- القرآن الكريم
- سور القرآن الكريم
- 1- سورة الفاتحة
- 2- سورة البقرة
- 3- سورة آل عمران
- 4- سورة النساء
- 5- سورة المائدة
- 6- سورة الأنعام
- 7- سورة الأعراف
- 8- سورة الأنفال
- 9- سورة التوبة
- 10- سورة يونس
- 11- سورة هود
- 12- سورة يوسف
- 13- سورة الرعد
- 14- سورة إبراهيم
- 15- سورة الحجر
- 16- سورة النحل
- 17- سورة الإسراء
- 18- سورة الكهف
- 19- سورة مريم
- 20- سورة طه
- 21- سورة الأنبياء
- 22- سورة الحج
- 23- سورة المؤمنون
- 24- سورة النور
- 25- سورة الفرقان
- 26- سورة الشعراء
- 27- سورة النمل
- 28- سورة القصص
- 29- سورة العنكبوت
- 30- سورة الروم
- 31- سورة لقمان
- 32- سورة السجدة
- 33- سورة الأحزاب
- 34- سورة سبأ
- 35- سورة فاطر
- 36- سورة يس
- 37- سورة الصافات
- 38- سورة ص
- 39- سورة الزمر
- 40- سورة غافر
- 41- سورة فصلت
- 42- سورة الشورى
- 43- سورة الزخرف
- 44- سورة الدخان
- 45- سورة الجاثية
- 46- سورة الأحقاف
- 47- سورة محمد
- 48- سورة الفتح
- 49- سورة الحجرات
- 50- سورة ق
- 51- سورة الذاريات
- 52- سورة الطور
- 53- سورة النجم
- 54- سورة القمر
- 55- سورة الرحمن
- 56- سورة الواقعة
- 57- سورة الحديد
- 58- سورة المجادلة
- 59- سورة الحشر
- 60- سورة الممتحنة
- 61- سورة الصف
- 62- سورة الجمعة
- 63- سورة المنافقون
- 64- سورة التغابن
- 65- سورة الطلاق
- 66- سورة التحريم
- 67- سورة الملك
- 68- سورة القلم
- 69- سورة الحاقة
- 70- سورة المعارج
- 71- سورة نوح
- 72- سورة الجن
- 73- سورة المزمل
- 74- سورة المدثر
- 75- سورة القيامة
- 76- سورة الإنسان
- 77- سورة المرسلات
- 78- سورة النبأ
- 79- سورة النازعات
- 80- سورة عبس
- 81- سورة التكوير
- 82- سورة الانفطار
- 83- سورة المطففين
- 84- سورة الانشقاق
- 85- سورة البروج
- 86- سورة الطارق
- 87- سورة الأعلى
- 88- سورة الغاشية
- 89- سورة الفجر
- 90- سورة البلد
- 91- سورة الشمس
- 92- سورة الليل
- 93- سورة الضحى
- 94- سورة الشرح
- 95- سورة التين
- 96- سورة العلق
- 97- سورة القدر
- 98- سورة البينة
- 99- سورة الزلزلة
- 100- سورة العاديات
- 101- سورة القارعة
- 102- سورة التكاثر
- 103- سورة العصر
- 104- سورة الهمزة
- 105- سورة الفيل
- 106- سورة قريش
- 107- سورة الماعون
- 108- سورة الكوثر
- 109- سورة الكافرون
- 110- سورة النصر
- 111- سورة المسد
- 112- سورة الإخلاص
- 113- سورة الفلق
- 114- سورة الناس
- سور القرآن الكريم
- تفسير القرآن الكريم
- تصنيف القرآن الكريم
- آيات العقيدة
- آيات الشريعة
- آيات القوانين والتشريع
- آيات المفاهيم الأخلاقية
- آيات الآفاق والأنفس
- آيات الأنبياء والرسل
- آيات الانبياء والرسل عليهم الصلاة السلام
- سيدنا آدم عليه السلام
- سيدنا إدريس عليه السلام
- سيدنا نوح عليه السلام
- سيدنا هود عليه السلام
- سيدنا صالح عليه السلام
- سيدنا إبراهيم عليه السلام
- سيدنا إسماعيل عليه السلام
- سيدنا إسحاق عليه السلام
- سيدنا لوط عليه السلام
- سيدنا يعقوب عليه السلام
- سيدنا يوسف عليه السلام
- سيدنا شعيب عليه السلام
- سيدنا موسى عليه السلام
- بنو إسرائيل
- سيدنا هارون عليه السلام
- سيدنا داود عليه السلام
- سيدنا سليمان عليه السلام
- سيدنا أيوب عليه السلام
- سيدنا يونس عليه السلام
- سيدنا إلياس عليه السلام
- سيدنا اليسع عليه السلام
- سيدنا ذي الكفل عليه السلام
- سيدنا لقمان عليه السلام
- سيدنا زكريا عليه السلام
- سيدنا يحي عليه السلام
- سيدنا عيسى عليه السلام
- أهل الكتاب اليهود النصارى
- الصابئون والمجوس
- الاتعاظ بالسابقين
- النظر في عاقبة الماضين
- السيدة مريم عليها السلام ملحق
- آيات الناس وصفاتهم
- أنواع الناس
- صفات الإنسان
- صفات الأبراروجزائهم
- صفات الأثمين وجزائهم
- صفات الأشقى وجزائه
- صفات أعداء الرسل عليهم السلام
- صفات الأعراب
- صفات أصحاب الجحيم وجزائهم
- صفات أصحاب الجنة وحياتهم فيها
- صفات أصحاب الشمال وجزائهم
- صفات أصحاب النار وجزائهم
- صفات أصحاب اليمين وجزائهم
- صفات أولياءالشيطان وجزائهم
- صفات أولياء الله وجزائهم
- صفات أولي الألباب وجزائهم
- صفات الجاحدين وجزائهم
- صفات حزب الشيطان وجزائهم
- صفات حزب الله تعالى وجزائهم
- صفات الخائفين من الله ومن عذابه وجزائهم
- صفات الخائنين في الحرب وجزائهم
- صفات الخائنين في الغنيمة وجزائهم
- صفات الخائنين للعهود وجزائهم
- صفات الخائنين للناس وجزائهم
- صفات الخاسرين وجزائهم
- صفات الخاشعين وجزائهم
- صفات الخاشين الله تعالى وجزائهم
- صفات الخاضعين لله تعالى وجزائهم
- صفات الذاكرين الله تعالى وجزائهم
- صفات الذين يتبعون أهواءهم وجزائهم
- صفات الذين يريدون الحياة الدنيا وجزائهم
- صفات الذين يحبهم الله تعالى
- صفات الذين لايحبهم الله تعالى
- صفات الذين يشترون بآيات الله وبعهده
- صفات الذين يصدون عن سبيل الله تعالى وجزائهم
- صفات الذين يعملون السيئات وجزائهم
- صفات الذين لايفلحون
- صفات الذين يهديهم الله تعالى
- صفات الذين لا يهديهم الله تعالى
- صفات الراشدين وجزائهم
- صفات الرسل عليهم السلام
- صفات الشاكرين وجزائهم
- صفات الشهداء وجزائهم وحياتهم عند ربهم
- صفات الصالحين وجزائهم
- صفات الصائمين وجزائهم
- صفات الصابرين وجزائهم
- صفات الصادقين وجزائهم
- صفات الصدِّقين وجزائهم
- صفات الضالين وجزائهم
- صفات المُضَّلّين وجزائهم
- صفات المُضِلّين. وجزائهم
- صفات الطاغين وجزائهم
- صفات الظالمين وجزائهم
- صفات العابدين وجزائهم
- صفات عباد الرحمن وجزائهم
- صفات الغافلين وجزائهم
- صفات الغاوين وجزائهم
- صفات الفائزين وجزائهم
- صفات الفارّين من القتال وجزائهم
- صفات الفاسقين وجزائهم
- صفات الفجار وجزائهم
- صفات الفخورين وجزائهم
- صفات القانتين وجزائهم
- صفات الكاذبين وجزائهم
- صفات المكذِّبين وجزائهم
- صفات الكافرين وجزائهم
- صفات اللامزين والهامزين وجزائهم
- صفات المؤمنين بالأديان السماوية وجزائهم
- صفات المبطلين وجزائهم
- صفات المتذكرين وجزائهم
- صفات المترفين وجزائهم
- صفات المتصدقين وجزائهم
- صفات المتقين وجزائهم
- صفات المتكبرين وجزائهم
- صفات المتوكلين على الله وجزائهم
- صفات المرتدين وجزائهم
- صفات المجاهدين في سبيل الله وجزائهم
- صفات المجرمين وجزائهم
- صفات المحسنين وجزائهم
- صفات المخبتين وجزائهم
- صفات المختلفين والمتفرقين من أهل الكتاب وجزائهم
- صفات المُخلَصين وجزائهم
- صفات المستقيمين وجزائهم
- صفات المستكبرين وجزائهم
- صفات المستهزئين بآيات الله وجزائهم
- صفات المستهزئين بالدين وجزائهم
- صفات المسرفين وجزائهم
- صفات المسلمين وجزائهم
- صفات المشركين وجزائهم
- صفات المصَدِّقين وجزائهم
- صفات المصلحين وجزائهم
- صفات المصلين وجزائهم
- صفات المضعفين وجزائهم
- صفات المطففين للكيل والميزان وجزائهم
- صفات المعتدين وجزائهم
- صفات المعتدين على الكعبة وجزائهم
- صفات المعرضين وجزائهم
- صفات المغضوب عليهم وجزائهم
- صفات المُفترين وجزائهم
- صفات المفسدين إجتماعياَ وجزائهم
- صفات المفسدين دينيًا وجزائهم
- صفات المفلحين وجزائهم
- صفات المقاتلين في سبيل الله وجزائهم
- صفات المقربين الى الله تعالى وجزائهم
- صفات المقسطين وجزائهم
- صفات المقلدين وجزائهم
- صفات الملحدين وجزائهم
- صفات الملحدين في آياته
- صفات الملعونين وجزائهم
- صفات المنافقين ومثلهم ومواقفهم وجزائهم
- صفات المهتدين وجزائهم
- صفات ناقضي العهود وجزائهم
- صفات النصارى
- صفات اليهود و النصارى
- آيات الرسول محمد (ص) والقرآن الكريم
- آيات المحاورات المختلفة - الأمثال - التشبيهات والمقارنة بين الأضداد
- نهج البلاغة
- تصنيف نهج البلاغة
- دراسات حول نهج البلاغة
- الصحيفة السجادية
- تصنيف الصحيفة السجادية
- تصنيف الصحيفة بالموضوعات
- الباب السابع : باب الاخلاق
- الباب الثامن : باب الطاعات
- الباب التاسع: باب الذكر والدعاء
- الباب العاشر: باب السياسة
- الباب الحادي عشر:باب الإقتصاد
- الباب الثاني عشر: باب الإنسان
- الباب الثالث عشر: باب الكون
- الباب الرابع عشر: باب الإجتماع
- الباب الخامس عشر: باب العلم
- الباب السادس عشر: باب الزمن
- الباب السابع عشر: باب التاريخ
- الباب الثامن عشر: باب الصحة
- الباب التاسع عشر: باب العسكرية
- الباب الاول : باب التوحيد
- الباب الثاني : باب النبوة
- الباب الثالث : باب الإمامة
- الباب الرابع : باب المعاد
- الباب الخامس: باب الإسلام
- الباب السادس : باب الملائكة
- تصنيف الصحيفة بالموضوعات
- أسماء الله الحسنى
- أعلام الهداية
- النبي محمد (صلى الله عليه وآله)
- الإمام علي بن أبي طالب (عليه السَّلام)
- السيدة فاطمة الزهراء (عليها السَّلام)
- الإمام الحسن بن علي (عليه السَّلام)
- الإمام الحسين بن علي (عليه السَّلام)
- لإمام علي بن الحسين (عليه السَّلام)
- الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السَّلام)
- الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السَّلام)
- الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السَّلام)
- الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السَّلام)
- الإمام محمد بن علي الجواد (عليه السَّلام)
- الإمام علي بن محمد الهادي (عليه السَّلام)
- الإمام الحسن بن علي العسكري (عليه السَّلام)
- الإمام محمد بن الحسن المهدي (عجَّل الله فرَجَه)
- تاريخ وسيرة
- "تحميل كتب بصيغة "بي دي أف
- تحميل كتب حول الأخلاق
- تحميل كتب حول الشيعة
- تحميل كتب حول الثقافة
- تحميل كتب الشهيد آية الله مطهري
- تحميل كتب التصنيف
- تحميل كتب التفسير
- تحميل كتب حول نهج البلاغة
- تحميل كتب حول الأسرة
- تحميل الصحيفة السجادية وتصنيفه
- تحميل كتب حول العقيدة
- قصص الأنبياء ، وقصص تربويَّة
- تحميل كتب السيرة النبوية والأئمة عليهم السلام
- تحميل كتب غلم الفقه والحديث
- تحميل كتب الوهابية وابن تيمية
- تحميل كتب حول التاريخ الإسلامي
- تحميل كتب أدب الطف
- تحميل كتب المجالس الحسينية
- تحميل كتب الركب الحسيني
- تحميل كتب دراسات وعلوم فرآنية
- تحميل كتب متنوعة
- تحميل كتب حول اليهود واليهودية والصهيونية
- المحقق جعفر السبحاني
- تحميل كتب اللغة العربية
- الفرقان في تفسير القرآن -الدكتور محمد الصادقي
- وقعة الجمل صفين والنهروان
|
أعلام الهداية
الإمام الحسين سيد الشهداء (صلوات الله عليه)
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
أعلام الهداية الإمام الحسين سيد الشهداء عليه
السلام المجمع العالمي لأهل البيت عليهمالسلام قم المقدسة |
|||||||||||||||||||||||||||
|
أهل البيت في القرآن الكريم (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ
الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) الأحزاب:
33 / 33 |
|||||||||||||||||||||||||||
|
أهل البيت في السنة النبويّة (إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي
أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبد) (الصحاح والمسانيد) |
|||||||||||||||||||||||||||
|
||||||||||||||||||||||||||||
|
كلمة
المجمع العالمي لأهل البيت عليهمالسلام... الباب الأول: الفصل الأول: الإمام الحسين عليه
السلام في سطور... الفصل الثاني: انطباعات عن شخصيته عليه
السلام... الفصل الثالث: مظاهر من شخصيته عليه
السلام... الباب الثاني: الفصل الأول: نشأة الإمام الحسين عليه
السلام... الفصل الثاني: مراحل حياة الإمام الحسين
عليه السلام... الفصل الثالث: الإمام الحسين عليه
السلام من الولادة إلى الإمامة... الباب الثالث: الفصل الأول: عصر الإمام الحسين عليه
السلام... الفصل الثاني: مواقف وإنجازات الإمام عليه
السلام... الفصل
الثالث: نتائج الثورة الحسينية... الفصل الرابع: من تراث الإمام الحسين عليه
السلام... |
|||||||||||||||||||||||||||
|
المقدمة
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
الحمد لله الذي أعطى كلّ شيء خلقه ثم
هدى، ثم الصلاة والسلام على من اختارهم هداةً لعباده، لا سيَّما خاتم الأنبياء
وسيّد الرسل والأصفياء أبو القاسم المصطفى محمد صلىاللهعليهوآله
وعلى آله الميامين النجباء. لقد خلق الله الإنسان وزوّده بعنصري
العقل والإرادة، فبالعقل يبصر ويكتشف الحقّ ويميّزه عن الباطل، وبالإرادة يختار
ما يراه صالحاً له ومحقّقاً لأغراضه وأهدافه. وقد جعل الله العقل المميِّز حجةً له
على خلقه، وأعانه بما أفاض على العقول من معين هدايته؛ فإنّه هو الذي علّم
الإنسان ما لم يعلم، وأرشده إلى طريق كماله اللائق به، وعرّفه الغاية التي خلقه
من أجلها، وجاء به إلى هذه الحياة الدنيا من أجل تحقيقها. وأوضح القرآن الحكيم بنصوصه الصريحة
معالم الهداية الربّانية وآفاقها ومستلزماتها وطرقها، كما بيّن لنا عللها
وأسبابها من جهة، وأسفر عن ثمارها ونتائجها من جهة أخرى. قال تعالى: (قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى)(الأنعام (6):
71). (وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلى صِرَاطٍ
مُسْتَقِيمٍ)(البقرة
(2): 213). (وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي
السَّبِيلَ)(الأحزاب
(33): 4). (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إلى
صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)(آل
عمران (3): 101). (قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي
إلى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى
فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ)(يونس
(10): 35). (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي
أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إلى صِرَاطِ الْعَزِيزِ
الْحَمِيدِ)(سبأ
(34): 6). (ومن أضلّ ممن اتّبع هواه بغير هدىً من الله)(القصص
(28):50). فالله تعالى هو مصدر الهداية. وهدايته
هي الهداية الحقيقية، وهو الذي يأخذ بيد الإنسان إلى الصراط المستقيم وإلى الحقّ
القويم. وهذه الحقائق يؤيدها العلم ويدركها
العلماء ويخضعون لها بملء وجودهم. ولقد أودع الله في فطرة الإنسان النزوع
إلى الكمال والجمال ثمّ مَنّ عليه بإرشاده إلى الكمال اللائق به، وأسبغ عليه
نعمة التعرّف على طريق الكمال، ومن هنا قال تعالى: (وما خلقتُ الجنَّ والإنسَ إلاّ ليعبدونِ)(الذاريات
(51): 56). وحيث لا تتحقّق العبادة الحقيقية من دون المعرفة، كانت المعرفة
والعبادة طريقاً منحصراً وهدفاً وغايةً موصلةً إلى قمّة الكمال. وبعد أن زوّد الله الإنسان بطاقتي
الغضب والشهوة ليحقّق له وقود الحركة نحو الكمال; لم يؤمَن عليه من سيطرة الغضب
والشهوة; والهوى الناشئ منهما، والملازم لهما فمن هنا احتاج الإنسان - بالإضافة
إلى عقله وسائر ومن هنا اقتضت سُنّة الهداية الربّانية
أن يُسند عقل الإنسان عن طريق الوحي الإلهي، ومن خلال الهداة الذين اختارهم الله
لتولِّي مسؤولية هداية العباد وذلك عن طريق توفير تفاصيل المعرفة وإعطاء
الإرشادات اللازمة لكلّ مرافق الحياة. وقد حمل الأنبياء وأوصياؤهم مشعل
الهداية الربّانية منذ فجر التاريخ وعلى مدى العصور والقرون، ولم يترك الله
عباده مهملين دون حجة هادية وعلم مرشد ونور مُضيء، كما أفصحت نصوص الوحي -
مؤيّدةً لدلائل العقل - بأنّ الأرض لا تخلو من حجة لله على خلقه، لئلاّ يكون
للناس على الله حجّة، فالحجّة قبل الخلق ومع الخلق وبعد الخلق، ولو لم يبق في
الأرض إلاّ اثنان لكان أحدهما الحجّة، وصرّح القرآن - بشكل لا يقبل الريب - قائلاً: (إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ)(الرعد (13):
7). ويتولّى أنبياء الله ورسله
وأوصياؤهم الهداة المهديّون مهمّة الهداية بجميع مراتبها، والتي تتلخّص في: 1 - تلقِّي الوحي بشكل كامل واستيعاب
الرسالة الإلهية بصورة دقيقة. وهذه المرحلة تتطلّب الاستعداد التام لتلقّي
الرسالة، ومن هنا يكون الاصطفاء الإلهي لرسله شأناً من شؤونه، كما أفصح بذلك
الذكر الحكيم قائلاً: (اللَّهُ
أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ)(الأنعام (6):
124) و(اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ)(آل عمران
(3): 179). 2 - إبلاغ الرسالة الإلهية إلى البشرية
ولمن أرسلوا إليه، ويتوقّف الإبلاغ على الكفاءة التامّة التي تتمثّل في
(الاستيعاب والإحاطة اللازمة) بتفاصيل الرسالة وأهدافها ومتطلّباتها، و (العصمة)
عن الخطأ والانحراف معاً، قال تعالى: (كَانَ
النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ
وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ
النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ)(البقرة
(2): 213). 3 - تكوين اُمة مؤمنة بالرسالة الإلهية،
وإعدادها لدعم القيادة الهادية من أجل تحقيق أهدافها وتطبيق قوانينها في الحياة،
وقد صرّحت آيات الذكر الحكيم بهذه المهمّة مستخدمةً عنواني التزكية والتعليم،
قال تعالى: (يُزَكِّيهِمْ
وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ)(الجمعة(62):
2) والتزكية هي التربية باتجاه الكمال اللائق بالإنسان. وتتطلّب التربية القدوة الصالحة
التي تتمتّع بكلّ عناصر الكمال، كما قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ
حَسَنَةٌ)(الأحزاب(33):
21). 4 - صيانة الرسالة من الزيغ والتحريف
والضياع في الفترة المقرّرة لها، وهذه المهمة أيضاً تتطلّب الكفاءة العلمية
والنفسية، والتي تسمّى بالعصمة. 5 - العمل لتحقيق أهداف الرسالة المعنوية
وتثبيت القيم الأخلاقية في نفوس الأفراد وأركان المجتمعات البشرية وذلك بتنفيذ
الأطروحة الربّانية، وتطبيق قوانين الدين الحنيف على المجتمع البشري من خلال
تأسيس كيان سياسيٍّ يتولّى إدارة شؤون الأمة على أساس الرسالة الربّانية
للبشرية، ويتطلّب التنفيذ قيادةً حكيمةً، وشجاعةً فائقةً، وثباتاً كبيراً،
ومعرفةً تامةً بالنفوس وبطبقات المجتمع والتيارات الفكرية والسياسية والاجتماعية
وقوانين الإدارة والتربية وسنن الحياة، ونلخّصها في الكفاءة العلمية لإدارة دولة
عالمية دينية، هذا فضلاً عن العصمة التي تعبّر عن الكفاءة النفسية التي تصون
القيادة الدينية من كلّ سلوك منحرف أو عمل خاطئ بإمكانه أن يؤثّر تأثيراً
سلبيّاً على مسيرة القيادة وانقياد الأمة لها بحيث يتنافى مع أهداف الرسالة
وأغراضها. وقد سلك الأنبياء السابقون وأوصياؤهم المصطفون
طريق الهداية الدامي، واقتحموا سبيل التربية الشاقّ، وتحمّلوا في سبيل أداء
المهامّ الرسالية كلّ صعب، وقدّموا في سبيل تحقيق أهداف الرسالات الإلهية كلّ ما
يمكن أن يقدّمه الإنسان المتفاني في مبدئه وعقيدته، ولم يتراجعوا لحظة، ولم
يتلكّأوا طرفة عين. وقد توّج الله جهودهم وجهادهم المستمرّ
على مدى العصور برسالة خاتم الأنبياء محمد بن عبد الله صلىاللهعليهوآله
وحمّله الأمانة الكبرى ومسؤولية الهداية بجميع مراتبها، طالباً منه تحقيق
أهدافها. وقد خطا الرسول الأعظم صلىاللهعليهوآله
في هذا الطريق الوعر خطوات مدهشة، وحقّق
في أقصر فترة زمنية أكبر نتاج ممكن في حساب الدعوات التغييرية والرسالات
الثورية، وكانت حصيلة جهاده وكدحه ليل نهار خلال عقدين من الزمن ما يلي: 1 - تقديم رسالة كاملة للبشرية تحتوي على
عناصر الديمومة والبقاء. 2 - تزويدها بعناصر تصونها من الزيغ
والانحراف. 3 - تكوين اُمة مسلمة تؤمن بالإسلام مبدأً،
وبالرسول قائداً، وبالشريعة قانوناً للحياة. 4 - تأسيس دولة إسلامية وكيان سياسيٍّ يحمل
لواء الإسلام ويطبّق شريعة السماء. 5 - تقديم الوجه المشرق للقيادة الربّانية
الحكيمة المتمثّلة في قيادته صلىاللهعليهوآله. ولتحقيق أهداف الرسالة بشكل
كامل كان من الضروري: أ -
أن تستمرّ القيادة الكفوءة في تطبيق الرسالة وصيانتها من أيدي العابثين الذين
يتربّصون بها الدوائر. ب -
أن تستمرّ عملية التربية الصحيحة باستمرار الأجيال; على يد مربٍّ كفوء علمياً
ونفسياً حيث يكون قدوة حسنة في الخلق والسلوك كالرسول صلىاللهعليهوآله،
يستوعب الرسالة ويجسّدها في كل حركاته وسكناته. ومن هنا كان التخطيط الإلهيّ يحتّم على
الرسول صلىاللهعليهوآله
إعداد الصفوة من أهل بيته، والتصريح بأسمائهم وأدوارهم; لتسلّم مقاليد الحركة
النبويّة العظيمة والهداية الربّانية الخالدة بأمر من الله سبحانه وصيانة
للرسالة الإلهية التي كتب الله لها الخلود من تحريف الجاهلين وكيد الخائنين،
وتربية للأجيال على قيم ومفاهيم الشريعة المباركة التي تولّوا تبيين معالمها
وكشف أسرارها وذخائرها على مرّ العصور، وحتى يرث الله الأرض ومن عليها. وتجلّى هذا التخطيط الربّاني في ما نصّ
عليه الرسول صلىاللهعليهوآله
بقوله: (إنّي تارك فيكم الثقلين ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا: كتاب الله
وعترتي، وإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض). وكان أئمة أهل البيت صلوات الله عليهم
خير من عرّفهم النبي الأكرم صلىاللهعليهوآله
بأمر من الله تعالى لقيادة الأمة من بعده. إنّ سيرة الأئمّة الاثني عشر من أهل
البيت عليهمالسلام تمثّل
المسيرة الواقعية للإسلام بعد عصر الرسول صلىاللهعليهوآله،
ودراسة حياتهم بشكل مستوعب تكشف لنا عن صورة مستوعبة لحركة الإسلام الأصيل الذي
أخذ يشقّ طريقه إلى أعماق الأمة بعد أن أخذت طاقتها الحرارية تتضاءل بعد وفاة
الرسول صلىاللهعليهوآله، فأخذ الأئمة المعصومون عليهمالسلام
يعملون على توعية الأمة وتحريك طاقتها باتجاه إيجاد وتصعيد الوعي الرساليِّ
للشريعة ولحركة الرسول صلىاللهعليهوآله
وثورته المباركة، غير خارجين عن مسار السنن الكونية التي تتحكّم في سلوك القيادة
والأمة جمعاء. وتبلورت حياة الأئمّة الراشدين في
استمرارهم على نهج الرسول العظيم وانفتاح الأمة عليهم والتفاعل معهم كأعلام
للهداية ومصابيح لإنارة الدرب للسالكين المؤمنين بقيادتهم، فكانوا هم الأدلاّء
على الله وعلى مرضاته، والمستقرّين في أمر الله، والتامّين في محبّته، والذائبين
في الشوق إليه، والسابقين إلى تسلّق قمم الكمال الإنسانيّ المنشود. وقد حفلت حياتهم بأنواع الجهاد والصبر
على طاعة الله وتحمّل جفاء أهل الجفاء حتّى ضربوا أعلى أمثلة الصمود لتنفيذ
أحكام الله تعالى، ثم اختاروا الشهادة مع العزّ على الحياة مع الذلّ، حتى فازوا
بلقاء الله سبحانه بعد كفاح عظيم وجهاد كبير. ولا يستطيع المؤرّخون والكتّاب أن
يلمّوا بجميع زوايا حياتهم العطرة ويدّعوا دراستها بشكل كامل، ومن هنا فإنّ
محاولتنا هذه إنّما هي إعطاء قبسات من حياتهم، ولقطات من سيرتهم وسلوكهم
ومواقفهم التي دوّنها المؤرّخون واستطعنا اكتشافها من خلال مصادر الدراسة
والتحقيق، عسى الله أن ينفع بها إنّه وليّ التوفيق. إنّ دراستنا لحركة أهل البيت عليهمالسلام
الرسالية تبدأ برسول الإسلام وخاتم الأنبياء محمد بن عبد الله صلىاللهعليهوآله
وتنتهي بخاتم الأوصياء، محمد بن الحسن العسكري المهدي المنتظر عجّل الله تعالى
فرجه وأنار الأرض بعدله. ويختصّ هذا الكتاب بدراسة
حياة الإمام الحسين بن علي عليه السلام،
وهو المعصوم الخامس من أعلام الهداية، والثالث من الأئمة الاثني عشر بعد رسول
الله صلىاللهعليهوآله الذي
روَّى بدمه الطاهر ودماء أهل بيته وأصحابه الأبرار شجرة الإسلام العظيمة وصانها
من الذبول والانهيار فكان - كما أخبر عنه المصطفى صلىاللهعليهوآله
-: (مصباح الهدى وسفينة النجاة) لأمة جده صلىاللهعليهوآله
من الطغاة والظالمين. ولا بدَّ لنا من تقديم الشكر إلى كل
الإخوة الأعزّاء الذين بذلوا جهداً وافراً وشاركوا في إنجاز هذا المشروع المبارك
وإخراجه إلى عالم النور، لا سيَّما أعضاء لجنة
التأليف بإشراف سماحة السيد منذر الحكيم (حفظه الله تعالى). ولا يسعنا إلاّ أن نبتهل إلى الله
تعالى بالدعاء والشكر لتوفيقه على إنجاز هذه الموسوعة المباركة فإنه حسبنا ونعم
النصير. للمجمع العالمي لأهل البيت عليهم
السلام - قم المقدسة |
|||||||||||||||||||||||||||
|
الباب
الأول
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
فيه فصول: الفصل الأول: الإمام الحسين عليه
السلام في سطور. الفصل الثاني: انطباعات عن شخصيته عليه
السلام. الفصل الثالث: مظاهر من شخصيته عليه السلام. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
الفصل
الأول: الإمام الحسين الشهيد عليه السلام في سطور
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
* - الإمام أبو عبد الله الحسين بن عليّ بن
أبي طالب عليهماالسلام الشهيد
بكربلاء، ثالث أئمّة أهل البيت بعد رسول الله صلىاللهعليه وآله وسيّد شباب
أهل الجنة بإجماع المحدّثين، وأحد اثنين نسلت منهما ذرية الرسول صلىاللهعليهوآله
وأحد الأربعة الذين بأهل بهم رسول الله صلىاللهعليهوآله
نصارى نجران، ومن أصحاب الكساء الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، ومن
القربى الذين أمر الله بمودّتهم، وأحد الثقلين اللذين من تمسّك بهما نجا ومن
تخلّف عنهما ضلّ وغوى. * - نشأ الحسين مع أخيه الحسن
عليهماالسلام في أحضان طاهرة وحجور طيّبة ومباركة أُمّاً وأباً
وجدّاً، فتغذى من صافي معين جدّه المصطفى صلىاللهعليهوآله
وعظيم خلقه ووابل عطفه، وحظي بوافر حنانه ورعايته حتى أنّه ورّثه أدبه وهديه
وسؤدده وشجاعته، ممّا أهّله للإمامة الكبرى التي كانت تنتظره بعد إمامة أبيه
المرتضى وأخيه المجتبى عليهمالسلام وقد
صرّح بإمامته للمسلمين في أكثر من موقف بقولهصلىاللهعليهوآله:
(الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا)، (اللّهمّ إنّي أحبهما فأحب من يحبّهما). * - لقد التقى في هذا الإمام العظيم رافدا
النبوّة والإمامة، واجتمع فيه * - لقد كان الحسين بن علي عليهماالسلام
كأبيه المرتضى وأخيه المجتبى في جميع مراحل حياته ومواقفه العملية مثالاً
للإنسان الرسالي الكامل، وتجسيداً حيّاً للخلق النبويّ الرفيع في الصبر على
الأذى في ذات اللّه، والسماحة والجود والرحمة والشجاعة وإباء الضيم والعرفان
والتعبّد والخشية لله والتواضع للحقّ والثورة على الباطل، ورمزاً شامخاً للبطولة
والجهاد في سبيل الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأُسوة مثلى للإيثار
والتضحية لإحياء المُثل العليا التي اجتمعت في شريعة جدّه سيّد المرسلين، حتّى
قال عنه جدّه المصطفى صلىاللهعليهوآله: (حسين منّي وأنا من حسين) معبّراً
بذلك أبلغ التعبير عن سموّ هذه الشخصية العظيمة التي ولدها صلىاللهعليهوآله
وربّاها بيديه الكريمتين. * - بقي الحسين بن علىّ عليهما السلام بعد
جدّه في رعاية الصدّيقة الزهراء سيّدة النساء فاطمة عليهاالسلام
وفي كنف أبيه المرتضى سيّد الوصيّين وإمام المسلمين الذي عاش محنة الانحراف في
قيادة الأمة المسلمة بعد وفاة رسول الله صلىاللهعليه وآله وقد حفّت بأبيه
وأُمّه نكبات هذه المحنة والصراع مع الذين صادروا هذه الإمامة الكبرى بكل صلف
ودون حجّة أو برهان... لقد عاش الحسين * - شبَّ الإمام أبو عبد الله الحسين أيّام
خلافة عمر، وانصرف مع أبيه وأخيه عن السياسة والتصدي للحكم في ظاهر الأمر، وأقبل
على تثقيف الناس وتعليمهم معالم دينهم في خطّ الرسالة الصحيح، والذي كان يتمثّل
في سلوك والده عليّ بن أبي طالب عليه السلام ومواقفه المبدئية المشرّفة. * - وقف الإمام الحسين عليه السلام إلى
جانب أبيه عليه السلام في عهد عثمان، وهو في عنفوان شبابه يعمل مخلصاً لأجل
الإسلام، ويشترك مع أبيه في وضع حدّ للفساد الذي أخذ يستشري في جسم الأمة
والدولة معاً في ظلّ حكم عثمان وبطانته، ولم يتعدّ مواقف أبيه عليه السلام طيلة
هذه الفترة; بل عمل كجندي مخلص للقيادة الشرعية التي أناطها رسول الله صلىاللهعليهوآله
بأبيه المرتضى عليه السلام. * - وفي عهد الدولة العلوية المباركة وقف
الحسين إلى جانب أبيه عليهماالسلام
في جميع مواقفه وحروبه، ولم يتوانَ عن قتال الناكثين والقاسطين والمارقين، بينما
كان أبوه حريصاً على حياته وحياة أخيه الحسن عليه السلام خشية انقطاع نسل رسول الله صلىاللهعليهوآله
بموتهما، وبقيا إلى جانب أبيهما حتى آخر لحظة، وهما يعانيان من أهل العراق ما
كان يعانيه أبوهما المرتضىعليه السلام
حتّى استشهد في بيت من بيوت الله، وفاز بالشهادة وهو في محراب العبادة بمسجد
الكوفة، وفي أقدس لحظات حياته، أعني لحظة العبادة والتوجه إلى ربّ الكعبة، حيث
خرّ صريعاً وهو يقول: (فزتُ وربِّ الكعبة). * - ثمّ وقف إلى جانب أخيه الحسن المجتبى عليهماالسلام
بعد أن بايعه بالخلافة كما بايعه عامّة المسلمين في الكوفة من المهاجرين
والأنصار والتابعين لهم بإحسان، ولم يتعدّ مواقف أخيه الذي نصّ على إمامته كلّ
من جدّه وأبيه عليهماالسلام بالرغم من
كلّ المغريات التي كان يستعملها معاوية لإسقاط الإمام الحسن عليه السلام وتفتيت قواه والقضاء على حكومته المشروعة. * - لقد كان الحسين عليه السلام يعي مواقف
أخيه الحسن عليه السلام بشكل تامّ
والنتائج المترتّبة على تلك المواقف، لأنّه كان يدرك حراجة الظرف الذي كان يكتنف
الأمة الإسلامية آنذاك وبعد استشهاد الإمام علىّعليه
السلام بشكل خاص، حيث انطلت ألاعيب معاوية وشعاراته الزائفة على
جماعة كبيرة من السذّج والبسطاء، ممّن كانوا يشكّلون القاعدة العظمى في مجتمع
الكوفة ومركز الخلافة الإسلامية، فأصبحوا يشكّون ويشكّكون في حقّانية خطّ الإمام
عليّ ابن أبي طالب عليه السلام بعد ذلك التضليل الإعلامي الذي قام به معاوية
وبطانته وعمّاله في صفوف الجيش المساند للإمام عليه
السلام، ولم يستطع الإمام الحسن عليه السلام بكلّ ما أوتي من حنكة سياسية وشجاعة أدبية
ورصانة منطقية أن يقنع تلك القاعدة الشعبية، ويوقفها على زيف الشعارات الأُموية
في عدم صحّة الخضوع لشعار السلم الذي كان قد تسلّح به معاوية لنيل الخلافة بأبخس
الأثمان، ممّا اضطرّ الإمام الحسن عليه السلام للإقدام على الصلح من موقع القوة بعد أن
نفَّذَ جميع الخطط السياسية الممكنة، وبعد أن سلك جميع الطرق المعقولة التي
ينبغي للقائد المحنّك أن يسلكها في تلك الظروف السياسية والاجتماعية والنفسية
التي كان يعيشها الإمام الحسن عليه السلام وشيعته، فتنازل عن الخلافة، إلا انه لم يوقّع
على شرعيّة حاكميّة معاوية بالإضافة إلى أنّه قد اشترط شروطاً موضوعيةً تفضح
واقع معاوية والحكم الأموي على المدى القريب أو البعيد. * - وهكذا أفلح الإمام الحسن عليه السلام بعد أن اختار الطريق الصعب، وتحمّل ما تحمّل
من الأذى والمكروه من أقرب أفراد شيعته فضلاً عن أعدائه، حيث استطاع أن يكشف حقيقة
الحكم الأموي الجاهلي الذي ارتدى لباس الإسلام ورفع شعار الصلح والسلم، ليقضي
على الإسلام باسم الإسلام وبمن ينتسب إلى قريش قبيلة الرسول صلى اللهعليه وآله
بعد أن خطّط بشكل حاذق خطّةً يتناسى المسلمون بسببها أنّ آل أبي سفيان الذين
يتربّعون اليوم على كرسي الحكم الإسلامي، ويحكمون المسلمين باسم الرسول صلى اللهعليه
وآله وخلافته هم الذين حاربوا الإسلام بالأمس القريب. * - وبهذا هيّأ الإمام الحسن عليه السلام - بتوقيعه على وثيقة الصلح - الأرضية اللازمة
للثورة على الحكم الأموي الجاهليّ الذي ظهر بمظهر الإسلام من جديد، وذلك بعد أن
أخلف معاوية كلّ الشروط التي اشترطها عليه الإمام الحسن عليه السلام بما فيها عدم تعيين أحد للخلافة من بعده، وعدم
التعرّض لشيعة عليّ وللإمام الحسن والحسين عليهماالسلام بمكروه. ولم يستطع معاوية أن يتمالك نفسه أمام
هذه الشروط حتى سوّلت له نفسه أن يدسّ السمّ الفاتك إلى الإمام الحسن عليه السلام
ليستطيع توريث الخلافة لابنه الفاسق
يزيد.. ولكنّه لم يعِ نتائج هذا التنكّر للشروط ولنتائج هذه المؤامرة القذرة...
