- القرآن الكريم
- سور القرآن الكريم
- 1- سورة الفاتحة
- 2- سورة البقرة
- 3- سورة آل عمران
- 4- سورة النساء
- 5- سورة المائدة
- 6- سورة الأنعام
- 7- سورة الأعراف
- 8- سورة الأنفال
- 9- سورة التوبة
- 10- سورة يونس
- 11- سورة هود
- 12- سورة يوسف
- 13- سورة الرعد
- 14- سورة إبراهيم
- 15- سورة الحجر
- 16- سورة النحل
- 17- سورة الإسراء
- 18- سورة الكهف
- 19- سورة مريم
- 20- سورة طه
- 21- سورة الأنبياء
- 22- سورة الحج
- 23- سورة المؤمنون
- 24- سورة النور
- 25- سورة الفرقان
- 26- سورة الشعراء
- 27- سورة النمل
- 28- سورة القصص
- 29- سورة العنكبوت
- 30- سورة الروم
- 31- سورة لقمان
- 32- سورة السجدة
- 33- سورة الأحزاب
- 34- سورة سبأ
- 35- سورة فاطر
- 36- سورة يس
- 37- سورة الصافات
- 38- سورة ص
- 39- سورة الزمر
- 40- سورة غافر
- 41- سورة فصلت
- 42- سورة الشورى
- 43- سورة الزخرف
- 44- سورة الدخان
- 45- سورة الجاثية
- 46- سورة الأحقاف
- 47- سورة محمد
- 48- سورة الفتح
- 49- سورة الحجرات
- 50- سورة ق
- 51- سورة الذاريات
- 52- سورة الطور
- 53- سورة النجم
- 54- سورة القمر
- 55- سورة الرحمن
- 56- سورة الواقعة
- 57- سورة الحديد
- 58- سورة المجادلة
- 59- سورة الحشر
- 60- سورة الممتحنة
- 61- سورة الصف
- 62- سورة الجمعة
- 63- سورة المنافقون
- 64- سورة التغابن
- 65- سورة الطلاق
- 66- سورة التحريم
- 67- سورة الملك
- 68- سورة القلم
- 69- سورة الحاقة
- 70- سورة المعارج
- 71- سورة نوح
- 72- سورة الجن
- 73- سورة المزمل
- 74- سورة المدثر
- 75- سورة القيامة
- 76- سورة الإنسان
- 77- سورة المرسلات
- 78- سورة النبأ
- 79- سورة النازعات
- 80- سورة عبس
- 81- سورة التكوير
- 82- سورة الانفطار
- 83- سورة المطففين
- 84- سورة الانشقاق
- 85- سورة البروج
- 86- سورة الطارق
- 87- سورة الأعلى
- 88- سورة الغاشية
- 89- سورة الفجر
- 90- سورة البلد
- 91- سورة الشمس
- 92- سورة الليل
- 93- سورة الضحى
- 94- سورة الشرح
- 95- سورة التين
- 96- سورة العلق
- 97- سورة القدر
- 98- سورة البينة
- 99- سورة الزلزلة
- 100- سورة العاديات
- 101- سورة القارعة
- 102- سورة التكاثر
- 103- سورة العصر
- 104- سورة الهمزة
- 105- سورة الفيل
- 106- سورة قريش
- 107- سورة الماعون
- 108- سورة الكوثر
- 109- سورة الكافرون
- 110- سورة النصر
- 111- سورة المسد
- 112- سورة الإخلاص
- 113- سورة الفلق
- 114- سورة الناس
- سور القرآن الكريم
- تفسير القرآن الكريم
- تصنيف القرآن الكريم
- آيات العقيدة
- آيات الشريعة
- آيات القوانين والتشريع
- آيات المفاهيم الأخلاقية
- آيات الآفاق والأنفس
- آيات الأنبياء والرسل
- آيات الانبياء والرسل عليهم الصلاة السلام
- سيدنا آدم عليه السلام
- سيدنا إدريس عليه السلام
- سيدنا نوح عليه السلام
- سيدنا هود عليه السلام
- سيدنا صالح عليه السلام
- سيدنا إبراهيم عليه السلام
- سيدنا إسماعيل عليه السلام
- سيدنا إسحاق عليه السلام
- سيدنا لوط عليه السلام
- سيدنا يعقوب عليه السلام
- سيدنا يوسف عليه السلام
- سيدنا شعيب عليه السلام
- سيدنا موسى عليه السلام
- بنو إسرائيل
- سيدنا هارون عليه السلام
- سيدنا داود عليه السلام
- سيدنا سليمان عليه السلام
- سيدنا أيوب عليه السلام
- سيدنا يونس عليه السلام
- سيدنا إلياس عليه السلام
- سيدنا اليسع عليه السلام
- سيدنا ذي الكفل عليه السلام
- سيدنا لقمان عليه السلام
- سيدنا زكريا عليه السلام
- سيدنا يحي عليه السلام
- سيدنا عيسى عليه السلام
- أهل الكتاب اليهود النصارى
- الصابئون والمجوس
- الاتعاظ بالسابقين
- النظر في عاقبة الماضين
- السيدة مريم عليها السلام ملحق
- آيات الناس وصفاتهم
- أنواع الناس
- صفات الإنسان
- صفات الأبراروجزائهم
- صفات الأثمين وجزائهم
- صفات الأشقى وجزائه
- صفات أعداء الرسل عليهم السلام
- صفات الأعراب
- صفات أصحاب الجحيم وجزائهم
- صفات أصحاب الجنة وحياتهم فيها
- صفات أصحاب الشمال وجزائهم
- صفات أصحاب النار وجزائهم
- صفات أصحاب اليمين وجزائهم
- صفات أولياءالشيطان وجزائهم
- صفات أولياء الله وجزائهم
- صفات أولي الألباب وجزائهم
- صفات الجاحدين وجزائهم
- صفات حزب الشيطان وجزائهم
- صفات حزب الله تعالى وجزائهم
- صفات الخائفين من الله ومن عذابه وجزائهم
- صفات الخائنين في الحرب وجزائهم
- صفات الخائنين في الغنيمة وجزائهم
- صفات الخائنين للعهود وجزائهم
- صفات الخائنين للناس وجزائهم
- صفات الخاسرين وجزائهم
- صفات الخاشعين وجزائهم
- صفات الخاشين الله تعالى وجزائهم
- صفات الخاضعين لله تعالى وجزائهم
- صفات الذاكرين الله تعالى وجزائهم
- صفات الذين يتبعون أهواءهم وجزائهم
- صفات الذين يريدون الحياة الدنيا وجزائهم
- صفات الذين يحبهم الله تعالى
- صفات الذين لايحبهم الله تعالى
- صفات الذين يشترون بآيات الله وبعهده
- صفات الذين يصدون عن سبيل الله تعالى وجزائهم
- صفات الذين يعملون السيئات وجزائهم
- صفات الذين لايفلحون
- صفات الذين يهديهم الله تعالى
- صفات الذين لا يهديهم الله تعالى
- صفات الراشدين وجزائهم
- صفات الرسل عليهم السلام
- صفات الشاكرين وجزائهم
- صفات الشهداء وجزائهم وحياتهم عند ربهم
- صفات الصالحين وجزائهم
- صفات الصائمين وجزائهم
- صفات الصابرين وجزائهم
- صفات الصادقين وجزائهم
- صفات الصدِّقين وجزائهم
- صفات الضالين وجزائهم
- صفات المُضَّلّين وجزائهم
- صفات المُضِلّين. وجزائهم
- صفات الطاغين وجزائهم
- صفات الظالمين وجزائهم
- صفات العابدين وجزائهم
- صفات عباد الرحمن وجزائهم
- صفات الغافلين وجزائهم
- صفات الغاوين وجزائهم
- صفات الفائزين وجزائهم
- صفات الفارّين من القتال وجزائهم
- صفات الفاسقين وجزائهم
- صفات الفجار وجزائهم
- صفات الفخورين وجزائهم
- صفات القانتين وجزائهم
- صفات الكاذبين وجزائهم
- صفات المكذِّبين وجزائهم
- صفات الكافرين وجزائهم
- صفات اللامزين والهامزين وجزائهم
- صفات المؤمنين بالأديان السماوية وجزائهم
- صفات المبطلين وجزائهم
- صفات المتذكرين وجزائهم
- صفات المترفين وجزائهم
- صفات المتصدقين وجزائهم
- صفات المتقين وجزائهم
- صفات المتكبرين وجزائهم
- صفات المتوكلين على الله وجزائهم
- صفات المرتدين وجزائهم
- صفات المجاهدين في سبيل الله وجزائهم
- صفات المجرمين وجزائهم
- صفات المحسنين وجزائهم
- صفات المخبتين وجزائهم
- صفات المختلفين والمتفرقين من أهل الكتاب وجزائهم
- صفات المُخلَصين وجزائهم
- صفات المستقيمين وجزائهم
- صفات المستكبرين وجزائهم
- صفات المستهزئين بآيات الله وجزائهم
- صفات المستهزئين بالدين وجزائهم
- صفات المسرفين وجزائهم
- صفات المسلمين وجزائهم
- صفات المشركين وجزائهم
- صفات المصَدِّقين وجزائهم
- صفات المصلحين وجزائهم
- صفات المصلين وجزائهم
- صفات المضعفين وجزائهم
- صفات المطففين للكيل والميزان وجزائهم
- صفات المعتدين وجزائهم
- صفات المعتدين على الكعبة وجزائهم
- صفات المعرضين وجزائهم
- صفات المغضوب عليهم وجزائهم
- صفات المُفترين وجزائهم
- صفات المفسدين إجتماعياَ وجزائهم
- صفات المفسدين دينيًا وجزائهم
- صفات المفلحين وجزائهم
- صفات المقاتلين في سبيل الله وجزائهم
- صفات المقربين الى الله تعالى وجزائهم
- صفات المقسطين وجزائهم
- صفات المقلدين وجزائهم
- صفات الملحدين وجزائهم
- صفات الملحدين في آياته
- صفات الملعونين وجزائهم
- صفات المنافقين ومثلهم ومواقفهم وجزائهم
- صفات المهتدين وجزائهم
- صفات ناقضي العهود وجزائهم
- صفات النصارى
- صفات اليهود و النصارى
- آيات الرسول محمد (ص) والقرآن الكريم
- آيات المحاورات المختلفة - الأمثال - التشبيهات والمقارنة بين الأضداد
- نهج البلاغة
- تصنيف نهج البلاغة
- دراسات حول نهج البلاغة
- الصحيفة السجادية
- تصنيف الصحيفة السجادية
- تصنيف الصحيفة بالموضوعات
- الباب السابع : باب الاخلاق
- الباب الثامن : باب الطاعات
- الباب التاسع: باب الذكر والدعاء
- الباب العاشر: باب السياسة
- الباب الحادي عشر:باب الإقتصاد
- الباب الثاني عشر: باب الإنسان
- الباب الثالث عشر: باب الكون
- الباب الرابع عشر: باب الإجتماع
- الباب الخامس عشر: باب العلم
- الباب السادس عشر: باب الزمن
- الباب السابع عشر: باب التاريخ
- الباب الثامن عشر: باب الصحة
- الباب التاسع عشر: باب العسكرية
- الباب الاول : باب التوحيد
- الباب الثاني : باب النبوة
- الباب الثالث : باب الإمامة
- الباب الرابع : باب المعاد
- الباب الخامس: باب الإسلام
- الباب السادس : باب الملائكة
- تصنيف الصحيفة بالموضوعات
- أسماء الله الحسنى
- أعلام الهداية
- النبي محمد (صلى الله عليه وآله)
- الإمام علي بن أبي طالب (عليه السَّلام)
- السيدة فاطمة الزهراء (عليها السَّلام)
- الإمام الحسن بن علي (عليه السَّلام)
- الإمام الحسين بن علي (عليه السَّلام)
- لإمام علي بن الحسين (عليه السَّلام)
- الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السَّلام)
- الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السَّلام)
- الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السَّلام)
- الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السَّلام)
- الإمام محمد بن علي الجواد (عليه السَّلام)
- الإمام علي بن محمد الهادي (عليه السَّلام)
- الإمام الحسن بن علي العسكري (عليه السَّلام)
- الإمام محمد بن الحسن المهدي (عجَّل الله فرَجَه)
- تاريخ وسيرة
- "تحميل كتب بصيغة "بي دي أف
- تحميل كتب حول الأخلاق
- تحميل كتب حول الشيعة
- تحميل كتب حول الثقافة
- تحميل كتب الشهيد آية الله مطهري
- تحميل كتب التصنيف
- تحميل كتب التفسير
- تحميل كتب حول نهج البلاغة
- تحميل كتب حول الأسرة
- تحميل الصحيفة السجادية وتصنيفه
- تحميل كتب حول العقيدة
- قصص الأنبياء ، وقصص تربويَّة
- تحميل كتب السيرة النبوية والأئمة عليهم السلام
- تحميل كتب غلم الفقه والحديث
- تحميل كتب الوهابية وابن تيمية
- تحميل كتب حول التاريخ الإسلامي
- تحميل كتب أدب الطف
- تحميل كتب المجالس الحسينية
- تحميل كتب الركب الحسيني
- تحميل كتب دراسات وعلوم فرآنية
- تحميل كتب متنوعة
- تحميل كتب حول اليهود واليهودية والصهيونية
- المحقق جعفر السبحاني
- تحميل كتب اللغة العربية
- الفرقان في تفسير القرآن -الدكتور محمد الصادقي
- وقعة الجمل صفين والنهروان
سيرة سيد المرسلين
صلىاللهعليهوآلهوسلم
.. الجزء الأول الشيخ جعفر السبحاني
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
بسم الله الرحمن الرحيم لم تزل السيرة المحمَّدية العطرة في
جميع أبعادها موضع اهتمام الاُمة الاسلاميّة من لدن بزوغ فجر الإسلام العظيم ،
ومنذ الأيّام الاُولى من البعثة النبوية الشريفة. ولا غرو فقد كان الرسول الأكرم
محمَّد بن عبد اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
يجسد بسيرته المثلى قيم الدين ويمثل بأخلاقه السامية أخلاق القرآن ، ويعكس
بمواقفه الرشيدة وبإدارته الحكيمة لشؤون الاُمة طريقة الإسلام في إدارة دفة
الحياة. هذا مضافاً إلى أنه كان القدوة الّتي
أمر اللّه تعالى المسلمين بالاقتداء بها ، واقتفاء أثرها ، كما أنه كان الظاهرة
الفريدة الباهرة في الأدب الرفيع والإنسانية الشفافة والعاطفة الصادقة والرحمة
واللطف ، وغيرها ممّا كانت تفتقر بيئة ظهور الإسلام الاُولى إليه وتتعطش إلى
مثله. من هنا أخذ المسلمون يهتمّون بكل
حركات الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم
وسكناته ، ويتأمّلون في جميع أعماله وتصرّفاته فاذا رأوا منه خُلقاً بادروا إلى
تكراره في سلوكهم ، وإذا شاهدوا منه عملا أسرعوا إلى فعله في حياتهم ، وعمدوا في
المآل إلى تسجيل كل صغيرة وكبيرة في هذا المجال ، وضبط كل دقيقة وجليلة في هذا
الصعيد. وفعلا كانت هذه السيرة الطيّبة
العطرة المقدّسة هي المنهج العملي للمسلمين ، وهي سرّ تقدُّمهم ، وهي رمز عظمتهم
وسموّهم ، وعلوّ شأنهم وشأوهم. ولا تزال هذه السيرة المشرفة اليوم
قادرة على أن تكون ضوء المسيرة ، ومشعل الطريق ، ومنهج العمل ومفتاح الانتصار في
معركتنا ضدّ قوى الشرّ والطغيان. وحيث إن أموراً اقحمت في هذه السيرة
، كما أنّ تطور الزمن وكيفية الدراسات اقتضيا إخراج دراسات في مجال السيرة
تتناول البعد الذاتي والرساليّ والسياسيّ والقياديّ والعسكريّ لسيّد المرسلين صلىاللهعليهوآلهوسلم
بالتحقيق والتحليل ، وتتناسب مع حاجة العصر ولغته ، لهذا رأت مؤسسة النشر
الإسلامي أن تقدّم للجيل الحاضر خاصة وللمسلمين عامة هذه الدراسة القيمة في سيرة
خاتم الانبياء محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم
لا تسامها بكثير من هذه المواصفات. والدراسة هي مجموعة محاضرات للاستاذ
المحقّق الشيخ جعفر السبحاني الّذي عرف في الأوساط الإسلامية بتحقيقاته العميقة
في الكتاب والسنّة والعقيدة والتاريخ. وفي الوقت الّذي تقوم به المؤسسة ـ
وللّه الحمد ـ بطبع هذه الدراسة القيمة ونشرها بعد مقابلتها تقدّم جزيل شكرها
وامتنانها لسماحة الاستاذ الألمعي الشيخ جعفر الهادي لما بذله من جهود وافرة من
تعريبها واستخراج النصوص من مصادرها سائلة اللّه سبحانه له ولسماحة الشيخ
المحاضر ولها المزيد من التوفيق ، كما وتدعو المولى عزّ وعلا أن يتقبّل منا
جميعاً وأن تشملنا شفاعة الرسول الأعظم وآله الأطهار عليهمالسلام
في يوم الحشر إنه خير موفق ومعين. مؤسسة
النشر الاسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
السيرة المحمَّدية
مدرسة الأجيال
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
« لقد كان لكم في رسول اللّه اسوة حسنة »
القرآن
الكريم النبيُّ
الأكرم « محمّد » صلىاللهعليهوآلهوسلم
اُسوةٌ للمسلمين ... أُسوةٌ يقتدون بها في جميع مناحي حياتهم : الفردية
والاجتماعية ، والسياسية ... اُسوة إلى الأبد ... في كل زمان ومكان ، في كل عصر
ومصر ، لجميع المسلمين من كل لون ولغة. ولكن
كيف يتأسّى المسلمون ـ في مختلف الأجيال والأدوار ـ برسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
، وكيف يقتدون بسيرته المثلى ، ويهتدون بهديه العظيم؟ إنّ
هذا لا يتسنّى إلاّ إذا كانت حياة رسول الإسلام بجميع خصوصياتها ، وتفاصيلها ،
وفي جميع مجالاتها ونواحيها ، مدوّنة مسجّلة ، بل ومحلّلة تحليلا دقيقاً
وعميقاً. من
هنا فان الضرورة تقضي بوجود تاريخ مدوَّن ، مشفوع بالتحليل الدقيق ، والدراسة
الموضوعية لشخصية وسيرة سيد المرسلين صلىاللهعليهوآلهوسلم
في كافة مجالاتها الشخصية والرسالية والسياسية والعسكرية. حقاً إن في حياة رسول الإسلام العظيم « محمّد بن
عبد اللّه » صلىاللهعليهوآلهوسلم
ـ كما هو واضحٌ لمن تتبعَ وتصفحَ ـ اُموراً دقيقة ، ولكن بالغة العظمة في
مداليلها ومعانيها ، بالغة الأهميّة في معطياتها ودروسها. فرسول الإسلام صلىاللهعليهوآلهوسلم
هو خاتم الأنبياء ، ورسالته وشريعته خاتمة الرسالات والشرائع ونهضته هي النهضة
الكبرى الّتي مهّدلها الأنبياء السابقون ، وقد فتحت هذه النهضة الالهية صفحة
جديدة في حياة البشرية ، وغيّرت مسار التاريخ الإنساني تغييراً جذرياً ، وأسست
حضارة كبرى لا تزال أمواجها ـ رغم مرور أربعة عشر قرناً ـ حية نابضة ، فاعلة ،
تهزُ الضمائر ، وتتفاعلُ مع العقول. ولهذا فإنَّ السيرة
المحمّدية مشحونةٌ بالمناهج والدروس ، زاخرة بالبصائر والعبر ، بقدر ما هي مليئة
بالدقائق والحقائق ، واللطائف والاسرار. حقا إن حياة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
بحاجة إلى تعمق جديد كلما تجدّد الزمن ، وكلما تقدمت العلوم والمعارف ، وتطورت
الحياة ، وانفتحت أمام البشرية آفاق جديدةٌ في شتى الأصعدة والمجالات. ولا شك أنّ هذه المهمة ليست عملا
بسيطاً ومهمّة سهلة ، وخاصة مع ما عليه الكثير من المصادر التاريخية الاُولى من
تصحيف أوتحريف أوتشويه للحقائق ، أوتغيير للاُمور. فان هذه المهمة تحتاج
ـ في ما تحتاج إليه ـ إلى ثلاثة أشياء أساسية : 1 ـ عقلية متفتحة ، متدبرة ، نافذة
متأنية. 2 ـ جهود كبيرة ، وتتبع واسع ،
وتمييز للصحيح عن السقيم ، والدخيل عن الاصيل. 3 ـ معرفة بجوانب تتصل بالسيرة
المحمَّدية اتصالا وثيقاً كالمعرفة بمكانة سيّد المرسلين صلىاللهعليهوآلهوسلم
في القرآن الكريم. فمع توفّر هذه الشروط يمكن الحصول
على صورة نقيّة ، ومفيدة للسيرة المحمَّدية المباركة ، صورة تتفق مع روح القرآن
، وتلتقي مع الواقع ، وتصلح للاتساء ، والاقتداء ، والاهتداء والاقتفاء. ولقد توفرت هذه الشروط ـ وللّه الحمدُ ـ في
استاذنا العلامة الحجّة المحقّق سماحة الشيخ جعفر السبحاني ، حفظه اللّه. فهو المعروف بسلسلته القرآنية «
مفاهيم القرآن » الّتي تكشف عن إحاطة كبيرة بكتاب اللّه العزيز ، وإلمام قليل
النظير بمفاهيمه. ولهذا كان خيرَ من قام في عصرنا
الحاضر بدراسة السيرة المحمَّدية الطاهرة العبقة ، فكان هذا العمل التاريخي
المبارك الّذي توفّرت فيه المستلزمات الثلاثة الآنفة الذكر : العقلية المتفتحة ،
والمعرفة الواسعة بالقرآن الكريم وخاصة في ما يتّصل بالرَّسول الأكرم ، إلى جانب
التتبع الواسع والاستقصاء الكبير لمواقع العبرة والاسوة في حياة خاتم الأَنبياء
وسيّد المرسلين. ولا أجدني ـ في هذا التقديم العابر ـ بحاجة إلى
ذكر نقاط القوة الكثيرة في هذه الدراسة المستوعبة لشخصية وحياة رسول الإسلام ،
بل أرى أن يحاول القارئ الكريم بنفسه الاطلاع على ذلك حتّى لا يفوته شيء ممّا لا
يفوّت ، وسيقف بنفسه أيضاً على جسامة ما بذل في هذه الدراسة من جهد ، وروعة ما
ضُمِّنت من تحليل ، وأهمية ما احتوته من حقائق. وفي الختام اسأل اللّه العلي
القدير ان يتقبل منا جميعاً هذا الجهد ، ويجعله ذخراً ليوم لا ينفع فيه مال ولا
بنون ، انه خير معين . قم جعفر الهادي 30 شعبان 1409
هجرية |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
مقدّمة
المحاضر
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
التاريخُ
في أَعظَم حَماساتِه
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
* مُختبرُ « الحياة »
العظيم. * « لقد عُمِّرتُ مع أولهم
إلى آخرهم! ». * حياة العظماء ،
والخالدين. * عندما يلتقي العالم
الحاضر بالعالم الغابر. * التاريخ بين التسجيل. * أخطاء المستشرقين العجيبة. يُحاولُ الإنسان دائماً أن ينظر إلى
كل قضيّة من القضايا من نافذة الحس ، وإن يدرسها من خلال المنظار الحسي المادي ،
لأنَّ أوثقَ المعلومات لديه هي تلك الّتي تتألف من هذه « المعلومات الحسية »
ولهذا فإنَ المسائل الّتي تحظى بأَدلة حسّية اكثر تكسب في العادة قسطاً اكبر من
ثقة الإنسان وتصديقه. وعلى هذا الاساس عمَدَ العالم اليوم
إلى تأسيس آلاف المختبرات الضخمة للتحقيق في شتى القضايا العلمية ، ويعكف
العلماءُ في هذه المختبرات على دراسة وتحليل الامور المتنوعة باسلوب خاص وطريقة
معينة. ولكن هل يمكن ـ تُرى ـ أن تدخلَ
المسائلُ والقضايا الاجتماعية في نطاق التجربة المختبرية ، وتخضع للمجهر
والميكرسكوب ، ليمكن الحكم في هذه المجالات من خلال ذلك؟! فمثلاً ؛ هل يمكن أن نعرفَ عن طريق
التجارب المختبرية ما يؤدّي إليه الاختلافُ والتشرذم في المجتمع الواحد ، وما
يصيب شعباً من الشعوب أو اُمة من الامم من هذا الطريق؟ أم هل يمكن تقييمُ ما تنتهي إليه
جهودُ المستعمرين ، أو ما يؤول إليه الظلمُ والحيف ، من خلال تجربة حسية؟ أم هل يمكنُ الوقوفُ على نتائج «
الاختلاف الطبقيّ » ، « والتمييز العنصريّ » في المجتمع عن طريق التجربة
المختبرية؟ في الاجابة على كل هذه
الاسئلة يجب أن نقول : كلا مَعَ الاسف. وذلك لأنَّه لا توجَد للقضايا
الاجتماعية ـ رغم أهميتها القصوى ـ مثل هذه المختبرات ، وحتّى لو أمكن توفير مثل
هذه المختبرات المناسبة لتحليل وتقييم ودراسة القضايا الاجتماعية ، فان إنشاءها
وايجادها يكلِّف نفقات باهضةً ، وتستدعي جهوداً عظيمة. ولكنَّ الأمر الّذي في مقدوره أن
يقلّل من حجم هذا النقص إلى حدّ كبير هو أننا نملك اليوم شيئاً يسمى ب : «
تاريخ الماضين » والّذي يشرح لنا ما كان عليه البشرُ ـ أفراداً وجماعات ـ طوال
آلاف السنين من الحياة على هذه الارض ، كما ويعكس مختلف الذكريات والخواطر عنهم
، من إنتصارات وهزائم ، ونجاحات وانتكاسات ، ويوقفنا بالتالي على كل ما وقع في
حياة الامم والشعوب من حوادث مرة أو حلوة. إنَّ التاريخ يذكر لنا
: كيف
وُجدَت الحضارات المشرقة والمدنيات العظمى في العالم ، وكيفَ سلكت ـ بعد مدة ـ
طريق السقوط والانقراض ، حتّى أنها قد مُحيت عن صفحة الوجود بالمرّة ، واصبحت
خبراً بعد أثر ، وبالتالي ما هي العوامل الّتي كانت وراء سيادة الشعوب ثم
اندحارها. إنّ حياة الماضين وتاريخهم يحتفظ لنا
في صفحاته بقسط كبير ومهمّ جداً من هذه الحوادث ، ولهذا صحّ أن يقال : « التاريخ
مختبر الحياة العظيم » ، فبمعونة التاريخ يمكن تقييم مختلف القضايا الاجتماعية ،
ودراستها واستخلاص النتائج والعبر المفيدة منها. وإنَّ من حُسن الحظ أننا لم نكن أول
من حطَّ قدمه على هذا الكوكب ، فهذه الارضُ بسهولها وشعابها العريضة ، وتلك
السماء بنجومها وكواكبها الساهرة شهدتا ملايين الملايين من البشر الذين سكنوا
الارض من قبلنا ، وشهدتا افراحهم واتراحهم ، همومهم وغمومهم ، وحروبهم ،
ومصالحاتهم ، وكل ما رافق واكتنف حياتهم من حبّ وبغض وظلمات وأنوار ، وارتقاء
وهبوط ، إلى غير ذلك من شؤون وشجون الحياة البشرية الّتي يزخربها تاريخ الشعوب
والاقوام والامم. صحيح أنهم قد اختفوا مع الكثير من
أسرار حياتهم ، وغابوا جميعاً ـ أشخاصاً وأسراراً ـ في بحر من النسيان وانسدل
عليهم الستار ، إلاّ أن قسطاً مُلفِتاً للنظر وجملة يُعتد بها من تلك الامور إما
أنها قد دُوّنت بأيدي أصحابها ، أولا تزال طبقاتُ الارض وبطون التلال تحتفظ بها
في ثناياها وطياتها ، كما ولا تزال ذات الاطلال الصامتة ـ في ظاهرها ـ تشكل أضخم
متحف ، واغنى معرض ، واكبر مختبر ، يعيد لنا شريط التاريخ ويحكي وقائعه وأحداثه
، ويشرحُ رموزه وأسراره. إنَّ مُطالعة تلكم الصفحات من تاريخ
الامم الغابرة في الكتب ، أوفي الاطلال العظيمة ، أو في ما يعثر عليه المنقِّبون
في بطون التلال ، وثنايا الارض تعلّمنا اُموراً كثيرة ، وتضيف إلى عُمرنا عُمراً
جديداً وزمناً اضافياً ، لا يُستهان به وذلك بما تقدمُ لنا مِنَ الخبرة والعبرة
، والهدى والبصيرة. أليست حصيلة العمر ما
هي إلاّ ما استفاده المرء من تجارب؟ ألا يجعل التاريخ خلاصة أفضل التجارب تحت
تصرفنا؟ ولقد اشار الامام
اميرالمؤمنين علي بن ابي طالب عليهالسلام
في وصية لولده إلى هذه الحقيقة حيث قال : « أيْ بُنيَّ! إنّي
وإنْ لم اكن عمَرتُ عمرَ من كان قبلي ، فقَد نظرتُ في أعمالهم وفكَّرتُ في
أخبارهم وسرت في آثارهم حتّى عُدتُ كأحدهم بل كأَنَّي بما انتهى اليَّ من
اُمورهم قد عمّرت مع أوَّلهم إلى آخرهم » (نهج البلاغة ، قسم الرسائل ، رقم 31.).
ولكنّ المؤسف أن كُتُب التاريخ
الموجودة الآن تعاني من نقص كبير من حيث الاشارة إلى العبر والدروس الاجتماعية
المفيدة ، لأن هذه المصنفات لم تدوَّن لأَجل هذا الغرض ، ولهذا اُغفِلَ فيها ـ
في الاغلب ـ كل ما هو مؤثرٌ في كشف الحقائق التاريخية ، وإبراز العلل الكامنة
وراء الحوادث المتنوعة والوقائع المختلفة ، وبالتالي فقد تجاهلت تلك الكتب
والدراساتُ ما هو المفتاح الطبيعيّ لحلِّ الرُموز الكبرى في مسيرة التاريخ
البشري ، واعتنتْ ـ بدلا عن ذلك ـ بالقضايا التافهة. لقد تصدّى كثيرٌ من المؤرّخين لتدوين
وتسجيل القضايا التاريخية ، تارة بهدف
التسلية واُخرى بدافع إبراز الفضل لأقوامهم أو طوائفهم ، واظهار تفوقها على
الاقوام والطوائف الاُخرى ، وثالثة بدافع الحب والبغض ، او التعصب لهذا أو ذاك
ولهذا عجزت هذه المؤلفات والكتب عن حل أية مشكلة ، وتبديد أية حيرة ، بل هي تزيد
المرء ضلالا إلى ضلال ، وحيرة إلى حيرة! ولكن رغم كل هذا يستطيع اُولو
النباهة والبصيرة ، واصحاب الفهم والتحقيق ان يتوصلوا ـ من خلال مطالعة هذه
المؤلفات التاريخية على ما فيها من عيوب ونقائص ، ومع ما فيها من أساطير عن
الشعوب المختلفة ـ إلى ما يساعدهم على كشف الكثير من اسرار وخلفيات القضايا
والامور المتعلقة بالشعوب الماضية ، تماماً كما يفعل الطبيبُ الحاذق ، أو القاضي
البارعُ الّذي يمكنهما من خلال الوقوف على القرائن الجزئية المتفرقة ، التوصّل
إلى اكتشاف نوع « المرض » أو حالة « المتهم » الحقيقية ، وما يعاني منه في واقعه
النفسي. * * * إنَّ أعظم صفحات
التاريخ قيمة هي تلك الّتي تعكس لنا حياة العظماء وسيرة الرجال الخالدين ، وتبحث
عنها بصدق وامانة وموضوعية. إنَّ لحياتهم أمواجاً
خاصة ، كما أنها زاخرة بانواع الحوادث. لقد كانوا عظماء حقاً
، وكذلك كان كل ما يرتبط بهم ، ومن ذلك تاريخهم ، إنه شيء عظيم يستحق التأمّل
والتدبر ، فهو يتسِمُ بِلمعان يلفت الأنظار ، ويخلب الالباب وإنّه غني بالعظات
والعبر ، زاخرٌ بالبصائر والدروس وإلى درجة لا توصف. إنهم معجزةُ الخليقة بلا ريب ، وإن
حياتهم لهي ـ في الحقيقة ـ ملحمة التاريخ الكبرى ، وساحة البطولات الخالدة ،
ومسرح الحماسات العظمى ، الحية النابضة على مر العصور ، والايام. لقد كان اولئك العظماء يعيشون في
الاغلب على خط الثورات والتغييرات الاجتماعية الاول ( وبعبارة أصحّ ) كانت
الثورات والتحولات الاجتماعية تجد مصداقيتها في حياتهم وتتجسد في مواقفهم ،
ولهذا كانوا يشكلون ـ في واقع الأمر ـ حلقة
الاتصال بين الدنياوات المختلفة المتناقضة ، وكانت حياتهم الحافلة بالاحداث
شاهدة للألوان المختلفة والمشاهد المثيرة المتنوعة. * * * وعلى رأس اُولئك
الرجال التاريخيين والعظماء الخالدين رسول الإسلام العظيم محمَّد صلىاللهعليهوآلهوسلم فانه لم تتسم حياة أحد ـ
من حيث وفرة الاحداث ، وعظمة الأمواج ، كما اتسمت به حياته صلىاللهعليهوآلهوسلم ولا اتصفت شخصية بمثل ما
اتصف به ذلك النبي العظيم. فلم يستطع احدٌ سواه
أن يؤثِّر في بيئته ، ثم في جميع العالم ، وينفذ إلى أعماق الاعماق بمثل السرعة
والسعة الّتي حصلت له صلىاللهعليهوآلهوسلم.
ولم يوجد أيُّ واحد
منهم قط من مجتمعه المنحطّ المتخلّف ، حضارة بتلك العظمة والشموخ ، كما فَعلهُ
رسولُ الإسلام صلىاللهعليهوآلهوسلم
وتلك حقيقة يقرّبها كل مؤرخي الشرق والغرب. إنّ مطالعة عميقة لسيرة وحياة هذا
الإنسان العظيم ، قادرة على أن تعلمنا الكثير الكثير ، وأن توقفنا على مشاهد
متنوّعة في غاية النفع ومنتهى الفائدة. إن مشاهد عجيبة مثل
الأَيام الاُولى مِن بناء الكعبة المعظمة ، واستيطان
اسلاف النبي الكريم « مكة » وهجوم عسكر الفيل الفاشل لهدم بيت اللّه المعظم ،
والاحداث والملابسات المرافقة لمولد النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم.
كما وإن مشاهد محزنة
مثل وفاة « عبد اللّه » و « آمنة » والدي رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم في مطلع حياته الشريفة
بتلك الكيفية المؤلمة. ومشاهد عظيمة ومهيبة وحافلة بالاسرار
مثل الايام الاولى من نزول الوحي ، وما جرى في جبل « حراء » وما تبعه من مواقف
الاستقامة والمقاومة الّتي ابداها واتخذها رسول اللّه واصحابه المعدودون طيلة
ثلاثة عشر عاماً ، في سبيل نشر الدين الاسلامي في مكة ، ومكافحة الوثنية
والجاهلية. وكذا مشاهد مثيرة
وساخنة وحماسية مثل وقائع السنة الاُولى من الهجرة المباركة وما عقبتها من حوادث
ومواقف. * * * ولقد الّفت حَول حياة رسول الإسلام
أعظم قادة البشرية على الاطلاق كتبٌ ورسائلٌ ودراساتٌ كثيرة بحيث لواتيح لنا أن
نجمعها في مكان واحد لشكلت مكتبة عظيمة وضخمة. ويمكن القولُ ـ بشكل
قاطع ـ بأنه ليس ثمة من عظيم استقطب اهتمام التاريخ والمؤرخين والمفكرين
العالميين الكبار ، كما ليس ثمة شخصيّة من شخصيّات العالم كتب حولها المؤلفون
والباحثون هذا القدر الهائل من المؤلفات والمصنفات ، والرسائل والكتب ، كما حصل
لرسول الإسلام محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم.
إلاّ أن أكثر هذه
الكتب والمؤلفات تعاني من أحد إشكالين : إما أن
الكتاب جاء على نسق التسجيل المجرد للحوادث ، أو النصوص التاريخية ، من دون أن
يتصدى فيه مؤلفه لتحليلها ، ودراسة خلفياتها ونتائجها ، وإصدار الحكم اللازم
فيها ، بل إن البعض قد تجنب عن بيان علل الوقائع الإسلامية واسبابها ، وثمارها
ومعطياتها كذلك. أو أن المؤلّف ـ في بعضها الآخر ـ عمَد إلى
طائفة من الآراء الحدسية ، والاجتهادات الباطلة ، العارية عن الدليل واثبتها في
مؤلَّفه على أنها الحكم الحق ، وخلط هذه الاحكام مع بيان الحوادث ، ومن ثم اخرج
كتابه ذاك إلى الجمهور المتعطش إلى تاريخ الإسلام ، على أنّه التاريخ المحقَّق ،
المُمخَّص. إن الإشكال الّذي
يَردُ على الطائفة الاولى هو : أن الهدف من
التاريخ ليس هو مجرَّد تسجيل الحوادث التاريخية وضبطها وتدوينها ، إنما هو كتابة
صفحات التاريخ ، وقضاياه وأحداثه من المصادر الصحيحة الموثوق بها ، وإبراز عللها
واسبابها ، وثمارها ونتائجها ، والتاريخ بهذا الشكل أعظم كنز تركه الأقدمون لنا
، ومثل هذا النوع من الدراسة التاريخية لم تُدوَّن ـ أو أنه قلّما
دُوَّنت ـ حول أعظم قادة البشر ، محمَّد صلىاللهعليهوآلهوسلم
فقد تجنب اكثر كتاب السيرة النبوية عن اظهار الرأي في الحوادث ، أو القيام باي
تحليل للوقائع ، بحجة الحفاظ على اُصول الحوادث ونصوصها. في حين أنَّ هذه
العُذر ، وهذا الحجة غير كافية لتبرير هذا الموقف ، لأنه كان في مقدور اولئك
المؤرخين ـ للحفاظ على ما ذكروه ـ أن يؤلفوا
نوعين من الكتب ، نوعاً يختص بسرد الوقائع والنصوص التاريخية على ما هي عليه من
دون ابداء رأي ، أو تحليل ودراسة ، ونوعاً آخر يعتني بذكر الحوادث والقضايا
التاريخية مع تحليلها ودراستها بصورة موضوعية صحيحة أو ان يتم كلا الأمرين في
كتاب واحد بأن تفرز الحوادث التاريخية عن التحليل والرأي. على كل حال قلما نجد
بين قدماء الكُتّاب المسلمين من تصدى للسيرة النبوية المحمَّدية الطاهرة بهذه
الصورة ، وقلما يوجد هناك كتابٌ يتناولُ حياة خاتم الانبياء وسيّد المرسلين
بالتحليل المذكور. بل لابدّ من القول بان السيرة
النبوية الطاهرة ليست هي وحدها التي حُرمت من مثل هذا النمط من التأليف والكتابة
، بل شمل هذا الحرمان اكثر الحوادث التاريخية الّتي وقعت على مر العصور
الإسلامية فهي اُدرجت في الكتب من دون دراسة موضوعية وتقييم دقيق. نعم إن أول من فتح هذا
الطريق على وجه عامة المؤلفين والكتاب هو : العلامة المغربي « ابن
خلدون » (هو القاضي عبد الرحمان بن محمَّد الحضرمي المالكي المتوفى عام 808 هـ
، ومقدمته وتاريخه ـ على ما فيهما من أخطاء فضيعة في التحليل ـ معدودان من الكتب
الجيدة المفيدة ، وهما مبتكران في نوعهما.)
فقد
أسس في مقدمته المعروفة باسم مقدمة ابن خلدون نمَط التاريخ التحليلي بنحو من
الانحاء. وأما الطائفة الثانية
من تلك الكتب فهي وإن اُلفت على نمط التاريخ التحليلي
واتسمت بصفة التحقيق والدراسة ولكن حيث ان بعضهم لم يتجشم عناء التتبع
والاستقصاء ، أو أنه اعتمد في تحليله للحوادث على المصادر غير المتقنة وغير
الصحيحة ، فقد تورط في أخطاء فضيعة محيّرة ، وأكثر مؤلفات المستشرقين ـ الّتي لم
تكتَب في الأغلب بهدف التوصل إلى الحقيقة ـ من هذا النمط ، ومن هذه القماشة. ولقد دأَب في هذه الدراسة ـ بعد ملاحظة هذه الاشكالات ـ على ان
يقدم إلى القراء جهد امكانه كتاباً يخلو عن عيوب ونقائص كلتا الطائفتين. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
مزايا
هذا الكتاب :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قد لا يكون من الضروري بيان مزايا
هذا الكتاب ، واستعراض امتيازاته في مقدمته ، فذلك أمرٌ ينبغي أن يقف عليه
القارئ الكريم بنفسه ضمن مطالعته لهذه الدراسة ، إلاّ انه إلفاتاً لنظر القارئ نشير إلى مزيتين هامتين هما : أولاً
:
أنّنا عمدنا ـ في هذا الكتاب ـ إلى تناول وبيان الحوادث والوقائع المهمة الّتي
تنطوي على قَدَر ، اكبر من الفائدة ، والعبرة ، وأعرضنا صفحاً عن ذكر الاحداث
الجزئية ، والوقائع الصغيرة مثل الكثير من السرايا. ثم أننا أخذنا الحوادث التاريخية هذه
من المصادر الأصلية ، والأولية ، الّتي دُوِّنت في القرون الإسلامية المشرقة
الاولى ، فقد استخلصنا الحادثة من مجموعة تلك المصادر ، ثم أشرنا إلى مصدر أو
مصدرين من المصادر الّتي ذكرت الحادثة بصورة اكثر تفصيلا ودقة. وربما يظن بعضُ القرّاء الكرام أننا
اكتفينا في نقل الحوادث والوقائع بمراجعة مصدر أو مصدرين ممّا ذكرناه في أقصى
الصفحة ( أي الهامش )
في حين أن الواقع هو غير هذا ، فنحن
قد راجعنا حتّى في نقل الحوادث الصغيرة مهما صغرت ، اكثر المصادر الأصلية
المعروفة ، وبعد التحقق والتشبث منها لخصناها وذكرناها في هذا الكتاب. ولو أننا أشرنا ـ في جميع الحوادث والوقائع ـ إلى جميع
المصادر الّتي مررنا بها لاستأثر جدول المصادر بقسم كبير من صفحات هذا الكتاب ،
وهو أمرٌ من شأنه أن يبعث على الملل عند القرّاء ، فلكي لا يحس القرّاء بأيّ
تعَب أو مَلَل من جانب ، ولأجل أن نحافظ على وثائقية الكتاب وأصالة أبحاثه
وإتقانها من طرف آخر اكتفينا بذكر القدر اللازم من المصادر وتجنبنا تحشيدها بتلك
الصورة الممِلّة. وأما
المزية الثانية : فإننا أشرنا ـ ضمن الدراسات اللازمة ـ إلى
الاعتراضات والاشكالات ، بل وأحيانا إلى مواطن
الاساءة الّتي قام بها المستشرقون المغرضون وأجبْنا
على جميع الانتقادات والاعتراضات غير المبرَّرة وغير الصحيحة بأجوبة مقنعة
وقاطعة وصحيحة ، وجرَّدْناهم من
الاسلحة الّتي شَهَرُوها في وجه الإسلام ورسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم كما يقول المثل ، وتلك
حقيقة يقف عليها القارئ الكريم بنحو أجلى في محلّها. وعلى هذا الاساس عَمَدنا
إلى ذكر رأي المؤلّفين الشيعة ( في المسائل
المختلف فيها بين المؤرخين الشيعة والمؤرخين السنة )
مع ذكر المصادر والشواهد التاريخية الواضحة والمبرهنة عليه ، وأزحْنا كل ما يَدُور حول ذلك الرأي من شبهة أو إشكال ، ويستهدف
إنكار صحته وحقانيته. إننا إذ نقدّمُ هذه الدراسة
التحليليّة لشخصية وحياة خاتم الأنبياة محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم
إلى القراء الكرام نأمل أن يهتم بها عامّة المسلمين وخاصة المثقفين والشّباب
منهم بوجه خاصّ ، ويتناولوا هذه السيرة العطرة بالمطالعة المتأنيّة والتأمل
والتدبر ، ونآمل أن يستطيع شبابُنا المؤمن المتحمّس من أن يرسم خريطة حياته
وحياة مجتمعه في ضوء ما يستلهمُه ويستوحيه من سيرة وحياة رسول الإسلام صلىاللهعليهوآلهوسلم
في هذه الحقبة البالغة الخطورة. واللّه وليّ التوفيق. جعفر السبحاني 26 / جمادى الآخرة / 1392 |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
سيّد
المرسلين في ضوء القرآن الكريم
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد سلّط القرآن الكريم الضوء على
رسول الإسلام محمَّد بن عبد اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم في آيات
كثيرة تناولت بيان أسمائه ونشأته وصفاته وخصاله ، وبشارات الانبياء السابقين به
وعصمته واُمّيته ورسالته وخاتميته وجهوده العظيمة التي بذلها في سبيل ابلاغ مهمته
، والخطابات الخاصة الالهية الموجّهة إليه وما يتوجب على المؤمنين تجاهه في
حياته وبعد وفاته ، وما يتوجب عليهم تجاه أهل بيته وعترته ، ولكي تكون هذه
الرؤية القرآنية الشاملة الدقيقة هي القاعدة الاساسية في دراسة الشخصية والسيرة
المحمَّدية العظيمة آثرنا ادراج طائفة منها .
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
في
مقدمة هذا الكتاب.
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
*
وَما مُحَمَّدٌ إلاّ رَسُولٌ قَدْ
خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُسُلُ. ( آل
عمران / 144 ). *
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللّه وَالَّذِينَ
مَعَهُ أشِدّاءٌ عَلى الكُفّار رُحَماءُ بَيْنَهُمْ.
( الفتح / 29 ). *
وَإذ قالَ عيسى ابْنُ مَرْيَمُ يا
بَني إسرائيل إنّي رَسُولُ اللّهِ اِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بِيْنَ يَدَيَّ
مِنَ التَّوْرية وَمُبَشِّراً بِرَسُول يَأتِى مِنْ بَعدي اسْمُهُ أحْمَدٌ.
( الصف / 6 ). *
مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى
وَللآخِرَة خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى
أَلَمْ يَجِدْكَ يَتيماً فَآوى وَوَجَدَكَ ضالا فَهَدى وَوَجَدكَ عائلا فَأَغْنى.
( الضحى / 4 ـ 8 ). *
ألَم نَشْرَحْ لكَ صَدْركَ وَوَضعْنا
عَنْكَ وزْرَكَ الَّذي أنْقَضَ ظَهْرَكَ وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ.
( الانشراح / 1 ـ 4 ). *
وَإذ أخَذَ اللّهُ مِيثاقَ
النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتاب وَحِكْمَة ثمَّ جاءكُمْ رَسولٌ
مُصدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُوُمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ ءأَقْرَرتُمْ
وَأَخذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إصْري قالوا أقْررنا قالَ فَاشْهَدوا وَأنا مَعَكُمْ
مِنَ الشّاهِدينَ. ( آل عمران / 81 ). *
ألَّذينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ
النَّبِيَّ الأُمِّيِّ الَّذي يَجِدونَهُ مَكْتوباً عِنْدؤهُمْ في التَّوريةِ
وَالأنجِيلِ يَأمرهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْههُمْ عِنَ المُنْكَر وَيُحِلُّ
لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخبائثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ
إصّرَهُمْ وَالأَغْلالَ التَّي كانَتْ عَلَيْهِمْ.
( الأعراف / 157 ). *
الَّذينَ آتيْناهُمُ الْكِتابَ
يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أبْناءَهُم وَإنَّ فَريقاً مِنْهُمْ
لَيكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ.
( البقرة / 146 ). *
الَّذينَ آتَيناهُمُ الكِتابَ
يَعْرِفونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أبْناءَهُمُ.
( الأنعام / 20 ). *
فآمِنُوا بِاللّهِ وَرَسُولِهِ
النَّبِيِّ الاُمِّيِّ الَّذينَ يُؤْمنُ بِاللّهِ وكَلماتِهِ واتَّبِعُوهُ
لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ. ( الأعراف
/ 158 ). *
هُوَالَّذي بَعثَ في الاُميّينَ
رَسُولا مِنْهُمء يَتْلوا عَلَيْهِم آياتِهِ وَيُزكّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ
الْكِتاب وَالحِكْمَةَ وإنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفي ضَلال مُبين وآخرينَ مِنْهم
لَما يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ العَزيزُ الْحَكيمُ ذلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤتيهِ
مَنْ يَشاءُ واللّهُ ذُوالْفَضلِ الْعَظيمِ.
( الجمعة / 2 ). *
وَأنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الكِتابَ
والحِكْمَةَ وَعَلَّمكَ ما لم تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ
عَظيماً. ( النساء / 113 ). *
وَما كُنتَ تَتلُوا مِن قَبلِهِ مِنْ
كِتاب وَلا تخُطُهُ بِيَمينِكَ إذاً لارتَابَ المُبطِلُونَ.
( العنكبوت / 48 ). *
إقرأ بِاسمِ رَبِّكَ الَّذي خَلق
خَلَقَ الإنْسانَ مِنْ عَلَق إقْرأ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ الَّذي عَلَّمَ
بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإنسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ.
( العلق / 1 ـ 5 ). *
ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى وَما
يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إنْ هُوَ اِلاّ وَحْيٌ يُوحى عَلَّمهُ شَديدُ القُوى ذو
مَرَّة فَاسْتَوى وَهُوَ بالافُقِ الاَْعْلى ثُمَّ دَنا فَتَدلّى فَكانَ قَاب
قَوسَيْنِ أوْ أدْنى فَأَوحى إلى عَبْدِهِ ما أوْحى ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رأى
أو قتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى ولَقَدْ رآهُ نَزلَةً أُخرى عِنْدَ سِدْرَةِ
الْمُنْتَهى عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأوى إذْ يَغْشى السِّدرَةَ ما يَغْشى ما زاغَ
الْبَصَرُ وَما طَغى لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبَّه الْكُبرى.
( النجم / 2 ـ 17 ). *
وَلَو تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ
الاَْقاوِيلِ لأَخَذْنا مِنْهُ بِالَيمينِ ثُمَّ لَقَطعْنا مِنْهُ الْوَتينَ
فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحد عَنْهُ حاجِزينَ. ( الحاقة
/ 44 ـ 47 ). *
وَما عَلَّمْناهُ الشِّعرَ وَما
يَنْبَغي لَهُ إنْ هُوَ إلاّ ذِكْرٌ وَقُرآنٌ مُبينٌ.
( يس / 69 ). *
وَيَقُولُونَ أنَّنا لَتارِكُوا آلهَتِنا
لِشاعِر مَجْنُون بَلْ جاء بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الُمُرْسَلينَ.
( الصافات / 36 ـ 37 ). *
إنَّهُ لَقَوْلُ رَسول كَريمْ وَما
هوَ بَقَولِ شاعر قَليلا ما تُؤْمنُونَ. ( الحاقة
/ 40 ). *
وَما هُوَ عَلى الغَيْبِ بِضَنين.
( التكوير / 24 ). *
سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى.
( الاعلى / 6 ). *
فَسَيكْفِيَكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ
السَّميعُ الْعَليمُ. ( البقرة / 137 ). *
وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ.
( المائدة / 67 ). *
وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالوا.
( التوبة / 74 ). *
إنّا كَفيْناكَ الْمُسْتَهْزئِينَ.
( الحجر / 95 ). *
وَإنْ كادوا لَيَفْتِنونَكَ عِنَ
الَّذي أوْحَيْنا إليْكَ لَتَفْتَرى عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإذاً لاتَّخَذُوكَ
خَليلا وَلَوْلا أنْ ثَبَّتناكَ لَقَدْ كِدْتَّ تَركَنُ إليْهِمْ شيئاً قَليلا.
( الاسراء / 73 ـ 74 ). *
أَلَيْسَ اللّهُ بَكاف عَبْدَهُ
وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذينَ مِنْ دُونِهِ.
( الزمر / 36 ). *
وَأصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإنَّكَ
بأَعْيُنِنا. ( الطور / 48 ). *
تِلْكَ آياتُ اللّه نَتْلُوها
عَلَيْكَ بِالحَقِّ وَمَا اللّهُ يُريدُ ظُلْماً لِلْعالَمينَ.
( آل عمران / 108 ). *
اتْلُ ما أوحِيَ إليْكَ مِنَ
الكِتابِ. ( العنكبوت / 45 ). *
واتَّبِع ما يُوحى إليْكَ مِنْ
رَبِّكَ. ( الاحزاب / 2 ). *
وَأنْذِر عَشيرَتِكَ الأقْرَبينَ.
( الشعراء / 214 ). *
فَاصْدَعْ بِما تُؤمرُ.
( الحجر / 94 ). *
قلْ يا ايُّها النّاسُ إنَّما انا
لَكُمْ نَذيرٌ مُبينٌ. ( الحج / 49 ). *
وَإنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إلى صِراط
مُستَقيم. ( المؤمنون / 73 ). *
تَبارَكَ الَّذي نَزَّلَ الْفُرقانَ
عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمينَ نَذيراً.
( الفرقان / 1 ). *
وَما أرْسَلْناكَ إلاّ مُبَشِّراً
وَنَذيراً. ( الفرقان / 56 ). *
وَما كانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ
وَأنْتَ فِيهِمْ. ( الأنفال / 33 ). *
لَقد جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ
أنْفُسِكُمْ عَزيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَريصٌ عَلَيْكُمْ.
( التوبة / 128 ). *
بِالْمؤمِنينَ رَؤوف رَحيمٌ.
( التوبة / 128 ). *
وَما أرسَلْناكَ إلاّ رَحْمَةً
لِلْعالَمِينَ. ( الأنبياء / 107 ). *
إنَّكَ لَعلى هُدىً مُسْتَقيم.
( الحج / 67 ). * نَزلَ بِهِ الرُّوحُ الأمينُ عَلى قَلْبِكَ
لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرينَ. ( الشعراء
/ 193 ). * إنّا أرسَلْناكَ بِالحَقِّ بَشيراً وَنَذيراً
وَلا تُسئلُ عَنْ أصْحابِ الْجَحيم. ( البقرة
/ 119 ). * كَما أَرسَلْنا فِيكُمْ رَسُولا مِنْكُمْ
يَتْلُوا عَلَيْكُم آياتِنا وَيُزكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكم الْكِتابَ
وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونوا تَعْلَمُونَ.
( البقرة / 151 ). * لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلى الْمؤمِنينَ إذْ بَعثَ
فيهِمْ رَسولا مِنْ انْفُسِهمْ يَتلْو عَليْهِمْ آياتِهِ وَيُزكِّيْهِمْ
وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ والْحِكْمَةَ وَإنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلال
مُبينْ. ( آل عمران / 164 ). * هُوَ الَّذي أرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ
الْحَقَّ لَيُظْهِرَهُ عَلى الدّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللّهِ شَهيداً. مُحمَّدٌ
رَسُولُ اللّه. ( الفتح / 28 ـ 29 ). * يا ايُّها النَّبِيُّ إنَّا أرْسَلْناكَ شاهِداً
وَمُبَشِّراً وَنَذيراً وَداعِياً إلى اللّهِ بِإذْنِهِ وَسِراجاً مُنيراً.
( الاحزاب / 46 ). * وَما أرْسَلْناكَ إلاّ كافَّةً لِلنَّاسِ بَشيراً
وَنَذيراً. ( سبأ / 28 ). * قُلْ إنَّما أعِظُكُمْ بِواحِدَة أنْ تَقُوموا
للّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّة إنْ هُوَ
إلاّ نَذيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذاب شَديد.
( سبأ / 46 ). * فَفِرّوا إلى اللّهِ إنّي لَكُم مِنْهُ نَذيرٌ
مُبينٌ. ( الذاريات / 50 ). * وَأرْسَلْناكَ لِلنّاسِ رَسُولا وَكَفى باللّهِ
شَهيداً. ( النساء / 78 ). * وَأنْزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ
والْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللّهِ
عَلَيْكَ عَظيماً. ( النساء / 113 ). * إنّا أوْحَينا إليْكَ كَما أوْحَينا إلى نُوح
والنَّبِيينَ مِنْ بَعْدِهِ. ( النساء
/ 163 ). * لكن اللّه يَشْهَدُ بِما أنزَلَ إليْكَ أنْزَلَهُ
بِعِلْمِهِ والْملئكَةُ يَشْهَدونَ وَكَفى بِاللّهِ شَهيداً.
( النساء 166 ). * ما كانَ مُحَمَّدٌ أبا أحد مِنْ رِجالِكُمْ
وَلكِنْ رَسولَ اللّه وَخاتَمَ النَّبِيَّينَ.
( الاحزاب / 40 ). * قُلْ يا أيّها الناسُ إنّي رَسُولُ اللّه
إلَيْكُم جَميعاً. ( الاعراف / 158 ). * وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إنَّ الْعِزَّة للّهِ
جَميعاً هُوَ السَّميعُ الْعَلِيمُ. ( يونس /
65 ). * فَلعَلَّكَ تاركٌ بَعْض ما يُوحى إليْكَ وَضائِقٌ
بِه صَدرُكَ أنْ يَقُولوا لَوْلا أُنزلَ عَليْهِ كَنْزٌ أوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ
إنّما أنْتَ نَذيرُ وَاللّهُ عَلى كُلِّ شيء وَكِيلٌ.
( هود / 12 ). * وَكُلاّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ انْباءِ الرُّسُلِ
ما نُثَبِّتُ بِهِ فؤَادَكَ وَجاءَكَ في هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعظَةٌ وَذِكْرى
لِلْمُؤمِنينَ. ( هود / 120 ). * وَلَقَدِ اسْتُهزئ بِرُسلُ مِنْ قَبْلِكَ
فَأَملَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَروا ثُمَّ اخَذْتُهُمْ فَكَيفَ كانَ عِقابِ.
( الرعد / 32 ). * لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى ما متَّعْنا بِهِ
أزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحزْنْ عَلَيْهِمْ.
( الحجر / 88 ). * وَلَقَد نَعْلم ُ انَّكَ يَضيقُ صَدْرُكَ بِما
يَقُولونَ فَسبِّح بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السّاجِدينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ
حَتى يَأتِيكَ الْيَقينُ. ( الحجر /
99 ). * وَأُصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إلاّ بِاللّه وَلا
تَحزَنْ عَلَيْهمْ وَلا تَكُ في ضَيْق مِمّا يَمْكُرونَ إنَّ اللّهَ مَعَ
الَّذِينَ اتَّقوْا والَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ.
( النحل / 128 ). * فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفسَكَ عَلى آثارِهِمْ إنْ
لَمْ يُؤمنُوا بِهذا الْحَديثِ أسفاً. ( الكهف /
6 ). * فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولونَ.
( طه / 130 ). * وَإنْ يُكَذِّبُوكَ فَقدْ كَذَّبتْ قَبْلَهُمْ
قَوْمُ نُوح وَعادٌ وَثَمُودُ وَقَوْمُ إبْراهيمَ وَقَوْمُ لُوط وَأصْحابُ
مَدْيَنَ وَكُذِّب مُوسى فَأَمْلَيتُ لِلْكافِرينَ ثُمَّ أخذْتُهُمْ فَكَيْفَ
كانَ نَكِير. ( الحج / 42 ـ 44 ). * وَكذلِكَ جَعلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ
الُمجْرِمينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادياً وَنَصيراً.
( الفرقان / 31 ). * لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ ألاّ يَكُونوا
مُؤمِنينَ. ( الشعراء / 3 ). * وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ في ضَيْق مِمّا
يَمْكُرُونَ. ( النحل / 127 ). * فَاصْبِر إنَّ وَعْدَ اللّه حَقٌّ وَلا
يستَخِفَّنَّكَ الَّذينَ لا يُوقِنونَ. ( الروم /
60 ). * وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ.
( لقمان / 23 ). * وَاِنْ يُكَذِّبوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ
قَبلِكَ وَإلى اللّه تُرجَعُ الاُمورُ. ( فاطر /
4 ). * سُبْحانَ الَّذي أسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ
الْمَسجِدِ الْحرامِ إلى الْمَسْجِدِ الاَْقْصا الَّذي بارَكْنا حَوْلَهُ
لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إنَّهُ هُوَ السَّميعُ الْبَصيرُ.
( الأسراء / 1 ). * فَلا تَذهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسرات إنَّ
اللّهَ عَليمٌ بِما يَصْنَعُونَ. ( فاطر /
8 ). * وَإنْ يُكَذبوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ جاءتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالبَيِّناتِ وَبالزُّبرِ وَبِالكِتابِ
الْمُنيرِ. ( فاطر / 25 ). * فَلا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إنّا نَعلَمُ ما
يُسرّونَ وَما يُعلِنُونَ. ( يس / 76
). * وَلَقَدْ سَبقَتْ كلِمَتُنا لِعبادِنا
الْمُرسَلينَ إنَّهُمْ لَهُم الْمنصُورونَ.
( الصافات / 171 ـ 172 ). * وَإنْ جُنْدنا لَهُمُ الْغالِبُونَ فَتوَلَّ
عَنْهُمْ حَتَّى حين وابْصرْهُمْ فَسوْفَ يُبْصِرُونَ.
( الصافات / 173 ـ175 ). * وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتّى حين وَاَبْصِرْ
فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ. ( الصافات / 178 ـ 179 ). * إصْبِرْ عَلى ما يَقولونَ.
( ص / 17 ). * ألَيْسَ اللّه بِكاف عَبدَه وَيخوَّفونَكَ
بِالَّذينَ مِنْ دونِهِ. ( الزمر / 36 ). * فَاصبِرْ إنَّ وَعْدَاللّه حَقٌ.
( المؤمن / 55 ). * وَلا تَطرُد الَّذينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ
بِالغَدوَةِ والعَشيِّ يُريدونَ وَجْهَهُ ما عَليْكَ مِنْ حِسابِهمْ مِنْ شَيء
وَما مِنْ حِسابِكَ عَليْهِمْ مِنْ شَيء فَتطرُدِهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظالِمينَ.
( الانعام / 52 ). * وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذينَ يَدْعُونَ
رَبَّهُمْ بِالغَدوة والعشيِّ يُريدونَ وَجْههُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ
تُريدُ زينَة الحَيوة الْدُّنيا وَلا تُطِعْ مَنْ اغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ
ذِكْرنا وَاتَّبعَ هَويهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً.
( الكهف / 28 ). * إنَّما المُؤمنونَ الَّذينَ آمنوا بِاللّهِ
وَرَسُوله وإذا كانوا مَعَهُ عَلى أمر جامِع لَمْ يَذهَبُوا حتّى يَسْتأذنوهُ
إنَّ الَّذينَ يَستأذوننكَ أُولئكَ الَّذينَ يُؤمِنُونَ باللّه وَرَسُولِهِ فإذا
اسْتأذنوك لِبَعْضِ شَأنِهِم فَأذَن لِمَنْ شِئتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ
اللهَ إنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحيمٌ لا تَجْعلُوا دُعاءَ الرَّسول بَيْنَكُمْ
كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعلَمُ اللّهُ الذينَ يَتَسلَلَّونَ مِنْكُمْ
لِواذاً فَليَحْذِر الَّذينَ يُخالِفُونَ عَنْ أمْره انْ تُصبيَهُمْ فِتْنَةٌ
أَوْ يُصيبَهُمْ عَذابٌ أليمٌ. ( النور /
62 ـ 63 ). * يا ايُّها الَّذينَ آمنوا لا تَدْخُلوا بُيوتَ
النَّبيَّ إلاّ أَنْ يُؤذَنَ لَكُمْ إلى طعام غَيْرَ ناظرينَ إناهُ ولكنْ إذ
دُعيتُمْ فَادْخُلوا فَإذا طعِمْتُمْ فَانْتشِروا وَلا مُسْتأنِسينَ لِحَديث
إنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤذي النَّبيَّ فَيستَحِي مِنْكُمْ وَاللّهُ لا يَسْتَحِي
مِنَ الحَقِّ وَإذا سألُتموهُنَّ مَتاعاً فَسئلوهُنَّ مِنْ وَراء
حِجاب
ذلِكُمْ أَطهَرُ لِقلُوبِكُمْ وَقلُوبِهِنَّ وما كان لَكُمْ أَنْ تُؤذوا رَسولَ
اللّهِ وَلا أنْ تَنْكِحُوا أزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أبداً إنَّ ذلِكُمْ كانَ
عِنْدَ اللّهِ عَظيماً. ( الاحزاب / 53 ). * يا ايها الَّذينَ آمنوا لا تُقدِّموا بَيْنَ يَدي
اللّهِ وَرَسُولِهِ وَاتقُوا اللّهَ إنَّ اللّهَ سَميعٌ عَليمٌ يا ايُّها
الَّذينَ آمنوا لا تَرْفعوا أصْواتَكُمْ فَوقَ صَوت النَّبيِّ ولا تَجْهروا لهُ
بِالْقَولِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعض أنْ تَحْبَطَ أعمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا
تَشعُرونَ إنَّ الذَّين يَغضُّونَ أصواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ أُولئِكَ
الَّذينَ امْتَحَنَ اللّهُ قُلوبَهْمْ لِلتَّقوى لَهُمْ مَغْفِرةٌ وَأجرٌ عظيمٌ
إنَّ الَّذينَ يُنادونكَ مِنْ وَراءِ الحُجراتِ أكثرُهُمْ لا يعقِلُونَ وَلَو
أنَّهُمْ صَبَروا حتَّى تَخرُجَ إليْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللّهُ غَفورٌ
رَحيمٌ. ( الحجرات / 1 ـ 5 ). * وَاعْلَموا أَنَّ فيكُمْ رَسولَ اللّهِ لَو
يُطيعُكُمْ في كَثير مِنَ الأَمْر لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللّهَ حَبَّبَ إليْكُمْ
الإيمانَ وَزَيَّنَهُ في قُلوبِكُمْ وَكَرَّه إليْكُمُ الكُفْرَ وَالفُسوقَ
وَالْعِصيانَ أُولئكَ هُمُ الرّاشِدُونَ. ( الحجرات
/ 7 ). * وَإنَّك لَعلى خُلُق عَظيم.
( القلم / 4 ). * وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلمُؤْمِنينَ.
( الحجر / 88 ). * وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَن اتَّبَعكَ مِنَ
الْمُؤْمِنينَ. ( الشعراء / 215 ). * لَقدْ جاءَكُمْ رَسولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزيزٌ
عَليْهِ ما عَنِتُّمْ حَريصٌ عَلَيْكُمْ بِالمُؤمنينَ رَؤُوفٌ رَحيمٌ.
( التوبة / 129 ). * فَبِما رَحْمَة مِنَ اللّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ
كُنْتَ فَظّاً غَليظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَولِكَ.
( آل عمران / 159 ). * لَقَدْ كانَ لَكُمْ في رَسولِ اللّهِ أُسْوَةٌ
حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُو اللّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذكَرَ اللّهَ
كَثيراً. ( الاحزاب / 21 ). * قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللّه
فَاتَّبِعُوني يُحْبِبْكُمْ اللّه وَيَغْفِرْلَكُمْ ذنوبَكُمْ وَاللّهُ غَفورٌ
رَحيمٌ. ( آل عمران / 31 ). * فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤمنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ
فيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لايَجِدوا في أنْفُسِهِمْ حَرجاً مِمَّا قَضيْتَ
وَيُسَلِّموا تَسليماً. ( النساء / 65 ). * إنَّ اللّهَ وَملائكتهُ يُصَلُّونَ عَلى
النَّبيِّ يا أيُّها الَّذينَ آمنُوا صَلُّوا عَليْهِ وَسَلِّمُوا تَسْليماً.
( الاحزاب / 56 ). * إنَّا أعْطيناكَ الْكَوثَر فَصلِّ لِرَبِّكَ
وانْحَر إنَّ شانِئكَ هُوَ الأَبْتَرْ. ( الكوثر
/ 1 ـ 2 ). * إنَّما يُريدُ اللّهُ لِيُذْهِببَ عَنْكُمْ
الْرِّجْسَ أَهلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهيراً. ( الاحزاب
/ 33 ). (ولقد
بحث سماحة الاستاذ العلامة المحقّق الشيخ جعفر السبحاني صاحب هذه المحاضرات حول
جميع هذه الآيات ونظائرها في دراسة عميقة وشاملة في الجزء السابع من موسوعته «
مفاهيم القرآن ».) |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
شبه
الجزيرة العربية أو
مَهْد الحضارة الإسلامية
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الجزيرةُ العَربية هي
في الحقيقة شبهُ جزيرة كبيرة وتقع في الجنوب الغربي من
اسيا ، وتبلغ مساحتُها ثلاثة ملايين كيلومتر مربع ، أي ضِعف مساحة إيران ، وستة
أضعاف فرنسا ، وعشرة أضعاف إيطاليا ، وثمانين ضِعف سويسرة. ويَحدُّ شبه الجزيرة ـ هذا الّذي هو اشبه ما يكون بمستطيل غير متوازي الاضلاع ـ من
الشمال فلسطين وصحراءُ الشام ، ومن المشرق الحيرةُ ودجلة والفرات والخليج
الفارسي ، ومن الجنوب المحيط الهندي وخليج عمان ، ومن المغرب البحر الأحمر. وعلى هذا يحاصر هذه الجزيرة من
المغرب والجنوب البحر ، ومن الشمال والشرق الصحراء ، والخليج. وقد جرت العادة بتقسيم
هذه المنطقة من القديم إلى ثلاثة اقسام : 1 ـ القسم الشمالي
والغربي ويسمى بالحجاز. 2 ـ القسم المركزي
والشرقي ويسمى بصحراء العرب. 3 ـ القسم الجنوبي
ويسمى باليمن. وتُشكّل داخلَ شبه الجزيرة هذا صحاري
كبيرة ، ومناطق شاسعة رملية حارة ، وغير قابلة للسكنى تقريباً ، ومن جملة هذه
الصحاري صحراء « بادية سماوة »
الّتي تسمى اليوم بصحراء « النفوذ » وصحراء
اُخرى واسعة الاطراف تمتد إلى الخليج الفارسيّ يُطلق عليها اليوم إسم « الربع
الخالي » وقد كان يسمى قسمٌ من هذه الصحاري سابقاً بالأحقاف ، ويسمى القسم الآخر
بالدهناء. وعلى أثر هذه الصحاري
تشكل ثُلث مساحة شبه الجزيرة هذا أراضي خالية من الماء والعشب وغير قابلة للسكنى
،
اللهم إلاّ بعض ما يحصل من المياه بسبب تساقط الامطار ، في قلب الصحاري فيتجمع
حولها بعض القبائل العربية بعض الوقت ، ويرعون فيها ابلهم وانعامهم ردحاً قليلا
من الزمن. وأمّا حالة المناخ في
شبه الجزيرة العربية ، فالهواء في الصحاري والأَراضي
المركزية ( الوسطى ) حارٌ وجافٌ جداً ، وفي السواحل مرطوبٌ ، وفي بعض النقاط
معتدلٌ ، وبسبب رداءة الطقس هذه لا يتجاوز عدد سكانه خمسة عشر مليون نسمة. وتوجد في هذه الجزيرة سلسلة جبال
تمتد من الجنوب إلى الشمال ، ويقارب ارتفاع أعلى قممها 2470 متراً. وقد كانت معادن الذهب والفضة
والاحجار الكريمة تشكل مصادر الثروة في شبه الجزيرة هذا منذ القديم ، وكان
سكانها يعتنون ـ من بين الانعام
والحيوانات ـ بتربية الابل والفرس اكثر من غيرهما
، ومن بين الطيور بالحمام والنعامة اكثر من الطيور الاُخرى. بيد أن اكبر مصدر للثروة في الجزيرة
العربية اليوم يأتي عن طريق استخراج النفط. وتعتبر مدينة « الظهران » الّذي
يسميه الاوربيون بالدهران المركز النفطي الرئيسي في هذه الجزيرة ، ويقع هذا
البلد في ناحية الاحساء الّتي تقع في المنطقة الشرقية من الجزيرة العربية على
حدود الخليج الفارسي. ولكي يتعرف القارئ
الكريم على الأَوضاع في شبه الجزيرة العربية هذا بنحو اكثر تفصيلا فاننا نعمد
إلى شرح الاقسام الثلاثة المذكورة : 1 ـ « الحجاز »
وهي المنطقة الّتي تشكل القسم الشمالي والغربي من الجزيرة العربية وتمتد أراضيها على ساحل البحر الاحمر ابتداء من فلسطين وحتّى
حدود اليمن. والحجاز بعد هذا منطقة جبلية ، وذات
صحار قاحلة ، واراض حجرية ، وصخرية ، يكثر فيها الحصى. ولقد كانت هذه المنطقة ـ في التاريخ
ـ اكثر شهرة من غيرها ، ومن المعلوم أنَّ هذه
الشهرة جاءت بسبب جملة من العوامل المعنوية والدينية ، فهي الآن تضمّ بين
جوانحها بيت اللّه الحرام « الكعبة المعظمة » ، قبلة ملايين المسلمين ، ومهوى
افئدتهم. وقد كانت البقعةُ الّتي تقوم عليها
بنية « الكعبة المعظمة » تحظى منذ
سنوات مديدة قبل بزوغ الإسلام باحترام العرب وغيرهم ، ولهذا حَرَّموا القتال حول الكعبة تعظيماً لها ،
حتّى إذا جاء الإسلام أقَرَّ للكعبة ولما حولها ، مثل ذلك الاحترام ، والتعظيم
أيضاً. ومن أهمّ مُدُن الحجاز
:
« مكة » و « المدينة » و « الطائف » ،
وكان للحجاز منذ القديم ميناءان هما :
ميناء « جدة » الّذي يستخدمه أهل مكة ، وميناء « ينبع » الّذي يستخدمه أهلُ
المدينة ، في سَدِّ الكثير من إحتياجاتهم ويقع هذان الميناءان على ساحل « البحر الاحمر ». |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
مَكةُ المعظمة :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وهيَ من أَشهر مُدُن
العالم وأكثر المُدُن الحجازية سُكاناً ، وترتفع عن سطح البحر بما يقارب 300
متراً. وإذ تقع مدينة « مكة »
بين سلسلتين من الجبال لذلك فانها لاتُرى من بعيد ،
ويقطنها اليوم حوالي (150) ألفاً من السكان. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
تاريخ
مكة :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
يبدأ تاريخ « مكة
المكرمة » من زمن النبي إبراهيم الخليل عليهالسلام ، فقد أسكن هذا النبيُّ ولده «
اسماعيل » مع اُمه « هاجر » في ارض مكة ، فنشأ اسماعيل هناك ، وتزوج من القبائل
الّتي سكنت على مقربة من تلك المنطقة. ثم إن إبراهيم عليهالسلام بنى وبأمر من اللّه تعالى البيت
الحرام « الكعبة ». وتقول بعض الروايات الصحيحة إن
الكعبة بنيت على يد النبيّ نوح عليهالسلام
وأن ابراهيم عليهالسلام جدّد
بناءها. وهكذا نشأت وبعد هذا
تاسست مدينة مكة. وتتكون نواحي « مكة » من
أراض سبخة شديدة الملوحة بحيث لا تكون قابلة للزراعة اصلا ، حتّى أن بعض
المستشرقين يذهب إلى أنه لا يوجد أية منطقة في العالم في رداءة أوضاعها
الجغرافية والمحيطية والطبيعية مثل هذه المنطقة. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
المَدينةُ
المنوَّرةُ :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وهي مدينة تقع في شمال
مكة وتبعد عنها ب : 90 فرسخاً تقريباً ، وتحيط بها بساتين ومزارع ونخيل وافرة ،
وأرضها أكثر صلاحية لغرس الاشجار والزرع. وكانت المدينة المنورة تسمى قبل
الإسلام ب « يثرب » ،
وبعد أن هاجر إليها رسول الإسلام صلىاللهعليهوآلهوسلم
سُمّيت بمدينة الرسول ، ثم اُطلقت عليها لفظة
« المدينة » مجردة تخفيفاً. ويحدثنا التاريخ أن العمالقة كانوا
أول من سكن هذه الديار ، ثم خلف العمالقة طائفة
اليهود ، والأوس والخزرج الذين سُمِّي المسلمون منهم بالأَنصار في ما بعد. هذا وقد سلمت الحجاز ـ
على عكس سائر المناطق ـ من طمع الطامعين وغزو الغزاة والفاتحين ، ولم نشاهد فيها
أي شيء من آثار حضارة الامبراطوريتين العظيمتين انذاك قبل الإسلام : الروم
والفرس ، وذلك لأنها إذ كانت تتألَّف من أراض قاحلة مجدبة
غير قابلة للسكنى والعيش لم تحظ باهتمام أحد من اُولئك الفاتحين حتّى يفكر في
تسيير العساكر ، وتجييش الجيوش لفتحها ليعود بعد تحمّل آلاف المشاكل الّتي
تستلزمها عملية الاستيلاء على أراضي تلك المنطقة خالي الوفاض صفر اليدين. وللوقوف على هذه
الحقيقة اقرأ القصة التالية التي نقلها « ديودرس ». عندما دخل ديمتريوس القائد اليوناني
الكبير « بطرا » ( وهي مدينة قديمة من
مدن الحجاز ) بهدف فتح جزيرة العرب خاطبهُ سكانُ
تلك المدينة قائلين : لماذا تحاربنا أيها الملك ديمتريوس
ونحن من سُكان الصحارى الّتي لا تُسدُّ فيها خلّة ، ترانا نقطن في هذه البقاع
القاحلة فراراً من العبودية. إقبل هدايانا ، وارجع إلى حيث كنت ، سنكون من أوفى
الاصدقاء لك ، ولكنك إذا رغبت في حصرنا حرمت كل هناءة ، ورأيت عجزك عن اكراهنا
على تبديل طرق حياتنا الّتي تعوَّدناها منذ نعومة أظفارنا ، وإذا قدرت على اسر
بعضنا أيقنت أنك لن تجد واحداً ممن أسرت يستطيع أن يألف حياة غير الّتي ألفناها.
هناك رأى ديمتريوس أن يقبل هديتهم
وان يرضى بالمآب (حضارة العرب : تأليف غوستاف لوبون ص 91 ـ 02 ترجمة عادل رتميتر.).
2 ـ المنطقة الوسطى
والشرقية ، التي تسمى ب « صحراء العرب » ومنطقة « نجد » الّتي هي جزء من هذه
المنطقة أرض مرتفعة يقوم فيها بضع قُرى صغيرة معدودة. ولقد أصبحت الرياضُ الّتي اتخذها
السعوديون عاصمة لهم بعد استيلائهم من المراكز المهمة في هذه الناحية من
الجزيرة. 3 ـ المنطقة الجنوبية
الغربية من الجزيرة العربية ، والّتي تسمى ب « اليمن » وتمتد طولا من الشمال
إلى الجنوب حوالي (750) كيلومتراً ومن الغرب إلى الشرق حوالى (400) كيلومتراً. وتقدر مساحة هذا البلد بستين الف ميل
مربع تقريباً ، ولكنها كانت ـ قبل ذلك ـ أوسع من هذا القدر ، وقد كان قسم منها ( وهوعدن ) خلال النصف الاول من القرن
الأخير تحت الانتداب البريطاني ، ومن هنا ينتهي شمالا إلى نجد ، وجنوباً إلى عدن
، وغرباً إلى البحر الأحمر وشرقاً إلى صحراء الربع الخالي (لقد انقسمت اليمن مؤخراً إلى يمن شمالية واُخرى جنوبية لكل واحد منها
نظام حكم خاصّ وحكومة خاصّة.).
ومن مُدُن اليمن المعروفة مدينة « صنعاء » التاريخية العريقة ، ومن موانئها المشهورة ميناء
« الحديدة » الّتي تقع على الحبر الأحمر. ومنطقة اليمن من اكثر
مناطق الجزيرة العربية خصوبة وبركة ، ولها تاريخ
مشرقٌ وعريق في المدنية والحضارة ، فقد كانت اليمن مقراً لملوك تبَّع ، الذين
حكموا اليمن سنيناً مديدة وكانت اليمن قبل الإسلام مركزاً تجارياً مهماً ، وكانت
في الحقيقة ملتقى طرق الحجاز ، اشتهرت في العصور القديمة بمعادن الذهب ، والفضة
، والحديد ، والنحاس ، وكانت تصدر إلى خارج البلاد. ولا تزال اثار الحضارة
اليمنية القديمة باقية إلى الآن. ولقد قام أهلُ اليمن الاذكياء باقامة
أبنية وعمارات عالية وجميلة بهممهم العالية في عصور كان البشر يفقد فيها الوسائل
الثقيلة ، والاجهزة المعقدة. كان ملوك اليمن يحكمون
البلاد دون أي منازع ، إلاّ أنهم رغم ذلك لم يكونوا يمتنعون عن تنفيذ مارسمه
حكماء اليمن ورجالهم من انظمة وقوانين للحكم وادارة البلاد آنذاك. ولقد سبقوا الآخرين في الزراعة
والفلاحة ، وقد نظموا لإحياء الأراضي وزراعتها ، نظاماً دقيقاً للريّ طبقوا
بنوده بدقة ، ولهذا كانت بلادهم تعدّ ـ آنذاك ـ من البلدان الراقية المتقدمة من
هذه الناحية. فها هو « غوستاف لوبون
» المؤرخ الفرنسي المعروف يكتب حول اليمن قائلا : إنَّ
بلاد العرب السعيدة من أغنى بقاع العالم (حضارة العرب : ص 94.).
ويكتب الادريسيّ
المؤرخ المعروف الّذي كان يعيش في القرن الثاني عشر حول « صنعاء » قائلا :
كانت صنعاء مقر ملوك اليمن ، وعاصمة جزيرة العرب ، وانه كان لملوكها قصر متين
شهير وكانت تشتمل على بيوت مصنوعة من الحجارة المنحوتة (نزهة المشتاق في اختراق الآفاق على ما في حضارة العرب ، ص 55.).
هذه الآثار العجيبة
الّتي عثر عليها المستشرقون وعلماء الآثار في تنقيباتهم الأخيرة تثبت حضارة
عجيبة لليمن في عصورها القديمة وذلك في مختلف نواحيها مثل « مأرب » و « صنعاء »
و « بلقيس ». ففي مدينة مأرب ( وهي
مدينة سبأ المعروفة ) كانت تقوم قصور ضخمة وصروح عالية
ذوات أبواب وسقوف مزينة بالذهب ، وكانت تحتوي على أوان وصحون من الذهب والفضة ،
وأسرّة كثيرة مصنوعة من المعدن والفلز (حضارة العرب : ص 94.).
ومن آثار « مأرب »
التاريخية السدُّ المعروفُ باسم ذلك البلد والّذي لا تزال اطلاله باقية ، وهو السدّ الّذي تهدَّم بسبب السيل الّذي وصفه القرآن الكريم
بالعَرِم. فقد جاء في سورة سبأ الآية 15 ـ 19
قوله تعالى : « لَقَدْ كانَ لِسَبَأ في مَسْكَنِهِمْ آيةٌ
جَنّتانِ عَن يَمينِ وَشمال كُلُوا مِنْ رِزق ربكُمْ واشْكُروا لَهُ بلدةٌ
طَيِبَةٌ وربٌّ غَفُورٌ. فأعرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيهِمْ سَيْلَ العَرم
وبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتيهِمْ جَنَّتَيْن ذَواتي أكل خَمْط وأَثْل وشيء مِنْ
سِدْر قَليل. ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نجازي الاّ الكفور.
وَجَعَلْنا بَينَهُمْ وَبَيْنَ القُرى الَّتي باركْنا فيها قُرى ظاهرةً وَقَدَّرنا
فيها السَيْرَ سِيْروُا فيها لَيالَي وأيّاماً آمِنين. فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ
بَين أَسفارنا وَظَلمُوا أنْفُسَهُمْ فَجَعلْناهُمْ أَحاديث ومَزّقناهُمْ كُلَ
ممزَّق إنّ في ذلكَ لآيات لِكلِ صَبّار شَكُور
» (للوقوف على المزيد من المعلومات عن اليمن قديماً وحديثاً ، راجع
الكتب المؤلفة حول جغرافية العالم الإسلامي.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
العَرَب
قبلَ الإسلام
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لمعرفة أوضاع العرب
قبل الإسلام يمكن الرجوع إلى المصادر التالية : 1 ـ التوراة على ما فيها من تحريفات.
2 ـ كتابات اليونانيين والروميين في
القرون الوسطى. 3 ـ الكتابات التاريخية الّتي كتبها
علماء الإسلام ومؤلفوه. 4 ـ الآثار القديمة الّتي عثر عليها
المستشرقون في تنقيباتهم والّتي استطاعت من أن تكشف النقاب عن طائفة لا يُستهان
بها من الحقائق في هذا الصعيد. إلاّ انه مع وجود كل هذه المصادر
والمراجع لا تزال هناك نقاطٌ كثيرةٌ عن تاريخ العرب في القرون البعيدة تعاني من
الغموض. ولكن حيث أنَّ دراسة أوضاع العرب قبل
الإسلام هي من باب المقدمة في هذا الكتاب ، والهدف الاساسي إنما هو دراسة السيرة
النبوية الطاهرة ، من هنا نكتفي في هذا
الفصل باستعراض النقاط الخاصة والواضحة من حياة العرب قبيل الإسلام على اننا
يمكننا أن نقف على وصف دقيق لحالة العرب خاصة قبيل بزوغ الإسلام من خلال مصدرين
اسلاميين اساسيين هما : 1 ـ القرآن الكريم. 2 ـ ما ورد عن الامام علي عليهالسلام
في نهج البلاغة. فقد وردت في هذين
المصدرين تصريحاتٌ ونصوصٌ صريحة تكشف عن ما كان عليه العرب في الجاهلية من سوء
الأحوال والاوضاع والاخلاق في جميع الاصعدة والابعاد ، وسنشير إلى ابرز هذه
النصوص ونقف عندها بعض الشيء ، ولكننا نستعرض قبل ذلك شيئاً من تاريخ العرب في
القرون البعيدة فنقول : إن من المسلَّم أن شبه الجزيرة
العربية كان منذ أقدم العصور موطناً لقبائل كثيرة انقرض بعضها بمرور الايام ،
وفي ثنايا الاحداث ، بيد ان هناك ثلاث قبائل قد تشعَّبتْ عنها أفخاذٌ وفروعٌ
تحظى بشهرة اكثر من بين من سكنوا هذه المنطقة. وهذه القبائل الاُمّ
هي : 1
ـ العرب البائدة : وإنما
سُميت بالبائدة لأنها أبيدت بالعذاب الالهي السماويّ أو الأرضيّ بسبب عصيانها
وتمردها ، وهلكت شيئاً فشيئاً ، ولم يبق على وجه الارض من نسلهم أحد! ولعلهم كانوا هم المعنيون بقوم « عاد
» و « ثمود » الذين جاء ذكرُهم في القرآن الكريم مراراً. 2
ـ القحطانيّون : وهم أبناء يعرب بن قحطان الذين
كانوا يقطنون في « اليمن » وسائر المناطق الجنوبية من الجزيرة العربية ويُسمّون
بالعرب الاُصلاء ، وهم اليمينون اليوم ، ومنهم قبائل الأوس والخزرج وهما قبيلتان
كبيرتان كانتا تقطنان المدينة المنورة إبان ظهور الإسلام. وقد كان للقحطانين حكومات كثيرة ،
كما كانت لهم جهودٌ كبرى في تعمير ارض اليمن واحيائها ، وقد تركوا من ورائهم
حضارات ومدنيّات لا يستهان بها. وتوجد الآن كتابات تُقرأ بصورة علمية
توضحُ إلى حدّ كبير تاريخ القحطانيين وكلُ ما يقال عن مدنيّة العرب وحضارتهم قبل
الإسلام تعود في الحقيقة إلى هذه الطائفة وخاصة من سكَنَ منهم ارضَ اليمن. 3 ـ العدنانيون : وهم أبناء
اسماعيل بن ابراهيم الخليل عليهالسلام
، وسوف يأتي ذكر جذور هذه الطبقة في
الابحاث القادمة. وخلاصة ذلك :
أن إبراهيم الخليل عليهالسلام
اُمرَان يسكن وَلده الرضيع اسماعيل مع زوجته « هاجر » ام اسماعيل في ارض مكة ، فخرج بهما ابراهيم عليهالسلام من « فلسطين » وهبط بهما في ذلك
الوادي العميق الخالي عن الماء والعشب « مكة » ثم ان يد
العناية الالهية امتدت إلى تلك العائلة المهاجرة ، وجادت عليها بعين « زمزم »
الّذي جلب الرواء والحياة إلى تلك المنطقة القاحلة الضامئة. ثم تزوج إسماعيل من
قبيلة « جُرهُمْ » الّتي خيّمت بالقرب من مكة ، واصاب
من هذا الزواج عدداً كبيراً من الابناء ، والاحفاد ، وأحفاد الاحفاد كان من
جملتهم « عدنان » الّذي ينتهي نسبه إلى النبي اسماعيل عبر عدد من الآباء
والجدود. ثم تشعَّبت ذريةُ
إسماعيل إلى بطون وأفخاذ ، وعشائر وقبائل عديدة ، كان
من بينها قبيلة قريش الّتي حظيت بشهرة أكبر
،
ومنها عشيرة بني هاشم الّتي انحدر منها
رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
كما
ستعرف ذلك بالتفصيل ، عما قريب. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أخلاقُ
العرب وتقاليدُهم العامة :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
والمراد منها هو
الأَخلاق والآداب الاجتماعية الّتي كانت سائدة في ذلك المجتمع ، وقد سادت بعض
هذه الاخلاق والعادات والتقاليد في المجتمع العربي عامة. ويمكن تلخيصُ ما كانَ
العربُ يتمتعون به من أخلاق وصفات حسنة عامة في ما يلي : لقد كان العرب زمن الجاهلية وبخاصة
ولد « عدنان » أسخياء بالطبع ، يكرمون الضيف ، وقلّما يخونون في الامانة ، لا
يغتفرون نقض العهود ، ولا يتهاونون مع من يتنكر للمواثيق ، يضحون في سبيل
المعتقد ، ويتحلون بالصراحة الكاملة ، وربما وجد فيهم من تمتع بذكاء لامع ،
وذاكرة خارقة يحفظ بها الأشعار والقصائد الطوال ، والخطب المفصلة. هذا إلى جانب براعتهم في فن الشعر
والخطابة بحيث لم يسبقهم في ذلك غيرهم وإلى جانب انهم كانوا مضرب المثل في
الشجاعة والجرأة ، والمهارة في الفروسية والرمي. يرون الفرار والادبار في الحرب عاراً
لازماً ، وصفة ذميمة يلام صاحبها بسببها اشد اللوم. ولكن في مقابل ذلك كله كانوا يعانون
من مفاسد أخلاقية تغطي على كل كمال عندهم ، وتنسي كل فضيلة. ولو لا تلك الكوة المباركة الّتي
فتحت عليهم من عالم الغيب ، لطويت صفحة حياتهم الإنسانية على القطع واليقين. يعني لو لم تبزغ شمس الإسلام في
أواسط القرن السادس الميلادي ، ولم تسطع اشعتها الباعثة على الحياة ، على عقولهم
وقلوبهم لما رأيت اليوم من العرب العدنانيين اي اثر ، ولتكرّرت مقولة العرب
البائدة مرة اُخرى! لقد حَوَّل فقدان
القيادة الرشيدة ، وغياب الثقافة الصحيحة حياة العرَب ، من جانب ، وانتشار
الفساد والفحشاء من جانب آخر إلى حياة حيوانية مُزرية حتّى أن صفحات التاريخ
تروي لنا أخباراً وقصصاً مفصلة عن حروب دام بعضها خمسين عاماً ، وبعضها الآخر
مائة عام قد نشبت بين الاطراف العربية لأسباب طفيفة ودوافع تافهة جدا. لقد أدى عدم سيادة النظام والقانون
على الحياة العربية ، وعدم وجود حكومة قوية مسيطرة على الاوضاع ، توقف البغاة
والمتمردين عند حدودهم ، إلى أن يعيش العرب ـ آنذاك ـ في صورة القبائل الرُحّل ،
ويرحلوا في كل سنة إلى منطقة معينة من الصحراء التماساً للعشب والماء لانفسهم
ولانعامهم ، فاذا عثروا على ماء وعُشب أو شيء من آثار الحياة نزلوا عنده ،
وأنزلوا رحالهم بجواره ، فاذا سمعوا عن وجود مكان افضل استأنفوا رحلتهم
الصحراوية التماساً لحياة اكثر بركة ، وعطاء ، وأوفر خصباً وأمناً. هذه الحيرة وهذا الضياع وعدم
الاستقرار كان ناتجاً من أمرين : الأوّل
: سوء الاوضاع الجغرافية ورداءة
الأحوال الطبيعية للجزيرة العربية ، وخاصة من حيث الماء والمناخ والمراعي. والآخر
: الحروب والمصادمات الدمَوية الكثيرة
، واضطراب الأحوال الاجتماعية ، الّتي كانت تُلجئ جماعات كثيرة إلى التنقل
الدائم والرحيل عن الأوطان ومغادرتها ، وعدم الاستقرار في منطقة معينة. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
هل
كانَ للعرب حضَارةٌ قَبل الإسلام؟
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
يستنتج مؤلف كتاب «
حضارة العرب » من دراسته لأوضاع العرب الجاهلية أن العرب كانوا أصحاب حضارة
عريقة سبقت الإسلام بقرون. فالقصور الضخمة الّتي أقاموها في
مختلف نقاط ومناطق الجزيرة العربية ، والعلاقات التجارية الّتي كانت لهم مع ارقى
شعوب الأَرض ، شواهد قوية على تمدنهم وحضارتهم الغابرة ، لأن قوماً أنشأوا المدن
العظيمة ـ قبل الرومان بقرون كثيرة ـ وكانت علاقاتهم بارقى واكبر شعوب الأرض
وثيقة ، لا يمكن عدهم همجاً ، وشعباً بلا حضارة. ثم إنه يستدل ـ في موضع آخر من كتابه ـ على حضارة
العرب الغابرة بادابهم ووحدة وكمال لغتهم إذ
يقول : « ولو كان التاريخ صامتاً إزاء حضارة
لقطعنا ـ مع ذلك ـ بوجودها قبل ظهور « محمَّد » بزمن طويل ، ويكفي لتمثّلها أن
نذكر أنه كان للعرب آداب ناضجة ولغة راقية. والحق أنَّ الآداب واللغة من الاُمور
الّتي لا تأتي عفواً ، وهي تتخذ دليلا على ماض طويل ، وينشأ عن إتصال اُمة بأرقى
الامم اقتباسُها لما عند هذه الاُمم الراقية من التمدن إذا كانت أهلا لذلك ». وقد خَصَّصَ المؤلفُ
المذكور صفحات عديدة في كتابه لإثبات حضارة عريقة وعظيمة للعرب قبل الإسلام
معتمداً في ذلك على ثلاث اُمور : 1 ـ وجود لغة راقية. 2 ـ وجود علاقات مع
الامم الراقية. 3 ـ وجود قصور وأبنية
ضخمة ، وفخمة في اليمن كما يصفها المؤرخان المسيحيان
المعروفان « هيردوتس » و « ارتميدور » اللذان كانا يعيشان قبل المسيح بقرون ،
وقدامى المؤرخين المسلمين كالمسعودي (حضارة العرب : 78 ـ 100.).
لا كلام في أنه كانت هناك في بعض
مناطق الجزيرة العربية بعضُ حضارات ، ولكن الأدلة الّتي استند اليها المؤلفُ
المذكورُ لا يمكن ان تكون شاهداً ودليلاً على وجود الحضارة في جميع نقاط الجزيرة
العربية أبداً. صحيح أن تكامل اللغة يسير جنباً إلى
جنب مع غيره من مظاهر المدنيّة ، ولكن لا يمكن ان نعتبر اللغة العربية لغة
مستقلة وغير مرتبطة باللغات الاُخرى اي العبرانية والسريانية والآشورية
والكلدانية ، لأن جميع هذه اللغات ـ حسب ما يؤيده ويؤكده المتخصصون في علم
اللغات ـ كانت ذات يوم ـ متحدة الأصل ، وقد تشعبت من لغة واحدة ، وفي هذه الحالة
يحتمل أن تكون اللغة العربية قد حققت تكاملها عبر اللغة العبرانية أو الآشورية ،
وبعد تكاملها أصبحت لغة مستقلة ، أي ان الآخرين أسهموا في تكميلها. كما أنه لا شك أنّ وجود علاقات
تجارية مع الاُمم والشعوب الراقية هو الآخر دليل على الحضارة والمدنية إلاّ أنه
هل كانت جميع مناطق الجزيرة العربية تملك مثل هذه العلاقات ، أم إن اكثرها كانت
محرومة من ذلك؟ هذا من جهة. ومن جهة أخرى
فان وجود علاقات بين حكومتين في الحجاز وهما :
« الحيرة وغسان » وبين حكومتي « الفرس » و « الروم »
لا يدل أبداً على وجود حضارة في المنطقتين الحجازيتين إذ أن جميع هذه الحكومات
كانت متصفة بالعمالة ، فان الكثير من البلاد الافريقية هي اليوم من مستعمرات
الدول الاوربية ومع ذلك لا توجد فيها أية مؤشرات ولا أية مظاهر من الحضارة
الغربية الواقعية. طبعاً لا يمكن إنكار
حضارة « سبأ ومأرب اليمن » العجيبة لأنه مضافاً إلى ما جاء حول هذه الحضارة في
التوراة ، وما نُقِلَ عن « هيردوتس » وغيره ، كتبَ المؤرخ المعروفُ « المسعودي »
عن مأرب يقول : إن ارض سبأ كانت من أخصب أراضي
اليمن وأَثراها وأغدقها ، واكثرها جناناً وغيطاناً وأفسحها مُروجاً ، بين بُنيان
وجسد مقيم وشجر موصوف ومساكب للماء متكاثفة ، وأنهار متفرقة ، وكانت مسيرة اكثر
من شهر للراكب المجدّ على هذه الحال ، وفي العرض مثل ذلك ، وانّ الراكب أو
المارّ كان يسير في تلك الجنان من أولها إلى أن ينتهي إلى آخرها لا يرى جهة
الشمس ، ولا يفارقه الظِلُ لاستتار الارض بالعمارة والشجر واستيلائها عليها
واحاطتها بها ، فكان أهلها في اطيب عيش وارفهه ، وأهنا حال وارغده ، وفي نهاية
الخصب وطيب الهواء وصفاء الفضاء ، وتدفُّق المياه وقوة الشوكة ، واجتماع الكلمة
، ونهاية المملكة ... فذلّت لهم البلاد ، واذعن لطاعتهم العباد فصاروا تاج الارض
(مروج الذهب : ج 2 ، ص 161 و 162.).
وخلاصة القول أن
هذه الدلائل لا تدل على وجود حضارة في كل مناطق الجزيرة العربية وخاصة منطقة
الحجاز الّتي لم تذق طعم الحضارة أبداً ، حتّى أن « غوستاف لوبون » نفسه يعترف
بهذه الحقيقة إذ يقول : « ان جزيرة العرب نجَتْ من غزو الأجنبي خلا ما أصاب
حدودها الشمالية ، وإن عظماء الفاتحين من مصريين وأغارقة ورومان وفرس وغيرهم ممن
انتهبوا العالم لم يَنالوا شيئاً من جزيرة العرب الّتي أوصدت دونهم أبوابها » (حضارة العرب : ص 93.).
وعلى فرض صحة كل ما قيلَ عن وجود
حضارة شاملة في جميع مناطق الجزيرة العربية فانه يجب القول بان القدر المسلَّم
في هذا المجال هو انه لم يبق أي اثر من هذه الحضارات في منطقة الحجاز ، إبان
طلوع الإسلام ، وبزوغ شمسه ، وهي حقيقة يصرح بها القرآن الكريمُ إذ يقول تعالى :
« وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفرَة مِنَ النّار فأنقَذكُمْ مِنْها » (آل عمران : 103.).
وينْبغي هنا أن نقف عند القرآن الكريم قليلا ـ
كما وعَدْنا بذلك ـ فانه خير مرآة تعكس أحوال العرب وأوضاعهم بدقة متناهية
وبشمولية ماوراءها شمولية. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ملامح
المجتمع الجاهلي العربي في منظور القرآن :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إن القرآن يكشف إجمالا عن أنَّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
بُعِثَ إلى قوم لم يبعث اليها احد قبله إذ يقول : « وَلَكِنْ رَحمةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوماً
ما أتاهُمْ مِنْ نَذير مِنْ قَبْلكَ لَعلَّهُمْ يَتَذكَّرُونَ »
(القصص : 46.).
ويقول في آية اُخرى :
« أمْ يَقُولونَ افتراه بَلْ
هُوَ الحقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنذرَ قوماً ما أتاهُمْ مِنْ نَذير مِنْ قَبلِكَ
لَعَلَّهُمْ يَهْتَدونَ » (السجده : 3.).
ومن المعلوم أن المقصود في هاتين
الايتين ونظائرهما هم قريش والقبائل القريبة اليها. على أن أشمل وصف
قرآنيّ لأوضاع المجتمع العربي الجاهلي وأحواله هو قول اللّه تعالى : «
وَاْعتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّه
جَميعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّه عَلَيْكُمْ إذْ كُنْتُمْ
أعداء فَالَّفَ بَيْنَ قُلُوبكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَته إخواناً وَكُنْتُمْ
عَلى شَفا حُفَرَة مِنَ النّار فَأَنقذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللّه
لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ » (آل عمران : 103.).
فإنَّ هذه الآية تصوّرُ حياة العرب
تصويراً مرعباً ، إذ تُصوِّرُهُمْ اولا وكأنهم قد سقطوا في قعر بئر الجاهلية ،
والضلال والشقاء فلا ينقذهم شيء من قعر التردي والسقوط الاّ التمسُّك بحبل اللّه
، حبل الإيمان والقرآن. وتصوِّرُهُمْ ثانياً
وكأَنهم على شفير جهنم يوشكون أن يسقطوا فيه ويهووا في نيرانه ، وليست تلك النار
إلاّ نيران العداوات والحروب الّتي لو لم يقض عليها الإسلامُ بتعاليمه لاُحرقت
حياة العرب جميعاً. هذه هي صورةٌ سريعةٌ
عما كان عليه العرب في الجاهلية من جهل وسقوط. وامّا تفصيل ذلك فيمكن
الوقوف عليه بمراجعة الآيات الاُخرى التي تعرضت لذكر عادات العرب وأخلاقهم ،
وأفعالهم وتقاليدهم ، بصورة مفصلة ، وها نحن نشير هنا إلى تلكم العادات والاخلاق
الفاسدة على ضوء تلك الآيات على نحو الاختصار تاركين التوسع في ذلك إلى مجال
آخر. لقد اتصف المجتمعُ
العربيُ الجاهلي قبل الإسلام وشاعت فيه أخلاق وعادات من أبرزها ما يلي : |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
1 ـ الشِرْكُ في العِبادة :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
صحيح أن العرب في الجاهلية كانت ـ
كما يكشف القرآن ذلك لنا ـ موحِّدة في جملة من الامور والمجالات كالخالقية
والتدبير والذات (نعم يُستَفاد من آية واحدة أنّه كان هناك اتجاهٌ نادرٌ بين العرب في
الجاهلية ينسب الظواهر الطبيعية إلى الطبيعة والدهر يقول اللّه تعالى : « وَقالوا ما هي إلاّ حَياتُنا الدُّنْيا
نَموتُ وَنَحيا وَما يُهلِكُنا إلاّ الدَهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مَنْ عِلْم
إنْ هُمْ إلاّ يَظُنُّونَ » ( الجاثية : 24 ).)
إلاّ أنهم كانوا ـ في الأكثر ـ مشركين في العبادة ، بل قد ذَهبُوا في هذا السبيل
الباطل إلى أحطَّ المستويات في إتخاذ المعبودات والوثنية. وإلى ذلك يشير قوله تعالى : « وَجَعلُوا للّه شُركاء الجِنَّ وَخَلَقهُمْ
وَخَرَقُوا لَهُ بَنِيْنَ وَبَنات بِغَيْرِ عِلْم سُبْحانَه وتعالى عَما
يَصِفُونَ » (الأنعام : 100.).
وقوله تعالى : « أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ والعزّى وَمَناةَ
الثالِثَةَ الاُخْرى » (النجم : 19 و 20.).
وغير ذلك من الآيات الّتي تشير إلى
ما كانَ يعبُدُه الجاهِليُّون مِن أوثان وأصنام ومبلغ ما وصلوا إليه من انحطاط ،
واسفاف وانحراف في هذا المجال. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
2 ـ إنكارُ المعاد :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
كان المشركون والجاهليون يرفُضُون
الاعتراف بالمعاد الّذي يعني عودة الإنسان إلى الحياة في عالم آخر للحساب
والجزاء ، ويصفون من يخبر عن ذلك اليوم بالجنون أو الكذب على اللّه!! يقول تعالى : « وَقالَ الَّذينَ كَفَروا هَلْ نُدُلُّكُمْ عَلى
رَجل يُنبِّئكُمْ إذا مُزّقْتُمْ كُلَّ مُمزَّق إنَكُمْ لفي خَلق جَديد ،
وأفْترى عَلى اللّه كَذِباً أمْ به جِنَّةٌ بَلِ الَّذينَ لا يُؤْمِنُونَ
بِالآخِرَة في الْعذابِ وَالضَّلالِ البِعيْد
» (سبأ : 7 و 8.). |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
3 ـ هَيْمَنةُ الخرافات :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد كانت حياة العرب
الجاهلية مليئةً بالخرافات الّتي كان منها تحريمهم الأكل من أنعام اربعة ذكرها
القرآن مندداً بهذه البدعة إذ قال : « ما جَعَل اللّهُ مِنْ بَحيرة ولا سائبة وَلا وَصيْلَة
وَلا حام ولكنَّ الَّذينَ كَفَرُوا يَفْترونَ عَلى اللّهِ الكِذبَ وأكثَرُهُمْ
لا يَعقِلُونَ » (المائدة : 103.).
أمّا ( البحيرة )
بوزن فعِلية بمعنى مفعولة من البحر وهو الشق ، فهي الناقة إذا نتجت خمسة أبطن
آخرها اُنثى ـ وقيل ذكر ـ بحروا اُذنها وشقوها ليكون ذلك علامة وتركوها ترعى ،
ولا يستعملها أحد في شيء. وأمّا ( السائبة )
على وزن فاعلة بمعناها أو بمعنى مفعولة فهي الناقة إذا نتجت اثني عشر بطناً ـ
وقيل عشرة ـ فهي تُهمَل ولا تُركب. ولا تمنع عن ماء ، ولا يشرب لبنها الاضيف. وأمّا ( الوصيلة )
بوزن فعيلة بمعنى فاعلة أوبمعنى مفعولة فهي الشاة تنتج سبعة أبطن أو تنتج عناقين
عناقين. وأمّا ( الحامي )
بوزن فاعل من الحمى بمعنى المنع فهو الفَحل من الإبل الّذي يستخدم للقاح الاُناث
، فاذا وُلدَ من ظهره عشرة ابطن قالوا : حُمِي ظهره فلا يحمل عليه ، ولا يُمنع
من ماء ومرعى (راجع مجمع البيان : ج 3 ، ص 252 و 253 في تفسير الآية.).
والظاهر ان هذا المذهب تجاه هذه
الانواع من الانعام كان بدافع الاحترام والشكر لما وهب أصحابها من النعم
والبركات ، غير ان هذا العمل ـ كان في حقيقته ـ نوعاً من الإيذاء والإضرار بهذه
الحيوانات ، لأنهم كانوا يُهملونها ويحرمونها من العناية اللازمة فكانت تشقى
بقية حياتها ، وتقاسي من الحرمان ، مضافاً إلى ما كان يصيبُها من التلف والضياع
، وما يلحق ثروتهم والنعم الّتي وهبها اللّه لهم من هذا الطريق من الضرر
والخسارة. والأسوأ من كل ذلك أنهم ـ كما
يُستفاد من ذيل الآية ـ كانوا ينسبون هذه المبتدعات المنكرات وهذا المنع والحظر
إلى اللّه سبحانه وتعالى ، إذ يقول سبحانه : « وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
يَفْتَرُونَ عَلى اللّه الكذبَ » وقد أعلمَ اللّه في مطلع الآية أنه لم يحرّم
مِن هذه الاشياء شيئاً ، وأنهم ليكذبون على اللّه بادّعائهم أن هذه الأشياء من
فعل اللّه أو أمره. وقد أشار القرآن إلى هذه الخرافات
الّتي كانت تُكبّل عقول الناس في ذلك المجتمع إذ يقول : « ويَضَعُ عَنْهُمْ إصرَهُم والأغلالَ الّتي كانَتْ
عَلَيْهِمْ » (الأعراف : 157 وراجع المحبر : ص 330 ـ 332.). |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
4 ـ الفساد الاخلاقي :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
كان المجتمع الجاهلي
العربي يعاني من فساد ذريع في الاخلاق وقد أشار القرآن الكريم إلى اثنين من أبرز
وسائل الفساد ومظاهره هما : القمار ( الّذي كانوا يسمّونه بالميسر وانما اشتق من اليسر لأنه اخذ مال
الرجل بيُسر وسهولة من غير كدٍّ ولا تعب ) والخمر. وقد بلغ شغفهم بالخمر أنهم أعرضوا عن
قبول الإسلام واعتناقه لأنه يحرّم تناول الخمر وشربه ، كما نقرأ ذلك في قصة الاعشى عما قريب. يقول القرآنُ في هذا
الصعيد : « يَسأَلونَكَ
عَن الخَمْر والمَيْسر قُلْ فيها إثمٌ كبيرٌ وَمَنافِعُ لِلنّاس وَإثمُهما اكبرُ
مِنَ نفْعِهما » (البقرة : 219.).
وقد استطاع القرآن الكريم عبر مراحل
أربع أن يستأصل هذه العادة البغيضة التي كانت قد تجذرت بشكل عجيب في نفوس ذلك
القوم ، حتّى اصبحت السمة البارزة لحياتهم واصبح التغنّي بالخمرة ، ووصفها
الطابع الغالب لآدابهم ، واللون البارز الّذي يصبغ قصائدهم واشعارهم. على أن الفساد
الأخلاقي في المجتمع الجاهلي العربّي قبل الإسلام لم يكن ليقتصر على معاقرة
الخمر ، ومزاولة الميسر بل تعدى إلى ألوان اُخرى ذكرها القرآن الكريم في ثلاثة
عشر موضعاً ، حيث عدّ منها الزنا ، واللوط ،
والقذف ، وإكراه الفتيات على البغاء وماشا كل ذلك (راجع للوقوف على ذلك سورة النساء : 15 و 16. وسورة النور : 2 و 3
وغيرها. وراجع المحبر : ص 340.). |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
5 ـ وَأدُ البنات وإقبارُهن :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ويشير القرآن الكريم أيضاً إلى عادة
جاهلية سيئة اُخرى كانت رائجة بين قبائل العرب الجاهلية قاطبة وهي دفن البنت
حيةً. فقد شجب القرآن الكريم هذه العادة
البغيضة وهذا العمل اللانساني ونهى عنه بشدة في اربعة مواضع ، إذ قال تعالى : « وَإذا المَوؤدةُ سُئلتْ. بأيّ ذَنب قُتِلَتْ »
(التكوير : 8 و 9.).
وقال تعالى : « وَلا
تَقْتُلُوا أولادَكُمْ خَشيَةَ إمْلاق نَحْنُ نَرزقُهُمْ وَإياكُمْ إنَّ
قَتْلَهُمْ كانَ خِطْئاً كبيراً » (الإسراء : 31.).
وقد اتى جدُ « الفرزدق
» « صعصعة بن ناجية بن عقال » رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وعدّ من اعماله الصالحة في الجاهلية أنه فدى مائتين وثمانين موؤدة في الجاهلية ،
وأَنقَذهُنَّ من الموت المحتَّمْ باشترائهنَّ من آبائهن بأمواله. وقد افتخر « الفرزدق »
بإحياء جدِّه للموؤدات في كثير من شعره إذ قال :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
6 ـ تصوراتهم الخرافية حول الملائكة :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وممّا اشار إليه القرآن الكريم
تصورات العرب الجاهلية حول الملائكة ، فقد كانوا يعتقدون أن الملائكة من الإناث
وأنهن بنات اللّه ، إذ يقول تعالى : «
فَاستَفْتِهِمْ ألرَبِّكَ البَناتُ وَلَّهُمْ البَنُونُ. امْ خَلَقْنا
الْمَلائكَةَ إناثاً وَهُمْ شاهِدونَ. ألا إنَّهُمْ مِنْ إفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ
وَلَدَ اللّهُ وَإنَّهُمْ لَكاذِبُونَ أصطفى البَناتِ عَلى البَنينَ. ما لَكُمْ
كَيْفَ تَحْكُمُونَ » (الصافّات : 149 ـ 154.). |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
7 ـ كيفية الانتفاع من الانعام :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إذا كانت العربُ الجاهلية تمتنع من
تناول لحوم الأنعام الاربعة المذكورة آنفاً وتجتنب عن استعمال ألبانها وشعورها
وأصوافها إلا أنها كانت في المقابل تتناول الدم ، والميتة والخنزير ، وتأكل من
الحيوانات والأنعام الّتي تقتلها بصورة قاسية ، وبالتعذيب والأذى ، وربما كانت
تعتبر ذلك نوعاً من العبادة ، ويُعرف ذلك من الآية التالية الّتي نزلت تنهى بشدة
عن أكل هذه اللحوم ، وتحرّم تناولها ، إذ يقول سبحانه : « حُرِّمتْ عَليْكُمُ الميْتَة والدَّمُ وَلَحمُ
الْخِنْزيرِ وَما اُهِلَّ لِغَيْرِ اللّه بِه وَالمُنخَنقةُ والموقوذةُ
والمتردِّيةُ والنَطيحةُ وَما اكَلَ السَبُعُ إلاّ ما ذَكَّيْتُمْ وما ذُبِحَ
عَلى النُصُب وأن تَسْتَقْسِمُوا بِالأزلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ »
(المائدة : 3.).
فقد حرم اللّه في هذه
الآية اكل : 1 ـ الميتة. 2 ـ الدم. 3 ـ لحم الخنزير. 4 ـ ما ذكر اسم غير
اللّه عليه. 5 ـ الّتي تموت خنقاً
، وهي المنخنقة. 6 ـ الّتي تضرب حتّى
تموت ، وهي الموقوذة. 7 ـ الّتي تقع من مكان
عال فتموت وهي المتردية. 8 ـ الّتي تموت نطحاً
من حيوان آخر وهي النطيحة. 9 ـ ما افترسه سبع إلا
إذا ذُكي قبل موته. 10 ـ وما ذُبِح أمام
الاصنام. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
8 ـ الاستقسام بالازلام :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
فقد كان تقسيم لحم الذبيحة يتم عن
طريق الأزلام ، والأزلام جمع ( زلم )
بوزن ( شَرَف ) وهي عيدان وسهام تستخدم في ما يشبه القرعة لتقسيم لحم الذبيحة. فقد كان يشتري عشرة أنفار بعيراً ثم
يذبحونه ، ثم يكتبون على سبعة منها اسهماً مختلفة من الواحد إلى السبعة ولا
يكتبون على ثلاثة منها شيئاً ، ثم يجعلونها في كيس ثم يستخرجونها واحدة بعد
اُخرى ، كلُ واحدة باسم أحدهم فيأخذ كل واحد منهم من الذبيحة ما خرج له من السهم
، وهكذا يقتسمون الذبيحة بينهم (راجع للوقوف على تفصيل هذه الطريقة بلوغ الارب : ج 3 ، ص 62 و 63 ،
والمحبر : ص 332 و 335.)
،
فنهاهم اللّه عن ذلك
بقوله : « وأن
تَستَقْسِمُوا بِالأزلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ »
لأنَّه ضربٌ من القمار الّذي ينطوي على مفاسد الميسر والقمار.
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
9 ـ النسيء :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
كان العرب الجاهليون يعتقدون حرمة
الاشهر الحرم ( وهي اربعة المحرم
ورجب وذوالقعدة وذوالحجة ) فكانوا يتحرجون فيها من
القتال ، وجرت عادة العرب على هذا من زمن إبراهيم واسماعيل عليهماالسلام.
الاّ أنَ سَدَنة الكعبة أو رؤساء
العرب كانوا يعمَدُون أحياناً ، ولقاء مبالغَ يأخذُونها ، أو جرياً مع أهوائهم ،
إلى تأخير الاشهر الحُرمَ ، وهو الأمر الّذي عبّر عنه القرآن الكريم بالنسيء ثمّ
نهى عنه وعدّه كفراً إذ قال : «
إنّما النّسيء زيادةٌ في الكُفْر يُضَلُّ به الَّذينَ كَفرُوا يُحِلونَهُ عامَاً
وَيحرِّمُونهُ عاماً ليُواطئوا عدَّة ما حَرَّمَ اللّه فيحلّوا ما حَرَّمَ اللّه
زيِّنَ لهُم سوء أعْمالِهمْ واللّه لا يهدي الْقومَ الْكافِرينَ »
(التوبة : 37.).
وقد ذكرت كُتُب
التاريخ والسير كيفية النسيء وتأخير الأشهر الحرم ، الّذي كان يتم بصورة مختلفة
منها : أن جماعة ما لو كانت ترغب في استمرار الغارة
والقتال ولم تطق تاخير النضال مدة الاشهر الحرم كانت تطلب من سدنة الكعبة ، لقاء
ما تقدمه لهم من هدايا واموال ، تجويز الغارة والقتال في شهر محرم ، وتحرم
القتال في شهر صفر بدله ليتم عدد الأشهر الحرم (
وهي اربعة ). وهذا هو معنى قوله تعالى : « ليُواطِئوا عدةَ ما حَرَّمَ اللّهُ »
وكانوا إذا أحلُّوا الْقتالَ والغارة في المحرم من سنة حَرَّمُوه في المحرم مِنَ
السَنة التالية ، وهذا هو معنى قوله
تعالى : «
يُحلُّونَهُ عاماً ، ويُحرِّمُونِه عاماً ». |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
10 ـ الربا :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وممّا يشير إليه القرآنُ الكريم من
المفاسد الشائعة ، والأعمال المنكرة في
المجتمع العربي الجاهلي قبل الإسلام : « الربا » الّذي كان يشكل العمود الفقري في
اقتصاد ذلك المجتمع. وقد حاربَ القرآنُ
الكريمُ هذه العادة المقيتة ، وهذا الفسادَ الاقتصادي حرباً شعواء ،
إذ قال تعالى : « يا أيّها
الَّذينَ آمَنُوا اتّقوا اللّهَ وَذَرُوا ما بقيَ مِنَ الرِّبا إنْ كُنْتُمْ
مُؤمِنينَ. فَإنْ لَم تَفْعَلُوا فَأذَنُوا بِحَرب مِنَ اللّهِ وَرَسُولِه وانْ
تُبْتُمْ فَلكُمْ رُؤُوسُ اموالِكُمْ لا تَظْلِمونَ وَلا تظْلَمُونَ »
(البقرة : 278 و 279.).
والعجيب أنهم كانُوا
يُبّررونَ هذا العمل اللإنساني بقولهم « إنّما البيعُ مِثلُ الرِّبا »
(البقرة : 275.)
فاذا كان البيعُ حلالا وهو اخذ وعطاء فليكن الرّبا كذلك حلالا ، فإنه أخذٌ وعطاء
أيضاً ، مع أن « الرّبا » من ابشع صور الاستغلال ، وقد ردَّ سبحانه على هذه المقالة بقوله تعالى
: « وأَحلَّ اللّه البَيْعَ
وَحَرَّمَ الرِّبا » (البقرة : 275.)
ففي البيع والشراء يتساوى الطرفان في تحمل الضرر المحتمل ، بينما لا يتضرر
المرابي في النظام الربوي أبداً وإنّما يلحق الضرر بمعطي الربا دائماً ، ولهذا
تنمو المؤسسات الربوية ، ويعظم رصيدُها ، وثروتها يوماً بعد يوم فيما يزداد
الطرفُ الآخر بؤساً وفقراً ، ولا يحصل من جهوده المضنية إلا على ما يسدُّ جوعته
، ويقيم اوده ، لا اكثر ، كلُ ذلك نتيجة لهذا الاسلوب الاقتصادي غير العادل. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
صورٌ
من الوضع الجاهلي
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ما قدمناه كان أبرز
المفاسد الاخلاقية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية الّتي اشار اليها القرآن
الكريمُ ، وأما التاريخ فمليء بالصور والقصص الّتي تحكي عن تردي حالة العرب
الجاهلية وسقوطها الفضيع في قعر الفساد في جميع المناحي والجهات. واليك
في ما يلي نماذج وصور معدودة تكفي للوقوف على الحالة العامة
في ذلك المجتمع نقتبسها لك من أصحّ المصادر واوثقها : وها نحن نقدم قصة «
أسعد بن زرارة » الّتي تسلط الضوء على ما كان عليه
الوضع الجاهلي في اكثر مناطق الحجاز ،
فقد قدم « أسعد بن زرارة » و « ذكوان بن عبد قيس » ـ وهما من الأوس وكان بين
الاوس والخزرج حرب قد بقوا فيها دهراً طويلا ، وكانوا لا
يضعون السلاح لا بالليل ولا بالنهار ، وكان
آخر حرب بينهم « يوم بُعاث » وقد انتصر فيها الأوسُ على الخزرج
، وكان اسعد بن زرارة صديقاً لعتبة بن ربيعة ، فنزل عليه
ـ مكة في عمرة رجب يسألون الحلف على الاوس
فقال : انه كان بيننا وبين قومنا حربٌ وقد جئناك نطلب
الحلف عليهم ، فقال له عتبة :
إن لَنا شغلا لا نتفرّغ لشيء. قال سعد : وما شغلكم وأنتمْ في حرمكم وأمنكم؟ قال
له عتبة : خرج فينا رجلٌ يدعي أنّه رسول اللّه سفّه أحلامنا ، وسبّ آلهتنا
وأفسدَ شُبّاننا ، وفرّق جماعَتَنا ، فقال له أسعد : مَنّ هو منكم؟ قال : ابن
عبد اللّه بن عبد المطلب من أوسطنا شرفاً ، وأعظمنا بيتاً. وكان أسعد وذكوان ،
وجميع الاوس والخزرج يسمعون من اليهود الذين كانوا بينهم :
النضير وقريظة وقينقاع ، أن هذا أوان نبيّ يخرج بمكة يكون مهاجره بالمدينة
لنقتلنكم به يا معشر العرب ، فلما سمعَ ذلك أسعد وقع في قلبه ما كان سمعَ من
اليهود ، قال : فأينَ هو؟ قال : جالس في الحجر ، وإنّهم لا يخرجون من شعبهم إلاّ
في الموسم ، فلا تسمع منه ولا تكلمه فانه ساحر يسحرك بكلامه ، وكان هذا في وقت
محاصَرة بني هاشم في شعب أبي طالب ، فقال له « أسعد » : فكيف أصنعُ وأنا معتمر
لابدَّ لي أن أطوف بالبيت؟ قال : ضعْ في اُذنيكَ القطنَ ، فدخل « أسعدُ » المسجد
وقد حشا اُذُنيه بالقطن ، فطاف بالبيت ورسول اللّه جالس في الحجر مع قوم من بني
هاشم ، فنظر إليه نظرة فجازه ، فلما كان في الشوط الثاني قال في نفسه : ما أجد أجهلَ
مني؟ أيكونُ مثل هذا الحديث بمكة فلا اتعرّفه حتّى ارجع إلى قومي فاخبرهم ، ثم
أخذ القطن من اذنيه ورمى به وقال لرسول اللّه : أنعَمْ صباحاً ، فرفع رسولُ اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم رأسه إليه وقال :
قد أبدَلَنا اللّه به ما هو احسن من هذا ، تحية أهل الجنة : السلام عليكم ، قال
له أسعد : ( إنّ عهدَك بهذا لقريب ، إلى ما تدعُو يا محمَّد؟ قال : إلى شهادة
ألاّ إله إلاّ اللّه ، واني رسولُ اللّه ، وأدْعُوكُمْ إلى : « ألاّ تشركوا بِه شَيئاً وَبِالوالِدَينِ
إحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أوْلادَكُمْ مِنْ إمْلاق نَحْنُ نَرزُقُكُمْ وإيّاهُمْ
وَلا تَقْرَبوا الفواحِشَ ما ظَهرَ منها وما بطَنَ وَلا تَقْتُلوا النَّفْسَ
التي حَرَّمَ اللهُ إلا بِالحَقِّ ذلِكمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعلكُمْ تَعْقِلُونَ ،
وَلا تَقرَبُوا مالَ اليتيم إلاّ بِالَّتي هي أَحسنُ حَتى يَبْلُغَ أشُدَّهُ
وَأوْفُوا الكيلَ وَالْميزان بِالقِسْطِ لانُكَلِّفُ نَفْساً إلاّ وُسْعَها وإذا
قلتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذاقربى وَبِعَهْدِ اللّه أوْفُوا ذلِكُمْ
وَصّاكُمْ بِه لَعَلَّكُمْ تَذكَّرُونَ » (الأنعام : 151 و 152.).
فلما سمع « أسعد » هذا
قال له : أشهد أن لا إله إلاّ اللّه ، وأنك رسولُ اللّه ،
يا رسول اللّه بأبي أنت واُمي ... (بحار الأنوار : ج 19 ، ص 8 و 9 ، اعلام الورى : ص 35 ـ 40.).
إن الامعان في مفاد هاتين الآيتين
يغنينا عن دراسة شاملة وواسعة لاوضاع العرب الجاهلية لأن هاتين الآيتين تكشفان
عن الأمراض الاخلاقية الّتي كانت تكتنف حياة العرب الجاهلية. ولهذا تلا رسول اللّه الآيات الّتي تشير إلى هذه الادواء
والامراض ليلفت نظر « أسعد » إلى أهداف رسالته الكبرى. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
العقيدة والدين في
الجزيرة العربية :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
عند ما رفع « إبراهيم
الخليل » لواء التوحيد في البيئة الحجازية ، واعاد بناء الكعبة المعظمة ورفع
قواعدها بمعونة ابنه « اسماعيل » ، تبعه في ذلك طائفة من الناس ممن أنار اللّه
به قلوبهم ، الاّ انه من غير المعلوم إلى ايّ مدى استطاع ذلك النبي العظيم أن
يعمّم دين التوحيد ويبسط لواءه على الجميع ، ويؤلف صفوفاً متراصة ، وجبهة عريضة
قوية من الموحدين ، غير ان من المعلوم انه اصبحت تلك
المنطقة مسرحاً للوثنية ولعبادة الاشياء المختلفة مع الايام فقد كانت الطبقة
المثقفة من العرب تعبد الكواكب والقمر ، فهذا
هو المؤرخ العربي الشهير الكلبي الّذي توفى عام 206 هجرية يكتب في هذا الصدد
قائلا كان « بنومليح » من خزاعة يعبدون الجن وكانت « حمير »
تعبد الشمس ، و « كنانة » تعبد القمر ، و « تميم » الدبران ، و « لخم » و « جذام
» المشتري ، و « طي » سُهيلا ، و « قيس » الشِعرى ، و « أسد » عطارداً. أما الدهماء والذين
كانوا يشكلون اغلبية سكان الجزيرة فقد كانوا يعبدون ـ مضافاً إلى الصنم الخاص
بالقبيلة أو العائلة ـ ثلاثمائة وستين صنماً ، وكانوا ينسبون أحداث كل يوم من
أيام السنة إلى واحد منها. وقد دخَلَتْ عبادةُ الأصنام والأوثان
في مكة بعد « إبراهيم الخليل » عليهالسلام
على يد « عمرو بن لحي » ، ولكنها لم
تكن في بداية أمرها بتلك الصورة الّتي وصلت إليها في ما بعد فقد كانوا يعتبرونها
في بداية الامر شفعاء إلى اللّه ووسطاء بينه وبينهم ، ولكنهم تجاوزوا هذا الحد
في ما بعد حتّى صاروا يعتقدون شيئاً فشيئاً بانها اصحاب قدرة ذاتية مستقلة ،
وأنها بالتالي آلهة وأرباب. وكانت الاصنام المنصوبة
حول الكعبة تحظى باحترام جميع الطوائف العربية ، ولكن
الاصنام الخاصة بالقبائل فقد كانت موضع احترام جماعة خاصة فقط ، ولأجل أن تبقى
حرمة هذه الأصنام والأوثان الخاصة محفوظة لا يمسها أحد بسوء كانوا ينشؤون لها
أماكن وبيوت خاصة ، وكانت سدانة هذه البيوت والمعابد تنتقل من جيل إلى آخر
بالوراثة. أما الآصنام العائلية
فقد كانت العوائل تقتنيها للعبادة كل يوم وليلة ، فاذا أراد احدهم السفر كان اخر
ما يصنعه في منزله هو ان يتمسح به أيضاً. وكان الرجل إذا سافر فنزل منزلا أخذ
أربعة أحجار فنظر إلى أحسنها ، واتخذهُ رَبّاً وجعَلَ ثلاثة أثافيّ لقدْره ،
وإذا ارتحل تركه. وكان من شَغَفَ أهلِ مكة وَحُبّهم
للكعبة والحرم أنه كان لا يسافر منهم أحدٌ إلا حَمَل معه حجراً من حجارة الحرم
تعظيماً للحرم ، وحباً له فحيثما حلّوا نصبوه وطافوا به كطوافهم بالكعبة صبابة
بها ، ويمكن أن تكون هذه هي « الأنصاب » الّتي فُسرت بالاحجار العادية غير
المنحوتة وتقابلها الأوثان ، وهي الاحجار المنحوتة على هيئة خاصة ، وأما «
الأصنام » فهي المعمولة من خَشَب أو ذهب أوفضة على صورة انسان. لقد بلغ خضوعُ العرب
أمام الاصنام والأوثان حداً عجيباً جداً ، فقد كانوا
يعتقدون بأنهم يستطيعون كسبَ رضاها بتقديم القرابين اليها ، وكانوا بعد نحر
الهدايا يلطخون وجوه الاصنام ورؤوسها بدماء تلك الهدايا ، وكانوا يستشيرونها في
مهام امورهم ، وجلائل شؤونهم ، فاذا ارادوا الوقوف على مستقبل الأمر الّذي
تصدّوْا له ومعرفة عاقبته أخيرٌ هو أم شرٌ استقسمَ لهم أمين القداح بقدحي (
الأمر والنهي ) وهيَ قطع كُتِبَ على بَعضها ( إفْعَلْ ) وعلى بعضها الآخر ( لا
تَفْعَلْ ) فيمدُّ أمين القداح يده ويجيل القداح ويخرج واحداً فانْ طَلَع الآمر
فعل أو الناهي ترك. وخلاصة القول ، ان
الوثنيّة كانت العقيدة الرائجة في الجزيرة العربية ، وقد تفشَّتْ فيهم في مظاهرَ
متنوعة ومتعددة ، وكانت الكعبة المعظمة ـ في الحقيقة ـ محطَّ أصنام العرب
الجاهلية وآلهتهم المنحوتة ، فقد كان لكل قبيلة في هذا البيت صنم ، وبلغ عدد الاصنام الموضوعة في ذلك المكان المقدس (360) صنماً في
مختلف الاشكال والهيئات والصور ، بل كان النصارى أيضاً قد نقشوا على جدران البيت
وأعمدته صوراً لمريم والمسيح والملائكة ، وقصّة ابراهيم. وكان من جملة تلك
الأصنام : « اللات » و « العُزّى » و « مناة » الّتي كانت
تعتبرها قريش بنات اللّه ويختص عبادتها بقريش. وكانت « اللات » تعتبر اُمُّ الالهة
، وكان موضعها بالقرب من « الطائف » وكانت من الحجر الابيض ، واما « مناة »
فكانت في عقيدتهم إلاهة المصير وربَّة الموت والاجل وكان موضعها بين « مكة » و «
المدينة ». ولقد اصطحب « ابوسفيان » معه يوم «
اُحد » : « اللات » و « العزّى ». ويروى انه مرض ذات يوم « أبو أُحيحة
» وهو رجل من بني اُمية ، مرضه الّذي مات فيه ، فدخل عليه ابولهب يعوده ، فوجده
يبكي ، فقال : ما يبكيك يا با احيحة؟ أمن الموت تبكي ولابد منه؟ قال : لا ولكني
اخاف ان لا تُعبَد العزى بعدي! قال ابولهب : واللّه ما عُبدَت حياتك ( اي لا جلك
) ولا تُترك عبادتُها بعدك لموتك!! فقال أبو اُحيحة : الآن علمتُ ان لي خليفة (الأصنام للكلبي : ص 23.).
ولم تكن هذه هي كل الأَصنام الّتي
كانت تعظِّمها وتعبُدُها العربُ بل كانت لقريش اصنامٌ في جوف الكعبة وحولها وكان
اعظمها « هُبَل » ، كما انه لم يكن لكل قبيلة صنم خاص فحسب بل كانت كل عائلة
تعبد صنماً خاصاً بها مضافاً إلى صنم القبيلة وكانت المعبودات تتراوح بين
الكواكب ، والشمس ، والقمر ، والحجر ، والخشب ، والتراب ، والتمر ، والتماثيل
المنحوتة المختلفة في الشكل ، والهيكل ، والاسم ، المنصوبة في الكعبة أو في سائر
المعابد. لقد كانت الاصنام
جميعها أو أغلبها معظَّمة عند العرب ، يتقربون عندها بالذبائح ويقرّبون لها
القرابين ، وجرت عادة بعض القبائل انذاك أن تختار من بين أفرادها كل سنة شخصاً
في مراسيم خاصة ثم تذبحه عند أقدام اصنامها ، وتقبر جسده على مقربة من المذبح. هذا العرض المختصر
يكشف لنا كيف أن ارض الجزيرة العربية برمتها كانت قد اصبحت
مسرحاً للاصنام ومستودعاً ضخماً للاوثان ، وكيف تحولت هذه البقعة من العالم
ببيوتها وازقتها وصحاريها وحتّى بيت اللّه المحرم كانت قد تحولت إلى مخزن
للنُصُب المؤلَّهة ، والتماثيل المعبودة ، ويتجلى هذا الأمر من قول شاعرهم الّذي
اسلم وراح يستنكر ما كان عليه من عبادة الاصنام المتعددة الخارجة عن الاحصاء
والعدّ ، إذ قال :
بلوغ الارب في معرفة أحوال العرب : ج 2 ، ص 249 وجاء البصير.) وقد حدثت بسبب الاختلاف والتعددية في
عبادة الاصنام والاوثان المؤلَّهة السخيفة الباطلة ، تناقضاتٌ ، وصراعاتٌ ،
وحروب ومناحرات ، قد جرّت بالتالي ويلات ومآس وخسائر مادية ومعنوية كبرى على تلك
الجماعة المتوحشة ، الضالة. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
عقيدة العرب حول
حالة الإنسان بعد الموت :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وعن مصير الإنسان
وحالته ما بعد الموت هذه المشكلة الفلسفية العويصة كانت رؤية العرب ونظرتهم
تتلخص في ما يلي : عند ما يموت الإنسان تخرج روحه من
جسده على هيئة طائر شبيه بالبوم يسمى عندهم ب « الهامّة والصدى » ثم يبقى هذا
الطائر قريباً من جسد الميت ينوح نوحاً مقرحاً وموحشاً ، وعند ما يوارى الميت
يبقى هذا الطائر مقيماً عند قبره إلى الابد! وربما وقفَ على جدار منزل الميت
أحياناً لِتَسقُّطِ أخبار عائلته والاطلاع على أحوالهم!! قال شاعرهم في ذلك :
وإذا كان المرء قدمات بموتَة غير طبيعية كما
لو قُتِلَ ـ مثلا ـ فإنَ ذلك الحيوان ينادي باستمرار : « اسقوني ... اسقوني » اي
اسقوني بسفك دم القاتل واراقته ؛ ولا يسكن عن هذا النواح والنداء الخاص الابعد
الانتقام والثأر من قاتله. قال احدهم في ذلك :
من هنا بالضبط تتجلى الحقيقة للقارئ
ويعلم جيداً كيف أن تاريخ العرب ما قبل الإسلام وتاريخهم ما بعد الإسلام ما هو
الاّ تاريخان على طرفي نقيض : فذلك تاريخ جاهلية ، ووثنية وإجرام ،
وهذا تاريخ علم ووَحدانية وانسانية وايمان ، وشتان ما بين وأد البنات ، وبين
رعاية الايتام ، وبين السلب والنهب والاغارة وبين المواساة والايثار ، وبين
عبادة الاوثان والاصنام الصماء العمياء والتقرب إلى اللّه الواحد القادر. 1 ـ بلوغ الارب : ج 2 ، ص 311 و 312. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الآداب مرآة آداب
الشعوب ونفسياتها :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
المخلَّفاتُ الفكرية والثقافية ، وما
يتركه أيُ شعب من الشعوب من قصص وحكايات افضل وسيلة للتعرف على خلفياته النفسية
والأخلاقية ، ذلك لأنّ الآداب بما فيها الشعرُ والقصةُ ، والخطبةُ والحكايةُ ،
والمثلُ والكنايةُ مرآة صادقةٌ تعكس المستوى الفكري لأيّة جماعة ، وتعتبرُ خير
مقياس لتمدّنها ، وحضاراتها ، وأفكارها ونفسياتها ، تماماً كما تحكي اللوحاتُ
الفنيةُ عن حياة عائلة ، أو منظر طبيعي جميل ، أو اجتماعات صاخبة ، أو مشاهدَ
قتالية. إنَ القصائد والأَمثال
العَربية الّتي كانت رائجة آنذاك تستطيع ـ قبل كل شيء ـ أن تكشف عن الوجه الحقيقي
لتاريخهم ونمط حياتهم وسلوكهم ، ولهذا
السبب لا يجوز لأي مؤرخ واقعي يسعى إلى الحصول على صورة كاملة عن تاريخ شعب من
الشعوب أن يتجاهل التركة الفكرية والأدبية والثقافية لذلك الشعب سواء أكان شعراً
أم نثراً ، أمثالا أم حكماً ، قصصاً أم أساطير. ومن حسن الحظ أنّ مؤرخي الإسلام اثبتوا وسجلوا باتقان ما اُثِرَ من العرب
ممّا يرتبط بآدابهم في العصر الجاهلي بقدر ما اُتيحَ لهم ذلك. وقد كان ابو تمام «
حبيب بن اويس » ( المتوفى عام 231 هجرية ) والّذي
يُعتبر من كبار أُدباء الشيعة ،
وله قصائد رائعة في مدح آل الرسول ، ممن اعتنى عناية بالغة بهذه الناحية ، حيث جَمع في كتاب واحد طائفة كبيرة جداً من الشعر الجاهلي مفصلة
في عشرة أبواب هي : 1 ـ الحماسة. 2 ـ المراثي. 3 ـ الادب. 4 ـ النسيب. 5 ـ الهجاء. 6 ـ الاضافات. 7 ـ الصفات. 8 ـ السير. 9 ـ المُلَح. 10 ـ مذمة النساء. وقد تناولَ هذا الديوان التاريخيُ
القيم عددٌ كبيرٌ من أُدباء المسلمين وعلمائهم بشرح ابياته ، وتفسير غوامضها ،
وبيان اغراضها ، ومقاصدها. كما ترجم أصلُ الديوان إلى لغات
اجنبية عديدة جاء ذكر طائفة منها في كتاب « معجم المطبوعات » (معجم المطبوعات : ص 297 ، وقد اشتهر هذا الديوان ببابه الأول : «
الحماسة » فسمي ديوان الحماسة.). |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
مكانة المرأة عند
العرب الجاهلية :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إن الباب العاشر من
هذا الديوان خير وسيلة لمعرفة ما كانت عليه المرأة في العصر الجاهلي من الحرمان
، وأقوى دليل على أنها كانت تعيشُ ـ في ظل ذلك العهد ـ في أسوأ الحالات وأشد
الظروف واتعسها. هذا مضافاً إلى أن الآيات القرآنية الّتي
تنزلت وهي تشجبُ بعنف معاملة الجاهلين للعنصر النسائي ، وقسوتهم على الاُنثى ،
هي الاُخرى افضل شاهد على مدى الانحطاط الاخلاقي والتدهور السلوكي الّذي انحدروا
إليه في هذا المجال. إن القرآن الكريم
يصف عادة وأد البنات بقوله : «
وإذا الموؤدة سُئلت »
(ـ التكوير : 8.)
أي ليسئل يوم القيامة عن البنات اللاتي وُئدن وهنّ أحياء. إن القرآن الكريم بهذه
العبارة الموحية إنما يتحدث ـ في الحقيقة ـ عن عادة
وأدالبنات بمرارة ، ويشجبها بشدة حتّى أنه يعتبرها جريمة نكراء لا تمر ـ في
الآخرة ـ بدون حساب شديد ، وسؤال خاص. حقا انه لأمرٌ يكشف عن
مدى القسوة الّتي كان عليها قلوبُ الجماعة. إنها قسوة تغشى كل عواطف المرء فلا
يعود يسمع معها نداء الضمير ، ولا يحسُّ معها بوخز الوجدان ، انه لا يعود يسمع
معها حتّى صراخ بنته الجميلة البريئة ، واستغاثاتها المؤلمة وهي ترى باُم عينيها
حفيرتها ، وتحس بيدي والدها القاسي ، وهو يدفعها إلى تلك الحفرة ويدفنها حية! إنها قسوة تكشف عن
أسوأ وأحطّ درجات الانحطاط الخلقي ، والتقهقر الإنساني. وبنو تميم هي أول
قبيلة اقدمت على هذه الجريمة النكراء ، وكان السبب
أن « بني تميم » أمتنعوا من دفع ضريبة الاتاوة الّتي كانت عليهم إلى الملك ، فجرّد اليهم النعمان بن المنذر حاكم العراق آنذاك جيشاً كبيراً
لضرب هذا التمرد ، وانتصر على « بني تميم » في المآل وغنم منهم الغنائم وسبى
منهم الفتيات والنساء ، فوفدت وفود « بني تميم » على النعمان بن المنذر وكلّموه
في الذراري والنساء ، فحكم النعمان بان يجعل الخيار في
ذلك إلى النساء ، فأية امرأة اختارت زوجَها ردّت عليه ، فاختلَفْنَ في الخيار ،
فاختار بعضهُنَّ العودة إلى الاهل والاباء ،
واختارت بنتٌ لقيس بن عاصم سابيها على زوجها مما أثار هذا الموقف والاختيار غيظ
والدها العجوز « قيس بن عاصم » فنذرَ من ذلك الحين أنْ يدسَ كلَ بنت تُولَد له.
وهكذا سنّ لقومه الوأد ، واخذت بقية القبائل
بهذه العادة البغيضة الوحشية إرضاءً لغيرتهم وظلّوا
يمارسونها اعواماً متمادية (ـ بلوغ الارب في معرفة أحوال العرب : ج 3 ، ص 42 و 43.).
واليك واحدة من القصص
المأساوية في هذا المجال : قيل لماوفد « قيس بن عاصم » على رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
سأله بعض الانصار عما يتحدث به في الموؤدات ،
فاخبر انه ما ولدت له بنت إلاّ وأدها ، قال : كنتُ اخاف العار وما رحمتُ منهنَ
إلاّ بُنيّة كانت ولدتها اُمها وأنا في سفر ، فدفعتها إلى أخواتها ، وقدمت أنا
من سفري فسألتها عن الحمل ، فاُخبِرت أنها ولَدت ولداً ميتاً ، وكتمتْ حالها ،
حتّى مضت على ذلك سنونٌ ، وكبرت الصبية ، وينعت ، فزارت اُمها ذات يوم ، فدخلتُ
فرأيتها وقد ضفرت شعرها وجعلت في قرونها جداداً ونظمت عليها ودعاً ، والبستها
قلادة من جزع فقلت لها : من هذه الصبية؟ وقد اعجبني جمالها فبكت اُمها ، وقالت :
هذه ابنتك ، فامسكتُ عنها حتّى غفلتْ اُمها ثم اخرجتها يوماً فحفرتُ لها حفرة وجعلتها
فيها وهي تقول : يا ابت ما تصنع؟ أخبرني بحقك!! وجعلتُ اُقلّب عليها التراب ،
وهي تقول : أنت مغط عليَّ بهذا التراب ، أنت تاركي وحدي ، ومنصرفٌ عني ، وجعلتُ
اقذفُ عليها حتّى واريتها ، وانقطع صوتُها ، فتلك
حسرتها في قلبي ، فَدَمعتْ عينا رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم وقال :
« إن هذه لقسوة ، ومن لا يَرحَم لا يُرحَم » (حياة محمَّد : تأليف محمَّد علي سالمين ، ص 24 و 25.).
وقد ذكر ابن الاثير في
كتابه « اُسد الغابة » في مادة : قيس : ان النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
سأل قيساً عن عدد البنات اللاتي وأدهنَّ في الجاهلية : فاجاب قيسٌ بانه وأد
اثنتي عشرة بنتاً له (راجعُ اسد الغابة : ج 4 ، ص 220 ، وجاء في بلوغ الارب في معرفة أحوال
العرب : ج 3 ، ص 43 أنه وأد بضع عشرة بنتاً.).
ورُوي عن ابن عباس أنه
قال :
كانت الحامل إذا قَربت ولادتها حفرت حفرة فمخضت على رأس تلك الحفرة ، فاذا ولدت
بنتاً رمت بها في الحفرة وإذا ولدت ولداً حبسته (بلوغُ الارب : ج 3 ، ص 43.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
المرأة ومكانتها
الاجتماعية عند العرب :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
كانت المرأة عندهم
تباع وَتُشترى كالمتاع ، وكانت محرومة من جميع الحقوق الاجتماعيّة والفردية ،
حتّى حق الارث. وقد كان المثقفون من
العرب يعُدُّون النساء من الحَيوانات ، ولهذا كانوا
يعتبرونهن جزءً من أثاث البيت ويعاملونهن معاملة الرياش والفراش حتى سار فيهم المثلُ المعروفُ : « وانما امّهات الناس اوعية ». كما أنهم غالباً ما كانوا يقتلون
بناتهم في اليوم الاول من ميلادهن خشية الفقر
تارة
، ودفعاً للعار والشنآن تارة اُخرى. وقد كان هذا القتل يَتُمُّ إما
بذبحهن أو إلقاءهنّ من شاهق ، أو إغراقهنّ في الماء أو الدفن وهن أحياء كما سبق.
وقد تعرض القرآنُ الكريم ـ الّذي
يعدّ من وجهة نظر المستشرقين الكتابَ والمصدرَ التاريخي العلمي الوحيد الّذي لم
تنله يدُ التحريف ـ تعرَّض لذكر قصة من هذا النوع ضمن آيات من سورة النحل حيث
قال : « واذا
بُشِّرَ أحدُهم بالاُنثى ظلَّ وجهُهُ مُسَوّداً وهو كظيم يتوارى مِن القوم مِنْ
سُوءِ ما بُشِّر بِه أيمسِكُهُ عَلى هُون اَمْ يَدسُّهُ في التُرابَ ألا ساء ما
يحكمونَ » (النحل : 58 و 59.).
هذا والمؤسف أكثر هو ما كان عليه وضع
الزواج في الجاهلية ، حيث لم يكن يستند إلى أي قانون ، ولم يخضع لأيّ واحد من
النظم المعقولة ، بل كان وضعاً عديم النظير في ذلك الزمان ، فلم يكن لعدد
الزوجات ـ مثلا ـ حد معلوم ، أو قاعدة ثابتة. كما انه كلما أرادوا التخلص من مهر
الزوجة عمدوا إلى ايذاءها بقسوة ، حتّى تتخلى هي بنفسها عن حقها ، وكان اقترافها
لأيّ عَمل مناف للعفة هو الآخر سبباً لسقوط حقها في المهر بالمرة. ولطالما استغلَّ بعض الاشخاص هذا
القانون الجائر للتخلص مِن مهور زوجاتهم فاتهموهن بالخيانة الزوجية!! ومن قبيح ما كانوا يفعلون ان يتزوج
الرجل بزوجة أبيه بعد تطليقها ، أو وفاته وربما تناوب الأبناء على امرأة أبيهم
واحداً بعد واحد ، فقد كانَ الرجل من العرب الجاهلية إذا مات عن المرأة أو
طلّقها قام أكبر بنيه ، فان كان يحبُّ أن يتزوجها طرح ثوبه عليها ، وإن لم يكن
يريد التزوج بها تزوَّج بها بعضُ اخوته بمهر جديد (المحبر : ص 326 و 327.).
وقد ابطل الإسلامُ هذه العادة
الفاسدة حيث قال اللّه تعالى : «
ولا تنكحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساء إلاّ ما قد سَلَف إنَّهُ كانَ
فاحِشَة ومقتاً وساء سَبيلا »
(النساء : 22 ، وكانوا يُسمّون من يتزوج زوجة أبيه الضيزن ، وكان هذا
الزواج يسمّى في الجاهلية « نكاح المقت » ويُسمى الولد منه : مقتّي. ( راجع بلوغ
الارب : ج 2 ، ص 53 ومجمع البيان للطبرسي : ج 3 ، ص 26 ).).
وقد ذكرت كتبُ التاريخ
والسيرة طائفة ممن فعلوا هذا نعرض عن ذكر أسماءهم. كما ذكرت تلك الكتب انواعاً اُخرى من
المناكح الفاسدة الشنيعة الّتي أبطلها الإسلام (المحبر : 337 ـ 340.).
ثم إن المطلَّقة
لم يكن لها الحق ـ في زمن الجاهلية ـ
في ان تتزوج برجل آخر بعد انقضاء عدّتها إلا إذا اذنَ لها الزوجُ الأول الّذي
كان غالباً مّا يأخذ مهرها في الزواج الثاني في قبال الاذن. وربما مَنَع اولياؤُها من أن تتزوج
بزوجها الاول الّذي طلَّقها ، ثم خطبها بعد انقضاء العدة إذا رضيَتْ به ورغبت
فيه ، أو أنْ تتزوج بمن أرادَت واحبَّت ـ بعد انقضاء العِدّة ـ أصلا ، حميّة
جاهلية. وكان الرجُل يرث امرأة
ذي قرابته إذا مات عنها ، تماماً كما يرث ما خَلف من أمتِعةِ
المنزل ، زاعماً بانه أحقُ بها من غيره ،
فيعظلها ( يمنعها من الزواج ) أو ترّدُ إليه صداقها ، وفي
رواية ؛ إن كانت جميلة تزوجها ، وان كانت دميمة حبسها حتّى تموتَ فيرثها ، وقد
نهى اللّه تعالى عن ذلك ، وأبطلَ تلك العادات إذ قال تعالى : « وَإذا طَلَّقْتُمُ النِّساء فَبلغنَ أَجَلَهُنَّ
فلا تَعْضُلُوهُنَّ أنْ يَنكِحْنَ أزواجَهُنَّ إذا تَراضَوا بَيْنَهُمْ
بِالْمَعرُوفِ ذلِكَ يُوعَظ بِه مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمنُ باللّه واليَوْمَ
الآخِر ذلِكُمْ اَزكى لَكُمْ وَأطْهَرُ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا
تَعْلَمُونَ » (البقرة : 232.).
وقال سبحانه : « يا أيُّها الَّذينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ
أن تَرثُوا النِّساء كَرْهاً وَلا تَعضلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْض ما
آتيتُموهُنَّ » (النساء : 19.).
وقال تعالى : « وَإذا طَلَّقْتُمُ النِّساء فَبَلَغْنَ
أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوف أوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوف وَلا
تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ
نَفْسَه » (البقرة : 231.).
وخلاصة القول ؛
إن المرأة كانت في العَهد الجاهِليِّ بشرّ حال ، ويكفي لتلخيص ما قلناهُ انه لما
خطب احدهم إلى رجل ابنَتَه ، وذكَرَ لَهُ المهر والصداق قال : إنّي وإن سِيْقَ
إليّ المهْر ألْف وعَبْدانِ ( اي عَبيدَ ومماليك ) وذَوْد ( وهو من الابل مِنَ
الثلاث إلى العشر ) عَشْرُ ، أَحَبُّ أصْهاري إليّ القَبْرُ وقال شاعرهم ، في ذلك.
كما ان العرب كانت مصفقة ومتفقة على
توريث البنين دون البنات (المحبر : ص 236.). (بلوغ الارب : ج 2 ، ص 9.) |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
مقارنة بسيطة :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ولو لاحظتَ أيها القارئ الحقوق الّتي
قررها الإسلام في مجال ( المرأة ) لاذعنتَ ـ حقاً ـ بأن هذه الاحكام والمقررات
وهذه الخطوات المؤثرة الّتي خطاها النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
في سبيل اصلاح حقوق المرأة ، وتحسين اوضاعها ، هي بذاتها شاهدُ حق ، ودليل صدق
على حقانيّته ، وصدق ارتباطه بعالم الوحي. فاية رعاية ولطف بالمرأة وحقوقها وأي
اهتمام بشأنها وكرامتها أعلى واكثر من ان يوصي النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
مضافاً إلى ما جاء في آيات واحاديث كثيرة تؤكّد على حقوق المرأة
وتوصي أتباع هذا الدين بالرحمة بهن واحترامهن في خطبته الشهيرة في ( حجَة الوداع
) بالمرأة ، ويؤكد
على ذلك اشد تأكيد إذ يقول صلىاللهعليهوآلهوسلم
: « ايها النَّاسُ إنَّ لِنساءكُمْ عَلَيكُمْ حقاً ،
ولكم عليهنَّ حقاً ... فاتقوا اللّه في النِّساء واْستوصُوا بهنَّ
خيراً ، فانهنَّ عندكم عبوانٌ ... أطعمُوهُنَّ ممّا تأكُلُون ، وألْبِسُوهُنَّ
ممّا تَلبِسُونَ » (وردت هذه العبارات في مصادر مختلفة مع شيء طفيف من الاختلاف ، راجع
تحف العقول : ص 33 و 34.). |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
العربُ والرُّوح
القتالية :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
من الناحية النفسية
يمكن القول بان عرب الجاهلية كانوا النموذج الكامل للإنسان
الحريص ، الموصوف بالطمَع الشديد ، القويّ التعلق بالماديات. لقد كانوا ينظرون الى كل شيء من
زاوية منافعه ومردوداته المادية ، كما أنهم كانوا دائماً يرون لأنفسهم فضيلة
وميزة على الآخرين. كانوا يحبّون الحرية حباً شديداً ،
ولذلك كانوا يكرهون كل شيء يقيّد حريتهم. يقول ابن خلدون عنهم :
«
إنهم ( اي العرب الجاهلية ) بطبيعة التوحُّش الّذي فيهم اهلُ انتهاب وعيث ،
ينتهبون ما قدروا عليه ... وكان ذلك عندهم ملذوذاً لما فيه من الخروج عن ربقة
الحكم ، وعدم الإنقياد للسياسة وهذه الطبيعة منافيةٌ للعمران ومناقضة له ». ويضيف قائلا :
« فطبيعتهم انتهاب ما في أيدي الناس ، وان رزقهم في ضلال رماحهم وليس عندهم في
أخذ اموال الناس حدُّ ينتهون إليه بل كلما امتدت أعينهم إلى مال أو مَتاع أو
ماعون انتهبوه » (مقدّمة ابن خلدون : ص 149.).
لقد كانت الاغارة وكان النهب والقتال
من العادات المستحكمة عند القوم ، ومن الطبائع الثانوية في نفوسهم ، وقد بلغ
ولعهم وشغفهم بكل ذلك ونزوعهم الشديد إليه أن أحدهم ـ كما يقال ـ سأل النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
بعد أن سمع منه وصف الجنة وما فيها من نعيم : وهل فيها قتال؟ ولما سمع الجواب بالنفي قال : اذن لا
خير فيها!! اجل لقد سجل التاريخ
للعرب ما يقرب من (1700) وقعة وحرباً ، امتد أمدُ بعضها إلى مائة سنة أو اكثر ، يعني أن
أجيالا كثيرة كانت تتوارث الحرب ، وتستمر في قتال الخصم ، وربَّ حرب دامية
طويلةُ الأمد إندَلعت بسبب قضيَة تافهة (العرب قبل الإسلام : ص 319 و 320 ، هذا وتعتبر حرب داحس والغبراء ،
من أيام العرب التاريخية قبل الإسلام ، وقد نشأت بسبب سباق بين فرسين هما داحس
والغبراء ( وهو فرسين لقيس بن زهير من بني عبس ) وفرسين آخرين ( لحذيفة الغدر )
انتهى إلى التنازع في السباق وازداد التنافر بين المتسابقين وانجرّ إلى طعن
أحدهما الآخر ، وأن تتهيأ على اثر ذلك مقدماتُ حرب طويلة بين قبيلتي الرجلين
وحلفائهما استمرت من عام 568 م إلى عام 608 م وموت كثيرين. ( راجع تاريخ العرب
وآدابهم ص 47 والكامل لابن الأثير : ج 1 ، ص 204 ).).
لقد كان العربي في العهد الجاهلي
يعتقد بأنَ الدم لا يغسلهُ الا الدم ، وقضية « الشنفري » الّتي هي اشبه
بالأساطير لغرابتها يمكن أن تعكس مدى « العصبية الجاهلية » الّتي كانت سائدة
آنذاك. فالشنفري يُهانُ على
يد رجل من « بني سلامان » فيعزم على الانتقام منه ، وذلك بأن يقتل مائة من تلك
القبيلة ، وبعد التربُّص الطويل يغتال تسعاً وتسعين ،
ويبقى مشرَّداً حتّى تغتالُه جماعة من اللصوص عند بئر فتفعل جمجمته ـ بعد مقتله
ـ فعلتها ، اذْ تتسبَّبُ بعد مرور سنين ـ في قتل رجل من قبيلة ـ « بني سلامان » وبذلك يكتمل
العدد الّذي حلف على قتلهم من تلك القبيلة ، وذلك عندما يمر رجل من « بني سلامان
» على تلك المنطقة فيهب طوفان شديد يلقي
بجمجمة « شنفرة » على ذلك الرجل فتصيبُه في رجله بشدة
، فيموتُ بما لحقه من ألم وجراحة (تاريخ العرب : ج 1 ، ص 111 ، وراجع أيضاً بلوغ الارب في معرفة أحوال
العرب : ج 2 ، ص 145 و 146.).
ولقد بلغ اُنس العرب الجاهلية
بالقتال وسفك الدماء أن جعلوا القتل والسفك للدماء من مفاخر الرجال!! ويبدو ذلك جلياً لمن يقرأ قصائدهم
الملحمية الّتي تفوح منها رائحة الدم ، ويخيّم عليها شبح الموت ، تلك القُصائد
الّتي يمدح فيها الشاعر نفسه أو قبيلته بما أراقوه من دماء!! ، وما ازهقوه من
ارواح وما سبوه من نساء!! ، وأيتموه من أطفال!! ونجد في البيت الشعريّ
التالي مدى انزعاج الشاعر العربيّ الجاهلي لما اصابَ قبيلته مِن نكسة وذل وهزيمة
في ميدان القتال ، إذ يقول :
ويصف القرآن الكريم هذه الحالة
بقوله : « وَكُنْتم
عَلى شَفا حُفْرة مِنَ النّار فَأَنْقَذَكُمْ مِنها » (آل عمران : 103.). |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الاخلاق
العامة في المجتمع الجاهليّ العربي :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومهما يكن من امر فان عوامل مختلفة
كالجهل وضيق ذات اليد ، وجشوبة العيش ، وعدم وجود قانون صحيح يحكم الحياة
الاجتماعية ، وحالة البداوة الموجبة للتوحش ، والكسل والبطالة وغير ذلك من
الرذائل الاخلاقية كانت قد حَولَّتْ جوَّ الجزيرة العربية إلى جوّ فاسد قاتم ،
حتّى أن اُموراً يندى لها الجبين قد اخذت طريقها إلى حياة تلك الجماعة وراحت
تتخذ شيئاً فشيئاً صفة العادات المتعارفة!! لقد كانت الغارات
وعملياتُ النهب ، والقمار ، والربا ، والاسر ، والسبي من الأعمال والممارسات
الرائجة في حياة العرب الجاهلية ، وكان شرب الخمر ومعاقرتها بلا حدود
هو الآخر من الأعمال القبيحة الشائعة لديهم ،
ولقد ترسَّخت هذه العادة القبيحة في حياتهم إلى درجة انها صارت جزء من طبيعتهم ،
وحتى أن شعراءهم خصّصوا مساحات كبيرة في قصائدهم لامتداح الخمرة ووصفها وكانت
الحانات مفتوحة في وجه الناس طيلة الوقت تستقبل الزبائن ، وقد نُصِبَت عليها
رايات. فها هو شاعرُهم يقول :
لَقَدْ بَلغت معاقَرةُ الخمر من
الرواج في الحياة العربية الجاهلية بحيث اصبحت لفظة « التجارة » تعادل في عرفهم
بيع الخمور ، والاتجاربها. ولقد كانت الأخلاق تفسَر عند العرب
الجاهلية بنحو آخر عجيب ، فانهم مثلا كانوا يمدحون الشجاعة والمروءة والغيرة ،
ولكنهم كانوا يقصدون من « الشجاعة » القدرة على الإغارة وسفك الدماء ، وكثرة عدد
القتلى في الحروب!! كما أن الغيرة كانت تعني عندهم وأد
البنات حتّى أن هذا العمل الوحشيّ كان يُعدّ عندهم من أعلى مظاهر الغيرة ،
وكانوا يرون الوفاء والوحدة في نصرة الحليف حقاً أو باطلا ، وهكذا فان اكثر
القصص التي نُقِلَت عن شجاعتهم وشَغَفهم بالحرية كانت الشجاعة والشغف بالحرية
فيها تتلخص وتتجسَّد في الاغارة والانتقام. انهم كانوا يعشقون ـ في حياتهم ـ
المرأة والخمرة والحرب ليس غير. (تفسير مفاتيح الغيب : ج 2 ، ص 262 ، طبعة مصر : 1305.) |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
النزوع
إلى الخرافة والاساطير في المجتمع الجاهلي :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ولقد بَيَّنَ القرآنُ
الكريمُ اهدافُ البعثة المحمَّدية المقدسة بعبارات موجزة ،
وممّا يلفت النظر ـ اكثر من أيّ شيء ـ ما ذكرهُ تعالى في الكتاب العزيز حول أهم
هذه الاهداف والغايات العليا إذ قال : «
وَيَضَعُ عنهُمْ إصْرَهُمْ والأَغْلالَ الَّتي كانَتْ عَلَيْهِمْ »
(الأعراف : 157.).
فلابدَّ أن نعرفَ ماذا كانت تلك الاَغلال
والسلاسلَ الّتي كانتْ عَربُ الجاهلية ترزخُ تحتها حتّى قَبيْل بُزوغ فجر
الإسلام؟ لا ريبَ أَنَّها لم تكن من جنس
الأَغلال والسَلاسل الحديدية ، ولم يكن المقصودُ منها ذلك أبداً ، فماذا كانت
إذَنْ يا ترى؟ أجَل إنّ المقصودَ
مِنْ هذه الاغلال هي الأوهام والخرافات الّتي كانت تَقيِّد العقلَ العربي عن
الحركة ، وتعيقه عن النمو والتقدم ، ولا شك أن
مثل هذه السلاسل والأغلال الّتي تقيّد الفكر البشري وتمنعه من التحليق والتسامي
، اثقل بكثير من الاغلالَ والقيود الحديدية واضرّ على الإنسان منها بدَرجات
ومراتب ، لأنّ الأغلالَ الحَديديَة توضَع عن الأيدي والأرجل بعد مضي زمان ،
ويتحرر الإنسان منها ، بعد حين ، ليدخل معترك الحياة بعقلية سليمة مبرّاة من
الأوهام والخرافات ، وقد زالَتْ عنه ما تركته تلك الحدائد من جروح وآلام. أما
السلاسل والاغلال الفكرية ( ونعنى بها
الاوهام والاباطيل والخرافات ) التي قد
تهيمن على عقل الإنسان وتكبّلُ شعوره فانها طالما رافقت الإنسان إلى لحظة وفاته
، واعاقته عن المسير والانطلاق ، دون ان يستطيع التحرر منها ، والتخلص من آثارها
، وتبعاتها ، اللهم إذا استعان على ذلك بالتفكير السليم ، والهداية الصحيحة. فبالتفكير السليم وفي ضوء العقل
البعيد عن أيّ وهم وخيال يمكنه التخلص مِن تلك الاغلال والقيود الثقيلة ، وأما
بدون ذلك فإن أيّ سعي للإنسان في هذا السبيل سيبوء بالفشل. إن من أكبر مفاخر نبي
الإسلام أنه كافَحَ الخرافات ، وأعلن حرباً شعواء على الأَساطير ، ودعا إلى تطهير
العقل من أدران الأوهام والتخيلات ، وقال : لقد جئت
لاخذ بساعِد العقل البشري ، وأشدَ عضدَه ، واُحارب الخرافه مهما كان مصدرها.
وكيفما كان لونها وأيّا كانت غايتها ، حتّى لو خَدَمَت أهدافي ، وساعَدَتْ على
تحقيق مقاصدي المقدسة. إنّ ساسة العالم الذين لاتهمهم إلاّ
إرساء قواعد حكمهم وسلطانهم على الشعوب لا يتورعون عن التوسل بأية وسيلة ،
والاستفادة من أية واقعة في سبيل تحقيق مآربهم حتّى أنهم لا يتأخرون عن التذرع
بترويج الخرافات والأساطير القديمة بين الشعوب للوصول إلى سدة الحكم ، أو البقاء
فيها ما امكنهم ذلك. ولو اتفق أن كانوا رجالا موضوعيين ومنطقيين فانهم في هذه
الحالة دافعوا عن تلك الخرافات والأوهام والاساطير الّتي لا تنسجم مع اي مقياس
عقلي بحجة الحفاظ على التراث القومي ، أو احترام راي اكثرية الشعب ، أوما شابه
ذلك من الحجج المرفوضة. ولكنَّ رسولَ الإسلام
لم يكتف بإبطال المعتقدات الخرافية الّتي كانت تلحِق الضرر به ، وبمجتَمعه ، بل
كان يكافح ويحارب بجميع قواه كل اُسطورة أو خرافة شعبية أو فكرة فاسدة باطلة ،
تخدم غرضه ، وتساعد على تحقيق التقدم في دعوته ويسعى إلى أن يجعلَ الناسَ يعشقون
الحقيقة لا ان يعبدوا الخرافات ، ويكونوا
ضحايا الاساطير والأوهام ، واليك واحداً
من هذه المواقف العظيمة على سبيل المثال لا الحصر. لما ماتَ إبراهيم بن
رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وهو ابنه الوحيد ، حزن عليه النبي حزناً شديداً فكانت
تنحدر الدموع منه على غير اختيار ، واتفق ان انكسفت الشمس في ذلك اليوم أيضاً ،
فذهب المولعون بالخرافة في ذلك المجتمع ( العربي ) على عادتهم إلى ربط تلك
الظاهرة بموت إبراهيم واعتبار ذلك دليلا على عظمة المصاب به فقالوا : انكسفت
الشمسُ لموت ابن رسول اللّه ، فصعد رسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم المنبرَ وقال : « أيُّها
الناس انَّ الشمسَ والقمر آيتان من آيات اللّه يجريان بامره ، ومطيعان له ، لا
ينكسفان لموت أحد ولا لحياتِه ، فاذا انكسفا ، أو أحدُهما صلّوا ». ثم نزل من المنبر فصلى
بالناس صلاة الكسوف وهي ما تسمى بصلاة الايات (بحار الأنوار : ج 91 ، ص 155.).
ان فكرة انكساف الشمس لموت ابن صاحب
الرسالة وان كان من شأنها ان تقوّي من موقع النبي في قلوب الناس ، وتخدم بالتالي
غرضه ، وتساعد على انتشار دعوته ، وتقدمها ، إلا أنه صلىاللهعليهوآلهوسلم
رفض ان يحصل على المزيد من النفوذ في قلوب الناس من هذا الطريق. على أن محاربَة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
للخرافات والاساطير الّتي كانت نموذجا بارزاً من محاربته للوثنية ، وتأليه
المخلوقات وعبادتها ، لم تكن من سيرته في عهد الرسالة بل كان ذلك دأبه في جميع
أدوار حياته ، حتّى يوم كان صبياً يدرج ، فانه كان يحارب الاوهام والخرافات ،
ويعارضها في ذلك السن أيضاً. تقول حليمةُ السعدية
مرضعة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
: لما تمَّ له ( اي لمحمَّد ) ثلاث سنين قال لي يوماً : « يا أُمّاهُ ما لِيَ لا
أرَى أخَوَيَّ بالنّهار »؟ قلت له : يا بنيّ إنهما يرعيان
غنيمات ، قال : « فَما لي لا أخْرُج مَعَهما »؟ قلت له : تحبُّ ذلك؟ قال :
نَعَمْ. فلما أصبح دهَّنته وكَحَّلته وعلَّقت في عنقه خيطاً فيه جزع يمانية ( وهي من التمائم الباطلة
كانت تعلّق على الشخص في أيام الجاهلية لدفع الآفات عنه )
، فنزَعَها ، وقال لي : « مَهْلا يا اُماه فَإنَّ مَعِيَ مَنْ يَحْفُظنِيْ » (بحار الانوار : ج 15 ، ص 392.). |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الخرافات
في عقائد العرب الجاهلية :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
كانت عقائدُ جميع الامم والشعوب
العالمية يوم بزوغ شمس الإسلام ممزوجة بألوان من الخرافات والأساطير. فالاساطير اليونانية والساسانية كانت
تخيّم على افكار الشعوب الّتي كانت تعدُّ في ذلك اليوم من أرقى الشعوب
والمجتمعات. على انه لا تزال خرافات كثيرة تسود
وإلى الآن في المجتمعات الشرقية المتقدمة ، ولم تستطع الحضارةُ الراهنة أن
تزيلها من حياة الناس ومعتقداتهم. إن تنامي الخرافة « يرتبط ارتباطاً
وثيقاً بالمستوى العلمي والثقافي في كل مجتمع ، فبقدر ما يكون المجتمع متخلفاً
من الناحية الثقافية والعلمية تزداد نسبة وجود الخرافة ومقدار نفوذها في عقول
الناس ونفوسهم. لقد سجل التاريخ عن سُكّان شبه
الجزيرة العربية طائفة هائلة وكبيرة من الاوهام والخرافات ، وقد جمع السيّد
محمود الآلوسي اكثرها في كتابه « بلوغ الارب في معرفة احوال العرب » ، مُرفقاً
كل ذلك بما حصل عليه من الشواهد الشعرية وغيرها (بلوغ الارب في معرفة أحوال العرب : ج 2 ، ص 286 ـ 369.).
ومن يتصفح هذا الكتاب يقف على ركام
هائل من الخرافات الّتي كانت تملأ العقل العربي الجاهل آنذاك وتعشعش في نفوسهم ،
وقد كانت هذه السلسلة الرهيبة من الأوهام هي السبب في تخلّف هذا الشعب عن بقية
الشعوب والاُمم الاخرى. ولقد كانت هذه الخرافات من أكبر
السدود في طريق تقدم الدعوة الإسلامية ، ولهذا أجتهد النبيُّ الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم
بكل طاقاته في محو وازالة آثار الجاهلية الّتي لم تكن سوى تلك الأوهام والاساطير
والخرافات. فعندما وجَّه « معاذ
بن جبل » إلى اليمن اوصاه بقوله : « وامِتْ أمرَ الجاهِليَّة إلاّ ما
سنَّهُ الإسلامُ وَأظهِرْ أمرَ الأسلام كلّه صغيرهُ وكبيرهُ » (تحف العقول : ص 25.).
لقد وقف رسولُ اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
أمام جماهير كبيرة من العرب الذين كانت عقولُهم ترزح تحت الافكار والمعتقدات
الخرافية ردحاً طويلا من الزَمن يعلن عن نهاية عهد الأفكار والاوهام الجاهلية إذ قال : « كُلُّ مأثرة فيْ الجاهِليَّة تحتَ قَدَميّ »
(السيرة النبوية : ج 3 ، ص 412.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
نماذج من الخرافات
في المجتمع الجاهلي :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وللوقوف على مَدى
أهمية التعاليم الإسلامية وقيمتها نلفت نظر القارئ الكريم إلى نماذج من هذه
الخرافات ، ومن أراد التوسع راجع المصدر المذكور. 1 ـ
الاستسقاء باشعال النيران :
كانت العرب إذا أجدبت ، وأمسكت
السماء عنهم ، وأرادوا أن يستمطروا عَمَدوا إلى السلع والعشر ( وهما أشجار سريعة
الاشتعال ) فحزموهما ، وعقدوهما في أذناب البقر ، وأضرموا فيها النيران
وأصعَدوها في جبل وَعر ، واتبعوها يدعون اللّه تعالى ، ويستسقونه ، وانما يضرمون
النيران في أذناب البقر تفاؤلا للبرق بالنار ... وكانوا يسوقونها نحو المغرب من
دون الجهات الاخرى ، وكانت هذه الثيران والابقار إذا صاحت من وجع الاحتراق ظنّت
العرب بان ذلك هو الرعد!!! وقد قال شاعرهم في ذلك :
فَهَل تَجُودينَ بِبَرق أو مَطَر؟ 2 ـ
ضرب الثور إذا عافت البقر :
كانوا إذا أورَدُوا البقر فتمتنع من
شرب الماء ، ضرَبوا الثورَ لِيقتحمَ الماء ، بعدَه ويقولون : إنْ الجنَّ تصدُّ
البقرَ عن الماء ، وأن الشيطان يركَبُ قَرَني الثورَ ، ولا يدع البقر تشربُ
الماء ، ولذلك كانوا يضربون وجه الثور. وقد قال في هذا شاعرهم
:
وقال آخر :
وقال ثالث :
3 ـ كيّ صحيح الإبل
ليبرأ السقيمُ :
إذا كان يصيب الإبل مرض أو قرح في
مشافرها واطرافها عمدوا إلى بعير صحيح من تلك الإبل فكوَوْا مِشفَرَهُ وعَضُدَه
وفَخذَه يرون أن ذلك إن فعلوه ذهبَ العُرُّ والقرح والمرض عن إبلهم السقيمة ،
ولا يعرف سبب ذلك. وقد احتمل البعض أنهم إنما كانوا
يفعلون ذلك وقاية للصحاح من الإصابة بالعُرّ الّذي أصاب غيرها ، أو أنه نوع من
المعالجة العلمية ، ولكن لماذا ترى كانُوا يَعمدُونَ إلى بعير واحد من بين كل
تلك الابل ، فلابد من القول بأن هذا الفعل كان ضرباً من الاعمال الخرافية الّتي
كانت سائدة في ذلك المجتمع الجاهلي قبل الإسلام. وقد قال شاعرهم عن ذلك :
وقال آخر :
وقال ثالث :
4 ـ حبس ناقة عند
القبر اذامات كريمٌ :
إذا ماتَ منهم كريمٌ عقلوا ناقته
أوبعيره عند القبر الّذي دُفِنَ فيه ذلك الكريم ، فعكَسُوا عنقها ، وأداروا
رأسها إلى مؤخَّرها وتركوها في حفيرة لا تطعَم ولا تسقى حتّى تموت ، وربما
اُحرقَت بعد موتها وربما سُلِخَتْ ومُلئ جِلدُها ثماماً ، وكانوا يزعمون أن مَن
مات ولم يُبْلَ عليه ( اي لم تعقل ناقة عند
قبره هكذا ) حشر ماشياً ، ومن كانت له بلية ( اي
ناقة عقلت هكذا ) حُشِر راكباً على بليّته. وقد قال أحدهم في هذا
الصدد :
وقال آخر وهو يوصي ولده بان يفعلوا
له ذلك :
5 ـ عَقرُ الإبل عَلى
القُبُور :
كانوا إذا ماتَ أحدُهم ضربوا قوائم
بعير بالسَيف عند قبره ، وقيل انهم كانوا يفعلون ذلك مكافأة للميت المضياف على
ما كان يعقره من الإبل في حياته وينحره للاضياف. وقد ابطلت الشريعة المقدسة هذه
العادة الباطلة في ما أبطلته فقد جاء في الحديث « لا عَقْر في الإسلام ». وقد قال أحدُهم حولَ العَقر هذا :
6 ـ نهيق الرجل أذا
اراد دخول القرية ( التعشير ) :
ومن خرافاتهم أن الرجلَ منهم كان إذا
ارادَ دخولَ قرية فخافَ وباءها أوجنّها وقف على بابها قبل ان يدخلها فنَهقَ
نهيقَ الحمار ، ثم علّق عليه كعبَ أرنب كأنَّ ذلك عوذة له ، ورقية من الوباء
والجن ويسمون هذا النهيق التعشير. قال شاعرهم :
وقال الآخر :
7 ـ تصفيق الضالّ في
الصحراء ليهتدي :
فقد كان الرجلُ منهم إذا ضَلّ في
فلاة قَلَب قميصه وصفق بيديه ، كأنه يومئ بهما إلى انسان مهتدي. قال أعرابي في ذلك :
8 ـ الرتم :
وذلك أن الرجل منهم كان إذا سافر
عَمَد إلى خيط فعقده في غصن شجرة أوفي ساقها فاذا عاد نظر إلى ذلك الخيط فإنْ
وجده بحاله علم ان زوجتَه لم تخنهُ وان لم يَجِدْه أو وَجَدَهُ محلولا قال : قد
خانتني. وذلك العقد يسمى « الرتم ». قال شاعرهم في ذلك :
وقال الآخر :
وقال ثالث :
9 ـ وطيُ المرأة القتيل
الشريف لبقاء وَلَدها :
فقد كانت العرب تقول : ان المرأة
المقلاة وهي الّتي لا يعيش لها وَلَدٌ ، إذا وطئت القتيلَ الشريف عاشَ وَلَدُها. قال احدهم :
10 ـ طَرْحُ السِنّ
نَحو الشَمْس إذا سَقَطَتْ :
ومن تخيّلات العرب وخرافاتهم أن
الغلام منهم إذا سَقَطَتْ له سنٌ أخذها بين السبابة والابهام واستقبل الشمسَ إذا
طلعت وقذف بها وقال : يا شمس ابدليني بسنّ احسن منها ولتجر في ظلمها آياتك ، أو
تقول أياؤك ، وهما جميعاً شعاع الشمس. قال احدهم وهو يصف ثغر معشوقته :
أي كأن شعاع الشمس اعارته ضوءها. هذا وقد أشار شاعرُهم إلى هذا الخيال
( أوقل الخرافة المذكورة ) إذ قال :
11 ـ تعليق النجاسة
على الرجل وقاية من الجنون :
ومن تخيّلات العرب أنهم كانوا إذا
خافُوا على الرجل الجنونَ ، وتعرّض الارواح الخبيثة له نجَّسوه بتعليق الاقذار
كخرقة الحيض وعظام الموتى قالوا : وأنفعُ من ذلك أن تعلِّقُ عليه طامتٌ عظامّ
موتى ثم لا يراها يومَه ذلك. وانشدوا في ذلك :
وقالت امرأة وقد نَجَّست ولَدها فلم
ينفعه ذلك ومات :
12 ـ دم الرئيس يشفي
:
فقد كانت العرب تعتقد أنّ دم الرئيس
يشفي من عضة الكلْب الكَلِب. قال الشاعر :
وقال آخر :
13 ـ شق
البرقع والرداء يوجب الحب المتقابل :
ومن أوهامهم وتخيلاتهم أنهم كانوا
يزعمون أن الرجل إذا احب إمرأة واحبّته فشق برقعها وشقّت رداءه صلح حبُهما ودام
، فان لم يفعلا ذلك فَسَد حبُهما ، قال في ذلك احدهم :
14 ـ معالجةُ المرضى
بالاُمور العجيبة :
ومن مذاهبهم الخرافية في معالجة
المرضى إذا بثرت شفة الصبي حمل منخلا على رأسه ونادى بين بيوت الحيّ : الحلأ
الحلأ ، الطعام الطعام ، فَتُلقي له النساءُ كِسَرَ الخبز ، واقطاع التمر واللحم
في المنخل ثم يُلقي ذلك للكلاب فتأكله ، فيبرأ مِنَ المرض فان أكل صبيّ من
الصبيان من ذلك الّذي ألقاهُ للكلابِ تمرة أو لقمة أو لحمة بثرت شفته. فقد رويت عن إمرأة
أنها انشدت :
ومن أعاجيبهم أنهم كانوا إذا طالت
علة الواحد منهم ، وظنُّوا أنَّ به مسّاً من الجن لانه قَتَلَ حية ، أو يربوعاً
، أو قنفذاً ، عملوا جِمالا من طين وجعلوا عليها جوالق وملاؤها حنطة وشعيراً
وتمراً ، وجعلوا تلك الجمال في باب جحر إلى جهة المغرب وقت غروب الشمس وباتوا
ليلتهم تلك ، فاذا اصبحوا نظروا إلى تلك الجمال الطين فاذا رأوا انها بحالها
قالوا لم تقبل الدية فزادوا فيها وان رأوها قد تساقطت وتبدّد ما عليها من الميرة
قالوا : قد قبلت الدية واستدلوا على شفاء المريض وفرحوا وضربوا الدفّ. قال بعضهم :
وقال آخر :
ومن مذاهبهم في هذا المجال أن الرجلَ
منهم كان إذا ظهرت فيه القوباء ( وهو مرض جلدي ) عالجها بالريق. قال احدهم :
15 ـ خرافاتٌ في مجال
الغائب :
كانوا إذا غُمَّ عليهم أمرُ الغائب
ولم يعرفوا له خبراً جاؤوا إلى بئر عادية ( أي مظلمة بعيدة القعر ) أو جاؤوا إلى
حصن قديم ونادوا فيه : يا فلان أو يا أبا فلان ( ثلاث مرات ) ، ويزعمون انه إن
كان مَيتاً لم يسمَعوا صوتاً ، وإن كان حياً سمعُوا صوتاً ربّما توهموه وهماً ،
أو سمعوه من الصدى فَبَنَوا عليه عقيدَتهم ، قال بعضهم في ذلك :
(1)آضَ أي عاد ورجع. وقال آخر :
ومن ذلك أن الرجل منهم كان إذا
اختلجت عينه قال : ( أرى من اُحبُّه ) فأن كان غائباً توقع قدومَه ، وإنْ كان
بعيداً توقَّعَ قربه ، وقالَ أحدهم :
وقال آخر :
وكانوا إذا لا يُحِبُّونَ لمسافر أنْ
يعودَ إليهم أوقدُوا ناراً خَلفَهُ ويقولون في دعائهم « أبعَدهُ اللّهُ وأسحقَهُ
وأوقدَ ناراً إثرهُ » قال بعضهم :
16 ـ عقائدهُمْ
العجيبة في الجنّ وتاثيرهُ :
كانت العربُ في الجاهلية تعتقد في
الجن وتأثير هذا الكائن في شتى مجالات حياتهم اعتقاداتٌ عجيبة وفي غاية الغرابة.
فتارة تستعيذُ بالجن ، وقد إستعاذَ
رجلٌ منهُمْ وَمَعَهُ ولدٌ فاكلهُ الأَسدُ فقال :
فلم يجرنا من هزبر عادي وعن الاستعاذة بالجنّ قال اللّه
سبحانَهُ في القرآن : « وَأَنَّهُ
كانَ رجالٌ مِنَ الإنسِ يَعُوذُونَ بِرجال مِنَ الجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهقاً »
(الجن : 6.).
ومن ذلك إعْتقادُهُمْ بهتاف الجن.
ولهم في هذا المجال أساطيرُ خرافيةٌ مذكورة في محلّها. ومن هذا القبيلُ إعتقادهُم بالغول ،
فقد كانت تزعم العربُ في الجاهلية أن الغيلان في الفلوات ( وهي من جنس الشياطين
) تتراءى للناس ، وتغول تغولا اي تتلوّن تلوناً فتضلّهم عن الطريق ، وتهلكهم ،
ومن هذا القبيل أيضاً إعتقادُهم بالسعالي!! وقد قال أحدُهم في ذلك :
17 ـ تشاؤمهم
بالحيوانات والطيور والاشياء :
ومن مذاهبهم الخرافية تشاؤمهم بأشياء
كثيرة وحالات عديدة : فمن ذلك ؛ تشاؤمهم بالعطاس. وتشاؤمهم بالغراب حتّى قالوا : فلانٌ
أشام من غراب البَيْن ، ولهم في هذا المجال أبياتٌ شعرية كثيرةٌ منها قول أحدهم
:
وكذا تشاؤُمُهمْ وتطيّرهم بالثور
المكسور القرن والثعلب. إلى غير ذلك من التخيلات والأوهام والخرافات والاساطير ،
والاعتقادات العجيبة ، والتصورات الغريبة الّتي تزخر بها كتبُ التاريخ المخصصةِ
لبيان أحوال العرب قَبْلَ الإسلام وحتّى ابان قيام الحضارة الإسلامية.
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
مكافحةُ
الإسلام لهذه الخرافات :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ولقد كافح الإسلامُ
جميع هذه الخرافات بطرق مختلفة ، واساليب متنوعة. أما بالنسبة إلى ما كانوا يفعلونَهُ
بالحيوانات فمضافاً إلى أنّ أيّ شيء من هذه الأَعمال لا ينسجم مع العقل والمنطق
والعلم لأن المطر والغيث لا ينزل من السماء باسعال النيران ، وضرب الثيران لا
يؤثر في البقر ، كما لا ينفع كيُّ البعير الصحيح في شفاء الإبل السقيمة ، وتعتبر
هذه الاعمال نوعاً من تعذيب الحيوانات وقد نهى الإسلام بشدة عن تعذيب الحيوانات
وايذائها ، باي شكل كان. فقد روي عن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أنه قال : « لِلدّابةِ
عَلى صاحبها ستُّ خصال : 1 ـ يَبدأ بعلفها إذا
نَزَل. 2 ـ ويُعرضُ عليها الماء
إذا مَرَّ به. 3 ـ ولا يضرب وجهها
فإنها تسبِّحُ بحمدِ ربّها. 4 ـ ولا يقفْ على
ظهرها إلا في سَبيل اللّه عزّوجلّ. 5 ـ ولا يحمّلها فوق
طاقتها. 6 ـ ولا يكلّفها من
المشي إلا ما تطيقُ (من لا يحضره الفقيه : ج 2 ، ص 286 ، وراجع للوقوف على أحاديث حقوق
الحيوان كتاب الشؤون الاقتصادية : ص 130 ـ 159 أيضاً.).
كما رُوي أنه نهى رسولُ اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم عن
أن توسَم البهائمُ في وجهها ، وأن تضرَب في وجوهها فانها تسبّح بحمد ربها. ومن هنا ندركُ ان التعاليم في مجال
الرفق بالحيوان ، وحمايته ، على النقيض من العادات الجاهلية السائدة في البيئة
العربية آنذاك. واما بالنسبة إلى التمائم والأَشياء
الّتي كانت تعلّقها العربُ على أعناق وصدور رجالها ، وأولادها ، من الأحجار
والخَرَز ، وَعظام الموتى ، ومعالجة المرضى والمصابين وغيرهم بها أحياناً فقد
حاربَها الإسلامُ ، بعد أن ابطلها كما ابطل الافاعيل الّتي سبق أن ذكرناها قبل
هذا. فلما جاءت جماعات من الأعراب إلى
رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وسألوه عن الرّقى والقلائد الّتي كانوا يتداوون بها أو يسترقونها بدلا عن
التداوي بالعقاقير والأدوية قائلين يا رسول اللّه : انتداوى؟ قال رسولُ اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
: « تداووا فإنَّ اللّه لَمْ يَضَعْ داء إلا وَضَعَ لَهُ دَواء » (التاج الجامع للاُصول : ج 3 ، ص 178.).
بل نجد النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم يأمر سعد بن أبي وقاص عندما اُصيب
بمرض في فؤاده أن يعالج نفسَه عِند طبيب إذ قال له لما عادَه وعرف بحاله : «
إنَك رجلٌ مفودٌ ، إئتِ الحارثَ بن كلْدة أخا ثقيف فإنَهُ رَجَلٌ يتطبَّب » (التاج الجامع للاُصول : ج 3 ، ص 179.).
هذا مضافاً إلى
أنه وردت أحاديث كثيرة تصرّح ببطلان التمائم السحريّة الّتي لا تنفع ولا تضرّ
أبداً ، وها نحنُ نشير في ما يلي
إلى نموذجين من هذه الأحاديث : 1 ـ يقول أحدُهُم : دخلتُ
على النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
بابن لي قد علقت عليه من العُذرة (
وهي قلادة سحرية جاهلية ) فقال : علام تدغَرْن أولادَكنَّ
بهذا العِلاق ، عليكنَّ بهذا العُود الهِنْديّ » وكان صلىاللهعليهوآلهوسلم
يقصد عصارة هذا العود (التاج الجامع للاُصول : ج 3 ، ص 184.).
2 ـ رُوي عن الإمام جعفر بن محمَّد
الصادق عليهالسلام
أنه قال : « إنَّ كثيراً مِنَ التمائم شِرْكٌ » (سفينة البحار : ج 1 ، مادة رقي.).
هذا مضافاً إلى أن
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
وأوصياءه الكرام ـ بارشادهمُ الناس إلى ما ينبغي أن
يتداووا به من العقاقير والأدوية وما أعطوْه من تعاليم قيمة كثيرة في هذا المجال
ممّا جمعه المحدثون الكبار تحت عنوان : « طبّ النبيّ » و « طب الرضا » و ... وقد
وجهوا ضربة قوية اُخرى إلى تلك الأوهام والتخيّلات ، والخرافات والاساطير الّتي
كان يعاني منها المجتمعُ العربي الجاهلي قبل الإسلام (وقد فتح المحدّثون من الفريقين أبواباً خاصّة لأحاديث الطبّ النبويّ
في كتب الحديث أيضاً.).
وأما الغول ، والطيرة ، والتشاؤم ،
والهامّة والنَوء فقد حاربها النبي بصراحة إذ قال : صلىاللهعليهوآلهوسلم
« لا هامَّة ولا نَوء ولا طِيرَة ، ولا غول » (التاج الجامع للاُصول : ج 3 ، ص 196 و 197 الفصل الرابع باب نفي
مزاعم الجاهلية ، قال مؤلف التاج : الهامّة طائر أو البوم إذ سقط في مكان تشاءم
أهلُه ، أو دابّة تخرجُ من راس القتيل أو من دمه فلا تزالُ تصيح حتّى يؤخدَ
بثاره ، والنَوء نجمٌ يأتي بالمطر وآخر يأتي بالريح ( حسب عقيدة الجاهلية )!! 5 ـ التاج الجامع للاُصول
: ج 3 ص 201. قال مؤلّف التاج العيافة زجر الطّيْر والتفاؤل بأسمائها وأصواتها
كالتفاؤل بالعُقاب على العِقاب ، وبالغُراب على الغُربة ، وبالهُدْهُدْ على
الهُدى ، وكذا بافعالها ، وكيفية طيرانها فكانت العرب تزجر الطيرَ وتثيره فما
اخذ منها ذات اليمين تبركوا به وتيمَّنوا وما تياسر منها تشاء موابه ( كما في
بلوغ الارب في معرفة أحوال العرب : ج 3 ، ص 212 تحت عنوان كيفية الزجر عند العرب
). و « الطرق » : الضرب
بالحصى ( للإستدلال على اُمور غيبيّة باعتقاد الجاهليين ). والجبت هو الباطل.).
وقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : «
العِيافَةُ والطِيَرةُ والطَرْق مِن الجبْت » (5).
وعن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
أيضاً أنه قال : « إنَّ الرقى والتمائم والتولَة شركٌ » (التاج الجامع للاُصول : ج 3 ، ص 203. قال مؤلِّف الجامع : « التولة »
: نوع من السحر يحبّب الرجلَ إلى زوجته ، وهو من عمل المشركين ( أي في الجاهلية
).).
وعن أحدهم قال : قلتُ
يا رسولَ اللّه اموراً كنّا نصنعها في الجاهلية ، كنّا نأتي الكهّان ، قال : فلا
تأتوا الكهّانَ ، قلت : كنّا نتطيّر قال : ذاك شيء يجدُهُ أحدُكُمْ في نفسِه فلا
يَصُدَّنكم ». إن وجودَ النهي الشديد
والمكرّر في الاحاديث الكثيرة عن الطيرة والتشاؤم ، والزجر والعيافة والتمائم
والتولة والهامّة والنوء والغول ، والكهانة ، وايذاء الحيوانات وكيهنّ ،
وتعذيبهن ، وماشابه ذلك يدل بوضوح وقوة على مدى رسوخ هذه
العادات الباطلة في الحياة العربيّة الجاهلية ، يكشف عن مبلغ اعتقادهم بها ،
ونزوعهم اليها وهو بالتالي يكشف عن مغزى قوله تعالى : « ويضَعُ عنَهُمْ إصْرَهُمْ والأَغْلال الَّتي
كانَت عَلَيهِمْ » (سورة الاعراف : 157.)
فأيّة
سلاسل وأَغلال أثقل وأسوء عاقبة وأشدّ وطئة ، من هذه الأغلال ... أغلال الخرافة
والوهم ، وسلاسل التخيلات والاساطير؟!! |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أوضاع
العرب الإجتماعية قبيل ظهور الإسلام :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إن اُولى خطوة خطاها البَشَر باتّجاه
النمط الإجتماعي كانت عندما أقْبَل على تاسيس وإقامة الحياة القبلية ، فالقبيلة
تتكون من إجتماع عدة عوائل واُسر مترابطة فيما بينها بوشائج القربى والنسب تحت
زعامة شيخ القبيلة ، وبهذا يتحقق أبسط نمط من أنماط الحياة الإجتماعية. وقد كانت الحياةُ العربية ـ آنذاك ـ
من هذا القبيل ، فكلُ مجموعة من العوائل المترابطة نسبياً تتجمع في شكل قبيلة ،
وتشكل بذلك مجتمعاً صغيراً يخضع فيه الجميع لأوامر رئيس القبيلة وزعيمها ، ولقد
كان الجامع بين افراد القبيلة هو الرابطة القومية ، والوشيجة النسبية ، وكانت
هذه القبائل تختلف في عاداتها ورسومها ، وتقاليدها وأعرافها ، اختلافاً كبيراً ،
وإذ كانت كل قبيلة تعتبر القبائل الاخرى غريبة عنها لذلك كانت لا تقيم للآخرين
وزناً ولا قيمة ، ولا تعترف لهم باي حق أو حرمة. ولهذا كانت ترى الإغارة على الآخرين
وقتلهم ، ونهب أموالهم ، وسلب ممتلكاتهم وسبي نسائهم من حقوقها القانونية
المشروعة ، اللّهم إلاّ أن يكون بين القبيلة ، والقبيلة الاُخرى حلف أو معاهدة. هذا من جانب. ومن جانب آخر كانت
القبيلة الّتي تتعرض للإغارة من جانب قبيلة اُخرى ترى من حقها أن تردَّ الصاع
صاعين ، تقتل كل أفراد القبيلة المغيرة ، لأن الدّم ـ في نظرهم ـ لا يغسله الا
الدّم!!! ولقد تبدلت أخلاقيةُ العرب هذه بعد
انضوائهم تحت لواء الإسلام الحنيف ، بل تحوَّلوا من نمط الحكومة القبلية
المتخلفة والنظام العشائري الضيّق هذا ، إلى حكومة عالميّة ، واستطاع رسولُ
الإسلام صلىاللهعليهوآلهوسلم
ان يؤلف من القبائل العربية المتفرقة اُمّة واحدة. ولا شك أن تأليف اُمة واحدة من قبائل
وجماعات اعتادت طوال سنين مديدة من التاريخ على التناحر والتنازع ، والتخاصم
والتقاتل ، والتهاجم والإغارة في ما بينها ، واستمرأت سفك الدماء ، وإزهاق
الارواح ، وذلك في مدة قصيرة ، عملٌ عظيم جداً ، ومعجزة اجتماعية لا نظير لها ،
لأن مثلَ هذا التحوُّل العظيم إذا اُريدَ لَهُ أن يتمَّ عبر التحوُّلات
والتطورات العاديّة لاحتاج إلى تربية طويلة الامد ، ووسائل لا تحصى كثرة. يقول « توماس كارليل »
في هذا الصدد : لقد اخرج اللّه العرب بالإسلام من
الظلمات إلى النور ، وأحيى به منها امة خاملة لا يُسمعُ لها صوتٌ ولا يُحسُّ
فيها حركة ، حتّى صار الخمولُ شُهرة والغموض نباهة والضعة رفعة والضعف قوة ،
والشرارة حريقاً ، وشمل نورُه الأَنحاء وعمَّ ضوؤه الأرجاء ما هُو إلا قرنٌ بعد
إعلان هذا الدين حتّى أصبح للعرب ( المسلمين ) قدمٌ في الهند واخرى في الاندلس (الخطط الاستعمارية لمكافحة الإسلام : ص 38 ، والإسلام والعلم الحديث
: ص 33.).
وإلى هذه الحقيقة يشير
ايضاً مؤلف تاريخ اللغات السامية الشهير « رينان » قائلا : «
لا مكان لبلاد العرب في تاريخ العالم السياسيّ والثقافي والدينيّ قبل ذلك
الانقلاب المفاجئ الخارق للعادة الّذي صار به العربُ اُمّة فاتحة مُبدعة ولم يكن
لجزيرة العرب شأنٌ في القرون الاُولى مِنَ الميلاد ، حين كانت غارقة في دياجير
ما قبل التاريخ » (حضارة العرب : ص 87.).
أجل إنّ هذه القبائل العربية
الجاهلية المختلفة المتناحرة لم تكن تعيش أية حضارة ، ولم تمتلك أية تعاليم
وقوانين ، وأنظمة وآداب قبل مجيء الإسلام ، لقد كانت محرومة من جميع المقومات
الإجتماعية الّتي توجبُ التقدم والرقي ، ولهذا لم يكن من المتوقع ابداً ان تصل
إلى تلك الذرى الرفيعة من المجد والعظمة ، ولا أن تنتقل من نمط الحياة القبلية
الضيقة إلى عالم الإنسانية الواسع ، واُفق الحضارة الرحيب بمثل هذه السُرعة
الّتي وَصَلت إليه والزمن القصير الّذي انتقلت فيه. إنَّ مَثَل الشعوب والاُمم البشرية
مثل المباني والعمارات تماماً. فكما أن البناء القوي الراسخ يحتاج
إلى موادّ انشائية قوية معدَّة باتقان ومحضّرة باحكام حتّى يستطيع البناء
المصنوع من هذه الموادّ ، والمؤسس بعناية وهندسة متقَنة من الوقوف في وجه
الأعاصير ، والأمطار الغزيرة كذلك يحتاج كيانُ كل اُمة رشيدة من الاُمم إلى اُسس
وقواعد محكمة ( وهي الاُصول والآداب الكاملة ، والأخلاق الإنسانية العالية ) لتستطيع
من البقاء والتقدم. ولهذا السبب لابد من
التأمل في أمر وسرّ هذه الظاهرة العجيبة ولابد أن نتساءل : كيف تحقق ذلك التطورُ العظيم ، وذلك
التحول العميق للعرب الجاهلية ، ومن اين نشأ؟؟ كيف امكن ان تتحول جماعة متشتتة ،
متعادية ، متناحرة ، متباغضة ، في ما بينها ، بعيدة عن النظم الإجتماعية ، بمثل
هذه السرعة إلى اُمّة متآلفة متاخية متعاونة متسالمة متحابة ، وتشكل دولة قوية
كياناً سياسياً شامخاً أوجب أن تخضع لها دول العالم وشعوبه ، وتطيعها ، وتحترم
مبادءها واخلاقها وآدابها آنذاك. حقاً لو كان في مقدور العرب أن يحرزوا
ذلك التقدم الهائل بفعل عامل ذاتي فلماذا لم تستطع عربُ اليمن الّذين كانوا
يمتلكون شيئاً كبيراً من الثقافة والحضارة ، والذين عاشوا الانظمة الملكية
سنيناً عديدة ، بل وربَّت في احضانها ملوكاً وقادة كباراً ، أن تصل إلى مثل هذه
النهضة العظيمة الشاملة ، وتقيم مثل هذه الحضارة العريضة الخالدة. لماذا
لم تستطع العربُ الغساسنَة الذين كانوا يجاورون بلادَ الشام المتحضرة ، ويعيشون
تحت ظلّ حضارة « الروم » أن يصلوا إلى هذه الدرجة من الرشد؟ لماذا لم تستطع عربُ الحيرَة الذينَ
كانُوا ـ وإلى الامس القريب ـ يعيشون في ظلّ الامبراطورية الفارسية أن ينالوا
مثل هذا الرقي والتقدم؟ وحتّى لووصلوا إلى هذه الدرجة من التقدم وحققوا هذه
القفزة فانه لم يكن أمراً يثير العجب لأنهم كانوا يعيشون في أحضان مدنيات كبرى ،
ويتغذون منها ، ولكن الّذي يثير الدهشة ، والعجب هو أن تستطيع عرب الحجاز من تحقيق
هذه النهضة الباهرة ، ويرثوا الحضارة الإسلامية العظمى وهم الذين كانوا يفتقرون
إلى أبسط مقوّمات الحضارة الذاتية ، ولم يكن لهم عهدٌ بأيَّ تاريخ حضاريّ مشرق ،
بل كانُوا كما عرفت يرزحون تحت أغلال الوَهْم والتخَيُّل ، ويسيرون في ظلمات
الخرافات والأساطير. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
دُوَل
الحيرة وغسّان :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
على العموم كانت
المناطقُ ذاتُ المناخ الجيّد من الجزيرة العربية حتّى آخر قرن قبل الإسلام تحت
سيطرة ثلاث دول كبرى هي : « ايران » ، « الروم » ، « والحبشة ». فالشرق والشمال الشرقي
من هذه المنطقة كانت تحت حماية « ايران ». والشمال الغربي كان
تابعاً للروم. والمناطق المركزية
والجنوب كانت تحت نفوذ « الحبشة ». وعلى أثر مجاورة هذه المناطق للدول
المتحضّرة المذكورة ، وما كان بينها من نزاع وتنافس دائمين ظهرَت في المناطق
الحدودية للجزيرة العربية دول شبه متحضرة ، وشبه مستقلة كان كلُ واحدة منها تابعة
في حضاراتها لدولة متمدنة عظمى تجاورها. وقد كانت دول « غسان »
، و « الحيرة » « وكنده » من هذه الدول شبه المستقلة وشبه المتمدنة ، وكانت كلُ
واحدة منها تابعة لاحدى الدول العظمى آنذاك : « ايران » ، « الروم » ، « الحبشة
». الحيرة
: يتبيَّن من الآثار والأخبار أنه
هاجرت ـ في أوائل القرن الثالث بعد الميلاد ـ بعضُ الطوائف العربية ، وذلك في
نهايات الحكم الأشكناني ، إلى الأراضي المجاورة للفرات ، وسيطروا على قسم من
أراضي العراق ، وقد أوجدت هذه الجماعةُ المهاجرةُ القرى والقلاع هناك ، شيئاً
فشيئاً ، وأحدثت المدنَ الّتي مِن أهمّها : « الحيرة » الّتي كانت تقعُ على حافة
صحراء بالقرب مِن مدينة الكوفة الحالية. وقد كانت هذه المدينة ـ وكما يظهر من
إسمها ـ في بداية أمرها قلعة ( لأن الحيرة
تعني في اللغة السريانية : الدير وما يشبهه ) يسكنها
العرب ثم تطورت شيئاً فشيئاً إلى مدينة. وقد ساعد مناخها الجميل ، والمياهُ
الوافرة الّتي تأتي اليها من الفرات ، وجودة الأحوال الطبيعية الاُخرى إلى أن
تجتذب اليها أصحاب الصحراء ، وسكان البوادي ، والقفار ، كما واستطاعت هذه
المدينة وبفضل مجاورتها للحضارة الفارسية إن تكتسب من ثقافتها ومدنيتها ما أفاض
عليها لوناً من الحضارة والمدنية ، وقد
بُنيت
بالقرب من « الحيرة » قصورٌ مثل « الخورنق »
الّذي اضاف إلى هذه المدينة جمالا وبهاء خاصّين ، وقد تعرَّف العربُ الساكنون في
هذه المنطقة على الخط والكتابة ، ويمكن ان تكون الكتابة والقراءة قد سرتا منها
إلى بقية مناطق الحجاز ومُدُنها (فتوح البلدان للبلاذري : ص 457.).
ولقد كان ملوك «
الحيرة » وأمرأوها من اللخميين العرب يؤيّدون من قِبَل الدولة الإيرانية بقوة ،
وسبب هذا التأييد ، والحماية الايرانية لاُمراء الحيرة وملوكها كان يكمن في أن
ملوك إيران ـ آنذاك ـ كانوا يُريدون أن تكونَ الحيرة سَدّاً ، وحاجزاً بينهم
وبين عرب البادية ، يدفعون بهم خطرَ الغزاة من أهل الصحارى على الحدود
الإيرانية. ولقد سجَّلَ التاريخُ
أسماء هؤلاء الاُمراء ؛ وقد نظم « حمزة الاصفهاني » فهرستاً بأسمائهم ، وجدولا
بأعمارهم ومُدد حكوماتهم ، ومن كان يعاصرهم من ملوك بني
ساسان الإيرانيين (سِنيِّ ملوك الأرض : ص 73 ـ 76.).
ومهما يكن الأمر فإن دولة اللخميين
العرب كانت من أكبر الحكومات العربية شبه المتحضرة في منطقة الحيرة ، وكان آخر
ملوك هذه السلسلة هو « النعمان بن المنذر » صاحب القصة التاريخية الّتي تتضمن خلعه
من الحكم ، وقتله بواسطة الملك الايراني : « خسرو برويز » (الأخبار الطوال : ص 109.). غَسّان
: في أوائل القرن الخامس أو اوائل
القرن السادس الميلادي هبط جماعة من المهاجرين اليمنيين في الشمال الغربي ـ أقصى
نقاط الجزيرة العربية ـ وفي جوار الإمبراطوريّة الروميّة ، وأسسوا دولة الغساسنة
، وقد كانت هذه الدولة تحت حماية الروم ، وكان مُلوكُها يُنصبون من جانب
إمبراطوريات « قسطنطينية » مباشرة ، تماماً كما كان مُلُوك « الحيرة » يُنصبون
من جانب ملوك ايران. ولقد كانت دولة الغساسنة متحضرة
نوعاما ، وحيث أن مراكز حكمها كانت قريبة من ناحية إلى « دمشق » ومجاورة ل : «
بُصرى » مركز القسم الرومي من الجزيرة العربية من ناحية اُخرى ، لذلك تأثرت
بحضارة الروم تأثراً كبيراً وبالغاً. ولقد كان الغساسنة
متحالفين مع الروميين بسبب ما كان بينهم وبين ملوك الحيرة
اللخميين العرب والايرانيين من الاختلاف والنزاع ، ولقد حكم في دولة الغساسنة تسعة أو عشرة من الاُمراء والملوك
تباعاً. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الدين في أرض الحجاز :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد كان الدينُ الرائج
في الحجاز هو الوثنية ، وعبادة الاصنام. نعم كانت هناك أقليّات
دينية يهودية تقطن في يثرب ( المدينة فيما بعد ) وخيبر
، كما انه كان هناك من يتبع المسيحية وهم
سكّان نجران ، البلد الحدودي لليمن والحجاز. وكان الدين الرائج في
المناطق الشمالية من الحجاز ( إي الشام حالياً ) هو المسيحية
بسبب مجاورة هذه المناطق للروم وخوضعها للسيادة الرومية. ولو أننا استثنينا من
الحجاز هذه المناطق الحساسة الثلاث لما وجدنا في بقية مناطق الحجاز إلاّ الوثنية
في أشكال مختلفة ، واعتقادات متنوعة ، اللّهم إلاّ بضع
افراد كان عددهم لا يتجاوز عدد أصابع اليد ممن يُسمّون بالاحناف كانوا على دين
التوحيد ، وكان عددهم بالنسبة إلى الاكثرية الساحقة من العرب الوثنيين قليلا
جدّاً (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 122 و 123.).
فمنذ زمن النبي «
إبراهيم » الخليل وابنه « اسماعيل » عليهماالسلام دخل التوحيد ، ودخلت بعض التعاليم
الأخلاقية والدينية إلى أرض الحجاز ، وكان الحج
وأداء مناسكه إحتراماً للكعبة الشريفة هو أحدُ هذه التعاليم والسنن الّتي دخلت
مع « الخليل » إلى هذه المنطقة ، ثم إن رجلا من قبيلة « خزاعة » يسمى « عمرو بن
لحي » الّذي كانت زعامة مكة قد عهدت إليه ، أدخل عبادة الاوثان في مكة في ما بعد
، وذلك عندما سافر هذا الخزاعي إلى بلاد الشام فوجد قوماً من العمالقة يعكفون
على تماثيل جميلة النقش والمنظر يعبدونها ، ويؤلّهونها ، فقال لهم : ما هذه
الأصنام الّتي اراكُم تعبدون؟؟ قالوا له : هذه اصنامٌ نعبدها فنستمطرها فتمطرنا
، ونستنصرها فتنصرنا ، فقال لهم : أفلا تعطونني منها صنماً فاسير به إلى ارض
العرب فيعبدوه؟؟ فأعطوه صنماً ، وهكذا استحب عملهم ، وجلب معه إلى مكة صنماً
جميلُ النقش والنحت يدعى « هُبَل » فنصبه ودعا الناس إلى عبادته ، وتعظيمه. وهكذا دخلت الوثنية إلى « مكة »
المكرمة ، واصبحت عبادة الاوثان والاصنام عبادة رائجة في تلك الديار (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 78 ـ 81 ، والعمالقة هم طائفة من العرب
عاشوا وسادوا ثمّ بادوا قبل الإسلام.).
واشهر اصنام العرب هي
: 1 ـ هبل وكانت أعظم
اصنام العرب الّتي في جوف الكعبة. 2 ـ اساف. 3 ـ نائلة وكانت هي
واساف على موضع زمزم ينحرون عندهما. 4 ـ اللات وكانت لثقيف
بالطائف. 5 ـ العُزّى وكانت
بنخلة الشامية ، وكانت لقريش وبني كنانة. 6 ـ منات وكانت للاوس
والخزرج ومن ذهب مذهبهم من أهل يثرب. 7 ـ عميانس وكان بأرض
خولان يقسمون له من أنعامهم وحروثهم. 8 ـ سعد. 9 ـ ذوالخلصة وكانت
لدوس وخثعم وبجيلة. 10 ـ مناف
(راجع الأصنام للكلبي ، والمحبر : ص 315 ـ 319.).
ولقد كانت هذه هي أشهر أصنام العرب
علاوة على الأَصنام الاُخرى غير المعروفة الّتي كانت تختصُّ بطائفة دونَ اُخرى ،
أو بعائلة دون عائلة. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
العلم
والثقافة في الحجاز :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
كان أهلُ الحجاز
يوصَفون بالاُميّين ، والاُميّ هو من لم يتعلم القراءة والكتابة فهو كمن ولدتهُ اُمُه
، أو هو باق في عَدم العلم بالقراءة والكتابة على الحالة الّتي وُلد فيها من
اُمه. ولأجل أن نعرف مدى ما كان عليه
العلمُ والثقافة عند العرب من القيمة يكفي
أن نعلم بأن عدد الذين كانوا يعرفون القراءة والكتابة بين قريش إلى ما قبل ظهور
الإسلام لم يكن يتجاوز ( 17 ) شخصاً في مكة و ( 11 ) نفراً فقط
من بين الأوس والخزرج في المدينة (فتوح البلدان : ص 457 ـ 459.).
إذا لاحظنا هذا التخلف
والانحطاط في مجال العلم والثقافة في البيئة العربية الجاهلية يتضح لنا مدى
تأثير الإسلام ، وادركنا عظمة التعاليم الإسلامية في
جميع الحقول الاعتقادية والاقتصادية والأخلاقية والثقافية ، ولابدّ في تقييم
الحضارات أن نطالع وندرس الحلقة السابقة ، ثم نقيم الحلقة التالية في ضوء ذلك ،
وفي هذه الصورة نقف على عظمة تلك الحضارة الحقيقية (للوقوف على معلومات أوسع واكثر حول عقائد مختلف طوائف المجتمع العربي
الجاهلي ، وثقافتها وتقاليدها راجع الكتابين التاليين : ألف : « بلوغ الارب في معرفة أحوال
العرب » تأليف السيد
محمود الآلوسي المتوفى عام 1270 هجري قمري. باء : « المفصَّل في تاريخ
العرب قبل الإسلام » تأليف الاُستاذ جواد علي ، وهذا الكتاب اُخرجَ في ( 10 )
مجلدات ، وقد بُحثَ فيها كل ما يرتبط بحياة العرب في العهد الجاهلي.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الإمام عليّ يصف
العهد الجاهليّ :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وقد وصف الإمامُ عليّ
أميرُ المؤمنين عليهالسلام
تلك الحالة في خطبه ، وحيث أنه عاصر ذروة ذلك الوضع
المأساوي ووصفه وصفاً دقيقاً لذلك ينبغي أنْ نقف عند كلامه قليلا ليتبين لنا
جيداً ما كان عليه العربُ إبّان عهد الرسالة الإسلامية المباركة : قال عليهالسلام في الخطبة ( الثانية ) من نهج البلاغة : « ... وأشْهَدُ أنَّ مُحمَّداً
عَبدَهُ وَرَسوله أرْسَلَهُ بالدينِ المَشْهُور والعِلَم الماثور والكِتاب
المَسْطُور والنُّور الساطِع ، والضِياء اللامع ، والأمر الصادع إزاحة للشُبهات
واحتجاجاً بالبَّيِنات وَتَحْذيراً بالآيات ، وتَخْويفاً بالمُثلات (1)
والناسُ في فتن انْجَذَم (2)
فيها حَبْلُ الدِّينِ ، وتزَعْزَعتْ سَواري (3)
اليَقْينِ واْختَلَفَ النَجْرُ (4)
، وتَشتَّتَ الأمرُ وَضاقَ الَمخْرَجُ ، وعَمِيَ المَصْدَرُ فالهُدى خامِلٌ ،
والعَمى شامِلٌ ، عُصِيَ الرَّحْمانُ ونصِرَ الشَيْطانُ وَخُذِلَ الإيْمانُ
فَانْهارَت دَعائِمهُ ، وتَنكَّرَتْ مَعالِمُهُ وَدَرَست (5)
سُبُلُه وعَفَت شُركه (6)
أطاعُوا الشَيْطانَ فَسلكُوا مسالِكه ، وورَدُوا مناهِلَه (7)
بِهِمْ سارتْ أعلامُه ، وقامَ لِواؤُهْ في فِتَن داستْهُمْ بأَخْفافِها (8)
ووَطئَتْهُمْ بِأَظْلافِها (9)
وقامَتْ عَلى سَنابِكِها (10)
فَهُمْ فيها تئهون حائرُونَ جاهِلُونَ مَفْتُونُونَ في خَيْر دار وَشَرِّ
جِيْران نُومُهُمْ سُهُودٌ وَكُحْلُهمْ دُمُوعٌ بأَرْض عالِمُهْا مُلْجَمٌ
وجاهِلُها مُكرَمٌ. وقال في الخطبة ( التاسعة
والثمانين ) أيضاً : « أرْسَلَهُ صلىاللهعليهوآلهوسلم
عَلى حِين فَتْرَة مِنَ الرُّسُلِ وَطُول هَجْعة من الاُمَم واعْتزام (11)
مِنَ الفِتَن وانْتِشار مِن الاُمور وَتلظٍّ (12)
مِنَ الحرُوب والدُّنْيا
كاسِفَةُ النُّور ظاهِرَةُ الغُرُور
عَلى حينِ اْصفِرار مِنَ وَرَقها وأَياس مِنْ ثَمَرها واغْورار (1)
مِنْ مائها قَد دَرَسَت مَنارُ الْهُدى وَظَهَرَتْ أَعلامُ الرَّدى فَهِيَ
مُتَجَهِّمَة (2)
لأهْلِها عابِسةٌ فيْ وَجْه طالِبها ثَمَرُها الفِتْنَةِ وَطَعامُها الجيْفَةُ (3)
وشعارُها الخوفُ وَدثارُها السَيْفُ ». وَقالَ في الخطبة ( السادسة والعشرين
) : « إنَّ اللّه بَعَث مُحمَّداً صلىاللهعليهوآلهوسلم
نَذيراً لِلعالَمِين وأمِيْناً عَلى التَّنْزيْل وَانتُم مَعشَر العَرَب عَلى
شَرِّ دين وَفي شَرِّ دار مُنِيخُونَ (4)
بَيْنَ حِجارَة خَشِن (5)
وحَيّات صُمٍّ (6)
تَشربُونَ الكَدِرَ وَتَأَكُلُونَ الجَشِبَ (7)
وَتَسْفِكُونَ دِماءكُمْ وتقطعُونَ أَرْحامَكُمْ الاْصنامُ فيكُم مَنْصوبَة
وَالآثامُ بِكُمْ مَعْصُوبَة (8)
». وقال عليهالسلام في الخطبة ( الثالثة والثلاثين ) :
« إنَّ اللّه بعثَ مُحمَّداً صلىاللهعليهوآلهوسلم
ولَيسَ اَحدٌ مِنَ العَرب يقراُ كِتاباً ولا يدّعي نُبوة فساق الناس حتّى
بوَّأَهُمْ محلَّتهُمْ (9)
وَبلَّغهُمْ مَنجاتَهُمْ فَاستقامَتْ قَناتُهُمْ (10)
واطمأَنَّت صفاتُهُمْ ». وقال في الخطبة ( الخامسة
والتسعين ) أيضاً : « ... بَعَثَهُ صلىاللهعليهوآلهوسلم
والنّاسُ ضُلالٌ في حَيْرَة وَحاطِبُونَ في فِتْنَة قَد اسْتَهْوَتْهُمْ
الأَهْواء وَاسْتَزَلَّتْهُمْ الْكِبْرياء وَاسْتَخَفَّتْهُمْ (11)
الجاهِليَّةُ الجَهْلاء حُيارى في زلْزال مِنَ الأَمْر وَبَلاء مِنَ الْجَهْلِ
فَبالَغَ صلىاللهعليهوآلهوسلم
في النَّصِيْحَةِ وَمَضى عَلى الطَّريْقَةِ وَدَعا إلى الْحِكْمَةِ
وَالْمَوعِظَةِ الْحَسَنَةِ ». وقال عليهالسلام : في الخطبة ( السادسة والتسعين ) أيضاً :
« ... مُسْتَقَرُّهُ خَيْرُ
مُسْتَقَرٍّ وَمَنْبَتُهُ أشْرَفُ مَنْبَت في مَعادِنِ الْكَرامَة وَمَماهِدِ (12)
السَّلامَةِ قَدْ صُرفَتْ نَحْوَهُ أَفْئدةُ الأَبرار وَثُنِّيَتْ إلَيْهِ
أزمَّةِ الأَبْصار دَفَنَ __________________ 1 ـ اغورار الماء : ذهابه.
2 ـ تجهّمه : استقبله بوجه
كريه. 3 ـ إشارة إلى أكل العرب
للميتة من شدة الاضطرار. 4 ـ منيخون : مقيمون. 5 ـ الخُشّن : جمع خشناء
من الخشونة. 6 ـ الُصمّ : الّتي لا
تسمع لعدم انزجارها بالاصوات. 7 ـ الجشِب : الطعام
الغليظ. 8 ـ معصوبة : مشدودة. 9 ـ بَوّأهم محلَّهُمْ :
أنزلَهم منزلتهم. 10 ـ القناة : العود كناية
عن القوة. 11 ـ استخفتّهم :
طيّشَتْهُمْ. 12 ـ الممهَد : ما يُبسَط
فيه الفراش. اللّه بِهِ الضَّغائِنَ وَأطْفأَ
بِهِ الثَّوائرَ (1)
أَلَّف بِه إخْواناً وَفَرَّقَ بِهِ أقْراناً اَعزَّ بِهِ الذّلة وَأَذَلِّ بِهِ
الْعِزَّة كَلامُهُ بَيانٌ وَصَمْتُهُ لِسان ». وقال عليهالسلام في الخطبة (151) أيضاً : « ... أضاءتْ بِه صلىاللهعليهوآلهوسلم
البلاد بَعْدَ الضَّلالَةِ المُظْلِمَةِ والْجهالَةِ الغالِبَةِ والْجَفْوَة
الْجافِيَةِ وَالنّاسُ يسْتَحِلُّونَ الْحَريمَ وَيَسْتَذِلُّونَ الْحَكِيْمَ
يَحْيونَ عَلى فَتْرَة (2)
وَيَمُوتُونَ عَلى كَفْرّة ». وقال في الخطبة (198) : « .. ثُمَّ إنَّ اللّه سُبْحانَهُ
بَعَثَ مُحَمَّداً صلىاللهعليهوآلهوسلم
بِالْحَقِّ حِيْن دَنا مِنَ الدُّنْيا الإنْقِطاعُ وَأقْبَلَ مِنَ الاخِرَة
الإطّلاع (3)
وَاَظْلَمَتْ بَهْجَتُها بَعْدَ إشْراق وَقامَتْ بأهْلِها عَلى ساق وَخَشُنَ
مِنها مِهادٌ (4)
وَأَزفَ (5)
منها قيادٌ في انْقِطاع مِنْ مدّتها وَاقْتِراب مِنْ أَشْراطِها (6)
وَتَصَرُّم (7)
مِنْ أَهْلِها وانْفِصام (8)
مِنْ حَلْقَتِها وَانْتِشار (9)
مِنْ سببها وَعَفاء (10)
مِنْ أعْلامِها وَتَكَشُّف مِنْ عَوْراتِها وَقِصَر مِنْ طُولِها ». وقال عليهالسلام في الخطبة (213) : « اَرْسَلَهُ بِالضِّياء وَقَدَّمَهُ
في الاْصْطِفاء فَرتَقِّ (11)
به المَفاتِقَ (12)
وَساوَرَ (13)
بِه المُغالِبَ وَذَلَّلَ بِه الصُّعُوبَة وَسَهِّل بِهِ الحُزُونَةَ (14)
حَتّى سَرَّحَ الضَّلالَ عَنْ يمين وَشِمال ». وقال في الخطبة (191) : « وَاشهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً
عَبْدُهُ وَرَسُولُه ابْتَعَيْه وَالنّاسُ يَضربُون في غَمْرة (15)
وَيَمُوجُونَ في حَيْرَة قَدْ قادَتْهُمْ أزمَّةُ الحَيْنِ (16)
وَاستَغْلَقَتْ عَلى أَفْئدَتِهِمْ أقْفالُ الرَّيْنِ » (17).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
فاطمة الزهراء تصف الوضع
الجاهلي :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وقد وصفت السيّدة فاطمة الزهراء بنتُ
رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
العهدَ الجاهلي بمثلِ ذلك إذ قالت في خطبتها أمام أبي بكر والمسلمين (1)
: « فَبَلَّغَ ( اي رسولُ اللّه )
بالرِّسالة صادِعاً بالنَّذارة (2)
مائلا عَلى مَدْرَجَةِ المُشْركيْن ضارباً ثَبَجَهُمْ (3)
آخِذاً بأَكْظامِهمْ داعِياً إلى سَبِيْل رَبِّه بِالحِكْمَةِ وَالْمَوْعظَةِ
الْحَسَنَةِ يَكْسِرُ الاَْصْنامَ وينْكُثُ الهامَ (4)
حتّى انْهَزَمَ الجَمْعُ وَوَلُّوا الدُّبُر حَتى تَفَرّى الليلُ عَنْ صُبْحِهِ
وَاَسْفَرَ الحَقُ عَنْ محْظِهِ (5)
وَنَطَقَ زَعيمُ الدين وَخَرستْ شَقاشقُ (6)
الشَّياطين وأطاحَ وَشِيظُ (7)
النَّفاقِ وانَّحَلَّتْ عُقَدُ الْكُفْر والشِّقاقِ وَفُهْتُمْ بِكَلِمَةِ
الاخْلاص في نفَر مِنَ البيض الْخِماص وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَة مِنَ النّار
مُذْقَةَ (8)
الشّارب وَنُهْزَة (9)
الطامِع وقَبْسَةِ العِجْلان (10)
وَمَوطىءَ الأَقْدامِ تَشْرَبُونَ الطَرقَ (11).
وَتَقْتاتُونَ القِدَّ (12)
وَالوَرق أذِلَّةً خاسِئينَ تَخافُونَ اَنْ يَتخَطَّفَكُم النّاسُ مِنْ
حَوْلِكُمْ فَأَنْقَذكُمُ اللّه تَعالى بِمُحَمَّد بَعْدَ اللُّتَيّا وَالَّتي
بَعْدَ أن مُنِيَ بِبُهْم (13)
الرجال وَذُؤبانِ الْعَرَب وَمَرَدة أهْلِ الْكِتاب (14)
كُلَّما أوْقَدُوا ناراً لِلْحَرب أطْفأَها اللّه ، أوْ نجَمَ (15)
قَرْنُ الشَّيْطانِ أوْ فَغرَتْ (16)
فاغِرَةً مِنَ الْمُشركيْن ، قَذَفَ أخاهُ في لَهواتِها (17)
فَلا يَنْكَفِئُ (18)
حَتّى يَطَأ صِماخَها بَأخْمصِهِ ». __________________
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
جعفر بن ابي طالب
يصف العهد الجاهلي :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ويشهد بذلك أيضاً ما
قاله جعفر بن أبي طالب عند النجاشي ملك الحبشة عندما اراد مَبعوثاً قريش
استعادتَهما إلى مكة : أيّها الملك ، كُنّا قوماً أهلَ
جاهِليَّة ، نعبدُ الاصنام ، ونأكلُ الميتة ، ونأتي الفواحِشَ ، ونقطعُ الأرْحام
، ونسيء الجوارِ ويأكلُ القويُ مِنّا الضعيف ، فكنّا على ذلك ، حتّى بعث اللّه
إلينا رسولا منّا نعرف نسبَه وصدقَه وأمانَتَه وعفافَه ، فدعانا إلى اللّه
لنوحِّده ونعبده ، ونخلعُ ما كنّا نعبدُ نحنُ وآباؤنا من دونه من الحجارة
والأوثان وأمرَنا بصدق الحديث وأداء الأمانة ، وصلة الرحم ، وحُسْنِ الجوار ،
والكفِّ عن المحارم والدّماء ، ونَهانا عنِ الفَواحِش وقول الزُور ، وأكل مالِ
اليَتيمِ ، وقذفِ المحصَناتِ ، وأمَرنا أنْ نَعبُدَ اللّه وَحدَهُ لا نشركُ بِهِ
شيئاً ، وأمَرَنا بالصّلاةِ والزّكاةِ والصِيام قالت : فعدّد عليه امور الإسلام
حتّى قال : وصدّقناهُ ، واَمَنّا به واتَّبْعناهُ على ما جاء به من اللّه فعبدنا
اللّه وحدَه فلم نشرك به شيئاً وحرَّمنا ما حرّمَ عَلَيْنا وأحللنا ما أحلَّ لنا
، فَعدا علينا قومَنا فَعذَّبُونا وفتنونا عن ديننا ليردُّونا إلى عبادة
الأَوثان مِنْ عِبادَة اللّه تعالى ، وأنْ نَسْتَحِلَّ ما كنا نَستحِلَّ من
الخَبائث (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 335 و 336. والحديث عن اُمّ سلمة.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
3
إمبراطوريّتا الرُوم وإيران
إبّان عهدِ الرِّسالةِ
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
للوقوف على أهمية النهضة الإسلامية
المباركة الّتي تحققت على يدي النبيّ الاكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم
بعد ارساله من جانب اللّه تعالى وقيمتها ، تكتسبُ دراسة بيئتين إجتماعيّتين
اهمية قصوى ، وتانِك البيئتان هما :
1 ـ بيئةُ نزول القرآن
الكريم ، أي البيئة الّتي ظهر فيها الإسلامُ ، وترعرع
ونمى. 2 ـ البيئة العالمية (
خارج الجزيرة العربية ) ، ويعرف ذلك بدراسة عقائد الناس
وافكارهم في اكثر مناطق العالم ـ يومَذاكَ ـ مدنية وحضارة ، ومطالعة آدابهم
وأخلاقهم وتقاليدهم ، وأعرافهم ، ومدنيّاتهم الّتي كانت تعتبرُ أفضل الأفكار والمدنيّات
، وأرقى الحضارات ، والأوضاع آنذاك. ولقد كانت بيئتا : الامبراطورية
الرومانية ، والإمبراطورية الإيرانية ألمع نقطة في ذلك اليوم ـ كما يدلنا
التاريخ على ذلك. ولابدَّ أستكمالا لهذا البحث من دراسة الأَوضاع في هاتين
الإمبراطوريتين ، في مناطقها ، ومن نواحيها المختلفة ، لنقف من هذا الطريق على
قيمة الحضارة الّتي اتى بها الإسلام ، ونعرف ذلك بوجه أفضل. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أوضاع الروم إبّان عهد الرسالة :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ان أوضاع الروم لم تكن بأقل سوءً من
أوضاع منافستها « ايران » فالحروب الداخلية من جانب والمعارك الخارجية المستمرة
مع « ايران » وصراعها الدائم المستمر مع الاخيرة على منطقة « ارمينية » وغيرها
كل ذلك كان يهيء الناس في تلك البلاد للقبول بثورة جديدة يضع حداً لمآسيهم
ومحنهم. ولقد كان للاختلافات والمنازعات
الطائفية والمذهبية النصيب الاكبر والأَوفر في توسيع رقعة هذه الاختلافات ،
والمنازعات. فالحربُ لم تتوقَفْ
أبداً بين الوثنيين والمسيحيين ولم تنطفئ شرارتها يوماً ابداً. فكان إذا غَلَب رجالُ الكنيسة على
دست الحكم وأخذوا بمقاليده مارسوا أشدّ أنواع الضغط والأضطهاد بحقِّ خصومهم
ومنافسيهم الأمر الّذي كان يساعد على إيجاد أقلية ناقمة من جهة ، كما ويمكن
اعتبار ذلك عاملا مساعداً من جهة اُخرى على تهيئة الشعب الروماني لاحتضان الدعوة
الإسلامية ، وتقبلها. لقد كان حرمانُ طوائف كثيرة ومختلفة
ناشئاً من ممارسات رجال الكنيسة الخشنة ومواقفهم المتزمتة. هذا مضافاً إلى أن اختلاف القساوسة
والرهبان النصارى فيما بينهم من جهة ، وتعدّد المذاهب من جهة اخرى كان يعمل على
التقليل من هيبة الامبراطورية الرومانية وجرّها إلى الضعف والوهن المتزايد يوماً
بعد يوم. هذا بغضّ النظر عن أنَ البيض والصُفر
من سُكّان الشمال والمشرق كانوا يفكّرون في السيطرة على المناطق الغنية من اُوربة
، وربما ألحق أحدُهما بالآخر خسائر فادحة وباهضة في الصرعات والمصادمات الّتي
كانت تقع بينهما. وكان هذا هو نفسُه السبب في أن تنقسم الامبراطوريةُ الرومية
إلى معسكرين : المعسكر ( أو القسم
الشرقي ) والمعسكر ( أو القسم الغربي ). ويعتقد المؤرخون أن
أوضاع الروم السياسية ، والاجتماعية والاقتصادية في القرن السادس كانت مضطربة ،
ومتدهورة جداً ، حتّى أنهم لا يرون في غلبة إن هاتين الدولتين
اللتين كانتا تتربَّعان على عرش السيادة والسياسة العالمية في مطلع ظهور الإسلام
كانتا
تعيشان حالة سيئة من الفوضى ، والهرج والمرج ، ومن البديهيّ أنَّ مثل هذه
الأَوضاع كان من شأنها أن توجد حالة من التهيّؤ الكبير والظمأ الشديد إلى دين
صحيح يضع حَدّاً ونهاية لتلك الحالة ، ويعيد تنظيم حياتهم. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ظاهرة الجدل العقيم
في المجتمع الرومي :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
المتعارف أن يعمد جماعةُ مِنَ
البطّالين والفسقة إلى طرح سلسلة من القضايا والمسائل الخاوية والنقاش حولها
بهدف التوصُّل إلى أغراض فاسدة ، فيستهلكون بذلك أوقات الناس ، ويهدرون أعمارهم
على منحر الجدل العقيم. وهي حالة لها مصاديق كثيرة وشواهد
عديدة في كثير من بلاد المشرق ، ولسنا بصدد التوسّع فيه فعلا. وقد كانت « الروم » تعاني يومئذ من
مثل هذه الحالة اكثر من اي مكان آخر. فقد كان ملوك الروم ورجال الحكم والسياسة
تبعاً لمذاهب دينية كنسيّة يعتقدون بأن المسيح ذو طبيعتين ومشيئتين ، ولكن طائفة
اُخرى من النصارى وهم « اليعقوبية » كانوا يقولون بانه : ذو طبيعة ومشيئة واحدة.
وقد وجهت هذه المسألة الباطلة نفسها
، والجدل الواهي حولها ضربة شديدة إلى وحدة الروم ومن ثم استقلالها ، واحدثت في
صفوفها انشقاقاً عميقاً حيث كانت السلطات الحاكمة تضطر إلى الدفاع عن معتقداتها
، ولذلك كانت تضطهد معارضيها ، وتلاحقهم وهذا الاضطهادُ والضغطُ الروحيّ سبَّب
في لجوء البعض إلى الدولة الايرانية ، كما كان هؤلاء همُ الذين تركوا المقاومة
عند مواجهة الجيش الإسلامي ، وألقوا
السلاح ، واستقبلوا جنود الإسلام بالاحضان. كانت الرومُ تمرُّ
آنذاك بظروف اشبه ما تكون بظروف القرون الاُوربية الوسطى الّتي ينقل عنها «
فلاماريون » الفلكيّ الشهير القضايا التالية الّتي تدل على المستوى الفكريّ
والثقافيّ لاُورُبة في القرون الوسطى : لقد كان كتابُ « المجموعة اللاهوتية
» المظهر الكامل للفلسفة المدرسية في القرون الوسطى ، وقد بقي هذا الكتاب
يُدرَّس في أوربة خلال أربعمائة سنة ككتاب رسمي ومعترف به. وقد كان من الأبحاث المطروحة في هذا
الكتاب البحث حول عدد الملائكة الّتي يمكنها ان تستقر على راس إبرَة؟! أو عدد
الفراسخ بين العين اليسرى والعين اليمنى للاب الخالد؟! إلى غير ذلك من القضايا
التافهة!! إن الامبراطورية الرومية السيئة الحظ
فيما كانت تعاني من الحروب الخارجية الكثيرة ، كانت تعاني كذلك من النزاعات
والاختلافات الداخلية ـ الّتي كانت ـ على الاغلب ـ تتصف بالصبغة المذهبية
والطائفية ـ وكانت تدفع بالبلاد إلى حافة الهاوية ، وتزيدها قربا إليها يوماً
بعد يوم. ولما رأى اليهود ( وهي
الزمرة الشريرة المتآمرة على الشعوب دائماً ) تصاعد
الاضطهاد والضغط الّذي يمارسه الامبراطور المسيحي الرومي خطّطت لاسقاط ذلك
النظام ، فاحتلت مدينة انطاكية ذات مرة ، ومثلت بأسقف أنطاكية الاكبر فصلموا
اُذنه ، وجدعوا أنفه ، فانتقمت حكومة الروم لهذه الجناية بعد مدة ، وقتلت اليهود
في انطاكية في مذبحة عامة. وقد تكرَّرت هذه الجرائم الفضيعة
وهذه المذابح ، والمذابح الانتقامية المضادة بين اليهود والنصارى عدة مرات ،
وربما سرت موجة الروح الانتقامية أحياناً إلى خارج البلاد ، فمثلا اشترى اليهود
من ايران ذات مرة ثمانين الف مسيحي ثم حزوا رؤوسهم انتقاماً وتشفياً. من هذا يستطيع القارئ
الكريم أن يقف على الصورة القاتمة للوضع السيء والمتردّي الّذي كان عليه العالم
إبان بزوغ شمس الإسلام ، ويذعن ـ مع لقد أبطل الإسلامُ جميع تلك
المجادلات العقيمة والمناقشات التافهة حول مشيئة عيسى وشخصيته ، وقال في نعته
ووصفه : « ما المَسِيحُ بنُ مريمَ إلاّ رسولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْله الرُّسُلُ
واُمَّه صِدِّيقةٌ كانا يأكُلان الطّعام » (المائدة : 75.).
إن هذه الآية انهت الكثير من أبحاث
رجال الكنيسة الباطلة الخاوية حول « الروح » و « المسيح » ودمه ، وشخصيته ،
وحقيقته ، كما ان الإسلام بفضل التعاليم الرفيعة ، واحياء السجايا والملكات
الفاضلة انقذ البشرية من المنازعات ، الفارغة ، والمذابح الفضيعة. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أوضاع
إيران إبان عَهد الرسالة :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إن ما دفعَنا إلى دراسة أوضاع
الإمبراطورية الرومية هو نفسه يحتم علينا أيضا دراسة اوضاع إيران يومذاك. لقد صادف ظهورُ
الإسلام وبعثة الرسول الكريم محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم ( 611 ميلادية ) عهد
السلطان الإيراني خسرو برويز ( 590 ـ 628 م ) ، وفي عهد
« خسرو برويز » هذا هاجر رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
من مكة إلى المدينة ( الجمعة 16 جولاي 622
)
، وصارت هذه الواقعة مبدء للتاريخ الإسلامي. في هذه الأَيام كانت
الدولتان العظيمتان (
الروم الشرقية وايران الساسانية ) تسيطران
على معظم مناطق العالم المتحضر ، ولم تزل هاتانَ الدولتان في نزاع مستمر وصراع
دائم على مناطق النفوذ حتّى بعد ظهور الإسلام. فقد بدأت حروب ايران
والروم الطويله من عهد السلطان الإيراني أنوشيروان ( 531 ـ 589 م ) واستمرَّت
إلى عهد الملك « خسرو برويز » واستغرقت اربعاً وعشرين
عاماً من الزمان (تاريخ علوم وادبيات در ايران ص 3 و 4 وايران در زمان ساسانيان ص 267
( باللغة الفارسية ).).
وقد سبَب تحمل « ايران
» و « الروم » للخسائر الكبرى ، في الارواح
والثروات خلال هذه المعارك الطويلة في إضعاف تينك الدولتين ، وتعطيل وشلّ قواهما
بحيث لم يبق منهما إلاّ شبحُ دولتين لا اكثر. ولكي نقف على الوضع العام في ايران
آنذاك من جهاته المختلفة ، وابعاده المتنوعة وبصورة أفضل ، يجب ان نلقي نظرة
فاحصة على وضع الحكومات الّتي توالت على سدة القيادة الايرانية بعد حكم «
انوشيروان » وحتّى بداية دخول المسلمين. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
البَذخ والتَرف في
البلاط الساساني :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
كانت حياة الملوك الساسانيين تتسم
عموماً بالبذخ والترف ، والتشريفات الطويلة العريضة ، وكان البلاطُ الساساني
الفخم جداً يخلب ببريقه ، بريق العيون ، ويسحر الافئدة والعقول. وكان للايرانيين في عهد الساسانيين
لواء يُعرف ب « درفش كاوياني » اي العلم الكاوياني نسبة إلى كاوه وهو بطل قومي
إيراني اُسطوري ، وقد كانوا يحملونه معهم في الحروب ، أو ينصبونه فوق قصورهم
اثناء إحتفالات الساسانيين الكبرى ، وقد كان هذا اللواء موشحاً ومزيناً بأغلى
أنواع المجوهرات بلغت قيمتها التقديرية ـ حسب قول بعض الكتاب : « 000 / 200 / 1
» درهماً ( أو ما يعادل 000 / 30 پوند ). وقد بلغت مجموعة المجوهرات والاشياء
الثمينة والتصاوير والرسوم المحيرة للعقول الّتي كانت تكتضُّ بها قصور
الساسانيين من حيث الاهمية والقيمة حداً سحرت العيون وخلبَت الالباب. ولو أننا أردنا أن نقف على عجائب ما
في تلك القصور ، وما كانت تحتوي عليه من غرائب الاشياء لكفانا أن نلقي نظرة
واحدة إلى السجّادة البيضاء والكبيرة التي كانت مفروشة في احدى صالات بعض تلك
القصور ، وهي السجّادة الّتي كانت تدعى بالفارسية ب « بهارستان كسرى » وهو بساط
كانوا يُعدوّنه للشتاء إذا ذهبت الرياحين ، فكانوا إذا أرادُوا الشرب وتعاطي
الخمر فرشوه ، وشربوا عليه فكأنهم في رياض وكان هذا البساط ستيناً في ستين أرضُه
بذهب ووشيُه بفصُوص ، وثمره بجوهر وورقه بحرير » (تاريخ الطبري ج 2 ، ص 130. وجاء في تاريخ الطبري :
كانت هذه السجّادة ستين ذراعاً في ستين ذراعاً ، بساطاً واحداً مقدار جريب فيه
طرق كالصور ، وفصوصٌ كالأنهار وخلال ذلك كالدَّير وفي حافاته كالأَرض المرزوعة
والأَرض المبقلة بالنبات في الربيع من الحرير على قضبان الذهب ، ونواره بالذَهب
والفضّة!!)!!
وقيل أيضاً أن هذا البساط كان مئة
وخمسين ذراعاً في سبعين ذراع وكان منسوجاً من خيوط الذهب والمجوهرات الغالية
جداً!! وقد كان « خسرو برويز
» أكثر الملوك الساسانيين ميلا إلى الترف ، والبذخ ، واتخاذ الزينة ، وقد بلَغَت
عددُ نسائه وجواريه عدة الآف. يقول حمزة الاصفهاني
في كتاب « سنيّ ملوك الارض » واصفاً حالة الترَف والبذخ
الّتي كان يعيشُها كسرى برويز : ثلاثة آلاف امرأة ، واثنا عشر. وجاء في تاريخ الطبري
: أن
« كسرى (سنيّ ملوك الارض والأنبياء : ص 420.)
برويز » كان قد جمع من الأموال ما لم يجمع أحدٌ من الملوك ، وكان أرغب الناسِ في
الجواهر والأواني (تاريخ الطبري : ج 1 ، ص 616.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الوضع الاجتماعي في
ايران :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لم يكن الوضعُ الإجتماعي في عهد
الساسانيين بأفضل من الوضع السياسي آنذاك أبداً ، فقد بلغ الاختلاف الطبقي الّذي
كان سائداً في ايران منذ زمن بعيد اشدَّه واقوى درجاته ، واسوء حالاته في العهد
الاختلاف الساساني. فطبقة النبلاء والكهنة
كانت تتميز على بقية الطبقات تميزاً كاملا ، فهم يختصون بجميع المناصب
الاجتماعية الحساسة والعليا ، بينما حُرم الكسبة والمزارعون
وبقية أبناء الشعب من كافة الحقوق الاجتماعية ، ولم يكن لهم من واجب ودور في
النظام إلا دفع الضرائب الثقيلة والمشاركة في الحروب. يكتب أحدُ الكتّاب
الإيرانيين وهو الاستاذ سعيد نفيسي في هذا الصعيد قائلا : ان ما كان يثير روح النفاق بين
الايرانيين اكثر هو سياسة التمايز الطبقي القاسي جداً الّذي كان الساسانيون
يتبعونها في التعامل مع الشعب ، وكان لها جذورٌ في العهود والحضارات السابقة ،
ولكنها بلغت ذورتها في العهد الساساني بالذات!! ففي الدرجة الاُولى
كان للعائلات السبع من النبلاء ، ثم للطبقات الخمس إمتيازاتٌ خاصة حُرمَتْ منها
عامة أبناء الشعب. فالملكية كانت محصورة ـ تقريباً في
تلك العائلات السبع مع العلم أن الشعب في العهد الساساني كان يقاربُ عدد نفوسه
مائة وأربعين مليوناً في حين لا يبلغ عددُ كل واحد من تلك العائلات الممتازة
والمتميّزة في شؤونها مائة ألف شخص ، فيكون مجموعُها سبع مائة ألف
(تاريخ اجتماعي ايران : ج 2 ، ص 6 ـ 24 ( باللغة الفارسية ).).
وإذا افترضنا أنَّ حراسَ الحدود وأمراءهم
والمُلاك الذين كانوا يتمتعون هم الآخرون بشيء من حق الملكية كان يبلغ عددهم
أيضاً سبع مائة ألف أيضاً فيكون حق التملك والمالكية حينئذ خاصاً بمليون ونصف من
مجموع مائة واربعين مليوناً ، فقد كانت تلك الزمرة القليلة هي الّتي تملك ، وأما
الآخرون وهم الاكثرية الساحقة فقد كانوا محرومين من هذا الحق الطبيعي الموهوب
لهم من جانب اللّه أساساً وأصلا. لقد كان الكسبة
والفلاحون الذين كانوا محرومين من جميع الحقوق ، والإمتيازات ولكنّهم كانوا
يتحمَّلون نفقات حياة البذخ والرفاهية الّتي كان يرفل فيها النُبلاء والأشراف
والطبقات العليا ، لا يأملون خيراً وراء استمرار هذه الاوضاع ، ودوامها ،
ولهذا كثيراً ما كان المزارعون والفلاحون والطبقات الدنيا من الشعب يغادرون
أعمالهم ، ومزارعهم ويلجأون إلى الأديرة فراراً من الضرائب الباهضة والاتاوات
القاصمة للظهور ، المبددة للثروات (ـ ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين : 70 و 71.).
يقول مؤلف كتاب « ايران في عهد
الملوك الساسانيين » (إيران في عهد الساسانيين : ص 424.).
إن حروب إيران ـ الروم
الطويلة بدأت من عهد حكومة الملك الإيراني انوشيروان ( 531 ـ 589 م ). وخلاصة القول
أنه كان في الامبراطورية الساسانية يملك أقلية صغيرة تقلّ نسبتُها عن 5 / 1 % (
واحد ونصف بالمائة ) من مجموع الشعب كل شيء بينما كان اكثر من ( 89 % ) من الشعب
الإيراني محرومين من حق الحياة تماماً كالعبيد. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
حَقٌّ التعلّم خاصُ
بالطبقات الممتازة!! :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
في العهد الساساني كان ابناء الاغنياء
والبيوتات الرفيعة هم وحدهم الذين يتمتعون بحق التعليم ، بينما كان عامة جماهير
الشعب ، والطبقات الوسطى والدنيا محرومين من تحصيل العلوم واكتسابها. وقد كانت هذه المنقصة بادية وواضحة
في عصور ايران التاريخية جداً بحيث ذكرها الشعراء الكبار في ملاحمهم ودواوينهم
الملكية المعروفة بالرغم من ان الهدف من تلك الملاحم والدواوين كان هو الحماسة ،
والتفاخر بالبُطولات وتجييش العواطف ، بعد مدح الملوك والامراء. فها هو « الفردوسي »
(راجع للتعرف السريع على شخصية هذا الشاعر : الموسوعة العربية الميسرة
: ص 1286.)
الشاعر الملحمي الفارسي المعروف ،
بل اشهر شعراء ايران قد ذكر في شاهنامته ( وهي الملحمة الشعرية الّتي يذكر فيها
أمجاد ملوك الفرس في قرابة ستين ألف بيت ) قصة في هذا الصدد تعتبر أفضل شاهد على
ما قلناه. وقد وقعت هذه القصة في
زمن « أنو شيروان » ، أي في الوقت الّذي كانت الامبراطورية
الساسانية تمرُّ فيه بعهدها الذهبي. وهذه القصة تشهد بأن
اكثرية الشعب في عهد هذا الملك أيضاً كانت محرومة من حق التعلم ، وممنوعة عن
اكتساب الثقافة. يقول الفردوسي : لقد
أبدى حذّاء استعداده لتحمّل نفقات الجيش الإيراني ـ في حربه مع الروم ـ بدفع ما
يحتاجون إليه من ذهب وفضة. ومع أن السلطة في عهد
« انوشيروان » كانت بحاجة ماسة إلى مساعدات مالية
كبيرة إذ كان يتعين عليها أن تجهز ما يقرب من ثلاثمائة الف مقاتل قد اصيبوا
بالمجاعة وقلة العتاد ، بحيث أدى ذلك إلى وقوع بعض الاعتراضات ، وإلى ظهور
الفوضى في الجنود ، ممّا أدى بدوره إلى قلق الملك الإيراني « أنوشيروان ». والتخوف من مضاعفات هذه الحالة ،
وآثاره السيئة في قتاله للروم ، ولذلك بادر إلى استدعاء وزيره المحنك « بزرجمهر
» للتشاور معه في المخلص من ذلك الوضع المحرج ، ثم امره بالتوجه إلى منطقة «
مازندران » وجمع الاموال اللازمة من سكانها. ولكن « بزرجمهر »
حذَّر الملك من مغبّة هذا العمل ، وأضاف بأن
هذا من شأنه أن يضاعف من الخطر ثم اقترح جمع الاموال اللازمة عن طريق القروض
الشعبية فاستحسن « انوشيروان » اقتراحه وأمره باتخاذ الترتيبات اللازمة على التو
فيرسل الوزير مندوبين له إلى المدن الإيرانية ليكلم التجار واصحاب الثروة في
الامر. فيبدى الحذّاء المذكور استعداده
لتحمل كل نفقات الجيش لوحده الاّ انه اشترط ذلك بان يسمحوا لولده الوحيد الراغب
في تحصيل العلم جداً ان يتعلم. فاستحقر الوزير شرطه ووعده بالانجاز
، والسماح لولده بالتعلم وتحصيل العلم ، ثم عرض الامر على الملك انوشيروان وهو
يأمل في ان يتجاوب الملك مع رغبة الحذّاء وطلبه الصغير إذا ما قيس بما سيعطيه من
اموال طائلة في تلك الاوضاع الحرجة. ولكن الملك استشاط غضباً لهذا الطلب
، ونهر الوزير قائلا : دع هذا ، ما أسوأ ما تطلبه ، ان هذا لا يمكن ان يكون ،
لان ابن الحذّاء بخروجه من وضعه الطبقي يهدم التقليد الطبقّي المتبع ، فينفرط
بذلك عقد الدولة ، ويكون ضرر هذا المال علينا اكثر من نفعه ، وشره اكثر من خيره.
ثم إنّ الفردوسي يعمد إلى شرح المنطق
الميكافيلي حكاية عن لسان انوشيروان إذ يقول
ناظما ذلك في ابيات (1)
: وإذا اصبح ابن الحذّاء عالماً كاتباً
عارفاً فعندما يجلس ولدنا على مسند الحكم والسلطنة واحتاج إلى كاتب ، فانه سيضطر
إلى الاستعانة بابن ذلك الحذّاء ـ الكاتب ـ ( وهو من عامة الشعب ومن ابناء
الطبقة الدنيا وفي حين جرت عادتنا إلى الآن على أن نستعين بابناء الاشراف
والنبلاء لا أبناء الطبقة الدنيا )!!! وإذا حصل ابن الحذّاء وبائع الاحذية
على العلم والمعرفة أعاره العلم والمعرفة حينئذ عيوناً بصيرة ، وآذاناً سميعة
فيرى حينئذ ما يجب أن لا يراه ، __________________ 1 ـ وإليك هذه الأبيات باللغة
الفارسية :
ويسمع ما يجب أن لا يسمعه ، وحينئذ
لا يبقى لأبناء الملوك إلا الحسرة والتأسف (راجع شاهنامه ( باللغة الفارسية ) وتاريخ اجتماعي ايران : ص 618.). وهكذا يعيد الملك دراهم الحذّاء
المسكين إليه رافضاً طلبه ويعود الحذاء خائباً وهو يتوسل بما يتوسل به
المستضعفون والمحرومون المظلومون وهو الدعاء والضراعة إلى اللّه في الليل وفي
هذا قال الفردوسي : عاد مبعوث الملك بدراهم الحذاء إليه فاصيب الحذاء لذلك بغمّ
شديد ثم لما جن الليل تضرع الحذاء إلى اللّه وشكا إليه الملك طالباً عدالته (2).
والعجيب هو أن يصف البعض هذا السلطان
بالعادل وهو الّذي لم يعالج أسوأ مشكلة في المجتمع الإيراني أيام حكمه وسلطانه
وهي المشكلة الثقافية ، بل تسبب في أن يصاب الشعبُ الإيراني بالمزيد من المشاكل
الاجتماعية وغيرها. فقد وأد ودفن في القبور احياء ما
يقرب من ثمانين الف انسان ( اومائة الف كما قيل ) في حادثة واحدة ، وهي فتنة مزدك
، حتّى أنه ظنَّ انه قد قضى على جذور تلك الفتنة وهو لا يعلم أنها لم تُستأصل
لأن مثل هذه الأساليب القمعية انما تقضي فقط على المسبَّب دون السبب وتكافح
المجرم لا الجرم. لقد كان السبب الحقيقي وراء تلك
الفتنة هو الظلم الاجتماعي ، والاختلاف الطبقيّ ، واحتكار الثروة ، والمنصب على
أيدي طبقة خاصّة وحرمان الاكثرية الساحقة من الشعب وغير ذلك من المفاسد وكان
عليه لو أراد الاصلاح أن يعالج هذه الاُمور ليأتي على المشكلة من أساسها ، ولكنه
بدل ذلك كان يريد ـ بالقهر والقمع وفي ظلّ الحراب والسياط ـ أن يظهر الناس
انفسهم بمظهر الراضي وعن السلطة ، الموافق على تصرفاتها ، وأحوالها وأوضاعها
السيئة!!! ومن هنا نعرف بطلان الحديث المرويّ
عن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
الّذي قال فيه : «
وُلدتُ في زمن الملك العادل » ويقصد به انوشيروان (راجع في هذا المجال : تذكرة الموضوعات لابن الجوزي ، اللئالي المصوغة
في الاحاديث الموضوعة للسيوطي ، وكذا مجمع الزوائد للهيثمي..
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
صفحةٌ سوداءٌ من
جرائم خسرو برويز :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن جرائم الملك خسرو برويز ومظالمه
المنكرة ما فعله بوزيره الشهير « بزرجمهر » الّذي خدم البلاط الشاهنشاهي
الايرانيّ ثلاثة عشر عاماً وكان ذلك موجباً لشهرته في البلاد وحسن صيته بين
الناس. فقد عَمَدَ هذا الملك إلى سجن الوزير
المذكور ، والنكاية به ، وقدكتب إلى الوزير المسجون رسالة يقول فيها : إنَّ
حظَّك مِنَ العلم والمعرفة أنه عرضك للقتل!! فاجابه « بزرجمهر »
بقوله : « فقد انتفعتُ بعلمي مادام قد حالفني الحظُ ،
وحيث عاكسني الآن ، فانّني اصبر وأنتفعُ بصبري ، فإذا فاتني فعلُ خير كثير فانني
سعيدٌ لأنَّني لم أرتكب كذلك شرّاً كثيراً وإذا ما سلبني منصب الوزارة فاني في
الوقت نفسه قد استرحت كذلك من غم الحيف بالناس ، فلا ابالي بما أنا فيه ». ولما بلغَت هذه الرسالة إلى الملك «
برويز » استشاط غضباً ، وأمر بقطع شفتي الوزير ، وجَدْع أنفه ، وعندما عرف
الوزيرُ بهذا الأمر الظالم قال : أجل أن شفتي تستحقان اكثر من هذا. فسأله خسرو برويز :
ولماذا؟ فقال : لأنهما وصفتاك عند العامة والخاصة بما لا تستحق من الأوصاف ،
واعطتاك ما ليس فيك من الخصال ، فامالتا اليك القلوب ، ورغَّبتا فيك النفوس ،
والافئدة ، وآشاعتا عنك أمجاداً لم تستحقها ، يا اسوأ الملوك وأظلم الحكام ،
تقتلني الآن بسوء الظن بعد أن كنت على يقين من وفائي ، وصدقي ، واخلاصي ،
وسلامتي ، فمن بعد هذا يأمل في عدلك ، ومن بعد هذا يثق بقولك؟! فازداد « خسرو برويز »
لسماع هذه الكلمات الساخنة غضباً على غضب ، وأمر من فوره بقتل الوزير ، فضرب
عنقه في التوّ (يذكر الفردوسي الشاعر الملحمي هذه القصة في شاهنامته المعروفة عند
ذكر وقائع انوشيروان اثناء حربه مع الروم ( ج 6 ، ص 257 ـ 260 ).).
وتلك هي معاملة ذلك الملك الموصوف
زوراً بالعادل مع اقرب مقربيه ، واكثر معاونيه إخلاصاً ، ووفاء له فكيف كانت
تُرى معاملته مع سائر أفراد الرعية وبقية أفراد الشعب؟؟ |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
حكم التاريخ في
الملوك الساسانيين :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد اتخذ الحكام الساسانيُّون في
عهودهم وحكوماتهم سياسة خشنة قاسية ، وقد أخضعوا الناس بسلطانهم بالسيف والعنف. كانوا يفرضون على الناس ضرائب ثقيلة
وأتاوات باهضة قاصمة للظهور ، ولهذا السبب كان عامة الشعب الايراني غير راضين
على حكمهم وسيرتهم ، ولكنهم خوفاً على نفوسهم ، ما كانوا يتمكنون من الاعلان من
استيائهم هذا بل لم يكن لأرباب الفكر والرأي والعارفين بالامور شأن ولا قيمة في
البلاط الشاهنشاهي. لقد بلغ الاستبدادي
لدى الحكام الساسانيين حداً لم يستطع معه أحدٌ من إظهار رأيه ، ولم يجرأ احد على
إبداء أية ملاحظة في شأن من الشؤون. لقد بلغت القوة بخسرو
برويز حداً عجيباً وصفه الثعالبي بقوله : قيل لخسرو برويز (
كسرى ) دعونا فلانا الوالي فتباطأ عن الامتثال ، فأمر
الملك من فوره قائلا ان كان يصعب عليه مجيئه ببدنه كله ، فاننا يكفينا شيء منه ،
فليؤتى براسه فحسب (ايران در عهد ساسانيان : ص 318.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الفوضى في الحكومة
الساسانية :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وممّا يجب ان لا نغفل عن ذكره هو ما
تعرضت له الحكومة الساسانية في اواخر عهدها من الفوضى الادراية ، وتفاقم الهرج
والمرج في جهازها الحكومي. فقد دبّ الصراع والنزاع ونشب التنافس
الحاد بين الامراء ، والاعيان وقاده الجيش في ذلك العهد وذهب كلُ فريق يختار
أميراً من أبناء العائلة المالكة ، ويقوم بتصفية الطائفة الاُخرى الّتي اختارت
أميراً آخر. وعندما فكّر العرب المسلمون في فتح
إيران كانت العائلة الساسانية المالكة قد بلغت ذروة الضَعف والانقسام. وممّا يدل على ذلك تعاقبُ ما يقرب من
(14)
ملكاً على مسند الحكم والسلطان خلال مدّة اربعة اعوام من مقتل الملك « خسرو
برويز » وجلوس شيرويه مجلسه وحتّى آخر ملك من ملوك بني ساسان. وهذا يعني أن حكومة إيران انتقلت
خلال مدة لا تتجاوز اربعة اعوام من يد إلى يد اُخرى ( 14 مرة )!! ومن الواضح ما
يلحق باية دولة ومملكة تتعرض ل (14)
انقلاب يُقتل فيه ملك ، ويحل محله ملك آخر في مثل هذه المدة القصيرة. فقد كان كلُ حاكم يتسلَّم زمام الحكم
ويستولي على عرش السلطان يعمد إلى قتل واغتيال كل من كان يطمع في العرش ، ولا
يتورع في سبيل إرساء قواعد حكمه من ارتكاب كل ما يراه ضرورياً ، فكان الأب يقتل
ابنه ، والابنُ يقتل أباه ، وربما يقتل الاخ إخوته ، والزوجة زوجها وهكذا ... فقد قتل
« شيرويه » أباه (الكامل في التاريخ : ج 1 ، ص 296.)
للحصول على مقعد الحكم والسلطان ، كما أباد اربعين
شخصاً من أبناء الملك « خسرو برويز » اي إخوته!! (تاريخ اجتماعي ايران : ج 2 ، ص 15 ـ 19.).
وكان « شهر براز »
يقتل كل من لا يثق به ، وقد أدّى هذا إلى أن يقضي على كل
أبناء سلالته من الامراء الساسانيين ممّن كان قد تسنَّم عرش السلطان والملوكية
قبله ، رجلا كان ذلك أم إمراة ، صغيراً كان ام كبيراً ، لكيلا يبقى في الوجود من
يطمع في السلطان أو يدّعيه!! وصفوة القول : أن
الفوضى السياسية بلغت في أواخر العهد الساساني حداً بحيث كانوا يجلسون فيه
الأطفال والصبيان والنساء على اريكة الحكم ، ثم يثورون عليهم ويقتلونهم بعد ايام
أو أشهر ويحلون محلَّهم أشخاصاً آخرين!! وعلى هذا فإن الدولة
الساسانية رغم قوتها الظاهرية كانت آخذة في الانحطاط والانحلال وسائرة نحو
التمزق والفناء. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الفوضى الدينية في
ايران الساسانيين :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد كان أهم عامل للفوضى الّتي كانت
تعاني منها الاوضاع في العهد الساساني هو الاختلاف في المعتقدات الدينية الّتي
كانت سائدة آنذاك. فحيث أن « اردشير بن
بابك » مؤسس السلسلة الساسانية كان ابن مؤبد ( وهو رجل دين زردشتي ) وقيّماً
على بيت نار وقد تمكن من السلطان بفضل الموابدة فانه اجتهد في الترويج لدين
آبائه في ايران. وفي عهد الساسانيين
كان الدين الرسمي والشائع في أوساط الشعب الإيراني هو الدين الزرادشتي ، ولما
كانت السلالة الساسانية قد توصلت إلى الحكم بواسطة الموابدة ـ كما أسلفنا ـ لذلك
كان الموابدة والقيمون على بيوت النار (
ونعني بهم رجال الدين الزرادشتي ) يحظون
بمكانة كبرى لدى البلاط الساساني إلى درجة أنهم أصبحوا يشكّلون في أواخر العهد
الساساني أقوى طبقة ، وأشد الاجنحة نفوذاً في المجتمع الإيراني آنذاك. ولقد كان الحكام
الساسانيّون دائماً ممَّن رشحهم للحكم الموابدة ورجال الدين الزردشتي المجوسي ،
ولذلك كان الحكام يأتمرون بأوامرهم ، ولو أن
أحداً منهم خالف الموابدة عارضوه أشدَّ المعارضة ، وسحبوا عنه تأييدهم ودَعْمهمْ
، ولهذا اجتهد الملوك الساسانيون في كسب رضا الموابدة ، والعناية بهم اكثر من
غيرهم من الطبقات ، وقد تسبَّبت عناية اُولئك الملوك بالموابدة وحمايتهم لهم في
تزايد وقد كان الساسانيون يستغلون رجال
الدين المجوس أكبر استغلال لتثبيت قواعد حكمهم ، وتقوية مواقعهم في السلطان
ولذلك أقاموا في مختلف مناطق القطر الإيراني العريض بيوت النار ، ( وهي معابد
المجوس ) جاعلين في كل واحد من هذه المعابد ثلة كبيرة من الموابدة كسدنة. فقد كتب المؤرخون
يقولون : ان « خسرو برويز » شيد بيتاً للنار عظيماً ووكل
به ( 12 الف ) هيربد ( وهو منصب خاص ورتبة
خاصة في نظام القيادة الدينية المجوسية ) لينشدوا
فيه الاناشيد الدينية ، ويؤدوا الطقوس والشعائر المجوسيّة!! (تاريخ تمدن ساساني : ج 1 ، ص 1 ( بالفارسية ).).
وعلى هذا الاساس كان الدين المجوسي
دين البلاط ، وكان رجاله في خدمة الملوك. هذا وقد اجتهد الموابدة ـ بكل ما في
وسعهم ـ في إبقاء الطبقات الكادحة والمحرومة من ابناء الشعب الإيراني في حالة من
الركود والجمود وحالة عدم الاحساس بالآلام والرضا بالأمر الواقع. ولقد تسببت الصلاحياتُ الواسعة
والحريات المطلقة المخولة إلى الموابدة في ابتعاد الناس عن الدين المجوسي
والنفور منه ، فجماهير الشعب كانت تبحث لنفسها عن غير ما يتدين به الأشراف من
عقيدة ودين. يقول مؤلف كتاب «
تاريخ اجتماعي ايران » وقد سعى الشعب الإيراني ـ في المآل
ـ إلى ان يتخلص من ضغوط الاشراف والموابدة واضطهادهم ، ولهذا ظهر بيت الزردشتيين في قبال الدين الرسمي « المزدية
الزردشتية » الّذي كان دين البلاط كما عرفنا ، وكان يدعى
: بهدين ( اي الدين الافضل )
مذهبان آخران (تاريخ اجتماعي ايران : ج 2 ، ص 20.).
اجل وبسبب ضغوط الاشراف وتشددات
الموابدة في العهد الساساني ظهرت في ايران مذاهب مختلفة الواحد تلو الآخر ، وقد
حاول « مزدك » ومِنْ قبله « ماني » ان يوجدا بأنفسهِما تحولا في الاوضاع الدينية
وفي العقائد والمؤسسات ، ألاّ أنهما منيا بالفشل في هذا السبيل (المذهب المانوي هو المذهب الزردشتي الخليط بالمسيحية ، فقد اخترع
ماني من مسلك قومي وآخر اجنبي مذهباً جديداً ثالثاً.).
فحوالي سنة ( 497
ميلادية ) قام « مزدك » ، وألغى المالكية الانحصارية ( الخاصة ) ، ونسخ عادة تعدد
الزوجات ، ونظام الحريم وكان ذلك في مقدمة برامجه الاصلاحية ، وقد لقيت أفكاره
هذه تأييداً قوياً من قِبل الطبقات المحرومة المسحوقة الّتي فجرت بقيادة « مزدك
» ثورة كبرى ، وانقلاباً هائلا في المجتمع الإيراني. ولقد كانت هذه الثورات والانتفاضات
الشعبية لأجل أن يتوصل الناس إلى حقوقهم المشروعة ، الممنوحة لهم من قبل اللّه
خالقهم وبارئهم. ولقد قوبل مذهب « مزدك
» باعتراض شديد من قِبَل الموابدة ، وامراء الجيش ، وجرّ إلى فتنة كبيرة ، وإلى
تردي الاوضاع في ايران آنذاك. كما ان المذهب الزردشتي قد فقد ـ في
أواخر العهد الساساني ـ حقيقته بصورة كاملة ، ووصل الأمر بعبادة النار وتقديسها
إلى درجة أنهم كانوا يحرِّمون الدقّ على حديدة محماة اكتسبت لون النار ولهيبها
بمجاورتها لها. وبكلمة واحدة ؛ لقد
كانت اكثر المعتقدات الزردشتية المجوسية تتألف من الخرافات والأساطير ،
وقد أعطت حقائق هذا الدين ـ في هذا العهد ـ مكانها لحفنة من الشعائر الجوفاء ،
والطقوس الفارغة ، الّتي أضاف إليها
الموابدة سلسلة من التشريفات الطويلة العريضة تثبيتاً لمواقعهم ، ودعماً
لمكانتهم في المجتمع الإيراني يومئذ. لقد بلغت سيطرة
الخرافات والاساطير البعيدة عن العقل والمنطق على هذه العقيدة ، ورسوخها في هذا
الدين حداً أقلق حتّى رجال الدين الزردشتي انفسهم أيضاً ، وقد
كان بين الموابدة أنفسهم من أدرك منذ البداية تفاهة الطقوس والشعائر الزردشتية
الجوفاء فتخلى عنها. ومن جانب آخر كان
قد انفتح على الشعب الإيراني منذ أيام الملك « أنوشيروان » فما بعد طريق التفكير
، والتأمل ، والتحقيق ، وممّا قد قوّى هذا الامر ما حصل من اتصالات بين العقائد
الزردشتية والمعتقدات المسيحية وغيرها من العقائد والاديان وما تحقق من تلاقح
بينها نتيجة تسلل الثقافة اليونانية والهندية ، وغيرها إلى الوسط الإيراني ،
وتسبب كل ذلك في يقظة الشعب الإيراني ، ولذلك اصبح يعاني من هذه الخرافات
والاساطير الّتي كانت الديانة الزردشتية تعج بها اكثر من أي وقت مضى. وعلى أية حال
فان الفساد الّذي ظهر في أوساط رجال الدين الزردشت ، وتطرق الخرافات والاساطير
الواهية الكثيرة إلى المعتقدات الزردشتية تسَبّبَ في حصول مزيد من التشتت
والاختلاف والتشرذم في آراء الشعب الإيراني وعقيدته. ومع ظهور هذا الاختلاف وعلى أثر
إنتشار المذاهب المتنوعة ظهر روح الشك والتردد لدى الطبقة المفكرة والمثقفة ،
وسرت منهم إلى بقية الاصناف والفئات ممّا أدى ذلك إلى أن يفقد جماهير الشعب
ثقتها وايمانها القطعي ، واعتقادها الكامل السابق بتلك المعتقدات. وهكذا استشرى الهرج
والمرج وعمَّت الفوضى واللادينية كل مناطق إيران والمجتمع الإيراني ، كما رسم «
برزويه » الطبيب الشهير في العهد الساساني حيث صوّر نموذجاً كاملا عن الاختلاف
الاعتقادي والتشرذم الفكري ، وبالتالي اضطراب الأوضاع الإيرانية في العهد
الساساني ، في مقدمة « كليلة ودمنة ». |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الحروبُ
الإيرانية الروميّة :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد انقذ « بزرجمهر »
ـ الوزير الإيراني الشهير الّذي كان يحتل مكان الصدارة في حكومة « انوشيروان »
وكان موصوفاً بالتدبير والكفاءة العالية ـ ايران من الاخطار الّتي احدقت بها في
اكثر الاحايين ، ولكن علاقته بالسلطان ( انوشيروان ) كانت تتأثر احياناً بسعاية
الساعين ووشاية الوشاة الذين كانوا يوغرون صدر الملك ضدّه فيستصدرون منه قراراً
بحبسه وسجنه. وقد أوغرّ هؤلاء السعاة والواشون
أنفسُهم صدرَ « انوشيروان » ضد امبراطور الروم ، وألّبوه عليه ، وشجّعوه على
توسيع رقعة نفوذه ، وتوسيع حدود بلاده واضعاف سيطرة منافسه الخطير ، متجاهلا
وثيقة « الصلح الخالد » الّتي عقدها مع الروم واتفق فيها الجانبان على عدم
التعرض بعضهم لبعض. وأدى هذا التحريض بأنوشيروان إلى
مهاجمة الروم ، واشتعلت على اثرها نيران الحرب ، واستطاع جنود ايران ان يفتحوا
سورية ( وقد كانت مستعمرة رومية ) في مدة
قصيرة تقريباً ، وحرق انطاكية ونهب آسيا الصغرى. وبعد عشرين عاماً من القتال وسفك
الدّماء ، والكرّ والفر بين الروم وايران وبعد أن فقد الجانبان قدراتهم وطاقاتهم
في تلك المعارك الطاحنة ، وبعد الخسائر العظيمة الّتي تحمّلهما الطرفان إضطرّا
إلى عقد وثيقة الصلح مرة ثانية ، وحدّدوا حدود بلادهما ، ومناطق نفوذهما كما
كانت عليه في السابق شريطة أن تدفع دولة الروم كل عام ما يعادل ( عشرين الف )
دينار إلى دولة ايران. ومِنَ الواضح الّذي لا يخفى ولا
يحتاج إلى البيان أن حروباً طويلة الامد تدور رحاها بعيداً عن مركز الدولة من
شأنها ان تأتي بالنتائج السيئة والتبعات الثقيلة على اقتصاد الشعب المحارب ،
وصناعته وتوجه إلى هذه الجوانب ضربات قوية ، لا تزول آثارها إلاّ بعد زمان طويل
خاصة مع ملاحظة الوسائل والأدوات في تلك العصور. ومهما يكن فان هذه
الحروب ، وهذه الحملات المكلفة هيأت المقدمات الموجبة لسقوط الحكومة الإيرانية
الحتمي. فان آثار هذه المعارك لم تَزُل بعد
إلاّ وقد نشبت حرب اُخرى دامت سبعة اعوام فان « تي باريوس » امبراطور الروم بعد
ان تسنم عرش السلطان هدد بحملاته الكبيرة استقلال الدولة الإيرانية بدافع
الانتقام. وفي الأثناء ـ وقبل ان يتضح موقف
الطرفين وموقعهما في تلك المعارك من الهزيمة أو الانتصار ـ مات « انوشيروان »
وخلفه في إدراة البلاد ابنه « خسرو برويز ». وقد حمل هذا الأخير على الروم ايضاً
، وذلك عام (614)
بحجج معينة ، وفتح في أول حملة من حملاته : بلاد الشام وفلسطين وأفريقية ونَهب
اورشليم ، وأحرق كنيسة القيامة ومزار السيّد المسيح عليهالسلام
وهدم المدن ، ودمرها. وقد انتهت هذه الحرب بعد مقتل تسعين
الف من النصارى لصالح الإيرانيين. في مثل هذه المرحلة
الّتي كان فيها العالمُ المتحضر آنذاك يحترق ـ في نيران الحروب والظلم ، بُعِث
رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
بالرسالة الإسلامية ، وبلغ نداؤه المحيي للنفوس والعقول سمع البشرية ، وقام يدعو
الناس إلى الصلح والسلم ، وإلى النظم والامن. ولقد أدّى انهزامُ
الروميين المتدينين ، المؤمنين باللّه على أيدي المجوس الكفار ، عبدة النار ،
إلى ان يتفاءل اهل مكة الوثنيون بهذا الحدث ، ويحدّثوا (
ويمنّوا ) أنفسهم بالانتصار على المسلمين المؤمنين باللّه عما قريب ، وانطلقوا
يرددون هذه الاُمنية أمام المسلمين وهم يحاولون بها إضعاف معنويّاتهم ، وزعزعة
إيمانهم ، الامر الّذي أقلق المسلمين. ولم يتخذ النبيُ صلىاللهعليهوآلهوسلم موقفاً تجاه هذه الظاهرة
انتظاراً لما سينزل به عليه الوحيُ إلى ان نزلت آيات في هذا المجال هي الآيات
الاُولى من سورة الروم الّتي تقول : « الم ، غُلِبَتِ الرُّوْم في أدْنى الأَرْض
وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غلَبهِمْ سَيَغْلِبُونَ في بِضْع سنين للّه الأمرُ منْ قبْل
وَمن بَعْد وَيَوْمئذ يَفْرَحُ الْمُؤمِنُونَ بَنَصْر اللّه يَنصُرُ مِنْ يَشاء
وَهُوَ الْعَزيزُ الرَّحيمُ. وَعَدَ اللّهِ لا يُخْلِفُ اللّه وَعْدَهُ وَلكِنَّ
اكْثَر النّاسِ لا يَعْلَمُون » (الروم : 1 ـ 6.).
وقد تحقّقت نبوءة
القرآن هذه حول الروم في عام ( 627 ميلادية ) حيث استولى « هرقل » على « نينوى »
في حملة واحدة. وعلى أيّة حال كانت الدولتان
المتنافستان تطويان الدقائق والساعات الأخيرة من حياتهما فيما تستعدّان من ناحية
اخرى لتجميع القوى ، والتهيؤلشن حملات جديدة ، وخوض حروب ومعارك اُخرى ولكن حيث
أن الارادة الالهية كانت قد تعلقت بأن يسطع على تلك المنطقتين نورُ التوحيد
وتنتعش نفوسُ الروميين والفرس الذابلة الميتة بنسائم الإسلام الناعشة ، واشعته
الهادية ، لذلك لم يلبث أن قُتِل « خسرو برويز » على يدي ابنه « شيرويه » الّذي
لم يُدْم سلطانه بعد اغتياله لأبيه اكثر من ثمانية أشهر ، ثم سادت ايران بعد «
شيرويه » فوضى شاملة خلال اربعة اشهر ، حيث تناوب على مسند الحكم حُكامٌ وامراء
عديدون أربعة منهم من النساء ، إلى أن أنهى الجيشُ الاسلاميّ بحملاته الناجحة
هذه الاوضاع ، ووضع نهاية لهذا الصراع السياسي الحادّ الّذي استمرّ خمسين عاماً
والّذي ساعد بدوره على تقدم الفتوحات الإسلامية. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
4أسلاف
رسول الإسلام (ص)
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
1 ـ بطل التوحيد :
إبراهيم الخليل عليهالسلام
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إن الهدف من استعراض حياة النبيّ
العظيم إبراهيم الخليل عليهالسلام هو
التعريف بأجداد النبيّ محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم
وأسلافه ، لانتهاء نسبه الشريف إلى النبيّ إسماعيل بن إبراهيم عليهماالسلام
، وحيث ان لهاتين الشخصيتين العظيمتين وبعض أسلاف النبيّ العظام نصيبٌ هامٌّ في
تاريخ العرب والإسلام ، لهذا ينبغي الحديث عن أحوالهم بصورة مختصرة ، خاصَّة
أنَّ حوادث التاريخ الإسلامي ترتبط ارتباطاً كاملا ـ كحلقات سلسلة واحدة ـ
بالحوادث السابقة ، أو المقارنة لبزوغ الإسلام. فعلى سبيل المثال تُعْتَبر
كفالة « عبد المطلب » لرسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وحمايته له ، وجهود « ابي طالب » ودفاعه الطويل عن النبيّ ، وعظمة الهاشميين
وسموّ مقامهم واخلاقهم ، وجذور معاداة الأمويين لهم ، الاسس والقواعد الموضوعية
لحوادث التاريخ الإسلامي ، ولهذا كان لابدّ من تخصيص فصل كامل في التاريخ
الإسلامي لهذه الابحاث. إنّ في حياة حامل راية
التوحيد النبيّ « إبراهيم الخليل » عليهالسلام نقاطاً مشرقة وبارزة جداً. فجهاده العظيم في سبيل
ارساء قواعد التوحيد واقتلاع جذور الوثنية ممّا لا ينسى. وهكذا حواره اللطيف والزاخر بالمعاني
مع عَبَدة النجوم والكواكب في عصره والّذي ذكره القرآن الكريم لمعرفتنا ، افضل
واسمى درس توحيدي لطلاب الحقيقة وبغاة الحق. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
مولد إبراهيم :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد وُلدَ بطَلُ التوحيد في بيئة
مظلمة كانت تسربلها ظلمات الوثنية ، وعبادة البشر ... في بيئة كان الإنسان فيها
يخضع لأَصنام نحتها بيديه ، كما يخضع لكواكب ونجوم. لقد وُلد حامل لواء التوحيد «
إبراهيم الخليل » عليهالسلام في
« بابل » الّذي يعدّها المؤرخون إحدى عجائب الدنيا السبع ، ويذكرون حولها قصصاً
واموراً كثيرة تنبئ عن عظمتها وأهمية حضارتها ، فيقول « هيردوتس » المؤرخ
المعروف ـ مثلا ـ : لقد كانت بابل بنية بشكل مربَّع طول كل ضلع من اضلاعه
الاربعة ( 120 فرسخاً ) ومحيطه ( 480 فرسخاً ) (قاموس الكتاب المقدّس ، مادّة بابل.).
إنَّ هذا الكلام مهما كان مبالغاً
فيه إلاّ أنه على كل حال يكشف عن حقيقة لا تقبل الإنكار ، إذا ما ضُمَّ إلى ما
كتبه الآخرون عن تلك المدينة التاريخية. غير اننا لا نرى من تلك المدينة
اليوم ومن مناظرها الجميلة ، وقصورها الرائعة ، إلاّ تلاّ من التراب في منطقة
بين « دجلة » و « الفرات » ، فالموت يخيّم على كل تلك المنطقة ، اللّهم الا
عندما يكسر علماء الآثار بتنقيباتهم جدار الصمت أحياناً ، بحثاً عن آثار تلك
المدينة ، ويستخرجون بقاياها الموقوف على معالم من حضارة اصحابها وسكانها. لقد فتح رائد التوحيد ومُرسي اركانه
« إبراهيم الخليل » عليهالسلام
عينيه في دولة « نمرود بن كنعان ». وكان نمرود هذا رغم أنه يعبدُ الصنم
يدّعي الاُلوهيَّة ويأمر الناس بعبادته. وقد يبدو هذا الامر
عجيباً جداً فكيف يمكن ان يكون الشخص عابد صنم ومع ذلك يدّعي الاُلوهية في الوقت
نفسه ، إلاّ أن القرآن الكريم يذكر لنا نظير هذه المسألة
في شان « فرعون مصر » ، وذلك عندما هزّ النبي موسى بن عمران عليهالسلام
قواعد العرش الفرعوني بمنطقه القويّ ، وحجته الصاعقة ، فاعترض أنصار فرعون
وملأوه على هذا الأمر ، وخاطبوا فرعون بلهجة معترضة قائلين : « أتذَرُ مُوسى
وَقَومهُ لِيُفْسِدُوا في الأَرْض وَيَذركَ وآلهَتَكَ » (الأعراف : 127.).
ومن الواضح جدّاً أن « فرعون » كان
يدعي الالوهية فهو الّذي كان يقول : « أَنا رَبُّكُمُ الاَْعْلى » (النازعات : 24.)
وهو القائل : « مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ اله غَيْريْ » (القصص : 38.)
ولكنه كان في الوقت نفسه عابد صنم ووثنياً. بَيْدَ أَنَّ هذه
الازدواجية ليست بأَمر غريب عند الوثنيين ، ولا يمنع
مانع في منطقهم أن يكون الشخصُ نفسه وثنياً يعبد الصنم ، ومع ذلك يَدَّعي أنه
الهٌ ويدعو الناس إلى عبادته فيكون الهاً معبوداً ، يعبد الهاً أعلى منه ، لأن
المقصود من المعبود والاله ليس هو خالق الكون بل هو من يتفوَّق على الآخرين بنحو
من أنحاء التفوق ويتملك زمام حياتهم بشكل من الإشكال. هذا والتاريخ يحدثنا أن العوائد في
بلاد الروم كانت تعبد كبارها ومع ذلك كان اولئك الكبار المعبودين انفسهم يتخذون
لأنفسهم معبوداً أو معبودات اُخرى. إن أكبر وسيلة توسَّل بها « نمرودُ »
في هذا السبيل هو استقطاب جماعة من الكهنة والمنجمين الذين كانوا يُعدّون الطبقة
العالمة والمثقَّفة في ذلك العصر. فقد كان خضوعُ هذه الطبقة يمهّد
لاستعمار الطبقة المنحطة وغير الواعية من الناس. هذا مضافاً إلى أنه كان يُناصر «
نمرود » بعضُ من ينتسب إلى « الخليل » عليهالسلام
بوشيجة القربى مثل « آزر » الّذي كان يصنع التماثيل ، وكان عارفاً بأحوال النجوم
والفلك أيضاً ، وكان هذا هو الآخر أحد العراقيل الّتي كانت تمنع الخليل من انجاح
مهمته ، لأنه مضافاً إلى مخالفة الرأي العام له ، كان يواجه مخالفة أقاربه
ايضاً. لقد كان نمرود غارقاً في عالم خيالي
عندما دق المنجمون فجأة أول ناقوس للخطر وقالوا له : سوف تنهار حكومتُك ،
ويتهاوى عرشك وسلطانك على يد رجل يولد في تلك البيئة ، الأمر الّذي أيقظ أفكاره
النائمة ، فتساءل من فوره ، وهل وُلد هذا الرجل؟ فقيل له : لا ، انه لم يولد
بعد. فأمر من فوره بعزل الرجال عن النساء ( وذلك في الليلة الّتي انعقدت فيها
نطفة ابراهيم الخليل عليهالسلام
عدو نمرود ، وهادم ملكه ، ومزيل سلطانه وهي الليلة التي حددها وتكهن بها
المنجمون والكهنة من انصار نمرود ) ومع ذلك كان جلاوزة « نمرود » يقتلون كل وليد
ذكر ، وكان على القوابل ان يسجِّلن اسماء المواليد في مكتبه الخاص. ولقد اتفق أن انعقدت نطفةُ « الخليل
» في نفس الليلة الّتي منع فيها اي لقاء جنسي بين الرجال ، وازواجهم. لقد حملت اُم إبراهيم به كما حملت
اُم موسى به ، وامضت فترة حملها في خفاء وتستر ، ثم لجأت بعد وضع وليدها العزيز
إلى غار بجبل على مقربة من المدينة حفاظاً عليه ، وراحت تتفقده بين حين وآخر من
الليل والنهار ، قدر المستطاع. وقد أرضى هذا الاسلوبُ الظالمُ «
نمروداً » وأراح باله بمرور الزمن ، إذ أيقن بانه قد قضى به على عدو عرشه ،
وهادم سلطانه ، وتخلص منه. لقد قضى « إبراهيم » عليهالسلام ثلاثة عشر عاماً في ذلك الغار
الّذي كان يتصل بالعالم الخارجي عبر باب ضيّق ، ثم أخرجته اُمه من ذلك الغار بعد
ثلاثة عشر عاماً ، ودخل « ابراهيم » في المجتمع ، فاستغرب المجتمع النمرودي
وجوده وانكروه (تفسير البرهان : ج 1 ، ص 535.).
لقد خرج « إبراهيم » من الغار ،
مؤمناً باللّه بفطرته ، وقوّى توحيده الفطري ، بمشاهَدة الأَرض والسماء ، والنظر
في سطوع الكواكب والنجوم والتأمل في ما يجري في عالم النبات من نمو وحركة إلى
غير ذلك ممّا يجري في عالم الطبيعة العجيب. لقد واجه إبراهيم عليهالسلام
بعد خروجه من الغار جماعة من الناس بهرتهم أحوال الكواكب وعظمة أمرها ، ففقدوا
عقولهم تجاه هذه الظاهرة ، كما راى جماعةٌ اُخرى أحطَّ فكريّاً من سابقتها
يعبدون اصناماً منحوتة ، بل واجه ما هو اسوأ بكثير من أعضاء الطوائف والجماعات
الضالة إذ رأى رجلا يستغل جهل الناس وغبائهم ويدعي الالوهية ويفرض عليهم عبادته
والخضوع له!! لقد كان إبراهيم عليهالسلام
يرى أَنَّ عليه أن يهيّئ نفسه لخوض المعركة في هذه الجهات الثلاث المختلفة ، وقد
نقل القرآن الكريم قصة نضال النبيّ « إبراهيم » عليهالسلام
في هذه الاصعدة والجبهات الثلاث وسننقل لك في ما يأتي وباختصار ما ذكره القرآن
في هذا المجال. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إبراهيم ومكافحته
للوثنية :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
كانت ظلمات الوثنية قد
خيَّمت على منطقة بابل ( موضع ولادة الخليل ) برمتها. فالآلهة المدَّعاة ، والمعبودات (
السماوية والارضية ) الباطلة قد سحرت عقول مختلف فئات الشعب ، فبعضها في نظرهم
هي أرباب القدرة والسلطة ، وبعضها الآخر وسيلة الزلفى والتقرب إلى اللّه إلى غير
ذلك من التصورات السخيفة في هذا الصعيد. وحيث أَن طريقة الأَنبياء في هداية
البشرية وارشادهم هي الاستدلال بالبراهين ، والاحتجاج بالمنطق ، لانهم إنما
يتعاملون مع قلوب الناس وعقولهم ، ويبتغون ايجاد حكومة تقوم على أساس الإيمان
واليقين ، ومثل هذه الحكومة لا يمكن اقامتها بالسيف أو بالنار والحديد. لهذا
يبدأون حركتهم بالتوعية الفكرية. إن علينا أن نفرق بين الحكومات الّتي
يريد الأنبياء تأسيسها ، وحكومة الفراعنة والنماردة. ان هدف الطائفة الثانية
هو :
الرئاسة والزعامة ، والحفاظ عليها بكل وسيلة ممكنة في حياتهم ، وان تلاشت وتهاوت
من بعدهم. ولكن الانبياء والرسل يريدون حكومة
تبقى قائمة في جميع الحالات وماثلة في جميع الاوقات ، في الخلوة والجلوة ، في
وقت الضعف ، وفي وقت القوة ، في حياتهم وبعد مماتهم ... انهم يريدون أن يحكموا
على القلوب لا على الابدان ، وهذا الهدف لا يتحقق ابداً عن طريق القوة واستخدام
العنف والقهر!! انما يتحقق عن طريق الحجة والبرهان. لقد بدأ النبيُ « إبراهيم » عملَه
بمكافحة ما كان عليه أقرباؤُه الذين كان في طليعتهم وعلى رأسهم « آزر » وهو
الوثنية وعبادة الاصنام ، ولكنه لم ينته من هذه المعركة ولم يحرز إنتصاراً كاملا
في هذه الجبهة بعد إلاّ وواجه عليهالسلام
جبهة اُخرى ، وكانت هذه الجماعة أعلى مستوى من افراد الجماعة السابقة في الفهم
والثقافة. لان هذه الجماعة ـ على خلاف أقرباء إبراهيم ـ قد نبذت عبادة الأوثان
والأَصنام (ترتبط آية 74 من سورة الأنعام بحواره عليهالسلام مع الوثنيّين ، بينما ترتبط الآيات
اللاحقة لها بعبدة الأجرام السماوية.)
، والمعبودات الارضية الحقيرة ، وتوجهت بعبادتها وتقديسها إلى الكواكب والنجوم
والاجرام السماوية. ولقد بيَّن « الخليل » عليهالسلام
في حواره العقائدي مع عُبّاد الاجرام السماوية ، ومكافحته لمعتقداتهم الفاسدة ،
سلسلة من الحقائق الفلسفية والعلمية الّتي لم يصل إليها الفكر البشري يومذاك ،
وذلك ببيان بسيط مدعوم بأدلة لا تزال إلى اليوم موضع اعجاب كبار العلماء ، ورواد
الفلسفة والكلام. والأَهم من ذلك ـ في هذا المجال ـ أن
القرآن الكريم نقل أدلة « إبراهيم الخليل » عليهالسلام
باهتمام خاص وعناية بالغة ولهذا ينبغي لنا أن نتوقف عندها قليلا ، وهذا ما
سنفعله في هذه الصفحات. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
حوار الخليل مع
عبدة الكواكب :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ذات ليلة وقف إبراهيم عليهالسلام
عند ابتداء مغيب الشمس يتطلع في السماء ـ وهو ينوي هداية الناس ـ وبقي ينظر إلى
النجوم والكواكب من أول الغروب من تلك الليلة إلى الغروب من الليلة التالية ،
وخلال هذه الساعات الاربع والعشرين حاور وجادل ثلاث فرق ، من عبدة النجوم وابطل
عقيدة كل فرقة منها بأدلة محكمة ، وبراهين متقنة قوية. فعندما أقبل الليلُ وخيّم الظلام على
كل مكان وهو يخفي كل مظاهر الوجود ومعالمه في عالم الطبيعة ظهر كوكبُ « الزُهرة
» من جانب الاُفق وهو يتلألأ. فقال إبراهيم لِعُباد هذا الكوكب ـ وهو يتظاهر
بموافقتهم جلباً لهم ، ومقدمة للدخول معهم في حوار ـ : « هذا ربي ». وعندما افل ذلك الكوكب وغاب عن
الانظار قال : « لا احب الآفلين ». وبمثل هذا المنطق الجميل أبطل عقيدة
عبدة الزهرة ، واظهر خواءها وفسادها. ثمّ إنه عليهالسلام
نظر إلى كوكب القمر المنير الّذي يسحر القلوب بنوره وضوئه ، فقال ـ متظاهراً
بموافقة عبدة القمر ـ : « هذا ربي » ثم ردّ باسلوب منطقي محكم تلك العقيدة أيضاً
، عندما امتدت يد القدرة المطلقة ولمت أشعة القمر من عالم الطبيعة ، وعندها إتخذ
إبراهيم عليهالسلام هيئة
الباحث عن الحقيقة ومن دون أن يصدم تلك الفرق المشركة ويجرح مشاعرها إذ قال : «
لَئنْ لَمْ يَهْدِني رَبِّي لأَكُونَنَّ مِن الْقَوْم الضالِين » (الأنعام : 77.)
لأَن القمر قد أَفل أيضاً كما أَفل سابقُه فهو كغيره أسير نظام عُلويٍّ لا يتخلف
، وما كان كذلك لا يمكن ان يُعدَّ رباً يُعبَد ، ويتوَجه إليه بالتقديس والتضرع.
ولما وَلّى الليل وأدبر ، واكتسحت
الشمس الوضاءة باشعتها حجب الظلام ، وبثت خيوطها الذهبية على الوهاد والسهول ،
والتفت عَبدَة الشمس إلى معبودهم ، تظاهر ابراهيم بالاقرار بربوبيتها اتباعاً
لقواعد الجدل والمناظرة ولكن افول الشمس وغروبها اثبت هو الآخر بطلان عبادتها ايضاً
بعد أن اثبت خضوعها للنظام الكوني العام ، فتبرأ « الخليل » عليهالسلام
من عبادتها بصراحة. وعندئذ أعرض عليهالسلام عن تلك الطوائف الثلاث وقال : «
إنّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ للَّذيْ فَطرَ الْسَّماواتِ وَالاَْرضَ حَنِيفْاً وَما
أنا مِنَ الْمُشْركين » (الأنعام : 79.).
لقد كان المخاطبين في كلام إبراهيم عليهالسلام
هم الذين يعتقدون بأن تدبير الكائنات الارضية ، ومنها الإنسان قد انيطت إلى
الاجرام السماوية وفوضت اليها!! وهذا الكلام يفيد أن
الخليل عليهالسلام
لم يقصد المطالب الثلاث التالية : 1 ـ اثبات الصانع ( الخالق
). 2 ـ توحيد الذات وأنه
واحد غير متعدد. 3 ـ التوحيد في
الخالقية ، وأنه لا خالق سواه. بل كان تركيزه عليهالسلام
على التوحيد في « الربوبية » و « التدبير » وادارة الكون ، وانه لا مدبّر ولا
مربي للموجودات الأرضية إلاّ اللّه سبحانه وتعالى ، ومن هنا فانه عليهالسلام
فور إبطاله لربوبية الاجرام السماوية قال : « وَجَّهْتُ وَجْهِيَ للَّذيْ فَطرَ
السَماواتِ والأَرْضَ ... ) وهو يعني ان خالق السماوات والأَرض هو نفسه مدبرها
وربُها ، وانه لم يفوَّض أي شيء من تدبير الكون ، ـ لا كله ولا بعضه ـ إلى
الاجرام السماوية ، فتكون النتيجة : أن الخالق والمدبر واحد لا أن الخالق هو
اللّه والمدبر شيء آخر. ولقد وقع المفسرون ،
والباحثون في معارف القرآن في خطأ ، والتباس عند التعرض لمنطق « إبراهيم » عليهالسلام وشرح حواره هذا ،
حيث تصوروا أن الخليل عليهالسلام
قصد نفي « اُلوهية » هذه الأجرام يعني الالوهية الّتي تعتقد بها جميع شعوب الأرض
ويكون هذا الكون الصاخِب آية وجوده. بينما تصوّر فريق آخر ان « إبراهيم »
كان يقصد نفي « الخالقية » عن هذه الأجرام السماوية ، لأنه من الممكن ان يخلق
إله العالم كائناً كامل الوجود والصفات ثم يفوض إليه مقام الخالقية في حين أن
هذين التفسيرين غير صحيحين ، بل كان هدف الخليل عليهالسلام
ـ بعد التسليم بوجود اله واجب الوجود ، وتوحيده ، ووحدانية الخالق ـ البحث في
قسم آخر من التوحيد ، الا وهو التوحيد « الربوبي » ، وبالتالي اثبات أن خالق
الكون هو نفسُه مدبر ذلك الكون أيضاً ، وعبارة « وَجَّهْتُ وَجْهِيَ ... » أفضل
شاهد على هذا النوع من التفسير. من هنا كان التركيز الأكبر في بحث
ابراهيم على مسألة « الربّ » و « الربوبية » في صعيد الاجرام كالقمر والزهرة
والشمس (لقد بيّنا مراتب التوحيد من وجهة نظر القرآن الكريم في كتابنا «
معالم التوحيد في القرآن الكريم » وأثبتنا هناك أنّ التوحيد في الذات غير
التوحيد في الخالقية ، وأن هذين النوعين من التوحيد غير التوحيد في الربوبية ،
وهي غير المراتب الاُخرى للتوحيد ، فراجع الكتاب المذكور تقف على هذه الحقيقة.).
هذا واستكمالا للبحث
الحاضر لابدَّ من توضيح برهان النبيّ « ابراهيم » عليهالسلام. لقد استدل « ابراهيم » في جميع
المراحل الثلاث باُفول هذه الاجرام على أنها لا تليق بتدبير الظواهر الارضية
وبخاصة الإنسان. وهنا ينطرح سؤال : لماذا
يُعتبر اُفول هذه الاجرام شاهداً على عدم مدبِّريتها؟ إن هذا الموضوع يمكن بيانُه بصور
مختلفة ، كل واحدة منها تناسب طائفة معينة من الناس. ان تفسير منطق « الخليل » عليهالسلام
واسلوبه في إبطال مدبِّرية الاجرام السماوية وربوبيّتها بأشكال وصور مختلفة أفضل
شاهد على أن للقرآن الكريم أبعاداً مختلفة وأن كل بُعد منها يناسب طائفة من
الناس. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
واليك في ما يلي
التفاسير المختلفة لهذا الاستدلال :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الف : إن الهدف من اتخاذ الربّ هو أن
يستطيع الكائن الضعيف في ظل قدرة ذلك الرب من الوصول إلى مرحلة الكمال ولابدّ ان
يكون لمثل هذا الربّ ارتباطٌ قريبَ مع الموجودات المراد تربيتها بحيث يكون
واقفاً على أحوالها ، غير منفصل عنها ، ولا غريب عليها. ولكن كيف يستطيع الكائن الّذي يغيب
ساعات كثيرة عن الفرد المحتاج إليه في التربية ويُحرم ذلك الفرد من فيضه وبركته
، ان يكون رباً للموجودات الأَرضية ومدبراً لها؟! من هنا يكون اُفول النجم ، وغروبه ،
الّذي هو علامة غربته وانقطاعه عن الموجودات الارضية خير شاهد على أن للموجودات
الأَرضية ربّاً آخر ، منزهاً عن تلك النقيصة عارياً عن ذلك العيب. باء : انَّ طلوع الأجرام السماوية وغروبها
وحركتها المنظمة دليل على أنها جميعاً خاضعة لمشيئة فوقها ، وانها في قبضة القوانين
الحاكمة عليها ، والخضوع لقوانين منظمة هو بذاته دليل على ضعف تلك الموجودات ،
ومثل هذه الموجودات الضعيفة لا يمكن أن تكون حاكمة على الكون ، أو شيء من
الظواهر الطبيعية ، وأما استفادة الموجودات الارضية من نور تلك الاجرام وضوئها
فلا يدل أبداً على ربوبية تلك الأجرام ، بل هو دليل على أن تلك الأجرام تؤدّي
وظيفة تجاه الموجودات الأرضية بأمر من موجود أعلى. وبعبارة أخرى :
إن هذا الأمر دليل على التناسق الكوني ، وارتباط الكائنات بعضها ببعض. جيم : ما هو الهدف من حركة هذه الموجودات؟
هل الهدف هو أن تسير من النقص إلى الكمال أو بالعكس؟ وحيث أن الصورة الثانية غير معقولة ،
وعلى فرض تصورها لا معنى لأن يسير المربّي والمدبر للكون من مرحلة الكمال إلى
النقص والفناء ، يبقى الفرضُ الاول وهو بنفسه دليل على وجود مربٍّ آخر يوصل هذه
الموجودات القوية في ظاهرها من مرحلة إلى مرحلة ، هو ـ في الحقيقة ـ الربُّ
الّذي يبلغ بهذه الموجودات وما دونها إلى الكمال. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
طريقة
الأنبياء في الحوار والجدال :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد اسلفنا في ما سبق أن « ابراهيم » ـ بعد خروجه من الغار ـ واجه صنفين منحرفين عن جادة التوحيد هما :
1 ـ الوثنيون. 2 ـ عَبَدة الاجرام
السماوية. ولقد سمعنا حوار « ابراهيم » عليهالسلام
وجداله مع الفريق الثاني ، وعلينا الآن أن نعرف كيف حاور الوثنيين وعبدة
الاصنام؟ إن تاريخ الانبياء والرسل يكشف لنا
عن أنهم كانوا يبدأون دعوتهم من انذار الاقربين ثم يوسعون دائرة الدعوة لتشمل
عامة الناس كما فعل رسول الإسلام في بدء دعوته حيث بدأ بانذار عشيرته الاقربين
لما امره اللّه تعالى بذلك إذ قال : « وأَنْذِرْ عَشِيْرَتَكَ الاَْقْرِبِيْن » (الشعراء : 214.).
وبذلك أسّس دعوته على إصلاح اقربائه وعشيرته. ولقد سلك « الخليل » عليهالسلام
نفس هذا المسلك أيضاً إذ بدأ عمله الاصلاحي باصلاح اقربائه. ولقد كان لآزر بين قومه مكانة
اجتماعية عليا فهو ـ مضافاً إلى معلوماته في الصناعة وغيرها ـ كان منجماً ماهراً
، وذا كلمة مسموعة ورأي مقبول في بلاط « نمرود » في كل ما يخبر به من أخبار
النجوم ، وكل ما يستخرجه وما يستنبطه من الامور الفلكية ويذكره من تكهنات. لقد ادرك « ابراهيم »
انه بجلبه لآزار ( عمّه ) يستطيع أن يسيطر على اوساط الوثنيين ، ويجردهم من
ركيزة هامة من كبريات ركائزهم ، ولهذا بادر إلى منع عمّه آزر ـ وبافضل الاساليب
ـ عن عبادة الاوثان ، بيد أن بعض الأسباب أوجبت أن لا يقبل « آزر » بنصائح «
ابراهيم » عليهالسلام
، والمهم لنا في هذا المجال هو ان نتعرف على كيفية دعوة الخليل وعلى اسلوب حواره
مع « آزر ». ان الامعان في الآيات
الّتي تنقل حوار « ابراهيم » عليهالسلام
مع « آزر » توضح لنا أدب الانبياء ، واسلوبهم الرائع في الدعوة والارشاد ، ولنقف
عند حوار ابراهيم ودعوته ، ليتضح لنا ذلك. يقول القرآن الكريم عن
ذلك : « إذْ قالَ لأَبيْهِ يا أبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما
لا يسْمَعُ وَلا يُبْصر وَلا يُغْنِيْ عَنْكَ شَيْئاً. يا أَبَتِ إنِّي قَدْ
جائنِي مِنَ الْعِلْم ما لَمْ يَأتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوياً.
يا اَبتِ لا تَعْبُدِ الشّيطانَ انَ الشّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمن عَصِيّاً. يا
أَبتِ إنّي اَخافُ أنْ يَمسَّك عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشّيْطانِ
وَليّاً ». فاجابه « آزر » قائلا
:
« أراغبٌ أنْتَ عَنْ الهتي يا إبْراهيمُ لئنْ لَمْ تنْته لأَرْجُمَنَّكَ
وَاْهجُرْنيْ مَلِيّاً ». ولكن « ابراهيم » بسعة
صدره وعظمة روحه تجاهل ردّ « آزر » العنيف ذلك وأجابه قائلا :
« سَلامٌ عَلَيْك سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّيْ » (مريم : 42 ـ 47.).
وأيّ جواب افضلُ مِنْ هَذا البيان
وأيُّ لغة أليَن مِنْ هذه اللغة واحبّ إلى القلب ، واكثر رحمة ولطفاً. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
هَل
كان آزر والدَ إبراهيم؟
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ان الظاهر من الآيات المذكورة وكذا الآية (115) من سورة « التوبة » والآية (14)
من سورة الممتحنة هو : أنّ « آزر » كان والد إبراهيم عليهالسلام.
وقد كان إبراهيم يسميه أباً في حين
كان « آزر » وثنياً ، فكيف يصحّ ذلك وقد اتفقت كلمة علماء الشيعة عامة على كون
والد النبيّ الكريم « محمَّد » صلىاللهعليهوآلهوسلم وجميع
الأَنبياء مؤمنين باللّه سبحانه موحدين اياه تعالى. ولقد ذكر الشيخ المفيد
رضوان اللّه عليه في كتابه القيم « أوائل المقالات » (أوائل المقالات : ص 12 ، باب القول في آباء رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم.)
ان
هذا الامر هو موضع اتفاق علماء الشيعة الامامية كافة بل وافقهم في ذلك كثير من
علماء السنة ايضاً. وفي هذه الصورة ما هو الموقف من
ظواهر الآيات المذكورة الّتي تفيد اُبوّة « آزر » لإبراهيم ، وما هو الحل الصحيح
لهذه المشكلة؟؟ يذهب أكثر المفسّرين إلى أن لفظة «
الأب » وان كانت تُستعمل عادة في لغة العرب في « الوالد » ، إلاّ أن مورد
استعمالها لا ينحصر في ذلك. بل ربما استعملت ـ في لغة العرب وكذا
في مصطلح القرآن الكريم ـ في : ( العمّ ) أيضاً. كما وقع ذلك في الآية التالية
الّتي استعملت فيها لفظة الأب بمعنى العم إذ يقول سبحانه : « إذْ قالَ لِبَنْيهِ ما تَعْبُدونَ
مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إلهَكَ وإله آبائكَ إبْراهيم واسْماعيل وإسحاقَ
إلهاً واحِداً ونحن لهُ مسلمون » (البقرة : 133.).
فإنّ ممّا لا ريب فيه أن « اسماعيل »
كان عماً ليعقوب لا والداً له ، فيعقوب هو ابن اسحاق ، واسحاق هو أخو اسماعيل. ومع ذلك سمّى أولادُ يعقوب « اسماعيل
» الّذي كان ( عمَّهم ) أباً. ومع وجود هذين الاستعمالين ( استعمال
الاب في الوالد تارة ، وفي العم تارة اُخرى ) يصبح احتمال كون المراد بالاب في
الآيات المرتبطة بهداية « آزر » هو العمّ أمراً وارداً ، وبخاصة إذا ضَمَمْنا
إلى ذلك قرينة قوية في المقام وهي : اجماع العلماء الّذي نقله المفيد رحمهالله
على طهارة آباء الانبياء واجدادهم من رجس الشرك والوثنية. ولعل السبب في تسمية النبي « ابراهيم
» عمَّه بالأب هو أنه كان الكافل لابراهيم ردحاً من الزمن ، ومن هنا كان «
ابراهيم » ينظر إليه بنظر الأب ، وينزله منزلة الوالد. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
القرآن
ينفي اُبوّة « آزر » لإبراهيم :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ولكي نعرف رأي القرآن
الكريم في مسألة العلاقة بين « آزر » و « ابراهيم » عليهالسلام نلفت نظر القارئ الكريم إلى توضيح
آيتين : 1 ـ لقد أشرقت منطقةُ الحجاز بنور
الايمان والإسلام بفضل جهود النبيّ « محمَّد » صلىاللهعليهوآلهوسلم
وتضحياته الكبرى ، وآمن اكثر الناس به عن رغبة ورضا ، وعلموا بأن عاقبة الشرك ،
وعبادة الاوثان والاصنام هو الجحيم والعذاب الاليم. إلاّ أنهم رغم ابتهاجهم وسرورهم بما
وُفقوا له من إيمان وهداية ، كانت ذكريات آبائهم واُمهاتهم الذين مضوا على الشرك
والوثنية تزعج خواطرهم وتثير شفقتهم ، واسفهم. وكان سماع الآيات التي تشرح أحوال
المشركين في يوم القيامة يحزنهم ويؤلمهم ، وبغية ازالة هذا الالم الروحي المجهد
طلبوا من رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
أن يستغفر لابائهم واُمهاتهم كما فعل « إبراهيم » في شأن « آزر » فنزلت الآية في
مقام الردّ على طلبهم ذاك ، إذ قال سبحانه : « ما كانَ لِلنَّبِيَّ وَالَّذينَ آمَنُوا أنْ
يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْركينَ وَلَوْ كانُوا اُوْلي قَرْبى مِنْ بَعْدِ مَا
تَبيَِّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أصْحابُ الْجَحْيمَ وما كانَ اسْتِغْفارُ
إِبْراهِيْمَ لأَبيْه إلا عَنْ مَوْعِدَة وَعَدَها إيّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ
لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌ للّه تَبَرَّاَ مِنْهُ إنَّ إبْراهيْمَ لأَوّاهٌ حَلِيمٌ
»
(التوبة : 113 و 114.).
إنَّ ثمة قرائن كثيرة تدل على أنّ
محادثة النبيّ « إبراهيم » وحواره مع « آزر » ووعده بطلب المغفرة له من اللّه
سبحانه قد انتهى إلى قطع العلاقات ، والتبرّي منه في عهد فتوَّة « إبراهيم » ،
وشبابه ، اي عندما كان « إبراهيم » لا يزال في مسقط رأسه « بابل » ولم يتوجه بعد
إلى فلسطين ومصر وأرض الحجاز. إننا نستنتج من هذه الآية أن «
إبراهيم » قطع علاقته مع « آزر » ـ في أيام شبابه ـ بعد ما أصرّ « آزر » على
كفره ، ووثنيته ، ولم يعد يذكره إلى آخر حياته. 2 ـ لقد دعا « إبراهيم » عليهالسلام
في اُخريات حياته ـ أي في عهد شيخوخته ـ وبعد أن فرغ من تنفيذ مهمته الكبرى (
تعمير الكعبة ) واسكان ذريته في أرض مكة القاحلة ، دعا وبكل اخلاص وصدق جماعة
منهم والداه ، وطلب من اللّه إجابة دعائه ، إذ قال في حين الدعاء : « رَبَّنا اغْفِرْ ليْ وَلوالديّ
وَلِلمؤمِنينْ يَوْمَ يَقُومُ الحِساب » (إبراهيم : 41.).
إنَ هذه الآية تفيد بصراحة ـ أن
الدعاء المذكور كان بعد الفراغ من بناء الكعبة المعظمة ، وتشييدها ، يوم كان
إبراهيم يمر بفترة الشيخوخة ، فاذا كان مقصودُه من الوالد في الدعاء المذكور هو
« آزر » وانه المراد له المغفرة الالهية كان معنى ذلك أن « ابراهيم » كان لم يزل
على صلة ب « آزر » حتّى أنه كان يستغفر له في حين أن الآية التي نزلت رداً على
طلب المشركين أوضحت بأن « إبراهيم » كان قد قطع علاقاته ب « آزر » في أيّام
شبابه ، وتبرّأ منه ، ولا ينسجم الاستغفار مع قطع العلاقات. إن ضَمَّ هاتين الآيتين بعضهما إلى
بعض يكشف عن أنّ الّذي تبرّأ منه « ابراهيم » في أيام شبابه ، وقطع علاقاته معه
، واتخذوه عدواً هو غير الشخص الّذي بقي يذكره ، ويستغفر له إلى اُخريات حياته (مجمع البيان : ج 3 ، ص 321 ، والميزان : ج7 ، ص 170.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إبراهيم
محطِّم الأَصنام :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد حلَّ موسم العيد ، وخرج أهلُ
بابل المغفّلين الجهلة إلى الصحراء للاستجمام ، ولقضاء فترة العيد ، وإجراء
مراسيمه ، وقد أخلوا المدينة. ولقد كانت سوابق « إبراهيم » ،
وتحامله على الأصنام ، واستهزاؤه بها قد أوحدت قلقاً وشكاً لدى أهل بابل ، ولهذا
طلبوا منه ـ وهم الذين يساورهم القلق من موقفه تجاه اصنامهم ـ الخروج معهم إلى
الصحراء ، والمشاركة في تلك المراسيم ، ولكن اقتراحهم هذا بل إصرارهم واجه رفض
إبراهيم الّذي رد على طلبهم بحجة المرض إذ قال : « إنّي سَقِيم » وهكذا لم يشترك
في عيدهم ، وخروجهم وبقي في المدينة. حقاً لقد كان ذلك اليوم يوم ابتهاج
وفرح للموحد والمشرك ، وأمّا للمشركين فقد كان عيداً قديماً عريقاً يخرجون
للاحتفال به ، واقامة مراسيمه وتجديد ما كان عليه الآباء والاسلاف إلى الصحراء
حيث السفوح الخضراء والمراع الجميلة. وكان عيداً لإبراهيم بطل التوحيد
كذلك ، عيداً لم يسبق له مثيل ، عيداً طال انتظارُه ، وافرح حضوره وحلوله ، فها
هو إبراهيم يجد المدينة فارغة من الاغيار ، والفرصة مناسبة للانقضاض على مظاهر
الشرك والوثنية ، وحدث هذا فعلا. فعندما خرج آخر فريق من اهل بابل من
المدينة ، إغتنم « إبراهيم » تلك الفرصة ودخل وهو ممتلئ ايماناً ويقيناً باللّه
في معبدهم حيث الأصنام والأوثان المنحوتة الخاوية ، وأمامها الأطعمةُ الكثيرة
الّتي احضرها الوثنيون هناك بقصد التبرك بها ، وقد لفتت هذه الأطعمة نظر «
الخليل » عليهالسلام ، فأخذ بيده
منها كسرة خبز ، وقدمها مستهزء إلى تلك الاصنام قائلا : لماذا لا تأكلون من هذه
الاطعمة؟ ومن المعلوم أن معبودات المشركين
الجوفاء هذه لم تكن قادرة على فعل اي شيء أو حركة مطلقاً فكيف بالاكل. لقد كان يخيم على جوّ ذلك المعبد
الكبير سحابة من الصمت القاتل ولكنه سرعان ما اخترقته اصوات المعلول الّذي اخذ «
إبراهيم » يهوي به على رؤوس تلك التماثيل الجامدة الواقفة بلا حراك ، وايديها. لقد حطم « الخليل » عليهالسلام
جميع الاصنام وتركها ركاماً من الاعواد المهشمة ، والمعدن المتحطم ، وإذا بتلك
الاصنام المنصوبة في اطراف ذلك الهيكل قد تحولت إلى تلة في وسط المعبد. غير ان « ابراهيم » ترك الصنم الأكبر
من دون ان يمسه بسوء ، ووضع المعول على عاتقه ، وهو يريد بذلك ان يظهر للقوم بأن
محطِمَ تلك الأَصنام هو ذلك الصنمُ الكبير ، إلاّ أن هدفه الحقيقي من وراء ذلك
كان امراً آخراً سنبينهُ في ما بعد. لقد كان « إبراهيم » عليهالسلام
يعلم بأنَّ المشركين بعد عودتهم من الصحراء ، ومن عيدهم سيزورون المعبد ، وسوف
يبحثون عن علة هذه الحادثة ، وأنهم بالتالي سوف يرون ان وراء هذه الظاهرة واقعاً
آخر ، إذ ليس من المعقول ان يكون صاحب تلك الضربات القاضية هو هذا الصنم الكبير
الّذي لا يقدر اساساً على فعل شيء على الاطلاق. وفي هذه الحالة سوف يستطيع « إبراهيم
» عليهالسلام أن يستفيد من هذه
الفرصة في عمله التبليغي ويستغل اعتراضهم بأن هذا الصنم الكبير لا يقدر على شيء
أبداً ، لتوجيه السؤال التالي اليهم : اذن كيف تعبدونه؟!! فمنذ أن اخذت الشمس تدنو إلى المغيب
ويقتربُ موعد غروبها ، وتتقلص اشعتها وتنكمش من الرَّوابي والسهول ، أخذَ الناسُ
يؤوبون إلى المدينة أفواجاً افواجاً. وعند ما آن موعد العبادة ، وتوجّهوا
إلى حيث اصنامهم ، واجهوا منظراً فضيعاً وامراً عجيباً لم يكونوا ليتوقّعونه!! لقد كان المشهد يحكي عن ذلة الآلهة
وحقارتها ، وهو أمرٌ لفت نظر الجميع شيباً وشبّاناً ، كباراً وصغاراً. ولقد كانت تلك اللحظة لحظة ثقيلة
الوطأة على الجميع بلا استثناء. فقد خَيَّم سكوتٌ قاتلٌ مصحوب بحنق
ومضض على فضاء ذلك المعبد المنكود الحظ. إلا أن أحدهم خرق ذلك الصمت الرهيب
وقال : من الّذي ارتكب هذه الجريمة ، ومن فعل هذا بالهتنا؟! ولقد كانت آراء « إبراهيم » ومواقفه
السلبية السابقة ضد الاصنام وتحامله الصريح عليها تبعثهم على اليقين بأن «
إبراهيم » وليس سواه هو الّذي صنع ما صنع بآلهتم واصنامهم. ولأجل ذلك تشكلت فوراً محكمة يرأسها
« نمرود » نفسه وأخذوا يحاكمون « ابراهيم » واُمه!! ولم يكن لاُمه من ذنب إلا أنها أخفت
ابنها ، ولم تُعلِم السلطات بوجوده ليقضوا عليه ، شأنه شأن غيره من المواليد
الذين قضت تلك السلطة الظالمة عليهم حفاظاً على نفسها وكيانها. ولقد أجابت اُم إبراهيم على هذا
السؤال بقولها : أيها الملك فعلت هذا نظراً مني لرعيّتك ، فقد رأيتك تقتل أولاد
رعيّتك فكان يذهب النسل فقلت : إن كان هذا الّذي يطلبه دفعتُه إليه ليقتله ويكف
عن قتل أولاد الناس ، وإن لم يكن ذلك فبقي لنا ولدنا. ثم جاء دور مساءلة إبراهيم عليهالسلام
فسأله قائلا : « مَنْ فَعَلَ هذا بآلهَتنا يا إبْراهيْم » فقال إبراهيم : «
فَعَلهُ كَبيْرُهمْ هذا فاْسأَلُوهُمْ إنْ كانُوا يَنْطِقُون ». وقد كان « إبراهيم » عليهالسلام
يهدف من هذه الاجابة اللامبالية المصحوبة بالسخرية والازدراء هدفاً آخر ، وهو ان
« إبراهيم » عليهالسلام كان على
يقين بأنهم سيقولون في معرض الاجابة على كلامه هذا : إنك تعلم يا إبراهيم ان هذه
الأصنام لا تقدر على النطق ، وفي هذه الصورة يستطيع « إبراهيم » أن يُلفت نظر
السلطات الّتي تحاكمه إلى نقطة اساسية. وقد حدث فعلا ما كان يتوقعه «
إبراهيم » عليهالسلام لما قالوا
له وقد نكسوا على رؤوسهم : « لقد عَلِمْتَ ما هؤلاء يَنْطِقُونَ » فقال إبراهيم
رداً على كلامهم هذا الّذي كان يعكس حقارة تلك الاصنام والأوثان وتفاهة شأنها :
« اَفتَعْبُدونَ مِنْ دُونِ اللّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ وَلا يَضُرُّكُمْ اُفّ
لكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ أفَلا تَعْقِلُون ». إلاّ أنَّ تلك الزمرة المعاندة الّتي
ران على قلوبها الجهلُ والتقليدُ الأعمى لم يجدوا جواباً لأبراهيم الّذي افحمهم
بمنطقه الرصين الاّ أن يحكموا باعدامه حرقاً ، فأَوقدوا ناراً كبيرة وألقوا
بإبراهيم عليهالسلام فيها إلاّ
أن العناية الالهية شملت إبراهيم الخليل عليهالسلام
، وحفظته من اذى تلك النار ، وحولت ذلك الجحيم الّذي اوجده البشر ، إلى جُنينة
خضراء نضرة إذ قال : « يا نارُ كُوني بَرْداً وَسَلاماً عَلى إبْراهِيْم » (راجع كتاب الكامل لابن الأثير : ج 1 ، ص 53 ـ 62 ، وبحار الأنوار : ج
12 ، ص 14 ـ 55.). وقد ذكر تفاصيل هذه القصة في الآيات
51 إلى 70 من سورة الانبياء وها نحن ندرج كل هذه الآيات هنا :
« وَلَقَد
آتَيْنا إبْراهيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنّا بِهِ عالِميْن. إذْ قالَ لأَبيهِ
وَقومِه ما هذه الْتَّماثِيلُ الّتي أنْتُمْ لَها عاكِفونَ. قالُوا وَجَدْنا
آباءنا لَها عابديْن قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ وَآباؤكُمْ في ضَلال مُبين. قالوا
اجتنا بالْحق أمْ اَنتَ من اللاعبينَ قالَ بَل ربكم ربُ السماواتِ والأَرض
الَّذي فطرهُنَّ وأَنا على ذلِكُمْ مِنَ الشاهدينَ وَتالله لأَكيْدَنَّ أَصنامكم
بَعْدَ أنْ تُوَلُّوا مُدْبرين. فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إلاّ كَبيْراً لَهُمْ
لَعَلَّهُمْ إليْهِ يَرْجِعُونَ. قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِالهَتِنا إنَّهُ
لِمَنَ الظّالِمينَ. قالُوا سَمِعْنا فَتَى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ
إبْراهيْمَ. قالُوا : فَاتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النّاسِ لَعَلَّهُمْ
يَشْهَدُونَ قالُوا أأنْتَ فَعَلْتَ هذا بآلِهَتِنا يا إبْراهيمَ. قال بَلْ
فَعَلَهُ كَبْيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إنْ كانُوا يَنْطِقُونَ فَرجَعُوا إلى
أنفُسِهِمْ فقالُوا إنَّكُمْ أنتمُ الظّالِمونَ ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ
لَقَدء عَلِمْتَ ما هؤُلاء يَنْطِقُونَ. قالَ : اَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُون
اللّهِ ما لا يَنْفَعكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ. اُفّ لَكُمْ وَلما
تَعْبُدُونَ مِنْ دُون اللّه أفَلا تَعْقِلُونَ قالُوا حَرَّقُوهُ وَانْصُرُوا
الِهَتكُمْ إنْ كُنْتُمْ فاعِلينَ. قلْنا يا نارُ كُونيْ بَرْداً وَسَلاماً عَلى
إبراهيْمَ. وَأَرادُوا به كَيْداً فَجَعَلْناهُمْ الأَخْسرينَ
». وللوقوف على تفاصيل وخصوصيات ولادة
إبراهيم عليهالسلام وتحطيمه
للأصنام |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
العِبَر القيمة في
هذه القصّة :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
مع ان اليهود يعتبرون أنفسَهم في
مقدمة الموحِّدين ، لم ترد هذه القصة في ثوراتهم الحاضرة رغم كونها معروفة بينهم
، بل تفرّد القرانُ الكريم من بين الكتب السماوية بذكرها لأهميتها. من هنا فإننا نذكرُ
بعض النقاط المفيدة ، والدروس المهمة في هذه القصة الّتي يَهدِفُ القرآن من
ذكرها وذكر امثالها من قصص الأنبياء والرسل. 1 ـ إن هذه القصة خير شاهد على شجاعة
« إبراهيم الخليل » عليهالسلام
وبطولته الفائقة. فعزم ابراهيم على تحطيم الاصنام ،
ومحق وهدم كل مظاهر الشرك والوثنية المقيتة لم يكن امراً خافياً على النمروديين
لانه عليهالسلام كان قد
أظهر شجبه لها ، واعلن عن استنكاره لعبادتها وتقديسها من خلال كلماته القادحة
فيها ، واستهزائه بها ، فقد كان عليهالسلام
يقول لهم بكل صراحة بانه سيتخذ من تلك الاصنام موقفاً مّا إذا لم يتركوا عبادتها
وتقديسها ، فقد قال لهم يوم ارادوا ان يخرجوا إلى الصحراء لمراسيم العيد : «
وَتاللّه لأَكيْدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُولُّوا مُدْبِريْن » (الأنبياء : 57.).
ولقد كان موقف الخليل عليهالسلام ينم عن شجاعة كبرى فقد قال الإمام
الصادق عليهالسلام
في هذا الصدد : « ومنها ( اي وممّا تحلّى به النبيّ
ابراهيم ) الشجاعة وقد كشفت ( قضيةُ ) الاصنام عنه ، ومقاومة الرجل الواحد
اُلوفاً من أعداء اللّه عزّ وجلّ تمام الشجاعة » (بحار الأنوار : ج 12 ، ص 67.).
2 ـ ان ضربات « إبراهيم » القاضية
وان كانت في ظاهرها حرباً مسلحة ، وعنيفة ضد الاصنام إلا أن حقيقة هذه النهضة ـ
كما يُستفاد من ردود « إبراهيم » على أسئلة الذين حاكموه ، واستجوبوه ـ كانت ذات
صبغة تبليغية دعائية. فان « إبراهيم » لم يجد وسيلة لا
يقاظ عقول قومه الغافية ، وتنبيه فطرهم الغافلة ، إلا تحطيم جميع الاصنام ، وترك
كبيرها وقد علق القدوم على عاتقه ليدفع بقومه إلى التفكير في القضية من اساسها
وحيث أن العمل لم يكن اكثر من مسرحية إذ لا يمكن أن يصدق أحدهم بأن تلك الضربات
القاضية كانت من صنع ذلك الصنم الكبير وفعله حينئذ يستطيع إبراهيم أن يستثمر
فعله هذا في دعوته ، ويقول انَّ هذا الصنم الكبير لا يقدر ـ وباعترافكم ـ على فعل
أيّ شيء مهما كان صغيراً وحقيراً فكيف تعبدونه اذن؟! ولقد استفاد « إبراهيم » من هذه
العملية فعلا ، وتوصل إلى النتيجة الّتي كان يتوخاها ، فقد ثابوا إلى نفوسهم بعد
ان سمعوا كلمات « إبراهيم » عليهالسلام ،
واستيقظت ضمائرهم وعقولهم ووصفوا انفسهم بالظلم بعد أن تبيّن لهم الحق وبطل ما
كانوا يعبدون إذ قال تعالى : « فَرجَعُوا
إلى أنْفُسِهِمْ فَقالُوا إنَّكُمْ أَنْتُمْ الظّالِمُون
»
(الأنبياء : 64.)
وهذا بنفسه يفيد بأن سلاح الانبياء القاطع في بدء عملهم الرسالي كان هو : سلاح
المنطق والاستدلال ليس إلا ، غاية الأمر أن هذا كان يؤدي في كل دورة بما يناسبها
من الوسائل ، وإلاّ فما قيمة تحطيم عدد من الأَصنام الخشبية بالقياس إلى مخاطرة
النبيّ « ابراهيم الخليل » بنفسه وحياته ، وبالقياس إلى الاخطار الّتي كانت
تتوجه إليه نتيجة هذا العمل الصارخ. إذن فلابد ان يكون وراء هذه العملية
الخطيرة هدفٌ كبيرٌ وخدمة عظمى تستحق المخاطرة بالنفس ، ويستحق المرء امتداح
العقل له إذا عرّض حياته للخطر في سبيلها. 3 ـ لقد كان إبراهيم يعلم بأن هذا
العمل سيؤدي بحياته ، وسيكون فيه حتفه ، فكانت القاعدة تقتضي أن يسيطر عليه قلقٌ
واضطرابٌ شديدان ، فيتوارى عن اُعين الناس ، أو يترك المزاح ، والسخرية
بالأَصنام على الأقل ، ولكنه كان على العكس من ذلك رابط الجأش ، مطمئن النفس ،
ثابتَ القدم ، فهو عندما دخَلَ في المعبد الّذي كانت فيه الأصنامُ تقدم بقطعة من
الخبز إلى الاصنام ودعاها ساخراً بها ، إلى الاكل ، وثم ترك الأَصنام بعد اليأس
منها تلاّ من الخشب المهشم ، واعتبر هذا الامرَ مسألة عادية لا تستأهل الوَجلَ
والخوف ، وكأنه لم يفعل ما يستتبع الموت المحقَّق ويستوجب الاعدام المحتّم. فهو عندما يأخذ مكانه امام هيئة
القضاة يقول معرضاً بالاصنام : فعله كبير الأصنام فاسئلوه ولا شك أن هذا التعريض
والسخرية بالاصنام إنما هو موقف من لا يوجس خيفة ، ولا يشعر بوجَل من عمله ، بل
هو فعل من قد هيّأ نفسه لكل الاخطار المحتملة ، واستعد لكل النتائج مهما كانت
خطيرة. بل الأعجبُ من هذا كله دراسة وضع «
إبراهيم » نفسه حينما كان في المنجنيق وقد تيقّن أنه سيكون وسط ألسنة اللهب بعد
هنيئة ، وتلتهمه النار المستعرة تلك النار الّتي جمع اهل « بابل » لها الحطب
الكثير تقرباً إلى آلهتهم ، وكانوا يعتبرون ذلك العمل واجباً مقدساً ... تلك
النار الّتي كان لهيبا من القوة بحيث ما كانت الطيور تستطيع من التحليق على مقربة
منها. في هذه اللحظة الخطيرة الحساسة جاءه
جبرئيل واعلن عن استعداده لانقاذه وتخليصه من تلك المهلكة الرهيبة قائلا له : هل
لك إليّ من حاجة؟ فقال « إبراهيم » : أما إليك فلا ،
وأما إلى ربِّ العالمين فنعم (عيون أخبار الرضا : ص 136 ، وأمالي الصدوق : ص 274 ، وبحار الأنوار :
ج 12 ، ص 35.).
ان هذا الجواب يجسِّدُ ايمان «
إبراهيم » العظيم ، وروحه الكبرى. لقد كان « نمرود » الّذي جلس يراقب
تلك النار من عدة فراسخ ، ينتظر بفارغ الصبر لحظة الانتقام ، وكان يحب ان يرى
كيف تلتهم ألسنة النار « إبراهيم ». فما أرهب تلك اللحظات! لقد اشتغل المنجنيقُ ، وبهزّة واحِدة
اُلقي بإبراهيم عليهالسلام في وسط
النار غير أَن مشيئة اللّه ، وارادته النافذة تدخلت فوراً لتخلص خليل اللّه
ونبيه العظيم ، فحوّلت تلك النّار المحرقة الّتي أوقدتها يَدُ البشر إلى روضة
خضراء وجنينة زاهرة ادهشت الجميع حتّى أَنَّ « إبراهيم » التفت إلى « آزر » وقال
ـ من دون ارادته ـ : « يا آزر ما اكرم إبراهيم على ربّه » (تفسير البرهان : ج 3 ، ص 64.).
إن انقلاب تلك النّار الهائلة إلى
روضة خضراء لإبراهيم قد تمّ بأمر اللّه المسبب للإسباب والمعطل لها متى شاء ،
المعطي لها آثارها ، والسالب عنها ذلك ، متى اراد. اجل إن اللّه الّذي منح الحرارة
للنّار والاضاءة للقمر ، والاشعاع للشمس لقادر على سلب هذه الآثار وانتزاعها من
تلك الاشياء وتجريدها ، ولهذا صحَّ وصفُه بمسبب الاسباب ، ومعطلها. غير ان جميع هذه الحوادث الخارقة
والآيات الباهرة لم تستطع ان توفر لابراهيم الحرية الكاملة في الدعوة والتبليغ ،
فقد قررت السلطة الحاكمة وبعد مشاورات ومداولات إبعاد « إبراهيم » ونفيه ، وقد
فتح هذا الأَمرُ صفحة جديدة في حياة ذلك النبيّ العظيم ، وتهيأت بذلك اسبابُ
رحلته إلى بلاد الشام وفلسطين ومصر وارض الحجاز. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
هجرة
الخليل عليهالسلام
:
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد حكمت محكمة « بابل » على «
إبراهيم » بالنفي والإبعاد من وطنه ، ولهذا اضطرّ عليهالسلام
ان يغادر مسقط رأسه ، ويتوجه صوبَ فلسطين ومصر ، وهناك واجه استقبال العمالقة
الذين كانوا يحكمون تلك البقاع وترحيبهم الحار به ونعم بهداياهم الّتي كان من
جملتها جارية تدعى « هاجر ». وكانت زوجته « سارة » لم
تُرزق بولد إلى ذلك الحين ، فحركت هذه الحادثة عواطافها ومشاعرها تجاه زوجها
الكريم إبراهيم ولذلك حثته على نكاح تلك الجارية عله يُرْزَقُ منها بولد ، تقرّ
به عينه وتزدهر به حياته. فكان ذلك ، وولدت « هاجر » لإبراهيم
ولداً ذكراً سمي باسماعيل ، ولم يمض شيء من الزمان حتّى حبلت سارة هي أيضاً
وولدت ـ بفضل اللّه ولطفه ـ ولداً سمي باسحاق (بحار الأنوار : ج 12 ، ص 118 و 119.).
وبعد مدة من الزمان أمر اللّه تعالى
« إبراهيم » بان يذهب بإسماعيل واُمه « هاجر » إلى جنوب الشام « أي ارض مكة »
ويُسكِنهما هناك في واد غير معروف إلى ذلك الحين ... واد لم يسكنه أحدٌ بل كانت
تنزل فيه القوافل التجارية الذاهبة من الشام إلى اليمن ، والعائدة منها إلى
الشام ، بعض الوقت ثم ترحل سريعاً ، وأما في بقية أوقات السنة فكانت كغيرها من
أراضي الحجاز صحراء شديدة الحرارة ، خالية عن أي ساكن مقيم. لقد كانت الاقامة في مثل تلك الصحراء
الموحشة عملية لا تطاق بالنسبة لأمرأة عاشت في ديار العمالقة والفت حياتهم
وحضارتهم ، وترفهم وبذخهم. فالحرارة اللاهبة والرياح الحارقة في
تلك الصحراء كانت تجسّد شبح الموت الرهيب امام ابصار المقيمين. وإبراهيم نفسه قد انتابته كذلك حالةٌ
من التفكير والدهشة لهذا الامر ، ولهذا فإنّه فيما كان عازماً على ترك زوجته «
هاجر » وولده « إسماعيل » في ذلك الواد قال لزوجته « هاجر » وعيناه تدمعان : «
إن الّذي أمرني أن أضعَكُمْ في هذا المكان هو الّذي يكفيكم ». ثمّ قال في ضراعة خاصة : « ربِّ اجْعِلْ هذا بَلَداً آمِناً وَاْرزُقْ
أهْلَهُ مِنَ الَثمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللّه وَالْيَوْمِ الآخِر »
(البقرة : 126.).
وعندما انحدر من ذلك الجانب من الجبل
التفت اليهما وقال داعياً : « رَبَّنا
إنّي أسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَتي بِواد غَيْر ذِيْ زَرْع عِنْد بَيْتكَ الُمحَرَّم
رَبَّنا لِيُقيْمُوا الصّلاة فَاجْعَلْ أفْئدَةً مِنَ النّاسِ تَهْويْ إلَيْهِمْ
وَاْرزُقْهُمْ مِنَ الَّْثمراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُون »
(إبراهيم : 37.).
إنَ هذا السفرة والهجرة وإن كانت في
ظاهرها امراً صعباً ، وعملية لا تطاق ، إلا أن نتائجها الكبرى الّتي ظهرت في ما
بعد أوضحت وبيّنت أهميّة هذا العمل ، لأنّ بِناء الكعبة ، وتأسيس تلك القاعدة
العظمى لأهل التوحيد ، ورفع راية التوحيد في تلك الربوع ، وخلق نواة نهضة ، عميقة
، دينية ، انبثقت على يد رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وشعّت من تلك الديار إلى أنحاء العالم ، كلُ ذلك كان من ثمار تلك الهجرة. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
عين
زمزم كيف ظهرت؟
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد غادر « إبراهيم » عليهالسلام
أرض مكة تاركاً زوجته وولده « إسماعيل » بعيون دامعة ، وقلب يملأوه الرضا بقضاء
اللّه والامل بلطفه وعنايته. فلم تمض مدة إلا ونفد ما ترك عندهما
من طعام وشراب ، وجف اللبن في ثديي « هاجر » ، وتدهورت أحوال الرضيع « إسماعيل »
، وكانت دموع الام الحزينة تنحدر على حجره ، وهي تشاهد حال وليدها الّذي قد أخذ
العطش والجوع منه مأخذاً. فانطلقت من مكانها فجأة تبحث عن
الماء حتّى وصلت إلى جبل « الصفا » فرأت من بعيد منظر ماء عند جبل « مروة » ،
فاسرعت إليه مهرولة ، غيران الّذي رأته وظنته ماء لم يكن الاّ السراب الخادع ،
فزادها ذلك جزعاً وحزناً على وليدها ممّا جعلها تكرر الذهاب والاياب إلى الصفا والمروة
أملا في أن تجد الماء ولكن بعد هذا السعي المتكرر ، والذهاب والاياب المتعدد بين
الصفا والمروة عادت إلى وليدها قانطةً يائسةً. كانت أنفاس الرضيع الظامئ ودقّات
قلبه الصغير قد تباطأت بل واشرفت على النهاية ، ولم يعد ذلك الرضيع الظامئ
قادراً على البكاء ولا حتّى على الانين. ولكن في مثل هذه اللحظة الحرجة
الصعبة استجاب اللّه دعاء خليله وحبيبه « إبراهيم » ، إذ لاحظت هاجر الماء
الزلال وهو ينبع من تحت اقدام « اسماعيل ». فسرت تلك الام المضطربة ـ الّتي كانت
تلاحظ وليدها وهو يقضي اللحظات الاخيرة من حياته ، وكانت على يقين بانه سرعان ما
يموت عطشاً ، وجهداً ـ سروراً عظيما بمنظر الماء ، وبرق في عينيها بريق الحياة ،
بعد ان اظلمت الدنيا في عينيها قبل دقائق ، فشربت من ذلك الماء العذب ، وسقت منه
رضيعها الظامئ ، وتقشعت بلطف اللّه وعنايته وبما بعثه من نسيم الرحمة الربانية
كل غيوم اليأس ، وسحُب القنوط الّتي تلبدت وخيمت على حياتها. ولقدادى ظهور هذه العين الّتي تدعى
بزمزم في ان تتجمع الطيور في تلك المنطقة وتحلق فوق تلك البقعة الّتي لم يُعهد
أن حلَّقت عليها الطيور ، وارتادتها الحمائم ، وهذا هو ما دفع بجرهم وهي قبيلة
كانت تقطن في منطقة بعيدة عن هذه البقعة ان تتنبه إلى ظهور ماء فيها لما رأت
تساقط الطيور وتحليقها ، فأرسلت واردين ليتقصيا لها الخبر ويعرفا حقيقة الأمر ،
وبعد بحث طويل وكثير ، انتهيا إلى حيث حلت الرحمة الالهية ، وعندما اقتربا إلى «
هاجر » وشاهدا بام عينيهما « امرأة » و « طفلا » عند عين من الماء الزلال الّذي
لم يعهداه من قبل عادا من فورهما من حيث أتيا ، وأخبرا كبار القبيلة بما شاهداه
، فاخذت الجماعة تلو الجماعة من تلك القبيلة الكبيرة تفد إلى البقعة المباركة ،
وتخيم عند تلك العين لتطرد عن « هاجر » وولدها مرارة الغربة ، ووحشة الوحدة ،
وقد سبب نمو ذلك الوليد المبارك ورشده في رحاب تلك القبيلة في ان يتزوج إسماعيل
هذا من تلك القبيلة ، ويصاهرهم ، وبذلك يحظى بحمايتهم له ، وينعم بدفاعهم
ورعايتهم ومحبتهم له. فانه لم يمض زمانٌ حتّى أختار « إسماعيل » زوجة من هذه
القبيلة ، ولهذا ينتمي ابناء « إسماعيل » إلى هذه القبيلة من جهة الاُم. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
تجديد
اللقاء
:
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
كان إبراهيم عليهالسلام
بعد أن ترك زوجته « هاجر » وولده « إسماعيل » في ارض « مكة » بأمر اللّه ، يتردد
على ولده بين فينة واُخرى. وفي احدى سفراته
ولعلّها السفرة الاُولى دخل « مكة » فلم يجد ولده « إسماعيل » في بيته ، وكان
ولده الّذي أصبح رجلا قوياً ، قد تزوج بامرأة من جرهم. فسأل « إبراهيم » زوجته قائلا : اين
زوجك؟ فقالت : خرج يتصيَّد ، فقال لها : هل عندك ضيافة؟ قالت : ليس عندي شيء وما
عندي أحد ، فقال لها إبراهيم : « إذا جاء زوجك فأَقرئيه السلام وقولي له :
فَلْيغيّر عتبة بابه ». وذهب إبراهيم عليهالسلام منزعجاً من معاملة زوجة ابنه «
إسماعيل » له وقد قال لها ما قال. ولمّا جاء إسماعيل عليهالسلام
وجد ريح ابيه فقال لامرأته : هل جاءك احد؟ قالت : جاءني شيخ صفته كذا وكذا
كالمستخّفِة بشأنه ، قال : فماذا قال لك : قالت : قال لي أقْرئي زوجك السلام وقولي له : فليغيّر عتبة بابه!! فطلقها وتزوج اُخرى ، لأن مثل هذه
المرأة لا تصلح ان تكون زوجة وشريكة حياة (بحار الأنوار : ج 12 ، ص 112 نقلا عن قصص الأنبياء.).
وقد يتساءل أحد :
لماذا لم يمكث إبراهيم عليهالسلام هناك
قليلا ليرى ولده إسماعيل بعد عودته من الصيد ، وقد قطع تلك المسافة الطويلة ،
وكيف سمح لنفسه بان يعود بعد تلك الرحلة الشاقة من دون ان يحظى برؤية ابنه
العزيز؟! يجيب ارباب التاريخ
على ذلك بان إبراهيم انما استعجل في العودة من حيث اتى لوعد اعطاه لزوجته سارة
بأن يعود اليها سريعاً ، ففعل ذلك حتّى لا يخلف. وهذا من اخلاق الانبياء. ثمّ إن « إبراهيم » سافر مرة اُخرى
إلى أرض مكة بأمر اللّه ، وليبني الكعبة الّتي تهدمت في طوفان « نوح » ، ليوجّه
قلوب المؤمنين الموحدين إلى تلك النقطة. إن القرآن الكريم يشهد بأن أرض « مكة
» قد تحولت إلى مدينة بعد بناء الكعبة قبيل وفاة إبراهيم عليهالسلام
، لأن إبراهيم دعا بُعَيد فراغه من بناء الكعبة قائلا : « رَبِّ اجْعَلْ هذا البَلَد آمِناً وَاجْنُبْني
وَبَنِيِّ أنْ نَعْبُدَ الأَصْنام » (إبراهيم : 35.)
على
حين دعا عند نزوله مع زوجته ، وابنه إسماعيل في تلك الأَرض قائلا : « رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً
» (البقرة : 126.).
وهذا يكشف عن ان مكة
تحولت إلى مدينة عامرة في حياة الخليل عليهالسلام ، بعد ان كانت صحراء قاحلة ، وواد غير
ذي زرع. * * * ولقد كان من المُستحْسَن اسْتكمالا
لهذا البحث أن نشرح هنا كيفية بناء الكعبة المعظمة ، ونستعرض التاريخ الاجمالي
لذلك ، بيد أننا لكي لا نقصر عن الهدف المرسوم لهذا الكتاب اعرضنا عن ذلك وعمدنا
إلى ذكر بعض التفاصيل عن أبرز واشهر أجداد رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
في التاريخ. 2 ـ
قُصَيُّ بنُ كلاب :
إن أسلاف الرَّسول العظيم صلىاللهعليهوآلهوسلم
هم على التوالي : عَبْدُ اللّه ، عَبْد الْمُطَّلِبْ ، هاشِم ، عبدُ مَناف ،
قُصّيّ ، كِلابٌ ، مُرَّة ، كَعْب ، لُؤيّ ، غالِب ، فِهْر ، مالِك ، النَضر ،
كِنانة ، خُزيمَة ، مدُركة ، إلياس ، مُضَر ، نَزار ، مَعدّ ، عَدنان (التاريخ الكامل : ج 2 ، ص 2 ـ 21.).
من المسلّم أنّ نسب النبي الاكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم
إلى عدنان هو ما ذُكر ، فلا خلاف فيه ، إنما وقع الخلاف في عدد ، واسماء من هم
بعد عدنان إلى إسماعيل عليهالسلام ، ولذلك لم يجز التجاوز عنه لحديث رواه ابن عباس عن رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم إذ قال :
« إذا بَلَغَ نَسَبي إلى عَدْنان فأَمْسِكُوا » (بحار الأنوار : ج 15 ، ص 105 عن مناقب ابن شهرآشوب ، وكشف الغمّة : ج
1 ، ص 15.)
هذا مضافاً إلى أَن النبيّ نفسه كان إذا عدّد أجداده فبلغ إلى عدنان أمسك ، ونهى
عن ذكر من بعده إلى إسماعيل ، وقد روي عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم
أنه قال : كَذِبَ النَسّابُونَ. ولهذا فإننا نكتفي
بذكر من اُتفِق عليه ، ونعمد إلى الحديث عن حياة كلِ واحد منهم. ولقد كان كلُ من ذكرنا أسماءهم هنا
معروفين ، ومشهورين في تاريخ العرب ، بيد أن حياة طائفة منهم ترتبط بتاريخ
الإسلام ، ولهذا فاننا نقف عند حياة « قصيّ » ومَن لحقه إلى والد النبيّ « عبد
اللّه » ونعرض عن ذكر حياة غيرهم من أجداده وأسلافه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ممّن لا علاقة له بهذه الدراسة (لقد بحث ابن الأثير في الكامل حول حياتهم فراجع : ج 2 ، ص 15 ـ 21.).
أمّا « قُصَيّ » وهو
الجدّ الرابع لرسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
فاُمّة « فاطمة » الّتي تزوجت برجل من بني كلاب ورزقت منه بولدين هما : « زهرة »
و « قصي » إلاّ أن زوج فاطمة قد توفي ، وهذا الاخير لم يزل
في المهد ، فتزوجت بزوج آخر يدعى ربيعة ، وسافرت معه إلى الشام ، وبقي « قصيّ »
يحظى برعاية أبوية من ربيعة حتّى وقع خلاف بين قصيّ وقوم ربيعة ، واشتد ذلك
الخلاف حتّى انتهى إلى طرده من قبيلتهم ، ممّا أحزن ذلك أُمّه ، واضطرت إلى
إرجاعه إلى « مكة ». وهكذا اتت به يد القدر إلى « مكة » ،
وسبّبت قابلياته الكامنة الّتي برزت في تلك المدينة في تفوقه على أهل مكة وبخاصة
قريش. وسرعان ما احتلَّ قصيّ هذه المقامات
العالية ، وشغل المناصب الرفيعة ، مثل حكومة « مكة » وزعامة قريش ، وسدانة
الكعبة المعظمة ، وصار رئيس تلك الديار دون منازع. ولقد ترك ( قصيّ ) من بعده آثاراً
كثيرة وعديدة منها تشجيع الناس على بناء المساكن والبيوت حول الكعبة المعظمة ،
وتأسيس مكان للشورى ليجتمع فيه رؤساء القبائل العربية من اجل التداول في الامور
وحل المشاكل يدعى بدار الندوة. وقد توفي « قصيّ » في
القرن الخامس الميلادي وخلف من بعده ولدين هما : « عبد الدار » و « عبد
مناف ». 3 ـ
عبد مناف :
وهو الجدّ الثالث
لرسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
واسمه « المغيرة » ولقبه « قمر البطحاء » ، وكان أصغر
من اخيه « عبد الدار » إلا أنه كان يحظى بمكانة خاصة عند الناس دون أخيه ، وكان
شعاره التقوى ، ودعوة الناس إلى حسن السيرة وصلة الرحم ، بيد انه مع ما كان له
من المكانة القوية لم ينافس اخاه « عبد الدار » في المناصب العالية الّتي كان
يشغلها. فقد كانت الزعامة
لاخيه عبد الدار حسب وصيّة أبيهما « قصيّ ». ولكن بعد وفاة هذين
الأَخوين وقع الخصام والتنازع بين أَبنائهما على المناصب ،
وانتهى ذلك بالصراع الطويل إلى اقتسام المناصب والمقامات ، وتقرر ان يتولى ابناء
عبد الدار سدانة الكعبة ، وزعامة دار الندوة ، ويتولى ابناء عبد مناف سقاية
الحجيج وضيافتهم ووفادتهم. وقد بقي هذا التقسيم
المتفق عليه ساري المفعول إلى زمن ظهور الإسلام (لم تكن هناك مناصب للكعبة يوم اُسّست ورُفعَ قواعدُها بل حدث كل ذلك
تدريجاً بحكم المقتضيات والتطوّرات ، وكانت هذه المناصب التي استمرت إلى زمن
ظهور الإسلام عبارة عن : 1 ـ سدانة الكعبة. 2 ـ سقاية الحجيج. 3 ـ رفادتهم وضيافتهم. 4 ـ زعامة المكيين وقيادة
جيشهم. ولم يكن هذا الأخير منصباً ذا صبغة دينية.). 4 ـ
هاشم :
وهو الجدُّ الثاني
لنبي الإسلام واسمه « عَمْرو » ولقبه « العُلاء » وهو الّذي وُلِدَ مع « عبد شمس
» توأمين ، وأخواه الاخران هما : « المطلب » و « نوفل ». هذا وثمة خلاف بين ارباب السيَر
وكتاب التاريخ في أن هاشماً وعبد شمس
كانا توأمين ، وأن هاشما ولد واصبعٌ واحدة من اصابع قدمه ملصقة بجبهة « عبد شمس
» وقد نزعت بسيلان دم ، فتشاءم الناس لذلك (تاريخ الطبري : ج 2 ، ص 13.)
يقول
الحلبي في سيرته : فكانوا يقولون : سيكون بينهما دم فكان بين ولديهما اي بين بني
العباس( وهم من اولاد هاشم ) وبين بني امية (
وهم من اولاد عبد شمس ) (السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 4.).
وكأنّ كاتب السيرة قد
تجاهل الحوادث المحزنة والمؤسفة الّتي وقعت بين بني امية وابناء علي عليهالسلام في حين أن
تلك الحوادث الدامية الّتي تسببها بنو امية واُهرقَت فيها دماء ذرية رسول الله
وعترته الطاهرة ، اقوى شاهد على تلك العداوة بين هاتين الطائفتين ، ولكننا لا ندري لماذا تجاهل ذكرها مؤلف السيرة الحلبية ولم يشر
اليها مطلقاً؟! ثم ان من خصوصيات
أبناء « عبد مناف » حسبما يُستفاد من الأدب الجاهلي ،
وما جاء فيه من أشعار ، أنهم توفوا في مناطق
مختلفة. فهاشم ـ مثلا ـ توفي
في « غزة » وعبد شمس مات في مكة ، ونوفل في ارض العراق ، والمطلب في ارض اليمن
(السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 5.).
