أصحاب هذا التوجيه غير الوجيه في معنى ما جاء في
الآيات الكريمة الأربع " ظن الجاهلية " و " حكم الجاهلية "
و " الحمية الجاهلية " و " تبرج الجاهلية " فهل يصح أن تفسر
الجاهلية في هذه الآيات بمعنى الغضب ؟ وقد رأينا أمير المؤمنين
(عليه السلام) وصف الجاهلية بالجهلاء تأكيدا للمعنى المعروف من الجاهلية، ثم
قال: " وبلاء من الجهل
" و " إطباق جهل " مما يؤكد ذلك أيضا ويدفع أي ترديد فيه. " لقد أوضح لنا الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في
كلماته المتقدمة حالة العرب ومستواهم العلمي والثقافي، وأنهم كانوا يعيشون في
ظلمات الجهل والحيرة والضياع.. وهذا يكذب كل ما يدعيه
الآخرون - كالآلوسي وغيره - من أن العرب كانوا قد تميزوا ببعض العلوم: كعلم الطب
والأنواء والقيافة والعيافة... " (الصحيح
من سيرة النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) 1: 48.). ويقول ابن خلدون بهذا الصدد " إن الملة - العربية - في أولها لم يكن فيها علم ولا صناعة،
وذلك لمقتضى أحوال السذاجة والبداوة.. فالقوم يومئذ عرب لم يعرفوا أمر التعليم
والتأليف والتدوين، ولا دفعوا إليه، ولا دعتهم إليه حاجة.. فالامية يومئذ صفة
عامة " (مقدمة ابن خلدون: 543.). ويقول عن علم الطب عند
العرب: ".. طب يبنونه
- في غالب الأمر - على تجربة قاصرة على بعض الاشخاص متوارثا عن مشايخ الحي وعجائزه،
وربما يصح منه البعض إلا أنه ليس على قانون طبيعي ولا على موافقة المزاج. وكان
عند العرب من هذا الطب كثير، وكان
فيهم أطباء معروفون كالحارث بن كلدة وغيره " (مقدمة ابن خلدون: 493.). ويكفي أن نذكر هنا ما
رواه البلاذري في
اميتهم: إن الإسلام دخل وفي قريش سبعة عشر رجلا، وفي الأوس والخزرج في المدينة إثنا عشر رجلا يعرفون القراءة والكتابة (فتوح
البلدان ق 3: 580.). ويقول ابن خلدون عن نوعية الخط عندهم " وكانت كتابة العرب بدوية وكان الخط العربي لأول الإسلام غير
بالغ إلى الغاية من الإحكام والإتقان والإجادة ولا إلى التوسط، ذلك لمكان العرب
من البداوة والتوحش وبعدهم عن الصنائع. وانظر ما وقع - لأجل ذلك - في رسمهم
المصحف حيث رسمه الصحابة بخطوطهم وكانت غير مستحكمة في الإجادة فخالف الكثير من
رسومهم ما اقتضته رسوم صناعة الخط عند أهلها، ثم اقتفى التابعون من السلف رسمهم
فيها تبركا بما رسمه اصحاب الرسول " (مقدمة
ابن خلدون: 419.). بل ربما كانوا يعتبرون القراءة والكتابة عيبا، فقد قال عيسى بن
عمر: قال لي ذو الرمة: ارفع هذا الحرف. فقلت له: أتكتب ؟ فقال بيده على فيه اي
اكتم علي، فإنه عندنا عيب (الشعر والشعراء لابن قتيبة: 334.). وقال ابن خلدون بهذا
الصدد: " مع ما
يلحقهم من الأنفة عن انتحال العلم حينئذ، لأنه من جملة الصنائع، والرؤساء - أبدا
- يستنكفون عن الصنائع والمهن وما يجر إليها " (مقدمة
ابن خلدون: 544، فصل " أن حملة العلم في الإسلام أكثرهم العجم ".). فالذي رواه الرواة والمؤرخون يفيد نفي وجود أي لون من ألوان
التعليم، أو وجوده ولكن بنسبة صغيرة جدا حيث لا يتجاوز عدد المتعلمين عدد
أصابع اليدين والرجلين في كل بلدان الحجاز وحواضره. ذهب بعض المتأخرين من المؤرخين العرب - منهم محمد عزة دروزة في
كتابه: القرآن المجيد - إلى أن هناك في المدن الحجازية فئة من المتعلمين بنسبة لا يمكن
تجاهلها. وكل ما سجله هؤلاء
في كتبهم لتأييد رأيهم هو: - أن البيئة الحجازية - ولا سيما مكة والمدينة - كانت بيئة تجارية -، كما أشار إلى ذلك القرآن الكريم في سورة قريش، فكانت - بحكم عملها
وطبيعتها - على اتصال وثيق ومستمر مع البلاد المجاورة من الشام واليمن والعراق
والتي كانت على جانب لا بأس به من العلم والثقافة. وكانت البيئة الحجازية تضم فئات كتابية: يهودية ومسيحية اصيلة ونازحة من البلاد المجاورة، والتي كانت
تتداول ما بينها الكتب الدينية وغيرها قراءة وكتابة. هذا من جهة، ومن جهة اخرى فقد ورد في القرآن العزيز أطول آية في سورة البقرة تطلب من الناس تسجيل كافة المعاملات والتصرفات وكتابتها نقدا أو
دينا صغيرة أو كبيرة ((البقرة: 282.)) فكيف تطلب هذه الآيات من الناس تحقيق كل ذلك دون وجود قسم من
المتعلمين في صفوفهم يكتبون ويدونون عن أنفسهم أو الآخرين. هذا بالاضافة إلى أن
كتبة الوحي بين يدي الرسول (صلى الله عليه وآله) بلغ عددهم أكثر من أربعين رجلا،
وأن كثيرا منهم كانوا مكيين، وهم الذين كتبوا القسم المكي من القرآن قبل هجرته (صلى
الله عليه وآله) إلى المدينة،
فهذا دليل على وجود المتعلمين في مكة وإن كانوا قليلين، سواء ممن كتب الوحي من
هؤلاء ومن لم يسلم بعد. كما إن الأسرى الفقراء من قريش الذين وقعوا في قبضة المسلمين في معركة بدر الكبرى في العام
الثاني للهجرة، والذين لم يستطيعوا أن يقدموا فدية نقدية لإطلاق سراحهم، كلف كل واحد منهم - ممن يجيد القراءة والكتابة - تعليم عشرة من
أطفال المسلمين في المدينة القراءة والكتابة لقاء إطلاق سراحهم، ويحدثنا البلاذري:
ان كثيرين منهم قاموا
بما كلفوا به من تعليم الأطفال في المدينة وأصبحوا بعدها أحرارا عادوا إلى مكة،
كما أسلم بعضهم بعدما لمسوا عدالة الإسلام وسماحته فكيف يعقل هنا أن يجيد قسم من الفقراء ومعدمي القرشيين القراءة
والكتابة ولا يتقنها أغنياؤهم وتجارهم وأرباب السلطان منهم ! (لمحات من تاريخ القرآن للسيد محمد علي الاشيقر، ط النجف: 36 و 37.). وخلاصة القول في جواب
هؤلاء هو أن نقول: إن
الجهل كان هو الحاكم المطلق ولا نلاحظ نحن فيهم أي شئ من العلوم قبل الإسلام بل
لا نرى إلا جهلا وحيرة وضياعا. أما ما استشهد به هؤلاء فلا يعدو أن يكون مما قام
به الإسلام لمحو الامية. أما أولوية أن يكون ذوو
الغنى والسلطان منهم يقرأون ويكتبون فقد عرفت فساده مما سبق عن ابن خلدون. وأما
عدد كتاب الوحي فقد
فند أكثر العدد العلامة السيد أبو الفضل مير محمدي في كتابه القيم " بحوث في تأريخ القرآن وعلومه ". ولا يفوتنا هنا أن ننوه إلى: أن اميتهم هذه كانت السبب في قوة حافظتهم التي امتازوا بها، فأصبح
الكثير منهم حفظة القرآن الكريم وأحاديث الرسول العظيم. لكن مستواهم الثقافي هذا كان السبب الطبيعي في أن ينظروا إلى أهل الكتاب عموما واليهود
خصوصا نظرة التلميذ إلى معلمه فتكون لهم الهيمنة الفكرية عليهم، مما بقيت آثاره
في أخبار رواتهم فيقول
الطبري: " عن
بعض أهل العلم من أهل الكتاب ". |
غيرة
وحمية، أم حمية جاهلية:
|
كما حاولوا أن يوجهوا الجاهلية بتفسيرها بمعنى الغضب لا عدم العلم
والمعرفة، كذلك حاولوا تحريف الحمية الجاهلية المذكورة في القرآن الكريم من
كونها صفة ذميمة إلى جعلها خصيصة ذات ميزة للعرب قبل الإسلام، وذلك بحذف صفة
الجاهلية وإضافة لفظة " الغيرة " إلى " الحمية ". والحقيقة هي أن الحمية صفة ذميمة، إذ هي تعني أن يكون النصر للقبيلة وذوي القرابة فقط، وإن العون لا
بد وأن يمحض لهم ظالمين كانوا أو مظلومين فلا بد من الوقوف إلى جانب ابن القبيلة
سواء كان الحق له أو عليه، حتى
قال شاعرهم يمتدحهم بذلك: لا يسألون أخاهم حين يندبهم *
في النائبات على ما قال برهانا وفي المقابل تتحمل
القبيلة عنه كل جناية وجريمة يرتكبها، وتحميه من كل من أراده بسوء. وهذا هو
التعصب القبلي الذي لا يرحم ولا يلين. فالتعصب القبلي كان من مميزات الإنسان العربي وخصائصه. ومن الطبيعي أن يكون شعور أفراد كل قبيلة بالنسبة لأبناء قبيلتهم
قويا جدا، وذلك بدافع من شعورهم بالحاجة إلى قبائلهم للدفاع عن أنفسهم. وهذا هو السر في شجاعتهم أيضا، وذلك أنهم بحكم بيئتهم وحياتهمفي الصحراء بلا حواجز وموانع طبيعية
أو غيرها، كانوا يشعرون بحاجتهم إلى حماية أنفسهم والدفاع عنها، ولا يرد عنه إلا
يده وسيفه ثم أهله وعشيرته، وهو يرى نفسه في كل حين عرضة للغزو والنهب والسلب
والغارات والثارات. إن حياة البادية والغزو
المفاجئ وعمليات الاغتيال ثأرا التي كانت تهددهم دائما، كل ذلك كان يستدعي سرعة الإقدام ومباشرة العمل فورا، فإذا اضيف إلى ذلك عدم شعورهم بالمسؤولية عما يفعلون، فإن الإقدام بلا ترو ولا تريث لا بد وأن يصبح هو الصفة المميزة
لهم والطاغية على تصرفاتهم.. ولذا فقد قل أن تجد فيهم حليما. وأخيرا فقد نعى القرآن
الكريم على الجاهلية هذه الحمية فعبر عنها بالحمية الجاهلية، وهذا يعني أنها
كانت من دون تثبت في الفكر والرأي بل للجهل، فكيف تكون ميزة ؟ ! أجل إن الإسلام
حاول أن يضع هذه الحمية في خطها الصحيح وأن يجعلها تنطلق من قواعد إنسانية وعواطف حقيقية وفضائل أخلاقية،
وبالأخص من إحساس ديني صحيح، وأن
يستفيد منها في بناء الامة على
اسس صحيحة وسليمة. فقد حاول أن يوجه العصبية القبلية وجهة بناءة ويقضي على كل
عناصر الشر والانحراف فيها، فدعى إلى بر الوالدين وإلى صلة الرحم، وجعل ذلك من
الواجبات وذلك لربط الامة المسلمة بعضها ببعض. وفي الوقت نفسه أدان كل تعصب لغير الحق وندد به وعاقب عليه،
واعتبر ذلك من دعوات الجاهلية المنتنة كما جاء في بعض نصوص الاحاديث. وكذلك حاول أن يوجه غيرتهم وحميتهم وشدتهم إلى حيث قال تعالى: * (أشداء على الكفار) * (الفتح: 29.). |
بناء
الكعبة المعظمة:
|
بناء الكعبة المعظمة: يجدر بنا ونحن نحاول دراسة التأريخ الإسلامي أن نتعرف على تأريخ
بناء الكعبة في مكة المكرمة، وذلك يجرنا إلى البدء بتأريخ بانيها إبراهيم (عليه
السلام)، فلنبدأ به: ومن اجمع ما يتضمن قصة الخليل (عليه السلام) ما جاء في "
روضة الكافي " بسنده عن علي بن إبراهيم القمي، عن زيد الكرخي قال: سمعت أبا عبد الله
الصادق (عليه السلام) يقول: إن
إبراهيم (عليه السلام)
كان مولده بكوثاريا وكان أبوه من أهلها، وكانت ام إبراهيم وام لوط (عليهما السلام)، سارة وورقة اختين، وهما ابنتان للاحج، وكان لاحج نبيا منذرا، ولم
يكن رسولا. وكان إبراهيم (عليه
السلام) في شبيبته على
الفطرة التي فطر الله عز وجل الخلق عليها حتى هداه الله تبارك وتعالى إلى دينه
واجتباه وانه تزوج سارة ابنة (قد علق العلامة المجلسي في الجزء 26 من مرآة العقول على ذلك بأنه لا
بد وأن تكون ابنة ابنة لاحج، ولعل السقط من النساخ حيث تصور أنها زائدة.) لاحج،
وهي ابنة خالته، وكانت سارة صاحبة ماشية كثيرة وأرض واسعة وحال حسنة، وكانت قد
ملكت إبراهيم
(عليه السلام) جميع
ما كانت تملكه، فقام فيه وأصلحه وكثرت الماشية والزرع حتى لم يكن بأرض كوثاريا
رجل أحسن حالا منه. وإن إبراهيم لما كسر اصنام نمرود وأمر به نمرود فاوثق، وعمل له
حايرا وجمع له فيه الحطب وألهب فيه النار، ثم قذف إبراهيم (عليه السلام)
في النار لتحرقه، ثم اعتزلوها حتى خمدت النار. ثم اشرفوا على الحاير فإذا
إبراهيم (عليه السلام) سليما مطلقا من وثاقه. فاخبر نمرود خبره، فأمرهم أن ينفوا إبراهيم (عليه السلام)
من بلاده، وأن يمنعوه من الخروج بماشيته وماله فحاجهم إبراهيم (عليه السلام) عند
ذلك فقال: إن أخذتم ماشيتي ومالي فإن حقي عليكم أن تردوا علي ما ذهب من عمري في
بلادكم ! واختصموا إلى
قاضي نمرود فقضى على اصحاب نمرود أن يردوا على إبراهيم (عليه السلام)
ماله ! وأخبر بذلك نمرود،
فأمرهم أن يخلوا سبيله وسبيل ماشيته وماله ويخرجوه وقال: إنه إن بقي في بلادكم
أفسد دينكم (!) وأضر بآلهتكم. فأخرجوا إبراهيم ولوطا (عليهما السلام) معه من بلادهم إلى الشام. فخرج إبراهيم
- ومعه لوط لا يفارقه - وسارة،
وقال لهم " إني ذاهب
إلى ربي سيهدين " يعني
إلى بيت المقدس. فتحمل إبراهيم بماشيته وماله، وعمل تابوتا وجعل فيه سارة وشد
عليها الاغلاق غيرة منه عليها. ومضى حتى خرج من سلطان نمرود، وصار إلى سلطان رجل
من القبط يقال له: عزارة، فمر بعاشر له فاعترضه العاشر ليعشر ما معه، فلما انتهى
إلى العاشر ومعه التابوت قال
العاشر لإبراهيم (عليه
السلام): إفتح هذا التابوت لنعشر ما فيه، فقال له إبراهيم (عليه السلام): قل ما شئت فيه من ذهب أو فضة حتى نعطي عشره ولا نفتحه. فأبى
العاشر إلا فتحه، وغضب إبراهيم (عليه السلام)
على فتحه. فلما بدت له سارة -
وكانت موصوفة بالحسن والجمال -
قال له العاشر: ما هذه المرأة منك ؟ قال إبراهيم (عليه
السلام): هي حرمتي وابنة
خالتي. فقال له العاشر: فما دعاك إلى أن خبيتها في هذا التابوت ؟ فقال إبراهيم (عليه
السلام): الغيرة عليها أن
يراها أحد ! فقال
له العاشر: لست أدعك تبرح
حتى اعلم الملك حالها وحالك. فبعث رسولا إلى الملك
فأعلمه، فبعث الملك رسولا من قبله ليأتوه بالتابوت، فأتوا ليذهبوا به فقال لهم إبراهيم (عليه السلام): إني لست افارق التابوت حتى يفارق روحي جسدي ! فاخبروا الملك بذلك،
فأرسل الملك: أن احملوه والتابوت معه. فحملوا إبراهيم (عليه السلام)
والتابوت وجميع ما كان معه حتى ادخل على الملك، فقال له الملك: افتح التابوت ! فقال له إبراهيم (عليه السلام):
أيها الملك إن فيه حرمتي وابنة خالتي وأنا مفتد فتحه بجميع ما معي. فغصب الملك إبراهيم (عليه السلام) على فتحه، فلما رأى سارة لم يملك حلمه سفهه أن مد يده إليها،
فأعرض إبراهيم
(عليه السلام)
وجهه عنها وعنه - غيرة
منه - وقال: اللهم احبس
يده عن حرمتي وابنة خالتي ! فلم تصل يده إليها ولم ترجع إليه ! فقال له الملك: إن إلهك هو الذي فعل بي هذا ؟ فقال له: نعم إن إلهي غيور يكره
الحرام، وهو الذي حال بينك وبين ما أردته من الحرام. فقال له الملك:
فادع إلهك يرد علي يدي، فإن أجابك فلن أعرض لها. فقال إبراهيم (عليه
السلام): إلهي رد إليه يده ليكف عن حرمتي، قال: فرد الله عز وجل إليه يده. فأقبل الملك نحوه ببصره ثم عاد بيده نحوها فأعرض إبراهيم عنه بوجهه
غيرة منه، وقال: اللهم احبس يده عنها. قال: فيبست يده ولم تصل إليها. فقال الملك لإبراهيم (عليه
السلام): إن إلهك لغيور، وإنك لغيور، فادع إلهك يرد إلي يدي، فإنه إن فعل
لم أعد ! فقال إبراهيم (عليه
السلام): أسأله ذلك على
أنك إن عدت لم تسألني أن أسأله ! فقال له الملك: نعم، فقال إبراهيم: نعم. فقال إبراهيم (عليه السلام): اللهم إن كان صادقا فرد يده عليه. فرجعت إليه يده. فلما رأى ذلك
الملك من الغيرة ما رأى، ورأى الآية في يده، عظم إبراهيم (عليه السلام) وهابه
وأكرمه واتقاه، وقال له: قد أمنت من أن أعرض لها أو لشئ مما معك فانطلق حيث شئت،
ولكن لي إليك حاجة ! فقال إبراهيم (عليه
السلام): ما هي ؟ فقال له: احب أن تأذن لي أن اخدمها قبطية عندي جميلة
عاقلة تكون لها خادما، فأذن إبراهيم (عليه السلام) فدعا بها فوهبها لسارة، وهى
هاجر ام إسماعيل (عليه
السلام). فسار إبراهيم (عليه السلام) بجميع ما معه،
وخرج الملك معه يمشي خلف إبراهيم (عليه السلام) إعظاما لإبراهيم وهيبة له، فأوحى الله تبارك وتعالى إلى إبراهيم (عليه السلام):
أن قف ولا تمش قدام الجبار المتسلط وهو يمشي خلفك، ولكن اجعله أمامك وامش خلفه
وعظمه وهبه فإنه مسلط، ولا بد من إمرة في الأرض برة أو فاجرة ! فوقف إبراهيم
(عليه السلام) وقال
للملك: امض، فإن إلهي أوحى إلي الساعة: أن اعظمك وأهابك، وأن اقدمك أمامي وأمشي
خلفك إجلالا لك ! فقال له الملك: أوحى إليك بهذا ؟ فقال إبراهيم (عليه السلام): نعم. فقال له الملك: أشهد أن إلهك لرفيق حليم كريم، وانك ترغبني
في دينك ! وودعه الملك. فسار إبراهيم (عليه السلام) حتى
نزل بأعلى الشامات وقد خلف لوطا (عليه السلام)
في أدنى الشامات. ثم إن إبراهيم (عليه السلام)
لما أبطأ عليه الولد قال لسارة: لو شئت لبعتني هاجر لعل الله أن يرزقنا منها ولدا
فيكون لنا خلفا ؟ ! فابتاع إبراهيم (عليه السلام)
هاجر من سارة فتزوج بها، فولدت إسماعيل (عليه السلام)
(روضة الكافي: 304 - 306 ط النجف الأشرف، وانظر تفسير القمي 1: 206،
207 ط النجف الأشرف.). وروى علي بن إبراهيم
القمي في تفسيره عن أبيه
عن هشام عن أبي عبد الله
الصادق (عليه السلام) قال:
إن إبراهيم (عليه السلام) كان نازلا في بادية الشام، فلما ولد له من هاجر إسماعيل اغتمت سارة
من ذلك غما شديدا لأنه لم يكن له منها ولد، فكانت تؤذي إبراهيم في هاجر وتغمه،
فشكى إبراهيم ذلك إلى الله عز وجل، فأوحى الله إليه، إنما مثل المرأة مثل الضلع
الأعوج، إن تركتها استمتعت بها وإن أقمتها كسرتها. |
موضع
البيت
|
ثم أمره أن يخرج إسماعيل وامه، فقال: يا رب إلى أي مكان ؟ قال: إلى حرمي وأمني وأول بقعة خلقتها من
الأرض وهي مكة. فأنزل الله عليه جبرئيل بالبراق فحمل هاجر وإسماعيل. وكان إبراهيم
لا يمر بموضع حسن فيه شجر ونخل وزرع إلا قال: يا جبرئيل إلى ها هنا ؟ إلى ها هنا
؟ فيقول: لا، امض، امض، حتى أتى مكة، فوضعه في موضع البيت. وقد كان إبراهيم (عليه السلام) عاهد سارة: أن لا ينزل حتى يرجع إليها، فلما نزلوا في ذلك المكان كان فيه
شجرة، فألقت هاجر على ذلك الشجر كساء كان معها فاستظلوا تحته، فلما سترهم ووضعهم
وأراد الانصراف منهم إلى سارة قالت له هاجر: يا إبراهيم لم تدعنا في موضع ليس
فيه أنيس ولا ماء ولا زرع ؟ ! فقال إبراهيم: الله الذي
أمرني أن أضعكم في هذا المكان حاضر عليكم. ثم انصرف عنهم فلما بلغ كداء - وهو
جبل بذي طوى - التفت إليهم إبراهيم فقال: * (ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير
ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم
وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون) * (ابراهيم: 37.) ثم مضى وبقيت هاجر.
فلما ارتفع النهار عطش
إسماعيل وطلب الماء، فقامت
هاجر في الوادي في موضع المسعى ونادت: هل في الوادي من أنيس ؟ ! فغاب عنها
إسماعيل، فصعدت على الصفا ولمع لها السراب في الوادي وظنت أنه ماء وسعت، فلما
بلغت المسعى غاب عنها، ثم لمع لها السراب في ناحية الصفا فعادت حتى بلغت الصفا،
حتى فعلت ذلك سبع مرات، فلما كان في الشوط السابع وهي على المروة نظرت إلى
إسماعيل وقد ظهر الماء من تحت رجله، فعادت حتى جمعت حوله رملا فزمته بما جعلته
حوله فلذلك سميت زمزم. وكانت جرهم نازلة بذي
المجاز وعرفات، فلما ظهر الماء بمكة عكفت الطير والوحش على الماء فنظرت جرهم إلى
تعكف الطير على ذلك المكان فاتبعوها حتى نظروا إلى امرأة وصبي في ذلك الموضع قد
استظلوا بشجرة، وقد ظهر الماء لهما. فقالوا لهاجر: من أنت وما شأنك وشأن هذا
الصبي ؟ فقالت: أنا ام ولد إبراهيم خليل الرحمن وهذا ابنه، أمره الله أن ينزلنا
ها هنا. فقالوا لها: أيتها المباركة أفتأذني لنا أن نكون بالقرب منكما ؟ فلما زارهم إبراهيم (عليه السلام) في اليوم الثالث قالت هاجر: يا خليل الله إن ها هنا قوما من جرهم يسألونك أن تأذن لهم حتى
يكونوا بالقرب منا، أفتأذن لهم في ذلك ؟ فقال إبراهيم: نعم. فأذنت، فنزلوا
بالقرب منهم وضربوا خيامهم، فأنست هاجر ام إسماعيل بهم. فلما زارهم إبراهيم في المرة الثالثة
نظر إلى كثرة الناس حولهم فسر بهم سرورا شديدا.
وكانت جرهم قد وهبوا لإسماعيل كل واحد منهم شاة وشاتين فكانت هاجر وإسماعيل
يعيشان بها. فلما بلغ إسماعيل مبلغ الرجال أمر الله
إبراهيم (عليه السلام) أن يبني البيت،
فقال: يا رب في أي بقعة ؟ قال: في البقعة التي أنزلت على آدم القبة فأضاء لها
الحرم فلم تزل البقعة التي أنزلتها على آدم قائمة حتى كان طوفان نوح فلما غرقت
الدنيا رفعت تلك القبة وغرقت الدنيا إلا موضع البيت. فبعث الله جبرئيل (عليه
السلام) فخط له موضع البيت، وأنزل الله عليه القواعد من الجنة، ونقل إسماعيل
الحجر من ذي طوى، وبنى إبراهيم البيت فرفعه إلى السماء تسعة إذرع. وكان الحجر
الذي أنزله الله على آدم أشد بياضا من الثلج، فاستخرجه إبراهيم (عليه السلام)
ووضعه في موضعه الذي هو فيه. وجعل له بابين: بابا إلى المشرق وبابا إلى المغرب
يسمى المستجار، ثم ألقى عليه الشجر والاذخر (الاذخر:
نبات طيب الرائحة.) وعلقت هاجر إلى بابه
كساء كان معها فكانوا يكنون تحته. فلما بناه وفرغ منه نزل عليهما
جبرئيل (عليه السلام) يوم التروية لثمان مضين من ذي الحجة فقال: يا إبراهيم قم فارتو من
الماء. لأنه لم يكن بمنى وعرفات ماء، فسميت التروية لذلك، ثم أخرجه إلى منى فبات
بها، ففعل به ما فعل بآدم (عليه السلام) (تفسير القمي 1: 60 - 62.). وروى علي بن إبراهيم القمي أيضا عن أبيه عن
معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: إن إبراهيم (عليه السلام) أتاه جبرئيل عند زوال الشمس من يوم التروية فقال: يا
إبراهيم ارتو من الماء لك ولأهلك -
ولم يكن بين مكة وعرفات ماء - فسميت التروية
بذلك. فذهب به حتى انتهى به إلى منى فصلى به الظهر والعصر والعشائين والفجر، حتى
إذا بزغت الشمس خرج إلى عرفات فنزل بنمرة، وهي بطن عرفة. فلما زالت الشمس خرج
واغتسل فصلى الظهر والعصر بأذان واحد وإقامتين، وصلى في موضع المسجد الذي بعرفات - وقد كانت ثمة أحجار بيض فادخلت في المسجد الذي بني - ثم مضى به إلى الموقف فقال: يا إبراهيم اعترف بذنبك، واعرف
مناسكك. ولذلك سميت عرفة. فأقام به حتى غربت الشمس، ثم أفاض به فقال: يا إبراهيم
ازدلف إلى المشعر الحرام - فسميت المزدلفة - وأتى به المشعر الحرام، فصلى به المغرب والعشاء الآخرة بأذان واحد
وإقامتين، ثم بات بها فرأى في النوم أنه يذبح ابنه... حتى إذا صلى بها صلاة
الصبح أراه الموقف. ثم أفاض إلى منى فأمره فرمى جمرة
العقبة عندما ظهر له إبليس لعنه الله، وأمر أهله فسارت إلى البيت، واحتبس
الغلام، فانطلق به إلى موضع الجمرة الوسطى، فاستشار ابنه وقال - كما حكى الله * (يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى) * فقال الغلام - كما حكى
الله * (يا أبت افعل ما تؤمر
ستجدني إن شاء الله من الصابرين) *
(الصافات: 102.). وأقبل
شيخ فقال: يا إبراهيم ما تريد من هذا الغلام ؟
قال: اريد أن أذبحه ! فقال: سبحان الله ! تذبح غلاما لم يعص الله طرفة عين ! فقال له إبراهيم: ويلك إن الذي بلغني هذا المبلغ
هو الذي أمرني به ! فقال: لا والله ما أمرك بهذا إلا الشيطان ! فقال إبراهيم: لا والله لا
اكلمك، ثم عزم إبراهيم على الذبح. فقال: يا إبراهيم إنك إمام يقتدى بك، وإنك إن
ذبحته ذبح الناس أولادهم ! فلم يكلمه. وأقبل إلى الغلام فاستشاره في الذبح، فقال
الغلام كما حكى الله: امض كما أمرك الله به، فلما أسلما جميعا لأمر الله قال
الغلام: يا أبت خمر (خمر:
استره بالخمار.) وجهي
وشد وثاقي ! فقال إبراهيم: يا بني ! الوثاق مع الذبح ؟ لا والله لا أجمعهما عليك اليوم، فرمى له
بقرطان الحمار (قرطان
الحمار: ما يجعل على ظهره من الجل والقماش.) ثم أضجعه عليه وأخذ المدية فوضعها على حلقه، ورفع رأسه إلى
السماء ثم انتحى عليه بالمدية فقلب جبرئيل المدية على قفاها وأثار الغلام من
تحته، واجتر الكبش من قبل ثبير الجبل الذي عن يمين مسجد منى وكان أملح أغبر أقرن
يمشي في سواد ويأكل في سواد، فوضعه مكان الغلام، ونودي من (قبل) مسجد الخيف * (أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين إن هذا
لهو البلاء المبين) * (الصافات:
104 - 106.). ولحق ابليس بام الغلام
بحذاء البيت في وسط الوادي فقال لها: رأيت شيخا ومعه وصيف قد أضجعه الشيخ وأخذ
المدية ليذبحه ! فقالت: كذبت، إن إبراهيم أرحم الناس، كيف يذبح ابنه ! قال: فورب السماء والأرض ورب هذا البيت، لقد رأيته أضجعه وأخذ
المدية ! فقالت: ولم ؟ قال: زعم أن ربه أمره بذلك. فوقع في نفسها أنه قد امر
في ابنها بأمر، فقالت: فحق له أن يطيع ربه. ولما قضت مناسكها أسرعت في الوادي
راجعة إلى منى. (تفسير القمي 2: 224 - 226.). وما جاء في خبر علي بن
إبراهيم القمي عن الإمام الصادق (عليه السلام): أن
الكعبة كانت قبل طوفان نوح قبة ضربها آدم (عليه السلام)
بموضع البيت، يؤيده
ما جاء في الخطبة المعروفة بالقاصعة للامام علي (عليه
السلام) انه قال: " ألا ترون أن الله سبحانه اختبر الأولين من لدن آدم - صلوات
الله عليه - وإلى الآخرين من هذا العالم، بأحجار لا تضر ولا تنفع ولا تبصر ولا
تسمع، فجعلها بيته الحرام الذي جعله للناس قياما. ثم وضعه بأوعر بقاع الأرض حجرا
وأقل نتائق الدنيا مدرا، وأضيق بطون الأودية قطرا، بين جبال خشنة ورمال دمثة،
وعيون وشلة وقرى منقطعة، لا يزكو بها خف ولا حافر ولا ظلف. ثم امر آدم وولده: أن
يثنوا اعطافهم نحوه، فصار مثابة لمنتجع اسفارهم وغاية لملتقى رحالهم، تهوى إليه
الأفئدة من مفاوز سحيقة.. " (نهج
البلاغة، الخطبة: 192، صبحي الصالح.). ولعل هذا هو معنى قوله تعالى * (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا
انك أنت السميع العليم ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا امة مسلمة لك وأرنا
مناسكنا وتب علينا انك أنت التواب الرحيم) * (البقرة: 127 و 128.) فان رفع القواعد يفيد انها
كانت قد وضعت قبل ذلك وإن إبراهيم هو الذي رفعها وشيد على أساسها وإن لم تكن
بقيت بعد طوفان نوح، حيث قرأنا في الخبر عن الإمام الصادق (عليه السلام) أن
جبرئيل هو الذي دل إبراهيم (عليه السلام) على موضع البيت. وحيث لاحظ إبراهيم (عليه السلام) أن البيت قد وضع في بقعة يصعب
فيها الحياة قال: * (ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم
ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم
يشكرون) * (إبراهيم: 37.).
واستجيبت دعوته فاصبحت الكعبة قبلة المسلمين ومهوى افئدة المؤمنين. |
شبه
الجزيرة العربية مهد الحضارة الإسلامية:
|
هي شبه جزيرة كبيرة تقع في جهة الجنوب الغربي من آسيا، تقدر
مساحتها بثلاثة ملايين كيلومتر مربع، وهذا يعني أنها اكبر من مساحة إيران مرتين،
واكبر من فرنسا ست مرات، وأكبر من إيطاليا عشر مرات، وأكبر من سويسرا ثمانين
مرة. وهي شبه جزيرة مستطيلة غير متوازية الأضلاع تحدها من شمالها الشام
وفلسطين، ومن شرقها أرض الرافدين من الكوفة إلى البصرة ثم خليج فارس - كما كان
يسمى - ومن جنوبها خليج عدن والمحيط الهندي، ومن غربها البحر الاحمر. فهي محصورة
من جنوبها وغربها وقسم من مشرقها بالبحار وفي قسم آخر من مشرقها وشمالها ببادية
الشام أو الاردن والعراق |
وقد
قسموها قديما إلى ثلاثة اقسام:
|
1 - القسم الشمالي والغربي وهو الحجاز. 2 - القسم الشرقي
والمركزي وهو المسمى بالصحراء العربية. 3 - القسم الجنوبي وهو
اليمن. وفي شبه الجزيرة صحاري رملية حارة واسعة غير قابلة للسكنى كثيرة
منها: صحراء النفوذ، والربع الخالي الذي يمتد حتى حواشي الخليج الفارسي. وقديما
كان يسمى قسم منه بصحراء الدهناء والقسم الآخر بالأحقاف. وهذه الصحاري تشكل اكثر من ثلث الجزيرة غير المسكون بلا ماء ولا
كلأ إلا ما قد يوجد فيها من
آثار الامطار فيرعى حولها بعض العرب ابلهم لفترة غير طويلة. والجو فيها حار جدا،
وجاف كذلك إلا في بعض السواحل، وبعض النقاط المعتدلة نسبيا. ولذلك لا يتجاوز عدد
نفوسها بمجموعها عن عشرين مليونا تقريبا. وكانت جبال اليمن قديما تحتوي على الاحجار الكريمة وشئ من الذهب
والفضة، وغالبا ما كانوا
يكتفون من تربية الحيوانات بالابل والخيل، ومن الطيور كان اكثر ما عندهم النعام
والحمام. وفي الجزيرة جبال تمتد من الجنوب إلى الشمال آخر حد لارتفاعها 2470
مترا. |
ونشرح
هذه الاقسام الثلاثة من الجزيرة فيما يلي:
|
1 - أما الحجاز، وهو القسم الشمالي والغربي للجزيرة، فهو يمتد من الاردن إلى اليمن في سواحل البحر الاحمر، وهي اراضي
جبلية صخرية تتخللها صحاري قاحلة. ولهذه المنطقة ذكر في التأريخ اكثر من غيرها وذلك لاشتمالها على
الكعبة المعظمة. |
الكعبة
المعظمة ومكة المكرمة: "
|
وقد كانت الكعبة مقدسة معظمة عند الامم المختلفة: فكان الهنود
يعظمونها ويقولون: إن روح سيفا - وهو الاقنوم الثالث عندهم - حلت في الحجر
الاسود حين زار مع زوجته بلاد الحجاز. وكانت الصابئة من الفرس
والكلدانيين يعدونها احد
البيوت السبعة المعظمة، وربما قيل: إنه بيت زحل عندهم لقدم عهده وطول بقائه.
وكان سائر الفرس يحرمونها أيضا زاعمين أن روح هرمز قد حل فيها، وربما حجوا إليها
زائرين. وكان اليهود يعظمونها ويعبدون الله فيها على دين إبراهيم، وكان بها صور وتماثيل، منها
تمثال إبراهيم وإسماعيل وبايديهما الازلام، ومنها صورة المسيح وامه، وهذا يشهد
بتعظيم النصارى لها أيضا. وكان العرب يعظمونها أيضا كل التعظيم ويحجون إليها على انها بيت الله بناها إبراهيم " (الميزان
3: 361، 362.). |
مدينة
مكة
|
ومدينة مكة من اشهر مدن العالم، واكثر مدن الحجاز نفوسا. وهي ترتفع عن سطح البحر 300 مترا تقريبا.
عدد نفوسها اليوم 150 الفا تقريبا. وتربتها غير زراعية. وللحجاز ميناءان على
البحر الاحمر: احدهما: جدة (جدة:
بكسر الجيم، بمعنى الصخور الساحلية. وفيها قبر بطول سبعة أمتار خمسة عشر ذراعا
منسوب إلى حواء ام البشر، قيل: ولذلك سميت جدة - بفتح الجيم - أي مرقد جدة البشر ! ولا يصح.)،
وهي ميناء مكة والاخرى:
ينبع، وهي كانت ميناء أهل
المدينة المنورة سابقا، واليوم اصبحت جدة هي الميناء الرئيسي في الحجاز. وفي
الحجاز من المدن المهمة بعد مكة: المدينة، والطائف. |
المدينة
المنورة:
|
المدينة المنورة: وهي تقع في شمال مكة على بعد خمسمائة كيلومتر تقريبا. وفي حواليها
نخيل وبعض البساتين لصلاح تربتها للزراعة نسبيا. وكان اسمها قبل الإسلام يثرب،
وبعد هجرة الرسول (صلى الله عليه وآله) إليها سميت: مدينة الرسول، وحذف المضاف
إليه تخفيفا فقيل: المدينة. ويقال: إن
العمالقة أول من سكنوا المدينة أو يثرب، وظلوا بها حتى نزلها اليهود في القرن
الثاني الميلادي على اثر اضطهاد الرومان لهم في فلسطين، والمظنون أنهم هاجروا من
موطنهم الأصلي في فلسطين إلى الجزيرة على إثر ضغوط القيصر نينوس عليهم وهدمه
لهيكلهم سنة 70 م وكذلك اصطدام القيصر هوريان بهم سنة 132 م ففي هذه الأثناء فر
كثير منهم إلى الحجاز (راجع: الجزء السادس من تأريخ العرب قبل الإسلام، لجواد علي.). ونرى أن الحجاز منطقة جرداء تقريبا لا تصلح للزراعة والعمل، فهي لا
تصلح للسكنى والحياة... وهذا قد جعل المنطقة في مأمن من فرض السيطرة عليها من
قبل الدولتين العظميين آنذاك: الروم والفرس، ولذلك لا نرى لهم أي أثر فيها، إذ
لم يكن لهم أي مغنم في تجهيز الجيوش إليها، فهم ان فعلوا ذلك كان عليهم أن
يرجعوا عنها خائبين خاسرين. وقد نقل بعض المؤرخين اليونانيين: أن القائد اليوناني الكبير: دمريوس، عزم على تسخير الجزيرة حتى وصل
إلى قرية: پترا - ولعلها ماء بدر - فقال له أهلها: أيها القائد اليوناني ! لماذا
تحاربنا ؟ فنحن نعيش في صحاري ليس فيها أي شئ للعيش، وقد اخترنا هذه الصحارى
القاحلة الجرداء كي لا نذعن لأمر احد، فاقبل هدايانا وانصرف عنا. والا فنحن
نعلمك أنك ستصاب بمصائب عظيمة ومشاكل كثيرة: واعلم أن أحدنا لا ينفك عما هو عليه
من الخلق والعادة، فلو تقدمت فينا وأسرت منا اناسا تريد أن تذهب بهم فإنك لن ترى
نفعا فيهم فإنهم سوف يقابلونكم بسوء الأعمال والنيات لا يغيرون شيئا مما هم عليه
! فقبل القائد اليوناني هداياهم وانصرف عن تسخير الجزيرة (بالفارسية، تمدن اسلام وعرب: 94.). |
2
- القسم المركزي والشرقي من الجزيرة يسمى الصحراء العربية وفيها صحراء النجد
|
2 - القسم المركزي والشرقي من الجزيرة يسمى الصحراء العربية
وفيها صحراء النجد، وهي
أراضي مرتفعة نسبيا وفيها قرى عامرة كذلك، منها " الرياض " التي أصبحت
في سلطة آل سعود عاصمة لهم، وهي الآن مدينة كبيرة. |
3
- القسم الجنوبي الغربي للجزيرة يسمى: اليمن،
|
3 - القسم الجنوبي الغربي للجزيرة يسمى: اليمن، طولها من الشمال إلى الجنوب يقرب من سبعمائة وخمسين كيلومتر، ومن
الغرب إلى الشرق يقرب من اربعمائة كيلومتر، وتقرب مساحتها من ستين ألف ميل مربع،
في جنوبها مدينة: عدن، وهي اكبر مدن اليمن، ويحدها من الشمال صحراء نجد ومن
المشرق صحراء الربع الخالي، ومن المغرب البحر الاحمر، وأكبر موانئها ميناء:
الحديدة. واليمن هي اخصب نقاط الجزيرة واكثرها بركة ونعمة، ولها تأريخ
حضاري عظيم، فهي مملكة التبابعة الذين حكموها سنين طويلة. وكانت المركز التجاري
المهم ومفترق الطرق، وبها الاحجار الكريمة والذهب والفضة. وبها آثار حضارية ما
زالت باقية حتى اليوم. وهذا
يعني أن عرب اليمن كانوا قد بنوا هذه الاثار المهمة بهممهم العالية في عهد لم
تتوفر فيه الامكانات لهذه الاعمال الضخمة. وكانوا قد تقدموا في الزراعة والري
إلى حد تقرير البرامج المقررة والمنفذة حكوميا بدقة. فمن آثارهم التاريخية
ذلك السد المعروف بسد مأرب،
والذي ما زالت آثاره باقية، وهو الذي تهدم بالسيل الذي اطلق عليه القرآن الكريم
قوله سبحانه * (فأرسلنا عليهم سيل العرم) * وذلك حيث قال تعالى * (لقد
كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة
طيبة ورب غفور فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي
اكل خمط وأثل وشئ من سدر قليل ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور
وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة وقدرنا فيها السير سيروا
فيها ليالي وأياما آمنين فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم فجعلناهم
أحاديث ومزقناهم كل ممزق إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور ولقد صدق عليهم ابليس
ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين) (سبأ:
15 - 20.) وفي سورة قريش إشارة إلى تجارتهم في الصيف إلى اليمن * (لإيلاف
قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع
وآمنهم من خوف) * (قريش:
1 - 4.). يقول جرجي زيدان: " إن الآثار التي ظهرت من الحفريات الاثرية للمستشرقين تدل
على الحضارة الراقية في اليمن من سد مارب وفي صنعاء، ومدينة بلقيس. وكانت في
مدينة مأرب (وهي مدينة سبأ) قصور عالية قد زينت ابوابها وسقوفها بالذهب، ووجد بها أوان من
الذهب والفضة، وسرر معدنية كثيرة " (بالفارسية:
تمدن اسلام وعرب: 96.). وروى الشيخ الطبرسي عن فروة بن مسيك قال: سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن سبأ أرجل هو أم امرأة ؟
فقال هو رجل من العرب ولد عشرة، تيامن منهم ستة وتشاءم اربعة، فأما الذين
تيامنوا فالازد وكندة ومذحج والأشعريون وأنمار وحمير. فقال رجل من القوم: ما
أنمار ؟ قال: الذين منهم خثعم وبجيلة، وأما الذين تشاءموا فعاملة وجذام ولخم
وغسان (مجمع البيان 8: 604، طبعة بيروت.). وفي " الكافي
" باسناده عن سدير: قال:
سأل رجل أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: * (قالوا
ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم) * الآية،
فقال: هؤلاء قوم كانت لهم قرى متصلة ينظر بعضهم إلى بعض، وأنهار جارية، وأموال
ظاهرة، فكفروا نعم الله عز وجل وغيروا مابأنفسهم من عافية الله فغير الله ما بهم
من نعمة، * (إن الله لا يغير
ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) * (الرعد:
11.) فأرسل الله عليهم سيل
العرم، فغرق قراهم وخرب ديارهم وذهب بأموالهم وأبدلهم مكان جنانهم * (جنتين
ذواتي اكل خمط وأثل وشئ من سدر قليل) * ثم قال: * (ذلك جزيناهم بما كفروا وهل
نجازي إلا الكفور) * (الميزان 16: 324.). وقوم سبأ من العرب
العاربة باليمن، سموا
باسم أبيهم سبأ بن يشجب ابن
يعرب بن قحطان، كما
نقل رواة التأريخ. |
العرب
قبل الإسلام:
|
أ
- العرب البائدة:
|
أ - العرب البائدة: لا ريب في أن جزيرة العرب كانت موطن قبائل كثيرة من العرب منذ
القدم، وقد باد بعضهم على اثر حوادث خاصة سماوية وارضية، وذلك لاعراضهم عن ذكر
الله كما قال تعالى في قوم سبأ: * (فأعرضوا
فأرسلنا عليهم سيل العرم... ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور...
وظلموا أنفسهم فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق... ولقد صدق عليهم ابليس ظنه
فاتبعوه) * (سبأ: 16 - 20.) ولذلك سمي هولاء بالبائدة. ولعل منهم قوم عاد المعاد ذكرهم في القرآن الكريم أكثر من عشرين مرة وقوم ثمود
المكرر ذكرهم في القرآن الكريم
اكثر من خمس وعشرين مرة. |
ب
- عاد قوم هود (عليه السلام):
|
ب - عاد قوم هود (عليه السلام): أما عاد فإنهم قوم من العرب من بشر ما قبل التأريخ كانوا يسكنون
الجزيرة انقطعت أخبارهم وانمحت آثارهم، ولا يحفظ التأريخ من حياتهم إلا أقاصيص
لا يطمأن إليها، وليس في التوراة الموجودة ذكر لهم. والذي يذكره القرآن الكريم من قصتهم هو: أن عادا كانوا يسكنون وادي أو صحراء الأحقاف (الأحقاف: 21.) وهو
واد بين عمان وأرض مهرة إلى حضرموت والأحقاف هي الرمال الملتوية. وأنهم من ذرية
من حملهم الله مع نوح (عليه السلام) وكانوا ذوي خلقة قوية عظيمة وطوالا (الأعراف:
69، والسجدة: 15، والشعراء: 130.) وكان لهم تقدم ورقي في
المدنية والحضارة، ولهم بلاد عامرة وأرض خصبة ذات جنات ونخيل وزروع ومقام كريم
وبعث الله فيهم أخاهم هودا يدعوهم إلى الحق ويرشدهم إلى أن يعبدوا الله ويرفضوا
عبادة الاوثان ويعملوا بالعدل والرحمة (الشعراء:
130.)، فبالغ في وعظهم وبث النصيحة فيهم وأنار الطريق وأوضح السبيل،
وقطع عليهم العذر، فقابلوه بالاباء والامتناع، وواجهوه بالجحد والانكار، ولم
يؤمن به إلا شرذمة منهم قليلون، وأصر جمهورهم على البغي والعناد، ورموه بالسفه
والجنون، والحوا عليه بان ينزل عليهم العذاب الذي كان ينذرهم ويتوعدهم به، فأرسل
الله عليهم العذاب وأرسل إليهم الريح العقيم ما تذر من شئ أتت عليه الا جعلته
كالرميم (الذاريات: 43.) كانت تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر (القمر:
20.)، ريحا صرصرا في أيام نحسات سبع ليال وثمانية أيام حسوما فترى
القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية (الحاقة:
7.) تدمر كل شئ بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم (الأحقاف:
25.). فأهلكهم الله جميعا إلا هودا والذين آمنوا معه (هود: 58.) ولعله
لهذا يسمى عادا المهلكة بعاد الاولى، والثانية هي الباقية منهم (النجم:
5.). |
ج
- ثمود قوم صالح (عليه السلام):
|
ج - ثمود قوم صالح (عليه السلام): وأما ثمود فهم قوم من العرب العاربة كانوا يسكنون وادي القرى بين
المدينة والشام، وهم من بشر ما قبل التأريخ أيضا لا يضبط التأريخ إلا شيئا يسيرا
من أخبارهم، ولقد عفت الدهور آثارهم، ولا اعتماد على ما يذكر من جزئيات قصصهم. والذي يقصه كتاب الله من أخبارهم هو: أنهم كانوا امة من العرب يدل
عليه اسم نبيهم صالح (عليه السلام) وهو منهم (هود: 61.)
جاءوا بعد قوم عاد، وكانت لهم حضارة ومدنية، يعمرون الارض ويتخذون من سهولها
قصورا ويتخذون من الجبال بيوتا آمنين (الأعراف:
74.)، ويفجرون العيون ويحرثون ويغرسون جنات النخيل (الشعراء:
148.)، وكان في مدينتهم شعوب وقبائل يتحكم فيهم شيوخهم وسادتهم، وفيهم
تسعة رهط يفسدون في الارض ولا يصلحون (النمل:
48.) فلما أسرفوا في أمرهم أرسل الله إليهم صالحا النبي (عليه السلام)،
وكان من بيت الشرف والفخار معروفا بالعقل والكفاءة (هود: 62،
والنمل: 49.) فدعاهم إلى توحيد الله سبحانه وأن يتركوا عبادة الاصنام وأن
يسيروا في مجتمعهم بالعدل والاحسان وأن لا يطغوا ولايسرفوا (هود
والشمس.) فقام بالدعوة إلى دين الله بالحكمة والموعظة الحسنة وصبر على
الأذى في جنب الله، فلم يؤمن به إلا جماعة قليلة من الضعفاء (الاعراف:
75.). أما الطغاة والمستكبرون وعامة من تبعهم فقد اصروا على كفرهم
واستذلوا الذين آمنوا به ورموه بالسفاهة والسحر (الاعراف:
66، والشعراء: 153، والنمل: 47.)
وطلبوا منه البينة على كلامه وسألوه آية معجزة تدل على صدقه في دعوى الرسالة،
واقترحوا له أن يخرج لهم من صخر الجبل ناقة، فأتاهم بناقة على ما وصفوها له،
وقال لهم: إن الله يأمركم أن تشربوا من عين مائكم يوما وتكفوا عنها يوما فتشربها
الناقة، فلها شرب يوم ولكم شرب يوم معلوم، وأن تذروها تأكل في أرض الله ولا
تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب (الاعراف:
72، والشعراء: 156، وهود: 64.) وكان الأمر على ذلك حينا. ثم إنهم مكروا وطغوا وبعثوا أشقاهم لقتل
الناقة فعقرها. وقالوا لصالح: إئتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين. قال صالح
(عليه السلام): تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب (هود: 65.). ثم مكرت شعوب المدينة وأرهاطها بصالح * (تقاسموا
بالله لنبيتنه وأهله ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون) * (النمل: 49.) * (فأخذتهم
الصاعقة وهم ينظرون) * (الذاريات:
44.) * (فأصبحوا
في دارهم جاثمين) * (الأعراف:
78.) * (وأنجينا
الذين آمنوا وكانوا يتقون)
* (النمل: 53.). وفي " الكافي
" بسنده عن أبي بصير قال:
قلت لأبي عبد الله الصادق (عليه
السلام): * (كذبت
ثمود بالنذر فقالوا أبشرا منا واحدا نتبعه إنا إذا لفي ضلال وسعر) * (القمر:
23، 24.). قال: بعث الله إليهم صالحا فلم يجيبوه وعتوا عليه وكانت صخرة
يعظمونها ويعبدونها ويذبحون عندها في رأس كل سنة ويجتمعون عندها. فقالوا: إن كنت
تزعم نبيا رسولا فادع لنا إلهك حتى يخرج لنا من هذه الصخرة الصماء ناقة عشراء
(أي ذات حمل في الشهر العاشر) فأخرجها
الله كما طلبوا منه (و) أوحى الله تبارك وتعالى إليه: أن يا صالح قل لهم: إن الله قد جعل لهذه الناقة شرب يوم ولكم شرب
يوم. فكانت الناقة إذا كان يومها شربت الماء ذلك اليوم، فيحبسونها فلا
يبقى صغير ولا كبير إلا شرب من لبنها يومهم ذلك، فإذا كان الليل وأصبحوا غدوا
إلى مائهم فشربوا منه ذلك اليوم ولم تشرب الناقة ذلك اليوم فمكثوا بذلك ما شاء
الله. ثم إنهم عتوا على الله ومشى بعضهم إلى بعض قال: اعقروا هذه
الناقة واستريحوا منها، لا نرضى أن يكون لنا شرب يوم ولها شرب يوم. ثم قالوا: من الذي يلي قتلها ونجعل له جعلا ما أحب ؟ ! فجاءهم رجل أحمر أزرق
ولد زنا لا يعرف له أب، يقال له: قدار، شقي من الأشقياء مشؤم عليهم فجعلوا له
جعلا. فلما توجهت الناقة إلى الماء الذي كانت ترده تركها حتى شربت وأقبلت
راجعة فقعد لها في طريقها فضربها بالسيف فلم يعمل شيئا فضربها ضربة اخرى فقتلها،
وخرت على الأرض على جنبها وهرب فصيلها حتى صعد إلى الجبل، فرغا ثلاث مرات إلى
السماء وجاء قوم صالح فلم يبق منهم أحد إلا شركه في ضربته واقتسموا لحمها فيما
بينهم فلم يبق منهم صغير ولا كبير إلا أكل منها. فلما رأى صالح أقبل إليهم وقال: يا قوم ما دعاكم إلى ما صنعتم ؟ أعصيتم أمر ربكم ؟ فأوحى الله
تبارك وتعالى إلى صالح (عليه السلام): أن قومك قد طغوا وبغوا وقتلوا ناقة بعثها
الله إليهم حجة عليهم، ولم يكن لهم فيها ضرر، وكان لهم أعظم المنفعة، فقل لهم: إني مرسل إليهم عذابي إلى ثلاثة أيام فإن هم تابوا
قبلت توبتهم وصددت عنهم، وإن هم لم يتوبوا ولم يرجعوا بعثت إليهم عذابي في اليوم
الثالث. فأتاهم صالح وقال: يا قوم إني رسول ربكم إليكم وهو يقول لكم: إن تبتم ورجعتم
واستغفرتم غفرت لكم وتبت عليكم. فلما قال لهم ذلك كانوا أعتى وأخبث * (وقالوا يا صالح ائتنا بماتعدنا إن كنت من المرسلين) * (الأعراف:
77.) قال: يا قوم إنكم تصبحون غدا ووجوهكم مصفرة، واليوم الثاني
وجوهكم محمرة، واليوم الثالث وجوهكم مسودة. فلما كان أول يوم أصبحوا ووجوههم مصفرة فمشى بعضهم إلى بعض وقالوا قد جاءكم ما قال صالح. فقال العتاة
منهم: لا نسمع قول صالح ولا نقبل قوله وإن كان عظيما. فلما كان اليوم الثاني أصبحت وجوههم محمرة، فمشى بعضهم إلى بعض فقالوا: يا قوم قد جاءكم
ما قال لكم صالح فقال العتاة منهم: لو أهلكنا جميعا ما سمعنا قول صالح ولا تركنا
آلهتنا التي كان آباؤنا يعبدونها، ولم يتوبوا ولم يرجعوا، فلما كان اليوم الثالث أصبحوا ووجوههم مسودة فمشى بعضهم إلى بعض فقالوا يا قوم أتاكم ما
قال لكم صالح. فقال العتاة منهم:
قد أتانا ما قال لنا صالح. فلما كان نصف الليل أتاهم جبرئيل فصرخ بهم صرخة خرقت
أسماعهم وفلقت قلوبهم وصدعت أكبادهم، فماتوا جميعا في طرفة عين صغيرهم وكبيرهم،
ولم يبق لهم ناعقة ولا راغية ولا شئ إلا أهلكه الله، وأصبحوا في ديارهم ومضاجعهم
موتى، وأرسل الله إليهم مع الصيحة النار من السماء فأحرقهم أجمعين (الميزان
10: 314، 316.). |
2
- القحطانيون:
|
2 - القحطانيون: هم
ابناء يعرب بن قحطان الذين كانوا يسكنون اليمن وجنوب جزيرة العرب، ويسمون بالعرب
العاربة أيضا. واليمنيون اليوم بصورة عامة والأوس والخزرج هم من نسل قحطان. وقد سبق أن قوم سبأ أيضا
كانوا من نسل قحطان، وكانت لهم حكومات ومساع عمرانية وحضارية أثرية ولهم خط يسمى
بالخط المسند. وكل ما يقال عن حضارة العرب قبل الإسلام فإنما هو من هؤلاء في
اليمن. |
3
- العدنانيون:
|
3 - العدنانيون: وهم ابناء إسماعيل بن إبراهيم الخليل (عليه السلام) الذي قد تبين
لنا أنه امر بأن يذهب بابنه إسماعيل وامه هاجر إلى أرض مكة، فسار بهم إبراهيم
(عليه السلام) من أرض فلسطين إلى بطن واد منخفض بلا ماء ولا كلأ باسم مكة، فأجرى
الله لهم ماء زمزم. وكبر
إسماعيل فتزوج من قبيلة جرهم
الذين استأذنوا إبراهيم أن يسكنوا مكة فأذن لهم، فكان لإسماعيل نسل كثير، ومن
أحفاده عدنان، وقد تفرعت منه فروع عديدة أشهرها قبيلة قريش ومنهم بنو هاشم. |
أخلاق
العرب قبل الإسلام:
|
ونعني بالأخلاق هنا تلك الآداب الإجتماعية التي كانت رائجة بينهم
قبل الإسلام. وبصورة عامة نستطيع أن نلخص الخصال المحمودة العامة للعرب في بضعة
سطور فنقول: إن عرب الجاهلية - ولا سيما العرب المستعربة من نسل إسماعيل (عليه السلام) - كانوا
بالطبع أسخياء يكرمون من استضافهم، ولا يخونون أماناتهم إلا قليلا، ويرون نقض
العهد ذنبا لا يغتفر، وكانوا صريحين في أقوالهم، أقوياء في حفظهم، أقوياء في
فنون من الشعر والخطابة، يضرب بهم المثل في شجاعتهم وجرأتهم، مهرة في ركض الخيل
والرمي، يرون الفرار من الزحف عارا لا يغتسل. وفي مقابل هذه الصفات كانوا قد تلوثوا من مساوئ الأخلاق بما يذهب بكل كمال من هذه الخصال
ولولا أن تداركهم رحمة من ربهم بأن بعث فيهم رسولا من انفسهم يزكيهم ويعلمهم
الكتاب والحكمة، لما كنا نعايش اليوم نسلا من عدنان، بل كانوا قد التحقوا بالعرب
البائدة، وكانت تتجدد قصة اخرى عن هؤلاء البائدين. إن شيوع الجهل والخرافات والفساد فيهم كان قد قرب حياتهم من حياة الحيوانات، بحيث ينقل لنا التأريخ قصصا متعددة عن حروب امتدت خمسين سنة بل
مائة، ولم تبدأ إلا على مواضع
حقيرة لا يعبأ بها. إن عدم وجود حكومة متنفذة بينهم تضرب على أيدي الطغاة
والبغاة من ناحية، ومن ناحية اخرى سوء الوضع الجغرافي للجزيرة من حيث الماء
والكلأ، كانا عاملين جعلا أكثر العرب من البدو الرحل يجوبون الصحاري برواحلهم كل
عام سعيا وراء الماء والكلأ، وإذا رأوا أثرا منهما نصبوا خيامهم حولها، وإذا
علموا - أو أخبرهم رائدهم - بمكان أنفع مما هم فيه بدأوا الرحلة من جديد. إن الجهل والفقر وفقدان
النظام كان قد خيم على بيئة الجزيرة العربية بصورة ظاهرة بحيث أصبحت لهم تلك
العادات القبيحة امورا اعتيادية، فكثرت فيهم الغارات، واسر بعضهم، وتداول فيهم الربا والخمر
والميسر. انهم كانوا يثنون على المروة ويمجدون بالشجاعة، لكن مفهوم الشجاعة
لديهم كان عبارة عن قتل أكبر عدد ممكن وسفك الدماء أكثر فأكثر. وكذلك الغيرة
كانت لديهم بمعنى وأد البنات في القبور وهن أحياء. ويرون الوفاء ان ينصروا
عشيرتهم وحلفاءهم في كل شئ سواء كانوا على حق أم باطل. لا يسألون أخاهم حين يندبهم * في النائبات على ما قال
برهانا . |
هل
كانت للعرب حضارة قبل الإسلام ؟
|
لا شك أنه كانت هناك في جزيرة العرب بعض الحضارات، إلا أنها لم تكن في كل الجزيرة بل عدة نقاط منها، كحضارة قوم سبأ أصحاب سد مأرب في اليمن، فإنها حضارة لا تنكر، ففضلا عما ذكر عنها في التوراة الحاضرة وما نقل عن
" هرودوت " و " ارتميدور " المؤرخين اليونانيين قبل
الميلاد، نرى المؤرخ
الشهير المسعودي يقول في وصفها: " ذكر أصحاب التأريخ القديم: أن أرض سبأ كانت من أخصب أرض اليمن وأثراها وأغدقها، وأكثرها جنانا
وغيطانا وأفسحها مروجا، مع بنيان حسن وشجر مصفوف، ومساكب للماء متكاثفة وأنهار
متفرقة. وكانت مسيرة أكثر من شهر للراكب المجد على هذه الحالة، وفي العرض مثل
ذلك، وإن الراكب والمار كان يسير في تلك الجنان من أولها إلى أن ينتهي إلى آخرها
لا تواجهه الشمس ولا تعارضه لاستتار الأرض بالعمارة الشجرية. واستيلائها عليها
وإحاطتها بها. وكان أهلها في أطيب عيش وأرفهه، وأهنأ حال وأرغد قرى، وفي نهاية
الخصب وطيب الهواء وصفاء الفضاء وتدفق الماء، وقوة الشوكة واجتماع الكلمة ونهاية
المملكة، وكانت بلادهم في الأرض مثلا، وكانوا على طريقة حسنة من اتباع شريف
الأخلاق، وطلب الأفضال بحسب الإمكان وما توجبه القدرة من الحال، فمكثوا على ذلك
ما شاء الله من الأعصار، لا يعاندهم ملك إلا قصموه، ولا يوافيهم جبار في جيش إلا
كسروه، فذلت لهم البلاد، وأذعن لطاعتهم العباد، فصاروا تاج الأرض " (مروج
الذهب 2: 181.). إلا
أن وجود هذه المستندات لا تدلنا على حضارة تسود كل أقطار الجزيرة العربية، ولا سيما منطقة الحجاز التي لم تكن تتمتع بهذه الحضارة بل لم تشم
شيئا من نسيمها، وهذا هو الذي جعلها مصونة عن تصرف المتصرفين بالبلاد، فلم يتوجه
إليها نهم الروم والفرس اللذين كانا يقتسمان العالم آنذاك. والمقطوع به هو أنه لم يبق من هذه الحضارة حين ظهور الإسلام شئ
يذكر. |
قصة
أسعد بن زرارة الخزرجي مع رسول الله
|
ونحن هنا نأتي بذكر قصة أسعد بن زرارة الخزرجي، التي تبين لنا نقاطا كثيرة من حياة الناس في الحجاز: روى الشيخ الطبرسي في كتابه " إعلام الورى بأعلام الهدى
" عن علي بن إبراهيم أنه قال: " كان بين الأوس
والخزرج حرب قد بغوا فيها دهورا طويلة، وكانوا لا يضعون السلاح لا بالليل ولا
بالنهار، وكان آخر حرب بينهم
يوم بغاث وكانت للأوس على
الخزرج، فخرج أسعد بن زرارة وذكوان إلى مكة في عمرة رجب يسألون الحلف على الأوس،
وكان أسعد بن زرارة صديقا لعتبة بن ربيعة، فنزل عليه فقال له: إنه كان بيننا
وبين قومنا حرب وقد جئناكم نطلب الحلف عليهم. فقال عتبة: بعدت دارنا عن داركم ولنا شغل لا نتفرغ معه لشئ ! قال: وما شغلكم وأنتم في حرمكم وأمنكم ؟ قال عتبة: خرج فينا رجل يدعي أنه رسول الله، سفه أحلامنا وسب
آلهتنا وأفسد شبابنا وفرق جماعتنا. فقال له أسعد: من هو منكم ؟ قال: ابن عبد الله بن عبد
المطلب من أوسطنا شرفا وأعظمنا بيتا. وكان أسعد وذكوان وجميع الأوس والخزرج يسمعون من اليهود الذين
كانوا بينهم - النظير وقريظة وقينقاع -: إن هذا
أوان نبي يخرج بمكة يكون مهاجره بالمدينة، لنقتلنكم به يا معشر العرب. فلما سمع أسعد ما سمع من
عتبة وقع في قلبه ما كان سمعه من اليهود، وقال: فأين هو ؟ وكان هذا في وقت
محاصرة بني هاشم في الشعب فقال عتبة: إنهم
لا يخرجون من شعبهم إلا في الموسم، وها هو جالس في الحجر، فلا تسمع منه ولا
تكلمه فإنه ساحر يسحرك بكلامه. فقال أسعد: فكيف أصنع
وأنا معتمر لا بد لي أن أطوف بالبيت ؟ فقال: ضع في اذنيك
القطن. فحشا أسعد في اذنيه القطن ودخل المسجد ورسول الله جالس في الحجر مع قوم
من بني هاشم، فطاف أسعد بالبيت ونظر إلى رسول الله نظرة وجازه، فلما كان في الشوط
الثاني قال في نفسه: ما
أجد أجهل مني ! أيكون مثل هذا الحديث بمكة فلا نعرفه حتى أرجع إلى قومي فاخبرهم
؟ ! فأخذ القطن من اذنيه ورمى به وقال لرسول الله: أنعم صباحا ! فرفع رسول الله رأسه إليه وقال: قد ابدلنا الله به ما هو أحسن من هذا، تحية أهل الجنة: السلام
عليكم. فقال اسعد: إن
عهدك بهذا لقريب ! إلام تدعو ؟ يا محمد ! قال: إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، وأدعوكم * (أن لا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم
من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا
النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون ولا تقربوا مال
اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ اشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف
نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم
به لعلكم تذكرون) * (الانعام: 151، 152.). فلما سمع أسعد هذا قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأنك رسول الله. كانت هاتان الآيتان من
سورة الأنعام تتضمنان الداء والدواء لامة متحاربة جاهلة، ولذلك خلفت أثرا عميقا
في قلب أسعد وذكوان الخزرجيين فأسلما فورا " ثم قالا: يا رسول الله ! ابعث معنا رجلا يعلمنا القرآن ويدعو الناس
إلى أمرك. فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) مصعب بن عمير بالخروج معهما،
فخرج هو معهما إلى المدينة حتى قدموا على قومهم " (إعلام الورى:
56، طبعة النجف.). إن النظر في مفاد هاتين
الآيتين يغنينا عن أي بحث آخر عن أوضاع العرب قبل الإسلام، فإن هاتين الآيتين تبينان ما كان يسود حياة العرب في الجاهلية من
الأمراض الخلقية المزمنة، وإن مضمون هاتين الآيتين شاهد على ابتلاء العرب بجميع
هذه الأوصاف الرذيلة، ولهذا تلاهما رسول الله على أسعد في أول لقائه به وبذلك
عرفه برسالته. |
الدين
في جزيرة العرب:
|
إن آيات القرآن الكريم تشير إلى أرباب العرب وآلهتهم ورموزها من
أصنامهم وأوثانهم، والقرآن *
(أحسن القصص) * وفيه
الكفاية: قال عز وجل: * (وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب أجعل
الآلهة إلها واحدا إن هذا لشئ عجاب وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على
آلهتكم إن هذا لشئ يراد ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق) * (ص: 4 - 7.). وإذا كانت إيران
قد اتخذت الزرادشتية
(المجوسية) دينا رسميا لها طلبا للإستقلال العقائدي عن الروم المسيحية (الإسلام
وإيران 2: 32.)،
وهما في حرب دؤوب، فطبيعي أن تحاول إيران نشر عقيدتها الثنوية بالإلهين: إله
الخير وإله الشر بين الشعوب المغلوبة المستعمرة لها من حولها، فتتفشى المجوسية
في بعض القبائل العربية من تميم والبحرين وعمان واليمن (تأريخ
العرب قبل الإسلام 6: 284 فما بعد.) ونحن
نعلم أن المجوس ثنويون يؤمنون
بإلهين يدبران العالم
فللخير يزدان وللشر اهريمن ولهما رمزان فليزدان الخير النور، ولاهريمن الشر
الظلمة. أما أكثر العرب في
الجاهلية فكانوا وثنيين يؤمنون بقوى الهية كثيرة منبثة في مظاهر الطبيعة، وبقوى
خفية كثيرة في بعض الحيوانات والنباتات وحتى الجمادات، فكانوا يتعبدون لأصنام وحتى أوثان كثيرة اتخذوها رمزا لتلك الآلهة
ومنها الكواكب والنجوم. فكان عرب الجنوب في اليمن يرجعون بآلهتهم إلى ثالوث مقدس هو:
القمر، واسمه عند المعينيين
(أوائل الألف الأول قبل الميلاد) (العصر
الجاهلي: 25 لشوقي ضيف.) ود، وكان إلههم الاكبر، وهو الزوج الذكر، ولذلك لفظه مذكر. وتليه الشمس، وهي اللات، وفيها
تاء الإناث، ولذا اعتبروها زوجة القمر ولذلك لفظها مؤنث ! ومنها ولدت العزى أي
الزهرة أو عشتر، أو فينوس بالرومية، أو ناهيد بالفارسية. ولهم الهات اخرى رمز عن
بعض النجوم أو بعض مظاهر الطبيعة أو بعض الطيور، وكانوا قد بنوا عليها الهياكل
ويقدمون لها القرابين ويقوم عليها كهنة ذوو نفوذ كبير. وقوافل التجارة والهجرة
كانت متبادلة بينهم وبين عرب الشمال العدنانيين أو النزاريين الحجازيين فحملوا
دينهم معهم إليهم (انظر العصر الجاهلي: 29 لشوقي ضيف.). وأشار القرآن الكريم إلى عبادتهم للشمس في قوله سبحانه حكاية عن الهدهد من طيور سليمان بن داود، إذ
تفقدها وكان الهدهد غائبا فلم يره * (فمكث غير بعيد) * إذ جاء، * (فقال
أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين إني وجدت امرأة تملكهم... وجدتها
وقومها يسجدون للشمس من دون الله) * (النمل: 22 - 24.). ويضيف
القمر في آية اخرى تخاطب العرب المشركين: * (لا تسجدوا للشمس ولا للقمر) * (فصلت: 37.). ومن قبل أضاف إليهما
الكوكب فيما حكاه عن خليله إبراهيم (عليه السلام) قال: * (فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا
احب الآفلين) * ولعله كان عشتر (الزهرة)، ولعل الليلة كانت من أواخر الشهر القمري
إذ يظهر القمر متأخرا فبدأ بالكوكب ثم قال: * (فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني
ربي لأكونن من القوم الضالين)
* فالليلة كانت من أوائل العشر الأخيرة من الشهر القمري إذ يظهر القمر متأخرا ثم
يأفل ولا يبقى حتى الصباح، ولما بزغت الشمس صباحا * (فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر) * ولعله بهذا يعترض على تقديمهم للقمر (الأصغر) على الشمس (الأكبر) * (فلما أفلت قال يا قوم إني برئ مما تشركون) * (الأنعام:
76 - 78.). ولعل شرك هؤلاء الصابئة البابليين هو منشأ شرك أهل اليمن ثم الحجاز (العصر
الجاهلي: 89 لشوقي ضيف.). أما الهدهد فطبيعي أنه إنما اهتدى إليهم نهارا فوجدهم يسجدون للشمس،
ولم يذكر القمر والزهرة ولم ينفهما. وقد أشار القرآن الكريم
إليها بأسمائها المعينية اليمنية لدى النزاريين الحجازيين مع خمسة آلهة اخرى
لهم، في آيتين من سورتين هما
قوله سبحانه: *
(أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الاخرى) * ثم
أشار إلى انوثتهما لديهم فقال: * (ألكم الذكر وله
الانثى) * (النجم: 19 - 21.). والآية الاخرى من سورة نوح وعن لسانه (عليه السلام) * (قال نوح رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا
خسارا ومكروا مكرا كبارا وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث
ويعوق ونسرا) * ثم لم
يجعلها إناثا بل ذكرها في الضمير إليها فقال: * (وقد أضلوا كثيرا) * ثم حكى دعاء نوح عليهم قال: * (ولا تزد الظالمين إلا ضلالا) * (نوح: 21 - 24.). إذن فلغة (ود) رجعت إلى
أقدم من المعينيين باليمن (أوائل الألف الأول - ق م) وإلى أقدم من قوم إبراهيم ببابل العراق (أوائل الالف الثالث ق م)
إلى ما قبل الطوفان (أوائل الألف الرابع ق م) ومن حيث المكان قرب مكان إبراهيم
ببابل العراق في الكوفة (ففي روضة الكافي عن الصادق (عليه السلام) قال: عمل نوح سفينته في
مسجد الكوفة... ثم التفت وأشار بيده إلى موضع وقال: وهنا نصبت أصنام قوم نوح:
يغوث ويعوق ونسر - الميزان 20 - 35. وعليه فلعل هذه الأسماء سريانية دخلت في
المعينية.) ولذلك نقل الطوسي في " التبيان " عن الضحاك وابن زيد وقتادة عن ابن عباس قال: هذه الاصنام المذكورة
كان يعبدها قوم نوح ثم عبدتها العرب فيما بعد (التبيان
10: 141.). ونقله الطبرسي في "
مجمع البيان " وفي تفصيله نقل عن ابن عباس أيضا قال: نحت إبليس خمسة
أصنام وحمل الكفار فيما بين
آدم ونوح على عبادتها،
وهي: ود وسواع ويعوق ويغوث ونسر. فلما
كان الطوفان دفن تلك الأصنام وطمها بالتراب فلم تزل مدفونة، حتى أخرجها الشيطان
لمشركي العرب: فاتخذت قضاعة ودا
فعبدوه بدومة الجندل، توارثوه حتى صار إلى كلب. وأخذ بطنان من طي
يغوث فذهبوا به إلى مراد فعبدوه زمانا، ثم إن بني ناجية أرادوا أن ينزعوه منهم
ففروا به إلى بني الحرث بن كعب، فجاء الإسلام وهو عندهم. وأما يعوق فكان
لكهلان (اليمن) ثم
توارثوه حتى صار إلى همدان
(اليمن) فجاء الإسلام وهو
فيهم. وأما نسر فكان لخثعم
(اليمن) يعبدونه. وسواع كان لآل
ذي الكلاع (الحميري اليمني) يعبدونه. وفي كيفية حمل إبليس
لاولئك الأوائل على عبادتها نقل عن محمد بن كعب القرظي قال: هذه أسماء قوم ممن
كان بين آدم ونوح صالحين، فلما
ماتوا ونشأ نسلهم بعدهم قال لهم إبليس: لو صورتم صورهم، ففعلوا وكانوا يقدسونها، فلما ماتوا ونشأ نسلهم
بعدهم قال لهم إبليس: إن الذين كانوا قبلكم كانوا يعبدونها، فعبدوها فكان ذلك مبدأ
عبادة الأوثان (مجمع البيان 10: 547. ونقله السيوطي عن ابن عباس أيضا في الدر
المنثور. وقد رواه الصدوق عن الصادق (عليه السلام) في علل الشرائع.). أما الآيات فقد أشارت إلى أن عبادتها كانت مكرا مكره أصحاب الأموال
والأولاد، ولعله لاستثمار الضعفاء منهم. ولعل في الفصل بين الآلهة وهذه الأصنام
في قوله: * (وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا...) * إشارة إلى أنهم جعلوا هذه الأصنام رموزا للآلهة لا نفسها. ثم نقل الطبرسي عن قتادة قائمة بنسبة أكثر من هذه الأصنام الخمسة إلى قبائل العرب قال: إن أوثان قوم نوح صارت إلى العرب، فكان ود بدومة الجندل. وسواع برهاط لهذيل. وكان يغوث لمراد (اليمن)
وكان يعوق لهمدان (اليمن) وكان نسر لآل ذي الكلاع من حمير (اليمن) وكان اللات
لثقيف، وأما العزى فلسليم وغطفان وجسم ونضر وسعد، وأما مناة فكانت لفديد، وأما
أساف ونائلة وهبل فلأهل مكة: كان اساف حيال الحجر الأسود، وكانت نائلة حيال
الركن اليماني وكان هبل في جوف الكعبة. ونقل عن الواقدي قال: كان ود على صورة
رجل، وسواع على صورة امرأة ويغوث على صورة أسد، ويعوق على صورة فرس، ونسر على
صورة نسر من الطير. ويقال إن اللات كانت صخرة مربعة بيضاء بنت عليه ثقيف بيتا، وكانت قريش وجميع العرب يعظمونه وكعبتها هي كعبة الطائف (الأصنام للكلبي: 16 والمحبر لابن حبيب: 315 ومعجم البلدان في اللات.) ولذلك
نرى في أسمائهم: وهب اللات وعبد شمس. وكانت مناة - الهة الموت
والآجال والأعمار والأقدار -
صخرة منصوبة على ساحل البحر بين مكة والمدينة في هذيل وخزاعة، وكان الأوس
والخزرج يحجون إلى مكة ويقفون مع الناس المواقف الثلاثة ولكنهم لا يحلقون
رؤوسهم، ولا يرون تمام حجتهم إلا أن ينصرفوا إلى مناة فيحلقوا رؤوسهم عندها (الأصنام
للكلبي: 14، والمحبر لابن حبيب: 316، ومعجم البلدان في مناة.). وكانت العزى شجرة بوادي نخلة شرقي مكة إلى الطائف لغطفان، حتى قطعها الإسلام (الأصنام
للكلبي: 17 ونقل الطبرسي عن مجاهد 9: 266 ومعجم البلدان في العزى.). ومن ثنويتهم في وثنيتهم ما تدل عليه معاني: يعوق ويغوث وسواع، ففي
الأخير ما يدل على أنه كان إله الهلاك والشر، وبإزائه يعوق أي يكون عائقا عنه،
ويغوث أي يغيث منه (العصر الجاهلي: 90 لشوقي ضيف.).
ولعلها في أصلها مقتبسة من ثنوية المجوسية، ولا سيما أنهم كانوا يقدمون قرابين
النيران، ويوقدونها لاستمطار السماء والاستسقاء، وعند عقد أيمانهم وأحلافهم (الحيوان
للجاحظ 4: 461 فما بعد.). وكان هبل من عقيق أحمر
على صورة إنسان، يده اليمنى من ذهب. والقداح أمامه، فإذا اختصموا في أمر أو أرادوا سفرا أو عملا أتوه
فاستقسموا بالقداح عنده فما خرج انتهوا إليه وعملوا به، ومنه، فعل عبد المطلب
لذبح ابنه عبد الله. ومنها للزواج، ومنها للمواليد، فإذا شكوا في مولود أهدوا
إليه هدية ثم ضربوا بسهام الأزلام (القداح) فإن خرج (الصريح) كان الوليد صريحا
في نسبه وأما إذا خرج (ملصق) دفعوه (الأصنام
للكلبي: 28. وسيأتي تفصيل الأزلام في الصفحة: 90.). ومن الأصنام المشهورة: ذو الخلصة، وهو صنم خثعم وبجيلة وأزد السراة، وكان صخرة بيضاء عند
منقوطة (مروة) منقوش عليها كهيئة التاج، وكان في تبالة وله بيت يحجون إليه (الأصنام
للكلبي والمحبر: 317) ولا يخفى أن تركيب اسم الصنم (ذو الخلصة) يمني وكعبتها هي الكعبة
اليمانية. وكان في حاضرة إمارة النبط (ق 3 م - ق 2 م) في " سلع "
كما جاء في التوراة: أو
" بطرا " كما هو اسمها لدى اليونان ولعله ترجمة يونانية لسلع العبرية
أو السريانية معبد كبير لصنمهم ذي الشري (الأصنام
للكلبي: 37 ومادة الشري في لسان العرب وتاج العروس.) إله
الخصب والخمر ! وقال الكلبي في كتابه " الأصنام ": واستهترت العرب في عبادة الأصنام، فمنهم من اتخذ بيتا، ومنهم من
اتخذ صنما، ومن لم يقدر على بناء البيت ولا اتخاذ الصنم اتخذ حجرا من الحرم أو
مما استحسن ثم طاف به كطوافه بالبيت، فكان الرجل إذا سافر فنزل منزلا أخذ أربعة
أحجار فنظر إلى أحسنها فاتخذه ربا وجعل الثلاثة الاخرى أثافي لقدره فإذا ارتحل
تركها. وكانوا يذبحون وينحرون عندها ويتقربون بذلك إليها (الأصنام
للكلبي: 33.). ومن تقديسهم لدماء
ذبائحهم القرابين لهياكل الأصنام والأوثان ينصبون لديها أحجارا هي النصب
والأنصاب، يصبون عليها دماء
ذبائحهم التي يتقربون بها إلى الهتهم، فالأنصاب والأزلام كانت من لوازم الأوثان
والأصنام في كلام الله تعالى: *
(والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون) * (المائدة: 90.). وكان لها سدنة وحجاب. وبجانب سدنة البيوت المقدسة كان هناك كهان يدعون أنه سخر لهم طائف
من الجن يسرق لهم السمع فيعرفون منهم ما كتب الله للناس في ألواحهم، رجالا
ونساء. فممن عرف من رجالهم: سطيح الذئبي، وسلمة الخزاعي، وسواد بن قارب الدوسي، وشق بن مصعب
الأغاري، وعزى سلمة، وعوف بن ربيعة الأسدي (ابن هشام
1: 16 والأغاني 9 و 15: 70 و 84 ويقال: قيل لسطيح: من أين لك هذا العلم ؟ قال:
من صاحبي من الجن كان استمع أخبار السماء حين كلم الله موسى في طور سيناء !). ومن الكاهنات: كاهنة
ذي الخلصة، والكاهنة السعدية، والكاهنة الشعثاء، والزرقاء بنت زهير وطريفة
الكاهنة امرأة عمرو بن عامر (مجمع الأمثال للميداني 1: 19 و 2: 54 وابن هشام 1: 16 في الهامش.) وكان
قد يلتحق ببعضها بغايا أيضا (المحبر: 184.)، ويسمون الذي يخبر الكاهن: الرئي. ولذلك فهم كانوا يؤمنون بالجن ويخافونها ويتعبدونها ويجعلون
بينها وبين الله نسبا، وإن
كانت هي مظاهر الشر عندهم، وكما كانوا يجعلون الملائكة بنات الله وهي مظاهر
الخير والرحمة: *
(وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم) * (الأنعام: 100.) ولعلها من ثنوية هؤلاء الوثنيين متسربة إليهم من ثنوية المجوس
أيضا. صحيح أن كثيرا من هؤلاء كانوا يعدون الجن والملك والأرواح
والأوثان والأصنام من شفعائهم عند الله كما حكى القرآن الكريم: * (والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى
الله زلفى) *
(الزمر: 3.) لكنها لم تكن
للنجاة من النار بل * (اتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا) * (مريم: 81.)
و * (اتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون) * (يس: 74.). ذلك أنهم كانوا لا يؤمنون ببعث ولا نشور: * (وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا
الدهر) * (الجاثية: 24.) و * (قالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين) * (الأنعام: 29.)
و * (ضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم) * (يس: 78.)
فلم تكن قرباهم للنجاة
من النار. نعم كان حجهم الأعظم إلى الكعبة الإبراهيمية وقد بقي فيهم منه ومن حجه بعض السنن مزيجا بالبدع الجاهلية: منها
أشهر الحج المعلومات الحرم: رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم، فكانت فرصة
لبعدائهم عن الأماكن المقدسة للوصول إليها دون أن تمس نذورهم، فكانوا فيها
يتجرون ويميرون ويقيمون أسواقهم كسوق عكاظ. ويقول ابن حبيب في " المحبر ": كانوا يلبون، فكانت قريش تقول: لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك إلا
شريك هو لك، تملكه وما ملك. تخاطب إساف. وكانت تلبيتهم لود: لبيك
اللهم لبيك، لبيك معذرة إليك. وكانت تلبيتهم للات: لبيك اللهم لبيك، كفى بيتنا بنيه، ليس بمهجور
ولا بليه، لكنه من تربة زكيه، أربابه من صالحي البريه. وكانت تلبيتهم للعزى: لبيك اللهم لبيك، لبيك وسعديك ما أحبنا إليك.
وكانت تلبيتهم لذي الخلصة: لبيك اللهم لبيك، لبيك بما هو أحب إليك (أخبار
مكة للأزرقي 1: 114.). فالحمس من قريش وكنانة
وخزاعة يطوفون بثيابهم، والحلة يطوفون عرايا. ويصور الأزرقي في كتابه " أخبار مكة " طواف العريان
فيقول: يبدأ بإساف
فيستلمه ثم يستلم الركن الأسود، ثم يجعل الكعبة عن يمينه ويطوف سبعا فإذا ختم
استلم الحطيم أو ركن الحجر الأسود ثم استلم نائلة فختم طوافه، ثم يخرج فيجد
ثيابه فيلبسها ويمضي (المصدر نفسه.). وقد فصل الكلبي المؤرخ
الشهير المتوفى في 206 ه ديانات العرب قبل الإسلام فقال: " إن حمير كانت تعبد
الشمس وكنانة كانت تعبد القمر وقيس كانت تعبد الشعرى، ولخم كانت تعبد المشتري،
وطئ كانت تعبد نجمة السهيل، وأسد كانت تعبد العطارد، وتميم كانت تعبد الدبران،
وبنو مليح كانوا يعبدون الجن، وأكثر العرب الأوثان والأصنام. وإن أول من جاء بها إلى مكة هو: عمرو بن لحي، وكانوا في أول
أمرهم يقولون: *
(ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) * (الزمر: 3.)
ثم رأوا فيهم قوة دون قدرة الله، فكانوا يتمسحون بها إذا أرادوا السفر، واتخذوا
من أحجار الصحراء أصناما يعبدونها كما يتخذون عددا آخر منها أثافي لقدورهم.
كانوا يرون أنهم بالقربان للأوثان يجلبون رضاها، فإذا قربوا لها قربانا تلطخوا
بدمائه، وكانوا يتقاسمون بالأزلام عندها، وهي سهام اصطلحوا على بعضها أنها أمر
وعلى بعضها الآخر أنها نهي، فيعملون كما تخرج لهم، وقد أصبحت الكعبة بيتا مركزيا
للأوثان أكثر من ثلاثمائة وستين، منها اللات والعزى ومناة، اللاتي كانت قريش
تزعم أنها بنات الله تعالى فتعبدها واللات بدورها ام سائر الآلهة وكان مقرها
بالطائف، وأما مناة فهي رب الأعمار والآجال، ومقرها بين مكة والمدينة " (الأصنام
للكلبي: 22.). |
أزلام
العرب:
|
قال تعالى: *
(حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما اهل لغير الله به والمنخنقة
والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن
تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق) * (المائدة: 3.). قال القمي في تفسيره
للنصب: إن قريشا كانوا
يعبدون الصخور فيذبحون لها. و " الأزلام " كانوا يعمدون إلى الجزور
فيجزئونه عشرة أجزاء، ثم يجتمعون عليه فيخرجون سهاما عشرة: سبعة لها أنصباء
وثلاثة لا أنصباء لها، فالتي لها أنصباء هي: الفذ والتوأم، والمسبل، والنافس،
والحلس، والرقيب، والمعلى، فالفذ له سهم، والتوأم له سهمان، والمسبل له ثلاثة
أسهم، والنافس له أربعة أسهم، والحلس له خمسة أسهم، والرقيب له ستة أسهم،
والمعلى له سبعة أسهم. والتي لا أنصباء لها هي: السفح، والمنيح، والوغد. وكان ثمن الجزور على من لم يخرج له من
الأنصباء شئ. وهذا قمار، حرمه الله عز وجل (تفسير
القمي 1: 161، 162 وعنه في مجمع البيان 3: 244 عن الصادقين (عليهما السلام).
وقال الطوسي في التبيان 3: 433: هي سهام كانت للجاهلية، مكتوب على بعضها: أمرني
ربي، وعلى بعضها: نهاني ربي. فإذا أرادوا سفرا أو أمرا يهتم به ضربوا تلك
القداح، فإن خرج الأمر مضى لحاجته، وإن خرج النهي لم يمض، وإن خرج ما ليس عليه
شئ اعادوها. فبين الله تعالى أن ذلك يحرم العمل به. ونقله في مجمع البيان عن
الحسن وجماعة من المفسرين: مجمع البيان 3: 244.). وقد عقد اليعقوبي في تأريخه فصلا خاصا بعنوان " أزلام العرب
" قال فيه:
" وكانت العرب تستقسم بالأزلام في كل امورها، وهي القداح، ولا يكون لها سفر
ولا مقام ولا معرفة حال إلا رجعت إلى القداح. وكانت القداح سبعة: فواحد عليه " الله عز وجل " والآخر " لكم "
والآخر " عليكم " والآخر " نعم " والآخر " منكم "
والآخر " من غيركم " والآخر " الوعد ". فكانوا إذا أرادوا أمرا
رجعوا إلى القداح فضربوا بها ثم عملوا بما تخرج القداح، لا يتعدونه ولا يجوزونه. وكان لهم امناء على القداح لا يثقون
بغيرهم. وكانت العرب إذا كان
الشتاء ونالهم القحط وقلت ألبان الإبل استعملوا الميسر بالأزلام، فضربوا بالقداح وتقامروا عليها إلا أن قداح الميسر عشرة: سبعة
منها لها أنصب، وثلاثة لا أنصب بها. فالسبعة التي لها أنصب يقال لأولها "
الفذ " وله جزء واحد، و " التوأم " وله جزءان، و " الرقيب
" وله ثلاثة أجزاء، و " الحلس " وله أربعة أجزاء، و "
النافس " وله خمسة أجزاء، والثلاثة التي لا أنصب لها يقال لها: المنيح
والسفيح والوغد. فكانت الجزور تشترى بما بلغت ولا ينقد الثمن، ثم يدعى الجزار فيقسمها عشرة أجزاء، فإذا قسمت أجزاؤها على السواء
أخذ الجزار الرأس والأرجل، ثم احضرت القداح العشرة، واجتمع فتيان الحي، فأخذ كل
فرقة على قدر حالهم ويسارهم وقدر احتمالهم، فيأخذ الأول الفذ والثاني التوأم
وكذلك سائر القداح على ما سمينا منها. فإذا عرف كل رجل منهم قدحه دفعوا القداح إلى رجل أخس لا ينظر
إليها معروف أنه لم يأكل لحما قط بثمن ويسمى " الحرضة " يؤتى " بالمجعول " وهو ثوب شديد البياض فيجعل على يده،
ويعمد إلى " السلفة " وهي قطعة من جراب فيعصب بها على كفه لئلا يجد مس
قدح يكون له في صاحبه هوى فيخرجه، ويأتي رجل فيجلس خلف الحرضة يسمى "
الرقيب " ثم يفيض الحرضة بالقداح فإذا نشز منها قدح استله " الحرضة
" فلم ينظر إليه حتى يدفعه إلى " الرقيب " فإن خرج من الثلاثة
الأغفال التي لا نصيب لها رد من ساعته، وإن خرج أولا " الفذ " أخذ
صاحبه نصيبه وضربوا بباقي القداح على التسعة الأجزاء الاخر، فإن خرج التوأم أخذ
صاحبه جزأين وضربوا بباقي الأقداح على الثمانية الأجزاء الاخر، فإن خرج المعلى
أخذ صاحبه نصيبه وهو السبعة الأجزاء التي بقيت. ووقع غرم ثمن الجزور على من
خاب سهمه وهم أربعة: صاحب
" الرقيب " و " الحلس " و " النافس " و "
المسبل " ولهذه الأقداح ثمانية عشر سهما فيجزأ الثمن على ثمانية عشر جزءا
ويأخذ كل واحد من الغرم مثل الذي كان نصيبه من اللحم لو فاز قدحه. وإن خرج " المعلى " أول القداح أخذ صاحبه سبعة أجزاء الجزور، وكان الغرم على أصحاب القداح التي
خابت، واحتاجوا أن ينحروا جزورا اخرى، لأن في قداحهم المسبل، وله ستة أجزاء ولم
يبق من اللحم إلا ثلاثة أجزاء. فإن نحروا الجزور الثانية، وضربوا عليها القداح
فخرج " المسبل " أخذ صاحبه ستة أجزاء الثلاثة الباقية من الجزور
الاولى وثلاثة أجزاء من الجزور الثانية، ولزمه الغرم في الجزور الاولى ولم يلزمه
في الثانية شئ لأن قدحه قد فاز. وبقي من الجزور الثانية سبعة أجزاء فيضرب عليها
بقداح من بقي، فإن خرج " النفاس " أخذ صاحبه خمسة أجزاء ولم يغرم من
ثمن الجزور الثانية شيئا، لأن قدحه قد فاز، ولزمه الغرم من الاولى وبقي جزءان من
اللحم، وفيما بقي من القداح " الحلس " له أربعة أجزاء، فيحتاجون أن
ينحروا جزورا اخرى لتتمة أربعة. وإن نحروا الجزور الثالثة وفاز " الحلس " أخذ صاحبه أربعة
أجزاء: جزأين من الجزور
الثانية وجزأين من الجزور الثالثة، ولم يغرم من الجزور الثالثة شيئا فإن قدحه قد
فاز ويبقى ثمانية أجزاء من الجزور الثالثة، فيضرب بباقي القداح عليها حتى يخرج
قداحهم وفقا لأجزاء الجزور، فهذا حساب غرمهم الثمن. وربما كانت أجزاء اللحم
موافقة لأجزاء القداح فلا يحتاجون إلى نحر شئ، وإنما تنحر الجزور إذا قصرت أجزاء
اللحم عن بعض القداح، فإن عاد بعض من فاز قدحه ثانية فخاب، غرم من ثمن الجزور
التي خاب قدحه منها على هذا الحساب. فإن فضل من أجزاء اللحم شئ وقد خرجت القداح
كلها، كانت تلك الأجزاء لأهل المسكنة من العشيرة، فهذا تفسير " الميسر
". وكانوا يفتخرون به ويرون أنه من فعال الكرم والشرف، ولهم في هذا أشعار
كثيرة يفتخرون بها (اليعقوبي 1: 259 - 261، طبعة بيروت.). |
اليهود
في يثرب والنصارى في نجران والشام:
|
اليهود في يثرب والنصارى في نجران والشام: استولى القيصر الرومي تيتوس على الشام وفلسطين والقدس فهدم هيكل
اليهود سنة 70 م، ثم اضطهدهم القيصر هدريان سنة 132 م، ففر في هذه الأثناء كثير
منهم إلى الحجاز وغير قليل منهم إلى اليمن، أي في أواخر القرن الأول وأوائل
القرن الثاني الميلادي. ويظن أن القياصرة الرومان في صراعهم على السلطة أرادوا النفوذ إلى اليمن لبسط سلطانهم على
هذه البلاد بما لها من قوافل تجارية، فكان ذلك من أهم الأسباب لنفوذ النصرانية
هناك بالبعثات التبشيرية المسيحية التي كان يشجعها القياصرة، ويظن أن انتشارها
في اليمن بدأ منذ القرن الرابع الميلادي، ولا نصل إلى العصر الجاهلي (الخامس)
حتى نرى النصرانية منتشرة في نجران وغيرها، ونجران كانت أهم مواطنها. ويرى نسابة العرب أن الغساسنة في الشام من أصل يمني، فهم من عرب
الجنوب الذين نزحوا إلى الشمال معها قبائل كثيرة اخرى منها جذام وعاملة وقضاعة
وكلب. ويقال إنهم اصطدموا
هناك بعرب من الضجاعمة فتغلبوا عليهم وسادوا هناك، ويزعم مؤرخو العرب أن مؤسس
سلالتهم جفنة بن عمرو فهم آل جفنة، فأقاموا إمارتهم في شرقي الاردن، وكأنهم ظلوا
بدوا يرحلون بخيامهم وإبلهم وأنعامهم من مكان إلى مكان في الجابية وجلولاء والجولان
وحتى جلق قرب دمشق، وقربهم الرومان البيزنطيون ومنحوهم ألقابهم واتخذوهم حاجزا
بينهم وبين البدو وغاراتهم، ومساعدا لهم في حروبهم ضد من يؤيد الفرس من عرب
مناذرة الحيرة في العراق. وليس بأيدينا من الوثائق
التأريخية ما تبين بدقة تأريخ نشأة هذه
الإمارة، إلا أنها ظهرت على صفحة التأريخ إثر قضاء
الرومان على مملكة تدمر فدمروها سنة 273 م، ولكن تأريخها قبل أواخر القرن الخامس
الهجري يحيط به الإبهام والغموض، وأول ملك يمكن الاطمئنان إلى أخباره من الوجهة
التأريخية هو جبلة الذي غزا فلسطين سنة 497 م. وانتشرت النصرانية بين عرب
الشام من الغساسنة وعاملة وقضاعة وكلب وجذام، وكانوا على مذهب المنوفستيين أو
اليعاقبة المنسوبين إلى يعقوب البرادعي حوالي الخمسمائة الميلادية، الذي كان يرى
للمسيح إقنوما واحدا أي طبيعة بشرية واحدة غير إلهية. وبكر بن وائل كانوا في ديار بكر فيما بين الشام إلى العراق ويليهم
إلى شمال العراق إياد وتغلب، فنفذت النصرانية اليعقوبية فيهم أيضا، بل وتغلغلت
في الحيرة قرب الكوفة فسموا العباديين نسبة إلى عبادة الله، ولكنهم غير يعاقبة بل نساطرة نسبة إلى نسطوريوس المتوفى سنة 450 م
الذي كان يرى أن للمسيح إقنومين أي طبيعتين: اللاهوت مع الناسوت، وحتى دخل في
النصرانية أواخرهم: النعمان بن المنذر واخته هند بنت المنذر وبنت ديرا. وكان في مكة جوار روميات (اسد
الغابة 1: 387.) وعبدان نصرانيان من عين تمر بالعراق (أسباب
النزول للواحدي: 213 - 220.) ورقيق حبشي نصراني كثير، وفي الطائف عداس النصراني من نينوى في
شمال العراق، وتنصر في مكة قوم قبيل الإسلام منهم عتبة بن أبي لهب، وعثمان بن
الحويرث وورقة بن نوفل (تأريخ اليعقوبي 1: 257، طبعة بيروت.). وفي أواخر القرن السادس الميلادي استطاع يهود اليمن أن يؤثروا في ذي
نؤاس ملك اليمن، وربما
كان السبب الحقيقي لاستجابته لليهود أنهم خوفوه من تغلغل النصرانية في بلاده
وبذلك تفتح أبواب اليمن لنصارى الحبشة من دون مقاومة، فأدخلوه في دينهم، ثم انتقموا به من النصارى فدفعوه إلى التنكيل بنصارى نجران وتحريقهم
بالنار في ما حفروه لهم من حفر الاخدود في الأرض، وإذ كانت النصرانية يومئذ أحق من اليهودية قال الله تعالى: * (قتل أصحاب الاخدود النار ذات الوقود إذ هم عليها قعود، وهم
على ما يفعلون بالمؤمنين شهود، وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز
الحميد) * (البروج: 4 - 8.) وانتقم
نصارى الحبشة لإخوانهم فأزالوا دولة ذي نؤاس سنة 525 م بقيادة أبرهة، وظلوا هناك خمسين عاما. فدعمت النصرانية واعتنقها كثيرون وبنيت لها كنائس في أكثر من بلد
من أشهرها كنيسة نجران أنشأها أبرهة كما أنشأ كنائس كثيرة في مدن اليمن، واهتم
بزينتها وزخرفتها. ومن أشهرها القليس في صنعاء، والكلمة تعريب لكلمة الكليسة اليونانية، فيقال: إنه نقشها بالذهب والفضة والفسيفساء وألوان الأصباغ وصنوف
الجواهر، وكان ينقل إليها آلات البناء كالرخام المجزع والحجارة المنقوشة بالذهب،
ونصب فيها صلبانا من الذهب والفضة ومنابر من الأبنوس والعاج (تفسير الطبري 3: 193.) وقد
حولها المسلمون إلى مسجد لا يزال اليوم قائما (العصر
الجاهلي لشوقي ضيف: 97 - 100.).
وكانت هذه الفترة سببا في خروج اليهود من اليمن وتفرقهم في البلاد، وبقي منهم جماعة حتى دخل الإسلام فدخلوا فيه، منهم كعب الأحبار
ووهب بن منبه. وأهم من يهود اليمن يهود الحجاز، وكانوا قبائل وجماعات كثيرة انتشرت في واحات الحجاز: يثرب وخيبر ووادي القرى وتيماء، وكان في يثرب منهم عشائر كثيرة أهمها: بنو النضير وبنو قريظة وبنو قينقاع وبنو تهدل، وقد نزل بينهم
الأوس والخزرج وثنيين. |
من
سنن الجاهلية في الابل والغنم:
|
من سنن الجاهلية في الابل والغنم: البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي... وقد جاء في القرآن الكريم
عنها: * (ما جعل الله من
بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب
واكثرهم لا يعقلون) * (المائدة:
103.). وروى العياشي في تفسيره
لها عن الامام الصادق (عليه السلام) قال: إن أهل الجاهلية كانوا إذا ولدت الناقة ولدين في بطن قالوا: وصلت،
فلا يستحلون ذبحها ولا اكلها، وإذا ولدت عشرا جعلوها سائبة فلا يستحلون اكلها
ولا ظهرها. والحامي: فحل الابل، لم يكونوا يستحلون (اكله) فأنزل الله أنه لم يحرم شيئا
من هذا (تفسير العياشي 1: 347.). ونقل الشيخ الطوسي في
" التبيان " عن محمد بن اسحاق قال: الوصيلة: هي الشاة إذا ولدت عشر اناث متتابعات في خمسة أبطن، كل بطن توأم
اناث ليس فيها ذكر، قالوا: قد وصلت، وجعلوها وصيلة، وكان ما ولدت بعد ذلك للذكور
دون الاناث ! والسائبة: هي الناقة إذا تابعت بين عشر اناث ليس فيهن ذكر، سيبت
فلم يركبوها ولم يجزوا وبرها ولم يشرب لبنها إلا ضيف. والبحيرة: هي ما نتجت
السائبة بعد ذلك من انثى شق اذنها ثم خلي سبيلها مع امها، فلم يركب ظهرها ولم
يجز وبرها، ولم يشرب لبنها الاضيف (التبيان
4: 38 وعن ابن اسحاق في السيرة 1: 91.). ونقل عن أهل اللغة
قالوا: الوصيلة: هي
الشاة كانت إذا ولدت انثى فهي لهم، وإذا ولدت ذكرا ذبحوه لآلهتهم في زعمهم، وإذا
ولدت ذكرا وانثى قالوا: وصلت أخاها، فلم يذبحوه لآلهتهم. وفي البحيرة: قال:
كانوا في الجاهلية إذا نتجت الناقة خمسة أبطن وكان آخرها ذكرا، بحروا اذنها أي
شقوها، وامتنعوا من ركوبها وذبحها، ولم تطرد عن رعي ولاماء. وفي السائبة: قال:
كانوا في الجاهلية إذا نذر أحدهم لقدوم من سفر أو برء من مرض أو ما أشبه ذلك
قال: ناقتي سائبة، فكانت كالبحيرة في التخلية (التبيان 4: 38.).
وأسند الطبرسي في " مجمع البيان " قول أهل اللغة هذا
الى الزجاج. وفي الحامي قال: هو
الذكر من الابل، كانت العرب إذا أنتجت من صلب الفحل عشرة أبطن قالوا: قدحمى
ظهره، فلا يحمل عليه، ولا يمنع من ماء ولا مرعى، رواه عن الزجاج وأبي عبيدة،
وابن مسعود وابن عباس. ثم نقل عن المفسرين عن
ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: إن
عمرو ابن لحي بن قمعة بن خندف، كان قد ملك مكة، وكان
هو أول من غير دين اسماعيل واتخذ الأصنام ونصب الأوثان، وبحر البحيرة وسيب السائبة ووصل الوصيلة وحمى الحامي، فلقد
رأيته في النار يؤذي أهل النار ريح قصبه (مجمع
البيان 3: 390. ورواه ابن اسحاق بسنده عن ابن حزم وبسند آخر عن أبي هريرة -
السيرة 1: 78، 79.). |
حماس
العرب قبل الاسلام:
|
بإمكاننا ان نقول:
إن العربي قبل الإسلام كان نموذجا تاما لشره البشر وحرصه على مصالحه ومنافعه،
فكان ينظر إلى كل شئ من زاوية منافعه الخاصة، وكان يدعي لنفسه في كل ذلك أنواعا
من الشرف والكرامة والرفعة على الآخرين، يحب الحرية غاية الحب، وينفر من أي قيد
أو حد. وقد قال ابن خلدون بهذا الصدد: " إن العرب إذا تغلبوا على (تحف
العقول: 30 ط بيروت.) أوطان أسرع إليها الخراب، وذلك أنهم امة قد استحكمت فيهم أسباب التوحش
فصار لهم خلقا وجبلة، وكان عندهم الخروج عن ربقة الحكم وعدم الانقياد للسياسة
ملذوذا. وهذه الطبيعة منافية
للعمران ومناقضة له، فان
حالتهم العادية هي الرحلة والتغلب، وهذا مناقض للسكون الذي به العمران ومناف له.
وأيضا فطبيعتهم انتهاب ما في أيدي الناس، وأن رزقهم في ظلال رماحهم، وليس عندهم
في أخذ أموال الناس حد ينتهون إليه، بل كلما امتدت أعينهم الى مال أو متاع أو
ماعون انتهبوه " (مقدمة ابن خلدون: 149 ط دار الفكر.). أجل، إن العرب قبل الإسلام كانوا قد
اعتادوا على الحرب والقتال، وكان
منطقهم السائد: لا يغسل الدم الا الدم، وكذلك كانوا قد
اعتادوا الإغارة على أموال الآخرين حتى أن أحدهم كان يعد غاراته على أموال الناس مفخرة له، وحتى
أن الشاعر الجاهلي حينما يشاهد عجز قومه عن الغارة يتمنى ان لو كان له عن قومه
هؤلاء قوم آخرون يشنون الغارات: فليت لي بهم قوما إذا ركبوا *
شنوا الإغارة فرسانا وركبانا والى هذه الحالة يشير الذكر الحكيم إذا يقول لهم: * (وكنتم
على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها) * (آل عمران: 103.). |
الخرافات
عند العرب:
|
إن القرآن الكريم يبين أن من أهداف بعثة رسول الله (صلى الله عليه
وآله) أنه (يضع عنهم اصرهم والأغلال التي كانت عليهم) (الاعراف: 157.). فما هو الإصر وماهي الأغلال التي كانت عليهم ؟ لا شك أنها لم تكن
أغلالا من حديد، بل الغرض منها هي تلك الأوهام والخرافات التي كانت تمنع عقولهم
وافكارهم عن الرشد والنمو، ولا شك أنها لا تقل عن أغلال الحديد ثقلا وضررا، إذ
هذه الأغلال قد لا تنفك عن صاحبها حتى الموت وهي تمنعه عن كل حركة حتى لحلها، في
حين لو كان الإنسان ذا عقل حر سليم كان بإمكانه ان يكسر كل طوق أو قيد. إن من مفاخر رسول الإسلام (صلى الله عليه وآله) أنه كافح الخرافات والأوهام، وغسل العقل البشري منها. إن ساسة العالم
الذين لا يهمهم شئ سوى الرئاسة على الناس، يحاولون الإفادة من كل شئ في سبيل
أغراضهم ومقاصدهم، فإذا كانت العقائد الخرافية والقصص القديمة مما يمكن ان تؤيد
حكومتهم ورئاستهم، فلا مانع لهم من أن يروجوا لها ويفتحوا السبيل أمامها، وحتى
لو كانوا اناسا مفكرين ذوي رأي ومنطق فإنهم سوف يدافعون عن هذه الخرافات باسم
احترام آراء الناس وأفكارهم واعتقاداتهم. اما رسول الله فانه
لم يمنع عن تلك العقائد الخرافية التي تضر بالمجتمع فحسب، بل كان يكافح حتى
الأفكار التي كانت قد تؤيده وتدعم هدفه، وكان يسعى الى ان يكون الناس أبناء
الدليل والمنطق لا القصص والخرافات. فقد روى البرقي في كتابه " المحاسن " بسنده عن أبي الحسن
موسى بن جعفر (عليه السلام) أنه قال: لما قبض ابراهيم ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله) جرت
في موته ثلاث سنن: أما واحدة: فانه لما قبض
انكسفت الشمس فقال الناس: انما انكسفت الشمس لموت ابن رسول الله، فصعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) المنبر فحمد الله
وأثنى عليه ثم قال: " ايها الناس ! إن
الشمس والقمر آيتان من آيات الله يجريان بأمره مطيعان له، لا ينكسفان لموت أحد
ولا لحياته. فإذا انكسفا أو أحدهما صلوا ". ثم نزل من المنبر فصلى
بالناس الكسوف (المحاسن للبرقي: 313.). إن فكرة كسوف الشمس لموت ابن رسول الله كان مما يرسخ العقيدة برسول الله في نفوس الناس، وهو من ثم يؤدي
الى انتشار رسالته ولكنه (صلى
الله عليه وآله) لم يرض أن يتأيد بالخرافة. إن كفاح رسول الله (صلى
الله عليه وآله) ضد الخرافات وعلى رأسها عبادة الأصنام والأوثان واتخاذ بعض
المخلوقات أربابا لم يكن دأبه في رسالته فحسب بل إنه كان يكافح الأوهام والخرافات حتى في دور طفولته وصباه. فقد روى المحدث المجلسي
في موسوعته " بحار الأنوار " عن كتاب " المنتقى في أحوال المصطفى
" للكازروني من العامة، بسنده عن ابن عباس عن حليمة السعدية أنها قالت " فلما تم له ثلاث سنين قال لي يوما: يا اماه ! مالي لا أرى
أخوي بالنهار ؟ قلت له: يا بني انهما يرعيان غنيمات، قال: فمالي لا أخرج معهما ؟ قلت له:
تحب ذلك ؟ قال: نعم. فلما أصبح دهنته وكحلته وعلقت في عنقه خيطا فيه جزع يمانية فنزعها ثم قال لي: مهلا يا اماه ! فإن معي من يحفظني " (بحار
الانوار 15: 392.). |
الخرافات
في عقائد العرب الجاهليين:
|
إن عقائد جميع امم العالم كانت حين طلوع فجر الإسلام خليطا بأنواع من الخرافات والأساطير، فالأساطير الساسانية واليونانية كانت تسود على أفكار امم كانت تعد من أرقي أمم العالم يومذاك.
وحتى اليوم يوجد بين امم العالم خرافات كثيرة لا تستطيع الحضارة الحاضرة أن
تنفيها من حياة الناس. وقد سجل التأريخ خرافات وأساطير كثيرة للناس في شبه جزيرة العرب، جمع
كثيرا منها السيد محمود الآلوسي في كتاب أسماه " بلوغ الأرب في معرفة أحوال
العرب " مع ذكر
شواهد لها من الشعر الجاهلي وغيره، بمراجعة هذا الكتاب ومثله يواجه المرء شيئا كثيرا من الخرافات قد
ملأت عقول العرب الجاهليين، وكانت
هذه الأساطير احدى عوامل التخلف فيهم عن سائر امم العالم آنذاك، وكانت كذلك أكبر
سد أمام تقدم الإسلام فيهم أيضا، ولهذا كان النبي (صلى الله عليه وآله) يسعى جاهدا أن يحبط تلك الأساطير والأوهام من آثار الجاهلية،
فحينما أرسل " معاذ بن جبل " الى اليمن أمرة قائلا: " وأمت
الجاهلية الا ماسنه الإسلام، وأظهر أمر الإسلام كله صغيره وكبيره " (تحف
العقول: 25.). |
وهنا
نأتي نحن بنماذج من خرافاتهم:
|
أ - إشعال النار للاستسقاء: كانت الجزيرة العربية تواجه الجفاف في أكثر فصول السنة، فكان
الناس يجمعون حطبا من شجر القشر والسلع فيربطونها بذيل الثور ثم يسوقونه الى سفح
الجبل فيضرمون النار في حزمة الحطب فتشتعل، ويبدأ الثور يركض ويخور وهم يرون ذلك
تقليدا للبرق والرعد، فالبرق النار في الحطب والرعد خوار الثور والبقر، ويرون
ذلك مفيدا لهطول الأمطار ! ب - يضربون الثور لتشرب
البقرة: كانوا يردون بقطيع
البقر الماء وقد يشرب الثور ولا تشرب الأبقار، فيرون ذلك من وجود الجن في قرون
الثور فيضربون الثور لتشرب البقر ! ويقول شاعرهم في ذلك: فإني إذا كالثور يضرب
جنبه * إذا لم يعف شربا وعافت صواحبه ! ج - يكوون الجمل السالم لتصح الإبل: كانوا إذا مرضت الإبل وظهر في فمها أو على أطرافها قروح أو بثور،
يأتون ببعير سالم فيكوون شفاهه وساعديه وذراعيه، لتصح سائر الإبل كما يتوهمون
حسب خرافاتهم. وقد يحتمل بعض المتأخرين من المؤرخين أن ذلك كان عملا وقائيا بل
علاجا علميا ! لكننا حينما نرى أنهم يفعلون ذلك بواحد من الإبل بدلا من الكل،
نعلم أن ذلك لم يكن الا خرافة ووهما. د - يحبسون بعيرا على القبر ليحشر الميت عليه: كانوا إذا مات كبير
منهم حفروا قرب قبره حفيرة وحبسوا بها بعيرا وتركوه يموت جوعا وعطشا، يزعمون ان
الميت يركبه ولا يبقى راجلا بلا راحلة !. ه - يعقرون بعيرا عند قبر الميت: كانوا إذا مات كريم منهم كان ينحر الإبل لاضيافه، يعقر أقرباؤه
بعيرا عند قبره تكريما للميت وثناء عليه ! وحارب الإسلام كل هذه الأوهام، بل
انها انما كانت ظلما للحيوان، وإذا ماقارناها نحن بأحكام الإسلام بشأن حماية
الحيوان رأينا أن الإسلام كان ثورة على هذه الأفكار السائدة في ذلك المحيط
الجاهل. ويكفينا من بين عشرات الأحكام أن الإسلام قرر للحيوان حقوقا على صاحبه (انظر
بهذا الصدد كتاب من لا يحضره الفقيه 2: 286 - 292.). و - علاج المرضى: كانوا يرون أن الملدوغ والملسوع لو كان معه شئ من النحاس مات،
وكانوا يعالجونها بإناطة عقود وقلائد الذهب والفضة برقبتهما وكانوا يعالجون عضة
الكلب المكلوب (داء الكلب) بدم كبير القبيلة أو شيخ العشيرة يضعونه على موضع
الجراح ! وقد جاء هذا المعنى
في هذا البيت المعروف: أحلامكم لسقام الجهل
شافية * كما دماؤكم تشفي من الكلب وكانوا إذا ظهرت على أحد منهم سمات مس الجنون لجؤوا لطرد الأرواح الشريرة منه الى عظام الموتى والأقمشة الملوثة
بالأوساخ والقاذورات فعلقوها برقبته. ولدفع الجنون عن
الجنين والبنين كانوا يعلقون سن السنور والثعلب بخيط فيعلقونها برقابهم. وكانت الام إذا رأت في فم أو شفاه أولادها بثورا حملت على رأسها طبقا
وطافت على دور
القبيلة فجمعت شيئا من الخبز والتمر وأطعمتها الكلاب ليطيب بنوها. وكان نساء
الحي يراقبن أبناءهن كيلا يأكلوا شيئا من ذلك الخبز والتمر فيصابوا بذلك الداء. وإذا استمر مرض أحدهم قالوا انه قتل حية أو غيرها من الجن، وللاعتذار من الجن كانوا
يصنعون بعيرا من الطين يحملونه التمر والحنطة والشعير ويتركونه ببعض شعاب
الجبال، فإذا رأوا الحمل بعد ذلك قد تغير شئ منه قالوا ان الهدية قبلت وسيطيب
المريض، وإلا قالوا: إنهم استقلوا الهدية فلم يقبلوا بها !. وكانوا إذا دخلوا قرية وخافوا الجن أو الطاعون صاحوا في مدخل القرية عشر مرات بصوت الحمير (النهيق) وقد يعلقون
برقابهم عظم الثعلب ! وكانوا إذا ضلوا في البيداء نزعوا ملابسهم فلبسوها
بالمقلوب كي ينقلبوا الى أهلهم ! وكانوا عند السفر يربطون خيطا بغصن شجرة أو
فرعها، فإذا رجعوا ووجدوه كما هو اطمأنوا الى وفاء أزواجهم وعدم خيانتهن لهم،
أما إذا فقدوه أو وجدوه قد حل اتهموا أزواجهم بخيانتهم من ورائهم. وكانوا إذا
سقط سن من أسنان أطفالهم رموا به الى جهة الشمس وقالوا: أيتها الشمس اعطينا سنا
أحسن من هذا ! وكانت المرأة التي لا يبقى لها أولادها تطأ القتيل سبع مرات ويرون
أن ذلك نافع لها ليبقى لها ولدها بعد هذا. هذه نماذج من الخرافات التي كانت قد خيمت على محيط حياة العرب في
عهد الجاهلية فجعلت منه عهدا مظلما أسود ومنعت عقولهم من الرقي والنمو. |
المرأة
في المجتمع الجاهلي:
|
كانت المرأة لديهم كسلعة تباع وتشترى، تماما كالحيوانات، ولا
يورثونها، ويرثونها مع التركة، ولا حد لتزويج الرجال منهن، ويعظلوهن ليذهبوا
ببعض ما آتوهن - كما في القرآن الكريم - ويتزوجون بزوجات آبائهم، ويمنعون
أزواجهم إذا طلقوهن ان يتزوجن بغيرهم الا بإذنهن، ولا يكون ذلك الا بمال. اما الإسلام فيكفينا منه تغييرا
لهذا الوضع واصلاحا له قول رسول الله (صلى الله عليه
وآله) في خطبته في حجة الوداع: " أيها
الناس: ان لنسائكم عليكم حقا ولكم عليهن حقا، فحقكم عليهن ان لا يوطئن أحدا
فرشكم، ولا يدخلن أحدا تكرهونه بيوتكم الا بإذنكم، وان لا يأتين بفاحشة، فإن
الله قد أذن لكم ان تعظلوهن وتهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضربا غير مبرح، فإذا
انتهين واطعنكم فعليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف اخذتموهن بأمانة الله واستحللتم
فروجهن بكتاب الله، فاتقوا الله في النساء واستوصوا بهن خيرا " (تحف
العقول: 30 ط بيروت). |
مبدأ
العرب، والعرب العاربة:
|
إن ما كتبه العرب عنهم بعد الاسلام مزيج بالأساطير، وقد ظل تأريخهم
تأريخا مبهما حتى أواسط القرن الماضي حيث جد علماء الآثار والحفريات الأثرية
التاريخية من الغربيين في قراءة آثارهم المنقوشة بالخط المسند على الأبراج
والهياكل والنصب والأحجار، فاستقر
رأي هؤلاء الباحثين الغربيين على أن العرب الجنوبيين في اليمن هم من الموجة
السامية الأخيرة التي بدأت في أواخر الألف الثاني ق م، أي في حدود الألف قبل
الميلاد، أي قرابة خمسة عشر قرنا قبل الاسلام، اتجهت من شمال الجزيرة الى جنوبها، لامن بابل العراق (العصر
الجاهلي، لشوقي ضيف: 25 - 28.)
بينما نرى في التاريخ النقلي المتوارث أن الهجرة كانت من بابل الى اليمن، فمثلا: ذكر المسعودي في أوائل من تكلموا بالعربية عن نسل نوح ببابل العراق
بعد الطوفان قال: وكان من تكلم بالعربية: يعرب وجرهم، وعاد، وثمود، وعملاق، وطسم، وجديس، ووبار، وعبيل وعبد
ضخم، فسار يعرب بن قحطان بن عابر بن شالخ بن ارفخشد بن سام بن نوح (اي الجيل
الخامس بعد نوح) بمن تبعه من ولده.. فحل باليمن. وسار بعده عاد بن عوص بن ارم بن سام بن نوح بولده ومن تبعه، فحل بالأحقاف
وأداني الرمل بين عمان وحضرموت واليمن وتفرق هؤلاء في الأرض فانتشر منهم ناس كثير: منهم جيرون بن سعد بن عاد حل بدمشق فمصر مصرها، وجمع عمد الرخام
والمرمر إليها وشيد بنيانها وسماها " ارم ذات العماد ". قال المسعودي: وهذا
الموضع بدمشق في هذا الوقت - وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة - سوق من أسواقها
عند باب المسجد الجامع يعرف
بجيرون، وهو بنيان عظيم
كان قصر هذا الملك (جيرون) عليه أبواب من نحاس عجيبة، بعضها على ما كانت عليه،
وبعضها من مسجد الجامع. وسار بعد
عاد بن عوص: ثمود بن عابر بن ارم بن سام بن نوح، بولده ومن تبعه، فنزلوا الحجر الى فرع، نحو وادي القرى بين الشام والحجاز ونبيهم صالح (عليه السلام). وسار بعد ثمود:
جديس بن عابر بن ارم بن سام بن نوح، بولده ومن تبعه، وهؤلاء نزلوا اليمامة. وسار بعد جديس: عملاق بن لاوذ بن ارم بن سام بن نوح، بولده ومن تبعه فنزل هؤلاء
أكناف الحرم والتهائم، ثم انضافوا الى ملوك الروم فملكتهم الروم على مشارف الشام
والغرب والجزيرة من ثغور الشام فيما بينهم وبين فارس، منهم السميدع بن هوبر،
ومنهم اذينة بن السميدع. ثم سار طسم بن لاوذ بن ارم بن سام بن نوح بعد عملاق بن لاوذ بولده
ومن تبعه، فكان منزلهم
باليمامة، واسمها إذ ذاك جر، وكانت أفضل البلاد وأكثرها خيرا فيها صنوف الشجر
والأعناب، وهي حدائق ملتفة وقصور مصطفة، وكثرت طسم فملكت عليها عملوق بن جديس. فكان عملوق يحكم
طسم وجديس، ولكن كثرت جديس فملكت عليها الأسود بن غفار. وكان عملوق ظلوما غشوما
لاينهاه شئ عن هواه، وكان قد قهر على جديس وتعدى عليهم. وترافع إليه زوجان من
جديس تنازعا في ولدهما عمن يكون بعد الطلاق فحكم الملك أن يؤخذ الولد منهما
ويجعل في غلمانه، فقالت فيه شعرا ذمته به وبلغ قولها الملك فغضب، وأمر أن لا
تتزوج امرأة من جديس فتزف الى زوجها حتى تحمل إليه فيفترعها قبل زوجها، فلقوا من
ذلك ذلا طويلا، ولم تزل تلك حالتهم حتى تزوجت اخت الأسود ملك جديس ففعل بها
كسائر نسائها، فخرجت تقول شعرا تحرض به قومها جديس على طسم. فصنع الأسود طعاما
كثيرا ودعا إليه عملوق ومن معه من رؤساء طسم باليمامة فأجابوه، فوثبت جديس عليهم
بأسيافهم فقتلوهم عن آخرهم ومضوا الى ديارهم فانتهبوها. قال المسعودي: وسار بعد طسم بن لاوذ: وبار بن اميم بن لاوذ بن ارم بن سام بن نوح، بولده ومن تبعه من
قومه، فنزل برمل عالج، وأصابهم نقمة من الله فهلكوا لبغيهم في الأرض. وسار بعد وبار بن اميم:
عبد ضخم بن ارم بن سام بن نوح بولده ومن تبعه فنزلوا الطائف، ثم هلك هؤلاء ببعض
غوائل الدهر فدثروا، ولهم ذكر في الشعر الجاهلي. وسار بعد عبد ضخم بن ارم:
جرهم بن قحطان بولده ومن تبعه، وطافوا البلاد حتى أتوا مكة فنزلوها (بعرفات،
وبعد ظهور زمزم نزلوا حول البيت بمكة). وسار اميم بن لاوذ بن ارم
بعد جرهم بن قحطان فحل بأرض فارس، فالفرس من ولد كيومرث بن اميم بن لاوذ بن ارم
بن سام بن نوح على خلاف في ذلك. ونزل ولد كنعان بن حام بن
نوح بلاد الشام فبهم عرفت تلك الديار فقيل: بلاد كنعان. قال المسعودي: وقد
ذكر جماعة من أهل السير والأخبار: ان جميع من ذكرنا من هذه القبائل كانوا أهل
خيم وبدوا مجتمعين في مساكنهم من الأرض. وان اميما وأولاده (أي الفرس) هم أول من
ابتنى البنيان ورفع الحيطان وقطع الأشجار وسقف السقوف واتخذ السطوح. وقد كان من ذكرنا من الامم
لايجحد الصانع عزوجل، ويعلمون
أن نوحا (عليه السلام) كان نبيا. ثم دخلت عليهم بعد ذلك شبه ومالت نفوسهم الى ما تدعو إليه الطبائع
من الملاذ والتقليد، وكان في نفوسهم هيبة الصانع والتقرب إليه بالتماثيل
وعبادتها لظنهم أنها مقربة لهم إليه. وكان عبيل بن عوص بن ارم بن سام بن نوح نزل هو وولده ومن تبعه بلاد
الجحفة بين مكة والمدينة، فهلكوا بالسيل فسمي ذلك الموضع بالجحفة لإجحافها بهم. وكان يثرب بن قامة بن مهليل بن ارم بن عبيل نزل هو وولده ومن تبعه
المدينة فسميت به يثرب، وهؤلاء أيضا هلكوا ببعض غوائل الدهر وآفاته. وقد أخبر الله جلت قدرته عمن اهلك من قوم عاد وثمود فقال تعالى * (كذبت ثمود وعاد بالقارعة فأما ثمود فاهلكوا بالطاغية وأما عاد
فاهلكوا بريح صرصر عاتية) * (الحاقة:
4 - 6.) ارسل الله على عاد الريح العقيم فخرجت عليهم من واد لهم (بصورة
سحاب مركوم) * (فلما
رأوه... قالوا هذا عارض ممطرنا) * وتباشروا بذلك، فلما سمع هو ذلك منهم قال لهم * (بل
هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب اليم) * (الأحقاف: 24.). ولما دثرت هذه الامم من
العرب والقبائل خلت منهم الديار فسكنها غيرهم من الناس، فنزل قوم من بني حنيفة اليمامة واستوطنوها. وقد كانوا نزلوا
بلاد الجحفة بين مكة والمدينة.
واختلفوا في بني حضور فقيل إنهم من ولد يافث بن نوح، ومنهم من الحقهم بمن ذكرنا من
العرب البائدة ممن سمينا، وكانت امة عظيمة ذات بطش وشدة. ومنهم من رأى أن ديارهم
كانت بلاد جند قنسرين الى تل ماسح الى خناصرة الى بلاد سورية، وهذه المدن في هذا
الوقت مضافة الى أعمال حلب من بلاد قنسرين من أرض الشام. ومن الناس من رأى أنهم
كانوا بأرض السماوة وأنها كانت عمائر متصلة ذات جنان ومياه متدفقة، وذلك بين
العراق الى حد الحجاز والشام، وهي الآن براري وقفار وديار خراب. وقد كان الله بعث إليهم شعيب بن مهدم بن حضور بن عدي: نبيا ناهيا لهم عما كانوا عليه، وهو غير شعيب بن نويل. فجد شعيب
بن مهدم في دعائهم وخوفهم وتوعدهم، وظهرت له معجزات ودلائل أظهرها الله على يديه
تدل على صدقه وتثبت حجته على قومه، فقتلوه. وكان في عصره نبي آخر هو برخيا بن اجنيا بن رزنائيل بن شالتان، من
أسباط يهودا بن اسرائيل بن اسحاق بن ابراهيم، فأوحى الله إليه أن يأمر بعض الملوك في الشام بغزو العرب أصحاب
شعيب بن مهدم، فسار إليهم في جنوده وغشى دارهم بعساكره، فاستعدوا لحربه ولكن
انفضت جنودهم وتفرقت جموعهم وولت كتائبهم وأخذهم السيف فحصدوا أجمعين وبشأنهم -
قيل - قال الله تعالى * (فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون) * (مروج الذهب 2: 109 - 131 بتصرف - الأنبياء: 12.). |
العرب
من ولد قحطان:
|
قال المسعودي: "
ودثرت العرب العاربة عدا ولد قحطان من يعرب، فدثرت عاد وثمود والعمالقة وجرهم
وطسم وجديس ووبار وعبيل، وسائر من سمينا، ودخل من بقي ممن ذكرنا في العرب
الباقية الى هذا الوقت، وهم ولد قحطان ومعد، ولا نعلم أن قبيلا بقي يشار إليه في
الأرض من العرب الأولى غير معد وقحطان " (مروج
الذهب 2: 24 ط بيروت.). وقال: " الواضح من
أنساب اليمن وما تدين به كهلان
وحمير ابنا قحطان الى هذا الوقت قولا وعملا، وينقله الباقي عن الماضي والصغير عن
الكبير، والذي وجدت عليه التواريخ القديمة للعرب وغيرها من الامم، ووجدت عليه
الأكثر من شيوخ ولد قحطان من حمير وكهلان بأرض اليمن والتهائم والأنجاد، وبلاد
حضرموت والشحر والأحقاف، وبلاد عمان وغيرها من الأمصار: أن الصحيح في نسب قحطان: أنه قحطان بن عابر ابن شالخ بن قنان بن ارفخشد بن سام بن نوح. وكان لعابر ثلاثة أولاد: فالغ وقحطان وملكان. وولد لقحطان أحد وثلاثون ذكرا منهم يعرب، وولد ليعرب: يشجب، وولد
ليشجب: عبد شمس فتملك وقاتل وسبى فلقب: بالسبأ لسبيه السبايا. وولد لسبأ: حمير
وكهلان، وانما العقب في قحطان من ولد هذين: حمير وكهلان. هذا هو المتفق عليه عند
أهل الخبرة والمتيقن لديهم. وكان قحطان سرياني اللسان وانما تكلم يعرب بالعربية
بخلاف لسان قحطان أبيه " (مروج الذهب 2: 45، 46 ط بيروت.). |
ملوك
اليمن:
|
قال المسعودي " وفد عبيد
بن شرية الجرهمي على معاوية فسأله عن أخبار اليمن
وملوكها وتواريخ سنيها، فذكر: أن اول ملوك اليمن: سبأ بن
يشجب بن يعرب بن قحطان، ثم ملك بعده الحارث بن شداد بن ملظاظ ابن عمرو. ثم ملك
بعده ابرهة بن الرائش وهو ابرهة ذو المنار، ثم ملك بعده افريقس بن ابرهة. ثم ملك
بعده أخوه العبد بن ابرهة، ثم ملك بعده الهدهاد بن شرحبيل بن عمرو وهوذ والصرح،
ثم ملكت بعده بلقيس بنت الهدهاد سبع سنين، ثم ملك سليمان بن داود (عليهما
السلام) ثلاثا وعشرين سنة. ثم ملك بعده ارحبعم بن سليمان سنة، ثم رجع الملك الى
حمير فملك من بعد ارحبعم بن سليمان: ناشر النعم بن يعفر بن عمرو ذي الأذعار، ثم
ملك بعده عمرو بن شمر بن افريقس، ثم ملك بعده تبع الأقرن بن عمرو، وهو تبع
الأكبر، ثم ملك بعده ابنه ملكيكرب بن تبع. ثم ملك بعده تبع أبو كرب اسعد بن
ملكيكرب، ثم ملك بعده كلال بن مثوب، ثم ملك بعده تبع بن حسان بن تبع، ثم ملك
بعده مرثد، ثم ملك بعده ابرهة بن الصباح، ثم ملك بعده ذو شناتر بن زرعة، ثم ملك
بعده لخنيعة ذو شناتر، في مجموع مدة ألف وتسعمائة وسبع وعشرين سنة. هذا ما حكي
عن عبيد بن شرية في ترتيب ملوك اليمن (مروج
الذهب: 2: 60 - 62 ط بيروت.).
ونترك
هنا ذكر بقية ملوك اليمن وما وقع على عهدهم، لنأتي على
ذلك بعد ذكر انتشار العرب من اليمن الى الحجاز ويثرب والعراق والشام. ورجحنا ذكر خبر عبيد بن شرية الجرهمي في هذا الباب للاختصار، ولترجيح
المسعودي له بقوله
" ولم يصح عند كثير من الاخباريين - أي المؤرخين - من أخبار من وفد على
معاوية من أهل الدراية بأخبار الماضين وسير الغابرين العرب وغيرهم من المتقدمين
فيها، الا خبر عبيد بن شرية واخباره اياه عما سلف من الأيام وما كان فيها من
الكوائن والحوادث وتشعب الأنساب. وكتاب عبيد بن شرية متداول في أيدي الناس مشهور
" (مروج الذهب: 251 ط بيروت.). |
سيل
العرم وتفرق الأزد في البلدان:
|
ذكر الله تعالى في القرآن الكريم أنه أرسل على أهل بلاد سبأ سيلا
سماه سيل العرم،
وقال المسعودي: " لا خلاف
بين ذوي الرواية والدراية:
أن العرم هو المسناة التي قد احكم عملها لتكون حاجزا بين ضياعهم وبين السيل (مروج
الذهب 2: 163، 164.)، وكان فرسخا في فرسخ، بناه لقمان بن عاد بن عاديا الأكبر (مروج الذهب 2: 161.).
وهذا السد هو الذي كان يرد عنهم السيل فيما سلف من الدهر إذا حان أن يغشى
أموالهم وقد كانت أرض سبأ قبل ذلك يركبها السيل، وكان ملك القوم في ذلك الزمان
يقرب الحكماء ويدنيهم ويؤثرهم ويحسن إليهم، فجمعهم من أقطار الأرض للالتجاء الى
رأيهم والأخذ من محض عقولهم، فشاور في دفع ذلك السيل وحصره، وكان ينحدر من أعالي
الجبال هابطا على رأسه حتى يهلك الزرع ويسوق من حملته البناء. فأجمع القوم رأيهم
على عمل مصاريف له الى البراري تقذف به الى البحر. فحضر الملك المصارف حتى انحدر
الماء وانصرف وتدافع الى تلك الجهة، واتخذ السد في الموضع الذي كان فيه بدء
جريان الماء، من الجبل الى الجبل، من الحجر الصلد والحديد بطول فرسخ، وكان وراء
السد والجبال أنهار عظام وقد اتخذوا من تلك المياة نهرا بمقدار معلوم ينتهي في
جريانه الى المخراق، وكان في هذا المخراق للأخذ من تلك الأنهار ثلاثون نقبا
مستديرة في استدارة الذراع طولا وعرضا مدورة على أحسن هندسة وأكمل تقدير، وكانت
المياه تخرج من تلك الأنقاب في مجاريها حتى تأتي الجنان فترويها سقيا، وتعم شرب
القوم. ثم إن تلك الأمم بادت وضربها الدهر بضرباته وطحنها بكلكله، ومرت
عليها السنون، وعمل الماء في اصول ذلك المخراق وأضعفه ممر السنين عليه وتدافع
الماء حوله. وأتى
أبناء قحطان الى هذه الديار وتغلبوا على من كان فيها من القطان، ولم يعلموا الآفة في السد والمخراق وضعفه، وعند تناهي السد
والبنيان في الضعف عن تحمله غلب الماء على السد والمخراق والبنيان إبان زيادة
الماء، فقذف به في جريه ورمى به في تياره واستولى الماء على تلك الديار والجنان
والعمائر والبنيان، حتى انقرض سكان تلك الأرض وزالوا عن تلك المواطن (مروج
الذهب 2: 162، 163 ط بيروت.)، وذلك عندما انتهت الرئاسة فيهم الى عمرو بن عامر بن ماء السماء
بن حارثة الغطريف بن ثعلبة بن امرئ القيس بن مازن بن الأزد بن الغوث بن كهلان بن
سبأ " (مروج الذهب 2: 161 ط بيروت.). قال المسعودي:
" ورأى عمرو في النوم سيل العرم، فعلم أن ذلك واقع بهم وأن بلادهم ستخرب،
فكتم ذلك واخفاه وأجمع ان يبيع كل شئ له بأرض سبأ ويخرج منها هو وولده فابتاع
الناس منه جميع ماله بأرض مأرب. فلما اجتمعت لعمرو بن عامر أمواله أخبر الناس بشأن سيل العرم فقال: قد رأيت انكم ستمزقون كل ممزق، واني أصف لكم البلدان فاختاروا
أيها شئتم. فنزل جمع من الأزد
بقصر عمان المشيد فقيل لهم:
أزد عمان. ولحق وادعة بن عمرو الأزدي وجمع معه بشعب كرود وهي أرض همدان فانتسبوا إليهم. وسكن جمع منهم ببطن مر فسموا خزاعة لانخزاعهم عمن كان معهم من
الناس وهم بنو عمرو بن لحي. ولحق الأوس والخزرج ابنا حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن
عامر بيثرب فسكنوه. ولحق بنو غسان ببصرى وحفير من أرض الشام. ولحق مالك بن فهم
الأزدي وولده بالعراق فسكنوه. وخرج من كان بمأرب من
الأزد يريدون أرضا يقيمون بها، فساروا حتى إذا كانوا بنجران تخلف أبو حارثة بن
عمرو بن عامر ودعبل بن كعب فانتسبوا الى مذحج، وخرج عمرو بن عامر وولده من مأرب
فسار حتى إذا كان بين السراة ومكة أقام هنالك اناس من بني نصر من الأزد. وسار
عمرو بن عامر وبنو مازن حتى نزلوا بين بلاد الأشعريين وعك على ماء يقال له غسان
بين واديين يقال لهما زبيد ورمع، فأقاموا على غسان فسموا به، والسراة: جبل يقال
له الحجاز أيضا سكن الأزد في سهله وجبله وما قاربه من ظهره، وانما سمي السراة
ظهر هذا الجبل كما يقال لظهر الدابة السراة، وهو جبل يبدأ من تخوم الشام يفرز
بين الحجاز وبين ما يلي أعمال دمشق والأردن وبلاد فلسطين " (مروج
الذهب 2: 170 - 174 ط بيروت.).
" وتخلف في مأرب مالك بن اليمان بن بهم بن عدي بن عمرو بن مازن بن
الأزد، فأصبح ملك مأرب بعد من خرج منه الى ان كان من امرهم ماكان من الهلاك
" (مروج الذهب 2: 172.). قال المسعودي: وكان
أهل مأرب يعبدون الشمس، فبعث الله إليهم رسلا يدعونهم الى الله ويزجرونهم عما هم
عليه، ويذكرونهم آلاء الله ونعمته عليهم، فجحدوا قولهم وردوا كلامهم وأنكروا ان
يكون لله عليهم نعمة وقالوا لهم: ان كنتم رسلا فادعوا الله ان يسلبنا ما انعم به
علينا ويذهب عنا ما أعطانا فدعت عليهم رسلهم فأرسل الله عليهم سيلا هدم سدهم
وغشى الماء أرضهم فأهلك شجرهم وأباد خضرا عمهم وأزال أنعامهم وأموالهم ! فأتوا
رسلهم فقالوا: ادعوا الله أن يخلف علينا نعمتنا ويخصب بلادنا ويرد علينا ما شرد
من أنعامنا، ونعطيكم موثقا ان لانشرك بالله شيئا. فسألت الرسل ربها فأجابهم الى
ذلك وأعطاهم ما سألوا. فأخصبت بلادهم واتسعت عمائرهم الى أرض فلسطين والشام قرى
ومنازل وأسواقا. فأتتهم رسلهم فقالوا: موعدكم ان تؤمنوا بالله، فأبوا الا طغيانا
وكفرا فمزقهم الله كل ممزق " (مروج
الذهب 2: 174، 175.). ولابد هنا من استدراك: كان هذا مهذب ما كتبه العرب عنهم بعد الاسلام، تأريخا نقليا ظنيا،
بل مزيجا بالأساطير. وظل هكذا
مبهما حتى أواسط القرن الماضي،
حيث جد علماء الآثار والحفريات الأثرية التاريخية الغربيون في قراءة آثارهم
المنقوشة بالخط المسند على الأبراج والهياكل والنصب والأحجار، فاستقر رأي الباحثين من علماء العرب على ما يلي موجزا: إن العرب الجنوبيين في اليمن ليسوا من هجرة بابل بالعراق، بل هم من الموجة السامية الأخيرة التي بدأت في أواخر
(الألف الثاني ق م وأوائل الألف
ق م)، أي في حدود خمسة عشر
قرنا قبل الاسلام، متجهة من شمال الجزيرة نحو جنوبها، لا من خارجها وكانت مملكة سبأ في جنوب اليمن وعاصمتها مأرب، ولهجتهم السبائية هي
احدى اللهجتين الأساسيتين:
المنبثقة في اللغة اليمنية العربية القريبة من العربية الشمالية الحجازية
والتهامية، والحبشية. واللهجة الاخرى:
المعينية لمملكة معين في جوف اليمن، وهي المملكة الثانية من الممالك الخمس هناك. والمملكة الثالثة:
مملكة قتبان في الجنوب الغربي لسبأ، وعاصمتها تمنع. والمملكة الرابعة:
الاوسانية جنوبي قتبان. والمملكة الخامسة:
مملكة حضرموت، وعاصمتها شبوة. وكانت الدولة المعينية في
القرن العاشر قبل الميلاد، واستولت على مملكة قتبان ومملكة حضرموت، ووجدت نقوشهم
في شمالي الحجاز في دادان من منطقة العلا، وفي الحجر أو مدائن صالح (عليه
السلام). وفي (القرن السابع ق م) غلب السبائيون على المعينيين بل على الجنوب كله والشمال، واتخذوا
مأرب حاضرة لهم، ومنهم
بلقيس، نحو (270 ق م). وفي (115 ق م)
نازعهم ملوك ظفار وذي ريدان الحميريون وغلبوا عليهم وعلى الدول الجنوبية فتلقبوا باسم ملوك ذي ريدان واليمان وسبأ وحضرموت، وكانت لهم تجارات الى الهند ومصر وافريقية الشرقية. وفي (24 ق م) اتجه
الرومان الى الملاحة في البحر الأحمر فاستولوا على ميناء عدن وأتخذوها قاعدة
لتموين سفنهم، فشلوا بذلك تجارة الحميريين، فساءت أحوالهم الاقتصادية، وأهملوا
شؤونهم العمرانية، وأخذ الخراب يدب في البلاد. وفي منتصف القرن الرابع الميلادي حاربهم ملوك الحبشة واستولوا على
بلادهم وظلوا بها عشرين عاما.
وأخذت القبائل الحجازية تغير عليها. فأخذ كثير من عشائر اليمن يهاجرون الى الشمال. وهكذا اختلطت بل امتزجت
لغتهم مما أعد لانتصار العربية الشمالية الحجازية على العربية الجنوبية اليمنية
في أواخر العصر الجاهلي. وسبب المنافسة الشديدة بين
فارس وبيزنطة بعثات دينية مسيحية الى اليمن، فاعتنقها أهل نجران في القرن الخامس الميلادي. وناهضها ملوك
حمير وآخرهم ذو نؤاس وحاول القضاء على المسيحيين بنجران (أصحاب الاخدود). فأوعزت بيزنطة الى النجاشي أن يغزو اليمن، فغزاها في (525 م)
واستولى عليهم وضمها الى بلاده. وظل هذا الاحتلال الحبشي لليمن نحو خمسين عاما. وأخيرا استنجد أهلها (سيف بن ذي يزن) بالفرس، فردوا الأحباش وظلوا بها حتى سنة (638 م) إذ اعتنق الاسلام الحاكم الفارسي على اليمن بادان (العصر الجاهلي لشوقي ضيف: 27، 28.) في السنة السابعة للهجرة، فأقره رسول الله على عمله على اليمن، فكان
عليها حتى توفي رسول الله (صلى الله عليه وآله). ومن أجل أن نصل الى مدى
عظمة الحضارة الحديثة الإسلامية فان علينا ان ندرس الحضارات السائدة يومئذ: |
الحضارة
في الامبراطوريتين الفارسية والرومية:
|
يهمنا للوصول الى مدى بركات الدعوة الإسلامية أن نطلع على حال
الناس: أولا - في
محيط نزول القرآن الكريم، وبيئة ظهور الإسلام وتناميه. ثانيا - في أرقي نقاط العالم يومئذ فكرا وأدبا واخلاقا وحضارة. لا نرى التأريخ يعرفنا
بأرقى نقطة في ذلك العهد سوى
الإمبراطوريتين الفارسية والرومية، وان من تمام البحث أن ندرس أوضاع هاتين الدولتين من مختلف النواحي
كي يتضح لنا مدى أهمية الحضارة التي أتى بها الإسلام. ونحن إذ نتبين نقاط الضعف في العرب أو الفرس أو الروم قبل الإسلام لا
نريد من ذلك إلا الوصول الى الحقائق في تعاليم الإسلام السامية، ولامانع لدينا
عن تبين الواقع وتشريح الحقائق وبيان العقائد الخرافية والواقع السئ قبل ظهور
الإسلام وحينه، سواء كنا عربا أو فرسا أم من الروم. |
دولة
الفرس حين ظهور الاسلام:
|
المعروف أن بعثة رسول الإسلام (صلى الله عليه وآله) كانت في سنة
(611 م) المصادف لعهد خسرو پرويز (590 - 628 م) وعلى عهده هاجر الرسول (صلى الله
عليه وآله) من مكة المكرمة الى المدينة المنورة (622 م) وهو مبدأ التأريخ الهجري القمري والشمسي. وفي هذه الأيام كان يحكم القسم الأعظم من العالم المتحضر يومئذ
الدولتان الكبيرتان والقويتان الروم الشرقية وايران الساسانية، وكانت هاتان منذ
مدة مديدة في حرب مستمرة في سبيل الاستيلاء على الحكم في العالم، امتدت هذه
الحروب من عهد السلطان انو شيروان (531 - 589 م) وحتى عهد خسرو پرويز أي أكثر من
أربعة وعشرين عاما. وقد اثرت الخسائر الفادحة والمصاريف الباهضة التي كانتا
تتحملانها في هذه الحروب في قدرتها حتى لم يبق منها سوى شبح مخيف خاو. ونحن من أجل أن ندرس
أحوال الناس في ظل الفرس من مختلف الجهات علينا أن نطلع على أوضاع الحكومات من
بعد انوشيروان وحتى دخول المسلمين الى ايران. |
الحضارة
الايرانية:
|
إن اكبر نقد يرد على الحكم القائم يومئذ هو أنه كان حكما
ديكتاتوريا استبداديا فرديا، ولاشك أن العقل الفردي ليس كالعقل الجماعي، فالظلم
والمساومة أقل في الحكومة الجماعية من الحكومة الفردية. ولاشك ان شكل الحكم مما
يؤثر في كيفية سلوك الناس. ان الملوك الساسانيين كانوا ذوي ابهة وفخفخة، فالبلاط الساساني
وجماله وبهاؤه كان مما يحار فيه الناظرون، وذلك من كثرة ما جمعوا فيه من الجواهر
والأشياء النفيسة والثمينة ومن الصور والنقوش مايحير العقول. وقد شرح بعض المؤرخين بعض ترف خسرو پرويز، منهم حمزة الإصفهاني في كتابه " سني ملوك الأرض " إذ كتب يقول:
" كان لخسرو پرويز ثلاثة آلاف امرأة، واثنا عشر ألف جارية مطربة وراقصة.
وله ستة آلاف حارس. وله ثمانية آلاف وخمسمائة من الخيل الجياد للطراد، واثنا عشر
ألف من البغال لحمل أثقاله مع ألف بعير. وله تسعمائة وستون فيلا للقتال " (سني ملوك
الارض: 420.). إن نظام المجتمع على عهد الساسانيين كان نظاما طبقيا بل كان من قبل
ذلك قديما وانما اشتد على عهدهم. كتب أحد المحققين من المؤرخين الإيرانيين بشأن الطبقات في عهدهم يقول: " إن من أشد عوامل
التفرقة في الايرانيين هو النظام الطبقي المتشدد الذي كان يطبقه الساسانيون في
ايران، وان كانت جذوره ممتدة منذ القدم إلا ان الساسانيين كانوا قد تشددوا في
تطبيقه جدا: فالملكية الفردية كانت محصورة تقريبا في سبع اسر خاصة بينما كان
عامة الناس محرومين من ذلك تقريبا. ونفوس ايران إذ ذاك مائة وأربعون مليونا
تقريبا، وإذا افترضنا أن الاسر السبع كانت تبلغ سبعمائة ألف، وأضفنا الى ذلك
امراء الثغور وأصحاب الأملاك الصغار الذين كانوا يتمتعون بشئ من حق الملكية
وافترضنا انهم أيضا سبعمائة ألف، كان الذي يتمتع بحق الملكية مليونا ونصف
المليون من مجموع مائة وأربعين مليونا " (بالفارسية:
تاريخ اجتماعي ايران 2: 24 - 26.). وقد نقل مؤلف كتاب " ايران في عهد الساسانيين " عن أحد
المؤرخين الغربيين أنه يقول:
" إن العمال والفلاحين في ايران على عهد الساسانيين كانوا يعيشون بمنتهى
الذلة والمسكنة والتعاسة، وكان من تكليفهم في الحروب أن يمشوا من وراء العسكر
كأنهم قد كتب عليهم أن يكونوا عبيدا أرقاء، من دون أن ينالوا على أعمالهم هذه
الشاقة شيئا " (بالفارسية: ايران در زمان ساسانيان: 424.). وذكر الكاتب الإسلامي شكيب أرسلان يقول: " إن العمال والفلاحين كانوا محرومين من أي شئ من الحقوق
الاجتماعية بل كان عليهم عب ء مصارف الأشراف وثقلهم، فلم يكن لهم أي نفع في حفظ
هذا النظام، ولذلك كان كثير من الفلاحين والطبقات السفلى في المجتمع قد تركوا
أعمالهم فرارا عن أداء الضرائب والمكوس يلتجئون الى الصوامع والدير والكنائس
والبيع " (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين: 70 - 71.). أجل، إن نسبة قليلة أقل من
الواحد والنصف في المائة من المجتمع الإيراني كان يتمتع بكل شئ، اما أكثر من
ثمان وتسعين بالمائة من الناس في إيران كانوا كالعبيد الأرقاء. |
اختصاص
التعليم بالطبقة الممتازة:
|
إن أطفال الأثرياء واولي النعمة والجاه فقط هم الذين كان لهم الحق
في ان يتعلموا، أما
الطبقات الوسطى وسائر الناس
فقد كانوا ممنوعين عن ذلك ! وقد اعترف بهذا النقص في الحضارة الفارسية القديمة
حتى اولئك الذين كانوا يحاولون الاعتزاز بتلك الحضارة. فقد ذكر الفردوسي الشاعر
الحماسي الفارسي في ديوان شعره الحماسي قصة تشهد على ذلك، وقد وقعت القصة على عهد أنوشيروان أي في العهد الساساني الذهبي،
وتشهد هذه القصة على أن الأكثرية الساحقة من الناس لم يكن لهم حق التعلم. يقول الفردوسي:
كان أنوشيروان بحاجة الى المعونة المالية لقتال الروم، فان أكثر من ثلاثمائة ألف
جندي ايراني كانوا يحاربون الروم وهم في إعواز شديد للأسلحة والطعام. وكانوا قد
أبلغوا انوشيروان بذلك، فاضطرب انوشيروان وخاف على مصيره من ذلك، ودعا إليه وزيره العالم " بزرك مهر " ليشاوره في الأمر، ويقول انوشيروان:
إن على الوزير أن يذهب الى بلاد مازندران ليجمع المال اللازم لذلك من الناس، ويقول بزرك مهر:
إن الخطر قريب وعلينا أن نفكر في الخلاص السريع ولذلك يقترح على الملك أن يقترض
من الناس فيقبل الملك على أن يعجل في الأمر، ويبعث بزرك مهر رسله الى القرى
والمدن القريبة ليبلغوا أغنياءها بالأمر. ويحضر تاجر يعمل في تجارة الأحذية
ويستعد لدفع جميع مصارف الحرب بشرط واحد هو: أن يسمح لولده بالتعلم والوزير لا
يرى مانعا عن اجابة ملتمسه، فيسرع الى خسرو أنوشيروان ويبلغ الملك أمل الرجل، فيغضب أنوشيروان لذلك وينهر وزيره ويقول له: ما هذا الطلب الذي تتقدم به أنت ؟ ! ليس من الصلاح أن نستجيب لهذا
الطلب، فإنه بخروجه عن طبقته ينخر في كيان النظام الطبقي، وهذا ضره أكثر من نفع
ما يدفعه من الذهب والفضة ! فان ابن التاجر إذا تعلم فأصبح عالما ذا فن وهب له علمه آذانا
صاغية وعيونا ناظرة، فإذا جلس ابني على سرير الملك واحتاج الى كاتب استخدمه ولم
يبق للعلماء من أبناء البيوتات والاسر سوى أن يتحسروا ويحسدوا ابن التاجر ! (بالفارسية:
تاريخ اجتماعي ايران: 618.) ومع هذا
وصفوه بالعادل. وفي فتنة
مزدك قتل ثمانين الفا من
أصحابه (مروج الذهب 1: 264.) ليقتلع جذور الفتنة ! بينما جذور الفتنة كانت تكمن في التمايز
الطبقي وكنز الثروات بيد الأثرياء الأغنياء، وحكر الثراء والمقام بأيدي طبقة
خاصة، الى جانب حرمان الأكثرية الساحقة، وسائر المفاسد الاخرى. في حين يحاول أنوشيروان ان يسكت الناس بالضغط وقوة السلاح ! وبصدد توجيه نسبة صفة
العدالة الى أنوشيروان يقول
إدوارد براون:
" وذلك لشدة بطشه بالزنادقة المزدكيين مما حببه الى مؤبد المجوس، وهم الذين
أثبتوا له هذه الصفة " (بالفارسية:
تاريخ ادبى ايران 1: 246.).