وقد أيقن المسلمون - بعد مرور عقدين من الحكم الأموي - بشراسة هذا الحكم
وجاهليّته، ممّا جعل القواعد الشعبية الشيعية تستعدّ لخوض معركة جديدة ضدّ
النظام الحاكم، وبذلك تهيّأت الظروف الملائمة للثورة، واكتملت الشروط اللازمة
بموت معاوية ومجيء يزيد الفاسق شارب الخمور والمستهتر بأحكام الدين إلى سدّة
الحكم، والإقدام على أخذ البيعة من وجوه الصحابة وعامّة التابعين، والإصرار على
أخذها من مثل أبيّ الضيم أبي عبد الله الحسين عليه السلام سيّد أهل الإباء
وإمام المسلمين. * - لقد حكم معاوية بن أبي سفيان ما يقارب
عشرين سنة متّبعاً سياسة التجويع
والإرهاب والخداع والتزوير، ممّا أدّى إلى انكشاف حقيقته للأمة من جهة، في حين
أنّها كانت قد ابتليت بداء موت الضمير وداء فقدان الإرادة من جهة اُخرى، وهكذا
استيقظت الأمة من سباتها وزال شكّها بحقّانية خطّ أهل البيت عليهم السلام، بعد
أن ارتفع جهلها بحقيقة الأمويين، ولكنّها لم تقوَ على مقارعة الظلم والظالمين،
وأصبحت كما قال الفرزدق للإمام الحسين عليه السلام حين كان متوجّهاً إلى العراق
ومستجيباً لدعوة الكوفيين: قلوبهم معك وسيوفهم عليك. ومن هنا تأكّد الموقف الشرعي للإمام الحسين
عليه السلام بعد أن توفّرت كلّ الظروف اللازمة للقيام في وجه الأمويين
الجاهليّين، بينما لم تكن النهضة مفيدة للأمة في حالة الابتلاء بمرض الشكّ
والترديد التي كانت تعاني منه في عصر الإمام الحسن السبطعليه
السلام. لقد تمّت الحجّة على الإمام الحسين بن علىّ عليهما
السلام حينما راسله أهل العراق وطلبوا منه التوجّه نحوهم، بعد أن أخرجوا عامل
بني أمية من الكوفة وتمرّدوا على الأمويين حيث كان هذا أحد مظاهر رجوع الوعي إلى
عامّة شيعة أهل البيت عليهم السلام. فاستجاب الإمام الحسين عليه السلام
لطلبهم، وتحرّك نحوهم بالرغم من علمه بعدم ثباتهم وضعف إرادتهم أمام إغراءات
الحاكمين واضطهادهم وإرهابهم، وذلك لأنّه كان لابد له من معالجة هذا المرض
الجديد الذى يؤدّي باستشرائه إلى ضياع معالم الرسالة وفسح المجال لتحويل الخلافة
إلى كسرويّة وقيصريّة، وإعطاء المشروعية لمثل حكم يزيد وأضرابه من الجاهليّين
الذين تستّروا بستار الشريعة الإسلامية لضرب الشريعة وتمزيقها. * - وبعد أن استجمعت ثورة الإمام الحسين
عليه السلام كلّ الشروط اللازمة |
|||||||||||||||||||||||||||
|
الفصل
الثاني: انطباعات عن شخصية الإمام الحسين عليه السلام
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
1 - مكانة الإمام الحسين عليه السلام
في آيات الذكر الحكيم:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
لم تتّفق كلمة المسلمين في شيء
كاتّفاقهم على فضل أهل البيت عليهمالسلام
وعلوّ مقامهم العلمي والروحي، وانطوائهم على مجموعة الكمالات التي أراد الله
للإنسانية أن تتحلى بها. ويعود هذا الاتّفاق إلى جملةٍ من
الأصول، منها تصريح الذكر الحكيم بالموقع الخاص لأهل البيت عليهمالسلام
من خلال التنصيص على تطهيرهم من الرجس، وأنّهم القربى الذين تجب مودّتهم كأجر للرسالة
التي أتحف الله بها الإنسانية جمعاء، وأنّهم الأبرار الذين أخلصوا الطاعة لله
وخافوا عذاب الله وتجلببوا بخشيته، فضمن لهم الجنّة والنجاة من عذابه. والإمام الحسين عليه
السلام هو من أهل البيت عليهمالسلام
المطهّرين من الرجس بلا ريب، بل هو ابن رسول الله بنصّ آية المباهلة التي جاءت
في حادثة المباهلة مع نصارى نجران. وقد خلّد القرآن الكريم هذا الحدث بمداليله
العميقة في قوله تعالى: (فَمَنْ حَاجّكَ فِيهِ مِن بَعْدِمَا
جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وروى جمهور المحدّثين بطرق مستفيضة
أنّها نزلت في أهل البيت، وهم: رسول الله وعليّ وفاطمة والحسن والحسين، كما
صرّحوا على أنّ الأبناء هنا هما الحسنان بلا ريب. وتضمّنت هذه الحادثة تصريحاً من الرسول
بأنّهم خير أهل الأرض وأكرمهم على الله، ولهذا فهو يباهل بهم، واعترف أسقف نجران
بذلك أيضاً قائلاً: (أرى وجوهاً لو سأل الله بها أحد أن يزيل جبلاً من مكانه
لأزاله)( نور الأبصار: 100، وراجع تفسير: الجلالين وروح البيان والكشّاف
والبيضاوي والرازي، وصحيح الترمذي: 2 / 166، وسنن البيهقي: 7 / 63، وصحيح مسلم:
كتاب فضائل الصحابة، ومسند أحمد: 1 / 85، ومصابيح السنة: 2 / 201.). وهكذا دلّت القصة كما دلّت الآية على
عظيم منزلتهم وسموّ مكانتهم وأفضليّتهم، وأنّهم أحبّ الخلق إلى الله ورسوله،
وأنّهم لا يدانيهم في فضلهم أحد من العالمين. ولم ينصّ القرآن الكريم على عصمة
أحد غير النبيّ من المسلمين سوى أهل البيت عليهم السلام الذين أراد الله أن
يطهّرهم من الرجس تطهيراً(كما نصّت على ذلك الآية 33 من سورة الأحزاب. ).
ولئن اختلف المسلمون في دخول نساء النبيّ في مفهوم أهل البيت; فإنّهم لم يختلفوا
قط في دخول عليّ والزهراء والحسنَيْن عليهمالسلام
في ما تقصده الآية المباركة (راجع التفسير الكبير للفخر الرازي وتفسير النيسابوري، وصحيح مسلم: 2
/ 33 وخصائص النسائي: 4، ومسند أحمد: 4 / 107، وسنن البيهقي: 2 / 150، ومشكل
الآثار: 1 / 334، ومستدرك الحاكم: 2 / 416، واُسد الغابة: 5 / 521. ومن هنا نستطيع أن نفهم السرّ الكامن
في وجوب مودّتهم والالتزام بخطّهم وترجيح حبّهم على حبّ من سواهم بنص الكتاب
العزيز((1) قال تعالى في سورة الشورى الآية 23 مخاطباً رسوله الكريم: (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي
الْقُرْبَى). وقال في سورة سبأ: (مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ).). فإنّ عصمة أهل البيت عليهمالسلام
أدلّ دليل على أنّ النجاة في متابعتهم حينما تتشعّب الطرق وتختلف الأهواء، فمن
عصمه الله من الرجس وكان دالاًّ على النجاة كان متّبعه ناجياً من الغرق. ونصّ النبي صلىاللهعليه وآله - كما
عن ابن عباس - بأنّ آية المودّة في القربى حينما نزلت وسأله بعض المسلمين عن
المقصود من القرابة التي أوجبت على المسلمين طاعتهم بقوله: إنّهم عليّ وفاطمة
وابناهما(راجع التفسير الكبير، وتفسير الطبري، والدر المنثور في تفسير آية
المودّة.). ولا يتركنا القرآن الحكيم حتّى يبيّن
لنا أسباب هذا التفضيل في سورة (الدهر) التي نزلت لبيان عظمة الواقع النفسي الذي
انطوى عليه أهل البيت عليهمالسلام
والإخلاص الذي تقترن به طاعتهم وعباداتهم بقوله تعالى: (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا
نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُوراً * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا
يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ
وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً
وَحَرِيراً)( الإنسان (76): 9 - 12.). لقد روى جمهور المفسّرين والمحدّثين
أنّ هذه السورة المباركة نزلت في أهل البيت بعد ما مرض الحسنان، ونذر الإمام
صيام ثلاثة أيام شكراً لله إن برئا، فوفوا بنذرهم أيّما وفاء، إنّه وفاءٌ جسَّد
أروع أنواع الإيثار حتّى نزل قوله تعالى: (إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ
مِزَاجُهَا كَافُوراً * عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا
تَفْجِيراً * يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ
مُسْتَطِيراً)( الإنسان (76): 5 - 7.)
فشكر الله سعيهم على هذا الإيثار والوفاء بما أورثهم في الآخرة وبما حباهم من
الإمامة للمسلمين في الدنيا حتّى يرث الأرض ومن عليها. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
2 - مكانة الإمام الحسين
عليه السلام لدى خاتم المرسلين صلىالله عليه وآله:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
لقد خصّ الرسول الأعظم
حفيديه الحسن والحسين عليهماالسلام
بأوصاف تنبئ عن عظم منزلتهما لديه، فهما: 1 - ريحانتاه من الدنيا وريحانتاه من هذه
الأمّة(صحيح البخاري: 2 / 188، وسنن الترمذي: 539.). 2 - وهما خير أهل الأرض(عيون أخبار الرضا: 2 / 62.). 3 - وهما سيّدا شباب أهل الجنّة(سنن ابن ماجة: 1 / 56، والترمذي: 539.). 4 - وهما إمامان قاما أو قعدا(المناقب لابن شهر آشوب: 3 / 163. نقلاً عن مسند أحمد وجامع الترمذي
وسنن ابن ماجة وغيرهم.). 5 - وهما من العترة (أهل البيت) التي لا
تفترق عن القرآن إلى يوم القيامة، ولن تضلّ أمة تمسّكت بهما(جامع الترمذي: 541، ومستدرك الحاكم: 3 / 109.). 6 - كما أنّهما من أهل البيت الذين يضمنون
لراكبي سفينتهم النجاة من
الغرق(حلية الأولياء: 4 / 306.). 7 - وهما ممّن قال عنهم جدّهم: (النجوم
أمان لأهل الأرض من الغرق وأهل بيتي أمان لأهل الأرض من الاختلاف)( مستدرك الحاكم: 3 / 149.). 8 - وقد استفاض الحديث عن مجموعة من أصحاب
الرسول صلىاللهعليهوآله
أنّهم قد سمعوا مقالته فيما يخصّ الحسنين عليهماالسلام:
(اللهمّ إنّك تعلم أنّي أحبهما فأحبَّهما وأحبّ من يحبّهما)( خصائص النسائي: 26.). |
|||||||||||||||||||||||||||
3 - مكانة الإمام الحسين عليه السلام لدى
معاصريه:
|
||||||||||||||||||||||||||||
1 - قال عمر بن الخطاب للحسين عليه
السلام: فإنّما أنبت ما ترى في رؤوسنا الله ثم أنتم(الإصابة: 1 / 333، وقال: سنده صحيح.). 2 - قال عثمان بن عفان في الحسن والحسين
عليهماالسلام وعبد الله بن جعفر: فطموا العلم فطماً(فطموا العلم فطماً: أي قطعوه عن غيرهم قطعاً، وجمعوه لأنفسهم جمعاً.)
وحازوا الخير والحكمة(الخصال: 136.). 3 - قال أبو هريرة: دخل الحسين بن عليّ وهو
معتم، فظننت أنّ النبيّ قد بعث(بحار الأنوار: 10 / 82.). وكان عليه
السلام في جنازة فأعيا، وقعد في الطريق، فجعل أبو هريرة ينفض
التراب عن قدميه بطرف ثوبه، فقال له: يا
أبا هريرة وأنت تفعل هذا، فقال له: دعني، فوالله لو يعلم الناس
منك ما أعلم لحملوك على رقابهم(تاريخ ابن عساكر: 4 / 322.). 4 - أخذ عبد الله بن عباس بركاب الحسن
والحسين عليهماالسلام، فعوتب في
ذلك، وقيل له: أنت أسنّ منهما! فقال: إنّ هذين ابنا رسول الله صلىاللهعليهوآله،
أفليس من سعادتي أن آخذ بركابهما(تاريخ ابن عساكر: 4/322.)؟ وقال له معاوية بعد وفاة الحسن عليه
السلام: يا ابن عباس أصبحت سيّد قومك، فقال: أمّا ما أبقى الله
أبا عبد الله الحسين فلا(حياة الإمام الحسين، للقرشي: 2 / 500.). 5 - قال أنس بن مالك - وكان قد رأى الحسين عليه
السلام -: كان أشبههم برسول الله صلىاللهعليه وآله(أعيان الشيعة: 1 / 563.). 6 - قال زيد بن أرقم لابن زياد- حين كان
يضرب شفتي الحسين عليه السلام -:
اعل بهذا القضيب، فوالله الذي لا إله غيره، لقد رأيت شفتي رسول الله صلىاللهعليهوآله
على هاتين الشفتين يقبّلهما، ثم بكى. فقال له ابن زياد:
أبكى الله عينك، فوالله لولا أنّك شيخ قد خرفت لضربت عنقك، فخرج وهو يقول: أنتم
يا معشر العرب العبيد بعد اليوم! قتلتم الحسين ابن فاطمة وأمّرتم ابن مرجانة!
فهو يقتل خياركم ويستبقي شراركم(أُسد الغابة: 2 / 21.). 7 - قال أبو برزة الأسلمي ليزيد حينما رآه
ينكث ثغر الحسين عليه السلام:
أتنكث بقضيبك في ثغر الحسين؟! أما لقد أخذ قضيبك في ثغره مأخذاً لربّما رأيت
رسول الله صلىاللهعليهوآله
يرشفه. أما إنّك يا يزيد تجيء يوم القيامة وابن زياد شفيعك! ويجيء هذا ومحمّد
شفيعه(الحسن والحسين سبطا رسول الله: 198.). 8 - وحين قال معاوية لعبد الله بن جعفر:
أنت سيّد بني هاشم؟ أجابه قائلاً: سيّد بني هاشم حسن وحسين(الحسن بن عليّ لكامل سليمان: 173.). وكتب إليه:
إن هلكت اليوم طفئ نور الإسلام فإنّك علم المهتدين ورجاء المؤمنين(البداية والنهاية: 8 / 167.). 9 - سأل رجل عبد الله بن عمر عن دم البعوض
يكون في الثوب أفيصلَّى فيه؟ فقال له: ممّن أنت؟ قال: من أهل العراق، فقال ابن
عمر: اُنظروا إلى هذا، يسألني عن دم البعوض وقد قتلوا ابن رسول الله صلىاللهعليهوآله!
وقد سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآله
يقول: هما ريحانتاي من الدنيا(تاريخ ابن عساكر: 4 / 314.). 10 - قال محمد بن الحنفية: إنّ الحسين
أعلمنا علماً، وأثقلنا حلماً، وأقربنا من رسول الله صلىاللهعليهوآله
رحماً، كان إماماً فقيهاً...)( بحار الأنوار: 10 / 140.). 11 - مرّ الحسين عليه
السلام بعمرو بن العاص وهو جالس في ظلّ الكعبة فقال: هذا أحب أهل
الأرض إلى أهل الأرض وإلى أهل السماء اليوم(تأريخ ابن عساكر: 4 / 322.). 12 - قال عبد الله بن عمرو بن العاص وقد
مرّ عليه الحسين عليه السلام: من
أحبّ أن ينظر إلى أحبّ أهل الأرض إلى أهل السماء فلينظر إلى هذا المجتاز(بحار الأنوار: 10 / 83.). 13 - وحين أشار يزيد على أبيه معاوية أن
يكتب للحسين عليه السلام جواباً عن
كتاب كتبه له، على أن يصغّر فيه الحسين عليه السلام، قال معاوية رادّاً عليه:
وما عسيت أن أعيب حسيناً، ووالله ما أرى للعيب فيه موضعاً(أعيان الشيعة: 1 / 583.). 14 - قال الوليد بن عتبة بن أبي سفيان
(والي المدينة) لمروان بن الحكم - لمّا أشار عليه بقتل الحسين عليه
السلام إذا لم يبايع -: والله يا مروان ما أُحبّ أنّ لي الدنيا
وما فيها وأنّي قتلت الحسين. سبحان الله! أقتل حسيناً إن قال لا أبايع؟ والله
إنّي لأظنّ أنّ من يقتل الحسين يكون خفيف الميزان يوم القيامة(البداية والنهاية: 8 / 147.). 15 - لمّا قبض ابن زياد على قيس بن مسهر
الصيداوي - رسول الحسين عليه السلام إلى
أهل الكوفة - أمره أن يصعد المنبر ويسبّ الحسين وأباه، فصعد المنبر فحمد الله
وأثنى عليه، ثم قال: أيّها الناس، إنّ هذا الحسين بن عليّ، خير خلق الله، وهو
ابن فاطمة بنت رسول الله صلىاللهعليهوآله،
وأنا رسوله إليكم، وقد فارقته بالحاجر من بطن ذي الرمة فأجيبوه، واسمعوا له
وأطيعوا. ثم لعن عبيد الله بن زياد وأباه، واستغفر لعليّ والحسين. فأمر به ابن
زياد، فألقي من رأس القصر، فتقطّع(المصدر السابق: 18 / 168.). 16 - من خطبة ليزيد بن مسعود النهشلي (رحمه
الله): وهذا الحسين بن عليّ ابن رسول الله عليه
السلام، ذو الشرف الأصيل، والرأي الأثيل، له فضل لا يوصف، وعلم
لا ينزف، وهو أولى بهذا الأمر لسابقته وسنّه وقدمه وقرابته. يعطف على الصغير،
ويحنو على الكبير. فأكرم به راعي رعيّة، وإمام قوم وجبت لله به الحجّة، وبلغت به
الموعظة(أعيان الشيعة: 1 / 590.). 17 - قال عبد الله بن الحرّ الجعفي: ما
رأيت أحداً قطّ أحسن ولا أملأ للعين من الحسين(أعيان الشيعة: 4 / ق 1 / 118.). 18 - قال إبراهيم النخعي: لو كنتُ فيمن
قاتل الحسين ثم أُدخلت الجنّة لاستحييت أن أنظر إلى وجه رسول الله صلىاللهعليهوآله(الإصابة: 1 / 335.). |
||||||||||||||||||||||||||||
4 - الإمام الحسين عليه السلام
عبر القرون والأجيال:
|
||||||||||||||||||||||||||||
|
1 - قال الربيع بن خيثم لبعض من شهد قتل
الحسين عليه السلام: والله لقد
قتلتم صفوة لو أدركهم رسول الله صلىاللهعليهوآله
لقبّل أفواههم، وأجلسهم في حجره(بحار الأنوار: 10 / 79.). 2 - قال ابن سيرين: لم تبك السماء على أحد
بعد يحيى بن زكريا إلاّ على الحسين عليه
السلام، ولمّا قتل اسودّت السماء، وظهرت الكواكب نهاراً، حتّى
رؤيت الجوزاء عند العصر، وسقط التراب الأحمر، ومكثت السماء سبعة أيام بلياليها
كأنّها علقة(تأريخ ابن عساكر: 4 / 339.). 3 - قال علي جلال الحسيني: السيّد الزكي
الإمام أبو عبد الله الحسين عليه السلام ابن بنت رسول الله صلىاللهعليه وآله
وريحانته، وابن أمير المؤمنيين عليّ كرم الله وجهه، وشأن بيت النبوّة له أشرف
نسب وأكمل نفس، جمع الفضائل ومكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، من علوّ الهمّة،
ومنتهى الشجاعة، وأقصى غاية الجود، وأسرار العلم، وفصاحة اللسان، ونصرة الحقّ،
والنهي عن المنكر، وجهاد الظلم، والتواضع عن عزّ، والعدل، والصبر، والحلم،
والعفاف، والمروءة، والورع وغيرها. واختصّ بسلامة الفطرة، وجمال الخلقة،
ورجاحة العقل، وقوة الجسم، وأضاف إلى هذه المحامد كثرة العبادة وأفعال الخير،
كالصلاة والحج والجهاد في سبيل الله والإحسان. وكان إذا أقام بالمدينة أو غيرها
مفيداً بعلمه، مرشداً بعمله، مهذّباً بكريم أخلاقه، ومؤدّباً ببليغ بيانه،
سخيّاً بماله، متواضعاً للفقراء، معظّماً عند الخلفاء، موصلاً للصدقة على
الأيتام والمساكين، منتصفاً للمظلومين، مشتغلاً بعبادته، مشى من المدينة على
قدميه إلى مكّة حاجّاً خمساً وعشرين مرّة... كان الحسين في وقته علم المهتدين
ونور الأرض، فأخبار حياته فيها هدىً للمسترشدين بأنوار محاسنه المقتفين آثار
فضله(راجع كتابه ( الحسين ) عليه السلام: 1/6. وراجع أيضاً: مجمع الزوائد: 9/201
وبحار الأنوار: 44/193.). 4 - قال محمد رضا المصري: هو ابن بنت رسول الله
صلىاللهعليه وآله، وعلم المهتدين، ورجاء المؤمنين(الحسن والحسين سبطا رسول الله صلىاللهعليهوآله: 75.). 5 - قال عمر رضا كحالة: الحسين بن عليّ،
وهو سيّد أهل العراق فقهاً وحالاً وجوداً وبذلاً(أعلام النساء: 1 / 28.). 6 - قال عبد الله العلايلي: جاء في أخبار
الحسين: أنّه كان صورة احتبكت ظلالها من أشكال جدّه العظيم، فأفاض النبيّ صلىاللهعليهوآله
إشعاعة غامرة من حبّه، وأشياء نفسه، ليتمّ له أيضاً من وراء الصورة معناها فتكون
حقيقة من بعد كما كانت من قبل إنسانية ارتقت إلى نبوّة (أنا من حسين) ونبوة هبطت
إلى إنسانية (حسين منّي) فسلام عليه يوم ولد(تاريخ الحسين عليه السلام: 226.). 7 - قال عباس محمود العقّاد: مثل للناس في
حلّة من النور تخشع لها الأبصار، وباء بالفخر الذي لا فخر مثله في تواريخ بني
الإنسان، غير مستثنىً منهم عربي ولا عجمي، وقديم وحديث، فليس في العالم اُسرة
أنجبت من الشهداء من أنجبتهم اُسرة الحسين عدّة وقدرة وذكرة، وحسبه أنّه وحده في
تأريخ هذه الدنيا الشهيد ابن الشهيد أبو الشهداء في مئات السنين(أبو الشهداء الحسين بن عليّ عليهماالسلام: 150، طبعة النجف، مطبعة الغري الحديثة.). 8 - قال عمر أبو النصر: هذه قصة أسرة من
قريش. حملت لواء التضحية والاستشهاد والبطولة من مشرق الأرض إلى مغربها. قصة
ألّف فصولها شباب ما عاشوا كما عاش الناس، ولا ماتوا كما مات الناس، ذلك أنّ
الله شرّف هذه الجماعة من خلقه بأن جعل النبوّة والوحي والإلهام في منازلها،
وزاد ندى فلم يشأ لها حظّ الرجل العادي من عبادة، وإنّما أرادها للتشريد
والاستشهاد، وأرادها للمثل العليا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكتب لها
أن تتزعّم لواء التقوى والصلاح إلى آخر ما يكون من ذرّيتها(آل محمد في كربلاء: 30.). 9 - قال عبد الحفيظ أبو السعود: عنوان
النضال الحرّ، والجهاد المستميت، والاستشهاد في سبيل المبدأ والعقيدة، وعدم
الخضوع لجور السلطان وبغي الحاكمين(سبطا رسول الله الحسن والحسين: 188.). 10 - قال أحمد حسن لطفي: إنّ الموت الذي
كان ينشده فيها كان يمثّل في نظره مثلاً أروع من كلّ مثل الحياة، لأنّه الطريق
إلى الله الذي منه المبتدأ واليه المنتهى، ولأنّه السبيل إلى الانتصار وإلى
الخلود، فهو أعظم بطل ينتصر بالموت على الموت(الشهيد الخالد الحسين بن عليّ: 47.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
الفصل
الثالث: مظاهر من شخصية الإمام الحسين عليه السلام
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
ولد الإمام الحسين بن علىّ عليهما
السلام في بيت كان محطّ الملائكة ومهبط التنزيل، في بقعة طاهرة تتصل بالسماء
طوال يومها بلا انقطاع، وتتناغم مع أنفاسه آيات القرآن التي تتلى آناء الليل
والنهار، وترعرع بين شخصيّات مقدّسة تجلّلت بآيات الله، ونهل من نمير الرسالة
عذب الارتباط مع الخالق، وصاغ لبنات شخصيته نبي الرحمة صلىاللهعليهوآله
بفيض مكارم أخلاقه وعظمة روحه. فكان الحسين عليه السلام صورة لمحمّدصلىاللهعليهوآله
في أمته، يتحرّك فيها على هدى القرآن، ويتحدّث بفكر الرسالة، ويسير على خطى جدّه
العظيم ليبيّن مكارم الأخلاق، ويرعى للأمة شؤونها، ولا يغفل عن هدايتها ونصحها
ونصرتها، جاعلاً من نفسه المقدسة أنموذجاً حيّاً لما أرادته الرسالة والرسول، فكان
عليه السلام نور هدىً للضالّين وسلسبيلاً عذباً للراغبين وعماداً يستند إليه
المؤمنون وحجّة يركن إليها الصالحون، وفيصل حقّ إذ يتخاصم المسلمون، وسيف عدل
يغضب لله ويثور من أجل الله. وحين نهض كان بيده مشعل الرسالة الذي حمله جدّه النبي
صلىاللهعليه وآله يدافع عن دينه ورسالته العظيمة. ومن الإمعان في شخصيّة
الإمام الحسين عليه السلام الفذّة نتلمّس المظاهر التالية: |
|||||||||||||||||||||||||||
|
1 - تواضعه عليه السلام:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
جُبل أبو عبد الله الحسين عليه السلام
على التواضع ومجافاة الأنانية، وهو صاحب النسب الرفيع والشرف العالي والمنزلة
الخصيصة لدى الرسول صلى اللهعليه وآله فكان عليه السلام يعيش في الأمة لا
يأنف من فقيرها ولا يترفّع على ضعيفها ولا يتكبّر على أحد فيها، يقتدي بجدّه
العظيم المبعوث رحمةً للعالمين، يبتغي بذلك رضا الله وتربية الأمة، وقد نُقلت عنه
عليه السلام مواقف كثيرة تعامل فيها مع سائر المسلمين بكلّ تواضع مظهراً سماحة
الرسالة ولطف شخصيّته الكريمة، ومن ذلك: إنّه عليه السلام
قد مرّ بمساكين وهم يأكلون كسراً (خبزاً يابساً) على كساء، فسلّم عليهم، فدعوه
إلى طعامهم فجلس معهم وقال: لولا أنّه صدقة لأكلت معكم. ثمّ قال: قوموا إلى
منزلي، فأطعمهم وكساهم وأمر لهم بدراهم. وروي: أنّه عليه
السلام مرّ بمساكين يأكلون في الصُّفَة، فقالوا: الغداء، فقال
عليه السلام: إنّ الله لا يحب المتكبّرين، فجلس وتغدّى معهم ثم قال لهم: قد
أجبتكم فأجيبوني، قالوا: نعم، فمضى بهم إلى منزله وقال لزوجته: أخرجي ما كنت
تدّخرين((1) أعيان الشيعة: 1 / 580، تأريخ ابن عساكر: ترجمة الإمام الحسين عليه السلام حديث 196، وتفسير البرهان: 2 / 363.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
2 - حلمه وعفوه عليه السلام:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
تأدّب الحسين السبط عليه
السلام بآداب النبوّة، وحمل روح جدّه الرسول الأعظم صلى اللهعليه
وآله يوم عفى عمّن حاربه ووقف ضد الرسالة الإسلامية، لقد كان قلبه يتّسع لكلّ
الناس، وكان حريصاً على هدايتهم متغاضياً في هذا السبيل عن إساءة جاهلهم، يحدوه
رضا الله تعالى، يقرّب المذنبين ويطمئنهم ويزرع فيهم الأمل برحمة الله، فكان لا
يردّ على مسيء إساءة، بل يحنو عليه ويرشده إلى طريق الحقّ وينقذه من الضلال. فقد روي عنه عليه السلام أنّه قال:
(لو شتمني رجل في هذه الأُذن - وأومأ إلى اليمنى - واعتذر لي في اليسرى لقبلت
ذلك منه، وذلك أنّ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام حدّثني أنّه سمع
جدّي رسول الله صلىاللهعليه وآله يقول: لا يرد الحوض مَن لم يقبل العذر من
محق أو مبطل(إحقاق الحقّ: 11 / 431.). كما روي أنّ غلاماً له جنى جنايةً كانت
توجب العقاب، فأمر بتأديبه فانبرى العبد قائلاً: يا مولاي والكاظمين الغيظ، فقال
عليه السلام: خلّوا عنه، فقال: يا مولاي والعافين عن الناس، فقال عليه السلام:
قد عفوت عنك، قال: يا مولاي والله يحب المحسنين، فقال عليه السلام: أنت حرّ
لوجه الله ولك ضعف ما كنت أعطك(كشف الغمّة: 2 / 31، والفصول المهمة لابن الصبّاغ: 168 مع اختلاف
يسير، وأعيان الشيعة: 4 / 53.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
3 - جوده وكرمه عليه السلام:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
وبنفس كبيرة كان الإمام الحسين بن علي
عليهماالسلام يعين الفقراء والمحتاجين، ويحنو على الأرامل والأيتام، ويثلج قلوب
الوافدين عليه، ويقضي حوائج السائلين من دون أن يجعلهم يشعرون بذلّ المسألة،
ويصل رحمه دون انقطاع، ولم يصله مال إلاّ فرّقه وأنفقه وهذه سجية الجواد وشنشنة
الكريم وسمة ذي السماحة. فكان يحمل في دجى الليل البهيم جراباً
مملوءً طعاماً ونقوداً إلى منازل الأرامل واليتامى حتّى شهد له بهذا الكرم
معاوية بن أبي سفيان، وذلك حين بعث لعدّة شخصيات بهدايا، فقال متنبّئاً: أمّا
الحسين فيبدأ بأيتام من قتل مع أبيه بصفّين، فإن بقي شيء نحر به الجزور وسقى به
اللبن(حياة الإمام الحسين: 1 / 128 عن عيون الأخبار.). وفي موقف مفعم باللطف والإنسانية
والحنان جعل العتق رداً للتحية، فقد روى عن أنس أنّه قال: كنت عند الحسين فدخلت
عليه جارية بيدها طاقة ريحان فحيّته بها، فقال لها: أنت حرّة لوجه الله تعالى.
وانبهر أنس وقال: جارية تجيئك بطاقة ريحان فتعتقها؟! فقال عليه
السلام: كذا أدّبنا الله، قال تبارك وتعالى: (وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ
مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا)،
وكان أحسن منها عتقها(كشف الغمّة: 2 / 31، والفصول المهمة: 167.). ومن كرمه وعفوه أنّه وقفعليه
السلام ليقضي دين أسامة بن زيد وليفرّج عن همّه الذي كان قد
اعتراه وهو في مرضه(بحار الأنوار: 44 / 189، ومناقب آل أبي طالب: 4 / 65.)، رغم
أنّ أسامة كان قد وقف في الصفّ المناوئ لأبيه أمير المؤمنينعليه
السلام. ووقف ذات مرّة سائل على باب الحسين
عليه السلام وأنشد قائلاً:
فأسرع إليه الإمام الحسين عليه السلام
وما أن وجد أثر الفاقة عليه حتّى نادى بقنبر وقال متسائلاً: ما تبقّى من نفقتنا؟
قال: مائتا درهم أمرتني بتفرقتها في أهل بيتك، فقال عليه السلام: هاتها فقد أتى
مَن هو أحقّ بها منهم، فأخذها ودفعها إلى السائل معتذراً منه، وأنشد قائلاً:
فأخذها الأعرابي شاكراً وهو
يدعو لهعليه السلام
بالخير، وأنشد مادحاً:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
تأريخ ابن عساكر: 4 / 323، ومناقب آل أبي طالب: 4 / 65. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
4 - شجاعته عليه السلام:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
إنّ المرء ليعجز عن الوصف والقول حين
يطالع صفحة الشجاعة من شخصية الإمام الحسين عليه السلام; فإنّه ورثها عن آبائه
وتربّى عليها ونشأ فيها، فهو من معدنها وأصلها، وهو الشجاع في قول الحقّ
والمستبسل للدفاع عنه، فقد ورث ذلك عن جدّه العظيم محمّدصلىاللهعليهوآله
الذي وقف أمام أعتى قوّة مشركة حتّى انتصر عليها بالعقيدة والإيمان والجهاد في
سبيل الله تعالى. ووقف مع أبيه - أمير المؤمنين عليه السلام
- يعيد الإسلام حاكماً، وينهض بالأمة في طريق دعوتها الخالصة، يصارع قوى الضلال
والانحراف بالقول والفعل وقوة السلاح ليعيد الحقّ إلى نصّابه. ووقف مع أخيه الإمام الحسن عليه السلام
موقف الأبطال المضحّين من أجل سلامة
الأمة ونجاة الصفوة المؤمنة المتمسّكة بنهج الرسالة الإسلامية. ووقف صامداً حين تقاعست جماهير
المسلمين عن نصرة دينها أمام جبروت معاوية وضلاله وأزلامه والتيار الذي قاده
لتشويه الدين القويم. ولم يخش كلّ التهديدات ولا ما كان يلوح
في الأفق من نهاية مأساوية نتيجة الخروج لطلب الإصلاح وإحياء رسالة جدّه النبي
صلىاللهعليه وآله والوقوف في وجه الظلم والفساد، فخرج وهو مسلّم لأمر الله
وساع لابتغاء مرضاته، وها هوعليه السلام
يردُّ على الحرّ بن يزيد الرياحي حين قال له: أذكِّرك الله في نفسك فإنّي أشهد
لئن قاتلت لتقتلنّ، ولئن قوتلت لتهلكنّ، فقال له الإمام أبو عبد اللهعليه
السلام: أبالموت تخوّفني؟ وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني؟ ما
أدري ما أقول لك؟ ولكن أقول كما قال أخو الأوس
لابن عمّه:
تأريخ الطبري: 4 / 254، والكامل في التأريخ: 3 / 270. ووقف عليه
السلام يوم الطفّ موقفاً حيّر به الألباب وأذهل به العقول، فلم
ينكسر أمام جليل المصاب حتّى عندما بقي وحيداً، فقد كان طوداً شامخاً لا يدنو
منه العدوّ هيبةً وخوفاً رغم جراحاته الكثيرة حتى شهد له عدوّه بذلك، فقد قال
حميد بن مسلم: فوالله ما رأيت مكثوراً قطّ قد قتل ولده وأهل بيته وأصحابه أربط
جأشاً ولا أمضى جناناً منه، إن كانت الرجّالة لتشدّ عليه فيشد عليها بسيفه
فيكشفهم عن يمينه وشماله انكشاف المعزى إذا اشتد عليها الذئب(إعلام الورى: 1 / 468، وتأريخ الطبري: 5 / 540.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
5 - إباؤه عليه السلام:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
لقد تجلّت صورة الثائر المسلم بأبهى
صورها وأكملها في إباء الإمام الحسين عليه السلام ورفضه للصبر على الحيف
والسكوت على الظلم، فسنّ بذلك للأجيال اللاحقة سنّة الإباء والتضحية من أجل
العقيدة وفي سبيلها، حين وقف ذلك الموقف الرسالي العظيم يهزّ الأمة ويشجّعها أن
لا تموت هواناً وذلاًّ، رافضاً بيعة الطليق ابن الطليق يزيد بن معاوية قائلاً:
(إنّ مثلي لا يبايع مثله). وها هو يصرّح لأخيه محمد بن الحنفية
مجسّداً ذلك الإباء بقوله عليه السلام: (يا أخي! والله لو لم يكن في الدنيا
ملجأ ولا مأوى لما بايعت يزيد بن معاوية)( الفتوح لابن أعثم: 5 / 23، ومقتل الحسين للخوارزمي: 1 / 188، وبحار
الأنوار: 44 / 329.). ورغم أنّ الشيطان كان قد استحكم على
ضمائر الناس فأماتها حتّى رضيت بالهوان، لكن الإمام الحسين عليه السلام وقف
صارخاً بوجه جحافل الشرّ والظلم من جيوش الردّة الأُموية قائلاً: (والله لا
أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أقرّ إقرار العبيد، (إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ
تَرْجُمُونِ))( مقتل الحسين للمقرّم: 280، وتأريخ الطبري: 4 / 330، وإعلام الورى: 1
/ 459، وأعيان الشيعة: 1 / 602.). لقد كانت كلمات الإمام أبي عبد الله الحسين
عليه السلام تعبّر عن أسمى مواقف أصحاب المبادئ والقيم وحملة الرسالات، كما
تنمّ عن عزته واعتداده بالنفس، فقد قال عليه السلام: (ألا وإنّ الدعيَّ ابن
الدعيَّ قد ركز بين اثنتين بين السلّة والذلّة، وهيهات منّا الذلة، يأبى الله
ذلك ورسوله والمؤمنون، وحجور طابت وطهرت، وأنوف حميّة، ونفوس أبيّة من أن تؤثر
طاعة اللئام على مصارع الكرام)( أعيان الشيعة: 1 / 603، والاحتجاج: 2 / 24، ومقتل الحسين عليه السلام للخوارزمي: 2 / 6.). وهكذا علّم الإمام الحسين عليه السلام
البشرية كيف يكون الإباء في المواقف وكيف تكون التضحية من أجل الرسالة. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
6 - الصراحة والجرأة في الإصحار بالحقّ:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
لقد كانت نهضة الإمام الحسين عليه
السلام وثورته بركاناً تفجّر في تأريخ الرسالة الإسلامية
وزلزالاً صاخباً أيقظ ضمير المتقاعسين عن نصرة الحقّ، والكلمة الطيبة التي دعت
كلّ الثائرين والمخلصين للعقيدة والرسالة الإسلامية إلى مواصلة المسيرة في بناء
المجتمع الصالح وفق ما أراده الله تعالى ورسوله صلىاللهعليه وآله. وقد نهج الإمام الحسين عليه السلام
منهج الصراحة والمكاشفة موضّحاً للأمة الخلل والزيغ والطريق الصحيح، فها هو بكل
جرأة يقف أمام الطاغية يحذّره ويمنعه عن التمادي في الغيّ والفساد... فهذه كتبهعليه
السلام إلى معاوية واضحة لا لبس فيها ينذره ويحذّر من الاستمرار
في ظلمه ويكشف للأمة مدى ضلالته وفساده(الإمامة والسياسة: 1 / 189 و 195.). وبكلّ صراحة وقوّة رفض البيعة ليزيد بن
معاوية، وقال موضّحاً للوليد ابن عتبة حين كان والياً ليزيد: (إنّا أهل بيت
النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة ومحل الرحمة، بنا فتح الله وبنا ختم،
ويزيد فاسق فاجر، شارب للخمر، قاتل النفس المحترمة، معلن بالفسق والفجور، ومثلي
لا يبايع مثله)( الفتوح: 5 / 14، ومقتل الحسين للخوارزمي: 1 / 184، وبحار الأنوار:
44 / 325.). وكانت صراحته ساطعة مع أصحابه ومن أعلن
عن نصرته، ففي أثناء المسير باتّجاه الكوفة وصله نبأ استشهاد مسلم بن عقيل
وخذلان الناس له، فقال عليه السلام للذين اتّبعوه طلباً للعافية: (قد خذلنا
شيعتنا فمن أحبّ منكم الانصراف فلينصرف غير حرج، ليس عليه ذمام)( الإرشاد: 2/75، وتأريخ الطبري: 3 / 303، والبداية والنهاية: 8 /
182، وبحار الأنوار: 44 / 374.). فتفرّق عنه ذوو الأطماع وضعاف اليقين،
وبقيت معه الصفوة الخيّرة من أهل بيته وأصحابه، ولم يخادع ولم يداهن في الوقت
الذي كان يعزّ فيه الناصر. وقبل وقوع المعركة أذن لكل مَن كان قد
تبعه من المخلصين في الانصراف عنه قائلاً: (إنّي لا أعلم أصحاباً أصحّ منكم ولا
أعدل ولا أفضل أهل بيت، فجزاكم الله عنّي خيراً، فهذا الليل قد أقبل فقوموا
واتّخذوه جملاً، وليأخذ كلّ رجل منكم بيد صاحبه أو رجل من إخوتي وتفرّقوا في
سواد هذا الليل، وذروني وهؤلاء القوم، فإنّهم لا يطلبون غيري، ولو أصابوني
وقدروا على قتلي لما طلبوكم)( الفتوح: 5 / 105، وتأريخ الطبري: 3 / 315، وأعيان الشيعة: 1 / 600.). والحقّ أنّ من يطالع كلّ تفاصيل نهضة
الإمام الحسين عليه السلام سيجد الصدق والصراحة والجرأة في كلّ قول وفعل في
جميع خطوات نهضته المباركة. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
7 - عبادته وتقواه عليه السلام:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
ما انقطع أبو عبد الله الحسين عليه السلام
عن الاتّصال بربّه في كلّ لحظاته وسكناته، فقد بقي يجسّد اتّصاله هذا بصيغة
العبادة لله، ويوثّق العرى مع الخالق جلّت قدرته، ويشدّ التضحية بالطاعة الإلهية
متفانياً في ذات الله ومن أجله، وقد كانت عبادته ثمرة معرفته الحقيقية بالله
تعالى. وإنّ نظرة واحدة إلى دعائه عليه
السلام في يوم عرفة تبرهن على عمق هذه المعرفة وشدّة العلاقة مع
الله تعالى، وننقل مقطعاً من هذا الدعاء العظيم: قال عليه السلام: (كيف يُستدل
عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك؟! أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتّى يكون
هو المظهِر لك؟! متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدلّ عليك؟! ومتى بعدت حتى تكون
الآثار هي التي توصل إليك؟! عميت عين لا تراك عليها رقيباً، وخسرت صفقة عبد لم
تجعل له من حبّك نصيباً... إلهي هذا ذُلّي ظاهر بين يديك، وهذا حالي لا يخفى
عليك. منك أطلب الوصول إليك، وبك استدلّ عليك، فاهدني بنورك إليك، وأقمني بصدق
العبودية بين يديك... أنت الذي أشرقت الأنوار في قلوب أوليائك حتّى عرفوك
ووحّدوك، وأنت الذي أزلت الأغيار عن قلوب أحبّائك حتّى لم يحبّوا سواك ولم يلجأوا
إلى غيرك، أنت المؤنس لهم حيث أوحشتهم العوالم... ماذا وَجدَ مَن فقدك؟! وما
الذي فقد من وجدك؟! لقد خاب من رضي دونك بَدلاً، ولقد خسر من بغى عنك
مُتحوّلا... يا مَن أذاق أحبّاءه حلاوة المؤانسة فقاموا بين يديه متملّقين، ويا
من ألبس أولياءه ملابس هيبته فقاموا بين يديه مستغفرين...)( المنتخب الحسني للأدعية والزيارات: 924 - 925.). ولقد بدا عليه عظيم خوفه من الله وشدّة
مراقبته له حتّى قيل له: ما أعظم خوفك من ربّك! فقال عليه السلام: (لا يأمن يوم
القيامة إلاّ من خاف من الله في الدنيا)( بحار الأنوار: 44 / 190.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
صور من عبادته عليه السلام:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
إنّ العبادة لأهل بيت النبوةعليهمالسلام
هي وجود وحياة، فقد كانت لذّتهم في مناجاتهم لله تعالى، وكانت عبادتهم له متّصلة
في الليل والنهار وفي السرّ والعلن، والإمام الحسين عليه السلام - وهو أحد
أعمدة هذا البيت الطاهر - كان يقوم بين يدي الجبّار مقام العارف المتيقّن
والعالم العابد، فإذا توضّأ تغيّر لونه وارتعدت مفاصله، فقيل له في ذلك فقال
عليه السلام: (حقّ لمن وقف بين يدي الجبّار أن يصفرّ لونه وترتعد مفاصله)( جامع الأخبار: 76، وراجع: إحقاق الحقّ: 11 / 422.). وحرص عليه
السلام على أداء الصلاة في أحرج المواقف، حتى وقف يؤدّي صلاة
الظهر في قمّة الملحمة في اليوم العاشر من المحرّم(ينابيع المودة: 410، ومقتل الحسين للخوارزمي: 2 / 17.)