وكان من سجايا هاشم
واخلاقه الفاضلة أنه كان كلّما هَلَّ هلال شهر ذي
الحجة قام صبيحته ، وأسند ظهره إلى الكعبة المشرفة ، وخطب قائلا : « يا معشر قريش إنكم
سادة العرب وأحسنها وجوهاً ، وأعظمها احلاماً ( اي عقولا ) وأوسط العرب ( أي
أشرَفها ) أنساباً ، واقرب العرب بالعرب أرحاماً. يا معشر قريش إنكم جيرانُ بيت اللّه
تعالى اكرمكُمُ اللّه تعالى بولايته ، وخصكم بجواره ، دون بني إسماعيل ، وانه
ياتيكم زوّار اللّه يعظمون بيته فهم أضيافه وأحق من اكرم أضياف اللّه انتم ،
فاكرموا ضيفه وزوّاره ، فانهم يأتون شعثاً غبراً من كل بلد على ضوامر كالقداح ،
فاكرموا ضيفه وزوّار بيته ، فوربّ هذه البنية لو كان لي مال يحتمل ذلك لكفيتكموه
، وأنا مخرجٌ من طَيب مالي وحلاله ما لم يُقطعْ فيه رحم ، ولم يؤخذْ بظلم ، ولم
يُدخل فيه حرامٌ ، فمن شاء منكم ان يفعل مثل ذلك فعلَ ، وأسألكم بحرمة هذا البيت
أن لا يخرج رجلٌ منكم من ماله لكرامة زوّار بيت اللّه وتقويتهم إلا طيباً لم
يؤخذ ظلماً ، ولم يقطع فيه رحمٌ ، ولم يؤخذ غصباً »
(السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 6.).
ولقد كانت زعامة « هاشم » وقيادته نافعة
للمكيّين من جميع النواحي ، وكان لها تأثيرٌ كبيرٌ في تحسين أوضاعهم. ولقد سبّب كرمُه وما قام به من إطعام
واسع في سنوات الجدب القاسية في تخفيف شدة الوطأة عن أهل مكة ، وبالتالي ادى إلى
عدم احساسهم بالقحط ، وآثار الجدب. كما أنّ من خطواته البارزة واعماله
النافعة جداً لتحسين الحالة التجارية للمكيّين هو ما عقده مع أمير « غسان » من
المعاهدة ، الأمر الّذي دفع بأخيه « عبد شمس » إلى أن يعاهد أمير الحبشة ، وبأخويه
الآخرين « المطلب » و « نوفل » إلى ان يعاهدا أمير اليمن وملك ايران تكون
القوافل التجارية بموجب تلك المعاهدات للجانبين في أمان ، من العدوان والتعرض. وقد أزالت هذه
المعاهداتُ الكثير من المشاكل ، وكانت وراء ازدهار التجارة في « مكة المكرمة »
حتّى عهد بزوغ شمس الإسلام. ثم ان من أعمال « هاشم » وخطواته
النافعة تأسيسُه لرحلتي قريش اللتين يتحدث
عنهما القرآن الكريم إذ يقول : « رحْلة الشتاء والصْيف » وهما رحلة إلى الشام ،
وكانت في الصيف ، ورحلة إلى اليمن ، وكانت في الشتاء ، وقد استمرت هذه السيرة
حتّى ما بعد ظهور الإسلام ايضاً. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
اُميّة بن عبد شمس
يحسد هاشماً :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ولقد حسد « اُمية بن عبد شمس » أبن
أخي هاشم عمَّه « هاشماً » على ماحظي به من المكانة والعظمة ، والنفوذ إلى قلوب
الناس وجذبها نحوه بسبب خدماته وأياديه ، وما كان يقوم به من بذل وانفاق ، وحاول
جاهداً ان يقلده ويتشبه بهاشم في سلوكه ولكنه رغم كل ما قام به من جهود ومحاولات
لم يستطع أن يتشبه به ويتخذ سيرته ، وكما لم يستطع بايقاعه وطعنه به ان يُقلل من
شأنه بل زاده رفعة وعظمة. لقد كان لهيب الحسد في
قلب « اُمية » يزداد اشتعالا يوماً بعد يوم ، حتى 1 ـ أن يعطي المغلوبُ خمسين من
النيَاق سود الحدق تنحر بمكة. 2 ـ جلاء المغلوب عن مكة عشر سنين. ومن حسن الحظِّ
أن ذلك الكاهن نَطق بمدح « هاشم » بمجرد أن وقعت عيناه عليه فقال : « والقمر
الباهر ، والكوكب الزاهر ، والغمام الماطر ... لقد سبق هاشمُ اُميّة إلى المآثر
» إلى آخر كلامه. وهكذا قضى لهاشم بالغلبة فأخذ الابل فنحرها وأطعمها واضطر
أُمية إلى الجلاء عن مكة والعيش بالشام عشر سنين (الكامل لابن الاثير : ج 2 ، ص 10 ، والسيرة الحلبية : ج 1 ، ص 4.).
وقد استمرتْ آثارُ هذا
الحسد التاريخي إلى 130 عاماً بعد ظهور الإسلام ، وتسببت في جرائم وفجائع كبرى
عديمة النظير في التاريخ. ثم ان القصة السابقة
مضافاً إلى انها تبين مبدأ العداوة بين الأُمويين
والهاشميين تبيّن أيضاً علل نفوذ الاُمويين في
البيئة الشامية ، ويتبين أن علاقات الأُمويين العريقة
بأهل هذه المنطقة هي الّتي مَهّدت لقيام الحكومة الأموية في تلك الديار. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
هاشم يَتَزوَّج ...
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
كانت « سلمى » بنت «
عمرو الخزرجي » امرأة شريفة في قومها ، قد فارقت زوجها بطلاق ،
وكانت لا ترضى بالزواج من أحد ، ولدى عودة « هاشم » من بعض أسفاره نزل في يثرب
أياماً فخطبها إلى والدها ، فرغبت سلمى فيه لشرفه في قريش ، ولنبله وكرمه ، ورضيت بالزواج منه بشرطين : أحدهما أن
لا تلد ولدها إلاّ في اهلها ، وحسب هذا
الاتفاق بقيت « سلمى » مع زوجها « هاشم » في مكة بعض
الوقت حتّى إذا ظهر عليها آثار الحمل رجعت إلى : « يثرب » وهناك وضعت ولداً اسموه « شيبة ». وقد اشتهر في ما بعد ب « عبد
المطلب ». وكتب المؤرخون في علة
تسميته بهذا الاسم بأن هاشماً لما أحسّ بقرب انصرام
حياته قال لاخيه « المطلب » : يا أخي أدرك
عبدك شيّبة. ولذلك سُمّيَ شيبة بن هاشم : « عبد المطلب ». وقيل أن أحد المكيين مرّ على غلمان
يلعبون في زقاق من ازقة يثرب ، وينتضلون بالسهام ، ولما سبق أحدُهم الآخرين في
الرمي قال مفتخراً : « أنا ابنُ سيّد البطحاء » فسأله الرجل عن نسبه وابيه فقال
: أنا شيبة بن هاشم بن عبد مناف ، فلما قدم الرجلُ مكة اخبر « المطلب » أخي «
هاشم » بما سمعه ورآه ، فاشتاق « المطلبُ » إلى ابن أخيه فذهب إلى المدينة ،
ولما وقعت عيناه على ابن اخيه « شيبة » عرف شبه أخيه هاشم ، وتوسَّم فيه ملامحه
، ففاضت عيناه بالدموع ، وتبادلا قُبُلات الشوق ، والمحبة ، وأراد أن ياخذه معه
إلى « مكة » وكانت اُمُه تمانع من ذلك ، ولكن ممانعتها كانت تزيد من عزم العمّ
على أخذه إلى « مكة » واخيراً تحققت اُمنية
العم فقد استطاع « المطلبُ » أن يحصل على اذن اُمه ، فاردفه خلفه وتوجّه حدب «
مكة » تدفعه رغبة طافحة إلى إيصاله إلى والده هاشم. وفعلت شمسُ الحجاز واشعتها الحارقة
فعلتها في هذه الرحلة فقد غيَّرت لون وجه شيبة وأبلت ثيابه ، ولهذا ظنَّ أهل « مكة
» عند دخوله مع عمه « مكة » أنه غلام اقتناه « المطلبُ » فكان يقول بعضهم لبعض : هذا عبد المطلب ،
وكان المطلب ينفي هذا الامر ،
ويقول : إنما هو ابن أخي هاشم وما هو بعبدي ، ولكن ذلك
الظن هو الآخر فعل فعلتَه ، وعُرف « شيبة » بعبد المطلب (الكامل لابن الاثير : ج 2 ، ص 6 ، وتاريخ الطبري : ج 2 ، ص 8 و 9 ،
السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 6.).
وربما يقال : أن
سبب شهرته بهذا الإسم هو انه تربى وترعرع في
حجر عمّه « المطلب » وكانت العربُ تسمي من يترعرع في حجر أحد وينشأ تحت رعايته عبداً لذلك الشخص
تقديراً لجهوده وتثميناً لرعايته. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
5 ـ عبدُ المطّلب :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
عبدُ المطّلب بن هاشم
وهو الجدّ الأول للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
كان رئيس قريش وزعيمها المعروف ، وكانت له
مواقف بارزة ، وأعمال عظيمة في حياته ، وحيث أن ما وقع من الحوادث في ايام حكمه
يرتبط ارتباطاً وثيقاً بتاريخ الإسلام ولهذا يتعين علينا دراسة بعض تلكم الحوادث
والوقائع. لا شك أن المرء مهما تمتع بنفسية
قوية فانه سيتأثر ـ في المآل ـ ببيئته وعاداتها ، وتقاليدها ، الّتي تصبغ فكره ،
بصبغة خاصة ، وتطبع عقليته بطابع معين. بيد أن هناك بين الرجال من يقاوم
تاثير العوامل البيئية بمنتهى الشهامة والشجاعة ، ويصون نفسه من التلوث بشيء من
أدرانها وأقذارها. وبطلُ حديثنا هنا هو
احد النماذج الصادقة لاولئك الرجال العظماء لان في حياته صفحات مشرقة عظيمة ،
وسطوراً لا معة تنبئ عن نفسيته القوية ، وشخصيته الشامخة. فان الّذي يعيش ثمانين عاماً في وسط
اجتماعي تسود فيه الوثنية ، ومعاقرة الخمر ، والربا ، وقتل الأنفس البريئة ،
والفحشاء حتّى ان هذه الامور كانت من العادات والتقاليد الشائعة ، ولكنه مع ذلك
لم يعاقر الخمر طوال حياته ، وكان ينهى عن القتل والخمر والفحشاء ، ويمنع عن
الزواج بالمحارم ، والطواف بالبيت المعظم عرياناً ، وكان ملتزماً بالوفاء بالعهد
، واداء النذر بلغ الامر ما بلغ ، لهو ـ حقاً ـ نموذجٌ صادقٌ من الرجال الذين
يندر وجودُهم ، ويقل نظيرهم في المجتمعات. أجل إن شخصية اودعت يد المشيئة
الربانية بين حناياها نور النبي الاكرم أعظم قائد عالمي ، يجب ان يكون إنساناً
طاهر السُلوك ، نقيَّ الجيب منزهاً عن أي نوع من أنواع الانحطاط ، والفساد. هذا ويستفاد من بَعض قصصه وكلماته
القصار أنه كان أحد الرجال المعدودين الذين كانوا يؤمنون باللّه واليوم الآخر في
تلك البيئة المظلمة ، وكان يردِّدُ دائماً : « لَنْ يخرج من الدنيا ظلومٌ حتّى
ينتقم منه ، وتصيبُه عقوبة ... واللّه ان وراء هذه الدار داراً يجزى فيها
المحسنُ بإحسانِه ، ويعاقَبُ فيها المسيء باساءته » (السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 4.)
اي ان الظلوم شأنه في الدنيا أن تصيبه عقوبة ، فاذا خرج ولم تصبه العقوبة فهي
معدّة له في الآخرة. ولقد كان « حرب بن
اُمية » من أقربائه ، وكان من اعيان قريش ووجوهها أَيضاً
، وكان يجاور يهودياً فاتفق أن وقع بينه وبين حرب نزاع في بعض اسواق تهامة ،
تبودلت بينهما فيه كلمات جارحة ، وانتهى ذلك إلى
مقتل اليهودي بتحريك من « حرب » ، ولما علم « عبدُ المطّلب »
بذلك قطع علاقته بحرب ، وسعى في أستحصال دية اليهودي المقتول من « حرب » ودفعها
إلى اولياء القتيل ، وهذه القصة تكشف عن
حبّ عبد المطلب للمستضعفين والمظلومين وحبه للحق والعدل. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
حَفرُ زَمزَم :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
منذ أن ظهرت عين زمزم نزلت عندها
قبيلة جُرهم الّتي كانت بيدها رئاسة مكة طوال سنين مديدة ، وكانت تستفيد من مياه
تلك العين ، ولكن مع ازدهار أمر التجارة في « مكة » ، واقبال الناس على الشهوات
والمفاسد آل الأمر إلى جفاف تلك العين ، ونضوب مائها بالمرة
(لا ريب أنّ تفشي الذنوب والمعاصي بين الناس من عوامل نزول البلايا
والكوارث ولا يبعد أن تكون الأعمال المخزية من موجبات الجدب والقحط والمجاعات ،
وهذه الحقيقة مضافاً إلى انطباقها على القواعد الفلسفية ممّا صرح به القرآن
الكريم والسنّة الشريفة ، راجع سورة الأعراف ، الآية : 96.).
ويقال : أن قبيلة «
جُرهُم » لما واجهت تهديداً من جانب قبيلة خزاعة واضطرت
إلى مغادرة تلك الديار ، وايقن زعيمها « مضامن بن عمرو » بانه سرعان ما يفقد
زعامته ، ويزول حكمه وسلطانه بفعل هجوم العدو ، امر بان يُلقى الغزالان الذهبيان
، والسيوف الغالية الثمن الّتي كانت قد اُهديت إلى الكعبة ، في قعر بئر زمزم ،
ثم يملأ البئر بالتراب ويعفى اثره إعفاء كاملا حتّى لا يهتدي خصومه إلى مكانه
ابداً ، حتّى إذا عادت إليه زعامته وعاد إلى مكة استخرج ذلك الكنز الدفين ،
واستفاد منه. ثم نشب القتال بين « جرهم » و « خزاعة » واضطرت « جرهم » وكثير من
ابناء اسماعيل إلى مغادرة « مكة المكرمة » ،
والتوجه إلى ارض اليمن ، ولم يرجع أحدٌ منهم
إلى « مكة » ابداً. ووقعت زعامة مكة منذ هذا التاريخ بيد
« خزاعة » حتّى بزغ نجم قريش في سماء مكة بوصول قصيّ بن كلاب ( الجدَ الرابع لنبي الإسلام ) إلى سدة
الزعامة والرئاسة ، ثم بعد مدة انتهى امر الزعامة إلى « عبد المطلب » فعزم على
أن يحفر بئر « زمزم » من جديد ، ولكنه لم يعرف بموقع البئر معرفة كاملة حتّى إذا
عثر عليه بعد بحث طويل قرّر ان يهيء هو وولده « حارث » مقدمات ذلك. وحيث أنه « يوجد في المجتمع دائماً
من يتحجّج ويجادل ـ بسبب سلبيته ـ ليمنع من أي عمل ايجابي مفيد ، انبرى منافسوا
« عبد المطلب » إلى الاعتراض على قراره هذا وبالتالي التفرد باعادة حفر بئر زمزم
، لكيلا يذهب بفخر هذا العمل العظيم ، وقالوا له : إنها بئر أبينا اسماعيل ، وان
لنا فيها حقاً فاشركنا معك » ولكن « عبد المطلب » رفض هذا الطلب لبعض الاسباب ،
فقد كان « عبد المطلب » يريد ان يتفرد بحفر زمزم ، ويسبّل ماءها ليسقي منها جميع
الحجيج دون مانع ولا منازع ، ويحول بذلك دون المتاجرة به ولم يكن ليتسنى له ذلك
إلاّ إذا قام بحفر زمزم بوحده دون مشاركة من قريش. وقد آل هذا الأمر إلى النزاع الشديد
فتقرر أن يتحاكموا إلى كاهن من كهنة العرب وعقلائهم والقبول بما يقضي به ، فتوجه
« عبد المطلب » ومنافسوه إلى ذلك الكاهن وقطعوا الصحارى القاحلة بين الحجاز
والشام ، وفي منتصف الطريق أصابهم جهدٌ وعطش شديدان ، ولمّا تيقَّنوا بالهلاك ،
وقرب الوفاة اخذوا يفكرون في كيفية الدفن إذا هلكوا وماتوا ، فاقترح « عبد
المطلب » ان يبادر كلُ واحد إلى حفر حفرته حتّى إذا أدركهُ الموت دفنه الآخرون
فيها ، فاذا استمر بهم العطش وهلكوا يكون الجميع ( ما عدا من بقي منهم على قيد
الحياة ) قد اُقبروا ، ولم تغد ابدانهم طعمة للوحوش والطيور فأيَّد الجميع هذا
الاقتراح (ولعلّ احجام الآخرين من الاداء بالاقتراح وهو اليأس المطلق من تحصيل
الماء.)
، واحتفر كل واحد منهم حفيرة لنفسه ، وجلسوا ينتظرون الموت بوجوه واجمة ، وعيون
ذابلة ، وفجأة صاح عبد المطلب : « واللّه إن إلقاءنا بأيدينا هكذا للموت لا
نضربُ في الأرض ونبتغي لأنفسنا لعجزٌ » وحثهم على البحث عن الماء في تلك الصحراء
بصورة جماعية عسى ان يجدوا ما ينقذهم من الموت ، فركب عبد المطلب وركب مرافقوه ،
واخذوا يبحثون عن الماء يائسين غير مصدّقين ، ولم يمض شيء حتّى ظهرت لهم عين ماء
عذبة انقذتهم من الموت المحتم ، وعادوا من حيث جاؤوا وهم يقولون لعبد المطلب : «
قد واللّه قضى لك علينا يا عبد المطلب ، واللّه لا نخاصمك في زمزم أبداً ، إن
الّذي سقاك هذا الماء بهذه الفلاة لهو الّذي سقاك زمزم ، فارجع إلى سقايتك
راشداً وتنازلوا له لينفرد بحفر زمزم ويكون إليه أمره دون منازع ، ولا شريك » (تاريخ اليعقوبي : ج 1 ، ص 206 ، والسيرة النبوية : ج 1 ، ص 142 ـ
147.).
فعمد « عبد المطلب »
وولده الوحيد الحارث إلى حفر البئر ، ونشأ من ذلك تلٌ هائلٌ من التراب حول البئر
، وفجأة عثر « عبد المطلب » على الغزالين المصاغين من الذهب ، والسيوف المرصعة
المهداة إلى الكعبة ، فشبَّ نزاع آخر بين « قريش » وبين « عبد المطلب » على هذه
الاشياء ، واعتبرت « قريش » نفسها شريكة في هذا الكنز ،
وتقرر ان يلجأوا إلى القرعة لحل هذا المشكلة ، فخرجت القرعة باسم « عبد المطلب »
، وصار جميع ذلك الكنز إليه دون « قريش » ، ولكن عبد المطلب خصَ بتلك الاشياء
الكعبة فصنع من السيوف باباً للكعبة ، وعلق الغزالين الذهبيّين فيها. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
التفاني في سبيل
الوفاء بالعهد والنذر :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
رغم ان العرب الجاهليين كانوا غارقين
في الفساد الأخلاقي فانهم كانوا يتحلون ببعض الصفات الحسنة ، والخصال المحبَّبة.
وللمثال كان نقض العهود من أقبح
الافعال في نظرهم ، فاذا عقدوا عهوداً مع القبائل العربية أو ثقوها بالأيمان ،
المغلظة المؤكدة ، والتزموا بها إلى الاخير ، وربما نذروا النذور الثقيلة
واجتهدوا في اداءها مهما كلف ذلك من مشقة وثمن. ولقد أحسَّ « عبد
المطلب » عند حفر بئر زمزم بالضعف في قريش لقلة اولاده ، ولهذا نذر إذا رزقه
اللّه تعالى عشرة بنين أن يقدم أحدهم قرباناً للكعبة ولم يُطلِعْ احداً على نذره
هذا. ولم يمض زمان الاّ وبلغ عَدَدُ
ابنائه عشرة ، وبذلك حان أوان وفائه بنذره الّذي نذر ، وهو ان يذبح احدهم قرباناً للكعبة. ولا شك ان تصور مسألة كهذه فضلا عن
تنفيذه كان امراً في غاية الصعوبة على عبد المطلب ، ولكنه كان في نفس الوقت يخشى
ان يعجز عن تحقيق هذا الامر فيكون من الناقضين للعهد ، التاركين لاداء النذر ،
ومن هنا قررأن يشاور ابناءه في هذا الامر ، وبعد ان يكسب رضاهم وموافقتهم يختار
احدهم للذبح بالقرعة (هذه القضية ذكرها كثير من المؤرخين وكتّاب السيرة ، وهذه القصّة
إنّما هي جديرة بالاهتمام من جهة أنها تجسّد مدى إيمان « عبد المطلب » وقوّة
عزمه ، وصلابة إرادته ، وتبين جيّداً كم كان مصرّاً على الوفاء بعهوده
والتزاماته.).
وتمت عملية القرعة ، فاصابت « عبدَ اللّه » والد رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم فاخذ عبد المطلب بيد ابنه
، وتوجَّه من فوره إلى حيث يذبحه فيه. ولما علمت قريش رجالُها ونساؤها بقصة
النذر المذكور وما آلت إليه عملية القرعة حَزِنَ الناس والشباب خاصة لذلك حزنا
شديداً وبكوا وضجوا ، وقال أحدُهم ليتني ذبحت مكان هذا الشاب. فاقترحت قريشٌ على عبد
المطلب بان يفدي « عبد اللّه » ، واظهروا
استعدادهم لدفع الفدية إذا جاز ذلك ، فتحيّر « عبد المطلب » تجاه تلك المشاعر
الساخنة ، والاعتراضات القوية ، وراح يفكّر في عدم الوفاء بنذره ، ويفكر في نفس الوقت
في الحصول على مخلص معقول من هذه المشكلة ، فقال
له أحدهم : لا تفعل وانطلق إلى أحد كهنة العرب عسى أن يجد لك حلا. فوافق « عبد المطلب » واكابر قريش
على هذا الاقتراح ، وتوجهوا بأجمعهم نحو « يثرب » قاصدين ذلك الكاهن ، ولما
قدموا عليه سألوه في ذلك فاستمهلهم يوماً واحداً ، ولما كان اليومُ الثاني دخلوا
عليه فقال لهم : كم دية المرء عندكم؟ قالوا : عشرٌ من الابل. فقال : إرجعوا إلى
بلادكم ، وقَرّبوا عشراً من الإبل واضربوا عليها وعلى صاحبكم « أي عبد اللّه »
القداح فان خرجت القرعة على صاحبكم فزيدوا عشراً ، حتّى يرضى ربُكم ، وإن خرجت
على الإبل فانحروها فقد رضي ربُكم ونجا صاحبكم وكانت عنه فداء. فهدَّأ اقتراحُ الكاهن لهيبَ المشاعر
الملتهّبة لدى الناس ، لأن نحر مئات الابل كان أسهل عليهم من أن يشاهدوا شاباً
مثل « عبد اللّه » يتشحط في دمه. ولهذا فانهم فور عودتهم إلى « مكة »
بادروا إلى اجراء القرعة في مجمع كبير من الناس وزادوا عشراً عشراً حتّى إذا بلغ
عدد الإبل مائة خرجت القداح على الإبل ، ونجا « عبد اللّه » من الذبح ، فأحدث
ذلك فرحة كبيرة لدى الناس ، بيدَ أَن « عبد المطلب » طلب أن تُعاد عملية القرعة
قائلا : « لا واللّه حتّى أضربَ ثلاثاً » ، وأنما أراد ذلك ليستيقن ان ربه قد
رضي عنه ، ولكن في كل مرة كانت القداح تخرج على الإبل المائة فنحرت الابلُ ثم
تركت لا يمنع عنها انسانٌ ولا سبع (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 153 ، وبحار الانوار : ج 16 ، ص 74 ، وقد
نُقلّ عن النبي الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم أنّه قال : « أنا ابْن
الذبيحين » يقصدُ بالأَول جدّه إسماعيل عليهالسلام والثاني أباه « عبد اللّه » الّذي كاد أن
ينحر ولكنه نجا من الذبح كما نجا جدُّه إسماعيل عليهالسلام.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
حادثة عام الفيل :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
عندما يحدُثُ أمرٌ عظيم في امّة من
الاُمم وخاصة إذا كان ذا جذور دينية أو ذا مدلولات قومية أو سياسية فانه سرعان
ما يتحول ـ بفعل اعجاب الناس عامة به ـ إلى مبدأ للتاريخ. فقيام النبي موسى يعتَبر مبدأ
للتاريخ عند اليهود ، ومولد السيّد المسيح يعتبر مبدأ للتاريخ عند النصارى ،
والهجرة النبوية الشريفة تعتبر مبدأ للتاريخ عند المسلمين. وهذا يعني أن كل امّة
من الاُمم تقيس حوادثها من حيث الزمان بذلك الحدث الّذي تعتبره بداية تاريخها. وأحياناً تتخذُ الاُمم والشعوب بعض
الحوادث مبدأ للتاريخ مع انها تملك مبدأ سياسياً للتاريخ ، كما نلاحظ ذلك في
بلاد الغرب وشعوبه ، فقد اتخذت الثورةُ الفرنسية ، وثورة اكتوبر الشيوعية مبدأ
للتاريخ في فرنسا ، والاتحاد السوفياتي ، بحيث اصبح يقاس بهما كل ما وقع من
الحوادث بعدهما. ولكن الشعوب غير المتحضرة الّتي لم
تمتلك مثل تلك الثورات والحركات السياسية والدينية كان من الطبيعي أن تتخذ الحوادث
الخارقة للعادة مبدأ لتاريخها بدلا من الثورات والتحوّلات الاجتماعية ، وهذا ما
حدث عند العرب وقبل الإسلام. فانهم ـ بسبب حرمانهم من حضارة صحيحة
ـ اتخذوا من بعض الوقائع المفجعة والمرة ـ كالحرب والزلزال ، والمجاعة والقحط أو
الحوادث غير الطبيعية ، الخارقة العادة مبدأ لتاريخهم. ولهذا نجد مبادئ
متعددة للتاريخ عند العرب ، آخرها : ضجة عام
الفيل وهجوم « أبرهة » على « مكة » بهدف الكعبة المشرفة ، الّتي صارت في ما بعد
مبدأ للتاريخ تؤرخ ـ بقية الحوادث والوقائع اللاحقة. ونظراً لأهمية هذا
الحدث التاريخي العظيم الّذي وقع عام 570 وأتفقت فيه ولادة النبي الكريم صلىاللهعليهوآلهوسلم فاننا نتناول هذه القصة
بالعرض والتحليل : |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ما هي عوامل هذه
الحادثة؟
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد ذكرت قصة أصحاب الفيل في القرآن
بصورة مختصرة ، وسوف ننقل ـ هنا ـ الآيات الّتي نزلت حول هذه القصة بعد حوادثها.
يكتب المؤرخون عن علة هذه الحادثة ان
ملك اليمن « تُبان أسعد » والد ذي نواس بعد ان أرسى قواعد حكمه مر في احدى
رحلاته على يثرب ( المدينة ) ، وقد كانت ل « يثرب » في ذلك الوقت مكانةٌ دينيةٌ
مرموقةٌ فقد قطنها جماعة من اليهود (وفاء الوفا : ج 1 ، ص 157 ، والسيرة النبوية : ج 1 ، ص 21 و 22.)
،
وبنوا فيها عدداً من المعابد والهياكل ، فأكرم اليهودُ مقدم ملك اليمن ، ودعوه
إلى دينهم ليستطيعوا في ظل حكمه حماية أنفسهم من أذى المسيحيين الروميين ،
والمشركين العرب. ولقد تركت دعوتهم وما رافقها من
اساليب مؤثرة اثرها في نفس ذلك الامير واختار اليهودية ، واجتهد في بثها ونشرها.
ثم ملك من بعده ابنه « ذونواس » الّذي جدّ في بث اليهودية والتحق به جماعة
خوفاً. بيد أن اهل نجران
الّذين كانوا قد دانوا بالمسيحية قبل ذلك امتنعوا من تغيير دينهم وترك المسيحية
واعتناق اليهودية ، وقاوموا « ذي نواس » مقاومة شديدة ، فشق ذلك على
ملك اليمن ، واغضبه فتوجه احد قادته إلى
نجران على رأس جيش كبير لتأديب المتمردين من أهلها فعكسر هذا الجيش على مشارف
نجران ، واحتفر قائدة خندقاً كبيراً ، واوقد فيه ناراً عظيمة ، وهدّد المتمردين
بالاحراق بالنار. ولكن أهل نجران الذين
احبّوا المسيحية واعتنقوها برغبة كبيرة اظهروا شجاعة كبرى ، واستقبلوا الموت
حرقاً ، وغدوا طعمة للنيران. يقول المؤرخ
الإسلاميُّ « ابنُ الاثير الجزري » بعد ذكر هذه القصة : لما
قتل « ذونواس » من قتل في الاُخدود لاجل العود عن النصرانية أفلَت منهم رجلٌ
يقال له « دوس » فقدم على « قيصر » فاستنصره على « ذي نواس » وجنوده واخبره بما
فَعل بهم ، فقال له قيصر : بعدت بلادك عنا ، ولكن ساكتبُ إلى النجاشي ملك الحبشة
وهو على هذا الدين وقريب منكم ،
فكتب قيصر إلى ملك الحبشة يأمره بنصره ، فارسل معه ملكُ الحبشة سبعين الفاً ،
وأمّر عليهم رجلا يقال له « أرياط » وفي جنوده « ابرهة الأشرم » فساروا في البحر
حتّى نزلوا بساحل اليمن ، وجمع « ذونواس » جنوده فاجتمعوا وكتب إلى زعماء قومه
من اهل اليمن يدعوهم إلى الاجتماع لمقاتلة عدوّهم ، فلم يجيبوه ، فانهارت حكومته
أمام حملة جيش الحبشة ، وسيطر الاحباش على أرض اليمن ،
وجُعِلَ « أبرهة » اميراً عليها من قِبَل « النجاشي » بعد مقتل « ارياط » على يد
« أبرهة » في صراع السلطة (الكامل في التاريخ : ج 1 ، ص 260 ـ 263 ، والسيرة النبوية : ج 1 ، ص
31 ـ 37.).
وهذه القصة هي الّتي
تعرف في القرآن الكريم بقصة « اصحاب الاُخدود » وقد جاء ذكرها في سورة البروج إذ
يقول اللّه تعالى : «
قُتِلَ أصحابُ الاُخدود. النار ذات الوقود. إذْهُم عَليها قُعُودُ. وهُم عَلى ما
يَفعَلُون بالْمؤمنين شُهُودٌ. وما نَقمُوا مِنْهُم إلا أَنْ يُؤمنُوا باللّه
العزيز الْحَميد. الَّذي لَهُ مُلك السماواتِ وَالارضِ واللّهُ عَلى كُلِّ شَيء
شَهِيد » (البروج : 4 ـ 9.).
وقد ذكر المفسرون هذه القصة في شأن
نزول هذه الآيات بصورة مختلفة (راجع مجمع البيان : ج 5 ، ص 464 ـ 466.).
ثم ان « ابرهة » الّذي اسكره
الانتصار والغلبة على منافسه ، وتمادى في الشهوات بنى في صنعاء كنيسة عظيمة
تقرّباً إلى ملك الحبشة ، وارضاء له ثم كتب كتاباً إلى « النجاشي » ملك الحبشة
يقول فيه : « إني قد بَنيتُ لك ايها الملك كنيسة لم يُبن مثلها لملك كان قبلك ،
ولست بمُنْته حتّى اصرف اليها حج العرب ». وقد أدى معرفة العرب بما جاء في هذا
الكتاب إلى ردّة فعل شديدة لديهم ، إلى درجة أن امرأة مِن قبيلة « بني افقم »
تسللت ذات ليلة إلى تلك الكنيسة واحدثت فيها ، فاثار هذا العمل الّذي كان يدل
على مدى ازدراء العرب بكنيسة « أبرهة » واحتقارهم لها ، غضب « أبرهة » ، هذا من
جانب ومن جانب آخر كان « ابرهة » كلما زاد في تزيين تلك الكنيسة زاد ذلك من حقد
العرب ، وحنقهم عليه ، واحتقارهم لكنيسته ، فتسبب كل ذلك في أن يحلف أبرهة على
السير إلى الكعبة وهدمها ، فسيَّر لذلك جيشاً عظيماً ، وقدّم أمامهُ الفِيَلة
المقاتلة ، وخرج متوجهاً صوب مكة وهو يعتزم هدم الكعبة بيت اللّه الحرام!! فلما عرف زعماء العرب بغايته ،
وادركوا خطورة ذلك العمل وايقنوا بان استقلال العرب وسيادتهم تتعرض لخطر السقوط
، لم يمنعهم ما عهدوه من قوة « ابرهة » وانتصاراته بل خرج بعضهم إلى حربه
فقاتلوه بكل شجاعة وبسالة مدفوعين بدافع الغيرة والحفاظ على الشرف المهدَّد
بالخَطر. فقد خرج « ذونفر » وهو من أشراف أهل
اليمن وملوكهم ، ودعا قومَه ومن أجابه من سائر العرب إلى حرب « أبرهة » ولكن
سرعان ما تغلّب « ابرهة » عليه بجيشه الكبير ، ثم خرج له بعد ذلك « نفيل بن حبيب
» وبقي يقاتله مدة طويلة فهزمه « ابرهة » واُخِذَ له اسيراً ، فطلب « نفيل »
العفو منه فاشترط عليه أن يدلّه على طريق مكة ليعفو عنه ، فدلّه نفيل حتّى
الطائف ، واوكل الدلالة على بقية الطريق إلى شخص آخر يدعى « ابورغال » فدلّه
أبورغال على الطريق حتّى أرض « المغمَّس » وهي منطقة قريبة من « مكة » فنزل «
أبرهة » وجيشه بالمغمَّس ، فارسل أبرهة رجلا من الحبشة ـ على عادته ـ إلى ضواحي
« مكة » فاستولى على أموال قريش من الإبل والغنم فساق إليه في جملة ذلك مائتي
بعير لعبد المطلب ، ثم امر رجلا آخر يدعى « حُناطة » ليدخل « مكة » ويبلغ أهلها
عنه ما جاء من اجله ، وهو هدم البيت المحرّم الكعبة المعظمة ، وقال له : سل عن
سيد اهل هذا البلد وشريفها ، ثم قل له : ان الملك يقول لك : « إني لم آت لحربكم
، انما جئتُ لهدم هذا البيت ، فان تعرّضوا دونه بحرب فلا حاجة لي في دمائكم » ،
فإن هو لم يرد حربي فاتني به. فدخل « حُناطة » مكة ولما سأل عن سيد
قريش وشريفها ، وقد كانت قبائل قريش المختلفة قد تجمعت في اطراف البلد جماعات
جماعات تتذاكر في امر « ابرهة » وما يجب اتخاذه من موقف تجاهه. فدلّوه على بيت « عبد المطلب » ،
ولما دخل على « عبد المطلب » أبلغه مقالة « أبرهة9 فقال له عبد المطلب : «
واللّه ما نُريدُ حربَه ، وما لَنا بذلك من طاقة ، هذا بيت اللّه الحرام ، وبيت
خليله إبراهيم عليهالسلام ، فان
يمنعه منه فهو بيته وحرمه ، وان يخلي بينه وبينه فواللّه ما عندنا دفع عنه »؟ فسرّ « حناطة » رسول ابرهة بمنطق عبد
المطلب ومقالته الّتي كانت تحكي عن قوة ايمانه ، وعن روحه المسالمة فطلب منه أن
يصحبه إلى « أبرهة » ، قائلا : فانطلق معي إليه فانه قد امرني اَن آتيه بك. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
عَبدُ المطّلب
يَذهب إلى مُعسكر أَبرهة :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
فتوجه عبد المطلب هو وجماعة من ولده
إلى معسكر ابرهة ، فاعجب « أبرهة » بوقار رئيس قريش وهيبته إعجاباً شديداً ، وبهر
به حتّى أنه نزل له من تخته اجلالا ، واخذ بيده ، واجلسه إلى جنبه ، فسأله عن
طريق مترجمه متأدباً : ما الّذي اتى به وماذا يريد؟ فأجابه عبد المطلب قائلا :
حاجتي أن يردَّ الملكُ عليَّ مائتي بعير أصابها لي. فقال « أبرهة »
لترجمانه : قل له : قد كنت اعجبتني حين رأيتك ، ثم قد زهدتُ فيك حين كلمتني ،
أتكلمني في مائتي بعير اصبتُها لك ، وتترك بيتاً هو دينك ودين آبائك قد جئتُ
لهدمه ، لا تكلمني فيه؟! فقال له عبدالمطلبُ :
إني أناربُ الإبل ، وان للبيت رباً سيمنعه ، فقال « ابرهة » مغتراً بنفسه : ما
كان ليمتنع مني. ثم أمر بان ترد الابل إلى أصحابها. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إنتظار قريش :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ولقد انتظرت قريش عودة « عبد المطلب
» من معسكر « ابرهة » بفارغ الصبر لتعرفَ نتيجة ما دار بينه وبين أبرهة ، وعندما
عاد « عبد المطلب » اخبرهم الخبر ، وامرهم بالخروج معه من مكة ، والتحرز في رؤوس
الجبال من معرّة الجيش فخرجوا إلى الشعاب ، والجبال ، ثم لما كان الليل نزل عبد
المطلب مع جماعة من قريش إلى الكعبة واخذ بحلقة بابها يدعون اللّه ويستنصرونه
على أبرهة وجنده وقال « عبد المطلب » مناجياً اللّه سبحانه : « اللَّهُم أنتَ أنيسُ المستَوْحشين ولا وحشة معك
فالبيت ، بيتُك والحرمُ حرمك والدارُ دارُك ونحن جيرانك تمنعُ عنه ما تشاء وربُ
الدار أولى بالدار » ثم قال :
1 ـ لاهم أصلها : اللّهم
والعرب تحذف الالف واللام وتكتفي بما بقي. 2 ـ الحلال جمع حلة وهي
جماعة البيوت. 3 ـ المحال : القوّة
والشدّة. وقال ايضاً :
ثم انه ترك حلقة الباب ، ولجأ إلى
الجبل لينظروا ما سيجري. وفي الصباح وعندما كان « أبرهة »
وجنده يستعدون للتوجه إلى « مكة » ، وإذا باسراب من الطيور تظهر من جهة البحر
يحمل كل واحد منها ثلاثة احجار ، حجر في منقاره ، وحجرين في رجليه ، فاظلم سماء
الجيش بتحليق تلك الطيور فوق رؤوس الجند ، وتركت تلك الاحجار الصغيرة الحقيرة في
ظاهرها اثرها العجيب فقد رجمت تلك الطيور جنود « ابرهة » بتلك الاحجار بامر
اللّه ، فكانت لا تصيب منهم أحداً إلاّ تحطم رأسَه ، وتمزق لحم بدنه ، وهوى
صريعاً ، وقد دَوَّى صوتُ هذه الواقعة العجيبة
والرهيبة في العالم آنذاك ، وقد ذكرها القرآن الكريمُ في سورة الفيل إذ يقول
تعالى : « ألَم تَرَ
كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ. أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ في
تَضْلِيْل. وَأرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أبابيلِ. ترميهِمْ بِحِجارَة مِنْ
سَجِّيل. فَجَعَلَهُمْ كَعَصْف مَأكُول ». وما ذكرناهُ هنا ـ في هذه الصفحات ـ
ليس هو في الحقيقة إلاّ خلاصة ما وَردَ في كتب التاريخ الإسلامي ، وصرح به
القرآنُ الكريم (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 43 ـ 62 ، والكامل في التاريخ ج 1 ، ص 260
ـ 262 ، وبحار الأنوار : ج 5 ، ص 130 ـ 146.).
واستكمالا لهذا البحث
نعمد هنا إلى دراسة نظرية المفسر المصري الكبير الشيخ « محمَّد عبده » والعلامة
المعروف الدكتور « هيكل » وزير الثقافة المصري السابق في هذا المجال. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
كلمة
حول المعجزة :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد أوجدَ التقدم العلميُّ الأخير في
مختلف مجالات العلوم الطبيعية والفضائية ، وما استلزم ذلك من تهافت طائفة كثيرة
من الفرضيات ، ضجة عجيبة في الغرب ، فمع أن جميع تلك التطورات كانت مجردَ تطورات
علمية تجري في مجال المسائل الطبيعية أو الفلكية ، ولم يكن لها أية صلة
بالمعتقدات الدينية فإنّ هذا التحول والتطور وتلك الكشوف أوجدت شكاً عجيباً لدى
بعض الناس انسحب على جميع المعارف والمعتقدات الدينية الموروثة على وجه الاطلاق!
والسرّ في ذلك هو
أن العلماء رأوا بأن الفرضيات القديمة ، الّتي بقيت تسيطر على الأوساط العلمية
لمدة طويلة من الزمان ، قد اصبحت اليوم عرضةً للبطلان والسقوط تحت مطارق التجربة
وبواسطة الاختبارات العلميّة ، والتحقيقات المختبرية ، فلم يُعد ـ بعد هذا ـ
مجالٌ للقول بفرضية الافلاك التسعة الّتي طَلع بها « بطلميوس » ، ولا بفرضية
مركزية الارض ، ولا غيرها من عشرات الفرضيات ، فقالوا في أنفسهم : ومن أين تَرى
لا تكون بقية المعلومات والمعارف الدينية من هذا القبيل؟! وقد تفاقم هذا النوع من الشك في قلوب
جماعة من العلماء بالنسبة إلى جميع المعتقدات والمعارف الدينية ونمى بشكل قويّ
في فترة قصيرة ، وعمَّ الاوساط العلمية كأيّ مرض!! هذا مضافاً إلى أنّ
محاكم التفتيش وتشدّد الكنيسة وأربابها كان لها
النصيب الاكبر في ظهور هذه الحالة بل في نموّها ، واطرادها ، لأن الكنيسة كانت
تقضي على العلماء الذين نجحوا في اكتشاف القوانين العلمية تحت التعذيب والاضطهاد
القاسي بحجة أنها تخالف الكتاب المقدس ، وتعارض مقرَّرات الكنيسة!! وممّا لا يخفى أنَّ مثل هذه الضُغُوط
، وهذا الاضطهاد والتعجرف ما كان ليمرَّ من دون حدوث ردة فعل ، وقد كان من
المتوقَع منذ البداية أن العلماء في الغرب لو اتيحت لهم الفرصة لانتقموا من
الدين ، بسبب سوء تصرف الكنيسة ، وسوء معاملتهم لهم خاصة ، وللناس عامة. وقد حدث هذا فعلا فكلّما تقدم العلمُ
خطوةً ، واطّلع العلماء على العلاقات السائدة بين الكائنات الطبيعية ، واكتشفوا
المزيد من الحقائق الكونية ، والعلل الطبيعية لكثير من الحوادث والظواهر المادية
، وكذا علل الامراض ، قلّ اعتناؤهم بالقضايا الميتافيزيقية ، وما يدور حول
المبدأ والمعاد والافعال الخارقة للعادة كمعاجز الانبياء ، وازداد عدد المنكرين
لها والشاكين فيها ، والمترددين في قبولها يوماً بعد يوم!! لقد تسبَّب الغرورُ
العلميُّ الّذي أُصيب به العلماء في الغرب في ان ينظر بعض اولئك العلماء إلى
جميع القضايا الدينية بعين الازدراء والتحقير ، وأن يمتنعوا حتّى عن التحدث في
المعاجز الّتي يخبر بها التوراة والانجيل ، ويعتبروا
عصا موسى عليهالسلام الّتي
كانت تشفي المرضى وتحيي الموتى من الأساطير ، وراحوا يتسائلون ـ في عجب واستنكار
ـ : وهل يمكن أن تتحول قطعةٌ من الخشب اليابس إلى أفعي ، أو ثعبان ، أو هل يمكن
ان تعود الحياة إلى ميّت بكلمات من الدعاء؟ لقد تصور العلماء الذين
أسكرتهم فتوحاتهم العلمية ، انهم ملكوا مفاتيح جميع العلوم ، ووقفوا على جميع
العلاقات بين الكائنات الطبيعية والظواهر الكونية ،
ومن هنا تصوَّرُوا أنه لا توجد ايةُ علاقة بين قطعة الخشب والثعبان ، أو بين
جملة من الدعاء والتفاتة من بشر وعودة الروح إلى الموتى ، ولهذا أخذوا ينظرون
إلى هذه الامور بعين الشك والترديد ، وربما بعين الانكار والرفض المطلق!! وقد سرى هذا النوعُ من
التفكير إلى اوساط بعض العلماء المصريين الذين تأثروا بهذا الاتجاه اكثر من
غيرهم ، مع بعض التعديل في ذلك الموقف ، وشيء من الاختلاف في النظرة المذكورة ،
ولهذا اتبعوا تلك السيرة في تحليل الوقائع والحوادث التاريخية والعلمية من هذا
النوع ، والسِرّ في تأثر بعض علماء مصر بهذه النظرة قبل واكثر من غيرهم هو
احتكاك هذه الجماعة بالأفكار الواردة من الغرب قبل غيرهم ، ومن هذه المنطقة
سَرتْ بعضُ النظريات والآراء الغربية إلى البلاد الإسلامية الاُخرى. لقد اختار هؤلاء طريقاً خاصاً
قَصَدُوا به الحفاظ على حرمة الكتاب العزيز ، والاحاديث القطعية ومكانتها من جهة ، وكسب نظر العلماء الماديين
الطبيعيين إلى انفسهم من جهة اُخرى ،
أو ارادوا ان لا يختاروا ما لا يمكن التوفيق بينه وبين القوانين العلمية
الطبيعية وتطبيقه عليها. لقد وجَدَ هؤلاء من
جهة أن القرآن الكريم يخبر عن سلسلة من المعجزات والخوارق الّتي لا يمكن تفسيرها
بالعلوم العادية المتعارفة ، لأن العلم لا يستطيع أن
يدرك العلاقة بين العصا الخشبية اليابسة والثعبان ، ومن جهة اُخرى كان القبول
بالنظريات الّتي لا يمكن إثباتها بالحسّ والتجربة أمراً في غاية الصعوبة لهم. ولهذا السبب ، وفي
خِضمِّ الصراع بين هذين العاملين : العلم والعقيدة ، اختار
هؤلاء الكتاب والعلماء نهجاً يستطيعون به وضع نهاية لهذا الصراع ، والتنازع ،
فيحافظون على ظواهر القرآن والاحاديث من جانب ، ويتجنبون القول بما يخالف منطق
العلم من جانب آخر ، ويتلخص هذا النهج في تفسير جميع المعاجز وجميع خوارق العادة
الّتي جرت على ايدي الأنبياء بالموازين العلمية الحاضرة الرائجة في هذا العصر
بصورة تبدو وكأنها اُمورٌ طبيعية ، وبهذا يكونون قد حافظوا على مكانة القرآن
الكريم والاحاديث القطعية المسلّمة ، ولم يتفوهوا بما يخالف العلم الحديث
ويتعارض مع معطياته. ونحن هنا نذكر من باب
النموذج والمثال : التفسير الّذي ذكره العلامة المصري المعروف « محمَّد عبده »
لقصة اصحاب الفيل وماجرى لهم : فهو يقول عند تفسيره
لسورة الفيل : « فيجوز لك ان تعتقد أن هذا الطير من
جنس البعوض أو الذباب الّذي يحمل جراثيم بعض الامراض ، وان تكون هذه الحجارة من
الطين المسموم اليابس الّذي تحمله الرياح فيعلق بارجل هذه الحيوانات ، فاذا اتصل
بجسد دخل في مسامّه فاثار فيه تلك القروح الّتي تنتهي بافساد الجسم وتساقط لحمه
، وأن كثيراً من هذه الطيور الضعيفة يعُدّ من أعظم جنود اللّه في إهلاك من يريد
إهلاكه من البشر ، وأن هذا الحيوان الصغير ـ الّذي يسمونه الآن بالميكروب ـ لا
يخرج عنها » (راجع تفسير في ظلال القرآن : ج 30 ، ص 251.).
وقال أحد الكتاب مؤيداً هذا الاتجاه
بقوله : « إن الطير المستعمل في الكتاب العزيز يراد منه مطلق ما يطير ، ويشمل
الذباب والبعوض ايضاً ». ولابدَّ ـ قبل دراسة هذه الأقوال ـ أن نستعرض
مرة اُخرى الآيات النازلة في اصحاب « الفيل ». يقول اللّه تعالى : « ألمْ تَر كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ
الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيدهُمْ في تَضْلِيْل. وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ
طَيْراً أَبابِيْل. تَرْميْهِمْ بِحِجارَة مِنْ سِجّيل. فَجَعَلَهُمْ كَعَصْف
مَأكُولٍ ». إن ظاهر هذه الآيات يفيد أن جيش
ابرهة اُصيب بالغضب والسخط الالهي ، وان هلاكه وفناءه كان بهذه الأحجار الّتي
حملتها تلك الطيور ، والقتْ بها على رؤوس الجند وأبدانهم. إن الإمعان في مفاد
هذه الآيات يعطي أن مَوتهم كان بسبب هذه الاسلحة غير الطبيعية ( الصغيرة الحقيرة
في ظاهرها ، القوية الهدامة بفعلها وأثرها ). وعلى هذا فإنَّ أي
تفسير يخالف ظاهر هذه الآيات لا يمكن الذهاب إليه وحمل الآيات عليه ما لم يقم
على صحته دليل قطعي. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
نقاطٌ تقتضي التأمل
في التفسير المذكور :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
1 ـ إِنَّ التفسير المذكور لا يستطيع
كذلك أَن يجعل كل تفاصيل هذه الحادثة أمراً طبيعياً ، بل هناك جوانب في تلك الواقعة
التاريخية العجيبة لابد من تفسيرها بالعوامل والاسباب الغيبية ، لأنه مع فرض أن
هلاك الجند وتلاشي أجسادهم تمَ بواسطة
ميكروب : « الحصبة » و « الجدري » ، ولكن من
الّذي ارشد تلك الطيور إلى تلك الاحجار الصغيرة الملوثة بميكروب الحصبة والجدري
، فتوجهت بصورة مجتمعة إلى تلك الاحجار الخاصة بدل التوجه إلى الحَبّ والطعام ،
ثم كيف بعد حمل تلك الأَحجار بمناقيرها وأرجلها حلَّقتْ فوق معسكر « أبرهة »
ورجمت جنده كما لو أنّها جيشٌ منظّم موجّه؟؟ هل يمكن اعتبار كل ذلك
أمراً عادياً ، وحدثاً طبيعياً؟ ترى لو أننا فسَّرنا طرفاً من هذه
الحادثة العظيمة والعجيبة بالعوامل الغيبية ، وبارادة اللّه النافذة فهل تبقى مع
ذلك أية حاجة إلى أن نفسّر جانباً من هذه الحادثة بتفسير طبيعي مألوف ، ونركض
وراء التوجيهات الباردة ، لنجعلها امراً مقبولا. 2 ـ إنَّ الكائنات الدقيقة ، أوما
يسمى الآن ب « الميكروب » لا شك انها عدوة لمطلق الإنسان ، وليس بصديقة لهذا أو
ذاك ، ومع ذلك كيف توجهت إلى جنود « ابرهة » وقتلتهم دون غيرهم ، وكيف نسيت
المكيّين بالمرة؟! انَّ التاريخ المدوَّنْ يثبت لنا أن
جميع الضحايا في هذه الواقعة العظيمة كانوا من جند « ابرهة » ولم يلحق فيها :
أيّ أذى ـ إطلاقاً ـ بقريش ، وغيرهم من سُكان الجزيرة العربية ، في حين أن
الحصبة والجُدَريِّ من الأمراض المعدية ، الّتي تنقلها العوامل الطبيعية كالرياح
وغيرها من منطقة إلى اُخرى ، ورُبَما تُهلِك اهل قطر باجمعهم. فهَل مع هذا يمكن أن نعدّ هذه الحادثة
حدثاً طبيعياً عادياً؟! 3 ـ ان اختلاف هذا الفريق في تحديد
نوعية الميكروب ، يضفي على هذا الادعاء مزيداً من الإبهام ، ويجعله اقرب الى
البطلان. فتارة يقولون : انَّه
ميكروب الوباء وتارةً اُخرى يقولون
: انَّه داء الحصبة والجدري ، في حين اننا لم نجد مستنداً صحيحاً لهذا الخلاف ،
ومبرراً وجيهاً لهذا الاختلاف ،
اللّهمَ إلاّ ما احتمله « عكرمة » من بين
المفسرين ، وعكرمة هو نفسه موضع نقاش بين العلماء والاّ لما ذهب « ابن الاثير ».
من بين المؤرخين وارباب السير إلى ذكر هذا الرأي في صورة الاحتمال الضعيف ،
والقيل ، ثم عاد فردّ هذا القول فوراً (الكامل : ج 1 ، ص 263.).
والأعجب من الجميع ما
أعطاه مؤلف كتاب « حياة محمَّد » الدكتور هيكل وزير المعارف المصري السابق من
تفسير ، عند ذكر قصة الفيل. فهو بعد ذكر تلك القصة سرد آيات سورة
الفيل ، ومع أنه اتى بقول اللّه تعالى « وأرسل عليهم طيراً أبابيل » قال عن هلاك
جنود أبرهة : « ولَعلّ جراثيم الوباء جاءت مع الريح من ناحية البحر ، وأصابت
العدوى أبرهة نفسه » (حياة محمَّد لمحمَّد حسين هيكل : ص 102 و 103.)
فاذا كان الّذي جاء بهذا الميكروب هو الريح ، فلماذا حلّقت طيورُ الأبابيل على
رؤوس جيش أبرهة ، والقت بالأَحجار الصغيرة على رؤوسهم ودون غيرهم ، وأي أثر كان
لهذه الاحجار في هلاك أُولئك الجنود وموتهم؟ فالحق هو : أن
لا يُتبعَ هذا النمط من التفكير ، وأن لا نسعى لتفسير معجزات الأَنبياء ـ الكبرى
بمثل هذه التأويلات والتفسيرات ، بل إن طريق المعجزات والإعجاز أساساً يختلف عن
طريق العلوم الطبيعية الّتي تتحدد دائرتها بمعرفة العلاقات العادية بين الظواهر
الطبيعية ، ولهذا يجب علينا أن لا نعمد ـ
ارضاء لهوى جماعة ممّن لا يمتلكون أية معلومات دينية ، وليست لديهم أية معرفة
بهذا النوع من القضايا ـ إلى التنازع عن أُسُسنا الدينية
المسلّمة ، في حين لا توجد أية حاجة مُلزمة
إلى مثل ذلك التنازل والاعتذار! |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
نقطتان هامّتان :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وهنا لابد من أن نذكّر
بنقطتين هنا : الاُولى
:
يجب ان لا يظن أحدٌ ـ خطأ ـ أننا بما قلناه هنا نريد تصحيح كل ما تلوكه ألسنُ
الناس ، وتنسبه إلى الانبياء العظام ، أو إلى عباد اللّه الكرام ، من دون أن
يكون له أي سند صحيح أو وجه معقول بل وربما اتَّسَمْ بطابع الخرافة في بعض
الاحيان والموارد. بل مقصودنا هو :
أن نثبت ـ وطبقاً للمصادر الصحيحة والقطعية المتوفرة ـ ان الأنبياء كانوا يقومون
ـ لا ثبات ارتباطهم بما وراء هذه الطبيعة ـ بأعمال خارقة للعادة ، خارجة عن
الناموس الطبيعيّ المألوف ، تعجز العلومُ الطبيعية الرائجة عن إدراك عللها ،
وأسبابها. فهدُفنا هو الدفاع عن
هذه الطائفة من المعاجز. الثانية
:
إننا لا نقول مطلقاً : أَنَّ وجود المعجزة هو تخصيصٌ لقانون العلية العامّ ، بل
اننا في الوقت الّذي نحترمُ فيه هذا القانون المسلّم نعتقد بأَن لجميع حوادث هذا
العالم عللا خاصة واسباباً معينة ، وانه من المستحيل أن يوجَد شيء بعد عدمه من
دون علة ، بَيْد أننا نقول ان لهذه الطائفة من الظواهر والوقائع ( أي المعاجز )
عللا غير طبيعية ، وان هذه العلل ميسَّرة ومتاحة لأنبياء اللّه ورسله والرجال
الإلهيين خاصة ، وليس في مقدور أحد ـ لم يستطع لا عن طريق الحس ولا عن طريق
التجربة أن يكتشف هذه العلل ـ أن يتنكّر لها ، وينكرها ، بل ان جميع الاعمال
الخارقة الّتي يقوم بها أنبياء اللّه ناشئة عن علل لا يمكن تفسيرها بالعلل
الطبيعية المألوفة ، ولو أنها خضعت للتفسير والتوجيه لخرجت عن كونها معجزة ، ولم
يصدُق في حقها عنوان الاعجاز. ولكي نقف على حقيقة هذا الامر ،
ونعرف مدى بطلان المذهب المذكور ( مذهب تفسير الخوارق والمعاجز بالتفسير المادي
والمألوف المحض ) ينبغي أن نتبسط قليلا في شرح مسألة الاعجاز ونبحث في مدى
علاقتها بقانون العلية العام. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
بحثٌ
علميُّ حول المعجزة في خمس نقاط :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
على أننا ـ نظراً لضيق المجال ـ
سنختصر الجواب على هذه الأسئلة ، وعلى من أراد التوسع أن يرجع إلى كتب الكلام
والعقيدة. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
1 ـ ما هي المعجزةُ
وما هو تعريفها؟
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد عرَّف علماء
العقيدة المعجزة بتعاريف مختلفة أتقنها وأكملها هو : انّ
المعجزة أمرٌ خارقٌ للعادة ، مقرونٌ بالدَعوى ، والتحدّي ، مع عدم المعارضة ،
ومطابقة الدعوى (راجع للوقوف على هذا التعريف : كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد للعلامة
الحلّي شرحاً والمحقق نصير الدين الطوسي متناً : ص 218 ، وأيضاً شرح تجريد
الاعتقاد للعلامة القوشجي : ص 465.).
ويعني الشرطُ الأولُ
( اي كون المعجزة أمراً خارقاً للعادة ) أن كل ظاهرة من الظواهر الطبيعية
الحادثة مرتبطة بعلة حتماً ، فلا يمكن صدورها من دون علة ، وهذا الكون مشحون
بالعلل الّتي يكتشفها البشر شيئاً فشيئاً وتدريجاً عبر وسائله العادية أو
العلميّة ، ولكنّ المعجزة مع كونها ظاهرة واقعية ولهذا فهي كغيرها مرتبطةٌ بعلة
، بيد أنها تختلف عن غيرها من الظواهر في أنّ من غير الممكن كشف عللها من الطريق
العادية أو بواسطة التجارب والتحقيقات العلمية ، ولا يمكن تفسيرها وتبريرها
بالعِلَل العادية أو بما يكتشفه العلمُ من العلل لمثل هذه الحوادث ، والمقصود من
خرق العادة هو أنْ تقع المعجزةُ على خلاف ما عهدناه وتعوَّدنا عليه في الظواهر
الاُخرى وعِللها ، مثل إشفاء المرضى من دون علاج ودواء كما هو المعهود ، واخراج
الماء من صخرة صماء من دون حفر أو تنقيب كما هو المألوف ، وتحويل العصا إلى أفعي
من دون تبييض وتفريخ وتوالد وتناسل ، بل بمسح من يد ، أو بعبارة من لسان ، أو
بضرب من عصا!! من هنا نكتشفُ أَن كل
ظاهرة يقف الناس العادّيون بالطرق العادية أو العلماء خاصة بالطرق العلمية على
عللها وأسبابها لا تكون معجزة لأنّه في هذه الصورة لم يقع أي شيء على خلاف
العادة ، والمألوف ليدل على مزية في الانبياء. فان مثل هذه الظاهرة الّتي يكون لها
علةٌ عاديةٌ يعرفها جميعُ الناس ، أو سببٌ علمي خاصٌ يعرفها علماء ومتخصصوا ذلك
العلم يمكن أن يقوم بايجاد أمثالها جميعُ الناس ، فلا يكون حينئذ معجزة. ولا يعني هذا ـ وكما
اسلفنا ـ أَنَّ المعجزة لا تنتهي إلى أية علة ، اصلا ، بل هي تستند إلى علة غير
متعارفة وغير عادية ، ولمزيد التوضيح سنبحث في هذا المجال عند الاجابة على
السؤال الثالث. ويُقصَد من الشرط
الثاني ( أي كون الاعجاز مقروناً بالدعوى ) أن يَدّعي
صاحبُ المعجزة النبوة والسفارة من جانب اللّه تعالى ، ويأتي بالمعجزة دليلا على
صحة دعواه هذه ، إذ في غير هذه الصورة لا يكون الأمرُ الخارق للعادة معجزةً بل
يُطلَق عليه في الاصطلاح الديني لفظ « الكرامة » كما كان لمريم بنت عمران الّتي
كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً فاذا سألها من أين لها ذلك؟ قالت : هو من عند اللّه (ـ راجع سورة آل عمران : 37.).
ويعني الشرطُ الثالثُ
أن يكون الاعجاز مقروناً بدعوة الناس إلى الإتيان بمثله ، وعجز الناس عن هذه
المعارضة ، وعدم قدرتهم على الاتيان بمثله مطلقاً إذ في هذه الصورة يتضح أَنَّ
النبي يعتمد على قوة الهية غير متناهية ، قوة خارجة عن حوزة البشر العادي. واما الشرط الرابع
فيعني أن الامر الخارق للعادة إنّما يكون عملا إعجازياً ، ويستحق وصف المعجزة
الدالّة على ارتباط الآتي بها بالمقام الالهيّ ، إذا وافق الامرُ الواقعُ ما
يدعي أنه قادر على الأتيان به. فلو قال : سأجعلُ هذا البئر الجاف
الفارغ من الماء ، يفيض بالماء باشارة اعجازية ، ثم يقع ما قاله كان هذا الأمر
معجزة حقاً ، وأما إذا قال : سأجعل هذا الماء القليل الموجود في البئر يفيضُ ماء
، بالإعجاز ، ولكن جفَّ ذلك البئرُ على عكس ما قال ، لم يكن ذلك إعجازاً ، بل
كان تكذيباً لمدعيها. هذا هو خلاصة ما يمكن
أن يُقال حول تعريف المعجزة والاعجاز وهو يساعد على فهم طبيعة العمل الإعجازيّ. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
2
ـ هل الاعجاز يهدم القوانين العقلية المسلَّمة؟
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وبهذا يتضح جواب
السؤال المطروح في هذا المجال وهو أن يقال : إن قانون
العليّة ( اي : ارتباط كل معلول حادث بعلة
)
ممّا ارتكز عليه الذهنُ البشريُ وقبلَه العلمُ والفلسفة ، ولذلك فاننا نلاحظ :
كلّما وقف الإنسانُ على ظاهرة مهما كانت ـ بحَثَ عن علّتها فوراً فاذا رأى حية ـ
مثلا ـ عرف بان علتها الطبيعية هي أن تبيض حيّة ، ثم خروج حيّة من البيض بعد
سلسلة من التفاعلات فكيف يمكن القبول بالمعاجز مع أنها لا تنشأ عن مثل هذه العلل
ولا تمرُّ بمثل هذه المقدمات والمراحل والتفاعلات الطبيعيّة ، مثل انقلاب العصا
إلى ثعبان ، أو نبوع الماء من الصخر من دون حفر أو تنقيب. أليس هذا هدمٌ ، أو تخصيصٌ لذلك
القانون العقليّ المسَلَّم العام؟ فان الجواب على هذا
السؤال هو ان مثل هذا السؤال لا يطرحه إلاّ الَّذين
يحصرُون العلل والعلاقات بين الاشياء في العلل والعلاقات المادية الطبيعية. ولكن الحق هو أنَّ
أيَّة ظاهرة مادية يمكن أن يكون لها نوعان من العلل : 1 ـ العلةُ العادية
الّتي تخضع للتجربة. 2 ـ العلةُ غير
العادية الّتي لا يعرفها الناس ولم تكن متعارفة ولا تخضع للتجربة العلمية. وهذا يعني أنه لا توجد
أية ظاهرةُ في هذا العالم بدون علة. وتوضيحُ
هذا أن اصل وجود الحية ونبوع الماء من الصخرة وتكلم الطفل ـ مثلا ـ أمرٌ ممكنٌ ،
ولا يُعدّ من المحالات ، لأَنها لو كانت من المحالات لما تحقق وجودها أبداً. نعم
أَنها بحاجة إلى علة لكي تتحقق ، والعلة ـ سواء في المعاجز أو غيرها
ـ يمكن أن تكون إحدى الامور التالية : أ ـ العلة
الطبيعية العادية وهي ما الفناها وأعتدنا
عليها مثل ظهور شجرة من نواة بعد سلسلة من التفاعلات. ب ـ العلة
الطبيعية غير العادية وغير المعروفة وهذا يعني
أنه قد يكون لظاهرة معينة نوعان من العلل ، وطريقان للتحقق والوجود أحدهما معروف
ومعلوم ، والآخر مجهول غير معلوم ، والانبياء بحكم اتصالهم بالعلم والقدرة
الالهية ، يمكن أن يقفوا على هذا النوع مِنَ العلل ـ عن طريق الوحي ـ ويوجدوا
الظاهرة. ج ـ تأثير النفوس
والارواح :
فانَّ بعض الظواهر يمكن أن تكون
ناشئة من تأثير أرواح الأَنبياء ونفوسهم القوية ، كما نلاحظ ذلك في مجال
المرتاضين الهنود الذين يبلغون درجة يستطيعون معها أن يقوموا بما يعجز عنه
الأفرادُ العاديُّون ، وذلك بفضل الرياضات النفسية الّتي يخضعون لها. وهو ما
يسمى باليوجا أحياناً ، وقد كتبت حوله كتب ودراسات (راجع كتاب الطاقة الإنسانية لأحمد حسين.).
وقد أشار إلى هذا
جملةٌ من علماء الإسلام وفلاسفته منهم الفيلسوف الإسلامي الشهير صدر الدين
الشيرازي حيث يقول : « لا عجب أن يكون لبعض النفوس قوةٌ
الهيةٌ تكون بقوتها كأنها نفسُ العالم فيطيعُها العنصرُ طاعة بدنها لها ، فكلّما
ازدادت النفسُ ـ تجرداً وتشبّها بالمبادئ القصوى ازدادت قوةً وتأثيراً في ما
دونها. وإذا صار مجردُ التصوّر والتوهم
سبباً لحدوث هذه التغيّرات في هيوليّ البدن لأجل علاقة طبيعيّة ، وتعلّق جبلّي
لها إليه ، لكان ينبغي أن تؤثر في بدن الغير وفي هيوليّ العالم مثل هذا التأثير
، لأجل مزيد قوة شوقية ، واهتزاز علوي للنفس ومحبة الهية لها ، فيؤثر نفسُه في
إصلاحها ، وإهلاك ما يضرّها ويفسدها » (راجع المبدأ والمعاد : ص 355 و 356 لصدر المتألهين المشهور بصدر
الدين الشيرازي ، وشرح المنظومة للحكيم السبزواري : ص 327 قال السبزواري ناظماً
:).
د
ـ العللُ المجردة عن المادة : فيمكن ان
تكون للظواهر عللٌ مجردة عن المادة كالملائكة ، بان تقوم الملائكة بأمر من اللّه
سبحانه بتدمير قرية ، أو تقوم بمعجزة بعد طلب النبيّ منها ذلك. والملائكة مظاهرُ القدرة الالهية في
الكون ، وهي الّتي تدبّر اُمور الكون بأمر اللّه تعالى كما يقول القرآن الكريم :
« فالمُدَبَّراتِ أَمْراً »
(النازعات : 5.)
وهي بالتالي جنوداللّه في السماوات والأَرض «
وللّه جُنودُ السَماواتِ » (الفتح : 4.).
فلابد من ارجاع الظواهر الطبيعية
الواقعة إلى أحد هذه العوامل الاربعة ، ولا يمكن أبداً حصر العلة في العلة
الطبيعية العادية المعروفة كما تصور منكروا الاعجاز ، بل يمكن أن تكون كلُ واحدة
من هذه العلل سبباً لحدوث الظاهرة الطبيعية ، فاذا لم نشاهد علة ظاهرة من
الظواهر لم يجز لنا أن نُبادر ـ فوراً ـ إلى تصوّر أنها ناشئةٌ من غير علة. ويجب ارجاع معاجز
الأَنبياء إلى إحدى الطرق الاخيرة ، والقول بأن
الانبياء استخدموا ـ في ايقاع الخوارق والمعاجز ـ إما العلل المادية غير المعروفة للعُرف ، والعلم ،
وأما نفوسهم القوية الّتي حصلت لهم بفعل الجهاد الرُوحيّ العظيم
والرياضات النفسية الشديدة فهي علة تلك الأفعال الخارقة للعادة. كما ويمكن ان تكون جميع تلك الافعال العجيبة ناشئة عن جملة من العلل
والعوامل الغيبية المدبِّرة للكون بامر اللّه ومشيئة. إذن فلا
تتحقق المعجزة بدون علة كما يُتصوَّر ، ولا يهدم الاعجاز القوانينَ العقلية
المسلّمة.
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
3 ـ هل المعجزة
تصدر عن علل مادية غير معروفة فقط؟
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قد يتصور البعض أن
المعاجز تصدر عن علل مجردة عن المادة فقط نافين أن تكون لها ايَّة علل مادية
معروفة أو غير معروفة ، في حين لا يصحّ هذا
السلب الكلي ، إذ ما اكثر الخوارق الّتي تنشأ عن
اُمور عادية وعبر سلسلة من التفاعلات الطبيعية. فعندما يرقُد مرتاض هندي ليمرَّ عليه
تراكتور من دون ان تحدث في جسمه أية جراحات أو اصابات فان هناك اُموراً مادية
كثيرة دخلت في هذا الامر الخارق مثل : وقوع هذا الحدث في اطار الزمان الخاص ،
والمكان الخاص ، ومثل جسم المرتاض ، وماكنة الحراثة. فان جميع هذه الاشياء المادية اثرت
في ظهور هذا العمل الخارق. وهكذا عندما تنقلب عصا الكليم عليهالسلام
إلى حية على نحو الاعجاز فان العصا شيء مادي وهكذا الحال في غيره من الموارد. ولهذا لا يمكن ان
نتجاهل تأثير العوامل والامور المادية في ظهور الاُمور غير العادية ، وننكر
دخالتها بمثل هذا الإنكار. وهذه هي اكثر النظريات
اعتدالا في هذا المجال. وفي مقابل ذلك التفريط (ـ أي حصر علل الخوارق والمعاجز في العوامل المجرَّدة ونفي تأثير
العلل الماديّة على نحو الاطلاق.)
أفرط آخرون إذ قالوا : ان جميع المعاجز والخوارق ناشئة من علل مادية غير معروفة.
وحتّى ما يقوم به المرتاضون يعود إلى هذه العوامل الطبيعية الّتي لا يعرفها ولا يقف عليها
حتّى النوابغ من الناس فضلا عن العاديين ، لأن
العوامل الطبيعية على نوعين : المعروفة
وغير المعروفة ، والناس يستفيدون في حياتهم اليومية ـ
في الأغلب ـ من القسم الاول ، بينما يستخدم
الانبياء والمرتاضون تلك العوامل الطبيعية غير المعروفة الّتي وقفوا عليها
وادركوها دون غيرهم. والسبب في وصفنا هذه النظرية
بالافراط والتطرُّف هو عدم وجود دليل لا ثباته ، بل يمكن ان يقال ان مثل هذا
الموقف ناشئ عن الانهزامية تجاه العالم المادي ، أو انه لارضاء الماديين ،
والنافين لما يدخل في إطار العالم المادي فان الماديين يرفضون أي عالم آخر غير
الطبيعة وآثارها وعلاقاتها وخواصها ، وحيث أن ارجاع المعجزات إلى العلل المجردة
عن المادة يخالف منطق الماديين ، ويضادد اتجاههم وتصورهم لهذا عمد أصحاب هذه
النظرية ( نظرية إرجاع المعاجز والخوارق
إلى علل طبيعية غير معروفة وغير عادية ) إلى مثل هذا
التفسير إقناعاً للماديين ، وارضاء لهم فقالوا : ان جميع الخوارق والمعاجز ناشئة
من علل طبيعية ومادية على الإطلاق ، غاية ما في الأمر أَنها علل غير معروفة ،
شأنها شان كثير من العوامل الطبيعية المجهولة. ونحن بدورنا نترك هذه
النظرية في دائرة الاجمال وبقعة الإمكان ، لعدم الدليل لا على طبقها ولا على
خلافها. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
4 ـ كيف تدلّ
المعجزة على صحّة ادّعاء النبوّة؟
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إن صفحات التاريخ مليئة بذكر من
ادّعوا النبوّة خداعاً وكذباً ، واستثماراً للناس ، مستغلِّين سذاجة الاغلبية
الساحقة من جانب ، وانجذابهم الفطري إلى قضايا التوحيد والايمان من جانب آخر. فكيف وبماذا يُميَّز النبيّ الصادق
عن مدّعي النبوة؟؟ إن المعجزة هي إحدى الطرق
التي تدل على صحة إدعاء النبوة. وإِنما تدلُّ المعجزةُ على صدق
ادّعاء النبوّة ، وارتباط النبيّ بالمقام الربوبي لأن اللّه الحكيم لا يمكن أن
يزوّدَ الكاذب في دعوى النبوة بالمعجزة ، لأن في تزويد الكاذب تغريراً للناس
الذين يعتبرون العمل الخارق دليلا على ارتباط الآتي بها بالمقام الربوبيّ. وإلى هذا أشار الامامُ
جعفر الصادق عليهالسلام
بقوله في جواب من سأله عن علة اعطاء اللّه المعجزة لانبيائه ورسله : « لِيَكُونَ دَليلا عَلى صِدق من أتى
به ، والمعجزة علامةٌ للّه لا يعطيها إلا انبياءه وَرسلَه ، وحجَجَه ، ليعرفَ به
صدق الصادق مِنْ كذب الكاذِب » (علل الشرائع : ج 1 ، ص 122.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
5 ـ بماذا نميز
المعاجز عن غيرها من الخوارق؟
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لا شَكَّ في أنَّ السَحَرة
والمرتاضين يقومون بأَفعال خارقة للعادة مثيرة للعجب والدهشة حتّى ان البسطاء
ربما يذهب بهم الاندهاش إلى حدّ الاعتقاد بأن القائمين بهذه الخوارق مزوَّدون
بقوى غامضة غيبية لا يتوصلُ اليها البشر. فكيف يمكن اذن أن نُمَيّز بَينَ
المعاجز وتلك الخوارق والعجائب؟ إن التمييز بين هذه
وتلك يمكن أن يتم إذا لاحظنا العلائم الفارقة بين المعجزة وغير المعجزة من
الاعمال الخارقة للعادة ، كاعمال السحرة والمرتاضين ( اصحاب اليوجا ) ونظائرهم. وهذه الفوارق هي عبارة عن
الامور التالية : 1 ـ
إن القوة الغامضة الحاصلة لدى المرتاضين والسحرة ناشئة بصورة مباشرة من التعلم
والتحصيل عند اساتذة تلك العلوم ، وذلك طيلة سنين عديدة من الزمان. بينما لا يرتبط الاعجاز
بالتعلّم والتلمّذ أبداً ، والتاريخ خير شاهد على هذا الكلام. 2 ـ
إن أَفعال السَحرة والمرتاضين العجيبة قابلة للمعارضة والمقابلة بأمثالها ،
وربما بما هو اقوى منها ، على عكس الإعجاز ، فالمعجزات غير قابلة لأن تعارض
وتقابل بمثلها ابداً. 3 ـ المرتاضون
والسَحرة لا يَتحدُّون أحداً بأفعالهم ولا يطلبُون معارضة أحد لَهُمْ وإلا
لافْتضَحُوا وكبتوا. بينما يتحدى الانبياء والرسل
بمعاجزهم جميع الناس ويدعونهم لمعارضتهم والاتيان بمثل معاجزهم لو قدروا ،
واستطاعوا. فهذا هو القرآن الكريم ينادي بأعلى
صوته على مر العصور : « قُل لَئنْ
اجْتَمَعت الإنسُ والجنّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمثْلِ هذا الْقُرآنِ لا يأتُونَ
بِمثْلِه وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْض ظَهيْراً »
(الاسراء : 88.).
وذلك لأنَ أفعال السَحرة الخارقة مما
كانت فانها تستند إلى الطاقة البشرية المحدودة ، ولا تتجاوزها بينما يعتمد
الانبياء والرسل العنصر الغيبي ، والإرادة الآلهية. 4 ـ
إن أفعال السحرة والمرتاضين الخارقة للعادة اُمور محدودة ومقتصرةٌ على ما
تعلَّموها وتمرنوا عليها ، بينما لا تكون معاجز الأنبياء والرسل مقتصرة على
اُمور خاصة ، فهم لا يعجزون عن الاتيان بكل ما يطلبه الناس منهم ، طبعاً حسب
شرائط خاصة مذكورة في محلها في أبحاث الاعجاز (مثل أن لا يكون ما يطلبه الناس محالا عقلياً كرؤية اللّه ، ومثل أن
لا يكون ما سيأتي لهم به دليلا على ارتباطه بالمقام الربوبي ، كما لو طلبوا منه
أن تكون له جنّة من نخيل وأعناب وبيتٌ من ذهب ، لأنّ هذه الاُمور لا تكون دليلا
على النبوّة إذ نلاحظ أنّ كثيراً مِنَ الناس يملكون هذه وليسوا مع ذلك بأنبياء. وأن لا يكون المقترحون من
ذوي اللجاج والعناد الذين لا يقصدون من طلب المعاجز إلا الهزل والاستهزاء
والتنزّه. وأن لا تكون نتيجة المعجزة هلاكهم كما لو طلبوا ان يُنزِّل عليهم
ناراً من السماء تحرقهم لأن في ذلك نقضاً للغرض.).
فتلك معاجز موسى المتعددة الابتدائية
، والمقترحة ، ومعاجز المسيح عليهالسلام
المتنوعة خير مثال على هذا الأمر. 5 ـ إن اصحاب المعاجز
يقصدون من معاجزهم دائماً دعوة الناس إلى أهداف إنسانية عالية وغايات الهية
سامية وبالتالي هداية المجتمع البشري إلى المبدأ والمعاد ، والأخلاق الفاضلة فيما لا يهدفُ المرتاضون والسحَرة إلا
تحقيق مآرب دنيوية حقيرة ، ونيل مكاسب مادية رخيصة. هذا مضافاً إلى أن
الأَنبياء والرسل أنفسهم يختلفون عن السحرة والمرتاضين في نفسيّتهم العالية ،
وأخلاقهم الفاضلة وتاريخهم المشرق ، وصفاتهم النبيلة على العكس من السحرة
والمرتاضين. هذه هي أَهمُّ العلامات الفارقة بين
المعاجز الّتي تدل على نبوة الانبياء والخوارق الّتي يقوم بها المرتاضون
والسحرة. وبعد أن تبيَّن كل هذا
اتضح أنَّ
الخوارق الالهية الّتي هي من مقولة المعاجز أيضاً تختلف عن الاُمور العادية في
أن عللها لا تنحصر في العلل المادية غير المعروفة فضلا عن الاُمور المادية
المعروفة ، بل ربما تكون مستندة إلى العلل
المجرّدة ، فليس من الصحيح ان نسعى لتفسير الخوارق الالهية
مثل : « قصة الفيل » الّتي أهلك اللّه تعالى فيها جيش « أبرهة » العظيم بأحجار
صغيرة من سجيل رمتها طيور الأبابيل بالعلل المادية المعروفة كما فعل من اشرنا
إلى أسمائهم في مطلع هذا البحث (أي الاستاذ الشيخ محمَّد عبده والاستاذ محمَّد حسين هيكل.).
ولهذا عَدلَ « سيد قطب » عن رأية
الّذي كان قد أبداه في ما سبق في أمثال هذه الاُمور ، إذ قال : ان الطريق الأمثل في فهم القرآن
وتفسيره أن ينفُض الإنسان من ذهنه كلَ تصوّر سابق ، وأن يواجه القرآن بغير
مقرَّرات تصوُرية أو عقلية أو شعورية سابقة ، وأن يبني مقرَّراته كلها حسبما
يصورُ القرآنُ والحديثُ حقائق هذا الوجود ، ومن ثم لا يحاكم القرآن والحديث لغير
القرآن ، ولا ينفي شيئاً يثبته القرآن ولا يُؤَولَه ، ولا يثبت شيئاً ينفيه
القرآن أو يبطله ، وما عدا المثبت والمنفي في القرآن فله أن يقول فيه ما يهديه
إليه عقله وتجربته. نقول هذا بطبيعة الحال
للمؤمنين بالقرآن ... وهم مع ذلك يؤوّلون نصوصه هذه
لتوائم مقررات سابقة في عقولهم وتصورات سابقة في أذهانهم لما ينبغي أن تكون عليه
حقائق الوجود (وهنا قال سيّد قطب في هامش هذا الكلام مانصه « وما اُبرئ نفسي اُنني
فيما سبق من مؤلّفاتي وفي الأجزاء الاُولى من هذا الضلال قد انسقتُ إلى شيء من
هذا وارجو أن أتداركه في الطبعة التالية إذا وفق اللّه ».).
فاما الذين لا يؤمنون بهذا القرآن ،
ويعتسفون نفي هذه التصورات لمجرد أن العلم لم يصل إلى شيء منها فهم مضحكون حقاً! فالعلمُ لا يعلم اسرار الموجودات الظاهرة بين يديه والّتي
يستخدمها في تجاربه ، وهذا لا ينفي وجودها طبعاً! فضلا
عن العلماء الحقيقيين اخذت جماعة كبيرة منهم تؤمن بالمجهول على طريق المتدينين
أو على الأقل لا ينكرون ما لا يعلمون ، لأنهم بالتجربة وجدوا أنفسهم ـ عن طريق
العلم ذاته ـ أمام مجاهيل فيما بين ايديهم ممّا كانوا يحسبون انهم فرغوا من
الاحاطة بعلمه فتواضعوا تواضعاً علمياً نبيلاً ليس فيه سمةُ الادعاء ، ولا طابع
التطاول على المجهول كما يتطاول مُدّعو العلم ، ومدّعو التفكير العلمي ، ممن
يُنكرون حقائق الديانات وحقائق المجهول (في ظلال القرآن : ج 29 ، ص 151 ـ 153.).
ثم يقول في موضع آخر
من تفسيره ناقداً لموقف الاستاذ عبده من قصة الفيل الّتي هي احدى الخوارق
حيث حفظ اللّه تعالى بيته المعظم على نحو خارق للعادة : ويرى الذين يميلون إلى تضييق نطاق
الخوارق والغيبيات ، وإلى رؤية السنن الكونية المألوفة تعملُ عملها ، أن تفسير
الحادث بوقوع وباء الجدري والحصبة اقرب واولى ، وان الطير تكون هي : الذباب
والبعوض تحمل الميكروبات فالطير هو كل ما يطير. ثم ينقلُ كلام الاستاذ
« عبده » الّذي ذكرناه بنصه مع قوله : هذا ما يصحّ
الاعتماد عليه في تفسير السورة ، وما عدا ذلك فهو ممّا لا يصحّ قبوله إلاّ
بتأويل ان صحت روايته ، وممّا تعظم به القدرة ان يُؤخذَ من استعز بالفيل ـ وهو
اضخم حيوان من ذوات الاربع جسماً ـ ويُهْلكَ بحيوان صغير لا يظهر للنظر ولا يدرك
بالبصر حيث ساقه القدرُ لا ريب عند العاقل أن هذا اكبر واعجب وأبهر. ثم يقول :
ونحن لا نرى أن هذه الصورة الّتي افترضها الاستاذُ الامامُ ـ صورة الجدري أو
الحصبة من طين ملوث بالجراثيم ـ أدلَّ على قدرة ، ولا اولى بتفسير الحادث ، فهذه
كتلك في نظرنا من حيث إمكان الوقوع ، ومن حيث الدلالة على قدرة اللّه ، وتدبيره
، ويستوي عندنا أن تكون السنة المألوفة للناس ، المعهودة المكشوفة لعلمهم ، هي
الّتي جرت ، فأهلكت قوماً أراد اللّه اهلاكهم ، أو أن تكون سنة اللّه قد جَرت
بغير المألوف للبشر ، وغير المعهود المكشوف لعلمهم فحقّقت قدره ذاك. ثم يقول : لقد كان اللّه سبحانه يريد
بهذا البيت (أيّ الكعبة المشرّفة.)
أمراً ، كان يريد أن يحفظه ليكون مثابة للناس وأمناً وليكون نقطة تجمع للعقيدة
الجديدة تزحفُ منه حرة طليقة في ارض حرة طليقة لا يهيمن عليها احدٌ من خارجها
ولا تسيطر عليها حكومةٌ قاهرة تحاصر الدعوة في محضنها ، ويجعل هذا الحادث عبرة
ظاهرة مكشوفة لجميع الانظار في جميع الأجيال ، ليضربها مثلا لرعاية اللّه
لحرماته وغيرته عليها. فمما يتناسق مع جوّ هذه الملابسات
كلها أن يجيء الحادثُ غير مألوف ولا معهود بكل مقوماته وبكل اجزائه ، ولا داعي
للمحاولة في تغليب صورة المألوف من الأمر في حادث هو في ذاته وبملابساته مفردٌ
فذٌ. وبخاصة ان المألوف في الجدري والحصبة
لا يتفق مع ما روي من آثار الحادث بأجسام الجيش وقائده فإن الجدري أو الحصبة لا
يُسقطُ الجسم عُضواً عضواً ، وأنملة انملة ، ولا يشق الصدر عن القلب!! ثم ان « سيد قطب » يشير إلى علل
تفسير هذه الحادثة الخارقة للعادة بالتفسير المادي العادي الطبيعي ، والمدرسة
العقلية الّتي كان الاستاذ « عبده » على رأسها ، وضغط الفتنة بالعلم الّتي تركت
آثارها في تلك المدرسة ، ونحن نكتفي بهذا القدر بالمناسبة ، وإشعاراً بما يمكن
أن يجنيه مثل هذا الاتجاه على مقولات الدين ومفاهيمه ومقرراته عن الأحداث
الكونية والتاريخية والإنسانية والغيبية (في ظلال القرآن : ج 30 ، ص 251 ـ 255.).
هذا ويجدر بنا ان ننقل
هنا ما قاله صاحب تفسير مجمع البيان في هذا الصدد في شأن حادثة الفيل استكمالا
لهذا البحث وتأكيداً لمعجزة هذا الحدث. قال صاحب المجمع : وكان
هذا من اعظم المعجزات القاهرات ، والآيات الباهرات في ذلك الزمان ، اظهرهُ اللّه
تعالى ليدل على وجوب معرفته ، وفيه ارهاص لنبوة نبينا صلىاللهعليهوآلهوسلم
لأنه ولد في ذلك العام ، وفيه حجةٌ لائحة قاصمة لظهور الفلاسفة والملحدين
المنكرين للآيات الخارقة للعادات فانه لا يمكن نسبة شيء ممّا ذكره اللّه تعالى
من أمر اصحاب الفيل إلى طبع وغيره كما نسبوا الصيحة والريح العقيم والخسف
وغيرهما ممّا أهلك اللّه تعالى به الامم الخالية ، إذ لا يمكنهم أن يروا في
اسرار الطبيعة ارسال جماعات من الطير معها احجارٌ معدّة مهيَّاة لهلاك أقوام
معينين قاصدات إيّاهُمْ دون من سواهم فترميهم بها حتّى تهلِكهم ، وتدّمرَ عليهم
، لا يتعدّى ذلك إلى غيرهم ولا يشك من له مسكة عن عقل ولب ان هذا لا يكون الا من
فعل اللّه تعالى مسبب الاسباب ومذلِّل الصعاب ، وليس لأحد أن ينكر هذا لأَن
نبينا صلىاللهعليهوآلهوسلم
لما قرأ هذه السورة على أهل مكة لم ينكروا ذلك بل اقروا به وصدّقوه مع شدة حرصهم
على تكذيبه ، واعتنائهم بالردِّ عليه وكانوا قريبي عهد بأَصحاب الفيل ، فلو لم
يكن لذلك عندهم حقيقةٌ وأصلٌ لأنكَرُوهُ ، وجحدوه ، وأنهم قد أرّخوا بذلك كما
أرّخوا ببناء الكعبة ، وموت قصيّ بن كعب وغير ذلك. وقد اكثر الشعراء ذكر الفيل ونظّموه
ونقلته الرواةُ عنهم فمِن ذلك ما قاله ( اُميّة ) بن ابي الصلت :
وقال عبد اللّه بن عمرو بن مخزوم :
وقال ابن قيس الرقيات في قصيدة :
1 ـ المنكَّس. 2 ـ تفسير مجمع البيان
للطبرسي : ج 10 ، ص 543 في تفسير سورة الفيل. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ماذا
بَعْدَ هزيمة الأحباش؟
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد استوجب مقتل أبرهة وتحطّم جيشه
وهلاكهم ، وبالتالي هزيمة أعداء الكعبة المشرفة ، وأعداء قريش ، أن يتعاظم شأن
المكيّين ، وشأن الكعبة الشريفة في نظر العرب ، فلا يجرأ أحدٌ ـ بعد ذلك ـ في أن
يحدِّث نفسه بغزو مكة ، والإغارة على قريش ، أو أن يفكر في التطاول على الكعبة
المعظمة صرح التوحيد الشامخ ، فقد اخذ الناس يقولون في انفسهم : إنّ اللّه أهلك
أعداء بيته المعظم بمثل ذلك الاهلاك إحتراماً لبيته وتعظيماً لشأن قريش ، وقلّما
كان يتصور أحد أن ما وقع كان لاجل المحافظة على الكعبة فقط ، اي من دون أن يكون
لمكانة قريش ومنزلتهم وشأنهم دخل في ذلك ، ويشهد بذلك أن قريشاً تعرضت مراراً
لحملات متكررة من غزاة ذلك العصر دون أن يُصابُوا بمثل ما اُصيب به جندُ « ابرهة
» الّذي قصد الكعبة بالذات ويواجهوا ما واجهه ، من الردع والكبت. إنَّ هذا الفتح والظفر الّذي نالته
قريش من دون تعب ونصب ، ومن دون إراقة أية دماء من أبنائها ، أحدثت في نفوس
القرشيين حالات جديدة خاصة ، فقد زادت من غرورهم وحمّيتهم ، وعنجهيتهم ،
واعتزازهم بعنصرهم ، فأخذوا يفكرون في تحديد شؤون الآخرين ، والتقليل من وزنهم ،
اعتقاداً منهم بانهم الطبقة الممتازة من العرب دون سواهم. كما أنها دفعتهم إلى
أن يتصوَّروا أنهم وحدهم موضع عناية الأَصنام ( الثلاثمائة والستين ) فهم وحدهم
الذين تحبُّهم ولأجل هذا تمادوا في لَهوهم ، ولعبهم
، وتوسعوا في ممارسة اللذة والترف حتّى أنهم أظهروا وَلعاً شديداً بالخمر ،
فكانوا يحتسونها في كل مناسبة ، وربما مدّوا موائد الخمر في فناء الكعبة ،
واقاموا مجالس سَمرهم وأنسهم إلى جانب أصنامهم الخشبية ، والحجرية ، الّتي كان
لكل قبيلة من العرب بِينها صَنمٌ أو اكثر ، ويقضون فيها اسعدَ لحظات حياتهم ـ
حَسب تصورّهم ، وَهم يتناقلون فيها كل ما سمعوه من أخبار وقصص حول « مناذرة »
الحيرة و « غساسنة » الشام وقبائل اليمن ، وهم يتصورون أن هذه الحياة الحلولة
اللذيذة هي من بركة تلك الاصنام والاوثان ، فهي الّتي جعلت عامة العرب تخضع
لقريش ، وجعلت قريشاً افضل من جميع العرب!! |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أوهام
قريش تتفاقم!!
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إنَّ أخطرَ ما يمرُّ به إنسانٌ في
حياته هو أن يصفو عيشه من المشاكل ، ردحاً من الزمن ويحس لنفسه بنوع من الحصانة
الوهمية ، فعندها تجده يخص الحياة بنفسه ويستأثر بكل شيء في الوجود ولا يرى
لغيره من ابناء نوعه وجنسه من البشر اي حق في الحياة ، ولا ايّ شأن وقيمة تذكر ،
وذلك هو ما يصطلح عليه بالاستكبار والاستعلاء ، والاحساس بالتفوق ، والغطرسة. وهذا هو بعينه ما حصل
لقريش بعد اندحار جيش « ابرهة » وهلاكه ، وهلاك جنده بذلك الشكل العجيب الرهيب. فقد عزمت قريش منذ ذلك
اليوم ـ وبهدف إثبات تفوقها وعظمتها للآخرين ـ ، على أن تلغي أي احترام لأهل
الحلّ لانهم كانوا يقولون : ان جميع العرب محتاجون إلى معبدنا ، وقد رأى العرب
عامة كيف اعتنى بنا آلهةُ الكعبة ، خاصة ، وكيف حمتنا من الاعداء!! ومن هنا بدأت قريش تضيّق على كل من
يدخل مكة من أهل الحل للعمرة أو الحج ، وتتعامل معهم بخشونة بالغة ، وديكتاتورية
شديدة ففرضت على كل من يريد دخول مكة للحج أو العمرة أن لا يصطحب معه طعاماً من
خارج الحرم ، ولا يأكل منه ، بل عليه أن يقتني من طعام أهل الحرم ، ويأكل منه ،
وأن يلبس عند الطواف بالبيت من ثياب أهل مكة التقليدية القومية ، أو يطوف
عرياناً بالكعبة إن لم يكن في مقدوره شراؤها واقتناؤها ، ومَن كان يَرفُض الخضوع
لهذا الأمر ، مِن رؤساء القبائل وزعمائها ، كان عليه أن ينزع ثيابه ـ بعد
انتهائه من الطواف ـ ويلقيها جانباً ، ولا يحق لأحد ان يمسها أبداً لا صاحبها
ولا غيره (وكانت تسمّى عندهم « اللّقى ».).
اما النساء فكان يجب عليهن إذا أردنَ
الطواف أن يُطفنَ عراة على كل حال ، وان يضعن خرقة على رؤوسهن وَيُردِّدنَ البيت
التالي في اثناء الطواف :
ثم إنه لم يكن يحق لأيّ يهودي أو
مسيحي ـ بعد هزيمة « ابرهة » الّذي كان هو أيضاً مسيحياً ـ أن يدخل مكة إلاّ أن
يكون أجيراً لمكيٍّ ، وحتّى في هذه الصورة كان يجب عليه أن لا يتحدّث في شيء من
أمر دينه ومن أمر كتابه. لقد بلغت النخوةُ والعصبية بقريش
حداً جعلتهم يتركون بعض مناسك الحج الّتي كان يجب الإتيان بها خارج الحرم!! لقد أنفوا منذ ذلك اليوم أن يأتوا
بمناسك عرفة (الكامل في التاريخ : ج 1 ، ص 266.)
كما
يفعل بقية الناس فتركوا الوقوف بعرفة ، والافاضة منها مع أن آباءهم ( من ولد إسماعيل
) كانوا يُقّرون أنها من المشاعر والحج ، وكانت هيبة قريش وعظمتها الظاهرية رهنٌ
ـ برمتها ـ بوجود الكعبة بين ظهرانيها ، وبوظائف الحج ومناسكه هذه ، إذ كان يجب
على الناس في كل عام أن يأتوا إلى هذا الوادي الخالي عن الزرع وهذه الصحراء
اليابسة لأداء المناسك ، إذ لو لَم يكن في هذه النقطة من الأَرض أىُ مطاف أو
مشعر لما رغب احد حتّى في العبور بها فضلا عن المكث فيها عدة ايام وليال. لقد كان ظهورُ مثل هذا الفساد
الاخلاقي وهذا الموقف المتعصِّب من الآخرين أمراً لابدَّ منه بحسب المحاسبات
الاجتماعية. فالبيئة المكيّة لابد أن تغرق في
الفساد والانحراف حتّى يتهيأ العالم لانقلاب أساسيّ ونهضة جذرية. إن كل ذلك الانفلات الاخلاقي والترف
والانحراف كان يهيء الارضية ويعدّها لظهور مصلح عالمي ، أكثر فاكثر. ولهذا لم يكن غريباً
أن يغضب « أبو سفيان » فرعون مكة وطاغيتها على « ورقة بن نوفل » حكيم العرب
الّذي تنصر في اُخريات حياته واطلع على ما في الانجيل ، كلما تحدَّث عن اللّه
والانبياء ويقول له : « لا حاجة إلى مثل هذا الاله وهذا النبي ، تكفينا عناية
اصنامنا »!! |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
عَبدُ
اللّه والدُ النبيّ :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
يوم فدى « عبدُالمطلب
» ولده « عبد اللّه » بمائة من الابل نحرها ، وأطعم الناس في سبيل اللّه ، لم
يكن يمض من عمر « عبد اللّه » اكثر من اربعة عشر ربيعاً ، وقد تسبَّبَتْ هذه
الواقعةُ في أن يكتسب « عبدُ اللّه » شهرة خاصة بين عشيرته مضافاً إلى شهرته
الكبرى بين قريش ، وأن يحظى بمكانة كبيرة عند أبيه : «
عبد المطلب » بنحو خاص ، لأن ما يُكلِّفُ الإنسان غالياً ، ويتحملُ في سبيله
عناء اكثر لابدَّ أن يحظى لديه بمكانة اكبر ، ويحبّه محبة تفوقُ المتعارف. ومن هنا كان « عبدُ اللّه » يتمتعُ
باحترام يفوق الوصف بين أبناء عشيرته وأفراد عائلته وأقربائه. ثم إن « عبدَ اللّه » يوم كان يتوجه
برفقة والدهِ إلى المذبح كان يعاني من مشاعر وأحاسيسَ متناقضة ومتضادة ، فهو من
جانب كان يُكِنّ لوالده احتراماً كبيراً وحباً شديداً ، ولهذا لم يكن يَجدُ بداً
من طاعته ، والانصياع لمطلبه ، بينما كان من جانب آخر يعاني من قلق ، واضطراب
شديدين على حياته الّتي كان يرى كيف تعبث بها يدُ القدر ، وتكادُ تقضي عليها كما
يقضي الخريفُ على كما أن « عبد المطلب »
نفسه كان هو الآخر تتجاذبه قوتان متضادتان : قوةُ الايمان والعقيدة من جانب ،
وقوةُ العاطفة والمحبة الأبوية من جانب آخر ، وقد أوجدَت
هذه الواقعة في نفسي هاتين الشخصيتين آثاراً مُرّة يصعُب زوالها ، بيد أن تلك
المشكلة حيث عولجت بالطريقة الّتي ذكرناها ونجا « عبد اللّه » من الموت المحقق
فكر « عبد المطلب » فوراً في ان يغسل عن قلب « عبد اللّه » تلك المرارة القاسية
بزواج « عبد اللّه » بآمنة ، وبذلك يقوّي من عرى حياته الّتي بلغت درجة الانصرام
، بأقوى السُبُل ، وأمتن الوسائل. ومن هنا توجّه « عبد
المطلب » إلى بيت « وهَب بن عبدمَناف » ـ فور رُجوعه من المذبح آخذاً بيد ولده
عبد اللّه ـ وعقد لولده على « آمنة بنت وَهَب » الّتي كانت تُعرَفُ بالعِفة ،
والطُهر ، والنجابة ، والكمال. كما أنه عقد لنفسه ـ في ذات المجلس ـ
على « دلالة » ابنة عم آمنة ، ورُزقَ منها « حمزة » عمّ رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
والمشابه له في السن (تاريخ الطبري : ج 2 ، ص 7 والمذكور في هذا المصدر « هالة ».).
غير أن الاستاذ المؤرخ
« عبدالوهاب النجار » المدرس بقسم التخصص في الازهر الّذي صحح « التاريخ الكامل
» لابن الاثير ، وعلَّق عليه بملاحظات وهوامش مفيدة
شكك في صحة هذه الرواية ، واستغربها ، وقال : لا أظنُ أنه يصحّ شيء في هذه
الرواية ، إذ المعقولُ أن يتريث « عبد المطلب » بعد ذلك المجهود المضني حتّى
يريح نفسه ثم يذهب ليخطب لابنه (الكامل في التاريخ : ج 2 ، ص 4 ، قسم الهامش.).
ولكنَّنا نعتقد بأن المؤرخ المذكور
لو نَظرَ إلى المسألة مِن غير هذه الزاوية لسَهُل عليه التصديقُ بهذه الرواية. ثم أن « عبد المطَّلب » عَيَّن
موعداً للزفاف ، وعند حلول ذلك الموعد تمّت مراسمُ الزفاف في بيت « آمنة » طبقا
لما كان متعارفاً عليه في قريش ، ولبث « عبد اللّه » مع « آمنة » ردحاً من الزمن
حتّى سافر إلى الشام للتجارة ، وعند عودته توفّي اثناء الطريق كما ستعرف. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
دَورُ
الأَيادي المشْبُوهَة في تاريخ الإسلام :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لا شك أَنَّ التاريخ سَجَّلَ في
صفحاته كلَ ما يتعلق بالشعوب والاقوام من نقاط مضيئة أو مظلمة ، كقصص للعبرة
والعظة. ولكن الحب والبغضَ
تارة والتساهل والبدعة تارة اُخرى وحب اظهار المقدرة وابراز القوة الأدبية تارة
ثالثة وغير ذلك من العوامل والاسباب عملت عملها فتدخلت ـ في جميع الأدوار
والعصور ـ في صياغة التاريخ ، وخلَطت الغث بالسمين والحقيقة بالخرافة ،
وتلك هي مشكلة كبرى تقع في طريق المؤرخ
الّذي يريد عرض حوادث التاريخ في أمانة وإستقامة ، ولذلك
يجب عليه أن يميز الحق عن الباطل ، والصدق عن الكذب من خلال الأخذ بالموازين
العلمية ، والممارسة الكاملة للتاريخ. ولقد
كان للعوامل المذكورة تاثير ايضاً في تدوين التاريخ الإسلامي ،
فالأيادي المريبة المشبوهة عملت على تحريف الحقائق في هذا المجال ، بل وربما عمد
بعض الاصدقاء ـ بهدف تعظيم شأن النبيّ الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم
إلى نسبة بعض الاُمور الّتي يظهرُ عليها آثار الاختلاق والإفتعال إليه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وهو منها بُراء. فقد جاء في التاريخ
أن نور النبوَّة كان يسطع في جبين « عبد اللّه » والد النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
دائماً (السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 39.)
،
كما نقرأ أن « عبد المطلب » كان يأخذ بيد ولده « عبد اللّه » في سنين الجدب
والقحط ، ويصعد الجبل ويستسقي متوسِّلا إلى اللّه بالنور الّذي كان بيّنا في
جبين « عبد اللّه » (الكامل في التاريخ : ج 2 ، ص 4.)
فهذا هو ما كتبه وسجَّله كثيرٌ من علماء الشيعة والسنة في مؤلفاتهم ، ونحن لا
نملك اي دليل على عدم صحته. ولكن هذه القصة وقعت
أساساً لبعض الاساطير التى لا يمكن ان نقبل بها مطلقاً واليك فيما يأتي ما
الحِقَ بهذه القضية التاريخية الثابتة. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قِصَّة فاطمة
الخَثعَمِيَّة :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
و « فاطمةُ » هذه هي
أختُ « ورَقَة بن نوفل » الّذي كان من حكماء العرب وكُهّانهم
، وكان له معرفة كبيرة بالإنجيل. وقد ضبط التاريخ حديثه مع خديجة في بدء بعثة
الرسول الاكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم
وسوف نشير إليه في محله من هذا الكتاب. وكانت « فاطمة » اخت «
ورقة » قد سمعت من أخيها عن نبوة رجل من احفاد « اسماعيل » ، ولهذا ظلّت تنتظر ،
وتبحث. وذات يوم وعندما كان «
عبد المطلب » متوجها إلى بيت آمنة بنت وهب بعد
قفوله ومنصرفه من المذبح وهو آخذ بيد « عبد اللّه » ، شاهدت « فاطمة الخثعمية »
ـ الّتي كانت تقف على مقربة من منزلها ـ النور الساطع من جبين « عبد اللّه » ،
والّذي كانت تنتظره مدة طويلة وتبحث عنه بشوق ، فقالت : اين تذهب يا عبد اللّه؟
لكَ مِثلُ الإبل الّتي نحِرَت عنك ، وقعْ عليَّ الآن. فقال : أنا مع أبي ولا استطيع خلافه
وفراقه!! (تاريخ الطبري : ج 2 ، ص 5.).
ثم تزوج « عبد اللّه » بآمنة في نفس
ذلك اليوم ، وقضى معها ليلة واحدة. ثم في الغد من ذلك اليوم أتى المرأة
« الخثعمية » الّتي عرضت نفسها عليه ، وأبدى استعداده لتنفيذ رغبتها ، ولكن «
الخثعمية » قالت له : ليس لي بك اليوم حاجة ، فلقد فارقك النورُ الّذي كان مَعك
أمس!! (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 156 النصّ والهامش.).
وقيل : إنه لمّا عرضت تلك المرأة «
الخثعمية » على « عبد اللّه » ما عرضت أجابها « عبد اللّه » بالبداهة ببيتين من
الشعر هما :
ولكن لم تمر ثلاثة من زواجه بآمنة ،
واقامته عندها حتّى دعته نفسُه إلى ان يأتي الخثعمية ، وعرض نفسه عليها قائلا :
هل لك فيما كنت اردت؟ فقالت : لقد رأيت في وجهك نوراً فاردت ان يكون لي فابى
اللّه الاّ أن يجعله حيث اراد فما صنعت بعدي؟ قال : زوَّجني أبي « آمنة بنت وهب
»!! (تاريخ الطبري : ج 2 ، ص 7 ، والكامل في التاريخ : ج 2 ، ص 4.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
علائم الإختلاق في
هذه القصة!
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد غَفل مختلِقُ هذه
القصة عن اُمور كثيرة عند صياغته لها ، ولم يستطع اخفاء آثار الاختلاق عنها. فلو كان يكتفي بالقول ـ مثلا ـ بان «
فاطمة » صادفت « عبد اللّه » ذات يوم في زقاق من الأزقة ، أو سوق من الاسواق ،
وشاهدت نورَ النبيّ ساطعاً من طلعته ففكرت في الزواج به رغبة في ذلك النور لكان
من الممكن التصديق بهذه القصة ، بيدَ أن نصَ القصة جاء بصورة لا يمكن القبول بها
للأسباب التالية : 1 ـ ان هذه القصة تفيد أنَّ المرأة «
الخثعمية » عند ما عرضت نفسها على « عبد اللّه » ، كانت يد « عبد اللّه » في يد
والده « عبد المطلب » ، فكيف يمكن ان تعرض تلك الفتاة نفسَها عليه وتبين مطلوبها
له ويدور بينهما ما يدور ، ولا يحسُ عليهما عبد المطلب؟! ثم الم تستحِ من عظيم قريش « عبد
المطلب » الّذي لم يثنه عن طاعة اللّه تعالى شيء حتّى مقتلُ ولده وذبحه. ولو قلنا أن مطلبها كان حلالاً
مشروعاً فان ذلك لا ينسجم مع البيتين من الشعر اللَّذين ردّ بهما « عبد اللّه »
طلبها. 2 ـ والأصعب من ذلك قصة عبد اللّه
نفسه. فان ولداً مثل « عبد اللّه » يحترم والده إلى درجة الاستعداد لأن يُذْبَحَ
وفاءً لنذر والده ، كيف يمكن أن يتفوّه في حضرة والده بما نُقِلَ عنه؟! ترى أيمكن لشاب نجا لتوّه من السيف
والذبح ، ولا يزال يعاني من آثار الصدمة الروحية أن يستجيب لرغبات امرأة ، أو
يبدي استعداده ورضاه القلبيّ لذلك لولا وجود والده معه؟!! ترى هل كانت تلك
المرأة جاهلة بالظروف ، لا تقدّر الاحوال ، ولا تعرف الوقت المناسب لطرح مطلبها
، أو أنَّ مختلق هذه القصة غَفل عن نقاط الضعف البارزة هذه؟!! ثم إن ممّا يفضح هذه
القصة ويُظهر بطلانها ما جاء في الصورة الثانية لها ،
فان عبد اللّه ـ كما لا حظنا جابه طلب تلك المرأة ببيتين من الشعر وقال ما حاصله
بأن الموت أسهل عليه من ارتكاب هذا الفعل الحرام الّذي يأتي على دين الرجل وشرفه
، فكيف يجوز لمثل هذا الشاب الطاهر الغيور أن يقع فريسة لتلك الأهواء ، والرغبات
الرخيصة الفاسدة ، والحال انه لم ينقض من زواجه اكثر من ثلاث ليال ، وتدفعه
غريزته الجنسية إلى ان يبادر إلى بيت المرأة الخثعمية. إنَّ ماجابَه به « عبد اللّه » دعوة
تلك المرأة ، وما جاء في ذينك البيتين من الشعر اللذين يطفحان بالغيرة ، والإباء
، لخيرُ دليل على طهارة « عبد اللّه » وعفته ، وتقواه ، وترفعه عن الآثام
والادران ، وابتعاده عن الانجاس والادناس. وقد علّق الاستاذ العلامة « النجار »
على هذه الاسطورة بقوله : « ليس من المعقول أن يذهب عبد اللّه يبغي الزنا في
الساعة الّتي تزوج فيها ، ودخل فيها على امرأته ». ولكن الاستاذ « النجار
» أخطأ في تشكيكه في النور النبويّ الساطع في جبين « عبد اللّه » حيث قال معقباً
على كلامه السابق : « ولكنها مسألة النور في وجهه
يريدون إثباتها ورسول اللّه غني عن هذا كله » (هامش الكامل في التاريخ : ج 2 ، ص 4.).
فان ذلك ممّا رواه
جميع المؤرخين بلا استثناء ، فلا داعي ولا وجه للتشكيك فيه! |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
طهارة
النبيّ من دنس الآباء وعهر الاُمهات :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وينبغي هنا ـ وبالمناسبة ـ ان نشير
إلى مسألة مهمة في تاريخ النبيّ الكريم صلىاللهعليهوآلهوسلم ألا وهي
طهارة النسب النبوي من دنس الآباء ودناءتهم وعهر الامّهات وفسادهن فلا يكون في
اجداده وجدّاته سفاح ، وزنا. وهذا ممّا اتفق عليه
المسلمون ، بعد ان دلّ عليه العقل إذ لو لم يكن النبيّ منزها
عن دناءة الاباء وعهر الامّهات لتنفر عنه الطباع ولم يرغب احد في متابعته ،
والانقياد لاوامره ونواهيه. ولقد صرح رسول الإسلام صلىاللهعليهوآلهوسلم
بذلك في احاديث رواها السنة والشيعة. فقد جاء عن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
انه قال : « نقلت من الاصلاب الطاهرة إلى
الارحام الطاهرة نكاحاً لا سفاحاً » (كنز الفوائد : ج 1 ، ص 164.).
وجاء ايضاً انه صلىاللهعليهوآلهوسلم
قال : « لم يزل اللّه ينقلني من الأصلاب
الحسيبة إلى الأرحام الطاهرة » (السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 43.).
وقال الإمام
اميرالمؤمنين علي بن ابي طالب عليهالسلام
: « وأشهد اَنّ محمَّداً عبدُه ورسولُه
وسيّدُ عباده كلما نسخَ اللّه الخلقَ فرقتين جعله في خيرهما لم يسهِم فيه عاهرٌ
، ولا ضربَ فيه فاجرٌ » (نهج البلاغة : الخطبة 215 ، طبعة عبده.).
وقال الإمام الصادق عليهالسلام في هذا
الصدد عند تفسير قول اللّه تعالى : «
وتقلّبَكَ في السَّاجِدينَ » : (الشعراء : 219.)
« في أصلاب النبيّين ، نَبي بعد نبي
، حتّى اخرجه من صلب ابيه عن نكاح غير سفاح من لدن آدم » (تفسير مجمع البيان عند تفسير الآية.).
وقد صرح علماء الإسلام من الفريقين
بهذا الأمر ، واشترطوه في النبيّ. تجريد الاعتقاد :
ويجب في النبيّ العصمة ... وعدم السهو ، وكل ما ينفّرُ عنه من دناءة الآباء وعهر
الاُمّهات ... (كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد : ص 349 تحقيق الشيخ حسن زاده
الآملي.).
وقد وافقه على هذا العلامة القوشجي
الاشعري في شرح التجريد (راجع : شرح القوشجي لتجريد الاعتقاد : ص 359.).
وقال العلامة المتكلم المقداد
السيوري في اللوامع الالهية : ويجب أن لا يكون مولوداً من الزنا ولا في آبائه
دنيّ ولا عاهر (اللوامع الالهية : ص 311.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وفاةُ
عَبْد اللّه في « يَثْرب » :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد بَدَأ « عبدُ اللّه » بالزواج
فصلا جديداً في حياته ، وأضاء ربوعها بوجود شريكة للحياة في غاية العفة والكمال
هي زوجته الطاهرة « آمنة » وبعد مدة من هذا الزواج المبارك توجه في رحلة تجارية
ـ وبصحبة قافلة ـ إلى الشام بهدف التجارة. دقت أجراسُ الرحيل ، وتحركت القافلة
التجارية وفيها عبد اللّه ، وبدأت رحلتها من « مكة » صوب الشام ، وهي مشدودة
بمئات القلوب والافئدة. وكانت « آمنة » تمر في
هذه الايام بفترة الحمل ، فقد حملت من زوجها « عبد اللّه ». وبعد مُضيّ بضعة أشهر طلعت على مشارف
مكة بوادر القافلة التجارية وهي عائدة من رحلتها ، وخرج جمع كبير من أهل مكة
لاستقبال ذويهم المسافرين العائدين.ها هو والد « عبد اللّه » ينتظر ـ في
المنتظرين ـ ابنه « عبد اللّه » ، كما ان عيون عروسة ولده « آمنة » هي الاُخرى
تدور هنا وهناك تتصفح الوجوه وتبحث عن زوجها الحبيب « عبد اللّه » في شوق لا
يوصف. ولكن ومع الأسف لا
يجدان أثراً من « عبد اللّه » بين رجال القافلة!! وبعد التحقيق يتبين أن « عبد اللّه »
قد تمرّض أثناء عودته في يثرب ، فتوقف هناك بين اخواله لكي يستريح قليلا ، فاذا
تماثل للشفاء عاد إلى أهله في « مكة ». وكان من الطبيعي أن يغتم هذان
المنتظران « عبد المطلب وآمنة » لهذا النبأ ، وتعلو وجهيهما آثار الحزن ، والقلق
وتنحدر من عيونهما دموع الأسى والاسف. فأمرَ « عبدُ المطّلب
» اكبر ولده : « الحارث » إلى أن يتوجَّه إلى « يثرب » ، ويصطحب معه « عبد اللّه
» إلى مكة. ولكنه عند ما دخل يثرب عرف بأن أخاه
: « عبد اللّه » قد توفي بعد مفارقة القافلة له بشهر واحد ، فعاد الحارث إلى مكة
، فاخبر والده « عبد المطلب » ، وكذا زوجته العزيزة « آمنة » بذلك ، ولم يخلف «
عبد اللّه » من المال سوى خمسة من الابل ، وقطيع من الغنم ، وجارية تدعى « اُم
أيمن » صارت فيما بعد مربية النبيّ الاكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم
(تاريخ الطبري : ج 2 ، ص 7 و 8 ، والسيرة الحلبية : ج 1 ، ص 50.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
5
مَولدُ رَسُول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
كانت سُحُبُ الجاهلية الداكنة تُغطّي
سماء الجزيرة العربية ، وتمحي الاعمالُ القبيحةُ والممارساتُ الظالمة ، والحروبُ
الداميةُ ، والنهبُ والسلبُ ، ووأدُ البنات ، وقتلُ الاولاد ، كلَ فضيلة
أخلاقية. في البيئة العربية وكان المجتمع العربيّ قد اصبح في منحدر عجيب من
الشقاء ، ليس بينهم وبين الموت الاّ غشاء رقيق ومسافة قصيرة!! في هذا الوقت بالذات طلع عليهم شمس
السعادة والحياة فاضاءت محيط الجزيرة الغارق في الظلام الدامس ، وذلك عندما
اشرقت بيئة الحجاز بمولد النبيّ المبارك « محمَّد » صلىاللهعليهوآلهوسلم
وبهذا تهيأَت المقدمات اللازمة لنهضة قوم متخلف طال رزوحُه تحت ظلام الجهل ،
والتخلف ، وطالت معاناته لمرارة الشقاء. فانه لم يمض زمن طويل الاّ وملأ نور هذا
الوليد المبارك ارجاء العالم واسس حضارة انسانية عظمى في كل المعمورة. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
فترةُ
الطُفولة في حَياة العُظماء :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ان جميع الفصول في حياة العظماء
جديرةٌ بالتأمل ، وقمينة بالمطالعة ، فربما تبلغ العظمة في شخصية احدهم من السعة
، والسموّ بحيث تشمل جميعُ فصول حياته بدء من الطفولة ، بل وفترة الرضاع فتكون
حياته وشخصيته برمتها سلسلة متواصلة من حلقات العظمة. إن جميع الأدوار ، والفترات في حياة
العظماء ، والنوابغ وقادة المجتمعات البشرية ، وروّاد الحضارات الإنسانية
وبُناتها تنطوي في الأغلب على نقاط مثيرة وحساسة وعلى مواطن توجب الاعجاب. إن صفحات تاريخهم وحياتهم منذ اللحظة
الّتي تنعقد فيها نطفهم في أرحام الاُمهات ، وحتّى آخر لحظة من أعمارهم مليئة
بالاسرار ، زاخرة بالعجائب. فنحن كثيراً ما نقرأ عن اُولئك
العظماء في أدوار طفولتهم أنهما كانت تقارن سلسلة من الامور العجيبة ، والمعجزة.
ولو سهل علينا التصديق بهذا الامر في
شأن الرجال العاديين من عظماء العالم لكان تصديقنا بأمثالها في شأن الانبياء
والرسل اسهل من ذلك بكثير ، وكثير. إن القرآن الكريم ذكر
فترة الطفولة في حياة النبيّ موسى عليهالسلام
في صورة محفوفة بكثير من الأسرار ، فهو
يقول ما خلاصته : ان مئآت من الاطفال قُتِلوا وذُبحوا
بامرْ من فرعون ذلك العصر منعاً من ولادة موسى ونشوئه. ولكن ارادة اللّه شاءت ان يُولد
الكليم ، وظلت هذه المشيئة تحفظه من كيد الكائدين ولهذا لم يعجز اعداؤه عن
القضاء عليه أو الحاق الاذى به فحسب ، بل تربى في بيت فرعون أعدى اعدائه. يقول القرآن الكريم في هذا الصدد : «
وَلَقد مَننّا عَلَيْكَ مَرّة اُخرى
إذْ أَوْحَيْنا إلى اُمِّكَ ما يُوحَى أَن أقذفيهِ في التابُوت فاقذفيه في
اليمَّ فَليُلْقِهِ اليمُّ بِالْساحِلَ ياخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وعَدوُ لَهُ
وَأَلقَيْتُ عَلَيْكَ مَحبَّةً مِنّي وَلِتُصنَعَ عَلى عَيْني ».
ثمّ يقول : « إذْ تَمشِيْ اُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أدُلّكُمْ
عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجعْناكَ إلى اُمِّكَ كيْ تَقَرَّ عَينُها وَلا تَحْزنْ
» (طه : 37 ـ 40.).
ثمّ إن القرآن الكريم يذكر قصة ولادة
المسيح ، ويصور طفولته ونشأته بشكل أعجب إذ يقول : «
وَاذْكُر في الكتاب مرَيَم إذ
اْنتَبذَتْ مِنْ أهلهَا مَكاناً شَرْقيّاً. فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونهمْ حِجَاباً
فأَرسَلْنا إليها رُوحَنا فَتَمثَّلَ لَها بَشَراً سَويّاً. قالَت إنّي أعُوذُ
بالرَّحْمن مِنْكَ إنْ كُنْتَ تَقيّاً قالَ إنَّما أنا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهبَ
لَكِ غُلاماً زكيّاً. قالَت أَنّى يَكُونُ لي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ
وَلَمْ أكُ بَغِيّاً. قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَليَّ هَيِّنٌ وَلنجعلَهُ
آية لِلنّاسِ وَرَحمَةً مِنَّا وَكانَ أمْراً مَقْضِيّاً. فَحَملَتْهُ
فانتَبِذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيّاً. فاَجاءها الَمخاضُ إلى جِذْع النَخلة قالَت
يالَيتَني مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنتُ نَسْياً مَنْسِيّاً. فَنادَاهَا مِنْ تَحْتِها
ألا تحزَني قَدْ جَعَلَ رَبُّكَ تَحتَكِ سَريّاً. وَهُزِّي إلَيْكِ بِجذْع
النَخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطباً جَنيّاً. فَكُلي واْشرَبي وَقَرّي عَيْناً
فَإمّا ترينَّ مِنَ البَشَر أحداً فقُولي إنّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً
فَلَنْ اُكلِّمَ الْيَوْمَ إنسِيّاً. فَأتتْ بهِ قَوْمَها تَحمِلُه قالُوا يا
مَرْيَمُ لَقَدْ جِئتِ شَيئاً فَريّاً. يا اُخْتَ هارُونَ ما كانَ أبوكِ امْرَأَ
سَوء وَما كانَتْ اُمُّكِ بَغِيّاً. فأشارَتْ إليْهِ قالُوا كَيفَ نُكَلِّمُ
مَنْ كانَ في المَهْدِ صَبيّاً. قالَ إنّي عَبْدُ اللّه آتانِيَ الْكِتابَ
وَجَعلَني نَبيّاً. وَجَعلَني مُباركاً أينَ ما كُنْتُ وَأوْصَانِي بِالصَّلاة
وَالزَّكاة مادُمْتُ حَيّاً. وَبَرّاً بوالِدتي وَلَمْ يَجْعَلْني جَبّاراً
شَقِيّاً. وَالسَّلامُ عَليّ يَومَ وُلِدتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ اُبْعَث
حَياً » (مريم : 16 ـ 33.).
فإذا كان أتباع القرآن والتوراة
والانجيل يشهدون بصحة هذه المطالب حول ولادة هذين النبيين العظيمين من اولي
العزم لموسى وعيسى عليهماالسلام
، ويقرون بصدقها ، فلا يصحّ في هذه الصورة أن نستغرب وقوع أمثالها في شأن رسول
الإسلام ، ونتعجب من الحوادث العجيبة الّتي سبقت أو رافقت ميلاده المبارك ،
ونعتبرها اُموراً سطحية لا تدل على شيء. فنحن نقرأ في الكتب
التاريخية وفي كتب الحديث عن وقوع حوادث عجيبة يوم ولادة النبيّ الكريم صلىاللهعليهوآلهوسلم مثل : ارتجاس
أيوان كسرى ، وسقوط اربع عشرة شرفة منه ، وانخماد نار فارس الّتي كانت تُعبد ،
وانجفاف بحيرة ساوة ، وتساقط الاصنام المنصوبة في الكعبة على وجوهها ، وخروج نور
معه صلىاللهعليهوآلهوسلم
اضاء مساحة واسعة من الجزيرة ، والرؤيا المخيفة الّتي رآها انوشيروان ومؤبدوه ،
وولادة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم مختوناً
مقطوع السُرّة ، وهو يقول :
« أللّه اكبر ، والحمدُ للّه كثيراً ، سُبحان اللّه بكرة وأصيلا ». وقد وردت جميع هذه الامور في المصادر
التاريخية الأُولى ، والجوامع الحديثية المعتبرة (تاريخ اليعقوبي : ج 2 ، ص 5 ، بحار الأنوار : ج 15 ، ص 248 ـ 331 ،
السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 67 ـ 78 وغيرها.).
ومع ملاحظة ما ورد في
حق موسى وعيسى ونقلنا بعضه هنا ، لا يبقى أيّ مجال للشك في صحة هذه الحوادث. نعم ينبغي أن نسأل هنا
:
ماذا كانت تهدف هذه الحوادث غير العادية؟ وفي الاجابة على هذا السؤال يجب ان
نقول : إن هذه الحوادث
الخارقة والعجيبة كانت تهدف إلى أمرين : الأول : أن تدفع بالجبابرة ، والوثنيين
وعَبدة الاصنام إلى التفكير فيما هم فيه فيسألوا أنفسهم : لماذا انطفأت نيرانُهم
الّتي طالما بقيت مشتعلة تحرسها اعيان السَدنة والكهنة؟ لماذا سبّبت هزةٌ خفيفةٌ في ارتجاس
ايوان كسرى العظيم المحكم البنيان ، ولم يحدث لبيت عجوز في نفس ذلك البلد شيء؟ لماذا تهاوت الاصنامُ المنصوبة في
الكعبة وحولها ، وانكبَّت على وجودهها بينما بقيت غيرها من الاشياء على حالها لم
يصبها شيء ابداً؟ لو كانوا يفكرون في تلك الحوادث
لعرفوا أن تلك الحوادث كانت تبشّر بعصر جديد ... عصر انتهاء فترة الوثنية وزوال
مظاهر السلطة الشيطانية واندحارها؟ الثاني
:
ان هذه الحوادث جاءت لتبرهن على شأن الوليد العظيم ، وانه ليس وليداً عادياً ،
فهو كغيره من الانبياء العظام الذين رافقت مواليدهم أمثال تلك الحوادث العجيبة ،
والوقائع الغريبة ، كما يخبر بذلك القرآن الكريم فيما يحدثه عن حياة الانبياء ـ
كما عرفت ـ وتخبر بها تواريخ الشعوب والملل المسيحية واليهودية. واساساً لا يلزم ان تكون تلك الحوادث
سبباً للعبرة ووسيلة للاتعاظ يوم وقوعها ، بل يكفي ان تقع حادثة في احدى السنين
، ثم يعتبرُ بها الناس بعد أعوام عديدة ، وقد كانت حوادثُ الميلاد النبويّ من
هذه المقولة ، لأن الهدف منها كان هو ايجاد هزة في ضمائر اُولئك الناس الذين
كانوا قد غرقوا في اوحال الوثنية ، والظلم ، والانحراف الاخلاقي حتّى قمة رؤوسهم
، وعشعشت الجهالة والغفلة في اعماقهم حتّى النخاع. إن الذين عاشوا في عصر الرسالة ، أو
من اتى من بعدهم عندما يسمعون نداء رجل نهض ـ بكل قواه ـ ضدّ الوثنية ، والظلم ،
ثم يطالعون سوابقه ، ويلاحظون إلى جانب ذلك ما وقع ليلة ميلاده من الحوادث
العظيمة الّتي تتلاءم مع دعوته ، فانهم ولا شك سيعتبرون تقارن هذين النوعين من الحوادث
دليلا على صحة دعواه ، وصدق مقاله فيصدِّقونه ، وينضوون تحت لوائه. إن وقوع أمثال هذه
الحوادث الخوارق عند ميلاد الانبياء مثل « إبراهيم » و « موسى » و « المسيح » و
« محمَّد » صلّى اللّه عليه وعليهم اجمعين لا يقل اهمية عن وقوعها في عصر
رسالتهم ونبوتهم ، فهي جميعاً تنبع من اللُطف الالهي ، وتتحقق لهداية البشرية ، وجذبها إلى
دعوة سفرائه ورسله. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
في أيّ يوم وُلدَ
رَسُولُ اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم؟
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد اتّفق عامّة كُتّاب السيرة على
أن ولادة النبيِّ الكريم كانت في عام الفيل سنة 570 ميلادية. لأنه صلىاللهعليهوآلهوسلم
رحل إلى ربه عام (632) ميلادية عن (62) أو (63) عاماً ، وعلى هذا الأساس تكون
ولادته المباركة قد وقعت في سنة (570) ميلادية تقريباً. كما أنّ اكثر المحدثين
والمؤرخين يتفقون على أنه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ولدَ في شهر ربيع الأول. انما وقع الخلاف في
يوم ميلاده ، والمشهور بين محدثي الشيعة أنه كان
يوم الجمعة السابع عشر من شهر ربيع الأول بعد طلوع الفجر. والمشهور بين أهل
السنة
أنه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وُلدَ في يوم الاثنين الثاني عشر من ذلك
الشهر(وقد ذكر المقريزي في « الامتناع » ص 3 جميع الاقوال المذكورة في يوم
ميلاد النبي وشهره وعامه ، فراجع.). |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أيُّ هذين القولين
هو الصحيح؟
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ان من المؤسف جداً أن يعاني التقويم
الدقيق لميلاد رسول الإسلام العظيم صلىاللهعليهوآلهوسلم
ووفاته بل مواليد ووفيات اكثر قادتنا وائمتنا لمثل هذا الارتباك ، وان لا تكون
اوقاتها وتواريخها محددةً معلومة على وجه التحقيق واليقين!. ولقد تسبب هذا الارتباك في أن لا
تستند اكثر احتفالاتنا ومآتمنا إلى تاريخ قطعي ، في حين نجد أن علماء الإسلام
كانوا يهتمون ـ عادة بتسجيل الوقائع الّتي حدثت على مدار القرون الإسلامية في
نظم خاص وعناية كبيرة ، ولكننا لا ندري ما الّذي منع من تسجيل مواليد هذه
الشخصيات العظيمة ووفياتهم على نحو دقيق ، وصورة قطعية؟! على أن مثل هذه
المشكلة يمكن حلها بدرجة كبيرة بالرجوع إلى أهل البيت عليهمالسلام ، فان اي
مؤرخ لو أراد ان يكتب عن حياة شخصيّة من الشخصيات واراد أن يُلمّ بكل تفاصيلها
ودقائقها لم يسمح لنفسه بان يفعل ذلك من دون ان يراجع ابناء أو اقرباء تلك
الشخصية الّتي يزمع ترجمتها والكتابة عنها. ولقد مضى رسولُ اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم وخلّف من بعده ذرية وقربى وهم الذين يطلق عليهم اهل البيت. واهل بيته يقولون : لو
كان صحيحاً وحقا ان رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
أبونا وجدنا ، وقد نشأنا في بيته وترعرعنا في حجره فاننا نقول انه قد ولد يوم
كذا وتوفي يوم كذا فهل يبقى بعد ذلك مجال لأن نتجاهل قولهم ورأيهم ، ونختار ما يقوله الآخرون من الأبعدين ،
وقديماً قالوا : أهل البيت ادرى بما في البيت؟ (ومن هنا لابد من الاعتراف بان ما ينقله ويكتبه الامامية من تفاصيل
تتعلق بحياة رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم هي اقرب من غيرها إلى الحقيقة
لأنها مأخوذة عن اقربائه وابنائه عليهمالسلام.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
فَتْرَةُ الحَمْل :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
المعروفُ أن النورَ النبويَ الشريف
استتقر في رحم آمنة ـ الطاهر في ايام التشريق وهي اليوم الحادي عشر والثاني عشر
والثالث عشر من شهر ذي الحجة (الكافي : ج 1 ، ص 439 أبواب التاريخ باب مولد النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
ووفاته.)
، ولكن هذا الامر لا ينسجم مع الرأي المشهور بين عامة المؤرخين من كون ولادة
النبيّ الاكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم
في شهر ربيع الأول ، إذ في هذه الصورة يجب ان نعتبر مدة حمل « آمنة » به صلىاللهعليهوآلهوسلم
إما ثلاثة أشهر واما سنة وثلاثة اشهر ، وكلا الامرين خارجان عن الموازين العادية
في الحمل ، كما أنه لم يعدّهُ احدٌ من خصائص النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
(قد ذكر الطريحي فقط في مجمع البحرين في مادة شرق قولا بهذا لم يُسم
قائله.).
ولقد عالَج المحققُ
الكبير الشهيد الثاني ( 911 ـ 966 هـ ) هذا الإشكال بالنحو التالي إذ قال : إنَ ذلك مبنيّ عَلى النسيُّ الّذي
كانوا يفعلونه في الجاهلية ، وقد نهى اللّه تعالى عنه ، وقال : « إنَّما النسيُّ
زيادَةٌ في الكُفْر ». وتوضيح هذا هو أن أبناء « إسماعيل »
كانوا تبعاً لاسلافهم يؤدون مناسك الحج في شهر ذي الحجة ، ولكنهم رأوا ـ في ما
بعد ـ أن يحجّوا في كل شهر عامين يعنى ان يحجوا في ذي الحجة عامين وفي
المحرم عامين وفي صفر عامين وهكذا. وهذا يعني أن الحج
يعود كل اربعة وعشرين سنة في موضعه الطبيعي ( اي شهر ذي الحجة ). وقد جرى العربُ المشركونَ على هذه
الطريقة حتّى صادفت أيامُ الحج شهر ذي الحجة في السنة العاشرة من الهجرة النبوية
فحج النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
في تلك السنة حجة الوداع ، فنهى في خطبة له عن هذه الفعلة ( الّتي تسمى بالنسيء بمعنى تأخير الحج عن موضعه وموعده )
فقال : « ألا وَإنَّ الزَّمان قد استَدارَ كَهيئتهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ
وَالأَرضَ السَّنة إثنا عشَرَ شَهراً ، مِنها أرْبَعَةٌ حُرُمٌ : ثَلاثٌ
مَتوالِياتٌ : ذوالقعدة وذوالحجة ، ومحرَّم ، ورجَب الّذي بَين جمادي وشعبان »
(مجمع البيان : ج 5 ، ص 29.).
وقد أراد صلىاللهعليهوآلهوسلم بذلك أن الأشهر الحرم رجَعت إلى مواضعها ، وعاد الحُج إلى ذي
الحجة وبَطل النسيء. ونزل في هذه المناسبة قولُ اللّه
تعالى : « إنَّما
النسيء زيادَةٌ في الكُفْر يُضَلُّ بِهِ الذَّينَ كَفَرُوا يُحلُّونَهُ عاماً
ويحرِّمُونهُ عاماً » (التوبة : 37.).
من هنا تنتقل أيامُ التشريق كلَ
سنتين من مواضعها ، على ما عرفت ، وحينئذ لا منافاة بين القول بأن نور النبيّ
انتقل إلى رحم اُمه « آمنة بنت وهب » في ايام التشريق ، وبين ما اجمع عليه عامة
المؤرخين من أنه وُلدَ في شهر ربيع الأول. وانما تكون المنافاة بين هذين الامرين
إذا كان المراد من ايام التشريق هو اليومُ الحادي عشر ، والثاني عشر ، والثالث
عشر من شهر ذي الحجة خاصة ، ولكن قلنا ان ايام التشريق كانت تنتقل من شهر إلى
آخر باستمرار ، فيلزم أن يكون عام
حمل اُمّه به ، وعام ولادته أيام الحج الواقعة في شهر جمادي الاولى ، وحيث أنه صلىاللهعليهوآلهوسلم وُلدَ في شهر ربيع الأَول
فتكون مدَة حمل « آمنة » به عشرة أشهر تقريباً. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
مُؤاخَذاتٌ
وإشكالاتٌ عَلى هذا البَيان :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إن النتيجة الّتي
توصّل اليها المرحومُ « الشهيد الثاني » ليست صحيحة ،
كما أن المعنى الّذي ذكره للنسيء لم يقل به من بين المفسرين إلا مجاهد ، واما الآخرون فقد فسَّروهُ
بنحو آخر فلا يكون التفسيرُ الّذي مَرَّ
قوياً ، وذلك : اوّلاً
:
لأن « مكة » كانت مركزاً لجميع الاجتماعات كما كانت معبداً للعرب جميعاً ، ولا
يخفى أنَّ تغيير الحج في كل سنتين مرةً واحدةً من شأنه أن يسبب الالتباسَ لدى
الناس ويوقعهم في الخطأ والاشتباه ، وبالتالي يتعرّض ذلك الاجتماع العظيم ، وتلك
العبادة الجماعية إلى خطر الزوال. ولهذا يُستَبعد ان ترضى قريش
والمكيّون بان يخضع ما هو وسيلة لعزتهم وافتخارهم للتغيير والتبدل الّذي من
عواقبه ان يتعرض وقته وموعده للنسيان ، فيذهب ذلك الإجتماع ، ويزول من الاساس. ثانياً
:
إذا أخضَعنا ما قاله « الشهيد الثاني » لمحاسبة دقيقة فان كلامه يستلزم ان تكون
ايام التشريق والحج في السنة التاسعة من الهجرة واقعة في شهر ذي القعدة لا جمادي
الاولى في حين أن اميرالمؤمنين عليّاً عليهالسلام
كُلِّفَ في هذه السنة بالذات بأن يقرأَ سورة البراءة على المشركين في ايام الحج
، والمفسرون والمحدثون متفقون على أنه عليهالسلام
تلاها عليهم في العاشر من شهر ذي الحجة ثم امهلهم اربعة اشهر ابتداء من شهر ذي
الحجة لا ذي القعدة (ولقد قام العلامة المجلسي في بحار الأنوار : ج 15 ، ص 253 بهذه
المحاسبة ، وان لم يشر إلى الإشكال الّذي أوردناه فليراجع.).
ثالثاً
:
ان النسيء يعني أنَّ العرب حيث لم يكن لديهم مصدر صحيح للرزق بل كانوا يعيشون في
الاغلب ، على النهب والغارة لهذا كان من الصعب عليهم ترك الحرب ، في الاشهر
الحرم الثلاث ( وهي ذوالقعدة وذوالحجة ، والمحرم ) لهذا ربما طلبوا من سدَنة
الكعبة بأن يسمحوا لهم بالقتال في شهر المحرم ، ثم يتركون الحرب في شهر صفر ،
وهذا هو معنى النسيء فلم يكن نسيء وتأخير للشهر الحرام في غير شهر محرَّم ، وفي
الآية نفسها اشارةٌ إلى هذا المطلب : « يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحرِّمُونَهُ
عاماً ». والّذي نراه في حل هذه
المشكلة هو : أن العرب كانوا يحجُّون في وقتين :
أحدهما شهر ذي الحجة ، والثاني شهر رجب ، وقد كانوا يؤدُّون كلَ مناسك الحج في
هذين الوقتين على السواء ، فيمكن أن يكون المقصودُ من حَمْل « آمنة » برسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
في ايام التشريق هو شهر رجب فإذا اعتبرنا يوم ولادته هو السابع عشر من شهر ربيع
الاول كانت مدة حمل « آمنة » به ثمانية أشهر واياماً. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الاحتفال
بذكرى المولد النبوي :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وينبغي ان يحتفل المسلمون جميعاً
بمولد النبي الاكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم
ويقيموا المهرجانات الكبرى في هذه المناسبة الشريفة الّتي كانت مبدأ الخير
والبركة ، ومنشأ السعادة والكرامة للبشرية جمعاء ، وأية مناسبة احرى بالاحتفال
والاحتفاء من هذ المناسبة؟ على ان اقامة مثل هذه
الاحتفالات هو نوع من تكريم رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم وهو امر مطلوب ومحبوب في
الشريعة المقدسة. فقد قال اللّه تعالى : « فالَّذين آمَنُوا بِه وَعَزَّرُوهُ وَنَصروُه
واتّبعُوا النُورَ الَّذي اُنزِل مَعَهُ اُولئكَ هُمُ الْمُفلِحُونَ
» (الأعراف : 157.).
وعزّر بمعنى كرَّم وبجّل كما في
اللغة (راجع مفردات الراغب : مادّة عزر.)
وهو لا يختص بزمان دون زمان ، فعلى المسلمين في كل وقت وزمان ان يعظّموا شأن
رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ويكرّمونه ، سواء في حياته أو بعد مماته ، لما له من فضل عظيم على الناس ، ولما
له من منزلة عند اللّه تعالى. كيف لا والاحتفال بميلاده لا يعني
سوى ذكر أخلاقه العظيمة ، وسجاياه النبيلة ، والاشادة بشرفه وفضله وهي اُمور
مدحه القرآن الكريم بها إذ قال سبحانه : « وإنّك
لَعلى خُلُق عظيم » (القلم : 4.)
وقال
تعالى أيضاً : « ورَفعنا لك
ذكرك » (الانشراح : 4.)
وغير ذلك من الآيات المادحة لرسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم.
فان الاحتفال بميلاد
رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
الّذي يتحقق بذكر صفاته وأخلاقه والاشادة به خير مصداق لرفع ذكره ، الّذي فَعلهُ
اللّه بنحومّا. ولو كان رفع ذكر النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
أمراً غير جائز ولا صحيح ، بل فعلا قبيحاً لما فعله اللّه ، فيكفي في حسنه وصحته
بل ومشروعيته ومطلوبيته ان اللّه تعالى فعله بالنسبة لنبيه صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وهل يكون الاحتفال بمولد رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
، واظهار السرور والشكر للّه تعالى بمقدم نبيه المبارك عبادة للنبيّ كما يزعم
البعض إذ يقول : « الذكريات الّتي ملأت البلاد باسم
الاولياء هي نوع من العبادة لهم وتعظيمهم » (فتح المجيد : ص 154 ، ثمّ نقل عن كتاب قرّة العيون ما يشابه هذا
المضمون.).
والحال ان العبادة في مفهومها
الاصطلاحي الموجب للشرك والكفر ليس إلاّ الخضوع لمن يُعتَقَدْ بالوهيته وتعظيمه
بهذه النية (راجع مفاهيم القرآن في معالم التوحيد : ص 404 ـ 440.)
واين هذا من ذكر فضائل النبي في يوم مولده والابتهاج بمقدمه والشكر للّه على
ولادته. ثم ان تعظيم رسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ينطلق من كونه عبداً مطيعاً للّه تعالى ، ادى رسالته
بصدق واخلاص ، وجسّد بسلوكه وسيرته كل مكارم الاخلاق اصدق تجسيد فالاحتفال
بمولده الكريم احتفال بالقيم السامية ، وشكر للّه على منّه ، واظهار للحب الكامن
في النفوس ليس إلاّ. والزعم بانه محرّم
لكونه بدعة ، أو لأنه لا يخلو عن اشتماله على منكرات ومحرمات كالرقص
والغناء فهو مرفوض ، مردود لان الكلام انما هو حول اصل الاحتفال مجرداً عن
المحرمات والمنكرات. ان الاحتفاء والاحتفال بمولد خاتم
النبيين رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
انما هو تكريم لمن كرّمه اللّه تعالى ، وامر بتكريمه ، وحث على احترامه وحبه ،
ومودته ، وانه بالتالي اداء شكر للّه تعالى على تلك الموهبة العظيمة ، وتلك
العطيّة المباركة حيث مَنّ سبحانه على البشرية عامة وعلى المسلمين خاصة بأن شرف
الارض بمولد عظيم نعمت الارض ببركة شخصيته وخلقه ، واشرقت بنور رسالته ودعوته ،
فاية نعمة ترى اولى بالشكر من هذه ، واي شكر اجمل وافضل من الأحتفاء بمولد هذا
النبيّ العظيم صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وذكر فضائله ، ومناقبه ، للتعرف
عليها ، والاقتداء بها ، وتشديد الحب له بسببها ، والابتهال إلى اللّه في يوم
ميلاده ، وطلب التوفيق الالهي لمتابعته ، والسير على نهجه ، والدفاع عن رسالته ،
والذبّ دون دينه ، بعد الشكر للّه تعالى على موهبته هذه؟؟ هذا ولقد درج المسلمون في العصور
الإسلامية الاولى على الاحتفال بذكرى المولد النبوّي وأنشأوا القصائد الرائعة في
مدحه ، وذكر خصاله ومكارم اخلاقه ، واظهروا السرور بمولده والشكر للّه تعالى
بلطفه ، وتفضله به صلىاللهعليهوآلهوسلم على
البشرية. قال الإمام الدياربكري
في تاريخ الخميس في هذا الصدد : لا يزال أهل الإسلام يحتفلون بشهر
مولده عليهالسلام ويعملون
الولائم ، ويتصدقون في لياليه بانواع الصدقات ويظهرون السرور ، ويزيدون في
المبرات ويعتنون بقرائة مولده الكريم ، ويظهر عليهم من بركاته كل فضل عميم (تاريخ الخميس في أحوال أنفس نفيس : ج 1 ، ص 223 نقلا عن المواهب
اللدنية : ج 1 ، ص 27 للقسطلاني.).
اجل ينبغي على المسلمين ان يحتفلوا
بمقدم نبيهم الكريم ولا يعبأوا بما قاله البعض حيث قال : « الذكريات الّتي ملأت
البلاد باسم الاولياء هي نوع من العبادة لهم وتعظيمهم » (هوامش الفتح المجيد.).
فهذا القول مغالطة صريحة ، ان لم يكن
نابعاً عن الغفلة والجهل بعد ان تبين حقيقة الاحتفال واقامة الذكريات احتفاء
بالمولد النبويّ (راجع للتوسّع : معالم التوحيد في القرآن الكريم.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
مَراسمُ
تسمية النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
:
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
حلَّ اليومُ السابعُ من الميلاد
المبارك ، فعقَّ عبد المطلب عن النبيّ بكبش شكراً للّه تعالى ودعا جماعة
ليشتركوا في الاحتفال الّذي حضرهُ عامة قريش لتسمية النبيّ ، وسمّاه « محمَّداً
» ، وعندما سألوه عما حَمله على أن يسمي هذا الوليد المبارك « محمَّداً » وهو
اسم لم يعرفه العرب الا نادراً أجاب قائلا : أردتُ أن يحمَد في السماء والأَرض (السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 78 و 79.).
وإلى ذلك يشير حسان بن ثابت بقوله :
بحار الأنوار : ج 16 ، ص
120 ، والسيرة الحلبية : ج 1 ، ص 78 و 79. ومن المسلّم أن هذا الإختيار لم يكن
ليتم من دون دخالة للإلهام الالهي ، لأَن اسم « محمَّد » وإن كان موجوداً عند
العرب إلاّ أنه قَلّ من كان قد تسمى بهذا الإسم ، فحسب ما استقصاه بعضُ المؤرخين
لم يتسَم به إلى ذلك اليوم من العرب الاستة عشر شخصاً كما يقول شاعرهم :
السيرةُ الحلبية : ج 1 ، ص
82 ثمّ يذكر صاحب السيرة اولئك الأشخاص في بيتين آخرين. ولا يخفى أن نُدرة المصاديق لأي لفظ
من الالفاظ أو اسم من الأسماء من شأنِها أن تقلّل فرص الاشتباه فيه ، وحيث أن
الكتب السماوية كانت قد أخبرتْ عن إسم النبي الخاتم صلىاللهعليهوآلهوسلم
وصفاته ، وعلائمه الرُوحية والجسمية ، لذلك يجب أن تكون علائمُه صلىاللهعليهوآلهوسلم
واضحةً جداً جداً حتّى لا يتطرق إليها التباسٌ أو اشتباهٌ ، وقد كان من علائمه صلىاللهعليهوآلهوسلم
اسمُه الشريف ، فيجب أن تكون مصاديقُها قليلة جداً حتّى يزيل ذلك أي عروض للشك
والترديد في تشخيص النبيّ الاكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم
خاصة إذا ضمَّتْ إليه بقية أوصافِه وعلائِمهِ ، وخصوصياته. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
خَطأ
الْمُستَشْرقينْ :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد ذكر القرآنُ
الكريمُ اسمين أو عدة أسماء للنبي الاكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم. ففي سورة آل عمران ومحمَّد والأحزاب
والفتح في الآيات 144 و 2 و 40 و 29 (يعتقد البعضُ أنّ هذا ليس اسماً للنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم بل هو من الحروف المقطعة في
القرآن.)
سماه
« محمَّداً » (قال
تعالى : « وَما مُحمَّدٌ إلا رَسولٌ قَد خَلَتْ
مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ
». وقال تعالى : « والَّذينَ آمَنُوا وَعَمِلوا
الصّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحمَّد
». وقال سبحانه : « ما
كانَ مُحمَّد أبا أحَد مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُول اللّه وَخاتَمَ
النَّبيّين ». وقال عزّ وجلّ : « مُحمَّدٌ
رَسُولُ اللّه والَّذينَ مَعهُ أشدّاء عَلى الكُفّار رُحماء بَيْنَهُمْ »). وفي سورة الصف الآية 6
(إذ
قال سبحانه : « وَمُبَشِّراً بِرَسُول مِنْ بَعْدِيْ
اسمُهُ أَحمَد ».)
دعاه « أحمد ». والعلةُ في تسميته بهذين الإسمين أن
امّهُ « آمنة » سمّته « أحمداً » قبل أن يسميه جده ، كما هو مذكور في التاريخ. وعلى هذا فانَ ما
ذكرهُ بعضُ المستشرقين ـ في معرض الإعتراض ـ بأن الإنجيل ـ حسب تصريح القرآن
الكريم في سورة الصف الآية 6 ـ بشَّر بنبي اسمُه « أحمد » لا « محمَّد » كلامٌ لا
اساسَ له ولا مبرر ، لأن القرآن الكريم الّذي سمى نبيّنا ب « أحمد » سماه في عدة مواضع ب « محمَّد »
فإذا كان المصدر في تعيين اسم النبي هو : القرآن الكريم ، فان القرآن سَمّاه بكلا الاسمين ، في موضع باسم « محمَّد » ،
وفي موضع آخر باسم « احمد ». |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
«
أحمد » كانَ مِنْ أسماء النبيّ المشهورة :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
كلُّ من كان له ادنى إلمام بتاريخ
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
عَلِمَ أنه صلىاللهعليهوآلهوسلم كان يُدعى بإسمين في الناس منذ صغره أحدهما : « محمَّد » الّذي
سَمّاه به جَدُه « عبد المطلب » ، والآخر
« أحمد » الّذي سمته به اُمه « آمنة ». وهذه حقيقة من حقائق التاريخ
الإسلامي ، وقد روى المؤرخون هذا الأمر ، ويمكن للقارئ الكريم أن يقرأه في
السيرة الحلبية (السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 82 و 83.).
ولقد أنشأ عمُّه « أبو طالب » ،
الّذي اُنيطَت إليه كفالته بعد وفاة عبد المطلب ، فبقي يقوم بهذه المهمة طوال
اثنين وأربعين عاماً بكل حرص ورغبة ، ولم يمتنع في هذا السبيل عن بذل كل ما
استطاع من غال ورخيص انشأ في ابن أخيه أبياتاً سمّاه في بعضها « محمَّد » وفي
بعضها الآخر « أحمد » ، وهذا يكشف عن انه صلىاللهعليهوآلهوسلم
كان معروفاً آنذاك بكلا الاسمين. واليك فيما يأتي بعض
هذه الأبيات الّتي سَمى فيها « أبو طالب » النبيَ باسم احمد :
ديوان أبي طالب عليهالسلام. وقد سمى « أبو طالب » النبيَ صلىاللهعليهوآلهوسلم
في ابيات اخرى بأحمد أيضاً قد ذكرها كبار المحققين من المؤرخين والمحدثين
ونسبوها إلى أبي طالب ولكنها غير موجودة في ديوانه (1).
مثل قوله :
راجع ديوان أبي طالب ، وسيرة ابن هشام : ج 1 ،
ص 272 ، وشرح النهج لابن ابي الحديد : ج 14 ، ص 79 وغيرها. كما وأنه قد سَمّاه غيرُ ابي طالب في
أبياته بأحمد ممّا يدل على أنه كان مشتهراً بهذا الاسم في ذلك الزمان ، وتلك
الابيات كثيرة تفوق حدّ الحصر والاحصاء لكنّنا
ننقل نماذج منها هنا : قال حسان بن ثابت في
رثائه للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
:
وقال في رثائه أيضاً :
ابن هشام في سيرته : ج 2 ،
ص 667 و 666 ، وابن سعد في طبقاته : ج 2 ، ص 323. وقال في رثاء جعفر بن أبي طالب
الطيّار :
شاعر عهد الرسالة : تحقيق
محمَّد عزت نصر اللّه. وقال حَسّان وهو يذكر معجزة من معاجز
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
:
وقال كَعبُ بن مالك :
بحار الأنوار : ج 16 ، ص
413 و 415. وقال « ورقة بن نوفل » يومَ أخبرتهُ
خديجةُ بنزول الوحي على النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
:
وقالت عاتكةُ بنتُ عَبدالمطلب ترثي
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
:
وقال العباسُ في مناسبة تزويج النبيّ
صلىاللهعليهوآلهوسلم بخديجة :
1 ـ بحار الأنوار : ج 18
، ص 195. 2 ـ الطبقات الكبرى : ج 2
، ص 326. 3 ـ بحار الأنوار : ج 16 ،
ص 72. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
فتْرَةُ
الرِّضاع في حياة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
:
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لم يرتضع وليدُ قريش
المبارك « محمَّد » من اُمّه سوى ثلاثة أيام ، ثم حَظِيَت
بفخر إرضاعه ـ بعد ذلك ـ امرأتانُ هما :
1
ـ « ثويبة » مولاة « أبي لهب » ،
وقد أرضعته أربعة أشهر فقط ، وكان النبيُ صلىاللهعليهوآلهوسلم
وزوجتُه الوفية : « خديجة بنت خويلد » يقدّران هذا العمل لها حتّى آخر لحظات
حياتها (4).
و « ثويبة » هذه كانت
قد أرضَعْتْ قبلَ ذلك « حمزة » عمَ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم و « ابا سلمة بن عبد
اللّه المخزومي » أيضاً فكانوا إخوة من الرضاعة (5).
وقد بعث رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
بعد مَبعثه ، من يشتريها من « أبي لهب » ليعتقها فابى (6).
وكان النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
يكرمها كلما دخلت عليه ، وكان يبعث إليها بالصّلة إلى أن بلغه خبرُ وفاتها عند
منصرفه من وقعة « خيبر » فسأل عن إبنها فقيل : مات قبلها ، فسْأل عن قرابتها ،
فقيل : لم يبق منهم أحد (7).
4 ـ تاريخ الخميس في احوال
انفس نفيس : ج 1 ، ص 222. 5 ـ السيرة النبوية : ج 3
، ص 96. 6 ـ الكامل في التاريخ : ج
1 ، ص 271. 7 ـ تاريخ الخميس : ج 1 ،
ص 222 ـ 225 نقلا عن سيرة مغلطاي وغيره. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
2 ـ « حليمة السعدية »
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
بنت ابي ذؤيب الّتي
كانت من قبيلة سعد بن بكر بن هوازن ، وكان
أولادها عبارة عن : « عبد اللّه » ، « أنيسة » ، « شيماء » ، وقد قامت آخر
أولادها وهي « الشيماء » بحضانة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أيضاً : وقد كان من عادة العرب يومذاك هو أن
يدفعوا أولادهم الرضعاء إلى المراضع اللائي كُنَّ يَعِشنَ في البوادي لينشأوا في
تلك البيئات المعروفة بطيب هوائها ، وقلة رطوبتها ، وعذوبة مائها ببنية قوية ،
هذا مضافاً إلى صيانتهم عن خطر الوباء الّذي كان يهدد الأطفال في « مكة » ، ولأن
ذلك كان له مدخلٌ عظيم ، وتاثيرٌ بليغ في فصاحة المولود لسلامة لغة أهل القبائل
الساكنة في البوادي آنذاك. وكانت مراضعُ بني سعد من المشهورات
بهذا الأمر بين العرب ، فقد كانت نساء هذه القبيلة الّتي كانت تسكن حوالي « مكة
» ونواحي الحرم يأتين « مكة » في كل عام في موسم خاص يلتمسنَ الرضَعاء ويذهبن
بهم إلى بلادهنَّ حتى تتم الرضاعة. وكان النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قد تجاوز شهره الرابع لما
قدمت نساء من بني سعد « مكة » يلتمسنَ الرضعاء في سنة جدب وقحط ، ولهذا كنَّ
بحاجة شديدة إلى مساعدة أشراف « مكة » واعيانها. ويقول بعض المؤرخين :
أنه لم تقبل أيّةُ واحدة من تلك المراضع أن تأخذ « محمَّداً » بسببُ يتمه ، وقد
كان اغلبهن يُردْنَ أن تأخذن من يكون له أبٌ حيٌّ حتى يُغدق عَلَيْهنَّ
بالمساعدات والصّلات ، وحتّى « حليمة » هي الاُخرى أبتْ أخذَهُ ، ولكنَّها ايضاً
لم تحصل على طفل لِهزال جسمها ، فاضطرت إلى أن تأخذ حفيد « عبد المطلب » وقالت
لزوجها : واللّه لأذهبنَّ إلى ذلك اليتيم فلاخذنَّه ، فقال لها زوجُها : لا عليك
ان تفعلي ، عسى اللّه ان يجعل لنا فيه بركة. ولقد اصاب الزوجان في ظنّهما هذا ،
فمنذ أن أبدت « حليمة » استعدادها لخدمة ذلك اليتيم شملت الالطاف الالهية كل
مجالات حياتها (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 162 و 163.).
إن القسم الأول من هذه
القصة ليس سوى اسطورة ، لأن مكانة البيت الهاشمي الرفيعة ،
وشخصية رجل عُرفَ بِكمال الجود والاحسان ، وبعون المحتاجين والمحرومين كانت
سبباً في أن لا تعرض المرضعات عن اخذ « محمَّد » فحسب ، بل يتنازعن على اخذه ولهذا لا يكون هذا القسمُ مِنَ التاريخ سوى اسطورة تكذبها
الحقائق. واما علة عدم اعطاءه صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى غير « حليمة » من
المرضعات فهي : أن وليد قريش لم يقبل أيّ ثدي من
أثداء تِلكم المرضعات ، ولم يزل كذلك حتّى قبلَ ثدي « حليمة السعدية » ، فسرّ
بذلك « عبدُالمطلب » وأهله سروراً عظيماً ، بعد أن حزنهم امتناعُه عنهنَّ قبل
ذلك (بحار الأنوار : ج 15 ، ص 342 و 343.). قالت « حليمة » :
استقبلني عبدُالمطلب فقال : من انت ، فقلت : أنا امرأة من بني سعد ، قال : ما
أسمُك؟ قلتُ : حليمة ، فتبسَّم « عبد المطلب » وقال : بَخ بَخ سَعدٌ وحلْمٌ ،
خصلتان فيهما خيرُ الدهر ، وعز الأبد (السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 89.). |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
نَظرةُ
الإسلام في تأثير الرضاع :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وهنا ينبغي بالمناسبة
أن نشير إلى نظرة الإسلام في تأثير الرضاع في شخصيّة الإنسان. فقد سبق الإسلامُ العلمَ الحديثَ في
الكشف عن آثار اللبن في تكوين الإنسان الخُلقي والنفْسيّ والعضوي سَلباً
وإيجاباً. ولهذا حثَّ الإسلام على استرضاع الام
، كما حث على اختيار المرضعات الصالحات ونهى عن استرضاع اليهودية والمجوسية
والنصرانية والمجنونة منعاً من انتقال طباعِهنَ إلى الطفل عن طريق اللبن. واستكمالا لهذا البحث نورد جملة من
الأحاديث الّتي تصرح بهذه الحقيقة العلمية الهامة : 1 ـ قال اميرالمؤمنين
علي عليهالسلام
: « تَخَيّرُوا للرضاع كما تَخيَّرون
لِلنِّكاح فانَ الرِّضاعَ يُغيّرُ الطِباعَ » (1).
2 ـ وعنه عليهالسلام ايضاً : « اُنظرُوا مَنْ يُرضعُ أولادكُمْ
فَإنَ الوَلَد يَشُبُّ عَليهِ » (2).
3 ـ عن الإمام ابي
جعفر الباقر عليهالسلام
انه قال : « لا تَسْتَرضعُوا الحَمقاء فانَ
اللبن يُعدي ، وإن الغُلامَ يَنزع إلى اللَبن ... » (3).
4 ـ وعنه عليهالسلام ايضاً : « استرضعْ لولَدك بِلَبنِ الحِسان
وإيّاكَ وَالقِباحُ فإنَّ اللَبنَ قد يُعدي » (4).
5 ـ وعن علي عليهالسلام انه قال : « ما مِنْ لَبَن يَرضَعُ به الصَبيُّ
أعظمُ بَركَةً عَليْه مِنْ لَبنِ اُمَّهِ » (5).
1 ـ قرب الأسناد : ص 45. 2 ـ فروع الكافي ج 2 ، ص
93. 3 ـ وسائل الشيعة : ج 15 ،
ص 188. 4 ـ التهذيب : ج 2 ، ص
280. 5 ـ روضة المتّقين : ج 8 ،
ص 554. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
6فَتْرةُ الطفُولة في حياة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إن صفحات التاريخ تشهد بأن حياة رسول
الإسلام صلىاللهعليهوآلهوسلم
من بداية طفولته وأوان صباه وإلى يوم بعثه بالرسالة كانت مشحونة بسلسلة من
الحوادث العجيبة الّتي تعَدُّ بأجمعها من كراماته صلىاللهعليهوآلهوسلم
وتدل على أن حياة النبيّ لم تكن حياة عادية. وينقسم المؤلفون في تفسير
هذه الحوادث إلى طائفتين : 1 ـ الماديُّون ، وجماعة من المستشرقين :
فان
العلماء الماديين الذين يحصرون الوجود في نطاق المادة ، ويعتبرون جميع الظواهر
ظواهر مادية ، وينحتون لكل واحدة منها علة طبيعية ، لا يهتمون بهذه الحوادث ولا
يُعيرونها أية أهمية ، لامتناع واستحالة وقوع أمثال هذه الظواهر حسب النظرة
المادية ، ولهذا فكل ما يصادفونه في ثنايا التاريخ من هذا الباب يعتبرونه من
ولائد الخيال ، وممّا نسجته اَوهامُ التابعين لذلك الدين ، أو الطريقة. وقد تبعهم في هذا الموقف جماعة من
المستشرقين فرغم انهم يعتبرون انفسهم ـ حسب الظاهر ـ في عداد الموحِّدين ،
والمؤمنين باللّه ، وبما بعد الطبيعة من عوالم الغيب ، إلاّ أنهم ـ لضعف إيمانهم
وبسبب غرورهم العلمي ، وغلبة النزعة المادية على أفكارهم وأذهانهم ـ اتبعوا ـ
لدى تحليلهم لهذه الحوادث ـ المنهج الماديّ ، فنحن نقرأ في كتاباتهم مراراً
وتكراراً زعمهم بانَ النبوة ما هي إلاّ نبوغٌ بشريٌّ ، وأن النبيّ مجرد نابغة
اجتماعية استطاع تغيير مسار الحياة البشرية بافكاره النيَّرة!! ولا شك أن مثل هذا التصوّر ينبع من
طريقة التفكير المادي الّذي يعتبر جميع الأديان من ولائد الفكر البشري وافرازات
الذهن الانساني ، في حين ان علماء العقيدة اثبتوا في : مباحث « النبوَّة العامة
» انَّ النبوة عطية الهية ، وموهبة ربّانية هي في الحقيقة منشأ جميع الالهامات
والارتباطات المعنوية ، ومصدر لمناهج الانبياء وبرامجهم ، ليست ابداً وليدة
نبوغهم الإنساني ، ولا نسيجة فكرهم البشري ، وليس لها مصدر إلاّ الإلهام من
الغيب ، ولكن عندما ينظر المستشرقُ المسيحي إلى هذه القضايا من زاوية الفكر
المادي ويريد تفسير جميع هذه الظواهر بالاُسس العلمية الّتي كشفت عنها التجربةُ
ينتقد مثل هذه الحوادث ذات الطابع الاعجازي ، وربما انكرها من الاساس. 2
ـ المؤمنون باللّه : الذين
يعتقدون بأن العالم المادي بجميع خصوصياته وخواصه يخضع لتدبير عالم آخر ، وأن
ذلك العالم ( اي عالم التجرد وما وراء الطبيعة
)
هو المنظِم لهذه الطبيعة ، وهو المدبِر لهذا الكون المادي. وبعبارة اُخرى
إن عالم المادة ليس عالماً مسيِّباً ، مستقلا عن غيره ، وان جميع الانظمة
والقوانين الطبيعية والعلمية مسبَّبةٌ عن تأثيرات موجودات عليا ، وبخاصة ناشئةٌ
عن إرادة اللّه الخالقِ ، الّذي اعطى للمادة وجودها ، وأوجد القوانين والعلاقات
الصحيحة بين أجزائها ، وبنى بقاءها على سلسلة من النواميس الطبيعية. إنَ هذا الفريق من الناس مع احترامهم
للقوانين العلمية ، واذعانهم الصادق بما قاله العلماء في صعيد العلاقات ،
والروابط القائمة بين القوانين ممّا أثبته العلم واكّده ، يعتقدون بأن مثل هذه
القوانين الطبيعية ليست اُموراً لا تقبل التغيير ، والتبدل. فهم يعتقدون بأن العالم الاعلى يمكنه
ـ إذا أراد ـ أن يُغيّر تلك القوانين لغايات خاصة ، وليس في مقدوره ذلك فقط ، بل
فعلَ ذلك في جملة من الموارد لأهداف عليا. وبعبارة اُخرى :
إنَّ الافعال الخارقة للعادة ليست ظواهر عارية عن العلل ، بل إنَّ علتها غير
طبيعيّة ، وافتقاد العلة الطبيعية ( وخاصة العلة الطبيعية غير المعروفة ) ليس
دليلا على افتقاد مطلق العلة. والخلاصة ؛ إن قوانين
الخلقة ليست بحيث لا يمكن تبدُّلها ، وتغيّرها بارادة بارئها وخالقها. إنهم يقولون :
إنَّ جميع خوارق العادة ، وجميع أفعال الأنبياء العجيبة الّتي تتصف بصفة الاعجاز
، والخارجة عن اطار القوانين الطبيعية ، تتحقق من هذه الزاوية. إنَّ هذا الفريق من الناس لا
يسمَحُون لأنفسهم بان يرفضوا الأعمال الخارقة للعادة ، والكرامات الّتي جاء
ذكرها في القرآن الكريم ، والاحاديث ، أو وردت في المصادر التاريخية الصحيحة
المعتبرة ، أو يكشوا فيها بحجة أنها لا توافق الموازين الطبيعية ، والقوانين
العلمية. وها نحن نشير إلى
قضيتين عجيبتين وقعتا في فترة الطفولة من حياة رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم ،
ومع اخذ ما قلناه بنظر الاعتبار لا يبقى أي مجال للترديد ، أو الاستبعاد : 1 ـ لقد نقَلَ
المؤرخون عن « حليمة السعدية » قولها بأنها لمّا
تكفلَّت إرضاع النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
أرادت أن ترضعه في محضر اُمّها ، ففتحت جيبها وأخرجت ثديها الايسر ، وأخذت رسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
فوضعته في حجرها ، ووضعت ثديها في فمه ، فترك النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
ثديها ، ومالَ إلى ثديها الأيمن ، فاخذت « حليمة » ثديها الأيمن من يد النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
ووضعت ثديها الأيسر في فمه وذلك أنَّ ثديها الأيمن كان جهاماً ( أي خالياً من اللبن ولم يكن يدرُّ به )
، وخافت ( حليمة )
أن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
إذا مصَّ الثدي ولم يجد فيه شيئاً لا يأخذ ـ بعده ـ الأيسر. ولكن النبيّ أصرَّ
على أخذ الثدي الأيمن ، فلمّا مصَّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
الأيمن امتلأ فانفتح حتّى ملأ شدقيه فادهش الجميع ذلك (بحار الأنوار : ج 15 ، ص 345 و 346.).
2 ـ وتقول « حليمة »
أيضاً : إن البوادي أجدبت وحملنا الجُهد على دخول البلد
، فدخلتُ مكة مع نساء بني سعد فأخذتُ رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
فعرفنا به البركة والزيادة في معاشنا ورياشنا حتّى أثرينا ، وكثرت مواشينا ،
وأموالنا (المناقب لابن شهراشوب : ج 1 ، ص 24.).
إنَّ مَن المسلم أنَّ حكم الماديين ،
أومن يحذو حذوهم ويتبع منهجهم في هذه المسائل يختلف عن حكم المؤمنين باللّه. فان أتباع المنهج المادي إذ عجزوا عن
تفسير هذا النوع من القضايا من زاوية العلوم الطبيعية ، نجدهم يبادرون إلى
اعتبار هذه الحوادث من نسج الخيال ، ومن ولائد الاوهام ، واما إذا كانوا اكثر
تأدباً لقالوا : إن رسول الإسلام ليس بحاجة إلى امثال هذه المعاجز : ونحن نقول : لا نقاش في أن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
غني عن هذه المعاجز إلاّ أن عدم الحاجة شيء ، والحكم بصحة هذه الاُمور أو
بطلانها شيء آخر. وأما المؤمن باللّه الّذي يردُّ
النظام الطبيعي ، إلى مشيئة اللّه خالق الكون وارادته العليا ، ويعتقد بأن كل
الحركات والظواهر في العالم الطبيعي من اصغر اجزائه ( الذرة ) إلى اكبر موجوداته
( المجرة ) يجري تحت تدبيره ، ونظارته ، فانه بعد التحقق من مصادر هذه الحوادث
والتأكد من وقوعها ينظر إليها بنظر الاحترام ، وأمّا إذا لم يطمئن إليها لم
يرفضها رفضاً قاطعاً. ولقد ورد في القرآن
الكريم نظائر عديدة لهذه القصة حول « مريم » اُم عيسى فالقرآن يخبرنا عن تساقط
الرطب الجَنيّ من جذع النخلة اليابسة كرامة لوالدة المسيح عندما لجأت إليه مريم
عند المخاض إذ يقول : «
...
ألاّ تَحزَني قَدْ جَعلَ رَبُّكِ تَحتك سَريّاً. وَهُزِّي إليْكِ بِجذْع
النَخلةِ تُساقِط عَليْك رُطباً جَنِيّاً »
(مريم : 24 و 25.).
إنه وان كان الفرق بين « مريم » و «
حليمة » شاسعاً وكبيراً من حيث الملكات الفاضلة والمكانة ، والمنزلة ، إلاّ أن
منزلة « مريم » عليهاالسلام لو
استوجبت مثل هذا اللطف الالهي ، ففي المقام استوجب نفسُ مقام الوليد العظيم ،
ومكانته عند اللّه تعالى أن تشمله العناية الالهية. كما انه قد جاء في
القرآن الكريم حول مريم عليهاالسلام
امور اُخرى مشابهة. ان عصمة هذه المرأة الطاهرة ، وتقاها
وطهرها البالغ كانت بحيث أن « زكريا » كلّما دخل عليها المحراب وجد عندها رزقاً
، فاذا سألها : مِن أينَ لكِ هذا قالت : هو مِنْ عِند اللّه؟ (« ... وَكَفَّلها
زكريّا كُلَّما دَخلَ عَلَيْها زكَريّا المِحْرابَ وَجدَ عِنْدها رزْقاً قال يا
مَريَمُ أنّى لَكِ هذا قالَتْ هُو مِنْ عِنْد اللّه » ( آل عمران : 37 ).). وَعلى هذا الأساس يجب أن لا نتردَّد ولا نسمح لانفسنا بأن نشك في مثل هذه الكرامات
، أو نستبعدها. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
خَمسَةُ
أعوام في الصَحْراء :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أمضى وليدُ « عبد
المطلب » في قبيلة « بني سعد » مدة خمسة أعوام ، بلغ فيها أشده. وخلالَ هذه المدة
اخذته « حليمة » إلى اُمّه مرتين أو ثلاث ، وقد سلّمته إلى اُمه في آخر مرة. وكانت المرّة الاُولى
من تلك المرات عند فطامه ، ولهذا السبب اتت به صلىاللهعليهوآلهوسلم
« حليمة » إلى مكة ولكنها عادت به إلى الصحراء باصرار منها ، وكان السبب وراء
هذا الاصرار على اصطحابه معها إلى البادية هو أن هذا الوليد قد اصبح مبعث خير
ورخاء ، وبركة في منطقتها ، وقد دفع شيوعُ مرض الوباء في « مكة » إلى أن تقبل
امُّه الكريمة بهذا الطلب (بحار الأنوار : ج 15 ، ص 401.).
وأما المرةُ الثانيةُ
من تلك المرات فكانت عندما قدم جماعة من نصارى
الحبشة إلى الحجاز ، فوقع نظرهم على محمَّد صلىاللهعليهوآلهوسلم
في « بني سعد » ، ووجدوا فيه جميع العلائم المذكورة في الكتب السماوية للنبي
الّذي سيأتي بعد عيسى المسيح عليهالسلام ،
ولهذا عزموا على أخذه غيلة إلى بلادهم لما عرفوا ان له شأنا عظيماً ، لينالوا
شرف احتضانه ويذهبوا بفخره (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 167.).
ولا مجال لاستبعاد هذه القضية لأن
علائم النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ذُكِرَت في الانجيل حسب تصريح القرآن
الكريم ، فلا يبعد أن علماء النصارى قد تعرّفوا في ذلك الوقت على النبيّ من
العلائم الّتي قرأوها ودرسوها في كتبهم. يقول القرآن الكريم في هذا المجال :
« وَإذْ قالَ عِيْسى بْنُ مرْيَم يا
بَني إسْرائيلَ إنّي رَسُولُ اللّه إليْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْن يَديَّ مِنَ
التوْراة وَمُبشِّراً بِرَسُول يأتْي مِنْ بَعْدي اسْمُهُ أَحمَد فَلمّا
جَاءهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبيْنٌ »
(الصف : 6.).
ثمّ انّ في هذا الصعيد آياتٌ اُخر
صرَّحت بجلاء بأن علائم رسول الإسلام في الكتب السماوية الماضية في وضوح ، ومن
غير إبهام ، وأن الامم السابقة كانت على علم بهذا الأمر (« الذين يتَّبِعُونَ
الرسول النبيّ الاُميَّ الَّذي يَجِدُونَهُ مكْتُوباً عِندَهُمْ في التوراة
والإنْجيل » ( الأعراف : 157 ).).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
7
العَوْدة إلى
اَحضان العائلة
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد خَلقَت يدُ القدرة الالهية كلَ
فرد من أفراد النوع الانساني لأمر معين ، فهناك من خلق لا كتساب العلم والمعرفة
، وهناك من خُلقَ للاختراع والاكتشاف ، وثالثٌ خلق للسعي والعمل ، وبعض للتدبير
والسياسة وفريق للتدريس والتربية وهكذا. وإن المربِّين المخلصين الذين يهمّهم
تقدم الأَفراد أو رقيّ مجتمعهم لا يعمدون إلى نَصب أحد في عمل من الاعمال ولا
يعهدون إليه مسؤولية من المسؤوليات إلاّ بعد اختبار سليقته ومواهبه ، بغية وضع
الرجل المناسب في المكان المناسب ، إذ في غير هذه الحالة يتعرِّض المجتمع لضررين
كبيرين : احدهما : أن
لا يوكل إلى الفرد ما يستطيع القيام به ، والثاني
:
ان يبقى العمل الّذي قام به ناقصاً ، مبتوراً. وقد قيل في المثل :
لكل انسان موهبة ، والسعيد هو من اكتشف تلكم المواهب ، واصابها. وقد ذكروا أن استاذاً كان ينصح
تلميذاً له كسولا ، ويعدّد له مضارَّ الكسل والتواني ، ويصف له حال من ترك
الاشتغال بالعلم ، وضيّع ربيع حياته في البطالة والغفلة. وبينما الاستاذ ينصح
تلميذه ـ وهو يسمع مواعظ اُستاذه ـ رأى تلميذه يرسم بقطعة من الجص صورة على
المنضدة ، فادرك من فوره أن هذا الصبيّ لم يُخلق للدرس وتحصيل العلم ، بل خلقته
يد القدرة للرسم ، فطلب منه أن يصطحب اباه إلى المدرسة في اليوم القادم ، ثم قال
لوالد الصبيّ : إذا كان ولدك هذا كسولا في التعلم ، والتحصيل فانه يمتلك ذوقاً
رفيعاً في الرسم ، ورغبة كبيرة في التصوير. وقبل الوالد نصيحة
المعلّم هذه ولم يمض زمانٌ طويل إلاّ وبرع الصبي وغدى قمة في هذا الفن ، بعد أن
تابع هوايته بشغف وأكثر من ممارستها. إن فترة الطفولة والصبا في حياة
الأشخاص خير فرصة لأولياء الأطفال بأن يختبروا مواهب أبنائهم ، ويتعرفوا عليها
من خلال تصرفاتهم ، وأفكارهم وردودهم ، لأن حركات الطفل وأقواله الجميلة والحلوة
خير مرآة لما ينطوي عليه من مواهب وقابليات وصفات لوتوفرت لها ظروف التربية
الصحيحة لأمكن الاستفادة منها على أفضل صورة ، وأحسن وجه. إن مطالعة فاحصة لحياة
النبيّ الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم وأقواله وأفعاله إلى وقت البعثة المباكرة تُوقفنا على صورة
كاملة لشخصيته صلىاللهعليهوآلهوسلم
وتوضح لنا أهدافه العليا ، على أن مطالعة صفحات الطفولة
في حياته صلىاللهعليهوآلهوسلم فقط لا
تكشف لنا عن مستقبله المشرق ، بل ان دراسة الصورة الاجمالية لحياته وتاريخه إلى
يوم مبعثه الشريف ، وإعلانه عن نبوَّته وقيادته للمجتمع ، تخبرنا عن ذلك
المستقبل العظيم ، وبالتالي عن هذه الحقيقة وهي ان هذه الشخصية خُلِقَت لأيّ عمل
، وأن إدعاء الرسالة والقيادة له هل ينسجمُ مع سوابقه التاريخية أم لا؟؟ هل تُؤيّد تفاصيلُ حياتِه خلال
أربعين سنة قبل الرسالة ، وهل تؤيّد أفعالُه واقوالُه ، وبالتالي : سلوكه مع
الناس ومعاشرته الطويلة مع الآخرين رسالته أم لا؟؟ من هنا نعمدُ إلى عرض
بعض الصفحات من حياة رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
في ايامها وسنواتها الاولى. لقد حافظت مرضعةُ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
عليه خمس سنوات ، وقامت في هذه المدة برعاية شؤونه خير قيام ، وبالغت في كفالته
والعناية به ، وفي خلال هذه المدة تعلّم النبي لغة العرب على احسن ما يكون ،
حتّى انه صلىاللهعليهوآلهوسلم كان يفتخر بذلك في ما بعد إذ كان
يقول : أنا أعربكُمْ ( اي أفصحكم ) ...
وارضعت في بني سعد » (السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 89.).
ثم ان « حليمة » جاءت به إلى « مكة »
، وبقي عند امّه الحنون ردحاً من الزمن ، وفي كفالة جده العظيم : « عبد المطلب »
ردحاً آخر منه ، وكان هو السلوة الوحيدة لاقاربه والبقية الباقية من ابيه : «
عبد اللّه » (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 167.). منذ أن فقَدت كَنّة « عبد المطلب » وعروس
ابنه : « آمنة » زوجها الشاب الكريم : « عبد اللّه » باتت تترقب الفرص لتذهب إلى
« يثرب » وتزور قبر زوجها الحبيب الفقيد عن كثب ، وتزور اقاربها في يثرب في نفس
الوقت. وذات مرة فكَّرت بأن تلك الفرصة قد
سنحت ، وأن ولدها « محمَّداً » قد كبُر ، ويمكنه أن يشاركها في حزنها ، فتهيأت
هي واُمّ ايمن للسفر ، واتجهت نحو يثرب برفقه « محمَّد » ، ولبثت هناك شهراً. ولقد انطوت ( وبالاحرى حملت ) هذه
السفرة على بعض الآلام الروحية لوليد قريش « محمّد » لأنه صلىاللهعليهوآلهوسلم
رأى فيها ولأوّل مرة البيت الّذي توفي فيه والده العزيز ، ودفن (كان البيت الّذي يضمّ قبر « عبد اللّه » عليهالسلام لا يزال موجوداً حتّى قُبيل توسعة الدائرة
حول المسجد النبوي الطاهر ، ولكنه اُزيل بحجّة إيجاد تلك التوسعة.)
وكانت والدته قد حدَّثته بامور عن والده إلى ذلك الحين. وكانت لا تزال سحابةُ الحزن تخيّم
على روحه الشريفة إذ فوجئ بحادثة مقرحة اُخرى ، وغشيه موج آخر من الحزن لأنه عند
عودته إلى مكة فقد اُمّه العزيزة في اثناء الطريق في منطقة تدعى ب « الابواء »
(السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 105.).
إنَ هذه الحادثة قد عزَّزتْ مكانة
الرسول الكريم صلىاللهعليهوآلهوسلم
في عشيرته اكثر فأكثر ، وجعلته يتمتع بمحبّة أزيد منهم ، فهو الزهرة الوحيدة من
تلك الجنينة المباركة ، كما انه صار منذ ذلك الحين يتمتع بعناية أكبر من قبل جده
« عبد المطلب » ولهذا كان يحبُّه اكثر من أبنائه ، بل ويؤثره عليهم جميعاً. ومن ذلك أنه كان يُمدُّ في فناء
الكعبة المعظمة بساطٌ لزعيم قريش « عبد المطلب » فيجلس هو عليه ويتحلَّقُ حوله
وجوهُ قريش وسادتها وأولادُه فإذا وقَعت عيناه على بقية عبد اللّه « محمَّد »
أمر بأن يُفرَّجَ له حتّى يتقدم نحوه ثم يُجلِسُه إلى جنبه على ذلك البساط
المخصوص به (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 168.).
ان القرآن الكريم يُذكّر النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بفترة يتمه ويقول : « ألمَ يجدْكَ
يتيماً فآوى ». إن الحكمة وراءيتم وليد قريش ليست
واضحة لنا تمام الوضوح ، ولكننا نعلم إجمالا بأن سيل هذه الحوادث المؤلمة احيانا
، والمزعجة احيانا اخرى لم يك خالياً عن حكمة معقولة ومصلحة رشيدة ، بيد أننا مع
كل هذا يمكن لنا الحدس بأن اللّه تعالى أراد أن يذوق قائد العالم البشري ومعلمه
، وإمام الإنسانية وهاديها ـ وقبل ان يتسلم مهامه ، ويزاول مسؤولياته العظمى
ويبدأ قيادته ـ حُلو الحياة ومرَّها ، ويجرِّب سراء العيش وضرّاءه ، حتّى
تتهيَّأ لديه تلك الروحُ الكبرى الصبورة الصامدة ، ويدّخر من تلك الحوادث الصعبة
تجارب ودروساً ، ويعدّ نفسه لمواجهة مسلسل الشدائد والمصاعب ، والمشاق والمتاعب
الّتي كانت تنتظره في المستقبل. وربما أراد اللّه تعالى أن لا تكون
في عنق نبيِّه طاعة لأحد ، ولهذا انشأه حراً خلياً من كل قيد ، منذ الايام
الاُولى من حياته ، يصنع نفسَه بنفسِه ويقيّض لها موجبات الرشد ، واسباب الرقيّ
ليتضح أن نبوغَهُ ليس نبوغاً بشرياً عادياً ومألوفاً وانه لم يكن لوالديه اي دخل
فيه وفي مصيره ، وبالتالي فان عظمته الباهرة نابعةٌ من مصدر الوحي ، وليست من
العوامل العادية والاسباب المأنوسة المتعارفة. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وَفاة
عبْدالمُطَّلب :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد جرت عادة الحياة ان تتعرض للمرء
باستمرار ، وتستهدف سفينة حياته كالأمواج المتلاحقة مُوجِّهة ضرباتها القوية
لروحه ، ونفسه. أجل هذه هي طبيعة الحياة
وسنتها مع أفراد النوع الانساني من دون استثناء. ولم يكن رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
بمعزل عن هذ السنة المعروفة وهذه القاعدة الحياتية العامة. فلم تكن أمواج الحزن تفارق قلب رسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم لوفاة
والديه بعد حتّى فاجأته مصيبة كبرى. إنه لم يكن يمض من عمر النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
اكثر من ثمان سنوات إلا وفقد جدّه العظيم « عبد المطلب » ، وقد اعتصَرت وفاة «
عبد المطلب » قلب رسول اللّه ألماً وحزناً ، وكان لها وقعٌ شديدٌ على نفسه
المباركة ، حتّى أنه بكى لفقده بكاء شديداً وظلّت دموعُه تجري من أجله إلى أن
وري في لحده ، ولم ينس ذكره أبداً!! (كتب اليعقوبي في تاريخه : ج 2 ، ص 10 و 11 من تاريخه حول سيرة عبد
المطلب ، وأنه كان موحِّداً لاوثنياً ، وذكر أن الإسلام أمضى الكثير من سننه.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
كفالة
أبي طالب للنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
:
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
سيكون لنا حديثٌ مفصَّل حول شخصيّة
أبي طالب في فصل خاص (في حوادث السنة العاشرة.)
وسنثبت هناك إيمانه برسول اللّه
صلىاللهعليهوآلهوسلم
بالوثائق والأدلة القاطعة ، ولكنَّ من المناسب الآن أن نستعرض بعض الحوادث
المرتبطة بفترة كفالته للنبي. لقد تكَفَّل أبو طالب ـ ولأَسباب خاصة ـ رسول اللّه
صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وتقبل
تحمُّل هذه المسؤولية بفخر واعتزاز ، ولأنّ أبا طالب ـ مضافاً إلى العلل المشار
إليها ـ كان أخاً لوالد النبي من أُمٍّ واحدة أيضاً (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 179 ، وامهما هي فاطمة المخزومية.)
كما
أنّه كانَ معروفاً بجوده وكرمه ، ومن هنا أوكلّ « عبد المطلب » أمر كفالة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
حفيده ، إليه ، وسوف نقص عليك تدريجاً سطوراً ذهبية من تاريخه ، تمثل شاهد صدق
على خدماته القيمة ، وأياديه الجليلة. يقولون : إن النبي
شارك وهو في العاشرة من عمره جنباً إلى جنب مع عمّه
في حرب من الحروب (لقد كتب اليعقوبي في تاريخه : ج 1 ، ص 15 طبعة النجف أنّ أبا طالب لم
يشترك في هذه الحرب قط ، كما لم يسمح لبني هاشم بالمشاركة فيها أيضاً ، لأنه كان
ظلماً وعدواناً وقطيعة رحم واستحلالا للشهر الحرام.)
وحيث أن هذه الحرب وقعت في الأشهر الحُرم لذلك سُمّيت بحرب « الفجار » وقد وردت تفاصيل حروب « الفجار » في التاريخ بشكل مسهَب. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
سَفرةٌ
إلى الشام :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد جرت العادة ان يسافر تجار قريش
إلى الشام كل سنة مرة واحدة. فعزم « ابو طالب » على أن يشارك في
رحلة قريش السنوية هذه ذات مرة ، وعالج مشكلة ابن اخيه « محمَّد » الّذي ما كان
يقدر على مفارقته بأنه قرر أن يتركه في مكة في حراسة جماعة من الرجال ، ولكنه
ساعة الرحيل واجه من ابن اخيه العزيز ما غيّر بسببه قراره المذكور فقد شاهد «
محمَّداً » وقد اغرورقت عيناه بالدموع لفراق كفيله الحميم « ابي طالب » ، فاحدثت
ملامح « محمَّد » الكئيبة طوفاناً من المشاعر العاطفية في قلب « أبي طالب » بحيث
اضطرته إلى أن يرضى بمشقة اصطحاب « محمَّد » في تلك الرحلة (1).
ويذكر « أبو طالب » في
ابيات له قصّة هذه السفرة وما جرى فيها من البدء إلى الختام نقتطف منها بعض
الأبيات :
( تاريخ ابن عساكر : ج 1
، ص 269 ـ 272 وديوان ابي طالب : ص 33 ـ 35 ). لقد كانت سفرة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم هذه الّتي قام بها بصحبة
عمّه وكافله « ابي طالب » في الثانية عشرة من عمره ،
من اجمل وأطرف اسفاره صلىاللهعليهوآلهوسلم
لأنه صلىاللهعليهوآلهوسلم
عَبر فيها على : « مَديَن » و « وادي القرى » و « ديار ثمود » واطّلع على مشاهد
الشام الطبيعية الجميلة. ولم تكن قافلة قريش
التجارية قد وَصلت إلى مقصدها حتّى حدثت في منطقة تدعى « بصرى » قضية غيرت
برنامج « ابي طالب » وتسببت في عدوله عن المضي به في تلك الرحلة والقفول إلى
مكة. واليك فيما يلي مجمل
هذه القضية : كان يسكن في « بصرى » من نواحي الشام
راهبٌ مسيحي يدعى « بحيرا » يتعبّد في صومعته ، يحترمه النصارى في تلك الديار. وكانت القوافل التجارية إذا مرت على
صومعته توقفت عندها بعض الوقت وتبركت بالحضور عنده. وقد اتفق أن التقى هذا الراهبُ قافلة
قريش الّتي كان فيها رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
فلفت نظره شخصيةُ « محمَّد » ، وراح يحدق في ملامحه ، وكانت نظراته هذه تحمل
سراً عميقاً ينطوي عليه قلبه منذ زمن بعيد وبعد دقائق من النظرات الفاحصة ،
والتحديق في وجه النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
خرج عن صمته وانبرى سائلا : اُنشدكم باللّه أيّكم وليّه؟ فاشار جماعة منهم إلى « أبي طالب »
وقالوا : هذا وليّه. فقال « ابو طالب » : إنه ابن أخي ،
سلني عمّا بدا لك. فقال « بحيرا » : إنه كائن لابن أخيك
هذا شأنٌ عظيمٌ ، نجده في كتبنا وما روينا عن آبائنا ، هذا سيّدُ العالمين ، هذا
رسول رب العالمين ، يبعثه رحمة للعالمين. إحذرْ عليه اليهود لئن رأوه وعرفوا منه
ما أعرف ليقصدنَّ قتلَه (روى تاريخ الطبري : ج 2 ، ص 32 و 33 ، والسيرة النبوية : ج 1 ، ص 180
ـ 183 هذه القصّة بتفصيل اكبر وقد اختصرناها هنا تمشياً مع حجم هذا الكتاب.).
هذا وقد اتفق اكثر المؤرخين على أنَّ
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
لم يتعدَّ تلك المنطقة ، وليس من الواضح أن عمه « أبا طالب » بعثه إلى مكة مع
أحد ، ( ويُستَبعد أن يكون عمُه قد رضي بمفارقته منذ أن سمع تلك التحذيرات من
الراهب بحيرا ) ، أم أنه اصطحبه بنفسه إلى مكة ، وانثنى عن مواصلة سفره إلى
الشام (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 182 و 183.).
وربما قيل أنه تابع
ـ بحذر شديد ـ سفرَهُ إلى الشام مع ابن اخيه « محمَّد ». |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
اُكذُوبَةُ
المُسْتشرقيْن :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد آلينا على أنفسنا
في هذا الكتاب ان نشير إلى أخطاء المستشرقين وغلطاتهم بل وربما أكاذيبهم ،
واتهاماتهم الباطلة ، وشُبههُم الواهية ليتضح
للقراء الكرام الى أي مدى يحاول هذا الفريق إرباك أَذهان البُسطاء من الناس ،
وبلبلة عقولهم حول قضايا الإسلام!! إن قضية اللقاء الّذي تم ـ في بصرى ـ
بين النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
والراهب « بحيرا » لم تكن سوى قضية بسيطة ، وحادثة عابرة وقصيرة ، إلا أنها وقعت
في ما بعد ذريعة بايدي هذه الزمرة ( المستشرقون ) فراحوا يصرّون أشدّ اصرار على
أنّ ما أظهره رسولُ اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
من تعاليم رفيعة سامية بعد 28 عاماً ، واستطاع بها أن يُحيي بها تلك الاُمة
الميّتة قد تلقاها من الراهب « بحيرا » في هذه السفرة. ويقولون : إن « محمَّداً
» بما تمتع به من قوة ذاكرة ، وصفاء نفس ودقة فكر ، وعظمة روح وهبته اياها يد
القدر ، أخذ من الراهب « بحيرا » في لقائه به ، قصص الانبياء السالفين والاقوام
البائدة مثل عاد وثمود ، وكثيراً من تعاليمه الحيوية. ولا ريب في أن هذا
الكلام ليس سوى تصور خيالي لا يتلاءم ولا ينسجم مع حياته صلىاللهعليهوآلهوسلم بل وتكذبه الموازين
العقلية ، واليك بعض الشواهد على هذا : 1 ـ لقد كان « محمَّد
» صلىاللهعليهوآلهوسلم
باجماع المؤرخين اُميّاً ، لم يتعلم القراءة والكتابة ، وكان عند سفره إلى الشام
، ولقائه ب « بحيرا » لم يتجاوز ربيعه الثاني عشر بعد ،
فهل يصدق العقل ـ والحال هذه ـ أن يستطيع صبيٌ لم يدرس ولم يتعلّم القراءة
والكتابة ولم يتجاوز ربيعه الثاني عشر ان يستوعب تلك الحقائق من « التوراة » و «
الإنجيل » ، ثم يعرضها ـ في سن الاربعين ـ على الناس بعنوان الوحي الالهيّ
والشريعة السماوية؟! إن مثل هذا الأمر خارج عن الموازين
العادية ، بل ربما يكون من الاُمور المستحيلة لو أخذنا بنظر الاعتبار حجم
الإستعداد البشري. 2 ـ إن مدة هذا اللقاء
كان اقل بكثير من أن يستطيع محمَّد صلىاللهعليهوآلهوسلم في مثل تلك الفترة
الزمنية القصيرة أن يستوعب « التوراة » و « الانجيل » ، لأن
هذه الرحلة كانت رحلة تجارية ولم يستغرق الذهاب والاياب والاقامة اكثر من أربعة
أشهر ، لأن قريشاً كانت تقوم في كل سنة برحلتين ، في الصيف إلى « الشام » ، وفي
الشتاء إلى « اليمن » ، ومع هذا لا يُظنّ أن تكون الرحلة برمتها قد استغرقت اكثر
من اربعة أشهر ، ولا يستطيع اكبر علماء العالم واذكاهم من أن يستوعب في مثل هذه
المدة القصيرة جداً محتويات ذينك الكتابين ، فضلا عن صبي لم يدرس ، ولم يتعلم
القراءة والكتابة من احد. هذا مضافاً إلى أنه لم
يكن يصاحب صلىاللهعليهوآلهوسلم
ذلك الراهب كل تلك الاشهر الاربعة بل ان اللقاء الّذي وقع إتفاقاً في أحد منازل
الطريق لم يستغرق سوى عدة ساعات لا اكثر. 3
ـ إن النَص التاريخي يشهد بأن « ابا طالب » كان ينوي اصطحاب النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى الشام ، ولم يكن
مقصده الأصلي « بصرى » بل إن « بصرى » كان منزلا في أثناء الطريق تستريح
عنده القوافل التجارية أحياناً ، ولفترة جداً قصيرة. فكيف يمكن في مثل هذه الصورة ان يمكث
رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
في تلك المنطقة ، ويشتغل بتحصيل علوم « التوراة » و « الانجيل » ومعارفهما؟ سواء
قلنا بأن « ابا طالب » أخذه معه إلى الشام ، أو عاد به من تلك المنطقة إلى مكة
أو أعاده بصحبة أحد إلى مكة؟! وعلى كل حال
فان مقصد القافلة ومقصد « ابي طالب » لم يكن « بصرى » ليقال : ان القافلة اشتغلت
فيها بتجارتها ، بينما اغتنم « محمَّد » الفرصة واشتغل بتحصيل معارف العهدين. 4 ـ إذا كان محمَّد صلىاللهعليهوآلهوسلم قد تلقى اُموراً ومعارف
من الراهب المذكور اذن لاشتهر ذلك بين قريش حتماً ، ولتناقل الجميع خبر ذلك بعد
العودة إلى مكة. هذا مضافاً إلى
أنّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
نفسه ما كان يتسطيع أن يدعي امام قومه في ما بعد بأنه اُميُّ لم يدرس كتاباً ،
ولا تلمذ على أحد ، في حين أن النبيّ الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم
افتتح رسالته بهذا العنوان ، ولم يقل أحدٌ ، يا محمَّد كيف تدعي بأنك لم تقرأ
ولم تدرس عند احد وقد درست عند راهب « بصرى » وتلقيت منه هذه الحقائق الناصعة
وانت في الثانية عشرة من عمرك؟ لقد وَجَّه مشركوا مكة جميع انواع
الإتهام إلى رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
، وبالغوا في البحث عن أيّة نقطة ضعف في قرآنه يمكن أن يتذرعوا بها لتفنيد دعوته
، حتّى أنهم عندما شاهدوا النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
ذات مرةْ عند ولكن القرآن الكريم لم يتعرض لذكر
هذه الفرية قط كما أن قريشاً المجادلين المعاندين لم يتذرعوا بها أبداً ، وهذا
هو بعينه دليلٌ قاطعٌ وقويٌ على أن هذه الفرية من افتراءات المستشرقين في عصرنا
هذا ، ومن نسج خيالهم!! 5 ـ إن قصص الانبياء
والرسل الّتي جاءت في القرآن الكريم على وجه التفصيل تتعارض وتتنافى مع ما جاء
في التوراة والانجيل. فقد ذُكِرَت قصصُ الأنبياء واحوالهم
في هذين الكتابين بصورة مشينة جداً ، وطُرحت بشكل لا يتفق مع المعايير العلمية
والعقلية مطلقاً ، وان مقايسة عاجلة بين هذين الكتابين من جانب وبين القرآن
الكريم من جانب آخر تثبت بأن قضايا القرآن الكريم ومعارفه لم تتخذ من ذينك
الكاتبين بحال ، ولو أن النبيَ محمَّداً صلىاللهعليهوآلهوسلم
قد اكتسب معارفه ومعلوماته حول الانبياء والرسل من العهدين لجاء كلامُه مزيجاً
بالخرافات والأَوهام (تتجلى هذه الحقيقة أكثر فاكثر إذا ما قارنّا بين مواضيع القرآن
الكريم ، وبين ما جاء في نصوص العهدين ( التوراة والأنجيل ) وقد تصدى بعض الكتاب
الاسلاميين لمثل هذه المقارنة ، وقد تعرضنا لها ايضاً في بعض دراساتنا.).
6 ـ إذا كان راهب «
بُصرى » يمتلك كل هذه الكمية من المعلومات الدينية والعلميّة الّتي عرضها رسولُ
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
، فلماذا لم يحض هو بأي شيء من الشهرة ، ولماذا ترى
لم يُربِّ غير « محمَّد » في حين أن معبَده كان مزار الناس ومقصدَ القوافل؟! 7 ـ يعتبرُ الكتاب
المسيحيّون « محمّداً » صلىاللهعليهوآلهوسلم
رجلا أميناً صادقاً ، والآيات القرآنية تصرح بأنه صلىاللهعليهوآلهوسلم لم يكن على علم مسبق أصلاً بقصص الأَنبياء والاُمم السابقين ،
وأن معلوماته في هذا الصعيد لم تحصل لديه إلا عن طريق الوحي. فقد جاء في سورة «
القصص » الآية (44) هكذا : « وما كُنْتَ بجانِب الغرْبيِّ إذْ قَضيْنا إلى
مُوْسى الأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشّاهِديْن ».
وجاء في سورة « هود »
الآية (49) بعد نقل قصة نوح : « تِلْكَ مِنْ أَنباء الْغَيْبِ نُوحيها إليكَ ما
كُنْتَ تَعلَمُها أَنْت وَلا قومُك مِنْ قَبْل هذا ».
إن هذه الآيات توضح أن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
لم يكن على علم أبداً بهذه الحوادث ، والوقائع. وهكذا جاء في الآية (44) من سورة «
آل عمران » : « ذلِكَ مِنْ
أنْباء الْغيْبِ نُوْحيه إلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيهِمْ إذْ يُلْقُوْنَ أقْلامهُمْ
أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ ، وَما كُنْتَ لَديْهم إذْ يَخْتصِمُونَ ».
إن هذه الآية وغيرها من الآيات
العديدة تصرح بأن هذه الأخبار الغيبيّة وصلت إلى النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
عن طريق الوحي فقط ، وهو لم يكن على علم بها مطلقاً. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
نَظْرةٌ إجْماليَّة إلى التَوْراة الحاضِرَة :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إنَّ هذا الكتاب السَماويّ تورَّط في
تناقضات عجيبة في بيان قصص الأنبياء والمرسلين لا يمكن نسبتها إلى الوحي مطلقا ،
وها نحن نأتي هنا بنماذج في هذا المجال من التوراة ليتضح لنا أن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
لو كان قد أخذَ قضايا القرآن الكريم من ذلك الراهب فلماذا لا يحتوي هذا الكتاب
العظيم على تلك الأضاليل الّتي انطوى عليها « التوراة » و « الانجيل ». واليك بعض ما جاء حول
الأَنبياء والمرسلين في « التوراة » و « الانجيل » ونقارن ذلك بما جاء في القرآن
الكريم ليتضح مدى الفرق بين الكتابين ( العهدين ، والقرآن ). |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
1 ـ داود عليهالسلام
:
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
جاء في التوراة : « إن داود رأى من
على السطح امرأة تستحمّ ، وكانت المرأة جميلة المنظر جداً ، فارسل داود وسأل عن
المرأة ، فقال واحد : إنها امرأة اُوريّا فأرسل داود رسلا وأخذها فدخلت إليه
فاضطجع معها وهي مطهَّرة من طمثها ثم رجعت إلى بيتها ، وحبلت المرأة ، فارسلت
وأخبرت داود وقالت : إني حُبلى ، فارسل داود إلى يؤاب يقول : اجعلوا أوريّا في
وجه الحرب الشديدة (1)
، وارجعوا من ورائه فيضرب ويموت ... فلما سمعت امرأة أوريّا أنه قدمات اُوريّا
رجلُها ندبت بعلها ، ولمّا مضت المناحة أرسل داود وضمَّها إلى بيته وصارت له
إمرأة ، وولدت له إبناً ، وامّا الأمرُ الّذي فعله داود فقبح في عينيّ الرب »!! (العهد القديم ( التوراة ) : صموئيل ، الثاني الاصحاح الحادي عشر 3
إلى 27.).
هكذا تصف التوراة النبيّ الكريم داود ، وترميه بالزنا ، واكراه امرأة محصنة على
خيانة زوجها!! بينما يصف القرآن الكريم النبيّ داود عليهالسلام
بافضل
الاوصاف إذ يقول ( في الآية 15 و 16 من
سورة النمل ) : « وَلَقَدْ آتَيْنا داوود وسلَيْمانَ عِلْماً
وَقالا ألحَمْدُ للّه الَّذيْ فَضَّلنا عَلى كثير مِنْ عِبادِهِ ... وَقالَ يا
أيُّهَا الناسَ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَيْر وَاُوتيْنا مِنْ كُلِّ شَيء إنَّ هذا
لَهُوَ الفَضْلِ الْمُبِيْنِ ». |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
2 ـ النبيّ سليمان عليهالسلام :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
تقول « التوراة » عن
النبيّ العظيم سليمان عليهالسلام
: 1 ـ
« وداود الملكُ ولد سليمان من الّتي لاُوريّا » (إنجيل مَتَّى : الاصحاح الأول 6.).
أي ان سليمان النبيّ الكريم ـ
والعياذ باللّه ـ هو ابن زنا!! 2 ـ
وَأَحَبَّ المَلِكُ سُلَيمان نساء غريبة ... مِنَ الذين قالَ عَنْهُمْ الربُ
لبنيّ اسرائيل : لا تدخلونَ إليهم ، وهُمْ لا يَدُخلونَ إليكم لأَنَّهُمْ يُميلونَ
قلوبَكم وراء آلهتهم ، فالتصق سلَيمانُ بهؤلاء بالمحبَّة ، وكانت له سبع مئة من
النساء السيدات ، وثلاث مئة من السراري فأمالت نساؤه قلبَهُ وكان في زمان شيخوخة
سليمان ان نساءه أملن قلبه وراء آلهة اُخرى ، ولم يكن قلبُه كاملا مع الرب
الهِهِ كقلب داود ابيه ، فذهب سليمان وراء عَشتُورت إلاهة الصيد ونين ، وملكوم
رجس العمونيين ، وعمل سليمان الشرَّ في عيني الرب ، ولم يتبع الرب تماماً كداود
أبيه ، فغضب الربُ على سليمان لأن قلبه مال عن الرب إله إسرائيل »!!! (التوراة : الملوك الأول الاصحاح : 11 ، العبارات 1 : 11.).
إن سليمان
ـ حسب هذه التعابير التوراتية ـ يعشق النساء الاجنبيات ، ويتقرب اليهن بصنع
أصنام لَهُنَّ. ويعبدها معهن ، ويرتكب الشرور الّتي أغضبت الرب!! بينما يقول القرآن الكريم عن سليمان عليهالسلام
« ولقد آتيْنا داودَ وَسُلَيْمانَ
عِلماً » (2).
ويقول : « وَلِسُلَيْمان الرِّيْح عاصِفَة تَجْري بأَمْره
إلى الأرض الَّتي باركْنا فيها ، وَكنا بِكُلِّ شَيء عالِمين »
(3).
إنه نبي عظيم اختاره اللّه تعالى
لوحيه ، وأصطفاه لأَداء رسالاته. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
3 ـ يعقوب عليهالسلام :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إنَّ « التوراة » تصف النبي العظيم يعقوب عليهالسلام بأنه رجل كذّاب مخادع ، أخذ النبوة من ابيه بالمكر والخداع ، « فعِند ما
شاخَ اسحاقُ وكَلّت عيناهُ عن النظر دعا عيسو إبنه الاكبر ، وطلب منه أن يصطادله
صيداً ، ويصنع له طعاماً جيداً حتّى يباركه ، ويعطيه النبوة ، ولكن يعقوب ( ابن إسحاق من رفقة زوجته الأخرى )
بادر إلى صنع طعام لذيذ لأبيه وتظاهر بأنه عيسو ، لابساً ثياب عيسو ، وقطعاً من
جلود جَدْيي المعزى على عنقه لأن عيسو كان مشعراً وكان يعقوب املس الجسد ، فبارك
اسحاق ابنه يعقوب ومنحه النبوة ، وبعد ذلك قدم عيسو من الصيد ، فعرف اسحاقُ بانه
خُدِع ، وأن يعقوب أخذ منه النبوة بالمكر ، فارتعد اسحاقٌ ارتعاداً عظيماً جداً
وقال لعيسو متأسفاً : قد جاء أخوك بمكر ، وأخذ بركتك »!! (سفر التكوين : الاصحاح السابع والعشرون : 1 إلى 46 ، وقد ذكرنا هذه
القصّة من التوراة بتلخيص.).
هذا هو حال يعقوب في لسان « التوراة » المحرفة!! وأما القرآن الكريم
فانه يقول عن هذا النبيّ الطاهر : « وَوَهبْنا لَهُ إسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاّ
هَدَيْنا مِن قَبلُ وَمِنْ ذريّته داوود وَسُليمانَ وَأيّوبَ وَيُوسفَ وَمُوسى
وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزي الُمحْسِنيْن »
(2).
ويقول تعالى أيضاً : « وَاذْكُرْ عِبادنا إبْراهِيْمَ وَاسْحاقَ
وَيَعْقُوبَ اُوْلى الأَيْدي والأَبْصار. انا أخلَصْناهُمْ بخالِصَة ذِكْرى
الدّار. وإنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفيْنَ الأَخيار »
(3).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
4 ـ إبْراهيم عليهالسلام :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
تقول « التوراة » عن إبراهيم عليهالسلام
إنّه
لمّا اراد أن يدخلَ مصر قال لِزوجته سارة :
إني قد علمتُ أنك إمرأة حسَنة المنظر ، فيكون إذا رآك المصريون أنهم يقولون :
هذه إمرأَته ، فيقتلونني ، ويَسْتَبْقونكِ ، قولي إنكِ اُختي ، ليكونَ لي خيرٌ
بسببكِ وتحيا نفسي من أجلِكِ. وكذلك فعَلتْ سارة واخِذت إلى بيت
فرعون ، فصنع إلى إبرام خيراً بسببها ، وصار له غنم ، وبقر ، وحمير ، وعبيد ،
وإماء ، واُتن ، وجمال ، ولما عرف فرعون ـ في ما بعد ـ ان سارة زوجة ابراهيم ،
وليس اُخته عاتبه قائلا : لماذا لم تخبرني إنها إمرأتك ، لماذا قلت : هي اُختي
حتّى أخذتها لي لتكونَ زوجتي والآن هو ذا إمرأتك ، خذْها واذهب » (سفر التكوين : الاصحاح الثاني عشر 1 ـ 20.).
إن ابراهيم الخليل عليهالسلام
في وصف التوراة رجلٌ كذابٌ ، يكذب ويحتال. أما القرآن الكريم
فيصف هذا النبي الجليل بأعظم الأوصاف ، ويعتبره أعظم الأنبياء إذ يقول عنه انه :
1 ـ حنيف مُوحِّدٌ للّه : « ولكِنْ كانَ حَنِيفاً »
( آل عمران : 67 ). 2 ـ إمامُ الناس : « إنّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إماماً »
( البقرة : 134 ). 3 ـ مُسْلِمٌ : « ولكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً »
( آل عمران : 67 ). 4 ـ حَليمٌ : « إنَّ إبراهيم لأوّاةٌ حَلِيْمٌ »
( التوبة : 84 ). 5 ـ امة كامِلَة بمفرده : « إنّ إبراهيم كانَ أُمَّة »
( النحل : 120 ). 6 ـ أواهٌ يَخشى اللّه : « إنَّ إبراهِيْم لأوّاهٌ »
( التوبة : 84 ). 7 ـ مصطفى : « لمنَ المُصْطَفين الأَخْيار »
( ص : 48 ). 8 ـ ذو قلب سَليم : « إذ جاء رَبّه بِقَلْب سَلِيْم »
( الصافات : 48 ). |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
5 ـ المسيح عليهالسلام :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إن عيسى ـ حسب رواية الإنجيل ـ يحتقر اُمه
، ويزدري بها ، فذات يوم جاء إخوته واُمه ووقفوا خارجاً وارسلوا يدعونه ، وكان
الجمع جالساً حوله ، فقالوا له « هو ذا امُّك وإخوتك خارجاً يطلبونك ، فأجابَهُم
قائلا : من اُميّ وإخوتي؟ ثم نظرَ حوله إلى الجالِسين وقال : ها اُمّي وإخوتي ،
لأَنَّ مَنْ يصنع مشيئة اللّه هو أخي واُختي واُمّي »!! (إنجيل مرقس : الاصحاح الثالث : 31 ـ 35.)
إنه يقول هذا الكلام عن اُمّه الّتي
وصفها القرآن الكريم
بأن
اللّه تعالى اصطفاها على نساء العالمين (آل عمران : 42.).
إنه يفَضِّل تلاميذه الذين لم يؤمنوا
به في قلوبهم ذرة من خردل ، والذين خذلوه ليلة الهجوم عليه من جانب اليهود (انجيل متّى : الاصحاح السابع والشعرون 1 ـ 6 انظر كيف وافق يهوذا
الاسخريوطي وهو أحد الحواريين مع المتآمرين ضدّ المسيح ، وأيضاً راجع نفس السفر
: الاصحاح السادس والعشرين : وراجع انجيل متّى : الاصحاح العاشر أيضاً.)
ـ
كما يقول الانجيل ـ على اُمه الصدّيقة. كما إن الانجيل يقول :
إن
المسيح حوّل الماء إلى الخمر في عرس (إنجيل يوحنا : الاصحاح الثاني : 1 ـ 11.)
بل يقول إنه عليهالسلام : شرب
الخمر (إنجيل لوقا : الاصحاح الأول 15 وغيره.)
، والحال أن الإنجيل يصرّح بحرمة الخمر في مواضع عديدة. هذا هو « عيسى » النبي الطاهر
وحواريوه حسب رواية الانجيل!! (على أنّ خرافات التوراة والانجيل لا تنحصر في ما ذكرناه هنا ،
وللتوسع راجع : أنيس الأعلام تأليف فخر الإسلام ، والهدى إلى دين المصطفى
للعلامة البلاغي.).
أما القرآن الكريم فيقول
عنه غير ما يقوله : « الانجيل » وإليك بعض ما جاء في الكتاب العزيز حول « المسيح
» عليهالسلام. قال اللّه تعالى : « وَآتينا عِيْسى بْن مَريَم البيّنات وأيَّدْناهُ
برُوْح القُدُس » (البقرة :
78). وقال تعالى أيضاً : « إنّما المسيحُ عيْسى بنُ مريم رَسُول اللّه
وكلمته » (النساء :
171). ويكفي في عظمة المسيح عليهالسلام وعلو شأنه أنه عليهالسلام كلَّم
الناس في المهد صبياً وقال : «
إنّي عَبْدُ اللّه آتاني الكتابَ وَجَعَلني نَبِيّاً. وَجَعَلني مُبارَكاً أيْنَ
ما كُنْتُ وَأوْصانِي بِالصَّلاة والزّكاةِ ما دُمْتُ حَيّاً. وبرّاً بِوالِدَتي
وَلَمْ يَجْعَلني جَبّاراً
شَقِيّاً. والسَّلامُ عَليَّ يَوْم وُلدْتُ وَيَوْمَ أمُوتُ وَيَومَ اُبْعَثُ
حيّاً. ذلِكَ عِيْسى بْن مَرْيَم قَوْل الْحَقِّ الَّذيْ فيه يَمْترُون »
(مريم : 30 ـ 34). هذه هي مواقف
القرآن الكريم من الأنبياء الكرام ،
والرسل العظام ، وتلك هي مواقف « التوراة » و « الانجيل » المشينة ، المسيئة إلى شخصيّة سفراء
اللّه مبلّغي رسالاته ، فكيف يُعقل ان يكون القرآن الكريم
مقتبساً من تلك الكتب وبينهما بُعد المشرقين؟! ثم لو أنَّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
كان قد اطّلع على هذه القضايا والقصص قبل إخباره بنبوّته فلماذا لم يرشح منها
شيء في أحاديثه قبل الرسالة وقد عاش بين قومه طويلا. قال اللّه سبحانه في معرض الردّ
والجواب على اقتراح المشركين على النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم بأن يأتي
لهم بقرآن غير الّذي جاء به : «
قُلْ لَوْ شاء اللّه ما تَلوْتُهُ ولا أدْريكُمْ به فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ
عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أفلا تعْقِلُونَ » (يونس : 16.).
فالآية تؤكد على أن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
كان لابثاً في قومه ، ولم يكن تالياً لسورة من سور القرآن ، أو آياً من آياته ،
فكل ما أخبر به هو ممّا أوحى به اللّه تعالى إليه بعد ان بعثه بالرسالة (للتوسّع راجع مفاهيم القرآن : ج 3 ص 321 ـ 323.). |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
8
فَترة الشَباب
في حياة النبيّ الأكرم
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
يجب ان يكون قادة المجتمع أقوياء
شجعان ، لايرهبون أحداً ، ولا يخافون شيئاً ، يمتلكون قوة روحية كبرى ،
ويتمتّعون بصبر عظيم. وإرادة قوية ، صلبة. فكيف يستطيع الضعفاء والجبناء
والمتردّدون ، وضعاف النفوس قيادة المجتمع ، والخروج به من المآزق والمشاكل ،
وكيف يستطيعون أن يقاوموا اعداءهم ويحفظوا كيانهم وشخصيّتهم من عدوان هذا أو
ذاك؟! إن لعظمة القائد الروحية ، ولقواه
البدنية والنفسية تأثيراً عظيماً وعجيباً في أتباعه وأنصاره ، فعند ما اختار
الإمام اميرُ المؤمنين عليهالسلام
أحدَ اصحابه المخلصين لولاية « مصر » كتب إلى أهل « مصر » المظلومين الذين ذاقوا
الأَمرّين على ايدي ولاتهم السابقين كتاباً ذكر فيه شجاعة هذا الوالي الجديد ،
الروحية وقدرته النفسية الفائقة ، وإليك فيما يلي بعض الفقرات من ذلك الكتاب
الّذي يعكس الشروط والمواصفات الواقعية في القائد : « أما بعدُ فقَد بَعثتُ اليكم عَبداً
مِن عباد اللّه لا ينامُ أيّام الخوف ، ولا ينكُل عن الأعداء ساعات الروع ، أشدّ
على الفُجار من حريق النّار ، وهو مالك بن الحارث أخو مذحج ، فاسمعوا له وأطيعوا
أمره فيما طابقَ الحق ، فإنه سَيْفٌ مِن سُيوف اللّه ، لا كليلُ الظَبَّة ،
ولا نابِي الضريبة » (نهج البلاغة : قسم الرسائل ، الرقم 38.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
رسولُ
اللّه وقدرتُه الروحيّة :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد كانت آثار الشجاعة ، والقوّة
باديةً في جبين عزيز قريش منذ طفولته وصباه ، ففي الخامسة عشرة من عمره الشريف
شارك في حرب هاجت بين قريش من جهة ، وقبيلة هوازن من جهة اخرى ، وتدعى « حرب
الفجار » ، وقد كان في هذه الحرب يناول أعمامه النَبل. فها هو « ابن هشام »
ينقل عن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
قال : « كُنْتُ اُنبّلُ عَلى أعْمامِيْ » (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 186 ، وقد قال ابن الأثير في النهاية بعد
نقل هذا الحديث وضبط الكلمة « انبل » مشدّدة « اُنبِّل » : « إذا ناولته النبل
يرمي » راجع مادّة نبل.).
إن مشاركته صلىاللهعليهوآلهوسلم
في العمليات الحربية في مثل هذه السن تكشف عن شجاعته صلىاللهعليهوآلهوسلم وقدرته الروحية الكبرى وتساعدنا على
أن ندرك مغزى ما قاله أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهالسلام
في حق النبيّ الكريم صلىاللهعليهوآلهوسلم : « كُنّا إذا أحمر الْبأَسُ
إتّقيْنا برَسُول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
، فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنّا أقرَبَ إلى العَدوِّ مِنْهُ » (نهج البلاغة : فصل في غريب كلامه الرقم 9.).
وسوفَ نشير ـ وبعون اللّه عند ذكر
جهاد المسلمين للكفار والمشركين ـ إلى نظام العسكرية الإسلامية وكيفية جهاد
المسلمين وقتالهم لأعدائهم الّتي تمَّت بأجمعها بتوجيه من النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
، وهو في نفسه من الابحاث الشيّقة في تاريخ الإسلام. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
حُروبُ
الفِجار :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إنَّ الحديث بتفصيل هذه الوقائع وعن
تكتيكات هذه الحوادث التاريخيّة خارج عن إطار هذه الدراسة ، بيد أننا ـ مع ذلك ـ
نعمد إلى بيان أسباب هذه الحروب الّتي شارك في إحداها رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
بناء على رواية بعض المؤرخين وحوادثها على نحو الاجمال بغية اطلاع القارئ
الكريم. كانت العرب تقضي عامها كله بالقتال
والاغارة ، وقد تسبب هذا الوضع في اختلال حياتهم ، واضطراب اُمورهم ، ولأجل هذا
كانوا يحرّمون القتال ويتوقفون عنه في أربعة أشهر من كل عام ( هي شهر رجب ،
ذوالقعدة ، ذوالحجة ، محرم ) ليتسنى لهم ـ في هذه المدة ـ أن يقيموا أسواقهم ،
ويستغلّوها بالكسب والتجارة والبيع والشراء (يُستفاد من قوله تعالى في الآية 36 من سورة التوبة : « إنَّ عِدَّة الشّهور عِندَ اللّه اثنا
عَشَر شَهْراً في كِتابِ اللّه يَوْم خلَقَ السَّماواتِ والأَرْض مِنْها أربعةٌ
حُرُم » أن تحريم القتال في هذه الأشهر الأربعة كان ذا جذور دينية
، وكانت العرب الجاهلية تحترم هذه الأشهر اتباعاً لسُنّة « إبراهيم الخليل » عليهالسلام.).
ولهذا كانت أسواق « عكاظ » و «
مجنَّة » و « ذو المجاز » تشهد طوال هذه الاشهر الحرام اجتماعات كبرى وتجمعات
حافلة وحاشدة ، كان يلتقي فيها العدوّ والصديق جنباً إلى جنب ، يتبايعون ،
ويتفاخرون. فقد كان شعراء العرب المشهورون يلقون
قصائدهم في هذه الاجتماعات الكبرى ، كما يلقي كبارُ خطباء العرب وفصحاؤهم خطباً
قوية ، وأحاديث في غاية الفصاحة والبلاغة ، وكان اليهودُ والنصارى والوثنيون
يعرضون معتقداتهم في هذه المناسبات من دون خوف أو وجل. ولكنَ هذه الحرمة قد
هُتكت أربعَ مرات في تاريخ العرب ، وتقاتلت
القبائلُ العربية فيما بينها في هذه الأشهر الحرم ، ولهذا سُمِّيت تلك الحروب
بحروب « الفجار » ، وفي ما يلي نشير إليها
على نحو الاجمال : |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الفِجارُ الأوَّل :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ووقعت الحربُ فيها
بينَ قبيلتي « كنانة » و « هوازن » وجاء في
سبب نشوب هذه الحرب أن رجلا يدعى «
بدر بن معشر » كان قد أعدَّ لنفسه مكاناً في سوق «
عكاظ » يحضر فيه ، ويذكر للناس مفاخره فوقف ذات مرة شاهراً سيفه يقول : أنا
واللّه أعزُّ العرب فمن زعم أنه أعزّ منّي فليضربها بالسيف. فقام رجلٌ من قبيلة اُخرى فضرب
بالسيف ساقه فقطعها ، فاختصم الناس وتنازعت القبيلتان ، ولكنهما اصطلحتا من دون
أن يُقتل أحدٌ (ولقد كان ممّا أزاله الإسلام ومحاه هذا التفاخر الجاهلي المقيت ،
وستعرف هذا في الابحاث القادمة.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الفِجار الثّاني :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وكان سببه أن فتية من
قريش قعدوا إلى أمرأة من « بني عامر » وهي جميلة ، عليها برقع ، فقالوا لها :
إسْفري لننظر إلى وجهِك ، فلم تفعلْ ، فقام غلامٌ
منهم ، فجمع ذيل ثوبها إلى ما فوقه بشوكة فلما قامت انكشف جسمُها ، فضحكوا ،
فصاحت المرأة قومها ، فأتاها الناسُ ، واشتجروا حتّى كاد ان يكون قتالٌ ، ثم
اصطلحوا ، وانفضُّوا بسلام. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الفِجارُ الثالِث :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وسببه أن رجلا من «
كنانة » كان عليه دَيْنٌ لرجل من « بني عامر » ، وكان الكناني يماطل ، فوقع
شجارٌ بين الرجل ، واستعدى كل واحد منهما قبيلته ، فاجتمع الناسُ ، وتحاوروا
حتّى كاد يكونُ بينهم القتالُ ، ثم اصطلحوا. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الفِجارُ الرابع :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وهي الحرب الّتي ـ قيل
أنه ـ شارك فيها النبيّ الكريم صلىاللهعليهوآلهوسلم. ولقد ادّعى البعض انه صلىاللهعليهوآلهوسلم
كان يومذاك في الخامسة عشرة ، أو الرابعة عشرة من عمره. وقال بعضٌ : انه كان في العشرين من
عمره وحيث أن هذه الحرب قد استمرت أربع سنوات. لهذا يمكن أن تكون جميع هذه
الاقوال صحيحة (التاريخ الكامل : ج 1 ، ص 358 و 359 ، السيرة النبوية : ج 1 ، ص 184
الهامش ، تاريخ الخميس : ج 1 ، ص 259.).
وقيل في سببه : أن « النعمان بن المنذر » ملك الحيرة
كان يبعث إلى سوق « عكاظ » في كل عام بضاعة
في جوار رجل شريف من أشراف العرب ، يُجيرها له حتّى تباع هناك ويشتري بثمنها من
أقمشة « الطائف » الجميلة المزر كَشة ممّا يحتاج إليه ، فأجارها « عروة الرجال الهَوازني » في تلك السنة ، ولكن « البراض
بن قيس الكناني » انزعج لمبادرة « عروة » إلى ذلك ، فشكاه
عند « النعمان بن المنذر » ولم يجد اعتراضه وشكواه ، فحسد على « عروة » حسداً
شديداً ، فتَربَّص به حتّى غدر به في اثناء
الطريق ، وبذلك لطّخ يده بدم هوازني. وكانت قريش يومذاك
حليف كنانه ، وقد اتفق وقوعُ هذا الأمر يوم كانت
العرب مشغولة بالكسب والتجارة في سوق عكاظ ، فأخبر رجل قريشاً بمقتل الهوازنيّ
على يد الكنانيّ ، ولهذا عرفت قريش
وحليفتها بنو كنانة بالأمر قبل هوازن ، وأسرعوا في
الخروج من « عكاظ » وتوجهوا نحو الحرم ( والحرم هو اربعة فراسخ من كل جانب من
مكة ، وكانت العرب تحرّم القتال في هذه المنطقة ) ولكن هوازن علمت بذلك فلاحقت
قريشاً وحليفتها فوراً ، وادركتهم قبل الدخول في الحرم فوقع بينهم قتال ، ولما
جنّ الليل كفّوا عن الحرب فاغتنمت « قريش » وحليفتُها فرصة الليل ، وواصلت
حركتها باتجاه الحرم المكي وبذلك نجت من خطر العدو. ومنذ ذلك اليوم كانت
تخرج قريش وحليفتها من الحرم بين الفينة والاخرى وتقاتل هوازن ، وقد شارك النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في بعض تلك الأيام مع
أعمامه على النحو الّذي مرّ بيانه. وقد استمر الامر على هذه الحال مدة أربع سنوات ، حتّى ان
وُضعَت نهاية لهذه الحرب الطويلة بدفع
قريش لهوازن دية القتلى الذين كانوا يزيدون على قتلى قريش على يد هوازن
(سيرة ابن هشام : ج 1 ، ص 184 ـ 187 ، الأغاني : ج 22 ، ص 56 ـ 75.).
وقد أسلفنا أن تحريم القتال في
الأشهر الحرم كانت له جذورٌ دينية ،
وحيث
أن حرب « الفجار » استمرت أربع سنوات فيمكن أن يكون لمشاركة النبي
صلىاللهعليهوآلهوسلم
فيها وجهاً وجيهاً وهو الدفاع ، خاصة انه لما سئل صلىاللهعليهوآلهوسلم عن مشهده يومئذ فقال : « ما سَرّني
أنّي أَشْهدهُ ، إنَّهُمْ تَعَدَّوْا عَلى قَومي عرضوا ( اي قريش ) عَلَيْهم ( اي على هوازن ) أنْ
يَدْفعُوا إلَيْهِم البرّاض صاحِبَهُمْ (
اي الّذي قتل عروة ) فأَبُوا » (الأغاني : ج 22 ، ص 73.).
ويحتمل أن تكون
مشاركته صلىاللهعليهوآلهوسلم
في غير الأشهر الحرم بناء على استمرار هذه الحروب مدة
اربعة اعوام ، وإنما سميت مع ذلك بالفجار لأن بدايتها وافقت الأشهر الحرم لا
أنّها وقعت بتمامها في الأشهر الحُرم. وبذلك لا يبقى مجال
لأن تُسْتَبْعَد مشاركة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم في بعض أيام تلك الحرب. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
حِلْفُ الْفُصُول :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد كان في ما مضى
ميثاقٌ وحلفٌ بين الجرهميين يدعى بحلف « الفُضُول » ،
وكان هذا الحِلفْ يهدف الى الدفاع عن حقوق المظلومين ، وكان المؤسسون لهذا الحلف
هم جماعة كانت اسماؤهم برمتها مشتقة من لفظة الفضل ، واسماؤهم ـ كما نقلها المؤرخ المعروف « عماد
الدين ابن كثير » ـ هي عبارة عن : « فضل
بن فضالة » ، و « فضل بن الحارث » ، و « فضل بن وداعة »
(البداية والنهاية : ج 1 ، ص 290.)
، وحيث أن الحلف الّذي عقدته جماعة من قريش فيما بينها كان متحداً في الهدف (
وهو الدفاع عن حقوق المظلومين ) مع حلف « الفضول » لذلك سمّي هذا الاتفاق وهذا
الحلف بحلف « الفُضول » أيضاً. فقبل البعثة النبوية الشريفة بعشرين
عاماً دخل رجلٌ من « زبيد في مكة في شهر ذي القعدة ، وعرض بضاعة له للبيع
فاشتراها منه « العاص بن وائل » ، وحبس عنه حقه ، فاستعدى عليه الزبيديّ قريشاً
، وطلب منهم أن ينصروه على العاص ، وقريش آنذاك في انديتهم حول الكعبة ، فنادى
بأعلى صوته :
فأثارت هذه الأبيات العاطفية مشاعر
رجال من قريش ، وهيّجت غيرتهم ، فقام « الزُبير بن عبد المطّلب » وعزم على نصرته
، وأيّده في ذلك آخرون ، فاجتمعوا في دار « عبد اللّه بن جَدْعان » وتحالفوا
وتعاهدوا باللّه ليكونَنّ يداً واحدة مع المظلوم على الظالم حتّى يؤدّى إليه حقه
ما أمكنهم ذلك ثم مَشوا إلى « العاص بن وائل » فانتزعوا منه سلعة الزبيدي
فدفعوها إليه. وقد أنشدَ الزبير بن عبد المطلب في
ذلك شعراً فقال :
وقال أيضاً :
البداية والنهاية : ج 1 ،
ص 290. وقد شارك رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
، في هذا الحلف الّذي ضمن حقوق المظلومين وحياتهم ، وقد نُقِلت عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم
عبارات كثيرة يشيد فيها بذلك الحلف ويعتزُّ فيها بمشاركته فيه وها نحن ننقل
حديثين منها في هذا المقام. قال صلىاللهعليهوآلهوسلم : «
لقد شَهدْتُ في دار عبد اللّه بن جدعان حلفاً لو دُعيتُ به في الإسلام لأجبتُ ».
كما أن ابن هشام نقل
في سيرته أن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
كان يقول في ما بعد عن هذا الحلف : «
ما اُحبُّ أنَّ لي به حُمُرَ النِعَم ». ولقد بقي هذا الحلف يحظى بمكانة
واحترام قويّين في المجتمع العربي والإسلامي حتّى أن الأجيال القادمة كانت ترى
من واجبها الحفاظ عليه والعمل بموجبه ، ويدل على هذا قضيةٌ وقعت في عهد إمارة «
الوليد بن عتبة » الأموي (من قبل عمّه معاوية.)
على المدينة. فقد وقعت بين الإمام الحسين بن علي عليهالسلام
وبين أمير المدينة هذا منازعة في مال متعلّق بالحسين عليهالسلام
، ويبدو أنَ « الوليد » تحامل على الحسين في حقه لسلطانه ، فقال له الإمامُ
السبط الّذي لم يرضخ لحيف قط ، ولم يسكت على ظلم أبداً : « أَحلِفُ باللّه لتَنْصِفَنّي مِنْ
حَقّي ، أوْ لآخُذَنَّ سَيْفيْ ثمَّ لأَقُومَنَّ في مَسجد رَسُول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ثمَّ لأَدْعُونَّ بِحلفِ الفُضُول » (السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 132.).
فاستجاب للحسين فريقٌ من الناس منهم
« عبد اللّه بن الزبير » ، وكرّر هذه العبارة وأضاف قائلا : وأنا أحْلِفُ باللّه
لئن دعا به لآخُذَنَّ سَيْفي ثُمّ لأَقُومَنَّ مَعه حتّى يُنْصَفَ مِنْ حَقّهِ
أوْ نَمُوتَ جَميعْاً. وبلغت كلمة الحسين
السبط عليهالسلام
هذه إلى رجال آخرين ك « المسورة بن مخرمة بن نوفل الزُهري » و « عبد الرحمان بن
عثمان » فقالا مثل ما قال « ابن الزبير » ، فلما بلغ ذلك
« الوليد بن عتبة » أنصف الحسين عليهالسلام
من حقه حتّى رضي (البداية والنهاية : ج 2 ، ص 293.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
9
من فترة الشباب إلى مزاولة
التجارة
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
يحمل القادة الالهيون العظماء وأصحاب
الرسالات السماوية على كواهلهم مسؤوليات كبرى ، ومهام عظمى تلازم ـ في الأغلب ـ
التعرض للمتاعب والمصاعب ، والعذاب ، وتحمل الأذى ، بل وربما التعرض للقتل
والاغتيال ، وكلما كبرت الاهداف ، عظمت المشاكل ، والمتاعب. وعلى هذا الاساس ، فان نجاح القادة
الرساليّين يتوقف على مدى صبرهم واستقامتهم في وجه الاتهامات والمضايقات ، وفي
وجه الأذى والعذاب ، لأن الصبر والتحمل في جميع مراحل الجهاد والعمل هو الشرط
الاساسيّ للوصول إلى المقصود ، وإلى تحقيق الهدف المنشود والغاية المطلوبة. من هنا ليس لقائد حقيقي أن يخشى كثرة
العدو ، وليس له ان ينسحب ، أو يضعف لقلّة الاتباع والمؤيدين وبالتالي ليس له أن
يقلق للنوائب فتخور عزيمته ، أو ترخو إرادته ، مهما عظمت حلق البلاء واشتدت ،
ومهما تزايدت ، أو تواترت. إنّنا نقرأ في تاريخ
الأَنبياء وقصصهم اُموراً يعسر على الإنسان العاديّ هضمها ، ويصعب تصوُّرها. فعن نوح النبيّ عليهالسلام نقرأ أنه دعا
قومه تسعمائة وخمسين عاماً ، ولم تنتج هذه الدعوة الطويلة المضنيةُ سوى قلة من
المؤمنين والمؤيدين الذين لم يتجاوز عددهم الواحد والثمانين ، وهذا يعني أنه لم
يوفق في كل اثنى عشر عاماً الا لهداية شخص واحد. إنَّ إرادة الصبر ، وقوَّة التحمّل ،
والتصبر تظهر لدى الإنسان شيئاً فشيئاً ، فلابدّ أن تتلاحق حوادثٌ صعبةٌ ، ولابد
أن يمرَّ المرء بنوائب مزعجة حتّى تأنس روحُه بالامور الثقيلة ، والقضايا
الصعبة. لقد قضى رسولُ صلىاللهعليهوآلهوسلم
شطراً من حياته قبل البعثة في رعي الغنم في الصحاري والقفار ، ليكون بذلك صبوراً
في تربية الناس الذين سيكلَّف بقيادتهم وهدايتهم ، وليستسهل كل صعب في هذا
المجال. إن ادارة المجتمع البشريّ من أصعب
الأمور الّتي تواجه القادة ، ورجال الاصلاح. والمقدرة على الإدارة هذه لا تسنح
ولا تتهيَّأ لأَحد إلاّ بعد مزاولة الاُمور الصعبة ، وممارسة الأعمال الشاقة ،
وربما يكون قيام النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
برعي الغنم من هذا الباب ، ولهذا جاء في الحديث. « ما بَعثَ اللّهُ نَبيِّاً قَطُّ
حَتّى يَسْتَرْعيْه الغَنم ليُعلّمهُ بذلِكَ رعْيَةَ النّاسِ » (سفينة البحار : مادّة نبأ.).
لقد قضى النبيُّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
شطراً من عمره الشريف في هذا المجال ، وينقل كثيرٌ من ارباب السير والمؤرخين هذه
العبارة عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم
: « ما مِنْ نَبيّ إلاّ وَقَدْ رَعى
الغَنم » قِيْلَ : وَأَنتَ يا رَسُول اللّه؟ فقال : « أنا رَعيْتُها لأَهْل
مَكَّة بِالقَراريْطِ » (السيرة النبوية لابن هشام : ج 1 ، ص 166.).
إنَ شخصية عظيمة يُفتَرضُ فيها أن
تواجه ـ في المستقبل ـ أشخاصاً عنودين كأبي جهل وابي لهب ، وأن تصنع ممن انحطت
أفكارهم حتّى أنهم سجدوا لكل حَجر ومَدر ، أفراداً لا يخضعون لأي شيء سوى ارادة
الحق ومشيئته ، لابدَّ أن تتسلح قبل ذلك بسلاح الصبر ، وتتجهز بأداة التحمل ،
وتتزود مسبقاً بقدرة الاستقامة على طريق الهدف ، وهذا لا يكون إلاّ بتعويد النفس
على هذه الصفات ، وحملها على مشاق الاعمال : |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
سبب آخر لرعي الغنم
:
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ويمكن أن نذكر هنا
سَبباً آخر أيضاً وهو ان رجلا حرّ النفس والعقل كرسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
تجري في شرايينه وعروقه دماء الغيرة والشجاعة كان يشق عليه ان يشاهد كل ذلك
الظلم والحيف الّذي كان يمارسه طغاة مكة ، وعتاة قريش وزعماؤها الظالمون القساة
بحق الضعفاء ، والمحرومين ، وكذا كان يشق عليه ان يرى تظاهرهم بالعصيان والفسوق
في حرم اللّه ، وعند بيته المعظم. إن اعراض سُكّان مكة عن عبادة اللّه
الواحد الحق ، وطوافهم حول تلك الأصنام الخاوية هي ـ بلا ريب ـ أسوأ واقبح ما
يكون في نظر الرجل الفاهم ، والعاقل العالم ، واثقل ما يكون عليه. من هنا رأى النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
أن يقضي ردحاً من الزمن في الصحاري والقفار وعند سفوح الجبال الّتي كانت يومئذ
بعيدة بطبيعة الحال عن تلك المجتمعات الفاسدة وأحوالها وأوضاعها ، ليستريح ( أو يتخلص ) بعض الشيء
من آلامه الروحية الناشئة مِن رؤية تلك الأوضاع المزرية ، والأحوال المشينة. على أَنَّ هذا الأمر لا يعني أن
للرجل المتقي أن يسكت على الفساد والظلم ، ويقرّ عليهما. ويفرّق بين حياته وحياة الآخرين
ويعتزل عنهم ويتخذ موقف اللامبالاة تجاه الأوضاع المنحرفة ، والاحوال الشاذة ،
بل ان النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
لما كان مأموراً من جانب اللّه سبحانه بالسكوت والانتظار ، لانه لم تكن ظروف «
البعثة » والهداية قد توفرت وتهيأت بعد لذلك اتخذ صلىاللهعليهوآلهوسلم
مثل هذا الموقف. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
سببٌ ثالث :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ولقد كان هذا العمل ( أي الاشتغال
برعي الاغنام في البراري والقفار وعند السهول وسفوح الجبال ) فرصة جيدة لأن
يتمكن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
من النظر في خلق السماوات والتطلع في النجوم والكواكب وأحوالها وأوضاعها ،
وبالتالي الامعان في الآيات الأنفسية والآفاقية التي هي جميعاً من آيات وجود
اللّه تعالى ، ومن مظاهر قدرته وحكمته وعلمه وإرادته. ان قلوب الأنبياء والمرسلين مع أنها
منوَّرة بمصابيح المعرفة المشرقة ومضاءة بأنوار الايمان والتوحيد منذ بدء فطرتها
، وخلقتها ، ولكنهم مع ذلك لا يرون انفسهم في غنىً عن النظر في عالم الخلق ،
والتفكر في الآيات الالهية ، إذ من خلال هذا الطريق يصلون إلى أعلى مراتب
الايمان ، ويبلغون اسمى درجات اليقين ، وبالتالي يتمكنون من الوقوف على ملكوت
السماوات والأرضين. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إقتْراحُ أبي طالب
:
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد دفع وضع ( محمَّد ) المعيشي
الصعب « أبا طالب » سيد قريش وزعيمها الّذي كان معروفاً بالسخاء وموصوفاً
بالشهامة ، وعلو الطبع ، وإباء النفس إلى ان يفكر في عمل لابن أخيه ، كيما يخفف
عنه وطأة ذلك الوضع. ومن هنا اقترح على
ابنه أخيه « محمَّد » العمل والتجارة بأموال « خديجة بنت خُويلد » الّتي كانت
امرأة تاجرة ، ذات شرف عظيم ، ومال كثير ، تستأجر الرجال في مالها أوتضاربهم
اياه بشيء تجعله لهم منه. فقد قال أبو طالب للنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
: يا ابن أخي هذه خديجة بنت خويلد قد انتفع بمالها اكثر الناس وهي تبحث عن رجل
أمين ، فلو جئتها فوضعتَ نفسَك عليها لأسرعتْ اليك ، وفضَّلتك على غيرك ، لما
يبلغها عنك من طهارتك. ولكن إباء رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وعلوّ طبعه ، منعاه من الإقدام فبلغ « خديجة » بنت خويلد ، ما دار
بين النبيّ وعمه « أبي طالب » ، فبعثت إليه فوراً تقول له : إنّي دعاني إلى
البعثة اليك ما بلغني من صدق حديثك وعظم أمانتك ، وكرم أخلاقك ، وأنا اعطيك ضعفَ
ما اُعطي رجلا من قومك وابعثُ معكَ غلامين يأتمران بأمرك في السفر. فاخبر رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
عمّه بذلك فقال له ابو طالب : « إنّ هذا رِزقٌ ساقهُ اللّهُ إليك » (بحار الأنوار : ج 16 ، ص 22 ، السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 132 و 133 ،
الكامل في التاريخ : ج 2 ، ص 24.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
هل عَمِلَ النبيُّ
أجيراً لخديجة؟
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وهنا لابدّ من التذكير
بنقطة في هذا المجال وهي : هل عمل النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
أجيراً في أموال خديجة ، أم أنه قد عمل في تجارتها بصورة اُخرى كالمضاربة ، وذلك
بأن تعاقد النبي مع خديجة على أن يتاجر بأموالها على أن يشاركها في ارباح تلك
التجارة؟ انّ مكانة البيت الهاشميّ ، وإباء
النبيّ الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم
ومناعة طبعه ، كل تلك الاُمور والخصال توجب أن يكون عملُ النبيّ في أموال خديجة
قد تمَّ بالصُورة الثانية ( أي العمل في تجارتها على نحو المضاربة لا الإجارة ) ،
وتؤيّد هذا المطلب امور هي : أولا
: انه لا يوجد في اقتراح أبي طالب أيّة
اشارة ولا أي كلام عن الإجارة ، بل قد تحاور أبو طالب مع إخوته ( أعمام النبيّ )
في هذه المسألة من قبل وقال : « امضوا بنا إلى دار خديجة بنت خويلد حتّى نسألها
ان تعطي محمَّداً ما لا يتجربه » (بحار الأنوار : ج 16 ، ص 22.).
ثانياً
: ان المؤرخ الأقدم المعروف باليعقوبي
كتب في تاريخه : ان النبي ما كان أجيراً لأحد قط (تاريخ اليعقوبي : ج 2 ، ص 21.).
ثالثاً
:
ان الجنابذي صرّح في كتابه « معالم العترة » بأن « خديجة » كانت تضاربُ الرجال
في مالها ، بشيء تجعله لهم منه ( اي من ذلك المال أومن ربحه ) (بحار الأنوار : ج 16 ، ص 9 نقلا عن معالم العترة.). * * * تهيّأت قافلة قريش التجارية للسفر
إلى الشام ، وفيها أموال « خديجة » أيضاً ، في هذه الاثناء جعلت « خديجة »
بعيراً قوياً وشيئاً من البضاعة الثمينة تحت تصرّف وكيلها ( أي النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
) وامرت غلاميها ( ميسرة وناصح ) اللذين قررت ان يرافقاه صلىاللهعليهوآلهوسلم
بان يمتثلا أوامراه ، ويطيعاه ، ويتعاملا معه بأدب طوال تلك الرحلة ، ولا
يخالفاه في شيء (قالت خديجة لهما : إعلما أنني قد أرسلتُ اليكما أميناً على أموالي
وأنّه أمير قريش وسيّدها ، فلا يدٌ على يده ، فإن باع لا يُمنع وإن ترك لا يؤمر
وليَكُنْ كلامُكما له بلطف وأدب ولا يعلو كلامكما على كلامه. ( بحار الأنوار : ج
16 ، ص 29 ).).
وأخيراً وصلت القافلة إلى مقصدها
واستفاد الجميع في هذه الرحلة التجارية أرباحاً ، إلا أن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
ربح اكثر من الجميع ، كما أنه ابتاع أشياء من الشام لبيعها في سوق « تهامة ». ثم عادت تلك القافلة التجارية إلى «
مكة » بعد ذلك المكسب الكبير ، والحصول على الربح الوفير. ولقد تسنيّ لفتى قريش « محمَّد » أن
يمرّ ـ للمرة الثانية في هذه السفرة ـ على ديار عاد وثمود. وقد حمله الصمتُ الكبير الّذي كان
يخيّم على ديار واطلال تلك الجماعة العاصية المتمردة في نقلة روحانية إلى
العوالم الاُخرى اكثر فاكثر ، هذا مضافاً إلى أن هذه الرحلة جدّدت خواطره
وذكرياته في السفرة الاُولى ، فقد تذكّر يوم طوى مع عمه « ابي طالب » هذه
الصحاري نفسها وهذه القفار ذاتها ، وما كان يحظى فيها من عمه من الحدب والعناية.
وعند ما اقتربت قافلة
قريش إلى « مكة » ، وصارت عند مشارفها ، التفت « ميسرة » غلامُ خديجة ، إلى
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
وقال : « يا محمَّد لقد ربحنا في هذه السفرة ببركتك ما
لم نربح في اربعين سنة ، فاستقبل بخديجة وابشرها بربحنا » فأخذ النبي باقتراح
ميسرة ، وسبق القافلة العائدة في الدخول إلى مكة ، وتوجه نحو بيت « خديجة »
بينما كانت خديجة جالسة في غرفتها ، فلما رأت النبي مقبلا عليها ، نزلت من
منظرتها وركضت نحوه واستقبلته ، وأدخلته في غرفتها ، فخبّرها رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
بما ربحوا ، ببيان جميل ، وكلام بليغ ، فسرت « خديجة » بذلك سروراً عظيماً ، ثم
قدم « ميسرة » في الأثر ، ودخل عليها ، وأخبرها بكل ما رآه وشاهده من النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
في تلك السفرة من الكرامة والخير ، والخُلق العظيم ، والخصال الكريمة ، ومن
الاُمور الّتي كانت برمتها تدل على عظمة شخصيته صلىاللهعليهوآلهوسلم
، وسمو خصاله (الخرايج : ص 186 ، بحار الأنوار : ج 16 ، ص 5.)
، ومن جملة ما حدثها به ميسرة هو أنه لما وقع بين النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
وبين رجل تلاح وجدال في بيع قال له ذلك الرجل : إحلف باللات والعُزى ، فقال رسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
: ما حلفتُ بهما قط ، وإني لأمرُّ فاعرضُ عنهما (الطبقات الكبرى : ج 1 ، ص 130 وفي بحار الأنوار : ج 16 ، ص 18 : انه صلىاللهعليهوآلهوسلم
قال : إليك عني ثكلتك اُمّك فما تكلّمت العربُ بكلمة اثقل عليَّ من هذه الكلمة.). وحدثها أيضاً بأنه لما مرّ ببصرى
نزلا في ظل شجرة ليستريحها فقال راهبٌ كان يعيش هناك لما رأى النبيّ يستريح في
ظل تلك الشجرة : « ما نزل تحت هذه الشجرة قط إلا نبيّ » سأل عن اسمه ، فأخبره
ميسرة باسمه فقال : « هو نبيّ وهو آخر الأنبياء ، إنه هو هو ومُنزّلِ الانجيل ،
وقد قرأت عنه بشائر كثيرة » (بحار الأنوار : ج 16 ، ص 18 ، الطبقات الكبرى : ج 1 ، ص 130 ، الكامل
لابن الأثير : ج 2 ، ص 24 و 25.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
خَديجة
زَوجةُ الرَّسول الاُولى :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
حتى قبل ذلك اليوم لم تكن حالة
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
الاقتصادية ووضعه المالي يُحسدُ عليه ، فقد كان بحاجة إلى مساعدة عمّه « أبي
طالب » المالية ، ولم يكن شغله على النحو الّذي يكفي لضمان نفقاته ، من جانب ،
وتمكينه من اختيار زوجة وشريكة حياة وتكوين عائلة ، من جانب آخر. ولكن هذه السفرة إلى الشام وبخاصة
على نحو الوكالة والمضاربة في أموال امرأة جليلة ، معروفة في قريش ( أعني خديجة
) ساعدت وإلى حدّ كبير على تثبيت وضعه الاقتصادي وتقوية بنيته المالية. ولقد اعجبت « خديجة » بعظمة
فتى قريش وسموّ أخلاقه ، ومقدرته التجارية حتّى أنها أرادت أن تعطيه زيادة على
ما تعاقدا عليه ، تقديراً له ، واعجاباً به ، ولكنه اكتفى بأخذ ما تقرر في
البداية ثم توجه إلى بيت عمه « أبي طالب » وقدّم كل ما أخذه من « خديجة » إلى
عمه « أبي طالب » ليوسّع به على أهله. ففرح « أبو طالب » بما عاين من ابن
اخيه ، وبقية أبيه « عبد المطلب » ، وأخيه « عبد اللّه » وأغرورقت عيناه بالدموع
، وسرّ بما حقق من نجاح وما حصل عليه من ربح من تلك التجارة سروراً كبيراً ،
واستعدّ أن يعطيه بعيرين يسافر عليهما ويتاجر ، وراحلتين يُصلح بهما شأنه ،
ليتسنى له بأن يحصل على ثروة ومال يعطيه لعمه ليختار له زوجة. في مثل هذه الظروف بالذات عزم رسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم عزماً قاطعاً على أن يتخذ لنفسه
شريكة حياة ويكوّن اُسرة ، ولكن كيف وقع الاختيار على « خديجة » الّتي سبق لها
أن رفضت كل طلبات الزواج الّتي تقدم بها كبار الاثرياء والشخصيات القرشية مثل «
عقبة بن أبي معيط » ، و « أبو جهل » و « أبو سفيان » للزواج بها؟؟! ، وماذا كانت
العلل الّتي جمعت هذين الشخصين غير المتشابهين ، من حيث مستوى الحياة ، والثراء؟
وكيف ظهرت تلك الرابطة القوية ، وتلك العلاقة المعنويّة العميقة ، والاُلفة
والمحبة بينهما إلى درجة أنَّ « خديجة » سلام اللّه عليها وهبت كل ثروتها للنبيّ
صلىاللهعليهوآلهوسلم لينفقها في نشر الإسلام ، وإعلاء
كلمة الحق ، وإرساء قواعد التوحيد ، وبث الدين الجديد ، واصبحت تلك الدار
المفخمة الّتي كانت تزينها الكراسي المرصّعة ، والستر المطرّرزة ، المصنوعة من
أغلى الأقمشة الهندية ، والإيرانية ، ملجأ للمسلمين ، وملتقى لانصار الرسالة؟!! لابدَّ من البحث عن جذور هذه الحوادث
في تاريخ حياة « خديجة » نفسها ، فان من المسلَّم والبديهيّ أن هذا النوع من الفداء
، والتفاني والإيثار لم يكن ثابتاً ليتحقق ما لم يكن لها جذور معنوية وطاهرة. إن صفحات التاريخ
لتشهد بأنّ هذا الزواج كان ناشئاً من إيمان « خديجة » بتقوى عزيز قريش وفتاها
الامين « محمَّد » وطهره ، وحبها الشديد لعفته وكرم أخلاقه ، ولهذا
قال النبيّ الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم
في حقها : « أفضل نساء الجنة أربع : خديجة ...
» (خصال الصدوق : ج 1 ، ص 96 وغيره.).
إنها أول إمرأة آمنَتْ
برسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم.
فقد قال علي أمير
المؤمنين: في خطبته الّتي يشير فيها إلى غربة الإسلام في
مبدأ البعثة النبوية الشريفة : « لَمْ يَجمَعْ بَيْتٌ واحِدٌ
يَوْمَئذ في الإسْلام غَيرَ رَسُول اللّه وَخَديجَة وأَنا ثالِثُهما » (الكامل : ج 2 ، ص 37 ، شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد المعتزلي
الشافعي : ج 13 ، ص 197 ـ 201.).
ويكتب « إبن الأثير »
قائلا : إنّ عفيف الكندي كان إمرأً تاجراً قدم مكة أيام
الحج فرأى رجلا قام تجاه الكعبة يصلّي ثم خرجت امراةٌ تصلّي معه ، ثم خرج غلامٌ
فقام يصلي معه ، فمضى يسأل العباسَ عمَّ النبيّ عن هؤلاء ، وعن هذا الدين ، فقال
العباس : هذا محمَّد بن عبد اللّه ابن أخي زعم
أن اللّه ارسله ، وهذه امرأته خديجة آمنت به ، وهذا الغلام علي بن أبي طالب آمن
به ، وأيمُ اللّه ما أعلم على ظهر الأَرض أحداً على هذا الدين إلاّ هؤلاء
الثلاثة (شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج 13 ، ص 225 و 226.).
وينبغي هنا أن نعطي
لمحة عن مكانة خديجة في الإسلام تكميلا لهذه الدراسة. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
خديجة
في أحاديث الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم
:
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد اكتسَبَت « خديجةٌ » بفضل
إيمانها العميق بالرسالة المحمدية ، وتفانيها في سبيل الإسلام وبسبب حرصها
العجيب على حياة صاحب الرسالة وسلامته ، وعملها المخلص على انجاح مهمته ،
ومشاركتها الفعّالة ، في دفع عجلة الدعوة
إلى الامام ، ومشاطرتها
للنبي
في اكثر ما تحمله من محن واذى بصبر واستقامة وحب ورغبة. لقد اكتسبت خديجة بفضل كل هذا وغيره مكانة سامية في الإسلام
، حتّى ان النبيّ ذكرها في أحاديث كثيرة وأشاد بفضلها ، ومكانتها وشرفها على غيرها من النساء المسلمات المؤمنات
، وذلك ولا شك ينطوي على اكثر من هدف. فمن جملة الأهداف التي ربما توخاها
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم من الاشادة بخديجة عليهاالسلام الفات نظر المرأة المسلمة إلى القدوة
الّتي ينبغي أن تقتدي بها في حياتها وسلوكها في جميع المجالات والأبعاد ،
والظروف ، والحالات. هذا مضافاً إلى ما يمكن أن تقدمه
المرأة وهي نصف المجتمع ( إن لم تكن اكثره
أحياناً ) من دعم جدّي للرسالة ، مادياً كان أو معنوياً. وفيما يلي نأتي ببعض
الأحاديث الشريفة الّتي تعكس مكانة خديجة ، ومقامها ، ومدى إسهامها في نصرة
الإسلام ودعم دعوته ، وإرساء قواعده. 1 ـ عن أبي زرعة عن
ابي هريرة يقول قال رسول اللّه صلى الله عليه [وآله] : أتاني جبرئيل عليهالسلام فقال يا
رسول اللّه هذه خديجة قد أتتك ومعها آنية فيها ادام أو طعام أو شراب ، فاذا هي
أتتك فاقرأ عليهاالسلام
من ربّها ومنّي ، وبَشِّرها ببيت في الجنة من قصب لا صخَبَ فيه ولا نصَبِ » (صحيح مسلم : ج 7 ، ص 133 ، مستدرك الحاكم : ج 3 ، ص 184 و 185 بطرق
متعددة صحيحة على شرط الشيخين.).
2 ـ عن عائشة قالت :
ما غِرتُ على امرأة ما غِرتُ على خديجة ، ولقد هَلَكتْ قبل أن يتزوجني بثلاث
سنين ، لما كنتُ اسمعه يذكرها ، ولقد أمره ربُه عزّ وجلّ ان يبشرها ببيت من قصب
في الجنة ، وإن كان ليذبح الشاة ثم يهديها إلى خلائلها ( اي خليلاتها وصديقاتها ) (صحيح مسلم : ج 7 ، ص 134 ، ومثلها في صحيح البخاري : ج 5 ، ص 38 و
39.).
3 ـ وعن عائشة أيضاً قالت
ما غِرت على نساء النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
إلا على خديجة ، واني لم أدركها ، ( قالت ) : وكان رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
إذا ذبح الشاة فيقول : أرسلوا بها إلى اصدقاء خديجة قالت : « أي عائشة »
فاغضبتُه يوماً فقلت : خديجة!! فقال رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم : « اني قد رزقت حبّها » (صحيح مسلم : ج 7 ، ص 134 ، ومثلها في صحيح البخاري : ج 5 ، ص 38 و
39.).
4 ـ ومن هذا القبيل ما كان يقوم به
رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم مع صاحبات خديجة من الاحترام لهن
والاحتفاء بهنّ : فقد وقف صلىاللهعليهوآلهوسلم
على عجوز فجعل يسألها ، ويتحفاها ، وقال : « ان حسن العهد من الايمان ، انها
كانت تأتينا ايام خديجة » (شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد : ج 18 ، ص 108.).
5 ـ وروي عن انس
قال كان النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
إذا
اُتي بهدية قال : « إذهبوا بها إلى بيت فلانة فانها كانت صديقة لخديجة إنها كانت
تحب خديجة » (سفينة البحار : ج 1 ، ص 380 ( خدج ).).
6 ـ روى مجاهد عن
الشعبي عن مسروق عن عائشة قالت : كان رسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
لا يكاد يخرج من البيت حتّى يذكر خديجة فيحسن الثناء عليها ، فذكرها يوماً من
الايام فادركتني الغيرة فقلت : هل كانت إلا عجوزاً فقد أبدلك اللّه خيراً منها ،
فغضب حتّى أهتز مقدَمُ شعره من الغضب ، ثم
قال :
« لا واللّه ما أبْدلَني اللّه خيراً منها ، آمنَتْ بي إذْ كَفَر الناسُ ،
وصدَّقتني وكذَّبني الناسُ وواستني في مالها إذ حرمني الناسُ ورزقني اللّه منها
أولاداً إذ حرمني أولاد النساء » قالت عائشة فقلت في نفسي : لا أذكرها بسيئة
ابداً (اسد الغابة : ج 5 ، ص 438 ، ورواها مسلم أيضاً : ج 7 ، ص 134 ، وكذا
البخاري : ج 5 ، ص 39 وقد حذفا آخرها من : فغضب حتّى ... إلى آخر الرواية.).
7 ـ عن يعلى بن
المغيرة عن ابن ابي رواد قال : دخل رسولُ اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم على خديجة في مرضها الّذي ماتت فيه ،
فقال لها : « يا خديجة أتكرهين ما أرى منك ، وقد
يجعل اللّه في الكُره خيراً كثيراً ، أما علمت أن اللّه تعالى زوَّجني معك في
الجنة مريم بنتَ عمران ، وكلثمَ اُخت موسى وآسية امرأة فرعون ... » (السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 347 ، وأُسد الغابة : ج 5 ، ص 439.).
8 ـ عن عكرمة عن ابن عباس قال خطَّ
رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم أربع خطط في الأَرض وقال : أتدرون ما
هذا؟ قلنا : اللّه ورسولُه أعلم ، فقال رسولُ اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم : « أفضل نساء الجنة أربع : خديجة
بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمَّد ، ومريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون »
(الخصال للصدوق : ج 1 ، ص 96 ، كما في بحار الأنوار : ج 16 ، ص 2.).
9 ـ عن أنس جاء جبرئيل
إلى النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وعنده خديجة فقال : إن اللّه يقرئ
خديجة السلام فقالت : إن اللّه هو السلام ، وعليك السلام ، ورحمة اللّه وبركاته (المستدرك على الصحيحين : ج 3 ، ص 1816.).
10 ـ عن أبي الحسن
الأول ( الكاظم ) عليهالسلام قال قال رسول اللّه
صلّى الله عليه وآله : «
إنّ اللّه اختار من النساء اربعاً : مريم واسية وخديجة وفاطمة » (الخصال : ج 1 ، ص 96 ، كما في البحار : ج 16 ، ص 2.).
11 ـ عن ابي اليقظان
عمران بن عبد اللّه عن ربيعة السعدي قال أتيت حذيفة
بن اليمان وهو في مسجد رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم فسمعتُه
يقول : قال رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم يقول : « خديجةُ بنتُ خويلد سابقةُ نساء
العالمين إلى الايمان باللّه وبمحمد صلىاللهعليهوآلهوسلم » (المستدرك على الصحيحين : ج 3 ، ص 184 ـ 186 ووردت روايات بمضمون ذيل
الحديث في صحيح مسلم : ج 7 ، ص 133.).
12 ـ عن عروة قال قالت
عائشة لفاطمة رضي اللّه عنها بنت رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
: ألا ابشرك أني سمعت رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
يقول
: « سيدات نساء أهل الجنة أربع : مريم
بنت عمران ، وفاطمة بنت رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
، وخديجة بنت خويلد واسية » (المستدرك على الصحيحين : ج 3 ، ص 184 ـ 186 ووردت روايات بمضمون ذيل
الحديث في صحيح مسلم : ج 7 ، ص 133.).
13 ـ عن أبي عبد اللّه
( الصادق ) عليهالسلام قال :
دخل رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم منزله ، فاذا عائشة مقبلة على فاطمة
تصايحها وهي تقول : واللّه يا بنت خديجة ، ما ترين إلا أن لاُمِكِ علينا فضلا ،
وأىُ فضل كانَ لها علينا؟! ما هي إلاّ كبعضنا ، فسمع صلىاللهعليهوآلهوسلم
مقالتها لفاطمة ، فلما رأت فاطمة رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم بكت ، فقال : ما يبكيك يا بنت
محمَّد؟! قالت : ذكرتْ اُمّي فتنقّصتْها فبكيتُ ، فغضب رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم.
ثم قال : « مَهْ يا حميراء ، فان اللّه تبارك
وتعالى بارك في الوَدُود الولود ، وأَن خديجة رحمها اللّه ولدَتْ مِنّي طاهِراً
، وهو عَبْدُ الله وهو المطهّر وَوَلدَتْ منّي القاسم ، وفاطمة ، ورقية ، واُم
كلثوم ، وزينب ، وأنت ممن أعقم اللّهُ رحمه فلم تلدي شيئاً » (الخصال : ج 2 ، ص 37 و 38 ، كما في بحار الأنوار : ج 16 ، ص 3.).
أجل هذه هي « خديجة بنت خويلد » شرفٌ
وعقلٌ ، وحبٌ عميق لرسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ووفاء
وإخلاص ، وتضحية بالغالي والرخيص في سبيل الإسلام الحنيف. هذه هي « خديجة » أول من آمنت باللّه
ورسوله ، وصدّقت محمَّداً فيما جاء به عن ربه ، من النساء ، وآزره ، فكان صلىاللهعليهوآلهوسلم لا يسمع من المشركين شيئاً يكرهه من
ردّ عليه ، وتكذيب له الاّ فرّجَ اللّه عنه بخديجة الّتي كانت تخفف عنه (اعلام النساء لعمر رضا كحالة : ج 1 ، ص 328.)
، وتهوّن عليه ما يلقى من قومه ، بما تمنحه من لطفها ، وعطفها ، وعنايتها به صلىاللهعليهوآلهوسلم ، في غاية الاخلاص والودّ والتفاني. ولهذا كان رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم يحبُّها حباً شديداً ويجلّها ويقدرها
حق قدرها (اعلام النساء : ج 1 ، ص 330.)
،
ولم يفتأ يذكرها ، ولم يتزوج عليها غيرَها حتّى رحلت وفاء لها ، واحتراماً
لشخصها ومشاعرها ، وكان يغضب إذا ذكرها احدٌ بسوء ، كيف وهي الّتي آمنت به إذ
كفر به الناسُ ، وصدّقته إذ كذّبه الناسُ ، وواسته في مالها إذ حرمهُ الناسُ. ولهذا أيضاً كانت وفاتها مصيبة عظيمة
أحزنت رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم ودفعته إلى أن يسمّي ذلك العام الّذي
توفي فيه ناصراه وحامياه ، ورفيقا آلامه ( زوجته هذه : خديجة بنت خويلد ، وعمه
المؤمن الصامد الصابر ابو طالب عليهماالسلام ) بعام
الحداد ، أوعام الحزن (تاريخ اليعقوبي : ج 2 ، ص 35 ، وقد روي عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم
أنه قال بهذه المناسبة : « اجمتعت على هذه الاُمة مصيبتان لا أدري بأيهما أنا
أشدّ جزعاً » المصدر نفسه ، وراجع تاريخ الخميس : ج 1 ، ص 301 نقلا عن سيرة
مغلطاي.)
وان
يلزم بيته ويقلّ الخروج (السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 347 ، المواهب اللدنية حسب نقل تاريخ
الخميس : ج 1 ، ص 302 وفيه إضافة : ونالت قريش منه ما لم تكن تنال.)
، وأن ينزل صلىاللهعليهوآلهوسلم
عند دفنها في حفرتها ، ويدخلها القبر بيده ، في الحجون (السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 346.).
عن ابن عباس في حديث طويل في زواج
فاطمة الزهراء عليهاالسلام بعلي عليهالسلام
اجتمعت نساء رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وكان
يومئذ في بيت عائشة ليسألنّه أن يُدخلَ الزهراء على ( عليّ ) عليهالسلام فاحدقْن به وقلت : فَديناك بآبائنا
وأُمهاتنا يا رسول اللّه قد اجتمعنا لأمر لو أنّ « خديجة » في الأحياء لتقرّتْ
بذلك عينُها. قالت امُ سلمة : فلما ذكرنا « خديجة
» بكى رسولُ اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ثم قال : « خديجة واين مثل خديجة ، صدَّقْتني حين كذَّبني الناس ووازرتني على
دين اللّه وأعانتني عليه بمالها ، إنّ اللّه
عزّ وجلّ أمرَني أنْ ابشر خديجة ببيت في الجنة من قصب (
الزمرّد ) لا صخَبَ فيهِ ولا نصَب » (بحار الأنوار : ج 43 ، ص 131 نقلا عن كشف اليقين.).
لقد كانت خديجة
من خيرة نساء قريش شرفاً ، واكثرهنّ مالا ، واحسنهن جمالا وأقواهنُّ عقلا وفهماً
وكانت تدعى في الجاهلية بالطاهرة لشدَة عفافها وصيانتها (السيرة الحلبيّة : ج 1 ، ص 137.)
ويقال لها : سيدة قريش (السيرة الحلبيّة : ج 1 ، ص 137.)
، وكان لها من المكانة والمنزلة بحيث كان كل قومها وسراة أبناء جلدتها حريصين
على الاقتران بها (السيرة الحلبيّة : ج 1 ، ص 137.)
،
وقد خطبها ـ كما يحدثنا التاريخ ـ عظماء قريش وبذلوا لها الأموال ، وممن خطبها « عقبة بن ابي معيط » و « الصلت بن ابي يهاب » و « ابو جهل » و
« ابوسفيان » فرفضتهم جميعاً ، وأختارت رسول
اللّه ـ وهي في سن الأربعين وهو صلىاللهعليهوآلهوسلم
في الخامسة والعشرين ـ وهي تمتلك تلكم الثروة الطائلة ، وهو
صلىاللهعليهوآلهوسلم
لا يمتلك من حطام الدنيا إلاّ الشيء اليسير اليسير ، رغبة في الاقتران به ولما
عرفت فيه من كرم الاخلاق ، وشرف النفس ، والسجايا الكريمة والصفات العالية ، وهي
ما كانت تبحث عنه في حياتها وتتعشقه وإذا بتلك المرأة الغنية الثرية العائشة في
أفضل عيش تصبح في بيت زوجها الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم تلك الزوجة
المطيعة الخاضعة ، الوفية المخلصة ، وتسارع إلى قبول دعوته ، واعتناق دينه بوعي
وبصيرة وارادة منها واختيار ، وهي تعلم ما ينطوي عليه ذلك من مخاطر ومتاعب ،
وتجعل كل ثروتها في خدمة العقيدة والمبدأ ، وتشاطر زوجها آلامه ، ومتاعبه ،
وترضى بأن تذوق مرارة الحصار في شعب أبي طالب ثلاث سنوات وفي سنّ الرابعة أو
الخامسة والستين. وهي مع ذلك تواجه كل ذلك بصبر وثبات (شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد : ج 14 ، ص 59 قال : خديجة بنت
خويلد وهي عند رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم محاصَرة في الشِعب.)
، ودون أن يذكر عنها تبرُّم أو توجع. هذا مضافاً إلى أنها كانت تعامل رسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم بأدب تامّ يليق بمقام الرسالة
والنبوة ، على العكس من غيرها من بعض نساء النبيّ اللائي كنّ ربما يثرن سخطه
وغضبه ، ويؤذينه في نفسه وأهله. واليك فيما يأتي بعض
ما قاله عنها كبار الشخصيات ، والمؤرخين ممّا يكشف عن عظيم مكانتها عند المسلمين
أيضاً ، قال اميرالمؤمنين علي بن ابي طالب عليهالسلام : « كنتُ أولَ من أسلَم ، فمكَثْنا
بِذلِكَ ثلاث حجَج وما عَلى الأَرض خَلْقٌ يُصلّي ويشهَد لرسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم بما أتاهُ غيْري ، وغير ابنة خويلد
رحمها اللّه وقد فعل » (بحار الأنوار : ج 16 ، ص 2 ومثله في روايات متعددة في شرح نهج
البلاغة لابن أبي الحديد : ج 4 ، ص 119 و 120.).
وقال محمَّد بن اسحاق
:
كانت خديجة أولَ من آمن باللّه ورسوله وصدّقت بما جاء من اللّه ، ووازرته على
أمره فخفف اللّه بذلك عن رسول اللّه ، وكان لا يسمع شيئاً يكرهه من ردّ عليه
وتكذيب له فيحزنه ذلك إلا فرج اللّه ذلك عن رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
بها إذا رجع إليها تثبِّتُه ، وتخفّف عنه ، وتهوّن عليه امر الناس حتّى ماتت
رحمها اللّه (بحار الانوار : ج 16 ، ص 10 ـ 12.).
وعنه أيضاً :
أن « خديجة بنت خويلد » و « ابا طالب » ماتا
في عام واحد ، فتتابع على رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
هلاك خديجة وابي طالب وكانت خديجة وزيرة صدق على الإسلام ، وكان رسول اللّه يسكن
اليها (نفس المصدر.).
وقال أبو امامة ابن النقاش : ان سبق
خديجة وتأثيرها في اول الإسلام ومؤازرتها ونصرتها وقيامها للّه بمالها ونفسها لم
يشركها فيهُ احدٌ لا عائشة ولا غيرها من اُمهات المؤمنين (تاريخ الخمس في أحوال أنفس نفيس : ج 1 ، ص 266.).
وقد جاء في المنتقى :
ان رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
عند ما اُمِرَ بأن يصدع بالرسالة صعد على الصفا ، وأخبر الناس بما أمره اللّه به
فرماه أبو جهل قبحه اللّه بحجر فشجّ بين عينيه ، وتبعه المشركون بالحجارة فهرب
حتّى أتى الجبل ، فسمع عليّ وخديجةٌ بذلك فراحا يلتمسانه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وهو جائع عطشان مرهق ، ومضت خديجة تبحث عنه في كل مكان في الوادي وهي تناديه
بحرقة وألم ، وتبكي وتنحب ، فنظر جبرئيل إلى خديجة تجول في الوادي فقال : يا
رسول اللّه الا ترى إلى خديجة فقد أبكت لبكائها ملائكة السماء؟ اُدعُها اليك فاقرأها
مني السلام وقل لها : إن اللّه يقرئك السلامَ ، ويبشّرها أن لها في الجنةِ بيتاً
من قصب لا نصَبَ فيه ولا صخَب فدعاها النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم والدماء تسيلُ من وجههِ على الارض
وهو يمسحها ويردّها ، وبقي رسول اللّه
صلىاللهعليهوآلهوسلم
، وعلي وخديجة هناك حتّى جَنَّ الليلُ فانْصرفوا جميعاً ودخلت به خديجةُ منزلها
، فأقعدَتْه على الموضع الّذي فيه الصخرة واظلّته بصخرة من فوق رأسه ، وقامت في
وجهِه تستره ببُردها وأقبلَ المشركون يرمونه بالحجارة ، فاذا جاءتْ من فوق رأسه
صخرة وقته الصخرة ، وإذا رمَوْهُ مِن تحته وقتْهُ الجدرانُ الحُيّط ، وإذا رُميَ
من بين يديه وقتْهُ خديجة رضي اللّه عنها بنفسها ، وجعَلتْ تنادي يا معشر قريش
ترمى الحُرّةُ في منزلها؟ فلَمّا سمِعوا ذلك
انصرفُوا عنه ، وأصبَحَ رسولُ اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وغدا إلى
المسجد يُصلّي (بحار الانوار : ج 18 ، ص 243.).
ولقد بَلَغ من خضوعها لرسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وحبّها له أنها بعد أن تمَ عقدُ زواجها برسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
قالت له صلىاللهعليهوآلهوسلم : « إلى بيتك ، فبيتي بيتك ، وأنا
جاريتك » (بحار الأنوار : ج 16 ، ص 4 نقلا عن الخرائج والجرايح : ص 186 و 187.).
وجاء في السيرة
الدحلانية بهامش السيرة الحلبية : ولسبقها إلى
الإسلام وحسن المعروف جزاها اللّه سبحانه فبعث جبرئيل إلى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وهو بغار حراء وقال له : اقرأ عليهاالسلام
من ربها ومني ، وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب ؛ فقالت : هو
السلام ومنه السلام وعلى جبرئيل السلام ، وعليك يا رسول اللّه السلام ورحمة
اللّه وبركاته ، وهذا من وفور فقهها رضي اللّه عنها حيث جعلت مكان ردّ السلام
على اللّه الثناء عليه ثم غايرت بين ما يليق به وما يليق بغيره ، قال ابن هشام
والقصب هنا الؤلؤ المجوف ، وابدى السهيلي لنفي النصب لطيفة هي انه صلىاللهعليهوآلهوسلم
لما دعاها إلى الايمان أجابت طوعاً ولم تحوجه لرفع صوت ولا منازعة ولا نصب بل
ازالت عنه كل تعب ، وآنسته من كل وحشة ، وهوّنت عليه كل عسير فناسب ان تكون منزلتها
الّتي بشرها بها ربُها بالصفة المقابلة لفعلها وصورة حالها رضي اللّه عنها واقراء
السلام من ربها خصوصية لم تكن لسواها ، وتميزت أيضاً بأنها لم تسؤه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ولم تغاضبه قط ، وقد جازاها فلم يتزوج عليها مدة حياتها وبلغت منه ما لم تبلغه
امرأة قط من زوجاته (السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 169 الهامش.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
افتخار
اهل البيت بخديجة
عليهاالسلام
:
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وما يدل على سمو مقامها وعلو منزلتها
أن اهل البيت عليهمالسلام طالما
افتخروا بأن خديجة منهم ، وانهم من خديجة وقد كانوا يعتزون بها ، ويشيدون
بمكانتها : فقد خطب معاوية بالكوفة حين دخلها
والحسن والحسين عليهماالسلام
جالسان تحت المنبر فذكر علياً عليهالسلام
فنال
منه ثم نال من الحسن فقام الحسين
عليهالسلام ليردَّ عليه فأخذه الحسن بيده وأجلسه
ثم قام فقال : « أيُّها الذاكِرُ عَليّاً أنا
الحَسن وأبي عليّ وأنت معاويةُ وأبوك صخرٌ واُمي فاطمة واُمُّك هند وجدي رسُول
اللّه وجدُّك عُتبةُ بنْ رَبيعة وجدتي خديجة وجدتُك قتيلة فلعن اللّه أخْمَلَنا
ذكراً والأَمُنا حَسَباً وشَرَّنا قديماً وحديثاً. فقال طوائفُ من أهل المسجد :
آمين (شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي : ج 16 ، ص 46 و 47.).
وقيل : ان « الحسين » عليهالسلام
ساير « أنس بن مالك » فاتى قبرَ خديجة فبكى ثم قال : إذْهَبْ عَنّي قال « أنس »
؛ فاستخفيتُ عنه فلما طال وقوفُه في الصلاة سمعته يقول :
إلى آخر الابيات (بحار الأنوار : ج 44 ، ص 193 نقلا عن عيون المحاسن.).
هكذا كان اهل البيت النبوي ـ اقتداءً
برسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم يحترمون خديجة ويكرمونها لما كان لها
من شخصية عظيمة ولما اسدته إلى الإسلام وإلى رسول الإسلام من خدمات لا تنسى على
مرّ الدهور. ان بيان ونقل الاحاديث والروايات ،
وكذا الاقوال الّتي وردت في شأن خديجة والحديث عن شخصيتها ومكانتها ومدى إسهامها
في انجاح ونصرة الدعوة المحمدية خارج عن امكانية هذه الدراسة ، ونطاقها ، لذلك
نكتفي بهذه الالماعة العابرة تاركين الكلام باسهاب حولها
إلى مجال آخر. ولنَعُدْ إلى تبيّن الأسباب الظاهرية والباطنية لزواجها من رسول
اللّه (صلىاللهعليهوآلهوسلم).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
العللُ
الظاهرية والحقيقية وراء زواج خديجة بالنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
:
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إن الإنسان الماديّ الّذي ينظر إلى
كل ما يحيط به من خلال المنظار المادي ، ويفسره تفسيراً مادياً قد يتصور ( وبالاحرى يظن ) أن « خديجة
» كانت امرأة تاجرة تهمُّها تجارتها ، وتنمية ثروتها ، ولأنها كانت بحاجة ماسة
إلى رجل أمين قبل اي شيء ، لذلك وجدت ضالتها في محمَّد الصادق الامين صلىاللهعليهوآلهوسلم فتزوجت منه ، بعد أن عرضت نفسها عليه
ومحمَّد صلىاللهعليهوآلهوسلم
هو الآخر حيث انه كان يعلم بغناها وثروتها ، قبِل بهذا العرض رغم ما كان بينه
وبينها من فارق في السن كبير. ولكن التاريخ يثبت أن
ثمة أساباباً وعللا معنويّة لا مادية هي الّتي دفعت بخديجة للزواج بأمين قريش
وفتاها الصادق الطاهر. واليك في ما يأتي
شواهدنا على هذا الامر : 1 ـ عند ما سالت « خديجة » ميسرة عما
رآه في رحلته من فتى قريش « محمَّد » فخبّرها ميسرة بما شاهد ورأى من « محمَّد »
في تلك السفرة ، وبما سمعه من راهب الشام حوله أحسَّت « خديجة » في نفسها بشوق
عظيم ورغبة شديدة نحوه كانت نابعة من اعجابها بمعنوية محمَّد صلىاللهعليهوآلهوسلم وكريم خصاله ، وعظيم أخلاقه ، فقالت
من دون إرادتها : « حسبُك يا ميسرة ؛ لقد زدتني شوقا إلى محمَّد صلىاللهعليهوآلهوسلم
،
إذهبْ فانت حرٌ لوجه اللّه ، وزوجتك وأولادك ولَك عندي مائتا درهم وراحلتان » ثم
خلعَت عليه خلعة سنية (بحار الأنوار : ج 16 ، ص 52.).
ثم إنها ذكرت ما سمعته من « ميسرة »
لورقة بن نوفل وكان من حكماء العرب : فقال ورقة : « لئنْ كانَ هذا حَقاً يا
خديجة إنّ محمَّداً لنبيُّ هذهِ الامُّة » (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 191 ، السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 136.).
2 ـ مرَّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
يوماً بمنزل « خديجة بنت خويلد » وهي جالسة في ملأمن نسائها وجواريها وخدمها
وكان عندها حبرٌ من أحبار اليهود ، فلما مرّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم نظر إليه ذلك الحبر وقال : يا خديجة
مري مَنْ يأتي بهذا الشاب ، فارسلت إليه من أتى به ، ودخل منزلَ « خديجة » ،
فقال له الحبر : إكشفْ عَنْ ظهرك فلما كشف له قال الحبر : هذا واللّه خاتم
النبوة فقالت له خديجة : لو رآك عمه وأنت تفتّشه لحلّت عليك منه نازلة البلاء
وان أعمامه ليحذرون عليه من أحبار اليهود. فقال الحبر : ومن
يقدر على « محمَّد » هذا بسوء ، هذا وحق الكليم رسولُ الملك العظيم في آخر
الزمان ، فطوبى لمن يكون له بعلا ، وتكون له زوجة وأهلا فقد حازت شرف الدنيا
والآخرة. فتعجَّبت « خديجة » ، وانصرف «
محمَّد » وقد اشتغل قلبُ « خديجة » بنت خويلد بحبه فقالت : أيها الحبر بمَ عرفت
محمَّداً انه نبي؟ قال : وجدتُ صفاته في التوراة انه
المبعوثُ آخر الزمان يموت أبوه وامُّه ، ويكفله جدّه وعمه ، وسوف يتزوج بامرأة
من قريش سيدة قومها وأميرة عشيرتها ، وأشار بيده إلى خديجة فلما سمعت « خديجة »
ما نطق به الحبر تعلق قلبُها بالنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
فلما خرج من عندها قال : إجتهدي ان لا يفوتك « محمَّدٌ » فهو الشرف في الدنيا والآخرة
(بحار الأنوار : ج 16 ، ص 20 و 21 نقلا عن كتاب الأنوار لأبي الحسن
البكري.).
3 ـ لقد كان ورقة بن
نوفل (
وهو عم خديجة وكان من كُهّان قريش وقد قرأ صحف « شيث » عليهالسلام وصحف « إبراهيم » عليهالسلام
وقرأ التوراة والانجيل وزبور « داود » عليهالسلام ) يقول
دائماً : سيُبعَثُ رجلٌ من قريش في آخر الزمان يتزوج بامرأة من قريش تسود قومها ( أو تكون سيدة قومها ، وأميرة عشيرتها )
، ولهذا كان يقول لها : « يا خديجة سوف تتصلين برجل يكون أشرف أهل الأرض والسماء
» (بحار الأنوار : ج 16 ، ص 21.).
السيرة النبوية : ج 1 ، ص 189 و 190 هذه قضايا ذكرها بعض المؤرخين ،
وهي منقولةٌ ومثبتة في طائفة كبيرة من الكتب التاريخية ، وهي بمجموعها تدل على
العلل الحقيقية والباطنية لرغبة خديجة في الزواج برسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم ،
وإن هذه الرغبة كانت ناشئة من اعجاب « خديجة »
بأخلاق فتى قريش الأمين ، ونبله ، وطهارته ، وعظيم سجاياه وخصاله وحبها لهذه
الاُمور ، وليس هناك أي اثر في علل هذا الزواج لامانة « محمَّد »
وكونه أصلَح من غيره لهذا السبب للقيام بتجارة « خديجة ».
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
كيفَ
تمَّت خِطبةُ خديجة؟
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
من المسلّم به أن اقتراح الزواج جاء
من جانب « خديجة » نفسها أولاً ، حتّى
أن ابن هشام نقل في سيرته :
ان « خديجة » لما أخبرها ميسرة بما اخبرها به بعثت إلى رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم فقالت له : « يا ابْنَ عم إبي قد
رغبتُ فيك لقرابتك وسطتك [ اي شرفك ومكانتك ] في قومك ، وأمانتك وحُسن خلقك ،
وصدق حديثك » ثمّ اقترحَت عليه أن تتزوج به. ويعتقدُ اكثرُ
المؤرّخين أن « نفيسة بنت عليّة » بَلّغتْ رسالة
« خديجة » إلى النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم على النحو
التالي : قالت لرسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
: « يا محمَّد ما يمنعك أن تتزوج ... ولو دُعيت إلى الجمال والمال والشرف
والكفاءة الاّ تجيب؟ فقال رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
: فمن هي؟ فقالت : خديجة ، فقال
رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم : وكيف
لي بذلك ، فقالت : عليَّ فذهبت إلى خديجة فأخبرتها ، فأرسلت خديجة إلى رسول
اللّه صلّى الله عليه وآله
بوكيلها « عمرو بن اسد » (المعروف انّ والد خديجة توفي في حرب الفجار ولهذا قام بالايجاب من
قبلها عمها عمرو بن اسد ولهذا لا يصحّ ما ذكره بعض المؤرخين من أنّ خويلد ( والد
خديجة ) امتنع من تزويجها لرسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم في بداية الأمر ، ثم رضي بذلك
نزولا عند رغبة خديجة.)
لتحديد ساعة من اجل مراسم الخطبة في محضر من الاقارب
(تاريخ الخميس : ج 1 ، ص 264.).
فشاور النبيُ صلىاللهعليهوآلهوسلم
أعمامه وفي مقدمتهم « أبو طالب » ، ثم عقدوا مجلساً فخماً حضره كبارُ وجوه قريش
، ورؤساؤها فخطبَ « أبو طالب » ، وبعد انَ حَمداللّه واثنى عليه وصفَ إبن أخيه
محمَّداً بقوله : « ثم إنّ ابْن أخي هذا محمَّد بن عبد
اللّه لا يوزَنُ به رجلٌ إلاّ رجح به شرفاً ونُبلا وفضلا وعقلا ، وإن كان في
المال فإنَ المالَ ظِلُّ زائلٌ ، وأمرٌ حائلٌ وعاريةٌ مُسْتَرجعَة ، وَلَهُ في
خديجة رغبةٌ ولها فيه رغبةٌ ، والصَّداق ما سألتم عاجله وآجله مِن مالي ،
ومحمَّدٌ من قد عرَفتُمْ قرابتَه ». وحيث أن « ابا طالب » تعرَّض في
خطبته لذكر قريش ، وبني هاشم وفضيلتهم ، ومنزلتهم بين العرب ، لذلك تكلّم « ورقة
بن نوفل بن اسد » الّذي كان من أقارب خديجة (المعروف أنّ ورقة كان عمّاً لخديجة ولكن هذا موضع نقاش لأنّ « خديجة
بنت خويلد بن اسد » وورقة بن نوفل بن اسد فيكونان اولاد عمومة أي أنّه ابن عم
خديجة وهي بنت عمّه. ولذلك جاء في بعض المصادر وصفه ب « ابن عمّها » ( تاريخ
الخميس : ج 1 ، ص 282 ) وراجع قبله السيرة النبوية لابن هشام : ج 1 ، ص 203.)
وقال في خطبة له : « لا تنكُرُ العشيرة فضلكُمْ ، ولا يَرُدُّ أحدٌ من الناس
فخركم وشرفكُمْ وقد رغبنا في الإتصال بحبلكم وشرفكُمْ » (بحار الانوار : ج 16 ، ص 16 ، مناقب آل أبي طالب : ج 1 ، ص 30 ،
السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 139 ، تاريخ الخميس : ج 1 ، ص 264.).
ثم اُجري عقد النكاح ومهرها النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
أربعمائة دينار وقيل أصدقها عشرين بكرة (السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 139.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
عمر
خديجة عند زواجها بالنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
:
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
المعروف المشهور أن خديجة عليهاالسلام
تزوجت من رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وهي في سنّ الأربعين وأنها وُلدَت قبل عام الفيل بخمسة عشر عاماً. وذكر البعضُ أقلَّ من ذلك أيضاً. وذكَرَ
أنها تزوجت قبل النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم برجلين أوّلهما « عتيقُ بن عائذ »
ثمَ من بعده ابو هالة التميمي اللّذين توفي كلٌ منهما بُعيد زواجه بخديجة (ربما يُشكَّك في أن تكون
خديجة عليهاالسلام قد تزوجت قبل رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
بأحد وهي الّتي امتنعت عن كل من خطبها ورام تزويجها من سادات قريش واشرافها.
راجع الاستغاثة : ج 1 ، ص 70.). |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
10من
الزواج إلى البعثة
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
تُعتَبر فترةُ الشباب من أهمّ وأخطر
الفترات في حياة الإنسان ففي هذه الفترة تبلغ الغريزة الجنسية نضجها وكمالها ،
وتصبحُ النفسُ البشرية لعبة في أيدي الأهواء ويغلب طوفان الشهوة على فضاء العقل
، ويغطّي الظلامُ سماء التفكير ، وتشتد حاكمية الغرائز المادية ، وتتضاءل شعلة
العقل ، وتترائى أمام عيون الشباب بين الحين والآخر ، وصباح مساء صروح عظيمة من
الآمال الخيالية. ولو مَلك الإنسانُ ـ في مثل هذه
الفترة ـ شيئاً من الثروة ، لتحوَّلتْ حياته إلى مسألة في غاية الخطورة فالغرائز
الحيوانية ، وصحة المزاج من جهة والامكانات المادية والمالية من جهة اُخرى
تتعاضدان وتغرقان المرء في بحر من الشهوات ، والنزوات ، وتهيِّئان له عالماً
بعيداً عن التفكير في المستقبل. ومن هنا يصف المربّون العلماء تلك
الفترة الحساسة بأنها الحدّ الفاصل بين الشقاء والسعادة ، والفترة الّتي قلما
يستطيع شاب أن يرسم لنفسه فيها مساراً معقولا ، ويختار لنفسه طريقاً واضحاً على
امل الحصول على الملكات الفاضلة ، والنفسية الرفيعة الطاهرة الّتي تحفظه عن أي
خطر متوقَع. وإلى هذه الحقيقة اشار
الإمام جعفر الصادق عليهالسلام
بقوله :
حقاً إن كبح جماح النفس ، وزمَّها
وحفظها مِنَ الإنزلاق في مهاوي الشهوات ، والنزوات في مثل هذه الفترة لهو أمر
جدّ عسير ، ولو أن الانسانَ حُرمَ من تربية عائلية صحيحة مستقيمة كان عليه أن
ينتظر مصيراً سيّئاً ، ومستقبلا في غاية البؤس والشقاء. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
فَترةُ
الشَبابِ في حياة رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
:
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ليس من شك في ان فتى قريش « محمَّد »
صلىاللهعليهوآلهوسلم كان يتمتع في أيام شبابه بصحة جيدة ،
وقوة بدنية عالية ، وكان شجاعاً قوياً ، لأنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم قد تربى في بيئة حرة بعيدة عن ضوضاء
الحياة ، وفتح عينيه في عائلة اتصف جميع أفرادها واعضائها بالشجاعة والفروسية ،
هذا من جانب ، ومن جانب آخر كان يمتلك ثروة « خديجة » الطائلة فكانت ظروفُ الترف
، والعيش الشهواني متوفرة له بشكل كامل ، ولكن كيف ترى استفاد من هذه الامكانات
المادية هل مدَّ موائد العيش واللذة وشارك في مجالس السهر والسمر واللهو واللعب.
واطلق العنان لشهوته ، وفكر في إشباع غرائزه الجنسية كغيره من شباب ذلك العصر ،
وتلك البيئة الفاسدة. أم أنَّه اختار لنفسه منهجاً آخر في
حياته ، واستفاد من كل تلك الإمكانات في سبيل تحقيق حياة زاخرة بالمعنوية ،
الأمر الّذي تبدو ملامحه بجلاء لمن تتبع تلك الفترة الحساسة من تاريخه. ان التاريخ ليشهد بأنه صلىاللهعليهوآلهوسلم
كان يعيش كما يعيش أي رجل ، رجل عاقل لبيب وفاضل رشيد ، وأنه طوى تلك السنوات
الحساسة من حياته كأحسن ما يكون ، بعيداً عن العبث والترف والضياع والانزلاق إلى
الشهوات والانسياق وراء التوافه. بل ان التاريخ ليشهد بأنه كان اشد ما
يكون نفوراً من اللهو ، والعبث ، والترف والمجون فقد كانت تلوح على محيّاه
دائماً آثار التفكّر والتأمل ، وكثيراً مّا كان يلجأ إلى سفوح الجبال أو الكهوف
والمغارات للابتعاد عن الجوّ الإجتماعي الموبوء في مكة ، يلبث هناك أياماً يتأمل
فيها في آثار القدرة الآلهية ، |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أحاسيسه
ومشاعره الإنسانية في فترة الشَّباب :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ولقد وقعت في احدى أسواق مكة ذات يوم
حادثة هيّجت مشاعره الإنسانية وحركت عواطفه واحاسيسه ، فقد رأى مقامراً قد خسر
بعيره وبيته ، بل بلغ الأمر به أن استرقهُ منافسُه عشرة أعوام. وقد آلمت هذه القصة المأساوية فتى
قريش « محمَّد » بشدة ، إلى درجة أنّه لم يَعُد يحتمل البقاء في « مكة » ذلك
اليوم فغادرها من فوره وذهب إلى الجبال المحيطة بمكة ثم عاد بعد هزيع من الليل. لقد كان رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ينزعج بشدة لهذه المشاهد المحزنة والاوضاع المأساوية ، وكان يتعجب من ضعف عقول
قومه ، وانحطاط مداركهم. ولقد كان بيت « خديجة » قبل زواج النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بها
ملاذاً للفقراء وكعبة لآمال المساكين والمحرومين ، وبعد أن تزوج النبيُ صلىاللهعليهوآلهوسلم
بها لم يطرأ على وضع ذلك البيت أيُ تغيير من جهة الانفاق والبذل. ففي سنين الجدب والقحط الّتي كانت
تضرب مكة وضواحيها بين الحين والآخر ربما قدمت « حليمة السعدية » مكة لتزور
ولدها الرضاعي « محمَّد » فكان النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
يكرمها
ويحترمها ، ويفرش رداءه تحت أقدامها ، ويصغي لكلامها بعناية ولطف ، وفاء لجميلها
، وعرفاناً لعواطفها واُمومتها. فقد روي أن « حليمة » قدِمت على رسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم مكة بعد تزوّجه خديجة ، فشكت إليه
جدب البلاد وهلاك المواشي فكلَم رسولُ اللّه
صلىاللهعليهوآلهوسلم
« خديجة » فأعطتها بعيراً واربعين شاة ، وانصرفت إلى أهلها موفورة ، مسرورة. وروي أيضاً انه
استأذنت « حليمة » عليه
ذات مرة فلما دخلت عليه قال : « اُمّي اُمّي
»
وعمد إلى ردائه فبسطه لها فقعدت عليه (السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 103.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أولادُ خديجة :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لا ريب في أنَّ وجودَ الأولاد في
الحياة العائليّة ممّا يقوّي أواصر الوشيجة الزوجية ، ويعمّق جُذُورها ، ويمنح
الجوَّ العائليّ بهاء ، ورَوْنقاً ، وجمالا خاصاً. ولقد أنجبت « خديجةُ » لرسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ستة من الأولاد اثنين من الذكور ، أكبرُهما « القاسم » ثم « عبدُ اللّه »
اللَّذان كانا يُدعَيان ب : « الطاهر » و « الطيّب » واربعة من الإناث. كتب ابن هشام يقول في
هذا الصدد : اكبرُ بناته رُقيَّة ثم زيْنَبْ ثم اُمُّ كلثوم
، ثم فاطمة. فأما الذكور من أولاده صلىاللهعليهوآلهوسلم
فماتوا قبل البعثة ، وأما بناته فكلُّهن أدركنَ الإسلام
(مناقب ابن شهرآشوب : ج 1 ، ص 140 ، قرب الأسناد : 6 و 7 ، الخصال : ج
2 ، ص 37 ، بحار الأنوار : ج 22 ، ص 15 ـ 152. وقد ذكر البعض للنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
اكثر من ولدين ، يراجع تاريخ الطبري ج 2 ، ص 35 ، بحار الأنوار : ج 22 ، ص 166.).
ورغم أن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
قد عُرفَ بصبره وجَلده في الحوادث والنوائب فربَما انعكست احزانه القلبية في
قطرات دموعه الساخنة المنحدرة على خَدَّيه الشريفين في موت أولاده. ولقد بلغ به الحزنُ والغمُ لموت ولده
« إبراهيم » من زوجته ماريّة القبطية حداً لم يحدثْ لغيره من أولاده ، إلاّ أنّه
رغم ذلك الحزن الآخذ من قلبه مأخذاً لم يفتر لسانه عن حمد اللّه وشكره حتّى أن
اعرابياً اعترض عليه صلىاللهعليهوآلهوسلم
لما وجده يبكي على ولده قائلا : أولم تكن نهيت عن البكاء اجابه بقوله : « انما هذا رحمة ، ومن لا يَرحَم لا
يُرحَم (بحار الأنوار : ج 22 ، ص 151.)
». |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
حَدْسٌ
لا أساس له من الواقع!!
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد كتبَ الدكتور هيكل
في كتابه : « حياة محمَّد » يقول : « لا ريب أن خديجة عند
موت كل واحد منهما ( اي ولدي النبي :
القاسم وعبد اللّه ) في الجاهلية توجَّهت إلى آلهتها
الاصنام تسألها ما بالها لم تشملها برحمتها وبرها » (حياة محمَّد : ص 128.).
إنَّ هذا الكلام لا يستند إلى أي
دليل تاريخي ، وليس هو بالتالي إلا حَدْسٌ باطل ، وإدعاء فارغ ليس له من منشأ إلاّ
أن أغلبية أهل ذلك العصر كانوا عبَدة أوثان ، فلابُدّ ان خديجة كانت على
منوالهم!! في حين ان رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم كان يبغض الأصنام والأوثان من بداية
شبابه ، وقد اتضح موقفُه منها أكثر في سفرته إلى الشام في أموال خديجة يوم قال
لمن استحلفه باللات والعزى : « اليك عني ،
فما تكلَّمت العربُ بكلمة أثقل عليَّ من هذه ». مع ذلك كيف يمكنُ القولُ بأنَ امرأة
لبيبة عاقلة لم يكن شدةُ حبها وشغفها بزوجها موضعَ شك ، أن تتوجَّه عند موت
وَلديها إلى الاصنام التي كانت ابغض الأَشياء عند زوجها ، وخاصة أن حبها لزوجها
« محمَّد » وبل إقدامها على الزواج منه انما كان بسبب ما كان يتحلى به من ايمان
ومعنوية ، وصفات فاضلة ، وملكات اخلاقية عالية ، فهي قد سمعت عنه بأنه آخر نبيّ
، وأنه خاتم المرسلين ، فكيف والحال هذه يمكن ان يحتمل احد انها ـ مع هذا
الاعتقاد ـ بثت شكواها وحزنها إلى الاوثان والاصنام؟؟! |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
دَعِيُّ
رسول اللّه : زيد بن حارثة :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
عند الحَجَر الاسود أعلن رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم عن تبنيه له ... ذلك هو زيد بن حارثة. وكان « زيدٌ »
ممّن سباهُ العرب من حدود الشام ، وباعُوه في أسواق مكة رقيقاً لأحد أقرباء «
خديجة » يُدعى « حكيم بن حزام » ، ولكن لا يُعرف كيف انتقل إلى « خديجة » في ما
بعد؟ يقول هيكل في كتابه «
حياة محمَّد » في هذا الصدد « لقد ترك موتُ ولدَيْ رسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
في
نفس النبي اثراً عميقاً حتّى إذا جيء بزيد بن حارثة يُباعُ طلب إلى « خديجة » أن
تبتاعه ففعلت ثم اعتقه وتبناه » (حياة محمَّد : ص 128.).
ولكن اكثر المؤرخين
يقولون : ان « حكيم بن حزام » قد اشتراه لعمته « خديجة
بنت خويلد » ، وقد أحبَّه رسولُ اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
لذكائه وطهره ، فوهبته « خديجة » له عند زواجه صلىاللهعليهوآلهوسلم
منها.
ففتش عنه والدُه « حارثة » حتّى عرف
بمكانه في مكة ، فقدمها ، ودخل على النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
أن
يأذن لزيد ليرحل معه إلى موطنه ، فدعاه رسولُ اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وخيّره بين المقام معه صلىاللهعليهوآلهوسلم
والرحيل
إلى موطنه مع أبيه ، فاختار المقام مع رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
لما وجد من خلقه ، وحنانه ، ولطفه العظيم فلما رأى رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ذلك اخرجه إلى الحجر واعتقه ثم تبناه على مرأى من الناس ومسمع قائلا : « يا من
حضر اشهدوا أن زيداً ابني » (الاصابة : ج 1 ، ص 545 و 456 ، اُسد الغابة : ج 2 ، ص 225 و 226.). |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
بدايةُ
الخِلاف بَين الوثنيّين :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد أوجدت البعثة النبويّةُ خلافاً
واختلافاً كبيراً في أوساط قريش وفرّقْت صفوفهم ، غير أنّ هذا الاختلاف قد وُجدت
أسبابُه وعواملُه ، وظهرت بوادرُه وعلائمُه قبل البعثة المباركة. فقد أبدى جماعةٌ من الناس في الجزيرة
العربية استياءهم من دين العرب وانكروا عقائدهم الباطلة ، وطالما كانوا يتحدثون
عن قرب ظهور النبيّ العربيّ الّذي يتمُّ على يديه إحياء التوحيد. وكان اليهود يتوعدون
أهل الاصنام بالنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
ويقولون : ليخرجنَّ نبيُّ فَليكسرن أصنامكم (بحار الأنوار : ج 15 ، ص 231.).
وكتب ابن هشام يقول :
كان اليهود يقولون للعرب : إنه قد تقارب زمان نبيّ يُبعث الآن نقتلكم معه قتلَ
عاد وارم. وكتب يقول أيضاً : وكانت
الاحبار من اليهود ، والرهبان من النصارى والكهّان من العرب قد تحدثوا بأمر رسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم قبل
مبعثه. هذه الكلمات تُصوِّر انقضاء عهد
الوثنية في نظرهم إلى درجة أن بعض القبائل أجابت النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
لما بُعثَ ، ودعاهم اللّه ، بينما احجمت اليهودُ عن الايمان به وبرسالته وبقيت
على كفرها وجحودها لنبوته الّتي طالما بشرت بها. وقد نزل فيهم قولُه تعالى : « وَلَمّا جاءهُمْ كتابٌ مِنْ عِنْدِ اللّه
مُصدِّقٌ لِما مَعهمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلى الَّذينَ
كَفرُوا فَلمّا جَاءهُمْ ما عَرفُوا كَفرُوا به فَلعْنَةُ اللّه عَلى الكافِرين »
(السيرة النبوية : ج 1 ص 221.)
(البقرة : 89.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أعمدةُ
الوثنيّة تهتزُّ :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ولقد شهدَ أحدُ أعياد قريش حادثاً
غريباً كان في نظر العقلاء وأصحاب الفكر الثاقب منهم بمثابة جرس إنذار اذِن
باقتراب سقوط دولة الوثنيين ، وإنهيار صروح الوثنيّة وعبادة الأصنام ،
وانقراضها. فقد اجتمعت قريش يوماً
في عيد لهم عند صنم من أصنامهم كانوا
يعظمونه وينحرون له ، ويعكفون عنده ، فتنحّى
أربعةٌ ممن عُرفوا بالعلم ناحية ، وأخذوا
يتحدَّثون سرّاً ، وأخذوا ينتقدون عبادة الأوثان والأصنام ، وما عليه قومهم من
فساد العقيدة. فقال بعضهم لبعض :
واللّه ما قومكم على شيء ، لقد اخطأوا دين أبيهم إبراهيم!! ما حَجرٌ نُطيف به لا
يسمعُ ولا يبصرُ ، ولا يضرُ ولا ينفعُ ، يا قوم التمسوا لأنفسكم ديناً ... وكان هؤلاء الأربعة هم
: 1 ـ « ورقة بن نوفل »
الَّذي اختار النصرانية بعد أن طالعَ كُتُبَها ، واتصل بأهلها. 2 ـ « عبيداللّه بن
جَحش » الّذي أسلمَ عند ظهور الإسلام ، ثم هاجر مع
المسلمين إلى الحبشة. 3 ـ « عثمان بن
الحويرث » الّذي قدم على قيصر ملك الروم ، فتنصَّر. 4 ـ « زيد بن عمرو بن
نفيل » الّذي اعتزل الأوثان ، وقال : اعبدُ رب إبراهيم (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 225.).
إن ظهور مثل هذا الاستنكار والجحد
للأوثان والوثنية لا يعني أبداً أنَّ دعوة رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
كانت تعقيباً لدعوة هذه الجماعة ، واستمراراً لها!! كيف يمكن أنْ نعتبر دعوة رسول اللّه
العالمية مع ما انطوت عليه من أهداف كبرى ، واستندت إليه من معارف وأحكام لا
تُحصى ، ردّة فعل لمثل هذا الحادث الصغير وتعبيراً عن مثل هذا الاستنكار
المحدود؟ إن الحنيفية وهي سُنّة
إبراهيم ودينه لم تكن قد مُحِيت
كليّاً في الحجاز بعد ايام بعثة رسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم بل كان هناك لا يزال بعض الأحناف ( وهم الذين كانوا على دين إبراهيم عليهالسلام ) منتشرين في
أنحاء الجزيرة العربية ، إلاّ أن ذلك لا يعني أنّهم كانوا قادرين على التظاهر
بعقيدتهم بين الناس ، أو قيادة حركة ، أو تربية أفراد على نهجهم ، أو أن
توجُّهاتهم التوحيدية كانت من القوة بحيث تستطيع أن تكون مصدر إلهام لقيم ومعارف
وتعاليم وأحكام لِشخصيّة مثل رسول الإسلام « محمَّد » صلىاللهعليهوآلهوسلم. فلم يُنقَل عن هؤلاء سوى بعض
الإعتقادات المعدودة المحدودة مثل الاعتقاد بالمعاد واليوم الآخر ، وشيء بسيط من
البرامج الأخلاقية ، وحتّى ما نقل عنهم من ابيات توحيدية لا يمكن تأكيد انتسابها
إليهم ، وانْ لم يمكن نفي ذلك أيضاً (ولقد نقل ابن هشام في
كتابه : السيرة النبوية : ج 1 ، ص 222 ـ 232 طائفة من الأبيات والقصائد
التوحيدية هذه ؛ والّتي جاء في مطلع إحداها ما أنشده زيدُ بن عمرو بن نفيل :
). فهل يمكن والحال هذه أن نعتبر
الثقافة الإسلامية العظيمة ، والمعارف العقلية العالية ، والقوانين والتشريعات
المفصلة ، والانظمة الأَخلاقية والسياسية والإقتصادية الإسلامية ، الشاملة
الكاملة ، كنتيجة لمتابعة اُولئك النفر المعدود من « الأحناف » الموحدين
المنتشرين في انحاء مختلفة من بلاد الحجاز الذين كانت جلُ عقائدهم تتألف من مجرد
الاعتقاد بوجود اللّه ، واليوم الآخر وقضية أو قضيتين من قضايا الأخلاق؟! |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
نموذج آخر عن ضَعف
قريش :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لم يكن يمض على عُمر فتى قريش اكثر
من خمس وثلاثين عاماً يومَ واجه اختلافاً كبيراً بين قريش ، فأزال بحكمته ذلك
التخاصم ، ولقد كشفت هذه الحادثة عن مدى الإحترام الّذي كان فتى قريش « محمَّد »
يحظى به لدى قريش ، كما وتكشف عن قوة اعتقادهم بصدقه وأمانته. واليك تفصيل هذه الحادثة :
إنحدر سيلٌ رهيب من
جبال مكة المرتفعة نحو بيت اللّه المعظم « الكعبة المقدسة » فلم يسلم من هذا
السيل بيت في مكة حتّى الكعبة المعظمة ، الّتي تصدَّعتْ جدرانُها تصدعاً كبيراً
بفعل ذلك السيل. فعزمت قريشٌ على تجديد تلك البِنية
المعظمة ، ولكنها تهيّبت ذلك ، وترددت في هدم الكعبة ، فأقدم « الوليد بن
المغيرة » وهدمَ ركنين منها على شيء من الخوف ، فانتظر أهلُ مكة أن يحل به أمرٌ
، ولكنهم لما رأوا « الوليد » لم يصبه غضب من الآلهة ، اطمأنوا إلى أنه لم يرتكب
قبيحاً ، وأنه عمل ما فيه رضى آلهتهم ، فاقدَمُوا جميعاً على هدم ما تبقى من
الكعبة ، واتفق أن تحطّمت سفينة قادمة من «
مصر » في تجارة لروميّ عند ميناء « جدة » بفعل الرياح والعواصف ، فعلمت بذلك
قريش ، وأرسلت رجالا يبتاعون أخشابها ليستخدموها في بناء الكعبة المعظمة ،
وأوكلوا أمر نجارتها إلى نجّار قِبطيّ محترف كان يقطن « مكة ». ولما ارتفعت جدران
الكعبة إلى قامة الرجل ، وآن الأوان لوضع الحجر الأسود في محله من الركن وقع
الاختلاف بين زعماء قريش ، وتنازعوا في من يتولّى وضع الحجر الاسود في مكانه. وتحالفت قبيلة « بني عبد الدار » مع « بني عَديّ » على
أن يمنعوا من أن ينال هذا الفخار غيرُهم ، وعمدوا إلى اناء مملوء بالدم فوضعوا
أيديهم فيه تاكيداً لذلك الميثاق. من هنا تأخرت عملية البناء وتوقّفت
خمسة أيام بلياليها ، وكاد أن تنشب بينهم حربٌ دامية ، وربما طويلة ، فقد اجتمعت
طوائف مختلف من قريش في المسجد الحرام وهي تنتظر حادثة خطيرة ، فعمد ـ في الأخير
ـ شيخ من شيوخ قريش يدعى « أبو اُميّة بن مغيرة المخزومي » من زعماء قريش وقال :
يا معشر قريش ، إجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول مَن يدخل من باب هذا المسجد (وفي رواية : أول من يدخل باب الصفا.)
يقضي
بينكم فيه » فقبلوا برايه اجمع ، فكان أول داخل عليه فتى قريش « محمَّد » صلىاللهعليهوآلهوسلم فلما رأوه قالوا : هذا الأمين ،
رضينا ، هذا محمَّد. فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم :
هلم اليّ ثوباً ، فأخذ الحجَر ووضعه فيه ثم قال : « لتأخذْ كلُ قبيلة
بناحية من الثوب ، ثم ارفعوهُ جميعاً » ففعلوا حتّى إذا بغوا به موضعه من
الركن وضعه صلىاللهعليهوآلهوسلم
هو بيده مكانه ، وبهذا حال دون وقوع حوادث دامية كادت أن تقع بسبب تنازع قريش ،
واختلافها ، وحلَّ الوفاق محل الشقاق بعد أن رضي الكلُ بحكمه. وإلى قضية التحكيم هذه يشير « هبيرة بن أبي وهب » في أبيات
صوَّرت هذه الحادثة التاريخية الكبرى ، إذ قال :
(1)السيرة النبوية : ج 1 ، ص 192 ـ 199 وفروع الكافي : ج 4 ، ص
217 و 218 ، والجدير بالذكر أنهم قالوا عند تجديد بناء الكعبة : « يا معشر قريش
لا تدخلوا في بنيانها مِن كسبكم إلاّ طيّبا ، لا يدخلُ فيها مهر بغيّ ، ولا بيع
ربا ، ولا مظلمة أحد للناس » ( البداية والنهاية : ج 2 ، ص 301 ) ولا شك أنّ هذه
من بقايا تعاليم الأنبياء الّتي بقيت بينهم ولم تمح بالمرة.
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أمينُ
قَريشُ يَكْفُلُ عَليّاً :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أجدبت مكةُ وضواحيها سنة من السنين ،
وقل فيها الماء ، وأصابت الناس أزمة شديدة ، وكان أبو طالب عليهالسلام
كثير العيال ، فعزم رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
على أن يساعد عمه أبا طالب ، ويخفف عنه عبء العيال ، فانطلق إلى عمه العباس وقال
له : « إن أخاك أبا طالب كثير العيال وقد أصابَ الناس ما ترى من هذه الأزمة ،
فانطلق بنا إليه فلنخفّفْ من عياله آخذ من بنيه رجلا وتأخذ أنتَ رَجلا ». فكفل العباسُ جعفراً ،
وكفل رسولُ اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
عليا عليهالسلام.
يقول أبو الفرج
الاصفهاني المؤرخ المعروف في هذا الصدد : وكان رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
أخذ « علياً » من أبيه وهو صغير في سنة اصابت قريشاً وقحط نالهم ، وأخذ حمزة
جعفراً وأخذ العباس طالباً ليكفوا اباهم مؤونتهم ويخففوا عنهم ثقلهم ، وأخذ هو (
أي ابو طالب ) عقيلا لميله كان إليه فقال رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
: « اخترتُ مَن اختار اللّه لي عليكم :
علياً » (مقاتل الطالبيين : ص 26 ، الكامل في التاريخ : ج 1 ، ص 37 ، السيرة
النبوية : ج 1 ، ص 245 ـ 247 باب ( ذكر أن عليّ بن ابي طالب رضي اللّه عنه اول
ذكر أسلم ). إن هذه الحادثة وإن كانت في ظاهرها
تعني ان رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
اقدم على هذا الأمر ليساعِدَ عمَّه أبا طالب في تلك الازمة ، لكن الهدف الأعلى
والأخير كان أمراً آخر وهو أنْ : يتربّى علي عليهالسلام
في حجر النبي ، ويغتذي من مكارم اخلاقه ويتبعه في كريم افعاله. ولقد اشار الإمام
عليُّ عليهالسلام
نفسُه إلى هذا الموضوع بقوله : « وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ مَوْضِعي مِنْ
رَسُول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
بالقَرابَةِ القريبَة وَالمَنزِلَةِ الخَصيْصَة وضعني في حجره وَأنا ولَد
يَضمُّنِي إلى صَدْرهِ وَيَكنفُني في فِراشِه ... وَلَقَدْ كُنْتُ أَتَّبعُهُ
اتّباعَ الفَصِيْل أَثر امِّه يَرفَعُ لِي في كُلِّ يَوْم مِنْ أخْلاقِهِ
عَلَماً وَيأمُرُني بالإقتداء بِه » (نهج البلاغة : الخطبة 192.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ايمان
النبي وآبائه وكفلائه قبل الإسلام :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
تدلُ الدلائل التاريخيّة ، القوية ،
فضلا عن الأدلة العقلية والمنطقية على أن النبي الاكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم
لم يعبُدْ غير اللّه تعالى منذ وُلِدَ من اُمّة ، والى أن رحل إلى ربه ، بل وكان
كفلاؤه مثل عبد المطلب وأبي طالب مؤمنون موحِّدُونَ هم أيضاً |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ايمان
جده عبد المطّلب :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وأما عبد المطلب كفيل
النبيّ الأوَّل فلا ننسى أنه عند ما قصد « أبرهة »
هدم الكعبة في جيش الفيل ، نزل في جوف الليل إلى الكعبة وأخذ بحلقة بابها
يَدْعوا اللّه ويقول مناجياً اللّه
سبحانه. « اللّهم أنيسَ المُسْتَوحشِين ، ولا
وحشة مَعكَ فالبيتُ بَيْتُكَ ، والحرم حرمك والدارُ دارُك ، ونحنُ جيرانُكَ ،
انَك تمْنَعُ عَنْه ما تشاء ، وربّ الدّار اُولى بالدّار ». ثم أنشأَ يقول :
راجع القصة ومصادرها في ص
161 من هذا الكتاب ، ولعبدالمطلب مواقف اُخرى مشابهة ، وعديدة ، راجع بصددها
مفاهيم القرآن : ج 5 ، ص 136 ـ 140. وهذا يكشف بوضوح عن
ايمان عبد المطلب بالله تعالى ، وتوكله عليه سبحانه ،
وانه كان الرجل الموحد الّذي لا يلتجئ في المصائب والمكاره إلى غير كهف اللّه ،
ولا يعرف الاّ باب اللّه على عكس ما كانت الوثنية عليه فان قومه كانوا يستغيثون
بالاصنام المنصوبة حول الكعبة. وممّا يدل على ايمانه ايضاً توسله
لكشف غمته باللّه سبحانه فقد
تتابعت على قريش سنون جدب ذهبت بالأموال ، واشرفت الانفس واجتمعت قريش لعبد
المطلب ، وعَلَوا جبل ابي قبيس ومعهم
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
محمَّد وهو غلام فتقدم عبد المطلب وقال : لاهم ( اي
اللّهم ) هؤلاء عبيدك واماؤك وبنو امائك ، وقد نزل بنا ما ترى ، وتتابعت علينا
هذه السنون فذهبت بالظلف والخف والحافر ، فاشرفت على الانفس فأذهِب عنا الجدب ،
وائتنا بالحياء والخصب ، فما برحوا حتّى سالت الأودية ، وفي هذه الحالة تقول
رقيقة :
إلى أن تقول :
وإلى هذه الواقعة يشير ابو طالب في
قصيدة أولها :
(1)السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 131 ـ 133. وقد نقل الشهرستاني
هذه الواقعة في كتابه « الملل والنحل » قال : وممّا يدل
على معرفته ( أي عبد المطلب )
بِحال الرسالة وشرف النبوة ان اهل مكة لما أصابهم ذلك الجدب العظيم ، وامسك
السحاب عنهم سنتين أمر ابا طالب ابنه ، ان يُحضر المصطفى محمَّد صلىاللهعليهوآلهوسلم
فاحضره ابو طالب ، وهو رضيع في قماط ، فوضعه على يديه واستقبل الكعبة ، ورماه
إلى السماء ، وقال : يا رب بحق هذا الغلام ، ورماه ثانياً وثالثاً وكان يقول :
بحق هذا الغلام اسقنا غيثاً مغيثاً دائماً هطلا ، فلم يلبث ساعة أن السحاب وجه
السماء وأمطر ، حتّى خافوا على المسجد ، وقال ايضاً : وببركة ذلك النور كان عبد
المطلب يأمر أولاده بترك الظلم والبغي ، ويحثهم على مكارم الاخلاق ، وينهاهم عن
دنيات الاُمور. وكان يقول في وصاياه :
« انه لن يخرج من الدنيا ظلوم حتّى ينتقم اللّه منه وتصيبه عقوبة » ، إلى ان هلك
رجل ظلوم حتف انفه لم تصبه عقوبة ، فقيل لعبد المطلب في ذلك ، ففكر وقال : ان
وراء هذه الدار داراً يجزى فيها المحسن باحسانه ويعاقب فيها المسيء باساءته (الملل والنحل : ج 2 ، ص 248 و 249.).
ان توسل عبد المطلب باللّه سبحانه
وتوليه عن الاصنام والاوثان ، والتجاءه إلى رب الارباب آية توحيده الخالص ،
وايمانه باللّه وعرفانه بالرسالة الخاتمة ، وقداسة صاحبها ، فلو لم يكن له الاّ
هذه الوقائع لكفت في البرهنة على ايمانه باللّه ، وتوحيده له. وقد اعترف المؤرخون
لعبد المطلب بهذا فقد قال اليعقوبي : « ورفض عبد
المطلب عبادة الاوثان والاصنام ، ووحدَ اللّه عزّ وجلّ ووفى بالنذر ، وسنّ سنناً
نزل القرآن باكثرها ، وجاءت السنة الشريفة من رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
بها ، وهي الوفاء بالنذر ، ومائة من الابل في الدية ، وان لا تنكح ذاتُ محرم ،
ولا تؤتى البيوت من ظهورها وقطع يد السارق ، والنهي عن قتل الموؤدة ، وتحريم
الخمر ، وتحريم الزنا ، والحدّ عليه ، والقرعة ، وان لا يطوف احد بالبيت عرياناً
، واضافة الضيف وان لا ينفقوا إذا حجوا الاّ من طيب اموالهم ، وتعظيم الاشهر
الحُرُم ، ونفي ذوات الرايات (تاريخ اليعقوبي : ج 2 ، ص 9 في بعض ما عدّه المؤرخ المذكور نظر.).
هذا وعن اُم أيمن « رضي اللّه عنها » قالت : كنتُ
أحضن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ( اي اقوم بتربيته وحفظه ) ، فغفلت
عنه يوماً فلم ادر الاّ بعبد المطلب قائماً على رأسي يقول « يا بركة ». قلت : لبيك. قال : أتدرين اين وجدتُ إبني؟ قلت : لا ادري. قال : وجدته مع غلمان قريباً من
السدرة ، لا تغفلي عن ابني ، فان أهل الكتاب يزعمون انه نبيّ هذه الاُمة ، وأنا
لا آمن عليه منهم (سيرة زيني دحلان بهامش السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 64.).
وكان عبد المطلب لا يأكل طعاماً الاّ
يقول عليّ بابني ( اي احضروه ) ويجلسه بجنبه ، وربما اقعده على فخذه ، ويؤثره
بأطيب طعامه. ثم انه لما بلغ أجله اوصى إلى ابي
طالب برسول اللّه وقال له : قد خلّفت في ايديكم الشرف العظيم الّذي تطؤون ، به
رقاب الناس وقال له أيضاً :
لدفع ضيم أو لشدّ عقدِ (تاريخ اليعقوبي : ج 2 ، ص 10.) هذا هو عبد المطلب ، وتعوذه ببيت
اللّه الحرام ، ومواقفه بين قومه ، وكلماته في المبدأ والمعاد وعطفه وحنانه على
رسول الإسلام ، واهتمامه برسالة خاتم النبيين ، وهي بمجموعها من اقوى الشواهد
على توحيده ، وايمانه باللّه ، واعترافه برسالة الرسول الكريم. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إيمان
كفيله وعمه أبي طالب :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وهكذا كان حال كفيل النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
الثاني ابو طالب عليهالسلام ،
فان له مواقفَ بارزة وكثيرة قبل البعثة النبوية ، وبعدها تكشف عن عمق أيمان شيخ
الاباطح ، وتوحيده. ومن تلك المواقف
استسقاؤه برسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
في صباه : فقد اصاب مكة قحطٌ شديدٌ في سنة من
السنين فطلبت قريش من « أبي طالب » أن يستسقي لها فخرج ومعه غلامٌ ـ وهو رسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ـ كأنه شمسُ دجن تجلّت عنها سحابة قتماء وحوله اُغيلمةٌ ، فأخذه « أبو طالب »
فألصق ظهره بالكعبة ، ولاذ الغلام باصبعه ( أي أشاربها إلى السماء ) وما في
السماء قزعة ، فأقبل السحاب من هاهنا وهاهنا ، وأغدق ، واغدودق وانفجر له الوادي
، واخصب البادي والنادي. ففي ذلك يقول ابو طالب
ـ في مدح رسول اللّه ـ :
شرح البخاري
للقسطلاني : ج 2 ، ص 227 ، المواهب اللدنية : ج 1 ، ص 48 ، السيرة الحلبية : ج 1
، ص 125 ، وللتوسع راجع الغدير : ج 7 ، ص 345 و 346 ، وقد ذكرنا مواقف ابي طالب
الايمانية عند البحث عن شخصيته فراجع. وكل هذا يعرب عن توحيد كفيلي رسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
الخالص ، وايمانهما باللّه تعالى ، ولو لم يكن لهما إلاّ هذين الموقفين لكفياهما
دليلا وبرهاناً على كونهما مؤمنين موحدِين. كما ان ذلك يدل ايضاً على أن رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم نشأ
وترعرع ونما في بيت كانت الديانة السائدة فيه هي توحيد اللّه ، وعبادته وحده
ورفض الاصنام والاوثان. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إيمان
والدَي النبي الاكرم :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد نقلت عن عبد اللّه والد رسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
كلمات وابيات تدل على ايمانه ومن ذلك ما نقله اهل السير عندما عرضت فاطمة
الخثعمية نفسها عليه فقال رداً عليها :
السيرة الحلبية : ج 1 ، ص
46. وقد روي عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
انه قال : « لم أزلْ اُنقل من أصلاب الطاهرين إلى أحرام الطاهرات » ولعل فيه
ايعازاً إلى طهارة آبائه وامهاته من كل دنس وشرك (سيرة زيني دحلان بهامش السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 58.)
واما الوالدة فيكفي
في اثبات ايمانها ما رواه الحفاظ عنها عند وفاتها فانها ( رضي اللّه عنها ) خَرجت مع
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وهو ابن خمس أوست سنين ونزلت
بالمدينة تزور أخوال جده وهم بنو عدي بن النجار ومعها ام ايمن « بركة » الحبشية
، فاقامت عندهم ، وكان الرسول بعد الهجرة يذكر اموراً حدثت في مقامه ويقول : «
ان اُمي نزلت في تلك الدار ، وكان قوم من اليهود يختلفون وينظرون إليّ فنظر
اليَّ رجلٌ من اليهود فقال : يا غلام ما اسمك؟ فقلت : أحمد ، فنظر إلى ظهري ،
وسمعته يقول : هذا نبي هذه الاُمة ، ثم راح إلى اخوانه فاخبرهم فخافت اُمّي
عليَّ فخرجنا من المدينة ، فلما كانت بالابواء توفيت ودُفنت فيها. وروى ابو نعيم في
دلائل النبوة عن اسماء بنت رهم قالت : شهدت آمنة
اُمّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في علتها الّتي ماتت بها ، ومحمَّد عليهالسلام
غلام يفع ( اي يافع ) له خمس سنين عند رأسها فنظرت إلى وجهه وخاطبته بقولها :
ثمّ قالت : كل حي ميت وكل جديد بال ،
وكل كبير يفنى ، وانا ميتة وذكري باق وولدتُ طهراً. وقال الزرقاني في شرح
المواهب نقلا عن جلال الدين السيوطي تعليقا على قولها : وهذا
القول منها صريح في انها كانت موحِّدة إذ ذكرت دين ابراهيم عليهالسلام
، وبشرت ابنها بالاسلام من عند اللّه ، وهل التوحيد شيء غير هذا ، فان التوحيد
هو الاعتراف باللّه وانه لا شريك له ، والبراءة من عبادة الاصنام (الاتحاف للشبراوي : ص 144 ؛ سيرة زيني دحلان بهامش السيرة الحلبية :
ج 1 ، ص 57.).
ونلفت نظر القارئ الكريم هنا إلى ما
قاله المرحوم الشيخ المفيد في كتابه « اوائل المقالات » في هذا الصدد : اتفقت الإمامية على أن آباء رسول
اللّه من لدن آدم إلى عبد اللّه بن عبد المطلب مؤمنون باللّه عزّ وجلّ موحدون له
، واحتجوا في ذلك بالقرآن والاخبار قال اللّه عزّ وجلّ : « الّذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين »
(اوائل المقالات : ص 12 و 13.).
ثمَّ إنّ هنا سؤالين
هما : 1 ـ هل كان صلىاللهعليهوآلهوسلم
قبل البعثة مُوحِّداً؟ 2 ـ بماذا وبأيّ دين كان يتعبَّد صلىاللهعليهوآلهوسلم
قبل البعثة؟ واليك الحديث في هاتين
الجهتين : |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ايمان
النبي باللّه وتوحيده قبل البعثة :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إنَ الدلائل
التاريخية ـ بالاضافة إلى البراهين العقلية والكلامية ـ تدل على انه صلىاللهعليهوآلهوسلم
كان قبل ان يبعثه اللّه بالإسلام ، مؤمناً باللّه ، موحّداً إياه ، لم يعبد
وثناً قط ، ولم يسجد لصنم أبداً ، وان ذلك من المسلمات. وهذا الامر وان كان أمراً مسلماً
وواضحاً كوضوح الشمس إلا اننا نذكر بعض ما جاء في التاريخ الثابت الصحيح ليقترن
ذلك الاتفاق بأصحّ الدلائل التاريخية : اما بغضه للأَصنام
وتجنبه للاوثان وما يكون من هذا القبيل فإليك بعض ما ذكره التاريخ الصحيح في هذا
المجال : 1 ـ جاء في حديث طويل
:
انَ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم لما تم له ثلاث سنين قال يوماً لوالدته
( لمرضعته ) حليمة السعدية : ما لي لا أرى
أخَويَّ بالنهار ، قالت له : يا بُنيّ انّهما يرعَيان غُنَيْمات. قال : فما لي لا أخرج معهما ، قالت
له : أتحبُ ذلك؟ قال : نعم ، فلما اصبَحَ محمَّد دهّنته ( تقول حليمة ) وكحّلته
وعلّقتُ في عنقه خيطاً فيه جِزعٌ يمانيّ ، فنزعه ثم قال لاُمّه : « مَهْلا يا
امّاهُ فَاِنَّ مَعِيَّ مَنْ يَحفظني » (المنتقى ، الباب الثاني من القسم الثاني ـ للكازروني كما في البحار :
ج 15 ، ص 392.).
2 ـ روي ان « بحيرا » الراهب قال
للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
في سفرته الاولى مع عمّه أبي طالب إلى الشام : يا غلام اسألك بحق اللات والعزى
الا أخبَرْتَني عما اسألك ، فقال رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم : « لا تسأَلْنِي باللات والعُزّى
فواللّه ما ابغَضتُ شَيئاً بغضَهُما » قال الراهب : باللّه الا أخْبَرْتني عما
أسالك عنه ، قال صلىاللهعليهوآلهوسلم : سَلْني عمّا بدالك (الطبقات الكبرى : ج 1 ، ص 154 ، السيرة النبوية : ج 1 ، ص 182.).
3 ـ روي أنه قد وقع بين النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وبين رجل تلاح في سفرته الثانية إلى
الشام للتجارة بأموال خديجة مع غلامها « ميسرة » بعد أن باع صلىاللهعليهوآلهوسلم سلعته ، فقال له الرجل : إحلِفْ
باللات والعزى ، فقال رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
: «
ما حلفتُ بهما قطُّ ، وإنّي لأمُرُّ فاُعرِضُ عنهما ». وفي رواية اُخرى : «
إليكَ عَني ثكلتْكَ امُّكُ فما تكلمت العربُ بكلمة اثقلَ عليَّ من هذه الكلمة ».
فقال الرجل : القولُ قولك. ثم قال
لميسرة : هذا واللّه نبيُّ (الطبقات الكبرى : ج 1 ، ص 156 ، بحار الأنوار : ج 16 ، ص 18.).
واما عبادته للّه تعالى فقد أجمع
المؤرخون على أنه صلىاللهعليهوآلهوسلم
كان
يخلو بحراء كل عام شهراً يعبد فيه اللّه تعالى. وقد قال الامام أمير
المؤمنين علي بن ابي طالب عليهالسلام
في هذا المجال : « وَلَقَدْ كانَ يُجاورُ في كلِّ
سَنة بحراء ، فاراه وَلا يراهُ غيري » (نهج البلاغة : قسم الخطب ، الخطبة 192.).
حتّى أن جبرئيل وافاهُ بالرسالة في
ذلك المكان ، وفي تلك الحال. وقد صَرَّح بهذا
أصحابُ الصحاح الستة أيضاً إذ قالوا : « وَكانَ
يخلو بحراء فيتحنّثُ فيه ، وهو التعبد في الليالي ذوات العدد » (صحيح البخاري : ج 1 ، ص 2 ، صحيح مسلم باب الايمان ، مسند أحمد : ج 6
، الحديث 233.).
كما ان الإمام
اميرالمؤمنين عليهالسلام
وصف هذا المقطع من حياة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بقوله : « ولقد قرَن اللّه به صلىاللهعليهوآلهوسلم لدُنْ أنْ كان فطيماً أعظم مَلك من
ملائكته يسلكُ به طريق المكارم ، ومحاسنَ أخلاق العالم ، ليله ونهاره » (نهج البلاغة : قسم الخطب ، الخطبة رقم 192.).
وجاء في الأخبار أنَّ رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
حجّ قبل البعثة حجات عديدة وكان يأتي بمناسكها على وجه صحيح بعيداً عن أعين
قريش. قال الإمامُ الصادقُ عليهالسلام
: في حديث ابن أبي يعفور : « حج رَسُولُ اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
عشر حجَّات مُستتراً في كُلِّها » (وسائل الشيعة : ج 8 ، ص 88 أبواب وجوب الحج.).
وفي رواية :
عشرين حجة (وسائل الشيعة : ج 8 ، ص 88 أبواب وجوب الحج.).
والسبب في هذا الاستتار هو أن قريش
كانت قد اسقطت بعض مناسك الحج ، والعمرة ، فكانت تؤدّي الحج بصورة غير صحيحة
وربما غيرت أشهر الحج احياناً لبعض الاعتبارات السياسية والمادية ، وهو ما سمي
بالنسيء وقد مرّ بيانه (راجع الصفحة 83 و 84 من هذا الكتاب.).
ان هذه الوقائع وغيرها ـ وهي ليست
بقليلة اصدق دليل على إيمانه صلىاللهعليهوآلهوسلم
،
وتوحيده ، إذ كيف يمكن أن يتنكَّب مثل هذه الشخصية الّتي نشأت وترعرعت في ذلك
البيت الطاهر ، وقرن اللّه به ملكاً يتولاه بالتربية والهداية عن جادة التوحيد. ثم أن ممّا لا ريب فيه أن الرسول
الخاتم صلىاللهعليهوآلهوسلم
هو افضل من جميع الأنبياء والمرسلين بنص القرآن الكريم. وقد صرح القرآن بان بعض الانبياء
بلغوا درجة النبوة في الصغر ، أو الصبا ، ونزلت عليهم الكتب في تلك الفترات. فَمثلا يقول القرآن الكريم عن يحيى
بن زكريا : « يا يَحيى
خُذ الكِتابَ بقوَّة وآتيْناهُ الحُكمَ صَبِي »
(مريم : 12.).
ثم يقول عن « عيسى بن مريم » عندما كان
في المهد وكان وجوه القوم من بني اسرائيل قد استنكروا ولادته من غير اب ، وطلبوا
من « مريم البتول » ان توضح لهم الامر ، وتبين لهم كيف حملت بعيسى؟!! فاشارت إلى المسيح عليهالسلام أن كلِّموه
وهو آنذاك في المهد لم يمض على ولادته سوى ايام معدودات ؛ فنطق المسيح بفصاحة
كبيرة وقال : « إنّي
عَبْدُ اللّه آتانيَ الكِتابَ وَجَعَلنِي نَبيّاً. وَجَعلنِي مُباركاً أين ما
كُنْتُ وَأوصَاني بالصَلاة والزَّكاةِ ما دُمْتُ حَي »
(مريم : 30 و 31.).
لقد بيَّن وليد « مريم » للناس اُصول
دينه وفُروعه في فترة الطفولة والرضاعة ، وأعلن لهم عن توحيده وايمانه باللّه
سبحانه. فهل يرضى ضميرك أيها القارئ الكريم
أن يكون « يحيى » و « المسيح » عليهماالسلام مؤمنين
معلنين عن توحيدهما ، وإيمانهما منذ طفولتهما ، وصباهما ، ويكون أفضل الأنبياء
والمرسلين ، وأشرف الخلق أجمعين إلى سِنّ الأربعين على غير إيمان ، وتوحيد ، مع
أنه صلىاللهعليهوآلهوسلم كان مشتغلا بالتعبّد في جبل « حراء »
عند نزول ملاك الوحي عليه لأول مرة؟ واليك بعض ما قاله
المؤرخون ، والعلماء في هذا المجال استكمالا لهذا المبحث :
قال ابن هشام : كان رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم يجاور ذلك
الشهر من كل سنة يطعم من جاءه من المساكين فاذا قضى رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم جواره من شهره ذلك كان أول ما يبدأ
به إذا انصرف من جواره ، الكعبة ، قبل أن يدخل بيته ، فيطوفُ به سبعاً أو ما شاء
اللّه من ذلك ، ثم يرجع إلى بيته حتّى إذا كان الشهر الّذي أراد اللّه تعالى به
فيه ما أراد من كرامته من السنة الّتي بعثه اللّه تعالى فيها ، وذلك الشهر شهر
رمضان ، خرج رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى « حراء
» كما كان يخرج لجواره ومعه اهله حتّى إذا كانت الليلة الّتي اكرمه اللّه فيها
برسالته ورحم العباد بها جاءه جبرئيل عليهالسلام
بامر
اللّه تعالى (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 236.).
وقال العلامة المجلسي
: قد
ورد أخبار كثيرة انه صلىاللهعليهوآلهوسلم كان يطوف ،
وانه كان يعبد اللّه في حراء وانه كان يراعي الآداب المنقولة من التسمية
والتحميد عند الاكل وغيره ، وكيف يجوّز ذو مسكة من العقل على اللّه تعالى ان
يهمل افضل انبيائه اربعين سنة بغير عبادة؟ والمكابرة في ذلك سفسطة (بحار الأنوار : ج 18 ، ص 280.). فايمان النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
، وتوحيده قبل البعثة ، اذن ، أمرٌ مسلمٌ لا شبهة فيه ، ولا غبار عليه. ولكن بعض الكُتاب من المسيحيين ومن
تبعهم ، من المستشرقين وغيرهم ، أبوا إلاّ أن ينتقصوا النبيّ الاكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم
فادّعوا ضلالَهُ قبل البعثة ، وإنه كان على غير إيمان ، أو توحيد ،
واستدلّوا لزعمهم الباطل هذا بما توهّموا أنه يدلّ على دعواهم من الآيات
القرآنية ، وأبرزها الآيات التالية : 1 ـ « ألم يَجدكَ يتيماً فآوى. وَوَجَدك ضالاّ فَهَدى »
(الضحى : 6 و 7.).
2 ـ « وثيابَكَ فَطهِّر. وَالرُّجْزَ فاهْجُرْ »
(المدّثر : 4 و 5.).
3 ـ « وكذلِكَ أوْحَينا إلَيْكَ رُوْحاً مِنْ أمْرنا
ما كُنْتَ تَدري ما الكِتابُ ولا الإيمانُ وَلكِنْ جَعلَناهُ نُوراً نَهْدي بِه
مَنْ نَشاء مِنْ عِبادِنا وإنَّكَ لَتهْدي إلى صِراط مستقيم »
(الشورى : 52.).
4 ـ « قُلْ لَوشاء اللّه مَا تَلَوتُه عَليْكُمْ وَلا
أدريكُمْ بِهِ فَقدْ لَبِثْتُ فِيْكُمْ عُمراً مِنْ قَبلِه أفَلا تَعْقِلُون »
(يونس : 16.).
5 ـ « وَما كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقى إلَيْكَ الْكِتابُ
إلاّ رَحْمة مِنْ رَبِّك » (القصص : 86.).
لقد استدل المستشرقون
ومن لفّ لفهم ومن سبقهم أو لحقهم من المخطّئة بهذه الآيات على ضلال النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم قبل البعثة ،
وسلب الايمان عنه ، ولكنها لا تدل على ما يريدون ، ولاجل تسليط الضوء على
مقاصدهم نبحث عنها واحدة واحدة. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الايةُ الاُولى :
الهداية بعد الضلالة :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ذكرالمفسرون لقوله تعالى : « وَوَجدَكَ ضالا فهدى »
الّذي يشعر بهداية النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم بعد
الضلالة احتمالات عديدة ، في معرض الاجابة على استدلال من استدل به لاثبات ضلال
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
قبل البعثة ولكن الحق
ان يقال : أنّ الضال يُستعمل في عرف اللغة
في موارد : 1 ـ الضالّ : من الضلالة ضدّ الهداية
والرشاد. 2 ـ الضالّ : من ضلّ البعير إذا لم
يعرف مكانه. 3 ـ الضالّ : من ضلّ الشيء إذا ضؤل وخفى
ذكره. وتفسير الآية بأيّ واحدة من هذه
المعاني لا يثبت ما يدعيه الذين يتمسكون بها لأثبات ضلال النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
قبل البعثة. أما المعنى الأول فهو المقصود في
كثير من الآيات قال سبحانه : «
غَيْر المَغضوب عَليهم وَلا الضالّين » (الفاتحة : 7.).
لكن الضلالة على نوعين
: النوع الأول ما
تكون الضلالة فيه أمراً وجودياً في النفس يوجب ظلمة النفس ومنقصتها ، مثل الكفر
والشرك والنفاق ، والضلالة بهذا المعنى قابلة للزيادة والنقصان قال سبحانه : « إنّما النَسِيء زيادةٌ في الكُفْر »
(التوبة : 37.).
النوع الثاني
ما تكون الضلالة فيه أمراً عدَمياً ، وذلك عندما تكون النفس فاقدة للرشاد ،
وعندئذ يكون الإنسان ضالا بمعنى أنه غيرُ واجد للهداية من عند نفسه ، وذلك
كالطفل الّذي اشرف على التمييز وكاد أن يعرف الخير والشر ، ويميز بين الصلاح
والفساد فهو آنذاك ضالٌّ بمعنى أنه غير واجد للنور الّذي يهتدي به في سبل الحياة
لا بمعنى كينونة ظلمة الكفر والفسق في نفسه وروحه. والمراد من الضالّ في
قوله تعالى « وَوَجدكَ
ضالا فَهَدى » لو كان ما يضادد الهداية فهو يهدف
إلى النوع الثاني ، فيكون المعنى انك في ابان عمرك كنت غير واجد للهداية من عند
نفسك فهداك اللّه إلى اسباب السعادة وعرفك عوامل الشقاء ، وهو اشارة إلى قانون
الهي عام في حياة البشر انبياء واناساً ماديين ، وهو ان هداية كل إنسان بل كل
ممكن مكتسبة من اللّه قال سبحانه : «
قالَ رَبُّنا الَّذي أعطى كُلَّ شيء خلْقَهُ ثمّ هَدى »
(طه : 50 ، وراجع الآيات : 2 و 3 من سورة الأعلى و 43 من سورة الأعراف
و 78 من سورة الشعراء وغيرها.).
وعلى هذا الاساس فالآية تهدف إلى ذكر
النعم الّتي انعم اللّه بها على نبيه الحبيب منذ ان استعد لها فآواه بعد ما صار
يتيماً ، وافاض عليه الهداية بعد ما كان فاقداً لها بحسب ذاته ، وبحكم طبيعته ،
ويعود زمن هذه العناية الربانية بنبيه إلى مطلع حياته ، واوليات عمره وايام صباه
بقرينة ذكر ذلك بعد الايواء الّذي تحقق باليتم ، وتمّ بجده عبد المطلب فوقع في
كفالته إلى ثمانية سنين ، ويؤيد ذلك قولُ امام المتقين علي بن ابي طالب عليهالسلام
: « ولقد قَرنَ اللّه به صلىاللهعليهوآلهوسلم من لَدنْ
أن كانَ فطيماً أعظمَ مَلك من ملائكته يسلكُ به طريقَ المكارم ، ومحاسنَ أخلاق
العالم ليله ونهاره » (ـ نهج البلاغة : من الخطبة 178 والمسماة بالقاصعة : ص 182.).
وصفوة القول أن المراد بكونه ضالا هو
أن لازم كون النبي ممكناً بالذات هو كونه فاقداً في ذاته لكل كمال وجمال ،
مفاضاً عليه كل جميل من جانب اللّه تعالى وهذا هو اشارة إلى مقتضى التوحيد
الافعالي واين هذا من الضلالة المساوقة للكفر أو الشرك أو الفسق والعصيان؟! ثم ان من المحتمل ان
تكون الضلالة في الآية مأخوذة من « ضلّ الشيء إذا لم يُعرف مكانه » وفي الحديث «
الحكمة ضالّة المؤمن » اي مفقودته ، لا ضدّ الهداية والرشاد ، فيكون الضالّ بهذا
المعنى منطبقاً على ما نقله أهلُ السير والتواريخ عن ما جرى للنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
في ايام صباه يوم ضلّ في شعاب مكة ، وهو صغير فمنّ اللّه عليه إذ ردّه إلى جدّه
، وقصته معروفة في كتب السير والتاريخ (لاحظ السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 131 وغيره ، وفي هذه القصة يروي عن
حيدة بن معاوية العامري سمعت شيخاً يطوف بالبيت وهو يقول :
)
ولو لا رحمة اللّه سبحانه لادركه الهلاك ومات عطشاً أو جوعاً فشملتهُ العناية
الالهية. أو أن تكون الضلالة في الآية مأخوذة
من « ضلّ الشيء إذا خفي وغاب عن الأعين » فالانسان الضال هو الإنسان المخفي ذكره
، المسنيّ اسمُه لا يعرفه إلا القليل من الناس ، ولا يهتدي كثير منهم إليه. ولو كان هذا هو
المقصود ، كان معناه حينئذ انه سبحانه رفع ذكره ، وعرّفه
للناس بعد ما كان خاملا ذكره منسياً اسمُه. ويؤيد هذا الاحتمال
قوله سبحانه في سورة الانشراح الّتي نزلت لتحليل ما ورد في سورة الضحى قائلا :
« المْ نشرَح لَك صَدرَك. وَوَضْعْنا
عَنْكَ وزرَك. الّذي أنقَضَ ظهرَكَ. وَرَفَعْنا لَكَ ذِكرَك »
(الإنشراح : 1 ـ 4.).
فرفع ذِكْره في العالم عبارة عن
هداية الناس إليه ورفع الحواجز بينه ، وبينهم وعلى هذا فالمقصود من « الهداية »
هو هداية الناس إليه لا هدايته بعد ضلال ، فكأنه قال : فوجدك ضالا ، اي خاملا
ذكرك ، باهتا اسمُك ، فهدى الناس اليك ، وسيّر ذكرك في البلاد. وإلى ذلك يشير الإمام الرضا عليهالسلام على ما في
خبر ابن الجهم بقوله : « قال اللّه عزّ وجلّ لنبيه محمَّد صلىاللهعليهوآلهوسلم : « ألم يجدك يتيماً فآوى »
يقول « ألم يَجدْكَ
» وحيداً فآوى إليك الناسَ «
وَوَجَدكَ ضالاّ » يعني عند قومك « فَهَدى » أي
هَداهُمْ إلى معرفَتِك » (بحار الأنوار : ج 16 ، ص 142).
قال الاستاذ الشيخ محمَّد عبده في هذا المجال : لقد بُغِّضتْ إليه ( أي إلى رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم )
الوثنيّةُ من مبدأ عمره فعاجلته طهارةُ العقيدة ، كما بادره حسنُ الخليقة ، وما
جاء في الكتاب من قوله : « وَوَجدَكَ
ضالاّ فَهدى » لا يُفهَم منه أنه كان على وثنية
قبلَ الاهتداء إلى التوحيد ، أو على غير السبيل القويم ، قبل الخلق العظيم حاشَ
للّه ، إنّ ذلكَ لهوَ الإفكُ المُبِين (رسالة التوحيد للشيخ محمَّد عبده : ص 135 و 136.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الآية الثانية :
الامر بهجر الرجز
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
استدلّوا بقول اللّه تعالى «
والرُجْزَ فاهجُرْ » على وجود ارضية لعبادة الصنم والوثن في شخصية رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وذلك بتفسير الرجز بالصنم ، والوثن ، ويتضح بطلان هذا الادعاء والاستنباط إذا
أمعنا في معاني واستعمالات هذه اللفظة في الكتاب العزيز. ان الرجز استعمل في
القرآن الكريم في معان ثلاثة : العذاب ، القذارة ، الصنم. وقد استعمل الرجز ( بكسر الراء )
في تسع موارد في القرآن الكريم ، وقد
اُريد منه في جميعها العذاب إلاّ في مورد
واحد : وهي : البقرة ـ 59 ، والاعراف ـ 134 ( وجاءت اللفظة فيها مرتين ) و 135 و
162 والانفال ـ 11 وسبأ ـ 5 والجاثية ـ 11 والعنكبوت ـ 34. وجاء الرجز ـ بضمّ
الراء ـ مرّة واحدة وهي
الآية الّتي نحن بصددها هنا (المدَّثر : 5.).
وهذه الآية لا تدل على ما ذهب إليه
الذين يزعمون بان رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم كان على
غير التوحيد قبل البعثة. واليك بيان هذا
الموضوع مفصلاً : 1 ـ ان الرُجز لو كان بمعنى « العذاب
» دَلّت الآية على هجر ما يستلزم العذابَ ، فيكون الخطابُ حينئذ مسوقاً من باب
التعليم ، ومن باب « اياك أعني واسمعي يا جاره » ، فيكون ظاهر الأمر هو مخاطبة
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
ونهيه عما يستلزم العذاب ، وارادة تعليم الاُمة مثل قول اللّه تعالى في خطابه
للنبي « فلا تكوننّ
ظهيراً للكافرين » (القصص : 86.).
وقوله تعالى : « لئن أشركْتَ
ليَحْبَطنَّ عَملُك » (الزمر : 65.)
فكما لا تدلّ الآية على وجود أرضية الشرك في شخصية النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم كذلك لا تدل الآية على وجود أرضية
التعرض للعذاب في شخصية رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم. 2 ـ إن الرُجز لو كان
بمعنى ( القذارة ) وهي تنقسم إلى مادية ومعنوية فيحتمل ان
يكون المراد بناء على المعنى الأول اشارة إلى ما ورد في الروايات من أنّ اباجهل
جاء بشيء قذر ، وأمر رجلا من قريش بالقائه على النبيّ ، ففعل ، فأمراللّه نبيه
بتطهير ثوبه من الدنس. ويحتمل ان تكون الآية دعوة إلى
اجتناب الصفات الذميمة بناء على ارادة المعنى الثاني الفظة الرُجز فتكون الآية
تعليماً للناس على النمط السابق ، فلا تدل على اتصاف النبي الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم
بها. 3 ـ الرُجز بمعنى
الصنم ، لنفترض أن المقصود منه في الآية هو الصنم ،
لكن لا بمعنى أنه وضعَ لذاك المعنى ، وإنّما وضعَ اللفظُ لمعنى جامع يعمُّ الصنم
والخمر والازلام لاشتراك الجميع في كونها رجزاً ، ولأجل ذلك وصِف الجميع في مورد
آخر بالرجس فقال تعالى : « إنَّما
الخمْرُ والمَيْسرُ وَالأنْصابُ وَالأَزْلامُ رجسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ
فاجْتَنِبُوهُ » (المائدة : 90.).
ولكن يجاب عن هذا أيضاً بأن النبيّ
يوم نزلت الآية لم يكن عابداً للوثن بل كان مشمّراً عن ساعد الجدّ لتحطيم
الاصنام ومكافحة عبدتها ، فلا يصحّ أن يخاطَب من هذا شأنه بهجر الاصنام إلا على
السبيل الّذي أشرنا إليه وهو توجيه الخطاب إلى النبيّ وإرادة الاُمة به لكون هذا
النوع من الخطاب أبلغ في التأثير ، لأنه سبحانه إذا خاطب أعزّ الناس إليه بهذا
الخطاب فغيره أولى به. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الآية الثالثة :
عدم علمه بالكتاب والايمان
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قوله سبحانه : « وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إليْكَ رُوْحاً مِنْ
أَمْرنا ما كُنْتَ تَدريْ ما الْكِتابُ وَلاَ الإيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ
نُوراً نَهْدي بِه مَنْ نَشاء مِنْ عِبادِنا وانَّكَ لَتَهْدِي إلى صِراط
مُستَقيم » (الشورى : 52.).