ووصفوه بأنه كان قد علق خارج قصره سلسلة ليحركها المظلومون، فينبهونه بذلك
ويدعونه الى العدل بشأنهم (بالفارسية: تاريخ اجتماعي ايران 11: 618.). ودليل الكذب فيه هو أنهم يقولون بعد ذلك: أنه لم يحركها في طول هذه المدة الا حمار ! وكذلك قالوا
" كان فيمن وفد إليه من رسل الملوك وهداياها والوفود من المماليك في
العراق: رسول لملك الروم قيصر بهدايا والطاف، فنظر الرسول الى إيوانه وحسن
بنيانه، ومع ذلك اعوجاج ميدانه ! فقال: كان ينبغي أن يكون الصحن مربعا ؟ فقيل له: إن
عجوزا لها منزل في جانب الاعوجاج منه، وأن الملك أرادها على بيعه وارغبها فأبت
فلم يكرهها الملك وبقي الاعوجاج من ذلك على ما ترى ! فقال الرومي: هذا
الاعوجاج الآن أحسن من ذلك الاستواء " (مروج
الذهب 1: 264.). عجيب ! الا يحضر من يريد أن يبني هكذا قصر عظيم هندسة وتصميما خاصا
له وهكذا يقدم على البناء بدون أرضية كافية وهندسة خاصة ؟ ! فيخرج القصر معوج
الميدان. - كما نقل المسعودي -، من يصدق هذا ؟ ! أجل لا يبعد أن يكون موابذة
المجوس وأصحاب البلاط قد وضعوا هذه القصص له شكرا له على ما قدمه لهم من خدمات
تذكر فتشكر. وأعجب من ذلك ان حاول بعض الشعوبيين ان يضع حديثا على لسان رسول
الله (صلى الله عليه وآله) يصف انوشيروان (بالفارسية:
تاريخ اجتماعي ايران 11: 618.) بالعدالة: " ولدت في زمن الملك العادل " وخبرا يقول: إن
عليا (عليه السلام) حينما دخل مدائن كسرى نزل في ايوانه وأخرج جمجمة فأحيى
صاحبها وسأله عن حاله فقال: انه انوشيروان وهو لكفره محروم عن الجنة ولكنه لعدله
لا يعذب بالنار ! ومما يشهد على أن أصحاب البلاط كانوا يمدحونه ويثنون عليه
وينشرون عنه الجميل مما ليس فيه ما يذكره الفردوسي في " الشاهنامة ":
أن الوزير بزرك مهر كان وزيرا لانوشيروان مدة ثلاثة عشر عاما، ثم غضب عليه خسرو
پرويز فألقاه في السجن وكتب إليه رسالة قال له فيها: ان علمك هو الذي أدى بك الى
القتل ! فكتب بزرك مهر في جوابه يقول له: كنت أفيد من عقلي ما كان الحظ يساعدني،
والآن إذ ليس لي حظ فسأفيد من حلمي وصبري إن كنت قد حرمت من كثير من أعمال الخير
والبر، فقد استرحت أيضا من كثير من أعمال السوء والشر، إن كنت قد سلبت منصب
الوزارة فقد اعفيت من ألم الظلم فيها أيضا، فما يضرني ذلك ؟ ! فلما بلغت هذه الرسالة ليد خسرو پرويز حضر عليه وأمر ان يجدع أنفه
وتقطع شفتاه ! فلما سمع بزرك مهر ذلك قال: أجل إن شفتي يستحقان أكثر من ذلك !
فقال خسرو: لماذا ؟ قال بزرك مهر: لأني أثنيت عليك بهما عند الخاصة والعامة بما
لم يكن فيك، ونشرت عنك جميلا لم تكن أهلا له، يا أسوأ الملوك ! بعد أن أيقنت
بطهري وبري أردت قتلي بسوء الظنون ؟ ! اذن فمن يأمل عدلك ومن يعتمد قولك ؟ ! فغضب خسرو پرويز من هذا
الكلام وأمر بضرب عنقه (الشاهنامة 6: 260 - 257. وروى القصة المسعودي في مروج الذهب 10: 276.). وكذلك كان أكثر الحكام
الساسانيين ذوي سياسة خشنة بالعصا الغليظة، وحتى العلماء وأصحاب الأعمال لم تكن
لهم قيمة لدى بلاطهم، إذ كان القادة الساسانيون مستبدين بآرائهم بحيث لا يجرؤ
أحد على اظهار نظره لديهم، ولهذا كان عامة الإيرانيين غير راضين عنهم ولكنهم
كانوا خائفين منهم (بالفارسية: ايران در زمان ساسانيان: 318.). وقتل خسرو پرويز ابنه شيرويه ليصل الى الملك كما نقل المسعودي (مروج
الذهب 1: 280.). وملك بعد شيرويه حتى يزدجرد آخر ملوك الساسانيين عدد يتراوح ذكرهم
في التأريخ بين ستة الى أربعة عشر رجلا وامراة وهذا يعني أن الحكومة تغيرت في
مدة أربع سنين أكثر من ست مرات الى أربع عشرة مرة. فما حال دولة يحدث فيها أربعة
عشر انقلابا دمويا في مدة أربع سنين فقط ! فكل من يصل للملك يقتل كل من يدعيه
غيره، ويفعل ما يراه موطدا لأركان ملكه، فالأب يقتل ابنه والابن يقتل أباه، وكل
من كان يصل الى الملك كان يقتل أقرباءه أي أبناء الملوك الآخرين دفعا للخطر، كان
القادة ينادون بالملك للأطفال والنساء وبعد عدة أسابيع يقتلونهم ويجلسون آخرين
بمكانهم. وهكذا كانت الدولة الساسانية تسير الى هاوية الهلاك. |
حروب
ايران والروم:
|
بعد وقوع عدد من الحروب بين ايران والروم عقد أنوشيروان صلحا مع
الروم اسموه بالصلح الدائم. وبعد مدة ساءت ظنون أنوشيروان بالروم فأعد العدة
وجهز الجيوش للهجوم على الروم واشتعلت نيران الحرب، وفي فترة قليلة نسبيا فتح
الفرس سورية وأحرقوا مدينة انطاكية ونهبوا آسيا الصغرى، واستمرت الحروب حتى
عشرين عاما وحتى فقد كل من المعسكرين امكاناتهم وطاقاتهم فيها، وبعد خسائر كثيرة
عقدوا الصلح بينهم مرة اخرى ورجعوا الى حدودهم السابقة كما كانت شريطة ان يدفع
الروم كل عام عشرين ألف دينار من الذهب الى ايران. وبعد أن تملك في الروم
" تي پاريوس " بدأ هجوما عنيفا على ايران بغية الانتقام منها، واستمرت
هذه الحروب سبع سنين. ومات عنها أنوشيروان وتملك بعده ابنه خسرو پرويز وفي عام
614 م بدأ پرويز هجوما عنيفا على الروم وفتح في الحملة الأولى الشام وفلسطين
وأفريقيا، ونهب اورشليم وأحرق كنيسة القيامة ومزار السيد المسيح وهدم المدن،
وانتهت هذه الحروب بقتل أكثر من تسعين ألف مسيحي ! وكان هذا بعد بعثة رسول الإسلام (صلى الله عليه وآله) فتفاءل
المشركون بغلبة الفرس عبدة النيران على الروم المسيحيين واغتم المسلمون لذلك،
وانتظر رسول الله (صلى الله عليه وآله) الوحي فنزلت الآيات الأوائل من سورة
الروم * (الم غلبت
الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن
بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء) * (الروم: 1 - 5.). وقد تحقق نبأ القرآن الكريم بشأن الروميين بعد عشر سنين أي في
سنة 627 م تقريبا فاستعاد هرقل مدينة نينوى (الموصل) ولم يمض شئ حتى قتل خسرو
پرويز على يد ابنه شيرويه، ومات شيرويه بعد ثمانية أشهر، وبعد شيرويه حكم ايران
في مدة أربع سنين اكثر من عشرة قادة أربعة منهم نساء وانتهى الأمر بهجوم العرب
المسلمين وقد ساعدت هذه الحروب التي استمرت أكثر من خمسين عاما على تقدم
الفتوحات الإسلامية مساعدة جادة مؤثرة، وذلك إذ تعلقت مشيئة الله بأن ينتشر نور
الإسلام. |
اضطراب
الوضع الديني:
|
وأهم اضطراب كان يسود ايران على عهد الساسانيين هو الاضطراب
الديني. إن " أردشير بابكان " مؤسس سلسلة الساسانيين كان ابن موبذ من
موابذة المجوس ووصل الى السلطة بمساعدة علماء المجوس، ولذلك قام بنشر دينهم في
أطراف مملكته بكل ما قدر عليه. فأصبح الدين الرسمي والعام لإيران على عهد
الساسانيين هي المجوسية، وبما أن سلطة الساسانيين إنما تحققت بتأييد موابذة
المجوس لذلك كانوا في رعاية تامة من قبل البلاط الساساني، وكانوا أقوى طبقة في
المجتمع الطبقي الإيراني، وكان الحكام الساسانيون في الواقع متعينين بتعيين من
الموابذة المجوس، فإذا تمرد أحد الحكام على العلماء الروحيين كانوا يقابلونه
بشدة، وكذلك كان الملوك الساسانيون يقبلون على طبقة رجال الدين أكثر من أية طبقة
اخرى، ولذلك كان الموابذة في اطراد وكثرة، وكان الساسانيون يفيدون منهم لتأييد سلطانهم،
ويقيمون لهم في أطراف ايران معابد النيران وفي كل منها عدد كثير منهم، حتى كتبوا
أن خسرو پرويز بنى معابد نيران كانت تسع لإثني عشر ألف " هيربد " من
العباد يصلون ويتلون الأناشيد الدينية (بالفارسية:
تاريخ تمدن ساسانى 1: 1.). وهكذا كانت المجوسية دين
البلاط الرسمي، وكان الموابذة المجوس يسعون لتهدئة الطبقات الكادحة والمحرومة من
المجتمع بحيث لا يحسون كثيرا بآلامهم. وهذه الصلاحيات اللامحدودة المخولة للموابذة المجوس وضغطهم الشديد
على عموم الناس أثر في ابعاد الناس عن المجوسية، فكان أكثر الناس يحاولون أن
يجدوا لانفسهم دينا غير دين طبقة الأشراف. ومن ناحية اخرى:
فان دين المجوس كان قد فقد حقيقته تماما، فقد بلغ تقديس النيران الى تحريم ضرب
الحديدة المحماة بالنار بالمطرقة لأنها بمجاورتها النار كانت قد تقدست بقداسة
النار المقدسة ! وهكذا شكلت الخرافات والأساطير أكثر اصول عقائد زرادشت، أما
حقائق دينه فقد تركت المجال لعدد من الشعائر الخاوية الميتة التي كان الموابذة
يضيفون كل يوم إليها خرافات جديدة. ومن ناحية ثالثة:
كانت الثقافة الرومانية والهندية قد وجدت طريقها الى ايران على عهد أنوشيروان،
وسبب اصطكاك العقائد الزرادشتية مع العقائد المسيحية والأديان الاخرى يقظة
الايرانيين وأصبحوا يتألمون مما في الدين الزرادشتي من الخرافات والمطاليب
الواهية، وسبب كل هذا اختلاف العقائد والآراء في ايران وشيوع الأديان والمذاهب
الاخرى، والشك والتردد في آخرين، حتى ترك أكثر الناس ما كانوا يعتقدون به قبل
ذلك، وشمل الإلحاد والاضطراب كل أنحاء ايران (بالفارسية:
تاريخ اجتماعي ايران 2: 20 فما بعد.). |
الحضارة
الرومية:
|
أما الروم فلم تكن بأحسن حالا من ايران، فالحروب الداخلية
والخارجية التي كانت تكابدها دائما ضد ايران على أراضي " أرمنستان "
وغيرها كانت قد أعجزت الناس وجعلتهم مستعدين لاستقبال أي تغيير للأوضاع الراهنة
آنذاك. إن رجال الكنيسة حينما اخذوا زمام الحكم بأيديهم في الروم جعلوا يمارسون
الضغط الشديد بالنسبة الى الوثنيين ولم تكن الفتنة تنطفئ بين الوثنيين
والمسيحيين فكانت الاختلافات الدينية أكثر من كل شئ في الروم، وكان ضغط رجال
الكنيسة قد أدى بكثير من الناس الى الحرمان والفقر، وكانت هذه الاختلافات تنخر
في كيان قدرة الامبراطورية الرومية. وعدا هذا فقد كان البيض في
شمال الروم في إصكاك وصدام مع الصفر في شرق الروم في سبيل الحصول على أكثر
النقاط صلاحا للزراعة والاستثمار، وكانت هذه الصدامات أحيانا تؤدي الى خسائر
فادحة عظيمة من الطرفين، وكان هذا
قد تسبب في انقسام الامبراطورية الرومية الى قسمين: شرقي وغربي. ويرى المؤرخون أن الأوضاع الاجتماعية والمالية
والسياسية الرومية في القرن السادس كانت في اضطراب شديد، ولا يرون في اقتدار
الروم على استعادة سلطتها على بعض النقاط المسلوبة منها دلالة على قدرة الروم،
بل يرون ذلك من فقدان النظام الحاكم في ايران لانضباطه وكيانه القوي. اذن: فالامبراطوريتان اللتان كانتا تدعيان السيادة السياسية على
العالم يومئذ كانتا حين طلوع فجر الإسلام تعيشان مرحلة الشيخوخة والهرم، ومن البديهي أن هذه الأوضاع المضطربة كانت قد أوجدت في الشعبين
استعدادا بل استقبالا لدين جديد ينظم أوضاعهم هذه من جديد منقذا لهم مما هم فيه
من الاضطراب والقلق. وإذ قرأنا هذا عن أوضاع هاتين الامبراطوريتين فلنقرأ عن
دويلتين عربيتين تابعتين لهما: |
ملوك
الحيرة من اليمن:
|
بعد قرنين من الميلاد وفي أوائل القرن الثالث، هبط بعض الطوائف
العربية من بني لخم اليمنيين في الأراضي المجاورة للفرات في العراق، على عهد
الفرس الساسانيين. وكان الفرس الساسانيون يحكمون العراق، ولكن القرى والمزارع العراقية الساسانية كانت تتعرض من حين لآخر
لغارات القبائل العربية البدوية من ناحية بادية الصحراء الحجازية، فكانوا بحاجة
الى عرب يملكونهم على ثغور العراق فيكفونهم غارات البدو، فملكوا هؤلاء اللخميين.
وبنى هؤلاء اللخميون في هذه المنطقة عددا من المدن أو القرى والقلاع أهمها
الحيرة قرب الكوفة على حافة بادية الصحراء الحجازية، ولفظ الحيرة تحرف عن حرتا
السريانية وتعني القبة والحرم، أو المعسكر والمخيم (العصر
الجاهلي، لشوقي ضيف: 44.) وساعد جو هذا البلد ومناخه وماؤه على عمرانه والحضارة فيه، ومن
مظاهر الحضارة فيه أنهم تعرفوا على الخط والكتابة به، ومنهم انتقل الى عرب
الحجاز (فتوح البلدان: 457 ط اورپا.). ومن تاريخهم المنقول نكتفي نحن هنا بما ذكره اليعقوبي والمسعودي
ونعلق عليه بما يلزم: نقل اليعقوبي عن أهل العلم بالرواية قالوا: لما تفرق أهل اليمن،
قدم مالك بن فهم بن غنم بن دوس، حتى نزل أرض العراق في أيام ملوك الطوائف (الفرس) فأصاب قوما من
العرب من معد وغيرهم بالجزيرة (الموصل) فملكوه عليهم عشرين سنة. وتكهن جذيمة الأبرش (التنوخي)، وعمل صنمين سماهما (الضيزنان) واستهوى بهما أحياء من العرب، وصار بهم الى العراق، فسار من ارض
البصرة الى ارض الجزيرة (الموصل) حتى صار الى ناحية على شط الفرات بالقرب من
الأنبار يقال لها: بقة. وكان يملك تلك الناحية امرأة يقال لها الزباء (محرفة كلمة: زنوبة ملكة تدمر النبطية التي كانت تحكم الأنباط بالشام
عن الرومان، وطغت فتمردت عليهم، فحاربوها حتى قضوا عليها عام (273 م) - العصر الجاهلي، لشوقي ضيف: 32.). فلما صار جذيمة الى أرض الأنبار، واجتمع له من أجناده ما اجتمع قال
لهم: اني عزمت على أن أرسل الى الزباء (زنوبة) فأتزوجها فأجمع ملكها الى ملكي ! فقال غلام له يقال له قصير: إن الزباء (زنوبة) لو كانت ممن تقبل
نكاح الرجال لسبقت إليها !. فكتب إليها. فكتبت إليه: أن أقبل الي أزوجك نفسي ! فارتحل إليها.
فلما دخل عليها.. قتلته فقطعته " وكان يعاصر اردشير بن بابك وشاهپور ابن
اردشير " (مروج الذهب 2: 65.).
فلما قتل جذيمة ملك مكانه ابن اخته: عمرو بن عدي (ومن هنا سموا:
بني عدي) بن نصر (ومن هنا سموا: بنى نصر) ابن ربيعة (فهم من بني ربيعة) ابن عمرو
بن الحارث بن مالك بن غنم بن نمارة بن لخم ومن هنا سموا: اللخميين، ولتكرار اسم
المنذر فيهم بعد هذا سموا بمناذرة العراق بازاء غساسنة الشام. قال المسعودي: وكان
على الحيرة ابن عم جذيمة: عمرو بن عبد الحي التنوخي، فلما صرف عمرو بن عدي وجوه
جندخاله جذيمة التنوخي الى نفسه ومناهم بالمال والحال، فانصرف إليه منهم بشر
كثير، التقى هو وعمرو ابن عبد الحي التنوخي بالقتال حتى خافوا الفناء، فخضع
التنوخي لابن عدي وتم الأمر له (مروج
الذهب 2: 71 فكان ملكه مائة سنة 2: (66 و 74)، وفي اليعقوبي 1: 209 خمسا وخمسين
سنة. بل نصبه شاهپور بن اردشير الساساني في (241 - 271 م) أي ثلاثين سنة فقط -
العصر الجاهلي لشوقي ضيف: 44.).
قال اليعقوبي: ثم
ملك امرؤ القيس بن عمرو (ملك (272
م)، وكأنه غزا لبنان فهلك
على شرقي جبل الدروز ودفن هناك سنة (328 م) كما في نقش النمارة على قبره في أطلال معهد روماني اكتشفه دوسو
وماكلر عام (1901 م) كما في العصر الجاهلي: 35، فقد ملك (58)، ويقاربه المسعودي
2: 74 ستين سنة، وفي اليعقوبي 1: 209 (35) سنة.). ثم ملك أخوه الحارث بن عمرو. ثم ملك عمرو بن امرئ
القيس. قال المسعودي: ثم
ملك النعمان بن امرئ القيس (مروج الذهب 2: 74.). قال اليعقوبي: ثم
ملك المنذر بن (النعمان بن) امرئ القيس. ثم ملك النعمان (ابن المنذر) وحكم ثماني
وثلاثين سنة، عاصر فيها من ملوك الفرس: يزدجر الأول (من 399 -
420 م. العصر الجاهلي لشوقي ضيف: 44.)
وبهرام گور. وكان من اشد ملوك العرب نكاية في أعدائه. غزا الشام مرارا وأكثر من
المصائب في أهلها وسبى وغنم. وجند الجند على نظام خاص عرف به، فكان عنده من
الجيش كتيبتان: احداهما مؤلفة من رجال الفرس اسمها " الشهباء "
والأخرى من عرب تنوخ اسمها " الدوسر " فكان يغزو بهما من لا يدين له
من العرب (للتفصيل انظر: العرب قبل الاسلام لجرجي زيدان.). تتبع
أخباره بالتفصيل جرجي زيدان في كتابه " العرب قبل الاسلام ". قال
اليعقوبي: وهو الذي بنى " الخورنق " (وكان سبب
بنائه الخورنق: ان يزدجرد بن بهرام شاه بن شاهپور ذي الأكتاف، ولد له ابنه
بهرام، فسأل عن منزل بري مري صحيح من الأدواء والأسقام فدل على ظهر الحيرة، فأمر
يزدجرد النعمان هذا ببناء مسكن له ولابنه بهرام، فامر النعمان رجلا يقال له
سنمار أن يبني له ذلك فبناه، فلما فرغ من بنائه تعجبوا من حسنه واتقان عمله
فوفوه أجره، فقال: لو علمت انكم تصفون بي ما انا اهله وتوفونني أجري لكنت بنيته
بناء يدور مع الشمس حيثما دارت ! فغضب النعمان وقال: كنت قادرا على ان تبني ما
هو افضل منه ولم تبنه كذلك ؟ ! ثم امر به فطرح من اعلى الجوسق من رأس الخورنق،
فجرى ذلك مثلا في العرب يقال: جزاه جزاء سنمار (الطبري 2: 65)، (الاغاني 2: 144
- 146 ط دار الكتب).. والجوسق معرب كلمة: كوشك، وهو الغرفة العالية الخاصة في
أعلى القصر. والخورنق كذلك معرب كلمة: خورنگاه أي المطعم.)
فبينما هو جالس ينظر منه الى مابين يديه من الفرات وما عليه من النخل والأجنة
والأشجار إذ ذكر الموت فقال: وما ينفع هذا مع نزول الموت وفراق الدنيا ؟ ! فتنسك
واعتزل الملك. واياه عنى عدي بن زيد العبادي حيث يقول: وتفكر رب الخورنق إذ أش * - رف يوما وللهدى تفكير سره حاله وكثرة ما يم * - سك، والبحر معرض والسدير فارعوى قلبه وقال: وما غب * - طة حي الى الممات يصير (اليعقوبي
1: 209، 210 ط بيروت.) قال المسعودي: وملك
(بعده ابنه) الأسود بن النعمان. وملك (بعده ابنه) المنذر بن الأسود (مروج
الذهب 2: 74 وفي اليعقوبي 1: 210: المنذر بن النعمان. من (515 م) معاصرا لقباد
الساساني وفي عهده كان الحارث الغساني قد أقام دولته في الشام للروم، فاشتبك
المنذر معه في حروب طاحنة أسر فيها ابنا للحارث فقتله سنة (544 م) وهو صاحب يوم
حليمة المعروف بالقرب من قنسرين وفيها قتل (554 م)، فملك أربعين عاما تقريبا،
وقال المسعودي: (34)، واليعقوبي: (30).). ثم
ملك بعده عمرو بن المنذر (مروج الذهب 2: 74. من (554 - 569 م) وساءت العلاقة بينه وبين قباد
الساساني في أوائل ملكه (قبل 559 م) فعزله قباد وولى مكانه الحارث بن عمرو أمير
كندة، ثم توفى قباد (نحو 559 م) وتملك خسرو أنوشيروان فأعاد المنذر الى حكم
الحيرة فحارب الحارث فهزمه وقتله. ولقب محرق العرب لأنه حرق قوما من العرب من
بني تميم في يوم أوارة باليمامة وفاء بنذره - العصر الجاهلي، لشوقي ضيف: 45.
وحيث عاد الى الحكم توهم اليعقوبي التعدد فقال: ثم ملك عمرو بن المنذر الثاني 1:
210 ط بيروت.) قال اليعقوبي: وهو
ابن هند، وكان يلقب بمضرط الحجارة (لشدته على العرب). وكان قد جعل الدهر يومين:
يوما يصيد فيه ويوما يشرب، فإذا جلس لشربه أخذ الناس بالوقوف على بابه حتى يرتفع
مجلس شرابه.. فلم يزل طرفة بن العبد يهجوه ويهجو أخاه قابوسا ويذكرهما بالقبيح
ويشبب باخت عمرو ويذكرها بالعظيم.. ويساعده على هجائه المتلمس. فقال لهما عمرو:
قد طال ثواكما، ولا مال قبلي، ولكن قد كتبت لكما الى عاملي بالبحرين يدفع لكل
واحد منكما مائة ألف درهم ! فأخذ كل واحد منهما صحيفة. واستراب المتلمس بأمره،
فلما صارا عند نهر الحيرة لقيا غلاما عباديا (أي نصرانيا، أهل عبادة، وقراءة في الكتب.) فقال له المتلمس: أتحسن أن تقرأ ؟ قال: نعم. قال: اقرأ هذه الصحيفة: فإذا فيها: إذا أتاك المتلمس
فاقطع يديه ورجليه. فطرح الصحيفة وقال لطرفة: في صحيفتك مثل هذا ! قال: لا يجترئ
على قومي بهذا وأنا بذلك البلد أعز منه ! ومضى الى عامل البحرين بصحيفته دون أن
يقرأها. فلما قرأ العامل صحيفته قطع يديه ورجليه وصلبه !. ثم ملك أخوه قابوس بن المنذر (اليعقوبي 1: 211 وهو الذي اشتبك مع المنذر بن الحارث التنوخي الغساني
في معارك أهمها معركة عين أباغ سنة (570 م) هزم فيها من المنذر الغساني - العصر
الجاهلي، لشوقي ضيف: 41.). قال المسعودي: وملك
النعمان بن المنذر (الرابع) وهو الذي يقال له: أبيت اللعن، اثنتين وعشرين سنة (مروج
الذهب 2: 75، من (580 - 602) العصر الجاهلي لشوقي ضيف: 46.)
ولتكرار اسم المنذر فيهم سموا: المناذرة. قال اليعقوبي: وكان
مع المنذر أهل بيت من امرئ القيس بن زيد، وكان من أهل ذلك البيت عدي بن زيد
العبادي (النصراني) وكان خطيبا شاعرا قد كتب العربية والفارسية، وكان المنذر قد
جعل عندهم ابنه النعمان فأرضعوه وكان في حجورهم. وكتب كسرى الى المنذر بأن يبعث له بقوم من العرب يترجمون له الكتب. فبعث بعدي بن زيد
وأخوين له، فكانوا في كتابه يترجمون له. فلما مات المنذر قال كسرى لعدي بن زيد:
هل بقي من أهل هذا البيت من يصلح للملك ؟ قال: نعم، ان للمنذر ثلاثة
عشر ولدا كلهم يصلح لما يريد الملك ! فبعث فأقدمهم ومعهم النعمان الذي رباه أهل بيت عدي بن زيد. فأنزلهم
عدي بن زيد كل واحد على حدته، وكان يفضل اخوة النعمان عليه في النزل ويريهم أنه
لا يرجوه، ويخلو بهم رجلا رجلا ويقول لهم: ان سألكم الملك: هل تكفوني العرب ؟
فقولوا له: لن نكفيكهم ! الا النعمان فقد قال له: ان سألك الملك عن اخوتك فقل:
ان عجزت عنهم فأنا عن العرب اعجز ! فلما امر كسرى عدي بن زيد أن يدخلهم عليه، جعل يدخلهم رجلا رجلا،
فإذا سألهم: هل تكفوني ما كنتم تكفون ؟ قالوا: لن نكفيك العرب ! الا النعمان
فانه لما دخل عليه قال له: هل تستطيع أن تكفيني العرب ؟ قال: نعم ! قال: فكيف
تصنع باخوتك ؟ قال: ان عجزت عنهم فأنا عن غيرهم أعجز !. فملكه وكساه وألبسه
اللؤلؤ ! فخرج وقد ملك عليهم. وكان الأسود بن المنذر يحضنه أهل بيت أشراف من الحيرة يقال لهم
بنومرينا، وكان منهم رجل شاعر مارد يقال له عدي بن أوس بن مرينا، لما رأى ذلك
أمر قوما من خاصة النعمان وأصحابه أن يذكروا عدي بن زيد عنده ويقولوا: انه يزعم
أن الملك (النعمان بن المنذر) عامله وأنه هو ولاه ولولاه ماولي، وكلاما نحو هذا
! فلم يزالوا يتكلمون بذلك بحضرة النعمان حتى أحفظوه وأغضبوه على عدي
بن زيد. فكتب النعمان إليه: عزمت عليك الازرتني ! فاستأذن كسرى، وقدم عليه، فأمر
النعمان بحبسه في حبس لا يصل إليه فيه أحد !. فجعل عدي يقول الشعر في محبسه ويستعطف النعمان ويذكر له حرمته
ويعظه بذكر الملوك المتقدمين، فلم ينفعه ذلك. وجعل أعداؤه من آل مرينا يحملون
عليه النعمان ويقولون له: إن أفلت قتلك وكان سبب هلاكك !. وكان لعدي عند كسرى أخوان يقال لأحدهما، ابي، والآخر: سمي، وابنه عمرو
بن عدي، فكتب إليهم شعرا.. فقام أخوه وابنه ومن معهما الى كسرى فكلماه في أمره.
فكتب كسرى الى النعمان يأمره بتخلية سبيله، ووجه في ذلك رسولا... وابتدأ الرسول
به... فبلغ النعمان مصير رسول كسرى الى عدي، فلما خرج من عنده وجه إليه النعمان
من قتله: وضع على وجهه وسادة حتى مات: ثم قال للرسول: إن عديا قد مات. وأعطاه
وأجازه وتوثق منه أن لا يخبر كسرى الا أنه وجده ميتا ! وكتب الى كسرى: أنه قد
مات !. انتقام ابن عدي لأبيه: وقال: وكان عمرو بن عدي يعمل لكسرى عمل أبيه في ترجمة الكتب...
وطلب كسرى يوما جارية وصف صفتها فلم توجد له، فقال له عمرو بن عدي: أيها الملك !
عند عبدك النعمان بنات له وقرابات على اكثر مما يطلب الملك، ولكنه يرغب بنفسه عن
الملك ويزعم أنه خير منه !. فوجه كسرى الى النعمان يأمره أن يبعث إليه ابنته ليتزوجها ! فقال
النعمان: أما في عين السواد وفارس ما يبلغ الملك حاجته ؟ ! فلما انصرف الرسول
أخبر كسرى بقول النعمان. فقال كسرى: وما يعني بالعين ؟ فقال عمرو بن عدي: أراد البقر ! ذهابا بابنته عن الملك ! فغضب الملك وقال: رب عبد قد صار الى اكبر من هذا ثم صار أمره الى
تباب ! وأمسك عنه شهرا، ثم كتب إليه بالقدوم عليه. وبلغت النعمان كلمته فعلم ما أراد، فحمل سلاحه وما قوى عليه ولحق
بجبلي طئ، وهو مصاهرهم على سعدى بنت حارثة منهم، فسأل طيئا أن يمنعوه من كسرى
فقالوا: لا قوة لنا به ! فانصرف عنهم. وجعلت العرب تمتنع من
قبوله. حتى نزل في بطن ذي قار في بني شيبان، فلقي هانئ بن مسعود الشيباني، فدفع
إليه سلاحه وأودعه بنته وحرمته ومضى الى كسرى فنزل ببابه، فأمر به فقيد، ثم وجه
به الى " خانقين " وطرح تحت الفيلة فداسته حتى قتلته فقرب للاسود
فاكلته !. ووجه كسرى الى هانئ بن مسعود: أن ابعث الي مال عبدي الذي عندك وسلاحه
وبناته ! (اليعقوبي 1: 212 - 215. ونقل الطبري 2: 206 عن أبي عبيدة معمر بن
المثنى عن بعضهم: أن هانئ بن مسعود لم يدرك هذا الأمر، وانما هو هانئ بن قبيصة
بن هانئ بن مسعود. وهو الثبت عندي. وكذلك ذكره المسعودي في التنبيه والإشراف:
207.) قال: وكان النعمان أودعه
ابنته وأربعة آلاف درع. فأبى هانئ وقومه أن يفعلوا، فوجه كسرى بالجيوش من العرب
والعجم، فالتقوا بذي قار، فأتاهم حنظلة بن ثعلبة العجلي فقلدوه أمرهم قالوا
لهانئ: ذمتك ذمتنا ولا نخفر ذمتنا ! فحاربوا الفرس، فهزموهم ومن معهم من العرب،
فكان أول يوم انتصرت فيه العرب من العجم (اليعقوبي
1: 215.). فيروى عن رسول الله أنه قال: هذا أول يوم انتصفت فيه العرب من العجم، وبي نصروا (اليعقوبي
1: 212 والمسعودي في التنبيه والاشراف: 208 قال: قيل: إن ذلك كان قبل الهجرة،
وان اناسا من بكر بن وائل من البحرين واليمامة جاؤوا الموسم، كانوا يريدون المضي الى بكر بن وائل مع بني شيبان بالعراق لنجدتهم، فوقف
عليهم النبي (صلى الله عليه وآله) يعرض نفسه عليهم، ودعاهم الى الايمان بالله..
فوعدوا النبي (صلى الله عليه وآله) ان نصرهم الله على الأعاجم آمنوا به وصدقوا
بنبوته ! فدعا لهم النبي بالنصر. فلما بلغه ظهورهم على الأعاجم قال: هذا أول يوم
انتصفت فيه العرب من العجم، وبي نصروا. وقال
في مروج الذهب 1: 307: وكان حرب ذي قار في ملك خسرو
پرويز، وهو اليوم الذي قال فيه النبي (صلى الله عليه وآله): هذا أول يوم انتصفت
فيه العرب من العجم، ونصرت عليهم بي. وكانت بعد بعثته لتمام أربعين سنة من
مولده، وفي رواية اخرى: بعد وقعة بدر بأربعة أشهر. وروى
القصة بالتفصيل الطبري 2: 193 - 212 عن محمد بن هشام الكلبي عن كتاب حماد
الراوية الكوفي، ولكنه روى عن الكلبي قال: اني كنت
استخرج أخبار العرب وأنساب آل نصر بين ربيعة ومبالغ أعمار من عمل منهم لآل كسرى
وتاريخ سنيهم، من بيع الحيرة. وعزز ذلك الطبري فقال: وكان أمر آل نصر بن ربيعة
ومن كان من ولاة ملوك الفرس وعمالهم على ثغر العرب الذين هم ببادية العراق،
متعالما (معلوما) عند أهل الحيرة مثبتا عندهم في أسفارهم وكنائسهم - الطبري 1:
628. وعلى صحة الحديث النبوي لعل العلة فيه هو أن بنات النعمان كن نصارى
مترهبات، وكان خسرو پرويز كافرا مجوسيا زرادشتيا لا تحل له النصرانية. ويدل
على ذلك خبران رواهما المسعودي في مروج الذهب قال: كانت
حرقة بنت النعمان بن المنذر إذا خرجت الى بيعتها يفرش لها طريقها بالحرير
والديباج، مغشى بالخز والوشي، فتقبل في جواريها حتى تصل الى بيعتها وترجع الى
منزلها. ولما وفد سعد بن أبي وقاص القادسية أميرا عليها قتل رستم وهزم الله
الفرس، أتت حرقة بنت النعمان في حفدة من قومها وجواريها وهن في زيها عليهن
المسوح والمقطعات السود، مترهبات، يطلبن صلته - 2: 79. وقال: وكانت هند بنت النعمان بن المنذر مترهبة في دير لها بالحيرة،
فركب المغيرة بن شعبة إليها وهو أمير الكوفة يومئذ. وهند قد عميت، فلما جاء
المغيرة الى الدير استأذن عليها، فاتتها جاريتها فقالت لها: هذا المغيرة بن شعبة
يستأذن عليك ؟ فقالت هند لجاريتها: القي إليه أثاثا، فألقت له وسادة من شعر،
ودخل المغيرة فقعد عليها وقال: أنا المغيرة: فقالت له: قد عرفتك عامل المدرة
(الكوفة) فما جاء بك ؟ قال: أتيتك خاطبا اليك نفسك ! فقالت: أما والصليب لو
أردتني لدين أو جمال ما رجعت الا بحاجتك، ولكني اخبرك الذي أردت له ! قال: وما
هو ؟ قالت: أردت أن تتزوجني حتى تقوم في الموسم في العرب فتقول: تزوجت ابنة
النعمان ! قال: ذلك أردت ! - مروج الذهب 3: 25 ط بيروت. وعليه
فهن نصارى مترهبات لا يحلن لكافر مجوسي زرادشتي. وعلى
أي حال فالعباديون النصارى وهم أخلاط من العرب وغيرهم، والأحلاف من الأنباط من
بقايا سكان العراق من الآراميين والأكديين كانوا يجاورون الاكثرية العرب في
الحيرة، وكانت فيهم جالية فارسية تمتهن الحرف والمهن، وفيهم بعض اليهود، فكانت
الحيرة سوقا تجارية وزراعية كبرى، ومتأثرة بالثقافة الفارسية العامة في المنطقة
- العصر الجاهلي: 47.) |
سائر
ملوك الحيرة ومصيرها:
|
قال المسعودي:
" ثم ملك الحيرة جماعة من الفرس، حتى بلغ عدد الملوك بالحيرة ثلاثة وعشرين
ملكا من بني نصر وغيرهم من العرب والفرس، وكان مدة ملكهم ستمائة واثنتين وعشرين
سنة وثمانية أشهر. وبدأ عمران الحيرة من أوائل المائة الثانية من هؤلاء الملوك
فكان عمرانها من بدوه الى أن بنيت الكوفة فتناقص عمرانها: خمسمائة وبضعا وثلاثين
سنة (وروي في الطبري عن الكلبي: ان الحيرة بنيت مع الأنبار على عهد بختنصر
(نبوخذنصر) فلما هلك بختنصر تحول أهلها الى الأنبار فخربت الحيرة، الى أن عمرت
الحيرة مرة أخرى باتخاذ عمرو بن عدي اللخمي اياها منزلا لنفسه، فعمرت الحيرة
خمسمائة وبضعا وثلاثين سنة الى أن وضعت الكوفة ونزلها الاسلام (الطبري 2: 43))، ثم لم يزل عمرانها يتناقص
الى أيام المعتضد حيث استولى عليها الخراب. وكان جماعة من خلفاء بني العباس
كالسفاح والمنصور والرشيد وغيرهم ينزلونها ويطيلون المقام بها، لطيب هوائها
وصفاء جوهرها وصحة تربتها وصلابتها، وقرب الخورنق والنجف منها. وقد كان فيها
أديرة كثيرة فيها كثير من الرهبان، فلما تداعى الخراب إليها لحقوا بغيرها. قال المسعودي
" وهي في هذا الوقت ليس بها إلا الصدى والبوم " (مروج
الذهب 2: 81 ط 2.). |
غساسنة
الشام:
|
وفي القرن الخامس الميلادي هاجرت جماعات من أطراف الجزيرة الى جهة
شمالها الغربي بجوار حدود المملكة الرومية فأسسوا دولة الغساسنة التي كانت تحت
حماية الامراء الروميين تبعا للقسطنطينية، كما كان حكام الحيرة عمالا لملوك الفرس.
وتحضرت دولة الغساسنة نوعا ما، فهي كانت تجاور " دمشق " من ناحية
ومدينة " بصرى " التأريخية من ناحية اخرى، فهي كانت تحت تأثير الحضارة
الرومية. وبما أن الغساسنة كانوا في خلاف مع مناذرة الحيرة اللخميين ومن ورائهم
الفرس، لذلك كانوا يوالون الرومانيين. وقد بلغ عدد امرائهم بضعة عشر رجلا، واليك
تفصيل خبرهم: |
ملوك
الشام من اليمن:
|
قال المسعودي:
" وتفرقت قبائل العرب لما كان بمأرب فسارت غسان الى الشام (هذا، وقد
سبق آنفا أن هجرتهم كانت في القرن الخامس الميلادي، أي بعد سيل العرم بعديد من
القرون، فالتاريخ الأثري اي المستند على المكتشف من آثارهم لا يدل على أسبق من
ذلك.)، وهم من ولد مازن بن الأزد، وانما غسان ماء لم يزل عمرو بن عامر
حين خرج من مأرب مقيما على هذا الماء، وهو مابين زبيد ورمع وادي الأشعريين بأرض
اليمن. وكانت قضاعة بن مالك بن
حمير بن سبأ أول من نزل الشام من عرب اليمن، واتصلوا بملوك الروم ودخلوا في
النصرانية، فملكوهم على من بالشام من العرب. وأول من ملك منهم النعمان بن عمرو
بن مالك، ثم ملك بعده عمرو بن النعمان بن عمرو، ثم ملك بعده الحواري بن النعمان.
ثم وردت سليح من قضاعة أيضا الشام فغلبت على تنوخ من قضاعة وتنصرت فملكها الروم
على العرب الذين بالشام، وهم ولد سليح بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة
أيضا. فلما سارت غسان الى الشام غلبت على من بالشام من العرب فملكها
الروم على العرب، فكان أول ملك من ملوك غسان بالشام: الحارث بن عمرو بن عامر بن
حارثة، ثم ملك بعده الحارث بن ثعلبة بن جفنة بن عمرو بن عامر بن حارثة، وملك
بعده النعمان بن الحارث بن جبلة بن الحارث بن ثعلبة، ثم ملك بعده المنذر بن
الحارث بن جبلة بن ثعلبة بن جفنة بن عمرو، ثم ملك بعده عوف بن المنذر، ثم ملك
بعده الحارث بن المنذر، وكان هذا على عهد بعثة رسول الله (صلى الله عليه وآله)
ودعاه النبي (صلى الله عليه وآله) الى الإسلام ورغبه فيه ولم يسلم، وملك بعده
جبلة بن الأيهم بن جبلة بن الحارث، وهو الذي أسلم وارتد عن دينه خوف العار
والقود. فجميع من ملك من ملوك غسان بالشام أحد عشر ملكا، وكانت ديار ملوك غسان
باليرموك والجولان وغيرهما من غوطة دمشق واعمالها، ومنهم من نزل الأردن من أرض
الشام (مروج الذهب 2: 83 - 86 ط بيروت.). وقال اليعقوبي:
" كانت قضاعة أول من قدم الشام من العرب، فصارت الى ملوك الروم ودخلوا في
النصرانية فملكوهم فكان أولهم: تنوخ ابن مالك بن فهم بن تيم الله بن الأسد بن
وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة. ثم ورد بنو سليح بن حلوان
بن عمران بن الحاف بن قضاعة الى الشام فغلبوا على تنوخ من بني قضاعة، ودخلوا في
ذمة الروم وتنصروا وأقاموا على ذلك. فلما تفرقت الأزد بسيل العرم وصار من صار
منهم الى تهامة، ومن صار الى يثرب، ومن صار الى عمان، صارت غسان الى الشام
فقدموا أرض البلقاء " (اليعقوبي 1: 206 ط بيروت.). وقال اليعقوبي:
" فسأل بنو غسان بني سليح أن يدخلوا معهم فيما دخلوا فيه من طاعة ملك
الروم، وأن يقيموا في بلادهم لهم مالهم وعليهم ما عليهم. فكتب رئيس سليح وهو
يومئذ " دهمان بن العملق " الى ملك الروم، وهو يومئذ " نوشر
" وكان منزله بانطاكية، فأجابهم الى ذلك بشروط (منها دفع أتاوة يقبضها ملك
الروم) فأقاموا بذلك أزمانا حتى وقعت بين رجل من غسان يقال له " جذع "
ورجل من أصحاب ملك الروم مشاجرة على الأتاوة حتى ضرب الغساني الرومي بسيفه
فقتله. فحمل عليهم صاحب الروم من قبل ملك الروم بجماعة من العرب من قضاعة،
فأقاموا مليا يحاربونه ببصرى من أرض دمشق، ثم صاروا الى " المخفق "
فلما رأى ملك الروم صبرهم على الحرب ومقاومتهم جيوشه كره ان تكون ثلمة عليهم،
وطلب القوم الصلح على ان لا يكون عليهم ملك من غيرهم، فأجابهم ملك الروم الى
ذلك، وكان رئيس غسان يومئذ " جفنة بن علية بن عمرو بن عامر "، فملك
عليهم، وتنصرت غسان، واستقام الذي بينهم وبين الروم وصارت امورهم واحدة، فأقاموا
بالشام مملكة من قبل صاحب الروم. وكان أول ملك جل قدره وعلا ذكره من غسان بعد جفنة بن علية: الحارث
بن مالك بن الحارث بن غضب بن جشم بن الخزرج بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر
بن ثعلبة بن حارثة. وملك بعده: الحارث الأكبر ابن كعب بن علية بن عمرو بن عامر.
ثم ملك أخوه الحارث الأعرج بن كعب فنزل الجولان. ثم ملك أخوه الحارث الأصغر، ثم
ملك. جبلة بن المنذر. ثم ملك الحارث بن جبلة. ثم ملك الأيهم بن جبلة. ثم جبلة بن
الأيهم " (اليعقوبي 1: 206، 207 ط بيروت.). والحارث بن جبلة
منهم هو الذي وقعت بينه وبين المنذر بن امرئ القيس اللخمي المعركة الهائلة في
" قنسرين " فكان من جرائها قتل المنذر ودخول " قنسرين " في
حوزة الحارث بن جبلة، فأعجب الروم بشجاعته وهابوا سطوته فبالغوا في ترقيته
وتقريبه والخلع عليه، ومنحه الامبراطور جوستينان سنة 529 م لقب (البطريرك). وغزا
الفرس بلادهم سنة 614 م فاستولوا على اورشليم ودمشق الشام فانحط أمرهم (سيرة
المصطفى: 17.). وذكر المسعودي من أواخر ملوك غسان: الحارث بن المنذر وقال: وكان هذا على عهد بعثة رسول الله، ودعاه
النبي (صلى الله عليه وسلم) الى الإسلام ورغبه فيه فلم يسلم. وملك بعده جبلة بن
الأيهم بن جبلة، وهو الذي أسلم وارتد عن الإسلام خوف القود والعار (مروج
الذهب 2: 84، 85 ط بيروت.) وذلك أن رجلا فزاريا وطأ ازاره، وكان الخليفة الثاني قد أحسن
وفادته ورفع من شأنه ووضعه في مرتبة المهاجرين الأولين، فلطم الفزاري على رأسه،
فشكاه الفزاري الى الخليفة فلما أحس بان الخليفة سيقتص منه للفزاري فر الى
القسطنطينية. وروى اليعقوبي في حوادث
السنة الثالثة عشرة في بداية خلافة الخليفة الثاني: " أن جبلة بن الأيهم الغساني كان في ثلاثين الفا من قومه مع
الروم في وقعة اليرموك، فلما انهزم الروم في اليرموك رجعوا الى مواضعهم، فأرسل
إليه يزيد بن أبي سفيان: أن اقطع على أرضك بالخراج والجزية، فأبى وقال: أنا رجل
من العرب، وانما يؤدي الجزية العلوج ! (اليعقوبي
1: 142 ط بيروت.) وأتى جبلة الى الخليفة فقال له: خذ مني الصدقة - يعني الزكاة -
كما تصنع بالعرب ؟ قال: بل الجزية - إذ لم تسلم - والا فالحق بمن هو على دينك،
يريد الروم. فخرج جبلة في ثلاثين الفا من قومه وهم نصارى حتى لحق بأرض الروم.
فندم عمر على ماكان منه في أمر جبلة وقومه " (اليعقوبي
1: 137 ط النجف.). |
ولد
اسماعيل بن ابراهيم (عليه السلام):
|
بدأ اليعقوبي في أواخر الجزء الأول من تاريخه فصلا بهذا العنوان وقال
في بدايته " وانما
أخرنا خبر اسماعيل وولده وختمنا بهم أخبار الامم، لأن الله - عزوجل - ختم بهم
النبوة والملك، واتصل خبرهم بخبر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) " (اليعقوبي
1: 221 ط بيروت.) وكذلك فعلنا نحن: وقد سبق نقل مقال المسعودي إذ قال: الواضح من
أنساب اليمن وما تدين به كهلان وحمير أبناء قحطان إلى هذا الوقت قولا وعملا،
وينقله الباقي عن الماضي والصغير عن الكبير، والذي وجدت عليه التواريخ القديمة
للعرب وغيرها من الامم، وعليه وجدت الأكثر من شيوخ ولد قحطان من حمير وكهلان
بأرض اليمن والتهائم والأنجاد، وبلاد حضرموت والشحر والأحقاف، وبلاد عمان وغيرها
من الأمصار: أن الصحيح في نسب قحطان: أنه قحطان بن عابر بن شالخ بن قينان بن
أرفخشد بن سام بن نوح، وقد كان لعابر ثلاثة أولاد: فالغ وقحطان وملكان وولد
لقحطان أحد وثلاثون ذكرا منهم يعرب بن قحطان، وكان قحطان سرياني اللسان، وقد ثبت
ان قحطان هو يقطن بالسريانية وانما عرب فقيل: قحطان وزعم الهيثم بن عدي: ان جرهم
بن عابر بن سبأ بن يقطن، هو قحطان (مروج
الذهب 2: 45 ونؤكد هنا ما قدمناه في عنوان: مبدأ العرب، ص: 107.). وتكلم يعرب وجرهم وعاد وثمود وعملاق ووبار وعبيل وجديس وعبد ضخم
بالعربية فسار يعرب بن قحطان من بابل حتى حل باليمن (مروج الذهب
2: 110.). وسار عبد ضخم بن ارم بن نوح بولده ومن تبعه فنزلوا " الطائف
" وسار جرهم بن قحطان بولده ومن تبعه وطافوا البلاد حتى أتوا " مكة
" فنزلوها (مروج الذهب 2: 121 و 122.). وقال عند ذكره أخبار مكة وبناء البيت ومن تداوله من جرهم وغيرها:
ان جرهم بادروا نحو مكة وعليهم الحارث بن مضاض بن عمرو ابن سعد بن الرقيب بن
ظالم بن هيني بن نبت بن جرهم، حتى أتوا الوادي ونزلوا مكة واستوطنوها مع
اسماعيل. وقال قبل هذا: ان
بني كركر وعليهم السميدع بن هوبر بن لاوي بن قيطور بن كركر بن حيدان، عدمت الماء
والمرعى واشتد بها الجهد، فيممت نحو تهامة يطلبون الماء والمرعى والدار الخصبة،
فأشرف روادهم وهم المتقدمون منهم لطلب الماء على الوادي فنظروا الطير ترتفع
وتنخفض، فهبطوا الوادي ونظروا الى العريش على الربوة الحمراء الذي اتخذته هاجر
ليكون مسكنا لها وفيه هاجر واسماعيل، وقد زمت حول الماء بالأحجار ومنعته من
الجريان فسلم الرواد عليها واستأذنوها في نزولهم وشربهم من الماء، فأنست إليهم
وأذنت لهم في النزول. فتلقوا من وراءهم من أهليهم وأخبروهم خبر الماء، فنزلوا
الوادي مطمئنين مستبشرين بالماء، وبما أضاء الوادي من نور النبوة وموضع البيت
الحرام فرحين، وتكلم اسماعيل بالعربية خلاف لغة أبيه. فقيل في بني كركر هؤلاء: انهم من جرهم، وقيل انهم من العماليق، وان جرهم تسامعت ببني كركر
ونزولهم الوادي وما فيه من الخصب وإدرار الضرع فبادروا نحو مكة (لا يخفى
ان هذا خلاف ما مر من خبر القمي في تفسيره عن الصادق (عليه السلام)، وأن جرهم
كانت نازلة بعرفات، وأنها أول من التقى بهاجر وسكن معها حول زمزم.)
واستوطنوها مع اسماعيل، وتزوج اسماعيل: سامة بنت مهلهل بن سعد بن عوف بن هيني بن
نبت بن جرهم. وعاش اسماعيل مائة وسبعا وثلاثين سنة، وولد له اثنا عشر ولدا ذكرا
وهم: نابت، وقيدار، وأدبيل، وميشام، ومشمع، ودوما، ودوام، ومشا، وحداد، وثيما،
ويطور، ونافش، وكل هؤلاء قد انسل. وقبض اسماعيل وله مائة وسبع وثلاثون سنة، فدفن في المسجد الحرام
حيال الموضع الذي فيه الحجر الأسود (كذا في
مروج الذهب 2: 19 - 21 وسيأتي الصحيح عن اليعقوبي انه دفن في الحجر، ولذلك سمي
حجر اسماعيل، لاحيال الحجر الأسود. ولعل الأسود زيادة تحريف من النساخ.). وقال اليعقوبي:
ان ولد جرهم بن عامر لما صار أخوتهم من بني قحطان بن عامر (كذا، وقد
مر تأكيد المسعودي في نسب قحطان: أنه قحطان بن عابر، وأن جرهم هو ابن قحطان. وفي
موضع آخر ان جرهم هو الجد الثامن للحارث بن مضاض الجرهمي الذي نزل ببني جرهم
بمكة. وهو الصحيح الذي يدل عليه ما مر من خبر علي بن ابراهيم القمي عن الصادق
(عليه السلام)، في تفسيره: 1: 61.) الى
اليمن فملكوا، صاروا هم الى أرض تهامة فجاوروا اسماعيل بن ابراهيم. فتزوج اسماعيل:
الحنفاء بنت الحارث بن مضاض الجرهمي، فولدت له اثني عشر ذكرا " ثم ذكر
أسماءهم فقال " وهذه الأسماء تختلف في الهجاء واللغة لأنها مترجمة من
العبرانية " ثم قال: فلما كملت لإسماعيل مائة وثلاثون سنة توفي فدفن في
الحجر. فلما توفي اسماعيل ولي البيت بعده نابت بن اسماعيل. ثم افترق ولد اسماعيل فمنهم من افترق في البلاد
يطلبون السعة وهم الكبار منهم، وكان من بقي منهم في الحرم من ولد اسماعيل صغارا
فولي البيت المضاض بن عمرو الجرهمي جد ولد اسماعيل. ولم يكن أحد يقوم بأمر
الكعبة في ايام جرهم غير ولد اسماعيل وكانت جرهم في ايامها تطيعهم، تعظيما منهم
لهم ومعرفة بقدرهم، غير ان ولد اسماعيل كانوا يسلمون ملك مكة لجرهم للخؤولة. فقام بأمر الكعبة بعد نابت أمين ثم يشجب بن أمين ثم الهميسع ثم ادد
ثم عدنان بن ادد ثم معد بن عدنان، ثم نزار بن معد، ثم إياد (اليعقوبي
1: 221 - 226 ط بيروت.) ثم خرجت ولاية البيت من أيديهم الى خزاعة (اليعقوبي
1: 238، ومروج الذهب 2: 29.)، وسنذكر خبره فيما يأتي. هذا ماقاله اليعقوبي بشأن الجمع بين
ولاية البيت وملك مكة. وقال المسعودي: لما قبض اسماعيل قام بالبيت بعده نابت بن
اسماعيل، ثم غلبت جرهم على ولد اسماعيل من بعد نابت فقام بأمر البيت بعده اناس
من جرهم: أولهم الحارث بن
مضاض. وكان ينزل هناك في
الموضع المعروف بقعيقعان في أعلى مكة وكان كل من دخل مكة بتجارة عشرها عليه. وكان السميدع بن هوبر بن
لاوي بن قبطور بن كركر بن حيدان ينزل ببني كركر في أجياد من أسفل مكة، فأخذ يعشر
من دخل مكة من ناحيته، فنازع الحارث بن مضاض سلطانه. فخرج الحارث بن مضاض ملك
جرهم تتقعقع معه الرماح والدرق، فسمي الموضع بقعيقعان لما ذكرنا، وخرج السميدع
ملك العماليق ومعه الجياد من الخيل، فعرف الموضع بأجياد الى هذا الوقت. فكانت
للعماليق وهم على جياد الخيل على جرهم، فسمي الموضع فاضحا الى هذا الوقت لفضيحة
جرهم. وصارت ولاية البيت وملك مكة الى العماليق. ثم اصطلحوا ونحروا الجزر
وطبخوا فسمي الموضع ب - (المطابخ) الى الآن (ورواه
ابن هشام في سيرته عن ابن اسحاق: 1: 117.). ثم
كانت بينهم وقعة اخرى كانت لجرهم على العماليق، وأقاموا ولاة البيت نحو ثلاثمائة
سنة، آخر ملوكهم الحارث بن مضاض الأصغر بن عمرو ابن الحارث بن مضاض الأكبر،
وزادوا في بناء البيت ورفعوه على ماكان عليه من بناء ابراهيم (عليه السلام) (مروج
الذهب 2: 22 - 23 ط بيروت.).
وقال اليعقوبي:
ان السميدع كان ملك العمالقة نازع المضاض سلطانه فلما ظهر عليه المضاض مضى
السميدع والعمالقة الى الشام فكان هناك ملك العمالقة بالشام واستقام الأمر لمضاض
حتى توفي. ثم ملك بعده الحارث بن مضاض، ثم ملك عمرو بن الحارث بن مضاض، ثم ملك
المعتسم بن الظليم، ثم ملك الحواس بن جحش بن مضاض، ثم ملك عداد بن صداد ابن
الجندل بن مضاض، ثم ملك فينحاص بن عداد بن صداد، ثم ملك الحارث بن مضاض بن عمرو.
وكان هذا آخر من ملك من جرهم. وطغت جرهم وبغت وفسقت في الحرم، فسلط الله عليهم
الذر فاهلكوا به عن آخرهم وذلك في عصر ادد بن الهميسع بن أمين من ذرية اسماعيل،
وكان ينكر على جرهم أفعالهم فلما هلكت عظم شأنه في قومه وجل قدره (اليعقوبي
1: 222 ط بيروت.). وقال المسعودي:
وبغت جرهم في الحرم وطغت، حتى فسق رجل منهم في الحرم يسمى اساف، بامرأة تدعى
نائلة، فمسخهما الله عزوجل حجرين صيرا بعد ذلك وثنين وعبدا تقربا بهما الى الله
تعالى. فبعث الله على جرهم الرعاف والنمل وغير ذلك من الآفات، فهلك كثير منهم.
وكثر ولد اسماعيل وصاروا ذوي قوة ومنعة فغلبوا على أخوالهم جرهم وأخرجوهم من مكة
فلحقوا بجهينة في موضع يقال له: أضم، فأتاهم في بعض الليالي السيل فذهب بهم.
وصارت ولاية البيت في ولد اياد بن نزار ابن معد ثم الى خزاعة. ثم الى قصي (مروج
الذهب 2: 23 - 31. وروى ابن هشام في سيرته عن ابن اسحاق: أن جرهما بغوا بمكة
واستحلوا حلالا من الحرمة، فظلموا من دخلها من غير أهلها، وأكلوا ماكان يهدى الى
الكعبة من مال، فلما رأى بنو كنانة وبنو خزاعة ذلك أجمعوا لحربهم واخراجهم من
مكة، فآذنوا بالحرب فاقتتلوا، فغلبت كنانة وخزاعة على جرهم فنفوهم من مكة فخرج عمرو بن الحارث بن
مضاض الجرهمي بغزالي الكعبة وبحجر الركن فدفنها في زمزم (سيرة ابن هشام 1: 119).
ودفن زمزم (سيرة ابن هشام: 1: 118). وانطلق هو ومن معه من جرهم الى اليمن،
فحزنوا على ما فارقوا من أمر مكة حزنا شديدا (سيرة ابن هشام 1: 120)). وقد روى الكليني في (فروع الكافي) عن الصادق (عليه السلام) قال: إن جرهم غلبت بمكة على ولاية البيت، فكان يلي ذلك منهم كابر عن
كابر، حتى بغوا واستحلوا حرمتها وأكلوا مال الكعبة وظلموا من دخلها، فلما بغوا
وعتوا واستحلوا فيها بعث الله عزوجل عليهم الرعاف والنمل وأفناهم (فروع
الكافي 4: 211.). نقل المجلسي ذلك في (البحار) ثم نقل عن الفيروز آبادي أن النملة هي قروح في الجنب كالنمل وبثور تخرج في الجسد بالتهاب
واحتراق ثم يرم مكانها يسيرا ثم يدب الى موضع آخر كالنمل (وتجده كذلك في سائر كتب اللغة ومنها: المنجد.). وننتقل هنا الى ذكر خبر المدينة يثرب، واتيان تبان أسعد أبي كرب
اليمني إليها وتهوده بها ومروره في رجوعه بمكة، ثم خبر أصحاب الاخدود باليمن، ثم
دخول الأحباش النصارى الى اليمن وأصحاب الفيل منهم، ثم دخول الفرس المجوس إليها.
ثم نرجع الى بقية أخبار مكة والبيت الحرام وولاته ولاسيما انتقال الأمر الى
خزاعة، وانما قدمنا هنا ما تقدم منها على خبر تبان أسعد وأصحاب الفيل. |
يثرب
بين اليهود والأوس والخزرج:
|
نقلنا فيما مر رواية المسعودي في سبب انتشار العرب من اليمن بعد
سيل العرم، ونزول الأوس والخزرج يثرب " المدينة " وهنا ننقل خبر
اليعقوبي في ذلك لما فيه من التفصيل الخاص بهذا الصدد: قال اليعقوبي: ان تفرق
أهل اليمن في البلاد وخروجهم عن ديارهم كان بسبب سيل العرم، وكان رئيس القوم
عمرو بن عامر بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد، وكان كاهنا،
فتكهن أن بلاد اليمن تغرق، فأظهر غضبه على بعض ولده وباع مرباعه وخرج هو وأهل
بيته، فصاروا الى بلاد " عك " ثم ارتحلوا الى " نجران "
فحاربتهم مذحج، ثم ارتحلوا عن نجران فمروا " بمكة " وبها يومئذ "
جرهم " فحاربوهم حتى أخرجوهم عن البلد، فصاروا الى " الجحفة " ثم
ارتحلوا الى " يثرب " فتخلف بها الأوس والخزرج ابنا حارثة ابن ثعلبة
بن عمرو بن عامر، ولحق بهما جماعة من الأزد من غير ابني حارثة فصاروا حلفاء لهم. وكانت يثرب منازل اليهود،
وكانوا أكثر من الأزد والأوس والخزرج فغلبوهم وقهروهم، حتى كان الرجل من اليهود
ليأتي منزل الأوسي أو الخزرجي أو الأزدي فلا يمكنه دفعه عن ماله وأهله (اليعقوبي
1: 203، ونؤكد أيضا ما قدمناه في عنوان: مبدأ العرب: 107.)، وكان
رجل يقال له " الفطيون " قد تملك على اليهود فتملك على الأزد والأوس
والخزرج فسامهم سوء العذاب. فخرج
مالك بن العجلان الخزرجي الى
تبع أبي كرب تبان أسعد بن ملكليكرب (تبان
أسعد اسم مركب كمعد يكرب، وتبان من التبانة بمعنى الفطانة.)
فأعلمه بغلبة قريظة والنضير عليهم (اليعقوبي 1: 197.) فسار أبو كرب اليمني إليهم
بجيشه حتى قتل من اليهود مقتلة عظيمة (اليعقوبي 1: 204.)
وخلف فيهم ابنا له بين اظهرهم فقتله اليهود، فزحف إليهم وحاربهم (اليعقوبي 1: 197.). وروى الطبري وابن هشام عن ابن اسحاق: أن تبان أسعد قد أقبل من قبل المشرق على المدينة وخلف بين أظهرهم
ابنا له فقتل غيلة. فقدمها مرة أخرى لاستئصال اهلها وهدمها. وكان في المدينة من أحبار
اليهود حبران عالمان راسخان في العلم من بني قريظة أحدهما كعب
والآخر أسد، فلما سمعا بما يريده تبان أسعد من هلاك أهل المدينة وهدمها جاءا
إليه فقالا له: أيها الملك ! لا تفعل ذلك، فانك ان أبيت الا ما تريد حيل بينك
وبينها ولم نأمن عليك عاجل العقوبة ! فقال لهما: ولم ذلك ؟ فقالا: هي مهاجر نبي
يخرج من هذا الحرم من قريش في آخر الزمان تكون داره وقراره ! فتناهى عند ذلك عما
كان يريد بالمدينة. وكان تبع تبان أسعد وقومه
أصحاب أوثان يعبدونها، فلما سمع منهما ذلك أعجبه فاتبع دينهما اليهودية وانصرف
عن المدينة واصطحبهما معه (تهذيب سيرة ابن هشام 1: 20 والطبري 2: 105.). وروى ابن شهر آشوب في (المناقب) عن ابن اسحاق: أن تبع الأول لما سار في الآفاق فوصل الى مكة فلم يعظمه أهلها،
غضب عليهم، فقال له وزيره عمياريسا: انهم جاهلون ومعجبون بهذا البيت ! فعزم الملك
على أن يخرب البيت، فأخذه الله بالصداع وبدأ ينزل من اذنيه وعينيه وأنفه وفمه
ماء نتن، وعجز أطباؤه عنه، فلما أمسى جاء عالم من العلماء الذين كانوا معه الى
وزيره واستأذن منه على الملك، فاستاذن له الوزير، فلما خلا بالملك قال له: هل
أنت نويت في هذا البيت أمرا ؟ قال: أجل، فقال العالم: تب من ذلك ولك خير الدنيا
والآخرة ! فقال: قد تبت مما كنت نويت. فعوفي في الساعة ! فآمن بالله وبإبراهيم
الخليل، وخلع على الكعبة سبعة أثواب. وهو أول من كسا الكعبة. ثم خرج الى يثرب - وهي أرض فيها عين ماء - فاعتزل أربعمائة عالم من
الذين كانوا معه وجاؤا الى باب الملك وقالوا: انا خرجنا من بلداننا وطفنا معك
زمانا حتى جئنا الى هذا المكان، والآن نحن نريد المقام هنا الى آخر أعمارنا !
فسألهم الوزير عن حكمة ذلك ؟ قالوا: أيها الوزير ! ان شرف البيت بمكة بشرف محمد
صاحب القبلة إليها وصاحب القرآن والمنبر واللواء، مولده بمكة وهجرته الى ها هنا،
وإنا على رجاء ان ندركه أو يدركه أولادنا ! فلما سمع الملك ذلك أذن لهم وبنى لهم
دورا (المناقب 1: 15 ط قم المقدسة.). وهذا الخبر وان لم يصرح
بكون العلماء الذين كانوا مع تبع اليمني الأول يهودا فالظاهر منه أنهم
كانوا يهودا وأن نبأهم بمولد رسول الله ومهاجره كان من بشائر شريعة موسى (عليه
السلام) وأيضا لم ينص الخبر على يهودية تبع بل فيه أنه لما تاب مما كان قد نواه
من هدم البيت وعوفي آمن بالله وبإبراهيم الخليل، لكن يظهر من اصطحابه لعلماء
اليهود مكرما لهم سامعا منهم أن المقصود بإيمانه بالله انه كان قبل ذلك فاسقا
غير مؤمن في العمل بدينه. وعلى هذا فهذا الخبر أكثر انسجاما مع ما أخبر به
القرآن الكريم من سبق اليهودية الى اليمن على عهد بلقيس وسليمان وهم قبل تبع
بسبعة قرون تقريبا، بينما الخبر المعروف في أكثر التواريخ بأن تبع الأول كان أول
من آمن باليهودية بدعوة علماء اليهود في مدينة يثرب وأنه أول من دعا أهل اليمن
الى ذلك، لا يوافق كتاب الله كما يأتي. بل روى الصدوق عن ابن عباس انه كان يقول: لايشتبهن عليكم أمر تبع فإنه كان مسلما، وروي عن الصادق (عليه
السلام) أنه قال: إن تبع قال للأوس والخزرج: كونوا ها هنا حتى يخرج هذا النبي،
فأما أنا فلو أدركته لخدمته وخرجت معه (اكمال
الدين: 168 ط النجف.). وروى الطبرسي عن سهل بن سعد عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه
قال: لاتسبوا تبعا فإنه كان قد أسلم (مجمع
البيان 9: 66، وبه قال البيضاوي في أنوار التنزيل 2: 419.). فقرب النفر الذين أشاروا
عليه من هذيل فقطع أيديهم وأرجلهم، ثم مضى حتى قدم مكة، فطاف بالبيت وحلق رأسه،
وأقام بمكة ستة أيام ينحر بها للناس ويطعم أهلها ويسقيهم. وأمره ولاة البيت من جرهم
بتطهيره، وأن لايقربوه دما ولا ميتة، وجعل له بابا ومفتاحا، وكساه ثيابا يمنية.
ثم خرج متوجها الى اليمن بمن معه من جنوده والحبرين. فلما وصل الى اليمن دعا
قومه الى الدخول في اليهودية. وكانت باليمن نار يتحاكمون إليها فيما يختلفون
فيه، فتأكل الظالم ولا تضر المظلوم. فأبوا عليه اليهودية حتى يحاكموه الى النار.
فخرج رجال من قومه بأوثانهم وما يتقربون به في دينهم حتى قعدوا للنار عند مخرجها
التي تخرج منه، وخرج الحبران متقلدين مصاحفهما في اعناقهما حتى قعدوا عند مخرج
النار، فخرجت النار إليهم فأكلت الأوثان وماقربوا معها ومن حملها من رجال حمير،
ولما أقبلت نحو الحبرين هابوها وحادوا عنها، فذمرهم من حضرهم من الناس وأمروهم
بالصبر لها، فصبروا حتى غشيتهم، وخرج الحبران بمصاحفهما في أعناقهما تعرق
جباههما ولم تضرهما. فأجمعت
عند ذلك حمير على اليهودية.
فكذلك كان أصل اليهودية باليمن (تهذيب
سيرة ابن هشام 20، 21. والطبري 2: 105 - 108 كذا، وتبع هذا هو الملك العشرون من
ملوك اليمن المعروفين المعدودين في كتب التاريخ، والعاشر هي بلقيس ثم سليمان بن
داود ثم ابنه أرحبعم بن سليمان. وسليمان من أنبياء بني اسرائيل من بعد موسى،
والبعد الزمني بين بلقيس وسليمان وتبع هذا حسب كتب التأريخ سبعة قرون تقريبا،
ومعنى هذا أن اليمن كانت مسبوقة باليهودية كما حكى القرآن الكريم * (وجدتها
وقومها يسجدون للشمس من دون الله) * (النمل: 24) لا الأوثان والعجب ان لم اجد من
المؤرخين من تنبه لذلك أو تعرض له.). ولا يظهر من خبر تبع تبان أسعد بن كليكرب هذا وتهود اليمن معه أكان
قبل نسخ اليهودية بشريعة عيسى (عليه السلام) أو بعد ذلك، الا انه كان بعد بلقيس
وسليمان بن داود - وهو من أنبياء بني اسرائيل بعد موسى - كان بعدهم بسبعة قرون
تقريبا كما في التواريخ، وبعد تبع تبان أسعد هذا بمدة غير قصيرة استولى على
اليمن الثالث من أولاده بعد حسان وعمرو: زرعة ابن تبان أسعد، يكنى ذا نؤاس، وشاع
أتباع دين المسيح (عليه السلام) على عهده في مدينة نجران، فجعل يطلبهم ويحرقهم
بالاخدود. وروى ابن هشام عن ابن اسحاق (سيرة ابن
هشام 1: 31، 32.) والطبري عنه وعن الكلبي (الطبري
2: 119.): ان زرعة ذا نؤاس تهود فتسمى يوسف والتبس هذا على المسعودي فذكره:
يوسف ذو نؤاس بن زرعة (مروج الذهب 2: 52.). |
أصحاب
الاخدود:
|
روى القمي في تفسيره بسنده عن عطاء عن ابن عباس: أن ذا نؤاس - وهو
آخر من ملك اليمن من حمير - تهود، واجتمعت معه حمير على اليهودية، وسمى نفسه
يوسف، وأقام على ذلك حينا من الدهر. ثم أخبر أن بنجران بقايا قوم على دين
النصرانية، وكانوا على دين عيسى (عليه السلام) وعلى حكم الانجيل ورأس ذلك الدين:
عبد الله بن بريا (تفسير القمي: 2: 414. وروى العياشي في
تفسيره بإسناده عن جابر عن الامام الباقر (عليه السلام) أنه قال: أرسل علي (عليه
السلام) الى اسقف نجران يسأله عن أصحاب الاخدود، فأخبره بشئ: فقال (عليه
السلام): ليس كما ذكرت، ولكن سأخبرك عنهم: ان الله بعث رجلا حبشيا نبيا - وهم
حبشية - فكذبوه فقاتلهم فقتلوا أصحابه وأسروهم وأسروه ثم بنوا له حيرا ثم ملؤوه
نارا، ثم جمعوا الناس فقالوا: من كان على ديننا وأمره فليعتزل، ومن كان على دين
هؤلاء فليرم نفسه في النار ! فجعل أصحابه يتهافتون في النار ! فجاءت امرأة معها
صبي لها ابن شهر، فلما هجمت هابت ورقت على ابنها، فنادى الصبي لا تهابي وارميني
ونفسك في النار، فان هذا - والله - في الله قليل ! فرمت بنفسها في النار وصبيها.
رواه العلامة الطباطبائي في تفسيره ثم قال: ورواه السيوطي في الدر المنثور عن
علي (عليه السلام) بطريقين وعن الحسن (عليه السلام) أيضا (الميزان 20: 257).
وروى ذيل الخبر عن المرأة وطفلها المسعودي في (مروج الذهب 2: 78). وروى الطبرسي
في (مجمع البيان) عن سعيد بن جبير: أن اهل اسفندهان كانوا مجوسا فلما انهزموا
قال عمر: ماهم يهود ولا نصارى فليسوا من أهل الكتاب. فقال علي (عليه السلام):
بلى قد كان لهم كتاب رفع، وذلك أن ملكا لهم سكر فوقع على ابنته أو قال: على اخته
فلما أفاق قال لها: كيف المخرج مما وقعت فيه ؟ قالت: تجمع أهل مملكتك وتخبرهم
أنك ترى نكاح البنات وتأمرهم أن يحلوه ! فجمعهم فأخبرهم ! فأبوا أن يتابعوه، فخد
لهم اخدودا في الأرض، وأوقد فيه النيران وعرضهم عليها فمن أبى قبول ذلك قذفه في
النار، ومن أجاب خلى سبيله. رواه الطباطبائي... في (الميزان 20: 256) ثم قال ورواه السيوطي في
(الدر المنثور). وقيل: ان الذين خدوا الاخدود ثلاثة: تبع صاحب اليمن، وقسطنطين
بن هلائي حين صرف النصارى عن التوحيد الى عبادة الصليب، ونبوخذنصر ملك بابل حين
ادعى الربوبية وأمر الناس أن يسجدوا له فامتنع دانيال وأصحابه، فألقاهم في النار
! نقله محققو سيرة ابن هشام 1: 32. واحتمل التعدد العلامة
الطباطبائي في تفسيره (الميزان 2: 257). وقال السيد هاشم الحسني في كتابه (سيرة
المصطفى: 22) " ذلك - ويقصد به خبر اخدود اليمني - جاء في بعض التفاسير
ولكن لاتؤكده التفاسير الموثوقة، وليس بعيدا أن يكون من الاسرائيليات التي
أدخلها كعب الأحبار وأمثاله ". من هنا يظهر ان السيد الحسني سامحه الله لم يحسن النظر في روايات
أخبار القصة، والا فليس في طريق أي رواية من أخبارها كعب الأحبار وأمثاله، نعم
احدى روايات ابن اسحاق تنتهي الى وهب بن منبه اليماني، وهو مثل كعب الأحبار،
ولكن هذا الخبر لا يتناسب أن يعد من الاسرائيليات، فانه ليس لصالح بني اسرائيل
واليهود بل لصالح النصارى على اليهود، فكيف يكون من الإسرائيليات ؟ !) فحمله
أهل دينه على ان يسير إليهم ويحملهم على اليهودية ويدخلهم فيها، فسار حتى قدم
نجران، فجمع من كان بها على دين النصرانية ثم عرض عليهم اليهودية والدخول فيها،
فأبوا عليه، فجادلهم وحرص الحرص كله فأبوا عليه وامتنعوا من اليهودية والدخول
فيها واختاروا القتل فخد لهم اخدودا جعل فيه الحطب وأشعل فيه النار، فمنهم من
أحرق بالنار ومنهم من قتل بالسيف، ومثل بهم كل مثلة. فبلغ عدد من قتل وأحرق
بالنار عشرين الفا. وأفلت منهم رجل يدعى دوس ذو ثعلبان على فرس له (تفسير
القمي 2: 414 ط النجف الأشرف.). - أو جبار، أو حيار، أو حيان، ابن فيض، أو قيض (الطبري
2: 137.) - حتى قدم على صاحب الروم فأخبره بما بلغ ذو نؤاس منهم، واستنصره
عليه. فقال له قيصر: بعدت بلادك من بلادنا ونأت عنا، فلا نقدر على ان نتناولها
بالجنود، ولكني سأكتب لك الى ملك الحبشة - فانه على هذا الدين وهو أقرب الى
بلادكما منا - فينصرك. وكتب معه قيصر الى ملك الحبشة يأمره بنصرهم على من بغى
عليهم. هذا على رواية ابن اسحاق (الطبري
2: 124.). وعلى رواية هشام الكلبي: قدم على ملك الحبشة رأسا، ومعه إنجيل قد أحرقت النار بعضه،
فأعلمه ما ركبه ذو نؤاس منهم. فقال له: الرجال عندي كثير وليست عندي سفن، وأنا
كاتب الى قيصر أن يبعث الي بسفن أحمل فيها الرجال. فكتب الى قيصر بذلك وبعث إليه
بالإنجيل المحرق. فبعث إليه قيصر بسفن كثيرة (الطبري
2: 124.). فوجه النجاشي الى اليمن أربعة آلاف رجل عليهم أرياط بن أصحمة (الطبري
2: 132 بخمسة أسانيد عن ابن عباس وعطاء بن يسار وغيرهما. وذكر العدد عن الكلبي
وابن اسحاق سبعين ألفا والأول أوفق بوسائط النقل القديمة قطعا، والثاني أبعد
جدا. أما الاسم: أرياط بن أصحمة، فهو كما في تهذيب سيرة ابن هشام 1: 24 ومروج
الذهب 2: 52، وفي اليعقوبي 1: 200: أرياط فقط.) فعبرت
الحبشة الى اليمن من بلاد ناصع والزيلع - وهو ساحل الحبشة - الى بلاد غلافقة من
ساحل زبيد من أرض اليمن (مروج الذهب 2: 52.) وعرض البحر بين الساحلين: مسيرة ثلاثة أيام، وهو أقل المواضع في
البحر عرضا، وبين الساحلين جزيرة الى جانب الحبشة تسمى سقطرة، واخرى الى جانب
اليمن تسمى العقل (مروج الذهب 1: 439.).
فسار إليهم ذو نؤاس، فلما التقوا افترق قومه وانهزموا بعد حروب
طويلة، فلما رأى ذو نؤاس ضرب فرسه فاقتحم به البحر فأغرق نفسه خوفا من العار (تهذيب
سيرة ابن هشام 1: 24 واليعقوبي 1: 199 ومروج الذهب 2: 52.). وهو الذي أخبر الله تعالى عنه في كتابه فقال: * (قتل أصحاب الاخدود
النار ذات الوقود إذ هم عليها قعود وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود وما نقموا
منهم الا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد الذي له ملك السموات والأرض والله على
كل شئ شهيد) * (البروج 4: 9. وورد خبره في سيرة ابن هشام عن ابن اسحاق 1: 37. وفي
الطبري عنه أيضا 2: 123، وعن هشام الكلبي 2: 19. واليعقوبي 1: 200. والمسعودي 2:
51. وكان هذا بدء نفوذ الأحباش النصارى في اليمن وتهامة وما جاورها سنة 525 م. ) |
أرياط
أو أبرهة:
|
روى ابن هشام (سيرة
ابن هشام 1: 41.)
والطبري (الطبري 2: 125.) عن ابن اسحاق، وعن غيره بخمسة طرق (الطبري 2: 137.)
واليعقوبي (اليعقوبي 1: 173.) والمسعودي (مروج
الذهب 2: 78.): أن
الذي بعثه النجاشي على الأحباش الى اليمن هو أرياط بن أصحمة. وأنه أقام باليمن
في سلطانه سنين، ثم نازعه في أمر الحبشة باليمن ابرهة الحبشي، وكان في جنده، حتى
تفرقت الحبشة عليهما، فانحاز الى كل واحد منهما طائفة منهم، واستعدوا للحرب
بينهم (الطبري 2: 128.). وروى الطبري بالطرق الخمسة: ان أرياط لما غلب على اليمن أعطى الملوك - ويعني بهم شيوخ العشائر
والقبائل اليمنية - واستذل الفقراء. فقام رجل من الحبشة يقال له: ابرهة أبو
يكسوم، فدعا الى طاعته فأجابوه، فقاتل أرياط (الطبري 2: 137.).
وروى عن هشام الكلبي: أن النجاشي لما بلغه ماكان من ذي نؤاس جهز إليه سبعين ألفا عليهم
قائدان: أحدهما ابرهة - ولم يذكر الآخر - فلما صاروا الى صنعاء ورأى ذو نؤاس ان
لا طاقة له بهم ركب فرسه واقتحم البحر فكان آخر العهد به ذلك. وأقام ابرهة ملكا
على اليمن، ولكنه لم يبعث الى النجاشي بشئ فقيل للنجاشي: إنه قد خلع طاعتك ورأى
أنه استغنى بنفسه عنك. فوجه إليه جيشا عليه رجل من أصحابه يقال له: أرياط فلما
حل بساحته بعث إليه ابرهة: أنه يجمعني واياك البلاد والدين، والواجب علي وعليك
ان ننظر لأهل بلادنا وديننا ممن معي ومعك، فإن شئت فبارزني، فأينا ظفر بصاحبه
كان الملك له، ولم تقتل الحبشة فيما بيننا ؟ ! فرضي أرياط بذلك، فاتعدوا موضعا
يلتقيان فيه. وعزم ابرهة على المكر بأرياط فأكمن له عبدا له يقال له: ارنجدة، في وهدة قريبة من الموضع الذي التقيا فيه، فلما التقيا
سبق أرياط فطعنه بحربته يريد رأسه، وزالت الحربة عن رأس ابرهة ولكنها شرمت أنفه،
فلقب بالأشرم من ذلك. ونهض ارنجدة من الحفرة فزرق بحربته المزراق رأس أرياط
فأنفذها فيه فقتله بها. وكتب الى النجاشي بما رضي به عنه وأقره على عمله (الطبري
2: 128 وعن ابن اسحاق 2: 129.). |
أصحاب
الفيل:
|
روى الطبري بالطرق الخمسة عن ابن عباس وعطاء بن يسار وغيرهما: أن ابرهة الأشرم أبا يكسوم لما غلب على اليمن رأى الناس أيام
الموسم يتجهزون للحج الى البيت الحرام، فسأل: أين يذهب هؤلاء الناس ؟ قالوا:
يحجون الى بيت الله بمكة، قال: مم هو ؟ قالوا: من حجارة، قال: فما كسوته ؟
قالوا: ما يذهب به إليه من ها هنا من الوسائل، فقال: قسما بالمسيح لأبنين لكم
خيرا منه ! فبنى لهم كنيسة عملها
بالرخام الأسود والأصفر والأبيض والأحمر، وحلاه بالذهب والفضة، وحفها بالجواهر،
وجعل لها أبوابا عليها صفائح الذهب، وجعل لها حجابا، كانوا يلطخون جدرها بالمسك
ويوقدون فيها بالمندل (أو الصندل، وهو عود هندي طيب الرائحة لاسيما عند
الاحتراق) وأمر الناس أن يحجوا إليها فحج إليها كثير من قبائل العرب سنين، ومكث
فيه رجال يتعبدون ويتألهون ويتنسكون له (الطبري 2: 137.)
وروي عن ابن اسحاق: انه سماها " القليس " (الطبري 2: 130.)
أي البناء المرتفع كالقبلة (قاله السهيلي في: الروض الانف في شرح السيرة. وقيل: ان ابرهة كان قد
جشم أهل اليمن في بنيان هذه الكنيسة ان ينقلوا إليها الحجارة والرخام من قصر
بلقيس على فراسخ.). وروى الشيخ الطبرسي في (مجمع البيان) عن محمد بن اسحاق قال: إن ابرهة أبا يكسوم بنى بيتا باليمن وجعل لها قبابا من ذهب وأمر
أهل مملكته بالحج إليها يضاهي بها البيت الحرام. فخرج رجل من بني كنانة حتى قدم اليمن فقعد فيها - يعني لحاجة الانسان - فدخلها ابرهة فوجد العذرة بها
فقال: من اجترأ علي بهذا ؟ فقيل له في ذلك فقال: ونصرانيتي لأهدمن ذلك البيت حتى
لايحجه حاج أبدا ! وآذن قومه ومن اتبعه من أهل اليمن بالخروج، فتتبعه ناس أكثرهم
من عك والأشعريين وخثعم، فخرج يحث السير حتى أتى الطائف فطلب منهم دليلا، فبعثوا
معه دليلا من هذيل يقال له: نفيل فخرج بهم يهديهم، حتى إذا كانوا بالمغمس - وهو
على ستة أميال من مكة - نزلوا وبعثوا مقدمتهم الى مكة. فقالت قريش: لا
طاقة لنا اليوم بقتال هؤلاء القوم، وخرجوا الى رؤوس الجبال، ولم يبق بمكة غير عبد المطلب بن هاشم، وأخذ بعضادتي الباب يقول: لا هم ان المرء يمنع
رحله فامنع حلالك (الحلال
بالكسر جمع الحلة: القوم النزول فيهم كثرة.) * لا يغلبوا بصليبهم
ومحالهم عدوا محالك (المحال
بالكسر: القوة والشدة.) أن يدخلوا البيت الحرام
إذا فأمر ما بدالك (مجمع
البيان 10: 540 - 542 باختصار وفي سيرة ابن هشام: إن كنت تاركهم وقبلتنا فامر ما
بدالك. وقد روى الكليني بسنده عن الصادق (عليه السلام) قال: يبعث عبد المطلب امة
وحده عليه بهاء الملوك وسيماء الأنبياء، وذلك أنه أول من قال بالبداء، وذلك..
انه أخذ بحلقة باب الكعبة وجعل يقول: يا رب إن نهلك فامر ما بدالك. (اصول الكافي
1: 447 ط آخوندي).) وروى الشيخ المفيد في (الأمالي) بسنده عن الصادق (عليه السلام) عن
أبيه عن جده قال: لما قصد ابرهة بن الصباح ملك الحبشة مكة لهدم البيت تسرعت
الحبشة فأغاروا عليها وأخذوا سرحا لعبد المطلب بن هاشم، فجاء عبد المطلب الى
الملك فاستأذن عليه فأذن له، وهو في قبة ديباج على سرير له، فسلم عليه فرد ابرهة
السلام وجعل ينظر في وجهه فراقه حسنه وجماله وهيئته، فقال له: هل كان في آبائك
هذا النور والجمال الذي أراه لك ؟ قال: نعم أيها الملك كل آبائي كان لهم هذا النور والجمال والبهاء !
فقال له ابرهة: لقد فقتم الملوك فخرا وشرفا ويحق أن تكون سيد قومك ! ثم أجلسه
معه على سريره... ثم قال لعبد المطلب: فيم
جئت ؟ فقد بلغني سخاؤك وكرمك وفضلك، ورأيت من هيئتك وجمالك وجلالك ما يقتضي ان
انظر في حاجتك، فسلني ما شئت. فقال له عبد المطلب: إن اصحابك عدوا على سرح لي فذهبوا به فمرهم
برده ! فتغيظ الحبشي من ذلك وقال
لعبد المطلب: لقد سقطت من عيني ! جئتني تسألني في سرحك وأنا قد جئت لهدم شرفك
وشرف قومك، ومكرمتكم التي تتميزون بها من كل جيل، وهو البيت الذي يحج إليه من كل
صقع في الأرض، فتركت مسألتي في ذلك وسألتني في سرحك ! فقال له عبد المطلب: لست
برب البيت الذي قصدت لهدمه، وأنا رب سرحي الذي أخذه أصحابك، فجئت أسألك فيما أنا
ربه، وللبيت رب هو أمنع له من الخلق كلهم وأولى به منهم ! فقال الملك: ردوا عليه سرحه. وانصرف عبد المطلب الى مكة. ودخل
الملك بالفيل الأعظم وكان فيلا أبيض عظيم الخلقة له نابان مرصعان بأنواع الدرر
والجوهر وقد زين بكل زينة حسنة وكان الملك يباهي به ملوك الأرض فدخل ومعه الجيش
لهدم البيت، فكانوا إذا حملوه على دخول الحرم أناخ وإذا تركوه رجع مهرولا ! فقال عبد المطلب لغلمانه:
ادعوا الي ابني... فلما جاؤا بعبد الله أقبل إليه وقال: اذهب يا بني حتى تصعد
أبا قبيس، ثم اضرب ببصرك ناحية البحر فانظر أي شئ يجئ من هناك وخبرني به. فصعد عبد الله أبا قبيس
فما لبث أن جاء طير أبابيل مثل السيل والليل، فجاء عبد الله الى أبيه فأخبره
الخبر. فقال: انظر يا بني ما يكون من أمرها بعده، فاخبرني به. فنظرها فإذا هي قد
أخذت نحو عسكر الحبشة، فأخبر عبد المطلب بذلك، فخرج عبد المطلب وهو يقول: يا أهل
مكة اخرجوا الى المعسكر فخذوا غنائمكم ! فخرجوا ينظرون الى الطير فإذا ليس من الطير الا ومعه ثلاثة أحجار:
في منقاره ورجليه يقتل بكل حصاة واحدا من القوم. فلما أتوا على جميعهم انصرف
الطير، ولم ير قبل ذلك الوقت ولا بعده. وأتوا العسكر فإذا هم أمثال الخشب النخرة
(امالي المفيد: 184 ط النجف، و 312 ط غفاري. والبحار 15: 130 نقلا عنه
وعن مجالس ابن الشيخ الطوسي: 50.). وروى الكليني في (روضة الكافي) والصدوق في (علل الشرائع) بسندهما عن
الباقر (عليه السلام) قال:
أرسل الله عليهم طيرا جاءتهم من قبل البحر... مع كل طير ثلاثة أحجار: حجران في
مخالبه وحجر في منقاره، فجعلت ترميهم بها حتى جدرت أجسادهم، فقتلهم الله عزوجل
بها. وما كانوا قبل ذلك رأوا شيئا من ذلك الطير ولا شيئا من الجدري (روضة
الكافي: 84 ط طهران، وعلل الشرائع: 176 ط طهران.). وقال القمي في تفسيره: كانت الطيور ترفرف على رؤوسهم وترمي أدمغتهم، فيدخل الحجر في
دماغهم ويخرج من أدبارهم فتنتقض أبدانهم، فكانوا كما قال الله تعالى كالعصف
المأكول وهو التبن الذي أكل بعضه وبقي بعضه. ثم روى عن الصادق (عليه السلام): أن
أصل الجدري من ذلك الذي أصابهم في زمانهم (تفسير القمي
2: 442.). وروى الشيخ الطبرسي في (مجمع البيان) عن العياشي باسناده الى هشام بن
سالم عن الصادق (عليه السلام) قال: أرسل الله على أصحاب الفيل طيرا مثل الخطاف أو نحوه، في منقاره
حجر مثل العدسة، فكان يحاذي برأس الرجل فيرميه بالحجر فيخرج من دبره، فلم تزل
بهم حتى أتت عليهم (مجمع البيان 10: 540 - 542.). وفي خبر الصدوق في (علل الشرائع) بسنده عن الصادق (عليه السلام) قال: ومن أفلت منهم انطلقوا حتى بلغوا حضرموت - واد باليمن - فأرسل
الله عليهم سيلا فغرقهم، فلذلك سمي حضرموت حين ماتوا فيه (علل
الشرائع: 176 ط طهران.). وروى الطبري بخمسة طرق: أن الطير أقبلت من البحر أبابيل، مع كل طير منها ثلاثة أحجار:
حجران في رجليه وحجر في منقاره، فقذفت الحجارة عليهم، لا تصيب شيئا الا هشمته،
والا نفط ذلك الموضع، فكان ذلك أول ماكان الجدري والحصبة والأشجار المرة،
فأهمدتهم الحجارة، وبعث الله سيلا فذهب بهم فألقاهم في البحر (الطبري
2: 138 وعن ابن اسحاق. ورواه ابن هشام في السيرة عنه أيضا 1: 56.). قال المسعودي: وكان قدومه مكة يوم الأحد لسبع عشرة ليلة خلت من المحرم (مروج
الذهب 2: 54 ط بيروت.)، وكان ملك ابرهة على اليمن الى أن هلك ثلاثا وأربعين سنة، لأربعين
سنة من ملك كسرى، قبل مولد رسول الله بخمسين يوما (مروج
الذهب 2: 53 و 274 ط بيروت.).
قال ابن اسحاق:
ولما رد الله الحبشة عن مكة وأصابهم بما أصابهم به من النقمة قالت العرب بشأن
قريش: انهم أهل الله، فقد قاتل الله عنهم وكفاهم مؤونة عدوهم، وكان شعراء قريش
يفخرون بذلك في شعرهم كثيرا. فلما بعث الله تعالى محمدا - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - جعل
قصة اصحاب الفيل مما يعده على قريش من نعمته وفضله عليهم (سيرة ابن هشام 1: 59.) فقال تعالى * (الم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ألم يجعل كيدهم
في تضليل وأرسل عليهم طيرا أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول) *. قال ابن هشام: الأبابيل: الجماعات، وأما السجيل، فقد ذكر بعض المفسرين: أنهما كلمتان
بالفارسية: سنج يعني الحجر، وجل يعني الطين، جعلتهما العرب كلمة واحدة تعني
الحجارة من هذين الجنسين: الحجر والطين، وهي حجارة شديدة صلبة. والعصف المأكول
هو ورق الزرع الذي لم يقصب (سيرة ابن هشام 1: 55، ورواه الطوسي في التبيان 10: 411 وعنه في مجمع
البيان 5: 281 عن سعيد بن جبير عن ابن عباس.) أي
أصابته آكلة الديدان فأكلت بعضه وبقي بعضه الاخر. بينما رجح الشيخ محمد عبده في تفسيره: أن الطير الذي ورد في الآية الكريمة من الجائز ان يكون من نوع
البعوض أو الذباب الذي يحمل جراثيم بعض الأمراض الفتاكة، وأن تكون تلك الحجارة
من الطين المسموم الذي تحمله الرياح يتعلق بأرجل تلك الطيور، فإذا أصاب انسانا
انتقل المكروب الى جسده، فأحدث فيه بعض الجروح، وبالتالي ينتهي الى فساد الجسم !
ولا نجد نحن وجها لهذا التفسير بل التأويل مادام القرآن ينص على أنها طيور مرسلة
بالحجارة. نعم أصيبوا بها بالجدري فماتوا به كما مر في الخبر عن الصادق (عليه
السلام). وما احب أن أعرض لتأويل
هذه الطير الأبابيل التي رمت الحبشة بحجارة من سجيل فجعلتهم كعصف مأكول لأني
أوثر دائما أن أقبل النص وأفهمه كما قبله وفهمه المسلمون الأولون حين تلاه النبي
- صلى الله عليه [ وآله ] وسلم (مرآة
الإسلام لطه حسين: 29.) -. وكانت هذه القصة في الفترة
بين عيسى ونبينا - على نبينا وآله وعليه السلام - وقبل بعثته بأربعين عاما، في
عام ميلاده (صلى الله عليه وآله)، فالفترة كانت فترة شريعة عيسى (عليه السلام)
وهؤلاء كانوا نصارى، ولكنهم كانوا منحرفين فيها عن الحق، وعملهم هذا لم يكن حربا
مع المشركين لردعهم عن شركهم ودعوتهم الى شريعة عيسى (عليه السلام)، بل كان هدما
لبيت ابراهيم (عليه السلام) بل بيت الله، ولم يكن هذا من شريعة عيسى (عليه
السلام) بل خروجا عنه وبغيا وعدوانا وطغيانا وعتوا فلذلك اهلكوا. |
دخول
الفرس المجوس الى اليمن:
|
وكان من ظلم ابرهة ان بعث الى أبي مرة يوسف بن ذي يزن وكان من
أشراف اليمن فنزع منه امراته ريحانة بنت ذي جدن، وكانت ذات جمال وقد ولدت لأبي
مرة معديكرب، فولدت لأبرهة: مسروق بن ابرهة. وهرب أبو مرة سيف بن ذي يزن (الطبري
2: 130 عن ابن اسحاق و 142 عن هشام الكلبي وعنه سائر الحديث.). فروى الطبري عن الكلبي: ان أبا مرة سيف بن ذي يزن خرج من اليمن فلحق بعمرو بن المنذر من
ملوك بني المنذر بالحيرة، فسأله ان يكتب له الى كسرى كتابا يعلمه فيه بقدره
وشرفه وما فزع إليه فيه. فقال عمرو: لا تعجل، فإن لي عليه في كل سنة وفادة، وهذا
وقتها. فأقام قبله حتى وفد عليه معه، فدخل عمرو بن المنذر على كسرى فذكر
له شرف ذي يزن وحاله، واستأذن له. فأذن له كسرى. فدخل، فأوسع عمرو له فلما رأى
كسرى ذلك عرف شرفه وقد كان ابن ذي يزن قال قصيدة بالحميرية في مدح كسرى، فلما
ترجمت له اعجب بها، فأقبل عليه ولطف به وسأله: ما الأمر الذي نزع بك ؟ قال: أيها
الملك ! إن السودان قد غلبونا على بلادنا وركبوا منا امورا شنيعة اجل الملك عن
ذكرها، فلو أن الملك تناولنا بنصره من غير أن نستنصره لكان بذلك حقيقا لفضله
وكرمه وتقدمه على سائر الملوك، فكيف وقد نزعنا إليه مؤملين له، راجين أن يقصم
الله عدونا وينصرنا عليهم وينتقم لنا به منهم ! فان رأى الملك أن يصدق ظننا
ويحقق رجاءنا، ويوجه معي جيشا ينفون هذا العدو عن بلادنا فيزدادها الى ملكه فعل،
فانها من أخصب البلدان وأكثرها خيرا، وليست كما يلي الملك من بلاد العرب. فقال
انوشيروان: قد علمت أن بلادكم كما وصفت، فأي السودان غلبوا عليها: الحبشة أم
السند ؟ قال ابن ذي يزن: بل الحبشة. قال أنوشيروان:
اني لاحب ان اصدق ظنك وان تنصرف بحاجتك، ولكن مسلك الجيش الى بلادك مسلك صعب
أكره أن اغرر جندي به، وسأنظر فيما سألت. فلم يزل مقيما عنده حتى هلك. ونشأ معديكرب بن ذي يزن مع امه ريحانة في حجر ابرهة، وأخبرته امه ان أباه هو سيف بن ذي يزن، واقتصت عليه خبره، فلبث
حتى مات الأشرم ومات ابنه يكسوم، وتملك اخوه مسروق، فخرج ابن ذي يزن الى ملك
الروم، ولم يذهب الى كسرى لابطائه عن أبيه، ولكنه وجد قيصر أو هرقل لموافقته
للحبشة في دينهم يحامي عنهم، فانكفأ راجعا الى كسرى، فاعترضه يوما - وقد ركب -
فصاح به: أيها الملك ان لي عندك ميراثا ! فدعا به كسرى وقال: من أنت ؟ وما ميراثك ؟ قال: أنا ابن الشيخ اليماني ذي يزن الذي وعدته أن
تنصره فمات بحضرتك، فتلك العدة حق لي وميراث يجب عليك الخروج لي منه. فقال له:
أقم حتى أنظر في أمرك. ثم ان كسرى استشار وزراءه في توجيه الجند معه، فقال المؤبد ان (لقب عالم المجوس، ومن هنا يظهر ان الاستشارة كانت استفتاء شرعيا: هل
يجب عليه شئ أو لا ؟) إن
لهذا الغلام حقا بوعدك لأبيه وموته ببابك وفزع هذا اليك. وفي سجون الملك رجال
ذووا نجدة وبأس، فلو أن الملك وجههم معه، فإن أصابوا ظفرا كان له، وان هلكوا كان
قد استراح وأراح أهل مملكته منهم، ولم يكن ذلك ببعيد عن الصواب. قال كسرى: هذا الرأي. وأمر
بمن كان في السجون من هذا الضرب أن يحصوهم، فأحصوا فبلغوا ثمانمائة نفر، فقود
عليهم قائدا من أساورته (جمع
الاسوار، وهو كما يقال اليوم في الفارسية: الاستوار، رتبة من الرتب العسكرية.) يقال له: وهرز - أو بهروز - كانوا يعدلونه بألف استوار، وقواهم
وجهزهم وأمر بحملهم في ثماني سفن في كل سفينة مائة رجل. فركبوا البحر فغرقت من السفن الثمانية سفينتان، وسلمت ست سفن،
وخرجوا بساحل حضرموت، فنزل وهرز على سيف البحر فجعل البحر وراء ظهره. ولحق
بمعديكرب بن سيف بشر كثير. وسار إليهم مسروق في مائة
ألف من الحبشة وحمير والأعراب فلما نظر مسروق الى قلة من مع وهرز أرسل إليه: ما
جاء بك وليس معك الا من ارى، ومعي من ترى ؟ قد غررت بنفسك وأصحابك، فإن أحببت
اذنت لك فرجعت الى بلادك، وان أحببت أجلتك حتى تشاور أصحابك وتنظر في أمرك، وان
أحببت ناجزتك الساعة. ورأى وهرز انه لا طاقة له بهم، فأرسل الى مسروق: بل تضرب بيني
وبينك اجلا، وتعطيني موثقا وعهدا الا يقاتل بعضنا بعضا حتى ينقضي الأجل ونرى
رأينا. ففعل مسروق ذلك. وأقام كل واحد منهما في عسكره حتى مضت عشرة أيام، وكان مع وهرز
ابنه، فخرج ذات يوم على فرس له حمله الى عسكرهم فقتلوه. فلما لم يبق من الأجل
الا يوم واحد أمر بالسفن التي كانوا فيها فأحرقت، وأمر بما كان معهم من فضل كسوة
فاحرق ولم يدع منه الا ما كان على أجسادهم، ثم أمر بفضل الزاد فألقي في البحر، ثم
قام فيهم خطيبا فقال: أما ما حرقت من سفنكم فأني اردت ان تعلموا أنه لا سبيل الى
بلادكم أبدا، وأما ماحرقت من ثيابكم فانه كان يغيظني ان ظفرت بكم الحبش ان يصير
ذلك إليهم، وأما ما ألقيت من زادكم في البحر فأني كرهت ان يطمع احد منكم ان يكون
معه زاد يعيش به يوما واحدا بعد اليوم، فإن كنتم قوما تقاتلون معي وتصبرون
فاعلموني ذلك. فقالوا: نقاتل معك حتى نموت عن آخرنا أو نظفر ! فلما كان صبح اليوم الذي
انقضى فيه الأجل عبأ أصحابه وأقبل عليهم يحضهم على الصبر. وأمرهم أن يوتروا
ويعدوا قسيهم، ولم يكن لليمنيين نشاب قبل ذلك اليوم، فقال لأصحابه: إذا امرتكم
ان ترموا فارموهم رشقا بالپنجكان (كلمة
فارسية من پنج بمعنى الخمسة، تعني: النشاب ذو شعب خمسة من النصال الحديدية.). وأقبل مسروق في جمع لا يرى طرفاه طويلا يمينا ويسارا، وهو على فيل
وعلى رأسه تاج وبين عينيه ياقوتة حمراء مثل البيضة. ثم نزل من الفيل فركب فرسا،
فأخرج وهرز نشابة فوضعها في كبد قوسه وقال لهم: ارموا، فرموا، ورمى مسروقا في
جبهته فسقط عن دابته، وقتل من ذلك الرشق الواحد جماعة كثيرة من جيش الأحباش،
ولما رأوا صاحبهم مسروقا صريعا انفضوا، حتى كان الاستوار يأخذ من الحبشة ومن حمير
والأعراب الخمسين والستين فيسوقهم مكتفين لا يمتنعون منه، ولكن وهرز قال لهم:
اقصدوا قصد السودان فلا تبقوا منهم أحدا أما حمير والأعراب فكفوا عنهم، فقتل
أكثر الحبشة، وغنم الفرس من عسكرهم مالا يعد ولا يحصى كثرة. وأقبل وهرز حتى دخل صنعاء وفرق عماله في مخاليف اليمن فغلب على
البلاد (الطبري 2: 142 - 147.) وكان
ذلك سنة 575 م (سيرة المصطفى: 23.).
قال المسعودي: فتوج
وهرز: معديكرب بن سيف بتاج كان معه والبسه بدنة (البدنة هنا: شئ شبه الدرع الا أنها تصير قدر البدن فقط.) وقفازات من الفضة ورتبه في ملكه على اليمن وكتب بالفتح الى
انوشيروان. وأتت معديكرب الوفود تهنئه بعود الملك إليه، من أشراف العرب
وزعمائها، وفيهم: عبد المطلب بن هاشم، وأمية بن عبد شمس، وخويلد بن أسد، وأبو
الصلت الثقفي، فدخلوا إليه وهو في أعلى قصره بمدينة صنعاء، المعروف بغمدان (غمدان
كعثمان، قصر باليمن بناه يشرخ بن يحصب على أربعة وجوه: أحمر وأبيض وأصفر وأخضر،
وبنى في داخله قصرا بسبعة سقوف بين كل سقفين أربعون ذراعا، وجعل في أعلاه مجلسا
بناه بالرخام الملون وجعل سقفه رخامة واحدة، وجعل على كل ركن من أركانه تمثال
أسد من شبه كانت الريح تدخل في دبره وتخرج من فيه فيسمع له صوت كالزئير، وخربه
عثمان بن عفان قاله المسعودي وقال: ورأيته قد انهدم بنيانه وصار تلا عظيما من
تراب، كأن لم يكن. مروج الذهب 2: 229.) وعلى
يمينه ويساره أبناء المقاول والملوك. فتقدم عبد المطلب بن هشام فتمدحه، فرحب بهم معديكرب بن سيف. وأقام معديكرب ملكا على اليمن، واصطنع عبيدا من الحبشة يمشون بين
يديه بالحراب، فركب في بعض الأيام من باب قصره المعروف بغمدان بمدينة صنعاء، فلما صار الى رحبتها عطفت عليه الحراب من الحبشة فقتلوه بحرابهم.
وكان ملكه أربع سنين، وهو آخر ملوك اليمن من قحطان، فعدد ملوكهم سبعة وثلاثون ملكا.
ولما قتلت الحبشة معديكرب في الرحبة بحرابهم، كان بصنعاء خليفة لوهرز في جماعة من العجم، ممن كان ضمهم وهرز الى
معديكرب، فركب وأتى على من كان هنالك من الحبشة وضبط البلد. وكتب بذلك الى وهرز
وهو بباب أنوشيروان الملك (مات ابرهة لأربعين من ملك كسرى وملك يكسوم عشرين سنة ثم ملك مسروق
ثلاث سنين ثم ملك معديكرب أربع سنين، ومجموع ملك كسرى: ثمان وأربعون سنة، فلا
يتم التوفيق بين هذا كله.) وذلك بمدائن طيسفون من أرض العراق، فاعلم وهرز الملك بذلك، فسيره
في البر في أربعة آلاف من الأساورة وأمره ان لا يبقي على أحد من بقايا الحبشة
ولا على جعد قطط الشعر (الجعد
والقطط: قصر الشعر وفتله.) شرك
السودان في نسبه. فأتى وهرز اليمن حتى نزل في صنعاء فلم يترك بها أحدا من
السودان الا قتلهم. وملك أنوشيروان وهرز على اليمن الى ان هلك بصنعاء (مروج
الذهب 2: 57 - 62 ط بيروت.).
وعن الكلبي: انه
لما بلغ أنوشيروان موت وهرز بعث الى اليمن استوارا يدعى " وين " وكان
جبارا مسرفا، وكان ذلك في آخر ملك أنوشيروان، فلما مات أنوشيروان وخلفه إبنه
هرمز عزل " وين " واستعمل مكانه المروزان (الطبري
2: 171 وأظن ان اسمه: المهروزان وكان ملك كسرى أنوشيروان ثمانيا وأربعين سنة كما
في الطبري: 2: 172.)، فلما ملك ابن هرمز: خسرو پرويز كتب الى المروزان: أن استخلف من
شئت واقبل الي، فاستخلف المروزان ابنه خور خسرو على اليمن وسار فمات في الطريق
وحمل الى خسرو پرويز، ثم بلغ خسرو پرويز ان خور خسرو يتأدب بآداب العرب ويروي
أشعارهم فعزله وولى بمكانه بادان، وهو آخر من قدم من ولاة العجم (الطبري
2: 215 وجاء اسمه في الطبري 3: 227: بادام، وهو الراجح حسب المعنى في الفارسية،
وهو الذي بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله) على عهده، وفي آخر السنة السادسة
للهجرة بعث رسول الله الى خسرو پرويز كتابا يدعوه فيه الى الاسلام، فغضب خسرو
پرويز وبعث الى بادام هذا بأن يرسل إليه رسول الله مقيدا، وبعث بادام رجالا الى
المدينة فأخبرهم رسول الله بهلاك خسرو پرويز فقيدوا ذلك ولما رجعوا الى اليمن
ووصل الرسول بهلاك خسرو پرويز أسلم بادام ومن معه من أبناء الفرس في اليمن وبعثوا
باسلامهم الى رسول الله، فأقره رسول الله على عمله فكان عليه حتى توفي رسول الله
(صلى الله عليه وآله). راجع سيرة ابن هشام 2: 71.). وذكر المسعودي مساحة اليمن وحدوده فقال: وبلد اليمن طويل عريض، حده مما يلي مكة الى الموضع المعروف بطلحة
الملك سبع مراحل - والمرحلة
من خمسة فراسخ الى ستة - ومن
صنعاء الى عدن تسع مراحل، ومن وادي وحا الى ما بين مفاوز حضرموت وعمان عشرون
مرحلة، والوجه الآخر هو بحر اليمن وهو بحر الهند والصين والقلزم، وجميع ذلك
يكون: عشرين مرحلة في ست عشرة مرحلة (مروج
الذهب 2: 64 ط بيروت.). وذكر اليعقوبي سواحل اليمن وهي: عدن ساحل صنعاء، والمندب، وغلافقة، والحردة، والشرجة، وعثر،
والحمضة، والسرين، وحدة (أو الحديدة) وقال: وتسمى كور اليمن: المخاليف، وهي:
أربعة وثمانون مخلافا. ثم أتى باسمائها وقال: هذه بلدان مملكة اليمن وبلادها.
وكان ملوك اليمن في صدر عهدهم يدينون بعبادة الأصنام، ثم إن احبارا من اليهود
صاروا إليهم (مع تبع تبان أسعد) فعلموهم دين اليهودية فدانوا بدين اليهود وتلوا
التوراة. ولم يكونوا يتجاوزون اليمن إلا أنهم ربما أغاروا على بعض البلدان
فيرجعون الى بلادهم ودار ملكهم (اليعقوبي
1: 200، 201. وقد علقنا على هذا سابقا بمعارضته لنقل القرآن الكريم بأن الهدهد
أخبر سليمان بن داود عنهم بقوله * (اني وجدت امرأة تملكهم... واني وجدتها وقومها
يسجدون للشمس من دون الله) * وان بلقيس قالت * (اني اسلمت مع سليمان لله رب
العالمين) * ونقل المؤرخون ان سليمان بن داود حكم اليمن عشرين عاما ثم ملكها
ابنه أرحبعم بن سليمان، وان بلقيس كانت قبل تبع تبان الأسعد بعشرة ملوك في
سبعمائة سنة قريبا. فأظن الخبر هذا من الاسرائيليات.). |
أسواق
العرب:
|
وكانت للعرب في اليمن وغيره أسواق يجتمعون بها في تجاراتهم،
ويأمنون فيها على دمائهم وأموالهم بخفارة خاصة: فمنها سوق " عدن " كان يقوم في أول يوم من شهر رمضان
وكان بخفارة الأبناء - أي أبناء الفرس حكام اليمن - وهم كانوا يعشرونهم بها لقاء
خفارتهم لهم، ومنها كان يحمل الطيب الى سائر الآفاق. ثم سوق " صنعاء " كان
يقوم في النصف من شهر رمضان بخفارة الأبناء أيضا. ثم سوق " الرابية " بحضرموت، ولم يكن يوصل إليها الا بخفارة خاصة، لأنها لم تكن أرض مملكة،
فكان من عز بها بز، وكانت الخفارة فيها لكندة. ثم سوق " عكاظ
" بأعلى نجد، كان يقوم في شهر ذي القعدة، وكان أكثر من يحضرها من مضر وسائر
قريش وقليل من سائر العرب، وبها كانت مفاخرات العرب ومهادناتهم بعد حمالاتهم -
أي دياتهم. ثم سوق " ذي المجاز "
يرتحلون منها الى مكة للحج. ومنها " دومة الجندل " كان
يقوم في شهر ربيع الأول، وكانت بين بني كلاب والغساسنة أيهم غلب قام بها. ثم سوق " المشقر " في مدينة هجر،
كانت في جمادى الأولى، يقوم بها بنو تميم. ثم سوق " صحار " كان يقوم في أول يوم من رجب، ولم تكن بحاجة الى الخفارة لأنها في
الشهر الحرام. ثم سوق " ريا " بخفارة آل الجلندي وهو كان يعشرهم بها لذلك. ثم سوق " الشحر " شحر مهره، في ظل الجبل الذي عليه قبر هود النبي (عليه السلام)، وكان يقوم بها بنو مهرة بلا خفارة خاصة. وكان في العرب قوم يحضرون
هذه الأسواق فيستحلون بها المظالم، ولذلك كانوا يسمون (المحلون) (وبعد الإسلام انتقل هذا الإسم الى الخوارج.) كانوا
من قبائل أسد وطئ وبني بكر وبني عامر. وكان من العرب من ينصب نفسه لنصرة المظلوم
والمنع من سفك الدماء وارتكاب المنكر يسمون (الذادة المحرمون) كانوا من بني عمرو
بن تميم وبني حنظلة، ومن هذيل، وبني شيبان، وبني كلب، فكان هؤلاء يلبسون السلاح
للدفاع عن الناس (اليعقوبي 1: 270، 271 ط بيروت.). وكانت العرب تقيم الشعر مقام الحكمة والعلم، فإذا كان في القبيلة الشاعر الماهر المميز الكلام المصيب المعاني
احضروه في أسواقهم هذه التي كانت تقوم لهم في السنة حتى تجتمع العشائر والقبائل
فتسمع شعره، ويجعلون ذلك فخرا من فخرهم وشرفا من شرفهم، وكانوا به يتفاضلون
ويتناضلون ويمدحون ويعابون، ويتمثلون ويختصمون. وقد عد اليعقوبي عددا كثيرا من
شعرائهم (اليعقوبي 1: 262 - 269.). وكان للعرب حكام يتحاكمون إليهم في منافراتهم ومواريثهم ومياههم
ودمائهم، فكانوا يحكمون اهل
الشرف والصدق والأمانة والرئاسة والسن والمجد والتجربة، إذ لم يكن لهم دين
يرجعون الى شرعه. وقد عد اليعقوبي عددا غير قليل من هؤلاء الحكام القضاة: قضاة
التحكيم (اليعقوبي 1: 258.). وكانت اديان العرب مختلفة باختلاف المجاورات لأهل الملل: فدخل قوم من العرب في دين اليهود، ودخل آخرون في النصرانية،
وتزندق منهم قوم فقالوا بالثنوية: فأما من تهود منهم فان قوما من الأوس والخزرج
بعد خروجهم من اليمن لمجاورتهم يهود خيبر وقريظة والنضير تهودوا، وتهود قوم من
بني الحارث بن كعب وقوم من بني غسان، وقوم من جذام، وان تبع اليمني حمل حبرين من
أحبار اليهود فأبطل الأوثان وتهود من باليمن (مر مفصل
هذا الخبر وعلقنا عليه بأنه مناف لما في القرآن الكريم من سبق اليهودية الى
اليمن على عهد بلقيس وسليمان أي قبل تبع هذا بسبعة قرون.). وأما من تنصر من احياء
العرب: فقوم من قريش من بني أسد بن عبد العزى منهم ورقة بن نوفل، ومن بني تميم،
وبني تغلب، ومن اليمن طئ ومذحج وبهراء وسليح وتنوخ وغسان ولخم وتزندق جمع منهم
حجر بن عمرو الكندي وغيره (اليعقوبي 1: 254 - 257.). وروى الكليني في (فروع
الكافي) بسنده عن الباقر (عليه السلام) قال: كان في أيديهم أشياء كثيرة من الحنيفية من تحريم الأمهات والبنات
وما حرم الله في النكاح، الا انهم كانوا يستحلون امرأة الأب وابنة الأخت والجمع
بين الأختين، وكان في أيديهم الحج والتلبية والغسل من الجنابة الا ما أحدثوا في
تلبيتهم وفي حجهم من الشرك (فروع الكافي 1: 223.). وروى
أيضا بسنده عن الصادق (عليه السلام) قال: ان العرب لم يزالوا على شئ من
الحنيفية: يصلون الرحم، ويقرون الضيف، ويحجون البيت، ويتقون مال اليتيم، ويكفون
عن أشياء من المحارم مخافة العقوبة، وكانوا يأخذون من لحاء شجر الحرم فيعلقونه
في أعناق الأبل فلا يجترئ أحد ان يأخذ من تلك الأبل حيثما ذهبت (فروع
الكافي 1: 223.). |
أولاد
معد بن عدنان:
|
نرجع هنا الى ذكر بقية أخبار مكة وولاة البيت من أولاد عدنان،
فنقول: قال اليعقوبي: كان عدنان أول من كسا الكعبة (هذا، وقد سبق أن أول من كساه تبع تبان أسعد اليمني، وقبله هاجر ام
اسماعيل.) ونصب أنصاب الحرم
بمكة. وكان أشرف أولاده معد ابن عدنان، ولما ضاقت مكة بهم وخرج كثير من ولد
اسماعيل لم يخرج هو منها، وكان له عشرة أولاد، منهم قضاعة وبه كان يكنى، وانتقل
قضاعة بأهله وأولاده الى اليمن وأصبح لهم عدد كثير، فانتسب جميع من كان باليمن
من ولد معد الى قضاعة، وانتمت قضاعة الى حمير فحسبوا معهم. وساد من ولد معد نزار بن
معد فأقام بمكة فكان سيد بني أبيه وعظيمهم. وأصبح له من الولد أربعة: مضر وإياد
وربيعة وأنمار، ولما حضرت نزار الوفاة قسم ميراثه على ولده هؤلاء الأربعة: فأعطى
مضر ناقته الحمراء فسمي مضر الحمراء، وأعطى ربيعة فرسه فسمي ربيعة الفرس، وأعطى
إياد غنمه وكانت برقاء (البرقاء
من الشياة التي في خلال صوفها الأبيض طاقات سود - مجمع البحرين.) فسمي إياد البرقاء، وأعطى أنمارا جارية له تسمى بجيلة فسمي بها،
وارتحل أنمار بن نزار الى اليمن فتزوج في بجيلة وخثعم، فانتسب ولده الى أخوالهم
فمنهم في بجيلة ومنهم في خثعم، فحسبوا معهم. وصار ربيعة بن نزار الى بطن عرق (من مواقيت الاحرام ومنازل طريق الحجاز الى العراق، آخر العقيق وأول
تهامة عن مكة على نحو مرحلتين - مجمع البحرين.) ثم كثر ولده وولد ولده فانتشروا حتى امتلأت بطون وديان الفرات في
العراق من جماهير قبائل ربيعة: من عنزة بن أسد، والنمر بن قاسط وبكر بن وائل بن
قاسط، وعجل ابن لجيم، وحنيفة بن لجيم، وتيم بن ثعلبة وقيس بن ثعلبة، وعبد القيس
بن أفصى. ووقع حرب بين بني النمر بن
قاسط وعبد القيس فسارت عبد القيس حتى نزلت اليمامة من أرض اليمن، فكان فيها وفي
تهامة جمع من أولاد معد ابن عدنان، فأقبلت إليهم مذحج تريد غزوهم فالتقوا في
موضع سلان، فكان الظفر لبني ربيعة بن معد بن عدنان وهزمت مذحج، فسمي " يوم
السلان ". وأقبل بنو كندة من
اليمنيين لحرب ربيعة أيضا، وعلى كندة سلمة بن الحارث الكندي، وقد استمد من بعض
الملوك لذلك، فالتقوا بموضع خزاز، ففضت جموع كندة، فصالحهم سلمة، فسمي "
يوم خزاز ". ثم تحارب سلمة مع أخيه شرحبيل بن الحارث الكندي، فاقتسمت ربيعة
فكان بنو عبد القيس مع شرحبيل وسائر ربيعة مع سلمة، فكان لهم العلو على قيس وقتل
شرحبيل الكندي، فسمي " يوم الكلاب ". ومن عشائر ربيعة: بنو شيبان وبنو تغلب، وقتل جساس بن مرة
الشيباني: كليب بن ربيعة التغلبي، فاشتبكت الحروب بينهم ودامت أربعين سنة سميت
" حروب البسوس ". وتشارك بنو شيبان وبنو عجل
من بني بكر بن وائل من عشائر ربيعة في الدفاع عن هانئ بن مسعود الشيباني أمام
جيوش كسرى من العجم ومن معهم من العرب من بني معد بن عدنان وقحطان مع إياس بن
قبيصة الطائي، فالتقوا بذي قار فتحاربوا فهزم بنو عجل وبنو شيبان اولئك، فكان
أول يوم انتصرت فيه العرب من العجم في " يوم ذي قار ". وصار إياد بن نزار بن معد بن عدنان الى اليمامة فولد له أولاد
انتسبوا في القبائل، ثم انتقل قسم منهم الى الحيرة فنزلوا الخورنق والسدير
وبارق، وأجلاهم كسرى عن ديارهم فأنزلهم تكريت - مدينة قديمة على شط دجلة من أرض
الموصل - ثم أخرجهم عن تكريت الى بلاد الروم فنزلوا بأنقرة من أرض الروم،
وجماهير قبائلهم: نزار ومالك ويقدم وحذاقة. وساد من ولد نزار من
معد: مضر بن نزار فكان سيد ولد أبيه وكان كريما حكيما. فولد مضر بن نزار:
الياس بن مضر وعيلان بن مضر. فولد عيلان بن مضر: قيس بن عيلان وأصبح العدد والمنعة في ولد قيس، وجماهير قبائلهم:
عدوان، وفهم، ومحارب، وباهلة، وفزارة، وسليم، وعامر، ومازن، وسلول، وثقيف،
وكلاب، وعقيل، وقشر، والحريش، وعوف. ولقبائل قيس عيلان عشرة حروب مشهورة، منها حرب داحس والغبراء بين
فزارة وعبس. وبان فضل الياس بن مضر
وشرفه، وظهرت منه امور جميلة حتى رضوا به رضا لم يرضوا بأحد من ولد اسماعيل
مثله، فأنكر عليهم ماغيروا من
سنن آبائهم فردهم الى سنن آبائهم حتى رجعت سنتهم على أولها، فكانت العرب تعظم الياس تعظيم أهل الحكمة. وله من الولد: عامر،
وعمرو، وعمير، وألقابهم: مدركة، وطابخة، وقمعة. وولد لطابخة بن الياس: اد بن طابخة، فتفرعت من ولده أربع قبائل هي:
الرباب، وضبة، ومزينة، وتميم. وأصبح العدد في تميم حتى امتلأ بهم البلاد. فمن
جماهير قبائلهم: كعب، وحنظلة، وبنو دارم، وبنو زرارة، وبنو عمرو بن تميم، وبنو
أسد بن تميم، ولهم حروب معروفة (اليعقوبي 1: 223 - 229.). وكان بنو عمرو بن عامر بن
ربيعة قد نزلوا مدينة مأرب باليمن، فلما انهد السد بسيل العرم اعتزلوا سائر
ربيعة وانخزعوا الى مكة فسموا خزاعة لانخزاعهم هذا (مروج الذهب: 2: 29.)
وتزوج منهم قمعة بن الياس فانتسب ولده إليهم (اليعقوبي 1: 223.).
وكانت حجابة البيت لإياد بن نزار (اليعقوبي 1: 238.)،
فنازعه عليها مضر، وثارت الحرب بينهما وكانت على اياد (مروج الذهب 2: 29.)
فلما أرادوا الرحيل عن مكة قلعوا الحجر الأسود وحملوه على جمل فلم ينهض فدفنوه
وخرجوا، وبصرت بهم امرأة من خزاعة حين دفنوه. فلما بعدت اياد اشتد ذلك على مضر
وأعظمه قريش وسائر مضر، فقالت الخزاعية لقومها: اشترطوا على قريش وسائر مضر أن
يصيروا اليكم حجابة البيت حتى أدلكم على الركن، ففعلوا ذلك، فلما أظهروا الركن
صيروا إليهم الحجابة (اليعقوبي
1: 238.) ووليت خزاعة أمر
البيت وأول من وليه منهم (مروج
الذهب 2: 29.) عمرو
بن لحي بن قمعة بن الياس - فهو من مضر التي انتمت الى خزاعة - وهو أول من غير
دين ابراهيم (عليه السلام) (اليعقوبي 1: 238. واسمه في المسعودي: عمرو بن لحي بن عامر 2: 29 ط
بيروت.). وولد مدركة بن الياس: هذيلا، وخزيمة، وغالبا، وحارثة: وكان العدد منهم في بني سعد بن
هذيل، وكانوا فصحاء شعراء أصحاب نجدة وحروب وغارات على تعبير اليعقوبي. وأما
حارثة بن مدركة فدرج صغيرا ومات، وأما بنو غالب فانتسبوا في بني خزيمة، لأنه كان
يعد له الفضل والسؤدد حتى كان أحد حكام العرب. فولد خزيمة بن مدركة: أسد، والهون، وكنانة. وانتقل ولد أسد الى اليمن، وهم: دودان،
وكاهل، وعمرو، وهند، والصعب، وتغلب. وكان العدد في بني دودان، ومنه تفرقت قبائل
بني أسد: قعين، وفقعس، ومنقذ، وديان ووالبة، ولاحق، وحرثان، ورئاب، وبنو
الصيداء، وانتشر ولده في اليمن، ومن قبائلهم: جذام، ولخم، وعاملة، وبنو عمرو بن
أسد، وكانت منتشرة من تهامة الى قصور الحيرة: الخورنق والسدير وبارق، وكانت
محاربة لكندة في اليمن ومحالفة لطئ في العراق، ثم تحاربوا وأخذ بعضهم من بعض
سبايا، ثم ردوا الظعائن. وولد كنانة بن خزيمة: النضر، وحدال، وسعدا، ومالكا، وعوفا، ومخرمة، وعليا، وغزوان،
وجرولا، والحارث، وعبد مناة. والعدد في أبناء عبد مناة هذا، فمنهم: بنو ليث،
وبنو الدئل، وبنو ضرة، وبنو غفار، وبنو جذيمة، وبنو مدلج. فهذه جماهير قبائل
كنانة. والنضر بن كنانة
هو الذي سمته امه قريشا وهو تصغير قرش وهي دويبة بحرية، فولد النضر بن كنانة:
الصلت ويخلد ومالك، وكان
النضر يكنى أبا الصلت، وصار
ولد الصلت مع خزاعة ولم يبق من يخلد أحد يعرف. وانما أصبح مالك بن النضر عظيم الشأن، وكان له من الولد: فهر
والحارث وشيبان، واختلفوا في اسم فهر هل اسمه فهر ؟ أو اسمه قريش ولقبه فهر،
ومنه القرشيون فقط. وظهر في فهر بن مالك علامات فضل في حياة أبيه، فلما هلك أبوه
قام مقامه. وكان لفهر بن مالك من الولد: غالب، والحارث، ومحارب وجندلة، وكان
غالب أفضلهم وأظهرهم مجدا، فلما مات هو شرف غالب وعلا أمره. وكان له من الولد:
لؤي، وتيم، وتغلب، ووهب، وكثير، وحراق. وساد لؤي من بينهم، فلما مات غالب بن فهر
قام لؤي بن غالب مقامه. وكان للؤي من الولد: كعب، وعامر، وسامة، وخزيمة، وعوف،
والحارث الجشم، وسعد، فصار عامر الى عمان وتزوج امرأة من مدينة قرن في اليمن،
وكان له من الولد: حسل ومعيص وعويص. ونزح خزيمة الى بني شيبان فانتسب ولده الى
بني ربيعة. ونزح الحارث الجشم وسعد الى هزان فانتسبوا إليهم. وانتمى عوف بن لؤي
الى عوف بن سعد بن ذبيان في أرض غطفان. وكان أعظم هؤلاء شرفا وقدرا كعب بن لؤي حتى أن قريشا أرخت من موته، وكان له من الولد: مرة، وعدي، ومنه
بنو عدي رهط عمر بن الخطاب، وهصيص ومنه بنو جمح وبنو سهم. وساد مرة بن كعب، وولد له: يقظة وتيم ومنه بنو تيم رهط أبي بكر ابن أبي قحافة عتيق التيمي،
وكلاب، وساد من بينهم كلاب هذا. وكان لكلاب بن مرة من الولد: قصي، وزهرة. وكان اسم قصي: زيدا،
الا أن أباه كلابا مات وهو صغير في حجر امه، وقدم رجل من بني عذرة من قضاعة يقال
له: ربيعة بن حرام العذري فتزوجها وخرج بها الى قومه وحملت زيدا معها فلما بعد
من دار قومه سمته قصيا. فلما شب عرف أنه ابن كلاب بن مرة وأن قومه كانوا آل الله
وفي حرمه فكره قصي الغربة وأحب أن يخرج الى قومه، وخرج في الشهر الحرام في حجاج
قضاعة حتى قدم مكة وأقام بها وتزوج حبى ابنة حليل الخزاعي (اليعقوبي
1: 229 - 239.) وهو آخر من ولي البيت من خزاعة (سيرة ابن
هشام 1: 123 ومروج الذهب 2: 31.) فولدت
له عبد مناف، وعبد الدار، وعبد العزى، وعبد قصي. قال المسعودي: وكانت ولاية البيت ثلاث خصال: الاجازة بالناس من عرفة، والإفاضة
بالناس غداة النحر الى منى، والنسئ للشهور الحرم. وكانت النسأة في بني مالك بن
كنانة، وذلك ان العرب كانت إذا فرغت من الحج وأرادت الرجوع اجتمعت الى شريف
كنانة فيقوم فيهم فيقول: اللهم اني قد أحللت أحد الصفرين: الصفر الأول، وأنسأت
الآخر للعام المقبل (مروج الذهب 2: 30 ويقصد بالصفر الأول: محرم.). قال اليعقوبي: وكان
الحج واجازة الناس من عرفات للغوث بن مر الملقب بالصوفة، وكانت الحجابة لخزاعة.
فلما حضر الحج جمع قصي إليه قومه من بني فهر بن مالك وحال بين صوفة وبين
الإجازة، فعلمت بنو بكر وخزاعة ان قصيا سيصنع بهم كما صنع بصوفة فسيحول بينهم
وبين الأمر بمكة وحجابة البيت. فانحازوا عنه وصاروا الى صوفة، فأجمع قصي لحربهم
واستمد من اخوانه من الرضاعة في بني عذرة من قضاعة، وقيل انهم وافوا يريدون الحج
فأعانوه، فاقتتلوا قتالا شديدا بالأبطح وكثرت القتلى في الفريقين ثم تداعوا الى
الصلح بالتحاكم الى يعمر بن عوف من بني كنانة، فقضى بينهم بأن قصيا أولى بالبيت
وأمر مكة من خزاعة، وأن كل دم أصابه قصي من خزاعة وبني بكر فهو موضوع، وأن ما
اصابت خزاعة وبنو بكر من قريش ففيه الدية، فودوا خمسا وعشرين بدنة وثلاثين حرجا،
أي قطيعا من الغنم. وروى بعضهم: أ نه
لما تزوج قصي حبى ابنة حليل الخزاعي، أوصى حليل عند موته بولاية البيت الى قصي. وقال آخرون: بل
دفع حليل الخزاعي مفتاح البيت الى أبي غبشان سليمان بن عمرو، فاشتراه قصي منه
بزق خمر على ابل قعود - وهي الناقة التي يقتعدها الراعي في كل حاجته - فجرى مثلا
في العرب فقالوا: أخس من صفقة أبي غبشان. ووثبت خزاعة فقالت: لا نرضى بما صنع
أبو غبشان، فوقعت بينهم الحرب. فولي قصي البيت وأمر مكة
والحكم (اليعقوبي
1: 238 - 240 وكان ذلك في النصف الأول من القرن الخامس الميلادي كما في سيرة
المصطفى: 30.) واستقام أمره فعشر على من دخل مكة من غير قريش (مروج
الذهب 2: 32.) ولم يكن في الحرم بمكة بيت، انما كانوا يكونون بها نهارا فإذا
امسوا خرجوا، وكانوا في الشعاب ورؤوس الجبال، فجمع قصي قبائل قريش فقسم بينهم
منازلهم فأمر لقبائل قريش بالأبطح بمكة، وقسمه بينهم أرباعا، فكانت قريش كلها
بالأبطح خلا بني محارب والحارث ابن فهر، وبني تميم الأدرم، وبني عامر بن لؤي،
فانهم نزلوا الظواهر. فلما استقامت له الامور قدم البيت فبناه بنيانا لم يبنه
أحد، كان طول جدرانه تسع أذرع فجعله ثماني عشرة ذراعا، وسقف البيت بخشب شجر
الدوم - وهو شجر ضخم يشبه النخل - وبنى دار الندوة الى جانب الصفا. فكانوا لا
يتشاورون في أمر ولا يعقدون لواء للحرب ولا يختنون، ولا يتناكحون الا في دار
الندوة. وحفر بئر العجول (اليعقوبي
1: 240.). وقال ابن اسحاق:
حدثني أبي اسحاق بن يسار عن الحسن بن محمد ابن علي بن أبي طالب رضي الله عنه
قال: سمعته يقول: فولي قصي البيت وأمر مكة، فكانت إليه الحجابة - وهي مفاتيح
البيت - والسقاية، والرفادة واتخذ لنفسه دار الندوة (صارت
الدار في الإسلام الى حكيم بن حزام بن خويلد فاشتراها منه معاوية بمائة ألف درهم
وأدخلها في المسجد.) جعل بابها الى جهة الكعبة، فكانت قريش تقضي امورها فيه، فكانوا لا
يتشاورون في أمر نزل بهم، ولايعقدون لواء لحرب قوم من غيرهم الا في داره - دار
الندوة - يعقده لهم أحد ولده، حتى الجارية من قريش كانت إذا بلغت ان تتدرع - أي
تلبس الدراعة وهي ستر كالعباءة القصيرة - لم تكن تتدرع الا في داره - دار الندوة
- ففيها كان يشق لها دراعتها ثم ينطلق بها أهلها (سيرة ابن
هشام 1: 131 - 132.). وكان قصي هو الذي فرض الرفادة على قريش وأمرهم بها فقال " يا معشر قريش ! إنكم جيران الله وأهل بيته، أهل الحرم، وان
الحاج ضيف الله وزوار بيته، وهم أحق الضيف بالكرامة، فاجعلوا لهم طعاما وشرابا
أيام الحج حتى يصدروا عنكم ". فكانوا يخرجون لذلك كل عام من أموالهم خرجا فيدفعونه إليه فيصنعه
طعاما للناس ايام منى، فيأكله من لم يكن له سعة ولا زاد وجرى ذلك فيهم حتى ظهر
الإسلام. فلما كبر قصي ودق عظمه، رأى أن عبد مناف قد شرف في زمانه وهو
ثاني أبنائه وبكره هو عبد الدار، فقال له: أما والله يا بني لالحقنك بهم وان كانوا قد شرفوا عليك: لا يدخل
الكعبة رجل حتى تفتحها انت لهم، ولا يعقد أحد لواء حرب لقريش الا انت، ولا يشرب
احد بمكة الا من سقايتك، ولا يأكل أحد من أهل الموسم طعاما الا من طعامك، ولا
تقطع قريش أمرا من امورها الا في دارك. فأعطاه الحجابة واللواء والسقاية
والرفادة ودار الندوة التي لا تقضي أمرا من أمورها الا فيها، فجعل إليه قصي كل
ما كان بيده من أمر قومه، وكان قصي لا يخالف ولا يرد عليه شئ صنعه (سيرة ابن
هشام 1: 136 - 137.). وقال اليعقوبي:
ان قصيا قسم أمره بين ولده: فجعل السقاية والرئاسة لعبد مناف، والدار لعبد
الدار، والرفادة لعبد العزى، وحافتي الوادي لعبد قصي. ومات قصي ودفن بالحجون. ورأس عبد مناف بن قصي وجل قدره وعظم شرفه، ولما كبر أمره جاءته خزاعة وبنو الحارث من
كنانة فسألوه أن يعقد بينهم الحلف ليعزوا به، فعقد بينهم الحلف الذي يقال له:
حلف الأحابيش. وولد لعبد مناف: هاشم -
واسمه عمرو - وعبد شمس، والمطلب ونوفل، وأبو عمرو، وحنة، وتماضر، وأربع بنات. وشرف هاشم بعد أبيه وجل
أمره، واصطلحت قريش على ان يولوا هاشما الرئاسة والسقاية والرفادة
(اليعقوبي:242:1). وروى ابن اسحاق عن أبيه اسحاق بن يسار، عن الحسن بن محمد ابن علي بن أبي طالب انه قال
لنبيه بن وهب الهاشمي: ان قصي بن كلاب جعل كل ما كان بيده من أمر قومه الى عبد
الدار، وكان قصي لا يخالف ولا يرد عليه شئ صنعه، فأقامت قريش على ذلك ليس بينهم
اختلاف وتنازع، حتى انتهى الأمر في عبد الدار الى حفيده: عامر بن هاشم بن عبد
مناف بن عبد الدار ! ثم أجمع بنو عبد مناف بن قصي: عبد شمس وهاشم والمطلب ونوفل، اجمعوا
على ان يأخذوا مابأيدي بني عبد الدار بن قصي جعله إليهم من الحجابة واللواء
والسقاية والرفادة، ورأوا انهم اولى بذلك منهم لشرفهم عليهم وفضلهم في قومهم،
فتفرقت عند ذلك قريش: فكانت طائفة مع بني عبد مناف على رأيهم يرون أ نهم أحق به
من بني عبد الدار لمكانهم في قومهم، وطائفة مع بني عبد الدار يرون ان لا ينزع
منهم ماكان قصي جعل إليهم. فكان مع بني عبد مناف بنو أسد بن عبد العزى بن قصي، وبنو زهرة ابن
كلاب، وبنو تميم بن مرة، وبنو الحارث بن فهر. وكان مع بني عبد الدار: بنو مخزوم، وبنو سهم، وبنو جمح، وبنو عدي
بن كعب. وعقد كل قوم على أمرهم حلفا مؤكدا على أن لا يتخاذلوا ولا يسلم
بعضهم بعضا: فيزعمون ان بعض نساء بني
عبد مناف أخرجت لهم جفنة مملؤة طيبا، فوضعوها لأحلافهم في المسجد عند الكعبة، ثم
غمس القوم أيديهم فيها، فتعاقدوا وتعاهدوا مع حلفائهم ثم مسحوا الكعبة بأيديهم
توكيدا على أنفسهم، فسموا (المطيبين). وتعاقد
بنو عبد الدار
وتعاهدوا مع حلفائهم عند الكعبة حلفا مؤكدا على أن لا يتخاذلوا ولا يسلم بعضهم
بعضا، فسموا (الأحلاف). ثم تداعوا الى الصلح على
أن يعطوا بني عبد مناف: السقاية والرفادة، وأن تكون الحجابة واللواء والندوة
لبني عبد الدار كما كانت، فرضي كل واحد من الفريقين بذلك وتحاجزوا عن الحرب (سيرة ابن
هشام 1: 137 - 140.) هكذا يقتصر هذا الخبر على ذكر بني عبد مناف وبني عبد الدار دون
ذكر شخص خاص منهم، ولكنه بدأ بذكر عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن
قصي، من بني عبد الدار، فلا يناسب أن يكون معارضه المعاصر هاشم بن عبد مناف بن
قصي، بل إما عبد المطلب أو أحد أبنائه ليمكن أن يكون متزامنا معه معاصرا له من
حيث سلسلة النسب. واختصر اليعقوبي هذا فقال: واصطلحت قريش على ان يولوا هاشما الرئاسة والسقاية والرفادة (اليعقوبي 1: 242.) والظاهر أ نه يريد من " هاشما " هنا بني هاشم لا هاشم
نفسه، والمقصود من بني هاشم هو عبد المطلب ابنه، كما أ نه قد ذكر بشأن عبد
المطلب: أن بني عبد الدار لما رأوا حال عبد المطلب وأ نه قد حاز الفخر مشوا الى
بني سهم فقالوا لهم: امنعونا من بني عبد مناف ! فلما رأى ذلك بنو عبد مناف: بنو
المطلب وبنو هاشم وبنو نوفل - واختلف في بني عبد شمس فقال الزبيري: لم يكونوا
فيهم - اجتمعوا، فخرجت ام حكيم بنت عبد المطلب وأخرجت طيبا في جفنة فوضعتها في
الحجر، فتطيب بنو عبد مناف، وأسد، وزهرة، وبنو تيم، وبنو الحارث، فسمي حلفهم: حلف المطيبين. فلما سمعت بذلك بنو سهم ذبحوا
بقرة وقالوا: من أدخل يده في دمها ولعق منه فهو منا، فأدخلت أيديها بنو عبد
الدار، وبنو سهم، وبنو جمح، وبنو عدي، وبنو مخزوم، فسمي حلفهم: حلف اللعقة (اليعقوبي
1: 248. وفي ج 2: 17 ذكر حلف الفضول فقال " وحضر رسول الله حلف الفضول وقد
جاوز العشرين " وقد قال في وفاة عبد المطلب: وتوفي عبد المطلب ولرسول الله
ثماني سنين 2: 13 إذن فحلف الفضول كان بعد اثني عشر عاما بعد عبد المطلب: أما
الذي كان على عهد عبد المطلب فانما هو حلف اللعقة (حلف الأحلاف) دون حلف الفضول،
أما حلف الفضول فقد تأخر عنه بأكثر من اثني عشر عاما ولم أر من تنبه له.). قال اليعقوبي: وكان هاشم
أول من سن الرحلتين: رحلة
الشتاء الى الشام ورحلة الصيف الى الحبشة واليمن. وذلك أن تجارة قريش كانت لا تعدو مكة فكانوا في ضيق، حتى ركب هاشم
الى الشام الى قيصر، فقال له: أيها الملك ان لي قوما من تجار العرب، فتكتب لهم كتابا
يؤمنهم ويؤمن من تجاراتهم حتى يأتوا بما يستطرف من أدم (الادم بفتحتين: جمع الأديم: الجلد المدبوغ، والادم بضمتين: جمع
الأدام للطعام.)
الحجاز وثيابه. ففعل قيصر ذلك، فانصرف هاشم فجعل كلما مر بحي من أحياء العرب أخذ
من أشرافهم الأيلاف - أي العهد - أن يأمنوا عندهم وفي أرضهم، فأخذ الإيلاف من
الشام الى مكة (اليعقوبي
1: 244.) وذلك قول الله
تعالى: * (لأيلاف قريش
ايلافهم رحلة الشتاء والصيف فليعبدوا رب هذا البيت الذي اطعمهم من جوع وآمنهم من
خوف) * (قريش: 1 - 4.). وخرج هاشم بتجارات عظيمة يريد الشام، فجعل يمر بأشراف العرب فيحمل
لهم التجارات ولا يلزمهم لها مؤونة حتى صار الى " غزة " فتوفي بها.
وانما لقب بهاشم - واسمه عمرو - لانه كان يهشم الخبز ويصب عليه المرق واللحم
فيطعمهم بمكة ومنى وعرفات والمزدلفة يثرد لهم الخبز في السمن واللحم والسويق،
ويأمر بحياض من أدم فتجعل في موضع زمزم، فيسقي الناس فيها من الآبار التي بمكة (اليعقوبي
1: 242 - 244.) أما زمزم فقد كانت جرهم طمته ولم يحفر بعد. وقد نقل اليعقوبي
خبرا عن تاجر من بني كلاب حضر موسم الحج فوصف لنا كيفية رفادة هاشم فقال: قال الأسود بن شعر الكلبي: كنت عسيفا - أي عاملا -
لعقيلة من عقائل الحي، أركب الصعبة والذلول، لا ابقي مطرحا من البلاد أرتجي فيه
ربحا من الأموال الا ركبت إليه من الشام بأثاثه وخرثيه - أي متاعه - أريد كبة
العرب أي جماعتهم. فعدت من الشام وقد دهم الموسم، فدفعت الى الموسم مسدفا - أي
ليلا - فحبست الركاب حتى انجلى عني قميص الليل، وإذا جزر تنحر واخرى تساق للنحر،
وطهاة يطهون الطعام للأكل. فبهرني ما رأيت فتقدمت اريد عميدهم. وعرف رجل شأني
فقال: أمامك، فدنوت، فإذا رجل على عرش سام، تحته نمرقة، قد كار - اي لف - عمامة
سوداء، وأخرج من ملاثمها جمة شعر فينانة - اي كفنن الشجر في الطول والحسن - كان
الشعرى تطلع من جبينه وفي يده مخصرة، وحوله مشيخة جلة، منكسوا الأذقان، ما منهم
احد يفيض بكلمة، ودونهم خدم مشمرون الى أنصافهم، وإذا برجل مجهر على نشز من
الأرض ينادي: يا وفد الله هلموا الى الغداء، وانسيان على طريق من طعم يناديان:
يا وفد الله من تغد فليرجع الى العشاء. فقلت لرجل كان الى جانبي: من هذا ؟ اريد
العميد ؟ فقال: أبو نضلة هاشم بن عبد مناف. فخرجت وأنا اقول: هذا والله المجد،
لامجد آل جفنة ! وكان هاشم لما
أراد الخروج الى الشام حمل امرأته وابنه شيبة بن هاشم ليجعل أهله عند أهلها
بالمدينة " يثرب " بني عدي بن النجار. ولما بلغ نبأ وفاة هاشم الى مكة قام بأمر مكة بعده أخوه المطلب بن عبد مناف. فلما كبر شيبة بن
هاشم وبلغ المطلب بن عبد مناف وصف حال شيبة ابن أخيه هاشم، خرج الى المدينة حتى
دخلها عشاء - أي قرب العشية - فأتى بني عدي بن النجار وعرفه القوم ورأى غلاما
على ما وصف له فقال: هذا ابن هاشم ؟ قال القوم: نعم، فذهب به معه. ودخل المطلب مكة وخلفه شيبة بن هاشم، والناس في أسواقهم ومجالسهم،
فقاموا يرحبون به ويحيونه ويسألونه: من هذا معك ؟ فيقول: عبدي ابتعته بيثرب ! ثم
دخل سوق الحزورة - الى جانب المسجد الحرام - فابتاع له حلة، ثم أدخله داره. فلما كان العشي - أي العصر - ألبسه الحلة، ثم خرج به معه فأجلسه
معه في مجلس بني عبد مناف فأخبرهم خبره. ولكن غلب عليه اسم: عبد المطلب. وأراد المطلب أن يشارك في رحلة الشتاء الى اليمن، فقال لعبد المطلب:
أنت يا بن أخي أولى بموضع أبيك، فقم بأمر مكة. ثم رحل فتوفي في سفره ذلك بردمان
- من حصون اليمن - فقام عبد المطلب بأمر مكة وساد وشرف. وأقرت له قريش بالشرف (اليعقوبي
1: 244 - 246.). |
حفر
بئر زمزم:
|
قال ابن اسحاق:
كانت جرهم قد دفنت زمزم حين ظعنوا من مكة (سيرة ابن
هشام 1: 116.). وقال اليعقوبي:
قال محمد بن الحسن: لما تكامل لعبد المطلب مجده وأقرت له قريش بالفضل رأى في
المنام وهو في الحجر ان آتيا أتاه فقال له: قم يا أبا البطحاء واحفر زمزم حفيرة
الشيخ الأعظم (اليعقوبي 1: 246.). وروى ابن اسحاق بثلاث
وسائط عن علي (عليه السلام) انه قال: قال عبد المطلب: اني لنائم في الحجر إذ أتاني آت فقال: احفر طيبة،
قال: قلت: وماطيبة ؟ قال: ثم ذهب عني. فلما كان الغد رجعت الى مضجعي فنمت فيه،
فجاءني فقال: احفر برة، قال: قلت: فما برة ؟ قال: ثم ذهب عني ؟. فلما كان الغد
رجعت الى مضجعي فنمت فيه، فجاءني فقال: احفر المضنونة، قال: فقلت: وما المضنونة
؟ قال: ثم ذهب عني فلما كان الغد رجعت الى مضجعي فنمت فيه فجاءني فقال: احفر
زمزم، قال: قلت: وما زمزم ؟ قال: لا تنزف أبدا ولا تذم، تسقي الحجيج الأعظم، وهي
بين الفرث والدم، عند نقرة الغراب الأعصم (الغراب الذي في جناحيه بياض.)، عند قرية النمل. فلما بين له شأنها ودل على
موضعها وعرف انه قد صدق الرؤيا غدا بمعوله ومعه ابنه الحارث بن عبد المطلب - ليس
له يومئذ ولد غيره - فحفر فيها. فلما بدا لعبد المطلب الحجارات التي طوي بها البئر عرفت قريش أ نه
قد أدرك حاجته، فقاموا إليه فقالوا: يا عبد المطلب إنها بئر أبينا اسماعيل، وان
لنا فيها حقا فاشركنا معك فيها، قال: ما أنا بفاعل إن هذا الأمر قد خصصت به
دونكم وأعطيته من بينكم. فقالوا له: فانصفنا فإنا غير تاركيك حتى نخاصمك فيها !
قال: فاجعلوا بيني وبينكم من شئتم احاكمكم إليه قالوا: كاهنة بني سعد: هذيم.
قال: نعم. وكانت باشراف الشام. فركب عبد المطلب ومعه نفر من بني أبيه بني عبد مناف، وركب من كل
قبيلة من قريش نفر، فخرجوا حتى إذا كانوا ببعض المفاوز بين الحجاز والشام فني
ماء عبد المطلب وأصحابه فظمئوا حتى أيقنوا بالهلكة، فاستسقوا من معهم من قبائل
قريش فأبوا عليهم وقالوا: إنا بمفازة، ونحن نخشى على أنفسنا مثل ما أصابكم. فلما رأى عبد المطلب ما صنع القوم وما يتخوف منه على نفسه وأصحابه قال لهم: اني أرى أن
يحفر كل رجل منكم حفرته لنفسه بما بكم الآن من القوة، فكلما مات رجل دفعه أصحابه
في حفرته ثم واروه، حتى يكون آخركم واحدا، فضيعة رجل واحد أيسر من ضيعة ركب
جميعا. قالوا: نعم، وقام كل واحد منهم فحفر حفرته ثم قعدوا ينتظرون الموت عطشا. ثم قال عبد المطلب لأصحابه: ارتحلوا فعسى الله أن يرزقنا ماء ببعض البلاد، وتقدم عبد المطلب
الى راحلته فركبها، فلما انبعثت به انفجرت من تحت خفها عين من ماء عذب، فكبر عبد
المطلب وكبر أصحابه، ثم نزل فشرب وشرب أصحابه واستقوا حتى ملأوا أسقيتهم. ثم دعا
سائر قريش فقال: هلموا الى الماء فقد سقانا الله فاشربوا واستقوا. فجاؤا فشربوا
واستقوا، ثم قالوا: قد - والله - قضى لك علينا يا عبد المطلب، فلا نخاصمك في
زمزم أبدا، فإن الذي سقاك هذا الماء بهذه الفلاة لهو الذي سقاك زمزم، فارجع الى
سقايتك راشدا. فرجعوا (سيرة ابن هشام 1: 150 - 153. ورواه عنه ابن أبي الحديد في شرح النهج
3: 465 ط 4 مجلدات واختصره اليعقوبي 1: 248.). وروى اليعقوبي عن محمد بن الحسن أ نه قال: كانت قريش تفسد ذلك الحوض الذي كان يسقي منه عبد المطلب وتكسره،
فرأى في المنام أيضا: أن قم فقل: اللهم اني لا احله لمغتسل انما هو حل للشارب.