وجيوش الضلالة تحيط به من كل جانب وترميه من كل صوب. وكان عليه
السلام يخرج متذلّلاً لله ساعياً إلى بيته الحرام يؤدّي مناسك
الحجّ بخشوع وتواضع، حتّى حجّ خمساً وعشرين حجّة ماشياً على قدميه(سير أعلام النبلاء: 3 / 193، ومجمع الزوائد: 9 / 201.). وقد اشتهرت بين محدّثي الشيعة ومختلف
طبقاتهم مواقفه الخاشعة في عرفات أيّام موسم الحجّ، ومناجاته الطويلة لربّه وهو
واقف على قدميه في ميسرة الجبل والناس حوله. لقد كان عليه السلام كثير البرّ
والصدقة، فقد روي أنّه ورث أرضاً وأشياء فتصدّق بها قبل أن يقبضها، وكان يحمل
الطعام في غلس الليل إلى مساكين أهل المدينة لم يبتغ بذلك إلاّ الأجر من الله
والتقرب إليه(حياة الإمام الحسين عليه السلام: 1 / 135.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
الباب
الثاني:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
فيه فصول: الفصل الأول: نشأة الإمام الحسين عليه
السلام. الفصل الثاني: مراحل حياة الإمام الحسين
عليه السلام. الفصل الثالث: الإمام الحسين عليه
السلام من الولادة إلى الإمامة. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
الفصل
الأول: نشأة الإمام الحسين عليه السلام
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
هو أبو عبد الله الحسين بن عليّ بن أبي
طالب عليه السلام ثالث أئمّة
أهل البيت الطاهرين، وثاني سبطَي رسول الله صلىاللهعليه وآله وسيّد شباب أهل
الجنة، وريحانة المصطفى، وأحد الخمسة أصحاب العبا وسيّد الشهداء، وأمه فاطمة عليهاالسلام
بنت رسول الله صلىاللهعليه وآله. تأريخ
الولادة:
أكّد أغلب المؤرّخين أنّه عليه
السلام ولد بالمدينة في الثالث من شعبان في السنة الرابعة من
الهجرة(تأريخ ابن عساكر: 14 / 313، ومقاتل الطالبيين: 78، ومجمع الزوائد: 9
/ 194، وأُسد الغابة: 2 / 18، والإرشاد: 18.).
وثمّة مؤرّخون أشاروا إلى أنّ ولادته عليه
السلام كانت في السنة الثالثة(أصول الكافي: 1 / 463، والاستيعاب المطبوع على هامش الإصابة: 1 /
377.). رؤيا أم
أيمن:
أوّلَ رسول الله صلىاللهعليهوآله
رؤيا للسيدة أم أيمن - كانت قد فزعت منها حين رأت أنّ بعض أعضائه صلىاللهعليهوآله
ملقىً في بيتها - بولادة الحسين عليه السلام الذي سيحلّ في بيتها صغيراً
للرضاعة، فقد ورد عن الإمام الصادق عليه
السلام أنّه قال: أقبل جيران أم أيمن إلى رسول الله صلىاللهعليهوآله
فقالوا: يا رسول الله، إنّ أم أيمن لم تنم البارحة من البكاء، لم تزل تبكي حتّى
أصبحت، فبعث رسول الله إلى أم أيمن فجاءته فقال لها: يا أم أيمن، لا أبكى الله
عينك، إنّ جيرانك أتوني وأخبروني أنّك لم تزلي الليل تبكين أجمع، فلا أبكى الله
عينك ما الذي أبكاك؟ قالت: يا رسول الله، رأيت رؤيا عظيمة شديدة، فلم أزل أبكي
الليل أجمع، فقال لها رسول الله صلىاللهعليه وآله: فقصّيها على رسول الله
فإنّ الله ورسوله أعلم، فقالت: تعظم عليّ أن أتكلّم بها، فقال لها: إنّ الرؤيا
ليست على ما ترى، فقصّيها على رسول الله. قالت: رأيت في ليلتي هذه كأنّ بعض
أعضائك ملقىً في بيتي، فقال لها رسول الله صلىاللهعليه وآله: نامت عينك يا أم
أيمن، تلد فاطمة الحسين فتربّينه وتُلبنيه(أي: تسقينه اللبن.)
فيكون بعض أعضائي في بيتك(بحار الأنوار: 43 / 242.). الوليد
المبارك:
ووضعت سيّدة نساء العالمين فاطمة
الزهراء عليهاالسلام وليدها
العظيم، وزفّت البشرى إلى الرسول صلىاللهعليهوآله،
فأسرع إلى دار عليّ والزهراءعليهماالسلام،
فقال لأسماء بنت عميس: (يا أسماء هاتي ابني)،
فحملته إليه وقد لُفّ في خرقة بيضاء، فاستبشر النبي صلىاللهعليه وآله وضمّه
إليه، وأذّن في أذنه اليمنى وأقام في اليسرى، ثمّ وضعه في حجره وبكى، فقالت
أسماء: فداك أبي وأمي، ممّ بكاؤك؟ قال صلىاللهعليهوآله:
(من ابني هذا). قالت: إنّه ولد الساعة، قال صلىاللهعليهوآله:
(يا أسماء! تقتله الفئة الباغية من بعدي، لا أنالهم الله شفاعتي...)( إعلام الورى بأعلام الهدى: 1 / 427.). ثمّ إنّ الرسول صلىاللهعليهوآله
قال لعليّعليه السلام: أيّ شيء
سمّيت ابني؟ فأجابه علىّ عليه السلام:
(ما كنت لأسبقك باسمه يا رسول الله). وهنا نزل الوحي على حبيب الله محمّدصلىاللهعليهوآله
حاملاً اسم الوليد من الله تعالى، وبعد أن تلقّى الرسول أمر الله بتسمية وليده
الميمون، التفت إلى علي عليه السلام قائلاً: (سمّه
حسيناً). وفي اليوم السابع أسرع الرسول صلىاللهعليهوآله
إلى بيت الزهراءعليهاالسلام فعقّ عن
سبطه الحسين كبشاً، وأمر بحلق رأسه والتصدّق بزنة شعره فضّة، كما أمر بختنه(عيون أخبار الرضا: 2 / 25، إعلام الورى: 1 / 427.). وهكذا أجرى للحسين السبط ما أجرى لأخيه
الحسن السبط من مراسم. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
اهتمام النبي صلىاللهعليه وآله
بالحسين عليه السلام:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
لقد تضافرت النصوص الواردة عن رسول الله
صلىاللهعليه وآله بشأن الحسين عليه السلام وهي تبرز المكانة الرفيعة التي
يمثّلها في دنيا الرسالة والأمة. ونختار هنا عدّة نماذج منها للوقوف على عظيم
منزلته: 1 - روى سلمان أنّه سمع رسول الله صلىاللهعليه
وآله يقول في الحسن والحسين عليهماالسلام: (اللّهمّ إنّي أحبهما فأَحِبَّهما
وأحب من أحبّهما)( الإرشاد: 2/28.). 2 - (من أحبّ الحسن والحسين أحببته، ومن
أحببته أحبّه الله، ومن أحبّه الله عَزَّ وجَلَّ أدخله الجنة، ومن أبغضهما
أبغضته، ومن أبغضته أبغضه الله، ومن أبغضه الله 3 - (إنّ أبنىّ هذين ريحانتاي من الدنيا)( الإرشاد: 2/28، وصحيح البخاري: 2 / 188، وسنن الترمذي: 5 / 615 ح
3770.). 4 - رُوي عن ابن مسعود أنّه قال: كان النبي
صلىاللهعليه وآله يصلّي فجاء الحسن والحسين عليهماالسلام فارتدفاه، فلمّا
رفع رأسه أخذهما أخذاً رفيقاً، فلمّا عاد عادا، فلمّا انصرف أجلس هذا على فخذه
الأيمن وهذا على فخذه الأيسر، ثم قال: (من أحبّني فَلْيُحبّ هذين)( مستدرك الحاكم: 3 / 166، وكفاية الطالب: 422، وإعلام الورى: 1 /
432.). 5 - (حسين منّي وأنا من حسين، أحبّ الله من
أحبّ حسيناً، حسين سبط من الأسباط)( بحار الأنوار: 43 / 261، ومسند أحمد: 4 / 172، وصحيح الترمذي: 5 /
658 ح3775.). 6 - (الحسن والحسين خير أهل الأرض بعدي
وبعد أبيهما، وأمهما أفضل نساء أهل الأرض)( بحار الأنوار: 43/261، وعيون أخبار الرضا: 2 / 62.). 7 - (الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنة)( سنن ابن ماجة: 1 / 56، والترمذي: 5 / 614 / ح 3768، وبحار الأنوار:
43 / 265.). 8 - عن برّة ابنة أُمية الخزاعي أنّها
قالت: لمّا حملت فاطمةعليهاالسلام
بالحسن خرج النبي صلىاللهعليه وآله في بعض وجوهه فقال لها: (إنّك ستلدين
غلاماً قد هنّأني به جبرئيل، فلا ترضعيه حتّى أصير إليك) قالت: فدخلت على فاطمة
حين ولدت الحسن عليه السلام وله ثلاث
ما أرضعته، فقلت لها: أعطينيه حتّى أُرضعه، فقالت: (كلا) ثمّ أدركتها رقّة
الأمهات فأرضعته، فلمّا جاء النبي صلىاللهعليه وآله قال لها: (ماذا صنعت؟)
قالت: (أدركني عليه رقّة الأمهات فأرضعته) فقال: (أبى الله عَزَّ وجَلَّ إلاّ ما
أراد). فلمّا حملت بالحسين عليه السلام قال
لها: (يا فاطمة إنّك ستلدين غلاماً قد هنّأني به جبرئيل فلا ترضعيه حتى أجيء
إليك ولو أقمت شهراً)، قالت: (أفعل ذلك)، وخرج رسول الله صلىاللهعليه وآله في
بعض وجوهه، فولدت فاطمة الحسين عليه السلام فما أرضعته حتى جاء رسول الله فقال
لها: (ماذا صنعت؟) قالت: (ما أرضعته) فأخذه فجعل لسانه في فمه فجعل الحسين يمصّ،
حتى قال النبي صلىاللهعليه وآله: (إيهاً حسين إيهاً حسين)!! ثمّ قال: (أبى
الله إلاّ ما يريد، هي فيك وفي ولدك)( بحار الأنوار: 43 / 254، وراجع: المناقب: 3 / 50.)
يعني الإمامة. 9 - إنّ النبي صلىاللهعليهوآله
كان جالساً فأقبل الحسن والحسين، فلمّا رآهما النبي صلىاللهعليه وآله قام
لهما واستبطأ بلوغهما إليه، فاستقبلهما وحملهما على كتفيه، وقال: (نعم المطيُّ
مطيّكما، ونعم الراكبان أنتما، وأبوكما خير منكما)( بحار الأنوار: 43 / 285 - 286، راجع: ذخائر العقبى: 130.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
كنيته وألقابه:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
أمّا كنيته فهي: أبو عبد الله. وأمّا ألقابه فهي:
الرشيد، والوفي، والطيّب، والسيّد، والزكيّ، والمبارك، والتابع لمرضاة الله،
والدليل على ذات الله، والسبط. وأشهرها رتبةً ما لقّبه به جدّه صلىاللهعليهوآله
في قوله عنه وعن أخيه: (أنّهما سيّدا شباب أهل الجنة). وكذلك السبط لقوله صلىالله
عليه وآله: (حسين سبط من الأسباط)( أعيان الشيعة: 1 / 579.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
الفصل
الثاني: مراحل حياة الإمام الحسين
عليه السلام
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
تنقسم حياة كلّ إمام من
الأئمّة المعصومينعليهمالسلام
إلى قسمين متميّزين: الأوّل:
من الولادة إلى حين استلامه لمقاليد الإمامة والولاية المناطة إليه من الله
والمنصوص عليها على لسان رسوله والأئمّة عليهمالسلام
أنفسهم. والثاني:
يبدأ من يوم تصدّيه لإدارة أمور المسلمين والمؤمنين إلى يوم استشهاده. وقد يشتمل كلّ قسم على عدّة مراحل حسب
طبيعة الظروف والأحداث التي تميّز كل مرحلة. ونحن ندرس الفترة الأولى
بجميع مراحلها وأهمّ أحداثها - وهي فترة الولادة حتى
الإمامة - في الفصل الثالث من الباب الثاني، بينما ندرس الفترة الثانية بمراحلها
المختلفة بشكل تفصيلي في الباب الثالث. وينبغي أن نعرف أنّ الفترة
الأولى من حياة الإمام الحسين عليه السلام كانت ذات أربع مراحل هي: 1 -
حياته في عهد جدّهصلىاللهعليهوآله
وهي من السنة (4) إلى (10) هجرية. 2 -
حياته في عهد الخلفاء الثلاثة، وهي من السنة (11) إلى (35) هجرية. 3 -
حياته في عهد الدولة العلوية المباركة، أي منذ البيعة مع أبيه إلى يوم 4 -
حياته في عهد أخيه الحسن المجتبى عليه
السلام وهي عشر سنوات تقريباً، أي من أواخر شهر رمضان سنة (40)
هجرية إلى بداية أو نهاية صفر سنة (50) هجرية حيث استشهد الحسن عليه
السلام وتصدّى هو للأمر من بعده. وأمّا الفترة الثانية من
حياته
وهي التي تبدأ بعد استشهاد أخيهعليه
السلام وتنتهي باستشهاده بأرض الطفّ يوم عاشوراء سنة ( 61 )
هجرية، فهي ذات مرحلتين متميزتين: 1 - المرحلة الأولى:
مدّة حياته خلال حكم معاوية، حيث بقي - صلوات الله عليه - ملتزماً بالهدنة التي
عقدت مع معاوية بالرغم من تخلّف معاوية عن كلّ الشروط التي اشترطت عليه من قبل
الإمام الحسن عليه السلام ، وقد جسّد تمرّده على كل شروط الصلح بإيعاز السمّ
الفاتك إلى الإمام الحسن عليه السلام
ليتخلّص من رقيب مناهض ويزيل الموانع عن ترشيح ولده الفاسق يزيد. 2 - المرحلة الثانية:
وتبدأ بفرض معاوية ابنه يزيد حاكماً متحكّماً في رقاب المسلمين بعد موت أبيه
وسعيه لأخذ البيعة من الحسين عليه السلام للقضاء على المعارضة التي كان قد عرف
جذورها أيام أبيه. ومن هنا تبدأ نهضته التي كانت بركاناً تحت الرماد، فانفجرت
بانفجار الفسق والفجور وظهورهما على مسرح القيادة وجهاز الحكم، فبدأ حركته من
المدينة إلى مكّة ثم إلى العراق، وتوّج صبره وجهاده بدمائه الطاهرة ودماء أهل
بيته وأصحابه الأصفياء التي قدّمها في سبيل الله تعالى. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
الفصل
الثالث: الإمام الحسين عليه السلام من الولادة إلى الإمامة
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
في حياة النبي صلىاللهعليه وآله والرسالة
الإسلامية مساحة واسعة لبيت عليّ وفاطمة وأبنائهماعليهمالسلام
ومعاني ودلالات عميقة حيث إنّه البيت الذي سيحتضن الرسالة ويتحمّل عبء الخلافة
ومسؤولية صيانة الدين والأمة. وكان لا بدّ لهذا البيت أن ينال القسط
الأوفى والحظّ الأوفر من فيض حبّ النبي صلىاللهعليه وآله ورعايته وأبوته، فلم
يدّخر النبي صلىاللهعليه وآله وسعاً أن يروّي شجرته المباركة في بيت علىّعليه
السلام ويتعهّدها صباح مساء مبيّناً أنّ مصير الأمة مرهون بسلامة
هذا البيت وطاعة أهله كما يتجلّى ذلك في قوله صلىاللهعليهوآله:
(إنّ علياً راية الهدى بعدي وإمام أوليائي ونور من أطاعني)( حلية الأولياء: 1 / 67، ونظم درر السمطين: 114، وتاريخ ابن عساكر: 2
/ 189 ح 680، ومقتل الخوارزمي: 1 / 43، وجامع الجوامع (للسيوطي): 6 / 396،
ومنتخب الكنز: 6 / 953 ح2539، والفصول المهمة لابن الصباغ: 107، وتاريخ الخلفاء للسيوطي:
173، ومجمع الزوائد: 9 / 135، وكنز العمّال: 5/153، وصحيح الترمذي: 5 / 328
ح3874، وأُسد الغابة: 2 / 12.). وحين أشرقت الدنيا بولادة الحسين عليه السلام;
أخذ مكانته السامية في قلب النبي صلىاللهعليه وآله وموضعه الرفيع في حياة
الرسالة. وبعين الخبير البصير والمعصوم المسدّد
من السماء وجد النبي صلىاللهعليه وآله في الوليد الجديد وريثاً للرسالة بعد
حين، ثائراً في الأمة بعد زيغ وسكون، مصلحاً في الدين بعد انحراف واندثار،
محيياً للسنّة بعد تضييع وإنكار، فراح النبي صلىاللهعليه وآله يهيّئه ويعدّه
لحمل الرسالة الكبرى مستعيناً في ذلك بعواطفه وساعات يومه، وبهديه وعلمه; إذ
عمّا قليل سيضطلع بمهام الإمامة في الرسالة الخاتمة بأمر الله تعالى. فها هوصلىاللهعليهوآله
يقول: (الحسن والحسين ابناي من أحبّهما أحبّني، ومن أحبّني أحبّه الله، ومن
أحبّه الله أدخله الجنّة، ومن أبغضهما أبغضني، ومن أبغضني أبغضه الله، ومن أبغضه
الله أدخله النار)( مستدرك الحاكم: 3 / 166، وتأريخ ابن عساكر: ترجمة الإمام الحسين
عليه السلام، وإعلام الورى: 1 / 432.). وهل الحب إلاّ مقدمة الطاعة وقبول
الولاية؟ بل هما بعينهما في المآل. لقد كان النبي صلىاللهعليه وآله
يتألّم لبكائه ويتفقّده في يقظته ونومه، يوصي أمه الطاهرة فاطمة صلوات الله
عليها أن تغمر ولده المبارك بكلّ مشاعر الحنان والرفق(مجمع الزوائد: 9 / 201، وسير أعلام النبلاء: 3 / 191، وذخائر العقبى:
143.). حتّى إذا درج الحسين عليه السلام
صبيّاً يتحرّك شرع النبي صلىاللهعليه وآله يلفت نظر الناس إليه ويهيّئ
الأجواء لأن تقبل الأمة وصاية ابن النبيّ صلىاللهعليهوآله
عليها، فكم تأنّى النبي صلىاللهعليه وآله في سجوده والحسين يعلو ظهرهصلىاللهعليهوآله
ليظهر للأمة حبّه له وكذا مكانته، وكم سارع النبي يقطع خطبته ليلقف ابنه القادم
نحوه متعثّراً فيرفعه معه على منبره(مسند أحمد: 5/354، وإعلام الورى: 1/433، وكنز العمال: 7/168،وصحيح
الترمذي: 5 / 616 / ح3774.)؟
كلّ ذلك ليدلّ على منزلته ودوره الخطير في مستقبل الأمة. وحين قدم وفد نصارى نجران يحاجج النبي
صلىاللهعليه وآله في دعوته إلى الإسلام وعقيدة التوحيد الخالص وامتنع عن
قبولها رغم وضوح الحق أمر الله تعالى بالمباهلة، فخرج النبي صلىاللهعليه وآله
إليهم ومعه خير أهل الأرض تقوىً وصلاحاً وأعزّهم على الله مكانةً ومنزلةً: عليّ
وفاطمة والحسن والحسين عليهمالسلام،
ليباهل بهم أهل الكفر والشرك وانحراف المعتقد، ومُدَلّلاً بذلك - في نفس الوقت -
على أنّهم أهل بيت النبوة وبهم تقوم الرسالة الإسلامية، فعطاؤهم من أجل العقيدة
لا ينضب(مسند أحمد: 1 / 185، وصحيح مسلم: كتاب الفضائل باب فضائل علي: 2 /
360، وصحيح الترمذي: 4 / 293 ح5 208، والمستدرك على الصحيحين: 3 / 150.). وما كان من النصارى إذ رأوا وجوهاً
مشرقة وطافحة بنور التوحيد والعصمة؛ إلاّ أن تراجعوا عن المباهلة وقبلوا بأن
يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون. لقد كانت هذه الفترة القصيرة التي
عاشها الحسين عليه السلام مع جدّه (صلّى
الله عليه وآله) من أهمّ الفترات وأروعها في تأريخ الإسلام كلّه، فقد وطّد
الرسول (صلّى الله عليه وآله) فيها أركان دولته المباركة، وأقامها على أساس
العلم والإيمان، وهزم جيوش الشرك، وهدم قواعد الإلحاد، وأخذت الانتصارات الرائعة
تترى على الرسول (صلّى الله عليه وآله) وأصحابه الأوفياء حيث أخذ الناس يدخلون
في دين الله أفواجاً. وفي غمرة هذه الانتصارات فوجئت الأمة
بالمصاب الجلل حين توفّي رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فخيّم الأسى العميق
على المسلمين وبخاصة على أهل بيته عليهمالسلام
الذين أضنتهم المأساة، ولسعتهم حرارة المصيبة بغياب شخص النبيّ (صلّى الله عليه
وآله). |
|||||||||||||||||||||||||||
ميراث النبيّ (صلّى
الله عليه وآله) لسبطيه عليهماالسلام:
|
||||||||||||||||||||||||||||
ولمّا علمت سيّدة نساء العالمين أنّ
لقاء أبيها بربّه عَزَّ وجَلَّ قريب أتت بابنيها الحسن والحسين عليهماالسلام
فقالت: يا رسول الله إن هذان إبناك فورّثهما شيئاً، فقال (صلّى الله عليه وآله):
أمّا الحسن فإنّ له هيبتي وسؤددي، وأمّا الحسين فإنّ له شجاعتي وجودي (بحارالأنوار: 43 / 263، ومناقب آل أبي طالب: 2 / 465 ونظم درر
السمطين: 212.). وصيّة النبي صلىاللهعليهوآله
بالسبطين
عليهماالسلام:
ووصّى النبي صلىاللهعليه وآله
الإمام عليّاً برعاية سبطيه، وكان ذلك قبل موته بثلاثة أيام، فقد قال له: سلام
الله عليك أبا الريحانتين، أوصيك بريحانتيَّ من الدنيا، فعن قليل ينهدّ ركناك،
والله خليفتي عليك، فلمّا قبض رسول الله صلىاللهعليه وآله قال عليّ: هذا أحد
ركني الذي قال لي رسول الله صلىاللهعليه وآله، فلمّا ماتت فاطمةعليهاالسلام
قال عليّ: هذا الركن الثاني الذي قال لي رسول الله(بحار الأنوار: 43 / 262.). لوعة النبيّ صلىاللهعليهوآله
على الحسين عليه
السلام:
حضر الإمام الحسين عليه السلام عند
جدّه الرسول صلى اللهعليه وآله حينما كان يعاني آلام المرض ويقترب من لحظات
الاحتضار، فلمّا رآه ضمّه إلى صدره وجعل يقول: (ما لي وليزيد؟! لا بارك الله
فيه). ثمّ غشي عليه طويلاً، فلمّا أفاق أخذ يوسع الحسين تقبيلاً وعيناه تفيضان
بالدموع، وهو يقول: (أما إنّ لي ولقاتلك موقفاً بين يدي الله عَزَّ وجَلَّ)( حياة الإمام الحسين عليه السلام، باقر شريف القرشي: 1 / 218، نقلاً عن
مثير الأحزان.). وفي اللحظات الأخيرة من عمره الشريفصلىاللهعليهوآله
ألقى السبطانعليهماالسلام بأنفسهما
عليه وهما يذرفان الدموع والنبي صلىاللهعليه وآله يوسعهما تقبيلاً، فأراد
أبوهما أمير المؤمنين عليه السلام أن ينحّيهما عنه فأبىصلىاللهعليهوآله
وقال له: (دعهما يتزوّدا منّي وأتزوّد منهما فستصيبهما بعدي إثرة)( مقتل الحسين للخوارزمي: 1 / 114.). ثمّ التفت صلىاللهعليهوآله
إلى عوّاده فقال لهم:
قد خلّفت فيكم كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فالمضيّع لكتاب الله كالمضيّع لسنّتي،
والمضيّع لسنّتي كالمضيّع لعترتي، إنّهما لن يفترقا حتى يردا علىّ الحوض(المصدر السابق.). |
||||||||||||||||||||||||||||
الإمام
الحسين عليه السلام
في عهد الخلفاء
|
||||||||||||||||||||||||||||
الحسين عليه السلام
في عهد أبي بكر:
|
||||||||||||||||||||||||||||
|
لقد كان أهل البيت عليهمالسلام
بما فيهم الحسن والحسين عليهماالسلام
مفجوعين بوفاة الرسول صلىاللهعليهوآله،
وألم المأساة يهيمن على قلوبهم وهم مشغولون بجهاز أعظم نبيّ عرفه التاريخ
الإنساني، إذ توجّهت إليهم صدمةٌ أخرى ضاعفت آلامهم وبدّدت آمالهم التي غرسها
رسول الله صلىاللهعليهوآله في
نفوسهم ونفوس الأمة. إنها صدمة مصادرة الخلافة وتنحية
الإمام علي عليه السلام عن مسرح
القيادة ومصادرة المنصب الذي نصبه فيه الرسول صلىاللهعليهوآله
بأمر الله تعالى. وكانت هذه الصدمة العنيفة بداية
لمُسلسل القلق والاضطهاد الذي فرضه الخط الحاكم بعد الرسول صلىاللهعليهوآله
على أهل بيت الرسول صلىاللهعليهوآله;
لتحقيق العزل التام والإبعاد الكامل لهم عن موقع القيادة بعد الرسول صلىاللهعليهوآله. لوعة شهادة
الزهراء عليهاالسلام:
كان لوفاة الرسول صلى اللهعليه وآله
وقع مؤلم في روح الإمام الحسين الطاهرة، وهو لم يكن بعد قد أنهى ربيعه الثامن. وما هي إلاّ مدّة قصيرة وإذا بالحسين
عليه السلام يُفجع باستشهاد أمه فاطمة بنت رسول الله بتلك الصورة المأساوية بعد
أن ظلّت تعاني من الظلم والقهر وألم اغتصاب حقّها طوال الأيام التي عاشتها بعد
أبيهاصلىاللهعليهوآله
فكانت تنعكس معاناتها في روحه اللطيفة؛ إذ كان كلّما نظر إلى أمه بعد وفاة أبيها
شاهدها باكيةً محزونة القلب منكسرة الخاطر. وقد روي أنّها سلام الله عليها ما زالت
بعد أبيها معصّبة الرأس، ناحلة الجسم، منهدّة الركن، باكية العين، محترقة القلب،
يغشى عليها ساعة بعد ساعة، وتقول لولديها: أين أبوكما الذي كان يكرمكما ويحملكما
مرّةً بعد مرّة؟ أين أبوكما الذي كان أشدّ الناس شفقةً عليكما، فلا يدعكما
تمشيان على الأرض؟ ولا أراه يفتح هذا الباب أبداً ولا يحملكما على عاتقه كما لم
يزل يفعل بكما(بحار الأنوار: 43 / 181.). وروي أن الزهراءعليهاالسلام
بعد وفاة أبيهاصلىاللهعليهوآله كانت
تصطحب الحسنين معها إلى البقيع حيث تظلّ تبكي إلى المساء، فيأتي أمير المؤمنين
عليه السلام فيعود بهم إلى البيت. ونقل الرواة عن أسماء بنت عميس قصّة
استشهادها مفصّلاً، وقد جاء فيها أنّ الحسن والحسين عليهماالسلام دخلا البيت
بُعَيد وفاة أمهما فقالا: يا أسماء! ما يُنيم أمنا في هذه الساعة؟! قالت: يا
ابني رسول الله ليست أمكما نائمة، بل فارقت روحها الدنيا. فوقع عليها الحسن
يقبّلها مرةً ويقول: يا أماه! كلّميني قبل أن تفارق روحي بدني. قالت: وأقبل
الحسين يقبّل رجلها ويقول: يا أماه! أنا ابنك الحسين كلّميني قبل أن يتصدّع قلبي
فأموت. قالت لهما أسماء: يا ابني رسول الله! انطلقا إلى أبيكما عليّ فأخبراه
بموت أمكما، فخرجا حتى إذا كانا قرب المسجد رفعا أصواتهما بالبكاء، فابتدرهما
جميع الصحابة، فقالوا: ما يبكيكما يا ابني رسول الله؟ لا أبكى الله أعينكما(المصدر السابق: 186.). وجاء في نصّ آخر
أنّه بعد أن فرغ أمير المؤمنين عليه السلام من تغسيل الزهراءعليهاالسلام
نادى: يا أم كلثوم! يا زينب! يا سكينة! يا فضّة! يا حسن! يا حسين! هلمّوا وتزوّدوا
من أمكم، فهذا الفراق، واللقاء الجنّة. فأقبل الحسن والحسين عليهماالسلام وهما
يناديان: وا حسرةً لا تنطفئ أبداً من فقد جدّنا محمد المصطفى وأمنا فاطمة
الزهراء! فقال أمير المؤمنين علىّعليه
السلام: إنّي أُشهدُ الله أنّها قد حنّت وأنّت ومدّت يديها
وضمّتهما إلى صدرها مليّاً، وإذا بهاتف من السماء ينادي: يا أبا الحسن! ارفعهما
فلقد أبكيا والله ملائكة السماوات (بحار الأنوار: 43/179.). وذكرت أكثر الروايات أنّ الحسن والحسين
عليهماالسلام حضرا مراسم الصلاة على جنازة أمهما عليهاالسلام
وتولّى غسلها وتكفينها أمير المؤمنينعليه
السلام، وأخرجها من بيتها ومعه الحسن والحسين في الليل، وصلّوا
عليها... (المصدر السابق: 212.). لقد فجع الحسين عليه السلام وخلال
فترة قصيرة بحادثتين عظيمتين مؤلمتين: الأولى
وفاة
جدّه رسول الله صلىاللهعليه وآله، والثانية
استشهاد
والدته فاطمة بنت الرسول صلىاللهعليهوآله
بعدما جرى عليها من أنواع الجفاء والظلم. وإذا أضفنا إلى ذلك مأساة غصب حقوق
أبيه أمير المؤمنين عليه السلام ومأساة إبعاده عن المسرح السياسي ليصبح جليس
بيته; تجلّت لنا شدّة المحن والمصائب التي أحاطت بالحسين عليه السلام وهو في
صغر سنّه. ولقد تعمّقت مصائب الإمام الحسين عليه السلام
بسبب أنواع الحصار المفروض من قِبل خطّ الخلافة وقتذاك على أصحاب الرسول صلى اللهعليه
وآله الأوفياء لخطّه الرسالي وعلى علي بن أبي طالب أمير المؤمنين عليه السلام بشكل
خاص، مثل منع الخمس وسائر الحقوق من الوصول إليه، كما تجلّى ذلك بوضوح في تأميم (فدك)
والذي كان من أهدافه ممارسة ضغوط مالية أخرى على أهل بيت النبي صلىاللهعليه وآله
وأبناء أمير المؤمنين عليهمالسلام. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
الحسين عليه السلام
في عهد عمر بن الخطاب:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
وفي عهد عمر بن الخطاب اتّخذ الحصار
أبعاداً أكثر خطورة، فقد ذكر المؤرّخون أنّ عمر حظر على أصحاب الرسول صلى اللهعليه
وآله الخروج من المدينة إلاّ بترخيص منه، وقد طال الحظر أمير المؤمنين علي بن
أبي طالبعليه السلام حتى مثّل
هذا الأمر نمطاً آخر من الضغوط التي مورست على أهل بيت الوحي الطاهرين. أجل لقد أدّت هذه الممارسات القهرية
والمواقف الظالمة إلى إقصاء عليّ أمير المؤمنينعليه
السلام، وجعلته جليس بيته، ومن ثم تغييبه عن الميادين السياسية
والاجتماعية حتى صار نسياً منسياً، وإن كان الخليفة يرجع إليه في بعض المسائل
أحيانا، ولعلّ السبب في عدم إبعاده عن المدينة، هو حاجته إليه في القضايا التي
كانت تستجد للخليفة، ولم يكن بمقدور أحد غير عليّ عليه السلام أن يقدّم الحلّ
المقبول لها. وبالحكمة السديدة والصبر الجميل كظم أمير
المؤمنين عليه السلام غيظه متغاضياً عن حقّه الذي استأثر به عمر بعد أبي بكر من
دون حقّ شرعي ولا حجّة بالغة، وفي كلّ ذلك عاش الحسين عليه السلام مع آلام أبيه
عليه السلام، ورأى كيفية تعامله مع الحدث، وهو يحمل هموم الأمة الإسلامية
ويقلقه مصيرها، إنّه يتذكّر كيف كان رسول الله صلىاللهعليه وآله يؤثر عليّاً
على كل من عداه ويوصي به الأمة المرّة بعد المرّة، ولكنّه الآن مقصيٌّ عن مقامه،
فما كان يملك إلاّ أن يكتم أحاسيسه ومشاعره. يروى: أنّ عمر ذات يوم كان يخطب على
المنبر فلم يشعر إلاّ والحسين عليه السلام قد صعد إليه وهو يهتف: (انزل عن منبر أبي واذهب إلى منبر أبيك)، وقد كان الحق يقضي بأن لا يكتفي عمر
بالتصديق الكلامي للحسين من دون إعادة حقّه في فدك والخمس إليه، وإعادة حقّ والده
في الخلافة إليه، إطاعةً لله وللرسولصلىاللهعليهوآله. ويروى أيضاً:
أنّ عمر كان معنيّاً بالإمام الحسين عليه السلام حتى طلب منه أن يأتيه إذا عرض
له أمر. وقصده الحسين عليه السلام يوماً ومعاوية عنده، ورأى ابنه عبد الله فطلبعليه
السلام الإذن منه فلم يأذن له فرجع معه، والتقى به عمر في الغد
فقال له: ما منعك يا حسين أن تأتيني؟ قال الحسين عليه السلام: (إنّي جئت وأنت
خال بمعاوية فرجعت مع ابن عمر) قال عمر: أنت أحقّ من ابن عمر، فإنّما أنبت ما
ترى في رؤوسنا الله ثم أنتم(المصدر السابق.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
الحسين عليه السلام
في عهد عثمان:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
بخُلق الرسالة وآداب النبوة وبالفضائل
السامية أطلّ الإمام الحسين عليه السلام على مرحلة الرجولة في العقد الثالث من
العمر، يعيش أجواء أبيه المحتسب وهو يرى اللعبة السياسية تتلوّن والهدف واحد،
وهو أن لا يصل عليّ عليه السلام وبنوه إلى زعامة الدولة الإسلامية بل تبقى
الخلافة بعيدة عنهم، فهاهو ابن الخطّاب لا يكتفي بحمل الأمة على ما لا تطيق من
جفاء رأيه وطبعه وأخطاء اجتهاداته; حتّى ابتلاها بالشورى السداسيّة التي انبثقت
منها خلافة عثمان. ولقد وصف الإمام أمير
المؤمنين عليه السلام هذه المرحلة وهو الذي آثر
مصلحة الدين والأمة على حقّه الخاص في الزعامة فصبر صبراً مُرّاً حتّى قال: فصبرت وفي العين قذى، وفي الحلق شجا،
أرى تراثي نهباً، حتى مضى الأوّل لسبيله، فأدلى بها إلى ابن الخطّاب بعده،
فصيّرها في حوزة خشناء يغلظ كلمها ويخشن مسّها، ويكثر العثار فيها، فصبرت على
طول المدّة وشدّة المحنة، حتى إذا مضى لسبيله جعلها في جماعة زعم أنّي أحدهم،
فيالله وللشورى، متى اعترض الريب فيّ مع الأوّل منهم حتى صرت أُقرن إلى هذه
النظائر؟! (نهج البلاغة: الخطبة الشقشقية.). وازدادت محنة أهل البيت عليهم السلام
وتضاعفت مهمّتهم صعوبةً، وهم يواجهون عصراً جديداً من الانحراف بالخلافة، وهو
عصر يتطلّب جهوداً أضخم وسعياً أكبر لكي لا تضيع الأمة والرسالة، ولكنّ لوناً
متميزاً من المعاناة القاسية بدأ واضحاً يصبغ حياة الأمة الإسلامية، فإنّ خيار
رجالها من صحابة رسول الله صلىاللهعليه وآله يهانون ويضربون وينفون في الوقت
الذي تتسابق على مراكز الدولة شرارها من الطلقاء وأبنائهم، تحت ظلّ ضعف عثمان
وجهله بالأمور أحياناً وعصبيّته القبليّة الأُموية أحياناً أخرى(تاريخ الخلفاء: 57.). وعاش الحسين عليه السلام معاناة الأمة
وهي تنتفض على فساد حكم عثمان في مخاض عسير، فتمتدّ الأيادي المظلومة لتزيح
الخليفة الحاكم بقوّة السيف. وفي خطبة الإمام علي عليه
السلام المعروفة بالشقشقيّة والتي وصف فيها محنة الأمة بتولّي
الخلفاء الثلاثة دفّة الحكم قبله تصوير دقيق لما جرى في حكم عثمان بن عفّان; إذ قال
عليه السلام: إلى أن قام ثالث القوم نافجاً حضنيه(1)
بين نثيله(2)،
ومعتلفه(3)،
وقام معه بنو أبيه يخضمون(4)
مال الله خضمة الإبل نبتة الربيع(5)،
إلى أن انتكث عليه فتله(6)،
وأجهز(7) عليه
عمله، وكبت(8)
به بطنته(9). (1) نافجاً حضنيه:
رافعهما، والحضن: مابين الإبط والكشح. (2) النثيل: الروث وقذر
الدواب. (3) المعتلف: موضع العلف. (4) الخضم: أكل الشيء
الرطب. (5) النبِتة - بكسر النون
-: كالنبات في معناه. (6) انتكث عليه فتله:
انتقض. (7) أجهز عليه: تمّم
قتله. (8) كبت به: من كبا
الجواد إذا سقط بوجهه. (9) البِطنة - بالكسر -:
البطر والأشر والتخمة. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
موقف مع أبي ذرّ
الغفاري:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
أمعن الخليفة عثمان بن عفان في التنكيل
بالمعارضين والمندّدين بسياسته غير مراع حرمة أو كرامة أحد من صحابة الرسول صلى اللهعليه
وآله الذين طالتهم يداه، فصبّ عليهم جام غضبه وبالغ في ظلمهم وإرهاقهم، وكان
أبو ذر الغفاري - وهو أقدم أصحاب الرسول صلى اللهعليه وآله الذين سبقوا إلى
الإسلام - واحداً من المندّدين بسياسة عثمان والرافضين لها، وقد نهاه عثمان عن
ذلك فلم ينته، فالتاع عثمان وضاق به ذرعاً فأبعده إلى الشام، وفي الشام أخذ أبو
ذر يوقظ الناس ويدعوهم إلى الحذر من السياسة الأُموية التي كان ينتهجها معاوية
ابن أبي سفيان والي عثمان الأموي على الشام. لقد غضب معاوية على حركة أبي ذرّ وكتب
إلى عثمان يخبره بخطره عليه، فاستدعاه إلى المدينة، لكن هذا الصحابي الجليل واصل
مهمّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتحذير من خطر الأُموية الدخيلة على الإسلام
والمسلمين، فرأى عثمان أنّ خير وسيلة للتخلّص من معارضة أبي ذر هي نفيه إلى جهة
نائية لا سكن فيها، فأمر بإبعاده إلى الربذة موعزاً إلى مروان بن الحكم بأن يمنع
المسلمين من مشايعته وتوديعه، ولكنّ أهل الحقّ أبوا إلاّ مخالفة عثمان، فقد
انطلق لتوديعه - بشكل علني - الإمام علي عليه السلام والحسنانعليهماالسلام
وعقيل وعبد الله بن جعفر وعمّار بن ياسر رضي الله عنهم. وقد نقل المؤرّخون كلمات
حكيمة وساخنة للمودّعين استنكروا خلالها الحكم العثماني الجائر ضدّه، وقد جاء في
كلمة الإمام الحسين عليه السلام ما نصّه: يا عمّاه! إنّ الله تبارك وتعالى قادر
أن يغيّر ما قد ترى، إنّ الله كلّ يوم هو في شأن، وقد منعك القوم دنياهم،
ومنعتهم دينك، فما أغناك عمّا منعوك، وأحوجهم إلى ما منعتهم؟ فاسأل الله الصبر،
واستعذ به من الجشع والجزع، فإنّ الصبر من الدين والكرم، وإنّ الجشع لا يقدّم
رزقاً والجزع لا يؤخّر أجلاً(بحار الأنوار: 22 / 412، وراجع: مروج الذهب: 2 / 350.). وبكى أبو ذر بكاءً مرّاً، فألقى نظرة
الوداع الأخيرة على أهل البيت عليهم السلام الذين أخلص لهم الودّ وأخلصوا له، وخاطبهم بقوله: (رحمكم الله يا أهل بيت
الرحمة، إذا رأيتكم ذكرت بكم رسول الله صلىاللهعليهوآله،
ما لي بالمدينة سكن ولا شجن غيركم، إنّي ثقلت على عثمان بالحجاز كما ثقلت على
معاوية بالشام، وكره أن أجاور أخاه وابن خاله بالمصرين فاُفسد الناس عليهما
فسيّرني إلى بلد ليس لي به ناصر ولا دافع إلاّ الله، والله ما أريد إلاّ الله
صاحباً، وما أخشى مع الله وحشة) (المصدر السابق.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
الإمام الحسين عليه السلام
في عهد الدولة العلوية
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
انتهى حكم الخلفاء الثلاثة بمقتل
عثمان، وانتهت بذلك خمسة وعشرون عاماً، من العناء الناشئ عن إقصاء الإمام أمير
المؤمنين علي بن أبي طالبعليه السلام عن
الحياة السياسية والاجتماعية للمسلمين. وقد أيقن المسلمون أنّ الإمام عليّاًعليه
السلام هو القائد الذي يحقّق آمالهم وأهدافهم ويعيد لهم كرامتهم،
وأنّهم سينعمون في ظلال حكمه بالحرية والمساواة والعدل فأصرّوا على مبايعته
بالخلافة. لكن وللأسف الشديد فقد جاءت قناعة
الأمة هذه متأخرةً كثيراً، حيث أصيبت الأمة بأمراض خطيرة وانحرافات كبيرة، وغابت
عنها الروح التضحوية والقيم الإيمانية، وتسربلت بالأطماع والمنافع الشخصية،
وانحدرت نحو التوجّهات الفئوية الضيّقة. من هنا أعلن الإمام علي عليه السلام رفضه
الكامل لخلافتهم قائلاً لهم: لا حاجة لي في أمركم، فمن اخترتم رضيت(بحار الأنوار: 32/7.). وذلك لعلمه عليه
السلام بأنّه من الصعب جدّاً أن يعيد إلى المجتمع الأحكام
الإسلامية التي بدّلها الخلفاء وغيّروها باجتهاداتهم الخاطئة، فإنّه
عليه السلام كان يعرف جيّداً أنّ المجتمع الذي نشأ على تلك
الأخطاء سيقف بوجهه وسيعمل جاهداً على مناجزته والحيلولة بينه وبين تحقيق
مخطّطاته السياسية الهادفة إلى تحقيق العدل والقضاء على الجور. هذا وإنّ أمير
المؤمنين عليه السلام مع سابقته الفريدة إلى الإسلام وحنكته السياسية ومؤهّلاته
القيادية العظيمة لم يستطع الوقوف بوجه الانحراف الذي سرى إلى جميع مفاصل
المجتمع الإسلامي، ولم يتمكّن من إعادة هذا المجتمع إلى طريق الحقّ والعدالة
اللاّحب، إذ وقفت في وجهه فئات من المنافقين والنفعيين ومن كان يحمل في نفسه
البغض والكره لله ولرسوله، وقد أكّد ذلك في خطبته الشقشقية بقوله عليه السلام:
فلمّا نهضتُ بالأمر نكثت طائفة(1)
ومرقت(2)
أخرى وقسط آخرون(3)
كأنّهم لم يسمعوا كلام الله سبحانه يقول: (تِلْكَ
الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي
الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)(4)
بلى والله لقد سمعوها ووعوها ولكنّهم حليت الدنيا في أعينهم وراقهم زبرجها(5). (1) نكثت طائفة: نقضت عهدها،
وأراد عليه السلامبتلك
الطائفة الناكثة أصحاب الجمل. (2) مرقت: خرجت، وأراد عليه السلام بتلك الطائفة المارقة الخوارج أصحاب
النهروان. (3) قسط: جار، وأرادعليه السلامبالجائرين أصحاب صفّين. (4) القصص (28): 83. (5) نهج البلاغة: الخطبة
الشقشقية. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
مع أبيه عليه السلام
في إصلاح الأمة:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
لقد بادر الإمام علي عليه السلام إلى
إعادة الحقّ إلى نصابه والعدل إلى سيادته، محيياً سنّة رسول الله صلىاللهعليه
وآله في الأمة منتهجاً الطريق القويم. وما أسرع ما وقفت قوى الضلال ضد
إصلاحات الإمام عليه السلام في مجال الإدارة وفي مجال توزيع الأموال وفي مجال
العدل في القضاء وفي مجال مراعاة شؤون الرسالة وشؤون المسلمين! ولم يتردّد عليه
السلام في التحرّك لفضح خط النفاق والقضاء على الفساد واجتثاث
جذوره لتسلم الرسالة والأمة منه، وقام هو وأهل بيته عليهم السلام يخوضون غمار
الحروب دفاعاً عن الإسلام مقتدين برسول الله صلىاللهعليه وآله. وشارك الإمام الحسين
عليه السلام في جميع الحروب التي شنّها المنافقون ضدّ الإمام علي عليه السلام.