زعم جماعة دلالة هذه الآية ـ والعياذ باللّه ـ على أن
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
كان فاقداً للايمان قبل الايحاء إليه. لكنَ حياته الشريفة المشرقة بالإيمان
، والتوحيد ، تفنّد تلك المقالة ، فالتاريخ يشهد على انه صلىاللهعليهوآلهوسلم منذ بداية عمره إلى أن لاقى ربه
مؤمناً موحداً وذلك امرٌ لا شك فيه ، ولا شبهة تعتريه ، وقد اجمع على ذلك أهلُ
السير والتاريخ ، وحتّى أن الاحبار والرهبان كانوا معترفين بانه نبيُّ هذه
الاُمة ، وخاتم النبيين ، وكان يسمع تلك الشهادات منهم في فترات خاصة في « مكة »
و « يثرب » و « بصرى » و « الشام » (راجع السيرة النبوية والسيرة الحلبية وبحار الأنوار.)
وغيرها ، فكيف والحال هذه يمكن ان يكون غافلاً عن الكتاب الّذي ينزل إليه أو
يكون مجانباً للإيمان بوجوده سبحانه ، وتوحيده ، والتاريخ المسلَّم الصحيح يؤكّد
على عدم صدق ذلك الاستظهار من الآية الحاضرة. فلابدّ إذن من الإمعان في مفاد الآية
كما لابدّ ـ في تفسيرها ـ من
الاستعانة بالآيات الواردة في ذلك المساق. بعث النبيُ الاكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم
لهداية قومه أوّلا ، وهداية جميع الناس ثانياً ، بالآيات والبيّنات ، ونخصُّ بالذكر منها : القرآن
الكريم ( معجزته الكبرى الخالدة )
الّذي بفصاحته أخرسَ فرسان الفصاحة ، وقادة الخطابة ، وببلاغته قهر ارباب
البلاغة وملوك البيان ، وخلب عقولهم ، وقد دعاهم إلى التحدي والمقابلة ، فلم يكن الجواب منهم إلاّ اثارة
الشكوك والتهم حوله ، وحول ما جاء به ، وعدم المعارضة بمثل القرآن قط. فتارة قالوا : بانه يعلّمه بشر ،
واُخرى بأنه إفكٌ افتراه ، واعانه عليه قوم آخرون وثالثة : بأنه أساطير الاولين
، قد اكتتبها فهي تُملى عليه بكرة واصيلا ، قال سبحانه رداً على هذه التهم الّتي
أشرنا إليها : « قُلْ نزّلَهُ رُوحُ القدُس مِنْ ربّكَ بِالْحَقِّ
لِيُثَبِتَ الَّذينَ آمَنُوا وَهُدى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِميْنَ * وَلَقْدَ
نَعلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إنّما يُعلِّمُهُ بَشَرٌ لسانُ الَّذي يُلْحِدُونَ
إليه أعجَميّ وَهذا لسانٌ عَرَبيّ مُبِينٌ
» (النحل : 102 و 103.).
وقال سبحانه « وَقالَ الَّذينَ كَفَرُوا إنْ هذا إلاّ إفكٌ
افتراهُ وَأعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاؤوا ظُلْماً وزُورا.
وَقالُوا أساطيرُ الأَوَّلينَ اكتَتبَهَا فَهِي تُملى عَليْهِ بُكرَةً وَأصيلا.
قُلْ أنزَلَهُ الَّذي يَعْلَمُ السّرَّ في السَّماواتِ وَالاَْرضِ إنه كانَ
غَفُوراً رَحيماً » (الفرقان : 4 ـ 6.).
والآية المبحوثة بصدد بيان هذا الأمر
، وانه وحي سماويٌ لا افكٌ إفتراه ، ولهذا بدأ كلامه بلفظة : « وَكَذلِكَ
أوْحَينا إليكَ » أي كما أنه سبحانه أوحى إلى سائر الانبياء باحدى الطرق الثلاثة
الّتي بينها في الآية المتقدمة ، أوحى إليك أيضاً روحاً من امره ، وليس هذا
كلامك وصنيعك ، بل كلام ربك وصنيعه. هذا مجمل الكلام في
الآية ولاجل رفع النقاب عن مرماها نقدّم اموراً تسلط الضوء على الآية : الأول : ان
المراد من الروح في الآية هو القرآن وسمّي روحاً لانه قوام الحياة الاُخروية ،
كما ان الروح في الإنسان قوام الحياة الدنيوية ، ويؤيد ذلك امورٌ : أ ـ ان
محور البحث الأصلي في سورة الشورى هو : الوحي والآيات الواردة فيها البالغ
عددُها (53)
آية تبحث عن ذلك المعنى بالمباشرة أو بغيرها. ب ـ
الآية الّتي تقدمت على تلك ، تبحث عن الطرق الّتي يكلم بها سبحانه انبياءه ويقول
: « وَما كانَ لِبَشر أن
يكلِّمَهُ اللّه إلاّ وَحْياً أو مِن وَرَاء حِجَاب أو يُرسِلَ رَسُولا فَيُوحيَ
بإذْنه ما يَشاء إنَّه عليُّ حكيم » (الشورى : 51.).
ج ـ انه
سبحانه بدأ كلامه في هذه الآية بلفظة : « وكذلك » أي كما أوحينا إلى من تقدم من
الانبياء كذلك أوحينا اليك باحدى تلك الطرق « روحاً من أمرنا » ووجه الاشتراك
بينه وبين النبيين هو الوحي المتجلي في نبينا بالقرآن وفي غيره بوجه آخر. كل ذلك يؤيد ان المراد من الروح في
الآية المبحوثة هو القرآن الملقى إليه. نعم وردت في بعض الروايات ان المراد
منه هو روح القدس ، ولكنه لا ينطبق على ظاهر الآية ، لان الروح بحكم كونه مفعولا
ل « أوحينا » يجب ان يكون شيئاً قابلا للوحي حتّى يكون موحى ، وروح القدس ليس
موحى بل هو الموحي ( بالكسر ) فكيف يمكن أن يكون مفعولا ل « أوحينا » ، ولأجله
يجب تأويل الروايات إن صحّت اسنادها. الثاني :
إن هيئة « ما كنتَ » أو « ما كانَ » تُستعمل في نفي الإمكان والشأن قال سبحانه :
« وَما كانَ لنَفْس أنْ تَموتَ
إلاّ بإذْنِ اللّه » (آل عمران : 145.)
وقال عزَّ اسمه : « ما كانَ
المؤمنُونَ لِيَنِفرُوا كافّةً » (التوبة : 122.).
وعلى ضوء هذا الاصل يكون مفاد قوله «
ما كُنتَ تدري ما الكتابُ ولا الايمانُ » أنه لولا الوحيُ ما كان من شأنك أن
تدري الكتابُ ولا الإيمان ، فان وقفتَ عليهما فانّما هو بفضل الوحي وكرامته. الثالث :
أن ظاهر الآية هو أن النبي الاكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم
كان فاقداً للعلم بالكتاب ، والدراية بالكتاب ، وانما حصلت الدراية بهما في ظل
الوحي وفضله فيجب إمعان النظر في الدراية الّتي كان النبي فاقداً لها قبل الوحي
وصار واجداً لها بعده ، فما تلك الدراية وذاك العلم؟ فهل المراد هو العلم بنزول الكتاب
إليه اجمالا والايمان بوجوده وتوحيده سبحانه ، أو المراد العلم بتفاصيل ما في
الكتاب ، والاذعان بها كذلك؟ لا شك انه لا سبيل إلى الأول لأنّ
علمه ـ اجمالا ـ بانه ينزل إليه الكتاب ، أو
ايمانه بوجود اللّه سبحانه كانا حاصلين قبل نزول الوحي إليه ولم يكن العلم بهما
ممّا يتوقف على الوحي ، فان الأحبار والرهبان كانوا واقفين على نبوّته ورسالته
ونزول الكتاب إليه في المستقبل إجمالا ، وقد سمع منهم النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
في فترات مختلفة : أنه النبيّ الموعود في الكتب السماوية ، وانه خاتم الرسالات
والشرائع ، فهل يصحّ أن يقال أن علمه صلىاللهعليهوآلهوسلم بنزول كتاب
عليه إجمالا كان بعد بعثته وبعد نزول الوحي ، أو انه كان متقدماً عليه وعلى
بعثته ، ومثلُهُ الإيمان باللّه سبحانه ، وتوحيده ، إذ لم يكن الإيمان باللّه
امراً مشكلاً متوقفاً على الوحي ، وقد كان الاحناف في الجزيرة العربية ومن
جملتهم رجال البيت الهاشمي موحّدين مؤمنين مع عدم نزول الوحي اليهم. فيتعين الاحتمال
الثاني وهو أن العلم التفصيلي بمضامين الكتاب وما فيه من
الاصول والتعاليم ثم الايمان والاذعان بتلك التفاصيل كانا متوقفين على نزول
الوحي ، ولولاه لما كان هناك علمٌ بها ، ولا ايمان. وبعبارة اُخرى : إنّ
العلم والإيمان بالامور السمعية الّتي لا سبيل للعقل إليها مثل المعارف والاحكام
والقصص ومجادلات الانبياء مع المشركين والكفار ، وما نزل بساحة أعدائهم من إهلاك
وتدمير ، لا يحصلان إلاّ من طريق الوحي حتّى قصص الامم السالفة وحكاياتهم لتطرق
الوضع والدّس إلى كتب القصّاصين ، والصحف السماوية النازلة قبل القرآن. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
تفسير الآية بآية
اُخرى :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إن الرجوع إلى ما ورد
في هذا المضمار من الآيات يوضح المراد من عدم درايته بالكتاب أوّلا ، والإيمان
ثانياً. أما الأول :
فيقول سبحانه : « تِلْكَ مِنْ
انباء الغَيب نُوحيها إليْكَ مَا كُنتَ تَعْلمُها أنْتَ وَلا قومُكَ مِنْ قَبلِ
هذا فاصْبِرْ إنَّ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقين
» (هود : 49.)
فالآية صريحة في أن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
لم
يكن عالماً بتفاصيل الأنباء ، وقد وقف عليها من جانب الوحي ، فعبّر عن عدم وقوفه
عليها في هذه الآية بقوله : « ما كُنتَ تَعْلُمها اَنتَ ولا قومُكَ » وفي تلك الآية بقوله : « ما
كُنْتَ تدري مَا الْكِتاب » والفرق هو ان « الكتاب » أعم من « أنباء الغيب »
والأول يشتمل على الانباء وغيرها ، وأما « الانباء » فانها مختصة بالقصص ، والكل
مشتركان في عدم العلم بهما قبل الوحي والعلم بهما بعده. واما الثاني
فقوله سبحانه : « آمَنَ
الرَّسُولُ بما اُنزل إلَيْهِ مِنْ رَبِّه وَالْمُؤمنُونَ كلٌ آمَنَ باللّه
وَمَلائكَتِهِ وَكُتُبه وَرُسُلِهِ لا نفرِّق بَينَ أحد مَن رسلِهِ وَقالُوا
سَمِعْنا وَأطعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإليْكَ الْمصيرُ
» (البقرة : 285.)
فقوله : « آمَنَ
الرسولُ بِما اُنزِلَ إليهِ » صريحٌ في
أنّ متعلّق الإيمانِ الحاصل بعد الوحي ، هو الايمان « بما اُنزل إليه
» أعني تفاصيل الكتاب في المجالات المختلفة ، لا الإيمان باللّه وتوحيده وعندئذ
يرتفع الابهام في الآية الّتي تمسكت بها المخطئة ومن ينسبون عدم الإيمان باللّه
وتوحيده إلى النبي قبل البعثة ، ويتبيّن أن متعلق الإيمان المنفيّ في قوله : «
ولا الإيمان » هو « ما اُنزل » لا الايمان بالمبدأ وتوحيده. والحاصل إن هُنا شيئاً
واحداً هو : « الايمان بما اُنزل من المعارف
والاحكام والانباء » فقد نفيَ عنَه في الآية المبحوث عنها لكونها ناظرةً إلى
فترة ما قبل البعثة ، واثبت له في الآية الاُخرى لكونها ناظرة إلى ما بعد
البعثة. قال الطبرسي : «
ما كُنتَ تدري ما الكتابُ » ما القرآن ولا الشرائع ومعالم الايمان (مجمع البيان : ج 3 ، ص 88 و 89.).
وقال الفخر الرازي :
المراد من الايمان هو الاقرار بجميع ما كلّف اللّه تعالى به ، وانه قبل النبوة
ما كان عارفاً بجميع تكاليف اللّه تعالى بل انه كان عارفاً باللّه ... ثم قال :
صفات اللّه تعالى على قسمين : منها ما تمكن معرفته بمحض دلائل العقل ، ومنها ما
لا تمكن معرفته الا بالدلائل السمعية ، فهذا القسم الثاني لم تكن معرفته حاصلة
قبل النبوة (مفاتيح الغيب : ج 7 ، ص 410.).
وقال العلامة
الطباطبائي في الميزان : ان الآية مسوقة لبيان ان ما عنده صلىاللهعليهوآلهوسلم
الّذي يدعو إليه انما هو من عند اللّه سبحانه لا من قِبَل نفسه ، وإنما اُوتي ما
اُوتي من ذلك بالوحي بعد النبوة ، فالمراد بعدم درايته بالكتاب هو عدم علمه بما
فيه من تفاصيل المعارف الاعتقادية والشرائع العملية ، فان ذلك هو الّذي اُوتي
العلمُ به بعد النبوة والوحي ، والمراد من عدم درايته الإيمان عدم تلبسه
بالالتزام التفصيلي بالعقائد الحقة والأعمال الصالحة ، وقد سمّي العمل ايماناً
في قوله تعالى : « وَمَا كانَ
اللّه لِيُضيعَ إيمانَكُمْ » (البقرة : 143.)
والمراد الصلوات الّتي اتى بها المؤمنون إلى بيت المقدس قبل النسخ وتحويل القبلة
، والمعنى ما كان عندك قبل وحي الروح علمُ الكتاب بما فيه من المعارف والشرائع
ولا كنت متلبساً به ما انت متلبس به بعد الوحي من الالتزام التفصيلي والاعتقادي
وهذا لا ينافي كونه مؤمناً باللّه ، موحداً قبل البعثة صالحاً في عمله ، فان
الّذي تنفيه الآية هو العلم بتفاصيل ما في الكتاب والالتزام بها اعتقاداً وعملا
، لا نفي العلم والالتزام الاجماليين بالايمان باللّه ، والخضوع للحق (الميزان : ج 18 ص 80.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الآية الرابعة :
عدم رجائه إلقاء الكتاب اليه
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال تعالى : « وَمَا كُنْتَ تَرْجُوا أن يُلْقى إلَيْكَ
الْكِتابُ إلاّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهيراً لِلْكافِرين
» (القصص : 86.).
استدلّوا بأن ظاهر الآية نفيُ علمه
بالقاء الكتاب إليه ، فلم يكن النبيُ راجياً لذلك واقفاً عليه. أقول :
ان توضيح مفاد هذه الآية يتوقف على إمعان النظر في الجملة الاستثنائية اعني قوله
: « الاّ رحمة مِنْ ربّك » حتّى يتضح المقصود ، وقد
ذكر المفسرون في توضيحها وجوها ثلاثة نأتي بها : 1 ـ إن
« إلاّ » استدراكية ، وليست استثنائية فهي بمعنى « لكنَّ » لاستدراك مابقي من
المقصود ، وحاصل معنى الآية : « ما كنت يا محمَّد ترجو فيما مضى أن يوحي اللّه
إليك ويشرّفك بإنزال القرآن عليك ، إلاّ أن ربّك رحمك ، وانعم به عليك واراد بك
الخير » نظير قوله سبحانه : « وما
كنْتَ بِجانِب الطُّور إذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمةً مِنْ رَبِّك
» (القصص : 46.)
اي ولكن رحمة من ربك خصّصك به وهذا هو المنقول عن الفراء (مجمع البيان : ج 4 ، ص 296 ، مفاتيح الغيب : ج 6 ، ص 408.).
وعلى هذا لم يكن للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم اي رجاء لالقاء الكتاب إليه ، وانما
فاجأه الالقاء لأجل رحمة ربه. ولكن لا يصار إلى هذا الوجه إلاّ إذا
امتنع كون الاستثناء متصلا لكون الانقطاع على خلاف الظاهر. 2 ـ ان
يكون « إلاّ » للاستثناء لا للاستدراك وهو متصل لا منقطع ، ولكن المستثنى منه
جملة محذوفة معلومة من سياق الكلام ، وهو كما في الكشاف : « وما القى اليك
الكتاب إلاّ رحمة من ربك » (الكشاف : ج 2 ، ص 487 و 488.)
اي لم يكن لالقائه عليك وجهٌ إلاّ رحمة ربك ، وعلى هذا الوجه ايضاً لا يُعلَم
انه كان للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
رجاء لالقاء الكتاب عليه وان كان الاستثناء متصلا. وهذا الوجه بعيد أيضاً لكون المستثنى
منه ، محذوفاً مفهوماً من الجملة على خلاف الظاهر وانما يصار إليه إذا لم يصحّ
ارجاعُه إلى نفس الجملة الواردة في نفس الآية كما سيبيَّن في الوجه الثالث. 3 ـ
أن يكون « إلاّ »
استثناء من الجملة السابقة عليه اعني قوله : «
وما كنت ترجو » ويكون معناه : ما كنت ترجو القاء
الكتاب عليك إلاّ أن يرحمك اللّه برحمة فينعم عليك بذلك ، فتكون النتيجة : ما
كنت ترجو إلاّ على هذا (مفاتيح الغيب : ج 6 ، ص 498.).
فيكون هنا رجاء منفياً ، ورجاء
مثبتاً ، أما الأول فهو رجاؤه بحادثة نزول الكتاب على نسج رجائه بالحوادث
العادية ، فلم يكن ذاك الرجاء موجوداً. واما رجاؤه به عن طريق
الرحمة الالهية فكان موجوداً فنفيُ أحد الرجائين لا يستلزم نفي الآخر ، بل
المنفيّ هو الأول ، والثابت هو الثاني وهذا الوجه هو الظاهر المتبادر من الآية. وقد سبق منّا أن جملة « ما كنت » وما
اشبهه تستَعمل في نفي الامكان ، والشأن ، وعلى ذلك يكون معنى الجملة : لم تكن
راجياً لأن يلقى اليك الكتاب ، وتكون طرفاً للوحي ، والخطاب الاّ من جهة خاصة ،
وهي أن تقع في مظلة رحمته وموضع عنايته ، فيختارك طرفا لوحيه ، ومخاطباً لكلامه
، فالنبي بما هو انسان عادي لم يكن راجياً لأن ينزل إليه الوحيُ ، ويلقى إليه
الكتاب ، وبما انه صار مشمولا لرحمته وعنايته ، وصار انساناً مثالياً ، قابلا
لتحمل المسؤولية ، وتربية الاُمة ، كان راجياً به ، وعلى ذلك فالنفي والاثبات غير
واردين على موضع واحد. وبهذا خرجنا بفضل هذا البحث الضافي
أنه صلىاللهعليهوآلهوسلم
كان إنساناً مؤمناً موحّداً عابداً للّه ساجداً قائماً بالفرائض العقلية
والشرعية مجتنباً عن المحرمات عالماً بالكتاب ومؤمناً به إجمالا وراجياً لنزوله
إليه إلى أن بعث لانقاذ البشرية عن الجهل ، وسوقها إلى الكمال. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الآية الخامسة : لو
لم يشأ ما تلوته
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال سبحانه : «
قُلْ لَوْ شاء اللّه ما تَلَوتُهُ
عَلَيْكُمْ وَلا ادْريكُمْ بِه فَقدْ لِبثتُ فيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبلِه أفلاَ
تَعْقِلُون » (يونس : 16.)
، والآية تؤكد أن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
كان لابثاً في قومه ، ولم يكن تالياً لسورة من سور القرآن ، أو آية من آياته
وليس هذا شيء ينكره القائلون بالعصمة ، فقد اتفقت كلمتهم على أنّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وقف على ما وقف عليه من آي الذكر
الحكيم من جانب الوحي ، ولم يكن قبله عالماً به واين هذا من قول المخطئة من نفي
الايمان منه قبلها. وان اردت الاسهاب في
تفسيرها فلاحظ الآية المتقدمة ، فترى فيها
اقتراحين للمشركين وقد اجاب القرآن عن أحدهما في الآية المتقدمة وعن الآخر في
نفس هذه الآية واليك نصّها : « قالَ
الَّذينَ لا يَرجُونَ لِقاءنا ائتِ بِقُرْآن غير هَذا أوْ بَدّلْهُ قُلْ مَا
يكُونُ لِي أنْ اُبَدلَهُ مِنْ تِلقاء نفسي إنْ أتَّبعُ إلا ما يُوحى اليَّ
إنِّي أخافُ إنْ عَصيْتُ ربِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظيمٍ »
(يونس : 15.).
اقترح المشركون على النبي
أحد الأمرين : 1 ـ الإتيان بقرآن غير هذا مع التحفظ
على فصاحته وبلاغته. 2 ـ تبديل بعض آياته مما فيه سبٌّ
لآلهتهم وتنديدٌ بعبادتهم للاوثان والاصنام. فأجابَ عن الثاني في نفس الآية بان
التبديل عصيان للّه ، وانه يخافُ من مخالفة ربه ، ولا محيص له إلاّ إتباعُ الوحي
من دون أنْ يزيدَ فيه أو ينقص عنه. واجاب عن الأول في الآية المبحوث
عنها بان ذلك أمر غير ممكن لأن القرآن ليس من صنعي وكلامي حتّى أذهب به وآتي
بآخر ، بل هو كلام اللّه سبحانه وقد تعلقت مشيئته بتلاوتي ، ولو لم يشأ لما
تلوته عليكم ولا ادراكُمْ به ، والدليل على ذلك أني كنت لابثاً فيكم عُمُراً من
قبل فما تكلمت بسورة أو بآية من آياته ، ولو كان القرآن كلامي لبادرت إلى التكلم
به ، ايام معاشرتي السابقة معكم في المدة الطويلة ، المديدة. قال العلامة الطباطبائي في
تفسير الآية : إن الأمر فيه إلى مشيئة اللّه لا
إلى مشيئتي ، فانما أنا رسول ولو شاء اللّه ان ينزل قرآناً غير هذا لأنزل ، أو
لم يشأ تلاوة هذا القرآنُ تلوتُه عليكم ، ولا أدراكم به فاني مكثت عُمُراً من
قبل نزوله ، ولو كان ذلك اليّ وبيدي لبادرتُ إليه قبل ذلك وبدت من ذلك آثار
ولاحت لوائحه (الميزان : ج 10 ، ص 26 ، ولاحظ المنار : ج 11 ، ص 320.).
فكيف يمكنُ والحال هذه
أن يكون مجانبا للإيمان باللّه وتوحيده ، لاهياً عن عبادته وتقديسه. هذا وفي هذا المجال
حديث واسع اكتفَيْنا مِنه بهذا القدر ، ومن أراد التوسع أن يراجع الجزء الخامس
من مفاهيم القرآن ص 135 ـ 191. وأما الكلام في الجهة
الثانية وهي : أنه بماذا وبأيّ دين كان يتعبَّدُ
رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
قبل البعثة ، فقد وقع ذلك محطاً للبحث بين العلماء ، وحيث انه لا ينطوي على
فائدة كبرى ، بعد أن تبين أنه كان قبل البعثة مؤمناً ، موحّداً ، يعبُد اللّه ،
فإنّه يكفي أن نعرف أنه كان صلىاللهعليهوآلهوسلم
يلتزم
بما ثبت له أنه شرع اللّه تعالى ... وبما يؤدّي إليه عقله الفطري السليم ، وأنه
بالتالي كان مؤيداً مسدّداً ، وأنه كان أفضل الخلق واكمَلَهم خَلقاً ، وخلقاً ،
وعقلا ، وانه كان يعمل حسب ما يُلهَم سواء اكان مطابقاً لشرع ما قبله أم مخالفاً
وأن هاديه وقائده منذ صباه إلى ان بعث هو نفس هاديه بعد البعثة (وللتوسّع والوقوف على الآراء المختلفة في هذا المجال راجع الجزء
الخامس من مفاهيم القرآن : ص 135 ـ 191.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
11
بدء الوَحْي
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
انَّ التاريخَ الإسلامي يبدأ في
الحقيقة من يوم بعثة الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم بالرسالة ،
والّتي وقعت على أثره حوادث خاصة. ويوم بُعثِ النبيُ الاكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم
لهداية الناس ، ودوّى في سمعه الشريف نداء « إنك لرسول اللّه » الصادر عن ملاك
الوحي اُلقيَت على كاهله مسؤولية كبرى وثقيلة جداً ، على نمط الوظيفة الهامة
الّتي اُلقيت على كاهل من سبقه من الانبياء والرسل صلوات اللّه عليهم أجمعين. منذ ذلك اليوم اتضح هدف أمين قريش ،
أكثر فأكثر ، وتجلت خطته اكثر فأكثر. ونحن نرى من اللازم
قبل شرح الحوادث الاُولى الواقعة عند البعثة ان نعطي بعض الايضاحات حول مسألتين
: 1 ـ وجوبُ بعث
الانبياء. 2 ـ دورُ الانبياء في
اصلاح المجتمع. لقد أودعَ اللّه تعالى في كيان كُلّ
كائن من الكائنات أدوات تكامله ، وجهّزه ـ لسلوك هذا الطريق ـ بالوسائل المتنوعة
، والأجهزة المختلفة اللازمة. ولنأخذ مثلا :
نبتة صغيرة ، فان ثمة عوامل كثيرة تتفاعل في ما بينها وتعمل ان جذور كل نبتة تعمل اكبر قدر ممكن
لامتصاص العناصر الغذائية ، وتلبية احتياجات النبتة ، وتوصل العروق والقنوات
المختلفة ، عصارة ما تأخذه من الارض إلى جميع الاغصان والاوراق. إننا لو درسنا جهاز ( وردة ) لرأيناه
اكثر مدعاة للاعجاب وأشد اثارة للتعجب من تركيب بقية النباتات. فللكأس وظيفة توفير الغطاء اللازم
للاوراق الناعمة اللطيفة في الوردة. وهكذا الحال بالنسبة إلى بقية
الأجهزة في ( الوردة ) ممّا اُنيط إليها مسؤولية الحفاظ على كائن حيّ ، وضمان
رشده ونموّه ، فإنها جميعاً تقوم بوظائفها المخلوقة لها بأحسن شكل ، وأفضل صورة.
ولو أننا خطونا خطوات اكثر وتقدّمنا
بعض الشيء لدراسة الأجهزة العجيبة في عالم الأَحياء ، لرأينا أنها جميعاً وبدون
استثناء مُزوّدة بما يضمن بلوغها إلى مرحلة الكمال المطلوب لها. وإذا أردنا أن نصبّ هذا الموضوع في
قالب علميّ لوجب أن نقول : انّ الهداية التكوينية ، الّتي هي النعمة المتجلّية
في عالم الطبيعة ، تشمل كل موجودات هذا العالم من نبات ، وحيوان وانسان. ويبيّن القرآن الكريم هذه الهداية التكوينية الشاملة بقوله : « رَبّنا الَّذي أعطى كُلَّ شيء خَلْقَه ثُمَّ هَدى
» (ـ طه : 50.).
فانّه يصرّح بأن كل شيء في هذا الكون
من الذرة إلى المجرَّة ينعم بهذا الفيض العامّ ، وانَّ اللّه تعالى بعد أن
قَدَّر كلَ موجود وكائن ، بيّن له طريق تكامله ، ورُقيّه ، وهيأ لكل كائن مِن
تلك الكائنات ما يحتاج إليه في تربيته ونموه ، وهذه هي ( الهداية التكوينية العامة ) السائدة
على كل ارجاء الخليقة دونما استثناء. ولكن هل تكفي هذه الهداية الفطرية ،
التكوينية لكائن مثل الإنسان ، اشرف الموجودات ، وافضل ما في هذه الخليقة؟! بكل تأكيد : لا. لأن للإنسان حياة اخرى غير الحياة
المادية ، تشكل اساس حياته الواقعية ، ولو كان للإنسان حياة مادية جافّة فقط
مثلما لعالم النباتات ، والحيوانات ، لكفت العواملُ والعناصرُ المادية في تكامله
، والحال أن للإنسان نوعين من الحياة ، يكمن في تكاملهما معاً رمز سعادة الإنسان
ورقيّه. ان الإنسان الأول ، ونعني به انسان
الكهوف والحياة البسيطة والفطرة السليمة الّتي لم يطرأ على جبلته اي إعوجاج لم
يكن بحاجة إلى ما يحتاج إليه الإنسان الإجتماعيّ من التربية والهداية. ولكن عندما خطى الإنسانُ خطوات أبعد
من ذلك ، وبدأ الحياة الاجتماعية ، وسادت على حياته فكرة التعاون والعمل الجماعي
برزت في روحه ونفسيته سلسلة من الانحرافات نتيجة للاحتكاك الاجتماعي ، وغيّرت
الخصال القبيحة والافكار الخاطئة صفاتِه الفطرية ، وبالتالي اخرج المجتمع من
حالة التوازن! إن هذه الانحرافات حملت خالقَ الكون
على أن يرسل إلى البشرية رجالا أفذاذاً صالحين يتولّون تربية البشر ، وليقوموا
بتنظيم برنامج المجتمع ، والتخفيف من المفاسد الناشئة ـ بصورة مباشرة ـ عن
النزعة الاجتماعية لدى الإنسان ، وليضيئوا ـ بمشاعل الوحي المشعّة المنيرة ـ
طريق السعادة والخير للانسانية في جميع المجالات والابعاد. إذ لا نقاش في أنَّ الحياة
الاجتماعية والعيش بصورة جماعية مع كونه مفيداً ، ينطوي على مفاسد لا تُنكر ،
ويجرّ إلى انحرافات كثيرة لا تقبل الترديد. ولهذا بعث اللّه سبحانه رجالا مصلحين
، وهداة مرشدين يعملون ـ قدر الامكان ـ على الحدّ من الانحرافات والمفاسد ،
ويضعون عجلة المجتمع ـ بتنظيم القوانين الواضحة والانظمة الحكيمة ـ على الطريق
الصحيح ، ويضمنون دورانها وقد يُستفاد هذا الامر
ـ بوضوح ـ من قوله تعالى : « كانَ النّاس امَّة واحِدَةً فَبَعَث اللّه
النَّبيِّين مُبشِّرينَ وَمُنذِرين وأنزلَ مَعهُمُ الْكِتابَ بِالحقِّ لِيَحكُم
بَين النّاس في مَا اختَلَفُوا فيه » (البقرة : 213.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
دَور الانبياء في
اصلاح المجتمع :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ان الّذي يتصوره الناس عادة هو أنّ
الانبياء مجرد معلّمين إلهيين بُعِثوا لتعليم البشرية. فكما يتعلم الطفل خلال حركته
التعليمية ابتداء من الابتدائية ومروراً بالمتوسطة وانتهاء بالجامعة دروساً معينة
ومواضيع خاصة على ايدي الاساتذة والمعلمين ، كذلك يتعلم الناس في مدرسة الانبياء
اُموراً خاصة ، ويكتسبون معارف معينة ، وتتكامل أخلاقهم وصفاتهم وخصالهم
الاجتماعية جنباً إلى جنب مع اكتسابهم المعرفة والعلم على أيدي الأنبياء
والمرسلين. ولكننا نتصور ان مهمة الانبياء
ووظيفتهم الاسياسية هي ( تربية ) المجتمعات البشرية لا تعليمها ، وان اساس
شريعتهم لا ينطوي على كلام جديد ، وانه ما لم تنحرف الفطرة البشرية عن مسارها
الصحيح ، وما لم تلفها غشاوات الجهل والغفلة لعرفت وادركت خلاصة الدين الالهي ،
وعصارتها ، في غير ابهام ، ولا خفاء. على أن هذه الحقيقة قد أشار اليها
قادة الإسلام العظماء. فقد قال اميرالمؤمنين عليهالسلام في نهج البلاغة عن هدف الانبياء : « أخذَ عَلى الوَحي ميثاقهم ، وعلى
تبليغ الرسالة أمانتهم ... لِيَستأدُوهم ميثاق فِطرتِه ، وَيُذكرُوهم مَنْسيَّ
نِعمته ، ويحتجّوا عليهم بالتَبليغ ، ويُثيروا لهم دفائنَ العُقول » (نهج البلاغة : قسم الخطب ، الخطبة رقم 1.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
مثالٌ واضح في
المقام :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إذا قلنا : ان
وظيفة الانبياء في تربية الناس واصلاح نفوسهم هي وظيفة البستاني في تربية شجيرة
من الشجرات ، أو قلنا : أن مَثَل الأنبياء في قيادة التوجّهات الفطرية البشرية
وهدايتها ، مثل المهندس الذي يستخرج المعادن الثمينة من بطون الاودية والجبال ،
لم نكن في هذا القول مبالغين. وتوضيح ذلك ان النبتة ، أو الشجيرة
الصغيرة تحمل من بداية انعقاد حبتها الاُولى كل قابليات النمو ، والرشد ، فاذا
توفَر لها الجوُ المناسب للنمو ، دبّت الحياة والحركة في كل أجزائها ، واستطاعت
بفعل جذورها القوية واجهزتها المتنوعة وفي الهواء الطلق ، والضوء اللازم ، من أن
تقطع أشواطاً كبيرة من التكامل ، والنمو. فمسؤولية البستاني في
هذه الحالة تتركز في امرين : 1 ـ توفير الظروف اللازمة لتوقية
جذور تلك النبتة لكي تظهر القوى المودعة في تلك النبتة أو الشجيرة ، وتخرج من
حيّز القوة إلى مرحلة الفعلية ، والتحقق. 2 ـ الحيلولة دون تعرض تلك الشجرة أو
النبتة للانحرافات والآفات ، وذلك عندما تتجه القوى الباطنية صوب الوجهة
المخالفة لسعادتها ، وتسلك طريقاً ينافي تكاملها. ومن هنا فان مسؤولية البستاني
ووظيفته ليست هي ( الإنماء ) بل هي ( المراقبة ) وتوفير الظروف اللازمة ليتهيّأ
لتلك الشجرة والنبتة أن تبرز كمالها الباطني. لقد خلق اللّه سبحانه البشرَ وأودع
في كيانه طاقات متنوعة ، وغرائز كثيرة ، وعجن فطرته وجبلَّته بالتوحيد ، وحبّ
معرفة اللّه ، وحبّ الحق والخير ، والعدل والانصاف ، كما وأودع فيه غريزة السعي
والعمل. وعندما تبدأ خمائر هذه الامور
وبذورها الصالحة المودوعة بالعمل والتفاعل في كيان الإنسان تتعرض في الجو
الاجتماعي لِبعض الانحرافات بصورة قهرية ، فغريزة العمل والسعي تتخذ شيئاً
فشيئاً صفة الحرص والطمع ، وغريزة حب السعادة والبقاء تتخذ صورة الانانية ، وحب
الجاه والمنصب ، ويتجلى نور التوحيد والإيمان في لباس الوثنية وعبادة الأصنام. في هذه الحالة يعمل سفراء اللّه إلى
البشرية : ( الانبياء والرسل ) على توفير ظروف الرشد والنمو الصحيح لتلك الغرائز
وتلك القوى والطاقات في ضوء الوحي ، والبرامج الصحيحة المستلهمة من ذلك المنبع
الالهي الهادي ، ويقومون بالتالي بتعديل انحرافات الغرائز ، والوقوف دون تجاوزها
حدودها المعقولة المطلوبة. ولقد قال اميرالمؤمنين
في ما مرّ من كلامه : إن اللّه أخذ ـ في مبدأ الخلق ـ
ميثاقاً يدعى « ميثاق الفطرة ». فما هو ترى المقصود من
ميثاق الفطرة هذا؟ إن المقصود من هذا
الميثاق هو : أن اللّه تعالى بخلقه وايداعه
الغرائز المفيدة في الكيان الإنساني ، وبمزج الفطرة البشرية بعشرات الأخلاق
الطيبة والسجايا الصالحة يكون قد أخذ من الإنسان ميثاقاً فطرياً بأن يتبع خصال
الخير ، ويأخذ بالغرائز الطيبّة الصالحة. فاذا كان منح جهاز البصر ( العين )
للإنسان هو نوع من اخذ الميثاق من الإنسان بان يتجنب المزالق ، ولا يقع في البئر
، فكذلك ايداع حسّ التدين ، وغريزة الانجذاب إلى اللّه ، وحبّ العدل ، في كيانه
هو الآخر نوع من اخذ الميثاق منه بأن يظل مؤمناً باللّه ، موحّداً إياه ، عادلا
، منصفاً محباً للخير والحق. وإن وظيفة الأنبياء هي أن يحملوا
الناس على العمل بمقتضي ميثاق الفطرة ، وبالتالي فانَّ مهمّتهم الأساسية
الحقيقية هو تمزيق اغشية الجهل وتبديد سحب الغفلة الّتي قدترين على جوهرة الفطرة
المطعمة بنور الايمان ، فتمنعها من الاشراق على وجود الإنسان ، وتحرمُ الإنسان
من هدايتها. ومن هنا قالوا : إن
اساس الشرائع الالهية يتالف من الامور الفطرية ، الّتي فطر الإنسان عليها. وكأن صرح الكيان الإنساني ( جَبَلٌ )
اختفت بين ثنايا صخوره وفي بطونه احجار كريمة كثيرة ومعادن ذهبية ثمينة ،
فالوجود الإنساني هو الآخر قد اُودعَت فيه فضائل وعلوم ، ومعارف وخصال ، واخلاق
متنوعة. فعندما يغورُ الانبياء والمهندسون
الروحيّون في أعماق نفوسنا وذواتنا وهم يعلمون جيداً أن نفوسنا معجونة بطائفة من
الصفات والسجايا النبيلة والمشاعر والاحاسيس الطيبة ، ويعملون على اعادة نفوسنا
ـ بتعاليم الدين وبرامجه ـ إلى جادة الفطرة المستقيمة السليمة فانهم في الحقيقة
يذكّروننا بأحكام فطرتنا ، ويُسمّعوننا نداء ضمائرنا ، ويلفتونها إلى الصفات ،
وإلى الشخصية المودوعة فيها. تلك هي رسالة الانبياء ، وذلك هو
عملهم الاساسي ، وهذا هو دورهم في اصلاح النوع الإنساني ، أفراداً وجماعات. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أمين قريش في غار
حراء :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
يقع جبل « حِراء » في شمال « مكة »
ويستغرق الصعود إلى غار حراء مدة نصف ساعة من الزمان. ويتالف ظاهر هذا الجبل. من قطع صخرية
سوداء ، لا يُرى فيها أيُّ أثر للحياة أبداً. ويوجد في النقطة الشمالية من هذا
الجبل غار يمكن للمرء أن يصل إليه ولكن عبر تلك الصخور ، ويرتفع سقف هذا الغار
قامة رجل ، وبيمنا تضيء الشمس قسماً منه ، تغرق نواح اُخرى منه في ظلمة دائمة. ولكن هذا الغار يحمل في رحابه ذكريات
كثيرة عن صاحب له طالما تردّد عليه ، وقضى ساعات بل وأياماً وأشهراً في رحابه
... ذكريات يتشوق الناس ـ وحتّى هذه الساعة ـ إلى سماعها من ذلك الغار ، ولذلك
تجدهم يسارعون إلى لقائه كلّما زاروا تلك الديار ، متحملين في هذا السبيل كل
عناء ، للوصول إلى رحابه ، لكي يستفسرونه عما جرى فيه عند وقوع حادثة : « الوحي
» العظيمة وليسألونه عن ما تحتفظ به ذاكرته من تاريخ رسول الإنسانية الاكبر ممّا
جرت ويتحدث ذلك الغار هو الآخر اليهم
بلسان الحال ويقول : هاهنا المكان الّذي كان يتعبد فيه عزيز قريش وفتاها الصادق
الامين. وهاهنا قضى ليالي وأياماً عديدة
وطويلة قبل ان يبلغ مرتبة الرسالة ، في عبادة اللّه ، والتأمل في الكون ، وفي
آثار قدرة اللّه وعظمته. أجل ، لقد اختار محمَّد صلىاللهعليهوآلهوسلم
ذلك المكان البعيد عن ضجيج الحياة ، للعبادة والتحنث ، فكان يمضي جميع الايام من
شهر رمضان فيه ، وربما لجا إليه في غير هذا الشهر أحياناً اخرى ، إلى درجة أنّ
زوجته الوفيّة كانت إذا لم يرجع إلى منزلها ، تعرفُ أنه قد ذهب إلى « غار حراء »
وأنه هناك مشتغل بالعبادة والتحنث والاعتكاف ، وكانت كلّما أرسلَتْ إليه أحداً
وجده في ذلك المكان مستغرقاً في التأمل والتفكير ، أو مشتغلا بالعبادة والتحنث. لقد كان صلىاللهعليهوآلهوسلم قبل أن يبلغ مقام
النبوة ، ويُبْعَث بالرسالة يفكر ـ اكثر شيء في أمرين : 1 ـ كان
يفكر في ملكوت السماوات والارض ، ويرى في ملامح كل واحد من الكائنات الّتي
يشاهدها نور الخالق العظيم ، وقدرته ، وعظمته وعلمه ، وقد كانت تفتح عليه من هذا
السبيل نوافذ من الغيب تحمل إلى قلبه وعقله النور الالهيّ المقدس. 2 ـ
كان يفكر في المسؤولية الثقيلة الّتي ستوضع على كاهله. إن اصلاح المجتمع في ذلك اليوم على
ما كان عليه من فساد عريق وانحطاط عريض ، لم يكن في نظره وتقديره بالامر المحال
الممتنع. ولكن تطبيق مثل هذا البرنامج الاصلاحيّ لم يكن في نفس الوقت أمراً
خالياً من العناء والمشاكل ، من هنا كان يفكر طويلا في الفساد في حياة المجتمع
المكّي وما يراه من ترف قريش ، وكيفيّة رفع كل ذلك واصلاحه. لقد كان صلىاللهعليهوآلهوسلم
حزيناً لما يرى من قومه من فساد العقيدة المتمثل في الخضوع للأوثان الميتة ،
والعبادة للأصنام الخاوية الباطلة ، ولطالما شوهدت آثار ذلك الحزن على محيّاه ،
وملامح وجه الشريف ، ولكن لما لم يكن مأذوناً بالافصاح بالحقائق ، لذلك كان
يتجنب ردع الناس عن تلك المفاسد ، ومنعهم عن تلك الانحرافات.
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
بدء الوحي :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد امر اللّه ملكاً من ملائكته بأن
ينزل على امين قريش وهو في غار حراء ويتلو على مسمعه بضع آيات كبداية لكتاب
الهداية والسعادة ، معلناً بذلك تتويجه بالنبوة ، ونصبه لمقام الرسالة. كان ذلك المَلَك « جبرئيل » ، وكان
ذلك اليوم هو يوم المبعث النبوي الشريف الّذي سنتحدث عن تاريخه في المستقبل. ولا ريب أن ملاقاة المَلك ومواجهته
أمرٌ كان يحتاج إلى تهيّوء خاصّ ، وما لم يكن محمَّد صلىاللهعليهوآلهوسلم
يمتلك روحاً عظيمة ، ونفسية قوية لم يكن قادراً قط على تحمّل ثقل النبوة ،
وملاقاة ذلك الملك العظيم. أجل لقد كان « أمين قريش » يمتلك تلك
الروح الكبرى ، وتلك النفس العظيمة وقد اكتسبها عن طريق العبادات الطويلة ،
والتأمّل العميق الدائم ، إلى جانب العناية الالهية. ولقد روى أصحاب السير والتاريخ انه
راى رؤىً عديدة قبل البعثة كانت تكشف عن واقع بَيّن واضح وضوح النهار
(صحيح البخاري : ج 1 كتاب العلم ص 22 ، بحار الأنوار : ج 18 ، ص 194.).
ولقد كانت الذّ الساعات وأحبها عنده
بعد كل فترة ، تلك الساعات الّتي يخلو فيها بنفسه ، ويتعبَّد فيها بعيداً عن
الناس. ولقد قضى على هذا الحال مدة طويلة
حتّى أتاه ـ في يوم معين ـ ملك
عظيم بلوح نصبَهُ أمامه وقال له : « إقرأ » ، وحيث أنه صلىاللهعليهوآلهوسلم
كان اُمياً لم يدرس أجاب المَلَك بقوله : « ما أنا بقارئ ». فاحتضنه ذلك المَلك ، وعصره عَصرة
شديدة ، ثم طلب منه أن يقرأ فأجابه بالجواب
الأول. فعصره المَلك ثانية عصرة شديدة
وتكرّر هذا العمل مرات ثلاث احس بعدها رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
في نفسه أنه قادر على قراءة ما في ذلك اللوح ، فقرأ ساعتها تلك الآيات الّتي
تشكل ـ في الحقيقة ـ ديباجة كتاب السعادة البشرية ، واساس رقيها. لقد قرأ صلىاللهعليهوآلهوسلم
قوله تعالى : « إقرَأ
باْسمِ رَبِّكَ الَّذي خَلقَ. خَلَقَ الإِنْسانَ مِنْ عَلَق * إقْرَأْ وَرَبُّكَ
الأَكرمُ. الَّذي عَلَّمَ بِالْقَلَم. عَلَّمَ الإنْسانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ
» (العلق : 1 ـ 5.).
وبعد أَنْ انتهى جبرئيل من أداء
مُهِمتِه الّتي كُلِّفَ بها من جانب اللّه تعالى ، وبلّغ إلى النبي تلكم الآيات
الخمس ، انحدر رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
من جبل حراء ، وتوجه نحو منزل خديجة (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 236 و 237.).
ولقد أوضحت الآيات المذكورة برنامج
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم اجمالا
، وبيّنت وبشكل واضح ان اساس الدين يقوم على القراءة والكتابة ، والعلم والمعرفة
، واستخدام القلم. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ظاهرة القضايا
الغيبيّة في منظار الماديّين :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد تسبّب التقدمُ العظيم والمتزايد
الّذي تحقق في ميدان العلوم الطبيعية في سلب الكثير من العلماء القدرة على فهم
وادراك القضايا المعنوية والخارجة عن اطار العلوم الطبيعية والتالي أدى إلى
تحديد وتضييق آفاق الفكر عندهم. فاذا بهم اصبحوا يتصورون أن الوجود
يتلخص في هذا الكون المادي ، وانه ليس في الوجود من شيء سوى المادة وان كل ما لا
يمكن تفسيره وتبريره بالقوانين والقواعد المادية فهو أمر باطل ، ومن نسج
الخيال!! إن هذا الفريق ـ لتسرعه في اصدار
الحكم في الاُمور المتعلقة ـ بالغيب وقضايا ما وراء الطبيعة ، وحصر أدوات المعرفة
بالحس والتجربة ـ انكروا عالم الوحي ، بحجة أنّ الحس والتجربة لا يقودانهم إلى
ذلك العالم ، ولا يخبرانهم عن مثل تلك الموجودات ، فلكونها بالتالي لا تخضع
لمبضع التشريح ، ومجهر الإختبار أنكروها بالمرة ، وكانت النتيجة أن أدوات
المعرفة المعروفة ( الحسّ والتجربة ) حيث انها لا تهدي إلى عالم ما وراء المادة
فاذن لا وجود خارجي لذلك العالم ولحقائقه أبداً! إنَّ هذا النمط من التفكير نمط جدُّ
ضيق ومحدود ، مضافاً إلى انه يتسم بالغرور والغطرسة ، فهو من باب « استنتاج عدم
الوجود من عدم الوجدان » في خطوة متعجلة فجّة!! فمادامت هذه الحقائق الّتي يعتقد بها
الالهيّون المؤمنون باللّه لا يمكن التوصل اليها عن طريق الادوات الفعلية
المتعارفة بينهم للادراك والمعرفة فهي اذن لا اساس لها من الواقع!! ان الّذي لا شك فيه هو : ان الماديين
لم يدركوا مقالة العلماء الالهيين حتّى في مسألة اثبات الصانع الخالق فكيف
بالعوالم الاُخرى لما فوق الطبيعة ، ولو أنّ الفريقين تحاورا في جوّ علمي مناسب
، بعيداً عن الأغراض والعصبيّات ، لكان من المتوقع ان تزول الفواصل بين الماديين
والالهيين في اقرب وقت ، وأين يرتفع هذا الاختلاف الّذي قسَّم العلماء إلى فريقين
على طرفي نقيض. لقد اقام المؤمنون الموحِّدون عشرات
الأدلة والبراهين القاطعة على وجود الله تعالى ، واثبتوا بأَنَّ هذه العلوم
الطبيعية هي نفسها تقودنا إلى الخالق العالم القادر ، وان هذا النظام العجيب
السائد في ظواهر الكائنات الطبيعيّة وبواطنها لدليل قاطع ، وبرهانٌ ساطع على
وجود مبدع هذا النظام ، وأن جميع أجزاء هذا الكون الماديّ ، من ذراته إلى مجراته
، يسير وفق قوانين دقيقة متقنة ، ولا تستطيع الطبيعة الصماء العمياء ابداً أن
تكون مبتكرة لهذا النظام البديع ، ومبدعة لهذا الترتيب الدقيق. وهذا هو بنفسه برهان «
نظام الوجود » أو ( برهان النظم ) الّذي ألّف العلماء الالهيون الموحدون حوله
عشرات الكتب والدراسات. وحيث ان ( برهان النظم ) هذا ممّا
يفهمه جميع الناس على مختلف مراتبهم ومداركهم ، لذلك ركزت عليها الكتب
الاعتقادية دون سواها ، وسلك كلُ واحد من العلماء طريقاً معيناً وخاصاً لتقريره
، وبيانه ، كما ودرست الأدلة والبراهين الاُخرى الّتي لا تتسم بمثل هذه الشمولية
، في الكتب ، والمؤلفات الفلسفية والكلاميّة بصورة مفصلة ومبسوطة. إنّ للعلماء الالهيين
بيانات وأدلة في مجال ( الروح المجردة ) ، وعوالم ما وراء الطبيعة ( الميتافيزيقيا
) نشير إلى بعضها هنا : |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الروح المجردة :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إن الاعتقاد بالروح من القضايا
الشائكة الطبيعة الّتي استقطبت اهتمام العلماء وشغلت بالهم بشدة. فهناك فريقٌ ـ ممّن اعتاد أن يُخضِعَ
كل شيء لمبضع التشريح ـ ينكر وجود ( الروح ) ، ويكتفي بالاعتقاد بالنفس ذات الطابع
المادي ، والعاملة ضمن نطاق القوانين الطبيعية فقط. ووجود « الروح » والنفس غير المادية
( اي المجردة المستقلة عن المادة ) من القضايا الّتي عُولجت ودُورست من قِبَل
المؤمنين باللّه ، والمعتقدين بالعام الروحاني ، بصورة دقيقة ، وعميقة. فهم أقاموا شواهِدَ عديدةً على وجود
هذا الكائن ( غير الماديّ ) وهي أدلة وبراهين لو تمَّ التعرّف عليها والنقاش
حولها في جوّ علمي هادئ مع الأخذ بنظر الاعتبار ما يقوم عليه منطق الالهيين ـ في
هذا المجال ـ من قواعد واُسس ، لأدّى ذلك إلى التصديق الكامل بها. على أن ما يقوله الالهيّون في مجالات
اُخرى مشابهة مثل ( الملائكة ) و ( الوحي ) و ( الإلهام ) يقوم هو الآخر على
الأساس الّذي شيدوه ومهدوه وبرهنوا |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ظاهرة الوحي عِند
الماديّين :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
يُعتبَر الاعتقاد بالوحي أساساً
لجميع الرسالات ، والأديان السماوية ، وتقوم هذه الظاهرة ( ظاهرة الوحي ) على أن
الّذي يوحى إليه يمتلك روحاً قوية تقدر على تلقي المعارف الالهية من دون واسطة ،
أو بواسطة ملَك من الملائكة. ويلخصُ العلماء
المختصُّون تعريفَهم للوحي على النحو التالي : « الوَحيُ
تعليمُهُ تعالى مَنْ اصْطفاهُ مِنْ عِباده كُلَ ما أرادَ اطلاعه عليه من ألوان
الهداية والعِلم ولكِنْ بطريقة خَفيّة غير مُعْتادَة للبَشر ». ولكن الماديين ـ كما قلنا ـ لم يستطيعوا هضم هذه الحقيقة
، وادراك هذه الظاهرة على حالها ، وصورتها الغيبية بسبب ما ذكرناه من منهجهم
ونظرتهم إلى الاُمور والكائنات فذهبوا في تفسير ظاهرة الوحي ـ الّتي هي كما
اسلفنا من قضايا الغيب ومن عوالم ما فوق الطبيعة ـ مذاهب مختلفة ترجع برمتها إلى
الرؤية المادية للوجود. واليك أبرز هذه
التفاسير الماديّة لظاهرة الوحي الغيبية : |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أبرز النظريات
المادية لظاهرة الوحي
:
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
1 ـ قالوا : الوحي هي القدرة الفكرية ،
والنفسية والعقلية الّتي تحصل للإنسان بسبب التمرينات والرياضات الروحية الّتي
على اثرها تنفتح عليه أبوابٌ من الغيب ، فيخبر عن امور طالما تتفق مع الواقع على
نحو ما يحصل للمرتاضين الهنود (وهم الّذي يمارسون علمية اليوجا.).
فالانبياء بسبب اعتزالهم للمجتمع ـ على غرار ما يفعل المرتاضون ـ وإقبالهم
على الرياضة الروحية تحصل لهم المقدرة على الإخبار بالغائبات ، والكائنات الخفية
على غيرهم. والجواب على هذه النظرية هو : أن دراسة
حالات المرتاضين تكشف لنا عن أنهم طالما يخطأون في إخباراتهم أخطاء فاضحة ،
بينما لم يُعهَد من نبيٍّ أنه أخطأ في إخباراته ، وإنباءاته. هذا اولاً وثانياً : ان ما يفعله المرتاضون لا ينطوي على
أية أهداف اصلاحية عليا للمجتمع البشري ، بل غاية همّهم هو : عرض الافعال
العجيبة على الناس وربما تسلية المتفرجين ، بينما يهدف الأنبياء إلى إصلاح
المجتمعات البشرية وقيادتها إلى ذرى الكمال والتقدم. وثالثاً
: ان المرتاضين لا يثقون بما يخبرون به
، كما لم يُعرَف إلى الآن أن أحداً منهم طلَع على المجتمع البشريّ ببرنامج كامل
وشامل للحياة البشرية الفردية والاجتماعية ، بينما نجد الأنبياء يخبرون الناس
بما اُمروا به وهم على إيمان كامل ، ويقين ثابت منه ، هذا إلى جانب أنهم يحملون
إلى البشرية برامج اجتماعية وحيوية جامعة الاطراف ، كاملة الأبعاد ، رفيعة
الأهداف ، عميقة الغايات ، ترجع اليها كلُ فضيلة وكل خير تعرفه المجتمعات إلى
الآن. ورابعاً : انّ أعمال المرتاضيين وما تحصَلُ لهم
من قوى وينفتح عليهم من آفاق ، محدودة ، بينمنا لا تقف طاقاتُ الانبياء وآفاق
علومهم ، وأبعاد أعمالهم عند حدّ. فلا يمكن ابداً تفسير وتعليل ظاهرة (
الوحي ) وما يحصل للرسل والانبياء على اثره من اُموره تتخطى حدود العالم المادي
المحدود ، بالرياضة الروحية الّتي يمارسها المرتاضون وما يحصل لهم على أثرها من
امور. 2 ـ قالوا : انَّ ( الوحي ) نوعٌ من
النبوغ ، أو أنه ناشئ من النبوغ ، وأن الانبياء هم نوابغ اجتماعيون لا اكثر. وقد شرحوا نظريتهم هذه قائلين : بأن
نظام الخليقة قد ربى في أحضانه نوابغَ وقالوا : وان ممّا
يساعد على تقوية هذا النبوغ اُمور ابرزها : الحبُّ ، التعرضُ للظلم الطويل ،
الطفولة وما يكتنفها من ضعف وعجز ، الوحدة ، السكوت ، التربية الاُولى ، والعيش
في صورة الأقلية وما يرافقها من ظروف إجتماعية غير مؤاتية. فان جميع هذه الاُمور أو بعضها تدفع
بالشخص إلى الأنطوائية ، والتفكير والتأمل ، للاهتداء إلى مخرج من المشاكل
والصعوبات ، ومخلص من الظروف الصعبة ، والأحوال الشاقة. ويُجاب
على هذه النظرية بأن أصحاب هذه النظرية حكموا على هذه القضية على أساس موقف
اتخذوه سَلفاً فهُم حَصَروا الأشياء في المادة والامور المادية ثم فسّروا ما
يرتبط بعالم الغيب بذلك ، فجاء تفسيرهم لهذه الظاهرة الغيبية تفسيراً ماديّاً ،
غفلة منهم عن ان مثل هذا التفسير والتعليل لا يليق بظاهرة ( الوحي ) الّتي تجسد
أعلى قضيّة في سلّم الحقائق العلمية والفلسفية ، ويرجع اليها أعظم القوانين
والبرامج للسعادة البشرية. نحن لا ننكر أن لما ذكروه من العوامل
تاثيراً في تقوية عملية « التفكير » لدى الإنسان إلى درجة ايجاد ما يسمى بظاهرة
التوابغ لديه ، إلاّ أنه لا يمكن أن يوجد مثل هذا الامر نبيّاً خضعت جميع
النبواغ البشرية لعظمة تعاليمه الّتي أتى بها طوال أربعة عشر قرناً. نبياً لم يزل ما جاء به من معارف
عقلية وفلسفية ، وقوانين ترتبط بعالم الطبيعة وبالنظام الاجتماعي وآداب السلوك
تحافظ على قوتها ، وعمقها وأصالتها ولمعانها هذا مضافاً إلى أن نسبة هؤلاء
الأنبياء جميع ما عرضوه على المجتمعات البشرية إلى العالم الآخر واصرارهم على
أنها من جانب اللّه تعالى وليست من نسيج افكارهم يناقض نظرية هذه الطائفة ،
الّتي تفسر النبوة بالنبوغ. لنقرأ معاً الآية الّتي يقول اللّه
تعالى فيها حاكياً عن رسول الإسلام محمَّد صلىاللهعليهوآلهوسلم : « إنْ أتَّبعُ إلاّ مَا يُوحى إليّ
» (ـ الأنعام : 50.).
أو يقول سبحانه : « إنْ
هُوَ إلاّ وَحْي يُوحى »
(النجم : 4.).
3 ـ يقولون : إنّ الوحي هو ظهور الشخصية
الكامنة في النبي وايحاؤها لما ينفعه وينفع قومه المعاصرين له ، إليه. وربما قالوا : إنَّ معلومات « محمَّد
» وافكارَه وآمالَه وَلَدتْ لديه إلهاماً فاض من عقله الباطن أو نفسه الخفيّة
على مخيلته السامية ، وانعكس اعتقاده على بصره فرأى الملَك ماثلا له وهو يتلو
على سمعه ما حدّث به بعد ذلك. وتوضيح هذه النظرية هو
: ان لكل إنسان شخصيتين : 1 ـ الشخصية الظاهرة العادية وهي
الّتي تخضع للحواس الخمس وتعمل بها. 2 ـ الشخصية الباطنية وهي الّتي تعمل
عندما تتعطل الحواس ، ويتعطل الشعورُ الظاهري : وهذه الشخصية هي الّتي تحرك جميع
أعضاء الجسم الانساني الّتي لا تخضع لارادته كالكبد والقلب ، والمعدة وغيرها ،
كما انها هي مصدر الكثير من الإلهامات الطيبة في الظروف الحرجة. ثم قالوا : وهذه الشخصية الباطنية قد
اصبحت مدركة بالحس ، فان المنوَّم مغناطيسياً يظهر بمظهر العقل الراجح ، والفكر
الثاقب والنظر البعيد ، ويقوم بما لا يقوم به في حالته العادية. وقد انتهى هؤلاء الماديّون من خلال
تحقيقاتهم وتجاربهم إلى : ان شخصية الإنسان الباطنية ارقى من شخصيته العادية ،
وإن ما يتوصَّل إليه الإنسان من أفكار عالية رفيعة جداً ، وما قد يتمتع به من روح
قوية هو من مظاهر هذه الشخصية وفعاليتها. فقالوا : وان هذه الشخصية هي الّتي
تنفث في روح الأنبياء ما يعتبرونه وحياً من اللّه ، وقد تظهر لهم متجسّدة
فيحسبونها من ملائكة اللّه هبطت عليهم من السماء!!! فالوحي عند هؤلاء الباحثين في الروح
على الاسلوب التجريبي لا يكون بنزول ملك من السماء على الرسول فيبلغه كلاماً عن
الله بل يكون في تجلي روح الإنسان عليه بواسطة شخصيته الباطنة فتعلمه ما لم يكن
يعلم ، وتهديه إلى خير الطرق لهداية نفسه وترقية اُمته (دائرة معارف القرن العشرين لفريد وجدي : ج 10 ، مادّة وحي.).
ولكن هذه النظرية هي
الاُخرى تنبع من الغُرور العلميّ الّذي اصاب هذا النمط من
العلماء الَّذين يحاولون تفسير كل ظواهر هذا العالم بالتفسير المادي ، وهو لا شك
ينشأ من عِلمهم المحدود القاصر عن إدراك حقائق الوجود. إننا لا نشك في وجود ما يسمى
بالشخصية الباطنيّة لدى الإنسان فهو ممّا سبق إلى كشفه والتنويه به الفلاسفة
الإسلاميّون من قبل ولكن كيف وعلى أيّ اساس حقَّ لهؤلاء ان يفسروا ظاهرة ( الوحي
الالهيّ ) والنبوة بهذا الامر؟ هذا أولاً وثانياً
: انَّ
تجلي الشخصيّة قلّما يحدث في الاشخاص الأصحّاء ، بل هو يحدث في الاغلب عند المتعبين
القلقين ، والسكارى ، والمصابين بالهزيمة والنكسة ، لأن نافذة ( اللاوعي ) عند
غيرهم من الاصحاء تنسد بسبب اشتغالهم الشديد بقضايا الحياة اليومية وهمومها ،
ولا يبقى للشخصية الباطنية مجال للنشاط والفعالية ، كما هو العكس عند المتعبين
والسكارى والمرضى الذين يقل اهتمامهم بالحياة اليومية فيترك ( الوعيُ ) مكانه
للاوعي ، وتترك الشخصية الظاهرية المعطّلة مكانها للشخصية الباطنية. ولذلك نجد بين آلاف العلماء
والمفكرين مفكراً أو عالماً واحد اتفق له في بداية عمره أن اهتدى بصورة لا
شعورية إلى فكرة خاصة أونظرية معينة من دون سابق تفكير أو استدلال قائم على
الشعور. وخلاصة القول أن
تجلّي الشخصية الباطنية في الحياة الإنسانية قضية نادرة جداً ، وهي لا تحدث إلاّ
في ظروف خاصة مثل : المنامات والاحلام وغيرها من التحولات الحياتية الّتي تقلل
من توجّه الإنسان إلى العالم الخارجيّ وتصرفُ التفاته وتوجُّهَه إلى الشخصية
الباطنية. ولكن هذه الحالة وهذه الشرائط ( أي الغفلة عن هموم الحياة اليومية الخارجية ) لم
تحصل للانبياء قط. فالنبي الأكرم محمَّد صلىاللهعليهوآلهوسلم
كان طوال ( 23 سنة ) وهي أعوام الرسالة ، مشتغلا كل الاشتغال بقضايا الحياة اليومية
، فالنشاطات السياسية ، والتبليغية وقضايا الدعوة والقيادة كانت تهيمن على كل
توجهه واهتمامه وتملأ ، عقله وروحه ونفسه. فالكثير من آيات الجهاد ترتبط بساحات
القتال والجهاد ، وهذا يعني انه كان مشدوداً بروحه وعقله كله إلى تلك الاُمور. وثالثاً :
انَ هذه النظرية يمكن أن تصدق على نبوة الانبياء لو كان هؤلاء الأنبياء أفراداً
متعبين ، منهزمين ، منتكسين ، مرضى ، معتزلين عن الحياة ليقال حينئذ ان هذه
الحالات والظروف مهَّدت لانقطاعهم عليهمالسلام
عن هموم الحياة ، وقضاياها ، وبالتالي مهَّدت لفعالية الشخصية الباطنية وعملها. ولكن تاريخ الأنبياء يشهد بوضوح لا
إبهام فيه ، بانهم كانوا ـ طيلة حياتهم الرسالية ـ رجالا مجاهدين ، لا يهمهم
إلاّ اصلاح المجتمعات وقيادة الجماعات وحل المشكلات الاجتماعية ، ورفع مستويات
الناس معنوياً وفكرياً وكانوا فكيف يمكن القول والحال هذه بان
الشخصية الباطنية تجلّت لديهم واوحت اليهم بحقائق وقيم وافكار؟ إن تفسير ( الوحي الالهي ) الّذي
يُلقى إلى الانبياء ويكشف لهم عن أدق الحقائق وارفعها ، وأعظم المناهج واكملها ،
بتجلّي الشخصية الباطنية ، ناشئ من اعتقاد هذا الفريق من العلماء بأصالة المادة
، أو بعبارة اخرى : حصر الوجود في المادة ، ومن هنا حاولوا إلْباس كل شيء حتّى
الامور المعنوية والغيبية : اللباس الماديّ ، واغلقوا على أنفسهم باب عوالم
الغيب ، وعمدوا إلى التفتيش عن علة مادية حتّى لظاهرة ( الوحي ) الّتي لا تُقاس
بمقاييس العالم المادّي. هذا مضافاً إلى أن تفسير ( الوحي
الالهيّ ) عن طريق نظرية تجلّي الشخصية الباطنية ، وخاصة في شأن رسول الإسلام «
محمَّد » صلىاللهعليهوآلهوسلم يواجه اشكالات ومؤاخذات اخرى تجعل
هذه النظرية في عداد الاساطير!! وإنّ ابرز هذه الاشكالات الواردة على
هذه النظرية في مجال رسول الإسلام صلىاللهعليهوآلهوسلم هي : أنّ
هذه النظرية ليست رأياً جديداً وتهمة جديدة توجه إلى نبوة رسول الإسلام. فان نظرية « الشخصية الباطنية ،
والوحي النفسي الذاتي » هي نظرية متبلورة ومتقدمة لتهمة ( الجنون والصَرع ) التي
كان يَرمي بها العربُ الجاهليّون رسولَ اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم!! فقد كان المشركون في بدء الدعوة
يقولون : ان ما يقوله « محمَّد » وما يتكلم به ليس إلا افكاره القلقة المضطربة
الناشئة عن خياله ، وانّ القرآن هي تلك الأفكار المضطربة الّتي تسربت إلى فضاء
عقله من دون ارادة منه ولا اختيار!! لنستمع إلى القرآن
الكريم وهو ينقل عنهم هذا الاتهام : « بَلْ قالُوا اضغاثُ أَحلام
» (الأنبياء : 5.).
ولكن القرآن الكريم
يردّ على هذه المزعمة الواهية بقوله : « وَالْنَّجْم إذا هَوى. مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ
وَما غَوى. وَما يَنطِقُ عَنِ الْهَوى. إنْ هُوَ إلاّ وَحْيٌ يُوحى. عَلَّمهُ
شَدِيدُ الْقُوى » (النجم : 1 ـ 5.).
ان القرآن الكريم يشجب في هذه الآيات
المنتظمة انتظاماً رائعاً وبديعاً هذه المزعمة (
أي مقولة أن القرآن وليدُ الخيال لدى محمَّد ) ، ويردُّ
الأمر إلى الوحي الالهي ، والتوجيه الربانيّ العُلويّ. إن نظرية الوحي النفسيّ وتَجلّي
الشخصية الباطنية الّتي طلع بها الماديون في عصرنا ما هيَ في الحقيقة إلاّ غطاء
لمزعمة المشركين وتهمة الجنون والخيال ، الّتي سبق أن رمى بها أعداء الرسالة
الإسلامية ومعارضوها النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم تلك التهمة
الّتي يذكرها القرآن الكريمُ بقوله : « وَقالُوا
يَا أيُّها الَّذي نُزِّلَ عَليْهِ الذِّكْرُ إنَّكَ لَمجنُونٌ
» (الحجر : 6 ، وايضاً راجع الآيات التالية : سبأ : 8 ، الصافّات : 36 ،
الدخان : 14 ، الطور : 29 ، القلم : 2 ، التكوير : 22.).
وهي تهمة كان يوجهها المعارضون
دائماً إلى المصلحين وأصحاب الرسالات (إذ يقول القرآن في هذا الصدد : « كَذلِكَ ما أتى الَّذينَ مِنْ قَبلِهِمْ مِنْ رَسُول إلاّ قالُوا
ساحِرٌ أوْ مَجْنونٌ. أتواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ » ( الذاريات : 52 و 53 ).)
وقد اتخذت هذه التهمة صبغة علمية جديدة ، وتبلورت في نظرية : « الوحي النفسيّ ،
وتجلّي الشخصية الباطنية ». ان القرآن الكريم يرد على هذه المزاعم والتصورات
الباطلة حول عمليّة الوحي ومسألة النبوّة ويرد على نسبة الكهانة وماشابه ذلك
كالخبر المنقول عن اهل السير بمحاولة القاء النبي نفسه من شاهق في بداية الوحي
الّذي يشبه نسبة الجنون إليه صلىاللهعليهوآلهوسلم إذ يقول
تعالى : « إنّه لقولُ
رَسُول كريم. ذي قوّة عند ذي العرش مكين. مُطاع ثمَّ امين. وَما صَاحِبُكُمْ
بِمَجْنُون. ولقدْ رآهُ بالاُفقِ المُبين. وَمَا هُو بِقول شَيْطان رَجيم.
فَايْنَ تَذْهَبُونَ إن هو إلاّ ذكرٌ للعالمين. لِمَنْ شاء مِنْكُمْ أن يستقيم
»
(التكوير : 20 ـ 28.).
بهذا البيان تبيَّنَ
بطلان هذا التفسير وجميع التفاسير الاُخرى الّتي تحاول إعطاء ( الوحي ) طابعاً
مادياً مألوفاً ، شأنه شأن غيره من الظواهر الغيبيّة ،
ونحن استكمالا لهذا البحث نشير إلى ما هو الحقُ في هذا المجال ،
ممّا يؤيّد الواقع والعقل والدين :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ظاهرةُ الوحي في
منظار العقل والدين :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لا شك أن حياة كل فرد من افراد
الإنسان تبدأ من « الجهل » ثم يأخذ الإنسان بالدخول في مجال العلم شيئاً فشيئاً
، إلى ان تنفتح عليه بالتدريج نوافذُ على الواقع الخارج عن ذهنه. فيبدأ الإنسانُ بالتعرف على الحقائق
عن طريق الحواسّ الظاهرية ، ثم على أثر التكامل في جهازه العقليّ والفكري يهتدي
إلى الحقائق الخارجة عن مجال الحس واللمس ، فيغدو عقلانياً استدلاليّاً ، ويقف
على طائفة من الحقائق الكليّة والقوانين العلمية. وربما يظهر بين أفراد النوع الإنساني
أصحابُ نفوس عالية يقفون عن طريق الالهام ومن خلال بصيرة خاصة على حقائق واُمور
لا يُهتدى اليها حتّى عن طريق الاستدلال والبرهنة! ومن هنا قسّم العلماء
ادراك البشر إلى ثلاثة أنواع : « إدراك العامّة » « إدراك
المفكرين وأرباب الاستدلال » « إدراك العرفاء واصحاب البصائر والنفوس الكبرى ». وكأَنَّ أصحاب الظاهر يستعينون على
اكتشاف الحقيقة بالحس ، والمفكرين يستعينون بالاستدلال والبرهنة ، وأصحاب
البصائر والمعرفة بالإلهام والاشراق وبالفيض عليهم من العالم الأعلى. ان النوابغ في مجال الأخلاق ، وان
عقول العلماء الخلاقة ، وأفكار الفلاسفة العظيمة كلها تؤيّد وتشهد بأن ما يحصلون
عليه ، وما يطلعون به على المجتمع البشري ممّا لم يعرفوه من قبل ما هي الا
شرارات مضيئة وملهمة تخطر لهم ، ثم يعمدون إلى تنميتها وبلورتها بالتجربة ، أو
بالاستدلال والبرهنة والتأمل. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قنواتُ المعرفة
الثَلاث :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
من هذا الكلام نستنتج أن
أمام بني البشر ثلاث طرق للوصول إلى مقاصدهم ؛ فالطريق الأول يستفيد منه جماهير
الناس غالباً ، بينما يستفيد طائفة خاصة منهم من الطريق الثاني ، ولا يستفيد من
الطريق الثالث إلاّ أفراد معدودون قلةٌ تكاملت عقولُهم ، وتسامت أرواحهم. وهي كالتالي : 1 ـ الطريق التجريبي
والحِسي ، والمقصود منه ذلك القسم من الإدراكات والمعلومات
الواردة إلى محيط الذهن البشريّ عن طريق الحواس الظاهرية كالمرئيات ، والمشمومات
والمطعومات وغيرها ممّا يستقرُّ في محيط إدراكنا بواسطة الأجهزة المختصة بها. وقد استطاع البشر اليوم ، وبفضل
اختراع التلسكوبات والميكروسكوبات واجهزة التلفاز والراديو ان يقدّم خدمة كبرى
للبشرية في مجال الإدراكات الحسية ويمهِّد لمزيد من سيطرتها على البعيد والقريب.
2 ـ الطريقُ التعقُّلي
الإستدلالي : فان المفكرين يتوصِّلون إلى كشف
طائفة من القوانين الكليّة الخارجة عن الحس عن طريق عملية التفكير والتأمل
وتشغيل جهاز العقل ، وإقامة سلسلة من المقدمات البديهية الواضحة ، وبذلك يمكن
الوصول إلى قمم المعرفة والكمال العلمي. إنَّ انكشاف القوانين العلميّة
الكليّة ، والمسائل الفلسفية ، والمعارف المرتبطة بصفات اللّه وأفعاله سبحانه
والقضايا المطروحة في علم العقيدة والأديان ناشئ برمَّته من جهاز العقل ، وحركته
، وناتج من عملية التفكير ، والإستدلال المذكورة. 3 ـ طريق الإلهام : وهذا
هو الطريق الثالث لمعرفة الحقائق ، وهو فوق نطاق إنه نوعٌ جديدٌ من المعرفة ونمط
متميّز من إدراك الحقائق ، ليس محالا من وجهة نظر العلم وان كان يصعُب على أصحاب
الاتجاه المادّي القبول به لكونه طريقاً غير حسي ولا تعقّلي. وأما من جهة الاُصول
العِلمية فلا مجال لإنكاره ، ولا مبرّر لعدّه من المحالات. ان طريق التعرُّف على حقائق الكون
الخارج عن الذهن ـ في منهج المادّيين ، وأصحاب النزعة المادية ـ ينحصر في قناتين
لا اكثر ، وهما اللّذان سبق ذكرُهما ، في حين أنّ هناك ـ حسبَ نظرة الأديان والشرائع
الكبرى وحسب نظرة الفلاسفة والعرفاء الالهيين ـ قناة ثالثة أيضاً. بل إنَّ هذا الطريق
الثالث ـ كما أسلفنا في مسألة الوحي ـ أكثر واقعية ، وأقوى أسُساً ، وأوسع
آفاقاً عند من يدَّعون الرسالة ، والنبوة من
جانب اللّه سبحانه ، وإن نفوس اُولئك الأشخاص لتبدو أكثر صفاء وطراوةً بفضل هذا
الطريق ، وفي ضوء هذه القناة. وكلّما حصل إرتباط بين اللّه ، وبين
فرد من أفراد النوع الإنساني على نحو خاص اُلقيت الحقائق في وجوده من دون توسط
الحواس الظاهرية ، وإعمال الفكر ، واستخدام جهاز العقل. وهذا النوع من الإلقاء
يسمى حيناً بالالهام ، وبالاشراق حيناً آخر. ولكن كلما نتج من إرتباط الإنسان بما
وراء الطبيعة سلسلة من التعاليم العامّة والأنظمة والبرامج الشاملة اُطلِق على
هذا النوع من الإلقاء عنوان ( الوحي ) ، وسمِّيَ الآتي بها ( ملَك الوحي )
والآخذ لها ( نبيّاً ). هذا وقد يوجب الإلهام الثقة
والاطمئنان للملهَم إليه ، ولكنّهُ لا يمكن أن يكون مبعث الإطمئنان والثقة عند
الآخرين (وانما قلنا « قد » أي يمكن أن يوجب الاطمئنان ولم نقطع بذلك لأنّ
مصدر هذه الالهامات ليست معلومة وواضحة ، ولا يمكن الاعتماد على مطلق الواردات
القلبية والفجائية الّتي لا تستند إلى اُصول معلومة. وبعبارة اُخرى : يجب الفصل
والتمييز بين الإلهامات الرحمانية والالقاءات الشيطانية بواسطة الموازين العقلية
والشرعية.).
من هنا اعتبر العلماء « الوحيَ »
الطريقَ المطمئنة الوحيدة إلى المعرفة العامة ... الوحي الّذي ينزل على الانبياء
الذين ثبتت نبوّتهم بالدلائل القاطعة ، من المعجزة وغيرها.
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أنواع الوحي
واصنافه :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إن في مقدور الروح الإنسانية بسبب ما
تملك من كمالات أن تتصل بالعوالم الروحانية من الطرق المختلفة ، ونحن هنا نشير إلى هذه الطرق الّتي جاء ذكرها في أحاديث قادة
الإسلام وائمته ، باختصار : 1 ـ تارة يتلقى الحقائق السماوية
العليا على نحو الالهام ، فيتخذ ما يتم إلقاؤه في النفس عبر هذا الطريق حكم (
العلوم البديهية ) الّتي لا يتطرق اليها أي ريب وشك. 2 ـ وقد يسمع عبارات وكلمات من جسم
معين ( كالجبل والشجرة ) كسماع موسى عليهالسلام
كلام اللّه من الشجرة. 3 ـ وربما تنكشف الحقائق له في عالم
الرؤيا انكشاف النهار. 4 ـ وقد ينزلُ عليه ملَكٌ من جانب
اللّه بكلام خاص. وقد نزل القرآن الكريم على النبي
الاكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم من هذا الطريق ، وقد صرح القرآن
الكريم نفسه بهذا عند قوله تعالى : « نزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمين عَلى قلبك
لِتكُونَ مِنَ المُنذَرين. بِلسان عَربيٍّ مُبِيْن » (الشعراء : 193 ـ 195 ، وقد اُشير في سورة الشورى الآية 51 إلى هذه
الطرق الأربع جميعها.). |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أساطيرُ مختَلفة :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد كتب المؤرخون
والكتاب عن حياة كثير من الشخصيات العالمية ، وضبطوا كل ما جلَ اودقَّ في هذا
المجال ، وربما تحمّلوا عناء الرحلات الطويلة والأسفار الشاقة لتكميل دراساتهم ،
وكتاباتهم. غير أن التاريخ لا يعرف شخصية مثل
رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ضبطت تفاصيل سيرته الدقيقة ، واهتم اتباعه وأصحابه ومحبّوه بكل شاردة وواردة في
حياته الشريفة. إنَّ هذا الولع الشديد بتسجيل كل شيء
ـ مهما صغر ـ من حياة النبيّ الاعظم
صلىاللهعليهوآلهوسلم
وسيرته
العطرة كما ساعد على ضبط جميع الجزئيات والتفاصيل في هذا المجال ، تسبب في بعض
الموارد في إلصاق بعض الزوائد بحياة النبي الاكرم وشخصيته العظيمة ، الطاهرة. ومثل هذا لا يبعد عن
المحبّين الجهلاء فكيف بالأعداء الألداء العارفين. من هنا يتعيّن على كل مؤلف يكتب عن
سيرة شخصية من الشخصيات أن لا يغفل عن مبدأ ( الحذر والإحتياط ) في تحليله
لحوادثها ، وقضاياها ، فلا يغفل عن تقييم كل ما جاء حولها من روايات وقصص في ضوء
الموازين التاريخيّة الدقيقة. واليك بقية ما جرى في
واقعة نزول ( الوحي ) في حراء : بقية حادثة نزول الوحي :
استنارت نفس رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وروحه الكبرى بنور « الوحي » المبارك ، وتعلّم كل ما ألقى عليه ملَك الوحي في
ذلك اللقاء العظيم ، وانتقشت تلك الآيات الشريفة في صدره حرفاً حرفاً ، وكلمة
كلمة. وقد خاطبه نفس ذلك الملك بعد تلاوه
تلكم الآيات بقوله : يا محمَّد ... أنت رسولُ اللّه ... وأنا جبرئيل. وقيل : انه صلىاللهعليهوآلهوسلم
سمع هذا النداء عند نزوله من غار حراء وقد اضطرب رسولُ اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
لهذين الحدَثين ، اضطرب لعظمة المسؤولية الكبرى الّتي اُلقيت على كاهله. وكان هذا الاضطراب طبيعياً بعض الشيء
، وهو لا ينافي بالمرة يقينه صلىاللهعليهوآلهوسلم وإيمانهُ
بصدق ما اُنزلَ عليه لأن الروح مهما بلغت من العظمة والسمّو والقوة والصلابة ،
ومهما كانت قوة ارتباطها بعالم الغيب ، وبالعوالم الرُّوحانية العُليا فانَّها
عندما تواجه لأول مرّة ملَكاً لم تره من قبل ، وذلك في مثل المكان الّذي التقى
النبيُ ( فوق الجبل ) لابُدَّ أنْ يحصل لها مثل هذا الاضطراب ، ولهذا زال ذلك
الاضطراب عن رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
في ما بعد. ثم إنّ الاضطراب والتعب الشديد قد
تسبّبا في أن يتوجه النبيُ صلىاللهعليهوآلهوسلم
إلى
بيت « خديجة » عليهاالسلام
، وعندما دخل بيتها ووجدت على ملامحه آثار الاضطراب والتفكير سألته عن ما جرى له
، فحدَّثها بكل ما سمع وراى وقصَّ عليها ما كان من أمر جبرئيل معها ، فعظّمت «
خديجةُ » عليهاالسلام
أمره ، ودعت له ، وقالت : إبشر فواللّه لا يخزيك اللّه أبداً. ثم إن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم الّذي كان يشعر بالجهد والتعب قال
لزوجته الوفيّة « خديجة » : دثّريْني ... دَثّريني. فدثّرته ، فَنام بعض الشيء. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
خديجة تذهب إلى
ورقة بن نوقل :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد تحدثنا في الصفحات الماضية عن «
ورقة » وقلنا أنّه كان ممن تنصَّر وقرأ الكتب وسمع من أهل التوراة والانجيل وكان
ابن عم خديجة. فعند ما سمعت « خديجة » زوجة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
ما سمعته منه انطلقت إلى « ورقة » لتخبِّره بما سمعته من زوجها الكريم ، وشرحت
له كلَ شيء مما جرى له مع جبرئيل. فقال « ورقة » في جواب ابنة عمه :
إنّ ابن عمّك لصادق ... وإن هذا لبدء النبوة ، وانه ليأتيه الناموس الاكبر ( أي
الرسالة والنبوة ) (الطبقات الكبرى : ج 1 ، ص 195.).
إن ما ذكرناه إلى هنا هو في الحقيقة
ملخّص الروايات التاريخية المتواترة الّتي وصلت إليها ، والّتي دُوِّنت في جميع
الكتب. بيداننا نلاحظ بين ثنايا هذه الحادثة
اُموراً لا تتفق مع ما نعرفه من أنبياء اللّه ورُسُله العظام ، كما أنها لا تتفق
مع ما قرأناهُ إلى الآن عن حياة هذا النبي العظيم صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وما سنذكره الآن من هذه الزوائد إمّا
يجب اعتباره من قبيل الاساطير التاريخية ، أو أنّ علينا تأويله بنوع من التأويل.
وانا لنعجب قبل كل شيء من المفكّر
المصريّ الدكتور « هيكل » كيف سمح لنفسه وهو الّذي تحدث في مقدمة كتابه عن مشكلة
تسرب الاساطير إلى التاريخ النبويّ ، وقال : بأنّ هناك من دسَّ في السيرة
النبوية ، عن عداوة أو جهل ، بعض الاكاذيب. ولكنه مع ذلك ينقل هنا
اُموراً لا أساس لها من الصحّة أبداً ، في حين اعطى فريقٌ من علماء الشيعة ـ
كالمرحوم الطبرسي ـ ملاحظات مفيدة في هذا الصعيد. وإليك في ما يلي بعض
هذه الاساطير والقضايا المختلفة ، على أنها
لم تكن جديرة بالاشارة ابداً لولا أن بعض المحبّين الجهَلاء ، والأعداء الأذكياء
ذكروها في كتبهم ، وكرروها في دراساتهم. 1 ـ قالوا :
إنَّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم عند
ما دخل منزل خديجة ، كان يفكّر في نفسه : لعلّ بصرَه خدعته ، أو انه كاهن ،
أوفيه جنون!! ولكن لمّا قالت له
خديجة : « انّ اللّه لا يفعل بك ذلك يا ابْن عبد اللّه ،
إنك تصدق الحديث ، وتؤدّي الأمانة ، وتصلُ « الرحم » اطمأنَّ ، وزالَ عنه الشكُ
والتردّد ، والقى على « خديجة » نظرَ شكر ومودة ، ثم طلب أن يُزمَّل ، فزمِّلَ
فنام!! (الطبقات الكبرى : ج 1 ، ص 195 ، حياة محمَّد : ص 134.).
2 ـ يقول الطبري
وغيره من مؤرخي السيرة : ان النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
لما سمع نداء يقول : « يا محمَّد أنت رسول اللّه » أصابَهُ خوفٌ شديدٌ حتّى أنه
همَّ بان يطرح نفسَهُ من أعلى الجبل ، فتبدى له ( ملَك الوحي ) ومنعه عن ذلك!!! 3 ـ ثم إنَّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ذهب ليطوف بالكعبة بعد ذلك اليوم ،
فرأى « ورقة بن نوفل » وشرح لورقة ما جرى له مع جبرئيل ، فقال له ورقة : « والّذي نفسي بيده ، إنَّك
لنبيَّ هذه الاُمة ، وقد جاءك الناموسُ الأكبرُ الّذي جاء موسى ولتُكذبَنَّه ،
ولتوذينَّه ولتخرجَنَّه ولتقاتلنِه » فأحس « محمَّد » بأن ورقة يصدّقه ، فاطمأن (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 238.). |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
بُطلانُ هذه المزاعم
:
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إن الّذي نتصوره هو أن جميع هذه
القصص مختلقة من الاساس ، وقد دُسَّت في التاريخ والتفسير عن قصد وهَدف ، أو
دخلت فيهما عن غير ذلك. وذلك : أولاً
: لأننا لتقييم هذه المزاعم يجب ان
نلقي نظرة فاحصة إلى تاريخ الأنبياء الماضين وسيرهم. إنَ القرآن الكريم قصَّ علينا
قضاياهم ، وسيرهم ، وقد وردت في هذا المجال روايات وأخبار كثيرة. وإننا لا نجد أيَ أثر لمثل هذه القصص
المشينة في حياة أي واحد منهم. إن القرآن الكريم يقص علينا قصة بدء
نزول ( الوحي ) على « موسى » بشكل كامل ويبيّن جميع التفاصيل في قصته عليهالسلام
ولا يذكر أي شيء من الخوف ، والارتعاش ، والوحشة والفزع ، بحيث يحدّث نفسه
بالإنتحار على أثر سماع الوحي!! مع أن أرضية الخوف والفزع في مجال « موسى » كانت
متوفرة أكثر ، لأنه سمع في ليلة ظلماء وهو في صحراء خالية نداء من الشجرة يخبره
بأنه نبيُ مرسَلٌ. ولكن موسى ـ كما يصرّح القرآن الكريم
، بهذه الحقيقة ـ حافظ على هدوئه ، وسكونه ، وعندما خاطبَهُ اللّه تعالى بقوله :
« أن ألقِ عصاك » القاها من فوره ، وكان خوفه من ناحية العصى الّتي تبدّلت إلى
ثعبان مخيف ، لا من جهة الايحاء إليه. فهل يمكن ، أو يجوز لنا أن نقول :
كان « موسى » لحظة الوحي إليه مطمئناً هادئاً ساكناً ، ولكن أفضل الانبياء
والمرسلين اضطرب عند سماع كلام المَلك ، وفزع إلى درجة فكَّر في طرح نفسه من
أعلى الجبل؟! هل هذا كلام معقول؟! لا ريب أن روح محمَّد صلىاللهعليهوآلهوسلم
ما لم تكن مهيَّأة من جميع الجهات وبصورة كاملة لتلقّي السرّ الالهيّ ( النبوة )
لا يمكن أن يمنَ عليه الربُ الحكيمُ بمنصب النبوّة ، ويختاره لمقام الرسالة ،
لأن الهدف الجوهريّ من ابتعاث الرُسل ، وارسال الانبياء هو هداية الناس
وارشادهم. ومن كان كذلك من حيث ضعف الروح ووهن
النفس بهذه المرتبة بحيث يحدّث نفسه بالإنتحار خوفاً (كما نقل هيكل في كتابه : « حياة محمَّد ».)
وفزعاً
كيف يمكن ان ينفذ إلى نفوس الناس ويؤثر فيهم؟! ثانياً : كيف
يمكن أن يطمئن موسى بمجرد سماعه للنداء الالهيّ إلى أنه صادرٌ من جانب اللّه ،
فطلبَ من ربّه من فوره أن يجعل أخاه هارون وزيراً له لأنه أفصحُ منه قولا (طه : 29.)
بينما لا يطمئن سيد المرسلين وخاتمهم؟! ثالثاً : لقد
كان « ورقة » مسيحيّاً حتماً ، ولكنه عند ما أراد أن يزيل عن « محمَّد » الشك
والإضطراب ذكر نبوَّة « موسى » عليهالسلام وقال : قد
جاءك الناموس الّذي جاء موسى (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 238 وقد نقل المرحوم المجلسي هذه العبارة
عن المنتقى ولكنه بلفظة« عيسى » أيضاً ولكن لا وجود لذلك في صحيح البخاري وسيرة
ابن هشام اللذين هما الأساس لهذه الامور.).
ألا يدلُّ هذا على أنّ ثمة يداً
اسرائيليّة وراء هذه الحبكة هي الّتي صاغت هذه القصة واختلقتها في غفلة عما كان
يدين به « ورقة » بطلُ القصة؟! كل هذا بغصّ النظر عن أن مثل هذه
الاُمور تتنافى والعظمة الّتي نعهدها من النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
، ولا تنسجم معها أبداً ، ويبدو أن كاتب « حياة محمَّد » أدرك إلى درجة ما
خرافية هذه القصة ولذلك نجده ينقل بعض مواضيعها بعد جملة : « كما يقولون ». وقد حارب ائمةُ الشيعة
هذه الاساطير بكل قوة ، وأبطلوها برمتها. فعندما يسأل زرارة الإمام الصادق عليهالسلام
مثلا : كيف لم يَخفْ رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
فيما يأتيه من قِبَل اللّه ان يكون ممّا ينزغ به الشيطان : قال الإمام عليهالسلام : « إنّ اللّه
إذا اتخذَ عبداً ورسولا ، أنزل عليه السكينة والوقار فكان يأتيه من قِبَل اللّه
عزّ وجلّ مثل الّذي يراه بعينه » (بحار الأنوار : ج 18 ، ص 262 وفي الكافي : ج 1 ، ص 271 نظيره.).
ويقول العلامة الشيعي
الكبير المرحوم الطبرسي في تفسيره ، في هذا الصدد : « إن اللّه لا يوحي الى رسوله إلاّ
بالبراهين النيّرة والآيات البينة الدالّة على أن ما يوحى إليه إنما هو من اللّه
تعالى ، فلا يحتاج إلى شيء سواها ولا يفزعُ ، ولا يَفْرُق » (مجمع البيان : ج 10 ، ص 384.). |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
12 متى نزل الوحي
أولا؟
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد
تَعرّضَ يوم مبعث رسول الإسلام صلىاللهعليهوآلهوسلم للاختلاف
من حيث التعيين والتحديد فهو مثل يوم ولادته ويوم وفاته صلىاللهعليهوآلهوسلم
غير مقطوع به ، من وجهة نظر المؤرخين وكُتّاب السيرة النبويّة. فلقد اتفق علماء
الشيعة على القول بان رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم بُعِث بالرسالة في السابع والعشرين
من شهر رجب ، وأن نزول الوحي عليه قد بدأ من ذلك اليوم نفسِه. بينما اشتهر عند علماء السُنّة أن
رسول الإسلام قد اُوتي هذا المقام العظيم في شهر رمضان المبارك. ففي ذلك الشهر الفضيل كُلِّف « محمّد
» صلىاللهعليهوآلهوسلم
من جانب اللّه تعالى بهداية الناس ، وبُعثَ بالرسالة. ولما كانت الشيعة تشايع عترة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
وأهل بيته الصادقين ، وتعتقد بصحة ما يرونه ويقولون به اتباعاً لقول رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
فيهم ، في حديث الثقلين : « إنهما لن يفترقا » فانهم اتبعوا ـ في تحديد يوم
المبعث النبوي الشريف ـ القول المأثور ـ بنقل صحيح ـ عن عترة النبي المطهرين في فقد روي عن أبناء
الرسول وعترته الطاهرة أن عظيمَ هذا البيت وسيّده ( أي النبيّ ) قد بُعِثَ في
السابع والعشرين من شهر رجب ، وهم في ذلك حجة. ولهذا لا يمكن الشك والتردد في صحة
هذا القول وثبوته (راجع بحار الأنوار : ج 18 ، ص 189.).
نعم غاية ما يمكن الاستدلال به على
القول الآخر هو تصريح القرآن الكريم نفسِه بأنّ آيات القرآن نزلت في شهر رمضان ،
وحيث أن يومَ بعثة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
كانَ
هو بنفسه يوم بدء نزول الوحي ، والقرآن عليه ، لهذا يجب القول بان يوم البعثة
الشريفة انما كان في نفس الشهر الّذي نزل فيه القرآن الكريم : اي شهر رمضان
المبارك. واليك فيما يأتي
الآيات الّتي تدل على أن القرآن الكريم نزل في شهر رمضان : 1 ـ « شَهْرُ رَمضان الَّذي اُنْزِلَ فِيه الْقُرانُ
» (البقرة : 185.).
2 ـ « حم. وَالكِتابِ الْمُبين. إنّا أنْزلْناهُ في
لَيْلَة مُبارَكة » (الدخان : 1 ـ 3.)
وتلك الليلة هي ليلة القَدْر الّتي قال عنها سبحانه : « إنّا أنْزَلْناهُ في لَيْلَةِ الْقَدر. لَيْلَةُ
الْقَدْر خَيْرٌ مِنْ اَلْفِ شَهْر » (القدر : 1 و 3.). |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ما أجاب به علماء
الشيعة :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ولقد أجاب مُحدِّثو
الشيعة ومفسروهم عن هذا الاستدلال بطرق مختلفة نذكر طائفة منها هنا : |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الجوابُ الأوَّل :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إنَ الآيات المذكورة إنّما تدل على
أن القرآن نزل في شهر رمضان وبالذات في ليلة مباركة منه هي « ليلة القدر » ،
ولكنها لا تتعرض لذكر محلّ نزول هذه الآيات ، وأنها أين نزلت؟ وهي بالتالي لا
تدل أبداً ومطلقاً على أنها نزلت في تلك الليلة على قلب رسول اللّه؟ فيحتمل أن
يكون القرآن نزولات متعددة إحداها نزول القرآن على رسول اللّه تدريجاً. والآخر نزوله الدفعي من اللوح
المحفوظ إلى البيت المعمور (للتعرف على معنى اللوح المحفوظ راجع كتب التفسير.).
وعلى هذا فما المانع من ان تكون بعض
آيات القرآن ( من سورة العلق ) قد
نزلت على النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
في السابع والعشرين من شهر رجب. ثم نزل القرآن بصورته الجمعية الكاملة في شهر
رمضان من مكان معين أسماه القرآن باللوح المحفوظ ، إلى موضع آخر عُبر عنه في بعض
الروايات بالبيت المعمور. ويؤيّد هذا الرأي قولُ
اللّه تعالى في سورة الدخان : « إنّا أَنْزَلْناهُ في
لَيْلَة مباركةِ » فانَّ هذه الآية ـ بحكم رجوع الضمير فيها إلى الكتاب ـ تصرح
بأن الكتاب العزيز بأجمعه نزل في ليلة مباركة ( في شهر رمضان ) ، ولابدَّ انَ
يكون هذا النزول غير ذلك النزول الّذي تحقق في يوم المبعث الشريف ، لأن في يوم
المبعث لم تنزل سوى آيات معدودة لا اكثر. وخلاصة الكلام هي ان
الآيات الّتي تصرح بنزول القرآن في شهر رمضان في ليلة مباركة ( ليلة القدر ) لا
يمكن أن تدل على أن يوم المبعث الّذي نزلت فيه بضعُ آيات أيضاً كان في ذلك الشهر
نفسِه ، لأنَّ الآيات المذكورة تدل على أن مجموع القرآن لا بعضه قد نزل في ذلك
الشهر ، في حين لم تنزل في يوم المبعث سوى آيات معدودة كما نعلم. وفي هذه الصورة يحتمل
أن يكون المراد من النزول الجمعيّ للقرآن هو نزول مجموع الكتاب العزيز في ذلك
الشهر من « اللوح المحفوظ » إلى « البيت المعمور ». وقد روى علماء الشيعة
والسنة روايات وأخباراً بهذا المضمون ، وبخاصة
الاستاذ الأزهري محمّد عبدالعظيم الزرقاني الّذي أورد روايات عديدة في هذا الصدد
في كتابه (مناهل العرفان في علوم القرآن : ج 1 ، ص 37.). |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الجواب الثاني :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وهو أمتن الاجوبة
والردود على هذا القول. فقد بذل الاستاذُ
الطباطبائي جهداً كبيراً لتوضيحه وبيانه في كتابه القيم ؛ واليك خلاصته : يقول العلامة
الطباطبائي : إنّ قول اللّه تعالى إنا أنزلناه في
شهر رمضان ، المقصود منه هو نزول حقيقة القرآن على قلب النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
، لأن للقرآن مضافاً إلى وجوده التدريجي ، واقعية اطلع اللّه تعالى نبيه العظيم
عليها في ليلة معينة من ليالي شهر رمضان المبارك (الميزان : ج 2 ، ص 14 ـ 16.).
وحيث أنّ النبيّ الاكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم
كان قد عرف من قبل بجميع القرآن الكريم لذلك نزلت الآية تأمره بان لا يعجل
بقرائته حتّى يصدر الأمر بنزول القرآن تدريجاً إذ يقول تعالى : « وَلا تعْجَل بِالْقُرانِ مِنْ قَبلُ أَن يُقْضى
إلَيْكَ وَحْيُهُ » (طه : 114.).
وخلاصة هذا الجواب هي
: أنَّ
للقرآن الكريم وجوداً جمعياً علمياً واقعياً وهو الّذي نزل على الرسول الكريم صلىاللهعليهوآلهوسلم
مرة واحدة في شهر رمضان ، وآخر وجوداً تدريجياً كان بدء نزوله على النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
في يوم المبعث ، واستمرّ تنزله إلى آخر حياته الشريفة على نحو التدريج.
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الجواب الثالث :
التفكيك بين نزول القرآن والبعثة
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إن للوحي ـ كما أوضحنا ذلك في مبحث
أنواع الوحي اجمالا ـ مراتب ومراحل ، يتمثل أولُ مراتبه في الرؤيا الصادقة الّتي
رآها رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم.
والمرتبة الاُخرى
تمثلت في سماعة للنداء الغيبيّ الالهي من دون وساطة ملك. وآخر تلك المراتب هو أن
يسمع النبيُ كلام اللّه من ملك يبصره ويراه ، ويتعرف عن طريقه على حقائق العوالم
الاُخرى. وحيث أن النفس الإنسانية لا تستطيع
في الوهلة الاولى تحمُّل مراتب ( الوحي ) جميعها دفعة واحدة بل لابدّ أن يتحملها
تدريجاً ، لهذا يجب القول بأنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
قد
سمع يوم المبعث ( اليوم السابع والعشرون من شهر رجب ) النداء السماويّ الّذي
يخبره بأنه رسول اللّه ، فقط ولم تنزل في مثل هذا اليوم ايّة آية قط ، وقد استمر
الأمر على هذا المنوال مدة من الزمان. ثم بعد مدة بدأ نزول القرآن الكريم على
نحو التدريج ابتداء من شهر رمضان. وخلاصة هذا الجواب هي أن ابتعاث
الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم
بالرسالة في شهر رجب لا يلازم نزول القرآن في ذلك الشهر حتماً. وعلى هذا الاساس ما المانع من ان
يُبعَث رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
في شهر رجب ، وينزل القرآنُ الكريم في شهر رمضان من نفس ذلك العام؟ ان هذه الاجابة
وإن كانت لا توافق كثيراً من النصوص التاريخية ( لأن كثيراً من المؤرخين صرّحوا
بأنّ الآيات الخمس من سورة العلق نزلت في يوم المبعث نفسه ) إلاّ أن هناك ـ مع
ذلك ـ روايات ذكرت قصة البعثة بسماع النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
للنداء
الغيبيّ ، ولم تذكر شيئاً عن نزول قرآن أو آيات ، بل هي تشرح الواقعة على النحو
التالي إذ تقول : في ذلك اليوم سمع رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم ملكاً
يقول له : يا محمَّد إنّك لرسول اللّه ، وجاء في بعض الأخبار أنه سمع هذا النداء
، فقط ، ولم تذكر شيئاً عن مشاهدة الملك. وللمزيد من التوضيح ، والتوسع يُراجع
« البحار » في هذا المجال (بحار الأنوار : ج 18 ، ص 184 و 190 و 193 و 253 ، الكافي : ج 2 ، ص
460 ، تفسير العيّاشي : ج 1 ص 80 وهذا الجواب لا ينسجم مع ما رواه البخاري من
أنّ بعثة النبي رافقت نزول آيات من سورة العلق عليه. ،).
على أنَ هذه الاجابة تختلف عن
الإجابة الرابعة الّتي تقول بأن مبعثَ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم كان في شهر رجب ، وكان نزولُ القرآن
الكريم بعد انقضاء الدعوة السرّية الّتي استغرقت ثلاثة أعوام.
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الانبياء والبشارة
برسول اللّه :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وينبغي ـ استكمالا لهذا الفصل من
التاريخ النبوي ـ ان نلفت نظر القارئ الكريم إلى ان الرسالة المحمَّدية المباركة
، ممّا بشر به جميع الانبياء المتقدمين زمنياً على خاتم الانبياء والمرسلين
محمَّد صلىاللهعليهوآلهوسلم.
ولقد اشار القرآن الكريم إلى ذلك إذ
قال اللّه تعالى : « وَإذْ
أَخَذَ اللّه مِيثَاقَ النَّبِيّينَ لمَا آتيتُكُمْ مِنْ كِتاب وَحِكمَة ثُمَّ
جاءكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرَنَّهُ
قالَ ءأَقْرَرتُمْ وَأَخذتُم عَلى ذلِكُمْ إصريْ قالُوا أقْرَرْنا قالَ
فَاشْهَدُوا وَأَنا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدينَ
» (آل عمران : 81.). وهذه الآية وإن كانت تكشف عن أصل عام
وكلّي وهو : وجوب تصديق إتباع النبيّ السابق للنبي اللاحق ، إلاّ أن المصداق
الأتمّ لها هو رسول الإسلام الكريم. فيظهر من هذه الآية أن اللّه تعالى
أخذ الميثاق المؤكد من جميع الانبياء أو من أصحاب الشرائع منهم أن يؤمنوا برسالة
محمَّد صلىاللهعليهوآلهوسلم
، ويدعوا أتباعهم إلى تصديقه واتباعه ونصرته. روى الفخر الرازي عن
اميرالمؤمنين علي عليهالسلام
: « إن اللّه تعالى ما بَعث آدم عليهالسلام
وَمؤمن بعده من الانبياء عليهم الصلاة والسَّلام إلاّ أخذ عليهم العهد لئن بُعث
محمَّد وهو حي ليؤمننّ به ولينصرنه » (مفاتيح الغيب : ج 2 ، ص 507.).
وممّا يؤيد هذا ان القرآن دعا اهل
الكتاب إلى بيان ما قرأوه ووجدوه في كتبهم حول رسول الإسلام للناس من دون كتمان
، واليك فيما ياتي طائفة من الآيات المصرحة بهذا الأمر : 1 ـ قال اللّه تعالى : « وَإذْ أَخَذَ اللّه ميثاقَ الَّذينَ اُوتوا
الكِتابَ لَتُبيَّنُنَّهُ للنّاس وَلا تَكتُمونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراء ظُهورهمْ
وَاشْتَروا بِه ثَمناً قَلِيلا فَبِئسَ مَا يَشْتَرُونَ
» (آل عمران : 187.).
2 ـ قال تعالى : « إنَّ الَّذينَ يَكتُمونَ مَا أَنْزَلَ اللّه مِنَ
الْكِتابِ وَيَشْتَرونَ بِه ثَمناً قَليلا اُوْلئكَ مَا يَأكُلُونَ في
بُطُونِهِم إلاّ النّار ، ولا يُكَلِّمهُمُ اللّه يَومَ الْقِيامَةِ ولا
يُزكّيهمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أليمٌ » (البقرة : 174.).
3 ـ وقال تعالى : « الَّذينَ آتَيْناهمْ الْكِتابَ يَعرفُونَهُ كَما
يَعرفُونَ أَبناءهُمْ وَإنَّ فَريقاً مِنْهُمْ ليكتمون الحقَّ وَهُمْ
يَعْلَمُونَ » (البقرة : 146.).
4 ـ وقال سبحانه : « الَّذينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبيّ
الاُمِيَّ الَّذي يَجدُونَه مكتُوباً عِندَهُمْ في التَوراةِ وَالإنجيلِ
يَأمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوف وَيَنْهاهُمْ عِنَ الْمُنكر وَيُحِلُّ لَهُمْ الطيِّباتِ
وَيُحرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائثَ وَيضَعُ عَنْهُمْ إصْرهُمْ وَالأَغْلالَ الّتي
كانَتْ عَلَيْهِم فالَّذينَ آمَنُوا بِه وَعَزَّرُوهُ وَنَصرُوهُ وَاتَّبَعُوا
النُّورَ الَّذي اُنزِلَ معهُ اُوْلئكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
»
(الاعراف : 157.).
ان القرآن الكريم يصرح بجلاء ان
السيد المسيح عليهالسلام اخبر عن
رسول الإسلام ورسالته إذ يقول تعالى : « وَإذْ
قالَ عيسَى بنْ مَريَمَ يَا بني إسرائيلَ إنّي رَسُولُ اللّه إليكُمْ مُصدِّقاً
لِمَا بينَ يديَّ مِنْ التَوراة ومبشِّراً بِرَسُول يَأتي مِن بَعدي اْسمُه
أَحمَدُ فلمّا جَاءهُمْ كما يتحدث القرآنُ الكريمُ عن أهل
الكتاب الذين تنكروا لرسالة النبي محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم
عندما بُعثَ وقد كانوا من قبل يخبرون عنه ويطلبون النصر به على اعدائهم إذ قال
سبحانه : « وَلمَّا
جاءهُمْ كِتابٌ مِنْ عِندِ اللّه مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبلُ
يَسْتفتِحُونَ عَلى الَّذينَ كَفَرُوا فَلمّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِه
فلعنَةُ اللّه عَلى الْكافِرينَ » (البقرة : 89.).
بل ويخبرنا القرآنُ الكريم بأَنَّ
إبراهيم عليهالسلام يومَ أحلّ
زوجتَه وولده اسماعيل بارض مكة دعا قائلا : « رَبَّنا وَابعَثْ فيهمْ رَسولا مِنْهُمْ يَتلو
عَلَيْهمْ آياتِكَ وَيعلِّمُهُمْ الْكِتابَ وَالْحِكْمةَ وَيُزكّيهمْ إنَّكَ
أَنتَ الْعَزيزُ الْحَكيمُ » (ـ البقرة : 129.).
وقد انطبقت هذه الأوصاف على رسول اللّه
صلىاللهعليهوآلهوسلم إذ يصفه
القرآن الكريم بقوله : « لَقَدْ
مَنّ اللّه عَلى الْمُؤمنينَ إذْ بَعثَ فيهمْ رَسولا مِنْ أنفُسِهِمْ يَتْلُوا
عَلَيْهِمْ آياتِه وَيُزكّيهِمْ وَيُعلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَة وَإنْ
كانوا مِنْ قَبلُ لَفي ضَلال مُبيْن » (آل عمران : 164.). |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
محمَّد خاتم
الانبياء :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
واستكمالا لهذا البحث ينبغي أيضاً أن
نشير إلى أبرز ناحية في رسالة النبيّ محمَّد صلىاللهعليهوآلهوسلم
ونبوته وهي مسألة الخاتمية. فان القرآن الكريم صرح في آيات عديدة
بكون رسول اللّه محمَّد صلىاللهعليهوآلهوسلم
خاتم النبيّين ، وشريعته خاتمة الشرائع ، فلا نبيّ بعده ، ولا رسالة بعد رسالته.
وها نحن ندرج ابرز
الآيات الواردة في هذا المجال : 1 ـ قال تعالى : « مَا كانَ مُحمَّد اَبا أَحد مِنْ رجالِكُمْ
وَلكِنْ رَسُولَ اللّه وَخاتَمَ الْنَبيّين وَكانَ اللّه بِكُلِّ شَيء عَليماً
» (الأحزاب : 40.).
2 ـ قال سبحانه : « تَباركَ الَّذي نَزَّلَ الْفُرقانَ عَلى عَبدِه
ليكونَ للعالَمينَ نَذيراً » (الفرقان : 1.).
3 ـ وقال سبحانه : « وَاُوحي إليّ هذا الْقُرآنُ لاُنذِركُمْ بِه
وَمَنْ بَلغَ » (الانعام : 19).
4 ـ وقال تعالى : « وَما أرْسَلْناكَ إلاّ كافّةً لِلنّاسِ بَشيراً
وَنَذيراً وَلكِنَّ أكثرَ النّاسِ لا يَعلَمُونَ
» (سبأ : 28.).
والآياتُ الثلاث الأخيرة تفيد بأن
رسالة النبيّ محمَّد صلىاللهعليهوآلهوسلم
عامة وعالمية وأبدية لأَنه في غير هذه الحالة وفي غير هذه الصورة لن يكون نبياً
للناس كافة ، وللعالمين جميعاً. ولن يكون نذيراً لقومه ولمن بلغه نداؤه. هذا وقد صرّح النبيُ صلىاللهعليهوآلهوسلم
نفسه في أحاديث كثيرة بهذا الموضوع وهو الصادق المصدّق. فعن ابي هريرة قال رسول اللّه :
« اُرسلتُ إلى الناس كافة وبي خُتِم النبيّون » (الطبقات الكبرى : ج 1 ، ص 128.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
13 ما سَبَقني
أحدٌ
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أوَّلُ من آمنَ
بالنبيَّ منَ الرجال والنِّساء :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد انتشرَ الإسلامُ في العالَم
بصورة تدريجية ، ويوصَف الذين بادروا إلى الإيمان بالرسالة الإسلامية والمساعدة
على نشرها قبل غيرهم ب « السابقين ». وقد كان السبق إلى الإيمان برسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم في صدر الإسلام معياراً للفضل ولهذا
يجب أن ندرس هذا الموضوع في ضوء المصادر الصحيحة ، ونتعرف على من سَبق إلى
الإيمان بالرسالة الإسلامية من الرجال ، ومن النساء. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
مِنَ النساء : «
خديجة »
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إن من المسلَّم به تاريخياً أن «
خديجة » كانت أول امرأة آمنت برسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
، ولم يخالف في هذا اُحدٌ ، (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 240.)
ونحن هنا ننقل مستنداً تاريخياً مهماً واحداً ذكره المؤرخون نقلا عن إحدى زوجات
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
، مكتفين به رعايةً للاختصار. تقول عائشة : ما
غرتُ على نساء النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
إلاّ على « خديجة » وإنّي لم اُدركها ، وقد كان رَسولُ اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
لا يكاد يخرج من البيت حتّى يذكر « خديجة » فيحسن الثناء عليها ، فذكرها يوماً
من الايام فأدركتني الغيرة ، فقلت : هل كانت إلاّ عجوزاً فقد أبدلك اللّه خيراً
منها ، فغضب حتّى اهتز مقدّم شعره من الغضب ثم قال : « لا واللّه ما ابدَلني اللّه خيراً
منها ، آمنَت بي إذ كَفَر الناسُ ، وَصَدَّقَتني إذ كَذَّبني النّاسُ ، وواستني
في مالها إذ حرمني الناسُ ورزقني اللّه منها اولاداً إذ حرمني اولاد الناس »
(صحيح مسلم : ج 7 ، ص 134 ، صحيح البخاري : ج 5 ، ص 39 ، اسد الغابة
لابن الأثير الجزري : ج 5 ، ص 428 ، بحار الأنوار : ج 16 ، ص 8.).
وممّا يدل أيضاً على سبق خديجة في
الإيمان برسول اللّه كلَ نساء العالم جمعاء ما جرى في قضية بدء الوحي ، ونزول
القرآن ، لأن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
عندما
انحدر من غار « حراء » واخبر زوجته « خديجة » بما جرى له واجه ـ رأساً ـ ايمان
زوجته به وقبولها لكلامه ، وتصديقها برسالته ، تصريحاً وتلويحاً. هذا مضافاً إلى أنها كانت قد سمعت من
قبل أخباراً تتعلق بنبوّته ومستقبل رسالته من كهنة العرب وأهل الكتاب ، وهذه
الأخبار وامانة فتى قريش وصدقه الّذي اشتهر به هي الّتي دفعت بها إلى أن تتزوج
بالفتى الهاشميّ ( محمَّد ). |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أقدمُ الرجال
اسلاماً : « عليّ »
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إن المشهور
المقارب للمتَفق عليه بين المؤرخين ، سنة وشيعة ، هو أن « عليا » كان اول من آمن
برسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
من الرجال. ونرى في مقابل هذا
القول المشهور أقوالا اخر نادرة قد نقل ناقلوها ما يخالفها أيضاً : فمثلا يقال : إنّ زيد بن حارثة ربيب
رسول اللّه وابنه بالتبني ، أو أبو بكر كان أول من أسلم ، ولكن دلائلَ عديدة ( نذكر بعضها هنا على سبيل الاختصار )
تشهد على خلاف هذين القولين. واليك بعض هذه الدلائل
: |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
1 ـ عليّ تربّى في حجر النبيّ
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد تلقى عليٌ عليهالسلام
تربيته في حجر رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ونشأ وترعرع في بيته منذ طفولته ، وكان النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
يجتهد في تربيته والعناية به كالوالد الرحيم. قال عامّة المؤرخين
وكُتّاب السيرة بالاتفاق : إنَّ قريشاً أصابتهم أزمةٌ
شديدةٌ ( قبل بعثة النبي ) وكان أبو طالب ذاعيال كثير ، فقال رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
للعباس عمّه ، وكان من أيسر بني هاشم : يا عباس إن أخاك أبا طالب كثير العيال ،
وقد اصاب الناس ما ترى من هذه الأزمة فانطلق بنا إليه فلْنخفّف من عياله ، آخذ
من بنيه رجلا وتأخذ انت رجلا فنكفهما عنه ، فقال العباس : نعم ، فانطلقا حتّى
اتيا أبا طالب فقالا له : إنا نريد أن نخفّف عنك من عيالك حتّى ينكشف عن الناس
ما هم فيه ( إلى أن قال : ) فأخذ رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
علياً فضمّه إليه ، وأخذ العباس جعفراً فضمّه إليه فلم يزل عليٌ مع رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم حتّى بعثه اللّه تبارك وتعالى نبياً
فاتبعه علي رضي اللّه عنه وآمن به وصدقه (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 246 ، البداية والنهاية : ج 2 ، ص 25.).
في هذا الصورة يجب أن نقول بأنّ
علياً عليهالسلام انتقل إلى
بيت النبيّ وهو دون الثامنة ، لأَنَّ الغرض من أخذ النبي إيّاه من ابيه « أبي
طالب » هو التخفيف عن كاهل زعيم مكة ( أبي طالب ) ، ومن الواضح أنَّ صبيّاً في
مثل هذا السنّ ( دون الثامنة ) مضافاً إلى أنَّ فصله عن والدَيه أمرٌ في غاية
الصعوبة ، لن يكونَ لأَخذهِ وتكفّلِهِ أيُ أثر هامّ في وضع أبيه ( أبي طالب )
المعيشىّ. وعلى هذا يجب أن نفترض له عليهالسلام
عمراً يكون لأخذه فيه من قِبَل النبيّ تأثيراً معتداً به في وضع أبيه الإقتصادي
والمعيشي. فكيف يمكن القول ـ والحال هذه ـ أن
اباعد عن البيت النبويّ مثل « زيد بن حارثة » وغيره اطّلعوا على أسرار الوحي ،
بينما جهل ابن عم النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم واقرب
الناس إليه والّذي كان معه في اكثر الأوقات بما أتى به صلىاللهعليهوآلهوسلم
وما نزل عليه. إنّ غرضَ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
من تربية الإمام عليّ وتكفّله إياه كان إلى حدّ كبير هو أداء ما أسدى إليه أبو
طالب من خدمات ، ولم يكن ثمة شيء أحبَّ إلى رسول اللّه من أنْ يهديَ أحداً إلى
الصراط المستقيم ، فكيف يمكن أن يقال ـ والحال هذه ـ أن رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
حرم ابن عمّه الّذي كان يتمتع بذكاء باهر وضمير يقظ ، من هذه النعمة الكبرى. إنَ من الأفضل
أن نسمَعَ هذا الأمر من لسان « علي » نفسه ، فقد بيّن عليهالسلام
في الخطبة القاصعة منزلَته من رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم وقربه إليه
هكذا : « وَلَقدْ عَلِمتم موضعي من رسول
اللّه بالقرابة القريبة ، والمنزلة الخصيصة ، وضَعني في حجره وأنا وليدٌ ،
يضمُّني إلى صدره ، ويكنُفني في فراشه ، ويمسُّني جسده ، ويُشمُّني عرفَه ( عرقه
) ... ولقد كنتُ أتّبعه اتباعَ الفصيل إثر اُمِّه ، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه
علَماً ويأمُرُني بالإقتداء به ، ولقد كان يجاورني في كل سنة بحراء فاراه ولا
يراه غيري ، ولم يجمَعْ بيتٌ واحدٌ يومئذ في الإسلام غير رسول اللّه ، وخديجة
وأنا ثالثهما أرى نورَ الوحي والرِّسالة وأشمُّ ريحَ النبوة » (نهج البلاغة : ج 2 ، ص 182 ، وفي هذه الخطبة نفسها يقول : اللّهمّ
إني أوّل من أناب وَسَمِعَ وَاَجابَ لم يسبقني إلاّ رسول اللّه بالصلاة.).
وجاء في تاريخ الطبري
عن ابن اسحاق قال : كان اول ذكر آمن برسول اللّه
صلىاللهعليهوآلهوسلم
وصلّى معه وصدّق بما جاءه من عند اللّه « علي بن ابي طالب » عليهالسلام
وهو يومئذ ابن عشر سنين ، وكان ممّا انعم اللّه به على عليّ بن ابي طالب
عليهالسلام
انه كان في حجر رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم قبل
الإسلام (تاريخ الطبري : ج 2 ، ص 57.). |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
2 ـ عليُّ وخديجة يقيمان الصلاة مع النبيّ
:
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ينقل ابن الاثير في «
اُسد الغابة » ، وابن حجر في « الإصابة » عند ترجمة « عفيف الكندي » وكثير من
علماء التاريخ القصة التالية عنه ، بأنه قال : كنت إمرء تاجراً فقدمتُ « منى » أيام
الحج ، وكان العباس بن عبد المطلب امرء تاجراً فأتيته أبتاع منه وابيعه ، قال :
فبينا نحن إذ خرج رجلٌ من خباء يصلّي فقام تجاه الكعبة ثم خرجت امرأة فقامت
تصلّي ، وخرج غلام يصلّي معه ، فقلت : يا عباس ما هذا الدين ، إنّ هذا الدين ما
ندري به؟ فقال : هذا محمَّد بن عبد اللّه يزعم أنّ اللّه أرسله وأن كنوز كسرى
وقيصر ستُفتَح عليه ، وهذه امرأته « خديجة بنت خويلد » آمنت به وهذا الغلام ابن
عمه « علي بن ابي طالب » آمن به قال عفيف : فليتني كنت رابعهم (الاصابة : ج 2 ، ص 480 ، تاريخ الطبري : ج 2 ، ص 57. الكامل : ج 2 ،
ص 37 و 38. اعلام الورى : ص 25 ، اسد الغابة : ج 3 ، ص 414.).
وهذه الواقعة ينقلها ويرويها حتّى
الذين يقصرون في رواية فضائل الإمام عليّ وكتابتها ، وفي امكان القارئ الكريم ان
يقف على هذه القصة في المصادر التالية على وجه التفصيل.
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
3 ـ أنا الصِدّيق الأكبر :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
تلاحَظ هذه العبارة ونظائرُها كثيراً
، في خطب الإمام عليّ عليهالسلام
وكلماته فهو يكرّر العبارات التالية بكثرة : « أنا عَبْدُ اللّه ، وأخو رسول
اللّه ، وأنا الصِدّيقُ الأكبر ، لا يقولُها بعدي الا كاذب مفتر ، ولقدْ صَلّيتُ
مَعَ رسُول اللّه قبل الناسِ بسَبْع سِنين ، وأنا أوّل مَن صلّى معه »
(خصائص النسائي : ص 3 وسنن ابن ماجه : ج 1 ، ص 57 ، مستدرك الحاكم : ج
1 ، ص 112 ، تاريخ الطبري : ج 2 ، ص 56 وغيرها.). |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
4 ـ أوَّلكم إسلاماً : عليٌ
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ولقد وردت أحاديث متواترة عن رسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم وبتعابير متنوعة قال فيها : «
أوَّلُكُمْ وارداً عَليَّ الحوضَ ، أوَّلُكُمْ إسْلاماً عليُّ بنُ أبي طالب » (يراجع مصادر هذا الحديث في الغدير : ج 3 ، ص 220.).
وعند ما يدرس المنصف المحايد هذه
الاحاديث ، يقطع بأسبقية الإمام عليّ إلى الإسلام ، وتقدّمه على غيره في الإيمان
بالدعوة المحمَّدية ، ولا يختار القولين الآخرين اللَّذين لا يذهبُ إليهما إلاّ
الأقليّة. فإنَّ ما يناهز الستين شخصاً من
الصحابة والتابعين يؤيدون القولَ الأَولَ ( أي أن عليّاً أولُ القوم إسلاماً
وأقدمهم أيماناً ) وحتّى الطبريّ نفسه الّذي شكَّكَ في هذا القول ، واكتفى بنقله
دون اختياره وتأكيده ، روى في ج 2 ، ص 60 بأن
«
ابن سعد » سال اباه قائلا : أكان أبو بكر أولكم إسلاماً ، فقال : لا ولقد أسلم
قبله اكثر من خمسين. ومن غريب الأمر ان مؤرخاً كبيراً
كابن كثير يتنكر لهذه الحقيقة الساطعة فقد ذكر في ج 7 ، ص 334 من كتابه «
البداية والنهاية » حديثاً صحيحاً بإسناد الإمام أحمد الترمذي في إسلام أمير
المؤمنين وأنَّه أوَّل من اَسلم وصلّى ثمَّ أردفه بقوله : وهذا لا يصحّ من اي
وجه كان روي عنه ، وقد ورد في أنَّه أوَّل من أسلم من هذه الاُمَّة أحاديثٌ
كثيرةٌ لا يصحّ منها شيء ... إلخ. وقد تصدى العلامة
المحقق الاميني رحمهالله
للردّ على هذا المقال بالتفصيل ونظراً لأهميّة ما كتبه العلامة الاميني
وما احتوى عليه من نصوص تاريخية نسرده هنا مع ما فيه من تكرار بسيط لبعض ما
ذكرناه. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
يقول العلامة
الاميني :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
نُسائل هذا الرَّجل لِمَ لا يصحّ شيء
منها من أيّ وجه كان؟! والطرق صحيحةٌ ، والرِّجال نقاتٌ ، والحفّاظ حكموا
بصحَّته ، وأرباب السير أطبقوا عليه ، وكان من المتسالم عليه بين الصَّحابة
الأَوَّلين والتابعين لهم بإحسان. ونحن لو نقتصر على كلمتنا هذه يحسبها
القارئ دعوى مجرّدة لدة دعوى ابن كثير (
أعاذنا اللّه عن مثلها ) وتخفى عليه جليَّة الحال فيهمنا ذكرُ
نزر ممّا يدلُّ على المدَّعى وإن لم يسعنا ايراد كثير منه روماً للاختصار. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
النصوص النبوية :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
1 ـ قال صلىاللهعليهوآلهوسلم : أوَّلكم
وارداً ـ وروداً ـ على الحوض أوَّلكم إسلاماً عليُّ بن أبي طالب. أخرجه الحاكم في المستدرك
3 ص 136 وصحَّحه م ـ والخطيب البغدادي في تاريخه ج 2 ص 81 ويوجد في الاستيعاب 2
ص 457. شرح ابن أبي الحديد 3 ، ص 258. وفي لفظ : أوَّل
هذه الاُمّة وروداً على الحوض أوَّلها إسلاماً عليُّ بن أبي طالب ، رضي اللّه
عنه. السيرة الحلبيَّة 1 ص 285. سيرة زيني دحلان 1 ص 188 هامش الحلبيَّة. وفي لفظ :
أوَّل الناس وروداً على الحوض أوّلهم إسلاماً عليُّ بن أبي طالب مناقب الفقيه
إبن المغازلي. مناقب الخوارزمي. 2 ـ قال صلىاللهعليهوآلهوسلم لفاطمة : زوّجتك خير اُمَّتي أعلمهم
علماً ، وأفضلهم حلماً وأوَّلهم سلماً. راجع ما مرَّ ص 95. 3 ـ قال صلىاللهعليهوآلهوسلم لفاطمة : إنَّه لأوَّل أصحابي :
إسلاماً. أو : أقدم اُمَّتي سلماً. حديث صحيحٌ راجع ص 95. 4 ـ أخذ
صلىاللهعليهوآلهوسلم
بيد عليّ ، فقال : إنَّ هذا أوَّل من آمن بي ، وهذا أوَّل من يُصافحني يوم
القيامة ، وهذا الصدِّيق الأكبر. راجع
الجزء الثاني 5 ـ عن أبي ايوب قال قال رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
: لقد صلّت الملائكة عليّ وعلى علي سبع سنين لأنا كنّا نصلّي وليس معنا أحدٌ
يُصلّي غيرنا. مناقب الفقيه ابن المغازلي باسنادين
م ـ أسد الغابة 4 : 18 ومناقب الخوارزمي وفيه : ولِمَ ذلك يا رسول اللّه؟ قال :
لم يكن معي من الرجال غيره. كتاب الفردوس للديلمي.
شرح إبن أبي الحديد عن رسالة الاسكافي 3 ص 258. فرائد السمطين الباب 47. 6 ـ إبن عبّاس قال قال النبيُّ صلىاللهعليهوآلهوسلم : إنَّ اوَّل من صلّى معي عليُّ.
فرائد السمطين الباب 47 بأربع طرق. 7 ـ معاذ بن جبل قال قال رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
: يا عليُّ! اخصمك بالنبوَّة ولا نبوَّة بعدي ، وتخصم الناس بسبع ولا يُجاحدك
فيه أحدٌ من قريش ، أنت أوَّلهم ايماناً باللّه ، وأوفاهم بعهد اللّه ، وأقومهم
بأمر اللّه. الحديث. ( حلية الأولياء 1 ص 66 ).
8 ـ أبوسعيد الخدري قال : قال رسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
لعلّي ـ وضرب بين كتفيه ـ : يا عليُّ لك سبع خصال لا يُحاحّك فيهنَّ أحدٌ يوم
القيامة ؛ أنت أوَّل المؤمنين باللّه ايماناً ، وأوفاهم بعهداللّه ، وأقومهم
بأمر اللّه. الحديث. ( حلية الأولياء 1 ص 66 ).
9 ـ من حديث أبي بكر الهذلي وداود بن
أبي هند الشعبي عن رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
انَّه قال لعليّ عليهالسلام :
هذا أوّل من آمن بي وصدَّقني وصلّى معي. شرح إبن أبي الحديد 3 ص 256. 10 ـ إنَّ ابابكر وعمر خطبا فاطمة
فردَّهما رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم وقال : لم أُؤمر بذلك. فخطبها عليُّ
فزوَّجه إيّاها وقال لها : زوَّجتكِ أقدم الاُمَّة إسلاماً. روى هذا الحديث
جماعةٌ من الصحابة منهم : أسماء بنت عميس واُمّ أيمن وإبن عبّاس وجابر بن عبد
اللّه. شرح إبن ابي الحديد 3 ص 257. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
كلمات اميرالمؤمنين
عليهالسلام :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
1 ـ قال عليهالسلام
: أنا عبد اللّه ، وأخو رسول اللّه ، وأنا الصِّديق الأكبر ، لا يقولها بعدي
إلاّ كاذبٌ مفتري ، ولقد صلّيت مع رسول اللّه قبل الناس بسبع سنين ، وأنا أوَّل
من صلّى معه. إسناده من طريق إبن أبي شيبة والنسائي
وإبن ماجة والحاكم والطبري (في تاريخه 2 ، ص 213.)
صحيحٌ رجاله ثقات ، راجع الجزء الثاني من
كتابنا 314. 2 ـ قال عليهالسلام
: أنا أوَّل رجل أسلم مع رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم.
أخرجه أبو داود بإسناده الصحيح كما
في شرح إبن أبي الحديد 3 ، ص 258. 3 ـ قال عليهالسلام
: أنا أوّل من أسلم مع النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم.
أخرجه الخطيب البغدادي في تاريخه 4 ،
ص 233. 4 ـ قال عليهالسلام
أنا أوَّل من صلّى مع رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم.
أخرجه أحمد ، والحافظ الهيثمي في «
مجمع الزوائد » وقال : رجاله رجال الصحيح غير حبَّة العرني وقد وثق. وأخرجه أبو
عمرو في الإستيعاب 2 ، ص 458. وابن قتيبة في « المعارف » ص 74 من
طريق أبي داود عن شعبة عن سلمة بن كهيل عن حبّة عنه عليهالسلام.
والإسناد صحيحٌ رجاله ثقاتٌ. 5 ـ قال عليهالسلام
أسلمت قبل أن يسلم النّاس بسبع سنين. الرِّياض النضرة 2 ص 158. 6 ـ قال عليهالسلام
: عبدت اللّه مع رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
سَبع سنين قبل أن يعبده أحدٌ من هذه الاُمَّة. مستدرك الحاكم 3 ص 112. 7 ـ قال عليهالسلام
: عن حكيم مولى زاذان قال : سمعت عليّاً يقول : صلّيت قبل النّاس سبع سنين ،
وكنّا نسجد ولا نركع ، وأوَّل صلاة ركعنا فيها صلاة العصر ، شرح إبن أبي الحديد
3 ، ص 258. 8 ـ قال عليهالسلام
: عبدت اللّه قبل أن يعبده أحدٌ من هذه الاُمَّة خمس سنين. الإستيعاب 2 ، ص 448.
الرِّياض النضرة 2 ، ص 158. السيرة الحلبيَّة 1 ، ص 288. 9 ـ قال عليهالسلام
: آمنت قبل الناس سبع سنين. خصائص النسائي ص 3. 10 ـ قال عليهالسلام
: ما أعرف أحداً من هذه الاُمَّة عَبَدَ اللّه بعد نبينا غيري ، عبدتُ اللّه قبل
أن يعبده أحدٌ من هذه الاُمَّة تسع سنين. خصائص النسائي ص 3. 11 ـ من خطبة له عليهالسلام
يوم صفِّين : وابن عمِّ نبيِّكم معكم بين أظهركم يدعوكم إلى طاعة ربِّكم ، ويعمل
بسنَّة نبيِّكم صلىاللهعليهوآلهوسلم
فلا سواء من صلّى قبل كلِّ ذكَر لم يسبقني بصلاتي مع رسول اللّه. كتاب نصر ص
355. شرح إبن أبي الحديد 1 ، ص 503. 12 ـ قال عليهالسلام
: اللهمَّ لا أعرف عبداً من هذا الاُمَّة عبدَك قبلي غير نبيّك [ قاله ثلاث
مرّات ] ثمَّ قال : لقد صلّيت قبل أن يُصلّي الناس. وفي لفظ : قبل أن يُصلّي
أحدٌ. أخرجه أحمد ، أبويعلى ، البزّاز ، الطبراني ، الهيثمي في المجمع 9 ، ص
102. وقال : إسناده حسنٌ. شيخ الإسلام الجويني في الفرائد الباب 48. 13 ـ من كتاب له عليهالسلام
كتبه إلى معاوية : انَّ أولى النّاس بأمر هذه الاُمَّة قديماً وحديثاً أقربها من
رسول اللّه ، وأعلمها بالكتاب ، وأفقهها في الدين ، وأوَّلها إسلاماً ، وأفضلها
جهاداً. كتاب صفِّين لابن مزاحم ص 168 ط مصر. 14 ـ في حديث عنه عليهالسلام
: لا واللّه إن كنت أوَّل من صدَّق به فلا أكون أوَّل من كذب عليه. المحاسن
والمساوئ 1 ، ص 36. تاريخ القرماني هامش الكامل لابن الأثير 1 ، ص 218. 15 ـ قال عليهالسلام
: بُعث رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
يوم الإثنين وأسلمت يوم الثلاثاء. مجمع الزوائد 9 ، ص 102. تاريخ
القرماني 1 ، ص 215. الصواعق 72. تاريخ الخلفاء للسيوطي 112. إسعاف الراغبين
148. 16 ـ من كتاب كتبه عليهالسلام
إلى معاوية : انَّ محمَّداً صلىاللهعليهوآلهوسلم
لمّا دعا إلى الإيمان باللّه والتوحيد كنّا أهل البيت أوَّل من آمن به؟ وصدَّق
بما جاء به ، فلبثنا أحوالا مجرَّمة ( أي كاملة ) وما يعبد اللّه في ربع ساكن من
العرب غيرنا. كتاب صفِّين لابن مزاحم ص 100. 17 ـ قال عليهالسلام
: يوم صفِّين مخاطباً أصحاب معاوية : ويحكم أنا أوَّل من دعا إلى كتاب اللّه ،
وأوَّل مَن أجاب إليه. كتاب نصر 561. 18 ـ قالت معاذة بنت عبد اللّه
العدويَّة : سمعت عليَّ بن أبي طالب على منبر رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
يقول : أنا الصدّيق الأكبر آمنت قبل أن يُؤمن أبو بكر ، وأسلمت قبل أن يسلم
أبوبكر. راجع الجزء الثاني ص 314. 19 ـ قال عليهالسلام
: في خطبة خطبها في معسكر صفِّين : أتعلمون أنّ اللّه فضَّل في كتابه السابق على
المسبوق ، وأنه لم يسبقني اللّه ورسوله أحدٌ من الاُمَّة؟! قالوا : نعم. راجع
الجزء الأوَّل ص 195. 20 ـ قال عليهالسلام
: صلّيت مع رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ثلاث سنين قبل أن يُصلّي معه أحدٌ من النّاس. أخرجه أحمد باسنادين. 21 ـ قال عليهالسلام
: يوم الشورى في حديث أسلفناه : أمنكم أحدٌ وحَّداللّه قبلي؟ قالوا : لا. أمنكم
أحدٌ صلّى القبلتين غيري؟ قالوا : لا. راجع ج 1 ص 195 ـ 163 ، وهذه الفقرة من
الحديث عدَّها إبن أبي الحديد ممّا استفاضت به الرِّوايات. 22 ـ مرَّ في الجزء
الثاني ص 25 في أبيات له عليهالسلام
كتبها إلى معاوية :
23 ـ ذكر إبن طلحة الشافعي في مطالب السئول
ص 11 له عليهالسلام :
قال : قال جابر : سمعت عليّاً يُنشد
بهذا ورسول اللّه يسمع : فتبسَّم رسول اللّه وقال : صدقت يا علي؟ |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
كلمة الإمام السبط
الحسن عليهالسلام
:
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
24 ـ من خطبة للامام الحسن عليهالسلام
في مجلس معاوية قوله : أنشدكم اللّه أيّها الرَّهط؟ أتعلمون أنَّ الّذي شتمتموه
منذ اليوم صلّى القبلتين كلتيهما؟ وأنت يا معاوية بهما كافرٌ ، تراها
ضلالة ، وتعبد اللات والعزّى غواية ؛ وأنشدكم اللّه هل تعلمون أنَّه بايع
البيعتين كلتيهما : بيعة الفتح وبيعة الرضوان؟ وأنت يا معاوية بإحداهما كافرٌ ،
وباُخرى ناكثٌ. وأنشدكم اللّه هل تعلمون أنَّه أوَّل الناس ايماناً؟! وإنَّك يا
معاوية وأباك من المؤلفَّة قلوبهم. شرح إبن أبي الحديد 2 ص 101. 25 ـ وفي خطبة له عليهالسلام
مرَّت في ج 1 ، ص 198 : فلمّا بعث اللّه محمَّد للنبوَّة ، واختاره للرِّسالة ،
وأنزل عليه كتابه ثمَّ أمره بالدعاء إلى اللّه ، فكان أبي أوَّل من استجاب للّه
ولرسوله ، وأوَّل من آمن وصدَّق اللّه ورسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم
وقد قال اللّه في كتابه المنزل على نبيِّه المرسل : « أفمن كان على بيِّنة من
ربِّه ويتلوه شاهدٌ منه » فجدّي الَّذي على بيِّنة من ربِّه ، وأبي الّذي يتلوه
وهو شاهدٌ منه. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
رأي الصحابة
والتابعين في أوّل من أسلم
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
1 ـ أنس بن مالك قال : نُبَّئ ( بُعث
) النبيُّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
الإثنين وأسلم عليّ يوم الثَّلاثاء. وفي لفظ له : بُعث رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
يوم الإثنين وصلّى عليّ يوم الثَّلاثاء. أخرجه الترمذي في جامعه 2
، ص 214. الطبراني. الحاكم في المستدرك 3 ص 112. إبن عبدالبرّ في الإستيعاب 3 ص
32. إبن الأثير في جامع الاُصول كما في تلخيصه تيسير الوصول 3 ص 271. الجويني في
فرائد السمطين الباب 47. وأوعز إليه العراقي في
التقريب 1 ، ص 85. ويوجد في شرح إبن أبي الحديد 3 ص 258. تذكرة السبط 63. السراج
المنير شرح الجامع الصغير 2 ص 424. شرح المواهب 1 ص 241. 2 ـ بُريدة الأسلمي قال : اُوحي إلى
رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
يوم الإثنين وصلّى عليّ يوم الثَّلاثاء. أخرجه
الحاكم في المستدرك 3 ص 112 وصحَّحه هو وأقرَّه الذهبي. 3 ـ زيد بن أرقم قال : أوَّل من أسلم
مع رسول اللّه عليّ بن أبي طالب. تاريخ الطبري بإسنادين
صحيحين رجالهما ثقات. مسند أحمد 4 ، ص 368. مستدرك الحاكم 4 ، ص 336 وصحَّحه
هو وأقرَّه الذهبي. الكامل لابن الأثير 2 ، ص 22. 4 ـ زيد بن ارقم قال : أوَّل من صلّى
مع رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
عليُّ. أخرجه أحمد والطبراني كما
في مجمع الهيثمي 9 ص 103 وقال : رجال أحمد رجال الصحيحين. أبو عمرو في الإستيعاب
2 ، ص 459. 5 ـ زيد بن أرقم قال : أوَّل من آمن
باللّه بعد رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
عليُّ بن أبي طالب. الإستيعاب 2 ، ص 459. 6 ـ عبد اللّه بن عبّاس قال : أوَّل
من صلّى عليّ. جامع الترمذي 2 ، ص 215.
تاريخ الطبري 2 ، ص 241 بإسناد صحيح. الكامل لإبن الأثير 2 ص 22. شرح إبن أبي
الحديد 3 ص 256. 7 ـ عبد اللّه بن عبّاس قال : لعليٍّ
أربع خصال ليست لأحد : هو أوَّل عربيّ وأعجميٍّ صلّى مع رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم.
مستدرك الحاكم 3 ، ص 111 ، الإستيعاب 2 ص 457. 8 ـ عبد اللّه بن عبّاس قال مجاهد :
إنَّه قال : أوَّل من ركع مع النبيِّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
عليُّ بن أبي طالب فنزلت فيه هذه الآية : وأقيموا الصَّلاة وآتوا الزَّكاة
واركعوا مع الراكعين. تذكرة السبط 8. 9 ـ عبد اللّه بن عبّاس قال في خطبة
له : إنَّ ابن آكلة الأكباد قد وجد من طعام أهل الشام أعواناً على عليٍّ بن أبي
طالب إبن عمّ رسول اللّه وصهره وأوَّل ذكر صلّى معه. كتاب صفِّين لابن مزاحم
360. شرح إبن أبي الحديد 1 ص 504. جمهرة الخطب 1 ص 175. 10 ـ عبد اللّه بن عبّاس قال : فرض
اللّه تعالى الإستغفار لعلي في القرآن على كلّ مسلم بقوله تعالى : « ربَّنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا
بالإيمان ». فكلُّ من أسلم بعد عليٍّ فهو
يستغفر لعليٍّ. شرح إبن أبي الحديد 3 ، ص
256. 11 ـ عبد اللّه بن عبّاس قال : أوّل
من أسلم عليُّ بن أبي طالب. الإستيعاب 2 ص 458. مجمع
الزوائد 9 ص 102. 12 ـ عبد اللّه بن عبّاس قال : كان
عليّ أوَّل من آمن من الناس بعد خديجة رضي اللّه عنهما. الإستيعاب 2 ص 457 وقال :
قال أبو عمرو رضي اللّه عنه : هذا إسنادٌ لامطعن فيه لأحد لصحَّته وثقة نقلته.
وصحَّحه الزرقاني في شرح المواهب 1 ص 242. 13 ـ كان إبن عبّاس بمكَّة يُحدِّث
على شفير زمزم ونحن عنده فلما قضى حديثه قام إليه رجلٌ فقال : يابن عبّاس؟ إنّي
امرؤ من أهل الشام من أهل حمص إنَّهم يتبرَّؤن من عليّ بن أبي طالب رضوان اللّه
عليه ويلعنونه. فقال : بل لعنهم اللّه في الدنيا والآخرة وأعدَّ لهم عذاباً
مهينا. ألِبُعد قرابته من رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم؟ وإنّه لم
يكن أوّل ذكران العالمين ايماناً باللّه ورسوله؟ وأوَّل من صلّى وركع وعمل
بأعمال البرّ؟ قال الشامي : انَّهم واللّه ما يُنكرون قرابته وسابقته غير انَّهم
يزعمون أنّه قتل الناس. الحديث. المحاسن والمساوئ للبيهقي 1 ، ص 30. 14 ـ عفيف قال : جئت في الجاهليَّة
إلى مكّة وأنا أريد أن ابتاع لأهلي من ثيابها وعطرها فأتيت العبّاس بن عبد
المطلب وكان رجلا تاجراً فأنا عنده جالسٌ خصايص النسائي 3. تاريخ
الطبري 2 ص 21. الرِّياض النضرة 2 ص 158. الإستيعاب 2 ص 459. عيون الأثر 1 ص 93.
الكامل لإبن الاثير 2 ص 22. السيرة الحلبيَّة 1 ص 288. 15 ـ سلمان الفارسي قال : أوَّل هذه
الاُمَّة وروداً على نبيِّها الحوض أوَّلها إسلاماً عليُّ بن أبي طالب رضي اللّه
عنه. الإستيعاب 2 ص 457. مجمع
الزوائد 9 ص 102 وقال : رجاله ثقاتٌ. وعدَّ الإسكافي في رسالته على العثمانيَّة.
وأبو عمرو في الإستيعاب. والعراقيُّ في شرح التقريب 1 ص 85. والقسطلاني في
المواهب 1 ص 45 ممَّن روى أنَّ عليّاً أوَّل من أسلم. 16 ـ أبو رافع قال : صلّى النبيُّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
أوَّل يوم الاثنين وصلّت خديجة آخره وصلّى عليّ يوم الثَّلاثاء من الغد. أخرجه الطبراني كما في شرح
المواهب 1 ص 240. عيون الأثر 1 ص 92. وتجده وسابقه في الرِّياض
النضرة 2 ص 158. شرح إبن أبي الحديد 3 ص 258. 17 ـ أبو رافع قال : مكث عليّ يصلّي
مستخفياً سبع سنين وأشهراً قبل أن يصلّي أحدٌ.
أخرجه الطبراني. الهيثمي في المجمع 9 ص 103. الجويني في 18 ـ أبوذر الغفاري ، عدَّ ممَّن روى
انَّ عليَّ بن أبي طالب أوَّل من أسلم. الإستيعاب 2 ص 456.
التقريب وشرحه 1 ص 85. المواهب اللدنيَّة 1 ص 45. 19 ـ خباب بن الأرت قال : رأيت
عليّاً يُصلّي قبل الناس مع النبيّ وهو يومئذ بالغٌ مستحكم البلوغ. رسالة
الإسكافي. وعُدَّ ممَّن روى انَّ عليّاً أوَّل مَن أسلم في الاستيعاب 2 ص 456. والمواهب اللدنيَّة 1 ص 45. 20 ـ المقداد بن عمرو الكندي ، ممَّن
روى انَّ عليّاً أوّل من أسلم كما في الإستيعاب 2
ص 456. والتقريب وشرحه 1 ص 85. والمواهب اللدنيَّة 1 ص 45. 21 ـ جابر بن عبد اللّه الأنصاري ،
قال : بُعث النبيُّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
يوم الإثنين وصلّى عليّ يوم الثَّلاثاء. الطبري
2 ص 211. الكامل لابن الأثير 2 ص 22. شرح إبن ابي الحديد 3 ص 258 ، وعدّه أبو
عمرو والعراقيُّ والقسطلاني ممَّن روى أنَّ عليّاً أوَّل من أسلم. 22 ـ أبو سعيدالخدري روى إنَّ عليَّ
بن أبي طالب أوَّل من أسلم. الإستيعاب 2 ص 456. شرح
التقريب 1 ص 85. المواهب اللدنيَّة 1 ص 45. 23 ـ حذيفة بن اليمان قال : كنّا
نعبد الحجارة ونشرب الخمر وعليُّ من أبناء أربع عشر سنة قائمٌ يصلّي مع النبيِّ
ليلا ونهاراً ، وقريش يومئذ تسافه رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ما يذبُّ عنه إلاّ عليّ. شرح إبن أبي الحديد 3 ص
260. 24 ـ عمر بن الخطاب قال عبد اللّه بن
عبّاس : سمعت عمرو عنده جماعةٌ فتذاكروا السابقين إلى الإسلام فقال عمر : أمّا
علي فسمعت رسول اللّه : يقول فيه ثلاث خصال ، لوددت أن تكون لي واحدة منهنَّ ،
كانت أحبّ إليّ ممّا طلعت عليه الشمس ، كنت أنا وأبو عبيدة وأبوبكر وجماعة من
أصحابه إذ ضرب النبيُّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
على منكب عليٍّ رضي اللّه عنه فقال له : يا عليُّ؟ أنت أوَّل رسالة الإسكافي. مناقب
الخوارزمي. شرح إبن أبى الحديد 3 ص 258. 25 ـ عبد اللّه بن مسعود قال : أوَّل
حديث علمته من أمر رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
أنّي قدمت مكّة مع عمومة لي ( وذكر مثل حديث عفيف المذكور ص 226 ) رسالة الإسكافي. 26 ـ أبو أيّوب الأنصاري ، أخرج
الطبراني عنه انَّه قال : أوَّل الناس إسلاماً عليُّ بن أبي طالب. شرح التقريب 1 ص 85. شرح الزرقاني 1 ص 242. 27 ـ أبو مرازم يعلى بن مرَّة ،
عدَّه الزرقاني في شرح المواهب 1 ص 242 ممَّن قال : إنَّ عليّاً اوَّل الناس
إسلاماً. 28 ـ هاشم بن عُتبة المرقال قال :
أنت يا أمير المؤمنين! أقرب الناس من رسول اللّه رحماً ، وأفضل الناس سابقة
وقدماً. كتاب نصر 125. جمهرة الخطب 1 ص 151.
29 ـ في كلام لهاشم بن عُتبة يوم
صفِّين : انَّ صاحبنا هو أوَّل من صلّى مع رسول اللّه ، وأفقهه في دين اللّه ،
وأولاه برسول اللّه. كتاب نصر 403. تاريخ
الطبري 6 ص 24. الكامل لابن الأثير 3 ص 135. وقال هاشم يوم صفِّين :
ـ كتاب صفين لابن مزاحم :
371 ط مصر. 30 ـ مالك بن الحارث الأشتر قال في خطبة له :
معنا إبن عم نبيِّنا وسيفٌ من سيوف اللّه عليُّ بن ابي طالب ، صلّى مع رسول
اللّه لم يسبقه إلى الصلاة ذكَر ، حتّى كان شيخاً لم يكن له صبوةٌ ولا نبوةٌ ولا
هفوةٌ ، فقيهٌ في دين اللّه ، عالمٌ بحدود اللّه. كتاب نصر 268. شرح إبن أبي
الحديد 1 ص 484. جمهرة الخطب 1 ص 183. 31 ـ عدّي بن حاتم قال في خطبة له
مخاطباً معاوية : ندعوك إلى أفضل الاُمَّة سابقة ، وأحسنها في الإسلام آثاراً. كتاب نصر 221. تاريخ
الطبري 6 ص 2. شرح إبن أبي الحديد 1 ص 344. وفي لفظ إبن الأثير في الكامل 3 ص
124 : انَّ ابن عمَّك سيد المسلمين أفضلها سابقةً. 32 ـ عديّ بن حاتم قال في خطبة اُخرى
له : إن كان له « لعليٍّ » عليكم فضلٌ فليس لكم مثله فسلّموا وإلاّ فنازعوا عليه
، واللّه لئن كان إلى العلم بالكتاب والسنَّة؟ انّه لأعلم الناس بهما. ولئن كان
إلى الإسلام؟ إنَّه لأخو نبي اللّه والرأس في الإسلام. الإمامة والسياسة 1 ص 103. 33 ـ محمَّد بن الحنفيَّة قال سالم
بن ابي الجعد قلت له : أبو بكر كان أوَّلهم إسلاماً؟! قال : لا. الاستيعاب 2 ص
458. إذا ثبت أنَّ أبابكر لم يكن أوَّل الناس إسلاماً فعليّ عليهالسلام
هو المتعيَّن سبق إسلامه. 34 ـ طارق بن شهاب الأحمسي في كلام
له : ثمَّ قلت : ادع عليّاً وهو أوَّل المؤمنين ايماناً باللّه وابن عمّ رسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ووصيّه ، هذا أعظم ، الحديث. شرح إبن أبي
الحديد 1 ص 76. 35 ـ عبد اللّه بن هاشم المرقال قال
في خطبة له : يا أيّها الناس! انَّ هاشماً جاهد في طاعة إبن عمّ رسول اللّه ،
وأوَّل من آمن به ؛ وأفقههم في دين اللّه. كتاب
نصر 405. 36 ـ عبد اللّه بن حجل قال : يا أمير
المؤمنين! أنت أوَّلنا ايماناً ، وآخرنا بنبيِّ اللّه عهداً. الإمامة والسياسة 1 ص 103 ، كتاب نصر.
37 ـ أبو عمرة بشير بن محصن قال في
جمع من أصحاب علي ومعاوية : إنَّ صاحبي أحق البريّة كلّها بهذا الأمر في الفضل
والدين والسابقة في الإسلام والقرابة من رسول الّه. كتاب نصر 210. 38 ـ عبد اللّه بن خباب بن الأرت قال
إبن قتيبة : إنّ الخارجة الّتي خرجت 39 ـ عبد اللّه بن بُريدة قال :
أوَّل الرجال إسلاماً عليُّ بن أبي طالب ثمّ الرهط الثلاث : أبوذر وبُريدة وابن
عمّ لأبي ذرّ. أخرجه محمَّد بن إسحق
المدني في الجزء الأَوَّل من المغازي. 40 ـ محمَّد بن أبي بكر كتب إلى
معاوية كتاباً منه : فكان أوّل من أجاب وأناب ، وصدّق ووافق ، وأسلم وسلم أخوه
وابن عمِّه عليُّ بن أبي طالب ـ إلى أن قال ـ : أوَّل الناس إسلاماً ، واصدق
الناس نيَّة ـ إلى قوله ـ يا لك الويل! تعدل نفسك بعليٍّ وهو وارث رسول اللّه
ووصيّه وابو ولده ، وأوّل الناس له اتِّباعا ، وآخرهم ، به عهداً ، يُخبره
بسرِّه ، ويشركه في أمره. نصر في كتاب صفِّين
133. 41 ـ عمرو بن الحمق قال لعلي :
أحببتك لخصال خمس : انَّك إبن عمِّ رسول اللّه ، وأوَّل من آمن به. وفي لفظ :
وأسبق النّاس إلى الإسلام ، أبوالذريَّة الّتي بقيت فينا من رسول اللّه ، وأعظم
رجل من المهاجرين سهماً في الجهاد. كتاب صفِّين 115. جمهرة
الخطب 1 ص 149. 42 ـ سعيد بن قيس الهمداني يرتجز في
صفِّين بقوله (شرح النهج لابن ابي الحديد : ج 13 ص 232 وفيه « أول من أجابه فيما
روى ».)
:
هذا الإمام لا يُبالي من غوى 43 ـ عبد اللّه بن أبي سفيان قال
مجيباً الوليد (رسالة الاسكافي ، وذكرهما الحافظ الكنجي في الكفاية ص 48 للفضل بن
العبّاس.)
44 ـ خزيمة بن ثابت الأنصاري عدَّه العراقي
في شرح التقريب 1 ص 85 ، والزرقاني في شرح المواهب 1 ص 242 ممّن قال بأنَّ
عليّاً أوَّل الناس إسلاماً. وقالا : أنشد المرزبان له في عليٍّ :
وذكر له الإسكافي في رسالته كما في
شرح إبن أبي الحديد 3 ص 259 :
وذكرهما له الحاكم في المستدرك 3 ص 114 ، وذكر
قبلهما :
(1)ولهذه الابيات بقية توجد في الفصول المختارة 2 ص 67. 45 ـ كعب بن زهير ، ذكر الزرقاني في شرح المواهب
1 ص 242. من قصيدة يمدح بها أمير المؤمنين عليهالسلام :
(2)في النسخة تصحيف ذكرناها صحيحة. 46 ـ ربيعة بن الحارث
بن عبد المطلب ، ذكر جمعٌ من الأعلام له أبيات وذكرها آخرون لغيره وهي :
وذكر الإسكافي في رسالته البيتين الأوَّلين
منها ونسبهما إلى أبي سفيان بن حرب بن اُميَّة بن عبد شمس حين بويع أبوبكر. شرح
إبن أبي الحديد 3 ص 259. 47 ـ الفضل بن أبي لهب
قال ردّاً على قصيدة الوليد بن عقبة :
48 ـ مالك بن عبادة
الغافي حليف حمزة بن عبد المطلب قال :
49 ـ أبو الأسود الدؤلي يهدِّد طلحة والزبير بقوله :
(1)رسالة الاسكافي كما شرح ابن ابي الحديد : 2 ص 259. 50 ـ جندب بن زهير كان
يرتجز يوم صفين بقوله :
(2)كتاب نصر بن مزاحم : 453. 51 ـ زفر بن يزيد (في بعض
المصادر : زفير بن زيد.)
بن حُذيفة الأسدي قال :
(1)رسالة الاسكافي كما في شرح ابن ابي الحديد : 3 ص 259. 52 ـ النجاشي بن
الحارث بن كعب قال :
(2)ـ كتاب صفين لنصر بن مزاحم : 66. 53 ـ جرير بن عبد اللّه البجلي قال :
54 ـ عبد اللّه بن
حكيم التميمي قال :
55 ـ عبدالرحمن بن حنبل [ جعل ] الجمحي حليف بني الجمح قال :
(3)كفاية الطالب الحافظ الكنجي : 48. 56 ـ أبو عمرو عامر الشعبي الكوفي قال : أوَّل من
أسلم من الرِّجال عليُّ بن أبي طالب وهو إبن تسع سنين. رسالة الإسكافي كما في شرح ابن أبي الحديد 3 ص 260. 57 ـ أبو سعيد الحسن البصري قال :
عليُّ أوَّل من أسلم بعد خديجة. أخرجه
أحمد عن عبد الرَّزاق عن معمر عن قتادة عنه. ورواه الإسكافي في رسالته عن عبد
الرَّزاق كما في شرح إبن أبي الحديد 3 ص 260. وقال الحجّاج للحسن وعنده جماعةٌ من
التابعين وذكر عليّ بن أبي طالب : ما تقول أنت يا حسن؟ فقال : ما أقول؟ هو :
أوَّل من صلّى إلى القبلة ، وأجاب دعوة رسول اللّه. وانَّ لعليٍّ منزلة من ربِّه
وقرابة من رسوله ، وقد سبقت له سوابق لا يستطيع ردَّها أحدقٌ. فغضب الحجّاج
غضباً شديداً وقام عن سريره فدخل بعض البيوت. وقال رجل للحسن : ما
لنا لا نراك تثني على عليٍّ وتقرّظه؟ قال كيف؟! وسيف الحجّاج يقطر دماً ، انَّه
أوَّل من أسلم ، وحسبكم بذلك. رسالة الإسكافي كما في شرح إبن ابي الحديد 3 ص 258. 58 ـ الإمام محمَّد بن عليَّ الباقر
قال : أوَّل من آمن باللّه عليُّ بن أبي طالب وهو إبن إحدى عشرة سنة. شرح إبن ابي الحديد 3 ص 260. 59 ـ قتادة بن دعامة الأكمة البصري
قال : عليُّ أوَّل من أسلم بعد خديجة.
أخرجه أحمد كما سمعت ، والقسطلاني عدّة ممّن قال به في المواهب 1 ص 45 ، وأقرّه
الزرقاني في شرحه 1 ص 242. 60 ـ محمَّد بن مسلم المعروف بابن
شهاب (نسبة إلى جد جده.) عدَّه القسطلاني في المواهب 1 ص 45 ، وأقرّه الزرقاني في شرحه 1 ص
242 من القائلين بأنَّ عليّاً أوَّل مَن أسلم. 61 ـ أبوعبد اللّه محمَّد بن المكندر
المدني قال : عليُ اوَّل من أسلم.
تاريخ الطبري 2 ص 213. الكامل لابن الأثير 2 ص 22. 62 ـ أبو حازم سلمة بن دينار المدني
قال : عليُّ أوّل من أسلم. تاريخ الطبري 1 ص
213. الكامل لابن الأثير 2 ص 22. 63 ـ أبو عثمان ربيعة بن ابي عبد الرَّحمن
المدني قال : عليُّ أوَّل من أسلم. تاريخ
الطبري 2 ص 213. الكامل لابن الأثير 2 ص 22. 64 ـ أبو النضر محمَّد بن السائب
الكلبي قال : عليّ أوَّل من أسلم ، أسلم وهو إبن تسع سنين. تاريخ الطبري 2 ص 213. الكامل لابن الأثير 2 ص 22. 65 ـ محمَّد بن اسحاق
قال :
كان أوّل ذكرآمن برسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم وصلّى معه
وصدَقه بما جاءه من عند اللّه عليُّ بن ابي طالب وهو يومئذ إبن عشر سنين (في الكامل لابن الاثير : 2 ص 32. احدى عشرة سنة. نقلا عن ابن اسحاق.)
وكان
ممّا أنعم اللّه به على عليَّ بن أبي طالب انَّه كان في حجر رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
قبل الإسلام. وقال : وذكر بعض أهل العلم أنَّ رسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم كان إذا حضرت الصَّلاة خرج إلى شعاب
مكَّة وخرج معه عليُّ بن ابي طالب ، مستخفياً من عمِّه أبي طالب وجميع أعمامه
وسائر قومه فيصلّيان الصَّلوات فيها ، فإذا أمسيا رجعا فمكثا كذلك ماشاء اللّه
أن يمكثا ، ثمَّ إنَّ أبا طالب عثر عليهما يوماً وهما يصلِّيان فقال لرسول اللّه
صلىاللهعليهوآلهوسلم
: يابن أخي ما هذا الدين؟ الحديث. تاريخ الطبري 2 ص 213.
سيرة إبن هشام 1 ص 264 ، 265. سيرة إبن سيِّد الناس 1 ص 93. الكامل لابن الأثير
4 ص 22. شرح إبن أبي الحديد 3 ص 260. السيرة الحلبيَّة 1 ص 287. 66 ـ جُنيد بن عبد
الرَّحمن قال : أتيت من حوران إلى دمشق لآخذ عطائي
فصلَّيت الجمعة ثمَّ خرجت من باب الدرج فإذا عليه شيخٌ يقال له : ابو شيبة
القاصّ يقصُّ على الناس ، فرغَّب فرغبنا ، وخوَّف فبكينا ، فلمّا انقضى حديثه
قال : اختموا مجلسنا بلعن أبي تراب. فلعنوا أبا تراب عليهالسلام
فالتفت إليّ من على يميني فقلت له : فمن أبو تراب؟ فقال : عليُّ بن أبي طالب إبن
عمَّ رسول اللّه ، وزوج إبنته ، وأوَّل النّاس إسلاماً ، وأبوالحسن والحسين.
فقلت : ما أصاب هذا القاص؟! فقمت إليه وكان ذا وفرة فأخذت وفرته بيدي وجعلت ألطم
وجهه وأبطح براسه الحائط ، فصاح فاجتمع أعوان المسجد فوضعوا ردائي في رقبتي
وساقوني حتّى دخلوني على هشام بن عبدالملك وابو شيبة يقدمني فصاح يا أمير
المؤمنين؟ قاصّك وقاصّ آبائك وأجدادك أتى إليه اليوم أمرٌ عظيمٌ. قال : من فعل
لك؟ فقال : هذا. فالتفت إليّ هشام وعنده أشراف النّاس فقال : يا أبا يحيى؟ متى
قدمت؟ فقلت : أمس وأنا على المصير إلى أمير المؤمنين فادركتني صلاة الجمعة
فصلَّيت وخرجت إلى باب الدرج فإذا هذا الشيخ قائمٌ يقصُّ فجلست إليه فقرأ فسمعنا
، فرغَّب مَن رغبَّ ، وخوّف مَن خوّف ؛ ودعا فأمّنا ، وقال في آخر كلامه :
اختموا مجلسنا بلعن أبي تراب ، فسالت مَن أبو تراب؟ فقيل : عليُّ بن ابي طالب ، أوَّل
الناس إسلاماً ، وإبن عم رسول اللّه ، وأبوالحسن والحسين ، وزوج بنت رسول اللّه.
فواللّه يا أمير المؤمنين؟ لو ذكر هذا قرابة لك بمثل هذا الذكر ولعنه بمثل هذا
اللعن لأحللت به الّذي أحللت ، فكيف لا أغضب لصهر رسول اللّه وزوج إبنته؟! فقال
هشام : بئس ما صنع. تاريخ ابن
عساكر 3 ص 407. هذه جملةٌ من النصوص
النبويَّة ، والكلم المأثورة عن أمير المؤمنين
والصحابة والتابعين في أنَّ عليّاً أوَّل
مَن أسلم : وهي تربو على مائة كلمة ، أضف اليها ما مرَّ ج 2
ص 276 من أنَّ أمير المؤمنين سبّاق هذه الاُمَّة. واشفع الجميع بما أسلفناه ج 2 ص 306 من أنَّه صلوات الله عليه صدِّيق هذه الاُمة ، وهو
الصِّديق الاكبر. فهل تجد عندئذ مساغاً لمكابرة إبن
كثير تجاه هذه الحقيقة الراهنة وقوله : وقد ورد في أنَّه أوَّل من أسلم. إلخ؟!؟!
فإذا لا يصحُّ مثل هذه فما الَّذي يصحّ؟ وإن كان لا يصحّ شيء منها فما قيمة تلك
الكتب المشحونة بها؟! كلا ، إنَّها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخٌ إلى يوم
يبعثون. وأنت ترى الرجل يزيف هذه الكلم
والنصوص الكثيرة الصحيحة بحكم الحفّاظ الأثبات بكلمة واحدة قارصة ، ويعتمد في
إثبات أيِّ أمر يروقه في تاريخه على المراسيل والمقاطيع والآحاد ، ونقل المجاهيل
وأفناء الناس (الغدير : ج 3 ص 219 ـ 239.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
مناظرة بين المأمون
واسحاق :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ولقد دار بين المأمون العباسي وإسحاق
وهو من العلماء المشهورين حوار طريف في هذا المجال ينقله ابن عبد ربّه في كتابه
« العقد الفريد » نذكر هنا خلاصته : قال المأمون : يا إسحاق أي الأعمال
كان أفضل يوم بَعث اللّه رسوله؟ إبن إسحاق : الإخلاص بالشهادة. المأمون : أليس السبق إلى الإسلام؟ ابن إسحاق : نعم. المأمون : إقرأ ذلك في كتاب اللّه
يقول : « والسابقون السابقون اُولئك المقرَّبون » إنَّما عُني من سبق إلى
الأسلام ، فهل علمت أحداً سبق عليّاً إلى الإسلام؟ إبن إسحاق : إنّ علياً أسلَم وهو
حديث السنّ لا يجوز عليه الحكمُ وأبوبكر أسلمَ وهو مستكمل يجوز عليه الحكم. وهنا أمسك المأمونُ
بزمام الكلام وقال : أخبرني عن إسلام عليّ حين أسلم لا
يخلو من أن يكون رسولُ اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
دعاه إلى الإسلام ، أو يكون إلهاماً من اللّه؟ قال إسحاق : بل دعاه رسول اللّه إلى
الإسلام. قال المأمون : يا إسحاق هل يخلو رسول
اللّه حين دعاه إلى الإسلام من ان يكون دعاه بأمر من اللّه أو تكلَّف ذلك من
نفسه؟ ثمّ قال : يا اسحاق لا تنسب رسولَ
اللّه إلى تكلّف فإن اللّه يقول : « وما أنا مِنَ المتكلّفين ». فإذا دعاه بأمر اللّه وليس من صفة
الجبّار ـ جلَّ ذكرُه ـ أن يُكلِّفَ رسلَه دعاء مَنْ لا يجوز عليه حكم ، أفتراه
في قياس قولك يا إسحاق؟ أن علياً أسلم صبياً لا يجوز عليه الحكمُ قد تكلَّف
رسولُ اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
من دعاء الصبيان ما لا يطيقون (العقد الفريد : ج 5 ص 352 طبعة بيروت دار الكتب العلمية وج 5 ص 94
طبعة لجنة التأليف القاهرة.).
وعلى هذا الاساس يجب اعتبار ايمان
علي عليهالسلام ايماناً
صحيحاً ثابتاً لم يقلّ عن إيمان الآخرين أهميةً وقيمة بل هو افضل مصداق لقوله
تعالى : « والسابقون السابقون اُولئك المقرّبون » ، هو الإمام علي بن أبي طالب. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قضيّةُ « إنقطاع
الوَحْي » :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد أضاءت روحُ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
ونفسُه الشريفة واستنارت بنور الوحي ، ودفَعَه ذلك إلى التأمّل والتفكير في
الوظيفة الكبرى والثقيلة الّتي جعلها اللّه على كاهله ، وخاصة عندما خاطبه الله
تعالى بقوله : « يا أيُّها
المُدّثِّرُ. قُمْ فَأْنذِرْ. وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ » (المدثر 1 ـ 3.).
وهنا طرح المؤرخون وبخاصّة الطبريّ
الَّذي لا يخلو تاريخه من الاساطير الاسرائيليّة قضيّة باسم « انقطاع الوحي »
فقالوا : إنّ رسول اللّه بعد أن رأى ذلك الملَك وسمع منه الآيات الاُولى من
القرآن الكريم بقي ينتظر نزولَ خطاب آخر من جانب اللّه تعالى ، ولكن دون جدوى ،
فهو لم يرَ ذلك المَلك الجميل بعد ذلك ، ولا أنه سمع النداء الغيبيّ مرة اُخرى
على غرار ما رأى وسمع في بدء نزول الوحي. ولو كان لأنقطاع الوحي في بداية عهد
الرسالة ( الّذي ادّعاه هؤلاء ) حقيقة فما هو سوى النزول التدريجي للقرآن ليس
إلاّ. وقد تعلَّقت المشيئة الالهية اساساً
بأن ينزلَ الوحيُ على رسول اللّه تدريجاً ، لا دفعةً واحدةً وذلك لمصالح معينة ،
وحيث أن الأَمر في بدء الوحي كان على أوّله وفي بدايته ، لذلك لم ينزل الوحي
الالهي بعد المرة الاُولى فوراً ، ولكن حُمِلَ هذا على « انقطاع الوحي » ولم يكن
لا انقطاع الوحي ولا أية مسألة اُخرى من هذا القبيل. وحيث أن هذه المسألة قد تذرَّع بها
الكُتّابُ المغرضون لذلك ينبغي أن نعطيها بعض الاهتمام ليتضح أن ما اُدّعي من
انقطاع الوحي ، قضيةٌ فارغةٌ عن الحقيقة ولذلك لا صحّة لتطبيقِ الآيات القرآنية
عليها. ولتوضيح هذا الأمر
ننقل هنا نصّ ما كتبه الطبريّ ونقله في تاريخه ، ثم نعمد بعد ذلك إلى نقده. يكتب الطبري في هذا
الصدد قائلا لمّا أبطأ جبرئيل على رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وجزع جزعاً شديداً قالت له خديجة : ما أرى ربَك إلا قد قلاك ، فانزل اللّه عزّ
وجلّ قوله : « والضُّحى. واللّيْلِ إذا سَجى. مَا
وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى. وللآخرة خيرٌ لكَ مِنَ الاُوْلى. ولَسوْفَ
يُعطِيْكَ ربُّكَ فَترضى. ألم يَجدْكَ يتيماً فآوى. وَوَجدَكَ ضالاّ فَهدى.
وَوَجدَكَ عائلا فَأغْنى. فأمَّا اليَتيمَ فَلا تَقْهَرْ. وَأَمَّا السائلَ فَلا
تَنهَرْ. وَأمّا بِنعْمَةِ رَبِّكَ فَحدّثْ » (الضحى : 1 ـ 11.).
ولقد أوجدَ نزولُ هذه الآيات سروراً
عظيماً لدى خديجة عليهاالسلام ،
وعلمت بأن ما قالته حول رسول اللّه لا أساس له من الصحة (تاريخ الطبري : ج 2 ص 48.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
اُسطورة وليس
تاريخاً!
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إنَّ ذاكرةَ التاريخ تحفظ وتتذكر
جيّداً تاريخ حياة السيدة خديجة. إن خديجة الّتي كانت أخلاق محمَّد
الفاضلة وخصاله المجيدة ، وافعاله الحميدة ماثلة امام عينيها والّتي كانت تؤمن
بعدل ربّها كيف يجوز ان تسيء الظن باللّه تعالى وبنبيه الكريم ، العظيم الشأن؟ إنَّ مقامَ النبوَّة ومنصبَ الرسالة
، والسفارة الالهية لا يُعطى إلاّ لمن يملك طائفةً من الصفات النبيلة والخصال
الرفيعة ، وما لم يتصف شخصُ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
هذه الصفات العليا ، وما لم تتوفر فيه مثل هذه الشرائط الخاصّة والمواصفات
المعينة لم يُمنح له ذلك المنصب قط. وتقع العصمة والسكينة القلبية ، والاعتماد
والتوكل في طليعة هذه الخصال والمواصفات ، ومع هذه الأوصاف والخصال يستحيل أن
يدور في خلده مثل تلك التصورات الخاطئة. ولقد قال العلماء : إنّ
المسيرة التكاملية عند الانبياء تبدأ من فترة الطفولة والصبا ، فان الغشاوات
والحجب تبدأ تتساقط وتنقشع الواحدة تلو الاُخرى منذ ذلك الوقت ، ويستمر ذلك حتّى
تصل الاحاطة العلمية لديهم حدَّ الكمال فلا يشكّون في شيء يرونه أو يسمعونه
أبداً ، ومن حاز هذه المراتب لا يمكن أن يتطرق الشك والحيرة والتردّد إلى قلبه
وعقله مطلقاً. إنَّ آيات سورة « الضحى » وخاصة
عبارة « ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى » تفيد فقط بأن هناك من قال مثل هذه
العبارة للنبي الاكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم
وأمّا مَن هو قائلها؟ وكم تركت هذه العبارة مِن تأثير في نفسية النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
وروحيته فهي ساكتة عن كل ذلك؟ وذهب بعضُ المفسّرين إلى
أن قائلها هم بعضُ المشركين ، ولهذا الاحتمال لا تكون جميع الآيات مرتبطة ببدء
الوحي ، لأنه لا أحد غير « علي » و « خديجة » كان يعرف في بدء البعثة بنزول
الوحي ، ليتسنّى له أن يعترض على رسول اللّه ، ويعيّره بانقطاعه عنه بعد ذلك ،
فإن أمر المبعث والرسالة ـ كما سنقول ذلك فيما بعد ـ بقي خافياً على أكثر المشركين
لمدة ثلاثة اعوام تماماً ، فهو لم يكن مكلَّفاً بابلاغ رسالته إلى عامة الناس ،
إلى أن نزَل قولُه تعالى : « فاصدَعْ بما تؤمر » الّذي أمره اللّه فيه بالجهر
بأمر رسالته لعامة الناس بلا استثناء. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إختلافُ المؤرخين
في مسألة « انقطاع الوحي » :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لم يرد في القرآن الكريم أيُ ذكر
مطلقاً لمسألة ( انقطاع الوحي ) بل لم ترد به إشارة أيضاً ، إنما نلاحظها في كتب
السيرة والتفسير فقط ، ويختلف كُتّاب السيرة والمؤرّخون في علة ( انقطاع الوحي )
هذا ، ومدته اختلافاً كبيراً يجعلنا لا نعتمد على أي واحد منها ، وها نحن نشير اليها بشكل مّا : 1 ـ ان اليهود سألوا رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
عن اصحاب الكهف ، وعن الروح ، وعن قصة ذي القرنين فقال عليه الصلاة والسّلام :
ساُخبركم غداً ، ولم يستثن ، فاحتبس عنه الوحي (روح المعاني : ج 30 ، ص 157 ، السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 310 و 311.).
بناء على هذا لا يمكن ان نربط هذه
المسألة ببدء الوحي ومطلع عهد الرسالة لان اتصال علماء اليهود واحبارهم مع النبي
صلىاللهعليهوآلهوسلم عن طريق قريش وسؤالهم اياه حول هذه
الاُمور الثلاثة ، وقع في حدود السنة السابعة من البعثة يوم توجه وفد من قريش
إلى المدينة ليسألوا علماء اليهود عن صحة ما جاء به رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فاقترح اليهود عليهم ان يسألوا
النبي عن تلك الاُمور الثلاثة (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 300 و 301.).
2 ـ قالت خولة وهي امرأة كانت تخدم
رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
أن جرواً دخل البيت فدخل تحت السرير فمات ، فمكث نبي اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
أياماً لا ينزلُ عليه الوحيُ ، فلمّا خرج رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
من البيت كنست خولة تحت السرير فاذا جروٌ ميّت فأخذته والقته خلفَ الجدار فأنزلَ
اللّهُ تعالى هذه السورة ولما نزل جبرئيل سأله النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
عن التأخر فقال : « أما علمت أنّا لا ندخلُ بيتاً فيه كلبٌ ولا صورةٌ » (تفسير القرطبي : ج 10 ، ص 83 و 71 ، السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 349.).
3 ـ إن المسلمين قالوا : يا رسول
اللّه ، مالكَ لا ينزلُ عليكَ الوحيُ؟ فقال : « وكيف ينزِلُ عليّ وأنتمْ لا
تقصُّون أظفاركُمْ ولا تأخذونَ من شواربكم »؟ (نفس المصدر.)
فنزلَ جبرئيلُ بهذه السورة. 4 ـ اهدى عثمان إلى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
عنقود عنب وقيل عِذق تمر فجاء سائلٌ فأعطاه ثم اشتراه عثمان بدرهم فقدّمه إليه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ثانياً ثم عاد السائل فأعطاه وهكذا ثلاث مرات فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم
: ملاطفاً لا غضبان : أسائلٌ أنت يا فلان أم تاجر؟ فتأخر الوحيُ أياماً فاستوحش
فنزلت السورةُ (تفسير روح المعاني : ج 30 ، ص 157.).
5 ـ إن جرواً لأحد نساء النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أو أحد أقربائه حال دون نزول الوحي
عليه (غرائب القرآن في هامش تفسير الطبري : ج 30 ، ص 108.).
6 ـ إنّ رسولَ اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
سأل جبرئيلَ عن تأخّر الوحي قال جبرئيل ، لا املِكُ من نفسي شيئاً إنّما أنا
عبدٌ مأمورٌ (تفسير ابو الفتوح الرازي : ج 12 ، ص 108.).
ثم ان هناك أقوالا اُخرى يمكنُ
الحصول عليها من مراجعة التفاسير (مجمع البيان : ج 10 ، تفسير سورة الضحى.).
ولكنَ الطبريّ نقَلَ وجهاً آخر
تمسَكَ به المغرضون والمرضى من الكُتّاب واعتبروه دليلا على طروء الشك على قلب
رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم وهو
أنّ الوحي انقطع عن رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم بعد
حادثة ( حراء ) فقالت خديجة للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : ما أرى
ربَّك إلاّ قد قلاك!! فنزلَ الوحيُ يقولُ : « ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى
» (تفسير الطبري : ج 30 ، ص 148.).
وممّا يدلُّ على أَهداف هذا النوع من
الكُتّاب ، المريضة ، أو عدم تتبّعهم واستقصائهم ، أنهم تمسكوا من بين جميع
الأقوال بهذا الاحتمال ، واستندوا إليه للحكم على شخصية كرسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
الّذي لم يَر في حياته أي أثر للشك والحيرة مطلقاً. وإننا مع ملاحظة
النقاط التالية يمكننا أن نقف على بطلان هذا الاحتمال وتفاهته : 1 ـ لقد كانت السيدة خديجة من النساء
اللواتي أحببن رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
حباً صادقاً وعميقاً ، فهي الّتي وفت لزوجها حتّى النفس الأخير ، ووقفت ثروتها
الطائلة لتحقيق أهدافه ، وكانت في عام البعثة قد قضيت خمسة عشر عاماً من حياتها
الزوجية ، ولم تر خديجة طوال هذه الفترة من زوجها الا التقوى والطهر ولم تلمس
منه إلا كَرَم الصفات ونبل الاخلاق فقد كانت من المصدقين له صلىاللهعليهوآلهوسلم
من أول يوم وكانت تراعي نهاية الأدب في تكليمها معه وعشرتها اياه صلىاللهعليهوآلهوسلم
فكيف تتكلم مثل هذه المرأة المؤمنة الوفية ، مع زوجها بغليظ القول ، وتوجه له
مثل هذه الكلمة غير المهذَّبة ، بل والجارحة؟؟! 2 ـ إنّ آية : « ما
وَدعَّكَ رَبُّك وَما قلى » لا تدل على أن « خديجة » قالت
مثل هذا الكلام لرسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
، بل غاية ما تفيده هذه الآية هي أنَّ مثل هذا الكلام قد وُجّه إلى رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
، وأمّا مَن هو القائل ، ولماذا قال هذا الكلام؟ فليس ذلك معلوماً. 3 ـ إن ناقل هذه
الرواية يصف « خديجة » تارة بأنها طمأنت النبيّ ، وسكّنت من روعه إلى درجة أنها منعته عن
الإنتحار ، ولكنه يصفها تارة اُخرى بانها قالت له : بأن
اللّه عاداه وقلاهُ ، ألا ينبغي هنا أن نقول : « كن ذكوراً ثم أكذب »؟! 4 ـ إذا كان الوحيُ قد انقطع بعد
حادثة جبل ( حراء ) ونزول بضع آيات من سورة « العلق » إلى أن نزلت سورة « الضحى » ، يتوجب ـ في هذه الصورة ـ ان تكون
سورة « الضحى » ثاني سورة من حيث الترتيب التاريخي لنزول السُور في حين أنَّ
تاريخ نزول الآيات والسور القرآنية يفيد أنها السورةُ الحادية عشَرة من سُور
القرآن الكريم. لأن فهرس السور القرآنية حسب نزولها هو كالتالي : 1 ـ العلق. 2 ـ القلم. 3 ـ المزمِّل. 4 ـ المدّثر. 5 ـ تبّت ( المَسَد ). 6 ـ التكوير. 7 ـ الاعلى. 8 ـ الانشراح. 9 ـ والعصر. 10 ـ والفجر. 11 ـ والضحى
(تاريخ القرآن للزنجاني : ص 58.).
نعم إنفرد اليعقوبي من بين المؤلفين
باعتبار سورة الضحى ـ في تاريخه (تاريخ اليعقوبي : ج 2 ، ص 33.)
ـ السورة الثالثة من حيث تاريخ النزول ، وحتّى هذا الرأي لا ينسجم مع القصة
المذكورة ( انقطاع الوحي ).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الإختلاف في مدة
انقطاع الوحي
:
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد تعرّض تحديد مدة انقطاع الوحي
بشكله المزعوم لإبهام كبير ، فقد ذكر ذلك
بصور مختلفة في التفاسير والأقوال
التالية هي : 4 ـ أيّام. 12 ـ يوماً. 15 ـ يوماً. 19 ـ يوماً. 25 ـ يوماً. 40 ـ يوماً. ولكن بعد دراسة فلسفة
النزول التدريجي للقرآن الكريم سنرى أنّ انقطاع الوحي وتوقفه لم يكن حدثاً
إستثنائياً ، لأنّ القرآن الكريم أعلن منذ أول يوم
أن المشيئة الالهيّة تعلّقت بأن ينزل القرآن بصورة تدريجية ، منجّمة إذ يقول
تعالى : « وَقُرآناً
فرَقْناهُ لَتَقْرأَهُ على مكْث » (الاسراء : 106.).
ويكشفُ القرآن النقاب ـ في موضع آخر
ـ عن سرِّ نزول القرآن تدريجاً إذ قال : « وَقال
الَّذينَ كَفَرُوا لَولا نُزّلَ عليه الْقُرانُ جُمْلَةً واحِدَة كَذلِكَ
لِنُثبِّتَ بِهِ فَؤادَكَ وَرتّلناهُ تَرْتيلا
» (الفرقان : 32.).
ومع ملاحظة طريقة نزول الآيات والسور
القرآنية هذه يجب أنْ لا يُتَوقع نزولُ الآيات كل يوم وكلَّ ساعة ، وأن ينزل
جبرئيلُ على النبيّ على الدَّوام ، ويأتي إليه بالآيات دون انقطاع ، بل إنّ
الآيات القرآنية كانت تنزل على رَسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
في فواصل زمنية مختلفة وفقاً للاحتياجات ، وبحسب الأسئلة المطروحة على النبي ،
ولأسرار اُخرى في النزول التدريجي شرحها علماء الإسلام (راجع للوقوف على هذه المسألة معالم الحكومة الإسلامية : ص 122 ـ 124.).
وفي الحقيقة لم يكن هناك ما يُسمى
بانقطاع الوحي ، بل كل ما كان في الأمر هو أنّه لم يكن ثمّة ما يوجب النزول
الفوري ، والمتلاحق للوحي. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
14
الدَعْوَةُ السِرِّيَّة ودَعوَةُ الأقربين
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إستمرّ النبيُّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
يدعو إلى دينه سِرّاً مدة ثلاثة أعوام. فهو في هذه السنوات عَمَد إلى بناء
الكوادر واعدادها بدل توجيه الدعوة إلى عامّة الناس ، فإنَّ اعتبارات معيّنة في
ذلك الوقت كانت توجبُ أنْ لا يجهَر بدعوته ولا يُعْلِنَ عن رسالته ، ويكتفي
بالاتصالات الفردية السِّرية ويدعو اشخاصاً معينين إلى دينه. وقد كانت هذه الدعوة
السرِّية هي السبب في أن ينجذب إلى الدّين الإسلامي جماعة من الناس ، وتواجه
دعوته صلىاللهعليهوآلهوسلم
منهم بالقبول ، وقد سجَّل التاريخ أسماء هؤلاء
السابقين الذين آمنوا برسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
، في هذه الفترة من عهد الرسالة ، وتاريخ الإسلام ، واليك بعضهم : 1 ـ السيدة خديجة بنت خويلد ( زوجة
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
). 2 ـ علي بن أبي طالب عليهالسلام.
3 ـ زيد بن حارثة. 4 ـ الزبير بن العوام. 5 ـ عبد الرحمان بن عوف. 6 ـ سعد بن أبي وقاص. 7 ـ طلحة بن عبيداللّه. 8 ـ أبوعبيدة الجراح. 9 ـ أبو سلمة. 10 ـ الأرقم بن أبي الارقم. 11 ـ عثمان بن مظعون. 12 ـ قدامة بن مظعون. 13 ـ عبد اللّه بن مظعون. 14 ـ عبيدة بن الحارث. 15 ـ سعيد بن زيد. 16 ـ خباب بن الأرتّ. 17 ـ أبو بكر بن أبي قحافة. 18 ـ عثمان بن عفان. وغيرهم من الذين قبلوا دعوة النبي ،
وآمنوا بنبوته في هذه الفترة (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 245 و 262.).
ولقد كان أقطاب قريش واسيادها
منهمكين ـ طيلة هذه الاعوام الثلاثة ـ في لهوهم ومجونهم ، ومع أنهم كانوا قد
عرفوا بعض الشيء عن دعوة النبيّ السرّية إلاّ أنّهم لم يظهروا أيّة ردة فِعل
تجاهها ، ولم يقوموا بشيء ضدّها. ولقد كان رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
في هذه السنوات الّتي تعتبر فترةُ صياغة الفرد يخرج مع بعض أتباعه إلى شعاب مكة
للصلاة فيها بعيداً عن أنظار قريش. واتفق أن رآهم بعض المشركين في ما
كانوا يُصلّون في شعب من شعاب مكة ، واستنكروا عملهم هذا ، وأدّى ذلك إلى منازعة
عابرة بينهم وبين المشركين جرح على أثرها أحد المشركين على يدي « سعد بن أبي وقاص » أحد
المسلمين ، ومن هنا قرّر رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم اتخاذ
بَيْت « الأرقم بن أبي
الأرقم » محلاً للعبادة بدل شعاب مكّة ، ليستطيع القيام
فيه بالتبليغ والعبادة بحريّة وأمان ، بعيداً عن أعين المشركين (تاريخ الطبري : ج 2 ، ص 61.).
ولقد كان « عمّار بن ياسر » و « صهيب
بن سنان » الروميّ ممّن آمنوا برسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
في ذلك البيت (هذا البيت كان عند جبل الصفا ، وكان معروفاً إلى مدة ب « دار
الخيزران » اُسد الغابة : ج 4 ، ص 44 ، السيرة الدحلانية بهامش السيرة الحلبية :
ج 1 ، ص 192 ، السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 283.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
دَعْوةُ
الأَقْرَبيْن :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
يشرع العقلاء من الناس من اصحاب البرامج
الواسعة والمشاريع الكبرى اعمالهم الكبرى ـ عادة ـ من بدايات صغيرة ونقاط محددة
، فإذا حقّقوا نجاحاً في هذه البدايات بادروا إلى توسيع نطاق نشاطهم فوراً ،
وهكذا جنباً إلى جنب مع النجاحات الّتي يحقّقونها في كل خطوة يوسّعون دائرة
العمل ، ويجتهدون في تحقيق المزيد من النجاح ، والتكامل لما هم بصدده. ولقد سأل أحد الشخصيات زعيماً في
دولة كبيرة من الدول الكبرى المعاصرة : ما هو سرّ نجاحكم في الاعمال الإجتماعية
وما هو الأمر الّذي يساعدكم على النجاح في مشاريعكم؟ فأجابه ذلك الزعيم
قائلا : ان طريقة عملنا نحن الغربيّين تختلف عن طريقتكم
انتم أهل الشرق ، فنحن دائماً نخطّطُ لمشاريع كبرى ونبدأ من مكان صغير ، وبعد
إحراز النجاح نعمد إلى توسيع نطاق العمل ، وإذا اكتشفنا في منتصف الطريق خطأ
برنامجنا غيّرنا اُسلوب عمَلنا ، وعَدلنا إلى طريقة اُخرى ، وبدأنا بعمل آخر. أما أنتم الشرقيون فتدخلون ساحةَ
العمل في برامجكم الكبرى من مكان كبير ، وتبدأون من نقطة واسعة ، وتحاولون تطبيق
مشروعكم جملة واحدة ، فاذا واجهتم في خلال العمل طريقاً مسدودة لم يكن في
إمكانكم ان ترجعوا من منتصف الطريق إلاّ بتحمل خسائر كبرى فادحة. هذا مضافاً إلى ان أنفسكم كأنها قد
عُجنت بالعجلة ولذلك تودُّون قطفَ ثِمار جهودكم ونتيجة عملكم في الحال دونما صبر
وترقّب وانتظار ، وهذه هي بنفسها طريقة تفكير إجتماعيّة خاطئة ، من شأنها أن
تجعل الإنسان أمام طُرق مسدودة كثيرة وغريبة. هذا ما قاله ذلك
الغربيّ. ولكن الّذي نتصوره ونعتقده نحن هو :
أن هذه الطريقة من التفكير لا ترتبط لا بالشرق ولا بالغرب ، بل هي ميزة العقلاء
الاذكياء من الناس ، فانهم يعتمدون هذا الاُسلوب لا نجاح مهامّهم ، وتحقيق
مقاصدهم. ولقد اتبع قائد الإسلام الاكبر
الرسول الاعظم صلىاللهعليهوآلهوسلم
هذه الطريقة في عمله الرسالي فركّز جهدَه على الدعوة السرّية إلى دينه مدة ثلاثة
أعوام من دون تعجُّل ، وكان يعرضُ دينه على كل من وجده أهلا للدعوة ، ومستعدّاً
من الناحية الفكرية للتبليغ. فرغم أنّه كان يهدف إلى تشكيل دولة
عالمية كبرى ينضوي تحت لوائها ( لواء التوحيد ) جميع أفراد البشرية ، إلاّ أنه
لم يعمد إلى الدعوة العامة طيلة هذه الأعوام الثلاثة ، بل لم يوجّه الدعوة
الخاصة حتّى إلى أقاربه ، إنّما اكتفى بالاتصال الشخصي بمن وجده مؤهلا وصالحاً
للدعوة ، ومستعدّاً لقبول الدِّين ، حتّى أنّه استطاع في هذه الأعوام الثلاثة أن
يكسب فريقاً من الأتباع من الذين اهتدوا إلى دينه وقبِلُوا دعوته. وقد كان زعماء قريش ـ كما اسلَفنا ـ
منهمكين طوال هذه الأعوام الثلاثة في اللذّة والهوى وكان فرعون « مكة » وطاغيتها
: « أبو سفيان » وجماعته كلما سَمِعوا بالدَّعوة اطلقوا ضحكة استهزاء وقالوا
لانفسهم : إنّها أيّام وتنطفئ بعدها شعلة الدعوة هذه فوراً تماماً كما انطفأت من
قبل دعوة « ورقة » و « اميّة » ( الَّلذين أخَذا يحبّذان إلى العرب التوجه نحو
المسيحية ونبذَ الوثنية بعد أن قرءا الانجيل والتوراة ) وبالتالي لن يمرّ زمانٌ
حتّى يُنسى هذا الاُمر ، ويغدو خبراً بعد أثر ، بل بهذا التصوّر ، وبهذه
العقليّة واجَهت زعامة « مكة » دعوة النبي في البداية ، ولهذا
لم يقم زعماء قريش خلال هذه السنوات الثلاث بأيّ عَمل عدائيّ ضدّ رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
، بل ظلّوا ينظرون إليه بنظر الإحترام ، ويُراعون معه قواعد الأدب والسلوك ،
وكان النبيّ هو أيضاً لا يتعرض لأصنامهم وآلهتهم في هذه الأعوام الثلاثة بسوء
ولا يتناولها بالنقد والاعتراض بصورة علنية ، بل كان مركّزاً جهده على الاتصال
الشخصي بذوي البصائر من الأشخاص وهدايتهم إلى دينه الحنيف. ولكن منذ أنْ بدأ النبيُّ دعوة
الأقربين وأخذ ينتقد وثنيّتهم ، ويذكر أوثانهم بسوء ويعترض على تصرفاتهم
اللإنسانية أصبح حديث الألسن. ومنذ ذلك اليوم ايضاً بدأت يقظة قريش ، وعرفوا أمر
محمَّد يختلف عن أمر « ورقة » و « اُميّة » اختلافاً بيناً وانه لبين الدعوتين
فرقا كبيراً ، ولهذا بدأت المعارضة والمخالفة السرّية والعلنية ، لدعوة النبيّ. وقد بدأ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بكسر جدار الصمت بدعوة
أقربائه إلى دينه ثم شرع بعد ذلك بدعوة الناس أجمعين. على أنه ما من شك في
أنّ الاصلاحات العميقة الّتي يراد لها ان تترك أثراً في جميع شؤون الناس وكل
مناحي حياتهم ، وتغيّر مسير المجتمع تحتاج قبل أيّ شيء إلى قوتين : 1 ـ قوةُ البيان ، بأن
يستطيع الداعية والمصلح بيان الحقائق الّتي جاء بها من أفكاره الخاصة ، أو ما
تلقّاه عن طريق آخر إلى الناس باسلوب جذاب ، يأسر القلوب ، ويسحر العقول. 2 ـ القوةُ الدفاعيةُ
الّتي يستطيع تشكيل خطّ دفاعي منها عند التعرض لهجوم الأعداء والخصوم ،
وفي غير هذه الصورة ستنطفئ شعلة الدعوة ويفشل المصلح في خطاه الاُولى. ولقد كان البيان لدى
رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
في أعلى مرتبة من من هنا عَمَد رسولُ اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وبهدف تحصيل القوّة الدفاعية المطلوبة وتشكيل النواة المركزية إلى دعوة أقربائه
إلى دينه قبل التوجّه بالدعوة إلى عامة الناس ، ليتمكَّن من هذا الطريق ، أن
يزيل النقصَ من جهة عدم وجود القوة الثانية ، ويكوّن منهم سياجاً قوياً يحفظه ،
ويحفظ رسالته من الأخطار المحتملة. على أن فائدة هذه الدعوة كانت على
الأقل دفع أبناء عشيرته إلى الدفاع عنه بدافع القربى والرحم على فرض انهم لم
يؤمنوا برسالته ، ولم يقبلوا دعوته. هذا مضافاً إلى انه صلىاللهعليهوآلهوسلم
كان يعتقد ان أي إصلاح وتغيير لابد أن يبدأ من إصلاح الداخل وتغييره ، فما لم
يستطع الإنسان من إصلاح أبنائه واقربائه وردعهم عن قبائح الأفعال لا يمكن لدعوته
أبداً أن تؤثر في الأجانب والأبعدين ، لأنَّ المناوئين سيعترضون عليه لدعوته في
هذه الحالة ، ويشيرون إلى أفعال أبنائه وعشيرته. من هنا أمره اللّه تعالى بأن يدعو
عشيرته الأقربين إذ خاطبه قائلا : « وَأَنْذِرْ
عَشِيرتَكَ الأَقْرَبين » (الشعراء : 214.).
كما
أنه خاطبه بصدد دعوة
الناس عامّة بقوله : « فَاصْدَعْ
بِما تُؤْمرُ وَأعْرضْ عَن المُشْركين. إنّا كَفيْناكَ المُسْتَهْزئينَ »
(الحجر : 94 و 95.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
كيفيّة دَعوة
الأقربيْن :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
كانت طريقة رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
في دعوة عشيرته الأقربين طريقة جميلة وذكيّة جدّاً ، فقد تجلّت في ذلك حقيقة
أوضحت اسرار هذه الدعوة في ما بعد اكثر فأكثر. فانّ المفسرين كتبوا عند قوله تعالى
: « وانذر عشيرتك الاقربين » وكذا الأغلبية القريبة للاجماع مِنَ المؤرخين أن
اللّه أمر نبيّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
بأنْ ينذر عشيرته الأقربين ويدعوهم إلى دينه ورسالته فأمر رسول اللّه صلىاللهعليهوآله
عليّ بن أبي طالب الّذي كان آنذاك في ربيعه الثالث عشر أو الخامس عشر بأن يُعدَّ
طعاماً ولبناً ، ثم دعا صلىاللهعليهوآلهوسلم خمساً
وأربعين رجلا من سراة بني هاشم ووجوههم ، وعزم على أن يبوح لضيوفه ويكشف لهم من
امر رسالته في خلال تلك الضيافة إلاّ أنه ـ وللأسف ـ ما أن أنتهوا من الطعام
حتّى بادر أبو لهب فتكلّم بكلمات سخيفة قبل أن يتحدّث النبيُّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
ممّا جعل الجوّ غير مناسب لأنْ يطرَح النبيُّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
موضوع رسالته عليهم ، فانفض المجلسُ دون تحقيق هذا الغرض. ولما كان من غد أمر النبيُّ علياً عليهالسلام باعداد الطّعام واللّبن ثانية ،
وكرّر دعوة تلك الجماعة ، إلى ضيافة اُخرى ، وبعد أن فرغوا من الطعام تكلّم
رسولُ اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
فقال : « إنَّ الرائد لا يَكذبُ أهْلهُ
وَاللّه الَّذي لا إله إلا هُو إنّي رَسُولُ اللّه إليْكُمْ خاصّة وإلى النّاس
عامّة واللّه لَتمُوتُنَّ كما تَنامُونَ وَلَتُبْعَثُنَّ كَما تَسْتَيقظُون
وَلَتُحاسبُنَّ بِما تَعْمَلُونَ وإنها الجَنَّة أبداً وَالنّارُ أبداً ». ثم قال : « يا بَني عَبْدِ الْمُطَّلِب انّي
وَاللّه ما أعلَمُ شابّاً في العَربَ جاء قومَهُ بأَفضَل ممّا جِئتُكُمْ به ،
انّي قَدْ جِئْتُكم بِخير الدُّنيا والآخِرة وَقَدْ أَمرَني اللّه عَزَّوجلَّ أن
ادْعوكُمْ إليه فأيّكُمْ يُؤمن بي ويؤازرُني عَلى هذا الأمر على أنْ يكونَ أخي
وَ ولما بلغَ النبيُّ صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى هذه النقطة ـ وبينما أمسك القومُ
وسكتُوا عَن آخرهم إذ كان كلُ واحد منهم يفكِّرُ في ما يؤولُ إليهِ هذا الامرُ
العظيمُ ، وما يكتنفهُ من أخطار ـ قام « عليّ » عليهالسلام
فجأة ، وهو آنذاك في الثالثة أو الخامسة عشرة من عمره ، وقال وهو يكسر بكلماته
الشجاعة ـ جدار الصمت والذهول ـ : أنا يا رَسوُل اللّه أكونُ وَزيركَ
عَلى ما بَعَثَكَ اللّه ». فقال له رسولُ اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم :
إجلسْ ، ثم كرّر دعوته ثانية وثالثة وفي كل مرة يحجم القومُ عن تلبية مطلبه ،
ويقوم « عليّ » ويعلن عن استعداده لمؤازرة النبيّ ، ويأمره رسولُ اللّه بالجلوس
حتّى إذا كان في المرة الثالثة أخذ رسول اللّه بيده والتفت إلى الحاضرين من
عشريته الاقربين وقال : « إنَّ هذا أخي وَوَصيّي وَخَليفَتي فيكُمْ ( أو
عَليْكُمْ ) فاسْمَعُوا لهُ ، وَأطِيْعُوا ». فقامَ القوم يضحكون ، ويقولون لأبي
طالب « قد أمرك أن تسمع لا بنكَ وتطيعَ وجعله عليك أميراً »
(تاريخ الطبري : ج 2 ، ص 62 و 63 ، تاريخ الكامل : ج 2 ص 40 و 41 ،
مسند أحمد : ج 1 ، ص 111 ، وشرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد : ج 13 ص 210 و
211.).
إنَ ما كتبناه هو ـ في الحقيقة ـ
خلاصةٌ لحديث مفصَّل رواه اكثر المفسرين والمؤرخين بعبارات مختلفة ، ولم يشكّك
في صحّته أحدٌ ، بل اعتبروه من مسلَّمات التاريخ ، الا « ابن تيمية » الّذي اتخذ موقفاً خاص من أهل
بيت النبيّ صلّى اللّه عليه وعليهم أجمعين. خِيانةٌ تاريخيّةٌ وجنايَةٌ أدبيّة!!
إن تحريفَ الحقائق وقلبَها ، أو
إخفاء الوقائع لهُو حقاً من أوضح مصاديقالخيانة والجناية. ولقد سلَكَ فريقٌ من الكُتّاب
المتعصبين عبر التاريخ للاسف مثل هذا الطريق المقبوح ، وأسقطوا مؤلّفاتهم
العلميّة والتاريخيّة بارتكابهم خطيئة التحريف في جملة من الحقائق ، من الاعتبار
، وهم يخالون ان عملهم قادر على ان يبقي الحقائق في هالة الإهمال والغموض. إلاّ أنّ أمر هؤلاء قد انكشف مع
انْقضاء الزّمن ، وتكامُل العِلْم ، ودَفع بفريق من أهل التحقيق والإنصاف إلى أن
يمزقوا بأطراف اقلامهم حجب الزيف والتحريف ويُظهروا الوقائع والحقائق على
حقيقتها. وإليك في ما يأتي بعض
هذا الخيانات : 1 ـ لقد ذكر محمَّد بن جرير الطبري (
المتوفى عام 310 هـ ) في تاريخه حادثة دعوة الأقربين بشكل مفصَّل وعلى النحو
الّذي مرّ على القارئ الكريم. بيد أنه حرّف في تفسيره (ـ تفسير الطبري : ج 19 ، ص 74.)
وكَتمَ ، فهُو عند تفسير قوله تعالى : « وأنذِرْ عَشِيْرتَكَ الأَقرَبين » يذكرُ
كلّ ما ذكره في تاريخه ، ولكنّه يغيّر ويبدّل في قول رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
حيث يقول : « على أن يكون أخي ووصيّي وخليفتي » ، فهو يكتب في تفسيره هكذا : «
على أنْ يكونَ كذا وكذا ». ولا ريب انَّ في تغيير عبارة « أخي
ووصيّي وخليفتي عَليكم ( أوفيكم ) إلى : « كذا وكذا » غرضَاً مريضاً ، وهو
بالتالي خيانة تاريخية فاضحة. على أن الطبريّ لم
يكتف بهذا القدر من التغيير في الكلام رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم بل غيّر حتّى في الجملة الّتي تعقبتها وهي قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم
بعد أن قام عليُّ عليهالسلام
للمرة الثالثة وأعلن عن استعداده لمؤازرة النبيّ بعد إحجام القوم وسكوتهم : «
إن هذا أخي ووصيّي وخليفتي » حيث أبدلها بعبارة : « إنَّ هذا أخي وكذا وكذا »!!!
إن على المؤرخ أن يكون حراً وشهماً
في كتابة الحقائق وروايتها ، فيثبتها ويرويها كما هي ، بكل شجاعة ، وصَلابَة. ولا ريب ان الّذي دفع
بالطبريِّ إلى أن يرتكب مثل ذلك التبديل والتغيير هو تعصّبه المذهبي ،
فهو لا يعتبر الإمام عليّاً خليفة رسول اللّه بلا فصل ، وحيث
أن تينك الكلمتين : « خَليفتي ووَصيّي » تصرّحان بخلافة « عليّ » للنبيّ ووصايته
بلا فصل لذلك يغيّر ويبدّل حتّى ينتصر لمذهبه بالتحريف في شأن نزول هذه الآية
أيضاً. 2 ـ ولقد فعل ابن كثير
( المتوفى عام 732 هـ ) نظير هذا في تاريخه (البداية والنهاية : ج 2 ، ص 40.)
وكذا في تفسيره ( ج 3 ص 351 ) وسلك
نفس الطريق الّذي سلكه ـ من قبل ـ سلفُه الطبري ضارباً عرض الجدار مبدأ أمانة
النقل!!! ونحن لا نعذر ابن كثير في عمله هذا
أبداً ، لأنه قد اعتمد ـ في رواياته التاريخية ، في تاريخه وتفسيره معاً ـ تاريخ
الطبري ، لا تفسيره ولا شك أنّه قد مرَّ
على هذه القصة في تاريخ الطبريّ ، ولكنّه مع ذلك حاد عن الطريق السويّ فأعرض عن
نقل رواية التاريخ ـ في هذه الحادثة ـ وعَمَد ـ بصورة غير متوقعة ـ إلى نقل
رواية التفسير!!! 3 ـ والأغرب من تينك الخيانتين ما
ارتكبه ـ في عصرنا الحاضر ـ وزير المعارف المصرية الأسبق الدكتور « هيكل » في
كتابه « حياة محمَّد » ، وفتح بعمله باب التحريف في وجه الجيل الحاضر. والعجب ان « هيكل »
هاجم ـ في مقدمته ـ جماعة المستشرقين بشدة وانتقدهم بعنف لتحريفهم الحقائق
التاريخية ، واختلاقهم لبعض الوقائع في حين لم يقصر عنهم في هذا السبيل فهو : أولاً
: نقل الواقعة المذكورة ( دعوة
الاقربين المعروفة بحادثة يوم الدار أو حديث بدء الدعوة ) في الطبعة الاُولى من
كتابه المذكور بصورة مبتورة ومقتضبة جداً واكتفى من الجملتين الحساستين بذكر
واحدة منهما فقط وهي : قولُ النبي مخاطباً الحضور في ذلك اليوم : « مَنْ
يُؤازرني يكونُ أخِيْ وَوصيّي وخليِفَتِي » بينما حذف بالمرة الجملة الّتي قالها
رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
لِعَلي بعد أن قام للمرة الثانية وأعلن موازرته للنبيّ وهي قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم
: « إنَّ هذا أخيْ وَوَصيّي وَخَلِيْفتي »!!! ثانياً :
انَّه خطى في الطبعات الثانية والثالثة والرابعة ، خطوة أبعد حيث حذَف كلتا
الجملتين معاً وبهذا قد وجّه ضربة كبرى إلى قيمته ككاتب. وقيمة كتابه ، كدراسة
تاريخية!! |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
النبوة والإمامة
توأمان :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إن الاعلان عن وصاية عليّ عليهالسلام
وخلافته في مطلع عهد الرسالة وبداية أمر النبوّة يفيد ـ بقوة ووضوح ـ انَّ هذين
المنصبين ليسا بأمرين منفصليْن ، ففي اليوم الَّذي يعلِنُ فيه رسولُ اللّه عن
رسالته ونبوَّته ، يعيّن خليفته ووصيَّه من بعده ، وهذا يشهد ـ بجلاء ـ بأن
النبوَّة والإمامة يشكِّلان قاعدة واحدة ، وأن هذين المنصبين إن هما الاّ
كحلقتين متصلتين لا يفصل بينهما شيء. كما أن هذه الحادثة تكشف ـ من جانب
آخر عن مدى الشجاعة الروحية الّتي كان يتحلّى بها الإمام اميرُ المؤمنين « عليُّ
بن أبي طالب » عليهالسلام ، حيث قام
ـ في مجلس أحجم فيه الشيوخ الدُهاة والسادة المجرِّبون عن قبول دعوة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
خوفاً وتهيّباً ـ وأعلن بكل شجاعة مؤازرته للنبيّ ، واستعداده للتضحية في سبيل
دينه ورسالته وهو آنذاك غلامٌ في ربيعه الثالث أو الخامس عشر ، وما حابى أعداء
الرسالة ولا ماشاهم كما فعل المصلحون من الساسة والزعماء المتخوّفون على مصالحهم
ومراكزهم آنذاك!!! صحيح ان « عليّاً » عليهالسلام كان في ذلك
اليوم أصغر الحاضرين سنّاً إلاّ أن معاشرته الطويلة للنبيّ قد هيّأتْ قلبهُ
لتقبُّل الحقائق الّتي تردّد شيوخ القوم في قبولها ، بل عجزوا عن دركها وفهمها!!
ولقد اعطى ابو جعفر
الإسكافي حق الكلام في هذا المجال إذ قال : فهل يُكلِّف عملُ الطعام ، ودعاء
القوم صغيرٌ غير مميّز ، وغِر غير عاقل ، وهل يؤتمَن على سرّ النبوة طفلٌ ...
وهل يُدعى في جملة الشيوخ والكهول إلاّ عاقل لبيب ، وهل يضع رسولُ اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
يده في يده ، ويعطيه صفقة يمينه بالاُخوة والوصيّة ، والخلافة ، الا وهو أهل
لذلك ، بالغ حدّ التكليف ، محتمل لولاية اللّه ، وعداوة أعدائه ، وما بال هذا
الطفل لم يأنس باقرانه ولم يلصق بأشكاله ، ولم يُرمع الصبيان في ملاعبهم بعد اسلامه
، وهو كأحدهم في طبقته كبعضهم في معرفته ، وكيف لم ينزع إليهم في ساعة من ساعاته
بل ما رأيناه الا ماضياً على اسلامه ، مصمماً في أمره ، محققاً لقوله بفعله ، قد
صدّق اسلامه بعفافه وزهده ، ولصق برسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
من بين جميع من حضرته فهو أمينه واليفه في دنياه واخرته (شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد : ج 13 ، ص 215 و 295.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
15الدعوة العامّة
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
كان قد انقضى ثلاث سنوات على بدء
البعثة يوم عمد رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
إلى دعوة الناس عامة بعد دعوة عشيرته الاقربين. فقد استطاع خلال السنوات الثلاث
الاُولى من عمر الدعوة أن يهدي ـ من خلال الاتصالات السرية ـ مجموعة من الاشخاص
إلى الإسلام ولكنّه دعا هذه المرّة وبصوت عال عامة الناس إلى دين التوحيد. فقد وقف ذات يوم على صخرة عند جبل
الصفا ونادى بصوت عال : يا صباحاه ( وهي كلمةٌ كانت العربُ تطلقها كلّما أحسَّت
بخطر ، أو بلغها نبأ مُرعب فكانت هذه الكلمة بمثابة جرس الخطر ) (قال الجزري في النهاية : ج 2 ، ص 271 : صعد النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
على الصفا وقال : يا صباحاه ؛ هذه كلمة يقولها المستغيث ، وأصلها إذا صاحوا
للغارة لانهم اكثر ما كانوا يغيرون عند الصباح ويسمّون يوم الغارة يوم الصباح ،
فكأن القائل : يا صباحاه يقول : قد غشينا العدو.)
فلفت نداء النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
هذا نظر الناس فاجتمع حوله جماعة من أبناء القبائل المختلفة وقالوا : له ما
لَكَ؟ فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : أرأيتكم
إن أخبرتكم أنَّ العدوّ مُصبحكم أو ممسيكم ما كنتم تصدّقونني؟ قالوا : بلى. قال : فاني نذير لكم بين يدي عذاب
شديد. ثم قال : إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل
رأى العدو فانطلق يريد أهله فخشي أن يسبقوه إلى اهله فجعل يهتف : واصباحاه (السيرة الدحلانية بهامش السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 194.).
ولقد كانت قريش تعرف عن دينه بعض
الشيء ، قبل هذا ولكنها تملَّكها الخوفُ هذه المرة ، وهي تسمعُ ذلك الانذار
القويّ فبادر أحد قادة الكفر إلى تبديد تلك المخاوف فوراً إذ قال لرسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم :
تبّاً لك ، ألهذا دعوتنا؟ ، وتفرّق على أثرها الناس. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الثباتُ والإستقامة على طريق الهدف :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إن نجاح أيّ شخص مرهونٌ بأمرين : الأول : الايمان
بالهدف. والثاني : الاستقامة
والثبات والسعي الدائب لتحقيق ذلك. إنَّ الإيمان هو المحرِّك الباطني
والقوة الخفية الّتي تجر الإنسان شاء أم لم يشأ نحو الغاية الّتي يتوخاها ،
وتسهِّل عليه الصعاب ، وتدعوه إلى العمل الدائب لتحقيق مقصوده ، لأن شخصاً كهذا
يعتقد إعتقاداً قويّاً بأنَّ سعادته ، ومجده يتوقَّفان على ذلك. وبعبارة اُخرى : إذا
آمن انسان بأن سعادته ومجده يتوقفان على تحقيق هدف معيّن فانه سيندفع بقوة
الإيمان نحو تحقيق ذلك الهدف ، متجاوزاً كل الصعاب ، ومتحدياً كل المشكلات في
ذلك السبيل. فالمريض الّذي يرى شفاءه في شرب دواء
مرّ مثلا سيستسهل شُربه. والغوّاص الّذي يعتقد إعتقاداً
جازماً بأن ثمّة درراً غالية الثمن تحت أمواج البحر سيلقي بنفسه في قلب تلك
الأمواج دونما خوف أو وجل ، ليخرج منها بعد دقائق ظافراً بأغلى الجواهر. بينما إذا كان المريض أو الغوّاص
يشكُّ في عمله ، أو يعتقد بعدم فائدته ، فانَّه لن يُقدمَ عليه قط واذاما أقدم
فان عمله سيكون حينئذ مقروناً بالجهد والعناء. فقوة الإيمان اذن هي الّتي تذلّل كل
مُشكل ، وتسهِّل كلَّ صعب. غير أنه لا ريب في أنَّ الوصولَ إلى
الهَدف لا يخلو من مشكلات وموانع ، فلابدّ من السعي لرفع تلك الموانع ، وإزالة
تلكم المشكلات. وقد قيل قديماً : أنَّ مع كل وردة
أشواك ، فكيف يمكن قطف وردة دون أن تُدمى أنامل القاطف بالأشواك المحيطة بها؟؟ هذا وقد بيّن القرآنُ الكريمُ هذه
المسألة ( وهي ان رمز السعادة هو : الإيمان بالهدف والثبات في طريق تحقيقه ) في
جملة قصيرة إذ قال : « إنَّ
الَّذيْن قالُوا ربُّنا اللّه ثُمَّ استقامُوا تتَنَزَّلُ عَليْهِمْ الْمَلائكة
أنْ لا تَخافُوا وَلا تَحزَنُوا وأبْشروا بِالجَنَّةِ الّتي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ
» (فُصّلت : 30.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ثَباتُ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وَصَبرُهُ :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد أدّت إتصالاتُ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
الخاصّة. قَبل الدعوة العامة ، وجهودُه الكبرى بعد الجهر بالدعوة ، إلى ظهور
وتكوين صفٍّ مرصوص من المسلمين في وجه صفوف الكفر ، والوثنية. فالَّذين دخَلُوا سرّاً في حوزة
الإسلام والإيمان قبل الدعوة العامّة تعرَّفوا على المسلمين الجدد الذين لبُّوا
داعي الإسلام بعد إعلان الرسالة ، وشكّل القدامى والجدد جماعة قوية متعاطفة
متحاببة ، وكان ذلك بمثابة إنذار لأوساط الكفر والشرك والوثنية ، أربكها وجعلها
تشعر بالخطر. على أنّ ضرب نهضة ناشئة والقضاء
عليها كان أمراً سهلا لقريش ، ولكنّ الّذي أرعب قريشاً ومنعها من توجيه مثل هذه
الضربة هي أنَّ أفراد هذه الجماعة ، وعناصر هذه النهضة لم يكونوا من قبيلة واحدة
، ليمكن مواجهتها وضربُها بكلّ قوة ، بل إنتمى من كل قبيلة إلى الإسلام ، عددٌ
من الأفراد ، ومن هنا لم يكن إتخاذ أيّ قرار حاسم بحقّهم أمراً سهلا وبسيطاً. من هنا قرّر سادة قريش وكبراؤها ـ
بعد تداول الأمر في ما بينهم ـ أن يبدأوا بالقضاء على أساس هذه الجماعة ،
ومحرِّك هذا الحزب ، والداعي إلى هذه العقيدة بمختلف الوسائل فيحاولوا ثنيه عن
دعوته بالاغراء والتطميع تارة ويمنعوا من انتشار دينه بالتهديد والايذاء تارة
اُخرى. وقد كان هذا هو برنامج قريش وموقفها
من الدعوة طيلة عشر سنوات وهي المدة المتبقية من سنوات البعثة من الفترة المكية
، إلى ان قررت بالتالي قتله ، ولكنه استطاع ان يبطل مُؤامرتهم بالهجرة إلى
المدينة قبل أن يتمكنوا من القضاء عليه. ولقد كان « أبو طالب » آنذاك زعيم
بني هاشم ورئيسها المطلق ، وكان رجلا طاهر القلب عالي الهمّة ، شجاعاً ، كريماً
، وكان بيته ملجأ دافئاً للمحرومين والمستضعفين ، وملاذاً أميناً للفقراء
والأيتام ، وكان يتمتع في المجتمع العربي ـ علاوة على رئاسة مكة وبعض مناصب
الكعبة ـ بمكانة كبرى ومنزلة عظيمة ، وحيث أنّه كان كفيلا لرسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
بعد وفاة جدّه « عبد المطلب » ، لذلك حضر سادة قريش بصورة جماعية (ادرج ابن هشام في سيرته : ج 1 ، ص 264 و 265 اسماءهم بالتفصيل.)
عنده
وقالوا له : « يا أبا طالب إن ابن أخيك قدسبّ
آلهتنا ، وعابَ دينَنا ، وسفَّه أحلامنا وضلّل آباءنا ، فامّا أن تكفّه عنّا ،
وإما أن تخلّي بيننا وبينه ». ولكن « أبا طالب » قال لهم قولا
رفيقاً وردَّهم ردّاً جميلا حكيماً ، فانصرفوا عنه. بيد أنَّ نفوذ الإسلام وانتشاره كان
يتزايد باستمرار ، وكانت جاذبيّة الدّين المحمَّدي ، وبيان القرآن البليغ
يساعدان على ذلك ، فيترك اثره في الناس ، وخاصة في الأشهر الحرم حيث تفد الحجيجُ
على مكة من مختلف أنحاء الجزيرة ، وكان النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
يعرض دينه عليهم ، فكانت أحاديثه الجذّابة ، وكلماتُه البليغة ، ودينُه المحبَّب
تؤثر في قلوب كثير منهم ، فيميلون إلى الإسلام ويقبلون دعوة الرسول. وهنا أدرك طغاة مكة وفراعنتها أن «
محمَّداً » قد بدأ يفتح له مكاناً في قلوب جميع القبائل ، واصبح له انصارٌ
واتباعٌ في كثير منها ، ممّا دفعهم مرّة اُخرى إلى الحضور عند « أبي طالب »
حاميه الوحيد ، وتذكيره بالإشارة والتصريح بالاخطار المحدقة باستقلال المكّيين
وعقائدهم نتيجة نفوذ الإسلام وانتشاره فقالوا له أجمع : يا أبا طالب ، إن لك سنّاً ، وشَرفاً
، ومنزلة فينا ، وإنّا قد استنهيناك مِن ابن اخيك فلم تنهَه عنّا ، وإنا واللّه
لا نصبر على هذا من شتم آبائنا ، وتسفيه أحلامنا وعيب آلهتنا ، حتّى تكفه عنّا ،
أو ننازله وإيّاك في ذلك حتّى يهلك أحد الفريقين. فأدرك حامي الرَّسول الوحيد ـ بذكائه
وفطنته ـ أنّ عليه أن يصبرَ أمام جماعة ترى وجودها ، ومصالحها في خطر ، من هنا
عَمد إلى مسالمتهم وملاطفتهم ، ووعدَ بأن يبلغ ابن اخيه « محمَّد » كلامهم. وقد
كان هذا محاولة من « أبي طالب » لتسكين غضب تلك الجماعة الغاضبة وإطفاء نائرتهم
، وتهدئة خواطرهم ، ليتمَّ معالجة هذه المشكلة ـ بعد ذلك ـ بطريقة أصحّ وأفضل. ولهذا أقبل ـ بعد خروج تلك الجماعة
من عنده ـ على إبن اخيه ، وذكرَ له ما قال له القومُ ، وهو يريد ـ بذلك ضمناً ـ
إختبار إيمان « محمَّد » بهدفه ، فكان الردُّ العظيمُ ، والجوابُ الخالد الّذي
يعتبر من أسطع وألمع السطور في حياة قائد الإسلام الاكبر « محمَّد » رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
، حيث قال لعمّه بعد أن سمع مقالة قريش : « يا عَمّ ، واللّه لو وضعُوا
الشَمْس في يميني ، والقمرَ في يساري ، على أن أترك هذا الأمر حتّى يظهرهُ اللّه
، أو اهلكَ فيه ، ما تركُته ». ثم اغرورَقتْ عيناه الشريفتان بدموع
الشوق والحب للهدف ، وقام وذهب وكان لتلك الكلمات الصادقة النافذة
أثرٌ عجيب في نفس زعيم مكة وسيدها الوقور بحيث نادى ابن اخيه ، وأظهر له
استعداده الكامل للوقوف إلى جانبه ، والحدب عليه رغم كل المخاطر ، والمتاعب
الّتي كانت تكمن له إذ قال : « إذهَبْ يا
ابْن أَخي فَقُلْ ما أحبَبْتَ فَو اللّه لا اُسلمك لِشَيء أبداً ». |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قريش تمشي إلى أبي
طالب للمرّة الثالثة :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد أقلق انتشار الإسلام المتزايد
قريشاً ، ودفعها إلى التفكير في حيلة ، فاجتمع أشرافها وسادتها للتشاور مرّة
اُخرى وقالوا : لعل كفالة أبي طالب لمحمَّد هي الّتي
تدفعه إلى الدفاع عنه وحمايته والوقوف إلى جانبه في دعوته ، فكيف لو مشوا إليه
بأجمل فتيان مكة ، وطلبوا منه أن يأخذه بدل « محمَّد » ويسلّمه اليهم ليروا فيه
رأيهم ، ولهذا مشوا إلى أبي طالب بعمارة بن الوليد بن المغيرة فقالوا له : يا أَبا طالب هذا عمارةُ بن الوليد
أنهَدُ فتى في قريش وأجملُه ، فخذهُ فلك عقلُهُ ونصرُه ، واتخذه ولداً فهو لكَ ،
وأسلِمْ إليْنا ابن أخيكَ هذا ، الّذي فرّق جماعة قومكَ ، وَسفَّه أحلامَهُمْ
فنقتله ، فانما هو رجل برجل!! فأجابهم أبو طالب وهو
مستاء من هذه المساومة الظالمة : « هذا واللّه لبئس ما تسومونني!
أتعطوني إبنكم أغذُوهُ لكم ، واعطيكم ابني تقتلونه ، هذا واللّه ما لا يكون
أبداً ». فقال « المطعم بن عدي
بن نوقل » : واللّه يا أبا طالب لقد أنصفَك قومُك ، فما أراك
تريد أن تقبَل منهم شيئاً. فأجابه أبو طالب قائلا : واللّه ما
أنصفوني ولكنّك قد أجمَعتَ خُذْلاني ، ومظاهرة القوم عليّ فاصنَعْ ما بدا لك (تاريخ الطبري : ج 2 ، ص 67 و 68 ، السيرة النبوية لابن هشام : ج 1 ،
ص 266 و 267.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قريش تحاولُ تطميع
رسول اللّه!
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ولما علمت قريش بأنه لا يمكن ارضاء «
أبي طالب » بخذلان ابن اخيه « محمَّد » ، فهو وإن كان لا يتظاهر بالإسلام ، إلاّ
أنهم يكنُّ لابن أخيه ، وُدّاً عميقاً ، ومحبة كبرى من هنا قرّروا بأنْ يتركوا
مفاضوة ، إلاّ أنهم فكّروا في خطة اخرى وهي أن يُحاولوا إثناء النبيّ عن المضيّ في
دعوته بتطميعه بالمناصب ، والهدايا ، والأموال والفتيات الجميلات ، ولهذا مشوا
إلى بيت « أبي طالب » ودخلوا عليه ومحمَّد جالسٌ إلى جنبه فتكلّم متكلِّمهُمْ
وقال : يا محمَّد انا بعثنا اليك لِنُكلَّمك ، فانا واللّه لا نعلم رجلا من
العرب أدخل على قومك ما ادخلت على قومه لقد شتمت الآباء ، وعيبت الدين ، وسببت
الآلهة ، وسفهت الاحلام ، وفرقت الجماعة ولم يبق امر قبيح الاّ أتيته فيما بيننا
وبينك فان كنت انما جئت بهذا الحديث تطلب به مالا جمعنا لك من أموالنا حتّى تكون
اكثر مالا ، وان كنت انما تطلب الشرف فينا فنحن نسوّدك ونشرّفك علينا ، وان كان
هذا الّذي ياتيك تابعاً من الجن قد غلب عليك بذلنا أموالنا في طبك. فقال ابو طالب لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
أي ابن أخي ما بال قومك يشكونك ، يزعمون انك تشتم آلهتهم وتقول وتقول؟ فتكلم رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم وقال : يا
عم أُريدهم على كلمة واحدة يقولونها تدين لهم بها العرب وتؤدي اليهم بها العجم
الجزية. ففزعوا لكلمته ، ولقوله فقال القوم
كلمة واحدة : نعم وأبيك عشراً. قالوا : فما هي ، فقال أبو طالب :
وأي كلمة هي يا ابن أخي؟ قال : « لا اله الاّ اللّه ». فكان هذا الرد مفاجئة قوية لذلك
الفريق الّذي يأمل في صرف النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
عن
هدفه ، ولهذا قاموا فزعين ينفضون ثيابهم وهم يقولون : « أجعَلَ الآلهة إلهاً
واحداً إن هذا لشيء عجاب » السيرة الحلبية : ج
1 ، ص 303 ، تاريخ الطبري : ج 2 ، ص 65 و 66.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
نماذجٌ من إيذاء قُريش
وتعذيبها للمُسلمين :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
يومَ صدَعَ رسولُ اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
بما اُمر ، وجَهر بدعوته للناس وأيس سادة قريش من قبوله لأيّ اقتراح من
إقتراحاتهم بعد ما سمعوه يقول : « واللّه لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في
يساري على أن أترك هذا الأمر حتّى يُظهِرَه اللّه أو أهلك دونه ما تركُته » بدأ
في الحقيقة واحداً من أشدّ فصول حياته ، واكثرها متاعبَ ومصاعبَ ، لأن قريشاً
كانت لا تزال إلى ذلك الوقت تراعي حرمته وتحترمه ، وتسيطر على أعصابها ، ولكنها
عند ما فشلت في خططها لجرّه إلى مساومتها اضطرَّت إلى تغيير نهجها واُسلوبها معه
لتقفَ دون إنتشار دينه مهما كلَّف من الثمن مستفيدة في هذا السبيل من كل الوسائل
الممكنة. من هنا قرّر سادة قريش بالاجماع أن
يتوسَّلوا بسلاح الاستهزاء والسخرية ، والإيذاء والتهديد ، بهدف صرفه عن المضيّ
في دعوته (راجع لمعرفة ابرز من كان يؤذي النبيّ والمسلمين المحبر : ص157 و 161.).
ولا يخفى أن المصلح الّذي يفكر في
هداية العالم البشريّ كله يجب ان يتزود بقدر كبير من الصبر والتحمل ، أمام جميع
المشكلات والمتاعب ، والمكاره والشدائد ليتغلب عليها شيئاً فشيئاً ، كما كان دأب
كل المصلحين الآخرين. ونحن هنا نورد طرفاً من أذى قريش
لرسول اللّه وأتباعه ليتضح مدى صبر النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وثباته ،
واستقامته على طريق الدعوة. ولقد كان رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
يتمتع ـ مضافاً إلى العامل الروحي والمعنويّ الباطني الّذي كان يساعده من الداخل
أعني الإيمان والصبر والإستقامة والثبات ـ بعامل خارجيّ تولّى حراسته وحمايته
وذلك حماية بني هاشم ، وعلى رأسهم أبو طالب له صلىاللهعليهوآلهوسلم لأنه عند ما عرف « ابو طالب » بعزم
قريش القاطع على إيذاء إبن أخيه ( محمَّد ) دعا بني هاشم عامة ، وطلب منهُم
جميعاً حماية النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم والقيام دونه ، فلبَّوا نداء سيّدهم
، وأجابوه إلى ما دعاهم من حماية رسول اللّه وحراسته بعضٌ بدافع الايمان وآخر
بدافع الرَحم ، الاّ « أبو لهب » ورجلان آخران انضموا إلى اعداء النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
ولكن هذا السياج الدفاعيّ لم يقدر ـ مع ذلك ـ على صيانته صلىاللهعليهوآلهوسلم
من بعض الحوادث المرّة ، لأنّ قريشاً ألحقت به الأذى ، وأنزلت به مكروهاً ، كلما
وجدته وَحيداً بعيداً عن أعين حُماته. وإليك فيما يأتي بعض
النماذج من ذلك الأذى : 1 ـ مَرَّ « أبو جهل » برسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
عند الصفا ، فآذاه وشتمه ونال منه ببعض ما يُكره من العيب لدينه ، والتضعيف
لأمره ، فلم يكلّمه رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ومولاة لعبد اللّه بن جدعان في مسكن لها تسمع ذلك ، ثم انصرف عنه ، فعمد إلى ناد
من قريش عند الكعبة ، فجلس معهم ، فلم يلبث « حمزة بن عبد المطلب » رضي اللّه
عنه أن أقبلَ متوشحاً قوسَه راجعاً من قَنص له ، وكان صاحب قنص يرميه ويخرج له ،
وكان إذا رجع من قنصه لم يصل إلى أهله حتّى يطوف بالكعبة ، وكان إذا فعل ذلك لم
يمرّ على ناد من قريش إلاّ وقف وسلَّم وتحدَّث معهم ، وكان أعز فتى في قريش ،
وأشدّ شكيمة. فلما مرّ بالمولاة ، وقد رجع رسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
إلى بيته قالت له : يا أبا عمارة ( وتلك هي كنيته ) لو رأيت ما لقي ابنُ أخيك
محمَّد آنفاً من أبي الحكم بن هشام ( وتعنى أبا جهل ) : وجده هاهنا جالساً فآذاه
وسبَّه ، وبلَغَ منهُ ما يُكرَه ، ثم انصرف عنه ولم يكلمه محمَّد صلىاللهعليهوآلهوسلم.
فغضب « حمزة » لذلك ، فخرج يسعى ولم
يقف على أحد مُعِدّاً لأبي جهل إذا لقيه أن يوقع به. فلمّا دخل المسجد نظر إليه جالساً في
القوم ، فاقبل نحوه ، حتّى إذا قام على رأسه رفع القوس فضربه بها فشجَّهُ شجة
منكرة ، ثم قال : « أتشمته وأنا على دينه أقول ما يقول. فردَّ ذلك عليَّ أن
استطعتَ ». فقامت رجالٌ من بني
مخزوم إلى « حمزة » لينصروا « أباجهل » فقال أبو جهل : دعوا أبا عمارة فاني قد سبَبْتُ ابن
أخيه سبّاً قبيحاً (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 291 و 292 ، تاريخ الطبري : ج 2 ، ص 72.).
وبهذا منع « أبو جهل » الّذي كان ممن يدرك خطورة مثل هذه المواقف من وقوع شجار
وقتال. إنَّ التاريخ الثابت
والمسلَّم يشهد بأنّ وجودَ رجال ذوي بأس وقوة بين
صفوف المسلمين مثل « حمزة » الّذي أصبح في ما بعد من كبار قادة الإسلام ، قد كان
له أثرٌ كبيرٌ في حفظ الإسلام ، والحفاظ على حياة الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ودعم جماعة المسلمين ، وتقوية جناحهم
، فهذا ابن الاثير (الكامل لابن الاثير : ج 2 ، ص 56.)
يقول عن حمزة : لما اسلم حمزة عرفت قريش أن رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم قد عزّ وامتنع فكفوا عما كانوا
يتناولون منه. من هنا أخذت قريش تفكّرُ في إعداد
خطط اُخرى لمواجهة قضية الإسلام والمسلمين ، سنذكرها في المستقبل. هذا ويرى بعضُ المؤرّخين مثل ابن
كثير الشامي (البداية والنهاية : ج 2 ، ص 26 و 32.)
على أن رُدود فعل إسلام « أبي بكر » و « عمر » واثرهما لم تكن بأقلّ من تاثير
إسلام « حمزة » ، وانَّ الدين قويَ جانبه باسلام هذين الرجلين ، وكسَبَ المسلمون
بذلك القوة والحريّة في العمل والتحرك ، والحقيقة انه لا شك في انه لكل فرد
تأثيره في تقوية ودعم الإسلام ، إلاّ أنه لا يمكن ـ القولُ بحال بأن تأثير إسلام
الشيخين كان يعدل تأثير إسلام « حمزة » ، فإن « حمزة » ما انْ سمع بأن قريشاً
أساءت إلى رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
الاّ وتوجه ، من دون أن يُعرّج على أحد ، إلى المسيء وانتقم منه في الحال أشدّ
انتقام ، ولم يجرؤ أحد على الوقوف في وجهه ومنع المسيء منه ، ومن غضبه وانتقامه
، بينما يكتب ابن هشام في سيرته عن « أبي بكر » امراً يكشف عن أن « أبابكر » يوم
دخل في صفوف المسلمين لم يكن قادراً على حماية نفسه ، ولا على الدفاع عن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم.
واليك نصُّ الواقعة : مرَّ رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ذاتَ يوم على جماعة من قريش وهم جلوسٌ عندَ الحجر ، فوثبوا إليه وثبة رجل واحد ،
وأحاطوا به يقولون : أنتَ الّذي تقول : كذا وكذا ، لما كان يقول من عيب
آلهتهم ودينهم فيقول رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
: نعم أنا الّذي اقولُ ذلك ، فأخذ رجلٌ منهم بمجمع ردائه ( وهم يقصدون قتله )
فقام « أبو بكر » دونه وهو يبكي ويقول : أتقتلون رجلا يقول رَبّي اللّه؟
فانصرفوا عنه ( ولم يقتلوه لأمر رأوه ) ، فرجع رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
إلى منزله ، ورجع « أبو بكر » يومئذ وقد صدعوا فرق رأسه (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 289 و 290 ، وقد ذكر الطبري في تاريخه : ج
2 ، ص 72 قصة صدع رأس أبي بكر بالتفصيل فراجع.).
إن هذه الرواية التاريخية إذا دلّت
على مشاعر الخليفة تجاه النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
إلاّ
أنها تدل قبل أي شيء على عجزه وضعفه. إنه يدلُّ على أنه لم يملك ذلك اليوم
لا أية مقدرة بدَنية وروحية ، ولا أية مكانة اجتماعية تُرهَب ، وحيث أنَّ إلحاق
الأذى بشخص رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
كان ينطوي ـ في نظر قريش ذلك على عواقب لا تحمد ـ لذلك تركوا رسولَ اللّه ،
وَوَجَّهُوا ضربتهم إلى رفيقه وصدعوا فرق رأسه. ولو أنك قارنت بين هاتين الحادثتين
وقايست بين موقف « حمزة » الشجاع وموقف الخليفة الأوّل هذا لاستطعت أن تقضي
بسهولة بأنَّ عزة الإسلام وقوة المسلمين ، وتعزيز موقفهم ، وخوف الكفار كان يعود
إلى الإسلام أيّ واحد من ذينك الرجلين؟ هذا وستقرأ في القريب العاجل كيفية
إسلام « عمر ». وسترى بأنَّ إسلامه ـ كاسلام صديقه ـ لم يزد هو الآخر من قدرة
المسلمين الدفاعية ، وأنهم بالتالي لم يعتزوا باسلامه. فيوم أسلم « عمر » كادَ
أن يُقتل لولا « العاص بن وائل السهمي » لأنه هو الّذي خاطب الذين قصدوا قتل «
عمر » قائلا : رَجُلٌ اختار لنفسه أمراً فماذا تريدون منه؟ أترونَ بني عَدِيّ بن
كعب يسلمون لكم صاحبَهم هكذا ، خلوُّا عن الرجل » (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 349.).
إن هذه العبارة الّتي قالها « العاص
» لانقاذ الخليفة الثاني من أيدي الذين اجتمعوا على قتله تفيد ـ بوضوح ـ أن
الخوف من قبيلة « عمر » هو الّذي كان وراء تركهم إياه وعدم قتله ، وقد كان دفاعُ
القبائل عن أبنائها سنة فطرية وعادة متعارفة يومذاك وكان يتساوى فيها الكبير
والصغير ، والشريف والوضيع. أجل إنّ بني هاشم هم كانوا ـ في الواقع ـ الحصن
الحقيقي للمسلمين
، وقد كان القسط الأكبر
من هذا الأمر يتحمله « أبو طالب »
وذووه ، وإلاّ فانَّ الاشخاص الآخرين الذين كانوا ينضمُّون إلى صفوف المسلمين لم
يكن لديهم القدرة على الدفاع عن أنفسهم ، فكيف بالدفاع عن الإسلام وجماعة
المسلمين ليقال بأن المسلمين اعتزوا بهم؟ |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أبوجهل يكمُن لرسول
اللّه :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد أغضب تقدمُ الإسلام المطرد
قريشاً بشدة فلم يمرُّ يوم دون أن يبلغهم نبأ عن انضمام واحد من أفراد قريش إلى
صفوف المسلمين ولأجل هذا راح مرجل الغضب والحنق على النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
يغلي في نفوسهم ، فهذا فرعون مكة « أبو جهل ... لقريش في مجلس من مجالسهم : يا
معشر قريش إن محمَّداً قد أبى إلاّ ما ترون من عيب ديننا ، وشتم آبائنا ، وتسفيه
أحلامنا ، وشتم آهلتنا ، واني اُعاهِدُ اللّه لأَجلسنَّ له غداً بحجر ما اُطيق
حمله فإذا سجد في صلاته فضختُ به رأسه. فلما كان من غد أخذ « أبو جهل »
حجراً كما وصَف ثم جلس لرسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ينتظره ، وغدا رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
على عادته ووقف للصلاة بين الركن اليمانيّ والحجر الأسود ، وغدت تلك الجماعة من
قريش فجلست في انديتها تنتظر ما ابو جهل فاعلٌ ، فلما سجد رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
أحتمل « أبو جهل » الحجر ، ثم اقبل نحوه ، حتّى إذا دنا منه رجع منهزماً منتقعاً
لونه ، مَرعوباً وقذف الحجَر من يده ، فقامت إليه رجالٌ من قريش وقالوا له :
مالك يا أبا الحكم؟ فقال بصوت ضعيف يطفح بالخوف والرعب : قمت إليه لأفعل به ما قلتُ لكم البارحة فلما
دنوتُ منه عرضَ لي دونهُ ما لا رأيتُ مثلَه حياتي ، فتركتُه!! (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 298 و 299.).
إنه ليس من شك في أنَّ قوة غيبيّة
أدركتْ رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
بأمر اللّه تعالى في تلك اللحظة ، وصوّرت ذلك المنظر الرهيب وحفظت رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
كما وعده تعالى وعداً لا خلف فيه إذ قال : « إنّا
كَفيْناكَ المُسْتَهْزئيْن » (الحجر : 95.).
وهناك نماذج كثيرةٌ من أذى قريش لشخص
رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم سجَّلها
التاريخ في صفحاته ، وقد عقد « ابن الأثير » (الكامل في التاريخ : ج 2 ، ص 47 كما وعقد المجلسي رحمهالله
في البحار : ج 18 باباً خاصاً بعنوان : « باب المبعث واظهار الدعوة وما لقي صلىاللهعليهوآلهوسلم
من القوم » راجع من صفحة 148 إلى صفحة 243.)
فصلا خاصّاً لهذا الموضوع ذكر فيه أسماء أعداء رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
الألدّاء ، في مكّة ، وبيّن أنواع ما كانوا يؤذُون به النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
وما قد مرّ ذكره في الصفحات السابقة ما هو إلاّ أمثلة على ذلك ، فقد كان صلىاللهعليهوآلهوسلم
يواجه في كل يوم نوعاً خاصاً من الأذى ، والمضايقة. فقد رُوي أنَّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم كان يطوف ذات يوم فشتمه « عقبة بن
أبي معيط » وألقى عمامَته في عنقه ، وجرّه من المسجد ، فأخذوه من يده ، خوفاً
مِن بني هاشم (السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 293 نظيره.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أبو لهب يؤذي رسول
اللّه :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ولقد تعرّض رسولُ اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
لأذى لا مثيل له من جانب عمه « أبي لهب » وزوجته « اُم جميل » وقد كان رسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
يجاورهم ، فلم يألوا جهداً في إزعاجه وإيذائه فكم من مرّة ومرة ألقيا الرماد
والتراب على رأسه الشريف وثيابه. وكم من مرّة نشرت أم جميل الشوك على طريقه ، أو
جمعته باب بيته لتؤذيه عند الخروج. ولا شك ان معارضَة انسباء النبي
واقربائه لدعوته المباركة ، وايذاؤهم اياه كان اكثر ايلاماً لنفسه الشريفة ،
واشد وقعاً عليها ، حتّى اننا نجد القرآن يخص أبا لهب باللعن ويسميه بصورة خاصة
مما يكشف عن هذه الحقيقة إذ يقول :
« تَبّتْ يَدا أبي لَهَب وَتَبَّ. مَا أغنى عَنهُ مَا لُهُ وَما كَسَبِ.
سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبِ. وَامْرأَتُهُ حَمَّالَةَ الحَطَبِ. في جِيْدها
حَبْلٌ مِنْ مَسَد » (ـ المسد : 1 ـ 5.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
صبر النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
واستقامته :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ولكن رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
كان يواجه كل ذلك الأذى وماشابهه من التحججات الّتي سنشير اليها بصبر عظيم ،
وثبات تتعجب منه الجبال الشماء ، وذلك اولا إيماناً منه برسالته. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إيذاء المسلمين
وتعذيبُهم!
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
يرجع تقدمُ الإسلام في مطلع عهد
الرسالة إلى عوامل منها : ثبات رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
نفسه ، وثباتُ اَتباعه وأنصاره. ولقد تعرّفنا ـ في ما سبق ـ على
أمثلة ونماذج من ثبات قائد الإسلام الاكبر وصبره ، واستقامته في ما لقي من أذىً
ومضايقة. على أن ثبات أنصاره واتباعه الذين
آمنوا في مكّة ( مركز الحكومة الوثنية آنذاك ) هو الآخر ممّا يدعو إلى الإعجاب
ويستحق الاحترام. وسنذكر صمودَهم وثباتهم في حوادث ما بعد الهجرة في محله. وأمّا هنا فنسلّطُ الضوء على حياة
عدد من أتباع رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
القدامى الذين تحملوا أشد أنواع العذاب وكانوا يعيشون في المحيط المكي حيث لم
يكن ملجأ لهم يلجؤن إليه وهاجروا منه لأغراض الدعوة والتبليغ بعد أن تحملوا
شيئاً كثيراً من الإيذاء والتِعذيب على أيدي المشركين والوثنين القساة. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
1 ـ بلال الحبشي :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
كان أبواهُ ممّن اُسروا في الجاهلية
وجيء بهم من الحبشة إلى جزيرة العرب ثم إلى مكة. وأما بلال الّذي اصبح في ما بعد مؤذن
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
فقد كان غلاماً ل « اُميّة بن خلف » الّذي كان من أشدّ أعداء النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وحيث أنّ عشيرة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
تولَّتِ الدِفاع عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وحمايته ولم يمكن لاُميّة إلحاق الأذى برسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
عمد إلى تعذيب غلامه بلال الّذي أسلم ، أمام الناس ، بأشد أنواع الأذى والتعذيب
إنتقاماً ، وتشفياً. فقد كان يطرح بلالا عارياً على
الأحجار والصخور الملتهبة في الهاجرة ، ويضع صخرة على صدره ثم يقول له : لا تزال
هكذا حتّى تموت أو تكفر بمحمَّد ، وتعبد الّلات والعزّى ، فيقول وَهو في ذلك
البلاء والمحنة الشديدة : أَحَدٌ أَحَدٌ (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 317 و 318.).
ولقد أثار ثباتُ هذا الغلام الأسود
وجلدُهُ وصبرُه على أذى سيّده ، إعجابَ الآخرين ، حتّى أن « ورقة بن نوفل » مرّ
عليه وهو يعذّب بذلك وهو يقول : أحَدْ أَحَدْ ، اقبل على « اُميّة » ومن يصنع به
ذلك من « بني جمح » فيقول : احلف بالله لئن قتلتموه على هذا لأتخذنّه حناناً (
أي لأجعلنَّ قبره متبركاً ومزاراً ) (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 318.).
وربما زاد « اُميّة » من تعذيبه
لبلال فربط حبلا بعنقه وترك الصبيان يديرون به في الازقة والسكك (الطبقات الكبرى لابن سعد : ج 3 ، ص 233.).
وقد اُسِر « اُميّة »
وابنه في معركة « بدر » وكانا أولَ من اُسِرا من المشركين ،
ولم يوافق بعضُ المسلمين على قتلهما ولكن بلالا قال : « رأسُ الكفر اُميّة بن خلف
لا نجوتُ إنْ نجا ». وأدّى اُصرارُ بلال على قتلهما إلى قتل اُميّة وابنه جزاء
أعمالهما الظالمة. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
2 ـ آلُ ياسر رمز
الصمود والمقاومة!
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
كان « عَمار » ووالداه من السابقين
إلى الإسلام فهم أسلموا يوم كان رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
يلتقي باصحابه ويدعو إلى الإسلام في بيت « الارقم بن أبي الارقم » ، وعند ما عرف
المشركون بانضمامهم إلى صفوف المسلمين عمدوا إلى إيذائهم وتعذيبهم ولم يألوا
جهداً في ذلك أبداً. فقد كان المشركون يخرجون « عماراً »
واباه « ياسر » واُمَّه « سميّة » في وقت الظهيرة إلى رمضاء مكة ليقضوا ساعات
طويلة تحت أشعة الشمس الحارقة ، وفوق الرّمال الملتهبة والصخور المتّقدة كأنها
الجمرات. وقد تكرّر هذا العذابُ مرّات عديدة
حتّى أودى بحياة « ياسر » فقضى نحبَه على تلك الحال. وقد خاشنت زوجتُه « سُميّة » أبا
جَهل وكلمته في زوجها بغليظ القول ، فطعنها اللعين برمح في قلبها فقضت ـ هي
الاُخرى ـ نحبَها ، وكانا أولَ شهيدين في الإسلام (بحار الأنوار : ج 18 ، ص 241 والسيرة الحلبية : ج 1 ، ص 300 ، السيرة
الدحلانية بهامش السيرة.).
وقد آلم رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ما شاهده من حالهما وهما يعذّبان بأشد أنواع العذاب فقال لهُما ولولدهما « عمّار
» وهو يصبّرهم ، والدموع تنحدر على خدّيه : « صَبراً آلَ ياسِر فانّ موعدكم
الجنة » (السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 300 ، السيرة الدحلانية بهامش السيرة
الحلبية : ج 1 ، ص 238 و 239.).
وبعد أن قضى والدا « عمّار » نحبَهما
تحت التعذيب بالغ المشركون القساة في تعذيب « عَمّار » وإيذائه والتنكيل به ،
وأخذوا يعذّبونه على نحو ما كانوا يعذّبون به بلالا ، وهم يقصدون قتله ، وإلحاقه
بأبويه!! أو يتبرأ من دين النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
فاضطر إلى أن يعطيهم ما يريدون ويظهر الرجوع عن الإسلام ، إبقاء على نفسه ،
وتقيّة منهم فتركوه ، وانصرفوا عن قتله ، ولكنه سرعان ما ندم على فعله من
التظاهر بترك الإسلام وتألّم من ذلك فجاء إلى رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وهو يبكي ، فقال له النبيّ : كيف تجد قلبك؟ قال : مطمئن بالايمان قال : ان عادوا
فعد ، فنزلت الآية التالية في ايمان عمّار : « إنّما يَفتَري الكَذِب الذينَ لا يُؤمنُونَ
بِآياتِ اللّه وَاُوْلئكَ هُم الْكاذِبُونَ مَنْ كَفَرَ بِاللّه منْ بَعْدِ
إيمانِه إلاّ مَنْ اُكرهَ وَقَلبهُ مُطْمئنٌ بِالإيمان
» (ـ النحل : 105 و 106.)
(الدّر المنثور : ج 4 ، ص 132 عند تفسير الآيتين المذكورتين.).
هذا وروي أنّ أباجهل حينما قصد تعذيب
« آل ياسر » وكانوا أضعف من بمكة أمر بسوط ونار ثم سحبوا عماراً وأبويه على
الأرض ، فكان يكوي بطرف السيف والخنجر المحمى بالنار المشتعلة ابدانهم ، ويضربهم
بالسوط ضرباً شديداً. وقد تكرّر هذا العمل القاسي كثيراً
حتّى استشهد « ياسر » وزوجته « سُميّة » على أثر ذلك التعذيب المرير ، ولكن دون
أن يفتئا حتّى النفس الأخير عن مدح رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
والاشادة بدينه. ولقد أثار هذا المنظر المؤلم مشاعر
فتيان من قريش فأقدموا ـ رغم عدائهم للإسلام ومشاركتهم لغيرهم من المشركين في
بغض الرسول ـ على تخليص « عمار » الجريح المنهك عذاباً من براثن « أبي جهل »
ليتمكن من مواراة أبويه الشهيدين. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
3 ـ عَبدُاللّه بن
مسعود :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
تشاور المسلمون في ما بينهم في
مقرّهم السرّي في من يجهر بالقرآن على مسامع قريش ، في المسجد الحرام لأنها لم
تسمع منه شيئاً إذ قالوا : واللّه ما سَمِعَتْ قريشٌ هذا القرآن يجهر لها قط
فمَنْ رَجُلٌ يُسمِعُهُموه؟ فأبدى « ابن مسعود »
استعدادَه للقيام بهذه العملية الجريئة ، وتلاوة القرآن على مسامع قريش في
المسجد الحرام بصوت عال. فقالُوا : إنّا نخشاهم عليك ، إنّما
نريد رجلا له عشيرة يمنعونه من القوم إن أرادوه. قال : دَعوني فانَ اللّه سيمنعني. ثم غدا « ابن مسعود » حتّى أتى
المقامَ في وقت الضحى وقريش في انديتها حتّى قام عند المقام ثم قرأ : « بِسم
اللّه الرّحمن الرّحيم » رافعاً بها صوته ، « الرّحمان علّم القرآن » وهكذا
استمر يقرأ بقية آيات تلك السورة المباركة. فارعبت عبارات القرآن الفصيحة القوية
قلوب سراة قريش ، ولكي يمنعوا من تأثير هذا النداء الالهيّ العظيم قاموا إليه
جميعاً وجعَلوا يضربونه في وجهه ، وجعل هو يقرأ حتّى بلَغَ منها ماشاء اللّه أن
يبلغ ثم عادَ إلى اصحابه وقد اُدْمِيَ وجهُه وجسمه ، وهو مسرورٌ لإسْماع قريش
كتاب اللّه تعالى وآياته المباركة (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 314.).
إنَّ الَّذين صَمَدوا في أشد الأيام
وأصعبها في مطلع عهد البعثة منَ المسلمين الأوائل لا شك اكثر ممّن ذكرنا اسماءهم
إلاّ أننا اكتفينا بهذا القدر رعاية للاختصار. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
4 ـ أبوذر : أوّل
المجاهرين بالإسلام
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
كان « أبوذر » رابع أو خامس من أسلم (اُسد الغابة : ج 1 ، ص 301 ، الإصابة : ج 4 ، ص 64 ، الإستيعاب : ج 4
، ص 62. )
، وعلى هذا فهو من الذين أسلموا في الأيّام الاُولى من بزوغ شمس الإسلام وطلوع
فجره ، فإذَنْ هو من السابقين إلى الإسلام. وقد صرح القرآنُ
الكريمُ بأنّ للذين سبقوا إلى الإيمان برسول اللّه في
بدء بعثته وبالتالي فإنَ للسابقين عند اللّه تعالى مكانة عظيمة ، ومقاماً لا يضاهى إذ قال
تعالى : « السابِقُونَ
السابِقُونَ. اُوْلئكَ الْمُقَرَّبُونَ » (الواقعة : 10 ـ 11.).
وقال تعالى فيهم أيضاً. « والسّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الُمهاجِريْنَ
وَالأَنْصار وَالَّذينَ اتَّبَعُوهُمْ بإحْسان رَضيَ اللّه عَنْهُمْ وَرَضُوا
عَنْهُ وَأَعَدَّلَهُمْ جَنّات تَجْري تَحْتهَا الأَنْهار خالِديْنَ فِيْها
أبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظيمُ » (التوبة : 100.).
وقال تعالى كذلك في من آمن قبل فتح
مكة وفضلهِم ، ومكانتهم المعنوية المتفوقة على مَن أسلم بعدَ إعتزاز الإسلام ،
واشتداد أمره ، وقيام دَوْلته يعني أنّهم ليسوا سواء. « لا يَسْتوي مِنْكُمْ مِنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ
الْفَتْحِ وَقاتَلَ اُوْلئكَ أَعْظمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذيْنَ أَنْفَقُوا مِنْ
بَعْدُ وَقاتلُوا ... » (الحديد : 10.).
أجل هذه هي مكانة السابقين في
الاسلام وكان « ابوذر » منهم. هذا مضافاً إلى أنَّه يُعَدُّ أول من
نادى بالإسلام على رؤوس الأشهاد وفي الملأ من قريش. فيومَ اسلم « أبوذر » كان
رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم يدعو الناس إلى الإسلام سرّاً ، ولم
تهيّأ بعدُ ظروفُ الجَهْر بالدعوة إلى هذا الدّين ، فانَّ أتباع الإسلام
والمؤمنين به لم يتجاوز عددُهم في ذلك اليوم عددّ الأصابع هم : النبيُّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
وخمسة ممن آمنُوا به ، وقبلوا دعوته ، ومع ملاحظة هذه الإعتبارات والظروف لم يكن
بدّ حسب الظاهر ـ من أن يُخفي « أبوذر » إسلامَه ، ويعودَ إلى قبيلته من دون أن
يعرف به أحدٌ في مكة. ولكنَّ روحَ « أبي ذر » الطافحة
بالإيمان والحماس أبت ذلك ، وكأنه قد خُلِقَ لينهض في كل زمان ومكان ضدّ الظلم
والطغيان ، ويرفع عقيدته في وجه الباطل وأهله ، ويكافح الانحراف والاعوجاج أيّاً
كان مصدرُه ، وصاحبه. وأيُّ باطل اكبر من أن يُطأطِئ الناسُ أمامَ أصنام مصنوعة
من الحجر ، ويخضعوا أمام أوثان منحوتة من الخشب لا تضرُّ ولا تنفع ، ولا تعطي
ولا تمنع ، ويسجدوا لها ويتخذوها آلهة دون اللّه الخالق الكبير المتعال؟؟ إنّه ليس في وسع « أبي ذر » أن
يتحمَّل هذا المشهد البغيض المقرف!! من هنا قال لرسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
بعد أن مكث في مكة قليلا وقرأ شيئاً من القرآن : يا نبيّ اللّه ما تأمرني؟ قال : ترجعُ إلى قومك حتّى يبلُغك
أمري. فقال له : والّذي نفسي بيده لا أرجع
حتّى أصرخ بالإسلام في المسجد. قال : اني اخاف عليك أن تقتل. قال : لابد منه وإن قُتِلتُ. ثم دخل المسجد فنادى بأعلى صوته :
أشهد أن لا اله إلاّ اللّه ، وأنَّ محمَّداً عبدهُ ورسوله (حلية الأولياء : ج 1 ، ص 158 و 159 ، الطبقات الكبرى : ج 4 ، ص 225 ،
الاستيعاب : ج 4 ، ص 63 ، الاصابة : ج 4 ، ص 64 ، الدّرجات الرفيعة : ص 228.).
إن التاريخ الإسلامي يشهد بأن هذا
النداء كان أول نداء تحدّى جبروت قريش وشركها ، وقد اطلقته حنجرة رجل غريب لا
حامي له في مكة ولا نصير ، ولا قوم ولا قريب. وقد وقع ما توقّعه رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
فما أن دوى صوت ابي ذر في المسجد حتّى قام إليه رجال قريش ، وهجموا عليه من كل
جانب وضربوه بشدة حتّى صرع فأتاه العباس بن عبد المطلب فأكبّ عليه في محاولة
لانقاذه من الموت ـ بطريقة لطيفة ـ وقال : قتلتم الرجل يا معشر قريش! انتم تجار
وطريقكم على غفار ، فتريدون ان يقطع الطريق ، فامسكوا عنه. ونجحت محاولة « العباس » الانقاذية ،
وكفّت قريش عن ابي ذر. ولكن أباذر الشاب الشجاع ، والطافح
بالحيوية والحماس عاد اليوم الثاني فصنع مثل ما صنعه في اليوم الاول فضربوه حتّى
صرع ، فأكب عليه العباس ، وقال لهم مثل ما قال في أول مرة فأمسكوا عنه. ولا شك في انه لو لم يكن العباس لما
نجى أبوذر من مخالف المشركين في اغلب الظن ، ولكن أباذر لم يكن بذلك الرجل الّذي
يتراجع عن هدفه بسرعة ، ولهذا بدأ جهاده من جديد. ففي يوم رأى امرأة تطوف بالبيت ،
وتدعو ساف ونائلة ( وهما صنمان لقريش ) وتسألهما ان يقضيا لها حاجاتها ، فانزعج
أبوذر من جهل تلك المرأة ، ولكي يفهمها بانها تدعو صنمين لا يضران ولا ينفعان بل
ولا يشعران قال : أنكحي أحدهما الاُخر. فغضبت المرأة لقول أبي ذر في الصنمين ،
وتعلقت به وقالت : انت صابئ ، فجاء فتية من قريش فضربوه وجاء ناس من بني بكر
فانقذوه منهم (الطبقات الكبرى : ج 4 ، ص 223.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قبيلةُ غِفار تعتنق
الإسلام :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد أدرك رسول الإسلام صلىاللهعليهوآلهوسلم
قابليات تلميذه وناصره الجديد ، وصلابته الخارقة في مكافحة الباطل ، ولكن حيث ان
الوقت لم يكن يحنْ بعد للدخول في مواجهة ساخنة مع المشركين لهذا أمره رسول اللّه
صلىاللهعليهوآلهوسلم
بان
يلحق بقومه ، ويدعوهم إلى الإسلام ، قائلا له : « إلحق بقومك فاذا بلغك ظهوري
فأتني ». فعاد ابوذر إلى قومه ، وأخذ يدعوهم
إلى الإسلام ويكلمهم عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
ويدعوهم إلى نبذ الاصنام وعبادة اللّه الواحد ، والتخلق بالاخلاق الرغيبة. فاسلم أبواه ، أولا ، ثم اسلم نصف
رجال قبيلته « غفار » ثم اختار البقية الإسلام بعد هجرة النبي إلى المدينة ، ثم
تبعتها قبيلة « أسلم » حيث وفدوا على رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
واعتنقوا الإسلام. ثم التحق ابوذر بعد معركة بدر واُحد
برسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
في المدينة وأقام فيها (الطبقات الكبرى : ج 4 ، ص 221 و 222 و 226 ، الدرجات الرفيعة : ص 225
و 226 وص 229 و 230.).
وربما كان إيذاء المشركين للمسلمين
المؤمنين برسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
يتخذ طابع التهديد والترهيب وممارسة الضغط النفسي والاقتصادي والاجتماعي. فقد كان ابو جهل إذا سمع بالرجل قد
اسلم له شرف ومنعة أنّبه وأخزاه ، وقال له : تركتَ دين أبيك وهو خير منك ،
لنُسَفِّهَنَّ حلمَك ، ولنفيلنَّ رأيك ، ولنضعنَّ شرفك. وإن كان تاجراً قال له : لنكسدنّ
تجارتك ، ولنهلكنّ مالك. وإن كان ضعيفاً ضربَهُ ، وأغرى به (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 320.).
وروي أيضاً أن « خبّاب
بن الارت » صاحب رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
كان
قيناً بمكة يعمل السيوف وكان قد باع من « العاص بن وائل » سيوفاً صنعها له حتّى
كان له عليه مال ، فجاءه يتقاضاه ، فقال يا خَبّاب : أليس يزعم « محمَّد »
صاحبكم هذا الّذي أنت على دينه أن في الجنة ما ابتغى أهلُها من ذهب وفضة أوثياب
أوخدم ، قال خبّاب : بلى ، قال : فأنظِرني إلى يوم القيامة يا خبّاب حتّى أرجعَ
إلى تلك الدار ، فأقضيك هنالك حقَك فواللّه لا تكونُ وصاحبك يا خبّاب اشرَّ عند
اللّه مني!! (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 357.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أعداء النبي
الألدّاء :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إن للتعرف على أعداء رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وخصومه الالدّاء ، ومواقفهم دوراً هاماً في تحليل جملة من حوادث التاريخ
الإسلامي الّتي وقعت بعد الهجرة النبوية. ونحن نكتفي هنا بادراج
اسماء طائفة منهم ونذكر شيئاً من خصوصياتهم. 1 ـ « أبو لهب » : عم النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
، وقد كان جاراً له صلىاللهعليهوآلهوسلم
وهو الَّذي لم يفتأ لحظة واحدة عن تكذيب رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وايذاء المسلمين. 2 ـ « الاسود بن عبد يغوث » وكان أحد
المستهزئين وكان إذا وَجَد مسلما فقيراً لا يحميه أحدٌ قال مستهزءاً : هؤلاء
ملوك الأَرض الذين يرثون ملك كسرى!! (السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 318.).
ولم يمهله أجلُه ليرى باُم عينيه كيف
ورث المسلمون أرض كسرى وقيصر ، ووطأوا عرشهما. 3 ـ « الوليد بن المغيرة » شيخ قريش
وحكيمها الّذي كان يملك ثروة هائلة ، وسوف نتحدث عنه وعن موقفه من رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
في الفصل القادم. 4 ـ « اُميّة » و « اُبيّ » ابنا خلف
، وقد مشى « اُبي » هذا بعظم رميم إلى رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ذات يوم ففتّه في يده ثم نفخه نحو النبي وقال : أتزعم أن ربك يُحيي هذا بعد ما
ترى ( أو بعد ما رمّ )؟ فنزل قولُ اللّه تعالى : « قُلْ يُحْيِيْها الَّذي أنشأَها أوَّلَ مرَّة
وَهُوَ بِكُلِّ خَلق عَليم » (بحار الأنوار : ج 18 ، ص 202 ، السيرة النبوية : ج 1 ، ص 361 و 362.).
وقد قتل إبنا خلف هذان في بَدْر. 5 ـ « أبو الحكم بن هشام » الّذي
سماه المسلمون لعناده وتعصُّبه الجاهل ضدّ الإسلام بأبي جهل ، وقد قُتل هو الآخر
في بدر أيضاً. 6 ـ « العاص بن وائل » وهو والد «
عمرو بن العاص » ، وهو الّذي وصف رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
بالأبتر. 7 ـ « عقبة بن أبي معيط » الّذي كان من
ألدّ اعداء النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وأشدّ خصومه
بغضاً له صلىاللهعليهوآلهوسلم
، وكان لا يألو جهداً في مضايقة المسلمين ولا يترك فرصةً تمرّ دون إيذائهم! (الكامل في التاريخ : ج 2 ، ص 47 و 51 ، وراجع أيضاً اُسد الغابة ،
والاصابة والاستيعاب وغيرها.).
هؤلاءهم بعض أعداء رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
المبالغين في معاداته ، وهناك غيرُهم كأبي سفيان ممن ذكر المؤرخون خصوصياتهم
كاملة في مؤلفاتهم ، وقد أعرضنا عن إدراجهم بأجمعهم هنا رعاية للاختصار. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
عمر بن الخطاب
يعتنق الإسلام :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد كان إسلام كل واحد من الذين
أجابوا دعوة الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم
نابعاً من سبب معيَّن. فربَّما أدَّت حادثةٌ صغيرةٌ إلى أن
يعتنق فردٌ أو فريقٌ الإسلام ، وينضمُّوا إلى صفوف المسلمين. وقد اتّسمَ السَبَبُ الّذي آل إلى
إسلام عمر ـ من بين جميع تلكم الاسباب والعلل ـ بطرافة تقتضي التوقف عنده في هذه
الدراسة التاريخية التحليلية. على أن التسلسل التاريخي ، والتنظيم
الوقائعي لاحداث الإسلام وان كان يقتضي منا ان نأتي على ذكر هذه الحادثة بعد
هجرة صحابة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
إلى الحبشة ، إلاّ أن الحديث حيث دار هنا حول صحابة النبي وكيفية اسلامهم
ومواقفهم ناسب أن نشير هنا إلى كيفية إسلام الخليفة الثاني. يقول ابن هشام : كان
اسلام عمر ـ في ما بلغني ـ أن اُخته بنت الخطاب وكانت عند « سعيد بن زيد بن عمرو
بن نفيل » وكانت قد أسلمت وأسلمَ بعلُها « سعيدُ بن زيد » ، وهما مستخفيان
باسلامهما من عمَر ( وهؤلاء هم كلُ من
أسلم من آل الخطاب ) وكان خبّاب بن الأرت يختلف إلى
فاطمة بنت الخطاب يُقرئها القرأن. وكان « عمر » الّذي كانت بينه وبين
المسلمين علاقات جداً سيئة (راجع السيرة النبوية : ج 1 ، ص 342 ـ 346.)
قد أزعجه ما أصابَ المجتمع المكي من تشتُّت وفرقة ، وما لحق بقريش من المتاعب
أثر ظهور الإسلام ، من هنا عزم على أن يقضي على علة هذا الأمر باغتيال رسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
والفتك به. فخرج يوماً متوشحاً سيفَه يريد رسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم ورهطاً من أصحابه وقد ذكروا له أنهم
قد اجتمعوا في بيت عند الصفا وهم قريب من أربعين ما بين رجال ونساء ، ومع رسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم عمّه «
حمزة » بن عبد المطلب و « ابوبكر » و « علي بن ابي طالب » في رجال من المسلمين
يحفظونه ويحرسونه. يقول « نعيم بن عبد اللّه » وقد كان
صديقاً حميماً لعمر : لقيت عمراً وهو متوشح سيفاً ويريد مكاناً فقلتُ له : أينَ
تريد يا عمر؟ فقال : اُريد محمَّداً هذا الصابئ
الّذي فرّق في أمر قريش ، وسفّه أحلامها وعابَ دينها ، وسبَّ آلِهتها ، فأقتُله.
فقال له نعيم : واللّه لقد غرّتك
نفسُك من نفسِك يا عمر ، أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلتَ
محمَّداً أفلا ترجع إلى اهل بيتك فتقيم أمرَهم؟ قال : وأيُ أهل بيتي؟ قال : ختنُك وابنُ عمك « سعيد بن زيد
» واختك « فاطمة بنت الخطاب » فقد واللّه أسلما ، وتابعا محمَّداً على دينه
فعليك بهما. فأغضب هذا النبأُ عمر بشدة فانصرف عن
الهدف الّذي كان يرمي إليه وعاد من توّه إلى بيت اُخته ، فدخل على اُخته وختنه
وعندهما « خبّاب بن الأرت » معه صحيفة فيها سورة « طه » يقرئُهما إياها ، فلما
سمعوا حسّ « عمر » تغيّب « خبّاب » في مخدع لهم ، أوفي بعض البيت ، واخفت «
فاطمة بنت الخطاب » الصحيفة ، وكان « عمر » قد سمع حين دنا إلى البيت قراءة « خبّاب
» عليهما ، فلما دخل قال : « ما هذه الهينمة (الهينمة صوت كلام لا يُفهم.)
الّتي سمعت؟ قالا له : ما سمعتَ شيئاً. قال : بلى واللّه ، لقد اُخبرِتُ
أنكما تابعتما محمَّداً على دينه. وبطش بختنه « سعيد بن زيد » فقامت
إليه اختُه « فاطمة بنت الخطاب » لتكفَّه عن زوجها فضربها فشجَّها. فلما فعل ذلك قالت له اخته وختنُه :
نعم قد اسلمنا وآمنّا باللّه ورسوله ، فاصنعْ ما بدا لك. فلما رأى « عمر » ما باُخته من
الدَّم نَدمَ على ما صنع ، فارعوى ورجع ، وقال لاُخته : اعطيني هذه الصحيفة
الّتي سمعتكم تقرأون آنفاً أنظرُ ما هذا الّذي جاء به محمَّد؟ فلما قال ذلك قالت له
اُخته : إنّا نخشاك عليها. قال : لا تخافي وحلف لها
بآلهته ليَرُدّنها إذا قرأها ، اليها. فلما قال ذلك طمعتِ في اسلامه ،
فقالت : يا اُخيّ ، إنك نجسٌ على شِركك وانّه لا يمسُّها إلاّ الطاهر ، فقامَ «
عمر » فاغتسل ، فأعطته الصحيفة وفيها آياتٌ من سورة « طه » هي : طه.
ما أنْزَلْنا عَليْكَ القُرْآنَ
لِتَشْقى. إلاّ تَذكَرَةً لِمَنْ يَخْشى. تَنْزيلا مِمَّن خَلقَ الأرْضَ
وَالسَماواتِ العُلى * الرَّحمن عَلى العرش اْستوى. لَهُ ما في السَماواتِ وَما
في الأرْض وَما بَيْنهما وَما تَحْتَ الثرى. وإنْ تَجهَر بالقَول فانَّه يَعلَمُ
السِرَّ واخفى (طه : 1 ـ 8.).
ولقد تركت هذه الآياتُ المحكمة
الفصيحة البليغة تأثيراً شديداً في نفس عمر فقال : ما احسن هذا الكلام؟ وقرر الرجلُ ، الّذي كان قبل ثوان
عدوَّ الإسلام الأول ، أن يغيّر موقفه ، فتوجه من توّه إلى البيت الّذي ذكر له
أنَّ فيه رسول صلىاللهعليهوآلهوسلم
وجماعة من أصحابه وهو متوشح سيفَه ، فضربَ عليهم الباب ، فلمّا سَمِعُوا صوته
قام رجلٌ مِن أصحاب رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
فنظر من خلل الباب فرآه متوشحاً السيفَ فرجَع إلى رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وهو فزع وأخبرَ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
بما رأى ، فقال حمزة : فائذن له ، فان جاء يريد خيراً بذلناه له ، وإن كان يريد
شراً قتلناه بسيفه. فقال رسولُ اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم : إئذن له ، فأذِنَ له الرجل ، ونهض
إليه رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
حتّى
لقيه في الحجرة ، فأخذ حجزته ( وهو موضع شد الإزار ) أو بمجمع ردائه ثم جَبذَهُ
جبذَةً شديدةَ ، وقال : ما جاء بك يابن الخطاب فواللّه ما أرى تنتهي حتّى ينزل
اللّه بك قارعة؟! فقال عمر : يا رسول اللّه جئتك لاؤمن
باللّه وبرسوله وبما جاء من عند اللّه. وهكذا اسلم « عمر » عند رسول اللّه
وأصحابه وانضوى إلى صفوف المسلمين. ثم ان ابن هشام روى رواية اُخرى في
كيفية اسلام عمر من أراد الوقوف عليها راجعها في السيرة النبوية (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 343 ـ 346.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
16
رأي قريش في القرآن
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ان البحث حول حقيقة الاعجاز القرآني
أمرٌ خارج عن اطار هدفنا في هذا الكتاب فذلك متروكٌ إلى الكتب الإعتقادية
والكلامية. ولكن الأبحاثَ التاريخيَّة تهدينا
إلى أن القرآن الكريم كان من أكبر وأقوى اسلحة الرسول الاكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم
بحيث خضع أمام فصاحته البالغة وحلاوة كلماته وقوة آياته ، وعباراته ، اساتذة
الفصاحة والبلاغة واُمراء البيان والكلام ، وعمالقة الكتابة والخطابة ، واعترفوا
برمَّتهم ، وقضّهم وقضيضهم بأَنَّ القرآن الّذي جاء به محمَّد يحتل أعلى مكان في
الفصاحة والبلاغة ، وأنَّ مثل هذا الحديث لم يعرفه البشر ولم يعهد له التاريخ
الانساني نظيراً. فلقد كانت جاذبيّة « القرآن الكريم »
وتأثير حديثه بحيث ترتعد عند استماع آياته فرائص أعدى اعدائه ، وربما انهارت
قواه ، فبقي مدة طويلة ، لا يقوى على حِراك ، ولا يملك فعل شيء. وفيما يلي نذكر بعض
النماذج في هذا المجال : |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
حُكمُ الوَليد في
القرآن :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
كان « الوليدُ بن المغيرة » ممن
يرجُع إليه العربُ لحل الكثير من مشاكلها ، وكان ذاسنٍّ ، وثروة كبيرة فيهم. وعندما واجهت قريش مشكلة ظهور
الإسلام وانتشاره في القبائل مشى فريقٌ منهم إلى الوليد يلتمسون منه حلا لهذا
الأمر الّذي بات يهدّد كيان الزعامة المكيّة الجاهلية ، وطلبوا منه أن يبيّن
رأيه في القرآن الكريم وقالوا : هل هو سِحر امْ كهانة امْ حديث قد حاكَهُ بنفسه.
فاستنظرهم « الوليد » ليعطي رأيه فيه
بعد أن يسمع شيئاً من القرآن ، فأتى إلى الحجر حيث كان يجلس النبيُّ ، ويتلو
القرآن ، فقال : يا محمَّد أنشدْني شعرك. فقال النبيُّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
: ما هو بشعر ، ولكنّه كلام اللّه الّذي به بعث انبياءه ورسله. فقال : اُتلُ عليّ منه ، فقرأ عليه
رسول اللّه : « بسم اللّه الرحمن الرحيم ». فلما سمع : الرحمان ، استهزأ فقال :
تدعو إلى رجل باليمامة يسمى بالرحمان؟ قال. لا ، ولكني أدعو إلى اللّه وهو
الرحمان الرحيم ثم افتتح سورة « حم السجدة » فلما بلغ إلى قوله تعالى : « فان أعرَضوا فَقلْ أنذَرتُكُمْ صاعقة مثل صاعقة
عاد وثمود ». وسمعه الوليد ، فاقشعر جلده ، وقامت
كل شعرة في راسه ولحيته ، ثم قام ومضى إلى بيته ولم يرجع إلى قريش. فقالت قريش : يا ابا الحكم صبا ابو
عبد شمس إلى دين محمَّد ، أما تراه لم يرجع الينا وقد قبل قوله ، ومضى إلى
منزله. فاغتمت قريش من ذلك غماً شديداً وغدا
عليه ابو جهل فقال : يا عم نكّست رؤوسنا وفضحتنا. قال : وما ذاك يا ابن أخي؟ قال : صبوت إلى دين محمَّد. قال : ما صبوتُ واني على دين قومي
وآبائي ، ولكني سمعت كلاماً صعباً تقشعر منه الجلود فقال أبو جهل :
أشِعر هو؟ قال : ما هو بشعر. قال : فخطبٌ هي؟ قال : لا وان الخطب كلام متصل ، وهذا
كلام منثور ، لا يشبه بعضُه بعضاً ، له طلاوة. قال : فكأنه هي؟ قال : لا. قال : فما هو؟ قال : دعني افكر فيه. فلما كان من الغد ، قالوا : يا ابا
عبد شمس ما تقول؟ قال : قولوا : هو سحر فانه أخذ بقلوب الناس فأنزل اللّه سبحانه
فيه : « ذَرْني وَمَنْ خَلقْتُ وَحيداً * وَجَعلْت لَهُ مَالا مَمْدُوداً *
وَبَنينَ شُهُوداً » إلى قوله : « عَليْها تِسْعَة عَشر » (المدثر : 11 ـ 30.)
(بحار الأنوار : ج 17 ، ص 211 و 212 ، إعلام الورى بأعلام الورى : ص
41 و 42.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
نموذَجٌ آخرٌ :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
كان « عتبة بن ربيعة » من كبراء قريش
واشرافها ، ويوم أسلم « حمزة » وأصبح أصحاب رسول اللّه يزيدون ويكثرون اغتمّت
قريش كلّها ، وخشي زعماء المشركين ان ينتشر الإسلام اكثر من هذا فقال عتبة وهو
جالس في نادي قريش يوماً ، ورسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
جالس في المسجد وحده : يا معشر قريش ألا أقوم إلى « محمَّد » فاكلّمه وأعرض عليه
اُموراً لعلّه يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء ويكف عنا؟ فقالوا : بلى يا أبا
الوليد قم إليه فكلّمه. فقام إليه « عتبة » حتّى جلس إلى
رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
، فقال : يابن أخي إنك منّا حيث ما قد علمت من الشرف في العشيرة والمكان في
النسب ، وانك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرّقت به جماعتهم وسفّهت به أحلامَهم ،
وعبت به آلهتهم ، ودينهم ، وكفّرت به من مضى من آبائهم ، فاسمع مني اُعرض عليك
اُموراً تنظر فيها لعلّك تقبل منها بعضَها ، فقال رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
قل يا أبا الوليد اسمع. قال : يا ابن أخي إن كنتَ إنما تريد
بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتّى تكون اكثرنا مالا ، وان
كنت تريد به شرفاً سَوَّدناك علينا حتّى لانقطع أمراً دونك ، وإن كنتَ تريدُ به
مُلكا ملّكناك علينا ، وإن كان هذا الّذي يأتيك رئيّاً ( وهو ما يتراءى للناس من
الجنّ ) تراه لا تستطيع ردَّهُ عن نفسك طلبنا لك الطبَّ ، وبذَلنا فيه أموالنا
حتّى نُبرئك منه فإنه ربّما غلب التابع على الرجل حتّى يداوي منه ، حتّى إذا فرغ
« عتبة » ، ورسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
يستمع منه قال : أقد فرغتَ يا أبا الوليد؟ قال : نعم قال : فاسمع منّي ؛ قال :
إفعل ، قال : « بِسم اللّه
الرحمن الرَّحيم. حم * تَنْزيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ. كِتابٌ فُصِّلَتْ
آياتُهُ قُرآناً عَربيّاً لِقَوْم يَعْلَمُونَ. بَشيراً وَنَذيراً فَأَعْرضَ
اكثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ. وَقالُوا قُلُوبُنا في أكنّة مِمّا تَدْعُونا
إليْهِ » (فصلت : 1 ـ 5.).
ثم مضى رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
فيها يقرؤها عليه ، فلمّا سمعها منه « عتبة » أنصتَّ لها وألقى يديه خلفَ ظهره
معتمداً عليهما يسمع منه وبقي على هذه مدة من الزمن صامتاً وكأنه قد سُلِبَ قدرة
النطق ، ثم انتهى رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى السجدة فسجد ثم قال :
« قد سمعتَ يا أبا الوليد ما سمعتَ
فأنتَ وذاك ». فقام « عتبة » إلى أصحابه وقد
تغيَّرت ملامحُه فقال بعضهم لبعض : نحلف باللّه لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه
الّذي ذهبَ به!! فلما جَلس إليهم قالوا : ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال : ورائي اني قد سمعت قولا واللّه
ما سمعت مثله قط ، واللّه ما هو بالشعر ، ولا بالسحر ، ولا بالكهانة ، يا معشر
قريش ، أطيعوني واجعلوها بي ، وخلّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه ،
فواللّه ليكوننَّ لقوله هذا الّذي سمعتُ منه نبأ عظيم ، فان تصِبهُ العربُ فقد
كفيتموه بغيركم ، وان يظهر على العرب فمُلكه ملكُكُم ، وعزُه عزّكم ، وكنتم أسعد
الناس به. فانزعجت قريشٌ من مقالة « عتبة » هذا
وسخرت به وقالت : سحرَكَ واللّه يا ابا الوليد بلسانه!! قال : هذا رأيي ، فاصنَعوا ما بدا
لكم (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 293 و 294.).
هذان نموذجان من رأي كبار فصحاء
العرب في العهد الجاهليّ ، في القرآن الكريم. على أن هناك أمثلة ونماذج اُخرى
كثيرة في هذا المجال. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
تحججاتُ قريش
العجيبة :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
اجتمع « عتبة بن ربيعة » ، و « شيبة
بن ربيعة » و « أبو سفيان بن حرب » و « النضر بن الحارث » ، و « أبو البختري » ،
و « الوليد بن المغيرة » ، و « ابو جهل » و « العاص بن وائل » وغيرهم بعد غروب
الشمس عند ظهر الكعبة ، ثم قال بعضهم لبعض : إبعثوا إلى « محمَّد » فكّلِمُوه ،
وخاصموه حتّى تعذروا فيه ، فبعثوا إليه ؛ فجاءهم رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
سريعاً وهو يظن أن قد بدا لهم فيما كلَّمهم فيه بداء وانهم قد غَيَّروا مواقفهم
، وكان يحبّ رشدهم وهدايتهم حتّى جلس إليهم. فقالوا له : يا محمَّد إنّا قد بعثنا
إليك لنكلّمكَ ، وانّا واللّه ما نعلم رجلا من العرب أدخلَ على قومه مثلَ ما
أدخلتَ على قومك لقد شتمتَ الآباء ، وعبتَ الدّين ، وشتمت الآلهة ... ومضوا
يعددون أُموراً من هذا القبيل ثم اقترحوا عليه اُموراً ذكرها اللّه تعالى
بتمامها في الآية 90 إلى 93 من سورة
الإسراء حيث يقول حاكياً عن لسانهم : « وَقالُوا لن نُؤمن لَك حَتى
1 ـ تفجُرَ لَنا مِنَ الأَرض يَنْبُوعاً.
2 ـ أوْ تكون لك جَنَّةٌ مِن نَخيْل وعنَب فَتُفجّر
الأَنْهارَ خِلالَها تفجيراً. 3 ـ أوْ تُسقطَ السَماء كما زعَمْتَ عَلْينا كِسَفاً.
4 ـ أوْ تأتي باللّه وَالملائكة قبيلا.
5 ـ أو يكُونَ لكَ بَيْتٌ مِن زُخْرُف.
6 ـ أوْ ترقى في السَماء ولن نؤمنَ لِرُقيِّكَ حَتّى
تُنزِّلَ عَليْنا كِتاباً نَقْرؤُهُ »!! * * * وحيث أنَّ مضمون هذه الآيات هو عدم
تلبية النبيّ لِمطالبِ قُريش حيث قال : « قُلْ سُبْحانَ اللّه رَبّي هَلْ كُنْتُ
إلاّ بَشراً رَسُولا » قد تذرع به المستشرقون للايقاع بالرسالة المحمَّدية لذلك
نعمد هنا إلى توضيح مفاد هذه الآيات والعلل المنطقيّة لعدم تلبية النبيّ مطالب
قريش ومقترحاتهم. الجواب
:
إنَّ الأنبياء لا يأتون بالمعاجز في كل ظرف وزمان ، فإن للاعجاز شروطاً خاصة لم
تتوفر في هذه الاقتراحات ، وهذه الشروط هي
: أولاً :
أن لا تكون المعجزة من الاُمور المستحيلة الّتي لا يمكن تحقّقها ، فإنّ مثلَ هذه
الاُمور خارجة عن إطار القدرة ، ولا تتعلق بها مشيئة اللّه تعالى ولا مشيئة أيّ
صاحب إرادة مطلقاً. وعلى هذا الأساس إذا طلب الناسُ من
النبيّ أمراً محالا ، فقوبل طلبهم بعدم الاهتمام من قبل النبيّ لم يكن ذلك دليلا
على إنكار صدور المعجزة على أيدي الأنبياء قط. وهذا الشرط لم يكن متوفراً في بعض
مقترحات المشركين المذكورة ( المقترح الرابع ) فانهم طَلبوا من النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
ان يأتي لهم باللّه سبحانه وتعالى ليقابِلوه وجهاً لوجه ، ويروه جهرة ومن قريب ،
ورؤية اللّه تعالى امر محال ، لأن رؤيته تستلزم أن يكون سبحانه محدوداً بالزمان
والمكان ، وأن يكون جسماً وذا لون وصورة وهو تعالى منزهٌ عن المادّة ولوازم
المادية. بل حتّى مقترحُهم الثالث لو كان
المقصود منه أن تسقط السماء عليهم (
لا أن تسقط قطعة من الصخر على رؤوسهم وتقتلهم ) فان ذلك هو
أيضاً من المحالات إذ أن المشيئة الالهية تعلّقت بان يفعل اللّه هذا في نهاية
العالم ، والنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
كان قد أخبر المشركين بهذا الأمر أيضاً كما يدل عليه قولُهم : « كما زعمتَ ». إنَّ إنهدامَ المنظومة الشمسيّة وتبعثرَ
النجوم وتساقطها وإن لم يكن في حد ذاته بالأمر المحال ، ولكنّه ـ حسب المشيئة
الإلهية الحكيمة وإرادته النافذة القاضية بأن يستمر النوع البشري ، ويصل إلى
مرحلة الكمال ـ يعدّ محالا ، ولا يمكن أن يفعل حكيمٌ خلاف ما يقتضيه هدفه
وغايته. ثانياً : حيث أنّ الغاية المنشودة من
اقتراح وطلب الإعجاز هو أن يستدِلّ به على صدق دعوى النبيّ ، وصحة انتسابه إلى
اللّه ، وبالتالي يكون بدافع تحصيل سند على ارتباطه بعالم ما فوق الطبيعة ، لذلك
فان أيّ اقتراح ومطالبة بالمعجزة لا تتوفر فيها هذه الصفة يعني على فرض أن يلبيّ
النبيُ طلبَهم ويأتي لهم بالمعجزة لا يكون ذلك دليلا على ارتباطه بعالم الغيب ،
فحينئذ لا معنى ولا موجب لأن يقوم النبيُّ بما لا يرتبط بشؤونه ولا يخدم هدفه. وقد كانت بعض مقترحات المشركين
المذكورة من هذا النوع ، وذلك مثل تفجير ينبوع من الأرض ، أو أن تكون له جَنّة
من نخيل وعنب ، أو أن يكون له بيتٌ من زخرف وذهب ، فإنّ مثل هذه الاُمور لا تدل
على نبوّة من يمتلكها إذ ما اكثر الذين يمتكلون واحدة من هذه الأشياء وليسوا مع
ذلك بأنبياء ، بل ربما يملكون اكثر من ذلك ، ومع ذلك لا يشم فيهم رائحة الايمان
فضلاً عن النبوة. فاذا لم ترتبط هذه الأشياء بمقام
النبوّة ، ولا تكون دليلا على صدق من يدّعيها كان الإتيان بها أمراً لغواً
وعبثاً تعالى عنه مقام النبوّة ، وجلّت عنه منزلة الأنبياء. وقد يقال : إنّ هذه الاشياء (أي الامور الثلاثة المقترحة الينبوع والجنة والبيت من ذهب.)
لا تدل على صدق دعوى النبي إذا حصلت عن طريق الأسباب العادية ، ولكنّها لو حصلت
بصورة غير عاديّة ولا متعارفة كانت ولا شك من المعاجز الالهية ، ودلت على صدق
النبي وصحة دعواه. ولكنّ الظاهر أن هذه فكرةٌ باطلة لان
المشركين كانوا يهدفون من اقتراحاتهم هذه أن يكون النبيُّ صاحب مال وثروة ، فقد
كانوا يستبعدون أن يكون نبيُّ اللّه ورسولُه فقيراً لا يملك شيئاً من الثروة
والمال ، وكانوا يعتقدون أنّ الوحي الالهي يجب أن ينزل على رجل غنيّ ذي طول وحول
، ولذلك قالوا مستغربين ومستنكرين : « وَقالُوا
لَوْلا نُزِّلَ هذا القُرانُ عَلى رَجُل مِنَ الْقَريتين عَظِيم »
(الزخرف : 31.)؟!!
أي لماذا لم ينزل هذا القرآن على
رَجُل ثَريّ من مكة أو الطائف. وممّا يدلّ على أن الهدف كان هو أن
يملك النبيُ مثل هذه الاُمور بأي طريق كان ، ولو بالطريق العاديّ أنهم كانوا
يريدون هذه الاشياء للنبيّ نفسه إذ قالوا : « أوْ يكونَ لكَ بيتٌ مِنْ زُخْرُف »
(الاسراء : 93.).
وبعبارة اُخرى :
كانوا يقولون إذا أنت لا تمتلك بستاناً أو بيتاً من ذهب فاننا لن نؤمن لك!! ولو كان الهدف هو أن
يحصل هذان الأمران بواسطة القدرة الغيبية لم يكن وجه حينئذ لقولهم : ما لم يكن « لَكَ » بيتٌ من زخرف ، فاننا نؤمن بك بل كان يكفي أن يقولوا : إذا لم
تحدِث وتوجد بيتاً وجنّة فاننا لن نؤمن لك. أمّا قولهم في مطلع
اقتراحاتهم : « تُفجّرَ لَنا منَ الأَرض يُنبوُعاً
» فان مقصودَهم لم يكن هو أن يستخرج لهم بالاعجاز ينبوعاً لينتفعوا به ، بل يفعل
ذلك لكي يؤمنوا به. ثالثاً : انَ المقصود من المعجزة هو الاهتداء
في ضوئها إلى صحّة دعوى النبيّ وصدق مقاله ، والإيمان بمنصبه ، والإعتقاد بمقامه
، وعلى هذا إذا كان بين المقترحين للمعجزة من يكونُ الاتيان له بالإعجاز سبباً
لإيمانه بالنبيّ ، فحينئذ كان الاتيان بالمعجزة وتلبية اقتراحه أمراً مستحسناً ،
وغير مقبوح عقلا. أما إذا كان المقترحون ، يقترحون
عناداً ولجاجاً ، أو يطلبون ما يطلبونه لهواً وتسليةً كما يفعل الناس مع السحرة
والمرتاضين فانَ منزلة الأنبياء أجلّ ـ حينئذ ـ من أن يلبيَّ مثلَ هذه المقترحات
، ويستجيب لمثل هذه المطالب ، وقد كانت بعض إقتراحات المشركين من هذا النمط. فان مطالبتهم بأن يصعَدَ النبيُّ إلى
السماء ، أو أن يُنزل من السماء كتاباً يقرأونه لم يكن بهدف إكتشاف الحقيقة
لأنهم لو كانوا ممن يهدف الوصول إلى الحقيقة فلماذا لم يكتفوا بمجرّد صعوده إلى
السماء بل كانوا يصرّون على أن يضمَّ أمراً آخر إلى عروجه وصعوده ( وهو أن ينزّل
معه كتاباً )!! ثم أنه يُستفاد من آيات اُخرى ، غير
هاتين الآيتين ايضاً ، أنهم كانوا سيعاندون ، ويصرون على كفرهم حتّى بعد نزول
الكتاب عليهم من السماء كما يصرح بذلك قوله تعالى : « وَلَوْ نَزلنا عَلَيْكَ كِتاباً في قِرطاس
فَلَمَسُوهُ بِأيْديْهِمْ لَقالَ الَّذينَ كَفرُوا إنْ هَذا إلاّ سِحْرٌ
مُبِيْنٌ » (الانعام : 7.).
فمن غير المستبعد أن يكون الكتابُ
المنزّلُ في قرطاس إشارة إلى إقتراح المشركين الّذي جاء ضمن آيات سورة الاسراء
أي قولهم : « أوْ تَرْقى
في السَّماء وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقيِّك حَتّى تُنزِّلَ عَليْنا كِتاباً نقرأوه
» (الأسراء : 93.)
فقال اللّه سبحانه : حَتّى لَو فعلنا لهم ذلك لكفروا ، واحجموا عن الإيمان. رابعاً
:
إنَّ طلبَ المعجزة إنّما هو لأجل أن يستتبع الاتيانُ بها الإيمانَ بالرسالة
والانضمام إلى صفوف المؤمنين ، فاذا كانت نتيجةُ المعجزة هي إباء المقترحين
استلزم ذلك نقض الغرض المنشود من المعجزة ، وانتفاء فائدتها. فاذا كان المقصود من سقوط السماء
عليهم ، هو نزول الصخور السماوية لابادتهم فان هذا الطلب لا يتفق أبداً مع هدف
الإعجاز وهو من أوضح مصاديق نقض الغرض. وبالتالي ينبغي أن
نذكّر بنقطة وهي : أنّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
على خلاف ما تصوّر المستدلّون بهذه الآية على نفي أية معجزة لرسول الإسلام ـ لم
يصف نفسه بالعجز وعدم القدرة على الاتيان بالمعجزة بل أفاد بقوله : « سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إلا بَشراً رَسُولاً
» (الأسراء : 93.)
أمرين : 1 ـ تنزيه اللّه ، فهو
بقوله : « سبحانَ ربّي » نزّه اللّه تعالى عن كل عجز
ونقص كما نزّهه عن الرؤية ووصفه بالقدرة على كل شيء ممكن. 2 ـ محدوديّة قدرة
النبيّ ، إذ بقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم
: «
هَلْ كُنْتُ إلا بَشراً رَسُولا » أفاد بأنه امرئ مأمور لا أكثر وأنه مطيعٌ لأمر
اللّه وإرادته فهو يأتي بما يريد ربُّه ، والأمرُ إلى اللّه كله ، وليس للنبيّ
أن يُلبّي أيَ طلب واقتراح بارادته. وبعبارة اُخرى : ان
الآية ركّزت في مقام الجواب على طلبهم بعد تنزيه اللّه عن العجز والرؤية على
كلمتي : « البشر والرسول » والهدف هو انه : إذا أنتم قد طلبتم هذه الاُمور منّي
من جهة إنني بشر ، كان طلبكم هذا طلباً غير صحيح ، لأن هذه الاُمور تحتاج إلى
قدرة الهية. وإن طلبتموها منّي من جهة اني نبيُّ
رسولٌ فان النبي والرسولَ ما هو إلاّ إمرئ مأمورٌ يفعلُ ما ياذنُ به اللّه ،
وليس له ان يفعل ما يشاء هو دون إرادة اللّه تعالى. وبهذا اتضح أن هذه الآيات لا تدلُّ
على ما استدل به النافون لمعاجز النبي الاكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وكان ممّا تَحججت به
قريش على رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
انّهم قالوا : لَوْ كانَ مُحمَّداً نبيّاً لشغَلته
النبوةُ عن النساء ولأمكنه جمع الآيات ( اي لأتته الآيات دفعة واحدة ) ولأمكنه
منعُ الموت عن اقاربه ولما مات أبو طالب وخديجة فنزل قولُه تعالى : « وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلا مِنْ قَبْلِكَ
وَجَعلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيّة وَما كانَ لِرَسُولِ أنْ يأَتي بآية إلا
باِذن اللّه لِكل أجل كِتاب. يمحو اللّه ما يشاء وَيُثبت وَعِنْدَهُ اُمُّ
الْكِتاب. وَإنْ مّا نرينَّك بعضَ الَّذي نَعدُهُمْ أو نَتوفينَّكَ فَإنَّما
عَليْكَ البَلاغُ وَعَليْنا الْحِسابُ ». وبذلك ردّ عليهم (الرعد : 38 ـ 40.)
(بحار الأنوار : ج 19 ، ص 17 عن المناقب.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الدوافع وراء
معاداة قريش وعنادهم :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
هذا القسم هو احدى النقاط الجديرة
بالدراسة في تاريخ الإسلام ، لأن المرء قد يسائل نفسه ، لماذا ترى كانت قريش
تعارض رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
أشدّ المعارضة رغم أنها كانت تعتبره الصادق الأمينَ ولم تعهد منه انحرافاً أو
خطأ قط وكانت تسمع كلامه الفصيح البليغ الّذي يأسر القلوب ، وربما شاهدوا حدوث
بعض الخوارق للعادة ، الخارجة عن حدود القوانين الطبيعية على يديه. إن لهذا التمرد
والمعارضة إلى علة أو علل عديدة هي : |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
1 ـ حَسَدُهُمْ
للنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
:
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد عارض رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وخالفه فريقٌ ممن عارضه بسبب حسدهم له ، فقد كانوا يتمنُّون أن يكونوا هم صاحب
هذا المنصب ، وصاحب هذه المنزلة. فقد قال المفسِّرونَ عند قوله تعالى
: « وَقالُوا لَولا نُزِّلَ هذا
الْقُرانُ عَلى رَجُل مِنَ القَريَتَيْنِ عَظيم
» (الزخرف : 31.)
أن « الوليد بن المغيرة » قال : أيُنزَّل على محمَّد واُترك وأنا كبير قريش
وسيّدها ويترك « ابو مسعود عمرو بن عمير الثقفي » سيد ثقيف ونحن عظيما القريتين
فأنزل اللّه تعالى فيه الآية (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 361.).
وروى انه قال : واللّه لو كانت
النبوّة حقاً لكنتُ أولى بها منكَ لأنَّنِي اكبرُ منكَ سناً وأكثر منكَ مالا (بحار الأنوار : ج 18 ، ص 235.).
وكان « اُميّة بن أبي
الصلت » من الذين كانوا يقولون هذا الكلام حول رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وكان يتمنى كثيراً أن ينال هو هذا المقام ويحظى بهذا المنصب العظيم ، ولم يتبع
رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى آخر
حياته ، وكان يؤلّب الناس عليه. وقد سأل « الاخنسُ بن شريق » ـ وهو
من أعداء رسول اللّه ـ أبا جهل يوماً يا ابا الحكم ما رأيك فيما سمعتَ من «
محمَّد »؟ فقال : ماذا سمعتُ ، تنازعنا نحن
وبنو عبد مناف الشرفَ ، أطعَمُوا فأطعَمنا ، وحَملوا فحمَلنا ، وأعطوا فأعطينا
حتّى إذا تجاذبنا على الركب ، وكنا كفرسي رهان ، قالوا : منّا نبيُّ يأتيه
الوحيُ من السماء ، فمتى تدركُ مثل هذه ، واللّه لا نؤمنُ به أبداً ولا نصدّقه (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 315 و 316.).
هذه النماذج تُظهِرُ
الحسد الّذي كان يحول بين زعماء قريش وساداتها وبين إتّباع رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم وتصديقه ،
فَعثَوا على اللّه وتركوا أمره عياناً ، ولجّوا فيما هم عليه من الكفر ، وهناك نماذج وأمثلة اُخرى سجّلتها صفحات التاريخ أعرضنا عن
إدراجنها هنا. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
2 ـ معارضة الدعوة
الإسلامية لشهواتهم :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وكان لهذا العامل الأثر الاكبر في
عتو قريش ومعارضتها لدعوة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
لأنهم كانوا أصحاب لهو ولعب ، وفسق ومجون ، ومثل هؤلاء الذين أمضوا سنوات عديدة
على هذا النحو ، دون ان يقيّدهم شيء من الحدود والقيود ، وجَدوا دعوة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
تخالف عاداتهم القديمة ، وكان ترك مثل تلك العادة الّتي تتفق معه أهوائهم
ورغباتهم النفسيّة أمراً يلازم النصب والعناء والجهد. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
3 ـ الخَوفُ مِن عُقُوبات
اليوم الآخر :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إن سماع آيات العذاب الّتي تنذر
الفَسقة والظالمين وتوعدهم بالعقوبات الثقيلة ارعب قلوبهم ، وأقلق نفوسهم بشدة. فعند ما كان رسولُ اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
يتلو الآيات المتعلّقة بيوم القيامة وأوضاعه ، وقضاياه في الاجتماعات والاماكن
العامة ، كان يحدث بذلك ضجةً كبرى في أوساطِهِم ، فيهدم مجالس لهوهم ، واُنسهم. إنّ العربي الّذي كان يسلِّحُ نفسه
بكل ما استطاع من سلاح ليدفع عن نفسه أيَ خطر محتمل ، ويعمد إلى ممارسة القرعة
ويتعاطى الانصاب والازلام ليحصل على لقمة عيشه ، ويتفأل بالاحجار ، ويتطيّر
ويتشاءم بالطيور ويستدلُّ بحالاتها على حوادث وقَعت أو تقعُ ، لم يكن على
استعداد لأن يهدأ من دون ان يحصل على ضمان بعدم التعرض لما يخبر عنه « محمَّد »
من عذاب وعقاب!! من هنا كانوا يحاربون
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
ويخالفونه حتّى لا يسمعوا وعده ووعيد. واليك بعض الآيات
الّتي كانت تقلق بشدة نفوس المترفين من قريش : « فَإذَا جَاءت الصّاخَّةُ. يَومَ يفرُّ المرْءُ
مِن أخيه. وَاُمِّه وأبيهِ. وَصاحبِتِه وَبَنيِه لِكُلِّ أمرئ مِنْهُمْ يَوْمَئذ
شَأَنٌ يُغْنِيه » (عبس : 33 ـ 37.).
وبينما كانوا يمدّون موائد اللهو
والشراب في ظلال الكعبة ويحتسون كؤوس الخمر كانوا فجأة يسمعون هذه الآية : « كُلّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدّلْناهُمْ
جُلُوداً غَيرَها لِيذُوقْوا العَذابَ » (النساء : 56.).
فتلقي في نفوسهم رعباً عجيباً ،
وينتابهم الاضطراب الشديد حتّى أنهم كانوا يلقون بكؤوس الخمر جانباً ويتملكهم
خوف شديدٌ لم يعرفوا له مثيلا. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
4 ـ الخَوفُ مِن
القَبائل العَربية المشركَة :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال « الحارث بن نوفل
بن عبد مناف » لرسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم : انا لنعلم أنَّ قولك حقٌ ولكن
يمنُعنا أن نتبع الهُدى ونؤمن بك مخافةَ أن يتخطفنا العربُ من أرضنا ( إن تركنا
الوثنية التي تدين بها ويعتبروننا سَدنة لأوثانها ) ولا طاقة لنابها. فنزل قوله
تعالى يرد عليهم : « وَقالُوا
إنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أرضنا أوَ لَمْ نُمكِّنْ لَهُمْ
حَرماً آمِناً يُجبى إليه ثمراتُ كُلِّ شيء رزْقاً مِنْ لَدُنَّا
» (القصص : 57.)
(بحار الأنوار : ج 18 ، ص 236.).
وهكذا كان تخوّف قريش من العرب إن هي
تركت ما كان عليه العربُ من الوثنية والشرك أحد الاسباب لعتوهم وَإعراضهم عن
قبول الدعوة الإسلامية. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
طائفةٌ مِن
اعتراضات المشركين :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وربما اعترض المشركون
على النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
قائلين : إن هذه الارض ليست بأرض الانبياء ، وإنما ارضُ
الأنبياء الشامُ فآت الشامَ (بحار الأنوار : ج 18 ، ص 198.).
وكان اكثر المشركين يقولون ـ وذلك
بوحي من اليهود ـ لماذا لا ينزل القرآن على « محمَّد » دفعة واحدة كالتوراة والانجيل
فحكى القرآن الكريم إعتراضهم هذا بنصه إذ قال : « وَقالَ الَّذيْنَ كَفرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَليْهِ
الْقُرانُ جُمْلةً واحِدَةً ». ثم قال
تعالى ردّاً على إعتراضهم هذا : « كَذلِكَ
لِنُثَبِّتَ بهِ فُؤادَكَ » (الفرقان : 32.).
إن القرآن يهتم بهذا الإعتراض ، ويوضح
مسألة « النزول التدريجي » للقرآن الكريم ويقطع الطريق على المستشرقين المغرضين
ومن حذى حذوهم ، بمنطقه المحكم ، وبيانه القويّ. وها نحن نعمد هنا إلى
إعطاء شيء من التوضيح لهذه المسألة ايضاً : |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
القُران والنُزُولُ
التدريجيّ :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إن التاريخ القطعيّ لنزول القرآن
وكذا مضامين آيات سوره تشهد بأن آيات
القرآن الكريم وسوره نزلت تدريجاً. فبمراجعة فاحصة لأوضاع
مكة ، والمدينة يمكن تمييز المكيّ من هذه الآيات عن مدنيّها. فالآيات الّتي تتحدثُ عن مكافحة
الشرك والوثنية ودعوة الناس إلى اللّه الواحد ، والإيمان باليوم الآخر مكيّة ،
بينما تكون الآيات الّتي تدور حول الأحكام وتحثُّ على الجهاد والقتال مدنيّة ،
ذلك لأنّ الخطاب في البيئة المكيّة كان موجَّهاً إلى المشركين عَبدة الاوثان
الذين كانوا ينكرون توحيدَ اللّه ، واليوم الآخر ، فهنا تكونُ الآيات الّتي
تتحدث حول هذا الموضوع قد نزلت في هذه البيئة. في حين كان الخطاب في المدينة
المنورة موجّها إلى المؤمنين باللّه ، وإلى جماعة اليهود والنصارى ، وكان الجهاد
والقتال في سبيل إعلاء كلمة اللّه هو الأعمال المهمّة الّتي بدأها رسولُ اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وواصلها في هذه البيئة ، من هنا تكون الآيات الّتي تتضمن الحديث حول الاحكام
والفروع والقوانين ، ويدور الحديث فيها أيضاً حول عقائد اليهود والنصارى
ومواقفهم وتتضمن الحثَّ ـ كذلك ـ على الجهاد والقتال والتضحية في سبيل اعلاء
كلمة اللّه وإعزاز دينه ، آيات مدنيّة. إنّ كثيراً من الآيات ترتبط إرتباطاً
وثيقاً بالحوادث الّتي وقعت في زمن رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
، وهذه الحوادث هي الّتي تشكّل ما يسمّى بشأن أو أسباب النزول التي يكون الوقوفُ
عليها مُوجباً لفهم مفاد الآية ، وإيضاح مفادها ، فان وقوع هذه الحوادث كان
سبباً لنزول آيات فيها بالمناسبة. على أن بعض الآيات الاُخرى نزلت
جواباً على أسئلة الناس ، ولرفع حاجاتهم في المجالات المختلفة. والبعضُ الآخر منها نزلت لبيان
المعارف والأحكام الالهية. ولهذه الاسباب يمكن القولُ بان
القرآن الكريم نزل على رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
تدريجاً لتدرّج موجبات النزول. وقد صرَّح القرآن الكريم بهذا الامر
أيضاً في بعض المواضع إذ قال : « وَقُرْاناً فَرَقْناهُ لِتَقْتَرأَهُ عَلى
النّاسِ عَلى مُكْث » (الاسراء : 106.).
وهنا يطرح هذا السؤال
وهو :
لماذا لم تنزل آياتُ القرآن كُلها على رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
جملة واحدة ، ودفعة واحدة كما حدث ذلك للتوراة والإنجيل من قبل؟! إنّ هذا السؤال لم يكن جديداً بل
طرحه أعداء النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
ومعارضوه في عصر الرسالة في صورة الاعتراض أيضاً حيث كانوا يقولون : « لَوْلا
نُزِّلَ عَليْهِ الْقُرانُ جُمْلَةً واحِدَة » (الفرقان : 32.).
ويمكن تقرير وشرح هذا
الاعتراض على نحوين : 1 ـ إذا كان الإسلام ديناً إلهياً ،
وكان القرآن كتاباً سماوياً منزلا من جانب اللّه على رسوله ، فلابدّ أن يكون
ديناً كاملا ، ومثل هذا الدين الكامل يجب أن ينزل بواسطة ملائكة الوحي على رسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
جملة واحدة من دون تدرّج ولا توقف في نزول الآيات ، إذا لا مبرّر ولا داعيَ لأن
ينزل دينٌ كاملٌ من جميع الجهات ، مكمّل من حيث الاُصول والفروع والتشريعات
والواجبات والسنن ، على نحو التدريج في 23 عاماً ، ولمناسبات مختلفة. وحيث أن القرآن نزَلَ منجّماً ،
وبصورة متفرقة متناثرة ، وعقيب طائفة من الأسئلة ، أو وقوع حوادث وطروء حاجات في
أزمنة مختلفة يمكن الحدس بان هذا الدين لم يكن كاملا من حيث الاُصول والفروع ،
وهو يتدرّج في التكامل ومثل هذا الدين الناقص الّذي يسير نحو كماله خطوة خطوة وبالتدريج
لا يصحّ أن يوصَف بالدين الالهيّ. 2 ـ إن آيات القرآن والتاريخ القطعي
والمسلّم للتوراة والإنجيل والزّبور تحكي جميعها عن أن هذه الكتب السماوية
اُعطيت إلى المرسلين بها في ألواح مكتبوة مدوّنة ، فلما لم ينزل القرآن الكريم
على هذا الغرار ، كأن ينزل القرآن على « محمَّد » في لوح مكتوب كما نزل التوراة
في الواح مكتوبة؟! وحيث أن المشركين لم يكونوا يعتقدون
بهذه الكتب السماوية قط ، ولم يكن لهم على علم مسبق بكيفية نزولها ، لذا يمكن
القولُ بان مقصودهم من هذا الاعتراض كان هو الشكل الأول من هذا التوضيح ، والّذي
يتلخص في أنه لماذا لم ينزّل ملائكة الوحي آيات القرآن على رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
جملة واحدة ، بل نزلت هذه الآيات عليه صلىاللهعليهوآلهوسلم في فواصل
زمنية متفاوتة ، وبمناسبات وحسب وقائع مختلفة متدرّجة؟! |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأسرارُ المنطقيّة
للنُزول التدريجي للقرآن :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ولقد كشف القرآنُ القناعَ ـ في معرض
الردّ على إعتراض المشركين هذا ـ عن حِكَم وأسرار النزول التدريجيّ للقرآن
الكريم. واليك توضيح هذا القسم
الّذي اشار إليه الكتاب العزيز بعبارة مقتضبة قصيرة : 1 ـ إن الرسولَ الاكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم
يتحمَّل مسؤوليات كبرى ، وان شخصية كهذه من الطبيعي ان يواجه مشاكلَ ومتاعَب
باهضة وصعبة ، ولا ريب أن تلك المشاكل والمتاعب توجب الكلل ، وانخفاض مستوى
النشاط مهما كانت الروحُ الّتي يتمتع بها الشخصُ عظيمة ، وقويّة ، في مثل هذه
الحالة يكون تجديدُ الارتباط بالعالم الأعلى ، وتكرّرُ نزول الملك من جانب اللّه
تعالى باعثاً على تجدّد النشاط ، وعاملا قوياً في بثّ القوة والحماس والمعنوية
الفاعلة في نفس النبيّ وروحه ، وبالتالي فان العناية والمحبّة الالهية الممتدّة
لنبيّه ورسوله إنما تتجدد بتكرّر نزول الوحي عليه صلىاللهعليهوآلهوسلم
من جانبه تعالى. وقد أشار القرآن إلى هذه الحقيقة
النفسية الكبرى إذ قال : « كَذلِكَ
لِنُثَبِّتَ بِه فُؤادَكَ » (الفرقان : 32.).
2 ـ ويمكن ان تكون الجملةُ المذكورة
ناظرة إلى جهة اُخرى وهي : انَ المصالح التربوية والتعليمية تقتضي أن يتنزلَ
القرآنُ الكريمُ على نحو التدريج ويُلقى إلى الناس على هذا الشكل ايضاً وذلك لان
النبي الاكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم
معلّم الاُمة ، وطبيبُها الروحيُ الّذي بُعِث إلى الناس بالوصفات الالهية
لتعليمهم ، وهدايتهم ومعالجة أمراضهم وأدوائهم الاجتماعية والخلقيّة ، والفكرية
، وكُلِّفَ بأن يُطبِّق هذه الوصفات في حياتهم العملية ، ومثل هذا يتطلب التدرّج
لينفَع الدواء ـ حينئذ ـ وتنجعَ المعالجةُ. إن أفضل وأنجح أساليب التربية هو أن
يمتزج الجانب العمليّ بالجانب النظري في أيّة محاولة تربوية ، وأن يطبق كل ما
يدرسه الاستاذ بصورة عملية تطبيقية ، ويعطي لما يلقيه من معلومات ، صبغة تحقيقية
، ويتجنَبَ بشدة إتصافَ أفكاره وآراءه بالطابع النظريّ البحت. فلو أن الاستاذ المتخصّص في الطبّ
اكتفى بالقاء جملة من المعلومات الكليّة والاُسس العامة من الطبّ على طلابه في
الصف حُرم النتائج المتوخّاة والغايات المطلوبة من تعليم الطبّ ، بشكل كامل. أما إذا قَرنَ الاستاذ درسَه النظري
بالإرشاد العمليّ وطبَّق ما ألقاه وبيّنه من أفكار ومعلومات في هذا المجال على
جسم مريض راقد أمام الطلبة فانه سيحصل على نتائج أحسن ، ويساعد الطلبة على فهم
افضل للمواد الّتي درسوها في هذا المجال. فلو أنَّ الآيات القرآنية الكريمة قد
نزلت جملةً واحدة ( والحال أن المجتمع الإسلامي لم يكن يحتاج إلى كثير منها )
كان القرآن ـ حينئذ ـ فاقداً لهذه المزية التربوية الهامة الّتي أشرنا إليها
قريباً في مثال تدريس الطب. ان بيان الآيات الّتي يشعر الناس في
انفسهم بعدم الحاجة إلى اخذها وتعلّمها ، لا يترك التأثيرَ الباهرَ في القلوب ،
بينما إذا نزل ملائكة الوحي بآيات القرآن حسب حاجات الناس الّتي يشعرون فيها
بضرورة تعلّمها لتضمِّنها الأحكامَ والاُصولَ والفروعَ الّتي يحتاجون إليها فانه
لا شكَّ يكون لها في هذه الحالة تأثير أحسن وأقوى في قلوب الناس. كما سيكون لها
ترسّخٌ اكبر في نفوسهم ، وسيظهرُ الناس من انفسهم إستعداداً اكبر لاخذ ألفاظها
ومعانيها ، وفوق كل ذلك سيشعرون بنتائج هذه التعاليم عند تعليم النبيّ إيّاها
لهم ، وعندئذ تتحقق المقولة التربوية الّتي اشرنا إليها في ما سبق وهي اقتران
كلام المربّي بالنتيجة لأن النظريات إتخذت طابعاً عملياً ، ولم تكن مجرد نظريات
لا ترتبط بالواقع. ولكن يبقى هنا سؤالٌ
آخر وهو : إذا كان نزولُ القرآن قد تحقَّق على نحو التدريج
وتبعاً للاحتياجات والحوادث المختلفة ، فان ذلك يستلزم انفصام العلاقات والروابط
بين الآيات والسور ، وهذا ينتج أن لا يهتم الفكر البشري بتعلّم وحفظ معارفها
لتبعثرها ، وتباعد أزمنتها وغياب علاقاتها ، ولكن لو نزل القرآنُ جملة واحدة
وتلاه ملائكة الوحي على رسول اللّه دفعة واحدة لرُوعيَت الروابطُ والعلاقات بين
قضايا الوحي ولتضاعَفَت رغبةُ الناس واستعدادهم لأخذها وحفظها؟ ولقد أجاب القرآن
الكريم ايضاً على هذا السؤال إذ قال : صحيح أن
آيات القرآن الكريم نزلت على نحو التدريج تبعاً لطائفة من المقتضيات والموجبات
إلاّ أن هذا النزول التدريجي لا يمنع ابداً من ترابط مطالبه ، وارتباط مواضيعه بعضها
ببعض ، فان اللّه تعالى أفاض على هذه الآيات إِنسجاماً وترابطا خاصاً يمكن
الإنسان من تعلمها وضبطها وحفظها إذا أعطى الموضوعَ قليلا من الإهتمام إذ قال
تعالى : « وَرتّلناه تَرتيلا » (الفرقان : 32.).
أي إنّنا أعطينا آيات
القرآن نظاماً معيناً وترتيباً خاصاً. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أسرارٌ اُخرى
لِنُزُول القرآن تدريجاً :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
3 ـ لقد واجَه رسولُ اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
في فترة رسالته ونبوّته فئات مختلفة من الناس : كالوثنيين ، واليهود والمسيحيين
الذين كان لكل فئة منهم ديناً خاصاً ، وعقائد وتصورات خاصة حول المبدأ والمعاد ،
وغيرهما من المعارف العقلية. وقد كانت اللقاءات المختلفة هذه توجب
أن يعمد الوحي الالهيّ إلى توضيح وبيان عقائد هذه الفئات ( وإن لم يكن مطلوباً
ومقترحاً من قبلهم ) ويقيم الأدلة والبراهين على بطلانها ، وزيفها ، هذا من
جانب. ومن جانب آخر
كانت هذه اللقاءات في أزمنة متفاوتة ، وأوقات مختلفة ، لهذا لم يكن بدّ من أن
ينزل الوحيُ الالهي تدريجاً ، وفي الأوقات المختلفة ، ويتصدى لبيان بطلان تلك
العقائد والتصورات ويجيب على شبهات المخالفين ، اعتراضاتهم. وربما كانت توجب هذه المواجهاتُ
العقائدية إلى أن يطرحوا على النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
بعض الاسئلة إمتحاناً واختباراً له وكان على النبيّ أن يجيب عليها ، وحيث أن هذه
الاسئلة كانت تطرَح في أوقات مختلفة ، لهذا لم يكن مناص من أن ينزل الوحيُ
الالهيُ في الأوقات والأزمنة المختلفة ، وعلى نحو التدريج. هذا مضافاً إلى أن حياة النبي نفسَها
كان حياة ثورة ، ووقائع ، وكان النبيُ يواجه باستمرار أحداثاً وقضايا يجب توضيح
حكمها ، وبيان المنهج فيها من جانب الوحي الالهي. وربما كان الناس أنفسهم يواجهون في
حياتهم اليومية حوادثاً واُموراً يرجعون فيها إلى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
يطلبون منه الحكم الالهيّ فيها ويسألونه عما يجب إتخاذه من الموقف الشرعيّ في
تلك الحوادث وما يشابهها. وحيث أن هذه الحوادث ، وما يترتب
عليها من تساؤلات كانت تقع في اوقات متلفة ، وبمرور الزمن ، لذلك لم يكن بد
ايضاً من ان ينزل الوحيُ الالهيّ بالتدريج ليجيب على هذه الأسئلة أوّلا بأوّل. وقد أشار القرآنُ الكريمُ إلى هذه
النقاط ، وإلى نقاط اُخرى غيرها في قوله تعالى : « ولا يَأْتُونَكَ بمَثَل إلا جِئناكَ بِالحَقِّ
وَأَحسَنَ تَفْسيراً » (الفرقان : 33.).
4 ـ إن للنزول التدريجيّ للقرآن
الكريم وراء كل ذلك سراً آخر ، وعلة اُخرى غفلوا عنها ، ألا وهي : هداية الناس
وتوجيه أنظارهم إلى منشأ هذا الكتاب ، وأن القرآن ليس الاّ كتاباً سماوياً ،
ووحياً الهياً لا غير ، ولا يمكن أن يكون من نسج العقل البشريّ ، لأن القرآن نزل
خلال ( 23 عاماً ) عبر طريق طويل من أنواع الحوادث والوقائع المسرة والمحزنة ،
المقرونة بالنصر والهزيمة ، والنجاح والإخفاق ، ولا شكَّ أن هذه الحالات
المختلفة ، والاحاسيس والمشاعر المتنوعة المتباينة ، تترك أثراً عميقاً في نفس
الإنسان ، وروحه وعقله ، ولا يمكن لإنسان واحد أن يتكلم بكلام من نوع واحد ،
وبنبرة واحدة ، في حالتين نفسيّتين متضادتين ، فالكلام الصادر في حال الفرح
والابتهاج والمسرة من اللسان أو القلم ، يختلف من حيث الفصاحة والبلاغة وجمال
اللفظ وعمق المعنى اختلافاً بارزاً عن الكلام الصادر في حال الحزن والتعب ،
والاخفاق ، والهزيمة. بينما لا يوجد أي شيء من الاختلاف من
حيث الألفاظ والمعاني بين آيات القرآن الكريم مع أنّها نزلت على رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وهو يمر بحالات مختلفة من الحزن والسرور والاخفاق والانتصار والسرّاء والضرّاء ،
والعسر والرخاء والجهد والنشاط ، بل نجد تلك الآيات على نمط ونسق واحد من القوة
والفصاحة والبلاغة ، وجمال اللفظ وعمق المعنى بحيث يستحيل على أيّ بشر بلَغَ ما
بلغ أن يعارض آية من آياته أو سورة من سوره ، وكأنّ القرآن الكريم كمية من
الفضّة المائعة خرجت من الاُتون جملة واحدة لا يوجد بين آياتها أىُ شيء من
التفاوت والاختلاف ، أو كأنّه جوهرة واحدة أولها كآخرها وآخرها كأولها. ولعلّ الآية التالية الّتي تنفي أيّ
نوع من أنواع الاختلاف في القرآن إذ تقول : « وَلَو كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْر الله لَوَجَدُوا
فيه إخْتِلافاً كثيراً » (النساء : 82.)
اشارة إلى هذا السرّ. إنَّ المفسرين اعتبروا هذه الآية
ناظرة إلى نفي الاختلاف والتناقض بين مفاهيم الآيات ومفاداتها ، ومقاصدها ، في
حين لا تنفي هذه الآية مجرّد هذا النوع من الاختلاف بل تقدّس القرآن المجيد
وتنزهه من جميع انواع الاختلاف والتناقض الّذي هو من لوازم العمل والانتاج
البشري. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
17إلى
الحبشة
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الهجرة الاولى
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
تُعتَبر هجرة فريق من المسلمين إلى
أرض الحبشة دليلا بارزاً على إيمانهم واخلاصهم العميق لدينهم ، ولربهم وذلك لأن
فريقاً من الرجال والنساء يقررون ـ وبهدف الحفاظ على عقيدتهم والتخلص من أذى
قريش ومضايقتها والحصول على مكان آمن يقيمون فيه شعائرهم بحرية ويعبدون اللّه
الواحد ـ مغادرة ( مكة ) ، العربية التي ترزح تحت ظلام الوثنية ، فلا يمكن أن
يرفعوا نداء التوحيد عالياً في أية نقطة من نقاطها ، ولا يمكنهم اقامة احكام
الدين الحنيف فيها من دون خوف أو وجل ، وبعيداً عن الارهاب ، ويفكرون ، ويفكرون
، وأخيراً يقودُهم التفكير إلى أن يفاتحوا رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
بهذه المسألة ، ويطلبوا في ذلك رأي النبي الّذي يقوم دينه على مبدأ : « إنَّ أرضي واسعة فإيّاي فاعبُدُون »
(العنكبوت : 56.).
لقد كان رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
يعرف أوضاع المسلمين المؤلمة جيداً ، فقد كان هو يحظى بحماية بني هاشم ، وكان
الفتيان الهاشميون يحمونه ويحفظونه من كل اذى ، ولكن الذين آمنوا به من الإماء
والعبيد ، ومن ليست لهم حماية من الأحرار المستضعفين الّذين كانوا يشكلون عدداً
كبيراً من المسلمين السابقين كان يتعرضون لشتى صنوف العذاب والايذاء والمضايقة
من قريش الّتي لم تأل جهداً ، ولم تدخر وسعاً ، ولم تفوّت فرصةً ولا وسيلةً
لالحاق العنت والأذى بالمؤمنين برسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
، ولا يستطيع صلىاللهعليهوآلهوسلم
منعهم من ذلك. وقد كان زعماء كل قبيلة يعمدون ـ
للمنع من نشوب أيّ صِدام بين القبائل ـ إلى تعذيب من اسلم من ابناء قبيلتهم ،
وايذائه والتنكيل به ، وقد مرت عليك نماذج وامثلة من أذى قريش وتعذيبها القاسي
للمسلمين. لهذه الأسباب عند ما طلب أصحابُ
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
رأيه في الهجرة من مكة قال في جوابهم : « لَوْ خَرجْتُمْ إلى أرض الحَبَشة
فانَّ بِها مَلِكاً لا يُظلَمُ عِندَهُ أحَدٌ وهي أرضُ صِدْق حَتى يَجعَلَ
اللّهُ لكُم فَرَجاً ممّا أنتُم فيهِ » (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 321 ، تاريخ الطبري ج 2 ، ص 70 ، وبحار
الأنوار : ج 18 ، ص 412 نقلا عن مجمع البيان للطبرسي.).
أجَل انَ مجتمعاً صالحاً يتسلَّم
زمامَ الأمر فيه رجلٌ صالحٌ عادلٌ نموذج مصغّر من جنّة عدن بالنسبة إلى المسلمين
المضطهدين في بلدهم بسبب عقيدتهم ، وهو ما كان يريده ويتمناه أصحاب رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ليتمكنوا من القيام بشعائر دينهم فيه في جوٍّ من الطمأنينة والامن. ولقد كان لكلام رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم أثر قوىٌ في نفوسهم تلك الثلة
المؤمنة الباحثة عن ارض تعبد فيها اللّه في أمان ، بحيث لم يمض زمان إلاّ وقد
شدّت رحالها وغادرت مكة ليلا في غفلة من الاجانب ( المشركين ) مشاة وركباناً ،
متجهةً نحو جدّة ، للسفر عبر مينائها إلى ارض الحبشة. وكان هذا الفريق يتألف من عشر أو
خمسة عشر شخصاً بينهم أربعة من النسوة المسلمات (تاريخ الطبري : ج 2 ، ص 70.).
والآن يجب أن نرى لماذا لم يذكر
رسولُ اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
للمسلمين مناطقَ اُخرى للهجرة اليها ، وانما ذكر الحبشة فقط. ان سر هذا الاختيار هذا يتضح إذا
درسنا أوضاع الجزيرة العربية وغيرها من المناطق آنذاك. ان الهجرة إلى المناطق العربية الّتي
كان سكانها من المشركين والوثنيين قاطبة كان أمراً محفوفاً بالخطر ، فان
المشركين كانوا سيمتنعون عن قبول المسلمين في أرضهم إرضاء لقريش أو وفاء وتعصباً
لدين الآباء ( الوثنيّة ). وكذلك المناطق الّتي كان يقطنها
المسيحيّون أو اليهود ، من الجزيرة العربية لم تكن تصلح لهجرة المسلمين إليها هي
الاُخرى لان تينك الطائفتين كانتا تتقاتلان فيما بينهما في صراع مذهبيّ وطائفي ،
فلم تكن الأوضاع لتسمح بأن يدخل طرفٌ ثالث في حلبة الصراع ، هذا مضافاً إلى أن
ذينك الفريقين ( اليهود والنصارى ) كانا يحتقران العنصر العربيّ أساساً ، فكيفَ
يمكن الهجرة إلى مناطقهم والتعايش معهم؟! أما « اليمن » فقد كان تحت سيطرة
الحكم الإيرانيّ الملكيّ ، ولم تكن السلطاتُ الإيرانية آنذاك لتسمح باقامة
المسلمين في ربوع « اليمن » ، لما عُرف من نقمتها فيما بعد على الدعوة الإسلامية
إلى درجة انه لما وصلت رسالة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
إلى « خسرو برويز » كتب إلى عامله على اليمن فوراً « احمل إليّ هذا الّذي يذكر
أنه نبيٌّ ، وبدأ اسمَه قبل اسمي ، ودعاني إلى غير ديني »
!! (بحار الأنوار : ج 20 ، ص 382.).
وكذلك كانت « الحيرة » تحت الاستعمار
والنفوذ الايرانيّ كاليمن. وأمّا « الشام » فقد كانت بعيدة عن «
مكة المكرمة » ، هذا مضافاً إلى ان « اليمن » و « الشام » كانتا سوقين لقريش ،
وكانت تربُط قريش بسكان هاتين المنطقتين روابط وعلاقات وثيقة ، فاذا كان
المسلمون يلجأون إليها اُخرجوا منهما بطلبٍ من قريش ، تماماً كما طلبت من ملك
الحبشة مثل هذا الطلب ، ولكنه رفض طلبهم. وقد كانت الرحلة البحرية ـ في تلك الآونة ـ وبخاصة
برفقة النساء والاطفال رحلة شاقة جداً ، من هنا كانت هذه الهجرة ، وترك الحياة
والمعيشة في الوطن دليلا قوياً على إخلاص اُولئك المهاجرين لدينهم وعمق ايمانهم
به ، وصدقه. ولقد كان ميناء « جدة » آنذاك ميناء
تجارياً عامراً كما هو عليه الآن ، ومن حسن التوفيق أن هذه الثلة المهاجرة قد
وصلت إلى هذا الميناء في الوقت الّذي كانت فيه سفينتان تجاريتان على اُهبة
الاقلاع ، والتوجه نحو الحبشة ، فبادر المسلمون إلى ركوبها والسفر عليها دون
تلكّؤ خشية لحاق قريش بهم والقبض عليهم ، لقاء نصف دينار عن كل راكب. وكان ذلك في شهر رجب
في السنة الخامسة من مبعث رسول اللّه (بحار الأنوار : ج 18 ، ص 412 نقلا عن مجمع البيان للطبرسي.).
ولما عرف المشركون بهجرة بعض
المسلمين أمروا جماعةً من رجالهم بملاحقة اولئك المهاجرين واعادتهم إلى مكة
فوراً ، ولكن المسلمين المهاجرين كانوا قد غادروا شواطئ « جدة » قبل أن يدركهم
الطلب (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 321 ـ 323.).
ومن الواضح أن ملاحقة مثل هذه الثلة
الّتي لم تلجأ إلى أرض الغير إلاّ لأجل الحفاظ على عقيدتها والفرار من الفتنة
لنموذج بارز من عتوّ قريش وعنادها. فاولئك المهاجرون مؤمنون تركوا الأهل
والوطن ، واغمضوا الطرف عن المال ، والتجارة ، وخرجوا يطلبون أرضاً نائية
يمارسون فيها شعائرهم بحرية ، ومع ذلك لا يكف عنهم زعماء مكة وجبابرتها
وطغاتها!! اجل ان رؤساء « دارالندوة » بمكة
واقطابها كانوا يعلمون جيداً أسرار هذه الهجرة وآثارها من خلال بعض القرائن ،
والمؤشرات ولذلك كانوا يرددون فيما بينهم اُموراً سنذكرها في ما بعد. هذا والجدير بالذكر
أن اعضاء هذا الفريق المهاجر لم يكونوا من قبيلة واحدة بل كان كل واحد من هؤلاء
العشرة ينتمي إلى قبيلة خاصة. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الهجرة الثانية إلى
الحبشة :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ثم انه وقعت بعد هذه الهجرة هجرة
اُخرى ، وكان في مقدمة المهاجرين هذه المرة « جعفر بن أبي طالب ». ابن عم رسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم.
ولقد تمت الهجرة الثانية في منتهى
الحريّة ، لأن المسلمين المهاجرين استطاعوا في هذه الهجرة ان يصطحبوا معهم
نساءهم وأولادهم ، بحيث بلغ عدد المسلمين في أرض الحبشة هذه المرة (83).
هذا إذا لم نحص من وُلد في أرض
الحبشة لهُم ، والاّ كان العددُ اكثر من هذا الرقم. ولقد وَجَدَ المسلمون المهاجرون ارضَ
الحبشة كما وصفها رسولُ اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
لهم : منطقة عامرة ، وبيئة آمنة حرّة ، تصلح لأَن يُعبد فيها اللّه تعالى بحرية
وأمان. تقول « اُم سلمة »
الّتي تشرفت بالزواج من رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم في ما بعد ، عن تلك الارض : لما
نزلنا أرضَ الحبشة جاوَرنا بها خير جار
النجاشي ، أمنّا على ديننا ، وعبدنا اللّه تعالى ، لا
نؤذى ، ولا نسمع شيئاً نكرهه. كما أنه يُستفاد ممّا قاله بعض اولئك
المهاجرين من الشعر في الحبشة ، انهم أمنوا بأرض الحبشة ، وحمدوا جوار النجاشي ،
وعَبدوا اللّه لا يخافون على ذلك أحداً. ونحن نكتفي هنا بادراج
بعض الأبيات من قصيدة مطوَّلة أنشأها « عبد اللّه بن الحارث » في هذا الصدد :
(1)المُغلغلَة : الرسالة ترسَل من بلد إلى بلد. (2)السيرة النبوية : ج 1 ، ص 351 ـ 353. ويقول ابن الاثير :
وكان مسيرهم ( إلى الحبشة ) في رجب سنة خمس من النبوة وهي السنة الثانية من اظهار الدعوة فاقاموا شعبان وشهر رمضان
وقدموا في شوال سنة خمس من النبوة ، وكان سبب
قدومهم إلى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم انه بلغهم
ان قريشاً اسلمت فعاد منهم قومٌ وتخلّف قومٌ (الكامل في التاريخ : ج 2 ، ص 52 و 53.).
هذا ويمكن للقارئ الكريم أن يقف على
تفاصيل هذا القسم في السيرة النبويّة لابن هشام (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 354 ـ 362.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قريش توفد رجالا
لاسترداد المسلمين :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
عندما بلغ قريشاً وزعماء « مكة » ما
أصبح فيه المسلمون المهاجرون من أمن وحرية ، وما حصلوا عليه من حسن الجوار
والطمأنينة والراحة في أرض الحبشة ثارت ثائرة الحسد والغيظ في قلوبهم ، وتوجسوا
خيفة من نفوذ المسلمين في الحبشة لأن أرض الحبشة قد أصبحت قاعدة قوية للمسلمين ،
وكانت الزعامةُ المكيةُ تتخوفُ من أن يجد أنصارُ الإسلام واتباعُه منفذاً إلى
بلاط النجاشي زعيم الاحباش وملِكهم ، ويُميلّوا قلبَه نحو الإسلام ، ويكسبوا
تاييده للمسلمين ، فيؤول الامر إلى أن يعبّئ جيشاً كبيراً للقضاء على حكومة
المشركين الوثنيين في شبه الجزيرة العربية ، وعندها تكون الكارثة. فاجتمع أقطابُ « دار
الندوة » مرة اُخرى للتشاور في الأمر ، فأستقرّ
رأيهم على أن يبعثوا إلى البلاط الحبشيّ من يقدم إلى النجاشيّ ووزرائه وقواده
هدايا مناسبة يستميلونهم بها ليستطيعوا من هذا الطريق التأثير على النجاشي ثم
يتسنّى لهم بعد ذلك ان يقنعوه بضرورة إخراج المسلمين المهاجرين من أرضه أن
يتهمونهم عنده بالسفاهة والجهل ، وابتداع دين جديد منكر ، والإرتداد عن دين
الآباء والاجداد!! ولكي تتحقق خطتهم هذه على أحسن وجه
ويصلوا عن طريقها إلى افضل النتائج اختاروا من بينهم رجلين ماكرين اصبح احدُهما
في ما بعد من دهاقنة السياسة وهما : « عمروُ بن العاص » ، و « عبد اللّه بن ابي
ربيعة » وقال لهما كبير المؤتمرين في ذلك الدار : إدفعا إلى كل بطريق هديته قبل
أن تكلّما النجاشي فيهم ، ثم قدّما إلى النجاشيّ هداياه ، ثم سلاه أن يسلّمهم
إليكما قبل أن يكلمهم. فخرج موفَدا قريش حتّى قدما على
النجاشي بعد أن تلقّيا هذه التعليمات. وهناك في الحبشة دَفعا إلى كل بطريق من بطارقة النجاشيّ وقادة
جيشه ووزرائه هديته ، وقالا لكل بطريق منهم : إنه قد ضوى (ضوى أيّ لجأ وأتى ليلا.)
إلى
بلد الملك منّا غُلمان سفهاء ، فارقوا دينَ قومهم ، ولم يَدخلوا في دينكم ،
وجاؤوا بدين مبتدَع لا نعرفه نحن ولا انتم ، وقد بعثنا إلى المِلِك لنكلّمه في
أمرهم أشرافُ قومهم ليردَّهم اليهم فاذا كلَّمنا الملكُ فيهم ، فأشيروا عليه بأن
يسلّمهم إلينا ، ولا يكلّمهم ، فان قومَهم أبصر بهم ، واعلم بما عابوا عليهم. فابدى اُولئك البطارقة والقادة
والوزراء الطامعون الجهلة استعدادهم لمساعدة الرجلين في إنجاح مهمتهم. ولما كان من غد دخلا على النجاشي
وقدما هداياهما إليه فقبلها منهما ثم كلّماه فقالا له : أيها الملك إنه قد ضَوى إلى بلدك منا
غِلمان سفهاء ، فارقوا دينَ قومهم ولم يدخلوا في دينك ، وجاؤوا بدين ابتدعوه لا
نعرفه نحن ولا أنت ، وقد بَعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم
وعشائرهم لتردَّهم اليهم ، فهم أبصر بهم واعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه. وما أن انتهى موفدا قريش من الكلام
إلاّ وقالت بطارقته حوله : صدقا أيها الملك ، قومُهم أبصرُ بهم ، وأعلمُ بما
عابوا عليهم فأسلمهم إليهما ، فليرداهم إلى بلادهم وقومهم. فغضبَ النجاشيّ وكان رجلا حكيما
عادلا وقال : لاها اللّه ، إذن لا اُسلمهم إليهما ، ولا يُكادُ قوم جاوَرُوني ،
ونَزلوا بلادي واختاروني على من سواي حتّى أدعوَهم فاسألهم عما يقول هذان في
أمرهم فان كانوا كما يقولان أسلمتُهُم اليهما ، ورددتُهم إلى قومهم ، وان كانوا
على غير ذلك منعتهم منهما واحسنتُ جِوارَهم ما جاوروني. ثم ارسل إلى أصحاب رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
المهاجرين إلى الحبشة فدعاهم من غير أن يعلمهم بما يريد منهم ، فحضروا عنده ،
وكانوا قد قرّروا أن يكون متكلِّمُهم وخطيبهم : « جعفر بن أبي طالب » وقد قلِقَ
بعضُ المسلمين لما قد سيقوله « جعفر » عند الملك ، وبماذا سيكلّمهُ ويجيبُه ،
فسألوه عن ذلك فقال لهم جعفر : أقول واللّه ما علّمنا ، وما امرنا به نبيُنا صلىاللهعليهوآلهوسلم
كائناً في ذلك ما هو كائن. فالتفت النجاشيُ إلى « جعفر » وسأله
قائلا : ما هذا الدين الّذي فارقتم فيه قومكم
، ولم تدخلوا ( به ) في ديني ولا في دين أحد من هذه الملل؟ فقال جعفر بن ابي طالب : « أيُّها الملك ، كنّا قوماً أهلَ
جاهلية نعبُدُ الأَصنامَ ، ونأكلُ الميتةَ ، ونأتي الفواحش ، ونقطعُ الارحام ،
ونسيءُ الجوار ، ويأكلُ القويّ منّا الضعيف ، فكنّا على ذلك حتّى بعث اللّه
الينا رسولا منا ، نعرف نسبَه وصدقه ، وأمانته وعَفافه ، فدعانا إلى اللّه
لنوحِّدَه ونعبُدَه ، ونخلَعَ ما كنّا نعبُد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان ، وأمرنا بصدق
الحديث ، وأداء الامانة ، وصلة الرحم ، وحسن الجوار ، والكف عن المحارم والدماء
، ونهانا عن الفواحش ، وقول الزور ، وأكل مال اليتيم ، وقذف المحصنات. وأمرنا أن
نعبدَ اللّه وحدَه ، لا نشركُ به شيئاً ، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام
فصدّقناه وآمنّا به ، واتّبعناه على ما جاء به من اللّه ، فعبدنا اللّه وحده فلم
نشرك به شيئاً ، وحرَّمنا ما حرَّم علينا ، وأحللنا ما أحلّ لنا ، فعدا علينا
قومُنا ، فعذّبونا ، وفتنونا عن ديننا ، ليردُّونا إلى عبادة الاوثان من عبادة
اللّه تعالى ، وان نستحل ما كنّا نستحل من الخبائث ، فلمّا قهرونا وظلمونا
وضيّقوا علينا ، وحالوا بيننا وبين ديننا ، خرجنا إلى بلادك ، واخترناك على من
سواك ، ورغبنا في جوارك ، ورجونا أن لا نظلَم عندكَ ايها الملك ». فأثّرت كلمات جعفر البليغة ، وحديثه
العذب تأثيراً عجيباً في نفس النجاشيّ بحيث اغرورقت عيناه بالدُموع ، وقال :
لجعفر هل معَك ممّا جاء به عن اللّه من شيء؟ فقال جعفر : نعم فقال له النجاشيّ :
فاقرأهُ عليَّ ، فقرأ عليه جعفر آيات من مطلع سورة مريم ، واستمرَّ في قراءته ،
وبذلك بيّن نظرة الإسلام إلى « مريم » عليهاالسلام وطهارة
جيبها ، وإلى مكانة المسيح عليهالسلام ،
وعظمة شأنه ، وجليل مقامه ، فبكى النجاشيُ حتّى اخضلّت لحيتُه بالدموع وبكت
اسقافتُه (الاساقفة ؛ جمع اسقف : علماء النصارى.)
حتّى بلّوا مصاحفهم بها حين ما سمعوا ما تلاه جعفر عليهم حول مريم والمسيح عليهماالسلام.
وبعد صمت قصير ساد ذلك
المجلس قال النجاشي : « إن هذا والّذي جاء به عيسى ليخرجُ
من مشكاة واحدة » وهو يقصد أن القرآن والإنجيل كلامُ اللّه وأنهما شيء واحدٌ. ثم التفت إلى موفَدي قريش وقال لهما
بنبرة قوية : انطلقا فلا واللّه لا اُسلِّمهم إليكما ولا يُكادون ، فخرجا من
عنده. وعند المساء تكلَم « عمرو بن العاص »
ـ وكان إمرء خدّاعاً ما كرا ـ مع رفيقه « عبد اللّه بن ربيعة » في الامر ، وقال
له : واللّه لآتيَنّ غداً عنهم بما استأصل به خضراءهم ( وهو يعني أنه سيأتي
بحيلة تقضي على جذور المهاجرين بالمرة ) ولاُخبرنَّه أنهم يزعمون أن عيسى بن
مريم عبد. ( أي على خلاف ما يعتقد النصارى في
المسيح ). فنهاه « عبد اللّه »
عن ذلك وقال : لا تفعل ، فانّ لهم أرحاماً ، وان
كانوا خالفونا ، ولم ينفع نهي عبد اللّه له. ولمّا كان من الغد دخلا على النجاشي
مرة اُخرى فقال له « عمرو » متظاهراً هذه المرة بالدفاع عن عقيدة النصارى وهي
دين الملك واهله ، ومنتقداً رأي المسلمين. أيها الملك ، إنهم يقولون في « عيسى
بن مريم » قولا عظيماً. فارسل إليهم فسلهم عما يقولون فيه. فارسل النجاشيُ اليهم ليسألهم عنه ،
وهو الملك المحنَّك الّذي لا يأخذ الأمور على ظواهرها ، ومن غير تحقيق ودراسة ،
فأدرك المسلمون بفطنتهم أنه سيسألهم هذه المرة عن موقفهم من المسيح عليهالسلام
فاتفقوا أن يكون « جعفر » متكلمهم وخطيبهم وعندما سألوه عما سيجيب به الملك قال
: أقول واللّه ما قال اللّه ، وماجاءنا به نبيُنا. فلما دخلوا على النجاشيّ قال لجعفر
بن ابي طالب : ماذا تقولون في عيسى بن مريم؟ فقال جعفر : نقول فيه الّذي جاءنا به
نبينا صلىاللهعليهوآلهوسلم
: هو عبد اللّه ورسوله وروحه وكلمته القاها إلى مريم العذراء البتول. فسرّ النجاشي لكلام جعفر ورضي به
وقال : هذا واللّه هو الحق ، واللّه ما عدا عيسى بن مريم ما قلتَ. ولكنَّ حاشيته لم تَرضَ بهذا الكلام
ولم تقبل بما قاله الملكُ ، ولكنّه لم يعبأ بهم ، وأيّد مقالة المسلمين ، ومنحهم
الحرية الكاملة ، والأمان الكامل قائلاً لهم : اذهبوا فانتم آمنون في أرضي من سبّكم
غُرمَ ، من سبّكم غرمَ ، ما اُحب أنّ لي دبراً من ذهب وإني آذيتُ رجلا منكم. وردّ على موفَدي قريش هداياهما قائلا
لهما : « ردّوا عليهما هداياهما فلا حاجة لي بها ، فواللّه ما أخذ اللّه مني
الرشوة حين ردّ عليّ مُلكي فآخذ الرشوة فيه ، وما أطاع الناس فيَّ فاُطيعهم فيه
». فخرج مبعوثا قريش مقبوحين مردوداً
عليهما ما جاء به يجرّان اذيال الخيبة (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 338 ، إمتاع الاسماع : ص 21 ، بحار الأنوار
: ج 18 ، ص 414 و 415.). * * * وينبغي ان نسجّل هنا
موقفا آخر من مواقف ابي طالب في تأييد المسلمين ، ونصرة الدين الحنيف. فقد أرسل « ابو طالب » أبياتاً
للنجاشيّ يحثُّه على الدفع عن المهاجرين وحسن جوارهم وتلك الابيات هي :
(2) إحسان.
(3)السيرة النبوية : ج 1 ، ص 333 و 334. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
العَودةُ من الحبشة
:
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قلنا في ما مضى أنَّ المجموعة
الاُولى من المهاجرين رجَعت من الحبشة إلى مكة لأنباء بلغتها عن إسلام قريش عامة
وانضوائها تحت راية الإسلام. حتّى إذا دنوا من « مكة » بلغهم أنما كانوا تحدّثوا
به من إسلام اهل مكة كان باطلاً ، فلم يدخل منهم إلى « مكة » إلاّ قليل دخلوها
مستخفين أو في جوار بعض الشخصيات القرشية بينما عاد الأكثرون من حيث جاؤوا. وكان ممن دخل « مكة » بجوار ، «
عثمان بن مظعون » الّذي دخلها بجوار « الوليد بن المغيرة » (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 369.)
ولكنه كان يشاهد ما فيه أصحابُ رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
من
البلاء ، والعذاب وهو يغدو ويروح في امان فتألّم لذلك ولم تطِق نفسه تحمُّلَ هذا
الفَرق وقال : واللّه إن غدوّي ورواحي آمناً بجوار رجل من أهل الشرك ، وأصحابي
وأهلُ ديني يلقَون من البلاء والأذى في اللّه ما لا يصيبني لنقصٌ كبير في نفسي
فمشى إلى « الوليد بن المغيرة » وردَّ عليه جواره ليواسي المسلمين ويشاركهم في
آلامهم ومتاعبهم وقال : يا أبا عبد شمس وفَت ذِمّتُك ، قد رَددْتُ إليك جوارَك. قال : لِمَ يابن أخي؟ لعلَّه آذاك
أحدٌ من قومي؟ قال : لا ولكني أرضى بجوار اللّه ولا
اُريد أن أستجير بغيره. فقال الوليد له : إذن فاردُد عليّ
جوارى علانية كما أجرتُك علانيةً. فانطلقا فخرجا حتّى أتيا المسجدَ ،
فقال « الوليدُ » مخاطباً من حضر مِن قريش : هذا عثمان قد جاء يردُّ عليّ جواري.
قال : صدق ، قد وجدتُه وفيّاً كريمَ الجوار
ولكنّي قد احببتُ أن لا استجيرَ بغير اللّه ، فقد رردتُ عليه جواره (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 370.).
ثم لم يمض شيء مِنَ الوقت حتّى دخَلَ
المسجدَ « لبيد » وكان شاعراً متكلِّما بارزاً من شعراء العرب ومتكلّميها ووقف
في مجلس من قريش ينشدهم و « عثمان بن مظعون » جالس معهم فقال مِن جملة ما قال
شعراً : ألا كلُ شيء ما خلا
اللّه باطلُ فقال عثمان بن مظعون : صدقتَ فقال :
لبيد : وكلُ نعيم لا محالة
زائلُ قال عثمان : كذبت ، نعيمُ الجنة لا
يزول فاستثقل « لبيد » تكذيب عثمان وتحدّيه له في ذلك الجمع فقال : يا معشر قريش
واللّه ما كان يؤذى جليسُكم ، فمتى حدث هذا فيكم؟؟ فقال رجلٌ مِن القوم : إنَّ هذا سفيه
في سفهاء معه ، قد فارقوا ديننا فلا تجدنَ في نفسكَ من قوله. فردّ عليه « عثمان » حتّى تفاقم
الأمر بينهما فقام إليه ذلك الرجلُ فلطم عينه فخضّرها ( واصابها ) ، والوليد بن
المغيرة قريب يرى ما بلغ عثمان فقال : أما واللّه يا ابن أخي إن كانت عينُك
عَمّا أصابها لغنيّة لقد كنت في ذمة منيعة ( وهو يريد أنك لو بقيت في ذمتي
وجواري لما اصابك ما أصابك ). فقال عثمان رادّاً عليه : بل واللّه
إن عيني الصحيحة لفقيرةٌ إلى مِثل ما أصابَ اُختَها في اللّه ، واني لفي جوار من
هو أعزُّ منكَ ، واقدرُ يا أبا عبد شمس. فقال له الوليد : هلمّ يا ابنَ أخي
إن شئت فعُد إلى جوارك ، فقال ابنُ مظعون : لا (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 370 و 371.).
وكانت هذه صورةٌ رائعةٌ من صور كثيرة
لصمود المسلمين ، وتفانيهمْ في سبيل العقيدة ، وإصرارهم على النهج الّذي اختاروه
، ومواساة بعضهم لبعض في أشدّ فترة من فترات التاريخ الإسلامي. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وفدٌ مسيحيُّ
لتقصّي الحقائق يدخل مكة :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قدمَ على رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وهو بمكة عشرون رجلا من النصارى حين بلغهم خبرُه من الحبشة ، مبعوثين من قِبَل
أساقفتها لتقصّي الحقائق بمكة ، والتعرف على الإسلام. فوجدوا رسول اللّه في
المسجد ، فجلسوا إليه ، وكلّموه وسألوه عن مسائل ، ورجالٌ من قريش فيهم « أبو
جهل » في أنديتهم حول الكعبة. فلما فرغوا من مسألة رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم عما أرادوا دعاهم صلىاللهعليهوآلهوسلم
إلى اللّه عز وجلّ وتلا عليهم آيات من القرآن الكريم ، فكان لها من التأثير
البالغ في نفوسهم بحيث عندما سمعوها فاضت أعينهم من الدمع ، ثم استجابوا له
وامنوا به وصدّقوه ، بعد ما عرفوا منه ما كان يوصَف في كتابهم ( الانجيل ) من أمره.