فقام عبد المطلب فقال ذلك، فلم يكن يفسد ذلك الحوض أحد الا رمي بداء من ساعته،
فتركوه. وكان - لما حفر - وجد سيوفا وسلاحا وغزالا - من ذهب - مقرطا مجزعا
ذهبا وفضة ! فلما رأت قريش ذلك قالوا: يا أبا الحارث ! أعطنا من هذا المال الذي
أعطاك الله فإنها بئر أبينا اسماعيل فاشركنا معك، فقال: امهلوني. فلما استقام له
الأمر جعل الذهب صفائح على باب الكعبة، وكان أول من حلى الكعبة بعد حليها على
عهد جرهم (اليعقوبي 1: 246، 247 ورواه الكليني عن علي بن ابراهيم مرفوعا في
فروع الكافي 1: 225.). وقال المسعودي:
حفر عبد المطلب بن هاشم بئر زمزم، وكانت مطوية، وذلك في ملك كسرى قباد، فاستخرج
منها غزالتي ذهب عليهما الدرر والجوهر وغير ذلك من الحلي، وسبعة أسياف قلعية
وسبعة أدرع سوابغ، فضرب من الأسياف بابا للكعبة، وجعل احدى الغزالين صفائح ذهب
في الباب، وجعل الاخرى في الكعبة وجعل باب الكعبة مذهبا (مروج
الذهب 2: 103.). |
|
الفصل
الثاني كيف نشأ النبي (صلى الله عليه وآله)
|
آباء
النبي (صلى الله عليه وآله)
|
ايمان
عبد المطلب:
|
قال المسعودي: قد
تنازع الناس في عبد المطلب: فمنهم من رأى ان عبد المطلب وغيره من آباء النبي -
صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - كان مشركا الا من صح ايمانه. ومنهم من رأى ان عبد
المطلب كان مؤمنا موحدا وأ نه لم يشرك بالله عز وجل، ولا احد من آباء النبي -
صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - وانه نقل في الأصلاب الطاهرة، وانه - صلى الله
عليه [ وآله ] وسلم - اخبر: انه ولد من نكاح لا من سفاح. وهذا موضع فيه تنازع
بين الإمامية وغيرهم من الفرق في النص والأختيار: وليس كتابنا هذا للحجاج فنذكر
حجة كل فريق منهم. وكان عبد المطلب يوصي ولده بصلة الأرحام واطعام الطعام
ويرغبهم ويرهبهم فعل من يرقب معادا وبعثا ونشورا، وقد أوصى أبا طالب بالنبي - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - (مروج
الذهب 2: 103 و 108.).
وروى الصدوق في (الخصال) بسنده عن الصادق (عليه السلام): ان النبي - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - قال لعلي (عليه السلام): ان عبد المطلب سن في الجاهلية خمس سنن
أجراها الله له في الإسلام: حرم نساء الآباء على الأبناء وأنزل الله عزوجل * (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء) * (النساء:
22.) ووجد كنزا (يمكن أن يكون المقصود منه ما وجده مما كانت جرهم قد دفنته في بئر
زمزم من هدايا الكعبة، كما مر.)
فأخرج منه الخمس وتصدق به، وأنزل الله عزوجل * (واعلموا ان ما غنمتم من شئ فان لله خمسه) * (الأنفال:
41.). ولما حفر بئر زمزم
سماها: سقاية الحاج، وأنزل الله عز وجل * (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم
الآخر) * (التوبة: 19.). وسن
عبد المطلب في القتل مائة من الإبل فأجرى الله ذلك في الإسلام. ولم يكن للطواف
عدد عند قريش فسن فيهم عبد المطلب سبعة أشواط فأجرى الله ذلك في الإسلام. يا علي
! ان عبد المطلب كان لا يستقسم بالأزلام، ولا يعبد الأصنام، ولا يأكل ما ذبح على
النصب، ويقول: أنا على دين أبي ابراهيم (عليه السلام) (الخصال:
312 ط غفاري.). وروى
الكليني في (الكافي) رواية عن الصادق (عليه السلام) بثلاث طرق: عن مقرن وزرارة ومفضل بن عمر عنه (عليه السلام) قال: يحشر عبد
المطلب يوم القيامة أمة وحده، عليه سيماء الأنبياء وهيبة الملوك (اصول
الكافي 1: 446 و 447، اي وحده في الايمان دون معاصريه.). وروى
الشيخ المفيد في (الإختصاص) بسنده عن عبد الرحمن بن خالد مولى المنصور العباسي
قال: اخرج الي بعض ولد سليمان بن علي العباسي كتابا بخط عبد المطلب وإذا هو شبيه
بخط الصبيان وهو: بسمك اللهم، ذكر حق عبد المطلب بن هاشم من اهل مكة على فلان بن
فلان الحميري من اهل زول (ذكره
ياقوت في معجم البلدان فقال: اسم مكان باليمن وجد بخط عبد المطلب بن هاشم.) صنعاء، عليه ألف درهم فضة طيبة كيلا بالحديد، ومتى دعاه بها
أجابه، شهد الله والملكان (الإختصاص: 123 ط غفاري وذكره ابن النديم في الفهرست. ولا نؤكد نسبة
الكتاب الى الشيخ المفيد.). وهذا يدل على ايمانه بالله والملائكة. وقال اليعقوبي: انه كان
يوحد الله عزوجل، وقد رفض عبادة الأصنام، وسن سننا سنها رسول الله ونزل بها
القرآن، وهي: الوفاء بالنذر، ومائة من الإبل في الدية، وان لا تنكح ذات محرم،
ولا تؤتى البيوت من ظهورها، وقطع يد السارق، والنهي عن قتل الموؤدة والمباهلة،
وتحريم الخمر، وتحريم الزنا والحد عليه، والقرعة، وأن لا يطوف أحد بالبيت
عريانا، واضافة الضيف، وان لا ينفقوا إذا حجوا الا من طيب أموالهم، وتعظيم
الأشهر الحرم، ونفي ذوات الريات فكانت قريش تقول: عبد المطلب ابراهيم الثاني (اليعقوبي
2: 10، 11 ط بيروت.). وقال الشهرستاني في (الملل والنحل): كان يأمر ولده بترك الظلم والبغي ويحثهم على مكارم الأخلاق
وينهاهم عن دنيات الامور، وكان يقول في وصاياه: إنه لن يخرج من الدنيا ظلوم حتى
ينتقم منه وتصيبه عقوبة، وهلك رجل ظلوم لم تصبه عقوبة فقيل لعبد المطلب في ذلك
ففكر فقال: والله إن وراء هذه الدار دارا يجزى فيها المحسن بإحسانه ويعاقب فيها
المسئ بإساءته (الملل والنحل للشهرستاني نقلا عن البحار 15: 121. وللتفصيل انظر
الصحيح 1: 149 - 154.). |
أبناء
عبد المطلب والذبيح منهم:
|
روى الصدوق في (الخصال) بسنده عن الصادق عن أبيه (عليهما السلام) عن
جابر بن عبد الله الأنصاري قال: سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن ولد عبد المطلب فقال: عشرة
والعباس. يعني أحد عشر رجلا. ثم قال الصدوق:
أسنهم الحارث - وبه كان يكنى عبد المطلب - وعبد العزى وهو أبو لهب، وأبو طالب -
وهو عبد مناف - وضرار، والزبير، والغيداق، والمقوم، والحجل، وحمزة، والعباس،
وعبد الله (الخصال: 452، 453.). وروى فيه بسنده عن الباقر (عليه السلام) قال: كان عبد المطلب ولد له تسعة، فنذر في العاشر: إن رزقه الله غلاما:
ان يذبحه فلما ولد عبد الله لم يكن يقدر ان يذبحه ورسول الله (صلى الله عليه
وآله) في صلبه، فجاء بعشر من الأبل وساهم عليها وعلى عبد الله، فخرجت السهام على
عبد الله، فزاد عشرا، فلم تزل السهام تخرج على عبد الله ويزيد عشرا، فلما ان
بلغت مائة خرجت السهام على الإبل، فقال عبد المطلب: ما أنصفت ربي، فأعاد السهام
ثلاثا فخرجت على الإبل فقال: الآن علمت ان ربي قد رضي، فنحرها (الخصال: 156.). وروى في (عيون الأخبار)
بسنده عن علي بن الحسين بن فضال قال: سألت الرضا (عليه السلام) عن معنى قول النبي (صلى الله عليه وآله):
أنا ابن الذبيحين ؟ قال: " يعني اسماعيل بن ابراهيم الخليل (عليه السلام)
وعبد الله بن عبد المطلب " الى ان قال: " فان عبد المطلب كان قد تعلق
بحلقة باب الكعبة ودعا الله ان يرزقه عشرة بنين، ونذر لله عزوجل ان يذبح واحدا
منهم متى أجاب الله دعوته. فلما بلغوا عشرة قال: قد وفى الله لي، فلأوفين لله عزوجل: فأدخل ولده الكعبة وأسهم
بينهم، فخرج سهم عبد الله أبي رسول الله (صلى الله عليه وآله) وكان أحب ولده
إليه، ثم اجالها ثانية فخرج سهم عبد الله، ثم اجالها ثالثة فخرج سهم عبد الله !
فأخذه وعزم على ذبحه ! فاجتمعت قريش ومنعته من ذلك، واجتمع نساء عبد المطلب
يبكين ويصحن، وقالت ابنته عاتكة: يا أبتاه اعذر فيما بينك وبين الله في قتل
ابنك. قال: وكيف اعذر يا بنيه ؟ قالت: اعمد الى تلك السوائم التي لك في الحرم
فاضرب القداح على ابنك وعلى الإبل واعط ربك حتى يرضى. فبعث عبد المطلب الى ابله فأحضرها وعزل منها عشرا وضرب بالسهام
فخرج سهم عبد الله، فما
زال يزيد عشرا عشرا حتى بلغت مائة، فضرب فخرج السهم على الإبل، فكبرت قريش
تكبيرة ارتجت لها جبال تهامة ! فقال عبد المطلب: لا، حتى اضرب بالقداح ثلاث مرات
فضرب ثلاثا كل ذلك يخرج السهم على الإبل ! فلما كانت في الثالثة اجتذبه الزبير
وأبو طالب واخواتهما من تحت رجليه فحملوه - وكان خده على الأرض فانسلخت جلدة خده
- وأقبلوا يرفعونه ويقبلونه ويمسحون عنه التراب. وأمر عبد المطلب أن تنحر الإبل
بالحزورة (الحزورة كدحرجة: تل معروف في مكة كان يتخذ سوقا - كما في الصحاح وقد
نقل الخبر ابن اسحاق في سيرته يقول: فيما يزعمون. ثم جاء بالخبر ناسبا الى عبد
المطلب أنه ذبح للأصنام: وهو مردود بما رويناه سندا معتبرا عن أئمة أهل البيت
(عليهم السلام).) ولا يمنع أحد منها. فكانت لعبد المطلب خمس من
السنن اجراها الله عزوجل في الإسلام: حرم نساء الآباء على الأبناء، وسن الدية في
القتل مئة من الإبل، وكان يطوف بالبيت سبعة أشواط، ووجد كنزا (لعله -
كما سبق - هو مادفنته جرهم في زمزم من هدايا الكعبة.) فأخرج
منه الخمس، وسمى زمزم حين حفرها: سقاية الحاج. ولولا ان عبد المطلب كان حجة وان
عزمه على ذبح ابنه عبد الله شبيها بعزم ابراهيم على ذبح ابنه اسماعيل لما افتخر
النبي (صلى الله عليه وآله) بالانتساب اليهما لأجل انهما الذبيحان، في قوله: أنا
ابن الذبيحين. والعلة التي من اجلها دفع الله عزوجل الذبح عن اسماعيل هي العلة
التي من اجلها دفع القبح عن عبد الله، وهي كون النبي والأئمة المعصومين - صلوات
الله عليهم - في صلبيهما، فببركة النبي والأئمة (عليهم السلام) دفع الله الذبح
عنهما (عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 1: 212 ط لاجوردي.). قال اليعقوبي: وكان
اسم عبد الله (عبد الدار) و (عبد قصي) فلماكان الفداء قال عبد المطلب: هذا عبد
الله فسماه به (اليعقوبي 2: 9.)
وكان ذلك بعد حفر زمزم
بعشر سنين (اليعقوبي 2: 9 يعلم ذلك مما ذكره في سن زواج عبد الله.)،
ولعبد الله 20 سنة. فربما يقال هنا:
ان عبد المطلب الذي قال عنه المؤرخون: انه كان يقطع يد السارق، ويمنع من طواف
العراة، وينهى عن دنيات الامور، تاركا للأصنام مجاب الدعوة.. كيف يسمي أبناءه
عبد مناف، ومناف اسم صنم، وعبد العزى، والعزى كذلك وثن من الأوثان، ثم كيف جاز
له التصرف في شخص غيره - ولو ابنه - هذا التصرف ؟ وهل لأحد أن يرى صحة نذر كهذا
تكون الضحية فيه نفسا محترمة مثل عبد الله ؟ ! طرح هذا السؤال السيد
المرتضى في (الصحيح من
السيرة) (الصحيح من سيرة النبي الأعظم (ص) السيرة 1: 65 - 70.) ثم نقل عن المحقق السيد محمد مهدي الروحاني القمي انه أشار الى:
اننا نلاحظ ان عبد المطلب قد سار في ايمانه سيرا تكامليا، فنجده في أول أمره
يسمي أبناءه عبد مناف وعبد العزى، ولكنه يتقدم في إيمانه حدا يرهب به ابرهة
الحبشي صاحب الفيل، ويقول عنه المؤرخون ما ذكروه وذكرناه، ولا شك انه بعد ميلاد
حفيده محمد (صلى الله عليه وآله) لما رأى وسمع الكثير من العلامات الدالة على
نبوته، وشهد وعاين الكثير من الدلالات والكرامات بام عينيه، بلغ الحد الأعلى في
إيمانه. وعليه فلا مانع من ان
يكون في أول أمره يرى
لنفسه ان ينذر نذرا كهذا، وقد امر الله نبيه ابراهيم بذبح ولده اسماعيل، ونذرت
امرأة عمران ما في بطنها محررا لخدمة بيت المقدس. كما أشار الى هذا ابن شهر آشوب
فقال وتصور عبد المطلب ان ذبح الولد أفضل قربة لما علم من أمر اسماعيل، ثم ذكر
الخبر (مناقب ابن شهر آشوب 1: 20 ط قم.). |
الزواج
الميمون تزويج عبد الله بآمنة:
|
قال اليعقوبي: وبعد
حفر زمزم بعشر سنين، وبعد الفداء عن عبد الله بسنة واحدة كان تزويجه بآمنة بنت
وهب، وكان سنه يوم تزويجها أربعا وعشرين سنة (اليعقوبي
2: 9.). وقال ابن اسحاق: خرج عبد المطلب بابنه عبد الله حتى أتى به الى دار وهب بن عبد
مناف بن زهرة - وهو يومئذ سيد بني زهرة نسبا وشرفا - فخطب ابنته آمنة لعبد الله،
وكانت آمنة أفضل امرأة في قريش نسبا وموضعا، فزوجه اياها وأملكها. وفي داره دخل
عبد الله على آمنة، فحملت برسول الله - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - (سيرة ابن
هشام 1: 165، ورواه عنه الطبري 2: 243. هذا، وقد أورد المجلسي في (البحار) في باب بدء خلقته خبرا يتضمن تفصيلا مطولا
في خطبة آمنة وزفافها استغرق من الطبعة الحديثة من ص 26 الى 104، أي ثماني
وسبعين صفحة من الجزء 15، قال في أوله " قال الشيخ أبو الحسن البكري استاذ
الشهيد الثاني في كتابه المسمى بكتاب الأنوار: حدثنا أشياخنا وأسلافنا الرواة
لهذا الحديث عن أبى عمرو الأنصاري سألت كعب الأحبار ووهب بن منبه وابن عباس
قالوا جميعا: لما أراد الله ان يخلق محمدا قال لملائكته... وقال المجلسي في آخر الخبر: " أقول: انما أوردت هذا الخبر مع
غرابته وارساله للإعتماد على مؤلفه واشتماله على كثير من الآيات والمعجزات التي
لا تنافيها سائر الاخبار بل تؤيدها " هذا، والشهيد الثاني استشهد سنة 966 وقد حكى محقق البحار: الشيخ الرباني عن " رياض العلماء "
عن بعض المؤرخين: انه رأى نسخة عتيقة من كتاب " الأنوار الكبرى "
تأريخ كتابتها سنة 696 والسمهودي في كتابه " تأريخ المدينة " الذي
ألفه سنة 888 ذكر البكري صاحب الأنوار فقال: ان سيرة البكري الكذب والبطلان ! وعلى هذا فكيف يمكن ان يكون من مشايخ الشهيد الثاني ؟ ! أما أبو
الحسن البكري من مشايخ الشهيد الثاني فهو الصديقي الشافعي المتوفى بالقاهرة سنة
952 كما في " شذرات الذهب " وليس هو صاحب كتاب الأنوار، ولكن التبس
عند الشيخ المجلسي أحدهما بالآخر فأحسن به الظن كما قال، وأورد أخباره الباطلة
الكاذبة في بحاره. سامحه الله وغفر له ولنا. (*)). وروى الطبرسي في (الأحتجاج) عن الكاظم عن علي (عليهما السلام)
انه قال: ان آمنة بنت وهب
رأت في المنام انه قيل لها: ان ما في بطنك سيد، فإذا ولدته فسميه محمدا. ثم قال
علي (عليه السلام): فاشتق الله له اسما من أسمائه، فإن الله المحمود وهذا محمد (الاحتجاج
1: 321.). وفي هذا المعنى روى
الطبرسي في (إعلام الورى) عن سفيان بن عيينه أ نه قال: أحسن بيت قالته العرب هو قول أبي طالب للنبي (صلى الله عليه وآله). وشق له من إسمه كي يجله
* فذو العرش محمود وهذا محمد ثم قال: وقال غيره: ان هذا
البيت لحسان بن ثابت في قطعة له أولها: ألم تر ان الله أرسل عبده *
ببرهانه والله أعلى وأمجد (وروى
السيد زيني دحلان: أن امه ذكرت ما فات لعبد المطلب فسماه محمدا (ص) ولكنها هي
سمته أحمد، ثم ذكر خمسة أبيات من شعر أبي طالب (رض) يسمي النبي فيها بأحمد
(انسان العيون في سيرة الأمين المأمون، المعروف بالسيرة الحلبية 92 - 100).) وقال ابن اسحاق: ويتحدث
الناس: ان آمنة بنت وهب
كانت تحدث: ا نها حين حملت رأت أ نه خرج منها نور رأت به قصور بصرى من أرض
الشام، وقيل لها: انك قد حملت بسيد هذه الامة فإذا وقع الى الأرض فقولي: اعيذه
بالواحد من شر كل حاسد، ثم سميه محمدا (سيرة ابن
هشام 1: 166 ورواه عنه الطبري 2: 156 ورواه عنه ابن شهر آشوب في المناقب 1: 29.
وقال في (الروض الانف) وابن فورك في (الفصول): ان اميحة بن جلاح وحمران بن ربيعة
وسفيان بن مجاشع كانوا قد التقوا بمن له علم بالكتاب الأول فأخبروهم بمبعث النبي
وباسمه، فلما سمعوا بذكر رسول الله وقرب زمانه وأنه من الحجاز طمعوا أن يكون
ولدا لهم فسموا أبناءهم باسمه محمدا، ولا يعرف من تسمى بهذا الاسم قبله الا
هؤلاء الثلاثة في العرب. هذا، ولكن السيد زيني دحلان في (السيرة الحلبية 1: 93)
بلغ بعدد من تسمى بهذا الاسم الى ستة عشر رجلا وذكر شعرا في ذلك يقول: ان الذين سموا باسم محمد *
من قبل خير الناس ضعف ثمان). ثم روى بسنده عن عبد
الله بن جعفر بن أبي طالب أنه
حدث عن حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية عن آمنة بنت وهب أ نها قالت لها: رأيت حين
حملت به انه خرج مني نور أضاء لي قصور بصرى من أرض الشام، ثم والله ما رأيت من
حمل قط كان أخف علي ولا أيسر منه، ووقع حين ولدته واضعا يديه على الأرض رافعا
رأسه الى السماء. ثم روى بسنده عن ثور بن يزيد: أن نفرا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - قالوا له: يارسول الله أخبرنا عن نفسك، قال: نعم، أنا دعوة أبي
ابراهيم وبشرى أخي عيسى، وحين حملت بي أمي رأت ا نه خرج منها نور اضاء لها قصور
الشام (سيرة ابن هشام 1: 171 - 175 وروى الطبري بسنده عن ثور بن يزيد الشامي
عن مكحول الشامي عن شداد بن أوس، قال: بينا نحن جلوس عند رسول الله ! إذ أقبل
شيخ كبير من بني عامر وهو سيدهم، يتوكأ على عصا، فمثل بين يدي النبي قائما وقال:
يا بن عبد المطلب ! اني انبئت انك تزعم انك رسول الله الى الناس، ارسلك بما أرسل
به ابراهيم وموسى وعيسى وغيرهم من الأنبياء، ألا وانك فوهت بعظيم، وانما كانت
الأنبياء والخلفاء في بيتين من بني اسرائيل، وأنت ممن (أي من قوم) يعبد هذه
الحجارة والأوثان فمالك وللنبوة ؟ ! ولكن لكل قول حقيقة فأنبئني بحقيقة قولك
وبدء شأنك. فأعجب النبي بمسألته وقال له: يا أخا بني عامر ! ان لهذا الحديث الذي
تسألني عنه نبأ ومجلسا، فاجلس، فثنى رجليه وجلس. فقال له النبي: يا أخا بني عامر
ان حقيقة قولي وبدء شأني: اني دعوة ابي ابراهيم وبشرى أخي عيسى بن مريم، واني
كنت بكر أمي.. ثم ان أمي رأت في المنام ان الذي في بطنها نور، وانها قالت: فجعلت
أتبع بصري النور والنور يسبق بصري حتى أضاءت لي مشارق الأرض ومغاربها (الطبري 2:
161). ورواه بنفس السند (الكازروني) في (المنتقى في مولود المصطفى) وقد
اخرج ابن أبي الحديد مختصره في (شرح نهج البلاغة) عن الطبري. والظاهر أن هذا الخبر
هو ما رواه ابن اسحاق عن ثور بن يزيد الا انه نسي السند بعده فقال: " عن
بعض أهل العلم ولا أحسبه الا عن خالد بن معدان الكلاعي " وقد توفي خالد سنة
108 كما عن (تهذيب التهذيب) ولعله لهذا انما نقل قطعة من الخبر بالمعنى.). فلعل
قوله في بداية هذا الحديث قبل هذا " ويتحدث الناس " ليس اشارة الى وهن
الخبر بل الى اشتهاره بين الناس، كما رواه الطبرسي في (اعلام الورى) وبدأ بقوله: فمن ذلك ما استفاض في الحديث أن ام رسول الله (صلى الله عليه
وآله) لما وضعته رأت نورا (اعلام الورى: 10.).
وروى اليعقوبي عن الصادق (عليه السلام): انه كان بين تزويج أبي رسول الله بامه وبين مولده عشرة أشهر.
|
الميلاد
الميمون
|
قال: وروى عن امه انها قالت: لما وضعته رأيت نورا ساطعا بدا مني
حتى افزعني، ولم أر شيئا مما يرينه النساء. قال: وروى بعضهم:
انها قالت: سطع مني النور حتى رأيت قصور الشام. ولما وقع الى الارض قبض قبضة من
تراب، ثم رفع رأسه الى السماء (روى مفصل الخبر علي بن ابراهيم القمي في تفسيره مرسلا: عن آمنة ام
النبي انها قالت: لما حملت برسول الله لم اشعر بالحمل ولم يصبني ما أصاب النساء
من ثقل الحمل، ورأيت في نومي كأن آتيا أتاني فقال لي: قد حملت بخير الأنام. ثم
وضعته يتقي الأرض بيديه وركبتيه، ورفع رأسه الى السماء وخرج مني نور أضاء ما بين
السماء الى الارض، ورميت الشياطين بالنجوم وحجبوا من السماء، ورأت قريش الشهب
تتحرك وتزول وتسير في السماء، ففزعوا وقالوا: هذا قيام الساعة، واجتمعوا الى
الوليد بن المغيرة - وكان شيخا كبيرا مجربا - فسألوه عن ذلك فقال: انظروا الى
هذه النجوم التي يهتدى بها في ظلمات البر والبحر، فإن كانت قد زالت فهي الساعة،
وان كانت هذه ثابتة فهو لأمر قد حدث. وكان بمكة رجل يهودي يقال له: يوسف، فلما رأى النجوم تتحرك وتسير في
السماء خرج الى نادي قريش فقال: يا معشر قريش ! هل ولد فيكم الليلة مولود ؟
فقالوا: لا، فقال: أخطأتم والتوراة. قد ولد في هذه الليلة آخر الأنبياء وأفضلهم،
وهو الذي نجده في كتبنا انه إذا ولد ذلك النبي رجمت الشياطين وحجبوا من السماء.
فرجع كل واحد الى منزله يسأل أهله: فقالوا: قد ولد لعبد الله بن عبد المطلب إبن. فقال اليهودي: اعرضوه علي.
فمشوا معه الى باب آمنة فقالوا لها: أخرجي ابنك ينظر إليه هذا اليهودي. فأخرجته
في قماطه، فنظر في عينيه وكشف عن كتفه فرأى شامة سوداء عليه شعرات. فسقط الى
الأرض مغشيا عليه، فضحكوا منه. فقال: أتضحكون ؟ يا معشر قريش ! هذا نبي السيف
ليبيدنكم، وذهبت النبوة من بني اسرائيل الى آخر الأبد. وتفرق الناس يتحدثون بخبر
اليهودي. قال علي بن ابراهيم: فلما
رميت الشياطين بالنجوم وأنكروا ذلك اجتمعوا الى ابليس فقالوا: قد منعنا من
السماء وقد رمينا بالشهب. فقال: اطلبوا فان أمرا قد حدث في الدنيا. فرجعوا
وقالوا: لم نر شيئا. فقال ابليس: أنا له بنفسي. فجال ما بين المشرق والمغرب حتى
انتهى الى الحرم فرآه محفوفا بالملائكة وجبريل على باب الحرم بيده حربة. فأراد
ابليس أن يدخل فصاح به جبرئيل: اخسأ يا ملعون: فجاء من قبل حراء فصار مثل الصد
(الجبل المرتفع) ثم قال: يا جبرئيل حرف اسألك عنه ؟ قال: وما هو ؟ قال: ما هذا ؟
وما اجتماعكم في الدنيا ؟ فقال: هذا نبي هذه الامة قد ولد وهو آخر الأنبياء
وأفضلهم. قال: هل لي فيه نصيب ؟ قال: لا. قال: ففي امته ؟ قال: بلى. قال: قد
رضيت (تفسير القمي 1: 373، 374 ط النجف)... ولنحتفظ في الذاكرة بقوله: "
قال: هل لي فيه نصيب ؟ قال: لا " لنقارنه بما سنقرأه في قصة شق صدره (صلى
الله عليه وآله) من ان جبرئيل خاصة أخرج من صدره نصيب الشيطان ! ومع قول يوسف اليهودي في مكة في آخر الخبر السابق عن آمنة: "
ذهبت النبوة من بني اسرائيل الى آخر الأبد " لا يمكن أن نرمي الخبر بانه
يهودي من الاسرائيليات. نعم في الخبر من الاستبعاد ان الوليد بن المغيرة معروف
بما وصف به في الخبر ولكن عند ظهور الاسلام، فهل كان كذلك قبل ذلك بأكثر من
أربعين عاما، اي من قبل الأربعين من عمره حتى بعد الثمانين ؟ !) حملت به امه في أيام التشريق عند الجمرة الوسطى. وكانت في منزل عبد
الله. وولدته في شعب أبي طالب في دار محمد بن يوسف (قال
المجلسي في هامش البحار: قال المؤرخون: كانت هذه الدار للنبي (صلى الله عليه
وآله) فوهبها لعقيل بن أبي طالب، فباعها أولاده لمحمد بن يوسف أخ الحجاج الثقفي
فاشتهرت بدار محمد بن يوسف فأدخلها في قصره الذي كانوا يسمونه البيضاء وبعد
انقضاء دولة بني امية حجت خيزران أم الهادي والرشيد فأفرزتها من القصر وجعلتها
مسجدا، وهو الآن يصلى ويزار فيه (البحار
15: 250، 252) وقال السيد الأمين في (أعيان الشيعة): وبقي المسجد في حالته تلك حتى استولى الوهابيون على مكة فهدموه
ومنعوا من زيارته، على عادتهم في المنع عن التبرك بآثار الأنبياء والصالحين، بل
جعلوه مربضا للدواب (أعيان الشيعة 3: 7).) في الزاوية القصوى عن يسار الداخل للدار، وقد أخرجت الخيزران ذلك
البيت فصيرته مسجدا يصلي فيه الناس (اصول
الكافي 1: 439، وذكره المسعودي 2: 174.). ونقل المجلسي عن كتاب (حدائق الرياض) و (التواريخ الشرعية) للشيخ
المفيد ا نه قال:
السابع عشر من ربيع الأول مولد سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) عند طلوع
الفجر من يوم الجمعة عام الفيل (بحار
الانوار 15: 251.). وقال الطبرسي: ولد
يوم الجمعة عند طلوع الشمس، السابع عشر من شهر ربيع الأول عام الفيل، وذلك لأربع
وثلاثين سنة مضت من ملك كسرى أنوشيروان (اعلام
الورى: 5. ووصف كسرى فقال: " وهو قاتل مزدك والزنادقة ومبيرهم، وهو الذي
زعموا ان رسول الله عناه فقال: ولدت في زمن الملك العادل الصالح " وهذا أول
كتاب نراه ينقل هذا مرسلا بل موهنا له بأنه من زعم من زعمه من بعض الناس ! ولم
اجده قبل نقل الشيخ الطبرسي في أي كتاب من العامة والخاصة، بل مر خبر يخالفه انه
قال (صلى الله عليه وآله): " هذا أول يوم انتصف فيه العرب من العجم، وبي
نصروا " وقد انتصروا على كسرى انوشيروان فكيف يصفه بأنه العادل الصالح ؟ !
وقال ابن شهر آشوب: ولد بمكة عند طلوع الفجر من يوم الجمعة السابع عشر من شهر
ربيع الأول بعد خمسة وخمسين يوما من هلاك أصحاب الفيل. وقالت العامة: يوم الاثنين
الثامن أو العاشر منه. وروى رواية الطبرسي في انوشيروان 1: 172.). وقال السيد ابن طاووس في
(الإقبال): إن الذين أدركناهم
من العلماء كان علمهم على أن ولادته المقدسة (صلى الله عليه وآله) كانت يوم
الجمعة السابع عشر من ربيع الأول في عام الفيل عند طلوع فجره (بحار الانوار 15: 251.). ولذلك قال الشيخ المجلسي (قدس سره): اعلم ا نه اتفقت الإمامية - الا من شذ منهم - على أن ولادته (صلى
الله عليه وآله) كانت في السابع عشر من شهر ربيع الأول، وذهب أكثر المخالفين إلى
أ نها كانت في الثاني عشر منه، واختاره الكليني (رحمه الله) (بحار
الأنوار 15: 248. وأشار الشيخ الإربلي الى الاختلاف في تأريخ ولادته (صلى الله
عليه وآله) ثم قال: أقول: ان اختلافهم في يوم ولادته سهل، إذ لم يكونوا عارفين
به وبما يكون منه، وكانوا اميين لا يعرفون ضبط مواليد أبنائهم، فأما اختلافهم في
موته فعجيب ! ولا عجب من هذا أيضا مع اختلافهم في الأذان والإقامة، بل اختلافهم
في موته أعجب، فان الاذان ربما ادعى كل قوم أنهم رووا فيه رواية، فأما يوم موته
فيجب أن يكون معينا معلوما (كشف الغمة 1: 15). ونقل السيد المرتضى في (الصحيح)
هذا الكلام للاربلي ثم علق عليه يقول: وأعجب من ذلك اختلافهم في الكثير الكثير
من الامور التي كانوا يمارسونها مع النبي (صلى الله عليه وآله) عدة مرات يوميا
طيلة أعوام عديدة، حتى انك لتجدهم يروون التناقضات عنه (صلى الله عليه وآله) في
أفعال الوضوء والصلاة، وهم كانوا يؤدونها معه خمس مرات يوميا، بل قد تجد بعضهم
يقول: إنهم كانوا يعرفون أنه يقرأ في صلاة الظهر والعصر من اضطراب لحيته (الصحيح
1: 80 نقلا عن الصحيح للبخاري 6: 90 و 93 ط 1309 ومسند أحمد 5: 10 و 12 والسنن
الكبرى للبيهقي 2: 37 و 54 عن الصحيحين).). |
الوليد
لدى جده وعمه:
|
قال ابن اسحاق:
فلما وضعته امه -
صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - أرسلت الى جده عبد المطلب: انه قد ولد لك غلام فأته فانظر إليه.
فأتاه فنظر إليه. فحدثته بما رأت حين حملت به وما قيل لها فيه وما امرت به ان
تسميه. فأخذه عبد المطلب فدخل به الكعبة وقام يدعو الله ويشكر له ما أعطاه (سيرة ابن
هشام 1: 168، 169 ورواه الطبري عنه 2: 157 بزيادة.). روى ابن الشيخ في أماليه بسنده عن كتاب أبان بن عثمان الأحمر
الكوفي مولى بني بجلة من أصحاب الصادق (عليه السلام) عنه قال: اتي به عبد المطلب لينظر إليه وقد بلغه ما قالت امه، فأخذه فوضعه
في حجره ثم عوذه بأركان الكعبة وقال فيه شعرا: الحمد لله الذي أعطاني
* هذا الغلام الطيب الأردان قد ساد في المهد على الغلمان (أمالي
ابن الشيخ: 171 كما في البحار 15: 258.) وروى ابن شهر آشوب عن (كتاب
الإبانة) لابن بسطة قال: ولد
النبي (صلى الله عليه وآله) مقطوع السرة مختونا، فحكي ذلك لجده عبد المطلب فقال:
ليكونن لإبني هذا شأن (المناقب 1: 32.). وروى الكليني بسنده
عن الصادق (عليه السلام) قال:
لما جاء آمنة بنت وهب داء المخاض حضرتها فاطمة بنت أسد امرأة أبي طالب فلم تزل
معها حتى طلقت ووضعت، فقالت احداهما للاخرى: هل ترين ما أرى ؟ فقالت: وما ترين ؟
قالت: هذا النور الذي قد سطع ما بين المشرق والمغرب. وجاء أبو طالب فأخبرته
فاطمة بالنور الذي قد رأت، فقال أبو طالب: أما انك ستلدين غلاما يكون وصي هذا
المولود (روضة الكافي 302. وروى مثله بسند آخر ابن شهر آشوب في المناقب 1: 23.). |
وفاة
عبد الله:
|
روى اليعقوبي عن الصادق (عليه السلام) أ نه توفي بعد شهرين من مولد محمد - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - ثم قال: وقال بعضهم: انه توفي قبل أن يولد، وهذا غير صحيح، لان الاجماع
على ا نه توفي بعد مولده ! وقال آخرون: بعد سنة من مولده. وكانت وفاته بالمدينة
في دار تعرف بدار النابغة بين أخواله بني النجار (اليعقوبي
2: 10.). والمعروف ممن قال ان عبد
الله توفي قبل ان يولد محمد (صلى الله عليه وآله) محمد ابن اسحاق فقد ذكر -
كما في سيرة ابن هشام والطبري والطبرسي -: ان عبد الله لم يلبث ان هلك وام رسول الله حامل به (سيرة ابن
هشام 1: 167. والطبري 2: 165 واعلام الورى: 9.). ثم الواقدي، فقد روى الطبري عنه عن الزهري: ان عبد المطلب كان قد بعث عبد الله الى المدينة كي يحمل لهم تمرا
فمات بالمدينة، فحين أبطأ عبد الله على عبد المطلب بعث ابنه الحارث في طلبه
فوجده قد مات. ثم قال الواقدي: والثبت عندنا ان عبد الله بن عبد المطلب أقبل من
الشام في عير لقريش، فنزل بالمدينة وهو مريض، فأقام بها حتى توفي، ودفن في الدار
الصغرى للنابغة على اليسار إذا دخلت الدار، ليس بين أصحابنا في هذا اختلاف (الطبري
2: 165 و 246. وقال في 165: أما هشام الكلبي فأنه قال: توفي عبد الله بعد ما أتى
على رسول الله ثمانية وعشرون شهرا. وأما الدار التي دفن فيها أبو النبي فقد كانت
قائمة حتى بعد عام 1390 ه ثم هدمت في توسيع فلكة مسجد النبي (صلى الله عليه
وآله) ولم يبق لها أي أثر.).
ولعل اليعقوبي يقابل بالإجماع هذه الدعوى بعدم الخلاف في ذلك، سيما وهو يروي خبره بوفاته بعد ميلاد الرسول بشهرين عن الصادق
جعفر ابن محمد (عليه السلام) فيرى على نفسه ان يدافع عنه ولو بمقابلة دعوى عدم
الخلاف بدعوى الإجماع. ويوافق اليعقوبي الكليني من دون نسبة الى الصادق (عليه السلام)
فيقول: وتوفي أبوه عبد الله بالمدينة عند أخواله، وهو ابن شهرين (اصول
الكافي 1: 439.) فلعله لم يعتد برواية اليعقوبي لإرسالها، أو لم يطلع عليها. أما المسعودي فقد ذهب
الى ما ذهب إليه ابن اسحاق والواقدي إذ قال: وكان أبوه عبد الله غائبا بأرض الشام فانصرف مريضا فمات بالمدينة
ورسول الله (صلى الله عليه وآله) حمل. ثم قال: ومنهم من قال: انه مات بعد مولد
النبي بشهر، ومنهم من قال: انه مات في السنة الثانية من مولده (مروج
الذهب 2: 274.). وروى المجلسي عن
(المنتقى في مولد المصطفى) للكازروني من العامة: ان عبد الله خرج الى الشام في عير من قريش يحملون تجارات، ففرغوا
من تجاراتهم ثم انصرفوا فمروا بالمدينة، وعبد الله يومئذ مريض فقال اتخلف عند
أخوالي بني عدي بن النجار فأقام عندهم مريضا شهرا، ومضى أصحابه فقدموا مكة
فسألهم عبد المطلب عن عبد الله فقالوا: خلفناه عند أخواله بني عدي وهو مريض.
فبعث إليه عبد المطلب أكبر ولده الحارث، فوجده قد توفي، فأخبره أخواله بمرضه
وبقيامهم عليه. وما ولوا من أمره حتى قبروه، فرجع الحارث الى أبيه فأخبره فحزن
عليه وإخوته وأخواته حزنا ووجدا شديدا. ورسول الله يومئذ حمل. ولعبد الله يوم
توفي خمس وعشرون سنة. ثم قال: وروي: ا نه توفي بعد ما أتى على رسول الله سبعة
أشهر، ويقال: ثمانية وعشرون شهرا. ثم روى الكازروني عن
الواقدي: ان عبد الله ترك
من الارث قطيع غنم وخمسة جمال ومولاته بركة وهي ام أيمن حاضنة رسول الله (البحار
15: 124، 125 عن المنتقى في مولد المصطفى لمحمد بن مسعود الكازروني وفي ص 116
نقل عن كتاب العدد: انه ورث ذلك عن امه) وقال الطبرسي: عاش (صلى الله عليه وآله) مع أبيه سنتين وأربعة
أشهر. ثم قال: وقيل: إن أباه (صلى الله عليه وآله) مات والنبي ابن سبعة أشهر (إعلام
الورى: 9 ط النجف.). وقال الأربلي: عاش
مع أبيه سنتين وأربعة أشهر. ثم قال: وقيل: مات أبوه وعمره سبعة أشهر (كشف
الغمة 1: 16 ط تبريز.). والاربلي في كلامه هذا يحاكي كلام الطبرسي، والقول الأول هو قول هشام الكلبي كما قال الطبري: وأما هشام الكلبي
فأ نه قال: توفي عبد الله أبو رسول الله بعد ما أتى على رسول الله ثمانية وعشرون
شهرا (الطبري 2: 165 ط المعارف.). ومما
يؤيد رواية ابن اسحاق بوفاة عبد الله قبل ميلاد الرسول انا لا نعثر على أي خبر
أو أثر عن عبد الله حين ميلاد الرسول، وانما نجد جده عبد المطلب يلتمس له
المرضع. |
رضاع
النبي (صلى الله عليه وآله):
|
روى المجلسي عن الكازروني في (المنتقى) عن برة الخزاعية: ان أول من أرضع رسول الله - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - ثويبة -
مولاة أبي لهب عم النبي - بلبن
ابن لها يقال له مسروح، قبل أن تقدم حليمة، أياما. وكانت قد أرضعت قبله حمزة بن
عبد المطلب وأرضعت بعده أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي. وكانت - ثويبة - تدخل على
رسول الله - صلى الله عليه
[ وآله ] وسلم -
فيكرمها، وكان يبعث إليها رسول الله بعد الهجرة بكسوة وصلة، وكانت قد اسلمت،
فماتت بعد فتح خيبر (البحار 15: 384 عن المنتقى في مولد المصطفى لمحمد بن مسعود الكازروني). وروى عن الكليني في (فروع الكافي) بسنده عن الصادق (عليه السلام)
قال: ان عليا ذكر لرسول الله
ابنة حمزة، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أما علمت انها ابنة أخي من
الرضاعة. ثم قال الصادق (عليه السلام): وكان رسول الله وعمه حمزة قد رضعا من
امرأة (البحار 15: 340 عن فروع الكافي 2: 41 و 42 ورواه الصدوق في الفقيه3:
260 والطوسي في التهذيب 7: 292. وراجع مفتاح الكتب الأربعة 14: 340 و 343.). وقال اليعقوبي:
كان أول لبن شربه بعد امه لبن " ثويبة " مولاة أبي لهب. وقد أرضعت
ثويبة هذه حمزة بن عبد المطلب، وجعفر بن أبي طالب، وأبا سلمة بن عبد الأسد
المخزومي (اليعقوبي 2: 9.). والطبري روى الخبر نفسه الذي رواه الكازروني، بسنده الى برة ابنة أبي تجزأة عن طريق الواقدي (الطبري 2: 158.).
وقال الطبرسي في (اعلام
الورى): وكانت ثويبة مولاة
أبي لهب بن عبد المطلب أرضعت النبي (صلى الله عليه وآله) بلبن ابنها مسروح، قبل
أن تقدم حليمة، وتوفيت ثويبة مسلمة سنة سبع من الهجرة، ومات ابنها قبلها. وكانت
ثويبة قد أرضعت قبل حمزة بن عبد المطلب عمه، فلذلك قال رسول الله لابنة حمزة:
انها ابنة أخي من الرضاعة. وكان حمزة أسن من رسول الله بأربع سنين (اعلام
الورى: 6 ط النجف. ويقال: انه (صلى الله عليه وآله) لما افتتح مكة سأل عنها وعن
ابنها فاخبر انهما ماتا، كما عن الاستيعاب والروض الانف وشرح المواهب.). وروى ابن شهر آشوب رواية
الطبري (المناقب 1: 173 ط قم.). وقال الاربلي في (كشف الغمة): أرضعته ثويبة مولاة أبي لهب، قبل قدوم حليمة أياما بلبن ابنها
مسروح، وتوفيت ثويبة مسلمة سنة سبع من الهجرة، ومات ابنها قبلها. وكانت ثويبة قد
أرضعت قبله عمه حمزة (رضي الله عنه)، فلهذا قال (صلى الله عليه وآله) وقد حودث
في التزويج بابنة حمزة: انها ابنة أخي من الرضاعة. وكان حمزة أسن منه بأربع سنين
(كشف الغمة 1: 15، والعبارة هي عبارة الطبرسي في إعلام الورى بدون
اسناد. وقد ثقل على بعض غلاة ولاة أئمة أهل البيت (عليهم السلام) ان يقروا
لمولاة ابي لهب ان تكون أول من أرضعت النبي (صلى الله عليه وآله)، فلم يسلموا
لها بذلك، ثم حاولوا ان يسدوا هذا الفراغ الزمني بعد ميلاده وقبل دفعه الى حليمة
السعدية بما رواه الكليني (قدس سره) بسنده الى علي بن أبي حمزة البطائني عن أبي
بصير عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: لما ولد النبي مكث أياما ليس له لبن، فألقاه
أبو طالب على ثدي نفسه فأنزل الله فيه لبنا فرضع منه أياما ! حتى وقع أبو طالب
على حليمة السعدية فدفعه إليها (اصول الكافي 1: 448) هذا، وقد روى الكشي في
رجاله في ذم علي بن أبي حمزة البطائني أخبارا كثيرة تتهمه بالكذب وتلعنه، فلعنة
الله عليه. غفر الله للكليني وابن شهر آشوب والمجلسي إذ رووا هذا الكذب، ورحم
الله الشيخ الرباني الشيرازي محقق البحار (15) إذ علق على هذا الكذب بقوله:
الحديث لا يخلو عن غرابة، وفي اسناده جماعة لا يحتج بحديثهم (البحار 15: 340).). |
الرضاع
الميمون رضاعه من حليمة السعدية:
|
الرضاع الميمون رضاعه من حليمة السعدية: روى ابن اسحاق بسنده الى
عبد الله بن جعفر بن أبي طالب عن حليمة بنت ابي ذؤيب السعدية انها كانت تقول: انها خرجت من بلدها مع زوجها الحارث بن عبد العزى من بني هوازن
ومعها رضيعها عبد الله بن الحارث، ومعها نسوة من بني سعد كل واحدة منهن تلتمس
رضيعا ترضعه ترجو المعروف من أبيه. وذلك في سنة مجدبة لم تبق لهم شيئا، وما أرض
أجدب من بلاد بني سعد. فما كان في ثدييها ما يغني صبيها الرضيع حتى كانوا ما
ينامون ليلهم من بكائه من الجوع، ومعها ناقة لها مسنة ما ترشح بشئ يغذيهم، وكانت
هي على أتان يتخلف عن الركب ضعفا وهزالا. حتى قدموا الى مكة، فما
بقيت امرأة ممن مع حليمة الا أخذت رضيعا لها سوى حليمة وكلما كان يعرض رسول الله
(صلى الله عليه وآله) على امرأة منهن يقال لها انه يتيم، كانت تأباه ليتمه.
وبقيت حليمة لم تأخذ رضيعا، ولم يبق رضيع سوى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، قالت حليمة: فقلت
لزوجي: والله اني لأكره ان ارجع وانا بين صواحبي لم آخذ رضيعا، والله لاذهبن الى
ذلك اليتيم فلاخذنه، قال صاحبي: لا عليك ان تفعلي عسى الله ان يجعل لنا فيه
بركة. قالت: فذهبت إليه فأخذته - وما حملني على أخذه الا اني لم أجد غيره -
ورجعت به الى رحلي ووضعته في حجري وأقبل عليه ثدياي بما شاء من لبن فشرب حتى
روي، وشرب معه أخوه فروي. وقام زوجي الى ناقتنا فإذا ضرعها ملئ باللبن فحلب ما
شرب وشربت معه حتى روينا، فقال لي صاحبي: يا حليمة لقد اخذت نسمة مباركة، فقلت
والله اني لأرجو ذلك. ثم قدمنا منازلنا من بلاد
بني سعد، فلم نزل نتعرف من الله الزيادة والخير، وكانت غنمي ترجع الينا بعد
العصر شباعا قد امتلأ ضرعها من اللبن، وترجع غنم القوم جياعا لا ترشح بقطرة لبن.
وكان رسول الله -
صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - يشب ما لا يشبه الغلمان، فلم يبلغ سنتيه من الرضاعة حتى غلظ واشتد
جسمه، حتى إذا مضت سنتاه وفصلته، فقدمنا به على امه ونحن أحرص شئ على مكثه فينا
لما نرجو من بركته، فكلمنا امه فلم نزل بها حتى ردته معنا فرجعنا به. قالت حليمة: وبعد مقدمنا به بأشهر احتملناه فقدمنا به على امه. فقالت آمنة: ما
أقدمك به وقد كنت حريصة عليه وعلى مكثه عندك ؟ فقلت: قد
بلغ الله بابني وقضيت الذي علي، وتخوفت الأحداث عليه، فأديته اليك كما كنت
تحبين. فقالت:
افتخوفت عليه الشيطان ؟ قالت: قلت: نعم. قالت: كلا والله ما للشيطان عليه من
سبيل. ثم أخبرتها بما رأته منه حين حمله ووضعه. قال ابن اسحاق:
حدثني بعض أهل العلم: ان مما هاج امه السعدية على رده الى امه: ان نفرا من نصارى
الحبشة رأوه فنظروا إليه وسألوها عنه وقلبوه ثم قالوا لها: انه يكون لهذا الغلام
شأن نحن نعرف أمره، وأرادوا ان يأخذوه الى بلدهم، حتى كادت ان لا تنفلت به منهم. قال ابن اسحاق: يتحدث الناس: انها لما قدمت به الى مكة نحو اهله افتقدته في
الناس، وكلما التمسته لم تجده، فأتت عبد المطلب فقالت له: اني قد قدمت بمحمد
البارحة، فلما كنت بأعلى مكة افتقدته فو الله ما أدري أين هو ؟ فقام عبد المطلب
عند الكعبة يدعو الله ان يرده عليه، فوجده رجلان من قريش أحدهما ورقة بن نوفل بن
أسد - ابن عم خديجة - فأتيا به عبد المطلب فقالا له: هذا ابنك وجدناه بأعلى مكة.
فأخذه عبد المطلب فجعله على عنقه وطاف به الكعبة يعوذه ويدعو له ثم أرسل به الى
امه آمنة (سيرة
ابن هشام 1: 171 - 177 بتصرف ورواه عنه الطبري 2: 158، 160، ورواه عنهما ابن أبي
الحديد في شرح النهج 3: 252، 253 وروى المجلسي عن الكازروني في (المنتقى): ان
رسول الله لما تزوج بخديجة سمعت به حليمة فقدمت على رسول الله فشكت إليه جدب
البلاد وهلاك الماشية. فكلم رسول الله خديجة فأعطتها أربعين شاة وبعيرا، فانصرفت
الى أهلها. وبعد الإسلام قدمت عليه فاستأذنت عليه، فقال: امي امي، وعمد الى
ردائه فبسطه لها فقعدت عليه (البحار 15: 401).). |
قصة
شق الصدر !
|
ان خبر رضاع النبي (صلى الله عليه وآله) من حليمة السعدية من
المسلم به من أخبار التأريخ اجمالا، الا ان عمدة ما ورد بتفصيل الخبر فيه خبران
ذكرهما الطبري: الخبر الأول: رواية
ابن اسحاق عن الجهم بن أبي الجهم عن عبد الله ابن جعفر بن ابي طالب، عن حليمة
السعدية. وقد رواها الطبري عن ابن اسحاق يصف الجهم بأ نه مولى عبد الله بن جعفر،
بينما رواها عنه ابن هشام في سيرته يصف الجهم بأ نه مولى الحارث بن حاطب الجمحي.
وفي الخبر عن حليمة أ نها قالت: انه (صلى الله عليه وآله) كان - بعد رجوعنا به
من امه بأشهر - مع أخيه - عبد الله بن الحارث السعدي - في بهم (البهم: الصغار من الغنم.) لنا خلف بيوتنا إذ أتانا أخوه يشتد ويقول: ان أخي القرشي قد أخذه
رجلان عليهما ثياب بيض، فأضجعاه فشقا بطنه و... ! فخرجت أنا وأبوه نحوه فوجدناه
قائما منتقعا وجهه ! فقلنا له: ما لك يا بني ؟ قال: جاءني رجلان عليهما ثياب بيض
فأضجعاني وشقا بطني فالتمسا فيه شيئا لا أدري ما هو ! (سيرة ابن
هشام 1: 171 - 174، والطبري 2: 158 - 160.). والخبر الثاني:
رواية الطبري أيضا بسنده عن ثور بن يزيد الشامي، عن مكحول الشامي، عن شداد بن
أوس. والظاهر أن هذا الخبر
هو ما رواه ابن اسحاق عن ثور بن يزيد أيضا الا أ نه نسي ما بعد ثور من السند
فقال " عن بعض اهل
العلم، ولا أحسبه الا عن خالد بن معدان الكلاعي " ثم اختصره وتصرف فيه ما
قد نسيه كالسند، فقرب فيه من الخبر السابق إذ قال فيه عن النبي (صلى الله عليه
وآله) ا نه قال: استرضعت في بني سعد، فبينا أنا مع أخ لي خلف بيوتنا نرعى بهما
لنا، إذ أتاني رجلان عليهما ثياب بيض بطست من ذهب مملوؤة ثلجا، ثم أخذاني فشقا بطني،
واستخرجا قلبي فشقاه، فاستخرجا منه علقة سوداء فطرحاها، ثم غسلا قلبي وبطني بذلك
الثلج حتى أنقياه (سيرة ابن هشام 1: 175) بينما نرى في رواية الطبري. بسنده عن ثور بن يزيد نفسه عن مكحول الشامي عن شداد بن أوس عن
النبي - صلى الله عليه
[ وآله ] وسلم - ا نه
قال: وكنت مسترضعا في بني ليث بن بكر، فبينا أنا ذات يوم منتبذ من أهلي في بطن
واد مع أتراب لي من الصبيان نتقاذف بالجلة (الجلة بالفتح: بعر البعير، ومنه الإبل الجلالة، والحيوان الجلال،
وهذا ما يبعدنا عن تصديق الخبر أيضا.) إذ أتانا رهط ثلاثة معهم طست من ذهب ملئ ثلجا، فأخذوني من بين
أصحابي، فخرج أصحابي هرابا حتى انتهوا الى شفير الوادي... ثم انطلقوا هرابا
مسرعين الى الحي يؤذنونهم ويستصرخونهم على القوم. فعمد أحدهم فأضجعني على
الأرض... ثم شق ما بين مفرق صدري الى منتهى عانتي... ثم أخرج أحشاء بطني فغسلها
بذلك الثلج... ثم أعادها مكانها. ثم قام الثاني منهم... ثم أدخل يده في جوفي
فأخرج قلبي، فصدعه ثم أخرج منه مضغة سوداء فرمى بها... فإذا أنا بخاتم في يده...
فختم به قلبي فامتلأ نورا وذلك نور النبوة والحكمة، ثم أعاده مكانه فوجدت برد ذلك الخاتم في قلبي دهرا. ثم قام
الثالث... فأمر يده ما بين مفرق صدري الى منتهى عانتي فالتأم ذلك الشق بإذن
الله، ثم أخذ بيدي فأنهضني (الطبري 2: 160 - 162.). فنرى رواية الطبري هذه عن شداد بن أوس تختلف عن رواية ابن اسحاق في: المكان الذي جرى فيه
الحادث، وفي: عدد الأشخاص الذين جاؤوه، وفي: الكيفية التي وقع عليها، الى غير
ذلك مما اشتملت عليه رواية الطبري من الخصوصيات التفصيلية التي لم تتفق معها
رواية ابن اسحاق، مع أن كلتيهما تمران بثور بن يزيد الكلاعي الشامي المتوفى في
155 كما في كتب الرجال ومنها " تهذيب التهذيب "، ولذلك نرى ابن اسحاق يسحق موارد الخلاف في هذا الخبر باختصاره للتفصيلات الواردة فيه،
وبالتصرف في عدد الملائكة، فبينما نجد خبر ثور بن يزيد عن شداد بن أوس يذكر عدد
الملائكة الحاضرين للقيام بالعملية على رسول الله: ثلاثة، نجد ابن اسحاق قد
أعاد العدد الى اثنين كي يتوافق العدد فيه مع ما في خبر الجهم عن عبد الله بن
جعفر. وكذلك في عدد من معه، فبينما نجد خبر ثور عن شداد يذكر " مع أتراب لي من الصبيان
" نرى ابن اسحاق قد أعاد العدد الى فرد بنفس النسبة التي في خبر الجهم عن
ابن جعفر " مع أخ لي "، وكذلك بالتصرف في المكان الذي جرى فيه الحادث،
فبينما نجد خبر ثور عن شداد يذكر مكان الحادث " منتبذ من أهلي في بطن واد
" نرى ابن اسحاق قد أعاده الى " خلف بيوتنا ". وكذلك بالتصرف في حال الرسول حينئذ: فبينما نرى خبر ثور عن شداد يذكر " نتقاذف بالجلة " نرى
ابن اسحاق قد أبى على النبي اللعب بالجلة ولو في صغره وأصر على تكرير ما في خبر
الجهم " نرعى بهما لنا " أي نرعى الصغار من الغنم، وليت شعري إذا كان
الذي أو الذين معه أترابه وهو كما في خبر الجهم بعد أشهر من فصاله فكيف يرعى
الغنم ؟ ! وان هذا لعمري لدليل على وضع الخبر وقصر حبل الكذب ! وهذا الإختلاف بذاته لمن الدواعي التي تثير الشكوك حول هذه
الحادثة، وبخاصة إذا نظرنا الى أسانيد هذه الروايات وعرضناها على الاصول التي
لابد من توفرها لقبول الرواية، وان كان لم يقنع بهذا القدر من التشكيك كثير من
كتاب السيرة (السيد الحسني في كتابه: سيرة المصطفى: 46 بعد ان اعترف بما في ذلك من
التشكيك.). وحينما نراجع تراجم الرجال
نجد ان ارباب التراجم قد رجموا ثور ابن يزيد بأ نه: شامي كان يرى القدر، أي هو
من القدرية وأنا أرى أن القدرية التي ينسب إليها الشاميون في شعاع أفكار
الأمويين هي أن أعمال العباد بقدر مقدر قد قضى به الله، لا القدر بمعنى يجتمع مع
ارادة الإنسان واختياره. وعلى هذا فهو متهم بوضع ما يؤيد به مذهبه القدري
الجبري، كما قال السيد
المرتضى العاملي: " ألا تعني هذه الرواية ا نه (صلى الله عليه وآله) كان مجبرا
على عمل الخير، وليس لارادته فيه أي أثر أو فعالية أو دور ؟ ! لأن حظ الشيطان قد
ابعد عنه بشكل قطعي وقهري، وبعملية جراحية، وهل إذا كان الله يريد أن لا يكون
عبده شريرا احتاج في اعمال قدرته الى عمليات جراحية كهذه على مرأى من الناس
ومسمع ؟ ! " (الصحيح من سيرة النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) 1: 86.) هذا
الى خمس نقاط اخرى نقد بها السيد المرتضى هذا الخبر. ولعله أخذ هذا المعنى عن رواية جاهلية عن امية بن أبي الصلت: أ نه دخل على اخته فنام على سرير في ناحية البيت، فانشق جانب من
السقف في البيت، وإذا بطائرين قد وقع أحدهما على صدره ووقف الآخر مكانه، فشق
الواقع على صدره صدره، فأخرج قلبه، فقال الطائر الواقف للطائر الذي على صدره:
أوعى ؟ قال: وعى، قال: اقبل ؟ قال: أبى، ثم رد قلبه بموضعه. (كما في
الأغاني 3: 188 - 190.) هذا، وقد روى المجلسي في بحاره هذا الخبر عن الكازروني في كتابه
(المنتقى في مولد المصطفى) بنفس السند ثم علق عليه الكازروني يقول: هذا حديث حسن غريب بهذا السياق، يعد في أفراد محمد بن يعلى، وكان
يلقب بزنبور، وليس بذاك، ولمكحول عن شداد أحاديث غير ا نها مرسلة. ثم علق المحقق
الرباني الشيرازي يقول: محمد بن يعلى ضعفه ابن حجر في " التقريب "
وحكى عن أبي حاتم ا نه قال: متروك، وقال الخطيب: يتكلم فيه. توفي 205 (البحار
15: 396 - 400.). أما الخبر الأول عن عبد الله بن جعفر فهو عن مولاه الجهم بن أبي الجهم، وان كان عبد الله بن جعفر يخالط
بني امية بجسده ولا يخالطهم بفكره وعقيدته، فما مولاه من ذلك ببعيد (ولعله هو مولاه أبو اللسلاس الذي روى فيه الطبري عن أبي مخنف: انه
دخل على مولاه والناس يعزونه بمقتل الحسين (عليه السلام)، فقال: هذا ما لقينا
ودخل علينا من الحسين ! فحذفه عبد الله بن جعفر بنعله وقال: يا بن اللخناء
اللحسين تقول هذا ! (الطبري
5: 466). ولا يحضرني ألآن كتاب عبد الكريم الخطيب إذ نقل عنه السيد
المرتضى: ا نه ناقش في كتابه سند رواية ابن اسحاق إذ قال " عن بعض أهل
العلم " (الصحيح 1: 84 عن كتاب: النبي محمد: 196.).). وكذلك
محمد حسين هيكل في كتابه (حياة محمد: 73.).
وقد ناقش هذا الخبر الشيخ أبو رية، نقاشا موضوعيا سليما في كتابه القيم " أضواء على السنة
المحمدية " فنقل
تشكيك استاذه الشيخ محمد عبده في تفسيره إذ قال " والمحقق عندنا ا نه ليس للشيطان سلطان على عباد
الله المخلصين، وخيرهم الأنبياء والمرسلون. أما ما ورد في حديث ازالة حظ الشيطان
من قلبه - صلى الله عليه
[ وآله ] وسلم - فهو
من الأخبار الظنية، لأ نه من رواية الآحاد، ولما كان موضوعها عالم الغيب،
والايمان بالغيب من قسم العقائد، وهي لا يؤخذ فيها بالظن، لقوله تعالى * (ان الظن لا يغني من الحق شيئا) * كنا غير مكلفين بالايمان بمضمون تلك الأحاديث في عقائدنا " (تفسير
القرآن الحكيم 3: 291، 292 كما في الأضواء: 188.). والشيخ عبده إذ ينفي سلطان الشيطان على المخلصين من عباد الله
يستند الى ما جاء في سورة الحجر من الكتاب العزيز في قوله سبحانه * (قال رب بما أغويتني لازينن لهم في الأرض ولاغوينهم أجمعين الا
عبادك منهم المخلصين قال هذا صراط علي مستقيم ان عبادي ليس لك عليهم سلطان الا
من اتبعك من الغاوين) * (الحجر:
39 - 42.) وقد جاء أبو رية بهذه الآيات ثم قال: فكيف يدفعون الكتاب بالسنة، أو يعارضون المتواتر الذي يفيد
اليقين، بأحاديث الآحاد التي لا تفيد الا الظن ان صحت (أضواء: 188.). وقال: وقد نصت هذه الروايات على ان صدره - صلوات الله عليه - قد شق
واخرجت منه العلقة السوداء ! وحظ الشيطان كما يقولون، وكأن العملية الاولى لم
تنجح فاعيد شق صدره، ووقع ذلك مرات عديدة بلغت خمسا، أربع منها بإتفاق كما
يقولون: في الثالثة من عمره، وفي العاشرة، وعند مبعثه، وعند الإسراء، ومرة خامسة
فيها خلاف. وقد قالوا: ان تكرار الشق انما هو زيادة في تشريف النبي (اضواء: 187.). وفي تفسير الآية الاولى
من سورة الإسراء وبمناسبة حديث الإسراء قال الشيخ الطبرسي في تفسيره " وقد وردت روايات كثيرة في قصة المعراج في عروج نبينا الى السماء
ورواها كثير من الصحابة. وتنقسم جملتها الى أربعة وجوه " الى ان قال "
ورابعها: ما لا يصح ظاهره ولا يمكن تأويله الا على التعسف البعيد، فالأولى ان لا
نقبله " الى ان قال " وأما الرابع: فنحو ما روي أنه شق بطنه وغسلته
الملائكة، ذلك لانه (صلى
الله عليه وآله) كان
طاهرا مطهرا من كل سوء وعيب، وكيف يطهر القلب وما فيه من الاعتقاد، بالماء (مجمع
البيان 6: 69 ط بيروت.). ولهذا لم يذكر هذا الخبر
ضمن أخباره عن النبي (صلى الله عليه وآله) في كتابه (إعلام الورى). وفي نفس الوقت نرى البعض يعتبر هذا الخبر من ارهاصات النبوة ومثار
اعجاب وتقدير خص به نبينا (صلى الله عليه وآله) ولم يحصل لأي من الأنبياء
السابقين كالحلبي في كتابه: (انسان العيون في سيرة الأمين المأمون) (المعروف
بالسيرة الحلبية 1: 368.) والبوطي في كتابه: (فقه السيرة) (فقه السيرة: 53.) والسيد الحسني
في كتابه: (سيرة المصطفى) مع الإعتراف بضعف مستنده (سيرة المصطفى: 46.). وعلق عليه السيد المرتضى فقال متسائلا: ولم اختص نبينا بهذه العملية ولم تحصل لأي من الانبياء السابقين ؟
! أفهل يعقل ان يكون هو بحاجة الى هذه العملية فقط دون سائر الانبياء ؟ اذن فكيف
يكون أكملهم وأفضلهم ؟ ! أم يقولون: قد كان فيهم للشيطان حظ أيضا ولكنه لم يقتطع
منهم بعملية جراحية كهذه، ولذلك أصبح هذا أفضلهم وأكملهم ؟ ! (الصحيح
في السيرة 1: 86.). ولا تخلو كتب السيرة والحديث عند غير الإمامية عن هذه الرواية
غالبا حتى بعض الصحاح كصحيح مسلم، فقد روى بسنده عن أنس بن مالك قال: ان رسول الله أتاه جبرئيل وهو يلعب مع الغلمان فأخذه وصرعه فشق عن
قلبه فاستخرج القلب فاستخرج منه علقة فقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله في طست
من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه ثم أعاده الى مكانه. وجاء الغلمان يسعون الى امه -
يعني ظئره - فقالوا: ان محمدا قد قتل، فاستقبلوه وهو منتقع اللون ! قال انس: وقد
كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره (صحيح
مسلم 1: 101 - 102 بأربعة طرق.).
وهي عند الإمامية قصة لم يصححها حديث ولا اعتبار، وهم برآء من هذه وأمثالها. وقد نقلها المحدث المجلسي في بحاره عن
كتاب (فضائل شاذان بن جبرئيل القمي) نقلا عمن يسميه الواقدي. ثم قال المجلسي:
أقول: هذا الخبر - وان لم نعتمد عليه كثيرا، لكونه من طرق المخالفين - انما
أوردته لما فيه من الغرائب ! وعلق عليه المحقق الرباني الشيرازي يقول: نحن في غنى من ان نسرد كل ما عثرنا عليه مما جاء في فضائله من
المعاجز وخوارق العادات كما كان كاتبو سيرته من القدماء يفعلون ذلك، فنحن لا
نحتاج في اثبات عظمته إليها، بعد ما ملأت فضائله الآفاق (البحار
15: 353 - 357 - الهامش.). وأين هذه الصورة عن النبي (صلى الله عليه وآله) عن ذلك الوصف
الذي يصفه به صنوه وصهره وأخوه ثم وصيه علي (عليه السلام) إذ قال في كلام له " ولقد قرن الله به من لدن ان كان فطيما أعظم ملك من ملائكته،
يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره " (نهج
البلاغة، القسم الأول: الخطبة القاصعة: 192، المقطع 118 عن مسعدة بن صدقة عن
الامام الباقر (عليه السلام).). وروى ابن أبي الحديد: ان بعض أصحاب الامام الباقر (عليه السلام) سأله عن قوله سبحانه * (الا من ارتضى من رسول فانه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا) * (الجن:
27.) ؟ فقال (عليه السلام):
" يوكل الله تعالى بأنبيائه ملائكة يحصون أعمالهم ويؤدون إليهم تبليغ
الرسالة، ووكل بمحمد ملكا عظيما منذ فصل من الرضاع، يرشده الى الخيرات ومكارم
الأخلاق، ويصده عن الشر ومكاره الأخلاق " (شرح
النهج للمعتزلي 13: 207، وعنه في البحار 15: 361 |
وفود
عبد المطلب على سيف بن ذي يزن:
|
روى الصدوق في (اكمال الدين) بسنده عن ابن عباس قال: لما ظفر سيف بن ذي يزن بالحبشة - وذلك بعد مولد النبي (صلى الله عليه وآله) بسنتين - أتاه وفد العرب وأشرافها وشعراؤها بالتهنئة، تمدحه وتذكر
ماكان من بلائه وطلبه بثأر قومه. فأتاه وفد من قريش ومعهم عبد المطلب بن هاشم،
وأمية بن عبد شمس، وعبد الله بن جدعان، واسيد بن خويلد بن عبد العزى (كذا)، ووهب
بن عبد مناف (أبو آمنة أم النبي) وأناس من وجوه قريش. فقدموا عليه في صنعاء، فاستأذنوا فإذا هو في رأس قصر يقال له
(غمدان) فدخل عليه الآذن فأخبره بمكانهم فأذن لهم، فلما دخلوا عليه دنا عبد
المطلب منه فاستأذنه في الكلام، فقال: ان كنت ممن يتكلم بين يدي الملوك فقد أذنا
لك. فتكلم عبد المطلب فقال فيما قال: نحن - أيها الملك - أهل حرم الله وسدنة
بيته، أشخصنا اليك الذي أبهجنا من كشف الكرب الذي فدحنا، فنحن وفد التهنئة لا
وفد المرزئة. قال: وأيهم أنت أيها المتكلم ؟ قال: أنا عبد المطلب بن هاشم. فأقبل
عليه وعلى القوم فقال: مرحبا وأهلا ومستناخا سهلا، قد سمع الملك مقالتكم وقبل
وسيلتكم، فلكم الكرامة ماأقمتم والحباء إذا ظعنتم. ثم أمر بهم الى دار ضيافة الوفود فأقاموا شهرا لا يصلون إليه ولا يأذن لهم بالانصراف، ثم انتبه لهم
فأرسل الى عبد المطلب فأخلى له مجلسه وأدناه، ثم قال له: يا عبد المطلب: اني
مفوض اليك من سر على أمر ما لو كان غيرك لم أبح له به، ولكني رأيتك معدنه
فاطلعتك عليه، فليكن عندك مطويا حتى يأذن الله فيه فإن الله بالغ أمره: إني أجد
في الكتاب المكنون والعلم المخزون الذي اخترناه لأنفسنا وحجبناه دون غيرنا خبرا
عظيما وخطرا جسيما فيه شرف الحياة وفضيلة الوفاة، للناس عامة ولرهطك كافة ولك
خاصة. فقال عبد المطلب: فما هو ؟ فقال: إذا ولد
بتهامة غلام بين كتفيه شامة، كانت له: الإمامة ولكم به الدعامة الى يوم القيامة. هذا حينه الذي يولد فيه أو قد ولد، اسمه محمد، يموت أبوه وامه ويكفله جده وعمه. وقد ولد سرارا والله باعثه جهارا وجاعل له منا أنصارا، ليعز بهم
أولياءه ويذل بهم أعداءه، يضرب بهم الناس عن عرض (العرض بضم العين: من يعترض لهم.) ويستبيح بهم كرائم الأرض، يكسر الأوثان ويخمد النيران ويعبد
الرحمان ويزجر الشيطان، قوله فصل وحكمه عدل، يأمر بالمعروف ويفعله وينهى عن المنكر
ويبطله. فقال عبد المطلب:
فهل الملك ساري بإفصاح فقد أوضح لي بعض الأيضاح ؟ فقال ابن ذي يزن:
والبيت ذي الحجب، والعلامات على النصب، انك يا عبد المطلب لجده غير كذب، فخر عبد
المطلب ساجدا لله ! فقال له
ابن ذي يزن: فهل أحسست شيئا
مما ذكرته ؟ قال: كان لي ابن كنت به معجبا وعليه رفيقا، فزوجته بكريمة من كرائم
قومي: اسمها آمنة بنت وهب، فجاءت بغلام سميته محمدا، مات أبوه وامه، وكفلته أنا
وعمه ! فقال سيف بن ذي يزن: ان الذي قلت لك كما قلت، فاحتفظ بابنك واحذر عليه اليهود فإنهم له
أعداء ولن يجعل الله لهم عليه سبيلا ! ثم أمر لكل رجل من القوم بعشرة أعبد وعشر اماء وحلي من البرود
ومائة من الابل وخمسة أرطال ذهب وعشرة أرطال فضة وكرش مملوؤة عنبرا ! وأمر لعبد
المطلب بعشرة أضعاف ذلك وقال: إذا حال الحول فأتني فمات ابن ذي يزن قبل أن يحول
الحول (اكمال الدين: 174 - 177 ط النجف.). هذا، وقد سبق في ذكر ملوك اليمن قول المسعودي بأن يكسوم بن
ابرهة الأشرم ملك اليمن بعد
هلاك أبيه ابرهة بالأبابيل عشرين عاما، ثم ملك أخوه مسروق بن أبرهة ثلاث سنين، وان سيف بن ذي يزن كان قد مضى الى قيصر يستنجده - وذلك قبل هلاك يكسوم بأربع سنين - فأبى أن ينجده وقال:
أنتم يهود والحبشة نصارى، وليس
في الديانة أن ننصر المخالف على الموافق. فمضى الى كسرى انوشيروان فاستنجده، فوعده انوشيروان بالنصرة على السودان، ولكنه شغل بحرب الروم فمات سيف بن ذي يزن. على بابه. فأتى بعده ابنه
معديكرب بن سيف، فوجه
معه اصپهبد الديلم ويعرف في أهل السجون، فقتل وهرز من الحبشة ثلاثين ألفا، ثم
توج وهرز معديكرب بتاج كان معه ورتبه في ملكه على اليمن. وأتت معديكرب الوفود من
العرب تهنيه بعود الملك إليه، وفيهم عبد المطلب بن هاشم وامية بن عبد شمس،
وخويلد بن أسد بن عبد العزى، وأبو الصلت الثقفي أبو امية بن أبي الصلت، فدخلوا
عليه في أعلى قصره المعروف بغمدان بمدينة صنعاء وقد تقدمهم عبد المطلب فتكلم
فقال فيما قال: نحن أهل حرم الله وسدنة بيته... الى آخر ما مر من الخبر السابق
عن (اكمال الدين) ثم قال المسعودي: ولمعديكرب بن سيف بن ذي يزن كلام كثير مع عبد
المطلب، وكوائن أخبره بها في أمر النبي وبدء ظهوره، بشر به عبد المطلب وأخبره عن
أحواله وما يكون من أمره (مروج الذهب 2: 58.).
ولاحظنا ان رواية الصدوق عن ابن عباس كانت مصحفة في اسم أبي خديجة: خويلد بن اسيد بن عبد العزى الى: اسيد بن خويلد بن عبد العزى. وقد
ذكره المسعودي صحيحا. وروى الطبرسي الخبر مرفوعا الى ابن عباس أيضا وقال في آخره: روى هذا الحديث الشيخ أبو بكر البيهقي في كتابه (دلائل
النبوة) من طريقين (إعلام
الورى: 15 - 17.) والظاهر أنهما ما أورده الصدوق عن ابن عباس. ورواه الكراجكي في كتابه (الكنز) كذلك بنفس السند، كما في البحار (كنز
الكراجكي: 82 - 84 كما في البحار 15: 191.) ومن
المعلوم أن ابن عباس لم يدرك ذلك. لكن الكازروني نقل الخبر في كتابه (المنتقى في
مولد المصطفى) باسناده الى محمد بن عبد العزيز عن أبيه عبد العزيز بن عفير، عن
أبيه عفير بن عبد العزيز عن أبيه عبد العزيز بن السفر عن أبيه السفر بن عفير، عن
أبيه عفير بن زرعة بن سيف ابن ذي يزن قال: لما ظفر جدي سيف على الحبشة - وذلك
بعد مولد النبي بسنتين - أتت وفود العرب وأشرافها وشعراؤها لتهنئته، وتذكر ما
كان من بلائه وطلبه بثأر قومه.. ثم ساق الحديث مثل ما تقدم برواية الصدوق، ثم قال الكازروني:
هذا الحديث دال على أن الوفادة الى ابن ذي يزن كان في سنة ثلاث من مولد رسول
الله (صلى الله عليه وآله)، والأصح أ نها كانت في سنة سبع، لأ نه يقول عبد
المطلب فيه: توفي أبوه وامه وكفلته أنا وعمه. وام رسول الله لم تمت حتى بلغ ست
سنين. فنرى ان الكازروني قد تنبه الى هذه الغلطة ولكنه لم يغلطها بل
غلط بداية الرواية إذ قالت:
وذلك بعد مولد النبي بسنتين. بدون أي مرجح فيما بين هذين النصين. ثم لم يغلط
قوله: وكفلته أنا وعمه. فما معنى ذكر كفالة عمه أبي طالب الى جانب جده عبد
المطلب ؟ ! ثم لم ير أي تناقض بين هاتين الجملتين: هذا حينه الذي يولد فيه أو قد
ولد. وقوله: وقد ولد سرارا ! والمسعودي
قد اختصر الخبر على عادته في (مروج الذهب) ولكنه صرح: بأن سيف بن ذي يزن كان يهوديا ولذلك أبى قيصر أن ينصره،
وأبى هو ان يتنصر أو يظهر له النصرانية فينصره، بل عدل الى الملك غير العادل
انوشيروان عابد النيران فطلب منه الأعوان على الأحباش النصارى. وهؤلاء وان كانوا
على غير حقيقة النصرانية ولذلك أهلك الله كثيرا منهم بطير أبابيل، ولكن فما
الدليل على العقيدة الحقة لدى سيف اليمن ؟ أفهل يكفي لذلك رواية أبنائه المسلمين
بعد المائتين بل أكثر من الهجرة، تقص على المسلمين جملة جمة من مجد جدهم سيف
اليمن ؟ ! وانما قلت بعد المائتين بل أكثر من الهجرة،، إذ لا نرى أي أثر لهذا
الخبر لا عند ابن اسحاق ولا في سيرة ابن هشام ولا الطبري، بل نراه في اليعقوبي
باختصار (اليعقوبي 2: 12.)، ثم في (اكمال الدين) للصدوق منقولا عن ابن السائب الكلبي عن أبي
صالح عن ابن عباس وابن عباس لم يدرك الأمر ولم يسنده ولم يسند عنه، وانما ينتهي
اسناده الى أحفاد سيف لامجاد الاجداد. وليس في رواية الشيخ
الصدوق للخبر حجة بعد ذكره المرفوع المقطوع، وقد روى (رحمه الله) أكثر من ستين
صفحة من نفس الكتاب قصة الملك الهندي بلوهرو والحكيم الهندي بوذاسف، ثم عقبه بقوله: ليس هذا الحديث وما شاكله من أخباره مما أعتمده...
وجميعها في الصحة من طريق الرواية دون ما قد صح من الأخبار. ثم قال: ولا يراد
لهذا الحديث وما يشاكله في هذا الكتاب معنى آخر، وهو: أن جميع أهل الوفاق
والخلاف يميلون الى مثله من الأحاديث، فإذا ظفروا به من هذا الكتاب حرصوا على
الوقوف على سائر ما فيه (اكمال الدين: 600. نعم روى في (قرب الاسناد) عن الحسن بن ظريف عن
معمر عن الرضا عن أبيه موسى بن جعفر (عليهم السلام) انه قال في كرامات رسول الله
" ومن ذلك أن سيف بن ذي يزن حين ظفر بالحبشة، وفد عليه وفد من قريش فيهم
عبد المطلب فسألهم عنه ووصف لهم صفته، فأقروا جميعا بأن هذه الصفة في محمد،
فقال: هذا أوان مبعثه، ومستقره أرض يثرب وموته بها " قرب الأسناد: 132 -
140 كما في البحار 17: 226. فإذا قبلنا بهذا الاجمال فالتفاصيل المشتملة على ذلك
التهافت مردودة.). |
الاستسقاء
برسول الله (صلى الله عليه وآله):
|
روى المجلسي عن الكازروني في (المنتقى) في ما حدث سنة سبع من
مولده (صلى الله عليه وآله) بسنده الى مخرمة بن نوفل القرشي عن امه رقيقة بنت
صيفي قالت: تتابعت على قريش
سنون اقحلت الفرع وارمت العظم، فبينا أنا راقدة - اللهم - أو مهومة ومعي صنوي،
فإذا أنا بهاتف صيت يصرخ ويقول: يا معشر قريش ! ان هذا النبي المبعوث منكم هذا
ابان نجومه، فحي هلا بالحيا والخصب، ألا فانظروا رجلا منكم طوالا عظاما أبيض
بضا، أشم العرنين، سهل الخدين، له فخر يكظم عليه، ألا فليخلص هو وولده وليدلف
إليه من كل بطن رجل، ألا فليشنوا من الماء، وليمسوا من الطيب، وليطوفوا بالبيت
سبعا، ألا وليكن فيهم الطيب الطاهر لذاته، ألا فليستق الرجل وليؤمن القوم، ألا
فغثتم - إذا شئتم - وعشتم ! قالت: فأصبحت مذعورا قد قف جلدي وولد عقلي، واقتصصت
رؤياي، فوالحرمة والحرم ان بقي أبطحي الا قال: هذا شيبة الحمد. فتتامت إليه قريش، وانقض
إليه من كل بطن رجل، فشنوا ومسوا واستلموا وطوفوا، ثم ارتقوا أبا قبيس، وطفق
القوم يدلفون حوله حتى قروا بذروة الجبل، واستكنفوا جانبيه. ومعه ابن ابنه محمد
وهو يومئذ غلام قد أيفع، فاعتضده فرفعه على عاتقه ثم قال: " اللهم ساد
الخلة وكاشف الكربة، أنت عالم غير معلم ومسؤول غير مبخل، وهذه عبيدك وإماؤك
بفناء حرمك، يشكون اليك سنتهم التي اذهبت الخف والظلف، فاسمعن اللهم وامطرن
علينا غيثا مريعا مغدقا ". قالت: فما
راموا البيت حتى انفجرت السماء بمائها واكتظ الوادي بثجيجه (الثجيج:
الماء المصبوب، أو صوته.) فقلت شعرا: بشيبة
الحمد أسقى الله بلدتنا فقد فقدنا
الحيا واجلوذ المطر (اجلوذ: كثر وامتد وقت تأخره.) فجاد بالماء جوني له سبل
سحا، فعاشت به الأنعام والشجر (الجون: اللون الأسود، والجوني نسبة إليه، والمراد هنا: السحاب الأسود
المركوم. والسبل بفتحتين: المطر النازل قبل الوصول للأرض. وله سبل اي له جريان.
سحا: أي منصبا.) مبارك الأسم يستسقى الغمام به ما في الأنام له عدل ولا خطر (البحار
15: 403، 404 عن المنتقى في مولد المصطفى للكازروني: الباب الرابع من القسم
الثاني، وأخرج الحديث ابن الأثير في اسد الغابة 5: 454 وابن حجر في الإصابة 4:
296 والحلبي في السيرة 1: 131.)
ورواه اليعقوبي في تأريخه (اليعقوبي 2: 12.)،
والسهيلي في (الروض
الانف) عن البستي
النيسابوري باسناده عن دقيقة ايضا، مستشهدا به لمعنى قول أبي طالب بشأن النبي (صلى الله عليه وآله)
إذ قال: وأبيض يستسقى الغمام
بوجهه * ثمال اليتامى عصمة للأرامل قال: فان قيل: كيف قال أبو طالب هذا، ولم يره استسقى قط، وانما
كانت استسقاءاته (عليه السلام) بالمدينة في الحضر والسفر، وفيها شوهد سرعة اجابة
الله له ؟ ! فالجواب: إن
أبا طالب قد شاهد من ذلك في حياة عبد المطلب ما دله على ما قال. وانما قال
السهيلي هذا تعليقا على رواية ابن هشام: دعا النبي (صلى الله عليه وآله) للناس
حين القحط، فنزل المطر، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لو أدرك أبو طالب
هذا اليوم لسره ! فقال له بعض أصحابه: كأ نك يا رسول الله أردت قوله - وقرأ
البيت - قال: أجل (سيرة ابن هشام 1: 300 في المتن وعن الروض الانف في الهامش.). |
وفاة
ام النبي (صلى الله عليه وآله)، وكفالة جده وعمه له:
|
قال ابن اسحاق " وكان رسول الله -
صلى الله عليه [ وآله ] وسلم -
مع أمه آمنة بنت وهب وجده عبد المطلب بن هاشم في كلاءة الله وحفظه، ينبته الله
نباتا حسنا لما يريد به من كرامة ". ثم روى عن عبد الله بن
حزم انه " لما بلغ
رسول الله ست سنين قدمت به الى أخواله من بني النجار لزيارتهم، فلما رجعت الى
مكة ماتت بالأبواء بين مكة والمدينة ". وفسر ابن هشام خؤولة بني
النجار لرسول الله بان ام عبد المطلب كانت من بني النجار (سيرة ابن
هشام 1: 177.). وروى المجلسي عن الكازروني في (المنتقى) عن ابن عباس وغيره: أن رسول الله -
صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - كان مع امه آمنة، فلما بلغ ست سنين خرجت به الى أخواله بني النجار
بالمدينة تزورهم به، ومعه ام أيمن تحضنه، وهم على بعيرين، فنزلت به في دار
النابغة - التي توفي ودفن فيها عبد الله - فأقامت عندهم شهرا... ثم رجعت به امه
الى مكة، فلما كانت بالأبواء توفيت فقبرت هناك. ورجعت ام أيمن بالنبي الى مكة (ثم لما
مر رسول الله في عمرة الحديبية بالأبواء قال: ان الله قد أذن لي في زيارة قبر
امي. فأتى رسول الله قبرها فبكى عنده وقال: أدركتني رحم، رحمتها فبكيت. ثم أصلح
قبرها. وروي عن بريرة قال: لما فتح رسول الله مكة أتى قبرا فجلس إليه وجلس الناس
حوله وهو يبكي، ثم قام. فاستقبله عمر فقال: يا رسول الله ما الذي أبكاك ؟ قال:
هذا قبر امي، سألت ربي الزيارة فأذن لي. كما في البحار 15: 162 عن المنتقى،
الفصل الثالث فيما كان سنة ست من مولده. وروى مسلم في صحيحه حديث الرسول في
زيارة امه هكذا: استأذنت ربي في زيارة امي فأذن لي، فزوروا القبور تذكركم الموت.
كما في صحيح مسلم 3: 65 ط 1334 كتاب الجنائز. ورواه عنه الطبرسي في إعلام الورى:
9. ورواه عنه أيضا الاربلي في كشف الغمة 1: 16 ط تبريز.). والظاهر أن هذه الرواية للكازروني عن ابن عباس هي ما رواه الصدوق في (اكمال الدين) بسنده عن عكرمة
عن ابن عباس قال: لما تمت لرسول الله ست سنين قدمت به امه آمنة على أخواله من
بني النجار فماتت بالأبواء بين مكة والمدينة. فبقي رسول الله (صلى الله عليه وآله) يتيما لا اب له ولا ام، فازداد عبد المطلب رقة له وحفظا. فكان يوضع لعبد المطلب فراش في
ظل الكعبة لا يجلس عليه أحد اجلالا له، وكان بنوه يجلسون حوله حتى يخرج عبد
المطلب. فكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يخرج وهو غلام فيمشي حتى يجلس على
الفراش ! فيعظمون ذلك أعمامه ويأخذونه ليؤخروه، فيقول لهم عبد المطلب إذا رأى
ذلك منهم: دعوا ابني فوالله إن له لشأنا عظيما ! اني أرى انه سيأتي عليكم يوم
وهو سيدكم، إني أرى عزته عزة تسود الناس ! (وروى
الكليني بسنده عن الصادق (عليه السلام) نحوه (اصول الكافي 1: 448) وذكر مثله
(اليعقوبي 2: 9) وفي تأريخ وفاة آمنة قال الكليني: وماتت امه آمنة وهو ابن أربع
سنين (اصول الكافي 1: 439).) ثم يحمله فيجلسه معه ويمسح
ظهره ويقبله ويقول: ما رأيت قبله من هو أطيب منه ولا أطهر قط، ولا جسدا ألين منه
ولا أطيب ! ثم يحمله على عنقه فيطوف به اسبوعا. وكانت هذه حالته حتى ادركت عبد المطلب الوفاة. فبعث الى ابي طالب، فدخل عليه وهو في غمرات الموت ومحمد على صدره،
فبكى وقال لأبي طالب: يا أبا طالب ! انظر أن يكون هذا من جسدك بمنزلة كبدك، فإني
قد تركت بني كلهم وأوصيتك به، لأ نك من ام أبيه. يا أبا طالب ! ان ادركت أيامه فاعلم أ ني كنت من أبصر الناس وأعلم
الناس به، فإن استطعت أن تتبعه فافعل، وانصره بلسانك ويدك ومالك، فانه والله
سيسودكم ويملك ما لم يملك أحد من بني آبائي. يا أبا طالب ! ما أعلم
أحدا من آبائك مات عنه أبوه على حال أبيه، ولا امه على حال امه، فاحفظ الوحدة. هل قبلت وصيتي ؟ فقال: نعم، قد قبلت، والله علي بذلك شهيد. فقال عبد المطلب: فمد يدك
الي. فضرب يده على يده. ثم قال عبد المطلب: الآن خفف علي الموت ! ثم لم يزل يقبله ويقول:
أشهد اني لم اقبل أحدا من ولدي أطيب ريحا منك، ولا أحسن وجها منك. ثم مات. ورسول
الله ابن ثماني سنين (روى المجلسي عن الكازروني في المنتقى قال: مات عبد المطلب وهو ابن
ثنتين وثمانين سنة. وقالت ام أيمن: رأيت رسول الله يبكي خلف سرير عبد المطلب.
وسئل رسول الله: أتذكر موت عبد المطلب ؟ فقال: نعم أنا يومئذ ابن ثماني سنين
(البحار 15: 162 عن المنتقى: الفصل الثالث) ورواه عن (العدد) وأضاف: حتى دفن
بالحجون (البحار 15: 156).) وبه قال الكليني في الكافي (اصول
الكافي 1: 439.). فضمه أبو طالب الى نفسه لا يفارقه ساعة من ليل ولا نهار، وكان ينام
معه حتى بلغ، لا يأتمن عليه أحدا (ثم روى
الصدوق بسنده الى ابن اسحاق عن العباس بن عبد الله، عن ابيه عبد الله بن معبد،
عن ابيه معبد بن العباس بن عبد المطلب - أو بعض اهله - قال: كان يوضع لعبد
المطلب جد رسول الله فراش في ظل الكعبة، فكان لا يجلس عليه أحد من بنيه اجلالا
له، وكان رسول الله يأتي حتى يجلس عليه، فيذهب أعمامه يؤخرونه، فيقول جده عبد
المطلب: دعوا ابني فيمسح ظهره ويقول: ان لابني هذا لشأنا. ثم قال: فتوفي عبد
المطلب والنبي (صلى الله عليه وآله) ابن ثماني سنين: بعد عام الفيل ثماني سنين.
(والخبر في سيرة ابن هشام 1: 178، وفي تهذيب السيرة: 41) ثم قال الشيخ الصدوق: ان ابا طالب كان مؤمنا ولكنه كان يستر الإيمان
ويظهر الشرك ليكون أشد تمكنا من تصرف رسول الله (صلى الله عليه وآله). ثم روى
بسنده عن الاصبغ بن نباتة قال: سمعت أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: والله ما
عبد أبي - ولا جدي عبد المطلب ولا هاشم ولا عبد مناف - صنما قط. قيل: فما كانوا
يعبدون ؟ قال: كانوا يصلون الى البيت على دين ابراهيم (عليه السلام) متمسكين به. ثم روى بسنده عن الصادق
(عليه السلام) قال: ان أبا طالب أظهر الكفر وأسر الإيمان، فلما حضرته الوفاة
أوحى الله الى رسول الله: اخرج منها فليس لك بها ناصر ! فهاجر الى المدينة
(اكمال الدين: 169 - 172). وروي في (الخصال) بسنده عن الصادق (عليه السلام) قال: هبط جبرئيل على
رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: يا محمد ! ان الله عزوجل قد شفعك في خمسة.
في بطن حملك، وهي آمنة بنت وهب بن عبد مناف، وفي صلب أنزلك، وهو عبد الله بن عبد
المطلب. وفي حجر كفلك، وهو عبد المطلب بن هاشم، وفي بيت آواك، وهو عبد مناف بن
عبد المطلب أبو طالب، وفي أخ كان لك في الجاهلية. قيل: يا رسول الله ! من هذا
الأخ ؟ فقال: كان انسي وكنت انسه، وكان سخيا يطعم الطعام. ثم قال الصدوق: اسمه:
الجلاس بن علقمة (الخصال 1: 292، 294) وروى مثله بسند آخر في معاني الأخبار: 45 والأمالي 6 ورواه الكليني
في اصول الكافي 1: 446 وروى الصفار في (قرب الإسناد: 27) بسنده عن الصادق (عليه السلام)
قال: قال رسول الله: اني مستوهب من ربي أربعة، وهو واهبهم لي ان شاء الله تعالى:
آمنة بنت وهب، وعبد الله ابن عبد المطلب، وأبو طالب بن عبد المطلب، ورجل من
الأنصار جرت بيني وبينه ملحة، وروى الطبرسي في (إعلام الورى: 10) عن هشام بن عروة عن أبيه قال: قال
رسول الله (صلى الله عليه وآله): ما زالت قريش كاعة عني حتى مات أبو طالب (عليه
السلام).). قال ابن اسحاق:
وكان عبد المطلب يوصي برسول الله عمه أبا طالب، وذلك أن عبد الله وأبا طالب كانا
أخوين لام واحدة هي فاطمة بنت عمرو المخزومي. فكان رسول الله - صلى الله عليه [
وآله ] وسلم - بعد عبد المطلب مع عمه أبي طالب، وكان أبو طالب هو الذي يلي أمر
رسول الله - صلى الله عليه
[ وآله ] وسلم - بعد
جده، فكان إليه ومعه. وولي بعده السقاية على زمزم أصغر أبنائه العباس (فلم تزل
إليه حتى قام الاسلام، وهي بيده، فأقرها رسول الله له على ما مضى من ولايته، فهي
الى آل العباس بولاية العباس اياها الى هذا اليوم (سيرة ابن هشام 1: 189)). وقال اليعقوبي:
وأوصى عبد المطلب الى أبي طالب برسول الله وقال له: اوصيك يا عبد مناف بعدي
* بمفرد بعد أبيه فرد فارقه وهو ضجيع المهد *
فكنت كالام له في الوجد تدنيه من أحشائها والكبد
* فأنت من أرجى بني بعدي لدفع ضيم، أو
لشد عقد قال: وأوصى إليه بسقاية زمزم. وأوصى بالحكومة وأمر الكعبة الى ابنه
الزبير. وأعظمت قريش موته، وغسلوه بالماء والسدر، ولفوه في حلتين من حلل
اليمن قيمتها ألف مثقال ذهب ! وطرح عليه المسك حتى ستره، وحمل على أيدي الرجال
عدة أيام ! اعظاما واكراما واكبارا لتغييبه في التراب (وروى عن
رسول الله انه قال: ان الله يبعث جدي عبد المطلب امة وحده، في هيئة الأنبياء وزي
الملوك (اليعقوبي 2: 13) ورواها الكليني في اصول الكافي بأسانيد ثلاثة مختلفة
والفاظ متقاربة (اصول الكافي 1: 446، 447).). ولما غيب عبد المطلب، احتبى ابنه الزبير بفناء الكعبة مدعيا
للرئاسة، وادعاها معه الوليد بن ربيعة المخزومي، وابن جدعان التيمي. وكفل رسول الله بعده عمه
أبو طالب، فكان خير كافل. فكان أبو طالب سيدا شريفا مطاعا مهيبا، مع املاقه ! (ثم روى
عن علي (عليه السلام) أنه قال: ساد أبي فقيرا، وما ساد فقير قبله، (اليعقوبي 2:
14).) وربته فاطمة بنت أسد بن هاشم امرأة أبي طالب وام أولاده (قال:
وأسلمت فكانت مسلمة فاضلة، فلما توفيت قال رسول الله كما يروى: اليوم ماتت امي !
ثم كفنها بقميصه، ونزل في قبرها واضطجع في لحدها. فقيل له: يا رسول الله ! لقد
اشتد جزعك على فاطمة ؟ قال: انها كانت امي، إذ كانت لتجيع صبيانها وتشبعني،
وتشعثهم وتدهنني ! وكانت امي ! (اليعقوبي 2: 14).). وروى ابن شهر آشوب عن
الأوزاعي (عبد الرحمن بن عمرو
بن أبي عمرو الأوزاعي الفقيه: ثقة جليل من السابقة مات سنة 157 (تقريب التهذيب).) قال: كان النبي في حجر عبد المطلب، فلما أتى عليه اثنان ومائة
سنة ورسول الله ابن ثماني سنين، جمع بنيه وقال: محمد يتيم فآووه وعائل فاغنوه
واحفظوا وصيتي فيه. فقال أبو لهب: أنا له ! فقال: كف شرك عنه ! فقال عباس: أنا له، فقال: أنت غضبان لعلك تؤذيه !
فقال أبو طالب: أنا له، فقال: أنت له. فأمسكه أبو طالب في حجره وقام بأمره يحميه بنفسه وماله وجاهه في
صغره من اليهود المرصدة له بالعداوة، ومن غيرهم من بني أعمامه، ومن العرب قاطبة،
الذين يحسدونه على ما آتاه الله من النبوة. وروى عن الخرگوشي في (شرف المصطفى): أنه
لما حضرت عبد المطلب الوفاة دعا ابنه أبا طالب فقال له: يا بني ! قد علمت شدة حبي
لمحمد ووجدي به، فانظر كيف تحفظني فيه ! فقال أبو طالب: يا أبه لا توصني بمحمد،
فإنه ابني وابن أخي ! فلما
توفي عبد المطلب كان
أبو طالب يؤثره بالنفقة والكسوة على نفسه وعلى جميع أهله، وكان إذا أراد أن يعشي
أولاده أو يغديهم يقول: كما أنتم حتى يحضر ابني، فيأتي محمد فيأكلون (المناقب
1: 35 - 36.). |
سفر
النبي (صلى الله عليه وآله) الأول مع عمه الى الشام:
|
روى الصدوق في (اكمال الدين) بسنده الى ابن عباس عن أبيه العباس
بن عبد المطلب عن أبي طالب قال: خرجت الى الشام تاجرا سنة ثمان من مولد النبي، وكان في أشد ما يكون
من الحر، فلما أجمعت على المسير قال لي رجال من قومي ما تريد أن تفعل بمحمد ؟
وعلى من تخلفه ؟ فقلت: لا اريد أن أخلفه على أحد من الناس، اريد أن يكون معي. فقيل:
غلام صغير في حر مثل هذا تخرجه ؟ فقلت: والله لا يفارقني حيث ما توجهت أبدا،
فإني لاوطئ له الرحل. فذهبت فحشوت له حشية كساء وكتانا. وكنا ركبانا كثيرا، فكان
والله البعير الذي عليه محمد أمامي لا يفارقني فكان يسبق الركب كله، فكان إذا
اشتد الحر جاءت سحابة بيضاء مثل قطعة ثلج فتقف على رأسه لا تفارقه وهي تسير معنا
(اكمال الدين: 178.) وفي التفسير المنسوب الى
الأمام الحسن العسكري عن أبيه الهادي (عليهما السلام) قال: ان رسول الله كان يسافر الى الشام مضاربا لخديجة بنت خويلد، وكان
من مكة الى بيت المقدس مسيرة شهر، فكانوا في حمارة القيظ يصيبهم حر تلك البوادي
وربما عصفت عليهم فيها الرياح وسفت عليهم الرمال والتراب وكان الله تعالى في تلك
الأحوال يبعث لرسول الله غمامة تظله فوق رأسه تقف بوقوفه وتزول بزواله، ان تقدم
تقدمت وان تأخر تأخرت وان تيامن تيامنت وان تياسر تياسرت، فكانت تكف عنه حر
الشمس من فوقه. وكانت تلك الرياح المثيرة لتلك الرمال والتراب تسفيها في وجوه
قريش ورواحلها حتى إذا دنت من محمد (صلى الله عليه وآله) هدأت وسكنت ولم تحمل
شيئا من رمل ولا تراب وهبت عليه ريحا باردة لينة، حتى كانت قوافل قريش يقول
قائلها: جوار محمد أفضل من خيمة، فكانوا يلوذون به ويتقربون إليه، فكان الروح
يصيبهم بقربه وان كانت الغمامة مقصورة عليه (تفسير
الإمام: 60 كما في البحار 17: 308.). وفي رواية الصدوق عن ابن
عباس عن أبي طالب قال فلما
قربنا من بصرى الشام (بصرى هي مدينة حوران، فتحت صلحا لخمس بقين من ربيع الأول سنة ثلاث
عشرة، وهي أول مدينة فتحت بالشام. وردها رسول الله مرتين: هذه هي الاولى.) إذا
نحن بصومعة، فنزلنا تحت شجرة عظيمة قريبة من الراهب قليلة الأغصان ليس لها حمل،
كان الركبان ينزلون تحتها، فلما رأى بحيرا الراهب (حسبه
المسعودي من عبد قيس من عرب الشام، مروج الذهب 2: 102.) ذلك
اتخذ طعاما ثم جاء به فأكل وأكلنا معه. ثم قال: يا غلام أسألك عن ثلاث خصال بحق اللات والعزى الا
أخبرتنيها. فغضب رسول الله (صلى الله عليه وآله) عند ذكر اللات والعزى وقال: لا
تسألني بهما، فوالله ما أبغضت شيئا كبغضهما، وإنهما صنمان من حجارة لقومي. فقال
بحيرا: هذه واحدة. ثم قال: فبالله الا ما أخبرتني. فقال: سل عما بدا لك، فأ نك
قد سألتني بإلهي والهك الذي ليس كمثله شئ. فقال: أسألك عن نومك وهيئتك وامورك
ويقظتك. فأخبره عن نومه وهيئته واموره وجميع شأنه، فوافق ذلك ما عند بحيرا من
صفته التي عنده. فانكب عليه بحيرا فلم يزل يقبل يديه مرة ورجليه مرة ويقول فيما
يقول: أنت دعوة ابراهيم وبشرى عيسى، أنت المقدس المطهر من أنجاس الجاهلية. ثم
التفت الي وقال: ما يكون هذا الغلام منك فإني أراك لا تفارقه ؟ قال أبو طالب:
فقلت: هو ابني، فقال: ما هو بابنك وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون والده الذي
ولده حيا ولا أمه. فقال: قلت: انه ابن أخي وقد مات أبوه وامه حاملة به، وماتت
امه وهو ابن ست سنين. فقال: صدقت، هكذا هو، ولكن أرى لك ان ترده الى بلده عن هذا
الوجه، فلئن رأوا هذا الغلام وعرفوا منه الذي عرفت أنا لابتغوه شرا، وأكثر ذلك
هؤلاء اليهود ! قال أبو
طالب: فقلت: كلا، لم يكن الله
ليضيعه !. ثم خرجنا به الى الشام فلما توصلنا الشام ازدحم الناس ينظرون الى
وجه رسول الله (صلى الله عليه وآله) وجاء حبر عظيم كان اسمه نسطورا ينظر إليه لا
يتكلم بشئ، فعل ذلك ثلاثة أيام متوالية، فلما كان اليوم الثالث دار خلفه كأنه
يلتمس منه شيئا، فقلت له: يا راهب كأ نك تريد منه شيئا ؟ فقال: أجل اني اريد منه
شيئا، ما اسمه ؟ قلت: محمد بن عبد الله، فتغير لونه ثم قال: فترى أن تأمره أن
يكشف لي عن ظهره لانظر إليه، فكشف عن ظهره فلما رأى الخاتم (روى
السهيلي في (الروض الانف) خبرا عن الخاتم هذا يفيد أنه كان كبيض الحمام على
غضروف كتفه الأيسر حوله نقاط من الخال عليها شعرات. وقال ابن هشام كان مثل أثر
محجمة الحجامة القابضة على اللحم، كما في سيرته 1: 193، متنا وهامشا.) انكب
عليه يقبله ويبكي، ثم قال: يا هذا اسرع برد هذا الغلام الى موضعه الذي ولد فيه،
فانك لو تدري كم عدوا له في أرضنا لم تكن بالذي تقدمه معك. وروى
بسنده الى يعلى بن سيابة (في اكمال الدين: يعلى النسابة، والصحيح عن المناقب 1: 40.) قال:
كان مع رسول الله سنة خروجه الى الشام: خالد بن أسيد بن أبي العاص وطليق بن أبي
سفيان بن امية، فكانا يحكيان أ نهما لما توسطا سوق بصرى إذا بقوم من الرهبان
قالوا لهم: نحب ان تأتوا كبيرنا هاهنا في الكنيسة العظمى. فذهبنا معهم حتى دخلنا
معهم الكنيسة العظيمة البنيان، فإذا كبيرهم قد توسطهم وحوله تلامذته وقد نشر
كتابا بين يديه فأخذ ينظر الينا مرة وفي الكتاب مرة، ثم قال لأصحابه: ما صنعتم
شيئا، لم تأتوني بالذي اريد، وهو الآن ها هنا ! ثم قال لنا: من أنتم ؟ فقلنا: رهط من قريش، فقال: من أي قريش ؟
فقلنا من بني عبد شمس، فقال لنا: معكم غيركم ؟ فقلنا: بلى (كذا) معنا شاب من بني
هاشم نسميه يتيم بني عبد المطلب، فقام واتكى على صليب من صلبانه وهو يفكر، وحوله
ثمانون رجلا من البطارقة والتلامذة، فقال لنا: فيجب عليكم ان ترونيه، فقلنا له:
نعم فجاء معنا. وفي سوق بصرى إذا
نحن بمحمد قائم في السوق، فأردنا ان نقول للقس: هو هذا، فإذا هو سبقنا فقال: هو
هو، قد عرفته والمسيح، فدنا منه وقبل رأسه وقال: أنت المقدس، ثم أخذ يسأله عن
أشياء من علاماته، فأخذ يخبره النبي (صلى الله عليه وآله) فسمعناه يقول: لئن
ادركت زمانك لأعطين السيف حقه ! ثم قال لنا: أتعلمون ما معه ؟ معه الحياة
والموت، من تعلق به حيي طويلا، ومن زاغ عنه مات موتا لا يحيى بعد أبدا هذا الذي
معه الذبح الأعظم ! ثم قبل رأسه ورجع راجعا (اكمال
الدين: 178 - 185 بتصرف واختصار. وخبر بحيرا رواه ابن شهر آشوب في المناقب 1:
38، 39 عن الطبري والظاهر انه الطبري الامامي صاحب (دلائل الإمامة) والا فالخبر
لا يطابق ما في تأريخ الطبري. واختار الطبرسي أن يرويه عن ابن اسحاق: إعلام
الورى: 17، 18. وكذلك الاربلي في كشف الغمة 1: 22 نقل ما ذكره ابن اسحاق. والخبر
في سيرة ابن هشام 1: 191 - 194. وفي الطبري 2: 277 - 278. وأشار إليه اليعقوبي
2: 11 واختصره المسعودي 1: 89. وقال: واسم بحيرا في النصارى سرجيس، وكان للنبي
اثنتا عشرة سنة.). وقد نقل ابن اسحاق خبر بحيرا بلا اسناد فقال فيه: كان في بصرى من أرض الشام صومعة لم يزل فيها أبدا راهب كان إليه
علم النصرانية عن كتاب لهم يتوارثونه كابرا عن كابر، فكان فيها إذ ذاك راهب يقال
له بحيرا، كانوا كثيرا ما يمرون به قبل ذلك، فلا يكلمهم ولا يعرض لهم، حتى خرج
أبو طالب في ركب ذلك العام تاجرا الى الشام، وتعلق به رسول الله فرق له أبو طالب
فخرج به معه، فلما كان الركب قريبا من صومعة بحيرا، كان قد رأى - وهو في صومعته
- رسول الله وقد أظلته من بين الركب غمامة، ونزلوا في ظل شجرة قريبا منه، فاظلت
الغمامة الشجرة وتدلت أغصانها على رسول الله. فلما رأى ذلك بحيرا نزل من
صومعته وصنع لهم طعاما كثيرا ثم ارسل إليهم فقال: يا معشر قريش اني قد صنعت لكم
طعاما فاحب ان تحضروه كلكم كبيركم وصغيركم حركم وعبدكم ! فانتم ضيف وقد أحببت ان
اكرمكم وأصنع لكم طعاما تأكلون منه. فاجتمعوا إليه وتخلف رسول الله من بين القوم
في رحال القوم تحت الشجرة، فقال
بحيرا: يا معشر قريش ! لا
يتخلفن أحد منكم عن طعامي. قالوا له: يا بحيرا ! ما تخلف عنك أحد ينبغي له أن
يأتيك، إلا غلام أحدث القوم سنا تخلف في رحالهم، فقال: ادعوه فليحضر هذا الطعام
معكم، فقام إليه رجل منهم فاحتضنه حتى أجلسه مع القوم. فلما رآه بحيرا جعل يلحظه لحظا شديدا وينظر الى أشياء من جسده قد
كان يجدها عنده من صفته، حتى إذا فرغ القوم من طعامهم وتفرقوا قام إليه بحيرا
فقال له: يا غلام ! أسألك
بحق اللات والعزى الا ما أخبرتني عما أسألك عنه. فقال رسول الله: لا تسألني
باللات والعزى، فو الله ما أبغضت شيئا قط كبغضهما ! فقال بحيرا: فبالله الا ما
أخبرتني عما أسألك عنه، فقال له: سلني عما بدا لك، فجعل يسأله عن أشياء من حاله
في نومه وهيئته واموره، وجعل رسول الله يخبره، فكان يوافق ذلك ما عند بحيرا من
صفته. ثم نظر الى ظهره فرأى خاتم النبوة بين كتفيه على موضعه من صفته التي عنده.
فلما فرغ أقبل على عمه أبي طالب فقال له: ما هذا الغلام منك ؟ قال: ابني، قال
بحيرا: ما هو بابنك، وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حيا ! قال: فانه ابن
أخي. قال: فما فعل أبوه قال: مات وامه حبلى به. قال: صدقت، فارجع بابن أخيك الى
بلده واحذر عليه اليهود، فو الله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليبغنه شرا، فانه
كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم، فاسرع به الى بلاده. فلما فرغ عمه من تجارته
خرج به حتى أقدمه مكة (سيرة ابن هشام 1: 191 - 194 والخبر في السيرة بلا سند، وأسنده الطبري
إليه عن عبد الله بن أبي بكر. وذكر مثله الكازروني في (المنتقى) بسند طويل الى
داود بن الحصين (البحار 15: 409).). هكذا ينتهي الخبر عند ابن اسحاق، وهكذا نقله عنه الطبري في
تأريخه، ولكنه روى بعده
رواية اخرى أسندها الى أبي موسى
الأشعري الأنصاري - المدني - من دون ان يسندها الى أحد قبله، قال في آخرها: فلم يزل يناشده حتى رده، وزوده الراهب بزيت وكعك
وبعث معه أبو بكر بلالا ! (الطبري 2: 277 - 272 ط المعارف وص 34 ط الإستقامة. والسيرة الحلبية
1: 120 وسيرة دحلان 1: 49 والبداية والنهاية 2: 285 والثقات لأبن حبان 1: 44.). ورواه الديار بكري في كتابه (تأريخ الخميس) ثم نقل عن الحافظ الدمياطي أ نه أشكل على هذا الخبر - ارسال أبي
بكر بلالا مع الرسول - بأن أبا بكر لم يكن يومئذ يملك بلالا بل كان يملكه امية
بن خلف، وانما اشتراه أبو بكر بعد ثلاثين عاما ! ثم ذهب الى ان أبا بكر لم يكن
في ذلك السفر أصلا ! ولذلك قال الذهبي بشأن هذا الخبر: اظنه موضوعا، بعضه باطل (تأريخ
الخميس 1: 259 والسيرة الحلبية 1: 120 وسيرة مغلطاي: 11.) ورواه
الترمذي في سننه ثم
قال: حسن غريب ! وقد نقل الطبري عن الكلبي: ان أبا طالب خرج برسول الله الى بصرى وهو ابن تسع سنين (الطبري
2: 278.). والمعروف أن أبا بكر كان أصغر من النبي (صلى الله عليه وآله) بأكثر
من سنتين، فكيف يكون ما ذكر ؟ ! وقد ألمح الى التشكيك فيها جماعة من المؤرخين - كما سبق - منهم
أبو الفداء في تأريخه الكبير، وجاء فيه: ان أحد رواتها هو أبو بكر بن أبي موسى عن أبيه الأشعري، وقد دخل
في الإسلام في السنة السابعة من الهجرة، ولابد أن تكون حينئذ من مرسلات الصحابة.
وشكك في الرواية: أ نها اشتملت على أن أبا طالب أرجع النبي (صلى الله عليه وآله)
- كما زعم الرواي - مع بلال الحبشي وأبي بكر، وقد كانا يوم ذاك أصغر منه سنا،
حيث إن أبا بكر في ذلك الوقت لم يتجاوز العاشرة، وبلال الحبشي كان أقل من ذلك
فكيف يصح أن يرده أبو طالب الى مكة من تلك المسافة البعيدة وفي تلك الصحراء
المخيفة مع طفلين صغيرين ؟ ! (البداية والنهاية 2: 285.) ثم الرواية - كما مر - عن أبي موسى الأشعري، وهو أنصاري مدني،
والمعروف أ نه ولد قبل البعثة بثماني سنين، وقدم الى المدينة بعد الهجرة بسبع
سنين، ورحلة الرسول مع عمه أبي طالب الى الشام كانت قبل البعثة باثنتين وثلاثين
سنة، وقبل الهجرة بخمس وأربعين سنة، وقبل أتصال أبي موسى بالرسول بأكثر من خمسين سنة، فكيف روى هذا الخبر بلا اسناد الى أحد قبله ؟ !
والرواية الاولى
نقلناها عن الصدوق في (اكمال
الدين) بسنده الى ابن
عباس، وكانت تنتهي بقول أبي طالب: وعجلت به حتى رددته الى مكة (اكمال
الدين: 182.). وقد ذكر الديار بكري الرواية عن ابن عباس أيضا ولكنه جاء في
آخرها: فوقع في قلب أبي بكر
اليقين والتصديق قبل ما نبئ (تأريخ الخميس 1: 261.) وعلى
هذا يكون ايمان أبي بكر قد سبق نبوة النبي فضلا عن ميلاد علي (عليه السلام) ! ولهذا قال الصفوري الشافعي: وكان إسلامه قبل ان يولد علي بن أبي طالب (نزهة المجالس 2: 147.) وتوهم النووي أن سن أبي بكر في هذه السفرة كان خمس عشرة، بل عشرين سنة، فقال كان
أبو بكر أسبق الناس اسلاما، أسلم وهو ابن عشرين سنة وقيل: خمس عشرة سنة (الغدير
7: 272.) وقد مر أن خبر ابن عباس كان خليا عن هذه الاضافة، وان المعروف ان أبا بكر كان أصغر من النبي بأكثر من سنتين، ولم يكن مع النبي في رحلته هذه، كما ذهب إليه مغلطاي في سيرته (سيرة
مغلطاي: 11.) والدمياطي كما في (تأريخ الخميس) (تأريخ
الخميس 1: 259.) ولا أظنه الا موضوعا باطلا كما ذهب إليه الذهبي (تأريخ
الخميس 2: 259 والسيرة الحلبية 1: 120. وقال الحسني في سيرته: ولكن تلك المرويات
على كثرتها وشهرتها بين المؤرخين والمؤلفين في سيرته لا يكاد يثبت منها شئ عند
عرضها على اصول علم الدراية، كما أشرنا الى بعض عيوبها في كتابنا (الموضوعات في
الآثار والأخبار): (سيرة المصطفى: 49) ولكنه عاد في ص 56 فقال " وإذا كنت
قد وقفت موقف المتصلب في كتابي (الموضوعات) من بعض المرويات التي يرويها المدائني
عن بعض من تستروا بصحبة النبي (صلى الله عليه وآله) ورواها غيره من المؤرخين
(كما رواها الصدوق في (اكمال الدين واتمام النعمة) فإني لا أقف نفس الموقف من
حديث بحيرا الراهب، فمن الجائز أن يكون قد رأى النبي ولكن دوره معه لا يعدو أن
يكون دور من يرقب له النبوة عندما وجد فيه بعض العلامات التي وصفته بها الكتب
القديمة كالتوراة والانجيل وغيرهما.. أما بقية الأحداث والخوارق التي روتها كتب
التأريخ والحديث وادعت وقوعها في تلك الرحلة، فلو صحت لتركت أثرا في مكة وما
جاورها بل في شبه الجزيرة بكاملها، ولم يحدث شئ من ذلك ". وفصل هذا المعنى فقال: " ان تلك الأحداث والكرامات التي يدعيها
الرواة، وبخاصة ما كان منها في طريقه الى الشام مع تلك الحشود لم تترك أثرا على
المكيين الذين رافقوه في تلك الرحلة، فلا محمد قد احتج بها عليهم يوم كانوا
يطاردونه من بيت الى بيت وفي شعاب مكة وبطاحها، ولا حدث أحد من المؤرخين بان
رفاقه في تلك الرحلة كانوا يتحدثون بها لمن رجعوا إليهم في مكة وما جاورها، كل
ذلك مما يرجح استبعادها ". وقال: " نبهت في كتابي
(الموضوعات) على ما يرويه المحدثون والمؤرخون مما جرى له في طريقه الى الشام وهو
في قافلة تتألف من مائة وثمانين من التجار ومعاونيهم: كحديث الغمامة التي كانت
تظلله، والمياه التي كانت تتفجر من بطون الصحراء التي كانت تتعرض فيها حياة
العشرات من المسافرين للموت عطشا، والأشجار اليابسة التي كانت تعود إليها الحياة
فتثمر من ساعتها أنواعا من الثمار، الى كثير من أمثال ذلك هذا، ولم يكن فيما
رويناه الا تظليل الغمامة إذا اشتد الحر، وعند نزوله عند الشجرة. ".) من
موضوعات معاوية كما روى خبرها ابن أبي الحديد في شرحه لنهج البلاغة عن المدائني.
|
كان
الله يسلك بالنبي (صلى الله عليه وآله) طريق المكارم:
|
روى الشريف الرضي في " نهج البلاغة " عن علي (عليه
السلام) أنه قال في وصف الرسول (صلى الله عليه وآله): " ولقد قرن الله به من لدن كان فطيما أعظم ملك من ملائكته،
يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره " (نهج
البلاغة: الخطبة القاصعة: 192 / المقطع 118 عن سعدة بن صدقة عن الباقر (عليه
السلام).). وروى ابن أبي الحديد في شرحه: أن بعض أصحاب الإمام الباقر (عليه السلام) سأله عن قول الله تعالى
* (الا من ارتضى من رسول فانه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا) * (الجن: 27.) فقال
(عليه السلام): يوكل الله تعالى بأنبيائه ملائكة يحصون أعمالهم، ويؤدون إليهم
تبليغهم الرسالة، ووكل بمحمد ملكا عظيما منذ فصل عن الرضاع يرشده الى الخيرات
ومكارم الأخلاق، ويصده عن الشر ومساوئ الأخلاق (شرح نهج
البلاغة لابن أبي الحديد 13: 207 وعنه في البحار 15: 361.). وروى الطبري في تأريخه
بسنده عن محمد بن الحنفية عن أبيه علي (عليه السلام) قال: سمعت رسول الله يقول: ما هممت بشئ مما كان أهل الجاهلية يعملون به
غير مرتين، كل ذلك يحول الله بيني وبين ما اريد من ذلك، ثم ما هممت بسوء حتى
أكرمني الله برسالته. قلت ليلة لغلام من قريش كان يرعى معي بأعلى مكة: لو أبصرت لي غنمي،
حتى أدخل مكة فأسمر (سهرة
الليل.) بها كما يسمر
الشباب فخرجت اريد ذلك، حتى إذا جئت أول دار من دور مكة سمعت عزفا بالدف
والمزامير، فقلت: ما هذا ؟ قالوا: هذا فلان تزوج ابنة فلان. فجلست أنظر إليهم،
فضرب الله على اذني فنمت، فما أيقظني الا مس الشمس، فرجعت الى صاحبي، فقال: ما
فعلت ؟ فقلت: ما صنعت شيئا. ثم أخبرته الخبر. ثم قلت له ليلة اخرى مثل ذلك، فقال: افعل. فخرجت فسمعت حين دخلت مكة مثل ما سمعت حين دخلتها تلك
الليلة، فجلست أنظر، فضرب الله على اذني، فما أيقظني الا مس الشمس، فرجعت الى
صاحبي فأخبرته الخبر. ثم ما هممت بعدها بسوء، حتى أكرمني الله برسالته (الطبري
2: 279 ورواه عنه أبن أبي الحديد 13: 207.). وقال ابن اسحاق:
شب رسول الله - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - والله تعالى يكلؤه ويحفطه ويحوطه
من أقذار الجاهلية، لما يريد به من كرامة ورسالة، حتى بلغ أن كان رجلا، أفضل
قومه مروءة، وأحسنهم خلقا، وأكرمهم حسبا، وأحسنهم جوارا، وأعظمهم حلما، وأصدقهم
حديثا، وأعظمهم أمانة حتى ما اسمه في قومه الا الأمين، وأبعدهم عن الفحش
والأخلاق التي تدنس الرجال، تنزها وتكرما، جمع الله فيه كل ذلك (سيرة ابن
هشام 1: 194 ثم قال: وذكر لي: ان رسول الله - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - كان
مما يحدث به عما كان الله يحفظه به في صغره وأمر جاهليته أنه قال: لقد رأيتني في
غلمان قريش ننقل الحجارة لبعض ما نلعب به، فإني اقبل معهم وادبر، وكلنا قد أخذ
إزاره فجعله على عاتقه لي0حمل عليه الحجارة فتعرى ! إذ لكمني لاكم ثم قال: شد
عليك ازارك، وما أراه ! فأخذته وشددته علي، ثم جعلت أحمل الحجارة على رقبتي
وازاري علي من بين أصحابي. وقال السهيلي في (الروض الانف) في التعليق على هذه
القصة " وهذه القصة انما وردت في الحديث الصحيح (!) في حين بنيان الكعبة:
ان رسول الله كان ينقل الحجارة مع قومه إليها، وكانوا يحملون ازرهم على عواتقهم
لتقيهم الحجارة ! وكان رسول الله يحملها على عاتقه وازاره مشدود عليه، فقال له
العباس: يابن أخي لو جعلت ازارك على عاتقك. ففعل فسقط مغشيا عليه ! فضمه العباس
الى نفسه وسأله عن شأنه، فأخبره أنه نودي من السماء: ان اشدد عليك إزارك يا محمد
! ثم قال: ازاري ازاري ! فشد عليه ازاره، فقام يحمل الحجارة " ثم قال:
" فإن صح حديث ابن اسحاق ان ذلك كان في صغره إذ كان يلعب مع الغلمان، فحمله
على ان هذا الأمر كان مرتين: مرة في صغره، ومرة في أول اكتهاله (!) عند بنيان
الكعبة " ! وقال القسطلاني قريبا منه في فتح الباري 1: 401. اما نحن فنقول:
ان صح من هذه القصة شئ فإنما نحتمل قصة ابن اسحاق - وقد روى نحوه ابن أبي الحديد
عن أمالي محمد بن حبيب - اما انه كان ذلك عند اكتهاله ! بأمر عمه العباس ! ومعه
رجال قومه كذلك ! فهذا مما لا يحتمله عقل أي عاقل قط. وللتفصيل انظر الصحيح
للسيد جعفر مرتضى 1: 136 - 144.). |
حرب
الفجار:
|
روى أبو الفرج الإصبهاني: أ نه كانت للعرب حروب أربع سميت بالفجار، لما استحل فيها من
المحارم: فالفجار الأول:
كان بين كنانة وهوازن. وكان
السبب فيه: أن بدر ابن معشر
الكناني كان حدثا منيعا في نفسه، فحضر سوق عكاظ ومعه حي من كنانة، وعقد لنفسه
مجلسا يفتخر فيه، فتصدى له الاحيمر بن مازن ومعه حي من بني هوازن، فكادت الحرب
أن تقع ثم رأوا أن الخطب يسير فتراجعوا عن الحرب، وحيث كان سوق عكاظ في رجب
الحرام سميت الحادثة فجارا. والفجار الثاني:
كان بين قريش وهوازن. وكان
السبب فيه: أن فتية من قريش
تعرضوا لامرأة من هوازن، فهاجت الحرب ووقع القتال واريقت دماء يسيرة، وكان على
قريش حرب بن امية بن عبد شمس فتحمل دية ما وقع وتصالح. والفجار الثالث:
كان بين كنانة وهوازن أيضا. وكان
السبب فيه: أن رجلا من كنانة
كانت عليه دية لرجل من هوازن فافتقر وعجز عنها فلما حضروا سوق عكاظ قام الرجل
صاحب الدية من هوازن فعير بني كنانة بذلك، فقام إليه كناني فضربه، فتهايج الحيان
الى الحرب، ثم رأوا أن الخطب يسير فتحملت كنانة الدية فتراجعوا. والفجار الرابع:
كان بين كنانة وقريش وبين هوازن وقيس عيلان. وكان السبب فيه:
ان النعمان بن المنذر ملك الحيرة كان يبعث في كل عام قافلة تجارة بالبز والطيب
الى سوق عكاظ لتباع هناك، ثم يشترى له بثمنها من ادم الطائف ما يحتاج إليه (الأغاني 19: 74 - 80 ط بولاق، باختصار. والادم بفتحتين: جمع الاديم:
الجلد المدبوغ.) وكان
لا يعرض لها أحد من العرب حتى قتل النعمان رجلا من قيس فكان بلعاء بن قيس بعد
ذلك يغير على قافلة النعمان وكان البراض بن قيس الكناني بمكة في جوار حرب بن
امية بن عبد شمس فوثب على رجل من هذيل فقتله، فأخرجه حرب بن امية من جواره فلحق
بالنعمان بن المنذر، فاجتمع عنده بعروة الرحال من هوازن، فقال النعمان لهما: من
منكما يجير لطائمي - أي القوافل التجارية - فتصدى عروة لذلك، ونازعه البراض،
فلما توجه عروة لينصرف بالقافلة (اليعقوبي 2: 15.)
قال له البراض الكناني: اتجيرها على كنانة ؟ ! قال: نعم وعلى الخلق كله ! فخرج
فيها عروة الرحال، وخرج البراض يطلب غفلته، حتى إذا كان في وادي تيمن بعالية نجد
(سيرة ابن هشام 2: 196.) أو أوارة قريبة من تيمن الى جانب فدك، نزل عروة ليلة وجلس في
سهرة تغنيه قينة ويشرب فيها الخمر، الى أن قام فنام، فدخل عليه البراض الكناني
ليقتله، فاعتذر إليه عروة فلم يسمع منه وقتله (الأغاني 19: 75.)
في الشهر الحرام (سيرة ابن
هشام 1: 196.) شهر
رجب (اليعقوبي 2: 15.) فلذلك سمي الفجار. وكانت قريش وكنانة في
الشهر الحرام بعكاظ، وهوازن كذلك، فأتى آت قريشا وقال لهم: ان البراض الكناني قد
قتل عروة الرحال من هوازن ! فارتحلت كنانة وقريش ولم تشعر هوازن بالأمر ثم بلغ
الخبر الى هوازن فاتبعوا قريشا فأدركوهم قبل أن يدخلوا الحرم، فاقتتلوا حتى جاء
الليل، والتقوا بعد هذا اليوم أياما وعلى كل قبيل من قريش وكنانة رئيس منهم،
وعلى كل قبيل من قيس وهوازن رئيس منهم. قال ابن اسحاق: وكان قائد قريش وكنانة
حرب بن امية بن عبد شمس (سيرة ابن
هشام 1: 196 - 198.)
فاقتتلوا في رجب، وكان عندهم الشهر الحرام الذي لا تسفك فيه الدماء، فسمي الفجار
لأنهم فجروا في شهر حرام. أما
بنو هاشم من قريش، فقد روي:
أن أبا طالب قال: هذا ظلم وعدوان وقطيعة واستحلال للشهر الحرام، فلا أحضره ولا
أحد من أهلي ! فقال حرب بن امية وعبد الله بن جدعان التيمي: لا نحضر أمرا تغيب
عنه بنو هاشم، فاخرج الزبير بن عبد المطلب مستكرها على رأس قبيل من بني هاشم. وقالوا لأبي طالب:
يابن مطعم الطير وساقي الحجيج ! لا تغب عنا، فإنا نرى مع حضورك الظفر والغلبة.
قال: فاجتنبوا الظلم والعدوان، والقطيعة والبهتان فإني لا أغيب عنكم. فقالوا: ذلك
لك. فلم يزل يحضر حتى فتح عليهم. فقيل: ان
أبا طالب كان يحضر ومعه رسول الله، فإذا حضر هزمت كنانة قيسا، فعرفوا البركة
بحضوره. وروي عن رسول الله انه قال: شهدت الفجار مع عمي أبي طالب، وأنا غلام. وروى بعضهم: ا نه
شهد الفجار وهو ابن عشرين سنة، وطعن أبا براء ملاعب الأسنة فأرداه عن فرسه، وجاء
الفتح من قبله (اليعقوبي 2: 115 - 116 وقال قبل هذا: شهد رسول الله الفجار وله سبع
عشرة سنة. وقال ابن هشام: حدثني أبو عبيدة النحوي، عن أبي عمرو بن العلاء: انه
لما بلغ رسول الله أربع عشرة سنة أو خمس عشرة سنة، هاجت حرب الفجار بين قريش
وكنانة وبين قيس عيلان. وشهد رسول الله بعض أيامهم، أخرجه أعمامه معهم. وقال رسول الله " كنت انبل مع أعمامي " أي أرد عليهم
نبل عدوهم إذا رموهم بها. وقال ابن اسحاق: هاجت حرب الفجار ورسول الله ابن عشرين
سنة. وانما سمي يوم الفجار بما استحل هذان الحيان: كنانة وقيس عيلان من المحارم
بينهم فيه (سيرة ابن هشام 1: 195 - 198). ولهذا قال في (السيرة الحلبية 1: 128):
ان سبب الفجار كان في رجب الحرام اما الحرب فكان في شعبان. وبهذا برر مشاركة أبي
طالب ومعه رسول الله في الحرب. ولكن السيد المرتضى رأى ان هذا التوجيه لا يعتمد
على أي سند تأريخي، فلم يجد مجالا للتعويل عليه، وشك في صحة القصة. (الصحيح 1:
95). ولا يخفى ان ابن اسحاق
والطبري لم يرويا مشاركة النبي ولا حضوره في الحرب، وانما روى ابن هشام حضوره مع
أعمامه ومساعدته لهم في الحرب وهو ابن خمس عشرة سنة. وروى اليعقوبي حضوره فقط
وله سبع عشرة سنة،، ثم روى عن غيره حضوره ومشاركته في الحرب وهو ابن عشرين سنة
(اليعقوبي 2: 15). وقال المسعودي: كان مولده عليه الصلاة والسلام عام الفيل،
وكان بين عام الفيل وعام الفجار عشرون سنة (2: 268) وقال: وقد قدمنا في كتابنا
الأوسط أخبار الأحلاف والفجارات الأربعة: فجار الرجل - أو فجار بدر بن معشر -
وفجار القرد، وفجار المرأة، والفجار الرابع هو فجار البراض الذي كان فيه القتال
وكان النبي - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - قد حضر وشاهد الفجار الرابع (2:
276) وقال: انه (عليه السلام) شهد يوم حرب
الفجار وذلك في سنة احدى وعشرين (من مولده) وهي حرب كانت بين قريش وقيس عيلان،
وكانت لقيس على قريش، وان النبي صلى الله عليه [ وآله ] وسلم لما شاهدها صارت
لقريش على قيس، وكان على قريش يومئذ عبد الله بن جدعان التيمي، وكانت هذه احدى
الدلائل المنذرة بنبوته (عليه السلام) التيمن بحضوره (2: 286). وقد يكون
الاختلاف في سن النبي في حضوره الفجار ناشئا من تعدد الفجارات ووقوعها في طول
هذه السنين وعدم تعيين حضوره في الرابع منها.
). |
ميلاد
علي (عليه السلام):
|
قال الكليني في " اصول الكافي ": " بعد عام الفيل بثلاثين سنة ولد أمير المؤمنين (عليه
السلام) " (اصول الكافي 1: 452 وبعده: وبقي بعد قبض النبي ثلاثين سنة وقتل سنة
أربعين من الهجرة وهو ابن ثلاث وستين سنة. ثم روى بسنده عن الصادق (عليه السلام)
قال: كان بين رسول الله وأمير المؤمنين ثلاثون سنة. وكأنه استند الى هذا الخبر
في تأريخ ميلاد علي (عليه السلام).). وقال الشريف الرضي في " خصائص الأئمة ": ولثلاث عشرة ليلة خلت من رجب، بعد عام الفيل بثلاثين سنة، ولد في
البيت الحرام علي (عليه السلام) (خصائص الأئمة: 39 ط مشهد.). وقال شيخه المفيد في " الارشاد ": في " يوم الجمعة الثالث عشر من شهر رجب سنة ثلاثين من عام
الفيل، ولد - علي (عليه السلام) - بمكة في البيت الحرام - ولم يولد قبله ولا
بعده مولود في بيت الله تعالى - سواه، اكراما من الله تعالى جل اسمه له، واجلالا
لمحله في التعظيم " (الإرشاد: 9 ط الحيدرية ومسار الشيعة: 51 ط مصر.). وذكره معاصراه: المسعودي في " مروج الذهب " قال: " وكان مولده في الكعبة.. " (مروج
الذهب 2: 348 ط بيروت.) والآخر:
الحسن بن محمد القمي في كتابه " تأريخ قم " الذي الفه للصاحب بن عباد سنة 378 قال: " سنة ثلاثين من عام
الفيل، وفي رواية: سنة ثمان وعشرين منه، كانت ولادة أمير المؤمنين في الكعبة..
" (عن الترجمة الفارسية للحسن بن علي القمي، ترجمه للوزير فخر الدين سنة
865 ص 191 ط سنة 1353 ه.). وكشف الشيخ الطوسي عن مصدر القول الأخير في كتابه " مصباح
المتهجد " فقال: " عن عتاب بن أسيد: ولد.. وللنبي ثمان وعشرون سنة، وقبل نبوته
باثنتي عشرة سنة، وكذلك عن ابن عياش " (مصباح
المتهجد: 560 ط حجر. وروى الفتال النيسابوري في " روضة الواعظين " عن جابر
بن عبد الله الأنصاري قال:
سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن ميلاد علي بن أبي طالب (عليه السلام)،
فقال: " لقد سألتني عن خير مولود ولد في شبه المسيح (عليه السلام) كان في
زماننا رجل زاهد عابد يقال له: المبرم بن دعيب بن الشقيان، قد عبد الله مائتين
وسبعين سنة، لم يسأل الله حاجة. فبعث الله إليه أبا طالب، فلما أبصره المبرم قام
إليه وقبل رأسه وأجلسه بين يديه، ثم قال له: من أنت ؟ فقال: رجل من تهامة، فقال:
من أي تهامة ؟ قال: من بني هاشم. فوثب العابد فقبل رأسه مرة ثانية ثم قال: يا
هذا، ان العلي الأعلى ألهمني الهاما. قال أبو طالب: وما هو ؟ قال: ولد يولد من
ظهرك، وهو ولي الله عزوجل. فلما كانت الليلة التي
ولد فيها علي (عليه السلام) أشرقت
الأرض، فخرج أبو طالب وهو يقول: أيها الناس، ولد في الكعبة ولي الله عزوجل
" (روضة الواعظين: 96.) ورواه ابن شهر آشوب في " المناقب " (المناقب
1: 358 ط قم.).) والكنجي الشافعي (ت 658) في كتابه " كفاية الطالب في مناقب
علي بن أبي طالب " مسندا (كفاية
الطالب :260). وروى المغازلي في "
المناقب " مرفوعا الى علي بن الحسين (عليهما السلام) قال: كنا عند الحسين (عليه السلام) إذ اقبلت امرأة قالت: أنا زبدة بنت
قريبة بن العجلان من بني ساعدة. فقلت لها: فهل عندك شئ تحدثينا به ؟ فقالت: إي
والله، حدثتني ام عمارة الساعدية: أ نها كانت ذات يوم في نساء العرب، إذ أقبل
أبو طالب كئيبا حزينا فقلت له: ما شأنك ؟ فقال: ان فاطمة بنت أسد في شدة من
المخاض. ثم أخذ بيدها وجاء بها الى الكعبة وقال لها: اجلسي على اسم الله " (المناقب
لابن المغازلي المالكي: ورواه عنه ابن الصباغ المالكي في الفصول المهمة: 14
ورواه عنه ابن البطريق الحلي من المائة السادسة مسندا الى علي بن الحسين (عليه
السلام)، كما في كتاب: علي وليد الكعبة: 47 ط النجف.). وروى ابن الصباغ المالكي
بسنده عن موسى بن جعفر (عليه
السلام) قال: " دخل النبي (صلى الله عليه وآله) المسجد الحرام يوما فرأى فيه أبا طالب مهموما مغموما. فقال له: يا
عم، ما لي أراك مغموما ؟ فقال: ان فاطمة قد أخذها الطلق. فأخذ النبي بيد أبي
طالب وأتيا بفاطمة الى الكعبة وادخلها النبي الكعبة وقال لها: اجلسي باسم الله،
فإن هذا المولود المكرم ينبغي أن يولد في هذا الموضع المحرم " (الفصول
المهمة: 14 ط الحيدرية.). وروى الصدوق في "
الأمالي " و " علل الشرائع " و " معاني الأخبار "
بسنده عن أبي حمزة الثمالي ثابت بن دينار عن سعيد بن جبير قال: قال يزيد بن
قعنب: " كنت جالسا
مع العباس بن عبد المطلب وفريق من بني عبد العزى، بإزاء بيت الله الحرام إذا
اقبلت فاطمة بنت أسد ام أمير المؤمنين، وكانت حاملا به لتسعة أشهر، وقد أخذها
الطلق، فقالت: " يا رب إني مؤمنة بك
وبما جاء من عندك من رسل وكتب، واني مصدقة بكلام جدي ابراهيم الخليل، وانه بنى
البيت العتيق فبحق الذي بنى هذا البيت، وبحق المولود الذي في بطني.. الا ما يسرت
علي ولادتي ". فرأينا البيت قد انشق عن ظهره ودخلت فاطمة فيه وغابت عن
أبصارنا وعاد الى حاله. فرمنا أن ينفتح لنا قفل الباب فلم ينفتح، فعلمنا ان ذلك
من أمر الله تعالى " (امالي الصدوق: 114 وعلل الشرائع 1: 135 ط النجف. ومعاني الأخبار: 60
ط النجف.). ورواه الطوسي في "
أماليه " بسنده عن الصادق (عليه السلام) عن آبائه، قال: " كان العباس بن عبد المطلب ويزيد بن قعنب جالسين ما بين
فريق من بني هاشم الى فريق من عبد العزى، بإزاء بيت الله الحرام، إذ أتت فاطمة
بنت أسد حاملة بأمير المؤمنين.. فوقفت بإزاء البيت الحرام - وقد أخذها الطلق -
فرمت بطرفها نحو السماء ودعت.. فلما دعت رأينا البيت قد انفتح من ظهره ودخلت
فاطمة فيه وغابت عن أبصارنا ثم عادت الفتحة والتزقت بإذن الله.. وبقيت فاطمة في البيت ثلاثة أيام، وأهل مكة يتحدثون بذلك في أفواه السكك، وتتحدث المخدرات في
خدروهن. فلما كان بعد ثلاثة أيام انفتح البيت من الموضع الذي كانت دخلت فيه،
فخرجت فاطمة وعلي على يديها "
(أمالي الطوسي 2: 317
بثلاثة طرق ورواه ابن شهر آشوب في المناقب 1: 359 عنه (عليه السلام) مختصرا.). وروى الفتال النيسابوري
في " روضة الواعظين " خبرا مختصرا عن علي بن الحسين (عليهما السلام) قال: " إن فاطمة بنت أسد، ضربها الطلق وهي في الطواف، فدخلت
الكعبة، فولدت أمير المؤمنين فيها " (روضة
الواعظين: 100.). وفي آخر خبر موسى بن جعفر (عليه السلام) قال: " فولدت عليا في الكعبة، طاهرا مطهرا لم يكن فيه كثافة (كذا)
وولد مختونا مقطوع السرة، ووجهه يضئ كالشمس، فسماه أبو طالب عليا، وحمله النبي
وأتى به الى البيت " (الفصول المهمة: 14 ط الحيدرية.). وفي عام الولادة قال
صاحب مجلة " العمران " المصرية: عبد المسيح الانطاكي: " وعام مولده عليه صلوات الله هو العام المبارك الذي بدئ فيه
برسول الله (صلى الله عليه وآله)، فأخذ يسمع الهتاف من الأحجار والأشجار ومن
السماء، وكشف عن بصره فشاهد أنوارا واشخاصا، وفي هذا العام ابتدأ بالتبتل
والإنقطاع والعزلة في جبل حراء. وكان (صلى الله عليه وآله) ييمن بذلك العام
وبولادة سيدنا علي (عليه السلام)، وكان يسميه " سنة الخير والبركة ". وعندما بلغته البشرى بولادة المرتضى قال المصطفى: " لقد ولد لنا الليلة
مولود، يفتح الله علينا به أبوابا كثيرة من النعمة والرحمة " وكان قوله هذا
أول نبؤته، فإن المرتضى - عليه صلوات الله - كان ناصره والمحامي عنه وكاشف
الغماء عن وجهه، وبسيفه ثبت الإسلام ورسخت دعائمه وتمهدت قواعده " (مجلة
العمران المصرية، كما في كتاب: علي وليد الكعبة: 61 ولم يعين عدد المجلة ولا
سنتها. علق الصحافي المصري عبد المسيح الأنطاكي بكلامه هذا على قصيدته "
العلوية المباركة " التي تحتوي على خمسة آلاف بيت في حياة أمير المؤمنين
(عليه السلام) من دون أن يستند في ذلك الى مصدر من حديث أو تأريخ، وان كان كلامه
هذا مما يساعد عليه الاعتبار بسائر الأخبار المعتبرة. وعلى المعتبر من الخبر في
تأريخ ولادته (عليه السلام) يكون عمره عند بعثة الرسول (صلى الله عليه وآله) عشر
سنين، وعلى ما رواه الطوسي عن ابن عياش وابن غياث يكون عمره في الثانية عشرة
وعلى الأكثر في الثالثة عشرة، وعند اعلان الدعوة وتعميمها في الخامسة عشرة أو
السادسة عشرة من عمره.). |
حلف
الفضول:
|
وانتهى الفجار في شوال، وفي ذي القعدة كان حلف الفضول (مروج الذهب 2: 270.). قال اليعقوبي " وكان سبب حلف الفضول: أن قريشا تحالفت أحلافا كثيرة على الحمية
والمنعة: فتحالف المطيبون، وهم: بنو عبد مناف، وبنو أسد، وبنو زهرة، وبنو " تيم "،
وبنو الحارث بن فهر، على أن لا يسلموا الكعبة، ما أقام جراء، وثبير، وما بل بحر
صوفة وصنعت عاتكة أو البيضاء بنت عبد المطلب طيبا فغمسوا أيديهم فيه (فسموا المطيبين). وتحالفت اللعقة، وهم: بنو عبد الدار، وبنو مخزوم، وبنو جمح، وبنو سهم، وبنو عدي، على أن
يمنع بعضهم بعضا ويعقل بعضهم عن بعض، وذبحوا بقرة فغمسوا أيديهم في دمها، (فسموا لعقة الدم، والأحلاف). فكانت قريش (أي الأحلاف) تظلم
في الحرم الغريب ومن لا عشيرة له: حتى أتى رجل من بني أسد بن خزيمة بتجارة
فاشتراها رجل من بني سهم (صرح البلاذري في أنساب الأشراف 2: 12 وكذلك المسعودي أنه: العاص بن
وائل السهمي أبو عمرو بن العاص، ولعل الرواة اتقوه فكنوا عنه ولم يصرحوا به.
ورواها ابن أبي الحديد 15: 25 عن الزبير بن بكار وزاد في الشعر: هل منصف من بني
سهم فمرتجع * ما غيبوا، ام حلال مال معتمر)
فأخذها السهمي وأبى أن يعطيه الثمن، فكلم قريشا واستجار بها وسألها اعانته على
أخذ حقه فلم يأخذ له أحد بحقه، فصعد الأسدي أبا قبيس فنادى بأعلى صوته: يا آل فهر لمظلوم بضاعته * ببطن مكة نائي الأهل والنفر إن الحرام لمن تمت
كرامته * ولا حرام لثوب الفاجر الغدر وقيل: إن
الرجل كان قيس بن شيبة السلمي باع متاعا من أبي خلف الجمحي وذهب بحقه، فقال هذا
الشعر. وقيل: بل قال: يا آل قصي كيف هذا في
الحرم * وحرمة البيت وأخلاق الكرم
اظلم، لا يمنع مني من ظلم
(اليعقوبي
2: 17.). فكان أول من سعى في ذلك
الزبير بن عبد المطلب فمشى في قبائل قريش فاجتمعوا في دار الندوة، وهم: بنو
هاشم، وبنو المطلب، وبنو زهرة، وبنو تيم، وبنو الحارث بن فهر، فاتفقوا على أ نهم
ينصفون المظلوم من الظالم. ثم ساروا الى دار عبد الله بن جدعان فتحالفوا هنالك. وقال الزبير ابن عبد المطلب في ذلك: حلفت لنعقدن حلفا عليهم
* وان كنا جميعا أهل دار نسميه الفضول إذا عقدنا
* يعز به الغريب لدى الجوار ويعلم من حوالي البيت أنا * اباة الضيم نهجر كل عار (مروج
الذهب 2: 271. الطبقات الكبرى 1: 129 ط بيروت.) ثم انصفوا الرجل التاجر الغريب من القرشي العاص بن وائل السهمي (البداية والنهاية 2: 292 والسيرة الحلبية 1: 132 وسيرة دحلان 1: 53.). فروى ابن اسحاق بسنده عن رسول الله - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - أ نه كان يقول
لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما احب أن لي به حمر النعم، ولو ادعى به
في الإسلام لأجبت " (سيرة ابن هشام 1: 141 وأنساب الأشراف 2: 12 - 15 بخمسة طرق وألفاظ
متقاربة واليعقوبي 2: 17 والبداية والنهاية 2: 293 وتأريخ الخميس 1: 261 والسيرة
الحلبية 1: 131 والسيرة النبوية لدحلان 1: 53 وروى البلاذري انه قدم مكة رجل
تاجر من خثعم ومعه ابنة له يقال لها: القتول، فعلقها نبيه بن الحجاج السهمي فلم
يبرح حتى نقلها الى منزله بالقهر والغلبة ! فدل أبوها على أهل حلف الفضول فأتاهم
فأخذوها من نبيه ودفعوها الى أبيها (أنساب الأشراف 2: 14).). ثم روى: أ نه كان بين الحسين بن علي (عليه السلام) وبين الوليد بن عتبة بن
أبي سفيان - والوليد يومئذ أمير على المدينة أمره عليها عمه معاوية بن أبي سفيان
- منازعة في مال كان بينهما بذي المروة - قرية بوادي القرى - فكان الوليد تحامل
على الحسين (عليه السلام) في حقه، فقال له الحسين: أحلف بالله لتنصفني من حقي أو
لآخذن سيفي ثم لأقومن في مسجد رسول الله، ثم لأدعون بحلف الفضول !. وكان عبد الله بن الزبير عند
الوليد فقال: وأنا
أحلف بالله لئن دعا به لآخذن سيفي ثم لأقومن معه حتى ينصف من حقه أو نموت جميعا
!. وبلغ هذا المسور بن مخرمة
بن نوفل الزهري فقال مثل ذلك !. وبلغ ذلك الى عبد الرحمن
بن عثمان التيمي فقال مثل ذلك !. فلما بلغ ذلك الوليد بن عتبة انصف الحسين من
حقه حتى رضي (عليه السلام) (سيرة ابن هشام 1: 142 وأنساب الأشراف 2: 14 والبداية والنهاية 2: 293
والسيرة الحلبية 1: 132 والسيرة النبوية لدحلان 1: 53 والكامل لابن الأثير 2:
42.) ثم روى: أن محمد بن جبير بن مطعم العدوي قدم على عبد الملك بن
مروان - وكان محمد بن جبير أعلم الناس بقريش - فقال له عبد الملك: يا أبا سعيد
ألم نكن نحن وانتم - يعني بني عبد شمس وبني نوفل ابن عبد مناف - في حلف الفضول ؟
قال: أنت أعلم، قال عبد الملك: لتخبرني يا أبا سعيد بالحق من ذلك. فقال: لا
والله، لقد خرجنا نحن وأنتم منه ! قال: صدقت (سيرة ابن
هشام 1: 143 والبلاذري في أنساب الأشراف 2: 14 عن الواقدي والكلبي وشرح النهج
للمعتزلي 15: 227 عن الزبير بن بكار.). وقد روى أبو هلال
العسكري الخبر الذي رواه ابن اسحاق عن تحامل الوليد على حق الإمام الحسين (عليه
السلام) في أرض له بذي المروة، على غير ما رواه ابن اسحاق، فقال: كان بين الحسين (عليه السلام) وبين معاوية كلام في أرض للحسين.