وكان يبرز إلى ساحة القتال بنفسه
المقدّسة كلّما اقتضى الأمر وسمح له والده عليه
السلام وقد سجّل المؤرّخون خطاباً للإمام الحسين عليه السلام
وجّهه لأهل الكوفة لدى تحركهم إلى صفّين، جاء فيه بعد حمد الله تعالى والثناء
عليه: يا أهل الكوفة! أنتم الأحبّة الكرماء والشعار دون الدثار، جدّوا في إطفاء
ما وتر بينكم وتسهيل ما توعّر عليكم، ألا إنّ الحرب شرّها وريع وطعمها فظيع، فمن
أخذ لها أهبتها واستعدّ لها عُدّتها، ولم يألم كُلومها قبل حلولها فذاك صاحبها،
ومن عاجلها قبل أوان فرصتها واستبصار سعيه فيها فذاك قَمِن أن لا ينفع قومَه وإن
يهلك نفسه، نسأل الله بقوّته أن يدعمكم بالفيئة(شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد: 1 / 284.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
حرص الإمام علي
عليه السلام على سلامة الحسنين عليهماالسلام: |
|||||||||||||||||||||||||||
|
قاتل الإمام الحسين عليه السلام في
معركة صفّين كما قاتل في معركة الجمل، مع أنّ بعض الروايات أفادت بأنّ أمير
المؤمنين عليه السلام كان يمنع الحسنين عليهماالسلام
من النزول إلى ساحة القتال خشية أن ينقطع نسل رسول الله صلىاللهعليه وآله; إذ
كان عليه السلام يقول: إملكوا عنّي هذا الغلام لا يَهُدَّني، فإنّني أنفسُ
بهذين - يعني الحسن والحسين عليهماالسلام -
على الموت لئلاّ ينقطع بهما نسل رسول الله صلىاللهعليهوآله(نهج البلاغة: من كلام له عليه السلام في بعض أيام صفّين، وقد رأى ابنه الحسن
يتسرّع إلى الحرب. باب خطب أمير المؤمنين: 207.). وجاء في نصوص أخرى أنّ أمير المؤمنين
عليه السلام كان يبعث ابنه محمّد ابن الحنفية إلى ساحات القتال مرّات عديدة دون
أن يسمح للحسنين عليهماالسلام
بذلك، وقد سئل ابن الحنفية عن سرّ ذلك فأجاب:
(إنّهما عيناه وأنا يمينه فهو يدفع عن عينه بيمينه)( شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد: 1 / 118.).
ويعكس هذا الجواب مدى ما كان يحظى به الحسنان عند الإمام علي عليه
السلام. وتفيد الأخبار بأنّ الإمام الحسين عليه
السلام ظلّ مع أبيه بعد صفّين أيضاً في جميع الأحداث مثل قضية
التحكيم ومعركة النهروان. ومعلوم أنّ الأحداث التي عايشها الإمام
الحسين مع أبيه عليهما السلام كانت مأساوية ومرّة جدّاً، وقد بلغت المأساة
ذروتها عندما تآمر الخوارج على قتل أسمى نموذج للإنسان الكامل - بعد رسول الله
صلىاللهعليه وآله - أي عندما ضرب المجرم عبد الرحمن بن ملجم المرادي الخارجي
إمامه أمير المؤمنين عليه السلام على رأسه بالسيف وهو في محراب العبادة. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
وصايا أمير المؤمنين
عليه السلام للإمام الحسين عليه السلام:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
تدلُّ وصايا أمير المؤمنين عليه السلام
لولده الحسين عليه السلام على شدّة اهتمامه به ومحبّته له، وقد جاء في نهج
البلاغة أنّ أمير المؤمنين عليه السلام لمّا
ضربه ابن ملجم (لعنه الله) أوصى للحسن والحسين بالوصية التالية: (أوصيكما بتقوى الله، وأن لا تبغيا
الدنيا وإن بغتكما، ولا تأسفا على شيء منها زُوِيَ عنكما، وقولا بالحقّ، واعملا
للأجر وكونا للظالم خصماً، وللمظلوم عوناً. أوصيكما وجميع ولدي وأهلي ومن بلغه
كتابي بتقوى الله ونظم أمركم وصلاح ذات بينكم; فإنّي سمعت جدّكماصلىاللهعليهوآله
يقول: (صلاح ذات البين أفضل من عامّة الصلاة والصيام). الله الله في الأيتام!
فلا تغبّوا أفواههم، ولا يضيعوا بحضرتكم. والله الله في جيرانكم! فإنّهم وصيّة
نبيّكم، ما زال يوصي بهم حتى ظننّا أنّه سيورّثهم. والله الله في القرآن! لا
يسبقكم بالعمل به غيركم. والله الله في الصلاة! فإنّها عمود دينكم. والله الله
في بيت ربّكم! لا تخلوه ما بقيتم، فإنّه إن تُرك لم تُناظروا. والله الله في
الجهاد بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم في سبيل الله! وعليكم بالتواصل والتباذل،
وإيّاكم والتدابر والتقاطع، لا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي وثمّة وصية أخرى قيّمة وجامعة خاصّة
بالإمام الحسين عليه السلام ذكرها ابن شعبة في تحف العقول، ونحن ننقلها لأهمّيتها
حيث تضمّنت حكماً غرّاء ووصايا أخلاقية خالدة. وإليك
نصّ ما رواه ابن شعبة عن الإمام علي عليه السلام: (يا بُنيّ! أوصيك بتقوى الله في الغنى
والفقر، وكلمة الحقّ في الرضى والغضب، والقصد في الغنى والفقر، وبالعدل على
الصديق والعدوّ، وبالعمل في النشاط والكسل، والرضى عن الله في الشدّة والرّخاء،
أي بنيّ ماشرٌ بعده الجنّة بشرّ، ولا خير بعده النار بخير، وكلّ نعيم دون الجنة
محقور، وكلّ بلاء دون النار عافية. واعلم يا بُنيّ! أنّه مَن أبصر عيب
نفسه شُغل عن عيب غيره، ومَن تعرّى من لباس التقوى لم يستتر بشيء من اللباس، ومَن
رضي بقسم الله لم يحزن على ما فاته، ومَن سلّ سيف البغي قتل به، ومَن حفر بئراً
لأخيه وقع فيه، ومَن هتك حجاب غيره انكشفت عورات بيته، ومَن نسي خطيئته استعظم
خطيئة غيره، ومن كابد الأمور عطب، ومن اقتحم الغمرات غرق، ومن أعجب برأيه ضلّ،
ومن استغنى بعقله زلّ، ومَن تكبّر على الناس ذلّ، ومَن خالط العلماء وُقّر. ومن
خالط الأنذال حُقّر. ومَن سفه على الناس شُتم، ومَن دخل مداخل السوء اتّهم، ومَن
مزح استخفّ به، ومَن أكثر من شيء عرف به، ومَن كثر كلامه كثر خطؤه، ومَن كثر
خطؤه قل حياؤه، ومَن قلّ حياؤه قلّ ورعه، ومَن قلّ ورعه مات قلبه، ومَن مات قلبه
دخل النار. أي بنيّ! من نظر في عيوب الناس ورضي
لنفسه بها فذاك الأحمق بعينه، ومَن تفكّر اعتبر، ومَن اعتبر اعتزل، ومَن اعتزل
سلم، ومَن ترك الشهوات كان حرّاً، ومَن ترك الحسد كانت له المحبة عند الناس. أي بُنيّ! عزّ المؤمن غناه عن الناس،
والقناعة مال لا ينفد، ومَن أكثر من ذكر الموت رضي من الدنيا باليسير، ومَن علم
أنّ كلامه من عمله قلّ كلامه إلاّ فيما ينفعه. أي بنيّ! العجب ممّن يخاف العقاب فلم
يكفّ، ورجا الثواب فلم يتب ويعمل. أي بنيّ! الفكرة تورث نوراً والغفلة
ظلمة والجهالة ضلالة، والسعيد من وعظ بغيره، والأدب خير ميراث، وحسن الخلق خير
قرين، ليس مع قطيعة الرحم نماء ولامع الفجور غنى. أي بُنيّ! العافية عشرة أجزاء
تسعة منها في الصمت إلاّ بذكر الله، وواحدة في ترك مجالسة السفهاء. أي بنيّ! مَن تزيّا بمعاصي الله في
المجالس أورثه الله ذلاًّ، ومن طلب العلم علم. أي بنيّ! رأس العلم الرفق، وآفته
الخرق، ومن كنوز الإيمان الصبر على المصائب، والعفاف زينة الفقر، والشكر زينة
الغنى، كثرة الزيارة تورث الملالة، والطمأنينة قبل الخبرة ضد الحزم، وإعجاب
المرء بنفسه يدلّ على ضعف عقله. أي بُني، كم نظرة جلبت حسرة، وكم من كلمة سلبت
نعمة. أي بنيّ! لا شرف أعلى من الإسلام، ولا
كرم أعزّ من التقوى، ولا معقل أحرزُ من الورع، ولا شفيع أنجح من التوبة، ولا
لباس أجمل من العافية، ولا مال أذهب بالفاقة من الرضى بالقوت، ومن اقتصر على
بُلغة الكفاف تعجّل الراحة وتبوّأ خفض الدعة. أي بُنيّ! الحرص مفتاح التعب ومطيّة
النصب وداع إلى التقحّم في الذنوب، والشره جامع لمساوئ العيوب، وكفاك تأديباً
لنفسك ما كرهته من غيرك، لأخيك عليك مثل الذي أي بُنيّ! لا تؤيّس مذنباً، فكم من
عاكف على ذنبه خُتم له بخير، وكم من مقبل على عمله مُفسد في آخر عمره، صائر إلى
النار. أي بُنيّ! كم من عاص نجا، وكم من عامل
هوى، من تحرّى الصدق خفّت عليه المؤن، في خلاف النفس رُشدُها، الساعاتُ تنتقص
الأعمار، ويلٌ للباغين من أحكم الحاكمين وعالم ضمير المضمرين. يا بُنيّ! بئس الزادُ إلى المعاد
العدوانُ على العباد، في كلّ جُرعة شرق، وفي كلّ أكلة غصص، لن تُنال نعمة إلاّ
بفراق أخرى. ما أقرب الراحة من النصب، والبؤس من
النعيم، والموت من الحياة، والسقم من الصحة! فطوبى لمن أخلص لله عمله وعلمه
وحبّه وبغضه وأخذه وتركه وكلامه وصمته وفعله وقوله، وبخ بخ لعالم عمل فجدّ، وخاف
البيات فأعدّ واستعدّ، إن سُئل نصح، وإن تُرك صمت، كلامه صوابٌ، وسكوته من غير
عيّ جواب. والويل لمن بُلي بحرمان وخذلان وعصيان،
فاستحسن لنفسه ما يكرهه من غيره، وأزرى على الناس بمثل ما يأتي. واعلم أي بُنيّ! أنّه من لانت كلمتُه
وجبت محبّته، وفّقك الله لرشدك، وجعلك من أهل طاعته بقدرته، إنّه جواد كريم(تحف العقول: 88 وصايا أمير المؤمنين عليه السلام.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
الإمام الحسين مع
أبيه عليهما السلام
في لحظاته الأخيرة:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
كان آخر ما نطق به أمير المؤمنين عليه
السلام هو قوله تعالى: (لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ)، ثمّ فاضت
روحه الزكية، تحفّها ملائكة الرحمن، فمادت أركان العدل في الأرض، وانطمست معالم
الدين. لقد مات ملاذ المظلومين والمحرومين
الذي كرّس جهده لإقامة دولة تُنهي دور الإثرة والاستغلال وتقيم العدل والحقّ بين
الناس. وقام سبطا رسول الله صلىاللهعليه
وآله بتجهيز أبيهما المرتضىعليه السلام
فغسّلاه وأدرجاه في أكفانه. وفي الهزيع الأخير من الليل حملاه إلى قبره في النجف
الأشرف، وقد واروا أكبر رمز للعدالة والقيم الإنسانية المثلى كما اعترف بذلك
خصومه. وكتب المؤرّخون: أنّ معاوية لمّا بلغه مقتل الإمام علي عليه السلام خرج
واتّخذ يوم قتله عيداً في دمشق! فقد تحقّق له ما كان يأمله، وتمّ له ما كان يصبو
إليه من اتّخاذ الملك وسيلة لاستعباد المسلمين وإرغامهم على ما يكرهون(حياة الإمام الحسين عليه السلام: 2 / 109.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
الإمام
الحسين في عهد أخيه الإمام الحسن عليهما السلام
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
حالة الأمة قبل الصلح
مع معاوية:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
لم يكن تفتّتُ أركان المجتمع الإسلامي
- الذي كان يؤمن بأقدس رسالة سماوية وأعظمها وأشملها - في ظلّ حكم معاوية بن أبي
سفيان وليد جهود آنيّة، فقد بدأ الانحراف من يوم السقيفة، إذ تولّى زمام اُمور
الأمة مَن كان لا يملك الكفاءة والقدرة المطلوبة، وإنّما تصدّى لها من تصدّى على
أساس العصبية القبلية(الإمامة والسياسة: 1 / 6.).
ويشهد لذلك قول أبي بكر: وُلّيت أمركم ولست بخيركم(عليّ والحاكمون: 109، وتأريخ الخلفاء: 71.). وانحدرت الأمة في واد آخر يوم ميّز عمر بن الخطاب في العطاء بين المسلمين
مخالفاً سنّة رسول الله صلىاللهعليهوآله
ومبتدعاً نظاماً طبقياً جديداً، حتى إذا حكم عثمان بن عفّان; استفحل الفساد
واستشرى في جهاز الحكم والإدارة، حين سيطر فسّاق الناس وشرارهم على أمور الناس
فراحوا يعيثون في الأمة فساداً كالوليد بن عقبة والحكم بن العاص وعقبة بن أبي
معيط وسعيد بن العاص وعبد الله بن سعد بن أبي سرح(تأريخ اليعقوبي: 2 / 41، والعقد الفريد: 2 / 261، وأنساب الأشراف: 5
/ 38، وشرح النهج: 1 / 67.). وأصبحت العائلة الأُموية التي لم تنفتح
على الإسلام لتشكل قوّة اقتصادية جرّاء نهبهم لثروات الأمة، وعطايا عثمان لهم
بغير حق، وتغلغلوا في أجهزة الحكم، وتمكّن معاوية بن أبي سفيان خلال ولايته على
الشام منذ عهد عمر أن يُنشئ مجتمعاً وفق ما تهوى نفسه الحاقدة على الإسلام والنبي
صلىاللهعليه وآله وأهل بيته عليهم السلام، فقد دخل هو وأبوه الإسلام مقهورين
موتورين يوم فتح مكة، ودخل في عداد الطلقاء، بعد أن كان قد فقد جدّه وخاله وأخاه
في الصراع ضد الإسلام قبل فتح مكّة. على أنّ طوال هذه الفترة - منذ وفاة الرسول
صلى اللهعليه وآله إلى نهاية حكم عثمان - لم يعتنِ النظام الحاكم بالدعوة
الإسلامية ونشرها وترسيخها في النفوس، ولم يسع لاجتثاث العقد والأمراض والعادات
القبلية، بل كان همّ الحاكمين هو الاندفاع في الفتوحات طمعاً في توسعة الدولة
وزيادة الأموال. وقد عمل الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام منذ وفاة الرسول
صلى اللهعليه وآله جاهداً على أن لا تفقد الأمة شخصيتها الإسلامية وحاول
تقليل انحرافها، فكان يتدخّل ويُعِين الفئة الحاكمة تارةً باللين واُخرى بالشدّة
متجنّباً الصدام المباشر معهم، لأجل استرداد حقّه الشرعي في الخلافة، مؤثراً
مصلحة الإسلام العامّة على ما سواها من المصالح(شرح النهج لابن أبي الحديد: 1 / 248.). لقد فجعت الأمة بمصلحها الكبير - يوم
استشهد الإمام علي عليه السلام - وانهارت بين يدي الإمام الحسن بن علي عليهماالسلام
بعد أن أنهكتها حروب الإصلاح ضد الناكثين والقاسطين والمارقين; إذ أسرعت القوى
النفعية والمنافقة والحاقدة على الإسلام إلى الوقوف في وجه الإمام علي عليه السلام
متنكرة لأوامر الله سبحانه ورسوله صلىاللهعليه وآله غير مبالية بمصلحة الأمة،
بالرغم من تجسيده للزعامة الحقيقية التي تقود إلى منهج الحقّ والعدل الإلهي، وهم
يعلمون بشرعيته التي اكتسبها من الرسالة والرسول صلى اللهعليه وآله. وهذا ما
كان يشكّل خطراً حقيقياً من شأنه أن يلغي وجودهم من المجتمع الإسلامي، ولهذا
كانت حروب: الجمل وصفّين ثم النهروان. ورأى الإمام الحسن عليه السلام أن ينهض بالأمة مواصلاً مسيرة الإصلاح ومواجهة
الانحراف، ولكنّ الجموع آثرت السلامة والركون إلى الراحة(الإرشاد للمفيد: 8 - 9.)،
فاضطرّ الإمام الحسن عليه السلام إلى
الصلح والمهادنة مع معاوية - وهو المتحصّن القويّ في بلاد الشام - على شروط
وعهود مهمّة، ليضمن سلامة الصفوة الخيّرة من الأمة، وليبني قاعدة جماهيرية أكثر
وعياً وأعمق إيماناً برسالتها الإسلامية، كي لا يُمسخ المجتمع المسلم ولا تُمحق
الرسالة; إذ ليس السيف دائماً هو الفيصل في حالات النزاع، فربما كان للكلمة
والمعاهدة أثر أبلغ في مرحلة خطرة، حيث الهدف هو صيانة الرسالة الإسلامية وحفظ
الأمة الإسلامية في كلّ الأحوال، وليتّضح دور النفاق والعداء الذي كان يتّسم به
بنو أُمية وما كان يُضمِرهُ حكّامهم للإسلام. ولقد وقف الإمام الحسين عليه السلام
إلى جانب أخيه الإمام الحسن عليه السلام وعايش جميع الأحداث التي مرّ بها أخوه، وكانا
على اتّفاق تامّ في الرأي والموقف، يعاضده في توجيه الأمة وإنقاذها بعد أن رأى
كيف أنّ انحراف السقيفة تكاملت أدواره في هذه المرحلة، وقد سرى هذا الانحراف في
جسد الأمة حتى غدت لا تتحفّز لنهضة الإمام الحسن عليه السلام ولا تستجيب لأوامره. وأحاط الإمام الحسن عليه السلام بكلّ ما دبّره معاوية من المكائد والدسائس،
وأصبحت الأكثرية من جيش العراق في قبضة معاوية بن أبي سفيان وطغمته، بعد أن كان
يمثّل جيش العراق العمود الفقري لجيش الإمام علي عليه السلام. ولم يكن ليخفى على الإمام الحسين عليه السلام
أنّ المعركة - لو قدّر للإمام الحسن أن يدخلها مع معاوية - ستكون لصالح الأخير،
وستنتهي حتماً إمّا بقتل الحسن والحسين وجميع الهاشميّين وخُلَّص شيعتهم، أو
ستنتهي بأسرهم، في الوقت الذي تحتاج فيه الأمة الإسلامية إلى وجود الإمام
المعصوم بينها لإنقاذ ما تبقّى وبناء ما تهدّم; فإنّ الرسالة الإسلامية خاتمة
الرسالات ولابدّ من إتمام ما بناه الرسول صلىاللهعليهوآله
والإمام علي بن أبي طالبعليه السلام. ومن ذلك تبيّن أنّ ما رواه
بعض المؤرّخين من أنّ الإمام الحسين عليه السلام كان
كارهاً لما فعله الإمام الحسن عليه السلام وأنّه قال له: (أنشدك الله أن لا تصدّق أحدوثة
معاوية وتكذّب أحدوثة أبيك) وأنّ الحسن قال له: (أُسكت أنا أعلم منك)... يتبيّن
أنّ هذه المرويّات لا أساس لها من الصحة(سيرة الأئمّة الاثني عشر: 2 / 23.). هذا بالإضافة إلى أنّ الإمام الحسين
عليه السلام كان أبعد نظراً وأعمق غوراً في الأمور ومعطياتها من أفذاذ عصره
الذين قدّروا للحسنعليه السلامموقفه
الحكيم الذي لم يكن هناك مجال لاختيار موقف سواه، وكان عليه السلام أرفع شأناً
من أن تخفى عليه المصلحة التي أدركها غيره فيما فعله أخوه حتى يقف منه ذلك
الموقف المزعوم. ولا يشكّ المعتقدون بإمامة وعصمة
الإمامين الحسنينعليهماالسلام في
عدم صحة الروايات التي تحدّثت عن معارضة الإمام الحسين عليه السلام لموقف أخيه
الإمام الحسن عليه السلام من الصلح مع
معاوية. فإذا كان الحسنان عليهماالسلام
إمامين مفترضي الطاعة; كان كلّ ما قاما به هو محض التكليف الإلهي، وطبقاً لما
أراده الله تعالى لهما، فليس ثمّة مجال لمثل تلك الروايات. ويشهد على قولنا هذا روايات
معتبرة تعارض تلك الروايات غير الصحيحة، منها ما يلي: 1 - قال أبو عبد الله الصادق عليه
السلام: نحن قوم فرض الله طاعتنا، وأنتم تأتمّون بمن لا يعذر
الناس بجهالته(أصول الكافي: 1 / 143، باب فرض طاعة الأئمّة.). 2 - سأل رجل أبا الحسن الإمام الرضاعليه
السلام فقال: طاعتك مفترضة؟ فقال: نعم، قال: مثل طاعة عليّ بن
أبي طالبعليه السلام؟ فقال: نعم(أصول الكافي: 1 / 143، باب فرض طاعة الأئمّة.). 3 - عن أبي جعفرعليه
السلام قال: قال له حمران: جُعلت فداك، أرأيت ما كان من أمر عليّ
والحسن والحسين عليهمالسلام وخروجهم
وقيامهم بدين الله عَزَّ وجَلَّ وما أصيبوا من قتل الطواغيت إيّاهم والظفر بهم
حتى قُتلوا أو غلبوا؟ فقال أبو جعفرعليه
السلام: يا حُمران!
إنّ الله تبارك وتعالى قد كان قدّر ذلك عليهم وقضاه وأمضاه وحتمه ثمّ أجراه،
فبتقدّم علم ذلك إليهم من رسول الله صلىاللهعليه وآله قام عليّ والحسن
والحسين وبعلمٍ صمت من صمت منّا(أصول الكافي: 1 / 221 - 222 باب أنّ الأئمّةعليهمالسلام لم يفعلوا شيئاً ولا يفعلون إلاّ بعهد من
الله عَزَّ وجَلَّ وأمر منه لا يتجاوزونه.). 4 - وعن عظيم أخلاق الحسين عليه السلام
واحترامه لأخيه الحسن عليه السلام قال الإمام محمد الباقرعليه
السلام: ما تكلّم الحسين بين يدي الحسن إعظاماً له(حياة الإمام الحسين: 2 / 252.). 5 - قال أبو عبد الله عليه
السلام: إنّ معاوية كتب إلى الحسن بن عليّ (صلوات الله عليهما)
أن أقدم أنت والحسين وأصحاب عليّ، فخرج معهم قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري
فقدموا الشام، فأذن لهم معاوية، وأعدّ لهم الخطباء... ثمّ قال: يا قيس! قم
فبايع، فالتفت إلى الحسين عليه السلام ينظر ما يأمره، فقال: يا قيس! إنّه إمامي
( يعني الحسن عليه السلام )( بحار الأنوار: 44 / 61.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
احترام الإمام الحسين
عليه
السلام لبنود صلح الإمام
الحسن عليه
السلام:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
استشهد الإمام الحسن عليه السلام سنة (49) أو
(50) للهجرة، ومات معاوية سنة (60)
للهجرة، وفي هذه المدة كانت الإمامة والقيادة للإمام الحسين
عليه السلام ولم تجب عليه طاعة أحد، لكنّهعليه
السلام ظلّ ملتزماً ببنود معاهدة الصلح التي عقدها أخوه الإمام الحسن
عليه السلام مع معاوية، فلم يصدر عنه
أيّ موقف ينتهك به بنود المعاهدة المذكورة. بل لمّا طالبه بعض الشيعة بالقيام
والثورة على معاوية، أوصاهم بالصبر والتقية مشيراً إلى التزامه بالمعاهدة، وأنّه
سيكون في حِلٍّ من المعاهدة بموت معاوية. رسالة جعدة
بن هبيرة إلى الإمام الحسين عليه السلام:
كان جعدة بن هبيرة بن أبي وهب من أخلص
الناس للإمام الحسين عليه السلام وأكثرهم مودّة له، وقد اجتمعت عنده الشيعة
وأخذوا يلحّون عليه في مراسلة الإمام للقدوم إلى مصرهم الكوفة ليعلن الثورة على
حكومة معاوية، فدفع جعدة رسالة إلى الإمام الحسين عليه السلام هذا نصها: (أمّا
بعد، فإن من قبلنا من شيعتك متطلّعة أنفسهم إليك، لا يعدلون بك أحداً، وقد كانوا
عرفوا رأي الحسن أخيك في الحرب، وعرفوك باللين لأوليائك والغلظة على أعدائك
والشدّة في أمر الله، فإن كنت تحبّ أن تطلب هذا الأمر فأقدم علينا، فقد وطنّا
أنفسنا على الموت معك)( حياة الإمام الحسين عليه السلام: 2 / 229 - 230.). فأجابه الإمام الحسين عليه السلام
بقوله: (أمّا أخي فإنّي أرجو أن يكون الله قد وفّقه
وسدّده، وأمّا أنا فليس رأيي اليوم ذاك، فالصقوا رحمكم الله بالأرض، واكمنوا في
البيوت، واحترسوا من الظنّة ما دام معاوية حيّاً، فإن يُحدث الله به حدثاً وأنا
حيّ كتبت إليكم برأيي، والسلام). يتبيّن ممّا تقدّم أنّ الإمام الحسين
عليه السلام - انطلاقاً من مسؤوليته الشرعية - اتّبع أخاه الإمام الحسن عليه السلام
في مسألة الصلح مع معاوية، وقد قبله
والتزم به طيلة حكم معاوية، بل إنّ عشرات الشواهد تؤكّد أنّهما كانا منسجمين في
تفكيرهما ونظرتهما إلى الأمور ومعطياتها ومتّفقين في كلّ ما جرى وتمّ التوصل
إليه. وكما نسبوا إلى الإمام الحسين عليه السلام
ذلك فقد نسبوا إلى الإمام الحسن عليه السلام أيضاً أنّه كان على خلاف مع أبيه! في كثير من
مواقفه السياسية قبيل خلافته وخلالها. ومن الواضح أنّ الهدف من أمثال هذه
المزاعم هو زرع الشكّ في نفوس الأمة بالنسبة للموقع الريادي للإمامين الشرعيين
الحسن والحسين عليهماالسلام بغية إيجاد الفرقة والاختلاف كي يبتعد الناس عنهما. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
استشهاد الإمام الحسن
عليه السلام:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
أقام الإمام الحسن عليه السلام بالكوفة أيّاماً بعد أن صالح معاوية، ثمّ عاد
مع أخيه الإمام الحسين عليه السلام وجميع أهل بيته إلى المدينة، فأقام بها
كاظماً غيظه لازماً منزله منتظراً لأمر ربّه جَلَّ اسمه الإرشاد: 2/15.).
وكما ذكرنا فإنّ الإمام الحسين عليه السلام رفض التحرّك ضد معاوية ما دام
حيّاً، التزاماً بمعاهدة الصلح التي كان قد عقدها أخوه الحسن عليه السلام معه. وقد اهتمّ الإمامان عليهم االسلام في
المدينة بالعبادة وترسيخ العقيدة الإسلامية في نفوس الناس وتوضيح الأحكام
الإسلامية للناس وإرشادهم وهدايتهم والعمل من أجل تربية جيل واع يتحمّل مسؤوليته
تجاه الظلم والفساد والانحراف الحاصل في مسيرة الأمة. وفي هذه السنوات العشر -
كما دوّنته جملة من مصادر التاريخ الإسلامي - قد حدثت عدّة مناوشات كلامية من
جانب الإمامين الحسن والحسين عليهماالسلام بالنسبة لتصرفات معاوية وجملة من
عناصر بلاطه. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
الباب
الثالث
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
فيه فصول: الفصل الأول: عصر الإمام الحسين عليه السلام. الفصل الثاني: مواقف الإمام الحسين عليه
السلام وإنجازاته. الفصل الثالث: نتائج الثورة الحسينية. الفصل الرابع: من تراث الإمام الحسين عليه
السلام. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
الفصل
الأول: عصر الإمام الحسين عليه السلام
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
البحث الأوّل: حكومة معاوية ودورها في تشويه الإسلام:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
أمسك معاوية والطغمة الفاسدة من بني
أُمية بزمام الحكم، وأكملوا بذلك الانحراف الذي حصل من السقيفة، حيث حوّل معاوية
الخلافة إلى ملك عضوض مستبدّ، حين صرّح بعدائه للأمة الإسلامية واعترف بعدم رضى
الأمة به حاكماً بقوله: والله ما ولّيتها - أي الخلافة - بمحبّة علمتها منكم ولا
مسرّة بولايتي ولكن جالدتكم بسيفي(تأريخ الخلفاء: 71.). ولكنّ معاوية والتيار الذي تزعّمه واجه
عقبةً كؤوداً، هي تطبيق الإمام علي عليه السلام لأحكام الشريعة الإسلامية
بصورتها الصحيحة. مضافاً إلى أنّه لم يترك الأمة حتى عمّق العقيدة في النفوس،
فأحبّته الجماهير - وخصوصاً أهل العراق - وكان في ذلك حريصاً على الرسالة والأمة
الإسلامية ومفنّداً مزاعم أرباب السقيفة حين عبّر أبو بكر عن عجزه واعتذر عن
كثرة أخطائه بقوله: فإني قد وُلّيت عليكم ولست بخيركم(المصدر السابق.).
فإنّ هذا الاعتذار قد يفهم منه عدم إمكان التطبيق التام للشريعة الإسلامية.