فلما قامُوا عنه ، ورأت قريش ما نتج
عنه ذلك اللقاء استثقله « ابو جهل » فقال للنصارى الذين اسلموا معترضاً وموبّخاً
: خيَّبكُمُ اللّه مِن ركب بعَثكُم مَن وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم لتأتوهم
بخبر الرجل فلم تطمئنّ مجالسُكم عنده حتّى فارقتُم دينكُم وصدَّقتموهُ بما قال ،
ما نعلمُ ركباً أحمقَ مِنكُم. فأجابه اولئك بقولهم : سلامٌ عليكم
لا نُجاهِلكم ، لنا ما نحنُ عليه ، ولكم ما أنتم عليه ، لم نأل أنفسنا خيراً (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 390 و 393 وقد نزلت في هذا الشأن الآيات 52
إلى 55 من سورة القصص.).
وبذلك الكلام الرفيق الجميل ردّوا
على فرعون مكة الّذي كان يبغي ـ كسحابة داكنة ـ حجب أشعة الشمس المشرقة ، وحالوا
دون وقوع صدام. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قريش توفد إلى يهود
يثرب للتحقيق :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد ايقظ وفدُ نصارى الحبشة إلى مكة
وما نجم عن لقائهم برسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
قريشاً ودفعهم إلى تكوين وَفد يتألف من « النضر بن الحارث » و « عُقبة بن ابي
معيط » وغيرهما وإرسالهم إلى أحبار يهود المدينة ليسألونهم عن رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ودينه. فقال أحبارُ اليهود لمبعوثي قريش :
سَلوا محمَّداً عن ثلاث نأمركم بهنَّ ، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسَل ، وان لم
يفعل فالرجلُ متقوّلٌ ، فروا فيه رأيكم ، سلوه : 1 ـ عن فتية ذَهبوا في الدهر الأول (
يعنون بهم أصحاب الكهف ) ما كان من امرهم ، فانه قد كان لهم حديثٌ عجيبٌ. 2 ـ وعن رجل طوّاف ( يعنون به ذا
القرنين ) قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه وخبرُه؟ 2 ـ وعن الروح ما هي؟ فاذا أخبركم بذلك فاتبعوهُ ، فانه
نَبيّ ، وان لم يفعل ، فهو رَجُلٌ متقوِّلٌ فاصنَعوا في أمره ما بدا لكم. فعادَ وفد قريش إلى « مكة » ولما
قدموها قالوا لقريش ما سمعوه من أحبار اليهود. فجاؤوا إلى رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وطرحوا عليه الاسئلة الثلاثة السالفة. فقال رسولُ اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
: انتظر في ذلك وحياً. (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 300 ـ 302.)
ثم نزل الوحيُ يحملُ إلى رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
الأجوبة المطلوبة على تلك الاسئلة. وقد ورَدَ الجواب عن السؤال عن الروح
في الآية 85 من سورة الإسراء. واُجيبَ على السؤالين الآخرين عن
أصحاب « الكهف » وذي القرنين بتفصيل في سورة « الكهف » ضمن الآيات 9 ـ 28
والآيات 73 ـ 93. وقدوردت تفصيلاتُ هذه الإجابات الّتي
أجابَ بها رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
على أسئلتهم في كتب التفسير. ولابدَّ هنا من أن نُذكِّر القارئ
الكريم بنقطة مفيدة وهي أنّ المراد من « الرّوح » في سؤال القوم ليس هو الرُّوح
الإنسانية بل كان المراد هو جبرئيل الأمين ، ( بقرينة أنَّ المقترحين الاصليين
لهذه الأسئلة : هم اليهود وكانوا يكرهون الروح الامين ، ويعادونه ) ، وهو أمرٌ
مبحوثٌ في محلِّه من كتب التفسير. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
18الأسلحةُ
الصَديئة والاساليب الفاشلة
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
نظّمْ أسياد قريش صفوفهم لمكافحة
عقيدة التوحيد ، بعد أن أدركوا عقم المواقف المبعثرة من هذا الدّين وأهله. فقد حاولوا في بداية الأمر أن
يُثنُوا رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
عن المضيّ في مواصلة دعوته ، وذلك بتطميعه بالمال والجاه وماشابه ذلك ، ولكن لم
يحصلوا من ذلك على شيء ، فقد خيّب ذلك الرجلُ المجاهدُ ظنونهم فيه ، وبدّد
آمالهم في اثنائه عن هدفه بكلمته الخالدة المدوّية : « واللّه لو وَضعوا الشمس
في يميني ، والقَمر في يساري على أن أترك هذا الأمر لما فعلتُ » وهو يعني ان
تمليكه العالم كلَه لا يثنيه عن هدفه ولا يصرفه عن تحقيق ما نُدِبَ إليه وارسل
به. فعمدوا إلى سلاح آخر هو التهديد
والأذى ، والتنكيل به وباصحابه وانصاره ، ولكنهم واجهوا صمودَه وصمود أنصاره واصحابه
، وثباتهم الّذي ادى إلى انتصار المؤمنين في هذا الميدان ، وخيبة المشركين
وهزيمتهم. وقد بَلَغ من ثبات المسلمين على
الطريق أنهم أقدموا على مغادرة الوطن ، وترك الأهل والعيال ، والهجرة إلى الحبشة
فراراً بدينهم إلى اللّه ، وسعياً وراء نشره وبثه في غير الجزيرة من الآفاق. ولكن رغم إخفاق أسياد قريش المشركين
في جميع هذه الجهات والميادين وعجزهم عن استئصال شجرة التوحيد
الفتية ، وفشل جميع الأسلحة الّتي استخدموها للقضاء على الدين الجديد وأهله ، لم
تنته محاولاتهم الإجهاضيّة بل عمدوا هذه المرّة إلى استخدام سلاح جديد حسبوه
أمضى من سوابقه. وهذا السلاح هو سلاحُ الدعاية ضدّ
رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
، لانه صحيحٌ أن ايذاء وتعذيب جماعة المؤمنين في « مكة » تمنع غيرهم من سُكان «
مكّة » من الإنضواء إلى الإسلام إلاّ ان الحجيج الذين كانوا يسافرون إلى مكة في
الأشهر الحرُم وكانوا يلتقون رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
في جوّ من الأمن والطمأنينة خلال تلك المواسم كانوا يتأثَّرون بدعوة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
ويتزعزعُ اعتقادهم بالأوثان على الأقل ، ان لم يؤمنوا بدينه ، ولم يستجيبوا
لدعوته ، ثم إنهم كانوا ينقلون رسالة الإسلام وانباء النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى
مواطنهم ، ومناطِقهم وكان ينتشر بذلك اسم رسول اللّه ، وأنباء دينه في شتّى
مناطق الجزيرة العربية ، وكان هذا هو بنفسه ضربة قوية توجَّه إلى صرح الوثنية في
مكة ، وعاملا قوياً في انتشار عقيدة التوحيد ، وسطوع أمره. من هنا اتخذ سادةُ
قريش اُسلوباً آخر ، قاصدين بذلك الحيلولة دون انتشار
الإسلام ، واتساع رقعته ، وقطع علاقة المجتمع العربي به. واليك فيما يأتي بيان
تفاصيل هذا الاسلوب ، وهذه الخطة : |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
1 ـ الاتّهاماتُ
الباطلة :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
يمكن التعرف على شخصية أي واحد وتقييمها
من خلال ما يرميه به اعداؤه من شتائم وسباب ، وما يكيلون له من اتهامات ونسب ،
فَإن العدو يسعى دائماً إلى أن يتهم خصمَه بنوع من أنواع التهم ليُضِلَّ الناس ،
ويصرفهم عنه ، وليتمكن بما يحوكُه حوله من أراجيف وأباطيل الحط من شأنه في
المجتمع واسقاطه من الانظار والأعين. ان العدوّ الذكيّ يسعى دائماً إلى أن
ينسب إلى منافسه ما يُصدِّقه ولو فئة خاصة من الناس على الاقل ، ويوجبُ شكَّهم
في صدقه ، ويتجنب تلك النِسَب التي لا تصدَّق في شأنه ، ولا تناسبُ
اخلاقه وافعاله المعروفة عنه ، ولا تمسه بشكل من الأشكال ، لأنه سوف لا يَجني في
هذه الحالة إلا عكسَ ما يقصد ، وخلاف ما يريد. ومن هنا يستطيع المؤرخُ المحققُ أن
يتعرف على الشخصية الواقعية لمن يدرسه ، وعلى مكانته الإجتماعية ، وأخلاقه
وسجاياه ولو من خلال ما ينسبُه الأعداء إليه ، وما يكيلون له من أكاذيب
وإفتراءات ، ونسب باطلة واتهامات ، لأنّ العدوّ الّذي لا يخاف أحداً لا يقصّرُ
في كيل كلِّ تهمة تنفعُهُ وتخدمُ غرضَه إلى الطرف الآخر ، ويستخدم هذا السلاح (
أي سلاح الدعاية ) ما استطاع ، وما ساعدته معرفُته بالظروف ، ودرايته بالفَرص. فاذا لم ينسَب إليه أيُّ شيء من تلك
النسب الباطلة فان ذلك إنما هو لأجل طهارة جيبه ، ونقاء صفحته ، وتنزُّه شخصيته
عن تلك النسب ، ولأنّ المجتمع لم يكن ليعبأ بها ولم يصدّقها في شأنه. ولو أننا تصفّحنا اوراق التاريخ
الإسلامي لرأينا أن قريشاً مع ما كانت تكنُّ من عداء ، وتحِملُ من حِقد على رسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وكانت تسعى بكل جهدها أن تهدم صرح
الإسلام الجديد الظهور ، وأن تحطّ من شأن مؤسسه وبانيه لم تستطع مع ذلك أن
تستفيد من هذا السلاح ، وتستخدمه كاملا. فقد كانت تفكّر في
نفسها : ماذا تقول في حق رسول اللّه؟ وماذا ترى تنسب
إليه؟؟ هل تتهمه بالخيانة المالية وها هم
جماعة منهم قد ائتمنوه على أموالهم؟! (بحار الأنوار : ج 19 ، ص 62.)
كما
أن حياته الشريفة طوال الاربعين سنة الماضية جسدت امانته امام الجميع ، فهو
الامين بلا منازع؟ هل تتهمه بالجري والانسياق وراء
الشهوة واللّذة؟ وكيف تقول في حقه مثل هذا الكلام مع أنه بدأ حياته الشبابية
بالتزويج بزوجة كبيرة السنّ إلى درجة مّا ، وبقي معها حتّى لحظة انعقاد هذه
الشورى في « دار الندوة » بهدف الدعاية ضدَه ، ولم يُعهَد منه زلّة قدم في هذا
السبيل قط؟! وبالتالي بماذا تتهم محمَّداً الصادق
الأمين ، الطاهر العفيف ، وأية تهمة ترى يمكن أن تُصدَّق في حقه ، أو يحتمل
الناس صدقها في شأنه ولو بنسبة واحد في المائة؟ لقد تحيَّر سادة « دار الندوة »
وأقطابها في كيفية استخدام هذا السلاح ، سلاح الدعاية ضدّ رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
، فقرَّروا في نهاية الأمر أن يطرحوا هذا الأمر على صنديد من صناديد قريش
ويطلبوا رأيه فيه ، وهو « الوليد بن المُغيرة » وكان ذا سنّ فيهم ، ومكانة ،
فقال لهم : يا معشر قريش ، إنه قد حضر هذا
الموسم وان وفود العرب ستقدَم عليكم فيه ، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا فاجمعوا
فيه رأياً واحداً ، ولا تختلفوا فيكذّبُ بعضكم بعضاً ، ويردُ قولُكم بعضُه
بعضاً. قالوا : فأنت يا أبا عبد شمس فقل
وأقم لنا رأياً نقول به. قال : بل أنتم قولوا أسمَع. قالوا : نقول كاهن. قال : لا واللّه ما هو بكاهن ، لقد
رأينا الكُهّانَ فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه. قالوا : فنقول : مجنون. قال : ما هو بمجنون ، لقد رأينا
الجنون وعرفناه فما هو بخنقه ، ولا تخالجه ، ولا وسوسته. قالوا : فنقول : ساحر. فقال : ما هو بساحر لقد رأينا
السحّار وسحرهم فما هو بنفثهم ولا عقدهم. وهكذا تحيَّروا في ما ينسبون إلى
رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وأخيراً اتفقوا على أن يقولوا : أنه
ساحر جاء بقول هو سِحرٌ يفرق به بين المرء وابيه وبين المرء وأخيه ، وبين المرء
وزوجته وبين المرء وعشيرته. ويدلُّ عليه ما أوجده من الخلاف
والإنشقاق والتفرُّق بين أهل مكة الَّذين وقد ذكر المفسِّرون في
تفسير سورة « المدثر » هذه القصة بنحو آخر فقالوا :
لمّا اُنزل على رسول اللّه « حم تنزيلُ الْكِتاب ... ) قام إلى المسجد و «
الوليد بن المغيرة » قريب منه يسمع قراءته فلما فطن النبيُ صلىاللهعليهوآلهوسلم
لاستماعه لقراءته ، أعاد قراءة الآية ، فتركت الآية في نفس الوليد تأثيراً
شديداً فانطلق إلى منزله ، ولم يخرج منه أيّاماً ، فسخرت منه قريشٌ وقالت : صبأ
ـ واللّه ـ الوليدُ ثم مشى رجال من قريش إليه وسألوه رأيه في قرآن محمَّد ،
واقترح كل واحد منهم أمراً ، ولكنه رد عليها بالنفي جميعاً فقالت قريش إذن ما
هو؟ فتفكر « الوليد » في نفسه ثم قال : ما هو إلاّ ساحرٌ أما رأيتموه يفرّق بين
الرجل وأهله ، ووُلده ومواليه فهو ساحر وما يقوله سحر يؤثر (مجمع البيان : ج 10 ، ص 386 و 387.).
ويرى المفسرون أن الآيات التالية في
شأنه إذ يقول اللّه تعالى : « ذَرْني
وَمَنْ خَلقْتُ وَحيداً. وَجَعلْتُ لَهُ مالا مَمدُوداً. وَبَنينَ شُهُوداً.
وَمَهَّدْتُ لَهُ تمهيداً. ثُمّ يَطْمَعُ أنْ أزيدَ. كَلا انّه كانَ لآياتِنا
عَنيداً. سارْهقُهُ صَعُوداً. إنّه فكَّرَ وَقدّر. فَقُتِلَ كَيْفَ قَدّرَ.
ثُمَّ نَظرَ. ثُمَّ عَبسَ وَبَسرَ. ثُمَّ أَدْبَر وَاْستَكْبَرَ. فَقالَ إنْ هذا
إلاّ سِحْرٌ يُؤْثَر ... ( إلى قوله : ) فَما لَهُمْ عِنَ التَذكِرَة مُعْرضيْن.
كأَنَّهُمْ حُمُرٌ مستنفِرة فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَة
» (المدثر : من 11 ـ 51.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الإصرار في نسبة
الجنون إليه صلىاللهعليهوآلهوسلم
:
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
يعتبر إتصاف النبيّ الاكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم
واشتهاره بين الناس بالصدق والامانة وغيرها من مكارم الأخلاق منذ شبابه من
مسلَّمات التاريخ. وهو بالتالي أمرٌ اعترف به حتّى
أعداؤه الالدّاء ، فقد دانوا بفضله ، وأقرُّوا بأخلاقه الكريمة وسجاياه النبيلة
، دون تلكؤ ، ولا إبطاء. وقد كانَ من أوصافه الحسنة البارزة
ان جميع الناس كانوا يدعونه « الصادق » « الامين » وكانوا يثقون بأمانته ثقة
كبرى
(بحار الأنوار : ج 19 ، ص 62 عن عبيداللّه بن ابي رافع : كانت قريش
تدعو محمَّد صلىاللهعليهوآلهوسلم في الجاهلية الامين وكانت
تستودعه وتستحفظه أموالها وأمتعتها ، وكذلك كلُ من كان يقدم مكة من العرب في
الموسم ، وجاءته النبوة والرسالة والامر كذلك.) حتّى
أن المشركين كانوا يودعون ما غلى من أموالهم عنده ، واستمر هذا الأمر حتّى عشرة
أعوام بعد دعوته العلنيّة. وحيث أن دعوته صلىاللهعليهوآلهوسلم
قد ثقلت على المعاندين فاجتهدوا في أن يصرفوا عنه الناس بما ينسبون إليه من بعض
النسب الّتي توجب سوء الظنّ به ، ومن ثم إفشال دعوته ، وحيث أنهم كانوا يعلمون
أن النِسَبَ الاُخرى ممّا لا يقيم لها المشركون وزناً ، لأنها امور بسيطة في
نظرهم ، من هنا رأوا بأن يتهمونه بالجنون ، والزعم بان ما يقوله ويقرؤه ما هو
إلاّ من نسج الخيال ، ومن أثر الجنون الّذي لا يتنافى مع الزهد ، والأمانة ،
وذلك تكذيباً لدعوته. ثم عملت قريش على إشاعة هذه النسبة ،
واتخذت وسائل عديدة وما كرة لترويجها وبثّها بين الناس. ومن شدّة مكرهم ومراءاتهم أنّهم
كانوا يتخذون موقف المتسائل المحايد فيطرحون هذه التهمة في قالب الشك ، والترديد
إذ يقولون : « أفترى على
اللّه كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ » (سبأ : 8.). وهذه هي بعينها الحيلةُ الشيطانية
الّتي يتوسَّل بها ويتستر وراءها أعداء الحقيقة دائماً عند ما يريدون تكذيب
المصلحين العظام ، واسقاط خطواتهم وافكارهم من الاعتبار ، والحطّ من شأنها
وأهميتها. ويشير القرآنُ أيضاً
إلى انّ هذا الاسلوب الماكر الذميم لم يكن مختصاً بالمعارضين في عهد الرسالة
المحمَّدية ، بل كان المعارضون في الأعصر الغابرة أيضاً يتوسلون بهذا السلاح
لتكذيب الرسل ، والانبياء إذ يقول عنهم : « كَذلكَ
مَا أتى الَّذينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُول إلاّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ
مَجْنُونٌ أَتواصَوْا بِه بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ
» (الذاريات : 52 و 53.).
وتحدّث الاناجيلُ الحاضرة هي الاُخرى
عن ان المسيح عليهالسلام عندما وعظ
اليهود قالوا : إنّ فيه شيطاناً ، فهو يهذي فلماذا تسمعون إليه؟! (انجيل يوحنا : الفصل 10 ، الفقرة : 20 ، والفصل 7 ، الفقرة 48 و 52.).
ومن المسلّم والبديهي أنَّ قريشاً لو
كان في مقدورها أن تتهم رسولَ اللّه الصادق الأمين صلىاللهعليهوآلهوسلم
بغير هذا الاتهام وتنسب إليه غير هذه النسبة لما تأخرت عن ذلك ، ولكن حياة
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
المشرقة خلال الاربعين سنة الماضية ، وسوابقه اللامعة في المجتمع المكيّ وغير
المكي كانت تحول دون أن ينسبوا إليه شيئاً من تلك النسب القبيحة ، الذميمة. لقد كانت « قريش » مستعدة لأن تستخدم
أي شيء ـ مهما صغر ـ ضد رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم.
فمثلا عند ما وجده أعداء الرسالة
يجلس إلى غلام مسيحيّ يدعى « جبر » عند المروة ، انطلقوا يستخدمون هذا الأمر
ضدّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
فوراً فقالوا : واللّه ما يُعلِّمُ محمَّداً كثيراً ممّا يأتي به الا « جبر »
النصراني. فردّ عليهم القرآن الكريمُ بقوله : «
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ
يَقُولُونَ إنَّما يُعلِّمُه بَشَرٌ لِسانُ الَّذي يُلْحِدُونَ إلَيْهِ أعْجَميّ
وَهذا لِسانٌ عَربيّ مُبِيْنٌ » (النحل : 103.).
« وَقَدْ جاءهُم رَسولٌ مُبينٌ ثُمَّ تَولُوا عَنهُ
وَقالُوا معلَّمٌ مَجنُونٌ » (الدخان : 13 و 14.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
القرآن يرد على
جميع الاتهامات :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وربما نسبوا إليه
صلىاللهعليهوآلهوسلم
الكهانة ، والكاهن هو من يتصل بعناصر من الجن (الجن كائن من الكائنات ومخلوق من مخلوقات اللّه تعالى وقد اخبر به
القرآن الكريم في مواضع عديدة كما سميت احدى السور باسم الجن.)
أو الشياطين ويتلقى منهم اخباراً حول الماضي والمستقبل ، وكان هذا موجوداً قبل
الإسلام كما ترويه كتب السير والتواريخ (1).
وقد رد القرآن الكريم على هذه المقالة
وهذا الزعم إذ قال تعالى : « وَلا بِقَولْ كاهِن قَليلا ما تَذكَّرُونَ
» (2)
كما ردّ ايضاً تهمة السحر ، والكذب والافتراء والشعر إذ قال تعالى وهو يصف
المتهمين تارة بالكفر واُخرى بالظلم : « وَعَجِبُوا أَنْ جاءهُمْ مُنْذرٌ مِنْهُمْ وَقالَ
الْكافِرونَ هذا سَاحِرٌ كَذّابٌ » (3).
وقال تعالى : « وَقالَ الظالِمُونَ إنْ تَتَّبِعُونَ إلاّ رَجُلا
مَسْحُوراً » (4).
وقال سبحانه متعجباً مِنهم : « قالُوا إنَّما أنتَ مِنَ المُسحَّرينَ
» (5).
وقال تعالى : « وَقالُوا يا أيُّها الَّذي نُزِّلَ عَلَيْهِ
الذِكْرُ إنَّكَ لَمجْنُونٌ » (6).
وقال سبحانه : « وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُون
» (7).
وقال عزّ وجلّ : « فَذكِّر فَما أَنْتَ بِنعْمةِ رَبّكَ بِكاهِن
وَلا مَجْنُون » (8).
وقال تعالى : « قالُوا إنّما أنْتَ مُفْتَر بل أكثَرُهُمْ لا
يَعْلَمُونَ » (9).
وقال تعالى : « أمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْر
سُوَر مِثلِه » (10).
وقال تعالى : « وَقالَ الّذينَ كَفَرُوا إنْ هذا إلاّ إفكٌ
افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَليْهِ قَومٌ آخرونَ فَقدْ جاءوا ظُلماً وَزُوراً »
(11).
وقال سبحانه : « أفتَرى عَلى اللّه كَذِباً أمْ بِهِ جِنَّةٌ
» (12).
وقال تعالى : « أَم يَقُولُونَ شاعِرٌ نَترَبَّصُ بِهِ رَيْبَ
المَنُون » (13).
وقال تعالى : « وَما عَلَّمْناهُ الشَّعر وما ينبغي له إن هو إلا
ذكر وقران مُبِيْن » (14).
وربما وصفوا القرآن بانه اضغاث احلام
فردهم سبحانه بقوله. « بَلْ قالُوا أضغاثُ أحْلام بلِ افْتراهُ بَلْ
هُوَ شاعرٌ » (15).
__________________
وهكذا نجدهم ذهبوا في استخدام سلاح
الاتهام والتشويش على الشخصية المحمَّدية والرسالة الإسلامية كل مذهب ، فمرة وصفوه
بانه كاهن واُخرى بانه ساحر وثالثة بانه مسحور ، ورابعة بانه مجنون وخامسة بانه
معلّم وسادسة بانه كذاب وسابعة بانه مفتري وثامنة بانه مفترى أو مجنون على سبيل
الترديد وتاسعة بانه شاعر وعاشرة بان ما يقوله ما هو الاّ اضغاث احلام. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
2 ـ فكرةُ معارضة
القرآن :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لم يُجدِ استخدام سلاح الإتهام ضد
رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
نفعاً ، ولم يأت بالثمار الّتي كان يتوخاها المشركون منه ، لأن الناس كانوا
يُدركون بفطنتهم وفراستهم أن للقرآن جاذبيّة غريبة ، وأنهم لم يسمعوا كلاماً
حلواً ، وحديثاً عذباً مثله. ان لكلماته من العمق والعذوبة بحيث
يتقبّلها كلُ قلب ، وتسكن اليها كل نفس. من هنا لم ينفع اتهام قريش لرسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
بالجنون وبأنَّ ما يقوله إن هو الاّ من نسج الخيال ، ونتائج الجنون ، شيئاً ،
فقررت أن تخطّط لتدبير آخر ظناً منهم بأنّ تنفيذه سيصرف الناس عنه ، وعن
الاستماع إلى كتابه ، ألا وهو : معارضة القرآن الكريم. فعمدت إلى « النضر بن الحارث » وكان
من شياطين قريش ، وممّن كان يؤذي رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وينصب له العداوة ، وكان قد قضى شطراً من حياته في الحيرة بالعراق وتعلّم بها
أحاديث ملوك الفرس واحاديث « رُستم » و « إسفنديار » وقصصهم ، وحكاياتهم ،
وأساطيرهم ، وطلبوا منه أن يجمع الناسَ ويقص عليهم من تلكم الأساطير والحكايات
يلهي بها الناس عن رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
، ويصرفهم عن الإصغاء إلى القرآن الكريم!! فكان إذا جلس رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
مجلساً فذكَّر الناس فيه باللّه ، وحذر قومه ما أصاب مَن قبلَهم من الاُمم من
نقمة اللّه ، خَلفه « النضرُ » في مجلسه إذا قام صلىاللهعليهوآلهوسلم
ثم قال : أنا واللّه يا معشر قريش أحسنُ حديثاً منه فهلمَّ إليّ ، فأنا
اُحدِّثكم أحسنَ من حديثه. ثم يحدّثهم عن ملوك الفرس و « رستم »
و « اسفنديار » ثم يقول : بماذا محمَّد أحسن حديثاً مني وما
حديثه إلاّ أساطير الأَولين اكتتبهاكما اكتتبتُها؟ (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 300 و 358.).
وقد كانت هذه الخُطة حمقاء جداً إلى
درجة أنها لم تدم إلاّ عدة ايام لا اكثر حتّى أن قريشاً سأمت من أحاديث « النضر
» وسرعان ما تفرّقت عنه. وقدنزل في هذا الشأن آيات هي : « وَقالُوا أساطيرُ الأَوَّليْنَ اكتتبها فهي تمْلى
عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأصِيْلا * قُلْ أَنْزلَهُ الَّذيْ يعْلَمُ السِّرّ في
السَماواتِ وَالأَرْضِ إنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحيماً
»
(الفُرقان : 5 و 6.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
تحججات صبيانيّة
وجاهليّة :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وربما جسَّدوا معارضتهم للدعوة
المحمَّدية في صورة تحججات ومجادلات جاهليّة ومآخذ سخيفة اخذوها على رسول اللّه
ورسالته ، تنم عن تكبر وجهل ، وعناد ولجاج طبعوا عليه. وها نحن نذكر ابرزها :
أ ـ لماذا لم ينزل القرآن على ثريّ
من اثرياء مكة أو الطائف؟! قال تعالى حاكيا قولهم : « لَولا نُزِّلَ هذا الْقُرانُ عَلى رَجُل مِنَ
الْقَريَتَيْنِ عَظِيْم » (الزخرف : 31.).
ب ـ لماذا لم يرسل اليهم ملائكة
ولماذا هو بشر؟! قال تعالى عنهم : « وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أن يُؤْمِنُوا إذْ جاءهُمْ
الهُدى إلاّ أَنْ قالُوا أبعَثَ اللّه بَشَراً رَسُولا
» (الاسراء : 94.. وقال تعالى حاكياً عنهم أيضاً : « وَقالُوا ما لِهذا الرَّسُول يَأْكُلُ الطَّعامَ
وَيَمْشي فِي الأَسْواقِ » (الفرقان : 7.).
ج ـ انَّه يدعو إلى خلاف ما كان عليه
الآباء ، من الدين والعقيدة والسلوك؟ يقول عنهم سبحانه : « وَإذا قِيْلَ لَهُمْ تَعالَوْا إلى ما أَنْزَلَ
الله وَإلى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْه آباءنا أو لَوْ كانَ
آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ
» (المائدة : 104.).
د ـ تبديل الآلهة بإلهٍ واحد. قال اللّه عنهم : « وَعَجِبُوا أَنْ جاءهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ
وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذّابٌ * أَجعَلَ الآلِهَةَ إلهاً واحِداً إنْ
هذا لِشَيء عُجابٌ » (ص : 4 و 5.).
هـ ـ القول بحشر الاجساد وتجدد
الحياة في يوم القيامة. قال تعالى عنهم : « وَقالُوا ءإذا ضَلَلْنا فِي الاْرْضِ ءإنّا لِفِي
خَلْق جَدِيد » (السجدة : 10.).
و ـ لماذا ليس عنده مثل ماكان لدى
موسى من المعجزات كالثعبان المنقلب من العصا ، وقد توصل المشركون إلى هذا النمط
من الاعتراض بسبب اتصالهم بأحبار اليهود. يقول اللّه عنهم : « فَلَمّا جاءهُمْ الْحقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا
لَوْ لا اُوتِيَ مِثْلُ ما اُوْتيَ مُوسى » (القصص : 48.).
ز ـ لماذا ليس معه ملك يُرى ويشاهَد
ويحضر معه في كل مقام ومشهد. قال تعالى : « وَقالُوا لَولا اُنْزلَ عَلَيْهِ مَلَكْ
» (الانعام : 8.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
مقترحات عجيبة
ومطاليب غريبة :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وكان المشركون إذا نفذت تحججاتهم
واعتراضاتهم الواهية ، وقوبلوا بردود قوية وقاطعة عليها عمدوا إلى طرح مقترحات
سخيفة على رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
في سياق معارضتهم لدعوته ونورد هنا ابرز تلك الاقتراحات ليعرف القارئ الكريم مدى
معاناة النبيّ الكريم صلىاللهعليهوآلهوسلم
من قومه : لقد اقترحوا عليه : 1 ـ ان يعبد اصنامهم سنة
ويعبدوا إلهه سنة اُخرى وجعلوا ذلك شرطا لايمانهم بدعوته!! فأنزل اللّه تعالى في ردّهم بسورة «
الكافرون » : « بِسْم اللّه
الرَّحْمن الرَّحيم. قُلْ يا أَيُّها الْكافِرُونَ * لا أعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ.
وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ. وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُمْ. وَلا
أنْتُمْ عابِدُونَ ما أعْبُدُ. لَكُمْ دِينَكُمْ وَلِيَ دِيْنِ ».
2 ـ تبديل القرآن ،
فقد دفع نقدُ القرآن الكريم للوثنية ، والازاء على الاصنام ، دفعهم إلى ان
يطلبوا من النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
ان يأتي لهم بقرآن آخر لا يحتوي على شجب عبادة الاوثان والازدراء بالاصنام ،
وابطالها. قال اللّه تعالى عن فعلهم هذا : « وَإذا تُتْلى عَلَيْهِم آياتُنا بيِّنات قالَ
الَّذيْنَ لا يَرْجُونَ لِقاءنا ائتِ بِقُرآن غَيْر هذا أوْ بَدّلهُ
» (يونس : 15.).
فردّ اللّه عليهم بقوله : « قُلْ ما يَكُونُ لِيْ أَنْ اُبَدِّلَهُ مِنْ
تِلْقاء نَفْسِيْ إنْ اتّبعُ إلا ما يُوْحى إلَيَّ إنِّي أخافُ إنْ عَصَيْتُ
رَبِّي عَذابَ يَوْم عَظيْم » (يونس : 15.).
3 ـ مطاليب مادية عجيبة!! وقد عمدوا ـ بسبب عنادهم وعتوهم ـ
إلى المطالبة باُمور لا ترتبط بهداية الناس ، مثل مطالبته بان يفجر لهم ينابيع ،
أو يُسقط السماء على رؤوسهم قطعاً ، أو يصعد إلى السماء ، أو يأتي باللّه سبحانه
وتعالى ، أو غير ذلك من الاقتراحات والمطاليب الّتي كانت إما مستحيلة في نفسها
أوتناقض غرض الدعوة!! قال اللّه حاكياً عنهم ذلك : « وَقالُوا لَنْ نُؤمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا
مِنَ الأَرضِ يُنْبُوعاً. أوْ تَكُون لَكَ جَنّةٌ مِنْ نَخيْل وَعنَب فَتُفَجِّر
الاْنهارَ خِلالَها تَفْجِيراً. أوْ تَأتِيَ بِاللّه وَالْمَلائكةِ قَبِيلا.
أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْت مِنْ زُخْرُف أوْ تَرْقى في السَّماء
» (الاسراء : 90 ـ 93.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
صبر النبيّ
واستقامته وثباته :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ولقد قابل رسولُ اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم كل هذه التحججات الايذائية وما طرح
مِنَ الاقتراحات المستحيلة بصبر عظيم وثبات هائل ، ايماناً منه بدعوته ، وحرصاً
على ابلاغ رسالته ، وبفعل التأييد الالهي من جانب. يقول اللّه تعالى في
هذا الصدد : 1 ـ « فَاْصْبِرْ كَما صَبَرَ اُوْلوا العْزْم مِنَ
الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ » (الاحقاف : 35.).
2 ـ « وَاتّبِعْ ما يُوحْى إلَيْكَ وَاِصْبِرْ حَتّى
يَحْكُمَ اللّه وَهُوَ خَيْرُ الحاكِميْن » (يونس : 109.).
3 ـ « وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إلاّ بِاللّه وَلا
تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ » (النحل : 127.).
4 ـ « وَاصْبِرْ نَفْسكَ مَعَ الَّذيْنَ يَدْعُونَ
رَبَّهُمْ بِالغَداوَة وَالعَشِيِّ » (الكهف : 28.).
5 ـ « فَاصْبِرْ لِحُكْم رَبّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ
الحُوْت » (القلم : 48.).
6 ـ « وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهجُرْهُمْ
هَجْراً جَمِيلا » (المزمل : 10.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
معاجز النبيّ لم
تنحصر في القرآن :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وبالمناسبة لابد أن نذكر أن المشركين
ومن حذى حذوهم من الكفار والمعارضين للرسالة الإسلامية كانوا يطالبون رسول اللّه
صلىاللهعليهوآلهوسلم بمعاجز
وديات لا بدافع الرغبة في الايمان بدعوته بل بدافع اللجاج والعناد ، وإلا فان
معاجز النبيّ لم تنحصر في الكتاب العزيز ، فقد اتى رسول اللّه بآيات ومعاجز كثيرة
اُخرى غير القرآن ، كان كل واحد منها يكفي للاقتناع برسالته ، والايمان بصحة
دعواه. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
فالقرآن نفسه يشير
إلى أبرز هذه المعاجز وهي :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
1 ـ شقّ القمر
فقد طلب المشركون من النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
ان يشق لهم القمر نصفين حتّى يؤمنوا به ، فلمّا على ذلك لهم باذن اللّه كفروا به
وقالوا انه سحر!! يقول اللّه تعالى : « إقْتَرَبَتِ السّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ.
وَإنْ يَروْا آيَة يُعْرضُوْا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتمِرّ »
(القمر : 1 و 2.). 2 ـ المعراج
ان العروج برسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
والّذي سيأتي مفصلا هو الآخر معجزة من معاجزه القوية ، وقد نطق بها القرآن بقوله
: « سُبْحانَ الَّذي أسْرى
بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرام إلى الْمَسْجِدَ الأَقْصى الَّذي
بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُريَهُ مِنْ آياتِنا إنَّه هُوَ السَّمِيْعُ الْبَصِيرُ
» (الاسراء : 1.).
3 ـ مباهلة أهل الباطل
ان تقدم رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
مع مَن خرج بهم إلى المباهلة ، واحجام النصارى عن مباهلته ، معجزة اُخرى من
معاجزه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وقد تحدّث القرآن الكريم عن هذه القضية إذ قال : « فَمَنْ حاجَّكَ فِيْهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءكَ مِنَ
العلم فَقُل تَعالوا نَدْعُ أَبْناءنا وَأَبْناءكُمْ وَنِساءنا وَنِساءكُمْ
وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعلْ لَعْنَةَ اللّه عَلىَ
الْكافِرينَ » (آل عمران : 61.).
وستأتي قصَّة المباهلة على نحو
التفصيل في حوادث السنة العاشرة من الهجرة. 4 ـ الاخبار
بالمغيبات
فقد كان رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
يخبر عن اُمور غائبة كما يقول اللّه سبحانه حاكيا عنه : « وَاُنبِّئكُمْ بِما تأكلون وما تَدَّخِرُونَ فِيْ
بُيُوتكُمْ » (آل عمران : 49 ، وقد اشار القرآن الكريم إلى موارد اُخرى من هذه
القبيل. فقد اخبر عن غلبة الروم بعد سنين : قال تعالى : « الم غُلِبَتِ الرُّومُ * في أدْنى
الأرْض وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَييغْلِبُونَ. في بِضْعِ سِنْينَ * للّه
الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعدُ وَيَومئذ يَفْرحُ الْمؤمنون »
( الروم : 1 ـ 4 ). واخبر عن هلاك ابي لهب قال
تعالى : « تَبَّت يَدا أبي لَهَب وَتَبّ ...
الخ ». وأخبر عن هزيمة المشركين
في بدر قال سبحانه : « سيهزم الجمع ويولون الدبر » ( القمر : 45 ).). هذا وقد أخبرت الاخبار والاحاديث عن
معاجز كثيرة لرسول اللّه غير القرآن الكريم. ومن هذه المعاجز ما ذكره الامام
اميرالمؤمنين علّي بن أبي طالب ـ كما في نهج البلاغة ـ حول سؤال المشركين من
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
قلع شجرة بعروقها وجذورها ولما فعل ذلك وقال : « يا أيّتها الشجرة ان كنت تؤمنين
باللّه واليوم الآخر ، وتعلمين أني رسول اللّه فانقلعي بعروقك حتّى تقفي بين
يديّ باذن اللّه ». فانقلعت بعروقها ولها دوّي عجيب
ووقفت بين يدي رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ولكنهم كذّبوا وقالوا ساحر كذاب ، علواً واستكباراً. وقد صرح الامام في كلامه هذا أن
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
أخبرهم بانهم لا يؤمنون وان ظهرت لهم المعجزة الّتي طلبوها ، وان فيهم من يطرح
في القليب ( في معركة بدر ) وان منهم من يحزّب الأحزاب ( لمعركة الخندق ) (نهج البلاغة : قسم الخطب الرقم 192.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
اصرار النبيّ على
هداية قريش :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
بل كان النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
يحرص على هدايتهم وارشادهم وايقاظهم. فقد كان زعيم المسلمين وقائدهم يعلم جيداً
بأن اعتقاد أغلبية الناس بالأوثان ما هو الاّ أمر نابع من تقليد الآباء ،
والجدود ، أو اتباع أسياد القبيلة وكبرائها ، وهو بالتالي لا يستند إلى جذور في
أعماق الناس واُسس في عقولهم ونفوسهم. من هنا فانَّ أيَّ انقلاب يحصل ويحدث
في اوساط السادة والكبراء بان يؤمن أحدهم مثلا كان كفيلا بأن يحلّ الكثير من
المشاكل. من هنا كان ثمة إصرار كبير على جرّ «
الوليد بن المغيرة » الّذي أصبح ابنه « خالد » في ما بعد من قادة الجيش
الاسلاميّ والمشاركين في الفتوح الإسلامية إلى صف المؤمنين بالرسالة المحمَّدية
، لأنّه كان أسنَّ مَن في قريش واكثرهم نفوذاً ، وأعلاهُم مكانة ، وأقواهم شخصية
، وكان يُدعى حكيم العرب ، وكانت العرب تحترم رأيه إذا اختلفت في أمر. وقد كلّمه رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ذات يوم في ذلك وقد طمع في اسلامه ، فَبينا هو في ذلك إذ مرَّ به « ابن اُم
مكتوم » ، فكلم رسولُ اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وجعل يستقرئه القرآن فشقَّ ذلك منه على رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
حتّى أضجره ، وذلك أنّه شغله عمّا كان فيه من أمر « الوليد ». وما طمع فيه من
اسلامه ، فلمّا أكثر عليه انصرف عنه عابساً وتركه ، فنزل قوله تعالى : « عَبس وَتَولّى. أنْ جَاءهُ الأَعْمى. وَما
يدريْكَ لَعلَّهُ يَزَّكى. أوْ يَذَّكرُ فَتنْفَعُهُ الذِّكْرى. أَمَّا مَنِ
اسْتَغنى. فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى. وَما عَلَيْكَ ألاّ يَزكّى. وَأَمَّا مَنْ
جاءكَ يَسْعى. وَهُوَ يَخْشى فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهّى. كَلا إنّها تَذْكِرَةٌ »
(السيرة النبوية : ج 1 ، ص 363 ـ 364.) (عبس : 1 ـ 11.).
وقد فنّد علماء الشيعة ومحقّقوهم هذه
الرواية التاريخية ، واستبعدوا صدور مثل هذا السلوك عن رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
الّذي امتَدحَهُ ربُّ العالمين بالخلق العظيم ، ووصفه بالرأفة بالمؤمنين ،
وقالوا : ليس في الآيات ما يدل على أن الّذي عبَس وتولّى هو رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وقد روي عن الامام الصادق عليهالسلام
أنَ المراد رجلٌ من بني اُميَة ، فإنّه عبس وتولّى عند ما حضر « ابنُ ام مكتوم »
الأعمى عند رسول اللّه فنزلت هذه الآيات توبيخاً له (مجمع البيان : ج 10 ، ص 437 ، وقد شرح العلامة الطباطبائي في المجلد
20 من تفسير الميزان عند تفسير سورة عبس شأن نزول هذه الآيات بصورة رائعة ، وشكل
بديع ، واثبت بان فاعل عبس ليس رسول اللّه ـ صلىاللهعليهوآلهوسلم
، ولا ينافي ذلك توجّه الخطاب في « وما يدريك » إليه صلىاللهعليهوآلهوسلم.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
3 ـ تحريم استماع
القرآن
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
كانت البرامجُ الواسعة الّتي دبرها
الوثنيّون في « مكة » لمكافحة الإسلام والحيلولة دون انتشاره بين القبائل
والجماعات ، تُنفَّذ الواحدة تلو الآخرى ، ولكن دون جدوى ، ودون ان يكسب
اصحابُها من ورائها أي نجاح ، واية نتائج على المستوى المطلوب ، فقد كانت تلك
المؤامرات تفشل في كل مرة ، ولا يجني المشركون منها سوى الخيبة والفشل ، وسوى
النتائج المعكوسة في أغلب الأحايين. فقد مارسوا الدعاية ضد رسول اللّه
فترة من الزمن ولكن لم يحالفهم التوفيقُ الكاملُ في ذلك ، فقد وجدوا رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
اكثر ثباتاً واستقامة في طريقه وأشدّ إصراراً على هدفه ، وكانوا يرون باُم
أعينهم بأن عقيدة التوحيد في انتشار مستمر ومتزايد ، يوماً بعد يوم. ولهذا قرَّر سادة قريش وزعماء « مكة
» المشركون أن يمنعوا الناس عن سماع القرآن. ولكي تتحقق خطتهم هذه وتلبس ثوب
الوجود بَثّوا جواسيسهم في كل انحاء مكة ومداخلها ليمنعوا من يفدُ اليها للحج
أوالتجارة من الاتصال بمحمَّد ، ومنعه بكل صورة ممكنة ، عن الاستماع إلى القرآن
، وأعلن مناديهم ما ذكره القرآن عند قوله تعالى : « وَقالَ الَّذينَ كَفرُوا لا تَسْمعُوا لِهذا
الْقُرآن والْغوا فِيْه لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ »
(فصّلت : 26.).
لقد كان القرآن اقوى أسلحة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
، فقد القى رعباً عجيباً في نفوس الاعداء واقضّ مضاجعهم. وكان اشراف قريش وأسيادها يرون باُم
أعينهم كيف أنَّ اعدى أعداء النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
( وهو أبو جهل ) عندما مشى إليه ليستهزئ به ، ويسخر منه ، ما ان سمع آيات من
القرآن ، إلاّ وفقد السيطرة على نفسه ، ولان قلبه ، وأصبح من أصحابه ومؤيديه الأقوياء
، ولهذا لم يكن أمام اُولئك الاسياد إلا أن يمنعوا من سماع القرآن منعاً باتا ،
ويحرموا التحدث إلى النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
تحريماً
قاطعاً (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 313 و 314.).
ولهذا كان الرجل منهم إذا أراد أن
يسمع من رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
بعض ما يتلوه من القرآن وهو يصلي استرق السمع دونهم فرقاً منهم ، فان رأى أنهم
قد عرفوا أنه يستمع منه ذهبَ خشيةَ أذاهُم فلم يستمع (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 313 و 314.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
واضعوا القرار
ينقضون قرارهم!!
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ولكن من الطريف العجيب أن نفس الذين
كانوا يمنعون الناس بشدة عن الاستماع إلى القرآن ، وكانوا يعدون كل من يتجاهل
قرار ( تحريم الاستماع إلى القرآن ) مخالفاً يتعرض للملاحقة والعقاب ، نقضوا بعد
أيام من إصدار هذا القرار قرارهم وانضمُّوا إلى صفوف المخالفين له في الخفاء. فاذا بالذين يمنعون من سماع القرآن
في العلن ، يستمعون إليه في الخفاء! واليك بعض ما جرى في
هذا الصعيد : خرج « أبو سفيان » و « أبو جهل » و «
الاخنس » ليلة ليستمعوا من رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وهو يصلي من الليل في بيته ، فاخذ كلُ رجل منهم مجلساً يستمع فيه ، وكلٌ لا يعلم
بمكان صاحبه ، فباتوا يستمعون له ، حتّى إذا طلَعَ الفجرَ تفرَّقوا فجمعهم
الطريقُ فتلاوموا ، وقال بعضهم لبعض : لا تعودوا ، فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم
في نفسه شيئاً ثم انصرفوا ، حتّى إذا كانت الليلة الثانيةُ عاد كلُ رجل منهم إلى
مجلسه ، فباتوا يستمعون له ، حتّى إذا طلع الفجر تفرّقوا ، فجمعهم الطريق ، فقال
بعضهم لبعض مثل ما قالوا أول مرة ، ثم انصرفوا ، حتّى إذا كانت الليلة الثالثة
اخذ كلُ رجل منهم مجلسه ، فباتوا يستمعون له ، حتّى إذا طلع الفجر تفرقوا ،
فجمعهم الطريق ، فقال بعضهم لبعض : لا نبرح حتّى نتعاهد ألاّ نعود ، فتعاهدوا
على ذلك. ثم تفرّقوا (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 315.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
4 ـ منع الاشخاص من
الايمان برسول اللّه
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
بعد خطة ( تحريم الاستماع إلى القرآن ) بدأوا
بتنفيذ خطة اُخرى وهي منع كل قريب وبعيد ممّن رغبوا في الإسلام وقدموا إلى مكة ليتعرفوا على النبيّ ، وعلى ما
اتى به من كتاب ودين ، من الاتصال بالنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم. فبثت قريش جواسيسها في الطرق المؤدية
إلى مكة ليتصلوا بمن يلقونه من هؤلاء ويبادروا إلى منعه من الاتصال برسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم والايمان برسالته ، بشتى الحيل
والاساليب. واليك نموذجين حيّين من
هذا الامر. 1 ـ « الاعشى » :
وكان من شعراء العهد الجاهلي
البارزين ، وكانت قصائده تتناقلها مجالس السَمر القرشية ، وتتغنى بها محافل
انسهم. وقد بلغ « الاعشى » في كبره نبأ ما
جاء به رسولُ اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
من التوحيد ومن تعاليم الإسلام العظيمة ، وكان يعيش في منطقة نائية عن مكة ، حيث
لم تصل اليها أشعة الرسالة الإسلامية على وجه التفصيل بعد ، ولكن ما قد سمع به
من تعاليم الإسلام على نحو الاجمال قد اوجد في نفسه هياجاً خاصاً وحرّك مشاعره
فأنشأ قصيدة مطوّلة يمدح فيها رسولُ اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ثم خرج إلى مكة ليهديها إليه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وهو في نفس الوقت يريد الإسلام. ورغم ان تلكم القصيدة لا تتجاوز
أبياتُها 24 بيتاً ، ولكنها تُعدّ من أفضل وافصح ما قيل من الشعر في الإسلام ،
وفي رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
في العهد النبوي ويوجد نصّها الكامل في ديوان « الأعشى » وقد قال فيها وهو يذكر
بعض تعاليم الإسلام :
فلما كان بمكة أو قريباً منها اعترضه
جواسيس قريش ورجالها فسألوه عن أمره وقصده فاخبرهم بانه جاء يريد رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ليسلم ، وحيث أنهم كانوا يعرفون بأن « الاعشى » رجل يحب النساء والخمر حبّاً
كبيراً لذلك عمدوا إلى الضرب على هذا الوتر لينفّروه من الإسلام فقالوا له : يا
أبا بصير ( وهي كنية الاعشى ) إنه يحرم الزنا. فقال الاعشى : واللّه ذلك لأمرٌ ما
لي فيه من ارب. فقالوا له : يا أبا بصير فانَّه
يحرِّم الخمرَ. فقال الأعشى ـ وقد صُدِمَ بهذا الخبر
ـ أمّا هذه فواللّه في النفس منها لعلالات ، ولكني منصرفٌ فاتروّى منها عامي هذا
، ثم آتيه فاُسلم!! فانصرفَ فمات في عامه ذلك ، ولم يَعُدْ إلى رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
(السيرة النبوية : ج 1 ، ص 386 ـ 388.). 2 ـ الطُفيل بُن
عَمرو الدوسيّ :
وهو الشاعر العربي الحكيم العذب
اللسان ، صاحب النفوذ والكلمة المسموعة في قبيلته. يروى انه قدم « مكة » ورسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
بها ، وكانت قريش تخشى ان يتصل بالنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
فيسلم. ومن البديهي أن اسلام رجل مثله كان
ممّا يشق على قريش جدّاً ولهذا مشى إليه رجالٌ منهم وقالوا له ـ محذرين ايّاه من
رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
: يا طُفيل ، إنك قدمت بلادَنا ، وهذا
الرجلُ الّذي بين أظهرنا قد اعضلَ بنا ، وقد فرّق جماعتنا ، وشتَّت أمرنا ،
وإنما قوله كالسحر يفرّق بين الرجل وبين ابيه ، وبين الرجل وبين اخيه ، وبين
الرجل وبين زوجته ، وإنا نخشى عليك وعلى قومك ما قد دخل علينا فلا تكلمنَّه ،
ولا تسمعنَّ منه شيئاً. ففعلت تحذيراتُ قريش فعلتَها في نفس
الطفيل وهم يكرّرونها عليه بقوة وإصرار ، حتّى انه قرر ان لا يسمع من النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
شيئاً ، ولا يكلّمه ، وحشّى اُذنه ـ حين غدى إلى المسجد للطواف ـ قطناً ، خوفاً
من أن يبلغه شيء من قول رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وهو لا يريد ان يسمعه!!! يقول الطفيل : فغدوت إلى المسجد فاذا
رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
قائمٌ يصلي عند الكعبة ، فقمتُ منه قريباً فسمعتُ كلاماً حسناً من غير اختيار
مني فقلت في نفسي : واثكلَ اُمي ، واللّه اني لرجل لبيبٌ شاعرٌ ما يخفى عليّ
الحسَنُ من القبيح ، فما يمنعني أن اسمع من هذا الرجل ما يقول ، فان كان الّذي
يأتي به حسناً قبلتُه ، وان كان قبيحاً تركتُه؟ فمكثتُ حتّى انصرف رسولُ اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
إلى بيته فاتّبعته حتّى إذا دخل بيته دخلت عليه فقلت : يا محمَّد إن قومك قد
قالوا لي كذا وكذا للذي قالوا ، فواللّه ما برحوا يخوّفونني أمرُك حتّى سردت
اُذني بكسرف لئلا اسمع قولك ثم اَبى اللّه إلاّ أن يُسمعني قولك فسمعتهُ قولا
حسناً ، فاعرض عليّ أمرك ، فعرض عليَّ رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
الإسلام وتلا عليّ القرآن ، فلا واللّه ما سمعت قولا قط أحسن منه ، ولا أمراً
أعدل منه ، فأسلمتُ وشهدتُ شهادة الحق. ثم قلت : يا الله نبيّ إني امرؤ مطاعٌ في
قومي وأنا راجع إليهم ، وداعيهم إلى الإسلام. ثم يكتب ابن هشام قائلا : إن الطفيل
لم يزل بارض « دوس » يدعوهم إلى الإسلام حتّى هاجر رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
إلى المدينة ومضى « بدر » و « اُحد » و « الخندق » فقدم على رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
بمن أسلم معه من قومه وهم سبعون أوثمانون بيتاً ورسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
بخيبر فلحقوا جميعاً برسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم بخيبر ،
وبقي مع النبيّ حتّى قُبِضَ صلىاللهعليهوآلهوسلم
ثم سار مع المسلمين ـ في زمن الخلفاء إلى « اليمامة » وشارك في معركتها وقُتِلَ
فيها (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 382 ـ 385.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
19اسطورة
الغرانيق
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قد يكون بين القرّاء من يودُّ التعرف
على اسطورة « الغرانيق » الّتي رواها بعض مؤرّخي السنّة ومعرفة جذورها كما يودّ
التعرف على الأيادي الخفية الّتي كانت وراء اختلاق هذه الاسطورة ، وأمثالها من
الأكاذيب ، والمفتريات. كان اليهودُ وبخاصّة
أحبارهم ولا يزالون العدوّ رقم واحد للإسلام. وقد عَمَد فريقٌ منهم ـ مثل « كعب
الاحبار » وغيره ـ ممّن تظاهروا باعتناق الإسلام إلى تحريف الحقائق باختلاق
الأكاذيب وجعل الأخبار المفتراة على لسان الانبياء (وهي الّتي يُطلَق عليها الاسرائيليات وقد اُلّفَت في هذا المجال بعض
الكتب.).
ولقد أدرج بعضُ المؤلفين المسلمين
بعض هذه المفتريات في مؤلفاتهم وجعلوها في عداد الحديث والتاريخ الصحيح من دون
تمحيصها والتحقيق فيها ، ثقة بكل من أظهر الإسلام وتظاهر بالإيمان ، وانضم إلى
صفوف المسلمين!! ولكنَّ اليوم حيث يجد العلماء فرصة
اكبر للتحقيق في هذا النوع من الأحاديث والاخبار ، والمنقولات والنصوص وبخاصة
بعد أن توفّرت لديهم ، بفضل جهود طائفة من المحققين المسلمين القواعد والضوابط
الكفيلة بتمييز الحسن عن القبيح ، والصحيح عن السقيم ، وفرز الحقائق التاريخية
عن القصص الخياليّة ، والروايات الاسطورية. من هنا لا ينبغي لكاتب مسلم ملتزم أن
يعتبر كل ما يراه في مصنّف تاريخيّ أو غير تاريخيّ متقدِّم أمراً صحيحاً مقطوعاً
بسلامته ، ويرويه في كتابه من دون دراسة وتحقيق ، وتمحيص وتقييم. ما
هي اُسطورة الغرانيق؟!
يقولون : إن « الأسود بن المطلب » و
« الوليد بن المغيرة » و « اُمية بن خلف » و « العاص بن وائل » وهم من زعماء
قريش واسيادها قالو لرسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
: يا محمَّد هلم فلنعبد ما تعبد ،
وتعبد ما نعبدُ فنشترك نحن وانت في الأمر!! وقالوا ذلك رفعاً للاختلاف ،
وتضييقاً لشقّة الخلاف فأنزلَ اللّه سبحانه سورة الكافرين الّتي امر فيها نبيّه
أن يقول في جوابهم : « لا أعْبدُ
ما تَعْبدُونَ. وَلا أنتُم عابِدُونَ ما أعْبُد ».
ومع ذلك كان رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
يرغب في أن يساوم قريشاً ويجاربهم وكان يقول في نفسه : ليت نزل في ذلك أمر
يقرّبنا من قريش. وذات يوم وبينما كان صلىاللهعليهوآلهوسلم
يتلو القرآن عند الكعبة ويقرأ سورة « النجم » فلما بلغ قوله تعالى : « أَفرَأَيْتُمْ الّلات وَالعُزّى. وَمَناةَ
الثّالِثَةَ الاُخْرى » (ـ النجم : 19 و 20.).
أجرى الشيطان على
لسانِه الجُمْلتين التاليتين : « تِلْكَ الْغَرانِيقُ
الْعُلى مِنْها الشفاعَةُ تُرْتَجى ». فقرأهما من دون إختيار ، وقرأ ما
بعدها من الآيات ، ولمّا بلغ آية السجدة سجد هو ومن حضر في المسجد من المسلمين
والمشركين أمام الاصنام ، إلاّ « الوليد » الّذي عاقه كبر سنه عن السجود!! وفرح المشركون ، وارتفعت نداءاتهم
يقولون : لقد ذكر « محمَّد » آلهتنا بخير. وانتشر نبأ هذه المصالحة والتقارب
بين رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
والمشركين ، المهاجرين إلى الحبشة ، فعاد على أثرها جماعة منهم إلى مكة ،
ولكنّهم ما أن كانوا على مشارف « مكة » إلاّ وعرفوا بأن الأمر تغير ثانية ، وأن
ملك الوحي نزل على النبيّ وأمره مرة اُخرى بمخالفة الاصنام ومجاهدة الكفار
والمشركين ، وأخبره بأن الشيطان هو الَّذي أجرى تينك الجملتين على لسانه ، وانه
لم يقله وأنه ليس من « الوحي » في شيء أبداً. وعندئذ نزلت الآيات ( 52 ـ 54 ) من
سورة « الحج » الّتي يقول اللّه تعالى فيها : « وَما أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُول وَلا
نَبِيٍّ إلاّ إذا تَمنّى ألْقى الشَيْطانُ في اُمْنِيّتِه فَيَنْسَخُ اللّه ما
يُلْقي الشيْطانَ ثم يُحكِمُ اللّه آياتِهِ وَاللّه عَلِيمٌ حَكيْمٌ ».
«
لِيَجْعَلَ ما يُلْقي الشَيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذين فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ
وَالْقاسيَةِ قُلُوبِهم ، وإن الظّالِمينَ لَفِيْ شِقاق بَعِيْد وَلِيَعْلَمَ
الَّذينَ اُوتُوا العلْم أَنَّه الحقّ مِنْ رَبّك فيُؤمنُوا به فتُخبتُ لَهُ
قُلُوبُهم وإنّ اللّه لَهادِ الَّذينَ آمَنُوا إلى صِراط مُسْتقيمْ ».
هذه هي خلاصة اُسطورة « الغرانيق »
الّتي أوردها « الطبري » في تاريخه (تاريخ الطبري ج 2 ، ص 85 و 76. ) ويذكرها ويردّدها
المستشرقون المغرضون بشيء كبير من التطويل والتفصيل!! محاسبة بسيطة لهذه الاسطورة
لنفترض أن « محمّداً » لم يكن نبياً
مرسلا ولكن هل يمكن لأحد أن ينكر ذكاءه وحنكته ، وفطنته وعقله. فهل لعاقل فَطِن ، محنَّك لبيب مثله
أن يفعل مثل هذا؟ ان الذكيّ اللبيب الّذي يجد انصاره
يتكاثرون ويتزايدون يوماً بعد يوم وتقوى صفوفهم اكثر فاكثر بينما تتفرقُ صفوفُ
أعدائه ومناوئيه ويتناقص معارضوه وخصومُه ، هل يقدم في مثل هذه الحالة على عمل
يوجب ان يسيء الجميعُ ظنَهم به ، ويشك الصديق والعدوُ في أمره؟! هل تصدّق أنت أيها القارئ الكريم أن
رجلا ترك جميع الأموال والمناصب الّتي عرضتها قريش عليه ، في سبيل دينه الحنيف ،
وعقيدة التوحيد أن يصبح مرة اُخرى من دعاة الشرك ، ومروّجي الوثنية؟؟! إننا لن نصدّق بمثل هذا الاحتمال في
حق مصلح أو سياسي عادي من الساسة والمصلحين فكيف برسول الله ونبيّه العظيم. رأي العقل في هذه القصة :
1 ـ إن العقل يحكم بان المرشدين
الذين يبعثهم اللّه تعالى إلى البشرية لهدايتها وارشادها ، وتزكيتها وتعليمها
مصونون عن أي خطأ وزلل بقوة ( العصمة ) الّتي اُوتوها ، إذ لو تعرض مثل هؤلاء
إلى الخطأ والزلل في اُمور الدين لزالت ثقة الناس بهم وبكلامهم. يجب علينا ان نقارن بين أمثال هذه
القصص ، وبين هذا الأصل العقائديّ المنطقي ونعالج بواسطة معتقداتنا القوية
المبرهَنة متشابهات التاريخ ومعضلاته. إنّ من المسلَّم أن عصمة رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
كانت تمنعه وتحفظه من أي نوع من هذه الحوادث في تبليغ رسالته السماوية. 2 ـ ان هذه الاسطورة تقوم أساساً على
أن النبيّ قد تعب من أداء مهمَّته الّتي ألقاها اللّه سبحانه عليه ، وقد شقَّ
عليه ابتعاد الوثنيّين عنه ، فكان يبحث عن مخلَص من هذا الوضع المتعِب ، يكون
طريقاً ـ حسب تصوره ـ إلى إصلاح وضعهم!! ولكن العقل يقضي بأن على الانبياء أن
يكونوا صابرين حلماء أكثر ممّا يتصور ، وأن يكونوا مضرب المثل عند الجميع في ذلك
، فلا يُحدّثوا أنفسَهم بالتهرّب من المسؤولية وترك الساحة مطلقاً ، مهما اشتدّت
الظروف ، وتأزّمت بينما لو صحّت هذه الرواية ـ
الاسطورة ـ لكانت دليلا على أنَّ بَطلَ حديثنا قد فَقَد عنان الصبر وأفلت منه
زمام الثبات والاستقامة وانه بالتالي تعب وملّ ، وضني وكلّ ، وهو أمرٌ لا ينسجم
مع ما يحكم به العقل السليمُ في حق الأنبياء ، كما لا يتفق كذلك مع ما عهدناه من
سوابق رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم ومن
مستقبله أبداً. إن مختلق هذه الاسطورة لم يمرّ
بخاطره وباله أنَّ القرآن الكريم شهد ببطلان هذه القصة ، إذ يعد اللّه تعالى
نبيه الكريم ، بأن لا يتسرّب إلى القرآن أي شيء من الباطل إذ قال : « لا يَاتِيه الباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَديْه ولا
مِنْ خَلفِه » (فصّلت : 42.).
كما وعده أيضاً بأن يَصونه عبَر جميع
أدوار البشرية من أي حادث سيّء إذ قال سبحانه : « إنّا نَحْنُ نَزَّلْنا الذِكْرَ وَاِنّا لَهُ
لَحافِظُونَ » (الحجر : 9.).
ومع ذلك كيف يستطيع الشيطان الرجيم
عدو اللّه أن ينتصر على رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ويسرّب إلى القرآن شيئاً باطلا ، ويصبح القرآنُ الّذي تقوم معارفه وتعاليمه على
أساس معاداة الوثنية ومحاربتها داعياً إلى الوثنية؟؟!! إنه لأمر عجيبٌ جداً أن يفتري
مختلِقُ هذه الاسطورة أمراً ضدَّ التوحيد في موضع قد كذّبه القرآنُ قبل هذا
المكان بقليل إذ قال اللّه تعالى : «
وَما يَنْطِقُ عَنْ الْهَوى. إنْ هُوَ إلاّ وَحْيٌ يُوْحى »
(النجم : 3 و 4.).
فكيف يترك اللّه نبيّه ـ وقد وعده
بهذا الوعد ـ من دون حفيظ ، ويسمح للشيطان بأن يتصرف في قلبه وعقله ولسانه؟؟ إن هذه الأدلة العقلية إنما تفيد من
يكون مؤمناً بنبوة محمَّد صلىاللهعليهوآلهوسلم
ورسالته. واما المستشرقون الذين لا يعتقدون
بنبوته ، ويعمدون إلى شرح ونقل وترديد أمثال هذه الأساطير للحطّ من شأن دينه
ورسالته فلا تكفيهم هذه الدلائل ، فلابدّ أن ندخل معهم في البحث من باب آخر. تكذيب
القِصَّة من طريق آخر
إنّ النصّ التاريخيّ يقول : إن رسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
قرأ هذه السورة ، وكبار قريش واكثرهم من عمالقة الكلام ، وأبطال الفصاحة
والبلاغة العربية حضور في المسجد ومنهم « الوليد بن المغيرة » ، متكلم العرب
ومنطيقها المفوّه المعروف بينهم بالذكاء وحصافة العقل والنباهة ، وقد سمعوا
جميعاً هذه السورة إلى ختامها حيث سجد الجميع بسجدتها. فكيف اكتفى هذا الجمعُ المؤسسُ
للفصاحة والبلاغة الذين كانوا ينقدون كل ما يعرض عليهم نقداً دقيقاً؟ كيف اكتفوا بتينك الجملتين اللتين
امتدحتا آلهتهم ، وقد تضمنت الآيات السابقة عليهما ، واللاحقة لهما على شتم
آلهتم وتفنيدها ، والازدراء بها بصورة صارخة وصريحة؟! كيف تصور مختلق هذه الاكذوبة الفاضحة
، تلك الجماعة أصحاب اللغة العربية وآباءها ونقّاد الكلام المعدودين عند العرب
كلّها من عمالقة الفصاحة والبلاغة بلا منازع ، والذين كانوا أعرف من غيرهم
باشارات تلك اللغة ، وكناياتها ( فضلا عن تصريحاتها ). كيف اكتفى هؤلاء بتينك العبارتين في
امتداح آلهتهم ، وغفلوا عما سبقها ولحقها من الذمّ لها والطعن الصارخ فيها؟ إنه لا يمكن قط أن نخدع العادّيين من
الناس بهاتين الجملتين المحفوفتين بكلام مطوَّل يذم عقائدهم وسلوكهم فكيف بمن
عُرف باللب ، والحصافة ، والحكمة والذكاء؟ وها نحن ندرج هنا الآيات المتعلّقة
بالمقام ونترك أصفاراً ( وفراغاً ) في مكان الجملتين اللتين اُدّعي اضافتهما ،
ثم نترك للقارئ نفسه أن يقيم بنفسه هل لتينَك الجملتين مكانٌ بين هذه الآيات (
الّتي وردت في ذمّ الاصنام والقدح فيها ) : وإليك هذه الآيات : « أفَرَأَيْتُمُ الّلاتَ والعُزّى وَمَناةَ
الثالِثةَ الاُخرى ... (مكان الجملتين المزعومتين : تلك الغرانيق ... إلى آخرها.)
أَلَكُمْ الذَّكَرُ وَلَهُ الاُنْثى
تِلْكَ إذاً قِسْمَةً ضِيْزى. إنْ هِيَ إلاّ أسماء سَمَّيْتُمُوها أنْتُمْ
وَآباؤُكم ما أنْزَلَ الله بِها مِنْ سُلْطان »
(النجم : 19 ـ 23.).
ثم هل يسمحُ إنسانٌ عاديّ لنفسه أن
يكفَّ عن معاداة نبيٍّ هاجَمَ عقائدهُ طيلة عَشرة اعوام ، وهدر إستقلاله وكيانه
، وجرَّ عليه الشقاء بتسفيه
أحلامه ، وشتم آلهته ، لعبارات متناقضة
وكلام خليط من الذّم الكبير والمدح العابر. دَليلٌ
لغَويٌّ على تفنيد هذه الاسطورة
يقول العلامةُ الجليلُ الشيخ محمَّد
عبده : لم يُستعمَل لفظ الغرانيق في الآلهة أبداً لا في اللغة ولا في الشعر
العربي (نقله عنه القاسمي في تفسيره : ج 12 ، ص 55 ـ 56.).
و « غرنوق » و «
غَرنيق » اللذان جاءا في اللغة استعملا في نوع من طيور
الماء أو الشابّ الجميل ، ولا يَنطبق أىُ واحد من هذه المعاني على الآلهة. وقد اعتبر احدُ
المستشرقين يدعى « السيروليم مويير » قصة « الغرانيق » هذه من مسلَّمات التاريخ
واستدل لها بقوله : لم يكن يمض على هجرة المهاجرين الاول
إلى الحبشة اكثر من ثلاثة أشهر يوم صالح محمَّدٌ قريشاً فعادوا إلى مكة. إن المسلمين الذين هاجَروا إلى تلك
الأَرض وكانوا يعيشون في أمن وطمأنينة في جوار النجاشيّ إذا لم يكونوا يبلغهم
نبأ مصالحة النبيّ لقريش لما عادوا إلى مكة للقاء بذويهم. فاذن لابدَّ أَنَّ « محمَّداً » قد
تذرَّع بشيء لمصالحة قريش ، والتقرّب اليها ، وهذا
الشيء هو قصة الغرانيق »!! (راجع حياة محمَّد : ص 165 و 166.).
ولكن يجب أن نسأل هذا
المستشرق المحترم : أولاً
:
لماذا يجب أن تكون عودة المهاجرين ناشئة عن نبأ صحيح حتماً. إن النفعيين وذوي الأهواء والأغراض
يسعون دائماً إلى بثّ عشرات بل مئات الأخبار الكاذبة بين جماعتهم لتحقيق مارب
خاصّة لهم ، فما الّذي يمنع من أن نحتمل أن هناك من افتعل خبر مصالحة النبيّ
لقريش بهدف إرجاع المهاجرين من الحبشة إلى « مكة ». وقد صدق بعض اُولئك
المهاجرين هذا الخبر الكاذب فعادوا إلى أرض الوطن ، بينما لم ينخدع الآخرون بها
وبقوا في الحبشة ولم يعودوا إلى مكة؟؟ ثانياً
:
لنفترض أن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
كان يريد أن يصالح قريشاً ، فهل يكونُ الطريق إلى السلام والمصالحة منحصراً في
افتعال هاتين الجملتين. ألم يكن إعطاء مجرَّد وَعد مناسب أو
مجرّد السكوت عن عقائدهم كافياً لتهدئة خواطرهم ، واجتذاب قلوبهم نحوه؟ وعلى كلّ حال
فان عودة المهاجرين لا يكونُ دليلا على صحّة هذه الاُسطورة كما أن المصالحة ،
والتقارب غير متوقفين على النُطق بهاتين الجملتين. والأعجب من هذا أن
البعضَ تصوَّر الآيات ( 52 ـ 54 من سورة الحج ) قد نزلت في قصة الغرانيق. وحيث أن هذه الآيات قد وقعت ذريعة
بأيدي المستشرقين ومرتكبي جريمة التحريف في التاريخ ، فاننا نعمدُهنا إلى توضيح مفاد هذه الآيات ، ونبين للقارئ بأنها تنظر
إلى امر آخر ، ولا ترتبط بهذه القصة بتاتاً. وها هو نصُّ الآيات المشار إليها : « وَما أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُول وَلا
نَبِيٍّ * إلا إذا تَمنّى ألْقى الشَيْطانُ في اُمْنِيَّتِه فَيَنْسَخُ اللّه ما
يُلقي الشَيطانُ ثمَ يُحْكِمُ اللّه آياتِه ، واللّه عَليمٌ حَكيمٌ
ليَجْعَلَ ما يُلْقي الشَّيطانُ
فِتْنَةً لِلَّذيْن فِي قُلُوبِهمْ مَرَضُ وَالْقاسِيَة قُلُوبُهُمْ وَإن
الْظالِميْنَ لَفِي شِقاق بَعيْد وَلِيَعْلَمَ الَّذينَ اُوْتُوا الْعِلْمَ
أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمنُوا بهِ فَتخبتَّ لَه قُلوبُهُم وَأَنَّ
اللّه لَهاد الَّذين آمنوا إلى صِراط مُسْتَقِيم ».
والآن يجب أن نبين مفاد
الآيات ولنبدأ بالآية الاُولى : انّ الآية الاُولى تذكِّرُ بثلاثة
اُمور هي : 1 ـ انَّ الأنبياء والرسل يتمنون. 2 ـ انَّ الشيطانَ يتدخّل في
تمنياتهم. 3 ـ انّ اللّه يمحي آثار ذلك
التدخّل. وبتوضيح هذه النقاط الثلاث يتضح مفاد
الآية والمراد منها. واليك توضيح تلكم
النقاط الثلاث : |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
1 ـ ما هو المقصود
من تمني الانبياء والرُسل
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد كان الأنبياء والرسل يحبّون
هداية اُممهم ، ونشر دينهم وتعاليمهم فيها ، وكانوا يدبّرون اُموراً ويخطّطون
خططاً لتحقيق أهدافهم هذه ، كما كانوا يتحملون في هذا السبيل كل المتاعب
والمصاعب ، ويثبتون في جميع المشكلات والمحن. ولم يكن رسول الإسلام صلىاللهعليهوآلهوسلم
مستثنى عن هذه القاعدة ، فقد كان صلىاللهعليهوآلهوسلم يخطط
لتحقيق أهدافه كثيراً ، ويهيّئ مقدمات ويبيّن القرآن هذه الحقيقة بقوله : « وَما أرْسَلْنا مِنْ رَسُول وَلا نبيّ إلاّ إذا
تَمَنّى ». فاتّضح إلى هنا المراد
من لفظ تمنّى ولنشرح الآن النقطة الثانية. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
2 ـ ما هو المقصود
من تدخّل الشيطان؟
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إن تدخُّل الشيطان
يمكن أن يتم على نحوين : 1 ـ أن يوجد الشك والترديد في عزم
الانبياء ، ويوحي إليهم بأنَّ هناك عوائق كثيرة تحول بينهم وبين أهدافهم
، ولذلك لن يحرزوا نجاحاً في تحقيق تلك الأهداف. 2 ـ بأن الأنبياء كلما مهّدوا لأمر
وهيَّاوا له مقدّماته ، وَظهرت منهم أمارات تدلُ على أنهم مقدِمون على تنفيذه
فعلا أقام الشيطان ومن تبعه من شياطين الانس العراقيل والموانع في طريقهم ،
ليمنعوهم من الوصول إلى غاياتهم. أما الاحتمالُ الأول
فلا ينسجم لا مع الآيات القرآنية الاُخرى ولا مع الآية اللاحقة. أمّا مِن جهة الآيات
الاُخرى فلأنّ القرآن ينفي بصراحة لا صراحة فوقها أنه لا
سلطان للشيطان على أولياء اللّه وعباده الصالحين ( ولو بأن يصوّروا لهم بأنهم لن
يقدروا على تحقيق آمالهم ، وأهدافهم ) إذ يقول : « إن عِبادي لَيْسَ لك عَلَيْهِمْ سُلطانٌ »
(الحجر : 42 ، الاسراء : 65.).
ويقول أيضاً : « إنَّه
لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلى الَّذيْنَ امَنُوا وَعَلى رَبّهم يَتَوكَّلُونَ »
(النحل : 99.).
إن هذه الآيات ، والآيات الاُخرى
الّتي تنفي سلطان الشيطان على أولياء اللّه وعباده الصالحين ، وتأثيره في قلوبهم
ونفوسهم لخيرُ شاهد وأفضل دليل على أنَّ المقصودَ من تدخّل الشيطان في تمنيات
الأنبياء لَيس بمعنى إضعاف عزيمتهم ، وإرادتهم وتكبير الموانع والعراقيل في
نظرهم. أمّا من جِهَة الآيات المبحوثة فانَ
الآية الثانية والثالثة تفسِّر وتشرح علّة التدخّل على النحو الآتي : إننا نختبر بهذا العمل
فريقين من الناس : الفريق الأول : الَّذين في
قلوبهم مرض ، والفريق الثاني :
الذين يؤمنون باللّه واليوم الآخر. يعني أنَّ تدخُّل الشيطان في أعمال
الأنبياء عن طريق تحريك الناس ضِدَّهم وضدَّ أهدافهم يوجب مخالفة الفريق الأوّل
ومعارضتهم للانبياء في حين يكون الأمر على العكس من ذلك في الفريق الثاني فانه
يزيد من ثباتهم وصمودهم. وان بيان أن لتدخل الشيطان في تمنيات
الانبياء ، مثل هذين الاثرين المختلفين ( أي يحمل فريقا على المخالفة وفريقا آخر
على الثبات والصمود ) يفيد أن المراد بالتدخل هنا هو المعنى الثاني ، يعني ان
التدخل يحصل عن طريق تحريك الناس ضدّهم ، وإلقاء الوساوس في قلوب أعدائهم ، وخلق
الموانع والعراقيل في طريقهم لا أنهم يتصرفون في نفوس الأنبياء وقلوبهم ويضعفون
ارادتهم وعزمهم. إلى هنا اتضح معنى تدخّل الشيطان في
تمنيات الانبياء والرسل. والآن حان الحين لتوضيح المطلب الآخر
يعني محو آثار هذا التدخل. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
3 ـ ما هو المقصود
من محو آثار التدخل؟
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إذا كان معنى تدخّل الشيطان هو تحريك
الناس وتأليبهم ضد الانبياء ليمنعوا الأنبياء والرسل من التقدم في أهدافهم ، فان
محو آثار التدخّل الشيطاني من قبل اللّه ـ حينئذ ـ يكون بمعنى ان اللّه يدفع عن
أنبيائه ورسله كيد الشيطان ليتضح الحقُ للمؤمنين ، ويكون إختباراً لمرضى القلوب
كما يقول تعالى في آية اُخرى. «
إنّا لَنَنْصُر رُسُلَنا وَالَّذيْنَ آمَنُوا فِي الحَياة الدّنْيا »
(غافر : 51.).
وخلاصة القول : أن
القرآن يخبر ـ في هذه الآيات ـ عن سنة للّه قديمة في مجال الأنبياء وهي : إن تَمنّي التقدم في الأهداف وتمنّي
التوفيق في هداية الناس هو فعل الانبياء دائماً. ثم يأتي الدور لتدخّل الشيطان
وأتباعه من شياطين الإنس والجنّ ، وذلك بايجاد الموانع والعقبات في طريق
الأنبياء والرسل. ثم يأتي من بعد ذلك حلول المدد
الالهي الغيبيّ بمحو وفسخ كلّ التدابير الشيطانية المضادّة لأهداف الانبياء
المعرقِلة لتحقيق أمانيّهم. وهذه هي إحدى السنن الالهية الثابتة
الّتي جرت في جميع الاُمم السالفة. إن تاريخ الأنبياء والرسل وقصصهم من
نوح وإبراهيم وأنبياء بني إسرائيل وبخاصّة موسى وعيسى عليهماالسلام
، وتاريخ حياة الرّسول الاكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم
خير شاهد على هذا المطلب. وينبغي إستكمالا لهذا البحث أن نقول
: ولأجل ما ورد على هذه القصة الاُسطوية من مؤاخذات رفضها وفنّدها بعض المحققين
من أهل السنة إذ قال بعد ذكرها على النحو الّذي ادرجها الطبري في تاريخه وأرسله
ارسال المسلّمات : وأهل الاُصول يدفعون هذا الحديث
بالحجة. ومن صحَّحهُ قال فيه أقوالا : منها : ان الشيطان قال ذلك وأذاعه
والرسول عليه الصلاة والسَّلام لم ينطق به. ( وذكر وجوهاً اُخرى ثم قال : )
والحديث على ما خيّلت غير مقطوع بصحته (راجع هوامش السيرة النبويَّة : ج 1 ، ص 364.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
20
الحصار الاقتصادي والاجتماعي
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إن أبسط وسيلة وأسهلها لضرب الأقليات
في أي مجتمع ، والقضاء عليها هو ما يسمى بالمكافحة السلبية الّتي تقوم أساساً
على اتحاد الأكثرية واتفاقها على مقاطعة الأقليّة المتمرّدة. إن عكس هذا يحتاج إلى أدوات متعددة
مختلفة ، لأنه يتطلب مثلا ان يحمل جماعة من المقاتلين السلاح ، وتتوجه نحو
الاهداف المطلوبة عبر التضحية بقدر كبير من الأنفس والأموال ، وازالة العشرات من
الموانع والسواتر ، وهو أمر لا يُقدم عليه القادة المحنّكون إلاّ بعد توفّر كل
مستلزمات المواجهة واتخاذ جميع التدابير اللازمة ، والاستعداد الكامل ، وبالتالي
لا يقدمون على هذه الخطوة ما لم تدعو الضرورة اليها ، وتنحصرُ الحيلة في القتال.
ولكنّ المكافحة السلبية لا تتوقف على
مثل هذه الاُمور ، بل تحتاج إلى أمر واحد وهو اتفاق الاكثرية. يعني أن يتفق من يعنيهم الأمرُ ولهم
عقيدة واحدة ويتحالفوا في ما بينهم بصدق على أن يقطعوا كلَ صلاتهم وعلاقاتهم
بالأقليّة المعارضة ، فيحرّموا التعامل التجاريّ معهم ويوقفوا الاتصال العائليّ
بهم ، ولا يشركونهم في اعمالهم الاجتماعية ولا يتعاونوا معهم في اُمورهم
الشخصيّة أيضاً. في مثل هذه الحالة تضيق الأَرض على
الأقلية بما رحبت وتغدو الدنيا لهم على سعتها كسجن ضيق وصغير ، ويصيرون عُرضة
للانهيار والسقوط بأقلّ قدر ممكن من الضغط عليها. إن الاقليّة المخالفة المتمرّدة ربما
تستسلم ـ في هذه الحالة ـ وتؤوب من منتصف الطريق ، وتطيع إرادة الأكثرية. ولكن أقلية كهذه لابد أن تكون ممَّن
لا تعود مخالفتها للأكثرية إلى أمر عقائديّ ولا يكون لانفصالها عن الاكثرية
طابعٌ اُصوليٌ مبدأيّ ، كما لو كان خلافها مع الاكثرية مثلا على تحصيل ثروة أو
منصب مهمّ أو ما شاكل ذلك. فان مثل هذه الاقلية إذا أحسّت بخطر
جدّي ، أو واجهت العذاب والسجن والحصار ستتراجع عن مخالفتها وتعود إلى طاعة
الاكثرية مؤثرة اللّذة العابرة المؤقَّتة على اللذة الإحتمالية ، لأنها لم تنطلق
من دوافع ايمانية اصيلة ، ولم يكن المحرك لها محركاً روحياً معنوياً. ولكن الجماعة الّتي يقوم خلافُها
للاكثرية على أساس الإيمان بهدف مقدس ، لن تنصاع أبداً لمثل هذه الضغوط ، ولن
تنثني أمام هذه الرياح والعواصف ، ولا يزيدها ضغطُ الحصار الاّ صلابة وقوة ،
وإصراراً وعناداً ، وتردُّ جميع ضربات العدوّ بالصبر والإستقامة. إن صفحات التاريخ البشريِّ تشهد بأن
أقوى العوامل لثبات كل أقليّة وصمودها في وجه الأكثرية هو : قوةُ الايمان ،
وعاملُ الإعتقاد ، الّذي ربما يؤدّي رسالة الثبات والمقاومة ببذل آخر قطرة دم في
ساحة المواجهة. ولنا على هذا عشرات بل ومئات الأمثلة
من التاريخ الغابر والحاضر. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قريشٌ تحاصر النبيّ
والمسلمين اقتصادياً واجتماعياً
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد شقَّ على قريش انتشار الإسلام
المتزايد وأزعجها نفوذه العجيب في القبائل العربية في مدة غير طويلة بالنسبة إلى
عمر الدعوة ولهذا كانت تفكر باستمرار في حلّ لهذه المشكلة. فان اسلام شخصيات ذات أهمية ومكانة
كبرى مثل حمزة ، وكذا رغبة فتية قريش المتفتحين في الإسلام ، وحرية العمل
والتحرك الّتي اكتسبها المسلمون على اثر الهجرة إلى أرض الحبشة ، كل ذلك زاد من
حيرة ، واضطراب الزعامة الجاهلية في مكة ، الّتي زادها حيرة ، وانزعاجاً ، فشل
جميع مخططاتها الاجهاضية ضد الإسلام والمسلمين ، وعدم حصولها على أية نتائج
تذكر!! من هنا فكرت في خطة جديدة ، وهي ان
تفرض حصاراً اقتصادياً قوياً على النبيّ والمسلمين تقطع به كل الشرايين الحيوية
للمسلمين ، وبذلك تحدّ من سرعة انتشار الإسلام وتقف دون نفوذه ، وبالتالي تخنق بين
كمّاشة هذا الحصار مؤسس هذه العقيدة التوحيدية ، وأنصاره. ولهذا اجتمع زعماء
قريش في « دار الندوة » ووقّعوا ميثاقاً كتبه « منصور بن عكرمة » وعلّقوه في جوف
الكعبة ، وتحالفوا بان تلتزم قريش ببنوده حتّى الموت. ونصَ هذا العقد على
الاُمور التالية : 1 ـ أن لا يبتاعوا من أنصار النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
ولا يبيعوهم شيئاً. 2 ـ ان لا ينكحوا اليهم ولا ينكحوهم.
3 ـ أن لا يؤاكلوهم ولا يكلّموهم. 4 ـ ان يكونوا يداً واحدة على «
محمَّد » وانصاره. وقد وقّعت على هذه الصحيفة الظالمة
القاطعة كلُ الشخصيات البارزة في قريش إلاّ « مطعم بن عدي » وأعلنت عن سريان
مفعوله بكل قوة وإصرار. فلما علم حامي النبي الاكبر أبو طالب
عليهالسلام بذلك جمع بني هاشم
وبني المطلب وحمّلهم مسؤولية الدفاع عن رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
والحفاظ على حياته وسلامته ، وأمرهم بالخروج من مكة وبدخول شعب كائن بين جبال
مكة كان يعرف بشعب أبي طالب فيه بعض البيوت العادية ، والسقائف البسيطة جداً ،
والسكنى في ذلك الشعب بعيداً عن المجتمع المكّي المشرك. وعمد إلى بث رجال منهم في نقاط
مرتفعة للمراقبة والحراسة تحسباً لأي هجوم مباغت تقومُ به قريش (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 350 ، وتاريخ الطبري : ج 2
، ص 78 ، وقد كتبت هذه الصحيفة الظالمة في الليلة الاُولى من السنة السابعة
للبعثة وعندما عرف ابو طالب بأمرها أنشد قصيدة في ذمهم مطلعها :
). وقد استمر هذا الحصار ثلاثة أعوام
كاملة ، وبلغ الجهدُ بالمحاصَرين في الشعب بحيث ارتفع صراخ الأطفال من الجوع
والضر ، وبلغت هذه الصرخات مسامع قساة مكة الاّ انها لم تؤثر فيهم قط. كان الشباب والرجال منهم يعيشون على
تمرة واحدة طوال اليوم ، وربما تناصف اثنان تمرة واحدة ، ولم يمكنهم الخروج من
الشعب طوال هذه السنوات الثلاث الاّ في الاشهر الحرم حيث يسود الأمنُ كل انحاء
الجزيرة العربية. فاذا حلّ الموسمُ كانت بنُو هاشم
تخرج من الشعب فيشترون ويبيعون ثم يعودون إلى الشعب إلى الموسم الثاني. وكان النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
يستغلّ هو أيضاً تلك المواسم في نشر دينه ، والدعوة إلى ما أتى به. وكانت عناصر قريش تحاول مضايقة النبي
وأنصاره وتمارس الحصار الاقتصادي عليهم بشكل من الأشكال حتّى في هذه المواسم ،
فكانوا يحضرون عند مواقع البيع والشراء فاذا وجدوا مسلماً يريد أن يبتاع شيئاً
اشتروه بثمن أغلى ليمنعوا المسلم منه!! وكان « أبو لهب » أكثر الناس اصراراً
على هذا العمل ، فقد كان ينادي في الأسواق : يا معشر التجار ، غالوا على أصحاب
محمَّد حتّى لا يدركوا معكم شيئاً فقد علمتم مالي ووفاء ذمتي فانا ضامن أن لا
خسار عليكم ، فيزيدون عليهم في السلعة قيمتها أضعافاً حتّى يرجع الرجل المسلم
إلى اطفاله وهم يتضاغون من الجوع وليس في يديه شيء يطعمهم به ، ويغدو التجار على
أبي لهب فيربّحهم فيما اشتروا من الطعام واللباس!!
(السيرة النبوية : ج 1 ، ص 337 الهوامش.).
وكان « الوليد بن المغيرة » ينادي :
أيّما رجل منهُم وجدتموه عند طعام يشتريه فزيدوا عليه فكانت قريش تباكرُهم إلى
الأسواق فيشترونها فيغلونها عليهم. وضع بني هاشم المأساوي في الشِعب
لقد بلغ الجهد والجوع بالمحاصَرين في
الشعب حدّاً جعلهم يأكلون كل ما تقع عليه ايديهم من الخبط وورق السمر حتّى أن «
سعد بن أبي وقاص » يقول : لقد جعت حتّى أني وطئتُ ذات ليلة على شيء رطب فوضعته
في فمي وبلعته ، وما أدري ما هو إلى الآن (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 337 الهوامش.).
هذا وقد بثّت قريش جواسيسها على
الطرق المؤدّية إلى الشعب ليمنعوا من إيصال الطعام إلى من فيه فلا يصل إليهم شيء
إلاّ سراً ومستخفى به ممّن أراد صلتهم من قريش. فقد روي أن « حكيم بن
حزام » ( ابن اخ خديجة ) و « أبو العاص بن الربيع » و « هشام بن عمرو » كانوا
يسرّبون إلى « بني هاشم » في الشعب سرّاً وفي أواسط الليل تحت جنح الظلام ، فكان
الواحد منهم يحمل قمحاً وتمراً على بعير ويأتي به إلى باب الشعب ثم يصيحُ بها
فتدخلُ الشعب ويأكله بنو هاشم. وربما صادفهم بعض جواسيس قريش ،
فهمُّوا بقتله ، أو سبّبوا له بعض المتاعب. فقد روي أن « حكيم بن حزام » خرج
يوماً ومعه انسان يحمل طعاماً إلى عمته خديجة بنت خويلد ( زوجة رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وكانت معه في الشعب طيلة أعوام الحصار ) إذ لقيه « أبو جهل » فقال له : تذهب
بالطعام إلى بني هاشم؟ واللّه لا تبرح أنت ولا طعامَك حتّى أفضحَك عند قريش
بمكة. فقال له أبو البختريّ ـ وكانَ من
أعداء الإسلام هو أيضاً ـ : تمنعه أن يرسل إلى عمته بطعام كان لها عنده؟ فأبى « ابو جهل » أن يدعَه إلا أن
يأخذه إلى قريش ، فقام إليه « ابوالبختري » بساق بعير فضربه ووطأه وطئاً شديداً
» (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 354 ، هذا ويشكّك أحد المحققين في نوايا
حكيم بن حزام في هذا العمل ، وفي أن يكون قد حصل بدافع الوفاء لوشيجة القربى ،
بل كان بدافع الربح الاكثر لما ثبت ـ حسب قوله ـ من انه كان يحتكر الطعام على
عهد رسول الّه صلىاللهعليهوآلهوسلم.).
وخلاصة القول ؛ أن قريشاً بالغت في
تضييق الحصار على رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ومن تبعه حتّى أن من كان يدخل « مكة » من العرب. كان لا يجسر على أن يبيع من بني
هاشم شيئاً ومن باع منهم شيئاً انتهبوا ماله ، وكان « أبو جهل » ، و « العاص بن
وائل » و « النضر بن الحارث بن كلدة » ، و « عقبة بن أبي معيط » يخرجون إلى
الطرقات الّتي تدخل « مكة » فمن رأوه معه ميرة وطعام نهوه ان يبيع من بني هاشم
شيئاً ، ويحذرون إن باع شيئاً منهم نهبوا ماله. كما وعدوا على من أسلم فاوثقوهم
وآذوهم واشتدّ البلاء عليهم ، وأبدت قريش لبني عبد المطلب الجفاء. ولكن لم يستطع كلُ ذلك أن يفتَّ في
عضد النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
ويقلل من إصراره وثباته على الطريق ، ولا مِن اصرار أتباعه وثباتهم وإيمانهم. وأخيراً تركت صرخاتُ أطفالُ بني هاشم
في الشعب من الجوع والعري والجهد والضر ، وأوضاعهم المأساوية أثرها في نفوس بعض
المشركين الموقعين على تلك الصحيفة الظالمة ، وذلك الميثاق المشؤوم ، فندموا على
إمضائهم لتلك المقاطعة بشدة وصاروا يفكّرون في نفضها بشكل من الأشكال. فمشى « هشام بن عمرو » إلى « زهير بن
أبي اُمية » ( وكان من أحفاد عبد المطلب من جانب بناته ) وقال له وهو يحثه على
نقض الصحيفة : يا زهير أقد رضيت أن تأكلّ الطعام ، وتلبس الثياب ، وتنكح النساء
، وأخوالك حيث قد علمت لا يُباعون ولا يُبتاع منهم ، ولا يُنكحون ولا يُنكحُ
إليهم؟ أمّا إني أحلِفُ باللّه أن لو كانُوا
أخوال أبي الحكم ( أي أبي جهل ) ثم دعوته إلى ما دعاك إليه منهم ما أجابك إليه
أبداً؟ فقال زهير : ويحك يا هشام فماذا
أصنع؟ إنما أنا رجلٌ واحدٌ واللّه لو كان معي رجلٌ آخر لقمتُ في نقضها حتّى
أنقضَها. قال : قد وجدتَ رجلا. قال فمن هو؟ قال : أنا. قال له زهير : أبغنا رجلا ثالثاً.
فذهب إلى « المطعم بن عدي » فقال له يا مطعم أقد رضيت أن يهلك بطنان من بني عبد
مناف ، وأنت شاهدٌ على ذلك ، موافقٌ لقريش فيه! أما واللّه لئن أمكنتُموُهم من
هذه لتجدنَّهم إليها منكم سراعاً؟ قال : ويحك! فماذا أصنع؟ انما أنا
رجلٌ واحدٌ. قال : قد وجدتَ ثانياً. قال : من هو؟ قال : أنا. قال : أبغِنا ثالثاً. قال : قد فعلتُ. قال : مَن هوَ؟ قال : زهير بن أبي اُمية. قال : ابغِنا رابعاً. فذهب إلى « البَختري بن هشام » فقال
له نحواً مما قال للمطعم بن عدي ، فقال : وهل من أحد يعين على هذا؟ قال : نعم. قال : من هُوَ؟ قال : « زهير بن أبي اُمية » و «
المطعم بن عديّ » وأنا معك. فقال : ابغنا خامساً. فذهب إلى « زمعة بن الأسود بن المطلب
» فكلَّمه وذكر له قرابتهم وحقّهم فقال له : وهل على هذا الأمر الّذي تدعوني
إليه من أحد؟ قال : نعم ... ثم سمّى له القوم
الذين وعدوه بالمساعدة على نقض تلك الصحيفة القاطعة الظالمة. فاتفقوا على أن يحضروا في أندية قريش
في المسجد ويُعلِنُوا مخالفَتهم لتلك الصحيفة. فلمّا أصبحوا غَدوا إلى مجلس قريش في
المسجد الحرام فأقبل « زهير بن أبي اُميّة » على الناس وقال : يا أهل مكة أنأكل الطعام ونلبسُ
الثياب ، وبنو هاشم هلكى لا يُباع لهم ولا يُبتاعُ منهم؟ واللّه لا أقعد حتّى
تشقّ هذه الصحيفة القاطعة الظالمة. فقال أبو جهل وكان في ناحية المسجد :
كذبتَ واللّه لا تُشقّ. فانتصر زمعة لزهير وردَّ على أبي جهل
قائلا : أنت واللّه أكذبُ ، ما رضينا كتابَها حيث كتبت. وقال أبوالبختري من ناحية مؤيّداً
موقف زميله : صدق زمعةُ لا نرضى ما كتب فيها ، ولا نقرّ به. وقال المطعم بن عدي : صدقتما وكذب من
قال غير ذلك ، نبرأ إلى اللّه منها ، وممّا كتب فيها. وقال هشام بن عمرو نحواً من ذلك. فأحسّ أبو جهل بأنَّ ذلك كان أمراً
مبيَّتاً مدبَّراً من قبل فقال : هذا أمرٌ قُضِيَ بليل ، تُشُوور فيه
بغير هذا المكان. وكان أبو طالب ـ حسب بعض الروايات
التاريخية ـ جالساً ذلك اليوم في ناحية المسجد ، فقام المطعم إلى الصحيفة
ليشقَّها فوجد ( الإرضة ) (وهي دودة بيضاء شبه النملة وهي آفة كل شيء من خشب أو نبات راجع لسان
العرب مادة : ارض.)
قد أكلتها ، إلاّ « باسمك اللَّهمَ » الّتي صُدرَت بها تلك الصحيفة وهي جملة
كانت قريش تبدأ بها عهودَها ورسائلها. فلما رأى « أبو طالب » ذلك رجع إلى
الشعب وأخبر رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله ) بما جرى ، وعاد المحاصَرون في
الشعب إلى منازلهم مرة اُخرى بعد المشورة مع « أبي طالب ». ويروي طائفةٌ من المؤرخين أنّ «
خديجة » و « أبا طالب » أنفقا أموالَهما برمّتها خلال سنوات المحاصرة. وفجأة نزل ملك الوحي « جبرئيل » على
رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
في الشعب ، وأخبره بان اللّه قد بعث على صحيفة المشركين القاطعة دابّة الأرض
فلحست ( أو اكلت ) جميع ما فيها من قطيعة وظلم وتركت جملة « باسمك اللّهمّ »
فأخبر رسولُ اللّه أبا طالب بذلك قائلا يا عمّ إنّ ربّي اللّه قد سلّط « الإرضة
» على صحيفة قريش فلم تَدع فيها إسماً هوللّه إلاّ أثبتتهُ فيها ، ونفت منها
الظلم والقطيعة والبهتان. فقال أبو طالب : إذن لا يدخلُ عليك
أحَدٌ (وإنّما اتخذ مثلَ هذا الاجراء حتّى لا يفشوا ذلك الخبر فيبلغ
المشركين فيحتالُوا للصحيفة ويكذّبوا بذلك خبر النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم.).
ثم قامَ ولبسَ ثيابَه ، ومشى هو
ورسولُ اللّه وشخصٌ آخر حتّى دخلوا المسجد على قريش وهم مجتمعون فيه ، فلما دَنا
أبو طالب منهم قامُوا إليه وعظَّموه ، وتباشروا وظنّوا أن الحصَر والبلاء حمل
أبا طالب على التخلّي عن موقفه ، فقالوا له : قد آن لك أن تطيب نفسُك عن قتل رجل
في قتله صلاحُكم وجماعتكم ( أو قد آن لك أن تسلّم إلينا ابن أخيك ). فقال أبو طالب : واللّه ما جئت لهذا
، ولكنَّ ابن أخي أخبرني ولم يكذّبني أنّ اللّه تعالى أخبَرهُ أنه بعث على
صحيفتكُم القاطعة دابَّة فلحست جميع ما فيها من قطيعة رحم وظلم وجور وترك اسم
اللّه ، فهلم صحيفتكم فان كان حقاً فاتقوا اللّه وارجعُوا عمّا أنتم عليه من
الظلم والجور وقطيعة الرَّحم. وإن كان باطلا دفعتُه إليكم فان شئتم
قتلتمُوهُ ، وإن شئتم استحييتموه. فقالوا : رضينا ، وتعاقدوا على ذلك. ثم بعثوا إلى الصحيفة وأنزلوها من
الكعبة ، وعليها أربعون خاتماً. فلما أتَوابها نَظر كلُ رجل منهم إلى
خاتمه ، ثم فكوها فاذا ليس فيها حرفٌ واحدٌ إلاّ « باسمك اللّهمَّ » ، كما
اخبرهم بذلك رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم.
غير أنَّ هذا لم يوجب هدايتهم بل
زادهم شراً وعناداً ورجع بنو هاشم مرّة اُخرى الى الشعب وبقوا محاصرين فيه مدّة
من الزمن ولم يمكنهم الرجوعُ إلى منازلهم بمكة إلاّ بعد أن نقضها هشام. وقد قال « أبو طالب » في مدح هذا (
أي نقض الصحيفة القاطعة والنَفر الذين قاموا بنقضها ) قصيدة مطوَّلة جاء في
مطلعها.
1 ـ يقصد من هاجر من
المسلمين إلى الحبشة في البحر. 2 ـ أي أرفقُ. 3 ـ السيرة النبوية : ج 1
، ص 377 ـ 380 وقد أدرج ابن هشام القصيدة بتمامها ، فراجع. هذه أمثلةٌ ونماذجُ من رُدود الفعل
الظالمة والمواقف المناوئة الّتي اتخذتها قريشٌ تجاه الدعوة المحمدية. على أنه لا يمكن الادّعاء القطعيّ
بأن جميع هذه الردود قد وقعت على الترتيب الّذي ذكرناه تماماً ، ولكن يمكن
بمراجعة النصوص التاريخيّة تحصيل مثل هذا الترتيب وخاصّة أن مسألة انتهاء
المحاصرة الاقتصادية قد وقعت في منتصف شهر رجب من السنة العاشرة للبعثة الشريفة.
كما أنَّ أذى قريش وردود فعلها ضدّ
الإسلام والمسلمين وضدّ رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
خاصّة لم تنحصر في ما ذكرناه في هذه الفصول بل كانت هناك أساليب اُخرى سلكتها
قريش لتحطيم شخصية النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
وأضعاف عزيمته مثل وصفهم للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
بالأبتر. فقد كان « العاصُ بن وائل السهمي »
إذا ذكر رسول اللّه قال : دعوهُ ، فانَّما هو رجلٌ أبترٌ لا عقب له ، لومات لا
نقطع ذكره واسترحتم منه. فانزل اللّه تعالى في ذلك سورة
الكوثر الّتي يقول فيها : «
بسم اللّه الرحمن الرَّحيم إنّا أعْطَيْناكَ الكوثَر فَصَلِّ لِربِّك وَانْحَرْ
* إنَّ شانئكَ هُوَ الأَبْتر ». وقد أخبر بها اللّه نبيَّه بأنه
سيهبُه ذريّة كثيرة (السيرة النبوية : ج 1 ص 393 وجميع التفاسير.).
ولقد كتبَ العلاّمة الفخر الرازي في
تفسيره لهذه السورة (مفاتيح الغيب : الجزء الثلاثون ، سورة الكوثر.)
: المعنى أنه يعطيه نسلا يبقون على مرّ الزمان ، فانظر كم قُتِلَ من أهل البيت؟
ثم العالم ممتلئ منهم ، ولم يبق من بني اُميّة في الدنيا أحدٌ يُعبأبه. ووجه المناسبة أن الكافر شمت بالنبيّ
حين مات أحد أولاده وقال : ان محمَّداً ابتر فان مات مات ذكره ، فانزل اللّه هذه
السورة على نبيّه تسلية له كأنه تعالى يقول : ان كان ابنك قد مات فانا اعطيناك
فاطمة ، وهي وإن كانت واحدة وقليلة ، ولكن اللّه سيجعل هذا الواحد كثيراً. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
21
وَفاة أَبي طالب وخديجة الكبرى
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
في الوَقت الّذي كنّا نسطّر فيه
مواضيع هذا الفصل كان سجن « القطيف » يضمُّ بين جدرانه شاباً حر الضمير شجاعاً
مقداماً له يكن له من ذنب إلاّ أنه الّف كتاباً باسم « أبو طالب مؤمن قريش »
يتناول إسلام « أبي طالب » وإيمانه وإخلاصه مثبتاً كل ذلك من مصادر أهل السنّة (والكتاب يقع في 340 صفحة طبع بحجم الوزيري وطُبع في بيروت مراراً
وقدّم عليه الأديبُ اللبناني المعروف « بولس سلامة » صاحب ملحمة الغدير وملاحم
اُخرى.).
فطلبت منه السلطات القضائيّة في
الحجاز ـ وفي عصر يتسمُ بحرّية التفكير والبيانِ والإعتقادِ ـ بأن يتراجع عن
كلامه ، وحيث إنه لم يكن ليريد أن ينكر حقيقة اعتقد بها عن قناعة ويقين ، حكمت
عليه تلك السلطات بالاعدام. وقد نجا هذا الفتى الشجاع والكاتب
الحرّ من الاعدام اثر جهود اسلامية واسعة وخُفِضت عقوبته إلى الحبس المؤبّد ،
الّذي خفّض اثر جهود اسلامية مرّة اُخرى إلى عقوبة الجَلد ثمانين جلدة!!. وهو الآن يلبث في أحد السجون بانتظار
المصير ، المجهول إذ على المسلمين إما أن يهتمّوا بالأمر ويطلبوا من السلطات
القضائية السعودية صرف النظر عن عقوبته ، بل والافراج عنه نهائياً. وإما أن يفقد هذا الشاب المجاهد
الشجاع البريء حياته تحت سياط تلك السلطات الجائرة الحاكمة زوراً وقهراً على أرض
الحجاز (لقد سمّيت أراضي « الحجاز » و « نجد » و « تهامة » باسم عائلة واحدة
هي آل سعود ، واخيراً حملت هذه المنطقة الّتي كانت تُعرف وحتّى إلى ما يقرب من
قرنين بارض الحجاز اسم المملكة العربية السعودية ، ياله من استئثار وجرأة على
المقدسات!!)
(واخيراً نجا هذا الشاب المؤمن والمجاهد الحرّ بفضل جهود علماء الشيعة
ومفكّريهم المتضافرة والواسعة النطاق واُخلي سبيله وقد زار ـ للاعراب عن شكره ـ
مدينة قم المقدّسة وقد التقينا به أيضاً كما زار اماكن أُخرى لنفس الغرض.).
لقد سقطت مؤامرة الحصار الاقتصادي
ضدّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
بفعل إقدام ثلة من ذوي المروءة وأيضاً بفضل صمود النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
وثباتهم العظيم. وخرج النبيّ وأنصاره من « شِعب أبي طالب » بعد ثلاث سنوات من
النفي والعذاب وعادوا إلى منازلهم ظافرين مرفوعي الرؤوس. وعاد التعامُل الاقتصادي مع المسلمين
إلى ما كان عليه قبل الحصار ، وكانت أوضاع المسلمين تسير نحو الانتعاش والانفراج
شيئاً فشيئاً ، وإذا برسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
يُفاجَأ بحادث مؤلم مرٍّ ذلك هو وفاة شخصية كبرى أحدث فقدانها أثراً سيّئاً في
نفوس المسلمين وبخاصة المستضعفين منهم. ولقد كان هذا الأثر عظيماً جداً بحيث
لا يمكن قياسه بشيء بالنظر إلى تلك الظروف الحساسة ، وذلك لأن نمو أية عقيدة
وفكرة إنما يكون في ظل عاملين أساسيّين : أحدهما : حرية التعبير ، والآخر :
القوة الدفاعية الّتي تحمي أصحاب تلك العقيدة والفكرة ضدّ حملات الخصوم الّتي لا
ترحم. ولقد كان المسلمون ـ آنذاك ـ يتمتعون
بحرية البيان والتعبير ، ولكنهم افتقدوا بسبب الحادث المفاجئ المذكور العاملَ
الجوهري والمصيري الثاني يعني : حامي الإسلام والمدافع الوحيد عنه الّذي وافته
المنية في تلك الايام الحساسة وحُرم المسلمون بوفاته من حمايته ودفاعه ،
ووقايته. * * * أجل لقد فَقَد رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
حاميه العظيم الّذي تولى مهمة كفالته والدفاع عنه ، والمحافظة على حياته بصدق
واخلاص وجدّ ورغبة وكان يقيه بنفسه وذويه ويؤثره على نفسه وأولاده وينفق عليه من
ماله حتّى كَبُرَ وصار له مال وطول منذ أن كان صلىاللهعليهوآلهوسلم
في السنة الثامنة من عمره وحتّى يوم وفاة ذلك الحامي العظيم ، ورسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
في الخمسين من عمره. لقد فَقَد رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
شخصيةً خاطبها عبدُالمطلب عند وفاته بالشعر قائلا :
فأجابه أبو طالب قائلا :
يا أبَه لا توصِيَّنِ بمحمّد فانه إبني وابن أخي (عمدة الطالب : ص 6 وفيه : بواحد ، المناقب : ج 1 ، ص 21.).
ولعلّ رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
قد تذكر في اللحظة الّتي ظهر فيها على جبين ابي طالب عرقُ الموت جميع الحوادث
الحلوة والمرة وقال في نفسه : 1 ـ إن هذا الشخص المسجّى على فراش
الموت هو عمّه الرؤوف الّذي ظلَّ يحرسه بالليل والنهار طيلة سنوات الحصار في
الشعب ، فاذا جاء الليل قام عند رأسه بالسيف يحرسه. ورسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
مضطجع ثم يقيمه من فراشه إذا مضى شطرٌ من الليل ويضجعه في موضع آخر ويضجع مكانه
ولده « علي بن أبي طالب » حتّى لا تغتاله قريش بعد أن رَصَدوا مكانه ، وكمنوا له
، وكان يفعل أبو طالب ذلك طوال الليل كله فيفديني بولده « علي » ويقيني به حتّى
إذا قال له « عليٌ » ليلة : « يا أبتاه إني مقتول ذات ليلة ». فأجابه أبو طالب بنبرة
المتحمّس الصبور :
فأجابه « عليّ » بكلام اكثر حلاوةً
وعمقاً قائلاً :
(1)مناقب ابن شهر آشوب : ج 1 ، ص 64 ، الحجّة : ص 70 ، بحار الأنوار : ج
19 ، ص 1 ـ 19. 2 ـ إن هذا الجثمان الّذي فارقته
الروح هو جثمان عمّي العطوف الّذي شُرّدَ هو وذووه ، وعرَّض نفسَه وأهلَه
للبَلاء والمحنَة بسبب الحصار لأجلي ، وأمر بأن يحرسونني ليلَ نهار ، تاركاً
زعامته وسيادته ، وكلّ شؤُونه للحفاظ عليَّ والإبقاء على رسالتي وأرسل إلى قريش
رسالةً قويةً أعلنَ فيها عن وُقُوفه إلى جانبي وانه لن يسلمني ويخذلني مادام
حيّاً إذ قال :
(2)بحار الأنوار : ج 19 ، ص 4. بعد أن تحقق موت « ابي طالب » ارتفع الصراخ
والنحيب من منازله وبيوته ، واجتمع حول بيته العدوُّ والصديقُ ، والقريبُ
والبعيد ، واشترك الجميعُ في مراسيم دفنه بقلوب آلمتها الفجيعة به ، وقرّحها
الحزنُ عليه. وهل ترى تنتهي آثار وردود فعل وفاة
شخصية عظيمة الشأن مثل « ابي طالب » الّذي كان زعيم قريش ، وسيد عشيرته بمثل هذه
السرعة ، والبساطة؟ كلا بل سيكون لفقدانه اكبر الأثر على
مسيرة الدعوة كما ستعرف ذلك مستقبلا. نماذج من مشاعر أبي طالب
ان التاريخ البشريّ يحتفظ في صفحاته
بأمثلة كثيرة عن مشاعر تبادَلها ولكنَّ المشاعرَ والعواطفَ الّتي
تنبعُ من أواصر الايمان بفضائل شخص ما وكمالاتِه الروحية والمعنوية لا تنمحي ولا
تتلاشى بسرعة. وقد كانت مودة « أبي طالب » لمحمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم
وحبّه الشديد له تنبع من كلا هذين الدافعّين. فقد كان « أبو طالب » يؤمن بمحمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم
ويرى فيه من جانب الإنسان الكاملَ ، بل يعتبره في قمة الكمال الانساني ، ومن
جانب آخر كان « محمّد » ابن أخيه ، وقد أحلّه ذلك من قلبه محلّ الابن والأخ. لقد كانت لصفات « محمّد » وخصاله
المعنوية والأخلاقية ، وطهره مكانة كبرى في قلب عمّه « أبي طالب » إلى درجة أنه
كان يصطحبه معه إلى المصلّى ، ويستسقي به اي انه يقسم على اللّه بمقامه أن يدفعَ
عن الناس القحط والجدب وينزّلَ عليهم الغيث ، فكانت دعوتُه تستجاب من دون تأخير.
فقد نقل كثيرٌ من المؤرخين الحادثة
التالية : قحط الناسُ في « مكة » وحواليها سنةً
من السنين ، ومَنعتِ السماء والأرض بركاتها عنهم بشكل عجيب ، فمشت قريش بعيون
باكية إلى « أبي طالب » تطلب منه بالحاح أن يستسقي لهم ، وان يذهب إلى المصلى
ويدعو ربّه لينزِّلَ عليهم المطر وينقذهم من تلك المحنة الصعبة. فخرج « أبو طالب » وقد أخذ بيد غلام
كأنه شمسُ دجن تجلّت عنها غمامة فاسند ظهره إلى الكعبة ورفع وجهه نحو السماء
وقال : يا رب هذا الغلام اسقنا غيثاً مغيثاً ، دائماً هاطلا. ويكتب المؤرخون ان السماء كانت صافية
لا غيم فيها أبداً ساعة استسقى « أبو طالب » برسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ولكن ما ان فرغ « أبو طالب » من دعائه إلاّ وأقبلت السحاب في الحال ، وغطّت
سماء « مكة » وما حولها من المناطق القريبة اليها ، وارعدت السماء وأبرقت ثم جرى
غيث عظيم سالت به الأودية ، وروّت القريب والبعيد ، وَسُرّ به الجميع ورضوا (بحار الأنوار : ج 18 ، ص 2 و 3 ، السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 111 ـ 116
، الملل والنحل المطبوع بهامش الفصل في الأهواء والملل : ج 3 ، ص 225.).
وقد اشار « أبو طالب »
في لاميّته المعروفة إلى هذه الحادثة. وقد أنشأ « أبو طالب » تلك القصيدة
في أحلك الظروف واشدّها ، يوم زادت قريشٌ من ضغوطها على حامي الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم
ليسلِّمَ رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
إليها. وقد ذكَّر فيها « أبو طالب » قريشاً
بحادثة الاستسقاء برسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
قبل الإسلام وكيف أنها اُمطِرَت ببركته ، بعد قحط طويل ، وجدب مهلِك ، كاد يبيد
الحرث والضرع ، وذلك عندما يقول :
وقد نقل « ابن هشام » في
سيرته (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 272 ـ 280.)
أربعة وتسعين بيتاً من هذه القصيدة ، فيما أورد « ابن كثير » الشامي في تاريخه (البداية والنهاية : ج 3 ، ص 52 ـ 57.) إثنين
وتسعين بيتاً فقط. وهي قصيدة في منتهى الروعة والعذوبة
، وفي غاية القوة والجمال ، وتفوق في هذه الجهات كل المعلقات السبع الّتي كان
عرب الجاهلية يفتخرون بها ، ويُعدونها من ارقى ما قيل في مجال الشعر والنظم. وقد أورد « ابو هفان العبدي » الجامع
لديوان « أبي طالب » مائة وواحد وعشرين بيتا من هذه القصيدة في ذلك الديوان ،
ويمكن أن تكون كلُ تلك القصيدة وتمامها. ونحن نورد هنا أبياتاً متفرقة من هذه
القصيدة مما يتصل منها برسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
بصورة صريحة.
1 ـ اي نُغلَبَ عليه. 2 ـ المشاكل : العظيمات من
الامور. 3 ـ السورة : الشدة
والبطش. 4 ـ الذرا : جمع ذروة وهي
اعلى ظهر البعير. 5 ـ راجع السيرة النبوية :
ج 1 ، ص 272 ـ 280. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
التغيير في برنامج
السفر
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لم يكن يمض اكثر من إثني عشر ربيعاً
من عُمُر « محمّد » بعد ، عندما أراد « أبو طالب » التوجّه إلى الشام مع قافلة
قريش التجارية. وعندما استعدّت القافلة لمغادرة مكة
ودق جرس الرحيل ، أخذ « محمّد » فجأة بزمام الناقة الّتي كان يركبها عمُّه
وكافله « أبو طالب » بينما اغرورقت عيناه صلىاللهعليهوآلهوسلم
بالدموع وقال : « يا عمّ إلى مَن تكلني ، لا أب لي
ولا اُم »؟. هذا المشهد المؤثر وبخاصة عند ما رأى
« أبو طالب » عيني محمّد وقد اغرورقت بالدموع ، فعل فعلته في نفس العم الكافل
الحنون ، فانحدرت عبرات العطف من عينيه وقرر من فوره ومن دون سابق تفكير في
الموضوع أن يصطحب ابن اخيه « محمّداً » معه في هذا الرحلة ، ومع أنه لم يحسب
لهذا الامر ـ من قبل ـ أي حساب فان « أبا طالب » قبل بان
يتحمّل كل ما يترتب على قراره هذا ، فحمله معه على ناقته ، وبقي يفكر في أمره ،
ويدبّر شأنه ، ويحافظ عليه طوال تلك الرحلة ، وشهد منه اثناء الطريق كرامات
وخوارق ، وقد أنشأ في ذلك قصيدةً موجودةً في ديوان أبي طالب ، ومطلع هذه القصيدة
هو :
(1)ديوان أبي طالب : ص 33 ـ 35 ، تاريخ ابن عساكر : ج
1 ، ص 269 ـ 272 ، الروض الآنف : ج 1 ، ص 120.
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الدِفاعُ عن حوزة
العقيدة والايمان
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ليست هناك قوةٌ تساعد على الثبات
والمقاومة ، والصمود والاستقامة ، مثل قوة الايمان ، فالايمان بالهدف هو العامل
القوي وراء تقدّم الإنسان في ميدان الحياة ، فهو الّذي يهضم في نفسه كل الالام
والمتاعب ، ويدفع بالمرء إلى المضي قدماً في طريق الوصول إلى أهدافه المقدّسة ،
حتّى ولو كلفه ذلك التعرض للموت. إنَّ الجنديّ المُسلَّح بقوةِ
الإيمان منتصرٌ لا محاله. إن الجنديّ الّذي يعتقد بأن الموت في
طريق العقيدة هو عين السعادة لابدّ أن يحرز النصر. إن على الجندي ـ قبل أن يسلِّحَ
نفسَه بسلاح العصر ـ أن يتزود في قلبه من طاقة الإيمان بالهدف ، ويضيء قلبه
بمصباح الاعتقاد بالحقيقة ، وحبِّها ، ويجب أن يكون جهادُه وصلحُه من أجل
العقيدة والدفاع عن حوزتها ، وكيانها. إِنَّ أفكارنا وعقائدنا نابعةٌ من
روحنا ، وفي الحقيقة انَّ فكر الإنسان وليد عقله ، فكما أنَّ الإنسان يحبُ ولده
الجسماني حبّاً شديداً كذلك يحب أفكاره الّتي هي ولائد عقله وروحه ، بل إن حبّ
الإنسان لعقيدته اكثر من حبّه لأولاده الجسمانيّين ، ولهذا فهو يدافع عن عقائده
حتّى الموت ، ويغضي ـ في سبيل الدفاع عن حوزة العقيدة والحفاظ عليها ـ عن كل شيء
بينما هو غير مستعدّ لأن يضحي بنفسه في سبيل الحفاظ على اولاده. إنّ حب المرء للمال والمنصب حبُّ
محدود ، فهو ينساق مع هذا الحبّ مادام لم يهدّد حياته خطرُ الموت الحقيقي ،
ولكنّه مستعد لأن يمضي ـ في سبيل الدفاع عن حياض العقيدة ـ إلى حدّ الموت ،
ويؤثر الموت الشريف في سبيل العقيدة على الحياة ، ويَرى الحياة الحقيقية
والواقعية في وجود الرجال المجاهدين ، وهو يردد : « إنما الحياة عقيدة وجهاد ». (ـ المراد من العقيدة المقدسة هو بطبيعة الحال ما تذوب « الأنا » فيها
في التوحيد والايمان باللّه إذ هنا يصدُق قولُه :
)
ولنلق نظرة فاحصة على حياة بطل
حديثنا ( ونعني به المدافع الوحيد عن الإسلام وحامي الرسول الاوحد في بدايات عهد
الرسالة ) فماذا كان دافعه إلى هذا الامر ، وما الّذي كان يحركه في هذا السبيل؟
واي شيء كان وراء مضيه في هذا الطريق إلى حافة العدم ، والغض عن النفس والنفيس ،
والمقام ، والقبيلة وغير ذلك والتضحية بكل ذلك في سبيل « محمّد » صلىاللهعليهوآلهوسلم.
إن من المتيقَّن أن دافعه إلى ذلك لم
يكن المحرك الماديّ ، وبالتالي لم يقصد من وراء الدفاع عن ابن اخيه ، وحمايته ،
والحدب عليه ، كسب أمر مادي كتحصيل مال وثروة ، لأن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
لم يكن له يومئذ مالٌ ، ولا ثروة. وكما أن مقصود « أبي طالب » لم يكن
أيضاً تحصيل مقام ، وأحراز مكانة اجتماعية لأنه كان يملك في ذلك المجتمع أعلى
المناصب واهمها ، فقد كانت له رئاسه « مكة » والبطحاء ، بل هو فقد منصبه وشخصيته
الممتازة ومكانته المنقولة بسبب دفاعه عن « محمّد » ، وعدم الاستجابة لقومه في
تسليمه اليهم ، والتخلي عنه لأن دفاعه عن رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
قد استوجب سخط زعماء قريش عليه واستياءهم من موقفه ، وخروجهم عن طاعته ، ودفعهم
إلى التمادي في معاداة « بني هاشم » و « أبي طالب » والثورة عليهم!! |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
تصَوّرٌ باطلٌ
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ربما يتصور بعض ضعفاء البصيرة أن علة
حدب « أبي طالب » على رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
والتضحية في سبيله بالنفس والنفيس كانت هي : علاقة القربى ، ووشيجة الرَحِم ، أو
بتعبير آخر : إِن التعصب القبليّ ، والعصبية القومية هو الّذي دفع بأبي طالب إلى
ان يعرّض نفسه لكل ذلك المكروه في سبيل ابن اخيه. ولكنّ هذا ليس سوى مجرّد تصور باطل
لا غير ، ويتضح بطلانه بدراسة مختصرة لأنه لا تسطيع أية وشيجة قربى على أن تدفع
أحداً إلى أن يضحي بنفسه في احد أقربائه إلى هذه الدرجة من التضحية والمفاداة ،
بحيث يقي مثلا ابن أخيه عليه ، ويكون مستعداً لأن يتقطّع ولده بالسيوف إرباً
إرباً دون ابن أخيه. إن العصبيات القبائلية والعائلية وان
كانت تدفع بالانسان حتّى إلى حافة الموت ، ولكن لا معنى لان تختص ، هذه الحماية
الناشئة عن العصبية العائلية والقبلية الشديدة بفرد واحد ، وشخص خاص معيّن من
أفراد العائلة والقبيلة ، في حين نجد « أبا طالب » قد قام بكل هذه التضحية في
سبيل شخص واحد ، وفرد معين ( أي النبيّ ) ، ولا يفعل مثل هذه في سبيل غيره من
أبناء « عبد المطلب » و « هاشم » وأحفادهما ومن ينتمي إليهم بوشيجة القربى
ورابطة الرحم. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الدافع الحقيقيّ
لأبي طالب
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وعلى هذا الأساس فانّ المحرّك
والدافِعَ الحقيقيّ لأبي طالب لم يكن أمراً مادياً ولا الجاه والمنصب ، أو
التعصب القومي ، والعائلي ، بل كان أمراً معنوياً وأن ضغوط العدوّ وقوّته كانت
تدفعه إلى الاستعداد للقيام بأي نوع من أنواع التضحية وذلك الأمر المعنويّ هو
اعتقاده الراسخ برسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
يعتبر « محمّداً » مظهراً كاملا للفضيلة والإنسانية ويعتبر دينه أفضل برنامج للسعادة ، وحيث أنه كان يحبُّ
الحقيقة ، ويعشق الكمالَ والحقّ ، لذلك كان من الطبيعيّ أن يدافع عن الحق
والحقيقة ، وينصرهما بكل وجوده ، وبكل قواه. وهذا المعنى هو
المستفاد من قصائد « أبي طالب » وأشعاره ، فهو يصرح
بأن « محمّداً » رسولٌ كموسى وعيسى إذ يقول :
(1)مجمع البيان : ج 7 ، ص 37 ، الحجّة : ص 56 ـ 57 ، مستدرك الحاكم : ج
2 ، ص 623 و 624. ويقول في قصيدة اُخرى :
مجمع البيان : ج 7 ، ص 36
، وقد نقل ابن هشام في السيرة النبوية : ج 1 ، ص 352 و 353 خمسة عشر بيتاً من
هذه القصيدة. هذا وتعتبر ابياته الّتي سبق أن
أشرنا اليها والمئات من أمثالها مما جاء ذكره في ديوان أبي طالب ، وفي ثنايا
التاريخ والتفسير والحديث شواهد حيّة وقوية على أن محرك « أبي طالب » الواقعي
ودافعه الحقيقي إلى الدفاع عن رسول اللّه
صلىاللهعليهوآلهوسلم
كان هو اعتقاده الخالص ، واسلامه الواقعي ولم يكن له أي دافع آخر سوى الايمن
والعقيدة. ونحن هنا نكشف النقابَ عن بعض مواقفه
في الدفاع عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
وحمايته بعد اضطلاعه بعبء الرسالة ، ونترك لك أيها القارئ بأن تدقّق في مثل هذه
المواقف الفدائية ثم تقضي بنفسك : هل تنبع مثل هذه التضحية ، ومثل هذا التفاني ،
والفداء إلاّ من الايمان والاعتقاد؟؟ |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لمحات من تضحيات
أبي طالب
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إجتمع أسياد قريش واشرافها في بيت
أبي طالب والنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم حاضر ،
وتبودلت بين الجانبين أحاديث حول رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم ودينه وما خلق من مشكلات في مكة ،
وحاول القرشيون اثناء النبيّ عن دعوته وعمله ولكن دون جدوى فلما يئسوا من الحصول
على النتيجة الّتي كانوا يريدونها نهضوا من مكانهم ليتركوا بيت « أبي طالب » قال
« عقبة ابن أبي معيط » غاضباً مهدداً : لا نعود إليه أبداً ، وما خير من أن
نغتال محمّداً!! فغضب « أبو طالب » من هذه الكلمة ،
ولكنه ماذا عساه أن يفعل فهم ضيوفه ، وفي بيته. واتفق أن خرج النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
من البيت في ذلك اليوم ولم يعد ، وجاء « أبو طالب » وعمومته إلى منزله فلم يجدوه
، فجمع فتياناً من بني هاشم وبني المطلب ، ثم قال ـ وهو يظن ان قريشاً كادت
برسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم ليأخذ كل واحد منكم حديدة صارمة ثم
ليتبعني إذا دخلت المسجد ، فلينظر كل فتى منكم ، فليجلس إلى عظيم من عظمائهم
فيهم ابن الحنظلية ـ يعنى أبا جهل ـ فانه لم يغب عن شر ان كان محمّداً قد قتِل ،
فقال الفتيان : نفعل فجاء زيد بن حارثة فوجد أبا طالب على تلك الحال فقال : يا
زيد أحسست ابن أخي؟ قال : نعم كنت معه آنفاً. فقال أبو طالب : لا ادخل بيتي أبداً
حتّى أراه. فخرج زيد سريعاً حتّى اتى رسول اللّه
صلىاللهعليهوآلهوسلم وهو في
بيت عند الصفا ومعه أصحابه يتحدثون فاخبره الخبر ، فجاء رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
إلى أبي طالب فقال : يا ابن أخي : اين كنت؟ اكنتَ في خير؟ قال : نعم ، قال :
ادخل بيتك ، فدخل رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
، فلما اصبح أبو طالب غدى على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
فاخذ بيده فوقف على اندية قريش ومعه الفتيان الهاشميون والمطلبيون فقال : يا
معشر قريش هل تدرون ما هممتُ به؟ قالوا : لا ، فاخبرهم الخبر ، وقال
للفتيان اكشفوا عما في ايديكم ، فكشفوا ، فاذا كل رجل منهم معه حديدة صارمة.
فقال : واللّه لو قتلتموه ما بقّيت منكم أحداً حتّى نتفانى نحن وانتم ، فانكسر
القوم وكان اشدَّهم انكساراً أبو جهل (الطبقات الكبرى : ج 1 ، ص 168 ، الطرائف : ص 85.).
لو لاحظت أيها القارئ الكريم هذه
الصفحات وغيرها من تاريخ « أبي طالب » ، ودرستَ حياته لرأيت كيف ان « أبا طالب »
ظلّ طوال اثنين وأربعين سنة بأيامها ولياليها يحدب على رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ويدافع عنه ، ويحاميه ، وبخاصة في السنوات العشر الاخيرة من حياته الّتي صادفت
بعثة رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ودعوته ، فقد أظهر من الدفاع عن رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
والحرص على حياته ، وحماية هدفه اكثر مما يُتصور. ولقد كان العامل الوحيد الّذي دفعه
إلى مثل هذا الموقف الراسخ العظيم في هذا السبيل هو : عمق الايمان برسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
، وقوة الاعتقاد الخالص برسالته. ولو أننا ضممنا إلى
تضحياته الشخصية تضحيات ولده العزيز « عليّ » لأدركنا مغزى البيتين الذين
انشدهما « ابن ابي الحديد » المعتزلي الشافعي إذ قال :
(1)ـ شرح نهج البلاغة : ج 14 ص 84 يقول ابن أبي
الحديد : صنف بعض الطالبيين في هذا العصر كتاباً في اسلام أبي طالب ، وبعثه اليّ
، وسألني ان اكتب عليه بخطي نظماً أو نثراً اشهد فيه بصحة ذلك ، وبوثاقة الأدلة
عليه ( إلى ان قال ) فكتبت على ظاهر المجلد هذه الابيات.
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قضيّةٌ ذات بواعث
سياسيّة :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ليس من ريب في أنه لو ثبت عُشر هذا
القدر من الشواهد الدالّة على اسلام « أبي طالب » وإيمانه بالرسالة المحمّدية ،
لغيره ممّن هو بعيدٌ عن قضايا السياسة ، وخارج عن دائرة الحقد والبغض لا تفق
الجميع سنةً وشيعةً على إسلامه وايمانه ، ولكن كيف ذهب فريقٌ إلى تكفير « أبي
طالب » مع كلّ هذه الشواهد القويّة القاطعة على إيمانه؟ حتّى أنّ فريقاً من
الكتاب ذهب إلى أن بعض الآيات المشعرة بالعذاب نزلت في شأنه. بينما توقّف في هذا الأمر ، وذهب
أفراد معدودون من علماء السنة إلى الحكم باسلامه وايمانه ، ومنهم « زيني دحلان »
مفتي مكة المتوفّى سنة 1304 من الهجرة. ولكن الانصاف هو ان يقال : أن الهدف
من طرح هذه المسألة والتوقف في ايمان « أبي طالب » أو تكفيره لم يكن إلاّ الطعن
في أبنائه ، وبخاصة أمير المؤمنين الامام عليّ عليهالسلام.
ولقد جرّ بعض كتّاب السنّة ـ لتبرير
تكفير أبي طالب ـ هذه المسألة إلى غير ابي طالب ووسع دائرة التكفير هذه حتّى
شملت آباء النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
أيضاً حيث ذهب إلى أن أبوي النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
ماتا كافرين أيضاً. ونحن لا يهمنا هنا أن نعلم بأنّ
تكفير والدي النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
مخالفٌ لاجماع الامامية والزيدية ، وكذا جماعة من علماء السنة ، ومحقّقيهم ،
إنما الكلام هو حول من اتّهموا ببساطة متناهية حامي النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
الوحيد والمدافع عنه بلا منازع. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأدِلّة على إيمان
أبي طالب
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إن التعرّف على عقيدة
أحد ، ومعرفة نمط تفكيره ، يمكن عن ثلاث طرق هي : 1 ـ دراسة ما ترك من آثار علميّة
وأدبية. 2 ـ اُسلوب عمله ، وتصرفاته في
المجتمع. 3 ـ رأي أقربائه ، وأصدقائه غير
المغرضين فيه. ونحن نستطيع أن نتعرَّف على إيمان «
أبي طالب » وعقيدته من خلال هذه الطرق. فان أشعار « أبي طالب » تدل بجلاء
لالُبس فيه على ايمانه وإخلاصه ، وكذا تكونُ خدماته القيمة في السنوات العشر
الاخيرة من عمره شاهداً قوياً على إيمانه العميق. كما وأنَّ رأي أقربائه المنصفين متفق
على أنَّ « أبا طالب » كان مسلماً مؤمناً ولم يقل أحدٌ من أقربائه ، في حقه بغير
هذا أبداً. وإليك إثبات هذا
الموضوع عن هذه الطرق الثلاث على وجه التفصيل : آثار
أبي طالب العلميّة والأدبية
نحن نختار هنا من بين قصائد « أبي
طالب » المطوَّلة ، بعض الأبيات الّتي تثبت ايمانه برسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
، واعتقاده بالاسلام ، في غير ابهام.
__________________ 1 ـ مجمع البيان : ج 7 ، ص
37 ، الحجة : ص 57 ، مستدرك الحاكم : ج 2 ، ص 623. 2 و 3 ـ ديوان أبي طالب :
ص 32 ، السيرة النبوية : ج 1 ، ص 353. 4 ـ تاريخ ابن كثير : ج 3
، ص 42. 5 ـ شرح نهج البلاغة لابن
أبي الحديد : ج 14 ، ص 74 ، ديوان أبي طالب : ص 173. 6 ـ السيرة النبوية : ج 1
، ص 272 ـ 280. إِن كلّ واحدة من هذه المقطوعات
الشعريّة الّتي تشكل قسماً صغيراً من قصائد مفصّلة لأبي طالب ، تشهد بايمانه
بدين ابن اخيه « محمّد » صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وخلاصة
القول : أنَّ بيتاً واحداً من هذه الأبيات كاف في
اثبات ايمان صاحبها وقائلها ، ولو أنّ أحداً قالها وهو خارج عن فلك الصراعات
السياسية ، وبعيد عن دوائر التعصبات والأغراض لحكم الجميعُ ـ بالاتفاق ـ باسلام
قائله وايمانه الخالص العميق. ولكن لما كان « أبو طالب » هو قائلها
، وكانت الأجهزة الدعائية في الحكومات الاموية والعباسيّة تعمل بكلّ جهدها ضدّ
آل « أبي طالب » من هنا أبى فريقٌ من الناس أن يُثبتوا مِثل هذه الفضيلة الكبرى
لأبي طالب عليهالسلام. هذا من جانب. ومن جانب آخر
فانّ أبا طالب والد « علي » الّذي كانت سلطات الخلفاء تعمل ضدّه على الدوام ،
وتستغل كل الوسائل للحط من شأنه ، كان إسلام أبيه وإيمانه بالرسالة المحمدية
يُعدُّ فضيلة بارزة من فضائله عليهالسلام في
حين أن كفر آباء الخلفاء وشركهم يعدُّ مثلبة توجب الحط من شأنهم ، وقيمتهم. وعلى كل حال قام جماعة بتكفير أبي
طالب رغم كلِّ هذه الأشعار والأقوال ، والمواقف الصادقة ، بل لم يكتفوا بذلك ،
فادعوا نزول آيات من القرآن تدل على كفره ، وشركه!!! الطريق
الثاني لا ثبات إيمان أبي طالب .
إنّ الطريق الثاني للبرهنة والتدليل
على إيمان « أبي طالب » هو مواقفه من رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وكيفية دفاعه وذبه عنه وحمايته له ، وحدبه عليه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وما قام به من خدمات جليلة في هذا الطريق. ان كل واحدة من هذه الخدمات تستطيع
بمفردها ان تكون المرآة الصادقة لقد كان « أبو طالب » هو ذلكم
الشخصية الّتي لم يرض لنفسه بان ينكسر قلب ابن أخيه لتركه في مكة ، واصطحبه معه
إلى الشام في الرحلة التجارية الّتي سبق ذكرها ، رغم الموانع الكثيرة ، وفقدان
الوسائل اللازمة ، ورغم ما تَرتب على اصطحابه معه من متاعب. إن ايمانه بابن أخيه كان عميقاً إلى
درجة أنه أخذه إلى المصلّى واستسقى به ، مقسماً به على اللّه تعالى أن يكشف
العذاب عن قومه ، ويرسل رحمته عليهم ، فيستجيب اللّه دعاءه ، وينزل عليهم غيثاً
وافراً ممرعاً ، بقيت قصته في ذاكرة التاريخ. إنه ذلك الرجل الّذي لم يفتأ عن
الحفاظ على حياة رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
لحظة واحدة ، فهو الّذي تحمل في سبيله ثلاثة أعوام عجاف من الحصار الاقتصادي
والاجتماعي الصعب ، مؤثراً العيش في الشعب وفي شغاف الجبال والوديان القاحلة على
زعامة قريش ، ورئاسة مكة إلى ان أعيته تلك المحن والمتاعب ففقد بذلك صحته ،
وانحرف بذلك مزاجه ، وتوفّي متأثراً بتلك المتاعب والمصاعب ، والمشاق والمحن بعد
نقض الصحيفة ، وانتهاء الحصار ، والعودة إلى المنازل بأيام معدودة!! لقد كان إيمان « أبي طالب » برسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
قوياً وراسخاً إلى درجة أنه رضى بأن يتعرّض كل ابنائه لخطر القتل والاغتيال
ليبقى « محمّد » ولا يمسُّه من أعدائه أي سوء ، فكان يُضجِع ولده علياً في موضعه
، حتّى إذا أرادوا إغتياله لا يصيبه شيء وهذا يعني أنه كان يقيه بنفسه وبأولاده.
وفوق هذا كلّه استعدَّ في يوم من
الايام لأن يقتل كل زعماء قريش وأسيادها انتقاماً لمحمّد ، وكان من الطبيعي أن
يقتل في هذا العملية بنو هاشم كلُّهم أيضاً (ـ راجع الصفحة 522 من هذا الكتاب.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وصية أبي طالب عند
وفاته
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وعند وفاته قال لأولاده : « اُوصيكم بمحمّد خيراً فانّه
الأمينُ في قُريش وهو الجامعُ لكلّ ما اُوصيكم به ، وقد جاءَ بأمر قبله الجَنان
، وانكره اللِسان مخافة الشنئان ، وأيم اللّه لكأنّي انظرُ إلى صعاليك العرب ،
وأهل البرّ في الاطراف ، والمستضعفين من الناس ، قد أجابوا دعوته ، وصدّقوا
كلمته ، وعظّموا أمره فخاض بهم غمرات الموت ، فصارت رؤساء قريش وصناديدها
أذناباً ، ودُورُها خراباً ، وضُعفاؤها أرباباً ، وإذا أعظمهم عليه أحوجهم إليه
، وأبعدهم منه أحظاهم عنده ... ». ثم ختم وصيته هذه بقوله : يا معشر قريش كونوا له ولاةً ، ولحزبه
حماةً ، واللّه لا يسلك أحدٌ منكم سبيله الارشد ، ولا يأخذ أحد بهديه الاّ سعد (السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 351 و 352.).
نحن لا نشك في أن « أبا طالب » كان
صادقاً في اُمنيّته هذه لأن خدماته الكبرى وتضحياته المتواصلة خلال عشر سنوات من
بداية عهد الرسالة شاهدة على صدق مقاله ، كما كان صادقاً في الوعد الّذي قطعه
على نفسه لابن أخيه ( محمّد ) في مبدأ البعثة عندما جمع رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
أعمامه وعشيرته الأقربين ودعاهم إلى الإسلام فقال له ابو طالب : « اُخرج يا ابن أخي فانّكَ الرفيعُ
كعباً ، والمنيع حزباً ، والأعلى أباً. واللّهِ لا يَسلِقُك لسانٌ
الاسلَقتهُ ألسن حِداد ، واجتذَبته سيوفُ حداد. واللّهِ لَتَذلَنَّ لَكَ العربُ ذلَّ
البُهم لحاضِنها » (الطرائف تأليف السيد ابن طاووس : ص 85 ، نقلا عن كتاب غاية السؤول في
مناقب آل الرسول تأليف ابراهيم بن علي الدينوري.). * * * آخر
الطُرق لا ثبات ايمان أبي طالب
ويحسن بنا أخيراً ان نسأل عن أبي
طالب وعن ايمانه واخلاصه ، اقاربَه غير المغرضين لأن « أهل البيت ادرى بما في
البيت ». 1 ـ لما مات أبو طالب جاء عليٌ عليهالسلام
إلى رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
فآذنه بموته ، فتوجع توجعاً عظيماً ، وحزن حزناً شديداً ، ثم قال له امض فتولّ
غسله فاذا رفعته على سريره فاعلمني ، ففعل فاعترضه رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وهو محمول على رؤوس الرجال : قال : « وصلتك رحم يا عم ، وجزيت خيراً فلقد ربّيت
وكفلت صغيراً ، ونصرت وآزرت كبيراً ». ثم تبعه إلى حضرته ، فوقف عليه فقال
: « أما واللّه لاستغفرنَّ لك ، ولا
شفعنَّ فيك شفاعةً يعجبُ لها الثقلان » (شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج 14 ، ص 76..
2 ـ روي ان علي بن الحسين عليهماالسلام
سئل عن ايمان أبي طالب. فقال : « واعجباً! ان اللّه تعالى نهى رسوله
ان يقرّ مسلمة على نكاح كافر ، وقد كانت فاطمة بنت اسد من السابقات إلى الإسلام
، ولم تَزَل تحتَ أبي طالب حتّى مات » (شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج 14 ، ص 69.).
3 ـ روي عن علي بن محمّد الباقر عليهماالسلام
أنه قال : « لو وُضِعَ إيمان أبي طالِب في كفّة
ميزان ، وإيمانُ هذا الخلقِ في الكفّة الاُخرى لرجح إيمانه ». ثم قال : « ألم تَعلَموا أنَّ أميرَالمؤمنين
عليّاً عليهالسلام كانَ يأمر
أن يُحجَّ عن عَبدِاللّه وَأبيه » (المصدر السابق : ص 68.).
4 ـ قال الامام جعفر بن محمّد الصادق
عليهماالسلام : « إنَّ مَثَل أبي طالِب مَثَلُ أصحاب
الكَهف أسَرُّوا الإيمان ، وأَظهَروا الشركَ فآتاهُمُ اللّهُ اَجرَهم مرّتين ،
وأن أبا طالِب أسرّ الإيمان ، وأظهر الشرك ، فآتاه اللّه أجرَه مَرّتين » (اصول الكافي : ج 1 ، ص 448.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
رأي علماء الشيعة
في أبي طالب
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ولقد اتّفقَ علماءُ الاماميّة
والزيديّة تبعاً لأهل بيت النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
على : أن « أبا طالب » كان من أبرز المؤمنين برسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ولم يخرج من الدنيا إلاّ بقلب يفيض إيماناً بالاسلام ، وإخلاصاً للّه تعالى ،
وحبّاً للمسلمين ، وقد اُلِّفَت في هذا المجال كتب ورسائل ، ودراسات عديدة ،
يمكن الوقوف عليها لمن اراد ، ولمزيد التوسع في هذا المجال يراجع المجلد 7 ، ص
402 ـ 404 من موسوعة الغدير للعلامة الأميني طبعة النجف ، أو ج 7 ، ص 330 ـ 409
طبعة لبنان. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
نظرة
إلى حديث « الضحضاح »
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
واستكمالا لهذا الحديث ينبغي أن نلقي
نظرة إلى رواية تشكك في ايمان أبي طالب فقد روى بعض الكتّاب مثل البخاري (صحيح البخاري : ج 1 ، ص 33 و 34 من أبواب المناقب.)
، ومسلم عن رواة نظير سفيان بن سعيد الثوري ، عبدالملك بن عمير ، عبدالعزيز بن
محمّد الدراوردي حديثاً نسبوه إلى رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
انه قال عن أبي طالب رحمهالله : « وجدتُه في غمرات من النّارِ
فأخرجتُه إلى ضحضاح ». « لعلّهُ تنفعُه شفاعَتي يومَ
القيامة فيجعَلُ في ضَحضاح منَ النّار يبلغُ كعبَيه ، يغلي منهُ دماغُهُ » (صحيح مسلم : كتاب الايمان.).
إنّ هذه الرواية وان كانت تكذبها
عشرات الأحاديث والروايات الإسلامية ، والدلائل القاطعة الساطعة ، وتثبت بطلانها
وتفاهتها ، ولكننا بهدف الوصول إلى مزيد من التوضيح نعمد إلى دراسة أمرين
مرتبطين بهذا الحديث. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
1 ـ ضعف أسناد هذه
الرواية
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إنّ رواة هذه الرواية ـ كما أسلفنا ـ
هم عبارة عن سفيان بن سعيد الثوري وعبدالملك بن عمير وعبدالعزيز بن محمّد
الدراوردي الذين سندرس أحوالهم واحداً واحداً ـ في ضوء أقوال علماء الرجال
المعترف بهم عند أهل السنة ـ عنهم : الف
: سفيان بن سعيد الثوري
قال أبوعبد اللّه محمد بن أحمد بن
عثمان الذهبي ـ وهو من علماء الرجال
عند اهل السنة ـ في سفيان الثوري : كان يدلّس عن
الضعفاء (ميزان الاعتدال : ج 2 ، ص 169.).
إن هذا الكلام شاهد قوي على وجود
التدليس عند الثوري ، وعلى روايته عن الضعفاء أو المجهولين ، وهو وصف يُسقطه عن
درجة الاعتبار. باء
: عبدالملك بن عمير
قال عنه الذهبيّ المذكور : طال عُمره
وساء حفظُه قال أبو حاتم : ليس بحافظ ، تغيّر حفظه ، وقال أحمد : ضعيف يغلط ،
وقال ابن معين : مخلط وقال ابن خراش :
كان شعبة لا يرضاه ، وذكر الكوسج عن احمد
بن حنبل : انه ضعيف جداً (ـ المصدر السابق ، ج 2 ، ص 660.)
فمن مجموع هذه العبارات نعرف ان
عبدالملك كان يتصف بصفات عديدة هي أنه : 1 ـ سيء الحفظ. 2 ـ ضَعيف. 3 ـ كثير الغلط. 4 ـ مخلط. ومن الواضح ان كل واحدة من الصفات
والحالات المذكورة كافية لأن تبطلَ الاحاديث الّتي يرويها عبدالملك بن عمير ،
والحال انه قد اجتمعت جميع نقاط الضعف هذه في هذا الرجل. جيم
: عبدالعزيز بن محمد الدراوردي
ولقد وصفَهُ علماء الرجال عند اهل
السنة بالنسيان ، وقلة الحفظ فلا يمكن الاستناد إلى مروياته. فقد قال أحمد بن حنبل
عنه :
إذا حدّث من حفظه جاء بأباطيل (المصدر السابق ، ص 634.).
وقال أبو حاتم عنه : لا يُحتَجُّ به (المصدر السابق.).
وقال أبو زرعة أيضاً : سئ الحفظ (المصدر السابق.).
ومن مجموعة هذه العبارات يتضح بجلاء ان الرواة الاصليين لحديث الضحضاح ضعفاء في
غاية الضعف ، إلى درجة لا يمكن الاعتماد على مروياتهم. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
2 ـ نص حديث
الضحضاح يخالف الكتاب والسنة
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد نُسِب إلى النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
في هذه الرواية أنه أخرج أبا طالب من نار جهنم إلى ضحضاح وبهذا خفَّفَ عنه
العذاب ، أو أنه صلىاللهعليهوآلهوسلم
تمنى أن يشفع له ، فيخفِّفَ اللّهُ عنه العذابَ ، على حين نفى القرآنُ الكريم
والسنة النبوية الشريفة تخفيف العذاب عن الكفار كما ونفيا شفاعة احد في حقهم. وعلى هذا الاساس فلو كان ابو طالب
كافراً ، لم يجز للنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
ان يخفف عنه العذاب أو يتمنى له الشفاعة في يوم الجزاء. وبهذا يظهر بطلان
محتوى حديث الضحضاح. واليك فيما يأتي ادلة
ما قلناه من الكتاب والسنة : الف
: القرآن الكريم
يقول القرآن الكريم في هذا الصدد : «
وَالَّذينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ
جَهَنَّم لا يُقضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا ولا يُخَفَّفُ عنْهُمْ مِن عَذابِها ،
كَذلِكَ نَجْزي كُلَّ كَفُور » (ـ فاطر : 36.). ب :
السنة النبوية
ان السنة النبوية الطاهرة تنفي أيضاً
الشفاعة للكفار ، ونذكر من باب النموذج بعض تلك الأحاديث : 1 ـ روى أبوذر الغفاري عن رسول اللّه
صلىاللهعليهوآلهوسلم انه قال :
« اُعطيت الشفاعة وهي نائلة من اُمتي
من لا يشرك باللّه شيئاً » (الترغيب والترهيب : ج 4 ، ص 433.).
2 ـ روى أبو هريرة عن رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
انه قال : « وشفاعتي لمن شهد أن لا اله الا
اللّه مخلصاً ، وأنَّ محمّداً رسول اللّه يصدِّق لسانُه قلبَه ، وقلبُه لسانَه »
(المصدر السابق : ص 437.).
إن الآيات والروايات المذكورة تثبت
بوضوح بطلان نص حديث الضحضاح عند من يقول بأن أبا طالب مات كافراً. ونتيجة البحث أنه تبين مما ذكر ان
حديث الضحضاح لا أساس له من الصحة لا من جهة السند والطريق ، ولا من جهة المتن
والنص ، ولا يمكن الاستدلال به. وبهذا ينهار أقوى حصن يتمسكُ به
البعض للخدشة في ايمان أبي طالب الثابت المسلّم. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
22المعراج
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
المعراج في نظر
القرآن والسنة
والتاريخ
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
كان الليل يخيم على الافق ، ويسودُ
الظلام على كل مكان. فقد حان الأوانُ لان ترقدَ جميع
الاحياء في مساكنها ، وتستريح في جحورها وأعشاشها ، وتغمض الأجفان لبعض الساعات
عن مظاهر الطبيعة ، لتستعيد نشاطها من أجل العمل في يوم جديد حافل بالنشاط
والحركة والسعي. فذلك قانون الطبيعة في
كلِّ ليل ونهار. ولم يكن رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
بمستثنى عن هذا الناموس الطبيعي. فهو صلىاللهعليهوآلهوسلم
مضى ليستريح بعد أن صلّى صلاة العتمة أيضاً. ولكنه فجأةً سمع صوتاً مألوفاً
مأنوساً له ، وكان ذلك هو صوت أمين الوحي « جبرئيل » وهو يخبره بأن أمامه الليلة
سفراً بعيداً ورحلة طويلة ، وانه سيرافقه في هذا الرحلة إلى مختلف نقاط الكون ،
وسيسافر على متن دابة فضائية تدعى « البراق ». لقد بدأ رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
رحلته الفضائية العظيمة من بيت اخت علي بن أبي طالب (مجمع البيان : ج 6 ، ص 395 و 396 ، السيرة النبويّة : ج 1 ، ص 396 ـ
402.)
«
اُم هاني » ، وتوجه على متن تلك الدابة إلى « بيت المقدس » في الأردن وفلسطين
والّذي يسمى « المسجد الأقصى » أيضاً ، وهبط في تلك النقطة بعد مدة قصيرة جداً ،
وزار مواضع عديدة من ذلك المسجد ، وتفقّد « بيت لحم » مسقط رأس « السيد المسيح »
ومنازل الأنبياء وآثارهم ومحاريبهم ، وصلّى عند كل محراب من بعض تلك المحاريب
ركعتين. ثم بدأ بعد ذلك القسم الثاني من
رحلته ، حيث عرج من ذلك إلى السماوات العلى ، وشاهد النجوم والكواكب ، واطّلع
على نظام العالم العلوي ، وتحدث مع ارواح الأنبياء ، والملائكة السماويين ،
واطّلع على مراكز الرحمة والعذاب ( الجنة والنار )
(مجمع البيان : سورة الاسراء ، ج 6 ، ص 395.)
ورأى درجات أهل الجنة ، وأشباح أهل النار عن كثب ، وبالتالي تعرف على أسرار
الوجود ، ورموز الطبيعة ، ووقف على سعة الكون ، وآثار القدرة الالهيّة المطلقة ،
ثم واصل رحلته حتّى بلغ إلى سدرة المنتهى (لتوضيح معنى سدرة المنتهى راجع كتب التفسير.)
،
فوجَدها مسربلة بالعظمة المتناهية والجلال العظيم وعندها انتهى برنامج رحلته صلىاللهعليهوآلهوسلم
، فامر بأن يعود من حيث أتى فعاد ، بعد صلىاللهعليهوآلهوسلم
ومرّ
في عودته على بيت المقدس ثانية ، ثم توجّه منه إلى « مكة » ، ومرّ خلال الطريق
على قافلة تجارية لقريش وقد ضلّ بعير لهم في البيداء وكانوا يبحثون عنه ، ثم وجد
في رحلهم قعباً مملوء من الماء فشرب منه وصبَّ بقيته على الأرض أو غطاه كما كان
بناء على رواية. وترجّل عن مركبته الفضائية العجيبة في بيت « اُم هاني » قبيل
طلوع الفجر ، وأخبرها بالخبر قبل اي أحد ، ثم كشف عن هذا الحادث في أندية قريش
صباح نفس تلك الليلة. فاستبعد السامعون قصة المعراج
والحركة السريعة هذه ، واعتبروه أمراً محالا وانكروه ، وفشا هذا الخبر في جميع
الأوساط وغضب بسببه أشراف قريش وساداتهم اكثر من غيرهم. وكعادتها بادرت قريش إلى تكذيب هذه
القصّة وقالوا : هذا واللّه الامر البيّن ( العجيب المنكر ) واللّه إن العير
لتطّرد شهراً من مكة إلى الشام مدبرة ، وشهراً مقبلة ، أفيذهب ذلك « محمّدٌ » في
ليلة واحدة؟ وقالوا : إن صدقَتَ فصف لنا بيتَ
المقدس ، فإن فينا من شاهدهُ. فلم يصف لهم رسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
بيت المقدس فحسب بل اخبرهم بكل ما مرّ به وفعله ورآه في طريق عودته من بيت
المقدس إلى « مكّة » وقال : وآية ذلك أنّي مررت على بعير
بني فلان بوادي كذا وكذا ، وقد ضلّ لهم بعير وقد همّوا في طلبه ، وشربت من ماء
في آنية لهم مغطاة بغطاء وثم غطّيت عليها كما كان ، ثم مررتُ على بعير فلان وقد
نفّرت لهم ناقة وانكسرت يدها. فقالت قريش : أخبرنا
عن عير قريش. فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم
: إنَّها الآن في التنعيم ( وهو مبدأ الحرم ) يتقدمها جمل أورق ( أبيض مائل إلى
السواد ) عليه غرارتان وستدخل الآن مكة. فغضب قريش من هذه الأخبار القاطعة
وقالت : سنعلمنَّ الآن صِدقه أو كِذبه. ثم لم تمض لحظاتٌ إلاّ وطلعت العير
عليهم ، وحدَّثهم أبو سفيان بكل ما أخبرهم به رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
من ضياع بعير لهم في الطريق وهمّهم في طلبه ، وأنهم وضعوا ماء مملوء فغطوه ولما
رجعوا وجدوه مغطى كما غطوه ولكن لم يجدوا فيه ماءً. هذه هي خلاصة ما جاء
في كتب التفسير ، والتاريخ ، والحديث حول المعراج. وإذا أراد القارئ الكريم أن يقف على
تفاصيل أكثر في هذا المجال فما عليه إلاّ أن يراجع بحار الأنوار باب « المعراج »
(بحار الأنوار : ج 18 ، ص 283 ـ 410.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
هل للمعراج جذور
قرآنية؟
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد جاءَ ذكر « المعراج » النبوي
وسيره العجيب صلىاللهعليهوآلهوسلم
في العالم العلوي ، والفضاء غير المتناهي في سورتين من القرآن الكريم بشكل واضح
وصريح كما واشير اليها في سور اُخرى أيضاً. ونحن نكتفي هنا باستعراض الآيات
الّتي ذكرت هذه القضيّة بصورة واضحة ، ونقف عند بعض النقاط الجديدة بالدراسة
فيها : يقول اللّه تعالى في سورة الأسراء :
« سُبحانَ الّذي أسرى
بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرام إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الّذي
بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَه مِن آياتِنا ، إنَّهُ هُوَ السَّميعُ البَصير
» (الاسراء : 1.).
ويستفاد من ظاهر هذه
الآية اُمور : 1 ـ لكي نعلم بأنَّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
لم يطو تلك المسافات ، ولم يقم برحلته إلى تلك العوالم بقوّة بشرية ، بل تسنى له
كلُ ذلك بقوة غيبيّة ، فبها استطاع أن يطوي تلك المسافات البعيدة في زمن قصير
جداً بدأ اللّه تعالى حديثه عن الاسراء بقوله : « سُبْحانَ الّذي » وهو اشارة
إلى تنزيه اللّه عن كلِّ نقص وعيب. ولم يكتف بذلك بل وصف نفسَه بوضوح
بأنه هو تعالى سبب هذه الرحلة والمسيّرُ فيها إذ قال : « أسرى » أي إنَّ اللّه
تعالى هو الّذي سرى برسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم
، وأخذه إلى تلك الرحلة. وهذه العناية لأجل أن لا يتصور الناس
بأنّ هذه الرحلة تحققت بالوسائل العادية ، وحسب القوانين الطبيعية ليتسنّى لهم
إنكارها ، إِنما تحققت بقدرة اللّه وعنايته الربوبية الخاصة. 2 ـ إن هذه الرحلة تحققت برمّتها
خلال الليل ، ويستفاد هذا المطلب ـ علاوة على كلمة ليلا ـ من كلمة « أسرى »
أيضاً لأنّ العرب كانت تستعمل اللفظة المذكورة في السير ليلا. 3 ـ مع أنّ هذه الرحلة بدأت من بيت «
اُم هاني » ابنة أبي طالب ، فإن الآية صرّحت بأنها تَمَّت من المسجد الحرام ،
ولعل هذا لأنّ العرب كانت تعتبر كل مكة حرماً إلهياً ، ومن هنا كان كل مكان من
مكة يتمتع عندهم بحكم الحرم والمسجد الحرام ، فيكون المراد بالمسجد الحرام هنا
مكّة ، ومكّة والحرم كلها مسجد ، فصحَّ أن يقول : « من المسجد الحرام ». وتَذهب بعض الروايات
إلى أنَّ المعراج كان من نَفس المسجد الحرام. ثم إنَّ هذه الآية وان كانت تصرّح
بأنَّ المعراج بدأ من « المسجد الحرام » وانتهى ب : « المجسد الأقصى » إلاّ أن
ذلك لا ينافي أن يكون للنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
رحلة اُخرى إلى العالم العُلوي لأنّ هذه الاّية تبيّن فقط قسماً من هذه الرحلة ،
وأما القسم الآخر من برنامج هذه الرحلة فتتعرض لذكره آيات في مطلع سورة « النجم
». 4 ـ إنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
عرج بجسمه وروحه معاً ، لا بالروح فقط. ويدلُّ على ذلك قوله تعالى « بعبده »
الّذي يُستَعمل في « الجسم والروح معاً » ولو كان المعراج بالروح فقط لزم أن
يقول : « بروحه ». 5 ـ إنَّ الغرض من هذا السير العظيم
وهذه الرحلة العجيبة هو إيقاف النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
على مراتب الوجود ، وإطلاعه على الكون العظيم ، وهذا
ما سنشرحه فيما بعد. وأما السورة الاُخرى
الّتي تعرض لبيان حادثة المعراج بوضوح وصراحة هي سورة « النجم ». والآيات الّتي سندرجها هنا من هذه
السورة نزلت على رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
عندما قال لقريش : « رأيت جبرئيلَ أوّل ما اُوحي التي على صورته الي خُلِقَ
عليها » جادلته قريش في ذلك ، فنزلتِ الآيات التالية تجيب على اعتراضهم : « أفَتُمارُوْنَهُ عَلى ما يَرى. وَلَقَدْ رَآهُ
نَزْلَةً اُخْرى. عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى. عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى. إذْ
يَغْشى السِدْرَة ما يَغْشى. ما زاغَ البَصَرُ وَما طَغى. لَقَدْ رَأى مِنْ آيات
رَبّه الكُبرى » (النجم : 12 ـ 18.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أحاديث المعراج :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
روى المفسرون والمحدّثون
أخباراً
وروايات كثيرة حول معراج النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
وما شاهده في هذه الرحلة العظيمة ، ليست
برمتها صحيحة مُسَلَّمة مقطوعاً بها. ولقد قسّم المفسر
الشيعيُ الكبير المرحومُ « العلامة الطبرسيّ » هذه الاخبار إلى أصناف أربعة إذ
قال : وتنقسم جملتها إلى
أربعة اوجه : أحدها : ما
يقطع على صحته لتواتر الأخبار به ، واحاطة العلم بصحته مثل أصل المعراج. وثانيها :
ما ورد في ذلك مما تجوِّزه العقول ولا تأباه الاصول مثل طوافه في السماء ورؤيته
أرواح الأنبياء وتحدّثه معهم ورؤيته للجنة والنار ، فنحن نجوّزه ثم نقطع على أن
ذلك كان في يقظته ، دون منامه. وثالثها :
ما يكون ظاهره مخالفاً لبعض الاُصول ، إلاّ أنه يمكن تأويلها على وجه يوافق
المعقول فالأولى أن نؤوّله على ما يطابق الحق والدليل. مثل أنّه راى أهل الجنة
وأهل النار وتحدّث معهما الّذي يجب أن يؤوّل فيُحمل على انه : رأى أشباحهم
وصورَهُم وَصفاتهم. ورابعها : ما
لا يصحّ ظاهره ولا يمكن تأويله ، وهي ما اُلصِق واُلحق بهذه الحادثة من الأساطير
والخرافات ، مثل ما روي من أنه صلىاللهعليهوآلهوسلم
كلّم اللّه سبحانه جهرةً ورآه وقعد معه على سريره أو سمع صرير قلمه ، ونحو ذلك ممّا
يوجب ظاهره التشبيه والتجسيم واللّه سبحانه يتقدّس عن ذلك كلّه ، فالأولى أن لا
نقبله (مجمع البيان : ج 6 ، ص 395.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
متى وَقَعت هذه
الحادثة؟
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
مع ان أهميّة هذه الحادثة العجيبة
كانت تستوجب أن تكون مضبوطة التفاصيل من جميع الجهات ، إلاّ أنها تعرضت للاختلاف
ـ مع ذلك ـ من بعض الجهات ومنها تحديد تاريخ وقوعها. فقد ادّعى كاتبا
السيرة المعروفان : « إبن اسحاق » و « ابن هشام » أنها وقعت في السنة العاشرة من
البعثة الشريفة. وذهب المؤرخ الكبير «
البيهقي » إلى أنها وقعت في السنة الثانية عشرة من البعثة. وذهب آخرُون إلى
أنها وقعت في أوائل البعثة ، بينما قال فريق رابع : أنها وقعت في أواسطها. وربما يقال في الجمع
بين هذه الأقوال : أنه كان لرسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
معارج متعددة. ولكنّنا نعتقد أنّ المعراج الّذي
فُرِضَت فيه الصلاة وَقع بعد وفاة أبي طالب عليهالسلام
في السنة العاشرة قطعاً. لأنّ من مسلَّمات الحديث والتاريخ أن
اللّه تعالى أمر نبيّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
في ليلة المعراج أن تصلّي اُمّة رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
كلَّ يوم وليلة خمس صلوات. كما أنه يُستفاد من ثنايا التاريخ
أيضاً أن الصلاة لم تُفرَض مادام أبو طالب عليهالسلام
على قيد الحياة بل فُرِضت بعد وفاته ، لأنّه حضر عنده ـ ساعة وفاته ـ سراة قُريش
وأسيادها ، وطلبوا منه أن يبت لهم في أمر ابن أخيه « محمّد » ويمنعه من فعله ،
فيعطونه ـ في قبال ذلك ـ ما يريد فقال لهم رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
في ذلك المجلس : نعم كلمة واحدة تعطونيها : « تقولون لا إله إلاّ اللّه وتخلعون
ما تعبدون من دونه » (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 417.).
لقد طلب منهم رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
هذا الأمر ولم يطلب منهم شيئاً آخر كالصلاة وغيرها من الفُروع أبداً ، وهذا هو
بنفسه يدلّ على أنه لم تجب الصلاة حتّى ذلك اليوم ، وإلاّ كان الإيمان المجرّد
عن العمل ، والصلاة مفروضة ، لا فائدة فيه. وأما أنه لم يذكر شيئاً عن نبُوّته
ورسالته فلأنّ الإعتراف بوحدانية اللّه بأمره وطلبه صلىاللهعليهوآلهوسلم
إعتراف ضِمنيّ برسالته ونبوّته ، وفي الحقيقة انَّ التلفُّظ بهذه العبارات بأمره
يتضمّن شهادتين واقرارين : الإقرار باللّهِ الواحد ، والإقرار بنبوّة رسول
الإسلام. هذا مضافاً إلى أن كُتّاب السيرة
ذكروا كيفية إسلام جماعة مثل « الطفيل بن عمرو الدوسي » الّذي أسلم قبل الهجرة
(ـ السيرة النبوية : ج 1 ، ص 383.)
بأعوام
اكتفى النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم بالشهادتين ، ولم يجر اي حديث عن
الصلاة ابداً. ان هذه الامثلة تكشف عن أن هذه
الحادثة ( المعراج ) الّتي فُرضت فيها الصلاة وقعت قبل الهجرة بسنوات. والذين تصوّروا أن المعراج وقع قبل
السنة العاشرة مخطئون خطأ كبيراً لأنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
كان محصوراً في شعب أبي طالب منذ السنة الثامنة وحتّى السنة العاشرة ، ولم يكن
وضع المسلمين ليسمح بفرض تكليف زائد ( مثل الصلاة ). وأما سنوات ما قبل الحصار فعلاوة على
ضغوط قريش على المسلمين والّتي كانت هي بنفسها مانعاً من فرض الصلاة على
المسلمين ، كان المسلمون قلةً معدودين ، ولم يكن نورُ الايمان ، واُصول الإسلام
قد ترسخت في قلوب ذلك العدد القليل بشكل قوي بعد ، ولذلك يكون من المستبعد أن
يكلفوا بأمر زائد مثل الصلاة في مثل ذلك الظرف. وأمّا ما ورد في بعض الأخبار
والروايات من ان الامام علياً عليهالسلام
صلى مع رسول اللّه قبل البعثة بثلاث سنوات ، واستمر على ذلك بعدها أيضاً فليس
المراد منها الصلوات المحدودة المؤقتة بوقت ، المشروطة بشروط خاصة ، بل كانت تلك
الصلوات عبارة من عبادة خاصة غير محدودة (للمزيد من التحقيق في تاريخ وجوب الوضوء والصلاة والاذان يراجع
الكافي : ج 3 ، ص 482 ـ 489.)
،
أو كان المراد منها الصلوات المندوبة والعبادات غير الواجبة. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
هل كان المعراج
جسمانياً؟
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد وقع النقاش والكلام في كيفية
معراج النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
وأنه كان روحانياً أو جسمانياً وروحانياً معاً ، وقيل في ذلك كلام كثير. ومع أن القرآن الكريم والأحاديث تشهد
بجلاء لا غموض فيه بأن معراجه صلىاللهعليهوآلهوسلم كان
جسمانياً (لقد نقل الفقيه الجليل العلامة الشيعيّ المرحوم الطبرسي في تفسير
مجمع البيان إجماع علماء الشيعة على جسمانية المعراج فراجع : ج 6 ، ص 395.)
،
فقد اُوردت في المقام بعض الإشكالات والاعتراضات الّتي منعت البعض عن قبول هذه
الحقيقة ، وبالتالي دفعتهم إلى ارتكاب التأويل ، والزعم بأن معراج النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
كان روحانياً ، أي بالروح لا بالجسم. لقد قال هؤلاء :
ان روح النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
هي الّتي طافت في تلك العوالم ثم عادت إلى جسد النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
مرة اُخرى!! وذهب جماعة إلى أبعد من ذلك إذ
ادّعوا بان جميع هذه المشاهدات والقضايا تمّت لرسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
في عالم الرؤيا ، فكل ما رآه النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
أو فعله من الطواف واللقاء والصلاة كانت رؤيا ورؤيا الأنبياء صادقة!! على أن أقوال الفريق الأخير من البعد
عن الواقع بحيث لا يمكن ذكره في عداد الأقوال والنظريات أبداً ، لأنَّ قريش بعد
أن سمعت من رسول اللّه صلّى الله عليه وآله ادعاءه بانه سار كل تلك المسافة
الطويلة البعيدة ، وطاف على كل تلك الاماكن المتباعدة العديدة في ليلة واحدة
انزعجت بشدة وهبّت لتكذيبه حقيقة ، إلى درجة أن خبر المعراج أصبح حديث الساعة في
نوادي قريش واوساطها آنذاك. ولو كان كل ذلك تحقق للنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
في المنام والرؤيا لما كان لتكذيب قريش وانزعاجها واستنكارها معنى ، إذ لا موجب
للنزاع لو كان صلىاللهعليهوآلهوسلم
يقول : إنّي فعلت تلك الامور ، ورأيت تلك المشاهد في الرؤيا والمنام ، إذ هو على
كل حال رؤيا ، وكل شيء ـ حتّى الاُمور المحالة أو المستبعدة جداً ـ ممكن في عالم
الرؤيا. ومن هنا لا قيمة للقول
الأخير أصلا فلا تستحق المتابعة أصلا. ولكن مع الأسف استحسن بعض العلماء
المصريين ( مثل فريد وجدي )
هذا الرأي وسعى في تقويته وتبريره ، ونحن نحبذ ان نتركه ، وان لا نناقش فيه (دائرة معارف القرن العشرين : ج 6 ، ص 329 مادة عرج.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ما هو المراد من
المعراج الروحاني؟
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد عمد فريق ممن عجز عن دفع وحلّ
بعض الاعتراضات والاشكالات الواردة على المعراج الجسماني ، إلى تأويل الآيات
والأحاديث ، واعتبر المعراج النبوي معراجاً روحانياً ، لا غير. والمقصود من المعراج الروحانيّ هو
التدبّر في مخلوقات اللّه ومصنوعاته ، ومشاهدة جلاله وجماله والاستغراق في ذكر
الحق ، والتفكر فيه ، وبالتالي التخلص من القيود والاغلال المادية ، والعلائق
الدنيوية ، والعبور من المراتب الامكانية في المراحل الباطنية والقلبية الّتي
يحصل بعد طيّها نوعٌ من القرب الخاص الّذي لا يمكن وصفه. فاذا كان المراد من ( المعراج
الروحانيّ ) هو التفكر في عظمة الحق وسعة الخلق و .. و .. فلا شك أن هذا ليس من
مختصات رسول الإسلام صلىاللهعليهوآلهوسلم
بل كان أكثر الأنبياء ، وكثير من الاولياء من ذوي البصائر القويّة الطاهرة
يمتلكون هذه المرتبة ، على حين أن القرآن الكريم يعتبر ( المعراج ) من خصائص
رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ويذكره على انه نوع من الامتياز الخاص به صلىاللهعليهوآلهوسلم.
هذا مضافا إلى ان مثل هذه الحالة (
اعني التفكر في عظمة الخالق والاستغراق في التوجه إلى الحق ) كانت تتكرر لرسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
في كل ليلة (ـ راجع وسائل الشيعة : ج 7 ، كتاب صوم الوصال ، ص 388 قال صلىاللهعليهوآلهوسلم
: « إني لست كأحدكم ، أني اظل عند ربّي فيطعمني ويسقيني ».)
،
والحال ان ( المعراج ) الّذي هو محط الكلام قد وقع في ليلة معيَّنة. إن ما دفع بهذا الفريق إلى اتخاذ مثل
هذا الموقف من ( المعراج ) ، وآل بهم اختيار هذا الرأي هو فرضية الفلكي اليوناني
المعروف « بطلميوس » الّتي كانت سائدة في الأوساط العلمية في الشرق والغرب طيلة
ألفي سنة بالكامل ، والّتي اُلّف حولها مئآت الكتب ، وكانت تعدُّ حتّى حين من
المسلّمات في مجال العلوم الطبيعية وهي على نحو الاجمال كالتالي: إن الاجسام في هذا العالم على نوعين
: أجسام عنصرية ، واجسام فلكية. والجسم العنصري هي العناصر الأربعة
المعروفة : « الماء ، والتراب ، والهواء ، والنار ». وأوّل كرة تبدو لنا هي كرة التراب
وهي مركزُ العالم ، ثم تليها كرة الماء ثم كرة الهواء ، وتأتي بعد كل هذه
الثلاثة كرة النار ، وكلٌ من هذه الكرات محيطة بالاُخرى ، وهنا ( اي وعند كرة
النار ) تنتهي الكرات ، وتبدأ الاجسام الفلكية. والمقصود من الأجسام الفلكيّة هيَ
الافلاكُ التسعة الّتي تقع الواحدة فوق الاخرى وتحيط الواحدة بالاُخرى على هيئة
قشور البصل ، وهي متصلة بعضها ببعض من دون فاصلة بينها وهي غير قابلة للاختراق
والالتئام ( اي الشق والالتحام ) والفصل والوصل ولا يستطيع أيّ شيء من اختراقها
والتحرك فيها بصورة مستقيمة لأن ذلك يستلزم انفصام اجزاء الفلك. من هنا يكون المعراج الجسماني
مستلزماً لأن ينطلق النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
من مركز العالم ويصعد بصورة مستقيمة إلى الأعلى عابراً الكرات العنصرية الأربع ،
ومخترقا الأفلاك التسعة الواحد تلو الآخر ، بينما يستحيل خرق هذه الأفلاك ثم
التحامها حسب نظرية بطلميوس وفرضيّته الفلكية. وعلى هذا لا مناص من أن نعتقد بأن
المعراج النبويّ كان معراجاً روحانياً ، اي ان روحه صلىاللهعليهوآلهوسلم
هي الّتي عرجت حتّى لا يمنع أيُّ جسم من عبورها وسيرها وصعودها إلى النقطة
المطلوبة والغاية المرسومة. الجواب : ان هذا الكلام كان مقبولا وذا قيمة
عند ما كانت هيئة بطلميوس وفرضيته الفلكية لم تكن بعد قد فقدت قيمتها في الاوساط
العلمية وكان هناك من يعتقد بها من صميم فؤاده. ففي مثل تلك البيئة كان من الممكن
التلاعب بالحقائق القرآنية ، وتأويل صريح القرآن ونصوص الروايات. أما الآن فقد فقدت أمثال هذه
الفرضيات قيمتها ، وظهر للجميع بطلانها ، ولم يعد أحد يتحدث عنها ، إلاّ من باب
ما يسمى بتاريخ العلوم. فاليوم وبالنظر إلى كل هذه الأجهزة
الفلكية والآلات الفضائية الدقيقة ، والتلسكوبات العملاقة ، وهبوط المركبات الفضائية
المتعددة على سطح القمر والمريخ ، وعملية القيادة الفضائية على سطح القمر لم يعد
مجال لهذه الفرضيات الخيالية. فاليوم لا يعتبر العلماء المحقّقون
فكرة العناصر الأربعة والفلك المتّصل كقشرة البصل إلاّ جزءً من الاساطير. فان العلماء لم يستطيعوا بالآلات العلمية
وأجهزة الرصد الدقيقة والعيون المسلحة من رؤية ، تلك العوالم الّتي
حاكها وصنعها بطلميوس بقوة خياله ، من هنا فان أية نظرية تقوم على هذا الاساس
غير الصحيح تكون عارية عن أية قيمة ، واعتبار. نَغمةٌ شاذةٌ :
ولقد طلع مؤسس الفرقة الشيخية (لا شك أن هذه الفرقة وامثالها من الفرقة المبتدعة هي من صنائع
الاستعمار أو هي مما يؤيده لتنفيذ أغراضه ، ومن حسن الحظ أن انتشار الوعي بين
أبناء الامة الإسلامة حدَّ من نشاط هذه الفرق حتى انها أصحبت على أبواب الاندثار
والانقراض نهائياً.)
« الشيخ احمد الاحسائي » في « الرسالة القطيفية » بنغمة شاذة في هذا الصعيد حيث
أراد بابداء طرحة جديدة أن يرضي كلا الطرفين ( القائلين بروحانية المعراج النبوي
والقائلين بجسمانيته ) حيث قال : ان النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
عرج ببدنه البرزخي ( الهور قليائي ) (وهو البدن البرزخي الّذي يشبه البدن الّذي يفعل به الإنسان الافعال
المختلفة في عالم النوم والرؤيا ويقوم بكل نوع من انواع النشاط.)
ثم استدل لذلك بقوله : ان الصاعد كلّما صعد ألقى في كل رتبة
من المراتب المذكورة ما فيها ، فمثلا إذا تجاوز كرة الهواء القى ما فيه من
الهواء ، وإذا تجاوز كرة النار ألقى ما فيها وإذا رجع أخذ ما له من كرة النار ،
وإذا وصل إلى كرة الهواء أخذ ما له من الهواء. ومن هنا فانَّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
عندما عرج إلى السماء القى في كل كرة واحداً من تلك العناصر الأربعة في كرته ،
وعرج ببدن فاقد لهذه العناصر. ومثل هذا البدن لا يمكن ان يكون
بدناً عنصرياً ، فليس هو الا البدن البرزخي ( الّذي أسماه الهور قليائي ) لا غير
(تقع الرسالة القطيفية ضمن مجموعة تحتوي على 92 رسالة باسم جوامع
الكلم الّتي طبعت عام 1273. ومع هذا التصريح يدّعي
البعض ـ للتسترّ على خطأ الشيخ وزلته هذه ـ بأن الشيخ يعتقد بأن المعراج كان
جسمانياً عنصرياً ، وأنه موافق لرأي المشهور في هذا المجال.).
وبهذا ـ حسب تصوّره ـ أرضى من نفسه
كلا الطرفين المذكورين ، لأنه من جانب اعتقد بالمعاد الجسماني ، وفي نفس الوقت
تخلّص من اشكال « خرق الافلاك والتحامها » لأن نفوذ الجسم البرزخي لا يستوجب أي
خَرق وانفصال في جدار الفلك. ولكن هذه النظرية ـ كما هو واضح لكلّ
عالِم متحرٍّ للحقيقة ، بعيد عن العصبية ـ واضحة البطلان كسابقتها ( نظرية
المعراج الروحاني ) ، فمضافاً إلى انها مخالفة للقرآن وظاهر الاحاديث ، لأنّه ـ
كما أسلفنا ـ لو عرضنا آية المعراج ( من سورة الاسراء ) على أيّ عارف باللغة ،
مهما كانت وطلبنا منه رأيه في هذا الصدد لقال : ان مراد القائل هو البدن الدنيوي
العنصري الّذي عَبّر عنه القرآن بلفظ العبد ، في قوله تعالى : « سبحان الّذي
أسرى بعبده » ، وليس الهور قليائي الّذي لم يكن يعرفه المجتمع العربيّ ، ولا
يعرف أمثاله في ذلك اليوم أساساً ، في حين أنهم كانوا هم المخاطَبون في آية
المعراج في سورة الاسراء لا غيرهم. هذا مضافاً إلى أنَّ ما دفع بالشَيخ
إلى ارتكاب هذا التأويل البارد هو الاسطورة اليونانية المذكورة حول الفلك ، حيث
تصوّرها كحقيقة ثابتة من حقائق اللوح المحفوظ ، وقد كذبها وفندها كلُ فلكييّ
العالم اليَومَ ، وأعلنوا عن سخافتها. فلا يجوز لنا أن
نقلِّد تلك الفرضية تقليداً أعمى. وإذا ما رأينا بعضَ القدماء من
المشايخ قال بمثل هذا محسناً الظن بتلك الفرضية الفلكية القديمة وأمثالها امكن
إعذارهم ، لعدم قيام ادلة علمية قوية على خلافها آنذاك. اما اليوم فلا ينبغي لنا ان نتجاهل
الحقائق القرآنية لفرضية ثبت بطلانها في الأوساط العلمية. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
المعراج وقوانين
العلم الحديث :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قد يتصور فريقٌ من الناس أن القوانين
الطبيعية والعلمية الحاضرة لا تتلاءم مع معراج النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
وذلك لأنه : 1 ـ يقول العلم الحديث : إِنَّ
الابتعاد عن الأرض يتطلب التخلّص من جاذبية الأرض ، وبعبارة اُخرى ابطال مفعولها. فان ( الكرة ) الّتي نقذفها إلى
الأعلى تعود مرة ثانية إلى الأرض بفعل الجاذبية ومهما كرّرنا قذف الكرة إلى
الأعلى فانها تعود وترجع إلى الأرض أيضاً. فاذا أردنا أن نبطل مفعول جاذبية
الأرض ابطالا كاملا بحيث لا تعود الكرة المقذوفة إلى الأعلى إلى الأرض ثانيةً بل
تواصل مسيرها إلى الأعلى فإننا نحتاج لتحقيق هذا الهدف إلى جعل سرعة الكرة
باتجاه معاكس للأرض تعادل 000 / 25 ميلا في الساعة. وعلى هذا فان معنى المعراج هو ان
يكون النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
قد خرج من محيط جاذبية الأرض ، واصبح في حالة انعدام الوزن. ولكن ينطرح هنا سؤال وهو : كيف
استطاع رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ان يطوي بدون وسائل هذه المسافة بمثل هذه السرعة ، وهل البدن الطبيعي يتحمل مثل
هذه السرعة مع عدم توفر الغطاء الواقي والوسائل اللازمة ، الّتي تصون الجسم من
التبعثر والذوبان بفعل السرعة الفائقة. 2 ـ إنّ الهواء القابل للاستنشاق غير
موجود فوق عدد من الكيلومترات بعيداً عن سطح الأرض ، بمعنى اننا كلما ذهبنا
صعداً إلى الطبقات العليا وابتعدنا عن الأرض أصبح الهواء أرقّ ، حتّى يغدو غير
قابل للاستنشاق ، وربما نصل إذا واصلنا الصعود إلى الأعلى إلى منطقة ينعدم فيها
الهواء اللازم للتنفس بالمرة ، فكيف استطاع رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وبعد طي تلك المسافة الطويلة والبعيدة في أعالي الجو أن يعيش بدون وجود
الاوكسيجين؟! 3 ـ إِنَّ الاشعة الفضائية ،
والاحجار السماوية والشهب الكثيرة المتطايرة إذا اصطدمت بأي جسم أرضي أبادَتهُ ،
وأفنته ، ولكنها عندما تصطدم بالغلاف الغازيّ المحيط بالأرض تتلاشى وتصبح
كالبودر ولا تصل إلى الأرض ، فيكون ومع هذه الحالة كيف تهيّأ لرسول الله
صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يصون
نفسَه من تلك الاشعة الفضائية ، والاحجار السماوية؟! 4 ـ إذا قلَّ ضغطُ الهواء على جسم
الإنسان فزاد أو نقص اختلت حياته الطبيعية ، فهو يمكنه أن يعيش تحت ضغط معين من
الهواء ، لا يوجَد في الطبقات العُليا من الجوّ ، فكيف استطاع النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
والحال هذه أن يحافظ على حياته في أعالي الفضاء؟! 5 ـ إنَّ سرعة الحركة الّتي ساربها
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
لا ريب كانت تفوق سرعة الحركة الّتي يسير بها النور ومع العلم بأنّ سرعة النور
هي 000 / 300 كيلومتراً في الثانية ، مع العلم أيضاً أنه ثبت في العلم الحديث
أنه لا يستطيع أيُّ جسم أن يتحرك بسرعة تفوق سرعة النور ، فكيف استطاع النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
ان يسير بسرعة تفوق سرعة النور ، ومع ذلك يرجع إلى الأرض سالم الجسم كامله؟؟! جوابنا : وجوابنا هو :
أننا إذا أردنا أن نناقش هذه المسألة على ضوء القوانين العلميّة الطبيعية لتجاوز
عدد الاعتراضات والاشكالات ما ذكرناه آنفاً. ولكننا نقول في جواب هذا الفريق
متساءلين : ما هو مقصودكم من توضيح هذه النواميس الطبيعية. هل تريدون القول بأن السير في
العوالم العليا أمرٌ غير ممكن ، وممتنع ذاتاً وبالتالي أنه أمر محال. فاننا نقول ـ حينئذ ـ في الجواب على
ذلك بان الجهود والتحقيقات العلمية الّتي بذلها علماء الفضاء في الشرق والغرب قد
جعلت هذا الأمر ـ ولحسن الحظ ـ أمراً ممكناً ، وعادياً ، لأن مع اطلاق أوّل قمر
اصطناعي عام ( 1957 م ) إلى السماء إن البشر استطاع بأدواته وآلاته
العلمية والتكنولوجية أن يعالج مشكلات عديدة في مجال ارتياد الفضاء مثل مشكلة
الشهب والنيازك المتطايرة في الجوّ ومشكلة الاشعة الفضائية ، ومشكلة إنعدام
الغاز اللازم للتنفس و .. و .. وهاهو علم ارتياد الفضاء في حال توسع مستمرّ وان
العلماء أصبحوا الآن يثقون بأنهم سرعان ما يتمكنون من مدّ بساط الحياة والعيش في
إحدى الكرات السماوية والسفر إلى إحدى الكواكب كالقمر والمريخ بِسهولة كبرى! (بعد اطلاق الاقمار والسفن الاصطناعية لأوّل مرة يوم الأربعاء ابريل
عام 1961 بدأ الضابط الروسي جاجارين ( 27 سنة ) رحلته الفضائية في سفينة فضائية
، وكان أوّل إنسان أقدم على هذه الرحلة الفضائية ، وابتعدت سفينته 302 كيلومتراً
عن سطح الأرض ، ودارت دورة واحدة حول الكرة الارضية في ساعة ونصف. وبعد ذلك أقدمت أمريكا
والاتحاد السوفيتي على ارسال السفن الفضائية إلى الفضاء في محاولة لغزوالقمر
حتّى حطّت « أپولو » الحاملة ل 11 رائداً فضائياً على سطح القمر لأوّل مرّة ،
وكان هذا أوّل مرة يحط فيها انسان قدمه على ارض القمر. وقدتكررت تجربة هذا
البرنامج الفضائي فيما بعد مرات ومرات وكانت ناجحة على الاغلب. وكل هذه الجهود
والنتائج تكشف عن أن هبوط الإنسان على سطح الكرات والكواكب أمرٌ ممكن ، وما
يستطيع البشر فعله عن طريق العلم يقدر اللّه خالق البشر على فعله بارادته
النافذة.)
إنَّ هذه الأحداث العلمية وهذا
التقدّم التكنولوجي في مجال ارتياد الفضاء شاهدٌ قويٌّ على أنّ هذا العمل أمر
ممكن مائة بالمائة ، وليس من الاُمور المستحيلة. وإذا كان مقصود المعترضين على
المعراج هو انه لا يمكن القيام بمثل هذه الرحلة من دون أجهزة علميّة وتكنولوجية
، ولم يكن رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
يملك في تلك الليلة مثل هذه الأجهزة فكيف طوى تلك المسافات وطاف على جميع تلك
العوالم من دون أدنى وسيلةِ نقل من هذا القبيل؟! فاننا نقول في معرض الاجابة على
اعتراضهم هذا بأن جواب هذا الاعتراض يتضح من الابحاث الّتي سبقت منا حول معاجز
الأنبياء وخصوصاً بحثنا المفصَّل حول حادثة عام الفيل وهلاك جيش أبرهة العظيم
بالأحجار الصغيرة ، لأنه من المسلَّم أنَّ ما يستطيع البشر فعله عن طريق الأدوات
والآلات العلمية الصناعية يستطيع الأنبياء فعلَه بعناية اللّه تعالى ، وإقداره
وبدون الأسباب الظاهرية والخارجية. لقد عرج رسول الإسلام صلىاللهعليهوآلهوسلم
إلى السماء بعناية وباقدار اللّه الّذي خلق الوجود كله ، واقام هذا النظام
البديع برمته ، فهو الّذي أعطى للأرض جاذبيتها ، وأعطى للشمس أشعتها وأوجد مختلف
طبقات الهواء ، وأنواع الغازات في الجوّ ، ومتى أراد أخذَها وانتزاعها منها ، أو
كبح جماحها ، وردّ عاديتها. فاذا تحقق معراج النبيّ الاكرم محمّد
صلىاللهعليهوآلهوسلم في ظلّ
العناية الآلهيّة فانّ من المسلَّم ان جميع النواميس تخضع أمام قدرته القاهرة ،
وارادته الغالِبة ، وهي طوع إرادته ، والسماوات والأرض مطويّات بيمينه والجميع
في قبضته ورهن اشارته دائماً وأبداً ، وفي كل حين وأوان. وعلى هذا فماذا يمنع من أن يعمل
اللّه الّذي منح للأرض جاذبيتها ، وللأجرام السماوية أشعتها ، على إخراج عبده
المصطفى بقدرته المطلقة ومن دون الاسباب الظاهرية ، من مركز الجاذبية الأرضيّة ،
ويصونه من أخطار الاشعة الكونية ، وأن يعمد خالق كل هذا القدر الهائل من
الاوكسيجين إلى إيجاد الهواء اللازم لنبيّه في الطبقات الّتي ينعدم فيها الهواء ،
وهذا هو معنى قولهم : « إنَّ اللّه مسبِّبُ الأسباب ومعطِّلُ الأسباب ». ان أمر المعجزة يختلف ويفترق أساساً
عن أمر العلل الطبيعية والقدرة البشرية. ونحن يجب أن لا نقيس قدرة اللّه
المطلقة بقدرتنا المحدودة ، فاذا كنّا لا نقدر إنَّ إحياء الموتى ، وقلب العصا إلى
ثعبان ، وإبقاء يونس حيّاً في بطن الحوت ، في قعر البحار ، مما صدّقته جميع
الكتب السماوية ونقلته إلينا لا تقلّ إشكالا ولا تختلف جواباً عن قصة المعراج
النبوي وخلاصة القول : ان
جميع العلل الطبيعية والموانع الخارجية مسخَّرةٌ لِلّه تعالى خاضعة لارادته ،
مطيعةٌ لأمره وارادته يمكن تعلّقُها بكلّ شيء إلاّ بالأمر المحال ، وأما غيرذلك
أي ما يكون ممكناً بالذات مهما كان ، فانّهُ قابلٌ لأن يتحقق في ظل ارادة اللّه ومشيئته
سواء يقدر البشر عليه أم لا يقدر. على أن حديثنا هذا موجَّهٌ إلى مَن
آمن باللّه ، وعرف ربّه بصفاته الخاصة به تعالى ، وبالتالي آمن باللّه الأزليّ
على أنّه القادر على كلّ شيء. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الهدفُ من المعراج
:
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد بيّنت الاحاديث ـ بعد الآيات ـ
الغرض من المعراج واليك طائفة من هذه الاحاديث. 1 ـ يقول ثابت بن دينار سألت الامامَ
زين العابدين علي بن الحسين عليهالسلام عن
اللّه جلّ جلاله هل يوصَف بمكان فقال : « تعالى اللّهُ عَن ذلِكَ ». قلت : فلم اسرى بنبيه محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم
إلى السماء؟ قال : « لِيُريَهُ مَلكوتَ السماوات
وما فيها من عجائب صنعِهِ وبدائع خلقه ». 2 ـ وقال يونس بن عبد الرحمان قلت
لأبي الحسن موسى بن جعفر عليهالسلام
لأيّ عِلة عرج اللّهُ بنبيّه إلى السماء ومنها إلى « سدرة المنتهى » ، ومنها إلى
« حجب النور » وخاطبه وناجاهُ هناك واللّه لا يوصف بمكان؟ (علل الشرائع : ص 55 ، البحار : ج 18 ص 347 و 348. تفسير البرهان : ج
2 ، ص 400.).
فقال عليهالسلام
: « إنَّ اللّه لا يُوصَفُ بمكان ولا يَجري عليهِ زمانٌ ، وَلكنَّهُ عزوجل أرادَ
ان يُشَرِّف به مَلائِكته ، وسكانَ سَماواتِه ، ويكرِّمَهُم بمشاهدته ، وَيُريَه
من عجائب عظمته ما يخبر بهِ بَعدَ هُبُوطِه ، وليسَ ذلِكَ على ما يَقُولُه
المشبّهون سبحانَ اللّهِ تعالى عَمّا يَصِفُون » (علل الشرائع : ص 55. البحار : ج 18 ، ص 347 و 348. تفسير البرهان : ج
2 ، ص 400.).
أجل يجب أن يكون لرسول الإسلام وخاتم
الأنبياء مثل هذا المقام العظيم ومثل هذه المنزلة السامقة ، ليقول للبشرية
العائشة في القرن العشرين ، والّتي أصبحت تفكر في الهُبوط على « المريخ » و «
الزهرة » وغيرها من الانجم البعيدة : بانني قد فعلت هذا من دون أية وسيلة
، وانَّ ربّي قد مَنَّ عليّ وعرّفني على نظام السماوات والأرض ، وأطلَعَني
بقدرته وبعنايته على أسرار الوجود ، ورموز الكون. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
23 سفرة إلى الطائف
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
انقضت السنة العاشرة بكل حوادثها
الحلوة والمرة ، فان رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
فقد في هذا العام حامييه الكبيرين المتفانيين في سبيله ، ففي البداية فقد كبير
بني عبد المطلب وسيدهم ، والمدافع الوحيد عن حوزة الرسالة الإسلامية والذابّ
بالاخلاص عن حياض الشريعة المحمّدية ، والشخصية الاولى في قريش اعني « أبا طالب
» عليهالسلام. ولم تنمح آثار هذه المصيبة المرّة عن
خاطر النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
بعد إلاّ وفاجأته مصيبة وفاة زوجته الوفية العزيزة ، السيدة خديجة الكبرى الّتي
جددت برحيلها عنه أحزان النبيّ وآلامه الروحية جاء
في تاريخ الخميس : ج 1 ، ص 301 انه قيل بأن « خديجة » توفيت بعد « أبي طالب »
بشهر وخمسة أيام ، بينما ذهب آخرون مثل ابن الأثير في الكامل ج 2 ، ص 63 إلى أن
السيدة خديجة توفيت قبل أبي طالب ، لا بعده.).
لقد حامى أبو طالب ودافع عن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
وحافظ على حياته وسلامته ومكانته ، وبينما ساعدت خديجة بثروتها الطائلة في نشر
الإسلام وقدمت في هذا السبيل خدمات عظيمة لا تنسى. من هنا سمى رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
تلك السنة بعام الحداد ، أو الحزن (تاريخ الخميس : ج 1 ، ص 301 ، السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 347.).
ومنذ أن توفّى اللّه الحاميين
العظيمين والمدافعين القويين عن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
واجه رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ظروفاً صعبة جداً قلما واجهها من قبل. فقد واجه رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
منذ حلول السنة الحادية عشر جوّاً مفعماً بالعداء له ، والحقد عليه ، وصارت
الاخطار تهدد حياته الشريفة في كل لحظة ، وقد فقد كل الفرص لتبليغ الرسالة وكل
امكانات الدعوة إلى دينه. يقول ابن هشام في هذا الصدد : ان «
خديجة بنت خويلد » و « أبا طالب » هلكا ( اي توفيا ) في عام واحد فتتابعت على
رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
المصائب بهلك خديجة وكانت له وزيرة صدق على الإسلام ... وبهُلك عمّه أبي طالب
وكان له عضداً ، وحرزاً في أمره ، ومنعةً وناصراً على قومه وذلك قبل هجرته الى
المدينة بثلاث سنين ، فلما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
من الأذى ما لم تكن تطمع به في حياة أبي طالب حتّى اعترضه سفيهٌ من سفهاء قريش
فنثر على رأسه تراباً. ولما نثر ذلك السفيه على رأس رسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ذلك التراب دخل رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
بيته والتراب على رأسه ، فقامت إليه إحدى بناته فجعلت تغسل عنه التراب وهي تبكي
ورسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
يقول لها : « لا تبكي يا بُنيَّة فإنَّ اللّهَ مانع أباك ». ويقول بين ذلك : « ما نالت مني قريشٌ شيئاً أكرَهُهُ
حتّى مات أبو طالب » (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 415 و 416 ، بحار الأنوار : ج 19 ، ص 5 عن
إعلام الورى عن محمّد بن اسحاق بن يسار.).
ولأجل تزايد الضغط والكبت هذا قرر
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
أن ينتقل من المحيط المكي إلى محيط آخر يتسنى له تبليغ رسالته. وحيث انَّ الطائف كانت تعتبر آنذاك
مركزاً هامّاً ، لذلك رأى رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ان يسافر لوحده إلى الطائف ، ويجري بعض الاتصالات مع زعماء قبيلة ثقيف وساداتها
ويعرض دينه عليهم علّه يحرز نجاحاً ويكسب انصاراً جدداً لرسالته من هذا الطريق. ولما انتهى صلىاللهعليهوآلهوسلم
إلى الطائف عمد إلى نَفَر من قبيلة « ثقيف » هم يومئذ سادة ثقيف واشرافهم ، وجلس
صلىاللهعليهوآلهوسلم إليهم ،
ودعاهم إلى اللّه ، فلم يؤثر فيهم كلام رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وقالوا له : لئن كنتَ رسولا من اللّه كما تقول لأنتَ أعظمُ خطراً من أردَّ عليك
الكلام ، ولئِن كنت تكذب على اللّهِ ما ينبغي لي ان اكلمك!! فعرف رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
من رَدّهم الصبياني أنهم يحاولون التملُّص من قبول الدعوة واعتناقِ الإسلام ،
فقام صلىاللهعليهوآلهوسلم
من عندِهِم بعد ان طلب منهم أن يكتموا ما جرى في هذا اللقاء خشية أن يعرف سفهاءُ
ثقيف فيتجرأوا عليه ويتخذوا ذلك ذريعة لاستغلال غربته ووحدته ، ومن ثم إيذائه ،
فوعدوه بالكتمان ، ولكنهم ـ وللاسف ـ لم يحترموا وعدهم هذا الّذي أعطوه لرسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم ، وفجأة وجد رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
نفسه محاطاً بجمع كبير من اولئك السفهاء يسبّونه ويصيحون به حتّى اجتمع الناس ،
وألجأوه إلى بستان لعتبة وشيبة إبني ربيعة وهما فيه في تلك الساعة ، ورجع عنه من
سفهاء ثقيف من كان يتبعه ، فعمد إلى ظل فجلس فيه وهو يتصبب عرقاً ، وقد الحقوا
الاذى بمواضع عديدة من بدنه الشريف ورجلاه تسيلان من الدماء ، وابنا ربيعة
ينظران إليه ويريان مالقي من سفهاء أهل الطائف ، وقد كانا من اثرياء قريش ،
يومئذ. فلما اطمأن رسول اللّه
صلىاللهعليهوآلهوسلم
توجه إلى ربه وناجاه قائلا : « أللّهُمَّ إلَيكَ أشكُو ضَعفَ
قُوَّتي ، وَقِلَّةَ حِيلَتي ، وَهَواني عَلى النّاسِ ، يا أرحَمَ الرّاحِمين ،
أنتَ رَبُّ المُستَضعَفِين ، وَأنتَ رَبّي ، إلى مَن تكِلُني ، إلى إن لَم يَكُن بِكَ عَليَّ غَضَبُ
فَلا اُبالِي ، وَلكِ ، عافِيتَكَ هِيَ أوسَعُ لِي. أعُوذُ بِنُورِ وَجهك الّذي اشرقت
لَهُ الظُّلماتُ ، وَصَلُحَ عَليهِ أمرُ الدُّنيا وَالآخِرَة مِن أن يَنزِلَ بِي
غَضَبُكَ ، أو يَحِلَّ عليَّ سَخطُك. لَكَ العُتبى حتّى تَرضى ، وَلا حولَ
وَلا قُوّةَ إلاّ بِكَ » (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 420.).
هذه الكلمات وهذا الدعاء هي استغاثة
شخصية عاش خمسين سنة عزيزاً مكرماً في ظلّ حماية من دافعوا عنه بصدق واخلاص
ودفعوا عنه كل اذى ولكنه الآن يضيق عليه رحب الحياة حتّى يلجأ إلى حائط عدوٍّ من
اعدائه ، ويجلس في ظل شجرة ، مكروباً موجَعاً ينتظر مصيره. فلما رآه إبنا ربيعة « عتبة وشيبة »
وكانا من الوثنيين ومن أعداء الإسلام وشاهدوا مالقي من الأذى والعذاب ، رَقّا
لَهُ فدعوا غلاماً لهما نصرانياً من أهل نينوى يقال له « عداس » فقالا له : خذ
قطفاً من العنب فضَعهُ في هذا الطبق ثم اذهب به إلى هذا الرجل فقل له يأكل منه ،
ففعل عداس ، ثم أقبل بالعنب حتّى وضعه بين يدي رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ثم قال له : كل ، فلما وضع رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم فيه يده قال :
« بسم اللّه الرحمن الرحيم ». فتعجب عداس من ذلك بشدة وقال :
واللّه إنَّ هذا الكلام ما يقوله أهلُ هذه البلاد. فقال له رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ومِن أهل أي البلاد أنتَ وما دينك؟ قال : أنا نصراني ، من أهل نينوى. قال صلىاللهعليهوآلهوسلم
: من مدينة الرجل الصالح يونس بن متى. فقال له عداس : وما يدريك ما ( من )
يونس بن متى؟ فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم
(وفي رواية البحار : ج 19 ، ص 6 جملة اعتراضية هنا : ـ وكان لا يحقر
أحداً أن يبلغه رسالة ربه ـ.)
: ذاك أخي كان نبياً وأنا نبيّ ، أنا رسول اللّه ، فأكبَّ عداس على رسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وقد رأى في كلماته علائم الصدق وآيات الحق ، وجعل يقبّل رأسَه ويديه ، وقدميه ،
وهما تسيلان من الدماء وآمن به ، ثم عاد بعد
الاستئذان منه صلىاللهعليهوآلهوسلم
إلى صاحبيه في البستان. فتعجب ابنا ربيعة لِما رأياه في
غلامهما عداس من الانقلاب الروحي العجيب ، وسألاه قائلين : ويلك يا عداس ما لك
قبَّلت رأس هذا الرجل ، ويديه وقديمه وماذا قال لك؟! فاجابهما الغلام قائلا
:
يا سيدَيَّ ما في الارض شيء خيرٌ من هذا ، هذا رجلٌ صالح لقد أخبرني بأمر ما
يعلمه إلاّ نبيُّ. فشقَّ كلامُ عداس على إبني ربيعة ،
وقالا له بنبرة الناصحّ له : ويحك يا عداس ، لا يصرفنّك هذا الرجلُ عن دينك فان
دينَك خير من دينه!! (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 419 ـ 421 ، بحار الأنوار : ج 19 ، ص 6 و 7
و 22 مع اختلاف يسير.)
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
يعود إلى مكة :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
انتهت ملاحقةُ رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
بلجوئه إلى حائط ابني ربيعة ، وكان عليه الآن ، وبعد أن يئس من خير ثقيف ان يعود
إلى مكة ، ولكنَّ عودته إلى مكة لم تكن لتخلو عن مشاكل ، لأنه قد فقد نصيره
وحاميه ومدافعه الاكبر والا وحد فكان من المحتمل جداً أن يقبض عليه المشركون
ويسفكوا دمه. فقرر صلىاللهعليهوآلهوسلم
ان يبقى في منطقة « نخلة » ( وهي واد بين الطائف ومكة ) بعض الوقت. لقد كان يريد أن يرسل أحداً إلى
شخصية من شخصيات قريش يطلب منها ان تجيره حتّى يدخل مكة بجوار ، ولكنه صلىاللهعليهوآلهوسلم
لم يجد من يقوم له بهذه المهمة. فترك « نخلة » إلى حراء ، وهناك التقى رجلا
خزاعياً وطلب منه أن يأتي « المطعم بن عدي » بمكة ، وكان من الشخصيات المكية
البارزة ويسأله أن يجير رسول اللّه ليدخل مكة في أمان من اذى قريش وكيدها. فدخل الخزاعيّ مكة ، وأبلغ المطعم ما
طلبه منه رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
فقبل المطعم ـ رغم كونه وثنياً مشركاً ـ ان يجير رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
فقال للخزاعي : ائته فقل له : إني قد أجرتك فتعال. فدخل رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
مكة ليلا ونزل في بيت مطعم مباشرة ، وبات ليلته هناك ، ولما طلعت الشمس من صبيحة
غد قال مطعم لرسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
: لتعلمنّ قريش بانك في جوارنا ، فاصحبنا إلى البيت ، ليروا جوارنا. فاستحسن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
رأيه فاخذ المطعم وأهلُ بيته السلاح ودخلوا مع النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
في المسجد الحرام ، وكان ورودهم في المسجد بهيئة رائعة. وكان أبو سفيان قد كمن للنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
ليكيد به ، فلما رأى هذا المشهد المهيب غضب غضباً شديداً ، وانصرف عن ايذاء رسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
، فجلس المطعم وولده واختانه واخوه ، وطاف رسول اللّه بالبيت وصلى عنده ثم انصرف
إلى منزله. (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 381. بحار الأنوار : ج 19 ، ص 7 و 8.
ويستبعد بعض المحققين ان يكون رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم قد طلب الجوار من مشرك أو دخل
في جوار مشرك ، على غرار عدم قبوله الهدية من المشرك وذكر لذلك ادلة ووجوها. ولكن يمكن الاجابة على هذا
بأن الاجارة كانت امراً عادياً في ذلك العصر ، ولم يكن فيها ما يوجب شيناً على
رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم ولم تستلزم منة عليه. ثم ما المانع في مثل هذا
الجوار لو ترتبت عليه مصالح عليا ، كتمكين رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم من الدخول بسلام إلى مكة ،
وتمكنّه من القيام بمهامّه الرسالية ، خاصة ان هذا الجوار لم يستغرق إلاّ يوماً
أو بعض يوم وتسنّى بعده لرسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم ترتيب اوضاعة في مواجهة
الاخطار الّتي كانت تتهدده من جانب المشركين بمكة.).
ولم يمض على هذه الحادثة زمان طويل
حتّى هاجر رسول اللّه صلى الله عليه وآله من مكة إلى المدينة ، وتوفي المطعم في
أوائل الهجرة في مكة ، ولما بلغ رسول اللّه نبأ موته تذكّر صلىاللهعليهوآلهوسلم
إحسانه وجوارَه ، وانشأ حَسّان بن ثابت شاعر الإسلام شعراً يمدحُه فيه تقديراً
لخدمته. وكان رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
يتذكره كثيراً ، حتّى انه تذكره في واقعة « بدر » الّتي انهزمت فيها قريش وعادت
منكسرة إلى مكة بعد أن خسرت كثيراً من رجالها واسر منها عدد كبير ، فتذكر مطعم بن
عدي ثمة وقال صلىاللهعليهوآلهوسلم
: « لو كان مطعم بن عَديّ حياً لو هبت
له هؤلاء » (ـ المغازي للواقدي : ج 1 ، ص 110 ثم قال الواقدي : وكانت لمطعم بن
عدي عند النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم اجارة حين رجع من الطائف ،
طبقات ابن سعد : ج 1 ، ص 210 و 212 ، البداية والنهاية : ج 3 ، ص 137.). نقطة هامة :
إنَّ سفر النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
إلى الطائف يكشف عن اصراره في اداء رسالته واستقامته وصبره صلىاللهعليهوآلهوسلم
كما ان تذكُّره لإحسان مطعم في المواقع المناسبة يقودنا إلى خصاله الحميدة
وسجاياه. الفاضلة ، وخلقه العظيم. ولكن الاهمَّ من هذا وذاك هو أننا
نستطيع من خلال هذا تقييم خدمات أبي طالب القيمة ، ومعرفة اهميتها الكبرى عند
رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
، بمقايستها مع ما فعله مطعم. فان مطعم لم يفعل شيئاً إلاّ أن اجار
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
وحماه يوماً أو بعض يوم. بينما حدب أبو طالب على رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ودافع عنه وخدمه عمراً كاملا ، ولقى في سبيله من المحن والمتاعب ما لم يلق مطعم
منها ولا شيئاً ضئيلا. فاذا كان رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
يعلن عن استعداده للافراج عن جميع الاسرى في « بدر » تقديراً لما قام به مطعم من
اجارة بسيطة قصيرة ، فماذا عساهُ أن يقوم به تجاه ما اسداه إليه عمُّه وحاميه
وكافله الاكبر والأوحد أبو طالب من خدمات طوال اكثر من اربعين عاماً أنه يجب ان
يكون لمثل هذا الشخص العظيم الّذي كفل صاحب الرسالة وقام بشؤونه مدّة أربعين
عاماً بايامها وليالها ودافع عنه في السنوات العشر الاخيرة وهي جلُّ عمر الرسالة
الإسلامية في الفترة المكية إلى درجة ان عرَّض راحته وسلامته بل حياته وحياة
أبنائه لخطر الموت دفاعاً عن حياض الرسالة ، وحمايةً لصرح النبوة ، مقاماً
عظيماً ومنزلة كبرى عند قائد البشرية ، ومعلم الإنسانية ، وهاديها العظيم. كيف لا ؛ والفرق بين هذين الشخصين
كبير ، والبون شاسع ، فمطعم رجل وثني مشركٌ ، بينما يعتبر أبو طالب واحداً من
كبار الشخصيات الإسلامية العظيمة بلا جدال. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الدعوة في أسواق
العرب :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
كانت العرب تجتمع ـ في مواسم الحج ـ
في نقاط مختلفة مثل : « عكاظ » و « المجنة » و « ذي المجاز » ، وكان الشعراء
والخطباء العرب البارعُون يقفون في هذه المناطق على أماكن مرتفعة ويلهون فريقاً
من الناس بما يلقونه عليهم من خطب وقصائد تدور في الأغلب حول الحرب والقتال ،
والتفاخر ، والعشق. وكان رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
شأن كل الأنبياء والمرسلين الذين سبقوه يستغلّ هذه الفرصة ـ كغيرها ـ لا بلاغ
رسالة ربه إلى الناس ، ولم يكن لاحد منعه أوالكيد به لحرمة القتال والجدال في
الاشهر الحرم. من هنا كان صلىاللهعليهوآلهوسلم
إذا حلّ الموسم وقف على مكان مرتفع وخاطب الناس قائلا : « قُولُوا لا إله إلاّ اللّهُ
تُفلِحُوا وتملكوا بها العَرَب وتَذِلُّ لكُمُ لعَجمُ ، وَإذا آمَنتُم كُنتُم
مُلُوكاً فِي الجَنَّة » (الطبقات الكبرى : ج 1 ، ص 216.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
دعوة رؤساء القبائل
في مواسم الحج :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وكان رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
يلتقي في مواسم الحج في هذه النقاط برؤساء القبائل العربية واشرافها ، ويقف على
منازلهم منزلا منزلا ، ويعرض دينه عليهم ، ويدعوهم إلى اللّه ويخبرهم أنه نبيُّ
مرسل (قال ابن هشام : كان صلىاللهعليهوآلهوسلم لا يسمع بقادم يقدم مكة من
العرب له اسم وشرف إلاّ تصدّى له فدعاه إلى اللّه وعرض عليه ما عنده.).
وربما مشى خلفه عمُّه « أبو لهب »
فاذا فرغ رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
من قوله وما دعا به قال أبو لهب فوراً للناس : يا بني فلان إن هذا إنما يدعوكم
أن تسلخوا اللات والعزى من أعناقكم ، إلى ما جاء به من البدعة والضلالة ، فلا
تطيعوه ولا تسمعوا منه. وقد قدمت جماعة من بني عامر إلى مكّة
فدعاهم رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
إلى الإسلام وعرض عليهم نفسه ، فقبلوا أن يعتنقوا الإسلام إلاّ أنهم اشترطوا
عليه أن يكون إليهم خلافته من بعده إذ قالوا : أرأيتَ إن نحن تابعناك على أمرك
ثم أظهركَ اللّهُ على مَن خالفَك أيكونُ لنا الأمرُ من بعدك؟ فقال رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
: « الأمرُ إلى اللّهِ يَضَعه حيثُ يشاءُ ». فرفضوا اعتناق الإسلام
والإيمان باللّه ورسوله. ثم لما عادوا إلى أوطانهم رَجَعُوا
إلى شيخ لهم طاعن في السنّ لم يقدر أن يحجَّ معهم وكان ذا بصيرة وفهم فحدّثوه
بما جرى بينهم وبين رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وقالوا : جاءنا فتى من قريش من بني عبد المطلب يزعم أنه نبي يدعونا إلى أن نمنعه
(أي نحميه.)
ونقوم معه. فوضع الشيخ يديه على رأسه ووبَّخَهُم
على رفضهم لدعوة الرسول وقال : يا بني عامر والّذي نفسُ فلان بيده
ما تَقَوَّلَها اسماعيليٌ قط (أي ما ادعى النبوة كاذباً احدٌ من بني اسماعيل.)
، وإنّها لحقٌ ، فاين رأيكم كان عنكم؟! (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 424 و 425.)
ان هذه القضية التاريخية تفيد ـ في
ما تفيد ـ بان مسألة الخلافة والامامة بعد رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
أمر تنصيصي ، تعييني ، لا انتخابي ، أي ان تعيين الخليفة بعد رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
يعود إلى اللّه ، ولا خيار للناس فيه ، وانما عليهم الطاعة والرضا. 24 |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
بيعة العقبة
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
كان ( وادي القرى ) في ما مضى من
الزمن طريق التجارة من اليمن إلى الشام ، فكانت القوافل التجارية القادمة من
اليمن تدخل وادياً طويلا يدعى بوادي القرى بعد العبور بالقرب من مكة ، وكانت
المناطق الواقعة على طوال هذا الوادي مناطق خضراء ، ومن هذه المناطق مدينة قديمة
كانت تدعى ب : يثرب والّتي عرفت فيما بعد بمدينة الرسول. وقد سكن في هذه المدينة منذ اوائل
القرن الرابع الميلادي قبيلتا : « الاوس والخزرج » اللتان كانتا من مهاجري عرب
اليمن ( من القحطانيين ). وكان يعيش الى جانبهم الطوائف
اليهودية الثلاث المعروفة : « بنو قريظة » و « بنو النضير » و « بنو قينقاع »
الذين كانوا قد هاجروا اليها من شمال شبه الجزيرة العربية واستوطنوها. وكان يقدم إلى مكة كل عام جماعة من
عرب يثرب للاشتراك في مراسيم الحج ، وكان النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
يلتقي بهم في تلك المواسم ، ويجري معهم اتصالات. وقد مهدّت بعض هذه اللقاءات للهجرة ،
وصارت سبباً لتمركز قوى الإسلام المتفرقة ، في تلك النقطة. على ان كثيراً من تلك الاتصالات وان
لم تثمر ولم تنطو على أية فائدة فعلية إلاّ أنها تسببت في أن يحمل حجاج يثرب ـ
لدى عودتهم ـ انباء ظهور النبيّ الجديد وينشروه في اوساط المدينة كأهم نبأ من
انباء الساعة ، ويلفتوا نظر الناس في تلك الديار إلى مثل هذا الامر المهم
والخطير. ولهذا نقلنا هنا بعض اللقاءات
والاتصالات الّتي تمت بين رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وجماعات من اهل هذه المدينة في السنة الحادية عشرة والثانية عشرة والثالثة عشرة
من البعثة للتتضح بدراسة هذه المطالب علة هجرة النبيّ الاكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم
من مكة إلى يثرب ، وتمركز قوى المسلمين في تلك المنطقة. 1 ـ كان رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
كلما سمع بقادم يقدم مكة من العرب له اسم وشرف تصدى له ، ودعاه إلى الإسلام وعرض
عليه ما عنده. وقد قدم مرة « سويد بن الصامت »
فتصدى له رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
حين سمع به فدعاه إلى اللّه وإلى الإسلام فقال له سويد : فلعلّ الّذي معك مثل
الّذي معي. فقال له رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
: وما الّذي معك. قال : مجلة لقمان يعني حكمة لقمان. فقال رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
إعرضها عليَّ فعرضها عليه. فقال له : إن هذا الكلام حسن ، والّذي معي أفضل من
هذا. قرآنٌ انزلهُ اللّهُ عليّ هو هدى ونور. ثم تلا عليه رسولُ اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
القرآن ودعاه إلى الإسلام فقال سويد إنّ هذا قولٌ حسن وآمَنَ برسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
فقدم
المدينة على قومه ، فلم يلبث أن قتلته الخزرج فيما كان يتلفظ الشهادتين وكان
قتله قبل يوم بعاث (بعاث موضع كانت فيه حرب بين الأوس والخزرج.)
(ـ السيرة النبوية : ج 1 ، ص 425 ـ 427.).
2 ـ قدم « انس بن رافع » مكّة ومعه
فتيةٌ من بني عبد الاشهل فيهم « ياس بن معاذ » أيضاً ، يلتمسون الحلف والنصرة
على قومهم من الخزرج ، فسمع بهم رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
فأتاهم وجلس اليهم وقال لهم : هل لكم في خير مما جئتم له؟ فقالوا له : وما ذاك؟ قال : « أنا رسول اللّه بعثني إلى
العباد أدعوهم إلى أن يعبدوا اللّه ولا يشركوا به شيئاً وانزل عليّ الكتاب » ثم
ذكر لهم الإسلام وتلا عليهم القرآن. فقال أياس بن معاذ وكان غلاماً حدثاً
شهماً : أي قوم هذا واللّه خير مما جئتم له. فقد أدركَ جيّداً أنَ دينَ التوحيد
يكفُلُ كلَّ حاجاتهم فهو دينٌ شاملٌ مباركٌ لأنه سيصهِرُ الجميعَ في بوتقة
الاُخوَّة الواحدةِ فتزول عندئذ أسبابُ العداء والقتال ، وبذلك ينهي كل مظاهرِ
الحرب والتنازع ، وكلَّ مظاهر الفساد والتخريب فهو افضل من طلبِ المساعدة العسكرية
من قريش الّتي جاؤوا من أجلها إلى مكة ، فآمن برسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
من دون ان يكسب رضا رئيس قبيلته « انس بن رافع » واستئذانه ، ولهذا غضب أنس وأخذ
حفنة من تراب البطحاء وضرب بها وجهَ إياس وقال : دعنا منك فعمري لقد جئنا لغير
هذا ، فصمَتَ اياس وقام رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
عنهم وانصرفوا إلى المدينة ، وكانت وقعة بُعاث بين الأوس والخزرج ولم يلبث اياس
ان هلك ، وقد سمعه قومٌ حضروا عند وفاته يهلّل اللّه تعالى ويكبّره ويحمده
ويسبّحه حتّى مات ، فما كانوا يشكّون أنه قد مات مسلماً ، ولقد استشعر الإسلام
في ذلك المجلس حين سمع من رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ما سمع (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 427 و 428.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وقعة بُعاث :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
كانت وقعة بُعاث من الحروب التاريخية
بين الأوس والخزرج ، ففي هذه الوقعة انتصر الأوسيون على منافسيهم ، وأحرقوا نخيل
الخزرجيين ، ثم وقعت بعد ذلك حروب ومصالحات بينهم. ولم يشترك « عبد اللّه بن اُبيّ »
وهو من أشراف الخزرج في هذه الوقعة من هنا كان موضع احترام من القبيلتين ، وكاد
الطرفان يفقدان مقاومتهما بسبب تكرر الحروب ، وتحمّل الخسائر الثقيلة ، ولهذا
رغب الطرفان في عقد صلح بينهما يضع حدّاً لجميع أشكال العمليات العسكرية ،
والغزو والاقتتال ، والثأر والانتقام ، واصرّت القبيلتان على « عبد اللّه بن
اُبي » بان يقبل بقيادة عمليّة المصالحة هذه ، بل وأعدوا له تاجاً يتوّجونه به ،
حتّى يصبح أميراً في وقت معيَّن ، ولكن هذا المشروع تعرض للانهيار والسقوط وواجه
الفشل على أثر اعتناق جماعة من الخزرج الإسلام ، ففي هذا الوقت بالذات التقى
رسول اللّه بمكة بستة اشخاص من رجال الخرزج ودعاهم إلى الإسلام فآمنوا به ،
ولبُّوا دعوته. تفصيل الحادث :
خرج رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
في الموسم الّذي لقيه فيه النفر من الأنصار فعرض نفسه على قبائل العرب كما كان
يصنع في كلّ موسم فبينما هو عند العقبة لقي رهطاً من الانصار وكانوا ستة انفار
من الخزرج فقال لهم : أمِنْ موالي اليهود؟ وهل لكم حلف معهم. قالوا : نعم. قال : أفلا تجلسُون أكَلِّمُكُم؟ قالوا : بلى. فجلسوا معه ، فدعاهم إلى اللّه عزّ
وجلّ وعرض عليهمالسلام وتلا
عليهم القرآن ، فاحدثت كلمات النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
في نفوسهم أثراً عجيباً ، وممّا ساعد على ذلك أن يهوداً كانوا معهم في بلادهم ،
وكانوا أهل كتاب وعلم ، وكانوا هم أهلَ شرك وأصحاب أوثان ، وكان اليهود قد غزوهم
في بلادهم ، فكانوا إذا وقع بينهم نزاع وكان
بينهم شيء قال اليهود لهم : إن نبياً مبعوث الآن ، قد اظلّ ( أو أطلّ ) زِمانه
نتبعه فنقتلكم معه قتل عد وإرَم ، فكانت اليهود تخبر بخروج نبيّ من العرب ينشُر
التوحيد ، وتنتهي على يديه حكومة الوثنية والشرك ، وقد قرب ظهوره. فلما كلَّمَ رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
اُولئك النفر ، ودعاهم إلى اللّه ، قال بعضهم لبعض يا قوم : تعلّموا واللّه إنه
للنبيُّ الّذي توعدّكم به اليهود فلا تسبقنكم إليه. فاجابوه فيما دعاهم إليه بان صدّقوه
وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام وقالوا : إنا قد تركنا قومنا ، ولا قوم
بينهم من العداوة والشر مثل ما بينهم ، فعسى أن يجمعهم اللّهُ بكَ ، فسنقدم
عليهم فندعوهم إلى أمرك ، ونعرض عليهم الّذي أجبناك إليه من هذا الدين ، فإن
يجمعهم اللّه عليه فلا رجل اعز منك (تاريخ الطبري : ج 2 ، ص 86 ، والسيرة النبوية : ج 1 ، ص 427 و 428 ،
بحار الأنوار : ج 19 ، ص 25.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
بيعة العقبة
الاُولى :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد اثّرت دعوة هؤلاء السنة ، الجادة
في يثرب تأثيراً حسناً حيث سبّبت في إسلام فريق من اهل يثرب واعتناقهم عقيدة
التوحيد. فلما كان العام المقبل ( أي السنة
الثانية عشرة من البعثة ) قدم مكة اثنا عشر رجلا من اهل يثرب ، فلقوا رسول اللّه
صلىاللهعليهوآلهوسلم بالعقبة ،
وانعقدت هناك أوّل بيعة اسلامية. وابرز هؤلاء الرجال هم : أسعد بن
زرارة ، وعبادة بن الصامت ، وكان نص هذه البيعة ـ بعد الاعتراف ـ بالاسلام
والايمان باللّه ورسوله هو : بايعنا رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
على أن لا نشرك باللّه شيئاً ، ولا نسرق ، ولا نزني ، ولا نقتل أولادنا ، ولا
نأتي ببهتان نفتريه من بين أيدينا وارجلنا ولا نعصيه في معروف. فقال لهم رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
: إن وفيتم فلكمُ الجنة ، وان غشّيتم من ذلك شيئاً فامركم إلى اللّه عزّوجل إن
شاء عذَّبَ ، وان شاء غفر. وهذه البيعة اصطلح على تسميتها
المؤرخون وكتّابُ السيرة ببيعة النساء ، لأنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
اخذ البيعة من النساء في فتح مكة على هذا النحو (والّتي جاء ذكرها في الآية 12 من سورة الممتحنة.).
وعاد هؤلاء النفر إلى يثرب بقلوب
مفعمة بالايمان ، مترعة بمحبة رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
فعمدوا إلى نشرالإسلام وكتبوا إلى رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
أن يبعث لهم من يعلّمهم الإسلام والقرآنَ ، فبعث النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
لهم « مصعب بن عمير » وأمره بان يقرِّأهم القرآن ويعلمهم الإسلام ويفقّههم في
الدين ، فكان يسمى المقرئ بالمدينة. واستطاع هذا المبلّغُ القديرُ ، وهذا
الداعية النشيط ان يجمع المسلمين بفضل عمله الدؤوب والحكيم وتبليغه الصحيح في
غياب رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
، ويؤمّهم ، ويصلي بهم (ـ السيرة النبوية : ج 1 ، ص 434 ، بحار الأنوار : ج 19 ، ص 25.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
بيعة العقبة
الثانية :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد أحدث تقدم الإسلام في يثرب
هيجاناً كبيراً وشوقاً عجيباً في نفوس المسلمين من أهلها ، فكانوا ينتظرون بفارغ
الصبر حلول موسم الحجّ ، ليقدموا مكة ، ويلتقوا برسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
عن كثب ، ويُظهروا له عن استعدادهم لتقديم ما يطلبُ منهم من خدمة وعمل ،
وليستطيعوا توسيع نطاق البيعة من حيث الكَمّ ومن حيث الكيف. وأخيراً حلّ موسم الحجّ فخرجت قافلةٌ
كبيرةٌ من أهل يثرب للحجّ تضمّ خمسمائة نفراً فيهم ثلاث وسبعون من المسلمين من
بينهم امرأتان ، والباقي إما راغبون في الإسلام ، واما غير مكترث به ، حتّى
قدموا مكّة ، والتقوا برسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
فواعدهم رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
بالعقبة للبيعة إذ قال : « موعدكم العقبة في الليلة الوسطى من ليالي التشريق ». فلما كانت الليلة الثالثة عشرة من
شهر ذي الحجة وهي الّتي واعدهم رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
فيها باللقاء ، ونام الناس حضر رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
مع عمّه « العباس بن عبد المطلب » قبل الجميع ، وخرج المسلمون من رحالهم
يتسلّلون تسلل القطا مستخفين بعد أن ناموا مع قومهم في رحالهم ، ومضى ثلث الليل
لكيلا يحسّوا بخروجهم ، حتّى اجتمعوا في الشعب عند العقبة ، ولما استقرّ المجلس
بالجميع ، كان أوّل متكلم هو : العباس بن عبد المطلب فقال واصفاً منزلة رسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
: يا معشر الخزرج ـ وكانت العرب تسمي هذا الحي من الانصار الخزرج خزرجها وأوسَها
ـ إنَّ محمَّداً مِنّا حيث قد علمتم ، وقد مَنَعاهُ من قومنا ، فهو في عزّ من
قومه ، ومَنعة في بلده ، وإنّه قد ابى إلاّ الإنحياز اليكم ، واللُحوق بكم ، فان
كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ، ومانعوه ممّن خالفه فأنتم وما
تحملتم من ذلك ، وإن كنتم ترونَ أنكم مُسلِمُوهُ وخاذِلُوهُ بعدَ الخروج به
إليكم ، فمن الآن فدعوهُ فانه في عزّ ومَنعة من قومه وبلده. فقال الحضور : قد سمعنا ما قلتَ
فتكلّم يا رسول اللّه ، فخذ لنفسك ولربك ما أحببتَ. فتكلمَ رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
فتلا القرآن ودعا إلى اللّه ورغّب في الإسلام ثم قال : اُبايعُكم على أن تمنعوني
مما تمنعون منه نساءكم وابناءكم. فقام البراء بن معرور وأخذ بيد
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
وقال : نعم والّذي بعثك بالحق نبياً لنمنعمنَّك مما نمنع منه اُزُرنا (الملاحظ في هذه البيعة انها كانت بيعة للدفاع عن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
وليس بيعة للجهاد في سبيل اللّه ، ولهذا فان رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
لم يقدم على القتال في بدر إلا بعد ان كسب موافقة الانصار ورضاهم.)
فبايعنا يا رسول الّه فنحن واللّه ابناء الحروب واهل الحلقة ( اي السلاح )
ورثناها كابراً عن كابر. فدب في الحضور حماس وسرور عظيم
وتعالت الاصوات والنداءات من الخزرجين والّتي كانت تعبيراً عن شدة حماسهم ،
وسرورهم لهذا الأمر ، فقال العباس وهو آخذ بيد رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وفي هذه الاثناء نهض « البراء بن
معرور » و « ابو الهيثم بن التيهان » و « أسعد بن زرارة » من مواضعهم وبايعوا
رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ثم بايعه بقية القوم جميعاً. وقد قال ابن التيهان عند مبايعته للنبيّ
صلىاللهعليهوآلهوسلم يا رسول
اللّه إن بيننا وبين الرجال ( اي اليهود ) حبالا ( وعلاقات ) وإنا قاطعوها ، فهل
عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك اللّه ، أن ترجعَ إلى قومك وتدعَنا؟ فتبسَّم رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
قال : « بل الدَم الدَم ، والهَدم الهَدم احارب من حاربتم واسالم من سالمتم »
يعني أنه سيبقى على العهد ، ولا يتركهم وكانت العرب تقول عند عقد الحلف : دمي
دمُك ، وهَدمي هَدمُك ، وهي كناية عن البقاء على العهد واحترام الميثاق والحِلف.
ثم ان رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
قال : اخرجُوا إِليَّ منكم إثني عشر نقيباً ليكونوا على قومهم بما فيهم (المحبر : ص 268 ـ 274.).
فأخرَجوا منهم اثني عشر نقيباً فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم
لاولئك النقباء : انتم على قومكم بما فيهم كُفَلاء ككفالة الحواريّين لعيسى بن
مريم وأنا كفيلٌ على قومي ( يعني المسلمين ) فاُبايعُكم على أن تمنعوني مما
تمنعون منه نساءكم وأبناءكم ». فقالوا : نعم وبايعوه على ذلك. وكان النقباء الذين اختيروا لذلك
تسعةً من الخرزج وثلاثةً من الأوس وقد ضُبِطَت أسماؤهم وخصوصياتهم في التاريخ. وبعد أن تمّت مراسم البيعة وعدهم
رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
بأن يهاجِرَ إليهم في الوقت المناسب ، ثم ارفض الجمع وعادَ القومُ إلى رجالهم (ـ بحار الأنوار : ج 19 ، ص 25 و 26 ، السيرة النبوية : ج 1 ، ص 441 ـ
450 ، الطبقات الكبرى : ج 1 ، ص 221 ـ 223. وفي رواية اُخرى في البحار : ج 19 ،
ص 47 ، كما اخذ موسى من بني اسرائيل اثني عشر نقيباً وقد كان هذا العمل النبوي
حكيماً جداً لان عامة الناس لا يمكن التعويل والاتكال على التزاماتهم بل لابد من
الاعتماد ـ ضمناً ـ على رموز المجتمع ومفاتيحه وهم وجوده القوم وسراتهم.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أوضاعُ المسلمين
بعد بيعة العقبة :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
والآن ينبغي أن نجيب بالتفصيل على
السؤال الّذي يطرح نفسه هنا وهو : ما الّذي دعى أهل يثرب الذين كانوا بعيدين عن
مركز ظهور الإسلام إلى أن يستجيبوا لنداء الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم
ويأخذوا بتعاليمه اسرع من المكيين مع ما كان بين المكيين وبين رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
من القرابة القريبة؟! وكيف تركت تلك اللقاءاتُ المعدودةُ
القصيرةُ بأهل يثرب آثاراً تفوق الآثار الّتي تركتها الدعوةُ المحمّدية خلال
ثلاثة عشر عاماً في مكة؟! إن علة هذا التقدم يمكن
اختصارها وحصرها في أمرين : أوّلا : أن اليثربيّين جاوروا
اليهودَ سنيناً عديدة وطويلة قبل الإسلام وكثيراً ما كانوا يتحدّثون في مجالسهم
وأنديتهم عن النبيّ العربيّ الّذي يظهر ، ويأتي بدين جديد. حتّى أن اليهود كانوا يقولون :
للوثنيين إنَّ هذا النبيّ سيقيم دينَ اليهود وينشره ، ويمحي الوثنية ويقضي عليها
بالمرة. فتركت هذه الكلماتُ أثراً عجيباً في
نفوس أهل يثرب ، وهيّأت قلوبهم لقبول الدين الّذي كان يخبر عنه يهودُ وينتظرونه
، بحيث عند ما التقى الانفار الستة من اهل المدينة إلى الايمان برسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
لأوّل مرّة ، بادروا إلى الايمان به من غير إبطال ولا تأخير بعد أن قال بعضهم
لبعض : واللّه إنَّه للنبيّ الّذي توعَّدكم به يهود فلا تسبقنكم إليه. ومن هنا فان مما يأخذه القرآن على
اليهود هو : أنكم كنتم تهددون الوثنيين بالنبيّ العربيّ ، وتبشرون الناس بانه
سيظهر ، وانهم قرأوا أوصافه وعلائمه في التوراة فلماذا رفضوا الإيمان به لمّا
جاء صلىاللهعليهوآلهوسلم.
يقول تعالى : « وَلَمّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللّهِ
مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلى الّذيْنَ
كَفَرُوا ، فَلَمّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ، فَلَعْنَةُ اللّهِ
عَلى الكافِرين »
(ـ البقرة : 89.).
ثانياً : إنّ العامل الأخير الّذي
يمكن اعتبارهُ دخيلا في التأثير في نفوس اليثربيين وسرعة إقبالهم على الإسلام
وتقبّلهم لدعوة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
هو التعب والارهاق الّذي كان اهل يثرب قد اُصيبوا به من جرّاء الحروب الطويلة
الدامية فيما بينهم والّتي استمرّت مائة وعشرين عاماً والّتي انهكتهم وكادت أن
تذهب بما تبقّى من رَمقهم ، وجعلتهم يملون الحياة ، ويفقدون كلّ أمَل في تحسّن
الأحوال والاوضاع. وإن مطالعة وقعة «
بُعاث » وهي ـ حرب وقعت بين الأوس والخزرج ـ وحدها كفيلة بأن تجسد لنا الوجهَ
الواقعي الّذي كان عليه سكان تلك الديار. ففي هذه الوقعة انهزم الاوسيّون على
يد الخزرجيين ، فهربوا إلى « نجد » ، فعيّرهم الخزرجيّون بذلك ، فَغضب « الحضير
» سيد الأوس ، لذلك غضباً شديداً ، فطعن فخذه برمحه لشدة انزعاجه وغضبه ، وترجّل
عن فرسه وصاح بقومه قائلا : واللّه لا أقوم من مكاني هذا حتّى اُقتل!! فأوقد
صمود « الحضير » وثباته نار الحمية والغيرة واشعل روح الشهامة والبسالة في قومه
، فقرروا الدفاع عن حقهم مهما كلفهم الامر ، فقاتلوا أعداءهم مستميتين ،
والمستميت منتصر لا محالة ، فانتصر الأوسويون المغلوبون ، هذه المرة ، وهزموا
الخزرج هزيمة نكراء واحرقت مزارعهم ونزل بهم ما نزل على يد الاوسيين!! (الكامل في التاريخ : ج 1 ، ص 417 و 418.).
ثم تتابعت الحروب والمصالحات بعد ذلك
، وكانت القبيلتان تتحملان في كل مرة خسائر كبرى ، جعلتهم يواجهون عشرات المشاكل
الّتي حوّلت حياتهم إلى حياة مضنية متعبة جداً. من هنا لم تكن كلتا القبيلتين
راضيتين على أوضاعهما ، وكانتا تبحثان عن مخلص مما هما فيه ، من الحالة السيئة ،
وتفتشان عن نافذة أمل ، ومخرج من تلك المشاكل. ولهذا وجد الخزرجيون الستة ضالّتهم
المنشودة عندما التقوا ـ ولاول مرّة ـ رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وسمعوا منه ما سمعوا ، فتمنّوا أن يضعوا به حداً لاوضاعهم المتردية إذ قالوا له
: عسى أن يجمعهم اللّه بك فان جمعهم اللّه بك فلا رَجلَ أعزّ منك. كانت هذه هي بعض الأسباب الّتي دعت
اليثربيين إلى تقبّل الإسلام بشوق ورغبة وحماس. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ردود فعل قريش تجاه
بيعة العقبة :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
كانت قريش تغطّ في نوم عميق وكانت
تتصور بانها قد حدّت من تقدم الإسلام في مكة وانه قد بدأ يتقهقر ويسير باتجاه
السقوط والاندحار ، وأنه لن ينقضي زمانٌ إلاّ وتنطفئ جذوة الإسلام وتخمد شعلته ،
وتنمحي آثاره. وفجأة استيقظت على دويّ بيعة العقبة
الثانية الّتي كانت بمثابة انفجار قلبت كل المعادلات ، وأسقطت كل تصورات قريش
الساذجة ، وذلك عند ما عرف زعماء الوثنيين بأن ثلاثاً وسبعين شخصاً من اليثربيين
عقدوا ليلة أمس وتحت جنح الظلام بيعة مع رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
على أن يدافعوا عنه كما يدافعون عن أبنائهم وأهليهم. فأحدث هذا النبأ خوفاً عجيباً في
قلوب قادة قريش وسادة مكة المشركين المتغطرسين ، لانهم اخذوا يقولون مع أنفسهم :
لقد وجد المسلمون الآن قاعدة قوية في قلب الجزيرة العربية ، وانه يُخشى أن يجمع
المسلمون كل طاقاتهم المبعثرة فيها. ويعملون معاً على نشر دينهم ، وبث عقيدتهم ،
وحينئذ ، وحينئذ ستواجه الوثنية في مكة خطراً جدياً ، يهدّدُها في الصميم. ولهذا بادرت قريش إلى الاتصال
بالخزرجيين صبيحة تلك الليلة وقالوا لهم : يا معشر الخزرج انه قد بلغنا أنكم قد
جئتم إلى صاحبنا تستخرجونه من بين أظهرنا ، وتبايعونه على حربنا ، إنه واللّه ما
من حيّ من العرب أبغض إلينا أن تنشب الحربُ بينا وبينهم ، منكم. فحلفَ المشركون من أهل يثرب لقريش
أنه ما كان من هذا شيء ، وما علموه ، وقد صدقوا لأنهم لم يعلموا بما جرى في
العقبة. فان قافلة اليثربيين كانت تضمُّ خمسمائة شخص ، تسلَّلَ منهم ثلاث وسبعون
فقط إلى العقبة وبقية الناس نيام لا يعلمون بشيء. فأتت قريشٌ إلى « عبد اللّه بن اُبيّ
بن سلول » فسألوه عَمّا جرى في ليلة العقبة ، فأنكر ذلك وقال : إنّ هذا الأمر
جسيم ، ما كان قومي ليتفوتوا عليّ بمثل هذا ( اي يعملوه من دون مشورتي ) وما
علمته كان ، فنهض رجال قريش من عنده ليتابعوا تحقيقهم حول الحادث. فعرف المسلمون الذين حضروا ذلك
المجلس وبايعوا رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
يفشوّ أمرهم ، وانكشاف سرهم ، ولهذا قال بعضهم لبعض : مادمنا لم نُعرَف بعدُ
فلنخرج من مكة فوراً قبل ان يظفر المشركون بنا ، ولهذا أسرعوا في الخروج من مكة
والتوجّه إلى المدينة ، فزاد ذلك من سوء ظن قريش وعزّزت شكوكهم حولَ البيعة ،
وعرفوا بانه قد كان ، فخرجوا في طلب جميع اليثربيين ، ولكنهم لم يتنبهوا لذلك
إلاّ بعد خروج قافلة اليثربيين من حدود مكة ، والمكيين ، ولم تظفر قريش إلاّ
بسعد بن عبادة. غير أن ابن هشام يرى بأنهم ظفروا
بنفرين هما : « سعد بن عبادة » و « المنذر بن عمر » ، وكان كلاهما من النقباء
الاثني عشر. وأما « المنذر »
فاستطاع أن يخلّص نفسه منهم. وأما « سعد » فقد
أخذوه ، وربطوا يديه إلى عنقه بنسع رَحله ، ثم أقبلوا به حتّى أدخلوه مكة
يضربونه ، ويجذبونه بجمّته (مجتمع شعر الرأس.)
وكان ذا شعر كثير. يقول سعد : فواللّه إنّي لفي أيديهم إذ طلع عليّ
نفرٌ من قريش فيهم رجلٌ وضيء أبيض ، طويل القامة ، فقلت في نفسي : إن يكُ عندَ
أحد من القوم خير فعند هذا. قال : فلما دنى منّي رفع يده فلكمني
لكمةً شديدةً. فقلتُ في نفسي : لا واللّه ، ما
عندهم بعد هذا من خير. قال : فواللّه إنّي لفي أيديهم
يسحبونني إذ رقّ عليَّ رجلٌ كان معهم : فقال : ويحك أما بينك وبين أحد من قريش
جوارٌ ولا عهدٌ؟ قلت : بلى كنتُ اُجير لجير بن مُطعِم
بن عدي تجارةً ، وأمنعهم ممن أراد ظلمهم ببلادي. فذهب ذلك الرجلُ إلى مُطعِم وأخبره
بما فيه سعد بن عبادة من الحال ، وأنه أخبره بأنه كان يجير لمطعم تجارة فقال
مُطعِم : صدق واللّه إنه كان ليجير لنا تجارة ، ويمنعهم أن يُظلموا ببلدة ثم
أسرع إلى سعد وخلّصه من أيديهم. وكان رفقاء سعد من المسلمين قد علموا
بوقوعه في أيدي قريش في أثناء الطريق إلى المدينة ، فعزموا على أن يعودوا إلى
مكة ويخلّصوه من أيدي المشركين ، وبينما هم كذلك إذ بدى لهم « سعد » من بعيد ،
وأخبرهم بما جرى عليه (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 449 و 450.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
تأثير الإسلام
ونفوذه المعنوي :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
يصرُ المستشرقون على
أن انتشار الإسلام ونفوذه في المجتمعات ثمّ بواسطة السيف
وفي ظلّ استخدام القوّة. اما بطلان هذا الكلام
فسيثبت من خلال الحوادث القادمة. ونحن نذكر هنا للمثال حادثةً وقعت
قبل الهجرة ، ونلفت اليها نظر القارئ الكريم ، فان دراستها والتعمق فيها يثبت
بجلاء ان انتشار الإسلام ونفوذه في أوساط الناس كان في بداية الأمر نابعاً من
جاذبيته الّتي كانت تجذب كل انسان بمجرد اعطاء شرح مختصر عنه وعن تعاليمه
المحببة إليه. واليك الحادثة بنصها :
قرر مصعب بن عُمير المبلّغ والداعية
الاسلامي المعروف الّذي بعثه رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
إلى المدينة بطلب من اسعد بن زرارة ، ذات يوم أن يدعو هو واسعد أشراف المدينة
وساداتها إلى الإسلام بالمنطق والدليل فدخلا حائطاً (بستاناً.)
من حوائط المدينة فجلسا هناك واجتمع اليهما رجال ممن اسلم ، وكان سعد بن معاذ
واسيد بن حضيرو هما من سادات بني الاشهل موجودين هناك أيضاً. فقال سعد لا سيد :
جرّد حربتك وقل لهذين ( يعني مصعبا واسعد ) ماذا جاء بهما إلى ديارنا يسفهان
ضعفاءنا ، ولو لا أن سعد بن زرارة ابن خالتي ، لكفيتُك ذلك. ففعل اُسيد ذلك وقال لمصعب ما جاء
بكما الينا تسفّهان ضعفاءنا وراح يشتمهما فقال له مصعب داعية الإسلام الحكيم ،
والمتكلم البليغ الّذي تعلّم اسلوب الدعوة المؤثر من رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
: أو تجلس فتسمع ، فان رضيت أمراً قبلته ، وان كرهته كفَّ عنك ما تكره؟ قال : أنصفتَ ثم ركّزَ حربته وجلس
إليهما يستمع لقولهما فكلّمه مصعبٌ بالاسلام ، وقرأ عليه شيئاً من القرآن فأثّرت
آياتُ القرآن وما قاله مصعب من المواعظ البليغة في نفسه حتّى عُرِفَ ذلك في
إشراق وجهه ، وانفراج اساريره ، وشوقه فقال : ما احسن هذا الكلام واجمله؟! كيف تصنعون
إذا اردتم أن تدخلُوا في هذا الدين؟ فقال مصعب وسعد له : تغتسل فتطهر وتغسل
ثوبيك ثم تشهد شهادة الحق ثم تصلي. فقام اسيد بن حضير الّذي حضر لقتل
مصعب وسعد من عندهما مبتهجاً مسروراً فاغتسل وطهر ثوبيه وتشهّد شهادة الحق ثم
قام فركع ركعتين. ثم قال لهما : ان ورائي رجلا إن
اَتبعَكما لم يتخلف عنه أحد من قومه وساُرسله إليكما الآن ، ثم أخذ حربته وانصرف
إلى سعد بن معاذ الّذي كان ينتظر عودته على احر من الجمر فلما نظرإليه سعد وقومه
وهم جالسون في ناديهم قال : أحلفُ باللّه لقد جاءكم اسيد بن حضير بغير الوجه
الّذي ذهب من عندكم فلما وقف على النادي قال له سعد ما فعلت؟ قال : كلّمت الرجلين ، فواللّهِ ما
رأيت بهما بأساً ، وقد نهيتُهما ، فقالا : نفعل ما احببتَ ، فغضب سعدٌ لذلك
غضباً شديداً ، وأخذ الحربة من اسيد ، ثم خرج إلى مصعب واسعد ليقتلهما ، فلما
رآهما سعد مطمئنين وقف عليهما متشتماً مهدداً اياهما ، ولكن مصعباً وزميله قابلا
به بمثل ما قابلايه سابقه اسيد ، وجرى له ما جرى له ، فقد فعلت كلمات مصعب في
نفسه فعلتها ، وخضع لمنطقه القوي ، وبيانه الساحِر ، وندم على ما قصد فعله ،
وقال لمصعب نفس ما قاله اسيد واعتنق الإسلام واغتسل وتطهر وصلى ثم رجع إلى قومه
وقال لهم : يا بني عبد الاشهل كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا : سيدنا وافضلنا
راياً وايمننا نقيبةً. قال : فان كلام رجالكم ونسائكم عليّ
حرامٌ حتّى تؤمنوا باللّه وبرسوله فالحمد للّه الّذي اكرمنا بذلك. فلم يُمسِ في دار بني عبد الاشهل
رجلٌ ولا إمرأة إلاّ مسلماً أو مسلمة ، وهكذا أسلم كلُّ قبيلة بني الأشهل قبل أن
يروا النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
وأصبحوا من الدعاة إلى الإسلام والمدافعين عن عقيدة التوحيد ، لا بمنطق القوة
انما بقوة المنطق (إعلام الورى : ص 59 ، بحار الانوار : ج 19 ، ص 10 و 11 ، السيرة
النبوية : ج 1 ، ص 436 و 437.).
ان في التاريخ الاسلامي نماذجَ كثيرة
من هذا القبيل تدل على بطلان وتفاهة ما قاله أو روّجه المستشرقون حول أسباب
تقدّم الإسلام وانتشاره ، فان العامل المعتمدَ في جميع هذه الموارد لم يكن المال
والتطميع ، ولا السلاح والتهديد ، كما ادعى المستشرقون ، وان الذين اسلموا في
هذه الحوادث والوقائع لاهم رأوا رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ولا أنهم التقوا أو اتصلوا به بنحو من الانحاء ، انما كان السبب الوحيد هو :
منطق الداعية الاسلامي القويّ وبيانه الساحر الجذاب ، فهُو الّذي كان يفعل في
النفوس فعله العجيب ، خلال دقائق معدودة ، لا في نفس شخص واحد فحسب ، بل ربما في
نفوس قبيلة بكاملها. اجل انه المنطقُ القوي والكلام
المبرهن والحجة البالغة لاسواها. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
مخاوف قريش
المتزايدة :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد ايقظت حماية اليثربين للمسلمين
قريشاً من غفلتها ونومها العميق مرة اُخرى ، وكانت بيعة العقبة الثانية بمثابة
ناقوس خطر لها فبدأت أذاها وإظطهادها ومضايقتها لهم من جديد ، وتهيأت للعمل على
الحيلولة دون انتشار الإسلام ونفوذه وتقدمه في الجزيرة العربية ، وبلغ ذلك الاذى
مبلغاً عظيماً. فشكى أصحاب رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
إليه ما يلقونه على أيدي المشركين من ضغوط واذى ، واستأذنوه في الهجرة إلى مكان
فاستمهلهم رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ثم قال : « لقد اُخبرت بدار هجرتكم وهي يثرب
فمن اراد الخروج فليخرج إليها » (الطبقات الكبرى : ج 1 ، ص 226.).
وبعد الاذن بالهجرة من قِبَل النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
أخذ المسلمون يخرجون من مكة ، ويتوجهون إلى المدينة شيئاً فشيئاً وبحجج مختلفة
لكي لا تمنعهم قريش من الهجرة. ولم يكن قدمضى على بداية هجرة
المسلمين التدريجية هذه زمان طويل الا وفطن زعماء قريش لسرها ، وخطرها عليهم فاخذوا
يمنعون من اي تنقل وسفر يقوم به المسلمون ، وقرروا ان يعيدوا إلى مكة كلَ من
وجدوه في اثناء الطريق ، كما قرروا ان يحبسوا زوجة كل مسلم يريد الهجرة وله زوجة
قرشية ويمنعوها عنه ، ولكنهم كانوا يتجنبون اراقة الدماء في هذا السبيل ، بل
وكان يقتصر إذاهم على الحبس والتعذيب ولا يتعداهما. ولكن هذه المحاولات الّتي قام بها
زعماء قريش لوقف الهجرة إلى المدينة لم تثمر لحسن الحظ. فقد استطاعت مجاميع كبيرة من
المسلمين النجاة بنفسها من أيدي قريش واللحاق بزملائهم واخوانهم في يثرب حتّى
انه لم يبق في مكة من المسلمين إلاّ رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وعلي عليهالسلام وعدد قليل
من المسجونين ، أو المرضى من المسلمين. وقد زاد اجتماع المسلمين في يثرب من
مخاوف قريش ، وضاعف من قلقها ، ولهذا اجتمع كلُ رؤساء القبائل المكية في «
دارالندوة » اكثر من مرة للتشاور في كيفية القضاء على الإسلام وطُرحت في ذلك
المجلس خطط متنوعة ، واقترحت اُمور كثيرة لتحقيق هذه الغاية ولكنها فشلت برمتها
بتدبير رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وحكمته ، وسياسته الدقيقة. وأخيرا هاجر رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
من « مكة » إلى « المدينة » في شهر ربيع الأول سنة 14 من البعثة. اجل لقد تضاعف قلق قريش منذ أن حصل
محمّد على قاعدة ثانية خارجة عن نطاق هيمنة المكيين وسيطرتهم واصبحوا حيرى لا
يدرون ماذا يفعلون ، لان جميع خططهم للمنع من انتشار الإسلام واتساع رقعته ، قد
باءت بالفشل. لقد أمر رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
أصحابه بالهجرة إلى المدينة والالتحاق بالانصار وقال لهم : « إنَّ اللّه قد
جعل لكم داراً وإخواناً تأمنُون بها » (بحار الأنوار : ج 19 ، ص 26.)
لقد انتهينا من تسجيل حوادث السنوات الثلاث عشرة من البعثة ، وقد
حاولنا ذكر كل ما كان معلوماً مشهوراً من تواريخها ، ولكن لا يمكن اعتبار تواريخ
كل تلك الحوادث اُموراً مقطوعاً بها من هنا ذكرنا الحوادث المثبة في الفصل 24 من
دون ادراج تواريخ لها في الاغلب ولكن حيث أن الوقائع الحادثة بعد الهجرة وقعت في
أوقات معينة معلومة لذلك فاننا سنرفق ذكر كل حادثة بتاريخ وقوعها في الفصول
القادمة.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
حوادث السنة
الاُولى من الهجرة
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
25
قصّة الهجرة
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
كان زعماء قريش ورؤساؤها يجتمعون عند
كل نائبة تنوبهم في « دارالندوة » لحل
المشاكل ومعالجة ما عرض لهم من نائبة من خلال التشاور حولها وتداول الرأي فيها ،
ومن خلال تضافر الجهود على حلها ، ورفعها أو دفعها. وفي السنوات الثانية عشرة ، والثالثة
عشرة من البعثة واجه أهل مكة خطراً كبيراً جدّياً ، فقد حصل المسلمون على مركز
هام ، وقاعدة صلبة في يثرب ، وتعهّد اليثربيون الشجعان بحماية رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
والدفاع عنه ، وكلُ هذا كان من علامات ومظاهر ذلك التهديد الخطير ، الّذي بات
يهدد كيان المشركين والوثنيين والزعامة القرشية. وفي شهر ربيع الاوّل من السنة
الثالثة عشرة من البعثة الّتي وقعت فيه هجرة رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وبينما لم يكن قد بقي من المسلمين في مكة إلاّ رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وعلي وأبوبكر وجماعة قليلة من المسلمين المحبوسين ، أو المرضى ، أو العجزة ،
وكان هؤلاء على أبواب الهجرة ومغادرة مكة إلى المدينة اتخذت قريش فجأة قراراً
قاطعاً وحاسماً وخطيراً جداً في هذا المجال. فقد انعقدت جلسة هامة للتشاور في «
دار الندوة » حضرها رؤساء قريش وزعماؤها وبدأ متكلمهم (وروي انه كان المتكلم : أبوجهل.)
يتحدث عن تجمع القوى والعناصر الإسلامية وتمركزها في المدينة والبيعة الّتي تمت
بين الخزرجيين والأوسيين وبين رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ثم اضاف قائلا : يا معشر قريش إنه لم يكن أحدٌ من
العرب أعَزَّ مِنّا ، نحن أهل اللّه تفد إلينا العرب في السنة مرتين ، ويكرموننا
، ونحن في حرم اللّه لا يطمع فينا طامعٌ ، فلم نزل كذلك حتّى نشأ فينا « محمّد
بن عبد اللّه » فكنّا نسمّيه ( الأمين ) لصلاحه ، وسكونه ، وصدق لهجته ، حتّى
إذا بلغ ما بلغ وأكرمناه ادّعى أنه رسول اللّه ، وأن أخبار السماء تاتيه ، فسفّه
أحلامنا ، وسبّ آلهتنا ، وأفسد شبّاننا ، وفرق جماعتنا ، فلم يرد علينا شيء أعظم
من هذا ، وقد رأيت فيه رأياً ، رأيت أن ندسّ إليه رجلا منّا ليقتله ، فان طلبت
بنو هاشم بدمه (وفي رواية : بديته.)
اعطيناهم عشر ديات. فقال رجلٌ مجهول حضر ذلك المجلس ووصف
نفسه بانه نجدي : ما هذا برأي لأن قاتل محمّد مقتول لا محالة ، فمن هذا الّذي
يبذل نفسَه للقتل منكم؟ فانه إذا قُتِل محمّد تعصّب بنو هاشم وحلفاؤهم من خزاعة
، وإن بني هاشم لا ترضى أن يمشي قاتل محمّد على وجه الارض فيقع بينكم الحروب
وتتفانوا. فقال أبو البختري : نلقيه في بيت
ونلقي إليه قوته حتّى يأتيه ريبُ المنون. فقال الشيخ النجديّ مرةً اُخرى :
وهذا رأيٌ أخبث من الآخر ، لأن بني هاشم لا ترضى بذلك ، فاذا جاء موسمٌ من مواسم
العرب استغاثوا بهم ، واجتمعوا عليكم فاخرجوه. فقال ثالث : نُخرجه من بلادنا
ونتفرّغ نحن لعبادة آلهتنا ، أو قال نرحّل بعيراً صعباً ونوثّق محمّداً عليه
كتافا ، ثم نضربُ البعيرَ بأطراف الرماح فيوشَكُ أن يقطّعه بين الصخور والجبال
إرباً إرباً. فانبرى ذلك النجدي يخطّئ هذا الرأي
أيضاً قائلا : أرايتم إن خلص به البعير سالماً إلى بعض الناس فأخذ بقلوبهم بسحر
بيانه وطلاقة لسانه ، فصبأ (صبأ فلان : اي خرج من دين إلى دين غيره وكانت العرب تسمّي النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
الصابئ لأنه خرج من دين قريش إلى دين الإسلام وتسمي المسلمين : الصباة .. وهو
جمع الصابىء.)
القوم
إليه واستجابت القبائل له قبيلة فقبيلةٌ ، فليسيرنَّ حينئذ اليكم الكتائب
والجيوش فلتهلكنّ كما هلكت اياد ومن كان قبلكم. فتحيّروا وساد الصمت ذلك المجلس ،
وفجأة قال أبو جهل ( وعلى رواية : قال ذلك الشيخ النجدي ) : ليس هناك من رأي
إلاّ أن تعمدوا إلى قبائلكم فتختاروا من كل قبيلة منها رجلا قوياً ثم تسلّحوه
حساماً عَضباً وليهجموا عليه معاً بالليل ويقطعوه إرباً إرباً فيتفرق دمه في
قبائل قريش جميعاً فلا تستطيع بنو هاشم وبنو المطلب مناهضة قبائل قريش كلها في
صاحبهم فيرضون حينئذ بالدية منهم!! فاستحسن الجميعُ هذا الرأي ، واتفقوا
عليه ، ثم اختاروا القتلة وتقرّر ان يقوموا بمهمتهم اذا جنّ الليل وساد الظلام
كل مكان (الطبقات الكبرى : ج 1 ، ص 227 و 228 ، السيرة النبوية : ج 1 ، ص 480
ـ 482.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الإمدادات الغيبية
والعنايات الالهية :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد كان اولئك العتاة الجهلة يتصورن
أن رسالة محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم
المدعومة من قبل اللّه تعالى والمؤيّدة من جانبه سبحانه يمكن ان يقضى عليها
بواسطة هذه الحيل والمكائد ، والخطط والمؤامرات ، ولم يكونوا يدركون أن هذا
النبيّ ـ كغيره من الأنبياء ـ يتمتع بالمدد الالهيّ الغيبي ، وان اليد الّتي حفظت
مشعل الاسلام طوال ثلاثة عشر عاماً في وجه الاعاصير والرياح ، قادرة على افشال
هذه الخطة الاثيمة ، وتعطيل هذه المؤامرة أيضاً. يقول المفسرون :
بعد أن دبّر الكفار ما دبروا نزل ملك الوحي « جبرئيل » ، على رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وأخبره بما حاك ضدّه المشركون من مؤامرة اذ قرأ عليه قول اللّه تعالى : « وَإذْ يَمْكُرُ بكَ الّذينَ كَفَرُوا
ليُثْبِتوكَ أوْ يَقْتُلُوكَ أو يُخْرجُوكَ وَيَمْكُرونَ وَيَمْكُر اللّهُ
وَاللّهُ خَيْرُ الْماكِرينِ » (الانفال : 30. ليثبتوك أي ليسجنوك.).
وعندئذ اُمِرَ رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
بالهجرة من مكة إلى المدينة ، ولكنّ التخلص من أيدي القساة المكلّفين بقتله من
قبل زعماء الوثنيين وبالنظر إلى المراقبة الدقيقة الّتي كانوا يقومون بها لجميع
التحركات ، لم يكن بالأمر السهل وخاصة بالنظر إلى بُعد المسافة بين مكة
والمدينة. فاذا لم يكن رسولُ اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
يخرج من مكة وفق خطة دقيقة صحيحة كان من المحتمل جداً أن يدركه المكيّون في
أثناء الطريق ويقبضوا عليه ويسفكوا دمه الشريف قبل ان يصل إلى أتباعه وأصحابه. ولقد ذكر المفسرون والمؤرخون صوراً
مختلفة لكيفية خروج النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
وهجرته والاختلاف الّذي نلاحظه بين هؤلاء المفسرين والمؤرخين في خصوصيات وتفاصيل
هذه الواقعة مما يقل نظيرة في غيره من الوقائع. وقد استطاع مؤلف « السيرة الحلبية »
أن يُوفّق إلى درجة مّا ، بين المنقولات والمرويات المختلفة ببيان خاص ، ولكنه
لم يوفّق لازالة التناقض والاختلاف فى بعض الموارد في هذا الصعيد. على أنّ الموضوع الجدير بالإهتمام هو
أن اكثر المؤرّخين الشيعة والسنة نقل كيفية هجرة النبيّ ، وخروجه من منزله ، ثم
من مكة بنحو مؤداه إسناد نجاة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
وخلاصه إلى عامل الاعجاز ، وبالتالي فقد اسبغوا عليه صبغة الكرامة ، والمعجزة. في حين أن الإمعان في تفاصيل هذه
القصة يكشف عن أن نجاة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
كانت نتيجة سلسلة من الاجراءات الاحترازية ، والتحسبات ، والتدابير الحكيمة ،
وإن إرادة اللّه تعالى تَعَلّقت بان ينجّي نبيّه الكريم ، عن طريق الأسباب
العادية المألوفة ، وليس عن طريق التدخّل الغيبيّ وإعمال قدرته تعالى الغيبية. ويدل على هذا المطلب أنَّ النبيّ
توسل بالعِلل الطبيعية ، والوسائل والأسباب العادية ( كمبيت شخص في فراش النبيّ
، واختفاء رسول اللّه في الغار وغير ذلك مما سيأتي ذكره ) ، وبهذا الطريق نجّى
رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
نفسه ، وتخلصّ من أيدي اعدائه ، العازمين على إراقة دمه. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ملك الوحي يخبر
رسول اللّه :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد اخبر ملك الوحي « جبرئيل » رسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
بخطة قريش المشؤومة لاغتياله وامره بالهجرة ، وتقرر ـ بغية إفشال عملية الملاحقة
ـ ان يبيت شخصٌ في فراش رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ليتصوّر المشركون أنَّ النبيّ لا يزال في منزله ، ولم يخرج بعد ، وبالتالي
يركّزوا كلّ إهتمامهم على محاصرة البيت ، وينصرفوا عن مراقبة طرقات مكة ،
ونواحيها. ولقد كانت فائدة هذا العمل اي حصر
اهتمام المراقبين ببيت النبيّ انه تسنى لرسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
اغتنام الفرصة والخروج من مكة ، والاختفاء في مكان مّا من دون ان يحس به أحد من
الذين باتوا يراقبون بيته ، ويبغون قتله. والآن يجب أن نرى مَن الّذي تطوَّع
للمبيت في فراش رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم وفدى
النبيّ بنفسه ، ووقاه بحياته؟ ستقولون حتما : إن الّذي سبق جميع
المسلمين إلى الايمان برسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وبقي من بدء بعثته وإلى ذلك الحين يذب عنه ، هو الّذي يتعيَّن أن يضحّي بنفسه في
هذا السبيل ، ويقي رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
بحياته في هذه اللحظة الخطيرة ، وهذا المضحّي بحياته ونفسه ، هو « عليّ » ليس
سواه احد ، انه تقدير صحيح ، وحدس مصيب. فليس غير « علي » يصلح لهذه المهمة
الخطيرة. ولهذا قال رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم لعليّ عليهالسلام : « يا عليّ إنَّ قريشاً اجتمعت عَلى
المكر بي وقتلي ، وإنّه اُوحيَ إليّ عن ربّي أن اهجرَ دار قومي ، فنُم عَلى
فراشي والتحف ببردي الحضرميّ لِتُخفي بمبيتك عَليهم أثَري فما أنت قائل وصانع؟؟ فقال علي عليهالسلام
أوْ تَسلَمَنَّ بِمَبيتي هناك يا نبيَّ اللّه؟ قال : نعم ، فتبسّم عليّ عليهالسلام
ضاحكاً مسروراً وأهوى إلى الأرض ساجداً ، شكراً لما أنبأه رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
من سلامته ، فلما رفع رأسه قال للنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
: إِمض لما اُمرتَ فِداك سمعي وبصري وسويداء
قلبي ، ومُرني بما شئتَ اكن فيه كمسرّتك ، واقع فيه بحيث مرادك ، وإن توفيقي
إلاّ باللّه. ثم رقدَ عليّ عليهالسلام
على فراش رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
واشتمل ببرده الحضرمي الاخضر ، ولما مضى شطرٌ من الليل حاصرَ رَصَدُ قريش ـ وهم
اربعون رجلا ـ بيت رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وقد جرّدوا سيوفَهم ، ينتظرون لحظة الهجوم على النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
ويتطلّعون إلى داخل البيت من فرجة الباب بين الحين والآخر ليتأكدوا من بقاء رسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
في مضجعه ، فيظنون أنَّ النائمَ فى الفراش هو النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وهنا أراد النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
أن يخرج من بيته. فمن جانب يحاصر الأعداءُ بيته صلىاللهعليهوآلهوسلم
من كل جانب ، ويراقبون كلّ شيء ، ومن جانب آخر تعلّقت مشيئة اللّه تعالى وارادته
القاهرة الغالبة أن ينجو رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
من ايدي تلك الزمرة المنحطة ، فقرأ رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
سورة ( يس ) لمناسبة مطلعها لظروفه حتّى بلغ إلى قوله تعالى : « فهم لا يبصرون »
(يس : 9.)
وخرج من باب البيت دون ان يشعر به رصدُ قريش المكلّفون بقتله ، وذهب إلى المكان
الّذي كان من المقرر ان يختبيء فيه على النحو الّذي سيأتي تفصيله. وأما كيف استطاع رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ان يخترق الحصار البشريَ المشدَّد الّذي ضُرِبَ على بيته ، ويتجاوز رصدَ قريش من
غير ان يشعروا به فذلك غير معلوم جيداً. إلاّ أنه يستفاد من رواية نقلها
المفسرُ الشيعيُ المعروفُ المرحومُ عليُ بن ابراهيم في تفسيره : قول اللّه تعالى
: « وَإذْ يَمْكُرُ بِك الذين
كَفَرُوا » ان رجال قريش كانوا نياماً ينتظرون
الفجر عند خروج رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ولم
يكونوا يتصوّرون أن رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم قد عرف
بتدبيرهم ومؤامرتهم. ولكن يصرّح غيره من المؤرّخين
وكُتّاب السيرة (الطبقات الكبرى : ج 1 ، ص 228 ، تاريخ الطبري : ج 2 ، ص 100.)
بان
المحاصرين لمنزل النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم كانوا
يقظين حتّى لحظة الهجوم على بيت رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم وان النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
خرج من البيت عن طريق الاعجاز والكرامة من دون ان يروه ويحسوا به. إن امكان وقوع مثل هذه الكرامة ليس
موضع شك ، ولكن هل كان هناك ما يوجب ذلك؟؟ ان دراسة قصة الهجرة بصورة كاملة
تجعل هذه المسألة أمراً قطعياً وهي أنَّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم كان عارفاً بمؤامرة القوم قبل محاصرة
بيته ، وكان قد دبّر ورسم لنجاته خطةً طبيعيةً عاديةً ، ولم يكن في الأمر اي
اعجاز. لقد كان يريد صلىاللهعليهوآلهوسلم
باضجاع علي عليهالسلام في فراشه
أن ينجو بنفسه من أيدي المشركين من الطرق العادية والقنوات الطبيعية من غير
الاستعانة بالاعجاز والكرامة. وعلى هذا كان في مقدور النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
ان يتحسب لمسألة المحاصرة والطوق الّذي كان سيُضرَب على بيته من أوائل الليل ،
وذلك بمغادرة بيته قبل المحاصرة وقبل الغروب. ولكن يمكن ان يكون لتوقّف النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
في البيت حتّى ساعة المحاصرة علة لا نعرفها الآن. من هنا يكون إدّعاء هذا الموضوع ( وهو خروج النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم من البيت في الليل )
غير مقطوع به لدى الجميع لاعتقاد البعض بان رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
غادر منزله قبل فرض الحصار عليه ، وقبل غروب الشمس
(السيرة الحلبية : ج 2 ، ص 29.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إقتحام الاعداء
لبيت الوحي :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
طوّقت قوى الكفر مهبط الوحي وبيت
الرسالة وباتت تنتظر لحظة الإذن في إقتحامه ، والهجوم على النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
في فراشه وضربه وتقطيعه بالسيوف إرباً إرباً! وقد أصرّ جماعة منهم أن ينفّذوا
خطتهم المشؤومة هذه في منتصف الليل وقبل الفجر فمنعهم أبو لهب من ذلك وقال : لا
أدعكم أن تدخلوا عليه بالليل ، فإنَّ في الدار صبياناً ونساءً من بني هاشم ، ولا
نأمن أن تقع يدٌ خاطئة ، فنحرسه الليلة ، فإذا أصبحنا دخلنا عليه. وربما يقال أن علّة التأخير هي أنهم
أرادوا أن يقتلوا رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
عند الصباح أمام أعين بني هاشم حتّى يروا أن قاتله جماعة وليس واحداً. وانقشع الظلام شيئاً فشيئاً ، وانفجر
الصبحُ ، ودبّ في المشركين شوقٌ غريبٌ ، مع اقتراب ساعة الصفر ، فقد كانوا
يتصوّرون بأنهم سينالون ما يريدون قريباً ، وبينما هم ينتضون سيوفهم دخلوا حجرة
رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وبينما هم يهمّون بأخذ من كان راقداً في الفراش بسيوفهم ، إذا بهم يواجهون علياً
عليهالسلام يثب في وجوهم وهو يكشف
عن نفسه برد رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
الأخضر ، وقال لهم في منتهى الطمأنينة والشجاعة : ما شأنكم؟ وماذا تريدون؟؟ فقالوا له بغضب : أين محمّد؟ فقال عليهالسلام
: اَجَعَلتموني عليه رقيبا؟! فغضِبَ القوم غضَباً شديداً ، وكاد
الغيظ يخنقهم ، فقد ندموا على إنتظارهم انفجار الصبح وحمّلوا أبا لهب الّذي
منعهم من تنفيذ الهجوم على النبيّ في منتصف الليل فشل الخطة وتفويت الفرصة ،
فاقبلوا عليه يلومونه ويوبخونه!! أجل لقد انزعجت قريش بشدة لفشل هذه
المؤامرة ، ووجدوا انفسهم أمام هزيمة نكراء بدّدت كلّ أحلامهم ، وحيث أنهم كانوا
يتصوّرون بأن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
لا يستطيع الخروج عن حدود مكة في مثل تلك المدة القصيرة فهو إما مختبئ في مكة ،
أو أنه لا يزال في طريق المدينة ، لذلك أقدموا فوراً على العمل على ترتيب أمر
ملاحقته والقبض عليه. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
النبيُّ في غار ثور
:
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ان ما هو مسلّم به هو أن رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
أمضى هو وأبوبكر ليلة الهجرة وليلتين اخريين بعدها في غار ثور الّذي يقع في جنوب
مكة في النقطة المحاذية للمدينة المنورة (حيث ان الطريق المؤدي إلى المدينة تقع في شمال مكة ، فاختبأ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم في منطقة مقابلة أي في اسفل
مكة ، ليعمي بذلك على قريش فلا يتبعوا أثره.).
وليس من الواضح كيف تمت هذه المصاحبة
والمرافقة ولماذا ، فان هذه المسألة من القضايا التاريخية الغامضة. فان البعض يعتقد بان هذه المصاحبة
كانت بالصدفة ، فقد رأى رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
أبابكر في الطريق ، فاصطحبه معه إلى غار ثور. وروى فريق آخرٌ أن رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ذهب في نفس الليلة إلى بيت أبي بكر ، ثم خرجا معاً في منتصف الليل إلى غار ثور (تاريخ الطبري : ج 2 ، ص 100.).
وقال فريق ثالث : أن أبابكر جاء هو
بنفسه يريد النبيّ وكان صلىاللهعليهوآلهوسلم
قد خرج من قبل فأرشدهُ « عليّ » إلى مخبأ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وعلى كل حال فان كثيراً من المؤرخين
يعُدّون هذه المصاحبة من مفاخر الخليفة ومناقبه ، ويذكرون هذه الفضيلة ويتحدثون
عنها بكثير من الاسهاب والاطناب ، وبمزيد من الاكبار والاعجاب. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قريش تفتش عن
النبيّ :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد تسبب فشل قريش في تغيير خطتها ،
فقد بادرت إلى بث العيون والجواسيس في طرقات مكة ، ومراقبة مداخلها ومخارجها
مراقبةً شديدةً ، وبعثت القافّة تقتص أثره في كل مكان ، وفي طريق مكة ـ المدينة
خاصة. ومن جانب آخر جعلت مائة ابل لمن يأخذ
نبي اللّه ، ويردّه عليهم أو يأتي عنه بخبر صحيح. وعمد جماعةٌ من قريش إلى ملاحقة رسول
اللّه والتفتيش عنه في شمال مكة ، حيث الطريق المؤدي إلى المدينة ، على حين أن
رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
كان قد اختبأ ـ كما قلنا ـ في نقطة بجنوب مكة لافشال عملية الملاحقة. وتصدت مجموعة اُخرى لتتبع أثر قدم
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
ورفيقه!! وكان الّذي يقفو لهم الأثر يدعى أبا
مكرز فوقف بهم على باب حجرة رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
فقال هذه قدم محمّد ، فما زال بهم حتّى أوقفهم على باب الغار فانقطع عنه الأثر
فقال : ما جاوز محمد ومن معه هذا المكان ، إما أن يكونا صعدا إلى السماء أو دخلا
تحت الأرض ، فان بباب هذا الغار ـ كما ترون عليه ـ نسجُ العنكبوت والقبجة حاضنة
على بيضها بباب الغار (الطبقات الكبرى : ج 1 ، ص 229 تاريخ الخميس ، ج 1 ، ص 327 ـ 328
وغيرها ، ولقد ذكر عامة المؤرخين هذه الكرامة هنا ، ولا ينبغي ـ نظراً لما
ذكرناه في قصة الفيل وهلاك ابرهة وجنده بواسطة الابابيل ، تأويل مثل هذا
الكرامات.)
،
فلم يدخلوا الغار. ولقد استمرت هذه المحاولات بحثاً عن
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
ثلاثة أيام بلياليها ولكن دون جدوى ، فلما يئس القوم بعد ثلاثة ايام من السعي
تركوا التفتيش وكفوا عن الملاحقة. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
التفاني في سبيل
الحق :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ان النقطة المهمة في هذه الصفحة من
التاريخ هي ما قام به علي عليهالسلام من
تفان في سبيل الحق ، والحقيقة. إن التفاني في سبيل الحق من شيمة
الرجال الذين أحبّوا الحق وعشقوه بكل وجودهم وكيانهم. إن الذين يغضون نظرهم عن كلّ شيء من
أشياء الدنيا ويضحُّون بالنفس والمال والشخصية ، ويستخدمون كل طاقاتهم المادية
والمعنوية في سبيل خدمة الحق ، واحيائه ، واقامته هم ولا شك من عشاق الحق
والحقيقة الصادقين. انهم يرون كمالهم وسعادتهم في هدفهم
، وهذا هو الّذي يدفعهم إلى أن يصرفوا النظر عن الحياة العابرة ، والعيش الموقت
، ويلتحقوا بركب الحياة الواقعيّة الأبدية. إنّ مبيت عليّ عليهالسلام
في فراش رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
في تلك الليلة الرهيبة لَنمُوذجٌ بارزٌ من هذا الحبّ الحقيقيّ للحق ، والعشق
الصادق للحقيقة ، فان الدافع وراء التطوّع لمثل هذه المهمة الخطيرة لم يكن إلاّ
حبّ « عليّ » لبقاء الإسلام الّذي يكفل سعادة المجتمع ، ويضمن ازدهار الحياة ،
لا غير. إن لهذه التضحية والتفاني من القيمة
العظمى بحيث مدحها اللّه تعالى في كتابه العظيم ، ووصفها بأنها كانت تضحية صادقة
لكسب مرضاة اللّه ، فان الآية التالية نزلت ـ حسب رواية اكثر المفسرين ـ في هذا
المورد : « وَمِنَ
النّاسِ مَنْ يَشْري نَفْسَهُ ابْتِغآء مَرْضاتِ اللّهِ وَاللّهُ رؤوفٌ بِالْعِباد
» (البقرة : 207.).
ان عظمة هذه الفضيلة واهمية هذا
العمل التضحويّ العظيم دفعت بكبار علماء الإسلام إلى اعتبارها واحدة من أكبر
فضائل الامام علي عليهالسلام
وإلى أن يَصِفُوا بها علياً بالفداء والبذل والايثار ، وإلى أن يعتبروا نزول
الآية المذكورة في شأنه من المسلّمات كلّما بلغ الحديث في التفسير والتاريخ
اليها (ـ مسند احمد : ج 1 ، ص 87 ، وكنز العمال : ج 6 ، ص 407 ، وقد نقل
كتاب الغدير : ج 2 ، ص 47 ـ 49 طبعة لبنان مصادر نزول هذه الآية في شأن علي عليهالسلام
على نحو التفصيل ، فراجع.).
إنَّ هذه الحقيقة مما لا ينسى أبداً
فانه من الممكن اخفاء وجه الواقع والتعتيم عليه بعض الوقت إلا أنه سرعان ما تمزق
أشعةُ الحقيقة الساطعة حجبَ الاوهام ، وتخرج شمس الحقيقة من وراء الغيوم. إنّ معاداة معاوية لأهل بيت النبوة
وبخاصة للامام أمير المؤمنين عليهالسلام
مما لا يمكن النقاش فيه. فقد أراد هذا الطاغية من خلال تطميع
بعض صحابة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
أن يلوّث صفحات التاريخ اللامعة ويخفي حقائقه بوضع الاكاذيب ، ولكنه لم يحرز في
هذا السبيل نجاحاً. فقد عمد « سمرة بن جندب » الّذي ادرك
عهد رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ثم انضمّ بعد وفاته صلىاللهعليهوآلهوسلم
إلى بلاط معاوية بالشام ، عمد إلى تحريف الحقائق لقاء اموال أخذها من الجهاز
الأموي ، الحاقد على أهل البيت. فقد طلب منه معاوية باصرار أن يَرقى
المنبر ويكذّب نزول هذه الآية في شأن علي عليهالسلام
، ويقول للناس أنها نزلت في حق قاتل عليّ ( أي عبد الرحمان بن ملجم المرادي ) ،
ويأخذ في مقابل هذه الاكذوبة الكبرى ، وهذا الاختلاق الفضيع الّذي أهلك به دينه
مائة ألف درهم. فلم يقبل « سمرة » بهذا العرض ولكن
معاوية زاد له في المبلغ حتّى بلغ اربعمائة ألف درهم ، فقبل الرجل بذلك فقام
بتحريف الحقائق الثابتة ، مسوداً بذلك صفحته السوداء اكثر من ذي قبل وذلك عند ما
رقى المنبر وفعل ما طلب منه معاوية (لاحظ شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد : ج 4 ، ص 73.).
وقبل السامعون البسطاء قوله ، ولم
يخطر ببال أحد منهم أبداً ان ( عبد الرحمان بن ملجم ) اليمنيّ لم يكن يوم نزول
الآية في الحجاز بل لعلّه لم يكن قد وُلِدَ بعد آنذاك. فكيف يصح؟! ولكن الحقيقة لا يمكن ان تخفى بمثل
هذه الحجب الواهية ، ولا يمكن ان تنسى بمثل هذه المحاولات العنكبوتية الرخيصة. فقد تعرّضت حكومة معاوية وتعرض أهلها
وانصارها للحوادث ، واندثرت آثار الاختلاق والافتعال الّذي وقع في عهده المشؤوم
، وطلعت شمس الحقيقة والواقع من وراء حجُبُ الجهل والافتراء مرة اُخرى ، واعترف
اغلبُ المفسرين الأجلّة (شرح نهج البلاغة : ج 13 ، ص 262 ، ولقد أعطى ابن ابي الحديد حقّ
الكلام حول هذه الفضيلة.)
والمحدّثين الافاضل ـ في العصور والادوار المختلفة ، بأن الآية المذكورة نزلت في
« ليلة المبيت » في بذل علي عليهالسلام
ومفاداته النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
بنفسه (سمرة بن جندب من العناصر المجرمة في الحكومة الاموية ، ولم يكتف سمرة
بتحريف الحقائق وقلبها بما ذكرناه ، بل أضاف إلى ذلك ـ حسب رواية ابن ابي الحديد
ـ أمراً آخر أيضاً إذ قال : ونزل في شأن « عليّ » قول اللّه : « وَمِنَ الناس من
يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ في الحَياةِ الدُنيا ويشهدُ اللّه على ما في قلبهِ وَهُو
ألَدُّ الخِصام » ( البقرة : 204 ومن جرائم هذا الرجل انه قتل يوم وُلّيَ البصرة
على عهد زياد بن أبيه العراق ثمانية آلاف ممّن كانوا يحبون أهلَ البيت ويوالونهم
وعندما سأله معاوية : هل تخاف ان تكونَ قد قتلتَ أحداً بريئاً؟ أجاب قائلا : لو قتلتُ
اليهم مثلَهم ما خشيت!! هذا ومخازي هذا الرجل اكثر
من ان تستوعبه هذه الصفحات القلائل. وسمرة هذا هو ذلك الرجل
الصلف الجاف الّذي رد على رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم طلبَه بأن يراعي حقَّ جاره في
قضية النخلة مراراً فقال له رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم : « إنك رجل مضارّ ولا ضرر
ولا ضرار في الإسلام » ولمزيد التوضيح راجع كتب الحديث والتراجم والتاريخ. ).).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
كلام من ابن تيمية
:
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
احمد بن عبد الحليم الحرّاني
الحنبليّ الّذي مات في سجن بدمشق عام 728 من علماء السنّة ، تعود إليه اكثر
معتقدات الوهابيين ، وأفكارهم. ولابن تيمية هذا آراء ومواقف خاصة من
النبيّ الاكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم
وأميرالمؤمنين ، وعامة أهل بيت النبوة ، وقد صرح باكثر آرائه ومعتقداته هذه في
كتابه « منهاج السنة ». وقد دفعت عقائدُه المنحرفة وآراؤه
الضالّة الكثر من علماء عصره إلى تكفيره ، والتبرّي منه. ولابن تيمية رأي عجيب حول هذه
الفضيلة نذكره للقارئ الكريم مع تصرف بسيط في الألفاظ (راجع السيرة الحلبية : ج 2 ، ص 263 وسبعة الجاحظ في العثمانية.).
ومن المؤسف ان يكون قد تأثر بآرائه
بعض السذّج والجاهلين ، فنجدهم يشيعون آراءه في المجتمع من دون تحقيق فيما قال ،
ومن دون مراجعة ذوي الاختصاص لمعرفة رأيهم في أفكاره ومعتقداته وهم غافلون عن
أنّ مثل هذه الآراء قد صدرت من منحرف وكذّبه بل وكفّره بسببها أهل مذهبه. هذا واليك خلاصة رأيه في فضيلة «
المبيت ». يقول : ان مبيت « عليّ » في فراش
رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
لا تعدّ الأوّل :
إخبار رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
الصادق المصدِّق نفسه ايّاه بذلك إذ قال له في نفس تلك الليلة : « نَمْ في
فِراشي فإنه لا يَخْلُصُ إليكَ شيء تكرَهُهُ »!!. الثاني :
أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
كلّفه بردّ الودائع واداء الامانات الّتي أودعها أهل مكة عند رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
، إلى أصحابها. فعلم ـ من ذلك ـ أنهُ لن يُقتل والا
لكلّفَ رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
الآخرين بها. فعرف « عليٌ » من هذا التكليف أنه لن
يلحقه أذىً في هذه العمليّة وانه سيوفَّق لأداء ما كلّفَهُ به رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم.
الجواب : وقبل أن نجيب عن هذا
الكلام على نحو التفصيل نقول إجمالا : إن ابن
تيميّة بانكاره هذه الفضيلة أثبت فضيلة أعلى لعليّ عليهالسلام
لأنه إمّا كان ايمان عليّ بصدق مقالة الرسول كان ايماناً عادياً ، وإما أن كان
إيماناً قوياً جدّاً ، وكانت جميع اقوال النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
وإخباراته لديه ـ في ضوء ايمانه ـ كالنهار في وضوحه. وعلى الفرض الأوّل لم يكن لعليّ
يقينٌ بنجاته من تلك الواقعة لأنه لا يحصل لمثل هذه الطبقة من الناس ( ولا شك أن
عليّاً ليس منهم حتماً ) يقينٌ من كلام النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
، وحتّى لوقبلوا به في الظاهر ، فانهم سيساورهم القلق ، ولا يفارقهم الاضطراب ،
وإذا هم باتوا في فراشه في لحظات الخطر ، فانه سيبقون فريسة الخوف والوجل وستمرّ
في نفوسهم إحتمالاتٌ كثيرةٌ حول مآل الأمر ومصيره ، وسيتمثل أمامهم شبح الموت
المرعب في كل لحظة وآن. وعلى هذا الفرض لابد
أن يقال : بأنَّ عليّاً عليهالسلام
لم يقدم على هذا الأمر الخطير إلاّ وهو يحتمل الهلاك على أيدي المشركين ، لا أنه
بات وهو يتيقن وأما بناءً على الفرض
الثاني فانه تثبت لعليّ عليهالسلام
فضيلة أعلى واعظم ، لأن ايمانَ الرجل يجب ان يبلغ من القوة والكمال بحيث لا
يفرّق بين صدق كلام النبيّ وبين وضوح النهار أي أنهما يكونان عنده بمنزلة سواء. ولا شك ان أهمية مثل هذا الايمان لا
يمكن أن يعادِلها شيء. ونتيجة هذا الايمان هي أن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
عند ما قال له : نَم في فراشي فلن يصيبك من هجوم الاعداء الحاقدين مكروهٌ ، أن
ينام في فراش النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
بقلب واثِق بالسلامة ، ونفس مطمئنّة إلى النجاة ، ومن دون أن يخالج نفسَهُ أقل
إحتمال للخطر. ولو كان مراد ابن تيمية
من قوله : ان عليّاً كانَ واثقاً من سلامته ، لأن الصادق
المصدَّق أخبره بذلك هو : إثبات أعلى درجات الإيمان لعليّ عليهالسلام
فقد اثبت له عليهالسلام من حيث لا
يشعر اكبر فضيلة ، وأعلى منقبة ، وهي كمال الايمان والثقة برسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وأخباره. هذا هو الجواب
الاجمالي واليك الجواب التفصيلي : |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الجواب التفصيلي :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
فنقول عن الدليل الأول
:
إن عبارة « لا يخلص اليك شيء تكرهه » لم ينقلها بعض أرباب السيرة ورجال علم
التاريخ الذين لهم سابقة لا تنكر في هذا الصعيد (مثل مؤلّف الطبقات الكبرى : ج 1 ، ص 227 و 228 المولود عام 168
والمتوفى عام 230 ، وكذا المقريزي في امتاع الاسماع ، عند ذكرهم لتفاصيل قضية
المبيت.).
نعم روى ابن الاثير المتوفى عام 630 (التاريخ الكامل : ج 2 ، ص 72.)
،
والطبري المتوفى عام 310 (تاريخ الطبري : ج 2 ، ص 99.)
هذه
العبارة وكأنّما قد أخذاها عن ابن هشام في سيرته (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 483.)
الّتي
نقل فيها تلك العبارة بالصورة المتقدمة الذكر ، خاصة أنّ عبارة ذينك المؤلّفين (
الطبري وابن الأثير ) تطابق عبارة ابن هشام في هذا المجال تماماً. هذا مضافاً إلى أنّ القضية لا توجد
بهذه الصورة في مؤلفات علماء الشيعة على ما نعلم. ولقد نقل شيخُ الطائفة الامامية
محمّد بن الحسن الطوسيّ المتوفى عام 460 في أماليه قصة الهجرة بشكل اكثر تفصيلا
ودقة ، وذكر العبارة المذكورة مع تغيير بسيط ، الاّ أنه تختلف صورة القضيّة مع
ذلك عما هي عليه في كتب أهل السنة ، فانه رحمهالله
يصرّح بان عليّاً عليهالسلام
انطلق هو و « هندبن أبي هالة » ابن خديجة وربيب رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
في منتصف الليل بعد ليلتين من الهجرة حتّى دخلا على النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم
لعليّ : « إنّهم لن يَصِلُوا مِنَ الآن إليك
يا علي بأمر تكرهه حتّى تقدم عليّ » (الأمالي : ج 2 ، ص 84.).
وهذه الجملة تشبه الجملة الّتي ذكرها
ابن هشام والطبري وابن الأثير ، ولكن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
قالها لعليّ عليهالسلام مطمئِناً
إِياه بعد ليلتين من المبيت في الفراش ، وليس ليلة المبيت كما يروي الثلاثة
المذكورون. هذا علاوة على أنّ
كلام علي نفسه خير شاهد على ما نقول : فلقد عدّ عليّ عليهالسلام
عمله هذا ( أي المبيت في فراش رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
في تلك الليلة الرهيبة ) نموذجاً من بذله وتفانيه في سبيل الحق كما يتضح ذلك
بجلاء من اشعاره حيث يقول :
المصدر السابق وغيره ، هذا
مضافاً إلى أنَّ الامام عليهالسلام نفسه قد استنشد المسلمين مراراً بهذه
القضية مستدلا بها على تفانيه في سبيل الإسلام. ومع هذه العبارات الصَريحة لا مجال للاعتماد
على قول ابن هشام الّذي تدل قرائنُ كثيرةٌ على خطأه ، ويُحتمل ، احتمالا قوياً ،
بأن اشتباهه وخطأه قد نشأ من تلخيصه لسيرة ابن اسحاق ، وحيث أنه ( ونعني ابن
هشام ) قد بنى في سيرته على الاختصار لذلك اكتفى بنقل أصل العبارة ، مهملاً ظرف
النطق بها لعدم أهمية زمن النطق بها وأنها قيلت في الليلة الثانية أوالثالثة ،
في نظره ، وروى الموضوع بنحو يوهم بان جميع هذه الامور وقعت في ليلة واحدة!! ويؤيد رأينا هذا أيضاً الحديث
المعروف الّذي رواه كثيرٌ من علماء السنة والشيعة وهو : أن اللّه أوحى إلى
جبرئيل وميكائيل عليهماالسلام
أنّي قد آخيت بينكما وجعلت عمر احدكما أطول من عمر صاحبه فأيكما يؤثر أخاه. وكلاهما كره الموت ، فاوحى اللّه
إليهما : عبداي ألا كنتما مثل وليي « عليّ » آخيت بينه وبين « محمّد » نبيي
فآثره بالحياة على نفسه؟ أو قال : قد نام على فراشه يقيه بمهجته. ثم أمرهما بالهبوط إلى الأرض وحراسة
عليّ وحفظه من عدوه (بحار الأنوار : ج 19 ، ص 39 نقلا عن احياء العلوم للغزالي.).
واما الدليل الثاني الّذي يستفيد منه
ابن تيمية أن عليّاً كان يعلم بمصيره هو توصية النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
له بأداء الامانات والودائع إلى أهلها ، الّتي كانت تَكشف عن ان رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
كان يعلم بأنه لن يصلَ إليه مكروهٌ ، ولهذا امره بردّ الودائع والامانات إلى
أصحابها. ولكنّنا نعتقد ان في مقدورنا الحصول
على حلٍّ لهذه المشلكة إذا استعرضنا بقية قصة الهجرة بشكل صريح وكامل. واليك بقيّة قصة
الهجرة. الخطيب وقضية المبيت :
وينبغي أن نختم هذا الفصل بما كتبه
الاستاذ عبدالكريم الخطيب حول مبيت علي عليهالسلام
في فراش رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم حيث قال : لقد دعا رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم عليّاً الهجرة ، وطلب إليه أن يبيت في
المكان الّذي اعتاد الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم
أن يبيت فيه ، وان يتغطى بالبرد الحضرميّ الّذي كان النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم يتغطى به حتى إذا نظر ناظر من قريش
إلى الدار رأى كأنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم نائم في
مكانه مغطى بالبرد الّذي يتغطى به ، وهذا الذي كان من عليّ في ليلة الهجرة إذا
نظر إليه في مجرى الاحداث الّتي عرضت للامام علي في حياته بعد تلك الليلة فانه
يرفع لعيني الناظر أمارات واضحة واشارات دالة على ان هذا التدبير الّذي كان في
تلك الليلة لم يكن أمراً عارضاً بل هو عن حكمة لها آثارها ـ إلى ان قال ـ انه
إذا غاب شخص الرسول كان علىٌ هو الشخصية المهيّأة لأن تخلفه وتمثّل شخصه وتقوم
مقامه ، حين نظرنا إلى عليّ وهو في برد الرسول وفي مثوى منامه الّذي اعتاد أن
ينام فيه فقلنا : هذا خَلَفُ الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم والقائم
مقامه (راجع كتاب علي بن أبي طالب بقيّة النبوّة وخاتم الخلافة ، ص 103 ـ
105 ملخّصاً.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
بقية قصةِ هجرةِ
النبيّ :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
انتهت المراحلُ الاُولى لنجاة رسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وفق تخطيط صحيح ، بنجاح ، فقد لجأ رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم في منتصف اللّيل إلى غار ثور ، واختبأ
فيه ، وبذلك أفشل محاولة المتآمرين عليه. ولقد كان رسول اللّه
صلىاللهعليهوآلهوسلم
طوال
هذا الوقت مطمئناً لا يحسُّ في نفسه بأيّ قلق أو إظطراب ، حتّى انه طمأن رفيقَ
سفره عندما وجده مضطرباً في تلك اللحظات الحساسة بقوله : « لا تَحْزَنْ اِنَّ اللّه مَعَن
» (التوبة
: 40.).
وبقي هناك ثلاث ليال محروساً بعين
اللّه تعالى ومشمولا بعنايته ولطفه ، يقول ابن الاثير : كان
عبد اللّه بن ابي بكر يتسمَّع لهما بمكة نهاره ثم يأتيهما ليلا ، وكان يرعى غنمه
نهاره على مقربة من الغار ، وكان إذا غدا من عندهما عفى على أثر الغنم (الكامل في التاريخ : ج 2 ، ص 73 مع تصرف.).
يقول الشيخ الطوسي في
أماليه : عند ما دخل علي عليهالسلام
وهند على رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
في الغار ( بعد ليلة الهجرة ) أمر رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
عليّاً أن يبتاع بعيرين له ولصاحبه ، فقال أبو بكر : قد كنتُ أعددت لي ولك يا
نبي اللّه راحلتين نرتحلهما إلى يثرب. فقال رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم : إني لا آخذهما ولا أحدهما إلاّ
بالثمن. ثم أمر صلىاللهعليهوآلهوسلم
عليّاً عليهالسلام فدفع إليه
ثمن البعيرين (ـ أمالي الشيخ : ج 2 ، ص 82.).
وكان من جملة وصايا رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
لعليّ عليهالسلام في الغار
في تلك الليلة ان يؤدي أمانته على أعين الناس ظاهراً وذلك بأن يقيم صارخاً
بالابطح غدوة وعشياً : ألا من كان له قبل محمّد أمانة أو وديعة فليأت فلنؤدِ
إليه أمانته (الكامل : ج 2 ، ص 73. السيرة الحلبية : ج 2 ، ص 53.).
ثم أوصاه صلىاللهعليهوآلهوسلم
بالفواطم ( والفواطم هن : فاطمة الزهراء بنت رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم الحبيبة لديه ، والأثيرة عنده ،
وفاطمة بنت أسد اُمّ عليّ عليهالسلام
وفاطمة بنت الزبير ومن يريد الهجرة معه من بني هاشم ) ، وأمره بترتيب أمر
ترحيلهم معه إلى يثرب وتهيئة ما يحتاجون إليه من زاد وراحلة. وهنا قال صلىاللهعليهوآلهوسلم عبارته الّتي تذرَّع بها ابن تيمية
في دليله الأول : « انهم لن يصلوا من الآن اليك يا عليّ بامر تكرهه حتّى تقدم
عليَّ ». فالملاحظ للقارئ هو
أن رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
إنما قال هذه العبارة عندما أمره باداء أمانته ، وذلك بعد انقضاء قضية ليلة
المبيت. أي انه أمر علياً بذلك
، وقال له تلك العبارة وهو يتهيّأ للخروج من غار ثور. يقول الحلبي في سيرته : « وصى رسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
في احدى الليالي وهو بالغار علياً رضي اللّه عنه بحفظ ذمته واداء امانته ظاهراً
على اعين الناس » (السيرة الحلبية : ج 2 ، ص 35.).
وثم ينقل عن مؤلف كتاب « الدر » ما
يقتضي انه اجتمع به عند خروجه من الغار. وخلاصة القول : انه
مع رواية شيخ جليل من مشائخ الشيعة الامامية كالشيخ الطوسي بالاسناد الصحيحة أن
الأمر بردّ الودائع والامانات صدر من جانب النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى عليّ عليهالسلام
بعد ليلة المبيت لا يحقّ لنا أن نعارض هذا النقل الصحيح ، ونعمد إلى الهاء
العامة بالتوافه ، وأما رواية مؤرخي اهل السنة هذا المطلب بشكل آخر يوحي ظاهرُه
بأن جميع وصايا النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
لعليّ تمت في ليلة واحدة هي ليلة الهجرة ( ليلة المبيت ) فقابلٌ للتفسير
والتوجيه ، لأنه لا يبعد أن عنايتهم كانت مركزة على رواية أصل الموضوع ، ولم يكن
لظرف صدور هذه الوصايا والأوامر ووقت بيانها اهمية عندهم. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الخروج من الغار :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
هيّأ علي عليهالسلام
بأمر النبيّ ثلاث رواحل ودليلا امينا يدعى أريقط ليترحلوها إلى المدينة ،
ويدلّهم الدليل على طريقها وأرسل كل ذلك إلى الغار. ولما سمع النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم رغاء البعير أو نداء الدليل نزل هو
وصاحبه من الغار وركبا البعيرين وتوجها من أسفل مكة إلى « يثرب » سالكين إلى ذلك
الخط الساحلي ، وقد جاء ذكر المنازل الّتي مرّا بها في السيرة النبوية لابن هشام
(السيرة النبوية لابن هشام : ج 1 ، ص 491.)
وفي
الهوامش المثبتة على التاريخ الكامل لابن الاثير (الكامل في التاريخ : ج 2 ، ص 75.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
صفحةُ التاريخ
الاُولى :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
اجل لقد حلّ الظلام في كل مكان ،
ولملمت الشمس اشعتّها الذهبية من هذا الوجه من الكرة الأرضية لتوجّهها إلى الوجه
الاخر منها. وعاد جماعة من رجال قريش الذين سلكوا
كل طريق في مكة وضواحيها بحثاً عن النبيّ ، ثلاثة أيام ، بلياليها ، إلى بيوتهم
ومنازلهم متعبين مرهقين ، وقد يئسوا من الئفر بالجائزة ( وهي مائة من الإبل )
الّتي وضعتها سادة قريش جائزةً لمن يأخذ محمّداً أو يدل على مكانه ، واُعيد فتح
طريق مكة ـ المدينة الّتي اُغلقت لهذه الغاية بعد اليأس من الظفر برسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ـ
(تاريخ الطبري : ج 2 ، ص 104.).
وفي هذه اللحظات بالذات بلغ نداء
الدليل الّذي كان يصطحب معه ثلاث رواحل ومقداراً من الطعام ، إلى مسمع رسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ورفيقه وهما في الغار وقد كان يقول بصوت خافت : لابد ان نتخد من ظلام هذا الليل
ستراً ، ونسرع في الخروج من حدود المكيّين ، ونختار طريقاً يقلّ سالكوه ولا
يهتدي إليه أحد. ويبدأ تاريخ المسلمين من العام الّذي
تضمَّن تلك الليلة بالضبط ، وجعل المسلمون يقيسون كل ما يقع من الحوادث بذلك
العام وبذلك يحددون تاريخه وزمان حدوثه. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لماذا أصبح العامُ
الهجريُ مبدأ للتاريخ :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إن الإسلام أكمل الشرائع السماوية
قاطبة ، وقد جاء إلى البشرية بما تتضمنه شريعة موسى وعيسى عليهماالسلام
ولكن بصورة أكمل وبصيغة تطابق وتتمشى مع جميع الظروف والأوضاع. ومع أن السيد المسيح عليهالسلام
وميلاده المبارك يحظى بالاحترام عند المسلمين إلاّ أنّ ميلاده عليهالسلام
لم يُتخَذ لديهم مبدأ للتاريخ ، والتوقيت. وكانت العرب قد جعلت عام الفيل (وهو العام الّذي سيّر فيه أبرهة جيشاً لهدم الكعبة تتقدمة الفيلة. راجع المحبّر : ص 5 ـ 8.) مبدأ
لتاريخها ، وكانت تقيس حوادثها واُمورها إليه فترة من الزمن ، ومع أن رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم كان
قَد وُلِدَ في ذلك العام نفسه ، إلاّ أن المسلمين لم يتخذوه مع ذلك مبدأ للتاريخ
، لأنه لم يكن ينطوي على ما يتصل بقضية الإيمان والإسلام. ولاجل هذا أيضاً لم يتخذوا عام
البعثة مبدء لتاريخ المسلمين أيضاً لأن عدد المسلمين لم يكن يتجاوز في ذلك اليوم
ثلاثة أشخاص ، إِذن فلم يكن في اي واحد من تلك الحوادث ما يعطي مبرراً قوياً
لاتخاذه مبدء للتوقيت والتاريخ ، إذ لابد ان يكون ما يتخذ لذلك قضية مصيرة بالغة
الأهمية. ولكنه في السنة الاولى من الاعوام
الهجرية حقق المسلمون انتصاراً عظيماً وباهراً ، وقد اُسست فيه حكومة مستقلة
وتخلّص المسلمون من التشرذم والتبعثر ، وتمركزت قواهم وعناصرهم في نقطة واحدة ،
وبيئة حرة لا أثرَ فيها للكبت والاضطهاد ، من هنا جعلوا ذلك العام ( أي العام
الّذي تحققت فيه هجرة النبيّ العظيم ) مبدءً لتاريخهم ، واخذوا يقيسون إليه ـ
وحتّى الآن ـ كل ما يحدث ويقع من خير وشر ، لتحديد تاريخ وقوعه. من هنا يكون قد مضى
على عام هجرة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
من مكة إلى المدينة الف واربعمائة وتسعة اعوام. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الهجرة النبوية
مبدأ لتاريخ المسلمين كافة :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ولقد جعل رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
التاريخ الهجريّ بنفسه. وانّ أيَّ إعراض وتجاهل لهذا التاريخ
، واختيار تاريخ آخر مكانه إعراضٌ عن سنة رسول الإسلام الكريم صلىاللهعليهوآلهوسلم
، ومخالفة لما رسمه للمسلمين في هذا المجال. إن وجود تاريخ معين ثابت ( مؤلّف من
السنة والشهر واليوم ) في الحياة الإجتماعية البشرية ، من الاُمور الضرورية
الحيوية بل هو في غاية الضرورة والحيوية ، من أجل أن لا تتوقف عجلة الحياة
الإجتماعية البشرية عن الدوران والحركة بسبب فقدان مقياس زمني ثابت ومعلوم
للامور والحوادث. وتلك حقيقة لا حاجة إلى اقامة
البرهان عليها لأنَّ الاستدلال عليها يكون مثل الاستدلال على الامور البديهية. فهل يكون تنظيم المعاهدات ،
والمواثيق السياسية والعسكرية ، والاتفاقيات ، والعقود الاقتصادية وتحويل وتسديد
السندات والحوالات التجارية ودفع الديون وكتابة الرسائل العائلية من دون ذكر
تاريخ معين فيها أمراً مفيداً؟ كلا حتما ، ودون ريب. فعندما سأل بعض الصحابة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
عن علة اختلاف أشكال القمر ، وانه لماذا يكون هلالا تارة ثم بدراً اُخرى. ثم
يعود إلى سيرته الاُولى هلالا ، نزل الوحيُ الالهي ، يبيّنُ بعض حكمة هذه
الظاهرة الطبيعية إذ قال تعالى : « قل هيَ مواقيت للنّاس » (البقرة : 189 ومطلعها : « يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت ... ».).
أي ان اختلاف اشكال القمر وهيئاته
انما هو لاجل ان يعرف الناسُ به الوقت والتاريخ فيعرفوا في أي يوم من الشهرهم ،
في مبدئه أو منتصفه ، أو منتهاه ، ولكي يعرفوا بواسطة ذلك مواعيد واجباتهم
الشرعية والاجتماعية ، ويعرف الدُّيّان موعد تسلّم دُيونهم ، ويعمَدُ المَدِينون
إلى دفع ما عليهم في وقته ، ويقومَ المؤمنُون بفرائضهم المقيَّدة بالازمنة
والاوقات كالصوم والحج وماشابه ذلك. من هنا لا مجال للنقاش في احتياج كل
اُمة إلى تاريخ معين ثابت محدّد تجعله ملاكاً للتوقيت ، ومداراً لتحديداتها
الزمنية. إنما الكلام هو في ما ينبغي إتباعه
والجري عليه من التواريخ ، وتنظيم المستندات والمكاتبات والمواعيد وفقاً له. وبعبارة اُخرى : إن الكلام إنما هو
في ما ينبغي جعله مبدءً للتاريخ يقاس به كل العُقودِ والاتفاقات من حيث الزمان ،
والتوقيت. فما الّذي يصلح
أوينبغي إتخاذه مبدءً للتاريخ للامة الإسلامية؟ الجواب : إن الاجابة على هذا
السؤال واضحة جداً ، وتلك الاجابة هي : إذا كانت لاُمة من الامم حوادث لامعة
وسوابق مشرقة في حياتها ، وثقافة خاصة بها ، وديناً ومسلكاً مستقلا وشخصيات
علمية وسياسية بارزة ، واحداث ووقائع عظيمة مثيرة ، تبعث على الفخر والاعتزاز ،
ولم تكن كنبتة وحشية نبتت عفواً واعتباطاً من غير قانون ولا جذور كبعض الجماعات
والشعوب الجديدة الظهور الّتي لا ترتكز إلى اُصول ثابتة معلومة. فان على مثل هذه الاُمة أن تتخذ من
أعظم حوادثها الاجتماعية والدينية مبدءً لتاريخها الّذي تقيس ، وتنظم عليه بقية
حوادثها وأعمالها الّتي سبقت تلكم الحادثة العظمى ، أو الّتي وقعت اوتقع بعدها. ومن هنا تكون قد اكسبت شخصيتها
وكيانها قوةً اكبر ، وصانت نفسها من التبعية للشعوب والاُمم الاخرى ، والميعان
والفناء فيها. وإذ لم يكن في تاريخ الاُمة
الإسلامية شخصية أعلى شأناً من شخصية رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
، كما لم يكن هناك حادثة أعظم ، وانفع من حادثة الهجرة النبوية المباركة ، لأن هجرة
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
فتحت ـ في الحقيقة ـ صفحةً جديدةً في حياة البشرية ، فقد خرج رسول الإسلام
واتباعه من بيئة مكة الرازحة تحت الكبت ، إلى بيئة مناسبة حرة مكنّتهم من إحداث
انطلاقة كبرى لم يشهد التاريخُ البشريُ برمّته لها مثلا. فقد استقبل اهلُ المدينة رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ومن هاجر معه من المسلمين إلى يثرب استقبالا حاراً ، ووضعوا تحت تصرّفه كلَّ ما
توفر لديهم من الامكانات والقوى ، فلم يمض زمن إلاّ وتمتع الإسلام بفضل هذه
الهجرة المباركة بتشكيلات سياسية وعسكرية ، واتخذ صورة وشكلَ حكومة قوية لها
وزُنها ، وشأنُها ، وجانبُها المرهوب في شبه الجزيرة العربية ، وسرعان ما نشر
رايته على البسيطة كلها تقريباً ، وأسس حضارةً عظمى لم تر البشرية لها نظيراً. فاذا لم تحدث تلك الهجرة المباركة
المعطاء لقُضي على الإسلام في محيط مكة ، وحُرمَ العالم الانساني من هذا الفيض
العظيم. من هنا ، ولأجل هذا اتخذ المسلمون
هجرة رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
مبدءً لتاريخهم ، ودأبوا على ذلك إلى الآن حيث ينقضي أكثر من ألف وأربعمائة عام
، أي أن هذه الامة الكبرى تركت وراءها إلى هذا اليوم أربعة عشر قرناً من الأمجاد
والمفاخر ، وهي الآن على أعتاب القرن الخامس عشر؟ |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
من الّذي جعل
الهجرة مبدءً للتاريخ؟
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
على العكس مما هو مشهور بين المؤرخين
من أن الخليفة الثاني جعل هجرة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
مبدءً للتاريخ باقتراح وتأييد من الامام أمير المؤمنين علي عليهالسلام وامر بأن
تؤرخ الدواوين ، والرسائل والعهود وما شابه ذلك بذلك التاريخ ، فان الامعان في
مراسلات النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ومكاتباته الّتي هي مدرجة في الأغلب
في كتب التاريخ والسيرة والحديث والسنة ، وكذا غير ذلك من الادلة الّتي سوف
نذكرها في هذه الصفحات يثبت أن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم هو نفسه
أول من اعتمد تلك الحادثة الكبرى كمبدأ للتاريخ ، وكان يؤرّخ رسائله ، وكتبه إلى امراء
العرب ، وزعماء القبائل وغيرهم من الشخصيات البارزة بذلك التاريخ ( أي التاريخ
الهجري ). وها نحن ندرج هنا نماذج من تلك
الرسائل النبوية المؤرخة بهذا التاريخ ، ثم نعمد بعد ذلك إلى استعراض الدلائل
الاُخرى على هذا الأمر ، ونحن نحتمل ان تكون هناك أدلة اُخرى غير ما سنذكره هنا
ـ أيضاً ـ لم نقف عليها. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
نماذج من رسائل
النبيّ المؤرخة :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
1 ـ طلب سلمان من النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
ان يكتب له ولأخيه ( ماه بنداذ ) ولأهله وصية مفيدة ينتفع بها ، فاستدعى رسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
عليّاً وأملى عليه اُموراً ، وكتبها علي عليهالسلام
ثم جاء في آخر تلك الوصية : « وكتب علي بن أبي طالب بأمر رسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
في رجب سنة تسع من الهجرة » (اخبار اصفهان : تأليف ابي نعيم ، ج 1 ، ص 52 و 53.).
2 ـ أدرج المؤرخُ
الشهير « البلاذري » في كتابه « فتوح البلدان » نصَّ معاهدة
رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
مع يهود « المقنا » وذكر أن مصرياً رأى نصَ هذه المعاهدة في جلد أحمر اللون عتيق
وكان قد استنسخَها ، فقرأها لي. ثم نقل البلاذري نص
تلك المعاهدة وقد جاء في نهايتها : « وليس عليكم امير الا من انفسكم أو
من اهل بيت رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وكتب علي بن أبو طالب في سنة تسع » (فتوح البلدان : ص 72.)
ومع أن « أبا طالب » يجب أن يكتب حسب القواعد الادبية في المقام « أبي طالب »
لكونه مضافاً إليه فقد كتب : « علي بن أبو طالب » ولكن مع ذلك ذكر المحققون ان
قبيلة قريش كانت تتلفظ لفظة أب في جميع الموارد ( أي في حالة النصب والرفع
والجرّ ) ب « أبو » وتكتبها كذلك أيضاً ، وقد صرح الاصمعيّ بهذا من بين
الادباء. ويقول البروفيسور « محمّد حميد اللّه
» مؤلف كتاب « الوثائق السياسية » : اني لما كنت في المدينة المنورة في شهر محرم
سنة 1358 وجدت في الكتابة القديمة الّتي في جنوبي جبل سلع في المدينة المنورة «
أنا علي بن أبو طالب » (مكاتيب الرسول : ص 289 ، نقلا عن شرح ملا علي القاري لشفاء القاضي
عياض ، وكذا الوثائق السياسية.).
3 ـ جاء في معاهدة الصلح الّتي نظمها
« خالد بن الوليد » لاهل دمشق ، ونص فيها على احترام دمائهم ، واموالهم وكنائسهم
: « وكتب سنة ثلاث عشرة » (الاموال : طبعة مصر ، ص 297.).
وكلنا نعلم أن دمشق فتحت في أواخر
حياة الخليفة الأوّل. فما يدعيه البعض من ان التاريخ
الهجري قد اتخذ في عهد الخليفة الثاني بارشاد وتأييد من الامام علي عليهالسلام
غير صحيح فان تاريخ ذلك يرتبط بالسنة السادسة عشرة أو السابعة عشرة من الهجرة ،
والحال ان هذه المعاهدة قد نظِّمت ودُوّنت واُرخت بالتاريخ الهجري قبل ذلك بأربع
سنوات. 4 ـ ان كتاب الصلح الّذي كتبه الامام
علي عليهالسلام بأمر رسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
لنصارى نجران مؤرَّخ بالسنة الهجرية الخامسة. فقد جاء في هذه
الرسالة : « وأمر علياً ان يكتب فيه انه كتب
لخمس من الهجرة » (التراتيب الادارية : ج 1 ، ص 181 نقلا عن السيوطي.).
ان هذه الجملة تفيد بوضوح ان النبيّ
الاكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم
هو واضع التاريخ الهجري ومؤسسه الاوّل وهو الّذي أمر علياً عليهالسلام
بان يؤرخ ذلك الكتاب بالتاريخ الهجري في ذيله. 5 ـ جاء في مقدمة الصحيفة السجادية :
قال جبرئيل وهو يفسر رؤيا رآها رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
: « تدور رحى الإسلام من مهاجرك فتلبث بذلك عشر ، ثم تدور رحى الإسلام على رأس
خمس وثلاثين من مهاجرك فتلبث بذلك خمس ، ثم لابد من رحى ضلالة هي قائمة على
قطبها » (مقدمة الصحيفة السجادية ، سفينة البحار : ج 2 ، ص 641.).
6 ـ يروي المحدثون الاسلاميُّون أن رسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
قال لام سلمة : « يُقتَل الحسين بن علي على راس ستين
من مهاجري » (مجمع الزوائد : ج 9 ، ص 190.).
7 ـ قال أنس بن مالك : « حدثنا أصحاب
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
قال : لا تأتي مائة سنة من الهجرة ومنكم عين تطرف »
(تاريخ الخميس : ج 1 ، ص 367.).
8 ـ أرخ أصحاب النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
في ايام حياته الحوادث الإسلامية بهجرته فقالوا : وقع كذا في الشهر كذا من
الهجرة ، مثلا كانوا يقولون : حولت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة في شهر
شعبان ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً أو ثمانية عشر شهراً (نفس المصدر : ج 1 ، ص 368.).
على رأس ثمانية عشر شهراً فرِضَ صوم
شهر رمضان (ـ المغازي : ج 2 ، ص 531 تحقيق الدكتور مارسدن جونس.).
وقال عبد اللّه بن انيس أمير الوفد
الّذي بعثه رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
: خرجت من المدينة يوم الاثنين لخمس
خلونَ من المحرم على رأس أربعة وخمسين شهراً (المغازي : ج 2 ، ص 531.).
وقال محمّد بن سلمة عن غزوة القرطاء
: خرجتُ في عشر ليال خلون من المحرم فغبت تسع عشرة وقدمتُ لليلة بقيت من المحرم
على رأس خمسة وخمسين شهراً (المغازي : ج 2 ، ص 534.).
إنَّ هذا النوع من تاريخ الحوادث
والوقائع يكشف عن ان المسلمين كانوا إلى السنة الخامسة من الهجرة يقيسون الحوادث
بهجرة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ويؤرخون بها عن طريق عدّ الأشهر ، حتّى
إذا كانت السنة الخامسة من الهجرة 9 ـ نقل المحدثون الاسلاميون عن
الزهري قوله : ان رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم لما قدم
المدينة مهاجراً أمر بالتاريخ فكتب في ربيع الأوّل ( اي شهر قدومه المدينة ) (فتح الباري : ج 7 ، ص 208 ، تاريخ الطبري : ج 2 ، ص 288 طبعة دار
المعارف.).
10 ـ روى « الحاكم » عن « ابن عباس »
ان التاريخ الهجري بدأ من السنة الّتي قدم فيها النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
المدينة (مستدرك الحاكم : ج 3 ، ص 13 و 14 وقد صححه على شرط مسلم.).
إن هذه النصوص تحكي عن أنّ قائد
الإسلام الأكبر قد أوضح مسألة التاريخ من اليوم الاول. وانه جعل هجرته مبدأ لذلك
التاريخ. غاية ما هنالك أن هذا التاريخ كان إلى فترة من الزمن يعدُّ بالأشهر ثم
حل العدُّ بالأعوام منذ حلول السنة الخامسة من الهجرة محل العدّ بالاشهر. سؤال : ويمكن ان يسأل سائل : إذا كان حقاً
أن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
هو مؤسس التاريخ الهجري وواضعه الاوّل فماذا نفعل بالخبر الّذي رواه كثيرٌ من
المحدثين والمؤرخين. فانهم يقولون : رفع رجل إلى عمر صكاً
مكتوباً على آخر بدَين يحلّ عليه في شعبان فقال عمر : اي شعبان؟ أمِن هذه السنة
أم الّتي قبلها أم الّتي بعدها؟ ثم جمع الناس ( أي أصحاب رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
) فقال : ضعوا للناس شيئاً يعرفون به حلول ديونهم ... فيقال : أن بعضهم أراد أن
يؤرخوا كما تؤرخ الفرس بملوكهم كلما هلك ملك أرّخوا من تاريخ ولاية الّذي بعده
فكرهوا ذلك. ومنهم من قال : ارخوا بتاريخ الروم
من زمان اسكندر فكرهوا ذلك لطوله أيضاً. وقال آخرون : أرّخوا من مولد رسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وقال آخرون : أرخوا من مبعثه. واشار
علي بن أبي طالب عليهالسلام أن
يؤرخ من هجرته إلى المدينة لظهوره على كل أحد ، فانه أظهر من المولد والمبعث ،
فاستحسن عمر ذلك والصحابة ، فأمر عمر أن يؤرَخ من هجرة رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
(البداية والنهاية : ج 7 ، ص 73 و 74 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي
الحديد : ج 12 ، ص 74. الكامل لابن الاثير : ج 1 ، ص 10.).
الجواب : إنّ هذا القسم من التاريخ لا يمكن
الاستناد إليه في مقابل النصوص الكثيرة الّتي وصفت الرسول العظيم صلىاللهعليهوآلهوسلم
بكونه واضعَ التاريخ الهجري ومؤسسه الأول. هذا مضافاً إلى أنه من الممكن أن
يكون التاريخ الهجري الّذي وضعه النبيّ الكريم صلىاللهعليهوآلهوسلم
قد تعرّض للترك ، وفقد رسميته بمرور الزمن وقلة الحاجة إلى التاريخ ولكن جُدِّد
في زمن الخليفة الثاني ، بسبب اتساع نطاق العلاقات واُعيد الاهتمام به لاشتداد
الحاجة إليه في هذا العهد. التذكير بنقطتين :
1 ـ لا نجد في الاقتراحات الّتي عرضت
على الخليفة في مجال التاريخ أي ذكر للتاريخ المسيحي الّذي يجعل ميلاد السيد
المسيح عليهالسلام مبدءً
للتاريخ. والعلة هي :
أن التاريخ الميلادي ظهر في القرن الرابع الاسلامي بين المسيحيين بعد سلسلة من
المحاسبات التخمينية ، فهو لم يكن رائجاً قبل ذلك. 2 ـ ان البلاد والاقطار الإسلامية
بحاجة اليومَ إلى الوحدة والاتفاق اكثر من اي زمن مضى. ومن مظاهر تلك الوحدة هو السعي
للحفاظ على التاريخ الاسلامي الهجري. ومن هنا يتوجب على الاقطار الإسلامية
ان تقيم كل روابطها ، وعلاقاتها على أساس التاريخ الهجري ، شمسياً كان أو
قمرياً. وان هذا الأمر بحاجة إلى مؤتمر
إسلامي كبير يشترك فيه كبارُ الشخصيات الفكرية الإسلامية من أجل توحيد التاريخ ،
ودراسة السبل الكفيلة بالوصول إلى هذا الأمر ، والتخلّص من التبعية الغربية في
التاريخ. ان
من المؤسف جداً أن تتجاهل بعض الدول الإسلامية والعربية التاريخَ الهجري وتعتمد
التاريخ الميلادي المسيحيّ ، حتّى أن شيخ الجامع الازهر الّذي يشكل قمة القيادة
الدينية في المجتمع السني يؤرخ رسائله بالتاريخ الميلادي ، ولا يذكر إلى جانبه
التاريخ الهجري على الأقل!! (وقد رأيت أنا شخصياً رسالةً من شيخ الجامع الأزهر
الاسبق هو الشيخ محمود عبد الحليم وعليها التاريخ الميلادي فحسب!!)
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
مؤامرة الطاغوت :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وكانت ايران من الاقطار الإسلامية
الّتي حافظت بشدة على التاريخ الهجري ، واعتمدته في اعمالها ، ولكن في المؤامرة
الّتي نفّذت بواسطة الطاغية المقبور في عام 1399 هـ ، استبدلت التاريخ الهجري
بالتاريخ الشاهنشاهي واُعلن في وسائل الاعلام عن وجوب اعتماد هذا التاريخ
المختلَق بدل التاريخ الهجري الاصيل!! ولقد تصوَّر الطاغوتُ الأرعن أنه
يستطيع بحذف التاريخ الهجري ، واستبداله بالتاريخ الشاهنشاهي المشؤوم تثبيت
قواعد حكومته المهزوزة ، وسلطانه المنخور ، ونظامه الظالم المتهرئ ، مدة أطول ،
ولكن العناية الالهية ، وهمة الشعب الإيراني المسلم العالية ، وقيادة الاستاذ
الاكبر آية اللّه العظمى الإمام الخميني قدسسره
الشريف أفشلت هذه المحاولة النكراء ، وآل الأمر إلى اسقاط النظام الشاهنشاهي
بثورة الشعب المجيدة واقامة حكومة الجمهورية الإسلامية على انقاض الحكم الملكي
المباد ، واحلال التاريخ الهجري الاسلامي المبارك محلّ التاريخ الشاهنشاهي
المختلق. والحمد للّه (يستخدم فى ايران تاريخ هجري آخر هو التاريخ الهجري الشمسي وهو ينفع
لمعرفة الفصول وما شاكل ذلك.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
برنامج الرحلة في
حادث الهجرة :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد كان على رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ان يقطع ـ للوصول إلى المدينة ـ ما يقرب من اربعمائة كيلومتراً ، ولا شك أن طيّ
هذه المسافة الطويلة تحت تلك الحرارة العالية الدرجة بحاجة إلى خطة صحيحة ،
لضمان السلامة ، خاصة وانهم كانوا يخافون من أن يقوم الأعراب الذين كانوا ربما
يصادفونهم في اثناء الطريق باخبار قريش بهم ، ولهذا كانوا يسيرون ليلا ويستريحون
نهاراً. ويبدو أن شخصاً شاهد النبيّ ومن معه
في أثناء الطريق فرجع إلى مكة وأخبر قريشاً بذلك فخرج « سراقة بن مالك بن جعشم »
يطلبهم طمعاً في جائزة قريش الكبرى فلحق برسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وقد صرفَ قريشاً عن ملاحقة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
قبل ذلك ليتفرد بها. (التاريخ الكامل : ج 2 ، ص 105.)
يقول ابن الاثير : تبعهم سراقة
فلحقهم فقال أبو بكر : يا رسول اللّه ادركنا الطلبُ ، فقال رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
: « لا تحزن إنَّ اللّهَ معنا ». ثم قال رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
: « اللّهم اكفني شرَّ سُراقة بما شئتَ » فجمح به فرسُه وطرحه أرضاً. فعلم سراقة أن هذا من دعاء رسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ولهذا قال بنبرة المعتذر الملتمس : يا محمّد هذه إِبلي بين يديك فيها غلامي. وان احتجت إلى ظهر ( اي مركوب ) أو
لبن فخذ منه فقد حكّمتك في مالي. فقال رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
: لا حاجة لي في مالك (يذكر كثير من المؤرخين كابن الاثير في الكامل : ج 2 : ص 105.
والمجلسي في البحار : ج 19 ، ص 75 ـ 88 القصة كما نقلناها هنا ، ولكن مؤلف حياة
محمّد يقول : ان سراقة تطيّر لما كبا به فرسُه واُلقي في روعه أن الآلهة مانعة
منه ضالَّته.).
وروى المجلسي ان سراقة قال : فسلني
حاجة. فقال رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
: رُدَّ عنّا مَنْ يطلبُنا من قريش. فانصَرف سراقة فاستقبله جماعة من
قريش في الطلب فقال لهم : انصرفوا عن هذا الطريق فلم يمرّ فيه أحد ، وأنا اكفيكم
هذا الطريق فعليكم بطريق اليمن والطائف. وهكذا ما كان يمرّ باحد إلاّ وصرفه
عن البحث عن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
في هذا الطريق بمثل هذا الكلام. ثم إن كُتّاب السيرة
من الشيعة والسنّة يذكرون لرسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم كرامات كثيرة في طريق مكة
ـ المدينة ونحن ندرج واحدة منها : مرّ رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
في أثناء الطريق على خيمة اُم معبد وكانت إمرأة شجاعة فاضلة فنزلوا بخيمتها
وطلبوا منها تمراً ولحماً أو لبناً يشترون. فقالت : ما يحضرني شيء وكانت أغنامها
قد اُصيبت بالهزال بسبب الجدب ، فنظر رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
إلى شاة في جانب من الخيمة فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم
لها : ما هذه الشاة يا اُم معبد؟ قالت : شاةٌ خلّفها الجهدُ من الغنم فقال : هل
بها من لبن؟. قالت : هي أجهدُ من ذلك ، قال : أتأذنين
ان أحلبها؟. قالت : نعم ان رأيت بها حلباً
فاحلبها. فدعا بها رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
فمسح بيده ضرعَها ، وسمّى اللّه عزوجل ، ودعا لها في شاتها قائلا اللّهم بارك
لها في شاتها فدرَّت لبناً كثيراً بفضل دعائه صلىاللهعليهوآلهوسلم
فطلبَ إناءوحلبها ، فسقاها أولا حتّى رُوِّيَت ثم سَقى أصحابَهُ حتّى رَوُوْا
وشرب هو آخرَهم ، وقال : « ساقي القوم آخرهم شرباً ». ثم حلب الشاة مرةً ثانيةً فغادره
عندها ، وثم ارتحلوا عنها إلى المدينة (بحار الأنوار : ج 19 ، ص 75.).
وقد ذُكرت هذه الكرامة في كثير من
كتب السيرة والتاريخ ، وهو أمر ممكن في رؤية المؤمن باللّه ، لأن الدعاء أحدُ
الاسباب التي تستطيع أن تؤثر في الطبيعة ، وشأنها شأن غيرها من الكرامات الّتي
ورد ذكرها في الكتب الدينية وصدقته التجربة (بحار الأنوار : ج 18 ، ص 43 وج 19 ، ص 99 ـ 103 ، الطبقات الكبرى : ج
1 ، ص 230 و 231 ، تاريخ الخميس : ج 1 ، ص 333 ، اُسد الغابة : ج 1 ، ص 377.). النزول في قرية قباء :
تقع قرية قباء على ميلين من المدينة
على يسار القاصد إلى مكة وكانت مساكن « بني عمرو بن عرف » ومركزهم. ولقد وصل رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم ومن معه إلى قباء في
الثاني عِشر من شهر ربيع الاول يوم الاثنين ، ونزل على «
كلثوم بن الهرم » وهو شيخ من بني عمرو وكان ثمة جمع كبير من المهاجرين والانصار
ينتظرون قدومه ، ويستخبرون وروده. ولقد لبث رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
في قباء إلى آخر أيام الاسبوع ، وقد خط في هذا الفترة مسجداً لقبيلة « بني عمرو
بن عوف » ، ونصب قبلته (تاريخ الخميس : ج 1 ، ص 338.).
وكان البعض ممن رافق رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
يصرّ عليه أن يسارع في الدخول إلى المدينة ، ولكن رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
كان ينتظر ابن عمه علياً. ويقول : فما أنا بداخلها حتّى يقدم
ابن اُمّي وأخي ، وابنتي ( يعني عليّاً وفاطمة عليهماالسلام
)
(الفصول المهمة لابن صباغ المالكي : ص 35 دون ان يذكر اسماً ، وامالي
الشيخ الطوسي : ج 2 ، ص 83.).
وأقام عليّ عليهالسلام بمكة ثلاث ليال بايامها ، حتّى أدّى
عن رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم الودائع الّتي كانت عنده للناس فقد
وقف عليهالسلام على مكان مرتفع في مكة ونادى قائلا :
« مَن كانَ لَه قِبَلَ
محمّد أمانةٌ أو وديعةٌ فليأتِ فلنؤدّ إليه أمانتهُ ». فكان يأتيه من له أمانةٌ أو وديعة
عند رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ويذكر علامتها ويأخذها فلما فرغ عليهالسلام
من اداء الامانات والودائع خرج بفاطمة بنت رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وامه فاطمة بنت اسد ، وفاطمة بنت الزبير وآخرين ممن لم يكن قد هاجر مكة حتى تلك
الساعة ، وتوجه بهم نحو المدينة ليلا سالكا بها طريقاً في « ذي طوى ». كتب الشيخ الطوسي في
اماليه في هذا الصدد يقول : إن جواسيس قريش غرفت بسفر علي
مع تلك الجماعة ، فخرجوا لملاحقتهم ، لغرض اعادتهم إلى مكة ، فادركوهم في منطقة
« ضجنان ». ووقع بين رجال قريش وبين علي عليهالسلام
تلاح وتناوش ، وأخذٌ وردٌّ ، ودنا الرجال من النسوة ، والمطايا ليثوروها فحال عليّ عليهالسلام
بينهم ، وبينها ، ولم يجد عليهالسلام
طريقاً إلاّ أن يدافع عن حرم الإسلام والمسلمين ، فشدّ عليهم بسيفه شدَّة الأسد الغضِب والليث الغيور وهو يقول
مرتجزاً :
فلما وجدوا ما به من الجدّ والغضب
خافوه وتفرّقوا عنه وقالوا : بنبرة الخائف المتضرع ـ : إحبس عنّا نفسَكَ يا ابن
أبي طالب ، فقال عليهالسلام : « فإنّي مُنْطَلِقٌ إلى ابن عمّي
رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
بيثرب فمن سرّهُ ان اُفري لحمه واُهريق دمه فليتبعني ، وليدنُ مني ». فتركه القومُ وعادوا من حيث أتوا ،
وواصل الركبُ رحلته باتجاه المدينة. يقول ابن الاثير : قدم
« علي » المدينة وقد تفطّرت قدماه ، فقال النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
:
ادعوا لي عليّاً ، قيل : لا يقدر أن يمشي ، فأتاه النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
واعتنقه
وبكى رحمةً لما بقدميه من الورم (ـ الكامل في التاريخ : ج 2 ، ص 106.).
ولقد قدم رسول اللّه قباء في الثاني
عشر من شهر ربيع الأول ، والتحق به عليُّ عليهالسلام
في منتصف ذلك الشهر نفسه (إمتاع الأسماع : ص 48 وعلى هذا تكون محاصرة بيت رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
قد تمّت ثلاث ليال قبل شهر ربيع الاول من السنة الاُولى من الهجرة ، وقد خرج
النبيّ من داره ليلة الاثنين ودخل غار ثور وبقي ماكثاً فيه ثلاثة أيام ، وخرج
منه ليلة الخميس اول ربيع الاول وتوجه نحو المدينة ووصل قباء في الثاني عشر منه
راجع تاريخ الخميس : ج 1 ، ص 337 ـ 338.)
،
ويؤيد هذا القول ما ذكره الطبري في تاريخه إذ كتب يقول : واقام علي بن ابي طالب رضي اللّه عنه بمكة ثلاث ليال وأيامها حتّى
أدى عن رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
الودائع
الّتي كانت عنده إلى الناس (تاريخ الطبري : ج 2 ، ص 382.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
المدينة تهبُّ
لقدوم النبيّ :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ولقد كان يوم دخول رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
يوماً عظيماً جداً ، ومشهوداً. فكم ترى ستكون عظيمةً فرحةُ الذين
آمنوا برسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
منذ ثلاث سنوات ، وظلوا طوال هذه الأعوام يبعثون برسلهم ووكلائهم إليه ، ويذكرون
اسمه المقدس ، ويصلّون عليه في صلواتهم كل يوم ، إذا سمعوا أن قائدهم ذلك الّذي
طال انتظارهم اياه ، واشتد تشوقهم إليه كائن عند ميلين من مدينتهم قد نزل في قبا
اياماً ، وسيقدم اليهم ويدخل مدينتهم بعد ايام؟ وكم سيكون مبلغُ ابتهاجهم ، وأي
ابتهاج ترى سيعم كل صغير وكبير؟ إنه حقاً لأمر يعجزُ القلم عن بيانه
، ويكل اللسان عن وصفه. ولقد كان لفتية الأنصار وشبابهم
الضامئين إلى الإسلام الحنيف برنامجٌ رائعٌ وعظيمٌ ، فقد كانوا عمدوا بغية تطهير
جوّ المدينة من ادران الوثنية إلى كل صنم في المدينة كان يقدّس ويعبد فاحرقوه
وكسّروه ، وقد كان كل شريف في بيته صنمٌ يمسحه ويطيّبه ، ولكل بطن من الأوس
والخزرج صنمٌ في بيت لجماعة يكرّمونه ويطيّبونه ، ويجعلون عليه منديلا ويذَبحون
له (بحار الأنوار : ج 19 ، ص 107.).
ولا بأس في أن نذكر
نموذجاً من هذا العمل الجليل الّذي قام به الانصار في التخلّص من الوثنية : لماقدم من بايع من الأنصار في العقبة
الثانية إلى المدينة اظهروا الإسلام بها وفي قومهم بقايا من شيوخ لهم على دين
الشرك وعبادة الأوثان منهم « عمرو بن الجموح » وكان من سادات بني سلمة وشريفاً
من أشرافهم وكان ابنه « معاذ » بن عمرو قد شهد بيعة العقبة. وكان عمرو هذا قد اتخذ في داره صنماً
من خشب يقال له : مناة ، كما كانت الاشراف يصنعون ، تتخذه إلهاً تعظّمه وتطهّره
، فلما أسلم فتيان بني سلمةَ : معاذ بن جبل ، وابنه معاذُ بن عمرو بن الجموح
كانوا يتسلّلون في الليل إلى صنم عمرو بن الجموح فيحملونه ويطرحونه في بعض حُفَر
بني سلمة ومزابلها ، وفيها فَضلاتِ الناس وعذرها منكَّساً على رأسه!! فاذا أصبح عمرو قال : ويلكم من عدا
على آلهتنا هذه الليلة؟ ثم يغدو يلتمسه حتّى إذا وجده غسله
وطهّره وطيّبه. ثم قال للصنم : أما واللّه لو أعلمُ من فَعَلَ هذا بك لاُخزينّه!
فاذا أمسى ونام عمرو عدوا عليه
ثانيةً ففعلوا به مثل ما فعلوا به أولا. فيغدو فيجدُه في مثل ما كان فيه من
الأذى والوسخ فيغسله ويطهّره ويطيّبه ، وثم يعدون عليه إذا امسى فيفعلون به مثل
ذلك. فلما اكثروا عليه استخرجه من حيث
ألقَوه يوماً فغسله وطهّره وطيّبه ثم جاء بسيفه فعلقه عليه ، ثم قال : إِنّي
واللّه ما أعلم مَن يصنعُ بك ما ترى ، فإن كان فيك خيرٌ فامتنِعْ ، ودافع عن
نفسك فهذا السيف معك. فلما أمسى ونام عمرو عَدَوا على ذلك
الصنم فأخذوا السيف من عنقه ، ثم أخذوا كلباً ميّتاً فقرنوه به بحبل ، ثم ألقَوه
في بئر من آبار بني سلمة فيها عذر من عذر الناس وفضلاتهم. ثم غدا عمرو بن الجموح
فلم يجده في مكانه الّذي كان به. فخرج يتبعه حتّى وجده في تلك البئر
منكساً مقروناً بكلب ، ميّت ، فلما رآه وابصر شأنه وكلّمه من اسلم من رجال قومه
فاسلم ، وهجر الوثنية والأوثان وحسُنَ إسلامه. فقال حين أسلم وعرف من اللّه ما عرف
وهو يذكر صنمه ذلك ، وما أبصر من شأنه ويشكر اللّه تعالى الّذي أنقذه مما كان
فيه من العمى والضلالة :
بأحمد المهدِيْ النبيّ
المرتهَنْ (1) (1)اسد الغابة : ج 4 ، ص 99. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
النبيُّ يدخُلُ
المدينة :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
بعد أن التحقق علي عليهالسلام ومن معه برسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم في قباء توجه رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
إلى المدينة ولما انحدر من ثنية الوداع ( و
وكانت بنو عمرو بن عوف قد اجتمعت عنده وأصرّت
عليه بأن ينزل في قباء وقالوا : أقم عندنا يا رسول اللّه فإنا أهل الجدّ
والجَلَد ، والحلقة ( أي السلاح ) والمنعة ، ولكن رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
لم يقبل. وبلغ الأوسَ والخزرجَ خروجُ رسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وقرب نزوله المدينة فلبسوا السلاح وأقبلوا يعدون حول ناقته لا يمرّ بحيٍّ من
أحياء الانصار إلاّ وثبوا في وجهه وأخذوا بزمام ناقته وأصرّوا عليه بأن ينزل
عليهم هذا ورسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
يقول : خَلُّوا سبيلها فانها مأمورة. واخيراً لما انتهت ناقته ـ وكان صلىاللهعليهوآلهوسلم
قد أرخى زمامَها ـ إلى باب المسجد الّذي هو اليوم ، ولم يكن مسجداً إنما كان
أرضاً واسعة ليتيمين من الخزرج يقال لهما : سهل وسهيل وكانا في حجر أسعد بن
زرارة فبركت الناقة على باب « ابي أيوب » خالد بن زيد (بحار الأنوار : ج 19 ، ص 108 ولكن ذهب البعض كصاحب الكامل في التاريخ
إلى أنهما كانا في حجر معاد بن عفراء.)
الانصاري الّذي كان على مقربة من تلك الأرض. فاغتنمت ام أبي ايوب الفرصة فبادرت
إلى رحل رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
فحلّته وأدخلته منزلَها ، بينما اجتمع عليه الناس ويسألونه أن ينزل عليهم. فلما اكثروا عليه ، وتنازعوا في أخذه
قال صلىاللهعليهوآلهوسلم
أين الرحل؟؟ فقالوا : يخوف أم أيوب قد ادخلته في
بيتها. فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم
: « المرء مع رحله » وأخذ اسعدُ بن زرارة بزمام الناقة فحوّلها إلى منزله (تاريخ الخميس : ج 1 ، ص 341.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أصل النفاق ومنشؤه
:
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
كانت الأوس والخزرج قد اتفقتا على أن
تملّك عبد اللّه بن ابي بن سلول (
رئيس المنافقين وكبيرهم ) عليهم ، وذلك قبل أن تبايع رسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
في العقبة وتؤمن به وتعتنق الإسلام ولكن هذا القرار اُلغي بعد اتصال الأوس
والخزرج برسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم من هنا حنق عبد اللّه بن أبي على
رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
واضمر له العداوة منذ ذلك الحين ، ولم يؤمن برسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى آخر حياته ، بل كان ينافق
باسلامه. ولما دخل رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
المدينة وشاهد عبد اللّه بن اُبي ذلك الاستقبال والترحيب العظيمين لرسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
الّذي قام بهما الأوس والخزرج ، شق عليه ذلك جداً ، ولم يستطع اخفاء حنقه وغضبه
، وحده وعداوته للنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم!
فعندما انتهى صلىاللهعليهوآلهوسلم
إلى عبد اللّه بن اُبي ـ وقد أرخى صلىاللهعليهوآلهوسلم
زمام ناقته لتبرك حيث تريد ، أخذ عبدُ اللّه كمّه ووضعه على أنفه ، وقد ثارت
الغبرةُ بسبب الزحام وقال للنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
بنبرة اَلحانِق الغاضب : يا هذا إذهب إلى الّذين غرَّوك وخدعوك وأتوا بك ، فانزل
عليهم ، ولاتُغشنا في ديارنا!! فقام سعدُ بن عبادة ـ وقد خشي أن
يسوء رسولَ اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
هذا الموقف الوقِح الشِرير فقال : يا رسول اللّه لا يعرض في قلبك من قول هذا شيء
، فإنّا كنّا اجتمعنا على ان نملِّكهُ علينا ، وهو يرى الآن أنّك قد سَلَبتهُ
أمراً قد كان أشرفَ عليه (بحار الأنوار : ج 19 ، ص 108.).
هذا ويتفق عامة المؤرخين وكتّاب
السيرة أن رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
دخل يثرب يومَ الجمعة ، وصلّى صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف في بطن واد لهم ،
وكانت هذه أوّل جمعة جمّعها رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
في الإسلام فخطب في هذه الجمعة وهي أوّل خطبة خطبها في المدينة ، وقد تركت هذه
الخطبة البديعة البليغة الّتي لم يسمع اهل المدينة مثيلها لفظاً ومعنى من قبل ،
أثراً عميقاً وطيّباً في قلوبهم ونفوسهم. وقد أدرج ابن هشام نصّ الخطبة في
سيرته (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 500 و 501.)
كما
أدرجها المجلسي في بحاره (بحار الأنوار : ج 19 ، ص 126.)