فقال الحسين لابن الزبير: خيره في ثلاثة والرابعة الصيلم - أي الصدام المسلح -:
أن يجعلك أو ابن عمر بيني وبينه، أو يشتريه مني، أو يقر بحقي ثم يسألني أن أهبه
له، فإن أبى فوالذي نفسي بيده لأهتفن بحلف الفضول (الأوائل
1: 73، 74.). وليس مفاد نداء ابن الزبير بحلف الفضول الى جانب الإمام الحسين
(عليه السلام) أ نه كان وفيا مخلصا في ذلك، بل كان الى معاوية وعامله الوليد
أقرب منه الى الحسين (عليه السلام)، ولكنه كان يتعزز بهذا وأمثاله. فقد جاء في رواية لأبي الفرج: أن معاوية قدم المدينة فلم يزره الإمام الحسين (عليه السلام)
فأظهر معاوية انزعاجه من ذلك، فأغراه به ابن الزبير ! فلم يستجب له معاوية، فقال
له ابن الزبير: أما والله اني واياه ليد عليك بحلف الفضول ! فقال له معاوية: من
أنت وحلف الفضول ؟ ! (الأغاني 8: 108 ط ساسي.). ومما ورد في قدوم محمد بن جبير بن مطعم على عبد الملك بن مروان
وسؤاله منه عن دخول بني عبد شمس في حلف الفضول، يظهر أ نهم كانوا بصدد تقرير هذا
المعنى على الناس، ولذلك روى راويتهم أبو هريرة: أن بني امية كانوا في حلف
الفضول، وأن أبا سفيان كان ممن دعا الناس إليه مع العباس بن عبد المطلب، ولعل
حشر العباس معه لتبعيد التهمة عن الرواية. وإن كان لم يتابعه عليه أحد بل أنكره
غير واحد من المؤرخين (السنن الكبرى للبيهقي. والبداية والنهاية 2: 291 والسيرة الحلبية 1:
131 والسيرة النبوية لدحلان 1: 53.). وقد قرر غير واحد من المؤرخين أن سببه كان عصيان العاص بن وائل
السهمي على الرجل التاجر الغريب وحبسه حقه، وقد سبق أن بني
سهم وبني عبد شمس كانوا
من الأحلاف في لعقة الدم، فيكون
معنى دعوة أبي سفيان إليه ودخول بني امية فيه أنهم
دخلوا في حلف خلاف حلف الأحلاف في لعقة الدم، وهذا ما لم يقله أحد. وقد روى ابن اسحاق عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أ نه قال: ما كان من حلف في الجاهلية فإن الإسلام لم يزده الا شدة (سيرة ابن
هشام 1: 140 وعن الترمذي 4: 146 وفتح الباري 8: 173 والمصنف للحافظ عبد الرزاق
10: 370 وفي هامشه عن مسلم والدارمي.). وروى ابن منظور هذا
الحديث في " لسان العرب " فقال: يريد المعاقدة على الخير ونصرة الحق، وبذا يجتمع هذا الحديث وحديث
آخر له هو " لا حلف في الإسلام " على أن يكون المراد من هذا الحديث
الثاني النهي عما كانت تفعله الجاهلية من المحالفة على الفتن والقتال بين
القبائل والغارات. وقيل: ان الحديث الثاني وهو " لا حلف في الإسلام " جاء لاحقا، قاله الرسول - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - زمن الفتح، فهو ناسخ للحديث الأول (لسان
العرب مادة حلف، وعنه في هامش سيرة ابن هشام 1: 140.). ولعل خصوصية بعد الفتح أن يشمل امضاؤه (صلى الله عليه وآله) في هذا
الحديث للحلف الذي كان قد عقده جده عبد المطلب مع جمع من خزاعة، فلما قتلت قريش
عددا من خزاعة استنصروا النبي استنادا إليه فكان فتح مكة مستندا إليه. وهذا يدل
على أن الإسلام بما أ نه مع مقتضيات العقل والفطرة الطبيعية الإنسانية لذلك
يستجيب لكل ما ينسجم مع أهدافه السامية مما فيه خير الانسان وصلاحه. وقد أمضى
هذين الحلفين من عبد المطلب مع خزاعة والزبير في حلف الفضول لما فيهما من الفضل
والعدل، ولو كان هناك أي حلف آخر ينسجم مع أهدافه لأمضاه كذلك. أما ما رووه عنه (صلى
الله عليه وآله) مما يدل على لزوم التمسك بكل الأحلاف الجاهلية فإنما هي دعوة
خبيثة مريضة في أغراضها اللا إسلامية. أما عن علل استجابة من استجاب لهذا الحلف فبإمكاننا أن نعد ثلاثة
عوامل: أ - استجابة لنداء الوجدان
الاخلاقي الانساني والدافع الفطري وحكم عقولهم. ب - حفاظا على قدسية مكة المكرمة وكرامة أهلها في نفوس العرب أي
ثأرا لكرامتهم. ج - دفاعا عن منافعهم ومصالحهم المادية في قوافلهم ورحلاتهم
التجارية ووفود العرب إليهم. |
رعي
النبي (صلى الله عليه وآله) للغنم:
|
لم يرو عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أن
رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يرعى الأغنام، اللهم الا ما رواه الشيخ
الصدوق في (علل الشرائع)، بسنده الى الامام
الصادق (عليه السلام) أ نه قال " ما بعث الله نبيا قط حتى يسترعيه الغنم،
يعلمه بذلك رعيه الناس " وأيضا فيه عنه
(عليه السلام) قال: " إن الله عزوجل أحب
لأنبيائه من الأعمال: الحرث والرعي، لئلا يكرهوا شيئا من قطر السماء " (علل الشرائع: 23.) ورواه الكليني في (فروع الكافي) هكذا " إن الله جعل أرزاق أنبيائه في الزرع والضرع، لئلا
يكرهوا شيئا من قطر السماء " (فروع الكافي
1: 403 أضف الى ذلك ما رواه الطبري في تأريخه بسنده عن محمد ابن الحنفية عن أبيه
علي (عليه السلام) قال: " سمعت رسول الله يقول: " قلت ليلة لغلام من
قريش كان يرعى معي بأعلى مكة - لو أبصرت لي غنمي حتى أدخل مكة - " (الطبري
2: 279 ورواه عنه ابن أبي الحديد في شرح النهج). وأضف إليه ما نقله الشيخ
الطبرسي في " إعلام الورى " عن علي بن ابراهيم القمي في كتابه قال:
" وكان بين الجبال يرعى غنما لأبي طالب " (اعلام الورى: 36 والمناقب
1: 43 وليس في تفسيره).). ورواه البخاري بسنده الى أبي
هريرة عنه أ نه كان يقول
" ما بعث الله نبيا الا رعى الغنم. فقال أصحابه: وأنت ؟ قال: نعم، كنت
أرعاها على قراريط، لأهل مكة " (فتح
الباري وبهامشه البخاري 4: 363 وسيرة ابن هشام 1: وعنه في السيرة الحلبية 1: 125
وسيرة دحلان 1: 51.) وبما أن الخبر مشتمل على جملة " لأهل مكة " لذلك ذكره
البخاري في كتاب الإجارة، ولذلك فسروا القراريط بأ نها: أجزاء الدراهم والدنانير
يشترى بها الحوائج الحقيرة ! ولكن في شرح الحديث في (فتح الباري) نقل عن ابراهيم الحربي انه
كان يقول: ان العرب ما كانت
تعرف القراريط، وانما هي اسم لمكان في مكة. ويؤيد هذا أن لفظ الخبر في بعض رواياته:
بالقراريط، وفي اخرى: بأجياد، مما يفيد أن القراريط وأجيادا اسم لمكان واحد أو
متداخل أو متقارب. ولا يضر لفظ: على قراريط، إذ هو اسم جبل كما نقله الطريحي في
(المجمع) عن الجوهري قال " وأما القيراط الذي جاء في الحديث فقد جاء تفسيره
فيه: أ نه مثل جبل احد " فيكون المعنى: أنه (صلى الله عليه وآله) قد رعى
الغنم على ذلك الجبل بأجياد، وهذا هو الأوفق بالاعتبار فان الرعي لا يكون في سهل
مكة في البلد. وحاول بعضهم أن يوجه فهم البخاري للحديث بما نقل في (فتح الباري)
عن بعضهم قولهم: لا
يعرف مكان في مكة بهذا الاسم. ورده السيد المرتضى العاملي بقوله: ان عدم
معروفيته الان لا يستلزم عدم معروفيته في ذلك الزمان (الصحيح
1: 109.). فلا يبقى الا أن نشك قويا في أن يكون (صلى الله عليه وآله) قد رعى
لغير أهله بأجر، ولا يجدي البخاري لفظ رواية عن أبي هريرة: لأهل مكة، فإن بعضها
يقول: لأهلي. وإذا كان الراوي هو أبو هريرة فلم يبق ما يعين معنى إجارة رسول الله نفسه لأهل مكة. على أن أبا هريرة ممن لا
يمكن الاعتماد عليه أصلا. هذا، وقد روى
اليعقوبي وابن كثير عن عمار بن ياسر أ نه قال: " أ نه ما كان أجيرا لأحد قط " (اليعقوبي
2: 21. والبداية والنهاية: 296.). وقد تقول في (فتح الباري) شرحا لفلسفة رعيه للغنم، وتبعه بعض كتاب السيرة كالحلبي وزيني دحلان (فتح
الباري 4: 364 وسيرة دحلان 1: 51 والسيرة الحلبية 1: 126 وقال فيه: ان رعي الغنم
صعب لأنه أصعب البهائم، وهو يوجب أن يستشعر القلب رأفة ولطفا، فإذا انتقل الى
رعاية البشر كان قد هذب أولا من الحدة الطبيعية والظلم الغريزي !.) ولا
نراه يتفق والقواعد العقائدية بشأن الأنبياء والمرسلين. فان صح رعيه للغنم أصلا
- وهو الصحيح - فلا علة له سوى
ما جاء في رواية الشيخ الصدوق عن الإمام الصادق (عليه السلام)، في كتابه (علل
الشرائع). ويمكن تفصيل ذلك التعليل بما نقله السيد
المرتضى العاملي من
قول البعض: إن الرعي فيه تحمل مسؤولية آحاد متفرقة، وهو يناسب المهمة التي سوف
توكل إليه، الأمر الذي من شأنه أن يروض النفس ويزيدها اندفاعا نحو طلب الخير
للآخرين من رعايته لهم والحرص على ما ينفعهم. وقد كان الله تعالى يهتم في رفع
مستوى تحمل وملكات وقدرات نبيه ليواجه المسؤولية العظمى، ولكن بالطرق العادية
والطبيعية، كما هو معلوم " (الصحيح 1: 110.). |
السفر
الثاني للنبي (صلى الله عليه وآله) الى الشام، وزواجه بخديجة:
|
روى القطب الراوندي في كتابه (الخرائج والجرائح)، عن جابر أ نه
قال: كان سبب تزويج خديجة
محمدا: أن أبا طالب قال: يا محمد: إني اريد أن ازوجك، ولا مال لي اساعدك به، وإن
خديجة قرابتنا، وتخرج كل سنة قريشا في مالها مع غلمانها، يتجر الرجل لها ويأخذ
وقر بعير مما أتى به. فهل لك أن تخرج ؟ قال: نعم. فخرج أبو طالب إليها وقال لها ذلك، ففرحت وقالت لغلامها ميسرة: أنت
وهذا المال كله بحكم محمد (صلى الله عليه وآله). وربحا في ذلك السفر ربحا
كثيرا. فلما انصرفا قال ميسرة: لو تقدمت يا محمد الى مكة وبشرت خديجة بما قد
ربحنا لكان أنفع لك ! فتقدم محمد على راحلته. وكانت خديجة في ذلك اليوم جالسة في غرفة لها مع نسوة، فظهر لها
محمد راكبا، ونظرت خديجة الى غمامة عالية على رأسه تسير بسيره !. فقالت: إن لهذا
الراكب لشأنا عظيما ليته جاء الى داري ! فإذا هو محمد قاصد الى دارها، فنزلت
حافية الى باب الدار ! فلما رجع ميسرة حدث: أ نه ما مر بشجرة ولا مدرة الا قالت:
السلام عليك يا رسول الله ! ولما رأى بحيرا الراهب الغمامة تسير على رأسه حيثما
سار تظلله النهار، خدمنا. فقالت: يا محمد اخرج واحضرني عمك أبا طالب الساعة. ثم بعثت الى (ابن (فيه وفي
الكافي 5: 375 والسيرة الحلبية 1: 129 أن ورقة كان عم خديجة، وهو غير صحيح لأن
ورقة هو ابن نوفل بن أسد وخديجة هي بنت خويلد بن أسد، فهما ابنا عم.) عمها
ورقة بن نوفل بن أسد: أن زوجني من محمد إذا دخل عليك. فلما حضر أبو طالب قالت: اخرجا الى (ابن) عمي ليزوجني من محمد، فقد قلت له في ذلك، فقاما
ودخلا على (ابن) عمها، وخطبها أبو طالب منه (البحار
16: 3 و 4 عن الخرائج: 140 بتصرف.). |
الخاطب
أبو طالب:
|
وروى الكليني في (فروع الكافي) بسنده عن أبي عبد الله الصادق (عليه
السلام) أ نه قال: لما أراد رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يتزوج خديجة بنت
خويلد، أقبل أبو طالب في أهل بيته ومعه نفر من قريش حتى دخل على ورقة بن نوفل
(ابن) عم خديجة، فابتدأ أبو طالب بالكلام فقال: " الحمد لرب هذا البيت،
الذي جعلنا من زرع ابراهيم وذرية اسماعيل، وأنزلنا حرما آمنا، وجعلنا الحكام على
الناس، وبارك لنا في بلدنا الذي نحن فيه. ثم ان ابن أخي هذا - يعني رسول الله - لا يوزن برجل من قريش الا رجح، ولا يقاس بأحد منهم الا عظم عنه،
ولا عدل له في الخلق، وان كان مقلا في المال، فإن المال رفد جار وظل زائل. وله
في خديجة رغبة ولها فيه رغبة. وقد جئناك لنخطبها اليك برضاها وأمرها. والمهر علي
في مالي، الذي سألتموه، عاجله وآجله. وله - ورب هذا البيت - حظ
عظيم ودين شائع ورأي كامل " ثم سكت أبو طالب. فتكلم ابن عمها وتلجلج،
وقصر عن جواب أبي طالب وأدركه القطع والبهر، وكان رجلا من القسيسين (وعليه
فلا يصح ما رواه في البحار 16: 19 عن الكازروني في كتابه (المنتقى) عن الواقدي
قال: فلما أتم أبو طالب خطبته تكلم ورقة بن نوفل فقال: " الحمد لله الذي
جعلنا كما ذكرت، وفضلنا على ما عددت، فنحن سادة العرب وقادتها، وأنتم أهل ذلك
كله، لا تنكر العشيرة فضلكم، ولا يرد أحد من الناس فخركم وشرفكم. وقد رغبنا
بالاتصال بحبلكم وشرفكم. فاشهدوا علي - معاشر قريش - بأني قد زوجت خديجة بنت
خويلد من محمد بن عبد الله على أربعمائة دينار " ثم سكت ورقة. وتكلم أبو
طالب وقال: قد احببت أن يشركك عمها، فقال عمها: اشهدوا علي - يا معشر قريش - أني
قد أنكحت محمد بن عبد الله خديجة بنت خويلد، وشهد علي بذلك صناديد قريش. فأمرت
خديجة جواريها أن يرقصن ويضربن بالدفوف ! وقالت: يا محمد مر عمك أبا طالب ينحر
بكرة من بكراتك واطعم الناس على الباب ! وهلم فنم القيلولة مع أهلك !.). فقالت خديجة مبتدئة: يا (ابن) عماه انك وان كنت أولى بنفسي مني في (الغياب) فلست أولى
بي من نفسي في الشهود. قد زوجتك يا محمد نفسي، والمهر علي في مالي، فأمر عمك
فلينحر ناقة فليولم بها، وادخل على أهلك. فقال أبو طالب: اشهدوا
عليها بقبولها محمدا، وضمانها المهر في مالها. فقال بعض قريش: وا عجباه ! المهر
على النساء للرجال ؟ ! فغضب أبو طالب غضبا شديدا
وقام على قدميه وقال: إذا
كانوا مثل ابن أخي هذا طلبت الرجال بأغلى الأثمان وأعظم المهر، وإذا كانوا
أمثالكم لم يزوجوا الا بالمهر الغالي ! ونحر أبو طالب ناقة. ودخل
رسول الله (صلى الله عليه
وآله) بأهله (البحار
16: 13، 14 عن فروع الكافي 5: 374.). |
من
تولى تزويج خديجة ؟ !
|
وروى الصدوق في: (كتاب من لا يحضره الفقيه)
مرسلا: أنه لما تزوج النبي خديجة بنت خويلد
خطبها أبو طالب الى أبيها - ومن الناس من يقول الى عمها - ثم روى الخطبة ثم قال:
فتزوجها ودخل بها من الغد، فكان أول ما حملت ولدت عبد الله بن محمد (صلى الله
عليه وآله) (البحار
عن كتاب من لا يحضره الفقيه 3: 397 ح 4398 وروى الخطبة الطبرسي في اعلام الورى:
140 وابن شهر آشوب في المناقب 1: 41، 42 عن الجويني في السيرة عن الحسن والواقدي
وأبي صالح والعتبي، وعن ابن بطة في الابانة، وعن الزمخشري في ربيع الابرار وفي
تفسيره، وعن الخرگوشي في شرف المصطفى وروى الخطبة اليعقوبي في تأريخه عن عمار بن
ياسر 2: 20 والأوائل 1: 162. والسيرة الحلبية 1: 139.). وروى ابن اسحاق في سيرته: أن خديجة بنت خويلد عرضت على رسول الله أن يخرج في مالها الى
الشام تاجرا مع غلامها ميسرة، فقبل رسول الله وخرج حتى قدم الشام، فباع سلعته
واشترى ما أراد، ثم أقبل قافلا الى مكة ومعه ميسرة، فلما قدم مكة على خديجة
حدثها ميسرة عن قول الراهب وعما كان يرى من اظلال الملكين اياه. فلما أخبرها
ميسرة بما أخبرها به بعثت الى رسول الله فقالت له: يابن عم، اني قد رغبت فيك
لقرابتك وسطتك في قومك وأمانتك وحسن خلقك وصدق حديثك. ثم عرضت عليه نفسها. فلما
قالت ذلك لرسول الله ذكر ذلك لأعمامه. فخرج معه عمه حمزة ابن عبد المطلب حتى دخل
على خويلد بن أسد، فخطبها إليه فتزوجها (سيرة ابن
هشام 1: 199 - 201 وليس في سيرة ابن هشام ما رواه الحلبي في سيرته 1: 138 عن ابن
اسحاق: أن خديجة قالت له: يا محمد الا تتزوج ؟ قال من ؟ قالت: أنا ! قال: ومن لي
بك ؟ أنت أيم قريش وأنا يتيم قريش ! وترده الأخبار المعتبرة في الباب سيما ما في
خطبة أبي طالب من نعت النبي (صلى الله عليه وآله) وبني هاشم.). بل مر أن الذي نهض معه (صلى الله عليه وآله) هو أبو طالب، وهو الذي
خطب خطبة النكاح، وكان أسن من حمزة، وهو الذي كفل محمدا، فلم يكن حمزة ليتزعم
الأمر دون أبي طالب، وأبو طالب هو أخو عبد الله لامه دون سائر إخوانه أبناء عبد
المطلب. وحمزة لا يكبر النبي الا بسنتين أو أربع. وانفرد ابن اسحاق
بأن خويلدا أبرم هذا الزواج، أما غير ابن اسحاق فقد ذكروا أن خويلدا كان قد قتل
في حرب الفجار أو مات في عامه (الخبر في طبقات ابن سعد 1: 132، 133 عن الواقدي قال: الثبت عندنا
المحفوظ عن أهل العلم من حديث عروة بن الزبير عن عائشة، وعن عكرمة عن ابن عباس:
أن عمها عمرو بن أسد زوجها رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم وأن أباها مات
قبل الفجار. وذكره الطبري 2: 282. والكامل 1: 25 ونقل أصل خبر وفاته في عام
الفجار المجلسي في البحار 16: 19 عن الكازروني في المنتقى عن الواقدي أيضا. وذكر
الخبر اليعقوبي 2: 20. وتأريخ الخميس 1: 264. والسيرة الحلبية 1: 138. وكشف
الغمة 2: 139 عن كتاب معالم العترة النبوية للجنابذي الحنبلي عن ابن عباس أيضا.
وذكر الطبرسي مثل ابن اسحاق في إعلام الورى: 139 ثم قال: وقيل: زوجها عمها عمرو
بن أسد.) وأن الذي زوج خديجة ابن عمها ورقة بن نوفل بن أسد كما مر، أو عمها
عمرو بن أسد (المصادر السابقة في الهامش 1.)، أو
أخوها عمرو بن خويلد بن أسد، كما في (الروض الانف) و (شرح المواهب). |
خديجة
تعرض نفسها على النبي (صلى الله عليه وآله):
|
وجاء في رواية اليعقوبي عن عمار بن ياسر ما يفيد أن خبر سفر النبي بأموال خديجة الى الشام وأن خديجة احبته حيث
حدثها غلامها ميسرة بأخباره، وأ نها بعثت الى النبي (صلى الله عليه وآله) فعرضت نفسها عليه... كان هذا قد شاع في الناس يومذاك فكانوا
يقولون: إنها استاجرته بشئ من أموالها، وكان عمار بن ياسر يقول " أنا أعلم
الناس بتزويج رسول الله خديجة بنت خويلد ... انه ما كان مما يقول الناس انها
استأجرته بشئ، ولا كان اجيرا لأحد قط... بل كنا نمشي يوما بين الصفا والمروة إذ بخديجة بنت خويلد واختها
هالة، فلما رأت رسول الله
جاءتني هالة اختها فقالت: يا عمار ما لصاحبك حاجة في خديجة ؟ قلت: والله ما
أدري. فرجعت فذكرت ذلك له، فقال: ارجع فواضعها وعدها يوما نأتيها فيه، ففعلت. فلما كان ذلك اليوم أرسلت الى عمرو بن أسد (عمها) وطرحت عليه حبرا
ودهنت لحيته بدهن أصفر... ثم جاء رسول الله في نفر
من أعمامه، يتقدمهم أبو طالب، فخطب أبو طالب فقال. ثم روى الخطبة المذكورة ثم
قال: فتزوجها وانصرف (اليعقوبي 2: 20 والبداية والنهاية: 295. ونقل الخبر محقق البحار
المرحوم الرباني الشيرازي بهامش البحار 16: 19 وعلق عليه يقول: " قلت: فيها
غرابة وشذوذ، ولم يرد ذلك من طرق الإمامية بل ورد من طريق لا يعتمد عليه "
وذلك لأنه يشتمل على أن خديجة سقته ذلك اليوم، أي الخمر، فلما أصبح أنكر ثم
أمضاه !). هذا، ولم يرد لفظ الاستيجار فيما نعلم من الأخبار الا في أخبار
ثلاثة: الأول: ما رواه الصدوق في (اكمال الدين) بسنده الى بكر بن عبد الله
الأشجعي عن آبائه: أن رفاق رسول الله في سفره الى الشام قالوا لابي المويهب الراهب عنه: انه يتيم أبي طالب أجير خديجة (كشف
الغمة 2: 135، 136. وذكر مثله الطبرسي في اعلام الورى: 139.). ورواه ابن شهر آشوب في (المناقب) (اكمال الدين: 186.).
الثاني: ما
ساقه ابن شهر آشوب في " المناقب " أيضا قال: كانت خديجة قد استأجرت
النبي (صلى الله عليه
وآله) على أن تعطيه بكرين
ويسير مع غلامها ميسرة الى الشام (مناقب آل
أبي طالب 1: 41 ط قم.). الثالث: ما
رواه الدولابي الحنفي في " الذرية الطاهرة " بسنده عن الزهري قال: لما
استوى رسول الله وبلغ أشده - وليس له كثير مال - استأجرته خديجة - بنت خويلد الى
سوق حباشة - وهو سوق بتهامة واستأجرت معه رجلا آخر من قريش. فقال رسول الله: ما
رأيت من صاحبة لأجير خيرا من خديجة (الذرية
الطاهرة: 49 ورواه الاربلي في كشف الغمة 2: 135، 136 ط تبريز عن كتاب "
معالم العترة النبوية " للجنابذي الحنبلي بسنده عن الزهري أيضا. وذكر مثله الطبرسي
في إعلام الورى: 139 ط النجف.) ورواه الطبري في تأريخه عن ابن سعد صاحب الطبقات بسنده عن الزهري
أيضا، لكنه عقبه يقول: " قال محمد بن سعد: قال الواقدي: فكل هذا مخلط
" (الطبري 3: 281، 282.). |
هل
كان النبي (صلى الله عليه وآله) أجيرا لخديجة أو مضاربا ؟
|
ولئن كان ما افتتحنا به الفصل من خبر (الخرائج) عن جابر لا يعين
نوع المعاملة وانما يقول " يتجر الرجل لها ويأخذ وقر بعير مما أتى به
" مما هو أعم من الإجارة والوكالة والمضاربة، فان ما جاء في التفسير
المنسوب الى الإمام الحسن العسكري عن أبيه الهادي (عليهما السلام) يصرح بذلك
فيقول: ان رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يسافر الى الشام مضاربا لخديجة
بنت خويلد (التفسير المنسوب الى
الإمام العسكري (عليه السلام): 16 كما في البحار 17: 308.) وكذلك
ابن اسحاق يقول " كانت
خديجة بنت خويلد امرأة تاجرة ذات مال وشرف، تستأجر الرجال في مالها وتضاربهم
اياه بشئ تجعله لهم منه " (سيرة ابن
هشام 1: 199 ورواه عنه الطبري 2: 280 وعنه الجنابذي الحنبلي في معالم العترة
النبوية كما في كشف الغمة 2: 134. وعلق المحقق في سيرة ابن هشام يقول: المضاربة
المقارضة. وقال الإمام الخميني في تحرير الوسيلة 1: 608 " وتسمى المضاربة
قراضا، وهي عقد واقع بين شخصين على أن يكون رأس المال في التجارة لأحدهما والعمل
من الآخر، ولو حصل ربح يكون بينهما " ولعل الأمر قد التبس على المحقق.). وعلى هذا فقد يكون سفره (صلى الله عليه وآله) الى الشام لا لكونه
أجيرا لخديجة، بل مضاربا بأموالها. ومجمل القول: إن
رواية اليعقوبي عن عمار بن ياسر تنفي أن يكون النبي أجيرا لأحد حتى خديجة، كما
تنفي أن يكون قد رعى الغنم لأحد من المكيين، كما ادعي عن أبي هريرة. والعمل لا يتنافى مع العبقريات والنبوات، ولا يضع من شأن الانسان
مهما كان، بل هو من أفضل الطاعات إذا كان في سبيل العيال والأولاد وخير الناس،
ولكن تأريخ محمد منذ ولادته الى أن بلغ سن الرجولة وأصبح زوجا لخير امرأة عرفها
تأريخ المرأة، ومواقف جده ثم عمه والمراحل التي عاش فيها معهما عزيزا موفور
الكرامة، لا يفارقهما في ليل أو نهار، يبذلان في سبيل راحته واطمئنانه الغالي
والنفس، من تتبع ذلك وأدرك أنهما منذ طفولته كانا يترقبان له مستقبلا يهز العالم
من أقصاه الى أقصاه ويحدث تحولا في تأريخ البشرية، وأنهما كانا يخافان عليه دعاة
الأديان وطواغيت العرب.. لابد وأن يقف على أقل التقادير موقف المشكك من تلك المرويات
التي تنص على أ نه كان يرعى الغنم للمكيين بالقراريط، ويذهب بعد ذلك أجيرا الى
الشام في تجارة خديجة بقسم من الأرباح، سيما بعد رواية اليعقوبي عن عمار بن ياسر
أ نه لم يكن أجيرا لأحد من الناس، وأن زواجه من خديجة لم يكن مسبوقا بمعاملة
بينهما، بل كان بناء على رغبتها بعد أن وجدت فيه الرجل الذي يمكن أن ترتاح إليه،
وقد بلغت الأربعين، وأشراف قريش يطمعون في زواجها بالطمع في ثرائها. أما محمد بن
عبد الله (صلى الله عليه وآله) فقد وجدت فيه حسب المعلومات التي توفرت لديها عنه
ضربا آخر من الرجال لا تستغويه متعة الدنيا، فطلبته الى نفسها وأرسلت إليه من
يشجعه على خطبتها من عمها أو ابن عمها. وليس بغريب على المرأة الفاضلة كخديجة أن تطلب لنفسها محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله) وتفضله على
سادة مكة وأشرافها، فلقد كان في القمة في صفاته التي لم يعرف العرب لها مثيلا
ماضيهم وحاضرهم. واجتهد خصومه أن يجدوا في حياته ولو نزوة تخدش تأريخه المجيد،
أو مغمزة منه لنيل جاه أو اصطياد ثروة أو انحراف مع غرائز الشباب التي تثور
وتتمرد أحيانا على العقل والخلق والحكمة، فلم يجدوا شيئا من ذلك. وكان قد جمع
الى ذلك من صباحة الوجه وجمال التركيب ما لم يتوفر في أحد سواه كما وصفوه: فقد جاء في رواية عمرو بن شمر عن جابر أ نه قال: قلت لأبي جعفر محمد بن علي الباقر صف لي رسول الله. قال: كان نبي
الله أبيض الوجه مشربا بحمرة، أدعج العينين، مقرون الحاجبين، شثن الأطراف كأن
الذهب افرغ على براثنه، عظيم مشاشة المنكبين. إذا التفت التفت جميعا من شدة
استرساله. سربته سائلة من لبته الى سرته كأنها وسط الفضة المصفاة، وكأن عنقه الى
كاهله إبريق فضة، يكاد أنفه إذا شرب الماء أن يرد الماء. وإذا مشى تكفأ كأنه
ينزل من صبب، لم ير مثل نبي الله قبله ولا بعده (الكافي 1: 443.).
إذن، فليس بغريب إذا خطبته خديجة لنفسها، وظلت تشاطره آلامه وتناصره بقلبها وعقلها ومالها حتى لحقت بربها
قبل هجرته الى المدينة بسنة أو سنتين عن خمسة وستين عاما (انظر
سيرة المصطفى: 62، 63.). |
أوهام
واهية:
|
ولكن ليس معنى هذا أن نصدق ما نقله الحلبي في سيرته: أ نه دخل على
خديجة قبل التزويج، فأخذت يده فضمته الى صدرها ! (السيرة
الحلبية 1: 140.) كما لا نشك في كذب ما نقله: أن عمها كان يأنف من أن يزوجها من محمد يتيم أبي طالب فاحتالت
عليه هي حتى سقته الخمر، فزوجها في حال سكره، فلما أفاق ووجد نفسه أمام الأمر
الواقع لم يجد بدا من القبول (السيرة الحلبية 1: 138، 140.) مما يتناقض وأخلاق الرسول الكريم وخديجة ام المؤمنين، ولا نراه الا كذبا موضوعا لم يقصد به سوى الحط والوضع من كرامة
النبي الكريم وتنقيصه من قبل أعداء الاسلام أو الحمقى والمغفلين. ونعوذ بالله من
هذا الهراء (انظر الصحيح للسيد المرتضى 1: 117 - 119.). وان كون خديجة هي التي عرضت نفسها على النبي، وأ نه لم يكن هو الذي
تقدم بطلب يدها، لخير جواب لما جاء في كلمات بعض المستشرقين من اتهام باطل بأ نه
(صلى الله عليه وآله) انما تزوج خديجة طمعا في مالها. ولم يبق هذا التقدير والحب
من خديجة للنبي من طرف واحد، بل قابله النبي بالحب والتقدير لها في أيام حياتها
وبعد مماتها، حتى لقد كان ذلك يثير بعض أزواجه. ويرى الشيخ آل ياسين هذا دليلا
آخر على بطلان هذه الدعوى الواهية (كتاب
النبوة: 63.). بل إن حياة النبي من بدايتها الى نهايتها لخير شاهد على أ نه ما
كان يقيم للمال أي وزن ! وقد انفقت خديجة أموالها برغبتها في سبيل الله والدعوة
الى دينه وليس على النبي وملذاته. وهكذا تفعل الحرة العاقلة اللبيبة كما فعلت خديجة، فلا تغرها بهرجة الدنيا وزخرفها وزبرجها، ولا تبحث عن المال
والشهرة، ولا عن اللذة والشهوة.. وانما يكون نظرها الى الأخلاق الفاضلة والسجايا
الكريمة، لأنها هي التي تسخر المال والجاه والقوة في سبيل الانسانية (انظر:
الصحيح للسيد المرتضى 1: 119، 120.). |
دوافع
زواج النبي (صلى الله عليه وآله):
|
والماديون الذين ينظرون الى كل شئ من ناحية المال والمادة، يزعمون:
أن خديجة بما أ نها كانت ذات مال تتاجر به، كانت أحوج ما تكون الى رجل "
أمين " لإدارة امور تجارتها، لذلك اندفعت للزواج بمحمد " الصادق
الأمين " وكان النبي (صلى الله عليه وآله) يعلم بوضعها المالي وحياتها
الكريمة لذلك قبل خطوبتها مع ما بينهما من تفاوت العمر ! الا أن الذي نراه في التأريخ هو أن دوافع خديجة للزواج بالصادق الأمين كانت دوافع معنوية لا
مادية، والشاهد لذلك: 1 - ما رواه ابن اسحاق قال: وكانت خديجة قد ذكرت لورقة بن نوفل بن أسد - ابن عمها -. ما ذكر
لها غلامها ميسرة من قول الراهب، وما كان يرى منه إذ كان الملكان يظلانه. وكان
ورقة نصرانيا قد تتبع الكتب وعلم من علم الناس فقال لها: لئن كان هذا حقا يا
خديجة فان محمدا لنبي هذه الامة، وقد عرفت ا نه كائن لهذه الامة نبي ينتظر، هذا
زمانه (سيرة ابن هشام 1:
203.). 2 - ان سبقها الى الإيمان بالإسلام ورسالة رسول الله (صلى الله عليه
وآله) بحيث كانت أول امرأة
آمنت به، لما يشهد في صفحات التأريخ بأن زواجها كان منبعثا من ايمانها وبطهارة
الصادق الأمين، وان حياة خديجة وما ورد بشأنها من الروايات والأحاديث لما يوضح
هذا الموضوع بما لا يدع فيه أي شبهة، على من أراد التفصيل في ذلك أن يراجع
الروايات الواردة في فضلها وفضيلتها. |
عمر
خديجة ومهرها:
|
روى الدولابي في كتابه: " الذرية الطاهرة " بسنده عن عمار بن أبي عمار، عن ابن عباس.. ثم قال: وبلغني أن رسول
الله (صلى الله عليه وآله) تزوج خديجة على اثنتي عشرة اوقية ذهبا، وهي يومئذ
ابنة ثمان وعشرين سنة (الذرية الطاهرة: 52 وعنه في كشف الغمة 2: 139. وروى الصفار عن حماد
بن عيسى قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: قال أبي: ما زوج رسول الله (صلى
الله عليه وآله) شيئا من بناته ولا تزوج شيئا من نسائه على أكثر من اثنتي عشرة
اوقية ونش، يعني نصف اوقية (البحار 22: 197، 198 عن قرب الاسناد: 10). وروى الخبر الكليني بسنده عنه قال: سمعته يقول: قال أبي: ما زوج رسول
الله (صلى الله عليه وآله) ساير بناته ولا تزوج شيئا من نسائه على أكثر من اثنتي
عشرة اوقية ونش. والاوقية: أربعون درهما، والنش: عشرون درهما. ثم روى عن حماد عن ابراهيم
بن أبي يحيى عن الصادق (عليه السلام) قال: وكانت الدراهم وزن ستة يومئذ. وروى
بسنده عن حذيفة بن منصور عنه (عليه السلام) قال: كان صداق النبي (صلى الله عليه
وآله) اثنتي عشرة اوقية ونشا، والاوقية: أربعون درهما، والنش: عشرون درهما، وهو
نصف الاوقية. وروى بسنده عن معاوية بن وهب قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام)
يقول: ساق رسول الله (صلى الله عليه وآله) الى أزواجه اثنتي عشرة اوقية ونشا،
والاوقية: اربعون درهما، والنش: نصف الاوقية: عشرون درهما، فكان ذلك خمسمائة
درهم. قلت: بوزننا ؟ قال: نعم. وروى بسنده عن أبي العباس قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن
الصداق هل له وقت (يعني الحد للمهر قال: لا، ثم قال: كان صداق النبي (صلى الله
عليه وآله) اثنتي عشرة اوقية ونشا، والنش نصف الاوقية، والاوقية: اربعون درهما،
فذلك خمسمائة درهم (البحار 22: 205، 206 عن فروع الكافي 2: 20). وروى الصدوق بسنده عن الصادق
(عليه السلام) قال: ما تزوج رسول الله (صلى الله عليه وآله) شيئا من نسائه ولا
زوج شيئا من بناته على اكثر من اثنتي عشرة أوقية ونش، والاوقية: أربعون درهما،
والنش: عشرون درهما (البحار 22: 198 عن معاني الأخبار: 64، 65). وكذلك ذكر المهر الطبرسي في إعلام الورى: 140 مرسلا وابن شهر آشوب في
المناقب 1: 161 عن (تاج التراجم). ويبدو من لحن هذه الأخبار أنها ناظرة الى رد
ما كان يروى بغير هذا المعنى في مبلغ صداق ازواج النبي (صلى الله عليه وآله) ولا
سيما خديجة رضي الله عنها.). ونقل ذلك عنه الإربلي في " كشف الغمة " بواسطة كتاب
الجنابذي (كشف الغمة 2: 137.)، ثم نقل عن الجنابذي قوله: " وعن ابن عباس: أ نه تزوجها وهي
ابنة ثمان وعشرين سنة " (كشف الغمة 2: 139.) ولم يسنده الى أي سند، وما في كتاب الدولابي ليس كذلك، بل روى
خبرا عن عمار بن أبي عمار، عن ابن عباس - فيما يحسب ابن حماد - (كما في الكتاب)
في تزويج خديجة بمباشرة أبيها ووليمتها لذلك. ثم قال:
وبلغني.. وذكر مهرها وعمرها كما مر. والظاهر أن القائل: وبلغني هو ابن حماد
الدولابي - كما فهم كذلك الاربلي - ولا ابن عباس، ولكن خلط ابن الخشاب الجنابذي
فنابذ الفهم والنقل الصحيح فنسب ذلك الى ابن عباس على غير أساس. والله هو العاصم من الخطأ في القياس والمقياس، ومن وساوس الخناس
في صدور الناس. وعلى هذا، فينحصر الخبر بكون
عمر خديجة عند زواجها بالرسول في الثامنة والعشرين، في مرفوعة الدولابي فحسب،
ومن دون أن تصح نسبة ذلك الى ابن عباس. أما الخبر المشتهر عن كونها
في الأربعين من عمرها:
فاليعقوبي لم يصرح بذلك ولكنه ذكر في وفاتها أنها توفيت " ولها خمس وستون
سنة " (اليعقوبي
2: 35.) وهذا يقتضي أن
يكون عمرها حين زواجها حسب المشهور أربعين سنة. أما الطبري فقد نقل عن الكلبي قوله: " وخديجة يومئذ ابنة أربعين سنة " (الطبري
3: 280.). والمسعودي في " مروج الذهب " قال: " وهي يومئذ بنت أربعين " وفي " التنبيه والإشراف
" أ نها توفيت ولها خمس وستون سنة (مروج
الذهب 2: 287 والتنبيه والاشراف: 199، 200.). ونقل سبط ابن الجوزي عن الواقدي قوله: توفيت وهي بنت خمس وستين سنة (تذكرة
الخواص: 304 ط النجف.) والاربلي
في " كشف الغمة "
نقل عن " معالم العترة النبوية " للجنابذي عن ابن سعد صاحب الطبقات:
يرفعه الى حكيم بن حزام قال: " توفيت خديجة في شهر رمضان سنة عشر من
النبوة، وهي ابنة خمس وستين " (كشف
الغمة 2: 139.) فيكون عمرها في زواجها أربعين سنة. والكازروني قال: " فتزوجها وهو ابن خمس وعشرين سنة، وخديجة يومئذ بنت أربعين
سنة " (بحار الأنوار 16: 19.). ومعنى كل هذا أن المؤرخين القدامى
كالكلبي والواقدي وكاتبه ابن سعد واليعقوبي متفقون على المشهور في سن خديجة في
زواجها أي الأربعين، وان كان الاسناد الوحيد
ينحصر في حكيم بن حزام إذ يذكر تأريخ وفاتها
(عليها السلام) وهي عمته، إذ هو حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد، فهو أعلم بها، ولا يعارضه شئ اللهم
الا ما انفرد به ابن حماد الدولابي بقوله: وبلغني.. من غير اسناد، فلا يصح
اعتماده. |
هل
كانت خديجة متزوجة ؟
|
قال ابن هشام:
" وكانت قبله عند أبي هالة بن مالك.. فولدت له هند بن أبي هالة، وزينب بنت
أبي هالة. وكانت قبل أبي هالة عند عتيق ابن عابد المخزومي فولدت له: عبد الله،
وجارية تزوجها صيفي بن أبي رفاعة " (ابن هشام
4: 293.). أما الطبري فقد
روى عن الكلبي عن أبيه قال: " وكانت قبله عند عتيق بن عابد المخزومي...
فولدت لعتيق جارية، ثم توفي عنها. وخلف عليها أبو هالة بن زرارة بن نباش... ثم
توفي عنها فخلف عليها رسول الله وعندها هند بن أبي هالة " (الطبري
3: 161.). وروى الدولابي في " الذرية الطاهرة " بذلك أخبارا ثلاثة عن الزهري ومحمد بن اسحاق وقتادة بن دعامة،
وروى رابعا عن الليث بن سعد فعكس فذكر أبا هالة ثم عتيق (الذرية
الطاهرة: 45 - 47.) فهو مردود، وخبر قتادة نقله الاربلي في كتابه (كشف
الغمة 2: 138، 139.). وقال ابن شهر آشوب في كتابه (المناقب) في ترتيب أزواجه: تزوج بمكة أولا خديجة بنت خويلد. قالوا: وكانت
عند عتيق بن عائذ المخزومي، ثم عند أبي هالة زرارة بن نباش الاسيدي (مناقب آل
أبي طالب 1: 159.). وروى أحمد البلاذري وأبو
القاسم الكوفي في كتابيهما، والمرتضى في (الشافي) وأبو جعفر في (تلخيص الشافي): أن النبي تزوج بها وكانت عذراء. يؤكد ذلك ما ذكر في كتابي (الأنوار) و (البدع): أن رقية وزينب كانتا ابنتي هالة اخت خديجة (المناقب
1: 159. والظاهر أنه يقصد بكتاب الأنوار: كتاب الأنوار ومفتاح السرور والأفكار
لأبي الحسن البكري المتقدم الذكر سابقا، وهو مخطوط، سرد عنه المجلسي قصة زواجه
من صفحة 20 الى 77 ج 16 ثم قال " انما أوردت تلك الحكاية (!) لاشتمالها على
بعض المعجزات والغرائب (!) وان لم نثق بجميع ما اشتملت عليه، لعدم الاعتماد على
سندها كما أومأنا إليه، وان كان مؤلفه من الأفاضل والأماثل " يقول ذلك لأنه
التبس عليه ببكري آخر هو من مشايخ الشيخ الشهيد، كما قال قبل هذا، وعلق عليه
المحقق الرباني الشيرازي بأن هذا البكري ليس هو البكري من مشايخ الشيخ الشهيد،
بل هو متقدم عليه وعلى ابن تيمية المتوفى 728 ه ومعروف بالكذب وقد حكى هو أيضا:
انها كانت قد تزوجت قبله برجلين أحدهما عمرو الكندي (!) والثاني عتيق بن عائذ
(البحار 16: 22). وكتاب (البدع) هو كتاب أبي القاسم الكوفي المذكور قبل ذلك، وهو
(الاستغاثة في بدع الثلاثة) وقال فيه: ان إلاجماع من الخاص والعام من أهل الآثار
ونقلة الأخبار على أنه لم يبق من اشراف قريش ومن ساداتهم وذوي النجدة منهم الا
من خطب خديجة ورام تزويجها فامتنعت على جميعهم من ذلك، فكيف يجوز - في نظر أهل
الفهم - أن تكون خديجة يتزوجها أعرابي من تميم، وتمتنع من سادات قريش وأشرافها ؟
! ألا يعلم ذوو التمييز والنظر أنه من أبين المحال وافظع المقال ؟ ! (ص 70). والإجماع - فيما نعلم - من أهل الآثار ونقلة الأخبار من الخاص والعام
على خطبة خديجة من قبل جميع أشراف قريش، اللهم الا ما انفرد بحكايته (!) البكري
المذكور آنفا فيما حكاه مما هو أشبه بقصص العامة من التأريخ المسند والخبر
المعتبر قال: فلما ماتا خطبها عقبة بن أبي معيط، والصلت بن أبي مهاب - ولكل
منهما أربعمائة عبد وأمة - وخطبها أبو جهل بن هشام، وأبو سفيان، وخديجة لا ترغب
في واحد منهم (البحار 16: 22). وأما (تلخيص الشافي) فلا يبقى الا هو، والظاهر أنه أخذه من كتاب
أبي القاسم الكوفي، وقد عرفت حاله ومستنده.) ! أما الطبرسي فقد ذكر الخبر بلا خلاف فيه (اعلام الورى: 139.)
ونقله عنه المجلسي في (البحار) كذلك أيضا (البحار
22: 220 وعكس في (الاستيعاب) وفي (شرح المواهب) فقالا: كانت تحت أبي هالة بن
زرارة التميمي (لا التيمي) ومات أبو هالة في الجاهلية وقد ولدت له هندا، فهو أخو
فاطمة بنت خديجة، وكان هند فصيحا بليغا وصافا فروى عنه الحسن (عليه السلام) حديث
صفة النبي قال: حدثني خالي هند بن أبي هالة (*). وقد شهد بدرا وقيل: احدا. وقتل
مع علي (عليه السلام) يوم الجمل. وولدت خديجة لأبي هالة أيضا هالة بن أبي هالة.
وبعد تزوجها عتيق بن عابد (كذا) المخزومي فولدت له هندا بنت عتيق، وقد أسلمت
وصحبت. راجع ترجمة خديجة في (الاستيعاب).). |
أولاد
خديجة من النبي (صلى الله عليه وآله):
|
روى الصفار بسنده عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: ولد لرسول الله (صلى
الله عليه وآله) من
خديجة: القاسم والطاهر، وأم كلثوم، ورقية، وزينب وفاطمة (البحار
22: 151 عن قرب الإسناد: 6 الصواب تقديم زينب على فاطمة طبقا للخبر التالي. (*)
روى الحديث الشيخ الصدوق في معاني الأخبار: 79 الحيدري. والشيخ الطوسي في مكارم
الاخلاق: 7 وابن الأثير في اسد الغابة 5: 72 ط. اسماعيليان. وراجع: نسب قريش
لمصعب الزبيري: 22 واسد الغابة 5: 12 و 13 و 71 والإصابة 3: 611، 612 والسيرة
الحلبية 1: 140. فمن الصعب جدا دعوى ابن شهر آشوب بكارتها وانكار زوجيها
السابقين وأولادها منهم بما يتضمن ذلك من خبر الحسن المجتبى عن خاله هند في صفة
النبي 9 ثم ما الداعي الى ذلك ؟ !). وروى
الصدوق بسنده عن الصادق (عليه السلام) قال: ولد لرسول الله (صلى الله عليه وآله) من خديجة: القاسم
والطاهر - وهو عبد الله - وام كلثوم، ورقية، وزينب وفاطمة (المصدر
عن الخصال 2: 37. وروى فيه بسنده عن الصادق عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)
في خبر قال: " وان خديجة رحمها الله ولدت مني طاهرا - وهو عبد الله وهو
المطهر - وولدت مني القاسم، وفاطمة ورقية وام كلثوم وزينب ".). وقال الكليني: ولد
له منها قبل مبعثه: القاسم، ورقية، وزينب وام كلثوم، وولد له بعد المبعث: الطيب
والطاهر وفاطمة وروى أيضا: أنه لم يولد بعد المبعث إلا فاطمة (عليها السلام)،
وان الطيب والطاهر ولدا قبل مبعثه (اصول الكافي 1: 439، 440.). وقال الشيخ الطبرسي: فأول ما حملت ولدت عبد الله بن محمد وهو
الطيب " الطاهر " والناس يغلطون فيقولون: ولد له منها أربعة بنين
القاسم وعبد الله والطيب والطاهر، وانما ولد له منها ابنان، الثاني: القاسم،
وقيل: ان القاسم أكبر، وهو بكره، وبه كان يكنى. وأربع بنات: زينب ورقية وام
كلثوم وفاطمة (اعلام
الورى: 140.). وقال ابن شهر آشوب: أولاده: وله من خديجة: القاسم وعبد الله، وهما الطاهر والطيب، وأربع بنات: زينب ورقية
وام كلثوم وفاطمة.. وفي (الأنوار)، و (الكشف)، و (اللمع)، وكتاب البلاذري: أن
زينب ورقية كانتا ربيبتيه من جحش. فأما القاسم والطيب فماتا بمكة صغيرين، مكث
القاسم سبع ليال (المناقب 1: 161، 162.). وروى المجلسي عن الكازروني عن ابن عباس قال: أول من ولد لرسول الله بمكة قبل النبوة القاسم وبه كان يكنى، ثم
ولد له زينب، ثم رقية، ثم فاطمة، ثم ام كلثوم، ثم ولد له في الإسلام عبد الله
فسمي الطيب والطاهر. وامهم جميعا خديجة بنت خويلد. وكان أول من مات من ولده
القاسم ثم مات عبد الله بمكة، فقال العاص بن وائل السهمي. قد انقطع ولده فهو
ابتر، فأنزل الله تعالى * (ان شانئك هو الأبتر) * (الكوثر: 3.). وقيل: ان الذكور من أولاده ثلاثة والبنات أربع: أولهن زينب، ثم القاسم، ثم ام كلثوم، ثم فاطمة، ثم رقية، ثم عبد
الله وهو الطيب والطاهر (البحار
22: 166 عن (المنتقى في مولد المصطفى) الباب الثامن فيما كان سنة خمس وعشرين من
مولده.). وقال ابن اسحاق:
ولدت لرسول الله ولده: القاسم - وبه كان يكنى - والطاهر، والطيب، وزينب، ورقية،
وام كلثوم، وفاطمة (عليهم السلام). فأما القاسم والطيب والطاهر فهلكوا في
الجاهلية، وأما بناته فكلهن أدركن الإسلام فأسلمن وهاجرن. وقال ابن هشام:
أكبر بنيه القاسم، ثم الطيب، ثم الطاهر، وأكبر بناته رقية، ثم زينب، ثم ام
كلثوم، ثم فاطمة (سيرة ابن
هشام 1: 202.). وقال اليعقوبي:
ولدت له قبل أن يبعث: القاسم، ورقية، وزينب، وام كلثوم، وبعد ما بعث: عبد الله
وهو الطيب والطاهر، - لانه ولد في الإسلام. وفاطمة (اليعقوبي 2: 20.).
روى الطبري عن هشام الكلبي عن أبيه قال: فولدت لرسول الله ثمانية: القاسم والطيب، والطاهر، وعبد الله،
وزينب، ورقية، وام كلثوم، وفاطمة (الطبري 3: 161.). وقال المسعودي:
ولد له - من خديجة -
القاسم - وبه كان يكنى وكان
أكبر بنيه سنا - ورقية، وام كلثوم، وولد له بعد ما بعث: عبد الله - وهو الطيب
والطاهر لانه ولد في الإسلام، وفاطمة (مروج
الذهب 2: 291.). وعلق المحقق على قول ابن اسحاق بموت القاسم قبل الإسلام يقول: في موت القاسم في الجاهلية خلاف، فقد ذكر السهيلي في (الروض
الانف) عن الزبير " أن القاسم مات رضيعا، وأن رسول الله - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - دخل على خديجة بعد موت القاسم وهي تبكي، فقالت: يا رسول الله لقد
درت لبينة القاسم، فلو كان عاش حتى يستكمل رضاعه لهون علي ! فقال: ان شئت أسمعتك صوته في الجنة ؟ فقالت: بل اصدق الله ورسوله ثم قال: وفي هذا دليل على أن القاسم
لم يهلك في الجاهلية (هامش سيرة ابن هشام 1: 202 عن (الروض الانف).). وروى الكليني في (فروع الكافي) بسنده عن عمرو بن شمر عن جابر عن
الإمام الباقر (عليه السلام) قال: دخل رسول الله على خديجة حين مات القاسم ابنها وهي تبكي، فقال
لها: ما يبكيك ؟ فقالت: درت دريرة فبكيت. فقال: يا خديجة أما ترضين إذا كان يوم
القيامة أن تجيئي الى باب الجنة وهو قائم فيأخذ بيدك فيدخلك الجنة وينزلك
أفضلها. وذلك لكل مؤمن. إن الله أحكم وأكرم أن يسلب المؤمن ثمرة فؤاده ثم يعذبه
بعدها أبدا (البحار 16: 16 و 19 عن فروع الكافي 1: 59.). والقاسم - كما مر -
بكر أولاده وأكبرهم ولا اختلاف في ا نه ولد وبعده ثلاثة من اخواته في الجاهلية،
وقد نقل المجلسي عن الكازروني قال: قيل: كان بين كل ولدين لخديجة سنة، وقيل: ان
القاسم - والطيب - عاشا سبع ليال، وعن جبير بن مطعم قال: مات القاسم وهو ابن
سنتين (البحار 22: 166 عن
(المنتقى...) للكازروني.) اذن فلا يكون موته الا في الجاهلية أيضا. وقد روى الكليني في (فروع الكافي) بسند آخر عن عمرو بن شمر عن جابر عن الإمام الباقر (عليه السلام)
أيضا قال: توفي طاهر ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله) فنهى رسول الله خديجة عن البكاء، فدخل عليها وهي تبكي فقال لها: ما يبكيك ؟ ألم أنهك ؟ ! فقالت:
بلى يا رسول الله، ولكن درت عليه الدريرة فبكيت. فقال لها: أما ترضين أن تجديه
قائما على باب الجنة، فإذا رآك أخذ بيدك فأدخلك أطهرها مكانا وأطيبها ؟ قالت:
وان ذلك كذلك ؟ قال: فإن الله أعز وأكرم من أن يسلب عبدا ثمرة فؤاده فيصبر
ويحتسب ويحمد الله عزوجل ثم يعذبه (البحار
16: 16 عن فروع الكافي 1: 60.). فهذا هو الصحيح الراجح ولا أتردد في عدم وحدة الخبرين ولا أحتمل التعدد بل أحتمل ا نه وقع
سهو من أحد الرواة للخبر في الطريق السابق فأخطأ اسم الطاهر والتبس عليه
بالقاسم. وأما خبر
(الروض...) عن الزبير، فهي مرسلة لا أظنها الا مسروقة عن خبر عمرو بن شمر عن جابر
بالطريق الذي وقع فيه الخطأ والالتباس، ولا يقع من هذا أي تشكيك في موت القاسم
قبل الإسلام، كما لا ريب في موت عبد الله الطيب الطاهر بعد البعثة (خلافا
(لهيكل) في كتابه إذ قال: أما القاسم وعبد الله فلم يعرف عنهما الا أنهما ماتا
طفلين في الجاهلية لم يتركا أثرا يبقى أو يذكر، لكنهما من غير شك قد ترك موتهما
في نفس أبويهما ما يتركه موت الابن من أثر عميق، وترك موتهما من غير شك في نفس
خديجة ما جرح امومتها جرحين داميين وهي لا ريب (!) وقد اتجهت عند موت كل واحد
منهما في الجاهلية الى آلهتها الأصنام تسألها: ما بالها لم تشملها برحمتها
وبرها. (حياة محمد: 128) ولا ريب في بطلان ظنونه، فلا مستند لزعمه هذا، وليس الا
حدسا ناشئا من قياس خديجة بسائر نساء قريش. ونحن إذ تبينا أن دوافع زواجها برسول
الله إنما كانت دوافع معنوية، وذلك لأنها كانت قد سمعت من ابن عمها ورقة بن نوفل
النصراني وغلامها ميسرة عن الراهب النصراني أن محمدا نبي آخر الزمان فتزوجت به
لذلك، وأضفنا الى ذلك كراهته للاصنام حتى انه حينما أقسم عليه بحيرا الراهب
بالأوثان قال: إنها أبغض خلق الله إليه.. فلا يمكنا مع ذلك أن نقول: إنها كانت
تلجأ في موت أولادها الى الأصنام وهن أبغض خلق الله الى حبيبها محمد (صلى الله عليه وآله). ولا يفوتنا هنا أن ننوه الى أن القسطلاني قال: قيل: ولد له ولد قبل
المبعث يقال له عبد مناف (!) ومع هذا يكون أولاده اثني عشر كلهم ولدوا في
الإسلام سوى هذا (المواهب اللدنية 1: 196) والظاهر أن مستنده ما نقله المقدسي عن
قتادة قال: ولدت خديجة لرسول الله عبد مناف في الجاهلية، وولدت له في الإسلام
غلامين وأربع بنات: القاسم وبه كان يكنى: أبا القاسم فعاش حتى مشى ثم مات، وعبد
الله مات صغيرا. وأم كلثوم، وزينب، ورقية، وفاطمة (البدء والتأريخ 4: 139، 5:
16) وقول قتادة هذا شاذ يتنافى مع كل ما تقدم عن غيره وهو كثير مستفيض
مشهور، كما مر ويشبه هذا في الشذوذ ما ذهب إليه أبو القاسم الكوفي إذ قال: كانت
لخديجة اخت اسمها هالة، تزوجها رجل مخزومي فولدت له بنتا اسمها هالة، ثم خلف
عليها رجل تميمي يقال له أبو هند، فأولدها ولدا اسمه هند، وكان لهذا التميمي
امرأة اخرى قد ولدت له زينب ورقية فماتت ومات التميمي فلحق ولده هند بقومه،
وبقيت هالة - اخت خديجة - والطفلتان من التميمي وزوجته الاخرى فضمتهم خديجة
إليها. وبعد أن تزوجت بالرسول (صلى الله عليه وآله) ماتت هالة فبقيت الطفلتان في
حجر خديجة والرسول (صلى الله عليه وآله)، وكان العرب يزعمون أن الربيبة بنت
فنسبتها إليه، مع أنهما ابنتا أبي هند زوج اختها (الاستغاثة: 68). وروى الحافظ عبد الرزاق في
مصنفه عن عمر بن دينار عن الحسن بن محمد بن علي قال: ان أبا العاص بن الربيع كان
زوجا لبنت خديجة (المصنف 5: 224). وقال مغلطاي في سيرته: وخلف عليها (خديجة) أبو
هالة النباش بن زرارة فولدت له هندا والحرث وزينب (سيرة مغلطاي: 12). فعلى الأول تكون زينب ورقية
من ضرة هالة اخت خديجة، وعلى الثاني والثالث تكون زينب بنت خديجة من زوجها
السابق أو الأسبق. ولكن لا مجال لهذه الأقوال بعد تصريح نص الخبرين المعتبرين
للصفار والصدوق المسندين الى الإمامين الباقر والصادق (عليهما السلام) " ولد
لرسول الله من خديجة " وفيهم رقية وزينب، وليست العبارة نسبة الابوة أو
البنوة لتحمل على عادة العرب في نسبة الربائب فنحتمل صدق مقال صاحب الاستغاثة:
كان العرب يزعمون أن الربيبة بنت فنسبتا إليه.). |
مولد
فاطمة (عليها السلام):
|
مر في خبر الصفار عن الإمام الباقر (عليه السلام)، والصدوق في
" الخصال " عن الإمام الصادق (عليه السلام) أيضا: أن عدت فاطمة (عليها
السلام) في آخر عداد أولاد
خديجة من رسول الله (صلى
الله عليه وآله). وكذلك كان في كلام كل من الكليني والطبرسي وابن شهر آشوب. وفي
قول ابن اسحاق وابن هشام واليعقوبي والطبرسي والمسعودي. وافتتح الكليني في
" اصول الكافي ":
" باب مولد فاطمة
" وقبل أن يفتتح الباب وفي آخر الباب السابق حسب النسخ الموجودة من الكتاب،
أورد بسند صحيح عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: " ولدت فاطمة بنت محمد
(صلى الله عليه وآله) بعد مبعث رسول الله بخمس سنين. وتوفيت ولها ثمان عشرة سنة
وخمسة وسبعون يوما " (اصول الكافي 1: 457.) ثم
افتتح الباب فقال: ولدت فاطمة - عليها وعلى بعلها السلام -، بعد مبعث رسول الله
بخمس سنين، وتوفيت ولها ثمان عشرة سنة وخمسة وسبعون يوما، بقيت بعد أبيها خمسة
وسبعين يوما " (اصول الكافي 1: 458.) وكذلك
في " روضة الكافي " قال: ولدت بعد البعثة بخمس سنين (روضة
الكافي: 281.). والظاهر أ نه يستند في ذلك الى ما رواه في الاصول قبيل الباب،
صحيحا. والخبر - كما مر - ليس
فيه جملة " وقريش حينئذ تبني البيت " مما جاء فيما رواه عنه (عليه السلام)
الاربلي في " كشف الغمة " عن كتاب " تأريخ مواليد ووفيات أهل
البيت " لابن الخشاب يرفعه عن أبي جعفر محمد بن علي قال: " ولدت فاطمة
بعد ما أظهر الله نبوة نبيه وأنزل عليه الوحي بخمس سنين، وقريش تبني البيت، وتوفيت ولها ثمان عشرة سنة وخمسة وسبعون يوما " ثم قال: "
وفي رواية صدقة:
" ثمان عشرة سنة وشهر وخمسة عشر يوما ثم قال " وكان عمرها مع أبيها
بمكة ثمانية سنين " (كشف الغمة 3: 75 ط تبريز.). وهكذا مر الاربلي على هذا
الخبر المرفوع لابن الخشاب مرور الكرام من دون أن يلاحظ عليه التناقض فيه، فهو
من جانب يقول: ولدت فاطمة بعد البعثة، ومن جانب آخر يقول: وقريش تبني الكعبة !
وهذان الأمران لا يجتمعان، فإن البيت بني قبل البعثة بخمس سنين لا بعدها. اللهم
الا أن نقول بأن الجملة: " وقريش تبني البيت " مزيد مردود من الراوي،
والا فأصل الخبر مردود الى أهله. ويشبه هذا الخبر المرفوع لابن الخشاب عن أبي جعفر الباقر (عليه
السلام) في جملة:
" وقريش تبني الكعبة " خبر آخر مسند لابن حماد الدولابي " الحنفي
" في كتابه " الذرية الطاهرة " بسنده عن يحيى بن شبل عن أبي جعفر
قال: " دخل العباس على علي بن أبي طالب وفاطمة بنت رسول الله وأحدهما يقول
لصاحبه: أينا أكبر ؟ فقال العباس: ولدت يا علي قبل بناء قريش البيت بسبع سنوات،
وولدت ابنتي وقريش تبني البيت، ورسول الله يومئذ ابن خمس وثلاثين سنة، قبل
النبوة بخمس سنين " (الذرية
الطاهرة: 152.). والظاهر أن المراد بأبي جعفر هو الباقر (عليه السلام) كما في أخبار
اخرى عنه مصرحة باسمه في الكتاب ومنها خبر قبل هذا عن أبي جعفر محمد بن علي قال:
" توفيت فاطمة بعد النبي (صلى الله عليه وآله) بخمس وتسعين ليلة في سنة
احدى عشرة ". وان كان الراوي المباشر للخبر السابق: يحيى بن شبل، لم أجده في مظانه من كتب الرجال. والغريب أن الاربلي روى الخبرين وغيرهما بادئا لها بقوله: " ونقلت من كتاب: " الذرية الطاهرة " للدولابي،
ولكنه حذف الأسناد بادئا لهذا الخبر بقوله: " وقيل.. " من دون أن يشير
الى أ نه يرويه عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام). فلعله لم يتنبه لذلك (كشف الغمة 2: 128، 129 ط تبريز.). وعلى أي حال فالخبران عاميان معارضان لما رواه الكليني عنه (عليه
السلام) بسند صحيح. أما عن الصادق (عليه
السلام) فقد روى الطبري الإمامي في " دلائل الإمامة " بسنده عنه (عليه
السلام) قال: " ولدت فاطمة في جمادى الآخرة: اليوم العشرين منها سنة خمس
وأربعين من مولد النبي (صلى الله عليه وآله) فأقامت بمكة ثمان سنين " (دلائل الإمامة: 10.).
وقال اليعقوبي: " وبعد ما بعث: عبد الله - وهو الطيب والطاهر، لأ نه ولد في
الإسلام - وفاطمة " (تأريخ
اليعقوبي 2: 20.)
ومثله المسعودي (مروج
الذهب 2: 291.). وكذلك ذكر ابن عبد البر في (الاستيعاب) في ترجمة خديجة: أن الطيب قد ولد بعد النبوة، وولدت بعده ام كلثوم، ثم فاطمة. ولكن الشيخ المفيد قال: " كان مولد السيدة الزهراء سنة اثنتين من المبعث " (كما في
بحار الأنوار 43: 9 عن الإقبال عن حدائق الرياض للشيخ المفيد.) وتبعه
تلميذه الشيخ الطوسي فقال في " المصباح ": " في اليوم العشرين من
جمادى الآخرة سنة اثنتين من المبعث كان مولد فاطمة في بعض الروايات " ثم
قال: " وفي رواية اخرى: سنة خمس من المبعث " ثم قال: " والعامة
تروي أن مولدها قبل المبعث بخمس سنين " (المصباح
للطوسي 554 ط الهند.). وأقدم نص على ذلك منهم
فيما بأيدينا هو ما رواه ابن حماد الدولابي " الحنفي " في كتابه
" الذرية الطاهرة " وقال به الاصفهاني (ت 356 ه) في " مقاتل
الطالبيين " (مقاتل الطالبيين: 30 ط النجف.) وقال
سبط ابن الجوزي في " تذكرة الخواص ": " وأما فاطمة (عليها
السلام) قال علماء السير: ولدتها خديجة وقريش تبني البيت الحرام قبل النبوة بخمس
سنين، وهي أصغر بنات رسول الله " (تذكرة
الخواص: 306 ط النجف.) والمحب الطبري في " ذخائر العقبى " (ذخائر
العقبى: 53.) روى رواية ابن حماد الدولابي عن الباقر (عليه السلام) عن عباس.
وقال الزرندي الحنفي في " نظم درر السمطين " (نظم درر
السمطين: 175.) ومغلطاي في سيرته (سيرة مغلطاي: 17.)
والديار بكري في " تاريخ الخميس " وأضاف القول بسبع سنين قبل البعثة،
بل واثنتي عشرة سنة قبلها (تأريخ الخميس 1: 277.). وإن كان المحب الطبري والديار بكري عقبا ذلك بنقل ما يدل من الحديث
على أن نطفة فاطمة قد انعقدت من ثمر جاء به جبرئيل الى النبي (صلى الله عليه
وآله) من الجنة، وقد نقل ذلك المرعشي النجفي في ملحقات " احقاق الحق "
عنهما وعن ميزان الاعتدال، ولسان الميزان، والروض الفائق، ونزهة المجالس، ومجمع
الزوائد، وكنز العمال ومنتخبه، ومحاضرة الأوائل، ومقتل الحسين للخوارزمي، وتأريخ
بغداد للخطيب البغدادي، ومفتاح النجاة، ومستدرك الحاكم، وتلخيصه للذهبي، وأخبار
الدول، والمناقب لابن المغازلي، والمناقب لعبد الله الشافعي، واللآلي المصنوعة،
وإعراب ثلاثين سورة (إحقاق الحق 10: 1 - 10.). ومن
الخاصة عن العامة عن الصحابة عن النبي (صلى الله عليه وآله) روى الصدوق بسنده عن
طاووس اليماني عن ابن عباس عن عائشة عن النبي (صلى الله عليه وآله) (علل
الشرائع 1: 183 ط النجف الأشرف.) وروى
في " عيون المعجزات " عن حارثة بن قدامة عن سلمان عن عمار عن فاطمة
(عليها السلام) (عيون المعجزات، كما في البحار 43: 8.). ومن الخاصة عن الأئمة (عليهم السلام) روى الصدوق في " علل
الشرائع " عن الباقر (عليه السلام) (علل
الشرائع 1: 183 ط النجف الأشرف.) وفي
" معاني الأخبار " عن الصادق (عليه السلام) (معاني الأخبار: 377 ط النجف الأشرف.) والقمي في تفسيره كذلك (تفسير
القمي، كما في البحار 43: 6.)
والصدوق أيضا في
(الأمالي) و (العيون) عن الرضا (عليه السلام) (عيون
أخبار الرضا (عليه السلام) 1: 116 ط قم وعنه في البحار 43: 4 وعن أمالي الصدوق.). كل ذلك مما يؤيد أو يدل
على كون ولادتها بعد البعثة. وقد تقدم أن المشهور في سن خديجة حين الزواج بالنبي
هو أنها كانت في الأربعين والنبي في الخمس والعشرين وقد بعث في الأربعين، فخديجة
حينئذ فيما بعد الخمس والخمسين، وهو سن اليأس من الحمل ولكن لغير القرشية
والكنانية والنبطية، كما هو مقرر في الفقه، وخديجة قرشية، وهذا يعني أن قابلية
الحمل كانت موجودة لا تزال عند خديجة، وأن عمرها حينئذ كان، لا يأبى من الحمل (صحيح أن
حمل المرأة في هذه السن العالية نادر الوقوع، ولكن قد وقع في التأريخ نماذج منه،
وحتى اليوم: فقد نشرت جريدة " اطلاعات " الإيرانية بتأريخ 20 اردبيهشت
1351 هجري شمسي: أن أمرأة تدعى " شوشنا " وضعت في " اصفهان
" ولدا ولها من العمر 66 عاما، ولها ثمانية أولاد أكبرهم عمره 50 وأصغرهم
25 سنة. وبتأريخ 28 بهمن 1351 هجري شمسي أيضا نشرت: أن امرأة علوية تدعى "
أكرم موسوي " ولها 66 عاما ولزوجها 74 عاما، وضعت توأما في " بندر عباس
". ونقلت الجريدة عن الطبيب: أن أكبر امرأة ولدت لحد الآن عمرها 67 عاما.). |
علي
عند النبي (صلى الله عليه وآله):
|
نص بعض المؤرخين أ نه بعد بناء البيت بسنة، وقبل البعثة بالنبوة
بأربع سنين كانت سنة إصابة قريش بقحط شديد كان من آثاره أن تكفل الرسول (صلى
الله عليه وآله) بعيشة علي (عليه السلام) عنده في داره مع أولاده (وقال ابن
شهر آشوب في " المناقب ": ذكر أبو القاسم في أخبار أبي رافع من ثلاثة
طرق: أن النبي (صلى الله عليه وآله) حين تزوج خديجة قال لعمه أبي طالب: اني أحب
أن تدفع الي بعض ولدك يعينني على أمري ويكفيني، وأشكر لك بلاءك عندي. فقال أبو
طالب: خذ أيهم شئت. فأخذ عليا (عليه السلام) (المناقب 2: 180). ولا يمكن التسليم
لظاهر هذا الخبر، إذ كيف يمكن أن يكون النبي (صلى الله عليه وآله) أخذه إليه
" حين تزوج خديجة " في حين أن عليا (عليه السلام) ولد بعد ثلاثين سنة
من عام الفيل - على المشهور - وهو (صلى الله عليه وآله) قد تزوج خديجة قبل ذلك
بخمس سنين على المشهور أيضا ! اللهم الا أن يحمل الخبر على خلاف المشهور في
ميلاد علي أو زواج خديجة (عليهما السلام) أو المسامحة في قوله " حين تزوج
خديجة " بأكثر من سبع سنين.) فقد
نقل الطبرسي في " إعلام الورى " عن " دلائل النبوة "
للبيهقي (ت 548 ه) بسنده عن مجاهد بن جبر (ت 101) قال: " كان مما أنعم
الله على علي بن أبي طالب (عليه السلام) وأراد به الخير: أن قريشا أصابتهم أزمة
شديدة، وكان أبو طالب ذا عيال كثيرة، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله)
للعباس عمه - وكان من أيسر بني هاشم -: يا عباس ! إن أخاك أبا طالب كثير العيال،
وأصاب الناس ما ترى من هذه الأزمة، فانطلق حتى تخفف عنه من عياله. فانطلقا إليه وقالا له ذلك، فقال: اتركوا لي عقيلا وخذوا من شئتم.
فأخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله) عليا فضمه إليه. فلم يزل علي مع رسول الله (صلى
الله عليه وآله) حتى بعثه الله نبيا فاتبعه علي وآمن به وصدقه " (إعلام
الورى: 38، 39.). ونقل
ابن شهر آشوب في " المناقب " عن مغازي محمد بن اسحاق، والبلاذري
والطبرسي، والبستي، والخرگوشي، والثعلبي، والواحدي، والخوارزمي في أربعينه،
والنسوي في المعرفة، عن مجاهد.. وفيه: وأخذ رسول الله عليا وهو ابن ست سنين، كسنه يوم أخذه أبو طالب (مناقب آل أبي طالب 2: 179، 180.). أي من أبيه عبد المطلب عند وفاته. ونقله الاربلي في " كشف الغمة " عن " المناقب " للخوارزمي عن ابن اسحاق (كشف الغمة 1: 79.).
ونقله البحراني في " حلية الأبرار " بسند الصدوق الى محمد بن اسحاق عن مجاهد بن جبر (حلية
الأبرار 1: 231.) وفي موضع آخر عن تفسير الثعلبي عنه (حلية الأبرار 1: 239.). ومجاهد بن جبر المكي
الكوفي مولى بني مخزوم (ت 101) هو راوي الخبر لابن اسحاق. والخبر موجود في "
سيرة ابن هشام " عن
ابن اسحاق عن ابن جبر (سيرة ابن هشام 1: 262، 263.) وكذلك
في الطبري (الطبري 2: 313.) وكذلك في " المستدرك على الصحيحين " للحاكم النيسابوري
(المستدرك على الصحيحين 3:
136.). وقال البلاذري في " أنساب الأشراف ": " قالوا: وكان أبو طالب قد أقل وأقتر، فأخذ رسول الله - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - عليا ليخفف عنه مؤونته، فنشأ عنده " (أنساب
الأشراف 2: 90.). وروى الخبر أبو الفرج في
" مقاتل الطالبيين "
بسنده عن سهل بن سعد الساعدي قال: " كان رسول الله - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - قد أخذ عليا من أبيه وهو صغير، في سنة أصابت قريشا وقحط نالهم،
وأخذ حمزة جعفرا، وأخذ العباس طالبا، ليكفوا أباهم مؤونتهم ويخففوا عنه ثقلهم،
وكان أبو طالب يحب عقيلا ولذلك قال: دعوا لي عقيلا وخذوا من شئتم. فقال رسول الله:
اخترت من اختار الله لي عليكم: عليا " (مقاتل
الطالبيين: 15، هذا وفي بعض التواريخ، ويحضرني الأن منها " شرح الأخبار
" للقاضي النعمان المصري المغربي التميمي الشيعي الفاطمي الإسماعيلي، فيه
أنه كان بين كل واحد من ولد أبي طالب عشر سنين (ج 1: 188) فإذا كان لعلي (عليه
السلام) يومئذ ست سنين كان لجعفر ست عشرة سنة ولعقيل ست وعشرون سنة ولطالب ست
وثلاثون سنة، ولذلك يبدو الخبر غريبا. ولعله لهذا انفرد القاضي بذكر سبب آخر
لذلك سوى القحط قال: ان سببه في ذلك: أن أشراف العرب والسادات منهم كانوا إذا شب
لأحدهم الولد وأراد تقويمه وتأديبه، دفعه الى شريف من أشراف قومه ليلي ذلك منه
ويستخدمه فيما يقومه به، لئلا يدل في ذلك عليه دلالة الولد على الوالد. وكان
لأبي طالب ثلاثة من الولد (كذا) فلما شب عقيل دفعه أبو طالب الى عباس أخيه، ولما
شب جعفر دفعه الى حمزة أخيه، ولما شب علي دفعه الى رسول الله - صلوات الله عليه
وآله -. وفي رواية اخرى: أنه دفع جعفرا الى عباس، وعليا (عليه السلام) الى رسول
الله (صلى الله عليه وآله)، وأبقى عقيلا عنده. فلما لحق رسول الله (صلى الله
عليه وآله) بالرجال وبان بنفسه وتأهل كان علي (عليه السلام) عند رسول الله (ج 1:
188). فالمغربي وان أغرب في خبره هذا ولكنه ابتعد بذلك عن الغرابة في أعمار
هؤلاء الأبناء.). ونقله ابن أبي الحديد في " شرح النهج " عن البلاذري
والإصفهاني هكذا: ان
قريشا أصابتها أزمة وقحط، فقال رسول الله - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - لعميه
حمزة والعباس: ألا نحمل ثقل أبي طالب في هذا المحل ؟ فجاؤوا إليه وسألوه أن يدفع
إليهم ولده ليكفوه أمرهم، فقال: دعوا لي عقيلا وخذوا من شئتم - وكان شديد الحب
لعقيل - فأخذ العباس طالبا وأخذ حمزة جعفرا، وأخذ محمد - صلى الله عليه [ وآله ]
وسلم - عليا (عليه السلام) وقال
لهم: قد اخترت من اختاره
الله لي عليكم: عليا. قالوا: فكان علي (عليه السلام) في حجر رسول الله - صلى
الله عليه [ وآله ] وسلم - منذ كان عمره ست سنين. وهذا يطابق قوله (عليه السلام): " لقد عبدت الله قبل أن يعبده أحد من هذه الامة سبع سنين
" وقوله: " كنت أسمع الصوت وابصر الضوء سنين سبعا، ورسول الله حينئذ
صامت ما اذن له في الإنذار والتبليغ ". وذلك لأ نه إذا كان عمره
يوم إظهار الدعوة ثلاث عشرة سنة، وتسليمه الى رسول الله من أبيه وهو ابن ست، فقد
صح أ نه كان يعبد الله قبل الناس بأجمعهم سبع سنين، وابن ست تصح منه العبادة إذا
كان ذا تمييز، على أن عبادة مثله هي التعظيم والإجلال وخشوع القلب واستخذاء
الجوارح إذا شاهد شيئا من جلال الله سبحانه وآياته الباهرة. ومثل هذا موجود في
الصبيان (شرح النهج 1: 15.). هذا ما نقله ابن أبي الحديد في " شرح النهج " عن البلاذري والإصفهاني، وقد مر عليك
خبرهما ورأيت البلاذري قد اختصر الخبر جدا في سطر ونصف تقريبا، والإصفهاني رواه
بسنده عن سهل بن سعد الساعدي، وقد خلا كلاهما عن ذكر عمر علي (عليه السلام)
يومذاك. ولعله نقله عن نسخة اخرى منهما. نعم نقل الخبر ابن شهر آشوب في " المناقب " عن عدة
منهم البلاذري والطبري والخوارزمي والخرگوشي والواحدي والثعلبي والبستي والنسوي،
ومغازي محمد بن اسحاق، عن مجاهد أيضا، وفيه: وأخذ رسول الله عليا وهو ابن ست سنين، كسنه يوم أخذه أبو
طالب (مناقب آل أبي طالب 2: 179
- 180.) أي من أبيه عبد المطلب عند وفاته. ولم يعين ذلك عن أي واحد ممن أخذ
منهم الخبر. ومهما كان، فان كلام ابن أبي الحديد توجيه وجيه لكلام الإمام (عليه
السلام). |
الفصل
الثالث البعثة النبوية المباركة
|
كان النبي (صلى الله عليه وآله) منذ
بدء أمره محدثا مسددا: |
روى الشريف الرضي في " نهج البلاغة " عن علي (عليه السلام)
أ نه قال في وصف الرسول (صلى
الله عليه وآله):
" ولقد قرن الله به من لدن أن كان فطيما أعظم ملك من ملائكته، يسلك به طريق
المكارم ومحاسن أخلاق العالم، ليله ونهاره " (نهج
البلاغة، الخطبة القاصعة: 292 / المقطع: 118 عن مسعدة بن صدقة عن الباقر (عليه
السلام).). وروى ابن أبي الحديد في شرحه: أن بعض أصحاب الإمام الباقر (عليه السلام) سأله عن قول الله
تعالى: * (الا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا) * (الجن: 27.) فقال
(عليه السلام): " يوكل الله تعالى بأنبيائه ملائكة يحصون أعمالهم، ويؤدون
إليهم تبليغهم الرسالة. ووكل بمحمد ملكا عظيما منذ فصل عن الرضاع يرشده الى
الخيرات ومكارم الأخلاق، ويصده عن الشر ومساوئ الأخلاق " (شرح
النهج 13: 207.). ولعل من مصاديق ذلك ما رفعه ابن اسحاق يقول: ذكر لي: أن رسول الله - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - كان مما يحدث به عما كان الله يحفظه به في صغره وأمر جاهليته ! أ
نه قال: " لقد رأيتني في غلمان قريش ننقل الحجارة لبعض ما نلعب به، فإني
اقبل معهم وادبر، وكلنا قد أخذ إزاره فجعله على عاتقه ليحمل عليه الحجارة فتعرى
! إذ لكمني لاكم ثم قال: شد عليك إزارك، وما أراه فأخذته وشددته علي، ثم جعلت
أحمل الحجارة على رقبتي وإزاري علي من بين أصحابي " (ابن هشام
1: 194.). وان كان الطبري يروي في
تأريخه بسنده عن محمد بن الحنفية عن أبيه علي (عليه السلام) قال: " سمعت رسول الله يقول: ما هممت بشئ مما كان أهل الجاهلية
يعملون به غير مرتين، كل ذلك يحول الله بيني وبين ما اريد من ذلك، ثم ما هممت
بسوء حتى أكرمني الله برسالته. قلت ليلة لغلام من قريش
كان يرعى معي بأعلى مكة: لو أبصرت لي غنمي حتى أدخل مكة فأسمر بها كما يسمر
الشباب (!) فخرجت اريد ذلك، حتى إذا جئت أول دار من دور مكة، سمعت عزفا بالدف
والمزامير، فقلت: ما هذا ؟ قالوا: هذا فلان تزوج ابنة فلان. فجلست أنظر إليهم،
فضرب الله على اذني فنمت، فما أيقظني الا مس الشمس، فرجعت الى صاحبي، فقال: ما
فعلت ؟ فقلت: ما صنعت شيئا، ثم أخبرته الخبر. ثم قلت له ليلة اخرى مثل ذلك، فقال: افعل، فخرجت فسمعت حين دخلت مكة مثل ما سمعت حين دخلتها تلك
الليلة، فجلست أنظر، فضرب الله على اذني، فما أيقظني الا مس الشمس، فرجعت الى صاحبي فأخبرته الخبر، ثم ما هممت بعدها بسوء حتى
أكرمني الله برسالته "
(الطبري 2: 279 ورواه عنه
ابن أبي الحديد 13: 207.). هذا من مصاديق التسديد في السيرة، وأما في الفكرة: فمنه ما رواه الصدوق في " اكمال الدين
" بسنده عن العباس بن عبد المطلب عن أبي طالب في خبر بحيرا الراهب أ نه قال
للنبي (صلى الله عليه وآله): " يا غلام ! أسألك بحق اللات والعزى... فزعموا
أن رسول الله قال له: لا تسألني باللات والعزى، فوالله ما أبغضت شيئا قط بغضهما
" (اكمال الدين: 178 - 185. وابن هشام 1: 193 عن ابن اسحاق مرفوعا.). أما قوله في الخبر السابق: " لكمني لاكم ثم قال: شد عليك إزارك، وما أراه " فنفهم
منه أنه - بناء على ذلك وعلى ما ورد في كثير من الأخبار - كان محدثا، من ذلك: ما
رواه الصفار (ت 290 ه) في كتابه " بصائر الدرجات " بسنده عن زرارة
قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام): من الرسول ؟ من النبي ؟ من المحدث ؟ فقال:
" الرسول: الذي يأتيه جبرئيل فيكلمه قبلا كما يرى أحدكم صاحبه الذي يكلمه،
فهذا الرسول " الى قوله: " وأما المحدث، فهو: الذي يسمع كلام الملك
فيحدثه، من غير أن يراه، ومن غير أن يأتيه في النوم " (كما في
البحار 18: 270 عن بصائر الدرجات: 109. ونحوه خبر آخر فيه عنه عن الباقر (عليه
السلام) أيضا وآخر عنه عن الصادق (عليه السلام).). وما رواه الكليني في " اصول الكافي " بسنده عن الأحول قال: سألت أبا جعفر عن الرسول والنبي والمحدث ؟ قال: " الرسول:
الذي يأتيه جبرئيل قبلا فيراه ويكلمه، فهذا الرسول " الى قوله: " وأما
المحدث، فهو: الذي يحدث فيسمع، ولا يعاين، ولا يرى في منامه " (اصول
الكافي 1: 176 ونحوه خبران آخران فيه عنه وعن الرضا (عليه السلام).). |
ثم
كان نبيا مبشرا:
|
وفي نفس الخبرين عن معنى النبوة المجردة أي بلا رسالة، قال في
الخبر الأول: " والنبي: الذي يؤتى في النوم، نحو رؤيا ابراهيم (عليه
السلام)، ونحو ما كان يأخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله) من السبات إذا أتاه
جبرئيل في النوم. فهكذا النبي " وقال في الخبر الثاني: " وأما النبي
فهو: الذي يرى في منامه نحو رؤيا ابراهيم (عليه السلام)، ونحو ما كان رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله) من أسباب النبوة قبل الوحي، حتى أتاه جبرئيل من عند الله بالرسالة
". وروى ابن أبي الحديد في " شرح النهج " عن الإمام الباقر (عليه السلام): " وكل (الله) بمحمد (صلى الله عليه وآله) ملكا عظيما منذ فصل عن الرضاع، يرشده الى الخيرات ومكارم الأخلاق،
ويصده عن الشر ومساوئ الأخلاق. وهو الذي كان يناديه: السلام عليك يا محمد يا
رسول الله وهو شاب لم يبلغ درجة الرسالة بعد، فيظن أن ذلك من الحجر والأرض،
فيتأمل فلا يرى شيئا " (شرح نهج البلاغة 13: 207.). وفي التفسير المنسوب الى الإمام الحسن العسكري (عليه
السلام) عن أبيه قال: "
إن رسول الله (صلى
الله عليه وآله) لما
ترك التجارة الى الشام، وتصدق بكل ما رزقه الله تعالى من تلك التجارات، كان يغدو
كل يوم الى حراء يصعده وينظر من قلله الى آثار رحمة الله، والى أنواع عجائب
رحمته وبدائع حكمته، وينظر الى أكناف السماء وأقطار الأرض والبحار والمفاوز
والفيافي، فيعتبر بتلك الآثار، ويتذكر بتلك الآيات، ويعبد الله حق عبادته "
(التفسير المنسوب الى الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) كما في
البحار 18: 205.). وقال القطب الراوندي في " قصص الأنبياء ": ذكر علي بن ابراهيم وهو من أجل رواة أصحابنا قال: " ان النبي
(صلى الله عليه وآله) لما أتى له سبع وثلاثون سنة، كان يرى في نومه كأن آتيا أتاه
فيقول: يا رسول الله ! وكان بين الجبال يرعى غنما (لأبي طالب)، فنظر الى شخص
يقول له: يا رسول الله، فقال له: من أنت ؟ قال: أنا جبرئيل، أرسلني الله اليك
ليتخذك رسولا. وكان رسول الله يكتم ذلك، فأنزل جبرئيل بماء من السماء فقال: يا
محمد قم فتوضأ، فعلمه الوضوء على الوجه واليدين من المرفق، ومسح الرأس والرجلين
الى الكعبين وعلمه الركوع والسجود " (قصص
الأنبياء: 318 وليس في تفسير القمي فالظاهر أن الطبرسي نقله عن الراوندي في
" إعلام الورى ": 36، وعنه ابن شهر آشوب في المناقب 1: 43 ولعله لهذا
نقله المجلسي عن المناقب. وفي آخر خبر الطبرسي: فلما تم له أربعون سنة أمره
بالصلاة وعلمه حدودها، ولم ينزل عليه أوقاتها فكان يصلي ركعتين ركعتين في كل وقت
".). ونقل ذلك ابن شهر آشوب
في كتابه " المناقب " وقبل ذلك بدأ فصل المبعث ببيان درجات البعثة فقال: " ولبعثته
درجات: أولها: الرؤيا الصادقة، والثانية: ما رواه الشعبي، وداود بن عامر (كذا في
المناقب 1: 41 والصحيح: ما رواه داود عن عامر الشعبي.): أن
الله قرن جبرئيل بنبوة نبيه ثلاث سنين يسمع حسه ولا يرى شخصه، ويعلمه الشئ بعد
الشئ، ولا ينزل عليه القرآن. فكان في هذه المدة مبشرا غير مبعوث الى الامة
". ويقصد بما رواه الشعبي: ما رواه ابن سعد في " الطبقات " عن
الواقدي بسنده عنه قال: قرن اسرافيل بنبوة رسول الله ثلاث سنين، يسمع حسه ولا
يرى شخصه، ثم كان بعد ذلك جبرئيل (عليه السلام) (الطبقات
1: 191 والطبري 2: 386 عنه.).
ويقصد بما رواه داود عن عامر الشعبي أيضا: ما رواه عنه الطبري أيضا قال: انزلت عليه النبوة وهو ابن أربعين
سنة، فقرن بنبوته اسرافيل ثلاث سنين، فكان يعلمه الكلمة والشئ، ولم ينزل القرآن
على لسانه. فلما مضت ثلاث سنين قرن بنبوته جبرئيل (عليه السلام). فنزل القرآن
على لسانه عشر سنين بمكة، وعشر سنين بالمدينة (الطبري
2: 387.). وقال الطبري بعد هذا: فلعل الذين قالوا: كان مقامه بمكة بعد الوحي عشرا، عدوا مقامه بها
من حين أتاه جبرئيل بالوحي من الله عزوجل، وأظهر الدعاء الى التوحيد وعد الذين
قالوا: كان مقامه ثلاث عشرة سنة، من أول الوقت الذي استنبئ فيه، وكان المقرون به
اسرافيل، وهي السنون الثلاث التي لم يكن أمر فيها بإظهار الدعوة (الطبري
2: 387 ورواه ابن سعد في الطبقات 1: 127 وابن كثير في البداية والنهاية 3: 4
واليعقوبي 2: 23 مرسلا. وروى الحاكم في المستدرك 2: 61 عن سعيد بن المسيب أن
القرآن نزل على الرسول وهو ابن ثلاث وأربعين.). ولكن يبقى أن ابن شهر آشوب بدل جبرئيل بإسرافيل سهوا. أما من طرقنا فلا أقل مما ذكره الشيخ المفيد في " الاختصاص
" قال: "
قرن اسرافيل برسول الله (صلى
الله عليه وآله) ثلاث
سنين، يسمع الصوت ولا يرى شيئا، ثم قرن به جبرئيل (عليه السلام)
عشر سنين، وذلك حيث اوحي إليه، فأقام بمكة عشر سنين ثم هاجر الى المدينة فأقام
بها عشر سنين (الاختصاص:
130، ولا نؤكد نسبة الاختصاص الى الشيخ المفيد.). وهذا يعني أن
تلك السنوات الثلاث كانت منذ بدء البعثة في الأربعين من عمره (صلى الله عليه
وآله) الى الثالث والأربعين، كما نص عليه داود بن عامر في خبره. وابن داود لم
يذكر أ نه لم يكن يرى شخصه، وانما نص عليه خبر الشعبي وما ذكره الشيخ المفيد
وابن شهر آشوب. فعلى ماذا كان قبل البعثة ؟ قبل أن نقف واياكم على مختلف الأخبار في هذا المضمار، لنعد فنعيد
النظرة على واقع حال الرسول (صلى
الله عليه وآله) فيما
قبل البعثة من حيث العبادة والديانة. والحقيقة هي أن واقع الحال في البعثة وما قبلها غير بين، فالقرآن الكريم يقول: * (ماكنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان) * (الشورى:
52.) فحيث لم يكن يدري قبل
بعثته ما الكتاب ولا الإيمان فهل لم يكن كذلك يؤمن ويتدين بكتاب أو دين كما هو
ظاهر لفظ القرآن الكريم ؟ أم ماذا ؟ وأقدم ما نعلم من السابقة التأريخية لهذا التساؤل - مع الأسف - ليس
عصر الرسول نفسه أو المعصومين من عترته (عليهم السلام)، بل حتى بعد عصر الغيبة الصغرى وفي بدايات الغيبة الكبرى، فقد طرح
هذا السؤال نفسه ضمن مسائل علم الاصول، واليك نماذج من ذلك: السيد المرتضى علم الهدى
(رضي الله عنه) يقول في كتابه " الذريعة الى اصول الشريعة ": " قد استقصينا هذا الكلام وفرغناه في كتاب " الذخيرة
" (حقق الكتاب المحقق السيد أحمد الحسيني، وطبع في مؤسسة النشر الإسلامي
بقم المقدسة سنة 1411 ه في 607 صفحة، يبدأ فيه باب النبوات من 322 الى 408 ولم
أجد الكلام المذكور فيه ولا في سائر أبواب الكتاب، بل التحويل على الذخيرة لا
يوجد في الذريعة أيضا 2: 595 ط جامعة طهران.) ويقرره كذلك في " الذريعة " فيقول: " هل كان رسول الله (صلى
الله عليه وآله)
متعبدا بشرائع من تقدمه من الأنبياء (عليهم السلام)
؟ في هذا الباب مسألتان:
احداهما: قبل النبوة،
والاخرى: بعدها. وفي المسألة
الاولى ثلاثة مذاهب: احدها: أ نه (صلى الله عليه وآله) ما كان متعبدا قطعا. والآخر: أ نه
كان متعبدا قطعا. والثالث: التوقف. وهذا هو الصحيح. والذي يدل عليه: أن العبادة بالشرائع
تابعة لما يعلمه الله تعالى من المصلحة بها في التكليف العقلي، ولا يمتنع أن
يعلم الله تعالى أن لا مصلحة للنبي قبل نبوته في العبادة بشئ من الشرائع، كما أ
نه غير ممتنع أن يعلم أن له في ذلك مصلحة، وإذا كان كل واحد من الأمرين جائزا،
ولا دلالة توجب القطع على أحدهما، وجب التوقف. وليس يقتضي علمه (صلى
الله عليه وآله) بأن
غيره نبي أن يتعبد بشريعته، بل لابد من أمر زائد على هذا العلم. ولو ثبت أ نه حج
أو اعتمر قبل نبوته لقطع به على أ نه كان متعبدا، وبالتظني لا يثبت مثل ذلك. ولم
يثبت أ نه تولى التذكية بيده، ولو ثبت أ نه ذكى بيده لجاز أن يكون من شرع غيره
في ذلك الوقت أن يستعين بغيره في الذكاة فذكى على سبيل المعونة لغيره، ولا شبهة
في أن أكل لحم المذكى غير موقوف على الشرع، لأ نه بعد الذكاة يصير مثل كل مباح. وليس لمن قطع على أ نه ما كان متعبدا أن يتعلق بالقول: بأ نه لو
كان تعبد بشئ من الشرائع لكان فيه متبعا لصاحب تلك الشريعة ومقتديا به، وذلك لا
يجوز، لأ نه أفضل الخلق، واتباع الأفضل للمفضول قبيح. ذلك أ نه غير ممتنع أن
يوجب الله تعالى عليه بعض ما قامت عليه الحجة به من بعض الشرائع المتقدمة لا على
وجه الاقتداء بغيره فيها ولا الاتباع " (الذريعة
الى اصول الشريعة 2: 595، 596 ط جامعة طهران.). وقال المحقق أبو القاسم
الحلي - طيب الله رمسه - في اصوله: " لو كان متعبدا بشرع من قبله لكان طريقه الى ذلك إما الوحي
أو النقل، ويلزم من الأول: أن يكون شرعا له لا شرعا لغيره، ومن الثاني: التعويل
على نقل اليهود، وهو باطل، لأنه ليس بتواتر، لما تطرق إليه من القدح المانع من
إفادة اليقين. ونقل الآحاد منهم لا يوجب العمل، لعدم الثقة. ولو كان متعبدا بشرع غيره لوجب عليه البحث عن ذلك الشرع، لكن ذلك
باطل، لأنه لو وجب لفعله، ولو فعله لاشتهر، ولوجب على الصحابة والتابعين
والمسلمين الى يومنا هذا متابعته على الخوض فيه، ونحن نعلم من الدين خلاف ذلك
" (كما في البحار 18: 275 - 276 باختصار. أما في كتابه " معارج
الاصول " المطبوع فكما يلي: فائدة: اختلف الناس في النبي (صلى الله عليه
وآله) هل كان متعبدا بشرع من قبله ؟ أم لا ؟ وهذا الخلاف عديم الفائدة، لأنا لا
نشك في أن جميع ما أتى به لم يكن نقلا عن الأنبياء (عليهم السلام)، بل عن الله
تعالى بواسطة الملك، ونجمع على أنه (صلى الله عليه وآله) أفضل الأنبياء، وإذا
أجمعنا على ثمرة المسألة فالدخول بعد ذلك فيها كلفة: 121. انتهى، وقد ذكر
العلامة الطهراني للمحقق كتابا آخر في الاصول باسم " نهج الوصول "
الذريعة 24: 426، 427 فلعل المجلسي نقل كلامه من ذلك الكتاب، ولم يسمه.). فالسيد المرتضى توقف، والمحقق نفى وأنكر، ولكن تلميذه العلامة
عاد فتوقف: فقد قال - قدس
الله روحه - في شرحه على
" مختصر الاصول " لابن الحاجب: " اختلف الناس في أن النبي (صلى الله عليه وآله) هل كان
متعبدا بشرع أحد من الأنبياء قبله قبل النبوة ؟ أم لا ؟ فذهب جماعة الى أ نه كان
متعبدا. ونفاه آخرون. والمثبتون اختلفوا:
فذهب بعضهم الى أ نه: كان متعبدا بشرع نوح، وآخرون: بشرع ابراهيم، وآخرون: بشرع
موسى، وآخرون: بشرع عيسى، وآخرون: بما ثبت أ نه من الشرع ". ولم يتكلم العلامة فيه
بما ينم عن مختاره وانما
قرر مختار ابن الحاجب
الشافعي (ت 646 ه) بأ نه
كان متعبدا بما ثبت بالتواتر أ نه من شرع قبله، عيسى بل موسى
(عليهما السلام)، فإن
شريعة عيسى هي شريعة موسى (عليه السلام) في الأعم الأغلب. وقرر استدلاله لذلك "
بما نقل نقلا -
يقارب التواتر - أنه
كان يصلي ويحج ويعتمر ويطوف بالبيت، ويتجنب الميتة ويذكي ويأكل اللحم، ويركب
الحمار (!) وهذه امور لا
يدركها العقل، فلا مصير إليها الا من الشرع ". ولكنه رد استدلال غيره على هذا المذهب نفسه: " بأن عيسى كان مبعوثا الى جميع المكلفين، والنبي كان من
المكلفين، فيكون عيسى مبعوثا إليه " فقال: " لا نسلم عموم دعوة من
تقدمه ". ولكنه قال: إن
الشرع المنقول إليه إن كان آحادا فهو غير مقبول وأما إذا كان متواترا فقد كان
يعمل به من دون لزوم المخالطة لأرباب تلك الشريعة، حتى يلزم عدم تعبده به من عدم مخالطة لهم. فالنتيجة: أ نه كان
يعمل بما ثبت بالتواتر ا نه شرع قبله، بدليل نقلي يقارب التواتر كما قال. وقد
تقدم من السيد المرتضى: أ نه لو ثبت لقطع به على أ نه كان متعبدا، ولكنه لم يثبت
عنه، التظني لا يثبت مثل ذلك. أما النصوص المتقدمة
فإنما دلت على أ نه (صلى الله عليه وآله) كان في فكره وسلوكه الديني العقائدي
العقلي والعملي محدثا مسددا. وبخصوص الصلاة فقد
مر خبر القطب الراوندي عن علي بن ابراهيم القمي: أ نه بعد ما " أتى عليه سبع
وثلاثون سنة... نزل عليه جبرئيل وأنزل عليه ماء من السماء وعلمه الوضوء والركوع
والسجود " (قصص الأنبياء: 317، 318.) فقط،
لا الصلاة بحدودها وأوقاتها ففي تمام الخبر: " فلما تم له أربعون سنة علمه
حدود الصلاة ولم ينزل عليه أوقاتها، فكان يصلي ركعتين ركعتين في كل وقت " (اعلام
الورى: 36 ط النجف الأشرف.) مما يدل عليه كثير من
معتبر الأخبار، في تفصيل تشريع الصلوات في أبواب عديدة من " وسائل الشيعة
" وكذلك لدى العامة أيضا. وأما شأنه (صلى الله عليه
وآله) في كثير من المناسك والمناهي والتروك فليكن كشأن آبائه وأجداده الأمجاد
مما دل عليه كثير من الأخبار التأريخية وغيرها كما مر في محله، أما أكثر من ذلك
التحنث بالحنيفية " الإبراهيمية " فلا نص يصرح به، ولا دليل عليه. وان كان المولى المجلسي
- قدس الله سره - قال:
" إن الذي ظهر لي من الأخبار المعتبرة والآثار المستفيضة هو: أ نه (صلى
الله عليه وآله) كان قبل بعثته - منذ أكمل الله عقله في بدو سنه - نبيا مؤيدا
بروح القدس، يكلمه الملك ويسمع الصوت، ويرى في المنام... وكان يعبد الله بصنوف
العبادات إما موافقا لما أمر به الناس بعد التبليغ، وهو أظهر، أو على وجه آخر،
اما مطابقا لشريعة ابراهيم (عليه السلام) أو غيره ممن تقدمه من الأنبياء، لا على
وجه كونه تابعا لهم وعاملا بشريعتهم، بل بأن ما اوحي إليه كان مطابقا لبعض
شرائعهم، أو على وجه آخر، نسخ بما نزل عليه بعد الإرسال. ولا أظن أن يخفى صحة ما
ذكرت على ذي فطرة مستقيمة وفطنة غير سقيمة... ولنذكر بعض الوجوه لزيادة
الاطمئنان، على وجه الإجمال " ثم ذكر وجوها ستة (بحار الأنوار 18: 277 - 281.). ولنعد لنستثني من نفينا لنص صريح في الإجابة على السؤال بهذا
الشأن: ما رواه الكليني
في " اصول الكافي " بسنده عن أبي حمزة الثمالي قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن العلم أهو شئ يتعلمه
العالم [ منكم ] من أفواه الرجال ؟ أم في الكتاب عندكم تقرؤونه فتعلمون منه ؟ قال: الأمر أعظم من ذلك
وأوجب، أما سمعت قول الله عزوجل: * (وكذلك أوحينا اليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا
الايمان) * (الشورى: 52)
ثم قال: أي شئ يقول أصحابكم في هذه الآية ؟ أيقرون أ نه كان في حال لا يدري ما
الكتاب ولا الايمان ؟ فقلت: لا أدري - جعلت فداك - ما يقولون، فقال: بلى قد كان في حال لا يدري ما الكتاب ولا
الإيمان، حتى بعث الله - عزوجل - الروح التي ذكر في الكتاب، فلما أوحاها إليه
علم بها العلم والفهم، وهي الروح التي يعطيها الله - عزوجل - من شاء، فإذا
أعطاها عبدا علمه الفهم " (اصول
الكافي 1: 273، 274.). فسؤال الثمالي في هذا الخبر من الإمام الصادق (عليه السلام) وان كان عن مصدر العلم للعالم الإلهي الرباني، ولم يكن السؤال عن
حال الرسول (صلى الله عليه وآله) قبل البعثة من حيث الديانة والعبادة الا أن الإمام أجابه بما
اشتمل على ذلك إذ قال: بأن مصدر العلم للعالم الإلهي الرباني هي الروح التي
يعطيها الله من شاء من عباده، فإذا أعطاها عبدا علمه الفهم، بعد ما كان في حال
لا يدري ما الكتاب ولا الايمان، كما في نص القرآن. ولكن المولى المجلسي فسر الروح هنا بروح القدس وقال كما مر: " كان منذ أكمل الله عقله في بدو سنه نبيا مؤيدا بروح القدس
" ولذلك أجاب عن الاستدلال بالآية يقول: " وأما استدلالهم بقوله
تعالى: * (ما كنت تدري
ما الكتاب ولا الايمان) * فلا
يدل الا على أ نه (صلى الله عليه وآله) كان في حال لم يكن يعلم القرآن وبعض شرائع الإيمان، ولعل ذلك كان
في حال ولادته قبل تأييده بروح القدس، كما دلت عليه رواية أبي حمزة وغيرها
" (البحار 18: 281.). اذن يبقى علينا أن نبين
معنى الروح: قد روى الكليني في
" اصول الكافي " بسنده عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله تبارك وتعالى: * (وكذلك أوحينا اليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا
الإيمان) * ؟ قال: " خلق من خلق الله أعظم من جبرئيل وميكائيل، كان مع رسول
الله (صلى الله عليه وآله) يخبره ويسدده، وهو مع الأئمة من بعده " (اصول
الكافي 1: 273.). وروى فيه بسنده عنه أيضا قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عزوجل: * (يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي) * (الإسراء: 85.)
قال: " خلق أعظم من
جبرئيل وميكائيل، كان مع رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وهو مع الأئمة، وهو من الملكوت " (اصول
الكافي 1: 273.). وروى فيه بسنده عنه أيضا قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: *
(يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي) * قال: خلق أعظم من جبرئيل وميكائيل، لم يكن مع أحد ممن مضى غير
محمد (صلى الله عليه وآله)، وهو مع الأئمة يسددهم، وليس كل من طلب وجد " (اصول
الكافي 1: 273.). وروى فيه بسنده عن المفضل بن عمر قال: سألته عن علم الإمام بما في أقطار الأرض وهو في بيته، مرخى عليه
ستره ؟ فقال: " يا مفضل، ان الله تبارك وتعالى جعل في النبي (صلى
الله عليه وآله) خمسة
أرواح: روح الحياة فبه دب ودرج، وروح القوة فبه نهض وجاهد، وروح الشهوة فبه أكل
وشرب، وأتى النساء من الحلال، وروح الإيمان فبه امن وعدل، وروح القدس فبه حمل
النبوة - فإذا قبض النبي (صلى الله عليه وآله) انتقل روح القدس فصار الى الإمام - وروح القدس لا ينام ولا يغفل
ولا يلهو ولا يسهو - والأربعة الأرواح تنام وتغفل وتلهو وتسهو - وروح القدس كان
يرى به " (اصول الكافي 1: 273.). ونقله المجلسي وقال في
بيانه: " أي كان يرى
النبي والإمام بروح القدس ما غاب عنه في أقطار الأرض والسماء وما دون العرش
" (بحار الأنوار 1: 264.). فإذا
ضممنا الى ذلك أ نه لم يكن يرى جبرئيل ولا أي ملك قبل نزول وحي القرآن عليه
وإنما كان يسمع ويحس ولا يرى الشخص، كما مر في الخبر المعتبر، أنتج: أن هذا
الروح - روح القدس - أيضا لم يكن معه قبل نزول وحي القرآن عليه، وإنما اوتيه بعد
ذلك أو معه، لا قبله منذ اكتمال عقله في بدو سنه كما ذهب إليه المولى المجلسي - قدس الله سره -. وتعليق الكلام على الوصف ان كان مشعرا بالعلية - كما هو الحق - فقد علق الإمام (عليه السلام) وجود هذه الروح على وصف الرسالة:
" كان مع رسول الله " في الخبرين الأولين، وليس حتى النبوة، مما يشعر
بأن هذه الروح -
روح القدس - كانت
مصاحبة مع وصف الرسالة ومتزامنة في البداية معها، لا قبلها، حتى مع النبوة، فضلا
عما قبلها. ولا يقدح في هذا خلو الخبر الثالث من هذا التعليق، فانه بصدد النفي
عن غيره لا الإثبات له. وبعد كل ما تقدم، فإن ما نستطيع الجزم به هو: أ نه (صلى الله عليه وآله) كان مؤمنا موحدا يعبد الله ويلتزم بما ثبت له أ نه شرع الله
تعالى، وبما يؤدي إليه عقله الفطري السليم، والمؤيد المسدد، فكان أفضل الخلق
واكملهم خلقا وخلقا وعقلا... وعليه
فما يذكر عنه مما يتنافى مع التسديد وفقا لشرع الله، لا أساس له من الصحة... كالخبر عن استلامه الأصنام ! ذلك ما نقله القاضي عياض في كتابه
" الشفا في أحوال المصطفى " ثم نقل عن أحمد بن حنبل: أ نه حديث موضوع (كما في
السيرة الحلبية 1: 125 و 270. والسيرة النبوية لدحلان 1: 51. راجع الصحيح 1:
158.). مع أن المؤرخين - ومنهم
المسعودي - عدوا عددا من العرب
الجاهليين لم يشاركوا الجاهلية في شركها، كقس بن ساعدة الإيادي، وامية بن أبي
الصلت الثقفي، وزيد بن عمرو بن نفيل العدوي، وأبيه عمرو بن نفيل أخي الخطاب بن
نفيل أبي عمر بن الخطاب، وكان زيد يرغب عن عبادة الأصنام ويعيبها، فأولع به عمه
الخطاب سفهاء مكة وسلطهم عليه فآذوه، فصار الى الشام يبحث عن الدين فسمته النصارى
ومات بالشام (مروج الذهب 1: 82 - 89.). فعدوا ابنه سعيد بن زيد
أحد العشرة المبشرة بالجنة (مروج الذهب 1: 84.) وعدوه من الحنفاء حتى أ نهم رووا: أن زيدا مر على النبي (صلى الله
عليه وآله) وهو يأكل مع سفيان ابن الحرث من سفرة قدمت لهما فيها شاة ذبحت لغير الله
تعالى، فدعواه الى الطعام فرفض زيد وقال: أنا لا آكل مما تذبحون على أنصابكم،
ولا آكل الا ما ذكر اسم الله عليه ! فمنذ ذلك اليوم لم ير النبي يأكل مما ذبح
على النصب حتى بعث ! (صحيح البخاري 5: 50 و 7: 118 وفي شرحه: فتح الباري في شرح صحيح
البخاري 7: 108 و 109. ومسند أحمد 1: 189. والسيرة الحلبية 1: 123. والروض الانف
1: 256. والأخير تنبه الى تساؤل فطرحه يقول: " كيف وفق الله زيدا الى ترك
ما ذبح على النصب وما لم يذكر اسم الله عليه، ورسوله - صلى الله عليه [ وآله ]
وسلم - كان أولى بهذه الفضيلة في الجاهلية، لما ثبت من عصمة الله له ".
ولكنه تساهل في الجواب على هذا التساؤل فقال يعتذر لذلك: " ليس في الرواية
أنه - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - قد أكل من السفرة (!) وعلى فرض أنه قد أكل
فإن شرع ابراهيم (عليه السلام) انما جاء بتحريم الميتة لا بتحريم ما ذبح لغير الله
تعالى (!) أما زيد فلعله امتنع عن أكل ما ذبح لغير الله برأي رآه، لا بشرع متقدم
" ! وكذلك رجح العسقلاني في " فتح الباري في شرح صحيح البخاري "
أن زيدا قد أدرك ذلك برأيه (!) ونقول: لئن أدرك ذلك زيد برأيه ولم يدرك النبي (صلى
الله عليه وآله) ذلك، فلقد كانت النبوة بزيد أليق منها به (صلى الله عليه وآله)،
والعياذ بالله من فضيلة لابن عم الخليفة تمحق حتى فضيلة النبوة !.). |
ثم
كان نبيا رسولا:
|
روى الصفار بسنده عن زرارة قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام): من الرسول ؟ من النبي ؟ من المحدث ؟
فقال: " الرسول... والنبي... ومنهم من تجمع له الرسالة والنبوة، فكان رسول
الله رسولا نبيا: يأتيه جبرئيل قبلا فيكلمه ويراه، ويأتيه في النوم " (بصائر
الدرجات: 371 ط 1381 ه.). وروى الكليني بسنده عن
الأحول قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن الرسول ؟ والنبي ؟ والمحدث ؟ قال: الرسول... وأما النبي... وكان محمد (صلى الله عليه
وآله) حين جمعت له النبوة وجاءته الرسالة من عند الله يجيئه بها جبرئيل ويكلمه
بها قبلا " (اصول الكافي 1: 176.). وقد مر ما ذكره الشيخ
المفيد: " قرن اسرافيل
برسول الله (صلى الله عليه وآله) ثلاث سنين، يسمع الصوت ولا يرى شيئا. ثم قرن به
جبرئيل عشرين سنة، وذلك حيث اوحي إليه. فأقام بمكة عشر سنين، ثم هاجر الى
المدينة فأقام بها عشر سنين. وقبض وهو ابن ثلاث وستين سنة " (الاختصاص:
130 ط الغفاري. ولا نؤكد صحة نسبة الكتاب الى الشيخ المفيد). وروى الصدوق بسنده عن محمد بن مسلم عن الباقر (عليه السلام) قال:
" لقد مكث رسول
الله (صلى الله عليه وآله) بمكة ثلاث سنين مختفيا خائفا يترقب، ويخاف قومه
والناس. وما أجاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) أحد قبل علي بن أبي طالب
وخديجة - صلوات الله عليهما - " (اكمال
الدين: 189 و 197 كما في البحار 18: 177 و 188.). فأولا - كان
الخوف والإختفاء حتى عن قومه فضلا عن سائر الناس. وثانيا - مع
ذلك كانت الدعوة قد شملت عليا وخديجة واستجابا له ومعه. وروى فيه بسنده عن الحلبي عن الصادق (عليه السلام) قال: " مكث رسول الله (صلى الله عليه وآله) بمكة بعد ما جاءه الوحي عن الله - تبارك وتعالى - ثلاثة عشر سنة، منها ثلاث سنين مختفيا خائفا لا يظهر، حتى أمره
الله أن يصدع بما امر به، فأظهر الدعوة حينئذ " (اكمال
الدين: 189 و 197 كما في البحار 18: 177 و 188.). وروي فيه بسنده عنه عن الصادق (عليه السلام)
أيضا قال: " كان رسول
الله مختفيا بمكة خائفا ثلاث سنين ليس يظهر أمره، وعلي معه وخديجة، ثم أمره الله
أن يصدع بما امر به، فظهر رسول الله وأظهر أمره " (اكمال
الدين: 197.). وروى علي بن ابراهيم القمي قال: " سئل الصادق (عليه السلام) عن قوله [ تعالى ]: * (شهر رمضان الذي انزل فيه القرآن) * كيف كان ؟ وانما انزل القرآن في طول عشرين سنة ؟ فقال: إنه نزل
جملة واحدة في شهر رمضان الى البيت المعمور ثم نزل من البيت المعمور الى النبي
في طول عشرين سنة " (تفسير القمي 1: 66.).
ورواه العياشي في تفسيره (تفسير العياشي 1: 80.) ورواه الكليني في " اصول الكافي " بإسناده عن القمي عن
أبيه الى حفص بن غياث عنه (عليه السلام) (اصول
الكافي 1: 628.) واستند إليه الشيخ الصدوق في عقائده (عقائد
الصدوق: 56.). واليه
يعود ما رواه الطبري في تأريخه بسنده عن ابن عباس وسعيد ابن المسيب قالا: " انزل
على رسول الله الوحي وهو ابن ثلاث وأربعين سنة " (الطبري
2: 292. ورواه الحاكم في المستدرك 2: 610.). وأوضح منه ما مر عن
الطبري أيضا بسنده عن عامر الشعبي قال: " إن رسول الله نزلت عليه النبوة وهو ابن أربعين سنة، فقرن
بنبوته إسرافيل ثلاث سنين، فكان يعلمه الكلمة والشئ ولم ينزل القرآن. فلما مضت
ثلاث سنين قرن بنبوته جبرئيل فنزل القرآن على لسانه عشرين سنة: عشرا بمكة وعشرا
بالمدينة " (الطبري 2: 387 وابن سعد في الطبقات 1: 127 ومثله اليعقوبي مرسلا 2:
23 وابن كثير في البداية والنهاية 3: 4 عن ابن حنبل، والسيوطي في الإتقان 1: 045). والذي نريده من هذه الروايات هو أن مبدأ نزول القرآن الكريم كان
متأخرا عن النبوة بثلاث سنين،
فإذا لاحظنا الروايات القائلة بأن مده نزول القرآن على النبي استغرقت عشرين عاما، مع الروايات القائلة بأن مدة مكث النبي بعد النبوة بمكة كانت ثلاث عشرة سنة،
استنتجنا: أن مبدأ نزول
القرآن كان بعد النبوة بثلاث سنين، إذ لا شك أن القرآن كان ينزل عليه حتى عام
وفاته (التمهيد 1: 82.). نعم روى الطبري كذلك عن ابن سعد عن الواقدي بسنده عن الشعبي أيضا
قال: " قرن إسرافيل
بنبوة رسول الله -
صلى الله عليه [ وآله ] وسلم -
ثلاث سنين، يسمع حسه ولا يرى شخصه، ثم كان بعد ذلك جبرئيل (عليه السلام) "
قال الواقدي: فذكرت ذلك لمحمد بن صالح بن دينار فقال: والله يابن أخي لقد سمعت
عبد الله بن أبي بكر بن حزم، وعاصم بن عمر ابن قتادة يحدثان في المسجد ورجل
عراقي يقول لهما هذا، فانكراه جميعا وقالا: ما سمعنا ولا علمنا الا أن جبرئيل هو
الذي قرن به، وكان يأتيه الوحي من يوم نبئ الى أن توفي - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - (الطبري 2: 387 وفي الطبقات 1: 191.). ولكن قال عنه صاحب " التمهيد ": " هذه الرواية وان كان فيها أشياء لا نعرفها، ولعلها من
اجتهاد الشعبي الخاص، لكن الذي نريده من هذه الرواية هو جانب تحديد نزول القرآن
في مدة عشرين عاما وأن نزوله تأخر عن البعثة بثلاث سنين " (التمهيد
1: 83.). وقد مر أن
الطبري جمع بهذا القول بين القول
المشهور بأن مقام الرسول بمكة بعد الدعوة كان الى ثلاث عشرة سنة، وبين ما
رواه هو عن ابن عباس بأن مقامه بها كان الى عشر سنين، فالعشر سنين من حين أتاه
جبرئيل بالوحي القرآني من الله عزوجل واظهاره الدعوة الى التوحيد، وثلاث عشرة
سنة من أول البعثة بالنبوة (الطبري 2: 387.).
ولا نريد بنقل قول الشعبي
أو ما قاله الشيخ المفيد في " الاختصاص "
اثبات اختصاص اسرافيل بالثلاث سنين الاولى من
النبوة، واختصاص جبرئيل بالوحي القرآني بعد ذلك، على خلاف المعروف والمشهور في
أخبار البعثة. |
أخبار
البعثة:
|
وقبل أن نقف على طرف من أخبار البعثة: لنقف على الأخبار التي تعين يوم المبعث، ولا تعوزنا النصوص فيه: فقد روى الكليني بسنده
عن الصادق (عليه السلام) قال:
" لا تدع صيام يوم سبع وعشرين من رجب، فإنه اليوم الذي انزلت فيه النبوة
على محمد (صلى الله عليه وآله) " (الفروع
من الكافي 2: 149 ط الآخوندي.)
ورواه الصدوق (من لا يحضره الفقيه 2: 90 عن الحسن بن راشد عن الصادق (عليه السلام).
وثواب الأعمال: 99 ط الغفاري.) والطوسي (تهذيب الأحكام 1: 438.) وروى مثله ابن الشيخ الطوسي في أماليه (أمالي
ابن الشيخ: 28.). وروى الكليني عنه (عليه السلام) أيضا قال:
" يوم سبعة وعشرين من رجب نبئ فيه رسول الله (صلى
الله عليه وآله)
" (الفروع من الكافي 1: 469 ط الآخوندي.). وروى بسنده عن الرضا
(عليه السلام) قال: "
بعث الله عزوجل محمدا رحمة للعالمين، في سبع وعشرين من رجب، فمن صام ذلك اليوم
كتب الله له صيام ستين شهرا " (الفروع
من الكافي 2: 149 ط الآخوندي.)
ورواه الطوسي (تهذيب
الأحكام 1: 438.). وروى الصدوق بسنده عنه
(عليه السلام) أيضا قال:
" بعث الله محمدا (صلى الله عليه وآله) لثلاث ليال بقين من رجب، وصوم ذلك
اليوم كصوم سبعين عاما " (ثواب الأعمال: 83 ط الغفاري.). وروى الطوسي بسنده عن
الهادي (عليه السلام) قال:
" يوم السابع والعشرين من رجب يوم بعث الله محمدا (صلى الله عليه وآله) الى
خلقه رحمة للعالمين " (التهذيب 1: 438 الى خبرين آخرين رواهما الشيخ في مجالسه: 349 عن
الصادق (عليه السلام) وفي مصباح المتهجد عن الجواد (عليه السلام) في صيام ذلك
اليوم من دون ذكر للبعثة. وراجع وسائل الشيعة 7: 329.). وروى ابن شهر آشوب عن ابن عباس وأنس بن مالك قالا: " أوحى الله الى محمد (صلى الله عليه وآله) يوم الإثنين السابع والعشرين من رجب " (المناقب
1: 173.) ومن العامة روى
المتقي الهندي في " كنز العمال " عن البيهقي في " شعب الإيمان "، عن سلمان الفارسي قال: " في رجب يوم وليلة من صام ذلك اليوم وقام تلك الليلة كان
كمن صام مائة سنة وقام مائة سنة، وهو لثلاث بقين من رجب، وفيه بعث الله محمدا
" (منتخب كنز العمال بهامش المسند 3: 362.). وأورد الحلبي في سيرته
عن الدمياطي في سيرته عن أبي هريرة قال: " من صام يوم سبع وعشرين من رجب، كتب الله تعالى له صيام
ستين شهرا، وهو اليوم الذي نزل فيه جبرئيل على النبي بالرسالة، وأول يوم هبط فيه
جبرئيل " (السيرة الحلبية 1: 384 وفي آخره دعم لدعوى الشعبي.). وان كانت النصوص من جانب العامة تعوزهم في تعيين يوم المبعث
الشريف، فقد مر ما لا إعواز معه من النصوص في ذلك من طريق أئمة أهل البيت (عليهم
السلام)، ولكن لابد لنا ولا محيص عن الاعتراف بإعواز النصوص في كيفية بدء
البعثة. |
كيفية
بدء البعثة:
|
روي أن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)
قال وهو يصف بعثة النبي محمد (صلى الله عليه وآله): "... حتى استكمل سن الأربعين، ووجد الله قلبه الكريم أفضل
القلوب وأجلها، وأطوعها وأخشعها، فأذن لأبواب السماء ففتحت، وأذن للملائكة
فنزلوا ومحمد (صلى
الله عليه وآله) ينظر
الى ذلك، فنزلت عليه الرحمة من لدن ساق العرش، ونظر الى الروح الأمين جبرئيل
المطوق بالنور طاووس الملائكة، هبط إليه وأخذ بضبعه وهزه وقال: يا محمد ! إقرأ،
قال: ما أقرأ ؟ قال: يا محمد ! * (إقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق إقرأ وربك الأكرم
الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم) * (العلق: 1 - 5.) ثم أوحى إليه ما أوحى وصعد جبرئيل الى ربه. ونزل محمد من الجبل وقد غشيه من عظمة الله وجلال ابهته ما ركبه
الحمى النافضة، وقد اشتد عليه ما كان يخافه من تكذيب قريش إياه ونسبته الى
الجنون، وقد كان أعقل خلق الله واكرم بريته، وكان أبغض الأشياء إليه الشياطين
وأفعال المجانين، فأراد الله أن يشجع قلبه ويشرح صدره، فجعل كلما يمر بحجر وشجر
ناداه: السلام عليك يا رسول الله " (التفسير
المنسوب الى الإمام الحسن العسكري (عليه السلام). كما في البحار 18: 206.). هذا الخبر هو مما يدل على أن أول سورة نزلت - أو الآيات الاولى - هي هذه الآيات الخمس الاول من سورة العلق، ولكنه الخبر الوحيد الذي يدل على أ نها نزلت في بداية البعثة في
اليوم 27 رجب. |
أول
ما نزل من القرآن:
|
أما ما يدل على أ نها أول ما نزل: ففي تفسير القمي عن أبي الجارود
عن الباقر (عليه السلام) في قوله سبحانه:
* (ما ودعك ربك وما قلى) * (الضحى:
3.) قال: ذلك أن أول سورة
نزلت كانت * (اقرأ باسم
ربك الذي خلق) * ثم
أبطأ جبرئيل عن رسول الله (صلى
الله عليه وآله). فقالت
خديجة: لعل ربك قد تركك فلا يرسل اليك ؟ فأنزل الله تبارك وتعالى: * (ما ودعك ربك وما قلى) * (تفسير
القمي 2: 428.). وروى الكليني بسنده عن
الصادق (عليه السلام) قال:
" أول ما نزل على رسول الله (صلى الله عليه وآله): *
(بسم الله الرحمن الرحيم إقرأ باسم ربك الذي خلق) * وآخر ما نزل عليه * (إذا جاء نصر الله) * (اصول الكافي 2: 628.) ورواه
الصدوق أيضا (عيون أخبار الرضا 2: 6.). ونقل العلامة الطبرسي عن
كتاب " الإيضاح " لأحمد الزاهد بإسناده عن سعيد بن المسيب عن علي بن
أبي طالب (عليه السلام) قال:
" سألت النبي (صلى
الله عليه وآله) عن
ثواب القرآن، فأخبرني بثواب سورة سورة على نحو ما نزلت من السماء، فأول ما نزل
عليه بمكة: فاتحة الكتاب، ثم اقرأ
باسم ربك، ثم ن والقلم " (مجمع
البيان 10: 405.). هذه الأخبار هي كل ما جاءنا في أخبار الأئمة الأطهار (عليهم
السلام) في أول ما نزل من القرآن غير مقيدة له ببداية البعثة، اللهم الا ما مر
أولا عن تفسير الإمام (عليه السلام). والتفسير هذا فيه ما لا يعرف بل ينكر، مما طعن به بعض المحققين في
نسبته الى الإمام (عليه السلام)، ولكن ذلك لا يقتضي أكثر من استظهار أن الراوي
كان يحضر عند الإمام (عليه السلام)
فيسأله عن أشياء من تفسير القرآن، وبعد رجوعه الى داره كان يثبت ذلك لديه نقلا
بالمعنى كما فهمه، فربما زاد أو نقص أو أخل حسبما تتحمله طاقته وتسعه ظرفيته.
وهذا انما يقتضي الاحتياط في تلقي ما جاء فيه بالقبول، باشتراط مطابقته أو
موافقته لسائر الآثار الصحيحة، ولا أقل من عدم مخالفته لها، ولا يقتضي عدم
الاعتماد عليه اطلاقا (انظر التمهيد 1: 73.). وليس لنا في كيفية البعثة غير هذا الخبر المنفرد كما ترى - من تفسير الإمام - سوى نص علي بن ابراهيم القمي، فيما إذا تلقيناه كالنص عند إعواز النصوص. قال: " وكان بين الجبال يرعى غنما لأبي طالب، فنظر الى شخص، يقول
له: يا رسول الله ! فقال له: من أنت ؟ قال: جبرئيل، أرسلني الله اليك ليتخذك
رسولا... ونزل جبرئيل وأنزل عليه ماء من السماء وقال: يا محمد ! قم وتوضأ
للصلاة. وعلمه جبرئيل الوضوء وغسل الوجه واليدين من المرفق، ومسح الرأس والرجلين
الى الكعبين، وعلمه السجود والركوع. فلما تم له (صلى الله عليه وآله) أربعون سنة أمره بالصلاة وعلمه حدودها، ولم ينزل عليه أوقاتها،
فكان رسول الله (صلى
الله عليه وآله) يصلي
ركعتين ركعتين في كل وقت. وكان علي بن أبي طالب يألفه ويكون معه في مجيئه وذهابه ولا يفارقه،
فدخل علي (عليه السلام) الى رسول الله
(صلى الله عليه وآله) وهو
يصلي، فلما نظر إليه يصلي قال: يا أبا القاسم ! ما هذه ؟ قال: الصلاة التي أمرني
الله بها. فدعاه الى الإسلام، فأسلم وصلى معه. وأسلمت خديجة. فكان لا يصلي الا
رسول الله وعلي وخديجة. فلما أتى لذلك أيام دخل
أبو طالب الى رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومعه جعفر، فنظر الى رسول الله
وعلي (عليهما السلام) بجنبه يصليان، فقال لجعفر: يا جعفر صل جناح ابن عمك. فوقف
جعفر بن أبي طالب من الجانب الآخر، فلما وقف جعفر على يساره برز رسول الله (صلى
الله عليه وآله) من بينهما وتقدم. فلما أسلم علي وخديجة وجعفر أسلم زيد (بن حارثة الكلبي) بعدهم.
فكان يصلي خلف رسول الله: علي وجعفر وزيد وخديجة (إعلام
الورى: 36، 37 ولم نجده في تفسيره، ورواه عنه ابن شهر آشوب بتغيير يسير كما مر.). وهذا النص من القمي وان
لم يكن نصا من امام معصوم كما هو المفروض في الخبر عن تفسير الإمام (عليه السلام)،
ولكنه على أحسن الظن بالقمي، وباستبعاد أكيد أن يكون قد أخذ ذلك عن غيرهم (عليهم السلام)، لا
يقل شأنا عن النص عند اعواز النص، بل يفضل النص السابق عن تفسير الإمام،
بإنفراده - خبر التفسير - وتظافر أخبار غير قليلة من الخاصة والعامة تنص على بدء
بعثة الرسول بصلاته ثم صلاة علي وخديجة ثم زيد وجعفر بن أبي طالب بتوصية أبيه
أبي طالب، من دون نص على نزول شئ من القرآن، ببدء بعثة النبي (صلى الله عليه
وآله) في الأربعين من عمره. وسننقل هنا عينة من هذه الأخبار. وقبل ذلك لنتريث
قليلا في خبر علي بن ابراهيم القمي عندما يلفت النظر من ذكر السجود قبل الركوع،
فهل في ذلك عناية خاصة ؟ لم نقف على عناية خاصة في
ذلك حتى عثرنا على رواية رواها ابن أبي الحديد في " شرح النهج " بسنده
عن حكيم مولى زاذان قال: سمعت عليا (عليه السلام)
يقول: " صليت قبل الناس سبع سنين، وكنا نسجد ولا نركع. وأول صلاة ركعنا
فيها صلاة العصر، فقلت: يا رسول الله، ما هذا ؟ قال: امرت به " (شرح
النهج 13: 229.). |
أخبار
الصلاة:
|
مر تحت عنوان " علي عند النبي " عن ابن ابي الحديد ما
تمامه: " اختلف في سن علي (عليه السلام)
حين أظهر النبي (صلى
الله عليه وآله)
الدعوة إذ تكامل له أربعون سنة: فالأشهر من الروايات انه كان ابن عشر، وذكر
شيخنا أبو القاسم البلخي وغيره من شيوخنا وكثير من أصحابنا المتكلمين: أنه كان
ابن ثلاث عشرة سنة، ثم ذكر خبر البلاذري والإصفهاني في ضم النبي عليا إليه منذ
كان عمره ست سنين، ثم قال: وهذا يطابق قوله (عليه السلام):
" لقد عبدت الله قبل أن يعبده أحد من هذه الامة سبع سنين " وقوله:
" كنت أسمع الصوت وابصر الضوء سنين سبعا، ورسول الله (صلى الله عليه وآله) حينئذ صامت ما اذن له في الإنذار والتبليغ ". وذلك لأ نه إذا كان عمره يوم اظهار الدعوة ثلاث عشرة سنة، وتسليمه
الى رسول الله (صلى
الله عليه وآله) من
أبيه وهو ابن ست، فقد صح أ نه كان يعبد الله قبل الناس بأجمعهم سبع سنين (شرح
النهج 1: 15.). وروى الكليني بسنده عن
سعيد بن المسيب قال: سألت علي بن الحسين (عليه السلام): ابن كم كان علي بن أبي طالب يوم أسلم ؟ فقال: أو كان كافرا قط ؟ !
إنما كان لعلي (عليه
السلام) حيث بعث الله
عزوجل رسوله (صلى
الله عليه وآله) عشر
سنين، ولم يكن يومئذ كافرا، ولقد آمن بالله تبارك وتعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله) وسبق الناس كلهم الى الإيمان بالله ورسوله، والى الصلاة ثلاث
سنين، وكانت أول صلاة صلاها مع رسول الله الظهر ركعتين (روضة
الكافي: 279.). وروى الشيخ المفيد في " الإرشاد " بسنده الى يحيى بن
عفيف بن قيس الكندي عن أبيه عفيف قال: كنت جالسا مع العباس بن عبد المطلب (رضي الله عنه)
بمكة قبل أن يظهر أمر النبي (صلى
الله عليه وآله)، فجاء
شاب فنظر الى السماء حين تملقت الشمس، ثم استقبل الكعبة فقام يصلي. ثم جاء غلام
فقام عن يمينه، ثم جاءت امرأة فقامت خلفهما، فركع الشاب فركع الغلام والمرأة، ثم
رفع الشاب فرفعا، ثم سجد الشاب فسجدا. فقلت: يا عباس، أمر عظيم ! فقال العباس:
أمر عظيم، أتدري من هذا الشاب ؟ هذا محمد بن عبد الله ابن عبد المطلب، ابن أخي،
أتدري من هذا الغلام ؟ هذا علي بن أبي طالب ابن أخي، أتدري من هذه المرأة ؟ هذه
خديجة بنت خويلد. ان ابن أخي هذا حدثني أن
ربه رب السماوات والأرض أمره بهذا الدين الذي هو عليه، ولا والله ما على ظهر
الأرض على هذا الدين غير هؤلاء الثلاثة (الإرشاد:
20، 21. ومن أقدم من بحث هذا الموضوع كلاميا هو المتكلم المعتزلي الأقدم الشيخ
أبو جعفر الإسكافي المتوفى في 240 ه في كتابه: المعيار والموازنة: 66 - 78
بتحقيق الشيخ المحقق المحمودي. وقد أكثر النقل عن الإسكافي ابن أبي الحديد
المعتزلي في شرح النهج. ومن الباحثين الأقدمين في الموضوع بعد الإسكافي: القاضي
النعمان المصري في كتابه: شرح الأخبار: 178 - 191، فراجع.). وروى الطبرسي خبر ضم النبي عليا إليه في صغره عن كتاب "
دلائل النبوة " للبيهقي (ت 458) بسنده عن ابن اسحاق عن ابن جبر، وروى قبله
بسند البيهقي عن عفيف الكندي قال: كنت امرأ تاجرا، فقدمت منى
أيام الحج، وكان العباس بن عبد المطلب امرأ تاجرا، فأتيته أبتاع منه وأبيعه.
فبينا نحن كذلك إذ خرج رجل من خباء، وأخذ يصلي تجاه الكعبة، ثم خرجت امرأة فقامت
تصلي معه بصلاته، وخرج غلام وأخذ يصلي معه بصلاته. فقلت: يا عباس، ما هذا الدين
؟ فقال: هذا محمد بن عبد الله يزعم أن الله أرسله، وأن كنوز كسرى وقيصر ستفتح
عليه، وهذه امرأته خديجة بنت خويلد، آمنت به، وهذا الغلام ابن عمه علي بن أبي
طالب آمن به، قال عفيف: فليتني كنت آمنت به يومئذ فكنت أكون ثانيا تابعه (إعلام
الورى: 38.). وروى الخبر هذا ابن شهر آشوب في " المناقب " عن كتاب " المبعث
" لابن اسحاق، و " تأريخ الطبري " بثلاثة طرق، و " الإبانة
" للعكبري، بأربعة
طرق، و " تأريخ النسوي
"، والماوردي، ومسند أبي يعلى ويحيى بن معين، وتفسير الثعلبي وعن عبد الله
بن أحمد بن حنبل (مسند الامام أحمد 1: 209.)
بأسانيدهم عن عفيف الكندي وأ نه أخو الأشعث بن قيس الكندي (ورواه
القاضي النعمان في شرح الأخبار 1: 179 قال: أتيت مكة لأبتاع من عطرها وثيابها.) وأن
العباس قال له: ان ابن أخي هذا حدثني: أن ربه رب السماوات والأرض أمر بهذا
الدين، ثم قال: والله ما على ظهر الأرض على هذا الدين غير هؤلاء الثلاثة. وعن ابن اسحاق عن عفيف قال: فلما خرجت من مكة إذا أنا بشاب جميل على فرس قال: يا عفيف ما رأيت
في سفرك هذا ؟ فقصصت عليه فقال: لقد صدقك العباس، والله إن دينه لخير الأديان،
وان امته أفضل الامم. قلت: فلمن الأمر من بعده ؟ قال: لابن عمه وختنه على بنته،
يا عفيف الويل كل الويل لمن يمنعه حقه. ثم نقل عن ابن اسحاق قال: ان النبي كان إذا حضرت الصلاة خرج الى شعاب مكة وخرج معه علي بن
أبي طالب مستخفيا من قومه، فيصليان الصلوات فيها، فإذا أمسيا رجعا. فمكثا كذلك
زمانا . ثم ان أبا طالب رأى النبي وعليا يصليان فسأل عن ذلك فقال النبي:
ان هذا دين الله ودين ملائكته ودين رسله ودين أبينا ابراهيم (عليه السلام).
وقال علي: يا أبت آمنت بالله وبرسوله وصدقته بما جاء به وصليت معه لله. فقال له:
اما إنه لا يدعو الا الى خير، فالزمه. ولكنه نقل عن كتاب الشيرازي قال: ان النبي (صلى
الله عليه وآله) لما
نزل الوحي عليه أتى المسجد الحرام وقام يصلي فيه، فاجتاز به علي - وكان ابن تسع سنين - فناداه: يا علي أقبل الي، فأقبل إليه ملبيا، فقال له: اني رسول
الله اليك خاصة، والى الخلق عامة، تعال يا علي فقف عن يميني وصل معي. فقال: يا
رسول الله حتى أمضي وأستاذن والدي ! قال: اذهب فإنه سيأذن لك. فانطلق يستأذنه في
اتباعه، فقال: يا ولدي: تعلم أن محمدا - والله -
أمين منذ كان، امض واتبعه ترشد وتفلح. فأتى علي (عليه السلام)
ورسول الله قائم يصلي في المسجد، فقام عن يمينه يصلي معه، فاجتاز بهما أبو طالب
وهما يصليان، فقال: يا محمد ما تصنع ؟ قال: أعبد إله السماوات والأرض، ومعي أخي
علي يعبد ما أعبد يا عم... فضحك أبو طالب حتى بدت نواجذه. ولكنه نقل عن ابن
الفياض في " شرح الأخبار " عن أمير المؤمنين (عليه السلام)
قال: مر علينا أبو طالب ونحن ساجدان، فأخذ بيدي وجعل يرغبني في ذلك ويمضي عليه (شرح
الأخبار: 177 و 179 للقاضي النعمان المصري المغربي التميمي الشيعي الفاطمي
الاسماعيلي، المتوفى في 363 ه -. وقد أطلق ابن شهر آشوب عليه لقب: الفياض هنا
وفي كتابه الآخر: معالم العلماء: 136 قال: " ابن الفياض القاضي النعمان ابن
محمد، ليس بامامي، وكتبه حسان ". ولم نجد أحدا غير ابن شهر آشوب لقبه بهذا.
والخبر: عن حبة العرني قال: رأيت عليا (عليه السلام) ضحك على المنبر، ولم أره
ضحك ضحكا أكثر منه حتى بدت نواجذه، ثم قال: بينما أنا ورسول الله (صلى الله عليه
وآله) ببطن نخلة نصلي إذ ظهر علينا أبو طالب، فقال: ما تصنعان يابن أخي ؟ فدعاه
رسول الله (صلى الله عليه وآله) ورغبه في الإسلام فقال: ما أرى بالذي تقول وتصنع
بأسا... ثم قال علي (عليه السلام): اللهم لا أعرف عبدا من هذه الامة عبدك قبلي
غير نبيها - قالها ثلاث مرات ثم قال - لقد صليت قبل أن يصلي أحد سبعا - يعني سبع
سنين. ورواه ابن حنبل في المسند 1: 99.). ونقل عنه عن أبي أيوب
الأنصاري قال: سمعت
النبي يقول: لقد صلت الملائكة علي وعلى علي بن أبي طالب سبع سنين، وذلك أ نه لم
يؤمن بي ذكر قبله. ونقل عن ابن شيرويه الديلمي في " الفردوس " عن جابر
قال: قال النبي (صلى الله
عليه وآله): لقد صلت الملائكة علي وعلى علي بن أبي طالب سبع سنين قبل الناس،
وذلك أ نه كان يصلي ولا يصلي معنا غيرنا. أو: لم يصل فيها غيري وغيره. أو: لم
يصل معي رجل غيره. ونقل عن (مسند أحمد بسنده) عن ابن عباس (مسند الامام أحمد 1: 373
ط 1.). وعن تأريخ الطبري
والبلاذري وجامع الترمذي و " الإبانة " للعكبري، و " الفردوس
" للديلمي و " فضائل الصحابة " لابن حنبل بسندهم عن زيد بن أرقم
عن النبي (صلى الله عليه
وآله) قال: أول من صلى معي
علي (ورواه البلاذري في أنساب الأشراف 2: 93.). ونقل عن ابن حنبل في " مسند العشرة " و " فضائل الصحابة "
والترمذي في " الجامع الصحيح " والنسوي في " المعرفة " وابن
بطة العكبري في " الإبانة " بسندهم عن حبة العرني قال: سمعت عليا يقول: " أنا أول من
صلى مع رسول الله ". وفي " مسند العشرة
" و " فضائل الصحابة " لابن حنبل عن العرني عن علي (عليه السلام) بلفظ: " اللهم لا
أعرف أن عبدا من هذه الامة عبدك قبلي، غير نبيك " قالها ثلاث مرات. وفي مسند أبي يعلى بلفظ: " ما أعلم أحدا من هذه الامة بعد نبيها عبد الله غيري
". وفي مسندي أحمد وأبي
يعلى عن العرني عنه (عليه السلام) قال: " صليت قبل أن يصلي الناس سبعا " (في مسند
أبي يعلي، الورق 31 / بسنده عن حبة العرني عنه (عليه السلام): خمس سنين. أو: سبع
سنين.). ونقل عن سنن ابن ماجة
القزويني وتأريخ الطبري عن عباد بن عبد الله الرواجني قال: سمعت عليا قال: " أنا عبد الله وأخو رسول الله، وأنا الصديق
الأكبر، لا يقولها بعدي الا كاذب مفتر، صليت مع رسول الله سبع سنين ". ونقل عن سنن ابن ماجة وتفسير الثعلبي عن عبد الله بن أبي رافع عن
أبيه قال: ان عليا صلى
مستخفيا مع النبي سبع سنين وأشهر. ونقل عن " شرف النبي " للخرگوشي قال: جاء جبرئيل الرسول بأعلى مكة وعلمه الصلاة فانفجرت من الوادي عين
حتى توضأ جبرئيل بين يدي رسول الله، وتعلم رسول الله (صلى الله عليه وآله) من
الطهارة، ثم أمر به عليا (عليه السلام) (مناقب آل
أبي طالب 2: 14 - 19. هذا هو الفصل الثاني في الجزء الثاني من الكتاب، والفصل
الأول: المسابقة في الإسلام من 4 الى 13. وأما خبر ابن اسحاق في ضم النبي عليا
(عليه السلام) إليه، فقد نقله في فصل الطهارة والرتبة: 179 عن الطبري والبلاذري
والواحدي والثعلبي وشرف النبي وأربعين الخوارزمي ومغازي ابن اسحاق..). والاربلي في " كشف الغمة " ذكر خبر ابن اسحاق في ضم النبي عليا إليه، وأخبار مسند أحمد بن
حنبل، ثم نقل عن " المناقب " للخوارزمي عن عبد الله بن مسعود خبرا
يشبه خبر عفيف الكندي، قال: ان أول شئ علمته من أمر رسول الله (صلى الله عليه
وآله): أ ني قدمت مكة في عمومة لي فأرشدونا على العباس بن عبد المطلب فانتهينا
إليه وهو جالس الى من ثم، فجلسنا إليه. فبينا نحن عنده إذ أقبل رجل من باب الصفا
تعلوه حمرة، وله وفرة جعدة الى أنصاف اذنيه، أقنى الأنف، براق الثنايا، أدعج العينين،
كث اللحية، دقيق المسربة (المسربة: الشعر الدقيق من الصدر الى السرة.) شثن
الكفين، حسن الوجه، معه مراهق أو محتلم، تقفوه امرأة، قد سترت محاسنها، حتى
قصدوا نحو الحجر فاستلمه، ثم استلم الغلام ثم استلمته المرأة، ثم طاف بالبيت
سبعا، والغلام والمرأة يطوفان معه. فقلنا: يا أبا الفضل ان هذ الدين لم نكن
نعرفه فيكم، أو شئ حدث ؟ قال: هذا ابن أخي محمد بن عبد الله، والغلام علي بن أبي
طالب، والمرأة امرأته خديجة بنت خويلد، ما على وجه الأرض أحد يعبد الله تعالى
بهذا الدين الا هؤلاء الثلاثة. ثم قال: ومثله عن عفيف
الكندي... وقال: وكان
عفيف ابن عم الأشعث بن قيس. ورواه أحمد بن حنبل في مسنده والنطنزي في "
الخصائص " ثم نقل عن " الخصائص " في قوله تعالى: * (واركعوا مع الراكعين) * (البقرة:
43.) قال: إنما نزلت في
النبي وعلي خاصة، لأ نهما أول من صلى وركع (ونقله
ابن شهر آشوب في المناقب 2: 13 عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس. وعن الباقر
(عليه السلام).)، فعن علي (عليه
السلام) قال: قال رسول
الله (صلى الله عليه وآله): " نزلت علي النبوة يوم الإثنين، وصلى علي معي يوم الثلاثاء
". ونقل خبر ابن أبي رافع بهذا المعنى عن " المناقب "
للخوارزمي قال: صلى
النبي يوم الإثنين وصلى علي من الغد يوم الثلاثاء، قبل أن يصلي الناس مع النبي
سبع سنين وأشهر. ونقل عن مسند أحمد بن
حنبل بسنده عن علي (عليه السلام) قوله - الذي نقله ابن شهر آشوب عن سنن ابن ماجة
وتأريخ الطبري - "
أنا عبد الله وأخو رسوله (صلى الله عليه وآله)، وأنا الصديق الأكبر، لا يقولها
بعدي الا كاذب مفتر، ولقد
صليت قبل الناس بسبع سنين " (كشف الغمة 1: 79 - 89.). وروى البحراني خبر ابن
اسحاق عن مجاهد بن جبر في ضم النبي عليا (عليه السلام) وهو صغير، في " حلية
الأبرار " عن الصدوق بسنده عن ابن اسحاق (حلية
الأبرار 1: 232.) وفي موضع آخر عن تفسير الثعلبي (حلية
الأبرار 1: 239.) ثم روى الأخبار المارة عن مسند أحمد بن حنبل، ومناقب ابن شهر
آشوب، والكليني والصدوق. ومن العامة بعدما نقل ابن اسحاق خبر المجاهد بن جبر قال: ذكر بعض أهل العلم:
أن رسول الله كان إذا حضرت الصلاة خرج الى شعاب مكة وخرج معه علي بن أبي طالب
مستخفيا من أبيه ومن جميع أعمامه وسائر قومه، فيصليان الصلوات فيها فإذا أمسيا
رجعا. فمكثا كذلك ما شاء الله أن يمكثا. ثم ان أبا طالب عثر عليهما
يوما وهما يصليان، فقال لرسول الله: يابن أخي، ما هذا الدين الذي أراك تدين به ؟
قال: أي عم، هذا دين الله ودين ملائكته ودين رسله ودين أبينا ابراهيم، بعثني
الله به رسولا الى العباد. وذكروا: أ نه قال لعلي: أي
بني، ما هذا الدين الذي أنت عليه ؟ فقال: يا أبت، آمنت بالله وبرسول الله،
وصدقته بما جاء به، وصليت معه لله واتبعته، فقال له: اما انه لم يدعك الا الى
خير فالزمه (السيرة النبوية ابن هشام 1: 263، 264.). وقال البلاذري: " وصلى مع رسول الله - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - وهو ابن احدى عشرة سنة، وهو الثبت " ثم نقل أقل من ذلك (أنساب
الأشراف 2: 90.). ثم روى بسنده عن زيد بن أرقم قال: أول من صلى مع رسول الله علي بن أبي طالب (أنساب
الأشراف 2: 92، 93.). ونقل المحقق بهامشه عن مسند أبي يعلى بسنده عن حبة العرني عنه أ نه
قال: ما أعلم أحدا من هذه الامة بعد نبيها عبد الله قبلي، لقد عبدته قبل أن
يعبده أحد منهم خمس سنين. أو قال: سبع سنين. وعنه قال: بعث رسول الله يوم
الإثنين وأسلمت يوم الثلاثاء (هامش أنساب الأشراف 2: 92.). أجل، هذه عينة وافية من
أخبار الباب، وهي كما رأيناها خالية عن ذكر القرآن ونزوله والقراءة منه في
صلاتهم ولكن - قال صاحب التمهيد - " لا شك أن النبي (صلى الله عليه وآله)
كان يصلي منذ بعثته، وكان يصلي معه علي (عليه السلام) وجعفر وزيد بن حارثة
وخديجة، " ولا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب "... فلابد أن سورة
الفاتحة كانت مقرونة بالبعثة "
(التمهيد 1: 96.). " وإن كان أول ما نزل من القرآن سورة العلق أو آي منها فلم سميت
سورة الحمد بفاتحة الكتاب ؟
إذ ليس المعنى: أ نها كتبت في بدء المصحف، لأن هذا الترتيب شئ حصل بعد وفاة
النبي (صلى الله عليه وآله) أو لا أقل في عهد متأخر من حياته فرضا، في حين أ نها
كانت تسمى بفاتحة الكتاب منذ بدايات نزولها ". وللإجابة يقول:
" أما الآيات الخمس من سورة العلق فهي أول آيات نزلت، وأما سورة الحمد فهي
أول سورة كاملة نزلت، ولذلك سميت بفاتحة الكتاب، ثم لم ينزل من القرآن تباعا الا
بعد الفترة " (التمهيد 1: 80 - 83.). |
فترة
الوحي:
|
في تفسير القمي عن أبي الجارود عن الباقر (عليه السلام) في قوله
سبحانه: * (ما ودعك ربك وما قلى) * قال: ذلك أن أول سورة نزلت كانت * (اقرأ باسم ربك الذي خلق) * ثم أبطأ جبرئيل عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقالت خديجة: لعل ربك قد تركك فلا يرسل اليك ؟ فأنزل الله تبارك
وتعالى: * (ما ودعك ربك
وما قلى) * (تفسير
القمي 2: 428.). وهذا اللفظ المروي هنا في
هذا الخبر عن خديجة (عليها السلام) أخف وطأة والأمر فيه أيسر مما رواه الطبري
بسنده عن عبد الله بن شداد قال: ثم أبطأ عليه جبرئيل فقالت له خديجة: ما أرى ربك
الا قد قلاك (!) فأنزل الله عزوجل: * (والضحى) * (الطبري 2: 300، والتفسير 30: 162.) وقد
خلا عنه ما رواه ابن اسحاق والطبري عنه عن عبد الله بن الحسن عن امه فاطمة بنت
الحسين عن جدتها خديجة في بدء نبوة الرسول (سيرة ابن
هشام 1: 255، والطبري عنه 2: 303.) بل
كأن ابن اسحاق أراد أن يبرئ خديجة عن نسبة تلك المقولة إليها فبدأ برواية خبر عن
عبد الله بن جعفر عن رسول الله قال: امرت أن ابشر خديجة ببيت
من قصب (أي ذهب) لا صخب فيه ولا نصب. وقال: حدثني من أثق به: أن جبرئيل (عليه السلام)
أتى رسول الله فقال: أقرئ خديجة السلام من ربها. فقال رسول الله: يا خديجة، هذا
جبرئيل يقرئك السلام من ربك. فقالت خديجة: الله السلام ومنه السلام وعلى جبرئيل
السلام. ثم قال ابن اسحاق: ثم فتر الوحي عن رسول الله
فترة من ذلك حتى شق ذلك عليه فأحزنه، فجاءه جبرئيل بسورة الضحى: يقسم له ربه - وهو الذي أكرمه بما أكرمه به - أ نه ما ودعه وما قلاه، ويقول: ما صرمك فتركك وما أبغضك منذ أحبك،
وما عندي من مرجعك الي خير لك مما عجلت لك من الكرامة في الدنيا * (ولسوف يعطيك ربك) * من الفلج (الفلج:
الفوز والغلبة.) في
الدنيا والثواب في الآخرة *
(فترضى) * ثم يعرفه الله ما
ابتدأه به من كرامة في عاجل أمره ومنه عليه في يتمه وعيلته وضلالته، واستنقاذه
من ذلك كله برحمته * (وأما
بنعمة ربك) * بما
جاءك من الله من نعمته وكرامته من النبوة فاذكرها وادع إليها. فجعل رسول الله - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - يذكر ما أنعم الله به عليه وعلى العباد به من النبوة سرا الى من
يطمئن إليه من أهله (سيرة ابن هشام 1: 257 - 259.). ولو كان كذلك فلا ينسجم
هذا مع ما رواه الطبرسي عن ابن عباس قال: احتبس الوحي عنه (صلى الله عليه وآله) خمسة عشر يوما، فقال المشركون: ان محمدا قد ودعه ربه وقلاه، ولو
كان أمره من الله لتتابع الوحي عليه، فنزلت السورة (مجمع
البيان 10: 764.). وهذا لا ينسجم مع ما روى الطبري عن ابن عباس أيضا في سنوات
البعثة إذ قال: بعث
رسول الله لأربعين سنة، فمكث بمكة ثلاث عشرة سنة (الطبري
2: 292 بطريقين.) فهل عنى بذلك أ نه (صلى الله عليه وآله) قرأ القرآن على المشركين
معلنا لهم الدعوة منذ بدء البعثة حتى إذا احتبس عنه الوحي خمسة عشر يوما قالوا
فيه ذلك ؟ وروى الطبري عن ابن شهاب عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو يحدث عن فترة الوحي: بينا
أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء فرفعت رأسي، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس
على كرسي بين السماء والأرض. قال رسول الله - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم -: فجئثت منه فرقا (جئثت: خفت وفزعت، وفرقا. خوفا وفزعا.) وجئت
فقلت: زملوني، زملوني ! فدثروني فأنزل الله عزوجل: * (يا أيها المدثر قم فأنذر
وربك فكبر) * (المدثر:
1 - 3.) الى قوله: * (والرجز فاهجر) * قال: ثم تتابع الوحي (الخبر في
التفسير 29: 90 ط بولاق وفي التأريخ 3: 306 ط دار المعارف. ونقله الطوسي في
التبيان 10: 171.). وحسب تعبير الخبر
فان جابرا يصف حديث رسول الله أ نه كان يحدث عن فترة الوحي، والفترة من الفتور،
وهو لا يكون في الوحي الا بين وحيين، فلا يكون الا بعد بدء الوحي، وفي نفس الخبر
نص بالإشارة الى سبق نزول ملك الوحي إليه في حراء: " فإذا الملك الذي جاءني
بحراء جالس على كرسي " وفي آخر الخبر: " ثم تتابع الوحي " في
مقابل " فتر الوحي ". فالخبر اذن لا يدل على أن الآيات من سورة المدثر هي أول ما نزل
عليه (كما في الميزان 20: 83.) وإن
نقل ذلك عن جابر نفسه، كما في ما روى الطبري عن ابن شهاب عن ابن سلمة قال: سألت جابر بن عبد الله: أي القرآن انزل أول ؟ فقال: * (يا أيها المدثر) * فقلت: *
(إقرأ باسم ربك الذي خلق) *
فقال: لا اخبرك الا ما حدثنا النبي قال: جاورت في حراء فلما قضيت جواري هبطت
فاستبطنت الوادي فنوديت فنظرت عن يميني وعن شمالي وخلفي وقدامي فلم أر شيئا،
فنظرت فوق رأسي فإذا هو جالس على عرش بين السماء والأرض... ". وفي لفظ آخر:
" فنظرت عن يميني فلم أر شيئا، وعن شمالي فلم أر شيئا، ونظرت امامي فلم أر
شيئا، ونظرت خلفي فلم أر شيئا، فرفعت رأسي فرأيت شيئا... ". نعم ليس في هذين اللفظين
من الخبر ما مر في اللفظ الأسبق " فإذا الملك الذي جاءني بحراء "
وأيضا ليس فيهما ما كان في الأسبق أ نه (صلى الله عليه وآله) كان يحدث عن فترة الوحي، مع أن الراوي هو أبو سلمة بن عبد الرحمن
نفسه، وهذا غريب ! والراوي
عنه هو الزهري، ولكنه
لم يفهم من الخبر ما ادعاه أبو سلمة بل ونسبه الى جابر في اللفظين المتأخرين من
الخبر دون الأول، ولذلك فإن الزهري فيما رواه عنه الطبري في حديثه عن فترة الوحي
روى اللفظ الأول للخبر ثم
قال: وكان أول شئ أنزل عليه * (إقرأ باسم ربك الذي خلق) * حتى بلغ *
(ما لم يعلم) * (الخبر في
التفسير 29: 90 ط بولاق وفي التأريخ 3: 304 - 306. وفي البخاري 1: 4 وفي صحيح
مسلم 1: 98، 99.) فقد عول على الخبر بلفظه الأول لا الأخيرين، كما فعل البخاري
فرواه دونهما، وان كان مسلم قد رواهما معا. فالمعول على اللفظ الأول
للخبر دون الآخرين، حيث
أقر راوي الخبر أبو سلمة بنقله عن جابر من دون القول بأن أول ما نزل سورة
المدثر، وان كان قد أضاف ذلك إليه في اللفظين الأخيرين (فالعهدة) فيهما على
الراوي دون جابر، فليس من باب الظن والاجتهاد من جابر، كما في " التمهيد
" (التمهيد 1: 94.) وعلى هذا فليس القول بإن أول ما نزل هو سورة المدثر من جابر، بل
هو من نسبة أبي سلمة الى جابر، دون ثبات على هذه النسبة فقد روى هو عنه خلافها
أيضا. نعم لا يمكن تأييد ما في الخبر عنه (صلى الله عليه وآله) أ نه قال:
" فجئثت منه فرقا " أي خفت منه خوفا أو فزعت منه فزعا، لأ نه بظاهره
يتنافى مع ما رواه العياشي في تفسيره عن زرارة قال: قلت لأبي عبد الله (عليه
السلام): كيف لم يخف رسول الله فيما يأتيه من قبل الله أن يكون ذلك مما ينزغ به
الشيطان ؟ فقال (عليه السلام): " إن الله إذا اتخذ عبدا رسولا أنزل عليه
السكينة والوقار، فكان يأتيه من قبل الله عزوجل مثل الذي يراه بعينه " (تفسير العياشي - وعنه في البحار 18: 262.). وروى الصدوق في " التوحيد " بسنده عن محمد بن مسلم
ومحمد بن مروان عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال: " ما علم رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن جبرئيل (عليه
السلام) من قبل الله الا بالتوفيق " (التوحيد:
242 وعنه في البحار 18: 256.). إذن فالتوفيق الإلهي بالوقار والسكينة المنزلة على رسول لا يتركه
ليفزع خوفا من النظر الى ملك الوحي جبرئيل حتى ولو كان بصورته الأصلية إن صح
التعبير. أما اليعقوبي فقد
قال في نزول سورة المدثر: وبعث رسول الله لما استكمل أربعين سنة... وعلى جبرئيل
جبة سندس، وأخرج له درنوكا من درانيك الجنة، فأجلسه عليه، وأعلمه أ نه رسول الله
وبلغه عن الله وعلمه: *
(إقرأ باسم ربك الذي خلق) *
وأتاه من غد وهو متدثر فقال: *
(يا أيها المدثر قم فأنذر) * (تأريخ اليعقوبي 2: 23.). |
هل
نزل القرآن في دور الكتمان ؟
|
ومما يؤيد عدم نزول القرآن في دور الكتمان أننا لا نجد من آيات
القرآن، مما لا خلاف في نزوله قبل سورة الحجر التي في أواخرها قوله سبحانه: * (فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين) * (الحجر: 94.) وهي السورة الرابعة والخمسون في ترتيب النزول، وقبلها في النزول
سورة الشعراء وهي السابعة والأربعون التي في أواخرها قوله سبحانه: * (وأنذر عشيرتك الأقربين) * (الشعراء: 214.) لا نجد في كل ذلك ما يتناسب مع مرحلة الكتمان، بل من خصائص السور
المكية - ومنها هذه
السور - خطابها المشركين
وجدالها معهم في شركهم وكفرهم وجحودهم للمبدأ والمعاد، مما لا يتناسب بظاهره مع
الكتمان بل الإعلان. فسور النمل والقصص والإسراء ويونس وهود ويوسف وحتى الحجر،
وهي السور النازلة بعد الشعراء وقبل الحجر، هي سور تساور المشركين وتحاورهم في
كثير من آياتها، وسورة الحجر بالخصوص تقول في بدايتها: * (ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين ذرهم يأكلوا ويتمتعوا
ويلههم الأمل فسوف يعلمون وما أهلكنا من قرية الا ولها كتاب معلوم ما تسبق من
امة أجلها وما يستأخرون وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر انك لمجنون لو ما
تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين) * (الحجر: 2 - 7.) فهل هي من الكتمان في شئ ؟ ! بل قال العلامة الطباطبائي في تفسيره في التعريف بسورة الحجر: " تشتمل السورة على الكلام حول استهزاء الكفار بالنبي (صلى
الله عليه وآله) ورميه بالجنون، ورمي القرآن الكريم بأ نه من أهذار الشياطين.