ولكنّ الإمام عليّاًعليه السلام قد
قدّم النموذج الحيّ للقيادة الكفوءة الواعية والمعصومة بعد الرسول صلى اللهعليه
وآله، فكانت الأمة المسلمة تتوقّع قائداً كعلي بن أبي طالبعليه
السلام. ولكن معاوية شرع في تشويه هذه القيم
الإسلامية ومحاربة القوى المتعاطفة مع أهل البيت عليهم السلام وهدم كلّ ما بناه
الإمام علي عليه السلام في الأمة الإسلامية من قيم فتفقد إرادتها ويموت ضميرها
لئلاّ تكون قادرة على مواجهة أهواء الحكّام المخالفة للدين الحنيف. لقد أعلن
معاوية - منذ أوّل خطوة - أنّ هدفه الأساس هو استلام زمام الحكم حتّى لو أريقت
من أجله دماء المسلمين المحرّمة بكلمته المعروفة: والله ما قاتلتكم لتصلّوا ولا
لتصوموا ولا لتحجّوا ولا لتزكّوا، وإنّما قاتلتكم لأتأمّر عليكم(شرح نهج البلاغة: 4 / 16.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
منهج معاوية لمحاربة
الإسلام:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
ولابدّ لنا من دراسة موجزة للمخطّطات
الشيطانية التي تبنّاها معاوية وما رافقها من الأحداث الجسام، فإنّها من أهمّ
الأسباب في ثورة الإمام الحسين عليه السلام. لقد رأى الإمام عليه السلام ما وصل
إليه حال المسلمين من التردّي عقائدياً وأخلاقياً واجتماعياً واقتصادياً
وسياسياً. وكان كل هذا التردّي من جرّاء السياسات التي أبعدت الأمة عن مسار
الإسلام الأصيل من خلال ممارسات معاوية التي بلغت ذروتها في فرض يزيد بالقوة
خليفةً على المسلمين، فهبّ (سلام الله عليه) بعد هلاك معاوية إلى تفجير ثورته
الكبرى التي أدّت إلى إيقاظ النفوس وتحريك إرادة الأمة. واليك بعض معالم سياسات الجاهلية الأُموية التي تصدّى لتنفيذها
معاوية: |
|||||||||||||||||||||||||||
|
1 - سياسته الاقتصادية:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
لم تكن لمعاوية أيّة سياسة اقتصادية في
المال حسب المعنى المتداول لهذه الكلمة، وإنّما كان تصرّفه في جباية الأموال
وإنفاقها خاضعاً لرغباته وأهوائه، فهويهب الثراء العريض للمؤيدين له ويحرم
معارضيه من العطاء، ويأخذ الأموال ويفرض الضرائب بغير حقّ، وقد شاع في عصر
معاوية الفقر والحرمان عند الأكثرية الساحقة من المسلمين، فيما تراكمت الثروات
عند فئة قليلة راحت تتحكّم في مصير المسلمين وشؤونهم، وهذه بعض الخطوط الرئيسة في سياسته الاقتصادية: أ -
الحرمان الاقتصادي:
أشاع معاوية الحرمان
الاقتصادي في الأقطار التي كانت تضمّ الجبهة المعارضة له، مثل: * يثرب:
لم ينفق معاوية على أهل يثرب أيّ شيء
من المال، لأنّ فيهم كثيراً من الشخصيات المعارضة للأسرة الأموية والطامعة في
الحكم، يقول المؤرخون: إن معاوية أجبرهم على بيع أملاكهم فاشتراها بأبخس
الأثمان، وقد أرسل قيّماً على أملاكه لتحصيل وارداتها فمنعوه عنها، وقابلوا
حاكمهم عثمان بن محمد وقالوا له: إنّ هذه الأموال لنا كلّها، وإنّ معاوية آثر
علينا في عطائنا، ولم يعطنا وقد نصب معاوية على الحجاز مروان بن
الحكم تارةً وسعيد بن العاص مرّة أخرى، وكان يعزل الأوّل ويولّي الثاني، وقد
جهدا معاً في إذلال أهل المدينة وإفقارهم. * العراق:
فرض معاوية على أهل العراق عقوبات
اقتصاديةً بصفته المركز الرئيسي للمعارضة، وكان واليه المغيرة بن شعبة يحبس
العطاء والأرزاق عن أهل الكوفة، وقد سار الحكّام الأمويون بعد معاوية على هذا
النهج في اضطهاد أهل العراق وحرمانهم(حياة الإمام الحسين عليه السلام: 2 / 125، وراجع العقد الفريد: 4 /
259.)،
باعتبارهم الثقل الأكبر في الخطّ الواعي الذي وقف مع أمير المؤمنين عليه
السلام. ب -
استخدام المال لتثبيت ملكه:
استخدم معاوية بيت المال لتثبيت ملكه
وسلطانه، واتّخذ المال سلاحاً يمكّنه من التسلّط على الأمة، فقد كان من عناصر
سياسة الأمويين استخدام المال سلاحاً للإرهاب وأداةً للتقريب، فحرم منه فئةً من
الناس، وأغدق أضعافاً مضاعفة لطائفة أخرى ثمناً لضمائرهم وضماناً لصمتهم(المصدر السابق: 2 / 127، نقلاً عن اتجاهات الشعر العربي: 27، د. محمد
مصطفى.). ووهب معاوية خراج مصر لعمرو بن العاص،
وجعله طعمة له مادام حيّاً، وذلك لتعاونه معه على مناجزة أمير المؤمنينعليه
السلام(حياة الإمام الحسين عليه السلام: 2 / 127.). ج - شراء
الذمم:
فتح معاوية باباً جديداً في سياسته
الاقتصادية وهي شراء الذمم، فقد أعلن عن ذلك بكل دناءة قائلاً: والله لأستميلنّ
بالأموال ثقات علي، ولأقسِّمنَّ فيهم الأموال حتى تغلب دنياي آخرته(راجع وقعة صفّين لنصر بن مزاحم: 495، وشرح نهج البلاغة: 2 / 293.). كما روي أنّه وفد عليه جماعة من أشراف
العرب فأعطى كلّ واحد منهم مائة ألف درهم، وأعطى الحتات عمّ الفرزدق سبعين
ألفاً، فلمّا علم الحتات بذلك رجع مغضباً إلى معاوية، فقال له بلا خجل ولا حياء:
إنّي اشتريت من القوم دينهم، ووكلتك إلى دينك. فقال الحتات: اشتر منّي ديني. فأمر له
بإتمام الجائزة(حياة الإمام الحسين عليه السلام: 2 / 128 - 129.). د - ضريبة النيروز: فرض معاوية على المسلمين ضريبة النيروز
في بدعة سنّها من غير دليل في الشريعة الإسلامية، ليسدّ بها نفقاته، وبالغ في
إرهاق الناس واضطهادهم على أدائها، وقد بلغت فيما يقول المؤرخون: عشرة ملايين
درهم، وهي من الضرائب التي يألفها المسلمون، وقد اتّخذها الحكّام من بعده سنّةً
فأرغموا المسلمين على أدائها(المصدر السابق: 2 / 131، وراجع: الحياة الفكرية في الإسلام: 42.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
2 - سياسة التفرقة:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
بنى معاوية سياسته على تفريق كلمة
المسلمين، إيماناً منه بأنّ الحكم لا يستقرّ له إلاّ بإشاعة العداء بين أبناء
الأمة الإسلامية، (وكانت لمعاوية حيلته التي كرّرها وأتقنها وبرع فيها،
واستخدمها مع خصومه في الدولة من المسلمين وغير المسلمين، وكان قوام تلك الحيلة،
العمل الدائب على التفرقة والتخذيل بين خصومه بإلقاء الشبهات بينهم وإثارة الإحن
فيهم، ومنهم من كان من أهل بيته وذوي قرباه... كان لا يطيق أن يرى رجلين ذوي خطر
على وفاق، وكان التنافس الفطري بين ذوي الأخطار ممّا يعينه على الإيقاع بهم)( حياة الإمام الحسين عليه السلام: 2/135، عن العقّاد في كتابه (معاوية في
الميزان): 64.). أ - اضطهاد
الموالي:
بالغ معاوية في اضطهاد الموالي
وإذلالهم، وقد رام أن يبيدهم إبادةً شاملةً. يقول المؤرخون: إنّه دعا الأحنف بن
قيس وسمرة بن جندب وقال لهما: إنّي رأيت هذه الحمراء قد كثرت، وأراها قد قطعت
على السلف، وكأنّي أنظر إلى وثبة منهم على العرب والسلطان، فقد رأيت أن أقتل
شطراً منهم، وأدع شطراً لإقامة السوق وعمارة الطريق(العقد الفريد: 2 / 260.). ب -
العصبية القبلية:
أحيى معاوية العصبيات القبلية، وقد
ظهرت في الشعر العربي صور مريعة ومؤلمة من ألوان الصراع الذي كانت السلطة
الأُموية تختلقه لإشغال الناس عن التدخّل في الشؤون السياسية، وقال المؤرّخون: إنّ معاوية عمد إلى إثارة الأحقاد
القديمة بين الأوس والخزرج محاولاً بذلك التقليل من أهمّيتهم، وإسقاط مكانتهم
أمام العالم العربي والإسلامي، كما تعصّب لليمنيّين على المضريّين، وأشعل نار
الفتنة فيما بينهم حتى لا تتّحد لهم كلمة تضرّ بمصالح دولته(حياة الإمام الحسين عليه السلام: 2 / 137.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
3 - سياسة البطش والجبروت:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
ساس معاوية الأمة بسياسة البطش والقمع،
فاستهان بمقدّراتها وكرامتها، وقد أعلن - بعد الصلح - أنّه قاتل المسلمين وسفك
دماءهم كي يتأمّر عليهم، وقد أدلى بتصريح عبّر فيه عن كبريائه وغطرسته فقال: نحن
الزمان، من رفعناه ارتفع، ومن وضعناه اتّضع(حياة الإمام الحسين عليه السلام: 2 / 138 - 139، والعقد الفريد: 2 / 159.). وسار عمّاله وولاته على هذه الخطّة
الغادرة، فقد خاطب عتبة بن أبي سفيان المصريّين بقوله: فوالله لأقطعنّ بطون
السياط على ظهوركم. وجاء في خطاب لخالد القسري
في أهل مكة: فإنّي والله ما أوتي لي بأحد يطعن على إمامه (يعني
معاوية) إلاّ صلبته في الحرم(الأغاني لأبي الفرج الإصفهاني: 22/382 طبعة بيروت.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
4 - الخلاعة والمجون والاستخفاف بالقيم
الدينية:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
عُرف معاوية بالخلاعة والمجون، يقول
ابن أبي الحديد: كان معاوية أيام عثمان شديد التهتّك موسوماً بكلّ قبيح، وكان في
أيام عمر يستر نفسه قليلاً; خوفاً منه إلاّ أنّه كان يلبس الحرير والديباج ويشرب
في آنية الذهب والفضة، ويركب البغلات ذوات السروج المحلاّت بها - أي بالذهب -
وعليها جلال الديباج والوشي... ونقل الناس عنه في كتب السيرة أنّه كان
يشرب الخمر في أيام عثمان في الشام(حياة الإمام الحسين عليه السلام: 2 / 144 - 145.). وروي عن عبد الله بن بريدة قوله: دخلتُ
أنا وأبي على معاوية فأجلسنا على الفراش، ثم أوتينا بالطعام فأكلنا ثم أوتينا
بالشراب فشرب معاوية! ثم ناول أبي فقال: ما شربته منذ حرّمه رسول الله صلىاللهعليه
وآله(مسند أحمد بن حنبل: 5 / 347.). وثمة روايات عديدة تحدّثت عن أكل
معاوية للربا، منها: أنّ معاوية باع سقاية من ذهب أو ورق بأكثر من وزنها، فقال
له أبو الدرداء: سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآله
نهى عن مثل هذا إلاّ مِثلاً بمثل، فقال معاوية: ما أرى به بأساً. فقال له أبو
الدرداء: من يُعذرُني من معاوية؟ أنا أخبره عن رسول الله وهو يخبرني عن رأيه! لا
أُساكنك بأرض أنت بها. ثم قدم أبو الدرداء على عمر بن الخطّاب فذكر له ذلك، فكتب
عمر إلى معاوية: أن لا تبع ذلك إلاّ مثلاً بمثل ووزناً بوزن(سنن النسائي: 7 / 279.). ومن مظاهر استخفاف معاوية بالقيم
الإسلامية استلحاقه زياد بن عبيد الرومي وإلصاقه بنسبه من دون بيّنة شرعيّة،
وإنّما اعتمد على شهادة أبي مريم الخمّار وهو ممّا لا يثبت به نسب شرعي، وقد
خالف بذلك قول رسول الله صلىاللهعليه وآله: (الولد للفراش وللعاهر الحجر)( راجع قصة الاستلحاق وأسبابها وآثارها في (حياة الإمام الحسن بن
علي): 2 / 174 - 190.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
5 - إظهار الحقد على النبي صلىاللهعليهوآله
والعداء لأهل بيته عليهم السلام:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
حقد معاوية على النبي صلىاللهعليه وآله
فقد مكث في أيام خلافته أربعين جمعةً لا يصلّي عليه،
وسأله بعض أصحابه عن ذلك فقال: لا يمنعني عن ذكره إلاّ أن تشمخ رجال بآنافها)( حياة الإمام الحسين عليه السلام: 2 / 151، عن النصائح الكافية: 97.).
وسمع المؤذّن يقول: (أشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ
محمّداً رسول الله...) واندفع يقول:
لله أبوك يا ابن عبد الله، لقد كنت عالي الهمّة، ما رضيت لنفسك إلاّ أن يقرن
اسمك باسم رب العالمين(شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 10 / 101.). وسخّر معاوية جميع أجهزته للحطّ من
قيمة أهل البيت عليهم السلام الذين هم وديعة رسول الله صلىاللهعليهوآله
حتى استخدم أخطر الوسائل في محاربتهم وإقصائهم عن واقع الحياة الإسلامية، وكان من بين ما استخدمه في ذلك: 1 -
تسخير الوعّاظ ليحوّلوا القلوب عن أهل البيت عليهم السلام. 2 -
افتعال الأخبار على لسان النبي صلىاللهعليه وآله للحطّ من قيمة أهل البيت
عليهم السلام وقد استفاد من أبي هريرة الدوسي، وسمرة بن جندب، وعمرو بن العاص،
والمغيرة بن شعبة، حيث اختلقوا مئات الأحاديث على لسان النبي صلىاللهعليه وآله. 3 -
استخدم معاوية معاهد التعليم وأجهزة الكتاتيب لتغذية النَشْء ببغض أهل البيت
عليهم السلام وخلق جيل معاد لهم. وتمادى معاوية في عدائه لأمير
المؤمنين عليه السلام فأعلن سبّه ولعنه في نواديه العامة
والخاصة، وأوعز إلى جميع عمّاله وولاته أن يذيعوا سبّه بين الناس، وسرى سبّ
الإمام في جميع أنحاء العالم الإسلامي، وقد خطب معاوية في أهل الشام فقال لهم: أيّها الناس، إنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله
قال لي: إنّك ستلي الخلافة من بعدي فاختر الأرض المقدسة - يعني الشام - فإنّ
فيها الأبدال وقد اخترتكم فالعنوا أبا تراب(حياة الإمام الحسين عليه السلام: 2 / 160، وشرح نهج البلاغة: 3 / 361.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
6 - العنف مع شيعة أهل البيت عليهم السلام:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
اضطُهدت الشيعة أيام معاوية اضطهاداً
رسمياً، ومورس معهم أشدُّ أنواع القمع والقهر. وقد وصف الإمام محمد الباقرعليه
السلام الإرهاب الأموي بقوله عليه السلام: (وقتلت شيعتنا بكلّ
بلدة وقطعت الأيدي والأرجل على الظنّة، وكان من يُذكر بحبّنا والانقطاع إلينا
سُجن أو نهب ماله أو هدمت داره)( شرح نهج البلاغة: 3 / 15، والطبقات الكبرى: 5 / 95.). وعمد معاوية إلى إبادة القوى
المفكّرة والواعية من الشيعة، وقد ساق أفواجاً منهم إلى
ساحات الإعدام، من قبيل: حجر بن عدي ورشيد الهجري وعمرو بن الحمق الخزاعي وأوفى بن حصن. ولم يقتصر معاوية على تنكيله برجال
الشيعة، وإنّما تجاوز ظلمه إلى نسائهم،
فأشاع الذعر والإرهاب في العديد منهنّ مثل: الزرقاء بنت عدي وسودة بنت عمارة وأم
الخير البارقيّة. وأوعز معاوية إلى جميع عمّاله بهدم دور
الشيعة ومحو أسمائهم من الديوان وقطع عطائهم ورزقهم، كذلك عهد إلى عمّاله بعدم
قبول شهادتهم في القضاء وغيره مبالغة في إذلالهم وتحقيرهم. إنّ انحرافات معاوية وجرائمه لا يمكن
استيعابها في هذه الإشارات السريعة، وهي تتطلّب كتاباً خاصاً بها لكثرتها
وسعتها، ولقد كنّا نرمي في الدرجة الأولى من هذه الإشارات إلى التمهيد للتطرّق
إلى ذِكر جريمته الكبرى التي أدّت بالإمام الحسين عليه السلام إلى إعلان ثورته،
هذه الجريمة التي تمثّلت في فرض ابنه يزيد الفاسق وليّاً للعهد. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
7 - فرض البيعة بالقوّة ليزيد الفاجر:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
لقد كانت الخلافة أيام أبي بكر وعمر
وعثمان ذات مسحة إسلامية وكانوا يحكمون تحت شعار خلافة الرسول صلىاللهعليهوآله. على أنّ معاوية حينما بدأ بالسيطرة على
زمام السلطة فإنّه - رغم الخداع والتضليل الذي عرفنا شيئاً عنه - لم يجترئ على
تحدّي الرسول صلىاللهعليهوآله
ورسالته بشكل علني وصريح في بداية حكمه; إذ كان يستغل المظاهر الإسلامية لإحكام
القبضة ولتحقيق مزيد من السيطرة على رقاب أبناء الأمة الإسلامية. ومن هنا وصف معاوية بالدهاء والذكاء المفرط; لأنه كان يُلبس باطله
لباساً إسلامياً. ولكن تحميله ليزيد الفاجر المعلن بفسقه
على الأمة جاء هتكاً صريحاً للقيم الإسلامية واستهتاراً واضحاً لعرف المسلمين؛
وذلك لما عرفه المسلمون جميعاً من أنّ الخلافة الإسلامية ليست حكماً قيصرياً ولا
كسروياً لينتقل بالوراثة، ولا يستحق هذا المنصب إلاّ العالم بالكتاب والسنّة،
العامل بهما والقادر على تحقيق أهداف الرسالة الإسلامية وتطبيق أحكامها. هذا مضافاً إلى أنّ فرض البيعة ليزيد
على المسلمين كان جريمة كبرى ذات أبعاد اجتماعية وسياسية خطيرة تنتهي بتصفية
الإسلام ومحوه من على وجه الأرض، لولا ثورة الإمام الحسين عليه السلام سبط الرسول
الأعظم صلى اللهعليه وآله الحافظ لدين جدّه من الضياع والدمار. ولأجل الوقوف على عظمة هذه الجريمة;
لابدّ أن نعرف أوّلاً من هو يزيد؟ وما هو السبب الذي جعله غير صالح للخلافة؟
ولماذا يكون فرض بيعته عدواناً صريحاً على الإسلام وارتداداً عنه وعودة إلى
الجاهلية التي ناهضها الإسلام؟ |
|||||||||||||||||||||||||||
|
البحث الثاني: من هو يزيد بن معاوية؟
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
قبل الحديث عن تولّي يزيد
للحكم وموقف الإمام الحسين عليه السلام من ذلك لابدّ وأن نعرف من هو يزيد في
منظار الإسلام والمسلمين؟ وما هو رأي الإسلام في البيت الأموي بصورة عامة؟ لا يشك أحد من الباحثين والمؤرّخين في
أنّ الأمويين كانوا من ألدّ أعداء الإسلام وأنكد خصومه منذ أن بزغ فجره وحتى آخر
مرحلة من مراحل حكمهم. وأنهم لم يدخلوا فيه إلاّ بعد أن استنفدوا جميع إمكاناتهم
في محاربته حتّى باؤوا بالفشل. ولمّا دخلوا فيه مرغمين أخذوا يخطّطون لتشويه
معالمه وإعادة مظاهر الجاهلية بكلّ أشكالها بأسلوب جديد وتحت ستار الإسلام. وكان معاوية يرتعش جزعاً ويضجر عندما
كان يسمع النداء باسم النبي محمد بن عبد الله صلىاللهعليه وآله ويشعر بانطلاق
هذا الاسم المبارك في أجواء العالم الإسلامي من أعلى المآذن في كلّ يوم. وهكذا كان غيره من حكّام ذلك البيت
الذين حكموا باسم الإسلام وهم يعملون على تقويضه وإبرازه على غير واقعه وتشويه
قوانينه وتشريعاته ومُثله. ويزيد بن معاوية الذي وقف الإمام
الحسين عليه السلام منه ذلك
الموقف الخالد كان كما يصفه المؤرّخون والمحدّثون مستهتراً إلى حدّ الإسراف في
الاستهتار، وممعناً في الفحشاء والمنكرات إلى حدّ الغلوّ في ذلك(سيرة الأئمّة الاثني عشر: 2 / 41.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
ولادة يزيد ونشأته
وصفاته:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
ولد يزيد سنة (25 أو 26 هـ ) (حياة الإمام الحسين عليه السلام: 2 / 179.) وأمه
ميسون بنت بجدل الكلبية، وقد ذكر المؤرّخون: أنّ ميسون بنت بجدل الكلبية أمكنت
عبد أبيها من نفسها، فحملت بيزيد (لعنه الله) وإلى
هذا أشار النسّابة الكلبي بقوله:
أراد بالدعيّ عبيد الله بن زياد لعنه
الله... ومراده بعبد كلب يزيد بن معاوية، لأنّه من عبد بجدل الكلبي(بحار الأنوار: 44 / 309.). وفيما يتّصل بصفاته الجسميّة فقد وصفه
ابن كثير - في بدايته - بأنّه كان كثير اللحم عظيم الجسم وكثير الشعر مجدوراً(سيرة الأئمّة الاثني عشر: 2 / 42.). أمّا صفاته النفسية فقد ورث صفات الغدر
والنفاق والطيش والاستهتار من سلفه، حتّى قال المؤرّخون: وكان يزيد قاسياً
غدّاراً كأبيه، (إن كان من معاوية طبعاً) ولكنّه ليس داهيةً مثله، كانت تنقصه
القدرة على تغليف تصرّفاته القاسية بستار من اللباقة الدبلوماسية الناعمة، وكانت
طبيعته المنحلّة وخُلقه المنحطّ لا تتسرّب اليها شفقة ولا عدل. كان يقتل ويعذّب
نشواناً للمتعة واللّذة التي يشعر بها، وهو ينظر إلى آلام الآخرين، وكان بؤرة
لأبشع الرذائل، وها هم ندماؤه من الجنسين خير شاهد على ذلك، لقد كانوا من حثالة
المجتمع(حياة الإمام الحسين: 2 / 181 - 182.). وقد نشأ يزيد عند أخواله في
البادية من بني كلاب الذين كانوا يعتنقون المسيحية قبل الإسلام،
وكان مرسل العنان مع شبابهم الماجنين فتأثّر بسلوكهم إلى حد بعيد، فكان يشرب معهم الخمر ويلعب معهم بالكلاب. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
ولع يزيد بالصيد:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
ومن مظاهر صفات يزيد ولعه بالصيد، فكان
يقضي أغلب أوقاته فيه، قال المؤرّخون:
كان يزيد بن معاوية كلفاً بالصيد لاهياً به، وكان يُلبِسُ كلابَ الصيد الأساورَ
من الذهب والجلال المنسوجة منه، ويهب لكلّ كلب عبداً يخدمه(راجع الفخري لابن الطقطقي: 45، وتاريخ اليعقوبي: 2/230، وتاريخ
الطبري: 4/368، والبداية والنهاية: 8/236 - 239.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
شغفه بالقرود:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
وكان يزيد - فيما أجمع عليه المؤرّخون - ولعاً
بالقرود، وكان له قرد يجعله بين يديه ويكنّيه بأبي قيس، ويسقيه فضل كأسه، ويقول: هذا شيخ من بني اسرائيل أصابته خطيئة
فمسخ، وكان يحمله على أتان وحشية ويرسله مع الخيل في حلبة السباق، فحمله يوماً
فسبق الخيل فسرّ بذلك وجعل يقول:
وأرسله مرّةً في حلبة السباق فطرحته
الريح فمات فحزن عليه حزناً شديداً، وأمر بتكفينه ودفنه كما أمر أهل الشام أن
يعزّوه بمصابه الأليم، وأنشأ راثياً له:
حياة الإمام الحسين عليه السلام: 2 / 182، نقلاً عن جواهر المطالب: 143.وذاع
بين الناس هيامه وشغفه بالقرود حتى لقّبوه بها، ويقول رجل من تنوخ هاجياً له:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
إدمانه على الخمر:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
والظاهرة البارزة من صفات يزيد إدمانه
على الخمر حتى أسرف في ذلك إلى حد كبير، فلم يُرَ في وقت إلاّ وهو ثمل لا يعي من
فرط السكر، ومن شعره في الخمر:
(حياة
الإمام الحسين: 2 / 183، نقلاً عن تأريخ المظفري.) وينقل المؤرّخون عن عبد الله
بن حنظلة الذي خرج على يزيد بعد أن اصطحب وفداً من أهل
المدينة إلى الشام في أعقاب استشهاد الإمام الحسين عليه السلام وصفه ليزيد
بقوله: والله ما خرجنا على يزيد حتى خفنا أن نُرمى بالحجارة من السماء، إنّه رجل
ينكح الاُمهات والبنات والأخوات، ويشرب الخمر ويدع الصلاة، والله لو لم يكن معي
أحد من الناس لأبليت لله بلاءً حسناً(تأريخ ابن عساكر: 7 / 372، وتأريخ الخلفاء للسيوطي: 81.). وقال أعضاء الوفد: قدمنا من عند رجل
ليس له دين، يشرب الخمر ويعزف بالطنابير ويلعب بالكلاب(تأريخ ابن عساكر: 7 / 372، وتأريخ الخلفاء للسيوطي: 81.). ونقل عن المنذر بن الزبير قوله في
وصفه: والله إنّه ليشرب الخمر، والله إنّه ليسكر حتى يدع الصلاة(البداية والنهاية: 8 / 216، الكامل لابن الأثير: 4 / 45.). ووصفه أبو عمر بن حفص بقوله: والله
رأيت يزيد بن معاوية يترك الصلاة مسكراً...( المصدر السابق.) ويتبدّى الكفر في وصفه للخمر في
الأبيات الآتية:
تتمة المنتهى: 43. وعنه قال المسعودي:
وكان يزيد صاحب طرب وجوارح وكلاب وقرود وفهود ومنادمة على الشراب، وجلس ذات يوم
على شرابه وعن يمينه ابن زياد وذلك بعد قتل الحسين، فأقبل على ساقيه فقال:
ثم أمر المغنّين فغنّوا،
وغلب على أصحاب يزيد وعمّاله ما كان يفعله من الفسوق، وفي أيامه ظهر الغناء بمكة
والمدينة، واستعملت الملاهي وأظهر الناس شرب الشراب(مروج الذهب: 2 / 94.). ويؤكّد في مكان آخر:
وكان يسمّى يزيد السكران الخمّير(مروج الذهب: 2 / 94.). وكان ليزيد جماعة من الندماء الخليعين
والماجنين يقضي معهم لياليه الحمراء بين الشراب والغناء (وفي طليعة ندمائه
الأخطل الشاعر المسيحي الخليع، فكانا يشربان ويسمعان الغناء، وإذا أراد السفر
صحبه معه، ولمّا هلك يزيد وآل أمر الخلافة إلى عبد الملك بن مروان قرّبه، فكان
يدخل عليه بغير استئذان، وعليه جبّة خزّ، وفي عنقه سلسلة ذهب، والخمر يقطرمن
لحيته)( الأغاني لأبي الفرج الإصفهاني: 7 / 170.). إن مطالعة الحياة الماجنة ليزيد في
حياة أبيه تكفي لفهم دليل امتناع عامة الصحابة والتابعين من الرضوخ لبيعة يزيد
بالخلافة. إنّ نوايا يزيد ونزعاته المنحرفة قد
تجلّت بشكل واضح خلال فترة حكمه القصيرة، حتى أنّه لم يبال بإظهار ما كان يضمره
من حقد للرسولصلىاللهعليهوآله وما
كان ينطوي عليه من إلحاد برسالته صلىاللهعليهوآله
بعد أن دنّس يديه بقتل سبط الرسول وريحانته أبي عبد الله الحسين عليه
السلام وهو متسلّط - بالقهر - على رقاب المسلمين باسم الرسول
الأعظم صلىاللهعليهوآله. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
إلحاد يزيد وحقده على
رسول الله صلىاللهعليهوآله:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
لقد أترعت نفس يزيد بالحقد على الرسول
صلى اللهعليه وآله والبغض له، لأنّه وتره باُسرته يوم بدر، ولمّا أباد العترة
الطاهرة جلس على أريكة الملك جذلان مسروراً، فقد استوفى ثأره من النبي صلىاللهعليه
وآله وتمنّى حضور أشياخه ليروا كيف أخذ بثأرهم، وجعل يترنّم بأبيات عبد الله بن الزبعرى:
حياة الإمام الحسين عليه السلام: 2 / 187، نقلاً عن البداية والنهاية: 8
/ 192. بل إنّ يزيداً جاهر بإلحاده وكفره
عندما تحرّك عبد الله بن الزبير ضدّه في مكة، فقد وجّه جيشاً لإجهاض تحرّك ابن
الزبير وزوّده برسالة إليه، ورد فيها البيت الآتي:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
جرائم حكم يزيد:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
ذكر المؤرّخون أنّ يزيد
ارتكب خلال فترة حكمه القصيرة التي لم تتجاوز ثلاث سنين ونصف، ثلاث جرائم مروّعة
لم يشهد لها التأريخ نظيراً، بحيث لم تسوّد تأريخ الأمويين
إلى الأبد فحسب; وإنّما شوّهت تأريخ العالم الإسلامي كذلك، ومن هذه الجرائم: 1 - انتهاك
حرمة أهل بيت الوحي بقتل الإمام الحسين السبطعليه
السلام ومن معه من أسرته وأصحابه وسبي نسائه وأطفاله وعرضهم على
الجماهير من بلد إلى بلد سنة (61 هـ ) وهم ذرية رسول الله صلىاللهعليه وآله
وملايين المسلمين تقدّسهم وتذكر فيهم الرسول صلى اللهعليه وآله وكلّ ما في
الإسلام من حقّ وخير. 2 -
إقدامه بعد ملحمة عاشوراء على انتهاك حرمة مدينة الرسول صلى اللهعليه وآله
وقتل أهلها وإباحة أعراضهم لجيش الشام، لأنّهم استعظموا قتل الإمام الحسين عليه السلام
وأنكروه عليه. 3 -
إقدامه على حصار مكّة وتدمير الكعبة وقتل آلاف الأبرياء في الحرم الذي جعله الله
حراماً وآمناً. السرّ
الكامن وراء نزعات يزيد الشرّيرة:
رجّح بعض
المؤرّخين أنّ بعض نساطرة النصارى تولّى تربية يزيد وتعليمه،
فنشأ نشأةً سيّئة ممزوجةً بخشونة البادية وجفاء الطبع، وقالوا: إنّه كان من آثار
تربيته المسيحية أنّه كان يقرّب المسيحيين ويكثر منهم في بطانته الخاصة، وبلغ من
اطمئنانه إليهم أن عهد بتربية ولده إلى مسيحي، كما اتّفق على ذلك المؤرّخون(سيرة الأئمّة الاثني عشر: 2 / 42 وراجع أيضاً: حياة الإمام الحسين
عليه السلام: 2 / 180. عن المناقب: 71 للقاضي نعمان المصري، وسمو المعنى في
سموّ الذات: 59 العلائلي.). ولا يمكن أن تعلّل هذه الصلة الوثيقة
وتعلّقه الشديد بالأخطل وغيره إلاّ بتربيته ذات الصبغة المسيحية. هكذا حاول بعض المؤرّخين والكتّاب أن يعلّل استهتار يزيد بالإسلام
ومقدّساته وحرماته. وهذا التعليل يمكن أن يكون له ما
يسوّغه لو كانت لحياة
البادية وللتربية المسيحية تلك الصبغة الشاذّة التي برزت في سلوك يزيد من مطلع
شبابه إلى أن أصبح وليّاً لعهد أبيه وحاكماً من بعده. في حين أن العرب في حاضرتهم
وباديتهم كانت لهم عادات وأعراف كريمة قد أقرّها الإسلام
كالوفاء وحسن الجوار والكرم والنجدة وصون الأعراض وغير ذلك ممّا تحدّث به
التأريخ عنهم، ولم يعرف عن يزيد شيء من
ذلك، كما
وأنّ التأريخ لم يحدّث عنهم بأنّهم استحلّوا نكاح الأخوات والعمّات كما حدّث
التأريخ عنه. والذين ولدوا في البادية على النصرانية طيلة حياتهم قبل الفتح
الإسلامي وعاشوا في ظلّ أعرافها وعاداتها حينما دخلوا في الإسلام تغلّبوا على
كلّ ما اعتادوه وألفوه عن الآباء والأجداد. فلابدّ إذن من القول
بأنّ لذلك الانحراف الشديد والوبيء في شخصية يزيد وسلوكه سبباً وراء التربية
والحضانة المسيحية. إلى هنا نكون قد وقفنا على صورة واضحة
عن واقع شخصية يزيد المنحرفة عن خطّ الإسلام انحرافاً لا يسوغ لأيّ مسلم
الانقياد لها والسكوت عليها ما دام الإسلام يمنع الإباحية والفسق ويدعو إلى
العدل والتقوى، ويحاول تحقيق مجتمع عامر بالتقوى، ويريد للمسلمين قيادة تحرص على
تحقيق أهداف الإسلام المُثلى. ومن هنا كان علينا
أن نطالع بدقّة كل مواقف الإمام الحسين عليه السلام
باعتباره القائد الرسالي الحريص على مصالح الرسالة والأمة الإسلامية وندرس
تخطيطه الرسالي للوقوف أمام الانحراف الهائل الذي كان يمتدّ بسرعة في أعماق
المجتمع الإسلامي آنذاك. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
الفصل
الثاني: مواقف الإمام الحسين عليه السلام وإنجازاته
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
البحث الأوّل: موقفه عليه السلام من البيعة ليزيد
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
1 - دعوة انتهازية وخطّة شيطانية:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
عندما ارتفعت راية الحقّ مرفرفةً فوق
ربوع مكّة ومعلنةً عن انتصارها; دخل
أبو سفيان ومعاوية في الإسلام ونار الحقد تستعر في قلبيهما ونزعة الثأر من الرسول
صلى اللهعليه وآله وأهل بيته عليهم السلام تكمن في صدريهما،
فتحوّلا من كونهما كافرين إلى كونهما مستسلِمَين طليقين من طلقاء الرسول صلى اللهعليه
وآله. ولم يطل العهد حتى حكم عثمان بن عفان فتسرّب
ما كان مختبئاً في القلب وظهر على لسان أبي سفيان وهو يخاطب عثمان بقوله: صارت
إليك بعد تيم وعديّ فأدرها كالكرة فإنّما هو الملك ولا أدري ما جنّة ولا نار(الاستيعاب: 2 / 690.). وخاطب أبو سفيان بني أمية
ثانيةً: يا بني أمية! تلقّفوها تلقّف الكرة، فو الذي يحلف
به أبو سفيان مازلت أرجوها لكم، ولتصيرنّ إلى صبيانكم ورثة(مروج الذهب: 1 / 440، تأريخ ابن عساكر: 6 / 407.). وحين أطلّ معاوية من نافذة السقيفة على
كرسيّ الحكم بانت نتائج الانحراف واتّضحت خطورته; فإنّه قد لاحظ، أنّ أبا بكر
وعمر وعثمان قد ملكوا قبله ولم تسمح لهم الظروف بإعادة صرح الجاهلية من جديد،
ولا زال صوت الحقّ هادراً كلّ يوم بالتوحيد وبالرسالة لمحمّد بن عبد الله صلىاللهعليه
وآله(مروج الذهب: 2 / 343، وشرح النهج: 2 / 357.). كما أنّ الانحراف السياسي
الذي ولّدته السقيفة وتربّت عليه فئات من الأمة استثمره
معاوية أيّما استثمار، فقد احتجّ على الناس بأنّ أبا بكر بويع بدون نصّ سماويّ
أو أمر من رسول الله صلىاللهعليه وآله وأنّه خالف سيرة رسول الله صلىاللهعليه
وآله إذ جعل عمر خليفةً من بعده، وصنع عمر ما لم يصنعه قبله وخالف بذلك الله
ورسوله وأبا بكر. ووفق هذا المنطق فإنّ الأمة ومصير الرسالة الإسلامية تكون
ألعوبة بيد معاوية يسوسها كيف يشاء. من هنا قرّر أن يبايع بالخلافة ليزيد(الإمامة والسياسة: 1 / 189.)
من بعده. وقد خلت الساحة السياسية للزمرة
الأُموية بعد فتن ومصاعب أشعلها معاوية مستغلاًّ جهالة طبقات من الأمة، وموظّفاً
كلّ الطاقات التي وقفت ضدّ الإمام علي عليه السلام لصالحه في مواجهة تيار الحقّ
بقيادة الإمام الحسن عليه السلام . واستأثر بالحكم بعد قتله للإمام الحسن عليه السلام
واستهتاره بقيم الإسلام وتعاليمه. وكان
حاذقاً في إحكام سيطرته وملكه، ولكنّه لم يجرؤ لإعلان خطّته تثبيتاً لملك بني
أُمية باستخلاف يزيد من بعده وفي الأمة من هو صاحب الخلافة الشرعية وهو الإمام الحسن
عليه السلام ومن بعده أخوه الإمام الحسين
عليه السلام الذي كان على الأمة أن تعود لقيادته بعد افتقادها للحسن ع. يضاف إلى ذلك أنّ أحداً من
الخلفاء الثلاثة لم يوصِ بالخلافة لولده من بعده.
ونظراً لما كان ينطوي عليه يزيد من ضعف واستهتار ومجون فقد مضى معاوية بكلّ جدٍّ
ليحبك الأمر ويدبّره بطريقة يخدع بها الأمة، بل يقهرها على قبول البيعة ليزيد.
من هنا بادر إلى قتل الإمام الحسن السبطعليه
السلام وخيار المؤمنين في خطوة أُولى ليرفع بذلك أهمّ الموانع
التي كانت تحول بينه وبين تنفيذ خطّته. على أنّ أصحاب النفوس الرذيلة والمطامع
الدنيوية على استعداد تام لبلوغ أتفه المطامع من أيّ طريق كان. فقد روي أنّ
المغيرة بن شعبة - الذي كان والياً من قبل معاوية على الكوفة - علم بأنّ معاوية
ينوي عزله فأسرع إلى نسج خيوط مؤامرة جلبت الويلات على الأمة الإسلامية وليكون
بذلك سمساراً يصافق على ما لا يملك; إذ همس في أذن يزيد يمنّيه بخلافة أبيه
ويزيّن له الأمر ويسهّله. ووجد معاوية أنّ خطّة شيطانية يمكن أن يكون المغيرة
عاملاً لتنفيذها(الكامل في التأريخ: 3 / 249، وتأريخ اليعقوبي: 2 / 195، والإمامة
والسياسة: 2 / 262.)،
فسأله مخادعاً: ومن لي بهذا؟ فردّ عليه المغيرة: أكفيك أهل الكوفة ويكفيك زياد
أهل البصرة، وليس بعد هذين المصرين أحد يخالفك. وهكذا قبض المغيرة على ربح عاجل
لصفقة مؤجّلة، ورجع إلى الكوفة بكلّ قوّة لينفّذ الخطّة وهو يقول: لقد وضعت رِجل
معاوية في غرز بعيد الغاية على أمة محمّد(الكامل في التأريخ: 3 / 249.). ورفض زياد بن أبيه هذه الخطّة الخبيثة;
ولعلّه لما كان يلمسه من رذائل في شخصية يزيد بحيث تجعله غير صالح لزعامة الأمة.
وقد أثارت هذه الخطّة مطامع أطراف أخرى من بني أُمية، فمدّ كل من مروان بن الحكم
وسعيد بن عثمان بن عفان عنقه لذلك(وفيات الأعيان: 5 / 389، والإمامة والسياسة: 1 / 182، وتأريخ
اليعقوبي: 2 / 196.). وجمّد معاوية رسمياً وبشكل مؤقّت خطّته
لأخذ البيعة ليزيد؛ وذلك ليتّخذ إجراءات أخرى تمهّد للإعلان الرسمي وفي الفرصة
المناسبة لذلك. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
2 - أساليب معاوية لإعلان بيعة يزيد:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
لمس معاوية رفض العائلة الأُموية
المنحرفة لحكم يزيد من بعده، فكيف بصاحب الحقّ الشرعي - الإمام الحسن عليه السلام
ومن بعده الإمام الحسين عليه السلام -
وعدد من أبناء الصحابة؟! من هنا مضى جادّاً باتّخاذ
سبل أخرى تتراوح بين مخادعة الأمة وبين قهرها بالقوّة على بيعة الخليع يزيد، ومن
تلك السبل: أ -
استخدام الشعراء لإسباغ فضائل على يزيد ولبيان مقدرته وإشاعة أمره، لكي تخضع
الأمة لولايته(الأغاني: 8 / 71، وشعراء النصرانية بعد الإسلام: 234: للويس شيخو
اليسوعي.)،
وأوعز إلى ولاته والخطباء في الأمصار لنشر تلك الفضائل المفتعلة. ب -
بذل الأموال الطائلة وشراء ذمم المعارضين ممّن كان يقف ضدّ يزيد لا بدافع
العقيدة والحرص على الإسلام وإنّما بدوافع شخصية وذاتية(الكامل في التأريخ: 3 / 250.). ج -
استقدام وفود من وجهاء الأنصار(الكامل في التأريخ: 3 / 250.)