أيضاً. غير أن عبارات ومضامين الخطبة الّتي
نقلها ابن هشام واثبتها في سيرته تختلف عما رواها واثبتها المجلسي ، وللاطلاع
على ذلك يراجَع المصدران المذكوران. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الفهرس سيد
المرسلين (ص) .. الجزء الأول الشيخ جعفر السبحاني. 18 السيرة المحمَّدية مدرسة الأجيال. 19 التاريخُ في أَعظَم حَماساتِه. 20 سيّد المرسلين في ضوء القرآن الكريم. 26 شبه الجزيرة العربية أو مَهْد
الحضارة الإسلامية. 30 أخلاقُ العرب وتقاليدُهم العامة
: 35 هل كانَ للعرب حضَارةٌ قَبل الإسلام؟. 36 ملامح المجتمع الجاهلي العربي
في منظور القرآن : 38 5
ـ وَأدُ البنات وإقبارُهن : 40 6
ـ تصوراتهم الخرافية حول الملائكة : 40 7
ـ كيفية الانتفاع من الانعام : 41 العقيدة
والدين في الجزيرة العربية : 44 عقيدة
العرب حول حالة الإنسان بعد الموت : 46 الآداب
مرآة آداب الشعوب ونفسياتها : 47 مكانة
المرأة عند العرب الجاهلية : 48 المرأة
ومكانتها الاجتماعية عند العرب : 49 الاخلاق العامة في المجتمع الجاهليّ
العربي : 52 النزوع إلى الخرافة والاساطير
في المجتمع الجاهلي : 53 الخرافات في عقائد العرب الجاهلية
: 54 نماذج
من الخرافات في المجتمع الجاهلي : 55 1
ـ الاستسقاء باشعال النيران : 55 2
ـ ضرب الثور إذا عافت البقر : 56 3
ـ كيّ صحيح الإبل ليبرأ السقيمُ : 56 4
ـ حبس ناقة عند القبر اذامات كريمٌ : 57 5
ـ عَقرُ الإبل عَلى القُبُور : 57 6
ـ نهيق الرجل أذا اراد دخول القرية ( التعشير ) : 57 7
ـ تصفيق الضالّ في الصحراء ليهتدي : 58 9
ـ وطيُ المرأة القتيل الشريف لبقاء وَلَدها : 58 10
ـ طَرْحُ السِنّ نَحو الشَمْس إذا سَقَطَتْ : 59 11
ـ تعليق النجاسة على الرجل وقاية من الجنون : 59 13
ـ شق البرقع والرداء يوجب الحب المتقابل : 60 14
ـ معالجةُ المرضى بالاُمور العجيبة : 60 15
ـ خرافاتٌ في مجال الغائب : 61 16
ـ عقائدهُمْ العجيبة في الجنّ وتاثيرهُ : 62 17
ـ تشاؤمهم بالحيوانات والطيور والاشياء : 62 مكافحةُ الإسلام لهذه الخرافات
: 62 أوضاع العرب الإجتماعية قبيل ظهور
الإسلام : 64 الإمام
عليّ يصف العهد الجاهليّ : 69 فاطمة
الزهراء تصف الوضع الجاهلي : 72 جعفر
بن ابي طالب يصف العهد الجاهلي : 73 3 إمبراطوريّتا الرُوم وإيران
إبّان عهدِ الرِّسالةِ. 73 أوضاع الروم إبّان عهد الرسالة
: 73 ظاهرة
الجدل العقيم في المجتمع الرومي : 74 أوضاع إيران إبان عَهد الرسالة
: 75 البَذخ
والتَرف في البلاط الساساني : 76 حَقٌّ
التعلّم خاصُ بالطبقات الممتازة!! : 78 صفحةٌ
سوداءٌ من جرائم خسرو برويز : 80 حكم
التاريخ في الملوك الساسانيين : 81 الفوضى
في الحكومة الساسانية : 81 الفوضى
الدينية في ايران الساسانيين : 82 الحروبُ الإيرانية الروميّة : 84 1
ـ بطل التوحيد : إبراهيم الخليل عليهالسلام 85 حوار
الخليل مع عبدة الكواكب : 89 واليك
في ما يلي التفاسير المختلفة لهذا الاستدلال : 90 طريقة الأنبياء في الحوار والجدال
: 91 هَل كان آزر والدَ إبراهيم؟. 92 القرآن ينفي اُبوّة « آزر » لإبراهيم
: 93 العِبَر
القيمة في هذه القصّة : 96 اُميّة
بن عبد شمس يحسد هاشماً : 104 التفاني
في سبيل الوفاء بالعهد والنذر : 107 عَبدُ
المطّلب يَذهب إلى مُعسكر أَبرهة : 111 نقاطٌ
تقتضي التأمل في التفسير المذكور : 115 بحثٌ علميُّ حول المعجزة في خمس
نقاط : 116 1
ـ ما هي المعجزةُ وما هو تعريفها؟ 117 2 ـ هل الاعجاز يهدم القوانين
العقلية المسلَّمة؟. 118 3
ـ هل المعجزة تصدر عن علل مادية غير معروفة فقط؟ 119 4
ـ كيف تدلّ المعجزة على صحّة ادّعاء النبوّة؟ 120 5
ـ بماذا نميز المعاجز عن غيرها من الخوارق؟ 121 ماذا بَعْدَ هزيمة الأحباش؟. 124 عَبدُ اللّه والدُ النبيّ : 126 دَورُ الأَيادي المشْبُوهَة في
تاريخ الإسلام : 127 قِصَّة
فاطمة الخَثعَمِيَّة : 127 علائم
الإختلاق في هذه القصة! 128 طهارة النبيّ من دنس الآباء وعهر
الاُمهات : 129 وفاةُ عَبْد اللّه في « يَثْرب
» : 130 5 مَولدُ رَسُول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم. 131 فترةُ الطُفولة في حَياة العُظماء
: 131 في
أيّ يوم وُلدَ رَسُولُ اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم؟ 133 أيُّ
هذين القولين هو الصحيح؟ 133 مُؤاخَذاتٌ
وإشكالاتٌ عَلى هذا البَيان : 135 الاحتفال بذكرى المولد النبوي
: 136 مَراسمُ
تسمية النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم : 137 « أحمد » كانَ مِنْ أسماء النبيّ
المشهورة : 139 فتْرَةُ الرِّضاع في حياة النبي
صلىاللهعليهوآلهوسلم : 141 نَظرةُ الإسلام في تأثير الرضاع
: 142 6فَتْرةُ الطفُولة في حياة النبيّ
صلىاللهعليهوآلهوسلم. 143 1 ـ الماديُّون ، وجماعة من المستشرقين
: 143 خَمسَةُ أعوام في الصَحْراء : 145 7 العَوْدة إلى اَحضان العائلة. 146 كفالة أبي طالب للنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
: 148 اُكذُوبَةُ المُسْتشرقيْن : 150 نَظْرةٌ
إجْماليَّة إلى التَوْراة الحاضِرَة : 153 2
ـ النبيّ سليمان عليهالسلام : 153 4
ـ إبْراهيم عليهالسلام : 154 8 فَترة الشَباب في حياة النبيّ
الأكرم. 156 رسولُ اللّه وقدرتُه الروحيّة
: 156 9 من فترة الشباب إلى مزاولة التجارة 161 هل
عَمِلَ النبيُّ أجيراً لخديجة؟ 163 خَديجة زَوجةُ الرَّسول الاُولى
: 164 خديجة في أحاديث الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم
: 166 افتخار اهل البيت بخديجة عليهاالسلام
: 170 العللُ الظاهرية والحقيقية وراء
زواج خديجة بالنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم : 171 عمر خديجة عند زواجها بالنبيّ
صلىاللهعليهوآلهوسلم : 173 فَترةُ الشَبابِ في حياة رسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم : 174 أحاسيسه ومشاعره الإنسانية في
فترة الشَّباب : 175 حَدْسٌ لا أساس له من الواقع!! 176 دَعِيُّ رسول اللّه : زيد بن حارثة
: 176 بدايةُ الخِلاف بَين الوثنيّين
: 177 أمينُ قَريشُ يَكْفُلُ عَليّاً
: 180 ايمان النبي وآبائه وكفلائه قبل
الإسلام : 181 إيمان كفيله وعمه أبي طالب : 183 إيمان والدَي النبي الاكرم : 184 ايمان النبي باللّه وتوحيده قبل
البعثة : 185 الايةُ
الاُولى : الهداية بعد الضلالة : 188 الآية
الثانية : الامر بهجر الرجز 190 الآية
الثالثة : عدم علمه بالكتاب والايمان. 191 الآية
الرابعة : عدم رجائه إلقاء الكتاب اليه 194 الآية
الخامسة : لو لم يشأ ما تلوته 195 دَور
الانبياء في اصلاح المجتمع : 197 ظاهرة
القضايا الغيبيّة في منظار الماديّين : 201 ظاهرة
الوحي عِند الماديّين : 203 أبرز
النظريات المادية لظاهرة الوحي : 203 ظاهرةُ
الوحي في منظار العقل والدين : 207 خديجة
تذهب إلى ورقة بن نوقل : 210 الجواب
الثالث : التفكيك بين نزول القرآن والبعثة 214 الانبياء
والبشارة برسول اللّه : 215 أوَّلُ
من آمنَ بالنبيَّ منَ الرجال والنِّساء : 217 أقدمُ
الرجال اسلاماً : « عليّ ». 218 1
ـ عليّ تربّى في حجر النبيّ. 218 2
ـ عليُّ وخديجة يقيمان الصلاة مع النبيّ : 219 4
ـ أوَّلكم إسلاماً : عليٌ. 220 كلمات
اميرالمؤمنين عليهالسلام : 221 كلمة
الإمام السبط الحسن عليهالسلام : 223 رأي
الصحابة والتابعين في أوّل من أسلم. 224 مناظرة
بين المأمون واسحاق : 233 قضيّةُ
« إنقطاع الوَحْي » : 234 إختلافُ
المؤرخين في مسألة « انقطاع الوحي » : 235 الإختلاف
في مدة انقطاع الوحي : 237 14 الدَعْوَةُ السِرِّيَّة ودَعوَةُ
الأقربين. 238 خِيانةٌ تاريخيّةٌ وجنايَةٌ أدبيّة!! 243 الثباتُ
والإستقامة على طريق الهدف : 245 ثَباتُ
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وَصَبرُهُ : 246 قريش
تمشي إلى أبي طالب للمرّة الثالثة : 248 قريش
تحاولُ تطميع رسول اللّه! 248 نماذجٌ
من إيذاء قُريش وتعذيبها للمُسلمين : 249 أبوجهل
يكمُن لرسول اللّه : 251 صبر
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم واستقامته : 252 2
ـ آلُ ياسر رمز الصمود والمقاومة! 253 4
ـ أبوذر : أوّل المجاهرين بالإسلام 255 قبيلةُ
غِفار تعتنق الإسلام : 257 عمر
بن الخطاب يعتنق الإسلام : 258 الدوافع
وراء معاداة قريش وعنادهم : 266 1
ـ حَسَدُهُمْ للنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم : 266 2
ـ معارضة الدعوة الإسلامية لشهواتهم : 267 3
ـ الخَوفُ مِن عُقُوبات اليوم الآخر : 267 4
ـ الخَوفُ مِن القَبائل العَربية المشركَة : 267 طائفةٌ
مِن اعتراضات المشركين : 268 القُران
والنُزُولُ التدريجيّ : 268 الأسرارُ
المنطقيّة للنُزول التدريجي للقرآن : 269 أسرارٌ
اُخرى لِنُزُول القرآن تدريجاً : 271 الهجرة
الثانية إلى الحبشة : 274 قريش
توفد رجالا لاسترداد المسلمين : 275 وفدٌ
مسيحيُّ لتقصّي الحقائق يدخل مكة : 279 قريش
توفد إلى يهود يثرب للتحقيق : 280 18الأسلحةُ الصَديئة والاساليب
الفاشلة. 281 الإصرار
في نسبة الجنون إليه صلىاللهعليهوآلهوسلم : 283 القرآن
يرد على جميع الاتهامات : 284 تحججات
صبيانيّة وجاهليّة : 286 مقترحات
عجيبة ومطاليب غريبة : 287 صبر
النبيّ واستقامته وثباته : 288 معاجز
النبيّ لم تنحصر في القرآن : 288 فالقرآن
نفسه يشير إلى أبرز هذه المعاجز وهي : 289 اصرار
النبيّ على هداية قريش : 290 واضعوا
القرار ينقضون قرارهم!! 291 4
ـ منع الاشخاص من الايمان برسول اللّه 292 2
ـ الطُفيل بُن عَمرو الدوسيّ : 293 محاسبة بسيطة لهذه الاسطورة 295 تكذيب القِصَّة من طريق آخر. 296 دَليلٌ لغَويٌّ على تفنيد هذه
الاسطورة 297 1
ـ ما هو المقصود من تمني الانبياء والرُسل. 298 2
ـ ما هو المقصود من تدخّل الشيطان؟ 299 3
ـ ما هو المقصود من محو آثار التدخل؟ 300 20 الحصار الاقتصادي والاجتماعي. 300 قريشٌ
تحاصر النبيّ والمسلمين اقتصادياً واجتماعياً 301 وضع بني هاشم المأساوي في الشِعب... 303 21 وَفاة أَبي طالب وخديجة الكبرى.. 307 نماذج من مشاعر أبي طالب... 309 (1)ديوان أبي طالب : ص 33 ـ 35 ،
تاريخ ابن عساكر : ج 1 ، ص 269 ـ 272 ، الروض الآنف : ج 1 ، ص 120. 311 الدِفاعُ
عن حوزة العقيدة والايمان. 312 الدافع
الحقيقيّ لأبي طالب.. 313 لمحات
من تضحيات أبي طالب.. 314 قضيّةٌ
ذات بواعث سياسيّة : 315 الأدِلّة
على إيمان أبي طالب.. 316 آثار
أبي طالب العلميّة والأدبية 316 الطريق
الثاني لا ثبات إيمان أبي طالب . 317 آخر
الطُرق لا ثبات ايمان أبي طالب.. 319 رأي
علماء الشيعة في أبي طالب.. 320 نظرة إلى حديث « الضحضاح ». 320 الف
: سفيان بن سعيد الثوري. 320 جيم
: عبدالعزيز بن محمد الدراوردي. 321 2
ـ نص حديث الضحضاح يخالف الكتاب والسنة 321 المعراج
في نظر القرآن والسنة والتاريخ. 322 ما
هو المراد من المعراج الروحاني؟ 327 المعراج
وقوانين العلم الحديث : 329 النبيّ
صلىاللهعليهوآلهوسلم يعود إلى مكة : 335 دعوة
رؤساء القبائل في مواسم الحج : 337 أوضاعُ
المسلمين بعد بيعة العقبة : 343 ردود
فعل قريش تجاه بيعة العقبة : 344 تأثير
الإسلام ونفوذه المعنوي : 346 حوادث
السنة الاُولى من الهجرة 348 الإمدادات
الغيبية والعنايات الالهية : 349 ملك
الوحي يخبر رسول اللّه : 350 إقتحام
الاعداء لبيت الوحي : 352 لماذا
أصبح العامُ الهجريُ مبدأ للتاريخ : 360 الهجرة
النبوية مبدأ لتاريخ المسلمين كافة : 361 من
الّذي جعل الهجرة مبدءً للتاريخ؟ 363 نماذج
من رسائل النبيّ المؤرخة : 363 برنامج
الرحلة في حادث الهجرة : 366 |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
سيرة سيد المرسلين
صلىاللهعليهوآلهوسلم
.. الجزء الأول الشيخ جعفر السبحاني
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
بسم الله الرحمن الرحيم لم تزل السيرة المحمَّدية العطرة في
جميع أبعادها موضع اهتمام الاُمة الاسلاميّة من لدن بزوغ فجر الإسلام العظيم ،
ومنذ الأيّام الاُولى من البعثة النبوية الشريفة. ولا غرو فقد كان الرسول الأكرم
محمَّد بن عبد اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
يجسد بسيرته المثلى قيم الدين ويمثل بأخلاقه السامية أخلاق القرآن ، ويعكس
بمواقفه الرشيدة وبإدارته الحكيمة لشؤون الاُمة طريقة الإسلام في إدارة دفة
الحياة. هذا مضافاً إلى أنه كان القدوة الّتي
أمر اللّه تعالى المسلمين بالاقتداء بها ، واقتفاء أثرها ، كما أنه كان الظاهرة
الفريدة الباهرة في الأدب الرفيع والإنسانية الشفافة والعاطفة الصادقة والرحمة
واللطف ، وغيرها ممّا كانت تفتقر بيئة ظهور الإسلام الاُولى إليه وتتعطش إلى
مثله. من هنا أخذ المسلمون يهتمّون بكل
حركات الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم
وسكناته ، ويتأمّلون في جميع أعماله وتصرّفاته فاذا رأوا منه خُلقاً بادروا إلى
تكراره في سلوكهم ، وإذا شاهدوا منه عملا أسرعوا إلى فعله في حياتهم ، وعمدوا في
المآل إلى تسجيل كل صغيرة وكبيرة في هذا المجال ، وضبط كل دقيقة وجليلة في هذا
الصعيد. وفعلا كانت هذه السيرة الطيّبة
العطرة المقدّسة هي المنهج العملي للمسلمين ، وهي سرّ تقدُّمهم ، وهي رمز عظمتهم
وسموّهم ، وعلوّ شأنهم وشأوهم. ولا تزال هذه السيرة المشرفة اليوم
قادرة على أن تكون ضوء المسيرة ، ومشعل الطريق ، ومنهج العمل ومفتاح الانتصار في
معركتنا ضدّ قوى الشرّ والطغيان. وحيث إن أموراً اقحمت في هذه السيرة
، كما أنّ تطور الزمن وكيفية الدراسات اقتضيا إخراج دراسات في مجال السيرة
تتناول البعد الذاتي والرساليّ والسياسيّ والقياديّ والعسكريّ لسيّد المرسلين صلىاللهعليهوآلهوسلم
بالتحقيق والتحليل ، وتتناسب مع حاجة العصر ولغته ، لهذا رأت مؤسسة النشر
الإسلامي أن تقدّم للجيل الحاضر خاصة وللمسلمين عامة هذه الدراسة القيمة في سيرة
خاتم الانبياء محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم
لا تسامها بكثير من هذه المواصفات. والدراسة هي مجموعة محاضرات للاستاذ
المحقّق الشيخ جعفر السبحاني الّذي عرف في الأوساط الإسلامية بتحقيقاته العميقة
في الكتاب والسنّة والعقيدة والتاريخ. وفي الوقت الّذي تقوم به المؤسسة ـ
وللّه الحمد ـ بطبع هذه الدراسة القيمة ونشرها بعد مقابلتها تقدّم جزيل شكرها
وامتنانها لسماحة الاستاذ الألمعي الشيخ جعفر الهادي لما بذله من جهود وافرة من
تعريبها واستخراج النصوص من مصادرها سائلة اللّه سبحانه له ولسماحة الشيخ
المحاضر ولها المزيد من التوفيق ، كما وتدعو المولى عزّ وعلا أن يتقبّل منا
جميعاً وأن تشملنا شفاعة الرسول الأعظم وآله الأطهار عليهمالسلام
في يوم الحشر إنه خير موفق ومعين. مؤسسة
النشر الاسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
السيرة المحمَّدية
مدرسة الأجيال
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
« لقد كان لكم في رسول اللّه اسوة حسنة »
القرآن
الكريم النبيُّ
الأكرم « محمّد » صلىاللهعليهوآلهوسلم
اُسوةٌ للمسلمين ... أُسوةٌ يقتدون بها في جميع مناحي حياتهم : الفردية
والاجتماعية ، والسياسية ... اُسوة إلى الأبد ... في كل زمان ومكان ، في كل عصر
ومصر ، لجميع المسلمين من كل لون ولغة. ولكن
كيف يتأسّى المسلمون ـ في مختلف الأجيال والأدوار ـ برسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
، وكيف يقتدون بسيرته المثلى ، ويهتدون بهديه العظيم؟ إنّ
هذا لا يتسنّى إلاّ إذا كانت حياة رسول الإسلام بجميع خصوصياتها ، وتفاصيلها ،
وفي جميع مجالاتها ونواحيها ، مدوّنة مسجّلة ، بل ومحلّلة تحليلا دقيقاً
وعميقاً. من
هنا فان الضرورة تقضي بوجود تاريخ مدوَّن ، مشفوع بالتحليل الدقيق ، والدراسة
الموضوعية لشخصية وسيرة سيد المرسلين صلىاللهعليهوآلهوسلم
في كافة مجالاتها الشخصية والرسالية والسياسية والعسكرية. حقاً إن في حياة رسول الإسلام العظيم « محمّد بن
عبد اللّه » صلىاللهعليهوآلهوسلم
ـ كما هو واضحٌ لمن تتبعَ وتصفحَ ـ اُموراً دقيقة ، ولكن بالغة العظمة في
مداليلها ومعانيها ، بالغة الأهميّة في معطياتها ودروسها. فرسول الإسلام صلىاللهعليهوآلهوسلم
هو خاتم الأنبياء ، ورسالته وشريعته خاتمة الرسالات والشرائع ونهضته هي النهضة
الكبرى الّتي مهّدلها الأنبياء السابقون ، وقد فتحت هذه النهضة الالهية صفحة
جديدة في حياة البشرية ، وغيّرت مسار التاريخ الإنساني تغييراً جذرياً ، وأسست
حضارة كبرى لا تزال أمواجها ـ رغم مرور أربعة عشر قرناً ـ حية نابضة ، فاعلة ،
تهزُ الضمائر ، وتتفاعلُ مع العقول. ولهذا فإنَّ السيرة
المحمّدية مشحونةٌ بالمناهج والدروس ، زاخرة بالبصائر والعبر ، بقدر ما هي مليئة
بالدقائق والحقائق ، واللطائف والاسرار. حقا إن حياة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
بحاجة إلى تعمق جديد كلما تجدّد الزمن ، وكلما تقدمت العلوم والمعارف ، وتطورت
الحياة ، وانفتحت أمام البشرية آفاق جديدةٌ في شتى الأصعدة والمجالات. ولا شك أنّ هذه المهمة ليست عملا
بسيطاً ومهمّة سهلة ، وخاصة مع ما عليه الكثير من المصادر التاريخية الاُولى من
تصحيف أوتحريف أوتشويه للحقائق ، أوتغيير للاُمور. فان هذه المهمة تحتاج
ـ في ما تحتاج إليه ـ إلى ثلاثة أشياء أساسية : 1 ـ عقلية متفتحة ، متدبرة ، نافذة
متأنية. 2 ـ جهود كبيرة ، وتتبع واسع ،
وتمييز للصحيح عن السقيم ، والدخيل عن الاصيل. 3 ـ معرفة بجوانب تتصل بالسيرة
المحمَّدية اتصالا وثيقاً كالمعرفة بمكانة سيّد المرسلين صلىاللهعليهوآلهوسلم
في القرآن الكريم. فمع توفّر هذه الشروط يمكن الحصول
على صورة نقيّة ، ومفيدة للسيرة المحمَّدية المباركة ، صورة تتفق مع روح القرآن
، وتلتقي مع الواقع ، وتصلح للاتساء ، والاقتداء ، والاهتداء والاقتفاء. ولقد توفرت هذه الشروط ـ وللّه الحمدُ ـ في
استاذنا العلامة الحجّة المحقّق سماحة الشيخ جعفر السبحاني ، حفظه اللّه. فهو المعروف بسلسلته القرآنية «
مفاهيم القرآن » الّتي تكشف عن إحاطة كبيرة بكتاب اللّه العزيز ، وإلمام قليل
النظير بمفاهيمه. ولهذا كان خيرَ من قام في عصرنا
الحاضر بدراسة السيرة المحمَّدية الطاهرة العبقة ، فكان هذا العمل التاريخي
المبارك الّذي توفّرت فيه المستلزمات الثلاثة الآنفة الذكر : العقلية المتفتحة ،
والمعرفة الواسعة بالقرآن الكريم وخاصة في ما يتّصل بالرَّسول الأكرم ، إلى جانب
التتبع الواسع والاستقصاء الكبير لمواقع العبرة والاسوة في حياة خاتم الأَنبياء
وسيّد المرسلين. ولا أجدني ـ في هذا التقديم العابر ـ بحاجة إلى
ذكر نقاط القوة الكثيرة في هذه الدراسة المستوعبة لشخصية وحياة رسول الإسلام ،
بل أرى أن يحاول القارئ الكريم بنفسه الاطلاع على ذلك حتّى لا يفوته شيء ممّا لا
يفوّت ، وسيقف بنفسه أيضاً على جسامة ما بذل في هذه الدراسة من جهد ، وروعة ما
ضُمِّنت من تحليل ، وأهمية ما احتوته من حقائق. وفي الختام اسأل اللّه العلي
القدير ان يتقبل منا جميعاً هذا الجهد ، ويجعله ذخراً ليوم لا ينفع فيه مال ولا
بنون ، انه خير معين . قم جعفر الهادي 30 شعبان 1409
هجرية |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
مقدّمة
المحاضر
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
التاريخُ
في أَعظَم حَماساتِه
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
* مُختبرُ « الحياة »
العظيم. * « لقد عُمِّرتُ مع أولهم
إلى آخرهم! ». * حياة العظماء ،
والخالدين. * عندما يلتقي العالم
الحاضر بالعالم الغابر. * التاريخ بين التسجيل. * أخطاء المستشرقين العجيبة. يُحاولُ الإنسان دائماً أن ينظر إلى
كل قضيّة من القضايا من نافذة الحس ، وإن يدرسها من خلال المنظار الحسي المادي ،
لأنَّ أوثقَ المعلومات لديه هي تلك الّتي تتألف من هذه « المعلومات الحسية »
ولهذا فإنَ المسائل الّتي تحظى بأَدلة حسّية اكثر تكسب في العادة قسطاً اكبر من
ثقة الإنسان وتصديقه. وعلى هذا الاساس عمَدَ العالم اليوم
إلى تأسيس آلاف المختبرات الضخمة للتحقيق في شتى القضايا العلمية ، ويعكف
العلماءُ في هذه المختبرات على دراسة وتحليل الامور المتنوعة باسلوب خاص وطريقة
معينة. ولكن هل يمكن ـ تُرى ـ أن تدخلَ
المسائلُ والقضايا الاجتماعية في نطاق التجربة المختبرية ، وتخضع للمجهر
والميكرسكوب ، ليمكن الحكم في هذه المجالات من خلال ذلك؟! فمثلاً ؛ هل يمكن أن نعرفَ عن طريق
التجارب المختبرية ما يؤدّي إليه الاختلافُ والتشرذم في المجتمع الواحد ، وما
يصيب شعباً من الشعوب أو اُمة من الامم من هذا الطريق؟ أم هل يمكن تقييمُ ما تنتهي إليه
جهودُ المستعمرين ، أو ما يؤول إليه الظلمُ والحيف ، من خلال تجربة حسية؟ أم هل يمكنُ الوقوفُ على نتائج «
الاختلاف الطبقيّ » ، « والتمييز العنصريّ » في المجتمع عن طريق التجربة
المختبرية؟ في الاجابة على كل هذه
الاسئلة يجب أن نقول : كلا مَعَ الاسف. وذلك لأنَّه لا توجَد للقضايا
الاجتماعية ـ رغم أهميتها القصوى ـ مثل هذه المختبرات ، وحتّى لو أمكن توفير مثل
هذه المختبرات المناسبة لتحليل وتقييم ودراسة القضايا الاجتماعية ، فان إنشاءها
وايجادها يكلِّف نفقات باهضةً ، وتستدعي جهوداً عظيمة. ولكنَّ الأمر الّذي في مقدوره أن
يقلّل من حجم هذا النقص إلى حدّ كبير هو أننا نملك اليوم شيئاً يسمى ب : «
تاريخ الماضين » والّذي يشرح لنا ما كان عليه البشرُ ـ أفراداً وجماعات ـ طوال
آلاف السنين من الحياة على هذه الارض ، كما ويعكس مختلف الذكريات والخواطر عنهم
، من إنتصارات وهزائم ، ونجاحات وانتكاسات ، ويوقفنا بالتالي على كل ما وقع في
حياة الامم والشعوب من حوادث مرة أو حلوة. إنَّ التاريخ يذكر لنا
: كيف
وُجدَت الحضارات المشرقة والمدنيات العظمى في العالم ، وكيفَ سلكت ـ بعد مدة ـ
طريق السقوط والانقراض ، حتّى أنها قد مُحيت عن صفحة الوجود بالمرّة ، واصبحت
خبراً بعد أثر ، وبالتالي ما هي العوامل الّتي كانت وراء سيادة الشعوب ثم
اندحارها. إنّ حياة الماضين وتاريخهم يحتفظ لنا
في صفحاته بقسط كبير ومهمّ جداً من هذه الحوادث ، ولهذا صحّ أن يقال : « التاريخ
مختبر الحياة العظيم » ، فبمعونة التاريخ يمكن تقييم مختلف القضايا الاجتماعية ،
ودراستها واستخلاص النتائج والعبر المفيدة منها. وإنَّ من حُسن الحظ أننا لم نكن أول
من حطَّ قدمه على هذا الكوكب ، فهذه الارضُ بسهولها وشعابها العريضة ، وتلك
السماء بنجومها وكواكبها الساهرة شهدتا ملايين الملايين من البشر الذين سكنوا
الارض من قبلنا ، وشهدتا افراحهم واتراحهم ، همومهم وغمومهم ، وحروبهم ،
ومصالحاتهم ، وكل ما رافق واكتنف حياتهم من حبّ وبغض وظلمات وأنوار ، وارتقاء
وهبوط ، إلى غير ذلك من شؤون وشجون الحياة البشرية الّتي يزخربها تاريخ الشعوب
والاقوام والامم. صحيح أنهم قد اختفوا مع الكثير من
أسرار حياتهم ، وغابوا جميعاً ـ أشخاصاً وأسراراً ـ في بحر من النسيان وانسدل
عليهم الستار ، إلاّ أن قسطاً مُلفِتاً للنظر وجملة يُعتد بها من تلك الامور إما
أنها قد دُوّنت بأيدي أصحابها ، أولا تزال طبقاتُ الارض وبطون التلال تحتفظ بها
في ثناياها وطياتها ، كما ولا تزال ذات الاطلال الصامتة ـ في ظاهرها ـ تشكل أضخم
متحف ، واغنى معرض ، واكبر مختبر ، يعيد لنا شريط التاريخ ويحكي وقائعه وأحداثه
، ويشرحُ رموزه وأسراره. إنَّ مُطالعة تلكم الصفحات من تاريخ
الامم الغابرة في الكتب ، أوفي الاطلال العظيمة ، أو في ما يعثر عليه المنقِّبون
في بطون التلال ، وثنايا الارض تعلّمنا اُموراً كثيرة ، وتضيف إلى عُمرنا عُمراً
جديداً وزمناً اضافياً ، لا يُستهان به وذلك بما تقدمُ لنا مِنَ الخبرة والعبرة
، والهدى والبصيرة. أليست حصيلة العمر ما
هي إلاّ ما استفاده المرء من تجارب؟ ألا يجعل التاريخ خلاصة أفضل التجارب تحت
تصرفنا؟ ولقد اشار الامام
اميرالمؤمنين علي بن ابي طالب عليهالسلام
في وصية لولده إلى هذه الحقيقة حيث قال : « أيْ بُنيَّ! إنّي
وإنْ لم اكن عمَرتُ عمرَ من كان قبلي ، فقَد نظرتُ في أعمالهم وفكَّرتُ في
أخبارهم وسرت في آثارهم حتّى عُدتُ كأحدهم بل كأَنَّي بما انتهى اليَّ من
اُمورهم قد عمّرت مع أوَّلهم إلى آخرهم » (نهج البلاغة ، قسم الرسائل ، رقم 31.).
ولكنّ المؤسف أن كُتُب التاريخ
الموجودة الآن تعاني من نقص كبير من حيث الاشارة إلى العبر والدروس الاجتماعية
المفيدة ، لأن هذه المصنفات لم تدوَّن لأَجل هذا الغرض ، ولهذا اُغفِلَ فيها ـ
في الاغلب ـ كل ما هو مؤثرٌ في كشف الحقائق التاريخية ، وإبراز العلل الكامنة
وراء الحوادث المتنوعة والوقائع المختلفة ، وبالتالي فقد تجاهلت تلك الكتب
والدراساتُ ما هو المفتاح الطبيعيّ لحلِّ الرُموز الكبرى في مسيرة التاريخ
البشري ، واعتنتْ ـ بدلا عن ذلك ـ بالقضايا التافهة. لقد تصدّى كثيرٌ من المؤرّخين لتدوين
وتسجيل القضايا التاريخية ، تارة بهدف
التسلية واُخرى بدافع إبراز الفضل لأقوامهم أو طوائفهم ، واظهار تفوقها على
الاقوام والطوائف الاُخرى ، وثالثة بدافع الحب والبغض ، او التعصب لهذا أو ذاك
ولهذا عجزت هذه المؤلفات والكتب عن حل أية مشكلة ، وتبديد أية حيرة ، بل هي تزيد
المرء ضلالا إلى ضلال ، وحيرة إلى حيرة! ولكن رغم كل هذا يستطيع اُولو
النباهة والبصيرة ، واصحاب الفهم والتحقيق ان يتوصلوا ـ من خلال مطالعة هذه
المؤلفات التاريخية على ما فيها من عيوب ونقائص ، ومع ما فيها من أساطير عن
الشعوب المختلفة ـ إلى ما يساعدهم على كشف الكثير من اسرار وخلفيات القضايا
والامور المتعلقة بالشعوب الماضية ، تماماً كما يفعل الطبيبُ الحاذق ، أو القاضي
البارعُ الّذي يمكنهما من خلال الوقوف على القرائن الجزئية المتفرقة ، التوصّل
إلى اكتشاف نوع « المرض » أو حالة « المتهم » الحقيقية ، وما يعاني منه في واقعه
النفسي. * * * إنَّ أعظم صفحات
التاريخ قيمة هي تلك الّتي تعكس لنا حياة العظماء وسيرة الرجال الخالدين ، وتبحث
عنها بصدق وامانة وموضوعية. إنَّ لحياتهم أمواجاً
خاصة ، كما أنها زاخرة بانواع الحوادث. لقد كانوا عظماء حقاً
، وكذلك كان كل ما يرتبط بهم ، ومن ذلك تاريخهم ، إنه شيء عظيم يستحق التأمّل
والتدبر ، فهو يتسِمُ بِلمعان يلفت الأنظار ، ويخلب الالباب وإنّه غني بالعظات
والعبر ، زاخرٌ بالبصائر والدروس وإلى درجة لا توصف. إنهم معجزةُ الخليقة بلا ريب ، وإن
حياتهم لهي ـ في الحقيقة ـ ملحمة التاريخ الكبرى ، وساحة البطولات الخالدة ،
ومسرح الحماسات العظمى ، الحية النابضة على مر العصور ، والايام. لقد كان اولئك العظماء يعيشون في
الاغلب على خط الثورات والتغييرات الاجتماعية الاول ( وبعبارة أصحّ ) كانت
الثورات والتحولات الاجتماعية تجد مصداقيتها في حياتهم وتتجسد في مواقفهم ،
ولهذا كانوا يشكلون ـ في واقع الأمر ـ حلقة
الاتصال بين الدنياوات المختلفة المتناقضة ، وكانت حياتهم الحافلة بالاحداث
شاهدة للألوان المختلفة والمشاهد المثيرة المتنوعة. * * * وعلى رأس اُولئك
الرجال التاريخيين والعظماء الخالدين رسول الإسلام العظيم محمَّد صلىاللهعليهوآلهوسلم فانه لم تتسم حياة أحد ـ
من حيث وفرة الاحداث ، وعظمة الأمواج ، كما اتسمت به حياته صلىاللهعليهوآلهوسلم ولا اتصفت شخصية بمثل ما
اتصف به ذلك النبي العظيم. فلم يستطع احدٌ سواه
أن يؤثِّر في بيئته ، ثم في جميع العالم ، وينفذ إلى أعماق الاعماق بمثل السرعة
والسعة الّتي حصلت له صلىاللهعليهوآلهوسلم.
ولم يوجد أيُّ واحد
منهم قط من مجتمعه المنحطّ المتخلّف ، حضارة بتلك العظمة والشموخ ، كما فَعلهُ
رسولُ الإسلام صلىاللهعليهوآلهوسلم
وتلك حقيقة يقرّبها كل مؤرخي الشرق والغرب. إنّ مطالعة عميقة لسيرة وحياة هذا
الإنسان العظيم ، قادرة على أن تعلمنا الكثير الكثير ، وأن توقفنا على مشاهد
متنوّعة في غاية النفع ومنتهى الفائدة. إن مشاهد عجيبة مثل
الأَيام الاُولى مِن بناء الكعبة المعظمة ، واستيطان
اسلاف النبي الكريم « مكة » وهجوم عسكر الفيل الفاشل لهدم بيت اللّه المعظم ،
والاحداث والملابسات المرافقة لمولد النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم.
كما وإن مشاهد محزنة
مثل وفاة « عبد اللّه » و « آمنة » والدي رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم في مطلع حياته الشريفة
بتلك الكيفية المؤلمة. ومشاهد عظيمة ومهيبة وحافلة بالاسرار
مثل الايام الاولى من نزول الوحي ، وما جرى في جبل « حراء » وما تبعه من مواقف
الاستقامة والمقاومة الّتي ابداها واتخذها رسول اللّه واصحابه المعدودون طيلة
ثلاثة عشر عاماً ، في سبيل نشر الدين الاسلامي في مكة ، ومكافحة الوثنية
والجاهلية. وكذا مشاهد مثيرة
وساخنة وحماسية مثل وقائع السنة الاُولى من الهجرة المباركة وما عقبتها من حوادث
ومواقف. * * * ولقد الّفت حَول حياة رسول الإسلام
أعظم قادة البشرية على الاطلاق كتبٌ ورسائلٌ ودراساتٌ كثيرة بحيث لواتيح لنا أن
نجمعها في مكان واحد لشكلت مكتبة عظيمة وضخمة. ويمكن القولُ ـ بشكل
قاطع ـ بأنه ليس ثمة من عظيم استقطب اهتمام التاريخ والمؤرخين والمفكرين
العالميين الكبار ، كما ليس ثمة شخصيّة من شخصيّات العالم كتب حولها المؤلفون
والباحثون هذا القدر الهائل من المؤلفات والمصنفات ، والرسائل والكتب ، كما حصل
لرسول الإسلام محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم.
إلاّ أن أكثر هذه
الكتب والمؤلفات تعاني من أحد إشكالين : إما أن
الكتاب جاء على نسق التسجيل المجرد للحوادث ، أو النصوص التاريخية ، من دون أن
يتصدى فيه مؤلفه لتحليلها ، ودراسة خلفياتها ونتائجها ، وإصدار الحكم اللازم
فيها ، بل إن البعض قد تجنب عن بيان علل الوقائع الإسلامية واسبابها ، وثمارها
ومعطياتها كذلك. أو أن المؤلّف ـ في بعضها الآخر ـ عمَد إلى
طائفة من الآراء الحدسية ، والاجتهادات الباطلة ، العارية عن الدليل واثبتها في
مؤلَّفه على أنها الحكم الحق ، وخلط هذه الاحكام مع بيان الحوادث ، ومن ثم اخرج
كتابه ذاك إلى الجمهور المتعطش إلى تاريخ الإسلام ، على أنّه التاريخ المحقَّق ،
المُمخَّص. إن الإشكال الّذي
يَردُ على الطائفة الاولى هو : أن الهدف من
التاريخ ليس هو مجرَّد تسجيل الحوادث التاريخية وضبطها وتدوينها ، إنما هو كتابة
صفحات التاريخ ، وقضاياه وأحداثه من المصادر الصحيحة الموثوق بها ، وإبراز عللها
واسبابها ، وثمارها ونتائجها ، والتاريخ بهذا الشكل أعظم كنز تركه الأقدمون لنا
، ومثل هذا النوع من الدراسة التاريخية لم تُدوَّن ـ أو أنه قلّما
دُوَّنت ـ حول أعظم قادة البشر ، محمَّد صلىاللهعليهوآلهوسلم
فقد تجنب اكثر كتاب السيرة النبوية عن اظهار الرأي في الحوادث ، أو القيام باي
تحليل للوقائع ، بحجة الحفاظ على اُصول الحوادث ونصوصها. في حين أنَّ هذه
العُذر ، وهذا الحجة غير كافية لتبرير هذا الموقف ، لأنه كان في مقدور اولئك
المؤرخين ـ للحفاظ على ما ذكروه ـ أن يؤلفوا
نوعين من الكتب ، نوعاً يختص بسرد الوقائع والنصوص التاريخية على ما هي عليه من
دون ابداء رأي ، أو تحليل ودراسة ، ونوعاً آخر يعتني بذكر الحوادث والقضايا
التاريخية مع تحليلها ودراستها بصورة موضوعية صحيحة أو ان يتم كلا الأمرين في
كتاب واحد بأن تفرز الحوادث التاريخية عن التحليل والرأي. على كل حال قلما نجد
بين قدماء الكُتّاب المسلمين من تصدى للسيرة النبوية المحمَّدية الطاهرة بهذه
الصورة ، وقلما يوجد هناك كتابٌ يتناولُ حياة خاتم الانبياء وسيّد المرسلين
بالتحليل المذكور. بل لابدّ من القول بان السيرة
النبوية الطاهرة ليست هي وحدها التي حُرمت من مثل هذا النمط من التأليف والكتابة
، بل شمل هذا الحرمان اكثر الحوادث التاريخية الّتي وقعت على مر العصور
الإسلامية فهي اُدرجت في الكتب من دون دراسة موضوعية وتقييم دقيق. نعم إن أول من فتح هذا
الطريق على وجه عامة المؤلفين والكتاب هو : العلامة المغربي « ابن
خلدون » (هو القاضي عبد الرحمان بن محمَّد الحضرمي المالكي المتوفى عام 808 هـ
، ومقدمته وتاريخه ـ على ما فيهما من أخطاء فضيعة في التحليل ـ معدودان من الكتب
الجيدة المفيدة ، وهما مبتكران في نوعهما.)
فقد
أسس في مقدمته المعروفة باسم مقدمة ابن خلدون نمَط التاريخ التحليلي بنحو من
الانحاء. وأما الطائفة الثانية
من تلك الكتب فهي وإن اُلفت على نمط التاريخ التحليلي
واتسمت بصفة التحقيق والدراسة ولكن حيث ان بعضهم لم يتجشم عناء التتبع
والاستقصاء ، أو أنه اعتمد في تحليله للحوادث على المصادر غير المتقنة وغير
الصحيحة ، فقد تورط في أخطاء فضيعة محيّرة ، وأكثر مؤلفات المستشرقين ـ الّتي لم
تكتَب في الأغلب بهدف التوصل إلى الحقيقة ـ من هذا النمط ، ومن هذه القماشة. ولقد دأَب في هذه الدراسة ـ بعد ملاحظة هذه الاشكالات ـ على ان
يقدم إلى القراء جهد امكانه كتاباً يخلو عن عيوب ونقائص كلتا الطائفتين. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
مزايا
هذا الكتاب :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قد لا يكون من الضروري بيان مزايا
هذا الكتاب ، واستعراض امتيازاته في مقدمته ، فذلك أمرٌ ينبغي أن يقف عليه
القارئ الكريم بنفسه ضمن مطالعته لهذه الدراسة ، إلاّ انه إلفاتاً لنظر القارئ نشير إلى مزيتين هامتين هما : أولاً
:
أنّنا عمدنا ـ في هذا الكتاب ـ إلى تناول وبيان الحوادث والوقائع المهمة الّتي
تنطوي على قَدَر ، اكبر من الفائدة ، والعبرة ، وأعرضنا صفحاً عن ذكر الاحداث
الجزئية ، والوقائع الصغيرة مثل الكثير من السرايا. ثم أننا أخذنا الحوادث التاريخية هذه
من المصادر الأصلية ، والأولية ، الّتي دُوِّنت في القرون الإسلامية المشرقة
الاولى ، فقد استخلصنا الحادثة من مجموعة تلك المصادر ، ثم أشرنا إلى مصدر أو
مصدرين من المصادر الّتي ذكرت الحادثة بصورة اكثر تفصيلا ودقة. وربما يظن بعضُ القرّاء الكرام أننا
اكتفينا في نقل الحوادث والوقائع بمراجعة مصدر أو مصدرين ممّا ذكرناه في أقصى
الصفحة ( أي الهامش )
في حين أن الواقع هو غير هذا ، فنحن
قد راجعنا حتّى في نقل الحوادث الصغيرة مهما صغرت ، اكثر المصادر الأصلية
المعروفة ، وبعد التحقق والتشبث منها لخصناها وذكرناها في هذا الكتاب. ولو أننا أشرنا ـ في جميع الحوادث والوقائع ـ إلى جميع
المصادر الّتي مررنا بها لاستأثر جدول المصادر بقسم كبير من صفحات هذا الكتاب ،
وهو أمرٌ من شأنه أن يبعث على الملل عند القرّاء ، فلكي لا يحس القرّاء بأيّ
تعَب أو مَلَل من جانب ، ولأجل أن نحافظ على وثائقية الكتاب وأصالة أبحاثه
وإتقانها من طرف آخر اكتفينا بذكر القدر اللازم من المصادر وتجنبنا تحشيدها بتلك
الصورة الممِلّة. وأما
المزية الثانية : فإننا أشرنا ـ ضمن الدراسات اللازمة ـ إلى
الاعتراضات والاشكالات ، بل وأحيانا إلى مواطن
الاساءة الّتي قام بها المستشرقون المغرضون وأجبْنا
على جميع الانتقادات والاعتراضات غير المبرَّرة وغير الصحيحة بأجوبة مقنعة
وقاطعة وصحيحة ، وجرَّدْناهم من
الاسلحة الّتي شَهَرُوها في وجه الإسلام ورسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم كما يقول المثل ، وتلك
حقيقة يقف عليها القارئ الكريم بنحو أجلى في محلّها. وعلى هذا الاساس عَمَدنا
إلى ذكر رأي المؤلّفين الشيعة ( في المسائل
المختلف فيها بين المؤرخين الشيعة والمؤرخين السنة )
مع ذكر المصادر والشواهد التاريخية الواضحة والمبرهنة عليه ، وأزحْنا كل ما يَدُور حول ذلك الرأي من شبهة أو إشكال ، ويستهدف
إنكار صحته وحقانيته. إننا إذ نقدّمُ هذه الدراسة
التحليليّة لشخصية وحياة خاتم الأنبياة محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم
إلى القراء الكرام نأمل أن يهتم بها عامّة المسلمين وخاصة المثقفين والشّباب
منهم بوجه خاصّ ، ويتناولوا هذه السيرة العطرة بالمطالعة المتأنيّة والتأمل
والتدبر ، ونآمل أن يستطيع شبابُنا المؤمن المتحمّس من أن يرسم خريطة حياته
وحياة مجتمعه في ضوء ما يستلهمُه ويستوحيه من سيرة وحياة رسول الإسلام صلىاللهعليهوآلهوسلم
في هذه الحقبة البالغة الخطورة. واللّه وليّ التوفيق. جعفر السبحاني 26 / جمادى الآخرة / 1392 |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
سيّد
المرسلين في ضوء القرآن الكريم
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد سلّط القرآن الكريم الضوء على
رسول الإسلام محمَّد بن عبد اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم في آيات
كثيرة تناولت بيان أسمائه ونشأته وصفاته وخصاله ، وبشارات الانبياء السابقين به
وعصمته واُمّيته ورسالته وخاتميته وجهوده العظيمة التي بذلها في سبيل ابلاغ مهمته
، والخطابات الخاصة الالهية الموجّهة إليه وما يتوجب على المؤمنين تجاهه في
حياته وبعد وفاته ، وما يتوجب عليهم تجاه أهل بيته وعترته ، ولكي تكون هذه
الرؤية القرآنية الشاملة الدقيقة هي القاعدة الاساسية في دراسة الشخصية والسيرة
المحمَّدية العظيمة آثرنا ادراج طائفة منها .
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
في
مقدمة هذا الكتاب.
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
*
وَما مُحَمَّدٌ إلاّ رَسُولٌ قَدْ
خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُسُلُ. ( آل
عمران / 144 ). *
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللّه وَالَّذِينَ
مَعَهُ أشِدّاءٌ عَلى الكُفّار رُحَماءُ بَيْنَهُمْ.
( الفتح / 29 ). *
وَإذ قالَ عيسى ابْنُ مَرْيَمُ يا
بَني إسرائيل إنّي رَسُولُ اللّهِ اِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بِيْنَ يَدَيَّ
مِنَ التَّوْرية وَمُبَشِّراً بِرَسُول يَأتِى مِنْ بَعدي اسْمُهُ أحْمَدٌ.
( الصف / 6 ). *
مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى
وَللآخِرَة خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى
أَلَمْ يَجِدْكَ يَتيماً فَآوى وَوَجَدَكَ ضالا فَهَدى وَوَجَدكَ عائلا فَأَغْنى.
( الضحى / 4 ـ 8 ). *
ألَم نَشْرَحْ لكَ صَدْركَ وَوَضعْنا
عَنْكَ وزْرَكَ الَّذي أنْقَضَ ظَهْرَكَ وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ.
( الانشراح / 1 ـ 4 ). *
وَإذ أخَذَ اللّهُ مِيثاقَ
النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتاب وَحِكْمَة ثمَّ جاءكُمْ رَسولٌ
مُصدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُوُمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ ءأَقْرَرتُمْ
وَأَخذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إصْري قالوا أقْررنا قالَ فَاشْهَدوا وَأنا مَعَكُمْ
مِنَ الشّاهِدينَ. ( آل عمران / 81 ). *
ألَّذينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ
النَّبِيَّ الأُمِّيِّ الَّذي يَجِدونَهُ مَكْتوباً عِنْدؤهُمْ في التَّوريةِ
وَالأنجِيلِ يَأمرهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْههُمْ عِنَ المُنْكَر وَيُحِلُّ
لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخبائثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ
إصّرَهُمْ وَالأَغْلالَ التَّي كانَتْ عَلَيْهِمْ.
( الأعراف / 157 ). *
الَّذينَ آتيْناهُمُ الْكِتابَ
يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أبْناءَهُم وَإنَّ فَريقاً مِنْهُمْ
لَيكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ.
( البقرة / 146 ). *
الَّذينَ آتَيناهُمُ الكِتابَ
يَعْرِفونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أبْناءَهُمُ.
( الأنعام / 20 ). *
فآمِنُوا بِاللّهِ وَرَسُولِهِ
النَّبِيِّ الاُمِّيِّ الَّذينَ يُؤْمنُ بِاللّهِ وكَلماتِهِ واتَّبِعُوهُ
لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ. ( الأعراف
/ 158 ). *
هُوَالَّذي بَعثَ في الاُميّينَ
رَسُولا مِنْهُمء يَتْلوا عَلَيْهِم آياتِهِ وَيُزكّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ
الْكِتاب وَالحِكْمَةَ وإنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفي ضَلال مُبين وآخرينَ مِنْهم
لَما يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ العَزيزُ الْحَكيمُ ذلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤتيهِ
مَنْ يَشاءُ واللّهُ ذُوالْفَضلِ الْعَظيمِ.
( الجمعة / 2 ). *
وَأنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الكِتابَ
والحِكْمَةَ وَعَلَّمكَ ما لم تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ
عَظيماً. ( النساء / 113 ). *
وَما كُنتَ تَتلُوا مِن قَبلِهِ مِنْ
كِتاب وَلا تخُطُهُ بِيَمينِكَ إذاً لارتَابَ المُبطِلُونَ.
( العنكبوت / 48 ). *
إقرأ بِاسمِ رَبِّكَ الَّذي خَلق
خَلَقَ الإنْسانَ مِنْ عَلَق إقْرأ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ الَّذي عَلَّمَ
بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإنسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ.
( العلق / 1 ـ 5 ). *
ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى وَما
يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إنْ هُوَ اِلاّ وَحْيٌ يُوحى عَلَّمهُ شَديدُ القُوى ذو
مَرَّة فَاسْتَوى وَهُوَ بالافُقِ الاَْعْلى ثُمَّ دَنا فَتَدلّى فَكانَ قَاب
قَوسَيْنِ أوْ أدْنى فَأَوحى إلى عَبْدِهِ ما أوْحى ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رأى
أو قتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى ولَقَدْ رآهُ نَزلَةً أُخرى عِنْدَ سِدْرَةِ
الْمُنْتَهى عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأوى إذْ يَغْشى السِّدرَةَ ما يَغْشى ما زاغَ
الْبَصَرُ وَما طَغى لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبَّه الْكُبرى.
( النجم / 2 ـ 17 ). *
وَلَو تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ
الاَْقاوِيلِ لأَخَذْنا مِنْهُ بِالَيمينِ ثُمَّ لَقَطعْنا مِنْهُ الْوَتينَ
فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحد عَنْهُ حاجِزينَ. ( الحاقة
/ 44 ـ 47 ). *
وَما عَلَّمْناهُ الشِّعرَ وَما
يَنْبَغي لَهُ إنْ هُوَ إلاّ ذِكْرٌ وَقُرآنٌ مُبينٌ.
( يس / 69 ). *
وَيَقُولُونَ أنَّنا لَتارِكُوا آلهَتِنا
لِشاعِر مَجْنُون بَلْ جاء بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الُمُرْسَلينَ.
( الصافات / 36 ـ 37 ). *
إنَّهُ لَقَوْلُ رَسول كَريمْ وَما
هوَ بَقَولِ شاعر قَليلا ما تُؤْمنُونَ. ( الحاقة
/ 40 ). *
وَما هُوَ عَلى الغَيْبِ بِضَنين.
( التكوير / 24 ). *
سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى.
( الاعلى / 6 ). *
فَسَيكْفِيَكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ
السَّميعُ الْعَليمُ. ( البقرة / 137 ). *
وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ.
( المائدة / 67 ). *
وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالوا.
( التوبة / 74 ). *
إنّا كَفيْناكَ الْمُسْتَهْزئِينَ.
( الحجر / 95 ). *
وَإنْ كادوا لَيَفْتِنونَكَ عِنَ
الَّذي أوْحَيْنا إليْكَ لَتَفْتَرى عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإذاً لاتَّخَذُوكَ
خَليلا وَلَوْلا أنْ ثَبَّتناكَ لَقَدْ كِدْتَّ تَركَنُ إليْهِمْ شيئاً قَليلا.
( الاسراء / 73 ـ 74 ). *
أَلَيْسَ اللّهُ بَكاف عَبْدَهُ
وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذينَ مِنْ دُونِهِ.
( الزمر / 36 ). *
وَأصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإنَّكَ
بأَعْيُنِنا. ( الطور / 48 ). *
تِلْكَ آياتُ اللّه نَتْلُوها
عَلَيْكَ بِالحَقِّ وَمَا اللّهُ يُريدُ ظُلْماً لِلْعالَمينَ.
( آل عمران / 108 ). *
اتْلُ ما أوحِيَ إليْكَ مِنَ
الكِتابِ. ( العنكبوت / 45 ). *
واتَّبِع ما يُوحى إليْكَ مِنْ
رَبِّكَ. ( الاحزاب / 2 ). *
وَأنْذِر عَشيرَتِكَ الأقْرَبينَ.
( الشعراء / 214 ). *
فَاصْدَعْ بِما تُؤمرُ.
( الحجر / 94 ). *
قلْ يا ايُّها النّاسُ إنَّما انا
لَكُمْ نَذيرٌ مُبينٌ. ( الحج / 49 ). *
وَإنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إلى صِراط
مُستَقيم. ( المؤمنون / 73 ). *
تَبارَكَ الَّذي نَزَّلَ الْفُرقانَ
عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمينَ نَذيراً.
( الفرقان / 1 ). *
وَما أرْسَلْناكَ إلاّ مُبَشِّراً
وَنَذيراً. ( الفرقان / 56 ). *
وَما كانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ
وَأنْتَ فِيهِمْ. ( الأنفال / 33 ). *
لَقد جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ
أنْفُسِكُمْ عَزيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَريصٌ عَلَيْكُمْ.
( التوبة / 128 ). *
بِالْمؤمِنينَ رَؤوف رَحيمٌ.
( التوبة / 128 ). *
وَما أرسَلْناكَ إلاّ رَحْمَةً
لِلْعالَمِينَ. ( الأنبياء / 107 ). *
إنَّكَ لَعلى هُدىً مُسْتَقيم.
( الحج / 67 ). * نَزلَ بِهِ الرُّوحُ الأمينُ عَلى قَلْبِكَ
لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرينَ. ( الشعراء
/ 193 ). * إنّا أرسَلْناكَ بِالحَقِّ بَشيراً وَنَذيراً
وَلا تُسئلُ عَنْ أصْحابِ الْجَحيم. ( البقرة
/ 119 ). * كَما أَرسَلْنا فِيكُمْ رَسُولا مِنْكُمْ
يَتْلُوا عَلَيْكُم آياتِنا وَيُزكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكم الْكِتابَ
وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونوا تَعْلَمُونَ.
( البقرة / 151 ). * لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلى الْمؤمِنينَ إذْ بَعثَ
فيهِمْ رَسولا مِنْ انْفُسِهمْ يَتلْو عَليْهِمْ آياتِهِ وَيُزكِّيْهِمْ
وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ والْحِكْمَةَ وَإنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلال
مُبينْ. ( آل عمران / 164 ). * هُوَ الَّذي أرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ
الْحَقَّ لَيُظْهِرَهُ عَلى الدّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللّهِ شَهيداً. مُحمَّدٌ
رَسُولُ اللّه. ( الفتح / 28 ـ 29 ). * يا ايُّها النَّبِيُّ إنَّا أرْسَلْناكَ شاهِداً
وَمُبَشِّراً وَنَذيراً وَداعِياً إلى اللّهِ بِإذْنِهِ وَسِراجاً مُنيراً.
( الاحزاب / 46 ). * وَما أرْسَلْناكَ إلاّ كافَّةً لِلنَّاسِ بَشيراً
وَنَذيراً. ( سبأ / 28 ). * قُلْ إنَّما أعِظُكُمْ بِواحِدَة أنْ تَقُوموا
للّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّة إنْ هُوَ
إلاّ نَذيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذاب شَديد.
( سبأ / 46 ). * فَفِرّوا إلى اللّهِ إنّي لَكُم مِنْهُ نَذيرٌ
مُبينٌ. ( الذاريات / 50 ). * وَأرْسَلْناكَ لِلنّاسِ رَسُولا وَكَفى باللّهِ
شَهيداً. ( النساء / 78 ). * وَأنْزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ
والْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللّهِ
عَلَيْكَ عَظيماً. ( النساء / 113 ). * إنّا أوْحَينا إليْكَ كَما أوْحَينا إلى نُوح
والنَّبِيينَ مِنْ بَعْدِهِ. ( النساء
/ 163 ). * لكن اللّه يَشْهَدُ بِما أنزَلَ إليْكَ أنْزَلَهُ
بِعِلْمِهِ والْملئكَةُ يَشْهَدونَ وَكَفى بِاللّهِ شَهيداً.
( النساء 166 ). * ما كانَ مُحَمَّدٌ أبا أحد مِنْ رِجالِكُمْ
وَلكِنْ رَسولَ اللّه وَخاتَمَ النَّبِيَّينَ.
( الاحزاب / 40 ). * قُلْ يا أيّها الناسُ إنّي رَسُولُ اللّه
إلَيْكُم جَميعاً. ( الاعراف / 158 ). * وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إنَّ الْعِزَّة للّهِ
جَميعاً هُوَ السَّميعُ الْعَلِيمُ. ( يونس /
65 ). * فَلعَلَّكَ تاركٌ بَعْض ما يُوحى إليْكَ وَضائِقٌ
بِه صَدرُكَ أنْ يَقُولوا لَوْلا أُنزلَ عَليْهِ كَنْزٌ أوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ
إنّما أنْتَ نَذيرُ وَاللّهُ عَلى كُلِّ شيء وَكِيلٌ.
( هود / 12 ). * وَكُلاّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ انْباءِ الرُّسُلِ
ما نُثَبِّتُ بِهِ فؤَادَكَ وَجاءَكَ في هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعظَةٌ وَذِكْرى
لِلْمُؤمِنينَ. ( هود / 120 ). * وَلَقَدِ اسْتُهزئ بِرُسلُ مِنْ قَبْلِكَ
فَأَملَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَروا ثُمَّ اخَذْتُهُمْ فَكَيفَ كانَ عِقابِ.
( الرعد / 32 ). * لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى ما متَّعْنا بِهِ
أزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحزْنْ عَلَيْهِمْ.
( الحجر / 88 ). * وَلَقَد نَعْلم ُ انَّكَ يَضيقُ صَدْرُكَ بِما
يَقُولونَ فَسبِّح بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السّاجِدينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ
حَتى يَأتِيكَ الْيَقينُ. ( الحجر /
99 ). * وَأُصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إلاّ بِاللّه وَلا
تَحزَنْ عَلَيْهمْ وَلا تَكُ في ضَيْق مِمّا يَمْكُرونَ إنَّ اللّهَ مَعَ
الَّذِينَ اتَّقوْا والَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ.
( النحل / 128 ). * فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفسَكَ عَلى آثارِهِمْ إنْ
لَمْ يُؤمنُوا بِهذا الْحَديثِ أسفاً. ( الكهف /
6 ). * فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولونَ.
( طه / 130 ). * وَإنْ يُكَذِّبُوكَ فَقدْ كَذَّبتْ قَبْلَهُمْ
قَوْمُ نُوح وَعادٌ وَثَمُودُ وَقَوْمُ إبْراهيمَ وَقَوْمُ لُوط وَأصْحابُ
مَدْيَنَ وَكُذِّب مُوسى فَأَمْلَيتُ لِلْكافِرينَ ثُمَّ أخذْتُهُمْ فَكَيْفَ
كانَ نَكِير. ( الحج / 42 ـ 44 ). * وَكذلِكَ جَعلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ
الُمجْرِمينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادياً وَنَصيراً.
( الفرقان / 31 ). * لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ ألاّ يَكُونوا
مُؤمِنينَ. ( الشعراء / 3 ). * وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ في ضَيْق مِمّا
يَمْكُرُونَ. ( النحل / 127 ). * فَاصْبِر إنَّ وَعْدَ اللّه حَقٌّ وَلا
يستَخِفَّنَّكَ الَّذينَ لا يُوقِنونَ. ( الروم /
60 ). * وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ.
( لقمان / 23 ). * وَاِنْ يُكَذِّبوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ
قَبلِكَ وَإلى اللّه تُرجَعُ الاُمورُ. ( فاطر /
4 ). * سُبْحانَ الَّذي أسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ
الْمَسجِدِ الْحرامِ إلى الْمَسْجِدِ الاَْقْصا الَّذي بارَكْنا حَوْلَهُ
لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إنَّهُ هُوَ السَّميعُ الْبَصيرُ.
( الأسراء / 1 ). * فَلا تَذهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسرات إنَّ
اللّهَ عَليمٌ بِما يَصْنَعُونَ. ( فاطر /
8 ). * وَإنْ يُكَذبوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ جاءتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالبَيِّناتِ وَبالزُّبرِ وَبِالكِتابِ
الْمُنيرِ. ( فاطر / 25 ). * فَلا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إنّا نَعلَمُ ما
يُسرّونَ وَما يُعلِنُونَ. ( يس / 76
). * وَلَقَدْ سَبقَتْ كلِمَتُنا لِعبادِنا
الْمُرسَلينَ إنَّهُمْ لَهُم الْمنصُورونَ.
( الصافات / 171 ـ 172 ). * وَإنْ جُنْدنا لَهُمُ الْغالِبُونَ فَتوَلَّ
عَنْهُمْ حَتَّى حين وابْصرْهُمْ فَسوْفَ يُبْصِرُونَ.
( الصافات / 173 ـ175 ). * وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتّى حين وَاَبْصِرْ
فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ. ( الصافات / 178 ـ 179 ). * إصْبِرْ عَلى ما يَقولونَ.
( ص / 17 ). * ألَيْسَ اللّه بِكاف عَبدَه وَيخوَّفونَكَ
بِالَّذينَ مِنْ دونِهِ. ( الزمر / 36 ). * فَاصبِرْ إنَّ وَعْدَاللّه حَقٌ.
( المؤمن / 55 ). * وَلا تَطرُد الَّذينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ
بِالغَدوَةِ والعَشيِّ يُريدونَ وَجْهَهُ ما عَليْكَ مِنْ حِسابِهمْ مِنْ شَيء
وَما مِنْ حِسابِكَ عَليْهِمْ مِنْ شَيء فَتطرُدِهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظالِمينَ.
( الانعام / 52 ). * وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذينَ يَدْعُونَ
رَبَّهُمْ بِالغَدوة والعشيِّ يُريدونَ وَجْههُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ
تُريدُ زينَة الحَيوة الْدُّنيا وَلا تُطِعْ مَنْ اغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ
ذِكْرنا وَاتَّبعَ هَويهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً.
( الكهف / 28 ). * إنَّما المُؤمنونَ الَّذينَ آمنوا بِاللّهِ
وَرَسُوله وإذا كانوا مَعَهُ عَلى أمر جامِع لَمْ يَذهَبُوا حتّى يَسْتأذنوهُ
إنَّ الَّذينَ يَستأذوننكَ أُولئكَ الَّذينَ يُؤمِنُونَ باللّه وَرَسُولِهِ فإذا
اسْتأذنوك لِبَعْضِ شَأنِهِم فَأذَن لِمَنْ شِئتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ
اللهَ إنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحيمٌ لا تَجْعلُوا دُعاءَ الرَّسول بَيْنَكُمْ
كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعلَمُ اللّهُ الذينَ يَتَسلَلَّونَ مِنْكُمْ
لِواذاً فَليَحْذِر الَّذينَ يُخالِفُونَ عَنْ أمْره انْ تُصبيَهُمْ فِتْنَةٌ
أَوْ يُصيبَهُمْ عَذابٌ أليمٌ. ( النور /
62 ـ 63 ). * يا ايُّها الَّذينَ آمنوا لا تَدْخُلوا بُيوتَ
النَّبيَّ إلاّ أَنْ يُؤذَنَ لَكُمْ إلى طعام غَيْرَ ناظرينَ إناهُ ولكنْ إذ
دُعيتُمْ فَادْخُلوا فَإذا طعِمْتُمْ فَانْتشِروا وَلا مُسْتأنِسينَ لِحَديث
إنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤذي النَّبيَّ فَيستَحِي مِنْكُمْ وَاللّهُ لا يَسْتَحِي
مِنَ الحَقِّ وَإذا سألُتموهُنَّ مَتاعاً فَسئلوهُنَّ مِنْ وَراء
حِجاب
ذلِكُمْ أَطهَرُ لِقلُوبِكُمْ وَقلُوبِهِنَّ وما كان لَكُمْ أَنْ تُؤذوا رَسولَ
اللّهِ وَلا أنْ تَنْكِحُوا أزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أبداً إنَّ ذلِكُمْ كانَ
عِنْدَ اللّهِ عَظيماً. ( الاحزاب / 53 ). * يا ايها الَّذينَ آمنوا لا تُقدِّموا بَيْنَ يَدي
اللّهِ وَرَسُولِهِ وَاتقُوا اللّهَ إنَّ اللّهَ سَميعٌ عَليمٌ يا ايُّها
الَّذينَ آمنوا لا تَرْفعوا أصْواتَكُمْ فَوقَ صَوت النَّبيِّ ولا تَجْهروا لهُ
بِالْقَولِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعض أنْ تَحْبَطَ أعمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا
تَشعُرونَ إنَّ الذَّين يَغضُّونَ أصواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ أُولئِكَ
الَّذينَ امْتَحَنَ اللّهُ قُلوبَهْمْ لِلتَّقوى لَهُمْ مَغْفِرةٌ وَأجرٌ عظيمٌ
إنَّ الَّذينَ يُنادونكَ مِنْ وَراءِ الحُجراتِ أكثرُهُمْ لا يعقِلُونَ وَلَو
أنَّهُمْ صَبَروا حتَّى تَخرُجَ إليْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللّهُ غَفورٌ
رَحيمٌ. ( الحجرات / 1 ـ 5 ). * وَاعْلَموا أَنَّ فيكُمْ رَسولَ اللّهِ لَو
يُطيعُكُمْ في كَثير مِنَ الأَمْر لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللّهَ حَبَّبَ إليْكُمْ
الإيمانَ وَزَيَّنَهُ في قُلوبِكُمْ وَكَرَّه إليْكُمُ الكُفْرَ وَالفُسوقَ
وَالْعِصيانَ أُولئكَ هُمُ الرّاشِدُونَ. ( الحجرات
/ 7 ). * وَإنَّك لَعلى خُلُق عَظيم.
( القلم / 4 ). * وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلمُؤْمِنينَ.
( الحجر / 88 ). * وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَن اتَّبَعكَ مِنَ
الْمُؤْمِنينَ. ( الشعراء / 215 ). * لَقدْ جاءَكُمْ رَسولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزيزٌ
عَليْهِ ما عَنِتُّمْ حَريصٌ عَلَيْكُمْ بِالمُؤمنينَ رَؤُوفٌ رَحيمٌ.
( التوبة / 129 ). * فَبِما رَحْمَة مِنَ اللّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ
كُنْتَ فَظّاً غَليظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَولِكَ.
( آل عمران / 159 ). * لَقَدْ كانَ لَكُمْ في رَسولِ اللّهِ أُسْوَةٌ
حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُو اللّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذكَرَ اللّهَ
كَثيراً. ( الاحزاب / 21 ). * قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللّه
فَاتَّبِعُوني يُحْبِبْكُمْ اللّه وَيَغْفِرْلَكُمْ ذنوبَكُمْ وَاللّهُ غَفورٌ
رَحيمٌ. ( آل عمران / 31 ). * فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤمنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ
فيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لايَجِدوا في أنْفُسِهِمْ حَرجاً مِمَّا قَضيْتَ
وَيُسَلِّموا تَسليماً. ( النساء / 65 ). * إنَّ اللّهَ وَملائكتهُ يُصَلُّونَ عَلى
النَّبيِّ يا أيُّها الَّذينَ آمنُوا صَلُّوا عَليْهِ وَسَلِّمُوا تَسْليماً.
( الاحزاب / 56 ). * إنَّا أعْطيناكَ الْكَوثَر فَصلِّ لِرَبِّكَ
وانْحَر إنَّ شانِئكَ هُوَ الأَبْتَرْ. ( الكوثر
/ 1 ـ 2 ). * إنَّما يُريدُ اللّهُ لِيُذْهِببَ عَنْكُمْ
الْرِّجْسَ أَهلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهيراً. ( الاحزاب
/ 33 ). (ولقد
بحث سماحة الاستاذ العلامة المحقّق الشيخ جعفر السبحاني صاحب هذه المحاضرات حول
جميع هذه الآيات ونظائرها في دراسة عميقة وشاملة في الجزء السابع من موسوعته «
مفاهيم القرآن ».) |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
شبه
الجزيرة العربية أو
مَهْد الحضارة الإسلامية
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الجزيرةُ العَربية هي
في الحقيقة شبهُ جزيرة كبيرة وتقع في الجنوب الغربي من
اسيا ، وتبلغ مساحتُها ثلاثة ملايين كيلومتر مربع ، أي ضِعف مساحة إيران ، وستة
أضعاف فرنسا ، وعشرة أضعاف إيطاليا ، وثمانين ضِعف سويسرة. ويَحدُّ شبه الجزيرة ـ هذا الّذي هو اشبه ما يكون بمستطيل غير متوازي الاضلاع ـ من
الشمال فلسطين وصحراءُ الشام ، ومن المشرق الحيرةُ ودجلة والفرات والخليج
الفارسي ، ومن الجنوب المحيط الهندي وخليج عمان ، ومن المغرب البحر الأحمر. وعلى هذا يحاصر هذه الجزيرة من
المغرب والجنوب البحر ، ومن الشمال والشرق الصحراء ، والخليج. وقد جرت العادة بتقسيم
هذه المنطقة من القديم إلى ثلاثة اقسام : 1 ـ القسم الشمالي
والغربي ويسمى بالحجاز. 2 ـ القسم المركزي
والشرقي ويسمى بصحراء العرب. 3 ـ القسم الجنوبي
ويسمى باليمن. وتُشكّل داخلَ شبه الجزيرة هذا صحاري
كبيرة ، ومناطق شاسعة رملية حارة ، وغير قابلة للسكنى تقريباً ، ومن جملة هذه
الصحاري صحراء « بادية سماوة »
الّتي تسمى اليوم بصحراء « النفوذ » وصحراء
اُخرى واسعة الاطراف تمتد إلى الخليج الفارسيّ يُطلق عليها اليوم إسم « الربع
الخالي » وقد كان يسمى قسمٌ من هذه الصحاري سابقاً بالأحقاف ، ويسمى القسم الآخر
بالدهناء. وعلى أثر هذه الصحاري
تشكل ثُلث مساحة شبه الجزيرة هذا أراضي خالية من الماء والعشب وغير قابلة للسكنى
،
اللهم إلاّ بعض ما يحصل من المياه بسبب تساقط الامطار ، في قلب الصحاري فيتجمع
حولها بعض القبائل العربية بعض الوقت ، ويرعون فيها ابلهم وانعامهم ردحاً قليلا
من الزمن. وأمّا حالة المناخ في
شبه الجزيرة العربية ، فالهواء في الصحاري والأَراضي
المركزية ( الوسطى ) حارٌ وجافٌ جداً ، وفي السواحل مرطوبٌ ، وفي بعض النقاط
معتدلٌ ، وبسبب رداءة الطقس هذه لا يتجاوز عدد سكانه خمسة عشر مليون نسمة. وتوجد في هذه الجزيرة سلسلة جبال
تمتد من الجنوب إلى الشمال ، ويقارب ارتفاع أعلى قممها 2470 متراً. وقد كانت معادن الذهب والفضة
والاحجار الكريمة تشكل مصادر الثروة في شبه الجزيرة هذا منذ القديم ، وكان
سكانها يعتنون ـ من بين الانعام
والحيوانات ـ بتربية الابل والفرس اكثر من غيرهما
، ومن بين الطيور بالحمام والنعامة اكثر من الطيور الاُخرى. بيد أن اكبر مصدر للثروة في الجزيرة
العربية اليوم يأتي عن طريق استخراج النفط. وتعتبر مدينة « الظهران » الّذي
يسميه الاوربيون بالدهران المركز النفطي الرئيسي في هذه الجزيرة ، ويقع هذا
البلد في ناحية الاحساء الّتي تقع في المنطقة الشرقية من الجزيرة العربية على
حدود الخليج الفارسي. ولكي يتعرف القارئ
الكريم على الأَوضاع في شبه الجزيرة العربية هذا بنحو اكثر تفصيلا فاننا نعمد
إلى شرح الاقسام الثلاثة المذكورة : 1 ـ « الحجاز »
وهي المنطقة الّتي تشكل القسم الشمالي والغربي من الجزيرة العربية وتمتد أراضيها على ساحل البحر الاحمر ابتداء من فلسطين وحتّى
حدود اليمن. والحجاز بعد هذا منطقة جبلية ، وذات
صحار قاحلة ، واراض حجرية ، وصخرية ، يكثر فيها الحصى. ولقد كانت هذه المنطقة ـ في التاريخ
ـ اكثر شهرة من غيرها ، ومن المعلوم أنَّ هذه
الشهرة جاءت بسبب جملة من العوامل المعنوية والدينية ، فهي الآن تضمّ بين
جوانحها بيت اللّه الحرام « الكعبة المعظمة » ، قبلة ملايين المسلمين ، ومهوى
افئدتهم. وقد كانت البقعةُ الّتي تقوم عليها
بنية « الكعبة المعظمة » تحظى منذ
سنوات مديدة قبل بزوغ الإسلام باحترام العرب وغيرهم ، ولهذا حَرَّموا القتال حول الكعبة تعظيماً لها ،
حتّى إذا جاء الإسلام أقَرَّ للكعبة ولما حولها ، مثل ذلك الاحترام ، والتعظيم
أيضاً. ومن أهمّ مُدُن الحجاز
:
« مكة » و « المدينة » و « الطائف » ،
وكان للحجاز منذ القديم ميناءان هما :
ميناء « جدة » الّذي يستخدمه أهل مكة ، وميناء « ينبع » الّذي يستخدمه أهلُ
المدينة ، في سَدِّ الكثير من إحتياجاتهم ويقع هذان الميناءان على ساحل « البحر الاحمر ». |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
مَكةُ المعظمة :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وهيَ من أَشهر مُدُن
العالم وأكثر المُدُن الحجازية سُكاناً ، وترتفع عن سطح البحر بما يقارب 300
متراً. وإذ تقع مدينة « مكة »
بين سلسلتين من الجبال لذلك فانها لاتُرى من بعيد ،
ويقطنها اليوم حوالي (150) ألفاً من السكان. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
تاريخ
مكة :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
يبدأ تاريخ « مكة
المكرمة » من زمن النبي إبراهيم الخليل عليهالسلام ، فقد أسكن هذا النبيُّ ولده «
اسماعيل » مع اُمه « هاجر » في ارض مكة ، فنشأ اسماعيل هناك ، وتزوج من القبائل
الّتي سكنت على مقربة من تلك المنطقة. ثم إن إبراهيم عليهالسلام بنى وبأمر من اللّه تعالى البيت
الحرام « الكعبة ». وتقول بعض الروايات الصحيحة إن
الكعبة بنيت على يد النبيّ نوح عليهالسلام
وأن ابراهيم عليهالسلام جدّد
بناءها. وهكذا نشأت وبعد هذا
تاسست مدينة مكة. وتتكون نواحي « مكة » من
أراض سبخة شديدة الملوحة بحيث لا تكون قابلة للزراعة اصلا ، حتّى أن بعض
المستشرقين يذهب إلى أنه لا يوجد أية منطقة في العالم في رداءة أوضاعها
الجغرافية والمحيطية والطبيعية مثل هذه المنطقة. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
المَدينةُ
المنوَّرةُ :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وهي مدينة تقع في شمال
مكة وتبعد عنها ب : 90 فرسخاً تقريباً ، وتحيط بها بساتين ومزارع ونخيل وافرة ،
وأرضها أكثر صلاحية لغرس الاشجار والزرع. وكانت المدينة المنورة تسمى قبل
الإسلام ب « يثرب » ،
وبعد أن هاجر إليها رسول الإسلام صلىاللهعليهوآلهوسلم
سُمّيت بمدينة الرسول ، ثم اُطلقت عليها لفظة
« المدينة » مجردة تخفيفاً. ويحدثنا التاريخ أن العمالقة كانوا
أول من سكن هذه الديار ، ثم خلف العمالقة طائفة
اليهود ، والأوس والخزرج الذين سُمِّي المسلمون منهم بالأَنصار في ما بعد. هذا وقد سلمت الحجاز ـ
على عكس سائر المناطق ـ من طمع الطامعين وغزو الغزاة والفاتحين ، ولم نشاهد فيها
أي شيء من آثار حضارة الامبراطوريتين العظيمتين انذاك قبل الإسلام : الروم
والفرس ، وذلك لأنها إذ كانت تتألَّف من أراض قاحلة مجدبة
غير قابلة للسكنى والعيش لم تحظ باهتمام أحد من اُولئك الفاتحين حتّى يفكر في
تسيير العساكر ، وتجييش الجيوش لفتحها ليعود بعد تحمّل آلاف المشاكل الّتي
تستلزمها عملية الاستيلاء على أراضي تلك المنطقة خالي الوفاض صفر اليدين. وللوقوف على هذه
الحقيقة اقرأ القصة التالية التي نقلها « ديودرس ». عندما دخل ديمتريوس القائد اليوناني
الكبير « بطرا » ( وهي مدينة قديمة من
مدن الحجاز ) بهدف فتح جزيرة العرب خاطبهُ سكانُ
تلك المدينة قائلين : لماذا تحاربنا أيها الملك ديمتريوس
ونحن من سُكان الصحارى الّتي لا تُسدُّ فيها خلّة ، ترانا نقطن في هذه البقاع
القاحلة فراراً من العبودية. إقبل هدايانا ، وارجع إلى حيث كنت ، سنكون من أوفى
الاصدقاء لك ، ولكنك إذا رغبت في حصرنا حرمت كل هناءة ، ورأيت عجزك عن اكراهنا
على تبديل طرق حياتنا الّتي تعوَّدناها منذ نعومة أظفارنا ، وإذا قدرت على اسر
بعضنا أيقنت أنك لن تجد واحداً ممن أسرت يستطيع أن يألف حياة غير الّتي ألفناها.
هناك رأى ديمتريوس أن يقبل هديتهم
وان يرضى بالمآب (حضارة العرب : تأليف غوستاف لوبون ص 91 ـ 02 ترجمة عادل رتميتر.).
2 ـ المنطقة الوسطى
والشرقية ، التي تسمى ب « صحراء العرب » ومنطقة « نجد » الّتي هي جزء من هذه
المنطقة أرض مرتفعة يقوم فيها بضع قُرى صغيرة معدودة. ولقد أصبحت الرياضُ الّتي اتخذها
السعوديون عاصمة لهم بعد استيلائهم من المراكز المهمة في هذه الناحية من
الجزيرة. 3 ـ المنطقة الجنوبية
الغربية من الجزيرة العربية ، والّتي تسمى ب « اليمن » وتمتد طولا من الشمال
إلى الجنوب حوالي (750) كيلومتراً ومن الغرب إلى الشرق حوالى (400) كيلومتراً. وتقدر مساحة هذا البلد بستين الف ميل
مربع تقريباً ، ولكنها كانت ـ قبل ذلك ـ أوسع من هذا القدر ، وقد كان قسم منها ( وهوعدن ) خلال النصف الاول من القرن
الأخير تحت الانتداب البريطاني ، ومن هنا ينتهي شمالا إلى نجد ، وجنوباً إلى عدن
، وغرباً إلى البحر الأحمر وشرقاً إلى صحراء الربع الخالي (لقد انقسمت اليمن مؤخراً إلى يمن شمالية واُخرى جنوبية لكل واحد منها
نظام حكم خاصّ وحكومة خاصّة.).
ومن مُدُن اليمن المعروفة مدينة « صنعاء » التاريخية العريقة ، ومن موانئها المشهورة ميناء
« الحديدة » الّتي تقع على الحبر الأحمر. ومنطقة اليمن من اكثر
مناطق الجزيرة العربية خصوبة وبركة ، ولها تاريخ
مشرقٌ وعريق في المدنية والحضارة ، فقد كانت اليمن مقراً لملوك تبَّع ، الذين
حكموا اليمن سنيناً مديدة وكانت اليمن قبل الإسلام مركزاً تجارياً مهماً ، وكانت
في الحقيقة ملتقى طرق الحجاز ، اشتهرت في العصور القديمة بمعادن الذهب ، والفضة
، والحديد ، والنحاس ، وكانت تصدر إلى خارج البلاد. ولا تزال اثار الحضارة
اليمنية القديمة باقية إلى الآن. ولقد قام أهلُ اليمن الاذكياء باقامة
أبنية وعمارات عالية وجميلة بهممهم العالية في عصور كان البشر يفقد فيها الوسائل
الثقيلة ، والاجهزة المعقدة. كان ملوك اليمن يحكمون
البلاد دون أي منازع ، إلاّ أنهم رغم ذلك لم يكونوا يمتنعون عن تنفيذ مارسمه
حكماء اليمن ورجالهم من انظمة وقوانين للحكم وادارة البلاد آنذاك. ولقد سبقوا الآخرين في الزراعة
والفلاحة ، وقد نظموا لإحياء الأراضي وزراعتها ، نظاماً دقيقاً للريّ طبقوا
بنوده بدقة ، ولهذا كانت بلادهم تعدّ ـ آنذاك ـ من البلدان الراقية المتقدمة من
هذه الناحية. فها هو « غوستاف لوبون
» المؤرخ الفرنسي المعروف يكتب حول اليمن قائلا : إنَّ
بلاد العرب السعيدة من أغنى بقاع العالم (حضارة العرب : ص 94.).
ويكتب الادريسيّ
المؤرخ المعروف الّذي كان يعيش في القرن الثاني عشر حول « صنعاء » قائلا :
كانت صنعاء مقر ملوك اليمن ، وعاصمة جزيرة العرب ، وانه كان لملوكها قصر متين
شهير وكانت تشتمل على بيوت مصنوعة من الحجارة المنحوتة (نزهة المشتاق في اختراق الآفاق على ما في حضارة العرب ، ص 55.).
هذه الآثار العجيبة
الّتي عثر عليها المستشرقون وعلماء الآثار في تنقيباتهم الأخيرة تثبت حضارة
عجيبة لليمن في عصورها القديمة وذلك في مختلف نواحيها مثل « مأرب » و « صنعاء »
و « بلقيس ». ففي مدينة مأرب ( وهي
مدينة سبأ المعروفة ) كانت تقوم قصور ضخمة وصروح عالية
ذوات أبواب وسقوف مزينة بالذهب ، وكانت تحتوي على أوان وصحون من الذهب والفضة ،
وأسرّة كثيرة مصنوعة من المعدن والفلز (حضارة العرب : ص 94.).
ومن آثار « مأرب »
التاريخية السدُّ المعروفُ باسم ذلك البلد والّذي لا تزال اطلاله باقية ، وهو السدّ الّذي تهدَّم بسبب السيل الّذي وصفه القرآن الكريم
بالعَرِم. فقد جاء في سورة سبأ الآية 15 ـ 19
قوله تعالى : « لَقَدْ كانَ لِسَبَأ في مَسْكَنِهِمْ آيةٌ
جَنّتانِ عَن يَمينِ وَشمال كُلُوا مِنْ رِزق ربكُمْ واشْكُروا لَهُ بلدةٌ
طَيِبَةٌ وربٌّ غَفُورٌ. فأعرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيهِمْ سَيْلَ العَرم
وبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتيهِمْ جَنَّتَيْن ذَواتي أكل خَمْط وأَثْل وشيء مِنْ
سِدْر قَليل. ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نجازي الاّ الكفور.
وَجَعَلْنا بَينَهُمْ وَبَيْنَ القُرى الَّتي باركْنا فيها قُرى ظاهرةً وَقَدَّرنا
فيها السَيْرَ سِيْروُا فيها لَيالَي وأيّاماً آمِنين. فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ
بَين أَسفارنا وَظَلمُوا أنْفُسَهُمْ فَجَعلْناهُمْ أَحاديث ومَزّقناهُمْ كُلَ
ممزَّق إنّ في ذلكَ لآيات لِكلِ صَبّار شَكُور
» (للوقوف على المزيد من المعلومات عن اليمن قديماً وحديثاً ، راجع
الكتب المؤلفة حول جغرافية العالم الإسلامي.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
العَرَب
قبلَ الإسلام
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لمعرفة أوضاع العرب
قبل الإسلام يمكن الرجوع إلى المصادر التالية : 1 ـ التوراة على ما فيها من تحريفات.
2 ـ كتابات اليونانيين والروميين في
القرون الوسطى. 3 ـ الكتابات التاريخية الّتي كتبها
علماء الإسلام ومؤلفوه. 4 ـ الآثار القديمة الّتي عثر عليها
المستشرقون في تنقيباتهم والّتي استطاعت من أن تكشف النقاب عن طائفة لا يُستهان
بها من الحقائق في هذا الصعيد. إلاّ انه مع وجود كل هذه المصادر
والمراجع لا تزال هناك نقاطٌ كثيرةٌ عن تاريخ العرب في القرون البعيدة تعاني من
الغموض. ولكن حيث أنَّ دراسة أوضاع العرب قبل
الإسلام هي من باب المقدمة في هذا الكتاب ، والهدف الاساسي إنما هو دراسة السيرة
النبوية الطاهرة ، من هنا نكتفي في هذا
الفصل باستعراض النقاط الخاصة والواضحة من حياة العرب قبيل الإسلام على اننا
يمكننا أن نقف على وصف دقيق لحالة العرب خاصة قبيل بزوغ الإسلام من خلال مصدرين
اسلاميين اساسيين هما : 1 ـ القرآن الكريم. 2 ـ ما ورد عن الامام علي عليهالسلام
في نهج البلاغة. فقد وردت في هذين
المصدرين تصريحاتٌ ونصوصٌ صريحة تكشف عن ما كان عليه العرب في الجاهلية من سوء
الأحوال والاوضاع والاخلاق في جميع الاصعدة والابعاد ، وسنشير إلى ابرز هذه
النصوص ونقف عندها بعض الشيء ، ولكننا نستعرض قبل ذلك شيئاً من تاريخ العرب في
القرون البعيدة فنقول : إن من المسلَّم أن شبه الجزيرة
العربية كان منذ أقدم العصور موطناً لقبائل كثيرة انقرض بعضها بمرور الايام ،
وفي ثنايا الاحداث ، بيد ان هناك ثلاث قبائل قد تشعَّبتْ عنها أفخاذٌ وفروعٌ
تحظى بشهرة اكثر من بين من سكنوا هذه المنطقة. وهذه القبائل الاُمّ
هي : 1
ـ العرب البائدة : وإنما
سُميت بالبائدة لأنها أبيدت بالعذاب الالهي السماويّ أو الأرضيّ بسبب عصيانها
وتمردها ، وهلكت شيئاً فشيئاً ، ولم يبق على وجه الارض من نسلهم أحد! ولعلهم كانوا هم المعنيون بقوم « عاد
» و « ثمود » الذين جاء ذكرُهم في القرآن الكريم مراراً. 2
ـ القحطانيّون : وهم أبناء يعرب بن قحطان الذين
كانوا يقطنون في « اليمن » وسائر المناطق الجنوبية من الجزيرة العربية ويُسمّون
بالعرب الاُصلاء ، وهم اليمينون اليوم ، ومنهم قبائل الأوس والخزرج وهما قبيلتان
كبيرتان كانتا تقطنان المدينة المنورة إبان ظهور الإسلام. وقد كان للقحطانين حكومات كثيرة ،
كما كانت لهم جهودٌ كبرى في تعمير ارض اليمن واحيائها ، وقد تركوا من ورائهم
حضارات ومدنيّات لا يستهان بها. وتوجد الآن كتابات تُقرأ بصورة علمية
توضحُ إلى حدّ كبير تاريخ القحطانيين وكلُ ما يقال عن مدنيّة العرب وحضارتهم قبل
الإسلام تعود في الحقيقة إلى هذه الطائفة وخاصة من سكَنَ منهم ارضَ اليمن. 3 ـ العدنانيون : وهم أبناء
اسماعيل بن ابراهيم الخليل عليهالسلام
، وسوف يأتي ذكر جذور هذه الطبقة في
الابحاث القادمة. وخلاصة ذلك :
أن إبراهيم الخليل عليهالسلام
اُمرَان يسكن وَلده الرضيع اسماعيل مع زوجته « هاجر » ام اسماعيل في ارض مكة ، فخرج بهما ابراهيم عليهالسلام من « فلسطين » وهبط بهما في ذلك
الوادي العميق الخالي عن الماء والعشب « مكة » ثم ان يد
العناية الالهية امتدت إلى تلك العائلة المهاجرة ، وجادت عليها بعين « زمزم »
الّذي جلب الرواء والحياة إلى تلك المنطقة القاحلة الضامئة. ثم تزوج إسماعيل من
قبيلة « جُرهُمْ » الّتي خيّمت بالقرب من مكة ، واصاب
من هذا الزواج عدداً كبيراً من الابناء ، والاحفاد ، وأحفاد الاحفاد كان من
جملتهم « عدنان » الّذي ينتهي نسبه إلى النبي اسماعيل عبر عدد من الآباء
والجدود. ثم تشعَّبت ذريةُ
إسماعيل إلى بطون وأفخاذ ، وعشائر وقبائل عديدة ، كان
من بينها قبيلة قريش الّتي حظيت بشهرة أكبر
،
ومنها عشيرة بني هاشم الّتي انحدر منها
رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
كما
ستعرف ذلك بالتفصيل ، عما قريب. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أخلاقُ
العرب وتقاليدُهم العامة :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
والمراد منها هو
الأَخلاق والآداب الاجتماعية الّتي كانت سائدة في ذلك المجتمع ، وقد سادت بعض
هذه الاخلاق والعادات والتقاليد في المجتمع العربي عامة. ويمكن تلخيصُ ما كانَ
العربُ يتمتعون به من أخلاق وصفات حسنة عامة في ما يلي : لقد كان العرب زمن الجاهلية وبخاصة
ولد « عدنان » أسخياء بالطبع ، يكرمون الضيف ، وقلّما يخونون في الامانة ، لا
يغتفرون نقض العهود ، ولا يتهاونون مع من يتنكر للمواثيق ، يضحون في سبيل
المعتقد ، ويتحلون بالصراحة الكاملة ، وربما وجد فيهم من تمتع بذكاء لامع ،
وذاكرة خارقة يحفظ بها الأشعار والقصائد الطوال ، والخطب المفصلة. هذا إلى جانب براعتهم في فن الشعر
والخطابة بحيث لم يسبقهم في ذلك غيرهم وإلى جانب انهم كانوا مضرب المثل في
الشجاعة والجرأة ، والمهارة في الفروسية والرمي. يرون الفرار والادبار في الحرب عاراً
لازماً ، وصفة ذميمة يلام صاحبها بسببها اشد اللوم. ولكن في مقابل ذلك كله كانوا يعانون
من مفاسد أخلاقية تغطي على كل كمال عندهم ، وتنسي كل فضيلة. ولو لا تلك الكوة المباركة الّتي
فتحت عليهم من عالم الغيب ، لطويت صفحة حياتهم الإنسانية على القطع واليقين. يعني لو لم تبزغ شمس الإسلام في
أواسط القرن السادس الميلادي ، ولم تسطع اشعتها الباعثة على الحياة ، على عقولهم
وقلوبهم لما رأيت اليوم من العرب العدنانيين اي اثر ، ولتكرّرت مقولة العرب
البائدة مرة اُخرى! لقد حَوَّل فقدان
القيادة الرشيدة ، وغياب الثقافة الصحيحة حياة العرَب ، من جانب ، وانتشار
الفساد والفحشاء من جانب آخر إلى حياة حيوانية مُزرية حتّى أن صفحات التاريخ
تروي لنا أخباراً وقصصاً مفصلة عن حروب دام بعضها خمسين عاماً ، وبعضها الآخر
مائة عام قد نشبت بين الاطراف العربية لأسباب طفيفة ودوافع تافهة جدا. لقد أدى عدم سيادة النظام والقانون
على الحياة العربية ، وعدم وجود حكومة قوية مسيطرة على الاوضاع ، توقف البغاة
والمتمردين عند حدودهم ، إلى أن يعيش العرب ـ آنذاك ـ في صورة القبائل الرُحّل ،
ويرحلوا في كل سنة إلى منطقة معينة من الصحراء التماساً للعشب والماء لانفسهم
ولانعامهم ، فاذا عثروا على ماء وعُشب أو شيء من آثار الحياة نزلوا عنده ،
وأنزلوا رحالهم بجواره ، فاذا سمعوا عن وجود مكان افضل استأنفوا رحلتهم
الصحراوية التماساً لحياة اكثر بركة ، وعطاء ، وأوفر خصباً وأمناً. هذه الحيرة وهذا الضياع وعدم
الاستقرار كان ناتجاً من أمرين : الأوّل
: سوء الاوضاع الجغرافية ورداءة
الأحوال الطبيعية للجزيرة العربية ، وخاصة من حيث الماء والمناخ والمراعي. والآخر
: الحروب والمصادمات الدمَوية الكثيرة
، واضطراب الأحوال الاجتماعية ، الّتي كانت تُلجئ جماعات كثيرة إلى التنقل
الدائم والرحيل عن الأوطان ومغادرتها ، وعدم الاستقرار في منطقة معينة. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
هل
كانَ للعرب حضَارةٌ قَبل الإسلام؟
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
يستنتج مؤلف كتاب «
حضارة العرب » من دراسته لأوضاع العرب الجاهلية أن العرب كانوا أصحاب حضارة
عريقة سبقت الإسلام بقرون. فالقصور الضخمة الّتي أقاموها في
مختلف نقاط ومناطق الجزيرة العربية ، والعلاقات التجارية الّتي كانت لهم مع ارقى
شعوب الأَرض ، شواهد قوية على تمدنهم وحضارتهم الغابرة ، لأن قوماً أنشأوا المدن
العظيمة ـ قبل الرومان بقرون كثيرة ـ وكانت علاقاتهم بارقى واكبر شعوب الأرض
وثيقة ، لا يمكن عدهم همجاً ، وشعباً بلا حضارة. ثم إنه يستدل ـ في موضع آخر من كتابه ـ على حضارة
العرب الغابرة بادابهم ووحدة وكمال لغتهم إذ
يقول : « ولو كان التاريخ صامتاً إزاء حضارة
لقطعنا ـ مع ذلك ـ بوجودها قبل ظهور « محمَّد » بزمن طويل ، ويكفي لتمثّلها أن
نذكر أنه كان للعرب آداب ناضجة ولغة راقية. والحق أنَّ الآداب واللغة من الاُمور
الّتي لا تأتي عفواً ، وهي تتخذ دليلا على ماض طويل ، وينشأ عن إتصال اُمة بأرقى
الامم اقتباسُها لما عند هذه الاُمم الراقية من التمدن إذا كانت أهلا لذلك ». وقد خَصَّصَ المؤلفُ
المذكور صفحات عديدة في كتابه لإثبات حضارة عريقة وعظيمة للعرب قبل الإسلام
معتمداً في ذلك على ثلاث اُمور : 1 ـ وجود لغة راقية. 2 ـ وجود علاقات مع
الامم الراقية. 3 ـ وجود قصور وأبنية
ضخمة ، وفخمة في اليمن كما يصفها المؤرخان المسيحيان
المعروفان « هيردوتس » و « ارتميدور » اللذان كانا يعيشان قبل المسيح بقرون ،
وقدامى المؤرخين المسلمين كالمسعودي (حضارة العرب : 78 ـ 100.).
لا كلام في أنه كانت هناك في بعض
مناطق الجزيرة العربية بعضُ حضارات ، ولكن الأدلة الّتي استند اليها المؤلفُ
المذكورُ لا يمكن ان تكون شاهداً ودليلاً على وجود الحضارة في جميع نقاط الجزيرة
العربية أبداً. صحيح أن تكامل اللغة يسير جنباً إلى
جنب مع غيره من مظاهر المدنيّة ، ولكن لا يمكن ان نعتبر اللغة العربية لغة
مستقلة وغير مرتبطة باللغات الاُخرى اي العبرانية والسريانية والآشورية
والكلدانية ، لأن جميع هذه اللغات ـ حسب ما يؤيده ويؤكده المتخصصون في علم
اللغات ـ كانت ذات يوم ـ متحدة الأصل ، وقد تشعبت من لغة واحدة ، وفي هذه الحالة
يحتمل أن تكون اللغة العربية قد حققت تكاملها عبر اللغة العبرانية أو الآشورية ،
وبعد تكاملها أصبحت لغة مستقلة ، أي ان الآخرين أسهموا في تكميلها. كما أنه لا شك أنّ وجود علاقات
تجارية مع الاُمم والشعوب الراقية هو الآخر دليل على الحضارة والمدنية إلاّ أنه
هل كانت جميع مناطق الجزيرة العربية تملك مثل هذه العلاقات ، أم إن اكثرها كانت
محرومة من ذلك؟ هذا من جهة. ومن جهة أخرى
فان وجود علاقات بين حكومتين في الحجاز وهما :
« الحيرة وغسان » وبين حكومتي « الفرس » و « الروم »
لا يدل أبداً على وجود حضارة في المنطقتين الحجازيتين إذ أن جميع هذه الحكومات
كانت متصفة بالعمالة ، فان الكثير من البلاد الافريقية هي اليوم من مستعمرات
الدول الاوربية ومع ذلك لا توجد فيها أية مؤشرات ولا أية مظاهر من الحضارة
الغربية الواقعية. طبعاً لا يمكن إنكار
حضارة « سبأ ومأرب اليمن » العجيبة لأنه مضافاً إلى ما جاء حول هذه الحضارة في
التوراة ، وما نُقِلَ عن « هيردوتس » وغيره ، كتبَ المؤرخ المعروفُ « المسعودي »
عن مأرب يقول : إن ارض سبأ كانت من أخصب أراضي
اليمن وأَثراها وأغدقها ، واكثرها جناناً وغيطاناً وأفسحها مُروجاً ، بين بُنيان
وجسد مقيم وشجر موصوف ومساكب للماء متكاثفة ، وأنهار متفرقة ، وكانت مسيرة اكثر
من شهر للراكب المجدّ على هذه الحال ، وفي العرض مثل ذلك ، وانّ الراكب أو
المارّ كان يسير في تلك الجنان من أولها إلى أن ينتهي إلى آخرها لا يرى جهة
الشمس ، ولا يفارقه الظِلُ لاستتار الارض بالعمارة والشجر واستيلائها عليها
واحاطتها بها ، فكان أهلها في اطيب عيش وارفهه ، وأهنا حال وارغده ، وفي نهاية
الخصب وطيب الهواء وصفاء الفضاء ، وتدفُّق المياه وقوة الشوكة ، واجتماع الكلمة
، ونهاية المملكة ... فذلّت لهم البلاد ، واذعن لطاعتهم العباد فصاروا تاج الارض
(مروج الذهب : ج 2 ، ص 161 و 162.).
وخلاصة القول أن
هذه الدلائل لا تدل على وجود حضارة في كل مناطق الجزيرة العربية وخاصة منطقة
الحجاز الّتي لم تذق طعم الحضارة أبداً ، حتّى أن « غوستاف لوبون » نفسه يعترف
بهذه الحقيقة إذ يقول : « ان جزيرة العرب نجَتْ من غزو الأجنبي خلا ما أصاب
حدودها الشمالية ، وإن عظماء الفاتحين من مصريين وأغارقة ورومان وفرس وغيرهم ممن
انتهبوا العالم لم يَنالوا شيئاً من جزيرة العرب الّتي أوصدت دونهم أبوابها » (حضارة العرب : ص 93.).
وعلى فرض صحة كل ما قيلَ عن وجود
حضارة شاملة في جميع مناطق الجزيرة العربية فانه يجب القول بان القدر المسلَّم
في هذا المجال هو انه لم يبق أي اثر من هذه الحضارات في منطقة الحجاز ، إبان
طلوع الإسلام ، وبزوغ شمسه ، وهي حقيقة يصرح بها القرآن الكريمُ إذ يقول تعالى :
« وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفرَة مِنَ النّار فأنقَذكُمْ مِنْها » (آل عمران : 103.).
وينْبغي هنا أن نقف عند القرآن الكريم قليلا ـ
كما وعَدْنا بذلك ـ فانه خير مرآة تعكس أحوال العرب وأوضاعهم بدقة متناهية
وبشمولية ماوراءها شمولية. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ملامح
المجتمع الجاهلي العربي في منظور القرآن :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إن القرآن يكشف إجمالا عن أنَّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
بُعِثَ إلى قوم لم يبعث اليها احد قبله إذ يقول : « وَلَكِنْ رَحمةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوماً
ما أتاهُمْ مِنْ نَذير مِنْ قَبْلكَ لَعلَّهُمْ يَتَذكَّرُونَ »
(القصص : 46.).
ويقول في آية اُخرى :
« أمْ يَقُولونَ افتراه بَلْ
هُوَ الحقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنذرَ قوماً ما أتاهُمْ مِنْ نَذير مِنْ قَبلِكَ
لَعَلَّهُمْ يَهْتَدونَ » (السجده : 3.).
ومن المعلوم أن المقصود في هاتين
الايتين ونظائرهما هم قريش والقبائل القريبة اليها. على أن أشمل وصف
قرآنيّ لأوضاع المجتمع العربي الجاهلي وأحواله هو قول اللّه تعالى : «
وَاْعتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّه
جَميعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّه عَلَيْكُمْ إذْ كُنْتُمْ
أعداء فَالَّفَ بَيْنَ قُلُوبكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَته إخواناً وَكُنْتُمْ
عَلى شَفا حُفَرَة مِنَ النّار فَأَنقذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللّه
لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ » (آل عمران : 103.).
فإنَّ هذه الآية تصوّرُ حياة العرب
تصويراً مرعباً ، إذ تُصوِّرُهُمْ اولا وكأنهم قد سقطوا في قعر بئر الجاهلية ،
والضلال والشقاء فلا ينقذهم شيء من قعر التردي والسقوط الاّ التمسُّك بحبل اللّه
، حبل الإيمان والقرآن. وتصوِّرُهُمْ ثانياً
وكأَنهم على شفير جهنم يوشكون أن يسقطوا فيه ويهووا في نيرانه ، وليست تلك النار
إلاّ نيران العداوات والحروب الّتي لو لم يقض عليها الإسلامُ بتعاليمه لاُحرقت
حياة العرب جميعاً. هذه هي صورةٌ سريعةٌ
عما كان عليه العرب في الجاهلية من جهل وسقوط. وامّا تفصيل ذلك فيمكن
الوقوف عليه بمراجعة الآيات الاُخرى التي تعرضت لذكر عادات العرب وأخلاقهم ،
وأفعالهم وتقاليدهم ، بصورة مفصلة ، وها نحن نشير هنا إلى تلكم العادات والاخلاق
الفاسدة على ضوء تلك الآيات على نحو الاختصار تاركين التوسع في ذلك إلى مجال
آخر. لقد اتصف المجتمعُ
العربيُ الجاهلي قبل الإسلام وشاعت فيه أخلاق وعادات من أبرزها ما يلي : |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
1 ـ الشِرْكُ في العِبادة :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
صحيح أن العرب في الجاهلية كانت ـ
كما يكشف القرآن ذلك لنا ـ موحِّدة في جملة من الامور والمجالات كالخالقية
والتدبير والذات (نعم يُستَفاد من آية واحدة أنّه كان هناك اتجاهٌ نادرٌ بين العرب في
الجاهلية ينسب الظواهر الطبيعية إلى الطبيعة والدهر يقول اللّه تعالى : « وَقالوا ما هي إلاّ حَياتُنا الدُّنْيا
نَموتُ وَنَحيا وَما يُهلِكُنا إلاّ الدَهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مَنْ عِلْم
إنْ هُمْ إلاّ يَظُنُّونَ » ( الجاثية : 24 ).)
إلاّ أنهم كانوا ـ في الأكثر ـ مشركين في العبادة ، بل قد ذَهبُوا في هذا السبيل
الباطل إلى أحطَّ المستويات في إتخاذ المعبودات والوثنية. وإلى ذلك يشير قوله تعالى : « وَجَعلُوا للّه شُركاء الجِنَّ وَخَلَقهُمْ
وَخَرَقُوا لَهُ بَنِيْنَ وَبَنات بِغَيْرِ عِلْم سُبْحانَه وتعالى عَما
يَصِفُونَ » (الأنعام : 100.).
وقوله تعالى : « أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ والعزّى وَمَناةَ
الثالِثَةَ الاُخْرى » (النجم : 19 و 20.).
وغير ذلك من الآيات الّتي تشير إلى
ما كانَ يعبُدُه الجاهِليُّون مِن أوثان وأصنام ومبلغ ما وصلوا إليه من انحطاط ،
واسفاف وانحراف في هذا المجال. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
2 ـ إنكارُ المعاد :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
كان المشركون والجاهليون يرفُضُون
الاعتراف بالمعاد الّذي يعني عودة الإنسان إلى الحياة في عالم آخر للحساب
والجزاء ، ويصفون من يخبر عن ذلك اليوم بالجنون أو الكذب على اللّه!! يقول تعالى : « وَقالَ الَّذينَ كَفَروا هَلْ نُدُلُّكُمْ عَلى
رَجل يُنبِّئكُمْ إذا مُزّقْتُمْ كُلَّ مُمزَّق إنَكُمْ لفي خَلق جَديد ،
وأفْترى عَلى اللّه كَذِباً أمْ به جِنَّةٌ بَلِ الَّذينَ لا يُؤْمِنُونَ
بِالآخِرَة في الْعذابِ وَالضَّلالِ البِعيْد
» (سبأ : 7 و 8.). |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
3 ـ هَيْمَنةُ الخرافات :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد كانت حياة العرب
الجاهلية مليئةً بالخرافات الّتي كان منها تحريمهم الأكل من أنعام اربعة ذكرها
القرآن مندداً بهذه البدعة إذ قال : « ما جَعَل اللّهُ مِنْ بَحيرة ولا سائبة وَلا وَصيْلَة
وَلا حام ولكنَّ الَّذينَ كَفَرُوا يَفْترونَ عَلى اللّهِ الكِذبَ وأكثَرُهُمْ
لا يَعقِلُونَ » (المائدة : 103.).
أمّا ( البحيرة )
بوزن فعِلية بمعنى مفعولة من البحر وهو الشق ، فهي الناقة إذا نتجت خمسة أبطن
آخرها اُنثى ـ وقيل ذكر ـ بحروا اُذنها وشقوها ليكون ذلك علامة وتركوها ترعى ،
ولا يستعملها أحد في شيء. وأمّا ( السائبة )
على وزن فاعلة بمعناها أو بمعنى مفعولة فهي الناقة إذا نتجت اثني عشر بطناً ـ
وقيل عشرة ـ فهي تُهمَل ولا تُركب. ولا تمنع عن ماء ، ولا يشرب لبنها الاضيف. وأمّا ( الوصيلة )
بوزن فعيلة بمعنى فاعلة أوبمعنى مفعولة فهي الشاة تنتج سبعة أبطن أو تنتج عناقين
عناقين. وأمّا ( الحامي )
بوزن فاعل من الحمى بمعنى المنع فهو الفَحل من الإبل الّذي يستخدم للقاح الاُناث
، فاذا وُلدَ من ظهره عشرة ابطن قالوا : حُمِي ظهره فلا يحمل عليه ، ولا يُمنع
من ماء ومرعى (راجع مجمع البيان : ج 3 ، ص 252 و 253 في تفسير الآية.).
والظاهر ان هذا المذهب تجاه هذه
الانواع من الانعام كان بدافع الاحترام والشكر لما وهب أصحابها من النعم
والبركات ، غير ان هذا العمل ـ كان في حقيقته ـ نوعاً من الإيذاء والإضرار بهذه
الحيوانات ، لأنهم كانوا يُهملونها ويحرمونها من العناية اللازمة فكانت تشقى
بقية حياتها ، وتقاسي من الحرمان ، مضافاً إلى ما كان يصيبُها من التلف والضياع
، وما يلحق ثروتهم والنعم الّتي وهبها اللّه لهم من هذا الطريق من الضرر
والخسارة. والأسوأ من كل ذلك أنهم ـ كما
يُستفاد من ذيل الآية ـ كانوا ينسبون هذه المبتدعات المنكرات وهذا المنع والحظر
إلى اللّه سبحانه وتعالى ، إذ يقول سبحانه : « وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
يَفْتَرُونَ عَلى اللّه الكذبَ » وقد أعلمَ اللّه في مطلع الآية أنه لم يحرّم
مِن هذه الاشياء شيئاً ، وأنهم ليكذبون على اللّه بادّعائهم أن هذه الأشياء من
فعل اللّه أو أمره. وقد أشار القرآن إلى هذه الخرافات
الّتي كانت تُكبّل عقول الناس في ذلك المجتمع إذ يقول : « ويَضَعُ عَنْهُمْ إصرَهُم والأغلالَ الّتي كانَتْ
عَلَيْهِمْ » (الأعراف : 157 وراجع المحبر : ص 330 ـ 332.). |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
4 ـ الفساد الاخلاقي :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
كان المجتمع الجاهلي
العربي يعاني من فساد ذريع في الاخلاق وقد أشار القرآن الكريم إلى اثنين من أبرز
وسائل الفساد ومظاهره هما : القمار ( الّذي كانوا يسمّونه بالميسر وانما اشتق من اليسر لأنه اخذ مال
الرجل بيُسر وسهولة من غير كدٍّ ولا تعب ) والخمر. وقد بلغ شغفهم بالخمر أنهم أعرضوا عن
قبول الإسلام واعتناقه لأنه يحرّم تناول الخمر وشربه ، كما نقرأ ذلك في قصة الاعشى عما قريب. يقول القرآنُ في هذا
الصعيد : « يَسأَلونَكَ
عَن الخَمْر والمَيْسر قُلْ فيها إثمٌ كبيرٌ وَمَنافِعُ لِلنّاس وَإثمُهما اكبرُ
مِنَ نفْعِهما » (البقرة : 219.).
وقد استطاع القرآن الكريم عبر مراحل
أربع أن يستأصل هذه العادة البغيضة التي كانت قد تجذرت بشكل عجيب في نفوس ذلك
القوم ، حتّى اصبحت السمة البارزة لحياتهم واصبح التغنّي بالخمرة ، ووصفها
الطابع الغالب لآدابهم ، واللون البارز الّذي يصبغ قصائدهم واشعارهم. على أن الفساد
الأخلاقي في المجتمع الجاهلي العربّي قبل الإسلام لم يكن ليقتصر على معاقرة
الخمر ، ومزاولة الميسر بل تعدى إلى ألوان اُخرى ذكرها القرآن الكريم في ثلاثة
عشر موضعاً ، حيث عدّ منها الزنا ، واللوط ،
والقذف ، وإكراه الفتيات على البغاء وماشا كل ذلك (راجع للوقوف على ذلك سورة النساء : 15 و 16. وسورة النور : 2 و 3
وغيرها. وراجع المحبر : ص 340.). |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
5 ـ وَأدُ البنات وإقبارُهن :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ويشير القرآن الكريم أيضاً إلى عادة
جاهلية سيئة اُخرى كانت رائجة بين قبائل العرب الجاهلية قاطبة وهي دفن البنت
حيةً. فقد شجب القرآن الكريم هذه العادة
البغيضة وهذا العمل اللانساني ونهى عنه بشدة في اربعة مواضع ، إذ قال تعالى : « وَإذا المَوؤدةُ سُئلتْ. بأيّ ذَنب قُتِلَتْ »
(التكوير : 8 و 9.).
وقال تعالى : « وَلا
تَقْتُلُوا أولادَكُمْ خَشيَةَ إمْلاق نَحْنُ نَرزقُهُمْ وَإياكُمْ إنَّ
قَتْلَهُمْ كانَ خِطْئاً كبيراً » (الإسراء : 31.).
وقد اتى جدُ « الفرزدق
» « صعصعة بن ناجية بن عقال » رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وعدّ من اعماله الصالحة في الجاهلية أنه فدى مائتين وثمانين موؤدة في الجاهلية ،
وأَنقَذهُنَّ من الموت المحتَّمْ باشترائهنَّ من آبائهن بأمواله. وقد افتخر « الفرزدق »
بإحياء جدِّه للموؤدات في كثير من شعره إذ قال :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
6 ـ تصوراتهم الخرافية حول الملائكة :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وممّا اشار إليه القرآن الكريم
تصورات العرب الجاهلية حول الملائكة ، فقد كانوا يعتقدون أن الملائكة من الإناث
وأنهن بنات اللّه ، إذ يقول تعالى : «
فَاستَفْتِهِمْ ألرَبِّكَ البَناتُ وَلَّهُمْ البَنُونُ. امْ خَلَقْنا
الْمَلائكَةَ إناثاً وَهُمْ شاهِدونَ. ألا إنَّهُمْ مِنْ إفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ
وَلَدَ اللّهُ وَإنَّهُمْ لَكاذِبُونَ أصطفى البَناتِ عَلى البَنينَ. ما لَكُمْ
كَيْفَ تَحْكُمُونَ » (الصافّات : 149 ـ 154.). |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
7 ـ كيفية الانتفاع من الانعام :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إذا كانت العربُ الجاهلية تمتنع من
تناول لحوم الأنعام الاربعة المذكورة آنفاً وتجتنب عن استعمال ألبانها وشعورها
وأصوافها إلا أنها كانت في المقابل تتناول الدم ، والميتة والخنزير ، وتأكل من
الحيوانات والأنعام الّتي تقتلها بصورة قاسية ، وبالتعذيب والأذى ، وربما كانت
تعتبر ذلك نوعاً من العبادة ، ويُعرف ذلك من الآية التالية الّتي نزلت تنهى بشدة
عن أكل هذه اللحوم ، وتحرّم تناولها ، إذ يقول سبحانه : « حُرِّمتْ عَليْكُمُ الميْتَة والدَّمُ وَلَحمُ
الْخِنْزيرِ وَما اُهِلَّ لِغَيْرِ اللّه بِه وَالمُنخَنقةُ والموقوذةُ
والمتردِّيةُ والنَطيحةُ وَما اكَلَ السَبُعُ إلاّ ما ذَكَّيْتُمْ وما ذُبِحَ
عَلى النُصُب وأن تَسْتَقْسِمُوا بِالأزلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ »
(المائدة : 3.).
فقد حرم اللّه في هذه
الآية اكل : 1 ـ الميتة. 2 ـ الدم. 3 ـ لحم الخنزير. 4 ـ ما ذكر اسم غير
اللّه عليه. 5 ـ الّتي تموت خنقاً
، وهي المنخنقة. 6 ـ الّتي تضرب حتّى
تموت ، وهي الموقوذة. 7 ـ الّتي تقع من مكان
عال فتموت وهي المتردية. 8 ـ الّتي تموت نطحاً
من حيوان آخر وهي النطيحة. 9 ـ ما افترسه سبع إلا
إذا ذُكي قبل موته. 10 ـ وما ذُبِح أمام
الاصنام. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
8 ـ الاستقسام بالازلام :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
فقد كان تقسيم لحم الذبيحة يتم عن
طريق الأزلام ، والأزلام جمع ( زلم )
بوزن ( شَرَف ) وهي عيدان وسهام تستخدم في ما يشبه القرعة لتقسيم لحم الذبيحة. فقد كان يشتري عشرة أنفار بعيراً ثم
يذبحونه ، ثم يكتبون على سبعة منها اسهماً مختلفة من الواحد إلى السبعة ولا
يكتبون على ثلاثة منها شيئاً ، ثم يجعلونها في كيس ثم يستخرجونها واحدة بعد
اُخرى ، كلُ واحدة باسم أحدهم فيأخذ كل واحد منهم من الذبيحة ما خرج له من السهم
، وهكذا يقتسمون الذبيحة بينهم (راجع للوقوف على تفصيل هذه الطريقة بلوغ الارب : ج 3 ، ص 62 و 63 ،
والمحبر : ص 332 و 335.)
،
فنهاهم اللّه عن ذلك
بقوله : « وأن
تَستَقْسِمُوا بِالأزلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ »
لأنَّه ضربٌ من القمار الّذي ينطوي على مفاسد الميسر والقمار.
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
9 ـ النسيء :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
كان العرب الجاهليون يعتقدون حرمة
الاشهر الحرم ( وهي اربعة المحرم
ورجب وذوالقعدة وذوالحجة ) فكانوا يتحرجون فيها من
القتال ، وجرت عادة العرب على هذا من زمن إبراهيم واسماعيل عليهماالسلام.
الاّ أنَ سَدَنة الكعبة أو رؤساء
العرب كانوا يعمَدُون أحياناً ، ولقاء مبالغَ يأخذُونها ، أو جرياً مع أهوائهم ،
إلى تأخير الاشهر الحُرمَ ، وهو الأمر الّذي عبّر عنه القرآن الكريم بالنسيء ثمّ
نهى عنه وعدّه كفراً إذ قال : «
إنّما النّسيء زيادةٌ في الكُفْر يُضَلُّ به الَّذينَ كَفرُوا يُحِلونَهُ عامَاً
وَيحرِّمُونهُ عاماً ليُواطئوا عدَّة ما حَرَّمَ اللّه فيحلّوا ما حَرَّمَ اللّه
زيِّنَ لهُم سوء أعْمالِهمْ واللّه لا يهدي الْقومَ الْكافِرينَ »
(التوبة : 37.).
وقد ذكرت كُتُب
التاريخ والسير كيفية النسيء وتأخير الأشهر الحرم ، الّذي كان يتم بصورة مختلفة
منها : أن جماعة ما لو كانت ترغب في استمرار الغارة
والقتال ولم تطق تاخير النضال مدة الاشهر الحرم كانت تطلب من سدنة الكعبة ، لقاء
ما تقدمه لهم من هدايا واموال ، تجويز الغارة والقتال في شهر محرم ، وتحرم
القتال في شهر صفر بدله ليتم عدد الأشهر الحرم (
وهي اربعة ). وهذا هو معنى قوله تعالى : « ليُواطِئوا عدةَ ما حَرَّمَ اللّهُ »
وكانوا إذا أحلُّوا الْقتالَ والغارة في المحرم من سنة حَرَّمُوه في المحرم مِنَ
السَنة التالية ، وهذا هو معنى قوله
تعالى : «
يُحلُّونَهُ عاماً ، ويُحرِّمُونِه عاماً ». |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
10 ـ الربا :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وممّا يشير إليه القرآنُ الكريم من
المفاسد الشائعة ، والأعمال المنكرة في
المجتمع العربي الجاهلي قبل الإسلام : « الربا » الّذي كان يشكل العمود الفقري في
اقتصاد ذلك المجتمع. وقد حاربَ القرآنُ
الكريمُ هذه العادة المقيتة ، وهذا الفسادَ الاقتصادي حرباً شعواء ،
إذ قال تعالى : « يا أيّها
الَّذينَ آمَنُوا اتّقوا اللّهَ وَذَرُوا ما بقيَ مِنَ الرِّبا إنْ كُنْتُمْ
مُؤمِنينَ. فَإنْ لَم تَفْعَلُوا فَأذَنُوا بِحَرب مِنَ اللّهِ وَرَسُولِه وانْ
تُبْتُمْ فَلكُمْ رُؤُوسُ اموالِكُمْ لا تَظْلِمونَ وَلا تظْلَمُونَ »
(البقرة : 278 و 279.).
والعجيب أنهم كانُوا
يُبّررونَ هذا العمل اللإنساني بقولهم « إنّما البيعُ مِثلُ الرِّبا »
(البقرة : 275.)
فاذا كان البيعُ حلالا وهو اخذ وعطاء فليكن الرّبا كذلك حلالا ، فإنه أخذٌ وعطاء
أيضاً ، مع أن « الرّبا » من ابشع صور الاستغلال ، وقد ردَّ سبحانه على هذه المقالة بقوله تعالى
: « وأَحلَّ اللّه البَيْعَ
وَحَرَّمَ الرِّبا » (البقرة : 275.)
ففي البيع والشراء يتساوى الطرفان في تحمل الضرر المحتمل ، بينما لا يتضرر
المرابي في النظام الربوي أبداً وإنّما يلحق الضرر بمعطي الربا دائماً ، ولهذا
تنمو المؤسسات الربوية ، ويعظم رصيدُها ، وثروتها يوماً بعد يوم فيما يزداد
الطرفُ الآخر بؤساً وفقراً ، ولا يحصل من جهوده المضنية إلا على ما يسدُّ جوعته
، ويقيم اوده ، لا اكثر ، كلُ ذلك نتيجة لهذا الاسلوب الاقتصادي غير العادل. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
صورٌ
من الوضع الجاهلي
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ما قدمناه كان أبرز
المفاسد الاخلاقية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية الّتي اشار اليها القرآن
الكريمُ ، وأما التاريخ فمليء بالصور والقصص الّتي تحكي عن تردي حالة العرب
الجاهلية وسقوطها الفضيع في قعر الفساد في جميع المناحي والجهات. واليك
في ما يلي نماذج وصور معدودة تكفي للوقوف على الحالة العامة
في ذلك المجتمع نقتبسها لك من أصحّ المصادر واوثقها : وها نحن نقدم قصة «
أسعد بن زرارة » الّتي تسلط الضوء على ما كان عليه
الوضع الجاهلي في اكثر مناطق الحجاز ،
فقد قدم « أسعد بن زرارة » و « ذكوان بن عبد قيس » ـ وهما من الأوس وكان بين
الاوس والخزرج حرب قد بقوا فيها دهراً طويلا ، وكانوا لا
يضعون السلاح لا بالليل ولا بالنهار ، وكان
آخر حرب بينهم « يوم بُعاث » وقد انتصر فيها الأوسُ على الخزرج
، وكان اسعد بن زرارة صديقاً لعتبة بن ربيعة ، فنزل عليه
ـ مكة في عمرة رجب يسألون الحلف على الاوس
فقال : انه كان بيننا وبين قومنا حربٌ وقد جئناك نطلب
الحلف عليهم ، فقال له عتبة :
إن لَنا شغلا لا نتفرّغ لشيء. قال سعد : وما شغلكم وأنتمْ في حرمكم وأمنكم؟ قال
له عتبة : خرج فينا رجلٌ يدعي أنّه رسول اللّه سفّه أحلامنا ، وسبّ آلهتنا
وأفسدَ شُبّاننا ، وفرّق جماعَتَنا ، فقال له أسعد : مَنّ هو منكم؟ قال : ابن
عبد اللّه بن عبد المطلب من أوسطنا شرفاً ، وأعظمنا بيتاً. وكان أسعد وذكوان ،
وجميع الاوس والخزرج يسمعون من اليهود الذين كانوا بينهم :
النضير وقريظة وقينقاع ، أن هذا أوان نبيّ يخرج بمكة يكون مهاجره بالمدينة
لنقتلنكم به يا معشر العرب ، فلما سمعَ ذلك أسعد وقع في قلبه ما كان سمعَ من
اليهود ، قال : فأينَ هو؟ قال : جالس في الحجر ، وإنّهم لا يخرجون من شعبهم إلاّ
في الموسم ، فلا تسمع منه ولا تكلمه فانه ساحر يسحرك بكلامه ، وكان هذا في وقت
محاصَرة بني هاشم في شعب أبي طالب ، فقال له « أسعد » : فكيف أصنعُ وأنا معتمر
لابدَّ لي أن أطوف بالبيت؟ قال : ضعْ في اُذنيكَ القطنَ ، فدخل « أسعدُ » المسجد
وقد حشا اُذُنيه بالقطن ، فطاف بالبيت ورسول اللّه جالس في الحجر مع قوم من بني
هاشم ، فنظر إليه نظرة فجازه ، فلما كان في الشوط الثاني قال في نفسه : ما أجد أجهلَ
مني؟ أيكونُ مثل هذا الحديث بمكة فلا اتعرّفه حتّى ارجع إلى قومي فاخبرهم ، ثم
أخذ القطن من اذنيه ورمى به وقال لرسول اللّه : أنعَمْ صباحاً ، فرفع رسولُ اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم رأسه إليه وقال :
قد أبدَلَنا اللّه به ما هو احسن من هذا ، تحية أهل الجنة : السلام عليكم ، قال
له أسعد : ( إنّ عهدَك بهذا لقريب ، إلى ما تدعُو يا محمَّد؟ قال : إلى شهادة
ألاّ إله إلاّ اللّه ، واني رسولُ اللّه ، وأدْعُوكُمْ إلى : « ألاّ تشركوا بِه شَيئاً وَبِالوالِدَينِ
إحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أوْلادَكُمْ مِنْ إمْلاق نَحْنُ نَرزُقُكُمْ وإيّاهُمْ
وَلا تَقْرَبوا الفواحِشَ ما ظَهرَ منها وما بطَنَ وَلا تَقْتُلوا النَّفْسَ
التي حَرَّمَ اللهُ إلا بِالحَقِّ ذلِكمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعلكُمْ تَعْقِلُونَ ،
وَلا تَقرَبُوا مالَ اليتيم إلاّ بِالَّتي هي أَحسنُ حَتى يَبْلُغَ أشُدَّهُ
وَأوْفُوا الكيلَ وَالْميزان بِالقِسْطِ لانُكَلِّفُ نَفْساً إلاّ وُسْعَها وإذا
قلتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذاقربى وَبِعَهْدِ اللّه أوْفُوا ذلِكُمْ
وَصّاكُمْ بِه لَعَلَّكُمْ تَذكَّرُونَ » (الأنعام : 151 و 152.).
فلما سمع « أسعد » هذا
قال له : أشهد أن لا إله إلاّ اللّه ، وأنك رسولُ اللّه ،
يا رسول اللّه بأبي أنت واُمي ... (بحار الأنوار : ج 19 ، ص 8 و 9 ، اعلام الورى : ص 35 ـ 40.).
إن الامعان في مفاد هاتين الآيتين
يغنينا عن دراسة شاملة وواسعة لاوضاع العرب الجاهلية لأن هاتين الآيتين تكشفان
عن الأمراض الاخلاقية الّتي كانت تكتنف حياة العرب الجاهلية. ولهذا تلا رسول اللّه الآيات الّتي تشير إلى هذه الادواء
والامراض ليلفت نظر « أسعد » إلى أهداف رسالته الكبرى. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
العقيدة والدين في
الجزيرة العربية :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
عند ما رفع « إبراهيم
الخليل » لواء التوحيد في البيئة الحجازية ، واعاد بناء الكعبة المعظمة ورفع
قواعدها بمعونة ابنه « اسماعيل » ، تبعه في ذلك طائفة من الناس ممن أنار اللّه
به قلوبهم ، الاّ انه من غير المعلوم إلى ايّ مدى استطاع ذلك النبي العظيم أن
يعمّم دين التوحيد ويبسط لواءه على الجميع ، ويؤلف صفوفاً متراصة ، وجبهة عريضة
قوية من الموحدين ، غير ان من المعلوم انه اصبحت تلك
المنطقة مسرحاً للوثنية ولعبادة الاشياء المختلفة مع الايام فقد كانت الطبقة
المثقفة من العرب تعبد الكواكب والقمر ، فهذا
هو المؤرخ العربي الشهير الكلبي الّذي توفى عام 206 هجرية يكتب في هذا الصدد
قائلا كان « بنومليح » من خزاعة يعبدون الجن وكانت « حمير »
تعبد الشمس ، و « كنانة » تعبد القمر ، و « تميم » الدبران ، و « لخم » و « جذام
» المشتري ، و « طي » سُهيلا ، و « قيس » الشِعرى ، و « أسد » عطارداً. أما الدهماء والذين
كانوا يشكلون اغلبية سكان الجزيرة فقد كانوا يعبدون ـ مضافاً إلى الصنم الخاص
بالقبيلة أو العائلة ـ ثلاثمائة وستين صنماً ، وكانوا ينسبون أحداث كل يوم من
أيام السنة إلى واحد منها. وقد دخَلَتْ عبادةُ الأصنام والأوثان
في مكة بعد « إبراهيم الخليل » عليهالسلام
على يد « عمرو بن لحي » ، ولكنها لم
تكن في بداية أمرها بتلك الصورة الّتي وصلت إليها في ما بعد فقد كانوا يعتبرونها
في بداية الامر شفعاء إلى اللّه ووسطاء بينه وبينهم ، ولكنهم تجاوزوا هذا الحد
في ما بعد حتّى صاروا يعتقدون شيئاً فشيئاً بانها اصحاب قدرة ذاتية مستقلة ،
وأنها بالتالي آلهة وأرباب. وكانت الاصنام المنصوبة
حول الكعبة تحظى باحترام جميع الطوائف العربية ، ولكن
الاصنام الخاصة بالقبائل فقد كانت موضع احترام جماعة خاصة فقط ، ولأجل أن تبقى
حرمة هذه الأصنام والأوثان الخاصة محفوظة لا يمسها أحد بسوء كانوا ينشؤون لها
أماكن وبيوت خاصة ، وكانت سدانة هذه البيوت والمعابد تنتقل من جيل إلى آخر
بالوراثة. أما الآصنام العائلية
فقد كانت العوائل تقتنيها للعبادة كل يوم وليلة ، فاذا أراد احدهم السفر كان اخر
ما يصنعه في منزله هو ان يتمسح به أيضاً. وكان الرجل إذا سافر فنزل منزلا أخذ
أربعة أحجار فنظر إلى أحسنها ، واتخذهُ رَبّاً وجعَلَ ثلاثة أثافيّ لقدْره ،
وإذا ارتحل تركه. وكان من شَغَفَ أهلِ مكة وَحُبّهم
للكعبة والحرم أنه كان لا يسافر منهم أحدٌ إلا حَمَل معه حجراً من حجارة الحرم
تعظيماً للحرم ، وحباً له فحيثما حلّوا نصبوه وطافوا به كطوافهم بالكعبة صبابة
بها ، ويمكن أن تكون هذه هي « الأنصاب » الّتي فُسرت بالاحجار العادية غير
المنحوتة وتقابلها الأوثان ، وهي الاحجار المنحوتة على هيئة خاصة ، وأما «
الأصنام » فهي المعمولة من خَشَب أو ذهب أوفضة على صورة انسان. لقد بلغ خضوعُ العرب
أمام الاصنام والأوثان حداً عجيباً جداً ، فقد كانوا
يعتقدون بأنهم يستطيعون كسبَ رضاها بتقديم القرابين اليها ، وكانوا بعد نحر
الهدايا يلطخون وجوه الاصنام ورؤوسها بدماء تلك الهدايا ، وكانوا يستشيرونها في
مهام امورهم ، وجلائل شؤونهم ، فاذا ارادوا الوقوف على مستقبل الأمر الّذي
تصدّوْا له ومعرفة عاقبته أخيرٌ هو أم شرٌ استقسمَ لهم أمين القداح بقدحي (
الأمر والنهي ) وهيَ قطع كُتِبَ على بَعضها ( إفْعَلْ ) وعلى بعضها الآخر ( لا
تَفْعَلْ ) فيمدُّ أمين القداح يده ويجيل القداح ويخرج واحداً فانْ طَلَع الآمر
فعل أو الناهي ترك. وخلاصة القول ، ان
الوثنيّة كانت العقيدة الرائجة في الجزيرة العربية ، وقد تفشَّتْ فيهم في مظاهرَ
متنوعة ومتعددة ، وكانت الكعبة المعظمة ـ في الحقيقة ـ محطَّ أصنام العرب
الجاهلية وآلهتهم المنحوتة ، فقد كان لكل قبيلة في هذا البيت صنم ، وبلغ عدد الاصنام الموضوعة في ذلك المكان المقدس (360) صنماً في
مختلف الاشكال والهيئات والصور ، بل كان النصارى أيضاً قد نقشوا على جدران البيت
وأعمدته صوراً لمريم والمسيح والملائكة ، وقصّة ابراهيم. وكان من جملة تلك
الأصنام : « اللات » و « العُزّى » و « مناة » الّتي كانت
تعتبرها قريش بنات اللّه ويختص عبادتها بقريش. وكانت « اللات » تعتبر اُمُّ الالهة
، وكان موضعها بالقرب من « الطائف » وكانت من الحجر الابيض ، واما « مناة »
فكانت في عقيدتهم إلاهة المصير وربَّة الموت والاجل وكان موضعها بين « مكة » و «
المدينة ». ولقد اصطحب « ابوسفيان » معه يوم «
اُحد » : « اللات » و « العزّى ». ويروى انه مرض ذات يوم « أبو أُحيحة
» وهو رجل من بني اُمية ، مرضه الّذي مات فيه ، فدخل عليه ابولهب يعوده ، فوجده
يبكي ، فقال : ما يبكيك يا با احيحة؟ أمن الموت تبكي ولابد منه؟ قال : لا ولكني
اخاف ان لا تُعبَد العزى بعدي! قال ابولهب : واللّه ما عُبدَت حياتك ( اي لا جلك
) ولا تُترك عبادتُها بعدك لموتك!! فقال أبو اُحيحة : الآن علمتُ ان لي خليفة (الأصنام للكلبي : ص 23.).
ولم تكن هذه هي كل الأَصنام الّتي
كانت تعظِّمها وتعبُدُها العربُ بل كانت لقريش اصنامٌ في جوف الكعبة وحولها وكان
اعظمها « هُبَل » ، كما انه لم يكن لكل قبيلة صنم خاص فحسب بل كانت كل عائلة
تعبد صنماً خاصاً بها مضافاً إلى صنم القبيلة وكانت المعبودات تتراوح بين
الكواكب ، والشمس ، والقمر ، والحجر ، والخشب ، والتراب ، والتمر ، والتماثيل
المنحوتة المختلفة في الشكل ، والهيكل ، والاسم ، المنصوبة في الكعبة أو في سائر
المعابد. لقد كانت الاصنام
جميعها أو أغلبها معظَّمة عند العرب ، يتقربون عندها بالذبائح ويقرّبون لها
القرابين ، وجرت عادة بعض القبائل انذاك أن تختار من بين أفرادها كل سنة شخصاً
في مراسيم خاصة ثم تذبحه عند أقدام اصنامها ، وتقبر جسده على مقربة من المذبح. هذا العرض المختصر
يكشف لنا كيف أن ارض الجزيرة العربية برمتها كانت قد اصبحت
مسرحاً للاصنام ومستودعاً ضخماً للاوثان ، وكيف تحولت هذه البقعة من العالم
ببيوتها وازقتها وصحاريها وحتّى بيت اللّه المحرم كانت قد تحولت إلى مخزن
للنُصُب المؤلَّهة ، والتماثيل المعبودة ، ويتجلى هذا الأمر من قول شاعرهم الّذي
اسلم وراح يستنكر ما كان عليه من عبادة الاصنام المتعددة الخارجة عن الاحصاء
والعدّ ، إذ قال :
بلوغ الارب في معرفة أحوال العرب : ج 2 ، ص 249 وجاء البصير.) وقد حدثت بسبب الاختلاف والتعددية في
عبادة الاصنام والاوثان المؤلَّهة السخيفة الباطلة ، تناقضاتٌ ، وصراعاتٌ ،
وحروب ومناحرات ، قد جرّت بالتالي ويلات ومآس وخسائر مادية ومعنوية كبرى على تلك
الجماعة المتوحشة ، الضالة. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
عقيدة العرب حول
حالة الإنسان بعد الموت :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وعن مصير الإنسان
وحالته ما بعد الموت هذه المشكلة الفلسفية العويصة كانت رؤية العرب ونظرتهم
تتلخص في ما يلي : عند ما يموت الإنسان تخرج روحه من
جسده على هيئة طائر شبيه بالبوم يسمى عندهم ب « الهامّة والصدى » ثم يبقى هذا
الطائر قريباً من جسد الميت ينوح نوحاً مقرحاً وموحشاً ، وعند ما يوارى الميت
يبقى هذا الطائر مقيماً عند قبره إلى الابد! وربما وقفَ على جدار منزل الميت
أحياناً لِتَسقُّطِ أخبار عائلته والاطلاع على أحوالهم!! قال شاعرهم في ذلك :
وإذا كان المرء قدمات بموتَة غير طبيعية كما
لو قُتِلَ ـ مثلا ـ فإنَ ذلك الحيوان ينادي باستمرار : « اسقوني ... اسقوني » اي
اسقوني بسفك دم القاتل واراقته ؛ ولا يسكن عن هذا النواح والنداء الخاص الابعد
الانتقام والثأر من قاتله. قال احدهم في ذلك :
من هنا بالضبط تتجلى الحقيقة للقارئ
ويعلم جيداً كيف أن تاريخ العرب ما قبل الإسلام وتاريخهم ما بعد الإسلام ما هو
الاّ تاريخان على طرفي نقيض : فذلك تاريخ جاهلية ، ووثنية وإجرام ،
وهذا تاريخ علم ووَحدانية وانسانية وايمان ، وشتان ما بين وأد البنات ، وبين
رعاية الايتام ، وبين السلب والنهب والاغارة وبين المواساة والايثار ، وبين
عبادة الاوثان والاصنام الصماء العمياء والتقرب إلى اللّه الواحد القادر. 1 ـ بلوغ الارب : ج 2 ، ص 311 و 312. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الآداب مرآة آداب
الشعوب ونفسياتها :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
المخلَّفاتُ الفكرية والثقافية ، وما
يتركه أيُ شعب من الشعوب من قصص وحكايات افضل وسيلة للتعرف على خلفياته النفسية
والأخلاقية ، ذلك لأنّ الآداب بما فيها الشعرُ والقصةُ ، والخطبةُ والحكايةُ ،
والمثلُ والكنايةُ مرآة صادقةٌ تعكس المستوى الفكري لأيّة جماعة ، وتعتبرُ خير
مقياس لتمدّنها ، وحضاراتها ، وأفكارها ونفسياتها ، تماماً كما تحكي اللوحاتُ
الفنيةُ عن حياة عائلة ، أو منظر طبيعي جميل ، أو اجتماعات صاخبة ، أو مشاهدَ
قتالية. إنَ القصائد والأَمثال
العَربية الّتي كانت رائجة آنذاك تستطيع ـ قبل كل شيء ـ أن تكشف عن الوجه الحقيقي
لتاريخهم ونمط حياتهم وسلوكهم ، ولهذا
السبب لا يجوز لأي مؤرخ واقعي يسعى إلى الحصول على صورة كاملة عن تاريخ شعب من
الشعوب أن يتجاهل التركة الفكرية والأدبية والثقافية لذلك الشعب سواء أكان شعراً
أم نثراً ، أمثالا أم حكماً ، قصصاً أم أساطير. ومن حسن الحظ أنّ مؤرخي الإسلام اثبتوا وسجلوا باتقان ما اُثِرَ من العرب
ممّا يرتبط بآدابهم في العصر الجاهلي بقدر ما اُتيحَ لهم ذلك. وقد كان ابو تمام «
حبيب بن اويس » ( المتوفى عام 231 هجرية ) والّذي
يُعتبر من كبار أُدباء الشيعة ،
وله قصائد رائعة في مدح آل الرسول ، ممن اعتنى عناية بالغة بهذه الناحية ، حيث جَمع في كتاب واحد طائفة كبيرة جداً من الشعر الجاهلي مفصلة
في عشرة أبواب هي : 1 ـ الحماسة. 2 ـ المراثي. 3 ـ الادب. 4 ـ النسيب. 5 ـ الهجاء. 6 ـ الاضافات. 7 ـ الصفات. 8 ـ السير. 9 ـ المُلَح. 10 ـ مذمة النساء. وقد تناولَ هذا الديوان التاريخيُ
القيم عددٌ كبيرٌ من أُدباء المسلمين وعلمائهم بشرح ابياته ، وتفسير غوامضها ،
وبيان اغراضها ، ومقاصدها. كما ترجم أصلُ الديوان إلى لغات
اجنبية عديدة جاء ذكر طائفة منها في كتاب « معجم المطبوعات » (معجم المطبوعات : ص 297 ، وقد اشتهر هذا الديوان ببابه الأول : «
الحماسة » فسمي ديوان الحماسة.). |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
مكانة المرأة عند
العرب الجاهلية :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إن الباب العاشر من
هذا الديوان خير وسيلة لمعرفة ما كانت عليه المرأة في العصر الجاهلي من الحرمان
، وأقوى دليل على أنها كانت تعيشُ ـ في ظل ذلك العهد ـ في أسوأ الحالات وأشد
الظروف واتعسها. هذا مضافاً إلى أن الآيات القرآنية الّتي
تنزلت وهي تشجبُ بعنف معاملة الجاهلين للعنصر النسائي ، وقسوتهم على الاُنثى ،
هي الاُخرى افضل شاهد على مدى الانحطاط الاخلاقي والتدهور السلوكي الّذي انحدروا
إليه في هذا المجال. إن القرآن الكريم
يصف عادة وأد البنات بقوله : «
وإذا الموؤدة سُئلت »
(ـ التكوير : 8.)
أي ليسئل يوم القيامة عن البنات اللاتي وُئدن وهنّ أحياء. إن القرآن الكريم بهذه
العبارة الموحية إنما يتحدث ـ في الحقيقة ـ عن عادة
وأدالبنات بمرارة ، ويشجبها بشدة حتّى أنه يعتبرها جريمة نكراء لا تمر ـ في
الآخرة ـ بدون حساب شديد ، وسؤال خاص. حقا انه لأمرٌ يكشف عن
مدى القسوة الّتي كان عليها قلوبُ الجماعة. إنها قسوة تغشى كل عواطف المرء فلا
يعود يسمع معها نداء الضمير ، ولا يحسُّ معها بوخز الوجدان ، انه لا يعود يسمع
معها حتّى صراخ بنته الجميلة البريئة ، واستغاثاتها المؤلمة وهي ترى باُم عينيها
حفيرتها ، وتحس بيدي والدها القاسي ، وهو يدفعها إلى تلك الحفرة ويدفنها حية! إنها قسوة تكشف عن
أسوأ وأحطّ درجات الانحطاط الخلقي ، والتقهقر الإنساني. وبنو تميم هي أول
قبيلة اقدمت على هذه الجريمة النكراء ، وكان السبب
أن « بني تميم » أمتنعوا من دفع ضريبة الاتاوة الّتي كانت عليهم إلى الملك ، فجرّد اليهم النعمان بن المنذر حاكم العراق آنذاك جيشاً كبيراً
لضرب هذا التمرد ، وانتصر على « بني تميم » في المآل وغنم منهم الغنائم وسبى
منهم الفتيات والنساء ، فوفدت وفود « بني تميم » على النعمان بن المنذر وكلّموه
في الذراري والنساء ، فحكم النعمان بان يجعل الخيار في
ذلك إلى النساء ، فأية امرأة اختارت زوجَها ردّت عليه ، فاختلَفْنَ في الخيار ،
فاختار بعضهُنَّ العودة إلى الاهل والاباء ،
واختارت بنتٌ لقيس بن عاصم سابيها على زوجها مما أثار هذا الموقف والاختيار غيظ
والدها العجوز « قيس بن عاصم » فنذرَ من ذلك الحين أنْ يدسَ كلَ بنت تُولَد له.
وهكذا سنّ لقومه الوأد ، واخذت بقية القبائل
بهذه العادة البغيضة الوحشية إرضاءً لغيرتهم وظلّوا
يمارسونها اعواماً متمادية (ـ بلوغ الارب في معرفة أحوال العرب : ج 3 ، ص 42 و 43.).
واليك واحدة من القصص
المأساوية في هذا المجال : قيل لماوفد « قيس بن عاصم » على رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
سأله بعض الانصار عما يتحدث به في الموؤدات ،
فاخبر انه ما ولدت له بنت إلاّ وأدها ، قال : كنتُ اخاف العار وما رحمتُ منهنَ
إلاّ بُنيّة كانت ولدتها اُمها وأنا في سفر ، فدفعتها إلى أخواتها ، وقدمت أنا
من سفري فسألتها عن الحمل ، فاُخبِرت أنها ولَدت ولداً ميتاً ، وكتمتْ حالها ،
حتّى مضت على ذلك سنونٌ ، وكبرت الصبية ، وينعت ، فزارت اُمها ذات يوم ، فدخلتُ
فرأيتها وقد ضفرت شعرها وجعلت في قرونها جداداً ونظمت عليها ودعاً ، والبستها
قلادة من جزع فقلت لها : من هذه الصبية؟ وقد اعجبني جمالها فبكت اُمها ، وقالت :
هذه ابنتك ، فامسكتُ عنها حتّى غفلتْ اُمها ثم اخرجتها يوماً فحفرتُ لها حفرة وجعلتها
فيها وهي تقول : يا ابت ما تصنع؟ أخبرني بحقك!! وجعلتُ اُقلّب عليها التراب ،
وهي تقول : أنت مغط عليَّ بهذا التراب ، أنت تاركي وحدي ، ومنصرفٌ عني ، وجعلتُ
اقذفُ عليها حتّى واريتها ، وانقطع صوتُها ، فتلك
حسرتها في قلبي ، فَدَمعتْ عينا رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم وقال :
« إن هذه لقسوة ، ومن لا يَرحَم لا يُرحَم » (حياة محمَّد : تأليف محمَّد علي سالمين ، ص 24 و 25.).
وقد ذكر ابن الاثير في
كتابه « اُسد الغابة » في مادة : قيس : ان النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
سأل قيساً عن عدد البنات اللاتي وأدهنَّ في الجاهلية : فاجاب قيسٌ بانه وأد
اثنتي عشرة بنتاً له (راجعُ اسد الغابة : ج 4 ، ص 220 ، وجاء في بلوغ الارب في معرفة أحوال
العرب : ج 3 ، ص 43 أنه وأد بضع عشرة بنتاً.).
ورُوي عن ابن عباس أنه
قال :
كانت الحامل إذا قَربت ولادتها حفرت حفرة فمخضت على رأس تلك الحفرة ، فاذا ولدت
بنتاً رمت بها في الحفرة وإذا ولدت ولداً حبسته (بلوغُ الارب : ج 3 ، ص 43.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
المرأة ومكانتها
الاجتماعية عند العرب :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
كانت المرأة عندهم
تباع وَتُشترى كالمتاع ، وكانت محرومة من جميع الحقوق الاجتماعيّة والفردية ،
حتّى حق الارث. وقد كان المثقفون من
العرب يعُدُّون النساء من الحَيوانات ، ولهذا كانوا
يعتبرونهن جزءً من أثاث البيت ويعاملونهن معاملة الرياش والفراش حتى سار فيهم المثلُ المعروفُ : « وانما امّهات الناس اوعية ». كما أنهم غالباً ما كانوا يقتلون
بناتهم في اليوم الاول من ميلادهن خشية الفقر
تارة
، ودفعاً للعار والشنآن تارة اُخرى. وقد كان هذا القتل يَتُمُّ إما
بذبحهن أو إلقاءهنّ من شاهق ، أو إغراقهنّ في الماء أو الدفن وهن أحياء كما سبق.
وقد تعرض القرآنُ الكريم ـ الّذي
يعدّ من وجهة نظر المستشرقين الكتابَ والمصدرَ التاريخي العلمي الوحيد الّذي لم
تنله يدُ التحريف ـ تعرَّض لذكر قصة من هذا النوع ضمن آيات من سورة النحل حيث
قال : « واذا
بُشِّرَ أحدُهم بالاُنثى ظلَّ وجهُهُ مُسَوّداً وهو كظيم يتوارى مِن القوم مِنْ
سُوءِ ما بُشِّر بِه أيمسِكُهُ عَلى هُون اَمْ يَدسُّهُ في التُرابَ ألا ساء ما
يحكمونَ » (النحل : 58 و 59.).
هذا والمؤسف أكثر هو ما كان عليه وضع
الزواج في الجاهلية ، حيث لم يكن يستند إلى أي قانون ، ولم يخضع لأيّ واحد من
النظم المعقولة ، بل كان وضعاً عديم النظير في ذلك الزمان ، فلم يكن لعدد
الزوجات ـ مثلا ـ حد معلوم ، أو قاعدة ثابتة. كما انه كلما أرادوا التخلص من مهر
الزوجة عمدوا إلى ايذاءها بقسوة ، حتّى تتخلى هي بنفسها عن حقها ، وكان اقترافها
لأيّ عَمل مناف للعفة هو الآخر سبباً لسقوط حقها في المهر بالمرة. ولطالما استغلَّ بعض الاشخاص هذا
القانون الجائر للتخلص مِن مهور زوجاتهم فاتهموهن بالخيانة الزوجية!! ومن قبيح ما كانوا يفعلون ان يتزوج
الرجل بزوجة أبيه بعد تطليقها ، أو وفاته وربما تناوب الأبناء على امرأة أبيهم
واحداً بعد واحد ، فقد كانَ الرجل من العرب الجاهلية إذا مات عن المرأة أو
طلّقها قام أكبر بنيه ، فان كان يحبُّ أن يتزوجها طرح ثوبه عليها ، وإن لم يكن
يريد التزوج بها تزوَّج بها بعضُ اخوته بمهر جديد (المحبر : ص 326 و 327.).
وقد ابطل الإسلامُ هذه العادة
الفاسدة حيث قال اللّه تعالى : «
ولا تنكحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساء إلاّ ما قد سَلَف إنَّهُ كانَ
فاحِشَة ومقتاً وساء سَبيلا »
(النساء : 22 ، وكانوا يُسمّون من يتزوج زوجة أبيه الضيزن ، وكان هذا
الزواج يسمّى في الجاهلية « نكاح المقت » ويُسمى الولد منه : مقتّي. ( راجع بلوغ
الارب : ج 2 ، ص 53 ومجمع البيان للطبرسي : ج 3 ، ص 26 ).).
وقد ذكرت كتبُ التاريخ
والسيرة طائفة ممن فعلوا هذا نعرض عن ذكر أسماءهم. كما ذكرت تلك الكتب انواعاً اُخرى من
المناكح الفاسدة الشنيعة الّتي أبطلها الإسلام (المحبر : 337 ـ 340.).
ثم إن المطلَّقة
لم يكن لها الحق ـ في زمن الجاهلية ـ
في ان تتزوج برجل آخر بعد انقضاء عدّتها إلا إذا اذنَ لها الزوجُ الأول الّذي
كان غالباً مّا يأخذ مهرها في الزواج الثاني في قبال الاذن. وربما مَنَع اولياؤُها من أن تتزوج
بزوجها الاول الّذي طلَّقها ، ثم خطبها بعد انقضاء العدة إذا رضيَتْ به ورغبت
فيه ، أو أنْ تتزوج بمن أرادَت واحبَّت ـ بعد انقضاء العِدّة ـ أصلا ، حميّة
جاهلية. وكان الرجُل يرث امرأة
ذي قرابته إذا مات عنها ، تماماً كما يرث ما خَلف من أمتِعةِ
المنزل ، زاعماً بانه أحقُ بها من غيره ،
فيعظلها ( يمنعها من الزواج ) أو ترّدُ إليه صداقها ، وفي
رواية ؛ إن كانت جميلة تزوجها ، وان كانت دميمة حبسها حتّى تموتَ فيرثها ، وقد
نهى اللّه تعالى عن ذلك ، وأبطلَ تلك العادات إذ قال تعالى : « وَإذا طَلَّقْتُمُ النِّساء فَبلغنَ أَجَلَهُنَّ
فلا تَعْضُلُوهُنَّ أنْ يَنكِحْنَ أزواجَهُنَّ إذا تَراضَوا بَيْنَهُمْ
بِالْمَعرُوفِ ذلِكَ يُوعَظ بِه مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمنُ باللّه واليَوْمَ
الآخِر ذلِكُمْ اَزكى لَكُمْ وَأطْهَرُ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا
تَعْلَمُونَ » (البقرة : 232.).
وقال سبحانه : « يا أيُّها الَّذينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ
أن تَرثُوا النِّساء كَرْهاً وَلا تَعضلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْض ما
آتيتُموهُنَّ » (النساء : 19.).
وقال تعالى : « وَإذا طَلَّقْتُمُ النِّساء فَبَلَغْنَ
أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوف أوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوف وَلا
تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ
نَفْسَه » (البقرة : 231.).
وخلاصة القول ؛
إن المرأة كانت في العَهد الجاهِليِّ بشرّ حال ، ويكفي لتلخيص ما قلناهُ انه لما
خطب احدهم إلى رجل ابنَتَه ، وذكَرَ لَهُ المهر والصداق قال : إنّي وإن سِيْقَ
إليّ المهْر ألْف وعَبْدانِ ( اي عَبيدَ ومماليك ) وذَوْد ( وهو من الابل مِنَ
الثلاث إلى العشر ) عَشْرُ ، أَحَبُّ أصْهاري إليّ القَبْرُ وقال شاعرهم ، في ذلك.
كما ان العرب كانت مصفقة ومتفقة على
توريث البنين دون البنات (المحبر : ص 236.). (بلوغ الارب : ج 2 ، ص 9.) |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
مقارنة بسيطة :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ولو لاحظتَ أيها القارئ الحقوق الّتي
قررها الإسلام في مجال ( المرأة ) لاذعنتَ ـ حقاً ـ بأن هذه الاحكام والمقررات
وهذه الخطوات المؤثرة الّتي خطاها النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
في سبيل اصلاح حقوق المرأة ، وتحسين اوضاعها ، هي بذاتها شاهدُ حق ، ودليل صدق
على حقانيّته ، وصدق ارتباطه بعالم الوحي. فاية رعاية ولطف بالمرأة وحقوقها وأي
اهتمام بشأنها وكرامتها أعلى واكثر من ان يوصي النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
مضافاً إلى ما جاء في آيات واحاديث كثيرة تؤكّد على حقوق المرأة
وتوصي أتباع هذا الدين بالرحمة بهن واحترامهن في خطبته الشهيرة في ( حجَة الوداع
) بالمرأة ، ويؤكد
على ذلك اشد تأكيد إذ يقول صلىاللهعليهوآلهوسلم
: « ايها النَّاسُ إنَّ لِنساءكُمْ عَلَيكُمْ حقاً ،
ولكم عليهنَّ حقاً ... فاتقوا اللّه في النِّساء واْستوصُوا بهنَّ
خيراً ، فانهنَّ عندكم عبوانٌ ... أطعمُوهُنَّ ممّا تأكُلُون ، وألْبِسُوهُنَّ
ممّا تَلبِسُونَ » (وردت هذه العبارات في مصادر مختلفة مع شيء طفيف من الاختلاف ، راجع
تحف العقول : ص 33 و 34.). |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
العربُ والرُّوح
القتالية :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
من الناحية النفسية
يمكن القول بان عرب الجاهلية كانوا النموذج الكامل للإنسان
الحريص ، الموصوف بالطمَع الشديد ، القويّ التعلق بالماديات. لقد كانوا ينظرون الى كل شيء من
زاوية منافعه ومردوداته المادية ، كما أنهم كانوا دائماً يرون لأنفسهم فضيلة
وميزة على الآخرين. كانوا يحبّون الحرية حباً شديداً ،
ولذلك كانوا يكرهون كل شيء يقيّد حريتهم. يقول ابن خلدون عنهم :
«
إنهم ( اي العرب الجاهلية ) بطبيعة التوحُّش الّذي فيهم اهلُ انتهاب وعيث ،
ينتهبون ما قدروا عليه ... وكان ذلك عندهم ملذوذاً لما فيه من الخروج عن ربقة
الحكم ، وعدم الإنقياد للسياسة وهذه الطبيعة منافيةٌ للعمران ومناقضة له ». ويضيف قائلا :
« فطبيعتهم انتهاب ما في أيدي الناس ، وان رزقهم في ضلال رماحهم وليس عندهم في
أخذ اموال الناس حدُّ ينتهون إليه بل كلما امتدت أعينهم إلى مال أو مَتاع أو
ماعون انتهبوه » (مقدّمة ابن خلدون : ص 149.).
لقد كانت الاغارة وكان النهب والقتال
من العادات المستحكمة عند القوم ، ومن الطبائع الثانوية في نفوسهم ، وقد بلغ
ولعهم وشغفهم بكل ذلك ونزوعهم الشديد إليه أن أحدهم ـ كما يقال ـ سأل النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
بعد أن سمع منه وصف الجنة وما فيها من نعيم : وهل فيها قتال؟ ولما سمع الجواب بالنفي قال : اذن لا
خير فيها!! اجل لقد سجل التاريخ
للعرب ما يقرب من (1700) وقعة وحرباً ، امتد أمدُ بعضها إلى مائة سنة أو اكثر ، يعني أن
أجيالا كثيرة كانت تتوارث الحرب ، وتستمر في قتال الخصم ، وربَّ حرب دامية
طويلةُ الأمد إندَلعت بسبب قضيَة تافهة (العرب قبل الإسلام : ص 319 و 320 ، هذا وتعتبر حرب داحس والغبراء ،
من أيام العرب التاريخية قبل الإسلام ، وقد نشأت بسبب سباق بين فرسين هما داحس
والغبراء ( وهو فرسين لقيس بن زهير من بني عبس ) وفرسين آخرين ( لحذيفة الغدر )
انتهى إلى التنازع في السباق وازداد التنافر بين المتسابقين وانجرّ إلى طعن
أحدهما الآخر ، وأن تتهيأ على اثر ذلك مقدماتُ حرب طويلة بين قبيلتي الرجلين
وحلفائهما استمرت من عام 568 م إلى عام 608 م وموت كثيرين. ( راجع تاريخ العرب
وآدابهم ص 47 والكامل لابن الأثير : ج 1 ، ص 204 ).).
لقد كان العربي في العهد الجاهلي
يعتقد بأنَ الدم لا يغسلهُ الا الدم ، وقضية « الشنفري » الّتي هي اشبه
بالأساطير لغرابتها يمكن أن تعكس مدى « العصبية الجاهلية » الّتي كانت سائدة
آنذاك. فالشنفري يُهانُ على
يد رجل من « بني سلامان » فيعزم على الانتقام منه ، وذلك بأن يقتل مائة من تلك
القبيلة ، وبعد التربُّص الطويل يغتال تسعاً وتسعين ،
ويبقى مشرَّداً حتّى تغتالُه جماعة من اللصوص عند بئر فتفعل جمجمته ـ بعد مقتله
ـ فعلتها ، اذْ تتسبَّبُ بعد مرور سنين ـ في قتل رجل من قبيلة ـ « بني سلامان » وبذلك يكتمل
العدد الّذي حلف على قتلهم من تلك القبيلة ، وذلك عندما يمر رجل من « بني سلامان
» على تلك المنطقة فيهب طوفان شديد يلقي
بجمجمة « شنفرة » على ذلك الرجل فتصيبُه في رجله بشدة
، فيموتُ بما لحقه من ألم وجراحة (تاريخ العرب : ج 1 ، ص 111 ، وراجع أيضاً بلوغ الارب في معرفة أحوال
العرب : ج 2 ، ص 145 و 146.).
ولقد بلغ اُنس العرب الجاهلية
بالقتال وسفك الدماء أن جعلوا القتل والسفك للدماء من مفاخر الرجال!! ويبدو ذلك جلياً لمن يقرأ قصائدهم
الملحمية الّتي تفوح منها رائحة الدم ، ويخيّم عليها شبح الموت ، تلك القُصائد
الّتي يمدح فيها الشاعر نفسه أو قبيلته بما أراقوه من دماء!! ، وما ازهقوه من
ارواح وما سبوه من نساء!! ، وأيتموه من أطفال!! ونجد في البيت الشعريّ
التالي مدى انزعاج الشاعر العربيّ الجاهلي لما اصابَ قبيلته مِن نكسة وذل وهزيمة
في ميدان القتال ، إذ يقول :
ويصف القرآن الكريم هذه الحالة
بقوله : « وَكُنْتم
عَلى شَفا حُفْرة مِنَ النّار فَأَنْقَذَكُمْ مِنها » (آل عمران : 103.). |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الاخلاق
العامة في المجتمع الجاهليّ العربي :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومهما يكن من امر فان عوامل مختلفة
كالجهل وضيق ذات اليد ، وجشوبة العيش ، وعدم وجود قانون صحيح يحكم الحياة
الاجتماعية ، وحالة البداوة الموجبة للتوحش ، والكسل والبطالة وغير ذلك من
الرذائل الاخلاقية كانت قد حَولَّتْ جوَّ الجزيرة العربية إلى جوّ فاسد قاتم ،
حتّى أن اُموراً يندى لها الجبين قد اخذت طريقها إلى حياة تلك الجماعة وراحت
تتخذ شيئاً فشيئاً صفة العادات المتعارفة!! لقد كانت الغارات
وعملياتُ النهب ، والقمار ، والربا ، والاسر ، والسبي من الأعمال والممارسات
الرائجة في حياة العرب الجاهلية ، وكان شرب الخمر ومعاقرتها بلا حدود
هو الآخر من الأعمال القبيحة الشائعة لديهم ،
ولقد ترسَّخت هذه العادة القبيحة في حياتهم إلى درجة انها صارت جزء من طبيعتهم ،
وحتى أن شعراءهم خصّصوا مساحات كبيرة في قصائدهم لامتداح الخمرة ووصفها وكانت
الحانات مفتوحة في وجه الناس طيلة الوقت تستقبل الزبائن ، وقد نُصِبَت عليها
رايات. فها هو شاعرُهم يقول :
لَقَدْ بَلغت معاقَرةُ الخمر من
الرواج في الحياة العربية الجاهلية بحيث اصبحت لفظة « التجارة » تعادل في عرفهم
بيع الخمور ، والاتجاربها. ولقد كانت الأخلاق تفسَر عند العرب
الجاهلية بنحو آخر عجيب ، فانهم مثلا كانوا يمدحون الشجاعة والمروءة والغيرة ،
ولكنهم كانوا يقصدون من « الشجاعة » القدرة على الإغارة وسفك الدماء ، وكثرة عدد
القتلى في الحروب!! كما أن الغيرة كانت تعني عندهم وأد
البنات حتّى أن هذا العمل الوحشيّ كان يُعدّ عندهم من أعلى مظاهر الغيرة ،
وكانوا يرون الوفاء والوحدة في نصرة الحليف حقاً أو باطلا ، وهكذا فان اكثر
القصص التي نُقِلَت عن شجاعتهم وشَغَفهم بالحرية كانت الشجاعة والشغف بالحرية
فيها تتلخص وتتجسَّد في الاغارة والانتقام. انهم كانوا يعشقون ـ في حياتهم ـ
المرأة والخمرة والحرب ليس غير. (تفسير مفاتيح الغيب : ج 2 ، ص 262 ، طبعة مصر : 1305.) |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
النزوع
إلى الخرافة والاساطير في المجتمع الجاهلي :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ولقد بَيَّنَ القرآنُ
الكريمُ اهدافُ البعثة المحمَّدية المقدسة بعبارات موجزة ،
وممّا يلفت النظر ـ اكثر من أيّ شيء ـ ما ذكرهُ تعالى في الكتاب العزيز حول أهم
هذه الاهداف والغايات العليا إذ قال : «
وَيَضَعُ عنهُمْ إصْرَهُمْ والأَغْلالَ الَّتي كانَتْ عَلَيْهِمْ »
(الأعراف : 157.).
فلابدَّ أن نعرفَ ماذا كانت تلك الاَغلال
والسلاسلَ الّتي كانتْ عَربُ الجاهلية ترزخُ تحتها حتّى قَبيْل بُزوغ فجر
الإسلام؟ لا ريبَ أَنَّها لم تكن من جنس
الأَغلال والسَلاسل الحديدية ، ولم يكن المقصودُ منها ذلك أبداً ، فماذا كانت
إذَنْ يا ترى؟ أجَل إنّ المقصودَ
مِنْ هذه الاغلال هي الأوهام والخرافات الّتي كانت تَقيِّد العقلَ العربي عن
الحركة ، وتعيقه عن النمو والتقدم ، ولا شك أن
مثل هذه السلاسل والأغلال الّتي تقيّد الفكر البشري وتمنعه من التحليق والتسامي
، اثقل بكثير من الاغلالَ والقيود الحديدية واضرّ على الإنسان منها بدَرجات
ومراتب ، لأنّ الأغلالَ الحَديديَة توضَع عن الأيدي والأرجل بعد مضي زمان ،
ويتحرر الإنسان منها ، بعد حين ، ليدخل معترك الحياة بعقلية سليمة مبرّاة من
الأوهام والخرافات ، وقد زالَتْ عنه ما تركته تلك الحدائد من جروح وآلام. أما
السلاسل والاغلال الفكرية ( ونعنى بها
الاوهام والاباطيل والخرافات ) التي قد
تهيمن على عقل الإنسان وتكبّلُ شعوره فانها طالما رافقت الإنسان إلى لحظة وفاته
، واعاقته عن المسير والانطلاق ، دون ان يستطيع التحرر منها ، والتخلص من آثارها
، وتبعاتها ، اللهم إذا استعان على ذلك بالتفكير السليم ، والهداية الصحيحة. فبالتفكير السليم وفي ضوء العقل
البعيد عن أيّ وهم وخيال يمكنه التخلص مِن تلك الاغلال والقيود الثقيلة ، وأما
بدون ذلك فإن أيّ سعي للإنسان في هذا السبيل سيبوء بالفشل. إن من أكبر مفاخر نبي
الإسلام أنه كافَحَ الخرافات ، وأعلن حرباً شعواء على الأَساطير ، ودعا إلى تطهير
العقل من أدران الأوهام والتخيلات ، وقال : لقد جئت
لاخذ بساعِد العقل البشري ، وأشدَ عضدَه ، واُحارب الخرافه مهما كان مصدرها.
وكيفما كان لونها وأيّا كانت غايتها ، حتّى لو خَدَمَت أهدافي ، وساعَدَتْ على
تحقيق مقاصدي المقدسة. إنّ ساسة العالم الذين لاتهمهم إلاّ
إرساء قواعد حكمهم وسلطانهم على الشعوب لا يتورعون عن التوسل بأية وسيلة ،
والاستفادة من أية واقعة في سبيل تحقيق مآربهم حتّى أنهم لا يتأخرون عن التذرع
بترويج الخرافات والأساطير القديمة بين الشعوب للوصول إلى سدة الحكم ، أو البقاء
فيها ما امكنهم ذلك. ولو اتفق أن كانوا رجالا موضوعيين ومنطقيين فانهم في هذه
الحالة دافعوا عن تلك الخرافات والأوهام والاساطير الّتي لا تنسجم مع اي مقياس
عقلي بحجة الحفاظ على التراث القومي ، أو احترام راي اكثرية الشعب ، أوما شابه
ذلك من الحجج المرفوضة. ولكنَّ رسولَ الإسلام
لم يكتف بإبطال المعتقدات الخرافية الّتي كانت تلحِق الضرر به ، وبمجتَمعه ، بل
كان يكافح ويحارب بجميع قواه كل اُسطورة أو خرافة شعبية أو فكرة فاسدة باطلة ،
تخدم غرضه ، وتساعد على تحقيق التقدم في دعوته ويسعى إلى أن يجعلَ الناسَ يعشقون
الحقيقة لا ان يعبدوا الخرافات ، ويكونوا
ضحايا الاساطير والأوهام ، واليك واحداً
من هذه المواقف العظيمة على سبيل المثال لا الحصر. لما ماتَ إبراهيم بن
رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وهو ابنه الوحيد ، حزن عليه النبي حزناً شديداً فكانت
تنحدر الدموع منه على غير اختيار ، واتفق ان انكسفت الشمس في ذلك اليوم أيضاً ،
فذهب المولعون بالخرافة في ذلك المجتمع ( العربي ) على عادتهم إلى ربط تلك
الظاهرة بموت إبراهيم واعتبار ذلك دليلا على عظمة المصاب به فقالوا : انكسفت
الشمسُ لموت ابن رسول اللّه ، فصعد رسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم المنبرَ وقال : « أيُّها
الناس انَّ الشمسَ والقمر آيتان من آيات اللّه يجريان بامره ، ومطيعان له ، لا
ينكسفان لموت أحد ولا لحياتِه ، فاذا انكسفا ، أو أحدُهما صلّوا ». ثم نزل من المنبر فصلى
بالناس صلاة الكسوف وهي ما تسمى بصلاة الايات (بحار الأنوار : ج 91 ، ص 155.).
ان فكرة انكساف الشمس لموت ابن صاحب
الرسالة وان كان من شأنها ان تقوّي من موقع النبي في قلوب الناس ، وتخدم بالتالي
غرضه ، وتساعد على انتشار دعوته ، وتقدمها ، إلا أنه صلىاللهعليهوآلهوسلم
رفض ان يحصل على المزيد من النفوذ في قلوب الناس من هذا الطريق. على أن محاربَة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
للخرافات والاساطير الّتي كانت نموذجا بارزاً من محاربته للوثنية ، وتأليه
المخلوقات وعبادتها ، لم تكن من سيرته في عهد الرسالة بل كان ذلك دأبه في جميع
أدوار حياته ، حتّى يوم كان صبياً يدرج ، فانه كان يحارب الاوهام والخرافات ،
ويعارضها في ذلك السن أيضاً. تقول حليمةُ السعدية
مرضعة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
: لما تمَّ له ( اي لمحمَّد ) ثلاث سنين قال لي يوماً : « يا أُمّاهُ ما لِيَ لا
أرَى أخَوَيَّ بالنّهار »؟ قلت له : يا بنيّ إنهما يرعيان
غنيمات ، قال : « فَما لي لا أخْرُج مَعَهما »؟ قلت له : تحبُّ ذلك؟ قال :
نَعَمْ. فلما أصبح دهَّنته وكَحَّلته وعلَّقت في عنقه خيطاً فيه جزع يمانية ( وهي من التمائم الباطلة
كانت تعلّق على الشخص في أيام الجاهلية لدفع الآفات عنه )
، فنزَعَها ، وقال لي : « مَهْلا يا اُماه فَإنَّ مَعِيَ مَنْ يَحْفُظنِيْ » (بحار الانوار : ج 15 ، ص 392.). |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الخرافات
في عقائد العرب الجاهلية :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
كانت عقائدُ جميع الامم والشعوب
العالمية يوم بزوغ شمس الإسلام ممزوجة بألوان من الخرافات والأساطير. فالاساطير اليونانية والساسانية كانت
تخيّم على افكار الشعوب الّتي كانت تعدُّ في ذلك اليوم من أرقى الشعوب
والمجتمعات. على انه لا تزال خرافات كثيرة تسود
وإلى الآن في المجتمعات الشرقية المتقدمة ، ولم تستطع الحضارةُ الراهنة أن
تزيلها من حياة الناس ومعتقداتهم. إن تنامي الخرافة « يرتبط ارتباطاً
وثيقاً بالمستوى العلمي والثقافي في كل مجتمع ، فبقدر ما يكون المجتمع متخلفاً
من الناحية الثقافية والعلمية تزداد نسبة وجود الخرافة ومقدار نفوذها في عقول
الناس ونفوسهم. لقد سجل التاريخ عن سُكّان شبه
الجزيرة العربية طائفة هائلة وكبيرة من الاوهام والخرافات ، وقد جمع السيّد
محمود الآلوسي اكثرها في كتابه « بلوغ الارب في معرفة احوال العرب » ، مُرفقاً
كل ذلك بما حصل عليه من الشواهد الشعرية وغيرها (بلوغ الارب في معرفة أحوال العرب : ج 2 ، ص 286 ـ 369.).
ومن يتصفح هذا الكتاب يقف على ركام
هائل من الخرافات الّتي كانت تملأ العقل العربي الجاهل آنذاك وتعشعش في نفوسهم ،
وقد كانت هذه السلسلة الرهيبة من الأوهام هي السبب في تخلّف هذا الشعب عن بقية
الشعوب والاُمم الاخرى. ولقد كانت هذه الخرافات من أكبر
السدود في طريق تقدم الدعوة الإسلامية ، ولهذا أجتهد النبيُّ الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم
بكل طاقاته في محو وازالة آثار الجاهلية الّتي لم تكن سوى تلك الأوهام والاساطير
والخرافات. فعندما وجَّه « معاذ
بن جبل » إلى اليمن اوصاه بقوله : « وامِتْ أمرَ الجاهِليَّة إلاّ ما
سنَّهُ الإسلامُ وَأظهِرْ أمرَ الأسلام كلّه صغيرهُ وكبيرهُ » (تحف العقول : ص 25.).
لقد وقف رسولُ اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
أمام جماهير كبيرة من العرب الذين كانت عقولُهم ترزح تحت الافكار والمعتقدات
الخرافية ردحاً طويلا من الزَمن يعلن عن نهاية عهد الأفكار والاوهام الجاهلية إذ قال : « كُلُّ مأثرة فيْ الجاهِليَّة تحتَ قَدَميّ »
(السيرة النبوية : ج 3 ، ص 412.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
نماذج من الخرافات
في المجتمع الجاهلي :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وللوقوف على مَدى
أهمية التعاليم الإسلامية وقيمتها نلفت نظر القارئ الكريم إلى نماذج من هذه
الخرافات ، ومن أراد التوسع راجع المصدر المذكور. 1 ـ
الاستسقاء باشعال النيران :
كانت العرب إذا أجدبت ، وأمسكت
السماء عنهم ، وأرادوا أن يستمطروا عَمَدوا إلى السلع والعشر ( وهما أشجار سريعة
الاشتعال ) فحزموهما ، وعقدوهما في أذناب البقر ، وأضرموا فيها النيران
وأصعَدوها في جبل وَعر ، واتبعوها يدعون اللّه تعالى ، ويستسقونه ، وانما يضرمون
النيران في أذناب البقر تفاؤلا للبرق بالنار ... وكانوا يسوقونها نحو المغرب من
دون الجهات الاخرى ، وكانت هذه الثيران والابقار إذا صاحت من وجع الاحتراق ظنّت
العرب بان ذلك هو الرعد!!! وقد قال شاعرهم في ذلك :
فَهَل تَجُودينَ بِبَرق أو مَطَر؟ 2 ـ
ضرب الثور إذا عافت البقر :
كانوا إذا أورَدُوا البقر فتمتنع من
شرب الماء ، ضرَبوا الثورَ لِيقتحمَ الماء ، بعدَه ويقولون : إنْ الجنَّ تصدُّ
البقرَ عن الماء ، وأن الشيطان يركَبُ قَرَني الثورَ ، ولا يدع البقر تشربُ
الماء ، ولذلك كانوا يضربون وجه الثور. وقد قال في هذا شاعرهم
:
وقال آخر :
وقال ثالث :
3 ـ كيّ صحيح الإبل
ليبرأ السقيمُ :
إذا كان يصيب الإبل مرض أو قرح في
مشافرها واطرافها عمدوا إلى بعير صحيح من تلك الإبل فكوَوْا مِشفَرَهُ وعَضُدَه
وفَخذَه يرون أن ذلك إن فعلوه ذهبَ العُرُّ والقرح والمرض عن إبلهم السقيمة ،
ولا يعرف سبب ذلك. وقد احتمل البعض أنهم إنما كانوا
يفعلون ذلك وقاية للصحاح من الإصابة بالعُرّ الّذي أصاب غيرها ، أو أنه نوع من
المعالجة العلمية ، ولكن لماذا ترى كانُوا يَعمدُونَ إلى بعير واحد من بين كل
تلك الابل ، فلابد من القول بأن هذا الفعل كان ضرباً من الاعمال الخرافية الّتي
كانت سائدة في ذلك المجتمع الجاهلي قبل الإسلام. وقد قال شاعرهم عن ذلك :
وقال آخر :
وقال ثالث :
4 ـ حبس ناقة عند
القبر اذامات كريمٌ :
إذا ماتَ منهم كريمٌ عقلوا ناقته
أوبعيره عند القبر الّذي دُفِنَ فيه ذلك الكريم ، فعكَسُوا عنقها ، وأداروا
رأسها إلى مؤخَّرها وتركوها في حفيرة لا تطعَم ولا تسقى حتّى تموت ، وربما
اُحرقَت بعد موتها وربما سُلِخَتْ ومُلئ جِلدُها ثماماً ، وكانوا يزعمون أن مَن
مات ولم يُبْلَ عليه ( اي لم تعقل ناقة عند
قبره هكذا ) حشر ماشياً ، ومن كانت له بلية ( اي
ناقة عقلت هكذا ) حُشِر راكباً على بليّته. وقد قال أحدهم في هذا
الصدد :
وقال آخر وهو يوصي ولده بان يفعلوا
له ذلك :
5 ـ عَقرُ الإبل عَلى
القُبُور :
كانوا إذا ماتَ أحدُهم ضربوا قوائم
بعير بالسَيف عند قبره ، وقيل انهم كانوا يفعلون ذلك مكافأة للميت المضياف على
ما كان يعقره من الإبل في حياته وينحره للاضياف. وقد ابطلت الشريعة المقدسة هذه
العادة الباطلة في ما أبطلته فقد جاء في الحديث « لا عَقْر في الإسلام ». وقد قال أحدُهم حولَ العَقر هذا :
6 ـ نهيق الرجل أذا
اراد دخول القرية ( التعشير ) :
ومن خرافاتهم أن الرجلَ منهم كان إذا
ارادَ دخولَ قرية فخافَ وباءها أوجنّها وقف على بابها قبل ان يدخلها فنَهقَ
نهيقَ الحمار ، ثم علّق عليه كعبَ أرنب كأنَّ ذلك عوذة له ، ورقية من الوباء
والجن ويسمون هذا النهيق التعشير. قال شاعرهم :
وقال الآخر :
7 ـ تصفيق الضالّ في
الصحراء ليهتدي :
فقد كان الرجلُ منهم إذا ضَلّ في
فلاة قَلَب قميصه وصفق بيديه ، كأنه يومئ بهما إلى انسان مهتدي. قال أعرابي في ذلك :
8 ـ الرتم :
وذلك أن الرجل منهم كان إذا سافر
عَمَد إلى خيط فعقده في غصن شجرة أوفي ساقها فاذا عاد نظر إلى ذلك الخيط فإنْ
وجده بحاله علم ان زوجتَه لم تخنهُ وان لم يَجِدْه أو وَجَدَهُ محلولا قال : قد
خانتني. وذلك العقد يسمى « الرتم ». قال شاعرهم في ذلك :
وقال الآخر :
وقال ثالث :
9 ـ وطيُ المرأة القتيل
الشريف لبقاء وَلَدها :
فقد كانت العرب تقول : ان المرأة
المقلاة وهي الّتي لا يعيش لها وَلَدٌ ، إذا وطئت القتيلَ الشريف عاشَ وَلَدُها. قال احدهم :
10 ـ طَرْحُ السِنّ
نَحو الشَمْس إذا سَقَطَتْ :
ومن تخيّلات العرب وخرافاتهم أن
الغلام منهم إذا سَقَطَتْ له سنٌ أخذها بين السبابة والابهام واستقبل الشمسَ إذا
طلعت وقذف بها وقال : يا شمس ابدليني بسنّ احسن منها ولتجر في ظلمها آياتك ، أو
تقول أياؤك ، وهما جميعاً شعاع الشمس. قال احدهم وهو يصف ثغر معشوقته :
أي كأن شعاع الشمس اعارته ضوءها. هذا وقد أشار شاعرُهم إلى هذا الخيال
( أوقل الخرافة المذكورة ) إذ قال :
11 ـ تعليق النجاسة
على الرجل وقاية من الجنون :
ومن تخيّلات العرب أنهم كانوا إذا
خافُوا على الرجل الجنونَ ، وتعرّض الارواح الخبيثة له نجَّسوه بتعليق الاقذار
كخرقة الحيض وعظام الموتى قالوا : وأنفعُ من ذلك أن تعلِّقُ عليه طامتٌ عظامّ
موتى ثم لا يراها يومَه ذلك. وانشدوا في ذلك :
وقالت امرأة وقد نَجَّست ولَدها فلم
ينفعه ذلك ومات :
12 ـ دم الرئيس يشفي
:
فقد كانت العرب تعتقد أنّ دم الرئيس
يشفي من عضة الكلْب الكَلِب. قال الشاعر :
وقال آخر :
13 ـ شق
البرقع والرداء يوجب الحب المتقابل :
ومن أوهامهم وتخيلاتهم أنهم كانوا
يزعمون أن الرجل إذا احب إمرأة واحبّته فشق برقعها وشقّت رداءه صلح حبُهما ودام
، فان لم يفعلا ذلك فَسَد حبُهما ، قال في ذلك احدهم :
14 ـ معالجةُ المرضى
بالاُمور العجيبة :
ومن مذاهبهم الخرافية في معالجة
المرضى إذا بثرت شفة الصبي حمل منخلا على رأسه ونادى بين بيوت الحيّ : الحلأ
الحلأ ، الطعام الطعام ، فَتُلقي له النساءُ كِسَرَ الخبز ، واقطاع التمر واللحم
في المنخل ثم يُلقي ذلك للكلاب فتأكله ، فيبرأ مِنَ المرض فان أكل صبيّ من
الصبيان من ذلك الّذي ألقاهُ للكلابِ تمرة أو لقمة أو لحمة بثرت شفته. فقد رويت عن إمرأة
أنها انشدت :
ومن أعاجيبهم أنهم كانوا إذا طالت
علة الواحد منهم ، وظنُّوا أنَّ به مسّاً من الجن لانه قَتَلَ حية ، أو يربوعاً
، أو قنفذاً ، عملوا جِمالا من طين وجعلوا عليها جوالق وملاؤها حنطة وشعيراً
وتمراً ، وجعلوا تلك الجمال في باب جحر إلى جهة المغرب وقت غروب الشمس وباتوا
ليلتهم تلك ، فاذا اصبحوا نظروا إلى تلك الجمال الطين فاذا رأوا انها بحالها
قالوا لم تقبل الدية فزادوا فيها وان رأوها قد تساقطت وتبدّد ما عليها من الميرة
قالوا : قد قبلت الدية واستدلوا على شفاء المريض وفرحوا وضربوا الدفّ. قال بعضهم :
وقال آخر :
ومن مذاهبهم في هذا المجال أن الرجلَ
منهم كان إذا ظهرت فيه القوباء ( وهو مرض جلدي ) عالجها بالريق. قال احدهم :
15 ـ خرافاتٌ في مجال
الغائب :
كانوا إذا غُمَّ عليهم أمرُ الغائب
ولم يعرفوا له خبراً جاؤوا إلى بئر عادية ( أي مظلمة بعيدة القعر ) أو جاؤوا إلى
حصن قديم ونادوا فيه : يا فلان أو يا أبا فلان ( ثلاث مرات ) ، ويزعمون انه إن
كان مَيتاً لم يسمَعوا صوتاً ، وإن كان حياً سمعُوا صوتاً ربّما توهموه وهماً ،
أو سمعوه من الصدى فَبَنَوا عليه عقيدَتهم ، قال بعضهم في ذلك :
(1)آضَ أي عاد ورجع. وقال آخر :
ومن ذلك أن الرجل منهم كان إذا
اختلجت عينه قال : ( أرى من اُحبُّه ) فأن كان غائباً توقع قدومَه ، وإنْ كان
بعيداً توقَّعَ قربه ، وقالَ أحدهم :
وقال آخر :
وكانوا إذا لا يُحِبُّونَ لمسافر أنْ
يعودَ إليهم أوقدُوا ناراً خَلفَهُ ويقولون في دعائهم « أبعَدهُ اللّهُ وأسحقَهُ
وأوقدَ ناراً إثرهُ » قال بعضهم :
16 ـ عقائدهُمْ
العجيبة في الجنّ وتاثيرهُ :
كانت العربُ في الجاهلية تعتقد في
الجن وتأثير هذا الكائن في شتى مجالات حياتهم اعتقاداتٌ عجيبة وفي غاية الغرابة.
فتارة تستعيذُ بالجن ، وقد إستعاذَ
رجلٌ منهُمْ وَمَعَهُ ولدٌ فاكلهُ الأَسدُ فقال :
فلم يجرنا من هزبر عادي وعن الاستعاذة بالجنّ قال اللّه
سبحانَهُ في القرآن : « وَأَنَّهُ
كانَ رجالٌ مِنَ الإنسِ يَعُوذُونَ بِرجال مِنَ الجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهقاً »
(الجن : 6.).
ومن ذلك إعْتقادُهُمْ بهتاف الجن.
ولهم في هذا المجال أساطيرُ خرافيةٌ مذكورة في محلّها. ومن هذا القبيلُ إعتقادهُم بالغول ،
فقد كانت تزعم العربُ في الجاهلية أن الغيلان في الفلوات ( وهي من جنس الشياطين
) تتراءى للناس ، وتغول تغولا اي تتلوّن تلوناً فتضلّهم عن الطريق ، وتهلكهم ،
ومن هذا القبيل أيضاً إعتقادُهم بالسعالي!! وقد قال أحدُهم في ذلك :
17 ـ تشاؤمهم
بالحيوانات والطيور والاشياء :
ومن مذاهبهم الخرافية تشاؤمهم بأشياء
كثيرة وحالات عديدة : فمن ذلك ؛ تشاؤمهم بالعطاس. وتشاؤمهم بالغراب حتّى قالوا : فلانٌ
أشام من غراب البَيْن ، ولهم في هذا المجال أبياتٌ شعرية كثيرةٌ منها قول أحدهم
:
وكذا تشاؤُمُهمْ وتطيّرهم بالثور
المكسور القرن والثعلب. إلى غير ذلك من التخيلات والأوهام والخرافات والاساطير ،
والاعتقادات العجيبة ، والتصورات الغريبة الّتي تزخر بها كتبُ التاريخ المخصصةِ
لبيان أحوال العرب قَبْلَ الإسلام وحتّى ابان قيام الحضارة الإسلامية.
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
مكافحةُ
الإسلام لهذه الخرافات :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ولقد كافح الإسلامُ
جميع هذه الخرافات بطرق مختلفة ، واساليب متنوعة. أما بالنسبة إلى ما كانوا يفعلونَهُ
بالحيوانات فمضافاً إلى أنّ أيّ شيء من هذه الأَعمال لا ينسجم مع العقل والمنطق
والعلم لأن المطر والغيث لا ينزل من السماء باسعال النيران ، وضرب الثيران لا
يؤثر في البقر ، كما لا ينفع كيُّ البعير الصحيح في شفاء الإبل السقيمة ، وتعتبر
هذه الاعمال نوعاً من تعذيب الحيوانات وقد نهى الإسلام بشدة عن تعذيب الحيوانات
وايذائها ، باي شكل كان. فقد روي عن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أنه قال : « لِلدّابةِ
عَلى صاحبها ستُّ خصال : 1 ـ يَبدأ بعلفها إذا
نَزَل. 2 ـ ويُعرضُ عليها الماء
إذا مَرَّ به. 3 ـ ولا يضرب وجهها
فإنها تسبِّحُ بحمدِ ربّها. 4 ـ ولا يقفْ على
ظهرها إلا في سَبيل اللّه عزّوجلّ. 5 ـ ولا يحمّلها فوق
طاقتها. 6 ـ ولا يكلّفها من
المشي إلا ما تطيقُ (من لا يحضره الفقيه : ج 2 ، ص 286 ، وراجع للوقوف على أحاديث حقوق
الحيوان كتاب الشؤون الاقتصادية : ص 130 ـ 159 أيضاً.).
كما رُوي أنه نهى رسولُ اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم عن
أن توسَم البهائمُ في وجهها ، وأن تضرَب في وجوهها فانها تسبّح بحمد ربها. ومن هنا ندركُ ان التعاليم في مجال
الرفق بالحيوان ، وحمايته ، على النقيض من العادات الجاهلية السائدة في البيئة
العربية آنذاك. واما بالنسبة إلى التمائم والأَشياء
الّتي كانت تعلّقها العربُ على أعناق وصدور رجالها ، وأولادها ، من الأحجار
والخَرَز ، وَعظام الموتى ، ومعالجة المرضى والمصابين وغيرهم بها أحياناً فقد
حاربَها الإسلامُ ، بعد أن ابطلها كما ابطل الافاعيل الّتي سبق أن ذكرناها قبل
هذا. فلما جاءت جماعات من الأعراب إلى
رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وسألوه عن الرّقى والقلائد الّتي كانوا يتداوون بها أو يسترقونها بدلا عن
التداوي بالعقاقير والأدوية قائلين يا رسول اللّه : انتداوى؟ قال رسولُ اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
: « تداووا فإنَّ اللّه لَمْ يَضَعْ داء إلا وَضَعَ لَهُ دَواء » (التاج الجامع للاُصول : ج 3 ، ص 178.).
بل نجد النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم يأمر سعد بن أبي وقاص عندما اُصيب
بمرض في فؤاده أن يعالج نفسَه عِند طبيب إذ قال له لما عادَه وعرف بحاله : «
إنَك رجلٌ مفودٌ ، إئتِ الحارثَ بن كلْدة أخا ثقيف فإنَهُ رَجَلٌ يتطبَّب » (التاج الجامع للاُصول : ج 3 ، ص 179.).
هذا مضافاً إلى
أنه وردت أحاديث كثيرة تصرّح ببطلان التمائم السحريّة الّتي لا تنفع ولا تضرّ
أبداً ، وها نحنُ نشير في ما يلي
إلى نموذجين من هذه الأحاديث : 1 ـ يقول أحدُهُم : دخلتُ
على النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
بابن لي قد علقت عليه من العُذرة (
وهي قلادة سحرية جاهلية ) فقال : علام تدغَرْن أولادَكنَّ
بهذا العِلاق ، عليكنَّ بهذا العُود الهِنْديّ » وكان صلىاللهعليهوآلهوسلم
يقصد عصارة هذا العود (التاج الجامع للاُصول : ج 3 ، ص 184.).
2 ـ رُوي عن الإمام جعفر بن محمَّد
الصادق عليهالسلام
أنه قال : « إنَّ كثيراً مِنَ التمائم شِرْكٌ » (سفينة البحار : ج 1 ، مادة رقي.).
هذا مضافاً إلى أن
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
وأوصياءه الكرام ـ بارشادهمُ الناس إلى ما ينبغي أن
يتداووا به من العقاقير والأدوية وما أعطوْه من تعاليم قيمة كثيرة في هذا المجال
ممّا جمعه المحدثون الكبار تحت عنوان : « طبّ النبيّ » و « طب الرضا » و ... وقد
وجهوا ضربة قوية اُخرى إلى تلك الأوهام والتخيّلات ، والخرافات والاساطير الّتي
كان يعاني منها المجتمعُ العربي الجاهلي قبل الإسلام (وقد فتح المحدّثون من الفريقين أبواباً خاصّة لأحاديث الطبّ النبويّ
في كتب الحديث أيضاً.).
وأما الغول ، والطيرة ، والتشاؤم ،
والهامّة والنَوء فقد حاربها النبي بصراحة إذ قال : صلىاللهعليهوآلهوسلم
« لا هامَّة ولا نَوء ولا طِيرَة ، ولا غول » (التاج الجامع للاُصول : ج 3 ، ص 196 و 197 الفصل الرابع باب نفي
مزاعم الجاهلية ، قال مؤلف التاج : الهامّة طائر أو البوم إذ سقط في مكان تشاءم
أهلُه ، أو دابّة تخرجُ من راس القتيل أو من دمه فلا تزالُ تصيح حتّى يؤخدَ
بثاره ، والنَوء نجمٌ يأتي بالمطر وآخر يأتي بالريح ( حسب عقيدة الجاهلية )!! 5 ـ التاج الجامع للاُصول
: ج 3 ص 201. قال مؤلّف التاج العيافة زجر الطّيْر والتفاؤل بأسمائها وأصواتها
كالتفاؤل بالعُقاب على العِقاب ، وبالغُراب على الغُربة ، وبالهُدْهُدْ على
الهُدى ، وكذا بافعالها ، وكيفية طيرانها فكانت العرب تزجر الطيرَ وتثيره فما
اخذ منها ذات اليمين تبركوا به وتيمَّنوا وما تياسر منها تشاء موابه ( كما في
بلوغ الارب في معرفة أحوال العرب : ج 3 ، ص 212 تحت عنوان كيفية الزجر عند العرب
). و « الطرق » : الضرب
بالحصى ( للإستدلال على اُمور غيبيّة باعتقاد الجاهليين ). والجبت هو الباطل.).
وقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : «
العِيافَةُ والطِيَرةُ والطَرْق مِن الجبْت » (5).
وعن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
أيضاً أنه قال : « إنَّ الرقى والتمائم والتولَة شركٌ » (التاج الجامع للاُصول : ج 3 ، ص 203. قال مؤلِّف الجامع : « التولة »
: نوع من السحر يحبّب الرجلَ إلى زوجته ، وهو من عمل المشركين ( أي في الجاهلية
).).
وعن أحدهم قال : قلتُ
يا رسولَ اللّه اموراً كنّا نصنعها في الجاهلية ، كنّا نأتي الكهّان ، قال : فلا
تأتوا الكهّانَ ، قلت : كنّا نتطيّر قال : ذاك شيء يجدُهُ أحدُكُمْ في نفسِه فلا
يَصُدَّنكم ». إن وجودَ النهي الشديد
والمكرّر في الاحاديث الكثيرة عن الطيرة والتشاؤم ، والزجر والعيافة والتمائم
والتولة والهامّة والنوء والغول ، والكهانة ، وايذاء الحيوانات وكيهنّ ،
وتعذيبهن ، وماشابه ذلك يدل بوضوح وقوة على مدى رسوخ هذه
العادات الباطلة في الحياة العربيّة الجاهلية ، يكشف عن مبلغ اعتقادهم بها ،
ونزوعهم اليها وهو بالتالي يكشف عن مغزى قوله تعالى : « ويضَعُ عنَهُمْ إصْرَهُمْ والأَغْلال الَّتي
كانَت عَلَيهِمْ » (سورة الاعراف : 157.)
فأيّة
سلاسل وأَغلال أثقل وأسوء عاقبة وأشدّ وطئة ، من هذه الأغلال ... أغلال الخرافة
والوهم ، وسلاسل التخيلات والاساطير؟!! |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أوضاع
العرب الإجتماعية قبيل ظهور الإسلام :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إن اُولى خطوة خطاها البَشَر باتّجاه
النمط الإجتماعي كانت عندما أقْبَل على تاسيس وإقامة الحياة القبلية ، فالقبيلة
تتكون من إجتماع عدة عوائل واُسر مترابطة فيما بينها بوشائج القربى والنسب تحت
زعامة شيخ القبيلة ، وبهذا يتحقق أبسط نمط من أنماط الحياة الإجتماعية. وقد كانت الحياةُ العربية ـ آنذاك ـ
من هذا القبيل ، فكلُ مجموعة من العوائل المترابطة نسبياً تتجمع في شكل قبيلة ،
وتشكل بذلك مجتمعاً صغيراً يخضع فيه الجميع لأوامر رئيس القبيلة وزعيمها ، ولقد
كان الجامع بين افراد القبيلة هو الرابطة القومية ، والوشيجة النسبية ، وكانت
هذه القبائل تختلف في عاداتها ورسومها ، وتقاليدها وأعرافها ، اختلافاً كبيراً ،
وإذ كانت كل قبيلة تعتبر القبائل الاخرى غريبة عنها لذلك كانت لا تقيم للآخرين
وزناً ولا قيمة ، ولا تعترف لهم باي حق أو حرمة. ولهذا كانت ترى الإغارة على الآخرين
وقتلهم ، ونهب أموالهم ، وسلب ممتلكاتهم وسبي نسائهم من حقوقها القانونية
المشروعة ، اللّهم إلاّ أن يكون بين القبيلة ، والقبيلة الاُخرى حلف أو معاهدة. هذا من جانب. ومن جانب آخر كانت
القبيلة الّتي تتعرض للإغارة من جانب قبيلة اُخرى ترى من حقها أن تردَّ الصاع
صاعين ، تقتل كل أفراد القبيلة المغيرة ، لأن الدّم ـ في نظرهم ـ لا يغسله الا
الدّم!!! ولقد تبدلت أخلاقيةُ العرب هذه بعد
انضوائهم تحت لواء الإسلام الحنيف ، بل تحوَّلوا من نمط الحكومة القبلية
المتخلفة والنظام العشائري الضيّق هذا ، إلى حكومة عالميّة ، واستطاع رسولُ
الإسلام صلىاللهعليهوآلهوسلم
ان يؤلف من القبائل العربية المتفرقة اُمّة واحدة. ولا شك أن تأليف اُمة واحدة من قبائل
وجماعات اعتادت طوال سنين مديدة من التاريخ على التناحر والتنازع ، والتخاصم
والتقاتل ، والتهاجم والإغارة في ما بينها ، واستمرأت سفك الدماء ، وإزهاق
الارواح ، وذلك في مدة قصيرة ، عملٌ عظيم جداً ، ومعجزة اجتماعية لا نظير لها ،
لأن مثلَ هذا التحوُّل العظيم إذا اُريدَ لَهُ أن يتمَّ عبر التحوُّلات
والتطورات العاديّة لاحتاج إلى تربية طويلة الامد ، ووسائل لا تحصى كثرة. يقول « توماس كارليل »
في هذا الصدد : لقد اخرج اللّه العرب بالإسلام من
الظلمات إلى النور ، وأحيى به منها امة خاملة لا يُسمعُ لها صوتٌ ولا يُحسُّ
فيها حركة ، حتّى صار الخمولُ شُهرة والغموض نباهة والضعة رفعة والضعف قوة ،
والشرارة حريقاً ، وشمل نورُه الأَنحاء وعمَّ ضوؤه الأرجاء ما هُو إلا قرنٌ بعد
إعلان هذا الدين حتّى أصبح للعرب ( المسلمين ) قدمٌ في الهند واخرى في الاندلس (الخطط الاستعمارية لمكافحة الإسلام : ص 38 ، والإسلام والعلم الحديث
: ص 33.).
وإلى هذه الحقيقة يشير
ايضاً مؤلف تاريخ اللغات السامية الشهير « رينان » قائلا : «
لا مكان لبلاد العرب في تاريخ العالم السياسيّ والثقافي والدينيّ قبل ذلك
الانقلاب المفاجئ الخارق للعادة الّذي صار به العربُ اُمّة فاتحة مُبدعة ولم يكن
لجزيرة العرب شأنٌ في القرون الاُولى مِنَ الميلاد ، حين كانت غارقة في دياجير
ما قبل التاريخ » (حضارة العرب : ص 87.).
أجل إنّ هذه القبائل العربية
الجاهلية المختلفة المتناحرة لم تكن تعيش أية حضارة ، ولم تمتلك أية تعاليم
وقوانين ، وأنظمة وآداب قبل مجيء الإسلام ، لقد كانت محرومة من جميع المقومات
الإجتماعية الّتي توجبُ التقدم والرقي ، ولهذا لم يكن من المتوقع ابداً ان تصل
إلى تلك الذرى الرفيعة من المجد والعظمة ، ولا أن تنتقل من نمط الحياة القبلية
الضيقة إلى عالم الإنسانية الواسع ، واُفق الحضارة الرحيب بمثل هذه السُرعة
الّتي وَصَلت إليه والزمن القصير الّذي انتقلت فيه. إنَّ مَثَل الشعوب والاُمم البشرية
مثل المباني والعمارات تماماً. فكما أن البناء القوي الراسخ يحتاج
إلى موادّ انشائية قوية معدَّة باتقان ومحضّرة باحكام حتّى يستطيع البناء
المصنوع من هذه الموادّ ، والمؤسس بعناية وهندسة متقَنة من الوقوف في وجه
الأعاصير ، والأمطار الغزيرة كذلك يحتاج كيانُ كل اُمة رشيدة من الاُمم إلى اُسس
وقواعد محكمة ( وهي الاُصول والآداب الكاملة ، والأخلاق الإنسانية العالية ) لتستطيع
من البقاء والتقدم. ولهذا السبب لابد من
التأمل في أمر وسرّ هذه الظاهرة العجيبة ولابد أن نتساءل : كيف تحقق ذلك التطورُ العظيم ، وذلك
التحول العميق للعرب الجاهلية ، ومن اين نشأ؟؟ كيف امكن ان تتحول جماعة متشتتة ،
متعادية ، متناحرة ، متباغضة ، في ما بينها ، بعيدة عن النظم الإجتماعية ، بمثل
هذه السرعة إلى اُمّة متآلفة متاخية متعاونة متسالمة متحابة ، وتشكل دولة قوية
كياناً سياسياً شامخاً أوجب أن تخضع لها دول العالم وشعوبه ، وتطيعها ، وتحترم
مبادءها واخلاقها وآدابها آنذاك. حقاً لو كان في مقدور العرب أن يحرزوا
ذلك التقدم الهائل بفعل عامل ذاتي فلماذا لم تستطع عربُ اليمن الّذين كانوا
يمتلكون شيئاً كبيراً من الثقافة والحضارة ، والذين عاشوا الانظمة الملكية
سنيناً عديدة ، بل وربَّت في احضانها ملوكاً وقادة كباراً ، أن تصل إلى مثل هذه
النهضة العظيمة الشاملة ، وتقيم مثل هذه الحضارة العريضة الخالدة. لماذا
لم تستطع العربُ الغساسنَة الذين كانوا يجاورون بلادَ الشام المتحضرة ، ويعيشون
تحت ظلّ حضارة « الروم » أن يصلوا إلى هذه الدرجة من الرشد؟ لماذا لم تستطع عربُ الحيرَة الذينَ
كانُوا ـ وإلى الامس القريب ـ يعيشون في ظلّ الامبراطورية الفارسية أن ينالوا
مثل هذا الرقي والتقدم؟ وحتّى لووصلوا إلى هذه الدرجة من التقدم وحققوا هذه
القفزة فانه لم يكن أمراً يثير العجب لأنهم كانوا يعيشون في أحضان مدنيات كبرى ،
ويتغذون منها ، ولكن الّذي يثير الدهشة ، والعجب هو أن تستطيع عرب الحجاز من تحقيق
هذه النهضة الباهرة ، ويرثوا الحضارة الإسلامية العظمى وهم الذين كانوا يفتقرون
إلى أبسط مقوّمات الحضارة الذاتية ، ولم يكن لهم عهدٌ بأيَّ تاريخ حضاريّ مشرق ،
بل كانُوا كما عرفت يرزحون تحت أغلال الوَهْم والتخَيُّل ، ويسيرون في ظلمات
الخرافات والأساطير. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
دُوَل
الحيرة وغسّان :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
على العموم كانت
المناطقُ ذاتُ المناخ الجيّد من الجزيرة العربية حتّى آخر قرن قبل الإسلام تحت
سيطرة ثلاث دول كبرى هي : « ايران » ، « الروم » ، « والحبشة ». فالشرق والشمال الشرقي
من هذه المنطقة كانت تحت حماية « ايران ». والشمال الغربي كان
تابعاً للروم. والمناطق المركزية
والجنوب كانت تحت نفوذ « الحبشة ». وعلى أثر مجاورة هذه المناطق للدول
المتحضّرة المذكورة ، وما كان بينها من نزاع وتنافس دائمين ظهرَت في المناطق
الحدودية للجزيرة العربية دول شبه متحضرة ، وشبه مستقلة كان كلُ واحدة منها تابعة
في حضاراتها لدولة متمدنة عظمى تجاورها. وقد كانت دول « غسان »
، و « الحيرة » « وكنده » من هذه الدول شبه المستقلة وشبه المتمدنة ، وكانت كلُ
واحدة منها تابعة لاحدى الدول العظمى آنذاك : « ايران » ، « الروم » ، « الحبشة
». الحيرة
: يتبيَّن من الآثار والأخبار أنه
هاجرت ـ في أوائل القرن الثالث بعد الميلاد ـ بعضُ الطوائف العربية ، وذلك في
نهايات الحكم الأشكناني ، إلى الأراضي المجاورة للفرات ، وسيطروا على قسم من
أراضي العراق ، وقد أوجدت هذه الجماعةُ المهاجرةُ القرى والقلاع هناك ، شيئاً
فشيئاً ، وأحدثت المدنَ الّتي مِن أهمّها : « الحيرة » الّتي كانت تقعُ على حافة
صحراء بالقرب مِن مدينة الكوفة الحالية. وقد كانت هذه المدينة ـ وكما يظهر من
إسمها ـ في بداية أمرها قلعة ( لأن الحيرة
تعني في اللغة السريانية : الدير وما يشبهه ) يسكنها
العرب ثم تطورت شيئاً فشيئاً إلى مدينة. وقد ساعد مناخها الجميل ، والمياهُ
الوافرة الّتي تأتي اليها من الفرات ، وجودة الأحوال الطبيعية الاُخرى إلى أن
تجتذب اليها أصحاب الصحراء ، وسكان البوادي ، والقفار ، كما واستطاعت هذه
المدينة وبفضل مجاورتها للحضارة الفارسية إن تكتسب من ثقافتها ومدنيتها ما أفاض
عليها لوناً من الحضارة والمدنية ، وقد
بُنيت
بالقرب من « الحيرة » قصورٌ مثل « الخورنق »
الّذي اضاف إلى هذه المدينة جمالا وبهاء خاصّين ، وقد تعرَّف العربُ الساكنون في
هذه المنطقة على الخط والكتابة ، ويمكن ان تكون الكتابة والقراءة قد سرتا منها
إلى بقية مناطق الحجاز ومُدُنها (فتوح البلدان للبلاذري : ص 457.).
ولقد كان ملوك «
الحيرة » وأمرأوها من اللخميين العرب يؤيّدون من قِبَل الدولة الإيرانية بقوة ،
وسبب هذا التأييد ، والحماية الايرانية لاُمراء الحيرة وملوكها كان يكمن في أن
ملوك إيران ـ آنذاك ـ كانوا يُريدون أن تكونَ الحيرة سَدّاً ، وحاجزاً بينهم
وبين عرب البادية ، يدفعون بهم خطرَ الغزاة من أهل الصحارى على الحدود
الإيرانية. ولقد سجَّلَ التاريخُ
أسماء هؤلاء الاُمراء ؛ وقد نظم « حمزة الاصفهاني » فهرستاً بأسمائهم ، وجدولا
بأعمارهم ومُدد حكوماتهم ، ومن كان يعاصرهم من ملوك بني
ساسان الإيرانيين (سِنيِّ ملوك الأرض : ص 73 ـ 76.).
ومهما يكن الأمر فإن دولة اللخميين
العرب كانت من أكبر الحكومات العربية شبه المتحضرة في منطقة الحيرة ، وكان آخر
ملوك هذه السلسلة هو « النعمان بن المنذر » صاحب القصة التاريخية الّتي تتضمن خلعه
من الحكم ، وقتله بواسطة الملك الايراني : « خسرو برويز » (الأخبار الطوال : ص 109.). غَسّان
: في أوائل القرن الخامس أو اوائل
القرن السادس الميلادي هبط جماعة من المهاجرين اليمنيين في الشمال الغربي ـ أقصى
نقاط الجزيرة العربية ـ وفي جوار الإمبراطوريّة الروميّة ، وأسسوا دولة الغساسنة
، وقد كانت هذه الدولة تحت حماية الروم ، وكان مُلوكُها يُنصبون من جانب
إمبراطوريات « قسطنطينية » مباشرة ، تماماً كما كان مُلُوك « الحيرة » يُنصبون
من جانب ملوك ايران. ولقد كانت دولة الغساسنة متحضرة
نوعاما ، وحيث أن مراكز حكمها كانت قريبة من ناحية إلى « دمشق » ومجاورة ل : «
بُصرى » مركز القسم الرومي من الجزيرة العربية من ناحية اُخرى ، لذلك تأثرت
بحضارة الروم تأثراً كبيراً وبالغاً. ولقد كان الغساسنة
متحالفين مع الروميين بسبب ما كان بينهم وبين ملوك الحيرة
اللخميين العرب والايرانيين من الاختلاف والنزاع ، ولقد حكم في دولة الغساسنة تسعة أو عشرة من الاُمراء والملوك
تباعاً. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الدين في أرض الحجاز :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد كان الدينُ الرائج
في الحجاز هو الوثنية ، وعبادة الاصنام. نعم كانت هناك أقليّات
دينية يهودية تقطن في يثرب ( المدينة فيما بعد ) وخيبر
، كما انه كان هناك من يتبع المسيحية وهم
سكّان نجران ، البلد الحدودي لليمن والحجاز. وكان الدين الرائج في
المناطق الشمالية من الحجاز ( إي الشام حالياً ) هو المسيحية
بسبب مجاورة هذه المناطق للروم وخوضعها للسيادة الرومية. ولو أننا استثنينا من
الحجاز هذه المناطق الحساسة الثلاث لما وجدنا في بقية مناطق الحجاز إلاّ الوثنية
في أشكال مختلفة ، واعتقادات متنوعة ، اللّهم إلاّ بضع
افراد كان عددهم لا يتجاوز عدد أصابع اليد ممن يُسمّون بالاحناف كانوا على دين
التوحيد ، وكان عددهم بالنسبة إلى الاكثرية الساحقة من العرب الوثنيين قليلا
جدّاً (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 122 و 123.).
فمنذ زمن النبي «
إبراهيم » الخليل وابنه « اسماعيل » عليهماالسلام دخل التوحيد ، ودخلت بعض التعاليم
الأخلاقية والدينية إلى أرض الحجاز ، وكان الحج
وأداء مناسكه إحتراماً للكعبة الشريفة هو أحدُ هذه التعاليم والسنن الّتي دخلت
مع « الخليل » إلى هذه المنطقة ، ثم إن رجلا من قبيلة « خزاعة » يسمى « عمرو بن
لحي » الّذي كانت زعامة مكة قد عهدت إليه ، أدخل عبادة الاوثان في مكة في ما بعد
، وذلك عندما سافر هذا الخزاعي إلى بلاد الشام فوجد قوماً من العمالقة يعكفون
على تماثيل جميلة النقش والمنظر يعبدونها ، ويؤلّهونها ، فقال لهم : ما هذه
الأصنام الّتي اراكُم تعبدون؟؟ قالوا له : هذه اصنامٌ نعبدها فنستمطرها فتمطرنا
، ونستنصرها فتنصرنا ، فقال لهم : أفلا تعطونني منها صنماً فاسير به إلى ارض
العرب فيعبدوه؟؟ فأعطوه صنماً ، وهكذا استحب عملهم ، وجلب معه إلى مكة صنماً
جميلُ النقش والنحت يدعى « هُبَل » فنصبه ودعا الناس إلى عبادته ، وتعظيمه. وهكذا دخلت الوثنية إلى « مكة »
المكرمة ، واصبحت عبادة الاوثان والاصنام عبادة رائجة في تلك الديار (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 78 ـ 81 ، والعمالقة هم طائفة من العرب
عاشوا وسادوا ثمّ بادوا قبل الإسلام.).
واشهر اصنام العرب هي
: 1 ـ هبل وكانت أعظم
اصنام العرب الّتي في جوف الكعبة. 2 ـ اساف. 3 ـ نائلة وكانت هي
واساف على موضع زمزم ينحرون عندهما. 4 ـ اللات وكانت لثقيف
بالطائف. 5 ـ العُزّى وكانت
بنخلة الشامية ، وكانت لقريش وبني كنانة. 6 ـ منات وكانت للاوس
والخزرج ومن ذهب مذهبهم من أهل يثرب. 7 ـ عميانس وكان بأرض
خولان يقسمون له من أنعامهم وحروثهم. 8 ـ سعد. 9 ـ ذوالخلصة وكانت
لدوس وخثعم وبجيلة. 10 ـ مناف
(راجع الأصنام للكلبي ، والمحبر : ص 315 ـ 319.).
ولقد كانت هذه هي أشهر أصنام العرب
علاوة على الأَصنام الاُخرى غير المعروفة الّتي كانت تختصُّ بطائفة دونَ اُخرى ،
أو بعائلة دون عائلة. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
العلم
والثقافة في الحجاز :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
كان أهلُ الحجاز
يوصَفون بالاُميّين ، والاُميّ هو من لم يتعلم القراءة والكتابة فهو كمن ولدتهُ اُمُه
، أو هو باق في عَدم العلم بالقراءة والكتابة على الحالة الّتي وُلد فيها من
اُمه. ولأجل أن نعرف مدى ما كان عليه
العلمُ والثقافة عند العرب من القيمة يكفي
أن نعلم بأن عدد الذين كانوا يعرفون القراءة والكتابة بين قريش إلى ما قبل ظهور
الإسلام لم يكن يتجاوز ( 17 ) شخصاً في مكة و ( 11 ) نفراً فقط
من بين الأوس والخزرج في المدينة (فتوح البلدان : ص 457 ـ 459.).
إذا لاحظنا هذا التخلف
والانحطاط في مجال العلم والثقافة في البيئة العربية الجاهلية يتضح لنا مدى
تأثير الإسلام ، وادركنا عظمة التعاليم الإسلامية في
جميع الحقول الاعتقادية والاقتصادية والأخلاقية والثقافية ، ولابدّ في تقييم
الحضارات أن نطالع وندرس الحلقة السابقة ، ثم نقيم الحلقة التالية في ضوء ذلك ،
وفي هذه الصورة نقف على عظمة تلك الحضارة الحقيقية (للوقوف على معلومات أوسع واكثر حول عقائد مختلف طوائف المجتمع العربي
الجاهلي ، وثقافتها وتقاليدها راجع الكتابين التاليين : ألف : « بلوغ الارب في معرفة أحوال
العرب » تأليف السيد
محمود الآلوسي المتوفى عام 1270 هجري قمري. باء : « المفصَّل في تاريخ
العرب قبل الإسلام » تأليف الاُستاذ جواد علي ، وهذا الكتاب اُخرجَ في ( 10 )
مجلدات ، وقد بُحثَ فيها كل ما يرتبط بحياة العرب في العهد الجاهلي.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الإمام عليّ يصف
العهد الجاهليّ :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وقد وصف الإمامُ عليّ
أميرُ المؤمنين عليهالسلام
تلك الحالة في خطبه ، وحيث أنه عاصر ذروة ذلك الوضع
المأساوي ووصفه وصفاً دقيقاً لذلك ينبغي أنْ نقف عند كلامه قليلا ليتبين لنا
جيداً ما كان عليه العربُ إبّان عهد الرسالة الإسلامية المباركة : قال عليهالسلام في الخطبة ( الثانية ) من نهج البلاغة : « ... وأشْهَدُ أنَّ مُحمَّداً
عَبدَهُ وَرَسوله أرْسَلَهُ بالدينِ المَشْهُور والعِلَم الماثور والكِتاب
المَسْطُور والنُّور الساطِع ، والضِياء اللامع ، والأمر الصادع إزاحة للشُبهات
واحتجاجاً بالبَّيِنات وَتَحْذيراً بالآيات ، وتَخْويفاً بالمُثلات (1)
والناسُ في فتن انْجَذَم (2)
فيها حَبْلُ الدِّينِ ، وتزَعْزَعتْ سَواري (3)
اليَقْينِ واْختَلَفَ النَجْرُ (4)
، وتَشتَّتَ الأمرُ وَضاقَ الَمخْرَجُ ، وعَمِيَ المَصْدَرُ فالهُدى خامِلٌ ،
والعَمى شامِلٌ ، عُصِيَ الرَّحْمانُ ونصِرَ الشَيْطانُ وَخُذِلَ الإيْمانُ
فَانْهارَت دَعائِمهُ ، وتَنكَّرَتْ مَعالِمُهُ وَدَرَست (5)
سُبُلُه وعَفَت شُركه (6)
أطاعُوا الشَيْطانَ فَسلكُوا مسالِكه ، وورَدُوا مناهِلَه (7)
بِهِمْ سارتْ أعلامُه ، وقامَ لِواؤُهْ في فِتَن داستْهُمْ بأَخْفافِها (8)
ووَطئَتْهُمْ بِأَظْلافِها (9)
وقامَتْ عَلى سَنابِكِها (10)
فَهُمْ فيها تئهون حائرُونَ جاهِلُونَ مَفْتُونُونَ في خَيْر دار وَشَرِّ
جِيْران نُومُهُمْ سُهُودٌ وَكُحْلُهمْ دُمُوعٌ بأَرْض عالِمُهْا مُلْجَمٌ
وجاهِلُها مُكرَمٌ. وقال في الخطبة ( التاسعة
والثمانين ) أيضاً : « أرْسَلَهُ صلىاللهعليهوآلهوسلم
عَلى حِين فَتْرَة مِنَ الرُّسُلِ وَطُول هَجْعة من الاُمَم واعْتزام (11)
مِنَ الفِتَن وانْتِشار مِن الاُمور وَتلظٍّ (12)
مِنَ الحرُوب والدُّنْيا
كاسِفَةُ النُّور ظاهِرَةُ الغُرُور
عَلى حينِ اْصفِرار مِنَ وَرَقها وأَياس مِنْ ثَمَرها واغْورار (1)
مِنْ مائها قَد دَرَسَت مَنارُ الْهُدى وَظَهَرَتْ أَعلامُ الرَّدى فَهِيَ
مُتَجَهِّمَة (2)
لأهْلِها عابِسةٌ فيْ وَجْه طالِبها ثَمَرُها الفِتْنَةِ وَطَعامُها الجيْفَةُ (3)
وشعارُها الخوفُ وَدثارُها السَيْفُ ». وَقالَ في الخطبة ( السادسة والعشرين
) : « إنَّ اللّه بَعَث مُحمَّداً صلىاللهعليهوآلهوسلم
نَذيراً لِلعالَمِين وأمِيْناً عَلى التَّنْزيْل وَانتُم مَعشَر العَرَب عَلى
شَرِّ دين وَفي شَرِّ دار مُنِيخُونَ (4)
بَيْنَ حِجارَة خَشِن (5)
وحَيّات صُمٍّ (6)
تَشربُونَ الكَدِرَ وَتَأَكُلُونَ الجَشِبَ (7)
وَتَسْفِكُونَ دِماءكُمْ وتقطعُونَ أَرْحامَكُمْ الاْصنامُ فيكُم مَنْصوبَة
وَالآثامُ بِكُمْ مَعْصُوبَة (8)
». وقال عليهالسلام في الخطبة ( الثالثة والثلاثين ) :
« إنَّ اللّه بعثَ مُحمَّداً صلىاللهعليهوآلهوسلم
ولَيسَ اَحدٌ مِنَ العَرب يقراُ كِتاباً ولا يدّعي نُبوة فساق الناس حتّى
بوَّأَهُمْ محلَّتهُمْ (9)
وَبلَّغهُمْ مَنجاتَهُمْ فَاستقامَتْ قَناتُهُمْ (10)
واطمأَنَّت صفاتُهُمْ ». وقال في الخطبة ( الخامسة
والتسعين ) أيضاً : « ... بَعَثَهُ صلىاللهعليهوآلهوسلم
والنّاسُ ضُلالٌ في حَيْرَة وَحاطِبُونَ في فِتْنَة قَد اسْتَهْوَتْهُمْ
الأَهْواء وَاسْتَزَلَّتْهُمْ الْكِبْرياء وَاسْتَخَفَّتْهُمْ (11)
الجاهِليَّةُ الجَهْلاء حُيارى في زلْزال مِنَ الأَمْر وَبَلاء مِنَ الْجَهْلِ
فَبالَغَ صلىاللهعليهوآلهوسلم
في النَّصِيْحَةِ وَمَضى عَلى الطَّريْقَةِ وَدَعا إلى الْحِكْمَةِ
وَالْمَوعِظَةِ الْحَسَنَةِ ». وقال عليهالسلام : في الخطبة ( السادسة والتسعين ) أيضاً :
« ... مُسْتَقَرُّهُ خَيْرُ
مُسْتَقَرٍّ وَمَنْبَتُهُ أشْرَفُ مَنْبَت في مَعادِنِ الْكَرامَة وَمَماهِدِ (12)
السَّلامَةِ قَدْ صُرفَتْ نَحْوَهُ أَفْئدةُ الأَبرار وَثُنِّيَتْ إلَيْهِ
أزمَّةِ الأَبْصار دَفَنَ __________________ 1 ـ اغورار الماء : ذهابه.
2 ـ تجهّمه : استقبله بوجه
كريه. 3 ـ إشارة إلى أكل العرب
للميتة من شدة الاضطرار. 4 ـ منيخون : مقيمون. 5 ـ الخُشّن : جمع خشناء
من الخشونة. 6 ـ الُصمّ : الّتي لا
تسمع لعدم انزجارها بالاصوات. 7 ـ الجشِب : الطعام
الغليظ. 8 ـ معصوبة : مشدودة. 9 ـ بَوّأهم محلَّهُمْ :
أنزلَهم منزلتهم. 10 ـ القناة : العود كناية
عن القوة. 11 ـ استخفتّهم :
طيّشَتْهُمْ. 12 ـ الممهَد : ما يُبسَط
فيه الفراش. اللّه بِهِ الضَّغائِنَ وَأطْفأَ
بِهِ الثَّوائرَ (1)
أَلَّف بِه إخْواناً وَفَرَّقَ بِهِ أقْراناً اَعزَّ بِهِ الذّلة وَأَذَلِّ بِهِ
الْعِزَّة كَلامُهُ بَيانٌ وَصَمْتُهُ لِسان ». وقال عليهالسلام في الخطبة (151) أيضاً : « ... أضاءتْ بِه صلىاللهعليهوآلهوسلم
البلاد بَعْدَ الضَّلالَةِ المُظْلِمَةِ والْجهالَةِ الغالِبَةِ والْجَفْوَة
الْجافِيَةِ وَالنّاسُ يسْتَحِلُّونَ الْحَريمَ وَيَسْتَذِلُّونَ الْحَكِيْمَ
يَحْيونَ عَلى فَتْرَة (2)
وَيَمُوتُونَ عَلى كَفْرّة ». وقال في الخطبة (198) : « .. ثُمَّ إنَّ اللّه سُبْحانَهُ
بَعَثَ مُحَمَّداً صلىاللهعليهوآلهوسلم
بِالْحَقِّ حِيْن دَنا مِنَ الدُّنْيا الإنْقِطاعُ وَأقْبَلَ مِنَ الاخِرَة
الإطّلاع (3)
وَاَظْلَمَتْ بَهْجَتُها بَعْدَ إشْراق وَقامَتْ بأهْلِها عَلى ساق وَخَشُنَ
مِنها مِهادٌ (4)
وَأَزفَ (5)
منها قيادٌ في انْقِطاع مِنْ مدّتها وَاقْتِراب مِنْ أَشْراطِها (6)
وَتَصَرُّم (7)
مِنْ أَهْلِها وانْفِصام (8)
مِنْ حَلْقَتِها وَانْتِشار (9)
مِنْ سببها وَعَفاء (10)
مِنْ أعْلامِها وَتَكَشُّف مِنْ عَوْراتِها وَقِصَر مِنْ طُولِها ». وقال عليهالسلام في الخطبة (213) : « اَرْسَلَهُ بِالضِّياء وَقَدَّمَهُ
في الاْصْطِفاء فَرتَقِّ (11)
به المَفاتِقَ (12)
وَساوَرَ (13)
بِه المُغالِبَ وَذَلَّلَ بِه الصُّعُوبَة وَسَهِّل بِهِ الحُزُونَةَ (14)
حَتّى سَرَّحَ الضَّلالَ عَنْ يمين وَشِمال ». وقال في الخطبة (191) : « وَاشهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً
عَبْدُهُ وَرَسُولُه ابْتَعَيْه وَالنّاسُ يَضربُون في غَمْرة (15)
وَيَمُوجُونَ في حَيْرَة قَدْ قادَتْهُمْ أزمَّةُ الحَيْنِ (16)
وَاستَغْلَقَتْ عَلى أَفْئدَتِهِمْ أقْفالُ الرَّيْنِ » (17).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
فاطمة الزهراء تصف الوضع
الجاهلي :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وقد وصفت السيّدة فاطمة الزهراء بنتُ
رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
العهدَ الجاهلي بمثلِ ذلك إذ قالت في خطبتها أمام أبي بكر والمسلمين (1)
: « فَبَلَّغَ ( اي رسولُ اللّه )
بالرِّسالة صادِعاً بالنَّذارة (2)
مائلا عَلى مَدْرَجَةِ المُشْركيْن ضارباً ثَبَجَهُمْ (3)
آخِذاً بأَكْظامِهمْ داعِياً إلى سَبِيْل رَبِّه بِالحِكْمَةِ وَالْمَوْعظَةِ
الْحَسَنَةِ يَكْسِرُ الاَْصْنامَ وينْكُثُ الهامَ (4)
حتّى انْهَزَمَ الجَمْعُ وَوَلُّوا الدُّبُر حَتى تَفَرّى الليلُ عَنْ صُبْحِهِ
وَاَسْفَرَ الحَقُ عَنْ محْظِهِ (5)
وَنَطَقَ زَعيمُ الدين وَخَرستْ شَقاشقُ (6)
الشَّياطين وأطاحَ وَشِيظُ (7)
النَّفاقِ وانَّحَلَّتْ عُقَدُ الْكُفْر والشِّقاقِ وَفُهْتُمْ بِكَلِمَةِ
الاخْلاص في نفَر مِنَ البيض الْخِماص وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَة مِنَ النّار
مُذْقَةَ (8)
الشّارب وَنُهْزَة (9)
الطامِع وقَبْسَةِ العِجْلان (10)
وَمَوطىءَ الأَقْدامِ تَشْرَبُونَ الطَرقَ (11).
وَتَقْتاتُونَ القِدَّ (12)
وَالوَرق أذِلَّةً خاسِئينَ تَخافُونَ اَنْ يَتخَطَّفَكُم النّاسُ مِنْ
حَوْلِكُمْ فَأَنْقَذكُمُ اللّه تَعالى بِمُحَمَّد بَعْدَ اللُّتَيّا وَالَّتي
بَعْدَ أن مُنِيَ بِبُهْم (13)
الرجال وَذُؤبانِ الْعَرَب وَمَرَدة أهْلِ الْكِتاب (14)
كُلَّما أوْقَدُوا ناراً لِلْحَرب أطْفأَها اللّه ، أوْ نجَمَ (15)
قَرْنُ الشَّيْطانِ أوْ فَغرَتْ (16)
فاغِرَةً مِنَ الْمُشركيْن ، قَذَفَ أخاهُ في لَهواتِها (17)
فَلا يَنْكَفِئُ (18)
حَتّى يَطَأ صِماخَها بَأخْمصِهِ ». __________________
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
جعفر بن ابي طالب
يصف العهد الجاهلي :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ويشهد بذلك أيضاً ما
قاله جعفر بن أبي طالب عند النجاشي ملك الحبشة عندما اراد مَبعوثاً قريش
استعادتَهما إلى مكة : أيّها الملك ، كُنّا قوماً أهلَ
جاهِليَّة ، نعبدُ الاصنام ، ونأكلُ الميتة ، ونأتي الفواحِشَ ، ونقطعُ الأرْحام
، ونسيء الجوارِ ويأكلُ القويُ مِنّا الضعيف ، فكنّا على ذلك ، حتّى بعث اللّه
إلينا رسولا منّا نعرف نسبَه وصدقَه وأمانَتَه وعفافَه ، فدعانا إلى اللّه
لنوحِّده ونعبده ، ونخلعُ ما كنّا نعبدُ نحنُ وآباؤنا من دونه من الحجارة
والأوثان وأمرَنا بصدق الحديث وأداء الأمانة ، وصلة الرحم ، وحُسْنِ الجوار ،
والكفِّ عن المحارم والدّماء ، ونَهانا عنِ الفَواحِش وقول الزُور ، وأكل مالِ
اليَتيمِ ، وقذفِ المحصَناتِ ، وأمَرنا أنْ نَعبُدَ اللّه وَحدَهُ لا نشركُ بِهِ
شيئاً ، وأمَرَنا بالصّلاةِ والزّكاةِ والصِيام قالت : فعدّد عليه امور الإسلام
حتّى قال : وصدّقناهُ ، واَمَنّا به واتَّبْعناهُ على ما جاء به من اللّه فعبدنا
اللّه وحدَه فلم نشرك به شيئاً وحرَّمنا ما حرّمَ عَلَيْنا وأحللنا ما أحلَّ لنا
، فَعدا علينا قومَنا فَعذَّبُونا وفتنونا عن ديننا ليردُّونا إلى عبادة
الأَوثان مِنْ عِبادَة اللّه تعالى ، وأنْ نَسْتَحِلَّ ما كنا نَستحِلَّ من
الخَبائث (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 335 و 336. والحديث عن اُمّ سلمة.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
3
إمبراطوريّتا الرُوم وإيران
إبّان عهدِ الرِّسالةِ
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
للوقوف على أهمية النهضة الإسلامية
المباركة الّتي تحققت على يدي النبيّ الاكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم
بعد ارساله من جانب اللّه تعالى وقيمتها ، تكتسبُ دراسة بيئتين إجتماعيّتين
اهمية قصوى ، وتانِك البيئتان هما :
1 ـ بيئةُ نزول القرآن
الكريم ، أي البيئة الّتي ظهر فيها الإسلامُ ، وترعرع
ونمى. 2 ـ البيئة العالمية (
خارج الجزيرة العربية ) ، ويعرف ذلك بدراسة عقائد الناس
وافكارهم في اكثر مناطق العالم ـ يومَذاكَ ـ مدنية وحضارة ، ومطالعة آدابهم
وأخلاقهم وتقاليدهم ، وأعرافهم ، ومدنيّاتهم الّتي كانت تعتبرُ أفضل الأفكار والمدنيّات
، وأرقى الحضارات ، والأوضاع آنذاك. ولقد كانت بيئتا : الامبراطورية
الرومانية ، والإمبراطورية الإيرانية ألمع نقطة في ذلك اليوم ـ كما يدلنا
التاريخ على ذلك. ولابدَّ أستكمالا لهذا البحث من دراسة الأَوضاع في هاتين
الإمبراطوريتين ، في مناطقها ، ومن نواحيها المختلفة ، لنقف من هذا الطريق على
قيمة الحضارة الّتي اتى بها الإسلام ، ونعرف ذلك بوجه أفضل. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أوضاع الروم إبّان عهد الرسالة :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ان أوضاع الروم لم تكن بأقل سوءً من
أوضاع منافستها « ايران » فالحروب الداخلية من جانب والمعارك الخارجية المستمرة
مع « ايران » وصراعها الدائم المستمر مع الاخيرة على منطقة « ارمينية » وغيرها
كل ذلك كان يهيء الناس في تلك البلاد للقبول بثورة جديدة يضع حداً لمآسيهم
ومحنهم. ولقد كان للاختلافات والمنازعات
الطائفية والمذهبية النصيب الاكبر والأَوفر في توسيع رقعة هذه الاختلافات ،
والمنازعات. فالحربُ لم تتوقَفْ
أبداً بين الوثنيين والمسيحيين ولم تنطفئ شرارتها يوماً ابداً. فكان إذا غَلَب رجالُ الكنيسة على
دست الحكم وأخذوا بمقاليده مارسوا أشدّ أنواع الضغط والأضطهاد بحقِّ خصومهم
ومنافسيهم الأمر الّذي كان يساعد على إيجاد أقلية ناقمة من جهة ، كما ويمكن
اعتبار ذلك عاملا مساعداً من جهة اُخرى على تهيئة الشعب الروماني لاحتضان الدعوة
الإسلامية ، وتقبلها. لقد كان حرمانُ طوائف كثيرة ومختلفة
ناشئاً من ممارسات رجال الكنيسة الخشنة ومواقفهم المتزمتة. هذا مضافاً إلى أن اختلاف القساوسة
والرهبان النصارى فيما بينهم من جهة ، وتعدّد المذاهب من جهة اخرى كان يعمل على
التقليل من هيبة الامبراطورية الرومانية وجرّها إلى الضعف والوهن المتزايد يوماً
بعد يوم. هذا بغضّ النظر عن أنَ البيض والصُفر
من سُكّان الشمال والمشرق كانوا يفكّرون في السيطرة على المناطق الغنية من اُوربة
، وربما ألحق أحدُهما بالآخر خسائر فادحة وباهضة في الصرعات والمصادمات الّتي
كانت تقع بينهما. وكان هذا هو نفسُه السبب في أن تنقسم الامبراطوريةُ الرومية
إلى معسكرين : المعسكر ( أو القسم
الشرقي ) والمعسكر ( أو القسم الغربي ). ويعتقد المؤرخون أن
أوضاع الروم السياسية ، والاجتماعية والاقتصادية في القرن السادس كانت مضطربة ،
ومتدهورة جداً ، حتّى أنهم لا يرون في غلبة إن هاتين الدولتين
اللتين كانتا تتربَّعان على عرش السيادة والسياسة العالمية في مطلع ظهور الإسلام
كانتا
تعيشان حالة سيئة من الفوضى ، والهرج والمرج ، ومن البديهيّ أنَّ مثل هذه
الأَوضاع كان من شأنها أن توجد حالة من التهيّؤ الكبير والظمأ الشديد إلى دين
صحيح يضع حَدّاً ونهاية لتلك الحالة ، ويعيد تنظيم حياتهم. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ظاهرة الجدل العقيم
في المجتمع الرومي :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
المتعارف أن يعمد جماعةُ مِنَ
البطّالين والفسقة إلى طرح سلسلة من القضايا والمسائل الخاوية والنقاش حولها
بهدف التوصُّل إلى أغراض فاسدة ، فيستهلكون بذلك أوقات الناس ، ويهدرون أعمارهم
على منحر الجدل العقيم. وهي حالة لها مصاديق كثيرة وشواهد
عديدة في كثير من بلاد المشرق ، ولسنا بصدد التوسّع فيه فعلا. وقد كانت « الروم » تعاني يومئذ من
مثل هذه الحالة اكثر من اي مكان آخر. فقد كان ملوك الروم ورجال الحكم والسياسة
تبعاً لمذاهب دينية كنسيّة يعتقدون بأن المسيح ذو طبيعتين ومشيئتين ، ولكن طائفة
اُخرى من النصارى وهم « اليعقوبية » كانوا يقولون بانه : ذو طبيعة ومشيئة واحدة.
وقد وجهت هذه المسألة الباطلة نفسها
، والجدل الواهي حولها ضربة شديدة إلى وحدة الروم ومن ثم استقلالها ، واحدثت في
صفوفها انشقاقاً عميقاً حيث كانت السلطات الحاكمة تضطر إلى الدفاع عن معتقداتها
، ولذلك كانت تضطهد معارضيها ، وتلاحقهم وهذا الاضطهادُ والضغطُ الروحيّ سبَّب
في لجوء البعض إلى الدولة الايرانية ، كما كان هؤلاء همُ الذين تركوا المقاومة
عند مواجهة الجيش الإسلامي ، وألقوا
السلاح ، واستقبلوا جنود الإسلام بالاحضان. كانت الرومُ تمرُّ
آنذاك بظروف اشبه ما تكون بظروف القرون الاُوربية الوسطى الّتي ينقل عنها «
فلاماريون » الفلكيّ الشهير القضايا التالية الّتي تدل على المستوى الفكريّ
والثقافيّ لاُورُبة في القرون الوسطى : لقد كان كتابُ « المجموعة اللاهوتية
» المظهر الكامل للفلسفة المدرسية في القرون الوسطى ، وقد بقي هذا الكتاب
يُدرَّس في أوربة خلال أربعمائة سنة ككتاب رسمي ومعترف به. وقد كان من الأبحاث المطروحة في هذا
الكتاب البحث حول عدد الملائكة الّتي يمكنها ان تستقر على راس إبرَة؟! أو عدد
الفراسخ بين العين اليسرى والعين اليمنى للاب الخالد؟! إلى غير ذلك من القضايا
التافهة!! إن الامبراطورية الرومية السيئة الحظ
فيما كانت تعاني من الحروب الخارجية الكثيرة ، كانت تعاني كذلك من النزاعات
والاختلافات الداخلية ـ الّتي كانت ـ على الاغلب ـ تتصف بالصبغة المذهبية
والطائفية ـ وكانت تدفع بالبلاد إلى حافة الهاوية ، وتزيدها قربا إليها يوماً
بعد يوم. ولما رأى اليهود ( وهي
الزمرة الشريرة المتآمرة على الشعوب دائماً ) تصاعد
الاضطهاد والضغط الّذي يمارسه الامبراطور المسيحي الرومي خطّطت لاسقاط ذلك
النظام ، فاحتلت مدينة انطاكية ذات مرة ، ومثلت بأسقف أنطاكية الاكبر فصلموا
اُذنه ، وجدعوا أنفه ، فانتقمت حكومة الروم لهذه الجناية بعد مدة ، وقتلت اليهود
في انطاكية في مذبحة عامة. وقد تكرَّرت هذه الجرائم الفضيعة
وهذه المذابح ، والمذابح الانتقامية المضادة بين اليهود والنصارى عدة مرات ،
وربما سرت موجة الروح الانتقامية أحياناً إلى خارج البلاد ، فمثلا اشترى اليهود
من ايران ذات مرة ثمانين الف مسيحي ثم حزوا رؤوسهم انتقاماً وتشفياً. من هذا يستطيع القارئ
الكريم أن يقف على الصورة القاتمة للوضع السيء والمتردّي الّذي كان عليه العالم
إبان بزوغ شمس الإسلام ، ويذعن ـ مع لقد أبطل الإسلامُ جميع تلك
المجادلات العقيمة والمناقشات التافهة حول مشيئة عيسى وشخصيته ، وقال في نعته
ووصفه : « ما المَسِيحُ بنُ مريمَ إلاّ رسولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْله الرُّسُلُ
واُمَّه صِدِّيقةٌ كانا يأكُلان الطّعام » (المائدة : 75.).
إن هذه الآية انهت الكثير من أبحاث
رجال الكنيسة الباطلة الخاوية حول « الروح » و « المسيح » ودمه ، وشخصيته ،
وحقيقته ، كما ان الإسلام بفضل التعاليم الرفيعة ، واحياء السجايا والملكات
الفاضلة انقذ البشرية من المنازعات ، الفارغة ، والمذابح الفضيعة. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أوضاع
إيران إبان عَهد الرسالة :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إن ما دفعَنا إلى دراسة أوضاع
الإمبراطورية الرومية هو نفسه يحتم علينا أيضا دراسة اوضاع إيران يومذاك. لقد صادف ظهورُ
الإسلام وبعثة الرسول الكريم محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم ( 611 ميلادية ) عهد
السلطان الإيراني خسرو برويز ( 590 ـ 628 م ) ، وفي عهد
« خسرو برويز » هذا هاجر رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
من مكة إلى المدينة ( الجمعة 16 جولاي 622
)
، وصارت هذه الواقعة مبدء للتاريخ الإسلامي. في هذه الأَيام كانت
الدولتان العظيمتان (
الروم الشرقية وايران الساسانية ) تسيطران
على معظم مناطق العالم المتحضر ، ولم تزل هاتانَ الدولتان في نزاع مستمر وصراع
دائم على مناطق النفوذ حتّى بعد ظهور الإسلام. فقد بدأت حروب ايران
والروم الطويله من عهد السلطان الإيراني أنوشيروان ( 531 ـ 589 م ) واستمرَّت
إلى عهد الملك « خسرو برويز » واستغرقت اربعاً وعشرين
عاماً من الزمان (تاريخ علوم وادبيات در ايران ص 3 و 4 وايران در زمان ساسانيان ص 267
( باللغة الفارسية ).).
وقد سبَب تحمل « ايران
» و « الروم » للخسائر الكبرى ، في الارواح
والثروات خلال هذه المعارك الطويلة في إضعاف تينك الدولتين ، وتعطيل وشلّ قواهما
بحيث لم يبق منهما إلاّ شبحُ دولتين لا اكثر. ولكي نقف على الوضع العام في ايران
آنذاك من جهاته المختلفة ، وابعاده المتنوعة وبصورة أفضل ، يجب ان نلقي نظرة
فاحصة على وضع الحكومات الّتي توالت على سدة القيادة الايرانية بعد حكم «
انوشيروان » وحتّى بداية دخول المسلمين. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
البَذخ والتَرف في
البلاط الساساني :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
كانت حياة الملوك الساسانيين تتسم
عموماً بالبذخ والترف ، والتشريفات الطويلة العريضة ، وكان البلاطُ الساساني
الفخم جداً يخلب ببريقه ، بريق العيون ، ويسحر الافئدة والعقول. وكان للايرانيين في عهد الساسانيين
لواء يُعرف ب « درفش كاوياني » اي العلم الكاوياني نسبة إلى كاوه وهو بطل قومي
إيراني اُسطوري ، وقد كانوا يحملونه معهم في الحروب ، أو ينصبونه فوق قصورهم
اثناء إحتفالات الساسانيين الكبرى ، وقد كان هذا اللواء موشحاً ومزيناً بأغلى
أنواع المجوهرات بلغت قيمتها التقديرية ـ حسب قول بعض الكتاب : « 000 / 200 / 1
» درهماً ( أو ما يعادل 000 / 30 پوند ). وقد بلغت مجموعة المجوهرات والاشياء
الثمينة والتصاوير والرسوم المحيرة للعقول الّتي كانت تكتضُّ بها قصور
الساسانيين من حيث الاهمية والقيمة حداً سحرت العيون وخلبَت الالباب. ولو أننا أردنا أن نقف على عجائب ما
في تلك القصور ، وما كانت تحتوي عليه من غرائب الاشياء لكفانا أن نلقي نظرة
واحدة إلى السجّادة البيضاء والكبيرة التي كانت مفروشة في احدى صالات بعض تلك
القصور ، وهي السجّادة الّتي كانت تدعى بالفارسية ب « بهارستان كسرى » وهو بساط
كانوا يُعدوّنه للشتاء إذا ذهبت الرياحين ، فكانوا إذا أرادُوا الشرب وتعاطي
الخمر فرشوه ، وشربوا عليه فكأنهم في رياض وكان هذا البساط ستيناً في ستين أرضُه
بذهب ووشيُه بفصُوص ، وثمره بجوهر وورقه بحرير » (تاريخ الطبري ج 2 ، ص 130. وجاء في تاريخ الطبري :
كانت هذه السجّادة ستين ذراعاً في ستين ذراعاً ، بساطاً واحداً مقدار جريب فيه
طرق كالصور ، وفصوصٌ كالأنهار وخلال ذلك كالدَّير وفي حافاته كالأَرض المرزوعة
والأَرض المبقلة بالنبات في الربيع من الحرير على قضبان الذهب ، ونواره بالذَهب
والفضّة!!)!!
وقيل أيضاً أن هذا البساط كان مئة
وخمسين ذراعاً في سبعين ذراع وكان منسوجاً من خيوط الذهب والمجوهرات الغالية
جداً!! وقد كان « خسرو برويز
» أكثر الملوك الساسانيين ميلا إلى الترف ، والبذخ ، واتخاذ الزينة ، وقد بلَغَت
عددُ نسائه وجواريه عدة الآف. يقول حمزة الاصفهاني
في كتاب « سنيّ ملوك الارض » واصفاً حالة الترَف والبذخ
الّتي كان يعيشُها كسرى برويز : ثلاثة آلاف امرأة ، واثنا عشر. وجاء في تاريخ الطبري
: أن
« كسرى (سنيّ ملوك الارض والأنبياء : ص 420.)
برويز » كان قد جمع من الأموال ما لم يجمع أحدٌ من الملوك ، وكان أرغب الناسِ في
الجواهر والأواني (تاريخ الطبري : ج 1 ، ص 616.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الوضع الاجتماعي في
ايران :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لم يكن الوضعُ الإجتماعي في عهد
الساسانيين بأفضل من الوضع السياسي آنذاك أبداً ، فقد بلغ الاختلاف الطبقي الّذي
كان سائداً في ايران منذ زمن بعيد اشدَّه واقوى درجاته ، واسوء حالاته في العهد
الاختلاف الساساني. فطبقة النبلاء والكهنة
كانت تتميز على بقية الطبقات تميزاً كاملا ، فهم يختصون بجميع المناصب
الاجتماعية الحساسة والعليا ، بينما حُرم الكسبة والمزارعون
وبقية أبناء الشعب من كافة الحقوق الاجتماعية ، ولم يكن لهم من واجب ودور في
النظام إلا دفع الضرائب الثقيلة والمشاركة في الحروب. يكتب أحدُ الكتّاب
الإيرانيين وهو الاستاذ سعيد نفيسي في هذا الصعيد قائلا : ان ما كان يثير روح النفاق بين
الايرانيين اكثر هو سياسة التمايز الطبقي القاسي جداً الّذي كان الساسانيون
يتبعونها في التعامل مع الشعب ، وكان لها جذورٌ في العهود والحضارات السابقة ،
ولكنها بلغت ذورتها في العهد الساساني بالذات!! ففي الدرجة الاُولى
كان للعائلات السبع من النبلاء ، ثم للطبقات الخمس إمتيازاتٌ خاصة حُرمَتْ منها
عامة أبناء الشعب. فالملكية كانت محصورة ـ تقريباً في
تلك العائلات السبع مع العلم أن الشعب في العهد الساساني كان يقاربُ عدد نفوسه
مائة وأربعين مليوناً في حين لا يبلغ عددُ كل واحد من تلك العائلات الممتازة
والمتميّزة في شؤونها مائة ألف شخص ، فيكون مجموعُها سبع مائة ألف
(تاريخ اجتماعي ايران : ج 2 ، ص 6 ـ 24 ( باللغة الفارسية ).).
وإذا افترضنا أنَّ حراسَ الحدود وأمراءهم
والمُلاك الذين كانوا يتمتعون هم الآخرون بشيء من حق الملكية كان يبلغ عددهم
أيضاً سبع مائة ألف أيضاً فيكون حق التملك والمالكية حينئذ خاصاً بمليون ونصف من
مجموع مائة واربعين مليوناً ، فقد كانت تلك الزمرة القليلة هي الّتي تملك ، وأما
الآخرون وهم الاكثرية الساحقة فقد كانوا محرومين من هذا الحق الطبيعي الموهوب
لهم من جانب اللّه أساساً وأصلا. لقد كان الكسبة
والفلاحون الذين كانوا محرومين من جميع الحقوق ، والإمتيازات ولكنّهم كانوا
يتحمَّلون نفقات حياة البذخ والرفاهية الّتي كان يرفل فيها النُبلاء والأشراف
والطبقات العليا ، لا يأملون خيراً وراء استمرار هذه الاوضاع ، ودوامها ،
ولهذا كثيراً ما كان المزارعون والفلاحون والطبقات الدنيا من الشعب يغادرون
أعمالهم ، ومزارعهم ويلجأون إلى الأديرة فراراً من الضرائب الباهضة والاتاوات
القاصمة للظهور ، المبددة للثروات (ـ ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين : 70 و 71.).
يقول مؤلف كتاب « ايران في عهد
الملوك الساسانيين » (إيران في عهد الساسانيين : ص 424.).
إن حروب إيران ـ الروم
الطويلة بدأت من عهد حكومة الملك الإيراني انوشيروان ( 531 ـ 589 م ). وخلاصة القول
أنه كان في الامبراطورية الساسانية يملك أقلية صغيرة تقلّ نسبتُها عن 5 / 1 % (
واحد ونصف بالمائة ) من مجموع الشعب كل شيء بينما كان اكثر من ( 89 % ) من الشعب
الإيراني محرومين من حق الحياة تماماً كالعبيد. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
حَقٌّ التعلّم خاصُ
بالطبقات الممتازة!! :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
في العهد الساساني كان ابناء الاغنياء
والبيوتات الرفيعة هم وحدهم الذين يتمتعون بحق التعليم ، بينما كان عامة جماهير
الشعب ، والطبقات الوسطى والدنيا محرومين من تحصيل العلوم واكتسابها. وقد كانت هذه المنقصة بادية وواضحة
في عصور ايران التاريخية جداً بحيث ذكرها الشعراء الكبار في ملاحمهم ودواوينهم
الملكية المعروفة بالرغم من ان الهدف من تلك الملاحم والدواوين كان هو الحماسة ،
والتفاخر بالبُطولات وتجييش العواطف ، بعد مدح الملوك والامراء. فها هو « الفردوسي »
(راجع للتعرف السريع على شخصية هذا الشاعر : الموسوعة العربية الميسرة
: ص 1286.)
الشاعر الملحمي الفارسي المعروف ،
بل اشهر شعراء ايران قد ذكر في شاهنامته ( وهي الملحمة الشعرية الّتي يذكر فيها
أمجاد ملوك الفرس في قرابة ستين ألف بيت ) قصة في هذا الصدد تعتبر أفضل شاهد على
ما قلناه. وقد وقعت هذه القصة في
زمن « أنو شيروان » ، أي في الوقت الّذي كانت الامبراطورية
الساسانية تمرُّ فيه بعهدها الذهبي. وهذه القصة تشهد بأن
اكثرية الشعب في عهد هذا الملك أيضاً كانت محرومة من حق التعلم ، وممنوعة عن
اكتساب الثقافة. يقول الفردوسي : لقد
أبدى حذّاء استعداده لتحمّل نفقات الجيش الإيراني ـ في حربه مع الروم ـ بدفع ما
يحتاجون إليه من ذهب وفضة. ومع أن السلطة في عهد
« انوشيروان » كانت بحاجة ماسة إلى مساعدات مالية
كبيرة إذ كان يتعين عليها أن تجهز ما يقرب من ثلاثمائة الف مقاتل قد اصيبوا
بالمجاعة وقلة العتاد ، بحيث أدى ذلك إلى وقوع بعض الاعتراضات ، وإلى ظهور
الفوضى في الجنود ، ممّا أدى بدوره إلى قلق الملك الإيراني « أنوشيروان ». والتخوف من مضاعفات هذه الحالة ،
وآثاره السيئة في قتاله للروم ، ولذلك بادر إلى استدعاء وزيره المحنك « بزرجمهر
» للتشاور معه في المخلص من ذلك الوضع المحرج ، ثم امره بالتوجه إلى منطقة «
مازندران » وجمع الاموال اللازمة من سكانها. ولكن « بزرجمهر »
حذَّر الملك من مغبّة هذا العمل ، وأضاف بأن
هذا من شأنه أن يضاعف من الخطر ثم اقترح جمع الاموال اللازمة عن طريق القروض
الشعبية فاستحسن « انوشيروان » اقتراحه وأمره باتخاذ الترتيبات اللازمة على التو
فيرسل الوزير مندوبين له إلى المدن الإيرانية ليكلم التجار واصحاب الثروة في
الامر. فيبدى الحذّاء المذكور استعداده
لتحمل كل نفقات الجيش لوحده الاّ انه اشترط ذلك بان يسمحوا لولده الوحيد الراغب
في تحصيل العلم جداً ان يتعلم. فاستحقر الوزير شرطه ووعده بالانجاز
، والسماح لولده بالتعلم وتحصيل العلم ، ثم عرض الامر على الملك انوشيروان وهو
يأمل في ان يتجاوب الملك مع رغبة الحذّاء وطلبه الصغير إذا ما قيس بما سيعطيه من
اموال طائلة في تلك الاوضاع الحرجة. ولكن الملك استشاط غضباً لهذا الطلب
، ونهر الوزير قائلا : دع هذا ، ما أسوأ ما تطلبه ، ان هذا لا يمكن ان يكون ،
لان ابن الحذّاء بخروجه من وضعه الطبقي يهدم التقليد الطبقّي المتبع ، فينفرط
بذلك عقد الدولة ، ويكون ضرر هذا المال علينا اكثر من نفعه ، وشره اكثر من خيره.
ثم إنّ الفردوسي يعمد إلى شرح المنطق
الميكافيلي حكاية عن لسان انوشيروان إذ يقول
ناظما ذلك في ابيات (1)
: وإذا اصبح ابن الحذّاء عالماً كاتباً
عارفاً فعندما يجلس ولدنا على مسند الحكم والسلطنة واحتاج إلى كاتب ، فانه سيضطر
إلى الاستعانة بابن ذلك الحذّاء ـ الكاتب ـ ( وهو من عامة الشعب ومن ابناء
الطبقة الدنيا وفي حين جرت عادتنا إلى الآن على أن نستعين بابناء الاشراف
والنبلاء لا أبناء الطبقة الدنيا )!!! وإذا حصل ابن الحذّاء وبائع الاحذية
على العلم والمعرفة أعاره العلم والمعرفة حينئذ عيوناً بصيرة ، وآذاناً سميعة
فيرى حينئذ ما يجب أن لا يراه ، __________________ 1 ـ وإليك هذه الأبيات باللغة
الفارسية :
ويسمع ما يجب أن لا يسمعه ، وحينئذ
لا يبقى لأبناء الملوك إلا الحسرة والتأسف (راجع شاهنامه ( باللغة الفارسية ) وتاريخ اجتماعي ايران : ص 618.). وهكذا يعيد الملك دراهم الحذّاء
المسكين إليه رافضاً طلبه ويعود الحذاء خائباً وهو يتوسل بما يتوسل به
المستضعفون والمحرومون المظلومون وهو الدعاء والضراعة إلى اللّه في الليل وفي
هذا قال الفردوسي : عاد مبعوث الملك بدراهم الحذاء إليه فاصيب الحذاء لذلك بغمّ
شديد ثم لما جن الليل تضرع الحذاء إلى اللّه وشكا إليه الملك طالباً عدالته (2).
والعجيب هو أن يصف البعض هذا السلطان
بالعادل وهو الّذي لم يعالج أسوأ مشكلة في المجتمع الإيراني أيام حكمه وسلطانه
وهي المشكلة الثقافية ، بل تسبب في أن يصاب الشعبُ الإيراني بالمزيد من المشاكل
الاجتماعية وغيرها. فقد وأد ودفن في القبور احياء ما
يقرب من ثمانين الف انسان ( اومائة الف كما قيل ) في حادثة واحدة ، وهي فتنة مزدك
، حتّى أنه ظنَّ انه قد قضى على جذور تلك الفتنة وهو لا يعلم أنها لم تُستأصل
لأن مثل هذه الأساليب القمعية انما تقضي فقط على المسبَّب دون السبب وتكافح
المجرم لا الجرم. لقد كان السبب الحقيقي وراء تلك
الفتنة هو الظلم الاجتماعي ، والاختلاف الطبقيّ ، واحتكار الثروة ، والمنصب على
أيدي طبقة خاصّة وحرمان الاكثرية الساحقة من الشعب وغير ذلك من المفاسد وكان
عليه لو أراد الاصلاح أن يعالج هذه الاُمور ليأتي على المشكلة من أساسها ، ولكنه
بدل ذلك كان يريد ـ بالقهر والقمع وفي ظلّ الحراب والسياط ـ أن يظهر الناس
انفسهم بمظهر الراضي وعن السلطة ، الموافق على تصرفاتها ، وأحوالها وأوضاعها
السيئة!!! ومن هنا نعرف بطلان الحديث المرويّ
عن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
الّذي قال فيه : «
وُلدتُ في زمن الملك العادل » ويقصد به انوشيروان (راجع في هذا المجال : تذكرة الموضوعات لابن الجوزي ، اللئالي المصوغة
في الاحاديث الموضوعة للسيوطي ، وكذا مجمع الزوائد للهيثمي..
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
صفحةٌ سوداءٌ من
جرائم خسرو برويز :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ومن جرائم الملك خسرو برويز ومظالمه
المنكرة ما فعله بوزيره الشهير « بزرجمهر » الّذي خدم البلاط الشاهنشاهي
الايرانيّ ثلاثة عشر عاماً وكان ذلك موجباً لشهرته في البلاد وحسن صيته بين
الناس. فقد عَمَدَ هذا الملك إلى سجن الوزير
المذكور ، والنكاية به ، وقدكتب إلى الوزير المسجون رسالة يقول فيها : إنَّ
حظَّك مِنَ العلم والمعرفة أنه عرضك للقتل!! فاجابه « بزرجمهر »
بقوله : « فقد انتفعتُ بعلمي مادام قد حالفني الحظُ ،
وحيث عاكسني الآن ، فانّني اصبر وأنتفعُ بصبري ، فإذا فاتني فعلُ خير كثير فانني
سعيدٌ لأنَّني لم أرتكب كذلك شرّاً كثيراً وإذا ما سلبني منصب الوزارة فاني في
الوقت نفسه قد استرحت كذلك من غم الحيف بالناس ، فلا ابالي بما أنا فيه ». ولما بلغَت هذه الرسالة إلى الملك «
برويز » استشاط غضباً ، وأمر بقطع شفتي الوزير ، وجَدْع أنفه ، وعندما عرف
الوزيرُ بهذا الأمر الظالم قال : أجل أن شفتي تستحقان اكثر من هذا. فسأله خسرو برويز :
ولماذا؟ فقال : لأنهما وصفتاك عند العامة والخاصة بما لا تستحق من الأوصاف ،
واعطتاك ما ليس فيك من الخصال ، فامالتا اليك القلوب ، ورغَّبتا فيك النفوس ،
والافئدة ، وآشاعتا عنك أمجاداً لم تستحقها ، يا اسوأ الملوك وأظلم الحكام ،
تقتلني الآن بسوء الظن بعد أن كنت على يقين من وفائي ، وصدقي ، واخلاصي ،
وسلامتي ، فمن بعد هذا يأمل في عدلك ، ومن بعد هذا يثق بقولك؟! فازداد « خسرو برويز »
لسماع هذه الكلمات الساخنة غضباً على غضب ، وأمر من فوره بقتل الوزير ، فضرب
عنقه في التوّ (يذكر الفردوسي الشاعر الملحمي هذه القصة في شاهنامته المعروفة عند
ذكر وقائع انوشيروان اثناء حربه مع الروم ( ج 6 ، ص 257 ـ 260 ).).
وتلك هي معاملة ذلك الملك الموصوف
زوراً بالعادل مع اقرب مقربيه ، واكثر معاونيه إخلاصاً ، ووفاء له فكيف كانت
تُرى معاملته مع سائر أفراد الرعية وبقية أفراد الشعب؟؟ |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
حكم التاريخ في
الملوك الساسانيين :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد اتخذ الحكام الساسانيُّون في
عهودهم وحكوماتهم سياسة خشنة قاسية ، وقد أخضعوا الناس بسلطانهم بالسيف والعنف. كانوا يفرضون على الناس ضرائب ثقيلة
وأتاوات باهضة قاصمة للظهور ، ولهذا السبب كان عامة الشعب الايراني غير راضين
على حكمهم وسيرتهم ، ولكنهم خوفاً على نفوسهم ، ما كانوا يتمكنون من الاعلان من
استيائهم هذا بل لم يكن لأرباب الفكر والرأي والعارفين بالامور شأن ولا قيمة في
البلاط الشاهنشاهي. لقد بلغ الاستبدادي
لدى الحكام الساسانيين حداً لم يستطع معه أحدٌ من إظهار رأيه ، ولم يجرأ احد على
إبداء أية ملاحظة في شأن من الشؤون. لقد بلغت القوة بخسرو
برويز حداً عجيباً وصفه الثعالبي بقوله : قيل لخسرو برويز (
كسرى ) دعونا فلانا الوالي فتباطأ عن الامتثال ، فأمر
الملك من فوره قائلا ان كان يصعب عليه مجيئه ببدنه كله ، فاننا يكفينا شيء منه ،
فليؤتى براسه فحسب (ايران در عهد ساسانيان : ص 318.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الفوضى في الحكومة
الساسانية :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وممّا يجب ان لا نغفل عن ذكره هو ما
تعرضت له الحكومة الساسانية في اواخر عهدها من الفوضى الادراية ، وتفاقم الهرج
والمرج في جهازها الحكومي. فقد دبّ الصراع والنزاع ونشب التنافس
الحاد بين الامراء ، والاعيان وقاده الجيش في ذلك العهد وذهب كلُ فريق يختار
أميراً من أبناء العائلة المالكة ، ويقوم بتصفية الطائفة الاُخرى الّتي اختارت
أميراً آخر. وعندما فكّر العرب المسلمون في فتح
إيران كانت العائلة الساسانية المالكة قد بلغت ذروة الضَعف والانقسام. وممّا يدل على ذلك تعاقبُ ما يقرب من
(14)
ملكاً على مسند الحكم والسلطان خلال مدّة اربعة اعوام من مقتل الملك « خسرو
برويز » وجلوس شيرويه مجلسه وحتّى آخر ملك من ملوك بني ساسان. وهذا يعني أن حكومة إيران انتقلت
خلال مدة لا تتجاوز اربعة اعوام من يد إلى يد اُخرى ( 14 مرة )!! ومن الواضح ما
يلحق باية دولة ومملكة تتعرض ل (14)
انقلاب يُقتل فيه ملك ، ويحل محله ملك آخر في مثل هذه المدة القصيرة. فقد كان كلُ حاكم يتسلَّم زمام الحكم
ويستولي على عرش السلطان يعمد إلى قتل واغتيال كل من كان يطمع في العرش ، ولا
يتورع في سبيل إرساء قواعد حكمه من ارتكاب كل ما يراه ضرورياً ، فكان الأب يقتل
ابنه ، والابنُ يقتل أباه ، وربما يقتل الاخ إخوته ، والزوجة زوجها وهكذا ... فقد قتل
« شيرويه » أباه (الكامل في التاريخ : ج 1 ، ص 296.)
للحصول على مقعد الحكم والسلطان ، كما أباد اربعين
شخصاً من أبناء الملك « خسرو برويز » اي إخوته!! (تاريخ اجتماعي ايران : ج 2 ، ص 15 ـ 19.).
وكان « شهر براز »
يقتل كل من لا يثق به ، وقد أدّى هذا إلى أن يقضي على كل
أبناء سلالته من الامراء الساسانيين ممّن كان قد تسنَّم عرش السلطان والملوكية
قبله ، رجلا كان ذلك أم إمراة ، صغيراً كان ام كبيراً ، لكيلا يبقى في الوجود من
يطمع في السلطان أو يدّعيه!! وصفوة القول : أن
الفوضى السياسية بلغت في أواخر العهد الساساني حداً بحيث كانوا يجلسون فيه
الأطفال والصبيان والنساء على اريكة الحكم ، ثم يثورون عليهم ويقتلونهم بعد ايام
أو أشهر ويحلون محلَّهم أشخاصاً آخرين!! وعلى هذا فإن الدولة
الساسانية رغم قوتها الظاهرية كانت آخذة في الانحطاط والانحلال وسائرة نحو
التمزق والفناء. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الفوضى الدينية في
ايران الساسانيين :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد كان أهم عامل للفوضى الّتي كانت
تعاني منها الاوضاع في العهد الساساني هو الاختلاف في المعتقدات الدينية الّتي
كانت سائدة آنذاك. فحيث أن « اردشير بن
بابك » مؤسس السلسلة الساسانية كان ابن مؤبد ( وهو رجل دين زردشتي ) وقيّماً
على بيت نار وقد تمكن من السلطان بفضل الموابدة فانه اجتهد في الترويج لدين
آبائه في ايران. وفي عهد الساسانيين
كان الدين الرسمي والشائع في أوساط الشعب الإيراني هو الدين الزرادشتي ، ولما
كانت السلالة الساسانية قد توصلت إلى الحكم بواسطة الموابدة ـ كما أسلفنا ـ لذلك
كان الموابدة والقيمون على بيوت النار (
ونعني بهم رجال الدين الزرادشتي ) يحظون
بمكانة كبرى لدى البلاط الساساني إلى درجة أنهم أصبحوا يشكّلون في أواخر العهد
الساساني أقوى طبقة ، وأشد الاجنحة نفوذاً في المجتمع الإيراني آنذاك. ولقد كان الحكام
الساسانيّون دائماً ممَّن رشحهم للحكم الموابدة ورجال الدين الزردشتي المجوسي ،
ولذلك كان الحكام يأتمرون بأوامرهم ، ولو أن
أحداً منهم خالف الموابدة عارضوه أشدَّ المعارضة ، وسحبوا عنه تأييدهم ودَعْمهمْ
، ولهذا اجتهد الملوك الساسانيون في كسب رضا الموابدة ، والعناية بهم اكثر من
غيرهم من الطبقات ، وقد تسبَّبت عناية اُولئك الملوك بالموابدة وحمايتهم لهم في
تزايد وقد كان الساسانيون يستغلون رجال
الدين المجوس أكبر استغلال لتثبيت قواعد حكمهم ، وتقوية مواقعهم في السلطان
ولذلك أقاموا في مختلف مناطق القطر الإيراني العريض بيوت النار ، ( وهي معابد
المجوس ) جاعلين في كل واحد من هذه المعابد ثلة كبيرة من الموابدة كسدنة. فقد كتب المؤرخون
يقولون : ان « خسرو برويز » شيد بيتاً للنار عظيماً ووكل
به ( 12 الف ) هيربد ( وهو منصب خاص ورتبة
خاصة في نظام القيادة الدينية المجوسية ) لينشدوا
فيه الاناشيد الدينية ، ويؤدوا الطقوس والشعائر المجوسيّة!! (تاريخ تمدن ساساني : ج 1 ، ص 1 ( بالفارسية ).).
وعلى هذا الاساس كان الدين المجوسي
دين البلاط ، وكان رجاله في خدمة الملوك. هذا وقد اجتهد الموابدة ـ بكل ما في
وسعهم ـ في إبقاء الطبقات الكادحة والمحرومة من ابناء الشعب الإيراني في حالة من
الركود والجمود وحالة عدم الاحساس بالآلام والرضا بالأمر الواقع. ولقد تسببت الصلاحياتُ الواسعة
والحريات المطلقة المخولة إلى الموابدة في ابتعاد الناس عن الدين المجوسي
والنفور منه ، فجماهير الشعب كانت تبحث لنفسها عن غير ما يتدين به الأشراف من
عقيدة ودين. يقول مؤلف كتاب «
تاريخ اجتماعي ايران » وقد سعى الشعب الإيراني ـ في المآل
ـ إلى ان يتخلص من ضغوط الاشراف والموابدة واضطهادهم ، ولهذا ظهر بيت الزردشتيين في قبال الدين الرسمي « المزدية
الزردشتية » الّذي كان دين البلاط كما عرفنا ، وكان يدعى
: بهدين ( اي الدين الافضل )
مذهبان آخران (تاريخ اجتماعي ايران : ج 2 ، ص 20.).
اجل وبسبب ضغوط الاشراف وتشددات
الموابدة في العهد الساساني ظهرت في ايران مذاهب مختلفة الواحد تلو الآخر ، وقد
حاول « مزدك » ومِنْ قبله « ماني » ان يوجدا بأنفسهِما تحولا في الاوضاع الدينية
وفي العقائد والمؤسسات ، ألاّ أنهما منيا بالفشل في هذا السبيل (المذهب المانوي هو المذهب الزردشتي الخليط بالمسيحية ، فقد اخترع
ماني من مسلك قومي وآخر اجنبي مذهباً جديداً ثالثاً.).
فحوالي سنة ( 497
ميلادية ) قام « مزدك » ، وألغى المالكية الانحصارية ( الخاصة ) ، ونسخ عادة تعدد
الزوجات ، ونظام الحريم وكان ذلك في مقدمة برامجه الاصلاحية ، وقد لقيت أفكاره
هذه تأييداً قوياً من قِبل الطبقات المحرومة المسحوقة الّتي فجرت بقيادة « مزدك
» ثورة كبرى ، وانقلاباً هائلا في المجتمع الإيراني. ولقد كانت هذه الثورات والانتفاضات
الشعبية لأجل أن يتوصل الناس إلى حقوقهم المشروعة ، الممنوحة لهم من قبل اللّه
خالقهم وبارئهم. ولقد قوبل مذهب « مزدك
» باعتراض شديد من قِبَل الموابدة ، وامراء الجيش ، وجرّ إلى فتنة كبيرة ، وإلى
تردي الاوضاع في ايران آنذاك. كما ان المذهب الزردشتي قد فقد ـ في
أواخر العهد الساساني ـ حقيقته بصورة كاملة ، ووصل الأمر بعبادة النار وتقديسها
إلى درجة أنهم كانوا يحرِّمون الدقّ على حديدة محماة اكتسبت لون النار ولهيبها
بمجاورتها لها. وبكلمة واحدة ؛ لقد
كانت اكثر المعتقدات الزردشتية المجوسية تتألف من الخرافات والأساطير ،
وقد أعطت حقائق هذا الدين ـ في هذا العهد ـ مكانها لحفنة من الشعائر الجوفاء ،
والطقوس الفارغة ، الّتي أضاف إليها
الموابدة سلسلة من التشريفات الطويلة العريضة تثبيتاً لمواقعهم ، ودعماً
لمكانتهم في المجتمع الإيراني يومئذ. لقد بلغت سيطرة
الخرافات والاساطير البعيدة عن العقل والمنطق على هذه العقيدة ، ورسوخها في هذا
الدين حداً أقلق حتّى رجال الدين الزردشتي انفسهم أيضاً ، وقد
كان بين الموابدة أنفسهم من أدرك منذ البداية تفاهة الطقوس والشعائر الزردشتية
الجوفاء فتخلى عنها. ومن جانب آخر كان
قد انفتح على الشعب الإيراني منذ أيام الملك « أنوشيروان » فما بعد طريق التفكير
، والتأمل ، والتحقيق ، وممّا قد قوّى هذا الامر ما حصل من اتصالات بين العقائد
الزردشتية والمعتقدات المسيحية وغيرها من العقائد والاديان وما تحقق من تلاقح
بينها نتيجة تسلل الثقافة اليونانية والهندية ، وغيرها إلى الوسط الإيراني ،
وتسبب كل ذلك في يقظة الشعب الإيراني ، ولذلك اصبح يعاني من هذه الخرافات
والاساطير الّتي كانت الديانة الزردشتية تعج بها اكثر من أي وقت مضى. وعلى أية حال
فان الفساد الّذي ظهر في أوساط رجال الدين الزردشت ، وتطرق الخرافات والاساطير
الواهية الكثيرة إلى المعتقدات الزردشتية تسَبّبَ في حصول مزيد من التشتت
والاختلاف والتشرذم في آراء الشعب الإيراني وعقيدته. ومع ظهور هذا الاختلاف وعلى أثر
إنتشار المذاهب المتنوعة ظهر روح الشك والتردد لدى الطبقة المفكرة والمثقفة ،
وسرت منهم إلى بقية الاصناف والفئات ممّا أدى ذلك إلى أن يفقد جماهير الشعب
ثقتها وايمانها القطعي ، واعتقادها الكامل السابق بتلك المعتقدات. وهكذا استشرى الهرج
والمرج وعمَّت الفوضى واللادينية كل مناطق إيران والمجتمع الإيراني ، كما رسم «
برزويه » الطبيب الشهير في العهد الساساني حيث صوّر نموذجاً كاملا عن الاختلاف
الاعتقادي والتشرذم الفكري ، وبالتالي اضطراب الأوضاع الإيرانية في العهد
الساساني ، في مقدمة « كليلة ودمنة ». |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الحروبُ
الإيرانية الروميّة :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد انقذ « بزرجمهر »
ـ الوزير الإيراني الشهير الّذي كان يحتل مكان الصدارة في حكومة « انوشيروان »
وكان موصوفاً بالتدبير والكفاءة العالية ـ ايران من الاخطار الّتي احدقت بها في
اكثر الاحايين ، ولكن علاقته بالسلطان ( انوشيروان ) كانت تتأثر احياناً بسعاية
الساعين ووشاية الوشاة الذين كانوا يوغرون صدر الملك ضدّه فيستصدرون منه قراراً
بحبسه وسجنه. وقد أوغرّ هؤلاء السعاة والواشون
أنفسُهم صدرَ « انوشيروان » ضد امبراطور الروم ، وألّبوه عليه ، وشجّعوه على
توسيع رقعة نفوذه ، وتوسيع حدود بلاده واضعاف سيطرة منافسه الخطير ، متجاهلا
وثيقة « الصلح الخالد » الّتي عقدها مع الروم واتفق فيها الجانبان على عدم
التعرض بعضهم لبعض. وأدى هذا التحريض بأنوشيروان إلى
مهاجمة الروم ، واشتعلت على اثرها نيران الحرب ، واستطاع جنود ايران ان يفتحوا
سورية ( وقد كانت مستعمرة رومية ) في مدة
قصيرة تقريباً ، وحرق انطاكية ونهب آسيا الصغرى. وبعد عشرين عاماً من القتال وسفك
الدّماء ، والكرّ والفر بين الروم وايران وبعد أن فقد الجانبان قدراتهم وطاقاتهم
في تلك المعارك الطاحنة ، وبعد الخسائر العظيمة الّتي تحمّلهما الطرفان إضطرّا
إلى عقد وثيقة الصلح مرة ثانية ، وحدّدوا حدود بلادهما ، ومناطق نفوذهما كما
كانت عليه في السابق شريطة أن تدفع دولة الروم كل عام ما يعادل ( عشرين الف )
دينار إلى دولة ايران. ومِنَ الواضح الّذي لا يخفى ولا
يحتاج إلى البيان أن حروباً طويلة الامد تدور رحاها بعيداً عن مركز الدولة من
شأنها ان تأتي بالنتائج السيئة والتبعات الثقيلة على اقتصاد الشعب المحارب ،
وصناعته وتوجه إلى هذه الجوانب ضربات قوية ، لا تزول آثارها إلاّ بعد زمان طويل
خاصة مع ملاحظة الوسائل والأدوات في تلك العصور. ومهما يكن فان هذه
الحروب ، وهذه الحملات المكلفة هيأت المقدمات الموجبة لسقوط الحكومة الإيرانية
الحتمي. فان آثار هذه المعارك لم تَزُل بعد
إلاّ وقد نشبت حرب اُخرى دامت سبعة اعوام فان « تي باريوس » امبراطور الروم بعد
ان تسنم عرش السلطان هدد بحملاته الكبيرة استقلال الدولة الإيرانية بدافع
الانتقام. وفي الأثناء ـ وقبل ان يتضح موقف
الطرفين وموقعهما في تلك المعارك من الهزيمة أو الانتصار ـ مات « انوشيروان »
وخلفه في إدراة البلاد ابنه « خسرو برويز ». وقد حمل هذا الأخير على الروم ايضاً
، وذلك عام (614)
بحجج معينة ، وفتح في أول حملة من حملاته : بلاد الشام وفلسطين وأفريقية ونَهب
اورشليم ، وأحرق كنيسة القيامة ومزار السيّد المسيح عليهالسلام
وهدم المدن ، ودمرها. وقد انتهت هذه الحرب بعد مقتل تسعين
الف من النصارى لصالح الإيرانيين. في مثل هذه المرحلة
الّتي كان فيها العالمُ المتحضر آنذاك يحترق ـ في نيران الحروب والظلم ، بُعِث
رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
بالرسالة الإسلامية ، وبلغ نداؤه المحيي للنفوس والعقول سمع البشرية ، وقام يدعو
الناس إلى الصلح والسلم ، وإلى النظم والامن. ولقد أدّى انهزامُ
الروميين المتدينين ، المؤمنين باللّه على أيدي المجوس الكفار ، عبدة النار ،
إلى ان يتفاءل اهل مكة الوثنيون بهذا الحدث ، ويحدّثوا (
ويمنّوا ) أنفسهم بالانتصار على المسلمين المؤمنين باللّه عما قريب ، وانطلقوا
يرددون هذه الاُمنية أمام المسلمين وهم يحاولون بها إضعاف معنويّاتهم ، وزعزعة
إيمانهم ، الامر الّذي أقلق المسلمين. ولم يتخذ النبيُ صلىاللهعليهوآلهوسلم موقفاً تجاه هذه الظاهرة
انتظاراً لما سينزل به عليه الوحيُ إلى ان نزلت آيات في هذا المجال هي الآيات
الاُولى من سورة الروم الّتي تقول : « الم ، غُلِبَتِ الرُّوْم في أدْنى الأَرْض
وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غلَبهِمْ سَيَغْلِبُونَ في بِضْع سنين للّه الأمرُ منْ قبْل
وَمن بَعْد وَيَوْمئذ يَفْرَحُ الْمُؤمِنُونَ بَنَصْر اللّه يَنصُرُ مِنْ يَشاء
وَهُوَ الْعَزيزُ الرَّحيمُ. وَعَدَ اللّهِ لا يُخْلِفُ اللّه وَعْدَهُ وَلكِنَّ
اكْثَر النّاسِ لا يَعْلَمُون » (الروم : 1 ـ 6.).
وقد تحقّقت نبوءة
القرآن هذه حول الروم في عام ( 627 ميلادية ) حيث استولى « هرقل » على « نينوى »
في حملة واحدة. وعلى أيّة حال كانت الدولتان
المتنافستان تطويان الدقائق والساعات الأخيرة من حياتهما فيما تستعدّان من ناحية
اخرى لتجميع القوى ، والتهيؤلشن حملات جديدة ، وخوض حروب ومعارك اُخرى ولكن حيث
أن الارادة الالهية كانت قد تعلقت بأن يسطع على تلك المنطقتين نورُ التوحيد
وتنتعش نفوسُ الروميين والفرس الذابلة الميتة بنسائم الإسلام الناعشة ، واشعته
الهادية ، لذلك لم يلبث أن قُتِل « خسرو برويز » على يدي ابنه « شيرويه » الّذي
لم يُدْم سلطانه بعد اغتياله لأبيه اكثر من ثمانية أشهر ، ثم سادت ايران بعد «
شيرويه » فوضى شاملة خلال اربعة اشهر ، حيث تناوب على مسند الحكم حُكامٌ وامراء
عديدون أربعة منهم من النساء ، إلى أن أنهى الجيشُ الاسلاميّ بحملاته الناجحة
هذه الاوضاع ، ووضع نهاية لهذا الصراع السياسي الحادّ الّذي استمرّ خمسين عاماً
والّذي ساعد بدوره على تقدم الفتوحات الإسلامية. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
4أسلاف
رسول الإسلام (ص)
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
1 ـ بطل التوحيد :
إبراهيم الخليل عليهالسلام
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إن الهدف من استعراض حياة النبيّ
العظيم إبراهيم الخليل عليهالسلام هو
التعريف بأجداد النبيّ محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم
وأسلافه ، لانتهاء نسبه الشريف إلى النبيّ إسماعيل بن إبراهيم عليهماالسلام
، وحيث ان لهاتين الشخصيتين العظيمتين وبعض أسلاف النبيّ العظام نصيبٌ هامٌّ في
تاريخ العرب والإسلام ، لهذا ينبغي الحديث عن أحوالهم بصورة مختصرة ، خاصَّة
أنَّ حوادث التاريخ الإسلامي ترتبط ارتباطاً كاملا ـ كحلقات سلسلة واحدة ـ
بالحوادث السابقة ، أو المقارنة لبزوغ الإسلام. فعلى سبيل المثال تُعْتَبر
كفالة « عبد المطلب » لرسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وحمايته له ، وجهود « ابي طالب » ودفاعه الطويل عن النبيّ ، وعظمة الهاشميين
وسموّ مقامهم واخلاقهم ، وجذور معاداة الأمويين لهم ، الاسس والقواعد الموضوعية
لحوادث التاريخ الإسلامي ، ولهذا كان لابدّ من تخصيص فصل كامل في التاريخ
الإسلامي لهذه الابحاث. إنّ في حياة حامل راية
التوحيد النبيّ « إبراهيم الخليل » عليهالسلام نقاطاً مشرقة وبارزة جداً. فجهاده العظيم في سبيل
ارساء قواعد التوحيد واقتلاع جذور الوثنية ممّا لا ينسى. وهكذا حواره اللطيف والزاخر بالمعاني
مع عَبَدة النجوم والكواكب في عصره والّذي ذكره القرآن الكريم لمعرفتنا ، افضل
واسمى درس توحيدي لطلاب الحقيقة وبغاة الحق. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
مولد إبراهيم :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد وُلدَ بطَلُ التوحيد في بيئة
مظلمة كانت تسربلها ظلمات الوثنية ، وعبادة البشر ... في بيئة كان الإنسان فيها
يخضع لأَصنام نحتها بيديه ، كما يخضع لكواكب ونجوم. لقد وُلد حامل لواء التوحيد «
إبراهيم الخليل » عليهالسلام في
« بابل » الّذي يعدّها المؤرخون إحدى عجائب الدنيا السبع ، ويذكرون حولها قصصاً
واموراً كثيرة تنبئ عن عظمتها وأهمية حضارتها ، فيقول « هيردوتس » المؤرخ
المعروف ـ مثلا ـ : لقد كانت بابل بنية بشكل مربَّع طول كل ضلع من اضلاعه
الاربعة ( 120 فرسخاً ) ومحيطه ( 480 فرسخاً ) (قاموس الكتاب المقدّس ، مادّة بابل.).
إنَّ هذا الكلام مهما كان مبالغاً
فيه إلاّ أنه على كل حال يكشف عن حقيقة لا تقبل الإنكار ، إذا ما ضُمَّ إلى ما
كتبه الآخرون عن تلك المدينة التاريخية. غير اننا لا نرى من تلك المدينة
اليوم ومن مناظرها الجميلة ، وقصورها الرائعة ، إلاّ تلاّ من التراب في منطقة
بين « دجلة » و « الفرات » ، فالموت يخيّم على كل تلك المنطقة ، اللّهم الا
عندما يكسر علماء الآثار بتنقيباتهم جدار الصمت أحياناً ، بحثاً عن آثار تلك
المدينة ، ويستخرجون بقاياها الموقوف على معالم من حضارة اصحابها وسكانها. لقد فتح رائد التوحيد ومُرسي اركانه
« إبراهيم الخليل » عليهالسلام
عينيه في دولة « نمرود بن كنعان ». وكان نمرود هذا رغم أنه يعبدُ الصنم
يدّعي الاُلوهيَّة ويأمر الناس بعبادته. وقد يبدو هذا الامر
عجيباً جداً فكيف يمكن ان يكون الشخص عابد صنم ومع ذلك يدّعي الاُلوهية في الوقت
نفسه ، إلاّ أن القرآن الكريم يذكر لنا نظير هذه المسألة
في شان « فرعون مصر » ، وذلك عندما هزّ النبي موسى بن عمران عليهالسلام
قواعد العرش الفرعوني بمنطقه القويّ ، وحجته الصاعقة ، فاعترض أنصار فرعون
وملأوه على هذا الأمر ، وخاطبوا فرعون بلهجة معترضة قائلين : « أتذَرُ مُوسى
وَقَومهُ لِيُفْسِدُوا في الأَرْض وَيَذركَ وآلهَتَكَ » (الأعراف : 127.).
ومن الواضح جدّاً أن « فرعون » كان
يدعي الالوهية فهو الّذي كان يقول : « أَنا رَبُّكُمُ الاَْعْلى » (النازعات : 24.)
وهو القائل : « مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ اله غَيْريْ » (القصص : 38.)
ولكنه كان في الوقت نفسه عابد صنم ووثنياً. بَيْدَ أَنَّ هذه
الازدواجية ليست بأَمر غريب عند الوثنيين ، ولا يمنع
مانع في منطقهم أن يكون الشخصُ نفسه وثنياً يعبد الصنم ، ومع ذلك يَدَّعي أنه
الهٌ ويدعو الناس إلى عبادته فيكون الهاً معبوداً ، يعبد الهاً أعلى منه ، لأن
المقصود من المعبود والاله ليس هو خالق الكون بل هو من يتفوَّق على الآخرين بنحو
من أنحاء التفوق ويتملك زمام حياتهم بشكل من الإشكال. هذا والتاريخ يحدثنا أن العوائد في
بلاد الروم كانت تعبد كبارها ومع ذلك كان اولئك الكبار المعبودين انفسهم يتخذون
لأنفسهم معبوداً أو معبودات اُخرى. إن أكبر وسيلة توسَّل بها « نمرودُ »
في هذا السبيل هو استقطاب جماعة من الكهنة والمنجمين الذين كانوا يُعدّون الطبقة
العالمة والمثقَّفة في ذلك العصر. فقد كان خضوعُ هذه الطبقة يمهّد
لاستعمار الطبقة المنحطة وغير الواعية من الناس. هذا مضافاً إلى أنه كان يُناصر «
نمرود » بعضُ من ينتسب إلى « الخليل » عليهالسلام
بوشيجة القربى مثل « آزر » الّذي كان يصنع التماثيل ، وكان عارفاً بأحوال النجوم
والفلك أيضاً ، وكان هذا هو الآخر أحد العراقيل الّتي كانت تمنع الخليل من انجاح
مهمته ، لأنه مضافاً إلى مخالفة الرأي العام له ، كان يواجه مخالفة أقاربه
ايضاً. لقد كان نمرود غارقاً في عالم خيالي
عندما دق المنجمون فجأة أول ناقوس للخطر وقالوا له : سوف تنهار حكومتُك ،
ويتهاوى عرشك وسلطانك على يد رجل يولد في تلك البيئة ، الأمر الّذي أيقظ أفكاره
النائمة ، فتساءل من فوره ، وهل وُلد هذا الرجل؟ فقيل له : لا ، انه لم يولد
بعد. فأمر من فوره بعزل الرجال عن النساء ( وذلك في الليلة الّتي انعقدت فيها
نطفة ابراهيم الخليل عليهالسلام
عدو نمرود ، وهادم ملكه ، ومزيل سلطانه وهي الليلة التي حددها وتكهن بها
المنجمون والكهنة من انصار نمرود ) ومع ذلك كان جلاوزة « نمرود » يقتلون كل وليد
ذكر ، وكان على القوابل ان يسجِّلن اسماء المواليد في مكتبه الخاص. ولقد اتفق أن انعقدت نطفةُ « الخليل
» في نفس الليلة الّتي منع فيها اي لقاء جنسي بين الرجال ، وازواجهم. لقد حملت اُم إبراهيم به كما حملت
اُم موسى به ، وامضت فترة حملها في خفاء وتستر ، ثم لجأت بعد وضع وليدها العزيز
إلى غار بجبل على مقربة من المدينة حفاظاً عليه ، وراحت تتفقده بين حين وآخر من
الليل والنهار ، قدر المستطاع. وقد أرضى هذا الاسلوبُ الظالمُ «
نمروداً » وأراح باله بمرور الزمن ، إذ أيقن بانه قد قضى به على عدو عرشه ،
وهادم سلطانه ، وتخلص منه. لقد قضى « إبراهيم » عليهالسلام ثلاثة عشر عاماً في ذلك الغار
الّذي كان يتصل بالعالم الخارجي عبر باب ضيّق ، ثم أخرجته اُمه من ذلك الغار بعد
ثلاثة عشر عاماً ، ودخل « ابراهيم » في المجتمع ، فاستغرب المجتمع النمرودي
وجوده وانكروه (تفسير البرهان : ج 1 ، ص 535.).
لقد خرج « إبراهيم » من الغار ،
مؤمناً باللّه بفطرته ، وقوّى توحيده الفطري ، بمشاهَدة الأَرض والسماء ، والنظر
في سطوع الكواكب والنجوم والتأمل في ما يجري في عالم النبات من نمو وحركة إلى
غير ذلك ممّا يجري في عالم الطبيعة العجيب. لقد واجه إبراهيم عليهالسلام
بعد خروجه من الغار جماعة من الناس بهرتهم أحوال الكواكب وعظمة أمرها ، ففقدوا
عقولهم تجاه هذه الظاهرة ، كما راى جماعةٌ اُخرى أحطَّ فكريّاً من سابقتها
يعبدون اصناماً منحوتة ، بل واجه ما هو اسوأ بكثير من أعضاء الطوائف والجماعات
الضالة إذ رأى رجلا يستغل جهل الناس وغبائهم ويدعي الالوهية ويفرض عليهم عبادته
والخضوع له!! لقد كان إبراهيم عليهالسلام
يرى أَنَّ عليه أن يهيّئ نفسه لخوض المعركة في هذه الجهات الثلاث المختلفة ، وقد
نقل القرآن الكريم قصة نضال النبيّ « إبراهيم » عليهالسلام
في هذه الاصعدة والجبهات الثلاث وسننقل لك في ما يأتي وباختصار ما ذكره القرآن
في هذا المجال. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إبراهيم ومكافحته
للوثنية :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
كانت ظلمات الوثنية قد
خيَّمت على منطقة بابل ( موضع ولادة الخليل ) برمتها. فالآلهة المدَّعاة ، والمعبودات (
السماوية والارضية ) الباطلة قد سحرت عقول مختلف فئات الشعب ، فبعضها في نظرهم
هي أرباب القدرة والسلطة ، وبعضها الآخر وسيلة الزلفى والتقرب إلى اللّه إلى غير
ذلك من التصورات السخيفة في هذا الصعيد. وحيث أَن طريقة الأَنبياء في هداية
البشرية وارشادهم هي الاستدلال بالبراهين ، والاحتجاج بالمنطق ، لانهم إنما
يتعاملون مع قلوب الناس وعقولهم ، ويبتغون ايجاد حكومة تقوم على أساس الإيمان
واليقين ، ومثل هذه الحكومة لا يمكن اقامتها بالسيف أو بالنار والحديد. لهذا
يبدأون حركتهم بالتوعية الفكرية. إن علينا أن نفرق بين الحكومات الّتي
يريد الأنبياء تأسيسها ، وحكومة الفراعنة والنماردة. ان هدف الطائفة الثانية
هو :
الرئاسة والزعامة ، والحفاظ عليها بكل وسيلة ممكنة في حياتهم ، وان تلاشت وتهاوت
من بعدهم. ولكن الانبياء والرسل يريدون حكومة
تبقى قائمة في جميع الحالات وماثلة في جميع الاوقات ، في الخلوة والجلوة ، في
وقت الضعف ، وفي وقت القوة ، في حياتهم وبعد مماتهم ... انهم يريدون أن يحكموا
على القلوب لا على الابدان ، وهذا الهدف لا يتحقق ابداً عن طريق القوة واستخدام
العنف والقهر!! انما يتحقق عن طريق الحجة والبرهان. لقد بدأ النبيُ « إبراهيم » عملَه
بمكافحة ما كان عليه أقرباؤُه الذين كان في طليعتهم وعلى رأسهم « آزر » وهو
الوثنية وعبادة الاصنام ، ولكنه لم ينته من هذه المعركة ولم يحرز إنتصاراً كاملا
في هذه الجبهة بعد إلاّ وواجه عليهالسلام
جبهة اُخرى ، وكانت هذه الجماعة أعلى مستوى من افراد الجماعة السابقة في الفهم
والثقافة. لان هذه الجماعة ـ على خلاف أقرباء إبراهيم ـ قد نبذت عبادة الأوثان
والأَصنام (ترتبط آية 74 من سورة الأنعام بحواره عليهالسلام مع الوثنيّين ، بينما ترتبط الآيات
اللاحقة لها بعبدة الأجرام السماوية.)
، والمعبودات الارضية الحقيرة ، وتوجهت بعبادتها وتقديسها إلى الكواكب والنجوم
والاجرام السماوية. ولقد بيَّن « الخليل » عليهالسلام
في حواره العقائدي مع عُبّاد الاجرام السماوية ، ومكافحته لمعتقداتهم الفاسدة ،
سلسلة من الحقائق الفلسفية والعلمية الّتي لم يصل إليها الفكر البشري يومذاك ،
وذلك ببيان بسيط مدعوم بأدلة لا تزال إلى اليوم موضع اعجاب كبار العلماء ، ورواد
الفلسفة والكلام. والأَهم من ذلك ـ في هذا المجال ـ أن
القرآن الكريم نقل أدلة « إبراهيم الخليل » عليهالسلام
باهتمام خاص وعناية بالغة ولهذا ينبغي لنا أن نتوقف عندها قليلا ، وهذا ما
سنفعله في هذه الصفحات. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
حوار الخليل مع
عبدة الكواكب :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ذات ليلة وقف إبراهيم عليهالسلام
عند ابتداء مغيب الشمس يتطلع في السماء ـ وهو ينوي هداية الناس ـ وبقي ينظر إلى
النجوم والكواكب من أول الغروب من تلك الليلة إلى الغروب من الليلة التالية ،
وخلال هذه الساعات الاربع والعشرين حاور وجادل ثلاث فرق ، من عبدة النجوم وابطل
عقيدة كل فرقة منها بأدلة محكمة ، وبراهين متقنة قوية. فعندما أقبل الليلُ وخيّم الظلام على
كل مكان وهو يخفي كل مظاهر الوجود ومعالمه في عالم الطبيعة ظهر كوكبُ « الزُهرة
» من جانب الاُفق وهو يتلألأ. فقال إبراهيم لِعُباد هذا الكوكب ـ وهو يتظاهر
بموافقتهم جلباً لهم ، ومقدمة للدخول معهم في حوار ـ : « هذا ربي ». وعندما افل ذلك الكوكب وغاب عن
الانظار قال : « لا احب الآفلين ». وبمثل هذا المنطق الجميل أبطل عقيدة
عبدة الزهرة ، واظهر خواءها وفسادها. ثمّ إنه عليهالسلام
نظر إلى كوكب القمر المنير الّذي يسحر القلوب بنوره وضوئه ، فقال ـ متظاهراً
بموافقة عبدة القمر ـ : « هذا ربي » ثم ردّ باسلوب منطقي محكم تلك العقيدة أيضاً
، عندما امتدت يد القدرة المطلقة ولمت أشعة القمر من عالم الطبيعة ، وعندها إتخذ
إبراهيم عليهالسلام هيئة
الباحث عن الحقيقة ومن دون أن يصدم تلك الفرق المشركة ويجرح مشاعرها إذ قال : «
لَئنْ لَمْ يَهْدِني رَبِّي لأَكُونَنَّ مِن الْقَوْم الضالِين » (الأنعام : 77.)
لأَن القمر قد أَفل أيضاً كما أَفل سابقُه فهو كغيره أسير نظام عُلويٍّ لا يتخلف
، وما كان كذلك لا يمكن ان يُعدَّ رباً يُعبَد ، ويتوَجه إليه بالتقديس والتضرع.
ولما وَلّى الليل وأدبر ، واكتسحت
الشمس الوضاءة باشعتها حجب الظلام ، وبثت خيوطها الذهبية على الوهاد والسهول ،
والتفت عَبدَة الشمس إلى معبودهم ، تظاهر ابراهيم بالاقرار بربوبيتها اتباعاً
لقواعد الجدل والمناظرة ولكن افول الشمس وغروبها اثبت هو الآخر بطلان عبادتها ايضاً
بعد أن اثبت خضوعها للنظام الكوني العام ، فتبرأ « الخليل » عليهالسلام
من عبادتها بصراحة. وعندئذ أعرض عليهالسلام عن تلك الطوائف الثلاث وقال : «
إنّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ للَّذيْ فَطرَ الْسَّماواتِ وَالاَْرضَ حَنِيفْاً وَما
أنا مِنَ الْمُشْركين » (الأنعام : 79.).
لقد كان المخاطبين في كلام إبراهيم عليهالسلام
هم الذين يعتقدون بأن تدبير الكائنات الارضية ، ومنها الإنسان قد انيطت إلى
الاجرام السماوية وفوضت اليها!! وهذا الكلام يفيد أن
الخليل عليهالسلام
لم يقصد المطالب الثلاث التالية : 1 ـ اثبات الصانع ( الخالق
). 2 ـ توحيد الذات وأنه
واحد غير متعدد. 3 ـ التوحيد في
الخالقية ، وأنه لا خالق سواه. بل كان تركيزه عليهالسلام
على التوحيد في « الربوبية » و « التدبير » وادارة الكون ، وانه لا مدبّر ولا
مربي للموجودات الأرضية إلاّ اللّه سبحانه وتعالى ، ومن هنا فانه عليهالسلام
فور إبطاله لربوبية الاجرام السماوية قال : « وَجَّهْتُ وَجْهِيَ للَّذيْ فَطرَ
السَماواتِ والأَرْضَ ... ) وهو يعني ان خالق السماوات والأَرض هو نفسه مدبرها
وربُها ، وانه لم يفوَّض أي شيء من تدبير الكون ، ـ لا كله ولا بعضه ـ إلى
الاجرام السماوية ، فتكون النتيجة : أن الخالق والمدبر واحد لا أن الخالق هو
اللّه والمدبر شيء آخر. ولقد وقع المفسرون ،
والباحثون في معارف القرآن في خطأ ، والتباس عند التعرض لمنطق « إبراهيم » عليهالسلام وشرح حواره هذا ،
حيث تصوروا أن الخليل عليهالسلام
قصد نفي « اُلوهية » هذه الأجرام يعني الالوهية الّتي تعتقد بها جميع شعوب الأرض
ويكون هذا الكون الصاخِب آية وجوده. بينما تصوّر فريق آخر ان « إبراهيم »
كان يقصد نفي « الخالقية » عن هذه الأجرام السماوية ، لأنه من الممكن ان يخلق
إله العالم كائناً كامل الوجود والصفات ثم يفوض إليه مقام الخالقية في حين أن
هذين التفسيرين غير صحيحين ، بل كان هدف الخليل عليهالسلام
ـ بعد التسليم بوجود اله واجب الوجود ، وتوحيده ، ووحدانية الخالق ـ البحث في
قسم آخر من التوحيد ، الا وهو التوحيد « الربوبي » ، وبالتالي اثبات أن خالق
الكون هو نفسُه مدبر ذلك الكون أيضاً ، وعبارة « وَجَّهْتُ وَجْهِيَ ... » أفضل
شاهد على هذا النوع من التفسير. من هنا كان التركيز الأكبر في بحث
ابراهيم على مسألة « الربّ » و « الربوبية » في صعيد الاجرام كالقمر والزهرة
والشمس (لقد بيّنا مراتب التوحيد من وجهة نظر القرآن الكريم في كتابنا «
معالم التوحيد في القرآن الكريم » وأثبتنا هناك أنّ التوحيد في الذات غير
التوحيد في الخالقية ، وأن هذين النوعين من التوحيد غير التوحيد في الربوبية ،
وهي غير المراتب الاُخرى للتوحيد ، فراجع الكتاب المذكور تقف على هذه الحقيقة.).
هذا واستكمالا للبحث
الحاضر لابدَّ من توضيح برهان النبيّ « ابراهيم » عليهالسلام. لقد استدل « ابراهيم » في جميع
المراحل الثلاث باُفول هذه الاجرام على أنها لا تليق بتدبير الظواهر الارضية
وبخاصة الإنسان. وهنا ينطرح سؤال : لماذا
يُعتبر اُفول هذه الاجرام شاهداً على عدم مدبِّريتها؟ إن هذا الموضوع يمكن بيانُه بصور
مختلفة ، كل واحدة منها تناسب طائفة معينة من الناس. ان تفسير منطق « الخليل » عليهالسلام
واسلوبه في إبطال مدبِّرية الاجرام السماوية وربوبيّتها بأشكال وصور مختلفة أفضل
شاهد على أن للقرآن الكريم أبعاداً مختلفة وأن كل بُعد منها يناسب طائفة من
الناس. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
واليك في ما يلي
التفاسير المختلفة لهذا الاستدلال :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الف : إن الهدف من اتخاذ الربّ هو أن
يستطيع الكائن الضعيف في ظل قدرة ذلك الرب من الوصول إلى مرحلة الكمال ولابدّ ان
يكون لمثل هذا الربّ ارتباطٌ قريبَ مع الموجودات المراد تربيتها بحيث يكون
واقفاً على أحوالها ، غير منفصل عنها ، ولا غريب عليها. ولكن كيف يستطيع الكائن الّذي يغيب
ساعات كثيرة عن الفرد المحتاج إليه في التربية ويُحرم ذلك الفرد من فيضه وبركته
، ان يكون رباً للموجودات الأَرضية ومدبراً لها؟! من هنا يكون اُفول النجم ، وغروبه ،
الّذي هو علامة غربته وانقطاعه عن الموجودات الارضية خير شاهد على أن للموجودات
الأَرضية ربّاً آخر ، منزهاً عن تلك النقيصة عارياً عن ذلك العيب. باء : انَّ طلوع الأجرام السماوية وغروبها
وحركتها المنظمة دليل على أنها جميعاً خاضعة لمشيئة فوقها ، وانها في قبضة القوانين
الحاكمة عليها ، والخضوع لقوانين منظمة هو بذاته دليل على ضعف تلك الموجودات ،
ومثل هذه الموجودات الضعيفة لا يمكن أن تكون حاكمة على الكون ، أو شيء من
الظواهر الطبيعية ، وأما استفادة الموجودات الارضية من نور تلك الاجرام وضوئها
فلا يدل أبداً على ربوبية تلك الأجرام ، بل هو دليل على أن تلك الأجرام تؤدّي
وظيفة تجاه الموجودات الأرضية بأمر من موجود أعلى. وبعبارة أخرى :
إن هذا الأمر دليل على التناسق الكوني ، وارتباط الكائنات بعضها ببعض. جيم : ما هو الهدف من حركة هذه الموجودات؟
هل الهدف هو أن تسير من النقص إلى الكمال أو بالعكس؟ وحيث أن الصورة الثانية غير معقولة ،
وعلى فرض تصورها لا معنى لأن يسير المربّي والمدبر للكون من مرحلة الكمال إلى
النقص والفناء ، يبقى الفرضُ الاول وهو بنفسه دليل على وجود مربٍّ آخر يوصل هذه
الموجودات القوية في ظاهرها من مرحلة إلى مرحلة ، هو ـ في الحقيقة ـ الربُّ
الّذي يبلغ بهذه الموجودات وما دونها إلى الكمال. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
طريقة
الأنبياء في الحوار والجدال :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد اسلفنا في ما سبق أن « ابراهيم » ـ بعد خروجه من الغار ـ واجه صنفين منحرفين عن جادة التوحيد هما :
1 ـ الوثنيون. 2 ـ عَبَدة الاجرام
السماوية. ولقد سمعنا حوار « ابراهيم » عليهالسلام
وجداله مع الفريق الثاني ، وعلينا الآن أن نعرف كيف حاور الوثنيين وعبدة
الاصنام؟ إن تاريخ الانبياء والرسل يكشف لنا
عن أنهم كانوا يبدأون دعوتهم من انذار الاقربين ثم يوسعون دائرة الدعوة لتشمل
عامة الناس كما فعل رسول الإسلام في بدء دعوته حيث بدأ بانذار عشيرته الاقربين
لما امره اللّه تعالى بذلك إذ قال : « وأَنْذِرْ عَشِيْرَتَكَ الاَْقْرِبِيْن » (الشعراء : 214.).
وبذلك أسّس دعوته على إصلاح اقربائه وعشيرته. ولقد سلك « الخليل » عليهالسلام
نفس هذا المسلك أيضاً إذ بدأ عمله الاصلاحي باصلاح اقربائه. ولقد كان لآزر بين قومه مكانة
اجتماعية عليا فهو ـ مضافاً إلى معلوماته في الصناعة وغيرها ـ كان منجماً ماهراً
، وذا كلمة مسموعة ورأي مقبول في بلاط « نمرود » في كل ما يخبر به من أخبار
النجوم ، وكل ما يستخرجه وما يستنبطه من الامور الفلكية ويذكره من تكهنات. لقد ادرك « ابراهيم »
انه بجلبه لآزار ( عمّه ) يستطيع أن يسيطر على اوساط الوثنيين ، ويجردهم من
ركيزة هامة من كبريات ركائزهم ، ولهذا بادر إلى منع عمّه آزر ـ وبافضل الاساليب
ـ عن عبادة الاوثان ، بيد أن بعض الأسباب أوجبت أن لا يقبل « آزر » بنصائح «
ابراهيم » عليهالسلام
، والمهم لنا في هذا المجال هو ان نتعرف على كيفية دعوة الخليل وعلى اسلوب حواره
مع « آزر ». ان الامعان في الآيات
الّتي تنقل حوار « ابراهيم » عليهالسلام
مع « آزر » توضح لنا أدب الانبياء ، واسلوبهم الرائع في الدعوة والارشاد ، ولنقف
عند حوار ابراهيم ودعوته ، ليتضح لنا ذلك. يقول القرآن الكريم عن
ذلك : « إذْ قالَ لأَبيْهِ يا أبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما
لا يسْمَعُ وَلا يُبْصر وَلا يُغْنِيْ عَنْكَ شَيْئاً. يا أَبَتِ إنِّي قَدْ
جائنِي مِنَ الْعِلْم ما لَمْ يَأتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوياً.
يا اَبتِ لا تَعْبُدِ الشّيطانَ انَ الشّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمن عَصِيّاً. يا
أَبتِ إنّي اَخافُ أنْ يَمسَّك عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشّيْطانِ
وَليّاً ». فاجابه « آزر » قائلا
:
« أراغبٌ أنْتَ عَنْ الهتي يا إبْراهيمُ لئنْ لَمْ تنْته لأَرْجُمَنَّكَ
وَاْهجُرْنيْ مَلِيّاً ». ولكن « ابراهيم » بسعة
صدره وعظمة روحه تجاهل ردّ « آزر » العنيف ذلك وأجابه قائلا :
« سَلامٌ عَلَيْك سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّيْ » (مريم : 42 ـ 47.).
وأيّ جواب افضلُ مِنْ هَذا البيان
وأيُّ لغة أليَن مِنْ هذه اللغة واحبّ إلى القلب ، واكثر رحمة ولطفاً. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
هَل
كان آزر والدَ إبراهيم؟
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ان الظاهر من الآيات المذكورة وكذا الآية (115) من سورة « التوبة » والآية (14)
من سورة الممتحنة هو : أنّ « آزر » كان والد إبراهيم عليهالسلام.
وقد كان إبراهيم يسميه أباً في حين
كان « آزر » وثنياً ، فكيف يصحّ ذلك وقد اتفقت كلمة علماء الشيعة عامة على كون
والد النبيّ الكريم « محمَّد » صلىاللهعليهوآلهوسلم وجميع
الأَنبياء مؤمنين باللّه سبحانه موحدين اياه تعالى. ولقد ذكر الشيخ المفيد
رضوان اللّه عليه في كتابه القيم « أوائل المقالات » (أوائل المقالات : ص 12 ، باب القول في آباء رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم.)
ان
هذا الامر هو موضع اتفاق علماء الشيعة الامامية كافة بل وافقهم في ذلك كثير من
علماء السنة ايضاً. وفي هذه الصورة ما هو الموقف من
ظواهر الآيات المذكورة الّتي تفيد اُبوّة « آزر » لإبراهيم ، وما هو الحل الصحيح
لهذه المشكلة؟؟ يذهب أكثر المفسّرين إلى أن لفظة «
الأب » وان كانت تُستعمل عادة في لغة العرب في « الوالد » ، إلاّ أن مورد
استعمالها لا ينحصر في ذلك. بل ربما استعملت ـ في لغة العرب وكذا
في مصطلح القرآن الكريم ـ في : ( العمّ ) أيضاً. كما وقع ذلك في الآية التالية
الّتي استعملت فيها لفظة الأب بمعنى العم إذ يقول سبحانه : « إذْ قالَ لِبَنْيهِ ما تَعْبُدونَ
مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إلهَكَ وإله آبائكَ إبْراهيم واسْماعيل وإسحاقَ
إلهاً واحِداً ونحن لهُ مسلمون » (البقرة : 133.).
فإنّ ممّا لا ريب فيه أن « اسماعيل »
كان عماً ليعقوب لا والداً له ، فيعقوب هو ابن اسحاق ، واسحاق هو أخو اسماعيل. ومع ذلك سمّى أولادُ يعقوب « اسماعيل
» الّذي كان ( عمَّهم ) أباً. ومع وجود هذين الاستعمالين ( استعمال
الاب في الوالد تارة ، وفي العم تارة اُخرى ) يصبح احتمال كون المراد بالاب في
الآيات المرتبطة بهداية « آزر » هو العمّ أمراً وارداً ، وبخاصة إذا ضَمَمْنا
إلى ذلك قرينة قوية في المقام وهي : اجماع العلماء الّذي نقله المفيد رحمهالله
على طهارة آباء الانبياء واجدادهم من رجس الشرك والوثنية. ولعل السبب في تسمية النبي « ابراهيم
» عمَّه بالأب هو أنه كان الكافل لابراهيم ردحاً من الزمن ، ومن هنا كان «
ابراهيم » ينظر إليه بنظر الأب ، وينزله منزلة الوالد. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
القرآن
ينفي اُبوّة « آزر » لإبراهيم :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ولكي نعرف رأي القرآن
الكريم في مسألة العلاقة بين « آزر » و « ابراهيم » عليهالسلام نلفت نظر القارئ الكريم إلى توضيح
آيتين : 1 ـ لقد أشرقت منطقةُ الحجاز بنور
الايمان والإسلام بفضل جهود النبيّ « محمَّد » صلىاللهعليهوآلهوسلم
وتضحياته الكبرى ، وآمن اكثر الناس به عن رغبة ورضا ، وعلموا بأن عاقبة الشرك ،
وعبادة الاوثان والاصنام هو الجحيم والعذاب الاليم. إلاّ أنهم رغم ابتهاجهم وسرورهم بما
وُفقوا له من إيمان وهداية ، كانت ذكريات آبائهم واُمهاتهم الذين مضوا على الشرك
والوثنية تزعج خواطرهم وتثير شفقتهم ، واسفهم. وكان سماع الآيات التي تشرح أحوال
المشركين في يوم القيامة يحزنهم ويؤلمهم ، وبغية ازالة هذا الالم الروحي المجهد
طلبوا من رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
أن يستغفر لابائهم واُمهاتهم كما فعل « إبراهيم » في شأن « آزر » فنزلت الآية في
مقام الردّ على طلبهم ذاك ، إذ قال سبحانه : « ما كانَ لِلنَّبِيَّ وَالَّذينَ آمَنُوا أنْ
يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْركينَ وَلَوْ كانُوا اُوْلي قَرْبى مِنْ بَعْدِ مَا
تَبيَِّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أصْحابُ الْجَحْيمَ وما كانَ اسْتِغْفارُ
إِبْراهِيْمَ لأَبيْه إلا عَنْ مَوْعِدَة وَعَدَها إيّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ
لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌ للّه تَبَرَّاَ مِنْهُ إنَّ إبْراهيْمَ لأَوّاهٌ حَلِيمٌ
»
(التوبة : 113 و 114.).
إنَّ ثمة قرائن كثيرة تدل على أنّ
محادثة النبيّ « إبراهيم » وحواره مع « آزر » ووعده بطلب المغفرة له من اللّه
سبحانه قد انتهى إلى قطع العلاقات ، والتبرّي منه في عهد فتوَّة « إبراهيم » ،
وشبابه ، اي عندما كان « إبراهيم » لا يزال في مسقط رأسه « بابل » ولم يتوجه بعد
إلى فلسطين ومصر وأرض الحجاز. إننا نستنتج من هذه الآية أن «
إبراهيم » قطع علاقته مع « آزر » ـ في أيام شبابه ـ بعد ما أصرّ « آزر » على
كفره ، ووثنيته ، ولم يعد يذكره إلى آخر حياته. 2 ـ لقد دعا « إبراهيم » عليهالسلام
في اُخريات حياته ـ أي في عهد شيخوخته ـ وبعد أن فرغ من تنفيذ مهمته الكبرى (
تعمير الكعبة ) واسكان ذريته في أرض مكة القاحلة ، دعا وبكل اخلاص وصدق جماعة
منهم والداه ، وطلب من اللّه إجابة دعائه ، إذ قال في حين الدعاء : « رَبَّنا اغْفِرْ ليْ وَلوالديّ
وَلِلمؤمِنينْ يَوْمَ يَقُومُ الحِساب » (إبراهيم : 41.).
إنَ هذه الآية تفيد بصراحة ـ أن
الدعاء المذكور كان بعد الفراغ من بناء الكعبة المعظمة ، وتشييدها ، يوم كان
إبراهيم يمر بفترة الشيخوخة ، فاذا كان مقصودُه من الوالد في الدعاء المذكور هو
« آزر » وانه المراد له المغفرة الالهية كان معنى ذلك أن « ابراهيم » كان لم يزل
على صلة ب « آزر » حتّى أنه كان يستغفر له في حين أن الآية التي نزلت رداً على
طلب المشركين أوضحت بأن « إبراهيم » كان قد قطع علاقاته ب « آزر » في أيّام
شبابه ، وتبرّأ منه ، ولا ينسجم الاستغفار مع قطع العلاقات. إن ضَمَّ هاتين الآيتين بعضهما إلى
بعض يكشف عن أنّ الّذي تبرّأ منه « ابراهيم » في أيام شبابه ، وقطع علاقاته معه
، واتخذوه عدواً هو غير الشخص الّذي بقي يذكره ، ويستغفر له إلى اُخريات حياته (مجمع البيان : ج 3 ، ص 321 ، والميزان : ج7 ، ص 170.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إبراهيم
محطِّم الأَصنام :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد حلَّ موسم العيد ، وخرج أهلُ
بابل المغفّلين الجهلة إلى الصحراء للاستجمام ، ولقضاء فترة العيد ، وإجراء
مراسيمه ، وقد أخلوا المدينة. ولقد كانت سوابق « إبراهيم » ،
وتحامله على الأصنام ، واستهزاؤه بها قد أوحدت قلقاً وشكاً لدى أهل بابل ، ولهذا
طلبوا منه ـ وهم الذين يساورهم القلق من موقفه تجاه اصنامهم ـ الخروج معهم إلى
الصحراء ، والمشاركة في تلك المراسيم ، ولكن اقتراحهم هذا بل إصرارهم واجه رفض
إبراهيم الّذي رد على طلبهم بحجة المرض إذ قال : « إنّي سَقِيم » وهكذا لم يشترك
في عيدهم ، وخروجهم وبقي في المدينة. حقاً لقد كان ذلك اليوم يوم ابتهاج
وفرح للموحد والمشرك ، وأمّا للمشركين فقد كان عيداً قديماً عريقاً يخرجون
للاحتفال به ، واقامة مراسيمه وتجديد ما كان عليه الآباء والاسلاف إلى الصحراء
حيث السفوح الخضراء والمراع الجميلة. وكان عيداً لإبراهيم بطل التوحيد
كذلك ، عيداً لم يسبق له مثيل ، عيداً طال انتظارُه ، وافرح حضوره وحلوله ، فها
هو إبراهيم يجد المدينة فارغة من الاغيار ، والفرصة مناسبة للانقضاض على مظاهر
الشرك والوثنية ، وحدث هذا فعلا. فعندما خرج آخر فريق من اهل بابل من
المدينة ، إغتنم « إبراهيم » تلك الفرصة ودخل وهو ممتلئ ايماناً ويقيناً باللّه
في معبدهم حيث الأصنام والأوثان المنحوتة الخاوية ، وأمامها الأطعمةُ الكثيرة
الّتي احضرها الوثنيون هناك بقصد التبرك بها ، وقد لفتت هذه الأطعمة نظر «
الخليل » عليهالسلام ، فأخذ بيده
منها كسرة خبز ، وقدمها مستهزء إلى تلك الاصنام قائلا : لماذا لا تأكلون من هذه
الاطعمة؟ ومن المعلوم أن معبودات المشركين
الجوفاء هذه لم تكن قادرة على فعل اي شيء أو حركة مطلقاً فكيف بالاكل. لقد كان يخيم على جوّ ذلك المعبد
الكبير سحابة من الصمت القاتل ولكنه سرعان ما اخترقته اصوات المعلول الّذي اخذ «
إبراهيم » يهوي به على رؤوس تلك التماثيل الجامدة الواقفة بلا حراك ، وايديها. لقد حطم « الخليل » عليهالسلام
جميع الاصنام وتركها ركاماً من الاعواد المهشمة ، والمعدن المتحطم ، وإذا بتلك
الاصنام المنصوبة في اطراف ذلك الهيكل قد تحولت إلى تلة في وسط المعبد. غير ان « ابراهيم » ترك الصنم الأكبر
من دون ان يمسه بسوء ، ووضع المعول على عاتقه ، وهو يريد بذلك ان يظهر للقوم بأن
محطِمَ تلك الأَصنام هو ذلك الصنمُ الكبير ، إلاّ أن هدفه الحقيقي من وراء ذلك
كان امراً آخراً سنبينهُ في ما بعد. لقد كان « إبراهيم » عليهالسلام
يعلم بأنَّ المشركين بعد عودتهم من الصحراء ، ومن عيدهم سيزورون المعبد ، وسوف
يبحثون عن علة هذه الحادثة ، وأنهم بالتالي سوف يرون ان وراء هذه الظاهرة واقعاً
آخر ، إذ ليس من المعقول ان يكون صاحب تلك الضربات القاضية هو هذا الصنم الكبير
الّذي لا يقدر اساساً على فعل شيء على الاطلاق. وفي هذه الحالة سوف يستطيع « إبراهيم
» عليهالسلام أن يستفيد من هذه
الفرصة في عمله التبليغي ويستغل اعتراضهم بأن هذا الصنم الكبير لا يقدر على شيء
أبداً ، لتوجيه السؤال التالي اليهم : اذن كيف تعبدونه؟!! فمنذ أن اخذت الشمس تدنو إلى المغيب
ويقتربُ موعد غروبها ، وتتقلص اشعتها وتنكمش من الرَّوابي والسهول ، أخذَ الناسُ
يؤوبون إلى المدينة أفواجاً افواجاً. وعند ما آن موعد العبادة ، وتوجّهوا
إلى حيث اصنامهم ، واجهوا منظراً فضيعاً وامراً عجيباً لم يكونوا ليتوقّعونه!! لقد كان المشهد يحكي عن ذلة الآلهة
وحقارتها ، وهو أمرٌ لفت نظر الجميع شيباً وشبّاناً ، كباراً وصغاراً. ولقد كانت تلك اللحظة لحظة ثقيلة
الوطأة على الجميع بلا استثناء. فقد خَيَّم سكوتٌ قاتلٌ مصحوب بحنق
ومضض على فضاء ذلك المعبد المنكود الحظ. إلا أن أحدهم خرق ذلك الصمت الرهيب
وقال : من الّذي ارتكب هذه الجريمة ، ومن فعل هذا بالهتنا؟! ولقد كانت آراء « إبراهيم » ومواقفه
السلبية السابقة ضد الاصنام وتحامله الصريح عليها تبعثهم على اليقين بأن «
إبراهيم » وليس سواه هو الّذي صنع ما صنع بآلهتم واصنامهم. ولأجل ذلك تشكلت فوراً محكمة يرأسها
« نمرود » نفسه وأخذوا يحاكمون « ابراهيم » واُمه!! ولم يكن لاُمه من ذنب إلا أنها أخفت
ابنها ، ولم تُعلِم السلطات بوجوده ليقضوا عليه ، شأنه شأن غيره من المواليد
الذين قضت تلك السلطة الظالمة عليهم حفاظاً على نفسها وكيانها. ولقد أجابت اُم إبراهيم على هذا
السؤال بقولها : أيها الملك فعلت هذا نظراً مني لرعيّتك ، فقد رأيتك تقتل أولاد
رعيّتك فكان يذهب النسل فقلت : إن كان هذا الّذي يطلبه دفعتُه إليه ليقتله ويكف
عن قتل أولاد الناس ، وإن لم يكن ذلك فبقي لنا ولدنا. ثم جاء دور مساءلة إبراهيم عليهالسلام
فسأله قائلا : « مَنْ فَعَلَ هذا بآلهَتنا يا إبْراهيْم » فقال إبراهيم : «
فَعَلهُ كَبيْرُهمْ هذا فاْسأَلُوهُمْ إنْ كانُوا يَنْطِقُون ». وقد كان « إبراهيم » عليهالسلام
يهدف من هذه الاجابة اللامبالية المصحوبة بالسخرية والازدراء هدفاً آخر ، وهو ان
« إبراهيم » عليهالسلام كان على
يقين بأنهم سيقولون في معرض الاجابة على كلامه هذا : إنك تعلم يا إبراهيم ان هذه
الأصنام لا تقدر على النطق ، وفي هذه الصورة يستطيع « إبراهيم » أن يُلفت نظر
السلطات الّتي تحاكمه إلى نقطة اساسية. وقد حدث فعلا ما كان يتوقعه «
إبراهيم » عليهالسلام لما قالوا
له وقد نكسوا على رؤوسهم : « لقد عَلِمْتَ ما هؤلاء يَنْطِقُونَ » فقال إبراهيم
رداً على كلامهم هذا الّذي كان يعكس حقارة تلك الاصنام والأوثان وتفاهة شأنها :
« اَفتَعْبُدونَ مِنْ دُونِ اللّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ وَلا يَضُرُّكُمْ اُفّ
لكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ أفَلا تَعْقِلُون ». إلاّ أنَّ تلك الزمرة المعاندة الّتي
ران على قلوبها الجهلُ والتقليدُ الأعمى لم يجدوا جواباً لأبراهيم الّذي افحمهم
بمنطقه الرصين الاّ أن يحكموا باعدامه حرقاً ، فأَوقدوا ناراً كبيرة وألقوا
بإبراهيم عليهالسلام فيها إلاّ
أن العناية الالهية شملت إبراهيم الخليل عليهالسلام
، وحفظته من اذى تلك النار ، وحولت ذلك الجحيم الّذي اوجده البشر ، إلى جُنينة
خضراء نضرة إذ قال : « يا نارُ كُوني بَرْداً وَسَلاماً عَلى إبْراهِيْم » (راجع كتاب الكامل لابن الأثير : ج 1 ، ص 53 ـ 62 ، وبحار الأنوار : ج
12 ، ص 14 ـ 55.). وقد ذكر تفاصيل هذه القصة في الآيات
51 إلى 70 من سورة الانبياء وها نحن ندرج كل هذه الآيات هنا :
« وَلَقَد
آتَيْنا إبْراهيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنّا بِهِ عالِميْن. إذْ قالَ لأَبيهِ
وَقومِه ما هذه الْتَّماثِيلُ الّتي أنْتُمْ لَها عاكِفونَ. قالُوا وَجَدْنا
آباءنا لَها عابديْن قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ وَآباؤكُمْ في ضَلال مُبين. قالوا
اجتنا بالْحق أمْ اَنتَ من اللاعبينَ قالَ بَل ربكم ربُ السماواتِ والأَرض
الَّذي فطرهُنَّ وأَنا على ذلِكُمْ مِنَ الشاهدينَ وَتالله لأَكيْدَنَّ أَصنامكم
بَعْدَ أنْ تُوَلُّوا مُدْبرين. فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إلاّ كَبيْراً لَهُمْ
لَعَلَّهُمْ إليْهِ يَرْجِعُونَ. قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِالهَتِنا إنَّهُ
لِمَنَ الظّالِمينَ. قالُوا سَمِعْنا فَتَى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ
إبْراهيْمَ. قالُوا : فَاتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النّاسِ لَعَلَّهُمْ
يَشْهَدُونَ قالُوا أأنْتَ فَعَلْتَ هذا بآلِهَتِنا يا إبْراهيمَ. قال بَلْ
فَعَلَهُ كَبْيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إنْ كانُوا يَنْطِقُونَ فَرجَعُوا إلى
أنفُسِهِمْ فقالُوا إنَّكُمْ أنتمُ الظّالِمونَ ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ
لَقَدء عَلِمْتَ ما هؤُلاء يَنْطِقُونَ. قالَ : اَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُون
اللّهِ ما لا يَنْفَعكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ. اُفّ لَكُمْ وَلما
تَعْبُدُونَ مِنْ دُون اللّه أفَلا تَعْقِلُونَ قالُوا حَرَّقُوهُ وَانْصُرُوا
الِهَتكُمْ إنْ كُنْتُمْ فاعِلينَ. قلْنا يا نارُ كُونيْ بَرْداً وَسَلاماً عَلى
إبراهيْمَ. وَأَرادُوا به كَيْداً فَجَعَلْناهُمْ الأَخْسرينَ
». وللوقوف على تفاصيل وخصوصيات ولادة
إبراهيم عليهالسلام وتحطيمه
للأصنام |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
العِبَر القيمة في
هذه القصّة :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
مع ان اليهود يعتبرون أنفسَهم في
مقدمة الموحِّدين ، لم ترد هذه القصة في ثوراتهم الحاضرة رغم كونها معروفة بينهم
، بل تفرّد القرانُ الكريم من بين الكتب السماوية بذكرها لأهميتها. من هنا فإننا نذكرُ
بعض النقاط المفيدة ، والدروس المهمة في هذه القصة الّتي يَهدِفُ القرآن من
ذكرها وذكر امثالها من قصص الأنبياء والرسل. 1 ـ إن هذه القصة خير شاهد على شجاعة
« إبراهيم الخليل » عليهالسلام
وبطولته الفائقة. فعزم ابراهيم على تحطيم الاصنام ،
ومحق وهدم كل مظاهر الشرك والوثنية المقيتة لم يكن امراً خافياً على النمروديين
لانه عليهالسلام كان قد
أظهر شجبه لها ، واعلن عن استنكاره لعبادتها وتقديسها من خلال كلماته القادحة
فيها ، واستهزائه بها ، فقد كان عليهالسلام
يقول لهم بكل صراحة بانه سيتخذ من تلك الاصنام موقفاً مّا إذا لم يتركوا عبادتها
وتقديسها ، فقد قال لهم يوم ارادوا ان يخرجوا إلى الصحراء لمراسيم العيد : «
وَتاللّه لأَكيْدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُولُّوا مُدْبِريْن » (الأنبياء : 57.).
ولقد كان موقف الخليل عليهالسلام ينم عن شجاعة كبرى فقد قال الإمام
الصادق عليهالسلام
في هذا الصدد : « ومنها ( اي وممّا تحلّى به النبيّ
ابراهيم ) الشجاعة وقد كشفت ( قضيةُ ) الاصنام عنه ، ومقاومة الرجل الواحد
اُلوفاً من أعداء اللّه عزّ وجلّ تمام الشجاعة » (بحار الأنوار : ج 12 ، ص 67.).
2 ـ ان ضربات « إبراهيم » القاضية
وان كانت في ظاهرها حرباً مسلحة ، وعنيفة ضد الاصنام إلا أن حقيقة هذه النهضة ـ
كما يُستفاد من ردود « إبراهيم » على أسئلة الذين حاكموه ، واستجوبوه ـ كانت ذات
صبغة تبليغية دعائية. فان « إبراهيم » لم يجد وسيلة لا
يقاظ عقول قومه الغافية ، وتنبيه فطرهم الغافلة ، إلا تحطيم جميع الاصنام ، وترك
كبيرها وقد علق القدوم على عاتقه ليدفع بقومه إلى التفكير في القضية من اساسها
وحيث أن العمل لم يكن اكثر من مسرحية إذ لا يمكن أن يصدق أحدهم بأن تلك الضربات
القاضية كانت من صنع ذلك الصنم الكبير وفعله حينئذ يستطيع إبراهيم أن يستثمر
فعله هذا في دعوته ، ويقول انَّ هذا الصنم الكبير لا يقدر ـ وباعترافكم ـ على فعل
أيّ شيء مهما كان صغيراً وحقيراً فكيف تعبدونه اذن؟! ولقد استفاد « إبراهيم » من هذه
العملية فعلا ، وتوصل إلى النتيجة الّتي كان يتوخاها ، فقد ثابوا إلى نفوسهم بعد
ان سمعوا كلمات « إبراهيم » عليهالسلام ،
واستيقظت ضمائرهم وعقولهم ووصفوا انفسهم بالظلم بعد أن تبيّن لهم الحق وبطل ما
كانوا يعبدون إذ قال تعالى : « فَرجَعُوا
إلى أنْفُسِهِمْ فَقالُوا إنَّكُمْ أَنْتُمْ الظّالِمُون
»
(الأنبياء : 64.)
وهذا بنفسه يفيد بأن سلاح الانبياء القاطع في بدء عملهم الرسالي كان هو : سلاح
المنطق والاستدلال ليس إلا ، غاية الأمر أن هذا كان يؤدي في كل دورة بما يناسبها
من الوسائل ، وإلاّ فما قيمة تحطيم عدد من الأَصنام الخشبية بالقياس إلى مخاطرة
النبيّ « ابراهيم الخليل » بنفسه وحياته ، وبالقياس إلى الاخطار الّتي كانت
تتوجه إليه نتيجة هذا العمل الصارخ. إذن فلابد ان يكون وراء هذه العملية
الخطيرة هدفٌ كبيرٌ وخدمة عظمى تستحق المخاطرة بالنفس ، ويستحق المرء امتداح
العقل له إذا عرّض حياته للخطر في سبيلها. 3 ـ لقد كان إبراهيم يعلم بأن هذا
العمل سيؤدي بحياته ، وسيكون فيه حتفه ، فكانت القاعدة تقتضي أن يسيطر عليه قلقٌ
واضطرابٌ شديدان ، فيتوارى عن اُعين الناس ، أو يترك المزاح ، والسخرية
بالأَصنام على الأقل ، ولكنه كان على العكس من ذلك رابط الجأش ، مطمئن النفس ،
ثابتَ القدم ، فهو عندما دخَلَ في المعبد الّذي كانت فيه الأصنامُ تقدم بقطعة من
الخبز إلى الاصنام ودعاها ساخراً بها ، إلى الاكل ، وثم ترك الأَصنام بعد اليأس
منها تلاّ من الخشب المهشم ، واعتبر هذا الامرَ مسألة عادية لا تستأهل الوَجلَ
والخوف ، وكأنه لم يفعل ما يستتبع الموت المحقَّق ويستوجب الاعدام المحتّم. فهو عندما يأخذ مكانه امام هيئة
القضاة يقول معرضاً بالاصنام : فعله كبير الأصنام فاسئلوه ولا شك أن هذا التعريض
والسخرية بالاصنام إنما هو موقف من لا يوجس خيفة ، ولا يشعر بوجَل من عمله ، بل
هو فعل من قد هيّأ نفسه لكل الاخطار المحتملة ، واستعد لكل النتائج مهما كانت
خطيرة. بل الأعجبُ من هذا كله دراسة وضع «
إبراهيم » نفسه حينما كان في المنجنيق وقد تيقّن أنه سيكون وسط ألسنة اللهب بعد
هنيئة ، وتلتهمه النار المستعرة تلك النار الّتي جمع اهل « بابل » لها الحطب
الكثير تقرباً إلى آلهتهم ، وكانوا يعتبرون ذلك العمل واجباً مقدساً ... تلك
النار الّتي كان لهيبا من القوة بحيث ما كانت الطيور تستطيع من التحليق على مقربة
منها. في هذه اللحظة الخطيرة الحساسة جاءه
جبرئيل واعلن عن استعداده لانقاذه وتخليصه من تلك المهلكة الرهيبة قائلا له : هل
لك إليّ من حاجة؟ فقال « إبراهيم » : أما إليك فلا ،
وأما إلى ربِّ العالمين فنعم (عيون أخبار الرضا : ص 136 ، وأمالي الصدوق : ص 274 ، وبحار الأنوار :
ج 12 ، ص 35.).
ان هذا الجواب يجسِّدُ ايمان «
إبراهيم » العظيم ، وروحه الكبرى. لقد كان « نمرود » الّذي جلس يراقب
تلك النار من عدة فراسخ ، ينتظر بفارغ الصبر لحظة الانتقام ، وكان يحب ان يرى
كيف تلتهم ألسنة النار « إبراهيم ». فما أرهب تلك اللحظات! لقد اشتغل المنجنيقُ ، وبهزّة واحِدة
اُلقي بإبراهيم عليهالسلام في وسط
النار غير أَن مشيئة اللّه ، وارادته النافذة تدخلت فوراً لتخلص خليل اللّه
ونبيه العظيم ، فحوّلت تلك النّار المحرقة الّتي أوقدتها يَدُ البشر إلى روضة
خضراء وجنينة زاهرة ادهشت الجميع حتّى أَنَّ « إبراهيم » التفت إلى « آزر » وقال
ـ من دون ارادته ـ : « يا آزر ما اكرم إبراهيم على ربّه » (تفسير البرهان : ج 3 ، ص 64.).
إن انقلاب تلك النّار الهائلة إلى
روضة خضراء لإبراهيم قد تمّ بأمر اللّه المسبب للإسباب والمعطل لها متى شاء ،
المعطي لها آثارها ، والسالب عنها ذلك ، متى اراد. اجل إن اللّه الّذي منح الحرارة
للنّار والاضاءة للقمر ، والاشعاع للشمس لقادر على سلب هذه الآثار وانتزاعها من
تلك الاشياء وتجريدها ، ولهذا صحَّ وصفُه بمسبب الاسباب ، ومعطلها. غير ان جميع هذه الحوادث الخارقة
والآيات الباهرة لم تستطع ان توفر لابراهيم الحرية الكاملة في الدعوة والتبليغ ،
فقد قررت السلطة الحاكمة وبعد مشاورات ومداولات إبعاد « إبراهيم » ونفيه ، وقد
فتح هذا الأَمرُ صفحة جديدة في حياة ذلك النبيّ العظيم ، وتهيأت بذلك اسبابُ
رحلته إلى بلاد الشام وفلسطين ومصر وارض الحجاز. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
هجرة
الخليل عليهالسلام
:
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد حكمت محكمة « بابل » على «
إبراهيم » بالنفي والإبعاد من وطنه ، ولهذا اضطرّ عليهالسلام
ان يغادر مسقط رأسه ، ويتوجه صوبَ فلسطين ومصر ، وهناك واجه استقبال العمالقة
الذين كانوا يحكمون تلك البقاع وترحيبهم الحار به ونعم بهداياهم الّتي كان من
جملتها جارية تدعى « هاجر ». وكانت زوجته « سارة » لم
تُرزق بولد إلى ذلك الحين ، فحركت هذه الحادثة عواطافها ومشاعرها تجاه زوجها
الكريم إبراهيم ولذلك حثته على نكاح تلك الجارية عله يُرْزَقُ منها بولد ، تقرّ
به عينه وتزدهر به حياته. فكان ذلك ، وولدت « هاجر » لإبراهيم
ولداً ذكراً سمي باسماعيل ، ولم يمض شيء من الزمان حتّى حبلت سارة هي أيضاً
وولدت ـ بفضل اللّه ولطفه ـ ولداً سمي باسحاق (بحار الأنوار : ج 12 ، ص 118 و 119.).
وبعد مدة من الزمان أمر اللّه تعالى
« إبراهيم » بان يذهب بإسماعيل واُمه « هاجر » إلى جنوب الشام « أي ارض مكة »
ويُسكِنهما هناك في واد غير معروف إلى ذلك الحين ... واد لم يسكنه أحدٌ بل كانت
تنزل فيه القوافل التجارية الذاهبة من الشام إلى اليمن ، والعائدة منها إلى
الشام ، بعض الوقت ثم ترحل سريعاً ، وأما في بقية أوقات السنة فكانت كغيرها من
أراضي الحجاز صحراء شديدة الحرارة ، خالية عن أي ساكن مقيم. لقد كانت الاقامة في مثل تلك الصحراء
الموحشة عملية لا تطاق بالنسبة لأمرأة عاشت في ديار العمالقة والفت حياتهم
وحضارتهم ، وترفهم وبذخهم. فالحرارة اللاهبة والرياح الحارقة في
تلك الصحراء كانت تجسّد شبح الموت الرهيب امام ابصار المقيمين. وإبراهيم نفسه قد انتابته كذلك حالةٌ
من التفكير والدهشة لهذا الامر ، ولهذا فإنّه فيما كان عازماً على ترك زوجته «
هاجر » وولده « إسماعيل » في ذلك الواد قال لزوجته « هاجر » وعيناه تدمعان : «
إن الّذي أمرني أن أضعَكُمْ في هذا المكان هو الّذي يكفيكم ». ثمّ قال في ضراعة خاصة : « ربِّ اجْعِلْ هذا بَلَداً آمِناً وَاْرزُقْ
أهْلَهُ مِنَ الَثمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللّه وَالْيَوْمِ الآخِر »
(البقرة : 126.).
وعندما انحدر من ذلك الجانب من الجبل
التفت اليهما وقال داعياً : « رَبَّنا
إنّي أسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَتي بِواد غَيْر ذِيْ زَرْع عِنْد بَيْتكَ الُمحَرَّم
رَبَّنا لِيُقيْمُوا الصّلاة فَاجْعَلْ أفْئدَةً مِنَ النّاسِ تَهْويْ إلَيْهِمْ
وَاْرزُقْهُمْ مِنَ الَّْثمراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُون »
(إبراهيم : 37.).
إنَ هذا السفرة والهجرة وإن كانت في
ظاهرها امراً صعباً ، وعملية لا تطاق ، إلا أن نتائجها الكبرى الّتي ظهرت في ما
بعد أوضحت وبيّنت أهميّة هذا العمل ، لأنّ بِناء الكعبة ، وتأسيس تلك القاعدة
العظمى لأهل التوحيد ، ورفع راية التوحيد في تلك الربوع ، وخلق نواة نهضة ، عميقة
، دينية ، انبثقت على يد رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وشعّت من تلك الديار إلى أنحاء العالم ، كلُ ذلك كان من ثمار تلك الهجرة. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
عين
زمزم كيف ظهرت؟
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد غادر « إبراهيم » عليهالسلام
أرض مكة تاركاً زوجته وولده « إسماعيل » بعيون دامعة ، وقلب يملأوه الرضا بقضاء
اللّه والامل بلطفه وعنايته. فلم تمض مدة إلا ونفد ما ترك عندهما
من طعام وشراب ، وجف اللبن في ثديي « هاجر » ، وتدهورت أحوال الرضيع « إسماعيل »
، وكانت دموع الام الحزينة تنحدر على حجره ، وهي تشاهد حال وليدها الّذي قد أخذ
العطش والجوع منه مأخذاً. فانطلقت من مكانها فجأة تبحث عن
الماء حتّى وصلت إلى جبل « الصفا » فرأت من بعيد منظر ماء عند جبل « مروة » ،
فاسرعت إليه مهرولة ، غيران الّذي رأته وظنته ماء لم يكن الاّ السراب الخادع ،
فزادها ذلك جزعاً وحزناً على وليدها ممّا جعلها تكرر الذهاب والاياب إلى الصفا والمروة
أملا في أن تجد الماء ولكن بعد هذا السعي المتكرر ، والذهاب والاياب المتعدد بين
الصفا والمروة عادت إلى وليدها قانطةً يائسةً. كانت أنفاس الرضيع الظامئ ودقّات
قلبه الصغير قد تباطأت بل واشرفت على النهاية ، ولم يعد ذلك الرضيع الظامئ
قادراً على البكاء ولا حتّى على الانين. ولكن في مثل هذه اللحظة الحرجة
الصعبة استجاب اللّه دعاء خليله وحبيبه « إبراهيم » ، إذ لاحظت هاجر الماء
الزلال وهو ينبع من تحت اقدام « اسماعيل ». فسرت تلك الام المضطربة ـ الّتي كانت
تلاحظ وليدها وهو يقضي اللحظات الاخيرة من حياته ، وكانت على يقين بانه سرعان ما
يموت عطشاً ، وجهداً ـ سروراً عظيما بمنظر الماء ، وبرق في عينيها بريق الحياة ،
بعد ان اظلمت الدنيا في عينيها قبل دقائق ، فشربت من ذلك الماء العذب ، وسقت منه
رضيعها الظامئ ، وتقشعت بلطف اللّه وعنايته وبما بعثه من نسيم الرحمة الربانية
كل غيوم اليأس ، وسحُب القنوط الّتي تلبدت وخيمت على حياتها. ولقدادى ظهور هذه العين الّتي تدعى
بزمزم في ان تتجمع الطيور في تلك المنطقة وتحلق فوق تلك البقعة الّتي لم يُعهد
أن حلَّقت عليها الطيور ، وارتادتها الحمائم ، وهذا هو ما دفع بجرهم وهي قبيلة
كانت تقطن في منطقة بعيدة عن هذه البقعة ان تتنبه إلى ظهور ماء فيها لما رأت
تساقط الطيور وتحليقها ، فأرسلت واردين ليتقصيا لها الخبر ويعرفا حقيقة الأمر ،
وبعد بحث طويل وكثير ، انتهيا إلى حيث حلت الرحمة الالهية ، وعندما اقتربا إلى «
هاجر » وشاهدا بام عينيهما « امرأة » و « طفلا » عند عين من الماء الزلال الّذي
لم يعهداه من قبل عادا من فورهما من حيث أتيا ، وأخبرا كبار القبيلة بما شاهداه
، فاخذت الجماعة تلو الجماعة من تلك القبيلة الكبيرة تفد إلى البقعة المباركة ،
وتخيم عند تلك العين لتطرد عن « هاجر » وولدها مرارة الغربة ، ووحشة الوحدة ،
وقد سبب نمو ذلك الوليد المبارك ورشده في رحاب تلك القبيلة في ان يتزوج إسماعيل
هذا من تلك القبيلة ، ويصاهرهم ، وبذلك يحظى بحمايتهم له ، وينعم بدفاعهم
ورعايتهم ومحبتهم له. فانه لم يمض زمانٌ حتّى أختار « إسماعيل » زوجة من هذه
القبيلة ، ولهذا ينتمي ابناء « إسماعيل » إلى هذه القبيلة من جهة الاُم. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
تجديد
اللقاء
:
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
كان إبراهيم عليهالسلام
بعد أن ترك زوجته « هاجر » وولده « إسماعيل » في ارض « مكة » بأمر اللّه ، يتردد
على ولده بين فينة واُخرى. وفي احدى سفراته
ولعلّها السفرة الاُولى دخل « مكة » فلم يجد ولده « إسماعيل » في بيته ، وكان
ولده الّذي أصبح رجلا قوياً ، قد تزوج بامرأة من جرهم. فسأل « إبراهيم » زوجته قائلا : اين
زوجك؟ فقالت : خرج يتصيَّد ، فقال لها : هل عندك ضيافة؟ قالت : ليس عندي شيء وما
عندي أحد ، فقال لها إبراهيم : « إذا جاء زوجك فأَقرئيه السلام وقولي له :
فَلْيغيّر عتبة بابه ». وذهب إبراهيم عليهالسلام منزعجاً من معاملة زوجة ابنه «
إسماعيل » له وقد قال لها ما قال. ولمّا جاء إسماعيل عليهالسلام
وجد ريح ابيه فقال لامرأته : هل جاءك احد؟ قالت : جاءني شيخ صفته كذا وكذا
كالمستخّفِة بشأنه ، قال : فماذا قال لك : قالت : قال لي أقْرئي زوجك السلام وقولي له : فليغيّر عتبة بابه!! فطلقها وتزوج اُخرى ، لأن مثل هذه
المرأة لا تصلح ان تكون زوجة وشريكة حياة (بحار الأنوار : ج 12 ، ص 112 نقلا عن قصص الأنبياء.).
وقد يتساءل أحد :
لماذا لم يمكث إبراهيم عليهالسلام هناك
قليلا ليرى ولده إسماعيل بعد عودته من الصيد ، وقد قطع تلك المسافة الطويلة ،
وكيف سمح لنفسه بان يعود بعد تلك الرحلة الشاقة من دون ان يحظى برؤية ابنه
العزيز؟! يجيب ارباب التاريخ
على ذلك بان إبراهيم انما استعجل في العودة من حيث اتى لوعد اعطاه لزوجته سارة
بأن يعود اليها سريعاً ، ففعل ذلك حتّى لا يخلف. وهذا من اخلاق الانبياء. ثمّ إن « إبراهيم » سافر مرة اُخرى
إلى أرض مكة بأمر اللّه ، وليبني الكعبة الّتي تهدمت في طوفان « نوح » ، ليوجّه
قلوب المؤمنين الموحدين إلى تلك النقطة. إن القرآن الكريم يشهد بأن أرض « مكة
» قد تحولت إلى مدينة بعد بناء الكعبة قبيل وفاة إبراهيم عليهالسلام
، لأن إبراهيم دعا بُعَيد فراغه من بناء الكعبة قائلا : « رَبِّ اجْعَلْ هذا البَلَد آمِناً وَاجْنُبْني
وَبَنِيِّ أنْ نَعْبُدَ الأَصْنام » (إبراهيم : 35.)
على
حين دعا عند نزوله مع زوجته ، وابنه إسماعيل في تلك الأَرض قائلا : « رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً
» (البقرة : 126.).
وهذا يكشف عن ان مكة
تحولت إلى مدينة عامرة في حياة الخليل عليهالسلام ، بعد ان كانت صحراء قاحلة ، وواد غير
ذي زرع. * * * ولقد كان من المُستحْسَن اسْتكمالا
لهذا البحث أن نشرح هنا كيفية بناء الكعبة المعظمة ، ونستعرض التاريخ الاجمالي
لذلك ، بيد أننا لكي لا نقصر عن الهدف المرسوم لهذا الكتاب اعرضنا عن ذلك وعمدنا
إلى ذكر بعض التفاصيل عن أبرز واشهر أجداد رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
في التاريخ. 2 ـ
قُصَيُّ بنُ كلاب :
إن أسلاف الرَّسول العظيم صلىاللهعليهوآلهوسلم
هم على التوالي : عَبْدُ اللّه ، عَبْد الْمُطَّلِبْ ، هاشِم ، عبدُ مَناف ،
قُصّيّ ، كِلابٌ ، مُرَّة ، كَعْب ، لُؤيّ ، غالِب ، فِهْر ، مالِك ، النَضر ،
كِنانة ، خُزيمَة ، مدُركة ، إلياس ، مُضَر ، نَزار ، مَعدّ ، عَدنان (التاريخ الكامل : ج 2 ، ص 2 ـ 21.).
من المسلّم أنّ نسب النبي الاكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم
إلى عدنان هو ما ذُكر ، فلا خلاف فيه ، إنما وقع الخلاف في عدد ، واسماء من هم
بعد عدنان إلى إسماعيل عليهالسلام ، ولذلك لم يجز التجاوز عنه لحديث رواه ابن عباس عن رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم إذ قال :
« إذا بَلَغَ نَسَبي إلى عَدْنان فأَمْسِكُوا » (بحار الأنوار : ج 15 ، ص 105 عن مناقب ابن شهرآشوب ، وكشف الغمّة : ج
1 ، ص 15.)
هذا مضافاً إلى أَن النبيّ نفسه كان إذا عدّد أجداده فبلغ إلى عدنان أمسك ، ونهى
عن ذكر من بعده إلى إسماعيل ، وقد روي عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم
أنه قال : كَذِبَ النَسّابُونَ. ولهذا فإننا نكتفي
بذكر من اُتفِق عليه ، ونعمد إلى الحديث عن حياة كلِ واحد منهم. ولقد كان كلُ من ذكرنا أسماءهم هنا
معروفين ، ومشهورين في تاريخ العرب ، بيد أن حياة طائفة منهم ترتبط بتاريخ
الإسلام ، ولهذا فاننا نقف عند حياة « قصيّ » ومَن لحقه إلى والد النبيّ « عبد
اللّه » ونعرض عن ذكر حياة غيرهم من أجداده وأسلافه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ممّن لا علاقة له بهذه الدراسة (لقد بحث ابن الأثير في الكامل حول حياتهم فراجع : ج 2 ، ص 15 ـ 21.).
أمّا « قُصَيّ » وهو
الجدّ الرابع لرسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
فاُمّة « فاطمة » الّتي تزوجت برجل من بني كلاب ورزقت منه بولدين هما : « زهرة »
و « قصي » إلاّ أن زوج فاطمة قد توفي ، وهذا الاخير لم يزل
في المهد ، فتزوجت بزوج آخر يدعى ربيعة ، وسافرت معه إلى الشام ، وبقي « قصيّ »
يحظى برعاية أبوية من ربيعة حتّى وقع خلاف بين قصيّ وقوم ربيعة ، واشتد ذلك
الخلاف حتّى انتهى إلى طرده من قبيلتهم ، ممّا أحزن ذلك أُمّه ، واضطرت إلى
إرجاعه إلى « مكة ». وهكذا اتت به يد القدر إلى « مكة » ،
وسبّبت قابلياته الكامنة الّتي برزت في تلك المدينة في تفوقه على أهل مكة وبخاصة
قريش. وسرعان ما احتلَّ قصيّ هذه المقامات
العالية ، وشغل المناصب الرفيعة ، مثل حكومة « مكة » وزعامة قريش ، وسدانة
الكعبة المعظمة ، وصار رئيس تلك الديار دون منازع. ولقد ترك ( قصيّ ) من بعده آثاراً
كثيرة وعديدة منها تشجيع الناس على بناء المساكن والبيوت حول الكعبة المعظمة ،
وتأسيس مكان للشورى ليجتمع فيه رؤساء القبائل العربية من اجل التداول في الامور
وحل المشاكل يدعى بدار الندوة. وقد توفي « قصيّ » في
القرن الخامس الميلادي وخلف من بعده ولدين هما : « عبد الدار » و « عبد
مناف ». 3 ـ
عبد مناف :
وهو الجدّ الثالث
لرسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
واسمه « المغيرة » ولقبه « قمر البطحاء » ، وكان أصغر
من اخيه « عبد الدار » إلا أنه كان يحظى بمكانة خاصة عند الناس دون أخيه ، وكان
شعاره التقوى ، ودعوة الناس إلى حسن السيرة وصلة الرحم ، بيد انه مع ما كان له
من المكانة القوية لم ينافس اخاه « عبد الدار » في المناصب العالية الّتي كان
يشغلها. فقد كانت الزعامة
لاخيه عبد الدار حسب وصيّة أبيهما « قصيّ ». ولكن بعد وفاة هذين
الأَخوين وقع الخصام والتنازع بين أَبنائهما على المناصب ،
وانتهى ذلك بالصراع الطويل إلى اقتسام المناصب والمقامات ، وتقرر ان يتولى ابناء
عبد الدار سدانة الكعبة ، وزعامة دار الندوة ، ويتولى ابناء عبد مناف سقاية
الحجيج وضيافتهم ووفادتهم. وقد بقي هذا التقسيم
المتفق عليه ساري المفعول إلى زمن ظهور الإسلام (لم تكن هناك مناصب للكعبة يوم اُسّست ورُفعَ قواعدُها بل حدث كل ذلك
تدريجاً بحكم المقتضيات والتطوّرات ، وكانت هذه المناصب التي استمرت إلى زمن
ظهور الإسلام عبارة عن : 1 ـ سدانة الكعبة. 2 ـ سقاية الحجيج. 3 ـ رفادتهم وضيافتهم. 4 ـ زعامة المكيين وقيادة
جيشهم. ولم يكن هذا الأخير منصباً ذا صبغة دينية.). 4 ـ
هاشم :
وهو الجدُّ الثاني
لنبي الإسلام واسمه « عَمْرو » ولقبه « العُلاء » وهو الّذي وُلِدَ مع « عبد شمس
» توأمين ، وأخواه الاخران هما : « المطلب » و « نوفل ». هذا وثمة خلاف بين ارباب السيَر
وكتاب التاريخ في أن هاشماً وعبد شمس
كانا توأمين ، وأن هاشما ولد واصبعٌ واحدة من اصابع قدمه ملصقة بجبهة « عبد شمس
» وقد نزعت بسيلان دم ، فتشاءم الناس لذلك (تاريخ الطبري : ج 2 ، ص 13.)
يقول
الحلبي في سيرته : فكانوا يقولون : سيكون بينهما دم فكان بين ولديهما اي بين بني
العباس( وهم من اولاد هاشم ) وبين بني امية (
وهم من اولاد عبد شمس ) (السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 4.).
وكأنّ كاتب السيرة قد
تجاهل الحوادث المحزنة والمؤسفة الّتي وقعت بين بني امية وابناء علي عليهالسلام في حين أن
تلك الحوادث الدامية الّتي تسببها بنو امية واُهرقَت فيها دماء ذرية رسول الله
وعترته الطاهرة ، اقوى شاهد على تلك العداوة بين هاتين الطائفتين ، ولكننا لا ندري لماذا تجاهل ذكرها مؤلف السيرة الحلبية ولم يشر
اليها مطلقاً؟! ثم ان من خصوصيات
أبناء « عبد مناف » حسبما يُستفاد من الأدب الجاهلي ،
وما جاء فيه من أشعار ، أنهم توفوا في مناطق
مختلفة. فهاشم ـ مثلا ـ توفي
في « غزة » وعبد شمس مات في مكة ، ونوفل في ارض العراق ، والمطلب في ارض اليمن
(السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 5.).
وكان من سجايا هاشم
واخلاقه الفاضلة أنه كان كلّما هَلَّ هلال شهر ذي
الحجة قام صبيحته ، وأسند ظهره إلى الكعبة المشرفة ، وخطب قائلا : « يا معشر قريش إنكم
سادة العرب وأحسنها وجوهاً ، وأعظمها احلاماً ( اي عقولا ) وأوسط العرب ( أي
أشرَفها ) أنساباً ، واقرب العرب بالعرب أرحاماً. يا معشر قريش إنكم جيرانُ بيت اللّه
تعالى اكرمكُمُ اللّه تعالى بولايته ، وخصكم بجواره ، دون بني إسماعيل ، وانه
ياتيكم زوّار اللّه يعظمون بيته فهم أضيافه وأحق من اكرم أضياف اللّه انتم ،
فاكرموا ضيفه وزوّاره ، فانهم يأتون شعثاً غبراً من كل بلد على ضوامر كالقداح ،
فاكرموا ضيفه وزوّار بيته ، فوربّ هذه البنية لو كان لي مال يحتمل ذلك لكفيتكموه
، وأنا مخرجٌ من طَيب مالي وحلاله ما لم يُقطعْ فيه رحم ، ولم يؤخذْ بظلم ، ولم
يُدخل فيه حرامٌ ، فمن شاء منكم ان يفعل مثل ذلك فعلَ ، وأسألكم بحرمة هذا البيت
أن لا يخرج رجلٌ منكم من ماله لكرامة زوّار بيت اللّه وتقويتهم إلا طيباً لم
يؤخذ ظلماً ، ولم يقطع فيه رحمٌ ، ولم يؤخذ غصباً »
(السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 6.).
ولقد كانت زعامة « هاشم » وقيادته نافعة
للمكيّين من جميع النواحي ، وكان لها تأثيرٌ كبيرٌ في تحسين أوضاعهم. ولقد سبّب كرمُه وما قام به من إطعام
واسع في سنوات الجدب القاسية في تخفيف شدة الوطأة عن أهل مكة ، وبالتالي ادى إلى
عدم احساسهم بالقحط ، وآثار الجدب. كما أنّ من خطواته البارزة واعماله
النافعة جداً لتحسين الحالة التجارية للمكيّين هو ما عقده مع أمير « غسان » من
المعاهدة ، الأمر الّذي دفع بأخيه « عبد شمس » إلى أن يعاهد أمير الحبشة ، وبأخويه
الآخرين « المطلب » و « نوفل » إلى ان يعاهدا أمير اليمن وملك ايران تكون
القوافل التجارية بموجب تلك المعاهدات للجانبين في أمان ، من العدوان والتعرض. وقد أزالت هذه
المعاهداتُ الكثير من المشاكل ، وكانت وراء ازدهار التجارة في « مكة المكرمة »
حتّى عهد بزوغ شمس الإسلام. ثم ان من أعمال « هاشم » وخطواته
النافعة تأسيسُه لرحلتي قريش اللتين يتحدث
عنهما القرآن الكريم إذ يقول : « رحْلة الشتاء والصْيف » وهما رحلة إلى الشام ،
وكانت في الصيف ، ورحلة إلى اليمن ، وكانت في الشتاء ، وقد استمرت هذه السيرة
حتّى ما بعد ظهور الإسلام ايضاً. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
اُميّة بن عبد شمس
يحسد هاشماً :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ولقد حسد « اُمية بن عبد شمس » أبن
أخي هاشم عمَّه « هاشماً » على ماحظي به من المكانة والعظمة ، والنفوذ إلى قلوب
الناس وجذبها نحوه بسبب خدماته وأياديه ، وما كان يقوم به من بذل وانفاق ، وحاول
جاهداً ان يقلده ويتشبه بهاشم في سلوكه ولكنه رغم كل ما قام به من جهود ومحاولات
لم يستطع أن يتشبه به ويتخذ سيرته ، وكما لم يستطع بايقاعه وطعنه به ان يُقلل من
شأنه بل زاده رفعة وعظمة. لقد كان لهيب الحسد في
قلب « اُمية » يزداد اشتعالا يوماً بعد يوم ، حتى 1 ـ أن يعطي المغلوبُ خمسين من
النيَاق سود الحدق تنحر بمكة. 2 ـ جلاء المغلوب عن مكة عشر سنين. ومن حسن الحظِّ
أن ذلك الكاهن نَطق بمدح « هاشم » بمجرد أن وقعت عيناه عليه فقال : « والقمر
الباهر ، والكوكب الزاهر ، والغمام الماطر ... لقد سبق هاشمُ اُميّة إلى المآثر
» إلى آخر كلامه. وهكذا قضى لهاشم بالغلبة فأخذ الابل فنحرها وأطعمها واضطر
أُمية إلى الجلاء عن مكة والعيش بالشام عشر سنين (الكامل لابن الاثير : ج 2 ، ص 10 ، والسيرة الحلبية : ج 1 ، ص 4.).
وقد استمرتْ آثارُ هذا
الحسد التاريخي إلى 130 عاماً بعد ظهور الإسلام ، وتسببت في جرائم وفجائع كبرى
عديمة النظير في التاريخ. ثم ان القصة السابقة
مضافاً إلى انها تبين مبدأ العداوة بين الأُمويين
والهاشميين تبيّن أيضاً علل نفوذ الاُمويين في
البيئة الشامية ، ويتبين أن علاقات الأُمويين العريقة
بأهل هذه المنطقة هي الّتي مَهّدت لقيام الحكومة الأموية في تلك الديار. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
هاشم يَتَزوَّج ...