ففيها تعزية للنبي (صلى الله عليه وآله) وأمر بالصبر والثبات والصفح عنهم وتطييب
لنفسه الشريفة وانذار وتبشير. وتشتمل السورة على قوله تعالى: *
(فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين) * والآية تقبل الانطباق على ما ضبطه التأريخ أن النبي (صلى الله عليه وآله) اكتتم في أول البعثة - ثلاث سنين أو أربعا أو خمسا - لا يعلن دعوته، لا شتداد الأمر عليه، فكان لا يدعو الا آحادا ممن
يرجو منهم الإيمان، يدعوهم خفية ويسر إليهم الدعوة، حتى أذن له ربه في ذلك وأمره
أن يعلن دعوته. وتؤيده الروايات المأثورة من طرق الشيعة وأهل السنة: أ نه (صلى
الله عليه وآله) كان
يكتتم في أول بعثته سنين لا يظهر فيها دعوته لعامة الناس حتى أنزل الله عليه: * (فاصدع بما تؤمر واعرض عن المشركين انا كفيناك المستهزئين) * فخرج الى الناس وأظهر الدعوة. فالسورة مكية نازلة في أول الدعوة
العلنية " (الميزان 12: 95، 96.). ثم لم يبين أ نه (صلى
الله عليه وآله) إذا
كان - كما قال - لا يدعو الا آحادا خفية وسرا ممن يرجو منهم الإيمان، فأين كان
المستهزئون وبماذا كانوا يستهزئون ؟ وكيف كان استهزاؤهم حتى ان الرسول (صلى الله عليه وآله) دعا عليهم فكفاه الله شرهم وشر استهزائهم ؟ وإذا كان آخر هذه
السورة بداية الإذن بالإعلان فما معنى أن تكون السورة لتعزية الرسول وصبره ؟ ! ولا يختص هذا الإشكال بالعلامة الطباطبائي، فقد درج الجميع على هذا القول بلا بيان لهذا الإجمال. ولعله التفاتا الى هذا الإشكال ودفعا له قال السيد المرتضى في
" الصحيح ": بعد
أن أنذر عشيرته الأقربين انتشر أمر نبوته في مكة، وبدأت قريش تتعرض لشخصه (صلى
الله عليه وآله) بالاستهزاء والسخرية وأنواع التهم (الصحيح
2: 26.). ومن
قبله السيد الحسني فقال في " سيرة المصطفى ": لقد تحدث - بعد دعوته (صلى الله عليه وآله) عشيرته الأقربين - جميع الناس في مكة عن دعوته، وتسربت أنباؤها
لخارج مكة ولم يعد أمرها خافيا على أحد من سكان مكة وجوارها بعد أن أعلنها
بصراحة على بني عمومته وعشيرته (سيرة
المصطفى: 133.). ومعنى ذلك أن الأمر
اختلف بعد دعوة العشيرة عما قبلها فإنما تسربت الدعوة بعد ذلك أما ما قبلها فالسر والكتمان. ولكننا
لا نجد فيما اوحي قبل ذلك ما يختلف عما بعده بل نجد الأمر نفسه قبله. فنجد بداية سورة الشعراء تقول: *
(لعلك باخع نفسك أن لا يكونوا مؤمنين إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت
أعناقهم لها خاضعين وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث الا كانوا عنه معرضين فقد
كذبوا فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزؤن) * (الشعراء: 3 - 6.). وتقول في أواخرها:
* (نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين وإنه لفي
زبر الأولين أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل ولو نزلناه على بعض
الأعجمين فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين كذلك سلكناه في قلوب المجرمين لا
يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم فيأتيهم بغتة وهم لا يشعرون فيقولوا هل نحن
منظرون أفبعذابنا يستعجلون أفرأيت ان متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ما
أغنى عنهم ما كانوا يمتعون وما أهلكنا من قرية الا لها منذرون ذكرى وما كنا
ظالمين وما تنزلت به الشياطين وما ينبغي لهم وما يستطيعون إنهم عن السمع
لمعزولون فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين وأنذر عشيرتك الأقربين
واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين) * (الشعراء: 193 - 215.). فماذا يعني كل هذا الخطاب والعتاب بل التهديد بالعذاب والاعذار
بالانذار ؟ وهل كل هذا من
الكتمان في شئ ؟ والآية الأخيرة هل تعني أن يخفض جناحه لمن اتبعه من المؤمنين
بالدعوة الخاصة، خاصة ؟ أم مع من يؤمن به من عشيرته الأقربين في هذه الدعوة
الخاصة فحسب ؟ أو يؤخذ باطلاق الآية وعمومها ؟ والعلامة الطباطبائي في تفسيره قال في بيان الغرض من هذه السورة:
" غرض هذه السورة تسلية النبي (صلى الله عليه وآله) قبال ما كذبه قومه وكذبوا بكتابه النازل عليه من ربه. وقد رموه
تارة بأ نه مجنون واخرى بأ نه شاعر، وفيها تهديدهم مشفعا ذلك بإيراد قصص جمع من
الأنبياء وهم: موسى وابراهيم ونوح وهود وصالح ولوط وشعيب (عليهم السلام)،
وما انتهت إليه عاقبة تكذيبهم، لتتسلى به نفس النبي (صلى الله عليه وآله) ولا
يحزن بتكذيب أكثر قومه، وليعتبر المكذبون. والسورة من عتائق السور المكية
وأوائلها نزولا، وقد اشتملت على قوله تعالى: * (وأنذر عشيرتك الأقربين) * " (الميزان
15: 249، 250.). ثم
لم يبين متى كان تكذيب أكثر قومه له ؟ وأين كان المكذبون ؟ وبماذا كانوا يكذبون
؟ وبماذا يعتبرون ؟ وهو
بعد لم يدع عشيرته الأقربين وانما يدعوهم بعد نزول الآية في آخر هذه السورة
نفسها ! فكيف التوفيق ؟ ! والسورة التي تسبق
الشعراء في ترتيب النزول هي سورة الواقعة، وهي في أوائلها تثلث الناس يوم
القيامة: * (وكنتم أزواجا ثلثة فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب
المشئمة ما أصحاب المشئمة والسابقون السابقون اولئك المقربون في جنات النعيم) * ثم تقسم هؤلاء السابقين من أصحاب اليمين الى: * (ثلة من الأولين وقليل من الآخرين) * (الواقعة: 13 - 14.) وتعود فتقول: *
(لأصحاب اليمين ثلة من الأولين وثلة من الآخرين وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال
في سموم وحميم وظل من يحموم لا بارد ولا كريم) * (الواقعة: 38 - 44.) وتتابع النعوت والأوصاف فتقول: * (فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة نعيم وأما ان كان
من أصحاب اليمين فسلام لك من أصحاب اليمين وأما ان كان من المكذبين الضالين فنزل
من حميم وتصلية جحيم) * (الواقعة:
88 - 94.) فما معنى الأولين
والآخرين من السابقين من أصحاب اليمين ؟ فهل كل ذلك فيمن استجاب للدعوة الخاصة
السرية ؟ ومن هم ؟ وكم هم ؟ وما معنى أصحاب الشمال ولم تشملهم الدعوة ؟ وكذلك
سائر السور التي سبقت الواقعة. ولكن في مقابل كل ذلك مما يؤيد
سرية المرحلة الاولى من الدعوة ونزول القرآن فيها: هو - من جانب - التناسب الكمي فيما
بين ما نزل من القرآن الى سورة الحجر مع تلك الفترة، ومن جانب آخر: عدم التناسب أو
على الأقل استبعاد أن تكون دعوة العشيرة الأقربين قد حصلت حسب آية: * (وأنذر عشيرتك
الأقربين) * من
سورة الشعراء السابعة والأربعين في
ترتيب النزول من دون أن تكون المرحلة السابقة سرية مكتومة، أي بعد أن تمر على
الدعوة زهاء ثلاث سنين من الدعوة العلنية العامة، مما لا يتناسب ودعوة العشيرة
خاصة بعد كل هذه المدة الطويلة من الدعوة العامة. |
حديث
الإنذار:
|
اللهم الا أن نلتزم بأن الدعوة كانت بعد مقاطعة قريش للرسول
وحصارهم اياه وبني هاشم في شعب أبي طالب في حدود السنة السادسة للبعثة، على ما
رواه فرات بن ابراهيم الكوفي في تفسيره مسندا عن أبي رافع - مولى العباس بن عبد
المطلب - قال: إن رسول الله جمع ولد عبد المطلب في الشعب، وهم يومئذ - ولده
لصلبه وأولادهم - أربعون رجلا. فصنع لهم رجل شاة وثرد لهم ثريدة فصب عليه ذلك
المرق واللحم، ثم قدموها إليهم فأكلوا منه حتى شبعوا، ثم سقاهم عسا واحدا من لبن
فشربوا كلهم من ذلك العس حتى رووا (العس: القدح الكبير.). فقال أبو لهب: والله إن منا نفرا يأكل أحدهم الجفرة (الجفرة مؤنث الجفر وهو من أولاد المعز ما فصل عن امه وبدأ بالرعي بعد
أربعة أشهر، كما في النهاية للجزري.) وما يصلحها فما تكاد تشبعه، ويشرب الفرق من النبيذ فما يرويه،
وان ابن أبي كبشة (هو رجل
من خزاعة خالف قريشا في عبادة الأوثان، شبهوه به، كما في النهاية للجزري.) دعانا على رجل شاة وعس من شراب فشبعنا وروينا، إن هذا لهو السحر
المبين ! ثم دعاهم، فقال لهم: ان الله أمرني أن انذر عشيرتي الأقربين ورهطي المخلصين، وانكم
عشيرتي الأقربون ورهطي المخلصون، وان الله لم يبعث نبيا الا جعل له أخا من أهله
ووارثا ووصيا ووزيرا، فأيكم فيبايعني على أ نه أخي ووزيري ووارثي دون أهلي،
ووصيي وخليفتي (في أهلي) ويكون مني بمنزلة هارون من موسى غير أ نه لا نبي بعدي ؟
! فأمسك القوم. فقال: والله ليقومن قائمكم أو لتكونن في غيركم ثم لتندمن ! فقام علي (عليه السلام) وهم ينظرون إليه كلهم، فبايعه وأجابه الى ما دعاه إليه (تفسير
فرات: 113 كما في البحار 18: 212.). وقد يؤيد دعوى ابن أبي رافع بأن ذلك الجمع وتلك الدعوة كانت في
الشعب أي بعد الإعلان: أن
أبا لهب يلتهب بمشاهدته المعجزة فيتهم الرسول بالسحر وينبزه بكنية ابن أبي كبشة
مما اعتاد عليه المشركون بالنسبة إليه (صلى الله عليه وآله) فالحالة ليست حالة مفاجأة بعد سر وكتمان وانما تناسب سابق خبر أو
علم أو اعلان. وكذلك يؤيد كون ذلك في الشعب بعد الإعلان: أن الأمر أمر انذار لا إخبار، والتبشير أنسب ببدء الإخبار من
الإنذار، وأن الرسول لم يبدأهم بالدعوة إليه والى رسالته، بل الى بيعته ليكون
خليفته بعده، ثم أنذرهم: ليقومن قائمكم أو لتكون في غيركم ثم لتندمن ! فالحالة
والموقف - كذلك - ليس موقف مفاجأة ومبادأة بعد سر وكتمان، بل تناسب سابق علم
وإعلان. ولعله (صلى
الله عليه وآله) امر
بهذه الدعوة في الشعب تحديا لكبرياء قريش، ولما فيها من يأس للكافرين. والظاهر أن خبر أبي رافع
خبر حاضر ناظر مباشر إذ هو مولى العباس بن عبد المطلب وهو من بني هاشم المدعوين
والمجتمعين، فلعله كان مصطحبا لمولاه هذا، ولا نجد فيما بأيدينا مباشرا غيره سوى
علي (عليه السلام)، ورجل من أصحاب النبي من ولد عبد المطلب، لم يعرف بسوى هذا - روى
عنه الخبر: السيد ابن طاووس
في " سعد السعود " عن الجزء الخامس من تفسير محمد بن العباس الحجام
بسنده عن مبارك بن فضالة والحسن
البصري قالا: إن قوما خاضوا في أمر علي (عليه السلام) بعد الذي كان من وقعة
الجمل، فقال رجل من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله): ويلكم ما تريدون من أول
سابق بالإيمان بالله والإقرار بما جاء من عند الله ؟ لقد كنت عاشر عشرة من ولد
عبد المطلب إذ أتانا علي بن أبي طالب (عليه السلام) فقال: أجيبوا رسول الله الى
غداء غد في منزل أبي طالب. فلما ولى تغامزنا وقلنا: أترى محمدا أن يشبعنا اليوم ؟ وما منا
يومئذ من العشرة رجلا الا وهو يأكل الجذعة (الجذعة: الغنم له سنة تامة - مجمع البحرين.) السمينة ويشرب الفرق (الفرق: بالفتح أو الكسر فالسكون: السقاء الممتلئ، وكيل كبير للبن، من
أكيال المدينة.) من
اللبن. فغدوا عليه في منزل أبي
طالب، وإذا نحن برسول الله، فحييناه بتحية الجاهلية وحيانا هو بتحية الإسلام:
فأول ما أنكرنا منه ذلك. ثم أمر بجفنة من خبز ولحم فقدمت الينا، ووضع يده اليمنى
على ذروتها وقال: بسم الله، كلوا على اسم الله. فتغيرنا لذلك ثم تمسكنا لحاجتنا
الى الطعام، وذلك أننا جوعنا أنفسنا للميعاد بالأمس. فأكلنا حتى أنهينا، والجفنة
كما هي مدفقة ثم دفع الينا عسا من لبن - وكان علي يخدمنا - فشربنا كلنا حتى
روينا والعس على حاله. حتى إذا فرغنا قال:
يا بني عبد المطلب: اني نذير لكم من الله عز وجل، اني أتيتكم بما لم يأت به أحد
من العرب، فإن تطيعوني ترشدوا وتفلحوا وتنجحوا. ان هذه مائدة أمرني الله بها
فصنعتها لكم كما صنع عيسى بن مريم (عليه السلام) لقومه، فمن كفر بعد ذلك منكم
فإن الله يعذبه عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين، واتقوا الله واسمعوا ما أقول
لكم. واعلموا - يا بني
عبد المطلب - أن
الله لم يبعث رسولا الا جعل له أخا ووزيرا ووصيا ووارثا من أهله، وقد جعل لي
وزيرا كما جعل للأنبياء قبلي، وإن الله قد أرسلني الى الناس كافة وأنزل علي: * (وأنذر عشيرتك الأقربين) * وقد والله أنبأني به وسماه لي، ولكن أمرني أن أدعوكم وأنصح لكم
واعرض لكم، لئلا يكون لكم الحجة فيما بعد، وأنتم عشيرتي وخالص رهطي، فأيكم يسبق
إليها على أن يؤاخيني في الله ويؤازرني في الله عز وجل، ومع ذلك يكون لي يدا على
جميع من خالفني فأتخذه وصيا ووليا ووزيرا يؤدي عني ويبلغ رسالتي ويقضي ديني من
بعدي وعداتي مع أشياء أشترطها ؟ ! فسكتوا. فأعادها ثلاث مرات ويسكتون، ويثب فيها
علي (عليه السلام) فلما سمعها أبو لهب قال: تبا لك يا محمد ولما جئتنا به، ألهذا
دعوتنا ؟ ! فقال (صلى الله عليه وآله): أما والله لتقومن أو يكون في غيركم ! فوثب علي (عليه السلام)
فقال: يا رسول الله أنا لها. فقال رسول الله: يا أبا الحسن أنت لها، قضي القضاء وجف القلم، يا
علي اصطفاك الله بأولها وجعلك ولي آخرها (سعد
السعود: 106 ط الحيدرية.). فهذا خبر آخر عن مباشر آخر لم يعرف بأكثر من انه عاشر عشرة من
المدعوين من العشيرة الأقربين بني عبد المطلب، ومن أصحاب رسول الله. ويختلف عن
خبر أبي رافع بإبدال موعد الدعوة من الشعب الى منزل أبي طالب - ولا يهم هذا بعد
أن كان منزل أبي طالب في شعبه لأكثر من عامين - ومن عدد الأربعين الى العشيرة،
وسيأتي الجمع بينهما، وبتفصيل أكثر أيضا. ولكنه يشترك مع خبر أبي رافع في استبعاد أن تكون الدعوة للإعلان
بالنبوة بعد الكتمان. بل
تقريب أن تكون مسبوقة بالإعلان لا الكتمان، فمقال الرسول لا زال لا يناسب ذلك. سوى علي (عليه السلام) وهذين الصحابيين: أبي رافع ورجل من آل عبد المطلب لانجد فيما بأيدينا من رواة الخبر
مباشرا آخر. ولعله لدفع وهم عدم اشتهار القصة قال الشيخ الطبرسي في " مجمع
البيان ": وقد فعل ذلك النبي واشتهرت القصة بذلك عند الخاص والعام. ثم أورد عن الثعلبي في
تفسيره الخبر المأثور عن البراء بن عازب الأنصاري - وهو ثالث صحابي راو للخبر
غير مباشر فيه - قال: لما
نزلت هذه الآية جمع رسول الله بني عبد المطلب - وهم يومئذ أربعون رجلا - الرجل
منهم يأكل المسنة (الجفرة) ويشرب العس. فأمر عليا (عليه السلام) برجل شاة فأدمها
(أدمها: صنع منها أداما أي
طعاما.)، ثم قال: ادنوا
بسم الله، فدنا القوم عشرة عشرة فأكلوا حتى صدروا، ثم دعا بقعب (القعب: إناء من خشب للسوائل.) من لبن فجرع منه جرعة ثم قال لهم: اشربوا بسم الله، فشربوا حتى
رووا. فبدرهم أبو لهب فقال: هذا ما سحركم به الرجل. فسكت يومئذ ولم يتكلم. ثم دعاهم من الغد
على مثل ذلك من الطعام والشراب، ثم أنذرهم رسول الله فقال: يا بني عبد المطلب !
اني أنا النذير اليكم - من الله عزوجل - والبشير، فأسلموا وأطيعوني تهتدوا، ثم
قال: من يؤاخيني ويؤازرني ويكون وليي ووصيي بعدي وخليفتي (في أهلي) يقضي ديني،
فسكت القوم، فأعادها ثلاثا كل ذلك يسكت القوم ويقول علي (عليه السلام): أنا.
فقال المرة الثالثة: أنت. فقام القوم وهم يقولون لأبي طالب: أطع ابنك فقد أمره
عليك ؟ ! (مجمع البيان للطبرسي 7: 322 عن تفسير الثعلبي.). ولا يمتاز الخبر عن الأولين بشئ سوى ما يمكن أن
يجمع به بين عددي المدعوين في الخبرين: العشرة والأربعين، وذلك أن ابن عازب قال: فدنا القوم عشرة عشرة.
وقد قال من قال: وهم يومئذ أربعون رجلا. وسوى الخبر السابق عن
تفسير الحجام لا نجد فيما بأيدينا أي خبر آخر عن أي رجل آخر من بني هاشم بل بني
عبد المطلب من العشيرة الأقربين للنبي (صلى الله عليه وآله) المدعوين بهذه
الدعوة الخاصة، حتى عن العباس عمه الحاضر في تلك الدعوة والمحجم عن الاستجابة
لدعوة الرسول، مما جعله علي (عليه السلام) سببا لوراثته من ابن عمه النبي دون عمه
العباس، إن صح التعبير بالوارثة، وذلك: فيما رواه السيد ابن
طاووس في " سعد السعود " عن تفسير الحجام أيضا عن الحسين بن الحكم
الجري بأسناده ومنها
عن الطبري بسنده عن ربيعة
بن ناجد: أن رجلا قال لعلي (عليه السلام): يا أمير المؤمنين لم ورثت ابن عمك دون عمك ؟ فقال علي (عليه
السلام): هاؤم ! ثلاث مرات حتى أشرأب الناس ونشروا آذانهم ثم قال: دعا رسول
الله، أو جمع بني عبد المطلب، كلهم يأكل الجذعة ويشرب الفرق، فصنع لهم مدا من
طعام فأكلوا حتى شبعوا، وبقي الطعام كما هو كأنه لم يمس ثم دعا بغمر (الغمر: القدح الصغير.) فشربوا حتى رووا وبقي الشراب كأ نه لم يمس ولم يشربوا (التكملة
من الطبري 2: 321.) ثم قال: يا بني عبد المطلب إني بعثت إليكم خاصة، والى الناس عامة،
وقد رأيتم من هذه الآية ما رأيتم، فأيكم يبايعني على أن يكون أخي وصاحبي ووارثي
؟ فلم يقم إليه أحد. فقمت - وكنت أصغر القوم
سنا - فقال: اجلس. ثم قال
(قوله) ثلاث مرات كل ذلك أقوم إليه فيقول لي: اجلس حتى كانت الثالثة، فضرب يده
على يدي. فلذلك ورثت ابن عمي دون عمي (سعد
السعود: 104، 105 ط الحيدرية. واسم الراوي في النسخة المطبوعة: أبي ربيعة بن
ماجد، وفي البحار 18: 214 أبي ربيعة بن ناجد وفي علل الشرائع ربيعة ابن ناجد
وكذلك في الطبري 3: 321 وهو الصحيح.). ورواه الصدوق في "
علل الشرائع " بسنده عن ربيعة بن ناجد (علل
الشرائع: 67 كما في البحار 18: 177.). وكذلك
الطبري في تأريخه (تأريخ
الطبري 2: 321.) ولم
نجد الخبر في كتاب الحبري المطبوع في طبعتين (طبعة
السيد أحمد الحسيني. وطبعة السيد محمد رضا الحسيني الجلالي.). وهذا الخبر كالأخبار السابقة إنما ينسجم مع كون الدعوة في الشعب أو
بعد الإعلان لا مع السر والكتمان، ولا سيما بالنظر الى قوله (صلى الله عليه وآله): " إني بعثت اليكم خاصة، والى الناس عامة ". وهذه الجملة
وان كانت تنسجم مع المبادأة بالدعوة الا أن سائر الجمل في كلام الرسول لا تنسجم
وذلك. والخبر ليس فيه عدد المدعوين، ولكن... روى مختصره فرات بن ابراهيم في تفسيره مسندا عن علي (عليه
السلام) قال: دعاهم
فجمعهم على فخذة شاة وقعب من لبن، وإن فيهم يومئذ ثلاثين رجلا (تفسير
فرات: 111 و 112، كما في البحار 18: 211، 212.). ونقله القمي في تفسيره فقال: نزلت بمكة فجمع رسول الله بني هاشم وهم أربعون رجلا، كل واحد منهم
يأكل الجذعة ويشرب القربة، فاتخذ لهم طعاما يسيرا، وأكلوا حتى شبعوا، فقال رسول
الله: من يكون وصيي ووزيري وخليفتي ؟ فقال لهم أبو لهب: جزما سحركم محمد.
فتفرقوا. فلما كان اليوم الثاني
أمر رسول الله ففعل لهم مثل ذلك، فقال لهم رسول الله: أيكم يكون وصيي ووزيري وخليفتي ؟ فقال أبو
لهب: جزما سحركم محمد. فتفرقوا. فلما كان اليوم الثالث أمر رسول الله ففعل لهم مثل ذلك فقال لهم رسول الله: أيكم يكون
وزيري وينجز عداتي ويقضي ديني ؟ فقام علي (عليه السلام) فقال: أنا يا رسول الله.
فقال رسول الله: أنت هو. وكان أصغرهم سنا وأحمشهم - أي أدقهم - ساقا وأقلهم مالا (تفسير
القمي 2: 124 ط النجف الأشرف.).
وأول ما في هذا الخبر المختص بل المختزل بل المنقول بالمعنى لا
النص هو أ نه عبر عن المدعوين
ببني هاشم لا بني عبد المطلب، ففوت
المطعن على ابن تيمية ومن شاكله ممن طعن في الخبر بأن بني عبد المطلب
لم يبلغوا يومئذ أربعين
رجلا. ولكن الخبر كسوابقه
إنما ينسجم مع كون الدعوة في الشعب أو بعد الإعلان لا مع السر والكتمان، ولا مع
مبادأتهم بالدعوة.
والطريق المسند للخبر عن علي (عليه السلام) غير منحصر بربيعة بن ناجد فالسيد كما رواه عنه في " سعد
السعود " رواه في " الطرف " عن الأعمش (علل
الشرائع: 68 كما في البحار 18: 178.)،
والصدوق الذي رواه عن بن ناجد رواه أيضا بسند الأعمش عن عبد الله ابن الحارث بن
نوفل عن علي (عليه السلام) قال: لما انزلت *
(وأنذر عشيرتك الأقربين) * أي
رهطك المخلصين، دعا رسول الله (صلى
الله عليه وآله) بني
عبد المطلب وهم إذ ذاك أربعون رجلا يزيدون رجلا أو ينقصون رجلا، فقال: أيكم يكون
أخي ووارثي ووزيري ووصيي وخليفتي فيكم بعدي ؟ فعرض عليهم ذلك رجلا رجلا، كلهم
يأبى ذلك حتى أتى علي فقلت: أنا يا رسول الله، فقال: يا بني عبد المطلب هذا أخي
ووارثي ووصيي ووزيري وخليفتي فيكم بعدي. فقام القوم يضحك بعضهم الى بعض ويقولون
لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع وتطيع لهذا الغلام (الطرف: 7
كما في البحار 18: 179.). والخبر كسوابقه إنما ينسجم مع كون الدعوة في الشعب أو بعد الإعلان
لا مع السر والكتمان، ولا مع مبادأتهم بالدعوة، بل فيه تعريض بأبي طالب وكأنه
عرف بالسماع للرسول. والسيد ابن طاووس والشيخ الصدوق قد اختصرا الخبر متنا وسندا،
وأكملهما: الشيخ الطوسي في
أماليه بطريقين عن الأعمش عن عبد الله بن الحارث بن نوفل عن عبد الله بن عباس عن
علي (عليه السلام) قال: لما نزلت هذه الآية * (وأنذر عشيرتك الأقربين) * على رسول الله (صلى الله عليه وآله) دعاني فقال لي: يا علي، إن الله
تعالى أمرني أن انذر عشيرتي الأقربين، فضقت بذلك ذرعا وعرفت أ ني متى اباديهم
بهذا الأمر أرى منهم ما أكره، فصمت على ذلك، فجاءني جبرئيل فقال: يا محمد انك ان
لم تفعل ما امرت به عذبك ربك ! فاصنع لنا يا علي - صاعا من طعام واجعل عليه رجل
شاة، واملأ لنا عسا من لبن. ثم اجمع لي بني عبد المطلب حتى اكلمهم وابلغهم ما
امرت به. ففعلت ما أمرني به ثم
دعوتهم أجمع، وهم يومئذ أربعون رجلا يزيدون رجلا أو ينقصون رجلا، فيهم أعمامه:
أبو طالب وحمزة والعباس وأبو لهب... فلما اجتمعوا له دعاني بالطعام الذي صنعت
لهم، فجئت به، فلما وضعته تناول رسول الله جذمة (الجذمة: القطعة، وفي الطبري: حذية من اللحم: ما قطع طولا.) من اللحم فنتفها بأسنانه ثم ألقاها في نواحي الصفحة ثم قال: خذوا
بسم الله. فأكل القوم حتى صدروا مالهم بشئ من الطعام حاجة، وما أرى الا مواضع
أيديهم. وأيم الله الذي نفس علي بيده ان كان الرجل الواحد منهم ليأكل ما قدمت
لجميعهم. ثم جئتهم بذلك العس فشربوا حتى رووا جميعا، وأيم الله ان كان الرجل
الواحد منهم ليشرب مثله. فلما أراد رسول الله أن يكلمهم بدره أبو لهب الى الكلام
فقال: لشد ما سحركم صاحبكم ! فتفرق القوم ولم يكلمهم رسول الله. فقال لي من الغد:
يا علي، ان هذا الرجل قد سبقني الى ما سمعت من القول فتفرق القوم قبل أن اكلمهم.
فعد لنا من الطعام بمثل ما صنعت ثم اجمعهم لي. ففعلت ثم جمعتهم فدعاني بالطعام
فقربته لهم، ففعل كما فعل بالأمس، وأكلوا حتى مالهم به من حاجة، ثم قال: اسقهم،
فجئتهم بذلك العس فشربوا حتى رووا منه جميعا. ثم تكلم رسول الله فقال: يا بني عبد المطلب اني - والله - ما أعلم شابا في العرب جاء قومه
بأفضل مما جئتكم به، اني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله عزوجل أن
أدعوكم إليه، فأيكم يؤمن بي ويؤازرني على أمري فيكون أخي ووصيي ووزيري وخليفتي
(في أهلي) من بعدي ؟ فأمسك القوم وأحجموا عنها
جميعا. فقمت... فقلت: أنا - يا نبي الله - أكون وزيرك على ما بعثك الله
به. فأخذ بيدي - واني لأحدثهم سنا وأرمصهم عينا وأعظمهم بطنا وأحمشهم ساقا - ثم
قال: ان هذا أخي ووصيي ووزيري وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا... فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع
(امالي الطوسي: 20، 21 كما في البحار 18: 191، 192 وروى مثله فرات بن
ابراهيم في تفسيره: 108، 109.). وانما كنى (عليه السلام)
بدقة الساق وعظم البطن ورمص العين أي وسخه عن صغر سنه ويختلف هذا اللفظ من الخبر
عن سوابقه بالنص على المبادأة بأمره معهم بهذه الدعوة. وان كان ينقص عن خبر
تفسير الحجام بعدم " انذار " فيه، كسوابقه. ورواية الخبر عن عبد
الله بن عباس نوع اعتراف بعدم اسلام أبيه العباس يومذاك بهذه الدعوة الخاصة المكررة ثلاثا، بينما فيه - ما كان في
الخبر السابق - من التعريض بأبي طالب وكأ نه قد عرف فيهم بالسمع والطاعة للرسول،
كما فيه - وكما في سوابقه - معرفة أبي لهب السابقة عن النبي بما وصفه بالسحر،
فكأ نه أمر قد عرف من قبل، وان كان نص الخبر بالمباد أة. وأحد الطريقين اللذين روى بهما الطوسي الخبر هو طريق الطبري
الى ابن عباس (وطريق
الطبري هكذا: حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة قال: حدثني محمد بن اسحاق (صاحب
المغازي) عن عبد الغفار بن القاسم، عن المنهال بن عمرو، عن عبد الله بن الحارث
بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، عن عبد الله بن عباس، عن علي بن أبي طالب
قال... ولكن الخبر لا يوجد في سيرة ابن هشام بصفته تهذيبا (!) لسيرة ابن اسحاق.
ولكن نقل نص ابن اسحاق القاضي النعمان المصري في كتابه: شرح الأخبار 1: 106، 107
لا بلفظ المتكلم عن علي (عليه السلام) بل بلفظ حكاية الغائب وقول أبي لهب فيه
هكذا: لو لم تستدلوا على سحر صاحبكم الا بما رأيتموه صنع في هذا الطعام واللبن
لكفاكم. وهذا يدل على سابق معرفتهم باتهام النبي بالسحر. وقول الرسول فيه "
وخليفتي فيكم " وليس خليفتي في أهلي.) في تأريخه وتفسيره (تأريخ
الطبري 3: 319 - 321 وتفسيره 19: 74، 75 ط بولاق ولكنه في تفسيره حذف جملة
" خليفتي فيكم " واستبدلها بجملة " كذا وكذا " في الموضعين
فقال في الموضع الأول: " فأيكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي وكذا
وكذا " ! وفي الموضع الثاني: " ان هذا أخي وكذا وكذا " ! أما ابن
كثير الشامي فكأ نه استكثر هذه الجملة على علي (عليه السلام) فمع اعتماده في
تأريخه على تأريخ الطبري مع ذلك لم يعتمد عليه هنا بل عول على تفسيره كما فعل
ذلك في تفسيره 3: 315 والبداية والنهاية 3: 40 والسيرة النبوية له 1: 459. وجاء في " فلسفة التوحيد والولاية " للمرحوم الشيخ محمد
جواد مغنية ما معناه: أن من القدماء الذين رووا نص النبي على علي بالخلافة عندما
دعا عشيرته وبلغهم رسالة ربه كل من: ابن حنبل في مسنده وابن الأثير في كامله.
ومن المتأخرين: محمد عبد الله عنان في " تأريخ الجمعيات " ومحمد حسين
هيكل في الطبعة الاولى من " حياة محمد " ولكنه في الطبعة الثانية فما
بعد في مقابل " خمسمائة جنيه " ! أخذها من " جماعة " حرف
منه جملة " خليفتي من بعدي " الى " خليفتي في أهلي " وبهذا
قد مسخ الحديث المذكور. انظر: فلسفة التوحيد والولاية: 179 و 132. وجاء في التعليقة على "
أعيان الشيعة " أن الدكتور هيكل في مقابل شراء الف نسخة من كتابه قد حرف
الحديث ومسخه في الطبعة الثانية منه واقتصر على جملة: أيكم يؤازرني على هذا
الأمر. هذا ما حكاه السيد الحسني في " سيرة المصطفى: 13، 131 ".
والصحيح ما في " الصحيح ": أن هيكل بعد أن ذكر في الطبعة الاولى من
حياة محمد: 104 نص الطبري في التأريخ: عاد في الطبعة الثانية 1354 ه صفحة: 139
فحذف " خليفتي فيكم " واقتصر على قوله: " ويكون أخي ووصيي "
أما الخمسمائة جنيه فإنها كانت ثمن الف نسخة من كتابه كل نسخة بنصف جنيه. فلا
منافاة ولا خلاف، ولكنه الاعتساف وخلاف الشرع والإنصاف.) واللفظ في الموضعين " وخليفتي فيكم " لا " خليفتي
في أهلي " والواسطة بين الطوسي والطبري: جماعة عن أبي المفضل عن الطبري،
فمن أضاف أو حرف ؟ ليت شعري ! وقد مر عن
الطبرسي أ نه روى الخبر في
تفسيره " مجمع البيان " عن تفسير الثعلبي عن البراء بن عازب. ورواه في
" إعلام الورى "
عن تفسيري الثعلبي النيسابوري وأبي سعيد الخرگوشي، بعنوان: مما ذكره الرواة، من
دون تعيين راو خاص قال: جمع بني عبد المطلب في دار
أبي طالب وهم أربعون رجلا يومئذ يزيدون رجلا أو ينقصون رجلا، وكان قد صنع لهم
فخذ شاة مع مد من البر وأعد لهم صاعا من اللبن، وقد كان الرجل منهم يأكل الجذعة
في مقام واحد ويشرب القربة من الشراب. ثم أمر بتقديمه لهم، فقدم وأكلت الجماعة
من ذلك اليسير حتى علوا منه، ولم يبين فيه ما أكلوه وما شربوه منه. ثم قال لهم بعد أن شبعوا ورووا: يا بني عبد المطلب ان الله قد بعثني الى الخلق كافة، وبعثني اليكم
خاصة فقال: * (وأنذر عشيرتك
الأقربين) * وأنا أدعوكم الى
كلمتين خفيفتين في الميزان تملكون بها العرب والعجم وتنقاد لكم بهما الامم
وتدخلون بهما الجنة وتنجون بهما من النار: شهادة أن لا اله الا الله وأ ني رسول
الله. فمن يجيبني الى هذا الأمر ويؤازرني على القيام به حتى يكون أخي ووصيي
ووزيري ووارثي وخليفتي من بعدي ؟ ! فلم يجب أحد منهم. فقام علي (عليه السلام) وقال:
أنا يا رسول الله اؤازرك على هذا الأمر، فقال: اجلس فأنت أخي ووصيي ووارثي
وخليفتي من بعدي، فنهض القوم وهم يقولون لأبي طالب: يهنك اليوم أن دخلت في دين
ابن أخيك وقد جعل ابنك أميرا عليك (اعلام
الورى: 162، 163.). ولم يذكر الطبرسي لهذه الرواية اسم راو خاص، وقد يكون نقلا بالمعنى دون لفظ خاص، ومهما كان فإن هذا اللفظ
ينسجم مع المبادأة بالدعوة، ويشترك مع سوابقه في عدم الإنذار فيه اللهم الا
مفهوم قوله: " وتنجون بهما من النار " بلا بيان النار أي نار هي ؟
وأيضا في أخره ما يشعر باستشعار القوم الميل الى دينه من أبي طالب (رضي الله
عنه) فنهوه عن ذلك. أما ابن شهر آشوب في " المناقب " فقد أشار الى ما ذكره الطبري في تأريخه وقبله محمد بن اسحاق في
كتابه وأحمد في مسنده وفضائل الصحابة والخرگوشي في تفسيره عن أبي رافع والبراء
بن عازب وابن عباس وربيعة ابن ناجد وأضاف ابن جبير، وأدخل أخبارهم بعضها في بعض
ثم نقل نظم الخبر في شعر دعبل الخزاعي وستة مقاطع من شعر الحميري ومقطعين من
العوني (المناقب 1: 24 - 26. وذكر مختصر الخبر الاربلي في " كشف الغمة
1: 327 - 328 عن ابن البطريق في " العمدة " وقال: " سبق ذكره
أبسط من هذا ". ولكني لم أجده فيه قبل هذا.). هذا ما ذكره بعنوان
" مسابقته في البيعة " في فضائل علي (عليه السلام)، ولكنه قبل ذلك في مبعث النبي قال:
روى أ نه لما نزل قوله: * (وأنذر عشيرتك الأقربين) * صعد رسول الله ذات يوم
الصفا فقال: يا صباحاه ! فاجتمعت إليه قريش فقالوا: مالك ؟ قال: أرايتكم ان
أخبرتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم ما كنتم تصدقونني ؟ قالوا: بلى. قال: فإني
نذير لكم بين يدي عذاب شديد ! فقال أبو لهب: تبا لك ألهذا دعوتنا ! فنزلت سورة
تبت (المناقب 1: 46.)
واكتفى المجلسي في باب المبعث (البحار
18: 197.) من " المناقب " بهذا الفصل وهذا النقل فقط، فبدا وكأن
هذا كل ما يرويه ابن شهر اشوب في هذه الآية. بينما الخبر مرسل، أول ما
فيه أ نه ليس انذرا للأقربين بل لقريش فهو على خلاف لفظ الآية. ولعله لهذا قدم الطبري في تأريخه حول الآية رواية ابن عباس ثم ابن
ناجد السابقين، وقد نقل الأول عن ابن اسحاق، ثم عاد فنقل عنه - وجعله ثالثا وآخر
ما نقل حول الآية - عن الحسن البصري قال: لما نزلت هذه الآية على رسول الله: *
(وأنذر عشيرتك الأقربين) * قام رسول الله بالأبطح ثم قال: يا بني عبد المطلب، يا
بني عبد مناف، يا بني قصي، ثم فخذ قريشا قبيلة قبيلة حتى مر على آخرهم فقال: إني
أدعوكم الى الله وانذركم عذابه (الطبري
3: 322 والخبر في التفسير 19: 75 ط بولاق.). ولكن الطبري - كالمازندراني - لم يذكر ما في مثل هذا النقل من ضعف
الإرسال في السند ومن الإشكال في متنه ودلالته، وكأ
نهما لم يريا بين معنى الآية وما نقلاه من عمل الرسول بها أي تناف أو خلاف. والظاهر أن ما أرسله ابن
شهر آشوب هو ما في " الدر المنثور " عن البخاري وابن جرير وابن المنذر
وابن مردويه وابن أبي حاتم وسعيد بن منصور عن ابن عباس. وعلى هذا فتكون الرواية عن ابن عباس على صورتين: الاولى عنه عن علي (عليه السلام) في يوم الدار والدعوة، والثانية هذه
الموقوفة عليه من دون اسناد عن أبيه العباس أو علي (عليه السلام)، فالاولى هي الأولى بالقبول سندا وموافقة للكتاب، والثانية مقطوعة مخالفة لظاهر الآية: " الأقربين " فهي هراء. وأظهر منها هراء
ما في " الدر المنثور " أيضا عن أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وابن
جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في " شعب الإيمان
" وفي " الدلائل " عن أبي هريرة قال: لما نزلت هذه الآية *
(وأنذر عشيرتك الأقربين) * دعا رسول الله قريشا وعم وخص فقال: يا معشر قريش
أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم ضرا ولا نفعا. يا معشر بني كعب بن
لؤي... يا معشر بني قصي... يا معشر بني عبد مناف... يا بني عبد المطلب... - في
كلها يقول: أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم ضرا ولانفعا - وفي آخر
الخبر: يا فاطمة بنت محمد انقذي نفسك من النار فإني لا أملك لك ضرا ولا نفعا،
الا أن لكم رحما وسابلها ببلالها ! فهذه الرواية أبعد ما تكون من الآية حيث تقول: إنه (صلى الله عليه وآله) جعل يدعو قريشا قبيلة قبيلة، فكأن أبا
هريرة يعمم الإنذار قريشا عامة، بينما الآية تصرح بالعشيرة الأقربين، وهم إما
بنو عبد المطلب أو بنو هاشم. وكأن أبا هريرة - أو من أجرى هذا الهراء على لسانه
- كان ناظرا الى هذا الإشكال بالخلاف بين عمل الرسول بالتعميم ومفاد الآية
بالتخصيص، فقال: " وعم وخص " وهو لا يرفع الإشكال. ثم كيف دعاهم
فجمعهم فأنذرهم بهذا ؟ وكيف جمع معهم ابنته فاطمة وكم كان عمرها يومئذ ؟ واين
كان أبو هريرة يوم نزول الآية وقد أسلم قبل وفاة النبي ببضع سنين والخبر مقطوع
عليه. فهو مردود. وأبعد من
ذلك في الابتعاد بمفاد
الآية عن الإمام علي (عليه السلام) وفضله وسبقه ما في " الدر المنثور
" أيضا عن الطبراني وابن مردويه عن أبي امامة قال: لما نزلت * (وأنذر عشيرتك الأقربين) * جمع رسول الله بني هاشم فأجلسهم على الباب، وجمع نساءه وأهله
فأجلسهم في البيت، ثم اطلع عليهم فقال: يا بني هاشم اشتروا أنفسكم من النار،
واسعوا في فكاك رقابكم وافتكوها بأنفسكم من الله فإني لا أملك لكم من الله شيئا.
ثم أقبل على أهل بيته فقال: يا عائشة بنت أبي بكر ويا حفصة بنت عمر ويا ام سلمة
ويا فاطمة بنت محمد، ويا ام الزبير عمة رسول الله، اشتروا (كذا) أنفسكم من الله
واسعوا في فكاك رقابكم فإني لا أملك لكم من الله شيئا ولا اغني ! نقل كل ذلك العلامة الطباطبائي في تفسيره " الميزان " وعلق
على هذه الرواية الثالثة فقال:
فقوله تعالى: *
(وأنذر عشيرتك الأقربين) * آية
مكية في سورة مكية، ولم يقل أحد بنزول الآية بالمدينة، فأين كانت يوم نزولها
عائشة وحفصة وام سلمة ولم يتزوج النبي (صلى الله عليه وآله) بهن الا في المدينة
؟ ثم قال: فالمعتمد من الروايات ما يدل على أ نه (صلى الله عليه وآله) خص
بالإنذار يوم نزول الآية بني هاشم أو بني عبد المطلب. ثم يقول: ومن عجيب الكلام
قول الآلوسي بعد نقل الروايات: وإذا صح الكل (بنقل الصحاح) فطريق الجمع أن يقال
بتعدد الانذار ! (الميزان 15: 333 - 335.). ومن نافلة القول أن نقول: لا يرد عندنا أي احتمال في افتعال هذه الأقوال حول هذه الآية، سوى
الابتعاد بمفادها حسب الخبر الصحيح عما في ذلك من الدليل على سبق علي (عليه
السلام) في الإيمان وسبق قول الرسول له: " أنت أخي ووصيي ووارثي وخليفتي من
بعدي ". ولكن لاحافظة لكذوب: ومهما تكن عند امرئ من
خليقة * وان خالها تخفى على الناس تعلم نعم من الرواة من لم
يكن يفكر في شئ سوى الفخر بأسلافه، فلم يأبه بذكر شئ سوى ذلك. نجد مثال ذلك في هذا الموضوع عند اليعقوبي حيث روى الخبر عن
الفضل بن عبد الرحمن الهاشمي من ولد ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب. قال: أمره
الله عزوجل أن ينذر عشيرته الأقربين، فوقف على " المروة " ثم نادى
بأعلى صوته: يا آل فهر، فاجتمعت إليه بطون قريش حتى لم يبق أحد منهم، فقال له أبو لهب:
هذه فهر، فنادى: يا آل غالب فانصرف غيرهم (وهكذا... حتى نادى) يا آل هاشم فأقام
بنو عبد المطلب، فقال أبو
لهب: هذه هاشم قد اجتمعت.
فجمعهم في دار الحارث بن عبد المطلب (!) وكانوا أربعين رجلا يزيدون رجلا أو
ينقصونه. فصنع لهم طعاما فأكلوا عشرة عشرة حتى شبعوا، وكان جميع طعامهم رجل شاة
وشرابهم عسا من لبن، وان منهم من يأكل الجذعة ويشرب الفرق. ثم أنذرهم وأعلمهم
تفضيل الله اياهم واختصاصه لهم إذ بعثه بينهم وأمره أن ينذرهم (!) فقال أبو لهب: خذوا
على يد صاحبكم قبل أن يأخذ على يده غيركم، فإن منعتموه (أي حاميتموه) قتلتم، وان
تركتموه ذللتم ! فقال أبو طالب:
يا عورة، والله لننصرنه ثم لنعيننه. يابن أخي إذا أردت أن تدعو الى ربك فأعلمنا
حتى نخرج معك بالسلاح. وأسلم يومئذ جعفر بن أبي
طالب، وعتبة بن الحارث (اليعقوبي 2: 27.). أما علي فلا كلام عنه !
وأما هذه الدعوة بهذه الكيفية فقد انفرد بها اليعقوبي، وهي عجيبة غريبة، بعيدة
عن الحكمة والمعقول، فهي مردودة. ولا يفوتني في الخاتمة أن الفت نظر القراء الكرام الى أن ما عدا هذا الخبر الأخير من
أخبار الإنذار في يوم الدار للأقربين من العشيرة، تكاد تجمع على
أن المعد للطعام وطابخه لهم هو
علي (عليه السلام) دون سواه لا خديجة ولا جواريها ولا فاطمة بنت أسد... قد يكون في ذلك سر إلهي... وقد يكون ذلك مما يؤيد كون الدعوة أيام
المحاصرة في شعب أبي طالب (رضي الله عنه). |
الفصل
الرابع إعلان الدعوة
|
مرحلة
الدعوة العلنية العامة:
|
روى الصدوق في " إكمال الدين " بإسناده عن عبد الله بن
علي الحلبي عن الصادق (عليه السلام) قال: مكث
رسول الله (صلى الله عليه
وآله) بمكة بعد ما جاءه الوحي
عن الله تبارك وتعالى ثلاث عشرة سنة، مستخفيا منها ثلاث سنين، خائفا لا يظهر حتى
أمر الله عزوجل أن يصدع بما امر، فأظهر حينئذ الدعوة (اكمال
الدين: 197 كما في البحار 18: 177.). وروى العياشي في تفسيره عن الحلبي عن الصادق (عليه السلام) قال: اكتتم رسول الله (صلى
الله عليه وآله) بمكة
سنين ليس يظهر، وعلي معه وخديجة، ثم أمره الله أن يصدع بما يؤمر، فظهر رسول الله
(صلى الله عليه وآله) فجعل يعرض نفسه على قبائل العرب، فإذا أتاهم قالوا: كذاب، امض عنا (تفسير
العياشي 2: 253.). وروى الصدوق في " معاني الأخبار " و " الخصال
" بسنده عن أبان بن عثمان الأحمر البجلي الكوفي قال: كان المستهزئون (برسول الله) خمسة من قريش:
الوليد بن المغيرة المخزومي، والعاص بن وائل السهمي، والأسود بن عبد يغوث
الزهري، والأسود بن المطلب، والحارث بن الطلاطلة الثقفي (الخصال
1: 278، 279.). ورواه العياشي بزيادة: فلما قال الله تعالى: *
(إنا كفيناك المستهزئين) *
علم رسول الله أنه قد أخزاهم، فأماتهم الله بشر ميتات (تفسير
العياشي 2: 252.). وقال القمي في تفسيره: ان النبوة نزلت على رسول الله يوم الاثنين وأسلم علي يوم الثلاثاء
ثم أسلمت خديجة زوج النبي (صلى
الله عليه وآله)، ثم
دخل أبو طالب الى النبي وهو يصلي وعلي بجنبه، وكان مع أبي طالب جعفر، فقال له
أبو طالب: صل جناح ابن عمك، فوقف جعفر على يسار رسول الله، فبدر رسول الله من
بينهما. فكان رسول الله يصلي، وعلي وجعفر وزيد بن حارثة وخديجة يأتمون به. فلما أتى لذلك ثلاث سنين
أنزل الله عليه *
(فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين انا كفيناك المستهزئين) * (الحجر: 94 - 95.).
|
المستهزئون
برسول الله
|
والمستهزئون برسول الله خمسة: الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل السهمي، والأسود بن المطلب،
والأسود بن عبد يغوث، والحرث بن طلاطلة الخزاعي. أما الوليد: فكان
رسول الله دعا عليه - لما كان يبلغه من ايذائه واستهزائه - فقال: اللهم اعم بصره
واثكله بولده ! فعمي بصره... ومر برجل من خزاعة وهو يريش نبالا له فوطأ على
بعضها فأصاب عقبه قطعة من ذلك فدميت. فمر برسول الله ومعه جبرئيل فقال جبرئيل:
يا محمد، هذا الوليد بن المغيرة، وهو من المستهزئين بك ؟ قال: نعم، فلما مر أشار
جبرئيل الى ذلك الموضع (من النبل في عقبه) فرجع الوليد الى منزله ونام على
سريره، فسال منه الدم حتى صار الى فراش ابنته، فانتبهت فقالت: انحل وكاء القربة
! قال الوليد: ما هذا وكاء القربة ولكنه دم أبيك، فاجمعي لي ولدي وولد أخي فإني
ميت. فجمعتهم. فقال لعبد الله بن أبي ربيعة: ان عمارة بن الوليد بأرض الحبشة بدار مضيعة، فخذ كتابا من محمد
الى النجاشي أن يرده ! ثم فاضت نفسه. ومر ربيعة بن الأسود (كذا، ولم يذكر كذلك من قبل، والظاهر أن ربيعة هنا مصحف: أبي زمعة
الأسود بن المطلب !)
برسول الله، فأشار جبرئيل الى بصره فعمي ومات. ومر به الأسود بن عبد يغوث فأشار جبرئيل الى بطنه فلم يزل يستسقي حتى
انشق بطنه. ومر العاص بن وائل فأشار
جبرئيل الى رجليه، فدخل عود في أخمص قدميه وخرج من ظاهره ومات. ومر به الحارث بن طلاطلة
فأشار جبرئيل الى وجهه، فخرج الى جبال تهامة فأصابته من السماء ديم فاستسقى حتى
انشق بطنه. فهذا هو قول الله:
* (انا كفيناك المستهزئين) *. فخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقام على الحجر فقال: " يا معشر قريش، يا معشر العرب، ادعوكم الى شهادة أن لا اله
الا الله وأ ني رسول الله، وآمركم بخلع الأنداد والأصنام، فأجيبوني تملكوا بها
العرب وتدين لكم العجم، وتكونوا ملوكا في الجنة ". فاستهزأوا به وقالوا: جن محمد بن عبد الله. ولم يجسروا عليه لموضع أبي طالب (تفسير
القمي 1: 379.). وظاهر هذا الأخير هو
المبادأة بالدعوة العلنية، بعد ثلاث سنين من نزول النبوة عليه (صلى الله عليه وآله) كما صرح به في أول مقاله، وكما مر في الخبر الأول عن تفسير
العياشي عن الصادق (عليه
السلام). وأيضا ظاهر الأخير من كلام
القمي أن ذلك كان بعد هلاك المستهزئين به لا قبله، ولكن مقاله خلو من الاجابة
على أن هؤلاء المستهزئين بماذا كانوا يستهزئون في مرحلة الكتمان ؟ أما طلب الوليد من عبد الله بن ربيعة أن يأخذ من محمد كتابا الى النجاشي بأرض الحبشة أن يرد عمارة بن
الوليد الى مكة، فلا يلازم سابق الإعلان فقط بل يستلزم أن يكون ذلك بعد الهجرة
الى الحبشة واكتشاف ميل النجاشي الى الدين الجديد ! والقمي في مقاله هذا مر عليه
مرور الكرام وكأ نه لم يلتفت الى هذه المفارقة الواضحة، وكذلك كل من نقل عنه
مقاله هذا. أما الطبرسي في تفسيره
فقد قال: * (فاصدع بما تؤمر) * عن
ابن عباس وابن جريج ومجاهد وابن زيد والزجاج: أي أظهر وأعلن وأبن وصرح بما امرت به غير خائف. وقال الزجاج:
والصدع في الزجاج والجدار بينونة بعضه عن بعض. وعن أبي مسلم: * (وأعرض عن المشركين) * أي لا تلتفت إليهم ولا تخف منهم. * (انا كفيناك المستهزئين) * أي شر المستهزئين واستهزاءهم بأن أهلكناهم. فعن ابن عباس وابن جبير: أنهم كانوا خمسة
نفر من قريش: العاص بن وائل،
والوليد بن المغيرة، وأبو زمعة الأسود بن المطلب، والأسود بن عبد يغوث، والحرث
بن قيس. وعن محمد بن ثور: كانوا ستة رهط، وسادسهم: الحارث بن الطلاطلة. قالوا: أتى جبرئيل النبي (صلى الله عليه وآله) والمستهزئون يطوفون بالبيت، فقام جبرئيل ورسول الله الى جنبه، فمر
به الوليد بن المغيرة المخزومي فأومى بيده الى ساقه، فمر الوليد على قين لخزاعة
وهو يجر ثيابه فتعلقت بثوبه شوكة، فمنعه الكبر أن يخفض رأسه فينزعها، وجعلت تضرب
ساقه فخدشته، فلم يزل مريضا حتى مات. ومر به العاص بن وائل السهمي فأشار جبرئيل
الى رجله فوطأ العاص على شوكة فدخلت في أخمص رجله فلم يزل يحكها حتى مات. ومر به الأسود بن المطلب
بن عبد مناف فأشار الى عينه فعمي. وقيل: رماه بورقة خضراء فعمي وجعل يضرب رأسه على الجدار حتى هلك. ومر به الأسود بن عبد يغوث فأشار الى بطنه فاستسقى حتى مات. وقيل: أصابته السموم فصار أسود، فأتى أهله فلم يعرفوه فطردوه فمات. ومر به الحارث بن الطلاطلة
فأومى الى رأسه فامتخط قيحا فمات وقيل: ان الحرث بن قيس أكل
حوتا مالحا فأصابه العطش فما زال يشرب حتى انقد بطنه فمات (مجمع
البيان 6: 533، 534.). ولئن كان الطبرسي صاحب
التفسير هذا قد لخص
بعض الأخبار عن غير الأئمة الأطهار (عليهم السلام) بشأن هؤلاء المستهزئين، في
كتابه هذا " مجمع البيان " تبعا للشيخ الطوسي في كتابه " التبيان
" وان كانت رواية ابن عباس فيما رواه مقطوعة عليه دون أن يسندها الى علي (عليه السلام)
فإن الطبرسي الآخر صاحب " الاحتجاج " قد روى بشأن المستهزئين خبرا
مبسوطا عن الإمام الكاظم عن جده الحسين (عليه السلام)
فيما أجاب به علي
(عليه السلام) حبرا
يهوديا شاميا جاء الى مجلس فيه أصحاب رسول الله: أبو معبد الجهني وعبد الله بن
مسعود وعبد الله بن عباس (الاحتجاج 2: 314 - 322.) مما
يكشف لنا عن مصدر خبر ابن عباس عن ذلك. ولئن كان الخبر في " الاحتجاج " مرسلا مرفوعا فقد رواه
الصدوق في كتابيه " معاني الأخبار " و " الخصال " مسندا، قال: فأما
المستهزئون فقال الله عزوجل له: * (انا كفيناك المستهزئين) * فقتل الله خمستهم، قد قتل كل واحد منهم بغير قتلة صاحبهم، في يوم واحد: أما الوليد بن المغيرة: فإنه مر بنبل لرجل من بني خزاعة قد راشه
في الطريق، فأصابته شظية منه فانقطع أكحله (الاكحل: عرق الحياة في اليد - القاموس.) حتى أدماه فمات وهو يقول: قتلني رب محمد. وأما العاص بن وائل السهمي: فإنه قد خرج في حاجة إلى كداء (كداء - كسماء - جبل بأعلى مكة. القاموس ومراصد الإطلاع.) فتدهده (تدهده:
تدحرج.) تحته حجر فسقط
فتقطع قطعة قطعة فمات وهو يقول: قتلني رب محمد. وأما الأسود بن عبد يغوث: فإنه خرج يستقبل ابنه زمعة ومعه غلام له، فاستظل بشجرة تحت كداء،
فأتاه جبرئيل (عليه السلام) فأخذ رأسه فنطح به الشجرة فقال لغلامه: امنع هذا
عني: فقال: ما أرى أحدا يصنع بك شيئا الا نفسك ! فقتله وهو يقول: قتلني رب محمد. قال الصدوق: وفي
خبر آخر قول آخر: أن النبي (صلى الله عليه وآله) قد دعا عليه أن يعمي الله بصره
وأن يثكله ولده، فلما كان ذلك اليوم جاء حتى صار الى كداء فأتاه جبرئيل (عليه
السلام) بورقة خضراء فضرب بها وجهه فعمي، وبقي حتى أثكله الله بولده يوم بدر ثم مات. وأما الحارث بن الطلاطلة: فإنه خرج من بيته في السموم فتحول حبشيا فرجع الى أهله فقال: أنا
الحارث فغضبوا عليه فقتلوه وهو
يقول: قتلني رب محمد. وأما الأسود بن المطلب: فإنه أكل حوتا مالحا فأصابه غلبة العطش فلم يزل يشرب الماء حتى
انشق بطنه فمات وهو يقول: قتلني رب محمد. وذلك أنهم كانوا بين يدي رسول الله (صلى
الله عليه وآله) فقالوا له: يا محمد ننتظر بك الى الظهر فإن رجعت عن قولك والا
قتلناك ! فدخل النبي منزله فأغلق
عليه بابه مغتما بقولهم. فأتاه جبرئيل (عليه السلام) ساعة فقال له: يا محمد، السلام يقرئك السلام وهو يقول: * (فاصدع بما تؤمر) * أظهر أمرك لأهل مكة وادع، * (وأعرض عن المشركين) * قال: يا جبرئيل كيف أصنع بالمستهزئين وما أوعدوني ؟ قال له: * (إنا كفيناك المستهزئين) * قال: يا جبرئيل كانوا عندي الساعة بين يدي ؟ فقال: قد كفيتهم. فأظهر
أمره عند ذلك (الخصال 1: 279، 280.). أما هذا المقطع الأخير من الخبر فهو صريح في أن قوله سبحانه: * (فاصدع بما تؤمر) * ليس بداية مرحلة الدعوة العلنية، بل كان بادئا بها من قبل مواجها
ومقابلا بها المشركين ومنهم هؤلاء المستهزئون، قد بلغت المواجهة بعد الاستهزاء
الى حد التهديد بالقتل إن لم يرجع عن قوله، وأن قوله سبحانه * (فاصدع بما تؤمر) * ليس الا اخبارا برفع المانع بعد وجود المقتضي كما يقولون، لا
ايجادا للمقتضي. فكيف التوفيق ؟ وعلى هذا فمعنى الإعراض عن المشركين هنا هو عدم
الاعتناء والاعتداد بتهديدهم. ومعنى قوله * (فاصدع) * هو
عدم ترتيب الأثر على تهديدهم بدخول الدار وغلق الباب والامتناع عن الدعوة
بالرسالة، وليس البدء بها. وقد مر في خبر الطبرسي: قالوا: أتى جبرئيل النبي (صلى الله عليه وآله) والمستهزئون يطوفون
بالبيت... ولا نجد هذا في خبر الكاظم عن علي (عليه السلام)، ومتى كان ذلك هل قبل
نزول الآية أم بعدها ؟ نجد جواب ذلك فيما رواه
الراوندي في " الخرائج والجرائح " قال: روي أنه لما نزل * (فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين انا كفيناك المستهزئين) * بشر النبي أصحابه: أن الله كفاه أمرهم يعني خمسة نفر، فأتى الرسول
(صلى الله عليه وآله) البيت والقوم في الطواف وجبرئيل عن يمينه. فمر الأسود بن المطلب، فرمى (جبرئيل) بورقة في وجهه خضراء فأعمى الله بصره وأثكله بولده.
ومر به الأسود بن عبد يغوث فأومأ الى بطنه فاستسقى ماء فمات حبنا (حبنا: من عظم البطن تورما من الاستسقاء.). ومر به الوليد
بن المغيرة فأومأ الى جرح كان
في أسفل رجله فانتقض بذلك فقتله. ومر به العاص بن وائل السهمي فأشار الى أخمص رجله فخرج على حمار له يريد الطائف فدخلت في (أخمص
رجله) شوكة فقتلته. ومر به الحارث بن طلاطلة فأومأ إليه فتقيأ قيحا فمات (البحار
18: 240.). إذن فإتيان جبرئيل بالرسول
الى البيت ومرور هؤلاء المستهزئين به في طوافهم حول البيت، وايماء الرسول إليهم
بالتعريف وايماء جبرئيل إليهم بالعذاب، كان بعد نزول جبرئيل عليه بالآيات
وتبشيره لأصحابه بها وبهلاك المستهزئين حسب ما جاء فيها. أما ما اختصره الطبرسي في تفسيره عن ابن عباس وابن جبير ومحمد
ابن ثور، فقد نقله ابن شهر آشوب عنهم فقال: كان المستهزئون به جماعة منهم: الوليد بن المغيرة المخزومي،
والأسود بن عبد يغوث الزهري، وأبو زمعة الأسود بن المطلب، والعاص بن وائل
السهمي، والحرث بن قيس السهمي، وعقبة بن أبي معيط وقهيلة بن عامر الفهري،
والأسود بن الحرث، وأبو اجيحة سعيد بن العاص، والنضر بن الحرث العبدي، والحكم بن
العاص بن امية، وعتبة بن ربيعة، وطعيمة بن عدي، والحرث بن عامر بن نوفل، وأبو
البختري العاص بن هاشم بن أسد، وأبو جهل، وأبو لهب. وكلهم قد أفناهم الله بأشد نكال. وكانوا قالوا له: يا محمد ننتظر بك الى الظهر، فإن رجعت عن قولك
والا قتلناك ! فدخل منزله وأغلق عليه بابه، فأتاه جبرئيل ساعته فقال له: يا
محمد، السلام يقرأ عليك السلام وهو يقول: * (اصدع بما تؤمر) * وأنا معك وقد أمرني ربي بطاعتك. فلما أتى البيت رمى الأسود بن المطلب
في وجهه بورقة خضراء وقال: اللهم اعم بصره واثكله بولده. فعمي وأثكله الله
بولده. وروى: أنه أشار الى عينه فعمي فكان يضرب رأسه على الجدار حتى هلك. ثم مر به الأسود بن عبد يغوث فأومى الى بطنه فاستسقى ماء ومات حبنا. ومر به الوليد فأومى الى جرح اندمل في بطن رجله من نبل فتعلقت به شوكة فنن فخدشت
ساقه ولم يزل مريضا حتى مات. ومر به العاص
فعابه، فخرج من بيته فلفحته السموم، فلما انصرف الى داره لم يعرفوه فباعدوه فمات
غما. وروى أنهم غضبوا عليه فقتلوه. وروى أنه وطأ على شبرقة (الشبرق: نبت حجازي يؤكل وله شوكة.) فدخلت في أخمص رجله فقال: لدغت فلم يزل يحكها حتى ما ت ومر به الحارث بن طلاطلة فأومى الى رأسه فتقيأ قيحا. ويقال: لدغته الحية. ويقال: خرج الى
كداء فتدهده عليه حجر فتقطع. وأما الأسود بن الحارث: فإنه أكل حوتا مالحا فأصابه العطش فلم يزل يشرب الماء حتى انشقت
بطنه. فأما قهيلة بن عامر: فخرج يريد الطائف ففقد ولم يوجد. وأما عيطلة: فإنه اتي بشوك فأصاب عينيه فسالت حدقته على وجهه. وقيل: استسقى
فمات. وأما أبو لهب: فإنه
(مات بعد بدر والخبر عن أبي رافع قال) سأل أبا سفيان عن قصة بدر (ونحن حضور)
فقال: انا لقيناهم فلقينا رجالا بيضا على خيل بلق بين السماء والأرض لا يقوم لها
شئ، وأيم الله مع ذلك ما مكث الناس، لقيناهم فمنحناهم أكتافنا فجعلوا يقتلوننا
ويأسروننا كيف شاؤوا. (قال أبو رافع)
فقلت لام الفضل زوجة العباس: تلك الملائكة (فسمعني أبو لهب) فجعل يضربني، فضربت
ام الفضل على رأسه بعمود الخيمة، ففلقت رأسه بشجة منكرة، ورماه الله بالعدسة
(الطاعونية) فعاش سبع ليال (ومات) وكانت قريش تتقي العدسة، فتركه ابناه ثلاثا لا
يدفنانه، حتى رمته قريش على جدار بأعلى مكة وقذفوا عليه الحجارة حتى واروه بها (المناقب
1: 73 - 75.). وروى ابن اسحاق خبر المستهزئين عن عروة بن الزبير قال: كان عظماء المستهزئين خمسة نفر من ذوي الأسنان والشرف في قومهم: من بني أسد بن عبد العزى: الأسود بن المطلب. ومن بني زهرة:
الأسود بن عبد يغوث. ومن بني مخزوم:
الوليد بن المغيرة. ومن بني سهم: العاص
بن وائل. ومن بني خزاعة:
الحارث بن الطلاطلة. فلما تمادوا في الشر وأكثروا برسول الله الاستهزاء، أنزل الله
تعالى عليه * (فاصدع بما تؤمر) * وأتى جبرئيل رسول الله وهم يطوفون بالبيت، فقام وقام رسول الله الى
جنبه، فمر به الأسود بن عبد المطلب فرمى في وجهه بورقة خضراء فعمي. ومر به
الأسود بن عبد يغوث فأشار الى بطنه فاستقى بطنه فمات حبنا (أي انتفاخا) ومر به
الوليد بن المغيرة فأشار الى أثر جرح بأسفل كعب رجله كان قد أصابه قبل ذلك
بسنين، فانتقض به فقتله. ومر به العاص بن وائل فأشار الى أخمص رجله فخرج على
حمار له يريد الطائف فربض به على شبارقة (شجرة) فدخلت في أخمص رجله شوكة فقتلته.
ومر به الحارث بن الطلاطلة فأشار الى رأسه فامتخط قيحا فقتله (سيرة ابن
هشام 2: 50 - 52). والخبر السابق نقله ابن شهر آشوب عن تفسير محمد بن ثور وهو عن التابعي سعيد بن جبير وعن ابن عباس
مقطوعا عليه، وانما جاء اسم أبي رافع في أخر الخبر، ولعله هو الراوي المعاصر
الناقل لابن عباس. وقد مر في خبر الصدوق عن الكاظم عن علي (عليهما السلام) أن
ابن عباس كان حاضرا في المجلس سامعا للخبر عن علي (عليه السلام)، فلعل ما بين
الخبرين من خلاف جاء من رواية أبي رافع أو ادخال ابن عباس للخبرين بعضهما في بعض.
والمستهزئون في هذا الخبر سبعة عشر رجلا فصل مقتل تسعة منهم
وأجمل الباقين، وآخر
المذكورين بالتفصيل أبو لهب مع التصريح بمقتله بعد بدر، والمومى إليه منهم خمسة
فحسب فلعل هذا هو وجه الجمع المعقول بين الخبرين، ولعله هو وجه اختصار الخبر عند
الطبرسي. وإذا استثنينا خبر تفسير القمي بما فيه مما يلازم حدوثه بعد
الهجرة الى الحبشة، فلا
يبقى في سائر الأخبار الا عدم وضوح باعث الاستهزاء في حال اختفاء الدعوة، مما لم
نجد الجواب المقنع عنه، اللهم الا أن نقول - كما في خبر الصدوق وابن عباس - بأن
الصدع بالأمر لم يكن بداية اعلان بل كان عن امتناع وقع للتهديد الأكيد من هؤلاء
المستهزئين كما مر، وهو المتعين الراجح. وقد مر في خبر الراوندي في " الخرائج " والطبرسي في
" المجمع " وابن شهر آشوب في " المناقب " عن ابن عباس وابن
جبير وتفسير محمد بن ثور: أن الرسول (صلى الله عليه وآله) أتى البيت ومعه جبرئيل
عن يمينه والقوم في الطواف. فأي طواف كان هذا لهم جميعا بعد تهديدهم اياه ؟ لعلنا نجد جواب هذا فيما رواه ابن هشام عن ابن اسحاق في سيرته: أن نفرا من قريش اجتمعوا
الى الوليد بن المغيرة - وكان ذا سن فيهم وقد حضر الموسم - فقال لهم: يا معشر قريش
! انه قد حضر هذا الموسم. وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر
صاحبكم هذا، فأجمعوا فيه رأيا واحدا ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا، ويرد قولكم
بعضه بعضا (سيرة ابن هشام 1: 288). لنا من هذا النص التصريح بأن مناسبة عقد هذا المؤتمر بل المؤامرة على الرسول (صلى الله
عليه وآله) كانت هي حضور موسم الحج أو العمرة ووفود العرب إليهم لذلك وهم قد
سمعوا بأمره (صلى الله عليه وآله). وتختلف صورة الخبر لدى
القمي في تفسيره قال: كان
الوليد بن المغيرة شيخا كبيرا مجربا من دهاة العرب... وكان له مال كثير وحدائق
(في الطائف) وكان له عشرة بنين بمكة، وعشرة عبيد عند كل عبد ألف دينار يتجر بها
- وتلك هي القنطار في ذلك الزمان - ولذا كان قد قال لقريش: أنا أتوحد بكسوة
البيت سنة وعليكم في جماعتكم سنة، ولذلك سماه الله * (ذرني ومن خلقت وحيدا) * (المدثر:
11.). وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقعد في الحجر فيقرأ القرآن...
فاجتمعت قريش الى الوليد فقالوا: يا أبا عبد شمس، ما هذا الذي يقول محمد ؟ أشعر هو ؟ أم كهانة ؟ أم
خطب ؟ فقال: دعوني أسمع كلامه. فدنا من رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: يا
محمد أنشدني من شعرك ! قال: ما هو شعر، ولكنه كلام الله الذي ارتضاه لملائكته
وأنبيائه. فقال: اتل علي منه شيئا. فقرأ رسول الله * (حم السجدة) * فلما بلغ الى قوله: * (فان أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود) * (فصلت:
13.) اقشعر الوليد وقامت كل
شعرة في رأسه ولحيته. ومر الى بيته ولم يرجع الى قريش من ذلك. فمشوا الى أبي جهل (عمرو
بن هشام بن المغيرة المخزومي) فقالوا له: يا أبا الحكم، ان أبا عبد شمس قد صبا الى دين محمد، أما تراه لم
يرجع الينا ! فغدا أبو جهل إليه فقال له: يا عم، نكست رؤوسنا وفضحتنا وأشمت بنا عدونا وصبوت الى دين محمد ؟
! فقال: ما صبوت الى دينه ولكني سمعت منه كلاما صعبا تقشعر منه
الجلود ! فقال له أبو جهل: أخطب
هو ؟ قال: لا، ان الخطب كلام متصل، وهذا كلام منثور ولا يشبه بعضه بعضا. قال:
أفشعر هو ؟ قال: لا، أما اني قد سمعت أشعار العرب بسيطها ومديدها ورملها ورجزها،
وما هو بشعر. قال: فما هو ؟ قال: دعني افكر فيه ! فلما كان من الغد قالوا: يا أبا عبد شمس، ما تقول فيما قلناه ؟ قال: قولوا: هو سحر فإنه آخذ
بقلوب الناس. فأنزل الله على رسوله في
ذلك: * (ذرني ومن خلقت
وحيدا وجعلت له مالا ممدودا وبنين شهودا ومهدت له تمهيدا ثم يطمع أن أزيد كلا
انه كان لآياتنا عنيدا سارهقه صعودا انه فكر وقدر فقتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر
ثم نظر ثم عبس وبسر ثم أدبر واستكبر فقال إن هذا الا سحر يؤثر إن هذا الا قول
البشر ساصليه سقر وما أدراك ما سقر...) * (المدثر: 11 - 27.) وكان من المستهزئين برسول الله (تفسير
القمي 2: 393، 394 وعنه في اعلام الورى: 41، 42.). وعلى هذا فقوله سبحانه: * (ساصليه سقر) * و * (سارهقه صعودا) * كان تصعيدا في تهديده وإنذاره قبل تبشير الرسول بكفاية شره بهلاكه
والمستهزئين معه بقوله *
(إنا كفيناك المستهزئين) *
وهذا أيضا مما يلازم كون الصدع بأمره قبل هذا بغير قليل، حتى تكون وفود العرب في
الموسم - كما قال الوليد - قد سمعوا بأمره (صلى الله عليه وآله)، فإن الدعوة
السرية أو غير العلنية لا يبلغ صداها هذا الحد أبدا، بحيث يحتار المشركون في
كيفية مواجهتهم لهم في الموسم. ولعل الوليد بعد موقفه هذا ونزول هذه الآيات فيه بالتهديد قابل
هو وأصحابه النبي بالتهديد الشديد والأكيد لتحديد دعوته دون حضور الموسم، ثم
حضروا طواف الموسم فوسمهم جبرئيل بعذاب الله الشديد في الدنيا قبل الآخرة، وبذلك كفى رسول الله شرهم وشر استهزائهم له ولرسالته. فانطلق
الرسول بخطبته العامة في الموسم على حجر اسماعيل حول البيت في مطاف المسجد
الحرام. ومما يؤيد ذلك تعبير
الرسول (صلى
الله عليه وآله) في
تلك الخطبة، إذ هي بالإضافة الى مخاطبة قريش تحتوي على الخطاب للعرب، وهو إذا ضم
الى مخاطبة قريش -
مثلا - دل على العرب مما
عداهم لا هم. فلننظر
الى نص الخطاب: |
خطب
النبي (صلى الله عليه وآله) للدعوة العلنية:
|
بعد أن حكى القمي في تفسيره قصة هلاك المستهزئين قال: " فخرج
رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقام على " الحجر " فقال: " يا معشر قريش، يا
معشر العرب، أدعوكم الى شهادة أن لا اله الا الله وأ ني رسول الله، وآمركم بخلع
الأنداد والأصنام، فأجيبوني تملكوا بها العرب وتدين لكم العجم، وتكونوا ملوكا في
الجنة ". فاستهزأوا منه وقالوا: جن
محمد بن عبد الله. ولم يجسروا عليه لموضع أبي طالب (تفسير
القمي 1: 379. وعنه في اعلام الورى: 39.). فالخطاب لقريش عامة وللعرب بالأعم، والمقام الذي اختاره لخطابه العام هذا هو حجر اسماعيل حول البيت
في مطاف المسجد الحرام أي أجمع مجامع الحج وأشرف مواقفه فكان كما روى ابن هشام
عن ابن اسحاق: وصدرت العرب من ذلك الموسم بأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله)،
فانتشر ذكره في بلاد العرب كلها (سيرة ابن
هشام 1: 291.). وهذا هو ما كان يحذره اولئك المستهزئون المهددون لمنعه عن الإعلان
بدعوته في ذلك الموسم العام. ولكن هل كان هذا هو البيان الأول العام لدعوته العلنية العامة ؟
أما اليعقوبي فيقول: وأقام رسول الله بمكة ثلاث سنين... يدعو الى توحيد الله
عزوجل وعبادته، والاقرار بنبوته ويكتم أمره... حتى قالت قريش: ان فتى ابن عبد
المطلب ليكلم من السماء... ثم أمره الله أن يصدع بما أرسله به فأظهر أمره وقام
" بالأبطح " فقال: " اني رسول الله، أدعوكم الى عبادة الله وحده وترك عبادة
الأصنام التي لا تنفع ولا تضر، ولا تخلق ولا ترزق، ولا تحيي ولا تميت "
فاستهزأت به قريش وآذته. وكان المؤذون له جماعة منهم: أبو لهب، والحكم بن أبي العاص، وعقبة بن أبي معيط، وعدي بن حمراء
الثقفي، وعمرو بن الطلاطلة الخزاعي. وكان المستهزئون به: العاص بن وائل السهمي والحارث بن قيس بن عدي السهمي، والأسود بن
المطلب بن أسد، والوليد بن المغيرة المخزومي، والأسود بن عبد يغوث الزهري.
وكانوا يوكلون به صبيانهم وعبيدهم فيلقونه بما لا يحب (اليعقوبي
2: 24.). فهو
يروي أول خطبة له بالأبطح لا الحجر، فلعله قبل الموسم. ثم هو يرى قصة المستهزئين بعد الصدع بالأمر،
وكأ نه يرى صدعه بالأمر بمعنى أنه " عاب عليهم آلهتهم، وذكر هلاك آبائهم
الذين ماتوا كفارا " (اليعقوبي 2: 24.)
أو هو مرحلة ما بعد
الصدع. ثم هو يرى فرقا بين المؤذين له وهم خمسة والمستهزئين به وهم خمسة
آخرون. فلعل محمد بن ثور الذي عدهم سبعة عشر رجلا قد خلط بينهم. وقبله قال ابن اسحاق: فلما بادى رسول الله (صلى الله عليه وآله) قومه بالإسلام - وصدع به
كما أمره الله - لم يبعد منه قومه ولم يردوا عليه حتى ذكر آلهتهم وعابها، فلما
فعل ذلك أعظموه وناكروه وأجمعوا على خلافه وعداوته الا من عصم الله منهم
بالإسلام (سيرة ابن هشام 1: 22.). فهل يعني ذلك أنه لما بادى قومه لم يبعد منه قومه ولم يردوا عليه حتى صدع بأمره
كما أمره الله فذكر آلهتهم وعابها، فأنكروا ذلك وأعظموه وعادوه وأجمعوا على
خلافه ؟ لعله يعني ذلك. وإذا كان كذلك فلعله (صلى الله عليه وآله) بعد مرحلة الدعوة
السرية، وبعد مرحلة الدعوة الخاصة للأربعين للأقربين من العشيرة بني عبد المطلب
أو بني هاشم، بادى قومه بدعوته العامة العلنية دون هذا المعنى من الصدع بالأمر،
فبدأ بخطبته على " الصفا " الخالية من هذا المعنى من الصدع بالأمر أي
عيب الآلهة وذكرها بالسوء كما في " المناقب " لابن شهر آشوب قال: روي
أنه لما نزل قوله * (وأنذر عشيرتك الأقربين) * (أي بعد هذه المرحلة) صعد رسول
الله - ذات يوم - الصفا، فقال: يا صباحاه ! فاجتمعت إليه قريش فقالوا: مالك ؟
قال: أرأيتكم ان أخبرتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم ما كنتم تصدقونني ؟ قالوا:
بلى، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. قال قتادة: ثم
إنه خطب فقال: أيها الناس، ان الرائد لا يكذب أهله، ولو كنت كاذبا لما كذبتكم،
والله الذي لا اله الا هو، اني رسول الله اليكم حقا خاصة والى الناس عامة، والله
لتموتون كما تنامون، ولتبعثون كما تستيقظون، ولتحاسبون كما تعملون، ولتجزون
بالإحسان احسانا وبالسوء سوءا، وانها الجنة أبدا أو النار أبدا. وانكم أول من
انذرتم (المناقب 1: 46، 47.). وهذه الجملة الأخيرة من هذه الخطبة على " الصفا " هي التي تحملنا على القول: بأ نها أول خطبة، فالخطبة "
بالأبطح " ثم الخطبة " بالحجر " في الموسم. فلعل هذا هو وجه
الجمع المعقول بين الخطب الثلاث. |
من
هم المقتسمون ؟
|
وكأننا نجد فيما رواه الطوسي ثم الطبرسي في تفسيرهما عن ابن عباس
ومقاتل، نجد فيه المتمم لأمر هذا الموسم، فقد قال مقاتل في قوله سبحانه: * (كما أنزلنا على المقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين) * (الحجر:
90، 91.) إنهم هم الذين
اقتسموا طرق مكة يصدون عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) والايمان به. وقال ابن عباس:
انهم كانوا ستة عشر رجلا بعثهم الوليد بن المغيرة " أيام الموسم "
يقولون لمن أتى مكة: لا تغتروا بالخارج منا المدعي النبوة. فأنزل الله بهم عذابا
فماتوا شر ميتة. وجعلوا القرآن عضين أي
جزؤوه أجزاء فقالوا: سحر، وقالوا: مفترى، وقالوا: أساطير الأولين (مجمع
البيان 6: 531.) وكذلك روى الطبرسي في " مجمع البيان " عن الكلبي: أن
المقتسمين كانوا ستة عشر رجلا خرجوا الى عقاب مكة أيام الحج على طريق الناس
(الحجاج) على كل عقبة أربعة منهم، ليصدوا الناس عن النبي (صلى الله عليه وآله)،
وإذا سألهم الناس عما انزل على رسول الله قالوا: أحاديث الأولين وآباطيلهم (مجمع
البيان 6: 549.). فلعل الوليد في بدايات
الموسم بعث هؤلاء الستة عشر رجلا على طرق مكة مقتسمينها فيما بينهم يصدون من اتى
مكة عن الإيمان برسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولكنهم كما اقتسموا طرق مكة
فيما بينهم قد اقتسموا القول في القرآن بين مكذب وقائل: إنه سحر وقائل إنه
أساطير الأولين. ثم إن الوليد جمع إليه هؤلاء النفر من قريش وقال لهم: اجمعوا فيه
رأيا واحدا ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا ويرد قولكم بعضه بعضا. فقالوا: فأنت
يا أبا عبد شمس فقل وأقم لنا رأيا نقول به... ثم قال لهم: إن أقرب القول فيه أن
تقولوا هو ساحر جاء بقول هو سحر يفرق به بين المرء وأبيه وبين المرء وأخيه وبين
المرء وزوجه وبين المرء وعشيرته. فتفرقوا عنه بذلك، فجعلوا يجلسون بسبل الناس
حين قدموا الموسم لا يمر بهم أحد الا حذروه إياه وذكروا لهم أمره، فأنزل الله
فيه قوله: * (ذرني ومن خلقت
وحيدا...) * (سيرة ابن
هشام 1: 288، 289.). ثم نزل فيه خاصة وفي خمسة من أصحابه: *
(إنا كفيناك المستهزئين) *
ولعل سائر السبعة عشر رجلا الذين عدهم محمد بن ثور في تفسيره عن ابن عباس وابن
جبير - على رواية ابن شهر آشوب - من المستهزئين، هم من المقتسمين مع المستهزئين،
الذين روى الطبرسي هنا عن ابن عباس أنهم كانوا ستة عشر رجلا بعثهم الوليد، فمعه
يكونون سبعة عشر رجلا. وقد ذكر عذاب ثلاثة منهم عدا المستهزئين وان كان لم يذكر
عذاب الجميع الا بالاجمال، دون التفصيل. والموسم - كما لاحظتهم - ذكر في كلا الأمرين: المقتسمين، والمستهزئين، من دون تفريق
بينهما مما يحمل بظاهره
على أول موسم بعد اعلان الدعوة العامة، فإن كانت طبيعة الامور تقتضي فاصلا زمنيا
أطول من موسم واحد بين الأمرين - كما هو ظاهر الحال - فمن المحتمل أن يكون الاقتسام في الموسم الأول، ثم محاولة
الاعتبار بالتجربة من اختلاف آرائهم وأقوالهم في الرسول والقرآن، فالسعي في
توحيد آرائهم وأقوالهم فيهما في الموسم الثاني، وأن ما نزل في الوليد والمستهزئين
والمقتسمين في سورتي الحجر
والمدثر كان في الموسم
الثاني بعد اعلان الدعوة لا الأول. |
ما
نزل من القرآن قبل " فاصدع ":
|
إذ وقفنا على الحوادث المشار إليها بقوله سبحانه * (كما أنزلنا على المقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين) * (الحجر: 90، 91.) وقوله سبحانه *
(فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين انا كفيناك المستهزئين) * (الحجر: 94، 95.) والآيات من أواخر سورة الحجر، وهي الرابعة والخمسون في ترتيب
النزول (التمهيد: 1: 105 وتلخيصه 1: 98.) أي
يسبقها من القرآن في النزول ست وخمسون سورة، ولنا فيها آيات واشارات الى ما يسبق
ما اشير إليه في هذه الآيات الأخيرة من سورة الحجر مما يدخل في تأريخ الإسلام،
فلنقف عليها على ترتيبها على التوالي: رتبوا في ترتيب النزول بعد سورة العلق: سورة القلم التي تفتتح
بالآية: * (ن والقلم وما
يسطرون ما أنت بنعمة ربك بمجنون) * مما يوحي الى أن هذه الجملة انما هي تنزيه له عما اتهمه به
المشركون من الجنون، كما في الآية بعدها: * (فستبصر ويبصرون بأيكم المفتون) * وكما في الآية بعدها: * (فلا تطع المكذبين) * و * (ولا
تطع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم مناع للخير معتد أثيم عتل بعد ذلك زنيم أن كان
ذا مال وبنين إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين) * (القلم: 10 - 15.) وليس من التأويل إذا بحث الدارس لهذه الآيات عن الشخص المعين
المعني بها، بل الظاهر من الآيات هو ذلك وما عداه خلاف الظاهر. ونقل الطبرسي ثلاثة أقوال في ذلك: قيل يعني الوليد بن المغيرة فإنه عرض على النبي المال ليرجع عن
دينه. وقيل يعني: الأخنس بن شريق الثقفي. وقيل: يعني: الأسود بن عبد يغوث (مجمع
البيان 10: 501.) بينما لم نجد خلافا في المعني بأوصاف سورة المدثر: * (ذرني ومن خلقت وحيدا وجعلت له مالا ممدودا وبنين شهودا) * أ نه الوليد. وحقا وجدناه الوحيد الذي يوصف في الأخبار التأريخية
بذلك الوصف في المال والبنين ليس سواه ولم يوصف الآخران معه بذلك الوصف في المال
والبنين، فهو الأولى أن يكون المقصود عند الإطلاق والترديد. أما متى تليت عليه
الآيات ؟ وأي آيات ؟ ومن تلى ؟ وكيف ؟ وما هو تفصيل عرضه المال على الرسول ليرجع
عن دينه أو عن الإعلان به ودعوته إليه ؟ وكيف منع عن هذا الخير ؟ فلم يبق لنا من
تفسير المفسرين الأوائل، ولا الأخبار التأريخية الا هذه الأقوال الثلاثة على
الترديد فقط، فضلا
عما يحل لنا التنافي بين هذه الآيات من القرآن ودور الكتمان. وأسطع من ذلك ما في
أواسط السورة من قوله سبحانه:
* (إن للمتقين عند ربهم جنات النعيم أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف
تحكمون) * (القلم: 34 - 36.) فهل
يمكننا أن نحكم أن هذا أيضا من القرآن في دور الكتمان ؟ ! بل هو إعلام واعلان. بل روى ابن شهر آشوب في " المناقب " عن ابن عباس: أن الوليد ابن المغيرة أتى قريشا فقال: ان الناس يجتمعون غدا
بالموسم وقد فشا أمر هذا الرجل في الناس، وهم يسألونكم عنه فما تقولون ؟ فقال أبو جهل: أقول
انه مجنون، وقال أبو لهب: أقول انه شاعر، وقال
عقبة بن أبي معيط: أقول
انه كاهن. فقال الوليد: بل أقول هو ساحر يفرق بين الرجل والمرأة وبين الرجل وأخيه وأبيه. فأنزل الله تعالى:
* (ن والقلم وما
يسطرون) * (مناقب ابن شهر آشوب 1: 48.). وفي العلق قبل القلم قالوا: إن المعني بالآية: * (أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى) * هو
الوليد أيضا إذ كان ينهى
الناس عن أن يطاع رسول الله وعن الصلاة (تفسير
القمي 2: 430.) وقيل: هو أبو
جهل، فإنه حاول أن يطأ رقبة
الرسول في سجدته في الصلاة في المسجد الحرام (مجمع
البيان 10: 782 عن صحيح مسلم.) ولكني عبرته الى القلم، إذ قالوا ان النازل من العلق قبل القلم انما هي الآيات الخمس الأوائل، وأما هذه
الآية فهي متأخرة في النزول
عن تلك، فلعلنا نعود إليها فيما بعد. وثالثة السور - " المزمل ": وعاشرة آياتها: * (واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا وذرني والمكذبين اولي
النعمة ومهلهم قليلا) * (المزمل:
10، 11.) قال في "
المجمع ": قيل:
نزلت في صناديد قريش والمستهزئين (مجمع
البيان 10: 573.) وأليس من الإعلان الآيات التالية في السورة: * (إنا أرسلنا اليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا الى فرعون
رسولا... فكيف تتقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا... إن هذه تذكرة فمن شاء
اتخذ الى ربه سبيلا) * (المزمل:
15 - 19.). ورابعة السور - "
المدثر ": وفيها
الآيات بشأن الوليد بن المغيرة المخزومي، وقد مر خبره مع المستهزئين. وقد مر قبل
خبر جابر بن عبد الله الأنصاري عن الرسول (صلى الله عليه وآله) أنها أول سورة
نزلت عليه بعد الفترة بعد حراء، وعليه تكون ثانية السور لا الرابعة، ويمكن الجمع
بينهما بمثل الكلام في سورة العلق، بأن ما نزل ثانيا بعد الفترة هي حتى الآية
العاشرة، أي الى ما قبل ما يتعلق بالوليد، ثم نزل باقيها - بعد المزمل - رابعا. وبهذا الصدد قال العلامة
الطباطبائي "
والسورة مكية من العتائق النازلة في أوائل البعثة وظهور الدعوة " لكنه قال
بعد هذا: واحتمل بعضهم أن تكون السورة أول ما نزل على النبي (صلى الله عليه
وآله) عند الأمر بإعلان الدعوة بعد إخفائها مدة في أول البعثة. ثم قال "
وهذا لا يتعدى طور الإحتمال " (الميزان
20: 79.) فما معنى قوله " في أوائل البعثة وظهور الدعوة " ؟ أما
أن تكون هي أول سورة نزلت من القرآن فقد قال: يكذبه نفس آيات السورة الصريحة في
سبق قراءته القرآن على القوم وتكذيبهم به وإعراضهم عنه ورميهم له بأ نه "
سحر يؤثر " (الميزان 20: 79.) ويصدق مثل ذلك في سابقتيه المزمل والقلم، ولم يقل بمثل هذا هناك.
بل قبل أن تكون العلق أول سورة كاملة (الميزان
20: 322.). وفيها *
(أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى أرأيت ان كذب وتولى... كلا لئن لم ينته لنسفعا
بالناصية ناصية كاذبة خاطئة فليدع ناديه) * أفليست هذه أيضا كتلك الآيات صريحة في سبق أمره بالتقوى وتكذيبهم
له واعراضهم عنه ؟ ولم يقل مثل ذلك هنا، والأمر واحد. السورة الخامسة - " الفاتحة ": فقد قال اليعقوبي: إنها الفاتحة (اليعقوبي 2: 33.) والظاهر أنها هي رواية جابر بن زيد (التمهيد
1: 103 وتلخيصه 1: 95.) أما خبر ابن عباس فلم يعرض للفاتحة. ومر ترجيح أن تكون الفاتحة -
كما هو معنى الفاتحة - فاتحة كتاب الله. وقد يوجه عدم ذكر ابن عباس للفاتحة بأن
العلق فما بعد من القرآن في دور الإعلان والفاتحة كانت نازلة من قبل. وهي السورة
الوحيدة - في عداد هذه السور الأوائل - التي ليس فيها ما يقتضي أو يستدعي سبق شئ
من القرآن أو الإسلام قبلها. سادسة السور - " المسد ": سورة تبت أو أبي لهب أو
المسد، قال القمي في تفسيرها: إن ام جميل بنت صخر بن حرب " أبي سفيان
" (كذا في القمي، وهو غلط، فهي بنت حرب اخت ابي سفيان كما يأتي عن مجمع
البيان.) كانت تنم على رسول الله أي تنقل أحاديثه الى الكفار، ولما اجتمع
زوجها أبو لهب مع قريش في " دار الندوة " وبايعهم على قتل محمد رسول
الله، نزلت السورة (تفسير القمي 2: 448)
وهذا يعني أن السورة
نزلت بعد مؤتمر قريش بقتل الرسول، وهذا لا يتفق مع كونها السورة السادسة أي
الأوائل، فهو مردود. ومن
الطبرسي يعلم أن ما قاله
القمي في معنى
" حمالة الحطب "
هو قول عن ابن عباس (مجمع البيان 10: 852.) أما
في سبب نزولها فقد
روى عن البخاري عن سعيد ابن جبير عن ابن عباس قال: صعد رسول الله
(صلى الله عليه وآله) ذات
يوم الصفا فقال: يا صباحاه ! فأقبلت إليه قريش فقالوا له: مالك ؟ فقال: أرأيتم
لو أخبرتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم أما كنتم تصدقوني ؟ قالوا بلى. فقال: فإني
نذير لكم بين يدي عذاب شديد ! فقال أبو لهب تبا لك، ألهذا دعوتنا جميعا ؟ !
فأنزل الله هذه السورة (مجمع البيان 10: 851.). وهذا كما ترى صريح في حصر ما نزل من القرآن في دور الكتمان في
السور الخمس الأوائل السابقة على المسد، وأما المسد فهي أول سورة من دور
الإعلان. والخبر مروي عن ابن جبير عن ابن عباس، وعنهما روى خبر الإنذار في يوم الدار للعشيرة الأقربين أي الدعوة
الخاصة بين الكتمان والإعلان كما مر، وذلك لا يتفق مع هذا عنهما. ولكن لا ريب أن سورة اللهب لا تناسب الكتمان أيضا، فكيف التوفيق ؟
وروى الطبرسي أيضا في قوله سبحانه * (وأنذر عشيرتك الأقربين) * عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية صعد رسول الله على الصفا فقال: يا صباحاه ! فاجتمعت إليه قريش، فقالوا: مالك ؟ فقال... فقال أبو
لهب: تبا لك ألهذا دعوتنا جميعا ؟ فأنزل الله تعالى: * (تبت يدا أبي لهب وتب) * الى آخر السورة (مجمع البيان 8: 323.) وهذا
أيضا كذلك يتنافى مع الدعوة الخاصة ليوم الدار للأقربين من العشيرة من ناحية،
وأيضا من ناحية اخرى يتنافى مع خبر ابن عباس في ترتيب النزول إذ يقتضي نزول
المسد بعد الشعراء أو العكس أو استثناء آية الإنذار وما يلازمها من الشعراء ولم
ينقل ذلك عنه. ولكن روى الطبرسي أيضا ما يصلح شأنا لنزول السورة من دون هذه
الملازمات، قال: عن
سعيد بن المسيب قال: كانت لام جميل بنت حرب اخت أبي سفيان قلادة فاخرة من جوهر
فقالت: لانفقنها في عداوة محمد ! قال الطبرسي: ولما أنذر النبي أبا لهب بالنار
قال: إن كان ما تقول حقا فإني أفتدي بمالي وولدي (مجمع
البيان 10: 852.) فأنزل الله: *
(ما أغنى عنه ماله وما كسب سيصلى نارا ذات لهب وامرأته حمالة الحطب في جيدها حبل
من مسد) * بدل القلادة. وهذا
لا يستلزم ما كان يستلزمه الخبران عن ابن عباس، ولكنه يستلزم سبق الإعلان
والمجاهرة حتى حد العداء الحاد من أبي لهب وامرأته. وقد روى الطبرسي أيضا في شدة عدائه ونصبه للنبي ما يدل على ذلك في أوائل الإعلان: عن طارق المحاربي قال: بينا أنا
بسوق ذي المجاز، إذ أنا بشاب (كذا) يقول: أيها الناس قولوا: لا اله الا الله
تفلحوا. وإذا برجل خلفه يرميه قد أدمى ساقيه وعرقوبيه ويقول: يا أيها الناس إنه
كذاب فلا تصدقوه. فقلت: من هذا ؟ فقالوا: هو محمد يزعم أنه نبي، وهذا عمه أبو
لهب يزعم أنه كذاب (مجمع البيان 10: 852.). فقوله: هو محمد يزعم أنه نبي، في جواب: من هذا، يشعر بأن هذا كان
في بداياته. السورة الثامنة - " الأعلى " (السر في عدم ذكرنا لبعض السور هو عدم اشتمالها على الآيات ذات
الإشارة الى الحوادث التأريخية): وروى العياشي في تفسيره عن عقبة بن عامر الجهني قال: لما نزلت *
(سبح اسم ربك الأعلى) * قال
رسول الله (صلى الله عليه وآله): اجعلوها في سجودكم. ورواه أيضا في " الدر المنثور " عن أحمد وأبي داود وابن ماجة وابن المنذر وابن مردويه عن عقبة عنه
(صلى الله عليه وآله) (الميزان 20: 270.).
وتمام الخبر: ولما
نزل: * (فسبح باسم ربك
العظيم) * (الواقعة: 74.) قال (صلى
الله عليه وآله):
اجعلوها في ركوعكم. والواقعة
هي السورة السادسة والأربعون،
وهذا يدل على ما مر عن أن الصلاة كانت في اوائل تشريعها بسجود بلا ركوع، ثم شرع
الركوع بعد ذلك. ومر عن ابن شهر آشوب في
" المناقب " عن تفسير القطان عن ابن مسعود: أن عليا (عليه السلام) سأل رسول الله: ما أقول في السجود في
الصلاة ؟ فنزل: *
(سبح اسم ربك الأعلى) *
وسأله: ما أقول في الركوع ؟ فنزل: * (فسبح باسم ربك العظيم) * فكان أول من قال ذلك (مناقب آل
أبي طالب 2: 14 - 19.). والسورة العاشرة - " الضحى ": أو الحادية
عشرة هي " سورة الضحى
" وفي تفسير القمي
في سبب نزولها روى عن أبي الجارود عن الباقر (عليه السلام) في قوله: * (ما ودعك ربك وما قلى) * قال: ذلك إن أول سورة نزلت كانت * (اقرأ باسم ربك الذي خلق) * ثم أبطأ عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقالت خديجة: لعل ربك قد تركك فلا يرسل اليك. فأنزل الله تبارك
وتعالى: * (ما ودعك ربك
وما قلى) * (تفسير القمي 2: 428.) وهذا
يقتضي أن تكون الضحى الثانية لا العاشرة. وقيل: سألت اليهود رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن ذي القرنين وأصحاب الكهف وعن الروح. فقال. سأخبركم غدا. ولم
يقل: ان شاء الله، فاحتبس عنه الوحي هذه الأيام، فاغتم لشماتة الأعداء. فنزلت
السورة تسلية لقلبه (مجمع البيان 10: 764.) وهذا
يقتضي أن تكون السورة مدنية بعد الثمانين لا عاشرة المكيات. وعن ابن عباس قال:
احتبس الوحي عنه (صلى
الله عليه وآله) خمسة
عشر يوما فقال المشركون: ان محمدا قد ودعه ربه وقلاه، ولو كان أمره من الله
لتتابع عليه (مجمع البيان 10: 764.). وقيل: ان
النبي (صلى الله عليه
وآله) رمي بحجر في اصبعه فقال
يخاطبها: هل أنت الا اصبع رميت *
وفي سبيل الله ما لقيت فمكث ليلتين أو ثلاثا لا يوحى إليه، فقالت له ام جميل بنت حرب امرأة أبي لهب: يا محمد ما أرى شيطانك الا قد تركك، لم أره قربك منذ ليلتين أو
ثلاث ! فنزلت السورة (مجمع البيان 10: 764.). ولايتنافى خبر ابن عباس مع هذا الأخير الا في عدد أيام احتباس
الوحي عنه (صلى الله عليه
وآله) فقد تكون ام جميل هي
السبب في اشاعة الخبر بين المشركين مما أشاع بينهم ذلك، فهي حمالة الحطب، وهذا
من حطبها. أما العدد المذكور في خبر ام جميل: (ليلتين أو ثلاث)، فهو يوحي كأ نما الوحي كان قبل ذلك مستمرا كل
يوم وليلة، وهذا لم يعهد عنه (صلى
الله عليه وآله) ولم
ينقل، فالراجح هو عدد ابن عباس: خمسة عشر يوما، أو مقاتل: أربعين يوما (مجمع
البيان 10: 764.). ولكن عن البرقي بإسناده عن رجل من أهل البصرة قال: رأيت الحسين بن علي (عليه السلام) يطوف بالبيت فسألته عن قول الله
تعالى: * (وأما بنعمة ربك فحدث) * فقال: أمره أن يحدث بما أنعم الله عليه من
دينه (تفسير البرهان 4: 474.). وقال
القمي في معنى الآية: أي بما أنزل الله عليك وأمرك به (تفسير
القمي 2: 428.). ونقل الطبرسي عن مجاهد والزجاج: أي بلغ ما ارسلت به وحدث بالنبوة التي آتاكها الله، وهي أجل
النعم. وعن الكلبي (هشام
بن محمد ت 206) قال:
يريد بالنعمة: القرآن إذ كان القرآن أعظم ما أنعم الله عليه به، فأمره أن يقرأه (مجمع
البيان 10: 768.). وقال ابن اسحاق:
ثم فتر الوحي عن رسول الله فترة من ذلك حتى شق ذلك عليه فأحزنه، فجاءه جبرئيل
بسورة الضحى يقسم له ربه وهو الذي أكرمه بما أكرمه به: أنه ما ودعه وما قلاه،
ويقول: ما صرمك فتركك وما أبغضك منذ أحبك، وما عندي من مرجعك إلي خير لك مما
عجلت من الكرامة في الدنيا *
(ولسوف يعطيك ربك) * من
الفلج (الفوز والغلبة) في الدنيا والثواب في الآخرة * (فترضى) *.
ثم يعرفه الله ما ابتدأه به من كرامته في عاجل أمره ومنه عليه في يتمه وعيلته
وضلالته واستنقاذه من ذلك كله برحمته... * (وأما بنعمة ربك) * بما جاءك من الله من نعمته وكرامته من النبوة فاذكرها وادع إليها.
فجعل رسول الله -
صلى الله عليه [ وآله ] وسلم -
يذكر ما أنعم الله به عليه وعلى العباد به من النبوة سرا الى من يطمئن إليه من
أهله (سيرة ابن هشام 1: 257 - 259.). ثم يقول: فلما دخل الناس في الإسلام أرسالا من الرجال والنساء حتى فشا ذكر
الإسلام بمكة وتحدث به... قال الله تعالى له: * (فاصدع بما تؤمر وأعرض عن
المشركين) * فأمر رسوله أن يصدع بما جاءه منه وأن يبادي الناس بأمره وأن يدعو
إليه. وكان - فيما بلغني - بين ما أخفى رسول الله أمره واستتر به من مبعثه الى
أن أمره الله تعالى بإظهار دينه ثلاث سنين... كان فيها أصحابه إذا أرادوا الصلاة
ذهبوا الى شعاب مكة فاستخفوا بصلاتهم من قومهم. فبينا رسول الله في نفر من
أصحابه في شعب من شعاب مكة يصلون إذ ظهر عليهم نفر من المشركين، فعابوا عليهم ما
يصنعون (سيرة ابن هشام 1: 280 - 282.)، وكأن
هذه الحادثة كانت هي المناسبة لإعلان الدعوة. أما قبل ذلك فإنما كان يذكر النبوة
لمن كان يطمئن إليه من أهله سرا. إذن فكيف اطلعت عليه أم جميل فاحتطبت عليه الى
المشركين فأشاعوا عليه أن الوحي منقطع عنه ؟ ! اللهم الا أن نخلص من ذلك كما خلص
ابن اسحاق فلم يقل بشئ من ذلك، وانما قال: ثم فتر الوحي عنه فترة حتى شق عليه
وأحزنه فجاءه جبرئيل بسورة الضحى. ولم يقل ما الذي نزل من
القرآن قبلها حتى في ابتداء تنزيله، ولكنه بعد أن ذكر ابتداء النزول في شهر
رمضان قال: ثم تتام الوحي إليه - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - وهو مؤمن بالله ومصدق بما جاءه منه قد قبله بقبوله وتحمل منه ما
حمله على رضا العباد وسخطهم... فمضى على أمر الله على ما يلقى من قومه من الخلاف
والأذى (سيرة ابن هشام 1: 257.) ثم
يقول: ثم فتر الوحي... فلو كان (صلى الله عليه وآله) إنما جعل يذكر النبوة سرا
الى من يطمئن إليه من أهله بعد قوله * (وأما بنعمة ربك فحدث) * (ابن هشام 1: 258.) فكيف ومن أين علم به قومه فيتحمل ما يلقاه منهم من الخلاف والأذى
؟ ! والسورة الثانية عشرة - " الشرح ": هي متتالية للضحى ان لم نقل بوحدتهما كما نقل ذلك الفخر الرازي عن
طاووس بن كيسان اليماني وعمر بن عبد العزيز، وجاء في بعض أخبار الأئمة الأطهار
(عليهم السلام) (الميزان
20: 365.) وأفتى به بعض
فقهائنا (المحقق الحلي
في الشرائع والمعتبر.). واختلفوا في معنى الوزر في قوله: *
(ووضعنا عنك وزرك) * ويبدو
لي بقرينة وحدة سياق السورتين أن المقصود بالوزر ما تحمله من ثقل انقطاع الوحي
عنه واحتباسه، وهو العسر الذي تحمله واليسر بعده تجديد الوحي إليه واليوم وقد
فرغ من ذلك الهم والغم فعليه أن ينصب في التحديث بما أنعم الله عليه من النبوة * (فإذا فرغت فانصب والى ربك فارغب) *. وقال صاحب كتاب النظم في تفسير السورة: إن الله بعث نبيه وهو مقل مخف وكانت قريش تعيره بذلك حتى قالوا له:
ان كان بك من هذا القول الذي تدعيه طلب الغنى جمعنا لك مالا حتى تكون أيسر أهل
مكة. فكره النبي ذلك وظن أن قومه انما يكذبوه لفقره، فوعده الله سبحانه الغنى ليسليه
بذلك عما خامره من الهم فقال: * (ان مع العسر يسرا) * أي لا يحزنك ما يقولون وما
أنت فيه من الإقلال، فإن مع العسر يسرا في الدنيا عاجلا. ثم أنجز ما وعده فلم
يمت حتى فتح عليه الحجاز وما والاها من القرى العربية وعامة بلاد اليمن، فكان
يعطي المائتين من الإبل ويهب الهبات السنية، ويعد لأهله قوت سنته (مجمع
البيان 10: 772.) فهل كان بين الضحى والشرح من التحديث بنعمة النبوة منه (صلى الله
عليه وآله) ما جر المشركين الى اقتراح تقديم المال إليه ردعا له عن دعوته ؟ ! السورة الثالثة عشرة - " العصر ": وقال الطبرسي: قيل: المراد بالإنسان هو الوليد بن المغيرة وأبو جهل (مجمع
البيان 10: 815.) ونسب السيوطي الى ابن عباس القول بأ نه أبو جهل (الدر
المنثور 6: 391.). وعلى هذا فلا يخلو قوله * (وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر) * عن تعريض به أو بهما إذ كانا يتواصيان بالباطل والصبر عليه في
مواجهة الحق. وهذا أيضا مما يقتضي الإعلان، كما يقتضيه اطلاق قوله: * (الا الذين آمنوا وعملوا الصالحات) *. السورة الرابعة عشرة - " العاديات ": روى الطبرسي في " مجمع البيان " مرسلا، وقبله الطبري
في تفسيره مسندا الى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: بينما أنا في الحجر جالس إذ أتاني رجل فسأل عن * (العاديات ضبحا) * فقلت له: الخيل حين تغير في سبيل الله ثم تأوي الى الليل فيصنعون
طعامهم ويورون نارهم. فانفتل الرجل عني وذهب الى علي بن أبي طالب وهو تحت سقاية زمزم،
فسأله عن * (العاديات
ضبحا) * فقال: سألت عنها
أحدا قبلي ؟ قال: نعم سألت عنها ابن عباس فقال: الخيل حين تغير في سبيل الله...
قال: فاذهب فادعه لي. فلما وقفت على رأسه قال: تفتي الناس بما لا علم لك به،
والله إن كانت لأول غزوة في الإسلام، بدر وما كانت معنا الا فرسان: فرس للزبير
وفرس للمقداد بن الأسود، فكيف تكون العاديات الخيل ؟ ! بل * (العاديات ضبحا) *:
الإبل من عرفة الى مزدلفة ومن مزدلفة الى منى. قال ابن عباس: فرغبت
عن قولي ورجعت الى الذي قاله علي (عليه السلام) (مجمع
البيان 10: 803 وجامع البيان 30: 177 والدر المنثور 6: 383.) وعليه
فلا يصح ما روى عن مقاتل (مجمع البيان 10: 802.) وعنه
على الرأي الأول (الدر المنثور 6: 383.) ولا
ما في تفسير القمي وفي طريقه من الضعفاء الحسن بن علي البطائني (تفسير
القمي 2: 434 - 438.)، وما رواه الطبرسي في " مجمع البيان " مما يستلزم كون
السورة مدنية، فإنها أخبار متعارضة وفيها تمحل وتهافت ظاهر (التمهيد
1: 128.). وإذا كنا هنا نحاول أن نواكب في السور المكية الأوائل الآيات
المشيرة الى الحوادث الزمنية المعاصرة لها يومئذ، فعلى الخبر الأول عن ابن عباس
عن علي (عليه السلام) لعل
نزول هذه السورة كان في أيام الإفاضة في الحج لأول موسم بعد البعثة ونزول القرآن،
مشيرة الى تقرير القبول باصول مناسك الحج. السورة الخامسة عشرة - " الكوثر ": قال القمي في تفسير
الكوثر: نهر في الجنة،
أعطاه الله محمدا عوضا عن ابنه ابراهيم (كذا) وكان الرجل - في الجاهلية - إذا لم
يكن له ولد سمي أبتر، فدخل رسول الله المسجد وفيه عمرو بن العاص والحكم بن أبي
العاص، فقال له عمرو: يا أبا الأبتر ! (كذا) ثم قال عمرو: اني لأشنأ محمدا. أي:
ابغضه، فأنزل الله على رسوله السورة (تفسير
القمي 2: 443.). ونقله الطباطبائي في
" الميزان " وعلق عليه يقول: الخبر - على إرساله واضماره - معارض لسائر الروايات (الميزان
20: 373.) ثم لم يأخذ عليه ما فيه من تهافت في اسم ابن النبي المتوفى حيث
ذكر ابراهيم ابن مارية القبطية المتوفى بعد الهجرة بالمدينة، ثم عرج على معنى
الأبتر في الجاهلية، ثم ذكر دخول الرسول الى المسجد وفيه عمرو بن العاص وليس هو
الا المسجد الحرام بمكة. ثم ذكر أنه قال له: يا أبا الأبتر بينما هو الأبتر، فيا
لضعف النص ! وروى الدولابي في " الذرية الطاهرة " بسنده عن جابر
الجعفي عن محمد بن علي الباقر (عليه السلام) قال: كان القاسم ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد بلغ أن يركب
الدابة ويسير على النجيب (الابل) فلما قبضه الله قال (العاص بن وائل السهمي): قد أصبح محمد أبتر من ابنه، فأنزل الله على نبيه: * (انا أعطيناك الكوثر) * عوضا عن مصيبتك في القاسم * (فصل لربك وانحر ان شانئك هو الأبتر) * (الذرية الطاهرة: 67.). أما الطبرسي فقد روى عن
ابن عباس: انه كان قد توفي عبد
الله بن محمد (صلى
الله عليه وآله) من
خديجة، وكانوا يسمون من ليس له ابن: أبتر، واتفق أن التقى العاص بن وائل السهمي
عند باب بني سهم برسول الله وهو يخرج من المسجد فتحادثا، وكان اناس من صناديد
قريش جلوسا في المسجد، فلما دخل العاص سألوه: من كنت تتحدث معه ؟ قال: ذلك
الأبتر، فسمته قريش بالأبتر (مجمع
البيان 10: 836.). وجاء مختصر الخبر عنه في
" الدر المنثور " قال: مات عبد الله، فقال العاص بن وائل السهمي، قد انقطع نسله فهو
أبتر، فأنزل الله *
(إن شانئك هو الأبتر) * (الدر
المنثور 6: 401، سورة الكوثر.).
ولكنه أخرج عن الصادق (عليه السلام) قال: توفي " القاسم " ابن رسول الله بمكة، فمر رسول الله - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - وهو آت من جنازته على العاص بن وائل وابنه عمرو، فقال (عمرو) حين
رأى رسول الله: إني لأشنؤه ! فقال العاص بن وائل: لا جرم لقد أصبح أبتر، فأنزل
الله: * (إن شانئك هو
الأبتر) * (الدر المنثور 6: 401، سورة الكوثر.). يمتاز هذا الخبر عما مر بذكر عمرو بن العاص وأ نه هو الشانئ الأبتر وان كان أبوه العاص هو
النابز للنبي بلقب الأبتر، ويؤيده ما في " الاحتجاج " للطبرسي عن
الحسن بن علي (عليهما السلام) في حديث يخاطب فيه عمرو بن العاص يقول له: ثم قمت
خطيبا وقلت: أنا شانئ محمدا، وقال العاص بن وائل (ولم يقل أبوك لأ نه عاهر): إن
محمدا رجل أبتر لا ولد له فلو قد مات انقطع ذكره. فأنزل الله تبارك وتعالى: * (إن شانئك هو الأبتر) * (الاحتجاج 1: 411، ط. النجف الأشرف.). فالخبران الأولان عن ابن عباس انما ذكرا نابز النبي بلقب الأبتر وأ نه كان العاص بن وائل أبا عمرو بن
العاص، ثم لم يذكرا الشانئ له (صلى
الله عليه وآله) المجاهر
له الشنآن. والخبران الآخران عن الصادق والمجتبى (عليهما السلام) ذكراهما، فلا منافاة بينهما، ولعل ابن عباس سالم عمرو بن العاص أو
اتقاه فاكتفى بذكر أبيه دونه. كما فعل كذلك السدي فقال: كانت قريش إذا مات ذكور الرجل تقول: بتر فلان والأبتر: الفرد !
فلما مات ولد للنبي قال العاص بن وائل: بتر الرجل (الميزان
20: 372.). وكما فعل ابن اسحاق قال: بلغني أنه كان العاص بن وائل السهمي إذا ذكر رسول الله قال: دعوه
فإنما هو رجل أبتر لا عقب له، لو مات لا نقطع ذكره واسترحتم منه. فأنزل الله في
ذلك: * (انا أعطيناك
الكوثر) * أي ما هو خير لك من
الدنيا وما فيها (سيرة ابن هشام 2: 34. وانظر الميزان 20: 370 في معنى الكوثر.). والذي تشير إليه السورة
وتدل عليه الأخبار التأريخية والتفسيرية هو أيضا مما يقتضي الإعلان لا الكتمان، بل المجاهرة بالإحن والشنآن، والحنق والعدوان. السورة السادسة عشرة -
" التكاثر ": روى الطبرسي عن مقاتل
والكلبي قالا: نزلت
في حيين من قريش: بني عبد مناف بن قصي، وبني سهم بن عمرو، تكاثروا وعدوا
أشرافهم، فكثرهم بنو عبد مناف، ثم قالوا: نعد موتانا ! حتى زاروا القبور فعدوهم
قالوا: هذا قبر فلان وهذا قبر فلان، فكثرهم بنو سهم لأ نهم كانوا أكثر عددا في
الجاهلية (مجمع البيان 10: 811.) فنزلت
السورة. وعليه فلا يصح ما قيل من مثل ذلك في الأنصار أو اليهود مما يقتضي مدنية السورة.
ولا ننسى هنا ما كان من معاوية وبني امية وبني مروان وقريش عموما من العداء
للأنصار، مما يدفعهم الى أن يعطفوا ما كان من الذم القرآني عليهم الى من سواهم
ولا سيما الأنصار وفيهم الأوتار. السورة السابعة عشرة -
" الماعون ": روى الطبرسي عن ابن جريج قال: نزلت في أبي سفيان بن حرب، كان ينحر في كل اسبوع جزورين، فأتاه
يتيم فسأله شيئا فقرعه بعصاه. وعن السدي ومقاتل بن حيان قالا: نزلت في الوليد بن
المغيرة. وعن الكلبي قال:
نزلت في العاص بن وائل السهمي. وعن عطاء عن ابن عباس قال: نزلت في رجل من المنافقين (مجمع
البيان 10: 834.) وأظن هنا في عطاء أنه قد ناله في هذا القول عطاء بني امية أو
أصابه سهم من سهام وزرائهم من بني سهم، ليعطف عنهم ذما قرآنيا مكيا الى رجل من
المنافقين في المدينة. وفي السورة آية:
* (فويل للمصلين الذين
هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراؤون ويمنعون الماعون) * مما يشير الى وجود مصلين وفيهم مراؤون، فهل يتفق هذا وقول ابن
اسحاق: أنهم قبل اعلان الدعوة كانوا إذا أرادوا الصلاة ذهبوا الى شعاب مكة
فاستخفوا بصلاتهم فيها ؟ فمن كان يرائي لمن ؟ السورة الثامنة عشرة - " الكافرون ": قال الطبرسي نزلت السورة في نفر من قريش منهم: الحارث بن قيس السهمي والعاص بن وائل السهمي، والوليد بن المغيرة
المخزومي، والأسود بن عبد يغوث الزهري، والأسود بن المطلب بن أسد، وامية بن خلف
(وهم المستهزئون) قالوا: هلم يا محمد فاتبع ديننا نتبع دينك ونشركك في أمرنا كله،
تعبد آلهتنا سنة ونعبد الهك سنة، فإن كان الذي جئت به خيرا مما بأيدينا كنا قد
شركناك فيه وأخذنا بحظنا منه، وان كان الذي بأيدينا خيرا مما في يديك كنت قد
شركتنا في أمرنا وأخذت بحظك منه. قال: معاذ الله أن اشرك به غيره. قالوا: فاستلم
بعض آلهتنا نصدقك ونعبد إلهك. فقال: حتى انظر ما يأتي من عند ربي. فنزل: (قل يا أيها الكافرون). فعدل رسول الله (صلى الله عليه وآله) الى المسجد الحرام وفيه الملأ
من قريش، فقام على رؤوسهم ثم قرأ عليهم حتى فرغ من السورة، فأيسوا عند ذلك فآذوه
وآذوا أصحابه (مجمع البيان 10: 840.) وروى
قريبا منه الشيخ في أماليه عن ميناء (أمالي
المفيد: 346 بسنده عن ابن اسحاق. ورواه الطبري 2: 337.). وقال ابن اسحاق في
السيرة: بلغني أنه اعترض
رسول الله وهو يطوف بالكعبة: الأسود بن المطلب، والوليد بن المغيرة، وامية بن
خلف، والعاص بن وائل السهمي، وكانوا ذوي أسنان في قومهم فقالوا: يا محمد هلم
فلنعبد ما تعبد وتعبد ما نعبد فنشترك نحن وأنت في الأمر، فإن كان الذي تعبد خيرا
مما نعبد كنا قد أخذنا بحظنا منه، وان كان ما نعبد خيرا مما تعبد كنت قد أخذت
بحظك منه. فأنزل الله فيهم: *
(قل يا أيها الكافرون) * (سيرة ابن
هشام 1: 388.). وروى الطبري بسنده عن ابن
عباس قال: ان قريشا
وعدوا رسول الله -
صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - أن يعطوه مالا فيكون أغنى رجل بمكة، ويزوجوه ما أراد من النساء،
وقالوا له: هذا لك عندنا يا محمد وكف عن شتم آلهتنا فلا تذكرها بسوء، فإن لم
تفعل فإنا نعرض عليك خصلة واحدة فهي لك، ولنا فيها صلاح. قال: ما هي ؟ قالوا:
تعبد آلهتنا اللات والعزى سنة، ونعبد إلهك سنة ! فقال النبي: حتى أنظر ما يأتي
من عند ربي ! فجاء الوحي من اللوح المحفوظ: * (قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون) * (الطبري 30: 337.).
وعليه فهذه هي بداية أذية
المشركين للرسول والمسلمين، وهي تقتضي الإعلان لا الكتمان. وكأن أذى أبي لهب
وزوجته للرسول من قبل كان خاصا به وبهما فاختصت السورة بهما. السورتان العشرون والواحدة والعشرون - " المعوذتان ": قال القمي: حدثني أبي، عن
بكر بن محمد، عن الصادق
(عليه السلام) قال:
كان سبب نزول المعوذتين أنه وعك رسول الله (صلى الله عليه وآله) فنزل جبرئيل بهاتين السورتين فعوذه بهما (تفسير
القمي 2: 450.). وروى الطبرسي عنه (عليه السلام) قال: جاء جبرئيل الى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو شاك، فرقاه بالمعوذتين و * (قل هو الله أحد) * وقال: باسم الله ارقيك، والله يشفيك من كل داء يؤذيك، خذها
فلتهنيك (مجمع البيان 10: 867.). وروى عن أبيه الباقر (عليه السلام) قال: ان رسول الله اشتكى شكوى شديدة ووجع وجعا شديدا، فأتاه جبرئيل
وميكائيل، فقعد جبرئيل عند رأسه وميكائيل عند رجليه، فعوذه جبرئيل ب * (قل أعوذ برب الفلق) *، وعوذه ميكائيل ب * (قل أعوذ برب الناس) * (مجمع
البيان 10: 867.). وعن كتاب " طب الأئمة " عن الصادق (عليه السلام): أن جبرئيل أتى النبي (صلى الله عليه وآله) وقال له: إن فلانا
اليهودي سحرك، ووصف له السحر وموضعه، فبعث النبي (صلى الله عليه وآله) عليا
(عليه السلام) حتى أتى القليب فبحث عنه فلم يجده، ثم اجتهد في طلبه حتى وجده
فأتى به النبي (صلى الله عليه وآله) وإذا هو حقة فيها قطعة كرب نخل، في جوفه وتر
عليها احدى عشرة عقدة، وكان جبرئيل (عليه السلام) قد انزل المعوذتين، فأمر النبي
عليا أن يقرأهما على الوتر، فجعل كلما قرأ آية انحلت عقدة حتى فرغ منها، فكشف
الله عن نبيه ما سحر به وعافاه (طب الأئمة: 118.). ونقل المجلسي في باب معجزاته في كفاية شر الأعداء عن كتاب "
الخرائج والجرائح " للقطب الراوندي قال: روى أن امرأة من اليهود عملت له سحرا فظنت أنه ينفذ فيه كيدها.
والسحر باطل محال، الا أن الله دله عليه فبعث من استخرجه، وكان على الصفة التي
ذكرها وعلى عدد العقد التي عقد فيها ووصف، ما لو عاينه معاين لغفل عن بعض ذلك (بحار الأنوار 18: 57.). ولعله أخذ القول باليهودية مما اختصره ابن جزي الكلبي في "
التسهيل " قال: قيل: ان بنات " لبيد " كن ساحرات، فهن - وأبوهن -
سحرن رسول الله وعقدن له احدى عشرة عقدة، فأنزل الله المعوذتين: احدى عشرة آية
بعدد العقد، وشفى الله رسوله (التسهيل
4: 225.). وشاء الراوي - في خبر آخر - أن يحذف اسمه ويكتفي بوصفه باليهودية
فقال: سحر النبي يهودي
فاشتكى، فأتاه جبرئيل بالمعوذتين وقال: ان رجلا من اليهود سحرك، والسحر في بئر
فلان. فأرسل عليا (عليه السلام) فجاء به، فأمره أن يحل العقد ويقرأ آية، فجعل
يقرأ ويحل حتى قام النبي كأ نما نشط من عقال (الدر
المنثور 6: 417.). وأخرج مفصله البيهقي في
" دلائل النبوة " عن طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس عن عائشة
قالت: كان لرسول الله غلام يهودي يخدمه يقال له: لبيد بن أعصم، فلم تزل
به اليهود حتى سحر النبي، فكان يذوب (أو: يدور) ولا يدري ما وجعه. فبينا رسول
الله ذات ليلة نائم إذ أتاه ملكان فجلس أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه فقال
الأول للثاني: ما وجعه ؟ قال: مطبوب (أي مسحور) قال: من طبه ؟ قال: لبيد ابن
أعصم ؟ قال: بم طبه ؟ قال: بمشط ومشاطة وجف طلعة نخل ذكر بذي أروان (بئر) وهي
تحت راعوفة البئر (الصخرة على فم البئر). فلما أصبح رسول الله غدا ومعه أصحابه الى البئر فنزل رجل (؟)
فاستخرج الجف، فإذا فيها مشط رسول الله ومن مشاطة رأسه (شعر رأسه) وإذا تمثال من
شمع تمثال رسول الله وإذا فيها ابر مغروزة، وإذا وتر فيه احدى عشرة عقدة. فأتاه
جبرئيل بالمعوذتين فقال: يا محمد * (قل أعوذ برب الفلق) * وحل عقدة، * (من
شر ما خلق) *، وحل
عقدة، حتى فرغ منها وحل العقد كلها، وجعل لا ينزع ابرة الا يجد لها ألما ثم يجد
بعد ذلك راحة، فقيل: يا رسول الله لو قتلت اليهودي ؟ ! فقال: قد عافاني الله،
وما وراءه من عذاب الله أشد (كما في الدر المنثور 6: 417.). وقد قالوا: ان أوهى الطرق الى ابن عباس هو طريق الكلبي عن أبي صالح
عنه (الإتقان 2: 189.) وابن عباس رواه عن عائشة، وان أوهم الطبرسي فقال: عن ابن عباس
وعائشة (مجمع البيان 10: 865.) ولكن
عائشة من أين علمت وأخبرت عن الملكين ؟ ونجد الجواب فيما رواه الشيخان في
الصحيحين عنها قالت: سحر رسول الله رجل من يهود بني زريق يقال له: لبيد بن
الأعصم، حتى كان يخيل إليه أنه يفعل الشئ وما يفعله ! حتى إذا كان ذات يوم أو
ذات ليلة دعا رسول الله ثم دعا ثم دعا. ثم قال: يا عائشة: جاءني رجلان فقعد
أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي، فقال الذي عند رأسي للذي عند رجلي: ما وجع الرجل
؟ قال: مطبوب، قال: من طبه ؟ قال: لبيد بن الأعصم، قال: في أي شئ ؟ قال: في مشط
ومشاطة، وجف طلعة نخل ذكر قال: فأين هو ؟ قال: في بئر ذي أروان (أو: ذروان). قالت: فأتاها رسول الله
في اناس من أصحابه ثم رجع وقال: يا عائشة، والله لكأن ماءها نقاعة الحناء ولكأن نخلها رؤوس
الشياطين. فقلت: هلا استخرجته ؟ فقال: لا، أما أنا فقد شفاني الله، وخشيت أن
يثير ذلك على الناس شرا (!) ثم أمر بالبئر فدفنت (البخاري
4: 148 و 7: 176 ومسلم 7: 14.).
وعليه بنى السيوطي فقال: المختار أن المعوذتين مدنيتان لانهما نزلتا في قصة سحر لبيد بن
الأعصم (الإتقان 1: 14.) ولعل اليعقوبي عدهما من أواخر المدنيات لذلك أيضا (اليعقوبي 2: 43.) ومر في خبر" الدر المنثور " و" طب الأئمة " أن الرسول أرسل عليا فجاءه بالسحر، وفي خبر " الصحيحين
" و " دلائل النبوة " أنه خرج مع ناس من أصحابه فنزل إليه رجل
منهم فاستخرج السحر، وأمر بالبئر فطمت، ومن الطبيعي القطعي أن ينقطع لبيد بعد
ذلك عن خدمته، ومع ذلك لم يرو الخبر عن غير ابن عباس عن عائشة ! والغريب أن ابن عباس كأ نه لم ير في الخبر تنافيا مع ما رواه في ترتيب نزول السور وأن
المعوذتين من أوائل المكيات لا من أواخر المدنيات ! (التمهيد
1: 103 وتلخيصه 1: 95). أما الأخبار الثلاثة
الاول عن القمي عن الصادق (عليه السلام) وعن الطبرسي عنه، وعن الباقر (عليه
السلام)، فهي خلو مما ينافي شأن النبي ومكية السورتين، وأما الخبر الرابع
عن " طب الأئمة " عن الصادق (عليه السلام) فهو عن محمد بن سنان عن
المفضل بن عمر، وكلاهما معروفان في الرجال بالضعف، ولا أراه الا متسربا من غيرهم
(عليهم السلام). السورة الثانية والعشرون - " التوحيد ": قال القمي في تفسيره:
كان سبب نزولها: أن
اليهود جاءت الى رسول الله فقالت: ما نسب ربك ؟ فأنزل الله: * (قل هو الله أحد) * (تفسير القمي 2: 448.).
ورواه الكليني في " الكافي " بسنده عن الصادق (عليه السلام) قال: إن
اليهود سألوا رسول الله فقالوا: انسب لنا ربك. فلبث ثلاثا لا يجيبهم ثم نزلت *
(قل هو الله أحد) * الى آخرها
(كما في الميزان 20: 390.) ورواه
الطبرسي في " مجمع البيان " (مجمع
البيان 10: 859.). وفي " الإحتجاج " للطبرسي عن العسكري (عليه السلام) أن
السائل هو عبد الله بن صوريا اليهودي (كما في
الميزان 20: 390 عن الاحتجاج، ولم اجده في أخبار العسكري (عليه السلام).). وروى الطبرسي عن الضحاك وقتادة ومقاتل قالوا: جاء اناس من أحبار اليهود الى النبي (صلى الله عليه وآله) فقالوا:
يا محمد صف لنا ربك لعلنا نؤمن بك، فإن الله أنزل نعته في التوراة. فنزلت السورة
(مجمع البيان 10: 859.). الى هنا تبدو هذه الأخبار وكأ نها تستلزم مدنية السورة، ولكن روى
الطبرسي عن تفسير القاضي
ما يدفع هذه الدلالة قال: ان عبد الله بن سلام انطلق الى رسول الله وهو بمكة،
فقال له رسول الله: انشدك بالله هل تجدني في التوراة رسول الله، فقال: انعت لنا
ربك. فنزلت هذه السورة فقرأها النبي (صلى الله عليه وآله) فكانت سبب اسلامه الا
أنه كان يكتم ذلك الى أن هاجر النبي الى المدينة ثم أظهر الإسلام (مجمع
البيان 10: 859.) فلعله كان هو وعبد الله بن صوريا اليهودي كما مر عن خبر "
الاحتجاج " عن العسكري (عليه السلام). ولكن روى القمي أيضا عن
الضحاك عن ابن عباس قال: قالت
قريش للنبي بمكة: صف لنا ربك لنعرفه فنعبده. فأنزل الله على النبي (صلى الله
عليه وآله): *
(قل هو الله أحد) * (تفسير
القمي 2: 448.) وروى الطبرسي تفصيله عنه أيضا قال: إن عامر بن الطفيل وأربد بن
ربيعة - أخا لبيد الشاعر - أتيا النبي (صلى الله عليه وآله)، فقال له عامر ابن
الطفيل: الى ما تدعونا يا محمد ؟ فقال: الى الله فقال: صفه لنا أمن ذهب هو أم من
فضة أم من حديد أم من خشب ؟ فنزلت السورة. وأرسل الله الصاعقة على أربد فأحرقته
وطعن عامر في خنصره فمات (مجمع البيان 10: 859.). وقد يجمع بينهما بأن النبي (صلى الله عليه وآله) تلى التوحيد
عليهم، فاستهزأوا به فنزل العذاب بهم، أما نزول السورة فقد كان من قبل لليهود
القادمين إليه من المدينة، فلا تنافي. وفي اتيان اليهود إليه من المدينة دلالة على
انتشار خبره وبلوغه إليها، وهذا
أيضا مما لا يتلاءم مع دور
الكتمان، بل الإعلان. السورة الثالثة والعشرون - " النجم " ومعراج الرسول (صلى
الله عليه وآله): قال
القمي: النجم رسول الله و *
(إذا هوى) * أي لما
اسري به الى السماء. فهو قسم برسول الله ورد على من أنكر المعراج (تفسير
القمي 2: 333. وجاء في اللغة: هوى في الجبل أي صعد فيه، فهوى من الأضداد). ولعله أخذ ذلك من خبر
رواه الطبرسي عن الصادق (عليه السلام) قال: ان محمدا (صلى الله عليه وآله) لما نزل من السماء السابعة ليلة
المعراج (مجمع البيان 10: 261.) مع ما
بين النصين من الفرق. وروى القمي عن الصادق
(عليه السلام) قال: بينا
رسول الله (صلى الله عليه وآله) راقد بالأبطح وعلى يمينه علي (عليه السلام) وعن
يساره جعفر وحمزة بين يديه... إذ أدركه اسرافيل بالبراق وأسرى به الى بيت المقدس
وعرض عليه محاريب الأنبياء وآيات الأنبياء، فصلى فيها، ورده من ليلته الى مكة.
فمر في رجوعه بعير لقريش وإذا لهم ماء في آنية فشرب منه وأهرق باقي ذلك. وقد
كانوا أضلوا بعيرا لهم وكانوا يطلبونه. فلما أصبح (صلى الله عليه وآله) قال لقريش: ان الله قد أسرى بي في هذه الليلة الى بيت المقدس، فعرض علي
محاريب الأنبياء وآيات الأنبياء، واني مررت بعير لكم في موضع كذا وكذا وإذا لهم
ماء في آنية فشربت منه وأهرقت باقي ذلك، وقد كانوا أضلوا بعيرا لهم. فقال أبو جهل - لعنه الله -: قد أمكنكم الفرصة من محمد، سلوه كم الأساطين فيها والقناديل.
فقالوا: يا محمد ان ها هنا من قد دخل بيت المقدس، فصف لنا كم أساطينه وقناديله
ومحاريبه ؟ فجاء جبرئيل فعلق صورة البيت المقدس تجاه وجهه فجعل يخبرهم بما
سألوه. فلما أخبرهم قالوا: حتى تجئ العير ونسألهم عما قلت. فقال لهم: وتصديق ذلك
أن العير تطلع عليكم مع طلوع الشمس يقدمها جمل أحمر. فلما أصبحوا أقبلوا ينظرون الى العقبة ويقولون: هذه الشمس تطلع الساعة. فبينا هم كذلك إذا طلعت العير مع طلوع
الشمس يقدمها جمل أحمر. فسألوهم عما قال رسول الله، فقالوا: لقد كان هذا: ضل جمل
لنا في موضع كذا وكذا، ووضعنا ماء باردا وأصبحنا وقد اهريق الماء. فلم يزدهم ذلك
الا عتوا (تفسير القمي 2: 13، 14 ورواه الطبرسي في إعلام الورى: 49.). رواه القمي مرسلا
بلا اسناد، ورواه الصدوق في
أماليه عن أبيه عن القمي
عن أبيه عن ابن أبي عمير عن أبان بن عثمان بن الأحمر البجلي عن الصادق (عليه
السلام) (أمالي الصدوق: 363. وروى بعده خبرا باسناده الى عبد الرحمن بن غنم في
الإسراء والمعراج، قريب من سابقه. وفي: 480 روى خبرا آخر عن الباقر (عليه
السلام).). هذا الخبر كما مر ذكر
الإسراء من مكة الى المسجد الأقصى وهو بيت المقدس فقط ولم يذكر عروجه (صلى الله
عليه وآله) منه الى السماوات العلى. وقال الطبرسي: فمن
جملة الأخبار الواردة في قصة المعراج ما روى: أن النبي (صلى الله عليه وآله)
قال: أتاني جبرئيل (عليه السلام) وأنا بمكة فقال: قم يا محمد. فقمت معه وخرجت
الى الباب فإذا جبرئيل ومعه ميكائيل واسرافيل، فأتى جبرئيل (عليه السلام)
بالبراق... فقال: اركب، فركبت ومضيت حتى انتهيت الى بيت المقدس. ثم ساق الحديث
الى أن قال: ثم أخذ جبرئيل (عليه السلام) بيدي الى الصخرة فأقعدني عليها، فإذا
معراج الى السماء لم أر مثلها حسنا وجمالا، فصعدت الى السماء الدنيا ورأيت
عجائبها وملكوتها... ثم صعد بي جبرئيل الى السماء الثانية... ثم صعد بي الى
السماء الثالثة... ثم صعد بي الى السماء الرابعة... ثم صعد بي الى السماء
الخامسة... ثم صعد بي الى السماء السادسة... ثم صعد بي الى السماء السابعة... ثم
جاوزناها متصاعدين الى أعلى عليين. ووصف ذلك الى أن قال: ثم كلمني ربي وكلمته،
ورأيت الجنة والنار، ورأيت العرش، وسدرة المنتهى. ثم رجعت الى مكة، فلما
أصبحت حدثت به الناس فكذبني أبو جهل والمشركون، وقال مطعم بن عدي: أتزعم أنك سرت مسيرة شهرين في ساعة ؟ ! أشهد
أنك كاذب ! ثم قالوا: أخبرنا عما رأيت. فقال مررت بعير بني فلان وقد أضلوا بعيرا
لهم وهم في طلبه وفي رحلهم قعب مملوء من ماء فشربت الماء ثم غطيته كما كان. قال:
ومررت بعير بني فلان فنفرت بكرة فلان فانكسرت يدها قالوا: فأخبرنا عن عيرنا.
قال: مررت بها بالتنعيم يتقدمها جمل أورق (أي أحمر) عليه قرارتان محيطتان، ويطلع
عليكم عند طلوع الشمس. قالوا: فخرجوا يشتدون نحو الثنية وهم يقولون: لقد قضى
محمد بيننا وبينه قضاء بينا وجلسوا ينتظرون متى تطلع الشمس فيكذبوه. فقال قائل:
والله ان الشمس قد طلعت، وقال آخر: والله هذه الإبل قد طلعت يقدمها بعير أورق.
فبهتوا ولم يؤمنوا (مجمع البيان 6: 609، 610) ورواه محمد بن اسحاق عن ام هانئ بنت أبي طالب - رضي الله عنهما -
قالت: ان رسول الله - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - ليلة اسري به صلى العشاء الآخرة في بيتي ثم نام عندي تلك الليلة
في بيتي ونمنا. فلما كان قبيل الفجر أيقظنا رسول الله - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم -، فلما صلى الصبح وصلينا معه قال: يا ام هانئ لقد صليت معكم العشاء
الآخرة كما رأيت بهذا الدار ثم ذهبت الى بيت المقدس فصليت فيه ثم ها أنا قد صليت
معكم الآن صلاة الغداة كما ترين. ثم قام ليخرج، فأخذ بطرف ردائه فقلت له: يا نبي
الله لاتحدث بهذا الناس فيكذبوك ويؤذوك ! قال: والله لاحدثنهم به. فقلت لجارية لي حبشية: ويحك اتبعي رسول الله - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - حتى تسمعي ما يقول الناس وما يقولون له. فقالت: لما خرج رسول الله
الى الناس أخبرهم فعجبوا وقالوا: ما آية ذلك يا محمد ؟ فإنا لم نسمع بمثل هذا قط
! قال: آية ذلك: أني مررت وأنا متوجه الى الشام بعير بني فلان بوادي كذا وكذا
فانفرهم حس الدابة فشذ عنهم بعير فدللتهم عليه. ثم أقبلت حتى إذا كنت بوادي
ضجنان (على بريد من مكة بوادي تهامة) مررت بعير بني فلان فوجدت القوم نياما،
ولهم إناء فيه ماء قد غطوا عليه بشئ، فكشفت غطاءه وشربت ما فيه ثم غطيت عليه كما
كان، وآية ذلك أن عيرهم الآن تصوب من البيضاء ثنية " التنعيم " يقدمها
جمل أورق (بين الغبرة والسواد) عليه غرارتان: احداهما سوداء والاخرى بألوان مختلفة.
قالت (ام هانئ عن جاريتها) فابتدر القوم الثنية فلم يلقهم شئ قبل الجمل كما وصف لهم، وسألوهم
عن الإناء فأخبروهم أنهم وضعوه مملوءا ماء ثم غطوه وأ نهم هبوا (من نومهم)
فوجدوه مغطى كما غطوه ولم يجدوا فيه ماء، وسألوا الآخرين وهم بمكة، فقالوا: صدق
والله، لقد انفرنا في الوادي الذي ذكر، وند لنا بعير، فسمعنا صوت رجل يدعونا
إليه حتى أخذناه (سيرة ابن هشام 2: 43، 44.). وفي تمام الخبر السابق عن الصادق (عليه السلام) قال: لما نزلت السورة واخبر بذلك عتبة بن أبي لهب فجاء الى النبي (صلى
الله عليه وآله) وتفل في وجهه وقال: كفرت بالنجم وبرب النجم، وطلق ابنته (صلى
الله عليه وآله). فدعا عليه وقال: اللهم سلط عليه كلبا من كلابك. فخرج عتبة الى الشام فنزل في بعض الطريق، وألقى الله عليه الرعب
فقال لأصحابه: أنيموني بينكم ليلا. ففعلوا، فجاء أسد فافترسه من بين الناس. وفي ذلك قال (بعد ذلك)
حسان: سائل بني الأصفر إن جئتهم *
ما كان أنباء بني واسع لا وسع الله له قبره
* بل ضيق الله على القاطع رمى رسول الله من بينهم
* دون قريش، رمية القاذع واستوجب " الدعوة " منه بما * بين للناظر والسامع فسلط الله به " كلبه " * يمشي الهوينا مشية الخادع والتقم الرأس بيافوخه *
والنحر منه قفزة الجائع من يرجع العام الى أهله
؟ * فما " أكيل السبع "
بالراجع قد كان هذا لكم عبرة
* للسيد المتبوع والتابع (مجمع البيان 10: 261.). وعن قولهم له: صف
لنا بيت المقدس وأخبرنا عن عيرنا في طريق الشام وغير ذلك، مما جادلوه به عبر
الله تعالى بقوله سبحانه: *
(ما كذب الفؤاد ما رأى أفتمارونه على ما يرى) * (النجم: 11، 12.) وفي السورة قوله سبحانه: * (أفرأيت الذي تولى وأعطى قليلا وأكدى أعنده علم الغيب فهو يرى)
* (النجم: 33 - 35.) وقد مر في الخبر السابق عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه سمى من
المكذبين لحديثه عن إسرائه ومعراجه: أبا جهل ومطعم بن عدي. ثم مر خبر عتبة بن
أبي لهب وأ نه كان أشدهم تكذيبا له. فهل الآية تشير الى أحد هؤلاء المكذبين ؟ سمى المفسرون أحد ثلاثة أشخاص من صناديد مشركي قريش مصداقا لهذه الآية، وخبرا
رابعا تسمي مسلما مصداقا معينا لها. ليس الا واحدا من الثلاثة المشركين مذكورا في المكذبين لحديث
الرسول عن إسرائه ومعراجه هو أبو جهل، فيما نقله الطبرسي عن محمد بن كعب القرظي:
أن الآية في أبي جهل، وذلك أنه قال: والله ما يأمرنا محمد الا بمكارم الأخلاق !
فذلك قوله سبحانه: *
(وأعطى قليلا وأكدى) * أي
أعطى قليلا من نفسه تصديقا ثم لم يؤمن. وعن السدي قال: نزلت في العاص بن وائل
السهمي وذلك أنه كان يوافق رسول الله في بعض الامور. وعن مجاهد وابن زيد قالا:
نزلت في الوليد بن المغيرة. وعن
الكلبي عن السدي عن ابن عباس:
أن عثمان بن عفان كان ينفق ويتصدق من ماله، فقال له أخوه من الرضاعة: عبد الله
بن سعد بن أبي سرح: ما هذا الذي تصنع ؟ يوشك أن لا يبقى لك شئ ! فقال عثمان: ان
لي ذنوبا واني أطلب بما أصنع رضا الله وأرجو عفوه. فقال له عبد الله: أعطني
ناقتك وأنا أتحمل عنك ذنوبك كلها ! فأعطاه وأشهد عليه وأمسك عن الصدقة، فنزلت: * (أفرأيت الذي تولى وأعطى قليلا) * ثم قطع نفقته، الى قوله: * (وأن سعيه سوف يرى) * (مجمع البيان 9: 271 وقبله الزمخشري في الكشاف 4: 33. وبعده الواحدي
في أسباب النزول: 335، 336 ط الجميلي.). وهذا الخبر دل - فيما دل
- على اسلام عثمان، كما دل الخبر السابق عن تفسير القمي في إسراء النبي (صلى الله عليه وآله) على اسلام حمزة أيضا، كما دل خبر ابن اسحاق عن ام هانئ بنت أبي
طالب على اسلامها واسلام بيتها وزوجها أبي هبيرة المخزومي. وإذا لم يكن للأخير خبر في تأريخ الإسلام فلنمر على أخبار اسلام حمزة وعثمان. |
إسلام
حمزة عم النبي (صلى الله عليه وآله):
|
أما اسلام حمزة: فكذلك فعل
الطبرسي في "
اعلام الورى " إذ جعله الخبر السابق لخبر إسرائه (صلى الله عليه
وآله) الى بيت المقدس، نقلا
عن علي بن ابراهيم ابن هاشم باسناده قال: كان أبو جهل قد تعرض لرسول الله وآذاه
بالكلام، واجتمعت بنو هاشم وكان حمزة في الصيد فأقبل ونظر الى اجتماع الناس
فقال: ما هذا ؟ فقالت له امرأة: يا أبا يعلى إن عمرو بن هشام (أبا جهل) قد تعرض
لمحمد وآذاه. فغضب حمزة ومر نحو أبي جهل وأخذ قوسه فضرب بها رأسه ثم احتمله فجلد
به الأرض. واجتمع الناس فقالوا: يا أبا يعلى صبوت الى دين ابن أخيك ؟ قال: نعم،
أشهد أن لا اله الا الله وأن محمدا رسول الله. على جهة الغضب والحمية. ورجع الى
منزله. وغدا على رسول الله فقال: يابن أخ أحق ما تقول ؟ فقرأ عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله)
سورة من القرآن فاستبصر، وثبت على دين الإسلام، وفرح رسول الله (صلى الله عليه
وآله)، وسر أبو طالب بإسلامه وقال
في ذلك: فصبرا أبا يعلى على دين
أحمد * وكن مظهرا للدين
- وفقت - صابرا وحط من أتى بالدين من عند ربه * بصدق وحق، لا تكن - حمز - كافرا فقد سرني إذ قلت: انك مؤمن * فكن لرسول الله - في الله -
ناصرا وناد قريشا بالذي قد اتيته * جهارا وقل: ما كان
أحمد ساحرا (إعلام الورى: 48.).
وروى الخبر ابن اسحاق عن رجل من أسلم قال: إن أبا جهل مر برسول الله عند الصفا فآذاه وشتمه ونال منه بعض ما
يكره من العيب لدينه والتضعيف لأمره، فلم يكلمه رسول الله (صلى الله عليه وآله).