ومناقشة قضية يزيد معهم لمعرفة الرافض والمؤيّد منهم، ومعرفة نقاط الضعف لكي
ينفذ منها إليهم. د -
إيقاع الخلاف بين عناصر بني أُمية الطامعين في الحكم كي يضعف منافستهم ليزيد،
فقد عزل عامله على يثرب سعيد بن العاص واستعمل مروان ابن الحكم مكانه، ثم عزل
مروان واستعمل سعيداً(تأريخ الطبري: 4 / 18.). هـ - اغتيال
الشخصيات الإسلامية البارزة والتي كانت تحظى باحترام كبير في نفوس الجماهير،
فاغتال الإمام الحسن عليه السلام وسعد
بن أبي وقّاص وعبد الرحمن بن خالد وعبد الرحمن بن أبي بكر(مقاتل الطالبيّين: 29، وتأريخ الطبري: 5 / 253، والكامل في التأريخ:
3 / 352.). و - استخدام سلاح الحرمان الاقتصادي
ضدّ بني هاشم للضغط عليهم وإضعاف دورهم، فقد حبس عنهم العطاء سنة كاملة(الكامل في التأريخ: 3 / 252، والإمامة والسياسة: 1 / 200.);
إذ وقفوا مع الإمام الحسين عليه السلام يرفضون البيعة ليزيد. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
3 - محاولات الإمام الحسين عليه السلام
لإيقاظ الأمة:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
لم يخلد الإمام الحسين عليه السلام
إلى السكون والخمول حتى عند إقراره الصلح مع معاوية، فقد تحرّك انطلاقاً من
مسؤوليّته تجاه الشريعة والأمة الإسلامية وبصفته وريث النبوّة - بعد أخيه الإمام
الحسن عليه السلام - مراعياً ظروف الأمة
وساعياً إلى المحافظة عليها. وقد عمل الإمام عليه السلام في فترة حكم معاوية
على تحصين الأمة ضدّ الانهيار التام فأعطاها من المقوّمات المعنوية القدرَ
الكافي، كي تتمكّن من البقاء صامدةً في مواجهة المحن. وإليك جملة من هذه المواقف: 1 - مواجهةُ معاوية وبيعةِ يزيد. 2 - محاولة جمع كلمة الأمة. 3 - فضح جرائم معاوية. 4 - استعادة حقّ مضيّع. 5 - تذكير الأمة
بمسؤوليّاتها. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
مواجهةُ معاوية وبيعة
يزيد:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
أعلن الإمام الحسين عليه السلام رفضه
القاطع لبيعة يزيد وكذا زعماء يثرب، فقرّر معاوية أن يسافر إلى يثرب ليتولّى
بنفسه إقناع المعارضين، فاجتمع بالإمام وعبد الله بن عباس، فأشاد بالنبي صلىاللهعليه
وآله وأثنى عليه، وعرض بيعة ابنه ومنحه الألقاب الفخمة ودعاهما إلى بيعته،
فانبرى الإمام عليه السلام فحمد الله
وأثنى عليه ثم قال: (أمّا بعد يا معاوية فلن يؤدّي المادح
وإن أطنب في صفة الرسول صلى اللهعليه وآله وقد فهمتُ ما لبست به الخلف بعد
رسول الله صلىاللهعليه وآله من إيجاز الصفة، والتنكّب عن استبلاغ النعت،
وهيهات هيهات يا معاوية!! فضح الصبحُ فحمةَ الدجى، وبهرت الشمسُ أنوار السرج،
ولقد فضّلت حتى أفرطت، واستأثرت حتى أجحفت، ومنعت حتى بخلت، وجُرت حتى تجاوزت،
ما بذلت لذي حقّ من اسم حقّه من نصيب، حتى أخذ الشيطان حظّه الأوفر ونصيبه
الأكمل. وفهمتُ ما ذكرته عن يزيد من اكتماله،
وسياسته لأمة محمّدصلىاللهعليهوآله،
تريد أن توهم الناس في يزيد كأنّك تصفُ محجوباً أو تنعت غائباً، أو تخبر عمّا
كان ممّا احتويته بعلم خاص، وقد دلّ يزيد من نفسه على موقع رأيه، فخذ ليزيد فيما
أخذ به من استقرائه الكلاب المهارشة عند التحارش، والحمام السبق لأترابهنّ،
والقيان ذوات المعازف، وضروب الملاهي، تجده ناصراً. ودع عنك ما تحاول، فما أغناك أن تلقى
الله بوزر هذا الخلق بأكثر ممّا أنت لاقيه! فوالله ما برحتَ تقدح باطلاً في جور
وحنقاً في ظلم حتى ملأتَ الأسقية، وما بينك وبين الموت إلاّ غمضة، فتقدم على عمل
محفوظ في يوم مشهود، ولات حين مناص، ورأيتك عرّضت بنا بعد هذا الأمر، ومنعتنا عن
آبائنا تراثاً ولعمر الله لقد أورثنا الرسول صلى اللهعليه وآله ولادة، وجئت
لنا بما حججتم به القائم عند موت الرسول صلى اللهعليه وآله فأذْعنَ للحجّة
بذلك وردّه الإيمان إلى النصف. فركبتم الأعاليل وفعلتم الأفاعيل،
وقلتم كان ويكون حتى أتاك الأمر يا معاوية من طريق كان قصدها لغيرك، فهناك
فاعتبروا يا أولي الأبصار. وذكرتَ قيادةَ الرجلِ القومَ بعهد رسول
الله صلىاللهعليه وآله وتأميرَه له، وقد كان ذلك لعمرو ابن العاص يومئذ فضيلة
بصحبة الرسول وببعثه له وما صار لعمرو يومئذ حتى أنف القوم إمرته وكرهوا تقديمه
وعدّوا عليه أفعاله، فقال صلىاللهعليهوآله
لا جَرَمَ يا معشرَ المهاجرين لا يعمل عليكم بعد اليوم غيري، فكيف تحتجُّ
بالمنسوخ من فعل الرسول في أوكد الأحكام وأولاها بالمجتمع عليه من الصواب؟ أم
كيف ضاهيتَ بصاحب تابعاً وحولك من يُؤمن في صحبته، ويُعتمد في دينه وقرابته،
وتتخطّاهم إلى مسرف مفتون؟ تريد أن تُلبس الناس شبهةً يسعد بها الباقي في دنياه
وتشقى بها في آخرتك، إنّ هذا لهو الخسران المبين، وأستغفر الله لي ولكم. وذهل معاوية من خطاب الإمام عليه السلام،
وضاقت عليه جميع السبل فقال لابن عباس: ما هذا يا ابن عباس؟
فقال ابن عباس: لعمر الله إنّها لذرّية رسول الله صلىاللهعليه وآله وأحد
أصحاب الكساء ومن البيت المطهّر، فاسأله عمّا تريد فإنّ لك في الناس مقنعاً حتى
يحكم الله بأمره وهو خير الحاكمين(حياة الإمام الحسين: 2 / 219 - 220.). وقد اتّسم موقف الإمام الحسين عليه السلام
مع معاوية بالشدّة والصرامة، وأخذ يدعو المسلمين علناً إلى مقاومة معاوية،
ويحذّرهم من سياسته الهدّامة التي تحمل الدمار إلى الإسلام. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
محاولة جمع كلمة
الأمة والاستجابة لحركة الجماهير:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
وأخذت الوفود تترى على الإمام من جميع
الأقطار الإسلامية وهي تعجّ بالشكوى وتستغيث به نتيجة الظلم والجور الذي حلّ
بها، وتطلب منه القيام بإنقاذها من الاضطهاد، ونقلت العيون في يثرب إلى السلطة
المحلّية أنباء تجمّع الناس واختلافهم إلى الإمام عليه السلام وكان الوالي مروان بن الحكم، ففزع من ذلك
وخاف من عواقبه جداً، فرفع مذكّرة إلى معاوية جاء
فيها:
أمّا بعد فقد كثر اختلاف الناس إلى الحسين، والله إنّي لأرى لكم منه يوماً
عصيباً(حياة الإمام الحسين: 2/223.). واضطرب معاوية من تحرّك الإمام الحسين
عليه السلام فكتب إليه رسالةً جاء فيها: أمّا بعد، فقد أنهيت إليّ عنك أمور، إن
كانت حقّاً فإنّي لم أظنّها بك رغبة عنها، وإن كانت باطلة فأنت أسعد الناس
بمجانبتها، وبحظ نفسك تبدأ، وبعهد الله توفي فلا تحملني على قطيعتك والإساءة
إليك، فإنّك متى تنكرني أنكرك، ومتى تكدني أكدك، فاتّق الله يا حسين في شقّ عصا
الأمة، وأن تردّهم في فتنة(المصدر السابق: 2 / 224.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
فضح جرائم معاوية:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
كتب الإمام عليه السلام إلى معاوية
مذكّرةً خطيرةً كانت ردّاً على رسالته يحمّله فيها مسؤوليّات جميع ما وقع في
البلاد من سفك الدماء وفقدان الأمن وتعريض الأمة للأزمات. وتعدّ من أروع الوثائق
الرسمية التي حفلت بذكر الأحداث التي صدرت من معاوية، وهذا نصّها: (أمّا بعد، بلغني كتابك تذكر فيه أ
نّه انتهت اليك عنّي اُمور أنت عنها راغب وأنا بغيرها عندك جدير، وأنّ الحسنات
لا يهدي لها ولا يسدّد إليها إلاّ الله تعالى. أمّا ما ذكرت أ نّه رقى إليك عنّي
فإنّه إنّما رقاه إليك الملاّقون المشاءون بالنميمة، المفرّقون بين الجمع، وكذب
الغاوون، ما أردت لك حرباً ولا عليك خلافاً، و إنّي لأخشى الله في ترك ذلك منك،
ومن الإعذار فيه إليك وإلى أوليائك القاسطين حزب الظلمة. ألستَ القاتل حجر بن عدي أخا كندة
وأصحابه المصلّين العابدين الذين كانوا ينكرون الظلم، ويستعظمون البدع، ويأمرون
بالمعروف وينهون عن المنكر، ولا يخافون في الله لومة لائم؟ قتلتهم ظلماً
وعدواناً من بعد ما أعطيتهم الأيْمان المغلّظة والمواثيق المؤكّدة، جرأةً على
الله واستخفافاً بعهده. أوَلستَ قاتل عمرو بن الحمق الخزاعي
صاحب رسول الله صلىاللهعليه وآله العبد الصالح الذي أبلتْه العبادة فنحل جسمُه
واصفرّ لونُه؟ فقتلته بعد ما أمّنته وأعطيته ما لو فهمته العصم لنزلت من رؤوس
الجبال. أوَلستَ بمدّعي زياد بن سمية المولود
على فراش عبيد ثقيف، فزعمَت أ نّه ابن أبيك؟ وقد قال رسول الله صلىاللهعليه
وآله (الولدُ للفراش وللعاهر الحجر) فتركت سنّة رسول الله صلىاللهعليه وآله
تعمّداً، وتبعت هواك بغير هدىً من الله، ثم سلّطته على أهل الإسلام يقتلهم ويقطع
أيديهم وأرجلهم ويسملُ أعينهم ويصلبهم على جذوع النخل، كأنّك لست من هذه الأمة
وليسوا منك. أوَلستَ قاتل الحضرمي الذي كتب فيه
اليك زياد أ نّه على دين عليّكرم الله وجهه، فكتبتَ إليه أن اقتل كلّ من كان على
دين عليّ؟ فقتلهم ومثّل بهم بأمرك، ودين عليّ هو دين ابن عمّهصلىاللهعليهوآله
الذي أجلسك مجلسك الذي أنت فيه، ولولا ذلك لكان شرفك وشرف آبائك تجشّم الرحلتين
رحلة الشتاء ورحلة الصيف. وقلت فيما قلت: اُنظر لنفسك ودينك ولأمة
محمّدصلىاللهعليهوآله
واتّق شقّ عصا هذه الأمة وقلت فيما قلت:
إنّي إن أنكرتك تنكرني، وإن أكدك تكدني، فكدني ما بدا لك، فإنّي أرجو أن لا
يضرّني كيدك، وأن لا يكون على أحد أضرّ منه على نفسك، لأنّك قد ركبت جهلك
وتحرّصت على نقض عهدك، ولعمري ما وفيتَ بشرط، ولقد نقضتَ عهدك بقتل هؤلاء النفر
الذين قتلتهم بعد الصلح والأيمان والعهود والمواثيق، فقتلتهم من غير أن يكونوا
قاتلوا أو قُتلوا، ولم تفعل ذلك بهم إلاّ لذكرهم فضلَنا وتعظيمهم حقَّنا، مخافة
أمر لعلّك إن لم تقتلهم مُتّ قبل أن يفعلوا، أو ماتوا قبل أن يدركوا. فأبشر يا معاوية بالقصاص،
واستيقن بالحساب، واعلم أنّ لله تعالى كتاباً لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلاّ
أحصاها، وليس الله بناس لأخذك بالظنّة، وقتلك أولياءه على
التُّهم، ونفيك إيّاهم من دورهم إلى دار الغربة، وأخذك الناس ببيعة ابنك الغلام
الحدث، يشرب الشراب، ويلعب بالكلاب، ما أراك إلاّ قد خسرت نفسك، وبترت دينك،
وغَشَشْتَ رعيّتك، وسمعت مقالة السفيه الجاهل، وأخفت الورع التقيّ)( حياة الإمام الحسين عليه السلام: 2/235 عن الإمامة والسياسة: 1 /
284، والدرجات الرفيعة: 334، وراجع الغدير: 10 / 161.). ولا توجد وثيقة سياسية في ذلك العهد
عرضت لعبث السلطة وسجّلت الجرائم التي ارتكبها معاوية غير هذه الوثيقة، وهي صرخة في وجه الظلم
والاستبداد. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
استعادة حقّ
مضيّع:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
وكان معاوية ينفق أكثر أموال الدولة
لتدعيم ملكه، كما كان يهب الأموال الطائلة لبني أُمية لتقوية مركزهم السياسي
والاجتماعي، وكان الإمام الحسين عليه السلام يشجب هذه السياسة، ويرى ضرورة
إنقاذ الأموال من معاوية الذي يفتقد حكمه لأيّ أساس شرعي، ولا يقوم إلاّ على
القمع والتزييف والإغراء. وقد اجتازت على يثرب أموال من اليمن مرسولةً إلى خزينة
دمشق، فعمد الإمام عليه السلام إلى الاستيلاء عليها ووزّعها على المحتاجين،
وكتب إلى معاوية: (من الحسين بن عليّ إلى معاوية بن أبي سفيان، أمّا بعد فإنّ
عيراً مرّت بنا من اليمن تحمل مالاً وحُللاً وعنبراً وطيباً إليك لتودعها خزائن
دمشق وتعلّ بها بعد النّهْل بني أبيك، وإنّي احتجتها اليها فأخذتها، والسلام)( نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 4 / 327، الطبعة الأولى، وناسخ
التواريخ: 1 / 195.). فأجاب معاوية:
من عبد الله معاوية أمير المؤمنين إلى الحسين بن عليّ، سلام عليك، أمّا بعد فإنّ
كتابك ورد عليّ تذكر أنّ عيراً مرّت بك من اليمن تحمل مالاً وحُللاً وعنبراً
وطيباً إليّ لأودعها خزائن دمشق واعُلّ بها بعد النهل بني أبي، وإنّك احتجت
اليها فأخذتها، ولم تكن جديراً بأخذها إذ نسبتها إليّ لأنّ الوالي أحقّ بالمال
ثم عليه المخرج منه، وأيم الله لو تركت ذلك حتى صار إليّ لم أبخسك حظك منه،
ولكنّي قد ظننت يا ابن أخي أنّ في رأسك نزوةً وبودّي أن يكون ذلك في زماني،
فأعرف لك قدرك وأتجاوز عن ذلك، ولكنّي والله أتخوّف أن تبتلى بمن لا ينظرك فواق
ناقة(شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 4 / 327، وناسخ التواريخ: 1 / 195.). إنّ الإمام الحسين عليه السلام دلّل
بعمله على أن ليس من حقّ الخليفة غير الشرعي أن يتصرّف في أموال المسلمين، وأنّ
ذلك من حقوق الحاكم الشرعي، والحاكم الشرعي هو الإمام الحسين عليه السلام نفسه
الذي ينفق أموال بيت المال وفق المعايير الإسلامية. وقد أكّد عليه
السلام في رسالته على أنّه لا يعترف رسمياً بخلافة معاوية; إذ لم
يصفه بأمير المؤمنين كما كان يصفه الآخرون. ومن هنا حاول معاوية الالتفاف على
موقف الإمام عليه السلام فوصف نفسه في رسالته الجوابية بأمير المؤمنين ووالي
المسلمين ولكنّه فشل في محاولته تلك، فقد بات موقف الإمام الحسين عليه السلام
معياراً إسلامياً وملاكاً فارقاً وفاصلاً بين الصواب والخطأ للمسلمين جميعاً على
مدى التأريخ، في حين لم يعر المسلمون لموقف معاوية أيّ اهتمام ولم يعتبروه سوى
أنّه تشويه للحقيقة وتضليل للرأي العام. لقد كان موقف الإمام عليه السلام هذا إشارة واضحة للاعتراض على تصرّفات وحكم معاوية والمطالبة بسيادة
الحقّ والعدل الإلهي. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
تذكير الأمة
بمسؤوليّتها:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
عقد الإمام عليه السلام في مكة
مؤتمراً سياسيّاً عامّاً دعا فيه جمهوراً غفيراً ممّن شهد موسم الحجّ من
المهاجرين والأنصار والتابعين وغيرهم من سائر المسلمين، فانبرىعليه
السلام خطيباً فيهم، وتحدّث عمّا ألمّ بعترة النبي صلىاللهعليه
وآله وشيعتهم من المحن والإحن التي صبّها عليهم معاوية، وما اتّخذه من
الإجراءات المشدّدة في إخفاء فضائلهم، وستر ما اُثر عن الرسول صلى اللهعليه وآله
في حقّهم، وألزم الحاضرين بإذاعة ذلك بين المسلمين، وفيما يلي ما رواه سليم بن
قيس عن هذا المؤتمر ونصّ خطاب الإمام عليه السلام حيث قال: ولمّا كان قبل موت
معاوية بسنة حجّ الحسين بن عليّ وعبد الله بن عباس وعبد الله بن جعفر، فجمع
الحسين بني هاشم ونساءهم ومواليهم ومن حجّ من الأنصار ممّن قال الراوي: فما ترك الحسين شيئاً ممّا
أنزل الله فيهم إلاّ تلاه وفسّره، ولا شيئاً ممّا قاله رسول الله صلىاللهعليهوآله
في أبيه وأخيه وأمه وفي نفسه وأهل بيته إلاّ رواه، وفي كلّ ذلك يقول أصحابه:
اللّهمّ نعم قد سمعنا وشهدنا، وممّا اشدهم عليه السلام أن قال: (اُنشدكم الله، أتعلمون أنّ عليّ بن
أبي طالب كان أخا رسول الله حين آخى بين أصحابه فآخى بينه وبين نفسه، وقال: أنت
أخي وأنا أخوك في الدنيا والآخرة؟ قالوا: اللّهمّ نعم، قال: اُنشدكم هل تعلمون
أنّ رسول الله اشترى موضع مسجده ومنازله فابتناه ثم ابتنى فيه عشرة منازل تسعة
له، وجعل عاشرها في وسطها لأبي، ثم سدّ كلّ باب شارع إلى المسجد غير بابه؟
فتكلّم في ذلك من تكلّم، فقال: ما أنا سددتُ أبوابكم وفتحت بابه، ولكنّ الله
أمرني بسدّ أبوابكم وفتح بابه، ثم نهى الناس أن يناموا في المسجد غيره، وكان
بجنب في المسجد ومنزله في منزل رسول الله، فولد لرسول الله وله فيه أولاد،
قالوا: اللّهمّ نعم. قال: أفتعلمون أنّ عمر بن الخطاب حرص
على كوة قدر عينه يدعها في منزله إلى المسجد فأبى قال: اُنشدكم الله أتعلمون أنّ رسول
الله قال في غزوة تبوك: أنت منّي بمنزلة هارون من موسى، وأنت وليّ كلّ مؤمن
بعدي؟ قالوا: اللّهمّ نعم. قال: اُنشدكم الله أتعلمون أنّ رسول
الله صلىاللهعليهوآله حين
دعا النصارى من أهل نجران إلى المباهلة لم يأت إلاّ به وبصاحبته وابنيه؟ قالوا:
اللّهمّ نعم. قال: اُنشدكم الله أتعلمون أنّ رسول
الله دفع إليه اللواء يوم خيبر، ثم قال: لأدفعه إلى رجل يحبّه الله ورسوله ويحبّ
الله ورسوله كرّار غير فرّار، يفتحها الله على يديه؟ قالوا: اللّهمّ نعم. قال: أتعلمون أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله
بعثه ببراءة وقال: لا يبلّغ عنّي إلاّ أنا أو رجل منّي؟ قالوا: اللّهمّ نعم. قال: أتعلمون أنّ رسول الله لم تنزلْ
به شدّة قطّ إلاّ قدّمه لها ثقةً به وأنّه لم يدعه باسمه قطّ، إلاّ يقول يا أخي؟
قالوا: اللّهمّ نعم. قال: أتعلمون أنّ رسول الله قضى بينه
وبين جعفر وزيد فقال: يا عليّ أنت منّي وأنا منك وأنت وليّ كلّ مؤمن بعدي؟
قالوا: اللهم نعم. قال: أتعلمون أنّه كانت له من رسول
الله صلىاللهعليهوآله كلّ
يوم خلوة، وكلّ ليلة دخلة، إذا سأله أعطاه، وإذا سكت أبداه؟ قالوا: اللّهمّ نعم. قال: أتعلمون أنّ رسول الله فضّله على
جعفر وحمزة حين قال لفاطمةعليهاالسلام:
زوّجتك خير أهل بيتي أقدمهم سلماً وأعظمهم حلماً وأكثرهم علماً؟ قالوا: اللّهمّ
نعم. قال: أتعلمون أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله
قال: أنا سيّد ولد آدم، وأخي عليّ سيّد العرب، وفاطمة سيّدة نساء أهل الجنّة؟
والحسن والحسين ابناي سيّدا شباب أهل الجنة، قالوا: اللّهمّ نعم. قال: أتعلمون أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله
أمره بغسله، وأخبره أنّ جبرئيل يعينه عليه؟ قالوا: اللّهمّ نعم. قال: فلم يدعصلىاللهعليهوآله
شيئاً أنزله الله في عليّ بن أبي طالب خاصة وفي أهل بيته من القرآن ولا على لسان
نبيّه إلاّ ناشدهم فيه فيقول الصحابة: اللّهمّ نعم قد سمعناه، ويقول التابعي:
اللّهم قد حدّثنيه من أثق به فلان وفلان. ثم ناشدهم أنّهم قد سمعوه
يقول:
من زعم أنّه يحبّني ويبغض عليّاً فقد كذب، ليس يحبّني وهو يبغض عليّاً، فقال له
قائل: يا رسول الله وكيف ذلك؟ قال: لأنّه منّي وأنا منه، من أحبّه فقد أحبّني
ومَن أحبّني فقد أحبّ الله، ومن أبغضه فقد أبغضني، ومن أبغضني فقد أبغض الله؟
فقالوا: اللّهمّ نعم، قد سمعناه، وتفرّقوا على ذلك(كتاب سُليم بن قيس: 323، تحقيق محمد باقر الأنصاري.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
موت معاوية:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
لقد كان موت معاوية بن أبي سفيان في
سنة ستّين من الهجرة(سيرة الأئمّة الاثني عشر: 2 / 54.). واستقبل معاوية الموت
غير مطمئن، فكان يتوجّع ويظهر الجزع على ما اقترفه من الإسراف في سفك دماء
المسلمين ونهب أموالهم، وقد وافاه الأجل في دمشق محروماً عن رؤية ولده الذي
اغتصب له الخلافة وحمله على رقاب المسلمين، وكان يزيد فيما يقول المؤرّخون
مشغولاً عن أبيه - في أثناء وفاته - برحلات الصيد وغارقاً في عربدات السكر ونغمة
العيدان(حياة
الإمام الحسين عليه السلام: 2 / 239
- 240.).
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
البحث الثاني: حكومة يزيد ونهضة الإمام الحسين عليه السلام.
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
بدايات النهضة:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
ذكرنا أنّ الإمام الحسين عليه
السلام وبالرغم من معارضته الشديدة لحكم معاوية بن أبي سفيان -
والتي نقلنا صوراً عديدةً منها - رفض التحرّك لخلع معاوية; التزاماً منه بالعهد
الذي وقّعه أخوه الإمام الحسن عليه السلام مع معاوية. وقد سجّل المؤرّخون هذا
الموقف المبدئي للإمام الحسين عليه السلام فقالوا: لمّا مات الحسن عليه السلام تحرّكت الشيعة بالعراق، وكتبوا إلى الحسين
عليه السلام في خلع معاوية والبيعة له فامتنع عليهم، وذكر أنّ بينه وبين معاوية
عهداً وعقداً لا يجوز له نقضه حتى تمضي المدّة، فإذا مات معاوية نظر في ذلك(الإرشاد: 2 / 32.). من هنا كان معلوماً لشيعته وللجهاز
الحاكم أيضاً أنّ موت معاوية يعني بالنسبة للإمام الحسين عليه السلامأنه في حلّ
من أيّ التزام، ومن ثم فإنّه سيطلق ثورته على نظام الحكم الغاشم الذي استلمه
يزيد الفاسق، لذلك كان الإمام الحسين عليه السلام يمثّل الهاجس الأكبر للطغمة
الحاكمة. رسالة يزيد
إلى حاكم المدينة:
قال المؤرّخون: إنّ يزيد كتب فور موت
أبيه إلى الوليد بن عتبة بن أبي سفيان - وكان والياً على المدينة من قِبَل
معاوية - أن يأخذ على الحسين عليه السلام بالبيعة له ولا يرخّص له في التأخّر
عن ذلك(المصدر السابق.).
وذكرت مصادر |
|||||||||||||||||||||||||||
|
الوليد يستشير مروان
بن الحكم:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
حار الوليد في أمره، إذ يعرف أنّ
الإمام الحسين عليه السلام لا يبايع ليزيد مهما
كانت النتائج، فرأى أنّه في حاجة إلى مشورة مروان بن
الحكم عميد الأسرة الأُموية فبعث إليه، فأشار مروان على الوليد قائلاً له: إبعث
اليهم(المقصود هنا الإمام الحسين عليه السلاموعبد الله بن الزبير وعبد
الله بن عمر، باعتبار أنّ بعض المصادر التأريخية أفادت بأنّ رسالة يزيد تضمّنت أسماءهم
جميعاً مثل تأريخ الطبري: 6 / 84.)
في هذه الساعة فتدعوهم إلى البيعة والدخول في طاعة يزيد، فإن فعلوا قبلت ذلك
منهم، وإن أبوا قدّمهم واضرب أعناقهم قبل أن يدروا بموت معاوية; فإنّهم إن علموا
ذلك وثب كلّ رجل منهم فأظهر الخلاف ودعا إلى نفسه، فعند ذلك أخاف أن يأتيك من
قبلهم ما لا قبل لك به، إلاّ عبد الله بن عمر فإنّه لا ينازعُ في هذا الأمر
أحداً، مع أنّني أعلم أنّ الحسين بن علي لا يجيبك إلى بيعة يزيد، ولا يرى له
عليه طاعةً. ووالله لو كنت في موضعك لم أراجع الحسين بكلمة واحدة حتى أضرب رقبته
كائناً في ذلك ما كان(حياة إلامام الحسين عليه السلام: 2 / 25.). وعظم ذلك على الوليد وهو أكثر بني
أُمية حنكةً، فقال لمروان: ياليت الوليد لم يولد ولم يك شيئاً مذكوراً(المصدر السابق: 2 / 251.). فسخر منه مروان وراح يندّد به قائلاً:
لا تجزع ممّا قلتُ لك; فإنّ آل أبي تراب هم الأعداء من قديم الدهر(حياة الإمام الحسين عليه السلام 2 / 251.)،
ونهره الوليد فقال له: ويحك يا مروان إعزب عن كلامك هذا، وأحسن القول في ابن
فاطمة فإنّه بقية النبوة(المصدر السابق.). واتّفق رأيهما على استدعاء الإمام
عليه السلام وعرض الأمر عليه لمعرفة موقفه من السلطة. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
الإمام عليه السلام
في مجلس الوليد:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
أرسل الوليد إلى الحسين عليه السلام يدعوه
إليه ليلاً، فجاءه الرسول وهو في المسجد، ولم يكن قد شاع موت معاوية بين الناس،
وجال في خاطر الحسين عليه السلام أنّ الوليد قد استدعاه ليخبره بذلك ويأخذ منه
البيعة إلى الحاكم الجديد بناءً على الأوامر التي جاءته من الشام، فاستدعى
الحسين مواليه وإخوته وبني عمومته وأخبرهم بأنّ الوالي قد استدعاه إليه وأضاف:
إنّي لا آمن أن يكلّفني بأمر لا اُجيبه عليه(إعلام الورى: 1 / 434، وروضة الواعظين: 171، ومقتل أبي مخنف: 27،
وتذكرة الخواص: 213.). وقال الإمام عليه السلام لمواليه بعد أن أمرهم بحمل السلاح: (كونوا معي
فإذا دخلت إليه فاجلسوا على الباب فإن سمعتم صوتي قد علا فادخلوا عليه)( الإرشاد: 2 / 33.). ودخل الإمام عليه السلام على الوليد
فرأى مروان عنده وكانت بينهما قطيعة، فقال عليه السلام: (الصلةُ خير من
القطيعة، والصلح خير من الفساد، وقد آن لكما أن تجتمعا، أصلح الله ذات بينكما)( حياة الإمام الحسين عليه السلام: 2 / 254.)
ثم نعى إليه الوليد معاوية، فاسترجع الإمام الحسين عليه السلام ثم قرأ عليه
كتاب يزيد وما أمره فيه من أخذ البيعة منه له، فقال
الحسين عليه السلام: (إنّي لا أراك تقنع ببيعتي ليزيد
سرّاً حتى اُبايعه جهراً). فقال الوليد:
أجل، فقال الحسين عليه السلام: (فتصبح وترى رأيك في ذلك)، فقال له الوليد: انصرف على اسم الله تعالى حتى
تأتينا مع جماعة الناس، فقال له مروان: والله لئن فارقك الحسين الساعة ولم يبايع
لا قدرت منه على مثلها أبداً حتى تكثر القتلى بينكم وبينه، إحبس الرجل فلا يخرج
من عندك حتى يبايع أو تضرب عنقه. فوثب الحسين عليه السلام عند ذلك وقال:(أنت
ياابن الزرقاء تقتلني أم هو؟! كذبت والله وأثمت). وخرج يمشي ومعه مواليه حتى أتى
منزله. فقال مروان للوليد:
عصيتني. لا و الله لا يمكّنك مثلها من نفسه أبداً. فقال له الوليد: ويح غيرك يا مروان! إنّك اخترت
لي التي فيها هلاك ديني. والله ما اُحب أنّ لي ما طلعت عليه الشمس وغربت عنه من
مال الدنيا وملكها وإنّي قتلت حسيناً. سبحان الله! أقتل حسيناً لمّا أن قال: لا
أبايع؟ والله إنّي لأظنّ امرءاً يحاسبُ بدم الحسين خفيف الميزان عند الله يوم
القيامة(الإرشاد: 2 / 33 - 34.). وثمّة روايات أفادت بأنّ
النقاش قد احتدم بين الإمام عليه السلام وبين مروان، حتى أعلن عليه السلام رأيه لمروان بصراحة قائلاً:
(إنّا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة ومحل الرحمة، بنا فتح الله
وبنا ختم، ويزيد رجل فاسق شارب الخمر قاتل النفس المحترمة معلن بالفسق، ومثلي لا
يبايع مثله، ولكن نصبح وتصبحون وننظر وتنظرون أيّنا أحقّ بالخلافة والبيعة)( مقتل الحسين للمقرّم: 144، وإعلام الورى: 1 / 435.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
الإمام عليه السلام
مع مروان:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
والتقى الإمام الحسين عليه السلام في
أثناء الطريق بمروان بن الحكم في صبيحة تلك الليلة التي أعلن فيها رفضه لبيعة
يزيد، فبادره مروان قائلاً: إنّي ناصح فأطعني ترشد وتسدّد. فقال الإمام عليه السلام:
(وما ذاك يا مروان؟). قال مروان: إنّي آمرك ببيعة أمير
المؤمنين يزيد فإنّه خير لك في دينك ودنياك. فردّ عليه الإمام عليه السلام
ببليغ منطقه قائلاً: (على الإسلام السلام إذ قد بليت الأمة براع مثل يزيد...
سمعت جدّي رسول الله صلىاللهعليه وآله يقول: الخلافة محرّمة على آل أبي سفيان
وعلى الطلقاء وأبناء الطلقاء فإذا رأيتم معاوية على منبري فابقروا بطنه، فوالله
لقد رآه أهل المدينة على منبر جدّي فلم يفعلوا ما اُمروا به)( الفتوح لابن أعثم: 5 / 17، ومقتل الحسين للخوارزمي: 1 / 184.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
حركة الإمام عليه السلام
في الليلة الثانية:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
ذكر المؤرّخون أنّ الإمام الحسين عليه السلام
أقام في منزله تلك الليلة وهي ليلة السبت لثلاث
بقين من رجب سنة ستين من الهجرة، واشتغل
الوليد بن عتبة بمراسلة ابن الزبير في البيعة ليزيد وامتناعه عليهم، وخرج ابن
الزبير من ليلته عن المدينة متوجّهاً إلى مكة، فلمّا أصبح الوليد سرح في أثره
الرجال فبعث راكباً من موالي بني أُمية في ثمانين راكباً، فطلبوه ولم يدركوه
فرجعوا، فلمّا كان آخر نهار يوم السبت بعث الرجال إلى الحسين عليه السلام ليحضر
فيبايع الوليد ليزيد بن معاوية، فقال لهم الحسين عليه السلام: اصبحوا ثم ترون ونرى.
فكَفّوا تلك الليلة عنه ولم يلحّوا عليه. فخرج عليه
السلام من تحت ليلته وهي
ليلة الأحد ليومين بقيا من رجب متوجّهاً نحو مكة ومعه بنوه
وبنو أخيه وإخوته وجَلَّ أهل بيته إلاّ محمد بن الحنفية - رحمة الله عليه -
فإنّه لمّا علم عزمه على الخروج عن المدينة لم يدرِ أين يتوجّه، فقال له: يا أخي
أنت أحبّ الناس إليَّ وأعزّهم عليّ ولست أدّخر النصيحة لأحد من الخلق إلاّ لك
وأنت أحقّ بها، تنحّ ببيعتك عن يزيد بن معاوية وعن الأمصار ما استطعت، ثم ابعث
رسلك إلى الناس فادعهم إلى نفسك فإن بايعك الناس وبايعوا لك حمدت الله على ذلك،
وإن اجتمع الناس على غيرك لم ينقص الله بذلك دينك ولا عقلك ولا تذهب به مروّتك
ولا فضلك، إنّي أخاف عليك أن تدخل مصراً من هذه الأمصار فيختلف الناس بينهم،
فمنهم طائفة معك وأخرى عليك، فيقتتلوا فتكون لأوّل الأسنّة غرضاً، فإذا خير هذه
الأمة كلّها نفساً وأباً واُمّاً، أضيعها دماً وأذلّها أهلاً. فقال له الحسين عليه السلام:
فأين أذهب يا أخي؟ قال: انزل مكة فإن اطمأنت بك الدار بها فسبيل ذلك، وإن
(نَبَتَ بك)( أي لم تجد بها قراراً ولم تطمئن عليها. انظر لسان العرب: 15/302
مادة نبأ.)
لحقت بالرمال وشعف الجبال وخرجت من بلد إلى بلد حتى تنظر إلى ما يصير أمر الناس
إليه; فإنّك أصوب ما تكون رأياً حين تستقبل الأمر استقبالاً. فقال الإمام عليه السلام: (يا أخي، قد
نصحتَ وأشفقتَ وأرجو أن يكون رأيك سديداً موفّقاً)( الإرشاد: 2 / 35.).
فسار الحسين عليه السلام إلى مكة وهو يقرأ (فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ
نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)( القصص (28): 21.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
وصايا الإمام الحسين
عليه السلام:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
لقد كتب الإمام عليه السلام
قبل خروجه من المدينة عدّة وصايا: منها: وصية لأخيه هذا نصّها:
(هذا ما أوصى به الحسين بن عليّ إلي أخيه محمد بن الحنفية، أنّ الحسين يشهد أن
لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأنّ محمداً عبده ورسوله جاء بالحق من عنده،
وأنّ الجنة حق والنار حق، والساعة آتية لا ريب فيها، وأنّ الله يبعث من في
القبور، وإنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب
الإصلاح في أمة جدّي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدّي
وأبي عليّ بن أبي طالب، فمن قبلني بقبول الحقّ فالله أولى بالحقّ، ومن ردّ عليّ
هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم وهو خير الحاكمين)( مقتل الحسين للمقرّم: 156.). ومنها:
وصيّته لأم المؤمنين أم سلمة حيث أوصاها بما يرتبط بإمامة الإمام من بعده. روي
أنّه لمّا عزم على الخروج من المدينة أتته
أم سلمة (رضي الله عنها) فقالت: يا بني لا
تحزنّي بخروجك إلى العراق، فإنّي سمعت جدّك يقول: يقتل ولدي الحسين عليه السلام
بأرض العراق في أرض يقال لها: كربلا. فقال
لها:
(يا أماه وأنا والله أعلم ذلك، وأنّي مقتول لا محالة، وليس لي من هذا بدّ، وإنّي
والله لأعرف اليوم الذي أقتل فيه، وأعرف من يقتلني، وأعرف البقعة التي أُدفن
فيها، وإنّي أعرف من يقتل من أهل بيتي وقرابتي وشيعتي، وإن أردت يا أمه أُريك
حفرتي ومضجعي). ثم أشار إلى جهة كربلاء، فانخفضت الأرض
حتى أراها مضجعه ومدفنه وموضع عسكره وموقفه ومشهده، فعند ذلك بكت أم سلمة بكاءً
شديداً وسلّمت أمره إلى الله. فقال لها:
(يا أمه، قد شاء الله عَزَّ وجَلَّ أن يراني مقتولاً مذبوحاً ظلماً وعدواناً، وقد
شاء أن يرى حرمي ورهطي ونسائي مشرّدين، وأطفالي مذبوحين مظلومين مأسورين
مقيّدين، وهم يستغيثون فلا يجدون ناصراً ولا معيناً). وفي رواية أخرى:
قالت أم سلمة: وعندي تربة دفعها إلي جدّك في قارورة، فقال: (والله إنّي مقتول
كذلك، وإن لم أخرج إلى العراق يقتلوني أيضاً) ثم أخذ تربةً فجعلها في قارورة
وأعطاها إيّاها، وقال: (اجعليها مع قارورة جدّي فإذا فاضتا دماً فاعلمي أنّي قد
قتلت)( بحار الأنوار: 44 / 331، والعوالم: 17 / 180، وينابيع المودة:
405... إلى قوله: بكت أم سلمة بكاءً شديداً.). وروى الطوسي عن الحسين بن
سعيد عن حمّاد بن عيسى عن ربعي بن عبد الله عن الفضيل بن يسار قال: قال أبو جعفرعليه السلام: (لمّا توجه الحسين
عليه السلام إلى العراق ودفع إلى أم سلمة زوجة النبي صلىاللهعليه وآله
الوصية والكتب وغير ذلك قال لها:
(إذا أتاك أكبر ولدي فادفعي إليه ما قد دفعت إليك)، فلمّا قتل الحسين عليه السلام
أتى عليّ بن الحسين عليه السلام أم سلمة فدفعت إليه كلّ شيء أعطاها الحسين عليه
السلام)( الغيبة للطوسي: 118 حديث 148، واثبات الهداة: 5 / 214.). وروى عليّ بن يونس العاملي في كتاب الصراط
المستقيم النصّ على عليّ بن الحسين عليه السلام في حديث ثم قال:
وكتب الحسين عليه السلام وصيّته وأودعها أم سلمة وجعل طلبها منها علامة على
إمامة الطالب لها من الأنام فطلبها الإمام زين العابدين عليه
السلام(إثبات الهداة: 5 / 216 حديث 8.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
توجّه الإمام إلى
مكة:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
قال المؤرّخون:
إن الإمام الحسين عليه السلام عندما توجّه إلى مكة لزم الطريق الأعظم، فقال له
أهل بيته: لو تنكبت الطريق الأعظم كما فعل ابن الزبير كي لا يلحقك الطلب، فقال:
لا والله لا أفارقه حتى يقضي الله ما هو قاض(الفتوح: 5 / 24، وينابيع المودّة: 402 الإرشاد للمفيد: 2 / 35.).
ولمّا دخل الإمام الحسين عليه السلام مكة كان دخوله إيّاها ليلة الجمعة لثلاث
مضين من شعبان دخلها وهو يقرأ: (وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ
عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ)( القصص (28): 22.). ثم نزلها فأقبل أهلها يختلفون إليه ومن
كان بها من المعتمرين وأهل الآفاق، وابن الزبير بها قد لزم جانب الكعبة وهو قائم
يصلّي عندها ويطوف، ويأتي الحسين عليه السلام فيمن يأتيه، فيأتيه اليومين
المتواليين ويأتيه بين كلّ يومين مرة، وهو أثقل خلق الله على ابن الزبير، قد عرف
أنّ أهل الحجاز لا يبايعونه ما دام الحسين عليه السلام في البلد وأنّ الحسين
عليه السلام أطوع في الناس منه وأجلّ(الإرشاد: 2 / 36، وبحار الأنوار: 44 / 332.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
البحث الثالث: أسباب ودوافع الثورة
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
إنّه من الصعب أن نقف على
جميع الأسباب لثورة امتدّت في عمق الزمن، ولا زالت
تنبض بالدفق والحيويّة مثيرة في النفوس روح الإباء والتضحية، وتأخذ بيد الثائرين
على مرّ الزمن بالاستمرار في طريق الحقّ وبذل النفس والنفيس لبلوغ الأهداف
السامية، إنّها الثورة التي أحيت الرسالة الإسلامية بعد أن كادت تضيع وسط أهواء
ورغبات الحكّام الفاسدين، وأثارت في الأمة الإسلامية الوعي حتّى صارت تطالب
بإعادة الحقّ إلى أهله وموضعه. إنّ أفضل ما نستخلص منه
أسباب ودوافع الثورة الحسينية هي النصوص المأثورة عن الحسين
الثائرعليه السلام وكذا آثار
الثورة، إلى جانب معرفتنا بشخصيّته عليه
السلام فها هو الحسين عليه السلام
يخاطب جيش الحرّ بن يزيد الرياحي الذي تعجّل لمحاصرته ولم يسمح له بتغيير مساره
قائلا: (أيّها الناس، إنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله
قال: من رأى منكم سلطاناً جائراً مستحلاًّ لحرم الله ناكثاً لعهد الله مخالفاً
لسنّة رسول الله صلىاللهعليهوآله
يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول كان حقّاً على
الله أنْ يدخله مدخله. ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن
وأظهروا الفساد وعطّلوا الحدود واستأثروا بالفيء وأحلّوا حرام الله وحرّموا
حلاله وأنا أحقّ من غَيّر، وقد أتتني كتبكم وقدمت عليّ رسلكم ببيعتكم، وإنّكم لا
تسلموني ولا تخذلوني، فإن تمّمتم عليّ بيعتكم تصيبوا رشدكم، فأنا الحسين بن عليّ
وابن فاطمة بنت رسول الله صلىاللهعليهوآله
نفسي مع أنفسكم، وأهلي وفي خطاب آخر
بعد أن توضّحت نوايا الغدر والخذلان والإصرار على محاربة الإمام عليه السلام
وطاعة يزيد الفاسق قال عليه السلام:
(فسحقاً لكم يا عبيد الأمة وشذّاذ الأحزاب ونَبَذَة الكتاب ونفثة الشيطان وعصبة
الآثام ومحرّفي الكتاب ومطفئي السنن وقتلة أولاد الأنبياء ومبيدي عترة الأوصياء
وملحقي العهار بالنسب ومؤذي المؤمنين وصُراخ أئمّة المستهزئين الذين جعلوا
القرآن عضين، ولبئس ما قدّمت لهم أنفسهم وفي العذاب هم خالدون...). ثم قال عليه السلام: (ألا وإنّ الدعيّ
ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين بين السلّة والذلّة، وهيهات منّا الذلّة! يأبى
الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وجدود طابت وحجور طهرت وأنوف حميّة ونفوس أبيّة
لا تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام...)( أعيان الشيعة: 1 / 603.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
من هنا يمكن أن نخلص إلى أسباب ثورة الإمام الحسين
عليه السلام كما يلي:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
1 - فساد الحاكم وانحراف جهاز الحكومة:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
لم يعد في مقدور الإمام الحسين عليه السلام
أن يتوقّف عن الحركة وهو يرى الانحراف الشامل في زعامة الأمة الإسلامية، فإذا
كانت السقيفة قد زحزحت الخلافة عن صاحبها الشرعي وهو الإمام علي عليه السلام وتذرّع
أتباعها بدعوى حرمة نقض البيعة ولزوم الجماعة وحرمة تفريق كلمة الأمة ووجوب
إطاعة الإمام المنتخب بزعمهم، فقد كان الإمام علي عليه السلام يسعى بنحو أو
بآخر لإصلاح ما فسد من جرّاء فعل الخليفة غير المعصوم، وقد شهد الإمام الحسين
عليه السلام جانباً من ذلك بوضوح خلال فترة حكم عثمان. ولقد كانت بنود الصلح تضع قيوداً على
تصرّفات معاوية الذي اتّخذ أسلوب الخداع والتستّر بالدين سبيلا لتمرير مخطّطاته،
أمّا الآن فإنّ الأمر يختلف; إذ بعد موت معاوية لم يبق أيّ علاج إلاّ الصدام
المباشر في نظر الإمام المعصوم وصاحب الحقّ الشرعي - الحسين عليه السلام - فلم
يعد في الإمكان ولو نظرياً القبول بصلاحيّة يزيد وبني أُمية للحكم. على أنّ نتائج انحراف
السقيفة كانت تنذر بالخطر الماحق للدين، فقد قال الإمام عليه السلام: (أيّها
الناس! إنّ رسول الله صلىاللهعليه وآله قال: من رأى منكم سلطاناً جائراً
مستحلاًّ لحرم الله ناكثاً لعهد الله مخالفاً لسنّة رسول الله صلىاللهعليه
وآله يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغيّر عليه بقول ولا بفعل كان حقّاً
على الله أن يدخله مدخله). وقد كان يزيد يتصف بكل ما حذّر منه
الرسول صلىاللهعليهوآله وكان
الحسين عليه السلام وهو الوريث للنبيّ وحامل مشعل الرسالة - أحقّ من غيره
بالمواجهة والتغيير. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
2 - مسؤولية الإمام تجاه الأمة:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
كان الإمام الحسين عليه السلام يمثّل
القائد الرسالي الشرعي الذي يجسّد كلّ القيم الخيّرة والأخلاق السامية. وبحكم مركزه الاجتماعي - حيث إنّه هو
سبط الرسول صلى اللهعليه وآله ووريثه - فإنّه مسؤول عن هذه الأمة، وقد وقفعليه
السلام في عهد معاوية محاولاً إصلاح الأمور بطريقة سلمية، فحاجج
معاوية وفضح مخطّطاته(الإمامة والسياسة: 1 / 284.)