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
كانت « سلمى » بنت «
عمرو الخزرجي » امرأة شريفة في قومها ، قد فارقت زوجها بطلاق ،
وكانت لا ترضى بالزواج من أحد ، ولدى عودة « هاشم » من بعض أسفاره نزل في يثرب
أياماً فخطبها إلى والدها ، فرغبت سلمى فيه لشرفه في قريش ، ولنبله وكرمه ، ورضيت بالزواج منه بشرطين : أحدهما أن
لا تلد ولدها إلاّ في اهلها ، وحسب هذا
الاتفاق بقيت « سلمى » مع زوجها « هاشم » في مكة بعض
الوقت حتّى إذا ظهر عليها آثار الحمل رجعت إلى : « يثرب » وهناك وضعت ولداً اسموه « شيبة ». وقد اشتهر في ما بعد ب « عبد
المطلب ». وكتب المؤرخون في علة
تسميته بهذا الاسم بأن هاشماً لما أحسّ بقرب انصرام
حياته قال لاخيه « المطلب » : يا أخي أدرك
عبدك شيّبة. ولذلك سُمّيَ شيبة بن هاشم : « عبد المطلب ». وقيل أن أحد المكيين مرّ على غلمان
يلعبون في زقاق من ازقة يثرب ، وينتضلون بالسهام ، ولما سبق أحدُهم الآخرين في
الرمي قال مفتخراً : « أنا ابنُ سيّد البطحاء » فسأله الرجل عن نسبه وابيه فقال
: أنا شيبة بن هاشم بن عبد مناف ، فلما قدم الرجلُ مكة اخبر « المطلب » أخي «
هاشم » بما سمعه ورآه ، فاشتاق « المطلبُ » إلى ابن أخيه فذهب إلى المدينة ،
ولما وقعت عيناه على ابن اخيه « شيبة » عرف شبه أخيه هاشم ، وتوسَّم فيه ملامحه
، ففاضت عيناه بالدموع ، وتبادلا قُبُلات الشوق ، والمحبة ، وأراد أن ياخذه معه
إلى « مكة » وكانت اُمُه تمانع من ذلك ، ولكن ممانعتها كانت تزيد من عزم العمّ
على أخذه إلى « مكة » واخيراً تحققت اُمنية
العم فقد استطاع « المطلبُ » أن يحصل على اذن اُمه ، فاردفه خلفه وتوجّه حدب «
مكة » تدفعه رغبة طافحة إلى إيصاله إلى والده هاشم. وفعلت شمسُ الحجاز واشعتها الحارقة
فعلتها في هذه الرحلة فقد غيَّرت لون وجه شيبة وأبلت ثيابه ، ولهذا ظنَّ أهل « مكة
» عند دخوله مع عمه « مكة » أنه غلام اقتناه « المطلبُ » فكان يقول بعضهم لبعض : هذا عبد المطلب ،
وكان المطلب ينفي هذا الامر ،
ويقول : إنما هو ابن أخي هاشم وما هو بعبدي ، ولكن ذلك
الظن هو الآخر فعل فعلتَه ، وعُرف « شيبة » بعبد المطلب (الكامل لابن الاثير : ج 2 ، ص 6 ، وتاريخ الطبري : ج 2 ، ص 8 و 9 ،
السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 6.).
وربما يقال : أن
سبب شهرته بهذا الإسم هو انه تربى وترعرع في
حجر عمّه « المطلب » وكانت العربُ تسمي من يترعرع في حجر أحد وينشأ تحت رعايته عبداً لذلك الشخص
تقديراً لجهوده وتثميناً لرعايته. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
5 ـ عبدُ المطّلب :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
عبدُ المطّلب بن هاشم
وهو الجدّ الأول للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
كان رئيس قريش وزعيمها المعروف ، وكانت له
مواقف بارزة ، وأعمال عظيمة في حياته ، وحيث أن ما وقع من الحوادث في ايام حكمه
يرتبط ارتباطاً وثيقاً بتاريخ الإسلام ولهذا يتعين علينا دراسة بعض تلكم الحوادث
والوقائع. لا شك أن المرء مهما تمتع بنفسية
قوية فانه سيتأثر ـ في المآل ـ ببيئته وعاداتها ، وتقاليدها ، الّتي تصبغ فكره ،
بصبغة خاصة ، وتطبع عقليته بطابع معين. بيد أن هناك بين الرجال من يقاوم
تاثير العوامل البيئية بمنتهى الشهامة والشجاعة ، ويصون نفسه من التلوث بشيء من
أدرانها وأقذارها. وبطلُ حديثنا هنا هو
احد النماذج الصادقة لاولئك الرجال العظماء لان في حياته صفحات مشرقة عظيمة ،
وسطوراً لا معة تنبئ عن نفسيته القوية ، وشخصيته الشامخة. فان الّذي يعيش ثمانين عاماً في وسط
اجتماعي تسود فيه الوثنية ، ومعاقرة الخمر ، والربا ، وقتل الأنفس البريئة ،
والفحشاء حتّى ان هذه الامور كانت من العادات والتقاليد الشائعة ، ولكنه مع ذلك
لم يعاقر الخمر طوال حياته ، وكان ينهى عن القتل والخمر والفحشاء ، ويمنع عن
الزواج بالمحارم ، والطواف بالبيت المعظم عرياناً ، وكان ملتزماً بالوفاء بالعهد
، واداء النذر بلغ الامر ما بلغ ، لهو ـ حقاً ـ نموذجٌ صادقٌ من الرجال الذين
يندر وجودُهم ، ويقل نظيرهم في المجتمعات. أجل إن شخصية اودعت يد المشيئة
الربانية بين حناياها نور النبي الاكرم أعظم قائد عالمي ، يجب ان يكون إنساناً
طاهر السُلوك ، نقيَّ الجيب منزهاً عن أي نوع من أنواع الانحطاط ، والفساد. هذا ويستفاد من بَعض قصصه وكلماته
القصار أنه كان أحد الرجال المعدودين الذين كانوا يؤمنون باللّه واليوم الآخر في
تلك البيئة المظلمة ، وكان يردِّدُ دائماً : « لَنْ يخرج من الدنيا ظلومٌ حتّى
ينتقم منه ، وتصيبُه عقوبة ... واللّه ان وراء هذه الدار داراً يجزى فيها
المحسنُ بإحسانِه ، ويعاقَبُ فيها المسيء باساءته » (السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 4.)
اي ان الظلوم شأنه في الدنيا أن تصيبه عقوبة ، فاذا خرج ولم تصبه العقوبة فهي
معدّة له في الآخرة. ولقد كان « حرب بن
اُمية » من أقربائه ، وكان من اعيان قريش ووجوهها أَيضاً
، وكان يجاور يهودياً فاتفق أن وقع بينه وبين حرب نزاع في بعض اسواق تهامة ،
تبودلت بينهما فيه كلمات جارحة ، وانتهى ذلك إلى
مقتل اليهودي بتحريك من « حرب » ، ولما علم « عبدُ المطّلب »
بذلك قطع علاقته بحرب ، وسعى في أستحصال دية اليهودي المقتول من « حرب » ودفعها
إلى اولياء القتيل ، وهذه القصة تكشف عن
حبّ عبد المطلب للمستضعفين والمظلومين وحبه للحق والعدل. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
حَفرُ زَمزَم :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
منذ أن ظهرت عين زمزم نزلت عندها
قبيلة جُرهم الّتي كانت بيدها رئاسة مكة طوال سنين مديدة ، وكانت تستفيد من مياه
تلك العين ، ولكن مع ازدهار أمر التجارة في « مكة » ، واقبال الناس على الشهوات
والمفاسد آل الأمر إلى جفاف تلك العين ، ونضوب مائها بالمرة
(لا ريب أنّ تفشي الذنوب والمعاصي بين الناس من عوامل نزول البلايا
والكوارث ولا يبعد أن تكون الأعمال المخزية من موجبات الجدب والقحط والمجاعات ،
وهذه الحقيقة مضافاً إلى انطباقها على القواعد الفلسفية ممّا صرح به القرآن
الكريم والسنّة الشريفة ، راجع سورة الأعراف ، الآية : 96.).
ويقال : أن قبيلة «
جُرهُم » لما واجهت تهديداً من جانب قبيلة خزاعة واضطرت
إلى مغادرة تلك الديار ، وايقن زعيمها « مضامن بن عمرو » بانه سرعان ما يفقد
زعامته ، ويزول حكمه وسلطانه بفعل هجوم العدو ، امر بان يُلقى الغزالان الذهبيان
، والسيوف الغالية الثمن الّتي كانت قد اُهديت إلى الكعبة ، في قعر بئر زمزم ،
ثم يملأ البئر بالتراب ويعفى اثره إعفاء كاملا حتّى لا يهتدي خصومه إلى مكانه
ابداً ، حتّى إذا عادت إليه زعامته وعاد إلى مكة استخرج ذلك الكنز الدفين ،
واستفاد منه. ثم نشب القتال بين « جرهم » و « خزاعة » واضطرت « جرهم » وكثير من
ابناء اسماعيل إلى مغادرة « مكة المكرمة » ،
والتوجه إلى ارض اليمن ، ولم يرجع أحدٌ منهم
إلى « مكة » ابداً. ووقعت زعامة مكة منذ هذا التاريخ بيد
« خزاعة » حتّى بزغ نجم قريش في سماء مكة بوصول قصيّ بن كلاب ( الجدَ الرابع لنبي الإسلام ) إلى سدة
الزعامة والرئاسة ، ثم بعد مدة انتهى امر الزعامة إلى « عبد المطلب » فعزم على
أن يحفر بئر « زمزم » من جديد ، ولكنه لم يعرف بموقع البئر معرفة كاملة حتّى إذا
عثر عليه بعد بحث طويل قرّر ان يهيء هو وولده « حارث » مقدمات ذلك. وحيث أنه « يوجد في المجتمع دائماً
من يتحجّج ويجادل ـ بسبب سلبيته ـ ليمنع من أي عمل ايجابي مفيد ، انبرى منافسوا
« عبد المطلب » إلى الاعتراض على قراره هذا وبالتالي التفرد باعادة حفر بئر زمزم
، لكيلا يذهب بفخر هذا العمل العظيم ، وقالوا له : إنها بئر أبينا اسماعيل ، وان
لنا فيها حقاً فاشركنا معك » ولكن « عبد المطلب » رفض هذا الطلب لبعض الاسباب ،
فقد كان « عبد المطلب » يريد ان يتفرد بحفر زمزم ، ويسبّل ماءها ليسقي منها جميع
الحجيج دون مانع ولا منازع ، ويحول بذلك دون المتاجرة به ولم يكن ليتسنى له ذلك
إلاّ إذا قام بحفر زمزم بوحده دون مشاركة من قريش. وقد آل هذا الأمر إلى النزاع الشديد
فتقرر أن يتحاكموا إلى كاهن من كهنة العرب وعقلائهم والقبول بما يقضي به ، فتوجه
« عبد المطلب » ومنافسوه إلى ذلك الكاهن وقطعوا الصحارى القاحلة بين الحجاز
والشام ، وفي منتصف الطريق أصابهم جهدٌ وعطش شديدان ، ولمّا تيقَّنوا بالهلاك ،
وقرب الوفاة اخذوا يفكرون في كيفية الدفن إذا هلكوا وماتوا ، فاقترح « عبد
المطلب » ان يبادر كلُ واحد إلى حفر حفرته حتّى إذا أدركهُ الموت دفنه الآخرون
فيها ، فاذا استمر بهم العطش وهلكوا يكون الجميع ( ما عدا من بقي منهم على قيد
الحياة ) قد اُقبروا ، ولم تغد ابدانهم طعمة للوحوش والطيور فأيَّد الجميع هذا
الاقتراح (ولعلّ احجام الآخرين من الاداء بالاقتراح وهو اليأس المطلق من تحصيل
الماء.)
، واحتفر كل واحد منهم حفيرة لنفسه ، وجلسوا ينتظرون الموت بوجوه واجمة ، وعيون
ذابلة ، وفجأة صاح عبد المطلب : « واللّه إن إلقاءنا بأيدينا هكذا للموت لا
نضربُ في الأرض ونبتغي لأنفسنا لعجزٌ » وحثهم على البحث عن الماء في تلك الصحراء
بصورة جماعية عسى ان يجدوا ما ينقذهم من الموت ، فركب عبد المطلب وركب مرافقوه ،
واخذوا يبحثون عن الماء يائسين غير مصدّقين ، ولم يمض شيء حتّى ظهرت لهم عين ماء
عذبة انقذتهم من الموت المحتم ، وعادوا من حيث جاؤوا وهم يقولون لعبد المطلب : «
قد واللّه قضى لك علينا يا عبد المطلب ، واللّه لا نخاصمك في زمزم أبداً ، إن
الّذي سقاك هذا الماء بهذه الفلاة لهو الّذي سقاك زمزم ، فارجع إلى سقايتك
راشداً وتنازلوا له لينفرد بحفر زمزم ويكون إليه أمره دون منازع ، ولا شريك » (تاريخ اليعقوبي : ج 1 ، ص 206 ، والسيرة النبوية : ج 1 ، ص 142 ـ
147.).
فعمد « عبد المطلب »
وولده الوحيد الحارث إلى حفر البئر ، ونشأ من ذلك تلٌ هائلٌ من التراب حول البئر
، وفجأة عثر « عبد المطلب » على الغزالين المصاغين من الذهب ، والسيوف المرصعة
المهداة إلى الكعبة ، فشبَّ نزاع آخر بين « قريش » وبين « عبد المطلب » على هذه
الاشياء ، واعتبرت « قريش » نفسها شريكة في هذا الكنز ،
وتقرر ان يلجأوا إلى القرعة لحل هذا المشكلة ، فخرجت القرعة باسم « عبد المطلب »
، وصار جميع ذلك الكنز إليه دون « قريش » ، ولكن عبد المطلب خصَ بتلك الاشياء
الكعبة فصنع من السيوف باباً للكعبة ، وعلق الغزالين الذهبيّين فيها. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
التفاني في سبيل
الوفاء بالعهد والنذر :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
رغم ان العرب الجاهليين كانوا غارقين
في الفساد الأخلاقي فانهم كانوا يتحلون ببعض الصفات الحسنة ، والخصال المحبَّبة.
وللمثال كان نقض العهود من أقبح
الافعال في نظرهم ، فاذا عقدوا عهوداً مع القبائل العربية أو ثقوها بالأيمان ،
المغلظة المؤكدة ، والتزموا بها إلى الاخير ، وربما نذروا النذور الثقيلة
واجتهدوا في اداءها مهما كلف ذلك من مشقة وثمن. ولقد أحسَّ « عبد
المطلب » عند حفر بئر زمزم بالضعف في قريش لقلة اولاده ، ولهذا نذر إذا رزقه
اللّه تعالى عشرة بنين أن يقدم أحدهم قرباناً للكعبة ولم يُطلِعْ احداً على نذره
هذا. ولم يمض زمان الاّ وبلغ عَدَدُ
ابنائه عشرة ، وبذلك حان أوان وفائه بنذره الّذي نذر ، وهو ان يذبح احدهم قرباناً للكعبة. ولا شك ان تصور مسألة كهذه فضلا عن
تنفيذه كان امراً في غاية الصعوبة على عبد المطلب ، ولكنه كان في نفس الوقت يخشى
ان يعجز عن تحقيق هذا الامر فيكون من الناقضين للعهد ، التاركين لاداء النذر ،
ومن هنا قررأن يشاور ابناءه في هذا الامر ، وبعد ان يكسب رضاهم وموافقتهم يختار
احدهم للذبح بالقرعة (هذه القضية ذكرها كثير من المؤرخين وكتّاب السيرة ، وهذه القصّة
إنّما هي جديرة بالاهتمام من جهة أنها تجسّد مدى إيمان « عبد المطلب » وقوّة
عزمه ، وصلابة إرادته ، وتبين جيّداً كم كان مصرّاً على الوفاء بعهوده
والتزاماته.).
وتمت عملية القرعة ، فاصابت « عبدَ اللّه » والد رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم فاخذ عبد المطلب بيد ابنه
، وتوجَّه من فوره إلى حيث يذبحه فيه. ولما علمت قريش رجالُها ونساؤها بقصة
النذر المذكور وما آلت إليه عملية القرعة حَزِنَ الناس والشباب خاصة لذلك حزنا
شديداً وبكوا وضجوا ، وقال أحدُهم ليتني ذبحت مكان هذا الشاب. فاقترحت قريشٌ على عبد
المطلب بان يفدي « عبد اللّه » ، واظهروا
استعدادهم لدفع الفدية إذا جاز ذلك ، فتحيّر « عبد المطلب » تجاه تلك المشاعر
الساخنة ، والاعتراضات القوية ، وراح يفكّر في عدم الوفاء بنذره ، ويفكر في نفس الوقت
في الحصول على مخلص معقول من هذه المشكلة ، فقال
له أحدهم : لا تفعل وانطلق إلى أحد كهنة العرب عسى أن يجد لك حلا. فوافق « عبد المطلب » واكابر قريش
على هذا الاقتراح ، وتوجهوا بأجمعهم نحو « يثرب » قاصدين ذلك الكاهن ، ولما
قدموا عليه سألوه في ذلك فاستمهلهم يوماً واحداً ، ولما كان اليومُ الثاني دخلوا
عليه فقال لهم : كم دية المرء عندكم؟ قالوا : عشرٌ من الابل. فقال : إرجعوا إلى
بلادكم ، وقَرّبوا عشراً من الإبل واضربوا عليها وعلى صاحبكم « أي عبد اللّه »
القداح فان خرجت القرعة على صاحبكم فزيدوا عشراً ، حتّى يرضى ربُكم ، وإن خرجت
على الإبل فانحروها فقد رضي ربُكم ونجا صاحبكم وكانت عنه فداء. فهدَّأ اقتراحُ الكاهن لهيبَ المشاعر
الملتهّبة لدى الناس ، لأن نحر مئات الابل كان أسهل عليهم من أن يشاهدوا شاباً
مثل « عبد اللّه » يتشحط في دمه. ولهذا فانهم فور عودتهم إلى « مكة »
بادروا إلى اجراء القرعة في مجمع كبير من الناس وزادوا عشراً عشراً حتّى إذا بلغ
عدد الإبل مائة خرجت القداح على الإبل ، ونجا « عبد اللّه » من الذبح ، فأحدث
ذلك فرحة كبيرة لدى الناس ، بيدَ أَن « عبد المطلب » طلب أن تُعاد عملية القرعة
قائلا : « لا واللّه حتّى أضربَ ثلاثاً » ، وأنما أراد ذلك ليستيقن ان ربه قد
رضي عنه ، ولكن في كل مرة كانت القداح تخرج على الإبل المائة فنحرت الابلُ ثم
تركت لا يمنع عنها انسانٌ ولا سبع (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 153 ، وبحار الانوار : ج 16 ، ص 74 ، وقد
نُقلّ عن النبي الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم أنّه قال : « أنا ابْن
الذبيحين » يقصدُ بالأَول جدّه إسماعيل عليهالسلام والثاني أباه « عبد اللّه » الّذي كاد أن
ينحر ولكنه نجا من الذبح كما نجا جدُّه إسماعيل عليهالسلام.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
حادثة عام الفيل :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
عندما يحدُثُ أمرٌ عظيم في امّة من
الاُمم وخاصة إذا كان ذا جذور دينية أو ذا مدلولات قومية أو سياسية فانه سرعان
ما يتحول ـ بفعل اعجاب الناس عامة به ـ إلى مبدأ للتاريخ. فقيام النبي موسى يعتَبر مبدأ
للتاريخ عند اليهود ، ومولد السيّد المسيح يعتبر مبدأ للتاريخ عند النصارى ،
والهجرة النبوية الشريفة تعتبر مبدأ للتاريخ عند المسلمين. وهذا يعني أن كل امّة
من الاُمم تقيس حوادثها من حيث الزمان بذلك الحدث الّذي تعتبره بداية تاريخها. وأحياناً تتخذُ الاُمم والشعوب بعض
الحوادث مبدأ للتاريخ مع انها تملك مبدأ سياسياً للتاريخ ، كما نلاحظ ذلك في
بلاد الغرب وشعوبه ، فقد اتخذت الثورةُ الفرنسية ، وثورة اكتوبر الشيوعية مبدأ
للتاريخ في فرنسا ، والاتحاد السوفياتي ، بحيث اصبح يقاس بهما كل ما وقع من
الحوادث بعدهما. ولكن الشعوب غير المتحضرة الّتي لم
تمتلك مثل تلك الثورات والحركات السياسية والدينية كان من الطبيعي أن تتخذ الحوادث
الخارقة للعادة مبدأ لتاريخها بدلا من الثورات والتحوّلات الاجتماعية ، وهذا ما
حدث عند العرب وقبل الإسلام. فانهم ـ بسبب حرمانهم من حضارة صحيحة
ـ اتخذوا من بعض الوقائع المفجعة والمرة ـ كالحرب والزلزال ، والمجاعة والقحط أو
الحوادث غير الطبيعية ، الخارقة العادة مبدأ لتاريخهم. ولهذا نجد مبادئ
متعددة للتاريخ عند العرب ، آخرها : ضجة عام
الفيل وهجوم « أبرهة » على « مكة » بهدف الكعبة المشرفة ، الّتي صارت في ما بعد
مبدأ للتاريخ تؤرخ ـ بقية الحوادث والوقائع اللاحقة. ونظراً لأهمية هذا
الحدث التاريخي العظيم الّذي وقع عام 570 وأتفقت فيه ولادة النبي الكريم صلىاللهعليهوآلهوسلم فاننا نتناول هذه القصة
بالعرض والتحليل : |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ما هي عوامل هذه
الحادثة؟
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد ذكرت قصة أصحاب الفيل في القرآن
بصورة مختصرة ، وسوف ننقل ـ هنا ـ الآيات الّتي نزلت حول هذه القصة بعد حوادثها.
يكتب المؤرخون عن علة هذه الحادثة ان
ملك اليمن « تُبان أسعد » والد ذي نواس بعد ان أرسى قواعد حكمه مر في احدى
رحلاته على يثرب ( المدينة ) ، وقد كانت ل « يثرب » في ذلك الوقت مكانةٌ دينيةٌ
مرموقةٌ فقد قطنها جماعة من اليهود (وفاء الوفا : ج 1 ، ص 157 ، والسيرة النبوية : ج 1 ، ص 21 و 22.)
،
وبنوا فيها عدداً من المعابد والهياكل ، فأكرم اليهودُ مقدم ملك اليمن ، ودعوه
إلى دينهم ليستطيعوا في ظل حكمه حماية أنفسهم من أذى المسيحيين الروميين ،
والمشركين العرب. ولقد تركت دعوتهم وما رافقها من
اساليب مؤثرة اثرها في نفس ذلك الامير واختار اليهودية ، واجتهد في بثها ونشرها.
ثم ملك من بعده ابنه « ذونواس » الّذي جدّ في بث اليهودية والتحق به جماعة
خوفاً. بيد أن اهل نجران
الّذين كانوا قد دانوا بالمسيحية قبل ذلك امتنعوا من تغيير دينهم وترك المسيحية
واعتناق اليهودية ، وقاوموا « ذي نواس » مقاومة شديدة ، فشق ذلك على
ملك اليمن ، واغضبه فتوجه احد قادته إلى
نجران على رأس جيش كبير لتأديب المتمردين من أهلها فعكسر هذا الجيش على مشارف
نجران ، واحتفر قائدة خندقاً كبيراً ، واوقد فيه ناراً عظيمة ، وهدّد المتمردين
بالاحراق بالنار. ولكن أهل نجران الذين
احبّوا المسيحية واعتنقوها برغبة كبيرة اظهروا شجاعة كبرى ، واستقبلوا الموت
حرقاً ، وغدوا طعمة للنيران. يقول المؤرخ
الإسلاميُّ « ابنُ الاثير الجزري » بعد ذكر هذه القصة : لما
قتل « ذونواس » من قتل في الاُخدود لاجل العود عن النصرانية أفلَت منهم رجلٌ
يقال له « دوس » فقدم على « قيصر » فاستنصره على « ذي نواس » وجنوده واخبره بما
فَعل بهم ، فقال له قيصر : بعدت بلادك عنا ، ولكن ساكتبُ إلى النجاشي ملك الحبشة
وهو على هذا الدين وقريب منكم ،
فكتب قيصر إلى ملك الحبشة يأمره بنصره ، فارسل معه ملكُ الحبشة سبعين الفاً ،
وأمّر عليهم رجلا يقال له « أرياط » وفي جنوده « ابرهة الأشرم » فساروا في البحر
حتّى نزلوا بساحل اليمن ، وجمع « ذونواس » جنوده فاجتمعوا وكتب إلى زعماء قومه
من اهل اليمن يدعوهم إلى الاجتماع لمقاتلة عدوّهم ، فلم يجيبوه ، فانهارت حكومته
أمام حملة جيش الحبشة ، وسيطر الاحباش على أرض اليمن ،
وجُعِلَ « أبرهة » اميراً عليها من قِبَل « النجاشي » بعد مقتل « ارياط » على يد
« أبرهة » في صراع السلطة (الكامل في التاريخ : ج 1 ، ص 260 ـ 263 ، والسيرة النبوية : ج 1 ، ص
31 ـ 37.).
وهذه القصة هي الّتي
تعرف في القرآن الكريم بقصة « اصحاب الاُخدود » وقد جاء ذكرها في سورة البروج إذ
يقول اللّه تعالى : «
قُتِلَ أصحابُ الاُخدود. النار ذات الوقود. إذْهُم عَليها قُعُودُ. وهُم عَلى ما
يَفعَلُون بالْمؤمنين شُهُودٌ. وما نَقمُوا مِنْهُم إلا أَنْ يُؤمنُوا باللّه
العزيز الْحَميد. الَّذي لَهُ مُلك السماواتِ وَالارضِ واللّهُ عَلى كُلِّ شَيء
شَهِيد » (البروج : 4 ـ 9.).
وقد ذكر المفسرون هذه القصة في شأن
نزول هذه الآيات بصورة مختلفة (راجع مجمع البيان : ج 5 ، ص 464 ـ 466.).
ثم ان « ابرهة » الّذي اسكره
الانتصار والغلبة على منافسه ، وتمادى في الشهوات بنى في صنعاء كنيسة عظيمة
تقرّباً إلى ملك الحبشة ، وارضاء له ثم كتب كتاباً إلى « النجاشي » ملك الحبشة
يقول فيه : « إني قد بَنيتُ لك ايها الملك كنيسة لم يُبن مثلها لملك كان قبلك ،
ولست بمُنْته حتّى اصرف اليها حج العرب ». وقد أدى معرفة العرب بما جاء في هذا
الكتاب إلى ردّة فعل شديدة لديهم ، إلى درجة أن امرأة مِن قبيلة « بني افقم »
تسللت ذات ليلة إلى تلك الكنيسة واحدثت فيها ، فاثار هذا العمل الّذي كان يدل
على مدى ازدراء العرب بكنيسة « أبرهة » واحتقارهم لها ، غضب « أبرهة » ، هذا من
جانب ومن جانب آخر كان « ابرهة » كلما زاد في تزيين تلك الكنيسة زاد ذلك من حقد
العرب ، وحنقهم عليه ، واحتقارهم لكنيسته ، فتسبب كل ذلك في أن يحلف أبرهة على
السير إلى الكعبة وهدمها ، فسيَّر لذلك جيشاً عظيماً ، وقدّم أمامهُ الفِيَلة
المقاتلة ، وخرج متوجهاً صوب مكة وهو يعتزم هدم الكعبة بيت اللّه الحرام!! فلما عرف زعماء العرب بغايته ،
وادركوا خطورة ذلك العمل وايقنوا بان استقلال العرب وسيادتهم تتعرض لخطر السقوط
، لم يمنعهم ما عهدوه من قوة « ابرهة » وانتصاراته بل خرج بعضهم إلى حربه
فقاتلوه بكل شجاعة وبسالة مدفوعين بدافع الغيرة والحفاظ على الشرف المهدَّد
بالخَطر. فقد خرج « ذونفر » وهو من أشراف أهل
اليمن وملوكهم ، ودعا قومَه ومن أجابه من سائر العرب إلى حرب « أبرهة » ولكن
سرعان ما تغلّب « ابرهة » عليه بجيشه الكبير ، ثم خرج له بعد ذلك « نفيل بن حبيب
» وبقي يقاتله مدة طويلة فهزمه « ابرهة » واُخِذَ له اسيراً ، فطلب « نفيل »
العفو منه فاشترط عليه أن يدلّه على طريق مكة ليعفو عنه ، فدلّه نفيل حتّى
الطائف ، واوكل الدلالة على بقية الطريق إلى شخص آخر يدعى « ابورغال » فدلّه
أبورغال على الطريق حتّى أرض « المغمَّس » وهي منطقة قريبة من « مكة » فنزل «
أبرهة » وجيشه بالمغمَّس ، فارسل أبرهة رجلا من الحبشة ـ على عادته ـ إلى ضواحي
« مكة » فاستولى على أموال قريش من الإبل والغنم فساق إليه في جملة ذلك مائتي
بعير لعبد المطلب ، ثم امر رجلا آخر يدعى « حُناطة » ليدخل « مكة » ويبلغ أهلها
عنه ما جاء من اجله ، وهو هدم البيت المحرّم الكعبة المعظمة ، وقال له : سل عن
سيد اهل هذا البلد وشريفها ، ثم قل له : ان الملك يقول لك : « إني لم آت لحربكم
، انما جئتُ لهدم هذا البيت ، فان تعرّضوا دونه بحرب فلا حاجة لي في دمائكم » ،
فإن هو لم يرد حربي فاتني به. فدخل « حُناطة » مكة ولما سأل عن سيد
قريش وشريفها ، وقد كانت قبائل قريش المختلفة قد تجمعت في اطراف البلد جماعات
جماعات تتذاكر في امر « ابرهة » وما يجب اتخاذه من موقف تجاهه. فدلّوه على بيت « عبد المطلب » ،
ولما دخل على « عبد المطلب » أبلغه مقالة « أبرهة9 فقال له عبد المطلب : «
واللّه ما نُريدُ حربَه ، وما لَنا بذلك من طاقة ، هذا بيت اللّه الحرام ، وبيت
خليله إبراهيم عليهالسلام ، فان
يمنعه منه فهو بيته وحرمه ، وان يخلي بينه وبينه فواللّه ما عندنا دفع عنه »؟ فسرّ « حناطة » رسول ابرهة بمنطق عبد
المطلب ومقالته الّتي كانت تحكي عن قوة ايمانه ، وعن روحه المسالمة فطلب منه أن
يصحبه إلى « أبرهة » ، قائلا : فانطلق معي إليه فانه قد امرني اَن آتيه بك. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
عَبدُ المطّلب
يَذهب إلى مُعسكر أَبرهة :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
فتوجه عبد المطلب هو وجماعة من ولده
إلى معسكر ابرهة ، فاعجب « أبرهة » بوقار رئيس قريش وهيبته إعجاباً شديداً ، وبهر
به حتّى أنه نزل له من تخته اجلالا ، واخذ بيده ، واجلسه إلى جنبه ، فسأله عن
طريق مترجمه متأدباً : ما الّذي اتى به وماذا يريد؟ فأجابه عبد المطلب قائلا :
حاجتي أن يردَّ الملكُ عليَّ مائتي بعير أصابها لي. فقال « أبرهة »
لترجمانه : قل له : قد كنت اعجبتني حين رأيتك ، ثم قد زهدتُ فيك حين كلمتني ،
أتكلمني في مائتي بعير اصبتُها لك ، وتترك بيتاً هو دينك ودين آبائك قد جئتُ
لهدمه ، لا تكلمني فيه؟! فقال له عبدالمطلبُ :
إني أناربُ الإبل ، وان للبيت رباً سيمنعه ، فقال « ابرهة » مغتراً بنفسه : ما
كان ليمتنع مني. ثم أمر بان ترد الابل إلى أصحابها. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إنتظار قريش :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ولقد انتظرت قريش عودة « عبد المطلب
» من معسكر « ابرهة » بفارغ الصبر لتعرفَ نتيجة ما دار بينه وبين أبرهة ، وعندما
عاد « عبد المطلب » اخبرهم الخبر ، وامرهم بالخروج معه من مكة ، والتحرز في رؤوس
الجبال من معرّة الجيش فخرجوا إلى الشعاب ، والجبال ، ثم لما كان الليل نزل عبد
المطلب مع جماعة من قريش إلى الكعبة واخذ بحلقة بابها يدعون اللّه ويستنصرونه
على أبرهة وجنده وقال « عبد المطلب » مناجياً اللّه سبحانه : « اللَّهُم أنتَ أنيسُ المستَوْحشين ولا وحشة معك
فالبيت ، بيتُك والحرمُ حرمك والدارُ دارُك ونحن جيرانك تمنعُ عنه ما تشاء وربُ
الدار أولى بالدار » ثم قال :
1 ـ لاهم أصلها : اللّهم
والعرب تحذف الالف واللام وتكتفي بما بقي. 2 ـ الحلال جمع حلة وهي
جماعة البيوت. 3 ـ المحال : القوّة
والشدّة. وقال ايضاً :
ثم انه ترك حلقة الباب ، ولجأ إلى
الجبل لينظروا ما سيجري. وفي الصباح وعندما كان « أبرهة »
وجنده يستعدون للتوجه إلى « مكة » ، وإذا باسراب من الطيور تظهر من جهة البحر
يحمل كل واحد منها ثلاثة احجار ، حجر في منقاره ، وحجرين في رجليه ، فاظلم سماء
الجيش بتحليق تلك الطيور فوق رؤوس الجند ، وتركت تلك الاحجار الصغيرة الحقيرة في
ظاهرها اثرها العجيب فقد رجمت تلك الطيور جنود « ابرهة » بتلك الاحجار بامر
اللّه ، فكانت لا تصيب منهم أحداً إلاّ تحطم رأسَه ، وتمزق لحم بدنه ، وهوى
صريعاً ، وقد دَوَّى صوتُ هذه الواقعة العجيبة
والرهيبة في العالم آنذاك ، وقد ذكرها القرآن الكريمُ في سورة الفيل إذ يقول
تعالى : « ألَم تَرَ
كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ. أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ في
تَضْلِيْل. وَأرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أبابيلِ. ترميهِمْ بِحِجارَة مِنْ
سَجِّيل. فَجَعَلَهُمْ كَعَصْف مَأكُول ». وما ذكرناهُ هنا ـ في هذه الصفحات ـ
ليس هو في الحقيقة إلاّ خلاصة ما وَردَ في كتب التاريخ الإسلامي ، وصرح به
القرآنُ الكريم (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 43 ـ 62 ، والكامل في التاريخ ج 1 ، ص 260
ـ 262 ، وبحار الأنوار : ج 5 ، ص 130 ـ 146.).
واستكمالا لهذا البحث
نعمد هنا إلى دراسة نظرية المفسر المصري الكبير الشيخ « محمَّد عبده » والعلامة
المعروف الدكتور « هيكل » وزير الثقافة المصري السابق في هذا المجال. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
كلمة
حول المعجزة :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد أوجدَ التقدم العلميُّ الأخير في
مختلف مجالات العلوم الطبيعية والفضائية ، وما استلزم ذلك من تهافت طائفة كثيرة
من الفرضيات ، ضجة عجيبة في الغرب ، فمع أن جميع تلك التطورات كانت مجردَ تطورات
علمية تجري في مجال المسائل الطبيعية أو الفلكية ، ولم يكن لها أية صلة
بالمعتقدات الدينية فإنّ هذا التحول والتطور وتلك الكشوف أوجدت شكاً عجيباً لدى
بعض الناس انسحب على جميع المعارف والمعتقدات الدينية الموروثة على وجه الاطلاق!
والسرّ في ذلك هو
أن العلماء رأوا بأن الفرضيات القديمة ، الّتي بقيت تسيطر على الأوساط العلمية
لمدة طويلة من الزمان ، قد اصبحت اليوم عرضةً للبطلان والسقوط تحت مطارق التجربة
وبواسطة الاختبارات العلميّة ، والتحقيقات المختبرية ، فلم يُعد ـ بعد هذا ـ
مجالٌ للقول بفرضية الافلاك التسعة الّتي طَلع بها « بطلميوس » ، ولا بفرضية
مركزية الارض ، ولا غيرها من عشرات الفرضيات ، فقالوا في أنفسهم : ومن أين تَرى
لا تكون بقية المعلومات والمعارف الدينية من هذا القبيل؟! وقد تفاقم هذا النوع من الشك في قلوب
جماعة من العلماء بالنسبة إلى جميع المعتقدات والمعارف الدينية ونمى بشكل قويّ
في فترة قصيرة ، وعمَّ الاوساط العلمية كأيّ مرض!! هذا مضافاً إلى أنّ
محاكم التفتيش وتشدّد الكنيسة وأربابها كان لها
النصيب الاكبر في ظهور هذه الحالة بل في نموّها ، واطرادها ، لأن الكنيسة كانت
تقضي على العلماء الذين نجحوا في اكتشاف القوانين العلمية تحت التعذيب والاضطهاد
القاسي بحجة أنها تخالف الكتاب المقدس ، وتعارض مقرَّرات الكنيسة!! وممّا لا يخفى أنَّ مثل هذه الضُغُوط
، وهذا الاضطهاد والتعجرف ما كان ليمرَّ من دون حدوث ردة فعل ، وقد كان من
المتوقَع منذ البداية أن العلماء في الغرب لو اتيحت لهم الفرصة لانتقموا من
الدين ، بسبب سوء تصرف الكنيسة ، وسوء معاملتهم لهم خاصة ، وللناس عامة. وقد حدث هذا فعلا فكلّما تقدم العلمُ
خطوةً ، واطّلع العلماء على العلاقات السائدة بين الكائنات الطبيعية ، واكتشفوا
المزيد من الحقائق الكونية ، والعلل الطبيعية لكثير من الحوادث والظواهر المادية
، وكذا علل الامراض ، قلّ اعتناؤهم بالقضايا الميتافيزيقية ، وما يدور حول
المبدأ والمعاد والافعال الخارقة للعادة كمعاجز الانبياء ، وازداد عدد المنكرين
لها والشاكين فيها ، والمترددين في قبولها يوماً بعد يوم!! لقد تسبَّب الغرورُ
العلميُّ الّذي أُصيب به العلماء في الغرب في ان ينظر بعض اولئك العلماء إلى
جميع القضايا الدينية بعين الازدراء والتحقير ، وأن يمتنعوا حتّى عن التحدث في
المعاجز الّتي يخبر بها التوراة والانجيل ، ويعتبروا
عصا موسى عليهالسلام الّتي
كانت تشفي المرضى وتحيي الموتى من الأساطير ، وراحوا يتسائلون ـ في عجب واستنكار
ـ : وهل يمكن أن تتحول قطعةٌ من الخشب اليابس إلى أفعي ، أو ثعبان ، أو هل يمكن
ان تعود الحياة إلى ميّت بكلمات من الدعاء؟ لقد تصور العلماء الذين
أسكرتهم فتوحاتهم العلمية ، انهم ملكوا مفاتيح جميع العلوم ، ووقفوا على جميع
العلاقات بين الكائنات الطبيعية والظواهر الكونية ،
ومن هنا تصوَّرُوا أنه لا توجد ايةُ علاقة بين قطعة الخشب والثعبان ، أو بين
جملة من الدعاء والتفاتة من بشر وعودة الروح إلى الموتى ، ولهذا أخذوا ينظرون
إلى هذه الامور بعين الشك والترديد ، وربما بعين الانكار والرفض المطلق!! وقد سرى هذا النوعُ من
التفكير إلى اوساط بعض العلماء المصريين الذين تأثروا بهذا الاتجاه اكثر من
غيرهم ، مع بعض التعديل في ذلك الموقف ، وشيء من الاختلاف في النظرة المذكورة ،
ولهذا اتبعوا تلك السيرة في تحليل الوقائع والحوادث التاريخية والعلمية من هذا
النوع ، والسِرّ في تأثر بعض علماء مصر بهذه النظرة قبل واكثر من غيرهم هو
احتكاك هذه الجماعة بالأفكار الواردة من الغرب قبل غيرهم ، ومن هذه المنطقة
سَرتْ بعضُ النظريات والآراء الغربية إلى البلاد الإسلامية الاُخرى. لقد اختار هؤلاء طريقاً خاصاً
قَصَدُوا به الحفاظ على حرمة الكتاب العزيز ، والاحاديث القطعية ومكانتها من جهة ، وكسب نظر العلماء الماديين
الطبيعيين إلى انفسهم من جهة اُخرى ،
أو ارادوا ان لا يختاروا ما لا يمكن التوفيق بينه وبين القوانين العلمية
الطبيعية وتطبيقه عليها. لقد وجَدَ هؤلاء من
جهة أن القرآن الكريم يخبر عن سلسلة من المعجزات والخوارق الّتي لا يمكن تفسيرها
بالعلوم العادية المتعارفة ، لأن العلم لا يستطيع أن
يدرك العلاقة بين العصا الخشبية اليابسة والثعبان ، ومن جهة اُخرى كان القبول
بالنظريات الّتي لا يمكن إثباتها بالحسّ والتجربة أمراً في غاية الصعوبة لهم. ولهذا السبب ، وفي
خِضمِّ الصراع بين هذين العاملين : العلم والعقيدة ، اختار
هؤلاء الكتاب والعلماء نهجاً يستطيعون به وضع نهاية لهذا الصراع ، والتنازع ،
فيحافظون على ظواهر القرآن والاحاديث من جانب ، ويتجنبون القول بما يخالف منطق
العلم من جانب آخر ، ويتلخص هذا النهج في تفسير جميع المعاجز وجميع خوارق العادة
الّتي جرت على ايدي الأنبياء بالموازين العلمية الحاضرة الرائجة في هذا العصر
بصورة تبدو وكأنها اُمورٌ طبيعية ، وبهذا يكونون قد حافظوا على مكانة القرآن
الكريم والاحاديث القطعية المسلّمة ، ولم يتفوهوا بما يخالف العلم الحديث
ويتعارض مع معطياته. ونحن هنا نذكر من باب
النموذج والمثال : التفسير الّذي ذكره العلامة المصري المعروف « محمَّد عبده »
لقصة اصحاب الفيل وماجرى لهم : فهو يقول عند تفسيره
لسورة الفيل : « فيجوز لك ان تعتقد أن هذا الطير من
جنس البعوض أو الذباب الّذي يحمل جراثيم بعض الامراض ، وان تكون هذه الحجارة من
الطين المسموم اليابس الّذي تحمله الرياح فيعلق بارجل هذه الحيوانات ، فاذا اتصل
بجسد دخل في مسامّه فاثار فيه تلك القروح الّتي تنتهي بافساد الجسم وتساقط لحمه
، وأن كثيراً من هذه الطيور الضعيفة يعُدّ من أعظم جنود اللّه في إهلاك من يريد
إهلاكه من البشر ، وأن هذا الحيوان الصغير ـ الّذي يسمونه الآن بالميكروب ـ لا
يخرج عنها » (راجع تفسير في ظلال القرآن : ج 30 ، ص 251.).
وقال أحد الكتاب مؤيداً هذا الاتجاه
بقوله : « إن الطير المستعمل في الكتاب العزيز يراد منه مطلق ما يطير ، ويشمل
الذباب والبعوض ايضاً ». ولابدَّ ـ قبل دراسة هذه الأقوال ـ أن نستعرض
مرة اُخرى الآيات النازلة في اصحاب « الفيل ». يقول اللّه تعالى : « ألمْ تَر كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ
الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيدهُمْ في تَضْلِيْل. وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ
طَيْراً أَبابِيْل. تَرْميْهِمْ بِحِجارَة مِنْ سِجّيل. فَجَعَلَهُمْ كَعَصْف
مَأكُولٍ ». إن ظاهر هذه الآيات يفيد أن جيش
ابرهة اُصيب بالغضب والسخط الالهي ، وان هلاكه وفناءه كان بهذه الأحجار الّتي
حملتها تلك الطيور ، والقتْ بها على رؤوس الجند وأبدانهم. إن الإمعان في مفاد
هذه الآيات يعطي أن مَوتهم كان بسبب هذه الاسلحة غير الطبيعية ( الصغيرة الحقيرة
في ظاهرها ، القوية الهدامة بفعلها وأثرها ). وعلى هذا فإنَّ أي
تفسير يخالف ظاهر هذه الآيات لا يمكن الذهاب إليه وحمل الآيات عليه ما لم يقم
على صحته دليل قطعي. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
نقاطٌ تقتضي التأمل
في التفسير المذكور :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
1 ـ إِنَّ التفسير المذكور لا يستطيع
كذلك أَن يجعل كل تفاصيل هذه الحادثة أمراً طبيعياً ، بل هناك جوانب في تلك الواقعة
التاريخية العجيبة لابد من تفسيرها بالعوامل والاسباب الغيبية ، لأنه مع فرض أن
هلاك الجند وتلاشي أجسادهم تمَ بواسطة
ميكروب : « الحصبة » و « الجدري » ، ولكن من
الّذي ارشد تلك الطيور إلى تلك الاحجار الصغيرة الملوثة بميكروب الحصبة والجدري
، فتوجهت بصورة مجتمعة إلى تلك الاحجار الخاصة بدل التوجه إلى الحَبّ والطعام ،
ثم كيف بعد حمل تلك الأَحجار بمناقيرها وأرجلها حلَّقتْ فوق معسكر « أبرهة »
ورجمت جنده كما لو أنّها جيشٌ منظّم موجّه؟؟ هل يمكن اعتبار كل ذلك
أمراً عادياً ، وحدثاً طبيعياً؟ ترى لو أننا فسَّرنا طرفاً من هذه
الحادثة العظيمة والعجيبة بالعوامل الغيبية ، وبارادة اللّه النافذة فهل تبقى مع
ذلك أية حاجة إلى أن نفسّر جانباً من هذه الحادثة بتفسير طبيعي مألوف ، ونركض
وراء التوجيهات الباردة ، لنجعلها امراً مقبولا. 2 ـ إنَّ الكائنات الدقيقة ، أوما
يسمى الآن ب « الميكروب » لا شك انها عدوة لمطلق الإنسان ، وليس بصديقة لهذا أو
ذاك ، ومع ذلك كيف توجهت إلى جنود « ابرهة » وقتلتهم دون غيرهم ، وكيف نسيت
المكيّين بالمرة؟! انَّ التاريخ المدوَّنْ يثبت لنا أن
جميع الضحايا في هذه الواقعة العظيمة كانوا من جند « ابرهة » ولم يلحق فيها :
أيّ أذى ـ إطلاقاً ـ بقريش ، وغيرهم من سُكان الجزيرة العربية ، في حين أن
الحصبة والجُدَريِّ من الأمراض المعدية ، الّتي تنقلها العوامل الطبيعية كالرياح
وغيرها من منطقة إلى اُخرى ، ورُبَما تُهلِك اهل قطر باجمعهم. فهَل مع هذا يمكن أن نعدّ هذه الحادثة
حدثاً طبيعياً عادياً؟! 3 ـ ان اختلاف هذا الفريق في تحديد
نوعية الميكروب ، يضفي على هذا الادعاء مزيداً من الإبهام ، ويجعله اقرب الى
البطلان. فتارة يقولون : انَّه
ميكروب الوباء وتارةً اُخرى يقولون
: انَّه داء الحصبة والجدري ، في حين اننا لم نجد مستنداً صحيحاً لهذا الخلاف ،
ومبرراً وجيهاً لهذا الاختلاف ،
اللّهمَ إلاّ ما احتمله « عكرمة » من بين
المفسرين ، وعكرمة هو نفسه موضع نقاش بين العلماء والاّ لما ذهب « ابن الاثير ».
من بين المؤرخين وارباب السير إلى ذكر هذا الرأي في صورة الاحتمال الضعيف ،
والقيل ، ثم عاد فردّ هذا القول فوراً (الكامل : ج 1 ، ص 263.).
والأعجب من الجميع ما
أعطاه مؤلف كتاب « حياة محمَّد » الدكتور هيكل وزير المعارف المصري السابق من
تفسير ، عند ذكر قصة الفيل. فهو بعد ذكر تلك القصة سرد آيات سورة
الفيل ، ومع أنه اتى بقول اللّه تعالى « وأرسل عليهم طيراً أبابيل » قال عن هلاك
جنود أبرهة : « ولَعلّ جراثيم الوباء جاءت مع الريح من ناحية البحر ، وأصابت
العدوى أبرهة نفسه » (حياة محمَّد لمحمَّد حسين هيكل : ص 102 و 103.)
فاذا كان الّذي جاء بهذا الميكروب هو الريح ، فلماذا حلّقت طيورُ الأبابيل على
رؤوس جيش أبرهة ، والقت بالأَحجار الصغيرة على رؤوسهم ودون غيرهم ، وأي أثر كان
لهذه الاحجار في هلاك أُولئك الجنود وموتهم؟ فالحق هو : أن
لا يُتبعَ هذا النمط من التفكير ، وأن لا نسعى لتفسير معجزات الأَنبياء ـ الكبرى
بمثل هذه التأويلات والتفسيرات ، بل إن طريق المعجزات والإعجاز أساساً يختلف عن
طريق العلوم الطبيعية الّتي تتحدد دائرتها بمعرفة العلاقات العادية بين الظواهر
الطبيعية ، ولهذا يجب علينا أن لا نعمد ـ
ارضاء لهوى جماعة ممّن لا يمتلكون أية معلومات دينية ، وليست لديهم أية معرفة
بهذا النوع من القضايا ـ إلى التنازع عن أُسُسنا الدينية
المسلّمة ، في حين لا توجد أية حاجة مُلزمة
إلى مثل ذلك التنازل والاعتذار! |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
نقطتان هامّتان :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وهنا لابد من أن نذكّر
بنقطتين هنا : الاُولى
:
يجب ان لا يظن أحدٌ ـ خطأ ـ أننا بما قلناه هنا نريد تصحيح كل ما تلوكه ألسنُ
الناس ، وتنسبه إلى الانبياء العظام ، أو إلى عباد اللّه الكرام ، من دون أن
يكون له أي سند صحيح أو وجه معقول بل وربما اتَّسَمْ بطابع الخرافة في بعض
الاحيان والموارد. بل مقصودنا هو :
أن نثبت ـ وطبقاً للمصادر الصحيحة والقطعية المتوفرة ـ ان الأنبياء كانوا يقومون
ـ لا ثبات ارتباطهم بما وراء هذه الطبيعة ـ بأعمال خارقة للعادة ، خارجة عن
الناموس الطبيعيّ المألوف ، تعجز العلومُ الطبيعية الرائجة عن إدراك عللها ،
وأسبابها. فهدُفنا هو الدفاع عن
هذه الطائفة من المعاجز. الثانية
:
إننا لا نقول مطلقاً : أَنَّ وجود المعجزة هو تخصيصٌ لقانون العلية العامّ ، بل
اننا في الوقت الّذي نحترمُ فيه هذا القانون المسلّم نعتقد بأَن لجميع حوادث هذا
العالم عللا خاصة واسباباً معينة ، وانه من المستحيل أن يوجَد شيء بعد عدمه من
دون علة ، بَيْد أننا نقول ان لهذه الطائفة من الظواهر والوقائع ( أي المعاجز )
عللا غير طبيعية ، وان هذه العلل ميسَّرة ومتاحة لأنبياء اللّه ورسله والرجال
الإلهيين خاصة ، وليس في مقدور أحد ـ لم يستطع لا عن طريق الحس ولا عن طريق
التجربة أن يكتشف هذه العلل ـ أن يتنكّر لها ، وينكرها ، بل ان جميع الاعمال
الخارقة الّتي يقوم بها أنبياء اللّه ناشئة عن علل لا يمكن تفسيرها بالعلل
الطبيعية المألوفة ، ولو أنها خضعت للتفسير والتوجيه لخرجت عن كونها معجزة ، ولم
يصدُق في حقها عنوان الاعجاز. ولكي نقف على حقيقة هذا الامر ،
ونعرف مدى بطلان المذهب المذكور ( مذهب تفسير الخوارق والمعاجز بالتفسير المادي
والمألوف المحض ) ينبغي أن نتبسط قليلا في شرح مسألة الاعجاز ونبحث في مدى
علاقتها بقانون العلية العام. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
بحثٌ
علميُّ حول المعجزة في خمس نقاط :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
على أننا ـ نظراً لضيق المجال ـ
سنختصر الجواب على هذه الأسئلة ، وعلى من أراد التوسع أن يرجع إلى كتب الكلام
والعقيدة. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
1 ـ ما هي المعجزةُ
وما هو تعريفها؟
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد عرَّف علماء
العقيدة المعجزة بتعاريف مختلفة أتقنها وأكملها هو : انّ
المعجزة أمرٌ خارقٌ للعادة ، مقرونٌ بالدَعوى ، والتحدّي ، مع عدم المعارضة ،
ومطابقة الدعوى (راجع للوقوف على هذا التعريف : كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد للعلامة
الحلّي شرحاً والمحقق نصير الدين الطوسي متناً : ص 218 ، وأيضاً شرح تجريد
الاعتقاد للعلامة القوشجي : ص 465.).
ويعني الشرطُ الأولُ
( اي كون المعجزة أمراً خارقاً للعادة ) أن كل ظاهرة من الظواهر الطبيعية
الحادثة مرتبطة بعلة حتماً ، فلا يمكن صدورها من دون علة ، وهذا الكون مشحون
بالعلل الّتي يكتشفها البشر شيئاً فشيئاً وتدريجاً عبر وسائله العادية أو
العلميّة ، ولكنّ المعجزة مع كونها ظاهرة واقعية ولهذا فهي كغيرها مرتبطةٌ بعلة
، بيد أنها تختلف عن غيرها من الظواهر في أنّ من غير الممكن كشف عللها من الطريق
العادية أو بواسطة التجارب والتحقيقات العلمية ، ولا يمكن تفسيرها وتبريرها
بالعِلَل العادية أو بما يكتشفه العلمُ من العلل لمثل هذه الحوادث ، والمقصود من
خرق العادة هو أنْ تقع المعجزةُ على خلاف ما عهدناه وتعوَّدنا عليه في الظواهر
الاُخرى وعِللها ، مثل إشفاء المرضى من دون علاج ودواء كما هو المعهود ، واخراج
الماء من صخرة صماء من دون حفر أو تنقيب كما هو المألوف ، وتحويل العصا إلى أفعي
من دون تبييض وتفريخ وتوالد وتناسل ، بل بمسح من يد ، أو بعبارة من لسان ، أو
بضرب من عصا!! من هنا نكتشفُ أَن كل
ظاهرة يقف الناس العادّيون بالطرق العادية أو العلماء خاصة بالطرق العلمية على
عللها وأسبابها لا تكون معجزة لأنّه في هذه الصورة لم يقع أي شيء على خلاف
العادة ، والمألوف ليدل على مزية في الانبياء. فان مثل هذه الظاهرة الّتي يكون لها
علةٌ عاديةٌ يعرفها جميعُ الناس ، أو سببٌ علمي خاصٌ يعرفها علماء ومتخصصوا ذلك
العلم يمكن أن يقوم بايجاد أمثالها جميعُ الناس ، فلا يكون حينئذ معجزة. ولا يعني هذا ـ وكما
اسلفنا ـ أَنَّ المعجزة لا تنتهي إلى أية علة ، اصلا ، بل هي تستند إلى علة غير
متعارفة وغير عادية ، ولمزيد التوضيح سنبحث في هذا المجال عند الاجابة على
السؤال الثالث. ويُقصَد من الشرط
الثاني ( أي كون الاعجاز مقروناً بالدعوى ) أن يَدّعي
صاحبُ المعجزة النبوة والسفارة من جانب اللّه تعالى ، ويأتي بالمعجزة دليلا على
صحة دعواه هذه ، إذ في غير هذه الصورة لا يكون الأمرُ الخارق للعادة معجزةً بل
يُطلَق عليه في الاصطلاح الديني لفظ « الكرامة » كما كان لمريم بنت عمران الّتي
كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً فاذا سألها من أين لها ذلك؟ قالت : هو من عند اللّه (ـ راجع سورة آل عمران : 37.).
ويعني الشرطُ الثالثُ
أن يكون الاعجاز مقروناً بدعوة الناس إلى الإتيان بمثله ، وعجز الناس عن هذه
المعارضة ، وعدم قدرتهم على الاتيان بمثله مطلقاً إذ في هذه الصورة يتضح أَنَّ
النبي يعتمد على قوة الهية غير متناهية ، قوة خارجة عن حوزة البشر العادي. واما الشرط الرابع
فيعني أن الامر الخارق للعادة إنّما يكون عملا إعجازياً ، ويستحق وصف المعجزة
الدالّة على ارتباط الآتي بها بالمقام الالهيّ ، إذا وافق الامرُ الواقعُ ما
يدعي أنه قادر على الأتيان به. فلو قال : سأجعلُ هذا البئر الجاف
الفارغ من الماء ، يفيض بالماء باشارة اعجازية ، ثم يقع ما قاله كان هذا الأمر
معجزة حقاً ، وأما إذا قال : سأجعل هذا الماء القليل الموجود في البئر يفيضُ ماء
، بالإعجاز ، ولكن جفَّ ذلك البئرُ على عكس ما قال ، لم يكن ذلك إعجازاً ، بل
كان تكذيباً لمدعيها. هذا هو خلاصة ما يمكن
أن يُقال حول تعريف المعجزة والاعجاز وهو يساعد على فهم طبيعة العمل الإعجازيّ. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
2
ـ هل الاعجاز يهدم القوانين العقلية المسلَّمة؟
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وبهذا يتضح جواب
السؤال المطروح في هذا المجال وهو أن يقال : إن قانون
العليّة ( اي : ارتباط كل معلول حادث بعلة
)
ممّا ارتكز عليه الذهنُ البشريُ وقبلَه العلمُ والفلسفة ، ولذلك فاننا نلاحظ :
كلّما وقف الإنسانُ على ظاهرة مهما كانت ـ بحَثَ عن علّتها فوراً فاذا رأى حية ـ
مثلا ـ عرف بان علتها الطبيعية هي أن تبيض حيّة ، ثم خروج حيّة من البيض بعد
سلسلة من التفاعلات فكيف يمكن القبول بالمعاجز مع أنها لا تنشأ عن مثل هذه العلل
ولا تمرُّ بمثل هذه المقدمات والمراحل والتفاعلات الطبيعيّة ، مثل انقلاب العصا
إلى ثعبان ، أو نبوع الماء من الصخر من دون حفر أو تنقيب. أليس هذا هدمٌ ، أو تخصيصٌ لذلك
القانون العقليّ المسَلَّم العام؟ فان الجواب على هذا
السؤال هو ان مثل هذا السؤال لا يطرحه إلاّ الَّذين
يحصرُون العلل والعلاقات بين الاشياء في العلل والعلاقات المادية الطبيعية. ولكن الحق هو أنَّ
أيَّة ظاهرة مادية يمكن أن يكون لها نوعان من العلل : 1 ـ العلةُ العادية
الّتي تخضع للتجربة. 2 ـ العلةُ غير
العادية الّتي لا يعرفها الناس ولم تكن متعارفة ولا تخضع للتجربة العلمية. وهذا يعني أنه لا توجد
أية ظاهرةُ في هذا العالم بدون علة. وتوضيحُ
هذا أن اصل وجود الحية ونبوع الماء من الصخرة وتكلم الطفل ـ مثلا ـ أمرٌ ممكنٌ ،
ولا يُعدّ من المحالات ، لأَنها لو كانت من المحالات لما تحقق وجودها أبداً. نعم
أَنها بحاجة إلى علة لكي تتحقق ، والعلة ـ سواء في المعاجز أو غيرها
ـ يمكن أن تكون إحدى الامور التالية : أ ـ العلة
الطبيعية العادية وهي ما الفناها وأعتدنا
عليها مثل ظهور شجرة من نواة بعد سلسلة من التفاعلات. ب ـ العلة
الطبيعية غير العادية وغير المعروفة وهذا يعني
أنه قد يكون لظاهرة معينة نوعان من العلل ، وطريقان للتحقق والوجود أحدهما معروف
ومعلوم ، والآخر مجهول غير معلوم ، والانبياء بحكم اتصالهم بالعلم والقدرة
الالهية ، يمكن أن يقفوا على هذا النوع مِنَ العلل ـ عن طريق الوحي ـ ويوجدوا
الظاهرة. ج ـ تأثير النفوس
والارواح :
فانَّ بعض الظواهر يمكن أن تكون
ناشئة من تأثير أرواح الأَنبياء ونفوسهم القوية ، كما نلاحظ ذلك في مجال
المرتاضين الهنود الذين يبلغون درجة يستطيعون معها أن يقوموا بما يعجز عنه
الأفرادُ العاديُّون ، وذلك بفضل الرياضات النفسية الّتي يخضعون لها. وهو ما
يسمى باليوجا أحياناً ، وقد كتبت حوله كتب ودراسات (راجع كتاب الطاقة الإنسانية لأحمد حسين.).
وقد أشار إلى هذا
جملةٌ من علماء الإسلام وفلاسفته منهم الفيلسوف الإسلامي الشهير صدر الدين
الشيرازي حيث يقول : « لا عجب أن يكون لبعض النفوس قوةٌ
الهيةٌ تكون بقوتها كأنها نفسُ العالم فيطيعُها العنصرُ طاعة بدنها لها ، فكلّما
ازدادت النفسُ ـ تجرداً وتشبّها بالمبادئ القصوى ازدادت قوةً وتأثيراً في ما
دونها. وإذا صار مجردُ التصوّر والتوهم
سبباً لحدوث هذه التغيّرات في هيوليّ البدن لأجل علاقة طبيعيّة ، وتعلّق جبلّي
لها إليه ، لكان ينبغي أن تؤثر في بدن الغير وفي هيوليّ العالم مثل هذا التأثير
، لأجل مزيد قوة شوقية ، واهتزاز علوي للنفس ومحبة الهية لها ، فيؤثر نفسُه في
إصلاحها ، وإهلاك ما يضرّها ويفسدها » (راجع المبدأ والمعاد : ص 355 و 356 لصدر المتألهين المشهور بصدر
الدين الشيرازي ، وشرح المنظومة للحكيم السبزواري : ص 327 قال السبزواري ناظماً
:).
د
ـ العللُ المجردة عن المادة : فيمكن ان
تكون للظواهر عللٌ مجردة عن المادة كالملائكة ، بان تقوم الملائكة بأمر من اللّه
سبحانه بتدمير قرية ، أو تقوم بمعجزة بعد طلب النبيّ منها ذلك. والملائكة مظاهرُ القدرة الالهية في
الكون ، وهي الّتي تدبّر اُمور الكون بأمر اللّه تعالى كما يقول القرآن الكريم :
« فالمُدَبَّراتِ أَمْراً »
(النازعات : 5.)
وهي بالتالي جنوداللّه في السماوات والأَرض «
وللّه جُنودُ السَماواتِ » (الفتح : 4.).
فلابد من ارجاع الظواهر الطبيعية
الواقعة إلى أحد هذه العوامل الاربعة ، ولا يمكن أبداً حصر العلة في العلة
الطبيعية العادية المعروفة كما تصور منكروا الاعجاز ، بل يمكن أن تكون كلُ واحدة
من هذه العلل سبباً لحدوث الظاهرة الطبيعية ، فاذا لم نشاهد علة ظاهرة من
الظواهر لم يجز لنا أن نُبادر ـ فوراً ـ إلى تصوّر أنها ناشئةٌ من غير علة. ويجب ارجاع معاجز
الأَنبياء إلى إحدى الطرق الاخيرة ، والقول بأن
الانبياء استخدموا ـ في ايقاع الخوارق والمعاجز ـ إما العلل المادية غير المعروفة للعُرف ، والعلم ،
وأما نفوسهم القوية الّتي حصلت لهم بفعل الجهاد الرُوحيّ العظيم
والرياضات النفسية الشديدة فهي علة تلك الأفعال الخارقة للعادة. كما ويمكن ان تكون جميع تلك الافعال العجيبة ناشئة عن جملة من العلل
والعوامل الغيبية المدبِّرة للكون بامر اللّه ومشيئة. إذن فلا
تتحقق المعجزة بدون علة كما يُتصوَّر ، ولا يهدم الاعجاز القوانينَ العقلية
المسلّمة.
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
3 ـ هل المعجزة
تصدر عن علل مادية غير معروفة فقط؟
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قد يتصور البعض أن
المعاجز تصدر عن علل مجردة عن المادة فقط نافين أن تكون لها ايَّة علل مادية
معروفة أو غير معروفة ، في حين لا يصحّ هذا
السلب الكلي ، إذ ما اكثر الخوارق الّتي تنشأ عن
اُمور عادية وعبر سلسلة من التفاعلات الطبيعية. فعندما يرقُد مرتاض هندي ليمرَّ عليه
تراكتور من دون ان تحدث في جسمه أية جراحات أو اصابات فان هناك اُموراً مادية
كثيرة دخلت في هذا الامر الخارق مثل : وقوع هذا الحدث في اطار الزمان الخاص ،
والمكان الخاص ، ومثل جسم المرتاض ، وماكنة الحراثة. فان جميع هذه الاشياء المادية اثرت
في ظهور هذا العمل الخارق. وهكذا عندما تنقلب عصا الكليم عليهالسلام
إلى حية على نحو الاعجاز فان العصا شيء مادي وهكذا الحال في غيره من الموارد. ولهذا لا يمكن ان
نتجاهل تأثير العوامل والامور المادية في ظهور الاُمور غير العادية ، وننكر
دخالتها بمثل هذا الإنكار. وهذه هي اكثر النظريات
اعتدالا في هذا المجال. وفي مقابل ذلك التفريط (ـ أي حصر علل الخوارق والمعاجز في العوامل المجرَّدة ونفي تأثير
العلل الماديّة على نحو الاطلاق.)
أفرط آخرون إذ قالوا : ان جميع المعاجز والخوارق ناشئة من علل مادية غير معروفة.
وحتّى ما يقوم به المرتاضون يعود إلى هذه العوامل الطبيعية الّتي لا يعرفها ولا يقف عليها
حتّى النوابغ من الناس فضلا عن العاديين ، لأن
العوامل الطبيعية على نوعين : المعروفة
وغير المعروفة ، والناس يستفيدون في حياتهم اليومية ـ
في الأغلب ـ من القسم الاول ، بينما يستخدم
الانبياء والمرتاضون تلك العوامل الطبيعية غير المعروفة الّتي وقفوا عليها
وادركوها دون غيرهم. والسبب في وصفنا هذه النظرية
بالافراط والتطرُّف هو عدم وجود دليل لا ثباته ، بل يمكن ان يقال ان مثل هذا
الموقف ناشئ عن الانهزامية تجاه العالم المادي ، أو انه لارضاء الماديين ،
والنافين لما يدخل في إطار العالم المادي فان الماديين يرفضون أي عالم آخر غير
الطبيعة وآثارها وعلاقاتها وخواصها ، وحيث أن ارجاع المعجزات إلى العلل المجردة
عن المادة يخالف منطق الماديين ، ويضادد اتجاههم وتصورهم لهذا عمد أصحاب هذه
النظرية ( نظرية إرجاع المعاجز والخوارق
إلى علل طبيعية غير معروفة وغير عادية ) إلى مثل هذا
التفسير إقناعاً للماديين ، وارضاء لهم فقالوا : ان جميع الخوارق والمعاجز ناشئة
من علل طبيعية ومادية على الإطلاق ، غاية ما في الأمر أَنها علل غير معروفة ،
شأنها شان كثير من العوامل الطبيعية المجهولة. ونحن بدورنا نترك هذه
النظرية في دائرة الاجمال وبقعة الإمكان ، لعدم الدليل لا على طبقها ولا على
خلافها. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
4 ـ كيف تدلّ
المعجزة على صحّة ادّعاء النبوّة؟
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إن صفحات التاريخ مليئة بذكر من
ادّعوا النبوّة خداعاً وكذباً ، واستثماراً للناس ، مستغلِّين سذاجة الاغلبية
الساحقة من جانب ، وانجذابهم الفطري إلى قضايا التوحيد والايمان من جانب آخر. فكيف وبماذا يُميَّز النبيّ الصادق
عن مدّعي النبوة؟؟ إن المعجزة هي إحدى الطرق
التي تدل على صحة إدعاء النبوة. وإِنما تدلُّ المعجزةُ على صدق
ادّعاء النبوّة ، وارتباط النبيّ بالمقام الربوبي لأن اللّه الحكيم لا يمكن أن
يزوّدَ الكاذب في دعوى النبوة بالمعجزة ، لأن في تزويد الكاذب تغريراً للناس
الذين يعتبرون العمل الخارق دليلا على ارتباط الآتي بها بالمقام الربوبيّ. وإلى هذا أشار الامامُ
جعفر الصادق عليهالسلام
بقوله في جواب من سأله عن علة اعطاء اللّه المعجزة لانبيائه ورسله : « لِيَكُونَ دَليلا عَلى صِدق من أتى
به ، والمعجزة علامةٌ للّه لا يعطيها إلا انبياءه وَرسلَه ، وحجَجَه ، ليعرفَ به
صدق الصادق مِنْ كذب الكاذِب » (علل الشرائع : ج 1 ، ص 122.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
5 ـ بماذا نميز
المعاجز عن غيرها من الخوارق؟
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لا شَكَّ في أنَّ السَحَرة
والمرتاضين يقومون بأَفعال خارقة للعادة مثيرة للعجب والدهشة حتّى ان البسطاء
ربما يذهب بهم الاندهاش إلى حدّ الاعتقاد بأن القائمين بهذه الخوارق مزوَّدون
بقوى غامضة غيبية لا يتوصلُ اليها البشر. فكيف يمكن اذن أن نُمَيّز بَينَ
المعاجز وتلك الخوارق والعجائب؟ إن التمييز بين هذه
وتلك يمكن أن يتم إذا لاحظنا العلائم الفارقة بين المعجزة وغير المعجزة من
الاعمال الخارقة للعادة ، كاعمال السحرة والمرتاضين ( اصحاب اليوجا ) ونظائرهم. وهذه الفوارق هي عبارة عن
الامور التالية : 1 ـ
إن القوة الغامضة الحاصلة لدى المرتاضين والسحرة ناشئة بصورة مباشرة من التعلم
والتحصيل عند اساتذة تلك العلوم ، وذلك طيلة سنين عديدة من الزمان. بينما لا يرتبط الاعجاز
بالتعلّم والتلمّذ أبداً ، والتاريخ خير شاهد على هذا الكلام. 2 ـ
إن أَفعال السَحرة والمرتاضين العجيبة قابلة للمعارضة والمقابلة بأمثالها ،
وربما بما هو اقوى منها ، على عكس الإعجاز ، فالمعجزات غير قابلة لأن تعارض
وتقابل بمثلها ابداً. 3 ـ المرتاضون
والسَحرة لا يَتحدُّون أحداً بأفعالهم ولا يطلبُون معارضة أحد لَهُمْ وإلا
لافْتضَحُوا وكبتوا. بينما يتحدى الانبياء والرسل
بمعاجزهم جميع الناس ويدعونهم لمعارضتهم والاتيان بمثل معاجزهم لو قدروا ،
واستطاعوا. فهذا هو القرآن الكريم ينادي بأعلى
صوته على مر العصور : « قُل لَئنْ
اجْتَمَعت الإنسُ والجنّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمثْلِ هذا الْقُرآنِ لا يأتُونَ
بِمثْلِه وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْض ظَهيْراً »
(الاسراء : 88.).
وذلك لأنَ أفعال السَحرة الخارقة مما
كانت فانها تستند إلى الطاقة البشرية المحدودة ، ولا تتجاوزها بينما يعتمد
الانبياء والرسل العنصر الغيبي ، والإرادة الآلهية. 4 ـ
إن أفعال السحرة والمرتاضين الخارقة للعادة اُمور محدودة ومقتصرةٌ على ما
تعلَّموها وتمرنوا عليها ، بينما لا تكون معاجز الأنبياء والرسل مقتصرة على
اُمور خاصة ، فهم لا يعجزون عن الاتيان بكل ما يطلبه الناس منهم ، طبعاً حسب
شرائط خاصة مذكورة في محلها في أبحاث الاعجاز (مثل أن لا يكون ما يطلبه الناس محالا عقلياً كرؤية اللّه ، ومثل أن
لا يكون ما سيأتي لهم به دليلا على ارتباطه بالمقام الربوبي ، كما لو طلبوا منه
أن تكون له جنّة من نخيل وأعناب وبيتٌ من ذهب ، لأنّ هذه الاُمور لا تكون دليلا
على النبوّة إذ نلاحظ أنّ كثيراً مِنَ الناس يملكون هذه وليسوا مع ذلك بأنبياء. وأن لا يكون المقترحون من
ذوي اللجاج والعناد الذين لا يقصدون من طلب المعاجز إلا الهزل والاستهزاء
والتنزّه. وأن لا تكون نتيجة المعجزة هلاكهم كما لو طلبوا ان يُنزِّل عليهم
ناراً من السماء تحرقهم لأن في ذلك نقضاً للغرض.).
فتلك معاجز موسى المتعددة الابتدائية
، والمقترحة ، ومعاجز المسيح عليهالسلام
المتنوعة خير مثال على هذا الأمر. 5 ـ إن اصحاب المعاجز
يقصدون من معاجزهم دائماً دعوة الناس إلى أهداف إنسانية عالية وغايات الهية
سامية وبالتالي هداية المجتمع البشري إلى المبدأ والمعاد ، والأخلاق الفاضلة فيما لا يهدفُ المرتاضون والسحَرة إلا
تحقيق مآرب دنيوية حقيرة ، ونيل مكاسب مادية رخيصة. هذا مضافاً إلى أن
الأَنبياء والرسل أنفسهم يختلفون عن السحرة والمرتاضين في نفسيّتهم العالية ،
وأخلاقهم الفاضلة وتاريخهم المشرق ، وصفاتهم النبيلة على العكس من السحرة
والمرتاضين. هذه هي أَهمُّ العلامات الفارقة بين
المعاجز الّتي تدل على نبوة الانبياء والخوارق الّتي يقوم بها المرتاضون
والسحرة. وبعد أن تبيَّن كل هذا
اتضح أنَّ
الخوارق الالهية الّتي هي من مقولة المعاجز أيضاً تختلف عن الاُمور العادية في
أن عللها لا تنحصر في العلل المادية غير المعروفة فضلا عن الاُمور المادية
المعروفة ، بل ربما تكون مستندة إلى العلل
المجرّدة ، فليس من الصحيح ان نسعى لتفسير الخوارق الالهية
مثل : « قصة الفيل » الّتي أهلك اللّه تعالى فيها جيش « أبرهة » العظيم بأحجار
صغيرة من سجيل رمتها طيور الأبابيل بالعلل المادية المعروفة كما فعل من اشرنا
إلى أسمائهم في مطلع هذا البحث (أي الاستاذ الشيخ محمَّد عبده والاستاذ محمَّد حسين هيكل.).
ولهذا عَدلَ « سيد قطب » عن رأية
الّذي كان قد أبداه في ما سبق في أمثال هذه الاُمور ، إذ قال : ان الطريق الأمثل في فهم القرآن
وتفسيره أن ينفُض الإنسان من ذهنه كلَ تصوّر سابق ، وأن يواجه القرآن بغير
مقرَّرات تصوُرية أو عقلية أو شعورية سابقة ، وأن يبني مقرَّراته كلها حسبما
يصورُ القرآنُ والحديثُ حقائق هذا الوجود ، ومن ثم لا يحاكم القرآن والحديث لغير
القرآن ، ولا ينفي شيئاً يثبته القرآن ولا يُؤَولَه ، ولا يثبت شيئاً ينفيه
القرآن أو يبطله ، وما عدا المثبت والمنفي في القرآن فله أن يقول فيه ما يهديه
إليه عقله وتجربته. نقول هذا بطبيعة الحال
للمؤمنين بالقرآن ... وهم مع ذلك يؤوّلون نصوصه هذه
لتوائم مقررات سابقة في عقولهم وتصورات سابقة في أذهانهم لما ينبغي أن تكون عليه
حقائق الوجود (وهنا قال سيّد قطب في هامش هذا الكلام مانصه « وما اُبرئ نفسي اُنني
فيما سبق من مؤلّفاتي وفي الأجزاء الاُولى من هذا الضلال قد انسقتُ إلى شيء من
هذا وارجو أن أتداركه في الطبعة التالية إذا وفق اللّه ».).
فاما الذين لا يؤمنون بهذا القرآن ،
ويعتسفون نفي هذه التصورات لمجرد أن العلم لم يصل إلى شيء منها فهم مضحكون حقاً! فالعلمُ لا يعلم اسرار الموجودات الظاهرة بين يديه والّتي
يستخدمها في تجاربه ، وهذا لا ينفي وجودها طبعاً! فضلا
عن العلماء الحقيقيين اخذت جماعة كبيرة منهم تؤمن بالمجهول على طريق المتدينين
أو على الأقل لا ينكرون ما لا يعلمون ، لأنهم بالتجربة وجدوا أنفسهم ـ عن طريق
العلم ذاته ـ أمام مجاهيل فيما بين ايديهم ممّا كانوا يحسبون انهم فرغوا من
الاحاطة بعلمه فتواضعوا تواضعاً علمياً نبيلاً ليس فيه سمةُ الادعاء ، ولا طابع
التطاول على المجهول كما يتطاول مُدّعو العلم ، ومدّعو التفكير العلمي ، ممن
يُنكرون حقائق الديانات وحقائق المجهول (في ظلال القرآن : ج 29 ، ص 151 ـ 153.).
ثم يقول في موضع آخر
من تفسيره ناقداً لموقف الاستاذ عبده من قصة الفيل الّتي هي احدى الخوارق
حيث حفظ اللّه تعالى بيته المعظم على نحو خارق للعادة : ويرى الذين يميلون إلى تضييق نطاق
الخوارق والغيبيات ، وإلى رؤية السنن الكونية المألوفة تعملُ عملها ، أن تفسير
الحادث بوقوع وباء الجدري والحصبة اقرب واولى ، وان الطير تكون هي : الذباب
والبعوض تحمل الميكروبات فالطير هو كل ما يطير. ثم ينقلُ كلام الاستاذ
« عبده » الّذي ذكرناه بنصه مع قوله : هذا ما يصحّ
الاعتماد عليه في تفسير السورة ، وما عدا ذلك فهو ممّا لا يصحّ قبوله إلاّ
بتأويل ان صحت روايته ، وممّا تعظم به القدرة ان يُؤخذَ من استعز بالفيل ـ وهو
اضخم حيوان من ذوات الاربع جسماً ـ ويُهْلكَ بحيوان صغير لا يظهر للنظر ولا يدرك
بالبصر حيث ساقه القدرُ لا ريب عند العاقل أن هذا اكبر واعجب وأبهر. ثم يقول :
ونحن لا نرى أن هذه الصورة الّتي افترضها الاستاذُ الامامُ ـ صورة الجدري أو
الحصبة من طين ملوث بالجراثيم ـ أدلَّ على قدرة ، ولا اولى بتفسير الحادث ، فهذه
كتلك في نظرنا من حيث إمكان الوقوع ، ومن حيث الدلالة على قدرة اللّه ، وتدبيره
، ويستوي عندنا أن تكون السنة المألوفة للناس ، المعهودة المكشوفة لعلمهم ، هي
الّتي جرت ، فأهلكت قوماً أراد اللّه اهلاكهم ، أو أن تكون سنة اللّه قد جَرت
بغير المألوف للبشر ، وغير المعهود المكشوف لعلمهم فحقّقت قدره ذاك. ثم يقول : لقد كان اللّه سبحانه يريد
بهذا البيت (أيّ الكعبة المشرّفة.)
أمراً ، كان يريد أن يحفظه ليكون مثابة للناس وأمناً وليكون نقطة تجمع للعقيدة
الجديدة تزحفُ منه حرة طليقة في ارض حرة طليقة لا يهيمن عليها احدٌ من خارجها
ولا تسيطر عليها حكومةٌ قاهرة تحاصر الدعوة في محضنها ، ويجعل هذا الحادث عبرة
ظاهرة مكشوفة لجميع الانظار في جميع الأجيال ، ليضربها مثلا لرعاية اللّه
لحرماته وغيرته عليها. فمما يتناسق مع جوّ هذه الملابسات
كلها أن يجيء الحادثُ غير مألوف ولا معهود بكل مقوماته وبكل اجزائه ، ولا داعي
للمحاولة في تغليب صورة المألوف من الأمر في حادث هو في ذاته وبملابساته مفردٌ
فذٌ. وبخاصة ان المألوف في الجدري والحصبة
لا يتفق مع ما روي من آثار الحادث بأجسام الجيش وقائده فإن الجدري أو الحصبة لا
يُسقطُ الجسم عُضواً عضواً ، وأنملة انملة ، ولا يشق الصدر عن القلب!! ثم ان « سيد قطب » يشير إلى علل
تفسير هذه الحادثة الخارقة للعادة بالتفسير المادي العادي الطبيعي ، والمدرسة
العقلية الّتي كان الاستاذ « عبده » على رأسها ، وضغط الفتنة بالعلم الّتي تركت
آثارها في تلك المدرسة ، ونحن نكتفي بهذا القدر بالمناسبة ، وإشعاراً بما يمكن
أن يجنيه مثل هذا الاتجاه على مقولات الدين ومفاهيمه ومقرراته عن الأحداث
الكونية والتاريخية والإنسانية والغيبية (في ظلال القرآن : ج 30 ، ص 251 ـ 255.).
هذا ويجدر بنا ان ننقل
هنا ما قاله صاحب تفسير مجمع البيان في هذا الصدد في شأن حادثة الفيل استكمالا
لهذا البحث وتأكيداً لمعجزة هذا الحدث. قال صاحب المجمع : وكان
هذا من اعظم المعجزات القاهرات ، والآيات الباهرات في ذلك الزمان ، اظهرهُ اللّه
تعالى ليدل على وجوب معرفته ، وفيه ارهاص لنبوة نبينا صلىاللهعليهوآلهوسلم
لأنه ولد في ذلك العام ، وفيه حجةٌ لائحة قاصمة لظهور الفلاسفة والملحدين
المنكرين للآيات الخارقة للعادات فانه لا يمكن نسبة شيء ممّا ذكره اللّه تعالى
من أمر اصحاب الفيل إلى طبع وغيره كما نسبوا الصيحة والريح العقيم والخسف
وغيرهما ممّا أهلك اللّه تعالى به الامم الخالية ، إذ لا يمكنهم أن يروا في
اسرار الطبيعة ارسال جماعات من الطير معها احجارٌ معدّة مهيَّاة لهلاك أقوام
معينين قاصدات إيّاهُمْ دون من سواهم فترميهم بها حتّى تهلِكهم ، وتدّمرَ عليهم
، لا يتعدّى ذلك إلى غيرهم ولا يشك من له مسكة عن عقل ولب ان هذا لا يكون الا من
فعل اللّه تعالى مسبب الاسباب ومذلِّل الصعاب ، وليس لأحد أن ينكر هذا لأَن
نبينا صلىاللهعليهوآلهوسلم
لما قرأ هذه السورة على أهل مكة لم ينكروا ذلك بل اقروا به وصدّقوه مع شدة حرصهم
على تكذيبه ، واعتنائهم بالردِّ عليه وكانوا قريبي عهد بأَصحاب الفيل ، فلو لم
يكن لذلك عندهم حقيقةٌ وأصلٌ لأنكَرُوهُ ، وجحدوه ، وأنهم قد أرّخوا بذلك كما
أرّخوا ببناء الكعبة ، وموت قصيّ بن كعب وغير ذلك. وقد اكثر الشعراء ذكر الفيل ونظّموه
ونقلته الرواةُ عنهم فمِن ذلك ما قاله ( اُميّة ) بن ابي الصلت :
وقال عبد اللّه بن عمرو بن مخزوم :
وقال ابن قيس الرقيات في قصيدة :
1 ـ المنكَّس. 2 ـ تفسير مجمع البيان
للطبرسي : ج 10 ، ص 543 في تفسير سورة الفيل. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ماذا
بَعْدَ هزيمة الأحباش؟
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد استوجب مقتل أبرهة وتحطّم جيشه
وهلاكهم ، وبالتالي هزيمة أعداء الكعبة المشرفة ، وأعداء قريش ، أن يتعاظم شأن
المكيّين ، وشأن الكعبة الشريفة في نظر العرب ، فلا يجرأ أحدٌ ـ بعد ذلك ـ في أن
يحدِّث نفسه بغزو مكة ، والإغارة على قريش ، أو أن يفكر في التطاول على الكعبة
المعظمة صرح التوحيد الشامخ ، فقد اخذ الناس يقولون في انفسهم : إنّ اللّه أهلك
أعداء بيته المعظم بمثل ذلك الاهلاك إحتراماً لبيته وتعظيماً لشأن قريش ، وقلّما
كان يتصور أحد أن ما وقع كان لاجل المحافظة على الكعبة فقط ، اي من دون أن يكون
لمكانة قريش ومنزلتهم وشأنهم دخل في ذلك ، ويشهد بذلك أن قريشاً تعرضت مراراً
لحملات متكررة من غزاة ذلك العصر دون أن يُصابُوا بمثل ما اُصيب به جندُ « ابرهة
» الّذي قصد الكعبة بالذات ويواجهوا ما واجهه ، من الردع والكبت. إنَّ هذا الفتح والظفر الّذي نالته
قريش من دون تعب ونصب ، ومن دون إراقة أية دماء من أبنائها ، أحدثت في نفوس
القرشيين حالات جديدة خاصة ، فقد زادت من غرورهم وحمّيتهم ، وعنجهيتهم ،
واعتزازهم بعنصرهم ، فأخذوا يفكرون في تحديد شؤون الآخرين ، والتقليل من وزنهم ،
اعتقاداً منهم بانهم الطبقة الممتازة من العرب دون سواهم. كما أنها دفعتهم إلى
أن يتصوَّروا أنهم وحدهم موضع عناية الأَصنام ( الثلاثمائة والستين ) فهم وحدهم
الذين تحبُّهم ولأجل هذا تمادوا في لَهوهم ، ولعبهم
، وتوسعوا في ممارسة اللذة والترف حتّى أنهم أظهروا وَلعاً شديداً بالخمر ،
فكانوا يحتسونها في كل مناسبة ، وربما مدّوا موائد الخمر في فناء الكعبة ،
واقاموا مجالس سَمرهم وأنسهم إلى جانب أصنامهم الخشبية ، والحجرية ، الّتي كان
لكل قبيلة من العرب بِينها صَنمٌ أو اكثر ، ويقضون فيها اسعدَ لحظات حياتهم ـ
حَسب تصورّهم ، وَهم يتناقلون فيها كل ما سمعوه من أخبار وقصص حول « مناذرة »
الحيرة و « غساسنة » الشام وقبائل اليمن ، وهم يتصورون أن هذه الحياة الحلولة
اللذيذة هي من بركة تلك الاصنام والاوثان ، فهي الّتي جعلت عامة العرب تخضع
لقريش ، وجعلت قريشاً افضل من جميع العرب!! |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أوهام
قريش تتفاقم!!
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إنَّ أخطرَ ما يمرُّ به إنسانٌ في
حياته هو أن يصفو عيشه من المشاكل ، ردحاً من الزمن ويحس لنفسه بنوع من الحصانة
الوهمية ، فعندها تجده يخص الحياة بنفسه ويستأثر بكل شيء في الوجود ولا يرى
لغيره من ابناء نوعه وجنسه من البشر اي حق في الحياة ، ولا ايّ شأن وقيمة تذكر ،
وذلك هو ما يصطلح عليه بالاستكبار والاستعلاء ، والاحساس بالتفوق ، والغطرسة. وهذا هو بعينه ما حصل
لقريش بعد اندحار جيش « ابرهة » وهلاكه ، وهلاك جنده بذلك الشكل العجيب الرهيب. فقد عزمت قريش منذ ذلك
اليوم ـ وبهدف إثبات تفوقها وعظمتها للآخرين ـ ، على أن تلغي أي احترام لأهل
الحلّ لانهم كانوا يقولون : ان جميع العرب محتاجون إلى معبدنا ، وقد رأى العرب
عامة كيف اعتنى بنا آلهةُ الكعبة ، خاصة ، وكيف حمتنا من الاعداء!! ومن هنا بدأت قريش تضيّق على كل من
يدخل مكة من أهل الحل للعمرة أو الحج ، وتتعامل معهم بخشونة بالغة ، وديكتاتورية
شديدة ففرضت على كل من يريد دخول مكة للحج أو العمرة أن لا يصطحب معه طعاماً من
خارج الحرم ، ولا يأكل منه ، بل عليه أن يقتني من طعام أهل الحرم ، ويأكل منه ،
وأن يلبس عند الطواف بالبيت من ثياب أهل مكة التقليدية القومية ، أو يطوف
عرياناً بالكعبة إن لم يكن في مقدوره شراؤها واقتناؤها ، ومَن كان يَرفُض الخضوع
لهذا الأمر ، مِن رؤساء القبائل وزعمائها ، كان عليه أن ينزع ثيابه ـ بعد
انتهائه من الطواف ـ ويلقيها جانباً ، ولا يحق لأحد ان يمسها أبداً لا صاحبها
ولا غيره (وكانت تسمّى عندهم « اللّقى ».).
اما النساء فكان يجب عليهن إذا أردنَ
الطواف أن يُطفنَ عراة على كل حال ، وان يضعن خرقة على رؤوسهن وَيُردِّدنَ البيت
التالي في اثناء الطواف :
ثم إنه لم يكن يحق لأيّ يهودي أو
مسيحي ـ بعد هزيمة « ابرهة » الّذي كان هو أيضاً مسيحياً ـ أن يدخل مكة إلاّ أن
يكون أجيراً لمكيٍّ ، وحتّى في هذه الصورة كان يجب عليه أن لا يتحدّث في شيء من
أمر دينه ومن أمر كتابه. لقد بلغت النخوةُ والعصبية بقريش
حداً جعلتهم يتركون بعض مناسك الحج الّتي كان يجب الإتيان بها خارج الحرم!! لقد أنفوا منذ ذلك اليوم أن يأتوا
بمناسك عرفة (الكامل في التاريخ : ج 1 ، ص 266.)
كما
يفعل بقية الناس فتركوا الوقوف بعرفة ، والافاضة منها مع أن آباءهم ( من ولد إسماعيل
) كانوا يُقّرون أنها من المشاعر والحج ، وكانت هيبة قريش وعظمتها الظاهرية رهنٌ
ـ برمتها ـ بوجود الكعبة بين ظهرانيها ، وبوظائف الحج ومناسكه هذه ، إذ كان يجب
على الناس في كل عام أن يأتوا إلى هذا الوادي الخالي عن الزرع وهذه الصحراء
اليابسة لأداء المناسك ، إذ لو لَم يكن في هذه النقطة من الأَرض أىُ مطاف أو
مشعر لما رغب احد حتّى في العبور بها فضلا عن المكث فيها عدة ايام وليال. لقد كان ظهورُ مثل هذا الفساد
الاخلاقي وهذا الموقف المتعصِّب من الآخرين أمراً لابدَّ منه بحسب المحاسبات
الاجتماعية. فالبيئة المكيّة لابد أن تغرق في
الفساد والانحراف حتّى يتهيأ العالم لانقلاب أساسيّ ونهضة جذرية. إن كل ذلك الانفلات الاخلاقي والترف
والانحراف كان يهيء الارضية ويعدّها لظهور مصلح عالمي ، أكثر فاكثر. ولهذا لم يكن غريباً
أن يغضب « أبو سفيان » فرعون مكة وطاغيتها على « ورقة بن نوفل » حكيم العرب
الّذي تنصر في اُخريات حياته واطلع على ما في الانجيل ، كلما تحدَّث عن اللّه
والانبياء ويقول له : « لا حاجة إلى مثل هذا الاله وهذا النبي ، تكفينا عناية
اصنامنا »!! |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
عَبدُ
اللّه والدُ النبيّ :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
يوم فدى « عبدُالمطلب
» ولده « عبد اللّه » بمائة من الابل نحرها ، وأطعم الناس في سبيل اللّه ، لم
يكن يمض من عمر « عبد اللّه » اكثر من اربعة عشر ربيعاً ، وقد تسبَّبَتْ هذه
الواقعةُ في أن يكتسب « عبدُ اللّه » شهرة خاصة بين عشيرته مضافاً إلى شهرته
الكبرى بين قريش ، وأن يحظى بمكانة كبيرة عند أبيه : «
عبد المطلب » بنحو خاص ، لأن ما يُكلِّفُ الإنسان غالياً ، ويتحملُ في سبيله
عناء اكثر لابدَّ أن يحظى لديه بمكانة اكبر ، ويحبّه محبة تفوقُ المتعارف. ومن هنا كان « عبدُ اللّه » يتمتعُ
باحترام يفوق الوصف بين أبناء عشيرته وأفراد عائلته وأقربائه. ثم إن « عبدَ اللّه » يوم كان يتوجه
برفقة والدهِ إلى المذبح كان يعاني من مشاعر وأحاسيسَ متناقضة ومتضادة ، فهو من
جانب كان يُكِنّ لوالده احتراماً كبيراً وحباً شديداً ، ولهذا لم يكن يَجدُ بداً
من طاعته ، والانصياع لمطلبه ، بينما كان من جانب آخر يعاني من قلق ، واضطراب
شديدين على حياته الّتي كان يرى كيف تعبث بها يدُ القدر ، وتكادُ تقضي عليها كما
يقضي الخريفُ على كما أن « عبد المطلب »
نفسه كان هو الآخر تتجاذبه قوتان متضادتان : قوةُ الايمان والعقيدة من جانب ،
وقوةُ العاطفة والمحبة الأبوية من جانب آخر ، وقد أوجدَت
هذه الواقعة في نفسي هاتين الشخصيتين آثاراً مُرّة يصعُب زوالها ، بيد أن تلك
المشكلة حيث عولجت بالطريقة الّتي ذكرناها ونجا « عبد اللّه » من الموت المحقق
فكر « عبد المطلب » فوراً في ان يغسل عن قلب « عبد اللّه » تلك المرارة القاسية
بزواج « عبد اللّه » بآمنة ، وبذلك يقوّي من عرى حياته الّتي بلغت درجة الانصرام
، بأقوى السُبُل ، وأمتن الوسائل. ومن هنا توجّه « عبد
المطلب » إلى بيت « وهَب بن عبدمَناف » ـ فور رُجوعه من المذبح آخذاً بيد ولده
عبد اللّه ـ وعقد لولده على « آمنة بنت وَهَب » الّتي كانت تُعرَفُ بالعِفة ،
والطُهر ، والنجابة ، والكمال. كما أنه عقد لنفسه ـ في ذات المجلس ـ
على « دلالة » ابنة عم آمنة ، ورُزقَ منها « حمزة » عمّ رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
والمشابه له في السن (تاريخ الطبري : ج 2 ، ص 7 والمذكور في هذا المصدر « هالة ».).
غير أن الاستاذ المؤرخ
« عبدالوهاب النجار » المدرس بقسم التخصص في الازهر الّذي صحح « التاريخ الكامل
» لابن الاثير ، وعلَّق عليه بملاحظات وهوامش مفيدة
شكك في صحة هذه الرواية ، واستغربها ، وقال : لا أظنُ أنه يصحّ شيء في هذه
الرواية ، إذ المعقولُ أن يتريث « عبد المطلب » بعد ذلك المجهود المضني حتّى
يريح نفسه ثم يذهب ليخطب لابنه (الكامل في التاريخ : ج 2 ، ص 4 ، قسم الهامش.).
ولكنَّنا نعتقد بأن المؤرخ المذكور
لو نَظرَ إلى المسألة مِن غير هذه الزاوية لسَهُل عليه التصديقُ بهذه الرواية. ثم أن « عبد المطَّلب » عَيَّن
موعداً للزفاف ، وعند حلول ذلك الموعد تمّت مراسمُ الزفاف في بيت « آمنة » طبقا
لما كان متعارفاً عليه في قريش ، ولبث « عبد اللّه » مع « آمنة » ردحاً من الزمن
حتّى سافر إلى الشام للتجارة ، وعند عودته توفّي اثناء الطريق كما ستعرف. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
دَورُ
الأَيادي المشْبُوهَة في تاريخ الإسلام :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لا شك أَنَّ التاريخ سَجَّلَ في
صفحاته كلَ ما يتعلق بالشعوب والاقوام من نقاط مضيئة أو مظلمة ، كقصص للعبرة
والعظة. ولكن الحب والبغضَ
تارة والتساهل والبدعة تارة اُخرى وحب اظهار المقدرة وابراز القوة الأدبية تارة
ثالثة وغير ذلك من العوامل والاسباب عملت عملها فتدخلت ـ في جميع الأدوار
والعصور ـ في صياغة التاريخ ، وخلَطت الغث بالسمين والحقيقة بالخرافة ،
وتلك هي مشكلة كبرى تقع في طريق المؤرخ
الّذي يريد عرض حوادث التاريخ في أمانة وإستقامة ، ولذلك
يجب عليه أن يميز الحق عن الباطل ، والصدق عن الكذب من خلال الأخذ بالموازين
العلمية ، والممارسة الكاملة للتاريخ. ولقد
كان للعوامل المذكورة تاثير ايضاً في تدوين التاريخ الإسلامي ،
فالأيادي المريبة المشبوهة عملت على تحريف الحقائق في هذا المجال ، بل وربما عمد
بعض الاصدقاء ـ بهدف تعظيم شأن النبيّ الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم
إلى نسبة بعض الاُمور الّتي يظهرُ عليها آثار الاختلاق والإفتعال إليه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وهو منها بُراء. فقد جاء في التاريخ
أن نور النبوَّة كان يسطع في جبين « عبد اللّه » والد النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
دائماً (السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 39.)
،
كما نقرأ أن « عبد المطلب » كان يأخذ بيد ولده « عبد اللّه » في سنين الجدب
والقحط ، ويصعد الجبل ويستسقي متوسِّلا إلى اللّه بالنور الّذي كان بيّنا في
جبين « عبد اللّه » (الكامل في التاريخ : ج 2 ، ص 4.)
فهذا هو ما كتبه وسجَّله كثيرٌ من علماء الشيعة والسنة في مؤلفاتهم ، ونحن لا
نملك اي دليل على عدم صحته. ولكن هذه القصة وقعت
أساساً لبعض الاساطير التى لا يمكن ان نقبل بها مطلقاً واليك فيما يأتي ما
الحِقَ بهذه القضية التاريخية الثابتة. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قِصَّة فاطمة
الخَثعَمِيَّة :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
و « فاطمةُ » هذه هي
أختُ « ورَقَة بن نوفل » الّذي كان من حكماء العرب وكُهّانهم
، وكان له معرفة كبيرة بالإنجيل. وقد ضبط التاريخ حديثه مع خديجة في بدء بعثة
الرسول الاكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم
وسوف نشير إليه في محله من هذا الكتاب. وكانت « فاطمة » اخت «
ورقة » قد سمعت من أخيها عن نبوة رجل من احفاد « اسماعيل » ، ولهذا ظلّت تنتظر ،
وتبحث. وذات يوم وعندما كان «
عبد المطلب » متوجها إلى بيت آمنة بنت وهب بعد
قفوله ومنصرفه من المذبح وهو آخذ بيد « عبد اللّه » ، شاهدت « فاطمة الخثعمية »
ـ الّتي كانت تقف على مقربة من منزلها ـ النور الساطع من جبين « عبد اللّه » ،
والّذي كانت تنتظره مدة طويلة وتبحث عنه بشوق ، فقالت : اين تذهب يا عبد اللّه؟
لكَ مِثلُ الإبل الّتي نحِرَت عنك ، وقعْ عليَّ الآن. فقال : أنا مع أبي ولا استطيع خلافه
وفراقه!! (تاريخ الطبري : ج 2 ، ص 5.).
ثم تزوج « عبد اللّه » بآمنة في نفس
ذلك اليوم ، وقضى معها ليلة واحدة. ثم في الغد من ذلك اليوم أتى المرأة
« الخثعمية » الّتي عرضت نفسها عليه ، وأبدى استعداده لتنفيذ رغبتها ، ولكن «
الخثعمية » قالت له : ليس لي بك اليوم حاجة ، فلقد فارقك النورُ الّذي كان مَعك
أمس!! (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 156 النصّ والهامش.).
وقيل : إنه لمّا عرضت تلك المرأة «
الخثعمية » على « عبد اللّه » ما عرضت أجابها « عبد اللّه » بالبداهة ببيتين من
الشعر هما :
ولكن لم تمر ثلاثة من زواجه بآمنة ،
واقامته عندها حتّى دعته نفسُه إلى ان يأتي الخثعمية ، وعرض نفسه عليها قائلا :
هل لك فيما كنت اردت؟ فقالت : لقد رأيت في وجهك نوراً فاردت ان يكون لي فابى
اللّه الاّ أن يجعله حيث اراد فما صنعت بعدي؟ قال : زوَّجني أبي « آمنة بنت وهب
»!! (تاريخ الطبري : ج 2 ، ص 7 ، والكامل في التاريخ : ج 2 ، ص 4.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
علائم الإختلاق في
هذه القصة!
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد غَفل مختلِقُ هذه
القصة عن اُمور كثيرة عند صياغته لها ، ولم يستطع اخفاء آثار الاختلاق عنها. فلو كان يكتفي بالقول ـ مثلا ـ بان «
فاطمة » صادفت « عبد اللّه » ذات يوم في زقاق من الأزقة ، أو سوق من الاسواق ،
وشاهدت نورَ النبيّ ساطعاً من طلعته ففكرت في الزواج به رغبة في ذلك النور لكان
من الممكن التصديق بهذه القصة ، بيدَ أن نصَ القصة جاء بصورة لا يمكن القبول بها
للأسباب التالية : 1 ـ ان هذه القصة تفيد أنَّ المرأة «
الخثعمية » عند ما عرضت نفسها على « عبد اللّه » ، كانت يد « عبد اللّه » في يد
والده « عبد المطلب » ، فكيف يمكن ان تعرض تلك الفتاة نفسَها عليه وتبين مطلوبها
له ويدور بينهما ما يدور ، ولا يحسُ عليهما عبد المطلب؟! ثم الم تستحِ من عظيم قريش « عبد
المطلب » الّذي لم يثنه عن طاعة اللّه تعالى شيء حتّى مقتلُ ولده وذبحه. ولو قلنا أن مطلبها كان حلالاً
مشروعاً فان ذلك لا ينسجم مع البيتين من الشعر اللَّذين ردّ بهما « عبد اللّه »
طلبها. 2 ـ والأصعب من ذلك قصة عبد اللّه
نفسه. فان ولداً مثل « عبد اللّه » يحترم والده إلى درجة الاستعداد لأن يُذْبَحَ
وفاءً لنذر والده ، كيف يمكن أن يتفوّه في حضرة والده بما نُقِلَ عنه؟! ترى أيمكن لشاب نجا لتوّه من السيف
والذبح ، ولا يزال يعاني من آثار الصدمة الروحية أن يستجيب لرغبات امرأة ، أو
يبدي استعداده ورضاه القلبيّ لذلك لولا وجود والده معه؟!! ترى هل كانت تلك
المرأة جاهلة بالظروف ، لا تقدّر الاحوال ، ولا تعرف الوقت المناسب لطرح مطلبها
، أو أنَّ مختلق هذه القصة غَفل عن نقاط الضعف البارزة هذه؟!! ثم إن ممّا يفضح هذه
القصة ويُظهر بطلانها ما جاء في الصورة الثانية لها ،
فان عبد اللّه ـ كما لا حظنا جابه طلب تلك المرأة ببيتين من الشعر وقال ما حاصله
بأن الموت أسهل عليه من ارتكاب هذا الفعل الحرام الّذي يأتي على دين الرجل وشرفه
، فكيف يجوز لمثل هذا الشاب الطاهر الغيور أن يقع فريسة لتلك الأهواء ، والرغبات
الرخيصة الفاسدة ، والحال انه لم ينقض من زواجه اكثر من ثلاث ليال ، وتدفعه
غريزته الجنسية إلى ان يبادر إلى بيت المرأة الخثعمية. إنَّ ماجابَه به « عبد اللّه » دعوة
تلك المرأة ، وما جاء في ذينك البيتين من الشعر اللذين يطفحان بالغيرة ، والإباء
، لخيرُ دليل على طهارة « عبد اللّه » وعفته ، وتقواه ، وترفعه عن الآثام
والادران ، وابتعاده عن الانجاس والادناس. وقد علّق الاستاذ العلامة « النجار »
على هذه الاسطورة بقوله : « ليس من المعقول أن يذهب عبد اللّه يبغي الزنا في
الساعة الّتي تزوج فيها ، ودخل فيها على امرأته ». ولكن الاستاذ « النجار
» أخطأ في تشكيكه في النور النبويّ الساطع في جبين « عبد اللّه » حيث قال معقباً
على كلامه السابق : « ولكنها مسألة النور في وجهه
يريدون إثباتها ورسول اللّه غني عن هذا كله » (هامش الكامل في التاريخ : ج 2 ، ص 4.).
فان ذلك ممّا رواه
جميع المؤرخين بلا استثناء ، فلا داعي ولا وجه للتشكيك فيه! |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
طهارة
النبيّ من دنس الآباء وعهر الاُمهات :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وينبغي هنا ـ وبالمناسبة ـ ان نشير
إلى مسألة مهمة في تاريخ النبيّ الكريم صلىاللهعليهوآلهوسلم ألا وهي
طهارة النسب النبوي من دنس الآباء ودناءتهم وعهر الامّهات وفسادهن فلا يكون في
اجداده وجدّاته سفاح ، وزنا. وهذا ممّا اتفق عليه
المسلمون ، بعد ان دلّ عليه العقل إذ لو لم يكن النبيّ منزها
عن دناءة الاباء وعهر الامّهات لتنفر عنه الطباع ولم يرغب احد في متابعته ،
والانقياد لاوامره ونواهيه. ولقد صرح رسول الإسلام صلىاللهعليهوآلهوسلم
بذلك في احاديث رواها السنة والشيعة. فقد جاء عن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
انه قال : « نقلت من الاصلاب الطاهرة إلى
الارحام الطاهرة نكاحاً لا سفاحاً » (كنز الفوائد : ج 1 ، ص 164.).
وجاء ايضاً انه صلىاللهعليهوآلهوسلم
قال : « لم يزل اللّه ينقلني من الأصلاب
الحسيبة إلى الأرحام الطاهرة » (السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 43.).
وقال الإمام
اميرالمؤمنين علي بن ابي طالب عليهالسلام
: « وأشهد اَنّ محمَّداً عبدُه ورسولُه
وسيّدُ عباده كلما نسخَ اللّه الخلقَ فرقتين جعله في خيرهما لم يسهِم فيه عاهرٌ
، ولا ضربَ فيه فاجرٌ » (نهج البلاغة : الخطبة 215 ، طبعة عبده.).
وقال الإمام الصادق عليهالسلام في هذا
الصدد عند تفسير قول اللّه تعالى : «
وتقلّبَكَ في السَّاجِدينَ » : (الشعراء : 219.)
« في أصلاب النبيّين ، نَبي بعد نبي
، حتّى اخرجه من صلب ابيه عن نكاح غير سفاح من لدن آدم » (تفسير مجمع البيان عند تفسير الآية.).
وقد صرح علماء الإسلام من الفريقين
بهذا الأمر ، واشترطوه في النبيّ. تجريد الاعتقاد :
ويجب في النبيّ العصمة ... وعدم السهو ، وكل ما ينفّرُ عنه من دناءة الآباء وعهر
الاُمّهات ... (كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد : ص 349 تحقيق الشيخ حسن زاده
الآملي.).
وقد وافقه على هذا العلامة القوشجي
الاشعري في شرح التجريد (راجع : شرح القوشجي لتجريد الاعتقاد : ص 359.).
وقال العلامة المتكلم المقداد
السيوري في اللوامع الالهية : ويجب أن لا يكون مولوداً من الزنا ولا في آبائه
دنيّ ولا عاهر (اللوامع الالهية : ص 311.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وفاةُ
عَبْد اللّه في « يَثْرب » :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد بَدَأ « عبدُ اللّه » بالزواج
فصلا جديداً في حياته ، وأضاء ربوعها بوجود شريكة للحياة في غاية العفة والكمال
هي زوجته الطاهرة « آمنة » وبعد مدة من هذا الزواج المبارك توجه في رحلة تجارية
ـ وبصحبة قافلة ـ إلى الشام بهدف التجارة. دقت أجراسُ الرحيل ، وتحركت القافلة
التجارية وفيها عبد اللّه ، وبدأت رحلتها من « مكة » صوب الشام ، وهي مشدودة
بمئات القلوب والافئدة. وكانت « آمنة » تمر في
هذه الايام بفترة الحمل ، فقد حملت من زوجها « عبد اللّه ». وبعد مُضيّ بضعة أشهر طلعت على مشارف
مكة بوادر القافلة التجارية وهي عائدة من رحلتها ، وخرج جمع كبير من أهل مكة
لاستقبال ذويهم المسافرين العائدين.ها هو والد « عبد اللّه » ينتظر ـ في
المنتظرين ـ ابنه « عبد اللّه » ، كما ان عيون عروسة ولده « آمنة » هي الاُخرى
تدور هنا وهناك تتصفح الوجوه وتبحث عن زوجها الحبيب « عبد اللّه » في شوق لا
يوصف. ولكن ومع الأسف لا
يجدان أثراً من « عبد اللّه » بين رجال القافلة!! وبعد التحقيق يتبين أن « عبد اللّه »
قد تمرّض أثناء عودته في يثرب ، فتوقف هناك بين اخواله لكي يستريح قليلا ، فاذا
تماثل للشفاء عاد إلى أهله في « مكة ». وكان من الطبيعي أن يغتم هذان
المنتظران « عبد المطلب وآمنة » لهذا النبأ ، وتعلو وجهيهما آثار الحزن ، والقلق
وتنحدر من عيونهما دموع الأسى والاسف. فأمرَ « عبدُ المطّلب
» اكبر ولده : « الحارث » إلى أن يتوجَّه إلى « يثرب » ، ويصطحب معه « عبد اللّه
» إلى مكة. ولكنه عند ما دخل يثرب عرف بأن أخاه
: « عبد اللّه » قد توفي بعد مفارقة القافلة له بشهر واحد ، فعاد الحارث إلى مكة
، فاخبر والده « عبد المطلب » ، وكذا زوجته العزيزة « آمنة » بذلك ، ولم يخلف «
عبد اللّه » من المال سوى خمسة من الابل ، وقطيع من الغنم ، وجارية تدعى « اُم
أيمن » صارت فيما بعد مربية النبيّ الاكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم
(تاريخ الطبري : ج 2 ، ص 7 و 8 ، والسيرة الحلبية : ج 1 ، ص 50.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
5
مَولدُ رَسُول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
كانت سُحُبُ الجاهلية الداكنة تُغطّي
سماء الجزيرة العربية ، وتمحي الاعمالُ القبيحةُ والممارساتُ الظالمة ، والحروبُ
الداميةُ ، والنهبُ والسلبُ ، ووأدُ البنات ، وقتلُ الاولاد ، كلَ فضيلة
أخلاقية. في البيئة العربية وكان المجتمع العربيّ قد اصبح في منحدر عجيب من
الشقاء ، ليس بينهم وبين الموت الاّ غشاء رقيق ومسافة قصيرة!! في هذا الوقت بالذات طلع عليهم شمس
السعادة والحياة فاضاءت محيط الجزيرة الغارق في الظلام الدامس ، وذلك عندما
اشرقت بيئة الحجاز بمولد النبيّ المبارك « محمَّد » صلىاللهعليهوآلهوسلم
وبهذا تهيأَت المقدمات اللازمة لنهضة قوم متخلف طال رزوحُه تحت ظلام الجهل ،
والتخلف ، وطالت معاناته لمرارة الشقاء. فانه لم يمض زمن طويل الاّ وملأ نور هذا
الوليد المبارك ارجاء العالم واسس حضارة انسانية عظمى في كل المعمورة. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
فترةُ
الطُفولة في حَياة العُظماء :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ان جميع الفصول في حياة العظماء
جديرةٌ بالتأمل ، وقمينة بالمطالعة ، فربما تبلغ العظمة في شخصية احدهم من السعة
، والسموّ بحيث تشمل جميعُ فصول حياته بدء من الطفولة ، بل وفترة الرضاع فتكون
حياته وشخصيته برمتها سلسلة متواصلة من حلقات العظمة. إن جميع الأدوار ، والفترات في حياة
العظماء ، والنوابغ وقادة المجتمعات البشرية ، وروّاد الحضارات الإنسانية
وبُناتها تنطوي في الأغلب على نقاط مثيرة وحساسة وعلى مواطن توجب الاعجاب. إن صفحات تاريخهم وحياتهم منذ اللحظة
الّتي تنعقد فيها نطفهم في أرحام الاُمهات ، وحتّى آخر لحظة من أعمارهم مليئة
بالاسرار ، زاخرة بالعجائب. فنحن كثيراً ما نقرأ عن اُولئك
العظماء في أدوار طفولتهم أنهما كانت تقارن سلسلة من الامور العجيبة ، والمعجزة.
ولو سهل علينا التصديق بهذا الامر في
شأن الرجال العاديين من عظماء العالم لكان تصديقنا بأمثالها في شأن الانبياء
والرسل اسهل من ذلك بكثير ، وكثير. إن القرآن الكريم ذكر
فترة الطفولة في حياة النبيّ موسى عليهالسلام
في صورة محفوفة بكثير من الأسرار ، فهو
يقول ما خلاصته : ان مئآت من الاطفال قُتِلوا وذُبحوا
بامرْ من فرعون ذلك العصر منعاً من ولادة موسى ونشوئه. ولكن ارادة اللّه شاءت ان يُولد
الكليم ، وظلت هذه المشيئة تحفظه من كيد الكائدين ولهذا لم يعجز اعداؤه عن
القضاء عليه أو الحاق الاذى به فحسب ، بل تربى في بيت فرعون أعدى اعدائه. يقول القرآن الكريم في هذا الصدد : «
وَلَقد مَننّا عَلَيْكَ مَرّة اُخرى
إذْ أَوْحَيْنا إلى اُمِّكَ ما يُوحَى أَن أقذفيهِ في التابُوت فاقذفيه في
اليمَّ فَليُلْقِهِ اليمُّ بِالْساحِلَ ياخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وعَدوُ لَهُ
وَأَلقَيْتُ عَلَيْكَ مَحبَّةً مِنّي وَلِتُصنَعَ عَلى عَيْني ».
ثمّ يقول : « إذْ تَمشِيْ اُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أدُلّكُمْ
عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجعْناكَ إلى اُمِّكَ كيْ تَقَرَّ عَينُها وَلا تَحْزنْ
» (طه : 37 ـ 40.).
ثمّ إن القرآن الكريم يذكر قصة ولادة
المسيح ، ويصور طفولته ونشأته بشكل أعجب إذ يقول : «
وَاذْكُر في الكتاب مرَيَم إذ
اْنتَبذَتْ مِنْ أهلهَا مَكاناً شَرْقيّاً. فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونهمْ حِجَاباً
فأَرسَلْنا إليها رُوحَنا فَتَمثَّلَ لَها بَشَراً سَويّاً. قالَت إنّي أعُوذُ
بالرَّحْمن مِنْكَ إنْ كُنْتَ تَقيّاً قالَ إنَّما أنا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهبَ
لَكِ غُلاماً زكيّاً. قالَت أَنّى يَكُونُ لي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ
وَلَمْ أكُ بَغِيّاً. قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَليَّ هَيِّنٌ وَلنجعلَهُ
آية لِلنّاسِ وَرَحمَةً مِنَّا وَكانَ أمْراً مَقْضِيّاً. فَحَملَتْهُ
فانتَبِذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيّاً. فاَجاءها الَمخاضُ إلى جِذْع النَخلة قالَت
يالَيتَني مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنتُ نَسْياً مَنْسِيّاً. فَنادَاهَا مِنْ تَحْتِها
ألا تحزَني قَدْ جَعَلَ رَبُّكَ تَحتَكِ سَريّاً. وَهُزِّي إلَيْكِ بِجذْع
النَخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطباً جَنيّاً. فَكُلي واْشرَبي وَقَرّي عَيْناً
فَإمّا ترينَّ مِنَ البَشَر أحداً فقُولي إنّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً
فَلَنْ اُكلِّمَ الْيَوْمَ إنسِيّاً. فَأتتْ بهِ قَوْمَها تَحمِلُه قالُوا يا
مَرْيَمُ لَقَدْ جِئتِ شَيئاً فَريّاً. يا اُخْتَ هارُونَ ما كانَ أبوكِ امْرَأَ
سَوء وَما كانَتْ اُمُّكِ بَغِيّاً. فأشارَتْ إليْهِ قالُوا كَيفَ نُكَلِّمُ
مَنْ كانَ في المَهْدِ صَبيّاً. قالَ إنّي عَبْدُ اللّه آتانِيَ الْكِتابَ
وَجَعلَني نَبيّاً. وَجَعلَني مُباركاً أينَ ما كُنْتُ وَأوْصَانِي بِالصَّلاة
وَالزَّكاة مادُمْتُ حَيّاً. وَبَرّاً بوالِدتي وَلَمْ يَجْعَلْني جَبّاراً
شَقِيّاً. وَالسَّلامُ عَليّ يَومَ وُلِدتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ اُبْعَث
حَياً » (مريم : 16 ـ 33.).
فإذا كان أتباع القرآن والتوراة
والانجيل يشهدون بصحة هذه المطالب حول ولادة هذين النبيين العظيمين من اولي
العزم لموسى وعيسى عليهماالسلام
، ويقرون بصدقها ، فلا يصحّ في هذه الصورة أن نستغرب وقوع أمثالها في شأن رسول
الإسلام ، ونتعجب من الحوادث العجيبة الّتي سبقت أو رافقت ميلاده المبارك ،
ونعتبرها اُموراً سطحية لا تدل على شيء. فنحن نقرأ في الكتب
التاريخية وفي كتب الحديث عن وقوع حوادث عجيبة يوم ولادة النبيّ الكريم صلىاللهعليهوآلهوسلم مثل : ارتجاس
أيوان كسرى ، وسقوط اربع عشرة شرفة منه ، وانخماد نار فارس الّتي كانت تُعبد ،
وانجفاف بحيرة ساوة ، وتساقط الاصنام المنصوبة في الكعبة على وجوهها ، وخروج نور
معه صلىاللهعليهوآلهوسلم
اضاء مساحة واسعة من الجزيرة ، والرؤيا المخيفة الّتي رآها انوشيروان ومؤبدوه ،
وولادة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم مختوناً
مقطوع السُرّة ، وهو يقول :
« أللّه اكبر ، والحمدُ للّه كثيراً ، سُبحان اللّه بكرة وأصيلا ». وقد وردت جميع هذه الامور في المصادر
التاريخية الأُولى ، والجوامع الحديثية المعتبرة (تاريخ اليعقوبي : ج 2 ، ص 5 ، بحار الأنوار : ج 15 ، ص 248 ـ 331 ،
السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 67 ـ 78 وغيرها.).
ومع ملاحظة ما ورد في
حق موسى وعيسى ونقلنا بعضه هنا ، لا يبقى أيّ مجال للشك في صحة هذه الحوادث. نعم ينبغي أن نسأل هنا
:
ماذا كانت تهدف هذه الحوادث غير العادية؟ وفي الاجابة على هذا السؤال يجب ان
نقول : إن هذه الحوادث
الخارقة والعجيبة كانت تهدف إلى أمرين : الأول : أن تدفع بالجبابرة ، والوثنيين
وعَبدة الاصنام إلى التفكير فيما هم فيه فيسألوا أنفسهم : لماذا انطفأت نيرانُهم
الّتي طالما بقيت مشتعلة تحرسها اعيان السَدنة والكهنة؟ لماذا سبّبت هزةٌ خفيفةٌ في ارتجاس
ايوان كسرى العظيم المحكم البنيان ، ولم يحدث لبيت عجوز في نفس ذلك البلد شيء؟ لماذا تهاوت الاصنامُ المنصوبة في
الكعبة وحولها ، وانكبَّت على وجودهها بينما بقيت غيرها من الاشياء على حالها لم
يصبها شيء ابداً؟ لو كانوا يفكرون في تلك الحوادث
لعرفوا أن تلك الحوادث كانت تبشّر بعصر جديد ... عصر انتهاء فترة الوثنية وزوال
مظاهر السلطة الشيطانية واندحارها؟ الثاني
:
ان هذه الحوادث جاءت لتبرهن على شأن الوليد العظيم ، وانه ليس وليداً عادياً ،
فهو كغيره من الانبياء العظام الذين رافقت مواليدهم أمثال تلك الحوادث العجيبة ،
والوقائع الغريبة ، كما يخبر بذلك القرآن الكريم فيما يحدثه عن حياة الانبياء ـ
كما عرفت ـ وتخبر بها تواريخ الشعوب والملل المسيحية واليهودية. واساساً لا يلزم ان تكون تلك الحوادث
سبباً للعبرة ووسيلة للاتعاظ يوم وقوعها ، بل يكفي ان تقع حادثة في احدى السنين
، ثم يعتبرُ بها الناس بعد أعوام عديدة ، وقد كانت حوادثُ الميلاد النبويّ من
هذه المقولة ، لأن الهدف منها كان هو ايجاد هزة في ضمائر اُولئك الناس الذين
كانوا قد غرقوا في اوحال الوثنية ، والظلم ، والانحراف الاخلاقي حتّى قمة رؤوسهم
، وعشعشت الجهالة والغفلة في اعماقهم حتّى النخاع. إن الذين عاشوا في عصر الرسالة ، أو
من اتى من بعدهم عندما يسمعون نداء رجل نهض ـ بكل قواه ـ ضدّ الوثنية ، والظلم ،
ثم يطالعون سوابقه ، ويلاحظون إلى جانب ذلك ما وقع ليلة ميلاده من الحوادث
العظيمة الّتي تتلاءم مع دعوته ، فانهم ولا شك سيعتبرون تقارن هذين النوعين من الحوادث
دليلا على صحة دعواه ، وصدق مقاله فيصدِّقونه ، وينضوون تحت لوائه. إن وقوع أمثال هذه
الحوادث الخوارق عند ميلاد الانبياء مثل « إبراهيم » و « موسى » و « المسيح » و
« محمَّد » صلّى اللّه عليه وعليهم اجمعين لا يقل اهمية عن وقوعها في عصر
رسالتهم ونبوتهم ، فهي جميعاً تنبع من اللُطف الالهي ، وتتحقق لهداية البشرية ، وجذبها إلى
دعوة سفرائه ورسله. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
في أيّ يوم وُلدَ
رَسُولُ اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم؟
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد اتّفق عامّة كُتّاب السيرة على
أن ولادة النبيِّ الكريم كانت في عام الفيل سنة 570 ميلادية. لأنه صلىاللهعليهوآلهوسلم
رحل إلى ربه عام (632) ميلادية عن (62) أو (63) عاماً ، وعلى هذا الأساس تكون
ولادته المباركة قد وقعت في سنة (570) ميلادية تقريباً. كما أنّ اكثر المحدثين
والمؤرخين يتفقون على أنه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ولدَ في شهر ربيع الأول. انما وقع الخلاف في
يوم ميلاده ، والمشهور بين محدثي الشيعة أنه كان
يوم الجمعة السابع عشر من شهر ربيع الأول بعد طلوع الفجر. والمشهور بين أهل
السنة
أنه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وُلدَ في يوم الاثنين الثاني عشر من ذلك
الشهر(وقد ذكر المقريزي في « الامتناع » ص 3 جميع الاقوال المذكورة في يوم
ميلاد النبي وشهره وعامه ، فراجع.). |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أيُّ هذين القولين
هو الصحيح؟
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ان من المؤسف جداً أن يعاني التقويم
الدقيق لميلاد رسول الإسلام العظيم صلىاللهعليهوآلهوسلم
ووفاته بل مواليد ووفيات اكثر قادتنا وائمتنا لمثل هذا الارتباك ، وان لا تكون
اوقاتها وتواريخها محددةً معلومة على وجه التحقيق واليقين!. ولقد تسبب هذا الارتباك في أن لا
تستند اكثر احتفالاتنا ومآتمنا إلى تاريخ قطعي ، في حين نجد أن علماء الإسلام
كانوا يهتمون ـ عادة بتسجيل الوقائع الّتي حدثت على مدار القرون الإسلامية في
نظم خاص وعناية كبيرة ، ولكننا لا ندري ما الّذي منع من تسجيل مواليد هذه
الشخصيات العظيمة ووفياتهم على نحو دقيق ، وصورة قطعية؟! على أن مثل هذه
المشكلة يمكن حلها بدرجة كبيرة بالرجوع إلى أهل البيت عليهمالسلام ، فان اي
مؤرخ لو أراد ان يكتب عن حياة شخصيّة من الشخصيات واراد أن يُلمّ بكل تفاصيلها
ودقائقها لم يسمح لنفسه بان يفعل ذلك من دون ان يراجع ابناء أو اقرباء تلك
الشخصية الّتي يزمع ترجمتها والكتابة عنها. ولقد مضى رسولُ اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم وخلّف من بعده ذرية وقربى وهم الذين يطلق عليهم اهل البيت. واهل بيته يقولون : لو
كان صحيحاً وحقا ان رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
أبونا وجدنا ، وقد نشأنا في بيته وترعرعنا في حجره فاننا نقول انه قد ولد يوم
كذا وتوفي يوم كذا فهل يبقى بعد ذلك مجال لأن نتجاهل قولهم ورأيهم ، ونختار ما يقوله الآخرون من الأبعدين ،
وقديماً قالوا : أهل البيت ادرى بما في البيت؟ (ومن هنا لابد من الاعتراف بان ما ينقله ويكتبه الامامية من تفاصيل
تتعلق بحياة رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم هي اقرب من غيرها إلى الحقيقة
لأنها مأخوذة عن اقربائه وابنائه عليهمالسلام.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
فَتْرَةُ الحَمْل :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
المعروفُ أن النورَ النبويَ الشريف
استتقر في رحم آمنة ـ الطاهر في ايام التشريق وهي اليوم الحادي عشر والثاني عشر
والثالث عشر من شهر ذي الحجة (الكافي : ج 1 ، ص 439 أبواب التاريخ باب مولد النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
ووفاته.)
، ولكن هذا الامر لا ينسجم مع الرأي المشهور بين عامة المؤرخين من كون ولادة
النبيّ الاكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم
في شهر ربيع الأول ، إذ في هذه الصورة يجب ان نعتبر مدة حمل « آمنة » به صلىاللهعليهوآلهوسلم
إما ثلاثة أشهر واما سنة وثلاثة اشهر ، وكلا الامرين خارجان عن الموازين العادية
في الحمل ، كما أنه لم يعدّهُ احدٌ من خصائص النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
(قد ذكر الطريحي فقط في مجمع البحرين في مادة شرق قولا بهذا لم يُسم
قائله.).
ولقد عالَج المحققُ
الكبير الشهيد الثاني ( 911 ـ 966 هـ ) هذا الإشكال بالنحو التالي إذ قال : إنَ ذلك مبنيّ عَلى النسيُّ الّذي
كانوا يفعلونه في الجاهلية ، وقد نهى اللّه تعالى عنه ، وقال : « إنَّما النسيُّ
زيادَةٌ في الكُفْر ». وتوضيح هذا هو أن أبناء « إسماعيل »
كانوا تبعاً لاسلافهم يؤدون مناسك الحج في شهر ذي الحجة ، ولكنهم رأوا ـ في ما
بعد ـ أن يحجّوا في كل شهر عامين يعنى ان يحجوا في ذي الحجة عامين وفي
المحرم عامين وفي صفر عامين وهكذا. وهذا يعني أن الحج
يعود كل اربعة وعشرين سنة في موضعه الطبيعي ( اي شهر ذي الحجة ). وقد جرى العربُ المشركونَ على هذه
الطريقة حتّى صادفت أيامُ الحج شهر ذي الحجة في السنة العاشرة من الهجرة النبوية
فحج النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
في تلك السنة حجة الوداع ، فنهى في خطبة له عن هذه الفعلة ( الّتي تسمى بالنسيء بمعنى تأخير الحج عن موضعه وموعده )
فقال : « ألا وَإنَّ الزَّمان قد استَدارَ كَهيئتهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ
وَالأَرضَ السَّنة إثنا عشَرَ شَهراً ، مِنها أرْبَعَةٌ حُرُمٌ : ثَلاثٌ
مَتوالِياتٌ : ذوالقعدة وذوالحجة ، ومحرَّم ، ورجَب الّذي بَين جمادي وشعبان »
(مجمع البيان : ج 5 ، ص 29.).
وقد أراد صلىاللهعليهوآلهوسلم بذلك أن الأشهر الحرم رجَعت إلى مواضعها ، وعاد الحُج إلى ذي
الحجة وبَطل النسيء. ونزل في هذه المناسبة قولُ اللّه
تعالى : « إنَّما
النسيء زيادَةٌ في الكُفْر يُضَلُّ بِهِ الذَّينَ كَفَرُوا يُحلُّونَهُ عاماً
ويحرِّمُونهُ عاماً » (التوبة : 37.).
من هنا تنتقل أيامُ التشريق كلَ
سنتين من مواضعها ، على ما عرفت ، وحينئذ لا منافاة بين القول بأن نور النبيّ
انتقل إلى رحم اُمه « آمنة بنت وهب » في ايام التشريق ، وبين ما اجمع عليه عامة
المؤرخين من أنه وُلدَ في شهر ربيع الأول. وانما تكون المنافاة بين هذين الامرين
إذا كان المراد من ايام التشريق هو اليومُ الحادي عشر ، والثاني عشر ، والثالث
عشر من شهر ذي الحجة خاصة ، ولكن قلنا ان ايام التشريق كانت تنتقل من شهر إلى
آخر باستمرار ، فيلزم أن يكون عام
حمل اُمّه به ، وعام ولادته أيام الحج الواقعة في شهر جمادي الاولى ، وحيث أنه صلىاللهعليهوآلهوسلم وُلدَ في شهر ربيع الأَول
فتكون مدَة حمل « آمنة » به عشرة أشهر تقريباً. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
مُؤاخَذاتٌ
وإشكالاتٌ عَلى هذا البَيان :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إن النتيجة الّتي
توصّل اليها المرحومُ « الشهيد الثاني » ليست صحيحة ،
كما أن المعنى الّذي ذكره للنسيء لم يقل به من بين المفسرين إلا مجاهد ، واما الآخرون فقد فسَّروهُ
بنحو آخر فلا يكون التفسيرُ الّذي مَرَّ
قوياً ، وذلك : اوّلاً
:
لأن « مكة » كانت مركزاً لجميع الاجتماعات كما كانت معبداً للعرب جميعاً ، ولا
يخفى أنَّ تغيير الحج في كل سنتين مرةً واحدةً من شأنه أن يسبب الالتباسَ لدى
الناس ويوقعهم في الخطأ والاشتباه ، وبالتالي يتعرّض ذلك الاجتماع العظيم ، وتلك
العبادة الجماعية إلى خطر الزوال. ولهذا يُستَبعد ان ترضى قريش
والمكيّون بان يخضع ما هو وسيلة لعزتهم وافتخارهم للتغيير والتبدل الّذي من
عواقبه ان يتعرض وقته وموعده للنسيان ، فيذهب ذلك الإجتماع ، ويزول من الاساس. ثانياً
:
إذا أخضَعنا ما قاله « الشهيد الثاني » لمحاسبة دقيقة فان كلامه يستلزم ان تكون
ايام التشريق والحج في السنة التاسعة من الهجرة واقعة في شهر ذي القعدة لا جمادي
الاولى في حين أن اميرالمؤمنين عليّاً عليهالسلام
كُلِّفَ في هذه السنة بالذات بأن يقرأَ سورة البراءة على المشركين في ايام الحج
، والمفسرون والمحدثون متفقون على أنه عليهالسلام
تلاها عليهم في العاشر من شهر ذي الحجة ثم امهلهم اربعة اشهر ابتداء من شهر ذي
الحجة لا ذي القعدة (ولقد قام العلامة المجلسي في بحار الأنوار : ج 15 ، ص 253 بهذه
المحاسبة ، وان لم يشر إلى الإشكال الّذي أوردناه فليراجع.).
ثالثاً
:
ان النسيء يعني أنَّ العرب حيث لم يكن لديهم مصدر صحيح للرزق بل كانوا يعيشون في
الاغلب ، على النهب والغارة لهذا كان من الصعب عليهم ترك الحرب ، في الاشهر
الحرم الثلاث ( وهي ذوالقعدة وذوالحجة ، والمحرم ) لهذا ربما طلبوا من سدَنة
الكعبة بأن يسمحوا لهم بالقتال في شهر المحرم ، ثم يتركون الحرب في شهر صفر ،
وهذا هو معنى النسيء فلم يكن نسيء وتأخير للشهر الحرام في غير شهر محرَّم ، وفي
الآية نفسها اشارةٌ إلى هذا المطلب : « يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحرِّمُونَهُ
عاماً ». والّذي نراه في حل هذه
المشكلة هو : أن العرب كانوا يحجُّون في وقتين :
أحدهما شهر ذي الحجة ، والثاني شهر رجب ، وقد كانوا يؤدُّون كلَ مناسك الحج في
هذين الوقتين على السواء ، فيمكن أن يكون المقصودُ من حَمْل « آمنة » برسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
في ايام التشريق هو شهر رجب فإذا اعتبرنا يوم ولادته هو السابع عشر من شهر ربيع
الاول كانت مدة حمل « آمنة » به ثمانية أشهر واياماً. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الاحتفال
بذكرى المولد النبوي :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وينبغي ان يحتفل المسلمون جميعاً
بمولد النبي الاكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم
ويقيموا المهرجانات الكبرى في هذه المناسبة الشريفة الّتي كانت مبدأ الخير
والبركة ، ومنشأ السعادة والكرامة للبشرية جمعاء ، وأية مناسبة احرى بالاحتفال
والاحتفاء من هذ المناسبة؟ على ان اقامة مثل هذه
الاحتفالات هو نوع من تكريم رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم وهو امر مطلوب ومحبوب في
الشريعة المقدسة. فقد قال اللّه تعالى : « فالَّذين آمَنُوا بِه وَعَزَّرُوهُ وَنَصروُه
واتّبعُوا النُورَ الَّذي اُنزِل مَعَهُ اُولئكَ هُمُ الْمُفلِحُونَ
» (الأعراف : 157.).
وعزّر بمعنى كرَّم وبجّل كما في
اللغة (راجع مفردات الراغب : مادّة عزر.)
وهو لا يختص بزمان دون زمان ، فعلى المسلمين في كل وقت وزمان ان يعظّموا شأن
رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ويكرّمونه ، سواء في حياته أو بعد مماته ، لما له من فضل عظيم على الناس ، ولما
له من منزلة عند اللّه تعالى. كيف لا والاحتفال بميلاده لا يعني
سوى ذكر أخلاقه العظيمة ، وسجاياه النبيلة ، والاشادة بشرفه وفضله وهي اُمور
مدحه القرآن الكريم بها إذ قال سبحانه : « وإنّك
لَعلى خُلُق عظيم » (القلم : 4.)
وقال
تعالى أيضاً : « ورَفعنا لك
ذكرك » (الانشراح : 4.)
وغير ذلك من الآيات المادحة لرسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم.
فان الاحتفال بميلاد
رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
الّذي يتحقق بذكر صفاته وأخلاقه والاشادة به خير مصداق لرفع ذكره ، الّذي فَعلهُ
اللّه بنحومّا. ولو كان رفع ذكر النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
أمراً غير جائز ولا صحيح ، بل فعلا قبيحاً لما فعله اللّه ، فيكفي في حسنه وصحته
بل ومشروعيته ومطلوبيته ان اللّه تعالى فعله بالنسبة لنبيه صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وهل يكون الاحتفال بمولد رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
، واظهار السرور والشكر للّه تعالى بمقدم نبيه المبارك عبادة للنبيّ كما يزعم
البعض إذ يقول : « الذكريات الّتي ملأت البلاد باسم
الاولياء هي نوع من العبادة لهم وتعظيمهم » (فتح المجيد : ص 154 ، ثمّ نقل عن كتاب قرّة العيون ما يشابه هذا
المضمون.).
والحال ان العبادة في مفهومها
الاصطلاحي الموجب للشرك والكفر ليس إلاّ الخضوع لمن يُعتَقَدْ بالوهيته وتعظيمه
بهذه النية (راجع مفاهيم القرآن في معالم التوحيد : ص 404 ـ 440.)
واين هذا من ذكر فضائل النبي في يوم مولده والابتهاج بمقدمه والشكر للّه على
ولادته. ثم ان تعظيم رسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ينطلق من كونه عبداً مطيعاً للّه تعالى ، ادى رسالته
بصدق واخلاص ، وجسّد بسلوكه وسيرته كل مكارم الاخلاق اصدق تجسيد فالاحتفال
بمولده الكريم احتفال بالقيم السامية ، وشكر للّه على منّه ، واظهار للحب الكامن
في النفوس ليس إلاّ. والزعم بانه محرّم
لكونه بدعة ، أو لأنه لا يخلو عن اشتماله على منكرات ومحرمات كالرقص
والغناء فهو مرفوض ، مردود لان الكلام انما هو حول اصل الاحتفال مجرداً عن
المحرمات والمنكرات. ان الاحتفاء والاحتفال بمولد خاتم
النبيين رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
انما هو تكريم لمن كرّمه اللّه تعالى ، وامر بتكريمه ، وحث على احترامه وحبه ،
ومودته ، وانه بالتالي اداء شكر للّه تعالى على تلك الموهبة العظيمة ، وتلك
العطيّة المباركة حيث مَنّ سبحانه على البشرية عامة وعلى المسلمين خاصة بأن شرف
الارض بمولد عظيم نعمت الارض ببركة شخصيته وخلقه ، واشرقت بنور رسالته ودعوته ،
فاية نعمة ترى اولى بالشكر من هذه ، واي شكر اجمل وافضل من الأحتفاء بمولد هذا
النبيّ العظيم صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وذكر فضائله ، ومناقبه ، للتعرف
عليها ، والاقتداء بها ، وتشديد الحب له بسببها ، والابتهال إلى اللّه في يوم
ميلاده ، وطلب التوفيق الالهي لمتابعته ، والسير على نهجه ، والدفاع عن رسالته ،
والذبّ دون دينه ، بعد الشكر للّه تعالى على موهبته هذه؟؟ هذا ولقد درج المسلمون في العصور
الإسلامية الاولى على الاحتفال بذكرى المولد النبوّي وأنشأوا القصائد الرائعة في
مدحه ، وذكر خصاله ومكارم اخلاقه ، واظهروا السرور بمولده والشكر للّه تعالى
بلطفه ، وتفضله به صلىاللهعليهوآلهوسلم على
البشرية. قال الإمام الدياربكري
في تاريخ الخميس في هذا الصدد : لا يزال أهل الإسلام يحتفلون بشهر
مولده عليهالسلام ويعملون
الولائم ، ويتصدقون في لياليه بانواع الصدقات ويظهرون السرور ، ويزيدون في
المبرات ويعتنون بقرائة مولده الكريم ، ويظهر عليهم من بركاته كل فضل عميم (تاريخ الخميس في أحوال أنفس نفيس : ج 1 ، ص 223 نقلا عن المواهب
اللدنية : ج 1 ، ص 27 للقسطلاني.).
اجل ينبغي على المسلمين ان يحتفلوا
بمقدم نبيهم الكريم ولا يعبأوا بما قاله البعض حيث قال : « الذكريات الّتي ملأت
البلاد باسم الاولياء هي نوع من العبادة لهم وتعظيمهم » (هوامش الفتح المجيد.).
فهذا القول مغالطة صريحة ، ان لم يكن
نابعاً عن الغفلة والجهل بعد ان تبين حقيقة الاحتفال واقامة الذكريات احتفاء
بالمولد النبويّ (راجع للتوسّع : معالم التوحيد في القرآن الكريم.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
مَراسمُ
تسمية النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
:
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
حلَّ اليومُ السابعُ من الميلاد
المبارك ، فعقَّ عبد المطلب عن النبيّ بكبش شكراً للّه تعالى ودعا جماعة
ليشتركوا في الاحتفال الّذي حضرهُ عامة قريش لتسمية النبيّ ، وسمّاه « محمَّداً
» ، وعندما سألوه عما حَمله على أن يسمي هذا الوليد المبارك « محمَّداً » وهو
اسم لم يعرفه العرب الا نادراً أجاب قائلا : أردتُ أن يحمَد في السماء والأَرض (السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 78 و 79.).
وإلى ذلك يشير حسان بن ثابت بقوله :
بحار الأنوار : ج 16 ، ص
120 ، والسيرة الحلبية : ج 1 ، ص 78 و 79. ومن المسلّم أن هذا الإختيار لم يكن
ليتم من دون دخالة للإلهام الالهي ، لأَن اسم « محمَّد » وإن كان موجوداً عند
العرب إلاّ أنه قَلّ من كان قد تسمى بهذا الإسم ، فحسب ما استقصاه بعضُ المؤرخين
لم يتسَم به إلى ذلك اليوم من العرب الاستة عشر شخصاً كما يقول شاعرهم :
السيرةُ الحلبية : ج 1 ، ص
82 ثمّ يذكر صاحب السيرة اولئك الأشخاص في بيتين آخرين. ولا يخفى أن نُدرة المصاديق لأي لفظ
من الالفاظ أو اسم من الأسماء من شأنِها أن تقلّل فرص الاشتباه فيه ، وحيث أن
الكتب السماوية كانت قد أخبرتْ عن إسم النبي الخاتم صلىاللهعليهوآلهوسلم
وصفاته ، وعلائمه الرُوحية والجسمية ، لذلك يجب أن تكون علائمُه صلىاللهعليهوآلهوسلم
واضحةً جداً جداً حتّى لا يتطرق إليها التباسٌ أو اشتباهٌ ، وقد كان من علائمه صلىاللهعليهوآلهوسلم
اسمُه الشريف ، فيجب أن تكون مصاديقُها قليلة جداً حتّى يزيل ذلك أي عروض للشك
والترديد في تشخيص النبيّ الاكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم
خاصة إذا ضمَّتْ إليه بقية أوصافِه وعلائِمهِ ، وخصوصياته. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
خَطأ
الْمُستَشْرقينْ :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد ذكر القرآنُ
الكريمُ اسمين أو عدة أسماء للنبي الاكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم. ففي سورة آل عمران ومحمَّد والأحزاب
والفتح في الآيات 144 و 2 و 40 و 29 (يعتقد البعضُ أنّ هذا ليس اسماً للنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم بل هو من الحروف المقطعة في
القرآن.)
سماه
« محمَّداً » (قال
تعالى : « وَما مُحمَّدٌ إلا رَسولٌ قَد خَلَتْ
مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ
». وقال تعالى : « والَّذينَ آمَنُوا وَعَمِلوا
الصّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحمَّد
». وقال سبحانه : « ما
كانَ مُحمَّد أبا أحَد مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُول اللّه وَخاتَمَ
النَّبيّين ». وقال عزّ وجلّ : « مُحمَّدٌ
رَسُولُ اللّه والَّذينَ مَعهُ أشدّاء عَلى الكُفّار رُحماء بَيْنَهُمْ »). وفي سورة الصف الآية 6
(إذ
قال سبحانه : « وَمُبَشِّراً بِرَسُول مِنْ بَعْدِيْ
اسمُهُ أَحمَد ».)
دعاه « أحمد ». والعلةُ في تسميته بهذين الإسمين أن
امّهُ « آمنة » سمّته « أحمداً » قبل أن يسميه جده ، كما هو مذكور في التاريخ. وعلى هذا فانَ ما
ذكرهُ بعضُ المستشرقين ـ في معرض الإعتراض ـ بأن الإنجيل ـ حسب تصريح القرآن
الكريم في سورة الصف الآية 6 ـ بشَّر بنبي اسمُه « أحمد » لا « محمَّد » كلامٌ لا
اساسَ له ولا مبرر ، لأن القرآن الكريم الّذي سمى نبيّنا ب « أحمد » سماه في عدة مواضع ب « محمَّد »
فإذا كان المصدر في تعيين اسم النبي هو : القرآن الكريم ، فان القرآن سَمّاه بكلا الاسمين ، في موضع باسم « محمَّد » ،
وفي موضع آخر باسم « احمد ». |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
«
أحمد » كانَ مِنْ أسماء النبيّ المشهورة :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
كلُّ من كان له ادنى إلمام بتاريخ
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
عَلِمَ أنه صلىاللهعليهوآلهوسلم كان يُدعى بإسمين في الناس منذ صغره أحدهما : « محمَّد » الّذي
سَمّاه به جَدُه « عبد المطلب » ، والآخر
« أحمد » الّذي سمته به اُمه « آمنة ». وهذه حقيقة من حقائق التاريخ
الإسلامي ، وقد روى المؤرخون هذا الأمر ، ويمكن للقارئ الكريم أن يقرأه في
السيرة الحلبية (السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 82 و 83.).
ولقد أنشأ عمُّه « أبو طالب » ،
الّذي اُنيطَت إليه كفالته بعد وفاة عبد المطلب ، فبقي يقوم بهذه المهمة طوال
اثنين وأربعين عاماً بكل حرص ورغبة ، ولم يمتنع في هذا السبيل عن بذل كل ما
استطاع من غال ورخيص انشأ في ابن أخيه أبياتاً سمّاه في بعضها « محمَّد » وفي
بعضها الآخر « أحمد » ، وهذا يكشف عن انه صلىاللهعليهوآلهوسلم
كان معروفاً آنذاك بكلا الاسمين. واليك فيما يأتي بعض
هذه الأبيات الّتي سَمى فيها « أبو طالب » النبيَ باسم احمد :
ديوان أبي طالب عليهالسلام. وقد سمى « أبو طالب » النبيَ صلىاللهعليهوآلهوسلم
في ابيات اخرى بأحمد أيضاً قد ذكرها كبار المحققين من المؤرخين والمحدثين
ونسبوها إلى أبي طالب ولكنها غير موجودة في ديوانه (1).
مثل قوله :
راجع ديوان أبي طالب ، وسيرة ابن هشام : ج 1 ،
ص 272 ، وشرح النهج لابن ابي الحديد : ج 14 ، ص 79 وغيرها. كما وأنه قد سَمّاه غيرُ ابي طالب في
أبياته بأحمد ممّا يدل على أنه كان مشتهراً بهذا الاسم في ذلك الزمان ، وتلك
الابيات كثيرة تفوق حدّ الحصر والاحصاء لكنّنا
ننقل نماذج منها هنا : قال حسان بن ثابت في
رثائه للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
:
وقال في رثائه أيضاً :
ابن هشام في سيرته : ج 2 ،
ص 667 و 666 ، وابن سعد في طبقاته : ج 2 ، ص 323. وقال في رثاء جعفر بن أبي طالب
الطيّار :
شاعر عهد الرسالة : تحقيق
محمَّد عزت نصر اللّه. وقال حَسّان وهو يذكر معجزة من معاجز
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
:
وقال كَعبُ بن مالك :
بحار الأنوار : ج 16 ، ص
413 و 415. وقال « ورقة بن نوفل » يومَ أخبرتهُ
خديجةُ بنزول الوحي على النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
:
وقالت عاتكةُ بنتُ عَبدالمطلب ترثي
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
:
وقال العباسُ في مناسبة تزويج النبيّ
صلىاللهعليهوآلهوسلم بخديجة :
1 ـ بحار الأنوار : ج 18
، ص 195. 2 ـ الطبقات الكبرى : ج 2
، ص 326. 3 ـ بحار الأنوار : ج 16 ،
ص 72. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
فتْرَةُ
الرِّضاع في حياة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
:
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لم يرتضع وليدُ قريش
المبارك « محمَّد » من اُمّه سوى ثلاثة أيام ، ثم حَظِيَت
بفخر إرضاعه ـ بعد ذلك ـ امرأتانُ هما :
1
ـ « ثويبة » مولاة « أبي لهب » ،
وقد أرضعته أربعة أشهر فقط ، وكان النبيُ صلىاللهعليهوآلهوسلم
وزوجتُه الوفية : « خديجة بنت خويلد » يقدّران هذا العمل لها حتّى آخر لحظات
حياتها (4).
و « ثويبة » هذه كانت
قد أرضَعْتْ قبلَ ذلك « حمزة » عمَ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم و « ابا سلمة بن عبد
اللّه المخزومي » أيضاً فكانوا إخوة من الرضاعة (5).
وقد بعث رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
بعد مَبعثه ، من يشتريها من « أبي لهب » ليعتقها فابى (6).
وكان النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
يكرمها كلما دخلت عليه ، وكان يبعث إليها بالصّلة إلى أن بلغه خبرُ وفاتها عند
منصرفه من وقعة « خيبر » فسأل عن إبنها فقيل : مات قبلها ، فسْأل عن قرابتها ،
فقيل : لم يبق منهم أحد (7).
4 ـ تاريخ الخميس في احوال
انفس نفيس : ج 1 ، ص 222. 5 ـ السيرة النبوية : ج 3
، ص 96. 6 ـ الكامل في التاريخ : ج
1 ، ص 271. 7 ـ تاريخ الخميس : ج 1 ،
ص 222 ـ 225 نقلا عن سيرة مغلطاي وغيره. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
2 ـ « حليمة السعدية »
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
بنت ابي ذؤيب الّتي
كانت من قبيلة سعد بن بكر بن هوازن ، وكان
أولادها عبارة عن : « عبد اللّه » ، « أنيسة » ، « شيماء » ، وقد قامت آخر
أولادها وهي « الشيماء » بحضانة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أيضاً : وقد كان من عادة العرب يومذاك هو أن
يدفعوا أولادهم الرضعاء إلى المراضع اللائي كُنَّ يَعِشنَ في البوادي لينشأوا في
تلك البيئات المعروفة بطيب هوائها ، وقلة رطوبتها ، وعذوبة مائها ببنية قوية ،
هذا مضافاً إلى صيانتهم عن خطر الوباء الّذي كان يهدد الأطفال في « مكة » ، ولأن
ذلك كان له مدخلٌ عظيم ، وتاثيرٌ بليغ في فصاحة المولود لسلامة لغة أهل القبائل
الساكنة في البوادي آنذاك. وكانت مراضعُ بني سعد من المشهورات
بهذا الأمر بين العرب ، فقد كانت نساء هذه القبيلة الّتي كانت تسكن حوالي « مكة
» ونواحي الحرم يأتين « مكة » في كل عام في موسم خاص يلتمسنَ الرضَعاء ويذهبن
بهم إلى بلادهنَّ حتى تتم الرضاعة. وكان النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قد تجاوز شهره الرابع لما
قدمت نساء من بني سعد « مكة » يلتمسنَ الرضعاء في سنة جدب وقحط ، ولهذا كنَّ
بحاجة شديدة إلى مساعدة أشراف « مكة » واعيانها. ويقول بعض المؤرخين :
أنه لم تقبل أيّةُ واحدة من تلك المراضع أن تأخذ « محمَّداً » بسببُ يتمه ، وقد
كان اغلبهن يُردْنَ أن تأخذن من يكون له أبٌ حيٌّ حتى يُغدق عَلَيْهنَّ
بالمساعدات والصّلات ، وحتّى « حليمة » هي الاُخرى أبتْ أخذَهُ ، ولكنَّها ايضاً
لم تحصل على طفل لِهزال جسمها ، فاضطرت إلى أن تأخذ حفيد « عبد المطلب » وقالت
لزوجها : واللّه لأذهبنَّ إلى ذلك اليتيم فلاخذنَّه ، فقال لها زوجُها : لا عليك
ان تفعلي ، عسى اللّه ان يجعل لنا فيه بركة. ولقد اصاب الزوجان في ظنّهما هذا ،
فمنذ أن أبدت « حليمة » استعدادها لخدمة ذلك اليتيم شملت الالطاف الالهية كل
مجالات حياتها (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 162 و 163.).
إن القسم الأول من هذه
القصة ليس سوى اسطورة ، لأن مكانة البيت الهاشمي الرفيعة ،
وشخصية رجل عُرفَ بِكمال الجود والاحسان ، وبعون المحتاجين والمحرومين كانت
سبباً في أن لا تعرض المرضعات عن اخذ « محمَّد » فحسب ، بل يتنازعن على اخذه ولهذا لا يكون هذا القسمُ مِنَ التاريخ سوى اسطورة تكذبها
الحقائق. واما علة عدم اعطاءه صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى غير « حليمة » من
المرضعات فهي : أن وليد قريش لم يقبل أيّ ثدي من
أثداء تِلكم المرضعات ، ولم يزل كذلك حتّى قبلَ ثدي « حليمة السعدية » ، فسرّ
بذلك « عبدُالمطلب » وأهله سروراً عظيماً ، بعد أن حزنهم امتناعُه عنهنَّ قبل
ذلك (بحار الأنوار : ج 15 ، ص 342 و 343.). قالت « حليمة » :
استقبلني عبدُالمطلب فقال : من انت ، فقلت : أنا امرأة من بني سعد ، قال : ما
أسمُك؟ قلتُ : حليمة ، فتبسَّم « عبد المطلب » وقال : بَخ بَخ سَعدٌ وحلْمٌ ،
خصلتان فيهما خيرُ الدهر ، وعز الأبد (السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 89.). |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
نَظرةُ
الإسلام في تأثير الرضاع :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وهنا ينبغي بالمناسبة
أن نشير إلى نظرة الإسلام في تأثير الرضاع في شخصيّة الإنسان. فقد سبق الإسلامُ العلمَ الحديثَ في
الكشف عن آثار اللبن في تكوين الإنسان الخُلقي والنفْسيّ والعضوي سَلباً
وإيجاباً. ولهذا حثَّ الإسلام على استرضاع الام
، كما حث على اختيار المرضعات الصالحات ونهى عن استرضاع اليهودية والمجوسية
والنصرانية والمجنونة منعاً من انتقال طباعِهنَ إلى الطفل عن طريق اللبن. واستكمالا لهذا البحث نورد جملة من
الأحاديث الّتي تصرح بهذه الحقيقة العلمية الهامة : 1 ـ قال اميرالمؤمنين
علي عليهالسلام
: « تَخَيّرُوا للرضاع كما تَخيَّرون
لِلنِّكاح فانَ الرِّضاعَ يُغيّرُ الطِباعَ » (1).
2 ـ وعنه عليهالسلام ايضاً : « اُنظرُوا مَنْ يُرضعُ أولادكُمْ
فَإنَ الوَلَد يَشُبُّ عَليهِ » (2).
3 ـ عن الإمام ابي
جعفر الباقر عليهالسلام
انه قال : « لا تَسْتَرضعُوا الحَمقاء فانَ
اللبن يُعدي ، وإن الغُلامَ يَنزع إلى اللَبن ... » (3).
4 ـ وعنه عليهالسلام ايضاً : « استرضعْ لولَدك بِلَبنِ الحِسان
وإيّاكَ وَالقِباحُ فإنَّ اللَبنَ قد يُعدي » (4).
5 ـ وعن علي عليهالسلام انه قال : « ما مِنْ لَبَن يَرضَعُ به الصَبيُّ
أعظمُ بَركَةً عَليْه مِنْ لَبنِ اُمَّهِ » (5).
1 ـ قرب الأسناد : ص 45. 2 ـ فروع الكافي ج 2 ، ص
93. 3 ـ وسائل الشيعة : ج 15 ،
ص 188. 4 ـ التهذيب : ج 2 ، ص
280. 5 ـ روضة المتّقين : ج 8 ،
ص 554. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
6فَتْرةُ الطفُولة في حياة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إن صفحات التاريخ تشهد بأن حياة رسول
الإسلام صلىاللهعليهوآلهوسلم
من بداية طفولته وأوان صباه وإلى يوم بعثه بالرسالة كانت مشحونة بسلسلة من
الحوادث العجيبة الّتي تعَدُّ بأجمعها من كراماته صلىاللهعليهوآلهوسلم
وتدل على أن حياة النبيّ لم تكن حياة عادية. وينقسم المؤلفون في تفسير
هذه الحوادث إلى طائفتين : 1 ـ الماديُّون ، وجماعة من المستشرقين :
فان
العلماء الماديين الذين يحصرون الوجود في نطاق المادة ، ويعتبرون جميع الظواهر
ظواهر مادية ، وينحتون لكل واحدة منها علة طبيعية ، لا يهتمون بهذه الحوادث ولا
يُعيرونها أية أهمية ، لامتناع واستحالة وقوع أمثال هذه الظواهر حسب النظرة
المادية ، ولهذا فكل ما يصادفونه في ثنايا التاريخ من هذا الباب يعتبرونه من
ولائد الخيال ، وممّا نسجته اَوهامُ التابعين لذلك الدين ، أو الطريقة. وقد تبعهم في هذا الموقف جماعة من
المستشرقين فرغم انهم يعتبرون انفسهم ـ حسب الظاهر ـ في عداد الموحِّدين ،
والمؤمنين باللّه ، وبما بعد الطبيعة من عوالم الغيب ، إلاّ أنهم ـ لضعف إيمانهم
وبسبب غرورهم العلمي ، وغلبة النزعة المادية على أفكارهم وأذهانهم ـ اتبعوا ـ
لدى تحليلهم لهذه الحوادث ـ المنهج الماديّ ، فنحن نقرأ في كتاباتهم مراراً
وتكراراً زعمهم بانَ النبوة ما هي إلاّ نبوغٌ بشريٌّ ، وأن النبيّ مجرد نابغة
اجتماعية استطاع تغيير مسار الحياة البشرية بافكاره النيَّرة!! ولا شك أن مثل هذا التصوّر ينبع من
طريقة التفكير المادي الّذي يعتبر جميع الأديان من ولائد الفكر البشري وافرازات
الذهن الانساني ، في حين ان علماء العقيدة اثبتوا في : مباحث « النبوَّة العامة
» انَّ النبوة عطية الهية ، وموهبة ربّانية هي في الحقيقة منشأ جميع الالهامات
والارتباطات المعنوية ، ومصدر لمناهج الانبياء وبرامجهم ، ليست ابداً وليدة
نبوغهم الإنساني ، ولا نسيجة فكرهم البشري ، وليس لها مصدر إلاّ الإلهام من
الغيب ، ولكن عندما ينظر المستشرقُ المسيحي إلى هذه القضايا من زاوية الفكر
المادي ويريد تفسير جميع هذه الظواهر بالاُسس العلمية الّتي كشفت عنها التجربةُ
ينتقد مثل هذه الحوادث ذات الطابع الاعجازي ، وربما انكرها من الاساس. 2
ـ المؤمنون باللّه : الذين
يعتقدون بأن العالم المادي بجميع خصوصياته وخواصه يخضع لتدبير عالم آخر ، وأن
ذلك العالم ( اي عالم التجرد وما وراء الطبيعة
)
هو المنظِم لهذه الطبيعة ، وهو المدبِر لهذا الكون المادي. وبعبارة اُخرى
إن عالم المادة ليس عالماً مسيِّباً ، مستقلا عن غيره ، وان جميع الانظمة
والقوانين الطبيعية والعلمية مسبَّبةٌ عن تأثيرات موجودات عليا ، وبخاصة ناشئةٌ
عن إرادة اللّه الخالقِ ، الّذي اعطى للمادة وجودها ، وأوجد القوانين والعلاقات
الصحيحة بين أجزائها ، وبنى بقاءها على سلسلة من النواميس الطبيعية. إنَ هذا الفريق من الناس مع احترامهم
للقوانين العلمية ، واذعانهم الصادق بما قاله العلماء في صعيد العلاقات ،
والروابط القائمة بين القوانين ممّا أثبته العلم واكّده ، يعتقدون بأن مثل هذه
القوانين الطبيعية ليست اُموراً لا تقبل التغيير ، والتبدل. فهم يعتقدون بأن العالم الاعلى يمكنه
ـ إذا أراد ـ أن يُغيّر تلك القوانين لغايات خاصة ، وليس في مقدوره ذلك فقط ، بل
فعلَ ذلك في جملة من الموارد لأهداف عليا. وبعبارة اُخرى :
إنَّ الافعال الخارقة للعادة ليست ظواهر عارية عن العلل ، بل إنَّ علتها غير
طبيعيّة ، وافتقاد العلة الطبيعية ( وخاصة العلة الطبيعية غير المعروفة ) ليس
دليلا على افتقاد مطلق العلة. والخلاصة ؛ إن قوانين
الخلقة ليست بحيث لا يمكن تبدُّلها ، وتغيّرها بارادة بارئها وخالقها. إنهم يقولون :
إنَّ جميع خوارق العادة ، وجميع أفعال الأنبياء العجيبة الّتي تتصف بصفة الاعجاز
، والخارجة عن اطار القوانين الطبيعية ، تتحقق من هذه الزاوية. إنَّ هذا الفريق من الناس لا
يسمَحُون لأنفسهم بان يرفضوا الأعمال الخارقة للعادة ، والكرامات الّتي جاء
ذكرها في القرآن الكريم ، والاحاديث ، أو وردت في المصادر التاريخية الصحيحة
المعتبرة ، أو يكشوا فيها بحجة أنها لا توافق الموازين الطبيعية ، والقوانين
العلمية. وها نحن نشير إلى
قضيتين عجيبتين وقعتا في فترة الطفولة من حياة رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم ،
ومع اخذ ما قلناه بنظر الاعتبار لا يبقى أي مجال للترديد ، أو الاستبعاد : 1 ـ لقد نقَلَ
المؤرخون عن « حليمة السعدية » قولها بأنها لمّا
تكفلَّت إرضاع النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
أرادت أن ترضعه في محضر اُمّها ، ففتحت جيبها وأخرجت ثديها الايسر ، وأخذت رسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
فوضعته في حجرها ، ووضعت ثديها في فمه ، فترك النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
ثديها ، ومالَ إلى ثديها الأيمن ، فاخذت « حليمة » ثديها الأيمن من يد النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
ووضعت ثديها الأيسر في فمه وذلك أنَّ ثديها الأيمن كان جهاماً ( أي خالياً من اللبن ولم يكن يدرُّ به )
، وخافت ( حليمة )
أن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
إذا مصَّ الثدي ولم يجد فيه شيئاً لا يأخذ ـ بعده ـ الأيسر. ولكن النبيّ أصرَّ
على أخذ الثدي الأيمن ، فلمّا مصَّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
الأيمن امتلأ فانفتح حتّى ملأ شدقيه فادهش الجميع ذلك (بحار الأنوار : ج 15 ، ص 345 و 346.).
2 ـ وتقول « حليمة »
أيضاً : إن البوادي أجدبت وحملنا الجُهد على دخول البلد
، فدخلتُ مكة مع نساء بني سعد فأخذتُ رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
فعرفنا به البركة والزيادة في معاشنا ورياشنا حتّى أثرينا ، وكثرت مواشينا ،
وأموالنا (المناقب لابن شهراشوب : ج 1 ، ص 24.).
إنَّ مَن المسلم أنَّ حكم الماديين ،
أومن يحذو حذوهم ويتبع منهجهم في هذه المسائل يختلف عن حكم المؤمنين باللّه. فان أتباع المنهج المادي إذ عجزوا عن
تفسير هذا النوع من القضايا من زاوية العلوم الطبيعية ، نجدهم يبادرون إلى
اعتبار هذه الحوادث من نسج الخيال ، ومن ولائد الاوهام ، واما إذا كانوا اكثر
تأدباً لقالوا : إن رسول الإسلام ليس بحاجة إلى امثال هذه المعاجز : ونحن نقول : لا نقاش في أن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
غني عن هذه المعاجز إلاّ أن عدم الحاجة شيء ، والحكم بصحة هذه الاُمور أو
بطلانها شيء آخر. وأما المؤمن باللّه الّذي يردُّ
النظام الطبيعي ، إلى مشيئة اللّه خالق الكون وارادته العليا ، ويعتقد بأن كل
الحركات والظواهر في العالم الطبيعي من اصغر اجزائه ( الذرة ) إلى اكبر موجوداته
( المجرة ) يجري تحت تدبيره ، ونظارته ، فانه بعد التحقق من مصادر هذه الحوادث
والتأكد من وقوعها ينظر إليها بنظر الاحترام ، وأمّا إذا لم يطمئن إليها لم
يرفضها رفضاً قاطعاً. ولقد ورد في القرآن
الكريم نظائر عديدة لهذه القصة حول « مريم » اُم عيسى فالقرآن يخبرنا عن تساقط
الرطب الجَنيّ من جذع النخلة اليابسة كرامة لوالدة المسيح عندما لجأت إليه مريم
عند المخاض إذ يقول : «
...
ألاّ تَحزَني قَدْ جَعلَ رَبُّكِ تَحتك سَريّاً. وَهُزِّي إليْكِ بِجذْع
النَخلةِ تُساقِط عَليْك رُطباً جَنِيّاً »
(مريم : 24 و 25.).
إنه وان كان الفرق بين « مريم » و «
حليمة » شاسعاً وكبيراً من حيث الملكات الفاضلة والمكانة ، والمنزلة ، إلاّ أن
منزلة « مريم » عليهاالسلام لو
استوجبت مثل هذا اللطف الالهي ، ففي المقام استوجب نفسُ مقام الوليد العظيم ،
ومكانته عند اللّه تعالى أن تشمله العناية الالهية. كما انه قد جاء في
القرآن الكريم حول مريم عليهاالسلام
امور اُخرى مشابهة. ان عصمة هذه المرأة الطاهرة ، وتقاها
وطهرها البالغ كانت بحيث أن « زكريا » كلّما دخل عليها المحراب وجد عندها رزقاً
، فاذا سألها : مِن أينَ لكِ هذا قالت : هو مِنْ عِند اللّه؟ (« ... وَكَفَّلها
زكريّا كُلَّما دَخلَ عَلَيْها زكَريّا المِحْرابَ وَجدَ عِنْدها رزْقاً قال يا
مَريَمُ أنّى لَكِ هذا قالَتْ هُو مِنْ عِنْد اللّه » ( آل عمران : 37 ).). وَعلى هذا الأساس يجب أن لا نتردَّد ولا نسمح لانفسنا بأن نشك في مثل هذه الكرامات
، أو نستبعدها. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
خَمسَةُ
أعوام في الصَحْراء :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أمضى وليدُ « عبد
المطلب » في قبيلة « بني سعد » مدة خمسة أعوام ، بلغ فيها أشده. وخلالَ هذه المدة
اخذته « حليمة » إلى اُمّه مرتين أو ثلاث ، وقد سلّمته إلى اُمه في آخر مرة. وكانت المرّة الاُولى
من تلك المرات عند فطامه ، ولهذا السبب اتت به صلىاللهعليهوآلهوسلم
« حليمة » إلى مكة ولكنها عادت به إلى الصحراء باصرار منها ، وكان السبب وراء
هذا الاصرار على اصطحابه معها إلى البادية هو أن هذا الوليد قد اصبح مبعث خير
ورخاء ، وبركة في منطقتها ، وقد دفع شيوعُ مرض الوباء في « مكة » إلى أن تقبل
امُّه الكريمة بهذا الطلب (بحار الأنوار : ج 15 ، ص 401.).
وأما المرةُ الثانيةُ
من تلك المرات فكانت عندما قدم جماعة من نصارى
الحبشة إلى الحجاز ، فوقع نظرهم على محمَّد صلىاللهعليهوآلهوسلم
في « بني سعد » ، ووجدوا فيه جميع العلائم المذكورة في الكتب السماوية للنبي
الّذي سيأتي بعد عيسى المسيح عليهالسلام ،
ولهذا عزموا على أخذه غيلة إلى بلادهم لما عرفوا ان له شأنا عظيماً ، لينالوا
شرف احتضانه ويذهبوا بفخره (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 167.).
ولا مجال لاستبعاد هذه القضية لأن
علائم النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ذُكِرَت في الانجيل حسب تصريح القرآن
الكريم ، فلا يبعد أن علماء النصارى قد تعرّفوا في ذلك الوقت على النبيّ من
العلائم الّتي قرأوها ودرسوها في كتبهم. يقول القرآن الكريم في هذا المجال :
« وَإذْ قالَ عِيْسى بْنُ مرْيَم يا
بَني إسْرائيلَ إنّي رَسُولُ اللّه إليْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْن يَديَّ مِنَ
التوْراة وَمُبشِّراً بِرَسُول يأتْي مِنْ بَعْدي اسْمُهُ أَحمَد فَلمّا
جَاءهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبيْنٌ »
(الصف : 6.).
ثمّ انّ في هذا الصعيد آياتٌ اُخر
صرَّحت بجلاء بأن علائم رسول الإسلام في الكتب السماوية الماضية في وضوح ، ومن
غير إبهام ، وأن الامم السابقة كانت على علم بهذا الأمر (« الذين يتَّبِعُونَ
الرسول النبيّ الاُميَّ الَّذي يَجِدُونَهُ مكْتُوباً عِندَهُمْ في التوراة
والإنْجيل » ( الأعراف : 157 ).).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
7
العَوْدة إلى
اَحضان العائلة
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد خَلقَت يدُ القدرة الالهية كلَ
فرد من أفراد النوع الانساني لأمر معين ، فهناك من خلق لا كتساب العلم والمعرفة
، وهناك من خُلقَ للاختراع والاكتشاف ، وثالثٌ خلق للسعي والعمل ، وبعض للتدبير
والسياسة وفريق للتدريس والتربية وهكذا. وإن المربِّين المخلصين الذين يهمّهم
تقدم الأَفراد أو رقيّ مجتمعهم لا يعمدون إلى نَصب أحد في عمل من الاعمال ولا
يعهدون إليه مسؤولية من المسؤوليات إلاّ بعد اختبار سليقته ومواهبه ، بغية وضع
الرجل المناسب في المكان المناسب ، إذ في غير هذه الحالة يتعرِّض المجتمع لضررين
كبيرين : احدهما : أن
لا يوكل إلى الفرد ما يستطيع القيام به ، والثاني
:
ان يبقى العمل الّذي قام به ناقصاً ، مبتوراً. وقد قيل في المثل :
لكل انسان موهبة ، والسعيد هو من اكتشف تلكم المواهب ، واصابها. وقد ذكروا أن استاذاً كان ينصح
تلميذاً له كسولا ، ويعدّد له مضارَّ الكسل والتواني ، ويصف له حال من ترك
الاشتغال بالعلم ، وضيّع ربيع حياته في البطالة والغفلة. وبينما الاستاذ ينصح
تلميذه ـ وهو يسمع مواعظ اُستاذه ـ رأى تلميذه يرسم بقطعة من الجص صورة على
المنضدة ، فادرك من فوره أن هذا الصبيّ لم يُخلق للدرس وتحصيل العلم ، بل خلقته
يد القدرة للرسم ، فطلب منه أن يصطحب اباه إلى المدرسة في اليوم القادم ، ثم قال
لوالد الصبيّ : إذا كان ولدك هذا كسولا في التعلم ، والتحصيل فانه يمتلك ذوقاً
رفيعاً في الرسم ، ورغبة كبيرة في التصوير. وقبل الوالد نصيحة
المعلّم هذه ولم يمض زمانٌ طويل إلاّ وبرع الصبي وغدى قمة في هذا الفن ، بعد أن
تابع هوايته بشغف وأكثر من ممارستها. إن فترة الطفولة والصبا في حياة
الأشخاص خير فرصة لأولياء الأطفال بأن يختبروا مواهب أبنائهم ، ويتعرفوا عليها
من خلال تصرفاتهم ، وأفكارهم وردودهم ، لأن حركات الطفل وأقواله الجميلة والحلوة
خير مرآة لما ينطوي عليه من مواهب وقابليات وصفات لوتوفرت لها ظروف التربية
الصحيحة لأمكن الاستفادة منها على أفضل صورة ، وأحسن وجه. إن مطالعة فاحصة لحياة
النبيّ الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم وأقواله وأفعاله إلى وقت البعثة المباكرة تُوقفنا على صورة
كاملة لشخصيته صلىاللهعليهوآلهوسلم
وتوضح لنا أهدافه العليا ، على أن مطالعة صفحات الطفولة
في حياته صلىاللهعليهوآلهوسلم فقط لا
تكشف لنا عن مستقبله المشرق ، بل ان دراسة الصورة الاجمالية لحياته وتاريخه إلى
يوم مبعثه الشريف ، وإعلانه عن نبوَّته وقيادته للمجتمع ، تخبرنا عن ذلك
المستقبل العظيم ، وبالتالي عن هذه الحقيقة وهي ان هذه الشخصية خُلِقَت لأيّ عمل
، وأن إدعاء الرسالة والقيادة له هل ينسجمُ مع سوابقه التاريخية أم لا؟؟ هل تُؤيّد تفاصيلُ حياتِه خلال
أربعين سنة قبل الرسالة ، وهل تؤيّد أفعالُه واقوالُه ، وبالتالي : سلوكه مع
الناس ومعاشرته الطويلة مع الآخرين رسالته أم لا؟؟ من هنا نعمدُ إلى عرض
بعض الصفحات من حياة رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
في ايامها وسنواتها الاولى. لقد حافظت مرضعةُ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
عليه خمس سنوات ، وقامت في هذه المدة برعاية شؤونه خير قيام ، وبالغت في كفالته
والعناية به ، وفي خلال هذه المدة تعلّم النبي لغة العرب على احسن ما يكون ،
حتّى انه صلىاللهعليهوآلهوسلم كان يفتخر بذلك في ما بعد إذ كان
يقول : أنا أعربكُمْ ( اي أفصحكم ) ...
وارضعت في بني سعد » (السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 89.).
ثم ان « حليمة » جاءت به إلى « مكة »
، وبقي عند امّه الحنون ردحاً من الزمن ، وفي كفالة جده العظيم : « عبد المطلب »
ردحاً آخر منه ، وكان هو السلوة الوحيدة لاقاربه والبقية الباقية من ابيه : «
عبد اللّه » (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 167.). منذ أن فقَدت كَنّة « عبد المطلب » وعروس
ابنه : « آمنة » زوجها الشاب الكريم : « عبد اللّه » باتت تترقب الفرص لتذهب إلى
« يثرب » وتزور قبر زوجها الحبيب الفقيد عن كثب ، وتزور اقاربها في يثرب في نفس
الوقت. وذات مرة فكَّرت بأن تلك الفرصة قد
سنحت ، وأن ولدها « محمَّداً » قد كبُر ، ويمكنه أن يشاركها في حزنها ، فتهيأت
هي واُمّ ايمن للسفر ، واتجهت نحو يثرب برفقه « محمَّد » ، ولبثت هناك شهراً. ولقد انطوت ( وبالاحرى حملت ) هذه
السفرة على بعض الآلام الروحية لوليد قريش « محمّد » لأنه صلىاللهعليهوآلهوسلم
رأى فيها ولأوّل مرة البيت الّذي توفي فيه والده العزيز ، ودفن (كان البيت الّذي يضمّ قبر « عبد اللّه » عليهالسلام لا يزال موجوداً حتّى قُبيل توسعة الدائرة
حول المسجد النبوي الطاهر ، ولكنه اُزيل بحجّة إيجاد تلك التوسعة.)
وكانت والدته قد حدَّثته بامور عن والده إلى ذلك الحين. وكانت لا تزال سحابةُ الحزن تخيّم
على روحه الشريفة إذ فوجئ بحادثة مقرحة اُخرى ، وغشيه موج آخر من الحزن لأنه عند
عودته إلى مكة فقد اُمّه العزيزة في اثناء الطريق في منطقة تدعى ب « الابواء »
(السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 105.).
إنَ هذه الحادثة قد عزَّزتْ مكانة
الرسول الكريم صلىاللهعليهوآلهوسلم
في عشيرته اكثر فأكثر ، وجعلته يتمتع بمحبّة أزيد منهم ، فهو الزهرة الوحيدة من
تلك الجنينة المباركة ، كما انه صار منذ ذلك الحين يتمتع بعناية أكبر من قبل جده
« عبد المطلب » ولهذا كان يحبُّه اكثر من أبنائه ، بل ويؤثره عليهم جميعاً. ومن ذلك أنه كان يُمدُّ في فناء
الكعبة المعظمة بساطٌ لزعيم قريش « عبد المطلب » فيجلس هو عليه ويتحلَّقُ حوله
وجوهُ قريش وسادتها وأولادُه فإذا وقَعت عيناه على بقية عبد اللّه « محمَّد »
أمر بأن يُفرَّجَ له حتّى يتقدم نحوه ثم يُجلِسُه إلى جنبه على ذلك البساط
المخصوص به (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 168.).
ان القرآن الكريم يُذكّر النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بفترة يتمه ويقول : « ألمَ يجدْكَ
يتيماً فآوى ». إن الحكمة وراءيتم وليد قريش ليست
واضحة لنا تمام الوضوح ، ولكننا نعلم إجمالا بأن سيل هذه الحوادث المؤلمة احيانا
، والمزعجة احيانا اخرى لم يك خالياً عن حكمة معقولة ومصلحة رشيدة ، بيد أننا مع
كل هذا يمكن لنا الحدس بأن اللّه تعالى أراد أن يذوق قائد العالم البشري ومعلمه
، وإمام الإنسانية وهاديها ـ وقبل ان يتسلم مهامه ، ويزاول مسؤولياته العظمى
ويبدأ قيادته ـ حُلو الحياة ومرَّها ، ويجرِّب سراء العيش وضرّاءه ، حتّى
تتهيَّأ لديه تلك الروحُ الكبرى الصبورة الصامدة ، ويدّخر من تلك الحوادث الصعبة
تجارب ودروساً ، ويعدّ نفسه لمواجهة مسلسل الشدائد والمصاعب ، والمشاق والمتاعب
الّتي كانت تنتظره في المستقبل. وربما أراد اللّه تعالى أن لا تكون
في عنق نبيِّه طاعة لأحد ، ولهذا انشأه حراً خلياً من كل قيد ، منذ الايام
الاُولى من حياته ، يصنع نفسَه بنفسِه ويقيّض لها موجبات الرشد ، واسباب الرقيّ
ليتضح أن نبوغَهُ ليس نبوغاً بشرياً عادياً ومألوفاً وانه لم يكن لوالديه اي دخل
فيه وفي مصيره ، وبالتالي فان عظمته الباهرة نابعةٌ من مصدر الوحي ، وليست من
العوامل العادية والاسباب المأنوسة المتعارفة. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وَفاة
عبْدالمُطَّلب :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد جرت عادة الحياة ان تتعرض للمرء
باستمرار ، وتستهدف سفينة حياته كالأمواج المتلاحقة مُوجِّهة ضرباتها القوية
لروحه ، ونفسه. أجل هذه هي طبيعة الحياة
وسنتها مع أفراد النوع الانساني من دون استثناء. ولم يكن رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
بمعزل عن هذ السنة المعروفة وهذه القاعدة الحياتية العامة. فلم تكن أمواج الحزن تفارق قلب رسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم لوفاة
والديه بعد حتّى فاجأته مصيبة كبرى. إنه لم يكن يمض من عمر النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
اكثر من ثمان سنوات إلا وفقد جدّه العظيم « عبد المطلب » ، وقد اعتصَرت وفاة «
عبد المطلب » قلب رسول اللّه ألماً وحزناً ، وكان لها وقعٌ شديدٌ على نفسه
المباركة ، حتّى أنه بكى لفقده بكاء شديداً وظلّت دموعُه تجري من أجله إلى أن
وري في لحده ، ولم ينس ذكره أبداً!! (كتب اليعقوبي في تاريخه : ج 2 ، ص 10 و 11 من تاريخه حول سيرة عبد
المطلب ، وأنه كان موحِّداً لاوثنياً ، وذكر أن الإسلام أمضى الكثير من سننه.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
كفالة
أبي طالب للنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
:
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
سيكون لنا حديثٌ مفصَّل حول شخصيّة
أبي طالب في فصل خاص (في حوادث السنة العاشرة.)
وسنثبت هناك إيمانه برسول اللّه
صلىاللهعليهوآلهوسلم
بالوثائق والأدلة القاطعة ، ولكنَّ من المناسب الآن أن نستعرض بعض الحوادث
المرتبطة بفترة كفالته للنبي. لقد تكَفَّل أبو طالب ـ ولأَسباب خاصة ـ رسول اللّه
صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وتقبل
تحمُّل هذه المسؤولية بفخر واعتزاز ، ولأنّ أبا طالب ـ مضافاً إلى العلل المشار
إليها ـ كان أخاً لوالد النبي من أُمٍّ واحدة أيضاً (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 179 ، وامهما هي فاطمة المخزومية.)
كما
أنّه كانَ معروفاً بجوده وكرمه ، ومن هنا أوكلّ « عبد المطلب » أمر كفالة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
حفيده ، إليه ، وسوف نقص عليك تدريجاً سطوراً ذهبية من تاريخه ، تمثل شاهد صدق
على خدماته القيمة ، وأياديه الجليلة. يقولون : إن النبي
شارك وهو في العاشرة من عمره جنباً إلى جنب مع عمّه
في حرب من الحروب (لقد كتب اليعقوبي في تاريخه : ج 1 ، ص 15 طبعة النجف أنّ أبا طالب لم
يشترك في هذه الحرب قط ، كما لم يسمح لبني هاشم بالمشاركة فيها أيضاً ، لأنه كان
ظلماً وعدواناً وقطيعة رحم واستحلالا للشهر الحرام.)
وحيث أن هذه الحرب وقعت في الأشهر الحُرم لذلك سُمّيت بحرب « الفجار » وقد وردت تفاصيل حروب « الفجار » في التاريخ بشكل مسهَب. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
سَفرةٌ
إلى الشام :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد جرت العادة ان يسافر تجار قريش
إلى الشام كل سنة مرة واحدة. فعزم « ابو طالب » على أن يشارك في
رحلة قريش السنوية هذه ذات مرة ، وعالج مشكلة ابن اخيه « محمَّد » الّذي ما كان
يقدر على مفارقته بأنه قرر أن يتركه في مكة في حراسة جماعة من الرجال ، ولكنه
ساعة الرحيل واجه من ابن اخيه العزيز ما غيّر بسببه قراره المذكور فقد شاهد «
محمَّداً » وقد اغرورقت عيناه بالدموع لفراق كفيله الحميم « ابي طالب » ، فاحدثت
ملامح « محمَّد » الكئيبة طوفاناً من المشاعر العاطفية في قلب « أبي طالب » بحيث
اضطرته إلى أن يرضى بمشقة اصطحاب « محمَّد » في تلك الرحلة (1).
ويذكر « أبو طالب » في
ابيات له قصّة هذه السفرة وما جرى فيها من البدء إلى الختام نقتطف منها بعض
الأبيات :
( تاريخ ابن عساكر : ج 1
، ص 269 ـ 272 وديوان ابي طالب : ص 33 ـ 35 ). لقد كانت سفرة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم هذه الّتي قام بها بصحبة
عمّه وكافله « ابي طالب » في الثانية عشرة من عمره ،
من اجمل وأطرف اسفاره صلىاللهعليهوآلهوسلم
لأنه صلىاللهعليهوآلهوسلم
عَبر فيها على : « مَديَن » و « وادي القرى » و « ديار ثمود » واطّلع على مشاهد
الشام الطبيعية الجميلة. ولم تكن قافلة قريش
التجارية قد وَصلت إلى مقصدها حتّى حدثت في منطقة تدعى « بصرى » قضية غيرت
برنامج « ابي طالب » وتسببت في عدوله عن المضي به في تلك الرحلة والقفول إلى
مكة. واليك فيما يلي مجمل
هذه القضية : كان يسكن في « بصرى » من نواحي الشام
راهبٌ مسيحي يدعى « بحيرا » يتعبّد في صومعته ، يحترمه النصارى في تلك الديار. وكانت القوافل التجارية إذا مرت على
صومعته توقفت عندها بعض الوقت وتبركت بالحضور عنده. وقد اتفق أن التقى هذا الراهبُ قافلة
قريش الّتي كان فيها رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
فلفت نظره شخصيةُ « محمَّد » ، وراح يحدق في ملامحه ، وكانت نظراته هذه تحمل
سراً عميقاً ينطوي عليه قلبه منذ زمن بعيد وبعد دقائق من النظرات الفاحصة ،
والتحديق في وجه النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
خرج عن صمته وانبرى سائلا : اُنشدكم باللّه أيّكم وليّه؟ فاشار جماعة منهم إلى « أبي طالب »
وقالوا : هذا وليّه. فقال « ابو طالب » : إنه ابن أخي ،
سلني عمّا بدا لك. فقال « بحيرا » : إنه كائن لابن أخيك
هذا شأنٌ عظيمٌ ، نجده في كتبنا وما روينا عن آبائنا ، هذا سيّدُ العالمين ، هذا
رسول رب العالمين ، يبعثه رحمة للعالمين. إحذرْ عليه اليهود لئن رأوه وعرفوا منه
ما أعرف ليقصدنَّ قتلَه (روى تاريخ الطبري : ج 2 ، ص 32 و 33 ، والسيرة النبوية : ج 1 ، ص 180
ـ 183 هذه القصّة بتفصيل اكبر وقد اختصرناها هنا تمشياً مع حجم هذا الكتاب.).
هذا وقد اتفق اكثر المؤرخين على أنَّ
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
لم يتعدَّ تلك المنطقة ، وليس من الواضح أن عمه « أبا طالب » بعثه إلى مكة مع
أحد ، ( ويُستَبعد أن يكون عمُه قد رضي بمفارقته منذ أن سمع تلك التحذيرات من
الراهب بحيرا ) ، أم أنه اصطحبه بنفسه إلى مكة ، وانثنى عن مواصلة سفره إلى
الشام (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 182 و 183.).
وربما قيل أنه تابع
ـ بحذر شديد ـ سفرَهُ إلى الشام مع ابن اخيه « محمَّد ». |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
اُكذُوبَةُ
المُسْتشرقيْن :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد آلينا على أنفسنا
في هذا الكتاب ان نشير إلى أخطاء المستشرقين وغلطاتهم بل وربما أكاذيبهم ،
واتهاماتهم الباطلة ، وشُبههُم الواهية ليتضح
للقراء الكرام الى أي مدى يحاول هذا الفريق إرباك أَذهان البُسطاء من الناس ،
وبلبلة عقولهم حول قضايا الإسلام!! إن قضية اللقاء الّذي تم ـ في بصرى ـ
بين النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
والراهب « بحيرا » لم تكن سوى قضية بسيطة ، وحادثة عابرة وقصيرة ، إلا أنها وقعت
في ما بعد ذريعة بايدي هذه الزمرة ( المستشرقون ) فراحوا يصرّون أشدّ اصرار على
أنّ ما أظهره رسولُ اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
من تعاليم رفيعة سامية بعد 28 عاماً ، واستطاع بها أن يُحيي بها تلك الاُمة
الميّتة قد تلقاها من الراهب « بحيرا » في هذه السفرة. ويقولون : إن « محمَّداً
» بما تمتع به من قوة ذاكرة ، وصفاء نفس ودقة فكر ، وعظمة روح وهبته اياها يد
القدر ، أخذ من الراهب « بحيرا » في لقائه به ، قصص الانبياء السالفين والاقوام
البائدة مثل عاد وثمود ، وكثيراً من تعاليمه الحيوية. ولا ريب في أن هذا
الكلام ليس سوى تصور خيالي لا يتلاءم ولا ينسجم مع حياته صلىاللهعليهوآلهوسلم بل وتكذبه الموازين
العقلية ، واليك بعض الشواهد على هذا : 1 ـ لقد كان « محمَّد
» صلىاللهعليهوآلهوسلم
باجماع المؤرخين اُميّاً ، لم يتعلم القراءة والكتابة ، وكان عند سفره إلى الشام
، ولقائه ب « بحيرا » لم يتجاوز ربيعه الثاني عشر بعد ،
فهل يصدق العقل ـ والحال هذه ـ أن يستطيع صبيٌ لم يدرس ولم يتعلّم القراءة
والكتابة ولم يتجاوز ربيعه الثاني عشر ان يستوعب تلك الحقائق من « التوراة » و «
الإنجيل » ، ثم يعرضها ـ في سن الاربعين ـ على الناس بعنوان الوحي الالهيّ
والشريعة السماوية؟! إن مثل هذا الأمر خارج عن الموازين
العادية ، بل ربما يكون من الاُمور المستحيلة لو أخذنا بنظر الاعتبار حجم
الإستعداد البشري. 2 ـ إن مدة هذا اللقاء
كان اقل بكثير من أن يستطيع محمَّد صلىاللهعليهوآلهوسلم في مثل تلك الفترة
الزمنية القصيرة أن يستوعب « التوراة » و « الانجيل » ، لأن
هذه الرحلة كانت رحلة تجارية ولم يستغرق الذهاب والاياب والاقامة اكثر من أربعة
أشهر ، لأن قريشاً كانت تقوم في كل سنة برحلتين ، في الصيف إلى « الشام » ، وفي
الشتاء إلى « اليمن » ، ومع هذا لا يُظنّ أن تكون الرحلة برمتها قد استغرقت اكثر
من اربعة أشهر ، ولا يستطيع اكبر علماء العالم واذكاهم من أن يستوعب في مثل هذه
المدة القصيرة جداً محتويات ذينك الكتابين ، فضلا عن صبي لم يدرس ، ولم يتعلم
القراءة والكتابة من احد. هذا مضافاً إلى أنه لم
يكن يصاحب صلىاللهعليهوآلهوسلم
ذلك الراهب كل تلك الاشهر الاربعة بل ان اللقاء الّذي وقع إتفاقاً في أحد منازل
الطريق لم يستغرق سوى عدة ساعات لا اكثر. 3
ـ إن النَص التاريخي يشهد بأن « ابا طالب » كان ينوي اصطحاب النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى الشام ، ولم يكن
مقصده الأصلي « بصرى » بل إن « بصرى » كان منزلا في أثناء الطريق تستريح
عنده القوافل التجارية أحياناً ، ولفترة جداً قصيرة. فكيف يمكن في مثل هذه الصورة ان يمكث
رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
في تلك المنطقة ، ويشتغل بتحصيل علوم « التوراة » و « الانجيل » ومعارفهما؟ سواء
قلنا بأن « ابا طالب » أخذه معه إلى الشام ، أو عاد به من تلك المنطقة إلى مكة
أو أعاده بصحبة أحد إلى مكة؟! وعلى كل حال
فان مقصد القافلة ومقصد « ابي طالب » لم يكن « بصرى » ليقال : ان القافلة اشتغلت
فيها بتجارتها ، بينما اغتنم « محمَّد » الفرصة واشتغل بتحصيل معارف العهدين. 4 ـ إذا كان محمَّد صلىاللهعليهوآلهوسلم قد تلقى اُموراً ومعارف
من الراهب المذكور اذن لاشتهر ذلك بين قريش حتماً ، ولتناقل الجميع خبر ذلك بعد
العودة إلى مكة. هذا مضافاً إلى
أنّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
نفسه ما كان يتسطيع أن يدعي امام قومه في ما بعد بأنه اُميُّ لم يدرس كتاباً ،
ولا تلمذ على أحد ، في حين أن النبيّ الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم
افتتح رسالته بهذا العنوان ، ولم يقل أحدٌ ، يا محمَّد كيف تدعي بأنك لم تقرأ
ولم تدرس عند احد وقد درست عند راهب « بصرى » وتلقيت منه هذه الحقائق الناصعة
وانت في الثانية عشرة من عمرك؟ لقد وَجَّه مشركوا مكة جميع انواع
الإتهام إلى رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
، وبالغوا في البحث عن أيّة نقطة ضعف في قرآنه يمكن أن يتذرعوا بها لتفنيد دعوته
، حتّى أنهم عندما شاهدوا النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
ذات مرةْ عند ولكن القرآن الكريم لم يتعرض لذكر
هذه الفرية قط كما أن قريشاً المجادلين المعاندين لم يتذرعوا بها أبداً ، وهذا
هو بعينه دليلٌ قاطعٌ وقويٌ على أن هذه الفرية من افتراءات المستشرقين في عصرنا
هذا ، ومن نسج خيالهم!! 5 ـ إن قصص الانبياء
والرسل الّتي جاءت في القرآن الكريم على وجه التفصيل تتعارض وتتنافى مع ما جاء
في التوراة والانجيل. فقد ذُكِرَت قصصُ الأنبياء واحوالهم
في هذين الكتابين بصورة مشينة جداً ، وطُرحت بشكل لا يتفق مع المعايير العلمية
والعقلية مطلقاً ، وان مقايسة عاجلة بين هذين الكتابين من جانب وبين القرآن
الكريم من جانب آخر تثبت بأن قضايا القرآن الكريم ومعارفه لم تتخذ من ذينك
الكاتبين بحال ، ولو أن النبيَ محمَّداً صلىاللهعليهوآلهوسلم
قد اكتسب معارفه ومعلوماته حول الانبياء والرسل من العهدين لجاء كلامُه مزيجاً
بالخرافات والأَوهام (تتجلى هذه الحقيقة أكثر فاكثر إذا ما قارنّا بين مواضيع القرآن
الكريم ، وبين ما جاء في نصوص العهدين ( التوراة والأنجيل ) وقد تصدى بعض الكتاب
الاسلاميين لمثل هذه المقارنة ، وقد تعرضنا لها ايضاً في بعض دراساتنا.).
6 ـ إذا كان راهب «
بُصرى » يمتلك كل هذه الكمية من المعلومات الدينية والعلميّة الّتي عرضها رسولُ
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
، فلماذا لم يحض هو بأي شيء من الشهرة ، ولماذا ترى
لم يُربِّ غير « محمَّد » في حين أن معبَده كان مزار الناس ومقصدَ القوافل؟! 7 ـ يعتبرُ الكتاب
المسيحيّون « محمّداً » صلىاللهعليهوآلهوسلم
رجلا أميناً صادقاً ، والآيات القرآنية تصرح بأنه صلىاللهعليهوآلهوسلم لم يكن على علم مسبق أصلاً بقصص الأَنبياء والاُمم السابقين ،
وأن معلوماته في هذا الصعيد لم تحصل لديه إلا عن طريق الوحي. فقد جاء في سورة «
القصص » الآية (44) هكذا : « وما كُنْتَ بجانِب الغرْبيِّ إذْ قَضيْنا إلى
مُوْسى الأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشّاهِديْن ».
وجاء في سورة « هود »
الآية (49) بعد نقل قصة نوح : « تِلْكَ مِنْ أَنباء الْغَيْبِ نُوحيها إليكَ ما
كُنْتَ تَعلَمُها أَنْت وَلا قومُك مِنْ قَبْل هذا ».
إن هذه الآيات توضح أن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
لم يكن على علم أبداً بهذه الحوادث ، والوقائع. وهكذا جاء في الآية (44) من سورة «
آل عمران » : « ذلِكَ مِنْ
أنْباء الْغيْبِ نُوْحيه إلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيهِمْ إذْ يُلْقُوْنَ أقْلامهُمْ
أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ ، وَما كُنْتَ لَديْهم إذْ يَخْتصِمُونَ ».
إن هذه الآية وغيرها من الآيات
العديدة تصرح بأن هذه الأخبار الغيبيّة وصلت إلى النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
عن طريق الوحي فقط ، وهو لم يكن على علم بها مطلقاً. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
نَظْرةٌ إجْماليَّة إلى التَوْراة الحاضِرَة :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إنَّ هذا الكتاب السَماويّ تورَّط في
تناقضات عجيبة في بيان قصص الأنبياء والمرسلين لا يمكن نسبتها إلى الوحي مطلقا ،
وها نحن نأتي هنا بنماذج في هذا المجال من التوراة ليتضح لنا أن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
لو كان قد أخذَ قضايا القرآن الكريم من ذلك الراهب فلماذا لا يحتوي هذا الكتاب
العظيم على تلك الأضاليل الّتي انطوى عليها « التوراة » و « الانجيل ». واليك بعض ما جاء حول
الأَنبياء والمرسلين في « التوراة » و « الانجيل » ونقارن ذلك بما جاء في القرآن
الكريم ليتضح مدى الفرق بين الكتابين ( العهدين ، والقرآن ). |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
1 ـ داود عليهالسلام
:
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
جاء في التوراة : « إن داود رأى من
على السطح امرأة تستحمّ ، وكانت المرأة جميلة المنظر جداً ، فارسل داود وسأل عن
المرأة ، فقال واحد : إنها امرأة اُوريّا فأرسل داود رسلا وأخذها فدخلت إليه
فاضطجع معها وهي مطهَّرة من طمثها ثم رجعت إلى بيتها ، وحبلت المرأة ، فارسلت
وأخبرت داود وقالت : إني حُبلى ، فارسل داود إلى يؤاب يقول : اجعلوا أوريّا في
وجه الحرب الشديدة (1)
، وارجعوا من ورائه فيضرب ويموت ... فلما سمعت امرأة أوريّا أنه قدمات اُوريّا
رجلُها ندبت بعلها ، ولمّا مضت المناحة أرسل داود وضمَّها إلى بيته وصارت له
إمرأة ، وولدت له إبناً ، وامّا الأمرُ الّذي فعله داود فقبح في عينيّ الرب »!! (العهد القديم ( التوراة ) : صموئيل ، الثاني الاصحاح الحادي عشر 3
إلى 27.).
هكذا تصف التوراة النبيّ الكريم داود ، وترميه بالزنا ، واكراه امرأة محصنة على
خيانة زوجها!! بينما يصف القرآن الكريم النبيّ داود عليهالسلام
بافضل
الاوصاف إذ يقول ( في الآية 15 و 16 من
سورة النمل ) : « وَلَقَدْ آتَيْنا داوود وسلَيْمانَ عِلْماً
وَقالا ألحَمْدُ للّه الَّذيْ فَضَّلنا عَلى كثير مِنْ عِبادِهِ ... وَقالَ يا
أيُّهَا الناسَ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَيْر وَاُوتيْنا مِنْ كُلِّ شَيء إنَّ هذا
لَهُوَ الفَضْلِ الْمُبِيْنِ ». |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
2 ـ النبيّ سليمان عليهالسلام :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
تقول « التوراة » عن
النبيّ العظيم سليمان عليهالسلام
: 1 ـ
« وداود الملكُ ولد سليمان من الّتي لاُوريّا » (إنجيل مَتَّى : الاصحاح الأول 6.).
أي ان سليمان النبيّ الكريم ـ
والعياذ باللّه ـ هو ابن زنا!! 2 ـ
وَأَحَبَّ المَلِكُ سُلَيمان نساء غريبة ... مِنَ الذين قالَ عَنْهُمْ الربُ
لبنيّ اسرائيل : لا تدخلونَ إليهم ، وهُمْ لا يَدُخلونَ إليكم لأَنَّهُمْ يُميلونَ
قلوبَكم وراء آلهتهم ، فالتصق سلَيمانُ بهؤلاء بالمحبَّة ، وكانت له سبع مئة من
النساء السيدات ، وثلاث مئة من السراري فأمالت نساؤه قلبَهُ وكان في زمان شيخوخة
سليمان ان نساءه أملن قلبه وراء آلهة اُخرى ، ولم يكن قلبُه كاملا مع الرب
الهِهِ كقلب داود ابيه ، فذهب سليمان وراء عَشتُورت إلاهة الصيد ونين ، وملكوم
رجس العمونيين ، وعمل سليمان الشرَّ في عيني الرب ، ولم يتبع الرب تماماً كداود
أبيه ، فغضب الربُ على سليمان لأن قلبه مال عن الرب إله إسرائيل »!!! (التوراة : الملوك الأول الاصحاح : 11 ، العبارات 1 : 11.).
إن سليمان
ـ حسب هذه التعابير التوراتية ـ يعشق النساء الاجنبيات ، ويتقرب اليهن بصنع
أصنام لَهُنَّ. ويعبدها معهن ، ويرتكب الشرور الّتي أغضبت الرب!! بينما يقول القرآن الكريم عن سليمان عليهالسلام
« ولقد آتيْنا داودَ وَسُلَيْمانَ
عِلماً » (2).
ويقول : « وَلِسُلَيْمان الرِّيْح عاصِفَة تَجْري بأَمْره
إلى الأرض الَّتي باركْنا فيها ، وَكنا بِكُلِّ شَيء عالِمين »
(3).
إنه نبي عظيم اختاره اللّه تعالى
لوحيه ، وأصطفاه لأَداء رسالاته. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
3 ـ يعقوب عليهالسلام :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إنَّ « التوراة » تصف النبي العظيم يعقوب عليهالسلام بأنه رجل كذّاب مخادع ، أخذ النبوة من ابيه بالمكر والخداع ، « فعِند ما
شاخَ اسحاقُ وكَلّت عيناهُ عن النظر دعا عيسو إبنه الاكبر ، وطلب منه أن يصطادله
صيداً ، ويصنع له طعاماً جيداً حتّى يباركه ، ويعطيه النبوة ، ولكن يعقوب ( ابن إسحاق من رفقة زوجته الأخرى )
بادر إلى صنع طعام لذيذ لأبيه وتظاهر بأنه عيسو ، لابساً ثياب عيسو ، وقطعاً من
جلود جَدْيي المعزى على عنقه لأن عيسو كان مشعراً وكان يعقوب املس الجسد ، فبارك
اسحاق ابنه يعقوب ومنحه النبوة ، وبعد ذلك قدم عيسو من الصيد ، فعرف اسحاقُ بانه
خُدِع ، وأن يعقوب أخذ منه النبوة بالمكر ، فارتعد اسحاقٌ ارتعاداً عظيماً جداً
وقال لعيسو متأسفاً : قد جاء أخوك بمكر ، وأخذ بركتك »!! (سفر التكوين : الاصحاح السابع والعشرون : 1 إلى 46 ، وقد ذكرنا هذه
القصّة من التوراة بتلخيص.).
هذا هو حال يعقوب في لسان « التوراة » المحرفة!! وأما القرآن الكريم
فانه يقول عن هذا النبيّ الطاهر : « وَوَهبْنا لَهُ إسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاّ
هَدَيْنا مِن قَبلُ وَمِنْ ذريّته داوود وَسُليمانَ وَأيّوبَ وَيُوسفَ وَمُوسى
وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزي الُمحْسِنيْن »
(2).
ويقول تعالى أيضاً : « وَاذْكُرْ عِبادنا إبْراهِيْمَ وَاسْحاقَ
وَيَعْقُوبَ اُوْلى الأَيْدي والأَبْصار. انا أخلَصْناهُمْ بخالِصَة ذِكْرى
الدّار. وإنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفيْنَ الأَخيار »
(3).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
4 ـ إبْراهيم عليهالسلام :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
تقول « التوراة » عن إبراهيم عليهالسلام
إنّه
لمّا اراد أن يدخلَ مصر قال لِزوجته سارة :
إني قد علمتُ أنك إمرأة حسَنة المنظر ، فيكون إذا رآك المصريون أنهم يقولون :
هذه إمرأَته ، فيقتلونني ، ويَسْتَبْقونكِ ، قولي إنكِ اُختي ، ليكونَ لي خيرٌ
بسببكِ وتحيا نفسي من أجلِكِ. وكذلك فعَلتْ سارة واخِذت إلى بيت
فرعون ، فصنع إلى إبرام خيراً بسببها ، وصار له غنم ، وبقر ، وحمير ، وعبيد ،
وإماء ، واُتن ، وجمال ، ولما عرف فرعون ـ في ما بعد ـ ان سارة زوجة ابراهيم ،
وليس اُخته عاتبه قائلا : لماذا لم تخبرني إنها إمرأتك ، لماذا قلت : هي اُختي
حتّى أخذتها لي لتكونَ زوجتي والآن هو ذا إمرأتك ، خذْها واذهب » (سفر التكوين : الاصحاح الثاني عشر 1 ـ 20.).
إن ابراهيم الخليل عليهالسلام
في وصف التوراة رجلٌ كذابٌ ، يكذب ويحتال. أما القرآن الكريم
فيصف هذا النبي الجليل بأعظم الأوصاف ، ويعتبره أعظم الأنبياء إذ يقول عنه انه :
1 ـ حنيف مُوحِّدٌ للّه : « ولكِنْ كانَ حَنِيفاً »
( آل عمران : 67 ). 2 ـ إمامُ الناس : « إنّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إماماً »
( البقرة : 134 ). 3 ـ مُسْلِمٌ : « ولكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً »
( آل عمران : 67 ). 4 ـ حَليمٌ : « إنَّ إبراهيم لأوّاةٌ حَلِيْمٌ »
( التوبة : 84 ). 5 ـ امة كامِلَة بمفرده : « إنّ إبراهيم كانَ أُمَّة »
( النحل : 120 ). 6 ـ أواهٌ يَخشى اللّه : « إنَّ إبراهِيْم لأوّاهٌ »
( التوبة : 84 ). 7 ـ مصطفى : « لمنَ المُصْطَفين الأَخْيار »
( ص : 48 ). 8 ـ ذو قلب سَليم : « إذ جاء رَبّه بِقَلْب سَلِيْم »
( الصافات : 48 ). |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
5 ـ المسيح عليهالسلام :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إن عيسى ـ حسب رواية الإنجيل ـ يحتقر اُمه
، ويزدري بها ، فذات يوم جاء إخوته واُمه ووقفوا خارجاً وارسلوا يدعونه ، وكان
الجمع جالساً حوله ، فقالوا له « هو ذا امُّك وإخوتك خارجاً يطلبونك ، فأجابَهُم
قائلا : من اُميّ وإخوتي؟ ثم نظرَ حوله إلى الجالِسين وقال : ها اُمّي وإخوتي ،
لأَنَّ مَنْ يصنع مشيئة اللّه هو أخي واُختي واُمّي »!! (إنجيل مرقس : الاصحاح الثالث : 31 ـ 35.)
إنه يقول هذا الكلام عن اُمّه الّتي
وصفها القرآن الكريم
بأن
اللّه تعالى اصطفاها على نساء العالمين (آل عمران : 42.).
إنه يفَضِّل تلاميذه الذين لم يؤمنوا
به في قلوبهم ذرة من خردل ، والذين خذلوه ليلة الهجوم عليه من جانب اليهود (انجيل متّى : الاصحاح السابع والشعرون 1 ـ 6 انظر كيف وافق يهوذا
الاسخريوطي وهو أحد الحواريين مع المتآمرين ضدّ المسيح ، وأيضاً راجع نفس السفر
: الاصحاح السادس والعشرين : وراجع انجيل متّى : الاصحاح العاشر أيضاً.)
ـ
كما يقول الانجيل ـ على اُمه الصدّيقة. كما إن الانجيل يقول :
إن
المسيح حوّل الماء إلى الخمر في عرس (إنجيل يوحنا : الاصحاح الثاني : 1 ـ 11.)
بل يقول إنه عليهالسلام : شرب
الخمر (إنجيل لوقا : الاصحاح الأول 15 وغيره.)
، والحال أن الإنجيل يصرّح بحرمة الخمر في مواضع عديدة. هذا هو « عيسى » النبي الطاهر
وحواريوه حسب رواية الانجيل!! (على أنّ خرافات التوراة والانجيل لا تنحصر في ما ذكرناه هنا ،
وللتوسع راجع : أنيس الأعلام تأليف فخر الإسلام ، والهدى إلى دين المصطفى
للعلامة البلاغي.).
أما القرآن الكريم فيقول
عنه غير ما يقوله : « الانجيل » وإليك بعض ما جاء في الكتاب العزيز حول « المسيح
» عليهالسلام. قال اللّه تعالى : « وَآتينا عِيْسى بْن مَريَم البيّنات وأيَّدْناهُ
برُوْح القُدُس » (البقرة :
78). وقال تعالى أيضاً : « إنّما المسيحُ عيْسى بنُ مريم رَسُول اللّه
وكلمته » (النساء :
171). ويكفي في عظمة المسيح عليهالسلام وعلو شأنه أنه عليهالسلام كلَّم
الناس في المهد صبياً وقال : «
إنّي عَبْدُ اللّه آتاني الكتابَ وَجَعَلني نَبِيّاً. وَجَعَلني مُبارَكاً أيْنَ
ما كُنْتُ وَأوْصانِي بِالصَّلاة والزّكاةِ ما دُمْتُ حَيّاً. وبرّاً بِوالِدَتي
وَلَمْ يَجْعَلني جَبّاراً
شَقِيّاً. والسَّلامُ عَليَّ يَوْم وُلدْتُ وَيَوْمَ أمُوتُ وَيَومَ اُبْعَثُ
حيّاً. ذلِكَ عِيْسى بْن مَرْيَم قَوْل الْحَقِّ الَّذيْ فيه يَمْترُون »
(مريم : 30 ـ 34). هذه هي مواقف
القرآن الكريم من الأنبياء الكرام ،
والرسل العظام ، وتلك هي مواقف « التوراة » و « الانجيل » المشينة ، المسيئة إلى شخصيّة سفراء
اللّه مبلّغي رسالاته ، فكيف يُعقل ان يكون القرآن الكريم
مقتبساً من تلك الكتب وبينهما بُعد المشرقين؟! ثم لو أنَّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
كان قد اطّلع على هذه القضايا والقصص قبل إخباره بنبوّته فلماذا لم يرشح منها
شيء في أحاديثه قبل الرسالة وقد عاش بين قومه طويلا. قال اللّه سبحانه في معرض الردّ
والجواب على اقتراح المشركين على النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم بأن يأتي
لهم بقرآن غير الّذي جاء به : «
قُلْ لَوْ شاء اللّه ما تَلوْتُهُ ولا أدْريكُمْ به فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ
عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أفلا تعْقِلُونَ » (يونس : 16.).
فالآية تؤكد على أن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
كان لابثاً في قومه ، ولم يكن تالياً لسورة من سور القرآن ، أو آياً من آياته ،
فكل ما أخبر به هو ممّا أوحى به اللّه تعالى إليه بعد ان بعثه بالرسالة (للتوسّع راجع مفاهيم القرآن : ج 3 ص 321 ـ 323.). |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
8
فَترة الشَباب
في حياة النبيّ الأكرم
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
يجب ان يكون قادة المجتمع أقوياء
شجعان ، لايرهبون أحداً ، ولا يخافون شيئاً ، يمتلكون قوة روحية كبرى ،
ويتمتّعون بصبر عظيم. وإرادة قوية ، صلبة. فكيف يستطيع الضعفاء والجبناء
والمتردّدون ، وضعاف النفوس قيادة المجتمع ، والخروج به من المآزق والمشاكل ،
وكيف يستطيعون أن يقاوموا اعداءهم ويحفظوا كيانهم وشخصيّتهم من عدوان هذا أو
ذاك؟! إن لعظمة القائد الروحية ، ولقواه
البدنية والنفسية تأثيراً عظيماً وعجيباً في أتباعه وأنصاره ، فعند ما اختار
الإمام اميرُ المؤمنين عليهالسلام
أحدَ اصحابه المخلصين لولاية « مصر » كتب إلى أهل « مصر » المظلومين الذين ذاقوا
الأَمرّين على ايدي ولاتهم السابقين كتاباً ذكر فيه شجاعة هذا الوالي الجديد ،
الروحية وقدرته النفسية الفائقة ، وإليك فيما يلي بعض الفقرات من ذلك الكتاب
الّذي يعكس الشروط والمواصفات الواقعية في القائد : « أما بعدُ فقَد بَعثتُ اليكم عَبداً
مِن عباد اللّه لا ينامُ أيّام الخوف ، ولا ينكُل عن الأعداء ساعات الروع ، أشدّ
على الفُجار من حريق النّار ، وهو مالك بن الحارث أخو مذحج ، فاسمعوا له وأطيعوا
أمره فيما طابقَ الحق ، فإنه سَيْفٌ مِن سُيوف اللّه ، لا كليلُ الظَبَّة ،
ولا نابِي الضريبة » (نهج البلاغة : قسم الرسائل ، الرقم 38.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
رسولُ
اللّه وقدرتُه الروحيّة :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد كانت آثار الشجاعة ، والقوّة
باديةً في جبين عزيز قريش منذ طفولته وصباه ، ففي الخامسة عشرة من عمره الشريف
شارك في حرب هاجت بين قريش من جهة ، وقبيلة هوازن من جهة اخرى ، وتدعى « حرب
الفجار » ، وقد كان في هذه الحرب يناول أعمامه النَبل. فها هو « ابن هشام »
ينقل عن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
قال : « كُنْتُ اُنبّلُ عَلى أعْمامِيْ » (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 186 ، وقد قال ابن الأثير في النهاية بعد
نقل هذا الحديث وضبط الكلمة « انبل » مشدّدة « اُنبِّل » : « إذا ناولته النبل
يرمي » راجع مادّة نبل.).
إن مشاركته صلىاللهعليهوآلهوسلم
في العمليات الحربية في مثل هذه السن تكشف عن شجاعته صلىاللهعليهوآلهوسلم وقدرته الروحية الكبرى وتساعدنا على
أن ندرك مغزى ما قاله أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهالسلام
في حق النبيّ الكريم صلىاللهعليهوآلهوسلم : « كُنّا إذا أحمر الْبأَسُ
إتّقيْنا برَسُول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
، فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنّا أقرَبَ إلى العَدوِّ مِنْهُ » (نهج البلاغة : فصل في غريب كلامه الرقم 9.).
وسوفَ نشير ـ وبعون اللّه عند ذكر
جهاد المسلمين للكفار والمشركين ـ إلى نظام العسكرية الإسلامية وكيفية جهاد
المسلمين وقتالهم لأعدائهم الّتي تمَّت بأجمعها بتوجيه من النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
، وهو في نفسه من الابحاث الشيّقة في تاريخ الإسلام. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
حُروبُ
الفِجار :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إنَّ الحديث بتفصيل هذه الوقائع وعن
تكتيكات هذه الحوادث التاريخيّة خارج عن إطار هذه الدراسة ، بيد أننا ـ مع ذلك ـ
نعمد إلى بيان أسباب هذه الحروب الّتي شارك في إحداها رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
بناء على رواية بعض المؤرخين وحوادثها على نحو الاجمال بغية اطلاع القارئ
الكريم. كانت العرب تقضي عامها كله بالقتال
والاغارة ، وقد تسبب هذا الوضع في اختلال حياتهم ، واضطراب اُمورهم ، ولأجل هذا
كانوا يحرّمون القتال ويتوقفون عنه في أربعة أشهر من كل عام ( هي شهر رجب ،
ذوالقعدة ، ذوالحجة ، محرم ) ليتسنى لهم ـ في هذه المدة ـ أن يقيموا أسواقهم ،
ويستغلّوها بالكسب والتجارة والبيع والشراء (يُستفاد من قوله تعالى في الآية 36 من سورة التوبة : « إنَّ عِدَّة الشّهور عِندَ اللّه اثنا
عَشَر شَهْراً في كِتابِ اللّه يَوْم خلَقَ السَّماواتِ والأَرْض مِنْها أربعةٌ
حُرُم » أن تحريم القتال في هذه الأشهر الأربعة كان ذا جذور دينية
، وكانت العرب الجاهلية تحترم هذه الأشهر اتباعاً لسُنّة « إبراهيم الخليل » عليهالسلام.).
ولهذا كانت أسواق « عكاظ » و «
مجنَّة » و « ذو المجاز » تشهد طوال هذه الاشهر الحرام اجتماعات كبرى وتجمعات
حافلة وحاشدة ، كان يلتقي فيها العدوّ والصديق جنباً إلى جنب ، يتبايعون ،
ويتفاخرون. فقد كان شعراء العرب المشهورون يلقون
قصائدهم في هذه الاجتماعات الكبرى ، كما يلقي كبارُ خطباء العرب وفصحاؤهم خطباً
قوية ، وأحاديث في غاية الفصاحة والبلاغة ، وكان اليهودُ والنصارى والوثنيون
يعرضون معتقداتهم في هذه المناسبات من دون خوف أو وجل. ولكنَ هذه الحرمة قد
هُتكت أربعَ مرات في تاريخ العرب ، وتقاتلت
القبائلُ العربية فيما بينها في هذه الأشهر الحرم ، ولهذا سُمِّيت تلك الحروب
بحروب « الفجار » ، وفي ما يلي نشير إليها
على نحو الاجمال : |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الفِجارُ الأوَّل :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ووقعت الحربُ فيها
بينَ قبيلتي « كنانة » و « هوازن » وجاء في
سبب نشوب هذه الحرب أن رجلا يدعى «
بدر بن معشر » كان قد أعدَّ لنفسه مكاناً في سوق «
عكاظ » يحضر فيه ، ويذكر للناس مفاخره فوقف ذات مرة شاهراً سيفه يقول : أنا
واللّه أعزُّ العرب فمن زعم أنه أعزّ منّي فليضربها بالسيف. فقام رجلٌ من قبيلة اُخرى فضرب
بالسيف ساقه فقطعها ، فاختصم الناس وتنازعت القبيلتان ، ولكنهما اصطلحتا من دون
أن يُقتل أحدٌ (ولقد كان ممّا أزاله الإسلام ومحاه هذا التفاخر الجاهلي المقيت ،
وستعرف هذا في الابحاث القادمة.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الفِجار الثّاني :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وكان سببه أن فتية من
قريش قعدوا إلى أمرأة من « بني عامر » وهي جميلة ، عليها برقع ، فقالوا لها :
إسْفري لننظر إلى وجهِك ، فلم تفعلْ ، فقام غلامٌ
منهم ، فجمع ذيل ثوبها إلى ما فوقه بشوكة فلما قامت انكشف جسمُها ، فضحكوا ،
فصاحت المرأة قومها ، فأتاها الناسُ ، واشتجروا حتّى كاد ان يكون قتالٌ ، ثم
اصطلحوا ، وانفضُّوا بسلام. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الفِجارُ الثالِث :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وسببه أن رجلا من «
كنانة » كان عليه دَيْنٌ لرجل من « بني عامر » ، وكان الكناني يماطل ، فوقع
شجارٌ بين الرجل ، واستعدى كل واحد منهما قبيلته ، فاجتمع الناسُ ، وتحاوروا
حتّى كاد يكونُ بينهم القتالُ ، ثم اصطلحوا. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الفِجارُ الرابع :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وهي الحرب الّتي ـ قيل
أنه ـ شارك فيها النبيّ الكريم صلىاللهعليهوآلهوسلم. ولقد ادّعى البعض انه صلىاللهعليهوآلهوسلم
كان يومذاك في الخامسة عشرة ، أو الرابعة عشرة من عمره. وقال بعضٌ : انه كان في العشرين من
عمره وحيث أن هذه الحرب قد استمرت أربع سنوات. لهذا يمكن أن تكون جميع هذه
الاقوال صحيحة (التاريخ الكامل : ج 1 ، ص 358 و 359 ، السيرة النبوية : ج 1 ، ص 184
الهامش ، تاريخ الخميس : ج 1 ، ص 259.).
وقيل في سببه : أن « النعمان بن المنذر » ملك الحيرة
كان يبعث إلى سوق « عكاظ » في كل عام بضاعة
في جوار رجل شريف من أشراف العرب ، يُجيرها له حتّى تباع هناك ويشتري بثمنها من
أقمشة « الطائف » الجميلة المزر كَشة ممّا يحتاج إليه ، فأجارها « عروة الرجال الهَوازني » في تلك السنة ، ولكن « البراض
بن قيس الكناني » انزعج لمبادرة « عروة » إلى ذلك ، فشكاه
عند « النعمان بن المنذر » ولم يجد اعتراضه وشكواه ، فحسد على « عروة » حسداً
شديداً ، فتَربَّص به حتّى غدر به في اثناء
الطريق ، وبذلك لطّخ يده بدم هوازني. وكانت قريش يومذاك
حليف كنانه ، وقد اتفق وقوعُ هذا الأمر يوم كانت
العرب مشغولة بالكسب والتجارة في سوق عكاظ ، فأخبر رجل قريشاً بمقتل الهوازنيّ
على يد الكنانيّ ، ولهذا عرفت قريش
وحليفتها بنو كنانة بالأمر قبل هوازن ، وأسرعوا في
الخروج من « عكاظ » وتوجهوا نحو الحرم ( والحرم هو اربعة فراسخ من كل جانب من
مكة ، وكانت العرب تحرّم القتال في هذه المنطقة ) ولكن هوازن علمت بذلك فلاحقت
قريشاً وحليفتها فوراً ، وادركتهم قبل الدخول في الحرم فوقع بينهم قتال ، ولما
جنّ الليل كفّوا عن الحرب فاغتنمت « قريش » وحليفتُها فرصة الليل ، وواصلت
حركتها باتجاه الحرم المكي وبذلك نجت من خطر العدو. ومنذ ذلك اليوم كانت
تخرج قريش وحليفتها من الحرم بين الفينة والاخرى وتقاتل هوازن ، وقد شارك النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في بعض تلك الأيام مع
أعمامه على النحو الّذي مرّ بيانه. وقد استمر الامر على هذه الحال مدة أربع سنوات ، حتّى ان
وُضعَت نهاية لهذه الحرب الطويلة بدفع
قريش لهوازن دية القتلى الذين كانوا يزيدون على قتلى قريش على يد هوازن
(سيرة ابن هشام : ج 1 ، ص 184 ـ 187 ، الأغاني : ج 22 ، ص 56 ـ 75.).
وقد أسلفنا أن تحريم القتال في
الأشهر الحرم كانت له جذورٌ دينية ،
وحيث
أن حرب « الفجار » استمرت أربع سنوات فيمكن أن يكون لمشاركة النبي
صلىاللهعليهوآلهوسلم
فيها وجهاً وجيهاً وهو الدفاع ، خاصة انه لما سئل صلىاللهعليهوآلهوسلم عن مشهده يومئذ فقال : « ما سَرّني
أنّي أَشْهدهُ ، إنَّهُمْ تَعَدَّوْا عَلى قَومي عرضوا ( اي قريش ) عَلَيْهم ( اي على هوازن ) أنْ
يَدْفعُوا إلَيْهِم البرّاض صاحِبَهُمْ (
اي الّذي قتل عروة ) فأَبُوا » (الأغاني : ج 22 ، ص 73.).
ويحتمل أن تكون
مشاركته صلىاللهعليهوآلهوسلم
في غير الأشهر الحرم بناء على استمرار هذه الحروب مدة
اربعة اعوام ، وإنما سميت مع ذلك بالفجار لأن بدايتها وافقت الأشهر الحرم لا
أنّها وقعت بتمامها في الأشهر الحُرم. وبذلك لا يبقى مجال
لأن تُسْتَبْعَد مشاركة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم في بعض أيام تلك الحرب. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
حِلْفُ الْفُصُول :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد كان في ما مضى
ميثاقٌ وحلفٌ بين الجرهميين يدعى بحلف « الفُضُول » ،
وكان هذا الحِلفْ يهدف الى الدفاع عن حقوق المظلومين ، وكان المؤسسون لهذا الحلف
هم جماعة كانت اسماؤهم برمتها مشتقة من لفظة الفضل ، واسماؤهم ـ كما نقلها المؤرخ المعروف « عماد
الدين ابن كثير » ـ هي عبارة عن : « فضل
بن فضالة » ، و « فضل بن الحارث » ، و « فضل بن وداعة »
(البداية والنهاية : ج 1 ، ص 290.)
، وحيث أن الحلف الّذي عقدته جماعة من قريش فيما بينها كان متحداً في الهدف (
وهو الدفاع عن حقوق المظلومين ) مع حلف « الفضول » لذلك سمّي هذا الاتفاق وهذا
الحلف بحلف « الفُضول » أيضاً. فقبل البعثة النبوية الشريفة بعشرين
عاماً دخل رجلٌ من « زبيد في مكة في شهر ذي القعدة ، وعرض بضاعة له للبيع
فاشتراها منه « العاص بن وائل » ، وحبس عنه حقه ، فاستعدى عليه الزبيديّ قريشاً
، وطلب منهم أن ينصروه على العاص ، وقريش آنذاك في انديتهم حول الكعبة ، فنادى
بأعلى صوته :
فأثارت هذه الأبيات العاطفية مشاعر
رجال من قريش ، وهيّجت غيرتهم ، فقام « الزُبير بن عبد المطّلب » وعزم على نصرته
، وأيّده في ذلك آخرون ، فاجتمعوا في دار « عبد اللّه بن جَدْعان » وتحالفوا
وتعاهدوا باللّه ليكونَنّ يداً واحدة مع المظلوم على الظالم حتّى يؤدّى إليه حقه
ما أمكنهم ذلك ثم مَشوا إلى « العاص بن وائل » فانتزعوا منه سلعة الزبيدي
فدفعوها إليه. وقد أنشدَ الزبير بن عبد المطلب في
ذلك شعراً فقال :
وقال أيضاً :
البداية والنهاية : ج 1 ،
ص 290. وقد شارك رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
، في هذا الحلف الّذي ضمن حقوق المظلومين وحياتهم ، وقد نُقِلت عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم
عبارات كثيرة يشيد فيها بذلك الحلف ويعتزُّ فيها بمشاركته فيه وها نحن ننقل
حديثين منها في هذا المقام. قال صلىاللهعليهوآلهوسلم : «
لقد شَهدْتُ في دار عبد اللّه بن جدعان حلفاً لو دُعيتُ به في الإسلام لأجبتُ ».
كما أن ابن هشام نقل
في سيرته أن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
كان يقول في ما بعد عن هذا الحلف : «
ما اُحبُّ أنَّ لي به حُمُرَ النِعَم ». ولقد بقي هذا الحلف يحظى بمكانة
واحترام قويّين في المجتمع العربي والإسلامي حتّى أن الأجيال القادمة كانت ترى
من واجبها الحفاظ عليه والعمل بموجبه ، ويدل على هذا قضيةٌ وقعت في عهد إمارة «
الوليد بن عتبة » الأموي (من قبل عمّه معاوية.)
على المدينة. فقد وقعت بين الإمام الحسين بن علي عليهالسلام
وبين أمير المدينة هذا منازعة في مال متعلّق بالحسين عليهالسلام
، ويبدو أنَ « الوليد » تحامل على الحسين في حقه لسلطانه ، فقال له الإمامُ
السبط الّذي لم يرضخ لحيف قط ، ولم يسكت على ظلم أبداً : « أَحلِفُ باللّه لتَنْصِفَنّي مِنْ
حَقّي ، أوْ لآخُذَنَّ سَيْفيْ ثمَّ لأَقُومَنَّ في مَسجد رَسُول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ثمَّ لأَدْعُونَّ بِحلفِ الفُضُول » (السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 132.).
فاستجاب للحسين فريقٌ من الناس منهم
« عبد اللّه بن الزبير » ، وكرّر هذه العبارة وأضاف قائلا : وأنا أحْلِفُ باللّه
لئن دعا به لآخُذَنَّ سَيْفي ثُمّ لأَقُومَنَّ مَعه حتّى يُنْصَفَ مِنْ حَقّهِ
أوْ نَمُوتَ جَميعْاً. وبلغت كلمة الحسين
السبط عليهالسلام
هذه إلى رجال آخرين ك « المسورة بن مخرمة بن نوفل الزُهري » و « عبد الرحمان بن
عثمان » فقالا مثل ما قال « ابن الزبير » ، فلما بلغ ذلك
« الوليد بن عتبة » أنصف الحسين عليهالسلام
من حقه حتّى رضي (البداية والنهاية : ج 2 ، ص 293.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
9
من فترة الشباب إلى مزاولة
التجارة
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
يحمل القادة الالهيون العظماء وأصحاب
الرسالات السماوية على كواهلهم مسؤوليات كبرى ، ومهام عظمى تلازم ـ في الأغلب ـ
التعرض للمتاعب والمصاعب ، والعذاب ، وتحمل الأذى ، بل وربما التعرض للقتل
والاغتيال ، وكلما كبرت الاهداف ، عظمت المشاكل ، والمتاعب. وعلى هذا الاساس ، فان نجاح القادة
الرساليّين يتوقف على مدى صبرهم واستقامتهم في وجه الاتهامات والمضايقات ، وفي
وجه الأذى والعذاب ، لأن الصبر والتحمل في جميع مراحل الجهاد والعمل هو الشرط
الاساسيّ للوصول إلى المقصود ، وإلى تحقيق الهدف المنشود والغاية المطلوبة. من هنا ليس لقائد حقيقي أن يخشى كثرة
العدو ، وليس له ان ينسحب ، أو يضعف لقلّة الاتباع والمؤيدين وبالتالي ليس له أن
يقلق للنوائب فتخور عزيمته ، أو ترخو إرادته ، مهما عظمت حلق البلاء واشتدت ،
ومهما تزايدت ، أو تواترت. إنّنا نقرأ في تاريخ
الأَنبياء وقصصهم اُموراً يعسر على الإنسان العاديّ هضمها ، ويصعب تصوُّرها. فعن نوح النبيّ عليهالسلام نقرأ أنه دعا
قومه تسعمائة وخمسين عاماً ، ولم تنتج هذه الدعوة الطويلة المضنيةُ سوى قلة من
المؤمنين والمؤيدين الذين لم يتجاوز عددهم الواحد والثمانين ، وهذا يعني أنه لم
يوفق في كل اثنى عشر عاماً الا لهداية شخص واحد. إنَّ إرادة الصبر ، وقوَّة التحمّل ،
والتصبر تظهر لدى الإنسان شيئاً فشيئاً ، فلابدّ أن تتلاحق حوادثٌ صعبةٌ ، ولابد
أن يمرَّ المرء بنوائب مزعجة حتّى تأنس روحُه بالامور الثقيلة ، والقضايا
الصعبة. لقد قضى رسولُ صلىاللهعليهوآلهوسلم
شطراً من حياته قبل البعثة في رعي الغنم في الصحاري والقفار ، ليكون بذلك صبوراً
في تربية الناس الذين سيكلَّف بقيادتهم وهدايتهم ، وليستسهل كل صعب في هذا
المجال. إن ادارة المجتمع البشريّ من أصعب
الأمور الّتي تواجه القادة ، ورجال الاصلاح. والمقدرة على الإدارة هذه لا تسنح
ولا تتهيَّأ لأَحد إلاّ بعد مزاولة الاُمور الصعبة ، وممارسة الأعمال الشاقة ،
وربما يكون قيام النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
برعي الغنم من هذا الباب ، ولهذا جاء في الحديث. « ما بَعثَ اللّهُ نَبيِّاً قَطُّ
حَتّى يَسْتَرْعيْه الغَنم ليُعلّمهُ بذلِكَ رعْيَةَ النّاسِ » (سفينة البحار : مادّة نبأ.).
لقد قضى النبيُّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
شطراً من عمره الشريف في هذا المجال ، وينقل كثيرٌ من ارباب السير والمؤرخين هذه
العبارة عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم
: « ما مِنْ نَبيّ إلاّ وَقَدْ رَعى
الغَنم » قِيْلَ : وَأَنتَ يا رَسُول اللّه؟ فقال : « أنا رَعيْتُها لأَهْل
مَكَّة بِالقَراريْطِ » (السيرة النبوية لابن هشام : ج 1 ، ص 166.).
إنَ شخصية عظيمة يُفتَرضُ فيها أن
تواجه ـ في المستقبل ـ أشخاصاً عنودين كأبي جهل وابي لهب ، وأن تصنع ممن انحطت
أفكارهم حتّى أنهم سجدوا لكل حَجر ومَدر ، أفراداً لا يخضعون لأي شيء سوى ارادة
الحق ومشيئته ، لابدَّ أن تتسلح قبل ذلك بسلاح الصبر ، وتتجهز بأداة التحمل ،
وتتزود مسبقاً بقدرة الاستقامة على طريق الهدف ، وهذا لا يكون إلاّ بتعويد النفس
على هذه الصفات ، وحملها على مشاق الاعمال : |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
سبب آخر لرعي الغنم
:
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ويمكن أن نذكر هنا
سَبباً آخر أيضاً وهو ان رجلا حرّ النفس والعقل كرسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
تجري في شرايينه وعروقه دماء الغيرة والشجاعة كان يشق عليه ان يشاهد كل ذلك
الظلم والحيف الّذي كان يمارسه طغاة مكة ، وعتاة قريش وزعماؤها الظالمون القساة
بحق الضعفاء ، والمحرومين ، وكذا كان يشق عليه ان يرى تظاهرهم بالعصيان والفسوق
في حرم اللّه ، وعند بيته المعظم. إن اعراض سُكّان مكة عن عبادة اللّه
الواحد الحق ، وطوافهم حول تلك الأصنام الخاوية هي ـ بلا ريب ـ أسوأ واقبح ما
يكون في نظر الرجل الفاهم ، والعاقل العالم ، واثقل ما يكون عليه. من هنا رأى النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
أن يقضي ردحاً من الزمن في الصحاري والقفار وعند سفوح الجبال الّتي كانت يومئذ
بعيدة بطبيعة الحال عن تلك المجتمعات الفاسدة وأحوالها وأوضاعها ، ليستريح ( أو يتخلص ) بعض الشيء
من آلامه الروحية الناشئة مِن رؤية تلك الأوضاع المزرية ، والأحوال المشينة. على أَنَّ هذا الأمر لا يعني أن
للرجل المتقي أن يسكت على الفساد والظلم ، ويقرّ عليهما. ويفرّق بين حياته وحياة الآخرين
ويعتزل عنهم ويتخذ موقف اللامبالاة تجاه الأوضاع المنحرفة ، والاحوال الشاذة ،
بل ان النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
لما كان مأموراً من جانب اللّه سبحانه بالسكوت والانتظار ، لانه لم تكن ظروف «
البعثة » والهداية قد توفرت وتهيأت بعد لذلك اتخذ صلىاللهعليهوآلهوسلم
مثل هذا الموقف. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
سببٌ ثالث :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ولقد كان هذا العمل ( أي الاشتغال
برعي الاغنام في البراري والقفار وعند السهول وسفوح الجبال ) فرصة جيدة لأن
يتمكن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
من النظر في خلق السماوات والتطلع في النجوم والكواكب وأحوالها وأوضاعها ،
وبالتالي الامعان في الآيات الأنفسية والآفاقية التي هي جميعاً من آيات وجود
اللّه تعالى ، ومن مظاهر قدرته وحكمته وعلمه وإرادته. ان قلوب الأنبياء والمرسلين مع أنها
منوَّرة بمصابيح المعرفة المشرقة ومضاءة بأنوار الايمان والتوحيد منذ بدء فطرتها
، وخلقتها ، ولكنهم مع ذلك لا يرون انفسهم في غنىً عن النظر في عالم الخلق ،
والتفكر في الآيات الالهية ، إذ من خلال هذا الطريق يصلون إلى أعلى مراتب
الايمان ، ويبلغون اسمى درجات اليقين ، وبالتالي يتمكنون من الوقوف على ملكوت
السماوات والأرضين. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إقتْراحُ أبي طالب
:
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد دفع وضع ( محمَّد ) المعيشي
الصعب « أبا طالب » سيد قريش وزعيمها الّذي كان معروفاً بالسخاء وموصوفاً
بالشهامة ، وعلو الطبع ، وإباء النفس إلى ان يفكر في عمل لابن أخيه ، كيما يخفف
عنه وطأة ذلك الوضع. ومن هنا اقترح على
ابنه أخيه « محمَّد » العمل والتجارة بأموال « خديجة بنت خُويلد » الّتي كانت
امرأة تاجرة ، ذات شرف عظيم ، ومال كثير ، تستأجر الرجال في مالها أوتضاربهم
اياه بشيء تجعله لهم منه. فقد قال أبو طالب للنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
: يا ابن أخي هذه خديجة بنت خويلد قد انتفع بمالها اكثر الناس وهي تبحث عن رجل
أمين ، فلو جئتها فوضعتَ نفسَك عليها لأسرعتْ اليك ، وفضَّلتك على غيرك ، لما
يبلغها عنك من طهارتك. ولكن إباء رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وعلوّ طبعه ، منعاه من الإقدام فبلغ « خديجة » بنت خويلد ، ما دار
بين النبيّ وعمه « أبي طالب » ، فبعثت إليه فوراً تقول له : إنّي دعاني إلى
البعثة اليك ما بلغني من صدق حديثك وعظم أمانتك ، وكرم أخلاقك ، وأنا اعطيك ضعفَ
ما اُعطي رجلا من قومك وابعثُ معكَ غلامين يأتمران بأمرك في السفر. فاخبر رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
عمّه بذلك فقال له ابو طالب : « إنّ هذا رِزقٌ ساقهُ اللّهُ إليك » (بحار الأنوار : ج 16 ، ص 22 ، السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 132 و 133 ،
الكامل في التاريخ : ج 2 ، ص 24.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
هل عَمِلَ النبيُّ
أجيراً لخديجة؟
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وهنا لابدّ من التذكير
بنقطة في هذا المجال وهي : هل عمل النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
أجيراً في أموال خديجة ، أم أنه قد عمل في تجارتها بصورة اُخرى كالمضاربة ، وذلك
بأن تعاقد النبي مع خديجة على أن يتاجر بأموالها على أن يشاركها في ارباح تلك
التجارة؟ انّ مكانة البيت الهاشميّ ، وإباء
النبيّ الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم
ومناعة طبعه ، كل تلك الاُمور والخصال توجب أن يكون عملُ النبيّ في أموال خديجة
قد تمَّ بالصُورة الثانية ( أي العمل في تجارتها على نحو المضاربة لا الإجارة ) ،
وتؤيّد هذا المطلب امور هي : أولا
: انه لا يوجد في اقتراح أبي طالب أيّة
اشارة ولا أي كلام عن الإجارة ، بل قد تحاور أبو طالب مع إخوته ( أعمام النبيّ )
في هذه المسألة من قبل وقال : « امضوا بنا إلى دار خديجة بنت خويلد حتّى نسألها
ان تعطي محمَّداً ما لا يتجربه » (بحار الأنوار : ج 16 ، ص 22.).
ثانياً
: ان المؤرخ الأقدم المعروف باليعقوبي
كتب في تاريخه : ان النبي ما كان أجيراً لأحد قط (تاريخ اليعقوبي : ج 2 ، ص 21.).
ثالثاً
:
ان الجنابذي صرّح في كتابه « معالم العترة » بأن « خديجة » كانت تضاربُ الرجال
في مالها ، بشيء تجعله لهم منه ( اي من ذلك المال أومن ربحه ) (بحار الأنوار : ج 16 ، ص 9 نقلا عن معالم العترة.). * * * تهيّأت قافلة قريش التجارية للسفر
إلى الشام ، وفيها أموال « خديجة » أيضاً ، في هذه الاثناء جعلت « خديجة »
بعيراً قوياً وشيئاً من البضاعة الثمينة تحت تصرّف وكيلها ( أي النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
) وامرت غلاميها ( ميسرة وناصح ) اللذين قررت ان يرافقاه صلىاللهعليهوآلهوسلم
بان يمتثلا أوامراه ، ويطيعاه ، ويتعاملا معه بأدب طوال تلك الرحلة ، ولا
يخالفاه في شيء (قالت خديجة لهما : إعلما أنني قد أرسلتُ اليكما أميناً على أموالي
وأنّه أمير قريش وسيّدها ، فلا يدٌ على يده ، فإن باع لا يُمنع وإن ترك لا يؤمر
وليَكُنْ كلامُكما له بلطف وأدب ولا يعلو كلامكما على كلامه. ( بحار الأنوار : ج
16 ، ص 29 ).).
وأخيراً وصلت القافلة إلى مقصدها
واستفاد الجميع في هذه الرحلة التجارية أرباحاً ، إلا أن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
ربح اكثر من الجميع ، كما أنه ابتاع أشياء من الشام لبيعها في سوق « تهامة ». ثم عادت تلك القافلة التجارية إلى «
مكة » بعد ذلك المكسب الكبير ، والحصول على الربح الوفير. ولقد تسنيّ لفتى قريش « محمَّد » أن
يمرّ ـ للمرة الثانية في هذه السفرة ـ على ديار عاد وثمود. وقد حمله الصمتُ الكبير الّذي كان
يخيّم على ديار واطلال تلك الجماعة العاصية المتمردة في نقلة روحانية إلى
العوالم الاُخرى اكثر فاكثر ، هذا مضافاً إلى أن هذه الرحلة جدّدت خواطره
وذكرياته في السفرة الاُولى ، فقد تذكّر يوم طوى مع عمه « ابي طالب » هذه
الصحاري نفسها وهذه القفار ذاتها ، وما كان يحظى فيها من عمه من الحدب والعناية.
وعند ما اقتربت قافلة
قريش إلى « مكة » ، وصارت عند مشارفها ، التفت « ميسرة » غلامُ خديجة ، إلى
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
وقال : « يا محمَّد لقد ربحنا في هذه السفرة ببركتك ما
لم نربح في اربعين سنة ، فاستقبل بخديجة وابشرها بربحنا » فأخذ النبي باقتراح
ميسرة ، وسبق القافلة العائدة في الدخول إلى مكة ، وتوجه نحو بيت « خديجة »
بينما كانت خديجة جالسة في غرفتها ، فلما رأت النبي مقبلا عليها ، نزلت من
منظرتها وركضت نحوه واستقبلته ، وأدخلته في غرفتها ، فخبّرها رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
بما ربحوا ، ببيان جميل ، وكلام بليغ ، فسرت « خديجة » بذلك سروراً عظيماً ، ثم
قدم « ميسرة » في الأثر ، ودخل عليها ، وأخبرها بكل ما رآه وشاهده من النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
في تلك السفرة من الكرامة والخير ، والخُلق العظيم ، والخصال الكريمة ، ومن
الاُمور الّتي كانت برمتها تدل على عظمة شخصيته صلىاللهعليهوآلهوسلم
، وسمو خصاله (الخرايج : ص 186 ، بحار الأنوار : ج 16 ، ص 5.)
، ومن جملة ما حدثها به ميسرة هو أنه لما وقع بين النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
وبين رجل تلاح وجدال في بيع قال له ذلك الرجل : إحلف باللات والعُزى ، فقال رسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
: ما حلفتُ بهما قط ، وإني لأمرُّ فاعرضُ عنهما (الطبقات الكبرى : ج 1 ، ص 130 وفي بحار الأنوار : ج 16 ، ص 18 : انه صلىاللهعليهوآلهوسلم
قال : إليك عني ثكلتك اُمّك فما تكلّمت العربُ بكلمة اثقل عليَّ من هذه الكلمة.). وحدثها أيضاً بأنه لما مرّ ببصرى
نزلا في ظل شجرة ليستريحها فقال راهبٌ كان يعيش هناك لما رأى النبيّ يستريح في
ظل تلك الشجرة : « ما نزل تحت هذه الشجرة قط إلا نبيّ » سأل عن اسمه ، فأخبره
ميسرة باسمه فقال : « هو نبيّ وهو آخر الأنبياء ، إنه هو هو ومُنزّلِ الانجيل ،
وقد قرأت عنه بشائر كثيرة » (بحار الأنوار : ج 16 ، ص 18 ، الطبقات الكبرى : ج 1 ، ص 130 ، الكامل
لابن الأثير : ج 2 ، ص 24 و 25.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
خَديجة
زَوجةُ الرَّسول الاُولى :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
حتى قبل ذلك اليوم لم تكن حالة
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
الاقتصادية ووضعه المالي يُحسدُ عليه ، فقد كان بحاجة إلى مساعدة عمّه « أبي
طالب » المالية ، ولم يكن شغله على النحو الّذي يكفي لضمان نفقاته ، من جانب ،
وتمكينه من اختيار زوجة وشريكة حياة وتكوين عائلة ، من جانب آخر. ولكن هذه السفرة إلى الشام وبخاصة
على نحو الوكالة والمضاربة في أموال امرأة جليلة ، معروفة في قريش ( أعني خديجة
) ساعدت وإلى حدّ كبير على تثبيت وضعه الاقتصادي وتقوية بنيته المالية. ولقد اعجبت « خديجة » بعظمة
فتى قريش وسموّ أخلاقه ، ومقدرته التجارية حتّى أنها أرادت أن تعطيه زيادة على
ما تعاقدا عليه ، تقديراً له ، واعجاباً به ، ولكنه اكتفى بأخذ ما تقرر في
البداية ثم توجه إلى بيت عمه « أبي طالب » وقدّم كل ما أخذه من « خديجة » إلى
عمه « أبي طالب » ليوسّع به على أهله. ففرح « أبو طالب » بما عاين من ابن
اخيه ، وبقية أبيه « عبد المطلب » ، وأخيه « عبد اللّه » وأغرورقت عيناه بالدموع
، وسرّ بما حقق من نجاح وما حصل عليه من ربح من تلك التجارة سروراً كبيراً ،
واستعدّ أن يعطيه بعيرين يسافر عليهما ويتاجر ، وراحلتين يُصلح بهما شأنه ،
ليتسنى له بأن يحصل على ثروة ومال يعطيه لعمه ليختار له زوجة. في مثل هذه الظروف بالذات عزم رسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم عزماً قاطعاً على أن يتخذ لنفسه
شريكة حياة ويكوّن اُسرة ، ولكن كيف وقع الاختيار على « خديجة » الّتي سبق لها
أن رفضت كل طلبات الزواج الّتي تقدم بها كبار الاثرياء والشخصيات القرشية مثل «
عقبة بن أبي معيط » ، و « أبو جهل » و « أبو سفيان » للزواج بها؟؟! ، وماذا كانت
العلل الّتي جمعت هذين الشخصين غير المتشابهين ، من حيث مستوى الحياة ، والثراء؟
وكيف ظهرت تلك الرابطة القوية ، وتلك العلاقة المعنويّة العميقة ، والاُلفة
والمحبة بينهما إلى درجة أنَّ « خديجة » سلام اللّه عليها وهبت كل ثروتها للنبيّ
صلىاللهعليهوآلهوسلم لينفقها في نشر الإسلام ، وإعلاء
كلمة الحق ، وإرساء قواعد التوحيد ، وبث الدين الجديد ، واصبحت تلك الدار
المفخمة الّتي كانت تزينها الكراسي المرصّعة ، والستر المطرّرزة ، المصنوعة من
أغلى الأقمشة الهندية ، والإيرانية ، ملجأ للمسلمين ، وملتقى لانصار الرسالة؟!! لابدَّ من البحث عن جذور هذه الحوادث
في تاريخ حياة « خديجة » نفسها ، فان من المسلَّم والبديهيّ أن هذا النوع من الفداء
، والتفاني والإيثار لم يكن ثابتاً ليتحقق ما لم يكن لها جذور معنوية وطاهرة. إن صفحات التاريخ
لتشهد بأنّ هذا الزواج كان ناشئاً من إيمان « خديجة » بتقوى عزيز قريش وفتاها
الامين « محمَّد » وطهره ، وحبها الشديد لعفته وكرم أخلاقه ، ولهذا
قال النبيّ الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم
في حقها : « أفضل نساء الجنة أربع : خديجة ...
» (خصال الصدوق : ج 1 ، ص 96 وغيره.).
إنها أول إمرأة آمنَتْ
برسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم.
فقد قال علي أمير
المؤمنين: في خطبته الّتي يشير فيها إلى غربة الإسلام في
مبدأ البعثة النبوية الشريفة : « لَمْ يَجمَعْ بَيْتٌ واحِدٌ
يَوْمَئذ في الإسْلام غَيرَ رَسُول اللّه وَخَديجَة وأَنا ثالِثُهما » (الكامل : ج 2 ، ص 37 ، شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد المعتزلي
الشافعي : ج 13 ، ص 197 ـ 201.).
ويكتب « إبن الأثير »
قائلا : إنّ عفيف الكندي كان إمرأً تاجراً قدم مكة أيام
الحج فرأى رجلا قام تجاه الكعبة يصلّي ثم خرجت امراةٌ تصلّي معه ، ثم خرج غلامٌ
فقام يصلي معه ، فمضى يسأل العباسَ عمَّ النبيّ عن هؤلاء ، وعن هذا الدين ، فقال
العباس : هذا محمَّد بن عبد اللّه ابن أخي زعم
أن اللّه ارسله ، وهذه امرأته خديجة آمنت به ، وهذا الغلام علي بن أبي طالب آمن
به ، وأيمُ اللّه ما أعلم على ظهر الأَرض أحداً على هذا الدين إلاّ هؤلاء
الثلاثة (شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج 13 ، ص 225 و 226.).
وينبغي هنا أن نعطي
لمحة عن مكانة خديجة في الإسلام تكميلا لهذه الدراسة. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
خديجة
في أحاديث الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم
:
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد اكتسَبَت « خديجةٌ » بفضل
إيمانها العميق بالرسالة المحمدية ، وتفانيها في سبيل الإسلام وبسبب حرصها
العجيب على حياة صاحب الرسالة وسلامته ، وعملها المخلص على انجاح مهمته ،
ومشاركتها الفعّالة ، في دفع عجلة الدعوة
إلى الامام ، ومشاطرتها
للنبي
في اكثر ما تحمله من محن واذى بصبر واستقامة وحب ورغبة. لقد اكتسبت خديجة بفضل كل هذا وغيره مكانة سامية في الإسلام
، حتّى ان النبيّ ذكرها في أحاديث كثيرة وأشاد بفضلها ، ومكانتها وشرفها على غيرها من النساء المسلمات المؤمنات
، وذلك ولا شك ينطوي على اكثر من هدف. فمن جملة الأهداف التي ربما توخاها
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم من الاشادة بخديجة عليهاالسلام الفات نظر المرأة المسلمة إلى القدوة
الّتي ينبغي أن تقتدي بها في حياتها وسلوكها في جميع المجالات والأبعاد ،
والظروف ، والحالات. هذا مضافاً إلى ما يمكن أن تقدمه
المرأة وهي نصف المجتمع ( إن لم تكن اكثره
أحياناً ) من دعم جدّي للرسالة ، مادياً كان أو معنوياً. وفيما يلي نأتي ببعض
الأحاديث الشريفة الّتي تعكس مكانة خديجة ، ومقامها ، ومدى إسهامها في نصرة
الإسلام ودعم دعوته ، وإرساء قواعده. 1 ـ عن أبي زرعة عن
ابي هريرة يقول قال رسول اللّه صلى الله عليه [وآله] : أتاني جبرئيل عليهالسلام فقال يا
رسول اللّه هذه خديجة قد أتتك ومعها آنية فيها ادام أو طعام أو شراب ، فاذا هي
أتتك فاقرأ عليهاالسلام
من ربّها ومنّي ، وبَشِّرها ببيت في الجنة من قصب لا صخَبَ فيه ولا نصَبِ » (صحيح مسلم : ج 7 ، ص 133 ، مستدرك الحاكم : ج 3 ، ص 184 و 185 بطرق
متعددة صحيحة على شرط الشيخين.).
2 ـ عن عائشة قالت :
ما غِرتُ على امرأة ما غِرتُ على خديجة ، ولقد هَلَكتْ قبل أن يتزوجني بثلاث
سنين ، لما كنتُ اسمعه يذكرها ، ولقد أمره ربُه عزّ وجلّ ان يبشرها ببيت من قصب
في الجنة ، وإن كان ليذبح الشاة ثم يهديها إلى خلائلها ( اي خليلاتها وصديقاتها ) (صحيح مسلم : ج 7 ، ص 134 ، ومثلها في صحيح البخاري : ج 5 ، ص 38 و
39.).
3 ـ وعن عائشة أيضاً قالت
ما غِرت على نساء النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
إلا على خديجة ، واني لم أدركها ، ( قالت ) : وكان رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
إذا ذبح الشاة فيقول : أرسلوا بها إلى اصدقاء خديجة قالت : « أي عائشة »
فاغضبتُه يوماً فقلت : خديجة!! فقال رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم : « اني قد رزقت حبّها » (صحيح مسلم : ج 7 ، ص 134 ، ومثلها في صحيح البخاري : ج 5 ، ص 38 و
39.).
4 ـ ومن هذا القبيل ما كان يقوم به
رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم مع صاحبات خديجة من الاحترام لهن
والاحتفاء بهنّ : فقد وقف صلىاللهعليهوآلهوسلم
على عجوز فجعل يسألها ، ويتحفاها ، وقال : « ان حسن العهد من الايمان ، انها
كانت تأتينا ايام خديجة » (شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد : ج 18 ، ص 108.).
5 ـ وروي عن انس
قال كان النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
إذا
اُتي بهدية قال : « إذهبوا بها إلى بيت فلانة فانها كانت صديقة لخديجة إنها كانت
تحب خديجة » (سفينة البحار : ج 1 ، ص 380 ( خدج ).).
6 ـ روى مجاهد عن
الشعبي عن مسروق عن عائشة قالت : كان رسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
لا يكاد يخرج من البيت حتّى يذكر خديجة فيحسن الثناء عليها ، فذكرها يوماً من
الايام فادركتني الغيرة فقلت : هل كانت إلا عجوزاً فقد أبدلك اللّه خيراً منها ،
فغضب حتّى أهتز مقدَمُ شعره من الغضب ، ثم
قال :
« لا واللّه ما أبْدلَني اللّه خيراً منها ، آمنَتْ بي إذْ كَفَر الناسُ ،
وصدَّقتني وكذَّبني الناسُ وواستني في مالها إذ حرمني الناسُ ورزقني اللّه منها
أولاداً إذ حرمني أولاد النساء » قالت عائشة فقلت في نفسي : لا أذكرها بسيئة
ابداً (اسد الغابة : ج 5 ، ص 438 ، ورواها مسلم أيضاً : ج 7 ، ص 134 ، وكذا
البخاري : ج 5 ، ص 39 وقد حذفا آخرها من : فغضب حتّى ... إلى آخر الرواية.).
7 ـ عن يعلى بن
المغيرة عن ابن ابي رواد قال : دخل رسولُ اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم على خديجة في مرضها الّذي ماتت فيه ،
فقال لها : « يا خديجة أتكرهين ما أرى منك ، وقد
يجعل اللّه في الكُره خيراً كثيراً ، أما علمت أن اللّه تعالى زوَّجني معك في
الجنة مريم بنتَ عمران ، وكلثمَ اُخت موسى وآسية امرأة فرعون ... » (السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 347 ، وأُسد الغابة : ج 5 ، ص 439.).
8 ـ عن عكرمة عن ابن عباس قال خطَّ
رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم أربع خطط في الأَرض وقال : أتدرون ما
هذا؟ قلنا : اللّه ورسولُه أعلم ، فقال رسولُ اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم : « أفضل نساء الجنة أربع : خديجة
بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمَّد ، ومريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون »
(الخصال للصدوق : ج 1 ، ص 96 ، كما في بحار الأنوار : ج 16 ، ص 2.).
9 ـ عن أنس جاء جبرئيل
إلى النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وعنده خديجة فقال : إن اللّه يقرئ
خديجة السلام فقالت : إن اللّه هو السلام ، وعليك السلام ، ورحمة اللّه وبركاته (المستدرك على الصحيحين : ج 3 ، ص 1816.).
10 ـ عن أبي الحسن
الأول ( الكاظم ) عليهالسلام قال قال رسول اللّه
صلّى الله عليه وآله : «
إنّ اللّه اختار من النساء اربعاً : مريم واسية وخديجة وفاطمة » (الخصال : ج 1 ، ص 96 ، كما في البحار : ج 16 ، ص 2.).
11 ـ عن ابي اليقظان
عمران بن عبد اللّه عن ربيعة السعدي قال أتيت حذيفة
بن اليمان وهو في مسجد رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم فسمعتُه
يقول : قال رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم يقول : « خديجةُ بنتُ خويلد سابقةُ نساء
العالمين إلى الايمان باللّه وبمحمد صلىاللهعليهوآلهوسلم » (المستدرك على الصحيحين : ج 3 ، ص 184 ـ 186 ووردت روايات بمضمون ذيل
الحديث في صحيح مسلم : ج 7 ، ص 133.).
12 ـ عن عروة قال قالت
عائشة لفاطمة رضي اللّه عنها بنت رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
: ألا ابشرك أني سمعت رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
يقول
: « سيدات نساء أهل الجنة أربع : مريم
بنت عمران ، وفاطمة بنت رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
، وخديجة بنت خويلد واسية » (المستدرك على الصحيحين : ج 3 ، ص 184 ـ 186 ووردت روايات بمضمون ذيل
الحديث في صحيح مسلم : ج 7 ، ص 133.).
13 ـ عن أبي عبد اللّه
( الصادق ) عليهالسلام قال :
دخل رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم منزله ، فاذا عائشة مقبلة على فاطمة
تصايحها وهي تقول : واللّه يا بنت خديجة ، ما ترين إلا أن لاُمِكِ علينا فضلا ،
وأىُ فضل كانَ لها علينا؟! ما هي إلاّ كبعضنا ، فسمع صلىاللهعليهوآلهوسلم
مقالتها لفاطمة ، فلما رأت فاطمة رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم بكت ، فقال : ما يبكيك يا بنت
محمَّد؟! قالت : ذكرتْ اُمّي فتنقّصتْها فبكيتُ ، فغضب رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم.
ثم قال : « مَهْ يا حميراء ، فان اللّه تبارك
وتعالى بارك في الوَدُود الولود ، وأَن خديجة رحمها اللّه ولدَتْ مِنّي طاهِراً
، وهو عَبْدُ الله وهو المطهّر وَوَلدَتْ منّي القاسم ، وفاطمة ، ورقية ، واُم
كلثوم ، وزينب ، وأنت ممن أعقم اللّهُ رحمه فلم تلدي شيئاً » (الخصال : ج 2 ، ص 37 و 38 ، كما في بحار الأنوار : ج 16 ، ص 3.).
أجل هذه هي « خديجة بنت خويلد » شرفٌ
وعقلٌ ، وحبٌ عميق لرسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ووفاء
وإخلاص ، وتضحية بالغالي والرخيص في سبيل الإسلام الحنيف. هذه هي « خديجة » أول من آمنت باللّه
ورسوله ، وصدّقت محمَّداً فيما جاء به عن ربه ، من النساء ، وآزره ، فكان صلىاللهعليهوآلهوسلم لا يسمع من المشركين شيئاً يكرهه من
ردّ عليه ، وتكذيب له الاّ فرّجَ اللّه عنه بخديجة الّتي كانت تخفف عنه (اعلام النساء لعمر رضا كحالة : ج 1 ، ص 328.)
، وتهوّن عليه ما يلقى من قومه ، بما تمنحه من لطفها ، وعطفها ، وعنايتها به صلىاللهعليهوآلهوسلم ، في غاية الاخلاص والودّ والتفاني. ولهذا كان رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم يحبُّها حباً شديداً ويجلّها ويقدرها
حق قدرها (اعلام النساء : ج 1 ، ص 330.)
،
ولم يفتأ يذكرها ، ولم يتزوج عليها غيرَها حتّى رحلت وفاء لها ، واحتراماً
لشخصها ومشاعرها ، وكان يغضب إذا ذكرها احدٌ بسوء ، كيف وهي الّتي آمنت به إذ
كفر به الناسُ ، وصدّقته إذ كذّبه الناسُ ، وواسته في مالها إذ حرمهُ الناسُ. ولهذا أيضاً كانت وفاتها مصيبة عظيمة
أحزنت رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم ودفعته إلى أن يسمّي ذلك العام الّذي
توفي فيه ناصراه وحامياه ، ورفيقا آلامه ( زوجته هذه : خديجة بنت خويلد ، وعمه
المؤمن الصامد الصابر ابو طالب عليهماالسلام ) بعام
الحداد ، أوعام الحزن (تاريخ اليعقوبي : ج 2 ، ص 35 ، وقد روي عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم
أنه قال بهذه المناسبة : « اجمتعت على هذه الاُمة مصيبتان لا أدري بأيهما أنا
أشدّ جزعاً » المصدر نفسه ، وراجع تاريخ الخميس : ج 1 ، ص 301 نقلا عن سيرة
مغلطاي.)
وان
يلزم بيته ويقلّ الخروج (السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 347 ، المواهب اللدنية حسب نقل تاريخ
الخميس : ج 1 ، ص 302 وفيه إضافة : ونالت قريش منه ما لم تكن تنال.)
، وأن ينزل صلىاللهعليهوآلهوسلم
عند دفنها في حفرتها ، ويدخلها القبر بيده ، في الحجون (السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 346.).
عن ابن عباس في حديث طويل في زواج
فاطمة الزهراء عليهاالسلام بعلي عليهالسلام
اجتمعت نساء رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وكان
يومئذ في بيت عائشة ليسألنّه أن يُدخلَ الزهراء على ( عليّ ) عليهالسلام فاحدقْن به وقلت : فَديناك بآبائنا
وأُمهاتنا يا رسول اللّه قد اجتمعنا لأمر لو أنّ « خديجة » في الأحياء لتقرّتْ
بذلك عينُها. قالت امُ سلمة : فلما ذكرنا « خديجة
» بكى رسولُ اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ثم قال : « خديجة واين مثل خديجة ، صدَّقْتني حين كذَّبني الناس ووازرتني على
دين اللّه وأعانتني عليه بمالها ، إنّ اللّه
عزّ وجلّ أمرَني أنْ ابشر خديجة ببيت في الجنة من قصب (
الزمرّد ) لا صخَبَ فيهِ ولا نصَب » (بحار الأنوار : ج 43 ، ص 131 نقلا عن كشف اليقين.).
لقد كانت خديجة
من خيرة نساء قريش شرفاً ، واكثرهنّ مالا ، واحسنهن جمالا وأقواهنُّ عقلا وفهماً
وكانت تدعى في الجاهلية بالطاهرة لشدَة عفافها وصيانتها (السيرة الحلبيّة : ج 1 ، ص 137.)
ويقال لها : سيدة قريش (السيرة الحلبيّة : ج 1 ، ص 137.)
، وكان لها من المكانة والمنزلة بحيث كان كل قومها وسراة أبناء جلدتها حريصين
على الاقتران بها (السيرة الحلبيّة : ج 1 ، ص 137.)
،
وقد خطبها ـ كما يحدثنا التاريخ ـ عظماء قريش وبذلوا لها الأموال ، وممن خطبها « عقبة بن ابي معيط » و « الصلت بن ابي يهاب » و « ابو جهل » و
« ابوسفيان » فرفضتهم جميعاً ، وأختارت رسول
اللّه ـ وهي في سن الأربعين وهو صلىاللهعليهوآلهوسلم
في الخامسة والعشرين ـ وهي تمتلك تلكم الثروة الطائلة ، وهو
صلىاللهعليهوآلهوسلم
لا يمتلك من حطام الدنيا إلاّ الشيء اليسير اليسير ، رغبة في الاقتران به ولما
عرفت فيه من كرم الاخلاق ، وشرف النفس ، والسجايا الكريمة والصفات العالية ، وهي
ما كانت تبحث عنه في حياتها وتتعشقه وإذا بتلك المرأة الغنية الثرية العائشة في
أفضل عيش تصبح في بيت زوجها الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم تلك الزوجة
المطيعة الخاضعة ، الوفية المخلصة ، وتسارع إلى قبول دعوته ، واعتناق دينه بوعي
وبصيرة وارادة منها واختيار ، وهي تعلم ما ينطوي عليه ذلك من مخاطر ومتاعب ،
وتجعل كل ثروتها في خدمة العقيدة والمبدأ ، وتشاطر زوجها آلامه ، ومتاعبه ،
وترضى بأن تذوق مرارة الحصار في شعب أبي طالب ثلاث سنوات وفي سنّ الرابعة أو
الخامسة والستين. وهي مع ذلك تواجه كل ذلك بصبر وثبات (شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد : ج 14 ، ص 59 قال : خديجة بنت
خويلد وهي عند رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم محاصَرة في الشِعب.)
، ودون أن يذكر عنها تبرُّم أو توجع. هذا مضافاً إلى أنها كانت تعامل رسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم بأدب تامّ يليق بمقام الرسالة
والنبوة ، على العكس من غيرها من بعض نساء النبيّ اللائي كنّ ربما يثرن سخطه
وغضبه ، ويؤذينه في نفسه وأهله. واليك فيما يأتي بعض
ما قاله عنها كبار الشخصيات ، والمؤرخين ممّا يكشف عن عظيم مكانتها عند المسلمين
أيضاً ، قال اميرالمؤمنين علي بن ابي طالب عليهالسلام : « كنتُ أولَ من أسلَم ، فمكَثْنا
بِذلِكَ ثلاث حجَج وما عَلى الأَرض خَلْقٌ يُصلّي ويشهَد لرسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم بما أتاهُ غيْري ، وغير ابنة خويلد
رحمها اللّه وقد فعل » (بحار الأنوار : ج 16 ، ص 2 ومثله في روايات متعددة في شرح نهج
البلاغة لابن أبي الحديد : ج 4 ، ص 119 و 120.).
وقال محمَّد بن اسحاق
:
كانت خديجة أولَ من آمن باللّه ورسوله وصدّقت بما جاء من اللّه ، ووازرته على
أمره فخفف اللّه بذلك عن رسول اللّه ، وكان لا يسمع شيئاً يكرهه من ردّ عليه
وتكذيب له فيحزنه ذلك إلا فرج اللّه ذلك عن رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
بها إذا رجع إليها تثبِّتُه ، وتخفّف عنه ، وتهوّن عليه امر الناس حتّى ماتت
رحمها اللّه (بحار الانوار : ج 16 ، ص 10 ـ 12.).
وعنه أيضاً :
أن « خديجة بنت خويلد » و « ابا طالب » ماتا
في عام واحد ، فتتابع على رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
هلاك خديجة وابي طالب وكانت خديجة وزيرة صدق على الإسلام ، وكان رسول اللّه يسكن
اليها (نفس المصدر.).
وقال أبو امامة ابن النقاش : ان سبق
خديجة وتأثيرها في اول الإسلام ومؤازرتها ونصرتها وقيامها للّه بمالها ونفسها لم
يشركها فيهُ احدٌ لا عائشة ولا غيرها من اُمهات المؤمنين (تاريخ الخمس في أحوال أنفس نفيس : ج 1 ، ص 266.).
وقد جاء في المنتقى :
ان رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
عند ما اُمِرَ بأن يصدع بالرسالة صعد على الصفا ، وأخبر الناس بما أمره اللّه به
فرماه أبو جهل قبحه اللّه بحجر فشجّ بين عينيه ، وتبعه المشركون بالحجارة فهرب
حتّى أتى الجبل ، فسمع عليّ وخديجةٌ بذلك فراحا يلتمسانه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وهو جائع عطشان مرهق ، ومضت خديجة تبحث عنه في كل مكان في الوادي وهي تناديه
بحرقة وألم ، وتبكي وتنحب ، فنظر جبرئيل إلى خديجة تجول في الوادي فقال : يا
رسول اللّه الا ترى إلى خديجة فقد أبكت لبكائها ملائكة السماء؟ اُدعُها اليك فاقرأها
مني السلام وقل لها : إن اللّه يقرئك السلامَ ، ويبشّرها أن لها في الجنةِ بيتاً
من قصب لا نصَبَ فيه ولا صخَب فدعاها النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم والدماء تسيلُ من وجههِ على الارض
وهو يمسحها ويردّها ، وبقي رسول اللّه
صلىاللهعليهوآلهوسلم
، وعلي وخديجة هناك حتّى جَنَّ الليلُ فانْصرفوا جميعاً ودخلت به خديجةُ منزلها
، فأقعدَتْه على الموضع الّذي فيه الصخرة واظلّته بصخرة من فوق رأسه ، وقامت في
وجهِه تستره ببُردها وأقبلَ المشركون يرمونه بالحجارة ، فاذا جاءتْ من فوق رأسه
صخرة وقته الصخرة ، وإذا رمَوْهُ مِن تحته وقتْهُ الجدرانُ الحُيّط ، وإذا رُميَ
من بين يديه وقتْهُ خديجة رضي اللّه عنها بنفسها ، وجعَلتْ تنادي يا معشر قريش
ترمى الحُرّةُ في منزلها؟ فلَمّا سمِعوا ذلك
انصرفُوا عنه ، وأصبَحَ رسولُ اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وغدا إلى
المسجد يُصلّي (بحار الانوار : ج 18 ، ص 243.).
ولقد بَلَغ من خضوعها لرسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وحبّها له أنها بعد أن تمَ عقدُ زواجها برسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
قالت له صلىاللهعليهوآلهوسلم : « إلى بيتك ، فبيتي بيتك ، وأنا
جاريتك » (بحار الأنوار : ج 16 ، ص 4 نقلا عن الخرائج والجرايح : ص 186 و 187.).
وجاء في السيرة
الدحلانية بهامش السيرة الحلبية : ولسبقها إلى
الإسلام وحسن المعروف جزاها اللّه سبحانه فبعث جبرئيل إلى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وهو بغار حراء وقال له : اقرأ عليهاالسلام
من ربها ومني ، وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب ؛ فقالت : هو
السلام ومنه السلام وعلى جبرئيل السلام ، وعليك يا رسول اللّه السلام ورحمة
اللّه وبركاته ، وهذا من وفور فقهها رضي اللّه عنها حيث جعلت مكان ردّ السلام
على اللّه الثناء عليه ثم غايرت بين ما يليق به وما يليق بغيره ، قال ابن هشام
والقصب هنا الؤلؤ المجوف ، وابدى السهيلي لنفي النصب لطيفة هي انه صلىاللهعليهوآلهوسلم
لما دعاها إلى الايمان أجابت طوعاً ولم تحوجه لرفع صوت ولا منازعة ولا نصب بل
ازالت عنه كل تعب ، وآنسته من كل وحشة ، وهوّنت عليه كل عسير فناسب ان تكون منزلتها
الّتي بشرها بها ربُها بالصفة المقابلة لفعلها وصورة حالها رضي اللّه عنها واقراء
السلام من ربها خصوصية لم تكن لسواها ، وتميزت أيضاً بأنها لم تسؤه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ولم تغاضبه قط ، وقد جازاها فلم يتزوج عليها مدة حياتها وبلغت منه ما لم تبلغه
امرأة قط من زوجاته (السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 169 الهامش.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
افتخار
اهل البيت بخديجة
عليهاالسلام
:
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وما يدل على سمو مقامها وعلو منزلتها
أن اهل البيت عليهمالسلام طالما
افتخروا بأن خديجة منهم ، وانهم من خديجة وقد كانوا يعتزون بها ، ويشيدون
بمكانتها : فقد خطب معاوية بالكوفة حين دخلها
والحسن والحسين عليهماالسلام
جالسان تحت المنبر فذكر علياً عليهالسلام
فنال
منه ثم نال من الحسن فقام الحسين
عليهالسلام ليردَّ عليه فأخذه الحسن بيده وأجلسه
ثم قام فقال : « أيُّها الذاكِرُ عَليّاً أنا
الحَسن وأبي عليّ وأنت معاويةُ وأبوك صخرٌ واُمي فاطمة واُمُّك هند وجدي رسُول
اللّه وجدُّك عُتبةُ بنْ رَبيعة وجدتي خديجة وجدتُك قتيلة فلعن اللّه أخْمَلَنا
ذكراً والأَمُنا حَسَباً وشَرَّنا قديماً وحديثاً. فقال طوائفُ من أهل المسجد :
آمين (شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي : ج 16 ، ص 46 و 47.).
وقيل : ان « الحسين » عليهالسلام
ساير « أنس بن مالك » فاتى قبرَ خديجة فبكى ثم قال : إذْهَبْ عَنّي قال « أنس »
؛ فاستخفيتُ عنه فلما طال وقوفُه في الصلاة سمعته يقول :
إلى آخر الابيات (بحار الأنوار : ج 44 ، ص 193 نقلا عن عيون المحاسن.).
هكذا كان اهل البيت النبوي ـ اقتداءً
برسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم يحترمون خديجة ويكرمونها لما كان لها
من شخصية عظيمة ولما اسدته إلى الإسلام وإلى رسول الإسلام من خدمات لا تنسى على
مرّ الدهور. ان بيان ونقل الاحاديث والروايات ،
وكذا الاقوال الّتي وردت في شأن خديجة والحديث عن شخصيتها ومكانتها ومدى إسهامها
في انجاح ونصرة الدعوة المحمدية خارج عن امكانية هذه الدراسة ، ونطاقها ، لذلك
نكتفي بهذه الالماعة العابرة تاركين الكلام باسهاب حولها
إلى مجال آخر. ولنَعُدْ إلى تبيّن الأسباب الظاهرية والباطنية لزواجها من رسول
اللّه (صلىاللهعليهوآلهوسلم).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
العللُ
الظاهرية والحقيقية وراء زواج خديجة بالنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
:
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إن الإنسان الماديّ الّذي ينظر إلى
كل ما يحيط به من خلال المنظار المادي ، ويفسره تفسيراً مادياً قد يتصور ( وبالاحرى يظن ) أن « خديجة
» كانت امرأة تاجرة تهمُّها تجارتها ، وتنمية ثروتها ، ولأنها كانت بحاجة ماسة
إلى رجل أمين قبل اي شيء ، لذلك وجدت ضالتها في محمَّد الصادق الامين صلىاللهعليهوآلهوسلم فتزوجت منه ، بعد أن عرضت نفسها عليه
ومحمَّد صلىاللهعليهوآلهوسلم
هو الآخر حيث انه كان يعلم بغناها وثروتها ، قبِل بهذا العرض رغم ما كان بينه
وبينها من فارق في السن كبير. ولكن التاريخ يثبت أن
ثمة أساباباً وعللا معنويّة لا مادية هي الّتي دفعت بخديجة للزواج بأمين قريش
وفتاها الصادق الطاهر. واليك في ما يأتي
شواهدنا على هذا الامر : 1 ـ عند ما سالت « خديجة » ميسرة عما
رآه في رحلته من فتى قريش « محمَّد » فخبّرها ميسرة بما شاهد ورأى من « محمَّد »
في تلك السفرة ، وبما سمعه من راهب الشام حوله أحسَّت « خديجة » في نفسها بشوق
عظيم ورغبة شديدة نحوه كانت نابعة من اعجابها بمعنوية محمَّد صلىاللهعليهوآلهوسلم وكريم خصاله ، وعظيم أخلاقه ، فقالت
من دون إرادتها : « حسبُك يا ميسرة ؛ لقد زدتني شوقا إلى محمَّد صلىاللهعليهوآلهوسلم
،
إذهبْ فانت حرٌ لوجه اللّه ، وزوجتك وأولادك ولَك عندي مائتا درهم وراحلتان » ثم
خلعَت عليه خلعة سنية (بحار الأنوار : ج 16 ، ص 52.).
ثم إنها ذكرت ما سمعته من « ميسرة »
لورقة بن نوفل وكان من حكماء العرب : فقال ورقة : « لئنْ كانَ هذا حَقاً يا
خديجة إنّ محمَّداً لنبيُّ هذهِ الامُّة » (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 191 ، السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 136.).
2 ـ مرَّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
يوماً بمنزل « خديجة بنت خويلد » وهي جالسة في ملأمن نسائها وجواريها وخدمها
وكان عندها حبرٌ من أحبار اليهود ، فلما مرّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم نظر إليه ذلك الحبر وقال : يا خديجة
مري مَنْ يأتي بهذا الشاب ، فارسلت إليه من أتى به ، ودخل منزلَ « خديجة » ،
فقال له الحبر : إكشفْ عَنْ ظهرك فلما كشف له قال الحبر : هذا واللّه خاتم
النبوة فقالت له خديجة : لو رآك عمه وأنت تفتّشه لحلّت عليك منه نازلة البلاء
وان أعمامه ليحذرون عليه من أحبار اليهود. فقال الحبر : ومن
يقدر على « محمَّد » هذا بسوء ، هذا وحق الكليم رسولُ الملك العظيم في آخر
الزمان ، فطوبى لمن يكون له بعلا ، وتكون له زوجة وأهلا فقد حازت شرف الدنيا
والآخرة. فتعجَّبت « خديجة » ، وانصرف «
محمَّد » وقد اشتغل قلبُ « خديجة » بنت خويلد بحبه فقالت : أيها الحبر بمَ عرفت
محمَّداً انه نبي؟ قال : وجدتُ صفاته في التوراة انه
المبعوثُ آخر الزمان يموت أبوه وامُّه ، ويكفله جدّه وعمه ، وسوف يتزوج بامرأة
من قريش سيدة قومها وأميرة عشيرتها ، وأشار بيده إلى خديجة فلما سمعت « خديجة »
ما نطق به الحبر تعلق قلبُها بالنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
فلما خرج من عندها قال : إجتهدي ان لا يفوتك « محمَّدٌ » فهو الشرف في الدنيا والآخرة
(بحار الأنوار : ج 16 ، ص 20 و 21 نقلا عن كتاب الأنوار لأبي الحسن
البكري.).
3 ـ لقد كان ورقة بن
نوفل (
وهو عم خديجة وكان من كُهّان قريش وقد قرأ صحف « شيث » عليهالسلام وصحف « إبراهيم » عليهالسلام
وقرأ التوراة والانجيل وزبور « داود » عليهالسلام ) يقول
دائماً : سيُبعَثُ رجلٌ من قريش في آخر الزمان يتزوج بامرأة من قريش تسود قومها ( أو تكون سيدة قومها ، وأميرة عشيرتها )
، ولهذا كان يقول لها : « يا خديجة سوف تتصلين برجل يكون أشرف أهل الأرض والسماء
» (بحار الأنوار : ج 16 ، ص 21.).
السيرة النبوية : ج 1 ، ص 189 و 190 هذه قضايا ذكرها بعض المؤرخين ،
وهي منقولةٌ ومثبتة في طائفة كبيرة من الكتب التاريخية ، وهي بمجموعها تدل على
العلل الحقيقية والباطنية لرغبة خديجة في الزواج برسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم ،
وإن هذه الرغبة كانت ناشئة من اعجاب « خديجة »
بأخلاق فتى قريش الأمين ، ونبله ، وطهارته ، وعظيم سجاياه وخصاله وحبها لهذه
الاُمور ، وليس هناك أي اثر في علل هذا الزواج لامانة « محمَّد »
وكونه أصلَح من غيره لهذا السبب للقيام بتجارة « خديجة ».
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
كيفَ
تمَّت خِطبةُ خديجة؟
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
من المسلّم به أن اقتراح الزواج جاء
من جانب « خديجة » نفسها أولاً ، حتّى
أن ابن هشام نقل في سيرته :
ان « خديجة » لما أخبرها ميسرة بما اخبرها به بعثت إلى رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم فقالت له : « يا ابْنَ عم إبي قد
رغبتُ فيك لقرابتك وسطتك [ اي شرفك ومكانتك ] في قومك ، وأمانتك وحُسن خلقك ،
وصدق حديثك » ثمّ اقترحَت عليه أن تتزوج به. ويعتقدُ اكثرُ
المؤرّخين أن « نفيسة بنت عليّة » بَلّغتْ رسالة
« خديجة » إلى النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم على النحو
التالي : قالت لرسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
: « يا محمَّد ما يمنعك أن تتزوج ... ولو دُعيت إلى الجمال والمال والشرف
والكفاءة الاّ تجيب؟ فقال رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
: فمن هي؟ فقالت : خديجة ، فقال
رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم : وكيف
لي بذلك ، فقالت : عليَّ فذهبت إلى خديجة فأخبرتها ، فأرسلت خديجة إلى رسول
اللّه صلّى الله عليه وآله
بوكيلها « عمرو بن اسد » (المعروف انّ والد خديجة توفي في حرب الفجار ولهذا قام بالايجاب من
قبلها عمها عمرو بن اسد ولهذا لا يصحّ ما ذكره بعض المؤرخين من أنّ خويلد ( والد
خديجة ) امتنع من تزويجها لرسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم في بداية الأمر ، ثم رضي بذلك
نزولا عند رغبة خديجة.)
لتحديد ساعة من اجل مراسم الخطبة في محضر من الاقارب
(تاريخ الخميس : ج 1 ، ص 264.).
فشاور النبيُ صلىاللهعليهوآلهوسلم
أعمامه وفي مقدمتهم « أبو طالب » ، ثم عقدوا مجلساً فخماً حضره كبارُ وجوه قريش
، ورؤساؤها فخطبَ « أبو طالب » ، وبعد انَ حَمداللّه واثنى عليه وصفَ إبن أخيه
محمَّداً بقوله : « ثم إنّ ابْن أخي هذا محمَّد بن عبد
اللّه لا يوزَنُ به رجلٌ إلاّ رجح به شرفاً ونُبلا وفضلا وعقلا ، وإن كان في
المال فإنَ المالَ ظِلُّ زائلٌ ، وأمرٌ حائلٌ وعاريةٌ مُسْتَرجعَة ، وَلَهُ في
خديجة رغبةٌ ولها فيه رغبةٌ ، والصَّداق ما سألتم عاجله وآجله مِن مالي ،
ومحمَّدٌ من قد عرَفتُمْ قرابتَه ». وحيث أن « ابا طالب » تعرَّض في
خطبته لذكر قريش ، وبني هاشم وفضيلتهم ، ومنزلتهم بين العرب ، لذلك تكلّم « ورقة
بن نوفل بن اسد » الّذي كان من أقارب خديجة (المعروف أنّ ورقة كان عمّاً لخديجة ولكن هذا موضع نقاش لأنّ « خديجة
بنت خويلد بن اسد » وورقة بن نوفل بن اسد فيكونان اولاد عمومة أي أنّه ابن عم
خديجة وهي بنت عمّه. ولذلك جاء في بعض المصادر وصفه ب « ابن عمّها » ( تاريخ
الخميس : ج 1 ، ص 282 ) وراجع قبله السيرة النبوية لابن هشام : ج 1 ، ص 203.)
وقال في خطبة له : « لا تنكُرُ العشيرة فضلكُمْ ، ولا يَرُدُّ أحدٌ من الناس
فخركم وشرفكُمْ وقد رغبنا في الإتصال بحبلكم وشرفكُمْ » (بحار الانوار : ج 16 ، ص 16 ، مناقب آل أبي طالب : ج 1 ، ص 30 ،
السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 139 ، تاريخ الخميس : ج 1 ، ص 264.).
ثم اُجري عقد النكاح ومهرها النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
أربعمائة دينار وقيل أصدقها عشرين بكرة (السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 139.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
عمر
خديجة عند زواجها بالنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
:
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
المعروف المشهور أن خديجة عليهاالسلام
تزوجت من رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وهي في سنّ الأربعين وأنها وُلدَت قبل عام الفيل بخمسة عشر عاماً. وذكر البعضُ أقلَّ من ذلك أيضاً. وذكَرَ
أنها تزوجت قبل النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم برجلين أوّلهما « عتيقُ بن عائذ »
ثمَ من بعده ابو هالة التميمي اللّذين توفي كلٌ منهما بُعيد زواجه بخديجة (ربما يُشكَّك في أن تكون
خديجة عليهاالسلام قد تزوجت قبل رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
بأحد وهي الّتي امتنعت عن كل من خطبها ورام تزويجها من سادات قريش واشرافها.
راجع الاستغاثة : ج 1 ، ص 70.). |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
10من
الزواج إلى البعثة
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
تُعتَبر فترةُ الشباب من أهمّ وأخطر
الفترات في حياة الإنسان ففي هذه الفترة تبلغ الغريزة الجنسية نضجها وكمالها ،
وتصبحُ النفسُ البشرية لعبة في أيدي الأهواء ويغلب طوفان الشهوة على فضاء العقل
، ويغطّي الظلامُ سماء التفكير ، وتشتد حاكمية الغرائز المادية ، وتتضاءل شعلة
العقل ، وتترائى أمام عيون الشباب بين الحين والآخر ، وصباح مساء صروح عظيمة من
الآمال الخيالية. ولو مَلك الإنسانُ ـ في مثل هذه
الفترة ـ شيئاً من الثروة ، لتحوَّلتْ حياته إلى مسألة في غاية الخطورة فالغرائز
الحيوانية ، وصحة المزاج من جهة والامكانات المادية والمالية من جهة اُخرى
تتعاضدان وتغرقان المرء في بحر من الشهوات ، والنزوات ، وتهيِّئان له عالماً
بعيداً عن التفكير في المستقبل. ومن هنا يصف المربّون العلماء تلك
الفترة الحساسة بأنها الحدّ الفاصل بين الشقاء والسعادة ، والفترة الّتي قلما
يستطيع شاب أن يرسم لنفسه فيها مساراً معقولا ، ويختار لنفسه طريقاً واضحاً على
امل الحصول على الملكات الفاضلة ، والنفسية الرفيعة الطاهرة الّتي تحفظه عن أي
خطر متوقَع. وإلى هذه الحقيقة اشار
الإمام جعفر الصادق عليهالسلام
بقوله :
حقاً إن كبح جماح النفس ، وزمَّها
وحفظها مِنَ الإنزلاق في مهاوي الشهوات ، والنزوات في مثل هذه الفترة لهو أمر
جدّ عسير ، ولو أن الانسانَ حُرمَ من تربية عائلية صحيحة مستقيمة كان عليه أن
ينتظر مصيراً سيّئاً ، ومستقبلا في غاية البؤس والشقاء. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
فَترةُ
الشَبابِ في حياة رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
:
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ليس من شك في ان فتى قريش « محمَّد »
صلىاللهعليهوآلهوسلم كان يتمتع في أيام شبابه بصحة جيدة ،
وقوة بدنية عالية ، وكان شجاعاً قوياً ، لأنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم قد تربى في بيئة حرة بعيدة عن ضوضاء
الحياة ، وفتح عينيه في عائلة اتصف جميع أفرادها واعضائها بالشجاعة والفروسية ،
هذا من جانب ، ومن جانب آخر كان يمتلك ثروة « خديجة » الطائلة فكانت ظروفُ الترف
، والعيش الشهواني متوفرة له بشكل كامل ، ولكن كيف ترى استفاد من هذه الامكانات
المادية هل مدَّ موائد العيش واللذة وشارك في مجالس السهر والسمر واللهو واللعب.
واطلق العنان لشهوته ، وفكر في إشباع غرائزه الجنسية كغيره من شباب ذلك العصر ،
وتلك البيئة الفاسدة. أم أنَّه اختار لنفسه منهجاً آخر في
حياته ، واستفاد من كل تلك الإمكانات في سبيل تحقيق حياة زاخرة بالمعنوية ،
الأمر الّذي تبدو ملامحه بجلاء لمن تتبع تلك الفترة الحساسة من تاريخه. ان التاريخ ليشهد بأنه صلىاللهعليهوآلهوسلم
كان يعيش كما يعيش أي رجل ، رجل عاقل لبيب وفاضل رشيد ، وأنه طوى تلك السنوات
الحساسة من حياته كأحسن ما يكون ، بعيداً عن العبث والترف والضياع والانزلاق إلى
الشهوات والانسياق وراء التوافه. بل ان التاريخ ليشهد بأنه كان اشد ما
يكون نفوراً من اللهو ، والعبث ، والترف والمجون فقد كانت تلوح على محيّاه
دائماً آثار التفكّر والتأمل ، وكثيراً مّا كان يلجأ إلى سفوح الجبال أو الكهوف
والمغارات للابتعاد عن الجوّ الإجتماعي الموبوء في مكة ، يلبث هناك أياماً يتأمل
فيها في آثار القدرة الآلهية ، |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أحاسيسه
ومشاعره الإنسانية في فترة الشَّباب :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ولقد وقعت في احدى أسواق مكة ذات يوم
حادثة هيّجت مشاعره الإنسانية وحركت عواطفه واحاسيسه ، فقد رأى مقامراً قد خسر
بعيره وبيته ، بل بلغ الأمر به أن استرقهُ منافسُه عشرة أعوام. وقد آلمت هذه القصة المأساوية فتى
قريش « محمَّد » بشدة ، إلى درجة أنّه لم يَعُد يحتمل البقاء في « مكة » ذلك
اليوم فغادرها من فوره وذهب إلى الجبال المحيطة بمكة ثم عاد بعد هزيع من الليل. لقد كان رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ينزعج بشدة لهذه المشاهد المحزنة والاوضاع المأساوية ، وكان يتعجب من ضعف عقول
قومه ، وانحطاط مداركهم. ولقد كان بيت « خديجة » قبل زواج النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بها
ملاذاً للفقراء وكعبة لآمال المساكين والمحرومين ، وبعد أن تزوج النبيُ صلىاللهعليهوآلهوسلم
بها لم يطرأ على وضع ذلك البيت أيُ تغيير من جهة الانفاق والبذل. ففي سنين الجدب والقحط الّتي كانت
تضرب مكة وضواحيها بين الحين والآخر ربما قدمت « حليمة السعدية » مكة لتزور
ولدها الرضاعي « محمَّد » فكان النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
يكرمها
ويحترمها ، ويفرش رداءه تحت أقدامها ، ويصغي لكلامها بعناية ولطف ، وفاء لجميلها
، وعرفاناً لعواطفها واُمومتها. فقد روي أن « حليمة » قدِمت على رسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم مكة بعد تزوّجه خديجة ، فشكت إليه
جدب البلاد وهلاك المواشي فكلَم رسولُ اللّه
صلىاللهعليهوآلهوسلم
« خديجة » فأعطتها بعيراً واربعين شاة ، وانصرفت إلى أهلها موفورة ، مسرورة. وروي أيضاً انه
استأذنت « حليمة » عليه
ذات مرة فلما دخلت عليه قال : « اُمّي اُمّي
»
وعمد إلى ردائه فبسطه لها فقعدت عليه (السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 103.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أولادُ خديجة :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لا ريب في أنَّ وجودَ الأولاد في
الحياة العائليّة ممّا يقوّي أواصر الوشيجة الزوجية ، ويعمّق جُذُورها ، ويمنح
الجوَّ العائليّ بهاء ، ورَوْنقاً ، وجمالا خاصاً. ولقد أنجبت « خديجةُ » لرسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ستة من الأولاد اثنين من الذكور ، أكبرُهما « القاسم » ثم « عبدُ اللّه »
اللَّذان كانا يُدعَيان ب : « الطاهر » و « الطيّب » واربعة من الإناث. كتب ابن هشام يقول في
هذا الصدد : اكبرُ بناته رُقيَّة ثم زيْنَبْ ثم اُمُّ كلثوم
، ثم فاطمة. فأما الذكور من أولاده صلىاللهعليهوآلهوسلم
فماتوا قبل البعثة ، وأما بناته فكلُّهن أدركنَ الإسلام
(مناقب ابن شهرآشوب : ج 1 ، ص 140 ، قرب الأسناد : 6 و 7 ، الخصال : ج
2 ، ص 37 ، بحار الأنوار : ج 22 ، ص 15 ـ 152. وقد ذكر البعض للنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
اكثر من ولدين ، يراجع تاريخ الطبري ج 2 ، ص 35 ، بحار الأنوار : ج 22 ، ص 166.).
ورغم أن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
قد عُرفَ بصبره وجَلده في الحوادث والنوائب فربَما انعكست احزانه القلبية في
قطرات دموعه الساخنة المنحدرة على خَدَّيه الشريفين في موت أولاده. ولقد بلغ به الحزنُ والغمُ لموت ولده
« إبراهيم » من زوجته ماريّة القبطية حداً لم يحدثْ لغيره من أولاده ، إلاّ أنّه
رغم ذلك الحزن الآخذ من قلبه مأخذاً لم يفتر لسانه عن حمد اللّه وشكره حتّى أن
اعرابياً اعترض عليه صلىاللهعليهوآلهوسلم
لما وجده يبكي على ولده قائلا : أولم تكن نهيت عن البكاء اجابه بقوله : « انما هذا رحمة ، ومن لا يَرحَم لا
يُرحَم (بحار الأنوار : ج 22 ، ص 151.)
». |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
حَدْسٌ
لا أساس له من الواقع!!
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد كتبَ الدكتور هيكل
في كتابه : « حياة محمَّد » يقول : « لا ريب أن خديجة عند
موت كل واحد منهما ( اي ولدي النبي :
القاسم وعبد اللّه ) في الجاهلية توجَّهت إلى آلهتها
الاصنام تسألها ما بالها لم تشملها برحمتها وبرها » (حياة محمَّد : ص 128.).
إنَّ هذا الكلام لا يستند إلى أي
دليل تاريخي ، وليس هو بالتالي إلا حَدْسٌ باطل ، وإدعاء فارغ ليس له من منشأ إلاّ
أن أغلبية أهل ذلك العصر كانوا عبَدة أوثان ، فلابُدّ ان خديجة كانت على
منوالهم!! في حين ان رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم كان يبغض الأصنام والأوثان من بداية
شبابه ، وقد اتضح موقفُه منها أكثر في سفرته إلى الشام في أموال خديجة يوم قال
لمن استحلفه باللات والعزى : « اليك عني ،
فما تكلَّمت العربُ بكلمة أثقل عليَّ من هذه ». مع ذلك كيف يمكنُ القولُ بأنَ امرأة
لبيبة عاقلة لم يكن شدةُ حبها وشغفها بزوجها موضعَ شك ، أن تتوجَّه عند موت
وَلديها إلى الاصنام التي كانت ابغض الأَشياء عند زوجها ، وخاصة أن حبها لزوجها
« محمَّد » وبل إقدامها على الزواج منه انما كان بسبب ما كان يتحلى به من ايمان
ومعنوية ، وصفات فاضلة ، وملكات اخلاقية عالية ، فهي قد سمعت عنه بأنه آخر نبيّ
، وأنه خاتم المرسلين ، فكيف والحال هذه يمكن ان يحتمل احد انها ـ مع هذا
الاعتقاد ـ بثت شكواها وحزنها إلى الاوثان والاصنام؟؟! |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
دَعِيُّ
رسول اللّه : زيد بن حارثة :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
عند الحَجَر الاسود أعلن رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم عن تبنيه له ... ذلك هو زيد بن حارثة. وكان « زيدٌ »
ممّن سباهُ العرب من حدود الشام ، وباعُوه في أسواق مكة رقيقاً لأحد أقرباء «
خديجة » يُدعى « حكيم بن حزام » ، ولكن لا يُعرف كيف انتقل إلى « خديجة » في ما
بعد؟ يقول هيكل في كتابه «
حياة محمَّد » في هذا الصدد « لقد ترك موتُ ولدَيْ رسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
في
نفس النبي اثراً عميقاً حتّى إذا جيء بزيد بن حارثة يُباعُ طلب إلى « خديجة » أن
تبتاعه ففعلت ثم اعتقه وتبناه » (حياة محمَّد : ص 128.).
ولكن اكثر المؤرخين
يقولون : ان « حكيم بن حزام » قد اشتراه لعمته « خديجة
بنت خويلد » ، وقد أحبَّه رسولُ اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
لذكائه وطهره ، فوهبته « خديجة » له عند زواجه صلىاللهعليهوآلهوسلم
منها.
ففتش عنه والدُه « حارثة » حتّى عرف
بمكانه في مكة ، فقدمها ، ودخل على النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
أن
يأذن لزيد ليرحل معه إلى موطنه ، فدعاه رسولُ اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وخيّره بين المقام معه صلىاللهعليهوآلهوسلم
والرحيل
إلى موطنه مع أبيه ، فاختار المقام مع رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
لما وجد من خلقه ، وحنانه ، ولطفه العظيم فلما رأى رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ذلك اخرجه إلى الحجر واعتقه ثم تبناه على مرأى من الناس ومسمع قائلا : « يا من
حضر اشهدوا أن زيداً ابني » (الاصابة : ج 1 ، ص 545 و 456 ، اُسد الغابة : ج 2 ، ص 225 و 226.). |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
بدايةُ
الخِلاف بَين الوثنيّين :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد أوجدت البعثة النبويّةُ خلافاً
واختلافاً كبيراً في أوساط قريش وفرّقْت صفوفهم ، غير أنّ هذا الاختلاف قد وُجدت
أسبابُه وعواملُه ، وظهرت بوادرُه وعلائمُه قبل البعثة المباركة. فقد أبدى جماعةٌ من الناس في الجزيرة
العربية استياءهم من دين العرب وانكروا عقائدهم الباطلة ، وطالما كانوا يتحدثون
عن قرب ظهور النبيّ العربيّ الّذي يتمُّ على يديه إحياء التوحيد. وكان اليهود يتوعدون
أهل الاصنام بالنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
ويقولون : ليخرجنَّ نبيُّ فَليكسرن أصنامكم (بحار الأنوار : ج 15 ، ص 231.).
وكتب ابن هشام يقول :
كان اليهود يقولون للعرب : إنه قد تقارب زمان نبيّ يُبعث الآن نقتلكم معه قتلَ
عاد وارم. وكتب يقول أيضاً : وكانت
الاحبار من اليهود ، والرهبان من النصارى والكهّان من العرب قد تحدثوا بأمر رسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم قبل
مبعثه. هذه الكلمات تُصوِّر انقضاء عهد
الوثنية في نظرهم إلى درجة أن بعض القبائل أجابت النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
لما بُعثَ ، ودعاهم اللّه ، بينما احجمت اليهودُ عن الايمان به وبرسالته وبقيت
على كفرها وجحودها لنبوته الّتي طالما بشرت بها. وقد نزل فيهم قولُه تعالى : « وَلَمّا جاءهُمْ كتابٌ مِنْ عِنْدِ اللّه
مُصدِّقٌ لِما مَعهمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلى الَّذينَ
كَفرُوا فَلمّا جَاءهُمْ ما عَرفُوا كَفرُوا به فَلعْنَةُ اللّه عَلى الكافِرين »
(السيرة النبوية : ج 1 ص 221.)
(البقرة : 89.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أعمدةُ
الوثنيّة تهتزُّ :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ولقد شهدَ أحدُ أعياد قريش حادثاً
غريباً كان في نظر العقلاء وأصحاب الفكر الثاقب منهم بمثابة جرس إنذار اذِن
باقتراب سقوط دولة الوثنيين ، وإنهيار صروح الوثنيّة وعبادة الأصنام ،
وانقراضها. فقد اجتمعت قريش يوماً
في عيد لهم عند صنم من أصنامهم كانوا
يعظمونه وينحرون له ، ويعكفون عنده ، فتنحّى
أربعةٌ ممن عُرفوا بالعلم ناحية ، وأخذوا
يتحدَّثون سرّاً ، وأخذوا ينتقدون عبادة الأوثان والأصنام ، وما عليه قومهم من
فساد العقيدة. فقال بعضهم لبعض :
واللّه ما قومكم على شيء ، لقد اخطأوا دين أبيهم إبراهيم!! ما حَجرٌ نُطيف به لا
يسمعُ ولا يبصرُ ، ولا يضرُ ولا ينفعُ ، يا قوم التمسوا لأنفسكم ديناً ... وكان هؤلاء الأربعة هم
: 1 ـ « ورقة بن نوفل »
الَّذي اختار النصرانية بعد أن طالعَ كُتُبَها ، واتصل بأهلها. 2 ـ « عبيداللّه بن
جَحش » الّذي أسلمَ عند ظهور الإسلام ، ثم هاجر مع
المسلمين إلى الحبشة. 3 ـ « عثمان بن
الحويرث » الّذي قدم على قيصر ملك الروم ، فتنصَّر. 4 ـ « زيد بن عمرو بن
نفيل » الّذي اعتزل الأوثان ، وقال : اعبدُ رب إبراهيم (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 225.).
إن ظهور مثل هذا الاستنكار والجحد
للأوثان والوثنية لا يعني أبداً أنَّ دعوة رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
كانت تعقيباً لدعوة هذه الجماعة ، واستمراراً لها!! كيف يمكن أنْ نعتبر دعوة رسول اللّه
العالمية مع ما انطوت عليه من أهداف كبرى ، واستندت إليه من معارف وأحكام لا
تُحصى ، ردّة فعل لمثل هذا الحادث الصغير وتعبيراً عن مثل هذا الاستنكار
المحدود؟ إن الحنيفية وهي سُنّة
إبراهيم ودينه لم تكن قد مُحِيت
كليّاً في الحجاز بعد ايام بعثة رسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم بل كان هناك لا يزال بعض الأحناف ( وهم الذين كانوا على دين إبراهيم عليهالسلام ) منتشرين في
أنحاء الجزيرة العربية ، إلاّ أن ذلك لا يعني أنّهم كانوا قادرين على التظاهر
بعقيدتهم بين الناس ، أو قيادة حركة ، أو تربية أفراد على نهجهم ، أو أن
توجُّهاتهم التوحيدية كانت من القوة بحيث تستطيع أن تكون مصدر إلهام لقيم ومعارف
وتعاليم وأحكام لِشخصيّة مثل رسول الإسلام « محمَّد » صلىاللهعليهوآلهوسلم. فلم يُنقَل عن هؤلاء سوى بعض
الإعتقادات المعدودة المحدودة مثل الاعتقاد بالمعاد واليوم الآخر ، وشيء بسيط من
البرامج الأخلاقية ، وحتّى ما نقل عنهم من ابيات توحيدية لا يمكن تأكيد انتسابها
إليهم ، وانْ لم يمكن نفي ذلك أيضاً (ولقد نقل ابن هشام في
كتابه : السيرة النبوية : ج 1 ، ص 222 ـ 232 طائفة من الأبيات والقصائد
التوحيدية هذه ؛ والّتي جاء في مطلع إحداها ما أنشده زيدُ بن عمرو بن نفيل :
). فهل يمكن والحال هذه أن نعتبر
الثقافة الإسلامية العظيمة ، والمعارف العقلية العالية ، والقوانين والتشريعات
المفصلة ، والانظمة الأَخلاقية والسياسية والإقتصادية الإسلامية ، الشاملة
الكاملة ، كنتيجة لمتابعة اُولئك النفر المعدود من « الأحناف » الموحدين
المنتشرين في انحاء مختلفة من بلاد الحجاز الذين كانت جلُ عقائدهم تتألف من مجرد
الاعتقاد بوجود اللّه ، واليوم الآخر وقضية أو قضيتين من قضايا الأخلاق؟! |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
نموذج آخر عن ضَعف
قريش :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لم يكن يمض على عُمر فتى قريش اكثر
من خمس وثلاثين عاماً يومَ واجه اختلافاً كبيراً بين قريش ، فأزال بحكمته ذلك
التخاصم ، ولقد كشفت هذه الحادثة عن مدى الإحترام الّذي كان فتى قريش « محمَّد »
يحظى به لدى قريش ، كما وتكشف عن قوة اعتقادهم بصدقه وأمانته. واليك تفصيل هذه الحادثة :
إنحدر سيلٌ رهيب من
جبال مكة المرتفعة نحو بيت اللّه المعظم « الكعبة المقدسة » فلم يسلم من هذا
السيل بيت في مكة حتّى الكعبة المعظمة ، الّتي تصدَّعتْ جدرانُها تصدعاً كبيراً
بفعل ذلك السيل. فعزمت قريشٌ على تجديد تلك البِنية
المعظمة ، ولكنها تهيّبت ذلك ، وترددت في هدم الكعبة ، فأقدم « الوليد بن
المغيرة » وهدمَ ركنين منها على شيء من الخوف ، فانتظر أهلُ مكة أن يحل به أمرٌ
، ولكنهم لما رأوا « الوليد » لم يصبه غضب من الآلهة ، اطمأنوا إلى أنه لم يرتكب
قبيحاً ، وأنه عمل ما فيه رضى آلهتهم ، فاقدَمُوا جميعاً على هدم ما تبقى من
الكعبة ، واتفق أن تحطّمت سفينة قادمة من «
مصر » في تجارة لروميّ عند ميناء « جدة » بفعل الرياح والعواصف ، فعلمت بذلك
قريش ، وأرسلت رجالا يبتاعون أخشابها ليستخدموها في بناء الكعبة المعظمة ،
وأوكلوا أمر نجارتها إلى نجّار قِبطيّ محترف كان يقطن « مكة ». ولما ارتفعت جدران
الكعبة إلى قامة الرجل ، وآن الأوان لوضع الحجر الأسود في محله من الركن وقع
الاختلاف بين زعماء قريش ، وتنازعوا في من يتولّى وضع الحجر الاسود في مكانه. وتحالفت قبيلة « بني عبد الدار » مع « بني عَديّ » على
أن يمنعوا من أن ينال هذا الفخار غيرُهم ، وعمدوا إلى اناء مملوء بالدم فوضعوا
أيديهم فيه تاكيداً لذلك الميثاق. من هنا تأخرت عملية البناء وتوقّفت
خمسة أيام بلياليها ، وكاد أن تنشب بينهم حربٌ دامية ، وربما طويلة ، فقد اجتمعت
طوائف مختلف من قريش في المسجد الحرام وهي تنتظر حادثة خطيرة ، فعمد ـ في الأخير
ـ شيخ من شيوخ قريش يدعى « أبو اُميّة بن مغيرة المخزومي » من زعماء قريش وقال :
يا معشر قريش ، إجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول مَن يدخل من باب هذا المسجد (وفي رواية : أول من يدخل باب الصفا.)
يقضي
بينكم فيه » فقبلوا برايه اجمع ، فكان أول داخل عليه فتى قريش « محمَّد » صلىاللهعليهوآلهوسلم فلما رأوه قالوا : هذا الأمين ،
رضينا ، هذا محمَّد. فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم :
هلم اليّ ثوباً ، فأخذ الحجَر ووضعه فيه ثم قال : « لتأخذْ كلُ قبيلة
بناحية من الثوب ، ثم ارفعوهُ جميعاً » ففعلوا حتّى إذا بغوا به موضعه من
الركن وضعه صلىاللهعليهوآلهوسلم
هو بيده مكانه ، وبهذا حال دون وقوع حوادث دامية كادت أن تقع بسبب تنازع قريش ،
واختلافها ، وحلَّ الوفاق محل الشقاق بعد أن رضي الكلُ بحكمه. وإلى قضية التحكيم هذه يشير « هبيرة بن أبي وهب » في أبيات
صوَّرت هذه الحادثة التاريخية الكبرى ، إذ قال :
(1)السيرة النبوية : ج 1 ، ص 192 ـ 199 وفروع الكافي : ج 4 ، ص
217 و 218 ، والجدير بالذكر أنهم قالوا عند تجديد بناء الكعبة : « يا معشر قريش
لا تدخلوا في بنيانها مِن كسبكم إلاّ طيّبا ، لا يدخلُ فيها مهر بغيّ ، ولا بيع
ربا ، ولا مظلمة أحد للناس » ( البداية والنهاية : ج 2 ، ص 301 ) ولا شك أنّ هذه
من بقايا تعاليم الأنبياء الّتي بقيت بينهم ولم تمح بالمرة.
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أمينُ
قَريشُ يَكْفُلُ عَليّاً :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أجدبت مكةُ وضواحيها سنة من السنين ،
وقل فيها الماء ، وأصابت الناس أزمة شديدة ، وكان أبو طالب عليهالسلام
كثير العيال ، فعزم رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
على أن يساعد عمه أبا طالب ، ويخفف عنه عبء العيال ، فانطلق إلى عمه العباس وقال
له : « إن أخاك أبا طالب كثير العيال وقد أصابَ الناس ما ترى من هذه الأزمة ،
فانطلق بنا إليه فلنخفّفْ من عياله آخذ من بنيه رجلا وتأخذ أنتَ رَجلا ». فكفل العباسُ جعفراً ،
وكفل رسولُ اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
عليا عليهالسلام.
يقول أبو الفرج
الاصفهاني المؤرخ المعروف في هذا الصدد : وكان رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
أخذ « علياً » من أبيه وهو صغير في سنة اصابت قريشاً وقحط نالهم ، وأخذ حمزة
جعفراً وأخذ العباس طالباً ليكفوا اباهم مؤونتهم ويخففوا عنهم ثقلهم ، وأخذ هو (
أي ابو طالب ) عقيلا لميله كان إليه فقال رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
: « اخترتُ مَن اختار اللّه لي عليكم :
علياً » (مقاتل الطالبيين : ص 26 ، الكامل في التاريخ : ج 1 ، ص 37 ، السيرة
النبوية : ج 1 ، ص 245 ـ 247 باب ( ذكر أن عليّ بن ابي طالب رضي اللّه عنه اول
ذكر أسلم ). إن هذه الحادثة وإن كانت في ظاهرها
تعني ان رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
اقدم على هذا الأمر ليساعِدَ عمَّه أبا طالب في تلك الازمة ، لكن الهدف الأعلى
والأخير كان أمراً آخر وهو أنْ : يتربّى علي عليهالسلام
في حجر النبي ، ويغتذي من مكارم اخلاقه ويتبعه في كريم افعاله. ولقد اشار الإمام
عليُّ عليهالسلام
نفسُه إلى هذا الموضوع بقوله : « وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ مَوْضِعي مِنْ
رَسُول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
بالقَرابَةِ القريبَة وَالمَنزِلَةِ الخَصيْصَة وضعني في حجره وَأنا ولَد
يَضمُّنِي إلى صَدْرهِ وَيَكنفُني في فِراشِه ... وَلَقَدْ كُنْتُ أَتَّبعُهُ
اتّباعَ الفَصِيْل أَثر امِّه يَرفَعُ لِي في كُلِّ يَوْم مِنْ أخْلاقِهِ
عَلَماً وَيأمُرُني بالإقتداء بِه » (نهج البلاغة : الخطبة 192.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ايمان
النبي وآبائه وكفلائه قبل الإسلام :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
تدلُ الدلائل التاريخيّة ، القوية ،
فضلا عن الأدلة العقلية والمنطقية على أن النبي الاكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم
لم يعبُدْ غير اللّه تعالى منذ وُلِدَ من اُمّة ، والى أن رحل إلى ربه ، بل وكان
كفلاؤه مثل عبد المطلب وأبي طالب مؤمنون موحِّدُونَ هم أيضاً |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ايمان
جده عبد المطّلب :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وأما عبد المطلب كفيل
النبيّ الأوَّل فلا ننسى أنه عند ما قصد « أبرهة »
هدم الكعبة في جيش الفيل ، نزل في جوف الليل إلى الكعبة وأخذ بحلقة بابها
يَدْعوا اللّه ويقول مناجياً اللّه
سبحانه. « اللّهم أنيسَ المُسْتَوحشِين ، ولا
وحشة مَعكَ فالبيتُ بَيْتُكَ ، والحرم حرمك والدارُ دارُك ، ونحنُ جيرانُكَ ،
انَك تمْنَعُ عَنْه ما تشاء ، وربّ الدّار اُولى بالدّار ». ثم أنشأَ يقول :
راجع القصة ومصادرها في ص
161 من هذا الكتاب ، ولعبدالمطلب مواقف اُخرى مشابهة ، وعديدة ، راجع بصددها
مفاهيم القرآن : ج 5 ، ص 136 ـ 140. وهذا يكشف بوضوح عن
ايمان عبد المطلب بالله تعالى ، وتوكله عليه سبحانه ،
وانه كان الرجل الموحد الّذي لا يلتجئ في المصائب والمكاره إلى غير كهف اللّه ،
ولا يعرف الاّ باب اللّه على عكس ما كانت الوثنية عليه فان قومه كانوا يستغيثون
بالاصنام المنصوبة حول الكعبة. وممّا يدل على ايمانه ايضاً توسله
لكشف غمته باللّه سبحانه فقد
تتابعت على قريش سنون جدب ذهبت بالأموال ، واشرفت الانفس واجتمعت قريش لعبد
المطلب ، وعَلَوا جبل ابي قبيس ومعهم
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
محمَّد وهو غلام فتقدم عبد المطلب وقال : لاهم ( اي
اللّهم ) هؤلاء عبيدك واماؤك وبنو امائك ، وقد نزل بنا ما ترى ، وتتابعت علينا
هذه السنون فذهبت بالظلف والخف والحافر ، فاشرفت على الانفس فأذهِب عنا الجدب ،
وائتنا بالحياء والخصب ، فما برحوا حتّى سالت الأودية ، وفي هذه الحالة تقول
رقيقة :
إلى أن تقول :
وإلى هذه الواقعة يشير ابو طالب في
قصيدة أولها :
(1)السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 131 ـ 133. وقد نقل الشهرستاني
هذه الواقعة في كتابه « الملل والنحل » قال : وممّا يدل
على معرفته ( أي عبد المطلب )
بِحال الرسالة وشرف النبوة ان اهل مكة لما أصابهم ذلك الجدب العظيم ، وامسك
السحاب عنهم سنتين أمر ابا طالب ابنه ، ان يُحضر المصطفى محمَّد صلىاللهعليهوآلهوسلم
فاحضره ابو طالب ، وهو رضيع في قماط ، فوضعه على يديه واستقبل الكعبة ، ورماه
إلى السماء ، وقال : يا رب بحق هذا الغلام ، ورماه ثانياً وثالثاً وكان يقول :
بحق هذا الغلام اسقنا غيثاً مغيثاً دائماً هطلا ، فلم يلبث ساعة أن السحاب وجه
السماء وأمطر ، حتّى خافوا على المسجد ، وقال ايضاً : وببركة ذلك النور كان عبد
المطلب يأمر أولاده بترك الظلم والبغي ، ويحثهم على مكارم الاخلاق ، وينهاهم عن
دنيات الاُمور. وكان يقول في وصاياه :
« انه لن يخرج من الدنيا ظلوم حتّى ينتقم اللّه منه وتصيبه عقوبة » ، إلى ان هلك
رجل ظلوم حتف انفه لم تصبه عقوبة ، فقيل لعبد المطلب في ذلك ، ففكر وقال : ان
وراء هذه الدار داراً يجزى فيها المحسن باحسانه ويعاقب فيها المسيء باساءته (الملل والنحل : ج 2 ، ص 248 و 249.).
ان توسل عبد المطلب باللّه سبحانه
وتوليه عن الاصنام والاوثان ، والتجاءه إلى رب الارباب آية توحيده الخالص ،
وايمانه باللّه وعرفانه بالرسالة الخاتمة ، وقداسة صاحبها ، فلو لم يكن له الاّ
هذه الوقائع لكفت في البرهنة على ايمانه باللّه ، وتوحيده له. وقد اعترف المؤرخون
لعبد المطلب بهذا فقد قال اليعقوبي : « ورفض عبد
المطلب عبادة الاوثان والاصنام ، ووحدَ اللّه عزّ وجلّ ووفى بالنذر ، وسنّ سنناً
نزل القرآن باكثرها ، وجاءت السنة الشريفة من رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
بها ، وهي الوفاء بالنذر ، ومائة من الابل في الدية ، وان لا تنكح ذاتُ محرم ،
ولا تؤتى البيوت من ظهورها وقطع يد السارق ، والنهي عن قتل الموؤدة ، وتحريم
الخمر ، وتحريم الزنا ، والحدّ عليه ، والقرعة ، وان لا يطوف احد بالبيت عرياناً
، واضافة الضيف وان لا ينفقوا إذا حجوا الاّ من طيب اموالهم ، وتعظيم الاشهر
الحُرُم ، ونفي ذوات الرايات (تاريخ اليعقوبي : ج 2 ، ص 9 في بعض ما عدّه المؤرخ المذكور نظر.).
هذا وعن اُم أيمن « رضي اللّه عنها » قالت : كنتُ
أحضن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ( اي اقوم بتربيته وحفظه ) ، فغفلت
عنه يوماً فلم ادر الاّ بعبد المطلب قائماً على رأسي يقول « يا بركة ». قلت : لبيك. قال : أتدرين اين وجدتُ إبني؟ قلت : لا ادري. قال : وجدته مع غلمان قريباً من
السدرة ، لا تغفلي عن ابني ، فان أهل الكتاب يزعمون انه نبيّ هذه الاُمة ، وأنا
لا آمن عليه منهم (سيرة زيني دحلان بهامش السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 64.).
وكان عبد المطلب لا يأكل طعاماً الاّ
يقول عليّ بابني ( اي احضروه ) ويجلسه بجنبه ، وربما اقعده على فخذه ، ويؤثره
بأطيب طعامه. ثم انه لما بلغ أجله اوصى إلى ابي
طالب برسول اللّه وقال له : قد خلّفت في ايديكم الشرف العظيم الّذي تطؤون ، به
رقاب الناس وقال له أيضاً :
لدفع ضيم أو لشدّ عقدِ (تاريخ اليعقوبي : ج 2 ، ص 10.) هذا هو عبد المطلب ، وتعوذه ببيت
اللّه الحرام ، ومواقفه بين قومه ، وكلماته في المبدأ والمعاد وعطفه وحنانه على
رسول الإسلام ، واهتمامه برسالة خاتم النبيين ، وهي بمجموعها من اقوى الشواهد
على توحيده ، وايمانه باللّه ، واعترافه برسالة الرسول الكريم. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إيمان
كفيله وعمه أبي طالب :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وهكذا كان حال كفيل النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
الثاني ابو طالب عليهالسلام ،
فان له مواقفَ بارزة وكثيرة قبل البعثة النبوية ، وبعدها تكشف عن عمق أيمان شيخ
الاباطح ، وتوحيده. ومن تلك المواقف
استسقاؤه برسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
في صباه : فقد اصاب مكة قحطٌ شديدٌ في سنة من
السنين فطلبت قريش من « أبي طالب » أن يستسقي لها فخرج ومعه غلامٌ ـ وهو رسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ـ كأنه شمسُ دجن تجلّت عنها سحابة قتماء وحوله اُغيلمةٌ ، فأخذه « أبو طالب »
فألصق ظهره بالكعبة ، ولاذ الغلام باصبعه ( أي أشاربها إلى السماء ) وما في
السماء قزعة ، فأقبل السحاب من هاهنا وهاهنا ، وأغدق ، واغدودق وانفجر له الوادي
، واخصب البادي والنادي. ففي ذلك يقول ابو طالب
ـ في مدح رسول اللّه ـ :
شرح البخاري
للقسطلاني : ج 2 ، ص 227 ، المواهب اللدنية : ج 1 ، ص 48 ، السيرة الحلبية : ج 1
، ص 125 ، وللتوسع راجع الغدير : ج 7 ، ص 345 و 346 ، وقد ذكرنا مواقف ابي طالب
الايمانية عند البحث عن شخصيته فراجع. وكل هذا يعرب عن توحيد كفيلي رسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
الخالص ، وايمانهما باللّه تعالى ، ولو لم يكن لهما إلاّ هذين الموقفين لكفياهما
دليلا وبرهاناً على كونهما مؤمنين موحدِين. كما ان ذلك يدل ايضاً على أن رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم نشأ
وترعرع ونما في بيت كانت الديانة السائدة فيه هي توحيد اللّه ، وعبادته وحده
ورفض الاصنام والاوثان. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إيمان
والدَي النبي الاكرم :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد نقلت عن عبد اللّه والد رسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
كلمات وابيات تدل على ايمانه ومن ذلك ما نقله اهل السير عندما عرضت فاطمة
الخثعمية نفسها عليه فقال رداً عليها :
السيرة الحلبية : ج 1 ، ص
46. وقد روي عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
انه قال : « لم أزلْ اُنقل من أصلاب الطاهرين إلى أحرام الطاهرات » ولعل فيه
ايعازاً إلى طهارة آبائه وامهاته من كل دنس وشرك (سيرة زيني دحلان بهامش السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 58.)
واما الوالدة فيكفي
في اثبات ايمانها ما رواه الحفاظ عنها عند وفاتها فانها ( رضي اللّه عنها ) خَرجت مع
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وهو ابن خمس أوست سنين ونزلت
بالمدينة تزور أخوال جده وهم بنو عدي بن النجار ومعها ام ايمن « بركة » الحبشية
، فاقامت عندهم ، وكان الرسول بعد الهجرة يذكر اموراً حدثت في مقامه ويقول : «
ان اُمي نزلت في تلك الدار ، وكان قوم من اليهود يختلفون وينظرون إليّ فنظر
اليَّ رجلٌ من اليهود فقال : يا غلام ما اسمك؟ فقلت : أحمد ، فنظر إلى ظهري ،
وسمعته يقول : هذا نبي هذه الاُمة ، ثم راح إلى اخوانه فاخبرهم فخافت اُمّي
عليَّ فخرجنا من المدينة ، فلما كانت بالابواء توفيت ودُفنت فيها. وروى ابو نعيم في
دلائل النبوة عن اسماء بنت رهم قالت : شهدت آمنة
اُمّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في علتها الّتي ماتت بها ، ومحمَّد عليهالسلام
غلام يفع ( اي يافع ) له خمس سنين عند رأسها فنظرت إلى وجهه وخاطبته بقولها :
ثمّ قالت : كل حي ميت وكل جديد بال ،
وكل كبير يفنى ، وانا ميتة وذكري باق وولدتُ طهراً. وقال الزرقاني في شرح
المواهب نقلا عن جلال الدين السيوطي تعليقا على قولها : وهذا
القول منها صريح في انها كانت موحِّدة إذ ذكرت دين ابراهيم عليهالسلام
، وبشرت ابنها بالاسلام من عند اللّه ، وهل التوحيد شيء غير هذا ، فان التوحيد
هو الاعتراف باللّه وانه لا شريك له ، والبراءة من عبادة الاصنام (الاتحاف للشبراوي : ص 144 ؛ سيرة زيني دحلان بهامش السيرة الحلبية :
ج 1 ، ص 57.).
ونلفت نظر القارئ الكريم هنا إلى ما
قاله المرحوم الشيخ المفيد في كتابه « اوائل المقالات » في هذا الصدد : اتفقت الإمامية على أن آباء رسول
اللّه من لدن آدم إلى عبد اللّه بن عبد المطلب مؤمنون باللّه عزّ وجلّ موحدون له
، واحتجوا في ذلك بالقرآن والاخبار قال اللّه عزّ وجلّ : « الّذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين »
(اوائل المقالات : ص 12 و 13.).
ثمَّ إنّ هنا سؤالين
هما : 1 ـ هل كان صلىاللهعليهوآلهوسلم
قبل البعثة مُوحِّداً؟ 2 ـ بماذا وبأيّ دين كان يتعبَّد صلىاللهعليهوآلهوسلم
قبل البعثة؟ واليك الحديث في هاتين
الجهتين : |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ايمان
النبي باللّه وتوحيده قبل البعثة :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إنَ الدلائل
التاريخية ـ بالاضافة إلى البراهين العقلية والكلامية ـ تدل على انه صلىاللهعليهوآلهوسلم
كان قبل ان يبعثه اللّه بالإسلام ، مؤمناً باللّه ، موحّداً إياه ، لم يعبد
وثناً قط ، ولم يسجد لصنم أبداً ، وان ذلك من المسلمات. وهذا الامر وان كان أمراً مسلماً
وواضحاً كوضوح الشمس إلا اننا نذكر بعض ما جاء في التاريخ الثابت الصحيح ليقترن
ذلك الاتفاق بأصحّ الدلائل التاريخية : اما بغضه للأَصنام
وتجنبه للاوثان وما يكون من هذا القبيل فإليك بعض ما ذكره التاريخ الصحيح في هذا
المجال : 1 ـ جاء في حديث طويل
:
انَ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم لما تم له ثلاث سنين قال يوماً لوالدته
( لمرضعته ) حليمة السعدية : ما لي لا أرى
أخَويَّ بالنهار ، قالت له : يا بُنيّ انّهما يرعَيان غُنَيْمات. قال : فما لي لا أخرج معهما ، قالت
له : أتحبُ ذلك؟ قال : نعم ، فلما اصبَحَ محمَّد دهّنته ( تقول حليمة ) وكحّلته
وعلّقتُ في عنقه خيطاً فيه جِزعٌ يمانيّ ، فنزعه ثم قال لاُمّه : « مَهْلا يا
امّاهُ فَاِنَّ مَعِيَّ مَنْ يَحفظني » (المنتقى ، الباب الثاني من القسم الثاني ـ للكازروني كما في البحار :
ج 15 ، ص 392.).
2 ـ روي ان « بحيرا » الراهب قال
للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
في سفرته الاولى مع عمّه أبي طالب إلى الشام : يا غلام اسألك بحق اللات والعزى
الا أخبَرْتَني عما اسألك ، فقال رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم : « لا تسأَلْنِي باللات والعُزّى
فواللّه ما ابغَضتُ شَيئاً بغضَهُما » قال الراهب : باللّه الا أخْبَرْتني عما
أسالك عنه ، قال صلىاللهعليهوآلهوسلم : سَلْني عمّا بدالك (الطبقات الكبرى : ج 1 ، ص 154 ، السيرة النبوية : ج 1 ، ص 182.).
3 ـ روي أنه قد وقع بين النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وبين رجل تلاح في سفرته الثانية إلى
الشام للتجارة بأموال خديجة مع غلامها « ميسرة » بعد أن باع صلىاللهعليهوآلهوسلم سلعته ، فقال له الرجل : إحلِفْ
باللات والعزى ، فقال رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
: «
ما حلفتُ بهما قطُّ ، وإنّي لأمُرُّ فاُعرِضُ عنهما ». وفي رواية اُخرى : «
إليكَ عَني ثكلتْكَ امُّكُ فما تكلمت العربُ بكلمة اثقلَ عليَّ من هذه الكلمة ».
فقال الرجل : القولُ قولك. ثم قال
لميسرة : هذا واللّه نبيُّ (الطبقات الكبرى : ج 1 ، ص 156 ، بحار الأنوار : ج 16 ، ص 18.).
واما عبادته للّه تعالى فقد أجمع
المؤرخون على أنه صلىاللهعليهوآلهوسلم
كان
يخلو بحراء كل عام شهراً يعبد فيه اللّه تعالى. وقد قال الامام أمير
المؤمنين علي بن ابي طالب عليهالسلام
في هذا المجال : « وَلَقَدْ كانَ يُجاورُ في كلِّ
سَنة بحراء ، فاراه وَلا يراهُ غيري » (نهج البلاغة : قسم الخطب ، الخطبة 192.).
حتّى أن جبرئيل وافاهُ بالرسالة في
ذلك المكان ، وفي تلك الحال. وقد صَرَّح بهذا
أصحابُ الصحاح الستة أيضاً إذ قالوا : « وَكانَ
يخلو بحراء فيتحنّثُ فيه ، وهو التعبد في الليالي ذوات العدد » (صحيح البخاري : ج 1 ، ص 2 ، صحيح مسلم باب الايمان ، مسند أحمد : ج 6
، الحديث 233.).
كما ان الإمام
اميرالمؤمنين عليهالسلام
وصف هذا المقطع من حياة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بقوله : « ولقد قرَن اللّه به صلىاللهعليهوآلهوسلم لدُنْ أنْ كان فطيماً أعظم مَلك من
ملائكته يسلكُ به طريق المكارم ، ومحاسنَ أخلاق العالم ، ليله ونهاره » (نهج البلاغة : قسم الخطب ، الخطبة رقم 192.).
وجاء في الأخبار أنَّ رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
حجّ قبل البعثة حجات عديدة وكان يأتي بمناسكها على وجه صحيح بعيداً عن أعين
قريش. قال الإمامُ الصادقُ عليهالسلام
: في حديث ابن أبي يعفور : « حج رَسُولُ اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
عشر حجَّات مُستتراً في كُلِّها » (وسائل الشيعة : ج 8 ، ص 88 أبواب وجوب الحج.).
وفي رواية :
عشرين حجة (وسائل الشيعة : ج 8 ، ص 88 أبواب وجوب الحج.).
والسبب في هذا الاستتار هو أن قريش
كانت قد اسقطت بعض مناسك الحج ، والعمرة ، فكانت تؤدّي الحج بصورة غير صحيحة
وربما غيرت أشهر الحج احياناً لبعض الاعتبارات السياسية والمادية ، وهو ما سمي
بالنسيء وقد مرّ بيانه (راجع الصفحة 83 و 84 من هذا الكتاب.).
ان هذه الوقائع وغيرها ـ وهي ليست
بقليلة اصدق دليل على إيمانه صلىاللهعليهوآلهوسلم
،
وتوحيده ، إذ كيف يمكن أن يتنكَّب مثل هذه الشخصية الّتي نشأت وترعرعت في ذلك
البيت الطاهر ، وقرن اللّه به ملكاً يتولاه بالتربية والهداية عن جادة التوحيد. ثم أن ممّا لا ريب فيه أن الرسول
الخاتم صلىاللهعليهوآلهوسلم
هو افضل من جميع الأنبياء والمرسلين بنص القرآن الكريم. وقد صرح القرآن بان بعض الانبياء
بلغوا درجة النبوة في الصغر ، أو الصبا ، ونزلت عليهم الكتب في تلك الفترات. فَمثلا يقول القرآن الكريم عن يحيى
بن زكريا : « يا يَحيى
خُذ الكِتابَ بقوَّة وآتيْناهُ الحُكمَ صَبِي »
(مريم : 12.).
ثم يقول عن « عيسى بن مريم » عندما كان
في المهد وكان وجوه القوم من بني اسرائيل قد استنكروا ولادته من غير اب ، وطلبوا
من « مريم البتول » ان توضح لهم الامر ، وتبين لهم كيف حملت بعيسى؟!! فاشارت إلى المسيح عليهالسلام أن كلِّموه
وهو آنذاك في المهد لم يمض على ولادته سوى ايام معدودات ؛ فنطق المسيح بفصاحة
كبيرة وقال : « إنّي
عَبْدُ اللّه آتانيَ الكِتابَ وَجَعَلنِي نَبيّاً. وَجَعلنِي مُباركاً أين ما
كُنْتُ وَأوصَاني بالصَلاة والزَّكاةِ ما دُمْتُ حَي »
(مريم : 30 و 31.).
لقد بيَّن وليد « مريم » للناس اُصول
دينه وفُروعه في فترة الطفولة والرضاعة ، وأعلن لهم عن توحيده وايمانه باللّه
سبحانه. فهل يرضى ضميرك أيها القارئ الكريم
أن يكون « يحيى » و « المسيح » عليهماالسلام مؤمنين
معلنين عن توحيدهما ، وإيمانهما منذ طفولتهما ، وصباهما ، ويكون أفضل الأنبياء
والمرسلين ، وأشرف الخلق أجمعين إلى سِنّ الأربعين على غير إيمان ، وتوحيد ، مع
أنه صلىاللهعليهوآلهوسلم كان مشتغلا بالتعبّد في جبل « حراء »
عند نزول ملاك الوحي عليه لأول مرة؟ واليك بعض ما قاله
المؤرخون ، والعلماء في هذا المجال استكمالا لهذا المبحث :
قال ابن هشام : كان رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم يجاور ذلك
الشهر من كل سنة يطعم من جاءه من المساكين فاذا قضى رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم جواره من شهره ذلك كان أول ما يبدأ
به إذا انصرف من جواره ، الكعبة ، قبل أن يدخل بيته ، فيطوفُ به سبعاً أو ما شاء
اللّه من ذلك ، ثم يرجع إلى بيته حتّى إذا كان الشهر الّذي أراد اللّه تعالى به
فيه ما أراد من كرامته من السنة الّتي بعثه اللّه تعالى فيها ، وذلك الشهر شهر
رمضان ، خرج رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى « حراء
» كما كان يخرج لجواره ومعه اهله حتّى إذا كانت الليلة الّتي اكرمه اللّه فيها
برسالته ورحم العباد بها جاءه جبرئيل عليهالسلام
بامر
اللّه تعالى (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 236.).
وقال العلامة المجلسي
: قد
ورد أخبار كثيرة انه صلىاللهعليهوآلهوسلم كان يطوف ،
وانه كان يعبد اللّه في حراء وانه كان يراعي الآداب المنقولة من التسمية
والتحميد عند الاكل وغيره ، وكيف يجوّز ذو مسكة من العقل على اللّه تعالى ان
يهمل افضل انبيائه اربعين سنة بغير عبادة؟ والمكابرة في ذلك سفسطة (بحار الأنوار : ج 18 ، ص 280.). فايمان النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
، وتوحيده قبل البعثة ، اذن ، أمرٌ مسلمٌ لا شبهة فيه ، ولا غبار عليه. ولكن بعض الكُتاب من المسيحيين ومن
تبعهم ، من المستشرقين وغيرهم ، أبوا إلاّ أن ينتقصوا النبيّ الاكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم
فادّعوا ضلالَهُ قبل البعثة ، وإنه كان على غير إيمان ، أو توحيد ،
واستدلّوا لزعمهم الباطل هذا بما توهّموا أنه يدلّ على دعواهم من الآيات
القرآنية ، وأبرزها الآيات التالية : 1 ـ « ألم يَجدكَ يتيماً فآوى. وَوَجَدك ضالاّ فَهَدى »
(الضحى : 6 و 7.).
2 ـ « وثيابَكَ فَطهِّر. وَالرُّجْزَ فاهْجُرْ »
(المدّثر : 4 و 5.).
3 ـ « وكذلِكَ أوْحَينا إلَيْكَ رُوْحاً مِنْ أمْرنا
ما كُنْتَ تَدري ما الكِتابُ ولا الإيمانُ وَلكِنْ جَعلَناهُ نُوراً نَهْدي بِه
مَنْ نَشاء مِنْ عِبادِنا وإنَّكَ لَتهْدي إلى صِراط مستقيم »
(الشورى : 52.).
4 ـ « قُلْ لَوشاء اللّه مَا تَلَوتُه عَليْكُمْ وَلا
أدريكُمْ بِهِ فَقدْ لَبِثْتُ فِيْكُمْ عُمراً مِنْ قَبلِه أفَلا تَعْقِلُون »
(يونس : 16.).
5 ـ « وَما كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقى إلَيْكَ الْكِتابُ
إلاّ رَحْمة مِنْ رَبِّك » (القصص : 86.).
لقد استدل المستشرقون
ومن لفّ لفهم ومن سبقهم أو لحقهم من المخطّئة بهذه الآيات على ضلال النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم قبل البعثة ،
وسلب الايمان عنه ، ولكنها لا تدل على ما يريدون ، ولاجل تسليط الضوء على
مقاصدهم نبحث عنها واحدة واحدة. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الايةُ الاُولى :
الهداية بعد الضلالة :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ذكرالمفسرون لقوله تعالى : « وَوَجدَكَ ضالا فهدى »
الّذي يشعر بهداية النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم بعد
الضلالة احتمالات عديدة ، في معرض الاجابة على استدلال من استدل به لاثبات ضلال
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
قبل البعثة ولكن الحق
ان يقال : أنّ الضال يُستعمل في عرف اللغة
في موارد : 1 ـ الضالّ : من الضلالة ضدّ الهداية
والرشاد. 2 ـ الضالّ : من ضلّ البعير إذا لم
يعرف مكانه. 3 ـ الضالّ : من ضلّ الشيء إذا ضؤل وخفى
ذكره. وتفسير الآية بأيّ واحدة من هذه
المعاني لا يثبت ما يدعيه الذين يتمسكون بها لأثبات ضلال النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
قبل البعثة. أما المعنى الأول فهو المقصود في
كثير من الآيات قال سبحانه : «
غَيْر المَغضوب عَليهم وَلا الضالّين » (الفاتحة : 7.).
لكن الضلالة على نوعين
: النوع الأول ما
تكون الضلالة فيه أمراً وجودياً في النفس يوجب ظلمة النفس ومنقصتها ، مثل الكفر
والشرك والنفاق ، والضلالة بهذا المعنى قابلة للزيادة والنقصان قال سبحانه : « إنّما النَسِيء زيادةٌ في الكُفْر »
(التوبة : 37.).
النوع الثاني
ما تكون الضلالة فيه أمراً عدَمياً ، وذلك عندما تكون النفس فاقدة للرشاد ،
وعندئذ يكون الإنسان ضالا بمعنى أنه غيرُ واجد للهداية من عند نفسه ، وذلك
كالطفل الّذي اشرف على التمييز وكاد أن يعرف الخير والشر ، ويميز بين الصلاح
والفساد فهو آنذاك ضالٌّ بمعنى أنه غير واجد للنور الّذي يهتدي به في سبل الحياة
لا بمعنى كينونة ظلمة الكفر والفسق في نفسه وروحه. والمراد من الضالّ في
قوله تعالى « وَوَجدكَ
ضالا فَهَدى » لو كان ما يضادد الهداية فهو يهدف
إلى النوع الثاني ، فيكون المعنى انك في ابان عمرك كنت غير واجد للهداية من عند
نفسك فهداك اللّه إلى اسباب السعادة وعرفك عوامل الشقاء ، وهو اشارة إلى قانون
الهي عام في حياة البشر انبياء واناساً ماديين ، وهو ان هداية كل إنسان بل كل
ممكن مكتسبة من اللّه قال سبحانه : «
قالَ رَبُّنا الَّذي أعطى كُلَّ شيء خلْقَهُ ثمّ هَدى »
(طه : 50 ، وراجع الآيات : 2 و 3 من سورة الأعلى و 43 من سورة الأعراف
و 78 من سورة الشعراء وغيرها.).
وعلى هذا الاساس فالآية تهدف إلى ذكر
النعم الّتي انعم اللّه بها على نبيه الحبيب منذ ان استعد لها فآواه بعد ما صار
يتيماً ، وافاض عليه الهداية بعد ما كان فاقداً لها بحسب ذاته ، وبحكم طبيعته ،
ويعود زمن هذه العناية الربانية بنبيه إلى مطلع حياته ، واوليات عمره وايام صباه
بقرينة ذكر ذلك بعد الايواء الّذي تحقق باليتم ، وتمّ بجده عبد المطلب فوقع في
كفالته إلى ثمانية سنين ، ويؤيد ذلك قولُ امام المتقين علي بن ابي طالب عليهالسلام
: « ولقد قَرنَ اللّه به صلىاللهعليهوآلهوسلم من لَدنْ
أن كانَ فطيماً أعظمَ مَلك من ملائكته يسلكُ به طريقَ المكارم ، ومحاسنَ أخلاق
العالم ليله ونهاره » (ـ نهج البلاغة : من الخطبة 178 والمسماة بالقاصعة : ص 182.).
وصفوة القول أن المراد بكونه ضالا هو
أن لازم كون النبي ممكناً بالذات هو كونه فاقداً في ذاته لكل كمال وجمال ،
مفاضاً عليه كل جميل من جانب اللّه تعالى وهذا هو اشارة إلى مقتضى التوحيد
الافعالي واين هذا من الضلالة المساوقة للكفر أو الشرك أو الفسق والعصيان؟! ثم ان من المحتمل ان
تكون الضلالة في الآية مأخوذة من « ضلّ الشيء إذا لم يُعرف مكانه » وفي الحديث «
الحكمة ضالّة المؤمن » اي مفقودته ، لا ضدّ الهداية والرشاد ، فيكون الضالّ بهذا
المعنى منطبقاً على ما نقله أهلُ السير والتواريخ عن ما جرى للنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
في ايام صباه يوم ضلّ في شعاب مكة ، وهو صغير فمنّ اللّه عليه إذ ردّه إلى جدّه
، وقصته معروفة في كتب السير والتاريخ (لاحظ السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 131 وغيره ، وفي هذه القصة يروي عن
حيدة بن معاوية العامري سمعت شيخاً يطوف بالبيت وهو يقول :
)
ولو لا رحمة اللّه سبحانه لادركه الهلاك ومات عطشاً أو جوعاً فشملتهُ العناية
الالهية. أو أن تكون الضلالة في الآية مأخوذة
من « ضلّ الشيء إذا خفي وغاب عن الأعين » فالانسان الضال هو الإنسان المخفي ذكره
، المسنيّ اسمُه لا يعرفه إلا القليل من الناس ، ولا يهتدي كثير منهم إليه. ولو كان هذا هو
المقصود ، كان معناه حينئذ انه سبحانه رفع ذكره ، وعرّفه
للناس بعد ما كان خاملا ذكره منسياً اسمُه. ويؤيد هذا الاحتمال
قوله سبحانه في سورة الانشراح الّتي نزلت لتحليل ما ورد في سورة الضحى قائلا :
« المْ نشرَح لَك صَدرَك. وَوَضْعْنا
عَنْكَ وزرَك. الّذي أنقَضَ ظهرَكَ. وَرَفَعْنا لَكَ ذِكرَك »
(الإنشراح : 1 ـ 4.).
فرفع ذِكْره في العالم عبارة عن
هداية الناس إليه ورفع الحواجز بينه ، وبينهم وعلى هذا فالمقصود من « الهداية »
هو هداية الناس إليه لا هدايته بعد ضلال ، فكأنه قال : فوجدك ضالا ، اي خاملا
ذكرك ، باهتا اسمُك ، فهدى الناس اليك ، وسيّر ذكرك في البلاد. وإلى ذلك يشير الإمام الرضا عليهالسلام على ما في
خبر ابن الجهم بقوله : « قال اللّه عزّ وجلّ لنبيه محمَّد صلىاللهعليهوآلهوسلم : « ألم يجدك يتيماً فآوى »
يقول « ألم يَجدْكَ
» وحيداً فآوى إليك الناسَ «
وَوَجَدكَ ضالاّ » يعني عند قومك « فَهَدى » أي
هَداهُمْ إلى معرفَتِك » (بحار الأنوار : ج 16 ، ص 142).
قال الاستاذ الشيخ محمَّد عبده في هذا المجال : لقد بُغِّضتْ إليه ( أي إلى رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم )
الوثنيّةُ من مبدأ عمره فعاجلته طهارةُ العقيدة ، كما بادره حسنُ الخليقة ، وما
جاء في الكتاب من قوله : « وَوَجدَكَ
ضالاّ فَهدى » لا يُفهَم منه أنه كان على وثنية
قبلَ الاهتداء إلى التوحيد ، أو على غير السبيل القويم ، قبل الخلق العظيم حاشَ
للّه ، إنّ ذلكَ لهوَ الإفكُ المُبِين (رسالة التوحيد للشيخ محمَّد عبده : ص 135 و 136.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الآية الثانية :
الامر بهجر الرجز
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
استدلّوا بقول اللّه تعالى «
والرُجْزَ فاهجُرْ » على وجود ارضية لعبادة الصنم والوثن في شخصية رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وذلك بتفسير الرجز بالصنم ، والوثن ، ويتضح بطلان هذا الادعاء والاستنباط إذا
أمعنا في معاني واستعمالات هذه اللفظة في الكتاب العزيز. ان الرجز استعمل في
القرآن الكريم في معان ثلاثة : العذاب ، القذارة ، الصنم. وقد استعمل الرجز ( بكسر الراء )
في تسع موارد في القرآن الكريم ، وقد
اُريد منه في جميعها العذاب إلاّ في مورد
واحد : وهي : البقرة ـ 59 ، والاعراف ـ 134 ( وجاءت اللفظة فيها مرتين ) و 135 و
162 والانفال ـ 11 وسبأ ـ 5 والجاثية ـ 11 والعنكبوت ـ 34. وجاء الرجز ـ بضمّ
الراء ـ مرّة واحدة وهي
الآية الّتي نحن بصددها هنا (المدَّثر : 5.).
وهذه الآية لا تدل على ما ذهب إليه
الذين يزعمون بان رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم كان على
غير التوحيد قبل البعثة. واليك بيان هذا
الموضوع مفصلاً : 1 ـ ان الرُجز لو كان بمعنى « العذاب
» دَلّت الآية على هجر ما يستلزم العذابَ ، فيكون الخطابُ حينئذ مسوقاً من باب
التعليم ، ومن باب « اياك أعني واسمعي يا جاره » ، فيكون ظاهر الأمر هو مخاطبة
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
ونهيه عما يستلزم العذاب ، وارادة تعليم الاُمة مثل قول اللّه تعالى في خطابه
للنبي « فلا تكوننّ
ظهيراً للكافرين » (القصص : 86.).
وقوله تعالى : « لئن أشركْتَ
ليَحْبَطنَّ عَملُك » (الزمر : 65.)
فكما لا تدلّ الآية على وجود أرضية الشرك في شخصية النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم كذلك لا تدل الآية على وجود أرضية
التعرض للعذاب في شخصية رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم. 2 ـ إن الرُجز لو كان
بمعنى ( القذارة ) وهي تنقسم إلى مادية ومعنوية فيحتمل ان
يكون المراد بناء على المعنى الأول اشارة إلى ما ورد في الروايات من أنّ اباجهل
جاء بشيء قذر ، وأمر رجلا من قريش بالقائه على النبيّ ، ففعل ، فأمراللّه نبيه
بتطهير ثوبه من الدنس. ويحتمل ان تكون الآية دعوة إلى
اجتناب الصفات الذميمة بناء على ارادة المعنى الثاني الفظة الرُجز فتكون الآية
تعليماً للناس على النمط السابق ، فلا تدل على اتصاف النبي الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم
بها. 3 ـ الرُجز بمعنى
الصنم ، لنفترض أن المقصود منه في الآية هو الصنم ،
لكن لا بمعنى أنه وضعَ لذاك المعنى ، وإنّما وضعَ اللفظُ لمعنى جامع يعمُّ الصنم
والخمر والازلام لاشتراك الجميع في كونها رجزاً ، ولأجل ذلك وصِف الجميع في مورد
آخر بالرجس فقال تعالى : « إنَّما
الخمْرُ والمَيْسرُ وَالأنْصابُ وَالأَزْلامُ رجسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ
فاجْتَنِبُوهُ » (المائدة : 90.).
ولكن يجاب عن هذا أيضاً بأن النبيّ
يوم نزلت الآية لم يكن عابداً للوثن بل كان مشمّراً عن ساعد الجدّ لتحطيم
الاصنام ومكافحة عبدتها ، فلا يصحّ أن يخاطَب من هذا شأنه بهجر الاصنام إلا على
السبيل الّذي أشرنا إليه وهو توجيه الخطاب إلى النبيّ وإرادة الاُمة به لكون هذا
النوع من الخطاب أبلغ في التأثير ، لأنه سبحانه إذا خاطب أعزّ الناس إليه بهذا
الخطاب فغيره أولى به. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الآية الثالثة :
عدم علمه بالكتاب والايمان
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قوله سبحانه : « وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إليْكَ رُوْحاً مِنْ
أَمْرنا ما كُنْتَ تَدريْ ما الْكِتابُ وَلاَ الإيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ
نُوراً نَهْدي بِه مَنْ نَشاء مِنْ عِبادِنا وانَّكَ لَتَهْدِي إلى صِراط
مُستَقيم » (الشورى : 52.).
زعم جماعة دلالة هذه الآية ـ والعياذ باللّه ـ على أن
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
كان فاقداً للايمان قبل الايحاء إليه. لكنَ حياته الشريفة المشرقة بالإيمان
، والتوحيد ، تفنّد تلك المقالة ، فالتاريخ يشهد على انه صلىاللهعليهوآلهوسلم منذ بداية عمره إلى أن لاقى ربه
مؤمناً موحداً وذلك امرٌ لا شك فيه ، ولا شبهة تعتريه ، وقد اجمع على ذلك أهلُ
السير والتاريخ ، وحتّى أن الاحبار والرهبان كانوا معترفين بانه نبيُّ هذه
الاُمة ، وخاتم النبيين ، وكان يسمع تلك الشهادات منهم في فترات خاصة في « مكة »
و « يثرب » و « بصرى » و « الشام » (راجع السيرة النبوية والسيرة الحلبية وبحار الأنوار.)
وغيرها ، فكيف والحال هذه يمكن ان يكون غافلاً عن الكتاب الّذي ينزل إليه أو
يكون مجانباً للإيمان بوجوده سبحانه ، وتوحيده ، والتاريخ المسلَّم الصحيح يؤكّد
على عدم صدق ذلك الاستظهار من الآية الحاضرة. فلابدّ إذن من الإمعان في مفاد الآية
كما لابدّ ـ في تفسيرها ـ من
الاستعانة بالآيات الواردة في ذلك المساق. بعث النبيُ الاكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم
لهداية قومه أوّلا ، وهداية جميع الناس ثانياً ، بالآيات والبيّنات ، ونخصُّ بالذكر منها : القرآن
الكريم ( معجزته الكبرى الخالدة )
الّذي بفصاحته أخرسَ فرسان الفصاحة ، وقادة الخطابة ، وببلاغته قهر ارباب
البلاغة وملوك البيان ، وخلب عقولهم ، وقد دعاهم إلى التحدي والمقابلة ، فلم يكن الجواب منهم إلاّ اثارة
الشكوك والتهم حوله ، وحول ما جاء به ، وعدم المعارضة بمثل القرآن قط. فتارة قالوا : بانه يعلّمه بشر ،
واُخرى بأنه إفكٌ افتراه ، واعانه عليه قوم آخرون وثالثة : بأنه أساطير الاولين
، قد اكتتبها فهي تُملى عليه بكرة واصيلا ، قال سبحانه رداً على هذه التهم الّتي
أشرنا إليها : « قُلْ نزّلَهُ رُوحُ القدُس مِنْ ربّكَ بِالْحَقِّ
لِيُثَبِتَ الَّذينَ آمَنُوا وَهُدى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِميْنَ * وَلَقْدَ
نَعلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إنّما يُعلِّمُهُ بَشَرٌ لسانُ الَّذي يُلْحِدُونَ
إليه أعجَميّ وَهذا لسانٌ عَرَبيّ مُبِينٌ
» (النحل : 102 و 103.).
وقال سبحانه « وَقالَ الَّذينَ كَفَرُوا إنْ هذا إلاّ إفكٌ
افتراهُ وَأعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاؤوا ظُلْماً وزُورا.
وَقالُوا أساطيرُ الأَوَّلينَ اكتَتبَهَا فَهِي تُملى عَليْهِ بُكرَةً وَأصيلا.
قُلْ أنزَلَهُ الَّذي يَعْلَمُ السّرَّ في السَّماواتِ وَالاَْرضِ إنه كانَ
غَفُوراً رَحيماً » (الفرقان : 4 ـ 6.).
والآية المبحوثة بصدد بيان هذا الأمر
، وانه وحي سماويٌ لا افكٌ إفتراه ، ولهذا بدأ كلامه بلفظة : « وَكَذلِكَ
أوْحَينا إليكَ » أي كما أنه سبحانه أوحى إلى سائر الانبياء باحدى الطرق الثلاثة
الّتي بينها في الآية المتقدمة ، أوحى إليك أيضاً روحاً من امره ، وليس هذا
كلامك وصنيعك ، بل كلام ربك وصنيعه. هذا مجمل الكلام في
الآية ولاجل رفع النقاب عن مرماها نقدّم اموراً تسلط الضوء على الآية : الأول : ان
المراد من الروح في الآية هو القرآن وسمّي روحاً لانه قوام الحياة الاُخروية ،
كما ان الروح في الإنسان قوام الحياة الدنيوية ، ويؤيد ذلك امورٌ : أ ـ ان
محور البحث الأصلي في سورة الشورى هو : الوحي والآيات الواردة فيها البالغ
عددُها (53)
آية تبحث عن ذلك المعنى بالمباشرة أو بغيرها. ب ـ
الآية الّتي تقدمت على تلك ، تبحث عن الطرق الّتي يكلم بها سبحانه انبياءه ويقول
: « وَما كانَ لِبَشر أن
يكلِّمَهُ اللّه إلاّ وَحْياً أو مِن وَرَاء حِجَاب أو يُرسِلَ رَسُولا فَيُوحيَ
بإذْنه ما يَشاء إنَّه عليُّ حكيم » (الشورى : 51.).
ج ـ انه
سبحانه بدأ كلامه في هذه الآية بلفظة : « وكذلك » أي كما أوحينا إلى من تقدم من
الانبياء كذلك أوحينا اليك باحدى تلك الطرق « روحاً من أمرنا » ووجه الاشتراك
بينه وبين النبيين هو الوحي المتجلي في نبينا بالقرآن وفي غيره بوجه آخر. كل ذلك يؤيد ان المراد من الروح في
الآية المبحوثة هو القرآن الملقى إليه. نعم وردت في بعض الروايات ان المراد
منه هو روح القدس ، ولكنه لا ينطبق على ظاهر الآية ، لان الروح بحكم كونه مفعولا
ل « أوحينا » يجب ان يكون شيئاً قابلا للوحي حتّى يكون موحى ، وروح القدس ليس
موحى بل هو الموحي ( بالكسر ) فكيف يمكن أن يكون مفعولا ل « أوحينا » ، ولأجله
يجب تأويل الروايات إن صحّت اسنادها. الثاني :
إن هيئة « ما كنتَ » أو « ما كانَ » تُستعمل في نفي الإمكان والشأن قال سبحانه :
« وَما كانَ لنَفْس أنْ تَموتَ
إلاّ بإذْنِ اللّه » (آل عمران : 145.)
وقال عزَّ اسمه : « ما كانَ
المؤمنُونَ لِيَنِفرُوا كافّةً » (التوبة : 122.).