ثم انصرف عنه فعمد الى ناد من قريش عند الكعبة فجلس معهم. وكانت مولاة لعبد الله بن
جدعان في مسكن لها تسمع ذلك. فلم يلبث أبو جهل حتى أقبل حمزة بن عبد المطلب
متوشحا قوسه راجعا من الصيد، وكان إذا رجع من ذلك لم يصل الى أهله حتى يطوف
بالكعبة، وكان إذا فعل ذلك لم يمر على ناد من قريش الا وقف وسلم وتحدث معهم،
وكان أعز فتى في قريش وأشد شكيمة. وكان رسول الله قد رجع الى بيته. فلما مر حمزة
بمولاة ابن جدعان قالت له: يا أبا عمارة لو رأيت ما لقي ابن أخيك محمد آنفا من
أبي الحكم بن هشام: وجده هاهنا جالسا فآذاه وسبه وبلغ منه ما يكره ثم انصرف عنه،
ولم يكلمه محمد -
صلى الله عليه [ وآله ] وسلم -. فاحتمل حمزة الغضب... فخرج يسعى ولم يقف على أحد، معدا لأبي جهل
إذا لقيه أن يوقع به. فلما دخل المسجد نظر إليه جالسا في القوم فأقبل نحوه، حتى
إذا قام على رأسه رفع القوس فضربه بها فشجه شجة منكرة ثم قال: أتشتمه وأنا على
دينه أقول ما يقول، فرد ذلك علي إن استطعت ! فقامت رجال من بني مخزوم الى حمزة
لينصروا أبا جهل، فقال أبو جهل: دعوا أبا عمارة فإني والله قد سببت ابن أخيه سبا
قبيحا. فلما أسلم حمزة عرفت قريش أن رسول الله - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - قد عز وامتنع،
وأن حمزة سيمنعه، فكفوا عن بعض ما كانوا ينالون منه (سيرة ابن
هشام 1: 311، 312.). وزاد المقدسي يقول: " عز به النبي - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - وأهل الإسلام، فشق ذلك على المشركين فعدلوا عن المنابذة الى
المعاتبة، وأقبلوا يرغبونه في المال والأنعام، ويعرضون عليه الازواج " (البدء
والتأريخ 4: 148، 149 و 5: 98.).
أما اسلام عثمان: فقد قال ابن اسحاق: بلغني أنه أسلم بعد أبي بكر (سيرة ابن
هشام 1: 267.). وروى ابن عبد البر في " الاستيعاب " عن المدائني عن عمر بن عثمان عن أبيه: أنه دخل على خالته أروى بنت
عبد المطلب، فدخل رسول الله -
صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - فجعل ينظر إليه وقد ظهر شأنه، فجرى له معه حديث وقرأ عليه بعض
الآيات ثم قام فخرج. قال عثمان: فخرجت خلفه فأدركته وأسلمت (الاستيعاب
4: 225.). وخبر ابن اسحاق يتضمن
الدلالة على سبق اسلام أبي بكر، كما عده هو فيمن أسلم بعد علي (عليه السلام) وخديجة وزيد بن حارثة، وأ نه أسلم بعد عثمان: الزبير بن العوام،
وعبد الرحمن بن عوف الزهري، وسعد بن أبي وقاص الزهري، وطلحة بن عبيدالله التيمي
وأ نهم استجابوا لأبي بكر فجاء بهم الى رسول الله (صلى
الله عليه وآله)
فأسلموا وصلوا. وحيث جاء في عبارة ابن اسحاق أنهم استجابوا لأبي بكر فجاء بهم الى النبي (صلى الله عليه وآله) بينما لم
يصرح ابن اسحاق بأ نهم أسلموا بدعوة أبي بكر، لذلك اضاف ابن
هشام هذه الكلمة: " بدعائه " ثم نبه عليه فقال: قوله " بدعائه " عن غير ابن اسحاق (سيرة ابن
هشام: 266 - 269.) وهذا من أمانته، ولكنه اجتهاد من ابن هشام، ولا دليل عليه، بل ظاهر
قول ابن اسحاق أنهم انما استجابوا لأبي بكر ليأتوا الى الرسول، وأ نهم انما
أسلموا على يد الرسول نفسه، فالعبارة
لا تدل على أنهم أسلموا بدعوة أبي بكر اياهم، بل هي في خلاف ذلك أظهر كما
هو واضح. وكما روى ابن عبد البر في " الاستيعاب " ما دل على عدم اسلام عثمان بدعوة أبي بكر بل بدعوة الرسول نفسه،
كذلك روى المقدسي في " البدء والتأريخ " رواية مفادها أن طلحة ذهب
بنفسه الى الرسول فأسلم، وقالوا: إنه كان في بصرى الشام، فسمع من راهب فيه خروج
نبي في ذلك الشهر اسمه " أحمد " فلما قدم مكة سمع الناس يقولون: تنبأ
محمد بن عبد الله، فأتى الى أبي بكر فسأله فأخبره ثم أدخله على رسول الله فأسلم (البدء
والتأريخ 5: 82 والبداية والنهاية 3: 29 ومستدرك الحاكم 3: 369.). روى تفصيله الطبرسي عن " دلائل النبوة " بسنده عن
ابراهيم بن محمد بن طلحة، عن أبيه عن جده طلحة بن عبيد الله التيمي قال: حضرت سوق بصرى فإذا
راهب في صومعته قال: سلوا
أهل هذا الموسم: أفيهم أحد من أهل الحرم ؟ فقلت: نعم، أنا. فقال: قد ظهر أحمد أم
بعد ؟ قال: قلت: ومن أحمد ؟ قال: ابن عبد الله بن عبد المطلب، هذا شهره الذي
يخرج فيه، وهو آخر الأنبياء، مخرجه من الحرم ومهاجره الى حرة وسباخ ونخل. قال
طلحة: فوقع في قلبي ما قال، فخرجت سريعا حتى قدمت مكة فقلت: هل كان من حدث ؟
قالوا: نعم، محمد بن عبد الله الأمين قد تنبأ، وقد تبعه ابن أبي قحافة. قال:
فخرجت حتى دخلت على أبي بكر فقلت: اتبعت هذا الرجل ؟ قال: نعم فانطلق إليه وادخل
عليه فإنه يدعو الى الحق. قال طلحة: فأخبرته بما قال الراهب. فخرج بي أبو بكر
فدخل بي على رسول الله فأسلمت وأخبرته بما قال الراهب، فسر رسول الله بذلك. قال الراوي: فلما
أسلم أبو بكر وطلحة أخذهما نوفل بن خويلد بن العدوية فشدهما في حبل واحد فلم
يمنعهما بنو تيم (الطبرسي في إعلام الورى: 40 عن دلائل البيهقي 1: 419.) فهذا
يؤيد قول ابن اسحاق دون ابن هشام. وقال المقدسي في " البدء والتأريخ " في اسلام سعد ابن
أبي وقاص: كان سبب اسلامه
أنه قال: رأيت في المنام كأ ني في ظلام فأضاء قمر فاتبعته، فإذا أنا بعلي وزيد - وروى: فإذا أنا بزيد وأبي بكر - قد سبقاني إليه. ثم بلغني أن رسول الله يدعو الى الإسلام مستخفيا،
فلقيته بأجياد فأسلمت (البدء والتاريخ 5: 85.). وأما الزبير بن العوام: فقد نقل ابن أبي الحديد في " شرح النهج " عن " نقض
العثمانية " لأبي جعفر الإسكافي أنه قال: ان الزبير كان قد أسلم قبل أبي
بكر (شرح النهج 13: 224.). وعلى هذا فلم يبق ممن
أسماهم ابن اسحاق أو ابن هشام سوى
عبد الرحمن بن عوف فقط. وقد نقل ابن
اسحاق قسما من
أخبار الإسراء والمعراج عن
عبد الله بن مسعود وأبي سعيد الخدري، مما يدل على سبق اسلامهما أيضا (سيرة ابن
هشام 2: 37.). |
فرض
الصلوات:
|
قال ابن اسحاق:
وفيما بلغني من حديث عبد الله بن مسعود عن النبي - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم -: أن جبرئيل انتهى به الى السماء السابعة ثم انتهى به الى ربه ففرض
عليه خمسين صلاة كل يوم ! قال رسول الله:
فأقبلت راجعا، فلما مررت بموسى بن عمران سألني: كم فرض عليك من الصلاة ؟ فقلت:
خمسين صلاة كل يوم. فقال: ان الصلاة ثقيلة وان امتك ضعيفة، فارجع الى ربك فاسأله
أن يخفف عنك وعن امتك. فرجعت فسألت ربي أن يخفف عني وعن امتي، فوضع عني عشرا، ثم
انصرفت، فمررت على موسى فقال لي مثل ذلك، فرجعت فسألت ربي فوضع عني عشرا، ثم
انصرفت فمررت به على موسى فقال لي مثل ذلك، فرجعت فسألته فوضع عني عشرا، ثم لم
يزل يقول لي مثل ذلك كلما رجعت إليه قال: فارجع فاسأل، حتى انتهيت الى أن وضع
ذلك عني الا خمس صلوات في كل يوم وليلة، ثم رجعت الى موسى فقال لي مثل ذلك فقلت:
قد راجعت ربي وسألته حتى استحييت منه، فما أنا بفاعل. ثم قال: فمن أداهن منكم ايمانا واحتسابا لهن كان له أجر خمسين صلاة مكتوبة
(سيرة ابن هشام 2: 5.) وفي
هذا المعنى الأخير روى الصدوق في " الخصال " بسنده عن الزهري عن أنس قال: فرضت على النبي (صلى الله عليه وآله)
ليلة اسري به الصلاة خمسين، ثم نقصت فجعلت خمسا، ثم نودي: يا محمد * (إنه لا يبدل القول لدي) * ان لك بهذه الخمس خمسين. وفيه بسنده عن الصادق
(عليه السلام) قال: لما
خفف الله عن النبي (صلى
الله عليه وآله) حتى
صارت خمس صلوات، أوحى الله إليه: يا محمد خمس بخمسين. وباسناده عن زيد بن علي عن سيد العابدين قال: لما هبط رسول الله الى الأرض نزل عليه جبرئيل فقال: يا محمد، ان
ربك يقرئك السلام ويقول:
انها خمس بخمسين، *
(ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد) * (العلل: 55، والأمالي: 275 والتوحيد: 176 والفقيه 1: 197 ط الغفاري.). وحكى علي بن ابراهيم بن
هاشم القمي في تفسيره عن أبيه عن محمد ابن أبي عمير عن هشام بن سالم عن الصادق
(عليه السلام) أنه
حدث بحديث معراج الرسول عن لسانه الى أن قال: ثم غشيتني صبابة (أو سحابة) فخررت
ساجدا فناداني ربي: إني قد فرضت على كل نبي كان قبلك خمسين صلاة، وفرضتها عليك
وعلى امتك، فقم بها أنت في امتك. قال رسول الله: فانحدرت حتى مررت على ابراهيم فلم يسألني عن شئ، حتى انتهيت الى
موسى فقال: ما صنعت يا محمد ؟ فقلت: قال ربي: فرضت على كل نبي كان قبلك خمسين
صلاة، وفرضتها عليك وعلى امتك. فقال موسى: يا محمد ان امتك آخر الامم وأضعفها.
وان ربك لا يرد عليك شيئا، وان امتك لا تستطيع أن تقوم بها، فارجع الى ربك
فاسأله التخفيف لامتك. فرجعت الى ربي حتى انتهيت الى سدرة المنتهى فخررت ساجدا
ثم قلت: فرضت علي وعلى امتي خمسين صلاة ولا اطيق ذلك ولا امتي فخفف عني. فوضع
عني عشرا. فرجعت الى موسى فأخبرته فقال: لا تطيق، فرجعت الى ربي، فوضع عني عشرا.
فرجعت الى موسى فأخبرته فقال: ارجع. وفي كل رجعة ارجع إليه أخر ساجدا، حتى رجع
الى عشر صلوات، فرجعت الى موسى فأخبرته فقال: لا تطيق، فرجعت الى ربي فوضع عني
خمسا، فرجعت الى موسى فأخبرته، فقال: لا تطيق، فقلت: قد استحييت من ربي ولكن
أصبر عليها. فناداني (ربي):
كما صبرت عليها فهذه الخمس بخمسين، كل صلاة بعشر، ومن هم من امتك بحسنة يعملها
كتبت له عشرة، وان لم يعملها كتبت واحدة. ومن هم من امتك بسيئة فعملها كتبت عليه
واحدة، وان لم يعملها لم أكتب عليه شيئا (تفسير
القمي 2: 12.). ونقله الصدوق في
" من لا يحضره الفقيه " مرسلا (من لا
يحضره الفقيه 1: 197 ط الغفاري.). وبإسناده عن زيد بن علي قال: سألت أبي سيد العابدين (عليه السلام) فقلت له: يا أبه أخبرني عن
جدنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) لما عرج به الى السماء وأمره ربه عزوجل
بخمسين صلاة، كيف لم يسأله التخفيف عن امته حتى قال له موسى بن عمران: ارجع الى
ربك فاسأله التخفيف فإن امتك لا تطيق ذلك ؟ فقال: يا بني ان رسول الله (صلى الله عليه وآله) لا يقترح على ربه عزوجل ولا
يراجعه في شئ يأمره به، فلما سأله موسى ذلك وصار شفيعا لامته إليه لم يجز له رد
شفاعة أخيه موسى، فرجع الى ربه فسأله التخفيف، إلى أن ردها الى خمس صلوات. فقلت له: يا أبت
فلم لم يرجع الى ربه عزوجل ولم يسأله التخفيف من خمس صلوات وقد سأله موسى (عليه
السلام) أن يرجع الى ربه عزوجل ويسأله التخفيف ؟ فقال: يا بني أراد
(عليه السلام) أن يحصل لامته التخفيف مع أجر خمسين صلاة، لقول الله عزوجل: * (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) * (الأمالي:
371، طبعة مؤسسة الأعلمي بيروت، والتوحيد: 176 والعلل: 55 ومن لا يحضره
الفقيه 1: 197 ط الغفاري.). وقد تعرض السيد المرتضى في " تنزيه الأنبياء " للمسألة
فقال: إن قيل: فما الوجه
في الرواية المشهورة: أن النبي ليلة المعراج لما خوطب بفرض الصلاة راجع ربه
تعالى مرة بعد اخرى حتى رجعت الى خمس، وفي الرواية: أن موسى (عليه السلام) هو
القائل له: ان امتك لا تطيق هذا، وكيف ذهب ذلك على النبي (صلى الله عليه وآله)
حتى نبهه موسى عليه ؟ وكيف يجوز المراجعة منه مع علمه بأن العبادة تابعة للمصلحة
وكيف يجاب عن ذلك مع أن المصلحة بخلافه ؟ ! ثم قال: أما هذه الرواية فهي من طريق
الآحاد التي لا توجب علما وهي مع ذلك مضعفة (تنزيه
الأنبياء: 121.) ثم أجاب سائر الأسئلة بناء على أن تكون الرواية صحيحة. وقال اليعقوبي:
وفي الليلة التي اسري به افتقده أبو طالب فخاف أن تكون قريش قد اغتالته أو
قتلته، فجمع سبعين رجلا من بني عبد المطلب معهم الشفار، وأمرهم أن يجلس كل رجل
منهم الى جانب رجل من قريش، وقال لهم: إن رأيتموني ومحمدا معي فأمسكوا حتى
آتيكم، والا فليقتل كل رجل منكم جليسه ولا تنظروني. فوجدوه على باب ام هانئ،
فأتى به بين يديه حتى وقف على قريش فعرفهم ما كان منه، فأعظموا ذلك وجل في
صدورهم، وعاهدوه وعاقدوه أنهم لا يؤذون رسول الله ولا يكون منهم إليه شئ يكرهه
أبدا (تأريخ اليعقوبي 2: 26). وقال ابن شهر آشوب:
روى أنه افتقده أبو طالب في تلك الليلة يزل يطلبه، ووجه الى بني هاشم يقول:
يالها من عظيمة إن لم أر رسول الله الى الفجر ! فبينا هو كذلك إذ تلقاه رسول
الله وقد نزل من السماء على باب ام هانئ، فقال له: انطلق معي. فأدخله بين يديه المسجد ودخل بنو هاشم، فسل أبو طالب سيفه عند الحجر وقال لبني هاشم: أخرجوا ما معكم يا
بني هاشم ! ثم التفت الى قريش فقال: والله لو لم أره ما بقيت منكم عين تطرف !
فقالت قريش: لقد ركبت منا عظيما (مناقب
ابن شهر آشوب 1: 18.). السورة الرابعة والعشرون - " عبس ": * (عبس وتولى أن جاءه
الأعمى وما يدريك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى أما من استغنى فأنت له تصدى
وما عليك ألا يزكى وأما من جاءك يسعى وهو يخشى فأنت عنه تلهى كلا إنها تذكرة فمن
شاء ذكره) * (عبس:
1 - 12.). روى الطبرسي في " مجمع البيان ": عن الصادق (عليه
السلام): " أنها نزلت
في رجل من بني امية كان عند النبي (صلى الله عليه وآله)، فجاء ابن أم مكتوم،
فلما رآه تقذر منه وجمع نفسه وعبس وأعرض بوجهه عنه، فحكى الله سبحانه ذلك وأنكره
عليه ". ولكنه روى بعد هذا خبرا
آخر عنه (عليه السلام) قال: "
كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذا رأى عبد الله بن ام مكتوم قال: " مرحبا، مرحبا، لا والله لا يعاتبني الله فيك أبدا
" وكان يصنع به من
اللطف حتى كان يكف عن النبي مما يفعل به ". وهذا يناسب مع المعروف والمشهور في شأن نزول السورة: أن ابن ام مكتوم -
وهو عبد الله بن شريح العامري - أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو يناجي أبيا وامية ابني
خلف، وأبا جهل بن هشام، والعباس بن عبد المطلب، وعتبة ابن أبي ربيعة، يدعوهم الى
الله ويرجو اسلامهم. فقال: يا رسول الله أقرئني وعلمني مما علمك الله. فجعل يناديه
ويكرر النداء ولا يدري أنه مشتغل مقبل على غيره، حتى ظهرت الكراهة في وجه رسول
الله لقطعه كلامه، فأعرض عنه وأقبل على القوم الذين يكلمهم، فنزلت الآيات. وكان رسول الله بعد ذلك يكرمه ويقول: مرحبا بمن
عاتبني فيه ربي. ثم قال الطبرسي:
فان قيل: فلو صح هذا الخبر فهل يكون العبوس ذنبا أم لا ؟ فالجواب: أن
العبوس والانبساط مع الأعمى سواء، إذ لا يشق عليه ذلك، فلا يكون ذنبا، فيجوز أن
يكون عاتب الله سبحانه بذلك نبيه (صلى الله عليه وآله) ليأخذه بأوفر محاسن الأخلاق، وينبهه بذلك على عظم المؤمن المسترشد، ويعرفه أن تأليف المؤمن
ليقيم على ايمانه أولى من تأليف المشرك طمعا في ايمانه (مجمع
البيان 10: 663، 664.). هذا والمعنى الأول الذي رواه عن الصادق (عليه السلام) جاء في أصل
الكتاب: " التبيان " للشيخ الطوسي هكذا: وقال قوم: ان هذه
الآيات نزلت في رجل من بني امية كان واقفا مع النبي، فلما أقبل ابن ام مكتوم تنفر منه وجمع نفسه وعبس وجهه،
فحكى الله تعالى ذلك
وأنكره معاتبة على ذلك (التبيان
10: 269.) وقريب منه في تفسير القمي (تفسير
القمي 2: 404.). وفي هذه السورة آية ربط خبرها بسورة النجم قبلها، وذلك قوله سبحانه: * (قتل الانسان ما أكفره من أي شئ خلقه...) * (عبس: 17، 18.)
قال الطبرسي: عن مقاتل والكلبي: هو عتبة بن أبي لهب إذ قال: كفرت برب النجم إذا
هوى (مجمع البيان 10: 665.). ورواه السيوطي في "
الدر المنثور " عن عكرمة عن ابن عباس قال: نزلت في عتبة بن أبي لهب حين قال: كفرت برب النجم إذا هوى. فدعا
عليه النبي (صلى الله عليه
وآله) فأخذه الأسد بطريق
الشام (الدر المنثور 6: 215.). السورة الخامسة والعشرون - " القدر ": فهي أول سورة وآيات ذكر فيها " ليلة القدر " وأ نها سلام حتى مطلع الفجر بل خير من ألف شهر، وأن الملائكة
والروح تنزل فيها بإذن ربهم من كل أمر، وقد نزلت فيها بالقرآن على رسول الله (صلى
الله عليه وآله)، والنازل منه إذ ذاك هذه الخمس والعشرون سورة. السورة التاسعة والعشرون
- " قريش ": وليس قبلها الفيل ولا في رواية، فلا مجال للقول بتعلق
اللام في بداية هذه السورة:
" لإيلاف قريش " بكيفية
هلاك أصحاب الفيل، فضلا
عن القول بوحدة السورتين، بل المترجح
المتعين ما نقله الطبرسي في " مجمع البيان " عن الخليل وسيبويه: أن " لإيلاف " يتعلق ب " فليعبدوا " أي: ليجعلوا عبادتهم شكرا لنعمة ايلافهم واعترافا بها (مجمع
البيان 10: 829، وانظر رد الطباطبائي لأخبار وحدة السورتين 20: 364.). السورة الثانية والثلاثون - " الهمزة ": روى الطبرسي عن مقاتل
قال: نزلت في الوليد بن
المغيرة، وكان يغتاب النبي من ورائه ويطعن عليه في وجهه. وهذا يوافق قول قتادة
وسعيد بن جبير في معنى الهمزة وبأ نه المغتاب، واللمزة بأ نه الطعان. وقال ابن عباس والحسن وأبو العالية وعطاء بن أبي رباح بالعكس أي أن
الهمزة هو الذي يطعن في
الوجه بالعيب، واللمزة
الذي يغتاب عند الغيبة
(مجمع البيان 10: 818.). وعلى أي حال فالسورة - على هذا - من أول ما نزل في
ذم الوليد وتقريعه لما
كان يناله من النبي (صلى
الله عليه وآله) قبل
ما أصابه وسائر أصحابه من المستهزئين. عن ابن اسحاق: أنها
نزلت في امية بن خلف الجمحي، وكان يهمز النبي (صلى الله عليه وآله) (سيرة ابن
هشام 1: 382.) وفي "
روح المعاني " أنها
في العاص بن وائل (روح
المعاني.) وهما أيضا من المستهزئين برسول الله (صلى
الله عليه وآله). السورة الثالثة
والثلاثون - " المرسلات ": وفيها روى السيوطي في " الدر المنثور " عن عبد الله بن مسعود قال: بينا نحن مع النبي - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - في غار بمنى إذ نزلت عليه سورة * (والمرسلات عرفا) * (الدر
المنثور 6: 302.). السورة الرابعة والثلاثون - " ق ": وفيها
قوله سبحانه: *
(القيا في جهنم كل كفار عنيد مناع للخير معتد مريب الذي جعل مع الله إلها آخر
فالقياه في العذاب الشديد) * (ق: 24 - 26.)
وقال الطبرسي في " مجمع
البيان ": قيل:
إنها نزلت في الوليد بن المغيرة حين استشاره بنو اخيه في الاسلام فمنعهم. فيكون
المراد بالخير الذي يمنع عنه هو الاسلام (مجمع
البيان 10: 220.). السورة الخامسة والثلاثون - " البلد ": وفيها: * (أيحسب أن لن يقدر
عليه أحد يقول أهلكت مالا لبدا أيحسب أن لم يره أحد) * (البلد: 5 - 7.) قال
الطبرسي في " مجمع البيان " قال مقاتل الكلبي: هو الحرث بن عامر بن
نوفل بن عبد مناف، وذلك أنه دخل في الاسلام وأذنب ذنبا فاستفتى رسول الله فأمره
أن يكفر، فقال: لقد ذهب مالي في الكفارات والنفقات منذ دخلت في دين محمد... وكان
كاذبا لم ينفق ما قاله، فقال الله سبحانه: أيظن أن الله تعالى لم ير ذلك فعل أو
لم يفعل أنفق أو لم ينفق. وقيل: هو أبو الأسد بن كلدة الجمحي، وكان قويا شديد الخلق بحيث كان يجلس على أديم عكاظي فتجره العشرة
من تحته فيتقطع ولا يبرح من مكانه، وكان قد انفق مالا كثيرا في عداوة النبي (صلى
الله عليه وآله): فأخبر الله عن مقالته * (يقول: أهلكت مالا لبدا) * يفتخر بذلك (مجمع البيان 10: 748.). السورة السابعة والثلاثون - " القمر ": روى القمي في تفسيره
بسنده عن الامام الصادق (عليه السلام) قال: اجتمعوا أربعة عشر رجلا أصحاب العقبة ليلة أربعة عشر من ذي الحجة،
فقالوا للنبي: ما من نبي الا وله آية، فما آيتك في ليلتك هذه ؟ فقال النبي: ما
الذي تريدون ؟ فقالوا: ألم يكن لك عند ربك قدر ؟ ! فأمر القمر أن ينقطع قطعتين ! فهبط جبرئيل وقال:
يا محمد ان الله يقرؤك السلام ويقول لك: اني قد أمرت كل شئ بطاعتك. فرفع رأسه
فأمر القمر أن ينقطع قطعتين ! فانقطع قطعتين ! فسجد النبي (صلى الله عليه وآله)
شكرا لله... ثم رفع النبي رأسه ورفعوا رؤوسهم ثم قالوا: يعود كما كان ؟ فعاد كما
كان ؟ ثم قالوا: ينشق رأسه ! فأمره فانشق. فسجد النبي شكرا لله... فقالوا: يا محمد
حين يقدم مسافرونا من
الشام واليمن فنسألهم ما رأوا في هذه الليلة ؟ فإن يكونوا رأوا مثل ما رأينا علمنا أنه من ربك، وان لم يروا مثل
ما رأينا علمنا أنه سحر سحرتنا به ! فأنزل الله * (اقتربت الساعة وانشق القمر) *
الى آخر السورة (تفسير القمي 2: 341.). وعليه فهذه هي المرة الثانية لتجربتهم صدق مقال الرسول (صلى الله عليه وآله) بتصديق المسافرين
له، بعد أخباره عن الاسراء به الى بيت المقدس. ولعلهم قالوا ذلك بعد أن قالوا:
سحرنا محمد، فقال رجل - كما رواه الطبرسي عن جبير بن مطعم - ان كان سحركم فلم
يسحر الناس كلهم. قال الطبرسي: وقد
روى حديث انشقاق القمر جماعة كثيرة من الصحابة منهم: عبد الله بن مسعود وأنس بن
مالك وحذيفة بن اليمان وابن عمر وابن عباس وعليه جماعة المفسرين، بل أجمع المسلمون
على ذلك، فلا يعتد بخلاف من خالف فيه. قال: ومن طعن في ذلك: بأ نه لو وقع انشقاق القمر في عهد رسول الله لما كان يخفى على أحد
من أهل الأقطار. فقوله باطل. لأ نه قد وقع ذلك ليلا فيجوز أن يكون الناس كانوا
نياما فلم يعلموا بذلك، على أن الناس ليس كلهم يتأملون ما يحدث في السماء وفي
الجو من آية وعلامة، فيكون مثل انقضاض الكواكب وغيره مما يغفل الناس عنه، ولأ نه
يجوز أن يكون الله قد حجبه عنهم بغيم ونحوه (مجمع
البيان 10: 282.). وقد روى السيوطي في
" الدر المنثور " بأسناده عن ابن مسعود قال: انشق القمر... فقالت قريش: هذا سحر ابن أبي كبشة، فقالوا: انتظروا
ما يأتيكم به المسافرون فإن محمدا لايستطيع أن يسحر الناس كلهم. فجاء المسافرون
فسألوهم فقالوا: نعم قد رأيناه. فأنزل الله * (اقتربت الساعة وانشق القمر) * (الدر المنثور 6: 132، سورة القمر.). السورة الثامنة
والثلاثون - " ص ": وفيها قوله سبحانه: * (وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب أجعل
الآلهة إلها واحدا إن هذا لشئ عجاب وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على
آلهتكم إن هذا لشئ يراد ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا الا اختلاق) * (ص: 4 - 7.). روى الكليني في "
اصول الكافي " بسنده
عن جابر عن ابي جعفر الباقر (عليه السلام) قال: أقبل أبو جهل بن هشام ومعه قوم
من قريش فدخلوا على أبي طالب فقالوا: ان ابن أخيك قد آذانا وآذى آلهتنا، فادعه
ومره فليكف عن الهتنا ونكف عن الهه ! فبعث أبو طالب الى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فدعاه، فلما دخل النبي لم ير في البيت الا مشركا فقال: السلام على من
اتبع الهدى، ثم جلس. فأخبره أبو طالب بما جاؤوا به. فقال: أو هل لهم في كلمة خير
لهم من هذا، يسودون بها العرب ويطأون أعناقهم ! فقال أبو جهل: نعم وما هذه
الكلمة ؟ قال: تقولون: لا اله الا الله. فوضعوا أصابعهم في آذانهم وخرجوا وهم
يقولون: * (ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة ان هذا الا اختلاق) * فأنزل الله في قولهم * (ص
والقرآن ذي الذكر) * الى
قوله * (الا اختلاق) * (اصول الكافي 2: 649) ونقله القمي في تفسيره
بمعناه بلا اسناد وأضاف: نزلت
بمكة لما أظهر رسول الله الدعوة اجتمعت قريش الى أبي طالب فقالوا: يا أبا طالب !
إن ابن أخيك قد سفه أحلامنا، وسب آلهتنا، وأفسد شبابنا، وفرق جماعتنا. فان كان
الذي يحمله على ذلك العدم جمعنا له مالا حتى يكون أغنى رجل في قريش ونملكه علينا
! فأخبر أبو طالب رسول الله (صلى الله عليه وآله) بذلك فقال: والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري ما أردته، ولكن
يعطونني كلمة يملكون بها العرب ويدين لهم بها العجم ويكونوا ملوكا في الجنة.
فقال لهم أبو طالب ذلك فقالوا: نعم وعشر كلمات ! فقال لهم رسول الله: تشهدون أن لا اله الا الله وأ ني رسول الله ! فقالوا: ندع
ثلاثمائة وستين الها ونعبد الها واحدا ؟ ! فأنزل الله *
(وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب أجعل الآلهة الها واحدا
ان هذا لشئ عجاب وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم ان هذا لشئ يراد
ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة ان هذا الا اختلاق أانزل عليه الذكر من بيننا بل
هم في شك من ذكري بل لما يذوقوا عذاب أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب أم
لهم ملك السموات والأرض وما بينهما فليرتقوا في الأسباب) * (ص: 4 - 10. تفسير القمي 2: 228 وذكر مختصره ابن شهر آشوب في المناقب 1: 54،
ومثله الطبري 2: 324 عن السدي و 325 عن ابن عباس. وأورد الخبرين في تفسيره: 23:
79 - 81 ط بولاق.). وروى الطبرسي في " مجمع البيان " أنهم كانوا خمسة
وعشرين من أشراف قريش منهم
أبو جهل بن هشام كما مر في خبر الكليني ومنهم الوليد ابن المغيرة والنضر بن
الحارث، وابي وامية ابنا خلف الجمحي وعتبة وشيبة ابنا ربيعة المخزومي. أتوا أبا
طالب وقالوا: أنت شيخنا وكبيرنا، وقد أتيناك لتقضي بيننا وبين ابن اخيك، فإنه
سفه أحلامنا وشتم آلهتنا ! فدعا أبو طالب رسول الله
فقال: يا ابن أخي ! إن هؤلاء
قومك يسألونك. فقال: ماذا يسألونني ؟ قالوا: دعنا وآلهتنا ندعك والهك ! فقال: أو
تعطوني كلمة واحدة تملكون بها العرب والعجم ؟ ! فقال أبو جهل: لله
أبوك نعطيك ذلك وعشرا أمثالها، فقال: قولوا لا اله الا الله. فقاموا وقالوا:
" أجعل الآلهة الها واحدا " فنزلت هذه الآيات. قال: وروي أن النبي (صلى
الله عليه وآله) استعبر ثم قال: يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في
شمالي، على أن أترك هذا الأمر، ما تركته حتى ينفذه الله أو أمضي دونه ! فقال له أبو طالب:
امض لأمرك، فوالله لا أخذلك أبدا (سيرة ابن هشام 1: 285 وعنه الطبري 2: 326.). وخرجوا من مجلسهم الذي كانوا فيه عند أبي طالب وهم يقولون - وقيل:
إن القائل هو عقبة بن أبي معيط الاموي -: اثبتوا على عبادة آلهتكم واصبروا على
دينكم وتحملوا المشاق لأجله، فإن هذا الذي نراه من زيادة أصحاب محمد أمر يراد
بنا من زوال نعمة أو نزول شدة (مجمع
البيان 8: 725 - 727.). ولا أحسب القمي متحققا من قوله إذ قال: نزلت بمكة لما أظهر رسول الله الدعوة ؟ بمعنى أن نزول هذه السورة كانت هي نقطة النقلة من المرحلة السرية الى
الدعوة العلنية ؟ ولكن
كلامه هذا على أي حال، بل القصة
برمتها كسابقاتها
تستلزم عدم سرية المرحلة. وقد نقلنا قبل هذا لقاء آخر لهم بأبي طالب (رضي الله عنه) فلعل هذا هو اللقاء الثاني المتكرر، وان كانت كلمات القوم خلوا من الاشارة الى ذلك. السورة التاسعة والثلاثون - " الأعراف ": وأولها: *
(المص كتاب انزل اليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين) * (الأعراف: 1 - 2.) فهل
هذا يعني الانذار الخاص والسري، وذكرى للمؤمنين كذلك ؟ بل الظاهر غير ذلك. وفيها قوله سبحانه: * (يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا
إنه لا يحب المسرفين قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل
هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم
يعلمون قل انما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والاثم والبغي بغير الحق
وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) * (الاعراف: 31 - 33.). قال القمي في تفسيره: ان اناسا كانوا يطوفون عراة بالبيت، الرجال بالنهار والنساء
بالليل، وكانوا لا يأكلون الا قوتا، فأمرهم الله بلبس الثياب، وأن يأكلوا
ويشربوا ولا يسرفوا (تفسير القمي 1: 228.) ورواه
الطبرسي عن جماعة من المفسرين
(مجمع البيان 4: 637.). وروى السيوطي في "
الدر المنثور " باسناده عن ابن عباس قال: كان رجال يطوفون بالبيت عراة فأمرهم الله بالزينة، * (خذوا زينتكم
عند كل مسجد) * والزينة اللباس، وهو ما يواري السوآت، وما سوى ذلك من جيد البز
والمتاع. وفيه بسنده عنه أيضا قال: كان أهل الجاهلية يحرمون أشياء أحلها الله من الثياب وغيرها،
فأنزل الله: * (قل من حرم
زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة
الدنيا) * ثم يخلص الله
الطيبات في الآخرة للذين آمنوا وليس للمشركين فيها شئ " خالصة يوم القيامة
". وفيه بسنده عن مولاه عكرمة فصل القول في هؤلاء من أهل الجاهلية وما كانوا يحرمون ولماذا
فقال: كانت الحمس من قريش وبطون من كنانة ومن يأخذ مأخذها من قبائل العرب: بني
عامر بن صعصعة وخزاعة وثقيف والأوس والخزرج لا يأكلون اللحم (في الحج) ولا يأتون
البيوت الا من أدبارها، ولا يضربون وبرا ولا شعرا وانما يضربون الأدم، وإذا
قدموا (للحج) طرحوا ثيابهم التي قدموا فيها وقالوا: هذه ثيابنا التي نريد أن
نتطهر الى ربنا عما فيها من الذنوب والخطايا فمن يعيرنا مئزرا، فان لم يجدوا
طافوا عراة، فإذا فرغوا من طوافهم اخذوا ثيابهم التي كانوا قد وضعوها. وفيه بسنده عن سعيد بن جبير قال: كان الناس يطوفون بالبيت عراة يقولون: لا نطوف في ثياب اذنبنا
فيها. فجاءت امرأة فألقت ثيابها وطافت وهي واضعة يدها على قبلها وتقول: اليوم يبدو بعضه أو كله
* فما بد ا منه فلا احله فنزلت هذه الآية: * (يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد) * (الدر
المنثور 3: 75، سورة الأعراف.). وفي السورة قوله سبحانه: * (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون) * (الأعراف: 204.). وروى الطبرسي في " مجمع البيان " عن أبي جعفر الامام
الباقر (عليه السلام) والزهري ومجاهد عن سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير عن ابن
مسعود وابن عباس قالا: كان
المسلمون يتكلمون في صلاتهم ويسلم بعضهم على بعض، وإذا دخل داخل فقال لهم: كم
صليتم أجابوه. فنهوا عن ذلك وامروا بالاستماع (مجمع
البيان 4: 791.). السورة الحادية والأربعون - " يس ": * (يس والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين) * فهو من الأنبياء المرسلين، وظاهر الخطاب بل صريحه فعليته العامة
لا شأنيته بالقوة، ولا الفعلية السرية أو الخاصة، بل * (لتنذر قوما ما انذر آباؤهم فهم غافلون لقد حق القول على
أكثرهم فهم لا يؤمنون انا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي الى الأذقان فهم مقمحون
وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون) * (يس: 6 - 9.).
وهنا قال القمي في تفسيره: إنها نزلت في أبي جهل بن هشام ونفر من أهل بيته، وذلك أنه حلف أبو جهل: لئن رأى النبي يصلي ليدمغنه، فجاء والنبي قائم يصلي (حول الكعبة)
ومعه حجر، ولكنه جعل كلما رفع الحجر ليرميه أثبت الله يده الى عنقه ولا يدور
الحجر بيده، ولما يرجع الى أصحابه يسقط الحجر من يده. فقام رجل آخر من رهطه فقال: أنا أقتله ! فلما دنا منه سمع قراءة رسول الله فارعب، فرجع الى أصحابه وقال:
حال بيني وبينه كهيئة الفحل يخطر بذنبه، فخفت أن أتقدم. فلم يؤمن من أولئك الرهط
من بني مخزوم أحد (تفسير القمي 2: 212 ونقل مثله الطبرسي في مجمع البيان 10: 649.). وروى السيوطي في " الدر المنثور " زيادة عن ابن عباس
قال: كان النبي (صلى الله
عليه وآله) يقرأ في المسجد فيجهر بالقراءة حتى تأذى به ناس من قريش حتى قاموا
ليأخذوه، وإذا أيديهم مجموعة الى أعناقهم، وإذا هم لا يبصرون. فجاؤوا، الى النبي
فقالوا: ننشدك الله والرحم - يا محمد - فدعا النبي حتى ذهب ذلك عنهم، فنزلت * (يس والقرآن الحكيم...) * (الدر المنثور 5: 269، سورة يس.) ولعله
كان هذا بعد رد الرسول لهم عند عمه أبي طالب، كرد فعل من أبي جهل بعد فعل الرسول
ذلك. وفي السورة قوله سبحانه: * (أولم ير الانسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين وضرب
لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم) * (س: 77، 78.) وروى الطبرسي في " مجمع البيان " عن الصادق (عليه
السلام): أن القائل هو أبي
بن خلف الجمحي. وقال الحسن: هو امية بن خلف، أخوه. وقال ابن جبير: هو العاص بن
وائل السهمي (مجمع البيان 10: 678.). وهم ثلاثة من المستهزئين الستة. ورواية
الصادق (عليه السلام) في كلام الطبرسي هي رواية العياشي عن الحلبي عنه (عليه السلام) قال: جاء ابي بن خلف فأخذ عظما باليا من حائط ففته ثم قال:... إذا كنا
عظاما ورفاتا أإنا لمبعثون خلقا ؟ فأنزل الله: * (قال من يحيي العظام وهي رميم) * (الميزان
17: 118 ونقل معناه ابن شهر آشوب في المناقب 1: 56.). السورة الثانية
والأربعون - " الفرقان ": * (تبارك الذي نزل
الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا... وقال الذين كفروا إن هذا الا إفك
افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاؤوا ظلما وزورا وقالوا أساطير الأولين
اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا) * (الفرقان: 1 - 5.). في تفسير القمي: في
رواية أبي الجارود عن أبي جعفر الامام الباقر (عليه السلام) في قوله: * (وأعانه عليه قوم آخرون) * يعنون: أبا فكيهة وجبرا وعداسا وعابسا مولى حويطب. وقوله: * (وقالوا أساطير الأولين) * هو قول النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة " اكتتبها "
قال القمي: قالوا: هذا الذي يقرأه محمد ويخبرنا به انما يتعلمه ويكتبه عن رجل من
علماء النصارى يقال له: ابن قبيطة (تفسير
القمي 2: 111 وسيرة ابن اسحاق 1: 321.). ونقل الطبرسي في "
مجمع البيان " عن مجاهد قالوا: أعان محمدا (صلى الله عليه وآله) على هذا القرآن: عداس مولى حويطب
بن عبد العزى، ويسار غلام العلاء ابن الحضرمي، وحبر مولى عامر، وكانوا من أهل
الكتاب (مجمع البيان 7: 253.) ونقل
ابن شهر آشوب مثله في " المناقب " (مناقب
ابن شهر آشوب 1: 49 وذكر: حميرا مولى عامر !.). وفيها قوله: * (وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا
انزل إليه ملك فيكون معه نذيرا أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها) * (الفرقان:
7، 8.) روى السيوطي في
" الدر المنثور " بأسناده عن ابن عباس: أن عتبة وشيبة ابني ربيعة، وأبا سفيان بن حرب، والنضر بن الحارث،
وأبا البختري، والأسود بن المطلب، وزمعة بن الأسود، والوليد بن المغيرة، وأبا
جهل بن هشام، وعبد الله بن امية، وامية بن خلف، والعاصي ابن وائل، ونبيه بن
الحجاج، اجتمعوا فقال بعضهم لبعض: ابعثوا الى محمد فكلموه وخاصموه حتى تعذروا
منه. فبعثوا إليه: إن
أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك. فجاءهم رسول الله فقالوا له: يا محمد ! انا
بعثنا اليك لنعذر منك، فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالا، جمعنا لك من
أموالنا، وان كنت تطلب الشرف فنحن نسودك، وان كنت تطلب ملكا ملكناك. فقال رسول الله:
ما بي مما تقولون، ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا
الملك عليكم. ولكن الله بعثني اليكم رسولا وأنزل علي كتابا وأمرني أن أكون لكم
بشيرا ونذيرا، فبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو
حظكم في الدنيا والآخرة، وان تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني
وبينكم. قالوا: يا محمد ! فإن كنت غير قابل منا شيئا عرضناه عليك فسل لنفسك ربك أن يبعث معك
ملكا يصدقك بما تقول ويراجعنا عنك، وسله أن يجعل لك جنانا وقصورا من ذهب وفضة
تغنيك عما تبتغي - فإنك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه - حتى نعرف فضلك
ومنزلتك من ربك ان كنت رسولا كما تزعم. فقال لهم رسول الله: ما أنا بفاعل، ما أنا بالذي يسأل ربه هذا وما بعثت اليكم بهذا،
ولكن الله بعثني بشيرا ونذيرا. فأنزل الله في
قولهم ذلك: * (وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام...) * (الدر المنثور: 5: 62 وروى القصة مرة اخرى عن ابن عباس أيضا سببا
لنزول الآيات: 90 - 93 من سورة الاسراء 4: 202 كما سيأتي، ورواها الطبرسي في
مجمع البيان في سورة الاسراء 6: 678). وفيها قوله سبحانه: * (ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول
سبيلا يا ويلتا ليتني لم أتخذ فلانا خليلا لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان
الشيطان للانسان خذولا) * (الفرقان:
27 - 29.). نقل الطبرسي في "
مجمع البيان " عن ابن عباس قال: نزل قوله: *
(يوم يعض الظالم على يديه) *
في عقبة بن أبي معيط وابي بن خلف الجمحي، وكانا متخالين،
وذلك: أن عقبة كان لا يقدم من سفر الا صنع طعاما فدعا إليه أشراف قومه. وكان
يكثر مجالسة الرسول. فقدم من سفره ذات يوم فصنع طعاما ودعا الناس فدعا رسول الله
الى طعامه. فلما قربوا الطعام قال رسول الله: ما أنا بآكل من طعامك حتى تشهد أن لا اله الا الله وأ ني رسول
الله. فقال عقبة: أشهد أن لا اله الا الله وأشهد أن محمدا رسول الله. وبلغ ذلك ابي بن خلف، فأتاه وقال له: صبوت يا عقبة ؟ ! قال: لا - والله - ما صبوت، ولكن دخل علي رجل
فأبى أن يطعم من طعامي الا أن أشهد له، فاستحييت أن يخرج من بيتي ولم يطعم،
فشهدت له فطعم. فقال ابي: ما كنت براض عنك أبدا حتى تأتيه فتبزق في وجهه، ففعل
ذلك عقبة، وارتد، وأخذ رحم دابة فألقاها بين كتفيه ! فقال النبي (صلى الله عليه وآله): لا ألقاك خارج مكة الا علوت
رأسك بالسيف. فوقع يوم بدر أسيرا بيد
المسلمين فأمر رسول الله بتنفيذ حلفه فيه من بين سائر اسارى المشركين، ولم يقتل
من الاسارى يومئذ غيره. (مجمع
البيان 7: 260، 261 وفيه: وأما ابي بن خلف فقد قتله النبي يوم احد بيده في
المبارزة. وروى الخبر السيوطي بسنده عن ابن عباس أيضا في الدر المنثور 5: 68.).
وعليه، فالظالم في
الآية: عقبة بن أبي معيط الاموي، وفلان خليله ابي بن خلف الجمحي، والذكر الذي
جاءه شهادته بالشهادتين ولو أخذت منه حياء، وضلاله بعد الذكر استجابته لطلبة
خليله بالارتداد والبصاق في وجه رسول الله (صلى الله عليه وآله). السورة الرابعة والأربعون - " مريم ": وهي التي قرأ شطرا منها
جعفر بن أبي طالب الطيار على النجاشي ملك الحبشة في الهجرة إليها، فيعلم أنها نزلت قبل ذلك وأن الهجرة إليها بعد هذه السورة. وفيها قوله سبحانه: * (أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لاوتين مالا وولدا...) * (مريم: 77) قال الطبرسي: روي في
الصحيح: عن خباب بن الأرت قال:
كنت رجلا غنيا وكان لي على العاص بن وائل دين فأتيته أتقاضاه فقال لي: لا أقضيك
حتى تكفر بمحمد ! فقلت: لن أكفر به حتى تموت وتبعث. قال: فإني لمبعوث بعد الموت
فسوف أقضيك دينك إذا رجعت الى مال وولد. فنزلت الآية * (أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لاوتين مالا وولدا) * (مجمع البيان 6: 816 ويقصد بالصحيح البخاري ومسلم كما في أسباب النزول
للواحدي: 248 ط الجميلي وفي ابن هشام 1: 383، ومثله في مناقب ابن شهر آشوب 1:
53.). السورة السادسة
والأربعون - " الواقعة ": وفيها قوله سبحانه: * (فسبح باسم ربك العظيم) * (الواقعة: 74 )
وروى العياشي في تفسيره
عن عقبة بن عامر الجهني قال: لما نزلت: * (فسبح باسم ربك العظيم) * قال رسول الله (صلى
الله عليه وآله):
اجعلوها في ركوعكم. ورواه أيضا في "
الدر المنثور " عن
أحمد وأبي داود وابن ماجة وابن المنذر وابن مردويه عن عقبة عنه (صلى الله عليه
وآله) (الميزان 20: 270.). وهذا مما يؤيد ما مر عن أن الصلاة في أوائل تشريعها كانت بسجود
بلا ركوع، ثم شرع فيه الركوع بعد ذلك. السورة السابعة والأربعون - "
الشعراء ": وفيها آية *
(وأنذر عشيرتك الأقربين) * وقد
سبق القول فيها. وفيها أيضا قوله سبحانه: * (والشعراء يتبعهم الغاوون) * (الشعراء: 224)
ونقل الطبرسي في
" مجمع البيان " عن مقاتل: أنهم شعراء المشركين وكلهم من قريش منهم أبو سفيان بن الحرث بن عبد
المطلب، وأبو عزة عمرو بن عبد الله، وعبد الله بن الزبعرى السهمي، ومسافع بن عبد
مناف الجمحي، وهبيرة بن أبي وهب المخزومي... اجتمعوا وقالوا: نحن نقول مثل ما
قال محمد، قالوا الشعر وتكلموا بالكذب والباطل ويهجون النبي، واجتمع إليهم غواة
من قومهم يستمعون أشعارهم ويروون عنهم هجوهم (مجمع
البيان 7: 325.). السورة التاسعة والأربعون - " القصص ": وفيها قوله سبحانه: * (ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم
يتذكرون ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت الينا
رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا اوتي
مثل ما اوتي موسى أولم يكفروا بما اوتي موسى من قبل وقالوا سحران تظاهرا وقالوا
إنا بكل كافرون) * (القصص:
46 - 48.) ونقل الطبرسي في " مجمع البيان " عن الكلبي قال: كانت مقالتهم هذه حين بعثوا الرهط منهم الى رؤوس اليهود بالمدينة
في عيد لهم، يسألونهم عن محمد (صلى الله عليه وآله). فأخبروهم بنعته وصفته في
كتابهم التوراة فرجع الرهط الى قريش فأخبروهم بقول اليهود، فقالوا عند ذلك:
سحران تظاهرا (مجمع البيان 7: 402.). والعلامة الطباطبائي مع أنه يذكر في بحوثه الروائية روايات أسباب
النزول لم يذكر هذا الخبر عن "
مجمع البيان " ولكنه
قال في تفسير الآيات: سياق الآيات يشهد بأن
المشركين من قوم النبي (صلى الله عليه وآله) راجعوا بعض أهل الكتاب واستفتوهم في أمره وعرضوا عليهم بعض القرآن
النازل عليه، وهو مصدق للتوراة. فأجابوهم بتصديقه والايمان بما يتضمنه القرآن من المعارف الحقة، وأ نهم كانوا يعرفونه بأوصافه قبل أن يبعث كما قال الله تعالى: * (وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من
قبله مسلمين) * (القصص:
53). فساء المشركين ذلك وشاجروهم وأغلظوا عليهم في القول وقالوا: إن
القرآن سحر والتوراة سحر مثله * (سحران تظاهرا وقالوا انا بكل كافرون) * فأعرض
الكتابيون عنهم وقالوا: * (سلام عليكم لانبتغي الجاهلين) * (القصص: 55.) هذا ما تلوح به الآيات الكريمة بسياقها (الميزان
16: 47، 48.). ولم يذكر الخبر من
هؤلاء العلماء اليهود من أهل يثرب الذين صدقوا بالقرآن فأغضبوا المشركين، وأثنى عليهم القرآن في هذه
الآيات ؟ ولعلهم هم الذين
أسلموا منهم فيما بعد: تميم
الداري والجارود العبدي وعبد الله بن سلام، الذين نقل الطبرسي في " مجمع البيان " عن قتادة: أنهم لما أسلموا نزلت فيهم الآيات: * (الذين آتيناهم الكتاب) * بينما الآيات مكية من سورة
مكية قبل الهجرة الى
المدينة. وقد ذكر في الخبر
معهم سلمان الفارسي أيضا، وهو
غريب ! (مجمع البيان 7: 403). |
ايمان
أبي طالب:
|
وفيها بعده قوله سبحانه: * (انك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين)
* (القصص: 56.). قال القمي في تفسيره: نزلت في أبي طالب (عليه السلام)، فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يقول: يا عم قل: لا إله
الا الله، أنفعك بها يوم القيامة، فيقول: يابن أخي أنا أعلم بنفسي. ولكنه لم يمت
حتى شهد العباس بن عبد المطلب عند رسول الله: أنه تكلم بها عند الموت، فقال رسول
الله (صلى الله عليه وآله): أرجو أن تنفعه يوم القيامة. وقال: لو قمت المقام
المحمود لشفعت في أبي وامي وعمي، وأخ كان لي مواخيا في الجاهلية (تفسير
القمي 2: 142.). وروى القمي هذا الأخير قبل هذا عن أبيه عن محمد بن أبي عمير عن معاوية وهشام عن الصادق (عليه
السلام) عن رسول الله (صلى
الله عليه وآله) (تفسير
القمي 2: 25.). وقال الطبرسي: رووا
عن ابن عباس وغيره أن قوله:
* (انك لا تهدي من أحببت) * نزلت
في أبي طالب، فإن النبي (صلى الله عليه وآله) كان يحب اسلامه فنزلت فيه هذه
الآية... وفي هذا نظر كما ترى، فإن النبي لا يجوز أن يخالف الله سبحانه في
ارادته، كما لا يجوز أن يخالفه في أوامره ونواهيه، وإذا كان الله تعالى - على ما
زعم القوم - لم يرد ايمان أبي طالب وأراد كفره وأراد النبي ايمانه، فقد حصل غاية
الخلاف بين ارادتي الرسول والمرسل، فكأ نه سبحانه يقول: انك - يا محمد - تريد
ايمانه ولا اريد ايمانه... مع تكفله بنصرتك وبذل مجهوده في اعانتك والذب عنك
ومحبته لك ونعمته عليك... وفي هذا ما فيه (مجمع
البيان 7: 405، 406.) وقال في سورة الأنعام: وقد ثبت اجماع أهل البيت (عليهم السلام)
على ايمان أبي طالب، واجماعهم حجة، لأنهم أحد الثقلين اللذين أمر النبي (صلى الله عليه وآله) بالتمسك بهما بقوله: " إن تمسكتم بهما لن تضلوا ". ويدل على ذلك ما رواه ابن عمر: أن أبا بكر جاء بأبيه أبي قحافة يوم الفتح الى رسول الله فأسلم
وكان أعمى فقال (صلى
الله عليه وآله): ألا
تركت الشيخ فآتيه ؟ فقال أبو بكر: أردت أن يأجره الله تعالى، والذي بعثك بالحق
لأنا كنت باسلام أبي طالب أشد فرحا مني بإسلام أبي التمس بذلك قرة عينك. فقال (صلى الله عليه وآله): صدقت. وروى الطبري بأسناده: أن رؤساء قريش لما رأوا ذب أبي طالب عن النبي اجتمعوا عليه
وقالوا: جئناك بفتى قريش جمالا وجودا وشهامة: عمارة بن الوليد، ندفعه اليك وتدفع
الينا ابن أخيك الذي فرق جماعتنا وسفه أحلامنا فنقتله ! فقال أبو طالب: ما انصفتموني، تعطوني ابنكم فأغذوه واعطيكم ابني فتقتلونه، بل
فليأت كل امرئ منكم بولده فأقتله. وقال: معنا الرسول رسول المليك *
ببيض تلالأ كلمع البروق أذود وأحمي رسول المليك
* حماية حام عليه شفيق قال: وأقواله وأشعاره المنبئة عن اسلامه كثيرة مشهورة لا تحصى، فمن ذلك قوله: ألم تعلموا أنا وجدنا محمدا *
نبيا كموسى خط في أول الكتب أليس أبونا هاشم شد أزره *
وأوصى بنيه بالطعان وبالحرب وقوله من قصيدة: وقالوا لأحمد: أنت امرؤ
* خلوف اللسان ضعيف السبب الا إن أحمد قد جاءهم *
بحق ولم يأتهم بالكذب وقوله في حديث الصحيفة وهو
من معجزات النبي (صلى الله عليه وآله): وقد كان في أمر الصحيفة
عبرة * متى ما يخبر غائب القوم يعجب محا الله منها كفرهم وعقوقهم * وما نقموا من ناطق الحق معرب وأمسى ابن عبد الله فينا مصدقا * على سخط من قومنا غير معتب وقوله في قصيدة يحض أخاه حمزة على اتباع النبي والصبر في طاعته: فصبرا - أبا يعلى - على
دين أحمد * وكن مظهرا للدين - وفقت -
صابرا فقد سرني إذ قلت إنك مؤمن * فكن لرسول الله - في الله - ناصرا وقوله في وصيته وقد حضرته الوفاة: اوصي بنصر النبي الخير مشهده * عليا ابني وشيخ القوم عباسا وحمزة الأسد الحامي حقيقته *
وجعفرا: أن يذودا دونه الناسا كونوا - فداء لكم امي وما ولدت - * في نصر أحمد دون الناس أتراسا
في أمثال هذه الأبيات مما هو موجود في قصائده المشهورة، ووصاياه
وخطبه، ما يطول به الكتاب (مجمع البيان 3: 446.) فإن
استيفاء ذلك جميعه لا تتسع له الطوامير، وما روى من ذلك في كتب المغازي وغيرها
أكثر من أن يحصى، يكاشف فيها من كاشف النبي ويناضل عنه ويصحح نبوته... ولا شك في
أنه لم يختر تمام مجاهرة الأعداء استصلاحا لهم ولحسن تدبيره في دفع كيدهم، لئلا
يلجئوا الرسول الى ما ألجأوه إليه بعد موته (مجمع
البيان 7: 406.). وقال العلامة الطباطبائي: وروايات أئمة أهل البيت (عليهم السلام) مستفيضة على ايمانه،
والمنقول من أشعاره مشحون بالإقرار على صدق النبي وحقيقة دينه، وهو الذي آوى
النبي صغيرا وحماه بعد البعثة وقبل الهجرة، وقد كان أثر مجاهدته وحده في حفظ
نفسه الشريفة في العشر سنين قبل الهجرة يعدل أثر مجاهدة المهاجرين والأنصار
بأجمعهم في العشر سنين بعد الهجرة (الميزان
16: 57.). وقال في تفسير الآية: لما بين في الآيات السابقة حرمان المشركين - وهم قوم النبي - من
نعمة الهداية، وضلالهم باتباع الهوى، واستكبارهم عن الحق النازل عليهم، وايمان
أهل الكتاب به واعترافهم بالحق، ختم هذا الفصل من الكلام بأن أمر الهداية الى
الله لا اليك، يهدي هؤلاء من أهل الكتاب وهم من غير قومك الذين تدعوهم، ولا يهدي
هؤلاء وهم قومك الذين تحب اهتداءهم، وهو أعلم بالمهتدين (الميزان
16: 55.). وفي السورة قوله سبحانه: * (وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا) * (القصص: 57.)
قال الطبرسي: قيل: إنما قاله الحرث بن نوفل بن عبد مناف فإنه قال للنبي (صلى الله عليه وآله): إنا لنعلم أن قولك حق، ولكن يمنعنا أن نتبع الهدى معك ونؤمن بك
مخافة أن يتخطفنا العرب من أرضنا، ولا طاقة لنا بالعرب (مجمع
البيان 7: 406.). وروى السيوطي بأسناده عن ابن عباس: أن القائل هو: الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف (الدر المنثور 5: 134، سورة القصص.). وفيها قوله سبحانه: * (أفمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه كمن متعناه متاع الحياة
الدنيا ثم هو يوم القيامة من المحضرين) * (القصص: 61.)
ونقل الطبرسي عن السدي
ومحمد بن كعب القرظي أنها
نزلت في [ رسول الله ] وعلي بن أبي طالب والحمزة بن عبد المطلب [ وعمار بن ياسر ] وفي أبي جهل [
والوليد بن المغيرة ] ثم
قال: والأولى أن يكون عاما فيمن يكون بهذه الصفة (مجمع
البيان 7: 408.). السورة الخمسون - "
الإسراء ": وقد سبق القول عن المعراج في "
سورة النجم " وكانت
السورة الثالثة والعشرين، وكان الحديث فيها مع المشركين قبل هذه. وفيها قوله سبحانه: * (وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة
حجابا مستورا) * (الإسراء:
45.) روى الطبرسي عن الزجاج
والجبائي قالا: نزلت
في قوم كانوا إذا صلى النبي (صلى الله عليه وآله) وتلا القرآن عند الكعبة ليلا
يرمونه بالحجارة ويمنعونه عن دعاء الناس الى الدين. وقال الكلبي: هم أبو سفيان
وأبو جهل وامرأة أبي لهب والنضر بن الحرث، حجب الله رسوله عن أبصارهم عند قراءته
للقرآن، فكانوا يأتونه ويمرون به ولا يرونه، حال الله بينه وبينهم حتى لايؤذوه (مجمع
البيان 7: 645). وبعدها قوله سبحانه: *
(نحن أعلم بما يستمعون به إذ يستمعون اليك واذ هم نجوى إذ يقول الظالمون إن
تتبعون الا رجلا مسحورا) * (الإسراء:
47.) قال الطبرسي قيل: يعني به أبا جهل وزمعة بن الأسود وعمرو بن هشام وحويطب بن عبد
العزى، اجتمعوا وتشاوروا في أمر النبي، فقال أبو جهل: هو مجنون، وقال زمعة: هو
شاعر، وقال حويطب: هو كاهن. ثم أتوا الوليد بن المغيرة وعرضوا ذلك عليه فقال: هو
ساحر (مجمع البيان 7: 646.). وبعدها قوله سبحانه: * (وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم إن
الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا) * (الإسراء: 53.) روى الطبرسي عن الكلبي قال: كان المشركون يؤذون أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) بمكة،
فيقولون: يا رسول الله ائذن لنا في قتالهم ! فيقول لهم: اني لم اؤمر فيهم بشئ،
فنزلت (مجمع البيان 7: 650.). وبعدها قوله سبحانه: * (وما منعنا أن نرسل بالآيات الا أن كذب بها الأولون) * (الإسراء: 59.) فاستحقوا العقاب بالتكذيب بالآية التي هم طلبوها بالتعيين اقتراحا
على نبيهم. وفي تفسير القمي في رواية
أبي الجارود عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: ذلك أن محمدا سأله قومه أن يأتيهم بآية، فنزل جبرئيل فقال: إن
الله يقول: * (وما منعنا أن
نرسل بالآيات) * الى
قومك * (الا أن كذب بها
الأولون) * وكنا إذا أرسلنا
الى قرية آية فلم يؤمنوا أهلكناهم، فلذلك أخرنا عن قومك الآيات (تفسير
القمي 2: 21.). وروى السيوطي بأسناده عن ابن عباس قال: سأل أهل مكة النبي (صلى الله عليه وآله) أن يجعل لهم الصفا ذهبا
وأن ينحي عنهم الجبال فيزرعون. فأوحي إليه: ان شئت أن نتأ نى بهم، وان شئت أن
نؤتيهم الذي سألوا فإن كفروا اهلكوا كما اهلكت من قبلهم من الامم ؟ قال: لا، بل
أستأني بهم. فانزل الله: *
(وما منعنا أن نرسل) * (الدر المنثور 4: 190، سورة الإسراء). وذكر
هذا في معنى الآية الشيخ الطبرسي (مجمع
البيان 7: 653) بلا أسناد الى رواية. وبعدها قوله سبحانه: * (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك الا فتنة للناس والشجرة
الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم الا طغيانا كبيرا) * (الإسراء: 60.). روى الطبرسي عن ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن وقتادة ومجاهد
قالوا: إن المراد ب * (الرؤيا التي أريناك) * ما أراه في إسرائه الى المسجد الأقصى برؤية العين لا رؤيا المنام،
ولكنه حيث رأى ذلك ليلا وأخبر بها حين أصبح سماها رؤيا. وروي عن الحسن وابن عباس أن الشجرة الملعونة في القرآن هي شجرة
الزقوم. وتقدير الآية: (وما
جعلنا الرؤيا التي أريناك والشجرة الملعونة في القرآن الا فتنة للناس). وأراد بالفتنة الامتحان وشدة التكليف، ليعرض المصدق بذلك لجزيل
ثوابه والمكذب لأليم عقابه. وانما كانت شجرة الزقوم فتنة لما روى: أن أبا جهل قال: إن محمدا يوعدكم بنار تحرق الحجارة ثم يزعم أنه تنبت فيها الشجرة
! فقال المشركون: إن النار تحرق الشجرة فكيف تنبت الشجرة في النار ؟ ! وصدق بها
المؤمنون (مجمع البيان 7: 654، 655.). وقال فيه: روي
أن قريشا لما سمعت الآية: *
(ذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم) * (الصافات: 62.)
قالوا: ما نعرف هذه الشجرة، فقال
ابن الزبعرى:
الزقوم بلغة اليمن أو البربر: الزبد والتمر ! فقال أبو جهل لجاريته: يا جارية
زقمينا ! فأتته الجارية بتمر وزبد، فقال لأصحابه: تزقموا بهذا الذي يخوفكم به
محمد فيزعم أن النار تنبت الشجرة، والنار تحرق الشجرة. فأنزل الله: * (انا جعلناها فتنة للظالمين) * (مجمع
البيان 8: 694 والآية في الصافات: 63.). وأول ما ذكرت شجرة
الزقوم في القرآن ذكرت في سورة الواقعة السادسة والأربعين، في قوله سبحانه: *
(ثم انكم أيها الضالون المكذبون لآكلون من شجر من زقوم فمالئون منها البطون
فشاربون عليه من الحميم) *
(الواقعة: 51 - 54.) فالظاهر أن استهزاء أبي جهل والمشركين كان هنا لأول مرة، وفي سورة
الإسراء بعد أربع سور من الواقعة أشار الى فتنتهم بهذه الشجرة المذمومة في
القرآن في سورة الواقعة. ثم كرر ذلك في سورة الصافات، والا فالصافات قد نزلت بعد
الاسراء. وروى السيوطي باسناده عن جماعة منهم البخاري والترمذي والنسائي
وأحمد بن حنبل والطبري والطبراني والبيهقي
في " دلائل النبوة " عن ابن عباس في قوله: * (وما جعلنا الرؤيا) * أنها ليست رؤيا منام بل هي رؤيا عين لما رآه ليلة اسري به الى بيت
المقدس. وأن *
(الشجرة الملعونة) * هي
شجرة الزقوم. ورواه أيضا عن ابن عساكر وابن سعد وأبي يعلى عن ام هانئ (الدر
المنثور 4: 191، سورة الإسراء.). وفيها قوله سبحانه: * (وان كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون
خلافك الا قليلا) * (الإسراء:
76.) وقال ابن شهر آشوب في " المناقب ": قال قريش مكة... إن هذه الأرض ليست بأرض الأنبياء وانما أرض
الأنبياء الشام فائت الشام. فنزلت * (وان كادوا...) * (المناقب 1: 49.) ورواه الطبرسي عن مجاهد
وقتادة (مجمع البيان 6: 667.). ومنها قوله سبحانه: *
(ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي) * (الإسراء: 85.). روى السيوطي بإسناده عن
ابن عباس قال: قالت
قريش لليهود: اعطونا شيئا نسأل هذا الرجل. فقالوا: سلوه عن الروح (الدر
المنثور 4: 195، سورة الإسراء.) فان أجابكم فليس بنبي، وان لم يجبكم فهو نبي، فإنا نجد في كتبنا
ذلك. فوكلهم الله في معرفة الروح الى ما في عقولهم ليكون ذلك علما على صدقه
ودلالة لنبوته (مجمع
البيان 6: 674.). ومنها قوله سبحانه: *
(وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا أو تكون لك جنة من نخيل وعنب
فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله
والملائكة قبيلا أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى
تنزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت الا بشرا رسولا) * (الإسراء: 90 - 93.). روى الطبرسي عن ابن عباس: أن جماعة من قريش وهم: عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبو سفيان بن حرب،
والأسود بن المطلب، وزمعة بن الأسود، والوليد بن المغيرة، وأبو جهل بن هشام،
وعبد الله بن أبي امية، وامية بن خلف، والعاص بن وائل، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج،
والنضر بن الحارث، وابو البختري بن هشام... اجتمعوا عند الكعبة وقال بعضهم لبعض:
ابعثوا الى محمد فكلموه وخاصموه. فبعثوا إليه: إن أشراف قومك قد اجتمعوا لك. وكان (صلى الله عليه وآله) حريصا على رشدهم، فظن أنهم بدا لهم في أمره، ولذلك بادر إليهم.
فقالوا: يا محمد ! إنا دعوناك لنعذر اليك، فلا نعلم أحدا أدخل على قومه ما ادخلت
على قومك: شتمت الآلهة وعبت الدين وسفهت الأحلام وفرقت الجماعة، فإن كنت جئت
بهذا لتطلب مالا اعطيناك، وإن كنت تطلب الشرف سودناك علينا، وإن كانت بك علة
غلبت عليك طلبنا لك الأطباء ! فقال (صلى الله عليه وآله): ليس شئ من ذلك، بل بعثني الله اليكم رسولا، وأنزل كتابا، فإن
قبلتم ما جئت به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه أصبر حتى يحكم الله
بيننا. قالوا: إذن فليس أحد أضيق بلدا منا، فاسأل ربك أن يسير هذه الجبال ويجري
لنا أنهارا كأنهار الشام والعراق، وأن يبعث لنا من مضى وليكن فيهم قصي - فإنه
شيخ صدوق - لنسألهم عما تقول: أحق هو أم باطل ؟ فقال: ما بهذا بعثت. قالوا: فإن لم تفعل ذلك فاسأل ربك أن يبعث
ملكا يصدقك ويجعل لنا جنات وكنوزا وقصورا من ذهب. فقال: ما بهذا بعثت، وقد
جئتكم بما بعثني الله به، فإن قبلتم، والا فهو يحكم بيني وبينكم. قالوا: فاسقط علينا السماء
كما زعمت أن ربك إن شاء فعل ذلك - قال: ذاك الى الله إن شاء فعل. وقال قائل منهم:
لا نؤمن حتى تأتي بالله والملائكة قبيلا. فقام النبي (صلى الله عليه وآله)، وقام
معه عبد الله بن أبي امية المخزومي ابن عمته عاتكة بنت عبد المطلب فقال: يا محمد
! عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله، ثم سألوك لأنفسهم امورا فلم تفعل، ثم سألوك
أن تعجل ما تخوفهم به فلم تفعل، فو الله لا اؤمن بك أبدا حتى تتخذ سلما الى
السماء ثم ترقى فيه وأنا انظر ويأتي معك نفر من الملائكة يشهدون لك وكتاب يشهد
لك. وقال أبو جهل: إنه أبى الا سب الآلهة وشتم الآباء، وأنا أعاهد الله لأحملن
حجرا، فإذا سجد ضربت به رأسه ! فانصرف رسول الله حزينا لما رأى من قومه، فأنزل الله سبحانه الآيات (مجمع
البيان 6: 678، 679. ورواه السيوطي في الدر المنثور 3: 202 وكذلك رواه سببا
لنزول الآيتين 7 و 8 من سورة الفرقان 5: 63، وكلاهما عن ابن عباس والقصة واحدة.) وذكر
مختصره ابن شهر آشوب في " المناقب " (مناقب
ابن شهر آشوب 1: 55.). ومنها قوله سبحانه: * (ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا) * (الإسراء: 110.) روى
العياشي عن زرارة وحمران ومحمد بن مسلم عن الباقر والصادق (عليهما السلام) قالا:
كان رسول الله (صلى
الله عليه وآله) إذ كان
بمكة يجهر بصلاته فيعلم بمكانه المشركون فكانوا يؤذونه، فانزلت هذه الآية عند
ذلك (تفسير العياشي 2: 318.) وكأن
في قولهما (عليهما السلام) " إذ كان بمكة " إشعار بأن ذلك كان في حالة خاصة، وليس
مطلقا. والى هذه الرواية من العياشي يشير الطبرسي يقول: روي عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام): أن النبي (صلى
الله عليه وآله) كان إذا صلى فجهر في صلاته تسمع له المشركون وذلك بمكة في أول
الأمر، فيؤذونه ويشتمونه، فأمره سبحانه بترك الجهر (مجمع
البيان 6: 689.). وروى الطوسي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: أن النبي كان إذا صلى جهر في صلاته بمكة في أول الأمر، فيسمعه
المشركون فيشتمونه ويؤذونه وأصحابه، فأمر الله بترك الجهر (التبيان
6: 534.) ورواه عن ابن عباس ابن
اسحاق في سيرته (سيرة ابن اسحاق 1: 335.). السورة الحادية والخمسون
- " يونس " : وفيها
قوله سبحانه: *
(وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو
بدله قل ما يكون لي ان ابدله من تلقاء نفسي ان اتبع الا ما يوحى الي اني اخاف ان
عصيت ربي عذاب يوم عظيم قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا ادراكم به فقد لبثت
فيكم عمرا من قبله افلا تعقلون فمن اظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته
إنه لا يفلح المجرمون) *
(يونس: 15 - 17.). روى الطبرسي عن مقاتل قال: نزلت في خمسة نفر: عبد الله بن امية المخزومي، والوليد بن مغيرة
المخزومي، ومكرز بن حفص، والعاص بن عامر ابن هاشم، وعمرو بن عبد الله العامري،
قالوا للنبي (صلى الله عليه وآله): ائت بقرآن ليس فيه ترك عبادة اللات والعزى
ومناة وهبل وليس فيه عيبها. ومثله عن الكلبي مختصرا (مجمع
البيان 5: 146 ورواه الواحدي في أسباب النزول: 216 ط الجميلي.) وقبله نقل الطوسي عن الزجاج قال: كان غرضهم إسقاط ما فيه من عيب آلهتهم وتسفيه أحلامهم، ومن ذكر
البعث والنشور، فأمر الله تعالى نبيه أن يقول لهم في جواب ذلك: * (ما يكون لي أن ابدله من تلقاء نفسي) * (التبيان 5: 350.).
السورة الثانية والخمسون - " هود ": *
(الر كتاب احكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ألا تعبدوا الا الله إنني لكم
منه نذير وبشير) * فالبشارة: * (وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا الى أجل
مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله) *
والانذار: *
(وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير الى الله مرجعكم وهو على كل شئ قدير)
* وأما كيفية مواجهتهم له ولكتابه هذا ففي قوله: *
(ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه الا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما
يعلنون إنه عليم بذات الصدور) * (هود: 1 - 5.). روى الكليني في " الكافي " باسناده عن سدير الصيرفي
الكوفي عن الامام الباقر (عليه السلام) قال: أخبرني جابر بن عبد الله: أن المشركين كانوا إذا مروا برسول الله (صلى الله عليه وآله) حول البيت، طأطأ أحدهم رأسه وظهره (هكذا) وغطى رأسه بثوبه لا يراه
رسول الله، فأنزل الله: *
(ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه) * ورواه العياشي، وعنه
الطبرسي في " مجمع البيان " والبحراني في " البرهان "
والفيض الكاشاني في " الصافي " (تفسير
العياشي 2: 139 ومجمع البيان 5: 215 والبرهان 2: 206 والصافي 1: 777.) ورواه
السيوطي بإسناده عن أبي زرين قال: كان أحدهم يحني ظهره ويستغشي بثوبه (الدر
المنثور 3: 320، سورة هود). وفيها قوله سبحانه: * (فلعلك تارك بعض ما يوحى اليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا
انزل عليه كنز أو جاء معه ملك إنما أنت نذير والله على كل شئ وكيل) * (هود: 12.). وروى الطبرسي عن ابن عباس: أن رؤساء مكة من قريش أتوا رسول الله (صلى الله عليه وآله)
فقالوا: يا محمد إن كنت رسولا فحول لنا جبال مكة ذهبا أو ائتنا بملائكة يشهدون
لك بالنبوة ! فأنزل الله تعالى: * (فلعلك تارك بعض ما يوحى اليك وضائق به صدرك أن يقولوا...) * (مجمع البيان 5: 221.). وبعدها قوله سبحانه: * (أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من
استطعتم من دون الله ان كنتم صادقين) * (هود: 13). السورة الرابعة والخمسون - " الحجر ": وفيها قوله سبحانه: * (فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين انا كفيناك المستهزئين) * (الحجر: 94، 95.) وما مر فيها من أبحاث. والآن وبعد أن استعرضنا
ما نزل من القرآن الكريم قبل هذه الآية مما فيه إشارة الى حوادث البعثة وما
بعدها، فهل كان فيه ما
ينسجم مع سرية الدعوة حتى نزول هذه الآية وبداية الإعلان للعموم بها مع نزول هذه
الآية ؟ أم كان جله أو كله مما لا ينسجم الا مع الإعلان بالدعوة للعموم منذ
الأول أو الأوائل ؟ مما يؤيد الخبر والقول بتقدم المرحلة السرية على نزول
القرآن، وبدء الدعوة العلنية العامة مع بدء نزول القرآن أو قريبا منه، وقد مر
خبره والقول به قبل هذا وسبق أيضا في معنى قوله سبحانه: * (فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين) * عدم التسليم لما اشتهر في معناه أنه امر بإظهار الدعوة العامة
والإعلان بها، واختيار خبر المفيد أن الآية أمر بالإعراض عن تهديد المشركين
المستهزئين الستة المقتسمين الأبواب الستة لمنع الحجاج والمعتمرين عن الاستماع
والاستجابة للرسول الأمين، الذين أمهلوه الى الزوال ليترك أمره أو يقتلوه.
فالآية أمر له بالاعراض عن هذا التهديد لهؤلاء المشركين والصدع بأمره، لا ابتداء
به بل استمرارا واستدامة فيه. وسبق أن لولا هذا المعنى لما كان أي معنى مناسب
للاعراض عن المشركين في الآية، بل كان الأنسب أن يؤمر بالتصدي لهم لا بالاعراض
عنهم. وكذلك ما كان من المناسب أن يتواجد هناك مستهزئون معروفون بذلك، مقتسمون
لأبواب مكة للمنع عنه في حين أن دعوته سرية. إذن فالصدع بالأمر وإعلان الدعوة لم يكن الحدث الآخر المشار إليه
في هذه الآيات الأواخر من "
سورة الحجر " بل هو
الحدث الأول المشار إليه بالآيات الأوائل من سورة القلم أو المدثر أو الضحى. ويبقى أهم الأحداث المشار إليها فيما نزل من القرآن الى آخر "
سورة الحجر ": المعراج في (سورة النجم: 23) ثم إنذار العشيرة الأقربين في (سورة الشعراء: 42) ثم الإسراء في (سورة
الإسراء: 50). إذن
فالإنذار كان بين المعراج والإسراء، بعد المعراج بكثير وقبل الإسراء بقليل. فمتى
كانت هذه الحوادث ؟ وقبل الوصول الى جواب
هذا السؤال أقول: إنما
فرقت هنا بين المعراج والإسراء وقدمت ذكر المعراج على الإسراء تبعا لسورتي النجم
والإسراء في ترتيب النزول، وسورة النجم لم تذكر الإسراء وسورة الإسراء لم تذكر
أكثر من الإسراء، بل إن الضمائر في آيات سورة النجم غير صريحة في الرجوع الى
الرسول (صلى الله عليه
وآله) بل هي مرددة بينه
وجبرئيل (عليه السلام) لولا أن الأخبار والروايات والأحاديث فسرتها بالمعراج وبعد
الإسراء، بل إن الآيات إنما أشارت الى ما كان قد تحدث عنه الرسول فجادله فيه
المشركون " أفتمارونه على ما يرى " وفي سورة الإسراء أضافت الاخبار
بالمعراج بعد الإسراء، فلم تجعل المعراج بلا إسراء، ولا الإسراء بلا معراج فكان
كلاهما إسراء ومعراجا، مما جعل أخبارهما متداخلة غير متمايز أولها عن الثاني، بل
ولا أحدهما عن الآخر. ومن المحتمل أن تكون
الآية الاولى من سورة الإسراء إنما
تذكر بما تضمنته وأضمرت عنه وأشارت إليه سورة النجم السابقة، لولا أن الأخبار
أفادت التكرار مرتين (انظر اصول الكافي 1: 442 والمناقب 1: 177 وسعد السعود: 100 والميزان
13: 270.)، ولكنهما غير متمايزتين حتى في تأريخهما. |
الفصل
الخامس الإسراء والمعراج
|
تأريخ
المعراج والاسراء:
|
وفي تأريخ الإسراء: روى
القطب الراوندي في
" الخرائج والجرائح " عن علي (عليه السلام)
أنه: لما كان بعد ثلاث سنين من مبعثه (صلى الله عليه وآله) اسري به الى بيت المقدس وعرج به منه الى السماء ليلة المعراج،
فلما أصبح من ليلته حدث قريشا بخبر معراجه (الخرائج
والجرائح 1: 141 ط قم.). ومجموع ما نقله المجلسي في باب المعراج في تأريخه كما يلي: ذكر خبر " الخرائج " (بحار
الأنوار 18: 379.) ونقل عن " المناقب " عن ابن عباس أنه: كان في شهر ربيع الأول بعد النبوة بسنتين. وفيه عن الواقدي والسدي
أنه: كان قبل الهجرة بستة أشهر في السابع عشر من شهر رمضان (بحار
الأنوار 18: 381.). وعن الواقدي أيضا في " المنتقى " للكازروني قال: كان المسرى في ليلة السبت لسبع عشرة ليلة خلت من شهر رمضان في
السنة الثانية عشرة من النبوة قبل الهجرة بثمانية عشر شهرا. وفيه قيل: ليلة سبع
عشرة من ربيع الأول قبل الهجرة بسنة، من شعب أبي طالب الى بيت المقدس. وقيل:
ليلة سبع وعشرين من رجب. وقيل: كان الإسراء قبل الهجرة بسنة وشهرين وذلك سنة
ثلاث وخمسين من عام الفيل (بحار الأنوار 18: 302.). وعن " العدد القوية
" قال: في
ليلة احدى وعشرين من رمضان قبل الهجرة بستة أشهر كان الإسراء برسول الله. وقيل:
في السابع عشر من شهر رمضان ليلة السبت. وقيل: ليلة الاثنين من شهر ربيع الأول
بعد النبوة بسنتين. وفيه عن كتاب " التذكرة ": في
ليلة السابع والعشرين من رجب السنة الثانية من الهجرة كان الإسراء (بحار الأنوار 18: 319.).
فالاختلاف من سنة بعد
البعثة الى سنتين بعد الهجرة ! ويبدو أن الراجح من هذه الأقوال والروايات هو رواية الراوندي عن علي (عليه السلام)،
فلننظر في سائر المرجحات. أما
سورة النجم فإنها نزلت بعد
اثنتين أو ثلاث وعشرين سورة، وقد نزل بعدها أربع وستون سورة في مكة (راجع
مجمع البيان 10: 612 في سورة الانسان والتمهيد: 105 وتلخيصه: 95.) فالطبيعي أن تكون قد نزلت فيما بين الثلثين الأول والثاني من
العشر سنين مدة التنزيل بمكة قبل الهجرة، أي في نهاية السنة الثالثة أو بدايات
العام الرابع من تلك المدة. الا أنه يمكن القول بأن السور الأوائل من القصار المفصلات، بينما ما يليها من المئين
والمثاني المطولات، فمن المحتمل أن تكون السور العشرون الأوائل نازلة في السنة
الاولى من تلك المدة، والسور الستون البواقي نازلة في السنين التسع البواقي،
وعليه فيكون المعراج ونزول سورته في أواخر السنة الاولى من تلك المدة. وقد مر في خبر القمي في
تفسيره: أن اسماعيل الملك
سأل جبرئيل: من هذا معك ؟ فقال: محمد، قال: أو قد بعث ؟ قال: نعم (تفسير
القمي 2: 5.) أو: أو قد ارسل إليه ؟ (تأريخ
الخميس 1: 310 ومجمع الزوائد 1: 70 عن المواهب اللدنية 2: 6.) وإنما
يتناسب هذا التساؤل مع أوائل البعثة بالنبوة أو الرسالة والتنزيل عليه، لا بعد
ذلك بكثير، فضلا عما بعد الهجرة. ومع الالتفات الى التفريق بين البعثة بالنبوة والرسالة ينتفي
الخلاف بين عمدة الأقوال: السنة
الثانية والخامسة، فالثانية من الرسالة والتنزيل هي الخامسة من البعثة بالنبوة،
وسيما وأن رواية السنة الثانية تنتهي الى ابن عباس وهو المعروف بالقول بنزول
القرآن في عشر سنين، فكأنه لا يحسب الثلاث سنوات الاولى لاعتبار أنه (صلى الله عليه وآله) إنما امر بالانذار بعدها. وابن عباس أدرك مدة قصيرة من حياة الرسول (صلى
الله عليه وآله) ولم
يكن معه حين معراجه حتى يكون شاهدا بتأريخه، فلابد أنه نقله من شخص آخر لم
يذكره، فهو نقل تأريخي لم يذكر المصدر فيه فلا قيمة له عند التحقيق، لولا أنا
نعلم أن أكثر علم ابن عباس هو من علم علي (عليه السلام)،
فيبدو أنه ينقله عنه (عليه
السلام)، الا أن النقل
اختلف عنهما بين الاثنين والثلاث. ولعل الذين أرخوا المعراج بعام ونصف أو بخمسة عشر شهرا بعد مبعثه (سيرة
مغلطاي: 27.) أو بعد البعثة بستة عشر شهرا (شرح
الشفا للقاري 1: 222.) أخذوا السنتين عن ابن عباس واجتهدوا فيها بالمداقة في شهورها مختلفين. ولعل من أقوى ما يدل على
تأريخ المعراج بأوائل السنة الخامسة: ما مر من اثبات ميلاد فاطمة الزهراء (عليها السلام)
في السنة الخامسة من النبوة،
بالاضافة الى ما روى عن الامام الصادق (عليه السلام)
وابن عباس وسعد بن مالك وسعد بن أبي وقاص وعائشة: أنها إذ عاتبته على كثرة تقبيله لا بنته الزهراء قال لها: يا عائشة
! لما اسري بي الى السماء أدخلني جبرئيل الجنة، فناولني منها تفاحة، فأكلتها،
فصارت نطفة في صلبي، ففاطمة من تلك النطفة، ففاطمة حوراء إنسية، وكلما اشتقت الى
الجنة قبلتها (بحار الأنوار 18: 315 و 350 و 364 عن تفسير القمي وعلل الشرائع
والمختصر. وملحقات إحقاق الحق للمرعشي 10: 1 - 11. أخبار الدول: 87 وتأريخ بغداد
5: 87 وذخائر العقبى: 36. وكنز العمال 30: 94 و 14: 97. ومجمع الزوائد 9: 202.
ومحاضرات الأوائل: 88. ومستدرك الحاكم 3: 156 وتلخيصه للذهبي والمطالب السنية: 239.
ومفتاح النجا: 98 مخطوط. ومقتل الخوارزمي: 64 ومناقب المغازلي: 358 والمواهب
اللدنية 2: 29، وميزان الاعتدال 1: 38 و 253 و 2: 26 و 84 و 160 و 297 ونزهة
المجالس 2: 179. ونظم درر السمطين: 77. ووسيلة المآل: 78. وينابيع المودة: 97.). وقد علم مما مر أن فاطمة
ولدت بعد البعثة بخمس سنين أي في السنة الثانية من الرسالة والتنزيل - وهو محمل
قول الشيخ المفيد ومن
قال بولادتها في السنة
الثانية - وإذا كان ظهور نطفة
فاطمة واستقرارها في موضعها طبيعيا اقتضى أن يكون المعراج قبل ذلك بأكثر من تسعة أشهر ولا أقل منها، ولكن لا يدرى هل هي من المعراج الأول أو الثاني ؟ فلو كانت من الأول اقتضى ذلك ترجيح القول الأول بأن
المعراج كان بعد سنة من الرسالة، ليكون ميلاد الصديقة في السنة الثانية. وبما أن التأريخ بسنة
البعثة بالنبوة لا السنة العربية بدءا بمحرم، فالحساب من شهر شعبان - بعد البعثة في أواخر شهر رجب - واليه،
وعليه فيترجح القول بكون المعراج الأول في شهر رمضان ولعله في احدى ليالي القدر: التاسع عشر أو الحادي والعشرين كما مر عن " العدد القوية
" وكما مر عن " المنتقى " عن الواقدي، وعن " المناقب "
عن الواقدي والسدي. وبعد تسعة أشهر من شهر رمضان يكون شهر جمادى الثانية ميلاد
الصديقة (عليها السلام). وفي شهر رجب بعد الجمادى الثانية تنتهي السنة الثانية
للرسالة والخامسة للنبوة. وعليه فيكون ما في
" الخرائج " عن علي (عليه السلام) من تأريخ المعراج بالسنة الثالثة تأريخا للإسراء والمعراج
الثاني، فإما كذلك في شهر
رمضان أيضا أو في شهر ربيع الأول في ليلة السابع عشر منه أي ميلاد الرسول (صلى
الله عليه وآله) كما
عن " الاقبال " (الاقبال: 601.) ومر عن " العدد القوية " و " المنتقى " وعن
" المناقب " عن ابن عباس. أما إذا افترضنا ميلاد
الزهراء (عليها السلام) بعد الإسراء والمعراج الثاني، وافترضنا ما في " الخرائج
" عن علي (عليه
السلام) تأريخا له - أي
للثاني - فإن ميلاد الزهراء سيكون في السنة الثالثة من الرسالة والسادسة من
النبوة، مما لا يتفق مع
القول المعول عليه والروايات المعتمدة. وكذلك أيضا إذا افترضنا السنة الثالثة
تأريخا للمعراج الأول. اللهم الا أن نقول بتأخير الولادة عن الإسراء والمعراج
الى السنة الخامسة من الرسالة،
أي بعد سنتين من المعراج في السنة الثالثة، ولكنه خلاف ظاهر الأخبار، نعم الا أن نقول بأن الإسراء والمعراج
الثاني كان في السنة الخامسة من الرسالة والولادة بعدها فيها كذلك. ولكن هذا
يقتضي أن يكون عمر الصديقة حين الهجرة خمس سنين وحين الزواج ست سنين مما لم يقل
به أحد ولا يعقل. فنرجع الى ترجيح كونها من المعراج الأول وميلادها بعده كما مر،
وحيث لم يتفق ذلك مع كون المعراج الأول في السنة الثالثة من الرسالة كما مر
آنفا، فليكن ذلك تأريخا للإسراء والمعراج الثاني. ويبقى أننا لو رجحنا أن تكون السنة الثالثة فيما رواه "
الخرائج " عن علي (عليه السلام) تأريخا للإسراء والمعراج الثاني، فهنا
اشكالان: الأول: أن
الخبر بصدد بيان ما يتعلق بالمعراج بالتفصيل، فلماذا لم يبين بل لم يشر الى
المعراج الأول السابق - أو الآخر اللاحق - لا من قريب ولا من بعيد ؟ وكذلك أكثر
أخبار الإسراء والمعراج. الثاني: أننا
لو رجحنا القول بكون الإسراء والمعراج الثاني في السنة الخامسة من الرسالة كان
ذلك منسجما مع كون سورة الإسراء السورة الخمسين في ترتيب النزول، ونزل في الخمس
سنين بعدها زهاء ثلاثين سورة من المئين أو المثاني المطولات نسبيا بينما لو رجحنا السنة الثالثة تأريخا للإسراء والمعراج الثاني استلزم أن يكون النازل في مدة هذه السنين الثلاثة خمسين سورة، بينما النازل في السبع سنين البواقي ثلاثين سورة. اللهم أن
يلتزم بذلك بحجة أن السور الأوائل قصار مفصلات والبواقي مئين أو مثان مطولات
نسبيا. ولعل مما يؤيد هذا ما رواه السيوطي في " الدر المنثور " باسناده عن عبد الله بن مسعود قال عن سورة الإسراء ومريم والكهف:
إنهن من العتاق الاول (الدر المنثور 4: 136 عن ابن الضريس وابن مردويه وصحيح البخاري 3: 96.) هذا
وهو من المهاجرين الى الحبشة، وهي كانت في السنة الخامسة. والظاهر أن المقصود
بالخامسة هي الخامسة من النبوة لا الرسالة والتنزيل، أي بعد الرسالة والتنزيل بعامين، ولكن حتى لو كانت الخامسة من
الرسالة فإن ظاهر الخبر
أن سورة الإسراء كانت قد نزلت قبل الهجرة الى الحبشة بمدة ليست بقصيرة بل طويلة.
|
تأريخ
يوم الدار:
|
أما تأريخ انذار يوم الدار فهو يتبع تأريخ الإسراء والمعراج
الثاني قبله بمدة تسع وتتناسب لنزول سورتي: النمل
48 وآياتها 92 والقصص 49 وآياتها 88. فلو قلنا بكون المعراج الثاني في السنة الخامسة أو الثالثة، فلو كان في
الربيع الأول منها وهو الشهر الثامن منها كان من الممكن
أن يكون الانذار في أوائلها أواخر شهر رجب أو شعبان أو رمضان منها، أما لو كان المعراج في شهر رمضان اقتضى أن يكون الانذار في أوائل
السنة السابقة: الرابعة أو الثانية من الرسالة. ويكون عمر علي (عليه السلام) يومئذ - على أن ميلاده بعد عام
الفيل بثلاثين سنة - في السنة الثانية من الرسالة: خمس
عشرة سنة، وفي السنة الرابعة منها: ست عشرة سنة. وحيث جرنا البحث عن
المرحلة السرية والعلنية الى ملاحظة سير الحوادث بعد البعثة والتنزيل من خلال
الآيات الكريمة حتى آخر السورة الرابعة والخمسين، سورة الحجر، فلا بأس بأن نستمر
على هذه الطريقة لنلاحظ سير الحوادث من خلال نزول التنزيل. السورة الخامسة والخمسون - " الأنعام ": التي نزلت جملة واحدة كما
في خبر ابي بن كعب عن النبي (صلى
الله عليه وآله) كما في
" مجمع البيان " (مجمع البيان 4: 421 وعن عكرمة وقتادة.). وخبر
العياشي عن الامام الصادق (عليه السلام) (تفسير
العياشي 1: 353.) والقمي عن الرضا (عليه السلام) (تفسير
القمي 1: 193.) وفيها قوله سبحانه: * (ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين
كفروا ان هذا الا سحر مبين وقالوا لولا انزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي
الأمر ثم لا ينظرون ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون) * (الأنعام: 7 - 9.). وروى الطبرسي عن الكلبي
قال: نزلت في عبد الله بن
أبي امية ونضر بن الحارث ونوفل بن خويلد، قالوا: يا محمد لن نؤمن لك حتى تأتينا
بكتاب من عند الله ومعه أربعة من الملائكة يشهدون عليه أنه من عند الله وأنك
رسوله (مجمع البيان 4: 428.) وكذلك
رواه ابن شهر آشوب في المناقب (مناقب ابن شهر آشوب 1: 48.). وفيها قوله سبحانه: * (قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السموات والأرض وهو يطعم ولا
يطعم قل إني امرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونن من المشركين قل إني أخاف إن
عصيت ربي عذاب يوم عظيم) * (الأنعام:
14 - 15.). قال الطبرسي قيل: إن أهل مكة قالوا لرسول الله: يا محمد تركت ملة قومك، وقد علمنا
أنه لا يحملك على ذلك الا الفقر، فإنا نجمع لك من أموالنا حتى تكون أغنانا،
فنزلت الآية (مجمع البيان 4: 433.) ونقله
كذلك ابن شهر آشوب في " المناقب " (مناقب
ابن شهر آشوب 1: 49.). وفيها قوله سبحانه: * (قل أي شئ أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم واوحي إلي هذا
القرآن لانذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة اخرى قل لا أشهد قل
إنما هو إله واحد وانني برئ مما تشركون الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون
أبناءهم الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون) * (الأنعام: 19، 20.). في " تفسير القمي
" برواية أبي الجارود عن الامام الباقر (عليه السلام) قال: إن مشركي أهل مكة في أول ما دعاهم رسول الله قالوا له: يا محمد !
ما وجد الله رسولا يرسله غيرك ؟ ! ما نرى أحدا يصدقك بالذي تقول، ولقد سألنا عنك
اليهود والنصارى فزعموا أنه ليس لك ذكر عندهم. فأتنا بمن يشهد أنك رسول الله.
فقال رسول الله: *
(الله شهيد بيني وبينكم) *
(تفسير القمي 1: 195.) وروى
الطبرسي مثله عن الكلبي (مجمع البيان 4: 436 والواحدي في أسباب النزول: 174 عن الكلبي أيضا.) وكذلك
ابن شهر آشوب في " المناقب " (المناقب
للسروي 1: 50.). وفيها قوله سبحانه: * (ومنهم من يستمع اليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي
آذانهم وقرا وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها حتى إذا جاؤوك يجادلونك يقول الذين
كفروا ان هذا الا أساطير الأولين) * (الأنعام: 25.). قال الطبرسي في " مجمع البيان " قيل: إن نفرا من مشركي مكة منهم: أبو سفيان بن حرب وعتبة وشيبة ابنا ربيعة،
والنضر بن الحارث والوليد بن المغيرة (كذا، والمفروض أنه هلك مع المستهزئين الستة قبل نزول الأنعام.) وغيرهم، جلسوا الى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو يقرأ
القرآن، فقالوا للنضر: ما يقول محمد ؟ فقال: أساطير الأولين مثل ما كنت احدثكم
عن القرون الماضية، فأنزل الله هذه الآية. وروي: أن النبي (صلى الله
عليه وآله) كان يصلي بالليل
ويقرأ القرآن في الصلاة جهرا، رجاء أن يستمع الى قراءته انسان فيتدبر معانيه
ويؤمن به، فكان المشركون إذا سمعوه آذوه ومنعوه عن الجهر بالقراءة، فكان الله
تعالى يلقي عليهم النوم أو يجعل في قلوبهم أكنة ليقطعهم عن مرادهم (مجمع
البيان 4: 442.). وفيها قوله سبحانه: * (وهم ينهون عنه وينأون عنه وإن يهلكون الا أنفسهم وما يشعرون)
* (الأنعام: 26.) قال
الطبرسي: أي ينهون الناس عن
اتباع النبي ويتباعدون عنه فرارا منه، أو ينهون الناس عن استماع القرآن ويتباعدون
عن استماعه، كما عن محمد بن الحنفية وابن عباس والحسن والسدي وقتادة ومجاهد،
وقال مقاتل وعطاء: عنى به أبا طالب بن عبد المطلب ! وهذا لا يصح، لأن
هذه الآية معطوفة على ما تقدمها وما تأخر عنها معطوف عليها، وكلها في ذم الكفار
المعاندين (مجمع البيان 4: 444.) وفيها
قوله سبحانه: *
(قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله
يجحدون) * (الأنعام: 33.). قال الطبرسي في مجمع
البيان: روي: أن
أبا جهل قال للنبي (صلى الله عليه وآله): ما نتهمك ولا نكذبك، ولكنا نتهم الذي
جئت به ونكذبه (مجمع البيان 3: 456 ونقله الواحدي في أسباب النزول: 176 عن أبي ميسرة
وخبرا آخر عن السدي وقولا آخر عن مقاتل.). وفيها قوله سبحانه: * (وإن كان كبر عليك اعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض
أو سلما في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من
الجاهلين) * (الأنعام:
35.). في " تفسير القمي " في خبر أبي الجارود عن الامام
الباقر (عليه السلام) قال:
كان رسول الله (صلى
الله عليه وآله) يحب
اسلام الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف، دعاه رسول الله أن يسلم فغلب عليه
الشقاء، فشق ذلك على رسول فأنزل الله قوله: * (وان كان كبر عليك إعراضهم) * (تفسير القمي 1: 198.).
وفيها قوله سبحانه: * (وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا الى ربهم ليس لهم من دونه
ولي ولا شفيع لعلهم يتقون ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه
ما عليك من حسابهم من شئ وما من حسابك عليهم من شئ فتطردهم فتكون من الظالمين
وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهولاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم
بالشاكرين وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه
الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم) * (الأنعام: 51 - 54.). روى الطبرسي عن الثعلبي باسناده عن عبد الله بن مسعود قال: مر الملأ من قريش على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعنده صهيب
وخباب وبلال وعمار وغيرهم من ضعفاء المسلمين، فقالوا: يا محمد ! أرضيت بهؤلاء عن
قومك ؟ ! أفنحن نكون تبعا لهم ؟ ! أهؤلاء من الله عليهم ؟ ! اطردهم عنك، فلعلك
إن طردتهم تبعناك ! فأنزل الله في ذلك قوله سبحانه: * (ولا تطرد...) * (مجمع
البيان 4: 472 ورواه الواحدي في أسباب النزول: 176 والسيوطي في لباب النقول:
107.). وفيها قوله سبحانه: * (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال اوحي الي ولم يوح
إليه شئ ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت
والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون
على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول
مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم
شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون) * (الأنعام: 93، 94.). روى السيوطي في "
الدر المنثور " عن عكرمة عن ابن عباس: أن النضر بن الحارث لفق جملات هكذا: والطاحنات طحنا والعاجنات عجنا...
يقابل بها سورة المرسلات (الثالثة
والثلاثين في النزول) فنزلت
الآية (الدر المنثور 3: 30.). وقال الطوسي: قال عكرمة إن الآية * (ولقد جئتمونا فرادى...) * نزلت في النضر بن الحارث بن كلدة حيث قال سوف يشفع في اللات
والعزى (التبيان 4: 208 وعنه في مجمع البيان 4: 521.). وفيها قوله سبحانه: * (وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في
حديث غيره وأما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين وما على
الذين يتقون من حسابهم من شئ ولكن ذكرى لعلهم يتقون) * (الأنعام: 68 - 69.). روى الطبرسي عن الامام
الباقر (عليه السلام) قال:
لما نزلت * (فلا تقعد بعد
الذكرى مع القوم الظالمين) *
قال المسلمون: إن كان كلما استهزأ المشركون بالقرآن قمنا وتركناهم فلا ندخل
المسجد الحرام ولا نطوف بالبيت الحرام ؟ ! فأنزل الله: * (وما على الذين يتقون من حسابهم من شئ ولكن ذكرى لعلهم يتقون)
* أمرهم بتذكيرهم
وتبصيرهم ما استطاعوا. ثم نقل عن البلخي قال: كان ذلك في أول الاسلام وكان يختص
بالنبي (صلى الله عليه وآله) ورخص المؤمنين في ذلك بقوله: * (وما على الذين يتقون من حسابهم من شئ) * ولما كثر المسلمون
نسخت هذه الآية بقوله: * (فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم) * (مجمع البيان 4: 489 وروى السيوطي في ذلك خبرين عن ابن عباس وابن جريج
في الدر المنثور: الأنعام.). وفيها قوله سبحانه: * (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم
كذلك زينا لكل امة عملهم ثم الى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون) * (الأنعام: 108.). روى القمي في تفسيره بسنده عن الامام الصادق (عليه السلام) قال: كان المؤمنون يسبون ما يعبد المشركون من دون الله، وكان المشركون
يسبون ما يعبد المؤمنون، فنهى الله المؤمنين عن سب آلهتهم لكي لا يسب الكفار اله
المؤمنين (تفسير القمي 1: 213. وفي التبيان 4: 232 عن الحسن وفي أسباب النزول:
148.). وأضاف الطبرسي عن ابن عباس: أن المشركين قالوا لرسول الله: يا محمد ! لتنتهين عن سب آلهتنا أو
لنهجون ربك ! فنزلت: *
(ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله) * (مجمع البيان 4: 537. وفي التبيان عن الحسن البصري، وهو ممن أخذ عن
ابن عباس.). ومنها قوله سبحانه: * (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها قل
إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون ونقلب أفئدتهم
وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون ولو أننا نزلنا
إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شئ قبلا ما كانوا ليؤمنوا الا أن
يشاء الله ولكن أكثرهم يجهلون) * (الأنعام: 109 - 111.). روى الطبرسي عن الكلبي ومحمد بن كعب القرظي: قالت قريش: يا محمد ! تخبرنا أن موسى كان معه عصا يضرب بها الحجر
فتنفجر منه اثنتا عشرة عينا، وتخبرنا أن عيسى كان يحيي الموتى، وتخبرنا أن ثمود
كانت لهم ناقة... فأتنا بآية من الآيات حتى نصدقك. فقال رسول الله (صلى الله
عليه وآله): أي شئ تحبون أن آتيكم به ؟ قالوا: اجعل لنا الصفا
ذهبا ! وابعث لنا بعض موتانا حتى نسألهم أحق ما تقول أم باطل ؟ وأرنا الملائكة
يشهدون لك، أو ائتنا بالله والملائكة قبيلا ! فقال رسول الله: فإن فعلت بعض ما تقولون أتصدقونني ؟ قالوا: نعم، والله لئن فعلت
لنتبعنك أجمعين. وسأل المسلمون رسول الله أن ينزلها عليهم حتى
يؤمنوا. فقام رسول الله يدعو أن يجعل الله الصفا ذهبا
! فجاءه جبرئيل فقال له: إن شئت أصبح الصفا ذهبا، ولكن إن لم يصدقوا عذبتهم ! وإن شئت
تركتهم حتى يتوب تائبهم. فقال رسول الله: بل يتوب تائبهم. فأنزل الله تعالى هذه
الآية (مجمع البيان 4: 540. ومعناه في التبيان 4: 236. وفي أسباب النزول:
180) في الآيات العشر من الآية 112 الى الآية 122 بدأ الله بتسلية رسوله عن أقوال الكفار تخرصا أمام آيات الكتاب
المنزل عليه، وأن من اتبع غيره ضل وأضل، وأن أعداء الانبياء شياطين من الجن
والانس، وأن أقوالهم زخرف وافتراء واقتراف للاثم والباطل، وحكم بغير ما أنزل
الله، ومن أطاعهم فقد ضل عن سبيل الله الى اتباع الظنون والتخرصات، والله أعلم
بالمهتدين والضالين عن سبيله، ثم قال: * (فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين ومالكم
ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم الا ما اضطررتم إليه
وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بالمعتدين) * (الأنعام: 118، 119.). وفي قوله سبحانه: * (وقد فصل لكم ما حرم عليكم) * قال الطبرسي قيل: هو ما ذكر في سورة المائدة من قوله: * (حرمت عليكم الميتة والدم...) * واعترض على هذا: بأن سورة المائدة نزلت بعد الأنعام بمدة فلا يصح
أن يقال: انه فصل. الا أن يحمل على أنه بين على لسان الرسول (صلى الله عليه وآله) وبعد ذلك نزل به القرآن (مجمع
البيان 4: 552 والواحدي في أسباب النزول: 180 رواية في سبب نزول الآية راجعها.). وقال الطباطبائي:
ويظهر من الآية أن محرمات الأكل نزلت قبل سورة الأنعام، وقد وقعت في سورة النحل
من السور المكية، فهي نازلة قبل الأنعام (الميزان
7: 332.). والآيات من سورة النحل هي من الآية 114 الى 118 وهي: * (وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل) * فلو كان قوله: *
(فصل لكم) * في سورة
الأنعام يجعلنا نقول بنزول
النحل قبل الأنعام، فان هذه الآية من النحل: * (قصصنا عليك من قبل) * يجعلنا نسلم للأخبار الدالة على نزول الأنعام قبل النحل، فالأنعام الخامسة والخمسون والنحل السبعون في الترتيب. أما قوله * (وقد فصل لكم) * في الأنعام فنقبل
فيه قول الطبرسي بأن
يكون المراد به بيان النبي لا القرآن. وبعدها قوله سبحانه: * (وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما اوتي رسل الله
الله أعلم حيث يجعل رسالته سيصيب الذين اجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما
كانوا يمكرون) * (الأنعام:
124.). روى الطبرسي في "
مجمع البيان " عن مقاتل قال: ان أبا جهل بن هشام قال: زاحمنا بنو عبد مناف في الشرف حتى إذا
صرنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي يوحى إليه ! والله لا نؤمن به ولا نتبعه الا أن
يأتينا وحي كما يأتيه (مجمع البيان 4: 559.) ونقل
مثله ابن شهر آشوب في " المناقب " (مناقب
ابن شهر آشوب 1: 50، 51.). وفي الآيات العشر من
الآية 136 الى 146 يبين الله اعتقادات المشركين الفاسدة وخصالهم الذميمة
ومقالاتهم الباطلة، حيث جعلوا بعض الأشياء لله وبعضها للأصنام وحرموا الحلال
وقتلوا أولادهم لاعتقاداتهم الباطلة ومقالاتهم الفاسدة: فجعلوا لله مما ذرأ من
الحرث والأنعام نصيبا، وزينوا لأنفسهم قتل أولادهم: البنين والبنات خيفة العيلة والفقر والعار، وحرموا ركوب ظهور بعض
الأنعام، ولم يلتزموا بذكر اسم الله عليها عند التذكية، وحرموا بعض ما في بطون
الأنعام على النساء وخصصوه للرجال، وأباحوه لكليهما إن كان ميتة. ثم بين
المحرمات حاصرا لها في أن تكون: ميتة، أو دما مسفوحا، أو لحم خنزير، أو ما اهل
لغير الله به فلم يذكر اسم الله عليه عند التذكية، ثم ذكر أن اليهود بغوا فحرم
ملوكهم على فقرائهم شحوم البقر والغنم ولحوم كل ذي ظفر من الطيور، فجزاهم الله
ببغيهم هذا أن حرم ذلك عليهم جميعا إلا ما كان من الشحوم في ظهور البقر والغنم
وحوايا هما أي الأمعاء حتى المباعر. ومن الآية: 151
عقب ما سبق بذكر سائر المحرمات: فالشرك، وقتل الأولاد خشية الاملاق، وقتل النفس
التي حرم الله، ما ظهر منها وما بطن من الفواحش، ومال اليتيم، وبضمنها عد بعض
الفرائض: فبالوالدين احسانا، والوفاء بعهد الله، والقسط في الكيل والميزان،
ورعاية العدالة في الشهادة ولو لذي القربى، واتباع الصراط المستقيم، واتباع هذا
الكتاب المبارك الكريم، وتقوى الله. وفي الآية: 161 ذكر أن الصراط المستقيم والدين القيم هو ملة
ابراهيم الحنيف والطاهر من الشرك، وأن رسول الله ممن هداه الله الى ذلك الصراط المستقيم والدين
القيم فمحياه ومماته لله تعالى. وهنا قال الطبرسي: قيل: ان الكفار قالوا للنبي (صلى الله عليه وآله): اتبعنا وعلينا وزرك
ان كان خطأ ! فأنزل الله هذا (مجمع البيان 4: 606.). هذا وقد روي في أول تفسيره للسورة عن قتادة وعكرمة عن ابي ابن
كعب وعن النبي (صلى الله عليه وآله): أنها نزلت بمكة جملة واحدة ليلا (مجمع
البيان 4: 421.) فكيف التوفيق بين هذا وبين أخبار أسباب نزول الآيات من هذه السورة
؟ ويصدق هذا القول قبل الطبرسي على القمي والعياشي أيضا وكثير من المفسرين
الآخرين كذلك. أما العلامة الطباطبائي
فقد خصص الجزء السابع من تفسيره " الميزان " بتفسير سورة الأنعام،
وقطعها الى أكثر من عشرة مقاطع وختم كل مقطع ببحث روائي شمل عددا غير قليل من
أخبار شأن نزول آيات منها، وعلق في موارد متعددة عليها بأنها تنافي نزول السورة
جملة واحدة بمكة، منها
فيما رواه - ورويناه - عن القمي عن الامام الباقر (عليه السلام): أن رسول الله
كان يحب اسلام الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف... فقال: إنها لا تلائم
الروايات الكثيرة الدالة على نزول السورة دفعة. ولكنه عاد فقال:
وان كان يمكن توجيهها بوقوع السبب قبل نزول السورة ثم الاشارة بالآية الى السبب
المحقق (الميزان 7: 68.) ويمكن هذا التوجيه في جميع ما نقلناه من أخبار أسباب النزول لآيات
هذه السورة. السورة السابعة والخمسون - " لقمان ": وفيها قوله سبحانه: * (ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم
ويتخذها هزوا اولئك لهم عذاب مهين وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم
يسمعها كأن في اذنيه وقرا فبشره بعذاب أليم) * (لقمان: 6، 7.) في تفسير القمي:
في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر الامام الباقر (عليه السلام) قال: هو النضر بن
الحارث بن علقمة بن كلدة، وكان راويا لأحاديث الناس وأشعارهم (تفسير
القمي 2: 161.). ولعله
هو الرجل الذي روى فيه الكليني في " اصول الكافي " بسنده عن موسى بن
جعفر (عليه السلام) قال: دخل
رسول الله (صلى الله عليه
وآله) المسجد فإذا جماعة قد
أطافوا برجل، فقال: ما هذا ؟ فقيل: علامة، فقال: وما العلامة ؟ فقالوا له: أعلم
الناس بأنساب العرب ووقائعها وأيام الجاهلية والأشعار العربية. فقال النبي (صلى الله عليه وآله): ذاك علم لا يضر من جهله، ولا ينفع من علمه، ثم قال النبي (صلى
الله عليه وآله): إنما العلم ثلاثة: آية محكمة، أو فريضة عادلة، أو سنة قائمة،
وما خلاهن فهو فضل (اصول
الكافي 1: 32.). وروى الخبر الأول
الطبرسي عن الكلبي قال: نزل
قوله: * (ومن الناس من يشتري لهو الحديث) * في النضر بن الحارث بن علقمة بن
كلدة، كان يتجر فيخرج الى فارس فيشتري أخبار الأعاجم فيحدث بها قريشا ويقول لهم:
ان محمدا يحدثكم بحديث عاد وثمود، وأنا احدثكم بحديث رستم واسفنديار وأخبار
الأكاسرة. فيتركون استماع القرآن ليستمعوا الى حديثه (مجمع
البيان 8: 490 وروى الخبر عن ابن عباس في التفسير المنسوب إليه: تنوير المقباس:
344. ورواه ابن اسحاق في سيرته 1: 321. ورواه الواحدي في أسباب النزول عن مقاتل
والكلبي: 287 ط الجميلي. السيوطي عنه في الدر المنثور سورة لقمان.) وروى
مثله ابن شهر آشوب في " المناقب " (مناقب
ابن شهر آشوب 1: 52.). وكان قد دعاه رسول الله (صلى
الله عليه وآله) الى الإسلام،
ففي رواية أبي الجارود في " تفسير القمي " عن الامام الباقر (عليه
السلام) أيضا قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) للنضر بن الحارث: اتبع ما
انزل اليك من ربك. فقال: بل أتبع ما وجدت عليه آبائي، وذلك قوله سبحانه: * (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير
وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا أو لو كان
الشيطان يدعوهم الى عذاب السعير) * (تفسير القمي 2: 166 والآية من لقمان: 20، 21.). ومنها قوله سبحانه: * (ما خلقكم ولا بعثكم الا كنفس واحدة ان الله سميع بصير) * (لقمان: 28.)
في رواية أبي الجارود في " تفسير القمي ": بلغنا - والله أعلم - عن الامام الباقر
(عليه السلام) قال:
إنهم قالوا: يا محمد ! خلقنا أطوارا: نطفا ثم علقا، ثم انشئنا خلقا آخر كما
تزعم، وتزعم أنا نبعث في ساعة واحدة ! فقال الله: * (ما خلقكم ولا بعثكم الا كنفس واحدة) * (تفسير
القمي 2: 167.). وفي آخر السورة: * (ان الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما
تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت ان الله عليم خبير) * (لقمان: 34.).
وفي " أسباب النزول
" للواحدي: أن رجلا من بني مازن يقال له: الحارث بن عمرو جاء الى النبي - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - وقال له: يا محمد ! قد علمت بأي أرض ولدت فبأي أرض أموت ؟ وقد
تركت امرأتي حبلى فمتى تلد ؟ وقد أجدبت بلادنا فمتى تخصب ؟ وقد علمت ما كسبت
اليوم فماذا اكسب غدا ؟ ومتى تقوم الساعة ؟ فنزلت هذه الآية (أسباب
النزول: 289 ورواه السيوطي في الدر المنثور عن عكرمة، وسمي الرجل: الوراث.). السورة الستون - " الزمر ": ويظهر من خلال آيات السورة أن المشركين من قومه (صلى الله عليه وآله) سألوه أن ينصرف عما هو
عليه من التوحيد والدعوة إليه والتعرض لآلهتهم، وخوفوه بآلهتهم، فنزلت السورة... تؤكد الأمر بأن يخلص دينه لله سبحانه ولا يعبأ
بآلهتهم وأن يعلمهم أنه مأمور بالتوحيد واخلاص الدين... وذكرت المشركين وأنذرتهم
بما سيلحقهم من الخسران وعذاب الآخرة مضافا الى ما يصيبهم في الدنيا، ولعذاب
الآخرة أكبر... ووصفت المؤمنين بأجمل أوصافهم وبشرتهم بما سيثيبهم الله في
الآخرة مرة بعد مرة " (الميزان 17: 231، 232.). ومنها قوله سبحانه: * (قل يا عبادي الذين آمنوا اتقوا ربكم للذين أحسنوا في هذه
الدنيا حسنة وأرض الله واسعة إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) * (الزمر: 10.)
قال الطباطبائي: هذا حث
وترغيب لهم في الهجرة من مكة، إذ كان التوقف فيها صعبا على المؤمنين بالنبي،
والمشركون يزيدون كل يوم في التشديد عليهم وفتنتهم... والذي ينطبق على مورد
الآية هو الصبر على مصائب الدنيا وخاصة ما يصيب من جهة أهل الكفر والفسوق من آمن
بالله وأخلص له دينه واتقاه (الميزان 17: 244.) ولم ينسبه الى أحد. والظاهر أنه أخذه من الطبرسي قال: هذا حث لهم
على الهجرة من مكة، عن ابن عباس، أي لا عذر لأحد في ترك طاعة الله، فان لم يتمكن
منها في أرض فليتحول الى اخرى يتمكن منها فيها، كقوله: * (ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها) * (مجمع البيان 8: 767.) وقبله
روى الطوسي معناه عن مجاهد (البيان 9: 13.). فالكلام رواية عن مجاهد
عن ابن عباس، وهي لا تصرح بمقصد الهجرة من مكة الى أين، ولم يرد دليل أو اشارة
الى أن تعيين الهجرة الى الحبشة كان وحيا، بل الظاهر أن النبي (صلى الله عليه وآله) رأى أن خير مصداق لسعة أرض الله لهم هي الحبشة، وعبر عن ذلك
بقوله: " هي أرض صدق، فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد " (سيرة ابن
هشام 1: 344 ورواه الطبرسي في مجمع البيان 3: 360 عن المفسرين.). وعن ظروف نزول هذه الآية في سورة الزمر قال
الطبرسي في " مجمع البيان ": قال المفسرون: ائتمرت قريش أن يفتنوا المؤمنين عن دينهم، فوثبت كل قبيلة على من
فيها من المسلمين يؤذونهم ويعذبونهم، فافتتن من افتتن وعصم الله منهم من شاء.
ومنع الله رسوله بعمه أبي طالب. فلما رأى رسول الله ما بأصحابه ولم يقدر على
منعهم ولم يؤمر بعد بالجهاد، أمرهم بالخروج الى أرض الحبشة وقال: ان بها ملكا
صالحا لا يظلم ولا يظلم عنده أحد، فاخرجوا إليه حتى يجعل الله للمسلمين فرجا.
وأراد به النجاشي، واسمه أصحمة -
وهو بالحبشة: عطية - وإنما النجاشي اسم
الملك كقولهم: كسرى وقيصر. فخرج إليها سرا أحد عشر رجلا
وأربع نسوة... فخرجوا الى البحر وأخذوا سفينة
الى أرض الحبشة بنصف دينار. وذلك في رجب في السنة الخامسة من مبعث رسول الله.
وهذه هي الهجرة الاولى (مجمع البيان 3: 360 وفي البحار عن المنتقى للكازروني قال: وكان
مخرجهم في رجب في الخامسة، وخرجت قريش في آثارهم ففاتوهم، فأقاموا عند النجاشي
شعبان ورمضان ورجعوا في شوال. البحار 18: 422.) فالسورة نزلت في
الخامسة. وبما أن هجرة المسلمين إنما هي من
جراء تعذيب قريش للمسلمين، لذلك نبدأ هنا
بذكر أخبار عن ذلك. |
ظلم
المشركين للمستضعفين من المسلمين:
|
قال ابن اسحاق:
ثم إن المشركين عدوا على من أسلم واتبع رسول الله من أصحابه، فوثبت كل قبيلة على
من فيها من المسلمين من استضعفوه منهم، فجعلوا يحبسونهم ويعذبونهم، بالضرب
والجوع والعطش، وبرمضاء مكة إذا اشتد الحر، ليفتنوهم عن دينهم، فمنهم من يصلب
لهم ويعصمه الله منهم، ومنهم من يفتن من شدة البلاء الذي يصيبه... وكان أبو جهل الفاسق في رجال من قريش يغرون بالمسلمين، وكان إذا
سمع بالرجل أسلم وله شرف ومنعة، انبه وأخزاه وقال له: تركت دين أبيك وهو خير منك
! لنسفهن حلمك ولنفيلن (نخطئن) رأيك ولنضعن شرفك ! وان كان تاجرا قال له: لنكسدن
تجارتك ولنهلكن مالك ! وان كان ضعيفا ضربه وأغرى به غيره. حتى أن الوليد بن الوليد
بن المغيرة المخزومي حين أسلم، مشى رجال من بني مخزوم الى أخيه هشام بن الوليد (من هنا
يعلم أن هذا كان بعد هلاك الوليد في المستهزئين الستة)
ليأخذه وفتية آخرين منهم قد أسلموا منهم: سلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة، فقالوا لهشام: إنا
قد أردنا أن نعاتب هؤلاء الفتية على هذا الدين الذي أحدثوه لنأمن بذلك من غيرهم.
فقال هشام في أخيه الوليد: فعليكم به فعاتبوه واحذروا على نفسه ! فتركوه. وكانوا يخرجون بعمار بن ياسر وبأبيه وامه إذا حميت الظهيرة
يعذبونهم برمضاء مكة. فبلغني أن رسول الله كان يمر بهم فيقول لهم: صبرا آل ياسر
فإن موعدكم الجنة. وعن ابن عباس قال: كانوا يضربون أحدهم ويجيعونه ويعطشونه حتى ما يقدر أن يستوي جالسا
من شدة الضر الذي نزل به حتى يعطيهم ما سألوه من الفتنة... افتداء منهم مما
يبلغون من جهده، حتى ان الجعل يمر بهم فيقولون له: أهذا الجعل الهك ؟ فيقول: نعم
! (من هنا يعلم أن هذا كان بعد تقية عمار ونزول القرآن بصحة عمله وتصريح
الرسول بذلك، كما سيأتي.). وعن هشام بن عروة بن
الزبير: أن عمر بن الخطاب
- وهو يومئذ مشرك - كان يعذب جارية مسلمة من حيهم فيضربها لتترك الإسلام حتى إذا
مل قال لها مستهزئا !: إني أعتذر اليك ! إني لم أتركك الا ملالة، فتقول له: كذلك
فعل الله بك ! فابتاعها أبو بكر فأعتقها. واعتق النهدية وبنتها، وام عبيس وزنيرة، واصيب بصرها حين اعتقها،
فقالت قريش: ما أذهب بصرها الا اللات والعزى، فقالت: كذبوا وبيت الله ما تضر
اللات والعزى وما تنفعان، فرد الله بصرها. وأعتق عامر بن فهيرة وشهد بدرا واحدا
وقتل شهيدا يوم بئر معونة. ومر ببلال بن رباح، وكان امية بن خلف الجمحي يخرجه إذا حميت
الظهيرة فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ويقول له: لا تزال هكذا
حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى ! فيقول وهو في ذلك البلاء: أحد أحد.
وكان دار أبي بكر في بني جمح، فمر به وهم يصنعون به ذلك، فقال لامية بن خلف: ألا
تتقي الله في هذا المسكين ؟ حتى متى ! قال: أنت الذي أفسدته فأنقذه مما ترى.
فقال أبو بكر: أفعل، عندي غلام أسود أجلد منه وأقوى، على دينك، اعطيكه به. قال:
قد قبلت. فقال: هو لك. فأعطاه أبو بكر عنه غلامه وأخذه فأعتقه (سيرة ابن
هشام 1: 339 - 343 بتصرف. هذا وقد روى الإسكافي في نقض العثمانية عن ابن اسحاق
والواقدي أن عامر بن فهيرة وبلالا اعتقهما رسول الله، كما في شرح النهج للمعتزلي
13: 273. ولذلك عد ابن شهر آشوب بلالا من موالي النبي (صلى الله عليه وآله) ج 1:
171. وقال ابن هشام في عامر بن فهيرة: أنه كان أسود من مولدي الأسد 1: 277.
ومعنى ما رواه ابن اسحاق هو أن أبا بكر لم يكن من المستضعفين فلم يعذب في الله،
بل اطلق واعتق عددا منهم. ولكن ابن هشام ذكر أن نوفل بن خويلد بن أسد (ابن عم
خديجة، وهل هو أبو ورقة بن نوفل ؟ !) وكان من شياطين قريش، قرن بين أبي بكر وطلحة بن عبد الله في حبل،
فبذلك كانا يسميان: القرينين، كما في سيرة ابن هشام 1: 301. وأضاف الجاحظ في
العثمانية قال: ضربه نوفل بن خويلد مرتين حتى أدماه، وشده مع طلحة بن عبيد الله
في قرن. وجعلهما في الهاجرة عمير بن عثمان، ولذلك كانا يدعيان القرينين، كما في
العثمانية: 28 وعنها في شرح النهج للمعتزلي 13: 253. ورد عليه الإسكافي في نقض
العثمانية فقال: انتم في أبكر بين أمرين: تارة تجعلونه رئيسا متبعا وكبيرا
مطاعا، وتارة تجعلونه دخيلا ساقطا وهجينا رذيلا مستضعفا ذليلا، فإنا لا نعلم أن
العذاب كان واقعا الا بعبد أو عسيف (الأجير) أو لمن لا عشيرة له تمنعه. كما في
شرح النهج للمعتزلي 13: 255. )
. وقال اليعقوبي:
وأسلم خلق عظيم وظهر أمرهم وكثرت عدتهم وعاندوا ذوي أرحامهم من المشركين، فأخذت
قريش من استضعفت منهم الى الرجوع عن الاسلام والشتم لرسول الله، فكان ممن يعذب
في الله: عمار بن ياسر وياسر أبوه وسمية امه... وخباب بن الأرت، وصهيب بن سنان،
وابو فكيهة الأزدي، وعامر بن فهيرة، وبلال بن رباح واشتد على القوم العذاب
ونالهم منه أمر عظيم، فرجع عن الأسلام خمسة نفر، منهم: أبو قيس بن الوليد بن
المغيرة، وأبو قيس الفاكه بن المغيرة (اليعقوبي 2: 28.).
|
الفصل
السادس الهجرة الاولى
|
الفصل
السادس الهجرة الى الطائف
|
الهجرة
الى الحبشة:
|
قال ابن اسحاق : فلما رأى
رسول الله -
صلى الله عليه [ وآله ] وسلم -
ما يصيب أصحابه من البلاء وما هو فيه
من العافية بمكانه من الله ومن عمه أبي طالب، وأنه لا يقدر على أن يمنعهم مما هم
فيه من البلاء، قال لهم: لو خرجتم الى أرض الحبشة،
فان بها ملكا لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم
فيه. فخرج عند ذلك المسلمون
من أصحاب رسول الله الى أرض الحبشة، مخافة الفتنة،
وفرارا الى الله بدينهم، فكانت أول هجرة في
الإسلام. وكان أول من خرج من المسلمين:
أبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي، ومعه امرأته
ام سلمة بنت أبي امية بن المغيرة المخزومي. وعثمان بن عفان بن أبي العاص بن امية، ومعه امرأته رقية بنت رسول الله. وأبو حذيفة بن
عتبة بن ربيعة، ومعه امرأته سهلة بنت سهيل ابن عمرو، وولدت له بأرض الحبشة محمد بن أبي حذيفة. وعامر بن ربيعة العدوي، ومعه امرأته ليلى
بنت أبي حثمة العدوي. والزبير بن العوام بن خويلد بن أسد. ومصعب بن عمير، من بني عبد الدار. وعبد الرحمن بن عوف الزهري. وأبو سبرة بن أبي رهم العامري. وسهيل بن وهب الفهري. وعثمان بن مظعون الجمحي (سيرة ابن
هشام 1: 322، 323 عن ابن اسحاق، وأضاف الواقدي: عبد الله بن مسعود كما في
الطبقات 1: 204 وعنه في الطبري 2: 330.) وكان
عليهم عثمان بن مظعون، في قول ابن هشام (سيرة ابن هشام 1: 324 منه.) وروى الواقدي: أن
الذين هاجروا الهجرة الاولى خرجوا متسللين سرا، وكانوا أحد عشر رجلا وأربع نسوة، حتى انتهوا الى الشعيبة، منهم الراكب ومنهم الماشي، ووفق الله للمسلمين
- ساعة جاؤوا - سفينتين للتجار حملوهم فيهما الى أرض الحبشة بنصف دينار، وكان مخرجهم في: رجب في السنة الخامسة من حين نبئ رسول الله - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - وخرجت قريش في آثارهم حتى جاؤوا البحر، حيث ركبوا، فلم يدركوا
منهم أحدا (طبقات ابن سعد 1: 204 وعنه في الطبري 2: 329.). وقال اليعقوبي:
لما رأى رسول الله ما فيه أصحابه من الجهد والعذاب وما هو فيه من الأمن بمنع أبي
طالب عمه اياه، قال لهم: ارحلوا مهاجرين الى أرض الحبشة الى النجاشي، فإنه يحسن الجوار.
فخرج في المرة الاولى: اثنا عشر
رجلا. وفي المرة الثانية: سبعون رجلا، سوى أبنائهم ونسائهم.
وكان لهم عند النجاشي منزلة (اليعقوبي: 2: 29.).
وقد مر خبر ابن اسحاق وقد وصف رحلة من عدهم مع عثمان بن مظعون
الى الحبشة بالهجرة الاولى،
ولكنه بعد عدهم قال: "
ثم خرج جعفر ابن أبي طالب (رضي الله عنه) وتتابع المسلمون حتى اجتمعوا بأرض
الحبشة فكانوا بها، منهم
من خرج بأهله معه، ومنهم من خرج بنفسه لا أهل له معه " ثم أخذ في عدهم
وأنسابهم، فعد من بني هاشم
رجلا واحدا هو: جعفر بن أبي طالب ومعه امرأته أسماء بنت عميس الخثعمية، وولدت له بأرض الحبشة عبد الله بن جعفر.
ثم عد من بني امية وحلفائهم سبعة نفر، فعد أولهم: عثمان بن
عفان ومعه رقية ابنة رسول الله، وعمرو بن سعيد بن العاص، وخالد بن سعيد بن العاص، ومعهما نساؤهما.
ومن حلفائهم: عبد الله
بن جحش وأخوه عبيد الله (وهو الذي تنصر في الحبشة) معه امرأته ام حبيبة
بنت أبي سفيان، وقيس
بن عبد الله ومعه امرأته بركة مولاة أبي سفيان. ثم عد من بني نوفل
رجلا، ومن بني عبد بن قصي رجلا، ومن بني
عبد شمس رجلين، ومن بني أسد من قريش أربعة نفر منهم
الزبير بن العوام ابن
خويلد بن أسد، والأسود بن نوفل بن خويلد بن أسد، ويزيد بن زمعة ابن الأسود بن
المطلب بن أسد (وزمعة
أو أبوه الأسود احد المستهزئين الستة). ومن بني عبد
الدار خمسة نفر منهم: مصعب
بن عمير. ومن بني زهرة وحلفائهم من بهراء وهذيل ستة نفر منهم: عبد الرحمن بن عوف، وأبو وقاص وابنه عامر، وعبد الله بن مسعود
وأخوه عتبة، والمقداد بن عمرو من قضاعة، وكان قد تبناه في الجاهلية الأسود بن عبد يغوث من بني زهرة، فكان يقال له: المقداد بن الأسود. ومن بني تيم رجلين. ومن بني
مخزوم وحلفائهم ثمانية نفر منهم: أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد ومعه امرأته ام
سلمة هند بنت أبي امية بن المغيرة المخزومي، وهشام بن أبي حذيفة بن المغيرة، وعياش
بن أبي ربيعة بن المغيرة. وسلمة بن هشام. ومن بني جمح أربعة عشر رجلا منهم:
عثمان بن مظعون، وابنه السائب بن عثمان، وأخواه قدامة بن مظعون، وعبد الله بن
مظعون، ومن بني سهم أربعة عشر
رجلا. ومن بني عدي خمسة نفر.
ومن بني عامر ثمانية نفر. ومن بني الحارث
بن فهر ثمانية نفر منهم:
أبو عبيدة عامر بن عبد
الله بن الجراح. ثم قال ابن اسحاق:
فكان جميع من لحق بأرض الحبشة وهاجر إليها من المسلمين - سوى أبنائهم الذين
خرجوا بهم معهم صغارا أو ولدوا بها - ثلاثة وثمانين رجلا، ان كان عمار بن ياسر
فيهم، وهو يشك فيه (سيرة ابن هشام 1: 345 - 353 ونقله الطبري بعبارة: وقال آخرون. وذكر
العدد: اثنين وثمانين، الطبري 2: 330 ورواه عن محمد بن اسحاق كذلك 2: 331.). إذن فهو في هذا العد يعدد أهل الهجرة الثانية الى الحبشة وعليهم جعفر بن أبي طالب، ولعله في عدده - ثلاثة وثمانين رجلا - قد جمع أهل الهجرة الاولى
مع الثانية، بينما اليعقوبي جرد
أعداد الهجرة الثانية فقط فقال بالسبعين، أو باستثناء النساء والأطفال كما قال. وكذلك فعل القمي في تفسيره إذ قال: لما اشتدت قريش في أذى رسول الله وأصحابه أمرهم رسول الله أن
يخرجوا الى الحبشة، وأمر جعفر ابن أبي طالب أن يخرج معهم، فخرج جعفر وخرج معه سبعون رجلا من المسلمين حتى ركبوا البحر (تفسير
القمي 1: 176.). |
كتاب
النبي الى النجاشي:
|
وهنا روى الطبرسي في " إعلام الورى " عن الحافظ الحسكاني عن ابن اسحاق، والطبري عن ابن اسحاق أيضا قال: " بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله) عمرو بن امية الضمري الى النجاشي في شأن جعفر بن أبي طالب وأصحابه
وكتب معه كتابا " ثم ذكر صورة الكتاب، وجواب النجاشي (إعلام
الورى: 45، 46 وفي مستدرك الحاكم 2: 623، 624 والطبري 2: 652، 653.). ولا يوجد الخبر في سيرة ابن هشام، وظاهر الطبرسي أن هذا الكتاب كان من مكة حين خرج عمرو بن العاص مع
عمارة بن الوليد الى الحبشة، حسب
خبر الطبرسي نفسه، ومع
عبد الله بن أبي ربيعة حسب خبر ابن اسحاق عن ام سلمة كما يأتي وفي الكتاب أمر
بإكرام جعفر وأصحابه وقراهم، فالمناسب أن يكون في بداية الهجرة مع جعفر، أو مع
خروج عمرو بن العاص الى الحبشة سفيرا من قبل معاندي مكة لا يذاء جعفر وأصحابه. ويظهر من الحلبي في السيرة: أن عمرو بن العاص خرج الى الحبشة بعد غزوة بدر وان رسول الله لما
بلغه ذلك بعث عمرو بن امية الى النجاشي بكتاب يوصي فيه بالمسلمين، قال: "
لما أوقع الله بالمشركين يوم بدر ورجعوا خائبين قالوا: إن ثارنا بأرض الحبشة، فأرسلوا عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة الى النجاشي ليدفع اليهما من عنده من المسلمين، فلما بلغ ذلك رسول الله بعث الى النجاشي عمرو بن امية الضمري بكتاب يوصي فيه بالمسلمين " (سيرة
الحلبي 3: 212. وانظر: مكاتيب الرسول 1: 120 - 130 ط الاولى.). واتفقوا على أن
الرسول الى النجاشي هو عمرو
بن امية الضمري،
ولكنهم اختلفوا في إسلامه:
ففي " اسد الغابة " عن
أبي نعيم: أنه أسلم قديما وهاجر الى الحبشة، ثم هاجر الى المدينة وأول مشاهده
بئر معونة (اسد الغابة 1: 61، 99.) وعليه فلا اشكال لا في حمله الكتاب الأول ولا في حمله الكتاب
الثاني بعد صلح الحديبية وقبل
خيبر في تجهيز المسلمين من الحبشة الى المدينة. ولكن في " الاستيعاب " و " الاصابة " عن ابن سعد
(الطبقات 1: 258.): أنه شهد بدرا واحدا مع المشركين، وأسلم
بعد احد. وعليه فلم يكن وقتئذ مسلما، فلا يصح حمله الكتاب الأول حتى بعد بدر بناء
على خبر الحلبي
بإرسال المشركين لعمرو ابن العاص الى الحبشة بعد بدر. ولذا فقد أورد الحلبي على نفسه بذلك، وفي
الجواب رجح خبر إرسال
المشركين لعمرو الى الحبشة بعد
الأحزاب، في السنة الخامسة
للهجرة. وقد روى الخبر هذا ابن اسحاق في السيرة بسنده الى عمرو بن العاص
نفسه قال: لما انصرفنا مع
الأحزاب عن الخندق جمعت رجالا من قريش كانوا يرون رأيي ويسمعون مني، فقلت لهم:
تعلمون - والله - اني أرى أمر محمد يعلو الامور علوا منكرا، واني قد رأيت أمرا فما
ترون فيه ؟ قالوا: وماذا رأيت ؟ قلت: رأيت أن نلحق بالنجاشي فنكون عنده، فإن ظهر محمد على قومنا كنا عند النجاشي، فإنا
أن نكون تحت يديه أحب
الينا من أن نكون تحت يدي محمد، وإن ظهر قومنا فنحن من قد عرفوا، فلن يأتينا منهم الا خير. قالوا: ان هذا الرأي. قلت: فاجمعوا لنا ما نهدي له. وكان أحب ما
يهدى إليه من أرضنا الأدم. فجمعنا له أدما كثيرا، ثم خرجنا حتى قدمنا عليه. فوالله إنا لعنده إذ جاءه عمرو بن امية الضمري - وكان رسول الله - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - قد بعثه إليه في شأن جعفر وأصحابه، فدخل عليه وخرج من عنده - فقلت لأصحابي: هذا عمرو بن امية الضمري، لو قد دخلت على النجاشي وسألته إياه فأعطانيه فضربت عنقه، فإذا
فعلت ذلك رأت قريش أني قد أجزأت عنها حين قتلت رسول محمد. فدخلت عليه فسجدت له -
كما كنت أصنع - فقال: مرحبا بصديقي، أهديت إلي من بلادك شيئا ؟ قلت: نعم أيها
الملك، قد أهديت اليك أدما كثيرا، ثم قربته إليه، فأعجبه. ثم قلت له: أيها
الملك، اني قد رأيت رجلا خرج من عندك وهو رسول رجل عدو لنا، فأعطينه لأقتله،
فإنه قد أصاب من أشرفنا وخيارنا. قال: فغضب ثم مد يده فضرب بها أنفي ضربة ظننت أنه قد كسره، فلو
انشقت لي الأرض لدخلت فيها فرقا منه. فقلت له: والله
لو ظننت أنك تكره هذا ما سألتكه. قال: أتسألني أن اعطيك رسول رجل يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي
موسى لتقتله ! قلت:
أيها الملك، أكذلك هو ؟ قال: ويحك يا عمرو أطعني واتبعه، فإنه والله لعلى الحق،
وليظهرن على من خالفه كما ظهر موسى على فرعون وجنوده... فخرجت الى أصحابي وقد حال رأيي عما كان عليه. ثم خرجت عامدا الى رسول
الله - صلى الله عليه [
وآله ] وسلم - فلقيت
خالد بن الوليد وذلك قبيل الفتح... فقدمنا المدينة على رسول الله (سيرة ابن
هشام 3: 289، 290 بتلخيص آخر الخبر.). هذا وقد قال من قبل: " لما انصرفنا مع الأحزاب عن الخندق " ثم خرجنا فقدمنا عليه، فوالله إنا لعنده إذ جاءه عمرو بن امية الضمري، وكان رسول الله قد
بعثه إليه في شأن جعفر وأصحابه ". ان ارسال رسول الله لعمرو
بن امية الى النجاشي في شأن جعفر وأصحابه إما كان في بداية هجرتهم لطلب ايوائهم
وحمايتهم والارفاق بهم، أو
في نهايتها في تجهيز المسلمين الى المدينة في السنة السابعة قبل خيبر. فرحلة عمرو بن العاص هذه أما كانت بعد الأحزاب في أواخر السنة
الخامسة، لأن غزوة الأحزاب كانت في شوال سنة خمس من الهجرة، أو كانت رحلته في
أوائل السادسة، وبعد عام في أوائل السابعة ورد عليهم عمرو بن امية حاملا كتاب
النبي الى النجاشي، حينما كتب الى الملوك والرؤساء. وهنا تختلف نسخ الكتاب: فأكثر نسخ الكتاب يشتمل على الوصية بجعفر وأصحابه، وبعضها خلو عنها: " كصبح الأعشى " (صبح
الأعشى في صناعة الانشاء 6: 379.)
للقلقشندي (ت 821) و " المواهب اللدنية في السيرة النبوية " (المواهب
اللدنية بشرح الزرقاني 3: 379.) للقسطلاني (ت 923) و " انسان العيون في سيرة الأمين المأمون
" (السيرة الحلبية 3: 279.) المعروف
بالسيرة الحلبية لبرهان الدين الحلبي (ت 1044) وهذا ما تأيد به البروفيسور حميد الله المستوفي في كتابه القيم " الوثائق السياسية " فقال:
" ومما يجدر ذكره أن الحلبي والقسطلاني والقلقشندي لا يذكرون عبارة: وقد
بعثت اليك ابن عمي... " في متن المكتوب، وهي لا توجد في متن المكتوب الذي
اكتشف حديثا... فنظن: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد اعطى ابن عمه جعفرا كتابا
الى النجاشي وقت هجرته الى الحبشة... " (الوثائق
السياسية: 46 - 48 رقم 23.). بينما سائر المصادر تذكر هذه العبارة، وكلها بما فيها هذه الثلاثة تذكر جواب النجاشي الى النبي (صلى الله عليه وآله) وفيه: " وقد عرفنا ما بعثت به الينا، وقد قرينا ابن عمك وأصحابه،
وقد بايعتك وبايعت ابن عمك واسلمت على يديه لله رب العالمين " (الطبري
2: 652، 653 واعلام الورى: 45، 46 والكامل 2: 63 واسد الغابة 1: 62 والبداية 3:
84 وزاد المعاد 3: 61 وصبح الأعشى 6: 466 والسيرة الحلبية وزيني دحلان وإعلام
السائلين.). ثم الكتاب خلو عن تجهيز المسلمين من الحبشة إليه الى المدينة، كما
هو خلو عن خطبته لام حبيبة ابنة أبي سفيان بواسطة النجاشي، بينما من المستبعد
جدا أن يكون كلا الأمرين متأخرين عن عهد هذه الرسالة. ولعل الجواب الصحيح
هو ما رواه الطبري عن
الواقدي قال: أرسل
رسول الله - صلى الله عليه
[ وآله ] وسلم - الى
النجاشي ليزوجه ام حبيبة بنت أبي سفيان، ويبعث بها إليه مع من عنده من المسلمين (الطبري
2: 653) من دون ذكر كتاب في ذلك. ولم يذكر الواقدي ولا الطبري اسم الرسول بهذه
الرسالة الشفوية ولا ألفاظها،
ولكن ابن سعد ذكر أن الرسول هو
عمرو بن امية نفسه
وذكر شطرا من رسالته الشفوية
الى النجاشي ولكن من دون ذكر خطبة النبي لام حبيبة ولا طلب تجهيز المسلمين إليه الى المدينة، قال: قال عمرو بن امية:
يا أصحمة ! (كذا) ان علي القول وعليك الاستماع ! إنك كأنك في الرقة علينا منا،
وكأنا في الثقة بك منك، لأنا لم نظن بك خيرا قط الا نلناه ولم نحفظك على شر قط
الا أمناه، وقد أخذنا الحجة عليك من قبل آدم، والانجيل بيننا وبينك شاهد لا يرد
وقاض لا يجور [
فأسلم ] وفي ذلك موقع
الخير واصابة الفضل، والا فأنت في هذا النبي الامي كاليهود في عيسى بن مريم، وقد
فرق رسله الى الناس، فرجاك لما لم يرجهم له، وأمنك على ما خافهم عليه، لخير سالف
وأجر ينتظر. فقال
النجاشي: أشهد بالله أنه
النبي الذي ينتظره أهل الكتاب، وأن بشارة موسى براكب الحمار كبشارة عيسى براكب
الجمل، وانه ليس الخبر كالعيان، ولكن أعواني من الحبشة قليل، فأنظرني حتى اكثر
الأعوان والين القلوب، ولو استطيع أن آتيه لأتيته (الطبقات 1: 259 وعنه في سيرة الحلبي 3: 279 وزيني دحلان بهامش سيرة
الحلبي 3: 67.). ولنعد الآن الى ذكر نص
كتاب النبي الى النجاشي بالروايتين: الخالية عن ذكر جعفر والتي فيها ذكره، على التوالي: " بسم الله الرحمن
الرحيم، من محمد رسول الله الى النجاشي عظيم الحبشة، سلام على من اتبع الهدى،
أما بعد: فإني أحمد اليك الله الذي لا اله الا هو الملك القدوس السلام المؤمن
المهيمن، وأشهد أن عيسى بن مريم روح الله وكلمته ألقاها الى مريم البتول الطيبة
الحصينة، فحملت بعيسى من روحه ونفخه، كما خلق آدم بيده. واني أدعوك الى الله وحده لا شريك له، والموالاة على طاعته، وأن
تتبعني وتوقن بالذي جاءني، فإني رسول الله، واني أدعوك وجنودك الى الله عزوجل. وقد بلغت ونصحت، فاقبلوا
نصيحتي. والسلام على من اتبع الهدى (صبح
الأعشى 6: 379. والمواهب اللدنية بشرح الزرقاني 3: 379. والسيرة الحلبية 3: 279.). " بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله الى النجاشي
الأصحم ملك الحبشة، سلام عليك، فإني أحمد اليك الله الملك القدوس السلام المؤمن
المهيمن، وأشهد أن عيسى بن مريم روح الله وكلمته، ألقاها الى مريم البتول الطيبة
الحصينة، فحملت بعيسى فخلقه من روحه ونفخه، كما خلق آدم بيده ونفخه. واني أدعوك الى الله وحده لا شريك له، والموالاة على طاعته، وأن
تتبعني وتؤمن بالذي جائني فإني رسول الله، وقد بعثت اليكم ابن عمي جعفرا ومعه
نفر من المسلمين، فإذا جاؤوك فاقرهم ودع التجبر. واني أدعوك وجنودك الى الله
عزوجل. وقد بلغت ونصحت فاقبلوا
نصحي. والسلام على من اتبع الهدى (أقدم من
نقله عن ابن اسحاق: الطبري 2: 652 ثم الحاكم الحسكاني في المستدرك 2: 624. ثم
الطبرسي في إعلام الورى: 45. ثم ابن الأثير في اسد الغابة 1: 62 والكامل 2: 63.
وروى الرسالة ابن كثير في البداية 3: 84 وابن القيم في زاد المعاد 3: 61 وأشار
ابن سعد في الطبقات 1: 258 ورواها المستوفي في الوثائق السياسية: 46 عن مصادر
منها اعلام السائلين لابن طولون. وبحث حولها المحقق الأحمدي في مكاتيب الرسول 1:
121 - 131.). فلما وصل الكتاب الى النجاشي أخذه ووضعه على عينيه ونزل عن سريره
وجلس على الأرض اجلالا واعظاما، ثم اسلم ودعا بحق من عاج وجعل فيه الكتاب (مكاتيب
الرسول 1: 128 عن الطبقات والسيرة الحلبية وزيني دحلان بهامش الحلبية 3: 67.). ثم أحضر جعفرا وأصحابه
وأسلم على يدي جعفر وكتب بذلك الى رسول الله: " بسم الله الرحمن الرحيم،
الى محمد رسول الله، من النجاشي: الأصحم بن أبجر، سلام عليك يا نبي الله ورحمة
الله وبركاته، من الله الذي لا إله الا هو، الذي هداني الى الإسلام. أما بعد، فقد بلغني كتابك
- يا رسول الله - فيما ذكرت من أمر عيسى، فورب السماء والأرض إن عيسى ما يزيد
على ما ذكرت ثفروقا (الثفروق: قمع التمر، ويكنى به عن قلة الشئ، يقال: ماله ثفروق، أي ليس
له شئ.) انه كما قلت. وقد عرفنا ما بعثت به الينا، وقد قرينا ابن عمك
وأصحابه، فأشهد أنك رسول الله صادقا مصدقا، وقد بايعتك وبايعت ابن عمك، وأسلمت
على يديه لله رب العالمين. وقد بعثت اليك بابني أزها
ابن الأصحم بن أبجر (في الروض الانف: أن عليا وجد أبا نيزر ابن النجاشي عند تاجر بمكة
فاشتراه منه واعتقه مكافأة لما صنع أبوه بالمسلمين. ويقال: إن الحبشة ارسلوا
وفدا منهم الى أبي نيزر بعد أبيه النجاشي ليملكوه فأبى عليهم وقال: ما كنت لا
طلب الملك بعد أن من الله علي بالاسلام. ولم يكن لونه لون الحبشة بل كان حسن
الوجه طويلا.)، فإني لا أملك الا نفسي، وان شئت أن آتيك فعلت يا رسول الله، فإني
أشهد أن ما تقول حق، والسلام عليك يا رسول الله " (الطبري
2: 653 عن ابن اسحاق، وعنه في المستدرك 2: 624 وعنه في إعلام الورى: 46 واسد
الغابة 1: 62 والكامل 2: 63 والبداية 3: 84 وزاد المعاد 3: 61 وصبح الاعشى 6:
379 والمواهب اللدنية بشرح الزرقاني 3: 379 والسيرة الحلبية 3: 279 وسيرة زيني
دحلان بهامش الحلبية 3: 67. ومجموعة الوثائق السياسية: 46، ومكاتيب الرسول 1:
121 - 131. ومن الغريب مع كل هذه المصادر تشكيك السيد الحسني في سيرته في صحة
رواية اسلام النجاشي بعد أن نقل رواية الرسالة عن البداية لابن كثير، سيرة
المصطفى: 183، 184.). هذه هي اجابة النجاشي على كتاب النبي إليه في
دعوته الى الإسلام ضمن كتبه الى الملوك والرؤساء بعد
صلح الحديبية وقبل خيبر في أوائل السنة السابعة من
الهجرة، على ما يبدو من فحوى الرسالة، كما في كل المصادر التأريخية تقريبا، ومن المستعبد أن يكون كتاب النبي (صلى الله عليه وآله)
إليه وهذا الجواب من النجاشي عليه متزامنا مع بداية هجرة الحبشة كما يبدو هذا من
الطبرسي في " اعلام الورى " عن الحاكم الحسكاني (وقد
تزامن مع هذا الكتاب والجواب أمران آخران هما: خطبة النبي لام حبيبة بواسطة
النجاشي، وتجهيزه المسلمين من الحبشة إليه الى المدينة، وكتاب النبي (صلى الله
عليه وآله) خلو منهما بروايتيه، وقد مر تقريب أن يكون ذلك برسالة شفوية مع حامل
الكتاب عمرو بن امية الضمري، ولم يرو كتاب آخر في ذلك، ومن المستبعد ذلك أيضا.