ونبّه الأمة إلى مسؤولياتها ودورها(كتاب سُليم بن قيس: 166.)،
بل خطا خطوةً كبيرة لتحفيز الأمة على رفض الظلم(شرح نهج البلاغة: 4 / 327.)، وحاول
جمع كلمة الأمة في وجه الظالمين(أنساب الأشراف: ق 1 / ج 1، وتأريخ ابن كثير: 8 / 162.). ولمّا استنفد كلّ الإجراءات الممكنة
لتغيير الأوضاع الاجتماعية في الأمة تحرّك بثقله وأهل بيته للقيام بعمل قويّ في
مضمونه ودلالته وأثره وعطائه لينهض بالأمة لتغيير واقعها الفاسد. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
3 - الاستجابة لرأي الجماهير الثائرة:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
لم يكن بوسع الإمام الحسين عليه السلام
أن يقف دون أن يقوم بحركة قوية، وقد تكاثرت عليه كتب الرافضين لبيعة يزيد بن
معاوية تطلب منه قيادة زمام أمورها والنهوض بها، وقد حمّلته المسؤولية أمام الله
إذا لم يستجب لدعواتهم، وكانت دعوة أهل الكوفة للإمام الحسين عليه السلام
بمثابة الغطاء السياسي الذي يعطي الصفة الشرعية لحركته، فلم تكن حركته بوازع
ذاتي ولا مطمع شخصي، لا سيّما بعد إتمام الحجّة عليه من قبل هؤلاء المسلمين. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
4 - محاولة إرغامه عليه السلام
على الذلّ والمساومة:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
لقد كان الإمام الحسين عليه السلام
يحمل روحاً صاغها الله بالمُثل العليا والقيم الرفيعة، ففاضت إباء وعزّةً
وكرامةً، وفي المقابل تدنّت نفسيّة يزيد الشريرة ونفسيات أزلامه، فأرادوا من
الإمام الحسين عليه السلام أن يعيش ذليلا في ظلّ حكم فاسد: وقد صرّحعليه
السلام قائلاً: (ألا وإنّ الدعيّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين
بين السلّة والذلّة، وهيهات منّا الذلّة! يأبى الله لنا ذلك ورسوله ونفوس أبيّة
وأنوف حميّة من أن تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام). وفي موقف آخر قال عليه السلام:(لا أرى
الموت إلاّ سعادةً والحياة مع الظالمين إلاّ برماً). بهذه الصورة الرائعة سنّ الإمام الحسين
عليه السلام سنّة الإباء لكلّ من يدين بقيم السماء وينتمي إليها ويدافع عنها،
وانطلق من هذه القاعدة ليغيّر الواقع الفاسد. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
5 - نوايا الغدر الأموي والتخطيط لقتل
الحسين عليه
السلام:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
استشفّ الإمام الحسين عليه السلام -
وهو الخبير الضليع بكلّ ما كان يمرّ في معترك الساحة السياسية والمتغيّرات
الاجتماعية التي كانت تتفاعل في الأمة - نوايا الغدر والحقد الأموي على الإسلام
وأهل البيت عليهم السلام وتجارب السنين الأولى من الدعوة الإسلامية، ثم ما كان
لمعاوية من مواقف مع الإمام علي عليه السلام ومن بعده مع الإمام الحسن عليه السلام
. وأيقن الحسين عليه السلام أنّهم لا
يكفّون عنه وعن الفتك به حتى لو سالمهم، فقد كان يمثّل بقية النبوّة والشخصية
الرسالية التي تدفع الحركة الإسلامية في نهجها الحقيقي وطريقها الصحيح. ولم يستطع يزيد أن يخفي نزعة
الشرّ في نفسه، فقد روي أنّه صرّح قائلاً في وقاحة:
وقد أعلن الإمام الحسين عليه
السلام أنّ بني أُمية لا يتركونه بحال من الأحوال فقد صرّح لأخيه محمد بن
الحنفية قائلاً: (لو دخلت في جُحْر هامّة من هذه
الهوامّ لاستخرجوني حتى يقتلوني). وقال عليه السلام لجعفر بن
سليمان الضبعي: (والله لا يدعوني حتى يستخرجوا هذه
العلقة - يعني قلبه الشريف - من جوفي). فتحرّك الإمام عليه السلام من مكة
مبكّراً ليقوم بالثورة قبل أن تتمكّن يد الغدر من قتله وتصفيته، وهو بعد لم
يتمكّن من أداء دوره المفروض له في الأمة آنذاك، وسعى لتفويت أيّة فرصة يمكن أن
يستغلّها الأمويون للغدر به، والظهور بمظهر المدافع عن أهل بيت النبوّة. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
6 - انتشار الظلم وفقدان الأمن:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
قام الحكم الأموي على أساس الظلم
والقهر والعدوان، فمنذ أن برز معاوية وزمرته كقوّة في العالم الإسلامي برز وهو
باغ على خليفة المسلمين وإمام الأمة بعد رسول الله صلىاللهعليه وآله، وأسرف
في ممارساته الظالمة التي جلبت الويل للأمة، فقد سفك الدماء الكثيرة، واستعمل
شرار الخلق لإدارة الأمور يوم تفرّد بالحكم، بل وقبل أن يتسلّط على الأمة كانت
كلّ العناصر الموالية له تشيع الخوف والقتل حتى قال الناس فيولاية زياد بن أبيه:
(انج سعد، فقد هلك سعيد) للتدليل على ضياع الأمن في جميع أنحاء البلاد(تأريخ الطبري: 6 / 77، وتأريخ ابن عساكر: 3 / 222، والاستيعاب: 1 /
60، وتأريخ ابن كثير: 7 / 319.). ومن جانب آخر أمعنت السلطة الأُموية في
احتقار فئات و قطاعات كبيرة من الأمة بنظرة استعلائية قبلية(العقد الفريد: 2 / 258، وطبقات ابن سعد: 6 / 175، ونهاية الإرب: 6 /
86.)،
كما مارس معاوية في سياسته التي ورثها يزيد أنواع الفتك والتعذيب والتهجير
للمسلمين وبالأخص من عرف منه ولاء أهل البيت عليهم السلام(شرح النهج: 11 / 44، وتأريخ الطبري: 4 / 198.). وبكلّ جرأة على الحقّ واستهتار بالقيم
يقول معاوية للإمام الحسين عليه السلام: يا أبا عبد الله، علمت أنّا قتلنا شيعة
أبيك فحنّطناهم وكفّناهم وصلّينا عليهم ودفنّاهم(تأريخ اليعقوبي: 2 / 206.).
أمام هذه المظالم لم يقف الإمام الحسين عليه السلام مكتوف اليد، فقد احتجّ على
معاوية ثم ثار على ولده يزيد، إذ لم ينفع النصح والاحتجاج لينقذ الأمة من الجور
الهائل. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
7 - تشويه القيم الإسلامية ومحو ذكر أهل
البيت عليهمالسلام:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
اجتهد الحكم الأموي أن يغيّر الصورة
الصحيحة للرسالة الإسلامية والتركيب الاجتماعي للمجتمع المسلم، فقد عمد الأمويون
إلى إشاعة الفرقة بين المسلمين والتمييز بين العرب و غيرهم وبثّ روح التناحر
القبلي، والعمل على تقريب قبيلة دون أخرى من البلاط وفق المصالح الأُموية في
الحكم. وكان للمال دور مهمّ في إشاعة الروح
الانتهازية والازدواج في الشخصيّة والإقبال على اللهو(تأريخ الطبري: 8 / 288، والأغاني: 4 / 120.). ولمّا كان لأهل البيت عليهم السلام
الأثر الكبير في تجذير العقيدة الإسلامية ورعاية هموم الرسالة الإسلامية; فقد
عمد الأمويون ومنذ تفرّد معاوية بالحكم بأسلوب مبرمج إلى محو ذكر أهل البيت
عليهم السلام وقد تكاملت هذه الخطوة في أواخر حكم معاوية ومحاولة استخلافه
ليزيد(نهج البلاغة: 3 / 595 و 4 / 61 و و 11 / 44.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
8 - الاستجابة لأمر الله و رسوله صلىاللهعليهوآله:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
إنّ عقيدة سامية ورسالة خاتمة لكل
الرسالات كرسالة الإسلام لا يمكن أن يتركها قائدها الكبير ومبلّغها العظيمصلىاللهعليهوآله
وهو النبيّ المعصوم والمسدّد من السماء دون تخطيط وعناية ودون قيّم يرعى شؤونها
وأحوالها، يخلص لها في قوله وعمله، ويوجّهها نحو هدفها المنشود مستعيناً بدرايته
وبعلمه الشامل بأحكامها، ويفتديها بكلّ غال ونفيس من أجل أن تحيى و تبقى كلمة
الله هي العليا. والمتتبّع لسيرة الرسول وأهل بيته (صلوات الله عليهم) يلمس
بوضوح ترابط الأدوار التي قام بها المعصومون من آل النبي وتكاملها، وهم مستسلمون
لأمر الله ورسوله غاية التسليم. وقد أدلى الإمام الحسين عليه السلام
بذلك حينما أشار المشفقون عليه بعدم الخروج إلى العراق، فقال عليه السلام:
(أمرني رسول الله بأمر وأنا ماض له)( البداية والنهاية: 8 / 176، وتأريخ ابن عساكر: ترجمة الإمام الحسين عليه السلام، ومقتل الحسين للخوارزمي: 1 / 218،
والفتوح: 5 / 74.). كما أنّ النبي صلىاللهعليه وآله كان
قد أخبر بمقتل الإمام الحسين عليه السلام بأيدي الظلمة الفاسقين حين ولادته حتى
بات ذلك من الأمور المتيقّنة لدى المسلمين(مستدرك الحاكم: 4 / 398 و 3 / 176، وكنز العمال: 7 / 106، ومجمع
الزوائد: 9 / 187، وذخائر العقبى: 148، وسير أعلام النبلاء: 3 / 15.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
أهداف منظورة في ثورة الإمام الحسين عليه السلام:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
إنّ أهداف الرجال العظام هي عظيمة في
التأريخ، وتزداد رفعةً وسموّاً حين تنبعث من عمق رسالة سامية. ونحن حين نقف أمام
الحسين عليه السلام الذي يمثّل أعظم رجل في عصره وهو يحمل ميراث النبوّة وثقل
الرسالة الخاتمة الخالدة مسدّداً بالتسديد الإلهي في القول والفعل، وأمام سيرته
لنبحث عن أهداف نهضته المقدسة - التي فداها بنفسه وبأهل بيته وخيرة أصحابه - لا
نجد من السهل لنا أن نحيط علماً بكلّ ذلك، لكنّنا نبحث بمقدار إدراكنا ووعينا
للحدث وفق ما تتحمّله عقولنا طبعاً. لقد تفانى الحسين عليه السلام في الله
ومن أجل دينه، فكانت أهدافه – التي تمثّل
رضى الله وطاعته - سامية جليلة، كما أنّها كانت واسعة وعديدة. ويمكننا أن نذكر بعض أهداف الإمام الحسين عليه السلام من ثورته كما
يلي(للمزيد
من التفصيل راجع: أضواء على ثورة الحسين ع للسيّد محمد الصدر: 57.): |
|||||||||||||||||||||||||||
|
1 - تجسيد الموقف الشرعي تجاه الحاكم
الظالم:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
لقد أصابت الأمة حالة من الركود حتى
أنّها لم تعد تتحرّك لاتّخاذ موقف عملي واقعي تجاه الحاكم الظالم، فالجميع يعرف
من هو يزيد وبماذا يتّصف من رذائل الأخلاق ممّا تجعله غير لائق أبداً بأن يتزعّم
الأمة الإسلامية. في مثل هذا الظرف وقف الكثيرون حيارى
يتردّدون في قرارهم، فتحرّك الإمام الحسين عليه السلام ليجسّد الموقف الرسالي
الرافض للظلم و الفساد، في حركة قوية واضحة مقرونة بالتضحية والفداء، من أجل
العقيدة الإسلامية، لتتّخذ الأمة الموقف ذاته تجاه الظلم والعدوان. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
2 - فضح بني أُمية وكشف حقيقتهم:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
إنّ الحكّام الذين تولّوا أُمور
المسلمين ولم يكونوا معصومين ولا شرعيين كانوا يغطّون تصرّفاتهم بغطاء ذي مسحة
شرعية عند الجماهير. وكان بنو أُمية من أكثر الحكام المستفيدين من هذا الأُسلوب
الماكر; إذ لم يتردّد معاوية في وضع الأحاديث المفتعلة لتدعيم حكمه، بل سعى بكلّ
وسيلة لتضليل الأمة، وتمكّن من فعل ذلك مع عامة الناس. وأصبح الأمر أكثر خطورة
حين تولّى يزيد ولاية الحكم بطريقة لم يقرّها الإسلام، ولهذا كان لابدّ من فضح
التيار الأموي وتصويره على حقيقته، لتتّضح الصورة للعالم الإسلامي فيعي دوره
ورسالته ويقوم بواجبه ووظيفته، فتحرّك
الحسين عليه السلام بصفته الإمام المعصوم ليواجه زيف
الحكم وضلالته. وفعلا أسفر التيار الأموي عن مكنون حقده بارتكابه الجريمة البشعة
في كربلاء بقتل خير الناس وأصحابه وأهل بيته من الرجال والنساء والأطفال، ثم
أعقب ذلك بقصف الكعبة بالمنجنيق في واقعة الحرة وإباحة المدينة ثلاثة أيام قتلا
ونهباً وسلباً واعتداءً على الأموال والنساء والأطفال بشكل بشع لم يسبق له مثيل(راجع: الفتوح لابن أعثم: 5 / 301، والإمامة والسياسة للدينوري: 2 /
19، مروج الذهب: 2 / 84.). وانتبه المسلمون إلى انحراف الفئة
الحاكمة الضالّة وإلى فساد أعمالها، وسعوا من خلال محاولات عديدة إلى تطهير
الجهاز الحاكم المتوغّل في الظلم والطغيان، حتى غدت ثورة الإمام الحسين عليه السلام
أنموذجاً يحتذى به لمقارعة ومقاومة كلّ نظام يستشري فيه الفساد، وقد أفصح الإمام
عليه السلام عن الصفات التي يجب أن يتحلّى بها الحاكم بقوله: (فلعمري ما الإمام
إلاّ العامل بالكتاب، والآخذ بالقسط، والدائن بالحقّ، والحابس نفسه على ذات
الله)( تأريخ الطبري: 6 / 197.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
3 - إحياء السنّة وإماتة البدعة:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
انحدرت الأمة الإسلامية في منحدر صعب
يوم انحرفت الخلافة عن مسارها الشرعي في يوم السقيفة، فإنّها قبلت بعد وفاة الرسول
صلى اللهعليه وآله أن يتولّى أمرها من يحتاج إلى المشورة والنصيحة ويخطئ في
حقّها ويعتذر، فكانت النتيجة بعد خمسين عاماً من غياب النبي صلىاللهعليه وآله
أن يتولّى أمرها رجل لا يتورّع عن محارم الله، بل ويظهر الحقد على الإسلام
والمسلمين، فتعرّض الإسلام - عقيدةً وكياناً وأمةً - للخطر الحقيقي والتشويه
المقيت المغيّر لكلّ شيء، على غرار ما حدث لبعض الرسالات السماوية السابقة. في مثل هذا المنعطف الخطير وقف الإمام الحسين
عليه السلام ومعه أهل بيته وأصحابه، وأطلق صرخة قويّة ومدوّية محذّراً الأمة،
مفتدياً العقيدة والأمة بدمه الطاهر الزكي، ومن قبل قال فيه جدّه رسول الله صلىاللهعليه
وآله: (إنّ الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة). كما قال غير مرّة: (حسين منّي و
أنا من حسين). فكان الحسين عليه السلام ونهضته التجسيد الحقيقي للإسلام الحقّ،
فقد كان الخط الحقيقي للإسلام المحمدي متمثلاً في الحسين عليه السلام وأهل بيته
وأصحابه رضوان الله تعالى عليهم. وقد صرّح الإمام الحسين عليه السلام
في رسالته التي بعثها إلى أهل البصرة بكل وضوح إلى أنّ السنّة قد ماتت حين وصل
الانحراف إلى حدّ ظهور البدع وإجبائها. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
4 - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
لقد كان غياب فريضة الأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر نتيجة طبيعية لتولّي الزعامة المنحرفة، وقد حدث هذا تحت عناوين متعدّدة منها: لزوم
إطاعة الوالي وحرمة نقض بيعة تمّت حتى لو كانت منحرفة، وكذلك حرمة شقّ وحدة
الكلمة، وقد وصف الإمام عليه السلام هذه الحالة بقوله: (ألا ترون أنّ الحقّ لا
يُعمل به وأنّ الباطل لا يُتناهى عنه؟! ليرغب المؤمن في لقاء الله)( تاريخ الطبري: 5/403.).
لذا تطلّب الأمر أن يبرز ابن النبي صلىاللهعليه وآله للجهاد وهو يحمل السيف
في محاولة لإعادة الحقّ إلى نصابه من خلال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد
أدلى عليه السلام بذلك في
وصيّته لأخيه محمد بن الحنفية حين كتب له: (إنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا
ظالماً ولا مفسداً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدّي أريد أن آمر بالمعروف
وأنهى عن المنكر). إنّ الإصلاح المقصود هو
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كلّ جوانب الدين والحياة،
وقد تحقّق ذلك من خلال النهضة العظيمة التي قامعليه
السلام بها فكانت الهداية و الرعاية للبشر دينياً ومعنوياً
وإنسانياً وأخروياً بمقتله وشهادته، وتلك النهضة التي عليها تربّت أجيال من
الأمة، وتخرّجت من مدرستها الأبطال والصناديد، ولا زالت وستبقى المشعل الوضّاء
ينير درب الحقّ والعدل والحرية وطاعة الله إلى يوم القيامة. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
5 - إيقاظ الضمائر وتحريك العواطف:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
في أحيان كثيرة لا يستطيع أصحاب
العقائد ودعاة الرسالات أن يحاوروا العقل والذهن مجرّداً معزولا عن عنصر العاطفة
لأجل تعميق المعتقد والفكر لدى الجماهير، وقد ابتليت الأمة الإسلامية في عهد
الإمام الحسين عليه السلام وبعد تسلّط يزيد بحالة من الجمود والقسوة وعدم
التحسّس للأخطار التي تحيط بها وبفقدان الإرادة في مواجهة التحديات ضدّ العقيدة
الإسلامية، لهذا لم يكتف الإمام الحسين عليه السلام بتثبيت الموقف الشرعي
وتوضيحه عملياً من خلال موقفه الجهادي بل سعى إلى إيقاظ ضمائر الناس وتحريك
وجدانهم وأحاسيسهم ليقوموا بالمسؤولية، فسلك سبيل البذل والعطاء والتضحية من أجل
العقيدة والدين، واتّخذ أسلوب الاستشهاد الذي يدخل بعمق وحرارة في قلوب
الجماهير، وقد ضرب لنا مثلا رائعاً حينما برّزت ثورته أنّ التضحية لم تكن مقصورة
على فئة أو مستوىً معيّن من الأمة، فللطفل كما للمرأة والشيخ دور فاعل فضلاً عن
الشباب. وما أسرع ما بان الأثر على أهل الكوفة
إذ أظهروا الندم والإحساس بالتقصير تجاه الإمام والإسلام، فكانت ثورة التوّابين
التي أعقبت ثورة أهل المدينة التي وقعت في السنة الثانية من بعد واقعة الطفّ. لقد كانت واقعة الطفّ تأكيداً حقيقياً
على أنّ المصاعب والمتاعب لا تمنع من قول الحقّ والعمل على صيانة الرسالة
الإسلامية، كما أنّها زرعت روح التضحية في سبيل الله في نفوس أبناء الأمة
الإسلامية، وحرّرت إرادتها ودفعتها إلى التصدّي للظلم والظالمين، ولم تُبقِ
عذراً للتهرّب من مسؤولية الجهاد والدفاع عن العقيدة والمقاومة لإعلاء كلمة
الله. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
لماذا لم ينهض الإمام
الحسين بالثورة في حكم معاوية؟
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
إن الأحداث السياسية التي عصفت بالأمة
الإسلامية بعد وفاة الرسول صلىاللهعليهوآله
كانت ثقيلة الوطأة عليها، وبلغت غاية الشدّة أيام تسلّط معاوية على الشام
ومحاربة الإمام علي عليه السلام وبالتالي اضطرار الإمام الحسن عليه السلام لإبرام صلح معه; لأسباب موضوعية كانت تكتنف
الأمة. ولكننا نلحظ أنّ الإمام الحسين عليه السلام لم يغيّر من موقفه المتطابق
مع موقف الإمام الحسن عليه السلام تجاه
معاوية حتى بعد استشهاد الإمام الحسن عليه السلام ، فلم يعلن ثورته، وما كان ذلك إلاّ لبقاء نفس الأسباب التي دفعت بالإمام الحسن عليه السلام
إلى قبول الصلح فمن ذلك: |
|||||||||||||||||||||||||||
|
1 - حالة الأمة الإسلامية:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
كان الوضع النفسي والاجتماعي للأمة
الإسلامية متأزّماً، إذ كانت تتطلع إلى حالة السلم بعد أن أرهقها معاوية
والمنافقون بحروب دامت طوال حكم الإمام علي عليه السلام، فكان رأي الإمام الحسن
عليه السلام هو أن يربّي جيلا جديداً
وينهض بعد حين، فقد قال عليه السلام: (إنّي رأيت هوى عظم الناس في الصلح
وكرهوا الحرب، فلم أحب أن أحملهم على ما يكرهون، فصالحت بقياً على شيعتنا خاصة
من القتل، ورأيت دفع هذه الحرب إلى يوم ما، فإنّ الله كلّ يوم هو في شأن)( الأخبار الطوال: 221.). وهو نفسه موقف الإمام الحسين عليه السلام
بسبب ما كان يعيه ويدركه من واقع الأمة، فكان قوله لمن فاوضه في الثورة إذ قعد
الإمام الحسن عليه السلام عنها: (صدق
أبو محمد، فليكن كلّ رجل منكم حلساً من أحلاس بيته ما دام هذا الإنسان حيّاً). وبقي هذا موقفه نفسه بعد
استشهاد الإمام الحسن عليه السلام لبقاء نفس الأسباب،
فقد كتب عليه السلام يردّ على
أهل العراق حين دعوه للثورة: (أمّا أخي فأرجو أن يكون الله قد وفّقه وسدّده فيما
يأتي، وأمّا أنا فليس رأيي اليوم ذلك، فالصقوا رحمكم الله بالأرض، واكمنوا في
البيوت، واحترسوا من الظنّة ما دام معاوية حيّاً)( المصدر السابق: 222.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
2 - شخصيّة معاوية وسلوكه المتلوّن:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
لقد كانت زعامة الأمة الإسلامية بعد
وفاة الرسول صلى اللهعليه وآله بأيدي مسؤولين غير كفوئين لفترة طويلة.
ومراجعة بسيطة لأحداث ووقائع تلك الفترة توضّح ذلك. ولكنّ معاوية كان أشدّ مكراً
ومراوغةً ودهاءً، إذ كان يتلاعب ببراعة سياسية، ويتوسّل بكلّ وسيلة من أجل أن
يبقى زمام السلطة بيده متّخذاً من التظاهر بالدين ستراً يغطّي جرائمه الأخلاقية
واللاإنسانية والتي منها فتكه بخيار المسلمين، ومخادعة عوام الناس في مجاراته
لعواطفهم ومعتقداتهم، وهو يحمل حقداً لا ينقطع على الإسلام والرسول صلى اللهعليه
وآله(شرح النهج لابن أبي الحديد: 2 / 357.). وقد تمكّن معاوية من القضاء على
المعارضين له من دون اللجوء إلى القتال والحرب، فهو الذي اغتال الإمام الحسن
عليه السلام وسعد بن أبي وقّاص(مقاتل الطالبيين: 29، ومختصر تأريخ العرب: 62.)وقضى
على عبد الرحمن بن خالد(التمدن الإسلامي، لجرجي زيدان: 4 / 71.)
ومن قبله على مالك الأشتر، وقد أوجز أسلوبه هذا
في كلمته المشهورة: (إنّ لله جنوداً منها العسل)( عيون الأخبار: 1 / 201.). كما أنّ معاوية كان يضع كلّ من يلمس
منه أيّة معارضة أو تحرّك تحت مجهر المراقبة والإرصاد، فترفع إليه التقارير عن
كلّ ما يحدث فيستعجل في القضاء عليه. في مثل هذا الأُسلوب - أي التصرّف تحت
ستار الإسلام - لو قام الإمام الحسين عليه السلام بحركة واسعة ونشاط سياسي بعد
وفاة الإمام الحسن عليه السلام مباشرةً; لما كان قادراً على فضح معاوية وإقناع
كلّ الجماهير بشرعيّة ثورته، ولكان معاوية متمكّناً من القضاء عليه من دون ضجيج،
وعندها كانت الثورة تموت في مهدها وتضيع جهود كبيرة، كان من شأنها أن تبني في
الأمة تيّاراً واعياً، ويختنق الصوت الذي كان في مقدوره أن يبقى مدوّياً في
تأريخ الإنسانيّة كما حصل في واقعة الطفّ. وما كان الإمام الحسين عليه السلام
ليتمكّن من توضيح كلّ أهدافه وغاياته من الثورة(للتفصيل راجع: ثورة الحسين، ظروفها الاجتماعية وآثارها النفسية: 122.)
المتمثّلة في إنقاذ الأمة من الظلم وصيانة الرسالة الإسلامية من التحريف لو كان
يسرع بثورته في أيام معاوية. وأمّا حينما اعتلى يزيد عرش
الخلافة وهو من قد عرفه الناس باللهو والفسق والشغف
بالقرود وشرب الخمور، وعدم صلاحيته للخلافة لتجاوزه وعدوانه على كل المقاييس
الشرعيّة والعرفيّة لدى المسلمين. فالثورة عليه تعدّ ثورة مشروعة عند عامّة
المسلمين، كما أثبت التأريخ ذلك بكلّ وضوح. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
3 - احترام صلح الإمام الحسن عليه السلام:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
لقد كان العهد والميثاق الذي تم بين
معاوية وبين الإمام الحسن عليه السلام ورقة رابحة يلوّحها معاوية لكلّ تحرّك فعّال
مضاد تجاه تربّعه على مسند السلطة، صحيح أنّه عهد غير حقيقي وما كان برضا
الإمامين عليهماالسلام وتم في
ظروف كان لابد من تغييرها، لكنّ المجتمع لم يكن يتقبّل نهضة الإمام الحسين عليه السلام
مع وجود هذا العهد، وحتى لو كان هذا العهد صحيحاً فإنّ معاوية نقضه بممارسته
العدائية بملاحقة رجال الشيعة، ولم يرعَ أيَّ حقّ في سياسته الاقتصادية. وقد سارع معاوية لاستغلال هذا العهد في
التشهير بالإمام الحسين عليه السلام وإظهاره بموقف الناقض للعهد، فقد كتب إلى الإمام
عليه السلام: أمّا بعد، فقد انتهت إليّ أُمور عنك، إن كانت حقاً فإنّي أرغب بك
عنها. ولعمر الله إنّ من أعطى عهد الله وميثاقه لجدير بالوفاء، وإنّ أحقّ الناس
بالوفاء من كان مثلك في خطرك وشرفك ومنزلتك التي أنزلك الله بها، ونفسك فاذكر،
وبعهد الله أوفِ، فإنّك متى تنكرني أنكرك، ومتى تكدني أكدك، فاتّق شقّ عصا هذه
الأمة(الإمامة والسياسة: 1 / 188، والأخبار الطوال: 224، وأعيان الشيعة: 1
/ 582.). من هنا لجأ الإمام الحسن عليه السلام ومن بعده الحسين عليه السلام إلى أسلوب آخر
لنشر الدعوة والتهيّؤ للثورة التي غذّاها معاوية بظلمه وجوره وبُعده عن تمثيل
الحكم الإسلامي الصحيح، حتى إذا مات معاوية كان كثير من الناس وعامّة أهل العراق
- بشكل خاص - يرون بغض بني أُمية وحبّ أهل البيت لأنفسهم ديناً(الفتنة الكبرى - علي وبنوه، طه حسين: 290، وللمزيد من التفصيل راجع:
ثورة الحسين عليه السلام، ظروفها الاجتماعية وآثارها النفسية: 127.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
المواقف من ثورة
الحسين عليه
السلام قبل انطلاقها:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
لم تكن نهضة الإمام الحسين عليه السلام
وثورته حركةً آنيةً أو ردّة فعل مفاجئة; بل كان الحسين عليه السلام في الأمة
يمثّل بقية النبوّة وكان وريث الرسالة وحامل راية القيم السامية التي أوجدها
الإسلام في الأمة وأرسى قواعدها، كما أنّ العهد قريب برحيل النبي صلىاللهعليه وآله
الذي كان يكثر الثناء والتوضيح لمقام الإمام الحسين عليه
السلام. وفي الوقت نفسه كانت قد ظهرت مقاصد الأمويين الفاسدة
تجاه رسالة النبي صلىاللهعليهوآله
الإسلامية وأمته المؤمنة برسالته. وقد وقف أهل البيت عليهم السلام
بصلابة يدافعون عن الحقّ والعدل وإحياء الرسالة الإسلامية، والمحافظة عليها بكلّ
وسيلة ممكنة ومشروعة. وفي عصر الإمام الحسين عليه السلام
كان لتراخي وفتور الأمة عن نصرة الحقّ إلى جانب تسلّط المنافقين ونفوذهم في
أجهزة الدولة دور كبير لإيجاد حالة مَرَضيّة يمكن تسميتها بفقدان الإرادة وموت
الضمير، ومن ثمّ تباينت المواقف تجاه أسلوب الدفاع عن العقيدة الإسلامية
وصيانتها وسيادة الحقّ والعدل. ولكن لم يشكّ أحد في مشروعية وعدالة
موقف الإمام الحسين عليه السلام تجاه الانحراف المستشري في كلّ مفاصل الدولة،
وتجاه التغيير الحاصل في بنية الأمة الإسلامية، إلاّ أنّ موقف الاستعداد الكامل
للنصرة باتخّاذ قرار ثوريّ يزيح عن الأمة الظلم والفساد لم يكن يتكامل بعد لدى
الجميع. وقد كانت هذه المواقف تتراوح بين
التأييد مع إعلان الاستعداد للثورة مهما كانت النتائج، وبين الحذر من الفشل وعدم
نجاح الثورة، وبين التثبيط وفتّ العزائم. وتبنّى شيعة أهل البيت عليهمالسلام
الذين اكتووا بجحيم البيت الأموي المتحكّم في رقاب المسلمين موقف التأييد وإعلان
الاستعداد، وإن غلب الخوف على بعضهم فيما بعد، وأودع البعض الآخر السجن أو حوصر
من قبل قوّات السلطة الأُموية. كما تبنّى آخرون من أقرباء الإمام عليه
السلام - مثل عبد الله بن عباس ومحمّد بن الحنفيّة - موقف الحذر،
ورجّحوا للإمام الحسين عليه السلام الهجرة إلى اليمن؛ نظراً لبُعد اليمن عن
العاصمة، ولتوفّر جمع من شيعته وشيعة أبيه فيها(مقتل الحسين ( الخوارزمي ): 1 / 187 و 216، ومروج الذهب: 3 / 64.). وتبنّى آخرون
موقف التثبيط وفتّ العزائم والتخويف من مغبّة الثورة على الحاكم، فنصحوا الإمام عليه
السلام بالدخول فيما دخل فيه الناس، والصبر على الظلم، كما تمثّل
ذلك في نصيحة عبد الله بن عمر للإمام الحسين عليه
السلام(مقتل الحسين ( الخوارزمي ): 1 / 191.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
البحث الرابع: توجّه الإمام عليه السلام إلى مكّة.
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
خرج الإمام الحسين عليه السلام من
المدينة متوجّهاً إلى مكة بأهله وإخوته وبني عمومته و بعض الخواصّ من شيعته، ولم
يبقَ إلاّ أخوه محمد بن الحنفية، وأفادت بعض المصادر التاريخية بأنّ الإمام عليه
السلام أقام في بيت العباس بن عبد المطلب(تأريخ ابن عساكر: 13 / 68.)،
فيما تحدّثت مصادر أخرى عن إقامتهعليه
السلام في شِعْب عليّ(الأخبار الطوال: 209.)،
وأقام الإمام عليه السلام في مكة أربعة أشهر وأياماً من ذي الحجّة، كان فيها
مهوى القلوب، فالتفّ حوله المسلمون يأخذون عنه الأحكام ويتعلّمون منه الحلال و
الحرام، ولم يتعرّض له أمير مكة يحيى بن حكيم بسوء، وحيث ترك الإمام عليه السلام
وشأنَه فقد عزله يزيد بن معاوية عنها، واستعمل عليها عمرو بن سعيد بن العاص. وفي
شهر رمضان من تلك السنة (60 هـ ) ضمّ إليه المدينة، وعزل عنها الوليد بن عتبة،
لأنّه كان معتدلا في موقفه من الإمام عليه السلام ولم يستجب لطلب مروان(سيرة الأئمّة الاثني عشر: 2 / 58.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
رسائل أهل الكوفة إلى
الإمام عليه
السلام:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
وقد عرف الناس في مختلف الأقطار امتناع
الإمام الحسين عليه السلام عن البيعة، فاتّجهت إليه الأنظار و بخاصّة أهل الكوفة،
فقد كانوا يومذاك من أشدّ الناس نقمةً على يزيد و أكثرِهم ميلا إلى الإمام عليه السلام
فاجتمعوا في دار سليمان ابن صرد الخزاعي فقام فيهم خطيباً فقال: (إنَّ معاوية قد
هلك، وإنّ حسيناً قد تقبّض على القوم ببيعته، وقد خرج إلى مكة، وأنتم شيعته
وشيعة أبيه، فإن كنتم تعلمون أنّكم ناصروه ومجاهدو عدوّه، فاكتبوا إليه وأعلموه،
وإنْ خفتم الفشل والوهن فلا تغرّوا الرجل في نفسه، قالوا: لا، بل نقاتل عدوّه و
نقتل أنفسنا دونه. قال: فاكتبوا إليه، فكتبوا
إليه: (بسم الله الرحمن الرحيم للحسين بن
عليّ عليهماالسلام من سليمان
بن صرد والمسيّب بن نَجَبَة ورفاعة بن شدّاد البجلي وحبيب بن مظاهر وشيعته من
المؤمنين والمسلمين من أهل الكوفة. سلام عليك، فإنّا نحمد إليك
الله الذي لا إله إلاّ هو. أمَّا بعد، فالحمد لله الذي قصم عدوّك
الجبّار العنيد، الذي انتزى على هذه الأمة فابتزّها أمرها، وغصبها فيئها، و
تأمّر عليها بغير رضىً منها، ثم قتل خيارها واستبقى شرارها، وجعل مال الله
دُوْلةً بين جبابرتها وأغنيائها، فبعداً له كما بعدت ثمود، إنّه ليس علينا إمام
غيرك، فأقبل لعلّ الله أن يجمعنا بك على الحقّ، وانّ النعمان بن بشير في قصر
الإمارة، وإننا لم نجتمع معه في جمعة ولا نخرج معه إلى عيد، ولو قد بلغنا أنّك
قد أقبلت إلينا أخرجناه حتى نلحقه بالشام إن شاء الله تعالى). ثم سرّحوا بالكتاب مع عبد الله بن
مِسْمَع الهَمْداني و عبد الله بن وال وأمروهما بالنجاء(النجاء: السرعة.)،
فخرجا مسرعين حتى قدما على الحسين عليه السلام بمكة لعشر مضين من شهر رمضان،
ولبث أهل الكوفة يومين بعد تسريحهم بالكتاب، وأنفذوا قيس بن مُسْهِر الصيداوي
وعبد الله وعبد الرحمن ابني شداد الأرحبي وعمارة بن عبد السَلولي إلى الحسين
عليه السلام ومعهم نحو من مائة وخمسين صحيفةً من الرجل والاثنين والأربعة، ثم
لبثوا يومين آخرين وسرّحوا إليه هاني بن هاني السبيعي وسعيد بن عبد الله الحنفي،
وكتبوا إليه: (بسم الله الرحمن الرحيم للحسين بن علي عليهماالسلام
من شيعته من المؤمنين والمسلمين. أمَّا بعد، فإنّ الناس ينتظرونك، لا
رأي لهم غيرك، فالعجل العجل، ثم العجل العجل، والسلام). ثم كتب شبث بن ربعي وحجّار
بن أبجر ويزيد بن الحارث بن رُوَيْم وعروة بن قيس وعمرو بن الحجّاج الزبيدي
ومحمد بن عمير التميمي: (أمَّا
بعد، فقد اخضرّ الجَناب وأينعت الثمار، فإذا شئت فاقدم على جند لك مجنّدة،
والسلام)( الإرشاد: 2 / 38، وروضة الواعظين: 171، وتذكرة الخواص: 213، وتأريخ
الطبري: 4 / 262، والفتوح لابن أعثم: 5 / 33، ومقتل الحسين للخوارزمي: 1 / 195.). جواب الإمام عليه السلام على رسائل الكوفيّين: تتابعت كتب الكوفيّين كالسيل إلى
الإمام الحسين عليه السلام وهي تدعوه إلى المسير والقدوم إليهم لإنقاذهم من ظلم
الأمويين وبطشهم، وكانت بعض تلك الرسائل تُحَمِّلُه المسؤولية أمام الله والأمة
إن تأخّر عن إجابتهم، ورأى الإمام - قبل كلّ شيء - أنْ يختار للقياهم سفيراً له
يُعَرّفُه باتّجاهاتهم وصدق نيّاتهم، وقد اختار ثقته و كبير أهل بيته مسلم بن
عقيل، وهو من أمهر الساسة وأكثرهم قدرةً على مواجهة الظروف الصعبة والصمود أمام
الأحداث الجسام، وزوّده برسالة رويت بصور
متعدّدة، من بينها النصّ الذي رواه صاحب
الإرشاد، وهي كما يلي: (بسم الله الرحمن الرحيم من الحسين بن عليّ إلى الملأ من
المؤمنين والمسلمين: أمّا بعد، فإنّ هانئاً و سعيداً قَدِما
عليّ بكتبكم، وكانا آخر من قَدِمَ عليّ من رسلكم، وقد فهمتُ كلّ الذي اقتصصتم
وذكرتم، ومقالة جُلّكم: أنّه ليس علينا إمام، فأقبلْ لعلّ الله أن يجمعنا بك على
الحقّ والهدى، وإنّي باعث إليكم أخي وابنَ عمّي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل،
فإنْ كتب إليّ أنّه قد اجتمع رأيُ ملئكم وذوي الحجى والفضل منكم على مثل ما
قدمتْ به رسلُكم، وقرأتُ في كتبكم فإنّي أقدمُ إليكم وشيكاً إن شاء الله، فلعمري
ما الإمام إلاّ الحاكم بالكتاب القائم بالقسط الدائن بدين الحقّ الحابسُ نَفسه
على ذات الله، والسلام)( الإرشاد: 2/39، وإعلام الورى: 1 / 436، والفتوح لابن أعثم: 5 / 35،
ومقتل الحسين للخوارزمي: 1 / 195.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
تحرّك مسلم بن عقيل
نحو الكوفة:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
لقد أكّد المؤرّخون أنّ الإمام الحسين
عليه السلام أرسل مسلم بن عقيل مع قيس بن مسهر الصيداوي وعمارة بن عبد الله
السلولي وعبد الله وعبد الرحمن ابني شدّاد الأرحبي إلى الكوفة، بعد أنْ أمره
(بالتقوى وكتمانِ أمرِه واللطف بالناس، فإنْ رأى الناس مجتمعين مستوسقين عجّلَ
إليه بذلك)( الفتوح: 5 / 36، ومقتل الحسين للخوارزمي: 1 / 196.). وفي النصف من شهر رمضان انطلق مسلم من
مكة نحو الكوفة، فعرّج على المدينة فصلّى في مسجد رسول الله صلىاللهعليه وآله
وودّع مَنْ أحَبَّ من أهله وواصل مسيره إلى الكوفة. وتعدّدت أقوال المؤرّخين بشأن المكان
الذي نزل فيه مسلم بن عقيل بعد أنْ وصل إلى الكوفة، فثمّة مَنْ قال: إنّه نزل في
دار المختار بن أبي عبيدة(الإرشاد: 2 / 41، وإعلام الورى: 1 / 437.)،
وقيل: نزل في بيت مسلم بن عوسجة(الإصابة: 1 / 332.)،
وقيل: في بيت هاني بن عروة(تهذيب التهذيب: 2 / 349.). وعندما علم الكوفيّون بوصول مبعوث الحسين
عليه السلام إلى مدينتهم; ازدحموا للقائه و بيعته، وحسب قول بعض المؤرّخين فقد أقبلت
الشيعة تختلف إليه، فلمّا اجتمع إليه منهم جماعة قرأ عليهم كتاب الحسين عليه السلام
وهم يبكون وبايعه الناس، حتى بايعه منهم ثمانية عشر ألفاً(الإرشاد: 2 / 41، ومناقب آل أبي طالب: 4 / 90، وتذكرة الخواص: 220.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
رسالة مسلم بن عقيل
إلى الإمام الحسين عليه
السلام:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
ظلّ مسلم بن عقيل يجمع القواعد الشعبية
ويأخذ البيعة للإمام عليه السلام
وتوالت الوفود تقدم ولاءها، و الجماهير تعلن عن استبشارها. وقد لاحظنا كيف أنّ
الناس كانوا يبكون وهم يسمعون مسلماً يقرأ عليهم رسالة الإمام الحسين عليه السلام
التي فيها يحيّيهم، ويعلن استعداده للقدوم إليهم وقيادة الثورة على الحكم
الطاغي. وبعد أن لاحظ مسلم كثرة الأنصار; بادر
بالكتابة إلى الإمام عليه السلام ناقلا إليه صورةً حيّة للأحداث والوقائع التي
تجري أمام عينيه في الكوفة، وقيّم له الموقف وأعرب عن تفاؤلهِ وسأله القدوم. وقد جاء في رسالة مسلم للإمام عليه
السلام: (أَمّا بعد، فإن الرائد لا يكذب أهله، وقد بايعني من أهل
الكوفة ثمانية عشَر ألفاً، فعجّل حين يأتيك كتابي، فإنّ الناس كلَّهُم معك، ليس
لهم في آل معاوية رأي ولا هوىً)( حياة الإمام الحسين: 2 / 348، عن تأريخ الطبري: 6 / 224.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
رسالة الإمام عليه السلام
إلى زعماء البصرة:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
وذكر المؤرخون أنّ الإمام الحسين عليه السلام
- بعد أن قرّر التوجّه إلى العراق - بعث رسالة إلى زعماء البصرة جاء فيها: (أمّا
بعد، فإنّ الله اصطفى محمّداًصلىاللهعليهوآله
من خلقه، وأكرمه بنبوّته، واختاره لرسالته، ثم قبضه إليه، وقد نصح لعباده، وبلّغ
ما أرسل به، و كنّا أهلَه و أولياءه و أوصياءه وورثته و أحقَّ الناس بمقامه،
فاستأثر علينا قومنا بذلك، فرضينا وكرهنا الفرقة وأحببنا العافية، و نحن نعلم
أنّا أحقُّ بذلك الحقّ المستحقّ علينا ممّن تولاّه، وقد بعثتُ رسولي إليكم بهذا
الكتاب، وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسنّة نبيّه، فإنّ السنّة قد أُميتت والبدعة
قد أُحييت، فإنْ تسمعوا قولي أهدكم إلى سبيل الرشاد)( مقتل الحسين للمقرّم: 159 - 160، وتأريخ الطبري: 4 / 266، وأعيان
الشيعة: 1 / 590.). وقد بعثعليه
السلام عدّة نسخ من هذه الرسالة إلى كلٍّ من: مالك بن مسمع
البكري، والأحنفِ بن قيس، والمنذر بن الجارود، و مسعود بن عمرو، وقيس ابن
الهيثم، وعمرو بن عبيد بن معمر، ويزيد بن مسعود النهشلي، وأرسل الإمام عليه السلام
النسخ مع مولىً له يقال له: سليمان أبو رزين. ولم يجب على رسالة الإمام عليه السلام
غيرُ الأحنف بن قيس و يزيد بن مسعود، أمّا المنذر بن الجارود فقد سلّم رسول
الحسين إلى ابن زياد – وكان حينها
والياً على البصرة - فصلبه عشية الليلة التي خرج في صبيحتها إلى الكوفة(اللهوف: 38، وأعيان الشيعة: 1 / 590، وبحار الأنوار: 44 / 339.).