وعلى ضوء هذا الاصل يكون مفاد قوله «
ما كُنتَ تدري ما الكتابُ ولا الايمانُ » أنه لولا الوحيُ ما كان من شأنك أن
تدري الكتابُ ولا الإيمان ، فان وقفتَ عليهما فانّما هو بفضل الوحي وكرامته. الثالث :
أن ظاهر الآية هو أن النبي الاكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم
كان فاقداً للعلم بالكتاب ، والدراية بالكتاب ، وانما حصلت الدراية بهما في ظل
الوحي وفضله فيجب إمعان النظر في الدراية الّتي كان النبي فاقداً لها قبل الوحي
وصار واجداً لها بعده ، فما تلك الدراية وذاك العلم؟ فهل المراد هو العلم بنزول الكتاب
إليه اجمالا والايمان بوجوده وتوحيده سبحانه ، أو المراد العلم بتفاصيل ما في
الكتاب ، والاذعان بها كذلك؟ لا شك انه لا سبيل إلى الأول لأنّ
علمه ـ اجمالا ـ بانه ينزل إليه الكتاب ، أو
ايمانه بوجود اللّه سبحانه كانا حاصلين قبل نزول الوحي إليه ولم يكن العلم بهما
ممّا يتوقف على الوحي ، فان الأحبار والرهبان كانوا واقفين على نبوّته ورسالته
ونزول الكتاب إليه في المستقبل إجمالا ، وقد سمع منهم النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
في فترات مختلفة : أنه النبيّ الموعود في الكتب السماوية ، وانه خاتم الرسالات
والشرائع ، فهل يصحّ أن يقال أن علمه صلىاللهعليهوآلهوسلم بنزول كتاب
عليه إجمالا كان بعد بعثته وبعد نزول الوحي ، أو انه كان متقدماً عليه وعلى
بعثته ، ومثلُهُ الإيمان باللّه سبحانه ، وتوحيده ، إذ لم يكن الإيمان باللّه
امراً مشكلاً متوقفاً على الوحي ، وقد كان الاحناف في الجزيرة العربية ومن
جملتهم رجال البيت الهاشمي موحّدين مؤمنين مع عدم نزول الوحي اليهم. فيتعين الاحتمال
الثاني وهو أن العلم التفصيلي بمضامين الكتاب وما فيه من
الاصول والتعاليم ثم الايمان والاذعان بتلك التفاصيل كانا متوقفين على نزول
الوحي ، ولولاه لما كان هناك علمٌ بها ، ولا ايمان. وبعبارة اُخرى : إنّ
العلم والإيمان بالامور السمعية الّتي لا سبيل للعقل إليها مثل المعارف والاحكام
والقصص ومجادلات الانبياء مع المشركين والكفار ، وما نزل بساحة أعدائهم من إهلاك
وتدمير ، لا يحصلان إلاّ من طريق الوحي حتّى قصص الامم السالفة وحكاياتهم لتطرق
الوضع والدّس إلى كتب القصّاصين ، والصحف السماوية النازلة قبل القرآن. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
تفسير الآية بآية
اُخرى :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إن الرجوع إلى ما ورد
في هذا المضمار من الآيات يوضح المراد من عدم درايته بالكتاب أوّلا ، والإيمان
ثانياً. أما الأول :
فيقول سبحانه : « تِلْكَ مِنْ
انباء الغَيب نُوحيها إليْكَ مَا كُنتَ تَعْلمُها أنْتَ وَلا قومُكَ مِنْ قَبلِ
هذا فاصْبِرْ إنَّ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقين
» (هود : 49.)
فالآية صريحة في أن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
لم
يكن عالماً بتفاصيل الأنباء ، وقد وقف عليها من جانب الوحي ، فعبّر عن عدم وقوفه
عليها في هذه الآية بقوله : « ما كُنتَ تَعْلُمها اَنتَ ولا قومُكَ » وفي تلك الآية بقوله : « ما
كُنْتَ تدري مَا الْكِتاب » والفرق هو ان « الكتاب » أعم من « أنباء الغيب »
والأول يشتمل على الانباء وغيرها ، وأما « الانباء » فانها مختصة بالقصص ، والكل
مشتركان في عدم العلم بهما قبل الوحي والعلم بهما بعده. واما الثاني
فقوله سبحانه : « آمَنَ
الرَّسُولُ بما اُنزل إلَيْهِ مِنْ رَبِّه وَالْمُؤمنُونَ كلٌ آمَنَ باللّه
وَمَلائكَتِهِ وَكُتُبه وَرُسُلِهِ لا نفرِّق بَينَ أحد مَن رسلِهِ وَقالُوا
سَمِعْنا وَأطعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإليْكَ الْمصيرُ
» (البقرة : 285.)
فقوله : « آمَنَ
الرسولُ بِما اُنزِلَ إليهِ » صريحٌ في
أنّ متعلّق الإيمانِ الحاصل بعد الوحي ، هو الايمان « بما اُنزل إليه
» أعني تفاصيل الكتاب في المجالات المختلفة ، لا الإيمان باللّه وتوحيده وعندئذ
يرتفع الابهام في الآية الّتي تمسكت بها المخطئة ومن ينسبون عدم الإيمان باللّه
وتوحيده إلى النبي قبل البعثة ، ويتبيّن أن متعلق الإيمان المنفيّ في قوله : «
ولا الإيمان » هو « ما اُنزل » لا الايمان بالمبدأ وتوحيده. والحاصل إن هُنا شيئاً
واحداً هو : « الايمان بما اُنزل من المعارف
والاحكام والانباء » فقد نفيَ عنَه في الآية المبحوث عنها لكونها ناظرةً إلى
فترة ما قبل البعثة ، واثبت له في الآية الاُخرى لكونها ناظرة إلى ما بعد
البعثة. قال الطبرسي : «
ما كُنتَ تدري ما الكتابُ » ما القرآن ولا الشرائع ومعالم الايمان (مجمع البيان : ج 3 ، ص 88 و 89.).
وقال الفخر الرازي :
المراد من الايمان هو الاقرار بجميع ما كلّف اللّه تعالى به ، وانه قبل النبوة
ما كان عارفاً بجميع تكاليف اللّه تعالى بل انه كان عارفاً باللّه ... ثم قال :
صفات اللّه تعالى على قسمين : منها ما تمكن معرفته بمحض دلائل العقل ، ومنها ما
لا تمكن معرفته الا بالدلائل السمعية ، فهذا القسم الثاني لم تكن معرفته حاصلة
قبل النبوة (مفاتيح الغيب : ج 7 ، ص 410.).
وقال العلامة
الطباطبائي في الميزان : ان الآية مسوقة لبيان ان ما عنده صلىاللهعليهوآلهوسلم
الّذي يدعو إليه انما هو من عند اللّه سبحانه لا من قِبَل نفسه ، وإنما اُوتي ما
اُوتي من ذلك بالوحي بعد النبوة ، فالمراد بعدم درايته بالكتاب هو عدم علمه بما
فيه من تفاصيل المعارف الاعتقادية والشرائع العملية ، فان ذلك هو الّذي اُوتي
العلمُ به بعد النبوة والوحي ، والمراد من عدم درايته الإيمان عدم تلبسه
بالالتزام التفصيلي بالعقائد الحقة والأعمال الصالحة ، وقد سمّي العمل ايماناً
في قوله تعالى : « وَمَا كانَ
اللّه لِيُضيعَ إيمانَكُمْ » (البقرة : 143.)
والمراد الصلوات الّتي اتى بها المؤمنون إلى بيت المقدس قبل النسخ وتحويل القبلة
، والمعنى ما كان عندك قبل وحي الروح علمُ الكتاب بما فيه من المعارف والشرائع
ولا كنت متلبساً به ما انت متلبس به بعد الوحي من الالتزام التفصيلي والاعتقادي
وهذا لا ينافي كونه مؤمناً باللّه ، موحداً قبل البعثة صالحاً في عمله ، فان
الّذي تنفيه الآية هو العلم بتفاصيل ما في الكتاب والالتزام بها اعتقاداً وعملا
، لا نفي العلم والالتزام الاجماليين بالايمان باللّه ، والخضوع للحق (الميزان : ج 18 ص 80.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الآية الرابعة :
عدم رجائه إلقاء الكتاب اليه
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال تعالى : « وَمَا كُنْتَ تَرْجُوا أن يُلْقى إلَيْكَ
الْكِتابُ إلاّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهيراً لِلْكافِرين
» (القصص : 86.).
استدلّوا بأن ظاهر الآية نفيُ علمه
بالقاء الكتاب إليه ، فلم يكن النبيُ راجياً لذلك واقفاً عليه. أقول :
ان توضيح مفاد هذه الآية يتوقف على إمعان النظر في الجملة الاستثنائية اعني قوله
: « الاّ رحمة مِنْ ربّك » حتّى يتضح المقصود ، وقد
ذكر المفسرون في توضيحها وجوها ثلاثة نأتي بها : 1 ـ إن
« إلاّ » استدراكية ، وليست استثنائية فهي بمعنى « لكنَّ » لاستدراك مابقي من
المقصود ، وحاصل معنى الآية : « ما كنت يا محمَّد ترجو فيما مضى أن يوحي اللّه
إليك ويشرّفك بإنزال القرآن عليك ، إلاّ أن ربّك رحمك ، وانعم به عليك واراد بك
الخير » نظير قوله سبحانه : « وما
كنْتَ بِجانِب الطُّور إذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمةً مِنْ رَبِّك
» (القصص : 46.)
اي ولكن رحمة من ربك خصّصك به وهذا هو المنقول عن الفراء (مجمع البيان : ج 4 ، ص 296 ، مفاتيح الغيب : ج 6 ، ص 408.).
وعلى هذا لم يكن للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم اي رجاء لالقاء الكتاب إليه ، وانما
فاجأه الالقاء لأجل رحمة ربه. ولكن لا يصار إلى هذا الوجه إلاّ إذا
امتنع كون الاستثناء متصلا لكون الانقطاع على خلاف الظاهر. 2 ـ ان
يكون « إلاّ » للاستثناء لا للاستدراك وهو متصل لا منقطع ، ولكن المستثنى منه
جملة محذوفة معلومة من سياق الكلام ، وهو كما في الكشاف : « وما القى اليك
الكتاب إلاّ رحمة من ربك » (الكشاف : ج 2 ، ص 487 و 488.)
اي لم يكن لالقائه عليك وجهٌ إلاّ رحمة ربك ، وعلى هذا الوجه ايضاً لا يُعلَم
انه كان للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
رجاء لالقاء الكتاب عليه وان كان الاستثناء متصلا. وهذا الوجه بعيد أيضاً لكون المستثنى
منه ، محذوفاً مفهوماً من الجملة على خلاف الظاهر وانما يصار إليه إذا لم يصحّ
ارجاعُه إلى نفس الجملة الواردة في نفس الآية كما سيبيَّن في الوجه الثالث. 3 ـ
أن يكون « إلاّ »
استثناء من الجملة السابقة عليه اعني قوله : «
وما كنت ترجو » ويكون معناه : ما كنت ترجو القاء
الكتاب عليك إلاّ أن يرحمك اللّه برحمة فينعم عليك بذلك ، فتكون النتيجة : ما
كنت ترجو إلاّ على هذا (مفاتيح الغيب : ج 6 ، ص 498.).
فيكون هنا رجاء منفياً ، ورجاء
مثبتاً ، أما الأول فهو رجاؤه بحادثة نزول الكتاب على نسج رجائه بالحوادث
العادية ، فلم يكن ذاك الرجاء موجوداً. واما رجاؤه به عن طريق
الرحمة الالهية فكان موجوداً فنفيُ أحد الرجائين لا يستلزم نفي الآخر ، بل
المنفيّ هو الأول ، والثابت هو الثاني وهذا الوجه هو الظاهر المتبادر من الآية. وقد سبق منّا أن جملة « ما كنت » وما
اشبهه تستَعمل في نفي الامكان ، والشأن ، وعلى ذلك يكون معنى الجملة : لم تكن
راجياً لأن يلقى اليك الكتاب ، وتكون طرفاً للوحي ، والخطاب الاّ من جهة خاصة ،
وهي أن تقع في مظلة رحمته وموضع عنايته ، فيختارك طرفا لوحيه ، ومخاطباً لكلامه
، فالنبي بما هو انسان عادي لم يكن راجياً لأن ينزل إليه الوحيُ ، ويلقى إليه
الكتاب ، وبما انه صار مشمولا لرحمته وعنايته ، وصار انساناً مثالياً ، قابلا
لتحمل المسؤولية ، وتربية الاُمة ، كان راجياً به ، وعلى ذلك فالنفي والاثبات غير
واردين على موضع واحد. وبهذا خرجنا بفضل هذا البحث الضافي
أنه صلىاللهعليهوآلهوسلم
كان إنساناً مؤمناً موحّداً عابداً للّه ساجداً قائماً بالفرائض العقلية
والشرعية مجتنباً عن المحرمات عالماً بالكتاب ومؤمناً به إجمالا وراجياً لنزوله
إليه إلى أن بعث لانقاذ البشرية عن الجهل ، وسوقها إلى الكمال. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الآية الخامسة : لو
لم يشأ ما تلوته
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال سبحانه : «
قُلْ لَوْ شاء اللّه ما تَلَوتُهُ
عَلَيْكُمْ وَلا ادْريكُمْ بِه فَقدْ لِبثتُ فيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبلِه أفلاَ
تَعْقِلُون » (يونس : 16.)
، والآية تؤكد أن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
كان لابثاً في قومه ، ولم يكن تالياً لسورة من سور القرآن ، أو آية من آياته
وليس هذا شيء ينكره القائلون بالعصمة ، فقد اتفقت كلمتهم على أنّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وقف على ما وقف عليه من آي الذكر
الحكيم من جانب الوحي ، ولم يكن قبله عالماً به واين هذا من قول المخطئة من نفي
الايمان منه قبلها. وان اردت الاسهاب في
تفسيرها فلاحظ الآية المتقدمة ، فترى فيها
اقتراحين للمشركين وقد اجاب القرآن عن أحدهما في الآية المتقدمة وعن الآخر في
نفس هذه الآية واليك نصّها : « قالَ
الَّذينَ لا يَرجُونَ لِقاءنا ائتِ بِقُرْآن غير هَذا أوْ بَدّلْهُ قُلْ مَا
يكُونُ لِي أنْ اُبَدلَهُ مِنْ تِلقاء نفسي إنْ أتَّبعُ إلا ما يُوحى اليَّ
إنِّي أخافُ إنْ عَصيْتُ ربِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظيمٍ »
(يونس : 15.).
اقترح المشركون على النبي
أحد الأمرين : 1 ـ الإتيان بقرآن غير هذا مع التحفظ
على فصاحته وبلاغته. 2 ـ تبديل بعض آياته مما فيه سبٌّ
لآلهتهم وتنديدٌ بعبادتهم للاوثان والاصنام. فأجابَ عن الثاني في نفس الآية بان
التبديل عصيان للّه ، وانه يخافُ من مخالفة ربه ، ولا محيص له إلاّ إتباعُ الوحي
من دون أنْ يزيدَ فيه أو ينقص عنه. واجاب عن الأول في الآية المبحوث
عنها بان ذلك أمر غير ممكن لأن القرآن ليس من صنعي وكلامي حتّى أذهب به وآتي
بآخر ، بل هو كلام اللّه سبحانه وقد تعلقت مشيئته بتلاوتي ، ولو لم يشأ لما
تلوته عليكم ولا ادراكُمْ به ، والدليل على ذلك أني كنت لابثاً فيكم عُمُراً من
قبل فما تكلمت بسورة أو بآية من آياته ، ولو كان القرآن كلامي لبادرت إلى التكلم
به ، ايام معاشرتي السابقة معكم في المدة الطويلة ، المديدة. قال العلامة الطباطبائي في
تفسير الآية : إن الأمر فيه إلى مشيئة اللّه لا
إلى مشيئتي ، فانما أنا رسول ولو شاء اللّه ان ينزل قرآناً غير هذا لأنزل ، أو
لم يشأ تلاوة هذا القرآنُ تلوتُه عليكم ، ولا أدراكم به فاني مكثت عُمُراً من
قبل نزوله ، ولو كان ذلك اليّ وبيدي لبادرتُ إليه قبل ذلك وبدت من ذلك آثار
ولاحت لوائحه (الميزان : ج 10 ، ص 26 ، ولاحظ المنار : ج 11 ، ص 320.).
فكيف يمكنُ والحال هذه
أن يكون مجانبا للإيمان باللّه وتوحيده ، لاهياً عن عبادته وتقديسه. هذا وفي هذا المجال
حديث واسع اكتفَيْنا مِنه بهذا القدر ، ومن أراد التوسع أن يراجع الجزء الخامس
من مفاهيم القرآن ص 135 ـ 191. وأما الكلام في الجهة
الثانية وهي : أنه بماذا وبأيّ دين كان يتعبَّدُ
رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
قبل البعثة ، فقد وقع ذلك محطاً للبحث بين العلماء ، وحيث انه لا ينطوي على
فائدة كبرى ، بعد أن تبين أنه كان قبل البعثة مؤمناً ، موحّداً ، يعبُد اللّه ،
فإنّه يكفي أن نعرف أنه كان صلىاللهعليهوآلهوسلم
يلتزم
بما ثبت له أنه شرع اللّه تعالى ... وبما يؤدّي إليه عقله الفطري السليم ، وأنه
بالتالي كان مؤيداً مسدّداً ، وأنه كان أفضل الخلق واكمَلَهم خَلقاً ، وخلقاً ،
وعقلا ، وانه كان يعمل حسب ما يُلهَم سواء اكان مطابقاً لشرع ما قبله أم مخالفاً
وأن هاديه وقائده منذ صباه إلى ان بعث هو نفس هاديه بعد البعثة (وللتوسّع والوقوف على الآراء المختلفة في هذا المجال راجع الجزء
الخامس من مفاهيم القرآن : ص 135 ـ 191.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
11
بدء الوَحْي
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
انَّ التاريخَ الإسلامي يبدأ في
الحقيقة من يوم بعثة الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم بالرسالة ،
والّتي وقعت على أثره حوادث خاصة. ويوم بُعثِ النبيُ الاكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم
لهداية الناس ، ودوّى في سمعه الشريف نداء « إنك لرسول اللّه » الصادر عن ملاك
الوحي اُلقيَت على كاهله مسؤولية كبرى وثقيلة جداً ، على نمط الوظيفة الهامة
الّتي اُلقيت على كاهل من سبقه من الانبياء والرسل صلوات اللّه عليهم أجمعين. منذ ذلك اليوم اتضح هدف أمين قريش ،
أكثر فأكثر ، وتجلت خطته اكثر فأكثر. ونحن نرى من اللازم
قبل شرح الحوادث الاُولى الواقعة عند البعثة ان نعطي بعض الايضاحات حول مسألتين
: 1 ـ وجوبُ بعث
الانبياء. 2 ـ دورُ الانبياء في
اصلاح المجتمع. لقد أودعَ اللّه تعالى في كيان كُلّ
كائن من الكائنات أدوات تكامله ، وجهّزه ـ لسلوك هذا الطريق ـ بالوسائل المتنوعة
، والأجهزة المختلفة اللازمة. ولنأخذ مثلا :
نبتة صغيرة ، فان ثمة عوامل كثيرة تتفاعل في ما بينها وتعمل ان جذور كل نبتة تعمل اكبر قدر ممكن
لامتصاص العناصر الغذائية ، وتلبية احتياجات النبتة ، وتوصل العروق والقنوات
المختلفة ، عصارة ما تأخذه من الارض إلى جميع الاغصان والاوراق. إننا لو درسنا جهاز ( وردة ) لرأيناه
اكثر مدعاة للاعجاب وأشد اثارة للتعجب من تركيب بقية النباتات. فللكأس وظيفة توفير الغطاء اللازم
للاوراق الناعمة اللطيفة في الوردة. وهكذا الحال بالنسبة إلى بقية
الأجهزة في ( الوردة ) ممّا اُنيط إليها مسؤولية الحفاظ على كائن حيّ ، وضمان
رشده ونموّه ، فإنها جميعاً تقوم بوظائفها المخلوقة لها بأحسن شكل ، وأفضل صورة.
ولو أننا خطونا خطوات اكثر وتقدّمنا
بعض الشيء لدراسة الأجهزة العجيبة في عالم الأَحياء ، لرأينا أنها جميعاً وبدون
استثناء مُزوّدة بما يضمن بلوغها إلى مرحلة الكمال المطلوب لها. وإذا أردنا أن نصبّ هذا الموضوع في
قالب علميّ لوجب أن نقول : انّ الهداية التكوينية ، الّتي هي النعمة المتجلّية
في عالم الطبيعة ، تشمل كل موجودات هذا العالم من نبات ، وحيوان وانسان. ويبيّن القرآن الكريم هذه الهداية التكوينية الشاملة بقوله : « رَبّنا الَّذي أعطى كُلَّ شيء خَلْقَه ثُمَّ هَدى
» (ـ طه : 50.).
فانّه يصرّح بأن كل شيء في هذا الكون
من الذرة إلى المجرَّة ينعم بهذا الفيض العامّ ، وانَّ اللّه تعالى بعد أن
قَدَّر كلَ موجود وكائن ، بيّن له طريق تكامله ، ورُقيّه ، وهيأ لكل كائن مِن
تلك الكائنات ما يحتاج إليه في تربيته ونموه ، وهذه هي ( الهداية التكوينية العامة ) السائدة
على كل ارجاء الخليقة دونما استثناء. ولكن هل تكفي هذه الهداية الفطرية ،
التكوينية لكائن مثل الإنسان ، اشرف الموجودات ، وافضل ما في هذه الخليقة؟! بكل تأكيد : لا. لأن للإنسان حياة اخرى غير الحياة
المادية ، تشكل اساس حياته الواقعية ، ولو كان للإنسان حياة مادية جافّة فقط
مثلما لعالم النباتات ، والحيوانات ، لكفت العواملُ والعناصرُ المادية في تكامله
، والحال أن للإنسان نوعين من الحياة ، يكمن في تكاملهما معاً رمز سعادة الإنسان
ورقيّه. ان الإنسان الأول ، ونعني به انسان
الكهوف والحياة البسيطة والفطرة السليمة الّتي لم يطرأ على جبلته اي إعوجاج لم
يكن بحاجة إلى ما يحتاج إليه الإنسان الإجتماعيّ من التربية والهداية. ولكن عندما خطى الإنسانُ خطوات أبعد
من ذلك ، وبدأ الحياة الاجتماعية ، وسادت على حياته فكرة التعاون والعمل الجماعي
برزت في روحه ونفسيته سلسلة من الانحرافات نتيجة للاحتكاك الاجتماعي ، وغيّرت
الخصال القبيحة والافكار الخاطئة صفاتِه الفطرية ، وبالتالي اخرج المجتمع من
حالة التوازن! إن هذه الانحرافات حملت خالقَ الكون
على أن يرسل إلى البشرية رجالا أفذاذاً صالحين يتولّون تربية البشر ، وليقوموا
بتنظيم برنامج المجتمع ، والتخفيف من المفاسد الناشئة ـ بصورة مباشرة ـ عن
النزعة الاجتماعية لدى الإنسان ، وليضيئوا ـ بمشاعل الوحي المشعّة المنيرة ـ
طريق السعادة والخير للانسانية في جميع المجالات والابعاد. إذ لا نقاش في أنَّ الحياة
الاجتماعية والعيش بصورة جماعية مع كونه مفيداً ، ينطوي على مفاسد لا تُنكر ،
ويجرّ إلى انحرافات كثيرة لا تقبل الترديد. ولهذا بعث اللّه سبحانه رجالا مصلحين
، وهداة مرشدين يعملون ـ قدر الامكان ـ على الحدّ من الانحرافات والمفاسد ،
ويضعون عجلة المجتمع ـ بتنظيم القوانين الواضحة والانظمة الحكيمة ـ على الطريق
الصحيح ، ويضمنون دورانها وقد يُستفاد هذا الامر
ـ بوضوح ـ من قوله تعالى : « كانَ النّاس امَّة واحِدَةً فَبَعَث اللّه
النَّبيِّين مُبشِّرينَ وَمُنذِرين وأنزلَ مَعهُمُ الْكِتابَ بِالحقِّ لِيَحكُم
بَين النّاس في مَا اختَلَفُوا فيه » (البقرة : 213.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
دَور الانبياء في
اصلاح المجتمع :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ان الّذي يتصوره الناس عادة هو أنّ
الانبياء مجرد معلّمين إلهيين بُعِثوا لتعليم البشرية. فكما يتعلم الطفل خلال حركته
التعليمية ابتداء من الابتدائية ومروراً بالمتوسطة وانتهاء بالجامعة دروساً معينة
ومواضيع خاصة على ايدي الاساتذة والمعلمين ، كذلك يتعلم الناس في مدرسة الانبياء
اُموراً خاصة ، ويكتسبون معارف معينة ، وتتكامل أخلاقهم وصفاتهم وخصالهم
الاجتماعية جنباً إلى جنب مع اكتسابهم المعرفة والعلم على أيدي الأنبياء
والمرسلين. ولكننا نتصور ان مهمة الانبياء
ووظيفتهم الاسياسية هي ( تربية ) المجتمعات البشرية لا تعليمها ، وان اساس
شريعتهم لا ينطوي على كلام جديد ، وانه ما لم تنحرف الفطرة البشرية عن مسارها
الصحيح ، وما لم تلفها غشاوات الجهل والغفلة لعرفت وادركت خلاصة الدين الالهي ،
وعصارتها ، في غير ابهام ، ولا خفاء. على أن هذه الحقيقة قد أشار اليها
قادة الإسلام العظماء. فقد قال اميرالمؤمنين عليهالسلام في نهج البلاغة عن هدف الانبياء : « أخذَ عَلى الوَحي ميثاقهم ، وعلى
تبليغ الرسالة أمانتهم ... لِيَستأدُوهم ميثاق فِطرتِه ، وَيُذكرُوهم مَنْسيَّ
نِعمته ، ويحتجّوا عليهم بالتَبليغ ، ويُثيروا لهم دفائنَ العُقول » (نهج البلاغة : قسم الخطب ، الخطبة رقم 1.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
مثالٌ واضح في
المقام :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إذا قلنا : ان
وظيفة الانبياء في تربية الناس واصلاح نفوسهم هي وظيفة البستاني في تربية شجيرة
من الشجرات ، أو قلنا : أن مَثَل الأنبياء في قيادة التوجّهات الفطرية البشرية
وهدايتها ، مثل المهندس الذي يستخرج المعادن الثمينة من بطون الاودية والجبال ،
لم نكن في هذا القول مبالغين. وتوضيح ذلك ان النبتة ، أو الشجيرة
الصغيرة تحمل من بداية انعقاد حبتها الاُولى كل قابليات النمو ، والرشد ، فاذا
توفَر لها الجوُ المناسب للنمو ، دبّت الحياة والحركة في كل أجزائها ، واستطاعت
بفعل جذورها القوية واجهزتها المتنوعة وفي الهواء الطلق ، والضوء اللازم ، من أن
تقطع أشواطاً كبيرة من التكامل ، والنمو. فمسؤولية البستاني في
هذه الحالة تتركز في امرين : 1 ـ توفير الظروف اللازمة لتوقية
جذور تلك النبتة لكي تظهر القوى المودعة في تلك النبتة أو الشجيرة ، وتخرج من
حيّز القوة إلى مرحلة الفعلية ، والتحقق. 2 ـ الحيلولة دون تعرض تلك الشجرة أو
النبتة للانحرافات والآفات ، وذلك عندما تتجه القوى الباطنية صوب الوجهة
المخالفة لسعادتها ، وتسلك طريقاً ينافي تكاملها. ومن هنا فان مسؤولية البستاني
ووظيفته ليست هي ( الإنماء ) بل هي ( المراقبة ) وتوفير الظروف اللازمة ليتهيّأ
لتلك الشجرة والنبتة أن تبرز كمالها الباطني. لقد خلق اللّه سبحانه البشرَ وأودع
في كيانه طاقات متنوعة ، وغرائز كثيرة ، وعجن فطرته وجبلَّته بالتوحيد ، وحبّ
معرفة اللّه ، وحبّ الحق والخير ، والعدل والانصاف ، كما وأودع فيه غريزة السعي
والعمل. وعندما تبدأ خمائر هذه الامور
وبذورها الصالحة المودوعة بالعمل والتفاعل في كيان الإنسان تتعرض في الجو
الاجتماعي لِبعض الانحرافات بصورة قهرية ، فغريزة العمل والسعي تتخذ شيئاً
فشيئاً صفة الحرص والطمع ، وغريزة حب السعادة والبقاء تتخذ صورة الانانية ، وحب
الجاه والمنصب ، ويتجلى نور التوحيد والإيمان في لباس الوثنية وعبادة الأصنام. في هذه الحالة يعمل سفراء اللّه إلى
البشرية : ( الانبياء والرسل ) على توفير ظروف الرشد والنمو الصحيح لتلك الغرائز
وتلك القوى والطاقات في ضوء الوحي ، والبرامج الصحيحة المستلهمة من ذلك المنبع
الالهي الهادي ، ويقومون بالتالي بتعديل انحرافات الغرائز ، والوقوف دون تجاوزها
حدودها المعقولة المطلوبة. ولقد قال اميرالمؤمنين
في ما مرّ من كلامه : إن اللّه أخذ ـ في مبدأ الخلق ـ
ميثاقاً يدعى « ميثاق الفطرة ». فما هو ترى المقصود من
ميثاق الفطرة هذا؟ إن المقصود من هذا
الميثاق هو : أن اللّه تعالى بخلقه وايداعه
الغرائز المفيدة في الكيان الإنساني ، وبمزج الفطرة البشرية بعشرات الأخلاق
الطيبة والسجايا الصالحة يكون قد أخذ من الإنسان ميثاقاً فطرياً بأن يتبع خصال
الخير ، ويأخذ بالغرائز الطيبّة الصالحة. فاذا كان منح جهاز البصر ( العين )
للإنسان هو نوع من اخذ الميثاق من الإنسان بان يتجنب المزالق ، ولا يقع في البئر
، فكذلك ايداع حسّ التدين ، وغريزة الانجذاب إلى اللّه ، وحبّ العدل ، في كيانه
هو الآخر نوع من اخذ الميثاق منه بأن يظل مؤمناً باللّه ، موحّداً إياه ، عادلا
، منصفاً محباً للخير والحق. وإن وظيفة الأنبياء هي أن يحملوا
الناس على العمل بمقتضي ميثاق الفطرة ، وبالتالي فانَّ مهمّتهم الأساسية
الحقيقية هو تمزيق اغشية الجهل وتبديد سحب الغفلة الّتي قدترين على جوهرة الفطرة
المطعمة بنور الايمان ، فتمنعها من الاشراق على وجود الإنسان ، وتحرمُ الإنسان
من هدايتها. ومن هنا قالوا : إن
اساس الشرائع الالهية يتالف من الامور الفطرية ، الّتي فطر الإنسان عليها. وكأن صرح الكيان الإنساني ( جَبَلٌ )
اختفت بين ثنايا صخوره وفي بطونه احجار كريمة كثيرة ومعادن ذهبية ثمينة ،
فالوجود الإنساني هو الآخر قد اُودعَت فيه فضائل وعلوم ، ومعارف وخصال ، واخلاق
متنوعة. فعندما يغورُ الانبياء والمهندسون
الروحيّون في أعماق نفوسنا وذواتنا وهم يعلمون جيداً أن نفوسنا معجونة بطائفة من
الصفات والسجايا النبيلة والمشاعر والاحاسيس الطيبة ، ويعملون على اعادة نفوسنا
ـ بتعاليم الدين وبرامجه ـ إلى جادة الفطرة المستقيمة السليمة فانهم في الحقيقة
يذكّروننا بأحكام فطرتنا ، ويُسمّعوننا نداء ضمائرنا ، ويلفتونها إلى الصفات ،
وإلى الشخصية المودوعة فيها. تلك هي رسالة الانبياء ، وذلك هو
عملهم الاساسي ، وهذا هو دورهم في اصلاح النوع الإنساني ، أفراداً وجماعات. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أمين قريش في غار
حراء :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
يقع جبل « حِراء » في شمال « مكة »
ويستغرق الصعود إلى غار حراء مدة نصف ساعة من الزمان. ويتالف ظاهر هذا الجبل. من قطع صخرية
سوداء ، لا يُرى فيها أيُّ أثر للحياة أبداً. ويوجد في النقطة الشمالية من هذا
الجبل غار يمكن للمرء أن يصل إليه ولكن عبر تلك الصخور ، ويرتفع سقف هذا الغار
قامة رجل ، وبيمنا تضيء الشمس قسماً منه ، تغرق نواح اُخرى منه في ظلمة دائمة. ولكن هذا الغار يحمل في رحابه ذكريات
كثيرة عن صاحب له طالما تردّد عليه ، وقضى ساعات بل وأياماً وأشهراً في رحابه
... ذكريات يتشوق الناس ـ وحتّى هذه الساعة ـ إلى سماعها من ذلك الغار ، ولذلك
تجدهم يسارعون إلى لقائه كلّما زاروا تلك الديار ، متحملين في هذا السبيل كل
عناء ، للوصول إلى رحابه ، لكي يستفسرونه عما جرى فيه عند وقوع حادثة : « الوحي
» العظيمة وليسألونه عن ما تحتفظ به ذاكرته من تاريخ رسول الإنسانية الاكبر ممّا
جرت ويتحدث ذلك الغار هو الآخر اليهم
بلسان الحال ويقول : هاهنا المكان الّذي كان يتعبد فيه عزيز قريش وفتاها الصادق
الامين. وهاهنا قضى ليالي وأياماً عديدة
وطويلة قبل ان يبلغ مرتبة الرسالة ، في عبادة اللّه ، والتأمل في الكون ، وفي
آثار قدرة اللّه وعظمته. أجل ، لقد اختار محمَّد صلىاللهعليهوآلهوسلم
ذلك المكان البعيد عن ضجيج الحياة ، للعبادة والتحنث ، فكان يمضي جميع الايام من
شهر رمضان فيه ، وربما لجا إليه في غير هذا الشهر أحياناً اخرى ، إلى درجة أنّ
زوجته الوفيّة كانت إذا لم يرجع إلى منزلها ، تعرفُ أنه قد ذهب إلى « غار حراء »
وأنه هناك مشتغل بالعبادة والتحنث والاعتكاف ، وكانت كلّما أرسلَتْ إليه أحداً
وجده في ذلك المكان مستغرقاً في التأمل والتفكير ، أو مشتغلا بالعبادة والتحنث. لقد كان صلىاللهعليهوآلهوسلم قبل أن يبلغ مقام
النبوة ، ويُبْعَث بالرسالة يفكر ـ اكثر شيء في أمرين : 1 ـ كان
يفكر في ملكوت السماوات والارض ، ويرى في ملامح كل واحد من الكائنات الّتي
يشاهدها نور الخالق العظيم ، وقدرته ، وعظمته وعلمه ، وقد كانت تفتح عليه من هذا
السبيل نوافذ من الغيب تحمل إلى قلبه وعقله النور الالهيّ المقدس. 2 ـ
كان يفكر في المسؤولية الثقيلة الّتي ستوضع على كاهله. إن اصلاح المجتمع في ذلك اليوم على
ما كان عليه من فساد عريق وانحطاط عريض ، لم يكن في نظره وتقديره بالامر المحال
الممتنع. ولكن تطبيق مثل هذا البرنامج الاصلاحيّ لم يكن في نفس الوقت أمراً
خالياً من العناء والمشاكل ، من هنا كان يفكر طويلا في الفساد في حياة المجتمع
المكّي وما يراه من ترف قريش ، وكيفيّة رفع كل ذلك واصلاحه. لقد كان صلىاللهعليهوآلهوسلم
حزيناً لما يرى من قومه من فساد العقيدة المتمثل في الخضوع للأوثان الميتة ،
والعبادة للأصنام الخاوية الباطلة ، ولطالما شوهدت آثار ذلك الحزن على محيّاه ،
وملامح وجه الشريف ، ولكن لما لم يكن مأذوناً بالافصاح بالحقائق ، لذلك كان
يتجنب ردع الناس عن تلك المفاسد ، ومنعهم عن تلك الانحرافات.
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
بدء الوحي :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد امر اللّه ملكاً من ملائكته بأن
ينزل على امين قريش وهو في غار حراء ويتلو على مسمعه بضع آيات كبداية لكتاب
الهداية والسعادة ، معلناً بذلك تتويجه بالنبوة ، ونصبه لمقام الرسالة. كان ذلك المَلَك « جبرئيل » ، وكان
ذلك اليوم هو يوم المبعث النبوي الشريف الّذي سنتحدث عن تاريخه في المستقبل. ولا ريب أن ملاقاة المَلك ومواجهته
أمرٌ كان يحتاج إلى تهيّوء خاصّ ، وما لم يكن محمَّد صلىاللهعليهوآلهوسلم
يمتلك روحاً عظيمة ، ونفسية قوية لم يكن قادراً قط على تحمّل ثقل النبوة ،
وملاقاة ذلك الملك العظيم. أجل لقد كان « أمين قريش » يمتلك تلك
الروح الكبرى ، وتلك النفس العظيمة وقد اكتسبها عن طريق العبادات الطويلة ،
والتأمّل العميق الدائم ، إلى جانب العناية الالهية. ولقد روى أصحاب السير والتاريخ انه
راى رؤىً عديدة قبل البعثة كانت تكشف عن واقع بَيّن واضح وضوح النهار
(صحيح البخاري : ج 1 كتاب العلم ص 22 ، بحار الأنوار : ج 18 ، ص 194.).
ولقد كانت الذّ الساعات وأحبها عنده
بعد كل فترة ، تلك الساعات الّتي يخلو فيها بنفسه ، ويتعبَّد فيها بعيداً عن
الناس. ولقد قضى على هذا الحال مدة طويلة
حتّى أتاه ـ في يوم معين ـ ملك
عظيم بلوح نصبَهُ أمامه وقال له : « إقرأ » ، وحيث أنه صلىاللهعليهوآلهوسلم
كان اُمياً لم يدرس أجاب المَلَك بقوله : « ما أنا بقارئ ». فاحتضنه ذلك المَلك ، وعصره عَصرة
شديدة ، ثم طلب منه أن يقرأ فأجابه بالجواب
الأول. فعصره المَلك ثانية عصرة شديدة
وتكرّر هذا العمل مرات ثلاث احس بعدها رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
في نفسه أنه قادر على قراءة ما في ذلك اللوح ، فقرأ ساعتها تلك الآيات الّتي
تشكل ـ في الحقيقة ـ ديباجة كتاب السعادة البشرية ، واساس رقيها. لقد قرأ صلىاللهعليهوآلهوسلم
قوله تعالى : « إقرَأ
باْسمِ رَبِّكَ الَّذي خَلقَ. خَلَقَ الإِنْسانَ مِنْ عَلَق * إقْرَأْ وَرَبُّكَ
الأَكرمُ. الَّذي عَلَّمَ بِالْقَلَم. عَلَّمَ الإنْسانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ
» (العلق : 1 ـ 5.).
وبعد أَنْ انتهى جبرئيل من أداء
مُهِمتِه الّتي كُلِّفَ بها من جانب اللّه تعالى ، وبلّغ إلى النبي تلكم الآيات
الخمس ، انحدر رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
من جبل حراء ، وتوجه نحو منزل خديجة (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 236 و 237.).
ولقد أوضحت الآيات المذكورة برنامج
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم اجمالا
، وبيّنت وبشكل واضح ان اساس الدين يقوم على القراءة والكتابة ، والعلم والمعرفة
، واستخدام القلم. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ظاهرة القضايا
الغيبيّة في منظار الماديّين :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد تسبّب التقدمُ العظيم والمتزايد
الّذي تحقق في ميدان العلوم الطبيعية في سلب الكثير من العلماء القدرة على فهم
وادراك القضايا المعنوية والخارجة عن اطار العلوم الطبيعية والتالي أدى إلى
تحديد وتضييق آفاق الفكر عندهم. فاذا بهم اصبحوا يتصورون أن الوجود
يتلخص في هذا الكون المادي ، وانه ليس في الوجود من شيء سوى المادة وان كل ما لا
يمكن تفسيره وتبريره بالقوانين والقواعد المادية فهو أمر باطل ، ومن نسج
الخيال!! إن هذا الفريق ـ لتسرعه في اصدار
الحكم في الاُمور المتعلقة ـ بالغيب وقضايا ما وراء الطبيعة ، وحصر أدوات المعرفة
بالحس والتجربة ـ انكروا عالم الوحي ، بحجة أنّ الحس والتجربة لا يقودانهم إلى
ذلك العالم ، ولا يخبرانهم عن مثل تلك الموجودات ، فلكونها بالتالي لا تخضع
لمبضع التشريح ، ومجهر الإختبار أنكروها بالمرة ، وكانت النتيجة أن أدوات
المعرفة المعروفة ( الحسّ والتجربة ) حيث انها لا تهدي إلى عالم ما وراء المادة
فاذن لا وجود خارجي لذلك العالم ولحقائقه أبداً! إنَّ هذا النمط من التفكير نمط جدُّ
ضيق ومحدود ، مضافاً إلى انه يتسم بالغرور والغطرسة ، فهو من باب « استنتاج عدم
الوجود من عدم الوجدان » في خطوة متعجلة فجّة!! فمادامت هذه الحقائق الّتي يعتقد بها
الالهيّون المؤمنون باللّه لا يمكن التوصل اليها عن طريق الادوات الفعلية
المتعارفة بينهم للادراك والمعرفة فهي اذن لا اساس لها من الواقع!! ان الّذي لا شك فيه هو : ان الماديين
لم يدركوا مقالة العلماء الالهيين حتّى في مسألة اثبات الصانع الخالق فكيف
بالعوالم الاُخرى لما فوق الطبيعة ، ولو أنّ الفريقين تحاورا في جوّ علمي مناسب
، بعيداً عن الأغراض والعصبيّات ، لكان من المتوقع ان تزول الفواصل بين الماديين
والالهيين في اقرب وقت ، وأين يرتفع هذا الاختلاف الّذي قسَّم العلماء إلى فريقين
على طرفي نقيض. لقد اقام المؤمنون الموحِّدون عشرات
الأدلة والبراهين القاطعة على وجود الله تعالى ، واثبتوا بأَنَّ هذه العلوم
الطبيعية هي نفسها تقودنا إلى الخالق العالم القادر ، وان هذا النظام العجيب
السائد في ظواهر الكائنات الطبيعيّة وبواطنها لدليل قاطع ، وبرهانٌ ساطع على
وجود مبدع هذا النظام ، وأن جميع أجزاء هذا الكون الماديّ ، من ذراته إلى مجراته
، يسير وفق قوانين دقيقة متقنة ، ولا تستطيع الطبيعة الصماء العمياء ابداً أن
تكون مبتكرة لهذا النظام البديع ، ومبدعة لهذا الترتيب الدقيق. وهذا هو بنفسه برهان «
نظام الوجود » أو ( برهان النظم ) الّذي ألّف العلماء الالهيون الموحدون حوله
عشرات الكتب والدراسات. وحيث ان ( برهان النظم ) هذا ممّا
يفهمه جميع الناس على مختلف مراتبهم ومداركهم ، لذلك ركزت عليها الكتب
الاعتقادية دون سواها ، وسلك كلُ واحد من العلماء طريقاً معيناً وخاصاً لتقريره
، وبيانه ، كما ودرست الأدلة والبراهين الاُخرى الّتي لا تتسم بمثل هذه الشمولية
، في الكتب ، والمؤلفات الفلسفية والكلاميّة بصورة مفصلة ومبسوطة. إنّ للعلماء الالهيين
بيانات وأدلة في مجال ( الروح المجردة ) ، وعوالم ما وراء الطبيعة ( الميتافيزيقيا
) نشير إلى بعضها هنا : |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الروح المجردة :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إن الاعتقاد بالروح من القضايا
الشائكة الطبيعة الّتي استقطبت اهتمام العلماء وشغلت بالهم بشدة. فهناك فريقٌ ـ ممّن اعتاد أن يُخضِعَ
كل شيء لمبضع التشريح ـ ينكر وجود ( الروح ) ، ويكتفي بالاعتقاد بالنفس ذات الطابع
المادي ، والعاملة ضمن نطاق القوانين الطبيعية فقط. ووجود « الروح » والنفس غير المادية
( اي المجردة المستقلة عن المادة ) من القضايا الّتي عُولجت ودُورست من قِبَل
المؤمنين باللّه ، والمعتقدين بالعام الروحاني ، بصورة دقيقة ، وعميقة. فهم أقاموا شواهِدَ عديدةً على وجود
هذا الكائن ( غير الماديّ ) وهي أدلة وبراهين لو تمَّ التعرّف عليها والنقاش
حولها في جوّ علمي هادئ مع الأخذ بنظر الاعتبار ما يقوم عليه منطق الالهيين ـ في
هذا المجال ـ من قواعد واُسس ، لأدّى ذلك إلى التصديق الكامل بها. على أن ما يقوله الالهيّون في مجالات
اُخرى مشابهة مثل ( الملائكة ) و ( الوحي ) و ( الإلهام ) يقوم هو الآخر على
الأساس الّذي شيدوه ومهدوه وبرهنوا |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ظاهرة الوحي عِند
الماديّين :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
يُعتبَر الاعتقاد بالوحي أساساً
لجميع الرسالات ، والأديان السماوية ، وتقوم هذه الظاهرة ( ظاهرة الوحي ) على أن
الّذي يوحى إليه يمتلك روحاً قوية تقدر على تلقي المعارف الالهية من دون واسطة ،
أو بواسطة ملَك من الملائكة. ويلخصُ العلماء
المختصُّون تعريفَهم للوحي على النحو التالي : « الوَحيُ
تعليمُهُ تعالى مَنْ اصْطفاهُ مِنْ عِباده كُلَ ما أرادَ اطلاعه عليه من ألوان
الهداية والعِلم ولكِنْ بطريقة خَفيّة غير مُعْتادَة للبَشر ». ولكن الماديين ـ كما قلنا ـ لم يستطيعوا هضم هذه الحقيقة
، وادراك هذه الظاهرة على حالها ، وصورتها الغيبية بسبب ما ذكرناه من منهجهم
ونظرتهم إلى الاُمور والكائنات فذهبوا في تفسير ظاهرة الوحي ـ الّتي هي كما
اسلفنا من قضايا الغيب ومن عوالم ما فوق الطبيعة ـ مذاهب مختلفة ترجع برمتها إلى
الرؤية المادية للوجود. واليك أبرز هذه
التفاسير الماديّة لظاهرة الوحي الغيبية : |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أبرز النظريات
المادية لظاهرة الوحي
:
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
1 ـ قالوا : الوحي هي القدرة الفكرية ،
والنفسية والعقلية الّتي تحصل للإنسان بسبب التمرينات والرياضات الروحية الّتي
على اثرها تنفتح عليه أبوابٌ من الغيب ، فيخبر عن امور طالما تتفق مع الواقع على
نحو ما يحصل للمرتاضين الهنود (وهم الّذي يمارسون علمية اليوجا.).
فالانبياء بسبب اعتزالهم للمجتمع ـ على غرار ما يفعل المرتاضون ـ وإقبالهم
على الرياضة الروحية تحصل لهم المقدرة على الإخبار بالغائبات ، والكائنات الخفية
على غيرهم. والجواب على هذه النظرية هو : أن دراسة
حالات المرتاضين تكشف لنا عن أنهم طالما يخطأون في إخباراتهم أخطاء فاضحة ،
بينما لم يُعهَد من نبيٍّ أنه أخطأ في إخباراته ، وإنباءاته. هذا اولاً وثانياً : ان ما يفعله المرتاضون لا ينطوي على
أية أهداف اصلاحية عليا للمجتمع البشري ، بل غاية همّهم هو : عرض الافعال
العجيبة على الناس وربما تسلية المتفرجين ، بينما يهدف الأنبياء إلى إصلاح
المجتمعات البشرية وقيادتها إلى ذرى الكمال والتقدم. وثالثاً
: ان المرتاضين لا يثقون بما يخبرون به
، كما لم يُعرَف إلى الآن أن أحداً منهم طلَع على المجتمع البشريّ ببرنامج كامل
وشامل للحياة البشرية الفردية والاجتماعية ، بينما نجد الأنبياء يخبرون الناس
بما اُمروا به وهم على إيمان كامل ، ويقين ثابت منه ، هذا إلى جانب أنهم يحملون
إلى البشرية برامج اجتماعية وحيوية جامعة الاطراف ، كاملة الأبعاد ، رفيعة
الأهداف ، عميقة الغايات ، ترجع اليها كلُ فضيلة وكل خير تعرفه المجتمعات إلى
الآن. ورابعاً : انّ أعمال المرتاضيين وما تحصَلُ لهم
من قوى وينفتح عليهم من آفاق ، محدودة ، بينمنا لا تقف طاقاتُ الانبياء وآفاق
علومهم ، وأبعاد أعمالهم عند حدّ. فلا يمكن ابداً تفسير وتعليل ظاهرة (
الوحي ) وما يحصل للرسل والانبياء على اثره من اُموره تتخطى حدود العالم المادي
المحدود ، بالرياضة الروحية الّتي يمارسها المرتاضون وما يحصل لهم على أثرها من
امور. 2 ـ قالوا : انَّ ( الوحي ) نوعٌ من
النبوغ ، أو أنه ناشئ من النبوغ ، وأن الانبياء هم نوابغ اجتماعيون لا اكثر. وقد شرحوا نظريتهم هذه قائلين : بأن
نظام الخليقة قد ربى في أحضانه نوابغَ وقالوا : وان ممّا
يساعد على تقوية هذا النبوغ اُمور ابرزها : الحبُّ ، التعرضُ للظلم الطويل ،
الطفولة وما يكتنفها من ضعف وعجز ، الوحدة ، السكوت ، التربية الاُولى ، والعيش
في صورة الأقلية وما يرافقها من ظروف إجتماعية غير مؤاتية. فان جميع هذه الاُمور أو بعضها تدفع
بالشخص إلى الأنطوائية ، والتفكير والتأمل ، للاهتداء إلى مخرج من المشاكل
والصعوبات ، ومخلص من الظروف الصعبة ، والأحوال الشاقة. ويُجاب
على هذه النظرية بأن أصحاب هذه النظرية حكموا على هذه القضية على أساس موقف
اتخذوه سَلفاً فهُم حَصَروا الأشياء في المادة والامور المادية ثم فسّروا ما
يرتبط بعالم الغيب بذلك ، فجاء تفسيرهم لهذه الظاهرة الغيبية تفسيراً ماديّاً ،
غفلة منهم عن ان مثل هذا التفسير والتعليل لا يليق بظاهرة ( الوحي ) الّتي تجسد
أعلى قضيّة في سلّم الحقائق العلمية والفلسفية ، ويرجع اليها أعظم القوانين
والبرامج للسعادة البشرية. نحن لا ننكر أن لما ذكروه من العوامل
تاثيراً في تقوية عملية « التفكير » لدى الإنسان إلى درجة ايجاد ما يسمى بظاهرة
التوابغ لديه ، إلاّ أنه لا يمكن أن يوجد مثل هذا الامر نبيّاً خضعت جميع
النبواغ البشرية لعظمة تعاليمه الّتي أتى بها طوال أربعة عشر قرناً. نبياً لم يزل ما جاء به من معارف
عقلية وفلسفية ، وقوانين ترتبط بعالم الطبيعة وبالنظام الاجتماعي وآداب السلوك
تحافظ على قوتها ، وعمقها وأصالتها ولمعانها هذا مضافاً إلى أن نسبة هؤلاء
الأنبياء جميع ما عرضوه على المجتمعات البشرية إلى العالم الآخر واصرارهم على
أنها من جانب اللّه تعالى وليست من نسيج افكارهم يناقض نظرية هذه الطائفة ،
الّتي تفسر النبوة بالنبوغ. لنقرأ معاً الآية الّتي يقول اللّه
تعالى فيها حاكياً عن رسول الإسلام محمَّد صلىاللهعليهوآلهوسلم : « إنْ أتَّبعُ إلاّ مَا يُوحى إليّ
» (ـ الأنعام : 50.).
أو يقول سبحانه : « إنْ
هُوَ إلاّ وَحْي يُوحى »
(النجم : 4.).
3 ـ يقولون : إنّ الوحي هو ظهور الشخصية
الكامنة في النبي وايحاؤها لما ينفعه وينفع قومه المعاصرين له ، إليه. وربما قالوا : إنَّ معلومات « محمَّد
» وافكارَه وآمالَه وَلَدتْ لديه إلهاماً فاض من عقله الباطن أو نفسه الخفيّة
على مخيلته السامية ، وانعكس اعتقاده على بصره فرأى الملَك ماثلا له وهو يتلو
على سمعه ما حدّث به بعد ذلك. وتوضيح هذه النظرية هو
: ان لكل إنسان شخصيتين : 1 ـ الشخصية الظاهرة العادية وهي
الّتي تخضع للحواس الخمس وتعمل بها. 2 ـ الشخصية الباطنية وهي الّتي تعمل
عندما تتعطل الحواس ، ويتعطل الشعورُ الظاهري : وهذه الشخصية هي الّتي تحرك جميع
أعضاء الجسم الانساني الّتي لا تخضع لارادته كالكبد والقلب ، والمعدة وغيرها ،
كما انها هي مصدر الكثير من الإلهامات الطيبة في الظروف الحرجة. ثم قالوا : وهذه الشخصية الباطنية قد
اصبحت مدركة بالحس ، فان المنوَّم مغناطيسياً يظهر بمظهر العقل الراجح ، والفكر
الثاقب والنظر البعيد ، ويقوم بما لا يقوم به في حالته العادية. وقد انتهى هؤلاء الماديّون من خلال
تحقيقاتهم وتجاربهم إلى : ان شخصية الإنسان الباطنية ارقى من شخصيته العادية ،
وإن ما يتوصَّل إليه الإنسان من أفكار عالية رفيعة جداً ، وما قد يتمتع به من روح
قوية هو من مظاهر هذه الشخصية وفعاليتها. فقالوا : وان هذه الشخصية هي الّتي
تنفث في روح الأنبياء ما يعتبرونه وحياً من اللّه ، وقد تظهر لهم متجسّدة
فيحسبونها من ملائكة اللّه هبطت عليهم من السماء!!! فالوحي عند هؤلاء الباحثين في الروح
على الاسلوب التجريبي لا يكون بنزول ملك من السماء على الرسول فيبلغه كلاماً عن
الله بل يكون في تجلي روح الإنسان عليه بواسطة شخصيته الباطنة فتعلمه ما لم يكن
يعلم ، وتهديه إلى خير الطرق لهداية نفسه وترقية اُمته (دائرة معارف القرن العشرين لفريد وجدي : ج 10 ، مادّة وحي.).
ولكن هذه النظرية هي
الاُخرى تنبع من الغُرور العلميّ الّذي اصاب هذا النمط من
العلماء الَّذين يحاولون تفسير كل ظواهر هذا العالم بالتفسير المادي ، وهو لا شك
ينشأ من عِلمهم المحدود القاصر عن إدراك حقائق الوجود. إننا لا نشك في وجود ما يسمى
بالشخصية الباطنيّة لدى الإنسان فهو ممّا سبق إلى كشفه والتنويه به الفلاسفة
الإسلاميّون من قبل ولكن كيف وعلى أيّ اساس حقَّ لهؤلاء ان يفسروا ظاهرة ( الوحي
الالهيّ ) والنبوة بهذا الامر؟ هذا أولاً وثانياً
: انَّ
تجلي الشخصيّة قلّما يحدث في الاشخاص الأصحّاء ، بل هو يحدث في الاغلب عند المتعبين
القلقين ، والسكارى ، والمصابين بالهزيمة والنكسة ، لأن نافذة ( اللاوعي ) عند
غيرهم من الاصحاء تنسد بسبب اشتغالهم الشديد بقضايا الحياة اليومية وهمومها ،
ولا يبقى للشخصية الباطنية مجال للنشاط والفعالية ، كما هو العكس عند المتعبين
والسكارى والمرضى الذين يقل اهتمامهم بالحياة اليومية فيترك ( الوعيُ ) مكانه
للاوعي ، وتترك الشخصية الظاهرية المعطّلة مكانها للشخصية الباطنية. ولذلك نجد بين آلاف العلماء
والمفكرين مفكراً أو عالماً واحد اتفق له في بداية عمره أن اهتدى بصورة لا
شعورية إلى فكرة خاصة أونظرية معينة من دون سابق تفكير أو استدلال قائم على
الشعور. وخلاصة القول أن
تجلّي الشخصية الباطنية في الحياة الإنسانية قضية نادرة جداً ، وهي لا تحدث إلاّ
في ظروف خاصة مثل : المنامات والاحلام وغيرها من التحولات الحياتية الّتي تقلل
من توجّه الإنسان إلى العالم الخارجيّ وتصرفُ التفاته وتوجُّهَه إلى الشخصية
الباطنية. ولكن هذه الحالة وهذه الشرائط ( أي الغفلة عن هموم الحياة اليومية الخارجية ) لم
تحصل للانبياء قط. فالنبي الأكرم محمَّد صلىاللهعليهوآلهوسلم
كان طوال ( 23 سنة ) وهي أعوام الرسالة ، مشتغلا كل الاشتغال بقضايا الحياة اليومية
، فالنشاطات السياسية ، والتبليغية وقضايا الدعوة والقيادة كانت تهيمن على كل
توجهه واهتمامه وتملأ ، عقله وروحه ونفسه. فالكثير من آيات الجهاد ترتبط بساحات
القتال والجهاد ، وهذا يعني انه كان مشدوداً بروحه وعقله كله إلى تلك الاُمور. وثالثاً :
انَ هذه النظرية يمكن أن تصدق على نبوة الانبياء لو كان هؤلاء الأنبياء أفراداً
متعبين ، منهزمين ، منتكسين ، مرضى ، معتزلين عن الحياة ليقال حينئذ ان هذه
الحالات والظروف مهَّدت لانقطاعهم عليهمالسلام
عن هموم الحياة ، وقضاياها ، وبالتالي مهَّدت لفعالية الشخصية الباطنية وعملها. ولكن تاريخ الأنبياء يشهد بوضوح لا
إبهام فيه ، بانهم كانوا ـ طيلة حياتهم الرسالية ـ رجالا مجاهدين ، لا يهمهم
إلاّ اصلاح المجتمعات وقيادة الجماعات وحل المشكلات الاجتماعية ، ورفع مستويات
الناس معنوياً وفكرياً وكانوا فكيف يمكن القول والحال هذه بان
الشخصية الباطنية تجلّت لديهم واوحت اليهم بحقائق وقيم وافكار؟ إن تفسير ( الوحي الالهي ) الّذي
يُلقى إلى الانبياء ويكشف لهم عن أدق الحقائق وارفعها ، وأعظم المناهج واكملها ،
بتجلّي الشخصية الباطنية ، ناشئ من اعتقاد هذا الفريق من العلماء بأصالة المادة
، أو بعبارة اخرى : حصر الوجود في المادة ، ومن هنا حاولوا إلْباس كل شيء حتّى
الامور المعنوية والغيبية : اللباس الماديّ ، واغلقوا على أنفسهم باب عوالم
الغيب ، وعمدوا إلى التفتيش عن علة مادية حتّى لظاهرة ( الوحي ) الّتي لا تُقاس
بمقاييس العالم المادّي. هذا مضافاً إلى أن تفسير ( الوحي
الالهيّ ) عن طريق نظرية تجلّي الشخصية الباطنية ، وخاصة في شأن رسول الإسلام «
محمَّد » صلىاللهعليهوآلهوسلم يواجه اشكالات ومؤاخذات اخرى تجعل
هذه النظرية في عداد الاساطير!! وإنّ ابرز هذه الاشكالات الواردة على
هذه النظرية في مجال رسول الإسلام صلىاللهعليهوآلهوسلم هي : أنّ
هذه النظرية ليست رأياً جديداً وتهمة جديدة توجه إلى نبوة رسول الإسلام. فان نظرية « الشخصية الباطنية ،
والوحي النفسي الذاتي » هي نظرية متبلورة ومتقدمة لتهمة ( الجنون والصَرع ) التي
كان يَرمي بها العربُ الجاهليّون رسولَ اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم!! فقد كان المشركون في بدء الدعوة
يقولون : ان ما يقوله « محمَّد » وما يتكلم به ليس إلا افكاره القلقة المضطربة
الناشئة عن خياله ، وانّ القرآن هي تلك الأفكار المضطربة الّتي تسربت إلى فضاء
عقله من دون ارادة منه ولا اختيار!! لنستمع إلى القرآن
الكريم وهو ينقل عنهم هذا الاتهام : « بَلْ قالُوا اضغاثُ أَحلام
» (الأنبياء : 5.).
ولكن القرآن الكريم
يردّ على هذه المزعمة الواهية بقوله : « وَالْنَّجْم إذا هَوى. مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ
وَما غَوى. وَما يَنطِقُ عَنِ الْهَوى. إنْ هُوَ إلاّ وَحْيٌ يُوحى. عَلَّمهُ
شَدِيدُ الْقُوى » (النجم : 1 ـ 5.).
ان القرآن الكريم يشجب في هذه الآيات
المنتظمة انتظاماً رائعاً وبديعاً هذه المزعمة (
أي مقولة أن القرآن وليدُ الخيال لدى محمَّد ) ، ويردُّ
الأمر إلى الوحي الالهي ، والتوجيه الربانيّ العُلويّ. إن نظرية الوحي النفسيّ وتَجلّي
الشخصية الباطنية الّتي طلع بها الماديون في عصرنا ما هيَ في الحقيقة إلاّ غطاء
لمزعمة المشركين وتهمة الجنون والخيال ، الّتي سبق أن رمى بها أعداء الرسالة
الإسلامية ومعارضوها النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم تلك التهمة
الّتي يذكرها القرآن الكريمُ بقوله : « وَقالُوا
يَا أيُّها الَّذي نُزِّلَ عَليْهِ الذِّكْرُ إنَّكَ لَمجنُونٌ
» (الحجر : 6 ، وايضاً راجع الآيات التالية : سبأ : 8 ، الصافّات : 36 ،
الدخان : 14 ، الطور : 29 ، القلم : 2 ، التكوير : 22.).
وهي تهمة كان يوجهها المعارضون
دائماً إلى المصلحين وأصحاب الرسالات (إذ يقول القرآن في هذا الصدد : « كَذلِكَ ما أتى الَّذينَ مِنْ قَبلِهِمْ مِنْ رَسُول إلاّ قالُوا
ساحِرٌ أوْ مَجْنونٌ. أتواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ » ( الذاريات : 52 و 53 ).)
وقد اتخذت هذه التهمة صبغة علمية جديدة ، وتبلورت في نظرية : « الوحي النفسيّ ،
وتجلّي الشخصية الباطنية ». ان القرآن الكريم يرد على هذه المزاعم والتصورات
الباطلة حول عمليّة الوحي ومسألة النبوّة ويرد على نسبة الكهانة وماشابه ذلك
كالخبر المنقول عن اهل السير بمحاولة القاء النبي نفسه من شاهق في بداية الوحي
الّذي يشبه نسبة الجنون إليه صلىاللهعليهوآلهوسلم إذ يقول
تعالى : « إنّه لقولُ
رَسُول كريم. ذي قوّة عند ذي العرش مكين. مُطاع ثمَّ امين. وَما صَاحِبُكُمْ
بِمَجْنُون. ولقدْ رآهُ بالاُفقِ المُبين. وَمَا هُو بِقول شَيْطان رَجيم.
فَايْنَ تَذْهَبُونَ إن هو إلاّ ذكرٌ للعالمين. لِمَنْ شاء مِنْكُمْ أن يستقيم
»
(التكوير : 20 ـ 28.).
بهذا البيان تبيَّنَ
بطلان هذا التفسير وجميع التفاسير الاُخرى الّتي تحاول إعطاء ( الوحي ) طابعاً
مادياً مألوفاً ، شأنه شأن غيره من الظواهر الغيبيّة ،
ونحن استكمالا لهذا البحث نشير إلى ما هو الحقُ في هذا المجال ،
ممّا يؤيّد الواقع والعقل والدين :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ظاهرةُ الوحي في
منظار العقل والدين :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لا شك أن حياة كل فرد من افراد
الإنسان تبدأ من « الجهل » ثم يأخذ الإنسان بالدخول في مجال العلم شيئاً فشيئاً
، إلى ان تنفتح عليه بالتدريج نوافذُ على الواقع الخارج عن ذهنه. فيبدأ الإنسانُ بالتعرف على الحقائق
عن طريق الحواسّ الظاهرية ، ثم على أثر التكامل في جهازه العقليّ والفكري يهتدي
إلى الحقائق الخارجة عن مجال الحس واللمس ، فيغدو عقلانياً استدلاليّاً ، ويقف
على طائفة من الحقائق الكليّة والقوانين العلمية. وربما يظهر بين أفراد النوع الإنساني
أصحابُ نفوس عالية يقفون عن طريق الالهام ومن خلال بصيرة خاصة على حقائق واُمور
لا يُهتدى اليها حتّى عن طريق الاستدلال والبرهنة! ومن هنا قسّم العلماء
ادراك البشر إلى ثلاثة أنواع : « إدراك العامّة » « إدراك
المفكرين وأرباب الاستدلال » « إدراك العرفاء واصحاب البصائر والنفوس الكبرى ». وكأَنَّ أصحاب الظاهر يستعينون على
اكتشاف الحقيقة بالحس ، والمفكرين يستعينون بالاستدلال والبرهنة ، وأصحاب
البصائر والمعرفة بالإلهام والاشراق وبالفيض عليهم من العالم الأعلى. ان النوابغ في مجال الأخلاق ، وان
عقول العلماء الخلاقة ، وأفكار الفلاسفة العظيمة كلها تؤيّد وتشهد بأن ما يحصلون
عليه ، وما يطلعون به على المجتمع البشري ممّا لم يعرفوه من قبل ما هي الا
شرارات مضيئة وملهمة تخطر لهم ، ثم يعمدون إلى تنميتها وبلورتها بالتجربة ، أو
بالاستدلال والبرهنة والتأمل. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قنواتُ المعرفة
الثَلاث :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
من هذا الكلام نستنتج أن
أمام بني البشر ثلاث طرق للوصول إلى مقاصدهم ؛ فالطريق الأول يستفيد منه جماهير
الناس غالباً ، بينما يستفيد طائفة خاصة منهم من الطريق الثاني ، ولا يستفيد من
الطريق الثالث إلاّ أفراد معدودون قلةٌ تكاملت عقولُهم ، وتسامت أرواحهم. وهي كالتالي : 1 ـ الطريق التجريبي
والحِسي ، والمقصود منه ذلك القسم من الإدراكات والمعلومات
الواردة إلى محيط الذهن البشريّ عن طريق الحواس الظاهرية كالمرئيات ، والمشمومات
والمطعومات وغيرها ممّا يستقرُّ في محيط إدراكنا بواسطة الأجهزة المختصة بها. وقد استطاع البشر اليوم ، وبفضل
اختراع التلسكوبات والميكروسكوبات واجهزة التلفاز والراديو ان يقدّم خدمة كبرى
للبشرية في مجال الإدراكات الحسية ويمهِّد لمزيد من سيطرتها على البعيد والقريب.
2 ـ الطريقُ التعقُّلي
الإستدلالي : فان المفكرين يتوصِّلون إلى كشف
طائفة من القوانين الكليّة الخارجة عن الحس عن طريق عملية التفكير والتأمل
وتشغيل جهاز العقل ، وإقامة سلسلة من المقدمات البديهية الواضحة ، وبذلك يمكن
الوصول إلى قمم المعرفة والكمال العلمي. إنَّ انكشاف القوانين العلميّة
الكليّة ، والمسائل الفلسفية ، والمعارف المرتبطة بصفات اللّه وأفعاله سبحانه
والقضايا المطروحة في علم العقيدة والأديان ناشئ برمَّته من جهاز العقل ، وحركته
، وناتج من عملية التفكير ، والإستدلال المذكورة. 3 ـ طريق الإلهام : وهذا
هو الطريق الثالث لمعرفة الحقائق ، وهو فوق نطاق إنه نوعٌ جديدٌ من المعرفة ونمط
متميّز من إدراك الحقائق ، ليس محالا من وجهة نظر العلم وان كان يصعُب على أصحاب
الاتجاه المادّي القبول به لكونه طريقاً غير حسي ولا تعقّلي. وأما من جهة الاُصول
العِلمية فلا مجال لإنكاره ، ولا مبرّر لعدّه من المحالات. ان طريق التعرُّف على حقائق الكون
الخارج عن الذهن ـ في منهج المادّيين ، وأصحاب النزعة المادية ـ ينحصر في قناتين
لا اكثر ، وهما اللّذان سبق ذكرُهما ، في حين أنّ هناك ـ حسبَ نظرة الأديان والشرائع
الكبرى وحسب نظرة الفلاسفة والعرفاء الالهيين ـ قناة ثالثة أيضاً. بل إنَّ هذا الطريق
الثالث ـ كما أسلفنا في مسألة الوحي ـ أكثر واقعية ، وأقوى أسُساً ، وأوسع
آفاقاً عند من يدَّعون الرسالة ، والنبوة من
جانب اللّه سبحانه ، وإن نفوس اُولئك الأشخاص لتبدو أكثر صفاء وطراوةً بفضل هذا
الطريق ، وفي ضوء هذه القناة. وكلّما حصل إرتباط بين اللّه ، وبين
فرد من أفراد النوع الإنساني على نحو خاص اُلقيت الحقائق في وجوده من دون توسط
الحواس الظاهرية ، وإعمال الفكر ، واستخدام جهاز العقل. وهذا النوع من الإلقاء
يسمى حيناً بالالهام ، وبالاشراق حيناً آخر. ولكن كلما نتج من إرتباط الإنسان بما
وراء الطبيعة سلسلة من التعاليم العامّة والأنظمة والبرامج الشاملة اُطلِق على
هذا النوع من الإلقاء عنوان ( الوحي ) ، وسمِّيَ الآتي بها ( ملَك الوحي )
والآخذ لها ( نبيّاً ). هذا وقد يوجب الإلهام الثقة
والاطمئنان للملهَم إليه ، ولكنّهُ لا يمكن أن يكون مبعث الإطمئنان والثقة عند
الآخرين (وانما قلنا « قد » أي يمكن أن يوجب الاطمئنان ولم نقطع بذلك لأنّ
مصدر هذه الالهامات ليست معلومة وواضحة ، ولا يمكن الاعتماد على مطلق الواردات
القلبية والفجائية الّتي لا تستند إلى اُصول معلومة. وبعبارة اُخرى : يجب الفصل
والتمييز بين الإلهامات الرحمانية والالقاءات الشيطانية بواسطة الموازين العقلية
والشرعية.).
من هنا اعتبر العلماء « الوحيَ »
الطريقَ المطمئنة الوحيدة إلى المعرفة العامة ... الوحي الّذي ينزل على الانبياء
الذين ثبتت نبوّتهم بالدلائل القاطعة ، من المعجزة وغيرها.
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أنواع الوحي
واصنافه :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إن في مقدور الروح الإنسانية بسبب ما
تملك من كمالات أن تتصل بالعوالم الروحانية من الطرق المختلفة ، ونحن هنا نشير إلى هذه الطرق الّتي جاء ذكرها في أحاديث قادة
الإسلام وائمته ، باختصار : 1 ـ تارة يتلقى الحقائق السماوية
العليا على نحو الالهام ، فيتخذ ما يتم إلقاؤه في النفس عبر هذا الطريق حكم (
العلوم البديهية ) الّتي لا يتطرق اليها أي ريب وشك. 2 ـ وقد يسمع عبارات وكلمات من جسم
معين ( كالجبل والشجرة ) كسماع موسى عليهالسلام
كلام اللّه من الشجرة. 3 ـ وربما تنكشف الحقائق له في عالم
الرؤيا انكشاف النهار. 4 ـ وقد ينزلُ عليه ملَكٌ من جانب
اللّه بكلام خاص. وقد نزل القرآن الكريم على النبي
الاكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم من هذا الطريق ، وقد صرح القرآن
الكريم نفسه بهذا عند قوله تعالى : « نزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمين عَلى قلبك
لِتكُونَ مِنَ المُنذَرين. بِلسان عَربيٍّ مُبِيْن » (الشعراء : 193 ـ 195 ، وقد اُشير في سورة الشورى الآية 51 إلى هذه
الطرق الأربع جميعها.). |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أساطيرُ مختَلفة :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد كتب المؤرخون
والكتاب عن حياة كثير من الشخصيات العالمية ، وضبطوا كل ما جلَ اودقَّ في هذا
المجال ، وربما تحمّلوا عناء الرحلات الطويلة والأسفار الشاقة لتكميل دراساتهم ،
وكتاباتهم. غير أن التاريخ لا يعرف شخصية مثل
رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ضبطت تفاصيل سيرته الدقيقة ، واهتم اتباعه وأصحابه ومحبّوه بكل شاردة وواردة في
حياته الشريفة. إنَّ هذا الولع الشديد بتسجيل كل شيء
ـ مهما صغر ـ من حياة النبيّ الاعظم
صلىاللهعليهوآلهوسلم
وسيرته
العطرة كما ساعد على ضبط جميع الجزئيات والتفاصيل في هذا المجال ، تسبب في بعض
الموارد في إلصاق بعض الزوائد بحياة النبي الاكرم وشخصيته العظيمة ، الطاهرة. ومثل هذا لا يبعد عن
المحبّين الجهلاء فكيف بالأعداء الألداء العارفين. من هنا يتعيّن على كل مؤلف يكتب عن
سيرة شخصية من الشخصيات أن لا يغفل عن مبدأ ( الحذر والإحتياط ) في تحليله
لحوادثها ، وقضاياها ، فلا يغفل عن تقييم كل ما جاء حولها من روايات وقصص في ضوء
الموازين التاريخيّة الدقيقة. واليك بقية ما جرى في
واقعة نزول ( الوحي ) في حراء : بقية حادثة نزول الوحي :
استنارت نفس رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وروحه الكبرى بنور « الوحي » المبارك ، وتعلّم كل ما ألقى عليه ملَك الوحي في
ذلك اللقاء العظيم ، وانتقشت تلك الآيات الشريفة في صدره حرفاً حرفاً ، وكلمة
كلمة. وقد خاطبه نفس ذلك الملك بعد تلاوه
تلكم الآيات بقوله : يا محمَّد ... أنت رسولُ اللّه ... وأنا جبرئيل. وقيل : انه صلىاللهعليهوآلهوسلم
سمع هذا النداء عند نزوله من غار حراء وقد اضطرب رسولُ اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
لهذين الحدَثين ، اضطرب لعظمة المسؤولية الكبرى الّتي اُلقيت على كاهله. وكان هذا الاضطراب طبيعياً بعض الشيء
، وهو لا ينافي بالمرة يقينه صلىاللهعليهوآلهوسلم وإيمانهُ
بصدق ما اُنزلَ عليه لأن الروح مهما بلغت من العظمة والسمّو والقوة والصلابة ،
ومهما كانت قوة ارتباطها بعالم الغيب ، وبالعوالم الرُّوحانية العُليا فانَّها
عندما تواجه لأول مرّة ملَكاً لم تره من قبل ، وذلك في مثل المكان الّذي التقى
النبيُ ( فوق الجبل ) لابُدَّ أنْ يحصل لها مثل هذا الاضطراب ، ولهذا زال ذلك
الاضطراب عن رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
في ما بعد. ثم إنّ الاضطراب والتعب الشديد قد
تسبّبا في أن يتوجه النبيُ صلىاللهعليهوآلهوسلم
إلى
بيت « خديجة » عليهاالسلام
، وعندما دخل بيتها ووجدت على ملامحه آثار الاضطراب والتفكير سألته عن ما جرى له
، فحدَّثها بكل ما سمع وراى وقصَّ عليها ما كان من أمر جبرئيل معها ، فعظّمت «
خديجةُ » عليهاالسلام
أمره ، ودعت له ، وقالت : إبشر فواللّه لا يخزيك اللّه أبداً. ثم إن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم الّذي كان يشعر بالجهد والتعب قال
لزوجته الوفيّة « خديجة » : دثّريْني ... دَثّريني. فدثّرته ، فَنام بعض الشيء. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
خديجة تذهب إلى
ورقة بن نوقل :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد تحدثنا في الصفحات الماضية عن «
ورقة » وقلنا أنّه كان ممن تنصَّر وقرأ الكتب وسمع من أهل التوراة والانجيل وكان
ابن عم خديجة. فعند ما سمعت « خديجة » زوجة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
ما سمعته منه انطلقت إلى « ورقة » لتخبِّره بما سمعته من زوجها الكريم ، وشرحت
له كلَ شيء مما جرى له مع جبرئيل. فقال « ورقة » في جواب ابنة عمه :
إنّ ابن عمّك لصادق ... وإن هذا لبدء النبوة ، وانه ليأتيه الناموس الاكبر ( أي
الرسالة والنبوة ) (الطبقات الكبرى : ج 1 ، ص 195.).
إن ما ذكرناه إلى هنا هو في الحقيقة
ملخّص الروايات التاريخية المتواترة الّتي وصلت إليها ، والّتي دُوِّنت في جميع
الكتب. بيداننا نلاحظ بين ثنايا هذه الحادثة
اُموراً لا تتفق مع ما نعرفه من أنبياء اللّه ورُسُله العظام ، كما أنها لا تتفق
مع ما قرأناهُ إلى الآن عن حياة هذا النبي العظيم صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وما سنذكره الآن من هذه الزوائد إمّا
يجب اعتباره من قبيل الاساطير التاريخية ، أو أنّ علينا تأويله بنوع من التأويل.
وانا لنعجب قبل كل شيء من المفكّر
المصريّ الدكتور « هيكل » كيف سمح لنفسه وهو الّذي تحدث في مقدمة كتابه عن مشكلة
تسرب الاساطير إلى التاريخ النبويّ ، وقال : بأنّ هناك من دسَّ في السيرة
النبوية ، عن عداوة أو جهل ، بعض الاكاذيب. ولكنه مع ذلك ينقل هنا
اُموراً لا أساس لها من الصحّة أبداً ، في حين اعطى فريقٌ من علماء الشيعة ـ
كالمرحوم الطبرسي ـ ملاحظات مفيدة في هذا الصعيد. وإليك في ما يلي بعض
هذه الاساطير والقضايا المختلفة ، على أنها
لم تكن جديرة بالاشارة ابداً لولا أن بعض المحبّين الجهَلاء ، والأعداء الأذكياء
ذكروها في كتبهم ، وكرروها في دراساتهم. 1 ـ قالوا :
إنَّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم عند
ما دخل منزل خديجة ، كان يفكّر في نفسه : لعلّ بصرَه خدعته ، أو انه كاهن ،
أوفيه جنون!! ولكن لمّا قالت له
خديجة : « انّ اللّه لا يفعل بك ذلك يا ابْن عبد اللّه ،
إنك تصدق الحديث ، وتؤدّي الأمانة ، وتصلُ « الرحم » اطمأنَّ ، وزالَ عنه الشكُ
والتردّد ، والقى على « خديجة » نظرَ شكر ومودة ، ثم طلب أن يُزمَّل ، فزمِّلَ
فنام!! (الطبقات الكبرى : ج 1 ، ص 195 ، حياة محمَّد : ص 134.).
2 ـ يقول الطبري
وغيره من مؤرخي السيرة : ان النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
لما سمع نداء يقول : « يا محمَّد أنت رسول اللّه » أصابَهُ خوفٌ شديدٌ حتّى أنه
همَّ بان يطرح نفسَهُ من أعلى الجبل ، فتبدى له ( ملَك الوحي ) ومنعه عن ذلك!!! 3 ـ ثم إنَّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ذهب ليطوف بالكعبة بعد ذلك اليوم ،
فرأى « ورقة بن نوفل » وشرح لورقة ما جرى له مع جبرئيل ، فقال له ورقة : « والّذي نفسي بيده ، إنَّك
لنبيَّ هذه الاُمة ، وقد جاءك الناموسُ الأكبرُ الّذي جاء موسى ولتُكذبَنَّه ،
ولتوذينَّه ولتخرجَنَّه ولتقاتلنِه » فأحس « محمَّد » بأن ورقة يصدّقه ، فاطمأن (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 238.). |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
بُطلانُ هذه المزاعم
:
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إن الّذي نتصوره هو أن جميع هذه
القصص مختلقة من الاساس ، وقد دُسَّت في التاريخ والتفسير عن قصد وهَدف ، أو
دخلت فيهما عن غير ذلك. وذلك : أولاً
: لأننا لتقييم هذه المزاعم يجب ان
نلقي نظرة فاحصة إلى تاريخ الأنبياء الماضين وسيرهم. إنَ القرآن الكريم قصَّ علينا
قضاياهم ، وسيرهم ، وقد وردت في هذا المجال روايات وأخبار كثيرة. وإننا لا نجد أيَ أثر لمثل هذه القصص
المشينة في حياة أي واحد منهم. إن القرآن الكريم يقص علينا قصة بدء
نزول ( الوحي ) على « موسى » بشكل كامل ويبيّن جميع التفاصيل في قصته عليهالسلام
ولا يذكر أي شيء من الخوف ، والارتعاش ، والوحشة والفزع ، بحيث يحدّث نفسه
بالإنتحار على أثر سماع الوحي!! مع أن أرضية الخوف والفزع في مجال « موسى » كانت
متوفرة أكثر ، لأنه سمع في ليلة ظلماء وهو في صحراء خالية نداء من الشجرة يخبره
بأنه نبيُ مرسَلٌ. ولكن موسى ـ كما يصرّح القرآن الكريم
، بهذه الحقيقة ـ حافظ على هدوئه ، وسكونه ، وعندما خاطبَهُ اللّه تعالى بقوله :
« أن ألقِ عصاك » القاها من فوره ، وكان خوفه من ناحية العصى الّتي تبدّلت إلى
ثعبان مخيف ، لا من جهة الايحاء إليه. فهل يمكن ، أو يجوز لنا أن نقول :
كان « موسى » لحظة الوحي إليه مطمئناً هادئاً ساكناً ، ولكن أفضل الانبياء
والمرسلين اضطرب عند سماع كلام المَلك ، وفزع إلى درجة فكَّر في طرح نفسه من
أعلى الجبل؟! هل هذا كلام معقول؟! لا ريب أن روح محمَّد صلىاللهعليهوآلهوسلم
ما لم تكن مهيَّأة من جميع الجهات وبصورة كاملة لتلقّي السرّ الالهيّ ( النبوة )
لا يمكن أن يمنَ عليه الربُ الحكيمُ بمنصب النبوّة ، ويختاره لمقام الرسالة ،
لأن الهدف الجوهريّ من ابتعاث الرُسل ، وارسال الانبياء هو هداية الناس
وارشادهم. ومن كان كذلك من حيث ضعف الروح ووهن
النفس بهذه المرتبة بحيث يحدّث نفسه بالإنتحار خوفاً (كما نقل هيكل في كتابه : « حياة محمَّد ».)
وفزعاً
كيف يمكن ان ينفذ إلى نفوس الناس ويؤثر فيهم؟! ثانياً : كيف
يمكن أن يطمئن موسى بمجرد سماعه للنداء الالهيّ إلى أنه صادرٌ من جانب اللّه ،
فطلبَ من ربّه من فوره أن يجعل أخاه هارون وزيراً له لأنه أفصحُ منه قولا (طه : 29.)
بينما لا يطمئن سيد المرسلين وخاتمهم؟! ثالثاً : لقد
كان « ورقة » مسيحيّاً حتماً ، ولكنه عند ما أراد أن يزيل عن « محمَّد » الشك
والإضطراب ذكر نبوَّة « موسى » عليهالسلام وقال : قد
جاءك الناموس الّذي جاء موسى (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 238 وقد نقل المرحوم المجلسي هذه العبارة
عن المنتقى ولكنه بلفظة« عيسى » أيضاً ولكن لا وجود لذلك في صحيح البخاري وسيرة
ابن هشام اللذين هما الأساس لهذه الامور.).
ألا يدلُّ هذا على أنّ ثمة يداً
اسرائيليّة وراء هذه الحبكة هي الّتي صاغت هذه القصة واختلقتها في غفلة عما كان
يدين به « ورقة » بطلُ القصة؟! كل هذا بغصّ النظر عن أن مثل هذه
الاُمور تتنافى والعظمة الّتي نعهدها من النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
، ولا تنسجم معها أبداً ، ويبدو أن كاتب « حياة محمَّد » أدرك إلى درجة ما
خرافية هذه القصة ولذلك نجده ينقل بعض مواضيعها بعد جملة : « كما يقولون ». وقد حارب ائمةُ الشيعة
هذه الاساطير بكل قوة ، وأبطلوها برمتها. فعندما يسأل زرارة الإمام الصادق عليهالسلام
مثلا : كيف لم يَخفْ رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
فيما يأتيه من قِبَل اللّه ان يكون ممّا ينزغ به الشيطان : قال الإمام عليهالسلام : « إنّ اللّه
إذا اتخذَ عبداً ورسولا ، أنزل عليه السكينة والوقار فكان يأتيه من قِبَل اللّه
عزّ وجلّ مثل الّذي يراه بعينه » (بحار الأنوار : ج 18 ، ص 262 وفي الكافي : ج 1 ، ص 271 نظيره.).
ويقول العلامة الشيعي
الكبير المرحوم الطبرسي في تفسيره ، في هذا الصدد : « إن اللّه لا يوحي الى رسوله إلاّ
بالبراهين النيّرة والآيات البينة الدالّة على أن ما يوحى إليه إنما هو من اللّه
تعالى ، فلا يحتاج إلى شيء سواها ولا يفزعُ ، ولا يَفْرُق » (مجمع البيان : ج 10 ، ص 384.). |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
12 متى نزل الوحي
أولا؟
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد
تَعرّضَ يوم مبعث رسول الإسلام صلىاللهعليهوآلهوسلم للاختلاف
من حيث التعيين والتحديد فهو مثل يوم ولادته ويوم وفاته صلىاللهعليهوآلهوسلم
غير مقطوع به ، من وجهة نظر المؤرخين وكُتّاب السيرة النبويّة. فلقد اتفق علماء
الشيعة على القول بان رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم بُعِث بالرسالة في السابع والعشرين
من شهر رجب ، وأن نزول الوحي عليه قد بدأ من ذلك اليوم نفسِه. بينما اشتهر عند علماء السُنّة أن
رسول الإسلام قد اُوتي هذا المقام العظيم في شهر رمضان المبارك. ففي ذلك الشهر الفضيل كُلِّف « محمّد
» صلىاللهعليهوآلهوسلم
من جانب اللّه تعالى بهداية الناس ، وبُعثَ بالرسالة. ولما كانت الشيعة تشايع عترة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
وأهل بيته الصادقين ، وتعتقد بصحة ما يرونه ويقولون به اتباعاً لقول رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
فيهم ، في حديث الثقلين : « إنهما لن يفترقا » فانهم اتبعوا ـ في تحديد يوم
المبعث النبوي الشريف ـ القول المأثور ـ بنقل صحيح ـ عن عترة النبي المطهرين في فقد روي عن أبناء
الرسول وعترته الطاهرة أن عظيمَ هذا البيت وسيّده ( أي النبيّ ) قد بُعِثَ في
السابع والعشرين من شهر رجب ، وهم في ذلك حجة. ولهذا لا يمكن الشك والتردد في صحة
هذا القول وثبوته (راجع بحار الأنوار : ج 18 ، ص 189.).
نعم غاية ما يمكن الاستدلال به على
القول الآخر هو تصريح القرآن الكريم نفسِه بأنّ آيات القرآن نزلت في شهر رمضان ،
وحيث أن يومَ بعثة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
كانَ
هو بنفسه يوم بدء نزول الوحي ، والقرآن عليه ، لهذا يجب القول بان يوم البعثة
الشريفة انما كان في نفس الشهر الّذي نزل فيه القرآن الكريم : اي شهر رمضان
المبارك. واليك فيما يأتي
الآيات الّتي تدل على أن القرآن الكريم نزل في شهر رمضان : 1 ـ « شَهْرُ رَمضان الَّذي اُنْزِلَ فِيه الْقُرانُ
» (البقرة : 185.).
2 ـ « حم. وَالكِتابِ الْمُبين. إنّا أنْزلْناهُ في
لَيْلَة مُبارَكة » (الدخان : 1 ـ 3.)
وتلك الليلة هي ليلة القَدْر الّتي قال عنها سبحانه : « إنّا أنْزَلْناهُ في لَيْلَةِ الْقَدر. لَيْلَةُ
الْقَدْر خَيْرٌ مِنْ اَلْفِ شَهْر » (القدر : 1 و 3.). |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ما أجاب به علماء
الشيعة :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ولقد أجاب مُحدِّثو
الشيعة ومفسروهم عن هذا الاستدلال بطرق مختلفة نذكر طائفة منها هنا : |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الجوابُ الأوَّل :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إنَ الآيات المذكورة إنّما تدل على
أن القرآن نزل في شهر رمضان وبالذات في ليلة مباركة منه هي « ليلة القدر » ،
ولكنها لا تتعرض لذكر محلّ نزول هذه الآيات ، وأنها أين نزلت؟ وهي بالتالي لا
تدل أبداً ومطلقاً على أنها نزلت في تلك الليلة على قلب رسول اللّه؟ فيحتمل أن
يكون القرآن نزولات متعددة إحداها نزول القرآن على رسول اللّه تدريجاً. والآخر نزوله الدفعي من اللوح
المحفوظ إلى البيت المعمور (للتعرف على معنى اللوح المحفوظ راجع كتب التفسير.).
وعلى هذا فما المانع من ان تكون بعض
آيات القرآن ( من سورة العلق ) قد
نزلت على النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
في السابع والعشرين من شهر رجب. ثم نزل القرآن بصورته الجمعية الكاملة في شهر
رمضان من مكان معين أسماه القرآن باللوح المحفوظ ، إلى موضع آخر عُبر عنه في بعض
الروايات بالبيت المعمور. ويؤيّد هذا الرأي قولُ
اللّه تعالى في سورة الدخان : « إنّا أَنْزَلْناهُ في
لَيْلَة مباركةِ » فانَّ هذه الآية ـ بحكم رجوع الضمير فيها إلى الكتاب ـ تصرح
بأن الكتاب العزيز بأجمعه نزل في ليلة مباركة ( في شهر رمضان ) ، ولابدَّ انَ
يكون هذا النزول غير ذلك النزول الّذي تحقق في يوم المبعث الشريف ، لأن في يوم
المبعث لم تنزل سوى آيات معدودة لا اكثر. وخلاصة الكلام هي ان
الآيات الّتي تصرح بنزول القرآن في شهر رمضان في ليلة مباركة ( ليلة القدر ) لا
يمكن أن تدل على أن يوم المبعث الّذي نزلت فيه بضعُ آيات أيضاً كان في ذلك الشهر
نفسِه ، لأنَّ الآيات المذكورة تدل على أن مجموع القرآن لا بعضه قد نزل في ذلك
الشهر ، في حين لم تنزل في يوم المبعث سوى آيات معدودة كما نعلم. وفي هذه الصورة يحتمل
أن يكون المراد من النزول الجمعيّ للقرآن هو نزول مجموع الكتاب العزيز في ذلك
الشهر من « اللوح المحفوظ » إلى « البيت المعمور ». وقد روى علماء الشيعة
والسنة روايات وأخباراً بهذا المضمون ، وبخاصة
الاستاذ الأزهري محمّد عبدالعظيم الزرقاني الّذي أورد روايات عديدة في هذا الصدد
في كتابه (مناهل العرفان في علوم القرآن : ج 1 ، ص 37.). |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الجواب الثاني :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وهو أمتن الاجوبة
والردود على هذا القول. فقد بذل الاستاذُ
الطباطبائي جهداً كبيراً لتوضيحه وبيانه في كتابه القيم ؛ واليك خلاصته : يقول العلامة
الطباطبائي : إنّ قول اللّه تعالى إنا أنزلناه في
شهر رمضان ، المقصود منه هو نزول حقيقة القرآن على قلب النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
، لأن للقرآن مضافاً إلى وجوده التدريجي ، واقعية اطلع اللّه تعالى نبيه العظيم
عليها في ليلة معينة من ليالي شهر رمضان المبارك (الميزان : ج 2 ، ص 14 ـ 16.).
وحيث أنّ النبيّ الاكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم
كان قد عرف من قبل بجميع القرآن الكريم لذلك نزلت الآية تأمره بان لا يعجل
بقرائته حتّى يصدر الأمر بنزول القرآن تدريجاً إذ يقول تعالى : « وَلا تعْجَل بِالْقُرانِ مِنْ قَبلُ أَن يُقْضى
إلَيْكَ وَحْيُهُ » (طه : 114.).
وخلاصة هذا الجواب هي
: أنَّ
للقرآن الكريم وجوداً جمعياً علمياً واقعياً وهو الّذي نزل على الرسول الكريم صلىاللهعليهوآلهوسلم
مرة واحدة في شهر رمضان ، وآخر وجوداً تدريجياً كان بدء نزوله على النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
في يوم المبعث ، واستمرّ تنزله إلى آخر حياته الشريفة على نحو التدريج.
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الجواب الثالث :
التفكيك بين نزول القرآن والبعثة
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إن للوحي ـ كما أوضحنا ذلك في مبحث
أنواع الوحي اجمالا ـ مراتب ومراحل ، يتمثل أولُ مراتبه في الرؤيا الصادقة الّتي
رآها رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم.
والمرتبة الاُخرى
تمثلت في سماعة للنداء الغيبيّ الالهي من دون وساطة ملك. وآخر تلك المراتب هو أن
يسمع النبيُ كلام اللّه من ملك يبصره ويراه ، ويتعرف عن طريقه على حقائق العوالم
الاُخرى. وحيث أن النفس الإنسانية لا تستطيع
في الوهلة الاولى تحمُّل مراتب ( الوحي ) جميعها دفعة واحدة بل لابدّ أن يتحملها
تدريجاً ، لهذا يجب القول بأنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
قد
سمع يوم المبعث ( اليوم السابع والعشرون من شهر رجب ) النداء السماويّ الّذي
يخبره بأنه رسول اللّه ، فقط ولم تنزل في مثل هذا اليوم ايّة آية قط ، وقد استمر
الأمر على هذا المنوال مدة من الزمان. ثم بعد مدة بدأ نزول القرآن الكريم على
نحو التدريج ابتداء من شهر رمضان. وخلاصة هذا الجواب هي أن ابتعاث
الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم
بالرسالة في شهر رجب لا يلازم نزول القرآن في ذلك الشهر حتماً. وعلى هذا الاساس ما المانع من ان
يُبعَث رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
في شهر رجب ، وينزل القرآنُ الكريم في شهر رمضان من نفس ذلك العام؟ ان هذه الاجابة
وإن كانت لا توافق كثيراً من النصوص التاريخية ( لأن كثيراً من المؤرخين صرّحوا
بأنّ الآيات الخمس من سورة العلق نزلت في يوم المبعث نفسه ) إلاّ أن هناك ـ مع
ذلك ـ روايات ذكرت قصة البعثة بسماع النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
للنداء
الغيبيّ ، ولم تذكر شيئاً عن نزول قرآن أو آيات ، بل هي تشرح الواقعة على النحو
التالي إذ تقول : في ذلك اليوم سمع رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم ملكاً
يقول له : يا محمَّد إنّك لرسول اللّه ، وجاء في بعض الأخبار أنه سمع هذا النداء
، فقط ، ولم تذكر شيئاً عن مشاهدة الملك. وللمزيد من التوضيح ، والتوسع يُراجع
« البحار » في هذا المجال (بحار الأنوار : ج 18 ، ص 184 و 190 و 193 و 253 ، الكافي : ج 2 ، ص
460 ، تفسير العيّاشي : ج 1 ص 80 وهذا الجواب لا ينسجم مع ما رواه البخاري من
أنّ بعثة النبي رافقت نزول آيات من سورة العلق عليه. ،).
على أنَ هذه الاجابة تختلف عن
الإجابة الرابعة الّتي تقول بأن مبعثَ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم كان في شهر رجب ، وكان نزولُ القرآن
الكريم بعد انقضاء الدعوة السرّية الّتي استغرقت ثلاثة أعوام.
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الانبياء والبشارة
برسول اللّه :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وينبغي ـ استكمالا لهذا الفصل من
التاريخ النبوي ـ ان نلفت نظر القارئ الكريم إلى ان الرسالة المحمَّدية المباركة
، ممّا بشر به جميع الانبياء المتقدمين زمنياً على خاتم الانبياء والمرسلين
محمَّد صلىاللهعليهوآلهوسلم.
ولقد اشار القرآن الكريم إلى ذلك إذ
قال اللّه تعالى : « وَإذْ
أَخَذَ اللّه مِيثَاقَ النَّبِيّينَ لمَا آتيتُكُمْ مِنْ كِتاب وَحِكمَة ثُمَّ
جاءكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرَنَّهُ
قالَ ءأَقْرَرتُمْ وَأَخذتُم عَلى ذلِكُمْ إصريْ قالُوا أقْرَرْنا قالَ
فَاشْهَدُوا وَأَنا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدينَ
» (آل عمران : 81.). وهذه الآية وإن كانت تكشف عن أصل عام
وكلّي وهو : وجوب تصديق إتباع النبيّ السابق للنبي اللاحق ، إلاّ أن المصداق
الأتمّ لها هو رسول الإسلام الكريم. فيظهر من هذه الآية أن اللّه تعالى
أخذ الميثاق المؤكد من جميع الانبياء أو من أصحاب الشرائع منهم أن يؤمنوا برسالة
محمَّد صلىاللهعليهوآلهوسلم
، ويدعوا أتباعهم إلى تصديقه واتباعه ونصرته. روى الفخر الرازي عن
اميرالمؤمنين علي عليهالسلام
: « إن اللّه تعالى ما بَعث آدم عليهالسلام
وَمؤمن بعده من الانبياء عليهم الصلاة والسَّلام إلاّ أخذ عليهم العهد لئن بُعث
محمَّد وهو حي ليؤمننّ به ولينصرنه » (مفاتيح الغيب : ج 2 ، ص 507.).
وممّا يؤيد هذا ان القرآن دعا اهل
الكتاب إلى بيان ما قرأوه ووجدوه في كتبهم حول رسول الإسلام للناس من دون كتمان
، واليك فيما ياتي طائفة من الآيات المصرحة بهذا الأمر : 1 ـ قال اللّه تعالى : « وَإذْ أَخَذَ اللّه ميثاقَ الَّذينَ اُوتوا
الكِتابَ لَتُبيَّنُنَّهُ للنّاس وَلا تَكتُمونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراء ظُهورهمْ
وَاشْتَروا بِه ثَمناً قَلِيلا فَبِئسَ مَا يَشْتَرُونَ
» (آل عمران : 187.).
2 ـ قال تعالى : « إنَّ الَّذينَ يَكتُمونَ مَا أَنْزَلَ اللّه مِنَ
الْكِتابِ وَيَشْتَرونَ بِه ثَمناً قَليلا اُوْلئكَ مَا يَأكُلُونَ في
بُطُونِهِم إلاّ النّار ، ولا يُكَلِّمهُمُ اللّه يَومَ الْقِيامَةِ ولا
يُزكّيهمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أليمٌ » (البقرة : 174.).
3 ـ وقال تعالى : « الَّذينَ آتَيْناهمْ الْكِتابَ يَعرفُونَهُ كَما
يَعرفُونَ أَبناءهُمْ وَإنَّ فَريقاً مِنْهُمْ ليكتمون الحقَّ وَهُمْ
يَعْلَمُونَ » (البقرة : 146.).
4 ـ وقال سبحانه : « الَّذينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبيّ
الاُمِيَّ الَّذي يَجدُونَه مكتُوباً عِندَهُمْ في التَوراةِ وَالإنجيلِ
يَأمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوف وَيَنْهاهُمْ عِنَ الْمُنكر وَيُحِلُّ لَهُمْ الطيِّباتِ
وَيُحرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائثَ وَيضَعُ عَنْهُمْ إصْرهُمْ وَالأَغْلالَ الّتي
كانَتْ عَلَيْهِم فالَّذينَ آمَنُوا بِه وَعَزَّرُوهُ وَنَصرُوهُ وَاتَّبَعُوا
النُّورَ الَّذي اُنزِلَ معهُ اُوْلئكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
»
(الاعراف : 157.).
ان القرآن الكريم يصرح بجلاء ان
السيد المسيح عليهالسلام اخبر عن
رسول الإسلام ورسالته إذ يقول تعالى : « وَإذْ
قالَ عيسَى بنْ مَريَمَ يَا بني إسرائيلَ إنّي رَسُولُ اللّه إليكُمْ مُصدِّقاً
لِمَا بينَ يديَّ مِنْ التَوراة ومبشِّراً بِرَسُول يَأتي مِن بَعدي اْسمُه
أَحمَدُ فلمّا جَاءهُمْ كما يتحدث القرآنُ الكريمُ عن أهل
الكتاب الذين تنكروا لرسالة النبي محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم
عندما بُعثَ وقد كانوا من قبل يخبرون عنه ويطلبون النصر به على اعدائهم إذ قال
سبحانه : « وَلمَّا
جاءهُمْ كِتابٌ مِنْ عِندِ اللّه مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبلُ
يَسْتفتِحُونَ عَلى الَّذينَ كَفَرُوا فَلمّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِه
فلعنَةُ اللّه عَلى الْكافِرينَ » (البقرة : 89.).
بل ويخبرنا القرآنُ الكريم بأَنَّ
إبراهيم عليهالسلام يومَ أحلّ
زوجتَه وولده اسماعيل بارض مكة دعا قائلا : « رَبَّنا وَابعَثْ فيهمْ رَسولا مِنْهُمْ يَتلو
عَلَيْهمْ آياتِكَ وَيعلِّمُهُمْ الْكِتابَ وَالْحِكْمةَ وَيُزكّيهمْ إنَّكَ
أَنتَ الْعَزيزُ الْحَكيمُ » (ـ البقرة : 129.).
وقد انطبقت هذه الأوصاف على رسول اللّه
صلىاللهعليهوآلهوسلم إذ يصفه
القرآن الكريم بقوله : « لَقَدْ
مَنّ اللّه عَلى الْمُؤمنينَ إذْ بَعثَ فيهمْ رَسولا مِنْ أنفُسِهِمْ يَتْلُوا
عَلَيْهِمْ آياتِه وَيُزكّيهِمْ وَيُعلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَة وَإنْ
كانوا مِنْ قَبلُ لَفي ضَلال مُبيْن » (آل عمران : 164.). |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
محمَّد خاتم
الانبياء :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
واستكمالا لهذا البحث ينبغي أيضاً أن
نشير إلى أبرز ناحية في رسالة النبيّ محمَّد صلىاللهعليهوآلهوسلم
ونبوته وهي مسألة الخاتمية. فان القرآن الكريم صرح في آيات عديدة
بكون رسول اللّه محمَّد صلىاللهعليهوآلهوسلم
خاتم النبيّين ، وشريعته خاتمة الشرائع ، فلا نبيّ بعده ، ولا رسالة بعد رسالته.
وها نحن ندرج ابرز
الآيات الواردة في هذا المجال : 1 ـ قال تعالى : « مَا كانَ مُحمَّد اَبا أَحد مِنْ رجالِكُمْ
وَلكِنْ رَسُولَ اللّه وَخاتَمَ الْنَبيّين وَكانَ اللّه بِكُلِّ شَيء عَليماً
» (الأحزاب : 40.).
2 ـ قال سبحانه : « تَباركَ الَّذي نَزَّلَ الْفُرقانَ عَلى عَبدِه
ليكونَ للعالَمينَ نَذيراً » (الفرقان : 1.).
3 ـ وقال سبحانه : « وَاُوحي إليّ هذا الْقُرآنُ لاُنذِركُمْ بِه
وَمَنْ بَلغَ » (الانعام : 19).
4 ـ وقال تعالى : « وَما أرْسَلْناكَ إلاّ كافّةً لِلنّاسِ بَشيراً
وَنَذيراً وَلكِنَّ أكثرَ النّاسِ لا يَعلَمُونَ
» (سبأ : 28.).
والآياتُ الثلاث الأخيرة تفيد بأن
رسالة النبيّ محمَّد صلىاللهعليهوآلهوسلم
عامة وعالمية وأبدية لأَنه في غير هذه الحالة وفي غير هذه الصورة لن يكون نبياً
للناس كافة ، وللعالمين جميعاً. ولن يكون نذيراً لقومه ولمن بلغه نداؤه. هذا وقد صرّح النبيُ صلىاللهعليهوآلهوسلم
نفسه في أحاديث كثيرة بهذا الموضوع وهو الصادق المصدّق. فعن ابي هريرة قال رسول اللّه :
« اُرسلتُ إلى الناس كافة وبي خُتِم النبيّون » (الطبقات الكبرى : ج 1 ، ص 128.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
13 ما سَبَقني
أحدٌ
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أوَّلُ من آمنَ
بالنبيَّ منَ الرجال والنِّساء :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد انتشرَ الإسلامُ في العالَم
بصورة تدريجية ، ويوصَف الذين بادروا إلى الإيمان بالرسالة الإسلامية والمساعدة
على نشرها قبل غيرهم ب « السابقين ». وقد كان السبق إلى الإيمان برسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم في صدر الإسلام معياراً للفضل ولهذا
يجب أن ندرس هذا الموضوع في ضوء المصادر الصحيحة ، ونتعرف على من سَبق إلى
الإيمان بالرسالة الإسلامية من الرجال ، ومن النساء. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
مِنَ النساء : «
خديجة »
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إن من المسلَّم به تاريخياً أن «
خديجة » كانت أول امرأة آمنت برسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
، ولم يخالف في هذا اُحدٌ ، (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 240.)
ونحن هنا ننقل مستنداً تاريخياً مهماً واحداً ذكره المؤرخون نقلا عن إحدى زوجات
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
، مكتفين به رعايةً للاختصار. تقول عائشة : ما
غرتُ على نساء النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
إلاّ على « خديجة » وإنّي لم اُدركها ، وقد كان رَسولُ اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
لا يكاد يخرج من البيت حتّى يذكر « خديجة » فيحسن الثناء عليها ، فذكرها يوماً
من الايام فأدركتني الغيرة ، فقلت : هل كانت إلاّ عجوزاً فقد أبدلك اللّه خيراً
منها ، فغضب حتّى اهتز مقدّم شعره من الغضب ثم قال : « لا واللّه ما ابدَلني اللّه خيراً
منها ، آمنَت بي إذ كَفَر الناسُ ، وَصَدَّقَتني إذ كَذَّبني النّاسُ ، وواستني
في مالها إذ حرمني الناسُ ورزقني اللّه منها اولاداً إذ حرمني اولاد الناس »
(صحيح مسلم : ج 7 ، ص 134 ، صحيح البخاري : ج 5 ، ص 39 ، اسد الغابة
لابن الأثير الجزري : ج 5 ، ص 428 ، بحار الأنوار : ج 16 ، ص 8.).
وممّا يدل أيضاً على سبق خديجة في
الإيمان برسول اللّه كلَ نساء العالم جمعاء ما جرى في قضية بدء الوحي ، ونزول
القرآن ، لأن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
عندما
انحدر من غار « حراء » واخبر زوجته « خديجة » بما جرى له واجه ـ رأساً ـ ايمان
زوجته به وقبولها لكلامه ، وتصديقها برسالته ، تصريحاً وتلويحاً. هذا مضافاً إلى أنها كانت قد سمعت من
قبل أخباراً تتعلق بنبوّته ومستقبل رسالته من كهنة العرب وأهل الكتاب ، وهذه
الأخبار وامانة فتى قريش وصدقه الّذي اشتهر به هي الّتي دفعت بها إلى أن تتزوج
بالفتى الهاشميّ ( محمَّد ). |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أقدمُ الرجال
اسلاماً : « عليّ »
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إن المشهور
المقارب للمتَفق عليه بين المؤرخين ، سنة وشيعة ، هو أن « عليا » كان اول من آمن
برسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
من الرجال. ونرى في مقابل هذا
القول المشهور أقوالا اخر نادرة قد نقل ناقلوها ما يخالفها أيضاً : فمثلا يقال : إنّ زيد بن حارثة ربيب
رسول اللّه وابنه بالتبني ، أو أبو بكر كان أول من أسلم ، ولكن دلائلَ عديدة ( نذكر بعضها هنا على سبيل الاختصار )
تشهد على خلاف هذين القولين. واليك بعض هذه الدلائل
: |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
1 ـ عليّ تربّى في حجر النبيّ
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد تلقى عليٌ عليهالسلام
تربيته في حجر رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ونشأ وترعرع في بيته منذ طفولته ، وكان النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
يجتهد في تربيته والعناية به كالوالد الرحيم. قال عامّة المؤرخين
وكُتّاب السيرة بالاتفاق : إنَّ قريشاً أصابتهم أزمةٌ
شديدةٌ ( قبل بعثة النبي ) وكان أبو طالب ذاعيال كثير ، فقال رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
للعباس عمّه ، وكان من أيسر بني هاشم : يا عباس إن أخاك أبا طالب كثير العيال ،
وقد اصاب الناس ما ترى من هذه الأزمة فانطلق بنا إليه فلْنخفّف من عياله ، آخذ
من بنيه رجلا وتأخذ انت رجلا فنكفهما عنه ، فقال العباس : نعم ، فانطلقا حتّى
اتيا أبا طالب فقالا له : إنا نريد أن نخفّف عنك من عيالك حتّى ينكشف عن الناس
ما هم فيه ( إلى أن قال : ) فأخذ رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
علياً فضمّه إليه ، وأخذ العباس جعفراً فضمّه إليه فلم يزل عليٌ مع رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم حتّى بعثه اللّه تبارك وتعالى نبياً
فاتبعه علي رضي اللّه عنه وآمن به وصدقه (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 246 ، البداية والنهاية : ج 2 ، ص 25.).
في هذا الصورة يجب أن نقول بأنّ
علياً عليهالسلام انتقل إلى
بيت النبيّ وهو دون الثامنة ، لأَنَّ الغرض من أخذ النبي إيّاه من ابيه « أبي
طالب » هو التخفيف عن كاهل زعيم مكة ( أبي طالب ) ، ومن الواضح أنَّ صبيّاً في
مثل هذا السنّ ( دون الثامنة ) مضافاً إلى أنَّ فصله عن والدَيه أمرٌ في غاية
الصعوبة ، لن يكونَ لأَخذهِ وتكفّلِهِ أيُ أثر هامّ في وضع أبيه ( أبي طالب )
المعيشىّ. وعلى هذا يجب أن نفترض له عليهالسلام
عمراً يكون لأخذه فيه من قِبَل النبيّ تأثيراً معتداً به في وضع أبيه الإقتصادي
والمعيشي. فكيف يمكن القول ـ والحال هذه ـ أن
اباعد عن البيت النبويّ مثل « زيد بن حارثة » وغيره اطّلعوا على أسرار الوحي ،
بينما جهل ابن عم النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم واقرب
الناس إليه والّذي كان معه في اكثر الأوقات بما أتى به صلىاللهعليهوآلهوسلم
وما نزل عليه. إنّ غرضَ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
من تربية الإمام عليّ وتكفّله إياه كان إلى حدّ كبير هو أداء ما أسدى إليه أبو
طالب من خدمات ، ولم يكن ثمة شيء أحبَّ إلى رسول اللّه من أنْ يهديَ أحداً إلى
الصراط المستقيم ، فكيف يمكن أن يقال ـ والحال هذه ـ أن رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
حرم ابن عمّه الّذي كان يتمتع بذكاء باهر وضمير يقظ ، من هذه النعمة الكبرى. إنَ من الأفضل
أن نسمَعَ هذا الأمر من لسان « علي » نفسه ، فقد بيّن عليهالسلام
في الخطبة القاصعة منزلَته من رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم وقربه إليه
هكذا : « وَلَقدْ عَلِمتم موضعي من رسول
اللّه بالقرابة القريبة ، والمنزلة الخصيصة ، وضَعني في حجره وأنا وليدٌ ،
يضمُّني إلى صدره ، ويكنُفني في فراشه ، ويمسُّني جسده ، ويُشمُّني عرفَه ( عرقه
) ... ولقد كنتُ أتّبعه اتباعَ الفصيل إثر اُمِّه ، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه
علَماً ويأمُرُني بالإقتداء به ، ولقد كان يجاورني في كل سنة بحراء فاراه ولا
يراه غيري ، ولم يجمَعْ بيتٌ واحدٌ يومئذ في الإسلام غير رسول اللّه ، وخديجة
وأنا ثالثهما أرى نورَ الوحي والرِّسالة وأشمُّ ريحَ النبوة » (نهج البلاغة : ج 2 ، ص 182 ، وفي هذه الخطبة نفسها يقول : اللّهمّ
إني أوّل من أناب وَسَمِعَ وَاَجابَ لم يسبقني إلاّ رسول اللّه بالصلاة.).
وجاء في تاريخ الطبري
عن ابن اسحاق قال : كان اول ذكر آمن برسول اللّه
صلىاللهعليهوآلهوسلم
وصلّى معه وصدّق بما جاءه من عند اللّه « علي بن ابي طالب » عليهالسلام
وهو يومئذ ابن عشر سنين ، وكان ممّا انعم اللّه به على عليّ بن ابي طالب
عليهالسلام
انه كان في حجر رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم قبل
الإسلام (تاريخ الطبري : ج 2 ، ص 57.). |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
2 ـ عليُّ وخديجة يقيمان الصلاة مع النبيّ
:
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ينقل ابن الاثير في «
اُسد الغابة » ، وابن حجر في « الإصابة » عند ترجمة « عفيف الكندي » وكثير من
علماء التاريخ القصة التالية عنه ، بأنه قال : كنت إمرء تاجراً فقدمتُ « منى » أيام
الحج ، وكان العباس بن عبد المطلب امرء تاجراً فأتيته أبتاع منه وابيعه ، قال :
فبينا نحن إذ خرج رجلٌ من خباء يصلّي فقام تجاه الكعبة ثم خرجت امرأة فقامت
تصلّي ، وخرج غلام يصلّي معه ، فقلت : يا عباس ما هذا الدين ، إنّ هذا الدين ما
ندري به؟ فقال : هذا محمَّد بن عبد اللّه يزعم أنّ اللّه أرسله وأن كنوز كسرى
وقيصر ستُفتَح عليه ، وهذه امرأته « خديجة بنت خويلد » آمنت به وهذا الغلام ابن
عمه « علي بن ابي طالب » آمن به قال عفيف : فليتني كنت رابعهم (الاصابة : ج 2 ، ص 480 ، تاريخ الطبري : ج 2 ، ص 57. الكامل : ج 2 ،
ص 37 و 38. اعلام الورى : ص 25 ، اسد الغابة : ج 3 ، ص 414.).
وهذه الواقعة ينقلها ويرويها حتّى
الذين يقصرون في رواية فضائل الإمام عليّ وكتابتها ، وفي امكان القارئ الكريم ان
يقف على هذه القصة في المصادر التالية على وجه التفصيل.
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
3 ـ أنا الصِدّيق الأكبر :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
تلاحَظ هذه العبارة ونظائرُها كثيراً
، في خطب الإمام عليّ عليهالسلام
وكلماته فهو يكرّر العبارات التالية بكثرة : « أنا عَبْدُ اللّه ، وأخو رسول
اللّه ، وأنا الصِدّيقُ الأكبر ، لا يقولُها بعدي الا كاذب مفتر ، ولقدْ صَلّيتُ
مَعَ رسُول اللّه قبل الناسِ بسَبْع سِنين ، وأنا أوّل مَن صلّى معه »
(خصائص النسائي : ص 3 وسنن ابن ماجه : ج 1 ، ص 57 ، مستدرك الحاكم : ج
1 ، ص 112 ، تاريخ الطبري : ج 2 ، ص 56 وغيرها.). |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
4 ـ أوَّلكم إسلاماً : عليٌ
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ولقد وردت أحاديث متواترة عن رسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم وبتعابير متنوعة قال فيها : «
أوَّلُكُمْ وارداً عَليَّ الحوضَ ، أوَّلُكُمْ إسْلاماً عليُّ بنُ أبي طالب » (يراجع مصادر هذا الحديث في الغدير : ج 3 ، ص 220.).
وعند ما يدرس المنصف المحايد هذه
الاحاديث ، يقطع بأسبقية الإمام عليّ إلى الإسلام ، وتقدّمه على غيره في الإيمان
بالدعوة المحمَّدية ، ولا يختار القولين الآخرين اللَّذين لا يذهبُ إليهما إلاّ
الأقليّة. فإنَّ ما يناهز الستين شخصاً من
الصحابة والتابعين يؤيدون القولَ الأَولَ ( أي أن عليّاً أولُ القوم إسلاماً
وأقدمهم أيماناً ) وحتّى الطبريّ نفسه الّذي شكَّكَ في هذا القول ، واكتفى بنقله
دون اختياره وتأكيده ، روى في ج 2 ، ص 60 بأن
«
ابن سعد » سال اباه قائلا : أكان أبو بكر أولكم إسلاماً ، فقال : لا ولقد أسلم
قبله اكثر من خمسين. ومن غريب الأمر ان مؤرخاً كبيراً
كابن كثير يتنكر لهذه الحقيقة الساطعة فقد ذكر في ج 7 ، ص 334 من كتابه «
البداية والنهاية » حديثاً صحيحاً بإسناد الإمام أحمد الترمذي في إسلام أمير
المؤمنين وأنَّه أوَّل من اَسلم وصلّى ثمَّ أردفه بقوله : وهذا لا يصحّ من اي
وجه كان روي عنه ، وقد ورد في أنَّه أوَّل من أسلم من هذه الاُمَّة أحاديثٌ
كثيرةٌ لا يصحّ منها شيء ... إلخ. وقد تصدى العلامة
المحقق الاميني رحمهالله
للردّ على هذا المقال بالتفصيل ونظراً لأهميّة ما كتبه العلامة الاميني
وما احتوى عليه من نصوص تاريخية نسرده هنا مع ما فيه من تكرار بسيط لبعض ما
ذكرناه. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
يقول العلامة
الاميني :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
نُسائل هذا الرَّجل لِمَ لا يصحّ شيء
منها من أيّ وجه كان؟! والطرق صحيحةٌ ، والرِّجال نقاتٌ ، والحفّاظ حكموا
بصحَّته ، وأرباب السير أطبقوا عليه ، وكان من المتسالم عليه بين الصَّحابة
الأَوَّلين والتابعين لهم بإحسان. ونحن لو نقتصر على كلمتنا هذه يحسبها
القارئ دعوى مجرّدة لدة دعوى ابن كثير (
أعاذنا اللّه عن مثلها ) وتخفى عليه جليَّة الحال فيهمنا ذكرُ
نزر ممّا يدلُّ على المدَّعى وإن لم يسعنا ايراد كثير منه روماً للاختصار. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
النصوص النبوية :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
1 ـ قال صلىاللهعليهوآلهوسلم : أوَّلكم
وارداً ـ وروداً ـ على الحوض أوَّلكم إسلاماً عليُّ بن أبي طالب. أخرجه الحاكم في المستدرك
3 ص 136 وصحَّحه م ـ والخطيب البغدادي في تاريخه ج 2 ص 81 ويوجد في الاستيعاب 2
ص 457. شرح ابن أبي الحديد 3 ، ص 258. وفي لفظ : أوَّل
هذه الاُمّة وروداً على الحوض أوَّلها إسلاماً عليُّ بن أبي طالب ، رضي اللّه
عنه. السيرة الحلبيَّة 1 ص 285. سيرة زيني دحلان 1 ص 188 هامش الحلبيَّة. وفي لفظ :
أوَّل الناس وروداً على الحوض أوّلهم إسلاماً عليُّ بن أبي طالب مناقب الفقيه
إبن المغازلي. مناقب الخوارزمي. 2 ـ قال صلىاللهعليهوآلهوسلم لفاطمة : زوّجتك خير اُمَّتي أعلمهم
علماً ، وأفضلهم حلماً وأوَّلهم سلماً. راجع ما مرَّ ص 95. 3 ـ قال صلىاللهعليهوآلهوسلم لفاطمة : إنَّه لأوَّل أصحابي :
إسلاماً. أو : أقدم اُمَّتي سلماً. حديث صحيحٌ راجع ص 95. 4 ـ أخذ
صلىاللهعليهوآلهوسلم
بيد عليّ ، فقال : إنَّ هذا أوَّل من آمن بي ، وهذا أوَّل من يُصافحني يوم
القيامة ، وهذا الصدِّيق الأكبر. راجع
الجزء الثاني 5 ـ عن أبي ايوب قال قال رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
: لقد صلّت الملائكة عليّ وعلى علي سبع سنين لأنا كنّا نصلّي وليس معنا أحدٌ
يُصلّي غيرنا. مناقب الفقيه ابن المغازلي باسنادين
م ـ أسد الغابة 4 : 18 ومناقب الخوارزمي وفيه : ولِمَ ذلك يا رسول اللّه؟ قال :
لم يكن معي من الرجال غيره. كتاب الفردوس للديلمي.
شرح إبن أبي الحديد عن رسالة الاسكافي 3 ص 258. فرائد السمطين الباب 47. 6 ـ إبن عبّاس قال قال النبيُّ صلىاللهعليهوآلهوسلم : إنَّ اوَّل من صلّى معي عليُّ.
فرائد السمطين الباب 47 بأربع طرق. 7 ـ معاذ بن جبل قال قال رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
: يا عليُّ! اخصمك بالنبوَّة ولا نبوَّة بعدي ، وتخصم الناس بسبع ولا يُجاحدك
فيه أحدٌ من قريش ، أنت أوَّلهم ايماناً باللّه ، وأوفاهم بعهد اللّه ، وأقومهم
بأمر اللّه. الحديث. ( حلية الأولياء 1 ص 66 ).
8 ـ أبوسعيد الخدري قال : قال رسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
لعلّي ـ وضرب بين كتفيه ـ : يا عليُّ لك سبع خصال لا يُحاحّك فيهنَّ أحدٌ يوم
القيامة ؛ أنت أوَّل المؤمنين باللّه ايماناً ، وأوفاهم بعهداللّه ، وأقومهم
بأمر اللّه. الحديث. ( حلية الأولياء 1 ص 66 ).
9 ـ من حديث أبي بكر الهذلي وداود بن
أبي هند الشعبي عن رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
انَّه قال لعليّ عليهالسلام :
هذا أوّل من آمن بي وصدَّقني وصلّى معي. شرح إبن أبي الحديد 3 ص 256. 10 ـ إنَّ ابابكر وعمر خطبا فاطمة
فردَّهما رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم وقال : لم أُؤمر بذلك. فخطبها عليُّ
فزوَّجه إيّاها وقال لها : زوَّجتكِ أقدم الاُمَّة إسلاماً. روى هذا الحديث
جماعةٌ من الصحابة منهم : أسماء بنت عميس واُمّ أيمن وإبن عبّاس وجابر بن عبد
اللّه. شرح إبن ابي الحديد 3 ص 257. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
كلمات اميرالمؤمنين
عليهالسلام :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
1 ـ قال عليهالسلام
: أنا عبد اللّه ، وأخو رسول اللّه ، وأنا الصِّديق الأكبر ، لا يقولها بعدي
إلاّ كاذبٌ مفتري ، ولقد صلّيت مع رسول اللّه قبل الناس بسبع سنين ، وأنا أوَّل
من صلّى معه. إسناده من طريق إبن أبي شيبة والنسائي
وإبن ماجة والحاكم والطبري (في تاريخه 2 ، ص 213.)
صحيحٌ رجاله ثقات ، راجع الجزء الثاني من
كتابنا 314. 2 ـ قال عليهالسلام
: أنا أوَّل رجل أسلم مع رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم.
أخرجه أبو داود بإسناده الصحيح كما
في شرح إبن أبي الحديد 3 ، ص 258. 3 ـ قال عليهالسلام
: أنا أوّل من أسلم مع النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم.
أخرجه الخطيب البغدادي في تاريخه 4 ،
ص 233. 4 ـ قال عليهالسلام
أنا أوَّل من صلّى مع رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم.
أخرجه أحمد ، والحافظ الهيثمي في «
مجمع الزوائد » وقال : رجاله رجال الصحيح غير حبَّة العرني وقد وثق. وأخرجه أبو
عمرو في الإستيعاب 2 ، ص 458. وابن قتيبة في « المعارف » ص 74 من
طريق أبي داود عن شعبة عن سلمة بن كهيل عن حبّة عنه عليهالسلام.
والإسناد صحيحٌ رجاله ثقاتٌ. 5 ـ قال عليهالسلام
أسلمت قبل أن يسلم النّاس بسبع سنين. الرِّياض النضرة 2 ص 158. 6 ـ قال عليهالسلام
: عبدت اللّه مع رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
سَبع سنين قبل أن يعبده أحدٌ من هذه الاُمَّة. مستدرك الحاكم 3 ص 112. 7 ـ قال عليهالسلام
: عن حكيم مولى زاذان قال : سمعت عليّاً يقول : صلّيت قبل النّاس سبع سنين ،
وكنّا نسجد ولا نركع ، وأوَّل صلاة ركعنا فيها صلاة العصر ، شرح إبن أبي الحديد
3 ، ص 258. 8 ـ قال عليهالسلام
: عبدت اللّه قبل أن يعبده أحدٌ من هذه الاُمَّة خمس سنين. الإستيعاب 2 ، ص 448.
الرِّياض النضرة 2 ، ص 158. السيرة الحلبيَّة 1 ، ص 288. 9 ـ قال عليهالسلام
: آمنت قبل الناس سبع سنين. خصائص النسائي ص 3. 10 ـ قال عليهالسلام
: ما أعرف أحداً من هذه الاُمَّة عَبَدَ اللّه بعد نبينا غيري ، عبدتُ اللّه قبل
أن يعبده أحدٌ من هذه الاُمَّة تسع سنين. خصائص النسائي ص 3. 11 ـ من خطبة له عليهالسلام
يوم صفِّين : وابن عمِّ نبيِّكم معكم بين أظهركم يدعوكم إلى طاعة ربِّكم ، ويعمل
بسنَّة نبيِّكم صلىاللهعليهوآلهوسلم
فلا سواء من صلّى قبل كلِّ ذكَر لم يسبقني بصلاتي مع رسول اللّه. كتاب نصر ص
355. شرح إبن أبي الحديد 1 ، ص 503. 12 ـ قال عليهالسلام
: اللهمَّ لا أعرف عبداً من هذا الاُمَّة عبدَك قبلي غير نبيّك [ قاله ثلاث
مرّات ] ثمَّ قال : لقد صلّيت قبل أن يُصلّي الناس. وفي لفظ : قبل أن يُصلّي
أحدٌ. أخرجه أحمد ، أبويعلى ، البزّاز ، الطبراني ، الهيثمي في المجمع 9 ، ص
102. وقال : إسناده حسنٌ. شيخ الإسلام الجويني في الفرائد الباب 48. 13 ـ من كتاب له عليهالسلام
كتبه إلى معاوية : انَّ أولى النّاس بأمر هذه الاُمَّة قديماً وحديثاً أقربها من
رسول اللّه ، وأعلمها بالكتاب ، وأفقهها في الدين ، وأوَّلها إسلاماً ، وأفضلها
جهاداً. كتاب صفِّين لابن مزاحم ص 168 ط مصر. 14 ـ في حديث عنه عليهالسلام
: لا واللّه إن كنت أوَّل من صدَّق به فلا أكون أوَّل من كذب عليه. المحاسن
والمساوئ 1 ، ص 36. تاريخ القرماني هامش الكامل لابن الأثير 1 ، ص 218. 15 ـ قال عليهالسلام
: بُعث رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
يوم الإثنين وأسلمت يوم الثلاثاء. مجمع الزوائد 9 ، ص 102. تاريخ
القرماني 1 ، ص 215. الصواعق 72. تاريخ الخلفاء للسيوطي 112. إسعاف الراغبين
148. 16 ـ من كتاب كتبه عليهالسلام
إلى معاوية : انَّ محمَّداً صلىاللهعليهوآلهوسلم
لمّا دعا إلى الإيمان باللّه والتوحيد كنّا أهل البيت أوَّل من آمن به؟ وصدَّق
بما جاء به ، فلبثنا أحوالا مجرَّمة ( أي كاملة ) وما يعبد اللّه في ربع ساكن من
العرب غيرنا. كتاب صفِّين لابن مزاحم ص 100. 17 ـ قال عليهالسلام
: يوم صفِّين مخاطباً أصحاب معاوية : ويحكم أنا أوَّل من دعا إلى كتاب اللّه ،
وأوَّل مَن أجاب إليه. كتاب نصر 561. 18 ـ قالت معاذة بنت عبد اللّه
العدويَّة : سمعت عليَّ بن أبي طالب على منبر رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
يقول : أنا الصدّيق الأكبر آمنت قبل أن يُؤمن أبو بكر ، وأسلمت قبل أن يسلم
أبوبكر. راجع الجزء الثاني ص 314. 19 ـ قال عليهالسلام
: في خطبة خطبها في معسكر صفِّين : أتعلمون أنّ اللّه فضَّل في كتابه السابق على
المسبوق ، وأنه لم يسبقني اللّه ورسوله أحدٌ من الاُمَّة؟! قالوا : نعم. راجع
الجزء الأوَّل ص 195. 20 ـ قال عليهالسلام
: صلّيت مع رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ثلاث سنين قبل أن يُصلّي معه أحدٌ من النّاس. أخرجه أحمد باسنادين. 21 ـ قال عليهالسلام
: يوم الشورى في حديث أسلفناه : أمنكم أحدٌ وحَّداللّه قبلي؟ قالوا : لا. أمنكم
أحدٌ صلّى القبلتين غيري؟ قالوا : لا. راجع ج 1 ص 195 ـ 163 ، وهذه الفقرة من
الحديث عدَّها إبن أبي الحديد ممّا استفاضت به الرِّوايات. 22 ـ مرَّ في الجزء
الثاني ص 25 في أبيات له عليهالسلام
كتبها إلى معاوية :
23 ـ ذكر إبن طلحة الشافعي في مطالب السئول
ص 11 له عليهالسلام :
قال : قال جابر : سمعت عليّاً يُنشد
بهذا ورسول اللّه يسمع : فتبسَّم رسول اللّه وقال : صدقت يا علي؟ |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
كلمة الإمام السبط
الحسن عليهالسلام
:
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
24 ـ من خطبة للامام الحسن عليهالسلام
في مجلس معاوية قوله : أنشدكم اللّه أيّها الرَّهط؟ أتعلمون أنَّ الّذي شتمتموه
منذ اليوم صلّى القبلتين كلتيهما؟ وأنت يا معاوية بهما كافرٌ ، تراها
ضلالة ، وتعبد اللات والعزّى غواية ؛ وأنشدكم اللّه هل تعلمون أنَّه بايع
البيعتين كلتيهما : بيعة الفتح وبيعة الرضوان؟ وأنت يا معاوية بإحداهما كافرٌ ،
وباُخرى ناكثٌ. وأنشدكم اللّه هل تعلمون أنَّه أوَّل الناس ايماناً؟! وإنَّك يا
معاوية وأباك من المؤلفَّة قلوبهم. شرح إبن أبي الحديد 2 ص 101. 25 ـ وفي خطبة له عليهالسلام
مرَّت في ج 1 ، ص 198 : فلمّا بعث اللّه محمَّد للنبوَّة ، واختاره للرِّسالة ،
وأنزل عليه كتابه ثمَّ أمره بالدعاء إلى اللّه ، فكان أبي أوَّل من استجاب للّه
ولرسوله ، وأوَّل من آمن وصدَّق اللّه ورسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم
وقد قال اللّه في كتابه المنزل على نبيِّه المرسل : « أفمن كان على بيِّنة من
ربِّه ويتلوه شاهدٌ منه » فجدّي الَّذي على بيِّنة من ربِّه ، وأبي الّذي يتلوه
وهو شاهدٌ منه. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
رأي الصحابة
والتابعين في أوّل من أسلم
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
1 ـ أنس بن مالك قال : نُبَّئ ( بُعث
) النبيُّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
الإثنين وأسلم عليّ يوم الثَّلاثاء. وفي لفظ له : بُعث رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
يوم الإثنين وصلّى عليّ يوم الثَّلاثاء. أخرجه الترمذي في جامعه 2
، ص 214. الطبراني. الحاكم في المستدرك 3 ص 112. إبن عبدالبرّ في الإستيعاب 3 ص
32. إبن الأثير في جامع الاُصول كما في تلخيصه تيسير الوصول 3 ص 271. الجويني في
فرائد السمطين الباب 47. وأوعز إليه العراقي في
التقريب 1 ، ص 85. ويوجد في شرح إبن أبي الحديد 3 ص 258. تذكرة السبط 63. السراج
المنير شرح الجامع الصغير 2 ص 424. شرح المواهب 1 ص 241. 2 ـ بُريدة الأسلمي قال : اُوحي إلى
رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
يوم الإثنين وصلّى عليّ يوم الثَّلاثاء. أخرجه
الحاكم في المستدرك 3 ص 112 وصحَّحه هو وأقرَّه الذهبي. 3 ـ زيد بن أرقم قال : أوَّل من أسلم
مع رسول اللّه عليّ بن أبي طالب. تاريخ الطبري بإسنادين
صحيحين رجالهما ثقات. مسند أحمد 4 ، ص 368. مستدرك الحاكم 4 ، ص 336 وصحَّحه
هو وأقرَّه الذهبي. الكامل لابن الأثير 2 ، ص 22. 4 ـ زيد بن ارقم قال : أوَّل من صلّى
مع رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
عليُّ. أخرجه أحمد والطبراني كما
في مجمع الهيثمي 9 ص 103 وقال : رجال أحمد رجال الصحيحين. أبو عمرو في الإستيعاب
2 ، ص 459. 5 ـ زيد بن أرقم قال : أوَّل من آمن
باللّه بعد رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
عليُّ بن أبي طالب. الإستيعاب 2 ، ص 459. 6 ـ عبد اللّه بن عبّاس قال : أوَّل
من صلّى عليّ. جامع الترمذي 2 ، ص 215.
تاريخ الطبري 2 ، ص 241 بإسناد صحيح. الكامل لإبن الأثير 2 ص 22. شرح إبن أبي
الحديد 3 ص 256. 7 ـ عبد اللّه بن عبّاس قال : لعليٍّ
أربع خصال ليست لأحد : هو أوَّل عربيّ وأعجميٍّ صلّى مع رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم.
مستدرك الحاكم 3 ، ص 111 ، الإستيعاب 2 ص 457. 8 ـ عبد اللّه بن عبّاس قال مجاهد :
إنَّه قال : أوَّل من ركع مع النبيِّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
عليُّ بن أبي طالب فنزلت فيه هذه الآية : وأقيموا الصَّلاة وآتوا الزَّكاة
واركعوا مع الراكعين. تذكرة السبط 8. 9 ـ عبد اللّه بن عبّاس قال في خطبة
له : إنَّ ابن آكلة الأكباد قد وجد من طعام أهل الشام أعواناً على عليٍّ بن أبي
طالب إبن عمّ رسول اللّه وصهره وأوَّل ذكر صلّى معه. كتاب صفِّين لابن مزاحم
360. شرح إبن أبي الحديد 1 ص 504. جمهرة الخطب 1 ص 175. 10 ـ عبد اللّه بن عبّاس قال : فرض
اللّه تعالى الإستغفار لعلي في القرآن على كلّ مسلم بقوله تعالى : « ربَّنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا
بالإيمان ». فكلُّ من أسلم بعد عليٍّ فهو
يستغفر لعليٍّ. شرح إبن أبي الحديد 3 ، ص
256. 11 ـ عبد اللّه بن عبّاس قال : أوّل
من أسلم عليُّ بن أبي طالب. الإستيعاب 2 ص 458. مجمع
الزوائد 9 ص 102. 12 ـ عبد اللّه بن عبّاس قال : كان
عليّ أوَّل من آمن من الناس بعد خديجة رضي اللّه عنهما. الإستيعاب 2 ص 457 وقال :
قال أبو عمرو رضي اللّه عنه : هذا إسنادٌ لامطعن فيه لأحد لصحَّته وثقة نقلته.
وصحَّحه الزرقاني في شرح المواهب 1 ص 242. 13 ـ كان إبن عبّاس بمكَّة يُحدِّث
على شفير زمزم ونحن عنده فلما قضى حديثه قام إليه رجلٌ فقال : يابن عبّاس؟ إنّي
امرؤ من أهل الشام من أهل حمص إنَّهم يتبرَّؤن من عليّ بن أبي طالب رضوان اللّه
عليه ويلعنونه. فقال : بل لعنهم اللّه في الدنيا والآخرة وأعدَّ لهم عذاباً
مهينا. ألِبُعد قرابته من رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم؟ وإنّه لم
يكن أوّل ذكران العالمين ايماناً باللّه ورسوله؟ وأوَّل من صلّى وركع وعمل
بأعمال البرّ؟ قال الشامي : انَّهم واللّه ما يُنكرون قرابته وسابقته غير انَّهم
يزعمون أنّه قتل الناس. الحديث. المحاسن والمساوئ للبيهقي 1 ، ص 30. 14 ـ عفيف قال : جئت في الجاهليَّة
إلى مكّة وأنا أريد أن ابتاع لأهلي من ثيابها وعطرها فأتيت العبّاس بن عبد
المطلب وكان رجلا تاجراً فأنا عنده جالسٌ خصايص النسائي 3. تاريخ
الطبري 2 ص 21. الرِّياض النضرة 2 ص 158. الإستيعاب 2 ص 459. عيون الأثر 1 ص 93.
الكامل لإبن الاثير 2 ص 22. السيرة الحلبيَّة 1 ص 288. 15 ـ سلمان الفارسي قال : أوَّل هذه
الاُمَّة وروداً على نبيِّها الحوض أوَّلها إسلاماً عليُّ بن أبي طالب رضي اللّه
عنه. الإستيعاب 2 ص 457. مجمع
الزوائد 9 ص 102 وقال : رجاله ثقاتٌ. وعدَّ الإسكافي في رسالته على العثمانيَّة.
وأبو عمرو في الإستيعاب. والعراقيُّ في شرح التقريب 1 ص 85. والقسطلاني في
المواهب 1 ص 45 ممَّن روى أنَّ عليّاً أوَّل من أسلم. 16 ـ أبو رافع قال : صلّى النبيُّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
أوَّل يوم الاثنين وصلّت خديجة آخره وصلّى عليّ يوم الثَّلاثاء من الغد. أخرجه الطبراني كما في شرح
المواهب 1 ص 240. عيون الأثر 1 ص 92. وتجده وسابقه في الرِّياض
النضرة 2 ص 158. شرح إبن أبي الحديد 3 ص 258. 17 ـ أبو رافع قال : مكث عليّ يصلّي
مستخفياً سبع سنين وأشهراً قبل أن يصلّي أحدٌ.
أخرجه الطبراني. الهيثمي في المجمع 9 ص 103. الجويني في 18 ـ أبوذر الغفاري ، عدَّ ممَّن روى
انَّ عليَّ بن أبي طالب أوَّل من أسلم. الإستيعاب 2 ص 456.
التقريب وشرحه 1 ص 85. المواهب اللدنيَّة 1 ص 45. 19 ـ خباب بن الأرت قال : رأيت
عليّاً يُصلّي قبل الناس مع النبيّ وهو يومئذ بالغٌ مستحكم البلوغ. رسالة
الإسكافي. وعُدَّ ممَّن روى انَّ عليّاً أوَّل مَن أسلم في الاستيعاب 2 ص 456. والمواهب اللدنيَّة 1 ص 45. 20 ـ المقداد بن عمرو الكندي ، ممَّن
روى انَّ عليّاً أوّل من أسلم كما في الإستيعاب 2
ص 456. والتقريب وشرحه 1 ص 85. والمواهب اللدنيَّة 1 ص 45. 21 ـ جابر بن عبد اللّه الأنصاري ،
قال : بُعث النبيُّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
يوم الإثنين وصلّى عليّ يوم الثَّلاثاء. الطبري
2 ص 211. الكامل لابن الأثير 2 ص 22. شرح إبن ابي الحديد 3 ص 258 ، وعدّه أبو
عمرو والعراقيُّ والقسطلاني ممَّن روى أنَّ عليّاً أوَّل من أسلم. 22 ـ أبو سعيدالخدري روى إنَّ عليَّ
بن أبي طالب أوَّل من أسلم. الإستيعاب 2 ص 456. شرح
التقريب 1 ص 85. المواهب اللدنيَّة 1 ص 45. 23 ـ حذيفة بن اليمان قال : كنّا
نعبد الحجارة ونشرب الخمر وعليُّ من أبناء أربع عشر سنة قائمٌ يصلّي مع النبيِّ
ليلا ونهاراً ، وقريش يومئذ تسافه رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ما يذبُّ عنه إلاّ عليّ. شرح إبن أبي الحديد 3 ص
260. 24 ـ عمر بن الخطاب قال عبد اللّه بن
عبّاس : سمعت عمرو عنده جماعةٌ فتذاكروا السابقين إلى الإسلام فقال عمر : أمّا
علي فسمعت رسول اللّه : يقول فيه ثلاث خصال ، لوددت أن تكون لي واحدة منهنَّ ،
كانت أحبّ إليّ ممّا طلعت عليه الشمس ، كنت أنا وأبو عبيدة وأبوبكر وجماعة من
أصحابه إذ ضرب النبيُّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
على منكب عليٍّ رضي اللّه عنه فقال له : يا عليُّ؟ أنت أوَّل رسالة الإسكافي. مناقب
الخوارزمي. شرح إبن أبى الحديد 3 ص 258. 25 ـ عبد اللّه بن مسعود قال : أوَّل
حديث علمته من أمر رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
أنّي قدمت مكّة مع عمومة لي ( وذكر مثل حديث عفيف المذكور ص 226 ) رسالة الإسكافي. 26 ـ أبو أيّوب الأنصاري ، أخرج
الطبراني عنه انَّه قال : أوَّل الناس إسلاماً عليُّ بن أبي طالب. شرح التقريب 1 ص 85. شرح الزرقاني 1 ص 242. 27 ـ أبو مرازم يعلى بن مرَّة ،
عدَّه الزرقاني في شرح المواهب 1 ص 242 ممَّن قال : إنَّ عليّاً اوَّل الناس
إسلاماً. 28 ـ هاشم بن عُتبة المرقال قال :
أنت يا أمير المؤمنين! أقرب الناس من رسول اللّه رحماً ، وأفضل الناس سابقة
وقدماً. كتاب نصر 125. جمهرة الخطب 1 ص 151.
29 ـ في كلام لهاشم بن عُتبة يوم
صفِّين : انَّ صاحبنا هو أوَّل من صلّى مع رسول اللّه ، وأفقهه في دين اللّه ،
وأولاه برسول اللّه. كتاب نصر 403. تاريخ
الطبري 6 ص 24. الكامل لابن الأثير 3 ص 135. وقال هاشم يوم صفِّين :
ـ كتاب صفين لابن مزاحم :
371 ط مصر. 30 ـ مالك بن الحارث الأشتر قال في خطبة له :
معنا إبن عم نبيِّنا وسيفٌ من سيوف اللّه عليُّ بن ابي طالب ، صلّى مع رسول
اللّه لم يسبقه إلى الصلاة ذكَر ، حتّى كان شيخاً لم يكن له صبوةٌ ولا نبوةٌ ولا
هفوةٌ ، فقيهٌ في دين اللّه ، عالمٌ بحدود اللّه. كتاب نصر 268. شرح إبن أبي
الحديد 1 ص 484. جمهرة الخطب 1 ص 183. 31 ـ عدّي بن حاتم قال في خطبة له
مخاطباً معاوية : ندعوك إلى أفضل الاُمَّة سابقة ، وأحسنها في الإسلام آثاراً. كتاب نصر 221. تاريخ
الطبري 6 ص 2. شرح إبن أبي الحديد 1 ص 344. وفي لفظ إبن الأثير في الكامل 3 ص
124 : انَّ ابن عمَّك سيد المسلمين أفضلها سابقةً. 32 ـ عديّ بن حاتم قال في خطبة اُخرى
له : إن كان له « لعليٍّ » عليكم فضلٌ فليس لكم مثله فسلّموا وإلاّ فنازعوا عليه
، واللّه لئن كان إلى العلم بالكتاب والسنَّة؟ انّه لأعلم الناس بهما. ولئن كان
إلى الإسلام؟ إنَّه لأخو نبي اللّه والرأس في الإسلام. الإمامة والسياسة 1 ص 103. 33 ـ محمَّد بن الحنفيَّة قال سالم
بن ابي الجعد قلت له : أبو بكر كان أوَّلهم إسلاماً؟! قال : لا. الاستيعاب 2 ص
458. إذا ثبت أنَّ أبابكر لم يكن أوَّل الناس إسلاماً فعليّ عليهالسلام
هو المتعيَّن سبق إسلامه. 34 ـ طارق بن شهاب الأحمسي في كلام
له : ثمَّ قلت : ادع عليّاً وهو أوَّل المؤمنين ايماناً باللّه وابن عمّ رسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ووصيّه ، هذا أعظم ، الحديث. شرح إبن أبي
الحديد 1 ص 76. 35 ـ عبد اللّه بن هاشم المرقال قال
في خطبة له : يا أيّها الناس! انَّ هاشماً جاهد في طاعة إبن عمّ رسول اللّه ،
وأوَّل من آمن به ؛ وأفقههم في دين اللّه. كتاب
نصر 405. 36 ـ عبد اللّه بن حجل قال : يا أمير
المؤمنين! أنت أوَّلنا ايماناً ، وآخرنا بنبيِّ اللّه عهداً. الإمامة والسياسة 1 ص 103 ، كتاب نصر.
37 ـ أبو عمرة بشير بن محصن قال في
جمع من أصحاب علي ومعاوية : إنَّ صاحبي أحق البريّة كلّها بهذا الأمر في الفضل
والدين والسابقة في الإسلام والقرابة من رسول الّه. كتاب نصر 210. 38 ـ عبد اللّه بن خباب بن الأرت قال
إبن قتيبة : إنّ الخارجة الّتي خرجت 39 ـ عبد اللّه بن بُريدة قال :
أوَّل الرجال إسلاماً عليُّ بن أبي طالب ثمّ الرهط الثلاث : أبوذر وبُريدة وابن
عمّ لأبي ذرّ. أخرجه محمَّد بن إسحق
المدني في الجزء الأَوَّل من المغازي. 40 ـ محمَّد بن أبي بكر كتب إلى
معاوية كتاباً منه : فكان أوّل من أجاب وأناب ، وصدّق ووافق ، وأسلم وسلم أخوه
وابن عمِّه عليُّ بن أبي طالب ـ إلى أن قال ـ : أوَّل الناس إسلاماً ، واصدق
الناس نيَّة ـ إلى قوله ـ يا لك الويل! تعدل نفسك بعليٍّ وهو وارث رسول اللّه
ووصيّه وابو ولده ، وأوّل الناس له اتِّباعا ، وآخرهم ، به عهداً ، يُخبره
بسرِّه ، ويشركه في أمره. نصر في كتاب صفِّين
133. 41 ـ عمرو بن الحمق قال لعلي :
أحببتك لخصال خمس : انَّك إبن عمِّ رسول اللّه ، وأوَّل من آمن به. وفي لفظ :
وأسبق النّاس إلى الإسلام ، أبوالذريَّة الّتي بقيت فينا من رسول اللّه ، وأعظم
رجل من المهاجرين سهماً في الجهاد. كتاب صفِّين 115. جمهرة
الخطب 1 ص 149. 42 ـ سعيد بن قيس الهمداني يرتجز في
صفِّين بقوله (شرح النهج لابن ابي الحديد : ج 13 ص 232 وفيه « أول من أجابه فيما
روى ».)
:
هذا الإمام لا يُبالي من غوى 43 ـ عبد اللّه بن أبي سفيان قال
مجيباً الوليد (رسالة الاسكافي ، وذكرهما الحافظ الكنجي في الكفاية ص 48 للفضل بن
العبّاس.)
44 ـ خزيمة بن ثابت الأنصاري عدَّه العراقي
في شرح التقريب 1 ص 85 ، والزرقاني في شرح المواهب 1 ص 242 ممّن قال بأنَّ
عليّاً أوَّل الناس إسلاماً. وقالا : أنشد المرزبان له في عليٍّ :
وذكر له الإسكافي في رسالته كما في
شرح إبن أبي الحديد 3 ص 259 :
وذكرهما له الحاكم في المستدرك 3 ص 114 ، وذكر
قبلهما :
(1)ولهذه الابيات بقية توجد في الفصول المختارة 2 ص 67. 45 ـ كعب بن زهير ، ذكر الزرقاني في شرح المواهب
1 ص 242. من قصيدة يمدح بها أمير المؤمنين عليهالسلام :
(2)في النسخة تصحيف ذكرناها صحيحة. 46 ـ ربيعة بن الحارث
بن عبد المطلب ، ذكر جمعٌ من الأعلام له أبيات وذكرها آخرون لغيره وهي :
وذكر الإسكافي في رسالته البيتين الأوَّلين
منها ونسبهما إلى أبي سفيان بن حرب بن اُميَّة بن عبد شمس حين بويع أبوبكر. شرح
إبن أبي الحديد 3 ص 259. 47 ـ الفضل بن أبي لهب
قال ردّاً على قصيدة الوليد بن عقبة :
48 ـ مالك بن عبادة
الغافي حليف حمزة بن عبد المطلب قال :
49 ـ أبو الأسود الدؤلي يهدِّد طلحة والزبير بقوله :
(1)رسالة الاسكافي كما شرح ابن ابي الحديد : 2 ص 259. 50 ـ جندب بن زهير كان
يرتجز يوم صفين بقوله :
(2)كتاب نصر بن مزاحم : 453. 51 ـ زفر بن يزيد (في بعض
المصادر : زفير بن زيد.)
بن حُذيفة الأسدي قال :
(1)رسالة الاسكافي كما في شرح ابن ابي الحديد : 3 ص 259. 52 ـ النجاشي بن
الحارث بن كعب قال :
(2)ـ كتاب صفين لنصر بن مزاحم : 66. 53 ـ جرير بن عبد اللّه البجلي قال :
54 ـ عبد اللّه بن
حكيم التميمي قال :
55 ـ عبدالرحمن بن حنبل [ جعل ] الجمحي حليف بني الجمح قال :
(3)كفاية الطالب الحافظ الكنجي : 48. 56 ـ أبو عمرو عامر الشعبي الكوفي قال : أوَّل من
أسلم من الرِّجال عليُّ بن أبي طالب وهو إبن تسع سنين. رسالة الإسكافي كما في شرح ابن أبي الحديد 3 ص 260. 57 ـ أبو سعيد الحسن البصري قال :
عليُّ أوَّل من أسلم بعد خديجة. أخرجه
أحمد عن عبد الرَّزاق عن معمر عن قتادة عنه. ورواه الإسكافي في رسالته عن عبد
الرَّزاق كما في شرح إبن أبي الحديد 3 ص 260. وقال الحجّاج للحسن وعنده جماعةٌ من
التابعين وذكر عليّ بن أبي طالب : ما تقول أنت يا حسن؟ فقال : ما أقول؟ هو :
أوَّل من صلّى إلى القبلة ، وأجاب دعوة رسول اللّه. وانَّ لعليٍّ منزلة من ربِّه
وقرابة من رسوله ، وقد سبقت له سوابق لا يستطيع ردَّها أحدقٌ. فغضب الحجّاج
غضباً شديداً وقام عن سريره فدخل بعض البيوت. وقال رجل للحسن : ما
لنا لا نراك تثني على عليٍّ وتقرّظه؟ قال كيف؟! وسيف الحجّاج يقطر دماً ، انَّه
أوَّل من أسلم ، وحسبكم بذلك. رسالة الإسكافي كما في شرح إبن ابي الحديد 3 ص 258. 58 ـ الإمام محمَّد بن عليَّ الباقر
قال : أوَّل من آمن باللّه عليُّ بن أبي طالب وهو إبن إحدى عشرة سنة. شرح إبن ابي الحديد 3 ص 260. 59 ـ قتادة بن دعامة الأكمة البصري
قال : عليُّ أوَّل من أسلم بعد خديجة.
أخرجه أحمد كما سمعت ، والقسطلاني عدّة ممّن قال به في المواهب 1 ص 45 ، وأقرّه
الزرقاني في شرحه 1 ص 242. 60 ـ محمَّد بن مسلم المعروف بابن
شهاب (نسبة إلى جد جده.) عدَّه القسطلاني في المواهب 1 ص 45 ، وأقرّه الزرقاني في شرحه 1 ص
242 من القائلين بأنَّ عليّاً أوَّل مَن أسلم. 61 ـ أبوعبد اللّه محمَّد بن المكندر
المدني قال : عليُ اوَّل من أسلم.
تاريخ الطبري 2 ص 213. الكامل لابن الأثير 2 ص 22. 62 ـ أبو حازم سلمة بن دينار المدني
قال : عليُّ أوّل من أسلم. تاريخ الطبري 1 ص
213. الكامل لابن الأثير 2 ص 22. 63 ـ أبو عثمان ربيعة بن ابي عبد الرَّحمن
المدني قال : عليُّ أوَّل من أسلم. تاريخ
الطبري 2 ص 213. الكامل لابن الأثير 2 ص 22. 64 ـ أبو النضر محمَّد بن السائب
الكلبي قال : عليّ أوَّل من أسلم ، أسلم وهو إبن تسع سنين. تاريخ الطبري 2 ص 213. الكامل لابن الأثير 2 ص 22. 65 ـ محمَّد بن اسحاق
قال :
كان أوّل ذكرآمن برسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم وصلّى معه
وصدَقه بما جاءه من عند اللّه عليُّ بن ابي طالب وهو يومئذ إبن عشر سنين (في الكامل لابن الاثير : 2 ص 32. احدى عشرة سنة. نقلا عن ابن اسحاق.)
وكان
ممّا أنعم اللّه به على عليَّ بن أبي طالب انَّه كان في حجر رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
قبل الإسلام. وقال : وذكر بعض أهل العلم أنَّ رسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم كان إذا حضرت الصَّلاة خرج إلى شعاب
مكَّة وخرج معه عليُّ بن ابي طالب ، مستخفياً من عمِّه أبي طالب وجميع أعمامه
وسائر قومه فيصلّيان الصَّلوات فيها ، فإذا أمسيا رجعا فمكثا كذلك ماشاء اللّه
أن يمكثا ، ثمَّ إنَّ أبا طالب عثر عليهما يوماً وهما يصلِّيان فقال لرسول اللّه
صلىاللهعليهوآلهوسلم
: يابن أخي ما هذا الدين؟ الحديث. تاريخ الطبري 2 ص 213.
سيرة إبن هشام 1 ص 264 ، 265. سيرة إبن سيِّد الناس 1 ص 93. الكامل لابن الأثير
4 ص 22. شرح إبن أبي الحديد 3 ص 260. السيرة الحلبيَّة 1 ص 287. 66 ـ جُنيد بن عبد
الرَّحمن قال : أتيت من حوران إلى دمشق لآخذ عطائي
فصلَّيت الجمعة ثمَّ خرجت من باب الدرج فإذا عليه شيخٌ يقال له : ابو شيبة
القاصّ يقصُّ على الناس ، فرغَّب فرغبنا ، وخوَّف فبكينا ، فلمّا انقضى حديثه
قال : اختموا مجلسنا بلعن أبي تراب. فلعنوا أبا تراب عليهالسلام
فالتفت إليّ من على يميني فقلت له : فمن أبو تراب؟ فقال : عليُّ بن أبي طالب إبن
عمَّ رسول اللّه ، وزوج إبنته ، وأوَّل النّاس إسلاماً ، وأبوالحسن والحسين.
فقلت : ما أصاب هذا القاص؟! فقمت إليه وكان ذا وفرة فأخذت وفرته بيدي وجعلت ألطم
وجهه وأبطح براسه الحائط ، فصاح فاجتمع أعوان المسجد فوضعوا ردائي في رقبتي
وساقوني حتّى دخلوني على هشام بن عبدالملك وابو شيبة يقدمني فصاح يا أمير
المؤمنين؟ قاصّك وقاصّ آبائك وأجدادك أتى إليه اليوم أمرٌ عظيمٌ. قال : من فعل
لك؟ فقال : هذا. فالتفت إليّ هشام وعنده أشراف النّاس فقال : يا أبا يحيى؟ متى
قدمت؟ فقلت : أمس وأنا على المصير إلى أمير المؤمنين فادركتني صلاة الجمعة
فصلَّيت وخرجت إلى باب الدرج فإذا هذا الشيخ قائمٌ يقصُّ فجلست إليه فقرأ فسمعنا
، فرغَّب مَن رغبَّ ، وخوّف مَن خوّف ؛ ودعا فأمّنا ، وقال في آخر كلامه :
اختموا مجلسنا بلعن أبي تراب ، فسالت مَن أبو تراب؟ فقيل : عليُّ بن ابي طالب ، أوَّل
الناس إسلاماً ، وإبن عم رسول اللّه ، وأبوالحسن والحسين ، وزوج بنت رسول اللّه.
فواللّه يا أمير المؤمنين؟ لو ذكر هذا قرابة لك بمثل هذا الذكر ولعنه بمثل هذا
اللعن لأحللت به الّذي أحللت ، فكيف لا أغضب لصهر رسول اللّه وزوج إبنته؟! فقال
هشام : بئس ما صنع. تاريخ ابن
عساكر 3 ص 407. هذه جملةٌ من النصوص
النبويَّة ، والكلم المأثورة عن أمير المؤمنين
والصحابة والتابعين في أنَّ عليّاً أوَّل
مَن أسلم : وهي تربو على مائة كلمة ، أضف اليها ما مرَّ ج 2
ص 276 من أنَّ أمير المؤمنين سبّاق هذه الاُمَّة. واشفع الجميع بما أسلفناه ج 2 ص 306 من أنَّه صلوات الله عليه صدِّيق هذه الاُمة ، وهو
الصِّديق الاكبر. فهل تجد عندئذ مساغاً لمكابرة إبن
كثير تجاه هذه الحقيقة الراهنة وقوله : وقد ورد في أنَّه أوَّل من أسلم. إلخ؟!؟!
فإذا لا يصحُّ مثل هذه فما الَّذي يصحّ؟ وإن كان لا يصحّ شيء منها فما قيمة تلك
الكتب المشحونة بها؟! كلا ، إنَّها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخٌ إلى يوم
يبعثون. وأنت ترى الرجل يزيف هذه الكلم
والنصوص الكثيرة الصحيحة بحكم الحفّاظ الأثبات بكلمة واحدة قارصة ، ويعتمد في
إثبات أيِّ أمر يروقه في تاريخه على المراسيل والمقاطيع والآحاد ، ونقل المجاهيل
وأفناء الناس (الغدير : ج 3 ص 219 ـ 239.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
مناظرة بين المأمون
واسحاق :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ولقد دار بين المأمون العباسي وإسحاق
وهو من العلماء المشهورين حوار طريف في هذا المجال ينقله ابن عبد ربّه في كتابه
« العقد الفريد » نذكر هنا خلاصته : قال المأمون : يا إسحاق أي الأعمال
كان أفضل يوم بَعث اللّه رسوله؟ إبن إسحاق : الإخلاص بالشهادة. المأمون : أليس السبق إلى الإسلام؟ ابن إسحاق : نعم. المأمون : إقرأ ذلك في كتاب اللّه
يقول : « والسابقون السابقون اُولئك المقرَّبون » إنَّما عُني من سبق إلى
الأسلام ، فهل علمت أحداً سبق عليّاً إلى الإسلام؟ إبن إسحاق : إنّ علياً أسلَم وهو
حديث السنّ لا يجوز عليه الحكمُ وأبوبكر أسلمَ وهو مستكمل يجوز عليه الحكم. وهنا أمسك المأمونُ
بزمام الكلام وقال : أخبرني عن إسلام عليّ حين أسلم لا
يخلو من أن يكون رسولُ اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
دعاه إلى الإسلام ، أو يكون إلهاماً من اللّه؟ قال إسحاق : بل دعاه رسول اللّه إلى
الإسلام. قال المأمون : يا إسحاق هل يخلو رسول
اللّه حين دعاه إلى الإسلام من ان يكون دعاه بأمر من اللّه أو تكلَّف ذلك من
نفسه؟ ثمّ قال : يا اسحاق لا تنسب رسولَ
اللّه إلى تكلّف فإن اللّه يقول : « وما أنا مِنَ المتكلّفين ». فإذا دعاه بأمر اللّه وليس من صفة
الجبّار ـ جلَّ ذكرُه ـ أن يُكلِّفَ رسلَه دعاء مَنْ لا يجوز عليه حكم ، أفتراه
في قياس قولك يا إسحاق؟ أن علياً أسلم صبياً لا يجوز عليه الحكمُ قد تكلَّف
رسولُ اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
من دعاء الصبيان ما لا يطيقون (العقد الفريد : ج 5 ص 352 طبعة بيروت دار الكتب العلمية وج 5 ص 94
طبعة لجنة التأليف القاهرة.).
وعلى هذا الاساس يجب اعتبار ايمان
علي عليهالسلام ايماناً
صحيحاً ثابتاً لم يقلّ عن إيمان الآخرين أهميةً وقيمة بل هو افضل مصداق لقوله
تعالى : « والسابقون السابقون اُولئك المقرّبون » ، هو الإمام علي بن أبي طالب. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قضيّةُ « إنقطاع
الوَحْي » :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد أضاءت روحُ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
ونفسُه الشريفة واستنارت بنور الوحي ، ودفَعَه ذلك إلى التأمّل والتفكير في
الوظيفة الكبرى والثقيلة الّتي جعلها اللّه على كاهله ، وخاصة عندما خاطبه الله
تعالى بقوله : « يا أيُّها
المُدّثِّرُ. قُمْ فَأْنذِرْ. وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ » (المدثر 1 ـ 3.).
وهنا طرح المؤرخون وبخاصّة الطبريّ
الَّذي لا يخلو تاريخه من الاساطير الاسرائيليّة قضيّة باسم « انقطاع الوحي »
فقالوا : إنّ رسول اللّه بعد أن رأى ذلك الملَك وسمع منه الآيات الاُولى من
القرآن الكريم بقي ينتظر نزولَ خطاب آخر من جانب اللّه تعالى ، ولكن دون جدوى ،
فهو لم يرَ ذلك المَلك الجميل بعد ذلك ، ولا أنه سمع النداء الغيبيّ مرة اُخرى
على غرار ما رأى وسمع في بدء نزول الوحي. ولو كان لأنقطاع الوحي في بداية عهد
الرسالة ( الّذي ادّعاه هؤلاء ) حقيقة فما هو سوى النزول التدريجي للقرآن ليس
إلاّ. وقد تعلَّقت المشيئة الالهية اساساً
بأن ينزلَ الوحيُ على رسول اللّه تدريجاً ، لا دفعةً واحدةً وذلك لمصالح معينة ،
وحيث أن الأَمر في بدء الوحي كان على أوّله وفي بدايته ، لذلك لم ينزل الوحي
الالهي بعد المرة الاُولى فوراً ، ولكن حُمِلَ هذا على « انقطاع الوحي » ولم يكن
لا انقطاع الوحي ولا أية مسألة اُخرى من هذا القبيل. وحيث أن هذه المسألة قد تذرَّع بها
الكُتّابُ المغرضون لذلك ينبغي أن نعطيها بعض الاهتمام ليتضح أن ما اُدّعي من
انقطاع الوحي ، قضيةٌ فارغةٌ عن الحقيقة ولذلك لا صحّة لتطبيقِ الآيات القرآنية
عليها. ولتوضيح هذا الأمر
ننقل هنا نصّ ما كتبه الطبريّ ونقله في تاريخه ، ثم نعمد بعد ذلك إلى نقده. يكتب الطبري في هذا
الصدد قائلا لمّا أبطأ جبرئيل على رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وجزع جزعاً شديداً قالت له خديجة : ما أرى ربَك إلا قد قلاك ، فانزل اللّه عزّ
وجلّ قوله : « والضُّحى. واللّيْلِ إذا سَجى. مَا
وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى. وللآخرة خيرٌ لكَ مِنَ الاُوْلى. ولَسوْفَ
يُعطِيْكَ ربُّكَ فَترضى. ألم يَجدْكَ يتيماً فآوى. وَوَجدَكَ ضالاّ فَهدى.
وَوَجدَكَ عائلا فَأغْنى. فأمَّا اليَتيمَ فَلا تَقْهَرْ. وَأَمَّا السائلَ فَلا
تَنهَرْ. وَأمّا بِنعْمَةِ رَبِّكَ فَحدّثْ » (الضحى : 1 ـ 11.).
ولقد أوجدَ نزولُ هذه الآيات سروراً
عظيماً لدى خديجة عليهاالسلام ،
وعلمت بأن ما قالته حول رسول اللّه لا أساس له من الصحة (تاريخ الطبري : ج 2 ص 48.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
اُسطورة وليس
تاريخاً!
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إنَّ ذاكرةَ التاريخ تحفظ وتتذكر
جيّداً تاريخ حياة السيدة خديجة. إن خديجة الّتي كانت أخلاق محمَّد
الفاضلة وخصاله المجيدة ، وافعاله الحميدة ماثلة امام عينيها والّتي كانت تؤمن
بعدل ربّها كيف يجوز ان تسيء الظن باللّه تعالى وبنبيه الكريم ، العظيم الشأن؟ إنَّ مقامَ النبوَّة ومنصبَ الرسالة
، والسفارة الالهية لا يُعطى إلاّ لمن يملك طائفةً من الصفات النبيلة والخصال
الرفيعة ، وما لم يتصف شخصُ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
هذه الصفات العليا ، وما لم تتوفر فيه مثل هذه الشرائط الخاصّة والمواصفات
المعينة لم يُمنح له ذلك المنصب قط. وتقع العصمة والسكينة القلبية ، والاعتماد
والتوكل في طليعة هذه الخصال والمواصفات ، ومع هذه الأوصاف والخصال يستحيل أن
يدور في خلده مثل تلك التصورات الخاطئة. ولقد قال العلماء : إنّ
المسيرة التكاملية عند الانبياء تبدأ من فترة الطفولة والصبا ، فان الغشاوات
والحجب تبدأ تتساقط وتنقشع الواحدة تلو الاُخرى منذ ذلك الوقت ، ويستمر ذلك حتّى
تصل الاحاطة العلمية لديهم حدَّ الكمال فلا يشكّون في شيء يرونه أو يسمعونه
أبداً ، ومن حاز هذه المراتب لا يمكن أن يتطرق الشك والحيرة والتردّد إلى قلبه
وعقله مطلقاً. إنَّ آيات سورة « الضحى » وخاصة
عبارة « ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى » تفيد فقط بأن هناك من قال مثل هذه
العبارة للنبي الاكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم
وأمّا مَن هو قائلها؟ وكم تركت هذه العبارة مِن تأثير في نفسية النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
وروحيته فهي ساكتة عن كل ذلك؟ وذهب بعضُ المفسّرين إلى
أن قائلها هم بعضُ المشركين ، ولهذا الاحتمال لا تكون جميع الآيات مرتبطة ببدء
الوحي ، لأنه لا أحد غير « علي » و « خديجة » كان يعرف في بدء البعثة بنزول
الوحي ، ليتسنّى له أن يعترض على رسول اللّه ، ويعيّره بانقطاعه عنه بعد ذلك ،
فإن أمر المبعث والرسالة ـ كما سنقول ذلك فيما بعد ـ بقي خافياً على أكثر المشركين
لمدة ثلاثة اعوام تماماً ، فهو لم يكن مكلَّفاً بابلاغ رسالته إلى عامة الناس ،
إلى أن نزَل قولُه تعالى : « فاصدَعْ بما تؤمر » الّذي أمره اللّه فيه بالجهر
بأمر رسالته لعامة الناس بلا استثناء. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إختلافُ المؤرخين
في مسألة « انقطاع الوحي » :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لم يرد في القرآن الكريم أيُ ذكر
مطلقاً لمسألة ( انقطاع الوحي ) بل لم ترد به إشارة أيضاً ، إنما نلاحظها في كتب
السيرة والتفسير فقط ، ويختلف كُتّاب السيرة والمؤرّخون في علة ( انقطاع الوحي )
هذا ، ومدته اختلافاً كبيراً يجعلنا لا نعتمد على أي واحد منها ، وها نحن نشير اليها بشكل مّا : 1 ـ ان اليهود سألوا رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
عن اصحاب الكهف ، وعن الروح ، وعن قصة ذي القرنين فقال عليه الصلاة والسّلام :
ساُخبركم غداً ، ولم يستثن ، فاحتبس عنه الوحي (روح المعاني : ج 30 ، ص 157 ، السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 310 و 311.).
بناء على هذا لا يمكن ان نربط هذه
المسألة ببدء الوحي ومطلع عهد الرسالة لان اتصال علماء اليهود واحبارهم مع النبي
صلىاللهعليهوآلهوسلم عن طريق قريش وسؤالهم اياه حول هذه
الاُمور الثلاثة ، وقع في حدود السنة السابعة من البعثة يوم توجه وفد من قريش
إلى المدينة ليسألوا علماء اليهود عن صحة ما جاء به رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فاقترح اليهود عليهم ان يسألوا
النبي عن تلك الاُمور الثلاثة (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 300 و 301.).
2 ـ قالت خولة وهي امرأة كانت تخدم
رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
أن جرواً دخل البيت فدخل تحت السرير فمات ، فمكث نبي اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
أياماً لا ينزلُ عليه الوحيُ ، فلمّا خرج رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
من البيت كنست خولة تحت السرير فاذا جروٌ ميّت فأخذته والقته خلفَ الجدار فأنزلَ
اللّهُ تعالى هذه السورة ولما نزل جبرئيل سأله النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
عن التأخر فقال : « أما علمت أنّا لا ندخلُ بيتاً فيه كلبٌ ولا صورةٌ » (تفسير القرطبي : ج 10 ، ص 83 و 71 ، السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 349.).
3 ـ إن المسلمين قالوا : يا رسول
اللّه ، مالكَ لا ينزلُ عليكَ الوحيُ؟ فقال : « وكيف ينزِلُ عليّ وأنتمْ لا
تقصُّون أظفاركُمْ ولا تأخذونَ من شواربكم »؟ (نفس المصدر.)
فنزلَ جبرئيلُ بهذه السورة. 4 ـ اهدى عثمان إلى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
عنقود عنب وقيل عِذق تمر فجاء سائلٌ فأعطاه ثم اشتراه عثمان بدرهم فقدّمه إليه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ثانياً ثم عاد السائل فأعطاه وهكذا ثلاث مرات فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم
: ملاطفاً لا غضبان : أسائلٌ أنت يا فلان أم تاجر؟ فتأخر الوحيُ أياماً فاستوحش
فنزلت السورةُ (تفسير روح المعاني : ج 30 ، ص 157.).
5 ـ إن جرواً لأحد نساء النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أو أحد أقربائه حال دون نزول الوحي
عليه (غرائب القرآن في هامش تفسير الطبري : ج 30 ، ص 108.).
6 ـ إنّ رسولَ اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
سأل جبرئيلَ عن تأخّر الوحي قال جبرئيل ، لا املِكُ من نفسي شيئاً إنّما أنا
عبدٌ مأمورٌ (تفسير ابو الفتوح الرازي : ج 12 ، ص 108.).
ثم ان هناك أقوالا اُخرى يمكنُ
الحصول عليها من مراجعة التفاسير (مجمع البيان : ج 10 ، تفسير سورة الضحى.).
ولكنَ الطبريّ نقَلَ وجهاً آخر
تمسَكَ به المغرضون والمرضى من الكُتّاب واعتبروه دليلا على طروء الشك على قلب
رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم وهو
أنّ الوحي انقطع عن رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم بعد
حادثة ( حراء ) فقالت خديجة للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : ما أرى
ربَّك إلاّ قد قلاك!! فنزلَ الوحيُ يقولُ : « ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى
» (تفسير الطبري : ج 30 ، ص 148.).
وممّا يدلُّ على أَهداف هذا النوع من
الكُتّاب ، المريضة ، أو عدم تتبّعهم واستقصائهم ، أنهم تمسكوا من بين جميع
الأقوال بهذا الاحتمال ، واستندوا إليه للحكم على شخصية كرسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
الّذي لم يَر في حياته أي أثر للشك والحيرة مطلقاً. وإننا مع ملاحظة
النقاط التالية يمكننا أن نقف على بطلان هذا الاحتمال وتفاهته : 1 ـ لقد كانت السيدة خديجة من النساء
اللواتي أحببن رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
حباً صادقاً وعميقاً ، فهي الّتي وفت لزوجها حتّى النفس الأخير ، ووقفت ثروتها
الطائلة لتحقيق أهدافه ، وكانت في عام البعثة قد قضيت خمسة عشر عاماً من حياتها
الزوجية ، ولم تر خديجة طوال هذه الفترة من زوجها الا التقوى والطهر ولم تلمس
منه إلا كَرَم الصفات ونبل الاخلاق فقد كانت من المصدقين له صلىاللهعليهوآلهوسلم
من أول يوم وكانت تراعي نهاية الأدب في تكليمها معه وعشرتها اياه صلىاللهعليهوآلهوسلم
فكيف تتكلم مثل هذه المرأة المؤمنة الوفية ، مع زوجها بغليظ القول ، وتوجه له
مثل هذه الكلمة غير المهذَّبة ، بل والجارحة؟؟! 2 ـ إنّ آية : « ما
وَدعَّكَ رَبُّك وَما قلى » لا تدل على أن « خديجة » قالت
مثل هذا الكلام لرسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
، بل غاية ما تفيده هذه الآية هي أنَّ مثل هذا الكلام قد وُجّه إلى رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
، وأمّا مَن هو القائل ، ولماذا قال هذا الكلام؟ فليس ذلك معلوماً. 3 ـ إن ناقل هذه
الرواية يصف « خديجة » تارة بأنها طمأنت النبيّ ، وسكّنت من روعه إلى درجة أنها منعته عن
الإنتحار ، ولكنه يصفها تارة اُخرى بانها قالت له : بأن
اللّه عاداه وقلاهُ ، ألا ينبغي هنا أن نقول : « كن ذكوراً ثم أكذب »؟! 4 ـ إذا كان الوحيُ قد انقطع بعد
حادثة جبل ( حراء ) ونزول بضع آيات من سورة « العلق » إلى أن نزلت سورة « الضحى » ، يتوجب ـ في هذه الصورة ـ ان تكون
سورة « الضحى » ثاني سورة من حيث الترتيب التاريخي لنزول السُور في حين أنَّ
تاريخ نزول الآيات والسور القرآنية يفيد أنها السورةُ الحادية عشَرة من سُور
القرآن الكريم. لأن فهرس السور القرآنية حسب نزولها هو كالتالي : 1 ـ العلق. 2 ـ القلم. 3 ـ المزمِّل. 4 ـ المدّثر. 5 ـ تبّت ( المَسَد ). 6 ـ التكوير. 7 ـ الاعلى. 8 ـ الانشراح. 9 ـ والعصر. 10 ـ والفجر. 11 ـ والضحى
(تاريخ القرآن للزنجاني : ص 58.).
نعم إنفرد اليعقوبي من بين المؤلفين
باعتبار سورة الضحى ـ في تاريخه (تاريخ اليعقوبي : ج 2 ، ص 33.)
ـ السورة الثالثة من حيث تاريخ النزول ، وحتّى هذا الرأي لا ينسجم مع القصة
المذكورة ( انقطاع الوحي ).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الإختلاف في مدة
انقطاع الوحي
:
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد تعرّض تحديد مدة انقطاع الوحي
بشكله المزعوم لإبهام كبير ، فقد ذكر ذلك
بصور مختلفة في التفاسير والأقوال
التالية هي : 4 ـ أيّام. 12 ـ يوماً. 15 ـ يوماً. 19 ـ يوماً. 25 ـ يوماً. 40 ـ يوماً. ولكن بعد دراسة فلسفة
النزول التدريجي للقرآن الكريم سنرى أنّ انقطاع الوحي وتوقفه لم يكن حدثاً
إستثنائياً ، لأنّ القرآن الكريم أعلن منذ أول يوم
أن المشيئة الالهيّة تعلّقت بأن ينزل القرآن بصورة تدريجية ، منجّمة إذ يقول
تعالى : « وَقُرآناً
فرَقْناهُ لَتَقْرأَهُ على مكْث » (الاسراء : 106.).
ويكشفُ القرآن النقاب ـ في موضع آخر
ـ عن سرِّ نزول القرآن تدريجاً إذ قال : « وَقال
الَّذينَ كَفَرُوا لَولا نُزّلَ عليه الْقُرانُ جُمْلَةً واحِدَة كَذلِكَ
لِنُثبِّتَ بِهِ فَؤادَكَ وَرتّلناهُ تَرْتيلا
» (الفرقان : 32.).
ومع ملاحظة طريقة نزول الآيات والسور
القرآنية هذه يجب أنْ لا يُتَوقع نزولُ الآيات كل يوم وكلَّ ساعة ، وأن ينزل
جبرئيلُ على النبيّ على الدَّوام ، ويأتي إليه بالآيات دون انقطاع ، بل إنّ
الآيات القرآنية كانت تنزل على رَسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
في فواصل زمنية مختلفة وفقاً للاحتياجات ، وبحسب الأسئلة المطروحة على النبي ،
ولأسرار اُخرى في النزول التدريجي شرحها علماء الإسلام (راجع للوقوف على هذه المسألة معالم الحكومة الإسلامية : ص 122 ـ 124.).
وفي الحقيقة لم يكن هناك ما يُسمى
بانقطاع الوحي ، بل كل ما كان في الأمر هو أنّه لم يكن ثمّة ما يوجب النزول
الفوري ، والمتلاحق للوحي. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
14
الدَعْوَةُ السِرِّيَّة ودَعوَةُ الأقربين
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إستمرّ النبيُّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
يدعو إلى دينه سِرّاً مدة ثلاثة أعوام. فهو في هذه السنوات عَمَد إلى بناء
الكوادر واعدادها بدل توجيه الدعوة إلى عامّة الناس ، فإنَّ اعتبارات معيّنة في
ذلك الوقت كانت توجبُ أنْ لا يجهَر بدعوته ولا يُعْلِنَ عن رسالته ، ويكتفي
بالاتصالات الفردية السِّرية ويدعو اشخاصاً معينين إلى دينه. وقد كانت هذه الدعوة
السرِّية هي السبب في أن ينجذب إلى الدّين الإسلامي جماعة من الناس ، وتواجه
دعوته صلىاللهعليهوآلهوسلم
منهم بالقبول ، وقد سجَّل التاريخ أسماء هؤلاء
السابقين الذين آمنوا برسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
، في هذه الفترة من عهد الرسالة ، وتاريخ الإسلام ، واليك بعضهم : 1 ـ السيدة خديجة بنت خويلد ( زوجة
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
). 2 ـ علي بن أبي طالب عليهالسلام.
3 ـ زيد بن حارثة. 4 ـ الزبير بن العوام. 5 ـ عبد الرحمان بن عوف. 6 ـ سعد بن أبي وقاص. 7 ـ طلحة بن عبيداللّه. 8 ـ أبوعبيدة الجراح. 9 ـ أبو سلمة. 10 ـ الأرقم بن أبي الارقم. 11 ـ عثمان بن مظعون. 12 ـ قدامة بن مظعون. 13 ـ عبد اللّه بن مظعون. 14 ـ عبيدة بن الحارث. 15 ـ سعيد بن زيد. 16 ـ خباب بن الأرتّ. 17 ـ أبو بكر بن أبي قحافة. 18 ـ عثمان بن عفان. وغيرهم من الذين قبلوا دعوة النبي ،
وآمنوا بنبوته في هذه الفترة (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 245 و 262.).
ولقد كان أقطاب قريش واسيادها
منهمكين ـ طيلة هذه الاعوام الثلاثة ـ في لهوهم ومجونهم ، ومع أنهم كانوا قد
عرفوا بعض الشيء عن دعوة النبيّ السرّية إلاّ أنّهم لم يظهروا أيّة ردة فِعل
تجاهها ، ولم يقوموا بشيء ضدّها. ولقد كان رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
في هذه السنوات الّتي تعتبر فترةُ صياغة الفرد يخرج مع بعض أتباعه إلى شعاب مكة
للصلاة فيها بعيداً عن أنظار قريش. واتفق أن رآهم بعض المشركين في ما
كانوا يُصلّون في شعب من شعاب مكة ، واستنكروا عملهم هذا ، وأدّى ذلك إلى منازعة
عابرة بينهم وبين المشركين جرح على أثرها أحد المشركين على يدي « سعد بن أبي وقاص » أحد
المسلمين ، ومن هنا قرّر رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم اتخاذ
بَيْت « الأرقم بن أبي
الأرقم » محلاً للعبادة بدل شعاب مكّة ، ليستطيع القيام
فيه بالتبليغ والعبادة بحريّة وأمان ، بعيداً عن أعين المشركين (تاريخ الطبري : ج 2 ، ص 61.).
ولقد كان « عمّار بن ياسر » و « صهيب
بن سنان » الروميّ ممّن آمنوا برسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
في ذلك البيت (هذا البيت كان عند جبل الصفا ، وكان معروفاً إلى مدة ب « دار
الخيزران » اُسد الغابة : ج 4 ، ص 44 ، السيرة الدحلانية بهامش السيرة الحلبية :
ج 1 ، ص 192 ، السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 283.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
دَعْوةُ
الأَقْرَبيْن :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
يشرع العقلاء من الناس من اصحاب البرامج
الواسعة والمشاريع الكبرى اعمالهم الكبرى ـ عادة ـ من بدايات صغيرة ونقاط محددة
، فإذا حقّقوا نجاحاً في هذه البدايات بادروا إلى توسيع نطاق نشاطهم فوراً ،
وهكذا جنباً إلى جنب مع النجاحات الّتي يحقّقونها في كل خطوة يوسّعون دائرة
العمل ، ويجتهدون في تحقيق المزيد من النجاح ، والتكامل لما هم بصدده. ولقد سأل أحد الشخصيات زعيماً في
دولة كبيرة من الدول الكبرى المعاصرة : ما هو سرّ نجاحكم في الاعمال الإجتماعية
وما هو الأمر الّذي يساعدكم على النجاح في مشاريعكم؟ فأجابه ذلك الزعيم
قائلا : ان طريقة عملنا نحن الغربيّين تختلف عن طريقتكم
انتم أهل الشرق ، فنحن دائماً نخطّطُ لمشاريع كبرى ونبدأ من مكان صغير ، وبعد
إحراز النجاح نعمد إلى توسيع نطاق العمل ، وإذا اكتشفنا في منتصف الطريق خطأ
برنامجنا غيّرنا اُسلوب عمَلنا ، وعَدلنا إلى طريقة اُخرى ، وبدأنا بعمل آخر. أما أنتم الشرقيون فتدخلون ساحةَ
العمل في برامجكم الكبرى من مكان كبير ، وتبدأون من نقطة واسعة ، وتحاولون تطبيق
مشروعكم جملة واحدة ، فاذا واجهتم في خلال العمل طريقاً مسدودة لم يكن في
إمكانكم ان ترجعوا من منتصف الطريق إلاّ بتحمل خسائر كبرى فادحة. هذا مضافاً إلى ان أنفسكم كأنها قد
عُجنت بالعجلة ولذلك تودُّون قطفَ ثِمار جهودكم ونتيجة عملكم في الحال دونما صبر
وترقّب وانتظار ، وهذه هي بنفسها طريقة تفكير إجتماعيّة خاطئة ، من شأنها أن
تجعل الإنسان أمام طُرق مسدودة كثيرة وغريبة. هذا ما قاله ذلك
الغربيّ. ولكن الّذي نتصوره ونعتقده نحن هو :
أن هذه الطريقة من التفكير لا ترتبط لا بالشرق ولا بالغرب ، بل هي ميزة العقلاء
الاذكياء من الناس ، فانهم يعتمدون هذا الاُسلوب لا نجاح مهامّهم ، وتحقيق
مقاصدهم. ولقد اتبع قائد الإسلام الاكبر
الرسول الاعظم صلىاللهعليهوآلهوسلم
هذه الطريقة في عمله الرسالي فركّز جهدَه على الدعوة السرّية إلى دينه مدة ثلاثة
أعوام من دون تعجُّل ، وكان يعرضُ دينه على كل من وجده أهلا للدعوة ، ومستعدّاً
من الناحية الفكرية للتبليغ. فرغم أنّه كان يهدف إلى تشكيل دولة
عالمية كبرى ينضوي تحت لوائها ( لواء التوحيد ) جميع أفراد البشرية ، إلاّ أنه
لم يعمد إلى الدعوة العامة طيلة هذه الأعوام الثلاثة ، بل لم يوجّه الدعوة
الخاصة حتّى إلى أقاربه ، إنّما اكتفى بالاتصال الشخصي بمن وجده مؤهلا وصالحاً
للدعوة ، ومستعدّاً لقبول الدِّين ، حتّى أنّه استطاع في هذه الأعوام الثلاثة أن
يكسب فريقاً من الأتباع من الذين اهتدوا إلى دينه وقبِلُوا دعوته. وقد كان زعماء قريش ـ كما اسلَفنا ـ
منهمكين طوال هذه الأعوام الثلاثة في اللذّة والهوى وكان فرعون « مكة » وطاغيتها
: « أبو سفيان » وجماعته كلما سَمِعوا بالدَّعوة اطلقوا ضحكة استهزاء وقالوا
لانفسهم : إنّها أيّام وتنطفئ بعدها شعلة الدعوة هذه فوراً تماماً كما انطفأت من
قبل دعوة « ورقة » و « اميّة » ( الَّلذين أخَذا يحبّذان إلى العرب التوجه نحو
المسيحية ونبذَ الوثنية بعد أن قرءا الانجيل والتوراة ) وبالتالي لن يمرّ زمانٌ
حتّى يُنسى هذا الاُمر ، ويغدو خبراً بعد أثر ، بل بهذا التصوّر ، وبهذه
العقليّة واجَهت زعامة « مكة » دعوة النبي في البداية ، ولهذا
لم يقم زعماء قريش خلال هذه السنوات الثلاث بأيّ عَمل عدائيّ ضدّ رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
، بل ظلّوا ينظرون إليه بنظر الإحترام ، ويُراعون معه قواعد الأدب والسلوك ،
وكان النبيّ هو أيضاً لا يتعرض لأصنامهم وآلهتهم في هذه الأعوام الثلاثة بسوء
ولا يتناولها بالنقد والاعتراض بصورة علنية ، بل كان مركّزاً جهده على الاتصال
الشخصي بذوي البصائر من الأشخاص وهدايتهم إلى دينه الحنيف. ولكن منذ أنْ بدأ النبيُّ دعوة
الأقربين وأخذ ينتقد وثنيّتهم ، ويذكر أوثانهم بسوء ويعترض على تصرفاتهم
اللإنسانية أصبح حديث الألسن. ومنذ ذلك اليوم ايضاً بدأت يقظة قريش ، وعرفوا أمر
محمَّد يختلف عن أمر « ورقة » و « اُميّة » اختلافاً بيناً وانه لبين الدعوتين
فرقا كبيراً ، ولهذا بدأت المعارضة والمخالفة السرّية والعلنية ، لدعوة النبيّ. وقد بدأ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بكسر جدار الصمت بدعوة
أقربائه إلى دينه ثم شرع بعد ذلك بدعوة الناس أجمعين. على أنه ما من شك في
أنّ الاصلاحات العميقة الّتي يراد لها ان تترك أثراً في جميع شؤون الناس وكل
مناحي حياتهم ، وتغيّر مسير المجتمع تحتاج قبل أيّ شيء إلى قوتين : 1 ـ قوةُ البيان ، بأن
يستطيع الداعية والمصلح بيان الحقائق الّتي جاء بها من أفكاره الخاصة ، أو ما
تلقّاه عن طريق آخر إلى الناس باسلوب جذاب ، يأسر القلوب ، ويسحر العقول. 2 ـ القوةُ الدفاعيةُ
الّتي يستطيع تشكيل خطّ دفاعي منها عند التعرض لهجوم الأعداء والخصوم ،
وفي غير هذه الصورة ستنطفئ شعلة الدعوة ويفشل المصلح في خطاه الاُولى. ولقد كان البيان لدى
رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
في أعلى مرتبة من من هنا عَمَد رسولُ اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وبهدف تحصيل القوّة الدفاعية المطلوبة وتشكيل النواة المركزية إلى دعوة أقربائه
إلى دينه قبل التوجّه بالدعوة إلى عامة الناس ، ليتمكَّن من هذا الطريق ، أن
يزيل النقصَ من جهة عدم وجود القوة الثانية ، ويكوّن منهم سياجاً قوياً يحفظه ،
ويحفظ رسالته من الأخطار المحتملة. على أن فائدة هذه الدعوة كانت على
الأقل دفع أبناء عشيرته إلى الدفاع عنه بدافع القربى والرحم على فرض انهم لم
يؤمنوا برسالته ، ولم يقبلوا دعوته. هذا مضافاً إلى انه صلىاللهعليهوآلهوسلم
كان يعتقد ان أي إصلاح وتغيير لابد أن يبدأ من إصلاح الداخل وتغييره ، فما لم
يستطع الإنسان من إصلاح أبنائه واقربائه وردعهم عن قبائح الأفعال لا يمكن لدعوته
أبداً أن تؤثر في الأجانب والأبعدين ، لأنَّ المناوئين سيعترضون عليه لدعوته في
هذه الحالة ، ويشيرون إلى أفعال أبنائه وعشيرته. من هنا أمره اللّه تعالى بأن يدعو
عشيرته الأقربين إذ خاطبه قائلا : « وَأَنْذِرْ
عَشِيرتَكَ الأَقْرَبين » (الشعراء : 214.).
كما
أنه خاطبه بصدد دعوة
الناس عامّة بقوله : « فَاصْدَعْ
بِما تُؤْمرُ وَأعْرضْ عَن المُشْركين. إنّا كَفيْناكَ المُسْتَهْزئينَ »
(الحجر : 94 و 95.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
كيفيّة دَعوة
الأقربيْن :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
كانت طريقة رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
في دعوة عشيرته الأقربين طريقة جميلة وذكيّة جدّاً ، فقد تجلّت في ذلك حقيقة
أوضحت اسرار هذه الدعوة في ما بعد اكثر فأكثر. فانّ المفسرين كتبوا عند قوله تعالى
: « وانذر عشيرتك الاقربين » وكذا الأغلبية القريبة للاجماع مِنَ المؤرخين أن
اللّه أمر نبيّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
بأنْ ينذر عشيرته الأقربين ويدعوهم إلى دينه ورسالته فأمر رسول اللّه صلىاللهعليهوآله
عليّ بن أبي طالب الّذي كان آنذاك في ربيعه الثالث عشر أو الخامس عشر بأن يُعدَّ
طعاماً ولبناً ، ثم دعا صلىاللهعليهوآلهوسلم خمساً
وأربعين رجلا من سراة بني هاشم ووجوههم ، وعزم على أن يبوح لضيوفه ويكشف لهم من
امر رسالته في خلال تلك الضيافة إلاّ أنه ـ وللأسف ـ ما أن أنتهوا من الطعام
حتّى بادر أبو لهب فتكلّم بكلمات سخيفة قبل أن يتحدّث النبيُّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
ممّا جعل الجوّ غير مناسب لأنْ يطرَح النبيُّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
موضوع رسالته عليهم ، فانفض المجلسُ دون تحقيق هذا الغرض. ولما كان من غد أمر النبيُّ علياً عليهالسلام باعداد الطّعام واللّبن ثانية ،
وكرّر دعوة تلك الجماعة ، إلى ضيافة اُخرى ، وبعد أن فرغوا من الطعام تكلّم
رسولُ اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
فقال : « إنَّ الرائد لا يَكذبُ أهْلهُ
وَاللّه الَّذي لا إله إلا هُو إنّي رَسُولُ اللّه إليْكُمْ خاصّة وإلى النّاس
عامّة واللّه لَتمُوتُنَّ كما تَنامُونَ وَلَتُبْعَثُنَّ كَما تَسْتَيقظُون
وَلَتُحاسبُنَّ بِما تَعْمَلُونَ وإنها الجَنَّة أبداً وَالنّارُ أبداً ». ثم قال : « يا بَني عَبْدِ الْمُطَّلِب انّي
وَاللّه ما أعلَمُ شابّاً في العَربَ جاء قومَهُ بأَفضَل ممّا جِئتُكُمْ به ،
انّي قَدْ جِئْتُكم بِخير الدُّنيا والآخِرة وَقَدْ أَمرَني اللّه عَزَّوجلَّ أن
ادْعوكُمْ إليه فأيّكُمْ يُؤمن بي ويؤازرُني عَلى هذا الأمر على أنْ يكونَ أخي
وَ ولما بلغَ النبيُّ صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى هذه النقطة ـ وبينما أمسك القومُ
وسكتُوا عَن آخرهم إذ كان كلُ واحد منهم يفكِّرُ في ما يؤولُ إليهِ هذا الامرُ
العظيمُ ، وما يكتنفهُ من أخطار ـ قام « عليّ » عليهالسلام
فجأة ، وهو آنذاك في الثالثة أو الخامسة عشرة من عمره ، وقال وهو يكسر بكلماته
الشجاعة ـ جدار الصمت والذهول ـ : أنا يا رَسوُل اللّه أكونُ وَزيركَ
عَلى ما بَعَثَكَ اللّه ». فقال له رسولُ اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم :
إجلسْ ، ثم كرّر دعوته ثانية وثالثة وفي كل مرة يحجم القومُ عن تلبية مطلبه ،
ويقوم « عليّ » ويعلن عن استعداده لمؤازرة النبيّ ، ويأمره رسولُ اللّه بالجلوس
حتّى إذا كان في المرة الثالثة أخذ رسول اللّه بيده والتفت إلى الحاضرين من
عشريته الاقربين وقال : « إنَّ هذا أخي وَوَصيّي وَخَليفَتي فيكُمْ ( أو
عَليْكُمْ ) فاسْمَعُوا لهُ ، وَأطِيْعُوا ». فقامَ القوم يضحكون ، ويقولون لأبي
طالب « قد أمرك أن تسمع لا بنكَ وتطيعَ وجعله عليك أميراً »
(تاريخ الطبري : ج 2 ، ص 62 و 63 ، تاريخ الكامل : ج 2 ص 40 و 41 ،
مسند أحمد : ج 1 ، ص 111 ، وشرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد : ج 13 ص 210 و
211.).
إنَ ما كتبناه هو ـ في الحقيقة ـ
خلاصةٌ لحديث مفصَّل رواه اكثر المفسرين والمؤرخين بعبارات مختلفة ، ولم يشكّك
في صحّته أحدٌ ، بل اعتبروه من مسلَّمات التاريخ ، الا « ابن تيمية » الّذي اتخذ موقفاً خاص من أهل
بيت النبيّ صلّى اللّه عليه وعليهم أجمعين. خِيانةٌ تاريخيّةٌ وجنايَةٌ أدبيّة!!
إن تحريفَ الحقائق وقلبَها ، أو
إخفاء الوقائع لهُو حقاً من أوضح مصاديقالخيانة والجناية. ولقد سلَكَ فريقٌ من الكُتّاب
المتعصبين عبر التاريخ للاسف مثل هذا الطريق المقبوح ، وأسقطوا مؤلّفاتهم
العلميّة والتاريخيّة بارتكابهم خطيئة التحريف في جملة من الحقائق ، من الاعتبار
، وهم يخالون ان عملهم قادر على ان يبقي الحقائق في هالة الإهمال والغموض. إلاّ أنّ أمر هؤلاء قد انكشف مع
انْقضاء الزّمن ، وتكامُل العِلْم ، ودَفع بفريق من أهل التحقيق والإنصاف إلى أن
يمزقوا بأطراف اقلامهم حجب الزيف والتحريف ويُظهروا الوقائع والحقائق على
حقيقتها. وإليك في ما يأتي بعض
هذا الخيانات : 1 ـ لقد ذكر محمَّد بن جرير الطبري (
المتوفى عام 310 هـ ) في تاريخه حادثة دعوة الأقربين بشكل مفصَّل وعلى النحو
الّذي مرّ على القارئ الكريم. بيد أنه حرّف في تفسيره (ـ تفسير الطبري : ج 19 ، ص 74.)
وكَتمَ ، فهُو عند تفسير قوله تعالى : « وأنذِرْ عَشِيْرتَكَ الأَقرَبين » يذكرُ
كلّ ما ذكره في تاريخه ، ولكنّه يغيّر ويبدّل في قول رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
حيث يقول : « على أن يكون أخي ووصيّي وخليفتي » ، فهو يكتب في تفسيره هكذا : «
على أنْ يكونَ كذا وكذا ». ولا ريب انَّ في تغيير عبارة « أخي
ووصيّي وخليفتي عَليكم ( أوفيكم ) إلى : « كذا وكذا » غرضَاً مريضاً ، وهو
بالتالي خيانة تاريخية فاضحة. على أن الطبريّ لم
يكتف بهذا القدر من التغيير في الكلام رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم بل غيّر حتّى في الجملة الّتي تعقبتها وهي قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم
بعد أن قام عليُّ عليهالسلام
للمرة الثالثة وأعلن عن استعداده لمؤازرة النبيّ بعد إحجام القوم وسكوتهم : «
إن هذا أخي ووصيّي وخليفتي » حيث أبدلها بعبارة : « إنَّ هذا أخي وكذا وكذا »!!!
إن على المؤرخ أن يكون حراً وشهماً
في كتابة الحقائق وروايتها ، فيثبتها ويرويها كما هي ، بكل شجاعة ، وصَلابَة. ولا ريب ان الّذي دفع
بالطبريِّ إلى أن يرتكب مثل ذلك التبديل والتغيير هو تعصّبه المذهبي ،
فهو لا يعتبر الإمام عليّاً خليفة رسول اللّه بلا فصل ، وحيث
أن تينك الكلمتين : « خَليفتي ووَصيّي » تصرّحان بخلافة « عليّ » للنبيّ ووصايته
بلا فصل لذلك يغيّر ويبدّل حتّى ينتصر لمذهبه بالتحريف في شأن نزول هذه الآية
أيضاً. 2 ـ ولقد فعل ابن كثير
( المتوفى عام 732 هـ ) نظير هذا في تاريخه (البداية والنهاية : ج 2 ، ص 40.)
وكذا في تفسيره ( ج 3 ص 351 ) وسلك
نفس الطريق الّذي سلكه ـ من قبل ـ سلفُه الطبري ضارباً عرض الجدار مبدأ أمانة
النقل!!! ونحن لا نعذر ابن كثير في عمله هذا
أبداً ، لأنه قد اعتمد ـ في رواياته التاريخية ، في تاريخه وتفسيره معاً ـ تاريخ
الطبري ، لا تفسيره ولا شك أنّه قد مرَّ
على هذه القصة في تاريخ الطبريّ ، ولكنّه مع ذلك حاد عن الطريق السويّ فأعرض عن
نقل رواية التاريخ ـ في هذه الحادثة ـ وعَمَد ـ بصورة غير متوقعة ـ إلى نقل
رواية التفسير!!! 3 ـ والأغرب من تينك الخيانتين ما
ارتكبه ـ في عصرنا الحاضر ـ وزير المعارف المصرية الأسبق الدكتور « هيكل » في
كتابه « حياة محمَّد » ، وفتح بعمله باب التحريف في وجه الجيل الحاضر. والعجب ان « هيكل »
هاجم ـ في مقدمته ـ جماعة المستشرقين بشدة وانتقدهم بعنف لتحريفهم الحقائق
التاريخية ، واختلاقهم لبعض الوقائع في حين لم يقصر عنهم في هذا السبيل فهو : أولاً
: نقل الواقعة المذكورة ( دعوة
الاقربين المعروفة بحادثة يوم الدار أو حديث بدء الدعوة ) في الطبعة الاُولى من
كتابه المذكور بصورة مبتورة ومقتضبة جداً واكتفى من الجملتين الحساستين بذكر
واحدة منهما فقط وهي : قولُ النبي مخاطباً الحضور في ذلك اليوم : « مَنْ
يُؤازرني يكونُ أخِيْ وَوصيّي وخليِفَتِي » بينما حذف بالمرة الجملة الّتي قالها
رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
لِعَلي بعد أن قام للمرة الثانية وأعلن موازرته للنبيّ وهي قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم
: « إنَّ هذا أخيْ وَوَصيّي وَخَلِيْفتي »!!! ثانياً :
انَّه خطى في الطبعات الثانية والثالثة والرابعة ، خطوة أبعد حيث حذَف كلتا
الجملتين معاً وبهذا قد وجّه ضربة كبرى إلى قيمته ككاتب. وقيمة كتابه ، كدراسة
تاريخية!! |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
النبوة والإمامة
توأمان :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إن الاعلان عن وصاية عليّ عليهالسلام
وخلافته في مطلع عهد الرسالة وبداية أمر النبوّة يفيد ـ بقوة ووضوح ـ انَّ هذين
المنصبين ليسا بأمرين منفصليْن ، ففي اليوم الَّذي يعلِنُ فيه رسولُ اللّه عن
رسالته ونبوَّته ، يعيّن خليفته ووصيَّه من بعده ، وهذا يشهد ـ بجلاء ـ بأن
النبوَّة والإمامة يشكِّلان قاعدة واحدة ، وأن هذين المنصبين إن هما الاّ
كحلقتين متصلتين لا يفصل بينهما شيء. كما أن هذه الحادثة تكشف ـ من جانب
آخر عن مدى الشجاعة الروحية الّتي كان يتحلّى بها الإمام اميرُ المؤمنين « عليُّ
بن أبي طالب » عليهالسلام ، حيث قام
ـ في مجلس أحجم فيه الشيوخ الدُهاة والسادة المجرِّبون عن قبول دعوة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
خوفاً وتهيّباً ـ وأعلن بكل شجاعة مؤازرته للنبيّ ، واستعداده للتضحية في سبيل
دينه ورسالته وهو آنذاك غلامٌ في ربيعه الثالث أو الخامس عشر ، وما حابى أعداء
الرسالة ولا ماشاهم كما فعل المصلحون من الساسة والزعماء المتخوّفون على مصالحهم
ومراكزهم آنذاك!!! صحيح ان « عليّاً » عليهالسلام كان في ذلك
اليوم أصغر الحاضرين سنّاً إلاّ أن معاشرته الطويلة للنبيّ قد هيّأتْ قلبهُ
لتقبُّل الحقائق الّتي تردّد شيوخ القوم في قبولها ، بل عجزوا عن دركها وفهمها!!
ولقد اعطى ابو جعفر
الإسكافي حق الكلام في هذا المجال إذ قال : فهل يُكلِّف عملُ الطعام ، ودعاء
القوم صغيرٌ غير مميّز ، وغِر غير عاقل ، وهل يؤتمَن على سرّ النبوة طفلٌ ...
وهل يُدعى في جملة الشيوخ والكهول إلاّ عاقل لبيب ، وهل يضع رسولُ اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
يده في يده ، ويعطيه صفقة يمينه بالاُخوة والوصيّة ، والخلافة ، الا وهو أهل
لذلك ، بالغ حدّ التكليف ، محتمل لولاية اللّه ، وعداوة أعدائه ، وما بال هذا
الطفل لم يأنس باقرانه ولم يلصق بأشكاله ، ولم يُرمع الصبيان في ملاعبهم بعد اسلامه
، وهو كأحدهم في طبقته كبعضهم في معرفته ، وكيف لم ينزع إليهم في ساعة من ساعاته
بل ما رأيناه الا ماضياً على اسلامه ، مصمماً في أمره ، محققاً لقوله بفعله ، قد
صدّق اسلامه بعفافه وزهده ، ولصق برسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
من بين جميع من حضرته فهو أمينه واليفه في دنياه واخرته (شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد : ج 13 ، ص 215 و 295.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
15الدعوة العامّة
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
كان قد انقضى ثلاث سنوات على بدء
البعثة يوم عمد رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
إلى دعوة الناس عامة بعد دعوة عشيرته الاقربين. فقد استطاع خلال السنوات الثلاث
الاُولى من عمر الدعوة أن يهدي ـ من خلال الاتصالات السرية ـ مجموعة من الاشخاص
إلى الإسلام ولكنّه دعا هذه المرّة وبصوت عال عامة الناس إلى دين التوحيد. فقد وقف ذات يوم على صخرة عند جبل
الصفا ونادى بصوت عال : يا صباحاه ( وهي كلمةٌ كانت العربُ تطلقها كلّما أحسَّت
بخطر ، أو بلغها نبأ مُرعب فكانت هذه الكلمة بمثابة جرس الخطر ) (قال الجزري في النهاية : ج 2 ، ص 271 : صعد النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
على الصفا وقال : يا صباحاه ؛ هذه كلمة يقولها المستغيث ، وأصلها إذا صاحوا
للغارة لانهم اكثر ما كانوا يغيرون عند الصباح ويسمّون يوم الغارة يوم الصباح ،
فكأن القائل : يا صباحاه يقول : قد غشينا العدو.)
فلفت نداء النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
هذا نظر الناس فاجتمع حوله جماعة من أبناء القبائل المختلفة وقالوا : له ما
لَكَ؟ فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : أرأيتكم
إن أخبرتكم أنَّ العدوّ مُصبحكم أو ممسيكم ما كنتم تصدّقونني؟ قالوا : بلى. قال : فاني نذير لكم بين يدي عذاب
شديد. ثم قال : إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل
رأى العدو فانطلق يريد أهله فخشي أن يسبقوه إلى اهله فجعل يهتف : واصباحاه (السيرة الدحلانية بهامش السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 194.).
ولقد كانت قريش تعرف عن دينه بعض
الشيء ، قبل هذا ولكنها تملَّكها الخوفُ هذه المرة ، وهي تسمعُ ذلك الانذار
القويّ فبادر أحد قادة الكفر إلى تبديد تلك المخاوف فوراً إذ قال لرسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم :
تبّاً لك ، ألهذا دعوتنا؟ ، وتفرّق على أثرها الناس. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الثباتُ والإستقامة على طريق الهدف :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إن نجاح أيّ شخص مرهونٌ بأمرين : الأول : الايمان
بالهدف. والثاني : الاستقامة
والثبات والسعي الدائب لتحقيق ذلك. إنَّ الإيمان هو المحرِّك الباطني
والقوة الخفية الّتي تجر الإنسان شاء أم لم يشأ نحو الغاية الّتي يتوخاها ،
وتسهِّل عليه الصعاب ، وتدعوه إلى العمل الدائب لتحقيق مقصوده ، لأن شخصاً كهذا
يعتقد إعتقاداً قويّاً بأنَّ سعادته ، ومجده يتوقَّفان على ذلك. وبعبارة اُخرى : إذا
آمن انسان بأن سعادته ومجده يتوقفان على تحقيق هدف معيّن فانه سيندفع بقوة
الإيمان نحو تحقيق ذلك الهدف ، متجاوزاً كل الصعاب ، ومتحدياً كل المشكلات في
ذلك السبيل. فالمريض الّذي يرى شفاءه في شرب دواء
مرّ مثلا سيستسهل شُربه. والغوّاص الّذي يعتقد إعتقاداً
جازماً بأن ثمّة درراً غالية الثمن تحت أمواج البحر سيلقي بنفسه في قلب تلك
الأمواج دونما خوف أو وجل ، ليخرج منها بعد دقائق ظافراً بأغلى الجواهر. بينما إذا كان المريض أو الغوّاص
يشكُّ في عمله ، أو يعتقد بعدم فائدته ، فانَّه لن يُقدمَ عليه قط واذاما أقدم
فان عمله سيكون حينئذ مقروناً بالجهد والعناء. فقوة الإيمان اذن هي الّتي تذلّل كل
مُشكل ، وتسهِّل كلَّ صعب. غير أنه لا ريب في أنَّ الوصولَ إلى
الهَدف لا يخلو من مشكلات وموانع ، فلابدّ من السعي لرفع تلك الموانع ، وإزالة
تلكم المشكلات. وقد قيل قديماً : أنَّ مع كل وردة
أشواك ، فكيف يمكن قطف وردة دون أن تُدمى أنامل القاطف بالأشواك المحيطة بها؟؟ هذا وقد بيّن القرآنُ الكريمُ هذه
المسألة ( وهي ان رمز السعادة هو : الإيمان بالهدف والثبات في طريق تحقيقه ) في
جملة قصيرة إذ قال : « إنَّ
الَّذيْن قالُوا ربُّنا اللّه ثُمَّ استقامُوا تتَنَزَّلُ عَليْهِمْ الْمَلائكة
أنْ لا تَخافُوا وَلا تَحزَنُوا وأبْشروا بِالجَنَّةِ الّتي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ
» (فُصّلت : 30.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ثَباتُ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وَصَبرُهُ :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد أدّت إتصالاتُ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
الخاصّة. قَبل الدعوة العامة ، وجهودُه الكبرى بعد الجهر بالدعوة ، إلى ظهور
وتكوين صفٍّ مرصوص من المسلمين في وجه صفوف الكفر ، والوثنية. فالَّذين دخَلُوا سرّاً في حوزة
الإسلام والإيمان قبل الدعوة العامّة تعرَّفوا على المسلمين الجدد الذين لبُّوا
داعي الإسلام بعد إعلان الرسالة ، وشكّل القدامى والجدد جماعة قوية متعاطفة
متحاببة ، وكان ذلك بمثابة إنذار لأوساط الكفر والشرك والوثنية ، أربكها وجعلها
تشعر بالخطر. على أنّ ضرب نهضة ناشئة والقضاء
عليها كان أمراً سهلا لقريش ، ولكنّ الّذي أرعب قريشاً ومنعها من توجيه مثل هذه
الضربة هي أنَّ أفراد هذه الجماعة ، وعناصر هذه النهضة لم يكونوا من قبيلة واحدة
، ليمكن مواجهتها وضربُها بكلّ قوة ، بل إنتمى من كل قبيلة إلى الإسلام ، عددٌ
من الأفراد ، ومن هنا لم يكن إتخاذ أيّ قرار حاسم بحقّهم أمراً سهلا وبسيطاً. من هنا قرّر سادة قريش وكبراؤها ـ
بعد تداول الأمر في ما بينهم ـ أن يبدأوا بالقضاء على أساس هذه الجماعة ،
ومحرِّك هذا الحزب ، والداعي إلى هذه العقيدة بمختلف الوسائل فيحاولوا ثنيه عن
دعوته بالاغراء والتطميع تارة ويمنعوا من انتشار دينه بالتهديد والايذاء تارة
اُخرى. وقد كان هذا هو برنامج قريش وموقفها
من الدعوة طيلة عشر سنوات وهي المدة المتبقية من سنوات البعثة من الفترة المكية
، إلى ان قررت بالتالي قتله ، ولكنه استطاع ان يبطل مُؤامرتهم بالهجرة إلى
المدينة قبل أن يتمكنوا من القضاء عليه. ولقد كان « أبو طالب » آنذاك زعيم
بني هاشم ورئيسها المطلق ، وكان رجلا طاهر القلب عالي الهمّة ، شجاعاً ، كريماً
، وكان بيته ملجأ دافئاً للمحرومين والمستضعفين ، وملاذاً أميناً للفقراء
والأيتام ، وكان يتمتع في المجتمع العربي ـ علاوة على رئاسة مكة وبعض مناصب
الكعبة ـ بمكانة كبرى ومنزلة عظيمة ، وحيث أنّه كان كفيلا لرسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
بعد وفاة جدّه « عبد المطلب » ، لذلك حضر سادة قريش بصورة جماعية (ادرج ابن هشام في سيرته : ج 1 ، ص 264 و 265 اسماءهم بالتفصيل.)
عنده
وقالوا له : « يا أبا طالب إن ابن أخيك قدسبّ
آلهتنا ، وعابَ دينَنا ، وسفَّه أحلامنا وضلّل آباءنا ، فامّا أن تكفّه عنّا ،
وإما أن تخلّي بيننا وبينه ». ولكن « أبا طالب » قال لهم قولا
رفيقاً وردَّهم ردّاً جميلا حكيماً ، فانصرفوا عنه. بيد أنَّ نفوذ الإسلام وانتشاره كان
يتزايد باستمرار ، وكانت جاذبيّة الدّين المحمَّدي ، وبيان القرآن البليغ
يساعدان على ذلك ، فيترك اثره في الناس ، وخاصة في الأشهر الحرم حيث تفد الحجيجُ
على مكة من مختلف أنحاء الجزيرة ، وكان النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
يعرض دينه عليهم ، فكانت أحاديثه الجذّابة ، وكلماتُه البليغة ، ودينُه المحبَّب
تؤثر في قلوب كثير منهم ، فيميلون إلى الإسلام ويقبلون دعوة الرسول. وهنا أدرك طغاة مكة وفراعنتها أن «
محمَّداً » قد بدأ يفتح له مكاناً في قلوب جميع القبائل ، واصبح له انصارٌ
واتباعٌ في كثير منها ، ممّا دفعهم مرّة اُخرى إلى الحضور عند « أبي طالب »
حاميه الوحيد ، وتذكيره بالإشارة والتصريح بالاخطار المحدقة باستقلال المكّيين
وعقائدهم نتيجة نفوذ الإسلام وانتشاره فقالوا له أجمع : يا أبا طالب ، إن لك سنّاً ، وشَرفاً
، ومنزلة فينا ، وإنّا قد استنهيناك مِن ابن اخيك فلم تنهَه عنّا ، وإنا واللّه
لا نصبر على هذا من شتم آبائنا ، وتسفيه أحلامنا وعيب آلهتنا ، حتّى تكفه عنّا ،
أو ننازله وإيّاك في ذلك حتّى يهلك أحد الفريقين. فأدرك حامي الرَّسول الوحيد ـ بذكائه
وفطنته ـ أنّ عليه أن يصبرَ أمام جماعة ترى وجودها ، ومصالحها في خطر ، من هنا
عَمد إلى مسالمتهم وملاطفتهم ، ووعدَ بأن يبلغ ابن اخيه « محمَّد » كلامهم. وقد
كان هذا محاولة من « أبي طالب » لتسكين غضب تلك الجماعة الغاضبة وإطفاء نائرتهم
، وتهدئة خواطرهم ، ليتمَّ معالجة هذه المشكلة ـ بعد ذلك ـ بطريقة أصحّ وأفضل. ولهذا أقبل ـ بعد خروج تلك الجماعة
من عنده ـ على إبن اخيه ، وذكرَ له ما قال له القومُ ، وهو يريد ـ بذلك ضمناً ـ
إختبار إيمان « محمَّد » بهدفه ، فكان الردُّ العظيمُ ، والجوابُ الخالد الّذي
يعتبر من أسطع وألمع السطور في حياة قائد الإسلام الاكبر « محمَّد » رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
، حيث قال لعمّه بعد أن سمع مقالة قريش : « يا عَمّ ، واللّه لو وضعُوا
الشَمْس في يميني ، والقمرَ في يساري ، على أن أترك هذا الأمر حتّى يظهرهُ اللّه
، أو اهلكَ فيه ، ما تركُته ». ثم اغرورَقتْ عيناه الشريفتان بدموع
الشوق والحب للهدف ، وقام وذهب وكان لتلك الكلمات الصادقة النافذة
أثرٌ عجيب في نفس زعيم مكة وسيدها الوقور بحيث نادى ابن اخيه ، وأظهر له
استعداده الكامل للوقوف إلى جانبه ، والحدب عليه رغم كل المخاطر ، والمتاعب
الّتي كانت تكمن له إذ قال : « إذهَبْ يا
ابْن أَخي فَقُلْ ما أحبَبْتَ فَو اللّه لا اُسلمك لِشَيء أبداً ». |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قريش تمشي إلى أبي
طالب للمرّة الثالثة :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد أقلق انتشار الإسلام المتزايد
قريشاً ، ودفعها إلى التفكير في حيلة ، فاجتمع أشرافها وسادتها للتشاور مرّة
اُخرى وقالوا : لعل كفالة أبي طالب لمحمَّد هي الّتي
تدفعه إلى الدفاع عنه وحمايته والوقوف إلى جانبه في دعوته ، فكيف لو مشوا إليه
بأجمل فتيان مكة ، وطلبوا منه أن يأخذه بدل « محمَّد » ويسلّمه اليهم ليروا فيه
رأيهم ، ولهذا مشوا إلى أبي طالب بعمارة بن الوليد بن المغيرة فقالوا له : يا أَبا طالب هذا عمارةُ بن الوليد
أنهَدُ فتى في قريش وأجملُه ، فخذهُ فلك عقلُهُ ونصرُه ، واتخذه ولداً فهو لكَ ،
وأسلِمْ إليْنا ابن أخيكَ هذا ، الّذي فرّق جماعة قومكَ ، وَسفَّه أحلامَهُمْ
فنقتله ، فانما هو رجل برجل!! فأجابهم أبو طالب وهو
مستاء من هذه المساومة الظالمة : « هذا واللّه لبئس ما تسومونني!
أتعطوني إبنكم أغذُوهُ لكم ، واعطيكم ابني تقتلونه ، هذا واللّه ما لا يكون
أبداً ». فقال « المطعم بن عدي
بن نوقل » : واللّه يا أبا طالب لقد أنصفَك قومُك ، فما أراك
تريد أن تقبَل منهم شيئاً. فأجابه أبو طالب قائلا : واللّه ما
أنصفوني ولكنّك قد أجمَعتَ خُذْلاني ، ومظاهرة القوم عليّ فاصنَعْ ما بدا لك (تاريخ الطبري : ج 2 ، ص 67 و 68 ، السيرة النبوية لابن هشام : ج 1 ،
ص 266 و 267.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قريش تحاولُ تطميع
رسول اللّه!
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ولما علمت قريش بأنه لا يمكن ارضاء «
أبي طالب » بخذلان ابن اخيه « محمَّد » ، فهو وإن كان لا يتظاهر بالإسلام ، إلاّ
أنهم يكنُّ لابن أخيه ، وُدّاً عميقاً ، ومحبة كبرى من هنا قرّروا بأنْ يتركوا
مفاضوة ، إلاّ أنهم فكّروا في خطة اخرى وهي أن يُحاولوا إثناء النبيّ عن المضيّ في
دعوته بتطميعه بالمناصب ، والهدايا ، والأموال والفتيات الجميلات ، ولهذا مشوا
إلى بيت « أبي طالب » ودخلوا عليه ومحمَّد جالسٌ إلى جنبه فتكلّم متكلِّمهُمْ
وقال : يا محمَّد انا بعثنا اليك لِنُكلَّمك ، فانا واللّه لا نعلم رجلا من
العرب أدخل على قومك ما ادخلت على قومه لقد شتمت الآباء ، وعيبت الدين ، وسببت
الآلهة ، وسفهت الاحلام ، وفرقت الجماعة ولم يبق امر قبيح الاّ أتيته فيما بيننا
وبينك فان كنت انما جئت بهذا الحديث تطلب به مالا جمعنا لك من أموالنا حتّى تكون
اكثر مالا ، وان كنت انما تطلب الشرف فينا فنحن نسوّدك ونشرّفك علينا ، وان كان
هذا الّذي ياتيك تابعاً من الجن قد غلب عليك بذلنا أموالنا في طبك. فقال ابو طالب لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
أي ابن أخي ما بال قومك يشكونك ، يزعمون انك تشتم آلهتهم وتقول وتقول؟ فتكلم رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم وقال : يا
عم أُريدهم على كلمة واحدة يقولونها تدين لهم بها العرب وتؤدي اليهم بها العجم
الجزية. ففزعوا لكلمته ، ولقوله فقال القوم
كلمة واحدة : نعم وأبيك عشراً. قالوا : فما هي ، فقال أبو طالب :
وأي كلمة هي يا ابن أخي؟ قال : « لا اله الاّ اللّه ». فكان هذا الرد مفاجئة قوية لذلك
الفريق الّذي يأمل في صرف النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
عن
هدفه ، ولهذا قاموا فزعين ينفضون ثيابهم وهم يقولون : « أجعَلَ الآلهة إلهاً
واحداً إن هذا لشيء عجاب » السيرة الحلبية : ج
1 ، ص 303 ، تاريخ الطبري : ج 2 ، ص 65 و 66.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
نماذجٌ من إيذاء قُريش
وتعذيبها للمُسلمين :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
يومَ صدَعَ رسولُ اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
بما اُمر ، وجَهر بدعوته للناس وأيس سادة قريش من قبوله لأيّ اقتراح من
إقتراحاتهم بعد ما سمعوه يقول : « واللّه لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في
يساري على أن أترك هذا الأمر حتّى يُظهِرَه اللّه أو أهلك دونه ما تركُته » بدأ
في الحقيقة واحداً من أشدّ فصول حياته ، واكثرها متاعبَ ومصاعبَ ، لأن قريشاً
كانت لا تزال إلى ذلك الوقت تراعي حرمته وتحترمه ، وتسيطر على أعصابها ، ولكنها
عند ما فشلت في خططها لجرّه إلى مساومتها اضطرَّت إلى تغيير نهجها واُسلوبها معه
لتقفَ دون إنتشار دينه مهما كلَّف من الثمن مستفيدة في هذا السبيل من كل الوسائل
الممكنة. من هنا قرّر سادة قريش بالاجماع أن
يتوسَّلوا بسلاح الاستهزاء والسخرية ، والإيذاء والتهديد ، بهدف صرفه عن المضيّ
في دعوته (راجع لمعرفة ابرز من كان يؤذي النبيّ والمسلمين المحبر : ص157 و 161.).
ولا يخفى أن المصلح الّذي يفكر في
هداية العالم البشريّ كله يجب ان يتزود بقدر كبير من الصبر والتحمل ، أمام جميع
المشكلات والمتاعب ، والمكاره والشدائد ليتغلب عليها شيئاً فشيئاً ، كما كان دأب
كل المصلحين الآخرين. ونحن هنا نورد طرفاً من أذى قريش
لرسول اللّه وأتباعه ليتضح مدى صبر النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وثباته ،
واستقامته على طريق الدعوة. ولقد كان رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
يتمتع ـ مضافاً إلى العامل الروحي والمعنويّ الباطني الّذي كان يساعده من الداخل
أعني الإيمان والصبر والإستقامة والثبات ـ بعامل خارجيّ تولّى حراسته وحمايته
وذلك حماية بني هاشم ، وعلى رأسهم أبو طالب له صلىاللهعليهوآلهوسلم لأنه عند ما عرف « ابو طالب » بعزم
قريش القاطع على إيذاء إبن أخيه ( محمَّد ) دعا بني هاشم عامة ، وطلب منهُم
جميعاً حماية النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم والقيام دونه ، فلبَّوا نداء سيّدهم
، وأجابوه إلى ما دعاهم من حماية رسول اللّه وحراسته بعضٌ بدافع الايمان وآخر
بدافع الرَحم ، الاّ « أبو لهب » ورجلان آخران انضموا إلى اعداء النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
ولكن هذا السياج الدفاعيّ لم يقدر ـ مع ذلك ـ على صيانته صلىاللهعليهوآلهوسلم
من بعض الحوادث المرّة ، لأنّ قريشاً ألحقت به الأذى ، وأنزلت به مكروهاً ، كلما
وجدته وَحيداً بعيداً عن أعين حُماته. وإليك فيما يأتي بعض
النماذج من ذلك الأذى : 1 ـ مَرَّ « أبو جهل » برسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
عند الصفا ، فآذاه وشتمه ونال منه ببعض ما يُكره من العيب لدينه ، والتضعيف
لأمره ، فلم يكلّمه رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ومولاة لعبد اللّه بن جدعان في مسكن لها تسمع ذلك ، ثم انصرف عنه ، فعمد إلى ناد
من قريش عند الكعبة ، فجلس معهم ، فلم يلبث « حمزة بن عبد المطلب » رضي اللّه
عنه أن أقبلَ متوشحاً قوسَه راجعاً من قَنص له ، وكان صاحب قنص يرميه ويخرج له ،
وكان إذا رجع من قنصه لم يصل إلى أهله حتّى يطوف بالكعبة ، وكان إذا فعل ذلك لم
يمرّ على ناد من قريش إلاّ وقف وسلَّم وتحدَّث معهم ، وكان أعز فتى في قريش ،
وأشدّ شكيمة. فلما مرّ بالمولاة ، وقد رجع رسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
إلى بيته قالت له : يا أبا عمارة ( وتلك هي كنيته ) لو رأيت ما لقي ابنُ أخيك
محمَّد آنفاً من أبي الحكم بن هشام ( وتعنى أبا جهل ) : وجده هاهنا جالساً فآذاه
وسبَّه ، وبلَغَ منهُ ما يُكرَه ، ثم انصرف عنه ولم يكلمه محمَّد صلىاللهعليهوآلهوسلم.
فغضب « حمزة » لذلك ، فخرج يسعى ولم
يقف على أحد مُعِدّاً لأبي جهل إذا لقيه أن يوقع به. فلمّا دخل المسجد نظر إليه جالساً في
القوم ، فاقبل نحوه ، حتّى إذا قام على رأسه رفع القوس فضربه بها فشجَّهُ شجة
منكرة ، ثم قال : « أتشمته وأنا على دينه أقول ما يقول. فردَّ ذلك عليَّ أن
استطعتَ ». فقامت رجالٌ من بني
مخزوم إلى « حمزة » لينصروا « أباجهل » فقال أبو جهل : دعوا أبا عمارة فاني قد سبَبْتُ ابن
أخيه سبّاً قبيحاً (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 291 و 292 ، تاريخ الطبري : ج 2 ، ص 72.).
وبهذا منع « أبو جهل » الّذي كان ممن يدرك خطورة مثل هذه المواقف من وقوع شجار
وقتال. إنَّ التاريخ الثابت
والمسلَّم يشهد بأنّ وجودَ رجال ذوي بأس وقوة بين
صفوف المسلمين مثل « حمزة » الّذي أصبح في ما بعد من كبار قادة الإسلام ، قد كان
له أثرٌ كبيرٌ في حفظ الإسلام ، والحفاظ على حياة الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ودعم جماعة المسلمين ، وتقوية جناحهم
، فهذا ابن الاثير (الكامل لابن الاثير : ج 2 ، ص 56.)
يقول عن حمزة : لما اسلم حمزة عرفت قريش أن رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم قد عزّ وامتنع فكفوا عما كانوا
يتناولون منه. من هنا أخذت قريش تفكّرُ في إعداد
خطط اُخرى لمواجهة قضية الإسلام والمسلمين ، سنذكرها في المستقبل. هذا ويرى بعضُ المؤرّخين مثل ابن
كثير الشامي (البداية والنهاية : ج 2 ، ص 26 و 32.)
على أن رُدود فعل إسلام « أبي بكر » و « عمر » واثرهما لم تكن بأقلّ من تاثير
إسلام « حمزة » ، وانَّ الدين قويَ جانبه باسلام هذين الرجلين ، وكسَبَ المسلمون
بذلك القوة والحريّة في العمل والتحرك ، والحقيقة انه لا شك في انه لكل فرد
تأثيره في تقوية ودعم الإسلام ، إلاّ أنه لا يمكن ـ القولُ بحال بأن تأثير إسلام
الشيخين كان يعدل تأثير إسلام « حمزة » ، فإن « حمزة » ما انْ سمع بأن قريشاً
أساءت إلى رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
الاّ وتوجه ، من دون أن يُعرّج على أحد ، إلى المسيء وانتقم منه في الحال أشدّ
انتقام ، ولم يجرؤ أحد على الوقوف في وجهه ومنع المسيء منه ، ومن غضبه وانتقامه
، بينما يكتب ابن هشام في سيرته عن « أبي بكر » امراً يكشف عن أن « أبابكر » يوم
دخل في صفوف المسلمين لم يكن قادراً على حماية نفسه ، ولا على الدفاع عن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم.
واليك نصُّ الواقعة : مرَّ رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ذاتَ يوم على جماعة من قريش وهم جلوسٌ عندَ الحجر ، فوثبوا إليه وثبة رجل واحد ،
وأحاطوا به يقولون : أنتَ الّذي تقول : كذا وكذا ، لما كان يقول من عيب
آلهتهم ودينهم فيقول رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
: نعم أنا الّذي اقولُ ذلك ، فأخذ رجلٌ منهم بمجمع ردائه ( وهم يقصدون قتله )
فقام « أبو بكر » دونه وهو يبكي ويقول : أتقتلون رجلا يقول رَبّي اللّه؟
فانصرفوا عنه ( ولم يقتلوه لأمر رأوه ) ، فرجع رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
إلى منزله ، ورجع « أبو بكر » يومئذ وقد صدعوا فرق رأسه (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 289 و 290 ، وقد ذكر الطبري في تاريخه : ج
2 ، ص 72 قصة صدع رأس أبي بكر بالتفصيل فراجع.).
إن هذه الرواية التاريخية إذا دلّت
على مشاعر الخليفة تجاه النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
إلاّ
أنها تدل قبل أي شيء على عجزه وضعفه. إنه يدلُّ على أنه لم يملك ذلك اليوم
لا أية مقدرة بدَنية وروحية ، ولا أية مكانة اجتماعية تُرهَب ، وحيث أنَّ إلحاق
الأذى بشخص رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
كان ينطوي ـ في نظر قريش ذلك على عواقب لا تحمد ـ لذلك تركوا رسولَ اللّه ،
وَوَجَّهُوا ضربتهم إلى رفيقه وصدعوا فرق رأسه. ولو أنك قارنت بين هاتين الحادثتين
وقايست بين موقف « حمزة » الشجاع وموقف الخليفة الأوّل هذا لاستطعت أن تقضي
بسهولة بأنَّ عزة الإسلام وقوة المسلمين ، وتعزيز موقفهم ، وخوف الكفار كان يعود
إلى الإسلام أيّ واحد من ذينك الرجلين؟ هذا وستقرأ في القريب العاجل كيفية
إسلام « عمر ». وسترى بأنَّ إسلامه ـ كاسلام صديقه ـ لم يزد هو الآخر من قدرة
المسلمين الدفاعية ، وأنهم بالتالي لم يعتزوا باسلامه. فيوم أسلم « عمر » كادَ
أن يُقتل لولا « العاص بن وائل السهمي » لأنه هو الّذي خاطب الذين قصدوا قتل «
عمر » قائلا : رَجُلٌ اختار لنفسه أمراً فماذا تريدون منه؟ أترونَ بني عَدِيّ بن
كعب يسلمون لكم صاحبَهم هكذا ، خلوُّا عن الرجل » (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 349.).
إن هذه العبارة الّتي قالها « العاص
» لانقاذ الخليفة الثاني من أيدي الذين اجتمعوا على قتله تفيد ـ بوضوح ـ أن
الخوف من قبيلة « عمر » هو الّذي كان وراء تركهم إياه وعدم قتله ، وقد كان دفاعُ
القبائل عن أبنائها سنة فطرية وعادة متعارفة يومذاك وكان يتساوى فيها الكبير
والصغير ، والشريف والوضيع. أجل إنّ بني هاشم هم كانوا ـ في الواقع ـ الحصن
الحقيقي للمسلمين
، وقد كان القسط الأكبر
من هذا الأمر يتحمله « أبو طالب »
وذووه ، وإلاّ فانَّ الاشخاص الآخرين الذين كانوا ينضمُّون إلى صفوف المسلمين لم
يكن لديهم القدرة على الدفاع عن أنفسهم ، فكيف بالدفاع عن الإسلام وجماعة
المسلمين ليقال بأن المسلمين اعتزوا بهم؟ |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أبوجهل يكمُن لرسول
اللّه :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد أغضب تقدمُ الإسلام المطرد
قريشاً بشدة فلم يمرُّ يوم دون أن يبلغهم نبأ عن انضمام واحد من أفراد قريش إلى
صفوف المسلمين ولأجل هذا راح مرجل الغضب والحنق على النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
يغلي في نفوسهم ، فهذا فرعون مكة « أبو جهل ... لقريش في مجلس من مجالسهم : يا
معشر قريش إن محمَّداً قد أبى إلاّ ما ترون من عيب ديننا ، وشتم آبائنا ، وتسفيه
أحلامنا ، وشتم آهلتنا ، واني اُعاهِدُ اللّه لأَجلسنَّ له غداً بحجر ما اُطيق
حمله فإذا سجد في صلاته فضختُ به رأسه. فلما كان من غد أخذ « أبو جهل »
حجراً كما وصَف ثم جلس لرسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ينتظره ، وغدا رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
على عادته ووقف للصلاة بين الركن اليمانيّ والحجر الأسود ، وغدت تلك الجماعة من
قريش فجلست في انديتها تنتظر ما ابو جهل فاعلٌ ، فلما سجد رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
أحتمل « أبو جهل » الحجر ، ثم اقبل نحوه ، حتّى إذا دنا منه رجع منهزماً منتقعاً
لونه ، مَرعوباً وقذف الحجَر من يده ، فقامت إليه رجالٌ من قريش وقالوا له :
مالك يا أبا الحكم؟ فقال بصوت ضعيف يطفح بالخوف والرعب : قمت إليه لأفعل به ما قلتُ لكم البارحة فلما
دنوتُ منه عرضَ لي دونهُ ما لا رأيتُ مثلَه حياتي ، فتركتُه!! (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 298 و 299.).
إنه ليس من شك في أنَّ قوة غيبيّة
أدركتْ رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
بأمر اللّه تعالى في تلك اللحظة ، وصوّرت ذلك المنظر الرهيب وحفظت رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
كما وعده تعالى وعداً لا خلف فيه إذ قال : « إنّا
كَفيْناكَ المُسْتَهْزئيْن » (الحجر : 95.).
وهناك نماذج كثيرةٌ من أذى قريش لشخص
رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم سجَّلها
التاريخ في صفحاته ، وقد عقد « ابن الأثير » (الكامل في التاريخ : ج 2 ، ص 47 كما وعقد المجلسي رحمهالله
في البحار : ج 18 باباً خاصاً بعنوان : « باب المبعث واظهار الدعوة وما لقي صلىاللهعليهوآلهوسلم
من القوم » راجع من صفحة 148 إلى صفحة 243.)
فصلا خاصّاً لهذا الموضوع ذكر فيه أسماء أعداء رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
الألدّاء ، في مكّة ، وبيّن أنواع ما كانوا يؤذُون به النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
وما قد مرّ ذكره في الصفحات السابقة ما هو إلاّ أمثلة على ذلك ، فقد كان صلىاللهعليهوآلهوسلم
يواجه في كل يوم نوعاً خاصاً من الأذى ، والمضايقة. فقد رُوي أنَّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم كان يطوف ذات يوم فشتمه « عقبة بن
أبي معيط » وألقى عمامَته في عنقه ، وجرّه من المسجد ، فأخذوه من يده ، خوفاً
مِن بني هاشم (السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 293 نظيره.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أبو لهب يؤذي رسول
اللّه :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ولقد تعرّض رسولُ اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
لأذى لا مثيل له من جانب عمه « أبي لهب » وزوجته « اُم جميل » وقد كان رسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
يجاورهم ، فلم يألوا جهداً في إزعاجه وإيذائه فكم من مرّة ومرة ألقيا الرماد
والتراب على رأسه الشريف وثيابه. وكم من مرّة نشرت أم جميل الشوك على طريقه ، أو
جمعته باب بيته لتؤذيه عند الخروج. ولا شك ان معارضَة انسباء النبي
واقربائه لدعوته المباركة ، وايذاؤهم اياه كان اكثر ايلاماً لنفسه الشريفة ،
واشد وقعاً عليها ، حتّى اننا نجد القرآن يخص أبا لهب باللعن ويسميه بصورة خاصة
مما يكشف عن هذه الحقيقة إذ يقول :
« تَبّتْ يَدا أبي لَهَب وَتَبَّ. مَا أغنى عَنهُ مَا لُهُ وَما كَسَبِ.
سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبِ. وَامْرأَتُهُ حَمَّالَةَ الحَطَبِ. في جِيْدها
حَبْلٌ مِنْ مَسَد » (ـ المسد : 1 ـ 5.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
صبر النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
واستقامته :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ولكن رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
كان يواجه كل ذلك الأذى وماشابهه من التحججات الّتي سنشير اليها بصبر عظيم ،
وثبات تتعجب منه الجبال الشماء ، وذلك اولا إيماناً منه برسالته. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إيذاء المسلمين
وتعذيبُهم!
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
يرجع تقدمُ الإسلام في مطلع عهد
الرسالة إلى عوامل منها : ثبات رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
نفسه ، وثباتُ اَتباعه وأنصاره. ولقد تعرّفنا ـ في ما سبق ـ على
أمثلة ونماذج من ثبات قائد الإسلام الاكبر وصبره ، واستقامته في ما لقي من أذىً
ومضايقة. على أن ثبات أنصاره واتباعه الذين
آمنوا في مكّة ( مركز الحكومة الوثنية آنذاك ) هو الآخر ممّا يدعو إلى الإعجاب
ويستحق الاحترام. وسنذكر صمودَهم وثباتهم في حوادث ما بعد الهجرة في محله. وأمّا هنا فنسلّطُ الضوء على حياة
عدد من أتباع رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
القدامى الذين تحملوا أشد أنواع العذاب وكانوا يعيشون في المحيط المكي حيث لم
يكن ملجأ لهم يلجؤن إليه وهاجروا منه لأغراض الدعوة والتبليغ بعد أن تحملوا
شيئاً كثيراً من الإيذاء والتِعذيب على أيدي المشركين والوثنين القساة. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
1 ـ بلال الحبشي :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
كان أبواهُ ممّن اُسروا في الجاهلية
وجيء بهم من الحبشة إلى جزيرة العرب ثم إلى مكة. وأما بلال الّذي اصبح في ما بعد مؤذن
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
فقد كان غلاماً ل « اُميّة بن خلف » الّذي كان من أشدّ أعداء النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وحيث أنّ عشيرة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
تولَّتِ الدِفاع عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وحمايته ولم يمكن لاُميّة إلحاق الأذى برسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
عمد إلى تعذيب غلامه بلال الّذي أسلم ، أمام الناس ، بأشد أنواع الأذى والتعذيب
إنتقاماً ، وتشفياً. فقد كان يطرح بلالا عارياً على
الأحجار والصخور الملتهبة في الهاجرة ، ويضع صخرة على صدره ثم يقول له : لا تزال
هكذا حتّى تموت أو تكفر بمحمَّد ، وتعبد الّلات والعزّى ، فيقول وَهو في ذلك
البلاء والمحنة الشديدة : أَحَدٌ أَحَدٌ (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 317 و 318.).
ولقد أثار ثباتُ هذا الغلام الأسود
وجلدُهُ وصبرُه على أذى سيّده ، إعجابَ الآخرين ، حتّى أن « ورقة بن نوفل » مرّ
عليه وهو يعذّب بذلك وهو يقول : أحَدْ أَحَدْ ، اقبل على « اُميّة » ومن يصنع به
ذلك من « بني جمح » فيقول : احلف بالله لئن قتلتموه على هذا لأتخذنّه حناناً (
أي لأجعلنَّ قبره متبركاً ومزاراً ) (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 318.).
وربما زاد « اُميّة » من تعذيبه
لبلال فربط حبلا بعنقه وترك الصبيان يديرون به في الازقة والسكك (الطبقات الكبرى لابن سعد : ج 3 ، ص 233.).
وقد اُسِر « اُميّة »
وابنه في معركة « بدر » وكانا أولَ من اُسِرا من المشركين ،
ولم يوافق بعضُ المسلمين على قتلهما ولكن بلالا قال : « رأسُ الكفر اُميّة بن خلف
لا نجوتُ إنْ نجا ». وأدّى اُصرارُ بلال على قتلهما إلى قتل اُميّة وابنه جزاء
أعمالهما الظالمة. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
2 ـ آلُ ياسر رمز
الصمود والمقاومة!
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
كان « عَمار » ووالداه من السابقين
إلى الإسلام فهم أسلموا يوم كان رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
يلتقي باصحابه ويدعو إلى الإسلام في بيت « الارقم بن أبي الارقم » ، وعند ما عرف
المشركون بانضمامهم إلى صفوف المسلمين عمدوا إلى إيذائهم وتعذيبهم ولم يألوا
جهداً في ذلك أبداً. فقد كان المشركون يخرجون « عماراً »
واباه « ياسر » واُمَّه « سميّة » في وقت الظهيرة إلى رمضاء مكة ليقضوا ساعات
طويلة تحت أشعة الشمس الحارقة ، وفوق الرّمال الملتهبة والصخور المتّقدة كأنها
الجمرات. وقد تكرّر هذا العذابُ مرّات عديدة
حتّى أودى بحياة « ياسر » فقضى نحبَه على تلك الحال. وقد خاشنت زوجتُه « سُميّة » أبا
جَهل وكلمته في زوجها بغليظ القول ، فطعنها اللعين برمح في قلبها فقضت ـ هي
الاُخرى ـ نحبَها ، وكانا أولَ شهيدين في الإسلام (بحار الأنوار : ج 18 ، ص 241 والسيرة الحلبية : ج 1 ، ص 300 ، السيرة
الدحلانية بهامش السيرة.).
وقد آلم رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ما شاهده من حالهما وهما يعذّبان بأشد أنواع العذاب فقال لهُما ولولدهما « عمّار
» وهو يصبّرهم ، والدموع تنحدر على خدّيه : « صَبراً آلَ ياسِر فانّ موعدكم
الجنة » (السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 300 ، السيرة الدحلانية بهامش السيرة
الحلبية : ج 1 ، ص 238 و 239.).
وبعد أن قضى والدا « عمّار » نحبَهما
تحت التعذيب بالغ المشركون القساة في تعذيب « عَمّار » وإيذائه والتنكيل به ،
وأخذوا يعذّبونه على نحو ما كانوا يعذّبون به بلالا ، وهم يقصدون قتله ، وإلحاقه
بأبويه!! أو يتبرأ من دين النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
فاضطر إلى أن يعطيهم ما يريدون ويظهر الرجوع عن الإسلام ، إبقاء على نفسه ،
وتقيّة منهم فتركوه ، وانصرفوا عن قتله ، ولكنه سرعان ما ندم على فعله من
التظاهر بترك الإسلام وتألّم من ذلك فجاء إلى رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وهو يبكي ، فقال له النبيّ : كيف تجد قلبك؟ قال : مطمئن بالايمان قال : ان عادوا
فعد ، فنزلت الآية التالية في ايمان عمّار : « إنّما يَفتَري الكَذِب الذينَ لا يُؤمنُونَ
بِآياتِ اللّه وَاُوْلئكَ هُم الْكاذِبُونَ مَنْ كَفَرَ بِاللّه منْ بَعْدِ
إيمانِه إلاّ مَنْ اُكرهَ وَقَلبهُ مُطْمئنٌ بِالإيمان
» (ـ النحل : 105 و 106.)
(الدّر المنثور : ج 4 ، ص 132 عند تفسير الآيتين المذكورتين.).
هذا وروي أنّ أباجهل حينما قصد تعذيب
« آل ياسر » وكانوا أضعف من بمكة أمر بسوط ونار ثم سحبوا عماراً وأبويه على
الأرض ، فكان يكوي بطرف السيف والخنجر المحمى بالنار المشتعلة ابدانهم ، ويضربهم
بالسوط ضرباً شديداً. وقد تكرّر هذا العمل القاسي كثيراً
حتّى استشهد « ياسر » وزوجته « سُميّة » على أثر ذلك التعذيب المرير ، ولكن دون
أن يفتئا حتّى النفس الأخير عن مدح رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
والاشادة بدينه. ولقد أثار هذا المنظر المؤلم مشاعر
فتيان من قريش فأقدموا ـ رغم عدائهم للإسلام ومشاركتهم لغيرهم من المشركين في
بغض الرسول ـ على تخليص « عمار » الجريح المنهك عذاباً من براثن « أبي جهل »
ليتمكن من مواراة أبويه الشهيدين. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
3 ـ عَبدُاللّه بن
مسعود :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
تشاور المسلمون في ما بينهم في
مقرّهم السرّي في من يجهر بالقرآن على مسامع قريش ، في المسجد الحرام لأنها لم
تسمع منه شيئاً إذ قالوا : واللّه ما سَمِعَتْ قريشٌ هذا القرآن يجهر لها قط
فمَنْ رَجُلٌ يُسمِعُهُموه؟ فأبدى « ابن مسعود »
استعدادَه للقيام بهذه العملية الجريئة ، وتلاوة القرآن على مسامع قريش في
المسجد الحرام بصوت عال. فقالُوا : إنّا نخشاهم عليك ، إنّما
نريد رجلا له عشيرة يمنعونه من القوم إن أرادوه. قال : دَعوني فانَ اللّه سيمنعني. ثم غدا « ابن مسعود » حتّى أتى
المقامَ في وقت الضحى وقريش في انديتها حتّى قام عند المقام ثم قرأ : « بِسم
اللّه الرّحمن الرّحيم » رافعاً بها صوته ، « الرّحمان علّم القرآن » وهكذا
استمر يقرأ بقية آيات تلك السورة المباركة. فارعبت عبارات القرآن الفصيحة القوية
قلوب سراة قريش ، ولكي يمنعوا من تأثير هذا النداء الالهيّ العظيم قاموا إليه
جميعاً وجعَلوا يضربونه في وجهه ، وجعل هو يقرأ حتّى بلَغَ منها ماشاء اللّه أن
يبلغ ثم عادَ إلى اصحابه وقد اُدْمِيَ وجهُه وجسمه ، وهو مسرورٌ لإسْماع قريش
كتاب اللّه تعالى وآياته المباركة (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 314.).
إنَّ الَّذين صَمَدوا في أشد الأيام
وأصعبها في مطلع عهد البعثة منَ المسلمين الأوائل لا شك اكثر ممّن ذكرنا اسماءهم
إلاّ أننا اكتفينا بهذا القدر رعاية للاختصار. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
4 ـ أبوذر : أوّل
المجاهرين بالإسلام
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
كان « أبوذر » رابع أو خامس من أسلم (اُسد الغابة : ج 1 ، ص 301 ، الإصابة : ج 4 ، ص 64 ، الإستيعاب : ج 4
، ص 62. )
، وعلى هذا فهو من الذين أسلموا في الأيّام الاُولى من بزوغ شمس الإسلام وطلوع
فجره ، فإذَنْ هو من السابقين إلى الإسلام. وقد صرح القرآنُ
الكريمُ بأنّ للذين سبقوا إلى الإيمان برسول اللّه في
بدء بعثته وبالتالي فإنَ للسابقين عند اللّه تعالى مكانة عظيمة ، ومقاماً لا يضاهى إذ قال
تعالى : « السابِقُونَ
السابِقُونَ. اُوْلئكَ الْمُقَرَّبُونَ » (الواقعة : 10 ـ 11.).
وقال تعالى فيهم أيضاً. « والسّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الُمهاجِريْنَ
وَالأَنْصار وَالَّذينَ اتَّبَعُوهُمْ بإحْسان رَضيَ اللّه عَنْهُمْ وَرَضُوا
عَنْهُ وَأَعَدَّلَهُمْ جَنّات تَجْري تَحْتهَا الأَنْهار خالِديْنَ فِيْها
أبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظيمُ » (التوبة : 100.).
وقال تعالى كذلك في من آمن قبل فتح
مكة وفضلهِم ، ومكانتهم المعنوية المتفوقة على مَن أسلم بعدَ إعتزاز الإسلام ،
واشتداد أمره ، وقيام دَوْلته يعني أنّهم ليسوا سواء. « لا يَسْتوي مِنْكُمْ مِنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ
الْفَتْحِ وَقاتَلَ اُوْلئكَ أَعْظمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذيْنَ أَنْفَقُوا مِنْ
بَعْدُ وَقاتلُوا ... » (الحديد : 10.).
أجل هذه هي مكانة السابقين في
الاسلام وكان « ابوذر » منهم. هذا مضافاً إلى أنَّه يُعَدُّ أول من
نادى بالإسلام على رؤوس الأشهاد وفي الملأ من قريش. فيومَ اسلم « أبوذر » كان
رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم يدعو الناس إلى الإسلام سرّاً ، ولم
تهيّأ بعدُ ظروفُ الجَهْر بالدعوة إلى هذا الدّين ، فانَّ أتباع الإسلام
والمؤمنين به لم يتجاوز عددُهم في ذلك اليوم عددّ الأصابع هم : النبيُّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
وخمسة ممن آمنُوا به ، وقبلوا دعوته ، ومع ملاحظة هذه الإعتبارات والظروف لم يكن
بدّ حسب الظاهر ـ من أن يُخفي « أبوذر » إسلامَه ، ويعودَ إلى قبيلته من دون أن
يعرف به أحدٌ في مكة. ولكنَّ روحَ « أبي ذر » الطافحة
بالإيمان والحماس أبت ذلك ، وكأنه قد خُلِقَ لينهض في كل زمان ومكان ضدّ الظلم
والطغيان ، ويرفع عقيدته في وجه الباطل وأهله ، ويكافح الانحراف والاعوجاج أيّاً
كان مصدرُه ، وصاحبه. وأيُّ باطل اكبر من أن يُطأطِئ الناسُ أمامَ أصنام مصنوعة
من الحجر ، ويخضعوا أمام أوثان منحوتة من الخشب لا تضرُّ ولا تنفع ، ولا تعطي
ولا تمنع ، ويسجدوا لها ويتخذوها آلهة دون اللّه الخالق الكبير المتعال؟؟ إنّه ليس في وسع « أبي ذر » أن
يتحمَّل هذا المشهد البغيض المقرف!! من هنا قال لرسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
بعد أن مكث في مكة قليلا وقرأ شيئاً من القرآن : يا نبيّ اللّه ما تأمرني؟ قال : ترجعُ إلى قومك حتّى يبلُغك
أمري. فقال له : والّذي نفسي بيده لا أرجع
حتّى أصرخ بالإسلام في المسجد. قال : اني اخاف عليك أن تقتل. قال : لابد منه وإن قُتِلتُ. ثم دخل المسجد فنادى بأعلى صوته :
أشهد أن لا اله إلاّ اللّه ، وأنَّ محمَّداً عبدهُ ورسوله (حلية الأولياء : ج 1 ، ص 158 و 159 ، الطبقات الكبرى : ج 4 ، ص 225 ،
الاستيعاب : ج 4 ، ص 63 ، الاصابة : ج 4 ، ص 64 ، الدّرجات الرفيعة : ص 228.).
إن التاريخ الإسلامي يشهد بأن هذا
النداء كان أول نداء تحدّى جبروت قريش وشركها ، وقد اطلقته حنجرة رجل غريب لا
حامي له في مكة ولا نصير ، ولا قوم ولا قريب. وقد وقع ما توقّعه رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
فما أن دوى صوت ابي ذر في المسجد حتّى قام إليه رجال قريش ، وهجموا عليه من كل
جانب وضربوه بشدة حتّى صرع فأتاه العباس بن عبد المطلب فأكبّ عليه في محاولة
لانقاذه من الموت ـ بطريقة لطيفة ـ وقال : قتلتم الرجل يا معشر قريش! انتم تجار
وطريقكم على غفار ، فتريدون ان يقطع الطريق ، فامسكوا عنه. ونجحت محاولة « العباس » الانقاذية ،
وكفّت قريش عن ابي ذر. ولكن أباذر الشاب الشجاع ، والطافح
بالحيوية والحماس عاد اليوم الثاني فصنع مثل ما صنعه في اليوم الاول فضربوه حتّى
صرع ، فأكب عليه العباس ، وقال لهم مثل ما قال في أول مرة فأمسكوا عنه. ولا شك في انه لو لم يكن العباس لما
نجى أبوذر من مخالف المشركين في اغلب الظن ، ولكن أباذر لم يكن بذلك الرجل الّذي
يتراجع عن هدفه بسرعة ، ولهذا بدأ جهاده من جديد. ففي يوم رأى امرأة تطوف بالبيت ،
وتدعو ساف ونائلة ( وهما صنمان لقريش ) وتسألهما ان يقضيا لها حاجاتها ، فانزعج
أبوذر من جهل تلك المرأة ، ولكي يفهمها بانها تدعو صنمين لا يضران ولا ينفعان بل
ولا يشعران قال : أنكحي أحدهما الاُخر. فغضبت المرأة لقول أبي ذر في الصنمين ،
وتعلقت به وقالت : انت صابئ ، فجاء فتية من قريش فضربوه وجاء ناس من بني بكر
فانقذوه منهم (الطبقات الكبرى : ج 4 ، ص 223.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قبيلةُ غِفار تعتنق
الإسلام :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد أدرك رسول الإسلام صلىاللهعليهوآلهوسلم
قابليات تلميذه وناصره الجديد ، وصلابته الخارقة في مكافحة الباطل ، ولكن حيث ان
الوقت لم يكن يحنْ بعد للدخول في مواجهة ساخنة مع المشركين لهذا أمره رسول اللّه
صلىاللهعليهوآلهوسلم
بان
يلحق بقومه ، ويدعوهم إلى الإسلام ، قائلا له : « إلحق بقومك فاذا بلغك ظهوري
فأتني ». فعاد ابوذر إلى قومه ، وأخذ يدعوهم
إلى الإسلام ويكلمهم عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
ويدعوهم إلى نبذ الاصنام وعبادة اللّه الواحد ، والتخلق بالاخلاق الرغيبة. فاسلم أبواه ، أولا ، ثم اسلم نصف
رجال قبيلته « غفار » ثم اختار البقية الإسلام بعد هجرة النبي إلى المدينة ، ثم
تبعتها قبيلة « أسلم » حيث وفدوا على رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
واعتنقوا الإسلام. ثم التحق ابوذر بعد معركة بدر واُحد
برسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
في المدينة وأقام فيها (الطبقات الكبرى : ج 4 ، ص 221 و 222 و 226 ، الدرجات الرفيعة : ص 225
و 226 وص 229 و 230.).
وربما كان إيذاء المشركين للمسلمين
المؤمنين برسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
يتخذ طابع التهديد والترهيب وممارسة الضغط النفسي والاقتصادي والاجتماعي. فقد كان ابو جهل إذا سمع بالرجل قد
اسلم له شرف ومنعة أنّبه وأخزاه ، وقال له : تركتَ دين أبيك وهو خير منك ،
لنُسَفِّهَنَّ حلمَك ، ولنفيلنَّ رأيك ، ولنضعنَّ شرفك. وإن كان تاجراً قال له : لنكسدنّ
تجارتك ، ولنهلكنّ مالك. وإن كان ضعيفاً ضربَهُ ، وأغرى به (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 320.).
وروي أيضاً أن « خبّاب
بن الارت » صاحب رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
كان
قيناً بمكة يعمل السيوف وكان قد باع من « العاص بن وائل » سيوفاً صنعها له حتّى
كان له عليه مال ، فجاءه يتقاضاه ، فقال يا خَبّاب : أليس يزعم « محمَّد »
صاحبكم هذا الّذي أنت على دينه أن في الجنة ما ابتغى أهلُها من ذهب وفضة أوثياب
أوخدم ، قال خبّاب : بلى ، قال : فأنظِرني إلى يوم القيامة يا خبّاب حتّى أرجعَ
إلى تلك الدار ، فأقضيك هنالك حقَك فواللّه لا تكونُ وصاحبك يا خبّاب اشرَّ عند
اللّه مني!! (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 357.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أعداء النبي
الألدّاء :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إن للتعرف على أعداء رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وخصومه الالدّاء ، ومواقفهم دوراً هاماً في تحليل جملة من حوادث التاريخ
الإسلامي الّتي وقعت بعد الهجرة النبوية. ونحن نكتفي هنا بادراج
اسماء طائفة منهم ونذكر شيئاً من خصوصياتهم. 1 ـ « أبو لهب » : عم النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
، وقد كان جاراً له صلىاللهعليهوآلهوسلم
وهو الَّذي لم يفتأ لحظة واحدة عن تكذيب رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وايذاء المسلمين. 2 ـ « الاسود بن عبد يغوث » وكان أحد
المستهزئين وكان إذا وَجَد مسلما فقيراً لا يحميه أحدٌ قال مستهزءاً : هؤلاء
ملوك الأَرض الذين يرثون ملك كسرى!! (السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 318.).
ولم يمهله أجلُه ليرى باُم عينيه كيف
ورث المسلمون أرض كسرى وقيصر ، ووطأوا عرشهما. 3 ـ « الوليد بن المغيرة » شيخ قريش
وحكيمها الّذي كان يملك ثروة هائلة ، وسوف نتحدث عنه وعن موقفه من رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
في الفصل القادم. 4 ـ « اُميّة » و « اُبيّ » ابنا خلف
، وقد مشى « اُبي » هذا بعظم رميم إلى رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ذات يوم ففتّه في يده ثم نفخه نحو النبي وقال : أتزعم أن ربك يُحيي هذا بعد ما
ترى ( أو بعد ما رمّ )؟ فنزل قولُ اللّه تعالى : « قُلْ يُحْيِيْها الَّذي أنشأَها أوَّلَ مرَّة
وَهُوَ بِكُلِّ خَلق عَليم » (بحار الأنوار : ج 18 ، ص 202 ، السيرة النبوية : ج 1 ، ص 361 و 362.).
وقد قتل إبنا خلف هذان في بَدْر. 5 ـ « أبو الحكم بن هشام » الّذي
سماه المسلمون لعناده وتعصُّبه الجاهل ضدّ الإسلام بأبي جهل ، وقد قُتل هو الآخر
في بدر أيضاً. 6 ـ « العاص بن وائل » وهو والد «
عمرو بن العاص » ، وهو الّذي وصف رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
بالأبتر. 7 ـ « عقبة بن أبي معيط » الّذي كان من
ألدّ اعداء النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وأشدّ خصومه
بغضاً له صلىاللهعليهوآلهوسلم
، وكان لا يألو جهداً في مضايقة المسلمين ولا يترك فرصةً تمرّ دون إيذائهم! (الكامل في التاريخ : ج 2 ، ص 47 و 51 ، وراجع أيضاً اُسد الغابة ،
والاصابة والاستيعاب وغيرها.).
هؤلاءهم بعض أعداء رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
المبالغين في معاداته ، وهناك غيرُهم كأبي سفيان ممن ذكر المؤرخون خصوصياتهم
كاملة في مؤلفاتهم ، وقد أعرضنا عن إدراجهم بأجمعهم هنا رعاية للاختصار. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
عمر بن الخطاب
يعتنق الإسلام :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد كان إسلام كل واحد من الذين
أجابوا دعوة الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم
نابعاً من سبب معيَّن. فربَّما أدَّت حادثةٌ صغيرةٌ إلى أن
يعتنق فردٌ أو فريقٌ الإسلام ، وينضمُّوا إلى صفوف المسلمين. وقد اتّسمَ السَبَبُ الّذي آل إلى
إسلام عمر ـ من بين جميع تلكم الاسباب والعلل ـ بطرافة تقتضي التوقف عنده في هذه
الدراسة التاريخية التحليلية. على أن التسلسل التاريخي ، والتنظيم
الوقائعي لاحداث الإسلام وان كان يقتضي منا ان نأتي على ذكر هذه الحادثة بعد
هجرة صحابة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
إلى الحبشة ، إلاّ أن الحديث حيث دار هنا حول صحابة النبي وكيفية اسلامهم
ومواقفهم ناسب أن نشير هنا إلى كيفية إسلام الخليفة الثاني. يقول ابن هشام : كان
اسلام عمر ـ في ما بلغني ـ أن اُخته بنت الخطاب وكانت عند « سعيد بن زيد بن عمرو
بن نفيل » وكانت قد أسلمت وأسلمَ بعلُها « سعيدُ بن زيد » ، وهما مستخفيان
باسلامهما من عمَر ( وهؤلاء هم كلُ من
أسلم من آل الخطاب ) وكان خبّاب بن الأرت يختلف إلى
فاطمة بنت الخطاب يُقرئها القرأن. وكان « عمر » الّذي كانت بينه وبين
المسلمين علاقات جداً سيئة (راجع السيرة النبوية : ج 1 ، ص 342 ـ 346.)
قد أزعجه ما أصابَ المجتمع المكي من تشتُّت وفرقة ، وما لحق بقريش من المتاعب
أثر ظهور الإسلام ، من هنا عزم على أن يقضي على علة هذا الأمر باغتيال رسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
والفتك به. فخرج يوماً متوشحاً سيفَه يريد رسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم ورهطاً من أصحابه وقد ذكروا له أنهم
قد اجتمعوا في بيت عند الصفا وهم قريب من أربعين ما بين رجال ونساء ، ومع رسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم عمّه «
حمزة » بن عبد المطلب و « ابوبكر » و « علي بن ابي طالب » في رجال من المسلمين
يحفظونه ويحرسونه. يقول « نعيم بن عبد اللّه » وقد كان
صديقاً حميماً لعمر : لقيت عمراً وهو متوشح سيفاً ويريد مكاناً فقلتُ له : أينَ
تريد يا عمر؟ فقال : اُريد محمَّداً هذا الصابئ
الّذي فرّق في أمر قريش ، وسفّه أحلامها وعابَ دينها ، وسبَّ آلِهتها ، فأقتُله.
فقال له نعيم : واللّه لقد غرّتك
نفسُك من نفسِك يا عمر ، أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلتَ
محمَّداً أفلا ترجع إلى اهل بيتك فتقيم أمرَهم؟ قال : وأيُ أهل بيتي؟ قال : ختنُك وابنُ عمك « سعيد بن زيد
» واختك « فاطمة بنت الخطاب » فقد واللّه أسلما ، وتابعا محمَّداً على دينه
فعليك بهما. فأغضب هذا النبأُ عمر بشدة فانصرف عن
الهدف الّذي كان يرمي إليه وعاد من توّه إلى بيت اُخته ، فدخل على اُخته وختنه
وعندهما « خبّاب بن الأرت » معه صحيفة فيها سورة « طه » يقرئُهما إياها ، فلما
سمعوا حسّ « عمر » تغيّب « خبّاب » في مخدع لهم ، أوفي بعض البيت ، واخفت «
فاطمة بنت الخطاب » الصحيفة ، وكان « عمر » قد سمع حين دنا إلى البيت قراءة « خبّاب
» عليهما ، فلما دخل قال : « ما هذه الهينمة (الهينمة صوت كلام لا يُفهم.)
الّتي سمعت؟ قالا له : ما سمعتَ شيئاً. قال : بلى واللّه ، لقد اُخبرِتُ
أنكما تابعتما محمَّداً على دينه. وبطش بختنه « سعيد بن زيد » فقامت
إليه اختُه « فاطمة بنت الخطاب » لتكفَّه عن زوجها فضربها فشجَّها. فلما فعل ذلك قالت له اخته وختنُه :
نعم قد اسلمنا وآمنّا باللّه ورسوله ، فاصنعْ ما بدا لك. فلما رأى « عمر » ما باُخته من
الدَّم نَدمَ على ما صنع ، فارعوى ورجع ، وقال لاُخته : اعطيني هذه الصحيفة
الّتي سمعتكم تقرأون آنفاً أنظرُ ما هذا الّذي جاء به محمَّد؟ فلما قال ذلك قالت له
اُخته : إنّا نخشاك عليها. قال : لا تخافي وحلف لها
بآلهته ليَرُدّنها إذا قرأها ، اليها. فلما قال ذلك طمعتِ في اسلامه ،
فقالت : يا اُخيّ ، إنك نجسٌ على شِركك وانّه لا يمسُّها إلاّ الطاهر ، فقامَ «
عمر » فاغتسل ، فأعطته الصحيفة وفيها آياتٌ من سورة « طه » هي : طه.
ما أنْزَلْنا عَليْكَ القُرْآنَ
لِتَشْقى. إلاّ تَذكَرَةً لِمَنْ يَخْشى. تَنْزيلا مِمَّن خَلقَ الأرْضَ
وَالسَماواتِ العُلى * الرَّحمن عَلى العرش اْستوى. لَهُ ما في السَماواتِ وَما
في الأرْض وَما بَيْنهما وَما تَحْتَ الثرى. وإنْ تَجهَر بالقَول فانَّه يَعلَمُ
السِرَّ واخفى (طه : 1 ـ 8.).
ولقد تركت هذه الآياتُ المحكمة
الفصيحة البليغة تأثيراً شديداً في نفس عمر فقال : ما احسن هذا الكلام؟ وقرر الرجلُ ، الّذي كان قبل ثوان
عدوَّ الإسلام الأول ، أن يغيّر موقفه ، فتوجه من توّه إلى البيت الّذي ذكر له
أنَّ فيه رسول صلىاللهعليهوآلهوسلم
وجماعة من أصحابه وهو متوشح سيفَه ، فضربَ عليهم الباب ، فلمّا سَمِعُوا صوته
قام رجلٌ مِن أصحاب رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
فنظر من خلل الباب فرآه متوشحاً السيفَ فرجَع إلى رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وهو فزع وأخبرَ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
بما رأى ، فقال حمزة : فائذن له ، فان جاء يريد خيراً بذلناه له ، وإن كان يريد
شراً قتلناه بسيفه. فقال رسولُ اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم : إئذن له ، فأذِنَ له الرجل ، ونهض
إليه رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
حتّى
لقيه في الحجرة ، فأخذ حجزته ( وهو موضع شد الإزار ) أو بمجمع ردائه ثم جَبذَهُ
جبذَةً شديدةَ ، وقال : ما جاء بك يابن الخطاب فواللّه ما أرى تنتهي حتّى ينزل
اللّه بك قارعة؟! فقال عمر : يا رسول اللّه جئتك لاؤمن
باللّه وبرسوله وبما جاء من عند اللّه. وهكذا اسلم « عمر » عند رسول اللّه
وأصحابه وانضوى إلى صفوف المسلمين. ثم ان ابن هشام روى رواية اُخرى في
كيفية اسلام عمر من أراد الوقوف عليها راجعها في السيرة النبوية (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 343 ـ 346.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
16
رأي قريش في القرآن
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ان البحث حول حقيقة الاعجاز القرآني
أمرٌ خارج عن اطار هدفنا في هذا الكتاب فذلك متروكٌ إلى الكتب الإعتقادية
والكلامية. ولكن الأبحاثَ التاريخيَّة تهدينا
إلى أن القرآن الكريم كان من أكبر وأقوى اسلحة الرسول الاكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم
بحيث خضع أمام فصاحته البالغة وحلاوة كلماته وقوة آياته ، وعباراته ، اساتذة
الفصاحة والبلاغة واُمراء البيان والكلام ، وعمالقة الكتابة والخطابة ، واعترفوا
برمَّتهم ، وقضّهم وقضيضهم بأَنَّ القرآن الّذي جاء به محمَّد يحتل أعلى مكان في
الفصاحة والبلاغة ، وأنَّ مثل هذا الحديث لم يعرفه البشر ولم يعهد له التاريخ
الانساني نظيراً. فلقد كانت جاذبيّة « القرآن الكريم »
وتأثير حديثه بحيث ترتعد عند استماع آياته فرائص أعدى اعدائه ، وربما انهارت
قواه ، فبقي مدة طويلة ، لا يقوى على حِراك ، ولا يملك فعل شيء. وفيما يلي نذكر بعض
النماذج في هذا المجال : |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
حُكمُ الوَليد في
القرآن :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
كان « الوليدُ بن المغيرة » ممن
يرجُع إليه العربُ لحل الكثير من مشاكلها ، وكان ذاسنٍّ ، وثروة كبيرة فيهم. وعندما واجهت قريش مشكلة ظهور
الإسلام وانتشاره في القبائل مشى فريقٌ منهم إلى الوليد يلتمسون منه حلا لهذا
الأمر الّذي بات يهدّد كيان الزعامة المكيّة الجاهلية ، وطلبوا منه أن يبيّن
رأيه في القرآن الكريم وقالوا : هل هو سِحر امْ كهانة امْ حديث قد حاكَهُ بنفسه.
فاستنظرهم « الوليد » ليعطي رأيه فيه
بعد أن يسمع شيئاً من القرآن ، فأتى إلى الحجر حيث كان يجلس النبيُّ ، ويتلو
القرآن ، فقال : يا محمَّد أنشدْني شعرك. فقال النبيُّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
: ما هو بشعر ، ولكنّه كلام اللّه الّذي به بعث انبياءه ورسله. فقال : اُتلُ عليّ منه ، فقرأ عليه
رسول اللّه : « بسم اللّه الرحمن الرحيم ». فلما سمع : الرحمان ، استهزأ فقال :
تدعو إلى رجل باليمامة يسمى بالرحمان؟ قال. لا ، ولكني أدعو إلى اللّه وهو
الرحمان الرحيم ثم افتتح سورة « حم السجدة » فلما بلغ إلى قوله تعالى : « فان أعرَضوا فَقلْ أنذَرتُكُمْ صاعقة مثل صاعقة
عاد وثمود ». وسمعه الوليد ، فاقشعر جلده ، وقامت
كل شعرة في راسه ولحيته ، ثم قام ومضى إلى بيته ولم يرجع إلى قريش. فقالت قريش : يا ابا الحكم صبا ابو
عبد شمس إلى دين محمَّد ، أما تراه لم يرجع الينا وقد قبل قوله ، ومضى إلى
منزله. فاغتمت قريش من ذلك غماً شديداً وغدا
عليه ابو جهل فقال : يا عم نكّست رؤوسنا وفضحتنا. قال : وما ذاك يا ابن أخي؟ قال : صبوت إلى دين محمَّد. قال : ما صبوتُ واني على دين قومي
وآبائي ، ولكني سمعت كلاماً صعباً تقشعر منه الجلود فقال أبو جهل :
أشِعر هو؟ قال : ما هو بشعر. قال : فخطبٌ هي؟ قال : لا وان الخطب كلام متصل ، وهذا
كلام منثور ، لا يشبه بعضُه بعضاً ، له طلاوة. قال : فكأنه هي؟ قال : لا. قال : فما هو؟ قال : دعني افكر فيه. فلما كان من الغد ، قالوا : يا ابا
عبد شمس ما تقول؟ قال : قولوا : هو سحر فانه أخذ بقلوب الناس فأنزل اللّه سبحانه
فيه : « ذَرْني وَمَنْ خَلقْتُ وَحيداً * وَجَعلْت لَهُ مَالا مَمْدُوداً *
وَبَنينَ شُهُوداً » إلى قوله : « عَليْها تِسْعَة عَشر » (المدثر : 11 ـ 30.)
(بحار الأنوار : ج 17 ، ص 211 و 212 ، إعلام الورى بأعلام الورى : ص
41 و 42.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
نموذَجٌ آخرٌ :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
كان « عتبة بن ربيعة » من كبراء قريش
واشرافها ، ويوم أسلم « حمزة » وأصبح أصحاب رسول اللّه يزيدون ويكثرون اغتمّت
قريش كلّها ، وخشي زعماء المشركين ان ينتشر الإسلام اكثر من هذا فقال عتبة وهو
جالس في نادي قريش يوماً ، ورسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
جالس في المسجد وحده : يا معشر قريش ألا أقوم إلى « محمَّد » فاكلّمه وأعرض عليه
اُموراً لعلّه يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء ويكف عنا؟ فقالوا : بلى يا أبا
الوليد قم إليه فكلّمه. فقام إليه « عتبة » حتّى جلس إلى
رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
، فقال : يابن أخي إنك منّا حيث ما قد علمت من الشرف في العشيرة والمكان في
النسب ، وانك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرّقت به جماعتهم وسفّهت به أحلامَهم ،
وعبت به آلهتهم ، ودينهم ، وكفّرت به من مضى من آبائهم ، فاسمع مني اُعرض عليك
اُموراً تنظر فيها لعلّك تقبل منها بعضَها ، فقال رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
قل يا أبا الوليد اسمع. قال : يا ابن أخي إن كنتَ إنما تريد
بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتّى تكون اكثرنا مالا ، وان
كنت تريد به شرفاً سَوَّدناك علينا حتّى لانقطع أمراً دونك ، وإن كنتَ تريدُ به
مُلكا ملّكناك علينا ، وإن كان هذا الّذي يأتيك رئيّاً ( وهو ما يتراءى للناس من
الجنّ ) تراه لا تستطيع ردَّهُ عن نفسك طلبنا لك الطبَّ ، وبذَلنا فيه أموالنا
حتّى نُبرئك منه فإنه ربّما غلب التابع على الرجل حتّى يداوي منه ، حتّى إذا فرغ
« عتبة » ، ورسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
يستمع منه قال : أقد فرغتَ يا أبا الوليد؟ قال : نعم قال : فاسمع منّي ؛ قال :
إفعل ، قال : « بِسم اللّه
الرحمن الرَّحيم. حم * تَنْزيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ. كِتابٌ فُصِّلَتْ
آياتُهُ قُرآناً عَربيّاً لِقَوْم يَعْلَمُونَ. بَشيراً وَنَذيراً فَأَعْرضَ
اكثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ. وَقالُوا قُلُوبُنا في أكنّة مِمّا تَدْعُونا
إليْهِ » (فصلت : 1 ـ 5.).
ثم مضى رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
فيها يقرؤها عليه ، فلمّا سمعها منه « عتبة » أنصتَّ لها وألقى يديه خلفَ ظهره
معتمداً عليهما يسمع منه وبقي على هذه مدة من الزمن صامتاً وكأنه قد سُلِبَ قدرة
النطق ، ثم انتهى رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى السجدة فسجد ثم قال :
« قد سمعتَ يا أبا الوليد ما سمعتَ
فأنتَ وذاك ». فقام « عتبة » إلى أصحابه وقد
تغيَّرت ملامحُه فقال بعضهم لبعض : نحلف باللّه لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه
الّذي ذهبَ به!! فلما جَلس إليهم قالوا : ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال : ورائي اني قد سمعت قولا واللّه
ما سمعت مثله قط ، واللّه ما هو بالشعر ، ولا بالسحر ، ولا بالكهانة ، يا معشر
قريش ، أطيعوني واجعلوها بي ، وخلّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه ،
فواللّه ليكوننَّ لقوله هذا الّذي سمعتُ منه نبأ عظيم ، فان تصِبهُ العربُ فقد
كفيتموه بغيركم ، وان يظهر على العرب فمُلكه ملكُكُم ، وعزُه عزّكم ، وكنتم أسعد
الناس به. فانزعجت قريشٌ من مقالة « عتبة » هذا
وسخرت به وقالت : سحرَكَ واللّه يا ابا الوليد بلسانه!! قال : هذا رأيي ، فاصنَعوا ما بدا
لكم (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 293 و 294.).
هذان نموذجان من رأي كبار فصحاء
العرب في العهد الجاهليّ ، في القرآن الكريم. على أن هناك أمثلة ونماذج اُخرى
كثيرة في هذا المجال. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
تحججاتُ قريش
العجيبة :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
اجتمع « عتبة بن ربيعة » ، و « شيبة
بن ربيعة » و « أبو سفيان بن حرب » و « النضر بن الحارث » ، و « أبو البختري » ،
و « الوليد بن المغيرة » ، و « ابو جهل » و « العاص بن وائل » وغيرهم بعد غروب
الشمس عند ظهر الكعبة ، ثم قال بعضهم لبعض : إبعثوا إلى « محمَّد » فكّلِمُوه ،
وخاصموه حتّى تعذروا فيه ، فبعثوا إليه ؛ فجاءهم رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
سريعاً وهو يظن أن قد بدا لهم فيما كلَّمهم فيه بداء وانهم قد غَيَّروا مواقفهم
، وكان يحبّ رشدهم وهدايتهم حتّى جلس إليهم. فقالوا له : يا محمَّد إنّا قد بعثنا
إليك لنكلّمكَ ، وانّا واللّه ما نعلم رجلا من العرب أدخلَ على قومه مثلَ ما
أدخلتَ على قومك لقد شتمتَ الآباء ، وعبتَ الدّين ، وشتمت الآلهة ... ومضوا
يعددون أُموراً من هذا القبيل ثم اقترحوا عليه اُموراً ذكرها اللّه تعالى
بتمامها في الآية 90 إلى 93 من سورة
الإسراء حيث يقول حاكياً عن لسانهم : « وَقالُوا لن نُؤمن لَك حَتى
1 ـ تفجُرَ لَنا مِنَ الأَرض يَنْبُوعاً.
2 ـ أوْ تكون لك جَنَّةٌ مِن نَخيْل وعنَب فَتُفجّر
الأَنْهارَ خِلالَها تفجيراً. 3 ـ أوْ تُسقطَ السَماء كما زعَمْتَ عَلْينا كِسَفاً.
4 ـ أوْ تأتي باللّه وَالملائكة قبيلا.
5 ـ أو يكُونَ لكَ بَيْتٌ مِن زُخْرُف.
6 ـ أوْ ترقى في السَماء ولن نؤمنَ لِرُقيِّكَ حَتّى
تُنزِّلَ عَليْنا كِتاباً نَقْرؤُهُ »!! * * * وحيث أنَّ مضمون هذه الآيات هو عدم
تلبية النبيّ لِمطالبِ قُريش حيث قال : « قُلْ سُبْحانَ اللّه رَبّي هَلْ كُنْتُ
إلاّ بَشراً رَسُولا » قد تذرع به المستشرقون للايقاع بالرسالة المحمَّدية لذلك
نعمد هنا إلى توضيح مفاد هذه الآيات والعلل المنطقيّة لعدم تلبية النبيّ مطالب
قريش ومقترحاتهم. الجواب
:
إنَّ الأنبياء لا يأتون بالمعاجز في كل ظرف وزمان ، فإن للاعجاز شروطاً خاصة لم
تتوفر في هذه الاقتراحات ، وهذه الشروط هي
: أولاً :
أن لا تكون المعجزة من الاُمور المستحيلة الّتي لا يمكن تحقّقها ، فإنّ مثلَ هذه
الاُمور خارجة عن إطار القدرة ، ولا تتعلق بها مشيئة اللّه تعالى ولا مشيئة أيّ
صاحب إرادة مطلقاً. وعلى هذا الأساس إذا طلب الناسُ من
النبيّ أمراً محالا ، فقوبل طلبهم بعدم الاهتمام من قبل النبيّ لم يكن ذلك دليلا
على إنكار صدور المعجزة على أيدي الأنبياء قط. وهذا الشرط لم يكن متوفراً في بعض
مقترحات المشركين المذكورة ( المقترح الرابع ) فانهم طَلبوا من النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
ان يأتي لهم باللّه سبحانه وتعالى ليقابِلوه وجهاً لوجه ، ويروه جهرة ومن قريب ،
ورؤية اللّه تعالى امر محال ، لأن رؤيته تستلزم أن يكون سبحانه محدوداً بالزمان
والمكان ، وأن يكون جسماً وذا لون وصورة وهو تعالى منزهٌ عن المادّة ولوازم
المادية. بل حتّى مقترحُهم الثالث لو كان
المقصود منه أن تسقط السماء عليهم (
لا أن تسقط قطعة من الصخر على رؤوسهم وتقتلهم ) فان ذلك هو
أيضاً من المحالات إذ أن المشيئة الالهية تعلّقت بان يفعل اللّه هذا في نهاية
العالم ، والنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
كان قد أخبر المشركين بهذا الأمر أيضاً كما يدل عليه قولُهم : « كما زعمتَ ». إنَّ إنهدامَ المنظومة الشمسيّة وتبعثرَ
النجوم وتساقطها وإن لم يكن في حد ذاته بالأمر المحال ، ولكنّه ـ حسب المشيئة
الإلهية الحكيمة وإرادته النافذة القاضية بأن يستمر النوع البشري ، ويصل إلى
مرحلة الكمال ـ يعدّ محالا ، ولا يمكن أن يفعل حكيمٌ خلاف ما يقتضيه هدفه
وغايته. ثانياً : حيث أنّ الغاية المنشودة من
اقتراح وطلب الإعجاز هو أن يستدِلّ به على صدق دعوى النبيّ ، وصحة انتسابه إلى
اللّه ، وبالتالي يكون بدافع تحصيل سند على ارتباطه بعالم ما فوق الطبيعة ، لذلك
فان أيّ اقتراح ومطالبة بالمعجزة لا تتوفر فيها هذه الصفة يعني على فرض أن يلبيّ
النبيُ طلبَهم ويأتي لهم بالمعجزة لا يكون ذلك دليلا على ارتباطه بعالم الغيب ،
فحينئذ لا معنى ولا موجب لأن يقوم النبيُّ بما لا يرتبط بشؤونه ولا يخدم هدفه. وقد كانت بعض مقترحات المشركين
المذكورة من هذا النوع ، وذلك مثل تفجير ينبوع من الأرض ، أو أن تكون له جَنّة
من نخيل وعنب ، أو أن يكون له بيتٌ من زخرف وذهب ، فإنّ مثل هذه الاُمور لا تدل
على نبوّة من يمتلكها إذ ما اكثر الذين يمتكلون واحدة من هذه الأشياء وليسوا مع
ذلك بأنبياء ، بل ربما يملكون اكثر من ذلك ، ومع ذلك لا يشم فيهم رائحة الايمان
فضلاً عن النبوة. فاذا لم ترتبط هذه الأشياء بمقام
النبوّة ، ولا تكون دليلا على صدق من يدّعيها كان الإتيان بها أمراً لغواً
وعبثاً تعالى عنه مقام النبوّة ، وجلّت عنه منزلة الأنبياء. وقد يقال : إنّ هذه الاشياء (أي الامور الثلاثة المقترحة الينبوع والجنة والبيت من ذهب.)
لا تدل على صدق دعوى النبي إذا حصلت عن طريق الأسباب العادية ، ولكنّها لو حصلت
بصورة غير عاديّة ولا متعارفة كانت ولا شك من المعاجز الالهية ، ودلت على صدق
النبي وصحة دعواه. ولكنّ الظاهر أن هذه فكرةٌ باطلة لان
المشركين كانوا يهدفون من اقتراحاتهم هذه أن يكون النبيُّ صاحب مال وثروة ، فقد
كانوا يستبعدون أن يكون نبيُّ اللّه ورسولُه فقيراً لا يملك شيئاً من الثروة
والمال ، وكانوا يعتقدون أنّ الوحي الالهي يجب أن ينزل على رجل غنيّ ذي طول وحول
، ولذلك قالوا مستغربين ومستنكرين : « وَقالُوا
لَوْلا نُزِّلَ هذا القُرانُ عَلى رَجُل مِنَ الْقَريتين عَظِيم »
(الزخرف : 31.)؟!!
أي لماذا لم ينزل هذا القرآن على
رَجُل ثَريّ من مكة أو الطائف. وممّا يدلّ على أن الهدف كان هو أن
يملك النبيُ مثل هذه الاُمور بأي طريق كان ، ولو بالطريق العاديّ أنهم كانوا
يريدون هذه الاشياء للنبيّ نفسه إذ قالوا : « أوْ يكونَ لكَ بيتٌ مِنْ زُخْرُف »
(الاسراء : 93.).
وبعبارة اُخرى :
كانوا يقولون إذا أنت لا تمتلك بستاناً أو بيتاً من ذهب فاننا لن نؤمن لك!! ولو كان الهدف هو أن
يحصل هذان الأمران بواسطة القدرة الغيبية لم يكن وجه حينئذ لقولهم : ما لم يكن « لَكَ » بيتٌ من زخرف ، فاننا نؤمن بك بل كان يكفي أن يقولوا : إذا لم
تحدِث وتوجد بيتاً وجنّة فاننا لن نؤمن لك. أمّا قولهم في مطلع
اقتراحاتهم : « تُفجّرَ لَنا منَ الأَرض يُنبوُعاً
» فان مقصودَهم لم يكن هو أن يستخرج لهم بالاعجاز ينبوعاً لينتفعوا به ، بل يفعل
ذلك لكي يؤمنوا به. ثالثاً : انَ المقصود من المعجزة هو الاهتداء
في ضوئها إلى صحّة دعوى النبيّ وصدق مقاله ، والإيمان بمنصبه ، والإعتقاد بمقامه
، وعلى هذا إذا كان بين المقترحين للمعجزة من يكونُ الاتيان له بالإعجاز سبباً
لإيمانه بالنبيّ ، فحينئذ كان الاتيان بالمعجزة وتلبية اقتراحه أمراً مستحسناً ،
وغير مقبوح عقلا. أما إذا كان المقترحون ، يقترحون
عناداً ولجاجاً ، أو يطلبون ما يطلبونه لهواً وتسليةً كما يفعل الناس مع السحرة
والمرتاضين فانَ منزلة الأنبياء أجلّ ـ حينئذ ـ من أن يلبيَّ مثلَ هذه المقترحات
، ويستجيب لمثل هذه المطالب ، وقد كانت بعض إقتراحات المشركين من هذا النمط. فان مطالبتهم بأن يصعَدَ النبيُّ إلى
السماء ، أو أن يُنزل من السماء كتاباً يقرأونه لم يكن بهدف إكتشاف الحقيقة
لأنهم لو كانوا ممن يهدف الوصول إلى الحقيقة فلماذا لم يكتفوا بمجرّد صعوده إلى
السماء بل كانوا يصرّون على أن يضمَّ أمراً آخر إلى عروجه وصعوده ( وهو أن ينزّل
معه كتاباً )!! ثم أنه يُستفاد من آيات اُخرى ، غير
هاتين الآيتين ايضاً ، أنهم كانوا سيعاندون ، ويصرون على كفرهم حتّى بعد نزول
الكتاب عليهم من السماء كما يصرح بذلك قوله تعالى : « وَلَوْ نَزلنا عَلَيْكَ كِتاباً في قِرطاس
فَلَمَسُوهُ بِأيْديْهِمْ لَقالَ الَّذينَ كَفرُوا إنْ هَذا إلاّ سِحْرٌ
مُبِيْنٌ » (الانعام : 7.).
فمن غير المستبعد أن يكون الكتابُ
المنزّلُ في قرطاس إشارة إلى إقتراح المشركين الّذي جاء ضمن آيات سورة الاسراء
أي قولهم : « أوْ تَرْقى
في السَّماء وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقيِّك حَتّى تُنزِّلَ عَليْنا كِتاباً نقرأوه
» (الأسراء : 93.)
فقال اللّه سبحانه : حَتّى لَو فعلنا لهم ذلك لكفروا ، واحجموا عن الإيمان. رابعاً
:
إنَّ طلبَ المعجزة إنّما هو لأجل أن يستتبع الاتيانُ بها الإيمانَ بالرسالة
والانضمام إلى صفوف المؤمنين ، فاذا كانت نتيجةُ المعجزة هي إباء المقترحين
استلزم ذلك نقض الغرض المنشود من المعجزة ، وانتفاء فائدتها. فاذا كان المقصود من سقوط السماء
عليهم ، هو نزول الصخور السماوية لابادتهم فان هذا الطلب لا يتفق أبداً مع هدف
الإعجاز وهو من أوضح مصاديق نقض الغرض. وبالتالي ينبغي أن
نذكّر بنقطة وهي : أنّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
على خلاف ما تصوّر المستدلّون بهذه الآية على نفي أية معجزة لرسول الإسلام ـ لم
يصف نفسه بالعجز وعدم القدرة على الاتيان بالمعجزة بل أفاد بقوله : « سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إلا بَشراً رَسُولاً
» (الأسراء : 93.)
أمرين : 1 ـ تنزيه اللّه ، فهو
بقوله : « سبحانَ ربّي » نزّه اللّه تعالى عن كل عجز
ونقص كما نزّهه عن الرؤية ووصفه بالقدرة على كل شيء ممكن. 2 ـ محدوديّة قدرة
النبيّ ، إذ بقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم
: «
هَلْ كُنْتُ إلا بَشراً رَسُولا » أفاد بأنه امرئ مأمور لا أكثر وأنه مطيعٌ لأمر
اللّه وإرادته فهو يأتي بما يريد ربُّه ، والأمرُ إلى اللّه كله ، وليس للنبيّ
أن يُلبّي أيَ طلب واقتراح بارادته. وبعبارة اُخرى : ان
الآية ركّزت في مقام الجواب على طلبهم بعد تنزيه اللّه عن العجز والرؤية على
كلمتي : « البشر والرسول » والهدف هو انه : إذا أنتم قد طلبتم هذه الاُمور منّي
من جهة إنني بشر ، كان طلبكم هذا طلباً غير صحيح ، لأن هذه الاُمور تحتاج إلى
قدرة الهية. وإن طلبتموها منّي من جهة اني نبيُّ
رسولٌ فان النبي والرسولَ ما هو إلاّ إمرئ مأمورٌ يفعلُ ما ياذنُ به اللّه ،
وليس له ان يفعل ما يشاء هو دون إرادة اللّه تعالى. وبهذا اتضح أن هذه الآيات لا تدلُّ
على ما استدل به النافون لمعاجز النبي الاكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وكان ممّا تَحججت به
قريش على رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
انّهم قالوا : لَوْ كانَ مُحمَّداً نبيّاً لشغَلته
النبوةُ عن النساء ولأمكنه جمع الآيات ( اي لأتته الآيات دفعة واحدة ) ولأمكنه
منعُ الموت عن اقاربه ولما مات أبو طالب وخديجة فنزل قولُه تعالى : « وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلا مِنْ قَبْلِكَ
وَجَعلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيّة وَما كانَ لِرَسُولِ أنْ يأَتي بآية إلا
باِذن اللّه لِكل أجل كِتاب. يمحو اللّه ما يشاء وَيُثبت وَعِنْدَهُ اُمُّ
الْكِتاب. وَإنْ مّا نرينَّك بعضَ الَّذي نَعدُهُمْ أو نَتوفينَّكَ فَإنَّما
عَليْكَ البَلاغُ وَعَليْنا الْحِسابُ ». وبذلك ردّ عليهم (الرعد : 38 ـ 40.)
(بحار الأنوار : ج 19 ، ص 17 عن المناقب.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الدوافع وراء
معاداة قريش وعنادهم :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
هذا القسم هو احدى النقاط الجديرة
بالدراسة في تاريخ الإسلام ، لأن المرء قد يسائل نفسه ، لماذا ترى كانت قريش
تعارض رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
أشدّ المعارضة رغم أنها كانت تعتبره الصادق الأمينَ ولم تعهد منه انحرافاً أو
خطأ قط وكانت تسمع كلامه الفصيح البليغ الّذي يأسر القلوب ، وربما شاهدوا حدوث
بعض الخوارق للعادة ، الخارجة عن حدود القوانين الطبيعية على يديه. إن لهذا التمرد
والمعارضة إلى علة أو علل عديدة هي : |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
1 ـ حَسَدُهُمْ
للنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
:
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد عارض رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وخالفه فريقٌ ممن عارضه بسبب حسدهم له ، فقد كانوا يتمنُّون أن يكونوا هم صاحب
هذا المنصب ، وصاحب هذه المنزلة. فقد قال المفسِّرونَ عند قوله تعالى
: « وَقالُوا لَولا نُزِّلَ هذا
الْقُرانُ عَلى رَجُل مِنَ القَريَتَيْنِ عَظيم
» (الزخرف : 31.)
أن « الوليد بن المغيرة » قال : أيُنزَّل على محمَّد واُترك وأنا كبير قريش
وسيّدها ويترك « ابو مسعود عمرو بن عمير الثقفي » سيد ثقيف ونحن عظيما القريتين
فأنزل اللّه تعالى فيه الآية (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 361.).
وروى انه قال : واللّه لو كانت
النبوّة حقاً لكنتُ أولى بها منكَ لأنَّنِي اكبرُ منكَ سناً وأكثر منكَ مالا (بحار الأنوار : ج 18 ، ص 235.).
وكان « اُميّة بن أبي
الصلت » من الذين كانوا يقولون هذا الكلام حول رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وكان يتمنى كثيراً أن ينال هو هذا المقام ويحظى بهذا المنصب العظيم ، ولم يتبع
رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى آخر
حياته ، وكان يؤلّب الناس عليه. وقد سأل « الاخنسُ بن شريق » ـ وهو
من أعداء رسول اللّه ـ أبا جهل يوماً يا ابا الحكم ما رأيك فيما سمعتَ من «
محمَّد »؟ فقال : ماذا سمعتُ ، تنازعنا نحن
وبنو عبد مناف الشرفَ ، أطعَمُوا فأطعَمنا ، وحَملوا فحمَلنا ، وأعطوا فأعطينا
حتّى إذا تجاذبنا على الركب ، وكنا كفرسي رهان ، قالوا : منّا نبيُّ يأتيه
الوحيُ من السماء ، فمتى تدركُ مثل هذه ، واللّه لا نؤمنُ به أبداً ولا نصدّقه (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 315 و 316.).
هذه النماذج تُظهِرُ
الحسد الّذي كان يحول بين زعماء قريش وساداتها وبين إتّباع رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم وتصديقه ،
فَعثَوا على اللّه وتركوا أمره عياناً ، ولجّوا فيما هم عليه من الكفر ، وهناك نماذج وأمثلة اُخرى سجّلتها صفحات التاريخ أعرضنا عن
إدراجنها هنا. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
2 ـ معارضة الدعوة
الإسلامية لشهواتهم :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وكان لهذا العامل الأثر الاكبر في
عتو قريش ومعارضتها لدعوة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
لأنهم كانوا أصحاب لهو ولعب ، وفسق ومجون ، ومثل هؤلاء الذين أمضوا سنوات عديدة
على هذا النحو ، دون ان يقيّدهم شيء من الحدود والقيود ، وجَدوا دعوة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
تخالف عاداتهم القديمة ، وكان ترك مثل تلك العادة الّتي تتفق معه أهوائهم
ورغباتهم النفسيّة أمراً يلازم النصب والعناء والجهد. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
3 ـ الخَوفُ مِن عُقُوبات
اليوم الآخر :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إن سماع آيات العذاب الّتي تنذر
الفَسقة والظالمين وتوعدهم بالعقوبات الثقيلة ارعب قلوبهم ، وأقلق نفوسهم بشدة. فعند ما كان رسولُ اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
يتلو الآيات المتعلّقة بيوم القيامة وأوضاعه ، وقضاياه في الاجتماعات والاماكن
العامة ، كان يحدث بذلك ضجةً كبرى في أوساطِهِم ، فيهدم مجالس لهوهم ، واُنسهم. إنّ العربي الّذي كان يسلِّحُ نفسه
بكل ما استطاع من سلاح ليدفع عن نفسه أيَ خطر محتمل ، ويعمد إلى ممارسة القرعة
ويتعاطى الانصاب والازلام ليحصل على لقمة عيشه ، ويتفأل بالاحجار ، ويتطيّر
ويتشاءم بالطيور ويستدلُّ بحالاتها على حوادث وقَعت أو تقعُ ، لم يكن على
استعداد لأن يهدأ من دون ان يحصل على ضمان بعدم التعرض لما يخبر عنه « محمَّد »
من عذاب وعقاب!! من هنا كانوا يحاربون
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
ويخالفونه حتّى لا يسمعوا وعده ووعيد. واليك بعض الآيات
الّتي كانت تقلق بشدة نفوس المترفين من قريش : « فَإذَا جَاءت الصّاخَّةُ. يَومَ يفرُّ المرْءُ
مِن أخيه. وَاُمِّه وأبيهِ. وَصاحبِتِه وَبَنيِه لِكُلِّ أمرئ مِنْهُمْ يَوْمَئذ
شَأَنٌ يُغْنِيه » (عبس : 33 ـ 37.).
وبينما كانوا يمدّون موائد اللهو
والشراب في ظلال الكعبة ويحتسون كؤوس الخمر كانوا فجأة يسمعون هذه الآية : « كُلّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدّلْناهُمْ
جُلُوداً غَيرَها لِيذُوقْوا العَذابَ » (النساء : 56.).
فتلقي في نفوسهم رعباً عجيباً ،
وينتابهم الاضطراب الشديد حتّى أنهم كانوا يلقون بكؤوس الخمر جانباً ويتملكهم
خوف شديدٌ لم يعرفوا له مثيلا. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
4 ـ الخَوفُ مِن
القَبائل العَربية المشركَة :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قال « الحارث بن نوفل
بن عبد مناف » لرسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم : انا لنعلم أنَّ قولك حقٌ ولكن
يمنُعنا أن نتبع الهُدى ونؤمن بك مخافةَ أن يتخطفنا العربُ من أرضنا ( إن تركنا
الوثنية التي تدين بها ويعتبروننا سَدنة لأوثانها ) ولا طاقة لنابها. فنزل قوله
تعالى يرد عليهم : « وَقالُوا
إنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أرضنا أوَ لَمْ نُمكِّنْ لَهُمْ
حَرماً آمِناً يُجبى إليه ثمراتُ كُلِّ شيء رزْقاً مِنْ لَدُنَّا
» (القصص : 57.)
(بحار الأنوار : ج 18 ، ص 236.).
وهكذا كان تخوّف قريش من العرب إن هي
تركت ما كان عليه العربُ من الوثنية والشرك أحد الاسباب لعتوهم وَإعراضهم عن
قبول الدعوة الإسلامية. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
طائفةٌ مِن
اعتراضات المشركين :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وربما اعترض المشركون
على النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
قائلين : إن هذه الارض ليست بأرض الانبياء ، وإنما ارضُ
الأنبياء الشامُ فآت الشامَ (بحار الأنوار : ج 18 ، ص 198.).
وكان اكثر المشركين يقولون ـ وذلك
بوحي من اليهود ـ لماذا لا ينزل القرآن على « محمَّد » دفعة واحدة كالتوراة والانجيل
فحكى القرآن الكريم إعتراضهم هذا بنصه إذ قال : « وَقالَ الَّذيْنَ كَفرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَليْهِ
الْقُرانُ جُمْلةً واحِدَةً ». ثم قال
تعالى ردّاً على إعتراضهم هذا : « كَذلِكَ
لِنُثَبِّتَ بهِ فُؤادَكَ » (الفرقان : 32.).
إن القرآن يهتم بهذا الإعتراض ، ويوضح
مسألة « النزول التدريجي » للقرآن الكريم ويقطع الطريق على المستشرقين المغرضين
ومن حذى حذوهم ، بمنطقه المحكم ، وبيانه القويّ. وها نحن نعمد هنا إلى
إعطاء شيء من التوضيح لهذه المسألة ايضاً : |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
القُران والنُزُولُ
التدريجيّ :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إن التاريخ القطعيّ لنزول القرآن
وكذا مضامين آيات سوره تشهد بأن آيات
القرآن الكريم وسوره نزلت تدريجاً. فبمراجعة فاحصة لأوضاع
مكة ، والمدينة يمكن تمييز المكيّ من هذه الآيات عن مدنيّها. فالآيات الّتي تتحدثُ عن مكافحة
الشرك والوثنية ودعوة الناس إلى اللّه الواحد ، والإيمان باليوم الآخر مكيّة ،
بينما تكون الآيات الّتي تدور حول الأحكام وتحثُّ على الجهاد والقتال مدنيّة ،
ذلك لأنّ الخطاب في البيئة المكيّة كان موجَّهاً إلى المشركين عَبدة الاوثان
الذين كانوا ينكرون توحيدَ اللّه ، واليوم الآخر ، فهنا تكونُ الآيات الّتي
تتحدث حول هذا الموضوع قد نزلت في هذه البيئة. في حين كان الخطاب في المدينة
المنورة موجّها إلى المؤمنين باللّه ، وإلى جماعة اليهود والنصارى ، وكان الجهاد
والقتال في سبيل إعلاء كلمة اللّه هو الأعمال المهمّة الّتي بدأها رسولُ اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وواصلها في هذه البيئة ، من هنا تكون الآيات الّتي تتضمن الحديث حول الاحكام
والفروع والقوانين ، ويدور الحديث فيها أيضاً حول عقائد اليهود والنصارى
ومواقفهم وتتضمن الحثَّ ـ كذلك ـ على الجهاد والقتال والتضحية في سبيل اعلاء
كلمة اللّه وإعزاز دينه ، آيات مدنيّة. إنّ كثيراً من الآيات ترتبط إرتباطاً
وثيقاً بالحوادث الّتي وقعت في زمن رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
، وهذه الحوادث هي الّتي تشكّل ما يسمّى بشأن أو أسباب النزول التي يكون الوقوفُ
عليها مُوجباً لفهم مفاد الآية ، وإيضاح مفادها ، فان وقوع هذه الحوادث كان
سبباً لنزول آيات فيها بالمناسبة. على أن بعض الآيات الاُخرى نزلت
جواباً على أسئلة الناس ، ولرفع حاجاتهم في المجالات المختلفة. والبعضُ الآخر منها نزلت لبيان
المعارف والأحكام الالهية. ولهذه الاسباب يمكن القولُ بان
القرآن الكريم نزل على رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
تدريجاً لتدرّج موجبات النزول. وقد صرَّح القرآن الكريم بهذا الامر
أيضاً في بعض المواضع إذ قال : « وَقُرْاناً فَرَقْناهُ لِتَقْتَرأَهُ عَلى
النّاسِ عَلى مُكْث » (الاسراء : 106.).
وهنا يطرح هذا السؤال
وهو :
لماذا لم تنزل آياتُ القرآن كُلها على رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
جملة واحدة ، ودفعة واحدة كما حدث ذلك للتوراة والإنجيل من قبل؟! إنّ هذا السؤال لم يكن جديداً بل
طرحه أعداء النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
ومعارضوه في عصر الرسالة في صورة الاعتراض أيضاً حيث كانوا يقولون : « لَوْلا
نُزِّلَ عَليْهِ الْقُرانُ جُمْلَةً واحِدَة » (الفرقان : 32.).
ويمكن تقرير وشرح هذا
الاعتراض على نحوين : 1 ـ إذا كان الإسلام ديناً إلهياً ،
وكان القرآن كتاباً سماوياً منزلا من جانب اللّه على رسوله ، فلابدّ أن يكون
ديناً كاملا ، ومثل هذا الدين الكامل يجب أن ينزل بواسطة ملائكة الوحي على رسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
جملة واحدة من دون تدرّج ولا توقف في نزول الآيات ، إذا لا مبرّر ولا داعيَ لأن
ينزل دينٌ كاملٌ من جميع الجهات ، مكمّل من حيث الاُصول والفروع والتشريعات
والواجبات والسنن ، على نحو التدريج في 23 عاماً ، ولمناسبات مختلفة. وحيث أن القرآن نزَلَ منجّماً ،
وبصورة متفرقة متناثرة ، وعقيب طائفة من الأسئلة ، أو وقوع حوادث وطروء حاجات في
أزمنة مختلفة يمكن الحدس بان هذا الدين لم يكن كاملا من حيث الاُصول والفروع ،
وهو يتدرّج في التكامل ومثل هذا الدين الناقص الّذي يسير نحو كماله خطوة خطوة وبالتدريج
لا يصحّ أن يوصَف بالدين الالهيّ. 2 ـ إن آيات القرآن والتاريخ القطعي
والمسلّم للتوراة والإنجيل والزّبور تحكي جميعها عن أن هذه الكتب السماوية
اُعطيت إلى المرسلين بها في ألواح مكتبوة مدوّنة ، فلما لم ينزل القرآن الكريم
على هذا الغرار ، كأن ينزل القرآن على « محمَّد » في لوح مكتوب كما نزل التوراة
في الواح مكتوبة؟! وحيث أن المشركين لم يكونوا يعتقدون
بهذه الكتب السماوية قط ، ولم يكن لهم على علم مسبق بكيفية نزولها ، لذا يمكن
القولُ بان مقصودهم من هذا الاعتراض كان هو الشكل الأول من هذا التوضيح ، والّذي
يتلخص في أنه لماذا لم ينزّل ملائكة الوحي آيات القرآن على رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
جملة واحدة ، بل نزلت هذه الآيات عليه صلىاللهعليهوآلهوسلم في فواصل
زمنية متفاوتة ، وبمناسبات وحسب وقائع مختلفة متدرّجة؟! |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأسرارُ المنطقيّة
للنُزول التدريجي للقرآن :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ولقد كشف القرآنُ القناعَ ـ في معرض
الردّ على إعتراض المشركين هذا ـ عن حِكَم وأسرار النزول التدريجيّ للقرآن
الكريم. واليك توضيح هذا القسم
الّذي اشار إليه الكتاب العزيز بعبارة مقتضبة قصيرة : 1 ـ إن الرسولَ الاكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم
يتحمَّل مسؤوليات كبرى ، وان شخصية كهذه من الطبيعي ان يواجه مشاكلَ ومتاعَب
باهضة وصعبة ، ولا ريب أن تلك المشاكل والمتاعب توجب الكلل ، وانخفاض مستوى
النشاط مهما كانت الروحُ الّتي يتمتع بها الشخصُ عظيمة ، وقويّة ، في مثل هذه
الحالة يكون تجديدُ الارتباط بالعالم الأعلى ، وتكرّرُ نزول الملك من جانب اللّه
تعالى باعثاً على تجدّد النشاط ، وعاملا قوياً في بثّ القوة والحماس والمعنوية
الفاعلة في نفس النبيّ وروحه ، وبالتالي فان العناية والمحبّة الالهية الممتدّة
لنبيّه ورسوله إنما تتجدد بتكرّر نزول الوحي عليه صلىاللهعليهوآلهوسلم
من جانبه تعالى. وقد أشار القرآن إلى هذه الحقيقة
النفسية الكبرى إذ قال : « كَذلِكَ
لِنُثَبِّتَ بِه فُؤادَكَ » (الفرقان : 32.).
2 ـ ويمكن ان تكون الجملةُ المذكورة
ناظرة إلى جهة اُخرى وهي : انَ المصالح التربوية والتعليمية تقتضي أن يتنزلَ
القرآنُ الكريمُ على نحو التدريج ويُلقى إلى الناس على هذا الشكل ايضاً وذلك لان
النبي الاكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم
معلّم الاُمة ، وطبيبُها الروحيُ الّذي بُعِث إلى الناس بالوصفات الالهية
لتعليمهم ، وهدايتهم ومعالجة أمراضهم وأدوائهم الاجتماعية والخلقيّة ، والفكرية
، وكُلِّفَ بأن يُطبِّق هذه الوصفات في حياتهم العملية ، ومثل هذا يتطلب التدرّج
لينفَع الدواء ـ حينئذ ـ وتنجعَ المعالجةُ. إن أفضل وأنجح أساليب التربية هو أن
يمتزج الجانب العمليّ بالجانب النظري في أيّة محاولة تربوية ، وأن يطبق كل ما
يدرسه الاستاذ بصورة عملية تطبيقية ، ويعطي لما يلقيه من معلومات ، صبغة تحقيقية
، ويتجنَبَ بشدة إتصافَ أفكاره وآراءه بالطابع النظريّ البحت. فلو أن الاستاذ المتخصّص في الطبّ
اكتفى بالقاء جملة من المعلومات الكليّة والاُسس العامة من الطبّ على طلابه في
الصف حُرم النتائج المتوخّاة والغايات المطلوبة من تعليم الطبّ ، بشكل كامل. أما إذا قَرنَ الاستاذ درسَه النظري
بالإرشاد العمليّ وطبَّق ما ألقاه وبيّنه من أفكار ومعلومات في هذا المجال على
جسم مريض راقد أمام الطلبة فانه سيحصل على نتائج أحسن ، ويساعد الطلبة على فهم
افضل للمواد الّتي درسوها في هذا المجال. فلو أنَّ الآيات القرآنية الكريمة قد
نزلت جملةً واحدة ( والحال أن المجتمع الإسلامي لم يكن يحتاج إلى كثير منها )
كان القرآن ـ حينئذ ـ فاقداً لهذه المزية التربوية الهامة الّتي أشرنا إليها
قريباً في مثال تدريس الطب. ان بيان الآيات الّتي يشعر الناس في
انفسهم بعدم الحاجة إلى اخذها وتعلّمها ، لا يترك التأثيرَ الباهرَ في القلوب ،
بينما إذا نزل ملائكة الوحي بآيات القرآن حسب حاجات الناس الّتي يشعرون فيها
بضرورة تعلّمها لتضمِّنها الأحكامَ والاُصولَ والفروعَ الّتي يحتاجون إليها فانه
لا شكَّ يكون لها في هذه الحالة تأثير أحسن وأقوى في قلوب الناس. كما سيكون لها
ترسّخٌ اكبر في نفوسهم ، وسيظهرُ الناس من انفسهم إستعداداً اكبر لاخذ ألفاظها
ومعانيها ، وفوق كل ذلك سيشعرون بنتائج هذه التعاليم عند تعليم النبيّ إيّاها
لهم ، وعندئذ تتحقق المقولة التربوية الّتي اشرنا إليها في ما سبق وهي اقتران
كلام المربّي بالنتيجة لأن النظريات إتخذت طابعاً عملياً ، ولم تكن مجرد نظريات
لا ترتبط بالواقع. ولكن يبقى هنا سؤالٌ
آخر وهو : إذا كان نزولُ القرآن قد تحقَّق على نحو التدريج
وتبعاً للاحتياجات والحوادث المختلفة ، فان ذلك يستلزم انفصام العلاقات والروابط
بين الآيات والسور ، وهذا ينتج أن لا يهتم الفكر البشري بتعلّم وحفظ معارفها
لتبعثرها ، وتباعد أزمنتها وغياب علاقاتها ، ولكن لو نزل القرآنُ جملة واحدة
وتلاه ملائكة الوحي على رسول اللّه دفعة واحدة لرُوعيَت الروابطُ والعلاقات بين
قضايا الوحي ولتضاعَفَت رغبةُ الناس واستعدادهم لأخذها وحفظها؟ ولقد أجاب القرآن
الكريم ايضاً على هذا السؤال إذ قال : صحيح أن
آيات القرآن الكريم نزلت على نحو التدريج تبعاً لطائفة من المقتضيات والموجبات
إلاّ أن هذا النزول التدريجي لا يمنع ابداً من ترابط مطالبه ، وارتباط مواضيعه بعضها
ببعض ، فان اللّه تعالى أفاض على هذه الآيات إِنسجاماً وترابطا خاصاً يمكن
الإنسان من تعلمها وضبطها وحفظها إذا أعطى الموضوعَ قليلا من الإهتمام إذ قال
تعالى : « وَرتّلناه تَرتيلا » (الفرقان : 32.).
أي إنّنا أعطينا آيات
القرآن نظاماً معيناً وترتيباً خاصاً. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أسرارٌ اُخرى
لِنُزُول القرآن تدريجاً :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
3 ـ لقد واجَه رسولُ اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
في فترة رسالته ونبوّته فئات مختلفة من الناس : كالوثنيين ، واليهود والمسيحيين
الذين كان لكل فئة منهم ديناً خاصاً ، وعقائد وتصورات خاصة حول المبدأ والمعاد ،
وغيرهما من المعارف العقلية. وقد كانت اللقاءات المختلفة هذه توجب
أن يعمد الوحي الالهيّ إلى توضيح وبيان عقائد هذه الفئات ( وإن لم يكن مطلوباً
ومقترحاً من قبلهم ) ويقيم الأدلة والبراهين على بطلانها ، وزيفها ، هذا من
جانب. ومن جانب آخر
كانت هذه اللقاءات في أزمنة متفاوتة ، وأوقات مختلفة ، لهذا لم يكن بدّ من أن
ينزل الوحيُ الالهي تدريجاً ، وفي الأوقات المختلفة ، ويتصدى لبيان بطلان تلك
العقائد والتصورات ويجيب على شبهات المخالفين ، اعتراضاتهم. وربما كانت توجب هذه المواجهاتُ
العقائدية إلى أن يطرحوا على النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
بعض الاسئلة إمتحاناً واختباراً له وكان على النبيّ أن يجيب عليها ، وحيث أن هذه
الاسئلة كانت تطرَح في أوقات مختلفة ، لهذا لم يكن مناص من أن ينزل الوحيُ
الالهيُ في الأوقات والأزمنة المختلفة ، وعلى نحو التدريج. هذا مضافاً إلى أن حياة النبي نفسَها
كان حياة ثورة ، ووقائع ، وكان النبيُ يواجه باستمرار أحداثاً وقضايا يجب توضيح
حكمها ، وبيان المنهج فيها من جانب الوحي الالهي. وربما كان الناس أنفسهم يواجهون في
حياتهم اليومية حوادثاً واُموراً يرجعون فيها إلى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
يطلبون منه الحكم الالهيّ فيها ويسألونه عما يجب إتخاذه من الموقف الشرعيّ في
تلك الحوادث وما يشابهها. وحيث أن هذه الحوادث ، وما يترتب
عليها من تساؤلات كانت تقع في اوقات متلفة ، وبمرور الزمن ، لذلك لم يكن بد
ايضاً من ان ينزل الوحيُ الالهيّ بالتدريج ليجيب على هذه الأسئلة أوّلا بأوّل. وقد أشار القرآنُ الكريمُ إلى هذه
النقاط ، وإلى نقاط اُخرى غيرها في قوله تعالى : « ولا يَأْتُونَكَ بمَثَل إلا جِئناكَ بِالحَقِّ
وَأَحسَنَ تَفْسيراً » (الفرقان : 33.).
4 ـ إن للنزول التدريجيّ للقرآن
الكريم وراء كل ذلك سراً آخر ، وعلة اُخرى غفلوا عنها ، ألا وهي : هداية الناس
وتوجيه أنظارهم إلى منشأ هذا الكتاب ، وأن القرآن ليس الاّ كتاباً سماوياً ،
ووحياً الهياً لا غير ، ولا يمكن أن يكون من نسج العقل البشريّ ، لأن القرآن نزل
خلال ( 23 عاماً ) عبر طريق طويل من أنواع الحوادث والوقائع المسرة والمحزنة ،
المقرونة بالنصر والهزيمة ، والنجاح والإخفاق ، ولا شكَّ أن هذه الحالات
المختلفة ، والاحاسيس والمشاعر المتنوعة المتباينة ، تترك أثراً عميقاً في نفس
الإنسان ، وروحه وعقله ، ولا يمكن لإنسان واحد أن يتكلم بكلام من نوع واحد ،
وبنبرة واحدة ، في حالتين نفسيّتين متضادتين ، فالكلام الصادر في حال الفرح
والابتهاج والمسرة من اللسان أو القلم ، يختلف من حيث الفصاحة والبلاغة وجمال
اللفظ وعمق المعنى اختلافاً بارزاً عن الكلام الصادر في حال الحزن والتعب ،
والاخفاق ، والهزيمة. بينما لا يوجد أي شيء من الاختلاف من
حيث الألفاظ والمعاني بين آيات القرآن الكريم مع أنّها نزلت على رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وهو يمر بحالات مختلفة من الحزن والسرور والاخفاق والانتصار والسرّاء والضرّاء ،
والعسر والرخاء والجهد والنشاط ، بل نجد تلك الآيات على نمط ونسق واحد من القوة
والفصاحة والبلاغة ، وجمال اللفظ وعمق المعنى بحيث يستحيل على أيّ بشر بلَغَ ما
بلغ أن يعارض آية من آياته أو سورة من سوره ، وكأنّ القرآن الكريم كمية من
الفضّة المائعة خرجت من الاُتون جملة واحدة لا يوجد بين آياتها أىُ شيء من
التفاوت والاختلاف ، أو كأنّه جوهرة واحدة أولها كآخرها وآخرها كأولها. ولعلّ الآية التالية الّتي تنفي أيّ
نوع من أنواع الاختلاف في القرآن إذ تقول : « وَلَو كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْر الله لَوَجَدُوا
فيه إخْتِلافاً كثيراً » (النساء : 82.)
اشارة إلى هذا السرّ. إنَّ المفسرين اعتبروا هذه الآية
ناظرة إلى نفي الاختلاف والتناقض بين مفاهيم الآيات ومفاداتها ، ومقاصدها ، في
حين لا تنفي هذه الآية مجرّد هذا النوع من الاختلاف بل تقدّس القرآن المجيد
وتنزهه من جميع انواع الاختلاف والتناقض الّذي هو من لوازم العمل والانتاج
البشري. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
17إلى
الحبشة
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الهجرة الاولى
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
تُعتَبر هجرة فريق من المسلمين إلى
أرض الحبشة دليلا بارزاً على إيمانهم واخلاصهم العميق لدينهم ، ولربهم وذلك لأن
فريقاً من الرجال والنساء يقررون ـ وبهدف الحفاظ على عقيدتهم والتخلص من أذى
قريش ومضايقتها والحصول على مكان آمن يقيمون فيه شعائرهم بحرية ويعبدون اللّه
الواحد ـ مغادرة ( مكة ) ، العربية التي ترزح تحت ظلام الوثنية ، فلا يمكن أن
يرفعوا نداء التوحيد عالياً في أية نقطة من نقاطها ، ولا يمكنهم اقامة احكام
الدين الحنيف فيها من دون خوف أو وجل ، وبعيداً عن الارهاب ، ويفكرون ، ويفكرون
، وأخيراً يقودُهم التفكير إلى أن يفاتحوا رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
بهذه المسألة ، ويطلبوا في ذلك رأي النبي الّذي يقوم دينه على مبدأ : « إنَّ أرضي واسعة فإيّاي فاعبُدُون »
(العنكبوت : 56.).
لقد كان رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
يعرف أوضاع المسلمين المؤلمة جيداً ، فقد كان هو يحظى بحماية بني هاشم ، وكان
الفتيان الهاشميون يحمونه ويحفظونه من كل اذى ، ولكن الذين آمنوا به من الإماء
والعبيد ، ومن ليست لهم حماية من الأحرار المستضعفين الّذين كانوا يشكلون عدداً
كبيراً من المسلمين السابقين كان يتعرضون لشتى صنوف العذاب والايذاء والمضايقة
من قريش الّتي لم تأل جهداً ، ولم تدخر وسعاً ، ولم تفوّت فرصةً ولا وسيلةً
لالحاق العنت والأذى بالمؤمنين برسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
، ولا يستطيع صلىاللهعليهوآلهوسلم
منعهم من ذلك. وقد كان زعماء كل قبيلة يعمدون ـ
للمنع من نشوب أيّ صِدام بين القبائل ـ إلى تعذيب من اسلم من ابناء قبيلتهم ،
وايذائه والتنكيل به ، وقد مرت عليك نماذج وامثلة من أذى قريش وتعذيبها القاسي
للمسلمين. لهذه الأسباب عند ما طلب أصحابُ
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
رأيه في الهجرة من مكة قال في جوابهم : « لَوْ خَرجْتُمْ إلى أرض الحَبَشة
فانَّ بِها مَلِكاً لا يُظلَمُ عِندَهُ أحَدٌ وهي أرضُ صِدْق حَتى يَجعَلَ
اللّهُ لكُم فَرَجاً ممّا أنتُم فيهِ » (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 321 ، تاريخ الطبري ج 2 ، ص 70 ، وبحار
الأنوار : ج 18 ، ص 412 نقلا عن مجمع البيان للطبرسي.).
أجَل انَ مجتمعاً صالحاً يتسلَّم
زمامَ الأمر فيه رجلٌ صالحٌ عادلٌ نموذج مصغّر من جنّة عدن بالنسبة إلى المسلمين
المضطهدين في بلدهم بسبب عقيدتهم ، وهو ما كان يريده ويتمناه أصحاب رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ليتمكنوا من القيام بشعائر دينهم فيه في جوٍّ من الطمأنينة والامن. ولقد كان لكلام رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم أثر قوىٌ في نفوسهم تلك الثلة
المؤمنة الباحثة عن ارض تعبد فيها اللّه في أمان ، بحيث لم يمض زمان إلاّ وقد
شدّت رحالها وغادرت مكة ليلا في غفلة من الاجانب ( المشركين ) مشاة وركباناً ،
متجهةً نحو جدّة ، للسفر عبر مينائها إلى ارض الحبشة. وكان هذا الفريق يتألف من عشر أو
خمسة عشر شخصاً بينهم أربعة من النسوة المسلمات (تاريخ الطبري : ج 2 ، ص 70.).
والآن يجب أن نرى لماذا لم يذكر
رسولُ اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
للمسلمين مناطقَ اُخرى للهجرة اليها ، وانما ذكر الحبشة فقط. ان سر هذا الاختيار هذا يتضح إذا
درسنا أوضاع الجزيرة العربية وغيرها من المناطق آنذاك. ان الهجرة إلى المناطق العربية الّتي
كان سكانها من المشركين والوثنيين قاطبة كان أمراً محفوفاً بالخطر ، فان
المشركين كانوا سيمتنعون عن قبول المسلمين في أرضهم إرضاء لقريش أو وفاء وتعصباً
لدين الآباء ( الوثنيّة ). وكذلك المناطق الّتي كان يقطنها
المسيحيّون أو اليهود ، من الجزيرة العربية لم تكن تصلح لهجرة المسلمين إليها هي
الاُخرى لان تينك الطائفتين كانتا تتقاتلان فيما بينهما في صراع مذهبيّ وطائفي ،
فلم تكن الأوضاع لتسمح بأن يدخل طرفٌ ثالث في حلبة الصراع ، هذا مضافاً إلى أن
ذينك الفريقين ( اليهود والنصارى ) كانا يحتقران العنصر العربيّ أساساً ، فكيفَ
يمكن الهجرة إلى مناطقهم والتعايش معهم؟! أما « اليمن » فقد كان تحت سيطرة
الحكم الإيرانيّ الملكيّ ، ولم تكن السلطاتُ الإيرانية آنذاك لتسمح باقامة
المسلمين في ربوع « اليمن » ، لما عُرف من نقمتها فيما بعد على الدعوة الإسلامية
إلى درجة انه لما وصلت رسالة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
إلى « خسرو برويز » كتب إلى عامله على اليمن فوراً « احمل إليّ هذا الّذي يذكر
أنه نبيٌّ ، وبدأ اسمَه قبل اسمي ، ودعاني إلى غير ديني »
!! (بحار الأنوار : ج 20 ، ص 382.).
وكذلك كانت « الحيرة » تحت الاستعمار
والنفوذ الايرانيّ كاليمن. وأمّا « الشام » فقد كانت بعيدة عن «
مكة المكرمة » ، هذا مضافاً إلى ان « اليمن » و « الشام » كانتا سوقين لقريش ،
وكانت تربُط قريش بسكان هاتين المنطقتين روابط وعلاقات وثيقة ، فاذا كان
المسلمون يلجأون إليها اُخرجوا منهما بطلبٍ من قريش ، تماماً كما طلبت من ملك
الحبشة مثل هذا الطلب ، ولكنه رفض طلبهم. وقد كانت الرحلة البحرية ـ في تلك الآونة ـ وبخاصة
برفقة النساء والاطفال رحلة شاقة جداً ، من هنا كانت هذه الهجرة ، وترك الحياة
والمعيشة في الوطن دليلا قوياً على إخلاص اُولئك المهاجرين لدينهم وعمق ايمانهم
به ، وصدقه. ولقد كان ميناء « جدة » آنذاك ميناء
تجارياً عامراً كما هو عليه الآن ، ومن حسن التوفيق أن هذه الثلة المهاجرة قد
وصلت إلى هذا الميناء في الوقت الّذي كانت فيه سفينتان تجاريتان على اُهبة
الاقلاع ، والتوجه نحو الحبشة ، فبادر المسلمون إلى ركوبها والسفر عليها دون
تلكّؤ خشية لحاق قريش بهم والقبض عليهم ، لقاء نصف دينار عن كل راكب. وكان ذلك في شهر رجب
في السنة الخامسة من مبعث رسول اللّه (بحار الأنوار : ج 18 ، ص 412 نقلا عن مجمع البيان للطبرسي.).
ولما عرف المشركون بهجرة بعض
المسلمين أمروا جماعةً من رجالهم بملاحقة اولئك المهاجرين واعادتهم إلى مكة
فوراً ، ولكن المسلمين المهاجرين كانوا قد غادروا شواطئ « جدة » قبل أن يدركهم
الطلب (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 321 ـ 323.).
ومن الواضح أن ملاحقة مثل هذه الثلة
الّتي لم تلجأ إلى أرض الغير إلاّ لأجل الحفاظ على عقيدتها والفرار من الفتنة
لنموذج بارز من عتوّ قريش وعنادها. فاولئك المهاجرون مؤمنون تركوا الأهل
والوطن ، واغمضوا الطرف عن المال ، والتجارة ، وخرجوا يطلبون أرضاً نائية
يمارسون فيها شعائرهم بحرية ، ومع ذلك لا يكف عنهم زعماء مكة وجبابرتها
وطغاتها!! اجل ان رؤساء « دارالندوة » بمكة
واقطابها كانوا يعلمون جيداً أسرار هذه الهجرة وآثارها من خلال بعض القرائن ،
والمؤشرات ولذلك كانوا يرددون فيما بينهم اُموراً سنذكرها في ما بعد. هذا والجدير بالذكر
أن اعضاء هذا الفريق المهاجر لم يكونوا من قبيلة واحدة بل كان كل واحد من هؤلاء
العشرة ينتمي إلى قبيلة خاصة. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الهجرة الثانية إلى
الحبشة :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ثم انه وقعت بعد هذه الهجرة هجرة
اُخرى ، وكان في مقدمة المهاجرين هذه المرة « جعفر بن أبي طالب ». ابن عم رسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم.
ولقد تمت الهجرة الثانية في منتهى
الحريّة ، لأن المسلمين المهاجرين استطاعوا في هذه الهجرة ان يصطحبوا معهم
نساءهم وأولادهم ، بحيث بلغ عدد المسلمين في أرض الحبشة هذه المرة (83).
هذا إذا لم نحص من وُلد في أرض
الحبشة لهُم ، والاّ كان العددُ اكثر من هذا الرقم. ولقد وَجَدَ المسلمون المهاجرون ارضَ
الحبشة كما وصفها رسولُ اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
لهم : منطقة عامرة ، وبيئة آمنة حرّة ، تصلح لأَن يُعبد فيها اللّه تعالى بحرية
وأمان. تقول « اُم سلمة »
الّتي تشرفت بالزواج من رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم في ما بعد ، عن تلك الارض : لما
نزلنا أرضَ الحبشة جاوَرنا بها خير جار
النجاشي ، أمنّا على ديننا ، وعبدنا اللّه تعالى ، لا
نؤذى ، ولا نسمع شيئاً نكرهه. كما أنه يُستفاد ممّا قاله بعض اولئك
المهاجرين من الشعر في الحبشة ، انهم أمنوا بأرض الحبشة ، وحمدوا جوار النجاشي ،
وعَبدوا اللّه لا يخافون على ذلك أحداً. ونحن نكتفي هنا بادراج
بعض الأبيات من قصيدة مطوَّلة أنشأها « عبد اللّه بن الحارث » في هذا الصدد :
(1)المُغلغلَة : الرسالة ترسَل من بلد إلى بلد. (2)السيرة النبوية : ج 1 ، ص 351 ـ 353. ويقول ابن الاثير :
وكان مسيرهم ( إلى الحبشة ) في رجب سنة خمس من النبوة وهي السنة الثانية من اظهار الدعوة فاقاموا شعبان وشهر رمضان
وقدموا في شوال سنة خمس من النبوة ، وكان سبب
قدومهم إلى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم انه بلغهم
ان قريشاً اسلمت فعاد منهم قومٌ وتخلّف قومٌ (الكامل في التاريخ : ج 2 ، ص 52 و 53.).
هذا ويمكن للقارئ الكريم أن يقف على
تفاصيل هذا القسم في السيرة النبويّة لابن هشام (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 354 ـ 362.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قريش توفد رجالا
لاسترداد المسلمين :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
عندما بلغ قريشاً وزعماء « مكة » ما
أصبح فيه المسلمون المهاجرون من أمن وحرية ، وما حصلوا عليه من حسن الجوار
والطمأنينة والراحة في أرض الحبشة ثارت ثائرة الحسد والغيظ في قلوبهم ، وتوجسوا
خيفة من نفوذ المسلمين في الحبشة لأن أرض الحبشة قد أصبحت قاعدة قوية للمسلمين ،
وكانت الزعامةُ المكيةُ تتخوفُ من أن يجد أنصارُ الإسلام واتباعُه منفذاً إلى
بلاط النجاشي زعيم الاحباش وملِكهم ، ويُميلّوا قلبَه نحو الإسلام ، ويكسبوا
تاييده للمسلمين ، فيؤول الامر إلى أن يعبّئ جيشاً كبيراً للقضاء على حكومة
المشركين الوثنيين في شبه الجزيرة العربية ، وعندها تكون الكارثة. فاجتمع أقطابُ « دار
الندوة » مرة اُخرى للتشاور في الأمر ، فأستقرّ
رأيهم على أن يبعثوا إلى البلاط الحبشيّ من يقدم إلى النجاشيّ ووزرائه وقواده
هدايا مناسبة يستميلونهم بها ليستطيعوا من هذا الطريق التأثير على النجاشي ثم
يتسنّى لهم بعد ذلك ان يقنعوه بضرورة إخراج المسلمين المهاجرين من أرضه أن
يتهمونهم عنده بالسفاهة والجهل ، وابتداع دين جديد منكر ، والإرتداد عن دين
الآباء والاجداد!! ولكي تتحقق خطتهم هذه على أحسن وجه
ويصلوا عن طريقها إلى افضل النتائج اختاروا من بينهم رجلين ماكرين اصبح احدُهما
في ما بعد من دهاقنة السياسة وهما : « عمروُ بن العاص » ، و « عبد اللّه بن ابي
ربيعة » وقال لهما كبير المؤتمرين في ذلك الدار : إدفعا إلى كل بطريق هديته قبل
أن تكلّما النجاشي فيهم ، ثم قدّما إلى النجاشيّ هداياه ، ثم سلاه أن يسلّمهم
إليكما قبل أن يكلمهم. فخرج موفَدا قريش حتّى قدما على
النجاشي بعد أن تلقّيا هذه التعليمات. وهناك في الحبشة دَفعا إلى كل بطريق من بطارقة النجاشيّ وقادة
جيشه ووزرائه هديته ، وقالا لكل بطريق منهم : إنه قد ضوى (ضوى أيّ لجأ وأتى ليلا.)
إلى
بلد الملك منّا غُلمان سفهاء ، فارقوا دينَ قومهم ، ولم يَدخلوا في دينكم ،
وجاؤوا بدين مبتدَع لا نعرفه نحن ولا انتم ، وقد بعثنا إلى المِلِك لنكلّمه في
أمرهم أشرافُ قومهم ليردَّهم اليهم فاذا كلَّمنا الملكُ فيهم ، فأشيروا عليه بأن
يسلّمهم إلينا ، ولا يكلّمهم ، فان قومَهم أبصر بهم ، واعلم بما عابوا عليهم. فابدى اُولئك البطارقة والقادة
والوزراء الطامعون الجهلة استعدادهم لمساعدة الرجلين في إنجاح مهمتهم. ولما كان من غد دخلا على النجاشي
وقدما هداياهما إليه فقبلها منهما ثم كلّماه فقالا له : أيها الملك إنه قد ضَوى إلى بلدك منا
غِلمان سفهاء ، فارقوا دينَ قومهم ولم يدخلوا في دينك ، وجاؤوا بدين ابتدعوه لا
نعرفه نحن ولا أنت ، وقد بَعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم
وعشائرهم لتردَّهم اليهم ، فهم أبصر بهم واعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه. وما أن انتهى موفدا قريش من الكلام
إلاّ وقالت بطارقته حوله : صدقا أيها الملك ، قومُهم أبصرُ بهم ، وأعلمُ بما
عابوا عليهم فأسلمهم إليهما ، فليرداهم إلى بلادهم وقومهم. فغضبَ النجاشيّ وكان رجلا حكيما
عادلا وقال : لاها اللّه ، إذن لا اُسلمهم إليهما ، ولا يُكادُ قوم جاوَرُوني ،
ونَزلوا بلادي واختاروني على من سواي حتّى أدعوَهم فاسألهم عما يقول هذان في
أمرهم فان كانوا كما يقولان أسلمتُهُم اليهما ، ورددتُهم إلى قومهم ، وان كانوا
على غير ذلك منعتهم منهما واحسنتُ جِوارَهم ما جاوروني. ثم ارسل إلى أصحاب رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
المهاجرين إلى الحبشة فدعاهم من غير أن يعلمهم بما يريد منهم ، فحضروا عنده ،
وكانوا قد قرّروا أن يكون متكلِّمُهم وخطيبهم : « جعفر بن أبي طالب » وقد قلِقَ
بعضُ المسلمين لما قد سيقوله « جعفر » عند الملك ، وبماذا سيكلّمهُ ويجيبُه ،
فسألوه عن ذلك فقال لهم جعفر : أقول واللّه ما علّمنا ، وما امرنا به نبيُنا صلىاللهعليهوآلهوسلم
كائناً في ذلك ما هو كائن. فالتفت النجاشيُ إلى « جعفر » وسأله
قائلا : ما هذا الدين الّذي فارقتم فيه قومكم
، ولم تدخلوا ( به ) في ديني ولا في دين أحد من هذه الملل؟ فقال جعفر بن ابي طالب : « أيُّها الملك ، كنّا قوماً أهلَ
جاهلية نعبُدُ الأَصنامَ ، ونأكلُ الميتةَ ، ونأتي الفواحش ، ونقطعُ الارحام ،
ونسيءُ الجوار ، ويأكلُ القويّ منّا الضعيف ، فكنّا على ذلك حتّى بعث اللّه
الينا رسولا منا ، نعرف نسبَه وصدقه ، وأمانته وعَفافه ، فدعانا إلى اللّه
لنوحِّدَه ونعبُدَه ، ونخلَعَ ما كنّا نعبُد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان ، وأمرنا بصدق
الحديث ، وأداء الامانة ، وصلة الرحم ، وحسن الجوار ، والكف عن المحارم والدماء
، ونهانا عن الفواحش ، وقول الزور ، وأكل مال اليتيم ، وقذف المحصنات. وأمرنا أن
نعبدَ اللّه وحدَه ، لا نشركُ به شيئاً ، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام
فصدّقناه وآمنّا به ، واتّبعناه على ما جاء به من اللّه ، فعبدنا اللّه وحده فلم
نشرك به شيئاً ، وحرَّمنا ما حرَّم علينا ، وأحللنا ما أحلّ لنا ، فعدا علينا
قومُنا ، فعذّبونا ، وفتنونا عن ديننا ، ليردُّونا إلى عبادة الاوثان من عبادة
اللّه تعالى ، وان نستحل ما كنّا نستحل من الخبائث ، فلمّا قهرونا وظلمونا
وضيّقوا علينا ، وحالوا بيننا وبين ديننا ، خرجنا إلى بلادك ، واخترناك على من
سواك ، ورغبنا في جوارك ، ورجونا أن لا نظلَم عندكَ ايها الملك ». فأثّرت كلمات جعفر البليغة ، وحديثه
العذب تأثيراً عجيباً في نفس النجاشيّ بحيث اغرورقت عيناه بالدُموع ، وقال :
لجعفر هل معَك ممّا جاء به عن اللّه من شيء؟ فقال جعفر : نعم فقال له النجاشيّ :
فاقرأهُ عليَّ ، فقرأ عليه جعفر آيات من مطلع سورة مريم ، واستمرَّ في قراءته ،
وبذلك بيّن نظرة الإسلام إلى « مريم » عليهاالسلام وطهارة
جيبها ، وإلى مكانة المسيح عليهالسلام ،
وعظمة شأنه ، وجليل مقامه ، فبكى النجاشيُ حتّى اخضلّت لحيتُه بالدموع وبكت
اسقافتُه (الاساقفة ؛ جمع اسقف : علماء النصارى.)
حتّى بلّوا مصاحفهم بها حين ما سمعوا ما تلاه جعفر عليهم حول مريم والمسيح عليهماالسلام.
وبعد صمت قصير ساد ذلك
المجلس قال النجاشي : « إن هذا والّذي جاء به عيسى ليخرجُ
من مشكاة واحدة » وهو يقصد أن القرآن والإنجيل كلامُ اللّه وأنهما شيء واحدٌ. ثم التفت إلى موفَدي قريش وقال لهما
بنبرة قوية : انطلقا فلا واللّه لا اُسلِّمهم إليكما ولا يُكادون ، فخرجا من
عنده. وعند المساء تكلَم « عمرو بن العاص »
ـ وكان إمرء خدّاعاً ما كرا ـ مع رفيقه « عبد اللّه بن ربيعة » في الامر ، وقال
له : واللّه لآتيَنّ غداً عنهم بما استأصل به خضراءهم ( وهو يعني أنه سيأتي
بحيلة تقضي على جذور المهاجرين بالمرة ) ولاُخبرنَّه أنهم يزعمون أن عيسى بن
مريم عبد. ( أي على خلاف ما يعتقد النصارى في
المسيح ). فنهاه « عبد اللّه »
عن ذلك وقال : لا تفعل ، فانّ لهم أرحاماً ، وان
كانوا خالفونا ، ولم ينفع نهي عبد اللّه له. ولمّا كان من الغد دخلا على النجاشي
مرة اُخرى فقال له « عمرو » متظاهراً هذه المرة بالدفاع عن عقيدة النصارى وهي
دين الملك واهله ، ومنتقداً رأي المسلمين. أيها الملك ، إنهم يقولون في « عيسى
بن مريم » قولا عظيماً. فارسل إليهم فسلهم عما يقولون فيه. فارسل النجاشيُ اليهم ليسألهم عنه ،
وهو الملك المحنَّك الّذي لا يأخذ الأمور على ظواهرها ، ومن غير تحقيق ودراسة ،
فأدرك المسلمون بفطنتهم أنه سيسألهم هذه المرة عن موقفهم من المسيح عليهالسلام
فاتفقوا أن يكون « جعفر » متكلمهم وخطيبهم وعندما سألوه عما سيجيب به الملك قال
: أقول واللّه ما قال اللّه ، وماجاءنا به نبيُنا. فلما دخلوا على النجاشيّ قال لجعفر
بن ابي طالب : ماذا تقولون في عيسى بن مريم؟ فقال جعفر : نقول فيه الّذي جاءنا به
نبينا صلىاللهعليهوآلهوسلم
: هو عبد اللّه ورسوله وروحه وكلمته القاها إلى مريم العذراء البتول. فسرّ النجاشي لكلام جعفر ورضي به
وقال : هذا واللّه هو الحق ، واللّه ما عدا عيسى بن مريم ما قلتَ. ولكنَّ حاشيته لم تَرضَ بهذا الكلام
ولم تقبل بما قاله الملكُ ، ولكنّه لم يعبأ بهم ، وأيّد مقالة المسلمين ، ومنحهم
الحرية الكاملة ، والأمان الكامل قائلاً لهم : اذهبوا فانتم آمنون في أرضي من سبّكم
غُرمَ ، من سبّكم غرمَ ، ما اُحب أنّ لي دبراً من ذهب وإني آذيتُ رجلا منكم. وردّ على موفَدي قريش هداياهما قائلا
لهما : « ردّوا عليهما هداياهما فلا حاجة لي بها ، فواللّه ما أخذ اللّه مني
الرشوة حين ردّ عليّ مُلكي فآخذ الرشوة فيه ، وما أطاع الناس فيَّ فاُطيعهم فيه
». فخرج مبعوثا قريش مقبوحين مردوداً
عليهما ما جاء به يجرّان اذيال الخيبة (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 338 ، إمتاع الاسماع : ص 21 ، بحار الأنوار
: ج 18 ، ص 414 و 415.). * * * وينبغي ان نسجّل هنا
موقفا آخر من مواقف ابي طالب في تأييد المسلمين ، ونصرة الدين الحنيف. فقد أرسل « ابو طالب » أبياتاً
للنجاشيّ يحثُّه على الدفع عن المهاجرين وحسن جوارهم وتلك الابيات هي :
(2) إحسان.
(3)السيرة النبوية : ج 1 ، ص 333 و 334. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
العَودةُ من الحبشة
:
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قلنا في ما مضى أنَّ المجموعة
الاُولى من المهاجرين رجَعت من الحبشة إلى مكة لأنباء بلغتها عن إسلام قريش عامة
وانضوائها تحت راية الإسلام. حتّى إذا دنوا من « مكة » بلغهم أنما كانوا تحدّثوا
به من إسلام اهل مكة كان باطلاً ، فلم يدخل منهم إلى « مكة » إلاّ قليل دخلوها
مستخفين أو في جوار بعض الشخصيات القرشية بينما عاد الأكثرون من حيث جاؤوا. وكان ممن دخل « مكة » بجوار ، «
عثمان بن مظعون » الّذي دخلها بجوار « الوليد بن المغيرة » (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 369.)
ولكنه كان يشاهد ما فيه أصحابُ رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
من
البلاء ، والعذاب وهو يغدو ويروح في امان فتألّم لذلك ولم تطِق نفسه تحمُّلَ هذا
الفَرق وقال : واللّه إن غدوّي ورواحي آمناً بجوار رجل من أهل الشرك ، وأصحابي
وأهلُ ديني يلقَون من البلاء والأذى في اللّه ما لا يصيبني لنقصٌ كبير في نفسي
فمشى إلى « الوليد بن المغيرة » وردَّ عليه جواره ليواسي المسلمين ويشاركهم في
آلامهم ومتاعبهم وقال : يا أبا عبد شمس وفَت ذِمّتُك ، قد رَددْتُ إليك جوارَك. قال : لِمَ يابن أخي؟ لعلَّه آذاك
أحدٌ من قومي؟ قال : لا ولكني أرضى بجوار اللّه ولا
اُريد أن أستجير بغيره. فقال الوليد له : إذن فاردُد عليّ
جوارى علانية كما أجرتُك علانيةً. فانطلقا فخرجا حتّى أتيا المسجدَ ،
فقال « الوليدُ » مخاطباً من حضر مِن قريش : هذا عثمان قد جاء يردُّ عليّ جواري.
قال : صدق ، قد وجدتُه وفيّاً كريمَ الجوار
ولكنّي قد احببتُ أن لا استجيرَ بغير اللّه ، فقد رردتُ عليه جواره (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 370.).
ثم لم يمض شيء مِنَ الوقت حتّى دخَلَ
المسجدَ « لبيد » وكان شاعراً متكلِّما بارزاً من شعراء العرب ومتكلّميها ووقف
في مجلس من قريش ينشدهم و « عثمان بن مظعون » جالس معهم فقال مِن جملة ما قال
شعراً : ألا كلُ شيء ما خلا
اللّه باطلُ فقال عثمان بن مظعون : صدقتَ فقال :
لبيد : وكلُ نعيم لا محالة
زائلُ قال عثمان : كذبت ، نعيمُ الجنة لا
يزول فاستثقل « لبيد » تكذيب عثمان وتحدّيه له في ذلك الجمع فقال : يا معشر قريش
واللّه ما كان يؤذى جليسُكم ، فمتى حدث هذا فيكم؟؟ فقال رجلٌ مِن القوم : إنَّ هذا سفيه
في سفهاء معه ، قد فارقوا ديننا فلا تجدنَ في نفسكَ من قوله. فردّ عليه « عثمان » حتّى تفاقم
الأمر بينهما فقام إليه ذلك الرجلُ فلطم عينه فخضّرها ( واصابها ) ، والوليد بن
المغيرة قريب يرى ما بلغ عثمان فقال : أما واللّه يا ابن أخي إن كانت عينُك
عَمّا أصابها لغنيّة لقد كنت في ذمة منيعة ( وهو يريد أنك لو بقيت في ذمتي
وجواري لما اصابك ما أصابك ). فقال عثمان رادّاً عليه : بل واللّه
إن عيني الصحيحة لفقيرةٌ إلى مِثل ما أصابَ اُختَها في اللّه ، واني لفي جوار من
هو أعزُّ منكَ ، واقدرُ يا أبا عبد شمس. فقال له الوليد : هلمّ يا ابنَ أخي
إن شئت فعُد إلى جوارك ، فقال ابنُ مظعون : لا (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 370 و 371.).
وكانت هذه صورةٌ رائعةٌ من صور كثيرة
لصمود المسلمين ، وتفانيهمْ في سبيل العقيدة ، وإصرارهم على النهج الّذي اختاروه
، ومواساة بعضهم لبعض في أشدّ فترة من فترات التاريخ الإسلامي. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وفدٌ مسيحيُّ
لتقصّي الحقائق يدخل مكة :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قدمَ على رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وهو بمكة عشرون رجلا من النصارى حين بلغهم خبرُه من الحبشة ، مبعوثين من قِبَل
أساقفتها لتقصّي الحقائق بمكة ، والتعرف على الإسلام. فوجدوا رسول اللّه في
المسجد ، فجلسوا إليه ، وكلّموه وسألوه عن مسائل ، ورجالٌ من قريش فيهم « أبو
جهل » في أنديتهم حول الكعبة. فلما فرغوا من مسألة رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم عما أرادوا دعاهم صلىاللهعليهوآلهوسلم
إلى اللّه عز وجلّ وتلا عليهم آيات من القرآن الكريم ، فكان لها من التأثير
البالغ في نفوسهم بحيث عندما سمعوها فاضت أعينهم من الدمع ، ثم استجابوا له
وامنوا به وصدّقوه ، بعد ما عرفوا منه ما كان يوصَف في كتابهم ( الانجيل ) من أمره.
فلما قامُوا عنه ، ورأت قريش ما نتج
عنه ذلك اللقاء استثقله « ابو جهل » فقال للنصارى الذين اسلموا معترضاً وموبّخاً
: خيَّبكُمُ اللّه مِن ركب بعَثكُم مَن وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم لتأتوهم
بخبر الرجل فلم تطمئنّ مجالسُكم عنده حتّى فارقتُم دينكُم وصدَّقتموهُ بما قال ،
ما نعلمُ ركباً أحمقَ مِنكُم. فأجابه اولئك بقولهم : سلامٌ عليكم
لا نُجاهِلكم ، لنا ما نحنُ عليه ، ولكم ما أنتم عليه ، لم نأل أنفسنا خيراً (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 390 و 393 وقد نزلت في هذا الشأن الآيات 52
إلى 55 من سورة القصص.).
وبذلك الكلام الرفيق الجميل ردّوا
على فرعون مكة الّذي كان يبغي ـ كسحابة داكنة ـ حجب أشعة الشمس المشرقة ، وحالوا
دون وقوع صدام. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قريش توفد إلى يهود
يثرب للتحقيق :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد ايقظ وفدُ نصارى الحبشة إلى مكة
وما نجم عن لقائهم برسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
قريشاً ودفعهم إلى تكوين وَفد يتألف من « النضر بن الحارث » و « عُقبة بن ابي
معيط » وغيرهما وإرسالهم إلى أحبار يهود المدينة ليسألونهم عن رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ودينه. فقال أحبارُ اليهود لمبعوثي قريش :
سَلوا محمَّداً عن ثلاث نأمركم بهنَّ ، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسَل ، وان لم
يفعل فالرجلُ متقوّلٌ ، فروا فيه رأيكم ، سلوه : 1 ـ عن فتية ذَهبوا في الدهر الأول (
يعنون بهم أصحاب الكهف ) ما كان من امرهم ، فانه قد كان لهم حديثٌ عجيبٌ. 2 ـ وعن رجل طوّاف ( يعنون به ذا
القرنين ) قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه وخبرُه؟ 2 ـ وعن الروح ما هي؟ فاذا أخبركم بذلك فاتبعوهُ ، فانه
نَبيّ ، وان لم يفعل ، فهو رَجُلٌ متقوِّلٌ فاصنَعوا في أمره ما بدا لكم. فعادَ وفد قريش إلى « مكة » ولما
قدموها قالوا لقريش ما سمعوه من أحبار اليهود. فجاؤوا إلى رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وطرحوا عليه الاسئلة الثلاثة السالفة. فقال رسولُ اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
: انتظر في ذلك وحياً. (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 300 ـ 302.)
ثم نزل الوحيُ يحملُ إلى رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
الأجوبة المطلوبة على تلك الاسئلة. وقد ورَدَ الجواب عن السؤال عن الروح
في الآية 85 من سورة الإسراء. واُجيبَ على السؤالين الآخرين عن
أصحاب « الكهف » وذي القرنين بتفصيل في سورة « الكهف » ضمن الآيات 9 ـ 28
والآيات 73 ـ 93. وقدوردت تفصيلاتُ هذه الإجابات الّتي
أجابَ بها رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
على أسئلتهم في كتب التفسير. ولابدَّ هنا من أن نُذكِّر القارئ
الكريم بنقطة مفيدة وهي أنّ المراد من « الرّوح » في سؤال القوم ليس هو الرُّوح
الإنسانية بل كان المراد هو جبرئيل الأمين ، ( بقرينة أنَّ المقترحين الاصليين
لهذه الأسئلة : هم اليهود وكانوا يكرهون الروح الامين ، ويعادونه ) ، وهو أمرٌ
مبحوثٌ في محلِّه من كتب التفسير. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
18الأسلحةُ
الصَديئة والاساليب الفاشلة
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
نظّمْ أسياد قريش صفوفهم لمكافحة
عقيدة التوحيد ، بعد أن أدركوا عقم المواقف المبعثرة من هذا الدّين وأهله. فقد حاولوا في بداية الأمر أن
يُثنُوا رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
عن المضيّ في مواصلة دعوته ، وذلك بتطميعه بالمال والجاه وماشابه ذلك ، ولكن لم
يحصلوا من ذلك على شيء ، فقد خيّب ذلك الرجلُ المجاهدُ ظنونهم فيه ، وبدّد
آمالهم في اثنائه عن هدفه بكلمته الخالدة المدوّية : « واللّه لو وَضعوا الشمس
في يميني ، والقَمر في يساري على أن أترك هذا الأمر لما فعلتُ » وهو يعني ان
تمليكه العالم كلَه لا يثنيه عن هدفه ولا يصرفه عن تحقيق ما نُدِبَ إليه وارسل
به. فعمدوا إلى سلاح آخر هو التهديد
والأذى ، والتنكيل به وباصحابه وانصاره ، ولكنهم واجهوا صمودَه وصمود أنصاره واصحابه
، وثباتهم الّذي ادى إلى انتصار المؤمنين في هذا الميدان ، وخيبة المشركين
وهزيمتهم. وقد بَلَغ من ثبات المسلمين على
الطريق أنهم أقدموا على مغادرة الوطن ، وترك الأهل والعيال ، والهجرة إلى الحبشة
فراراً بدينهم إلى اللّه ، وسعياً وراء نشره وبثه في غير الجزيرة من الآفاق. ولكن رغم إخفاق أسياد قريش المشركين
في جميع هذه الجهات والميادين وعجزهم عن استئصال شجرة التوحيد
الفتية ، وفشل جميع الأسلحة الّتي استخدموها للقضاء على الدين الجديد وأهله ، لم
تنته محاولاتهم الإجهاضيّة بل عمدوا هذه المرّة إلى استخدام سلاح جديد حسبوه
أمضى من سوابقه. وهذا السلاح هو سلاحُ الدعاية ضدّ
رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
، لانه صحيحٌ أن ايذاء وتعذيب جماعة المؤمنين في « مكة » تمنع غيرهم من سُكان «
مكّة » من الإنضواء إلى الإسلام إلاّ ان الحجيج الذين كانوا يسافرون إلى مكة في
الأشهر الحرُم وكانوا يلتقون رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
في جوّ من الأمن والطمأنينة خلال تلك المواسم كانوا يتأثَّرون بدعوة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
ويتزعزعُ اعتقادهم بالأوثان على الأقل ، ان لم يؤمنوا بدينه ، ولم يستجيبوا
لدعوته ، ثم إنهم كانوا ينقلون رسالة الإسلام وانباء النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى
مواطنهم ، ومناطِقهم وكان ينتشر بذلك اسم رسول اللّه ، وأنباء دينه في شتّى
مناطق الجزيرة العربية ، وكان هذا هو بنفسه ضربة قوية توجَّه إلى صرح الوثنية في
مكة ، وعاملا قوياً في انتشار عقيدة التوحيد ، وسطوع أمره. من هنا اتخذ سادةُ
قريش اُسلوباً آخر ، قاصدين بذلك الحيلولة دون انتشار
الإسلام ، واتساع رقعته ، وقطع علاقة المجتمع العربي به. واليك فيما يأتي بيان
تفاصيل هذا الاسلوب ، وهذه الخطة : |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
1 ـ الاتّهاماتُ
الباطلة :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
يمكن التعرف على شخصية أي واحد وتقييمها
من خلال ما يرميه به اعداؤه من شتائم وسباب ، وما يكيلون له من اتهامات ونسب ،
فَإن العدو يسعى دائماً إلى أن يتهم خصمَه بنوع من أنواع التهم ليُضِلَّ الناس ،
ويصرفهم عنه ، وليتمكن بما يحوكُه حوله من أراجيف وأباطيل الحط من شأنه في
المجتمع واسقاطه من الانظار والأعين. ان العدوّ الذكيّ يسعى دائماً إلى أن
ينسب إلى منافسه ما يُصدِّقه ولو فئة خاصة من الناس على الاقل ، ويوجبُ شكَّهم
في صدقه ، ويتجنب تلك النِسَب التي لا تصدَّق في شأنه ، ولا تناسبُ
اخلاقه وافعاله المعروفة عنه ، ولا تمسه بشكل من الأشكال ، لأنه سوف لا يَجني في
هذه الحالة إلا عكسَ ما يقصد ، وخلاف ما يريد. ومن هنا يستطيع المؤرخُ المحققُ أن
يتعرف على الشخصية الواقعية لمن يدرسه ، وعلى مكانته الإجتماعية ، وأخلاقه
وسجاياه ولو من خلال ما ينسبُه الأعداء إليه ، وما يكيلون له من أكاذيب
وإفتراءات ، ونسب باطلة واتهامات ، لأنّ العدوّ الّذي لا يخاف أحداً لا يقصّرُ
في كيل كلِّ تهمة تنفعُهُ وتخدمُ غرضَه إلى الطرف الآخر ، ويستخدم هذا السلاح (
أي سلاح الدعاية ) ما استطاع ، وما ساعدته معرفُته بالظروف ، ودرايته بالفَرص. فاذا لم ينسَب إليه أيُّ شيء من تلك
النسب الباطلة فان ذلك إنما هو لأجل طهارة جيبه ، ونقاء صفحته ، وتنزُّه شخصيته
عن تلك النسب ، ولأنّ المجتمع لم يكن ليعبأ بها ولم يصدّقها في شأنه. ولو أننا تصفّحنا اوراق التاريخ
الإسلامي لرأينا أن قريشاً مع ما كانت تكنُّ من عداء ، وتحِملُ من حِقد على رسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وكانت تسعى بكل جهدها أن تهدم صرح
الإسلام الجديد الظهور ، وأن تحطّ من شأن مؤسسه وبانيه لم تستطع مع ذلك أن
تستفيد من هذا السلاح ، وتستخدمه كاملا. فقد كانت تفكّر في
نفسها : ماذا تقول في حق رسول اللّه؟ وماذا ترى تنسب
إليه؟؟ هل تتهمه بالخيانة المالية وها هم
جماعة منهم قد ائتمنوه على أموالهم؟! (بحار الأنوار : ج 19 ، ص 62.)