وتفرد من بين المصادر مصدران نقلا جوابين آخرين للنجاشي على كتابين آخرين للنبي (صلى
الله عليه وآله) في الأمرين، هما " سواطع الأنوار " و " الطراز
المنقوش ": أن النجاشي كتب إليه في جواب كتابه في تزويج ام حبيبة: "
بسم الله الرحمن الرحيم، الى محمد - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - من النجاشي
أصحمة (كذا) سلام عليك يا رسول الله من الله ورحمة الله وبركاته. أما بعد، فإني
قد زوجتك امرأة من قومك وعلى دينك، وهي السيدة ام حبيبة بنت أبي سفيان، وأهديتك
هدية جامعة: قميصا وسراويل وعطافا وخفين ساذجين. والسلام عليك ورحمة الله
وبركاته ". وكتب إليه (صلى الله عليه وآله) في جواب كتابه (صلى الله عليه
وآله) في تجهيز المسلمين الى المدينة: " بسم الله الرحمن الرحيم، الى محمد
- صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - من النجاشي أصحمة (كذا) سلام عليك يا رسول الله
من الله ورحمة الله وبركاته، لا إله الا الذي هداني للإسلام، أما بعد فقد ارسلت
اليك - يا رسول الله - من كان عندي من أصحابك المهاجرين من مكة الى بلادي، وها
أنا ارسلت اليك ابني اريجا (كذا) في ستين رجلا من أهل الحبشة، وان شئت أتيتك
بنفسي فعلت يا رسول الله، فإني أشهد أن ما تقول حق، والسلام عليك يا رسول الله
ورحمة الله وبركاته " كما في الوثائق السياسية: 48 عن الباب الأول من
الطراز المنقوش وسواطع الأنوار: 81.). |
وفد
قريش الى النجاشي:
|
قال علي بن ابراهيم القمي في تفسيره: لما اشتدت قريش في أذى رسول الله وأصحابه الذين آمنوا به بمكة قبل
الهجرة، أمرهم رسول الله (صلى
الله عليه وآله) أن
يخرجوا الى الحبشة، وأمر جعفر بن أبي طالب أن يخرج معهم. فخرج جعفر، ومعه سبعون
رجلا من المسلمين حتى ركبوا البحر. فلما بلغ قريش خروجهم بعثوا عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد الى
النجاشي، ليردوهم إليهم، وكان عمرو وعمارة متعاديين... فبرئت بنو مخزوم من جناية عمارة،
وبرئت بنو سهم من جناية
عمرو بن العاص (فلما ركبوا السفينة شربوا الخمر، فقال عمارة لعمرو بن العاص - وكان
قد اخرج معه أهله - قل لأهلك تقبلني، فقال
عمرو: لا يجوز هذا ! فسكت عمارة، ولما انتشى عمرو -
وكان على صدر السفينة - دفعه عمارة والقاه في البحر، فتشبث عمرو بصدر
السفينة وأدركوه فأخرجوه.). فوردوا على النجاشي،
وكانوا قد حملوا إليه هدايا فقبلها منهم. ثم قال عمرو بن العاص: أيها الملك، ان قوما منا خالفونا في ديننا وسبوا آلهتنا وصاروا
اليك، فردهم الينا. فبعث النجاشي الى جعفر فجاؤوا به. فقال له: يا
جعفر، ما يقول هؤلاء ؟ قال
جعفر: أيها الملك وما يقولون
؟ قال: يسألون أن أردكم إليهم. قال: أيها الملك، سلهم: أعبيد نحن لهم ؟ فقال
عمرو: لا، بل أحرار كرام. قال:
فسلهم: ألهم علينا ديون
يطالبوننا بها ؟ قال: لا، مالنا عليكم ديون. قال: فلكم في أعناقنا دماء
تطالبوننا بها ؟ قال عمرو: لا. قال: فما تريدون منا ؟ ! آذيتمونا فخرجنا من
بلادكم. فقال عمرو بن العاص:
أيها الملك خالفونا في ديننا وسبوا آلهتنا وأفسدوا شبابنا وفرقوا جماعتنا، فردهم
الينا لنجمع أمرنا. فقال جعفر: نعم
أيها الملك، خالفناهم بأنه بعث الله فينا نبيا أمر بخلع الأنداد، وترك الاستقسام
بالأزلام، وأمرنا بالصلاة والزكاة (وردت الزكاة في السور المكية منها في المزمل في قوله سبحانه: * (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأقرضوا الله قرضا حسنا) * (المزمل: 20)
وهي السورة الثالثة أو الرابعة، وفي سورة الأعراف قوله سبحانه: * (ورحمتي وسعت كل شئ فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة) * (الأعراف: 156) وهي
السورة التاسعة والثلاثون أو الأربعون في النزول، فهي قبل سورة مريم الرابعة والأربعين التي تلا منها جعفر على النجاشي. نعم
يدعى أنها آيات مدنيات في سور مكية، لأن تشريع الزكاة
لم يكن في مكة قبل الهجرة بل في المدينة بعد
الهجرة ببضع سنين ولكن لا
ملازمة بين التسليم بتشريع الزكاة في المدينة وبين
قبول هذه الدعوى بكون الآيات مدنية في سور مكية، الا
إذا سلمنا بأن الزكاة في هذه الآيات بمعنى الزكاة
المفروضة دون المندوبة، ولنا مندوحة عن قبول ذلك بترجيح تفسير الزكاة في
هذه الآيات بالزكاة بالمعنى اللغوي العام أي
الصدقات المستحبة المندوب إليها. وبذلك نتوسع في معنى
الأمر في كلام جعفر بما يعم الندب أيضا. وبهذا نتفصى عن الاشكال بورود
الزكاة في كلام جعفر. ولكن لا مناص عن اشكال ورود
الصيام في كلامه أيضا. الا ان ذلك لا يقودنا الى القول بأن الرواية موضوعة كما ذهب إليه أحمد أمين في فجر الإسلام: 76، كما لا يقودنا ذلك الى الالتزام بأن الصيام قد شرع في
مكة قبل الهجرة أي قبل نزول آيتها في السنة
الثانية بعد الهجرة ضمن آيات سورة البقرة. بل
نحتمل السهو في حديث ام سلمة أو أحد الرواة، أو أن يكون ذلك مرجحا لكون هذه المناظرة بعد وقعة الأحزاب أو
بعد بدر كما رواه الحلبي في سيرته كما مر، ولكن
يلازم ذلك أن نلتزم بأن التشريعات الجديدة كانت تصلهم في الحبشة كيفما كان، وليس
ذلك ببعيد.)، وحرم الظلم والجور، وسفك الدماء
بغير حقها، والزنا، والربا، والميتة والدم (ان
أول ما نزل من القرآن في تحريم الميتة في الآية: 121 من سورة الأنعام، وهي
السورة 55 في ترتيب النزول، فيحتمل أن تكون الهجرة بعدها، ولا نجزم به إذ فيها: * (وقد فصل لكم ما حرم
عليكم) * وقبلنا فيه بقول الطبرسي بأن المراد به
بيان النبي لا القرآن.) وأمرنا بالعدل والاحسان، وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء
والمنكر والبغي. فقال النجاشي: بهذا بعث الله عيسى بن مريم (عليه السلام) ! ثم قال: يا جعفر، هل
تحفظ مما أنزل الله على نبيك شيئا ؟ قال: نعم، ثم قرأ عليه " سورة مريم
" فلما بلغ الى قوله:
* (وهزي اليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا فكلي واشربي وقري عينا) *. فلما سمع النجاشي بهذا بكى بكاء شديدا وقال: هذا والله هو الحق. فقال عمرو بن العاص: أيها الملك، ان هذا
مخالفنا فرده الينا. فرفع النجاشي يده
فضرب بها وجه عمرو، ثم قال: اسكت، والله - يا هذا -
لئن ذكرته بسوء لا فقدنك نفسك ! فقام عمرو بن العاص
من عنده والدماء تسيل على وجهه، وهو يقول: ان كان هذا كما تقول - أيها الملك -
فإنا لا نتعرض له. ورجع عمرو الى قريش فأخبرهم أن جعفرا في أرض الحبشة في اكرم كرامة (وكانت
على رأس النجاشي وصيفة له تذب عنه، فنظرت الى عمارة بن الوليد، فلما رجع عمرو بن
العاص الى منزله قال لعمارة: لو راسلت جارية الملك، فراسلها فأجابته، فقال له عمرو: قل لها: تبعث
اليك من طيب الملك شيئا. فقال لها، فبعثت إليه، فأخذ عمرو من ذلك الطيب، فادخل
عمرو الطيب على النجاشي وقال: أيها الملك ان حرمة الملك
عندنا وطاعته علينا وما يكرمنا إذا دخلنا بلاده ونأمن فيه: أن لا نغشه ولا
نريبه، وان صاحبي هذا الذي معي قد أرسل الى حرمتك وخدعها فبعثت إليه من طيبك. ثم وضع الطيب بين يديه فغضب
النجاشي وهم بقتل عمارة، ثم قال: لا يجوز قتله فانهم دخلوا بلادي فلهم أمان، ثم
دعا السحرة فقال لهم: اعملوا به شيئا أشد عليه من القتل، فأخذوه ونفخوا في
احليله الزئبق فصار مع الوحش يغدو ويروح ولا يأنس بالناس، فبعثت قريش بعد ذلك
فكمنوا له في موضع حتى ورد الماء مع الوحش فأخذوه، فما زال يضطرب في أيديهم
ويصيح حتى مات، كما في تفسير القمي 1: 176 - 178 وعنه في اعلام الورى: 43 - 45
بلا أسناد وكذلك اليعقوبي 2: 30 والإصفهاني عن الواقدي في الأغاني 8: 50.). وروى ابن اسحاق بسنده عن زوج رسول الله ام سلمة هند ابنة أبي
امية بن المغيرة المخزومي أنها قالت: لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها النجاشي خير جار: أمنا على ديننا
وعبدنا الله تعالى لا نؤذى ولا نسمع شيئا نكرهه. فلما بلغ ذلك قريشا ائتمروا بينهم أن يبعثوا الى النجاشي فينا
رجلين منهم جلدين، وأن يهدوا للنجاشي هدايا مما يستطرف من متاع مكة، وكان من
أعجب ما يأتيه منها الأدم، فجمعوا له أدما كثيرا، فلم يتركوا من بطارقته بطريقا
الا أهدوا له هدية. وبعثوا بذلك عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص، وأمروهما
بأمرهم فقالوا لهما: ادفعا الى كل بطريق هديته قبل أن تكلما النجاشي فيهم، ثم
قدما الى النجاشي هداياه، ثم سلاه أن يسلمهم اليكما قبل أن يكلمهم. فخرجا حتى قدما على النجاشي... فلم يبق من بطارقته بطريق الا دفعا إليه هديته قبل أن يكلما
النجاشي، وقالا لكل بطريق منهم: أنه قد لجأ الى بلد الملك منا غلمان سفهاء
فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينكم وجاؤوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم،
وقد بعثنا الى الملك فيهم أشراف قومهم ليردهم إليهم، فإذا كلمنا الملك فيهم
فأشيروا عليه بأن يسلمهم الينا ولا يكلمهم، فان قومهم أعلم بما عابوا عليهم.
فقالوا لهما، نعم. ثم انهما قدما هداياهما الى النجاشي فقبلها منهما، ثم كلماه فقالا
له: أيها الملك، انه قد لجأ الى بلدك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ولم
يدخلوا في دينك، وجاؤوا بدين ابتدعوه لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا اليك
أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم، لتردهم إليهم، فهم أعلم بما عابوا
عليهم وعاتبوهم فيه. فقالت بطارقته من حوله: صدقا أيها الملك، فان قومهم اعلم بما عابوا عليهم، فأسلمهم اليهما
فليرداهم الى بلادهم وقومهم. فغضب النجاشي وقال: لا ها الله، إذا لا أسلمهم اليهما، ولا يكاد لقوم جاوروني ونزلوا
بلادي واختاروني على من سواي، حتى ادعوهم فأسألهم عما يقول هذان في أمرهم، فان
كان كما يقولان أسلمتهم اليهما ورددتهم الى قومهم، وان كانوا على غير ذلك منعتهم
منهما وأحسنت جوارهم ما جاوروني. ثم أرسل الى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - فدعاهم فلما جاءهم رسوله اجتمعوا وقال بعضهم لبعض: ما تقولون للرجل
إذا جئتموه ؟ قالوا: نقول - والله - ما علمنا وما أمرنا به نبينا - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - كائنا في ذلك ما هو كائن. فلما جاؤوا سألهم النجاشي - وقد دعا أساقفته حوله - فقال لهم: ما
هذا الدين الذي قد فارقتم فيه قومكم ؟ ولم تدخلوا في ديني ولا في دين أحد من هذه
الملل ؟ فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب فقال له: أيها الملك، كنا قوما أهل جاهلية: نعبد الأصنام، ونأكل الميتة،
ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسئ الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على
ذلك، حتى بعث الله الينا رسولا منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا الى
الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة
والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم وحسن الجوار، والكف عن
المحارم والدماء ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف
المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة -
وعدد عليه امور الإسلام ثم قال - فصدقناه وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به من
الله: فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئا، وحرمنا ما حرم علينا وأحللنا ما أحل
لنا. فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا من عبادة الله الى
عبادة الأوثان، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث. فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا
علينا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا الى بلادك واخترناك على من سواك ورغبنا في
جوارك ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك. فقال له النجاشي:
هل معك مما جاء به عن الله من شئ ؟ فقال جعفر: نعم. قال النجاشي:
فاقرأه علي. فقرأ صدرا من *
(كهيعص) * (مريم: 1،) وهي
السورة الرابعة والأربعون في ترتيب النزول.) فبكى - والله - النجاشي حتى اخضلت لحيته وبكت أساقفته حتى أخضلوا
مصاحفهم حين سمعوا ماتلا عليهم، ثم قال النجاشي:
إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة. ثم قال لعمرو وعبيد الله: انطلقا فلا - والله - لا اسلمهم اليكما ولا يكادون. فخرجا من
عنده. وقال عمرو بن العاص: والله لآتينه غدا عنهم بما استأصل به خضراءهم، والله لاخبرنه أنهم
يزعمون أن عيسى بن مريم عبد. وكان عبد الله بن ربيعة أتقى الرجلين فقال: لا أفعل
فان لهم أرحاما. فغدا عليه عمرو من الغد فقال له: أيها الملك، انهم يقولون في عيسى ابن مريم قولا عظيما،
فأرسل إليهم فسلهم عما يقولون فيه: فأرسل إليهم ليسألهم عنه. فاجتمع القوم فقال بعضهم
لبعض: ماذا تقولون في عيسى
بن مريم إذا سألكم عنه ؟
قالوا: نقول - والله - ما قال الله وما جاء به نبينا، كائنا في ذلك ما هو كائن. فلما دخلوا عليه قال لهم:
ماذا تقولون في عيسى بن مريم ؟ فقال جعفر بن أبي طالب: نقول فيه بالذي جاء به نبينا - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم -: هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته، ألقاها الى مريم العذراء البتول. فضرب النجاشي بيده الى الأرض فأخذ منها عودا ثم قال: والله ما عدا عيسى بن مريم ما قلت هذا العود (أي بمقداره) فتناخرت
بطارقته حوله، فقال لهم: وإن نخرتم والله. ثم قال للمسلمين: اذهبوا فانتم شيوم (آمنون) ومن سبكم غرم، من سبكم غرم، وما احب أن
لي دبرا (اي جبلا) من ذهب وأني آذيت رجلا منكم. ثم قال لرجاله: ردوا
عليهما هداياهما فلا حاجة لي بهما. فخرجا من عنده مقبوحين مردودا عليهما ما جاءا به. وأقمنا عنده بخير دار مع
خير جار (سيرة ابن هشام 1: 357 - 362.). رضي الله عن أم المؤمنين ام سلمة إذ سلم لنا حديثها هذا المسند الوحيد عن هجرة الحبشة ووفد قريش إليها في طلبهم، وهي أحد المهاجرين إليها الأكثر من ثمانين رجلا وامرأة، ولم يسلم لنا سواه
حديث مسند آخر عن أحد سواها
من سائر المهاجرين الثمانين. اللهم الا ما نقلناه عن القمي في تفسيره مرسلا وبلا
اسناد، وما مر عن عمرو بن العاص، مع ما بين هذه الأخبار الثلاثة من تفاوت بين،
ولا سيما بين خبري ام سلمة وعمرو بن العاص، ولا سيما من جهة عدم اشارته الى أي
شئ مما حدثت عنه ام سلمة مما يتعلق به وبلقائه السابق بالنجاشي كوافد من قبل قريش في طلب المهاجرين، بل هويتحدث عن لقائه هذا الأخير وكأنه أول لقاء له به فيما يرتبط
بالإسلام، وان كان ينقل عنه أنه قال فيه: " مرحبا بصديقي " وأنه سجد له كما كان يصنع، فكأنه يتنكر لما كان منه في الوفادة عن قريش الى الحبشة. |
خروج
الحبشة على النجاشي:
|
قال ابن اسحاق:
وحدثني جعفر بن محمد عن أبيه (ولذلك عد الشيخ الطوسي ابن اسحاق من أصحاب الصادق (عليه السلام) في
رجاله: 281. كما عده في أصحاب الباقر (عليه السلام): 135.) قال:
اجتمعت الحبشة فقالوا
للنجاشي: انك قد فارقت
ديننا. فأرسل الى جعفر وأصحابه
فهيأ لهم سفنا وقال: اركبوا فيها وكونوا كما أنتم، فان هزمت فامضوا حتى تلحقوا
بحيث شئتم، وان ظفرت فاثبتوا. ثم عمد الى كتاب فكتب فيه: هو يشهد أن لا اله الا
الله، وأن محمدا عبده ورسوله، ويشهد أن عيسى بن مريم عبده ورسوله وروحه وكلمته،
القاها الى مريم، ثم جعله في قبائه عند المنكب الأيمن، وخرج الى الحبشة فقال: يا معشر الحبشة ! ألست أحق
الناس بكم ؟ قالوا: بلى، قال: فكيف رأيتم سيرتي فيكم ؟ قالوا: خير سيرة، قال:
فما بالكم ؟ قالوا: فارقت ديننا وزعمت أن عيسى عبد ! قال: فما تقولون أنتم في
عيسى ؟ قالوا: نقول: هو ابن الله، فوضع يده على صدره على قبائه وقال: هو يشهد أن
عيسى بن مريم لم يزد على هذا شيئا. - وهو يعني ما كتب - فرضوا وانصرفوا عنه (سيرة ابن
هشام 1: 365.) . وقد روى في آخر خبر ام سلمة قالت: فو الله انا لعلى ذلك إذ نزل به
رجل من الحبشة ينازعه في ملكه... وسار إليه النجاشي وبينهما عرض النيل (كذا). فقال أصحاب رسول الله: من رجل يخرج حتى يحضر الوقيعة ثم يأتينا بالخبر ؟ فقال الزبير بن
العوام - وكان من أحدث القوم سنا - أنا، قالوا: فأنت، فنفخوا له قربة فجعلها في
صدره ثم سبح عليها حتى خرج الى ناحية النيل التي بها ملتقى القوم، ثم انطلق حتى
حضرهم. فو الله انا لعلى ذلك، متوقعون لما هو كائن، إذ طلع الزبير وهو يسعى فلمع
بثوبه وهو يقول: ألا أبشروا، فقد ظفر النجاشي وأهلك الله عدوه ومكن له في
بلاده... ورجع النجاشي وقد أهلك
الله عدوه ومكن له في بلاده واستوسق عليه أمر الحبشة. فكنا عنده في خير منزل حتى
قدمنا على رسول الله وهو بمكة
(سيرة ابن هشام 1: 362.). روى ابن اسحاق هذا الخبر
عن ابن شهاب الزهري عن ام سلمة بواسطة قريبها أبي بكر بن عبد الرحمن المخزومي،
ثم قال ابن اسحاق: قال
الزهري: فحدثت عروة بن الزبير حديث أبي بكر بن عبد الرحمن عن ام سلمة (سيرة ابن
هشام 1: 363.) وغاية ما يفيده هذا الخبر تقرير عروة بن الزبير لخبر ام سلمة عن
الزبير، ولم يرد الحديث بذلك عن هجرة الحبشة عن الزبير نفسه ولا بواسطة أحد
أبنائه ولا سيما عروة المحدث المؤرخ ! وبعد هذا حدث ابن اسحاق بحديث الامام
الصادق (عليه السلام) عن خروج الحبشة على النجاشي، وغاية ما فيه: أنهم خرجوا
عليه فأرسل الى جعفر وأصحابه قال: فان هزمت فامضوا... وان ظفرت فاثبتوا... وخرج
الى الحبشة وقد صفوا له... فرضوا وانصرفوا... وليس فيه أن الله أهلك عدوه وظفر
النجاشي. فهذه زيادة في خبر ام سلمة. بينما يعوزه ما في حديث الامام الصادق
(عليه السلام) من تهيئة السفن وركوبهم فيها وانتظارهم لخبره. وإذا كان لابد من
ترجيح ففي حديث الامام الصادق (عليه السلام) من المرجحات ما ليس في الخبر عن ام
سلمة. ولا يفوتنا آخر خبر ام سلمة إذ قالت: حتى قدمنا على رسول الله وهو بمكة. ثم ليس في الخبر ولم يذكر ابن اسحاق أو ابن هشام متى كان هذا الرجوع ؟ ثم هي تقول:
قدمنا، ولا تستثني أحدا. ولكن الظاهر أنها عولت على المعلوم يوم حديثها لقريبها
أبي بكر المخزومي. بينما
يقول ابن اسحاق: وبلغ
أصحاب رسول الله الذين خرجوا الى أرض الحبشة إسلام أهل مكة، فأقبلوا لما بلغهم
ذلك، حتى إذا دنوا من مكة بلغهم أن ما كانوا تحدثوا به من اسلام أهل مكة كان
باطلا، فلم يدخل أحد الا بجوار أو مستخفيا (سيرة ابن
هشام 2: 3.) منهم: عثمان بن عفان ومعه امرأته رقية بنت رسول الله - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - وأبو سلمة المخزومي ومعه امرأته ام سلمة المخزومية. والسكران بن
عمرو ومعه امرأته سودة بنت زمعة بن قيس. وأبو سبرة بن أبي رهم معه امرأته ام
كلثوم بنت سهيل بن عمرو، وعديله أبو حذيفة بن عتبة ومعه امرأته سهلة بنت سهيل بن
عمرو، وأخوها عبد الله بن سهيل بن عمرو. وعامر بن ربيعة ومعه امرأته ليلى بنت
أبي حمنة. فهؤلاء عشرة أزواج. ومن غيرهم: الزبير بن العوام، ومصعب بن عمير، وعبد
الرحمن بن عوف وأبو عبيدة بن الجراح والمقداد بن عمرو، وعبد الله ابن مسعود،
وعمار بن ياسر، وعثمان بن مظعون، وأخواه: عبد الله وقدامة، وابنه السائب بن
عثمان. ومن ثم يقول ابن اسحاق: فجميع من قدم مكة من أصحابه - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - من أرض الحبشة ثلاثة وثلاثون رجلا (سيرة ابن
هشام 2: 3 - 10.). هذا وقد سبق منه القول
بأنهم كانوا: اثنين
وثمانين رجلا وامرأة (سيرة ابن هشام 1: 353.). وقال عن جميع من قدم
المدينة من الذين حملهم النجاشي مع عمرو ابن امية الضمري في السفينتين الى رسول
الله (صلى الله عليه وآله) إنهم كانوا ستة عشر رجلا، ومحمد والحارث ابنا حاطب
الجمحي مع امهم فاطمة بنت المجلل، وعبد الله بن المطلب الزهري مع امه رملة بنت
أبي عوف السهمي، قدمتا بأبنائهما بعد هلاك أزواجهما في الحبشة، في احدى
السفينتين. ثم عد تسعة (سيرة ابن هشام 4: 10 عد سبعة ثم عد رجلا من أبنائهم، وفي 4: 7 عد ممن
هلك المطلب بن أزهر الزهري، ثم لم يعده ضمن الثمانية.) نفر
ممن هلك من الرجال بأرض الحبشة مسلمين، وواحدا منهم تنصر بها، هو عبيد الله بن
جحش حليف بني امية وصهر أبي سفيان على ابنته رملة ام حبيبة، لما قدم أرض الحبشة
تنصر بها فكان إذا مر بالمسلمين من أصحاب رسول الله قال: فقحنا وصأصأتم (ان الجرو
- ولد الكلب - إذا أراد أن يفتح عينيه للنظر صأصأ - أي صوت - قبل ذلك، فإذا فتح
عينيه أول ما يفتح وهو صغير قيل: فقح الجرو، واستعارهما هنا للانسان فضربه لهم
وله مثلا !) أي: انا قد فتحنا أعيننا
فأبصرنا ولم تفتحوا أعينكم فتبصروا وأنتم تلتمسون ذلك ! ومات بها نصرانيا. ولذلك
تزوج امرأته رسول الله بواسطة النجاشي قبل رجوعهم الى المدينة بعد الحديبية وقبل
خيبر. وكان معها ابنتها حبيبة، وبها كانت تكنى. وعد ممن هلك بماء شربوه في
طريق الرجوع: موسى بن الحارث واختيه عائشة وزينب وامهم ريطة ابنتي الحارث ولم
يبق من الاسرة سوى ابنتهم فاطمة. وبالجملة فقد عد ابن
اسحاق عدا من قدم على رسول
الله (صلى الله عليه وآله) مكة، وسوى من حملهم النجاشي في السفينتين، ممن تخلف
عن بدر وقدم بعد ذلك، عدهم: أربعة وثلاثين رجلا (سيرة ابن هشام 4: 10.) فهؤلاء مع من قدم مكة: ثلاثة وثلاثون رجلا، ومن حملهم النجاشي في
السفينتين: ستة عشر رجلا، فيكون
المجموع: أربعة وثمانين رجلا،
سوى النساء. وقد عد جميع من هاجر الى أرض الحبشة من النساء: ست عشرة امرأة، سوى بناتهن
اللاتي ولدن هنالك (سيرة ابن
هشام 4: 10.) وعد ممن ولد من أبنائهم بأرض الحبشة: خمسة، ومن البنات: خمسا أيضا (سيرة ابن
هشام 4: 11.) فيكون
المجموع: مائة وعشرة أشخاص من الرجال والنساء والبنين والبنات، وهم مع من مات
منهم والذي تنصر مائة
وعشرون. |
جوار
أبي طالب، والوليد:
|
قال ابن اسحاق: كانت ام أبي سلمة المخزومي: برة بنت عبد المطلب، اخت أبي طالب، فكان أبو طالب خال أبي سلمة،
ولذلك دخل مكة في جواره. ثم روى عن أبيه اسحاق بن يسار، عن حفيد أبي سلمة: سلمة بن عبد الله بن عمر بن أبي سلمة، أنه حدثه: أن أبا سلمة لما
استجار بأبي طالب مشى إليه رجال من بني مخزوم فقالوا له: يا أبا طالب، لقد منعت
منا ابن أخيك محمدا، فمالك ولصاحبنا تمنعه منا ؟ قال: انه استجار بي، وهو ابن
اختي، وان أنا لم أمنع ابن اختي لم أمنع ابن أخي. فقام أبو لهب فقال:
يا معشر قريش، والله لقد اكثرتم على هذا الشيخ، ما تزالون تتواثبون عليه في
جواره من بين قومه، والله لتنتهن عنه أو لنقومن معه في كل ما قام فيه حتى يبلغ
ما أراد ! فقالوا: بل ننصرف عما تكره
يا أبا عتبة. فحين سمعه أبو طالب يقول ما يقول رجا فيه أن يقوم معه في شأن رسول الله، فقال (قصيدة) يحرض بها أبا
لهب على نصرته ونصرة رسول الله
- صلى الله عليه [ وآله ] وسلم -. ثم
ذكر عشرة أبيات منها قوله: جزى الله عنا: عبد شمس،
ونوفلا * وتيما، ومخزوما: عقوقا
وماثما (بتخفيف
الهمزة من المأثم، وهذا من شواهد ما أشتهر عن قريش
أنهم كانوا يخففون الهمزة، همزة
الوسط لا الأول.) بتفريقهم من بعد ود والفة * جماعتنا، كيما
ينالوا المحارما كذبتم - وبيت الله - نبزي محمدا * ولما تروا يوما - لدى الشعب – قائما (نبزي
أي: ننفي محمدا عن أنفسنا.) (سيرة ابن
هشام 2: 8 - 11.) ويظهر من هذا البيت الأخير أن ذلك كان في حين حصار الشعب، فالنبي كان بجوار عمه أبي طالب،
ودخل فيه معه ابن عمة النبي أبو سلمة، وكذلك احتمى ذوو البيوتات والاسر
بعشائرهم، وهاجر بعضهم ومن سواهم الى الحبشة، ورجع منهم من رجع بجوار أو اختفى، وبقي الباقون في الحبشة، فرجع بعضهم الى المدينة بعد بدر، وكان آخر من رجع العشرون رجلا
وأمرأة في السفينتين بعد الحديبية وقبل خيبر. وان كان أبو سلمة المخزومي قد ترك حمى عشيرته بني مخزوم مستجيرا بخاله أبي طالب، فان عثمان
بن مظعون الجمحي دخل بجوار من الوليد بن المغيرة المخزومي (فهذا الخبر أيضا من الأخبار التي تنافي هلاك الوليد مع
المستهزئين الستة.)،
ولكنه: لما رأى ما فيه أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) من البلاء وهو يغدو
ويروح في أمان من الوليد بن المغيرة، قال: والله ان غدوي ورواحي آمنا بجوار رجل
من أهل الشرك، وأصحابي وأهل ديني يلقون من البلاء والأذى في الله مالا يصيبني،
لنقص كبير في نفسي. ثم مشى الى الوليد بن المغيرة فقال له: يا أبا عبد شمس، وفت ذمتك، قد رددت اليك جوارك... قال: فانطلق الى
المسجد فاردد علي جواري علانية كما أجرتك علانية. فانطلقا فخرجا حتى أتيا
المسجد، فقال الوليد: هذا عثمان قد جاء يرد علي جواري. قال: صدق، قد وجدته وفيا
كريم الجوار ولكني قد أحببت أن لا أستجير بغير الله، فقد رددت عليه جواره. ثم
انصرف. وكان لبيد بن ربيعة الشاعر جالسا في مجلس قريش ينشدهم، فجلس معهم عثمان، فقال لبيد: الأكل شئ - ما خلا الله
- باطل. فقال عثمان: صدقت.
قال لبيد: وكل نعيم - لا
محالة - زائل. فقال
عثمان: نعيم الجنة لا يزول. فقال لبيد: يا
معشر قريش، والله ما كان يؤذى جليسكم فمتى حدث هذا فيكم ؟ فقال رجل من القوم: ان هذا سفيه في سفهاء معه قد فارقوا ديننا، فلا تجدن في نفسك من
قوله. فرد عليه عثمان حتى استشرى أمرهما وعظم، فقام إليه الرجل فلطم عينه
فخضرها (سيرة ابن هشام 2: 8 - 10 وقد اطلق الخضرة على السواد هنا كما قد يطلق
السواد على الخضرة فيقال: سواد العراق يراد خضرة زروعها، إذ الخضرة من بعيد
زرقاء داكنة مكدرة اللون.). والحوار في الخبر - إن صح
- بين الرجل من قريش ولبيد الشاعر يشعر بعدم انتشار أخبار الإسلام بما يبلغ
الشاعر لبيد بن ربيعة، وكذلك ينم عن عدم منابذة المسلمين للمشركين كافة بما
يحترز معه ابن مظعون عن مجالستهم في أنديتهم ومجالسهم والاستماع الى شعرائهم. بينما مر في خبر أبي سلمة المخزومي شعر أبي طالب يقول: كذبتم وبيت الله نبزي
محمدا * ولما تروا يوما - لدى الشعب
- قائما ويظهر منه - كما مر - أن ذلك كان في حين حصار الشعب، وقد ذكر القمي
والطبرسي والراوندي وابن شهر آشوب أن مدة الحصار كانت أربع سنين (تفسير
القمي 1: 380 إعلام الورى: 50 وقصص الأنبياء: 329 والمناقب 1: 65.) وقد
قال الثلاثة - ما عدا القمي -: إن أبا طالب مات بعد ذلك بشهرين. وقد روى الصدوق
عن الصادق (عليه السلام): أن أبا طالب لما حضرته الوفاة أوحى الله عزوجل الى
رسول الله: اخرج منها فليس لك بها ناصر فهاجر الى المدينة (اكمال
الدين: 172.) وروى العياشي عن علي بن الحسين (عليهما السلام): أن رسول الله لما
فقد عمه أبا طالب أوحى الله إليه: يا محمد اخرج من القرية الظالم أهلها وهاجر
الى المدينة فليس لك اليوم بمكة ناصر (تفسير
العياشي 1: 257.). وعليه فان بدء حصار الشعب كان متزامنا أو متقاربا مع بداية الهجرة الى الحبشة، في شهر رجب من السنة الخامسة من مبعث رسول الله (صلى
الله عليه وآله) (مجمع
البيان 3: 360 والمنتقى للكازروني: 44 كما في البحار 18: 422.) وبما أن بعثته كانت في شهر رجب على مذهب أهل البيت (عليهم السلام) كما مرت أخباره، فذلك
يعني أن هجرة الحبشة كانت في نهاية السنة الخامسة وبداية السادسة. وعلى قول ابن شهر آشوب: فلما توفي أبو طالب خرج النبي (صلى الله عليه وآله) الى الطائف وأقام فيه شهرا ثم انصرف الى مكة ومكث بها سنة وستة
أشهر في جوار المطعم بن عدي (مناقب ابن شهر آشوب 1: 173 ط قم.) فالمجموع اكثر من عشر سنين بعد البعثة. ولذلك فنحن ننتقل هنا الى حديث شعب أبي طالب (رضي الله عنه).
|
حديث
شعب أبي طالب (رضي الله عنه):
|
ذكر أبو جعفر الاسكافي في كتابه " نقض العثمانية ": أن
أمير المؤمنين عليا (عليه
السلام) قال في خطبة له
مشهورة: " فتعاقدوا أن لا يعاملونا ولا يناكحونا، وأوقدت الحرب علينا
نيرانها، واضطرونا الى جبل وعر، مؤمننا يرجو الثواب، وكافرنا يحامي عن الأهل،
ولقد كانت القبائل كلها اجتمعت عليهم، وقطعوا عنهم المارة والميرة، فكانوا
يتوقعون الموت جوعا، صباحا ومساء، لا يرون وجها ولا فرجا، قد اضمحل عزمهم وانقطع
رجاؤهم " (نقض
العثمانية للاسكافي: وعنه في شرح النهج للمعتزلي 13: 254.). قال الشيخ الطبرسي في " إعلام الورى ": اجتمعوا في دار الندوة وكتبوا بينهم صحيفة: أن لا يواكلوا بني
هاشم ولا يكلموهم ولا يبايعوهم ولا يزوجوهم ولا يتزوجوا إليهم ولا يحضروا معهم، حتى يدفعوا إليهم (رسول الله) ليقتلوه، وأنهم يد واحدة على محمد، يقتلونه غيلة أو صراحا. وختموا الصحيفة
بأربعين خاتما ختمها كل رجل من رؤساء قريش بخاتمه وعلقوها في الكعبة، وتابعهم أبو لهب على ذلك، ولم يدخل فيها مطعم
بن عدي بن نوفل بن عبد المطلب
(اعلام الورى: 49 و 50 وتلميذه الراوندي في قصص الأنبياء: 329.). وقال القمي في تفسيره: فلما اجتمعت قريش على قتل رسول الله (صلى
الله عليه وآله)
وكتبوا الصحيفة القاطعة جمع أبو طالب بني هاشم وحلف لهم بالبيت والركن والمقام
والمشاعر في الكعبة: لئن شاكت محمدا شوكة لأثبن عليكم، أو لآتين عليكم ! وأدخله
" الشعب " وكان يحرسه بالليل والنهار قائما على رأسه بالسيف أربع سنين
(تفسير القمي 1: 380.). وقال الطبرسي: وكان
يحرسه بالليل والنهار: فإذا جاء الليل قام بالسيف عليه ورسول الله مضطجع، ثم
يقيمه ويضجعه في موضع آخر، فلا يزال الليل كله هكذا. ووكل به ولده وولد أخيه (؟)
يحرسونه بالنهار. وكان أبو جهل، والعاص بن وائل السهمي، والنضر بن الحارث بن
كلدة، وعقبة بن أبي معيط يخرجون الى الطرقات التي تدخل مكة، فمن رأوا معه ميرة
نهوه أن يبيع بني هاشم شيئا، ويحذرونه إن باع شيئا أن ينهبوا ماله. فكان من يدخل من العرب مكة
لا يجسر أن يبيع بني هاشم
شيئا، ومن دخلها وباعهم شيئا
انتهبوا ماله. وكانت خديجة لها مال كثير فانفقته على رسول الله في الشعب. وبقوا في الشعب أربع سنين لا
يأمنون إلا في الموسم، ولا يشترون ولا يبايعون الا في الموسم، وكان يقوم بمكة في
كل سنة موسمان: موسم العمرة في رجب، وموسم الحج في ذي الحجة، فكان إذا جاء
الموسم خرج بنو هشام من الشعب فيشترون ويبيعون، ثم لا يجسر أحد منهم أن يخرج،
الى الموسم الثاني: فأصابهم الجهد بذلك. وكان رسول الله
(صلى الله عليه وآله)
يخرج في كل موسم ويدور على قبائل العرب فيقول لهم: تمنعون جانبي حتى أتلو عليكم كتاب الله ربي، وثوابكم على الله
الجنة ؟ وأبو لهب في أثره
يقول: لا تقبلوا منه فانه ابن
أخي وهو ساحر كذاب. وكان أبو العاص بن الربيع - وهو ختن رسول الله على ابنته زينب - يجئ بالعير بالليل عليها البر والتمر الى باب الشعب ثم يصيح بها
فتدخل الشعب. ولذا قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " لقد صاهرنا أبو العاص فأحمد صهرنا، لقد كان يعمد الى
العير - ونحن في الحصار - فيرسلها في الشعب ليلا ". |
إيمان
أبي طالب (رضي الله عنه):
|
وبعثت قريش الى أبي طالب: ادفع الينا محمدا لنقتله ونملكك علينا ! فقال أبو طالب قصيدته
الطويلة التي يقول فيها: الم تعلموا أن ابننا لا
مكذب * لدينا ولا يعنى بقول الأباطل وأبيض يستسقى الغمام
بوجهه * ثمال اليتامى، عصمة للأرامل يطوف به الهلاك من آل
هاشم * فهم عنده في نعمة وفواضل كذبتم - وبيت الله - نبزي محمدا * ولما نطاعن دونه ونناضل ونسلمه، حتى نصرع دونه
* ونذهل عن أبنائنا والحلائل لعمري لقد كلفت وجدا بأحمد *
وأحببته حب الحبيب المواصل وجدت بنفسي دونه وحميته
* ودافعت عنه بالذرا والكلاكل فلا زال في الدنيا جمالا لأهلها * وشينا لمن عادى، وزين المحافل حليما رشيدا حازما غير
طائش * يوالي اله الحق ليس بما حل فأيده رب العباد بنصره
* وأظهر دينا حقه غير
باطل فلما سمعوا هذه القصيدة
أيسوا منه (إعلام
الورى: 50، 51. وذكرها تلميذه القطب الراوندي في: قصص الأنبياء: 339.). وذكر الخبر ابن
شهر آشوب وأضاف: كان النبي (صلى الله عليه وآله) إذا أخذ مضجعه ونامت العيون جاء
أبو طالب فأنهضه عن مضجعه وأضجع عليا مكانه ووكل عليه ولده وولد أخيه (؟) فقال علي (عليه السلام): يا أبتاه اني مقتول ذات ليلة. فقال أبو طالب: اصبرن يا بني فالصبر
أحجى * كل حي مصيره لشعوب (الشعوب:
الموت.) قد بلوناك والبلاء شديد * لفداء النجيب وابن النجيب لفداء الأعز ذي الحسب الثا * قب والباع والفناء الرحيب إن تصبك المنون بالنبل تبرى * فمصيب منها وغير مصيب كل حي وان تطاول عمرا
* آخذ من سهامها بنصيب فقال علي (عليه السلام): أتأمرني بالصبر في نصر
أحمد * ووالله ما قلت الذي قلت
جازعا ولكنني أحببت أن تر
نصرتي * وتعلم أني لم أزل لك
طائعا وسعيي لوجه الله في نصر
أحمد * نبي الهدى المحمود طفلا
ويافعا وقبل هذا روى من شعر أبي طالب في الحصار: وقالوا: خطة جورا وحمقا
* وبعض القول أبلج مستقيم: لتخرج هاشم فيصير منها
* بلاقع بطن مكة والحطيم فمهلا قومنا لا تركبونا * بمظلمة لها أمر وخيم فيندم بعضكم ويذل بعض
* وليس بمفلح أبدا ظلوم فلا - والراقصات بكل خرق *
الى معمور مكة لا يريم (الخرق: القفر.) طوال الدهر - حتى تقتلونا * ونقتلكم وتلتقي الخصوم ويعلم معشر قطعوا وعقوا * بأنهم هم الجلد الظليم أرادوا قتل أحمد ظالميه * وليس لقتله فيهم زعيم ودون محمد فتيان قوم
* هم العرنين والعضو الصميم وروى من قصيدة اخرى له يقول: ألم تعلموا أنا وجدنا
محمدا * نبيا كموسى خط في أول الكتب أليس أبونا هاشم شد أزره
* وأوصى بنيه
بالطعان وبالضرب وإن الذي علقتم من كتابكم * يكون لكم يوما كراغية السقب (يشير بذلك الى قصة فصيل ناقة صالح، فالراغية من الرغاء وهو صوت الابل، والسقب: ولد الناقة.) أفيقوا أفيقوا قبل أن يحفر الثرى * ويصبح من لم يجن ذنبا كذي الذنب (مناقب آل
أبي طالب 1: 63 - 65.) وروى هذه القصيدة ابن اسحاق وأضاف: ولا تتبعوا أمر الوشاة وتقطعوا * أواصرنا بعد المودة والقرب وتستجلبوا حربا عوانا وربما * أمر - على من ذاقه - جلب
الحرب فلسنا - ورب البيت -
نسلم أحمدا * لعزاء من عض الزمان ولا
كرب (العزاء: الشدة.) ولما تبن منا ومنكم * وأيد اترت بالقساسية الشهب
سوالف (السوالف: صفحات الأعناق.) (اترت: قطعت. والقساسية نسبة الى قساس جبل فيه معدن حديد.) بمعترك ضيق ترى كسر القنا * به، والنسور الطخم يعكفن كالشرب ولسنا نمل الحرب حتى تملنا *
ولا نشتكي ما قد ينوب من النكب و لكننا أهل الحفائظ والنهى * إذا طار أرواح الكماة من الرعب (الشرب:
الجماعة من القوم - أو الحيوان - يشربون.) قال ابن اسحاق: ويذكرون أن أبا جهل بن هشام لقي حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد،
ومعه غلام يحمل قمحا يريد به عمته خديجة بنت خويلد وهي مع رسول الله في الشعب،
فتعلق أبو جهل بحكيم وقال له: أتذهب بالطعام الى بني هاشم ؟ والله لا تبرح أنت وطعامك حتى افضحك
بمكة ! فجاء أبو البختري بن هشام فقال له: مالك وله ؟ فقال: يحمل الطعام الى بني
هاشم ! فقال له أبو البختري: طعام كان لعمته عنده فبعثت إليه فيه، افتمنعه أن
يأتيها بطعامها ! خل سبيل الرجل، فأبى أبو جهل حتى نال أحدهما من صاحبه، فأخذ
أبو البختري لحي بعير فضربه به فشجه ووطأه وطأ شديدا. قال: وكان كاتب الصحيفة
منصور بن عكرمة فدعا عليه رسول الله فشل بعض أصابعه (سيرة ابن
هشام 1: 377 - 380 وروى الخبر بألفاظه الطبري 2: 336 بدون ما يتعلق بأبي طالب !.) وقال اليعقوبي: فشلت يده. كما بالغ في عدد المتعاقدين المتعاهدين على الصحيفة
فقال: وختموا على الصحيفة بثمانين خاتما (اليعقوبي
2: 31.) بينما قال الطبرسي: وختموا الصحيفة بأربعين خاتما ختمها كل رجل من
رؤساء قريش بخاتمه وعلقوها في الكعبة (إعلام
الورى: 50.) ولا أرى رؤساء قريش يزيدون عن أربعين رجلا في مكة. وقال اليعقوبي
في تأريخ الحصار ومدته: ثم حصرت قريش رسول الله وأهل بيته من بني هاشم وبني
المطلب في الشعب الذي يقال له: شعب بني هاشم، بعد ست سنين من مبعثه. فأقام -
ومعه جميع بني هاشم وبني المطلب - في الشعب ثلاث سنين. حتى انفق رسول الله ماله،
وأنفق أبو طالب ماله، وانفقت خديجة مالها، وصاروا الى حد الضر والفاقة (اليعقوبي
2: 31.) بينما قلل ابن
اسحاق فقال: فأقاموا على ذلك
سنتين أو ثلاثا، حتى جهدوا، لا يصل إليهم شئ الا سرا مستخفيا به من أراد صلتهم
من قريش (سيرة ابن هشام 1: 379.) وقد
مر عن القمي والطبرسي انها كانت أربع سنين انتهت قبل هجرته بقليل. وحيث انتقلنا بالآية
العاشرة من سورة الزمر الى حديث هجرة الحبشة، ثم بتقريب أن بداية حصار الشعب كان قريبا من بدايات هجرة الحبشة
انتقلنا الى حديث الشعب، يلزمنا الاذعان بأن نزول السور بعد الزمر كان في أيام
حصار الشعب، الا ما كان نزوله أيام موسمي العمرة والحج وبعد الشعب قبل الهجرة،
اذن فما كان من الآيات يفيد حوارا بين النبي والمشركين كان مما يحتمل نزولها في أيام المواسم. السورة الحادية والستون
- " السجدة (فصلت) ": وفيها قوله سبحانه: * (كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون بشيرا ونذيرا فأعرض
اكثرهم فهم لا يسمعون وقالوا قلوبنا في اكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن
بيننا وبينك حجاب فاعمل اننا عاملون) * (فصلت: 3 - 5.).
وروى الطبرسي في " مجمع البيان " عن مقاتل: قال: إن أبا جهل رفع ثوبا
بينه وبين النبي (صلى
الله عليه وآله) فقال:
يا محمد ! أنت من ذلك الجانب ونحن من هذا الجانب، فاعمل أنت على دينك ومذهبك
اننا عاملون على ديننا ومذهبنا (مجمع
البيان 9: 4، 5.) فنزلت سورة السجدة. ونقل مثله ابن شهر آشوب في " المناقب
" (مناقب ابن شهر آشوب 1: 56 ولا يخفى أن هذا مما يناسب التزامن مع بدء
الحصار في شعب أبي طالب.). وبعده قوله سبحانه: * (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى الي أنما إلهكم اله واحد
فاستقيموا إليه واستغفروه وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم
كافرون) * (فصلت: 6، 7.). وروى الطبرسي عن الفراء قال: كانت قريش تطعم الحاج وتسقيهم، فحرموا ذلك على من آمن بمحمد (صلى
الله عليه وآله)، فهذا هو الزكاة في هذا الموضع (مجمع
البيان 9: 6.). السورة الثالثة والستون - " الزخرف ": وفيها قوله سبحانه: * (وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم) * (الزخرف: 31.). روى الطبرسي في " الاحتجاج " عن أبي محمد الحسن
العسكري أنه قال: قلت
لأبي علي بن محمد (عليه السلام):
هل كان رسول الله (صلى
الله عليه وآله) يناظر
المشركين إذا عاتبوه ويحاجهم ؟ قال: بلى مرارا كثيرة، منها ما حكى الله من قولهم... * (وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم) *... وذلك أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان قاعدا ذات يوم بمكة
بفناء الكعبة، إذ اجتمع جماعة من رؤساء قريش منهم: الوليد بن المغيرة المخزومي
(كذا) وأبو البختري ابن هشام، وأبو جهل، والعاص بن وائل السهمي، وعبد الله بن
أبي امية المخزومي، وكان
معهم جمع ممن يليهم كثير.
ورسول الله (صلى الله عليه
وآله) في نفر من أصحابه يقرأ
عليهم كتاب الله ويؤدي إليهم عن الله أمره ونهيه. فقال المشركون بعضهم لبعض: لقد استفحل أمر محمد وعظم خطبه، فتعالوا نبدأ (كذا) بتقريعه
وتبكيته وتوبيخه والاحتجاج عليه وابطال ما جاء به، ليهون خطبه على أصحابه ويصغر
قدره عندهم، فلعله ينزع عما هو فيه من غيه وباطله وتمرده وطغيانه، فان انتهى
والا عاملناه بالسيف الباتر ! قال أبو جهل: فمن ذا الذي
يلي كلامه ومجادلته ؟ قال عبد الله بن أبي امية
المخزومي: أنا لذلك، أفما ترضاني له قرنا حسيبا ومجادلا كفيا ؟ فاتوه بأجمعهم، فابتدأ عبد
الله بن أبي امية المخزومي فقال: يا محمد ! لقد ادعيت دعوى عظيمة وقلت مقالا هائلا: زعمت أنك رسول
رب العالمين، وما ينبغي لرب العالمين وخالق الخلق أجمعين أن يكون رسوله: بشر
مثلك تأكل كما نأكل وتشرب كما نشرب وتمشي في الأسواق كما نمشي ! وهذا ملك الروم
وهذا ملك الفرس لا يبعثان رسولا الا كثير المال عظيم الحال، له قصور ودور،
وفساطيط وخيام، وعبيد وخدام، ورب العالمين فوق هؤلاء كلهم فهم عبيده، فلو كنت
نبيا لكان معك ملك يصدقك ونشاهده. بل لو أراد الله أن يبعث الينا نبيا لكان إنما
يبعث الينا ملكا لا بشرا مثلنا. فقال رسول الله (صلى الله
عليه وآله): فهل بقي من كلامك
شئ ؟ قال: نعم، لو أراد أن يبعث
الينا رسولا لبعث أجل من فيما بيننا اكثرهم مالا وأحسنهم حالا، فهلا أنزل هذا
القرآن، - الذي تزعم أن الله
أنزله عليك وابتعثك به رسولا - على رجل من القريتين عظيم: إما الوليد بن المغيرة بمكة، وإما عروة بن مسعود الثقفي بالطائف. فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا عبد الله، أما ما
ذكرت... الى أن قال: " وأما قولك:
* (لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم) *: الوليد ابن المغيرة بمكة أو عروة بالطائف. فان الله ليس يستعظم
مال الدنيا كما تستعظمه أنت ولا خطر له عنده كما له عندك، بل لو كانت الدنيا
عنده تعدل جناح بعوضة لما سقى كافرا به مخالفا له شربة ماء، وليس قسمة الله
اليك، بل الله هو القاسم للرحمات والفاعل لما يشاء في عبيده وإمائه، وليس هو ممن
يخاف أحدا كما تخافه أنت لماله وحاله، ولا ممن يطمع في أحد في ماله أو في حاله
كما تطمع أنت فيخصه بالنبوة لذلك، ولا ممن يحب أحدا محبة الهواء كما تحب أنت
فيقدم من لا يستحق التقديم، وانما معاملته بالعدل، فلا يؤثر لأفضل مراتب الدين
وجلاله الا الأفضل في طاعته والأجد في خدمته، وكذلك لا يؤخر في مراتب الدين
وجلاله الا أشدهم تباطؤا عن طاعته. وإذا كان هذا صفته لم ينظر الى مال ولا الى
حال، بل هذا المال والحال من تفضله، وليس لأحد من عباده عليه ضريبة لازبة، فلا
يقال له: إذا تفضلت بالمال على عبد فلابد أن تتفضل عليه بالنبوة ايضا، لأنه ليس
لأحد إكراهه على خلاف مراده ولا الزامه تفضلا، لأنه تفضل قبله بنعمه ". وذلك قوله تعالى: * (وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم أهم
يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض
درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمة ربك خير مما يجمعون) * (الزخرف: 31 - 32.) أي ما يجمعه هؤلاء من أموال الدنيا (الاحتجاج
1: 26 - 32 باختصار.). هذا، وقد روى فيه فيما أجاب به أبو الحسن علي بن محمد العسكري (عليه السلام) نفسه في رسالته الى أهل الأهواز حين سألوه عن الجبر والتفويض أنه
قال: إليه الصفوة يصطفي من يشاء من عباده، اصطفى محمدا -
صلوات الله عليه وآله - وبعثه بالرسالة الى خلقه، ولو فوض اختيار اموره الى عباده لأجاز
لقريش اختيار امية
بن أبي الصلت وأبي مسعود الثقفي، إذ كانا عندهم أفضل من محمد (صلى الله عليه وآله)، لما قالوا: * (لولا انزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم) * يعنونهما بذلك (الاحتجاج 2: 255. والطباطبائي نقل الخبر الأول ولم ينقل الثاني في
الميزان 18: 106.) . والخبر الأول في
ذكره في رؤساء قريش الوليد بن المغيرة المخزومي يعارض ما رواه الطبرسي نفسه في
" الاحتجاج " عن أمير المؤمنين (عليه السلام) إذ
عده من المستهزئين الخمسة أو الستة (الاحتجاج
1: 321 و 322.) وهو ما رواه الصدوق أيضا مسندا في " الخصال " (الخصال
1: 280.) وفيه أنهم ماتوا في يوم واحد حين نزول قوله سبحانه: * (إنا كفيناك المستهزئين) * من سورة الحجر النازلة قبل السجدة بخمس عشرة سورة. فيبقى الخبر
الثاني عن الامام الهادي (عليه
السلام) بلا معارض، وفيه بدل الوليد امية بن أبي الصلت الثقفي نفسه. ويشترك مع الخبر الأول من " الاحتجاج " في ذكر الوليد، ما نقله الطبرسي في " مجمع البيان " عن قتادة عن ابن عباس. ووافق خبر قتادة خبري " الاحتجاج " في رجل الطائف أنه: عروة بن مسعود الثقفي. وانفرد مجاهد فيهما
أنهما: عتبة بن أبي ربيعة من مكة، وابن عبد ياليل من الطائف، وانفرد ابن عباس في رجل الطائف: أنه حبيب بن عمرو الثقفي (مجمع
البيان 9: 6. وفي لباب النقول: 138: أبو مسعود الثقفي.) ووافق
القمي في تفسيره خبري " الاحتجاج " وقتادة في رجل الطائف أنه عروة بن
مسعود، وقال: هو عم المغيرة بن شعبة الثقفي، ولم يذكر رجل مكة (تفسير
القمي 2: 283.) ومسعود وحبيب وعبد ياليل اخوة ابناء عمرو بن مسعود الثقفي كما في
" مجمع البيان "
(مجمع البيان 9: 139.) السورة الرابعة والستون
- " الدخان ": وفيها قوله سبحانه: * (ان شجرة الزقوم طعام الأثيم) * وفي تفسير القمي قال: نزلت في أبي جهل (تفسير
القمي 2: 292.) وفي " مجمع البيان ": الأثيم أي الآثم وهو أبو جهل.
روى: أن أبا جهل اتي بتمر وزبد فقال: هذا هو الزقوم الذي يخوفنا به محمد (مجمع
البيان 9: 102 وابن اسحاق في سيرته 1: 388.) وقد
مر عنه تفصيله في سورة الصافات. السورة السادسة والستون
- " الأحقاف ": وفيها قوله سبحانه: * (وإذ صرفنا اليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا
أنصتوا فلما قضي ولوا الى قومهم منذرين قالوا يا قومنا انا سمعنا كتابا انزل من
بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي الى الحق والى طريق مستقيم) * (الأحقاف:
29، 30.). وروى الطبرسي في " مجمع البيان " عن الزهري قال: لما توفي أبو طالب اشتد البلاء على رسول الله (صلى الله عليه وآله)،
فعمد لثقيف بالطائف، رجاء أن يؤوه... ورجع رسول الله (صلى
الله عليه وآله) الى مكة حتى إذا كان (بنخلة) قام في جوف الليل يصلي فمر به نفر من جن أهل (نصيبين) فوجدوه يصلي
صلاة الغداة ويتلو القرآن فاستمعوا له. وهو مروي عن جماعة منهم سعيد بن جبير (مجمع
البيان 9: 139، 140.). هذا ما نقله هنا الطبرسي
مما يقتضي وفاة أبي طالب (رضي الله عنه) قبل نزول سورة الأحقاف (السادسة
والستين) وقد بقي من السور
المكية عشرون سورة يقتضي أنها نزلت بمكة بعد وفاة أبي طالب وبعد الهجرة الى
الطائف وقبل الهجرة الى المدينة مما يخالف خبري العياشي والصدوق (تفسير
العياشي 1: 257 واكمال الدين: 172.) أما
القمي فقد قال: كان سبب نزول هذه الآية (كذا) أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) خرج من مكة الى سوق عكاظ - ومعه زيد بن حارثة - يدعو الناس الى الاسلام فلم يجبه أحد ولم يجد من يقبله، فرجع الى
مكة. فلما بلغ موضعا يقال له " وادي مجنة " تهجد بالقرآن في جوف الليل
فمر به نفر من الجن فلما سمعوا قراءة رسول الله (صلى الله عليه وآله) استمعوا له ولما سمعوا قراءته قال بعضهم لبعض: أنصتوا، فلما فرغ
رسول الله من القراءة ولوا الى قومهم منذرين قالوا: * (يا قومنا إنا سمعنا كتابا...) * ثم قال القمي: فأنزل الله على نبيه: * (قل اوحي إلي أنه استمع نفر من الجن) * السورة كلها وفيها حكى الله قولهم (تفسير
القمي 2: 299، 300.). وخلط القمي بهذا بين السورتين: الأحقاف والجن، وفي سورة الجن قال:
وقد كتبنا خبرهم في سورة الأحقاف (مجمع
البيان 10: 554.) أي جعل السبب نفس السبب في السورتين، بينما سورة الجن هي الأربعون في النزول والأحقاف السادسة
والستون، مع ظهور في سورة الجن بأنها كانت الاولى: *
(وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا وأنا لا ندري
أشر اريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا) * (الجن: 9، 10.). ونقل الطبرسي في " مجمع البيان " خبر سوق عكاظ عن البخاري ومسلم والواحدي باسنادهم عن سعيد بن جبير
عن ابن عباس قال: انطلق رسول الله (صلى الله عليه وآله) في طائفة من أصحابه عامدين الى سوق عكاظ، وكان قد حيل بين الشياطين
وبين خبر السماء وارسلت عليهم الشهب، فلما رجعوا الى قومهم قالوا: ما ذاك الا من
شئ حدث فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها. فمر النفر الذين أخذوا نحو تهامة بالنبي
وهو بنخل (ومر في خبر
الزهري: في نخلة)
عامدين الى سوق عكاظ وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا له
وقالوا: هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء، فرجعوا الى قومهم وقال: * (انا سمعنا قرآنا عجبا يهدي الى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا
أحدا) * فأوحى الله الى نبيه: *
(قل اوحي إلي أنه استمع نفر من الجن) * (مجمع البيان 1: 544. ولا يوجد الخبر في أسباب النزول المطبوع للواحدي
في الأحقاف، ولم يذكر الجن.) اذن فخبر سوق عكاظ وبطن نخلة لسورة الجن لا الأحقاف. وقال الطبرسي: قال آخرون: امر رسول الله أن ينذر الجن ويدعوهم الى الله ويقرأ عليهم القرآن،
فصرف الله إليه نفرا من الجن من نينوى (العراق) فقال (صلى الله عليه وآله) لأصحابه: اني امرت أن أقرأ على الجن الليلة، فأيكم يتبعني ؟ فاتبعه عبد الله بن مسعود. قال عبد الله: ولم يحضر معه احد غيري، فانطلقنا حتى إذا كنا بأعلى
مكة دخل رسول الله شعب الحجون وخط لي خطا أمرني أن أجلس فيه قال: لا تخرج منه
حتى أعود اليك. ثم انطلق حتى قام فافتتح القرآن، فغشيته أسودة كثيرة حتى حالت
بيني وبينه حتى لم أسمع صوته، ثم طفقوا يتقطعون مثل قطع السحاب ذاهبين حتى بقي
منهم رهط، وفرغ رسول الله مع الفجر، فانطلق وقال لي: هل رأيت شيئا ؟ قلت: نعم،
رأيت رجالا سودا عليهم ثياب بيض. قال: اولئك جن نصيبين (مجمع
البيان 9: 140.). ولكنه نفسه روى بعد ذلك
عن علقمة بن قيس قال: قلت
لعبد الله ابن مسعود: من كان منكم مع النبي (صلى الله عليه وآله) ليلة الجن ؟
فقال: ما كان منا معه أحد، فقدناه
ذات ليلة ونحن بمكة، فقلنا
اغتيل رسول الله (صلى الله عليه وآله) أو استطير ! فانطلقنا نطلبه من الشعاب.
فلقيناه مقبلا من نحو حراء، فقلنا:
يا رسول الله ! أين كنت ؟ لقد
أشفقنا عليك وقلنا له: بتنا الليلة بشر ليلة بات بها قوم حين فقدناك ! فقال لنا:
إنه أتاني داعي الجن فذهبت اقرئهم القرآن. ثم ذهب بنا فأرانا آثارهم وآثار
نيرانهم. فأما أن يكون صحبه منا أحد فلم يصحبه (مجمع
البيان 9: 140 و 10: 544.). ويبدو أن المتعين للقبول من هذين الخبرين الأخيرين عن ابن مسعود هو الأخير، إذ هو
المنسجم مع الآية من سورة الأحقاف: * (واذ صرفنا اليك نفرا من الجن) *: " أتاني داعي الجن " لا الخبر السابق: " إني امرت أن أقرأ على الجن الليلة ". فلا داعي للأخذ
بما مر عن الزهري تفسيرا للآية من الأحقاف، فيما كان معنى الخبر هو خبر سعيد بن
جبير المشتمل على بطن نخلة وقد مر عن البخاري ومسلم والواحدي أن خبره عن سورة الجن. السورة التاسعة والستون
- " الكهف ": وروى القمي في تفسيره بسنده عن الامام الصادق (عليه السلام) قال:
كان سبب نزولها (يعني الكهف): أن قريشا بعثوا ثلاثة نفر الى نجران: النضر بن الحارث بن كلدة،
وعقبة بن أبي معيط، والعاص بن وائل السهمي ليتعلموا من اليهود والنصارى مسائل
يسألونها رسول الله (صلى
الله عليه وآله)،
فخرجوا الى نجران الى علماء اليهود فسألوهم فقالوا: سلوه عن ثلاث مسائل، فان
أجابكم فيها على ما عندنا فهو صادق، ثم سلوه عن مسألة واحدة فان ادعى علمها فهو كاذب. قالوا: وما هذه المسائل ؟ قالوا:
سلوه عن فتية كانوا في الزمن الأول فخرجوا وغابوا وناموا وكم بقوا في نومهم حتى
انتبهوا ؟ وكم كان عددهم ؟ وأي شئ كان معهم من غيرهم ؟ وما كان قصتهم ؟ واسألوه عن موسى حين أمره الله أن يتبع العالم ويتعلم منه، من هو ؟ وكيف
تبعه ؟وما كانت قصته معه ؟ واسألوه عن طائف طاف مغرب الشمس ومطلعها حتى بلغ سد يأجوج ومأجوج، من هو ؟
وكيف كانت قصته ؟ ثم أملوا عليهم أخبار هذه الثلاث مسائل وقالوا لهم: إن أجابكم بما قد أملينا عليكم فهو صادق، وان أخبركم بخلاف ذلك
فلا تصدقوه. قالوا: فما المسألة الرابعة ؟ قالوا: سلوه متى تقوم الساعة ؟ فان ادعى علمها فهو كاذب، فان قيام
الساعة لا يعلمها الا الله تبارك وتعالى. فرجعوا الى مكة واجتمعوا الى أبي طالب (رضي الله عنه) فقالوا: يا أبا طالب ! ان ابن أخيك يزعم أن خبر السماء يأتيه ونحن
نسأله عن مسائل فان أجابنا عنها علمنا أنه صادق، وان لم يجبنا علمنا أنه كاذب. فقال أبو طالب: سلوه عما بدا لكم، فسألوه عن الثلاث مسائل. فقال رسول الله (صلى
الله عليه وآله): غدا
اخبركم. ولم يستثن (أي لم
يقل: إن شاء الله.)
فاحتبس الوحي عليه أربعين يوما حتى اغتم النبي (صلى الله عليه وآله) وشك
أصحابه الذين كانوا آمنوا به، وفرحت
قريش واستهزؤا وآذوا. وحزن أبو طالب. فلما كان بعد
أربعين يوما نزل عليه جبرئيل بسورة الكهف. فقال
رسول الله: يا جبرئيل لقد أبطأت
! فقال: انا لا نقدر أن
ننزل إلا باذن الله (تفسير القمي 2: 31، 32 وسند الخبر: حدثني أبي عن ابن أبي عمير عن أبي
بصير عنه (عليه السلام)، فهو صحيح لولا ما يبدو فيه من الانقطاع بين ابراهيم بن
هاشم وابن أبي عمير. والخبر يقتضي أن تكون فترة الوحي الأربعون يوما قبل نزول
سورة الكهف، وستأتي الفترة كذلك في خبر ابن اسحاق الا أنها خمس عشرة ليلة). ونقل الطبرسي في " مجمع البيان " مثله عن محمد بن
اسحاق عن سعيد ابن جبير وعكرمة عن ابن عباس: أن قريشا انفذوا النضر بن الحارث بن كلدة وعقبة بن أبي معيط الى
أحبار اليهود بالمدينة وقالا لهم: إنهم أهل الكتاب الأول وعندهم من علم الأنبياء
ما ليس عندنا، فصفا لهم صفة محمد وخبراهم بقوله وسلاهم عنه. فخرجا حتى قدما المدينة
فسألا أحبار اليهود عن النبي (صلى
الله عليه وآله) وقالا
لهم ما قالت قريش. فقال لهما أحبار اليهود: اسألوه عن ثلاث فان أخبركم بهن فهو
نبي مرسل وان لم يفعل فهو رجل متقول، فروا فيه رأيكم: سلوه عن فتية ذهبوا في
الدهر الأول ما كان أمرهم، فانه قد كان لهم حديث عجيب. وسلوه عن رجل طواف قد بلغ
مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبأه ؟ وسلوه عن الروح ما هو ؟ فان أخبركم عن
الثنتين ولم يخبركم بالروح فهو نبي. فانصرفا الى مكة فقالا: يا معشر قريش قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد. وقصا عليهم
القصة. فجاؤوا الى النبي (صلى الله عليه وآله) فسألوه، فقال: اخبركم بما سألتم عنه غدا ولم يستثن: فانصرفوا
عنه. فمكث (صلى الله عليه
وآله) خمس عشرة ليلة لا يحدث
الله إليه في ذلك وحيا ولا يأتيه جبرئيل، حتى أرجف أهل مكة وتكلموا في ذلك، فشق
على رسول الله (صلى
الله عليه وآله) ما
يتكلم به أهل مكة عليه. ثم جاءه جبرئيل عن الله
سبحانه بسورة الكهف، وفيها ما سألوه عنه من أمر الفتية والرجل الطواف، وفيه * (يسألونك عن الروح) *. وقال
رسول الله (صلى الله عليه
وآله) لجبرئيل حين جاءه: لقد احتبست عني يا جبرئيل ؟ فقال له جبرئيل: * (وما نتنزل الا بأمر ربك) * (مجمع
البيان 6: 697. وفي سيرة ابن هشام 1: 321.). وفي قوله سبحانه في السورة: * (ولا تقولن لشئ اني فاعل ذلك غدا الا أن يشاء الله) * (الكهف: 23، 24.) قال: قد ذكرنا فيما قبل ما جاء في الرواية: أن النبي (صلى الله
عليه وآله) سئل عن قصة أصحاب الكهف وذي القرنين فقال: اخبركم عنه غدا. ولم
يستثن، فاحتبس الوحي عنه أياما حتى شق عليه، فأنزل الله تعالى هذه الآية بأمره
بالاستثناء بمشيئة الله تعالى (مجمع البيان 6: 712. وفي سيرة ابن هشام 1: 327). السورة السبعون - "
النحل ": قال القمي في تفسيره: نزلت لما سألت قريش رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن ينزل عليهم العذاب، فأنزل الله تعالى: * (أتى أمر الله فلا تستعجلوه) * (تفسير
القمي 1: 382.). وروى الطبرسي في " مجمع البيان " عن الحسن البصري قال: إن المشركين قالوا للنبي (صلى الله عليه وآله): ائتنا بعذاب الله،
فقال سبحانه ما معناه: ان أمر الله آت وكل ما هو آت قريب، فمعنى * (أتى أمر الله) * اي قرب أمر الله بعقاب هؤلاء المشركين المقيمين على الكفر
والتكذيب بيوم القيامة وبعذاب الله، وكانوا يستعجلونه كما حكى الله سبحانه عنهم
قولهم: * (فأمطر علينا
حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب اليم) * فتقديره: قل لهؤلاء الكفار: لا تستعجلوا القيامة والعذاب فان الله سيأتي بكل واحد منهما في
وقته وحينه كما تقتضيه حكمته (مجمع
البيان 6: 537.). ويدعم هذا المعنى ما رواه العياشي في تفسيره عن هشام بن سالم عن
بعض أصحابه قال سألت الصادق (عليه السلام) عن قول الله:
* (أتى أمر الله فلا تستعجلوه) * فقال: إذا أخبر الله النبي (صلى الله عليه وآله) بشئ الى وقت أنه كائن فكأنه قد كان، فهو قوله: * (أتى امر الله فلا تستعجلوه) * حتى يأتي ذلك الوقت (تفسير
العياشي 1: 254.). ومنها قوله سبحانه: * (وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت
مفتر بل أكثرهم لا يعلمون قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا
وهدى وبشرى للمسلمين ولقد نعلم أنهم يقولون انما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون
إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين) * (النحل: 101 - 103.). قال القمي في تفسيره:
الأعجمي الذي يلحدون إليه هو أبو فكهية مولى ابن الحضرمي، كان من أهل الكتاب وكان قد اتبع نبي الله وآمن به، وكان أعجمي
اللسان. فقالت قريش: هذا -
والله - يعلم محمدا بلسانه
(تفسير القمي 1: 390.).
ومنها قوله سبحانه: *
(وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين ليحملوا أوزارهم كاملة يوم
القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون) * (النحل: 24، 25.). وروى الطبرسي عن الكلبي قال: نزلت في المقتسمين، وهم ستة عشر رجلا خرجوا الى عقاب مكة أيام الحج
على طريق الناس، على كل عقبة أربعة منهم، ليصدوا الناس عن النبي (صلى الله عليه
وآله)، فإذا سألهم الناس عما انزل على رسول الله (صلى الله عليه وآله) قالوا: أحاديث الأولين وأباطيلهم (مجمع
البيان 6: 549.) ونقل مثله في " المناقب " (مناقب
ابن شهر آشوب 1: 49.). روى السيوطي في "
الدر المنثور " مفصله عن السدي قال: اجتمعت قريش فقالوا: ان محمدا رجل حلو اللسان إذا كلمه الرجل ذهب
بعقله، فانظروا اناسا من أشرافكم المعدودين المعروفة أنسابهم فابعثوهم في كل
طريق من طرق مكة، على رأس كل ليلة أو ليلتين (كذا) فمن جاء يريده فردوه عنه. فخرج ناس منهم في كل طريق، فكان إذا أقبل الرجل وافدا لقومه ينظر
ما يقول محمد فينزل بهم، قالوا له: أنا فلان بن فلان فيعرفه بنسبه ويقول: أنا اخبرك بمحمد فلا يريد أن تعني إليه، هو رجل كذاب لم يتبعه على
أمره الا السفهاء والعبيد ومن لا خير فيه، وأما شيوخ قومه وخيارهم فمفارقون له. فيرجع بعضهم، وذلك قوله سبحانه: * (وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين) *. وإذا كان الوافد ممن عزم
الله له على الرشاد فقالوا
له مثل ذلك في محمد قال: بئس
الوافد أنا لقومي ان كنت جئت حتى بلغت، الا مسيرة ليلة، رجعت قبل أن القى هذا
الرجل وأنظر ما يقول وآتي قومي ببيان أمره. فيدخل مكة فيلقى المؤمنين فيسألهم:
ماذا يقول محمد ؟ يقولون: * (خيرا للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير) * (الدر المنثور 4: 116.). وخبر
السدي هذا لا يبعد أن يعد تفصيلا لمختصر خبر الكلبي السابق قبله، ولكن الكلبي
قال " في عقاب مكة أيام
الحج " والسدي: " في كل طريق من طرق مكة على رأس كل ليلة أو ليلتين فإذا اقبل
الرجل وافدا لقومه " ثم لا يذكر الحج والاعتبار يساعد على الاول لا الثاني. والثاني لا ينص على عنوان " المقتسمين " ولا على عددهم " الستة عشر رجلا " كما هو في الكلبي. هذا
وقد مر خبر المقتسمين مع المستهزئين الستة الذين كفى الله رسوله شرهم بهلاكهم في
يوم واحد باشارة جبرئيل إليهم ودعاء الرسول عليهم، فهل يعني الكلبي أن المقتسمين
كانوا مستمرين على عملهم ذلك بعد هلاك المستهزئين، من لدن نزول سورة الحجر
الرابعة والخمسين حتى بعد نزول سورة النحل وهي السبعون ؟ أم يعني أن الآية نزلت
تحكي شأنهم القديم غير المستمر ؟ أو أنه أمر حاضر متكرر ؟ والظاهر الأخير. وقد يبدو للنظر:
أن تكون هذه الفترة بين نزولي سورتي الحجر الرابعة والخمسين والنحل السبعين، هي
فترة حصار الرسول وبني هاشم في شعب أبي طالب بالحجون، وهي الفترة الفاصلة بين
المقتسمين الأوائل وبين تجديد عملهم مرة اخرى حين نزول سورة النحل. ويدفعه: أن
موسم الحج في الأشهر الحرم كان
مستثنى من حكم الحصار، ولذلك
كان الرسول يخرج من الحصار فيه بشيرا ونذيرا، وقد ورد الخبر بالنص على مزاولة
المشركين لعملهم ذلك في الصد عنه (صلى الله عليه وآله) في أيام الموسم أيام الحصار في الشعب، فلا فترة في البين. وحصر المشركين للرسول وبني هاشم مدة ثلاث سنين أو نحوها من جملة
الحوادث المهمة في تأريخ الإسلام بعد البعثة وقبل الهجرة، وهي: إنذار يوم الدار، والاسراء والمعراج، والهجرة الى الحبشة، والهجرة
الى الطائف، ثم الهجرة الى المدينة. وقد وردت الاشارة في آيات القرآن الكريم الى الانذار والاسراء
والمعراج بالاجمال في سورتي الاسراء والنجم، وكذلك الهجرة
الأخيرة الى المدينة، أما حادث الحصار والهجرة الى الحبشة والهجرة الى الطائف فلا نجد في آيات القرآن الكريم إشارة إليها حسب التفسير المشهور. ولتبين مدى صحة دعوى المرحلة
السرية مع نزول القرآن فيها، استعرضت ما نزل من القرآن حتى سورة الحجر التي فيها
* (فاصدع بما تؤمر) * وبعد ذلك اردت الدخول في سرد الحوادث، ولكن حيث لاحظت الخلاف في
ترتيبها وتواريخها رجعت الى مواكبة السور المكية حسب ترتيب النزول. وهنا في سورة النحل في الآية
الحادية والأربعين نقف على ذكر الهجرة في قوله سبحانه: *
(والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة
أكبر لو كانوا يعلمون) * (النحل:
41.). وهي أول آية تذكر الهجرة، وهي في عداد آيات سورة النحل المكية، وهي السورة السبعون، وبعدها
ست عشرة سورة نزلت في مكة قبل الهجرة، فهل المعني بها الهجرة الاولى الى الحبشة
؟ أم الثانية الى المدينة ؟ نقل الطبرسي في " مجمع البيان " عن الحسن وقتادة: أن قوله *
(والذين هاجروا في الله) * الى
آخر السورة مدنية (مجمع البيان 6: 535.) وكذلك
نقل السيوطي في " الاتقان " (الاتقان
1: 15.) ثم ذكر الطبرسي سائر الأقوال بسائر الاستثناءات في الآيات، ولم يتظافر النقل باستثناء قتادة، بل روى السيوطي في " الدر
المنثور " عن قتادة نفسه أيضا أنها الهجرة الى الحبشة (الدر
المنثور 5: 118 والتمهيد 1: 153.). وسنذكر أن هذه السورة هي
آخر سورة نزلت في شعب أبي طالب، ونذكر بعد ذلك أن بيعة العقبة الاولى أيضا كذلك
كانت في آخر موسم عمرة قبل الخروج من الشعب، وأن النبي أذن لأصحابه بعد ذلك بالهجرة الى المدينة تدريجيا. فلو
كانت الآية العاشرة من سورة الزمر بقوله سبحانه فيها * (وأرض الله واسعة) * مبدأ إذن النبي بالهجرة الى الحبشة، فمن المحتمل أن تكون هذه الآية
مبدأ إذن الرسول هذه المرة بالهجرة الى المدينة، مع وضوح الفرق بين الفترتين في
حال البلدين. ولكننا لا نجد شيئا في ذلك عند رواة الحديث والتفسير والتأريخ. ومن المحتمل كذلك أيضا
أن تكون الآية بل السورة مما نزل في أواخر السنة الحادية عشرة للبعثة، قبل بيعة
أصحاب العقبة بسنة، إذ
كان قد قدم مكة من أرض الحبشة أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد المخزومي مع زوجته
ام سلمة، فلما آذته قريش وبلغه اسلام من أسلم من الأنصار خرج الى المدينة مهاجرا
فكان أول من هاجر الى المدينة من أصحاب رسول الله (سيرة ابن
هشام 2: 112.) . ومنها قوله سبحانه: *
(ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان
عربي مبين) * (النحل:
103.). قال القمي في تفسيره: هو لسان أبي فكهية مولى ابن الحضرمي، كان أعجمي اللسان، وكان قد
اتبع نبي الله وآمن به، وكان من أهل الكتاب، فقالت قريش: هذا - والله - يعلم
محمدا بلسانه (تفسير القمي 1: 390.). ونقل الطبرسي عن مجاهد وقتادة قالا: أرادوا به عبدا لبني الحضرمي روميا يقال له عائش، صاحب كتاب، أسلم
وحسن اسلامه. وعن عبد الله بن مسلم قال: كان في الجاهلية غلامان
نصرانيان من أهل عين التمر
(في العراق) اسم أحدهما يسار والآخر خير، كانا يقرءان كتابا لهما بلسانهم، وكان رسول الله (صلى الله عليه
وآله) ربما مر بهما واستمع لقراءتهما، فقالوا: إنما يتعلم منهما (أسباب
النزول للواحدي: 231 ط الجميلي.). وعن ابن عباس قال: قالت قريش: إنما يعلمه بلعام، وكان قينا روميا نصرانيا بمكة (مجمع
البيان 6: 595 وروى السيوطي عنه أيضا قال: كان رسول الله يعلم قينا بمكة اسمه
بلعام - وكان أعجمي اللسان - فكان المشركون يرون رسول الله يدخل عليه ويخرج من
عنده، فقالوا إنما يعلمه بلعام، الدر المنثور 4: 131 وروى روايات اخرى باسماء:
أبي اليسر، ومقيس.). وقال ابن اسحاق: بلغني أن رسول الله كان كثيرا ما يجلس عند المروة الى مبيعة غلام
نصراني يقال له: جبر عبد لبني الحضرمي، فكانوا يقولون: والله ما يعلم محمدا
كثيرا مما يأتي به الا جبر النصراني غلام بني الحضرمي. فأنزل الله تعالى في ذلك:
* (ولقد نعلم أنهم
يقولون انما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين) * (سيرة ابن هشام عن ابن اسحاق 2: 33.). |
مقتل
ياسر وسمية وتعذيب ابنهما عمار:
|
ومنها قوله سبحانه: * (إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله واولئك هم
الكاذبون من كفر بالله من بعد ايمانه الا من اكره وقلبه مطمئن بالايمان ولكن من
شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم ذلك بأنهم استحبوا الحياة
الدنيا على الآخرة وأن الله لا يهدي القوم الكافرين اولئك الذين طبع الله على
قلوبهم وسمعهم وأبصارهم واولئك هم الغافلون لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون
ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور
رحيم) * (النحل: 105 -
110.). روى العياشي في تفسيره عن الصادق (عليه السلام) قال: إن عمار بن ياسر اخذ بمكة فقالوا له: ابرأ من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فبرأ منه، فأنزل الله عذره: * (الا من اكره وقلبه مطمئن بالايمان) *. وروى فيه عنه (عليه السلام) قال: أما سمعت قول الله في عمار: * (الا من اكره وقلبه مطمئن بالايمان) *. وروى فيه عنه (عليه
السلام) قال: إن
هذه الآية نزلت في عمار وأصحابه: * (الا من اكره وقلبه مطمئن بالايمان) * (تفسير
العياشي 2: 271، 272.). ولذلك قال القمي في
تفسير هذه الآية: هو
عمار بن ياسر أخذته قريش بمكة، فعذبوه بالنار حتى أعطاهم بلسانه ما أرادوا،
وقلبه مطمئن بالايمان... ثم قال في عمار أيضا: * (ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن
ربك من بعدها لغفور رحيم) *
(تفسير القمي 1: 390، 391.). وروى الكليني في (الكافي) بسنده عن الصادق (عليه السلام) أيضا
قال: إن عمار بن ياسر اكرهه
أهل مكة وقلبه مطمئن بالايمان، فقال له النبي (صلى الله عليه وآله) عندها: يا عمار ان عادوا فعد، فقد أنزل الله عذرك: * (الا من اكره وقلبه مطمئن بالايمان) * وأمرك أن تعود إن عادوا (اصول الكافي 2: 219 عن القمي أيضا.). وروى الطبرسي في " مجمع البيان " عن قتادة وابن عباس
قال: نزلت الآية في جماعة
اكرهوا على الكفر، وهم: عمار وياسر أبوه وامه سمية وصهيب وبلال وخباب، عذبوا حتى
قتل أبو عمار وامه، فاعطاهم عمار بلسانه ما أرادوا منه، فأخبر الله سبحانه بذلك
رسوله، فقال قوم: كفر عمار، فقال (صلى الله عليه وآله): كلا إن عمارا ملئ ايمانا
من قرنه الى قدمه واختلط الايمان بلحمه ودمه. وجاء عمار الى رسول الله وهو يبكي،
فقال (صلى الله عليه وآله): ما وراءك ؟ فقال: شر يا رسول الله، ما تركت حتى نلت منك وذكرت
آلهتهم بخير ! فجعل رسول الله (صلى
الله عليه وآله) يمسح
عينيه ويقول: إن عادوا لك فعد لهم بما قلت. ثم قال: فنزلت الآية (مجمع
البيان 6: 597.). بينما مر في خبر الكليني عن الصادق (عليه السلام) أن
النبي قال له:
" ان عادوا فعد فقد أنزل الله عذرك وأمرك أن تعود إن عادوا " مما
ظاهره أن الآية كانت قد نزلت عليه (صلى الله عليه وآله) قبل مقابلة عمار له لا
بعدها. وقد مر في خبر الطبرسي نفسه: أن الله أخبر بذلك رسوله قبل مجئ عمار الى
الرسول، فالظاهر أن نزول الآيات كان قبل المقابلة لا بعدها، وعليه فلا محل لقوله: " فنزلت الآية " كما لا محل لما
أخرجه السيوطي في (الدر المنثور) عن مصنف عبد الرزاق، وطبقات ابن سعد، وتفسير ابن جرير الطبري،
والبيهقي في (دلائل النبوة) من طريق أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر، عن أبيه
عن آبائه قال: أخذ المشركون عمار بن ياسر فلم يتركوه حتى سب النبي - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - وذكر آلهتهم بخير، ثم تركوه. فلما أتى رسول الله قال له: ما وراءك
؟ قال: شر، ما تركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير ! قال: فكيف تجد قلبك ؟ قال:
مطمئن بالايمان، قال: فان عادوا فعد، فنزلت.
وبقوله: فان عادوا فعد، لا محل لما أخرجه السيوطي فيه عن ابن عباس قال: لما أراد رسول الله - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - أن يهاجر الى المدينة قال لأصحابه... فأصبح بلال وخباب وعمار...
فأخذهم المشركون... وأما عمار فقال لهم كلمة أعجبتهم، تقية، ثم خلوا عن بلال
وخباب وعمار فلحقوا برسول الله فأخبروه بالذي كان من أمرهم... وأنزل الله: * (الا من اكره وقلبه مطمئن بالايمان) * (الدر المنثور 4: 132، 133.). وكذا لا محل لما رواه
قبله الواحدي في (أسباب النزول) عن ابن عباس قال: ان المشركين أخذوا عمارا وأباه ياسرا وامه سمية وبلالا وخبابا
وسالما. فأما سمية فانها ربطت بين بعيرين ووجئ قبلها بحربة فقتلت، وقتل زوجها
ياسر، فهما أول قتيلين في الإسلام، وأما عمار فانه أعطاهم ما أرادوا بلسانه
مكرها. فاخبر النبي بأن
عمارا كفر ! فقال: كلا، ان
عمارا ملئ ايمانا من قرنه الى قدمه، واختلط الايمان بدمه ولحمه ! فأتى عمار رسول
الله وهو يبكي، فجعل رسول الله يمسح عينيه وقال: ان عادوا لك فعد لهم بما قلت.
فأنزل الله (أسباب النزول للواحدي: 231 ط الجميلي.). وبهذا المعنى ما رواه الكشي في رجاله بسنده عن الليث بن سعد
(كاتب الواقدي) عن عمر مولى غفرة قال: حبس عمار فيمن حبس وعذب، فانفلت فيمن انفلت من الناس فقدم على
رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: أفلح أبو اليقظان ! قال: ما أفلح ولا أنجح
لنفسه، لأنهم لم يزالوا يعذبونه حتى نال منك ! قال: إن سألوا من ذاك فزدهم (رجال
الكشي: 35 ط مشهد.). بل روى فيه بسنده عن محمد المحمودي المروزي قال: ان عمار بن ياسر قتلت قريش أبويه ورسول الله يقول: صبرا آل ياسر
فان موعدكم الجنة، ما تريدون من عمار ؟ عمار مع الحق والحق مع عمار حيث كان،
عمار جلدة بين عيني وأنفي، تقتله الفئة الباغية، يدعوهم الى الجنة ويدعونه الى
النار. وألقته قريش في النار فقال
فيه رسول الله (صلى
الله عليه وآله): يا
نار كوني بردا وسلاما على عمار كما كنت بردا وسلاما على ابراهيم. فلم تصله النار
ولم يصبه منها مكروه (رجال الكشي: 30 ط مشهد. وروى مختصر الخبر ابن هشام عن ابن اسحاق 1:
342.) وهذا يدل على وجود الرسول في مكة حينذاك، فلعل ذلك كان في أيام
الموسم إذ كان يخرج فيه النبي وبنو هاشم وسيأتي أن الآيات الاولى من آخر سورة مكية هي " العنكبوت
" نزلت في عمار بن ياسر أيضا، ولعلنا
نجد في ذلك حلا للاشكال، ومحملا لهذه الأخبار التي تفيد أن عمارا عذب قبيل هجرته
بل وقد هاجر الرسول (صلى
الله عليه وآله)، وأنه
هاجر الى المدينة ولكنه لم يواجه الرسول حياء منه لما قاله من كلمة الكفر، أو
واجهه وهو يبكي من ذلك، حتى
طمأنه النبي بعدم الاثم عليه.
فان هذه الأخبار انما
تناسب تلك الفترة لا قبلها.
وأيضا نجد بالقول
بتعدد الموقف لعمار، محملا جميلا لطيفا لقول الرسول له: " إن عادوا لك فعد
لهم " بأنها كلمة قالها له في هذه المرة مشيرا له بلطف الى أن هذا الأمر
سيتكرر منهم ومنك، وأن الاشارة الى تكرار ذلك أيام هجرته. ولكن الرواة خلطوا
فجعلوا هذه الجملة مقولة له من الرسول (صلى الله عليه وآله) في المدينة بعد الهجرة حيث لا توقع بعودة مشركي قريش الى تعذيب
عمار لافتتانه عن دينه. فما معنى أن يقول له الرسول: ان عادوا فعد لهم ؟. ونجد بذلك أيضا محملا لخلط بعض
الرواة حيث رووا ما يفيد أن هذه الآية من
سورة النحل المكية نزلت بعد الهجرة في عمار، كما مر عن السيوطي في " الدر
المنثور " (الدر المنثور 4: 132، 133.) مما استلزم استثناء هذه الآيات من مكية السورة بلا موجب. |
صحيفة
المقاطعة الظالمة:
|
ومنها قوله سبحانه: * (ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي
أحسن ان ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين) * (النحل: 125.). ذكر ابن شهر آشوب في
" المناقب " عن " شرف المصطفى " للخركوشي: أن الآية: *
(ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن) * نزلت على النبي (صلى
الله عليه وآله) في
أواخر أيام الحصار في شعب أبي طالب، فقال (صلى الله عليه وآله): كيف ادعوهم وقد صالحوا على تركي الدعوة ؟ فنزل جبرئيل فأخبر النبي: أن
الله بعث على صحيفتهم الأرضة، فلحستها. فأخبر النبي أبا طالب، فدخل أبو طالب على
قريش في المسجد، فعظموه وقالوا: أردت مواصلتنا وأن تسلم ابن اخيك الينا ؟ قال:
والله ماجئت لهذا، ولكن ابن اخي أخبرني - ولم يكذبني - أن الله قد أخبره بحال
صحيفتكم، فابعثوا الى صحيفتكم، فان كان حقا فاتقوا الله وارجعوا عما أنتم عليه
من الظلم وقطيعة الرحم، وان كان باطلا دفعته اليكم. فأتوا بها وفكوا الخواتيم، فإذا فيها "
باسمك اللهم " واسم " محمد " فقط ! فقال
لهم أبو طالب: اتقوا
الله وكفوا عما أنتم عليه. فسكتوا وتفرقوا. واجتمع سبعة نفر من قريش على نقضها وقالوا: أخرقها الله، وهم: مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف، الذي أجار
النبي لما انصرف من الطائف. وزهير بن أبي امية المخزومي زوج عاتكة بنت أبي طالب (وسيأتي عن ابن اسحاق ان امه عاتكة، بنت عبد المطلب وابن اسحاق
اقرب الى الاتقان.) وهشام
ابن عمرو بن لؤي بن غالب، وأبو البختري بن هشام، وزمعة بن الأسود ابن المطلب...
وعزموا أن يقطعوا يمين كاتبها: منصور بن عكرمة، فوجدوها شلاء، فقالوا: قطعها
الله. وفي ذلك قال أبو
طالب: الأهل أتى بحرينا صنع ربنا * على نأيهم ؟ والله
بالناس أرود فيخبرهم: أن الصحيفة مزقت * وأن كل ما لم يرضه الله
يفسد يراوحها إفك وسحر مجمع
* ولم تلق سحرا
آخر الدهر يصعد (يقصد المهاجرين الى الحبشة. وذكر القصيدة ابن اسحاق في سيرة ابن هشام
1: 17 - 19، ستة وعشرين بيتا.) وله أيضا في ذلك: وقد كان من أمر الصحيفة
عبرة * متى ما يخبر
غائب القوم يعجب محا الله منها كفرهم وعقوقهم * وما نقموا من ناطق الحق
معرب و أصبح ما قالوا من الأمر باطلا * ومن يختلق ما ليس بالحق يكذب وأمسى ابن عبد الله فينا
مصدقا * على سخط من قومنا،
غير معتب وله أيضا في ذلك: تطاول ليلي بهم نصب
* ودمعي كسح السقاء السرب ولعب قصي بأحلامها
* وهل يرجع الحلم بعد اللعب ونفي قصي بني هاشم
* كنفي الطهاة لطاف الحطب (أي: كما ينفي الطباخ الخشب الجيد عن الاحتراق.) وقالوا لأحمد: أنت امرؤ
* خلوف الحديث ضعيف النسب وان كان أحمد قد جاءهم * بحق ولم يأتهم بالكذب على أن إخواننا وازروا:
* بني هاشم وبني المطلب ورمتم بأحمد مارمتم *
على الآصرات وقرب النسب فأني وماحج من راكب *
وكعبته مكة ذات الحجب تنالون أحمد ؟ أو تصطلوا *
بروس الرماح وحد القضب (مناقب آل أبي طالب 1: 65 - 67 ونقل المقطوعة والتي قبلها السيد هاشم
البحراني في حلية الأبرار 1: 62 - 64 عن المستدرك لابن بطريق عن مغازي ابن
اسحاق.) وروى قبله القطب
الراوندي في " قصص الأنبياء ": أنه لما أتى على رسول الله (صلى الله عليه وآله) في الشعب أربع سنين، بعث الله على صحيفتهم القاطعة دابة الأرض
فلحست جميع ما فيها من قطيعة رحم وظلم وجور، وتركت اسم الله، ونزل جبرئيل عليه
فأخبره بذلك (قصص الأنبياء: 329.). ثم ذكر الخبر الى أن قال: فتفرق القوم ولم يتكلم أحد منهم، وعند ذلك قال نفر من بني عبد
مناف وبني قصي ورجال من قريش ولدتهم نساء بني هاشم منهم: مطعم بن عدي -
وكان شيخا كبيرا كثير المال له أولاد - وأبو البختري بن هشام، وزهير بن امية
المخزومي في رجال من أشرافهم، قالوا: نحن براء مما في هذه الصحيفة. وقال أبو
جهل: هذا أمر قضي بليل ! ورجع أبو طالب الى الشعب وخرج منه هو والنبي ورهطه،
وخالطوا الناس (قصص الأنبياء: 330.)
والظاهر أنه نقله من
كتاب شيخه الطبرسي: " إعلام الورى " (إعلام
الورى: 51، 52.). وذكر الخبر ابن هشام في
سيرته قال: ذكر بعض أهل
العلم: أن رسول الله (صلى
الله عليه وآله) قال
لأبي طالب: يا عم، ان ربي الله قد سلط الأرضة على صحيفة قريش، فلم تدع فيها اسما
لله الا أثبتته فيها، ونفت منها الظلم والقطيعة والبهتان. فقال: أربك أخبرك بهذا
؟ قال: نعم، قال: فوالله ما يدخل عليك أحد. ثم خرج الى قريش، فقال: يا معشر
قريش، ان ابن أخي أخبرني بكذا وكذا، فهلم صحيفتكم،
فان كان كما قال ابن أخي فانتهوا عن قطيعتنا وانزلوا عما فيها، وان كان كاذبا
دفعت اليكم ابن أخي. فقال القوم: رضينا،
فتعاقدوا على ذلك ثم نظروا، فإذا هي كما قال رسول الله - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - فزادهم ذلك شرا. فعند ذلك صنع الرهط من قريش في نقض الصحيفة ما صنعوا (سيرة ابن
هشام 2: 16، 17.). ونقل الخبر السيد هاشم البحراني عن كتاب " المستدرك "
ليحيى بن الحسن ابن البطريق الحلي عن كتاب " المغازي " لابن اسحاق
قال: ثم ان الله أرسل على
صحيفة قريش - التي كتبوا فيها تظاهرهم على بني هاشم - الارضة، فلم يدع فيها اسما
لله تعالى الا اكلته وبقى فيها الظلم والقطيعة والبهتان (بعكس السابق) فأخبر الله بذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأخبر أبا طالب. فقال له أبو طالب: يابن أخي من حدثك بهذا ؟ وليس يدخل علينا أحد ولا تخرج أنت الى
أحد، ولست في نفسي من أهل الكذب. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
أخبرني ربي بهذا. فقال له عمه: ان ربك الحق
وأنا أشهد أنك صادق. ثم جمع أبو طالب رهطه،
ولم يخبرهم بما أخبره به رسول الله (صلى الله عليه وآله)، كراهية أن يفشوا ذلك الخبر فيبلغ المشركين فيحتالوا للصحيفة
الخب والمكر. وانطلق
أبو طالب برهطه حتى دخل المسجد، والمشركون من قريش في ظل الكعبة. فلما أبصروه
تباشروا به وظنوا أن الحصر والبلاء حملهم على أن يدفعوا رسول الله فيقتلوه. فلما
انتهى إليهم أبو طالب ورهطه رحبوا به وقالوا: قد آن لك أن تطيب نفسك عن قتل رجل
في قتله صلاحكم وجماعتكم وفي حياته فرقتكم وفسادكم ! فقال أبو طالب:
قد جئتكم في أمر لعله يكون فيه صلاح وجماعة، فاقبلوا ذلك منا، هلموا صحيفتكم
التي فيها تظاهركم علينا. فجاؤوا بها وهم لا يشكون أنهم سيدفعون رسول الله إليهم إذا نشروها. فلما جاؤوا بصحيفتهم قال أبو
طالب: صحيفتكم بيني وبينكم،
فان ابن أخي قد أخبرني ولم يكذبني: أن الله عزوجل قد بعث على صحيفتكم الأرضة فلم
تدع لله تعالى اسما الا اكلته وبقي فيها الظلم والقطيعة والبهتان. فان كان كاذبا
فلكم علي أن أدفعه اليكم تقتلونه، وان كان صادقا فهل ذلك ناهيكم عن تظاهركم
علينا ؟ فأخذ عليهم المواثيق
واخذوا عليه. فلما نشروها فإذا هي كما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) فاستسر أبو طالب وأصحابه وقالوا: أرأيتم أينا أولى بالحز والقطيعة والبهتان ؟ ! فقام المطعم بن عدي بن نوفل بن مناف، وهشام بن عمرو من بني عامر
بن لؤي، فقالوا: نحن
براء من هذه الصحيفة القاطعة العادية الظالمة، ولن نمالي أحدا في فساد أمرنا.
وتتابع على ذلك ناس من أشراف قريش. فخرج القوم من شعبهم وقد أصابهم الجهد الشديد
(حلية الأبرار 1: 61، 62.). وقال ابن اسحاق في
السيرة: مشى هشام بن عمرو
بن ربيعة الى زهير بن أبي امية ابن المغيرة المخزومي - وكانت امه عاتكة بنت عبد المطلب - فقال له: يا زهير، أقد رضيت أن تأكل الطعام وتلبس الثياب...
وأخوالك حيث قد علمت لا يباعون ولا يبتاع منهم ؟ ! أما إني أحلف بالله أن لو
كانوا أخوال أبي
الحكم بن هشام (أبي جهل) ثم
دعوته الى ما دعاك إليه منهم ما أجابك إليه أبدا. قال: ويحك يا هشام فما أصنع ؟ انما أنا رجل واحد،
والله أن لو كان معي رجل آخر لقمت في نقضها حتى انقضها. قال: قد وجدت رجلا، قال: فمن هو ؟ قال: أنا، قال:
ابغنا رجلا ثالثا. فذهب (هشام) الى المطعم بن عدي فقال له: يا مطعم، أقد رضيت ان يهلك بطنان من بني عبد مناف (بنو هاشم وبنو المطلب) وأنت شاهد على ذلك موافق لقريش فيه ؟ أما والله لئن أمكنتموهم من
هذه لتجدنهم إليها منكم سراعا ! قال: ويحك فما أصنع ؟ انما أنا رجل واحد. قال: قد وجدت ثانيا. قال:
من هو ؟ قال: أنا قال: ابغنا
ثالثا. قال: قد فعلت. قال:
من هو ؟ قال: زهير بن أبي امية. قال: ابغنا رابعا. فذهب (هشام) الى أبي البختري بن هشام فقال له ما قال للمطعم.
فقال: وهل من أحد يعين على
هذا ؟ قال: نعم، قال: من هو ؟ قال: زهير ابن أبي امية والمطعم بن عدي، وأنا معك.
قال: ابغنا خامسا. فذهب (هشام) الى زمعة بن الاسود بن المطلب، فكلمه وذكر له قرابتهم وحقهم. فقال له: وهل على هذا الأمر الذي تدعوني إليه من أحد ؟ قال: نعم، وسمى له
القوم. فاتعدوا ليلا بأعلى مكة في مقدم الحجون (قرب الشعب). فاجتمعوا هناك وتعاقدوا على القيام في الصحيفة حتى ينقضوها وقال زهير:
أنا أبدؤكم فاكون أول من يتكلم. فلما أصبحوا غدوا الى أنديتهم، وغدا زهير بن أبي امية، فطاف بالبيت سبعا
ثم أقبل على الناس فقال: يا
أهل مكة ! أنأكل الطعام
ونلبس الثياب وبنو هاشم هلكى لا يباعون ولا يبتاع منهم ؟ ! والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة. وكان أبو جهل في ناحية المسجد فقال: كذبت، والله لا تشق. فقال زمعة بن الأسود: أنت - والله - اكذب، ما رضينا كتابها حيث كتبت. وقال أبو البختري: صدق زمعة، لا نرضى ماكتب فيها، ولا نقر به. وقال المطعم بن عدي: صدقتما، وكذب من قال غير ذلك، نبرأ الى الله منها ومما كتب فيها. فقال أبو جهل: هذا أمر قضي بليل، تشوور فيه بغير هذا المكان. فقام
المطعم الى الصحيفة ليشقها فوجد الأرضة قد اكلتها الا " باسمك اللهم
". وكان أبو طالب حاضرا
في ناحية المسجد (سيرة ابن هشام 2: 14 - 16.). أما الآية التالية: *
(وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين) * (النحل: 126.) فقد
اشتهر أن الآية نزلت بعد مقتل حمزة سيد الشهداء في احد في الثالثة بعد الهجرة،
وبمثله قال القمي في تفسيره (تفسير القمي في آخر الجزء الأول.) ورواه
العياشي في تفسيره (تفسير العياشي 1: 275.)، عن
الصادق (عليه السلام). وعليه عد الآية بعضهم من مستثنيات السورة. ولكن نقل الطبرسي في " مجمع البيان " عن الحسن قال: نزلت الآية قبل أن يؤمر النبي بقتال المشركين، على العموم، وانما
امر بقتال من قاتله. وعن ابراهيم وابن سيرين ومجاهد: أن الآية عامة في كل ظلم
كغصب ونحوه، فانما يجازى بمثل ما عمل (مجمع
البيان 6: 605.) فان صح الخبر عن
الصادق (عليه السلام) فيمكن
حمله على تعدد النزول، أو التذكير بالآية. وعليه فلعل قوله:
* (وان عاقبتم) * أي عاقبتم مقاطعة المشركين وقطعهم لأرحامهم معكم بحصاركم في شعب
أبي طالب، فعاقبوهم بمثل ما عاملوكم به من القطيعة والهجران. ثم يقول في الآية التالية: *
(واصبر...) * عن
المقابلة بالمثل *
(ولا تحزن عليهم) * لعدم
هدايتهم واصرارهم على ضلالهم
* (ولاتك في ضيق مما يمكرون) * من مكرهم السابق بحصركم في الشعب، ومكرهم اللاحق * (ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك) * وفي الآية التالية خاتمة السورة: * (ان الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون) * ولذلك فانهم *
(يمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين) *. وعليه
فالآية تشير الى آخر أمر حصر الرسول وبني هاشم في شعب أبي طالب، وتكون سورة النحل آخر سورة نزلت قبل نهايته. وإذا قربنا أن حصار الشعب بدأ قريبا من بداية
هجرة الحبشة بعد الاذن فيها في الآية العاشرة من سورة الزمر، وهي الستون في
ترتيب النزول، وها نحن هنا قربنا أن تكون سورة النحل السبعون في النزول آخر ما
نزل في آخر أيام حصار الشعب، وقد مر أن مختار
مؤرخينا الطبرسي والراوندي وابن شهر آشوب أن مدة
الحصار كانت أربع سنين (إعلام الورى: 50 وقصص الأنبياء: 339 والمناقب 1: 65.) فمن الطريف أن لازم ذلك أن ستين سورة الى سورة الزمر نزلت في مدة
خمس سنين، ولكن في مدة أربع سنين اخرى كان فيها
الرسول في حصار الشعب معه بعض المسلمين من بني هاشم وبني عبد المطلب.
والمستضعفون من المسلمين الثمانين في هجرة الحبشة، وآخرون منهم في مكة في جوار
أو حلف أو استضعاف معزولون عن الرسول الا في أيام المواسم، لم ينزل من القرآن سوى عشر سور تقريبا. وتبقى من السور المكية ست عشرة
سورة تتناسب أن تكون قد نزلت في مدة سنة وستة أشهر مكث فيها النبي في مكة بعد وفاة أبي طالب وهجرة الطائف في قول ابن
شهر آشوب (مناقب
ابن شهر آشوب 1: 173 ط قم.) حسب كيفية النزول قبل حصار الشعب. |
وفاة
أبي طالب وخديجة:
|
روى العياشي في تفسيره عن سعيد بن المسيب عن علي بن الحسين
(عليهما السلام) قال: كانت
خديجة قد ماتت قبل الهجرة بسنة، ومات أبو طالب بعد موت خديجة بسنة. فلما فقدهما رسول الله (صلى الله عليه وآله) سئم المقام بمكة
ودخله حزن شديد، وأشفق على نفسه من كفار قريش، فشكى الى جبرئيل ذلك، فأوحى الله إليه:
يا محمد اخرج من القرية الظالم أهلها، وهاجر الى المدينة فليس لك اليوم بمكة
ناصر (تفسير العياشي 1: 257.). وروى الشيخ الصدوق بسنده
عن الصادق (عليه السلام) قال: إن
أبا طالب اظهر الكفر وأسر الايمان، فلما حضرته الوفاة أوحى الله عزوجل الى رسول
الله: اخرج منها فليس لك بها ناصر، فهاجر الى المدينة (اكمال
الدين: 172.). ولكن روى الطوسي في أماليه بسنده عن هند بن أبي هالة الاسيدي
ربيب رسول الله من خديجة قال: كان
الله عزوجل يمنع عن نبيه بعمه أبي طالب (عليه السلام)، فما كان يخلص إليه من
قومه أمر يسوؤه مدة حياته. فلما
مات أبو طالب نالت
قريش من رسول الله بغيتها وأصابته بعظيم من الأذى حتى تركته لقى فقال: لأسرع ما
وجدنا فقدك يا عم، وصلتك رحم، وجزيت خيرا يا عم. ثم ماتت خديجة بعد أبي طالب
بشهر، واجتمع بذلك على رسول الله حزنان حتى عرف ذلك فيه (أمالي
الطوسي: 259 كما في البحار 19: 57.). وقال الشيخ الطبرسي في
" إعلام الورى ":
خرج النبي ورهطه من الشعب وخالطوا الناس، ومات أبو طالب بعد ذلك بشهرين، وماتت
خديجة بعد ذلك، وورد على رسول الله (صلى الله عليه وآله) أمران عظيمان وجزع جزعا شديدا، ودخل على أبي طالب وهو يجود بنفسه
وقال: يا عم ربيت صغيرا ونصرت كبيرا وكفلت يتيما، فجزاك الله عني خير الجزاء (إعلام
الورى: 52.) ونقله تلميذه القطب الراوندي في " قصص الأنبياء " بلا اسناد عنه (قصص الأنبياء: 330.). وقال الراوندي في وفاة
أبي طالب: توفي أبو طالب عم
النبي وله (صلى الله عليه
وآله) ست وأربعون سنة وثمانية
أشهر وأربعون يوما. ثم قال: والصحيح أن أبا طالب توفي في آخر السنة العاشرة من
مبعث رسول الله (صلى
الله عليه وآله). ثم
توفيت خديجة بعد أبي طالب بثلاثة أيام، فسمى رسول الله ذلك العام: عام الحزن (قصص
الأنبياء: 317.). وتبعهما ابن شهر آشوب في أن أبا طالب توفي بعد خروجه من الشعب
بشهرين، وأضاف تعيين السنة فقال: بعد النبوة بتسع سنين وثمانية أشهر. ثم قال: فلما توفي أبو طالب
خرج النبي (صلى الله عليه
وآله) الى الطائف وأقام فيه
شهرا، ثم انصرف الى مكة ومكث بها سنة وستة أشهر في جوار المطعم بن عدي (مناقب
ابن شهر آشوب 1: 173 ط قم.) فالمجموع احدى عشرة سنة وبضعة أشهر، وهو خلاف المشهور في مدة مكث
الرسول بمكة قبل الهجرة. أما ابن اسحاق فبعد أن
ذكر الهجرة الى الحبشة وصحيفة المقاطعة وحصار الشعب وفكه، قال: ثم ان خديجة بنت خويلد وأبا طالب هلكا في عام واحد، فتتابعت على
رسول الله المصائب بهلاك خديجة - وكانت له وزير صدق على الاسلام يشكو إليها -
وبهلاك عمه أبي طالب، وكان له عضدا وحرزا في أمره ومنعة وناصرا على قومه. وذلك
قبل مهاجره الى المدينة بثلاث سنين. فلما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله من الأذى ما لم تكن
تطمع به في حياة أبي طالب - حتى
- حدثني هشام بن عروة
بن الزبير عن أبيه عن جده قال:
اعترضه سفيه من سفهاء قريش فنثر على رأسه ترابا، فدخل رسول الله بيته والتراب
على رأسه، فقامت إليه احدى بناته فجعلت تغسل عنه التراب وهي تبكي، ورسول الله
يقول لها: لا تبكي يا بنية، فان الله مانع أباك. وقال: ما نالت مني قريش شيئا
حتى مات أبو طالب (سيرة ابن هشام 2: 57، 58 ثم روى هنا خبرا عن العباس بن عبد الله بن
معبد عن بعض أهله عن ابن عباس، في اجتماع وجوه من قريش الى أبي طالب عند ثقل
حاله في مرضه الذي توفي فيه، وفي آخره نزول سورة (ص). بينما هي السورة السابعة
والثلاثون على رواية ابن عباس نفسه، ولذلك فنحن نقلنا الخبر في شأن نزول السورة
عند ذكرها. وفي سند الخبر هنا إرسال " عن بعض أهله " فلا عبرة به. ثم
من غير المعقول أن تكون قريش قد طمعت في أبي طالب مرة اخرى بعد ذلك الحصار الذي
طال أربع سنين !). والطبرسي في " اعلام الورى " نقل صدر مقال ابن اسحاق،
ثم نقل عن كتاب " المعرفة " لابن مندة قول الواقدي كذلك: أنهم خرجوا من الشعب قبل الهجرة بثلاث سنين، وفي هذه السنة توفيت
خديجة وأبو طالب وبينهما خمس وثلاثون ليلة (إعلام الورى: 53.). وابن شهر آشوب نقل قول الواقدي كذلك: أنهم خرجوا من الشعب قبل الهجرة بثلاث سنين، وفي هذه السنة توفي
أبو طالب. الا أنه قال: وتوفيت خديجة بعده بستة أشهر (مناقب ابن شهر آشوب 1: 173 ط قم.). ولم يستند الواقدي فيما ذهب إليه الى نص خبر، ولكن الظاهر أنه يستند في وفاة خديجة الى نص خبر رواه عنه تلميذه
وكاتبه ابن سعد بسنده عن حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد قال: توفيت خديجة في شهر
رمضان سنة عشر من النبوة، فخرجنا بها من منزلها حتى دفناها بالحجون، فنزل رسول الله في حفرتها. قيل: ومتى ذلك يا ابا خالد ؟ قال: بعد خروج بني هاشم من الشعب
بيسير، وقبل الهجرة بثلاث سنوات أو نحوها (كشف
الغمة 2: 139 عن معالم العترة النبوية للجنابذي عن الطبقات لابن سعد.) . ونقل سبط ابن الجوزي عن ابن سعد عن الواقدي عن علي (عليه السلام)
قال: " لما توفي أبو
طالب اخبرت رسول الله (صلى الله عليه وآله) فبكى بكاء شديدا ثم قال: اذهب فغسله وكفنه وواره، غفر الله له
ورحمه. فقال له العباس: يا رسول الله، انك لترجو له ؟ فقال: اي والله انى لأرجو
له. وجعل رسول الله (صلى الله عليه وآله) يستغفر له أياما لا يخرج من بيته " (تذكرة
الامة بخصائص الأئمة: 8.). وكذلك قال اليعقوبي: وتوفيت خديجة بنت خويلد في شهر رمضان قبل الهجرة بثلاث سنين، ولها خمس
وستون سنة. ودخل عليها رسول
الله وهي تجود بنفسها فقال: بالكره مني ما أرى، ولعل الله أن يجعل في الكره خيرا
كثيرا، إذا لقيت ضراتك
في الجنة - يا خديجة - فأقرئيهن السلام. قالت: ومن
هن يا رسول الله ؟ قال:
ان الله زوجنيك في الجنة، وزوجني مريم بنت عمران، وآسيا بنت مزاحم، وكلثوم اخت
موسى. ولما توفيت خديجة جعلت فاطمة تتعلق برسول الله وهي تبكي وتقول: أين امي ؟ أين امي ؟ فنزل جبرئيل فقال:
قل لفاطمة: ان الله تعالى بنى لامك بيتا في الجنة من قصب، لا نصب فيه ولا صخب. وتوفي أبو طالب بعد
خديجة بثلاثة أيام، وله ست
وثمانون سنة، وقيل: تسعون سنة. ولما قيل لرسول الله: ان أبا طالب قد مات ! عظم ذلك في
قلبه واشتد له جزعه، ثم دخل عليه فمسح جبينه الأيمن أربع مرات، وجبينه الأيسر
ثلاث مرات، ثم قال: يا عم ربيت صغيرا وكفلت يتيما ونصرت كبيرا، فجزاك الله عني
خيرا. ومشى بين يدي سريره وجعل يعرض له ويقول: وصلتك رحم وجزيت خيرا. وقال: اجتمعت على هذه الامة في هذه الأيام مصيبتان لا أدري بأيهما أنا أشد جزعا. يعني مصيبة خديجة وأبي طالب. وروي عنه أنه قال:
ان الله عزوجل وعدني في أربعة: في أبي وامي وعمي وأخ كان لي في الجاهلية. واجترأت قريش على رسول
الله (صلى الله عليه وآله) بعد موت أبي طالب وطمعت فيه وهموا به مرة بعد اخرى. وكان رسول الله يعرض نفسه على قبائل العرب لا يسألهم الا أن يؤوه
ويمنعوه ويقول: إنما اريد أن تمنعوني مما يراد بي من القتل حتى ابلغ رسالات ربي.
فكانوا يقولون: قوم الرجل أعلم به. ولم يقبله احد منهم (اليعقوبي
2: 28، 29.). وقال البلاذري: قالوا: مات أبو
طالب في السنة العاشرة من
المبعث وهو ابن بضع وثمانين
سنة، ودفن بمكة في الحجون (أنساب
الأشراف 2: 29.). ثم روى بسنده عن أبي صالح مولى ابن عباس قال: لما مرض أبو طالب قيل له: لو أرسلت الى ابن أخيك فأتاك بعنقود من
جنته لعله يشفيك ؟ ! فأتاه الرسول بذلك وأبو بكر عنده، فقال له أبو بكر: * (ان الله حرمهما على الكافرين) * (الأعراف: 50.)
[ فلما رجع الرسول الى
ابي طالب بجواب أبي بكر ] قال:
ليس هذا جواب ابن أخي (أنساب الأشراف 2: 34. وقريب منه ما رواه ابن حنبل في كتاب الفضائل من
مسنده بسنده عن أنس بن مالك قال: لما مرض أبو طالب مرضه الذي مات فيه أرسل الى
النبي - صلى الله عليه و [ آله ] وسلم -: ادع ربك أن يشفيني فان ربك يطيعك وابعث
الي بقطاف من قطاف الجنة. فارسل إليه النبي: وأنت يا عم ان أطعت الله عزوجل
أطاعك. الحديث: 274 ولا منافاة بين الخبرين.). وطابق الطبري في تأريخه ابن اسحاق راويا عنه لم يزد عليه شيئا
(الطبري 2: 343، 344.).
وافتقد التوفيق المسعودي بين كتابيه، فقال
في: " مروج الذهب
": وفي سنة ست
وأربعين (من مولده) كان حصار قريش للنبي وبني هاشم وبني المطلب في الشعب. وفي سنة
خمسين كان خروجه ومن تبعه من الشعب، وفي هذه السنة كانت وفاة خديجة زوجه (مروج
الذهب 2: 294.) وقال في:
" التنبيه والإشراف
": وتوفي عمه أبو
طالب وله بضع وثمانون سنة، وزوجته خديجة بنت خويلد ولها خمس وستون سنة في العاشرة من مبعثه، بينهما ثلاثة أيام، وقيل أكثر من
ذلك. وذلك بعد إبطال
الصحيفة وخروج بني هاشم وبني عبد المطلب من الحصار في الشعب بسنة وستة أشهر. وكان مدة مقامهم في الحصار ثلاث سنين وقيل: سنتين ونصفا، وقيل:
سنتين على ما في ذلك من التنازع. ثم
يقول: وفي هذه السنة سنة خمسين من مولده... (التنبيه
والاشراف: 200.) نعم، انما الخلاف بين الكتابين في مدة الحصار، فاختار في " مروج الذهب "
أنها أربع سنين آخرها الخمسون من عمر الرسول وفيها وفاة خديجة وأبي طالب، وبينما اختار في " الإشراف " أنها ثلاث سنين وبعدها
بسنة ونصف كانت وفاتهما. ونقل الشيخ الطوسي في " المصباح " عن ابن عياش أن وفاة أبي طالب كان في السادس والعشرين من شهر رجب (المصباح: 566.). |
الفصل
السابع: الهجرة الى الطائف
|
الهجرة
الى الطائف
|
النبي
(صلى الله عليه وآله) يعرض نفسه على القبائل:
|
النبي (صلى الله عليه وآله) يعرض نفسه على القبائل:
وله (صلى الله عليه وآله)
هجرات الى بعض القبائل قبل الطائف، فقد نقل المعتزلي أنه عقيب وفاة أبي طالب،
اوحي إليه (صلى الله عليه وآله):
أن اخرج منها فقد مات ناصرك. فخرج الى بني عامر بن صعصعة ومعه علي (عليه
السلام) وحده، فعرض نفسه عليهم وسألهم
النصر وتلا عليهم القرآن، فلم يجيبوه. فعادا الى مكة. وكانت مدة غيبته في هذه
الهجرة عشرة أيام، وهي أول هجرة هاجرها بنفسه
(شرح النهج 4: 128.). وروى عن المدائني عن المفضل الضبي:
أن رسول الله لما خرج عن مكة يعرض نفسه على قبائل العرب، خرج الى ربيعة، ومعه
علي (عليه السلام) وأبو بكر، فدفعوا الى مجلس من مجالس العرب. وكان أبو بكر
نسابة فتقدم فسلم، فردوا عليه السلام فقال: ممن القوم ؟ قالوا: من ربيعة، قال:
أمن هامتها أم من لهازمها (اللهازم:
اصول الحنكين كنى بها عن الوسط في مقابل الهامة اي الرأس.)
قالوا: من هامتها العظمى، فقال: من أي هامتها العظمى أنتم ؟ قالوا: من ذهل
الاكبر، قال: أفمنكم عوف الذي يقال: لا حر بوادي عوف ؟ قالوا: لا، قال: أفمنكم
بسطام ذو اللواء ومنتهى الأحياء ؟ قالوا: لا، قال: أفمنكم جساس حامي الذمار
ومانع الجار ؟ قالوا: لا، قال: أفمنكم الحوفزان قاتل الملوك وسالبها أنفسها ؟
فقالوا: لا، قال: أفمنكم المزدلف صاحب العمامة الفردة ؟ قالوا: لا، قال: أفأنتم
أخوال الملوك من كندة ؟ قالوا: لا، قال: فلستم اذن ذهلا الاكبر، أنتم ذهل
الأصغر. فقام إليه غلام قد بقل
وجهه (بقل: أنبت.) اسمه دغفل فقال: يا هذا انك قد سألتنا فأجبناك ولم نكتمك شيئا،
فممن الرجل ؟ قال: من قريش، قال: بخ بخ أهل الشرف والرياسة، فمن أي قريش أنت ؟
قال: من تيم بن مرة قال: أمكنت والله الرامي من صفاء الثغرة، أفمنكم قصي بن كلاب
الذي جمع القبائل من فهر فكان يدعى مجمعا ؟ قال: لا، قال: أفمنكم هاشم الذي هشم
لقومه الثريد " ورجال مكة مسنتون عجاف " ؟ قال: لا، قال: أفمنكم شيبة
الحمد مطعم طير السماء الذي كان في وجهه " قمر يضئ ظلام ليل داج "
قال: لا، قال: أفمن المفيضين بالناس أنت ؟ قال: لا، قال: أفمن أهل الندوة أنت ؟
قال: لا، قال: أفمن أهل الرفادة أنت ؟ قال: لا، قال: أفمن أهل الحجابة أنت ؟
قال: لا، قال: أفمن أهل السقاية ؟ قال أبو بكر: لا ثم اجتذب زمام ناقته هاربا من الغلام راجعا الى رسول
الله، فقال دغفل: "
صادف درء السيل درء يصدعه " أما والله لو ثبت لأخبرتك أنك من زمعات قريش.
فذهب قوله مثلا. وقال
علي (عليه السلام) لأبي بكر: يا
أبا بكر لقد وقعت من الأعرابي على باقعة. قال: أجل، ان لكل طامة طامة، والبلاء
موكل بالمنطق. فذهب قوله كذلك مثلا (شرح
النهج للمعتزلي 4: 126 - 127، وروى الخبر قبله الميلاني في مجمع الأمثال: 17،
18.). وهاجر (صلى
الله عليه وآله) الى
بني شيبان، فما اختلف أحد من
أهل السيرة أن عليا (عليه
السلام) وأبا بكر كانا
معه، وأنهم غابوا عن مكة ثلاثة عشر يوما، ولما لم يجدوا عند بني شيبان ما أرادوا
من النصرة عادوا الى مكة (شرح النهج للمعتزلي 4: 126 ط دار المعارف - أبو الفضل ابراهيم.). ولقد هاجر النبي (صلى الله عليه وآله) عن مكة مرارا يطوف على أحياء العرب وينتقل من أرض قوم الى غيرها،
وكان علي (عليه السلام) معه دون غيره
(شرح النهج 4: 125، 126.). |
هجرته
(صلى الله عليه وآله) الى الطائف:
|
وأما هجرته (صلى
الله عليه وآله) الى
الطائف فكان معه علي (عليه السلام)
وزيد بن حارثة، في
رواية أبي الحسن المدائني، نعم لم يروه
محمد بن اسحاق. وغاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن مكة في هذه الهجرة أربعين يوما (شرح
النهج 4: 127، 128. وفي 14: 96 نقل عن الطبري أنه أقام بالطائف عشرة أيام،
وقيل... شهرا، وذلك في شوال من سنة عشر للنبوة. ولم أجده في الطبري.). وقال ابن اسحاق: خرج رسول الله - صلى الله عليه [ وآله ] - وسلم إلى الطائف يلتمس النصر من ثقيف والمنعة بهم من قومه، ورجاء أن
يقبلوا منه ما جاءهم به من الله عزوجل. وروى عن محمد بن كعب
القرظي (القرظي منسوب الى بني قريظة بالمدينة، ولد سنة أربعين وتوفي سنة 120
يروي عن ابن عمر وابن عباس وغيرهما.) قال:
لما انتهى رسول الله -
صلى الله عليه [ وآله ] - وسلم
إلى الطائف عمد الى نفر من ثقيف هم يومئذ سادة ثقيف وأشرافهم، وهم اخوة ثلاثة:
عبد ياليل بن عمرو، ومسعود بن عمرو، وحبيب بن عمرو. فجلس إليهم رسول الله - صلى الله عليه [ وآله ] - وسلم فدعاهم الى الله وكلمهم بما جاءهم له من نصرته على الاسلام
والقيام معه على من خالفه من قومه. فقال له أحدهم: أنا أمرط (أمرط:
أنزع وأرمي به.) ثياب
الكعبة ان كان الله أرسلك ! وقال الآخر: أما
وجد الله أحدا يرسله غيرك ؟ ! وقال الثالث: والله لا اكلمك أبدا، لئن كنت رسولا من الله - كما تقول - لأنت
أعظم خطرا من أن أرد عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن اكلمك (وذكر
اليعقوبي خبر هؤلاء الاخوة الثلاثة 2: 36.). فقام
رسول الله من عندهم وقد يئس من خير ثقيف. وأغروا به سفهاءهم
وعبيدهم، فأخذوا يصيحون به ويسبونه، حتى ألجؤوه الى حائط (بستان) لعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة، وهما فيه، ورجع عنه من كان يتبعه من سفهاء ثقيف. |
لجوء
النبي (صلى الله عليه وآله) الى حائط بني مخزوم:
|
فعمد الى ظل حبلة من عنب فجلس إليه، فلما اطمأن قال:
" اللهم اليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، يا أرحم
الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي. الى من تكلني ؟ إلى بعيد يتجهمني (تجهمه: استقبله بوجه كريه.) أم الى عدو ملكته أمري ؟. ان لم يكن بك علي غضب فلا ابالي، ولكن
عافيتك هي أوسع لي. أعوذ - بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا
والآخرة - من أن تنزل بي غضبك أو يحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا
قوة الا بك ". فلما رآه ابنا ربيعة:
عتبة وشيبة، ورأيا ما لقي، تحركت له رحمهما، فدعوا غلاما لهما نصرانيا يقال له
" عداس " فقالا
له: خذ قطفا من هذا العنب فضعه في هذا الطبق ثم اذهب به الى ذلك الرجل فقل له:
يأكل منه. ففعل عداس ثم أقبل به حتى وضعه بين يدي رسول الله - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - ثم قال له: كل: فلما وضع رسول الله فيه يده قال: باسم الله ثم
أكل، فنظر عداس في وجهه ثم قال: والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد. فقال له رسول الله:
ومن أهل أي البلاد أنت يا عداس وما دينك: قال: نصراني من أهل نينوى. فقال رسول الله: من
قرية الرجل الصالح يونس بن متى ؟ فقال له عداس: وما يدريك ما يونس بن متى ؟ فقال رسول الله:
ذاك أخي، كان نبيا وأنا نبي. فاكب
عداس على رسول الله يقبل
رأسه ويديه وقدميه (وأشار اليعقوبي الى اسلام عداس 2: 36، ونقل الواقدي 1: 33 أنه بقي
معهما حتى خرج معهما الى بدر فقتل معهما: ولكنه تردد فيه ورجح القول بأنه لم
يخرج ولم يقتل معهم 1: 35.). فلما رجع عداس قال له ابنا ربيعة: ويلك يا عداس مالك تقبل رأس هذا الرجل وقدميه ؟ ! قال يا سيدي ما في الأرض
أحد خير من هذا، لقد أخبرني بأمر لا يعلمه إلا نبي ! قالا له: ويحك يا عداس لا يصرفنك عن دينك فان دينك خير من دينه !. ولما يئس رسول الله من خير
ثقيف انصرف راجعا من الطائف الى مكة (ونقل
الطبرسي خبر هجرة الطائف والاخوة الثلاثة وعداس، عن دلائل النبوة للبيهقي عن
الزهري: 53، 54.). ثم روى ابن اسحاق اخبارا
عن عرضه نفسه على القبائل في موسم العمرة أو الحج، وكأن هذه الأخبار عن فعله ذلك بعد رجوعه من الطائف، مما أدى الى
بيعة الحجاج من الأنصار له في العقبة: فحدث عن ابن شهاب الزهري
قال: ان النبي (صلى الله عليه
وآله) أتى كندة في منازلهم وفيهم سيد لهم يقال له مليح: فدعاهم الى الله وعرض
عليهم نفسه فأبوا عليه. وأتى بني عامر بن صعصعة
فدعاهم الى الله وعرض عليهم نفسه، فقال له رجل منهم: أرأيت إن نحن بايعناك على
أمرك، ثم أظهرك الله على من خالفك، أيكون لنا الأمر من بعدك ؟ فقال له رسول الله:
الأمر الى الله يضعه حيث يشاء. فقال له الرجل: أفتهدف
نحورنا للعرب دونك فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا ؟ لا حاجة لنا بأمرك. وروى أنه أتى بطنا من كلب يقال لهم بنو عبد الله، فدعاهم الى الله وعرض
عليهم نفسه... فلم يقبلوا منه ما عرض عليهم. وروى أنه
أتى بني حنيفة في منازلهم فدعاهم الى الله وعرض عليهم نفسه، فلم يكن أحد من
العرب أقبح ردا عليه منهم (سيرة ابن هشام 2: 60 - 66 باختصار.) وقال اليعقوبي: وكان رسول الله يعرض نفسه على قبائل العرب في كل موسم ويكلم شريف
كل قوم، ويقول: لا اكره أحدا منكم، إنما اريد أن تمنعوني مما يراد بي من القتل
حتى ابلغ رسالات ربي ! فلم يقبله أحد منهم. وكانوا يقولون: قوم الرجل أعلم به (اليعقوبي 2: 36. ونقله
الطبرسي عن دلائل النبوة للبيهقي عن الزهري: 53. ثم روى عن القمي خبر رجوع النبي
الى مكة معتمرا بجوار جبير بن مطعم العدوي يوما واحدا: 55. ولو كانت هجرة الطائف
في شوال شهرا تاما بل اربعين يوما، فمرجعه كان في أشهر الحج الحرم، فلا حاجة
للجوار. ولم يذكره ابن اسحاق ولا اليعقوبي، ولم يسنده الطبري وانما قال: وذكر
بعضهم 2: 347، وان أشار إليه ابن هشام 2: 20 و الواقدي 1: 110 وعن تلميذه ابن
سعد في الطبقات 1: 210، وعنهما ابن الأثير في البداية والنهاية 3: 137.). |
أول
لقاء الخزرج بالنبي في موسم العمرة:
|
روى الطبرسي في " اعلام الورى " عن القمي قال: كان بين الأوس والخزرج حرب قد بغوا فيها دهورا طويلة، وكانوا لا
يضعون السلاح لا بالليل ولا بالنهار، وكان آخر حرب بينهم يوم بغاث، وكانت للأوس
على الخزرج. وكان عبد الله بن ابي بن سلول من أشراف الخزرج، (ولكنه لما دعي
معهم) قال: هذا ظلم منكم للأوس ولا اعين على الظلم. فلم يدخل مع قومه الخزرج في
حرب بغاث ولم يعن على الأوس (فلما كانت يوم بغاث للأوس على الخزرج) رضيت به
الأوس والخزرج واجتمعت عليه على أن يملكوه عليهم لشرفه وسخائه. وأعدوا له إكليلا
(وانما بقي منه واسطة العقد) فاحتاجوا لاتمامه الى واسطة وكانوا يطلبونها. (ولكن) أسعد بن زرارة
وذكوان بن عبد القيس الخزرجيين
خرجا في موسم من مواسم العرب في عمرة رجب الى مكة، يسألون الحلف على الأوس. وكان
هذا في وقت محاصرة بني هاشم في الشعب. وكان أسعد بن زرارة صديقا لعتبة بن ربيعة
فنزل عليه، وقال له: إنه كان بيننا وبين قومنا حرب، وقد جئناكم نطلب الحلف
عليهم. فقال عتبة: بعدت
دارنا عن داركم، ولنا شغل لانتفرغ معه لشئ. قال أسعد: وما
شغلكم وأنتم في حرمكم وأمنكم ؟ قال عتبة: خرج
فينا رجل يدعي أنه رسول الله، سفه أحلامنا وسب آلهتنا وأفسد شبابنا وفرق
جماعتنا. قال أسعد: من هو
منكم ؟ قال: ابن عبد الله بن عبد المطلب، من أوسطنا شرفا وأعظمنا بيتا. وكان أسعد وذكوان وجميع الأوس والخزرج يسمعون من اليهود الذين
كانوا بينهم:
النضير وقريظة وقينقاع: أن هذا أوان نبي يخرج بمكة يكون مهاجره الى المدينة،
لنقتلكم به يا معشر العرب. فلما سمع ذلك أسعد وقع في قلبه ما كان سمعه من
اليهود. قال: فأين هو ؟ قال: جالس في الحجر، وإنهم لا يخرجون من شعبهم الا في
الموسم فلا تسمع منه ولا تكلمه فانه ساحر يسحرك بكلامه. فقال له أسعد: فكيف أصنع وأنا معتمر لابد لي من أن أطوف بالبيت ؟ فقال عتبة: ضع في اذنيك القطن. فدخل أسعد المسجد وقد حشا اذنيه من القطن فطاف
بالبيت ورسول الله جالس في الحجر مع قوم من بني هاشم، فنظر إليه نظرة فجازه،
فلما كان في الشوط الثاني قال في نفسه: ما أجد أجهل مني: أيكون مثل هذا الحديث
بمكة فلا نعرفه حتى ارجع الى قومي فاخبرهم. ثم أخذ القطن من اذنيه ورمى به وقال لرسول الله: أنعم صباحا. فرفع
رسول الله رأسه إليه وقال:
قد أبدلنا الله به ما
هو أحسن من هذا تحية أهل الجنة: السلام عليكم. فقال له: أسعد: ان عهدك بهذا لقريب، الى ما تدعو يا محمد ؟ قال: الى شهادة أن لا اله الا الله، وأني رسول الله، وأدعوكم الى * (ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين احسانا ولا تقتلوا أولادكم من
إملاق نحن نرزقكم واياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا
النفس التي حرم الله الا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون ولا تقربوا مال
اليتيم الا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف
نفسا الا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم
به لعلكم تذكرون) * (الأنعام:
151 - 152.). فلما سمع أسعد هذا قال: أشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك له، وأنك رسول الله. ثم
قال: يارسول الله بأبي أنت وامي أنا من أهل يثرب من الخزرج، وبيننا وبين اخواننا
من الأوس حبال مقطوعة، فان وصلها الله بك فلا أحد أعز منك. ومعي رجل من قومي فان
دخل في هذا الأمر رجوت أن يتمم الله لنا أمرنا فيك. والله يارسول الله لقد كنا
نسمع من اليهود خبرك، وكانوا يبشروننا بمخرجك ويخبروننا بصفتك، وأرجو أن تكون
دارنا هجرتك وعندنا مقامك، فقد أعلمنا اليهود ذلك، فالحمد لله الذي ساقني اليك.
والله ماجئت الا لنطلب الحلف على قومنا، وقد أتانا الله بأفضل مما أتيت له. ثم أقبل ذكوان فقال له أسعد: هذا رسول الله الذي كانت اليهود تبشرنا به وتخبرنا بصفته، فهلم
وأسلم. فأسلم ذكوان. ثم قالا:
يارسول الله ابعث معنا رجلا يعلمنا القرآن ويدعو الناس الى أمرك. وكان مصعب بن
عمير (عمير بن هاشم بن عبد مناف، فهو من بني هاشم ولذلك كان معهم في الشعب.) فتى
حدثا مترفا بين ابويه يكرمانه ويفضلانه على أولادهم فلما أسلم جفاه أبواه. وكان
لم يخرج من مكة (الى الحبشة) فكان مع رسول الله في الشعب حتى تغير وأصابه الجهد.
وكان قد تعلم من القرآن كثيرا. فأمره رسول الله بالخروج مع أسعد. فخرج معه الى
المدينة فكان مصعب نازلا على أسعد بن زرارة، وكان يخرج في كل يوم يطوف فيه على
مجالس الخزرج يدعوهم الى الاسلام فيجيبه الأحداث، من كل بطن الرجل والرجلان.
وفتر امر عبد الله بن ابي بن سلول فكره ما جاء به أسعد وذكوان. وقال أسعد لمصعب: إن خالي سعد بن معاذ من رؤساء الأوس، وهو رجل عاقل شريف مطاع في
بني عمرو بن عوف، فان دخل في هذا الأمر تم لنا أمرنا، فهلم فأتهم. فجاء مصعب مع أسعد الى محلة سعد بن معاذ فقعد على بئر من آبارهم، واجتمع إليه قوم من أحداثهم، فأخذ يقرأ عليهم القرآن. فبلغ ذلك سعد بن معاذ، فقال
لاسيد بن حضير: بلغني
أن أبا امامة أسعد بن زرارة قد جاء الى محلتنا مع هذا القرشي (مصعب بن عمير)
يفسد شبابنا ! فأته وانهه. فجاء اسيد بن حضير، فنظر إليه أسعد فقال لمصعب بن عمير: ان هذا الرجل شريف فان دخل في
هذا الأمر رجوت أن يتم أمرنا، فاصدق الله فيه. فلما قرب اسيد منهم قال: يا أبا أمامة ! يقول لك خالك: لاتأتنا في نادينا ولا تفسد شبابنا،
واحذر الأوس على نفسك !. فقال
مصعب: أو تجلس فنعرض عليك
أمرا فان أحببته دخلت فيه، وإن كرهته نحينا عنك ما تكرهه. فجلس، فقرأ عليه سورة
من القرآن. فقال اسيد: كيف تصنعون إذا دخلتم في هذا الأمر ؟ قال: نغتسل ونلبس
ثوبين طاهرين، ونشهد الشهادتين، ونصلي ركعتين. فرمى اسيد بنفسه مع
ثيابه في البئر، ثم خرج وعصر ثوبه ثم قال: أعرض علي. فعرض عليه شهادة أن لا اله الا الله وأن محمدا رسول
الله. فقالها، ثم صلى ركعتين ثم قال لأسعد: يا أبا أمامة، أنا أبعث اليك الآن
خالك، وأحتال عليه في أن يجيئك. فرجع اسيد الى سعد بن معاذ، فلما نظر إليه سعد قال: اقسم أن اسيدا قد رجع الينا بغير الوجه الذي ذهب به من عندنا. وأتاهم سعد بن معاذ، فقرأ عليه مصعب: * (بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل من الرحمن الرحيم...) * (فصلت: 1 - 2.)
فلما سمعها بعث الى منزله فاتي بثوبين طاهرين، واغتسل وشهد الشهادتين وصلى
ركعتين. ثم قام وأخذ بيد مصعب وحوله إليه. ثم جاء فوقف في بني عمرو بن عوف،
فصاح: يا بني عمرو بن عوف لا يبقين رجل ولا امرأة بكر ولا ذات بعل، ولا شيخ ولا
صبي الا أن يخرج، فليس هذا يوم ستر ولا حجاب. فلما اجتمعوا أخذ بيد مصعب وقال له: اظهر أمرك وادع الناس علانية ولا تهابن أحدا. ثم قال لهم أسعد:
كيف حالي عندكم ؟ قالوا: أنت سيدنا والمطاع فينا ولا نرد لك أمرا فمرنا بما شئت.
فقال: كلام رجالكم ونسائكم وصبيانكم علي حرام حتى تشهدوا أن لا اله الا الله وأن
محمدا رسول الله، والحمد لله الذي أكرمنا بذلك، وهو الذي كانت اليهود تخبرنا به.
فما بقي دار من دور عمرو بن عوف في ذلك اليوم الا وفيها مسلم أو
مسلمة. وشاع الاسلام بالمدينة وكثر، ودخل فيه أشراف البطنين (الأوس والخزرج)
وذلك لما عندهم من أخبار اليهود. وكتب مصعب بذلك الى رسول الله (صلى الله عليه وآله). فكان
رسول الله يأمر من يعذبه قومه بالخروج الى المدينة، فأخذوا يتسللون رجل فرجل
فيصيرون الى المدينة فينزلهم الأوس والخزرج عليهم ويواسونهم (إعلام
الورى: 55 - 59، ونقله تلميذه القطب الراوندي في قصص الأنبياء: 331 - 333 بلا
اسناد عنه، ولا يوجد الخبر في تفسير القمي.). السورة الثالثة والسبعون
- " الأنبياء ": وفيها قوله سبحانه: * (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون) * (الأنبياء: 98.
(3) مجمع البيان 7: 103.). قال الطبرسي في " مجمع البيان " قالوا: لما نزلت هذه الآية أتى عبد الله بن الزبعرى رسول الله (صلى الله
عليه وآله) وقال: يا محمد، ألست تزعم أن عزيرا رجل صالح ؟ وأن عيسى رجل صالح،
وأن مريم امرأة صالحة ؟ قال: بلى، قال: فان هؤلاء يعبدون من دون الله، فهم في
النار ؟ ! فأنزل الله: *
(إن الذين سبقت لهم منا الحسنى اولئك عنها مبعدون) * (مجمع
البيان7, 103.). بينما في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال: لما نزلت هذه الآية وجد منها أهل مكة وجدا شديدا، فدخل عليهم عبد
الله بن الزبعرى وكفار قريش يخوضون في هذه الآية، فقال ابن الزبعري: أمحمد تكلم
بهذه الآية ؟ قالوا: نعم، قال ابن الزبعرى: ان اعترف بها لأخصمنه ! فجمع بينهما (كذا) فقال: يا محمد، أرأيت الآية التي قرأت آنفا
أفينا وفي آلهتنا أم في الامم الماضية وآلهتهم ؟ قال: بل فيكم وفي آلهتكم وفي
الامم الماضية الا من استثنى الله. فقال ابن الزبعرى: خاصمتك والله، ألست تثني
على عيسى خيرا ؟ وقد عرفت
أن النصارى يعبدون عيسى وامه، وان طائفة من الناس يعبدون الملائكة أفليس هؤلاء
مع الآلهة في النار ؟ فقال
رسول الله: لا، فضحكت قريش
وضحك، وقالت قريش: خصمك ابن
الزبعرى ! فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): قلتم الباطل، أما قلت: الا من
استثنى الله ؟ وهو قوله: *
(ان الذين سبقت لهم منا الحسنى اولئك عنها مبعدون) * (تفسير
القمي 2: 76.). وهذه الرواية أتم واكمل، وليس فيها أن الاستثناء نزل بعد اعتراض ابن الزبعرى، بل فيها أن
الاستثناء كان من قبل وأن الرسول أشار إليه في حديثه. والخبر - كسابقه -
بظاهره لا ينسجم مع أيام حصار الشعب، الا إذا كان في أيام الموسم. السورة التاسعة والسبعون
- " المعارج ": * (سأل سائل بعذاب واقع
للكافرين ليس له دافع...) * (المعارج:
1، 2.) روى الطبرسي في " مجمع البيان " عن الحسن قال: سأل المشركون النبي فقالوا: لمن هذا العذاب الذي
تذكر يا محمد ! فجاء جوابه بأنه * (للكافرين ليس له دافع) * وعن
مجاهد قال: ان السائل هو
النضر بن الحارث بن كلدة وقال: اللهم ان كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا
حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم، فيكون المعنى: دعا داع على نفسه بعذاب
واقع، مستعجلا له، وهو واقع بهم لا محالة (مجمع
البيان 10: 529.). والظاهر أن مجاهد نقل ذلك عن شيخه ابن عباس، كما روى عنه
ذلك السيوطي في " الدر المنثور " بأسناده. ورواه عن السدي
قال: نزلت بمكة في النضر بن الحارث، وكان عذابه يوم بدر (التبيان
8: 228.) وفي بعض الروايات أن القائل هو الحارث لكنه ابن علقمة من بني عبد
الدار، وفي بعضها أنه هو أبو جهل بن هشام المخزومي. وعليه فلا محل لما رواه
الطبرسي في " مجمع البيان " عن الحاكم الحسكاني بسنده عن سفيان بن عيينة عن الصادق (عليه
السلام): أن الآية نزلت في النعمان بن الحارث الفهري حينما أنكر على رسول الله (صلى
الله عليه وآله) نصبه لعلي (عليه السلام) يوم الغدير (مجمع
البيان 10: 530.) اللهم الا أن تكون حادثة ثانية مشابهة تليت فيها الآيات
بالمناسبة. السورة الرابعة
والثمانون - " الروم ": * (الم غلبت الروم في
أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين) * (الروم: 1 - 4.). قال الشيخ الطوسي في
" التبيان ": روي:
أن سبب ذلك هو أن الروم لما غلبتها فارس فرح المشركون بذلك وقالوا: أهل فارس لا
كتاب لهم غلبوا أهل الروم وهم أهل كتاب، فنحن لا كتاب لنا نغلب محمدا الذي معه
كتاب. فأنزل الله تعالى هذه الآيات تسلية للنبي والمؤمنين بأن الروم وان غلبتها
فارس فانها ستغلب فارس في ما بعد بضع سنين. قال أبو سعيد الخدري: كان النصر يوم
بدر للفريقين: للنبي على قريش وللروم على فارس، ففرح المؤمنون بالنصرين. وقيل:
كان يوم الحديبية (التبيان 8: 461.).
ونقل الطبرسي القول الأول عن مقاتل قال: فلما كان يوم بدر غلب المسلمون كفار مكة وأخبر رسول الله: أن
الروم غلبت فارسا ففرح المؤمنون بذلك. ونقل القول الثاني عن الزهري قال: كان
ظهور فارس على الروم في تسع سنين، ثم أظهر الله الروم على فارس زمن الحديبية
ففرح المسلمون بظهور أهل الكتاب (مجمع
البيان 8: 461.). اما عن معنى " أدنى الأرض " فقد نقل عن الزجاج قال: أي في أدنى الأرض من أرض العرب. ثم عينها عن عكرمة فقال: يريد أذرعات وكسكر (مجمع البيان 8: 460.) ونقل
الطبري عن عطاء عن يحيى بن يعمر أن أذرعات وبصرى هي أدنى أرض الشام الى العرب (الطبري 2: 185.). وعن أذرعات قال الطبري
في تأريخه: مدينة أذرعات
وبصرى من كور حوران من الشام (الطبري 10: 122.) بينما قال
الحموي في " معجم البلدان ": بلد في
أطراف الشام مما يلي البلقاء وعمان (معجم
البلدان 1: 162.). وهذا هو الأدنى من أرض العرب في الحجاز دون بصرى وحوران الشام. وأما كسكر فانها
من أرض السواد أي العراق كانت في أسفل دجلة بعد المدائن قرب الواسط، ولعلها هي أو قريبة من قلعة سكر، وكانت الأدنى من أرض العرب من جهة العراق. ونقل الطبرسي في " مجمع البيان " عن مجاهد أن المقصود
من " أدنى الأرض
" هو أدنى الأرض من أرض الشام الى أرض فارس يريد الجزيرة، فهي
أقرب أرض الروم الى فارس (مجمع البيان 8: 460.) وقال الشيخ الطوسي في " التبيان ": والمراد أدنى الأرض الى جهة عدوهم (التبيان 8: 229.)
بينما قال الشيخ الطبرسي في " مجمع البيان ": كان
بيت المقدس لأهل الروم كالكعبة للمسلمين فدفعتهم فارس عنه، وهو قوله * (في أدنى الأرض) * (مجمع البيان 8: 460.). وما أسرع ما يتبادر الى الذاكرة تذكر أن القرآن قد عبر عن مسجد بيت
المقدس بالمسجد الأقصى، فليس مقبولا أن تكون الأرض أدنى والمسجد فيها المسجد
الأقصى. أما تمام الخبر عن عكرمة
فهو ما رواه الطبري في تفسيره وتأريخه بسنده عنه قال: اقتتل فارس والروم في أدنى الأرض وهي يومئذ أذرعات فهزمت الروم،
فبلغ ذلك النبي -
صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - وأصحابه وهم بمكة، فشق ذلك عليهم. وكان النبي - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - يكره أن يظهر الاميون من المجوس على أهل الكتاب من الروم، وفرح
الكفار بمكة وشمتوا، فلقوا أصحاب النبي - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - فقالوا: انكم أهل كتاب والنصارى أهل كتاب ونحن اميون، وقد ظهر
اخواننا من أهل فارس على اخوانكم من أهل الكتاب، وانكم ان قاتلتمونا لنظهرن
عليكم فأنزل الله: *
(الم غلبت الروم) *. فخرج أبو بكر الى الكفار
فقال: أفرحتم بظهور إخوانكم
على إخواننا ! فلا تفرحوا ولا يقرن الله أعينكم، فوالله ليظهرن الروم على فارس،
أخبرنا بذلك نبينا. فقام إليه ابي بن خلف الجمحي فقال: كذبت يا أبا فصيل ! فقال له أبو بكر: أنت اكذب يا عدو الله !. فقال: اناحبك (اراهنك) عشر قلائص مني وعشر قلائص منك، فان ظهرت
الروم على فارس غرمت، وإن ظهرت فارس غرمت، الى ثلاث سنين. ثم جاء أبو بكر الى النبي - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - فأخبره. فقال: ما
هكذا ذكرت، انما البضع: ما بين الثلاث الى التسع، فزايده في الخطر (أي الرهن)
وماده في الأجل. فخرج أبو بكر فلقي ابيا فقال: لعلك ندمت، قال: لا، تعال ازايدك في الخطر (الرهن) ومدني في
الأجل، فنجعلها مائة قلوص الى تسع سنين، فقبل ابي (تأريخ
الطبري 2: 184 - 145 وفي التفسير 20: 13 ط بولاق.). روى الطبري ذلك وقال: قيل: ان قول الله تعالى * (الم غلبت الروم) * نزل فيما كان بين ملك الروم هرقل وملك فارس پرويز (تأريخ
الطبري 2: 184.). وقال عنه: هو
خسرو پرويز بن هرمز. وكان جميع مدة ملك هرمز اثنتي عشرة سنة (الطبري
2: 176.) وروى عن هشام الكلبي قال: في سنة احدى عشرة من ملك هرمز، خرج عليه
الترك في ثلاثمائة الف مقاتل حتى صاروا الى هراة وبادغيس، وان ملك الروم (موريقي
قيصر (مختصر الدول لابن العبري: 90 في السنة السادسة من ملكه وملك عشرين
سنة.) صار الى الضواحي في ثمانين الف مقاتل قاصدا إليه. وان ملك الخزر
صار في جمع عظيم الى باب الأبواب (دربند) فعاث وأخرب، وإن رجلين من العرب
أحدهما: عباس الأحول، وعمرو الأزرق، نزلا في جمع عظيم من العرب بشاطئ الفرات
وشنوا الغارة على أهل السواد... فاستفظع هرمز ما ورد عليه من ذلك وشاور فيه فاجمعوا على أن يبدأ
بملك الترك (شابه) فوجه إليه رجلا من أهل الري هو بهرام چوبين في اثني عشر الف
رجل اختارهم بهرام من الكهول دون الشباب. فجرت بينهما حروب حتى قتل بهرام شابه
برمية رماه اياها، فوافاه برموذة بن شابه وكان يعدل بأبيه، فحاربه فانهزم وتحصن
في حصن فحاصره (الطبري 2: 174.) فطلب برموذة بن شابه الأمان على أن يكون ذلك من هرمز الملك، فكتب بهرام الى هرمز فأجابه وكتب له كتاب أمان، وكتب الى بهرام أن يسرحه إليه. فخرج
برموذة بن شابه من الحصن وصار الى هرمز، فأكرمه وبره واجلسه معه على السرير (اليعقوبي
1: 167.). وغنم بهرام ما كان في الحصن، وكانت كنوزا عظيمة، فحملها الى هرمز على مائتين وخمسين الف بعير، فشكر هرمز لبهرام ما كان منه وللغنائم التي صارت إليه (الطبري
2: 175.). وأخبر برموذة هرمز بما صار الى بهرام من الأموال والكنوز العظام،
وأنه قد كتم ذلك عن امناء هرمز، وأن الذي بعث به قليل من كثير. فكتب هرمز الى بهرام يأمره أن يحمل إليه ما في يده من الأموال. فغلظ ذلك على بهرام وأخبر به جنده، فذكروا هرمز أقبح ذكر، وخلعوه.