كما
أن حياته الشريفة طوال الاربعين سنة الماضية جسدت امانته امام الجميع ، فهو
الامين بلا منازع؟ هل تتهمه بالجري والانسياق وراء
الشهوة واللّذة؟ وكيف تقول في حقه مثل هذا الكلام مع أنه بدأ حياته الشبابية
بالتزويج بزوجة كبيرة السنّ إلى درجة مّا ، وبقي معها حتّى لحظة انعقاد هذه
الشورى في « دار الندوة » بهدف الدعاية ضدَه ، ولم يُعهَد منه زلّة قدم في هذا
السبيل قط؟! وبالتالي بماذا تتهم محمَّداً الصادق
الأمين ، الطاهر العفيف ، وأية تهمة ترى يمكن أن تُصدَّق في حقه ، أو يحتمل
الناس صدقها في شأنه ولو بنسبة واحد في المائة؟ لقد تحيَّر سادة « دار الندوة »
وأقطابها في كيفية استخدام هذا السلاح ، سلاح الدعاية ضدّ رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
، فقرَّروا في نهاية الأمر أن يطرحوا هذا الأمر على صنديد من صناديد قريش
ويطلبوا رأيه فيه ، وهو « الوليد بن المُغيرة » وكان ذا سنّ فيهم ، ومكانة ،
فقال لهم : يا معشر قريش ، إنه قد حضر هذا
الموسم وان وفود العرب ستقدَم عليكم فيه ، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا فاجمعوا
فيه رأياً واحداً ، ولا تختلفوا فيكذّبُ بعضكم بعضاً ، ويردُ قولُكم بعضُه
بعضاً. قالوا : فأنت يا أبا عبد شمس فقل
وأقم لنا رأياً نقول به. قال : بل أنتم قولوا أسمَع. قالوا : نقول كاهن. قال : لا واللّه ما هو بكاهن ، لقد
رأينا الكُهّانَ فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه. قالوا : فنقول : مجنون. قال : ما هو بمجنون ، لقد رأينا
الجنون وعرفناه فما هو بخنقه ، ولا تخالجه ، ولا وسوسته. قالوا : فنقول : ساحر. فقال : ما هو بساحر لقد رأينا
السحّار وسحرهم فما هو بنفثهم ولا عقدهم. وهكذا تحيَّروا في ما ينسبون إلى
رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وأخيراً اتفقوا على أن يقولوا : أنه
ساحر جاء بقول هو سِحرٌ يفرق به بين المرء وابيه وبين المرء وأخيه ، وبين المرء
وزوجته وبين المرء وعشيرته. ويدلُّ عليه ما أوجده من الخلاف
والإنشقاق والتفرُّق بين أهل مكة الَّذين وقد ذكر المفسِّرون في
تفسير سورة « المدثر » هذه القصة بنحو آخر فقالوا :
لمّا اُنزل على رسول اللّه « حم تنزيلُ الْكِتاب ... ) قام إلى المسجد و «
الوليد بن المغيرة » قريب منه يسمع قراءته فلما فطن النبيُ صلىاللهعليهوآلهوسلم
لاستماعه لقراءته ، أعاد قراءة الآية ، فتركت الآية في نفس الوليد تأثيراً
شديداً فانطلق إلى منزله ، ولم يخرج منه أيّاماً ، فسخرت منه قريشٌ وقالت : صبأ
ـ واللّه ـ الوليدُ ثم مشى رجال من قريش إليه وسألوه رأيه في قرآن محمَّد ،
واقترح كل واحد منهم أمراً ، ولكنه رد عليها بالنفي جميعاً فقالت قريش إذن ما
هو؟ فتفكر « الوليد » في نفسه ثم قال : ما هو إلاّ ساحرٌ أما رأيتموه يفرّق بين
الرجل وأهله ، ووُلده ومواليه فهو ساحر وما يقوله سحر يؤثر (مجمع البيان : ج 10 ، ص 386 و 387.).
ويرى المفسرون أن الآيات التالية في
شأنه إذ يقول اللّه تعالى : « ذَرْني
وَمَنْ خَلقْتُ وَحيداً. وَجَعلْتُ لَهُ مالا مَمدُوداً. وَبَنينَ شُهُوداً.
وَمَهَّدْتُ لَهُ تمهيداً. ثُمّ يَطْمَعُ أنْ أزيدَ. كَلا انّه كانَ لآياتِنا
عَنيداً. سارْهقُهُ صَعُوداً. إنّه فكَّرَ وَقدّر. فَقُتِلَ كَيْفَ قَدّرَ.
ثُمَّ نَظرَ. ثُمَّ عَبسَ وَبَسرَ. ثُمَّ أَدْبَر وَاْستَكْبَرَ. فَقالَ إنْ هذا
إلاّ سِحْرٌ يُؤْثَر ... ( إلى قوله : ) فَما لَهُمْ عِنَ التَذكِرَة مُعْرضيْن.
كأَنَّهُمْ حُمُرٌ مستنفِرة فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَة
» (المدثر : من 11 ـ 51.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الإصرار في نسبة
الجنون إليه صلىاللهعليهوآلهوسلم
:
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
يعتبر إتصاف النبيّ الاكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم
واشتهاره بين الناس بالصدق والامانة وغيرها من مكارم الأخلاق منذ شبابه من
مسلَّمات التاريخ. وهو بالتالي أمرٌ اعترف به حتّى
أعداؤه الالدّاء ، فقد دانوا بفضله ، وأقرُّوا بأخلاقه الكريمة وسجاياه النبيلة
، دون تلكؤ ، ولا إبطاء. وقد كانَ من أوصافه الحسنة البارزة
ان جميع الناس كانوا يدعونه « الصادق » « الامين » وكانوا يثقون بأمانته ثقة
كبرى
(بحار الأنوار : ج 19 ، ص 62 عن عبيداللّه بن ابي رافع : كانت قريش
تدعو محمَّد صلىاللهعليهوآلهوسلم في الجاهلية الامين وكانت
تستودعه وتستحفظه أموالها وأمتعتها ، وكذلك كلُ من كان يقدم مكة من العرب في
الموسم ، وجاءته النبوة والرسالة والامر كذلك.) حتّى
أن المشركين كانوا يودعون ما غلى من أموالهم عنده ، واستمر هذا الأمر حتّى عشرة
أعوام بعد دعوته العلنيّة. وحيث أن دعوته صلىاللهعليهوآلهوسلم
قد ثقلت على المعاندين فاجتهدوا في أن يصرفوا عنه الناس بما ينسبون إليه من بعض
النسب الّتي توجب سوء الظنّ به ، ومن ثم إفشال دعوته ، وحيث أنهم كانوا يعلمون
أن النِسَبَ الاُخرى ممّا لا يقيم لها المشركون وزناً ، لأنها امور بسيطة في
نظرهم ، من هنا رأوا بأن يتهمونه بالجنون ، والزعم بان ما يقوله ويقرؤه ما هو
إلاّ من نسج الخيال ، ومن أثر الجنون الّذي لا يتنافى مع الزهد ، والأمانة ،
وذلك تكذيباً لدعوته. ثم عملت قريش على إشاعة هذه النسبة ،
واتخذت وسائل عديدة وما كرة لترويجها وبثّها بين الناس. ومن شدّة مكرهم ومراءاتهم أنّهم
كانوا يتخذون موقف المتسائل المحايد فيطرحون هذه التهمة في قالب الشك ، والترديد
إذ يقولون : « أفترى على
اللّه كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ » (سبأ : 8.). وهذه هي بعينها الحيلةُ الشيطانية
الّتي يتوسَّل بها ويتستر وراءها أعداء الحقيقة دائماً عند ما يريدون تكذيب
المصلحين العظام ، واسقاط خطواتهم وافكارهم من الاعتبار ، والحطّ من شأنها
وأهميتها. ويشير القرآنُ أيضاً
إلى انّ هذا الاسلوب الماكر الذميم لم يكن مختصاً بالمعارضين في عهد الرسالة
المحمَّدية ، بل كان المعارضون في الأعصر الغابرة أيضاً يتوسلون بهذا السلاح
لتكذيب الرسل ، والانبياء إذ يقول عنهم : « كَذلكَ
مَا أتى الَّذينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُول إلاّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ
مَجْنُونٌ أَتواصَوْا بِه بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ
» (الذاريات : 52 و 53.).
وتحدّث الاناجيلُ الحاضرة هي الاُخرى
عن ان المسيح عليهالسلام عندما وعظ
اليهود قالوا : إنّ فيه شيطاناً ، فهو يهذي فلماذا تسمعون إليه؟! (انجيل يوحنا : الفصل 10 ، الفقرة : 20 ، والفصل 7 ، الفقرة 48 و 52.).
ومن المسلّم والبديهي أنَّ قريشاً لو
كان في مقدورها أن تتهم رسولَ اللّه الصادق الأمين صلىاللهعليهوآلهوسلم
بغير هذا الاتهام وتنسب إليه غير هذه النسبة لما تأخرت عن ذلك ، ولكن حياة
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
المشرقة خلال الاربعين سنة الماضية ، وسوابقه اللامعة في المجتمع المكيّ وغير
المكي كانت تحول دون أن ينسبوا إليه شيئاً من تلك النسب القبيحة ، الذميمة. لقد كانت « قريش » مستعدة لأن تستخدم
أي شيء ـ مهما صغر ـ ضد رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم.
فمثلا عند ما وجده أعداء الرسالة
يجلس إلى غلام مسيحيّ يدعى « جبر » عند المروة ، انطلقوا يستخدمون هذا الأمر
ضدّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
فوراً فقالوا : واللّه ما يُعلِّمُ محمَّداً كثيراً ممّا يأتي به الا « جبر »
النصراني. فردّ عليهم القرآن الكريمُ بقوله : «
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ
يَقُولُونَ إنَّما يُعلِّمُه بَشَرٌ لِسانُ الَّذي يُلْحِدُونَ إلَيْهِ أعْجَميّ
وَهذا لِسانٌ عَربيّ مُبِيْنٌ » (النحل : 103.).
« وَقَدْ جاءهُم رَسولٌ مُبينٌ ثُمَّ تَولُوا عَنهُ
وَقالُوا معلَّمٌ مَجنُونٌ » (الدخان : 13 و 14.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
القرآن يرد على
جميع الاتهامات :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وربما نسبوا إليه
صلىاللهعليهوآلهوسلم
الكهانة ، والكاهن هو من يتصل بعناصر من الجن (الجن كائن من الكائنات ومخلوق من مخلوقات اللّه تعالى وقد اخبر به
القرآن الكريم في مواضع عديدة كما سميت احدى السور باسم الجن.)
أو الشياطين ويتلقى منهم اخباراً حول الماضي والمستقبل ، وكان هذا موجوداً قبل
الإسلام كما ترويه كتب السير والتواريخ (1).
وقد رد القرآن الكريم على هذه المقالة
وهذا الزعم إذ قال تعالى : « وَلا بِقَولْ كاهِن قَليلا ما تَذكَّرُونَ
» (2)
كما ردّ ايضاً تهمة السحر ، والكذب والافتراء والشعر إذ قال تعالى وهو يصف
المتهمين تارة بالكفر واُخرى بالظلم : « وَعَجِبُوا أَنْ جاءهُمْ مُنْذرٌ مِنْهُمْ وَقالَ
الْكافِرونَ هذا سَاحِرٌ كَذّابٌ » (3).
وقال تعالى : « وَقالَ الظالِمُونَ إنْ تَتَّبِعُونَ إلاّ رَجُلا
مَسْحُوراً » (4).
وقال سبحانه متعجباً مِنهم : « قالُوا إنَّما أنتَ مِنَ المُسحَّرينَ
» (5).
وقال تعالى : « وَقالُوا يا أيُّها الَّذي نُزِّلَ عَلَيْهِ
الذِكْرُ إنَّكَ لَمجْنُونٌ » (6).
وقال سبحانه : « وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُون
» (7).
وقال عزّ وجلّ : « فَذكِّر فَما أَنْتَ بِنعْمةِ رَبّكَ بِكاهِن
وَلا مَجْنُون » (8).
وقال تعالى : « قالُوا إنّما أنْتَ مُفْتَر بل أكثَرُهُمْ لا
يَعْلَمُونَ » (9).
وقال تعالى : « أمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْر
سُوَر مِثلِه » (10).
وقال تعالى : « وَقالَ الّذينَ كَفَرُوا إنْ هذا إلاّ إفكٌ
افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَليْهِ قَومٌ آخرونَ فَقدْ جاءوا ظُلماً وَزُوراً »
(11).
وقال سبحانه : « أفتَرى عَلى اللّه كَذِباً أمْ بِهِ جِنَّةٌ
» (12).
وقال تعالى : « أَم يَقُولُونَ شاعِرٌ نَترَبَّصُ بِهِ رَيْبَ
المَنُون » (13).
وقال تعالى : « وَما عَلَّمْناهُ الشَّعر وما ينبغي له إن هو إلا
ذكر وقران مُبِيْن » (14).
وربما وصفوا القرآن بانه اضغاث احلام
فردهم سبحانه بقوله. « بَلْ قالُوا أضغاثُ أحْلام بلِ افْتراهُ بَلْ
هُوَ شاعرٌ » (15).
__________________
وهكذا نجدهم ذهبوا في استخدام سلاح
الاتهام والتشويش على الشخصية المحمَّدية والرسالة الإسلامية كل مذهب ، فمرة وصفوه
بانه كاهن واُخرى بانه ساحر وثالثة بانه مسحور ، ورابعة بانه مجنون وخامسة بانه
معلّم وسادسة بانه كذاب وسابعة بانه مفتري وثامنة بانه مفترى أو مجنون على سبيل
الترديد وتاسعة بانه شاعر وعاشرة بان ما يقوله ما هو الاّ اضغاث احلام. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
2 ـ فكرةُ معارضة
القرآن :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لم يُجدِ استخدام سلاح الإتهام ضد
رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
نفعاً ، ولم يأت بالثمار الّتي كان يتوخاها المشركون منه ، لأن الناس كانوا
يُدركون بفطنتهم وفراستهم أن للقرآن جاذبيّة غريبة ، وأنهم لم يسمعوا كلاماً
حلواً ، وحديثاً عذباً مثله. ان لكلماته من العمق والعذوبة بحيث
يتقبّلها كلُ قلب ، وتسكن اليها كل نفس. من هنا لم ينفع اتهام قريش لرسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
بالجنون وبأنَّ ما يقوله إن هو الاّ من نسج الخيال ، ونتائج الجنون ، شيئاً ،
فقررت أن تخطّط لتدبير آخر ظناً منهم بأنّ تنفيذه سيصرف الناس عنه ، وعن
الاستماع إلى كتابه ، ألا وهو : معارضة القرآن الكريم. فعمدت إلى « النضر بن الحارث » وكان
من شياطين قريش ، وممّن كان يؤذي رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وينصب له العداوة ، وكان قد قضى شطراً من حياته في الحيرة بالعراق وتعلّم بها
أحاديث ملوك الفرس واحاديث « رُستم » و « إسفنديار » وقصصهم ، وحكاياتهم ،
وأساطيرهم ، وطلبوا منه أن يجمع الناسَ ويقص عليهم من تلكم الأساطير والحكايات
يلهي بها الناس عن رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
، ويصرفهم عن الإصغاء إلى القرآن الكريم!! فكان إذا جلس رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
مجلساً فذكَّر الناس فيه باللّه ، وحذر قومه ما أصاب مَن قبلَهم من الاُمم من
نقمة اللّه ، خَلفه « النضرُ » في مجلسه إذا قام صلىاللهعليهوآلهوسلم
ثم قال : أنا واللّه يا معشر قريش أحسنُ حديثاً منه فهلمَّ إليّ ، فأنا
اُحدِّثكم أحسنَ من حديثه. ثم يحدّثهم عن ملوك الفرس و « رستم »
و « اسفنديار » ثم يقول : بماذا محمَّد أحسن حديثاً مني وما
حديثه إلاّ أساطير الأَولين اكتتبهاكما اكتتبتُها؟ (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 300 و 358.).
وقد كانت هذه الخُطة حمقاء جداً إلى
درجة أنها لم تدم إلاّ عدة ايام لا اكثر حتّى أن قريشاً سأمت من أحاديث « النضر
» وسرعان ما تفرّقت عنه. وقدنزل في هذا الشأن آيات هي : « وَقالُوا أساطيرُ الأَوَّليْنَ اكتتبها فهي تمْلى
عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأصِيْلا * قُلْ أَنْزلَهُ الَّذيْ يعْلَمُ السِّرّ في
السَماواتِ وَالأَرْضِ إنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحيماً
»
(الفُرقان : 5 و 6.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
تحججات صبيانيّة
وجاهليّة :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وربما جسَّدوا معارضتهم للدعوة
المحمَّدية في صورة تحججات ومجادلات جاهليّة ومآخذ سخيفة اخذوها على رسول اللّه
ورسالته ، تنم عن تكبر وجهل ، وعناد ولجاج طبعوا عليه. وها نحن نذكر ابرزها :
أ ـ لماذا لم ينزل القرآن على ثريّ
من اثرياء مكة أو الطائف؟! قال تعالى حاكيا قولهم : « لَولا نُزِّلَ هذا الْقُرانُ عَلى رَجُل مِنَ
الْقَريَتَيْنِ عَظِيْم » (الزخرف : 31.).
ب ـ لماذا لم يرسل اليهم ملائكة
ولماذا هو بشر؟! قال تعالى عنهم : « وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أن يُؤْمِنُوا إذْ جاءهُمْ
الهُدى إلاّ أَنْ قالُوا أبعَثَ اللّه بَشَراً رَسُولا
» (الاسراء : 94.. وقال تعالى حاكياً عنهم أيضاً : « وَقالُوا ما لِهذا الرَّسُول يَأْكُلُ الطَّعامَ
وَيَمْشي فِي الأَسْواقِ » (الفرقان : 7.).
ج ـ انَّه يدعو إلى خلاف ما كان عليه
الآباء ، من الدين والعقيدة والسلوك؟ يقول عنهم سبحانه : « وَإذا قِيْلَ لَهُمْ تَعالَوْا إلى ما أَنْزَلَ
الله وَإلى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْه آباءنا أو لَوْ كانَ
آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ
» (المائدة : 104.).
د ـ تبديل الآلهة بإلهٍ واحد. قال اللّه عنهم : « وَعَجِبُوا أَنْ جاءهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ
وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذّابٌ * أَجعَلَ الآلِهَةَ إلهاً واحِداً إنْ
هذا لِشَيء عُجابٌ » (ص : 4 و 5.).
هـ ـ القول بحشر الاجساد وتجدد
الحياة في يوم القيامة. قال تعالى عنهم : « وَقالُوا ءإذا ضَلَلْنا فِي الاْرْضِ ءإنّا لِفِي
خَلْق جَدِيد » (السجدة : 10.).
و ـ لماذا ليس عنده مثل ماكان لدى
موسى من المعجزات كالثعبان المنقلب من العصا ، وقد توصل المشركون إلى هذا النمط
من الاعتراض بسبب اتصالهم بأحبار اليهود. يقول اللّه عنهم : « فَلَمّا جاءهُمْ الْحقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا
لَوْ لا اُوتِيَ مِثْلُ ما اُوْتيَ مُوسى » (القصص : 48.).
ز ـ لماذا ليس معه ملك يُرى ويشاهَد
ويحضر معه في كل مقام ومشهد. قال تعالى : « وَقالُوا لَولا اُنْزلَ عَلَيْهِ مَلَكْ
» (الانعام : 8.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
مقترحات عجيبة
ومطاليب غريبة :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وكان المشركون إذا نفذت تحججاتهم
واعتراضاتهم الواهية ، وقوبلوا بردود قوية وقاطعة عليها عمدوا إلى طرح مقترحات
سخيفة على رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
في سياق معارضتهم لدعوته ونورد هنا ابرز تلك الاقتراحات ليعرف القارئ الكريم مدى
معاناة النبيّ الكريم صلىاللهعليهوآلهوسلم
من قومه : لقد اقترحوا عليه : 1 ـ ان يعبد اصنامهم سنة
ويعبدوا إلهه سنة اُخرى وجعلوا ذلك شرطا لايمانهم بدعوته!! فأنزل اللّه تعالى في ردّهم بسورة «
الكافرون » : « بِسْم اللّه
الرَّحْمن الرَّحيم. قُلْ يا أَيُّها الْكافِرُونَ * لا أعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ.
وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ. وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُمْ. وَلا
أنْتُمْ عابِدُونَ ما أعْبُدُ. لَكُمْ دِينَكُمْ وَلِيَ دِيْنِ ».
2 ـ تبديل القرآن ،
فقد دفع نقدُ القرآن الكريم للوثنية ، والازاء على الاصنام ، دفعهم إلى ان
يطلبوا من النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
ان يأتي لهم بقرآن آخر لا يحتوي على شجب عبادة الاوثان والازدراء بالاصنام ،
وابطالها. قال اللّه تعالى عن فعلهم هذا : « وَإذا تُتْلى عَلَيْهِم آياتُنا بيِّنات قالَ
الَّذيْنَ لا يَرْجُونَ لِقاءنا ائتِ بِقُرآن غَيْر هذا أوْ بَدّلهُ
» (يونس : 15.).
فردّ اللّه عليهم بقوله : « قُلْ ما يَكُونُ لِيْ أَنْ اُبَدِّلَهُ مِنْ
تِلْقاء نَفْسِيْ إنْ اتّبعُ إلا ما يُوْحى إلَيَّ إنِّي أخافُ إنْ عَصَيْتُ
رَبِّي عَذابَ يَوْم عَظيْم » (يونس : 15.).
3 ـ مطاليب مادية عجيبة!! وقد عمدوا ـ بسبب عنادهم وعتوهم ـ
إلى المطالبة باُمور لا ترتبط بهداية الناس ، مثل مطالبته بان يفجر لهم ينابيع ،
أو يُسقط السماء على رؤوسهم قطعاً ، أو يصعد إلى السماء ، أو يأتي باللّه سبحانه
وتعالى ، أو غير ذلك من الاقتراحات والمطاليب الّتي كانت إما مستحيلة في نفسها
أوتناقض غرض الدعوة!! قال اللّه حاكياً عنهم ذلك : « وَقالُوا لَنْ نُؤمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا
مِنَ الأَرضِ يُنْبُوعاً. أوْ تَكُون لَكَ جَنّةٌ مِنْ نَخيْل وَعنَب فَتُفَجِّر
الاْنهارَ خِلالَها تَفْجِيراً. أوْ تَأتِيَ بِاللّه وَالْمَلائكةِ قَبِيلا.
أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْت مِنْ زُخْرُف أوْ تَرْقى في السَّماء
» (الاسراء : 90 ـ 93.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
صبر النبيّ
واستقامته وثباته :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ولقد قابل رسولُ اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم كل هذه التحججات الايذائية وما طرح
مِنَ الاقتراحات المستحيلة بصبر عظيم وثبات هائل ، ايماناً منه بدعوته ، وحرصاً
على ابلاغ رسالته ، وبفعل التأييد الالهي من جانب. يقول اللّه تعالى في
هذا الصدد : 1 ـ « فَاْصْبِرْ كَما صَبَرَ اُوْلوا العْزْم مِنَ
الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ » (الاحقاف : 35.).
2 ـ « وَاتّبِعْ ما يُوحْى إلَيْكَ وَاِصْبِرْ حَتّى
يَحْكُمَ اللّه وَهُوَ خَيْرُ الحاكِميْن » (يونس : 109.).
3 ـ « وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إلاّ بِاللّه وَلا
تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ » (النحل : 127.).
4 ـ « وَاصْبِرْ نَفْسكَ مَعَ الَّذيْنَ يَدْعُونَ
رَبَّهُمْ بِالغَداوَة وَالعَشِيِّ » (الكهف : 28.).
5 ـ « فَاصْبِرْ لِحُكْم رَبّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ
الحُوْت » (القلم : 48.).
6 ـ « وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهجُرْهُمْ
هَجْراً جَمِيلا » (المزمل : 10.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
معاجز النبيّ لم
تنحصر في القرآن :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وبالمناسبة لابد أن نذكر أن المشركين
ومن حذى حذوهم من الكفار والمعارضين للرسالة الإسلامية كانوا يطالبون رسول اللّه
صلىاللهعليهوآلهوسلم بمعاجز
وديات لا بدافع الرغبة في الايمان بدعوته بل بدافع اللجاج والعناد ، وإلا فان
معاجز النبيّ لم تنحصر في الكتاب العزيز ، فقد اتى رسول اللّه بآيات ومعاجز كثيرة
اُخرى غير القرآن ، كان كل واحد منها يكفي للاقتناع برسالته ، والايمان بصحة
دعواه. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
فالقرآن نفسه يشير
إلى أبرز هذه المعاجز وهي :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
1 ـ شقّ القمر
فقد طلب المشركون من النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
ان يشق لهم القمر نصفين حتّى يؤمنوا به ، فلمّا على ذلك لهم باذن اللّه كفروا به
وقالوا انه سحر!! يقول اللّه تعالى : « إقْتَرَبَتِ السّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ.
وَإنْ يَروْا آيَة يُعْرضُوْا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتمِرّ »
(القمر : 1 و 2.). 2 ـ المعراج
ان العروج برسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
والّذي سيأتي مفصلا هو الآخر معجزة من معاجزه القوية ، وقد نطق بها القرآن بقوله
: « سُبْحانَ الَّذي أسْرى
بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرام إلى الْمَسْجِدَ الأَقْصى الَّذي
بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُريَهُ مِنْ آياتِنا إنَّه هُوَ السَّمِيْعُ الْبَصِيرُ
» (الاسراء : 1.).
3 ـ مباهلة أهل الباطل
ان تقدم رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
مع مَن خرج بهم إلى المباهلة ، واحجام النصارى عن مباهلته ، معجزة اُخرى من
معاجزه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وقد تحدّث القرآن الكريم عن هذه القضية إذ قال : « فَمَنْ حاجَّكَ فِيْهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءكَ مِنَ
العلم فَقُل تَعالوا نَدْعُ أَبْناءنا وَأَبْناءكُمْ وَنِساءنا وَنِساءكُمْ
وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعلْ لَعْنَةَ اللّه عَلىَ
الْكافِرينَ » (آل عمران : 61.).
وستأتي قصَّة المباهلة على نحو
التفصيل في حوادث السنة العاشرة من الهجرة. 4 ـ الاخبار
بالمغيبات
فقد كان رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
يخبر عن اُمور غائبة كما يقول اللّه سبحانه حاكيا عنه : « وَاُنبِّئكُمْ بِما تأكلون وما تَدَّخِرُونَ فِيْ
بُيُوتكُمْ » (آل عمران : 49 ، وقد اشار القرآن الكريم إلى موارد اُخرى من هذه
القبيل. فقد اخبر عن غلبة الروم بعد سنين : قال تعالى : « الم غُلِبَتِ الرُّومُ * في أدْنى
الأرْض وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَييغْلِبُونَ. في بِضْعِ سِنْينَ * للّه
الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعدُ وَيَومئذ يَفْرحُ الْمؤمنون »
( الروم : 1 ـ 4 ). واخبر عن هلاك ابي لهب قال
تعالى : « تَبَّت يَدا أبي لَهَب وَتَبّ ...
الخ ». وأخبر عن هزيمة المشركين
في بدر قال سبحانه : « سيهزم الجمع ويولون الدبر » ( القمر : 45 ).). هذا وقد أخبرت الاخبار والاحاديث عن
معاجز كثيرة لرسول اللّه غير القرآن الكريم. ومن هذه المعاجز ما ذكره الامام
اميرالمؤمنين علّي بن أبي طالب ـ كما في نهج البلاغة ـ حول سؤال المشركين من
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
قلع شجرة بعروقها وجذورها ولما فعل ذلك وقال : « يا أيّتها الشجرة ان كنت تؤمنين
باللّه واليوم الآخر ، وتعلمين أني رسول اللّه فانقلعي بعروقك حتّى تقفي بين
يديّ باذن اللّه ». فانقلعت بعروقها ولها دوّي عجيب
ووقفت بين يدي رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ولكنهم كذّبوا وقالوا ساحر كذاب ، علواً واستكباراً. وقد صرح الامام في كلامه هذا أن
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
أخبرهم بانهم لا يؤمنون وان ظهرت لهم المعجزة الّتي طلبوها ، وان فيهم من يطرح
في القليب ( في معركة بدر ) وان منهم من يحزّب الأحزاب ( لمعركة الخندق ) (نهج البلاغة : قسم الخطب الرقم 192.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
اصرار النبيّ على
هداية قريش :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
بل كان النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
يحرص على هدايتهم وارشادهم وايقاظهم. فقد كان زعيم المسلمين وقائدهم يعلم جيداً
بأن اعتقاد أغلبية الناس بالأوثان ما هو الاّ أمر نابع من تقليد الآباء ،
والجدود ، أو اتباع أسياد القبيلة وكبرائها ، وهو بالتالي لا يستند إلى جذور في
أعماق الناس واُسس في عقولهم ونفوسهم. من هنا فانَّ أيَّ انقلاب يحصل ويحدث
في اوساط السادة والكبراء بان يؤمن أحدهم مثلا كان كفيلا بأن يحلّ الكثير من
المشاكل. من هنا كان ثمة إصرار كبير على جرّ «
الوليد بن المغيرة » الّذي أصبح ابنه « خالد » في ما بعد من قادة الجيش
الاسلاميّ والمشاركين في الفتوح الإسلامية إلى صف المؤمنين بالرسالة المحمَّدية
، لأنّه كان أسنَّ مَن في قريش واكثرهم نفوذاً ، وأعلاهُم مكانة ، وأقواهم شخصية
، وكان يُدعى حكيم العرب ، وكانت العرب تحترم رأيه إذا اختلفت في أمر. وقد كلّمه رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ذات يوم في ذلك وقد طمع في اسلامه ، فَبينا هو في ذلك إذ مرَّ به « ابن اُم
مكتوم » ، فكلم رسولُ اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وجعل يستقرئه القرآن فشقَّ ذلك منه على رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
حتّى أضجره ، وذلك أنّه شغله عمّا كان فيه من أمر « الوليد ». وما طمع فيه من
اسلامه ، فلمّا أكثر عليه انصرف عنه عابساً وتركه ، فنزل قوله تعالى : « عَبس وَتَولّى. أنْ جَاءهُ الأَعْمى. وَما
يدريْكَ لَعلَّهُ يَزَّكى. أوْ يَذَّكرُ فَتنْفَعُهُ الذِّكْرى. أَمَّا مَنِ
اسْتَغنى. فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى. وَما عَلَيْكَ ألاّ يَزكّى. وَأَمَّا مَنْ
جاءكَ يَسْعى. وَهُوَ يَخْشى فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهّى. كَلا إنّها تَذْكِرَةٌ »
(السيرة النبوية : ج 1 ، ص 363 ـ 364.) (عبس : 1 ـ 11.).
وقد فنّد علماء الشيعة ومحقّقوهم هذه
الرواية التاريخية ، واستبعدوا صدور مثل هذا السلوك عن رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
الّذي امتَدحَهُ ربُّ العالمين بالخلق العظيم ، ووصفه بالرأفة بالمؤمنين ،
وقالوا : ليس في الآيات ما يدل على أن الّذي عبَس وتولّى هو رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وقد روي عن الامام الصادق عليهالسلام
أنَ المراد رجلٌ من بني اُميَة ، فإنّه عبس وتولّى عند ما حضر « ابنُ ام مكتوم »
الأعمى عند رسول اللّه فنزلت هذه الآيات توبيخاً له (مجمع البيان : ج 10 ، ص 437 ، وقد شرح العلامة الطباطبائي في المجلد
20 من تفسير الميزان عند تفسير سورة عبس شأن نزول هذه الآيات بصورة رائعة ، وشكل
بديع ، واثبت بان فاعل عبس ليس رسول اللّه ـ صلىاللهعليهوآلهوسلم
، ولا ينافي ذلك توجّه الخطاب في « وما يدريك » إليه صلىاللهعليهوآلهوسلم.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
3 ـ تحريم استماع
القرآن
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
كانت البرامجُ الواسعة الّتي دبرها
الوثنيّون في « مكة » لمكافحة الإسلام والحيلولة دون انتشاره بين القبائل
والجماعات ، تُنفَّذ الواحدة تلو الآخرى ، ولكن دون جدوى ، ودون ان يكسب
اصحابُها من ورائها أي نجاح ، واية نتائج على المستوى المطلوب ، فقد كانت تلك
المؤامرات تفشل في كل مرة ، ولا يجني المشركون منها سوى الخيبة والفشل ، وسوى
النتائج المعكوسة في أغلب الأحايين. فقد مارسوا الدعاية ضد رسول اللّه
فترة من الزمن ولكن لم يحالفهم التوفيقُ الكاملُ في ذلك ، فقد وجدوا رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
اكثر ثباتاً واستقامة في طريقه وأشدّ إصراراً على هدفه ، وكانوا يرون باُم
أعينهم بأن عقيدة التوحيد في انتشار مستمر ومتزايد ، يوماً بعد يوم. ولهذا قرَّر سادة قريش وزعماء « مكة
» المشركون أن يمنعوا الناس عن سماع القرآن. ولكي تتحقق خطتهم هذه وتلبس ثوب
الوجود بَثّوا جواسيسهم في كل انحاء مكة ومداخلها ليمنعوا من يفدُ اليها للحج
أوالتجارة من الاتصال بمحمَّد ، ومنعه بكل صورة ممكنة ، عن الاستماع إلى القرآن
، وأعلن مناديهم ما ذكره القرآن عند قوله تعالى : « وَقالَ الَّذينَ كَفرُوا لا تَسْمعُوا لِهذا
الْقُرآن والْغوا فِيْه لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ »
(فصّلت : 26.).
لقد كان القرآن اقوى أسلحة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
، فقد القى رعباً عجيباً في نفوس الاعداء واقضّ مضاجعهم. وكان اشراف قريش وأسيادها يرون باُم
أعينهم كيف أنَّ اعدى أعداء النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
( وهو أبو جهل ) عندما مشى إليه ليستهزئ به ، ويسخر منه ، ما ان سمع آيات من
القرآن ، إلاّ وفقد السيطرة على نفسه ، ولان قلبه ، وأصبح من أصحابه ومؤيديه الأقوياء
، ولهذا لم يكن أمام اُولئك الاسياد إلا أن يمنعوا من سماع القرآن منعاً باتا ،
ويحرموا التحدث إلى النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
تحريماً
قاطعاً (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 313 و 314.).
ولهذا كان الرجل منهم إذا أراد أن
يسمع من رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
بعض ما يتلوه من القرآن وهو يصلي استرق السمع دونهم فرقاً منهم ، فان رأى أنهم
قد عرفوا أنه يستمع منه ذهبَ خشيةَ أذاهُم فلم يستمع (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 313 و 314.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
واضعوا القرار
ينقضون قرارهم!!
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ولكن من الطريف العجيب أن نفس الذين
كانوا يمنعون الناس بشدة عن الاستماع إلى القرآن ، وكانوا يعدون كل من يتجاهل
قرار ( تحريم الاستماع إلى القرآن ) مخالفاً يتعرض للملاحقة والعقاب ، نقضوا بعد
أيام من إصدار هذا القرار قرارهم وانضمُّوا إلى صفوف المخالفين له في الخفاء. فاذا بالذين يمنعون من سماع القرآن
في العلن ، يستمعون إليه في الخفاء! واليك بعض ما جرى في
هذا الصعيد : خرج « أبو سفيان » و « أبو جهل » و «
الاخنس » ليلة ليستمعوا من رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وهو يصلي من الليل في بيته ، فاخذ كلُ رجل منهم مجلساً يستمع فيه ، وكلٌ لا يعلم
بمكان صاحبه ، فباتوا يستمعون له ، حتّى إذا طلَعَ الفجرَ تفرَّقوا فجمعهم
الطريقُ فتلاوموا ، وقال بعضهم لبعض : لا تعودوا ، فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم
في نفسه شيئاً ثم انصرفوا ، حتّى إذا كانت الليلة الثانيةُ عاد كلُ رجل منهم إلى
مجلسه ، فباتوا يستمعون له ، حتّى إذا طلع الفجر تفرّقوا ، فجمعهم الطريق ، فقال
بعضهم لبعض مثل ما قالوا أول مرة ، ثم انصرفوا ، حتّى إذا كانت الليلة الثالثة
اخذ كلُ رجل منهم مجلسه ، فباتوا يستمعون له ، حتّى إذا طلع الفجر تفرقوا ،
فجمعهم الطريق ، فقال بعضهم لبعض : لا نبرح حتّى نتعاهد ألاّ نعود ، فتعاهدوا
على ذلك. ثم تفرّقوا (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 315.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
4 ـ منع الاشخاص من
الايمان برسول اللّه
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
بعد خطة ( تحريم الاستماع إلى القرآن ) بدأوا
بتنفيذ خطة اُخرى وهي منع كل قريب وبعيد ممّن رغبوا في الإسلام وقدموا إلى مكة ليتعرفوا على النبيّ ، وعلى ما
اتى به من كتاب ودين ، من الاتصال بالنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم. فبثت قريش جواسيسها في الطرق المؤدية
إلى مكة ليتصلوا بمن يلقونه من هؤلاء ويبادروا إلى منعه من الاتصال برسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم والايمان برسالته ، بشتى الحيل
والاساليب. واليك نموذجين حيّين من
هذا الامر. 1 ـ « الاعشى » :
وكان من شعراء العهد الجاهلي
البارزين ، وكانت قصائده تتناقلها مجالس السَمر القرشية ، وتتغنى بها محافل
انسهم. وقد بلغ « الاعشى » في كبره نبأ ما
جاء به رسولُ اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
من التوحيد ومن تعاليم الإسلام العظيمة ، وكان يعيش في منطقة نائية عن مكة ، حيث
لم تصل اليها أشعة الرسالة الإسلامية على وجه التفصيل بعد ، ولكن ما قد سمع به
من تعاليم الإسلام على نحو الاجمال قد اوجد في نفسه هياجاً خاصاً وحرّك مشاعره
فأنشأ قصيدة مطوّلة يمدح فيها رسولُ اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ثم خرج إلى مكة ليهديها إليه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وهو في نفس الوقت يريد الإسلام. ورغم ان تلكم القصيدة لا تتجاوز
أبياتُها 24 بيتاً ، ولكنها تُعدّ من أفضل وافصح ما قيل من الشعر في الإسلام ،
وفي رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
في العهد النبوي ويوجد نصّها الكامل في ديوان « الأعشى » وقد قال فيها وهو يذكر
بعض تعاليم الإسلام :
فلما كان بمكة أو قريباً منها اعترضه
جواسيس قريش ورجالها فسألوه عن أمره وقصده فاخبرهم بانه جاء يريد رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ليسلم ، وحيث أنهم كانوا يعرفون بأن « الاعشى » رجل يحب النساء والخمر حبّاً
كبيراً لذلك عمدوا إلى الضرب على هذا الوتر لينفّروه من الإسلام فقالوا له : يا
أبا بصير ( وهي كنية الاعشى ) إنه يحرم الزنا. فقال الاعشى : واللّه ذلك لأمرٌ ما
لي فيه من ارب. فقالوا له : يا أبا بصير فانَّه
يحرِّم الخمرَ. فقال الأعشى ـ وقد صُدِمَ بهذا الخبر
ـ أمّا هذه فواللّه في النفس منها لعلالات ، ولكني منصرفٌ فاتروّى منها عامي هذا
، ثم آتيه فاُسلم!! فانصرفَ فمات في عامه ذلك ، ولم يَعُدْ إلى رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
(السيرة النبوية : ج 1 ، ص 386 ـ 388.). 2 ـ الطُفيل بُن
عَمرو الدوسيّ :
وهو الشاعر العربي الحكيم العذب
اللسان ، صاحب النفوذ والكلمة المسموعة في قبيلته. يروى انه قدم « مكة » ورسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
بها ، وكانت قريش تخشى ان يتصل بالنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
فيسلم. ومن البديهي أن اسلام رجل مثله كان
ممّا يشق على قريش جدّاً ولهذا مشى إليه رجالٌ منهم وقالوا له ـ محذرين ايّاه من
رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
: يا طُفيل ، إنك قدمت بلادَنا ، وهذا
الرجلُ الّذي بين أظهرنا قد اعضلَ بنا ، وقد فرّق جماعتنا ، وشتَّت أمرنا ،
وإنما قوله كالسحر يفرّق بين الرجل وبين ابيه ، وبين الرجل وبين اخيه ، وبين
الرجل وبين زوجته ، وإنا نخشى عليك وعلى قومك ما قد دخل علينا فلا تكلمنَّه ،
ولا تسمعنَّ منه شيئاً. ففعلت تحذيراتُ قريش فعلتَها في نفس
الطفيل وهم يكرّرونها عليه بقوة وإصرار ، حتّى انه قرر ان لا يسمع من النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
شيئاً ، ولا يكلّمه ، وحشّى اُذنه ـ حين غدى إلى المسجد للطواف ـ قطناً ، خوفاً
من أن يبلغه شيء من قول رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وهو لا يريد ان يسمعه!!! يقول الطفيل : فغدوت إلى المسجد فاذا
رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
قائمٌ يصلي عند الكعبة ، فقمتُ منه قريباً فسمعتُ كلاماً حسناً من غير اختيار
مني فقلت في نفسي : واثكلَ اُمي ، واللّه اني لرجل لبيبٌ شاعرٌ ما يخفى عليّ
الحسَنُ من القبيح ، فما يمنعني أن اسمع من هذا الرجل ما يقول ، فان كان الّذي
يأتي به حسناً قبلتُه ، وان كان قبيحاً تركتُه؟ فمكثتُ حتّى انصرف رسولُ اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
إلى بيته فاتّبعته حتّى إذا دخل بيته دخلت عليه فقلت : يا محمَّد إن قومك قد
قالوا لي كذا وكذا للذي قالوا ، فواللّه ما برحوا يخوّفونني أمرُك حتّى سردت
اُذني بكسرف لئلا اسمع قولك ثم اَبى اللّه إلاّ أن يُسمعني قولك فسمعتهُ قولا
حسناً ، فاعرض عليّ أمرك ، فعرض عليَّ رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
الإسلام وتلا عليّ القرآن ، فلا واللّه ما سمعت قولا قط أحسن منه ، ولا أمراً
أعدل منه ، فأسلمتُ وشهدتُ شهادة الحق. ثم قلت : يا الله نبيّ إني امرؤ مطاعٌ في
قومي وأنا راجع إليهم ، وداعيهم إلى الإسلام. ثم يكتب ابن هشام قائلا : إن الطفيل
لم يزل بارض « دوس » يدعوهم إلى الإسلام حتّى هاجر رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
إلى المدينة ومضى « بدر » و « اُحد » و « الخندق » فقدم على رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
بمن أسلم معه من قومه وهم سبعون أوثمانون بيتاً ورسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
بخيبر فلحقوا جميعاً برسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم بخيبر ،
وبقي مع النبيّ حتّى قُبِضَ صلىاللهعليهوآلهوسلم
ثم سار مع المسلمين ـ في زمن الخلفاء إلى « اليمامة » وشارك في معركتها وقُتِلَ
فيها (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 382 ـ 385.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
19اسطورة
الغرانيق
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قد يكون بين القرّاء من يودُّ التعرف
على اسطورة « الغرانيق » الّتي رواها بعض مؤرّخي السنّة ومعرفة جذورها كما يودّ
التعرف على الأيادي الخفية الّتي كانت وراء اختلاق هذه الاسطورة ، وأمثالها من
الأكاذيب ، والمفتريات. كان اليهودُ وبخاصّة
أحبارهم ولا يزالون العدوّ رقم واحد للإسلام. وقد عَمَد فريقٌ منهم ـ مثل « كعب
الاحبار » وغيره ـ ممّن تظاهروا باعتناق الإسلام إلى تحريف الحقائق باختلاق
الأكاذيب وجعل الأخبار المفتراة على لسان الانبياء (وهي الّتي يُطلَق عليها الاسرائيليات وقد اُلّفَت في هذا المجال بعض
الكتب.).
ولقد أدرج بعضُ المؤلفين المسلمين
بعض هذه المفتريات في مؤلفاتهم وجعلوها في عداد الحديث والتاريخ الصحيح من دون
تمحيصها والتحقيق فيها ، ثقة بكل من أظهر الإسلام وتظاهر بالإيمان ، وانضم إلى
صفوف المسلمين!! ولكنَّ اليوم حيث يجد العلماء فرصة
اكبر للتحقيق في هذا النوع من الأحاديث والاخبار ، والمنقولات والنصوص وبخاصة
بعد أن توفّرت لديهم ، بفضل جهود طائفة من المحققين المسلمين القواعد والضوابط
الكفيلة بتمييز الحسن عن القبيح ، والصحيح عن السقيم ، وفرز الحقائق التاريخية
عن القصص الخياليّة ، والروايات الاسطورية. من هنا لا ينبغي لكاتب مسلم ملتزم أن
يعتبر كل ما يراه في مصنّف تاريخيّ أو غير تاريخيّ متقدِّم أمراً صحيحاً مقطوعاً
بسلامته ، ويرويه في كتابه من دون دراسة وتحقيق ، وتمحيص وتقييم. ما
هي اُسطورة الغرانيق؟!
يقولون : إن « الأسود بن المطلب » و
« الوليد بن المغيرة » و « اُمية بن خلف » و « العاص بن وائل » وهم من زعماء
قريش واسيادها قالو لرسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
: يا محمَّد هلم فلنعبد ما تعبد ،
وتعبد ما نعبدُ فنشترك نحن وانت في الأمر!! وقالوا ذلك رفعاً للاختلاف ،
وتضييقاً لشقّة الخلاف فأنزلَ اللّه سبحانه سورة الكافرين الّتي امر فيها نبيّه
أن يقول في جوابهم : « لا أعْبدُ
ما تَعْبدُونَ. وَلا أنتُم عابِدُونَ ما أعْبُد ».
ومع ذلك كان رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
يرغب في أن يساوم قريشاً ويجاربهم وكان يقول في نفسه : ليت نزل في ذلك أمر
يقرّبنا من قريش. وذات يوم وبينما كان صلىاللهعليهوآلهوسلم
يتلو القرآن عند الكعبة ويقرأ سورة « النجم » فلما بلغ قوله تعالى : « أَفرَأَيْتُمْ الّلات وَالعُزّى. وَمَناةَ
الثّالِثَةَ الاُخْرى » (ـ النجم : 19 و 20.).
أجرى الشيطان على
لسانِه الجُمْلتين التاليتين : « تِلْكَ الْغَرانِيقُ
الْعُلى مِنْها الشفاعَةُ تُرْتَجى ». فقرأهما من دون إختيار ، وقرأ ما
بعدها من الآيات ، ولمّا بلغ آية السجدة سجد هو ومن حضر في المسجد من المسلمين
والمشركين أمام الاصنام ، إلاّ « الوليد » الّذي عاقه كبر سنه عن السجود!! وفرح المشركون ، وارتفعت نداءاتهم
يقولون : لقد ذكر « محمَّد » آلهتنا بخير. وانتشر نبأ هذه المصالحة والتقارب
بين رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
والمشركين ، المهاجرين إلى الحبشة ، فعاد على أثرها جماعة منهم إلى مكة ،
ولكنّهم ما أن كانوا على مشارف « مكة » إلاّ وعرفوا بأن الأمر تغير ثانية ، وأن
ملك الوحي نزل على النبيّ وأمره مرة اُخرى بمخالفة الاصنام ومجاهدة الكفار
والمشركين ، وأخبره بأن الشيطان هو الَّذي أجرى تينك الجملتين على لسانه ، وانه
لم يقله وأنه ليس من « الوحي » في شيء أبداً. وعندئذ نزلت الآيات ( 52 ـ 54 ) من
سورة « الحج » الّتي يقول اللّه تعالى فيها : « وَما أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُول وَلا
نَبِيٍّ إلاّ إذا تَمنّى ألْقى الشَيْطانُ في اُمْنِيّتِه فَيَنْسَخُ اللّه ما
يُلْقي الشيْطانَ ثم يُحكِمُ اللّه آياتِهِ وَاللّه عَلِيمٌ حَكيْمٌ ».
«
لِيَجْعَلَ ما يُلْقي الشَيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذين فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ
وَالْقاسيَةِ قُلُوبِهم ، وإن الظّالِمينَ لَفِيْ شِقاق بَعِيْد وَلِيَعْلَمَ
الَّذينَ اُوتُوا العلْم أَنَّه الحقّ مِنْ رَبّك فيُؤمنُوا به فتُخبتُ لَهُ
قُلُوبُهم وإنّ اللّه لَهادِ الَّذينَ آمَنُوا إلى صِراط مُسْتقيمْ ».
هذه هي خلاصة اُسطورة « الغرانيق »
الّتي أوردها « الطبري » في تاريخه (تاريخ الطبري ج 2 ، ص 85 و 76. ) ويذكرها ويردّدها
المستشرقون المغرضون بشيء كبير من التطويل والتفصيل!! محاسبة بسيطة لهذه الاسطورة
لنفترض أن « محمّداً » لم يكن نبياً
مرسلا ولكن هل يمكن لأحد أن ينكر ذكاءه وحنكته ، وفطنته وعقله. فهل لعاقل فَطِن ، محنَّك لبيب مثله
أن يفعل مثل هذا؟ ان الذكيّ اللبيب الّذي يجد انصاره
يتكاثرون ويتزايدون يوماً بعد يوم وتقوى صفوفهم اكثر فاكثر بينما تتفرقُ صفوفُ
أعدائه ومناوئيه ويتناقص معارضوه وخصومُه ، هل يقدم في مثل هذه الحالة على عمل
يوجب ان يسيء الجميعُ ظنَهم به ، ويشك الصديق والعدوُ في أمره؟! هل تصدّق أنت أيها القارئ الكريم أن
رجلا ترك جميع الأموال والمناصب الّتي عرضتها قريش عليه ، في سبيل دينه الحنيف ،
وعقيدة التوحيد أن يصبح مرة اُخرى من دعاة الشرك ، ومروّجي الوثنية؟؟! إننا لن نصدّق بمثل هذا الاحتمال في
حق مصلح أو سياسي عادي من الساسة والمصلحين فكيف برسول الله ونبيّه العظيم. رأي العقل في هذه القصة :
1 ـ إن العقل يحكم بان المرشدين
الذين يبعثهم اللّه تعالى إلى البشرية لهدايتها وارشادها ، وتزكيتها وتعليمها
مصونون عن أي خطأ وزلل بقوة ( العصمة ) الّتي اُوتوها ، إذ لو تعرض مثل هؤلاء
إلى الخطأ والزلل في اُمور الدين لزالت ثقة الناس بهم وبكلامهم. يجب علينا ان نقارن بين أمثال هذه
القصص ، وبين هذا الأصل العقائديّ المنطقي ونعالج بواسطة معتقداتنا القوية
المبرهَنة متشابهات التاريخ ومعضلاته. إنّ من المسلَّم أن عصمة رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
كانت تمنعه وتحفظه من أي نوع من هذه الحوادث في تبليغ رسالته السماوية. 2 ـ ان هذه الاسطورة تقوم أساساً على
أن النبيّ قد تعب من أداء مهمَّته الّتي ألقاها اللّه سبحانه عليه ، وقد شقَّ
عليه ابتعاد الوثنيّين عنه ، فكان يبحث عن مخلَص من هذا الوضع المتعِب ، يكون
طريقاً ـ حسب تصوره ـ إلى إصلاح وضعهم!! ولكن العقل يقضي بأن على الانبياء أن
يكونوا صابرين حلماء أكثر ممّا يتصور ، وأن يكونوا مضرب المثل عند الجميع في ذلك
، فلا يُحدّثوا أنفسَهم بالتهرّب من المسؤولية وترك الساحة مطلقاً ، مهما اشتدّت
الظروف ، وتأزّمت بينما لو صحّت هذه الرواية ـ
الاسطورة ـ لكانت دليلا على أنَّ بَطلَ حديثنا قد فَقَد عنان الصبر وأفلت منه
زمام الثبات والاستقامة وانه بالتالي تعب وملّ ، وضني وكلّ ، وهو أمرٌ لا ينسجم
مع ما يحكم به العقل السليمُ في حق الأنبياء ، كما لا يتفق كذلك مع ما عهدناه من
سوابق رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم ومن
مستقبله أبداً. إن مختلق هذه الاسطورة لم يمرّ
بخاطره وباله أنَّ القرآن الكريم شهد ببطلان هذه القصة ، إذ يعد اللّه تعالى
نبيه الكريم ، بأن لا يتسرّب إلى القرآن أي شيء من الباطل إذ قال : « لا يَاتِيه الباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَديْه ولا
مِنْ خَلفِه » (فصّلت : 42.).
كما وعده أيضاً بأن يَصونه عبَر جميع
أدوار البشرية من أي حادث سيّء إذ قال سبحانه : « إنّا نَحْنُ نَزَّلْنا الذِكْرَ وَاِنّا لَهُ
لَحافِظُونَ » (الحجر : 9.).
ومع ذلك كيف يستطيع الشيطان الرجيم
عدو اللّه أن ينتصر على رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ويسرّب إلى القرآن شيئاً باطلا ، ويصبح القرآنُ الّذي تقوم معارفه وتعاليمه على
أساس معاداة الوثنية ومحاربتها داعياً إلى الوثنية؟؟!! إنه لأمر عجيبٌ جداً أن يفتري
مختلِقُ هذه الاسطورة أمراً ضدَّ التوحيد في موضع قد كذّبه القرآنُ قبل هذا
المكان بقليل إذ قال اللّه تعالى : «
وَما يَنْطِقُ عَنْ الْهَوى. إنْ هُوَ إلاّ وَحْيٌ يُوْحى »
(النجم : 3 و 4.).
فكيف يترك اللّه نبيّه ـ وقد وعده
بهذا الوعد ـ من دون حفيظ ، ويسمح للشيطان بأن يتصرف في قلبه وعقله ولسانه؟؟ إن هذه الأدلة العقلية إنما تفيد من
يكون مؤمناً بنبوة محمَّد صلىاللهعليهوآلهوسلم
ورسالته. واما المستشرقون الذين لا يعتقدون
بنبوته ، ويعمدون إلى شرح ونقل وترديد أمثال هذه الأساطير للحطّ من شأن دينه
ورسالته فلا تكفيهم هذه الدلائل ، فلابدّ أن ندخل معهم في البحث من باب آخر. تكذيب
القِصَّة من طريق آخر
إنّ النصّ التاريخيّ يقول : إن رسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
قرأ هذه السورة ، وكبار قريش واكثرهم من عمالقة الكلام ، وأبطال الفصاحة
والبلاغة العربية حضور في المسجد ومنهم « الوليد بن المغيرة » ، متكلم العرب
ومنطيقها المفوّه المعروف بينهم بالذكاء وحصافة العقل والنباهة ، وقد سمعوا
جميعاً هذه السورة إلى ختامها حيث سجد الجميع بسجدتها. فكيف اكتفى هذا الجمعُ المؤسسُ
للفصاحة والبلاغة الذين كانوا ينقدون كل ما يعرض عليهم نقداً دقيقاً؟ كيف اكتفوا بتينك الجملتين اللتين
امتدحتا آلهتهم ، وقد تضمنت الآيات السابقة عليهما ، واللاحقة لهما على شتم
آلهتم وتفنيدها ، والازدراء بها بصورة صارخة وصريحة؟! كيف تصور مختلق هذه الاكذوبة الفاضحة
، تلك الجماعة أصحاب اللغة العربية وآباءها ونقّاد الكلام المعدودين عند العرب
كلّها من عمالقة الفصاحة والبلاغة بلا منازع ، والذين كانوا أعرف من غيرهم
باشارات تلك اللغة ، وكناياتها ( فضلا عن تصريحاتها ). كيف اكتفى هؤلاء بتينك العبارتين في
امتداح آلهتهم ، وغفلوا عما سبقها ولحقها من الذمّ لها والطعن الصارخ فيها؟ إنه لا يمكن قط أن نخدع العادّيين من
الناس بهاتين الجملتين المحفوفتين بكلام مطوَّل يذم عقائدهم وسلوكهم فكيف بمن
عُرف باللب ، والحصافة ، والحكمة والذكاء؟ وها نحن ندرج هنا الآيات المتعلّقة
بالمقام ونترك أصفاراً ( وفراغاً ) في مكان الجملتين اللتين اُدّعي اضافتهما ،
ثم نترك للقارئ نفسه أن يقيم بنفسه هل لتينَك الجملتين مكانٌ بين هذه الآيات (
الّتي وردت في ذمّ الاصنام والقدح فيها ) : وإليك هذه الآيات : « أفَرَأَيْتُمُ الّلاتَ والعُزّى وَمَناةَ
الثالِثةَ الاُخرى ... (مكان الجملتين المزعومتين : تلك الغرانيق ... إلى آخرها.)
أَلَكُمْ الذَّكَرُ وَلَهُ الاُنْثى
تِلْكَ إذاً قِسْمَةً ضِيْزى. إنْ هِيَ إلاّ أسماء سَمَّيْتُمُوها أنْتُمْ
وَآباؤُكم ما أنْزَلَ الله بِها مِنْ سُلْطان »
(النجم : 19 ـ 23.).
ثم هل يسمحُ إنسانٌ عاديّ لنفسه أن
يكفَّ عن معاداة نبيٍّ هاجَمَ عقائدهُ طيلة عَشرة اعوام ، وهدر إستقلاله وكيانه
، وجرَّ عليه الشقاء بتسفيه
أحلامه ، وشتم آلهته ، لعبارات متناقضة
وكلام خليط من الذّم الكبير والمدح العابر. دَليلٌ
لغَويٌّ على تفنيد هذه الاسطورة
يقول العلامةُ الجليلُ الشيخ محمَّد
عبده : لم يُستعمَل لفظ الغرانيق في الآلهة أبداً لا في اللغة ولا في الشعر
العربي (نقله عنه القاسمي في تفسيره : ج 12 ، ص 55 ـ 56.).
و « غرنوق » و «
غَرنيق » اللذان جاءا في اللغة استعملا في نوع من طيور
الماء أو الشابّ الجميل ، ولا يَنطبق أىُ واحد من هذه المعاني على الآلهة. وقد اعتبر احدُ
المستشرقين يدعى « السيروليم مويير » قصة « الغرانيق » هذه من مسلَّمات التاريخ
واستدل لها بقوله : لم يكن يمض على هجرة المهاجرين الاول
إلى الحبشة اكثر من ثلاثة أشهر يوم صالح محمَّدٌ قريشاً فعادوا إلى مكة. إن المسلمين الذين هاجَروا إلى تلك
الأَرض وكانوا يعيشون في أمن وطمأنينة في جوار النجاشيّ إذا لم يكونوا يبلغهم
نبأ مصالحة النبيّ لقريش لما عادوا إلى مكة للقاء بذويهم. فاذن لابدَّ أَنَّ « محمَّداً » قد
تذرَّع بشيء لمصالحة قريش ، والتقرّب اليها ، وهذا
الشيء هو قصة الغرانيق »!! (راجع حياة محمَّد : ص 165 و 166.).
ولكن يجب أن نسأل هذا
المستشرق المحترم : أولاً
:
لماذا يجب أن تكون عودة المهاجرين ناشئة عن نبأ صحيح حتماً. إن النفعيين وذوي الأهواء والأغراض
يسعون دائماً إلى بثّ عشرات بل مئات الأخبار الكاذبة بين جماعتهم لتحقيق مارب
خاصّة لهم ، فما الّذي يمنع من أن نحتمل أن هناك من افتعل خبر مصالحة النبيّ
لقريش بهدف إرجاع المهاجرين من الحبشة إلى « مكة ». وقد صدق بعض اُولئك
المهاجرين هذا الخبر الكاذب فعادوا إلى أرض الوطن ، بينما لم ينخدع الآخرون بها
وبقوا في الحبشة ولم يعودوا إلى مكة؟؟ ثانياً
:
لنفترض أن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
كان يريد أن يصالح قريشاً ، فهل يكونُ الطريق إلى السلام والمصالحة منحصراً في
افتعال هاتين الجملتين. ألم يكن إعطاء مجرَّد وَعد مناسب أو
مجرّد السكوت عن عقائدهم كافياً لتهدئة خواطرهم ، واجتذاب قلوبهم نحوه؟ وعلى كلّ حال
فان عودة المهاجرين لا يكونُ دليلا على صحّة هذه الاُسطورة كما أن المصالحة ،
والتقارب غير متوقفين على النُطق بهاتين الجملتين. والأعجب من هذا أن
البعضَ تصوَّر الآيات ( 52 ـ 54 من سورة الحج ) قد نزلت في قصة الغرانيق. وحيث أن هذه الآيات قد وقعت ذريعة
بأيدي المستشرقين ومرتكبي جريمة التحريف في التاريخ ، فاننا نعمدُهنا إلى توضيح مفاد هذه الآيات ، ونبين للقارئ بأنها تنظر
إلى امر آخر ، ولا ترتبط بهذه القصة بتاتاً. وها هو نصُّ الآيات المشار إليها : « وَما أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُول وَلا
نَبِيٍّ * إلا إذا تَمنّى ألْقى الشَيْطانُ في اُمْنِيَّتِه فَيَنْسَخُ اللّه ما
يُلقي الشَيطانُ ثمَ يُحْكِمُ اللّه آياتِه ، واللّه عَليمٌ حَكيمٌ
ليَجْعَلَ ما يُلْقي الشَّيطانُ
فِتْنَةً لِلَّذيْن فِي قُلُوبِهمْ مَرَضُ وَالْقاسِيَة قُلُوبُهُمْ وَإن
الْظالِميْنَ لَفِي شِقاق بَعيْد وَلِيَعْلَمَ الَّذينَ اُوْتُوا الْعِلْمَ
أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمنُوا بهِ فَتخبتَّ لَه قُلوبُهُم وَأَنَّ
اللّه لَهاد الَّذين آمنوا إلى صِراط مُسْتَقِيم ».
والآن يجب أن نبين مفاد
الآيات ولنبدأ بالآية الاُولى : انّ الآية الاُولى تذكِّرُ بثلاثة
اُمور هي : 1 ـ انَّ الأنبياء والرسل يتمنون. 2 ـ انَّ الشيطانَ يتدخّل في
تمنياتهم. 3 ـ انّ اللّه يمحي آثار ذلك
التدخّل. وبتوضيح هذه النقاط الثلاث يتضح مفاد
الآية والمراد منها. واليك توضيح تلكم
النقاط الثلاث : |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
1 ـ ما هو المقصود
من تمني الانبياء والرُسل
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد كان الأنبياء والرسل يحبّون
هداية اُممهم ، ونشر دينهم وتعاليمهم فيها ، وكانوا يدبّرون اُموراً ويخطّطون
خططاً لتحقيق أهدافهم هذه ، كما كانوا يتحملون في هذا السبيل كل المتاعب
والمصاعب ، ويثبتون في جميع المشكلات والمحن. ولم يكن رسول الإسلام صلىاللهعليهوآلهوسلم
مستثنى عن هذه القاعدة ، فقد كان صلىاللهعليهوآلهوسلم يخطط
لتحقيق أهدافه كثيراً ، ويهيّئ مقدمات ويبيّن القرآن هذه الحقيقة بقوله : « وَما أرْسَلْنا مِنْ رَسُول وَلا نبيّ إلاّ إذا
تَمَنّى ». فاتّضح إلى هنا المراد
من لفظ تمنّى ولنشرح الآن النقطة الثانية. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
2 ـ ما هو المقصود
من تدخّل الشيطان؟
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إن تدخُّل الشيطان
يمكن أن يتم على نحوين : 1 ـ أن يوجد الشك والترديد في عزم
الانبياء ، ويوحي إليهم بأنَّ هناك عوائق كثيرة تحول بينهم وبين أهدافهم
، ولذلك لن يحرزوا نجاحاً في تحقيق تلك الأهداف. 2 ـ بأن الأنبياء كلما مهّدوا لأمر
وهيَّاوا له مقدّماته ، وَظهرت منهم أمارات تدلُ على أنهم مقدِمون على تنفيذه
فعلا أقام الشيطان ومن تبعه من شياطين الانس العراقيل والموانع في طريقهم ،
ليمنعوهم من الوصول إلى غاياتهم. أما الاحتمالُ الأول
فلا ينسجم لا مع الآيات القرآنية الاُخرى ولا مع الآية اللاحقة. أمّا مِن جهة الآيات
الاُخرى فلأنّ القرآن ينفي بصراحة لا صراحة فوقها أنه لا
سلطان للشيطان على أولياء اللّه وعباده الصالحين ( ولو بأن يصوّروا لهم بأنهم لن
يقدروا على تحقيق آمالهم ، وأهدافهم ) إذ يقول : « إن عِبادي لَيْسَ لك عَلَيْهِمْ سُلطانٌ »
(الحجر : 42 ، الاسراء : 65.).
ويقول أيضاً : « إنَّه
لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلى الَّذيْنَ امَنُوا وَعَلى رَبّهم يَتَوكَّلُونَ »
(النحل : 99.).
إن هذه الآيات ، والآيات الاُخرى
الّتي تنفي سلطان الشيطان على أولياء اللّه وعباده الصالحين ، وتأثيره في قلوبهم
ونفوسهم لخيرُ شاهد وأفضل دليل على أنَّ المقصودَ من تدخّل الشيطان في تمنيات
الأنبياء لَيس بمعنى إضعاف عزيمتهم ، وإرادتهم وتكبير الموانع والعراقيل في
نظرهم. أمّا من جِهَة الآيات المبحوثة فانَ
الآية الثانية والثالثة تفسِّر وتشرح علّة التدخّل على النحو الآتي : إننا نختبر بهذا العمل
فريقين من الناس : الفريق الأول : الَّذين في
قلوبهم مرض ، والفريق الثاني :
الذين يؤمنون باللّه واليوم الآخر. يعني أنَّ تدخُّل الشيطان في أعمال
الأنبياء عن طريق تحريك الناس ضِدَّهم وضدَّ أهدافهم يوجب مخالفة الفريق الأوّل
ومعارضتهم للانبياء في حين يكون الأمر على العكس من ذلك في الفريق الثاني فانه
يزيد من ثباتهم وصمودهم. وان بيان أن لتدخل الشيطان في تمنيات
الانبياء ، مثل هذين الاثرين المختلفين ( أي يحمل فريقا على المخالفة وفريقا آخر
على الثبات والصمود ) يفيد أن المراد بالتدخل هنا هو المعنى الثاني ، يعني ان
التدخل يحصل عن طريق تحريك الناس ضدّهم ، وإلقاء الوساوس في قلوب أعدائهم ، وخلق
الموانع والعراقيل في طريقهم لا أنهم يتصرفون في نفوس الأنبياء وقلوبهم ويضعفون
ارادتهم وعزمهم. إلى هنا اتضح معنى تدخّل الشيطان في
تمنيات الانبياء والرسل. والآن حان الحين لتوضيح المطلب الآخر
يعني محو آثار هذا التدخل. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
3 ـ ما هو المقصود
من محو آثار التدخل؟
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إذا كان معنى تدخّل الشيطان هو تحريك
الناس وتأليبهم ضد الانبياء ليمنعوا الأنبياء والرسل من التقدم في أهدافهم ، فان
محو آثار التدخّل الشيطاني من قبل اللّه ـ حينئذ ـ يكون بمعنى ان اللّه يدفع عن
أنبيائه ورسله كيد الشيطان ليتضح الحقُ للمؤمنين ، ويكون إختباراً لمرضى القلوب
كما يقول تعالى في آية اُخرى. «
إنّا لَنَنْصُر رُسُلَنا وَالَّذيْنَ آمَنُوا فِي الحَياة الدّنْيا »
(غافر : 51.).
وخلاصة القول : أن
القرآن يخبر ـ في هذه الآيات ـ عن سنة للّه قديمة في مجال الأنبياء وهي : إن تَمنّي التقدم في الأهداف وتمنّي
التوفيق في هداية الناس هو فعل الانبياء دائماً. ثم يأتي الدور لتدخّل الشيطان
وأتباعه من شياطين الإنس والجنّ ، وذلك بايجاد الموانع والعقبات في طريق
الأنبياء والرسل. ثم يأتي من بعد ذلك حلول المدد
الالهي الغيبيّ بمحو وفسخ كلّ التدابير الشيطانية المضادّة لأهداف الانبياء
المعرقِلة لتحقيق أمانيّهم. وهذه هي إحدى السنن الالهية الثابتة
الّتي جرت في جميع الاُمم السالفة. إن تاريخ الأنبياء والرسل وقصصهم من
نوح وإبراهيم وأنبياء بني إسرائيل وبخاصّة موسى وعيسى عليهماالسلام
، وتاريخ حياة الرّسول الاكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم
خير شاهد على هذا المطلب. وينبغي إستكمالا لهذا البحث أن نقول
: ولأجل ما ورد على هذه القصة الاُسطوية من مؤاخذات رفضها وفنّدها بعض المحققين
من أهل السنة إذ قال بعد ذكرها على النحو الّذي ادرجها الطبري في تاريخه وأرسله
ارسال المسلّمات : وأهل الاُصول يدفعون هذا الحديث
بالحجة. ومن صحَّحهُ قال فيه أقوالا : منها : ان الشيطان قال ذلك وأذاعه
والرسول عليه الصلاة والسَّلام لم ينطق به. ( وذكر وجوهاً اُخرى ثم قال : )
والحديث على ما خيّلت غير مقطوع بصحته (راجع هوامش السيرة النبويَّة : ج 1 ، ص 364.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
20
الحصار الاقتصادي والاجتماعي
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إن أبسط وسيلة وأسهلها لضرب الأقليات
في أي مجتمع ، والقضاء عليها هو ما يسمى بالمكافحة السلبية الّتي تقوم أساساً
على اتحاد الأكثرية واتفاقها على مقاطعة الأقليّة المتمرّدة. إن عكس هذا يحتاج إلى أدوات متعددة
مختلفة ، لأنه يتطلب مثلا ان يحمل جماعة من المقاتلين السلاح ، وتتوجه نحو
الاهداف المطلوبة عبر التضحية بقدر كبير من الأنفس والأموال ، وازالة العشرات من
الموانع والسواتر ، وهو أمر لا يُقدم عليه القادة المحنّكون إلاّ بعد توفّر كل
مستلزمات المواجهة واتخاذ جميع التدابير اللازمة ، والاستعداد الكامل ، وبالتالي
لا يقدمون على هذه الخطوة ما لم تدعو الضرورة اليها ، وتنحصرُ الحيلة في القتال.
ولكنّ المكافحة السلبية لا تتوقف على
مثل هذه الاُمور ، بل تحتاج إلى أمر واحد وهو اتفاق الاكثرية. يعني أن يتفق من يعنيهم الأمرُ ولهم
عقيدة واحدة ويتحالفوا في ما بينهم بصدق على أن يقطعوا كلَ صلاتهم وعلاقاتهم
بالأقليّة المعارضة ، فيحرّموا التعامل التجاريّ معهم ويوقفوا الاتصال العائليّ
بهم ، ولا يشركونهم في اعمالهم الاجتماعية ولا يتعاونوا معهم في اُمورهم
الشخصيّة أيضاً. في مثل هذه الحالة تضيق الأَرض على
الأقلية بما رحبت وتغدو الدنيا لهم على سعتها كسجن ضيق وصغير ، ويصيرون عُرضة
للانهيار والسقوط بأقلّ قدر ممكن من الضغط عليها. إن الاقليّة المخالفة المتمرّدة ربما
تستسلم ـ في هذه الحالة ـ وتؤوب من منتصف الطريق ، وتطيع إرادة الأكثرية. ولكن أقلية كهذه لابد أن تكون ممَّن
لا تعود مخالفتها للأكثرية إلى أمر عقائديّ ولا يكون لانفصالها عن الاكثرية
طابعٌ اُصوليٌ مبدأيّ ، كما لو كان خلافها مع الاكثرية مثلا على تحصيل ثروة أو
منصب مهمّ أو ما شاكل ذلك. فان مثل هذه الاقلية إذا أحسّت بخطر
جدّي ، أو واجهت العذاب والسجن والحصار ستتراجع عن مخالفتها وتعود إلى طاعة
الاكثرية مؤثرة اللّذة العابرة المؤقَّتة على اللذة الإحتمالية ، لأنها لم تنطلق
من دوافع ايمانية اصيلة ، ولم يكن المحرك لها محركاً روحياً معنوياً. ولكن الجماعة الّتي يقوم خلافُها
للاكثرية على أساس الإيمان بهدف مقدس ، لن تنصاع أبداً لمثل هذه الضغوط ، ولن
تنثني أمام هذه الرياح والعواصف ، ولا يزيدها ضغطُ الحصار الاّ صلابة وقوة ،
وإصراراً وعناداً ، وتردُّ جميع ضربات العدوّ بالصبر والإستقامة. إن صفحات التاريخ البشريِّ تشهد بأن
أقوى العوامل لثبات كل أقليّة وصمودها في وجه الأكثرية هو : قوةُ الايمان ،
وعاملُ الإعتقاد ، الّذي ربما يؤدّي رسالة الثبات والمقاومة ببذل آخر قطرة دم في
ساحة المواجهة. ولنا على هذا عشرات بل ومئات الأمثلة
من التاريخ الغابر والحاضر. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قريشٌ تحاصر النبيّ
والمسلمين اقتصادياً واجتماعياً
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد شقَّ على قريش انتشار الإسلام
المتزايد وأزعجها نفوذه العجيب في القبائل العربية في مدة غير طويلة بالنسبة إلى
عمر الدعوة ولهذا كانت تفكر باستمرار في حلّ لهذه المشكلة. فان اسلام شخصيات ذات أهمية ومكانة
كبرى مثل حمزة ، وكذا رغبة فتية قريش المتفتحين في الإسلام ، وحرية العمل
والتحرك الّتي اكتسبها المسلمون على اثر الهجرة إلى أرض الحبشة ، كل ذلك زاد من
حيرة ، واضطراب الزعامة الجاهلية في مكة ، الّتي زادها حيرة ، وانزعاجاً ، فشل
جميع مخططاتها الاجهاضية ضد الإسلام والمسلمين ، وعدم حصولها على أية نتائج
تذكر!! من هنا فكرت في خطة جديدة ، وهي ان
تفرض حصاراً اقتصادياً قوياً على النبيّ والمسلمين تقطع به كل الشرايين الحيوية
للمسلمين ، وبذلك تحدّ من سرعة انتشار الإسلام وتقف دون نفوذه ، وبالتالي تخنق بين
كمّاشة هذا الحصار مؤسس هذه العقيدة التوحيدية ، وأنصاره. ولهذا اجتمع زعماء
قريش في « دار الندوة » ووقّعوا ميثاقاً كتبه « منصور بن عكرمة » وعلّقوه في جوف
الكعبة ، وتحالفوا بان تلتزم قريش ببنوده حتّى الموت. ونصَ هذا العقد على
الاُمور التالية : 1 ـ أن لا يبتاعوا من أنصار النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
ولا يبيعوهم شيئاً. 2 ـ ان لا ينكحوا اليهم ولا ينكحوهم.
3 ـ أن لا يؤاكلوهم ولا يكلّموهم. 4 ـ ان يكونوا يداً واحدة على «
محمَّد » وانصاره. وقد وقّعت على هذه الصحيفة الظالمة
القاطعة كلُ الشخصيات البارزة في قريش إلاّ « مطعم بن عدي » وأعلنت عن سريان
مفعوله بكل قوة وإصرار. فلما علم حامي النبي الاكبر أبو طالب
عليهالسلام بذلك جمع بني هاشم
وبني المطلب وحمّلهم مسؤولية الدفاع عن رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
والحفاظ على حياته وسلامته ، وأمرهم بالخروج من مكة وبدخول شعب كائن بين جبال
مكة كان يعرف بشعب أبي طالب فيه بعض البيوت العادية ، والسقائف البسيطة جداً ،
والسكنى في ذلك الشعب بعيداً عن المجتمع المكّي المشرك. وعمد إلى بث رجال منهم في نقاط
مرتفعة للمراقبة والحراسة تحسباً لأي هجوم مباغت تقومُ به قريش (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 350 ، وتاريخ الطبري : ج 2
، ص 78 ، وقد كتبت هذه الصحيفة الظالمة في الليلة الاُولى من السنة السابعة
للبعثة وعندما عرف ابو طالب بأمرها أنشد قصيدة في ذمهم مطلعها :
). وقد استمر هذا الحصار ثلاثة أعوام
كاملة ، وبلغ الجهدُ بالمحاصَرين في الشعب بحيث ارتفع صراخ الأطفال من الجوع
والضر ، وبلغت هذه الصرخات مسامع قساة مكة الاّ انها لم تؤثر فيهم قط. كان الشباب والرجال منهم يعيشون على
تمرة واحدة طوال اليوم ، وربما تناصف اثنان تمرة واحدة ، ولم يمكنهم الخروج من
الشعب طوال هذه السنوات الثلاث الاّ في الاشهر الحرم حيث يسود الأمنُ كل انحاء
الجزيرة العربية. فاذا حلّ الموسمُ كانت بنُو هاشم
تخرج من الشعب فيشترون ويبيعون ثم يعودون إلى الشعب إلى الموسم الثاني. وكان النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
يستغلّ هو أيضاً تلك المواسم في نشر دينه ، والدعوة إلى ما أتى به. وكانت عناصر قريش تحاول مضايقة النبي
وأنصاره وتمارس الحصار الاقتصادي عليهم بشكل من الأشكال حتّى في هذه المواسم ،
فكانوا يحضرون عند مواقع البيع والشراء فاذا وجدوا مسلماً يريد أن يبتاع شيئاً
اشتروه بثمن أغلى ليمنعوا المسلم منه!! وكان « أبو لهب » أكثر الناس اصراراً
على هذا العمل ، فقد كان ينادي في الأسواق : يا معشر التجار ، غالوا على أصحاب
محمَّد حتّى لا يدركوا معكم شيئاً فقد علمتم مالي ووفاء ذمتي فانا ضامن أن لا
خسار عليكم ، فيزيدون عليهم في السلعة قيمتها أضعافاً حتّى يرجع الرجل المسلم
إلى اطفاله وهم يتضاغون من الجوع وليس في يديه شيء يطعمهم به ، ويغدو التجار على
أبي لهب فيربّحهم فيما اشتروا من الطعام واللباس!!
(السيرة النبوية : ج 1 ، ص 337 الهوامش.).
وكان « الوليد بن المغيرة » ينادي :
أيّما رجل منهُم وجدتموه عند طعام يشتريه فزيدوا عليه فكانت قريش تباكرُهم إلى
الأسواق فيشترونها فيغلونها عليهم. وضع بني هاشم المأساوي في الشِعب
لقد بلغ الجهد والجوع بالمحاصَرين في
الشعب حدّاً جعلهم يأكلون كل ما تقع عليه ايديهم من الخبط وورق السمر حتّى أن «
سعد بن أبي وقاص » يقول : لقد جعت حتّى أني وطئتُ ذات ليلة على شيء رطب فوضعته
في فمي وبلعته ، وما أدري ما هو إلى الآن (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 337 الهوامش.).
هذا وقد بثّت قريش جواسيسها على
الطرق المؤدّية إلى الشعب ليمنعوا من إيصال الطعام إلى من فيه فلا يصل إليهم شيء
إلاّ سراً ومستخفى به ممّن أراد صلتهم من قريش. فقد روي أن « حكيم بن
حزام » ( ابن اخ خديجة ) و « أبو العاص بن الربيع » و « هشام بن عمرو » كانوا
يسرّبون إلى « بني هاشم » في الشعب سرّاً وفي أواسط الليل تحت جنح الظلام ، فكان
الواحد منهم يحمل قمحاً وتمراً على بعير ويأتي به إلى باب الشعب ثم يصيحُ بها
فتدخلُ الشعب ويأكله بنو هاشم. وربما صادفهم بعض جواسيس قريش ،
فهمُّوا بقتله ، أو سبّبوا له بعض المتاعب. فقد روي أن « حكيم بن حزام » خرج
يوماً ومعه انسان يحمل طعاماً إلى عمته خديجة بنت خويلد ( زوجة رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وكانت معه في الشعب طيلة أعوام الحصار ) إذ لقيه « أبو جهل » فقال له : تذهب
بالطعام إلى بني هاشم؟ واللّه لا تبرح أنت ولا طعامَك حتّى أفضحَك عند قريش
بمكة. فقال له أبو البختريّ ـ وكانَ من
أعداء الإسلام هو أيضاً ـ : تمنعه أن يرسل إلى عمته بطعام كان لها عنده؟ فأبى « ابو جهل » أن يدعَه إلا أن
يأخذه إلى قريش ، فقام إليه « ابوالبختري » بساق بعير فضربه ووطأه وطئاً شديداً
» (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 354 ، هذا ويشكّك أحد المحققين في نوايا
حكيم بن حزام في هذا العمل ، وفي أن يكون قد حصل بدافع الوفاء لوشيجة القربى ،
بل كان بدافع الربح الاكثر لما ثبت ـ حسب قوله ـ من انه كان يحتكر الطعام على
عهد رسول الّه صلىاللهعليهوآلهوسلم.).
وخلاصة القول ؛ أن قريشاً بالغت في
تضييق الحصار على رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ومن تبعه حتّى أن من كان يدخل « مكة » من العرب. كان لا يجسر على أن يبيع من بني
هاشم شيئاً ومن باع منهم شيئاً انتهبوا ماله ، وكان « أبو جهل » ، و « العاص بن
وائل » و « النضر بن الحارث بن كلدة » ، و « عقبة بن أبي معيط » يخرجون إلى
الطرقات الّتي تدخل « مكة » فمن رأوه معه ميرة وطعام نهوه ان يبيع من بني هاشم
شيئاً ، ويحذرون إن باع شيئاً منهم نهبوا ماله. كما وعدوا على من أسلم فاوثقوهم
وآذوهم واشتدّ البلاء عليهم ، وأبدت قريش لبني عبد المطلب الجفاء. ولكن لم يستطع كلُ ذلك أن يفتَّ في
عضد النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
ويقلل من إصراره وثباته على الطريق ، ولا مِن اصرار أتباعه وثباتهم وإيمانهم. وأخيراً تركت صرخاتُ أطفالُ بني هاشم
في الشعب من الجوع والعري والجهد والضر ، وأوضاعهم المأساوية أثرها في نفوس بعض
المشركين الموقعين على تلك الصحيفة الظالمة ، وذلك الميثاق المشؤوم ، فندموا على
إمضائهم لتلك المقاطعة بشدة وصاروا يفكّرون في نفضها بشكل من الأشكال. فمشى « هشام بن عمرو » إلى « زهير بن
أبي اُمية » ( وكان من أحفاد عبد المطلب من جانب بناته ) وقال له وهو يحثه على
نقض الصحيفة : يا زهير أقد رضيت أن تأكلّ الطعام ، وتلبس الثياب ، وتنكح النساء
، وأخوالك حيث قد علمت لا يُباعون ولا يُبتاع منهم ، ولا يُنكحون ولا يُنكحُ
إليهم؟ أمّا إني أحلِفُ باللّه أن لو كانُوا
أخوال أبي الحكم ( أي أبي جهل ) ثم دعوته إلى ما دعاك إليه منهم ما أجابك إليه
أبداً؟ فقال زهير : ويحك يا هشام فماذا
أصنع؟ إنما أنا رجلٌ واحدٌ واللّه لو كان معي رجلٌ آخر لقمتُ في نقضها حتّى
أنقضَها. قال : قد وجدتَ رجلا. قال فمن هو؟ قال : أنا. قال له زهير : أبغنا رجلا ثالثاً.
فذهب إلى « المطعم بن عدي » فقال له يا مطعم أقد رضيت أن يهلك بطنان من بني عبد
مناف ، وأنت شاهدٌ على ذلك ، موافقٌ لقريش فيه! أما واللّه لئن أمكنتُموُهم من
هذه لتجدنَّهم إليها منكم سراعاً؟ قال : ويحك! فماذا أصنع؟ انما أنا
رجلٌ واحدٌ. قال : قد وجدتَ ثانياً. قال : من هو؟ قال : أنا. قال : أبغِنا ثالثاً. قال : قد فعلتُ. قال : مَن هوَ؟ قال : زهير بن أبي اُمية. قال : ابغِنا رابعاً. فذهب إلى « البَختري بن هشام » فقال
له نحواً مما قال للمطعم بن عدي ، فقال : وهل من أحد يعين على هذا؟ قال : نعم. قال : من هُوَ؟ قال : « زهير بن أبي اُمية » و «
المطعم بن عديّ » وأنا معك. فقال : ابغنا خامساً. فذهب إلى « زمعة بن الأسود بن المطلب
» فكلَّمه وذكر له قرابتهم وحقّهم فقال له : وهل على هذا الأمر الّذي تدعوني
إليه من أحد؟ قال : نعم ... ثم سمّى له القوم
الذين وعدوه بالمساعدة على نقض تلك الصحيفة القاطعة الظالمة. فاتفقوا على أن يحضروا في أندية قريش
في المسجد ويُعلِنُوا مخالفَتهم لتلك الصحيفة. فلمّا أصبحوا غَدوا إلى مجلس قريش في
المسجد الحرام فأقبل « زهير بن أبي اُميّة » على الناس وقال : يا أهل مكة أنأكل الطعام ونلبسُ
الثياب ، وبنو هاشم هلكى لا يُباع لهم ولا يُبتاعُ منهم؟ واللّه لا أقعد حتّى
تشقّ هذه الصحيفة القاطعة الظالمة. فقال أبو جهل وكان في ناحية المسجد :
كذبتَ واللّه لا تُشقّ. فانتصر زمعة لزهير وردَّ على أبي جهل
قائلا : أنت واللّه أكذبُ ، ما رضينا كتابَها حيث كتبت. وقال أبوالبختري من ناحية مؤيّداً
موقف زميله : صدق زمعةُ لا نرضى ما كتب فيها ، ولا نقرّ به. وقال المطعم بن عدي : صدقتما وكذب من
قال غير ذلك ، نبرأ إلى اللّه منها ، وممّا كتب فيها. وقال هشام بن عمرو نحواً من ذلك. فأحسّ أبو جهل بأنَّ ذلك كان أمراً
مبيَّتاً مدبَّراً من قبل فقال : هذا أمرٌ قُضِيَ بليل ، تُشُوور فيه
بغير هذا المكان. وكان أبو طالب ـ حسب بعض الروايات
التاريخية ـ جالساً ذلك اليوم في ناحية المسجد ، فقام المطعم إلى الصحيفة
ليشقَّها فوجد ( الإرضة ) (وهي دودة بيضاء شبه النملة وهي آفة كل شيء من خشب أو نبات راجع لسان
العرب مادة : ارض.)
قد أكلتها ، إلاّ « باسمك اللَّهمَ » الّتي صُدرَت بها تلك الصحيفة وهي جملة
كانت قريش تبدأ بها عهودَها ورسائلها. فلما رأى « أبو طالب » ذلك رجع إلى
الشعب وأخبر رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله ) بما جرى ، وعاد المحاصَرون في
الشعب إلى منازلهم مرة اُخرى بعد المشورة مع « أبي طالب ». ويروي طائفةٌ من المؤرخين أنّ «
خديجة » و « أبا طالب » أنفقا أموالَهما برمّتها خلال سنوات المحاصرة. وفجأة نزل ملك الوحي « جبرئيل » على
رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
في الشعب ، وأخبره بان اللّه قد بعث على صحيفة المشركين القاطعة دابّة الأرض
فلحست ( أو اكلت ) جميع ما فيها من قطيعة وظلم وتركت جملة « باسمك اللّهمّ »
فأخبر رسولُ اللّه أبا طالب بذلك قائلا يا عمّ إنّ ربّي اللّه قد سلّط « الإرضة
» على صحيفة قريش فلم تَدع فيها إسماً هوللّه إلاّ أثبتتهُ فيها ، ونفت منها
الظلم والقطيعة والبهتان. فقال أبو طالب : إذن لا يدخلُ عليك
أحَدٌ (وإنّما اتخذ مثلَ هذا الاجراء حتّى لا يفشوا ذلك الخبر فيبلغ
المشركين فيحتالُوا للصحيفة ويكذّبوا بذلك خبر النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم.).
ثم قامَ ولبسَ ثيابَه ، ومشى هو
ورسولُ اللّه وشخصٌ آخر حتّى دخلوا المسجد على قريش وهم مجتمعون فيه ، فلما دَنا
أبو طالب منهم قامُوا إليه وعظَّموه ، وتباشروا وظنّوا أن الحصَر والبلاء حمل
أبا طالب على التخلّي عن موقفه ، فقالوا له : قد آن لك أن تطيب نفسُك عن قتل رجل
في قتله صلاحُكم وجماعتكم ( أو قد آن لك أن تسلّم إلينا ابن أخيك ). فقال أبو طالب : واللّه ما جئت لهذا
، ولكنَّ ابن أخي أخبرني ولم يكذّبني أنّ اللّه تعالى أخبَرهُ أنه بعث على
صحيفتكُم القاطعة دابَّة فلحست جميع ما فيها من قطيعة رحم وظلم وجور وترك اسم
اللّه ، فهلم صحيفتكم فان كان حقاً فاتقوا اللّه وارجعُوا عمّا أنتم عليه من
الظلم والجور وقطيعة الرَّحم. وإن كان باطلا دفعتُه إليكم فان شئتم
قتلتمُوهُ ، وإن شئتم استحييتموه. فقالوا : رضينا ، وتعاقدوا على ذلك. ثم بعثوا إلى الصحيفة وأنزلوها من
الكعبة ، وعليها أربعون خاتماً. فلما أتَوابها نَظر كلُ رجل منهم إلى
خاتمه ، ثم فكوها فاذا ليس فيها حرفٌ واحدٌ إلاّ « باسمك اللّهمَّ » ، كما
اخبرهم بذلك رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم.
غير أنَّ هذا لم يوجب هدايتهم بل
زادهم شراً وعناداً ورجع بنو هاشم مرّة اُخرى الى الشعب وبقوا محاصرين فيه مدّة
من الزمن ولم يمكنهم الرجوعُ إلى منازلهم بمكة إلاّ بعد أن نقضها هشام. وقد قال « أبو طالب » في مدح هذا (
أي نقض الصحيفة القاطعة والنَفر الذين قاموا بنقضها ) قصيدة مطوَّلة جاء في
مطلعها.
1 ـ يقصد من هاجر من
المسلمين إلى الحبشة في البحر. 2 ـ أي أرفقُ. 3 ـ السيرة النبوية : ج 1
، ص 377 ـ 380 وقد أدرج ابن هشام القصيدة بتمامها ، فراجع. هذه أمثلةٌ ونماذجُ من رُدود الفعل
الظالمة والمواقف المناوئة الّتي اتخذتها قريشٌ تجاه الدعوة المحمدية. على أنه لا يمكن الادّعاء القطعيّ
بأن جميع هذه الردود قد وقعت على الترتيب الّذي ذكرناه تماماً ، ولكن يمكن
بمراجعة النصوص التاريخيّة تحصيل مثل هذا الترتيب وخاصّة أن مسألة انتهاء
المحاصرة الاقتصادية قد وقعت في منتصف شهر رجب من السنة العاشرة للبعثة الشريفة.
كما أنَّ أذى قريش وردود فعلها ضدّ
الإسلام والمسلمين وضدّ رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
خاصّة لم تنحصر في ما ذكرناه في هذه الفصول بل كانت هناك أساليب اُخرى سلكتها
قريش لتحطيم شخصية النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
وأضعاف عزيمته مثل وصفهم للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
بالأبتر. فقد كان « العاصُ بن وائل السهمي »
إذا ذكر رسول اللّه قال : دعوهُ ، فانَّما هو رجلٌ أبترٌ لا عقب له ، لومات لا
نقطع ذكره واسترحتم منه. فانزل اللّه تعالى في ذلك سورة
الكوثر الّتي يقول فيها : «
بسم اللّه الرحمن الرَّحيم إنّا أعْطَيْناكَ الكوثَر فَصَلِّ لِربِّك وَانْحَرْ
* إنَّ شانئكَ هُوَ الأَبْتر ». وقد أخبر بها اللّه نبيَّه بأنه
سيهبُه ذريّة كثيرة (السيرة النبوية : ج 1 ص 393 وجميع التفاسير.).
ولقد كتبَ العلاّمة الفخر الرازي في
تفسيره لهذه السورة (مفاتيح الغيب : الجزء الثلاثون ، سورة الكوثر.)
: المعنى أنه يعطيه نسلا يبقون على مرّ الزمان ، فانظر كم قُتِلَ من أهل البيت؟
ثم العالم ممتلئ منهم ، ولم يبق من بني اُميّة في الدنيا أحدٌ يُعبأبه. ووجه المناسبة أن الكافر شمت بالنبيّ
حين مات أحد أولاده وقال : ان محمَّداً ابتر فان مات مات ذكره ، فانزل اللّه هذه
السورة على نبيّه تسلية له كأنه تعالى يقول : ان كان ابنك قد مات فانا اعطيناك
فاطمة ، وهي وإن كانت واحدة وقليلة ، ولكن اللّه سيجعل هذا الواحد كثيراً. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
21
وَفاة أَبي طالب وخديجة الكبرى
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
في الوَقت الّذي كنّا نسطّر فيه
مواضيع هذا الفصل كان سجن « القطيف » يضمُّ بين جدرانه شاباً حر الضمير شجاعاً
مقداماً له يكن له من ذنب إلاّ أنه الّف كتاباً باسم « أبو طالب مؤمن قريش »
يتناول إسلام « أبي طالب » وإيمانه وإخلاصه مثبتاً كل ذلك من مصادر أهل السنّة (والكتاب يقع في 340 صفحة طبع بحجم الوزيري وطُبع في بيروت مراراً
وقدّم عليه الأديبُ اللبناني المعروف « بولس سلامة » صاحب ملحمة الغدير وملاحم
اُخرى.).
فطلبت منه السلطات القضائيّة في
الحجاز ـ وفي عصر يتسمُ بحرّية التفكير والبيانِ والإعتقادِ ـ بأن يتراجع عن
كلامه ، وحيث إنه لم يكن ليريد أن ينكر حقيقة اعتقد بها عن قناعة ويقين ، حكمت
عليه تلك السلطات بالاعدام. وقد نجا هذا الفتى الشجاع والكاتب
الحرّ من الاعدام اثر جهود اسلامية واسعة وخُفِضت عقوبته إلى الحبس المؤبّد ،
الّذي خفّض اثر جهود اسلامية مرّة اُخرى إلى عقوبة الجَلد ثمانين جلدة!!. وهو الآن يلبث في أحد السجون بانتظار
المصير ، المجهول إذ على المسلمين إما أن يهتمّوا بالأمر ويطلبوا من السلطات
القضائية السعودية صرف النظر عن عقوبته ، بل والافراج عنه نهائياً. وإما أن يفقد هذا الشاب المجاهد
الشجاع البريء حياته تحت سياط تلك السلطات الجائرة الحاكمة زوراً وقهراً على أرض
الحجاز (لقد سمّيت أراضي « الحجاز » و « نجد » و « تهامة » باسم عائلة واحدة
هي آل سعود ، واخيراً حملت هذه المنطقة الّتي كانت تُعرف وحتّى إلى ما يقرب من
قرنين بارض الحجاز اسم المملكة العربية السعودية ، ياله من استئثار وجرأة على
المقدسات!!)
(واخيراً نجا هذا الشاب المؤمن والمجاهد الحرّ بفضل جهود علماء الشيعة
ومفكّريهم المتضافرة والواسعة النطاق واُخلي سبيله وقد زار ـ للاعراب عن شكره ـ
مدينة قم المقدّسة وقد التقينا به أيضاً كما زار اماكن أُخرى لنفس الغرض.).
لقد سقطت مؤامرة الحصار الاقتصادي
ضدّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
بفعل إقدام ثلة من ذوي المروءة وأيضاً بفضل صمود النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
وثباتهم العظيم. وخرج النبيّ وأنصاره من « شِعب أبي طالب » بعد ثلاث سنوات من
النفي والعذاب وعادوا إلى منازلهم ظافرين مرفوعي الرؤوس. وعاد التعامُل الاقتصادي مع المسلمين
إلى ما كان عليه قبل الحصار ، وكانت أوضاع المسلمين تسير نحو الانتعاش والانفراج
شيئاً فشيئاً ، وإذا برسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
يُفاجَأ بحادث مؤلم مرٍّ ذلك هو وفاة شخصية كبرى أحدث فقدانها أثراً سيّئاً في
نفوس المسلمين وبخاصة المستضعفين منهم. ولقد كان هذا الأثر عظيماً جداً بحيث
لا يمكن قياسه بشيء بالنظر إلى تلك الظروف الحساسة ، وذلك لأن نمو أية عقيدة
وفكرة إنما يكون في ظل عاملين أساسيّين : أحدهما : حرية التعبير ، والآخر :
القوة الدفاعية الّتي تحمي أصحاب تلك العقيدة والفكرة ضدّ حملات الخصوم الّتي لا
ترحم. ولقد كان المسلمون ـ آنذاك ـ يتمتعون
بحرية البيان والتعبير ، ولكنهم افتقدوا بسبب الحادث المفاجئ المذكور العاملَ
الجوهري والمصيري الثاني يعني : حامي الإسلام والمدافع الوحيد عنه الّذي وافته
المنية في تلك الايام الحساسة وحُرم المسلمون بوفاته من حمايته ودفاعه ،
ووقايته. * * * أجل لقد فَقَد رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
حاميه العظيم الّذي تولى مهمة كفالته والدفاع عنه ، والمحافظة على حياته بصدق
واخلاص وجدّ ورغبة وكان يقيه بنفسه وذويه ويؤثره على نفسه وأولاده وينفق عليه من
ماله حتّى كَبُرَ وصار له مال وطول منذ أن كان صلىاللهعليهوآلهوسلم
في السنة الثامنة من عمره وحتّى يوم وفاة ذلك الحامي العظيم ، ورسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
في الخمسين من عمره. لقد فَقَد رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
شخصيةً خاطبها عبدُالمطلب عند وفاته بالشعر قائلا :
فأجابه أبو طالب قائلا :
يا أبَه لا توصِيَّنِ بمحمّد فانه إبني وابن أخي (عمدة الطالب : ص 6 وفيه : بواحد ، المناقب : ج 1 ، ص 21.).
ولعلّ رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
قد تذكر في اللحظة الّتي ظهر فيها على جبين ابي طالب عرقُ الموت جميع الحوادث
الحلوة والمرة وقال في نفسه : 1 ـ إن هذا الشخص المسجّى على فراش
الموت هو عمّه الرؤوف الّذي ظلَّ يحرسه بالليل والنهار طيلة سنوات الحصار في
الشعب ، فاذا جاء الليل قام عند رأسه بالسيف يحرسه. ورسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
مضطجع ثم يقيمه من فراشه إذا مضى شطرٌ من الليل ويضجعه في موضع آخر ويضجع مكانه
ولده « علي بن أبي طالب » حتّى لا تغتاله قريش بعد أن رَصَدوا مكانه ، وكمنوا له
، وكان يفعل أبو طالب ذلك طوال الليل كله فيفديني بولده « علي » ويقيني به حتّى
إذا قال له « عليٌ » ليلة : « يا أبتاه إني مقتول ذات ليلة ». فأجابه أبو طالب بنبرة
المتحمّس الصبور :
فأجابه « عليّ » بكلام اكثر حلاوةً
وعمقاً قائلاً :
(1)مناقب ابن شهر آشوب : ج 1 ، ص 64 ، الحجّة : ص 70 ، بحار الأنوار : ج
19 ، ص 1 ـ 19. 2 ـ إن هذا الجثمان الّذي فارقته
الروح هو جثمان عمّي العطوف الّذي شُرّدَ هو وذووه ، وعرَّض نفسَه وأهلَه
للبَلاء والمحنَة بسبب الحصار لأجلي ، وأمر بأن يحرسونني ليلَ نهار ، تاركاً
زعامته وسيادته ، وكلّ شؤُونه للحفاظ عليَّ والإبقاء على رسالتي وأرسل إلى قريش
رسالةً قويةً أعلنَ فيها عن وُقُوفه إلى جانبي وانه لن يسلمني ويخذلني مادام
حيّاً إذ قال :
(2)بحار الأنوار : ج 19 ، ص 4. بعد أن تحقق موت « ابي طالب » ارتفع الصراخ
والنحيب من منازله وبيوته ، واجتمع حول بيته العدوُّ والصديقُ ، والقريبُ
والبعيد ، واشترك الجميعُ في مراسيم دفنه بقلوب آلمتها الفجيعة به ، وقرّحها
الحزنُ عليه. وهل ترى تنتهي آثار وردود فعل وفاة
شخصية عظيمة الشأن مثل « ابي طالب » الّذي كان زعيم قريش ، وسيد عشيرته بمثل هذه
السرعة ، والبساطة؟ كلا بل سيكون لفقدانه اكبر الأثر على
مسيرة الدعوة كما ستعرف ذلك مستقبلا. نماذج من مشاعر أبي طالب
ان التاريخ البشريّ يحتفظ في صفحاته
بأمثلة كثيرة عن مشاعر تبادَلها ولكنَّ المشاعرَ والعواطفَ الّتي
تنبعُ من أواصر الايمان بفضائل شخص ما وكمالاتِه الروحية والمعنوية لا تنمحي ولا
تتلاشى بسرعة. وقد كانت مودة « أبي طالب » لمحمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم
وحبّه الشديد له تنبع من كلا هذين الدافعّين. فقد كان « أبو طالب » يؤمن بمحمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم
ويرى فيه من جانب الإنسان الكاملَ ، بل يعتبره في قمة الكمال الانساني ، ومن
جانب آخر كان « محمّد » ابن أخيه ، وقد أحلّه ذلك من قلبه محلّ الابن والأخ. لقد كانت لصفات « محمّد » وخصاله
المعنوية والأخلاقية ، وطهره مكانة كبرى في قلب عمّه « أبي طالب » إلى درجة أنه
كان يصطحبه معه إلى المصلّى ، ويستسقي به اي انه يقسم على اللّه بمقامه أن يدفعَ
عن الناس القحط والجدب وينزّلَ عليهم الغيث ، فكانت دعوتُه تستجاب من دون تأخير.
فقد نقل كثيرٌ من المؤرخين الحادثة
التالية : قحط الناسُ في « مكة » وحواليها سنةً
من السنين ، ومَنعتِ السماء والأرض بركاتها عنهم بشكل عجيب ، فمشت قريش بعيون
باكية إلى « أبي طالب » تطلب منه بالحاح أن يستسقي لهم ، وان يذهب إلى المصلى
ويدعو ربّه لينزِّلَ عليهم المطر وينقذهم من تلك المحنة الصعبة. فخرج « أبو طالب » وقد أخذ بيد غلام
كأنه شمسُ دجن تجلّت عنها غمامة فاسند ظهره إلى الكعبة ورفع وجهه نحو السماء
وقال : يا رب هذا الغلام اسقنا غيثاً مغيثاً ، دائماً هاطلا. ويكتب المؤرخون ان السماء كانت صافية
لا غيم فيها أبداً ساعة استسقى « أبو طالب » برسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ولكن ما ان فرغ « أبو طالب » من دعائه إلاّ وأقبلت السحاب في الحال ، وغطّت
سماء « مكة » وما حولها من المناطق القريبة اليها ، وارعدت السماء وأبرقت ثم جرى
غيث عظيم سالت به الأودية ، وروّت القريب والبعيد ، وَسُرّ به الجميع ورضوا (بحار الأنوار : ج 18 ، ص 2 و 3 ، السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 111 ـ 116
، الملل والنحل المطبوع بهامش الفصل في الأهواء والملل : ج 3 ، ص 225.).
وقد اشار « أبو طالب »
في لاميّته المعروفة إلى هذه الحادثة. وقد أنشأ « أبو طالب » تلك القصيدة
في أحلك الظروف واشدّها ، يوم زادت قريشٌ من ضغوطها على حامي الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم
ليسلِّمَ رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
إليها. وقد ذكَّر فيها « أبو طالب » قريشاً
بحادثة الاستسقاء برسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
قبل الإسلام وكيف أنها اُمطِرَت ببركته ، بعد قحط طويل ، وجدب مهلِك ، كاد يبيد
الحرث والضرع ، وذلك عندما يقول :
وقد نقل « ابن هشام » في
سيرته (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 272 ـ 280.)
أربعة وتسعين بيتاً من هذه القصيدة ، فيما أورد « ابن كثير » الشامي في تاريخه (البداية والنهاية : ج 3 ، ص 52 ـ 57.) إثنين
وتسعين بيتاً فقط. وهي قصيدة في منتهى الروعة والعذوبة
، وفي غاية القوة والجمال ، وتفوق في هذه الجهات كل المعلقات السبع الّتي كان
عرب الجاهلية يفتخرون بها ، ويُعدونها من ارقى ما قيل في مجال الشعر والنظم. وقد أورد « ابو هفان العبدي » الجامع
لديوان « أبي طالب » مائة وواحد وعشرين بيتا من هذه القصيدة في ذلك الديوان ،
ويمكن أن تكون كلُ تلك القصيدة وتمامها. ونحن نورد هنا أبياتاً متفرقة من هذه
القصيدة مما يتصل منها برسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
بصورة صريحة.
1 ـ اي نُغلَبَ عليه. 2 ـ المشاكل : العظيمات من
الامور. 3 ـ السورة : الشدة
والبطش. 4 ـ الذرا : جمع ذروة وهي
اعلى ظهر البعير. 5 ـ راجع السيرة النبوية :
ج 1 ، ص 272 ـ 280. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
التغيير في برنامج
السفر
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لم يكن يمض اكثر من إثني عشر ربيعاً
من عُمُر « محمّد » بعد ، عندما أراد « أبو طالب » التوجّه إلى الشام مع قافلة
قريش التجارية. وعندما استعدّت القافلة لمغادرة مكة
ودق جرس الرحيل ، أخذ « محمّد » فجأة بزمام الناقة الّتي كان يركبها عمُّه
وكافله « أبو طالب » بينما اغرورقت عيناه صلىاللهعليهوآلهوسلم
بالدموع وقال : « يا عمّ إلى مَن تكلني ، لا أب لي
ولا اُم »؟. هذا المشهد المؤثر وبخاصة عند ما رأى
« أبو طالب » عيني محمّد وقد اغرورقت بالدموع ، فعل فعلته في نفس العم الكافل
الحنون ، فانحدرت عبرات العطف من عينيه وقرر من فوره ومن دون سابق تفكير في
الموضوع أن يصطحب ابن اخيه « محمّداً » معه في هذا الرحلة ، ومع أنه لم يحسب
لهذا الامر ـ من قبل ـ أي حساب فان « أبا طالب » قبل بان
يتحمّل كل ما يترتب على قراره هذا ، فحمله معه على ناقته ، وبقي يفكر في أمره ،
ويدبّر شأنه ، ويحافظ عليه طوال تلك الرحلة ، وشهد منه اثناء الطريق كرامات
وخوارق ، وقد أنشأ في ذلك قصيدةً موجودةً في ديوان أبي طالب ، ومطلع هذه القصيدة
هو :
(1)ديوان أبي طالب : ص 33 ـ 35 ، تاريخ ابن عساكر : ج
1 ، ص 269 ـ 272 ، الروض الآنف : ج 1 ، ص 120.
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الدِفاعُ عن حوزة
العقيدة والايمان
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ليست هناك قوةٌ تساعد على الثبات
والمقاومة ، والصمود والاستقامة ، مثل قوة الايمان ، فالايمان بالهدف هو العامل
القوي وراء تقدّم الإنسان في ميدان الحياة ، فهو الّذي يهضم في نفسه كل الالام
والمتاعب ، ويدفع بالمرء إلى المضي قدماً في طريق الوصول إلى أهدافه المقدّسة ،
حتّى ولو كلفه ذلك التعرض للموت. إنَّ الجنديّ المُسلَّح بقوةِ
الإيمان منتصرٌ لا محاله. إن الجنديّ الّذي يعتقد بأن الموت في
طريق العقيدة هو عين السعادة لابدّ أن يحرز النصر. إن على الجندي ـ قبل أن يسلِّحَ
نفسَه بسلاح العصر ـ أن يتزود في قلبه من طاقة الإيمان بالهدف ، ويضيء قلبه
بمصباح الاعتقاد بالحقيقة ، وحبِّها ، ويجب أن يكون جهادُه وصلحُه من أجل
العقيدة والدفاع عن حوزتها ، وكيانها. إِنَّ أفكارنا وعقائدنا نابعةٌ من
روحنا ، وفي الحقيقة انَّ فكر الإنسان وليد عقله ، فكما أنَّ الإنسان يحبُ ولده
الجسماني حبّاً شديداً كذلك يحب أفكاره الّتي هي ولائد عقله وروحه ، بل إن حبّ
الإنسان لعقيدته اكثر من حبّه لأولاده الجسمانيّين ، ولهذا فهو يدافع عن عقائده
حتّى الموت ، ويغضي ـ في سبيل الدفاع عن حوزة العقيدة والحفاظ عليها ـ عن كل شيء
بينما هو غير مستعدّ لأن يضحي بنفسه في سبيل الحفاظ على اولاده. إنّ حب المرء للمال والمنصب حبُّ
محدود ، فهو ينساق مع هذا الحبّ مادام لم يهدّد حياته خطرُ الموت الحقيقي ،
ولكنّه مستعد لأن يمضي ـ في سبيل الدفاع عن حياض العقيدة ـ إلى حدّ الموت ،
ويؤثر الموت الشريف في سبيل العقيدة على الحياة ، ويَرى الحياة الحقيقية
والواقعية في وجود الرجال المجاهدين ، وهو يردد : « إنما الحياة عقيدة وجهاد ». (ـ المراد من العقيدة المقدسة هو بطبيعة الحال ما تذوب « الأنا » فيها
في التوحيد والايمان باللّه إذ هنا يصدُق قولُه :
)
ولنلق نظرة فاحصة على حياة بطل
حديثنا ( ونعني به المدافع الوحيد عن الإسلام وحامي الرسول الاوحد في بدايات عهد
الرسالة ) فماذا كان دافعه إلى هذا الامر ، وما الّذي كان يحركه في هذا السبيل؟
واي شيء كان وراء مضيه في هذا الطريق إلى حافة العدم ، والغض عن النفس والنفيس ،
والمقام ، والقبيلة وغير ذلك والتضحية بكل ذلك في سبيل « محمّد » صلىاللهعليهوآلهوسلم.
إن من المتيقَّن أن دافعه إلى ذلك لم
يكن المحرك الماديّ ، وبالتالي لم يقصد من وراء الدفاع عن ابن اخيه ، وحمايته ،
والحدب عليه ، كسب أمر مادي كتحصيل مال وثروة ، لأن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
لم يكن له يومئذ مالٌ ، ولا ثروة. وكما أن مقصود « أبي طالب » لم يكن
أيضاً تحصيل مقام ، وأحراز مكانة اجتماعية لأنه كان يملك في ذلك المجتمع أعلى
المناصب واهمها ، فقد كانت له رئاسه « مكة » والبطحاء ، بل هو فقد منصبه وشخصيته
الممتازة ومكانته المنقولة بسبب دفاعه عن « محمّد » ، وعدم الاستجابة لقومه في
تسليمه اليهم ، والتخلي عنه لأن دفاعه عن رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
قد استوجب سخط زعماء قريش عليه واستياءهم من موقفه ، وخروجهم عن طاعته ، ودفعهم
إلى التمادي في معاداة « بني هاشم » و « أبي طالب » والثورة عليهم!! |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
تصَوّرٌ باطلٌ
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ربما يتصور بعض ضعفاء البصيرة أن علة
حدب « أبي طالب » على رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
والتضحية في سبيله بالنفس والنفيس كانت هي : علاقة القربى ، ووشيجة الرَحِم ، أو
بتعبير آخر : إِن التعصب القبليّ ، والعصبية القومية هو الّذي دفع بأبي طالب إلى
ان يعرّض نفسه لكل ذلك المكروه في سبيل ابن اخيه. ولكنّ هذا ليس سوى مجرّد تصور باطل
لا غير ، ويتضح بطلانه بدراسة مختصرة لأنه لا تسطيع أية وشيجة قربى على أن تدفع
أحداً إلى أن يضحي بنفسه في احد أقربائه إلى هذه الدرجة من التضحية والمفاداة ،
بحيث يقي مثلا ابن أخيه عليه ، ويكون مستعداً لأن يتقطّع ولده بالسيوف إرباً
إرباً دون ابن أخيه. إن العصبيات القبائلية والعائلية وان
كانت تدفع بالانسان حتّى إلى حافة الموت ، ولكن لا معنى لان تختص ، هذه الحماية
الناشئة عن العصبية العائلية والقبلية الشديدة بفرد واحد ، وشخص خاص معيّن من
أفراد العائلة والقبيلة ، في حين نجد « أبا طالب » قد قام بكل هذه التضحية في
سبيل شخص واحد ، وفرد معين ( أي النبيّ ) ، ولا يفعل مثل هذه في سبيل غيره من
أبناء « عبد المطلب » و « هاشم » وأحفادهما ومن ينتمي إليهم بوشيجة القربى
ورابطة الرحم. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الدافع الحقيقيّ
لأبي طالب
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وعلى هذا الأساس فانّ المحرّك
والدافِعَ الحقيقيّ لأبي طالب لم يكن أمراً مادياً ولا الجاه والمنصب ، أو
التعصب القومي ، والعائلي ، بل كان أمراً معنوياً وأن ضغوط العدوّ وقوّته كانت
تدفعه إلى الاستعداد للقيام بأي نوع من أنواع التضحية وذلك الأمر المعنويّ هو
اعتقاده الراسخ برسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
يعتبر « محمّداً » مظهراً كاملا للفضيلة والإنسانية ويعتبر دينه أفضل برنامج للسعادة ، وحيث أنه كان يحبُّ
الحقيقة ، ويعشق الكمالَ والحقّ ، لذلك كان من الطبيعيّ أن يدافع عن الحق
والحقيقة ، وينصرهما بكل وجوده ، وبكل قواه. وهذا المعنى هو
المستفاد من قصائد « أبي طالب » وأشعاره ، فهو يصرح
بأن « محمّداً » رسولٌ كموسى وعيسى إذ يقول :
(1)مجمع البيان : ج 7 ، ص 37 ، الحجّة : ص 56 ـ 57 ، مستدرك الحاكم : ج
2 ، ص 623 و 624. ويقول في قصيدة اُخرى :
مجمع البيان : ج 7 ، ص 36
، وقد نقل ابن هشام في السيرة النبوية : ج 1 ، ص 352 و 353 خمسة عشر بيتاً من
هذه القصيدة. هذا وتعتبر ابياته الّتي سبق أن
أشرنا اليها والمئات من أمثالها مما جاء ذكره في ديوان أبي طالب ، وفي ثنايا
التاريخ والتفسير والحديث شواهد حيّة وقوية على أن محرك « أبي طالب » الواقعي
ودافعه الحقيقي إلى الدفاع عن رسول اللّه
صلىاللهعليهوآلهوسلم
كان هو اعتقاده الخالص ، واسلامه الواقعي ولم يكن له أي دافع آخر سوى الايمن
والعقيدة. ونحن هنا نكشف النقابَ عن بعض مواقفه
في الدفاع عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
وحمايته بعد اضطلاعه بعبء الرسالة ، ونترك لك أيها القارئ بأن تدقّق في مثل هذه
المواقف الفدائية ثم تقضي بنفسك : هل تنبع مثل هذه التضحية ، ومثل هذا التفاني ،
والفداء إلاّ من الايمان والاعتقاد؟؟ |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لمحات من تضحيات
أبي طالب
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إجتمع أسياد قريش واشرافها في بيت
أبي طالب والنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم حاضر ،
وتبودلت بين الجانبين أحاديث حول رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم ودينه وما خلق من مشكلات في مكة ،
وحاول القرشيون اثناء النبيّ عن دعوته وعمله ولكن دون جدوى فلما يئسوا من الحصول
على النتيجة الّتي كانوا يريدونها نهضوا من مكانهم ليتركوا بيت « أبي طالب » قال
« عقبة ابن أبي معيط » غاضباً مهدداً : لا نعود إليه أبداً ، وما خير من أن
نغتال محمّداً!! فغضب « أبو طالب » من هذه الكلمة ،
ولكنه ماذا عساه أن يفعل فهم ضيوفه ، وفي بيته. واتفق أن خرج النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
من البيت في ذلك اليوم ولم يعد ، وجاء « أبو طالب » وعمومته إلى منزله فلم يجدوه
، فجمع فتياناً من بني هاشم وبني المطلب ، ثم قال ـ وهو يظن ان قريشاً كادت
برسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم ليأخذ كل واحد منكم حديدة صارمة ثم
ليتبعني إذا دخلت المسجد ، فلينظر كل فتى منكم ، فليجلس إلى عظيم من عظمائهم
فيهم ابن الحنظلية ـ يعنى أبا جهل ـ فانه لم يغب عن شر ان كان محمّداً قد قتِل ،
فقال الفتيان : نفعل فجاء زيد بن حارثة فوجد أبا طالب على تلك الحال فقال : يا
زيد أحسست ابن أخي؟ قال : نعم كنت معه آنفاً. فقال أبو طالب : لا ادخل بيتي أبداً
حتّى أراه. فخرج زيد سريعاً حتّى اتى رسول اللّه
صلىاللهعليهوآلهوسلم وهو في
بيت عند الصفا ومعه أصحابه يتحدثون فاخبره الخبر ، فجاء رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
إلى أبي طالب فقال : يا ابن أخي : اين كنت؟ اكنتَ في خير؟ قال : نعم ، قال :
ادخل بيتك ، فدخل رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
، فلما اصبح أبو طالب غدى على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
فاخذ بيده فوقف على اندية قريش ومعه الفتيان الهاشميون والمطلبيون فقال : يا
معشر قريش هل تدرون ما هممتُ به؟ قالوا : لا ، فاخبرهم الخبر ، وقال
للفتيان اكشفوا عما في ايديكم ، فكشفوا ، فاذا كل رجل منهم معه حديدة صارمة.
فقال : واللّه لو قتلتموه ما بقّيت منكم أحداً حتّى نتفانى نحن وانتم ، فانكسر
القوم وكان اشدَّهم انكساراً أبو جهل (الطبقات الكبرى : ج 1 ، ص 168 ، الطرائف : ص 85.).
لو لاحظت أيها القارئ الكريم هذه
الصفحات وغيرها من تاريخ « أبي طالب » ، ودرستَ حياته لرأيت كيف ان « أبا طالب »
ظلّ طوال اثنين وأربعين سنة بأيامها ولياليها يحدب على رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ويدافع عنه ، ويحاميه ، وبخاصة في السنوات العشر الاخيرة من حياته الّتي صادفت
بعثة رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ودعوته ، فقد أظهر من الدفاع عن رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
والحرص على حياته ، وحماية هدفه اكثر مما يُتصور. ولقد كان العامل الوحيد الّذي دفعه
إلى مثل هذا الموقف الراسخ العظيم في هذا السبيل هو : عمق الايمان برسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
، وقوة الاعتقاد الخالص برسالته. ولو أننا ضممنا إلى
تضحياته الشخصية تضحيات ولده العزيز « عليّ » لأدركنا مغزى البيتين الذين
انشدهما « ابن ابي الحديد » المعتزلي الشافعي إذ قال :
(1)ـ شرح نهج البلاغة : ج 14 ص 84 يقول ابن أبي
الحديد : صنف بعض الطالبيين في هذا العصر كتاباً في اسلام أبي طالب ، وبعثه اليّ
، وسألني ان اكتب عليه بخطي نظماً أو نثراً اشهد فيه بصحة ذلك ، وبوثاقة الأدلة
عليه ( إلى ان قال ) فكتبت على ظاهر المجلد هذه الابيات.
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قضيّةٌ ذات بواعث
سياسيّة :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ليس من ريب في أنه لو ثبت عُشر هذا
القدر من الشواهد الدالّة على اسلام « أبي طالب » وإيمانه بالرسالة المحمّدية ،
لغيره ممّن هو بعيدٌ عن قضايا السياسة ، وخارج عن دائرة الحقد والبغض لا تفق
الجميع سنةً وشيعةً على إسلامه وايمانه ، ولكن كيف ذهب فريقٌ إلى تكفير « أبي
طالب » مع كلّ هذه الشواهد القويّة القاطعة على إيمانه؟ حتّى أنّ فريقاً من
الكتاب ذهب إلى أن بعض الآيات المشعرة بالعذاب نزلت في شأنه. بينما توقّف في هذا الأمر ، وذهب
أفراد معدودون من علماء السنة إلى الحكم باسلامه وايمانه ، ومنهم « زيني دحلان »
مفتي مكة المتوفّى سنة 1304 من الهجرة. ولكن الانصاف هو ان يقال : أن الهدف
من طرح هذه المسألة والتوقف في ايمان « أبي طالب » أو تكفيره لم يكن إلاّ الطعن
في أبنائه ، وبخاصة أمير المؤمنين الامام عليّ عليهالسلام.
ولقد جرّ بعض كتّاب السنّة ـ لتبرير
تكفير أبي طالب ـ هذه المسألة إلى غير ابي طالب ووسع دائرة التكفير هذه حتّى
شملت آباء النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
أيضاً حيث ذهب إلى أن أبوي النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
ماتا كافرين أيضاً. ونحن لا يهمنا هنا أن نعلم بأنّ
تكفير والدي النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
مخالفٌ لاجماع الامامية والزيدية ، وكذا جماعة من علماء السنة ، ومحقّقيهم ،
إنما الكلام هو حول من اتّهموا ببساطة متناهية حامي النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
الوحيد والمدافع عنه بلا منازع. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأدِلّة على إيمان
أبي طالب
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إن التعرّف على عقيدة
أحد ، ومعرفة نمط تفكيره ، يمكن عن ثلاث طرق هي : 1 ـ دراسة ما ترك من آثار علميّة
وأدبية. 2 ـ اُسلوب عمله ، وتصرفاته في
المجتمع. 3 ـ رأي أقربائه ، وأصدقائه غير
المغرضين فيه. ونحن نستطيع أن نتعرَّف على إيمان «
أبي طالب » وعقيدته من خلال هذه الطرق. فان أشعار « أبي طالب » تدل بجلاء
لالُبس فيه على ايمانه وإخلاصه ، وكذا تكونُ خدماته القيمة في السنوات العشر
الاخيرة من عمره شاهداً قوياً على إيمانه العميق. كما وأنَّ رأي أقربائه المنصفين متفق
على أنَّ « أبا طالب » كان مسلماً مؤمناً ولم يقل أحدٌ من أقربائه ، في حقه بغير
هذا أبداً. وإليك إثبات هذا
الموضوع عن هذه الطرق الثلاث على وجه التفصيل : آثار
أبي طالب العلميّة والأدبية
نحن نختار هنا من بين قصائد « أبي
طالب » المطوَّلة ، بعض الأبيات الّتي تثبت ايمانه برسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
، واعتقاده بالاسلام ، في غير ابهام.
__________________ 1 ـ مجمع البيان : ج 7 ، ص
37 ، الحجة : ص 57 ، مستدرك الحاكم : ج 2 ، ص 623. 2 و 3 ـ ديوان أبي طالب :
ص 32 ، السيرة النبوية : ج 1 ، ص 353. 4 ـ تاريخ ابن كثير : ج 3
، ص 42. 5 ـ شرح نهج البلاغة لابن
أبي الحديد : ج 14 ، ص 74 ، ديوان أبي طالب : ص 173. 6 ـ السيرة النبوية : ج 1
، ص 272 ـ 280. إِن كلّ واحدة من هذه المقطوعات
الشعريّة الّتي تشكل قسماً صغيراً من قصائد مفصّلة لأبي طالب ، تشهد بايمانه
بدين ابن اخيه « محمّد » صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وخلاصة
القول : أنَّ بيتاً واحداً من هذه الأبيات كاف في
اثبات ايمان صاحبها وقائلها ، ولو أنّ أحداً قالها وهو خارج عن فلك الصراعات
السياسية ، وبعيد عن دوائر التعصبات والأغراض لحكم الجميعُ ـ بالاتفاق ـ باسلام
قائله وايمانه الخالص العميق. ولكن لما كان « أبو طالب » هو قائلها
، وكانت الأجهزة الدعائية في الحكومات الاموية والعباسيّة تعمل بكلّ جهدها ضدّ
آل « أبي طالب » من هنا أبى فريقٌ من الناس أن يُثبتوا مِثل هذه الفضيلة الكبرى
لأبي طالب عليهالسلام. هذا من جانب. ومن جانب آخر
فانّ أبا طالب والد « علي » الّذي كانت سلطات الخلفاء تعمل ضدّه على الدوام ،
وتستغل كل الوسائل للحط من شأنه ، كان إسلام أبيه وإيمانه بالرسالة المحمدية
يُعدُّ فضيلة بارزة من فضائله عليهالسلام في
حين أن كفر آباء الخلفاء وشركهم يعدُّ مثلبة توجب الحط من شأنهم ، وقيمتهم. وعلى كل حال قام جماعة بتكفير أبي
طالب رغم كلِّ هذه الأشعار والأقوال ، والمواقف الصادقة ، بل لم يكتفوا بذلك ،
فادعوا نزول آيات من القرآن تدل على كفره ، وشركه!!! الطريق
الثاني لا ثبات إيمان أبي طالب .
إنّ الطريق الثاني للبرهنة والتدليل
على إيمان « أبي طالب » هو مواقفه من رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وكيفية دفاعه وذبه عنه وحمايته له ، وحدبه عليه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وما قام به من خدمات جليلة في هذا الطريق. ان كل واحدة من هذه الخدمات تستطيع
بمفردها ان تكون المرآة الصادقة لقد كان « أبو طالب » هو ذلكم
الشخصية الّتي لم يرض لنفسه بان ينكسر قلب ابن أخيه لتركه في مكة ، واصطحبه معه
إلى الشام في الرحلة التجارية الّتي سبق ذكرها ، رغم الموانع الكثيرة ، وفقدان
الوسائل اللازمة ، ورغم ما تَرتب على اصطحابه معه من متاعب. إن ايمانه بابن أخيه كان عميقاً إلى
درجة أنه أخذه إلى المصلّى واستسقى به ، مقسماً به على اللّه تعالى أن يكشف
العذاب عن قومه ، ويرسل رحمته عليهم ، فيستجيب اللّه دعاءه ، وينزل عليهم غيثاً
وافراً ممرعاً ، بقيت قصته في ذاكرة التاريخ. إنه ذلك الرجل الّذي لم يفتأ عن
الحفاظ على حياة رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
لحظة واحدة ، فهو الّذي تحمل في سبيله ثلاثة أعوام عجاف من الحصار الاقتصادي
والاجتماعي الصعب ، مؤثراً العيش في الشعب وفي شغاف الجبال والوديان القاحلة على
زعامة قريش ، ورئاسة مكة إلى ان أعيته تلك المحن والمتاعب ففقد بذلك صحته ،
وانحرف بذلك مزاجه ، وتوفّي متأثراً بتلك المتاعب والمصاعب ، والمشاق والمحن بعد
نقض الصحيفة ، وانتهاء الحصار ، والعودة إلى المنازل بأيام معدودة!! لقد كان إيمان « أبي طالب » برسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
قوياً وراسخاً إلى درجة أنه رضى بأن يتعرّض كل ابنائه لخطر القتل والاغتيال
ليبقى « محمّد » ولا يمسُّه من أعدائه أي سوء ، فكان يُضجِع ولده علياً في موضعه
، حتّى إذا أرادوا إغتياله لا يصيبه شيء وهذا يعني أنه كان يقيه بنفسه وبأولاده.
وفوق هذا كلّه استعدَّ في يوم من
الايام لأن يقتل كل زعماء قريش وأسيادها انتقاماً لمحمّد ، وكان من الطبيعي أن
يقتل في هذا العملية بنو هاشم كلُّهم أيضاً (ـ راجع الصفحة 522 من هذا الكتاب.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وصية أبي طالب عند
وفاته
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وعند وفاته قال لأولاده : « اُوصيكم بمحمّد خيراً فانّه
الأمينُ في قُريش وهو الجامعُ لكلّ ما اُوصيكم به ، وقد جاءَ بأمر قبله الجَنان
، وانكره اللِسان مخافة الشنئان ، وأيم اللّه لكأنّي انظرُ إلى صعاليك العرب ،
وأهل البرّ في الاطراف ، والمستضعفين من الناس ، قد أجابوا دعوته ، وصدّقوا
كلمته ، وعظّموا أمره فخاض بهم غمرات الموت ، فصارت رؤساء قريش وصناديدها
أذناباً ، ودُورُها خراباً ، وضُعفاؤها أرباباً ، وإذا أعظمهم عليه أحوجهم إليه
، وأبعدهم منه أحظاهم عنده ... ». ثم ختم وصيته هذه بقوله : يا معشر قريش كونوا له ولاةً ، ولحزبه
حماةً ، واللّه لا يسلك أحدٌ منكم سبيله الارشد ، ولا يأخذ أحد بهديه الاّ سعد (السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 351 و 352.).
نحن لا نشك في أن « أبا طالب » كان
صادقاً في اُمنيّته هذه لأن خدماته الكبرى وتضحياته المتواصلة خلال عشر سنوات من
بداية عهد الرسالة شاهدة على صدق مقاله ، كما كان صادقاً في الوعد الّذي قطعه
على نفسه لابن أخيه ( محمّد ) في مبدأ البعثة عندما جمع رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
أعمامه وعشيرته الأقربين ودعاهم إلى الإسلام فقال له ابو طالب : « اُخرج يا ابن أخي فانّكَ الرفيعُ
كعباً ، والمنيع حزباً ، والأعلى أباً. واللّهِ لا يَسلِقُك لسانٌ
الاسلَقتهُ ألسن حِداد ، واجتذَبته سيوفُ حداد. واللّهِ لَتَذلَنَّ لَكَ العربُ ذلَّ
البُهم لحاضِنها » (الطرائف تأليف السيد ابن طاووس : ص 85 ، نقلا عن كتاب غاية السؤول في
مناقب آل الرسول تأليف ابراهيم بن علي الدينوري.). * * * آخر
الطُرق لا ثبات ايمان أبي طالب
ويحسن بنا أخيراً ان نسأل عن أبي
طالب وعن ايمانه واخلاصه ، اقاربَه غير المغرضين لأن « أهل البيت ادرى بما في
البيت ». 1 ـ لما مات أبو طالب جاء عليٌ عليهالسلام
إلى رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
فآذنه بموته ، فتوجع توجعاً عظيماً ، وحزن حزناً شديداً ، ثم قال له امض فتولّ
غسله فاذا رفعته على سريره فاعلمني ، ففعل فاعترضه رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وهو محمول على رؤوس الرجال : قال : « وصلتك رحم يا عم ، وجزيت خيراً فلقد ربّيت
وكفلت صغيراً ، ونصرت وآزرت كبيراً ». ثم تبعه إلى حضرته ، فوقف عليه فقال
: « أما واللّه لاستغفرنَّ لك ، ولا
شفعنَّ فيك شفاعةً يعجبُ لها الثقلان » (شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج 14 ، ص 76..
2 ـ روي ان علي بن الحسين عليهماالسلام
سئل عن ايمان أبي طالب. فقال : « واعجباً! ان اللّه تعالى نهى رسوله
ان يقرّ مسلمة على نكاح كافر ، وقد كانت فاطمة بنت اسد من السابقات إلى الإسلام
، ولم تَزَل تحتَ أبي طالب حتّى مات » (شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج 14 ، ص 69.).
3 ـ روي عن علي بن محمّد الباقر عليهماالسلام
أنه قال : « لو وُضِعَ إيمان أبي طالِب في كفّة
ميزان ، وإيمانُ هذا الخلقِ في الكفّة الاُخرى لرجح إيمانه ». ثم قال : « ألم تَعلَموا أنَّ أميرَالمؤمنين
عليّاً عليهالسلام كانَ يأمر
أن يُحجَّ عن عَبدِاللّه وَأبيه » (المصدر السابق : ص 68.).
4 ـ قال الامام جعفر بن محمّد الصادق
عليهماالسلام : « إنَّ مَثَل أبي طالِب مَثَلُ أصحاب
الكَهف أسَرُّوا الإيمان ، وأَظهَروا الشركَ فآتاهُمُ اللّهُ اَجرَهم مرّتين ،
وأن أبا طالِب أسرّ الإيمان ، وأظهر الشرك ، فآتاه اللّه أجرَه مَرّتين » (اصول الكافي : ج 1 ، ص 448.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
رأي علماء الشيعة
في أبي طالب
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ولقد اتّفقَ علماءُ الاماميّة
والزيديّة تبعاً لأهل بيت النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
على : أن « أبا طالب » كان من أبرز المؤمنين برسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ولم يخرج من الدنيا إلاّ بقلب يفيض إيماناً بالاسلام ، وإخلاصاً للّه تعالى ،
وحبّاً للمسلمين ، وقد اُلِّفَت في هذا المجال كتب ورسائل ، ودراسات عديدة ،
يمكن الوقوف عليها لمن اراد ، ولمزيد التوسع في هذا المجال يراجع المجلد 7 ، ص
402 ـ 404 من موسوعة الغدير للعلامة الأميني طبعة النجف ، أو ج 7 ، ص 330 ـ 409
طبعة لبنان. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
نظرة
إلى حديث « الضحضاح »
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
واستكمالا لهذا الحديث ينبغي أن نلقي
نظرة إلى رواية تشكك في ايمان أبي طالب فقد روى بعض الكتّاب مثل البخاري (صحيح البخاري : ج 1 ، ص 33 و 34 من أبواب المناقب.)
، ومسلم عن رواة نظير سفيان بن سعيد الثوري ، عبدالملك بن عمير ، عبدالعزيز بن
محمّد الدراوردي حديثاً نسبوه إلى رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
انه قال عن أبي طالب رحمهالله : « وجدتُه في غمرات من النّارِ
فأخرجتُه إلى ضحضاح ». « لعلّهُ تنفعُه شفاعَتي يومَ
القيامة فيجعَلُ في ضَحضاح منَ النّار يبلغُ كعبَيه ، يغلي منهُ دماغُهُ » (صحيح مسلم : كتاب الايمان.).
إنّ هذه الرواية وان كانت تكذبها
عشرات الأحاديث والروايات الإسلامية ، والدلائل القاطعة الساطعة ، وتثبت بطلانها
وتفاهتها ، ولكننا بهدف الوصول إلى مزيد من التوضيح نعمد إلى دراسة أمرين
مرتبطين بهذا الحديث. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
1 ـ ضعف أسناد هذه
الرواية
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إنّ رواة هذه الرواية ـ كما أسلفنا ـ
هم عبارة عن سفيان بن سعيد الثوري وعبدالملك بن عمير وعبدالعزيز بن محمّد
الدراوردي الذين سندرس أحوالهم واحداً واحداً ـ في ضوء أقوال علماء الرجال
المعترف بهم عند أهل السنة ـ عنهم : الف
: سفيان بن سعيد الثوري
قال أبوعبد اللّه محمد بن أحمد بن
عثمان الذهبي ـ وهو من علماء الرجال
عند اهل السنة ـ في سفيان الثوري : كان يدلّس عن
الضعفاء (ميزان الاعتدال : ج 2 ، ص 169.).
إن هذا الكلام شاهد قوي على وجود
التدليس عند الثوري ، وعلى روايته عن الضعفاء أو المجهولين ، وهو وصف يُسقطه عن
درجة الاعتبار. باء
: عبدالملك بن عمير
قال عنه الذهبيّ المذكور : طال عُمره
وساء حفظُه قال أبو حاتم : ليس بحافظ ، تغيّر حفظه ، وقال أحمد : ضعيف يغلط ،
وقال ابن معين : مخلط وقال ابن خراش :
كان شعبة لا يرضاه ، وذكر الكوسج عن احمد
بن حنبل : انه ضعيف جداً (ـ المصدر السابق ، ج 2 ، ص 660.)
فمن مجموع هذه العبارات نعرف ان
عبدالملك كان يتصف بصفات عديدة هي أنه : 1 ـ سيء الحفظ. 2 ـ ضَعيف. 3 ـ كثير الغلط. 4 ـ مخلط. ومن الواضح ان كل واحدة من الصفات
والحالات المذكورة كافية لأن تبطلَ الاحاديث الّتي يرويها عبدالملك بن عمير ،
والحال انه قد اجتمعت جميع نقاط الضعف هذه في هذا الرجل. جيم
: عبدالعزيز بن محمد الدراوردي
ولقد وصفَهُ علماء الرجال عند اهل
السنة بالنسيان ، وقلة الحفظ فلا يمكن الاستناد إلى مروياته. فقد قال أحمد بن حنبل
عنه :
إذا حدّث من حفظه جاء بأباطيل (المصدر السابق ، ص 634.).
وقال أبو حاتم عنه : لا يُحتَجُّ به (المصدر السابق.).
وقال أبو زرعة أيضاً : سئ الحفظ (المصدر السابق.).
ومن مجموعة هذه العبارات يتضح بجلاء ان الرواة الاصليين لحديث الضحضاح ضعفاء في
غاية الضعف ، إلى درجة لا يمكن الاعتماد على مروياتهم. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
2 ـ نص حديث
الضحضاح يخالف الكتاب والسنة
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد نُسِب إلى النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
في هذه الرواية أنه أخرج أبا طالب من نار جهنم إلى ضحضاح وبهذا خفَّفَ عنه
العذاب ، أو أنه صلىاللهعليهوآلهوسلم
تمنى أن يشفع له ، فيخفِّفَ اللّهُ عنه العذابَ ، على حين نفى القرآنُ الكريم
والسنة النبوية الشريفة تخفيف العذاب عن الكفار كما ونفيا شفاعة احد في حقهم. وعلى هذا الاساس فلو كان ابو طالب
كافراً ، لم يجز للنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
ان يخفف عنه العذاب أو يتمنى له الشفاعة في يوم الجزاء. وبهذا يظهر بطلان
محتوى حديث الضحضاح. واليك فيما يأتي ادلة
ما قلناه من الكتاب والسنة : الف
: القرآن الكريم
يقول القرآن الكريم في هذا الصدد : «
وَالَّذينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ
جَهَنَّم لا يُقضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا ولا يُخَفَّفُ عنْهُمْ مِن عَذابِها ،
كَذلِكَ نَجْزي كُلَّ كَفُور » (ـ فاطر : 36.). ب :
السنة النبوية
ان السنة النبوية الطاهرة تنفي أيضاً
الشفاعة للكفار ، ونذكر من باب النموذج بعض تلك الأحاديث : 1 ـ روى أبوذر الغفاري عن رسول اللّه
صلىاللهعليهوآلهوسلم انه قال :
« اُعطيت الشفاعة وهي نائلة من اُمتي
من لا يشرك باللّه شيئاً » (الترغيب والترهيب : ج 4 ، ص 433.).
2 ـ روى أبو هريرة عن رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
انه قال : « وشفاعتي لمن شهد أن لا اله الا
اللّه مخلصاً ، وأنَّ محمّداً رسول اللّه يصدِّق لسانُه قلبَه ، وقلبُه لسانَه »
(المصدر السابق : ص 437.).
إن الآيات والروايات المذكورة تثبت
بوضوح بطلان نص حديث الضحضاح عند من يقول بأن أبا طالب مات كافراً. ونتيجة البحث أنه تبين مما ذكر ان
حديث الضحضاح لا أساس له من الصحة لا من جهة السند والطريق ، ولا من جهة المتن
والنص ، ولا يمكن الاستدلال به. وبهذا ينهار أقوى حصن يتمسكُ به
البعض للخدشة في ايمان أبي طالب الثابت المسلّم. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
22المعراج
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
المعراج في نظر
القرآن والسنة
والتاريخ
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
كان الليل يخيم على الافق ، ويسودُ
الظلام على كل مكان. فقد حان الأوانُ لان ترقدَ جميع
الاحياء في مساكنها ، وتستريح في جحورها وأعشاشها ، وتغمض الأجفان لبعض الساعات
عن مظاهر الطبيعة ، لتستعيد نشاطها من أجل العمل في يوم جديد حافل بالنشاط
والحركة والسعي. فذلك قانون الطبيعة في
كلِّ ليل ونهار. ولم يكن رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
بمستثنى عن هذا الناموس الطبيعي. فهو صلىاللهعليهوآلهوسلم
مضى ليستريح بعد أن صلّى صلاة العتمة أيضاً. ولكنه فجأةً سمع صوتاً مألوفاً
مأنوساً له ، وكان ذلك هو صوت أمين الوحي « جبرئيل » وهو يخبره بأن أمامه الليلة
سفراً بعيداً ورحلة طويلة ، وانه سيرافقه في هذا الرحلة إلى مختلف نقاط الكون ،
وسيسافر على متن دابة فضائية تدعى « البراق ». لقد بدأ رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
رحلته الفضائية العظيمة من بيت اخت علي بن أبي طالب (مجمع البيان : ج 6 ، ص 395 و 396 ، السيرة النبويّة : ج 1 ، ص 396 ـ
402.)
«
اُم هاني » ، وتوجه على متن تلك الدابة إلى « بيت المقدس » في الأردن وفلسطين
والّذي يسمى « المسجد الأقصى » أيضاً ، وهبط في تلك النقطة بعد مدة قصيرة جداً ،
وزار مواضع عديدة من ذلك المسجد ، وتفقّد « بيت لحم » مسقط رأس « السيد المسيح »
ومنازل الأنبياء وآثارهم ومحاريبهم ، وصلّى عند كل محراب من بعض تلك المحاريب
ركعتين. ثم بدأ بعد ذلك القسم الثاني من
رحلته ، حيث عرج من ذلك إلى السماوات العلى ، وشاهد النجوم والكواكب ، واطّلع
على نظام العالم العلوي ، وتحدث مع ارواح الأنبياء ، والملائكة السماويين ،
واطّلع على مراكز الرحمة والعذاب ( الجنة والنار )
(مجمع البيان : سورة الاسراء ، ج 6 ، ص 395.)
ورأى درجات أهل الجنة ، وأشباح أهل النار عن كثب ، وبالتالي تعرف على أسرار
الوجود ، ورموز الطبيعة ، ووقف على سعة الكون ، وآثار القدرة الالهيّة المطلقة ،
ثم واصل رحلته حتّى بلغ إلى سدرة المنتهى (لتوضيح معنى سدرة المنتهى راجع كتب التفسير.)
،
فوجَدها مسربلة بالعظمة المتناهية والجلال العظيم وعندها انتهى برنامج رحلته صلىاللهعليهوآلهوسلم
، فامر بأن يعود من حيث أتى فعاد ، بعد صلىاللهعليهوآلهوسلم
ومرّ
في عودته على بيت المقدس ثانية ، ثم توجّه منه إلى « مكة » ، ومرّ خلال الطريق
على قافلة تجارية لقريش وقد ضلّ بعير لهم في البيداء وكانوا يبحثون عنه ، ثم وجد
في رحلهم قعباً مملوء من الماء فشرب منه وصبَّ بقيته على الأرض أو غطاه كما كان
بناء على رواية. وترجّل عن مركبته الفضائية العجيبة في بيت « اُم هاني » قبيل
طلوع الفجر ، وأخبرها بالخبر قبل اي أحد ، ثم كشف عن هذا الحادث في أندية قريش
صباح نفس تلك الليلة. فاستبعد السامعون قصة المعراج
والحركة السريعة هذه ، واعتبروه أمراً محالا وانكروه ، وفشا هذا الخبر في جميع
الأوساط وغضب بسببه أشراف قريش وساداتهم اكثر من غيرهم. وكعادتها بادرت قريش إلى تكذيب هذه
القصّة وقالوا : هذا واللّه الامر البيّن ( العجيب المنكر ) واللّه إن العير
لتطّرد شهراً من مكة إلى الشام مدبرة ، وشهراً مقبلة ، أفيذهب ذلك « محمّدٌ » في
ليلة واحدة؟ وقالوا : إن صدقَتَ فصف لنا بيتَ
المقدس ، فإن فينا من شاهدهُ. فلم يصف لهم رسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
بيت المقدس فحسب بل اخبرهم بكل ما مرّ به وفعله ورآه في طريق عودته من بيت
المقدس إلى « مكّة » وقال : وآية ذلك أنّي مررت على بعير
بني فلان بوادي كذا وكذا ، وقد ضلّ لهم بعير وقد همّوا في طلبه ، وشربت من ماء
في آنية لهم مغطاة بغطاء وثم غطّيت عليها كما كان ، ثم مررتُ على بعير فلان وقد
نفّرت لهم ناقة وانكسرت يدها. فقالت قريش : أخبرنا
عن عير قريش. فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم
: إنَّها الآن في التنعيم ( وهو مبدأ الحرم ) يتقدمها جمل أورق ( أبيض مائل إلى
السواد ) عليه غرارتان وستدخل الآن مكة. فغضب قريش من هذه الأخبار القاطعة
وقالت : سنعلمنَّ الآن صِدقه أو كِذبه. ثم لم تمض لحظاتٌ إلاّ وطلعت العير
عليهم ، وحدَّثهم أبو سفيان بكل ما أخبرهم به رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
من ضياع بعير لهم في الطريق وهمّهم في طلبه ، وأنهم وضعوا ماء مملوء فغطوه ولما
رجعوا وجدوه مغطى كما غطوه ولكن لم يجدوا فيه ماءً. هذه هي خلاصة ما جاء
في كتب التفسير ، والتاريخ ، والحديث حول المعراج. وإذا أراد القارئ الكريم أن يقف على
تفاصيل أكثر في هذا المجال فما عليه إلاّ أن يراجع بحار الأنوار باب « المعراج »
(بحار الأنوار : ج 18 ، ص 283 ـ 410.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
هل للمعراج جذور
قرآنية؟
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد جاءَ ذكر « المعراج » النبوي
وسيره العجيب صلىاللهعليهوآلهوسلم
في العالم العلوي ، والفضاء غير المتناهي في سورتين من القرآن الكريم بشكل واضح
وصريح كما واشير اليها في سور اُخرى أيضاً. ونحن نكتفي هنا باستعراض الآيات
الّتي ذكرت هذه القضيّة بصورة واضحة ، ونقف عند بعض النقاط الجديدة بالدراسة
فيها : يقول اللّه تعالى في سورة الأسراء :
« سُبحانَ الّذي أسرى
بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرام إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الّذي
بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَه مِن آياتِنا ، إنَّهُ هُوَ السَّميعُ البَصير
» (الاسراء : 1.).
ويستفاد من ظاهر هذه
الآية اُمور : 1 ـ لكي نعلم بأنَّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
لم يطو تلك المسافات ، ولم يقم برحلته إلى تلك العوالم بقوّة بشرية ، بل تسنى له
كلُ ذلك بقوة غيبيّة ، فبها استطاع أن يطوي تلك المسافات البعيدة في زمن قصير
جداً بدأ اللّه تعالى حديثه عن الاسراء بقوله : « سُبْحانَ الّذي » وهو اشارة
إلى تنزيه اللّه عن كلِّ نقص وعيب. ولم يكتف بذلك بل وصف نفسَه بوضوح
بأنه هو تعالى سبب هذه الرحلة والمسيّرُ فيها إذ قال : « أسرى » أي إنَّ اللّه
تعالى هو الّذي سرى برسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم
، وأخذه إلى تلك الرحلة. وهذه العناية لأجل أن لا يتصور الناس
بأنّ هذه الرحلة تحققت بالوسائل العادية ، وحسب القوانين الطبيعية ليتسنّى لهم
إنكارها ، إِنما تحققت بقدرة اللّه وعنايته الربوبية الخاصة. 2 ـ إن هذه الرحلة تحققت برمّتها
خلال الليل ، ويستفاد هذا المطلب ـ علاوة على كلمة ليلا ـ من كلمة « أسرى »
أيضاً لأنّ العرب كانت تستعمل اللفظة المذكورة في السير ليلا. 3 ـ مع أنّ هذه الرحلة بدأت من بيت «
اُم هاني » ابنة أبي طالب ، فإن الآية صرّحت بأنها تَمَّت من المسجد الحرام ،
ولعل هذا لأنّ العرب كانت تعتبر كل مكة حرماً إلهياً ، ومن هنا كان كل مكان من
مكة يتمتع عندهم بحكم الحرم والمسجد الحرام ، فيكون المراد بالمسجد الحرام هنا
مكّة ، ومكّة والحرم كلها مسجد ، فصحَّ أن يقول : « من المسجد الحرام ». وتَذهب بعض الروايات
إلى أنَّ المعراج كان من نَفس المسجد الحرام. ثم إنَّ هذه الآية وان كانت تصرّح
بأنَّ المعراج بدأ من « المسجد الحرام » وانتهى ب : « المجسد الأقصى » إلاّ أن
ذلك لا ينافي أن يكون للنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
رحلة اُخرى إلى العالم العُلوي لأنّ هذه الاّية تبيّن فقط قسماً من هذه الرحلة ،
وأما القسم الآخر من برنامج هذه الرحلة فتتعرض لذكره آيات في مطلع سورة « النجم
». 4 ـ إنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
عرج بجسمه وروحه معاً ، لا بالروح فقط. ويدلُّ على ذلك قوله تعالى « بعبده »
الّذي يُستَعمل في « الجسم والروح معاً » ولو كان المعراج بالروح فقط لزم أن
يقول : « بروحه ». 5 ـ إنَّ الغرض من هذا السير العظيم
وهذه الرحلة العجيبة هو إيقاف النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
على مراتب الوجود ، وإطلاعه على الكون العظيم ، وهذا
ما سنشرحه فيما بعد. وأما السورة الاُخرى
الّتي تعرض لبيان حادثة المعراج بوضوح وصراحة هي سورة « النجم ». والآيات الّتي سندرجها هنا من هذه
السورة نزلت على رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
عندما قال لقريش : « رأيت جبرئيلَ أوّل ما اُوحي التي على صورته الي خُلِقَ
عليها » جادلته قريش في ذلك ، فنزلتِ الآيات التالية تجيب على اعتراضهم : « أفَتُمارُوْنَهُ عَلى ما يَرى. وَلَقَدْ رَآهُ
نَزْلَةً اُخْرى. عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى. عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى. إذْ
يَغْشى السِدْرَة ما يَغْشى. ما زاغَ البَصَرُ وَما طَغى. لَقَدْ رَأى مِنْ آيات
رَبّه الكُبرى » (النجم : 12 ـ 18.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أحاديث المعراج :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
روى المفسرون والمحدّثون
أخباراً
وروايات كثيرة حول معراج النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
وما شاهده في هذه الرحلة العظيمة ، ليست
برمتها صحيحة مُسَلَّمة مقطوعاً بها. ولقد قسّم المفسر
الشيعيُ الكبير المرحومُ « العلامة الطبرسيّ » هذه الاخبار إلى أصناف أربعة إذ
قال : وتنقسم جملتها إلى
أربعة اوجه : أحدها : ما
يقطع على صحته لتواتر الأخبار به ، واحاطة العلم بصحته مثل أصل المعراج. وثانيها :
ما ورد في ذلك مما تجوِّزه العقول ولا تأباه الاصول مثل طوافه في السماء ورؤيته
أرواح الأنبياء وتحدّثه معهم ورؤيته للجنة والنار ، فنحن نجوّزه ثم نقطع على أن
ذلك كان في يقظته ، دون منامه. وثالثها :
ما يكون ظاهره مخالفاً لبعض الاُصول ، إلاّ أنه يمكن تأويلها على وجه يوافق
المعقول فالأولى أن نؤوّله على ما يطابق الحق والدليل. مثل أنّه راى أهل الجنة
وأهل النار وتحدّث معهما الّذي يجب أن يؤوّل فيُحمل على انه : رأى أشباحهم
وصورَهُم وَصفاتهم. ورابعها : ما
لا يصحّ ظاهره ولا يمكن تأويله ، وهي ما اُلصِق واُلحق بهذه الحادثة من الأساطير
والخرافات ، مثل ما روي من أنه صلىاللهعليهوآلهوسلم
كلّم اللّه سبحانه جهرةً ورآه وقعد معه على سريره أو سمع صرير قلمه ، ونحو ذلك ممّا
يوجب ظاهره التشبيه والتجسيم واللّه سبحانه يتقدّس عن ذلك كلّه ، فالأولى أن لا
نقبله (مجمع البيان : ج 6 ، ص 395.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
متى وَقَعت هذه
الحادثة؟
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
مع ان أهميّة هذه الحادثة العجيبة
كانت تستوجب أن تكون مضبوطة التفاصيل من جميع الجهات ، إلاّ أنها تعرضت للاختلاف
ـ مع ذلك ـ من بعض الجهات ومنها تحديد تاريخ وقوعها. فقد ادّعى كاتبا
السيرة المعروفان : « إبن اسحاق » و « ابن هشام » أنها وقعت في السنة العاشرة من
البعثة الشريفة. وذهب المؤرخ الكبير «
البيهقي » إلى أنها وقعت في السنة الثانية عشرة من البعثة. وذهب آخرُون إلى
أنها وقعت في أوائل البعثة ، بينما قال فريق رابع : أنها وقعت في أواسطها. وربما يقال في الجمع
بين هذه الأقوال : أنه كان لرسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
معارج متعددة. ولكنّنا نعتقد أنّ المعراج الّذي
فُرِضَت فيه الصلاة وَقع بعد وفاة أبي طالب عليهالسلام
في السنة العاشرة قطعاً. لأنّ من مسلَّمات الحديث والتاريخ أن
اللّه تعالى أمر نبيّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
في ليلة المعراج أن تصلّي اُمّة رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
كلَّ يوم وليلة خمس صلوات. كما أنه يُستفاد من ثنايا التاريخ
أيضاً أن الصلاة لم تُفرَض مادام أبو طالب عليهالسلام
على قيد الحياة بل فُرِضت بعد وفاته ، لأنّه حضر عنده ـ ساعة وفاته ـ سراة قُريش
وأسيادها ، وطلبوا منه أن يبت لهم في أمر ابن أخيه « محمّد » ويمنعه من فعله ،
فيعطونه ـ في قبال ذلك ـ ما يريد فقال لهم رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
في ذلك المجلس : نعم كلمة واحدة تعطونيها : « تقولون لا إله إلاّ اللّه وتخلعون
ما تعبدون من دونه » (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 417.).
لقد طلب منهم رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
هذا الأمر ولم يطلب منهم شيئاً آخر كالصلاة وغيرها من الفُروع أبداً ، وهذا هو
بنفسه يدلّ على أنه لم تجب الصلاة حتّى ذلك اليوم ، وإلاّ كان الإيمان المجرّد
عن العمل ، والصلاة مفروضة ، لا فائدة فيه. وأما أنه لم يذكر شيئاً عن نبُوّته
ورسالته فلأنّ الإعتراف بوحدانية اللّه بأمره وطلبه صلىاللهعليهوآلهوسلم
إعتراف ضِمنيّ برسالته ونبوّته ، وفي الحقيقة انَّ التلفُّظ بهذه العبارات بأمره
يتضمّن شهادتين واقرارين : الإقرار باللّهِ الواحد ، والإقرار بنبوّة رسول
الإسلام. هذا مضافاً إلى أن كُتّاب السيرة
ذكروا كيفية إسلام جماعة مثل « الطفيل بن عمرو الدوسي » الّذي أسلم قبل الهجرة
(ـ السيرة النبوية : ج 1 ، ص 383.)
بأعوام
اكتفى النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم بالشهادتين ، ولم يجر اي حديث عن
الصلاة ابداً. ان هذه الامثلة تكشف عن أن هذه
الحادثة ( المعراج ) الّتي فُرضت فيها الصلاة وقعت قبل الهجرة بسنوات. والذين تصوّروا أن المعراج وقع قبل
السنة العاشرة مخطئون خطأ كبيراً لأنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
كان محصوراً في شعب أبي طالب منذ السنة الثامنة وحتّى السنة العاشرة ، ولم يكن
وضع المسلمين ليسمح بفرض تكليف زائد ( مثل الصلاة ). وأما سنوات ما قبل الحصار فعلاوة على
ضغوط قريش على المسلمين والّتي كانت هي بنفسها مانعاً من فرض الصلاة على
المسلمين ، كان المسلمون قلةً معدودين ، ولم يكن نورُ الايمان ، واُصول الإسلام
قد ترسخت في قلوب ذلك العدد القليل بشكل قوي بعد ، ولذلك يكون من المستبعد أن
يكلفوا بأمر زائد مثل الصلاة في مثل ذلك الظرف. وأمّا ما ورد في بعض الأخبار
والروايات من ان الامام علياً عليهالسلام
صلى مع رسول اللّه قبل البعثة بثلاث سنوات ، واستمر على ذلك بعدها أيضاً فليس
المراد منها الصلوات المحدودة المؤقتة بوقت ، المشروطة بشروط خاصة ، بل كانت تلك
الصلوات عبارة من عبادة خاصة غير محدودة (للمزيد من التحقيق في تاريخ وجوب الوضوء والصلاة والاذان يراجع
الكافي : ج 3 ، ص 482 ـ 489.)
،
أو كان المراد منها الصلوات المندوبة والعبادات غير الواجبة. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
هل كان المعراج
جسمانياً؟
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد وقع النقاش والكلام في كيفية
معراج النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
وأنه كان روحانياً أو جسمانياً وروحانياً معاً ، وقيل في ذلك كلام كثير. ومع أن القرآن الكريم والأحاديث تشهد
بجلاء لا غموض فيه بأن معراجه صلىاللهعليهوآلهوسلم كان
جسمانياً (لقد نقل الفقيه الجليل العلامة الشيعيّ المرحوم الطبرسي في تفسير
مجمع البيان إجماع علماء الشيعة على جسمانية المعراج فراجع : ج 6 ، ص 395.)
،
فقد اُوردت في المقام بعض الإشكالات والاعتراضات الّتي منعت البعض عن قبول هذه
الحقيقة ، وبالتالي دفعتهم إلى ارتكاب التأويل ، والزعم بأن معراج النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
كان روحانياً ، أي بالروح لا بالجسم. لقد قال هؤلاء :
ان روح النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
هي الّتي طافت في تلك العوالم ثم عادت إلى جسد النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
مرة اُخرى!! وذهب جماعة إلى أبعد من ذلك إذ
ادّعوا بان جميع هذه المشاهدات والقضايا تمّت لرسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
في عالم الرؤيا ، فكل ما رآه النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
أو فعله من الطواف واللقاء والصلاة كانت رؤيا ورؤيا الأنبياء صادقة!! على أن أقوال الفريق الأخير من البعد
عن الواقع بحيث لا يمكن ذكره في عداد الأقوال والنظريات أبداً ، لأنَّ قريش بعد
أن سمعت من رسول اللّه صلّى الله عليه وآله ادعاءه بانه سار كل تلك المسافة
الطويلة البعيدة ، وطاف على كل تلك الاماكن المتباعدة العديدة في ليلة واحدة
انزعجت بشدة وهبّت لتكذيبه حقيقة ، إلى درجة أن خبر المعراج أصبح حديث الساعة في
نوادي قريش واوساطها آنذاك. ولو كان كل ذلك تحقق للنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
في المنام والرؤيا لما كان لتكذيب قريش وانزعاجها واستنكارها معنى ، إذ لا موجب
للنزاع لو كان صلىاللهعليهوآلهوسلم
يقول : إنّي فعلت تلك الامور ، ورأيت تلك المشاهد في الرؤيا والمنام ، إذ هو على
كل حال رؤيا ، وكل شيء ـ حتّى الاُمور المحالة أو المستبعدة جداً ـ ممكن في عالم
الرؤيا. ومن هنا لا قيمة للقول
الأخير أصلا فلا تستحق المتابعة أصلا. ولكن مع الأسف استحسن بعض العلماء
المصريين ( مثل فريد وجدي )
هذا الرأي وسعى في تقويته وتبريره ، ونحن نحبذ ان نتركه ، وان لا نناقش فيه (دائرة معارف القرن العشرين : ج 6 ، ص 329 مادة عرج.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ما هو المراد من
المعراج الروحاني؟
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد عمد فريق ممن عجز عن دفع وحلّ
بعض الاعتراضات والاشكالات الواردة على المعراج الجسماني ، إلى تأويل الآيات
والأحاديث ، واعتبر المعراج النبوي معراجاً روحانياً ، لا غير. والمقصود من المعراج الروحانيّ هو
التدبّر في مخلوقات اللّه ومصنوعاته ، ومشاهدة جلاله وجماله والاستغراق في ذكر
الحق ، والتفكر فيه ، وبالتالي التخلص من القيود والاغلال المادية ، والعلائق
الدنيوية ، والعبور من المراتب الامكانية في المراحل الباطنية والقلبية الّتي
يحصل بعد طيّها نوعٌ من القرب الخاص الّذي لا يمكن وصفه. فاذا كان المراد من ( المعراج
الروحانيّ ) هو التفكر في عظمة الحق وسعة الخلق و .. و .. فلا شك أن هذا ليس من
مختصات رسول الإسلام صلىاللهعليهوآلهوسلم
بل كان أكثر الأنبياء ، وكثير من الاولياء من ذوي البصائر القويّة الطاهرة
يمتلكون هذه المرتبة ، على حين أن القرآن الكريم يعتبر ( المعراج ) من خصائص
رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ويذكره على انه نوع من الامتياز الخاص به صلىاللهعليهوآلهوسلم.
هذا مضافا إلى ان مثل هذه الحالة (
اعني التفكر في عظمة الخالق والاستغراق في التوجه إلى الحق ) كانت تتكرر لرسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
في كل ليلة (ـ راجع وسائل الشيعة : ج 7 ، كتاب صوم الوصال ، ص 388 قال صلىاللهعليهوآلهوسلم
: « إني لست كأحدكم ، أني اظل عند ربّي فيطعمني ويسقيني ».)
،
والحال ان ( المعراج ) الّذي هو محط الكلام قد وقع في ليلة معيَّنة. إن ما دفع بهذا الفريق إلى اتخاذ مثل
هذا الموقف من ( المعراج ) ، وآل بهم اختيار هذا الرأي هو فرضية الفلكي اليوناني
المعروف « بطلميوس » الّتي كانت سائدة في الأوساط العلمية في الشرق والغرب طيلة
ألفي سنة بالكامل ، والّتي اُلّف حولها مئآت الكتب ، وكانت تعدُّ حتّى حين من
المسلّمات في مجال العلوم الطبيعية وهي على نحو الاجمال كالتالي: إن الاجسام في هذا العالم على نوعين
: أجسام عنصرية ، واجسام فلكية. والجسم العنصري هي العناصر الأربعة
المعروفة : « الماء ، والتراب ، والهواء ، والنار ». وأوّل كرة تبدو لنا هي كرة التراب
وهي مركزُ العالم ، ثم تليها كرة الماء ثم كرة الهواء ، وتأتي بعد كل هذه
الثلاثة كرة النار ، وكلٌ من هذه الكرات محيطة بالاُخرى ، وهنا ( اي وعند كرة
النار ) تنتهي الكرات ، وتبدأ الاجسام الفلكية. والمقصود من الأجسام الفلكيّة هيَ
الافلاكُ التسعة الّتي تقع الواحدة فوق الاخرى وتحيط الواحدة بالاُخرى على هيئة
قشور البصل ، وهي متصلة بعضها ببعض من دون فاصلة بينها وهي غير قابلة للاختراق
والالتئام ( اي الشق والالتحام ) والفصل والوصل ولا يستطيع أيّ شيء من اختراقها
والتحرك فيها بصورة مستقيمة لأن ذلك يستلزم انفصام اجزاء الفلك. من هنا يكون المعراج الجسماني
مستلزماً لأن ينطلق النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
من مركز العالم ويصعد بصورة مستقيمة إلى الأعلى عابراً الكرات العنصرية الأربع ،
ومخترقا الأفلاك التسعة الواحد تلو الآخر ، بينما يستحيل خرق هذه الأفلاك ثم
التحامها حسب نظرية بطلميوس وفرضيّته الفلكية. وعلى هذا لا مناص من أن نعتقد بأن
المعراج النبويّ كان معراجاً روحانياً ، اي ان روحه صلىاللهعليهوآلهوسلم
هي الّتي عرجت حتّى لا يمنع أيُّ جسم من عبورها وسيرها وصعودها إلى النقطة
المطلوبة والغاية المرسومة. الجواب : ان هذا الكلام كان مقبولا وذا قيمة
عند ما كانت هيئة بطلميوس وفرضيته الفلكية لم تكن بعد قد فقدت قيمتها في الاوساط
العلمية وكان هناك من يعتقد بها من صميم فؤاده. ففي مثل تلك البيئة كان من الممكن
التلاعب بالحقائق القرآنية ، وتأويل صريح القرآن ونصوص الروايات. أما الآن فقد فقدت أمثال هذه
الفرضيات قيمتها ، وظهر للجميع بطلانها ، ولم يعد أحد يتحدث عنها ، إلاّ من باب
ما يسمى بتاريخ العلوم. فاليوم وبالنظر إلى كل هذه الأجهزة
الفلكية والآلات الفضائية الدقيقة ، والتلسكوبات العملاقة ، وهبوط المركبات الفضائية
المتعددة على سطح القمر والمريخ ، وعملية القيادة الفضائية على سطح القمر لم يعد
مجال لهذه الفرضيات الخيالية. فاليوم لا يعتبر العلماء المحقّقون
فكرة العناصر الأربعة والفلك المتّصل كقشرة البصل إلاّ جزءً من الاساطير. فان العلماء لم يستطيعوا بالآلات العلمية
وأجهزة الرصد الدقيقة والعيون المسلحة من رؤية ، تلك العوالم الّتي
حاكها وصنعها بطلميوس بقوة خياله ، من هنا فان أية نظرية تقوم على هذا الاساس
غير الصحيح تكون عارية عن أية قيمة ، واعتبار. نَغمةٌ شاذةٌ :
ولقد طلع مؤسس الفرقة الشيخية (لا شك أن هذه الفرقة وامثالها من الفرقة المبتدعة هي من صنائع
الاستعمار أو هي مما يؤيده لتنفيذ أغراضه ، ومن حسن الحظ أن انتشار الوعي بين
أبناء الامة الإسلامة حدَّ من نشاط هذه الفرق حتى انها أصحبت على أبواب الاندثار
والانقراض نهائياً.)
« الشيخ احمد الاحسائي » في « الرسالة القطيفية » بنغمة شاذة في هذا الصعيد حيث
أراد بابداء طرحة جديدة أن يرضي كلا الطرفين ( القائلين بروحانية المعراج النبوي
والقائلين بجسمانيته ) حيث قال : ان النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
عرج ببدنه البرزخي ( الهور قليائي ) (وهو البدن البرزخي الّذي يشبه البدن الّذي يفعل به الإنسان الافعال
المختلفة في عالم النوم والرؤيا ويقوم بكل نوع من انواع النشاط.)
ثم استدل لذلك بقوله : ان الصاعد كلّما صعد ألقى في كل رتبة
من المراتب المذكورة ما فيها ، فمثلا إذا تجاوز كرة الهواء القى ما فيه من
الهواء ، وإذا تجاوز كرة النار ألقى ما فيها وإذا رجع أخذ ما له من كرة النار ،
وإذا وصل إلى كرة الهواء أخذ ما له من الهواء. ومن هنا فانَّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
عندما عرج إلى السماء القى في كل كرة واحداً من تلك العناصر الأربعة في كرته ،
وعرج ببدن فاقد لهذه العناصر. ومثل هذا البدن لا يمكن ان يكون
بدناً عنصرياً ، فليس هو الا البدن البرزخي ( الّذي أسماه الهور قليائي ) لا غير
(تقع الرسالة القطيفية ضمن مجموعة تحتوي على 92 رسالة باسم جوامع
الكلم الّتي طبعت عام 1273. ومع هذا التصريح يدّعي
البعض ـ للتسترّ على خطأ الشيخ وزلته هذه ـ بأن الشيخ يعتقد بأن المعراج كان
جسمانياً عنصرياً ، وأنه موافق لرأي المشهور في هذا المجال.).
وبهذا ـ حسب تصوّره ـ أرضى من نفسه
كلا الطرفين المذكورين ، لأنه من جانب اعتقد بالمعاد الجسماني ، وفي نفس الوقت
تخلّص من اشكال « خرق الافلاك والتحامها » لأن نفوذ الجسم البرزخي لا يستوجب أي
خَرق وانفصال في جدار الفلك. ولكن هذه النظرية ـ كما هو واضح لكلّ
عالِم متحرٍّ للحقيقة ، بعيد عن العصبية ـ واضحة البطلان كسابقتها ( نظرية
المعراج الروحاني ) ، فمضافاً إلى انها مخالفة للقرآن وظاهر الاحاديث ، لأنّه ـ
كما أسلفنا ـ لو عرضنا آية المعراج ( من سورة الاسراء ) على أيّ عارف باللغة ،
مهما كانت وطلبنا منه رأيه في هذا الصدد لقال : ان مراد القائل هو البدن الدنيوي
العنصري الّذي عَبّر عنه القرآن بلفظ العبد ، في قوله تعالى : « سبحان الّذي
أسرى بعبده » ، وليس الهور قليائي الّذي لم يكن يعرفه المجتمع العربيّ ، ولا
يعرف أمثاله في ذلك اليوم أساساً ، في حين أنهم كانوا هم المخاطَبون في آية
المعراج في سورة الاسراء لا غيرهم. هذا مضافاً إلى أنَّ ما دفع بالشَيخ
إلى ارتكاب هذا التأويل البارد هو الاسطورة اليونانية المذكورة حول الفلك ، حيث
تصوّرها كحقيقة ثابتة من حقائق اللوح المحفوظ ، وقد كذبها وفندها كلُ فلكييّ
العالم اليَومَ ، وأعلنوا عن سخافتها. فلا يجوز لنا أن
نقلِّد تلك الفرضية تقليداً أعمى. وإذا ما رأينا بعضَ القدماء من
المشايخ قال بمثل هذا محسناً الظن بتلك الفرضية الفلكية القديمة وأمثالها امكن
إعذارهم ، لعدم قيام ادلة علمية قوية على خلافها آنذاك. اما اليوم فلا ينبغي لنا ان نتجاهل
الحقائق القرآنية لفرضية ثبت بطلانها في الأوساط العلمية. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
المعراج وقوانين
العلم الحديث :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قد يتصور فريقٌ من الناس أن القوانين
الطبيعية والعلمية الحاضرة لا تتلاءم مع معراج النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
وذلك لأنه : 1 ـ يقول العلم الحديث : إِنَّ
الابتعاد عن الأرض يتطلب التخلّص من جاذبية الأرض ، وبعبارة اُخرى ابطال مفعولها. فان ( الكرة ) الّتي نقذفها إلى
الأعلى تعود مرة ثانية إلى الأرض بفعل الجاذبية ومهما كرّرنا قذف الكرة إلى
الأعلى فانها تعود وترجع إلى الأرض أيضاً. فاذا أردنا أن نبطل مفعول جاذبية
الأرض ابطالا كاملا بحيث لا تعود الكرة المقذوفة إلى الأعلى إلى الأرض ثانيةً بل
تواصل مسيرها إلى الأعلى فإننا نحتاج لتحقيق هذا الهدف إلى جعل سرعة الكرة
باتجاه معاكس للأرض تعادل 000 / 25 ميلا في الساعة. وعلى هذا فان معنى المعراج هو ان
يكون النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
قد خرج من محيط جاذبية الأرض ، واصبح في حالة انعدام الوزن. ولكن ينطرح هنا سؤال وهو : كيف
استطاع رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ان يطوي بدون وسائل هذه المسافة بمثل هذه السرعة ، وهل البدن الطبيعي يتحمل مثل
هذه السرعة مع عدم توفر الغطاء الواقي والوسائل اللازمة ، الّتي تصون الجسم من
التبعثر والذوبان بفعل السرعة الفائقة. 2 ـ إنّ الهواء القابل للاستنشاق غير
موجود فوق عدد من الكيلومترات بعيداً عن سطح الأرض ، بمعنى اننا كلما ذهبنا
صعداً إلى الطبقات العليا وابتعدنا عن الأرض أصبح الهواء أرقّ ، حتّى يغدو غير
قابل للاستنشاق ، وربما نصل إذا واصلنا الصعود إلى الأعلى إلى منطقة ينعدم فيها
الهواء اللازم للتنفس بالمرة ، فكيف استطاع رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وبعد طي تلك المسافة الطويلة والبعيدة في أعالي الجو أن يعيش بدون وجود
الاوكسيجين؟! 3 ـ إِنَّ الاشعة الفضائية ،
والاحجار السماوية والشهب الكثيرة المتطايرة إذا اصطدمت بأي جسم أرضي أبادَتهُ ،
وأفنته ، ولكنها عندما تصطدم بالغلاف الغازيّ المحيط بالأرض تتلاشى وتصبح
كالبودر ولا تصل إلى الأرض ، فيكون ومع هذه الحالة كيف تهيّأ لرسول الله
صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يصون
نفسَه من تلك الاشعة الفضائية ، والاحجار السماوية؟! 4 ـ إذا قلَّ ضغطُ الهواء على جسم
الإنسان فزاد أو نقص اختلت حياته الطبيعية ، فهو يمكنه أن يعيش تحت ضغط معين من
الهواء ، لا يوجَد في الطبقات العُليا من الجوّ ، فكيف استطاع النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
والحال هذه أن يحافظ على حياته في أعالي الفضاء؟! 5 ـ إنَّ سرعة الحركة الّتي ساربها
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
لا ريب كانت تفوق سرعة الحركة الّتي يسير بها النور ومع العلم بأنّ سرعة النور
هي 000 / 300 كيلومتراً في الثانية ، مع العلم أيضاً أنه ثبت في العلم الحديث
أنه لا يستطيع أيُّ جسم أن يتحرك بسرعة تفوق سرعة النور ، فكيف استطاع النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
ان يسير بسرعة تفوق سرعة النور ، ومع ذلك يرجع إلى الأرض سالم الجسم كامله؟؟! جوابنا : وجوابنا هو :
أننا إذا أردنا أن نناقش هذه المسألة على ضوء القوانين العلميّة الطبيعية لتجاوز
عدد الاعتراضات والاشكالات ما ذكرناه آنفاً. ولكننا نقول في جواب هذا الفريق
متساءلين : ما هو مقصودكم من توضيح هذه النواميس الطبيعية. هل تريدون القول بأن السير في
العوالم العليا أمرٌ غير ممكن ، وممتنع ذاتاً وبالتالي أنه أمر محال. فاننا نقول ـ حينئذ ـ في الجواب على
ذلك بان الجهود والتحقيقات العلمية الّتي بذلها علماء الفضاء في الشرق والغرب قد
جعلت هذا الأمر ـ ولحسن الحظ ـ أمراً ممكناً ، وعادياً ، لأن مع اطلاق أوّل قمر
اصطناعي عام ( 1957 م ) إلى السماء إن البشر استطاع بأدواته وآلاته
العلمية والتكنولوجية أن يعالج مشكلات عديدة في مجال ارتياد الفضاء مثل مشكلة
الشهب والنيازك المتطايرة في الجوّ ومشكلة الاشعة الفضائية ، ومشكلة إنعدام
الغاز اللازم للتنفس و .. و .. وهاهو علم ارتياد الفضاء في حال توسع مستمرّ وان
العلماء أصبحوا الآن يثقون بأنهم سرعان ما يتمكنون من مدّ بساط الحياة والعيش في
إحدى الكرات السماوية والسفر إلى إحدى الكواكب كالقمر والمريخ بِسهولة كبرى! (بعد اطلاق الاقمار والسفن الاصطناعية لأوّل مرة يوم الأربعاء ابريل
عام 1961 بدأ الضابط الروسي جاجارين ( 27 سنة ) رحلته الفضائية في سفينة فضائية
، وكان أوّل إنسان أقدم على هذه الرحلة الفضائية ، وابتعدت سفينته 302 كيلومتراً
عن سطح الأرض ، ودارت دورة واحدة حول الكرة الارضية في ساعة ونصف. وبعد ذلك أقدمت أمريكا
والاتحاد السوفيتي على ارسال السفن الفضائية إلى الفضاء في محاولة لغزوالقمر
حتّى حطّت « أپولو » الحاملة ل 11 رائداً فضائياً على سطح القمر لأوّل مرّة ،
وكان هذا أوّل مرة يحط فيها انسان قدمه على ارض القمر. وقدتكررت تجربة هذا
البرنامج الفضائي فيما بعد مرات ومرات وكانت ناجحة على الاغلب. وكل هذه الجهود
والنتائج تكشف عن أن هبوط الإنسان على سطح الكرات والكواكب أمرٌ ممكن ، وما
يستطيع البشر فعله عن طريق العلم يقدر اللّه خالق البشر على فعله بارادته
النافذة.)
إنَّ هذه الأحداث العلمية وهذا
التقدّم التكنولوجي في مجال ارتياد الفضاء شاهدٌ قويٌّ على أنّ هذا العمل أمر
ممكن مائة بالمائة ، وليس من الاُمور المستحيلة. وإذا كان مقصود المعترضين على
المعراج هو انه لا يمكن القيام بمثل هذه الرحلة من دون أجهزة علميّة وتكنولوجية
، ولم يكن رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
يملك في تلك الليلة مثل هذه الأجهزة فكيف طوى تلك المسافات وطاف على جميع تلك
العوالم من دون أدنى وسيلةِ نقل من هذا القبيل؟! فاننا نقول في معرض الاجابة على
اعتراضهم هذا بأن جواب هذا الاعتراض يتضح من الابحاث الّتي سبقت منا حول معاجز
الأنبياء وخصوصاً بحثنا المفصَّل حول حادثة عام الفيل وهلاك جيش أبرهة العظيم
بالأحجار الصغيرة ، لأنه من المسلَّم أنَّ ما يستطيع البشر فعله عن طريق الأدوات
والآلات العلمية الصناعية يستطيع الأنبياء فعلَه بعناية اللّه تعالى ، وإقداره
وبدون الأسباب الظاهرية والخارجية. لقد عرج رسول الإسلام صلىاللهعليهوآلهوسلم
إلى السماء بعناية وباقدار اللّه الّذي خلق الوجود كله ، واقام هذا النظام
البديع برمته ، فهو الّذي أعطى للأرض جاذبيتها ، وأعطى للشمس أشعتها وأوجد مختلف
طبقات الهواء ، وأنواع الغازات في الجوّ ، ومتى أراد أخذَها وانتزاعها منها ، أو
كبح جماحها ، وردّ عاديتها. فاذا تحقق معراج النبيّ الاكرم محمّد
صلىاللهعليهوآلهوسلم في ظلّ
العناية الآلهيّة فانّ من المسلَّم ان جميع النواميس تخضع أمام قدرته القاهرة ،
وارادته الغالِبة ، وهي طوع إرادته ، والسماوات والأرض مطويّات بيمينه والجميع
في قبضته ورهن اشارته دائماً وأبداً ، وفي كل حين وأوان. وعلى هذا فماذا يمنع من أن يعمل
اللّه الّذي منح للأرض جاذبيتها ، وللأجرام السماوية أشعتها ، على إخراج عبده
المصطفى بقدرته المطلقة ومن دون الاسباب الظاهرية ، من مركز الجاذبية الأرضيّة ،
ويصونه من أخطار الاشعة الكونية ، وأن يعمد خالق كل هذا القدر الهائل من
الاوكسيجين إلى إيجاد الهواء اللازم لنبيّه في الطبقات الّتي ينعدم فيها الهواء ،
وهذا هو معنى قولهم : « إنَّ اللّه مسبِّبُ الأسباب ومعطِّلُ الأسباب ». ان أمر المعجزة يختلف ويفترق أساساً
عن أمر العلل الطبيعية والقدرة البشرية. ونحن يجب أن لا نقيس قدرة اللّه
المطلقة بقدرتنا المحدودة ، فاذا كنّا لا نقدر إنَّ إحياء الموتى ، وقلب العصا إلى
ثعبان ، وإبقاء يونس حيّاً في بطن الحوت ، في قعر البحار ، مما صدّقته جميع
الكتب السماوية ونقلته إلينا لا تقلّ إشكالا ولا تختلف جواباً عن قصة المعراج
النبوي وخلاصة القول : ان
جميع العلل الطبيعية والموانع الخارجية مسخَّرةٌ لِلّه تعالى خاضعة لارادته ،
مطيعةٌ لأمره وارادته يمكن تعلّقُها بكلّ شيء إلاّ بالأمر المحال ، وأما غيرذلك
أي ما يكون ممكناً بالذات مهما كان ، فانّهُ قابلٌ لأن يتحقق في ظل ارادة اللّه ومشيئته
سواء يقدر البشر عليه أم لا يقدر. على أن حديثنا هذا موجَّهٌ إلى مَن
آمن باللّه ، وعرف ربّه بصفاته الخاصة به تعالى ، وبالتالي آمن باللّه الأزليّ
على أنّه القادر على كلّ شيء. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الهدفُ من المعراج
:
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد بيّنت الاحاديث ـ بعد الآيات ـ
الغرض من المعراج واليك طائفة من هذه الاحاديث. 1 ـ يقول ثابت بن دينار سألت الامامَ
زين العابدين علي بن الحسين عليهالسلام عن
اللّه جلّ جلاله هل يوصَف بمكان فقال : « تعالى اللّهُ عَن ذلِكَ ». قلت : فلم اسرى بنبيه محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم
إلى السماء؟ قال : « لِيُريَهُ مَلكوتَ السماوات
وما فيها من عجائب صنعِهِ وبدائع خلقه ». 2 ـ وقال يونس بن عبد الرحمان قلت
لأبي الحسن موسى بن جعفر عليهالسلام
لأيّ عِلة عرج اللّهُ بنبيّه إلى السماء ومنها إلى « سدرة المنتهى » ، ومنها إلى
« حجب النور » وخاطبه وناجاهُ هناك واللّه لا يوصف بمكان؟ (علل الشرائع : ص 55 ، البحار : ج 18 ص 347 و 348. تفسير البرهان : ج
2 ، ص 400.).
فقال عليهالسلام
: « إنَّ اللّه لا يُوصَفُ بمكان ولا يَجري عليهِ زمانٌ ، وَلكنَّهُ عزوجل أرادَ
ان يُشَرِّف به مَلائِكته ، وسكانَ سَماواتِه ، ويكرِّمَهُم بمشاهدته ، وَيُريَه
من عجائب عظمته ما يخبر بهِ بَعدَ هُبُوطِه ، وليسَ ذلِكَ على ما يَقُولُه
المشبّهون سبحانَ اللّهِ تعالى عَمّا يَصِفُون » (علل الشرائع : ص 55. البحار : ج 18 ، ص 347 و 348. تفسير البرهان : ج
2 ، ص 400.).
أجل يجب أن يكون لرسول الإسلام وخاتم
الأنبياء مثل هذا المقام العظيم ومثل هذه المنزلة السامقة ، ليقول للبشرية
العائشة في القرن العشرين ، والّتي أصبحت تفكر في الهُبوط على « المريخ » و «
الزهرة » وغيرها من الانجم البعيدة : بانني قد فعلت هذا من دون أية وسيلة
، وانَّ ربّي قد مَنَّ عليّ وعرّفني على نظام السماوات والأرض ، وأطلَعَني
بقدرته وبعنايته على أسرار الوجود ، ورموز الكون. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
23 سفرة إلى الطائف
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
انقضت السنة العاشرة بكل حوادثها
الحلوة والمرة ، فان رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
فقد في هذا العام حامييه الكبيرين المتفانيين في سبيله ، ففي البداية فقد كبير
بني عبد المطلب وسيدهم ، والمدافع الوحيد عن حوزة الرسالة الإسلامية والذابّ
بالاخلاص عن حياض الشريعة المحمّدية ، والشخصية الاولى في قريش اعني « أبا طالب
» عليهالسلام. ولم تنمح آثار هذه المصيبة المرّة عن
خاطر النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
بعد إلاّ وفاجأته مصيبة وفاة زوجته الوفية العزيزة ، السيدة خديجة الكبرى الّتي
جددت برحيلها عنه أحزان النبيّ وآلامه الروحية جاء
في تاريخ الخميس : ج 1 ، ص 301 انه قيل بأن « خديجة » توفيت بعد « أبي طالب »
بشهر وخمسة أيام ، بينما ذهب آخرون مثل ابن الأثير في الكامل ج 2 ، ص 63 إلى أن
السيدة خديجة توفيت قبل أبي طالب ، لا بعده.).
لقد حامى أبو طالب ودافع عن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
وحافظ على حياته وسلامته ومكانته ، وبينما ساعدت خديجة بثروتها الطائلة في نشر
الإسلام وقدمت في هذا السبيل خدمات عظيمة لا تنسى. من هنا سمى رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
تلك السنة بعام الحداد ، أو الحزن (تاريخ الخميس : ج 1 ، ص 301 ، السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 347.).
ومنذ أن توفّى اللّه الحاميين
العظيمين والمدافعين القويين عن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
واجه رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ظروفاً صعبة جداً قلما واجهها من قبل. فقد واجه رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
منذ حلول السنة الحادية عشر جوّاً مفعماً بالعداء له ، والحقد عليه ، وصارت
الاخطار تهدد حياته الشريفة في كل لحظة ، وقد فقد كل الفرص لتبليغ الرسالة وكل
امكانات الدعوة إلى دينه. يقول ابن هشام في هذا الصدد : ان «
خديجة بنت خويلد » و « أبا طالب » هلكا ( اي توفيا ) في عام واحد فتتابعت على
رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
المصائب بهلك خديجة وكانت له وزيرة صدق على الإسلام ... وبهُلك عمّه أبي طالب
وكان له عضداً ، وحرزاً في أمره ، ومنعةً وناصراً على قومه وذلك قبل هجرته الى
المدينة بثلاث سنين ، فلما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
من الأذى ما لم تكن تطمع به في حياة أبي طالب حتّى اعترضه سفيهٌ من سفهاء قريش
فنثر على رأسه تراباً. ولما نثر ذلك السفيه على رأس رسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ذلك التراب دخل رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
بيته والتراب على رأسه ، فقامت إليه إحدى بناته فجعلت تغسل عنه التراب وهي تبكي
ورسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
يقول لها : « لا تبكي يا بُنيَّة فإنَّ اللّهَ مانع أباك ». ويقول بين ذلك : « ما نالت مني قريشٌ شيئاً أكرَهُهُ
حتّى مات أبو طالب » (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 415 و 416 ، بحار الأنوار : ج 19 ، ص 5 عن
إعلام الورى عن محمّد بن اسحاق بن يسار.).
ولأجل تزايد الضغط والكبت هذا قرر
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
أن ينتقل من المحيط المكي إلى محيط آخر يتسنى له تبليغ رسالته. وحيث انَّ الطائف كانت تعتبر آنذاك
مركزاً هامّاً ، لذلك رأى رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ان يسافر لوحده إلى الطائف ، ويجري بعض الاتصالات مع زعماء قبيلة ثقيف وساداتها
ويعرض دينه عليهم علّه يحرز نجاحاً ويكسب انصاراً جدداً لرسالته من هذا الطريق. ولما انتهى صلىاللهعليهوآلهوسلم
إلى الطائف عمد إلى نَفَر من قبيلة « ثقيف » هم يومئذ سادة ثقيف واشرافهم ، وجلس
صلىاللهعليهوآلهوسلم إليهم ،
ودعاهم إلى اللّه ، فلم يؤثر فيهم كلام رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وقالوا له : لئن كنتَ رسولا من اللّه كما تقول لأنتَ أعظمُ خطراً من أردَّ عليك
الكلام ، ولئِن كنت تكذب على اللّهِ ما ينبغي لي ان اكلمك!! فعرف رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
من رَدّهم الصبياني أنهم يحاولون التملُّص من قبول الدعوة واعتناقِ الإسلام ،
فقام صلىاللهعليهوآلهوسلم
من عندِهِم بعد ان طلب منهم أن يكتموا ما جرى في هذا اللقاء خشية أن يعرف سفهاءُ
ثقيف فيتجرأوا عليه ويتخذوا ذلك ذريعة لاستغلال غربته ووحدته ، ومن ثم إيذائه ،
فوعدوه بالكتمان ، ولكنهم ـ وللاسف ـ لم يحترموا وعدهم هذا الّذي أعطوه لرسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم ، وفجأة وجد رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
نفسه محاطاً بجمع كبير من اولئك السفهاء يسبّونه ويصيحون به حتّى اجتمع الناس ،
وألجأوه إلى بستان لعتبة وشيبة إبني ربيعة وهما فيه في تلك الساعة ، ورجع عنه من
سفهاء ثقيف من كان يتبعه ، فعمد إلى ظل فجلس فيه وهو يتصبب عرقاً ، وقد الحقوا
الاذى بمواضع عديدة من بدنه الشريف ورجلاه تسيلان من الدماء ، وابنا ربيعة
ينظران إليه ويريان مالقي من سفهاء أهل الطائف ، وقد كانا من اثرياء قريش ،
يومئذ. فلما اطمأن رسول اللّه
صلىاللهعليهوآلهوسلم
توجه إلى ربه وناجاه قائلا : « أللّهُمَّ إلَيكَ أشكُو ضَعفَ
قُوَّتي ، وَقِلَّةَ حِيلَتي ، وَهَواني عَلى النّاسِ ، يا أرحَمَ الرّاحِمين ،
أنتَ رَبُّ المُستَضعَفِين ، وَأنتَ رَبّي ، إلى مَن تكِلُني ، إلى إن لَم يَكُن بِكَ عَليَّ غَضَبُ
فَلا اُبالِي ، وَلكِ ، عافِيتَكَ هِيَ أوسَعُ لِي. أعُوذُ بِنُورِ وَجهك الّذي اشرقت
لَهُ الظُّلماتُ ، وَصَلُحَ عَليهِ أمرُ الدُّنيا وَالآخِرَة مِن أن يَنزِلَ بِي
غَضَبُكَ ، أو يَحِلَّ عليَّ سَخطُك. لَكَ العُتبى حتّى تَرضى ، وَلا حولَ
وَلا قُوّةَ إلاّ بِكَ » (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 420.).
هذه الكلمات وهذا الدعاء هي استغاثة
شخصية عاش خمسين سنة عزيزاً مكرماً في ظلّ حماية من دافعوا عنه بصدق واخلاص
ودفعوا عنه كل اذى ولكنه الآن يضيق عليه رحب الحياة حتّى يلجأ إلى حائط عدوٍّ من
اعدائه ، ويجلس في ظل شجرة ، مكروباً موجَعاً ينتظر مصيره. فلما رآه إبنا ربيعة « عتبة وشيبة »
وكانا من الوثنيين ومن أعداء الإسلام وشاهدوا مالقي من الأذى والعذاب ، رَقّا
لَهُ فدعوا غلاماً لهما نصرانياً من أهل نينوى يقال له « عداس » فقالا له : خذ
قطفاً من العنب فضَعهُ في هذا الطبق ثم اذهب به إلى هذا الرجل فقل له يأكل منه ،
ففعل عداس ، ثم أقبل بالعنب حتّى وضعه بين يدي رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ثم قال له : كل ، فلما وضع رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم فيه يده قال :
« بسم اللّه الرحمن الرحيم ». فتعجب عداس من ذلك بشدة وقال :
واللّه إنَّ هذا الكلام ما يقوله أهلُ هذه البلاد. فقال له رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ومِن أهل أي البلاد أنتَ وما دينك؟ قال : أنا نصراني ، من أهل نينوى. قال صلىاللهعليهوآلهوسلم
: من مدينة الرجل الصالح يونس بن متى. فقال له عداس : وما يدريك ما ( من )
يونس بن متى؟ فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم
(وفي رواية البحار : ج 19 ، ص 6 جملة اعتراضية هنا : ـ وكان لا يحقر
أحداً أن يبلغه رسالة ربه ـ.)
: ذاك أخي كان نبياً وأنا نبيّ ، أنا رسول اللّه ، فأكبَّ عداس على رسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وقد رأى في كلماته علائم الصدق وآيات الحق ، وجعل يقبّل رأسَه ويديه ، وقدميه ،
وهما تسيلان من الدماء وآمن به ، ثم عاد بعد
الاستئذان منه صلىاللهعليهوآلهوسلم
إلى صاحبيه في البستان. فتعجب ابنا ربيعة لِما رأياه في
غلامهما عداس من الانقلاب الروحي العجيب ، وسألاه قائلين : ويلك يا عداس ما لك
قبَّلت رأس هذا الرجل ، ويديه وقديمه وماذا قال لك؟! فاجابهما الغلام قائلا
:
يا سيدَيَّ ما في الارض شيء خيرٌ من هذا ، هذا رجلٌ صالح لقد أخبرني بأمر ما
يعلمه إلاّ نبيُّ. فشقَّ كلامُ عداس على إبني ربيعة ،
وقالا له بنبرة الناصحّ له : ويحك يا عداس ، لا يصرفنّك هذا الرجلُ عن دينك فان
دينَك خير من دينه!! (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 419 ـ 421 ، بحار الأنوار : ج 19 ، ص 6 و 7
و 22 مع اختلاف يسير.)
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
يعود إلى مكة :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
انتهت ملاحقةُ رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
بلجوئه إلى حائط ابني ربيعة ، وكان عليه الآن ، وبعد أن يئس من خير ثقيف ان يعود
إلى مكة ، ولكنَّ عودته إلى مكة لم تكن لتخلو عن مشاكل ، لأنه قد فقد نصيره
وحاميه ومدافعه الاكبر والا وحد فكان من المحتمل جداً أن يقبض عليه المشركون
ويسفكوا دمه. فقرر صلىاللهعليهوآلهوسلم
ان يبقى في منطقة « نخلة » ( وهي واد بين الطائف ومكة ) بعض الوقت. لقد كان يريد أن يرسل أحداً إلى
شخصية من شخصيات قريش يطلب منها ان تجيره حتّى يدخل مكة بجوار ، ولكنه صلىاللهعليهوآلهوسلم
لم يجد من يقوم له بهذه المهمة. فترك « نخلة » إلى حراء ، وهناك التقى رجلا
خزاعياً وطلب منه أن يأتي « المطعم بن عدي » بمكة ، وكان من الشخصيات المكية
البارزة ويسأله أن يجير رسول اللّه ليدخل مكة في أمان من اذى قريش وكيدها. فدخل الخزاعيّ مكة ، وأبلغ المطعم ما
طلبه منه رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
فقبل المطعم ـ رغم كونه وثنياً مشركاً ـ ان يجير رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
فقال للخزاعي : ائته فقل له : إني قد أجرتك فتعال. فدخل رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
مكة ليلا ونزل في بيت مطعم مباشرة ، وبات ليلته هناك ، ولما طلعت الشمس من صبيحة
غد قال مطعم لرسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
: لتعلمنّ قريش بانك في جوارنا ، فاصحبنا إلى البيت ، ليروا جوارنا. فاستحسن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
رأيه فاخذ المطعم وأهلُ بيته السلاح ودخلوا مع النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
في المسجد الحرام ، وكان ورودهم في المسجد بهيئة رائعة. وكان أبو سفيان قد كمن للنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
ليكيد به ، فلما رأى هذا المشهد المهيب غضب غضباً شديداً ، وانصرف عن ايذاء رسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
، فجلس المطعم وولده واختانه واخوه ، وطاف رسول اللّه بالبيت وصلى عنده ثم انصرف
إلى منزله. (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 381. بحار الأنوار : ج 19 ، ص 7 و 8.
ويستبعد بعض المحققين ان يكون رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم قد طلب الجوار من مشرك أو دخل
في جوار مشرك ، على غرار عدم قبوله الهدية من المشرك وذكر لذلك ادلة ووجوها. ولكن يمكن الاجابة على هذا
بأن الاجارة كانت امراً عادياً في ذلك العصر ، ولم يكن فيها ما يوجب شيناً على
رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم ولم تستلزم منة عليه. ثم ما المانع في مثل هذا
الجوار لو ترتبت عليه مصالح عليا ، كتمكين رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم من الدخول بسلام إلى مكة ،
وتمكنّه من القيام بمهامّه الرسالية ، خاصة ان هذا الجوار لم يستغرق إلاّ يوماً
أو بعض يوم وتسنّى بعده لرسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم ترتيب اوضاعة في مواجهة
الاخطار الّتي كانت تتهدده من جانب المشركين بمكة.).
ولم يمض على هذه الحادثة زمان طويل
حتّى هاجر رسول اللّه صلى الله عليه وآله من مكة إلى المدينة ، وتوفي المطعم في
أوائل الهجرة في مكة ، ولما بلغ رسول اللّه نبأ موته تذكّر صلىاللهعليهوآلهوسلم
إحسانه وجوارَه ، وانشأ حَسّان بن ثابت شاعر الإسلام شعراً يمدحُه فيه تقديراً
لخدمته. وكان رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
يتذكره كثيراً ، حتّى انه تذكره في واقعة « بدر » الّتي انهزمت فيها قريش وعادت
منكسرة إلى مكة بعد أن خسرت كثيراً من رجالها واسر منها عدد كبير ، فتذكر مطعم بن
عدي ثمة وقال صلىاللهعليهوآلهوسلم
: « لو كان مطعم بن عَديّ حياً لو هبت
له هؤلاء » (ـ المغازي للواقدي : ج 1 ، ص 110 ثم قال الواقدي : وكانت لمطعم بن
عدي عند النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم اجارة حين رجع من الطائف ،
طبقات ابن سعد : ج 1 ، ص 210 و 212 ، البداية والنهاية : ج 3 ، ص 137.). نقطة هامة :
إنَّ سفر النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
إلى الطائف يكشف عن اصراره في اداء رسالته واستقامته وصبره صلىاللهعليهوآلهوسلم
كما ان تذكُّره لإحسان مطعم في المواقع المناسبة يقودنا إلى خصاله الحميدة
وسجاياه. الفاضلة ، وخلقه العظيم. ولكن الاهمَّ من هذا وذاك هو أننا
نستطيع من خلال هذا تقييم خدمات أبي طالب القيمة ، ومعرفة اهميتها الكبرى عند
رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
، بمقايستها مع ما فعله مطعم. فان مطعم لم يفعل شيئاً إلاّ أن اجار
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
وحماه يوماً أو بعض يوم. بينما حدب أبو طالب على رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ودافع عنه وخدمه عمراً كاملا ، ولقى في سبيله من المحن والمتاعب ما لم يلق مطعم
منها ولا شيئاً ضئيلا. فاذا كان رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
يعلن عن استعداده للافراج عن جميع الاسرى في « بدر » تقديراً لما قام به مطعم من
اجارة بسيطة قصيرة ، فماذا عساهُ أن يقوم به تجاه ما اسداه إليه عمُّه وحاميه
وكافله الاكبر والأوحد أبو طالب من خدمات طوال اكثر من اربعين عاماً أنه يجب ان
يكون لمثل هذا الشخص العظيم الّذي كفل صاحب الرسالة وقام بشؤونه مدّة أربعين
عاماً بايامها وليالها ودافع عنه في السنوات العشر الاخيرة وهي جلُّ عمر الرسالة
الإسلامية في الفترة المكية إلى درجة ان عرَّض راحته وسلامته بل حياته وحياة
أبنائه لخطر الموت دفاعاً عن حياض الرسالة ، وحمايةً لصرح النبوة ، مقاماً
عظيماً ومنزلة كبرى عند قائد البشرية ، ومعلم الإنسانية ، وهاديها العظيم. كيف لا ؛ والفرق بين هذين الشخصين
كبير ، والبون شاسع ، فمطعم رجل وثني مشركٌ ، بينما يعتبر أبو طالب واحداً من
كبار الشخصيات الإسلامية العظيمة بلا جدال. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الدعوة في أسواق
العرب :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
كانت العرب تجتمع ـ في مواسم الحج ـ
في نقاط مختلفة مثل : « عكاظ » و « المجنة » و « ذي المجاز » ، وكان الشعراء
والخطباء العرب البارعُون يقفون في هذه المناطق على أماكن مرتفعة ويلهون فريقاً
من الناس بما يلقونه عليهم من خطب وقصائد تدور في الأغلب حول الحرب والقتال ،
والتفاخر ، والعشق. وكان رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
شأن كل الأنبياء والمرسلين الذين سبقوه يستغلّ هذه الفرصة ـ كغيرها ـ لا بلاغ
رسالة ربه إلى الناس ، ولم يكن لاحد منعه أوالكيد به لحرمة القتال والجدال في
الاشهر الحرم. من هنا كان صلىاللهعليهوآلهوسلم
إذا حلّ الموسم وقف على مكان مرتفع وخاطب الناس قائلا : « قُولُوا لا إله إلاّ اللّهُ
تُفلِحُوا وتملكوا بها العَرَب وتَذِلُّ لكُمُ لعَجمُ ، وَإذا آمَنتُم كُنتُم
مُلُوكاً فِي الجَنَّة » (الطبقات الكبرى : ج 1 ، ص 216.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
دعوة رؤساء القبائل
في مواسم الحج :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وكان رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
يلتقي في مواسم الحج في هذه النقاط برؤساء القبائل العربية واشرافها ، ويقف على
منازلهم منزلا منزلا ، ويعرض دينه عليهم ، ويدعوهم إلى اللّه ويخبرهم أنه نبيُّ
مرسل (قال ابن هشام : كان صلىاللهعليهوآلهوسلم لا يسمع بقادم يقدم مكة من
العرب له اسم وشرف إلاّ تصدّى له فدعاه إلى اللّه وعرض عليه ما عنده.).
وربما مشى خلفه عمُّه « أبو لهب »
فاذا فرغ رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
من قوله وما دعا به قال أبو لهب فوراً للناس : يا بني فلان إن هذا إنما يدعوكم
أن تسلخوا اللات والعزى من أعناقكم ، إلى ما جاء به من البدعة والضلالة ، فلا
تطيعوه ولا تسمعوا منه. وقد قدمت جماعة من بني عامر إلى مكّة
فدعاهم رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
إلى الإسلام وعرض عليهم نفسه ، فقبلوا أن يعتنقوا الإسلام إلاّ أنهم اشترطوا
عليه أن يكون إليهم خلافته من بعده إذ قالوا : أرأيتَ إن نحن تابعناك على أمرك
ثم أظهركَ اللّهُ على مَن خالفَك أيكونُ لنا الأمرُ من بعدك؟ فقال رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
: « الأمرُ إلى اللّهِ يَضَعه حيثُ يشاءُ ». فرفضوا اعتناق الإسلام
والإيمان باللّه ورسوله. ثم لما عادوا إلى أوطانهم رَجَعُوا
إلى شيخ لهم طاعن في السنّ لم يقدر أن يحجَّ معهم وكان ذا بصيرة وفهم فحدّثوه
بما جرى بينهم وبين رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وقالوا : جاءنا فتى من قريش من بني عبد المطلب يزعم أنه نبي يدعونا إلى أن نمنعه
(أي نحميه.)
ونقوم معه. فوضع الشيخ يديه على رأسه ووبَّخَهُم
على رفضهم لدعوة الرسول وقال : يا بني عامر والّذي نفسُ فلان بيده
ما تَقَوَّلَها اسماعيليٌ قط (أي ما ادعى النبوة كاذباً احدٌ من بني اسماعيل.)
، وإنّها لحقٌ ، فاين رأيكم كان عنكم؟! (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 424 و 425.)
ان هذه القضية التاريخية تفيد ـ في
ما تفيد ـ بان مسألة الخلافة والامامة بعد رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
أمر تنصيصي ، تعييني ، لا انتخابي ، أي ان تعيين الخليفة بعد رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
يعود إلى اللّه ، ولا خيار للناس فيه ، وانما عليهم الطاعة والرضا. 24 |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
بيعة العقبة
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
كان ( وادي القرى ) في ما مضى من
الزمن طريق التجارة من اليمن إلى الشام ، فكانت القوافل التجارية القادمة من
اليمن تدخل وادياً طويلا يدعى بوادي القرى بعد العبور بالقرب من مكة ، وكانت
المناطق الواقعة على طوال هذا الوادي مناطق خضراء ، ومن هذه المناطق مدينة قديمة
كانت تدعى ب : يثرب والّتي عرفت فيما بعد بمدينة الرسول. وقد سكن في هذه المدينة منذ اوائل
القرن الرابع الميلادي قبيلتا : « الاوس والخزرج » اللتان كانتا من مهاجري عرب
اليمن ( من القحطانيين ). وكان يعيش الى جانبهم الطوائف
اليهودية الثلاث المعروفة : « بنو قريظة » و « بنو النضير » و « بنو قينقاع »
الذين كانوا قد هاجروا اليها من شمال شبه الجزيرة العربية واستوطنوها. وكان يقدم إلى مكة كل عام جماعة من
عرب يثرب للاشتراك في مراسيم الحج ، وكان النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
يلتقي بهم في تلك المواسم ، ويجري معهم اتصالات. وقد مهدّت بعض هذه اللقاءات للهجرة ،
وصارت سبباً لتمركز قوى الإسلام المتفرقة ، في تلك النقطة. على ان كثيراً من تلك الاتصالات وان
لم تثمر ولم تنطو على أية فائدة فعلية إلاّ أنها تسببت في أن يحمل حجاج يثرب ـ
لدى عودتهم ـ انباء ظهور النبيّ الجديد وينشروه في اوساط المدينة كأهم نبأ من
انباء الساعة ، ويلفتوا نظر الناس في تلك الديار إلى مثل هذا الامر المهم
والخطير. ولهذا نقلنا هنا بعض اللقاءات
والاتصالات الّتي تمت بين رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وجماعات من اهل هذه المدينة في السنة الحادية عشرة والثانية عشرة والثالثة عشرة
من البعثة للتتضح بدراسة هذه المطالب علة هجرة النبيّ الاكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم
من مكة إلى يثرب ، وتمركز قوى المسلمين في تلك المنطقة. 1 ـ كان رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
كلما سمع بقادم يقدم مكة من العرب له اسم وشرف تصدى له ، ودعاه إلى الإسلام وعرض
عليه ما عنده. وقد قدم مرة « سويد بن الصامت »
فتصدى له رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
حين سمع به فدعاه إلى اللّه وإلى الإسلام فقال له سويد : فلعلّ الّذي معك مثل
الّذي معي. فقال له رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
: وما الّذي معك. قال : مجلة لقمان يعني حكمة لقمان. فقال رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
إعرضها عليَّ فعرضها عليه. فقال له : إن هذا الكلام حسن ، والّذي معي أفضل من
هذا. قرآنٌ انزلهُ اللّهُ عليّ هو هدى ونور. ثم تلا عليه رسولُ اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
القرآن ودعاه إلى الإسلام فقال سويد إنّ هذا قولٌ حسن وآمَنَ برسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
فقدم
المدينة على قومه ، فلم يلبث أن قتلته الخزرج فيما كان يتلفظ الشهادتين وكان
قتله قبل يوم بعاث (بعاث موضع كانت فيه حرب بين الأوس والخزرج.)
(ـ السيرة النبوية : ج 1 ، ص 425 ـ 427.).
2 ـ قدم « انس بن رافع » مكّة ومعه
فتيةٌ من بني عبد الاشهل فيهم « ياس بن معاذ » أيضاً ، يلتمسون الحلف والنصرة
على قومهم من الخزرج ، فسمع بهم رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
فأتاهم وجلس اليهم وقال لهم : هل لكم في خير مما جئتم له؟ فقالوا له : وما ذاك؟ قال : « أنا رسول اللّه بعثني إلى
العباد أدعوهم إلى أن يعبدوا اللّه ولا يشركوا به شيئاً وانزل عليّ الكتاب » ثم
ذكر لهم الإسلام وتلا عليهم القرآن. فقال أياس بن معاذ وكان غلاماً حدثاً
شهماً : أي قوم هذا واللّه خير مما جئتم له. فقد أدركَ جيّداً أنَ دينَ التوحيد
يكفُلُ كلَّ حاجاتهم فهو دينٌ شاملٌ مباركٌ لأنه سيصهِرُ الجميعَ في بوتقة
الاُخوَّة الواحدةِ فتزول عندئذ أسبابُ العداء والقتال ، وبذلك ينهي كل مظاهرِ
الحرب والتنازع ، وكلَّ مظاهر الفساد والتخريب فهو افضل من طلبِ المساعدة العسكرية
من قريش الّتي جاؤوا من أجلها إلى مكة ، فآمن برسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
من دون ان يكسب رضا رئيس قبيلته « انس بن رافع » واستئذانه ، ولهذا غضب أنس وأخذ
حفنة من تراب البطحاء وضرب بها وجهَ إياس وقال : دعنا منك فعمري لقد جئنا لغير
هذا ، فصمَتَ اياس وقام رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
عنهم وانصرفوا إلى المدينة ، وكانت وقعة بُعاث بين الأوس والخزرج ولم يلبث اياس
ان هلك ، وقد سمعه قومٌ حضروا عند وفاته يهلّل اللّه تعالى ويكبّره ويحمده
ويسبّحه حتّى مات ، فما كانوا يشكّون أنه قد مات مسلماً ، ولقد استشعر الإسلام
في ذلك المجلس حين سمع من رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ما سمع (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 427 و 428.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وقعة بُعاث :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
كانت وقعة بُعاث من الحروب التاريخية
بين الأوس والخزرج ، ففي هذه الوقعة انتصر الأوسيون على منافسيهم ، وأحرقوا نخيل
الخزرجيين ، ثم وقعت بعد ذلك حروب ومصالحات بينهم. ولم يشترك « عبد اللّه بن اُبيّ »
وهو من أشراف الخزرج في هذه الوقعة من هنا كان موضع احترام من القبيلتين ، وكاد
الطرفان يفقدان مقاومتهما بسبب تكرر الحروب ، وتحمّل الخسائر الثقيلة ، ولهذا
رغب الطرفان في عقد صلح بينهما يضع حدّاً لجميع أشكال العمليات العسكرية ،
والغزو والاقتتال ، والثأر والانتقام ، واصرّت القبيلتان على « عبد اللّه بن
اُبي » بان يقبل بقيادة عمليّة المصالحة هذه ، بل وأعدوا له تاجاً يتوّجونه به ،
حتّى يصبح أميراً في وقت معيَّن ، ولكن هذا المشروع تعرض للانهيار والسقوط وواجه
الفشل على أثر اعتناق جماعة من الخزرج الإسلام ، ففي هذا الوقت بالذات التقى
رسول اللّه بمكة بستة اشخاص من رجال الخرزج ودعاهم إلى الإسلام فآمنوا به ،
ولبُّوا دعوته. تفصيل الحادث :
خرج رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
في الموسم الّذي لقيه فيه النفر من الأنصار فعرض نفسه على قبائل العرب كما كان
يصنع في كلّ موسم فبينما هو عند العقبة لقي رهطاً من الانصار وكانوا ستة انفار
من الخزرج فقال لهم : أمِنْ موالي اليهود؟ وهل لكم حلف معهم. قالوا : نعم. قال : أفلا تجلسُون أكَلِّمُكُم؟ قالوا : بلى. فجلسوا معه ، فدعاهم إلى اللّه عزّ
وجلّ وعرض عليهمالسلام وتلا
عليهم القرآن ، فاحدثت كلمات النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
في نفوسهم أثراً عجيباً ، وممّا ساعد على ذلك أن يهوداً كانوا معهم في بلادهم ،
وكانوا أهل كتاب وعلم ، وكانوا هم أهلَ شرك وأصحاب أوثان ، وكان اليهود قد غزوهم
في بلادهم ، فكانوا إذا وقع بينهم نزاع وكان
بينهم شيء قال اليهود لهم : إن نبياً مبعوث الآن ، قد اظلّ ( أو أطلّ ) زِمانه
نتبعه فنقتلكم معه قتل عد وإرَم ، فكانت اليهود تخبر بخروج نبيّ من العرب ينشُر
التوحيد ، وتنتهي على يديه حكومة الوثنية والشرك ، وقد قرب ظهوره. فلما كلَّمَ رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
اُولئك النفر ، ودعاهم إلى اللّه ، قال بعضهم لبعض يا قوم : تعلّموا واللّه إنه
للنبيُّ الّذي توعدّكم به اليهود فلا تسبقنكم إليه. فاجابوه فيما دعاهم إليه بان صدّقوه
وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام وقالوا : إنا قد تركنا قومنا ، ولا قوم
بينهم من العداوة والشر مثل ما بينهم ، فعسى أن يجمعهم اللّهُ بكَ ، فسنقدم
عليهم فندعوهم إلى أمرك ، ونعرض عليهم الّذي أجبناك إليه من هذا الدين ، فإن
يجمعهم اللّه عليه فلا رجل اعز منك (تاريخ الطبري : ج 2 ، ص 86 ، والسيرة النبوية : ج 1 ، ص 427 و 428 ،
بحار الأنوار : ج 19 ، ص 25.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
بيعة العقبة
الاُولى :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد اثّرت دعوة هؤلاء السنة ، الجادة
في يثرب تأثيراً حسناً حيث سبّبت في إسلام فريق من اهل يثرب واعتناقهم عقيدة
التوحيد. فلما كان العام المقبل ( أي السنة
الثانية عشرة من البعثة ) قدم مكة اثنا عشر رجلا من اهل يثرب ، فلقوا رسول اللّه
صلىاللهعليهوآلهوسلم بالعقبة ،
وانعقدت هناك أوّل بيعة اسلامية. وابرز هؤلاء الرجال هم : أسعد بن
زرارة ، وعبادة بن الصامت ، وكان نص هذه البيعة ـ بعد الاعتراف ـ بالاسلام
والايمان باللّه ورسوله هو : بايعنا رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
على أن لا نشرك باللّه شيئاً ، ولا نسرق ، ولا نزني ، ولا نقتل أولادنا ، ولا
نأتي ببهتان نفتريه من بين أيدينا وارجلنا ولا نعصيه في معروف. فقال لهم رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
: إن وفيتم فلكمُ الجنة ، وان غشّيتم من ذلك شيئاً فامركم إلى اللّه عزّوجل إن
شاء عذَّبَ ، وان شاء غفر. وهذه البيعة اصطلح على تسميتها
المؤرخون وكتّابُ السيرة ببيعة النساء ، لأنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
اخذ البيعة من النساء في فتح مكة على هذا النحو (والّتي جاء ذكرها في الآية 12 من سورة الممتحنة.).
وعاد هؤلاء النفر إلى يثرب بقلوب
مفعمة بالايمان ، مترعة بمحبة رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
فعمدوا إلى نشرالإسلام وكتبوا إلى رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
أن يبعث لهم من يعلّمهم الإسلام والقرآنَ ، فبعث النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
لهم « مصعب بن عمير » وأمره بان يقرِّأهم القرآن ويعلمهم الإسلام ويفقّههم في
الدين ، فكان يسمى المقرئ بالمدينة. واستطاع هذا المبلّغُ القديرُ ، وهذا
الداعية النشيط ان يجمع المسلمين بفضل عمله الدؤوب والحكيم وتبليغه الصحيح في
غياب رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
، ويؤمّهم ، ويصلي بهم (ـ السيرة النبوية : ج 1 ، ص 434 ، بحار الأنوار : ج 19 ، ص 25.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
بيعة العقبة
الثانية :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد أحدث تقدم الإسلام في يثرب
هيجاناً كبيراً وشوقاً عجيباً في نفوس المسلمين من أهلها ، فكانوا ينتظرون بفارغ
الصبر حلول موسم الحجّ ، ليقدموا مكة ، ويلتقوا برسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
عن كثب ، ويُظهروا له عن استعدادهم لتقديم ما يطلبُ منهم من خدمة وعمل ،
وليستطيعوا توسيع نطاق البيعة من حيث الكَمّ ومن حيث الكيف. وأخيراً حلّ موسم الحجّ فخرجت قافلةٌ
كبيرةٌ من أهل يثرب للحجّ تضمّ خمسمائة نفراً فيهم ثلاث وسبعون من المسلمين من
بينهم امرأتان ، والباقي إما راغبون في الإسلام ، واما غير مكترث به ، حتّى
قدموا مكّة ، والتقوا برسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
فواعدهم رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
بالعقبة للبيعة إذ قال : « موعدكم العقبة في الليلة الوسطى من ليالي التشريق ». فلما كانت الليلة الثالثة عشرة من
شهر ذي الحجة وهي الّتي واعدهم رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
فيها باللقاء ، ونام الناس حضر رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
مع عمّه « العباس بن عبد المطلب » قبل الجميع ، وخرج المسلمون من رحالهم
يتسلّلون تسلل القطا مستخفين بعد أن ناموا مع قومهم في رحالهم ، ومضى ثلث الليل
لكيلا يحسّوا بخروجهم ، حتّى اجتمعوا في الشعب عند العقبة ، ولما استقرّ المجلس
بالجميع ، كان أوّل متكلم هو : العباس بن عبد المطلب فقال واصفاً منزلة رسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
: يا معشر الخزرج ـ وكانت العرب تسمي هذا الحي من الانصار الخزرج خزرجها وأوسَها
ـ إنَّ محمَّداً مِنّا حيث قد علمتم ، وقد مَنَعاهُ من قومنا ، فهو في عزّ من
قومه ، ومَنعة في بلده ، وإنّه قد ابى إلاّ الإنحياز اليكم ، واللُحوق بكم ، فان
كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ، ومانعوه ممّن خالفه فأنتم وما
تحملتم من ذلك ، وإن كنتم ترونَ أنكم مُسلِمُوهُ وخاذِلُوهُ بعدَ الخروج به
إليكم ، فمن الآن فدعوهُ فانه في عزّ ومَنعة من قومه وبلده. فقال الحضور : قد سمعنا ما قلتَ
فتكلّم يا رسول اللّه ، فخذ لنفسك ولربك ما أحببتَ. فتكلمَ رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
فتلا القرآن ودعا إلى اللّه ورغّب في الإسلام ثم قال : اُبايعُكم على أن تمنعوني
مما تمنعون منه نساءكم وابناءكم. فقام البراء بن معرور وأخذ بيد
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
وقال : نعم والّذي بعثك بالحق نبياً لنمنعمنَّك مما نمنع منه اُزُرنا (الملاحظ في هذه البيعة انها كانت بيعة للدفاع عن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
وليس بيعة للجهاد في سبيل اللّه ، ولهذا فان رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
لم يقدم على القتال في بدر إلا بعد ان كسب موافقة الانصار ورضاهم.)
فبايعنا يا رسول الّه فنحن واللّه ابناء الحروب واهل الحلقة ( اي السلاح )
ورثناها كابراً عن كابر. فدب في الحضور حماس وسرور عظيم
وتعالت الاصوات والنداءات من الخزرجين والّتي كانت تعبيراً عن شدة حماسهم ،
وسرورهم لهذا الأمر ، فقال العباس وهو آخذ بيد رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وفي هذه الاثناء نهض « البراء بن
معرور » و « ابو الهيثم بن التيهان » و « أسعد بن زرارة » من مواضعهم وبايعوا
رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ثم بايعه بقية القوم جميعاً. وقد قال ابن التيهان عند مبايعته للنبيّ
صلىاللهعليهوآلهوسلم يا رسول
اللّه إن بيننا وبين الرجال ( اي اليهود ) حبالا ( وعلاقات ) وإنا قاطعوها ، فهل
عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك اللّه ، أن ترجعَ إلى قومك وتدعَنا؟ فتبسَّم رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
قال : « بل الدَم الدَم ، والهَدم الهَدم احارب من حاربتم واسالم من سالمتم »
يعني أنه سيبقى على العهد ، ولا يتركهم وكانت العرب تقول عند عقد الحلف : دمي
دمُك ، وهَدمي هَدمُك ، وهي كناية عن البقاء على العهد واحترام الميثاق والحِلف.
ثم ان رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
قال : اخرجُوا إِليَّ منكم إثني عشر نقيباً ليكونوا على قومهم بما فيهم (المحبر : ص 268 ـ 274.).
فأخرَجوا منهم اثني عشر نقيباً فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم
لاولئك النقباء : انتم على قومكم بما فيهم كُفَلاء ككفالة الحواريّين لعيسى بن
مريم وأنا كفيلٌ على قومي ( يعني المسلمين ) فاُبايعُكم على أن تمنعوني مما
تمنعون منه نساءكم وأبناءكم ». فقالوا : نعم وبايعوه على ذلك. وكان النقباء الذين اختيروا لذلك
تسعةً من الخرزج وثلاثةً من الأوس وقد ضُبِطَت أسماؤهم وخصوصياتهم في التاريخ. وبعد أن تمّت مراسم البيعة وعدهم
رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
بأن يهاجِرَ إليهم في الوقت المناسب ، ثم ارفض الجمع وعادَ القومُ إلى رجالهم (ـ بحار الأنوار : ج 19 ، ص 25 و 26 ، السيرة النبوية : ج 1 ، ص 441 ـ
450 ، الطبقات الكبرى : ج 1 ، ص 221 ـ 223. وفي رواية اُخرى في البحار : ج 19 ،
ص 47 ، كما اخذ موسى من بني اسرائيل اثني عشر نقيباً وقد كان هذا العمل النبوي
حكيماً جداً لان عامة الناس لا يمكن التعويل والاتكال على التزاماتهم بل لابد من
الاعتماد ـ ضمناً ـ على رموز المجتمع ومفاتيحه وهم وجوده القوم وسراتهم.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أوضاعُ المسلمين
بعد بيعة العقبة :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
والآن ينبغي أن نجيب بالتفصيل على
السؤال الّذي يطرح نفسه هنا وهو : ما الّذي دعى أهل يثرب الذين كانوا بعيدين عن
مركز ظهور الإسلام إلى أن يستجيبوا لنداء الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم
ويأخذوا بتعاليمه اسرع من المكيين مع ما كان بين المكيين وبين رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
من القرابة القريبة؟! وكيف تركت تلك اللقاءاتُ المعدودةُ
القصيرةُ بأهل يثرب آثاراً تفوق الآثار الّتي تركتها الدعوةُ المحمّدية خلال
ثلاثة عشر عاماً في مكة؟! إن علة هذا التقدم يمكن
اختصارها وحصرها في أمرين : أوّلا : أن اليثربيّين جاوروا
اليهودَ سنيناً عديدة وطويلة قبل الإسلام وكثيراً ما كانوا يتحدّثون في مجالسهم
وأنديتهم عن النبيّ العربيّ الّذي يظهر ، ويأتي بدين جديد. حتّى أن اليهود كانوا يقولون :
للوثنيين إنَّ هذا النبيّ سيقيم دينَ اليهود وينشره ، ويمحي الوثنية ويقضي عليها
بالمرة. فتركت هذه الكلماتُ أثراً عجيباً في
نفوس أهل يثرب ، وهيّأت قلوبهم لقبول الدين الّذي كان يخبر عنه يهودُ وينتظرونه
، بحيث عند ما التقى الانفار الستة من اهل المدينة إلى الايمان برسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
لأوّل مرّة ، بادروا إلى الايمان به من غير إبطال ولا تأخير بعد أن قال بعضهم
لبعض : واللّه إنَّه للنبيّ الّذي توعَّدكم به يهود فلا تسبقنكم إليه. ومن هنا فان مما يأخذه القرآن على
اليهود هو : أنكم كنتم تهددون الوثنيين بالنبيّ العربيّ ، وتبشرون الناس بانه
سيظهر ، وانهم قرأوا أوصافه وعلائمه في التوراة فلماذا رفضوا الإيمان به لمّا
جاء صلىاللهعليهوآلهوسلم.
يقول تعالى : « وَلَمّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللّهِ
مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلى الّذيْنَ
كَفَرُوا ، فَلَمّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ، فَلَعْنَةُ اللّهِ
عَلى الكافِرين »
(ـ البقرة : 89.).
ثانياً : إنّ العامل الأخير الّذي
يمكن اعتبارهُ دخيلا في التأثير في نفوس اليثربيين وسرعة إقبالهم على الإسلام
وتقبّلهم لدعوة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
هو التعب والارهاق الّذي كان اهل يثرب قد اُصيبوا به من جرّاء الحروب الطويلة
الدامية فيما بينهم والّتي استمرّت مائة وعشرين عاماً والّتي انهكتهم وكادت أن
تذهب بما تبقّى من رَمقهم ، وجعلتهم يملون الحياة ، ويفقدون كلّ أمَل في تحسّن
الأحوال والاوضاع. وإن مطالعة وقعة «
بُعاث » وهي ـ حرب وقعت بين الأوس والخزرج ـ وحدها كفيلة بأن تجسد لنا الوجهَ
الواقعي الّذي كان عليه سكان تلك الديار. ففي هذه الوقعة انهزم الاوسيّون على
يد الخزرجيين ، فهربوا إلى « نجد » ، فعيّرهم الخزرجيّون بذلك ، فَغضب « الحضير
» سيد الأوس ، لذلك غضباً شديداً ، فطعن فخذه برمحه لشدة انزعاجه وغضبه ، وترجّل
عن فرسه وصاح بقومه قائلا : واللّه لا أقوم من مكاني هذا حتّى اُقتل!! فأوقد
صمود « الحضير » وثباته نار الحمية والغيرة واشعل روح الشهامة والبسالة في قومه
، فقرروا الدفاع عن حقهم مهما كلفهم الامر ، فقاتلوا أعداءهم مستميتين ،
والمستميت منتصر لا محالة ، فانتصر الأوسويون المغلوبون ، هذه المرة ، وهزموا
الخزرج هزيمة نكراء واحرقت مزارعهم ونزل بهم ما نزل على يد الاوسيين!! (الكامل في التاريخ : ج 1 ، ص 417 و 418.).
ثم تتابعت الحروب والمصالحات بعد ذلك
، وكانت القبيلتان تتحملان في كل مرة خسائر كبرى ، جعلتهم يواجهون عشرات المشاكل
الّتي حوّلت حياتهم إلى حياة مضنية متعبة جداً. من هنا لم تكن كلتا القبيلتين
راضيتين على أوضاعهما ، وكانتا تبحثان عن مخلص مما هما فيه ، من الحالة السيئة ،
وتفتشان عن نافذة أمل ، ومخرج من تلك المشاكل. ولهذا وجد الخزرجيون الستة ضالّتهم
المنشودة عندما التقوا ـ ولاول مرّة ـ رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وسمعوا منه ما سمعوا ، فتمنّوا أن يضعوا به حداً لاوضاعهم المتردية إذ قالوا له
: عسى أن يجمعهم اللّه بك فان جمعهم اللّه بك فلا رَجلَ أعزّ منك. كانت هذه هي بعض الأسباب الّتي دعت
اليثربيين إلى تقبّل الإسلام بشوق ورغبة وحماس. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ردود فعل قريش تجاه
بيعة العقبة :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
كانت قريش تغطّ في نوم عميق وكانت
تتصور بانها قد حدّت من تقدم الإسلام في مكة وانه قد بدأ يتقهقر ويسير باتجاه
السقوط والاندحار ، وأنه لن ينقضي زمانٌ إلاّ وتنطفئ جذوة الإسلام وتخمد شعلته ،
وتنمحي آثاره. وفجأة استيقظت على دويّ بيعة العقبة
الثانية الّتي كانت بمثابة انفجار قلبت كل المعادلات ، وأسقطت كل تصورات قريش
الساذجة ، وذلك عند ما عرف زعماء الوثنيين بأن ثلاثاً وسبعين شخصاً من اليثربيين
عقدوا ليلة أمس وتحت جنح الظلام بيعة مع رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
على أن يدافعوا عنه كما يدافعون عن أبنائهم وأهليهم. فأحدث هذا النبأ خوفاً عجيباً في
قلوب قادة قريش وسادة مكة المشركين المتغطرسين ، لانهم اخذوا يقولون مع أنفسهم :
لقد وجد المسلمون الآن قاعدة قوية في قلب الجزيرة العربية ، وانه يُخشى أن يجمع
المسلمون كل طاقاتهم المبعثرة فيها. ويعملون معاً على نشر دينهم ، وبث عقيدتهم ،
وحينئذ ، وحينئذ ستواجه الوثنية في مكة خطراً جدياً ، يهدّدُها في الصميم. ولهذا بادرت قريش إلى الاتصال
بالخزرجيين صبيحة تلك الليلة وقالوا لهم : يا معشر الخزرج انه قد بلغنا أنكم قد
جئتم إلى صاحبنا تستخرجونه من بين أظهرنا ، وتبايعونه على حربنا ، إنه واللّه ما
من حيّ من العرب أبغض إلينا أن تنشب الحربُ بينا وبينهم ، منكم. فحلفَ المشركون من أهل يثرب لقريش
أنه ما كان من هذا شيء ، وما علموه ، وقد صدقوا لأنهم لم يعلموا بما جرى في
العقبة. فان قافلة اليثربيين كانت تضمُّ خمسمائة شخص ، تسلَّلَ منهم ثلاث وسبعون
فقط إلى العقبة وبقية الناس نيام لا يعلمون بشيء. فأتت قريشٌ إلى « عبد اللّه بن اُبيّ
بن سلول » فسألوه عَمّا جرى في ليلة العقبة ، فأنكر ذلك وقال : إنّ هذا الأمر
جسيم ، ما كان قومي ليتفوتوا عليّ بمثل هذا ( اي يعملوه من دون مشورتي ) وما
علمته كان ، فنهض رجال قريش من عنده ليتابعوا تحقيقهم حول الحادث. فعرف المسلمون الذين حضروا ذلك
المجلس وبايعوا رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
يفشوّ أمرهم ، وانكشاف سرهم ، ولهذا قال بعضهم لبعض : مادمنا لم نُعرَف بعدُ
فلنخرج من مكة فوراً قبل ان يظفر المشركون بنا ، ولهذا أسرعوا في الخروج من مكة
والتوجّه إلى المدينة ، فزاد ذلك من سوء ظن قريش وعزّزت شكوكهم حولَ البيعة ،
وعرفوا بانه قد كان ، فخرجوا في طلب جميع اليثربيين ، ولكنهم لم يتنبهوا لذلك
إلاّ بعد خروج قافلة اليثربيين من حدود مكة ، والمكيين ، ولم تظفر قريش إلاّ
بسعد بن عبادة. غير أن ابن هشام يرى بأنهم ظفروا
بنفرين هما : « سعد بن عبادة » و « المنذر بن عمر » ، وكان كلاهما من النقباء
الاثني عشر. وأما « المنذر »
فاستطاع أن يخلّص نفسه منهم. وأما « سعد » فقد
أخذوه ، وربطوا يديه إلى عنقه بنسع رَحله ، ثم أقبلوا به حتّى أدخلوه مكة
يضربونه ، ويجذبونه بجمّته (مجتمع شعر الرأس.)
وكان ذا شعر كثير. يقول سعد : فواللّه إنّي لفي أيديهم إذ طلع عليّ
نفرٌ من قريش فيهم رجلٌ وضيء أبيض ، طويل القامة ، فقلت في نفسي : إن يكُ عندَ
أحد من القوم خير فعند هذا. قال : فلما دنى منّي رفع يده فلكمني
لكمةً شديدةً. فقلتُ في نفسي : لا واللّه ، ما
عندهم بعد هذا من خير. قال : فواللّه إنّي لفي أيديهم
يسحبونني إذ رقّ عليَّ رجلٌ كان معهم : فقال : ويحك أما بينك وبين أحد من قريش
جوارٌ ولا عهدٌ؟ قلت : بلى كنتُ اُجير لجير بن مُطعِم
بن عدي تجارةً ، وأمنعهم ممن أراد ظلمهم ببلادي. فذهب ذلك الرجلُ إلى مُطعِم وأخبره
بما فيه سعد بن عبادة من الحال ، وأنه أخبره بأنه كان يجير لمطعم تجارة فقال
مُطعِم : صدق واللّه إنه كان ليجير لنا تجارة ، ويمنعهم أن يُظلموا ببلدة ثم
أسرع إلى سعد وخلّصه من أيديهم. وكان رفقاء سعد من المسلمين قد علموا
بوقوعه في أيدي قريش في أثناء الطريق إلى المدينة ، فعزموا على أن يعودوا إلى
مكة ويخلّصوه من أيدي المشركين ، وبينما هم كذلك إذ بدى لهم « سعد » من بعيد ،
وأخبرهم بما جرى عليه (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 449 و 450.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
تأثير الإسلام
ونفوذه المعنوي :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
يصرُ المستشرقون على
أن انتشار الإسلام ونفوذه في المجتمعات ثمّ بواسطة السيف
وفي ظلّ استخدام القوّة. اما بطلان هذا الكلام
فسيثبت من خلال الحوادث القادمة. ونحن نذكر هنا للمثال حادثةً وقعت
قبل الهجرة ، ونلفت اليها نظر القارئ الكريم ، فان دراستها والتعمق فيها يثبت
بجلاء ان انتشار الإسلام ونفوذه في أوساط الناس كان في بداية الأمر نابعاً من
جاذبيته الّتي كانت تجذب كل انسان بمجرد اعطاء شرح مختصر عنه وعن تعاليمه
المحببة إليه. واليك الحادثة بنصها :
قرر مصعب بن عُمير المبلّغ والداعية
الاسلامي المعروف الّذي بعثه رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
إلى المدينة بطلب من اسعد بن زرارة ، ذات يوم أن يدعو هو واسعد أشراف المدينة
وساداتها إلى الإسلام بالمنطق والدليل فدخلا حائطاً (بستاناً.)
من حوائط المدينة فجلسا هناك واجتمع اليهما رجال ممن اسلم ، وكان سعد بن معاذ
واسيد بن حضيرو هما من سادات بني الاشهل موجودين هناك أيضاً. فقال سعد لا سيد :
جرّد حربتك وقل لهذين ( يعني مصعبا واسعد ) ماذا جاء بهما إلى ديارنا يسفهان
ضعفاءنا ، ولو لا أن سعد بن زرارة ابن خالتي ، لكفيتُك ذلك. ففعل اُسيد ذلك وقال لمصعب ما جاء
بكما الينا تسفّهان ضعفاءنا وراح يشتمهما فقال له مصعب داعية الإسلام الحكيم ،
والمتكلم البليغ الّذي تعلّم اسلوب الدعوة المؤثر من رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
: أو تجلس فتسمع ، فان رضيت أمراً قبلته ، وان كرهته كفَّ عنك ما تكره؟ قال : أنصفتَ ثم ركّزَ حربته وجلس
إليهما يستمع لقولهما فكلّمه مصعبٌ بالاسلام ، وقرأ عليه شيئاً من القرآن فأثّرت
آياتُ القرآن وما قاله مصعب من المواعظ البليغة في نفسه حتّى عُرِفَ ذلك في
إشراق وجهه ، وانفراج اساريره ، وشوقه فقال : ما احسن هذا الكلام واجمله؟! كيف تصنعون
إذا اردتم أن تدخلُوا في هذا الدين؟ فقال مصعب وسعد له : تغتسل فتطهر وتغسل
ثوبيك ثم تشهد شهادة الحق ثم تصلي. فقام اسيد بن حضير الّذي حضر لقتل
مصعب وسعد من عندهما مبتهجاً مسروراً فاغتسل وطهر ثوبيه وتشهّد شهادة الحق ثم
قام فركع ركعتين. ثم قال لهما : ان ورائي رجلا إن
اَتبعَكما لم يتخلف عنه أحد من قومه وساُرسله إليكما الآن ، ثم أخذ حربته وانصرف
إلى سعد بن معاذ الّذي كان ينتظر عودته على احر من الجمر فلما نظرإليه سعد وقومه
وهم جالسون في ناديهم قال : أحلفُ باللّه لقد جاءكم اسيد بن حضير بغير الوجه
الّذي ذهب من عندكم فلما وقف على النادي قال له سعد ما فعلت؟ قال : كلّمت الرجلين ، فواللّهِ ما
رأيت بهما بأساً ، وقد نهيتُهما ، فقالا : نفعل ما احببتَ ، فغضب سعدٌ لذلك
غضباً شديداً ، وأخذ الحربة من اسيد ، ثم خرج إلى مصعب واسعد ليقتلهما ، فلما
رآهما سعد مطمئنين وقف عليهما متشتماً مهدداً اياهما ، ولكن مصعباً وزميله قابلا
به بمثل ما قابلايه سابقه اسيد ، وجرى له ما جرى له ، فقد فعلت كلمات مصعب في
نفسه فعلتها ، وخضع لمنطقه القوي ، وبيانه الساحِر ، وندم على ما قصد فعله ،
وقال لمصعب نفس ما قاله اسيد واعتنق الإسلام واغتسل وتطهر وصلى ثم رجع إلى قومه
وقال لهم : يا بني عبد الاشهل كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا : سيدنا وافضلنا
راياً وايمننا نقيبةً. قال : فان كلام رجالكم ونسائكم عليّ
حرامٌ حتّى تؤمنوا باللّه وبرسوله فالحمد للّه الّذي اكرمنا بذلك. فلم يُمسِ في دار بني عبد الاشهل
رجلٌ ولا إمرأة إلاّ مسلماً أو مسلمة ، وهكذا أسلم كلُّ قبيلة بني الأشهل قبل أن
يروا النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
وأصبحوا من الدعاة إلى الإسلام والمدافعين عن عقيدة التوحيد ، لا بمنطق القوة
انما بقوة المنطق (إعلام الورى : ص 59 ، بحار الانوار : ج 19 ، ص 10 و 11 ، السيرة
النبوية : ج 1 ، ص 436 و 437.).
ان في التاريخ الاسلامي نماذجَ كثيرة
من هذا القبيل تدل على بطلان وتفاهة ما قاله أو روّجه المستشرقون حول أسباب
تقدّم الإسلام وانتشاره ، فان العامل المعتمدَ في جميع هذه الموارد لم يكن المال
والتطميع ، ولا السلاح والتهديد ، كما ادعى المستشرقون ، وان الذين اسلموا في
هذه الحوادث والوقائع لاهم رأوا رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ولا أنهم التقوا أو اتصلوا به بنحو من الانحاء ، انما كان السبب الوحيد هو :
منطق الداعية الاسلامي القويّ وبيانه الساحر الجذاب ، فهُو الّذي كان يفعل في
النفوس فعله العجيب ، خلال دقائق معدودة ، لا في نفس شخص واحد فحسب ، بل ربما في
نفوس قبيلة بكاملها. اجل انه المنطقُ القوي والكلام
المبرهن والحجة البالغة لاسواها. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
مخاوف قريش
المتزايدة :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد ايقظت حماية اليثربين للمسلمين
قريشاً من غفلتها ونومها العميق مرة اُخرى ، وكانت بيعة العقبة الثانية بمثابة
ناقوس خطر لها فبدأت أذاها وإظطهادها ومضايقتها لهم من جديد ، وتهيأت للعمل على
الحيلولة دون انتشار الإسلام ونفوذه وتقدمه في الجزيرة العربية ، وبلغ ذلك الاذى
مبلغاً عظيماً. فشكى أصحاب رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
إليه ما يلقونه على أيدي المشركين من ضغوط واذى ، واستأذنوه في الهجرة إلى مكان
فاستمهلهم رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ثم قال : « لقد اُخبرت بدار هجرتكم وهي يثرب
فمن اراد الخروج فليخرج إليها » (الطبقات الكبرى : ج 1 ، ص 226.).
وبعد الاذن بالهجرة من قِبَل النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
أخذ المسلمون يخرجون من مكة ، ويتوجهون إلى المدينة شيئاً فشيئاً وبحجج مختلفة
لكي لا تمنعهم قريش من الهجرة. ولم يكن قدمضى على بداية هجرة
المسلمين التدريجية هذه زمان طويل الا وفطن زعماء قريش لسرها ، وخطرها عليهم فاخذوا
يمنعون من اي تنقل وسفر يقوم به المسلمون ، وقرروا ان يعيدوا إلى مكة كلَ من
وجدوه في اثناء الطريق ، كما قرروا ان يحبسوا زوجة كل مسلم يريد الهجرة وله زوجة
قرشية ويمنعوها عنه ، ولكنهم كانوا يتجنبون اراقة الدماء في هذا السبيل ، بل
وكان يقتصر إذاهم على الحبس والتعذيب ولا يتعداهما. ولكن هذه المحاولات الّتي قام بها
زعماء قريش لوقف الهجرة إلى المدينة لم تثمر لحسن الحظ. فقد استطاعت مجاميع كبيرة من
المسلمين النجاة بنفسها من أيدي قريش واللحاق بزملائهم واخوانهم في يثرب حتّى
انه لم يبق في مكة من المسلمين إلاّ رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وعلي عليهالسلام وعدد قليل
من المسجونين ، أو المرضى من المسلمين. وقد زاد اجتماع المسلمين في يثرب من
مخاوف قريش ، وضاعف من قلقها ، ولهذا اجتمع كلُ رؤساء القبائل المكية في «
دارالندوة » اكثر من مرة للتشاور في كيفية القضاء على الإسلام وطُرحت في ذلك
المجلس خطط متنوعة ، واقترحت اُمور كثيرة لتحقيق هذه الغاية ولكنها فشلت برمتها
بتدبير رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وحكمته ، وسياسته الدقيقة. وأخيرا هاجر رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
من « مكة » إلى « المدينة » في شهر ربيع الأول سنة 14 من البعثة. اجل لقد تضاعف قلق قريش منذ أن حصل
محمّد على قاعدة ثانية خارجة عن نطاق هيمنة المكيين وسيطرتهم واصبحوا حيرى لا
يدرون ماذا يفعلون ، لان جميع خططهم للمنع من انتشار الإسلام واتساع رقعته ، قد
باءت بالفشل. لقد أمر رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
أصحابه بالهجرة إلى المدينة والالتحاق بالانصار وقال لهم : « إنَّ اللّه قد
جعل لكم داراً وإخواناً تأمنُون بها » (بحار الأنوار : ج 19 ، ص 26.)
لقد انتهينا من تسجيل حوادث السنوات الثلاث عشرة من البعثة ، وقد
حاولنا ذكر كل ما كان معلوماً مشهوراً من تواريخها ، ولكن لا يمكن اعتبار تواريخ
كل تلك الحوادث اُموراً مقطوعاً بها من هنا ذكرنا الحوادث المثبة في الفصل 24 من
دون ادراج تواريخ لها في الاغلب ولكن حيث أن الوقائع الحادثة بعد الهجرة وقعت في
أوقات معينة معلومة لذلك فاننا سنرفق ذكر كل حادثة بتاريخ وقوعها في الفصول
القادمة.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
حوادث السنة
الاُولى من الهجرة
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
25
قصّة الهجرة
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
كان زعماء قريش ورؤساؤها يجتمعون عند
كل نائبة تنوبهم في « دارالندوة » لحل
المشاكل ومعالجة ما عرض لهم من نائبة من خلال التشاور حولها وتداول الرأي فيها ،
ومن خلال تضافر الجهود على حلها ، ورفعها أو دفعها. وفي السنوات الثانية عشرة ، والثالثة
عشرة من البعثة واجه أهل مكة خطراً كبيراً جدّياً ، فقد حصل المسلمون على مركز
هام ، وقاعدة صلبة في يثرب ، وتعهّد اليثربيون الشجعان بحماية رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
والدفاع عنه ، وكلُ هذا كان من علامات ومظاهر ذلك التهديد الخطير ، الّذي بات
يهدد كيان المشركين والوثنيين والزعامة القرشية. وفي شهر ربيع الاوّل من السنة
الثالثة عشرة من البعثة الّتي وقعت فيه هجرة رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وبينما لم يكن قد بقي من المسلمين في مكة إلاّ رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وعلي وأبوبكر وجماعة قليلة من المسلمين المحبوسين ، أو المرضى ، أو العجزة ،
وكان هؤلاء على أبواب الهجرة ومغادرة مكة إلى المدينة اتخذت قريش فجأة قراراً
قاطعاً وحاسماً وخطيراً جداً في هذا المجال. فقد انعقدت جلسة هامة للتشاور في «
دار الندوة » حضرها رؤساء قريش وزعماؤها وبدأ متكلمهم (وروي انه كان المتكلم : أبوجهل.)
يتحدث عن تجمع القوى والعناصر الإسلامية وتمركزها في المدينة والبيعة الّتي تمت
بين الخزرجيين والأوسيين وبين رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ثم اضاف قائلا : يا معشر قريش إنه لم يكن أحدٌ من
العرب أعَزَّ مِنّا ، نحن أهل اللّه تفد إلينا العرب في السنة مرتين ، ويكرموننا
، ونحن في حرم اللّه لا يطمع فينا طامعٌ ، فلم نزل كذلك حتّى نشأ فينا « محمّد
بن عبد اللّه » فكنّا نسمّيه ( الأمين ) لصلاحه ، وسكونه ، وصدق لهجته ، حتّى
إذا بلغ ما بلغ وأكرمناه ادّعى أنه رسول اللّه ، وأن أخبار السماء تاتيه ، فسفّه
أحلامنا ، وسبّ آلهتنا ، وأفسد شبّاننا ، وفرق جماعتنا ، فلم يرد علينا شيء أعظم
من هذا ، وقد رأيت فيه رأياً ، رأيت أن ندسّ إليه رجلا منّا ليقتله ، فان طلبت
بنو هاشم بدمه (وفي رواية : بديته.)
اعطيناهم عشر ديات. فقال رجلٌ مجهول حضر ذلك المجلس ووصف
نفسه بانه نجدي : ما هذا برأي لأن قاتل محمّد مقتول لا محالة ، فمن هذا الّذي
يبذل نفسَه للقتل منكم؟ فانه إذا قُتِل محمّد تعصّب بنو هاشم وحلفاؤهم من خزاعة
، وإن بني هاشم لا ترضى أن يمشي قاتل محمّد على وجه الارض فيقع بينكم الحروب
وتتفانوا. فقال أبو البختري : نلقيه في بيت
ونلقي إليه قوته حتّى يأتيه ريبُ المنون. فقال الشيخ النجديّ مرةً اُخرى :
وهذا رأيٌ أخبث من الآخر ، لأن بني هاشم لا ترضى بذلك ، فاذا جاء موسمٌ من مواسم
العرب استغاثوا بهم ، واجتمعوا عليكم فاخرجوه. فقال ثالث : نُخرجه من بلادنا
ونتفرّغ نحن لعبادة آلهتنا ، أو قال نرحّل بعيراً صعباً ونوثّق محمّداً عليه
كتافا ، ثم نضربُ البعيرَ بأطراف الرماح فيوشَكُ أن يقطّعه بين الصخور والجبال
إرباً إرباً. فانبرى ذلك النجدي يخطّئ هذا الرأي
أيضاً قائلا : أرايتم إن خلص به البعير سالماً إلى بعض الناس فأخذ بقلوبهم بسحر
بيانه وطلاقة لسانه ، فصبأ (صبأ فلان : اي خرج من دين إلى دين غيره وكانت العرب تسمّي النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
الصابئ لأنه خرج من دين قريش إلى دين الإسلام وتسمي المسلمين : الصباة .. وهو
جمع الصابىء.)
القوم
إليه واستجابت القبائل له قبيلة فقبيلةٌ ، فليسيرنَّ حينئذ اليكم الكتائب
والجيوش فلتهلكنّ كما هلكت اياد ومن كان قبلكم. فتحيّروا وساد الصمت ذلك المجلس ،
وفجأة قال أبو جهل ( وعلى رواية : قال ذلك الشيخ النجدي ) : ليس هناك من رأي
إلاّ أن تعمدوا إلى قبائلكم فتختاروا من كل قبيلة منها رجلا قوياً ثم تسلّحوه
حساماً عَضباً وليهجموا عليه معاً بالليل ويقطعوه إرباً إرباً فيتفرق دمه في
قبائل قريش جميعاً فلا تستطيع بنو هاشم وبنو المطلب مناهضة قبائل قريش كلها في
صاحبهم فيرضون حينئذ بالدية منهم!! فاستحسن الجميعُ هذا الرأي ، واتفقوا
عليه ، ثم اختاروا القتلة وتقرّر ان يقوموا بمهمتهم اذا جنّ الليل وساد الظلام
كل مكان (الطبقات الكبرى : ج 1 ، ص 227 و 228 ، السيرة النبوية : ج 1 ، ص 480
ـ 482.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الإمدادات الغيبية
والعنايات الالهية :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد كان اولئك العتاة الجهلة يتصورن
أن رسالة محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم
المدعومة من قبل اللّه تعالى والمؤيّدة من جانبه سبحانه يمكن ان يقضى عليها
بواسطة هذه الحيل والمكائد ، والخطط والمؤامرات ، ولم يكونوا يدركون أن هذا
النبيّ ـ كغيره من الأنبياء ـ يتمتع بالمدد الالهيّ الغيبي ، وان اليد الّتي حفظت
مشعل الاسلام طوال ثلاثة عشر عاماً في وجه الاعاصير والرياح ، قادرة على افشال
هذه الخطة الاثيمة ، وتعطيل هذه المؤامرة أيضاً. يقول المفسرون :
بعد أن دبّر الكفار ما دبروا نزل ملك الوحي « جبرئيل » ، على رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وأخبره بما حاك ضدّه المشركون من مؤامرة اذ قرأ عليه قول اللّه تعالى : « وَإذْ يَمْكُرُ بكَ الّذينَ كَفَرُوا
ليُثْبِتوكَ أوْ يَقْتُلُوكَ أو يُخْرجُوكَ وَيَمْكُرونَ وَيَمْكُر اللّهُ
وَاللّهُ خَيْرُ الْماكِرينِ » (الانفال : 30. ليثبتوك أي ليسجنوك.).
وعندئذ اُمِرَ رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
بالهجرة من مكة إلى المدينة ، ولكنّ التخلص من أيدي القساة المكلّفين بقتله من
قبل زعماء الوثنيين وبالنظر إلى المراقبة الدقيقة الّتي كانوا يقومون بها لجميع
التحركات ، لم يكن بالأمر السهل وخاصة بالنظر إلى بُعد المسافة بين مكة
والمدينة. فاذا لم يكن رسولُ اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
يخرج من مكة وفق خطة دقيقة صحيحة كان من المحتمل جداً أن يدركه المكيّون في
أثناء الطريق ويقبضوا عليه ويسفكوا دمه الشريف قبل ان يصل إلى أتباعه وأصحابه. ولقد ذكر المفسرون والمؤرخون صوراً
مختلفة لكيفية خروج النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
وهجرته والاختلاف الّذي نلاحظه بين هؤلاء المفسرين والمؤرخين في خصوصيات وتفاصيل
هذه الواقعة مما يقل نظيرة في غيره من الوقائع. وقد استطاع مؤلف « السيرة الحلبية »
أن يُوفّق إلى درجة مّا ، بين المنقولات والمرويات المختلفة ببيان خاص ، ولكنه
لم يوفّق لازالة التناقض والاختلاف فى بعض الموارد في هذا الصعيد. على أنّ الموضوع الجدير بالإهتمام هو
أن اكثر المؤرّخين الشيعة والسنة نقل كيفية هجرة النبيّ ، وخروجه من منزله ، ثم
من مكة بنحو مؤداه إسناد نجاة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
وخلاصه إلى عامل الاعجاز ، وبالتالي فقد اسبغوا عليه صبغة الكرامة ، والمعجزة. في حين أن الإمعان في تفاصيل هذه
القصة يكشف عن أن نجاة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
كانت نتيجة سلسلة من الاجراءات الاحترازية ، والتحسبات ، والتدابير الحكيمة ،
وإن إرادة اللّه تعالى تَعَلّقت بان ينجّي نبيّه الكريم ، عن طريق الأسباب
العادية المألوفة ، وليس عن طريق التدخّل الغيبيّ وإعمال قدرته تعالى الغيبية. ويدل على هذا المطلب أنَّ النبيّ
توسل بالعِلل الطبيعية ، والوسائل والأسباب العادية ( كمبيت شخص في فراش النبيّ
، واختفاء رسول اللّه في الغار وغير ذلك مما سيأتي ذكره ) ، وبهذا الطريق نجّى
رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
نفسه ، وتخلصّ من أيدي اعدائه ، العازمين على إراقة دمه. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ملك الوحي يخبر
رسول اللّه :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد اخبر ملك الوحي « جبرئيل » رسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
بخطة قريش المشؤومة لاغتياله وامره بالهجرة ، وتقرر ـ بغية إفشال عملية الملاحقة
ـ ان يبيت شخصٌ في فراش رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ليتصوّر المشركون أنَّ النبيّ لا يزال في منزله ، ولم يخرج بعد ، وبالتالي
يركّزوا كلّ إهتمامهم على محاصرة البيت ، وينصرفوا عن مراقبة طرقات مكة ،
ونواحيها. ولقد كانت فائدة هذا العمل اي حصر
اهتمام المراقبين ببيت النبيّ انه تسنى لرسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
اغتنام الفرصة والخروج من مكة ، والاختفاء في مكان مّا من دون ان يحس به أحد من
الذين باتوا يراقبون بيته ، ويبغون قتله. والآن يجب أن نرى مَن الّذي تطوَّع
للمبيت في فراش رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم وفدى
النبيّ بنفسه ، ووقاه بحياته؟ ستقولون حتما : إن الّذي سبق جميع
المسلمين إلى الايمان برسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وبقي من بدء بعثته وإلى ذلك الحين يذب عنه ، هو الّذي يتعيَّن أن يضحّي بنفسه في
هذا السبيل ، ويقي رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
بحياته في هذه اللحظة الخطيرة ، وهذا المضحّي بحياته ونفسه ، هو « عليّ » ليس
سواه احد ، انه تقدير صحيح ، وحدس مصيب. فليس غير « علي » يصلح لهذه المهمة
الخطيرة. ولهذا قال رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم لعليّ عليهالسلام : « يا عليّ إنَّ قريشاً اجتمعت عَلى
المكر بي وقتلي ، وإنّه اُوحيَ إليّ عن ربّي أن اهجرَ دار قومي ، فنُم عَلى
فراشي والتحف ببردي الحضرميّ لِتُخفي بمبيتك عَليهم أثَري فما أنت قائل وصانع؟؟ فقال علي عليهالسلام
أوْ تَسلَمَنَّ بِمَبيتي هناك يا نبيَّ اللّه؟ قال : نعم ، فتبسّم عليّ عليهالسلام
ضاحكاً مسروراً وأهوى إلى الأرض ساجداً ، شكراً لما أنبأه رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
من سلامته ، فلما رفع رأسه قال للنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
: إِمض لما اُمرتَ فِداك سمعي وبصري وسويداء
قلبي ، ومُرني بما شئتَ اكن فيه كمسرّتك ، واقع فيه بحيث مرادك ، وإن توفيقي
إلاّ باللّه. ثم رقدَ عليّ عليهالسلام
على فراش رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
واشتمل ببرده الحضرمي الاخضر ، ولما مضى شطرٌ من الليل حاصرَ رَصَدُ قريش ـ وهم
اربعون رجلا ـ بيت رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وقد جرّدوا سيوفَهم ، ينتظرون لحظة الهجوم على النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
ويتطلّعون إلى داخل البيت من فرجة الباب بين الحين والآخر ليتأكدوا من بقاء رسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
في مضجعه ، فيظنون أنَّ النائمَ فى الفراش هو النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وهنا أراد النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
أن يخرج من بيته. فمن جانب يحاصر الأعداءُ بيته صلىاللهعليهوآلهوسلم
من كل جانب ، ويراقبون كلّ شيء ، ومن جانب آخر تعلّقت مشيئة اللّه تعالى وارادته
القاهرة الغالبة أن ينجو رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
من ايدي تلك الزمرة المنحطة ، فقرأ رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
سورة ( يس ) لمناسبة مطلعها لظروفه حتّى بلغ إلى قوله تعالى : « فهم لا يبصرون »
(يس : 9.)
وخرج من باب البيت دون ان يشعر به رصدُ قريش المكلّفون بقتله ، وذهب إلى المكان
الّذي كان من المقرر ان يختبيء فيه على النحو الّذي سيأتي تفصيله. وأما كيف استطاع رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ان يخترق الحصار البشريَ المشدَّد الّذي ضُرِبَ على بيته ، ويتجاوز رصدَ قريش من
غير ان يشعروا به فذلك غير معلوم جيداً. إلاّ أنه يستفاد من رواية نقلها
المفسرُ الشيعيُ المعروفُ المرحومُ عليُ بن ابراهيم في تفسيره : قول اللّه تعالى
: « وَإذْ يَمْكُرُ بِك الذين
كَفَرُوا » ان رجال قريش كانوا نياماً ينتظرون
الفجر عند خروج رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ولم
يكونوا يتصوّرون أن رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم قد عرف
بتدبيرهم ومؤامرتهم. ولكن يصرّح غيره من المؤرّخين
وكُتّاب السيرة (الطبقات الكبرى : ج 1 ، ص 228 ، تاريخ الطبري : ج 2 ، ص 100.)
بان
المحاصرين لمنزل النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم كانوا
يقظين حتّى لحظة الهجوم على بيت رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم وان النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
خرج من البيت عن طريق الاعجاز والكرامة من دون ان يروه ويحسوا به. إن امكان وقوع مثل هذه الكرامة ليس
موضع شك ، ولكن هل كان هناك ما يوجب ذلك؟؟ ان دراسة قصة الهجرة بصورة كاملة
تجعل هذه المسألة أمراً قطعياً وهي أنَّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم كان عارفاً بمؤامرة القوم قبل محاصرة
بيته ، وكان قد دبّر ورسم لنجاته خطةً طبيعيةً عاديةً ، ولم يكن في الأمر اي
اعجاز. لقد كان يريد صلىاللهعليهوآلهوسلم
باضجاع علي عليهالسلام في فراشه
أن ينجو بنفسه من أيدي المشركين من الطرق العادية والقنوات الطبيعية من غير
الاستعانة بالاعجاز والكرامة. وعلى هذا كان في مقدور النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
ان يتحسب لمسألة المحاصرة والطوق الّذي كان سيُضرَب على بيته من أوائل الليل ،
وذلك بمغادرة بيته قبل المحاصرة وقبل الغروب. ولكن يمكن ان يكون لتوقّف النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
في البيت حتّى ساعة المحاصرة علة لا نعرفها الآن. من هنا يكون إدّعاء هذا الموضوع ( وهو خروج النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم من البيت في الليل )
غير مقطوع به لدى الجميع لاعتقاد البعض بان رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
غادر منزله قبل فرض الحصار عليه ، وقبل غروب الشمس
(السيرة الحلبية : ج 2 ، ص 29.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إقتحام الاعداء
لبيت الوحي :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
طوّقت قوى الكفر مهبط الوحي وبيت
الرسالة وباتت تنتظر لحظة الإذن في إقتحامه ، والهجوم على النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
في فراشه وضربه وتقطيعه بالسيوف إرباً إرباً! وقد أصرّ جماعة منهم أن ينفّذوا
خطتهم المشؤومة هذه في منتصف الليل وقبل الفجر فمنعهم أبو لهب من ذلك وقال : لا
أدعكم أن تدخلوا عليه بالليل ، فإنَّ في الدار صبياناً ونساءً من بني هاشم ، ولا
نأمن أن تقع يدٌ خاطئة ، فنحرسه الليلة ، فإذا أصبحنا دخلنا عليه. وربما يقال أن علّة التأخير هي أنهم
أرادوا أن يقتلوا رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
عند الصباح أمام أعين بني هاشم حتّى يروا أن قاتله جماعة وليس واحداً. وانقشع الظلام شيئاً فشيئاً ، وانفجر
الصبحُ ، ودبّ في المشركين شوقٌ غريبٌ ، مع اقتراب ساعة الصفر ، فقد كانوا
يتصوّرون بأنهم سينالون ما يريدون قريباً ، وبينما هم ينتضون سيوفهم دخلوا حجرة
رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وبينما هم يهمّون بأخذ من كان راقداً في الفراش بسيوفهم ، إذا بهم يواجهون علياً
عليهالسلام يثب في وجوهم وهو يكشف
عن نفسه برد رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
الأخضر ، وقال لهم في منتهى الطمأنينة والشجاعة : ما شأنكم؟ وماذا تريدون؟؟ فقالوا له بغضب : أين محمّد؟ فقال عليهالسلام
: اَجَعَلتموني عليه رقيبا؟! فغضِبَ القوم غضَباً شديداً ، وكاد
الغيظ يخنقهم ، فقد ندموا على إنتظارهم انفجار الصبح وحمّلوا أبا لهب الّذي
منعهم من تنفيذ الهجوم على النبيّ في منتصف الليل فشل الخطة وتفويت الفرصة ،
فاقبلوا عليه يلومونه ويوبخونه!! أجل لقد انزعجت قريش بشدة لفشل هذه
المؤامرة ، ووجدوا انفسهم أمام هزيمة نكراء بدّدت كلّ أحلامهم ، وحيث أنهم كانوا
يتصوّرون بأن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
لا يستطيع الخروج عن حدود مكة في مثل تلك المدة القصيرة فهو إما مختبئ في مكة ،
أو أنه لا يزال في طريق المدينة ، لذلك أقدموا فوراً على العمل على ترتيب أمر
ملاحقته والقبض عليه. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
النبيُّ في غار ثور
:
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ان ما هو مسلّم به هو أن رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
أمضى هو وأبوبكر ليلة الهجرة وليلتين اخريين بعدها في غار ثور الّذي يقع في جنوب
مكة في النقطة المحاذية للمدينة المنورة (حيث ان الطريق المؤدي إلى المدينة تقع في شمال مكة ، فاختبأ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم في منطقة مقابلة أي في اسفل
مكة ، ليعمي بذلك على قريش فلا يتبعوا أثره.).
وليس من الواضح كيف تمت هذه المصاحبة
والمرافقة ولماذا ، فان هذه المسألة من القضايا التاريخية الغامضة. فان البعض يعتقد بان هذه المصاحبة
كانت بالصدفة ، فقد رأى رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
أبابكر في الطريق ، فاصطحبه معه إلى غار ثور. وروى فريق آخرٌ أن رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ذهب في نفس الليلة إلى بيت أبي بكر ، ثم خرجا معاً في منتصف الليل إلى غار ثور (تاريخ الطبري : ج 2 ، ص 100.).
وقال فريق ثالث : أن أبابكر جاء هو
بنفسه يريد النبيّ وكان صلىاللهعليهوآلهوسلم
قد خرج من قبل فأرشدهُ « عليّ » إلى مخبأ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وعلى كل حال فان كثيراً من المؤرخين
يعُدّون هذه المصاحبة من مفاخر الخليفة ومناقبه ، ويذكرون هذه الفضيلة ويتحدثون
عنها بكثير من الاسهاب والاطناب ، وبمزيد من الاكبار والاعجاب. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
قريش تفتش عن
النبيّ :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد تسبب فشل قريش في تغيير خطتها ،
فقد بادرت إلى بث العيون والجواسيس في طرقات مكة ، ومراقبة مداخلها ومخارجها
مراقبةً شديدةً ، وبعثت القافّة تقتص أثره في كل مكان ، وفي طريق مكة ـ المدينة
خاصة. ومن جانب آخر جعلت مائة ابل لمن يأخذ
نبي اللّه ، ويردّه عليهم أو يأتي عنه بخبر صحيح. وعمد جماعةٌ من قريش إلى ملاحقة رسول
اللّه والتفتيش عنه في شمال مكة ، حيث الطريق المؤدي إلى المدينة ، على حين أن
رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
كان قد اختبأ ـ كما قلنا ـ في نقطة بجنوب مكة لافشال عملية الملاحقة. وتصدت مجموعة اُخرى لتتبع أثر قدم
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
ورفيقه!! وكان الّذي يقفو لهم الأثر يدعى أبا
مكرز فوقف بهم على باب حجرة رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
فقال هذه قدم محمّد ، فما زال بهم حتّى أوقفهم على باب الغار فانقطع عنه الأثر
فقال : ما جاوز محمد ومن معه هذا المكان ، إما أن يكونا صعدا إلى السماء أو دخلا
تحت الأرض ، فان بباب هذا الغار ـ كما ترون عليه ـ نسجُ العنكبوت والقبجة حاضنة
على بيضها بباب الغار (الطبقات الكبرى : ج 1 ، ص 229 تاريخ الخميس ، ج 1 ، ص 327 ـ 328
وغيرها ، ولقد ذكر عامة المؤرخين هذه الكرامة هنا ، ولا ينبغي ـ نظراً لما
ذكرناه في قصة الفيل وهلاك ابرهة وجنده بواسطة الابابيل ، تأويل مثل هذا
الكرامات.)
،
فلم يدخلوا الغار. ولقد استمرت هذه المحاولات بحثاً عن
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
ثلاثة أيام بلياليها ولكن دون جدوى ، فلما يئس القوم بعد ثلاثة ايام من السعي
تركوا التفتيش وكفوا عن الملاحقة. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
التفاني في سبيل
الحق :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ان النقطة المهمة في هذه الصفحة من
التاريخ هي ما قام به علي عليهالسلام من
تفان في سبيل الحق ، والحقيقة. إن التفاني في سبيل الحق من شيمة
الرجال الذين أحبّوا الحق وعشقوه بكل وجودهم وكيانهم. إن الذين يغضون نظرهم عن كلّ شيء من
أشياء الدنيا ويضحُّون بالنفس والمال والشخصية ، ويستخدمون كل طاقاتهم المادية
والمعنوية في سبيل خدمة الحق ، واحيائه ، واقامته هم ولا شك من عشاق الحق
والحقيقة الصادقين. انهم يرون كمالهم وسعادتهم في هدفهم
، وهذا هو الّذي يدفعهم إلى أن يصرفوا النظر عن الحياة العابرة ، والعيش الموقت
، ويلتحقوا بركب الحياة الواقعيّة الأبدية. إنّ مبيت عليّ عليهالسلام
في فراش رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
في تلك الليلة الرهيبة لَنمُوذجٌ بارزٌ من هذا الحبّ الحقيقيّ للحق ، والعشق
الصادق للحقيقة ، فان الدافع وراء التطوّع لمثل هذه المهمة الخطيرة لم يكن إلاّ
حبّ « عليّ » لبقاء الإسلام الّذي يكفل سعادة المجتمع ، ويضمن ازدهار الحياة ،
لا غير. إن لهذه التضحية والتفاني من القيمة
العظمى بحيث مدحها اللّه تعالى في كتابه العظيم ، ووصفها بأنها كانت تضحية صادقة
لكسب مرضاة اللّه ، فان الآية التالية نزلت ـ حسب رواية اكثر المفسرين ـ في هذا
المورد : « وَمِنَ
النّاسِ مَنْ يَشْري نَفْسَهُ ابْتِغآء مَرْضاتِ اللّهِ وَاللّهُ رؤوفٌ بِالْعِباد
» (البقرة : 207.).
ان عظمة هذه الفضيلة واهمية هذا
العمل التضحويّ العظيم دفعت بكبار علماء الإسلام إلى اعتبارها واحدة من أكبر
فضائل الامام علي عليهالسلام
وإلى أن يَصِفُوا بها علياً بالفداء والبذل والايثار ، وإلى أن يعتبروا نزول
الآية المذكورة في شأنه من المسلّمات كلّما بلغ الحديث في التفسير والتاريخ
اليها (ـ مسند احمد : ج 1 ، ص 87 ، وكنز العمال : ج 6 ، ص 407 ، وقد نقل
كتاب الغدير : ج 2 ، ص 47 ـ 49 طبعة لبنان مصادر نزول هذه الآية في شأن علي عليهالسلام
على نحو التفصيل ، فراجع.).
إنَّ هذه الحقيقة مما لا ينسى أبداً
فانه من الممكن اخفاء وجه الواقع والتعتيم عليه بعض الوقت إلا أنه سرعان ما تمزق
أشعةُ الحقيقة الساطعة حجبَ الاوهام ، وتخرج شمس الحقيقة من وراء الغيوم. إنّ معاداة معاوية لأهل بيت النبوة
وبخاصة للامام أمير المؤمنين عليهالسلام
مما لا يمكن النقاش فيه. فقد أراد هذا الطاغية من خلال تطميع
بعض صحابة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
أن يلوّث صفحات التاريخ اللامعة ويخفي حقائقه بوضع الاكاذيب ، ولكنه لم يحرز في
هذا السبيل نجاحاً. فقد عمد « سمرة بن جندب » الّذي ادرك
عهد رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ثم انضمّ بعد وفاته صلىاللهعليهوآلهوسلم
إلى بلاط معاوية بالشام ، عمد إلى تحريف الحقائق لقاء اموال أخذها من الجهاز
الأموي ، الحاقد على أهل البيت. فقد طلب منه معاوية باصرار أن يَرقى
المنبر ويكذّب نزول هذه الآية في شأن علي عليهالسلام
، ويقول للناس أنها نزلت في حق قاتل عليّ ( أي عبد الرحمان بن ملجم المرادي ) ،
ويأخذ في مقابل هذه الاكذوبة الكبرى ، وهذا الاختلاق الفضيع الّذي أهلك به دينه
مائة ألف درهم. فلم يقبل « سمرة » بهذا العرض ولكن
معاوية زاد له في المبلغ حتّى بلغ اربعمائة ألف درهم ، فقبل الرجل بذلك فقام
بتحريف الحقائق الثابتة ، مسوداً بذلك صفحته السوداء اكثر من ذي قبل وذلك عند ما
رقى المنبر وفعل ما طلب منه معاوية (لاحظ شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد : ج 4 ، ص 73.).
وقبل السامعون البسطاء قوله ، ولم
يخطر ببال أحد منهم أبداً ان ( عبد الرحمان بن ملجم ) اليمنيّ لم يكن يوم نزول
الآية في الحجاز بل لعلّه لم يكن قد وُلِدَ بعد آنذاك. فكيف يصح؟! ولكن الحقيقة لا يمكن ان تخفى بمثل
هذه الحجب الواهية ، ولا يمكن ان تنسى بمثل هذه المحاولات العنكبوتية الرخيصة. فقد تعرّضت حكومة معاوية وتعرض أهلها
وانصارها للحوادث ، واندثرت آثار الاختلاق والافتعال الّذي وقع في عهده المشؤوم
، وطلعت شمس الحقيقة والواقع من وراء حجُبُ الجهل والافتراء مرة اُخرى ، واعترف
اغلبُ المفسرين الأجلّة (شرح نهج البلاغة : ج 13 ، ص 262 ، ولقد أعطى ابن ابي الحديد حقّ
الكلام حول هذه الفضيلة.)
والمحدّثين الافاضل ـ في العصور والادوار المختلفة ، بأن الآية المذكورة نزلت في
« ليلة المبيت » في بذل علي عليهالسلام
ومفاداته النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
بنفسه (سمرة بن جندب من العناصر المجرمة في الحكومة الاموية ، ولم يكتف سمرة
بتحريف الحقائق وقلبها بما ذكرناه ، بل أضاف إلى ذلك ـ حسب رواية ابن ابي الحديد
ـ أمراً آخر أيضاً إذ قال : ونزل في شأن « عليّ » قول اللّه : « وَمِنَ الناس من
يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ في الحَياةِ الدُنيا ويشهدُ اللّه على ما في قلبهِ وَهُو
ألَدُّ الخِصام » ( البقرة : 204 ومن جرائم هذا الرجل انه قتل يوم وُلّيَ البصرة
على عهد زياد بن أبيه العراق ثمانية آلاف ممّن كانوا يحبون أهلَ البيت ويوالونهم
وعندما سأله معاوية : هل تخاف ان تكونَ قد قتلتَ أحداً بريئاً؟ أجاب قائلا : لو قتلتُ
اليهم مثلَهم ما خشيت!! هذا ومخازي هذا الرجل اكثر
من ان تستوعبه هذه الصفحات القلائل. وسمرة هذا هو ذلك الرجل
الصلف الجاف الّذي رد على رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم طلبَه بأن يراعي حقَّ جاره في
قضية النخلة مراراً فقال له رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم : « إنك رجل مضارّ ولا ضرر
ولا ضرار في الإسلام » ولمزيد التوضيح راجع كتب الحديث والتراجم والتاريخ. ).).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
كلام من ابن تيمية
:
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
احمد بن عبد الحليم الحرّاني
الحنبليّ الّذي مات في سجن بدمشق عام 728 من علماء السنّة ، تعود إليه اكثر
معتقدات الوهابيين ، وأفكارهم. ولابن تيمية هذا آراء ومواقف خاصة من
النبيّ الاكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم
وأميرالمؤمنين ، وعامة أهل بيت النبوة ، وقد صرح باكثر آرائه ومعتقداته هذه في
كتابه « منهاج السنة ». وقد دفعت عقائدُه المنحرفة وآراؤه
الضالّة الكثر من علماء عصره إلى تكفيره ، والتبرّي منه. ولابن تيمية رأي عجيب حول هذه
الفضيلة نذكره للقارئ الكريم مع تصرف بسيط في الألفاظ (راجع السيرة الحلبية : ج 2 ، ص 263 وسبعة الجاحظ في العثمانية.).
ومن المؤسف ان يكون قد تأثر بآرائه
بعض السذّج والجاهلين ، فنجدهم يشيعون آراءه في المجتمع من دون تحقيق فيما قال ،
ومن دون مراجعة ذوي الاختصاص لمعرفة رأيهم في أفكاره ومعتقداته وهم غافلون عن
أنّ مثل هذه الآراء قد صدرت من منحرف وكذّبه بل وكفّره بسببها أهل مذهبه. هذا واليك خلاصة رأيه في فضيلة «
المبيت ». يقول : ان مبيت « عليّ » في فراش
رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
لا تعدّ الأوّل :
إخبار رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
الصادق المصدِّق نفسه ايّاه بذلك إذ قال له في نفس تلك الليلة : « نَمْ في
فِراشي فإنه لا يَخْلُصُ إليكَ شيء تكرَهُهُ »!!. الثاني :
أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
كلّفه بردّ الودائع واداء الامانات الّتي أودعها أهل مكة عند رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
، إلى أصحابها. فعلم ـ من ذلك ـ أنهُ لن يُقتل والا
لكلّفَ رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
الآخرين بها. فعرف « عليٌ » من هذا التكليف أنه لن
يلحقه أذىً في هذه العمليّة وانه سيوفَّق لأداء ما كلّفَهُ به رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم.
الجواب : وقبل أن نجيب عن هذا
الكلام على نحو التفصيل نقول إجمالا : إن ابن
تيميّة بانكاره هذه الفضيلة أثبت فضيلة أعلى لعليّ عليهالسلام
لأنه إمّا كان ايمان عليّ بصدق مقالة الرسول كان ايماناً عادياً ، وإما أن كان
إيماناً قوياً جدّاً ، وكانت جميع اقوال النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
وإخباراته لديه ـ في ضوء ايمانه ـ كالنهار في وضوحه. وعلى الفرض الأوّل لم يكن لعليّ
يقينٌ بنجاته من تلك الواقعة لأنه لا يحصل لمثل هذه الطبقة من الناس ( ولا شك أن
عليّاً ليس منهم حتماً ) يقينٌ من كلام النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
، وحتّى لوقبلوا به في الظاهر ، فانهم سيساورهم القلق ، ولا يفارقهم الاضطراب ،
وإذا هم باتوا في فراشه في لحظات الخطر ، فانه سيبقون فريسة الخوف والوجل وستمرّ
في نفوسهم إحتمالاتٌ كثيرةٌ حول مآل الأمر ومصيره ، وسيتمثل أمامهم شبح الموت
المرعب في كل لحظة وآن. وعلى هذا الفرض لابد
أن يقال : بأنَّ عليّاً عليهالسلام
لم يقدم على هذا الأمر الخطير إلاّ وهو يحتمل الهلاك على أيدي المشركين ، لا أنه
بات وهو يتيقن وأما بناءً على الفرض
الثاني فانه تثبت لعليّ عليهالسلام
فضيلة أعلى واعظم ، لأن ايمانَ الرجل يجب ان يبلغ من القوة والكمال بحيث لا
يفرّق بين صدق كلام النبيّ وبين وضوح النهار أي أنهما يكونان عنده بمنزلة سواء. ولا شك ان أهمية مثل هذا الايمان لا
يمكن أن يعادِلها شيء. ونتيجة هذا الايمان هي أن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
عند ما قال له : نَم في فراشي فلن يصيبك من هجوم الاعداء الحاقدين مكروهٌ ، أن
ينام في فراش النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
بقلب واثِق بالسلامة ، ونفس مطمئنّة إلى النجاة ، ومن دون أن يخالج نفسَهُ أقل
إحتمال للخطر. ولو كان مراد ابن تيمية
من قوله : ان عليّاً كانَ واثقاً من سلامته ، لأن الصادق
المصدَّق أخبره بذلك هو : إثبات أعلى درجات الإيمان لعليّ عليهالسلام
فقد اثبت له عليهالسلام من حيث لا
يشعر اكبر فضيلة ، وأعلى منقبة ، وهي كمال الايمان والثقة برسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وأخباره. هذا هو الجواب
الاجمالي واليك الجواب التفصيلي : |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الجواب التفصيلي :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
فنقول عن الدليل الأول
:
إن عبارة « لا يخلص اليك شيء تكرهه » لم ينقلها بعض أرباب السيرة ورجال علم
التاريخ الذين لهم سابقة لا تنكر في هذا الصعيد (مثل مؤلّف الطبقات الكبرى : ج 1 ، ص 227 و 228 المولود عام 168
والمتوفى عام 230 ، وكذا المقريزي في امتاع الاسماع ، عند ذكرهم لتفاصيل قضية
المبيت.).
نعم روى ابن الاثير المتوفى عام 630 (التاريخ الكامل : ج 2 ، ص 72.)
،
والطبري المتوفى عام 310 (تاريخ الطبري : ج 2 ، ص 99.)
هذه
العبارة وكأنّما قد أخذاها عن ابن هشام في سيرته (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 483.)
الّتي
نقل فيها تلك العبارة بالصورة المتقدمة الذكر ، خاصة أنّ عبارة ذينك المؤلّفين (
الطبري وابن الأثير ) تطابق عبارة ابن هشام في هذا المجال تماماً. هذا مضافاً إلى أنّ القضية لا توجد
بهذه الصورة في مؤلفات علماء الشيعة على ما نعلم. ولقد نقل شيخُ الطائفة الامامية
محمّد بن الحسن الطوسيّ المتوفى عام 460 في أماليه قصة الهجرة بشكل اكثر تفصيلا
ودقة ، وذكر العبارة المذكورة مع تغيير بسيط ، الاّ أنه تختلف صورة القضيّة مع
ذلك عما هي عليه في كتب أهل السنة ، فانه رحمهالله
يصرّح بان عليّاً عليهالسلام
انطلق هو و « هندبن أبي هالة » ابن خديجة وربيب رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
في منتصف الليل بعد ليلتين من الهجرة حتّى دخلا على النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم
لعليّ : « إنّهم لن يَصِلُوا مِنَ الآن إليك
يا علي بأمر تكرهه حتّى تقدم عليّ » (الأمالي : ج 2 ، ص 84.).
وهذه الجملة تشبه الجملة الّتي ذكرها
ابن هشام والطبري وابن الأثير ، ولكن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
قالها لعليّ عليهالسلام مطمئِناً
إِياه بعد ليلتين من المبيت في الفراش ، وليس ليلة المبيت كما يروي الثلاثة
المذكورون. هذا علاوة على أنّ
كلام علي نفسه خير شاهد على ما نقول : فلقد عدّ عليّ عليهالسلام
عمله هذا ( أي المبيت في فراش رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
في تلك الليلة الرهيبة ) نموذجاً من بذله وتفانيه في سبيل الحق كما يتضح ذلك
بجلاء من اشعاره حيث يقول :
المصدر السابق وغيره ، هذا
مضافاً إلى أنَّ الامام عليهالسلام نفسه قد استنشد المسلمين مراراً بهذه
القضية مستدلا بها على تفانيه في سبيل الإسلام. ومع هذه العبارات الصَريحة لا مجال للاعتماد
على قول ابن هشام الّذي تدل قرائنُ كثيرةٌ على خطأه ، ويُحتمل ، احتمالا قوياً ،
بأن اشتباهه وخطأه قد نشأ من تلخيصه لسيرة ابن اسحاق ، وحيث أنه ( ونعني ابن
هشام ) قد بنى في سيرته على الاختصار لذلك اكتفى بنقل أصل العبارة ، مهملاً ظرف
النطق بها لعدم أهمية زمن النطق بها وأنها قيلت في الليلة الثانية أوالثالثة ،
في نظره ، وروى الموضوع بنحو يوهم بان جميع هذه الامور وقعت في ليلة واحدة!! ويؤيد رأينا هذا أيضاً الحديث
المعروف الّذي رواه كثيرٌ من علماء السنة والشيعة وهو : أن اللّه أوحى إلى
جبرئيل وميكائيل عليهماالسلام
أنّي قد آخيت بينكما وجعلت عمر احدكما أطول من عمر صاحبه فأيكما يؤثر أخاه. وكلاهما كره الموت ، فاوحى اللّه
إليهما : عبداي ألا كنتما مثل وليي « عليّ » آخيت بينه وبين « محمّد » نبيي
فآثره بالحياة على نفسه؟ أو قال : قد نام على فراشه يقيه بمهجته. ثم أمرهما بالهبوط إلى الأرض وحراسة
عليّ وحفظه من عدوه (بحار الأنوار : ج 19 ، ص 39 نقلا عن احياء العلوم للغزالي.).
واما الدليل الثاني الّذي يستفيد منه
ابن تيمية أن عليّاً كان يعلم بمصيره هو توصية النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
له بأداء الامانات والودائع إلى أهلها ، الّتي كانت تَكشف عن ان رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
كان يعلم بأنه لن يصلَ إليه مكروهٌ ، ولهذا امره بردّ الودائع والامانات إلى
أصحابها. ولكنّنا نعتقد ان في مقدورنا الحصول
على حلٍّ لهذه المشلكة إذا استعرضنا بقية قصة الهجرة بشكل صريح وكامل. واليك بقيّة قصة
الهجرة. الخطيب وقضية المبيت :
وينبغي أن نختم هذا الفصل بما كتبه
الاستاذ عبدالكريم الخطيب حول مبيت علي عليهالسلام
في فراش رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم حيث قال : لقد دعا رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم عليّاً الهجرة ، وطلب إليه أن يبيت في
المكان الّذي اعتاد الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم
أن يبيت فيه ، وان يتغطى بالبرد الحضرميّ الّذي كان النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم يتغطى به حتى إذا نظر ناظر من قريش
إلى الدار رأى كأنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم نائم في
مكانه مغطى بالبرد الّذي يتغطى به ، وهذا الذي كان من عليّ في ليلة الهجرة إذا
نظر إليه في مجرى الاحداث الّتي عرضت للامام علي في حياته بعد تلك الليلة فانه
يرفع لعيني الناظر أمارات واضحة واشارات دالة على ان هذا التدبير الّذي كان في
تلك الليلة لم يكن أمراً عارضاً بل هو عن حكمة لها آثارها ـ إلى ان قال ـ انه
إذا غاب شخص الرسول كان علىٌ هو الشخصية المهيّأة لأن تخلفه وتمثّل شخصه وتقوم
مقامه ، حين نظرنا إلى عليّ وهو في برد الرسول وفي مثوى منامه الّذي اعتاد أن
ينام فيه فقلنا : هذا خَلَفُ الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم والقائم
مقامه (راجع كتاب علي بن أبي طالب بقيّة النبوّة وخاتم الخلافة ، ص 103 ـ
105 ملخّصاً.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
بقية قصةِ هجرةِ
النبيّ :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
انتهت المراحلُ الاُولى لنجاة رسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وفق تخطيط صحيح ، بنجاح ، فقد لجأ رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم في منتصف اللّيل إلى غار ثور ، واختبأ
فيه ، وبذلك أفشل محاولة المتآمرين عليه. ولقد كان رسول اللّه
صلىاللهعليهوآلهوسلم
طوال
هذا الوقت مطمئناً لا يحسُّ في نفسه بأيّ قلق أو إظطراب ، حتّى انه طمأن رفيقَ
سفره عندما وجده مضطرباً في تلك اللحظات الحساسة بقوله : « لا تَحْزَنْ اِنَّ اللّه مَعَن
» (التوبة
: 40.).
وبقي هناك ثلاث ليال محروساً بعين
اللّه تعالى ومشمولا بعنايته ولطفه ، يقول ابن الاثير : كان
عبد اللّه بن ابي بكر يتسمَّع لهما بمكة نهاره ثم يأتيهما ليلا ، وكان يرعى غنمه
نهاره على مقربة من الغار ، وكان إذا غدا من عندهما عفى على أثر الغنم (الكامل في التاريخ : ج 2 ، ص 73 مع تصرف.).
يقول الشيخ الطوسي في
أماليه : عند ما دخل علي عليهالسلام
وهند على رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
في الغار ( بعد ليلة الهجرة ) أمر رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
عليّاً أن يبتاع بعيرين له ولصاحبه ، فقال أبو بكر : قد كنتُ أعددت لي ولك يا
نبي اللّه راحلتين نرتحلهما إلى يثرب. فقال رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم : إني لا آخذهما ولا أحدهما إلاّ
بالثمن. ثم أمر صلىاللهعليهوآلهوسلم
عليّاً عليهالسلام فدفع إليه
ثمن البعيرين (ـ أمالي الشيخ : ج 2 ، ص 82.).
وكان من جملة وصايا رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
لعليّ عليهالسلام في الغار
في تلك الليلة ان يؤدي أمانته على أعين الناس ظاهراً وذلك بأن يقيم صارخاً
بالابطح غدوة وعشياً : ألا من كان له قبل محمّد أمانة أو وديعة فليأت فلنؤدِ
إليه أمانته (الكامل : ج 2 ، ص 73. السيرة الحلبية : ج 2 ، ص 53.).
ثم أوصاه صلىاللهعليهوآلهوسلم
بالفواطم ( والفواطم هن : فاطمة الزهراء بنت رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم الحبيبة لديه ، والأثيرة عنده ،
وفاطمة بنت أسد اُمّ عليّ عليهالسلام
وفاطمة بنت الزبير ومن يريد الهجرة معه من بني هاشم ) ، وأمره بترتيب أمر
ترحيلهم معه إلى يثرب وتهيئة ما يحتاجون إليه من زاد وراحلة. وهنا قال صلىاللهعليهوآلهوسلم عبارته الّتي تذرَّع بها ابن تيمية
في دليله الأول : « انهم لن يصلوا من الآن اليك يا عليّ بامر تكرهه حتّى تقدم
عليَّ ». فالملاحظ للقارئ هو
أن رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
إنما قال هذه العبارة عندما أمره باداء أمانته ، وذلك بعد انقضاء قضية ليلة
المبيت. أي انه أمر علياً بذلك
، وقال له تلك العبارة وهو يتهيّأ للخروج من غار ثور. يقول الحلبي في سيرته : « وصى رسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
في احدى الليالي وهو بالغار علياً رضي اللّه عنه بحفظ ذمته واداء امانته ظاهراً
على اعين الناس » (السيرة الحلبية : ج 2 ، ص 35.).
وثم ينقل عن مؤلف كتاب « الدر » ما
يقتضي انه اجتمع به عند خروجه من الغار. وخلاصة القول : انه
مع رواية شيخ جليل من مشائخ الشيعة الامامية كالشيخ الطوسي بالاسناد الصحيحة أن
الأمر بردّ الودائع والامانات صدر من جانب النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى عليّ عليهالسلام
بعد ليلة المبيت لا يحقّ لنا أن نعارض هذا النقل الصحيح ، ونعمد إلى الهاء
العامة بالتوافه ، وأما رواية مؤرخي اهل السنة هذا المطلب بشكل آخر يوحي ظاهرُه
بأن جميع وصايا النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
لعليّ تمت في ليلة واحدة هي ليلة الهجرة ( ليلة المبيت ) فقابلٌ للتفسير
والتوجيه ، لأنه لا يبعد أن عنايتهم كانت مركزة على رواية أصل الموضوع ، ولم يكن
لظرف صدور هذه الوصايا والأوامر ووقت بيانها اهمية عندهم. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الخروج من الغار :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
هيّأ علي عليهالسلام
بأمر النبيّ ثلاث رواحل ودليلا امينا يدعى أريقط ليترحلوها إلى المدينة ،
ويدلّهم الدليل على طريقها وأرسل كل ذلك إلى الغار. ولما سمع النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم رغاء البعير أو نداء الدليل نزل هو
وصاحبه من الغار وركبا البعيرين وتوجها من أسفل مكة إلى « يثرب » سالكين إلى ذلك
الخط الساحلي ، وقد جاء ذكر المنازل الّتي مرّا بها في السيرة النبوية لابن هشام
(السيرة النبوية لابن هشام : ج 1 ، ص 491.)
وفي
الهوامش المثبتة على التاريخ الكامل لابن الاثير (الكامل في التاريخ : ج 2 ، ص 75.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
صفحةُ التاريخ
الاُولى :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
اجل لقد حلّ الظلام في كل مكان ،
ولملمت الشمس اشعتّها الذهبية من هذا الوجه من الكرة الأرضية لتوجّهها إلى الوجه
الاخر منها. وعاد جماعة من رجال قريش الذين سلكوا
كل طريق في مكة وضواحيها بحثاً عن النبيّ ، ثلاثة أيام ، بلياليها ، إلى بيوتهم
ومنازلهم متعبين مرهقين ، وقد يئسوا من الئفر بالجائزة ( وهي مائة من الإبل )
الّتي وضعتها سادة قريش جائزةً لمن يأخذ محمّداً أو يدل على مكانه ، واُعيد فتح
طريق مكة ـ المدينة الّتي اُغلقت لهذه الغاية بعد اليأس من الظفر برسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ـ
(تاريخ الطبري : ج 2 ، ص 104.).
وفي هذه اللحظات بالذات بلغ نداء
الدليل الّذي كان يصطحب معه ثلاث رواحل ومقداراً من الطعام ، إلى مسمع رسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ورفيقه وهما في الغار وقد كان يقول بصوت خافت : لابد ان نتخد من ظلام هذا الليل
ستراً ، ونسرع في الخروج من حدود المكيّين ، ونختار طريقاً يقلّ سالكوه ولا
يهتدي إليه أحد. ويبدأ تاريخ المسلمين من العام الّذي
تضمَّن تلك الليلة بالضبط ، وجعل المسلمون يقيسون كل ما يقع من الحوادث بذلك
العام وبذلك يحددون تاريخه وزمان حدوثه. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لماذا أصبح العامُ
الهجريُ مبدأ للتاريخ :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إن الإسلام أكمل الشرائع السماوية
قاطبة ، وقد جاء إلى البشرية بما تتضمنه شريعة موسى وعيسى عليهماالسلام
ولكن بصورة أكمل وبصيغة تطابق وتتمشى مع جميع الظروف والأوضاع. ومع أن السيد المسيح عليهالسلام
وميلاده المبارك يحظى بالاحترام عند المسلمين إلاّ أنّ ميلاده عليهالسلام
لم يُتخَذ لديهم مبدأ للتاريخ ، والتوقيت. وكانت العرب قد جعلت عام الفيل (وهو العام الّذي سيّر فيه أبرهة جيشاً لهدم الكعبة تتقدمة الفيلة. راجع المحبّر : ص 5 ـ 8.) مبدأ
لتاريخها ، وكانت تقيس حوادثها واُمورها إليه فترة من الزمن ، ومع أن رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم كان
قَد وُلِدَ في ذلك العام نفسه ، إلاّ أن المسلمين لم يتخذوه مع ذلك مبدأ للتاريخ
، لأنه لم يكن ينطوي على ما يتصل بقضية الإيمان والإسلام. ولاجل هذا أيضاً لم يتخذوا عام
البعثة مبدء لتاريخ المسلمين أيضاً لأن عدد المسلمين لم يكن يتجاوز في ذلك اليوم
ثلاثة أشخاص ، إِذن فلم يكن في اي واحد من تلك الحوادث ما يعطي مبرراً قوياً
لاتخاذه مبدء للتوقيت والتاريخ ، إذ لابد ان يكون ما يتخذ لذلك قضية مصيرة بالغة
الأهمية. ولكنه في السنة الاولى من الاعوام
الهجرية حقق المسلمون انتصاراً عظيماً وباهراً ، وقد اُسست فيه حكومة مستقلة
وتخلّص المسلمون من التشرذم والتبعثر ، وتمركزت قواهم وعناصرهم في نقطة واحدة ،
وبيئة حرة لا أثرَ فيها للكبت والاضطهاد ، من هنا جعلوا ذلك العام ( أي العام
الّذي تحققت فيه هجرة النبيّ العظيم ) مبدءً لتاريخهم ، واخذوا يقيسون إليه ـ
وحتّى الآن ـ كل ما يحدث ويقع من خير وشر ، لتحديد تاريخ وقوعه. من هنا يكون قد مضى
على عام هجرة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
من مكة إلى المدينة الف واربعمائة وتسعة اعوام. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الهجرة النبوية
مبدأ لتاريخ المسلمين كافة :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ولقد جعل رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
التاريخ الهجريّ بنفسه. وانّ أيَّ إعراض وتجاهل لهذا التاريخ
، واختيار تاريخ آخر مكانه إعراضٌ عن سنة رسول الإسلام الكريم صلىاللهعليهوآلهوسلم
، ومخالفة لما رسمه للمسلمين في هذا المجال. إن وجود تاريخ معين ثابت ( مؤلّف من
السنة والشهر واليوم ) في الحياة الإجتماعية البشرية ، من الاُمور الضرورية
الحيوية بل هو في غاية الضرورة والحيوية ، من أجل أن لا تتوقف عجلة الحياة
الإجتماعية البشرية عن الدوران والحركة بسبب فقدان مقياس زمني ثابت ومعلوم
للامور والحوادث. وتلك حقيقة لا حاجة إلى اقامة
البرهان عليها لأنَّ الاستدلال عليها يكون مثل الاستدلال على الامور البديهية. فهل يكون تنظيم المعاهدات ،
والمواثيق السياسية والعسكرية ، والاتفاقيات ، والعقود الاقتصادية وتحويل وتسديد
السندات والحوالات التجارية ودفع الديون وكتابة الرسائل العائلية من دون ذكر
تاريخ معين فيها أمراً مفيداً؟ كلا حتما ، ودون ريب. فعندما سأل بعض الصحابة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
عن علة اختلاف أشكال القمر ، وانه لماذا يكون هلالا تارة ثم بدراً اُخرى. ثم
يعود إلى سيرته الاُولى هلالا ، نزل الوحيُ الالهي ، يبيّنُ بعض حكمة هذه
الظاهرة الطبيعية إذ قال تعالى : « قل هيَ مواقيت للنّاس » (البقرة : 189 ومطلعها : « يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت ... ».).
أي ان اختلاف اشكال القمر وهيئاته
انما هو لاجل ان يعرف الناسُ به الوقت والتاريخ فيعرفوا في أي يوم من الشهرهم ،
في مبدئه أو منتصفه ، أو منتهاه ، ولكي يعرفوا بواسطة ذلك مواعيد واجباتهم
الشرعية والاجتماعية ، ويعرف الدُّيّان موعد تسلّم دُيونهم ، ويعمَدُ المَدِينون
إلى دفع ما عليهم في وقته ، ويقومَ المؤمنُون بفرائضهم المقيَّدة بالازمنة
والاوقات كالصوم والحج وماشابه ذلك. من هنا لا مجال للنقاش في احتياج كل
اُمة إلى تاريخ معين ثابت محدّد تجعله ملاكاً للتوقيت ، ومداراً لتحديداتها
الزمنية. إنما الكلام هو في ما ينبغي إتباعه
والجري عليه من التواريخ ، وتنظيم المستندات والمكاتبات والمواعيد وفقاً له. وبعبارة اُخرى : إن الكلام إنما هو
في ما ينبغي جعله مبدءً للتاريخ يقاس به كل العُقودِ والاتفاقات من حيث الزمان ،
والتوقيت. فما الّذي يصلح
أوينبغي إتخاذه مبدءً للتاريخ للامة الإسلامية؟ الجواب : إن الاجابة على هذا
السؤال واضحة جداً ، وتلك الاجابة هي : إذا كانت لاُمة من الامم حوادث لامعة
وسوابق مشرقة في حياتها ، وثقافة خاصة بها ، وديناً ومسلكاً مستقلا وشخصيات
علمية وسياسية بارزة ، واحداث ووقائع عظيمة مثيرة ، تبعث على الفخر والاعتزاز ،
ولم تكن كنبتة وحشية نبتت عفواً واعتباطاً من غير قانون ولا جذور كبعض الجماعات
والشعوب الجديدة الظهور الّتي لا ترتكز إلى اُصول ثابتة معلومة. فان على مثل هذه الاُمة أن تتخذ من
أعظم حوادثها الاجتماعية والدينية مبدءً لتاريخها الّذي تقيس ، وتنظم عليه بقية
حوادثها وأعمالها الّتي سبقت تلكم الحادثة العظمى ، أو الّتي وقعت اوتقع بعدها. ومن هنا تكون قد اكسبت شخصيتها
وكيانها قوةً اكبر ، وصانت نفسها من التبعية للشعوب والاُمم الاخرى ، والميعان
والفناء فيها. وإذ لم يكن في تاريخ الاُمة
الإسلامية شخصية أعلى شأناً من شخصية رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
، كما لم يكن هناك حادثة أعظم ، وانفع من حادثة الهجرة النبوية المباركة ، لأن هجرة
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
فتحت ـ في الحقيقة ـ صفحةً جديدةً في حياة البشرية ، فقد خرج رسول الإسلام
واتباعه من بيئة مكة الرازحة تحت الكبت ، إلى بيئة مناسبة حرة مكنّتهم من إحداث
انطلاقة كبرى لم يشهد التاريخُ البشريُ برمّته لها مثلا. فقد استقبل اهلُ المدينة رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ومن هاجر معه من المسلمين إلى يثرب استقبالا حاراً ، ووضعوا تحت تصرّفه كلَّ ما
توفر لديهم من الامكانات والقوى ، فلم يمض زمن إلاّ وتمتع الإسلام بفضل هذه
الهجرة المباركة بتشكيلات سياسية وعسكرية ، واتخذ صورة وشكلَ حكومة قوية لها
وزُنها ، وشأنُها ، وجانبُها المرهوب في شبه الجزيرة العربية ، وسرعان ما نشر
رايته على البسيطة كلها تقريباً ، وأسس حضارةً عظمى لم تر البشرية لها نظيراً. فاذا لم تحدث تلك الهجرة المباركة
المعطاء لقُضي على الإسلام في محيط مكة ، وحُرمَ العالم الانساني من هذا الفيض
العظيم. من هنا ، ولأجل هذا اتخذ المسلمون
هجرة رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
مبدءً لتاريخهم ، ودأبوا على ذلك إلى الآن حيث ينقضي أكثر من ألف وأربعمائة عام
، أي أن هذه الامة الكبرى تركت وراءها إلى هذا اليوم أربعة عشر قرناً من الأمجاد
والمفاخر ، وهي الآن على أعتاب القرن الخامس عشر؟ |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
من الّذي جعل
الهجرة مبدءً للتاريخ؟
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
على العكس مما هو مشهور بين المؤرخين
من أن الخليفة الثاني جعل هجرة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
مبدءً للتاريخ باقتراح وتأييد من الامام أمير المؤمنين علي عليهالسلام وامر بأن
تؤرخ الدواوين ، والرسائل والعهود وما شابه ذلك بذلك التاريخ ، فان الامعان في
مراسلات النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ومكاتباته الّتي هي مدرجة في الأغلب
في كتب التاريخ والسيرة والحديث والسنة ، وكذا غير ذلك من الادلة الّتي سوف
نذكرها في هذه الصفحات يثبت أن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم هو نفسه
أول من اعتمد تلك الحادثة الكبرى كمبدأ للتاريخ ، وكان يؤرّخ رسائله ، وكتبه إلى امراء
العرب ، وزعماء القبائل وغيرهم من الشخصيات البارزة بذلك التاريخ ( أي التاريخ
الهجري ). وها نحن ندرج هنا نماذج من تلك
الرسائل النبوية المؤرخة بهذا التاريخ ، ثم نعمد بعد ذلك إلى استعراض الدلائل
الاُخرى على هذا الأمر ، ونحن نحتمل ان تكون هناك أدلة اُخرى غير ما سنذكره هنا
ـ أيضاً ـ لم نقف عليها. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
نماذج من رسائل
النبيّ المؤرخة :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
1 ـ طلب سلمان من النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
ان يكتب له ولأخيه ( ماه بنداذ ) ولأهله وصية مفيدة ينتفع بها ، فاستدعى رسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
عليّاً وأملى عليه اُموراً ، وكتبها علي عليهالسلام
ثم جاء في آخر تلك الوصية : « وكتب علي بن أبي طالب بأمر رسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
في رجب سنة تسع من الهجرة » (اخبار اصفهان : تأليف ابي نعيم ، ج 1 ، ص 52 و 53.).
2 ـ أدرج المؤرخُ
الشهير « البلاذري » في كتابه « فتوح البلدان » نصَّ معاهدة
رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
مع يهود « المقنا » وذكر أن مصرياً رأى نصَ هذه المعاهدة في جلد أحمر اللون عتيق
وكان قد استنسخَها ، فقرأها لي. ثم نقل البلاذري نص
تلك المعاهدة وقد جاء في نهايتها : « وليس عليكم امير الا من انفسكم أو
من اهل بيت رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وكتب علي بن أبو طالب في سنة تسع » (فتوح البلدان : ص 72.)
ومع أن « أبا طالب » يجب أن يكتب حسب القواعد الادبية في المقام « أبي طالب »
لكونه مضافاً إليه فقد كتب : « علي بن أبو طالب » ولكن مع ذلك ذكر المحققون ان
قبيلة قريش كانت تتلفظ لفظة أب في جميع الموارد ( أي في حالة النصب والرفع
والجرّ ) ب « أبو » وتكتبها كذلك أيضاً ، وقد صرح الاصمعيّ بهذا من بين
الادباء. ويقول البروفيسور « محمّد حميد اللّه
» مؤلف كتاب « الوثائق السياسية » : اني لما كنت في المدينة المنورة في شهر محرم
سنة 1358 وجدت في الكتابة القديمة الّتي في جنوبي جبل سلع في المدينة المنورة «
أنا علي بن أبو طالب » (مكاتيب الرسول : ص 289 ، نقلا عن شرح ملا علي القاري لشفاء القاضي
عياض ، وكذا الوثائق السياسية.).
3 ـ جاء في معاهدة الصلح الّتي نظمها
« خالد بن الوليد » لاهل دمشق ، ونص فيها على احترام دمائهم ، واموالهم وكنائسهم
: « وكتب سنة ثلاث عشرة » (الاموال : طبعة مصر ، ص 297.).
وكلنا نعلم أن دمشق فتحت في أواخر
حياة الخليفة الأوّل. فما يدعيه البعض من ان التاريخ
الهجري قد اتخذ في عهد الخليفة الثاني بارشاد وتأييد من الامام علي عليهالسلام
غير صحيح فان تاريخ ذلك يرتبط بالسنة السادسة عشرة أو السابعة عشرة من الهجرة ،
والحال ان هذه المعاهدة قد نظِّمت ودُوّنت واُرخت بالتاريخ الهجري قبل ذلك بأربع
سنوات. 4 ـ ان كتاب الصلح الّذي كتبه الامام
علي عليهالسلام بأمر رسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
لنصارى نجران مؤرَّخ بالسنة الهجرية الخامسة. فقد جاء في هذه
الرسالة : « وأمر علياً ان يكتب فيه انه كتب
لخمس من الهجرة » (التراتيب الادارية : ج 1 ، ص 181 نقلا عن السيوطي.).
ان هذه الجملة تفيد بوضوح ان النبيّ
الاكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم
هو واضع التاريخ الهجري ومؤسسه الاوّل وهو الّذي أمر علياً عليهالسلام
بان يؤرخ ذلك الكتاب بالتاريخ الهجري في ذيله. 5 ـ جاء في مقدمة الصحيفة السجادية :
قال جبرئيل وهو يفسر رؤيا رآها رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
: « تدور رحى الإسلام من مهاجرك فتلبث بذلك عشر ، ثم تدور رحى الإسلام على رأس
خمس وثلاثين من مهاجرك فتلبث بذلك خمس ، ثم لابد من رحى ضلالة هي قائمة على
قطبها » (مقدمة الصحيفة السجادية ، سفينة البحار : ج 2 ، ص 641.).
6 ـ يروي المحدثون الاسلاميُّون أن رسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
قال لام سلمة : « يُقتَل الحسين بن علي على راس ستين
من مهاجري » (مجمع الزوائد : ج 9 ، ص 190.).
7 ـ قال أنس بن مالك : « حدثنا أصحاب
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
قال : لا تأتي مائة سنة من الهجرة ومنكم عين تطرف »
(تاريخ الخميس : ج 1 ، ص 367.).
8 ـ أرخ أصحاب النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
في ايام حياته الحوادث الإسلامية بهجرته فقالوا : وقع كذا في الشهر كذا من
الهجرة ، مثلا كانوا يقولون : حولت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة في شهر
شعبان ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً أو ثمانية عشر شهراً (نفس المصدر : ج 1 ، ص 368.).
على رأس ثمانية عشر شهراً فرِضَ صوم
شهر رمضان (ـ المغازي : ج 2 ، ص 531 تحقيق الدكتور مارسدن جونس.).
وقال عبد اللّه بن انيس أمير الوفد
الّذي بعثه رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
: خرجت من المدينة يوم الاثنين لخمس
خلونَ من المحرم على رأس أربعة وخمسين شهراً (المغازي : ج 2 ، ص 531.).
وقال محمّد بن سلمة عن غزوة القرطاء
: خرجتُ في عشر ليال خلون من المحرم فغبت تسع عشرة وقدمتُ لليلة بقيت من المحرم
على رأس خمسة وخمسين شهراً (المغازي : ج 2 ، ص 534.).
إنَّ هذا النوع من تاريخ الحوادث
والوقائع يكشف عن ان المسلمين كانوا إلى السنة الخامسة من الهجرة يقيسون الحوادث
بهجرة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ويؤرخون بها عن طريق عدّ الأشهر ، حتّى
إذا كانت السنة الخامسة من الهجرة 9 ـ نقل المحدثون الاسلاميون عن
الزهري قوله : ان رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم لما قدم
المدينة مهاجراً أمر بالتاريخ فكتب في ربيع الأوّل ( اي شهر قدومه المدينة ) (فتح الباري : ج 7 ، ص 208 ، تاريخ الطبري : ج 2 ، ص 288 طبعة دار
المعارف.).
10 ـ روى « الحاكم » عن « ابن عباس »
ان التاريخ الهجري بدأ من السنة الّتي قدم فيها النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
المدينة (مستدرك الحاكم : ج 3 ، ص 13 و 14 وقد صححه على شرط مسلم.).
إن هذه النصوص تحكي عن أنّ قائد
الإسلام الأكبر قد أوضح مسألة التاريخ من اليوم الاول. وانه جعل هجرته مبدأ لذلك
التاريخ. غاية ما هنالك أن هذا التاريخ كان إلى فترة من الزمن يعدُّ بالأشهر ثم
حل العدُّ بالأعوام منذ حلول السنة الخامسة من الهجرة محل العدّ بالاشهر. سؤال : ويمكن ان يسأل سائل : إذا كان حقاً
أن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
هو مؤسس التاريخ الهجري وواضعه الاوّل فماذا نفعل بالخبر الّذي رواه كثيرٌ من
المحدثين والمؤرخين. فانهم يقولون : رفع رجل إلى عمر صكاً
مكتوباً على آخر بدَين يحلّ عليه في شعبان فقال عمر : اي شعبان؟ أمِن هذه السنة
أم الّتي قبلها أم الّتي بعدها؟ ثم جمع الناس ( أي أصحاب رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
) فقال : ضعوا للناس شيئاً يعرفون به حلول ديونهم ... فيقال : أن بعضهم أراد أن
يؤرخوا كما تؤرخ الفرس بملوكهم كلما هلك ملك أرّخوا من تاريخ ولاية الّذي بعده
فكرهوا ذلك. ومنهم من قال : ارخوا بتاريخ الروم
من زمان اسكندر فكرهوا ذلك لطوله أيضاً. وقال آخرون : أرّخوا من مولد رسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وقال آخرون : أرخوا من مبعثه. واشار
علي بن أبي طالب عليهالسلام أن
يؤرخ من هجرته إلى المدينة لظهوره على كل أحد ، فانه أظهر من المولد والمبعث ،
فاستحسن عمر ذلك والصحابة ، فأمر عمر أن يؤرَخ من هجرة رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
(البداية والنهاية : ج 7 ، ص 73 و 74 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي
الحديد : ج 12 ، ص 74. الكامل لابن الاثير : ج 1 ، ص 10.).
الجواب : إنّ هذا القسم من التاريخ لا يمكن
الاستناد إليه في مقابل النصوص الكثيرة الّتي وصفت الرسول العظيم صلىاللهعليهوآلهوسلم
بكونه واضعَ التاريخ الهجري ومؤسسه الأول. هذا مضافاً إلى أنه من الممكن أن
يكون التاريخ الهجري الّذي وضعه النبيّ الكريم صلىاللهعليهوآلهوسلم
قد تعرّض للترك ، وفقد رسميته بمرور الزمن وقلة الحاجة إلى التاريخ ولكن جُدِّد
في زمن الخليفة الثاني ، بسبب اتساع نطاق العلاقات واُعيد الاهتمام به لاشتداد
الحاجة إليه في هذا العهد. التذكير بنقطتين :
1 ـ لا نجد في الاقتراحات الّتي عرضت
على الخليفة في مجال التاريخ أي ذكر للتاريخ المسيحي الّذي يجعل ميلاد السيد
المسيح عليهالسلام مبدءً
للتاريخ. والعلة هي :
أن التاريخ الميلادي ظهر في القرن الرابع الاسلامي بين المسيحيين بعد سلسلة من
المحاسبات التخمينية ، فهو لم يكن رائجاً قبل ذلك. 2 ـ ان البلاد والاقطار الإسلامية
بحاجة اليومَ إلى الوحدة والاتفاق اكثر من اي زمن مضى. ومن مظاهر تلك الوحدة هو السعي
للحفاظ على التاريخ الاسلامي الهجري. ومن هنا يتوجب على الاقطار الإسلامية
ان تقيم كل روابطها ، وعلاقاتها على أساس التاريخ الهجري ، شمسياً كان أو
قمرياً. وان هذا الأمر بحاجة إلى مؤتمر
إسلامي كبير يشترك فيه كبارُ الشخصيات الفكرية الإسلامية من أجل توحيد التاريخ ،
ودراسة السبل الكفيلة بالوصول إلى هذا الأمر ، والتخلّص من التبعية الغربية في
التاريخ. ان
من المؤسف جداً أن تتجاهل بعض الدول الإسلامية والعربية التاريخَ الهجري وتعتمد
التاريخ الميلادي المسيحيّ ، حتّى أن شيخ الجامع الازهر الّذي يشكل قمة القيادة
الدينية في المجتمع السني يؤرخ رسائله بالتاريخ الميلادي ، ولا يذكر إلى جانبه
التاريخ الهجري على الأقل!! (وقد رأيت أنا شخصياً رسالةً من شيخ الجامع الأزهر
الاسبق هو الشيخ محمود عبد الحليم وعليها التاريخ الميلادي فحسب!!)
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
مؤامرة الطاغوت :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وكانت ايران من الاقطار الإسلامية
الّتي حافظت بشدة على التاريخ الهجري ، واعتمدته في اعمالها ، ولكن في المؤامرة
الّتي نفّذت بواسطة الطاغية المقبور في عام 1399 هـ ، استبدلت التاريخ الهجري
بالتاريخ الشاهنشاهي واُعلن في وسائل الاعلام عن وجوب اعتماد هذا التاريخ
المختلَق بدل التاريخ الهجري الاصيل!! ولقد تصوَّر الطاغوتُ الأرعن أنه
يستطيع بحذف التاريخ الهجري ، واستبداله بالتاريخ الشاهنشاهي المشؤوم تثبيت
قواعد حكومته المهزوزة ، وسلطانه المنخور ، ونظامه الظالم المتهرئ ، مدة أطول ،
ولكن العناية الالهية ، وهمة الشعب الإيراني المسلم العالية ، وقيادة الاستاذ
الاكبر آية اللّه العظمى الإمام الخميني قدسسره
الشريف أفشلت هذه المحاولة النكراء ، وآل الأمر إلى اسقاط النظام الشاهنشاهي
بثورة الشعب المجيدة واقامة حكومة الجمهورية الإسلامية على انقاض الحكم الملكي
المباد ، واحلال التاريخ الهجري الاسلامي المبارك محلّ التاريخ الشاهنشاهي
المختلق. والحمد للّه (يستخدم فى ايران تاريخ هجري آخر هو التاريخ الهجري الشمسي وهو ينفع
لمعرفة الفصول وما شاكل ذلك.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
برنامج الرحلة في
حادث الهجرة :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لقد كان على رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ان يقطع ـ للوصول إلى المدينة ـ ما يقرب من اربعمائة كيلومتراً ، ولا شك أن طيّ
هذه المسافة الطويلة تحت تلك الحرارة العالية الدرجة بحاجة إلى خطة صحيحة ،
لضمان السلامة ، خاصة وانهم كانوا يخافون من أن يقوم الأعراب الذين كانوا ربما
يصادفونهم في اثناء الطريق باخبار قريش بهم ، ولهذا كانوا يسيرون ليلا ويستريحون
نهاراً. ويبدو أن شخصاً شاهد النبيّ ومن معه
في أثناء الطريق فرجع إلى مكة وأخبر قريشاً بذلك فخرج « سراقة بن مالك بن جعشم »
يطلبهم طمعاً في جائزة قريش الكبرى فلحق برسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وقد صرفَ قريشاً عن ملاحقة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
قبل ذلك ليتفرد بها. (التاريخ الكامل : ج 2 ، ص 105.)
يقول ابن الاثير : تبعهم سراقة
فلحقهم فقال أبو بكر : يا رسول اللّه ادركنا الطلبُ ، فقال رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
: « لا تحزن إنَّ اللّهَ معنا ». ثم قال رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
: « اللّهم اكفني شرَّ سُراقة بما شئتَ » فجمح به فرسُه وطرحه أرضاً. فعلم سراقة أن هذا من دعاء رسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ولهذا قال بنبرة المعتذر الملتمس : يا محمّد هذه إِبلي بين يديك فيها غلامي. وان احتجت إلى ظهر ( اي مركوب ) أو
لبن فخذ منه فقد حكّمتك في مالي. فقال رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
: لا حاجة لي في مالك (يذكر كثير من المؤرخين كابن الاثير في الكامل : ج 2 : ص 105.
والمجلسي في البحار : ج 19 ، ص 75 ـ 88 القصة كما نقلناها هنا ، ولكن مؤلف حياة
محمّد يقول : ان سراقة تطيّر لما كبا به فرسُه واُلقي في روعه أن الآلهة مانعة
منه ضالَّته.).
وروى المجلسي ان سراقة قال : فسلني
حاجة. فقال رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
: رُدَّ عنّا مَنْ يطلبُنا من قريش. فانصَرف سراقة فاستقبله جماعة من
قريش في الطلب فقال لهم : انصرفوا عن هذا الطريق فلم يمرّ فيه أحد ، وأنا اكفيكم
هذا الطريق فعليكم بطريق اليمن والطائف. وهكذا ما كان يمرّ باحد إلاّ وصرفه
عن البحث عن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
في هذا الطريق بمثل هذا الكلام. ثم إن كُتّاب السيرة
من الشيعة والسنّة يذكرون لرسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم كرامات كثيرة في طريق مكة
ـ المدينة ونحن ندرج واحدة منها : مرّ رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
في أثناء الطريق على خيمة اُم معبد وكانت إمرأة شجاعة فاضلة فنزلوا بخيمتها
وطلبوا منها تمراً ولحماً أو لبناً يشترون. فقالت : ما يحضرني شيء وكانت أغنامها
قد اُصيبت بالهزال بسبب الجدب ، فنظر رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
إلى شاة في جانب من الخيمة فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم
لها : ما هذه الشاة يا اُم معبد؟ قالت : شاةٌ خلّفها الجهدُ من الغنم فقال : هل
بها من لبن؟. قالت : هي أجهدُ من ذلك ، قال : أتأذنين
ان أحلبها؟. قالت : نعم ان رأيت بها حلباً
فاحلبها. فدعا بها رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
فمسح بيده ضرعَها ، وسمّى اللّه عزوجل ، ودعا لها في شاتها قائلا اللّهم بارك
لها في شاتها فدرَّت لبناً كثيراً بفضل دعائه صلىاللهعليهوآلهوسلم
فطلبَ إناءوحلبها ، فسقاها أولا حتّى رُوِّيَت ثم سَقى أصحابَهُ حتّى رَوُوْا
وشرب هو آخرَهم ، وقال : « ساقي القوم آخرهم شرباً ». ثم حلب الشاة مرةً ثانيةً فغادره
عندها ، وثم ارتحلوا عنها إلى المدينة (بحار الأنوار : ج 19 ، ص 75.).
وقد ذُكرت هذه الكرامة في كثير من
كتب السيرة والتاريخ ، وهو أمر ممكن في رؤية المؤمن باللّه ، لأن الدعاء أحدُ
الاسباب التي تستطيع أن تؤثر في الطبيعة ، وشأنها شأن غيرها من الكرامات الّتي
ورد ذكرها في الكتب الدينية وصدقته التجربة (بحار الأنوار : ج 18 ، ص 43 وج 19 ، ص 99 ـ 103 ، الطبقات الكبرى : ج
1 ، ص 230 و 231 ، تاريخ الخميس : ج 1 ، ص 333 ، اُسد الغابة : ج 1 ، ص 377.). النزول في قرية قباء :
تقع قرية قباء على ميلين من المدينة
على يسار القاصد إلى مكة وكانت مساكن « بني عمرو بن عرف » ومركزهم. ولقد وصل رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم ومن معه إلى قباء في
الثاني عِشر من شهر ربيع الاول يوم الاثنين ، ونزل على «
كلثوم بن الهرم » وهو شيخ من بني عمرو وكان ثمة جمع كبير من المهاجرين والانصار
ينتظرون قدومه ، ويستخبرون وروده. ولقد لبث رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
في قباء إلى آخر أيام الاسبوع ، وقد خط في هذا الفترة مسجداً لقبيلة « بني عمرو
بن عوف » ، ونصب قبلته (تاريخ الخميس : ج 1 ، ص 338.).
وكان البعض ممن رافق رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
يصرّ عليه أن يسارع في الدخول إلى المدينة ، ولكن رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
كان ينتظر ابن عمه علياً. ويقول : فما أنا بداخلها حتّى يقدم
ابن اُمّي وأخي ، وابنتي ( يعني عليّاً وفاطمة عليهماالسلام
)
(الفصول المهمة لابن صباغ المالكي : ص 35 دون ان يذكر اسماً ، وامالي
الشيخ الطوسي : ج 2 ، ص 83.).
وأقام عليّ عليهالسلام بمكة ثلاث ليال بايامها ، حتّى أدّى
عن رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم الودائع الّتي كانت عنده للناس فقد
وقف عليهالسلام على مكان مرتفع في مكة ونادى قائلا :
« مَن كانَ لَه قِبَلَ
محمّد أمانةٌ أو وديعةٌ فليأتِ فلنؤدّ إليه أمانتهُ ». فكان يأتيه من له أمانةٌ أو وديعة
عند رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ويذكر علامتها ويأخذها فلما فرغ عليهالسلام
من اداء الامانات والودائع خرج بفاطمة بنت رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وامه فاطمة بنت اسد ، وفاطمة بنت الزبير وآخرين ممن لم يكن قد هاجر مكة حتى تلك
الساعة ، وتوجه بهم نحو المدينة ليلا سالكا بها طريقاً في « ذي طوى ». كتب الشيخ الطوسي في
اماليه في هذا الصدد يقول : إن جواسيس قريش غرفت بسفر علي
مع تلك الجماعة ، فخرجوا لملاحقتهم ، لغرض اعادتهم إلى مكة ، فادركوهم في منطقة
« ضجنان ». ووقع بين رجال قريش وبين علي عليهالسلام
تلاح وتناوش ، وأخذٌ وردٌّ ، ودنا الرجال من النسوة ، والمطايا ليثوروها فحال عليّ عليهالسلام
بينهم ، وبينها ، ولم يجد عليهالسلام
طريقاً إلاّ أن يدافع عن حرم الإسلام والمسلمين ، فشدّ عليهم بسيفه شدَّة الأسد الغضِب والليث الغيور وهو يقول
مرتجزاً :
فلما وجدوا ما به من الجدّ والغضب
خافوه وتفرّقوا عنه وقالوا : بنبرة الخائف المتضرع ـ : إحبس عنّا نفسَكَ يا ابن
أبي طالب ، فقال عليهالسلام : « فإنّي مُنْطَلِقٌ إلى ابن عمّي
رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
بيثرب فمن سرّهُ ان اُفري لحمه واُهريق دمه فليتبعني ، وليدنُ مني ». فتركه القومُ وعادوا من حيث أتوا ،
وواصل الركبُ رحلته باتجاه المدينة. يقول ابن الاثير : قدم
« علي » المدينة وقد تفطّرت قدماه ، فقال النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
:
ادعوا لي عليّاً ، قيل : لا يقدر أن يمشي ، فأتاه النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
واعتنقه
وبكى رحمةً لما بقدميه من الورم (ـ الكامل في التاريخ : ج 2 ، ص 106.).
ولقد قدم رسول اللّه قباء في الثاني
عشر من شهر ربيع الأول ، والتحق به عليُّ عليهالسلام
في منتصف ذلك الشهر نفسه (إمتاع الأسماع : ص 48 وعلى هذا تكون محاصرة بيت رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
قد تمّت ثلاث ليال قبل شهر ربيع الاول من السنة الاُولى من الهجرة ، وقد خرج
النبيّ من داره ليلة الاثنين ودخل غار ثور وبقي ماكثاً فيه ثلاثة أيام ، وخرج
منه ليلة الخميس اول ربيع الاول وتوجه نحو المدينة ووصل قباء في الثاني عشر منه
راجع تاريخ الخميس : ج 1 ، ص 337 ـ 338.)
،
ويؤيد هذا القول ما ذكره الطبري في تاريخه إذ كتب يقول : واقام علي بن ابي طالب رضي اللّه عنه بمكة ثلاث ليال وأيامها حتّى
أدى عن رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
الودائع
الّتي كانت عنده إلى الناس (تاريخ الطبري : ج 2 ، ص 382.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
المدينة تهبُّ
لقدوم النبيّ :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ولقد كان يوم دخول رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
يوماً عظيماً جداً ، ومشهوداً. فكم ترى ستكون عظيمةً فرحةُ الذين
آمنوا برسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
منذ ثلاث سنوات ، وظلوا طوال هذه الأعوام يبعثون برسلهم ووكلائهم إليه ، ويذكرون
اسمه المقدس ، ويصلّون عليه في صلواتهم كل يوم ، إذا سمعوا أن قائدهم ذلك الّذي
طال انتظارهم اياه ، واشتد تشوقهم إليه كائن عند ميلين من مدينتهم قد نزل في قبا
اياماً ، وسيقدم اليهم ويدخل مدينتهم بعد ايام؟ وكم سيكون مبلغُ ابتهاجهم ، وأي
ابتهاج ترى سيعم كل صغير وكبير؟ إنه حقاً لأمر يعجزُ القلم عن بيانه
، ويكل اللسان عن وصفه. ولقد كان لفتية الأنصار وشبابهم
الضامئين إلى الإسلام الحنيف برنامجٌ رائعٌ وعظيمٌ ، فقد كانوا عمدوا بغية تطهير
جوّ المدينة من ادران الوثنية إلى كل صنم في المدينة كان يقدّس ويعبد فاحرقوه
وكسّروه ، وقد كان كل شريف في بيته صنمٌ يمسحه ويطيّبه ، ولكل بطن من الأوس
والخزرج صنمٌ في بيت لجماعة يكرّمونه ويطيّبونه ، ويجعلون عليه منديلا ويذَبحون
له (بحار الأنوار : ج 19 ، ص 107.).
ولا بأس في أن نذكر
نموذجاً من هذا العمل الجليل الّذي قام به الانصار في التخلّص من الوثنية : لماقدم من بايع من الأنصار في العقبة
الثانية إلى المدينة اظهروا الإسلام بها وفي قومهم بقايا من شيوخ لهم على دين
الشرك وعبادة الأوثان منهم « عمرو بن الجموح » وكان من سادات بني سلمة وشريفاً
من أشرافهم وكان ابنه « معاذ » بن عمرو قد شهد بيعة العقبة. وكان عمرو هذا قد اتخذ في داره صنماً
من خشب يقال له : مناة ، كما كانت الاشراف يصنعون ، تتخذه إلهاً تعظّمه وتطهّره
، فلما أسلم فتيان بني سلمةَ : معاذ بن جبل ، وابنه معاذُ بن عمرو بن الجموح
كانوا يتسلّلون في الليل إلى صنم عمرو بن الجموح فيحملونه ويطرحونه في بعض حُفَر
بني سلمة ومزابلها ، وفيها فَضلاتِ الناس وعذرها منكَّساً على رأسه!! فاذا أصبح عمرو قال : ويلكم من عدا
على آلهتنا هذه الليلة؟ ثم يغدو يلتمسه حتّى إذا وجده غسله
وطهّره وطيّبه. ثم قال للصنم : أما واللّه لو أعلمُ من فَعَلَ هذا بك لاُخزينّه!
فاذا أمسى ونام عمرو عدوا عليه
ثانيةً ففعلوا به مثل ما فعلوا به أولا. فيغدو فيجدُه في مثل ما كان فيه من
الأذى والوسخ فيغسله ويطهّره ويطيّبه ، وثم يعدون عليه إذا امسى فيفعلون به مثل
ذلك. فلما اكثروا عليه استخرجه من حيث
ألقَوه يوماً فغسله وطهّره وطيّبه ثم جاء بسيفه فعلقه عليه ، ثم قال : إِنّي
واللّه ما أعلم مَن يصنعُ بك ما ترى ، فإن كان فيك خيرٌ فامتنِعْ ، ودافع عن
نفسك فهذا السيف معك. فلما أمسى ونام عمرو عَدَوا على ذلك
الصنم فأخذوا السيف من عنقه ، ثم أخذوا كلباً ميّتاً فقرنوه به بحبل ، ثم ألقَوه
في بئر من آبار بني سلمة فيها عذر من عذر الناس وفضلاتهم. ثم غدا عمرو بن الجموح
فلم يجده في مكانه الّذي كان به. فخرج يتبعه حتّى وجده في تلك البئر
منكساً مقروناً بكلب ، ميّت ، فلما رآه وابصر شأنه وكلّمه من اسلم من رجال قومه
فاسلم ، وهجر الوثنية والأوثان وحسُنَ إسلامه. فقال حين أسلم وعرف من اللّه ما عرف
وهو يذكر صنمه ذلك ، وما أبصر من شأنه ويشكر اللّه تعالى الّذي أنقذه مما كان
فيه من العمى والضلالة :
بأحمد المهدِيْ النبيّ
المرتهَنْ (1) (1)اسد الغابة : ج 4 ، ص 99. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
النبيُّ يدخُلُ
المدينة :
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
بعد أن التحقق علي عليهالسلام ومن معه برسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم في قباء توجه رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
إلى المدينة ولما انحدر من ثنية الوداع ( و
وكانت بنو عمرو بن عوف قد اجتمعت عنده وأصرّت
عليه بأن ينزل في قباء وقالوا : أقم عندنا يا رسول اللّه فإنا أهل الجدّ
والجَلَد ، والحلقة ( أي السلاح ) والمنعة ، ولكن رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
لم يقبل. وبلغ الأوسَ والخزرجَ خروجُ رسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وقرب نزوله المدينة فلبسوا السلاح وأقبلوا يعدون حول ناقته لا يمرّ بحيٍّ من
أحياء الانصار إلاّ وثبوا في وجهه وأخذوا بزمام ناقته وأصرّوا عليه بأن ينزل
عليهم هذا ورسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
يقول : خَلُّوا سبيلها فانها مأمورة. واخيراً لما انتهت ناقته ـ وكان صلىاللهعليهوآلهوسلم
قد أرخى زمامَها ـ إلى باب المسجد الّذي هو اليوم ، ولم يكن مسجداً إنما كان
أرضاً واسعة ليتيمين من الخزرج يقال لهما : سهل وسهيل وكانا في حجر أسعد بن
زرارة فبركت الناقة على باب « ابي أيوب » خالد بن زيد (بحار الأنوار : ج 19 ، ص 108 ولكن ذهب البعض كصاحب الكامل في التاريخ
إلى أنهما كانا في حجر معاد بن عفراء.)
الانصاري الّذي كان على مقربة من تلك الأرض. فاغتنمت ام أبي ايوب الفرصة فبادرت
إلى رحل رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
فحلّته وأدخلته منزلَها ، بينما اجتمع عليه الناس ويسألونه أن ينزل عليهم. فلما اكثروا عليه ، وتنازعوا في أخذه
قال صلىاللهعليهوآلهوسلم
أين الرحل؟؟ فقالوا : يخوف أم أيوب قد ادخلته في
بيتها. فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم
: « المرء مع رحله » وأخذ اسعدُ بن زرارة بزمام الناقة فحوّلها إلى منزله (تاريخ الخميس : ج 1 ، ص 341.).
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أصل النفاق ومنشؤه
:
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
كانت الأوس والخزرج قد اتفقتا على أن
تملّك عبد اللّه بن ابي بن سلول (
رئيس المنافقين وكبيرهم ) عليهم ، وذلك قبل أن تبايع رسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
في العقبة وتؤمن به وتعتنق الإسلام ولكن هذا القرار اُلغي بعد اتصال الأوس
والخزرج برسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم من هنا حنق عبد اللّه بن أبي على
رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
واضمر له العداوة منذ ذلك الحين ، ولم يؤمن برسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى آخر حياته ، بل كان ينافق
باسلامه. ولما دخل رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
المدينة وشاهد عبد اللّه بن اُبي ذلك الاستقبال والترحيب العظيمين لرسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
الّذي قام بهما الأوس والخزرج ، شق عليه ذلك جداً ، ولم يستطع اخفاء حنقه وغضبه
، وحده وعداوته للنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم!
فعندما انتهى صلىاللهعليهوآلهوسلم
إلى عبد اللّه بن اُبي ـ وقد أرخى صلىاللهعليهوآلهوسلم
زمام ناقته لتبرك حيث تريد ، أخذ عبدُ اللّه كمّه ووضعه على أنفه ، وقد ثارت
الغبرةُ بسبب الزحام وقال للنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
بنبرة اَلحانِق الغاضب : يا هذا إذهب إلى الّذين غرَّوك وخدعوك وأتوا بك ، فانزل
عليهم ، ولاتُغشنا في ديارنا!! فقام سعدُ بن عبادة ـ وقد خشي أن
يسوء رسولَ اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
هذا الموقف الوقِح الشِرير فقال : يا رسول اللّه لا يعرض في قلبك من قول هذا شيء
، فإنّا كنّا اجتمعنا على ان نملِّكهُ علينا ، وهو يرى الآن أنّك قد سَلَبتهُ
أمراً قد كان أشرفَ عليه (بحار الأنوار : ج 19 ، ص 108.).
هذا ويتفق عامة المؤرخين وكتّاب
السيرة أن رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
دخل يثرب يومَ الجمعة ، وصلّى صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف في بطن واد لهم ،
وكانت هذه أوّل جمعة جمّعها رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
في الإسلام فخطب في هذه الجمعة وهي أوّل خطبة خطبها في المدينة ، وقد تركت هذه
الخطبة البديعة البليغة الّتي لم يسمع اهل المدينة مثيلها لفظاً ومعنى من قبل ،
أثراً عميقاً وطيّباً في قلوبهم ونفوسهم. وقد أدرج ابن هشام نصّ الخطبة في
سيرته (السيرة النبوية : ج 1 ، ص 500 و 501.)
كما
أدرجها المجلسي في بحاره (بحار الأنوار : ج 19 ، ص 126.)
أيضاً. غير أن عبارات ومضامين الخطبة الّتي
نقلها ابن هشام واثبتها في سيرته تختلف عما رواها واثبتها المجلسي ، وللاطلاع
على ذلك يراجَع المصدران المذكوران. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الفهرس سيد
المرسلين (ص) .. الجزء الأول الشيخ جعفر السبحاني. 18 السيرة المحمَّدية مدرسة الأجيال. 19 التاريخُ في أَعظَم حَماساتِه. 20 سيّد المرسلين في ضوء القرآن الكريم. 26 شبه الجزيرة العربية أو مَهْد
الحضارة الإسلامية. 30 أخلاقُ العرب وتقاليدُهم العامة
: 35 هل كانَ للعرب حضَارةٌ قَبل الإسلام؟. 36 ملامح المجتمع الجاهلي العربي
في منظور القرآن : 38 5
ـ وَأدُ البنات وإقبارُهن : 40 6
ـ تصوراتهم الخرافية حول الملائكة : 40 7
ـ كيفية الانتفاع من الانعام : 41 العقيدة
والدين في الجزيرة العربية : 44 عقيدة
العرب حول حالة الإنسان بعد الموت : 46 الآداب
مرآة آداب الشعوب ونفسياتها : 47 مكانة
المرأة عند العرب الجاهلية : 48 المرأة
ومكانتها الاجتماعية عند العرب : 49 الاخلاق العامة في المجتمع الجاهليّ
العربي : 52 النزوع إلى الخرافة والاساطير
في المجتمع الجاهلي : 53 الخرافات في عقائد العرب الجاهلية
: 54 نماذج
من الخرافات في المجتمع الجاهلي : 55 1
ـ الاستسقاء باشعال النيران : 55 2
ـ ضرب الثور إذا عافت البقر : 56 3
ـ كيّ صحيح الإبل ليبرأ السقيمُ : 56 4
ـ حبس ناقة عند القبر اذامات كريمٌ : 57 5
ـ عَقرُ الإبل عَلى القُبُور : 57 6
ـ نهيق الرجل أذا اراد دخول القرية ( التعشير ) : 57 7
ـ تصفيق الضالّ في الصحراء ليهتدي : 58 9
ـ وطيُ المرأة القتيل الشريف لبقاء وَلَدها : 58 10
ـ طَرْحُ السِنّ نَحو الشَمْس إذا سَقَطَتْ : 59 11
ـ تعليق النجاسة على الرجل وقاية من الجنون : 59 13
ـ شق البرقع والرداء يوجب الحب المتقابل : 60 14
ـ معالجةُ المرضى بالاُمور العجيبة : 60 15
ـ خرافاتٌ في مجال الغائب : 61 16
ـ عقائدهُمْ العجيبة في الجنّ وتاثيرهُ : 62 17
ـ تشاؤمهم بالحيوانات والطيور والاشياء : 62 مكافحةُ الإسلام لهذه الخرافات
: 62 أوضاع العرب الإجتماعية قبيل ظهور
الإسلام : 64 الإمام
عليّ يصف العهد الجاهليّ : 69 فاطمة
الزهراء تصف الوضع الجاهلي : 72 جعفر
بن ابي طالب يصف العهد الجاهلي : 73 3 إمبراطوريّتا الرُوم وإيران
إبّان عهدِ الرِّسالةِ. 73 أوضاع الروم إبّان عهد الرسالة
: 73 ظاهرة
الجدل العقيم في المجتمع الرومي : 74 أوضاع إيران إبان عَهد الرسالة
: 75 البَذخ
والتَرف في البلاط الساساني : 76 حَقٌّ
التعلّم خاصُ بالطبقات الممتازة!! : 78 صفحةٌ
سوداءٌ من جرائم خسرو برويز : 80 حكم
التاريخ في الملوك الساسانيين : 81 الفوضى
في الحكومة الساسانية : 81 الفوضى
الدينية في ايران الساسانيين : 82 الحروبُ الإيرانية الروميّة : 84 1
ـ بطل التوحيد : إبراهيم الخليل عليهالسلام 85 حوار
الخليل مع عبدة الكواكب : 89 واليك
في ما يلي التفاسير المختلفة لهذا الاستدلال : 90 طريقة الأنبياء في الحوار والجدال
: 91 هَل كان آزر والدَ إبراهيم؟. 92 القرآن ينفي اُبوّة « آزر » لإبراهيم
: 93 العِبَر
القيمة في هذه القصّة : 96 اُميّة
بن عبد شمس يحسد هاشماً : 104 التفاني
في سبيل الوفاء بالعهد والنذر : 107 عَبدُ
المطّلب يَذهب إلى مُعسكر أَبرهة : 111 نقاطٌ
تقتضي التأمل في التفسير المذكور : 115 بحثٌ علميُّ حول المعجزة في خمس
نقاط : 116 1
ـ ما هي المعجزةُ وما هو تعريفها؟ 117 2 ـ هل الاعجاز يهدم القوانين
العقلية المسلَّمة؟. 118 3
ـ هل المعجزة تصدر عن علل مادية غير معروفة فقط؟ 119 4
ـ كيف تدلّ المعجزة على صحّة ادّعاء النبوّة؟ 120 5
ـ بماذا نميز المعاجز عن غيرها من الخوارق؟ 121 ماذا بَعْدَ هزيمة الأحباش؟. 124 عَبدُ اللّه والدُ النبيّ : 126 دَورُ الأَيادي المشْبُوهَة في
تاريخ الإسلام : 127 قِصَّة
فاطمة الخَثعَمِيَّة : 127 علائم
الإختلاق في هذه القصة! 128 طهارة النبيّ من دنس الآباء وعهر
الاُمهات : 129 وفاةُ عَبْد اللّه في « يَثْرب
» : 130 5 مَولدُ رَسُول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم. 131 فترةُ الطُفولة في حَياة العُظماء
: 131 في
أيّ يوم وُلدَ رَسُولُ اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم؟ 133 أيُّ
هذين القولين هو الصحيح؟ 133 مُؤاخَذاتٌ
وإشكالاتٌ عَلى هذا البَيان : 135 الاحتفال بذكرى المولد النبوي
: 136 مَراسمُ
تسمية النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم : 137 « أحمد » كانَ مِنْ أسماء النبيّ
المشهورة : 139 فتْرَةُ الرِّضاع في حياة النبي
صلىاللهعليهوآلهوسلم : 141 نَظرةُ الإسلام في تأثير الرضاع
: 142 6فَتْرةُ الطفُولة في حياة النبيّ
صلىاللهعليهوآلهوسلم. 143 1 ـ الماديُّون ، وجماعة من المستشرقين
: 143 خَمسَةُ أعوام في الصَحْراء : 145 7 العَوْدة إلى اَحضان العائلة. 146 كفالة أبي طالب للنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
: 148 اُكذُوبَةُ المُسْتشرقيْن : 150 نَظْرةٌ
إجْماليَّة إلى التَوْراة الحاضِرَة : 153 2
ـ النبيّ سليمان عليهالسلام : 153 4
ـ إبْراهيم عليهالسلام : 154 8 فَترة الشَباب في حياة النبيّ
الأكرم. 156 رسولُ اللّه وقدرتُه الروحيّة
: 156 9 من فترة الشباب إلى مزاولة التجارة 161 هل
عَمِلَ النبيُّ أجيراً لخديجة؟ 163 خَديجة زَوجةُ الرَّسول الاُولى
: 164 خديجة في أحاديث الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم
: 166 افتخار اهل البيت بخديجة عليهاالسلام
: 170 العللُ الظاهرية والحقيقية وراء
زواج خديجة بالنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم : 171 عمر خديجة عند زواجها بالنبيّ
صلىاللهعليهوآلهوسلم : 173 فَترةُ الشَبابِ في حياة رسول
اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم : 174 أحاسيسه ومشاعره الإنسانية في
فترة الشَّباب : 175 حَدْسٌ لا أساس له من الواقع!! 176 دَعِيُّ رسول اللّه : زيد بن حارثة
: 176 بدايةُ الخِلاف بَين الوثنيّين
: 177 أمينُ قَريشُ يَكْفُلُ عَليّاً
: 180 ايمان النبي وآبائه وكفلائه قبل
الإسلام : 181 إيمان كفيله وعمه أبي طالب : 183 إيمان والدَي النبي الاكرم : 184 ايمان النبي باللّه وتوحيده قبل
البعثة : 185 الايةُ
الاُولى : الهداية بعد الضلالة : 188 الآية
الثانية : الامر بهجر الرجز 190 الآية
الثالثة : عدم علمه بالكتاب والايمان. 191 الآية
الرابعة : عدم رجائه إلقاء الكتاب اليه 194 الآية
الخامسة : لو لم يشأ ما تلوته 195 دَور
الانبياء في اصلاح المجتمع : 197 ظاهرة
القضايا الغيبيّة في منظار الماديّين : 201 ظاهرة
الوحي عِند الماديّين : 203 أبرز
النظريات المادية لظاهرة الوحي : 203 ظاهرةُ
الوحي في منظار العقل والدين : 207 خديجة
تذهب إلى ورقة بن نوقل : 210 الجواب
الثالث : التفكيك بين نزول القرآن والبعثة 214 الانبياء
والبشارة برسول اللّه : 215 أوَّلُ
من آمنَ بالنبيَّ منَ الرجال والنِّساء : 217 أقدمُ
الرجال اسلاماً : « عليّ ». 218 1
ـ عليّ تربّى في حجر النبيّ. 218 2
ـ عليُّ وخديجة يقيمان الصلاة مع النبيّ : 219 4
ـ أوَّلكم إسلاماً : عليٌ. 220 كلمات
اميرالمؤمنين عليهالسلام : 221 كلمة
الإمام السبط الحسن عليهالسلام : 223 رأي
الصحابة والتابعين في أوّل من أسلم. 224 مناظرة
بين المأمون واسحاق : 233 قضيّةُ
« إنقطاع الوَحْي » : 234 إختلافُ
المؤرخين في مسألة « انقطاع الوحي » : 235 الإختلاف
في مدة انقطاع الوحي : 237 14 الدَعْوَةُ السِرِّيَّة ودَعوَةُ
الأقربين. 238 خِيانةٌ تاريخيّةٌ وجنايَةٌ أدبيّة!! 243 الثباتُ
والإستقامة على طريق الهدف : 245 ثَباتُ
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وَصَبرُهُ : 246 قريش
تمشي إلى أبي طالب للمرّة الثالثة : 248 قريش
تحاولُ تطميع رسول اللّه! 248 نماذجٌ
من إيذاء قُريش وتعذيبها للمُسلمين : 249 أبوجهل
يكمُن لرسول اللّه : 251 صبر
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم واستقامته : 252 2
ـ آلُ ياسر رمز الصمود والمقاومة! 253 4
ـ أبوذر : أوّل المجاهرين بالإسلام 255 قبيلةُ
غِفار تعتنق الإسلام : 257 عمر
بن الخطاب يعتنق الإسلام : 258 الدوافع
وراء معاداة قريش وعنادهم : 266 1
ـ حَسَدُهُمْ للنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم : 266 2
ـ معارضة الدعوة الإسلامية لشهواتهم : 267 3
ـ الخَوفُ مِن عُقُوبات اليوم الآخر : 267 4
ـ الخَوفُ مِن القَبائل العَربية المشركَة : 267 طائفةٌ
مِن اعتراضات المشركين : 268 القُران
والنُزُولُ التدريجيّ : 268 الأسرارُ
المنطقيّة للنُزول التدريجي للقرآن : 269 أسرارٌ
اُخرى لِنُزُول القرآن تدريجاً : 271 الهجرة
الثانية إلى الحبشة : 274 قريش
توفد رجالا لاسترداد المسلمين : 275 وفدٌ
مسيحيُّ لتقصّي الحقائق يدخل مكة : 279 قريش
توفد إلى يهود يثرب للتحقيق : 280 18الأسلحةُ الصَديئة والاساليب
الفاشلة. 281 الإصرار
في نسبة الجنون إليه صلىاللهعليهوآلهوسلم : 283 القرآن
يرد على جميع الاتهامات : 284 تحججات
صبيانيّة وجاهليّة : 286 مقترحات
عجيبة ومطاليب غريبة : 287 صبر
النبيّ واستقامته وثباته : 288 معاجز
النبيّ لم تنحصر في القرآن : 288 فالقرآن
نفسه يشير إلى أبرز هذه المعاجز وهي : 289 اصرار
النبيّ على هداية قريش : 290 واضعوا
القرار ينقضون قرارهم!! 291 4
ـ منع الاشخاص من الايمان برسول اللّه 292 2
ـ الطُفيل بُن عَمرو الدوسيّ : 293 محاسبة بسيطة لهذه الاسطورة 295 تكذيب القِصَّة من طريق آخر. 296 دَليلٌ لغَويٌّ على تفنيد هذه
الاسطورة 297 1
ـ ما هو المقصود من تمني الانبياء والرُسل. 298 2
ـ ما هو المقصود من تدخّل الشيطان؟ 299 3
ـ ما هو المقصود من محو آثار التدخل؟ 300 20 الحصار الاقتصادي والاجتماعي. 300 قريشٌ
تحاصر النبيّ والمسلمين اقتصادياً واجتماعياً 301 وضع بني هاشم المأساوي في الشِعب... 303 21 وَفاة أَبي طالب وخديجة الكبرى.. 307 نماذج من مشاعر أبي طالب... 309 (1)ديوان أبي طالب : ص 33 ـ 35 ،
تاريخ ابن عساكر : ج 1 ، ص 269 ـ 272 ، الروض الآنف : ج 1 ، ص 120. 311 الدِفاعُ
عن حوزة العقيدة والايمان. 312 الدافع
الحقيقيّ لأبي طالب.. 313 لمحات
من تضحيات أبي طالب.. 314 قضيّةٌ
ذات بواعث سياسيّة : 315 الأدِلّة
على إيمان أبي طالب.. 316 آثار
أبي طالب العلميّة والأدبية 316 الطريق
الثاني لا ثبات إيمان أبي طالب . 317 آخر
الطُرق لا ثبات ايمان أبي طالب.. 319 رأي
علماء الشيعة في أبي طالب.. 320 نظرة إلى حديث « الضحضاح ». 320 الف
: سفيان بن سعيد الثوري. 320 جيم
: عبدالعزيز بن محمد الدراوردي. 321 2
ـ نص حديث الضحضاح يخالف الكتاب والسنة 321 المعراج
في نظر القرآن والسنة والتاريخ. 322 ما
هو المراد من المعراج الروحاني؟ 327 المعراج
وقوانين العلم الحديث : 329 النبيّ
صلىاللهعليهوآلهوسلم يعود إلى مكة : 335 دعوة
رؤساء القبائل في مواسم الحج : 337 أوضاعُ
المسلمين بعد بيعة العقبة : 343 ردود
فعل قريش تجاه بيعة العقبة : 344 تأثير
الإسلام ونفوذه المعنوي : 346 حوادث
السنة الاُولى من الهجرة 348 الإمدادات
الغيبية والعنايات الالهية : 349 ملك
الوحي يخبر رسول اللّه : 350 إقتحام
الاعداء لبيت الوحي : 352 لماذا
أصبح العامُ الهجريُ مبدأ للتاريخ : 360 الهجرة
النبوية مبدأ لتاريخ المسلمين كافة : 361 من
الّذي جعل الهجرة مبدءً للتاريخ؟ 363 نماذج
من رسائل النبيّ المؤرخة : 363 برنامج
الرحلة في حادث الهجرة : 366 |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||