وبعث الى هرمز بسفط فيه سكاكين معوجة الرؤوس، فلما رآها هرمز علم أنه قد عصى
فقطع أطراف السكاكين وردها إليه، فعلم بهرام ما أراد، فارسل الى خاقان ملك الترك
يطلب صلحه على أن يرد عليه كل أرض حازها من بلاده، فقبل خاقان، ففعل بهرام ذلك،
ثم سار حتى صار الى الري. وكان قد بلغ هرمز
أن قوما قد حملوا ابنه پرويز على أن يثور على أبيه، وكان بهرام يعلم بذلك، فدبر
ليوقع شرا بين هرمز وبين ابنه خسرو پرويز، فضرب دراهم كثيرة كتب عليها اسم پرويز
وبعث بها الى مدينة هرمز فكثرت في أيدي الناس حتى بلغ هرمز خبرها، فأراد أن يحبس
ابنه خسرو پرويز، فلما بلغ الخبر پرويز هرب الى آذربايجان، فاجتمع إليه من بها
من رؤسائها والمرازبة أهل الثغور فبايعوه. وكان جند هرمز كارهين لولايته فكتبوا
الى ابنه پرويز، فقدم بجيش من آذربايجان، فخلعوا هرمز، وملكوا پرويز، وسملوا عين
هرمز وحبسوه. واستقام الأمر لپرويز. فقصده بهرام بجنده، فخرج پرويز إليه حتى تواقفوا
في النهروان، فكلمه پرويز وعظم عليه الأمر، فأجابه بهرام بجواب غليظ شديد،
والتحموا فانكشف عن پرويز جنده وأسلمه أصحابه، فهرب ومضى حتى صار الى "
الرها " يريد موريقي ملك الروم، فكتب صاحب " الرها " الى موريقي ملك الروم يخبره أنه أتاه لينصره. فأجابه ملك الروم فوجه إليه پرويز بثلاثة نفر من أصحابه فشرط عليهم كل ما أراد، وزوج پرويز ابنته ووجه معهم بجيش عظيم، وعليهم أخ له يقال له ثيادوس،
فابتنى پرويز بابنة ملك الروم موريق ثم سار بجيشه الى ناحية آذربايجان، وكان خاله بندي صار الى آذربايجان ليجد جندا، فلما علم بمكان
پرويز لقيه في جيش عظيم، فزحف پرويز بهم الى بهرام فحاربه محاربة شديدة وأخذت
الحرب من الفريقين، واشتدت الحرب حتى انهزم پرويز وصعد في الجبل وكاد يهلك، ثم
ثاب إليه جنده، فثابوا الى الحرب حتى انهزم بهرام چوبين فمضى منصرفا لا يلوي على
شئ متوجها الى ملك الترك. واستقام الأمر لخسرو پرويز، فكتب الى صاحب الروم بذلك، وكتب في النصارى أن يكرموا ويقدموا ويبرزوا ويخبروا بما قد جرى
بينه وبين الرومي من العصمة واللحمة والموادعة. وأهدى إليه ملك الروم ثوبين
فيهما الصلب فلبسهما (اليعقوبي 1: 167 - 169.). ويقال: إن پرويز كتب للنصارى كتابا أطلق فيه عمارة بيعهم، وأن يدخل في ملتهم من أحب الدخول فيها من
غير المجوس، واحتج في
ذلك أن أنوشيروان كان
هادن قيصر في الأتاوة التي أخذها منه على استصلاح من في بلده من أهل بلده واتخاذ
بيوت النيران هنالك، وإن قيصر (موريقي) اشترط مثل ذلك في النصارى. ولم يزل پرويز
يبر بموريقي ويلطف له (الطبري 2: 180 - 181.). كان
هذا ما في تأريخي اليعقوبي
والطبري المسلمين، أما ابن العبري المسيحي
فقد أرخ للموضوع بالسنة
الثامنة من ملك موريقي، قال:
وفي السنة الثامنة لموريقي وثب
الفرس على هرمز
فسملوا عينيه ثم قتلوه وملكوا عليهم بهرام المرزبان. وكان لهرمز ابن حدث اسمه كسرى (پرويز) فتنكر كأنه سائل وشق سلطان الفرس حتى جاء نصيبين وصار الى الرها
ومنها الى منبج، وكتب الى
موريقي كتابا نسخته: " للأب المبارك والسيد المقدم موريقي ملك الروم، من كسرى بن
هرمز ابنه، السلام. أما بعد فاني اعلم الملك: أن بهرام ومن معه من عبيد أبي،
جهلوا قدرهم ونسوا أنهم عبيد وأنا مولاهم، وكفروا نعم آبائي لديهم، فاعتدوا علي
وأرادوا قتلي: فهممت أن أفزع الى مثلك فأعتصم بفضلك وأكون خاضعا لك، لأن الخضوع
لملك مثلك وإن كان عدوا أيسر من الوقوع في أيدي العبيد المردة، ولئن يكون موتي
على أيدي الملوك أفضل وأقل عارا من أن يجري على أيدي العبيد. ففزعت اليك ثقة
بفضلك ورجاء أن تترأف على مثلي، وتمدني بجيوشك لأقوى بهم على محاربة العدو وأصير
لك ولدا سامعا ومطيعا، إن شاء الله تعالى ". فلما قرأ موريقي كتاب كسرى (پرويز) بن هرمز عزم على اجابة
مسألته... وكتب إليه كتابا نسخته: " من
موريقي عبد ايشوع المسيح، الى كسرى ملك الفرس، ولدي وأخي، السلام، أما بعد،
فقرأت كتابك وفهمت ما ذكرت فيه من أمر العبيد الذين تمردوا عليك وكونهم غمطوا
أنعم آبائك وأسلافك غمطا، وخروجهم عليك ودحضهم إياك عن ملكك، فداخلني من ذلك أمر
حركني على الترؤف بك وعليك وامدادك بما سألت. فأما ما ذكرت من أن الاستتار تحت
جناح ملك عدو، والاستظلال بكنفه آثر من الوقوع في أيدي العبيد المردة، والموت
على أيدي الملوك أفضل من الموت على أيدي العبيد. فانك اخترت أفضل الخصال، ورغبت
الينا في ذلك، فقد صدقنا قولك وقبلنا كلامك وحققنا أملك وأتممنا بغيتك وقضينا
حاجتك وحمدنا سعيك وشكرنا حسن ظنك بنا. ووجهنا اليك بما سألت من الجيوش
والأموال، وصيرتك لي ولدا وكنت لك أبا. فاقبض الأموال مباركا لك فيها، وقد
الجيوش وسر على بركة الله وعونه، ولا يعترينك الضجر والهلع، بل تشمر لعدوك ولا
تقصر فيما يجب لك إذا تطأطأت من درجتك وانحططت عن مرتبتك، فاني أرجو أن يظفرك
الله بعدوك ويكبه تحت موطئ قدميك ويرد كيده في نحره ويعيدك الى مرتبتك برجاء
الله تعالى ". وأنجده بعشرين ألفا (لا ستون الف مقاتل كما سبق عن الطبري عن الكلبي)
وسير له الأموال أربعين قنطارا ذهبا. فلما وردت الجيوش على كسرى وقبض الأموال
وقرأ الكتاب سار مع جيوش الروم نحو بهرام فلقيه بين المدائن وواسط (لا النهروان
ولا آذربايجان) فصارت الهزيمة على بهرام وقتل أصحابه كلهم، واستباح كسرى پرويز عساكر بهرام ورجع الى مملكته فجلس فيها وبايعه الناس. ثم دعا بالروم فاحسن جائزتهم
وصرفهم الى صاحبهم، وبعث
معهم الى موريقي من الألطاف والأموال أضعاف ما كان أخذ منه، ورد دارا وميا
فارقين الى الروم، وأمر
ببناء هيكلين للنصارى بالمدائن
وجعل أحدهما باسم السيدة
(مريم) والآخر باسم مار سرجيس الشهيد.
أما موريقي فبعد مصالحته للفرس قطع أرزاق جنوده، فاجتمع عظماء الروم الى مدينة هرقلة وأرادوا
تمليك أخيه فطري فهرب، وهرب موريقي الى خلقيدونية، فلحقته الروم فألفوه وعليه
خلقان في زي الفقراء والسؤال فقتلوه
في العشرين من ملكه وملكوا عليهم رجلا من بطارقتهم يقال له فوقا. فلما بلغ كسرى بن هرمز قتل موريقي، نقض العهد، وغزا دارا
فافتتحها، وافتتح أيضا آمد وحلب، ثم عطف على قنسرين ورجع الى الرها. وفي السنة الثامنة من ملك فوقا خرج عليه هرقل بن هرقل من
افريقية، وركب البحر بجيوشه
والفاه هادئا ساكنا فسبق الى القسطنطينية ودخلها وقتل فوقا وتملك هو بمكانه بعده احدى وثلاثين سنة وخمسة أشهر. وفي أول سنة من ملكه أرسل
وفدا الى ملك الفرس ليصالحه فلم يجبه الى ذلك بل غزا أنطاكية وفامية وحمص
وقيسارية وافتتحها، وفي السنة الخامسة من ملكه افتتح الفرس البيت المقدس، وبعد
ثلاث سنين افتتحوا الاسكندرية ومصر ووصلوا الى النوبة وغزوا خلقيدونية
فافتتحوها، وفي السنة الخامسة عشرة من ملكه غزا الفرس جزيرة روديسيا فافتتحوها، وأمر كسرى (پرويز)
أن يؤخذ رخام الكنائس التي في جميع المدن التي فتحها الى المدائن. ولكن في آخر هذه السنة غزا هرقل الفرس فافتتحوا مدينة كسرى وسبوا منها خلقا كثيرا وانصرفوا (مختصر
تاريخ الدول لابن العبري الملطي ت 685 ه -: 90 - 92.). ويفيد تاريخ ابن العبري أن اجتماع عظماء الروم لخلع موريقي من الملك ونصب أخيه فطري
بمكانه وفي النهاية تمليك البطريق فوقا كان بعد عشرين سنة من ملك موريقي واثنتي
عشرة سنة من ملك خسرو پرويز (مختصر تاريخ الدول لابن العبري: 90.).
بينما يحكي الطبري عن
الكلبي يقول: حتى مر على ملك
پرويز أربع عشرة سنة فخلع الروم موريقي وقتلوه وأبادوا ورثته، وملكوا عليهم رجلا
يقال له فوقا. فلما بلغ پرويز نكث الروم
عهد موريقي وقتلهم اياه، امتعض من ذلك وأنف منه، وأخذته الحفيظة له، وهرب ابن
موريقي فالتجأ الى پرويز فآواه وملكه على الروم ووجه له الى بلاد الروم ثلاثة من
قواده في جنود كثيفة (الطبري 2: 181.). ثم تسمي رواية الطبري
القواد الثلاثة على التوالي: دميران
أو رميوزان، والآخر: شاهين، والثالث: فرهان وتدعى مرتبته شهر براز. وتؤرخ لحملة القائد الأول: دميران على الشام وفلسطين وبيت المقدس خاصة بأربع وعشرين من ملك
پرويز، وهو يطابق ما في
تأريخ ابن العبري: أن
الفرس في السنة الخامسة من ملك هرقل افتتحوا البيت المقدس (مختصر
تاريخ الدول: 91.) وما في سائر التواريخ الفارسية والأجنبية: أن ذلك كان في السنة
السادسة للبعثة و 615 م (بالفارسية: تاريخ ايران قديم: 222 تأليف: پيرنيا، وعن الترجمة
الفارسية: تاريخ ايران للجنرال السير پرسي سايكس 1: 665 - 670. هذا إذا بنينا
على أن ميلاد الرسول كان في السنة الأربعين من ملك كسرى و 570 م وأن بعثته كانت
في 610 م.). وتؤرخ - رواية الطبري عن الكلبي - لحملة القائد الآخر، شاهين على أفريقيا ومنها مصر والاسكندرية
خاصة بسنة ثمان وعشرين من ملك پرويز، وهذا يقارب من تأريخ ابن العبري لذلك حيث قال: وبعد ثلاث سنين - من فتح بيت المقدس - افتتحوا
الاسكندرية ومصر ووصلوا الى بلاد النوبة (مختصر
تأريخ الدول: 91، 92.) (أي
في سنة 618 م). وتؤرخ رواية الطبري عن
الكلبي لحملة القائد الثالث:
فرهان وتدعى مرتبته شهر براز متجها الى القسطنطينية بأمرين: أولا بقتل فوقا
الملك وتملك هرقل، وهذا كان في سنة 610 م سنة البعثة، بعد ثماني سنين من قتل
موريقي وتملك فوقا وبدء الحملات 602 م. وتؤرخ لها - ثانيا - بحملة هرقل على
مملكة الفرس حتى كان قريبا من المدائن، ويؤرخ ابن العبري لذلك بالسنة الخامسة
عشرة من ملك هرقل، أي سنة 625 م، والفاصل بين التأريخين: خمس عشرة سنة، مما لا
يحتمل معه أن تكون الحملة حملة واحدة، بل حملتين هما مع حملتي القائدين السابقين
تكون الحملات في رواية الطبري عن الكلبي أربع حملات على التوالي: شهر براز فرهان
في 610 م ودميران في 615 م وشاهين في 618 م وشهر براز فرهان أيضا في 625 م. اولى
هذه الحملات في سنة 610 م أي بعد قتل موريقي واستخلاف فوقا بثمان سنين بينما
الحملات - ولا سيما الاولى - موصوفة بأنها كانت للانتقام لحمي پرويز موريقي
ولتمليك ابنه اللاجئ الى پرويز بعد ابيه، فهل كان ذلك بعد هذه المدة ؟ ! ولا تذكر التواريخ الاسلامية حملة قبل ذلك. ولكن التواريخ الفارسية والأجنبية تؤرخ لحملة في سنة 605 م حاصرت مدينة دارا فيما بين النهرين
وافتتحتها بعد عدة أشهر. وفي سنة 607 م لثلاث سنين قبل البعثة سخرت مدن ديار
بكر: آمد، وإدس، وحران، وقلاعا رومية اخرى، وعبرت الفرات في سورية واستولت على
مدينة حلب وتقدمت حتى قرب بيروت الحالية (بالفارسية:
تاريخ ايران قديم: 222 تأليف: پيرنيا، وعن الترجمة الفارسية: تاريخ ايران للسير
پرسي سايكس 1: 665 - 670.) وعن هذه الحملات قال ابن العبري: فلما بلغ كسرى بن هرمز قتل
موريقي، نقض العهد وغزا دارا فافتتحها وافتتح أيضا آمد وحلب، ثم عطف على قنسرين
ورجع الى الرها (مختصر تاريخ الدول: 91.). وهنا تأتي الحملة الاولى
التي ذكرتها رواية الطبري عن الكلبي للقائد الفارسي: فرهان والذي تدعى مرتبته: شهر براز: أمره كسرى (پرويز) فقصد
القسطنطينية وخرب بلاد الروم غضبا مما انتهكوا من موريقي وانتقاما له منهم حتى
أناخ في ضفة الخليج القريب من القسطنطينية وخيم هناك، ولم يخضع لابن موريقي من
الروم أحد ولم يمنحه الطاعة، غير أنهم قتلوا فوقا الملك، وملكوا عليهم رجلا يقال
له هرقل (الطبري 2: 182.) وكان ذلك في سنة 610 م سنة البعثة، وكان هرقل (هراكليوس) قائدا روميا
في كاراتاز (تونس حاليا) ومنها قدم الى القسطنطينية وتقلد أزمة الامور بمساعدة
الشعب (التاريخان الفارسيان السابقان.) وكان
هرقل بن فوق (كذا) بن مرقس يختلف من مدينة سلونيقية - وهو من أهلها - الى
القسطنطينية بالزاد في البحر وهم محاصرون (بحصار شهر براز) فبانت شهامته وظهرت شجاعته وأحبه أهل القسطنطينية، فخلا
بالبطارقة وذوي المراتب فاغراهم بفوقاس، وذكر لهم ما نزل بهم في أيامه وذكرهم
بسوء آثاره فيهم وغلبة الفرس على ملكهم بسوء تدبيره وقبح سياسته واقدامه على
الدماء، ودعاهم الى الفتك
به، فأجابوه الى ذلك فقتلوه. واجتمعت البطارقة وغيرهم من ذوي المراتب من الروم
وغيرهم بعد قتل فوقاس لاختيار من يصلح للملك، فوقع اختيارهم - بعد خطب طويل وتنازع كثير - على
هرقل، فملكوه. ذكر
ذلك المسعودي في " التنبيه والاشراف " ولكنه قال: كان ملكه (هرقل) لثلاث وثلاثين سنة خلت من ملك
كسرى پرويز ملك بابل، فملك خمسا وعشرين سنة - وقيل اكثر من ذلك - وفي
أول سنة من ملكه كانت هجرة رسول الله - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - (التنبيه
والإشراف: 133، 134.). بينما قال قبل ذلك في " مروج الذهب ": ثم ملك هرقل وكان قبل ذلك بطريقا في بعض الجزائر، ولسبع (أو تسع)
سنين من ملكه كانت هجرة النبي
- صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - من مكة الى المدينة. وهو الذي ضرب الدنانير والدراهم الهرقلية، وكان ملكه خمس عشرة سنة. وفي تواريخ أصحاب السير: أن رسول الله - صلى
الله عليه [ وآله ] وسلم -
هاجر وملك الروم قيصر بن موريق. وفي تواريخ ملوك الروم ممن سلف وخلف: أن ملك الروم كان في وقت ظهور الاسلام " هرقل " (مروج
الذهب 1: 361، 362 ط بيروت.).
ومن تواريخ الروم " تأريخ مختصر الدول " لغريغوريوس
الملطي المعروف بابن العبري المتوفى في سنة 685 م قال: ملك هرقل قيصر احدى وثلاثين سنة وخمسة أشهر، وفي أول سنة من ملكه
أرسل وفدا الى ملك الفرس ليصالحه فلم يجبه الى ذلك. بل غزا أنطاكية وفامية وحمص
وقيسارية وافتتحها (تاريخ مختصر الدول: 91.) . وقال المسعودي:
وسير (خسرو پرويز) شهريار مرزبان المغرب الى حرب الروم فنزل أنطاكية، فكانت له
مع الروم وپرويز أخبار ومكاتبات وحيل الى أن خرج ملك الروم الى حرب شهريار وقدم
خزائنه في البحر في الف مركب، فألقتها الريح الى ساحل انطاكية، فغنمها شهريار
وحملها الى پرويز، فسميت خزائن الريح (مروج الذهب 1: 306.). أما عن تاريخ هذه الحملة: فالذي يتفق مع تاريخ ابن العبري ولا يختلف مع المسعودي هو ما جاء
في الترجمة الفارسية لتأريخ ايران للسير پرسي سايكس أن ذلك كان في سنة 611 م أي
السنة الثانية للبعثة. وفي السنة الخامسة للبعثة
(614 م) استولى الفرس على دمشق. و في السنة السادسة للبعثة (615 م) حاصروا بيت المقدس حتى افتتحوها
ونهبوها بمعونة ستة وعشرين الف يهودي فيها. وبحثوا عن الصليب الذي كان النصارى
يعتقدون أن المسيح صلب عليه، فكان لهم أقدس شئ على وجه الأرض، حتى حصلوا عليه
فبعثوا به الى عاصمتهم تيسفون (بغداد
حاليا تقريبا) فأرسل
پرويز رسالة الى هرقل قال
فيها: " من خسرو شاهنشاه:
ملك الملوك ورب الأرض، الى هراگليوس عبده الحقير عديم الغيرة ! أنتم الذين
تقولون انكم معتمدون على ربكم المسيح ومتوكلون عليه، فلما لم يقدر أن يخلص بيت
المقدس من يدي لا تخدعوا أنفسكم بالباطل بهذه العقيدة الفارغة التي لكم بالمسيح،
فانه لم يقدر حتى على أن يخلص نفسه من مخالب اليهود، حتى صلبوه ووتدوا بدنه
وقتلوه بذلك الوضع الفضيع " (عن
الترجمة الفارسية لتأريخ ايران 1: 665 - 670 للسير پرسي سايكس وتاريخ ايران
قديم: 222 تأليف پيرنيا.). وعن هذه الحملة حكى
الطبري عن الكلبي قال: وجه
(پرويز) القائد دميران أو رميوزان الى بلاد الشام فدوخها حتى انتهى الى أرض
فلسطين، وورد مدينة بيت المقدس. وكانت خشبة الصليب قد وضعت في تابوت من ذهب
وطمرت في بستان وزرع فوقه مبقلة، فأخذ (دميران) اسقفها ومن كان فيها من القسيسين
وسائر النصارى وألح عليهم حتى دلوه على موضعها، فاحتفر عنها بيده واستخرجها وبعث
بها الى كسرى، في أربع وعشرين من ملكه (الطبري
2: 181.). وأرخها ابن العبري من جانبه قال: وفي السنة الخامسة لهرقل افتتح الفرس بيت المقدس (تأريخ
مختصر الدول: 91.). وقال السير پرسي سايكس: في السنة 616 م (أي السابعة للبعثة) وصل
القائد الايراني شهر براز الى مصر بالعبور من صحراء سيناء، واستولى على
الاسكندرية ذلك الميناء التجاري الشهير، وبلغ بحدود ايران الى حدودها على العهد
الهخامنشي (تأريخ ايران 1: 665 - 670.). ولكن ابن العبري قال: وبعد ثلاث سنين (من فتح الفرس لبيت المقدس) افتتحوا الاسكندرية
ومصر، ووصلوا الى بلاد النوبة (افريقية) وغزوا خلقيدونية فافتتحوها (تأريخ
مختصر الدول: 91، 92.) وهذا يقرب مما حكاه الطبري عن الكلبي قال: وأما القائد الآخر -
وكان يقال له شاهين وكان فادوسبان المغرب - فانه سار حتى احتوى على مصر
والاسكندرية وبلاد نوبة، وبعث الى كسرى بمفاتيح مدينة الاسكندرية في سنة ثمان
وعشرين من ملكه (الطبري 2: 182.).
وقال السير پرسي سايكس: وفي السنة 617 م (أي الثامنة للبعثة) عبر قائد ايراني آخر باسم شاهين، مدينة كاپادوكية واستولى على مدن
تركية الحالية واحدة بعد اخرى حتى وصل الى مدينة كالسدون قرب القسطنطينية. وفي
لقاء بين هراگليوس وشاهين نصحه شاهين أن يرسل رسولا للصلح الى بلاط خسرو پرويز،
وقبل ذلك هراگليوس ففعل... ولكن خسرو پرويز وهو في سكر فتوحاته أمر بحبس سفير
الروم، وهدد قائده: لماذا لم يبعث إليه بامبراطور الروم مقيدا مغلولا ! وفي السنة الثامنة للبعثة سقطت مدينة كالسدونة، ووصل الجيش الايراني الى أبواب مدينة
القسطنطينية على ساحل بحر البوسفور (التأريخان
الفارسيان السابقان.). ويبدو أن ابن العبري يشير الى هذه الحملة إذ يقول: وفي
السنة الخامسة عشرة لهرقل غزا الفرس جزيرة رودس (روديسيا) فافتتحوها، وأمر كسرى
(پرويز) أن يؤخذ رخام الكنائس التي في جميع المدن التي فتحها وتحدر الى المدائن
ولقي فيه الناس جهدا جهيدا. وفي هذه السنة غزا هرقل
الفرس فافتتح مدينة كسرى
وسبوا منها خلقا كثيرا وانصرفوا (تاريخ
مختصر الدول: 92.). وفي
رواية الطبري عن الكلبي قال: فلما رأى هرقل عظيم ما فيه بلاد الروم من تخريب جنود فارس اياها
وقتلها مقاتلتهم وسبيهم ذراريهم واستباحتهم أموالهم وانتهاكهم ما بحضرتهم...، [ فشاور عظماء الروم ف - ] - أشاروا عليه أن يغزوهم، فاستعد لذلك. وكان كسرى (پرويز) قد تقدم الى شهربراز أن يجثم مرابطا في الموضع
الذي كان فيه، وكان قد غضب على شاهين فادوسبان المغرب فأحضره لديه وعزله عن ذلك
الثغر. فاستخلف هرقل ابنا
له على مدينة قسطنطينية، وأخذ غير الطريق الذي فيه شهر براز وسار حتى أوغل في
بلاد أرمينية ونزل نصيبين بعد سنة. وكان كسرى يومئذ مقيما
بدسكرة الملك فلما بلغه خبر تساقط هرقل في جنوده الى نصيبين، وجه لمحاربته رجلا
من قواده يقال له: راهزار في اثني عشر ألف مقاتل، وأمره أن يقيم بنينوى من مدينة
الموصل على شاطئ دجلة ويمنع الروم أن يجوزوها. فنفذ راهزار لامره وعسكر حيث
أمره. فقطع هرقل دجلة في موضع آخر الى الناحية التي كان فيها جند فارس. ولما أخبرت العيون راهزار أن هرقل في سبعين الف مقاتل أيقن أنه ومن
معه من الجنود عاجزون عن مناهضة سبعين الف مقاتل، فكتب الى كسرى غير مرة دهم
هرقل إياه بمن لا طاقة له ولمن معه بهم لكثرتهم وحسن عدتهم. وفي كل ذلك كان يجيبه كسرى في كتابه أنه: ان عجز عن اولئك الروم فلن يعجز عن بذل دمه ودمائهم في طاعته.
فعبأ جنده وناهض الروم فقتل وقتل معه ستة الاف منهم وانهزم بقيتهم وهربوا على
وجوههم. وبلغ كسرى ذلك فأغار من دسكرة الملك الى المدائن وتحصن فيها، وأخذ
يستعد لقتال هرقل، وسار هرقل حتى كان قريبا من المدائن ثم انصرف الى أرض الروم (الطبري
2: 182، 183.) هكذا تذكر رواية الطبري عن الكلبي أن هرقل أخذ غير الطريق الذي
فيه شهربراز وهو مرابط للموضع الذي هو فيه، وكان شاهين فادوسبان المغرب قد عزله
كسرى پرويز عن ثغر نصيبين لموجدة كانت من كسرى عليه، فكان بباب كسرى حين سار
هرقل حتى أوغل في بلاد أرمينية ونزل نصيبين، بعد سنة من مسيره. بينما المسعودي يقول: كان جيش كسرى پرويز محاصرا للقسطنطينية، وكان صاحب جيشه ذلك
شهربراز، وفسد الأمر بينه وبين كسرى پرويز، فأتاه هرقل ومالأه على پرويز، فخرج
هرقل في مراكب كثيرة في الخليج الى بحر الخزر وسار الى طرابزندة وأبواب لازقة
(كذا) واستنجد هناك ملوك الأعاجم من اللان والخزر والسير والأبخاز وكرزان
والأرمن وغيرهم، حتى صار الى بلاد أران والبيلقان وآذربايجان والماهات من أرض
الجبل، وأتصلت جيوشه بأرض العراق فشن الغارات وقتل وسبى، فاحتال عليه پرويز
بحيلة صرفته فرجع الى القسطنطينية (التنبيه
والاشراف: 134.). وفي هذه العبارة كأن هرقل هو الذي أفسد الأمر بين شهربراز
وپرويز، ومالأه عليه، فخرج
عليه، وتغاضى عنه شهربراز فتجاوزه حتى فعل ما فعل. ولكنه عكس الأمر قبل ذلك
في " مروج الذهب " فيقول: ثم فسدت الحال بين پرويز وشهريار (كذا) ومايل شهريار ملك الروم،
فسيره شهريار نحو العراق، الى أن انتهى الى النهروان، فاحتال عليه پرويز بكتب
كتبها إليه مع بعض من كان في ذمته من أساقفة النصارى في العراق، فأفسد الحال
بينه وبين شهريار حتى رده الى القسطنطينية (مروج الذهب 1: 306.) والأول أولى من هذا الثاني البعيد جدا: أن يكون شهر براز أو شهريار هو الذي سير هرقل نحو العراق. ويترجح ما في " التنبيه والاشراف " على ما في "
مروج الذهب " إذ نسخة الثاني الموجودة والمتداولة هي نسخة سنة 332 ه. في
موارد متعددة من الكتاب، والأول ألفه سنة 345 كما في موارد متعددة من الكتاب أيضا، وهي سنة وفاة المسعودي، قد نبه في " التنبيه " على أنه حين تأليفه قد بدل كثيرا من العبارات والمعاني من نسخة
" مروج الذهب " التي ألفها سنة 332 ه وزاد
فيها كثيرا بحيث اصبحت اضعاف النسخة الاولى (التنبيه
والاشراف: 84، 85 و: 149.) ومعنى ذلك أن ما في " المروج " منسوخ بما في " التنبيه " وأن الثاني تنبيه على ما في الأول من منسوخ قد رجع عنه. ولكن الصحيح هو ما في " مروج الذهب ": أن هرقل سار نحو
العراق حتى انتهى الى النهروان ثم انصرف راجعا
الى القسطنطينية، لا
ما مر عن ابن العبري، فأحرجهم بهذا الكتاب الى الخلاف عليه وطلب الحيل لنجاة
أنفسهم منه (الطبري 2: 183.). وللطبري رواية عن عكرمة تفصل السبب في فساد الحال بين كسرى
وشهربراز وأخيه فرخان فتقول:
بلغ كسرى أن فرخان شرب خمرا وقال: لقد رأيتني جالس على سرير كسرى، فكتب الى
شهربراز: إذا أتاك كتابي فابعث الي برأس فرخان. فكتب شهربراز الى پرويز: أيها الملك، إنك لن تجد مثل فرخان، إن له نكاية وصوتا في العدو،
فلا تفعل. فكتب إليه پرويز: إن في رجال فارس خلفا منه، فعجل علي برأسه. فراجعه
شهربراز أيضا، فغضب كسرى فلم يجبه. ثم استعمل فرخان على فارس وأمره بقتل أخيه شهربراز، فلما قرأ الكتاب قدم أخاه شهربراز ليضرب عنقه، فقال له: لا تعجل
حتى اكتب وصيتي، قال: نعم، فدعا بسفط فاعطاه ثلاث صحائف وقال: كل هذا راجعت فيك
كسرى، وأنت أردت أن تقتلني بكتاب واحد. فامتنع فرخان،
واتفقا على التمرد على كسرى، فكتب
شهربراز الى قيصر ملك الروم (هرقل): ان لي اليك حاجة لا تحملها البرد ولا تبلغها الصحف، فالقني ولا
تلقني الا في خمسين روميا، فاني القاك في خمسين فارسيا. فأقبل قيصر في خمسمائة ألف رومي، وجعل يضع العيون بين يديه في الطريق مخافة أن يكون قد مكر به،
فأتاه عيونه أن شهربراز ليس معه الا خمسون رجلا. فبسط لهما والتقيا في قبة ديباج
ضربت لهما، مع كل واحد منهما سكين. ودعوا ترجمانا بينهما. فقال شهربراز لهرقل: ان الذين خربوا مدائنك أنا وأخي بكيدنا وشجاعتنا، وان كسرى حسدنا
فأراد أن أقتل أخي فأبيت، ثم أمر أخي أن يقتلني، فقد خلعناه جميعا، فنحن نقاتله
معك. قال هرقل: قد أصبتما. ثم أشار
أحدهما الى صاحبه: أن
السر بين اثنين فإذا جاوز اثنين فشا، فقتلا الترجمان بسكينهما. ثم يقول عكرمة:
فأهلك الله كسرى وجاء الخبر الى رسول الله يوم الحديبية، ففرح ومن معه (الطبري
2: 186 وفي التفسير 20: 13، 14.). بينما روى رواية اخرى عن يحيى بن يعمر: أن كسرى (پرويز) بعث شهربراز بجيش الى الشام، وبعث قيصر الروم
(هرقل) بجيش من الروم لدفع شهربراز، عليهم رجل يقال له قطمة، فالتقيا ببصرى
وأذرعات - وهي أدنى الأرض اليكم - فلقيت فارس الروم فغلبتهم فارس، ففرح بذلك
كفار قريش وكرهه المسلمون فأنزل الله * (الم غلبت الروم في أدنى الأرض) * فلم يبرح شهربراز يطؤهم ويخرب مدائنهم حتى بلغ خليج القسطنطينية،
ثم مات كسرى (پرويز) فبلغهم موته، فانهزم شهربراز وأصحابه، وعند ذلك اديلت عليهم
الروم فاتبعوهم يقتلونهم (الطبري 2: 185.). فهاتان الروايتان عن يحيى بن يعمر ومن قبل عن عكرمة، تتفقان على أن غلبة الفرس على
الروم كانت بأذرعات من أواخر أراضي الشامات الى صحراء العرب، وأن غلبة الروم على
الفرس كانت بموت كسرى وهزيمة شهربراز وأصحابه وهجوم الروم عليهم حينئذ، وأن الخبر بذلك جاء رسول الله يوم الحديبية ففرح ومن معه. وهذا يتفق مع ما
حكاه الطبري عن الكلبي أن
بعثة الرسول كانت في
العشرين من ملك كسرى
پرويز، وهجرته كانت في
الثلاث والثلاثين من
ملكه (الطبري 2: 187.) أو لمضي اثنتين وثلاثين سنة وخمسة اشهر، وكان ملكه
ثمانيا وثلاثين سنة (الطبري 2: 218 و 227 و 229.). أما القول الذي رواه الطوسي عن أبي
سعيد الخدري (التبيان 8: 228.) والطبرسي عن مقاتل (مجمع البيان 8: 461.) أنه لما كان يوم بدر وغلب المسلمون كفار مكة أخبر رسول الله أن
الروم غلبت فارسا... فان يوم بدر كان في منتصف السنة الثانية للهجرة، أي قبل موت كسرى
پرويز وهزيمة الفرس أمام الروم بخمس سنين أو خمس
سنين وستة أشهر، واذ
ذاك لم يؤرخ للروم انتصار على الفرس ولم تؤرخ على الفرس هزيمة أمام الروم بل
كانت الفتوحات تتوالى لهم على الروم. ولكن مما وقع على عهد خسرو پرويز ما ذكره الطبري قال: ومن ذلك ما كان من أمر ربيعة والجيش الذي كان أنفذه إليهم كسرى
پرويز لحربهم فالتقوا بذي قار، وذكر عن النبي - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - أنه لما بلغه ما كان من هزيمة ربيعة لجيش كسرى قال: " هذا
أول يوم انتصف العرب من العجم، وبي نصروا " (الطبري
2: 193 و 207.). وقد قال المسعودي:
وفي ملك پرويز كان حرب ذي قار، وهو اليوم الذي قال فيه النبي - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم -: " هذا أول يوم انتصفت فيه العرب من العجم، ونصرت عليهم بي
" وفي رواية أنها كانت
بعد وقعة بدر بأشهر وكانت
بين بكر بن وائل والهامرز صاحب كسرى پرويز (مروج
الذهب 1: 307 وذكر الخبر اليعقوبي 1: 214، 215.) فمن
المحتمل قويا أن يكون الانتصار الذي جاء الخبر به الى رسول الله فأخبر به أصحابه هو
انتصار العرب على الفرس دون الروم. أما وقعة أذرعات وكسكر، فلم أجد فيما بيدي من كتب التأريخ الرومي والفارسي والعربي نقلا عنهما شيئا يخصهما، والمحتمل القريب من الحملات التي مر ذكرها هي حملات ثلاث: حملة فتح أنطاكية، وحملة فتح دمشق، وحملة فتح القدس، فمن المحتمل أن تكون احدى هذه
الحملات قد طالت أذرعات في أواخر حدود الاردن نحو
الحجاز ولكنها لا تتناسب مع زمان نزول سورة الروم قبيل الهجرة بقليل، إذ الاولى كانت في 611 م أي الثانية للبعثة، والثانية كانت
في 614 م أي في الخامسة للبعثة، والثالثة كانت
في 615 م أي السادسة للبعثة. بينما القريب المحتمل أن لا تكون
الوقعة في أقل من السنة الثامنة للبعثة أي سنة 617 م وفيها كانت حملة القائد الايراني شاهين على كاپادوكية وكالسدونة ووصولهم الى أبواب مدينة
القسطنطينية على ساحل بحر البوسفور. فهذه الحملة تحتمل الانطباق على قول الشيخ
الطوسي بأن المراد أدنى الأرض من جهة عدوهم (التبيان
8: 229.) والذي نقله الطبرسي عن مجاهد بأن المقصود من "
أدنى الأرض " هو
أدنى الأرض الى أرض فارس، أقرب أرض الروم الى فارس (مجمع
البيان 8: 460 وقال: يريد الجزيرة أي الموصل.). أما ماقاله الطبرسي: كان بيت المقدس لأهل الروم كالكعبة للمسلمين، فدفعتهم فارس عنه،
وروي أنهم استردوا بيت المقدس وأن ملك الروم مشى إليه شكرا وبسطت له الرياحين
فمشى عليها (مجمع البيان 8: 460، 461.). فقد مر أن القرآن قد عبر عن المسجد في مدينة القدس بجوار بيت المقدس ب " المسجد الأقصى " ولا يسعنا التصديق بأن المسجد أقصى والأرض أدنى " في أدنى
الأرض " وليس مقبولا أن تكون الأرض أدنى والمسجد أقصى. ثم إن استرداد الروم لبيت المقدس لم ينقل تأريخيا أن يكون على عهد خسرو پرويز وهرقل معاصرا للرسول الكريم (صلى
الله عليه وآله). ومما يؤيد أن هذا الانتصار الرومي على فارس كان بعد وقعة بدر بكثير ما رواه الطبرسي في " مجمع البيان " أن أبا بكر لما أراد الهجرة تعلق به ابي بن خلف وأخذ ابنه عبد
الله بن أبي بكر وأخذ منه ابنه كفيلا، وجرح ابي في احد وعاد الى مكة فمات من تلك
الجراحة، جرحه رسول الله (صلى الله عليه وآله). وروى عن
الشعبي قال: لم تمض تلك المدة
(تسع سنين) التي عقدها أبو بكر مع ابي بن خلف حتى غلبت الروم فارسا وربطوا
خيولهم بالمدائن... فأخذ أبو بكر الخطر (الرهانة) من ورثته وجاء به الى رسول
الله (صلى الله عليه وآله) فتصدق به (مجمع
البيان 8: 461، 462 والكشاف للزمخشري 3: 214.). السورة الخامسة
والثمانون - " العنكبوت ": * (الم أحسب الناس أن
يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله
الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين) * (العنكبوت: 1، 2.). روى الطبرسي في "
مجمع البيان " عن الشعبي: أن الآية نزلت في اناس مسلمين كانوا بمكة فخرجوا الى المدينة
فاتبعهم المشركون فآذوهم، فمنهم من نجا ومنهم من قتل. وعن ابن عباس: أنه أراد ب " الناس ": الذين آمنوا بمكة: عمار بن ياسر، والوليد بن الوليد بن المغيرة
المخزومي، وعياش ابن أبي ربيعة المخزومي، وسلمة بن هشام المخزومي. وعن ابن جريج:
أن الآية نزلت في عمار بن ياسر، وكان يعذب في الله (مجمع
البيان 8: 427.). ولعل هذا هو مورد ما رواه الكشي في رجاله بسنده عن الليث بن سعد
(كاتب الواقدي) عن عمر مولى غفرة قال: حبس عمار فيمن حبس وعذب، فانفلت فيمن انفلت من الناس، فقدم على
رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: أفلح أبو
اليقظان ! قال: ما
أفلح ولا أنجح لنفسه، لأنهم لم يزالوا يعذبونه حتى نال منك ! (رجال
الكشي: 35 ط مشهد.). وما أخرجه السيوطي عن ابن عباس قال: لما أراد الرسول أن يهاجر الى المدينة قال لأصحابه... فأصبح بلال
وخباب وعمار... فأخذهم
المشركون... وأما عمار فقال
لهم كلمة أعجبتهم، تقية... ثم خلوا عنهم (الدر
المنثور 4: 132.). فهذه الأخبار تناسب هذه
الفترة وهذه المرة أي حين الهجرة، ولا ترتبط بما حدث له في المرة الاولى حين نزول سورة النحل أواخر
أيام حصار الشعب، من
تعذيب مشركي قريش له ولوالديه وقتلهما وتقيته وافلاته بها، وقول الرسول له يومئذ
" ان عادوا لك فعد لهم " مشيرا الى تكرار الأمر هذه المرة حين الهجرة،
فكان كما أشار وألمح (صلى
الله عليه وآله). وعليه فما في الخبر عن
ابن عباس: " أن أبا جهل
أسر عمارا وبقر بطن امه "
وما في آخره: "
أن النبي جعل يمسح عينيه ويقول: " إن عادوا لك فعد لهم بما قلت " خلط
ووهم، إذ كيف يقول له الرسول ذلك في المدينة بعد الهجرة حيث لا يتوقع عودة مشركي
قريش الى تعذيب عمار ؟ ! وكذلك
أيضا ما في آخر خبر الكشي عن ابن سعد كاتب الواقدي: أنه قال له: " إن سألوا من ذلك فزدهم " إذ كيف يسألونه
ذلك بعد أن قدم على رسول الله المدينة كما في الخبر. كما أن ذيل خبر السيوطي: " ثم خلوا عن بلال وخباب وعمار فلحقوا برسول الله فأخبروه بالذي كان
من أمرهم... وأنزل الله: *
(إلا من اكره وقلبه مطمئن بالايمان) * خلط لما نزل من القرآن في عمار في المرة الاولى - في سورة النحل - بما كان على عمار وصاحبيه بلال وخباب في هذه المرة الثانية حين هجرتهم الى المدينة، مما يستلزم استثناء هذه الآيات من مكية
سورة النحل بلا موجب. كما
مر ذلك عند الكلام حول الآيات من سورة النحل. ومنها قوله سبحانه: * (ووصينا الانسان بوالديه حسنا وان جاهداك لتشرك بي ما ليس لك
به علم فلا تطعهما الي مرجعكم فانبئكم بما كنتم تعملون والذين آمنوا وعملوا
الصالحات لندخلنهم في الصالحين ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا اوذي في الله
جعل فتنة الناس كعذاب الله ولئن جاء نصر من ربك ليقولن انا كنا معكم أو ليس الله
بأعلم بما في صدور العالمين وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين) * (العنكبوت:
8 - 11.). روى السيوطي في "
الدر المنثور " عن سعد بن أبي وقاص قال: قالت امي: لا آكل طعاما ولا أشرب شرابا حتى تكفر بمحمد، فامتنعت
من الطعام والشراب، فنزلت الآية: * (ووصينا الانسان بوالديه حسنا) *. وروى الطبرسي في "
مجمع البيان " عن الكلبي قال: نزلت الآية *
(ومن الناس من يقول آمنا بالله) * في عياش بن أبي ربيعة المخزومي، وذلك أنه أسلم فخاف أهل بيته
فهاجر الى المدينة قبل أن يهاجر النبي (صلى الله عليه وآله)، فحلفت امه أسماء بنت مخزمة التميمي: أن لا تأكل ولا تشرب ولا
تغسل رأسها ولا تدخل بيتا حتى يرجع إليها. فلما رأى ابناها أبو جهل بن هشام والحرث بن هشام جزعها، ركبا في طلبه
حتى أتيا المدينة، فلقياه وذكرا له القصة، فلم يزالا به حتى أخذ عليهما المواثيق
أن لا يصرفاه عن دينه، فتبعهما. فلما خرجا به من المدينة أخذاه وأوثقاه كتافا وجلداه حتى برئ من
دين محمد (صلى الله عليه
وآله) جزعا من الضرب وقال ما
لا ينبغي، فنزلت الآية (مجمع البيان 8: 429.). وعليه فالآية تتنبأ عن عودته عند حصول نصر الله لرسوله، ثم لا تستبعد الآية
أن يكون مؤمنا بباطنه فالله أعلم به، وكذلك كان، فان تمام خبر الطبرسي عن
الكلبي: أنه لما هاجر النبي (صلى
الله عليه وآله) والمؤمنون
الى المدينة هاجر عياش وحسن اسلامه وحيث كان أشد أخويه عليه الحرث لذلك كان عياش
قد حلف لئن قدر عليه خارجا من الحرم ليضربن عنقه، وأسلم الحرث وهاجر الى المدينة
وبايع النبي (صلى
الله عليه وآله) على
الاسلام، وكان عياش خارجا عن المدينة فلم يشعر باسلامه حتى لقيه يوما بظهر قبا
فضرب عنقه، ولما علم باسلامه بكى واسترجع، ونزلت فيه: * (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا الا خطأ) * (مجمع البيان 8: 429، 430.)
فأنبأت عن ايمانهما. وعليه فلعل الاشارة بالمنافقين الى السابق: سعد بن أبي وقاص
بلحاظ ما بعد النبي (صلى
الله عليه وآله). وبعدها قوله سبحانه: * (وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم
وما هم بحاملين من خطاياهم من شئ إنهم لكاذبون وليحملن أثقالهم وأثقالا مع
أثقالهم وليسئلن يوم القيامة عما كانوا يفترون) * (العنكبوت: 12، 13.). قال القمي في تفسيرها: كان الكفار يقولون للمؤمنين: كونوا معنا، فان الذي تخافون انتم
ليس بشئ، فان كان حقا فانا نتحمل ذنوبكم. فيعذبهم الله مرتين مرة بذنوبهم ومرة
بذنوب غيرهم (تفسير القمي 2: 149. وروي السيوطي في الدر المنثور بسنده عن محمد بن
الحنفية قال: كان أبو جهل وصناديد قريش إذا جاء الناس يسلمون يتلقونهم فيقولون:
انه يحرم الخمر ويحرم الزنا فارجعوا ونحن نحمل أو زاركم فنزلت الآية.). ومنها قوله سبحانه: * (يا عبادي الذين آمنوا ان أرضي واسعة فاياي فاعبدون) * (العنكبوت: 56.) روى الطبرسي في " مجمع البيان " عن مقاتل والكلبي قالا:
نزلت في المستضعفين من المؤمنين بمكة امروا بالهجرة عنها (مجمع البيان 8: 455.). ومنها قوله سبحانه: * (وكأي
من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها واياكم وهو السميع العليم) * (العنكبوت: 60.) روى
الطبرسي في " مجمع
البيان " عن
مقاتل والكلبي قالا: نزلت في جماعة كان يؤذيهم المشركون بمكة فامروا بالهجرة الى
المدينة، فقالوا: كيف نخرج إليها وليس لنا بها دار ولا عقار، ومن يطعمنا ومن
يسقينا ؟ فنزلت فيهم (مجمع البيان 8: 455.). وتختم السورة توصيتها المسلمين بالصبر والجهاد بقوله سبحانه: * (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين)
*. واختلف الخبر هنا عن ابن عباس في آخر سورة نزلت بمكة قبل الهجرة،
فبينما يروي الطبرسي في " مجمع البيان " عن الحاكم الحسكاني عن عطاء عن ابن عباس أنه ذكر في آخر السور المكية
بعد العنكبوت: سورة
المطففين (مجمع البيان 10: 613.) وكذلك الزركشي في
" البرهان " والسيوطي في " الاتقان " (الاتقان: 1: 11 عن ابن ضريس من القرن
الخامس.) وابن النديم في " الفهرست " عن محمد
بن النعمان بن بشير الأنصاري،
ولكنه قال: ويقال انها مدنية (الفهرست: 37 ط مصر.) والسيوطي في " الاتقان " نقل خبرا آخر عن ابن عباس وآخر
عن البيهقي عن عكرمة عن ابن عباس، اختلفا في ترتيب السور ولكنهما اتفقا على
اعتبار سورة المطففين من السور المدنية بخلاف الخبر السابق الذي ذكر أنها مكية (الاتقان
1: 10.) وأضاف الطبرسي في " مجمع البيان " القول بذلك عن الحسن
والضحاك (مجمع البيان 10: 685.) وأضاف عن عكرمة عن ابن عباس سببا لنزولها قال: لما قدم رسول الله (صلى الله عليه وآله) المدينة كانوا من أخبث
الناس كيلا، فأنزل الله عز وجل: * (ويل للمطففين) * فأحسنوا الكيل بعد ذلك. وروى عن السدي قال: لما قدم (صلى الله عليه
وآله) المدينة كان بها رجل يقال له أبو جهينة ومعه صاعان يكيل بأحدهما ويكتال
بالآخر، فنزلت الآيات (مجمع البيان 10: 687.) بل
في رواية أبي الجارود في " تفسير القمي " عن أبي جعفر الباقر (عليه
السلام) قال: نزلت
(سورة المطففين) على نبي الله حين قدم المدينة وهم يومئذ أسوأ الناس كيلا،
فأحسنوا الكيل (تفسير القمي 2: 410.) وهذا هو معنى ما رواه عكرمة عن ابن عباس. فهو
المختار. وعليه فان آخر ما نزل من القرآن بمكة هي سورة العنكبوت، وفيها الأمر
بالهجرة كما مر، فأمر الرسول (صلى الله عليه وآله) أصحابه بالهجرة فهاجروا
زرافات ووحدانا، ولحق هو بهم. |
الفصل
الثامن بيعة العقبة وانتشار الإسلام في المدينة
|
بيعة
العقبة:
|
بيعة العقبة: قال القمي في تفسيره: لما قدمت الأوس والخزرج مكة،
وكان اكثرهم مشركين على دينهم، وفيهم عبد الله بن ابي بن سلول (سلول: اسم جدته لأبيه.)، وفيهم ممن أسلم بشر كثير. وكان رسول الله نازلا في دار عبد
المطلب (في منى في أيام موسم الحج) ومعه علي (عليه السلام) وحمزة والعباس.
فجاءهم رسول الله وقال لهم: تمنعون جانبي حتى أتلو عليكم كتاب ربكم، وثوابكم على
الله الجنة ؟ قالوا: نعم يارسول الله فخذ لنفسك وربك ما شئت. فقال: موعدكم
العقبة في الليلة الوسطى من ليالي التشريق فاحضروا دار عبد المطلب على العقبة،
ولا تنبهوا نائما. فلما حجوا رجعوا الى منى، وجاءه منهم سبعون رجلا من الأوس والخزرج فدخلوا الدار. فلما اجتمعوا قال لهم رسول الله: تمنعون جانبي حتى أتلو عليكم
كتاب ربكم وثوابكم على الله الجنة ؟ فقال أسعد بن زرارة والبراء بن معرور وعبد الله بن حرام (أبو جابر
بن عبد الله الأنصاري، من شهداء احد.): نعم يا رسول الله، فاشترط لنفسك ولربك. فقال رسول الله: تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم، وتمنعون أهلي مما تمنعون منه
أهليكم ؟ قالوا: فما لنا على
ذلك ؟ قال: تملكون بها العرب في الدنيا، وتدين لكم العجم وتكونوا ملوكا في الجنة. فقالوا: قد رضينا. فقام العباس بن نضلة الأوسي فقال: يا معشر الأوس والخزرج، تعلمون على ماتقدمون عليه ؟ إنما تقدمون
على حرب الأحمر والأبيض وعلى حرب ملوك الدنيا، فان علمتم أنه إذا أصابتكم
المصيبة في أنفسكم خذلتموه وتركتموه فلا تغروه، فان رسول الله - وان كان قومه
خالفوه - فهو في عز ومنعة. فقال له عبد الله بن حرام وأسعد بن زرارة وأبو الهيثم ابن التيهان: مالك وللكلام ؟ ! ثم قالوا: يا رسول الله، بل دمنا بدمك وأنفسنا
بنفسك، فاشترط لربك ولنفسك ما شئت. فقال رسول الله: أخرجوا الي منكم اثني عشر نقيبا
يكفلون عليكم بذلك، كما أخذ موسى
من بني اسرائيل اثني
عشر نقيبا. فقالوا: اختر من شئت. فأشار جبرئيل (عليه السلام)
إليهم، فقال: هذا نقيب، وهذا
نقيب حتى اختار تسعة من الخزرج
وهم: أسعد بن زرارة، والبراء
بن معرور، وعبد الله بن حرام - وهو أبو جابر بن عبد الله الأنصاري - ورافع بن
مالك، وسعد بن عبادة، والمنذر بن عمرو، وعبد الله بن رواحة، وسعد بن الربيع،
وعبادة ابن الصامت. وثلاثة من الأوس وهم: أبو الهيثم بن التيهان اليمني حليف بني
عمرو بن عوف، واسيد بن حضير، وسعد بن خيثمة. فلما اجتمعوا وبايعوا رسول الله صاح بهم ابليس: يا معشر قريش والعرب، هذا محمد والصباة من الأوس والخزرج على هذه
العقبة يبايعونه على حربكم فأسمع أهل منى، فهاجت قريش وأقبلوا بالسلاح. وسمع رسول الله النداء فقال للأنصار: تفرقوا. فقالوا: يارسول الله ان أمرتنا أن نميل عليهم بأسيافنا
فعلنا. فقال رسول الله: لم اؤمر بذلك، ولم يأذن الله في محاربتهم. فقالوا: يا رسول الله فتخرج معنا. قال: انتظر أمر الله
(بالهجرة) فتفرقوا. وخرج حمزة وعلي بن أبي طالب فوقف حمزة على العقبة ومعه السيف. فجاءت قريش عن
بكرة أبيها قد أخذوا
السلاح،فلما نظروا الى حمزة قالوا له: ماهذا الذي اجتمعتم عليه ؟ قال: ما اجتمعنا، وما ها هنا أحد، ووالله لا يجوز أحد هذه العقبة
الا ضربته بسيفي ! فرجعوا. ورجع رسول الله الى مكة. (ولم يطلع المسلمون من الأوس
والخزرج المشركين منهم، وفيهم عبد الله بن ابي بن سلول، فغدت قريش إليه) وقالوا
له: قد بلغنا أن قومك بايعوا محمدا على حربنا ؟ فحلف لهم عبد الله: أنهم لم
يفعلوا ولا علم له بذلك، فصدقوه (تفسير
القمي 1: 272، 273.). ذكر ذلك القمي في
تفسيره، ونقله عنه الطبرسي في " اعلام الورى " والقطب الراوندي في
" قصص الأنبياء " ولم يتبعه تلميذه ابن شهر آشوب في " مناقب آل
أبي طالب " بل قال: كان النبي يعرض نفسه على قبائل العرب في الموسم، فلقي
رهطا من الخزرج ستة نفر، فقال: أفلا تجلسون احدثكم ؟ قالوا: بلى، فجلسوا إليه
فدعاهم الى الله وعرض عليهم الإسلام وتلا عليهم القرآن، فقال بعضهم لبعض: والله
إنه للنبي الذي كان يوعدكم به اليهود، فلا تسبقنكم إليه (فصدقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الاسلام) وقالوا له: إنا تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر مثل
ما بينهم، فعسى أن يجمع الله بينهم بك، فسنقدم عليهم وندعوهم الى أمرك (ونعرض
عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فان يجمعهم الله بك فلا رجل أعز منك، ثم
انصرفوا عن رسول الله راجعين الى بلادهم وقد آمنوا وصدقوا). فلما كان العام المقبل أتى من الأنصار الى الموسم اثنا عشر رجلا فلقوا النبي (صلى الله
عليه وآله) فبايعوه على " بيعة النساء " (اصطلح
المسلمون فيما بعد باسم بيعة النساء على البيعة التي وردت في الآية الثانية عشرة
من سورة الممتحنة، وانما يكنى بها عن بيعة لا قتال فيها في مقابل بيعة الحرب.
وسورة الممتحنة نازلة بعد صلح الحديبية، فالتسمية متأخرة.) وبعث
معهم مصعب بن عمير ابن هاشم يصلي بهم (فكان يصلي بهم ويقرئهم القرآن حتى سمي) بينهم بالمقرئ، وحتى لم تبق دار في المدينة إلا وفيها رجال ونساء
مسلمون. (وفي الموسم القادم) خرج جمع من الأنصار مع حجاج قومهم، فاجتمعوا في ليلة من ليالي التشريق في الشعب عند العقبة، ثلاثة وسبعون رجلا وامرأتان. (فقام فيهم رسول الله) فقال: ابايعكم على الإسلام ؟ فقال له بعضهم: نريد أن تعرفنا
- يا رسول الله - ما
لله علينا وما لك علينا وما لنا على الله ؟ فقال: أما ما لله عليكم: فأن تعبدوه
ولا تشركوا به شيئا، وأما ما لي عليكم: فتنصروني مثل نسائكم وأبنائكم، وأن
تصبروا على عض السيف وأن يقتل خياركم (وهذا معناه أن بيعة النساء السابقة تغيرت هنا الى بيعة القتال
والحرب.). قالوا: فإذا فعلنا ذلك فما
لنا على الله ؟ قال: أما في الدنيا
فالظهور على من عاداكم، وفي الآخرة الرضوان والجنة. فقال أبو الهيثم ابن التيهان: إن بيننا وبين الرجال حبالا، فهل عسيت إن نحن قطعناها أو قطعوها
ثم أظهرك الله أن ترجع الى قومك وتدعنا ؟ فتبسم رسول الله ثم قال: بل الدم الدم والهدم الهدم احارب من حاربتم واسالم من سالمتم. فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال: والذي بعثك بالحق لنمنعنك بما نمنع به ازرنا فبايعنا يا رسول الله
فنحن والله أهل الحروب وأهل الحلقة، ورثناها كبارا عن كبار. فقال رسول الله: أخرجوا إلي منكم اثني عشر نقيبا. فاختاروا. فقال لهم: ابايعكم كبيعة عيسى بن مريم للحواريين، كفلاء على قومكم،
على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم. فبايعوه على ذلك. فصرخ الشيطان
في العقبة: يا أهل الجباجب (الجباجب:
جمع جبجبة: الوعاء من أدم ونحوه، وتطلق على منازلهم في منى لأنها أوعية لهم.) هل لكم في محمد والصباة معه ؟ ! فانهم قد اجتمعوا على حربكم.
ففشا الخبر ونفر الناس وخرجوا في الطلب، فلم يدركوا منهم الا سعد بن عبادة
والمنذر بن عمرو، فأما المنذر فاعجز القوم هربا، وأما سعد فأدركوه فأخذوه وربطوه بحبل رحله وأدخلوه مكة يضربونه. فبلغ خبره الى جبير بن
مطعم والحارث بن حرب بن امية (أخي أبي سفيان صخر بن حرب) فأتياه وخلصاه (مناقب آل
أبي طالب 1: 181، 182. وهو مختصر خبر ابن اسحاق كما في سيرة ابن هشام 2: 70 - 93). هذا ما ذكره ابن شهر آشوب في فصل هجرته (صلى
الله عليه وآله)، وقد قال
في الفصل السابق في أحواله وتواريخه: كان حصار الشعب
أربع سنين. وقال قبله: توفي أبو طالب بعد نبوته بتسع سنين وثمانية أشهر، وذلك بعد
خروجه من الشعب بشهرين. وتوفيت خديجة بعده بستة أشهر. ولبث بعدها بمكة ثلاثة
أشهر فأمر أصحابه بالهجرة الى الحبشة (!) فخرج جماعة من أصحابه بأهاليهم، وذلك
بعد خمس من نبوته (!) وقال: فلما توفي أبو طالب
خرج الى الطائف وأقام فيه شهرا، ثم انصرف الى
مكة ومكث فيها سنة وستة أشهر في جوار مطعم
بن عدي. ثم ذكر مختصر خبر بيعة العقبة الاولى والعقبة الثانية، ولكنه أضاف
ذكر أسماءهم فقال: كانت بيعة العقبة الاولى بمنى، بايعه خمسة نفر من الخزرج وواحد من
الأوس، في خفية من قومهم " بيعة النساء " وهم: جابر بن عبد الله (لا يوجد جابر فيمن شهد العقبة بل ابوه عبد الله بن عامر بن حرام. بل
يعد جابر من أتراب الحسين (عليه
السلام).)، وقطبة بن عامر بن حرام، وعوف بن الحارث، وحارثة بن ثعلبة (ولا يوجد هذا الاسم أيضا في الستة الاولى ولا الأخيرة، بل هو جد
الأوس والخزرج، اليعقوبي 2: 30.)، ومرثد ابن الأسد، وأبو أمامة ثعلبة بن عمرو، ويقال: هو أسعد بن
زرارة. وفي السنة القابلة - وهي العقبة الثانية - أنفذوا معهم ستة اخرى بالاسلام والبيعة، وهم: أبو الهيثم بن
التيهان، وعبادة بن الصامت، وذكوان ابن عبد الله، ونافع بن مالك بن العجلان،
وعباس بن عبادة بن نضلة، ويزيد بن ثعلبة حليف له. ويقال: مسعود بن الحارث، وعويم
بن ساعدة حليف لهم. ثم أنفذ النبي (عليه السلام) معهم
ابن عمه: مصعب بن
(عمير) بن هاشم، فنزل دار أسعد بن زرارة، فاجتمعوا عليه وأسلم أكثرهم. وفي السنة القابلة كانت " بيعة الحرب " (في الكتاب: الحرث، أو الحرس، ولا ريب أن الحرس مصحف الحرث، وهو
مصحف الحرب، فهو الصحيح ولا معنى لغيره.) كانوا سبعين رجلا وامراتين من الأوس والخزرج، واختار منهم اثني
عشر نقيبا ليكونوا كفلاء قومهم: تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس، فمن الخزرج:
أسعد بن زرارة، وجابر ابن عبد الله الأنصاري (روى
الكشي في رجاله بسنده عن الباقر (عليه السلام) قال: كان عبد الله أبو جابر بن
عبد الله من السبعين ومن الاثني عشر، وجابر من السبعين وليس من الاثني عشر. رجال
الكشي: 41 ط مشهد.) والبراء بن معرور، وعبد الله بن عمرو بن حرام، وسعد بن عبادة،
والمنذر بن عمرو، وعبد الله بن رواحة، وسعد بن الربيع. ومن القواقل: عبادة بن
الصامت. ومن الأوس: أبو الهيثم بن التيهان، واسيد بن حضير، وسعد بن خيثمة (مناقب آل
أبي طالب 1: 174، 175 وهو مختصر خبر ابن اسحاق كما في سيرة ابن هشام 2: 73 - 75
و 81 - 87. ومنها ما بين الأقواس). وظاهره - كما ترى - أنه يعدد ثلاث بيعات في ثلاث سنوات متواليات، ولم يسند الخبر لا هنا ولا في فصل هجرته (صلى الله عليه وآله) ولم
يذكر سيرة ابن هشام أو ابن اسحاق عند ذكره لطرقه الى كتب العامة في مقدمة كتابه،
نعم ذكر طريقه الى مغازيه (مناقب آل أبي طالب 1: 10.) ومع
ذلك فاني لا أراه الا أنه اختصر خبره من سيرته كما في سيرة ابن هشام، مع فارق:
أن ابن اسحاق يبدأ في خبر اسلام الأنصار، فيذكر عرض الرسول نفسه على العرب
ولقاءه بالستة من الخزرج عند العقبة، وأنهم: أجابوه فيما دعاهم إليه بأن صدقوه
وقبلوا منه ما عرض عليهم من الاسلام... ثم انصرفوا عن رسول الله راجعين الى
بلادهم وقد آمنوا وصدقوا. ثم يسميهم. ولا يذكر شيئا عن البيعة ولا يسميهما " بيعة النساء " ولا " العقبة الاولى
" وابن شهر آشوب سماهما: بيعة
العقبة الاولى، وبيعة النساء. والعقبة
الاولى التي اضيف فيها
الى الستة الاولى ستة آخرون فكان الجميع اثني عشر رجلا وبعث معهم مصعب بن
عمير، يسميها: العقبة
الثانية. والعقبة الثانية التي كان الأنصار فيها: ثلاثة وسبعين رجلا وامرأتين يسميها بيعة
الحرب، وهي كذلك، ولكنه يجعلها البيعة الثالثة في السنة القابلة أي الثالثة. ولعل
منشأ الشبهة له هو أن
ابن اسحاق أو ابن هشام لا
يسمي اللقاء الأول (سيرة ابن هشام 2: 70.)، ويسمي اللقاء الثاني بالعقبة الاولى (ابن هشام
2: 73.) ويسمي اللقاء الثالث بالعقبة الثانية (ابن هشام
2: 81.) ثم يعود على شروط هذه البيعة بعنوان: شروط البيعة في العقبة
الأخيرة: قال ابن اسحاق:
وكانت بيعة الحرب (ابن هشام 2: 97.) فلعله وهم أن
البيعة الأخيرة بيعة
الحرب غير بيعة العقبة
الثانية، فهي الثالثة. وابن اسحاق يروي الخبر الأول عن اللقاء الأول للنبي بالستة من
الخزرج عن عاصم بن عمر بن
قتادة عن أشياخ قومه (سيرة ابن هشام 2: 70.) وخبر العقبة الاولى
عن عبادة بن الصامت بثلاث وسائط (ابن هشام 2: 75.)،
وبطريق آخر عنه بواسطتين (ابن هشام 2: 76.) وخبر
العقبة الثانية عن
كعب بن مالك الخزرجي بواسطة ابنه معبد عن أخيه عبد الله عن أبيه كعب (ابن هشام
2: 81.) وخبر أسر سعد بن عبادة عن عبد الله بن أبي بكر عنه (ابن هشام
2: 92.). ويوهم قوله: كانت
البيعة الاولى على بيعة النساء، وذلك أن الله لم يكن قد أذن لرسوله - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - في الحرب، فلما أذن الله له فيها وبايعهم رسول الله (ابن هشام
2: 97.) وقوله: وكان رسول الله قبل بيعة العقبة لم يؤذن له في الحرب ولم
تحلل له الدماء... فلما عتت قريش على الله عزوجل... أذن الله عزوجل لرسوله في
القتل والانتصار ممن ظلمهم وبغى عليهم... بلغني عن عروة بن الزبير وغيره من
العلماء: أن أول آية انزلت في اذنه له في الحرب وإحلاله له الدماء والقتال لمن
بغى عليهم قول الله تبارك وتعالى: * (اذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير) * (الحج: 39.)... فلما أذن الله تعالى له في الحرب وبايعه هذا الحي من الأنصار (ابن هشام
2: 110 - 111.) يوهم قوله هذا:
أن الاذن له بالحرب صدر بهذه الآية قبل بيعة الحرب في العقبة الثانية قبل الهجرة، ولذلك بايعهم النبي بيعة الحرب. ويرده ما رواه ابن اسحاق عن معبد
بن كعب عن اخيه عبد الله بن كعب عن أبيه كعب بن مالك: أن العباس بن عبادة بن
نضلة قال له: إن شئت لنميلن على
أهل منى غدا بأسيافنا ؟ ! فقال
رسول الله: لم نؤمر بذلك، ولكن ارجعوا الى رحالكم (سيرة ابن
هشام 2: 90.). والآية من سورة الحج، وهي بعد المائة في ترتيب النزول، أي النازلة بعد عشرين سورة نزلت بعد الهجرة، تقريبا، مما لا يناسب معه نزولها حتى قبل وقعة بدر في منتصف السنة
الثانية للهجرة، بل يناسب نزولها بعد ذلك تحكي علة الاذن في ذلك، فضلا عن أن
تكون قد نزلت قبل بيعة
الحرب في العقبة الثانية قبل
الهجرة، مما يوهمه ظاهر
مقال ابن اسحاق، ولكن الحديث اختلط بعضه ببعض في غير
وضوح. نعم كان يفهم من بيعة الحرب أن ذلك
سيكون، وكانت لابن اسحاق رواية عن عروة ابن
الزبير وغيره عن أول آية انزلت في الاذن في الحرب والقتال، فانتقل الى نقل الرواية جملة معترضة، ومثله كثير في الكتب
القديمة. |
انتشار
الاسلام في المدينة:
|
مر في تعبير القمي في تفسيره: أن رسول الله (صلى
الله عليه وآله) بعث
الى المدينة مع
الاثني عشر نقيبا في
بيعة العقبة الاولى: مصعب بن عمير بن هاشم يصلي بهم. فكان يصلي بهم ويقرئهم القرآن حتى
سمي بينهم بالمقرئ، وحتى لم تبق دار في المدينة الا وفيها رجال ونساء مسلمون. ومر في تعبير ابن شهر آشوب في " المناقب ": ثم أنفذ النبي (عليه السلام) معهم (ابن عمه) مصعب بن عمير بن
هاشم، فنزل دار أسعد بن زرارة، فاجتمعوا عليه وأسلم اكثرهم. أما لماذا نزل دار
أسعد بن زرارة ؟ فقد مر في أخبار حصار قريش
لبني هاشم في شعب أبي طالب
(رضي الله عنه) عن
الطبرسي في " إعلام الورى " عن علي بن ابراهيم القمي قال: كان بين الأوس والخزرج حرب قد بغوا فيها دهورا طويلة، وكانوا لا
يضعون السلاح لا بالليل ولا بالنهار، وكان آخر حرب بينهم " يوم بعاث "
وكانت للأوس على الخزرج. وكان عبد الله بن ابي بن سلول شريفا في الخزرج، ولكنه لم يدخل مع
قومه الخزرج في حرب بعاث ولم يعنهم على الأوس وقال: هذا ظلم منكم للأوس ولا اعين على الظلم. فرضيت به الأوس
والخزرج واجتمعوا على أن يملكوه عليهم لشرفه وسخائه، وحتى أنهم اتخذوا له اكليلا
احتاجوا في تمامه الى واسطة كانوا يطلبونها... وكان أسعد بن زرارة (الخزرجي من بني النجار أخوال الرسول) صديقا لعتبة بن ربيعة المخزومي، فخرج هو وذكوان الى مكة في عمرة
رجب يسألون الحلف على الأوس، فلما نزل على عتبة قال له: انه
كان بيننا وبين قومنا حرب، وقد جئناكم نطلب الحلف عليهم. فقال عتبة: بعدت دارنا عن داركم، ولنا شغل لا نتفرغ معه لشئ ! قال أسعد: وما
شغلكم وأنتم في حرمكم وأمنكم ؟ قال له عتبة: خرج
فينا رجل يدعي أنه رسول الله، سفه أحلامنا وسب آلهتنا وأفسد شبابنا وفرق
جماعتنا. فقال له أسعد: من هو
منكم ؟ قال: ابن عبد الله بن عبد المطلب، من أوسطنا شرفا وأعظمنا بيتا. وكان أسعد وذكوان وجميع الأوس والخزرج يسمعون من اليهود الذين كانوا بينهم: النضير وقريظة وقينقاع: أن
هذا أوان نبي يخرج بمكة يكون مهاجره الى المدينة، لنقتلنكم به يا معشر العرب !
فلما سمع ذلك الكلام من عتبة وقع في قلبه ما كان سمعه من اليهود فقال: أين هو ؟
قال: جالس في الحجر، وإنهم لا يخرجون من شعبهم الا في الموسم، فلا تسمع منه ولا
تكلمه فانه ساحر يسحرك بكلامه. فقال له أسعد: فكيف
أصنع وأنا معتمر لابد لي أن أطوف بالبيت ؟ فقال: ضع في اذنيك القطن. فدخل أسعد المسجد وقد حشا اذنيه من القطن. فطاف بالبيت ورسول الله (صلى الله عليه وآله) جالس في الحجر مع
قوم من بني هاشم، فنظر
إليه نظرة فجازه، فلما
كان في الشوط الثاني قال في
نفسه: ما أجد أجهل مني ! أيكون مثل هذا الحديث بمكة فلا نعرفه حتى أرجع الى قومي فاخبرهم ؟ ! ثم أخرج القطن من اذنيه ورمى به وقال لرسول الله:
أنعم صباحا ! فرفع
رسول الله رأسه إليه وقال:
قد أبدلنا الله به ما هو أحسن من هذا، تحية أهل الجنة:
السلام عليكم. فقال له
أسعد: ان عهدك بهذا لقريب. الى ما تدعو يا محمد ؟ قال: الى شهادة أن لا اله الا الله وأني رسول الله، وأدعوكم الى: * (ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين احسانا ولا تقتلوا أولادكم من
املاق نحن نرزقكم واياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا
النفس التي حرم الله الا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون ولا تقربوا مال
اليتيم الا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف
نفسا الا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم
به لعلكم تذكرون) * (الأنعام:
151، 152). فلما سمع أسعد هذا قال: أشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك له، وأنك رسول الله. يا رسول الله، بأبي
أنت وامي، أنا من أهل يثرب من الخزرج وبيننا وبين اخواننا من الأوس حبال مقطوعة،
فان وصلها الله بك فلا أجد أعز منك، ومعي رجل من قومي فان دخل في هذا الأمر رجوت
أن يتمم الله لنا أمرنا فيك. والله يارسول الله لقد كنا نسمع من اليهود خبرك، وكانوا يبشروننا بمخرجك، ويخبروننا بصفتك، وأرجو أن تكون دارنا دار هجرتك وعندنا مقامك، فقد أعلمنا اليهود ذلك، فالحمد لله الذي ساقني اليك. والله ما جئت الا لنطلب الحلف على
قومنا، وقد آتانا الله بأفضل مما أتيت له. ثم أقبل ذكوان.
فقال له أسعد: هذا رسول الله الذي كانت اليهود تبشرنا به وتخبرنا بصفته، فهلم وأسلم. فأسلم
ذكوان. ثم قالا: يا رسول الله، ابعث معنا رجلا يعلمنا القرآن ويدعو الناس الى
أمرك. وكان مصعب بن عمير بن
هاشم فتى حدثا مترفا بين أبويه يكرمانه ويفضلانه على أولادهم، فلما أسلم جفاه
أبواه، ولم يخرج من مكة فكان
مع رسول الله في الشعب حتى تغير وأصابه الجهد، وقد كان تعلم من القرآن كثيرا. فأمره رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالخروج
مع أسعد فخرج هو مع أسعد الى المدينة، فكان نازلا على
أسعد بن زرارة، يخرج
معه في كل يوم يطوف على مجالس الخزرج يدعوهم الى الاسلام فيجيبه من كل بطن الرجل
والرجلان من الأحداث. فقال أسعد لمصعب: ان خالي سعد بن معاذ من رؤساء الأوس،
وهو رجل عاقل شريف مطاع في بني عمرو بن عوف، فان دخل في هذا الأمر تم لنا أمرنا،
فهلم نأتي محلتهم. فجاء مصعب مع أسعد الى محلة سعد بن معاذ. فبلغ
ذلك سعد بن معاذ فقال
لاسيد بن حضير وكان من أشرافهم:
بلغني إن أبا أمامة أسعد بن زرارة قد جاء الى محلتنا مع هذا القرشي يفسد شبابنا، فاته وانهه عن ذلك. فجاء اسيد بن حضير فنظر إليه أسعد فقال
لمصعب بن عمير: ان
هذا الرجل شريف، فان دخل في هذا الأمر رجوت أن يتم أمرنا فاصدق الله فيه. فلما قرب اسيد منهم قال: يا أبا أمامة، يقول
لك خالك: لا تأتنا في
نادينا ولا تفسد شبابنا واحذر الأوس على نفسك ! فقال مصعب: أو
تجلس فنعرض عليك أمرا فان أحببته دخلت فيه وإن كرهته نحينا عنك ما تكرهه. فجلس، فقرأ
عليه سورة من القرآن. فقال: كيف تصنعون إذا دخلتم في هذا الأمر ؟ قال: نغتسل ونلبس ثوبين طاهرين ونشهد الشهادتين ونصلي ركعتين. فرمى بنفسه مع ثيابه في البئر ثم خرج وعصر ثوبه ثم قال: اعرض علي. فعرض
عليه: شهادة أن لا اله الا
الله وأن محمدا رسول الله. فقالها،
ثم صلى ركعتين، ثم
قال لأسعد: يا أبا أمامة، أنا
أبعث اليك الآن خالك واحتال عليه في أن يجيئك ! فرجع اسيد الى سعد بن معاذ، فلما نظر إليه سعد قال: اقسم أن اسيدا قد رجع الينا بغير الوجه
الذي ذهب به من عندنا ! (إعلام الورى: 55 - 58 وليس في التفسير.). فلما وقف على النادي قال له سعد: ما فعلت ؟ قال: كلمت الرجلين فوالله ما رأيت بهما بأسا، وقد
نهيتهما فقالا: نفعل ما أحببت، وقد حدثت أن بني حارثة قد خرجوا الى أسعد بن زرارة ليقتلوه ! -
وذلك أنهم قد عرفوا أنه ابن خالتك - ليخفروك ! فقام سعد مغضبا مبادرا تخوفا للذي ذكر له من بني حارثة،
فأخذ الحربة من يد اسيد ثم قال: والله ما أراك أغنيت شيئا ! ثم خرج اليهما. فلما رآه أسعد قال لمصعب: أي مصعب، جاءك - والله - سيد من وراءه من قومه ان يتبعك لا يتخلف
عنك منهم اثنان ! ولما
رآهما سعد مطمئنين عرف أن اسيدا انما أراد منه أن يسمع منهما، فوقف عليهما متشمتا وقال لأسعد: يا
أبا أمامة، أما والله لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت هذا مني !
أتغشانا في ديارنا بما نكره ؟ ! فقال له مصعب: أو
تقعد فتسمع، فان رضيت أمرا ورغبت فيه قبلته، وان كرهت عزلنا عنك ما تكره ؟ قال سعد: أنصفت. ثم
ركز الحربة وجلس، فعرض
عليه الاسلام وقرأ عليه من القرآن (سيرة ابن هشام 2: 78.) *
(حم تنزيل من الرحمن الرحيم) * (فصلت: 1 - 2.) فلما سمعها بعث الى منزله فاتي بثوبين طاهرين فاغتسل وشهد
الشهادتين وصلى ركعتين، ثم قام وأخذ بيد مصعب وحوله إليه وقال: أظهر أمرك ولا تهابن أحدا. ثم جاء فوقف في بني عمرو بن عوف وصاح: يا بني عمرو بن عوف، لا يبقين رجل ولا امرأة ولا بكر ولا ذات بعل ولا شيخ ولا صبي الا
أن يخرج، فليس هذا يوم ستر ولا حجاب. فلما اجتمعوا قال: كيف حالي عندكم ؟
قالوا: أنت سيدنا والمطاع فينا ولا نرد لك أمرا فمرنا بما شئت. فقال: كلام رجالكم ونسائكم وصبيانكم علي حرام حتى تشهدوا أن لا اله الا الله وأن محمدا رسول الله، والحمد لله الذي أكرمنا بذلك، وهو الذي كانت اليهود تخبرنا به. فما بقي دار من دور بني عمرو بن عوف في ذلك اليوم الا وفيها مسلم أو
مسلمة. وشاع الاسلام بالمدينة
وكثر، ودخل فيه من البطنين أشرافهم، وذلك لما كان عندهم من أخبار اليهود. وكتب مصعب الى رسول الله
بأن الأوس والخزرج قد دخلوا في الاسلام، فلما بلغ ذلك رسول الله أمرهم بالخروج الى المدينة، فكانوا يتسللون إليها رجلا رجلا، فينزلهم الأوس والخزرج عندهم
ويواسونهم (إعلام الورى: 58، 59. وقد مر الخبر ضمن أخبار حصار الشعب، ولكني
كررته هنا ابرازا لدور أسعد بن زرارة الخزرجي وسعد بن معاذ الأوسي في انتشار
الاسلام في المدينة. والخبر في سيرة ابن هشام 2: 77 - 80 باختلاف في بعض
الألفاظ.). روى ذلك الطبرسي
في " إعلام الورى " عن علي بن ابراهيم القمي، ولا يوجد الخبر في الموجود المطبوع من تفسيره، وروى في تفسيره " مجمع البيان " عن ابن سيرين (ت 110) قال: اجتمع الأنصار الى أسعد بن زرارة وقالوا له: لليهود يوم
يجتمعون فيه كل سبعة أيام، وللنصارى يوم أيضا مثل ذلك، فلنجعل يوما نجتمع فيه
فنذكر الله عزوجل ونشكره. فلليهود يوم السبت وللنصارى يوم الأحد فاجعلوا يومنا يوم العروبة (وهي اسم الجمعة في الجاهلية فتوافقوا
عليه). فاجتمعوا فيه الى أسعد بن زرارة، فذبح لهم شاة، ثم ذكرهم وصلى بهم،
ثم تغدوا وظلوا حتى تعشوا عنده من تلك الشاة، وذلك لقلتهم، فسموه يوم الجمعة لاجتماعهم إليه فيه. فهذه أول جمعة جمعت في الاسلام (مجمع
البيان 10: 432.) حيث صلوا فيه مع أسعد بن زرارة فريضة ظهر يوم الجمعة جماعة، قبل قدوم الرسول وتشريع صلاة الجمعة والخطبتين قبلها. وروى ابن اسحاق بسنده عن كعب بن مالك الأنصاري قال: كان (أسعد
بن زرارة) أول من جمع بنا
بالمدينة في هزم (بني) النبيت من حرة بني بياضة في نقيع يقال له: نقيع الخضمات. وهم يومئذ أربعون رجلا (سيرة ابن
هشام 2: 77.). ولعله كان بعد رجوع مصعب
بن عمير الى مكة قبل بيعة العقبة الثانية (سيرة ابن
هشام 2: 81.). |
كانت
الصلاة يومئذ الى بيت المقدس: قال ابن اسحاق
|
فلما انصرف عنه القوم (من بيعة العقبة الاولى) بعث رسول الله معهم مصعب بن عمير بن هاشم، وأمره أن يقرئهم القرآن
ويعلمهم الاسلام ويفقههم في الدين... وكان يصلي بهم (سيرة ابن
هشام 2: 76، 77.) ولم يقل عن القبلة شيئا. ولكنه روى عن معبد بن كعب، عن أخيه عبد الله بن كعب، عن أبيه كعب
بن مالك (الخزرجي) قال: ما بلغنا أن نبينا يصلي الا الى الشام فكنا إذا حضرت
الصلاة صلينا الى الشام (يعني القدس)... فلما خرجنا من المدينة في حجاج قومنا...
وتوجهنا لسفرنا... وسيدنا وكبيرنا البراء ابن معرور، قال لنا: يا هؤلاء، اني قد
رأيت رأيا فوالله ما أدري أتوافقونني عليه أم لا ؟ ! قلنا: وما ذاك ؟ قال: قد رأيت أن لا أدع هذه البنية (الكعبة) بظهري بل اصلي إليها. فقلنا: والله ما بلغنا أن نبينا يصلي الا الى الشام وما نريد أن
نخالفه. فكنا إذا حضرت الصلاة صلينا الى الشام، وصلى هو الى الكعبة، وقد عبنا
عليه ما صنع، وأبى الا الاقامة على ذلك وقال: إني لمصل إليها... حتى قدمنا مكة. فلما قدمنا مكة قال لي: يابن أخي لقد وقع في نفسي مما صنعت في سفري شئ: لما رأيت من
خلافكم إياي فيه، فانطلق بنا الى رسول الله حتى نسأله عما صنعت. وكان العباس بن عبد المطلب عم النبي يقدم علينا تاجرا، فكنا نعرف العباس (ويعرفنا) وكنا لا نعرف رسول
الله ولم نره قبل ذلك، فخرجنا
نسأل عنه، فلقينا رجلا من
أهل مكة فسألناه عن رسول
الله، فقال: هل تعرفانه ؟ فقلنا: لا، فقال:
فهل تعرفان العباس عمه ؟ قلنا:
نعم، قال: فإذا دخلتما
المسجد فهو الرجل الجالس مع العباس. فدخلنا المسجد، فإذا العباس جالس، ورسول الله جالس معه. فسلمنا ثم جلسنا إليه. فقال رسول الله للعباس: هل تعرف هذين الرجلين يا أبا الفضل ؟ قال: نعم، هذا البراء بن
معرور سيد قومه، وهذا
كعب بن مالك، فقال رسول الله: الشاعر ؟ قال العباس: نعم. فقال له البراء بن معرور: يا رسول الله، قد هداني الله للاسلام، وقد خرجت في سفري هذا،
فرأيت أن لا أجعل هذه البنية بظهري فصليت إليها، وخالفني أصحابي في ذلك حتى وقع
في نفسي من ذلك شئ، فماذا
ترى يا رسول الله ؟ قال: قد كنت على قبلة لو صبرت عليها. فرجع البراء الى قبلة رسول
الله وصلى معنا الى الشام (سيرة ابن هشام 2: 81، 82.). |
كان
العباس يحضر النبي ويتوثق له:
|
وكما روى ابن اسحاق
هنا عن معبد بن كعب عن أخيه عبد الله بن كعب عن أبيه كعب بن مالك الخزرجي: أن العباس كان يجالس رسول الله (صلى الله عليه وآله) في المسجد الحرام أيام الموسم ويعرفه بالناس...
يستمر فيروي عنه: أنه (صلى
الله عليه وآله) جاءنا
- في العقبة الثانية - ومعه عمه العباس بن عبد المطلب وهو يومئذ على دين قومه،
الا أنه أحب أن يحضر أمر ابن اخيه ويتوثق له. فلما جلس كان أول من تكلم العباس فقال: يا معشر الخزرج: ان محمدا منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا
ممن هو على مثل رأينا فيه، فهو في عز من قومه ومنعة في بلده (؟ !) وانه قد أبى
الا الانحياز اليكم واللحوق بكم (؟) فان كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه
إليه ومانعوه ممن خالفه، فانتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه
وخاذلوه بعد الخروج به اليكم، فمن الآن فدعوه، فانه في عز ومنعة من قومه وبلده
(؟ !). فقلنا له: قد سمعنا ما
قلت. فتكلم يا رسول الله فخذ لنفسك ولربك ما أحببت. فتكلم رسول الله فتلا القرآن ودعا الى الله ورغب في الاسلام ثم قال: ابايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم (سيرة ابن
هشام 2: 84.). ثم يروي عن عاصم بن عمر
بن قتادة عن أشياخ قومه قالوا:
ان القوم لما اجتمعوا لبيعة رسول الله -
صلى الله عليه [ وآله ] وسلم -
قال العباس بن عبادة بن نضلة الأنصاري: يا معشر الخزرج، هل تدرون علام تبايعون
هذا الرجل ؟ قالوا: نعم، قال: إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس،
فان كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة وأشرافكم قتلا أسلمتموه فمن الآن،
فهو - والله إن فعلتم - خزي الدنيا والآخرة، وان كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه
إليه على نهكة الأموال وقتل الأشراف فخذوه، فهو - والله - خير الدنيا والآخرة. قالوا: فانا نأخذه على
مصيبة الأموال وقتل الأشراف. فمالنا بذلك يا رسول الله ان نحن وفينا بذلك ؟ قال:
الجنة. قالوا: ابسط يدك، فبسط يده فبايعوه. وما قال ذلك العباس الا
ليشد العقد لرسول الله في أعناقهم (سيرة ابن
هشام 2: 88، 89.). وكأنه يروي الخبر كذلك عن عبد الله بن أبي بكر، وأنه قال في آخر
الخبر: قال ذلك العباس
ليؤخر القوم تلك الليلة رجاء أن يحضرها عبد الله ابن ابي بن سلول، فيكون أقوى
لأمر القوم (ابن هشام
2: 89.) وكأن ابن اسحاق
تخيل اختلافا بين القولين فقال: فالله أعلم أي ذلك كان. فان كان بين القولين خلاف في ارادة العباس بن عبادة بقوله ذلك تأخير القوم تلك الليلة يرجو
أن يحضرها عبد الله بن ابي بن سلول. فلا خلاف في أنه قال ذلك ليشد العقد لرسول الله ويقوي أمره وأمرهم، سواء أراد ذلك من خلال حضور ابن سلول أم لا. هذا، ولكن قول ابن أبي بكر يدل على أن طلب رسول الله منهم البيعة على " بيعة الحرب " لم يكن طلبا قد تقدم به الى القوم من ذي قبل بل كأنه فاجأهم أو
فاجأ جمعهم بذلك. وتتقارب مقالة العباس بن عبادة مع مقالة العباس بن عبد المطلب،
وكلاهما يريد شد العقد لرسول الله ويتوثق له، فيقول أحدهم: وإن
كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه فمن الآن فدعوه. ويقول الآخر: فان كنت ترون أنكم
إذا... أسلمتموه فمن الآن. وكل من المقالتين للرجلين في روايتين، ولا تجمعهما
رواية واحدة. فهل
كان كلاهما ؟ أو أحدهما ؟ وان
كان أحدهما فهل هو العباس بن عبادة أو العباس بن عبد المطلب ؟ وهل صحيح ما جاء فيما روي عن العباس عم النبي (صلى الله عليه وآله) أنه في عز من قومه ومنعة في بلده ؟ ! وأنه قد منعه عن قومه ممن هو
على مثل رأيه ؟ ! كما في
النص. وهل صحيح أنه:
أبى الا الانحياز الى الخزرج واللحوق بهم ؟ ! وهل كانت هجرته مجاهرا بها منذ بيعة العقبة الثانية ؟ ! بل يقول ابن اسحاق:
وأقام رسول الله بمكة ينتظر أن يأذن له ربه في الخروج والهجرة من مكة الى
المدينة (سيرة ابن هشام 2: 111.). أم أن الصحيح هي
رواية عاصم بن عمر بن قتادة عن أشياخ قومه ورواية عبد الله بن أبي بكر، وأن المتكلم كان العباس بن عبادة، لا العباس بن عبد المطلب على رواية معبد بن
كعب. ولا ننسى أن هذه
السيرة لابن اسحاق اختصره
من كتابه الكبير في التاريخ
الذي صنفه للمهدي بن المنصور العباسي بأمر المنصور (مقدمة
سيرة ابن هشام 1: ط، ي. وزاد عليه اليعقوبي - مولى بني العباس - فقال: قال
العباس للنبي: دعني فداك أبي وامي آخذ العهد عليهم، فجعل ذلك إليه، فأخذ عليهم
العهود والمواثيق. اليعقوبي 2: 31.). |
قصة
صنم عمرو بن الجموح :
|
ومن القصص المروية في أخبار إسلام الأنصار: قصة معاملة معاذ بن
عمرو بن الجموح مع
صنم أبيه عمرو بن الجموح، قالوا: كان الأشراف يتخذون لأنفسهم آلهة يطهرونها ويعظمونها، وكان عمرو بن الجموح سيدا من سادات بني سلمة وشريفا من أشرافهم، وكان قد اتخذ في داره
صنما من خشب يسميه مناة (أي
الآلهة التي يمنى أي يراق لديها الدماء قربانا لها) وكان ابنه معاذ بن عمرو بن الجموح ممن شهد العقبة وبايع رسول الله بها، فكان هو وأصحابه يدلجون بالليل على صنم عمرو بن الجموح فيحملونه
فيطرحونه في بعض حفر بني سلمة منكسا على رأسه. فإذا أصبح عمرو غدا يلتمسه، حتى
إذا وجده غسله وطهره وطيبه. فإذا أمسى عمرو عدوا عليه ففعلوا به مثل ذلك، فيغدو فيجده في مثل ما كان فيه من الأذى، فيغسله ويطهره ويطيبه. ثم إذا أمسى يعدون عليه فيفعلون به مثل ذلك، فاستخرجه من حيث
ألقوه فغسله وطهره وطيبه، ثم
جاء بسيفه فعلقه عليه ثم قال له: اني والله ما أعلم من يصنع بك ما ترى، فان كان فيك خير فامتنع فهذا السيف معك.
فلما أمسى ونام عمرو، عدوا عليه فأخذوا السيف من عنقه ثم ألقوه في بئر من آبار
بني سلمة ثم أخذوا كلبا ميتا فقرنوه به بحبل. فلما غدا عمرو خرج تتبعه حتى وجده
في تلك البئر منكسا مقرونا بكلب ميت، فلما أبصره ورآه قال يذكر صنمه ذلك وما أبصر من أمره: والله لو كنت الها لم تكن * أنت وكلب وسط بئر في قرن اف لملقاك الها مستدن *
الآن فتشناك عن سوء الغبن وكلمه من أسلم من رجال قومه، فأسلم برحمة الله وحسن اسلامه (سيرة ابن
هشام 2: 95، 96.).
|
الفصل
التاسع هجرة المسلمين الى المدينة
|
إذن
النبي (صلى الله عليه وآله) لأصحابه بالهجرة الى المدينة:
|
إذن النبي (صلى
الله عليه وآله) لأصحابه
بالهجرة الى المدينة: قال
ابن شهر آشوب: كان النبي (صلى
الله عليه وآله) لم
يؤمر الا بالدعاء والصبر على الأذى والصفح عن الجاهل، فطالت قريش على المسلمين،
فلما كثر عتوهم أمر بالهجرة فقال (صلى الله عليه وآله): إن الله قد جعل لكم دارا تأمنون بها واخوانا. فخرجوا أرسالا، حتى
لم يبق مع النبي الا علي (عليه
السلام) وأبو بكر (مناقب آل
أبي طالب 1: 182.). وقال قبله محمد بن اسحاق: كان رسول الله - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - قبل بيعة العقبة لم يؤذن له في الحرب ولم تحلل له الدماء، إنما
كان يؤمر بالدعاء الى الله والصبر على الأذى والصفح عن الجاهل. وكانت قريش قد اضطهدت من اتبعه من المهاجرين حتى فتنوهم عن دينهم
ونفوهم من بلادهم، فهم بين مفتون في دينه، وبين معذب في أيديهم وبين هارب في
البلاد فرارا منهم: منهم من بأرض الحبشة، ومنهم من بالمدينة، وفي كل وجه. فلما عتت قريش على الله عز
وجل وردوا عليه ما أرادهم به من الكرامة، وكذبوا نبيه - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم -، وعذبوا ونفوا من عبده ووحده وصدق نبيه واعتصم بدينه، أذن الله
عزوجل لرسوله في
(أخذ البيعة) للقتال والانتصار
ممن ظلمهم وبغى عليهم... لما أذن الله تعالى له في (أخذ البيعة) للحرب، وبايعه هذا الحي من الأنصار على الاسلام والنصرة له ولمن تبعه وأوى
إليهم من المسلمين، أمر رسول الله أصحابه من المهاجرين من قومه ومن معه بمكة من
المسلمين بالخروج الى المدينة والهجرة إليها واللحوق بإخوانهم من الأنصار، وقال لهم: ان
الله عز وجل قد جعل لكم إخوانا ودارا تأمنون بها. فخرجوا أرسالا (جمعا فجمعا). وأقام رسول
الله بمكة ينتظر أن يأذن له ربه في الخروج من مكة والهجرة الى المدينة (سيرة ابن هشام 2: 110،
111. ومن المقارنة بين عبارة ابن شهر آشوب وابن اسحاق يبدو أن كلام ابن شهر آشوب
انما هو مختصر ما ذكره ابن اسحاق، من دون اسناد.). |
هجرة
أبي سلمة الى المدينة:
|
كان من المسلمين المهاجرين الى الحبشة: أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد المخزومي مع ام سلمة، ومر أن عددا
منهم لما سمعوا باسلام جمع من قريش رجعوا الى مكة فوجدوا الخبر كاذبا، وأخذهم
المشركون ليعذبوهم فتفرقوا. منهم أبو سلمة. وقال ابن اسحاق في النص
السابق: منهم من بأرض
الحبشة ومنهم من بالمدينة وفي كل وجه. ويفهم منه أن منهم من هاجر الى المدينة
قبل بدء الهجرة وقبل بيعة العقبة، وصرح به ابن هشام فقال: كان قدم على رسول الله
من أرض الحبشة، فلما آذته قريش وبلغه اسلام من أسلم من الأنصار (في اللقاء الأول قبل العقبة الاولى) هاجر الى المدينة قبل بيعة أصحاب العقبة بسنة. ثم روى ابن اسحاق عن أبيه عن سلمة بن عبد الله عن أبيه عبد الله ابن
عمر عن امه ام سلمة قالت: لما
أجمع أبو سلمة على الخروج الى المدينة جهز لي بعيره فأركبني ومعي ابني سلمة في
حجري، ثم خرج يقود بعيري. فلما رأته رجال بني مخزوم قاموا إليه فقالوا: هذه نفسك
غلبتنا عليها، فعلام نتركك تسير بصاحبتك ؟ ! ثم نزعوا خطام البعير من يده
فأخذوني منه. وقال رهط
أبي سلمة: إذ نزعتموها من
صاحبنا فلا نترك ابننا عندها. فتجاذبوا
بني سلمة بينهم حتى خلعوا يده وانطلق به رهط أبي سلمة. وحبسني أهلي عندهم. وانطلق زوجي أبو سلمة الى المدينة. قال: فكنت أخرج كل غداة فأجلس بالأبطح فما أزال أبكي حتى امسي، سنة
أو قريبا منها. حتى مر بي رجل من بني عمي
فرأى مابي فرحمني، فقال
لهم: ألا تخرجون هذه
المسكينة، فرقتم بينها وبين زوجها وبين ولدها ؟ فعند ذلك ردوا إلي ابني وقالوا
لي: إن شئت فالحقي بزوجك. قالت: فارتحلت بعيري وابني في حجري، وخرجت اريد زوجي بالمدينة وما
معي أحد من خلق الله، وانما قلت (في نفسي): أتبلغ
بمن لقيت حتى أقدم على زوجي. فلما
كنت بالتنعيم (على
فرسخين من مكة) لقيت عثمان بن طلحة من بني عبد الدار فقال لي: يا بنت أبي امية الى
أين ؟ فقلت: اريد زوجي
بالمدينة. قال: أوما معك أحد
؟ قلت: لا والله الا الله وابني هذا. فقال: والله
مالي أن أتركك، ثم أخذ بخطام البعير فانطلق بي، حتى إذا بلغ المنزل أناخ بي ثم
تأخر عني، حتى إذا نزلت أخذ بعيري فحط عنه ثم قيده في شجرة، ثم تنحى عني الى
شجرة فاضطجع تحتها. فإذا دنا الرواح قام الى بعيري فقدمه ثم تأخر عني وقال:
اركبي، فإذا ركبت أتى فأخذ بخطامه فقاده، فلم يزل يصنع ذلك بي حتى أقدمني المدينة، فلما نظر الى قرية بني عمرو بن عوف بقباء، قال: زوجك في هذه
القرية فادخليها على بركة الله. ثم انصرف راجعا الى مكة (سيرة ابن
هشام 2: 112، 113 بتصرف يسير في الألفاظ.). |
المهاجرون
بعد أبي سلمة:
|
ثم قدم المدينة من المهاجرين بعد أبي سلمة: عامر بن ربيعة ومعه امرأته ليلى بنت أبي حثمة. ثم عبد
الله بن جحش مع أهله وأخيه عبد بن جحش وكان
شاعرا ضرير البصر، وكان
صهر أبي سفيان على ابنته الفرعة، وكانوا حلفاء بني امية. وقال في ذلك شعرا. فكان منزل أبي سلمة، وعامر بن ربيعة، وعبد الله بن جحش، وأخيه عبد
بن جحش على مبشر بن عبد المنذر من بني عمرو بن عوف في قباء (سيرة ابن
هشام 2: 112 - 116.). ثم خرج عمر بن الخطاب، وعياش بن أبي ربيعة المخزومي، فروى ابن اسحاق عن نافع مولى عبد الله بن عمر، عن عبد الله بن
عمر، عن أبيه عمر قال: لما أردنا الهجرة الى المدينة أنا وعياش بن أبي ربيعة
وهشام ابن العاصي بن وائل السهمي، تواعدنا (أشجار) التناضب فوق (منزل) سرف (على
ستة أميال من مكة) وقلنا: أينا لم يصبح عندها فقد حبس فليمض صاحباه. فأصبحت أنا
وعياش بن أبي ربيعة عند (أشجار) التناضب، وحبس عنا هشام وفتن فافتتن. فلما قدمنا المدينة نزلنا في بني عمرو بن عوف في قباء. وكان عياش بن أبي ربيعة
المخزومي ابن عم أبي جهل بن هشام المخزومي بل أخاه لامه، فخرج
أبو جهل وأخوه الحارث حتى قدما علينا المدينة، وقالا له: إن
امك قد نذرت أن لا يمس رأسها مشط ولا تستظل من شمس حتى تراك ! فقلت له: يا
عياش إنه والله ان يريدك القوم الا ليفتنوك عن دينك فاحذرهم. فقال: ابر
قسمي ولي هناك مال فاخذه، فأبى الا أن يخرج معهما. فخرج معهما، حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال له أبو جهل:
يا أخي والله لقد استغلظت بعيري هذا أفلا تعقبني على ناقتك هذه ؟ قال: بلى.
فأناخ وأناخا ليتحول، فلما استووا بالأرض عدوا عليه فأوثقاه وربطاه، ثم دخلا به
مكة وفتناه فافتتن. وكان عمر بن الخطاب حين قدم
المدينة قد نزل على رفاعة بن عبد المنذر من بني عمرو بن عوف في قباء، ولحق به من
أهله وقومه: اخوه زيد ابن
الخطاب، وصهره خنيس بن حذافة السهمي، وحلفاؤهم: واقد بن عبد الله التميمي، وخولي
بن أبي خولي وأخوه مالك، وسعيد بن زيد وإياس بن بكير، وإخوانه: عاقل وعامر
وخالد. ونزل عثمان بن عفان على أوس بن ثابت أخي حسان بن ثابت من بني النجار. وهاجر عبد الرحمن بن عوف فنزل على سعد بن الربيع الخزرجي. وهاجر صهيب بن سنان (الرومي) فروى ابن هشام عن أبي عثمان النهدي قال: لما
اراد صهيب الهجرة قال له كفار قريش: أتيتنا صعلوكا حقيرا فكثر مالك عندنا وبلغت الذي بلغت ثم تريد ان
تخرج بمالك ونفسك ؟ ! والله لا يكون ذلك ! فقال لهم صهيب:
أرأيتم إن جعلت لكم مالي أتخلون سبيلي ؟ ! قالوا: نعم. قال: فاني جعلت لكم مالي.
ثم هاجر فنزل على خبيب بن أساف الخزرجي بالسنخ ومعه طلحة بن عبيد الله. فلما بلغ
رسول الله أمر صهيب قال: ربح صهيب ! ربح صهيب ! ونزل الزبير بن العوام على منذر بن محمد من بني جحجبي بالعصبة، ومعه أبو سبرة. ونزل:
مصعب بن عمير بن هاشم على سعد بن معاذ (هذه المرة). وهاجر من بني عبد المطلب: حمزة بن عبد المطلب فنزل على أسعد ابن زرارة (مكان مصعب). وهاجر
معه موالي رسول الله: زيد بن حارثة وأبو كبشة، وأنسة، وحليفا حمزة: أبو مرثد
الغنوي وابنه مرثد، فنزلوا على كلثوم بن هدم من بني عمرو بن عوف في قباء، أو:
سعد بن خيثمة، وكان
عزبا فنزل عليه العزاب منهم. ومن بني المطلب: مسطح بن اثاثة بن عباد بن المطلب، وبنو الحارث ابن المطلب. عبيدة
وأخواه الطفيل والحصين. ومعهم سويبط بن سعد من بني عبد الدار، وطليب بن عمير،
وخباب (بن الأرت) مولى عتبة بن غزوان، فنزلوا على عبد الله بن سلمة في قباء. ونزل مولى خباب:
عتبة بن غزوان وابو حذيفة عتبة بن ربيعة، وسالم مولاه، على عباد بن بشر من بني
عبد الأشهل. ولم يتخلف بمكة أحد من المهاجرين الا من حبس أو فتن، الا علي ابن أبي طالب وأبو بكر بن أبي قحافة. وأقام رسول الله بمكة وبعض أصحابه من المهاجرين ينتظر أن يؤذن له في الهجرة (سيرة ابن هشام 2: 118 - 123.). وعلم من هنا أن حمزة بن عبد
المطلب، وعبيدة بن الحارث بن المطلب واخوانه وموالي رسول الله: زيد بن حارثة وأبا كبشة وأنسة كانوا قد هاجروا،
ولعل ذلك كان قبل بيعة
العقبة الاولى فضلا عن الثانية ولذلك لا يوجد لهم ذكر أو أثر فيها، بل روى ابن اسحاق أن العباس
حضرها يتوثق لابن أخيه وهو على دين قومه، وقد مر الكلام فيه. وقد ذكر عن ابن عباس قال: كان أبي من المستضعفين من الرجال، وامي كانت من المستضعفات من
النساء، وكنت أنا من المستضعفين من الولدان، غلاما صغيرا (مجمع
البيان 3: 150.) ويقصد
بالمستضعفين قوله سبحانه: *
(إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في
الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فاولئك مأواهم جهنم وساءت
مصيرا إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون
سبيلا فاولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا) * (النساء: 97 - 99.) فإن صح قوله عن نفسه وامه فالله أعلم بأبيه.
|
الفصل
العاشر المؤامرة لقتل النبي (صلى الله عليه وآله)
|
شورى
دار الندوة:
|
روى العياشي في تفسيره عن زرارة وحمران ومحمد بن مسلم عن أحدهما
قال: إن قريشا اجتمعت فخرج
من كل بطن اناس، فانطلقوا الى دار الندوة ليشاوروا فيما يصنعون برسول الله (صلى الله عليه وآله)، فإذا هم بشيخ قائم على الباب، واذ ذهبوا ليدخلوا قال: أدخلوني
معكم. قالوا: ومن أنت ؟ يا شيخ، قال: أنا شيخ من مضر، ولي رأي اشير به عليكم. فدخلوا وجلسوا وتشاوروا وهو جالس، وأجمعوا أمرهم على أن يخرجوه. فقال: ليس هذا لكم برأي، ان اخرجتموه أجلب عليكم الناس فقاتلوكم. قالوا: صدقت ما هذا برأي. ثم تشاوروا فأجمعوا أمرهم على أن يوثقوه.
قال: هذا ليس بالرأي، إن فعلتم هذا، ومحمد رجل حلو اللسان أفسد
عليكم أبناءكم وخدمكم، وما ينفع أحدكم إذا فارقه أخوه وابنه أو امرأته ؟ ! ثم تشاوروا فأجمعوا أمرهم
على أن يقتلوه، يخرجون من كل بطن منهم بشاب فيضربونه بأسيافهم جميعا (تفسير
العياشي 2: 54.). وروى الصدوق في " الخصال " بسنده عن جابر الجعفي عن
الباقر عن علي (عليه السلام) قال: إن قريشا لم تزل تجيل الآراء وتعمل الحيل في قتل النبي حتى كان
آخر ما اجتمعت عليه في يوم الدار دار الندوة... فلم تزل تضرب أمرها ظهرا لبطن
حتى اجتمعت آراؤها على أن ينتدب من كل فخذ من قريش رجل، ثم يأخذ كل رجل منهم سيفه ثم يأتي النبي وهو نائم على فراشه،
فيضربونه جميعا بأسيافهم ضربة رجل واحد فيقتلوه، فإذا قتلوه منعت قريش رجالها ولم تسلمهم، فيمضي دمه هدرا (الخصال: 367.). وقال القمي في تفسيره: اجتمعوا في دار الندوة، وكان لا يدخل دار الندوة الا من أتى عليه
أربعون سنة، فدخلوا أربعون رجلا من مشايخ قريش. وجاء ابليس في صورة شيخ
كبير، فقال له البواب: من
أنت ؟ فقال: أنا شيخ من أهل نجد (نقل
السهيلي في (الروض الانف) عن بعض أهل السيرة أنهم قالوا: لا يدخلن معكم في
المشاورة أحد من أهل تهامة لأن هواهم مع محمد، فلذلك تمثل لهم ابليس في صورة شيخ
نجدي. كما عنه في هامش سيرة ابن هشام 2: 124، والخبر في السيرة عن ابن عباس.)، لا
يعدمكم مني رأي صائب، إني حيث بلغني اجتماعكم في أمر هذا الرجل جئت لاشير عليكم.
فقال الرجل: ادخل، فدخل ابليس. فلما أخذوا مجلسهم قال أبو جهل: يا معشر قريش، إنه لم يكن أحد من العرب أعز منا، نحن أهل الله
تغدوا الينا العرب في السنة مرتين، ويكرموننا، ونحن في حرم الله لا يطمع فينا
طامع، فلم نزل كذلك حتى نشأ فينا محمد بن عبد الله، فكنا نسميه الأمين لصلاحه
وسكونه وصدق لهجته، حتى إذا بلغ ما بلغ واكرمناه ادعى أنه رسول الله وأن أخبار
السماء تأتيه، فسفه أحلامنا وسب آلهتنا وأفسد شبابنا وفرق جماعتنا، وزعم أنه من
مات من أسلافنا ففي النار، فلم يرد علينا شئ أعظم من هذا ! وقد رأيت فيه رأيا. قالوا: وما رأيت ؟ قال:
رأيت أن ندس إليه رجلا منا ليقتله فان طلبت بنو هاشم بديته أعطيناهم عشر ديات. فقال الخبيث: هذا
رأي خبيث ! قالوا: وكيف ذلك ؟ قال: لأن قاتل محمد مقتول لا محالة، فمن ذا الذي
يبذل نفسه للقتل منكم ؟ فانه إذا قتل محمد تعصب بنو هاشم وحلفاؤهم من خزاعة، وإن
بني هاشم لا ترضى أن يمشي قاتل محمد على الأرض فتقع بينكم الحروب في حرمكم
وتتفانوا. فقال آخر منهم: فعندي رأي آخر. قالوا: وما هو ؟ قال: نثبته في بيت
ونلقي إليه قوته حتى يأتي عليه ريب المنون، فيموت، كما مات زهير والنابغة وامرؤ
القيس. فقال ابليس: هذا أخبث من الآخر ! قالوا: وكيف ذلك ؟ قال: لأن بني هاشم لا ترضى بذلك، فإذا جاء موسم من مواسم العرب
استغاثوا بهم واجتمعوا عليكم فأخرجوه. قال آخر منهم: لا،
ولكنا نخرجه من بلادنا ونتفرغ لعبادة آلهتنا. قال ابليس: هذا أخبث من الرأيين
المتقدمين ! قالوا: وكيف ذلك ؟ قال: لانكم تعمدون الى أصبح
الناس وجها وأنطق الناس لسانا وأفصحهم لهجة فتحملونه الى وادي العرب فيخدعهم
ويسحرهم بلسانه، فلا يفجأكم الا وقد ملأها عليكم خيلا ورجلا. فبقوا حائرين... ثم قالوا لابليس:
فما الرأي فيه يا شيخ ؟ قال: ما فيه الا رأي واحد. قالوا: وما هو ؟ قال:
يجتمع من كل بطن من بطون قريش واحد، ويكون معهم من بني هاشم رجل، فيأخذون سكينة
أو حديدة أو سيفا فيدخلون عليه فيضربونه كلهم ضربة واحدة حتى يتفرق دمه في قريش
كلها فلا يستطيع بنو هاشم أن يطلبوا بدمه وقد شاركوا فيه، فان سألوكم أن تعطوا
الدية فاعطوهم ثلاث ديات. فقالوا: نعم وعشر ديات... ثم قالوا: الرأي رأي الشيخ
النجدي. ونزل جبرئيل على رسول الله وأخبره الخبر (تفسير
القمي 1: 273 - 275.). وروى الطوسي في أماليه بسنده عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر حديثا في مبيت علي (عليه السلام)
على فراش رسول الله وهجرته الى المدينة، صدره عن سنان بن أبي سنان عن هند بن أبي
هالة ربيب رسول الله (صلى
الله عليه وآله) من
خديجة، وسايره عن أبيه محمد بن عمار عن أبيه عمار بن ياسر، وعن عبيد الله بن أبي
رافع عن أبيه أبي رافع مولى النبي (صلى الله عليه وآله)، قالوا: انطلق ذوو الطول والشرف من قريش الى دار الندوة ليرتأوا ويأتمروا
في رسول الله (صلى
الله عليه وآله)
وأسروا ذلك فيما بينهم. فقال بعضهم - وهم العاص بن وائل السهمي وامية بن أبي خلف الجمحي - نبني له علما ويترك برحا نستودعه فيه، فلا يخلص إليه أحد من
الصباة فيه، ولا يزال في رفق من العيش حتى يتضيفه ريب المنون. فقال أبو سفيان وعتبة وشيبة
ابنا ربيعة: إنا نرى أن نرحل
بعيرا صعبا ونوثق محمدا عليه كتافا وشدا، ثم نقصع البعير بأطراف الرماح فيوشك أن
يقطعه بين الدكادك اربا اربا ! فقال صاحب رأيهم:
إنكم لم تصنعوا بقولكم هذا شيئا، أرأيتم إن خلص به البعير سالما الى بعض
الأفاريق فأخذ بقلوبهم سحره وبيانه وطلاقة لسانه فصبأ القوم إليه واستجابت
القبائل له قبيلة فقبيلة، فليسيرن اليكم حينئذ بالكتائب والمقانب، فلتهلكن كما
هلكت اياد ومن كان قبلكم. قولوا قولكم. فقال أبو جهل: لكن
أرى لكم أن تعمدوا الى قبائلكم العشرة فتندبوا من كل قبيلة منها رجلا نجدا، ثم
تسلحوا سلاحا عضبا، وتتمهد الفتية حتى إذا غسق الليل وغور بيتوا بابن أبي كبشة
بياتا، فيذهب دمه في قبائل قريش جميعا، فلا يستطيع بنو هاشم وبنو المطلب مناهضة
قبائل قريش في صاحبهم، فيرضون حينئذ بالعقل (العقل
هنا: الدية، ومنه عاقلة الرجل.) منهم. فقال صاحب رأيهم أصبت يا أبا الحكم. ثم أقبل عليهم فقال: هذا الرأي
فلا تعدلن به رأيا، وأوكئوا في ذلك أفواهكم حتى يستتب أمركم. ثم خرج القوم. فسبقهم جبرئيل بالوحي بما كان من كيدهم. |
علي
(عليه السلام) والمبيت في فراش النبي (صلى الله عليه وآله):
|
لما أخبر النبي جبرئيل (عليه السلام)
بأمر الله في ذلك ووحيه وما عزم له من الهجرة، دعا رسول الله علي بن أبي طالب
لوقته فقال له: يا علي، ان الروح هبط علي يخبرني أن قريش اجتمعت على المكر بي
وقتلي، وانه اوحي الي عن ربي عزوجل أن أهجر دار قومي وأن أنطلق الى غار ثور تحت
ليلتي، وإنه أمرني أن آمرك بالمبيت على مضجعي لتخفي بمبيتك عليه أثري، فما أنت
صانع ؟ فقال علي (عليه السلام): أو تسلمن بمبيتي هناك يا نبي الله ؟ قال: نعم. فتبسم علي ضاحكا
وأهوى الى الأرض ساجدا شكرا لما أنبأه رسول الله به من سلامته، فكان علي - صلوات الله عليه - أول من سجد لله شكرا، وأول من وضع وجهه على الأرض بعد سجدته من
هذه الامة بعد رسول الله (صلى
الله عليه وآله) . فلما رفع رأسه قال له علي (عليه السلام): إمض بما امرت، فداك سمعي وبصري وسويداء قلبي، ومرني بما شئت...
وإن توفيقي الا بالله... فقال له: فارقد على فراشي واشتمل ببردي الحضرمي، ثم اني
اخبرك يا علي أن الله تعالى يمتحن أولياءه على قدر إيمانهم ومنازلهم من دينه،
فأشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، وقد امتحنك يابن عم وامتحنني فيك
بمثل ما امتحن به خليله ابراهيم والذبيح اسماعيل (عليهما السلام)، فصبرا صبرا،
فان رحمة الله قريب من المحسنين، ثم ضمه النبي (صلى الله عليه وآله) الى صدره وبكى وجدا به، وبكى علي (عليه السلام)
جشعا لفراق رسول الله (صلى
الله عليه وآله). |
كيفية هجرة النبي (صلى الله عليه وآله) الى المدينة:
|
واستتبع رسول الله أبا بكر بن أبي قحافة (روى
العياشي في تفسيره 1: 101 عن ابن عباس قال: وجاء أبو بكر - وعلي (عليه السلام)
نائم - وهو يحسب أنه نبي الله (فلما رآه عليا) قال: أين نبي الله ؟ قال علي: ان
نبي الله قد انطلق نحو بئر ميمون، فأدركه. فانطلق أبو بكر فدخل معه الغار. وقال الطبري في تاريخه 2: 374 مشيرا الى هذا: وقد زعم بعضهم: أن أبا
بكر أتى عليا فسأله عن نبي الله، فأخبره: أنه لحق بالغار من ثور وقال: ان كانت
لك فيه حاجة فالحقه. فخرج أبو بكر مسرعا فلحق نبي الله في الطريق، فسمع جرس أبي
بكر في ظلمة الليل فحسبه من المشركين، فأسرع رسول الله المشي فانقطع قبال نعله
ففلق ابهامه حجر فكثر دمها، وأسرع السعي، فخاف أبو بكر أن يشق على رسول الله (صلى
الله عليه وآله) فرفع صوته وتكلم فعرفه رسول الله فأقام حتى أتاه، فانطلقا، ورجل
رسول الله تستن دما حتى انتهى الى الغار مع الصبح فدخلاه. وأصبح الرهط الذين
كانوا يرصدون رسول الله فدخلوا الدار، وقام علي (عليه السلام) عن فراشه، فلما
دنوا منه عرفوه فقالوا له: أين صاحبك ؟ قال: لاأدري أو كنت رقيبا عليه، أمرتموه
بالخروج فخرج، فانتهروه وضربوه وأخرجوه الى المسجد فحبسوه ساعة ثم تركوه. وجاء الحبس في خبر رواه
الرضي في " الخصائص " عن علي (عليه السلام) قال: كنت على فراش رسول
الله وقد طرح علي ريطته، فأقبلت قريش مع كل رجل منهم هراوة فيها شوكها، فلم
يبصروا رسول الله حيث خرج، فأقبلوا علي يضربوني بما في أيديهم حتى تنفض جسدي
وصار مثل البيض، ثم انطلقوا بي يريدون قتلي، فقال بعضهم: لا تقتلوه الليلة، ولكن
أخروه واطلبوا محمدا. فأوثقوني بالحديد وجعلوني في بيت قرب البيت الحرام)
واستوثقوا مني ومن الباب بقفل فبينا أنا كذلك، إذ سمعت صوتا من جانب البيت يقول:
يا علي ! فسكن الوجع الذي كنت أجده، وذهب الورم الذي كان في جسدي، ثم سمعت صوتا
آخر يقول: يا علي فإذا الحديد الذي علي قد تقطع، ثم سمعت صوتا: يا علي، فإذا
الباب قد تساقط ما عليه وفتح. فقمت وخرجت، وقد كانوا جاؤوا بعجوز كمهاء لاتبصر
ولا تنام تحرس الباب، فخرجت عليها وهي لاتعقل من النوم. كما في حلية الأبرار 1:
97، وعن الخرائج في البحار 19: 76. ومن المستبعد جدا أن يكون أبو بكر قد علم باتجاه الرسول بالسؤال من
علي (عليه السلام) في فراش الرسول في حصار المشركين وهم يرمونه، بل المتجه ما
ذكره القطب الراوندي في الخرائج والجرائح: قال النبي لأصحابه: لا يخرج الليلة
أحد من داره. كما في البحار 19: 73.) وهند
بن أبي هالة فأمرهما أن يقعدا له بمكان ذكره لهما من طريقه الى الغار. ولبث رسول
الله بمكانه مع علي (عليه السلام) يوصيه ويأمره في ذلك بالصبر حتى صلى العشاءين،
ثم خرج في فحمة العشاء الآخرة، والرصد من قريش قد أطافوا بداره ينتظرون أن ينتصف
الليل وتنام الأعين، فخرج وهو يقرأ هذه الآية: * (وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فاغشيناهم فهم لا
يبصرون) * (يس: 9.) وأخذ
بيده قبضة من تراب فرمى بها على رؤوسهم، فما شعر القوم به حتى تجاوزهم ومضى حتى
أتى الى هند وأبي بكر فنهضا معهم حتى وصلوا الى الغار، ثم رجع هند الى مكة بما
أمره به رسول الله، ودخل رسول الله وأبو بكر الغار. فلما غلق الليل أبوابه وأسدل أستاره وانقطع الأثر أقبل القوم على
علي (عليه السلام) يقذفونه بالحجارة فلا يشكون أنه رسول الله حتى إذا برق الفجر
وأشفقوا أن يفضحهم الصبح هجموا على علي (عليه السلام) - وكانت دور مكة يومئذ
سوائب لا أبواب لها - فلما بصر بهم علي (عليه السلام) قد انتضوا السيوف وأقبلوا
عليه بها يقدمهم خالد بن الوليد بن المغيرة وثب علي فختله وهمز يده فجعل خالد
يقمص قماص البكر ويرغو رغاء الجمل ويذعر ويصيح، وهم في عرج الدار من خلفه، وشد
عليهم علي (عليه السلام) بسيفه - يعني سيف خالد - فاجفلوا أمامه إجفال النعم الى
ظاهر الدار، وتبصروه فإذا علي (عليه السلام)، قالوا: وانك لعلي ؟ قال: أنا علي،
قالوا: فانا لم نردك فما فعل صاحبك ؟ قال: لا علم لي به. فاذكت قريش عليه العيون
وركبت في طلبه الصعب والذلول (أمالي الطوسي 2: 78 وعنه في البحار 19: 58 - 63 وحلية الأبرار: 83 -
90.). وقال القمي في تفسيره: فلما أمسى رسول الله جاءت قريش ليدخلوا عليه فقال أبو لهب: لا
أدعكم أن تدخلوا بالليل فان في الدار صبيانا ونساء ولا نأمن أن تقع بهم يد
خاطئة، فنحرسه الليلة فإذا أصبحنا دخلنا عليه. فناموا حول حجر رسول الله (صلى
الله عليه وآله). وأمر رسول الله أن يفرش له ففرش له، فقال لعلي بن أبي طالب:
أفدني بنفسك، قال: نعم يا رسول الله. قال: نم على فراشي والتحف ببردتي. فنام على فراش رسول الله والتحف ببردته. وجاء جبرئيل فأخذ بيد رسول
الله فأخرجه على قريش وهم نيام وهو يقرأ عليهم: * (وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن
خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون) * وقال له جبرئيل: خذ على طريق ثور. وهو جبل
على طريق منى له سنام كسنام الثور. فدخل الغار (تفسير
القمي 1: 275، 276 ونقله الطبرسي في اعلام الورى: 61، 63 والقطب الراوندي في قصص
الأنبياء: 335 - 337.). وروى الطوسي في أماليه بسند عن الواقدي بسنده عن ابن عباس قال: اجتمع المشركون في دار الندوة ليتشاوروا في أمر رسول الله، وأتى
جبرئيل رسول الله فأخبره الخبر، وأمره أن لا ينام في مضجعه تلك الليلة. فلما
أراد رسول الله المبيت أمر عليا (عليه السلام) أن يبيت في مضجعه (صلى الله عليه
وآله). فبات علي (عليه السلام) وتغشى ببرد أخضر حضرمي كان لرسول الله ينام فيه،
وجعل السيف الى جنبه. فلما اجتمع اولئك النفر من قريش يطوفون ويرصدونه يريدون
قتله، خرج رسول الله وهم جلوس على الباب خمسة وعشرون رجلا، فأخذ حفنة من البطحاء
ثم جعل يذرها على رؤوسهم وهو يقرأ * (يس والقرآن الحكيم) * حتى بلغ * (فأغشيناهم
فهم لا يبصرون) * فقال لهم قائل: ما تنتظرون ؟ قالوا: محمدا. قال: خبتم وخسرتم
قد والله مر بكم فما منكم رجل الا وقد جعل على رأسه ترابا ! قالوا: والله ما
أبصرناه ! (أمالي الطوسي 2: 60 وعنه في البحار 19: 53، 54 ورواه ابن اسحاق عن
محمد ابن كعب القرظي 2: 127.). وروى الحبري في " ما
نزل من القرآن في أهل البيت " بسنده عن ابن عباس أيضا قال: لما انطلق النبي
(صلى الله عليه وآله) الى الغار فأنام عليا (عليه السلام) مكانه وألبسه برده
وجاءت قريش تريد أن تقتل النبي (صلى الله عليه وآله) فجعلوا يرمون عليا وهم يرون
أنه النبي (صلى الله عليه وآله) فجعل يتضور (التضور: التلوي والأنين من الألم.) فنظروا فإذا هو علي (عليه السلام) فقالوا: إنك النائم ؟ ! لو كان صاحبك ما تضور، لقد استنكرنا ذلك (ما نزل
من القرآن في أهل البيت (عليهم السلام): 47 ط قم ورواه العياشي 1: 101 والفرات:
9 والبرهان 1: 207 وروى مختصره الطبرسي في إعلام الورى: 190. هذان خبران عن ابن
عباس وليس فيهما ما رواه عنه ابن اسحاق في سيرته برواية ابن هشام قال: قال لعلي
بن أبي طالب: نم على فراشي وتسج ببردي هذا الحضرمي الأخضر فنم فيه، فانه لن يخلص
اليك شئ تكرهه منهم. سيرة ابن هشام 2: 126، 127 بل سيأتي في رواية الطوسي عن
الثلاثة: عمار بن ياسر وأبي رافع وهند بن أبي هالة: أن الرسول (صلى الله عليه
وآله) انما قال ذلك له بعد نهاية الأمر حين اللقاء به في الغار. بل روى عن الحسن
البصري عن أنس بن مالك: أن عليا بات تلك الليلة موطنا نفسه على القتل. ولكنهم
وضعوا ذلك ليضيعوا من معنى التضحية والفداء في زوج الزهراء (عليها السلام).). وروى الطوسي في أماليه بسنده عن الحسن البصري عن أنس بن مالك قال: لما توجه رسول الله الى الغار - ومعه أبو بكر - أمر النبي عليا أن
ينام على فراشه ويتغشى ببردته. فبات علي موطنا نفسه على القتل. وجاءت رجال من
قريش من بطونها يريدون قتل رسول الله، فلما أرادوا أن يضعوا أسيافهم فيه لا
يشكون أنه محمد، أيقظوه فرأوه عليا فتركوه وتفرقوا في طلب رسول الله (أمالي
الطوسي 2: 61 وعنه في البحار 19: 55.). وقال القمي في تفسيره: فلما أصبحت قريش أتوا الى الحجرة وقصدوا الفراش، فوثب علي (عليه
السلام) في وجوهم وقال: ما شأنكم ؟ قالوا له: أين محمد ؟ قال: أجعلتموني عليه
رقيبا ؟ ألستم قلتم نخرجه من بلادنا ؟ ! فقد خرج عنكم. فأقبلوا يضربون أبا لهب
ويقولون له: أتخدعنا منذ الليلة ؟ ! وكان فيهم رجل من خزاعة يقال له: أبو كرز،
يقفو الآثار، فقالوا له: يا أبا كرز اليوم اليوم ! فوقف بهم على حجرة رسول الله
فقال: هذه قدم محمد، والله انها لاخت القدم التي في المقام (مقام ابراهيم، وهي قدمه.) هذه قدم ابن أبي قحافة أو أبيه، فما زال بهم حتى أوقفهم على باب
الغار ثم قال: ما جاوزوا هذا المكان، اما أن يكونا صعدا الى السماء أو دخلا تحت
الأرض. وبعث الله العنكبوت فنسجت على باب الغار... وصرفهم الله عن رسوله فتفرقوا
(تفسير القمي 1: 273 - 276 ونقله الطبرسي في اعلام الورى: 61 - 63
والقطب الراوندي في قصص الأنبياء: 335 - 337 وفي الخرائج والجرائح 1: 44 ح 231
وذكر اسم الرجل: أبا كريز.) . وقال الطبرسي في " إعلام الورى ": وخرج القوم في طلبه، فعمى الله أثره وهو نصب أعينهم، وصدهم عنه
وأخذ بأبصارهم دونه، وهم دهاة العرب، وبعث الله العنكبوت فنسجت في وجه الغار
فسترته وأيسهم ذلك من الطلب. وبعث الله حمامتين وحشيتين فوقفتا بفم الغار (نقله ابن
شهر آشوب عن زيد بن أرقم بن مالك والمغيرة بن شعبة في المناقب 1: 128.). وأقبل فتيان قريش من كل
بطن رجل بعصيهم وهراويهم وسيوفهم حتى إذا كانوا من النبي بقدر أربعين ذراعا
(عشرين مترا) تقدم رجل منهم لينظر من في الغار، ورجع الى أصحابه فقالوا له: ما
لك لا تنظر في الغار ؟ فقال: رأيت حماما بفم الغار فعلمت أن ليس فيه أحد. وسمع النبي ما
قال فدعا لهن وفرض جزاءهن فاتخذن في الحرم (ونقله
ابن شهر آشوب عن الزهري في المناقب 1: 128.). وفي ذلك يقول السيد الحميري في قصيدته المعروفة بالمذهبة: حتى إذا قصدوا لباب مغارة * الفوا عليه نسيج غزل العنكب صنع الاله له، فقال
فريقهم: * ما في المغار
لطالب من مطلب ميلوا. وصدهم المليك،
ومن يرد * عنه الدفاع مليكه، لم
يعطب (إعلام
الورى: 25.) وأمهل علي (عليه السلام) حتى إذا أعتم في الليلة القابلة فانطلق هو
وهند بن أبي هالة حتى دخلا على رسول الله في الغار، فأمر رسول الله هندا أن
يبتاع له ولصاحبه بعيرين، فقال أبو بكر: قد كنت أعددت لي ولك - يا نبي الله -
راحلتين نرتحلهما الى يثرب. فقال (صلى الله عليه وآله): اني لا آخذها ولا
احداهما الا بالثمن. فقال: فهي لك بذلك. فأمر (صلى الله عليه وآله) عليا (عليه
السلام) فأقبضه الثمن (وقال بمعناه ابن اسحاق، كما في سيرة ابن هشام 2: 131.) ثم
وصاه بحفظ ذمته وأداء أمانته. وكانت قريش في الجاهلية تدعو محمدا: الأمين، فكانت تستودعه
وتستحفظه أموالها وأمتعتها، وكذلك من يقدم مكة من العرب في الموسم، وجاءته
النبوة والرسالة والأمر كذلك. فأمر عليا (عليه السلام) أن يقيم صارخا يهتف
بالابطح غدوة وعشيا: من كان له قبل محمد أمانة أو وديعة فليأت فلنؤد إليه
أمانته. ثم قال له: انهم لن يصلوا اليك من الآن - يا علي - بأمر تكرهه حتى تقدم
علي، فأد أمانتي على أعين الناس ظاهرا. ثم إني مستخلفك على ابنتي فاطمة، ومستخلف ربي عليكما ومستحفظه
فيكما. ثم أمره أن يبتاع رواحل له
وللفواطم ومن أزمع للهجرة من بني هاشم وقال له: فإذا قضيت ما أمرتك من أمر فكن
على اهبة الهجرة الى الله ورسوله، وسر الي لقدوم كتابي عليك ولا تلبث. ثم مكث في
الغار ثلاثا ثم انطلق لوجهه يؤم المدينة (أمالي
الطوسي: 300 كما في البحار 19: 63 وحلية الأبرار: 90.). وقال الطبرسي: خلفه
النبي (صلى الله عليه وآله) ليخرج أهله فأخرجهم، وأمره أن يؤدي عنه أماناته
ووصاياه وما كان بمؤتمن عليه. فأدى علي (عليه السلام) اماناته كلها (إعلام الورى: 190.). وقال ابن شهر آشوب: واستخلفه الرسول لرد الودائع، لأنه كان أمينا... قام على الكعبة
فنادى بصوت رفيع: يا أيها الناس، هل من صاحب أمانة ؟ هل من صاحب وصية ؟ هل من
صاحب عدة له قبل رسول الله. فلما لم يأت احد لحق بالنبي (صلى الله عليه وآله) (مناقب آل
أبي طالب 2: 57.). ولكن الطبرسي في " إعلام الورى " نقل ما قاله القمي في تفسيره وأضاف: خرج رسول الله من الغار فرأى راعيا لبعض قريش يقال له: ابن اريقط،
فدعاه رسول الله وقال له: يابن اريقط، أءتمنك على دمي ؟ قال: إذا أحرسك وأحفظك
ولا أدل عليك، فأين تريد يا محمد ؟ قال: يثرب. قال: والله لأسلكن بك مسلكا لا يهتدي إليه أحد... فقال له رسول
الله: إئت عليا وبشره بأن الله قد أذن لي في الهجرة فيهئ لي زادا وراحلة. وقال
له أبو بكر: إئت أسماء بنتي وقل لها: تهئ لي زادا وراحلتين، وأعلم عامر بن فهيرة
أمرنا - وكان من موالي أبي بكر وقد أسلم - وقل له: ائتنا بالزاد والراحلتين. فجاء ابن اريقط الى علي
(عليه السلام) وأخبره بذلك. فبعث علي بن أبي طالب الى رسول الله بزاد وراحلة،
وبعث ابن فهيرة بزاد وراحلتين (إعلام الورى: 63، 64.). ولكنه (الطبرسي) عاد في ذكر مقامات علي (عليه السلام) فروى مختصر خبر ابن أبي رافع عن علي بن ابراهيم بن هاشم قال: كان
علي (عليه السلام) يجهز النبي (صلى الله عليه وآله) حين كان في الغار يأتيه
بالطعام والشراب، واستأجر له ثلاث رواحل للنبي ولأبي بكر ولدليلهم (اعلام
الورى: 190 عن القمي ولم نجده في تفسيره.). ونقل ابن شهر آشوب
عن الثعلبي في تفسيره وابن عقب في ملحمته وأبي السعادات في (فضائل العشرة)،
والغزالي في (الاحياء) وفي (كيمياء
السعادة) برواياتهم عن أبي
اليقظان (عمار بن ياسر) ومن الخاصة: ابن بابويه وابن شاذان والكليني والطوسي
وابن عقدة وابن فياض والعبد لي والصفواني والثقفي بأسانيدهم عن ابن عباس وأبي
رافع وهند بن أبي هالة عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: أوحى الله الى جبرئيل وميكائيل أني آخيت بينكما وجعلت عمر
أحدكما أطول من عمر صاحبه. فأيكما يؤثر أخاه ؟ فكلاهما كرها الموت. فأوحى الله اليهما:
ألا كنتما مثل وليي
علي بن أبي طالب: آخيت
بينه وبين محمد نبيي فآثره بالحياة على نفسه، فظل على فراشه يقيه بمهجته، اهبطا
الى الأرض فاحفظاه من عدوه. فهبط جبرئيل فجلس عند رأسه وميكائيل عند رجليه وجعل جبرئيل يقول:
بخ بخ ! من مثلك يابن
أبي طالب والله يباهي به الملائكة ؟ ! وأنزل الله فيه: * (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله) * (مناقب آل أبي طالب 2: 64، 65 والكليني في الروضة: 119 والطوسي في
الأمالي: 300 والكراجكي في كنز الفوائد عن الخطيب الخوارزمي في مناقبه. واليعقوبي
2: 39 ط بيروت. والآية في البقرة: 207.). |
منازل
الطريق:
|
قال الطبرسي في " إعلام الورى " في تتمة خبر علي بن
ابراهيم القمي: وخرج
رسول الله من الغار وأخذ به ابن اريقط على طريق نخلة بين الجبال، فلم يرجعوا الى
الطريق (الأعظم) الا بقديد (قاله ابن اسحاق في سيرته وأضاف: ثم أجاز بهما فسلك بهما الخرار، ثم
سلك بهما ثنية المرة، ثم سلك بهما لفتا أو لقفا، ثم أجاز بهما مدلجة لقف، ثم
استبطن بهما مدلجة مجاح أو محاج، ثم سلك بهما مرجح مجاح، ثم تبطن بهما مرجح ذي
الغضوين أو العضوين ثم بطن وادي ذي كثر، ثم أخذ بهما على الجداجد ثم على الأجرد،
ثم سلك بهما ذا سلم من بطن مدلجة تعهن، ثم على العبابيد أو العبابيب أو
العيثانة، ثم أجاز بهما الفاجة أو القاحة، ثم هبط بهما العرج، ثم خرج بهما
دليلهما من العرج فسلك بهما ثنية العائر أو الغائر عن يمين ركوبة، حتى هبط بطن
يرئم، ثم هبط بهما قباء على بني عمرو بن عوف لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول
يوم الاثنين حين اشتد الضحى بل كادت الشمس أن تعتدل. سيرة ابن هشام 2: 136.). فنزلوا على ام معبد هناك (إعلام
الورى: 64.). وكانت امرأة برزة تحتبئ وتجلس بفناء الخيمة، فسألوا تمرا ولحما
ليشتروه فلم يصيبوا عندها شيئا من ذلك، وإذا القوم مرملون، وقالت: لو كان عندنا
شئ ما أعوزكم القرى. فنظر رسول الله في كسر خيمتها فقال: ما هذه الشاة يا ام
معبد ؟ قالت: شاة خلفها الجهد عن الغنم. فقال: هل بها من لبن ؟ قالت: هي أجهد من
ذلك. قال: أتأذنين لي أن أحلبها ؟ قالت: نعم بأبي أنت وامي ان رأيت بها حلبا
فاحلبها. فدعا رسول الله بها فمسح ضرعها وذكر اسم الله وقال: اللهم بارك في
شاتها. فتفاجت ودرت ! فدعا رسول الله باناء لها يريض الرهط فحلب فيه ثجا حتى
علته ثمالته فسقاها، فشربت حتى رويت، ثم سقى أصحابه فشربوا حتى رووا، فشرب هو آخرهم
وقال: ساقي القوم آخرهم شربا. فشربوا جميعا علا بعد نهل حتى أراضوا، ثم حلب فيه
ثانيا عودا على بدء فغدوا عندها ثم ارتحلوا عنها. فقلما لبثت أن جاء زوجها أبو معبد يسوق عنزا عجافا هزلا، ومخاجهن
قليل، فلما رأى اللبن قال: من أين لكم هذا ؟ والشاة عازب ولا حلوب في البيت ؟
قالت: لا والله الا أنه مر بنا رجل مبارك كان من حديثه كيت وكيت (إعلام
الورى: 24 وذكره في الخرائج 1: 146، 147، خ 234 وفيه أنه قصد رسول الله فآمن هو
وأهله.). وروى الكليني في "
روضة الكافي " بسنده عن الصادق (عليه السلام) قال: كانت قريش قد جعلت لمن يأخذ رسول الله لما خرج من الغار متوجها الى
المدينة مائة من الابل، فخرج سراقة بن مالك بن جعشم فيمن يطلب، فلحق برسول الله،
فقال رسول الله: اللهم اكفني شر سراقة بما شئت. فساخت قوائم فرسه، فثنى رجله
وقال: يا محمد، اني علمت أن الذي أصاب قوائم فرسي إنما هو من قبلك، فادع الله أن
يطلق لي فرسي، فلعمري ان لم يصبكم مني خير لم يصبكم مني شر. فدعا رسول الله (صلى
الله عليه وآله) فأطلق الله عزوجل فرسه، فعاد في طلب رسول الله (صلى الله عليه
وآله)، فعل ذلك ثلاث مرات، كل ذلك يدعو رسول الله فتأخذ الأرض قوائم فرسه، فلما
أطلقه في الثالثة قال: يا محمد، هذه ابلي بين يديك فيها غلامي، وإن احتجت الى
ظهر أو لبن فخذ منه، وهذا سهم من كنانتي علامة، وأنا أرجع فأرد عنك الطلب. فقال:
لا حاجة لي فيما عندك (روضة الكافي: 219 وفي البحار 19: 88 عنه.). وذكر الطبرسي الخبر في
" إعلام الورى " بلا رواية قال: وتبعه (صلى الله عليه وآله) وهو متوجه الى المدينة سراقة بن جعشم
المدلجي طالبا غرته ليحظى بذلك عند قريش، حتى إذا أمكنته الفرصة في نفسه وأيقن
أن قد ظفر ببغيته، ساخت قوائم فرسه، حتى تغيبت بأجمعها في الأرض، وهو بموضع جدب
وقاع صفصف. فعلم أن الذي أصابه سماوي فنادى: يا محمد أدع ربك يطلق لي فرسي وذمة
الله علي أن لا أدل عليك أحدا. فدعا له، فوثب جواده كأنه أفلت من انشوطة، وكان
رجلا داهية فعلم بما رأى أنه سيكون له نبأ فقال: اكتب لي أمانا فكتب له وانصرف (إعلام
الورى: 24.). فلما كان من الغد وافته قريش فقالوا: يا سراقة هل لك علم بمحمد ؟
قال: قد بلغني أنه قد خرج عنكم، وقد نفضت هذه الناحية لكم ولم أر أحدا ولا أثرا،
فارجعوا فقد كفيتكم ما ها هنا (إعلام الورى: 64.)
فقال أبو جهل في أمر
سراقة أبياتا، فأجابه سراقة: أبا حكم، والله لو كنت
شاهدا * لأمر جوادي إذ تسيخ
قوائمه علمت ولم تشكك بأن محمدا * نبي ببرهان، فمن ذا يقاومه عليك بكف الناس عنه، فانني * أرى أمره يوما ستبدو معالمه (إعلام
الورى: 24 نقلا عن محمد بن اسحاق، ولا توجد في سيرته برواية ابن هشام، فرواها
المحققون في الهامش 2: 135 عن الروض الانف للسهيلي. فلعل الطبرسي نقلها عن سيرة
ابن اسحاق نفسه، وقد صرح ابن هشام في مقدمته بحذفه كثيرا من الأشعار. وتمام خبر
الكتاب عند ابن اسحاق عن سراقة قال: فكتب لي كتابا في عظم أو رقعة أو خزفة (!)
ثم ألقاه الي فأخذته فجعلته في كنانتي ورجعت وسكت حتى إذا كان فتح مكة وفرغ من
حنين والطائف فخرجت ومعي الكتاب لألقاه فلقيته بالجعرانة... فدنوت منه فاسلمت ثم
رجعت الى قومي فسقت صدقتي إليه. سيرة ابن هشام 2: 635. وروى البيتين الاوليين
اليعقوبي 2: 40 ط بيروت.) ونقله كذلك القطب
الراوندي في " الخرائج والجرائح " قال: ولما خرج النبي (صلى الله عليه وآله) وهؤلاء أصبحوا من تلك الليلة
التي خرجوا فيها في حي سراقة ابن جعشم، فلما نظر سراقة الى رسول الله قال: أتخذ
يدا عند قريش، وركب فرسه وقصد محمدا. فقال أصحابه: لحق بنا هذا الشيطان ! فقال:
ان الله سكيفينا شره، فلما قرب قال: اللهم خذه ! فارتطم فرسه في الارض، فصاح: يا
محمد خلص فرسي، لا سعيت في مكروه أبدا. وعلم أن ذلك بدعاء محمد (صلى الله عليه
وآله) فقال: اللهم ان كان صادقا فخلصه، فوثب الفرس فقال: يا أبا القاسم ستمر
برعائي وعبيدي، فخذ سوطي، فكل من تمر به فخذ ما شئت فقد حكمتك في مالي. فقال: لا
حاجة في مالك. قال: فسلني حاجة قال: رد عنا من يطلبنا من قريش. فانصرف سراقة
فاستقبله جماعة من قريش في الطلب فقال لهم: انصرفوا عن هذا الطريق فلم يمر فيه
أحد وأنا اكفيكم هذا، وعليكم بطريق اليمن والطائف (الخرائج
والجرائح 1: 145 ط قم..).
|
خروج
علي (عليه السلام) بالفواطم:
|
في خبر الطوسي في أماليه عن عمار بن ياسر وأبي رافع قالا: ثم كتب رسول الله الى علي بن أبي طالب (عليه السلام) كتابا
يأمره فيه بالمسير إليه وقلة التلوم، وكان الرسول إليه أبا واقد الليثي. فلما أتاه كتاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) تهيأ للخروج والهجرة، فآذن من كان معه من ضعفاء المؤمنين وأمرهم
أن يتسللوا ويتحفظوا إذا ملأ الليل بطن الوادي الى ذي طوى (أمالي
الطوسي 2: 84 وعنه في البحار 19: 64.). ونقل ابن شهر آشوب في
" المناقب " عن البكري والطبراني والنجدي والواقدي: أن عليا (عليه
السلام) لما عزم على
الهجرة قال له العباس: ان محمدا (صلى
الله عليه وآله) ما
خرج الا خفيا، وقد طلبته قريش أشد الطلب، وأنت تخرج جهارا في إناث وهوادج ومال
ورجال ونساء وتقطع بهم السباسب والشعاب من بين قبائل قريش ؟ ! ما أرى لك أن تمضي
الا في خفارة خزاعة. فقال علي
(عليه السلام): ان المنية شربة مودودة * لاتنزعن، وشد للترحيل ان ابن آمنة النبي محمدا
* رجل صدوق قال عن جبريل أرخ الزمام ولا تخف من
عائق * فالله يرديهم عن التنكيل اني بربي واثق وبأحمد
* وسبيله متلاحق بسبيلي قالوا: فكمن مهلع غلام حنظلة
بن أبي سفيان في طريقه بالليل، فلما رآه سل سيفه ونهض إليه، فصاح علي صيحة فخر
منها على وجهه وجلله بسيفه، فلما أصبح توجه نحو المدينة، فلما شارف ضجنان أدركه
الطلب ثمانية فوارس (مناقب آل أبي طالب 2: 59.). وخرج علي (عليه
السلام) بفاطمة بنت رسول
الله (صلى الله عليه وآله)، وامه فاطمة بنت أسد ابن هاشم، وفاطمة بنت الزبير بن عبد المطلب -
وقيل: هي ضباعة - وتبعهم أيمن ابن ام أيمن مولى رسول الله وأبو واقد رسول
رسول الله، فجعل يسوق بالرواحل فأعنف بهم، فقال علي (عليه السلام):
إرفق بالنسوة أبا واقد ! إنهن من الضعائف. قال: اني أخاف أن يدركنا الطلب. فقال علي (عليه
السلام): اربع عليك، فان رسول الله قال لي: يا علي إنهم لن يصلوا من الآن
اليك بأمر تكرهه. ثم جعل علي (عليه
السلام) يسوق بهن سوقا
رفيقا وهو يقول: وليس الا الله فارفع
ضنكا * يكفيك رب الناس ماأهمكا فلما شارف ضجنان أدركه الطلب سبعة فوارس من قريش مستلئمين متلثمين،
وثامنهم مولى الحارث بن امية يدعى جناحا. فأقبل علي على أيمن وأبي واقد وقد
تراءى القوم فقال لهما: انيخا الابل واعقلاها. وتقدم حتى أنزل النسوة. ودنا القوم فاستقبلهم علي
منتضيا سيفه، فأقبلوا عليه وقالوا: ظننت أنك يا غدار ناج بالنسوة، ارجع لا أبا
لك. قال: فان لم أفعل ؟ قالوا: لترجعن راغما أو لنرجعن باكثرك شعرا، وأهون بك من
هالك ! ودنا الفوارس من النسوة
والمطايا ليثوروها، فحال علي (عليه
السلام) بينهم وبينها،
فأهوى له جناح بسيفه، فراغ علي
(عليه السلام) عن
ضربته، وتختله علي (عليه
السلام) فضربه على عاتقه
فأسرع السيف مضيا فيه حتى مس كاثبة فرسه. فكان علي (عليه السلام)
يشد على قدمه كشد الفارس على فرسه، فشد عليهم بسيفه وهو يقول: خلوا سبيل الجاهد المجاهد * آليت لا أعبد غير الواحد فتصدع القوم عنه وقالوا: احبس نفسك عنا يابن أبي طالب. قال: فاني منطلق الى ابن عمي رسول
الله بيثرب، فمن سره أن افري لحمه واهريق دمه فليتبعني أو فليدن مني. ثم أقبل
على صاحبيه: أيمن وأبي واقد فقال لهما: أطلقا مطاياكما. ثم سار ظاهرا قاهرا حتى نزل ضجنان، فلبث بها قدر يومه وليلته، ولحق
به نفر من المستضعفين من المؤمنين وفيهم ام أيمن مولاة رسول الله (صلى الله عليه وآله). وبات هو تلك الليلة ومعه الفواطم: امه فاطمة بنت أسد -
رضي الله عنها -
وفاطمة بنت رسول الله، وفاطمة بنت الزبير يصلون ويذكرون الله قياما وقعودا وعلى
جنوبهم، ولم يزالوا كذلك حتى طلع الفجر فصلى بهم علي (عليه السلام)
صلاة الفجر، ثم سار لوجهه يجوب منزلا بعد منزل لايفتر عن ذكر الله، وكذلك
الفواطم وغيرهن ممن صحبه حتى قدموا المدينة، وقد نزل الوحي قبل قدومهم بما كان
من شأنهم (فتلاه عليهم): *
(إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لاولي الألباب الذين
يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما
خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار ربنا إنك من تدخل النار فقد اخزيته وما
للظالمين من أنصار ربنا اننا سمعنا مناديا ينادي للايمان أن آمنوا بربكم فآمنا
ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار ربنا وآتنا ما وعدتنا
على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة انك لا تخلف الميعاد فاستجاب لهم ربهم أني لا
اضيع عمل عامل منكم من ذكر أو انثى بعضكم من بعض) * فالذكر
علي (عليه السلام) والانثى الفواطم المتقدم ذكرهن، فعلي (عليه
السلام) من الفواطم وهن من
علي (عليه السلام) * (فالذين
هاجروا واخرجوا من ديارهم واوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لاكفرن عنهم سيئاتهم
ولا دخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا من عند الله والله عنده حسن
الثواب) * (آل
عمران: 190 - 195.) وقال له: يا
علي، أنت أول هذه الامة ايمانا بالله ورسوله، وأولهم هجرة الى الله ورسوله
وآخرهم عهدا برسوله، لا يحبك - والذي نفسي بيده - الا مؤمن قد امتحن الله قلبه
للايمان، ولا يبغضك الا منافق أو كافر. قال عبيد الله بن أبي رافع: وقال علي بن أبي طالب يذكر مبيته على الفراش ومقام رسول الله في
الغار: وقيت بنفسي خير من وطأ الحصى * ومن طاف بالبيت العتيق وبالحجر وبت اراعيهم متى
يأسرونني (أو ينشرونني) * وقد وطنت
نفسي على القتل والأسر وبات رسول الله في الغار
آمنا * هناك وفي حفظ الاله
وفي ستر أقام ثلاثا ثم زمت قلائص
* قلائص يفرين الحصا
اينما يفري (أمالي الطوسي 2: 83 وعنه في البحار 19: 66، 67 وحلية الأبرار 1: 91.
وأولهم هجرة ليس بمعنى العدد بل كقوله سبحانه: " وأنا أول المسلمين "
أي من حيث النية والبصيرة والاقدام فهو مستعد تماما لأن يكون الأول. ولعل قوله
سبحانه " قاتلوا " كناية عن مقاومة علي (عليه السلام)
للمشركين دفاعا عن الفواطم، وقوله سبحانه: " وقتلوا " كناية عمن قتل
استضعافا كياسر وسمية.). قال الطوسي في "
المصباح ": في
أول ليلة من شهر ربيع الأول كان مبيت أمير المؤمنين (عليه
السلام) على فراش النبي (صلى الله عليه وآله) إذ هاجر من مكة وكانت ليلة الخميس، وفي ليلة الرابع منه كان خروجه
من الغار متوجها الى المدينة (مصباح المتهجد: أول أعمال ربيع الأول.). وهو وان لم يستند في ذلك
الى خبر خاص ولكنه لعله يستند فيما يستند إليه الى ما رواه الكليني في "
روضة الكافي " بسنده عن علي بن الحسين (عليه السلام)
قال: كان خروج رسول الله من
مكة في أول يوم من ربيع
الأول يوم الخميس من سنة ثلاث عشرة من المبعث، وقدم المدينة لاثنتي
عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول مع زوال الشمس فصلى
الظهر ركعتين (روضة
الكافي: 280 والبحار 19: 115 عنه.). تم المجلد الأول من الكتاب بعون الملك الوهاب ضحى يوم الجمعة
الثامن من شهر شوال المكرم من شهور سنة 1410 ه ق وهو يوم هدم قبور أئمة البقيع
- عليهم الصلاة والسلام -.
|
الفهرس موسوعة التاريخ الإسلامي الشيخ محمد هادي اليوسفي ج 1. تقديم كيف ينبغي أن ندرس تأريخ الإسلام
تدوين السيرة النبوية وتأريخ الإسلام:
تدوين السيرة النبوية وتأريخ الإسلام:
اصول السيرة النبوية وتطورها في القرنين الأول والثاني:
عمل ابن هشام في سيرة ابن إسحاق: إذن فقد أسقط ابن هشام من عمل ابن إسحاق:
مكانة الواقدي في الرواية والعلم: الفصل
الاول البيئة العربية والظروف العالمية قبيل ظهور الإسلام
شبه الجزيرة العربية مهد الحضارة الإسلامية:
وقد قسموها قديما إلى ثلاثة اقسام:
ونشرح هذه الاقسام الثلاثة من الجزيرة فيما يلي:
الكعبة المعظمة ومكة المكرمة: "
2 - القسم المركزي والشرقي من الجزيرة يسمى الصحراء
العربية وفيها النجد،
3 - القسم الجنوبي الغربي للجزيرة يسمى: اليمن،
ب - عاد قوم هود (عليه السلام): ج - ثمود قوم صالح (عليه السلام): هل كانت للعرب حضارة قبل الإسلام ؟
قصة أسعد بن زرارة الخزرجي مع رسول الله.
اليهود في يثرب والنصارى في نجران والشام:
من سنن الجاهلية في الابل والغنم: الخرافات في عقائد العرب الجاهليين:
وهنا نأتي نحن بنماذج من خرافاتهم:
سيل العرم وتفرق الأزد في البلدان:
الحضارة في الامبراطوريتين الفارسية والرومية:
اختصاص التعليم بالطبقة الممتازة: ولد اسماعيل بن ابراهيم (عليه السلام):
يثرب بين اليهود والأوس والخزرج: الفصل
الثاني كيف نشأ النبي (صلى الله عليه وآله) آباء النبي (صلى الله عليه وآله) أبناء عبد المطلب والذبيح منهم: الزواج الميمون تزويج عبد الله بآمنة:
رضاع النبي (صلى الله عليه وآله): الرضاع الميمون رضاعه من حليمة السعدية:
وفود عبد المطلب على سيف بن ذي يزن:
الاستسقاء برسول الله (صلى الله عليه وآله):
وفاة ام النبي (صلى الله عليه وآله)، وكفالة جده وعمه له: سفر النبي (صلى الله عليه وآله) الأول مع عمه الى الشام:
كان الله يسلك بالنبي (صلى الله عليه وآله) طريق المكارم:
رعي النبي (صلى الله عليه وآله) للغنم:
السفر الثاني للنبي (صلى الله عليه وآله) الى الشام،
وزواجه بخديجة:
خديجة تعرض نفسها على النبي (صلى الله عليه وآله):
هل كان النبي (صلى الله عليه وآله) أجيرا لخديجة أو مضاربا
؟
دوافع زواج النبي (صلى الله عليه وآله):
أولاد خديجة من النبي (صلى الله عليه وآله):
علي عند النبي (صلى الله عليه وآله):
الفصل
الثالث البعثة النبوية المباركة هل نزل القرآن في دور الكتمان ؟ خطب النبي (صلى الله عليه وآله) للدعوة العلنية:
ما نزل من القرآن قبل " فاصدع ":
إسلام حمزة عم النبي (صلى الله عليه وآله):
الفصل
الخامس الإسراء والمعراج.
ظلم المشركين للمستضعفين من المسلمين:
الفصل السادس الهجرة الى الطائف.. حديث شعب أبي طالب (رضي الله عنه):
إيمان أبي طالب (رضي الله عنه): مقتل ياسر وسمية وتعذيب ابنهما عمار:
الفصل
السابع: الهجرة الى الطائف.. النبي (صلى الله عليه وآله) يعرض نفسه على القبائل:
هجرته (صلى الله عليه وآله) الى الطائف:
لجوء النبي (صلى الله عليه وآله) الى حائط بني مخزوم:
أول لقاء الخزرج بالنبي في موسم العمرة:
الفصل
الثامن بيعة العقبة وانتشار الإسلام في المدينة كانت الصلاة يومئذ الى بيت المقدس: قال ابن اسحاق.
كان العباس يحضر النبي ويتوثق له: الفصل
التاسع هجرة المسلمين الى المدينة إذن النبي (صلى الله عليه وآله) لأصحابه بالهجرة الى
المدينة:
الفصل
العاشر المؤامرة لقتل النبي (صلى الله عليه وآله) علي (عليه السلام) والمبيت في فراش النبي (صلى الله عليه
وآله):
|