وكانت ابنة المنذر زوجة ابن زياد فزعم المنذر أنّه كان يخشى أن يكون الرسول
مدسوساً من ابن زياد لكشف نواياه. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
موقف والي الكوفة:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
كان النعمان بن بشير والياً على الكوفة
وقتذاك، ومع أنّه كان عثماني الهوى وأموي الرغبة لكنّه لم يكن راضياً عن خلافة
يزيد، وبعد موت معاوية انضم إلى عبد الله بن الزبير وقاتل وقُتل معه. وعليه فإنّه لم يتّخذ موقفاً متشدّداً
من نشاطات مسلم بن عقيل في الكوفة، ولم يُنقل عنه في تلك المرحلة الحسّاسة سوى
خِطاب ألقاه في جمع الكوفيين كان - كما يتصور - لرفع العتب والتظاهر بأنّه يقوم
بواجبه كوال تابع لحكومة الشام، وقد
ذكر في خطابه: (أمّا بعد، فاتّقوا الله عبادَ الله
ولا تسارعوا إلى الفتنة والفرقة، فإنّ فيها تَهلِكُ الرجال وتُسفَكُ الدماء
وتُغْصَبُ الأموال، إنّي لا أُقاتل مَنْ لا يقاتلني، ولا آتي على من لم يأت
عليَّ، ولا أُنبّه نائمكم ولا أتحرّش بكم ولا آخُذُ بالقرف ولا الظِنَّة ولا
التهمة، ولكنّكم إنْ أبديتم صفحتكم لي ونكثتم بيعتكم وخالفتم إمامكم، فو الله
الذي لا إله غَيرُه َلأضربنّكم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي ولو لم يكن لي منكم
ناصر، أما أنّي أرجو أن يكون مَن يعرف الحقّ منكم أكثرَ مِمَّنْ يرديهِ الباطل)( الكامل في التأريخ: 3 / 267.). فقام إليه عبد الله بن مسلم بن ربيعة الحضرمي حليف بني أمية فقال:
إنَّهُ لا يُصْلِحُ ما ترى أيّها الأمير إلاّ الغُشْمُ، وأنّ هذا الذي أنت عليه
فيما بينك وبين عدوّك رأيُ المستضعفين، فقال
له النعمان: لئن أكون من المستضعفين في طاعة الله أحبُّ إليّ
مِنْ أن أكون من الأعزّين في معصية الله
(الإرشاد: 2 / 42، وأنساب
الأشراف: 77، والفتوح: 5 / 75، والعوالم للبحراني: 13 / 182.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
أنصار الأمويين
يتداركون أُمورهم:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
كانت الكوفة تضمّ آنذاك فئةً من أنصار
الأمويين والمعارضين لأهل البيت عليهم السلام وبين هذه الفئة كان بعض المنافقين
الذين يتظاهرون بالتشيّع لأمير المؤمنين عليه السلام فيما كانوا يُبْطِنُونَ
محبّة الأمويين، الأمر الذي ساعدهم في اختراق صفوف شيعة أهل البيت عليهم السلام
والتجسس لصالح الحكم الأموي، وكان من بين هؤلاء عبد الله الحضرمي، الذي عاب على
النعمان رأيَه كما لاحظنا قبل قليل، فقد
كتب رسالةً إلى يزيد جاء فيها: (أمّا بعد،
فإنّ مسلم بن عقيل قد قَدِمَ الكوفة و بايعته الشيعة للحسين بن عليّ بن أبي
طالب، فإن يكن لك في الكوفة حاجة فابعثْ إليها رجلا قويّاً ينفذ أمرك، ويعمل مثل
عملك في عدوّك، فإنّ النعمان بن بشير رجل ضعيف أو هو يتضَعَّفُ)( الإرشاد: 2 / 42، وإعلام الورى: 1 / 237.). ويضيف المؤرّخون
أنّه كتب إليه - يعني إلى يزيد - عمارة بن عقبة بنحو كتابه - يعني كتاب الحضرمي
- ثم كتب إليه عمر بن سعد بن أبي وقّاص مثلَ ذلك(المصدر السابق.). قلق يزيد واستشارة السيرجون(السيرجون غلام نصراني
كان معاوية قد اتخذه كاتباً ومستشاراً له. واستمر في منصبه الخطير في عهد يزيد
الذي كان قد نشأ على التربية النصرانية وكان أقرب منها إلى غيرها.): قَلِقَ يزيد كثيراً من الأخبار التي
وصلته من الكوفة، وهي تتحدّث عن موقف الكوفيّين من الحكم الأموي ومبايعتهم
للإمام الحسين عليه السلام فدعا يزيد السيرجون الذي كان يعدّ غلاماً لمعاوية
فقال له: ما رأيك؟ - إنّ حسيناً قد أنفذ إلى الكوفة مسلم بن عقيل يبايع له، وقد
بلغني عن النعمان ضعف وقول سيء، فَمَنْ ترى أن أستعمل على الكوفة؟، وكان يزيد
عاتباً على عبيد الله ابن زياد (لأنّ عبيد الله بن زياد كان معارضاً لمعاوية في تولية العهد ليزيد،
انظر البداية والنهاية: 8 / 152.)،
فقال له السيرجون: أَرأيت لو يشير إليك معاوية حيّاً هل كنتَ آخذاً برأيه؟ قال:
بلى. فأخرج السيرجون عهد عبيد الله بن زياد على الكوفة، وليس هذا أوّل مورد نلاحظ فيه بصمات أصابع أهل الكتاب في صنع مواقف
هؤلاء الحكّام تجاه الرسالة والعقيدة والأمة الإسلامية وقادتها الأمناء عليها. لقد كان لكل من تميم الداري ( الراهب
النصراني ) وكعب الأحبار ( اليهودي ) موقع متميّز عند عمر حيث كان يحترمهما
ويستشيرهما ويسمح لهما بالتحدث كل اسبوع قبل صلاة الجمعة فضلاً عن تدريس التوراة
وتفسير القرآن الكريم، في وقت كان لا يسمح للصحابة بكتابة حديث الرسول صلىاللهعليهوآله
ولا التحديث به، بل كان يحبسهم في المدينة لئلاّ ينشروا حديث الرسول صلىاللهعليهوآله.
( راجع كنز العمّال الحديث رقم 4865 وتذكرة الحفاظ بترجمة عمر وتاريخ
ابن كثير: 8 / 107 ). وقد عظم نفوذ هؤلاء القصّاصين بعد عمر
وتعاظم في عهد الأمويين واستمر في عهد العباسيين بالرغم من أن الإمام عليّاً عليه
السلام كان قد طردهم من مساجد المسلمين. ولا يبعد أن يكون دخول عقائد منحرفة
كالتجسيم وعدم عصمة الأنبياء وغيرها من المفاهيم المنحرفة إلى مصادر المسلمين
نتيجة هذا الحضور الفاعل منهم في الساحة الإسلامية وتحت شعار الإسلام ونصح
الحكّام. وقد تميّز معاوية باتخاذ بطانة واسعة
من أهل الكتاب حيث تلاحظ أن كاتبه ومستشاره
نصراني، وهو (السيرجون) كما أنّ طبيبه كان نصرانياً وهو (أثال) وشاعره أيضاً كان
نصرانياً وهو (الأخطل)، والشام هي عاصمة نصارى الروم
البيزنطيين قبل دخول الإسلام إليها. (راجع معالم المدرستين 2 / 51 - 53 ). وقال: هذا رأي معاوية، مات وقد أمر
بهذا الكتاب، فضُمّ المصرَيْن (يعني الكوفة والبصرة والتي كان والياً عليها أيام
معاوية) إلى عبيد الله، فقال له يزيد: أفعلُ. إبعث بعهد عبيد الله ابن زياد
إليه... ثم دعا مسلم بن عمرو الباهلي و
كتب إلى عبيد الله معه كتاباً جاء فيه: (أمّا بعد، فإنّه كتب إليَّ شيعتي من
أهل الكوفة يخبرونني أنّ ابن عقيل فيها، يجمع الجموع ليشق عصا المسلمين، فسر حين
تقرأ كتابي هذا حتى تأتيَ الكوفة فتطلب ابنَ عقيل طَلَب الخِرزةِ حتى تثقفه
فتُوثِقَه أو تقتله أو تنفيَهُ، والسلام)( الإرشاد: 2 / 42 - 43، وإعلام الورى: 1 / 437، وسير أعلام النبلاء:
3 / 201.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
توجّه عبيد الله بن
زياد إلى الكوفة:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
استلم عبيد الله بن زياد
كتاب يزيد بن معاوية، فانطلق في اليوم الثاني نحو الكوفة و
معه مسلم بن عمرو الباهلي وشريك بن الأعور الحارثي وحشمه وأهل بيته(إعلام الورى: 1 / 437.)،
حيث ينتظر أهلُها قدومَ الإمام الحسين عليه السلام و معظمهم لا يعرف شخصية
الإمام ولم تكن قد التقته من قبل، وقد تعجّل ابن زياد الانتقال إلى الكوفة
ليصلها قبل الإمام الحسين عليه السلام. باغت ابن زياد جماهير الكوفة
وهو يُخفي معالم شخصيتِه و يتستّر على ملامحه، فقد تلثّم ولبس عمامةً سوداء،
وراح يخترق الكوفة والناس ترحّب به وتسلِّمُ عليه وتردِّد: مرحباً بك ياابن رسول
الله قدمت خير مقدم(الإرشاد: 2 / 43، وإعلام الورى: 1 / 438.). فساءه ما سمع وراح يواصل السير نحو قصر
الإمارة، فاضطرب النعمان وأطلّ من شرفات القصر يخاطب عبيد الله بن زياد، وكان هو
أيضاً قد ظنّ أنّه الإمام، فخاطبه: أنشدك الله إلاّ ما تنحّيتَ، واللهِ ما أنا
بمسلِّم إليك أمانتي، وما لي في قتالك من إرب...( الإرشاد: 2/43، وروضة الواعظين: 173، ومقتل الحسين للخوارزمي: 198،
وتهذيب التهذيب: 2 / 302.). صمت ابن زياد وراح يقترب من باب القصر،
حتى شخّص النعمان أنّ القادم هو ابن زياد، ففتح الباب ودخل ابن زياد القصر وأغلق
بابه وباتَ ليلته، وباتت الكوفة على وجل وترقّب وفي منعطف سياسي خطير. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
محاولات ابن زياد
للسيطرة على الكوفة:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
فوجئ أهل الكوفة بابن زياد
عند الصباح وهو يحتلّ القصر بالنداء: الصلاة جامعةً،
فقام خطيباً في الجموع المحتشدة وراح يُمنّي المطيع والسائر في ركب السياسة
القائمة بالأماني العريضة، ويهدّد ويتوعّد المعارضة والمعارضين والرافضين لحكومة
يزيد، حتى قال:... سوطي وسيفي على مَنْ ترك أمري وخالف عهدي(مقاتل الطالبيّين: 97، وإعلام الورى: 1 / 438.). ثم فرض على الحاضرين مسؤولية التجسّس
على المعارضين، وهدّد مَنْ لَمْ يُساهم في هذه العملية ويُنَفِّذْ هذا القرار
بالعقوبة وقطع المخصّصات المالية، فقال:
(... فمن يجيء لنا بهم فهو بريء، و مَنْ لم يكتب لنا أحدٌ فليضمن لنا في عَرافته
أن لا يخالِفَنا منهم مخالف، ولا يبغي علينا منهم باغ، فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ
برئت منه الذمّة وحلال لنا دمُه ومالُه، وأيُّما عريف وجد في عرافته من بُغية
أمير المؤمنين أحد لم يرفعه الينا صُلب على باب داره وألغيت تلك العرافة من
العطاء)( الإرشاد: 2 / 45، والفصول المهمة: 197، والفتوح لابن أعثم: 5 / 67.). وقد كان ابن زياد معروفاً في
أوساط الكوفيّين بالقسوة والشدّة، فكان من
الطبيعي أن يُحْدِثَ قدومُه و خطابُه الشديد اللهجة هزّةً عند المعارضين
لسياسته، فلاحت بوادر النكوص والتخاذل والإرجاف تظهر على الكوفيّين وقياداتهم،
من هنا اعتمد مسلم بن عقيل وسيلةً جديدة للسير في حركته نحو الهدف المطلوب.
فانتقل إلى دار هانىء بن عروة وجعل يتستّر في دعوته وتحركاته إلاّ عن خلّص
أصحابه، وهانىء يومذاك سيّد بني مراد وصاحب الكلمة المسموعة في الكوفة والرأي
المطاع(مروج الذهب: 2 / 89، والأخبار الطوال: 213، وإعلام الورى: 1 / 438.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
موقف مسلم من اغتيال
ابن زياد:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
لقد كان مسلم بن عقيل - رضوان الله
تعالى عليه - يحمل رسالةً ساميةً وأخلاقاً فاضلة اكتسبها من بيت النبوّة، كما
كان يملك درايةً بكلّ تقاليد وأعراف المجتمع الذي كان يتحرّك فيه، ففي موقف كان
يمكن فيه لمسلم ابن عقيل أن يغتال ابن زياد رفض ذلك لاعتبارات شتّى. فقد روي أنّ شريك بن الأعور
حين نزل في دار هانىء بن عروة مرض مرضاً شديداً، وحين علم عبيد الله بن زياد
بذلك قدم لعيادته، وهنا اقترح شريك على مسلم أن يغتال ابن زياد، فقال: إنّما
غايتك و غاية شيعتك هلاك هذا الطاغية، وقد أمكنك الله منه وهو صائر إليّ
ليعودني، فقم وأدخل الخزانة حتى إذا اطمأنّ عندي فاخرج إليه فاقتله، ثم صر إلى
قصر الإمارة فاجلس فيه، فإنّه لا ينازعنّك فيه أحد من الناس. ولمس مسلم كراهية هانىء أن يقتل عبيد
الله في داره، ولم يأخذ مسلم باقتراح شريك، وحين خرج عبيد الله قال شريك بحسرة وألم لمسلم: ما منعك من
قتله؟ قال مسلم: منعني منه خلّتان:
أحدهما كراهية هانىء لقتله في منزله، والاُخرى
قول رسول الله صلىاللهعليه وآله: (إنّ الإيمان قيد الفتك لا يفتك مؤمن)(
الأخبار الطوال: 187، ومقاتل الطالبيّين: 98، وإعلام الورى: 1 / 428.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
الغدر بمسلم بن عقيل:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
اتّخذ ابن زياد كلّ وسيلة مهما كانت
دنيئة للقضاء على الوجود السياسي والتحرّك الذي برز منذراً بالخطر بوجود مسلم بن
عقيل على النظام الأموي، وسارع للقضاء على مسلم بن عقيل وكلّ الموالين له قبل
وصول الإمام الحسين عليه السلام وليتمكّن بذلك من إفشال الثورة، فدبّر خطّةً
للتجسّس على تحرّكات مسلم ومكانه والموالين له، واستطاع أن يكتشف مخبأه وأن يعلم
بمقرّه(إعلام الورى: 1 / 440، والأخبار الطوال: 178، ومناقب آل أبي طالب: 4
/ 91، والفتوح لابن أعثم: 5 / 69، وتأريخ الطبري: 4 / 271، وأنساب الأشراف: 79.)
فكانت بداية تخاذل الناس عن الصمود في مواجهة الظلم. لقد استطاع الوالي الجديد
عبيد الله بن زياد أن يُحْكِمَ الحيلةَ والخداع ليقبضَ
على هانىء بن عروة الذي آوى رسول الحسين عليه السلام وأحسن ضيافته واشترك معه
في الرأي والتدبير، فقبض عليه وقتله بعد حوار طويل جرى بينهما، وألقى بجثمانه من
أعلى القصر إلى الجماهير المحتشدةحوله، فاستولى الخوف والتخاذل على الناس، وذهب
كلّ إِنسان إلى بيته وكأنّ الأمر لا يعنيه(الكامل في التأريخ: 3 / 271، والفتوح لابن اعثم: 5 / 83، وإعلام
الورى: 1 / 441.). ولمّا علم مسلم بما جرى
لهانىء ورأى تَخاذُلَ عشيرته مذحج الغنية بعددها وعدَّتِها خرج في
أصحابه ونادى مناديه في الناس وسار بهم لمحاصرة القصر، واشتد الحصار على ابن
زياد وضاق به أمرُه، ولكنّه استطاع بدهائه ومكره أن يتغلّب على المحنة ويُخذِّلَ
الناسَ عن مسلم(سيرة الأئمّة الاثني عشر، القسم الثاني: 63، وإعلام الورى: 1 / 441،
ومناقب آل أبي طالب: 4 / 92، والكامل في التأريخ: 3 / 271.). لقد دسّ ابن زياد في أوساط الناس
أشخاصاً يُخَذِّلونهم ويتظاهرون بالدعوة إلى حفظ الأمن والاستقرار وعدم إراقة
الدماء، ويحذّرون من قدوم جيش جرّار من الشام بهدف كسب الوقت وتفتيت قوى الثوار.
واستمرّ الموقف كذلك والناس تنصرف وتتفرّق عن مسلم. وبدخول الليل صلّى بمن بقي
معه وخرج من المسجد الجامع وحيداً لا ناصر له ولا مؤازر ولا مَنْ يَدُ لُّه على
الطريق، وأقفل الناس أبوابهم في وجهه، فمضى يبحث عن دار يأوي إليها في ليلته
تلك، وفيما هو يسير في ظلمة الليل وجد امرأةً على باب دارها وكأنّها تنتظر
شيئاً، فعرّفها بنفسه وسألها المبيت عندها إلى الصباح، فرحّبت به وأدخلته بيتها،
وعرضت عليه العشاء فأبى أن يأكل شيئاً، وعرف ولدها بمكانه وكان ابن زياد قد أعدّ
جائزة لِمَنْ يخبره عنه، وما كاد الصبح يتنفّس حتى أسرع ولدها إلى القصر وأخبر
محمد بن الأشعث بمكان مسلم بن عقيل، و فور وصول النبأ إلى ابن زياد أرسل قوّة
كبيرة من جنده(جاء في (الإرشاد) أنّهم كانوا سبعين رجلا.)
بقيادة ابن الأشعث إلى المكان الذي فيه مسلم، وما أن سمع بالضجّة حتى أدرك أنّ
القوم يطلبونه فخرج إليهم بسيفه. وقد اقتحموا عليه الدار فشدّ عليهم
يضربهم بسيفه حتى أخرجهم من الدار، ثم عادوا إليه فشدّ عليهم كذلك، مع انّهم
تكاثروا عليه بعد أن اُثخن بالجراح فطعنه
رجل من خلفه فخرّ إلى الأرض فاُخذ أسيراً وحمل على بلغة وانتزع الأشعث سيفه
وسلاحه وأخذوه إلى القصر فاُدْخِلَ على ابن زياد ولم يسلّم عليه، وجرى
بينهما حوار طويل كان فيه ابن عقيل (رضوان الله عليه) رابط الجأش منطلقاً في
بيانه قويّ الحجّة، حتى أعياه أمرُه وانتفخت أوداجه وجعل يشتم عليّاً والحسن
والحسين، ثم أمر أجهزته أن يصعَدوا به إلى أعلى القصر ويقتلوه ويرموا جسده إلى
الناس ويسحبوه في شوارع الكوفة ثم يصلبوه إلى جانب هانىء بن عروة، هذا وأهل
الكوفة وقوف في الشوارع لا يحرّكون ساكناً وكأنّهم لا يعرفون من أمره شيئاً. وكان مسلم قد طلب من ابن الأشعث أن
يكتب إلى الحسين عليه السلام يخبره بما جرى في الكوفة وينصحه بعدم الشخوص
إليهم، فوعده ابن الأشعث بذلك، ولكنّه لم يفِ بوعده(يراجع في تفصيلاته إلى: أعيان الشيعة: 1/592، إعلام الورى: 1 / 442،
والكامل في التأريخ: 4 / 32، والفتوح: 5 / 88، وتأريخ الطبري: 4 / 280، ومقاتل
الطالبيّين: 92.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
البحث الخامس: حركة الإمام الحسين عليه السلام إلى العراق
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
ونترك الكوفة يعبثُ بها ابن زياد
ويتتبّع شيعة الإمام الحسين عليه السلام ويطاردهم، ونعود إلى مكة لنتابع السير
مع ركب الحسين عليه السلام حتى الطفّ حيث المأساة الكبرى. قال المؤرّخون: كان
خروج مسلم بن عقيل رحمة الله عليه بالكوفة يوم
الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجة سنة ستين، وقتلُه يوم الأربعاء لتسع خلون منه يوم عرفة، وكان توجّه
الحسين صلوات الله عليه من مكة إلى العراق في يوم خروج مسلم بالكوفة - وهو يوم التروية - بعد مُقامه
بمكة بقية شعبان وشهر رمضان وشوّالاً وذا القعدة وثماني ليال خلون من ذي الحجة
سنة ستين، وكان عليه السلام قد اجتمع إليه مدةَ مُقامه بمكة نَفَرٌ من أهل
الحجاز ونفر من أهل البصرة انضمّوا إلى أهل بيته ومواليه. ولمّا أراد الحسين عليه السلام
التوجّه إلى العراق طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة وأحلّ من إحرامه وجعلها
عمرةً، لأَنّه لم يتمكّن من تمام الحجّ مخافة أن يُقْبَضَ
عليه بمكة فيُنْفَذ به إلى يزيد بن معاوية، فخرجعليه
السلام مبادراً بأهله وولده ومن انضمّ إليه من شيعته، ولم يكن
خبر مسلم قد بلغه(الإرشاد: 2 / 67.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
لماذا اختار الإمام الحسين
عليه السلام الهجرة إلى العراق؟
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
رغم كلّ ما قيل من تحليل ودراسة لوضع
المجتمع الكوفي وما ينطوي عليه من إثارة سلبيات يتكهّن بأغلبها المحلّلون من دون
جزم فإنّنا نرى أنّ اختيار الإمام الحسين عليه السلام الهجرة إلى العراق
كان لأسباب منها: 1 -
إنّ التكليف الإلهي برفع الظلم والفساد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يشمل
جميع المسلمين بلا استثناء، إذ أنّنا لا نجد في النصوص التاريخية ما يدلّل على
قيام قطر من الأقطار الإسلامية بمحاولة لمواجهة الحكم الأموي سوى العراق الذي
وقف ضدّهم منذ أن ظهر الأمويون في الساحة السياسية وحتى سقوطهم. 2 -
إنّ الإمام الحسين عليه السلام لم يعلن دعوته لمواجهة ظلم الأمويين وفسادهم
والنهوض لإحياء الرسالة يوم طُلب منه مبايعة يزيد، بل كانت تمتدّ دعوته في العمق
الزمني إلى أبعد من ذلك، ولكن لم نرَ نصوصاً تاريخية تدلّل على استجابة شعب من
شعوب العالم الإسلامي لنداء الإمام الحسين عليه السلام ونهضته غير العراق،
فكانت الدعوات الكثيرة والملحّة موجّهة إليه تعلن الولاء والاستعداد لتأييد
النهضة ومواجهة الحكم الأموي الفاسد. 3 -
لم يكن أمام الحسين عليه السلام من
خيار لاختيار بلد آخر غير العراق، لأنّ بقية الأقطار إمّا أنها كانت مؤيّدة
للأمويين في توجّهاتهم وسياساتهم، أو خاضعة مقهورة، أو أنّها كانت غير متحضّرة
وغير مستعدّة للاستجابة للنهضة الحسينيّة. على أنّ كثيراً من شعوب العالم
الإسلامي كانت في ذلك الحين إمّا كافرة أو حديثة عهد بالإسلام، أو غير عربية بحيث
يصعب التعايش والتعامل معها; ممّا كان سبباً لتضييع ثورة الإمام وجهوده. 4 -
كانت الكوفة تضمّ الجماعة الصالحة التي بناها الإمام علي عليه
السلام والقاعدة الجماهيرية التي تتعاطف مع أهل البيت عليهمالسلام
فأراد الإمام الحسين عليه السلام أن
لا يضيع دمه وهو مقتول لا محالة، كما أراد أن يعمّق لإيمان في النفوس ويجذّر
الولاء لأهل البيت عليهمالسلام،
وكان العراق أخصب أرض تستجيب لذلك، وسرعان ما بدأت الثورات في العراق بعد
استشهاد 5 -
إنّ اختيار أيّ بلد غير العراق سيكون له أثره السلبي، إذ يتّخذه أعداء الإسلام
وأهل البيت عليهم السلام أداة عار وشنار للنيل من مقام الإمام وأهدافه السامية،
ويفسّر خروجه إليه على أنّه هروب من المواجهة الحتمية، في الوقت الذي كان يهدف
الإمام عليه السلام إلى إحياء
حركة الرسالة والمُثل الأخلاقية وتأجيج روح المواجهة والتصدّي للظلم والظالمين.
وحتى على فرض اختياره عليه السلام
بلداً آخر فإنّ سلطة الأمويين ستنال منه وتقضي عليه دون أن يحقّق أهداف رسالته
التي جاء من أجلها. 6 -
لمّا كان العراق يصارع الأمويين كانت أجواؤه مهيّئة لنشر الإعلام الثوري لنهضة الحسين
عليه السلام وأفكاره، ومن ثمّ فضح بني أُمية وتستّرهم بالشرعية وغطاء الدين،
وحتى النزعة العاطفية المزعومة في العراقيّين فقد كانت سبباً في ديمومة وهج
الثورة وأفكارها كما نرى ذلك حتّى عصرنا هذا. ولعلّ هناك أسباباً لا
ندركها، لا سيَّما ونحن نرى أنّ الإمام الحسين عليه السلام كان على بيّنة
واطلاع من نتيجة الصراع، وكان على معرفة بالظروف الموضوعية
المحيطة بمسيرته وعلى علم بطبيعة التكوين الاجتماعي والسياسي للمجتمع الذي كان
يتوجّه إليه من خلال وعيه السياسي الحاذق، والنصائح التي قدّمها إليه عدد من
الشخصيات فضلاً عن عصمته عن الزلل والأهواء، كما
نعتقد; فلم يكن اختياره العراق منطلقاً لثورته العظيمة، إلاّ عن دراية وتخطيط رغم الجريمة النكراء التي نتجت عن تخاذل الناس
وتركهم نصرة إمامهم ولحوق العار بهم في الدنيا والآخرة. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
تصريحات الإمام عليه السلام
عند وداعه مكة:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
صدرت عن الإمام الحسين عليه السلام
عدّة تصريحات عند ما كان يعتزم مغادرة مكة والتوجّه إلى العراق، وكانت بعض هذه
التصريحات تمثّل أجوبتهعليه السلام على
من أشفق عليه أو مَنْ ندّد بخروجه، وقد تمثّل خطابه للناس بصورة عامة، فنذكرُ منها هنا: 1 -
روى عبد الله بن عباس عن الإمام الحسين بشأن حركته نحو العراق قولهعليه
السلام: (والله لا يَدَعُونَنِي حتى يستخرجوا هذه العَلْقَةَ من
جوفي، فإذا فعلوا سُلِّط عليهم مَنْ يذلّهم حتى يكونوا أذلَّ من فَرْم المرأة)( الكامل في التأريخ: 4 / 39.). 2 -
كان محمد بن الحنفية في يثرب فلمّا علم بعزم الإمام عليه السلام على الخروج إلى
العراق توجّه إلى مكة، وقد وصل إليها في الليلة التي أرادعليه
السلام الخروج في صبيحتها إلى العراق، وقصده فور وصوله فبادره
قائلا: (يا أخي إنّ أهل الكوفة قد عرفت غدرهم بأبيك وأخيك، ويساورني خوف أن يكون
حالك حال من مضى، فإن أردت أن تقيم في الحرم فإنّك أعز من بالحرم وأمنعهم). فأجابه الإمام عليه السلام: (خفت أن
يغتالني يزيد بن معاوية، فأكون الذي تستباح به حرمةُ هذا البيت)، فقال محمد:
(فإنْ خفت ذلك فسر إلى اليمن أو بعض نواحي البرّ فإنّك أمنع الناس به، ولا يقدر
عليك أحد)، قال الحسين عليه السلام: (أنظر فيما قلت). ولمّا كان وقت السَحَر بلغه شخوصُه إلى
العراق وكان يتوضّأ فبكى، وأسرع محمد إلى أخيه فأخذ بزمام ناقته وقال له: (يا
أخي، ألم تعدني فيما سألتك؟) قال الإمام عليه السلام:
(بلى ولكنّي أتاني رسول الله صلىاللهعليه وآله بعد ما فارَقْتُك وقال لي: يا
حسين، اُخرج فإنّ الله شاء أن يراك قتيلا)، فقال محمد:
فما معنى حملِ هؤلاء النساء والأطفال، وأنت خارج على مثل هذا الحال؟ فأجابه الإمام
عليه السلام: (قد شاء الله أن يراهن سبايا)( اللهوف على قتلى الطفوف: 27، وأعيان الشيعة: 1 / 592، وبحار
الأنوار: 44 / 364.). ولم يكن اصطحاب الحسين عليه السلام
لعيالاته حالة غريبة على المجتمع العربي والإسلامي، فقد كان العرب يصطحبون
نساءَهم في الحروب وكذا فعل النبي صلىاللهعليه وآله في غزواته فقد كان يقرع
بين نسائه، أمّا بالنسبة إلى الإمام الحسين عليه السلام فإنّ اصطحابه لعائلته
في حركته إنّما كان لأجل أن يكون وجودها معه بمثابة حجّة قوية على المسلمين
لنصرته، فمن تولّى الحسين عليه السلام ويسعى لنصرته والدفاع عنه فأولى له أن
يدافع عنه وهو بين أهله. وإن اختلف مع الحسين عليه السلام
فما ذنب عيالاته وهنّ بنات النبي صلىاللهعليه وآله خاصة أنّ الخلاف بزعم
الأمويين إنّما هو لأجل الخلافة. 3 -
ذكر المؤرخون أنّ الإمام الحسين عليه السلام لمّا أراد الخروج من مكة ألقى خطاباً فيها، جاء فيه: (خُطَّ
الْمَوْتُ على وُلْدِ آدم مَخَطّ الْقِلادة على جيدِ الفتاة، وما أولهني إلى
أسلافي اِشتياق يعقوب إلى يوسف، وخُيّر لي مصرعٌ أنا لاقيه، كأنّي بأوصالي
تقطّعها عُسْلانُ الفلواتِ بينَ النواويس وكربلاء، فيملأنَّ منّي أكراشاً جوفاً وأجربةً
سُغباً، لا محيص عن يوم خُطّ بالقلم، رضا الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه
ويوفّينا أُجور الصابرين، لن تشذّ عن رسول الله عليهمالسلام
لُحْمَتُه، وهي مجموعة له في حظيرة القدس، تَقِرُّ بهم عينُه، ويُنْجَزُ بهم
وعدُه، مَنْ كان باذلا فينا مهجتَه وموطِّناً على لقاء الله نَفْسَه
فَلْيَرْحَلْ معنا، فإنّي راحل مُصبحاً إن شاء الله تعالى)( إحقاق الحق: 11 / 598، وكشف الغمة: 2 / 20.). يُبَيِّنُ الإمام الحسين عليه السلام
في هذه التصريحات أنّه مصمّم على عدم مبايعة يزيد; قياماً بتكليفه الإلهي،
موضحاً سبب خروجِه من مكة، مخبراً عن المصير الذي ينتظره وأهل بيته جميعاً،
داعياً إلى الالتحاق به من كان مُوَطِّناً على لقاء الله نفسه، معلِناً أنّ الله
تعالى قرن رضاه برضا أهلِ البيت عليهم السلام. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
خلاصة الثورة في
رسالة:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
بوعي القائد الرسالي والفدائي العظيم
والثائر من أجل العقيدة صمّم الإمام الحسين عليه السلام بحنكة ودراية المسير من
مكة إلى العراق، بعد أن أوضح جانباً كبيراً من أهدافه وأسباب نهضته، وقد تطايرت
أخباره إلى أرجاء العالم الإسلامي. وكتب الإمام عليه السلام إلى بني هاشم
في يثرب رسالةً يدعوهم فيها إلى الفرصة الأخيرة لنصرة الإسلام والمبادئ والقيم
الإلهية والتألّق في سماء التضحية في الدنيا، وخلود الذكر الطيّب والبقاء
عنواناً للحقّ والعدل والإباء والفوز في أعلى درجات الجنّة في الآخرة، فقد جاء
فيها بعد البسملة: (من الحسين بن عليّ إلى أخيه محمد ومن
قبله من بني هاشم: أمّا بعد، فإنّه من لحق بي منكم استشهد، ومن لم يلحق بي لم
يدرك الفتح، والسلام)( مناقب آل أبي طالب: 4 / 76، وبصائر الدرجات: 481، ودلائل الإمامة:
77.). ولمّا وردت رسالة الإمام عليه السلام
إلى بني هاشم في يثرب، بادرت طائفة منهم إلى الالتحاق به ليفوزوا بالفتح والشهادة
بين يدي ريحانة رسول الله صلىاللهعليه وآله(راجع تأريخ ابن عساكر: ترجمة الإمام الحسين عليه السلام.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
ملاحقة السلطة للإمام عليه السلام:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
ولم يبعُد الإمام عليه السلام كثيراً
عن مكة حتى لاحقته مفرزة من الشرطة بقيادة يحيى بن سعيد، فقد بعثها والي مكة
عمرو بن سعيد لصدّ الإمام عليه السلام عن السفر، وجرت بينهما مناوشات حتى تدافع
الفريقان واضطربوا بالسياط وامتنع الحسين وأصحابه منهم امتناعاً قوياً(الإرشاد: 2 / 68.). في
التنعيم:
ومضى ركب الإمام الحسين عليه السلام
لا يلوي على شيء، وفي طريقهم بمنطقة التنعيم(التنعيم: موضع بمكة في الحلّ يقع بين مكة وسرف على فرسخين من مكة،
جاء ذلك في معجم البلدان: 2 / 49.)
صادفوا إبلا قد يَمَّمت وَجْهَها شطرَ الشام وهي تحمل الهدايا ليزيد بن معاوية
قادمةً من اليمن، فاستأجر من أهلها جِمالا لرحله وأصحابه وقال لأصحابها: مَنْ أحبّ أن ينطلق معنا إلى
العراق وفيناه كِراءه وأحسنّا صحبته، وَمَنْ أحبّ أن يفارقنا في بعض الطريق
أعطيناه كراءه على ما قطع من الطريق، فمضى معه قوم وامتنع آخرون(الإرشاد: 2 / 68.). في الصفاح:
وواصل الإمام مسيره حتى وصل الصفاح(الصفاح: موضع بين حنين وأنصاب الحرم على يسرة الداخل إلى مكة من
مشاش... جاء ذلك في معجم البلدان: 3 / 412.)
فالتقى الفرزدق الشاعر فسأله عن خبر الناس خلفه فقال الفرزدق: قلوبُهم معك
والسيوف مع بني أُمية، والقضاء ينزل من السماء. فقال
أبو عبد الله عليه السلام: صدقت،
للهِ الأمر، واللهُ يفعل ما يشاء، وكلّ يوم ربّنا هو في شأن، إن نزل القضاء بما
نحبّ فنحمد الله على نعمائه وهو المستعان على أداء الشكر، وإن حال القضاء دون
الرجاء فلم يتعدَّ مَنْ كان الحقُّ نيّتَه والتقوى سريرَتَهُ(مقتل الحسين للمقرّم: 203، البداية والنهاية، ابن كثير: 8/180، صفة
مخرج الحسين عليه السلام إلى العراق.). ثمّ واصل الإمام عليه السلام مسيرته بعزم وثبات،
ولم يثنه عن عزيمته قول الفرزدق في تخاذل الناس عنه وتجاوبهم مع الأمويين. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
كتاب الإمام عليه السلام
لأهل الكوفة:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
ولمّا وافى الإمام الحسين عليه السلام
الحاجر من بطن ذي الرُّمّة - وهو أحد منازل الحجّ من طريق البادية - كتب كتاباً
لشيعته من أهل الكوفة يعلمهم بالقدوم إليهم، ولم يكن عليه
السلام قد وصله خبر ابن عقيل، هذا
نصّه: (بسم الله الرحمن الرحيم من الحسين بن علي إلى إخوانه من
المؤمنين والمسلمين: سلام عليكم، فإنّي أحْمَدُ إليكم الله
الذي لا إله إلاّ هو. أمّا بعد، فإنّ كتاب مسلم بن عقيل جاءني يُخبرني فيه بحسن
رأيكم واجتماع مَلَئكم على نصرنا والطلب بحقّنا، فسألت الله أن يُحسن لنا
الصنيع، وأن يُثيبكم على ذلك أعظم الأجر، وقد شَخَصْتُ إليكم من مكة يوم
الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجّة يوم التروية، فإذا قدم عليكم رسولي فانكمشوا (انكمشوا: بمعنى أسرعوا.) في
أمركم وجِدّوا، فإنّي قادم عليكم في أيّامي هذه، والسلام عليكم ورحمة الله
وبركاته) (الإرشاد: 2 / 70، والبداية والنهاية: 8 / 181، وبحار الأنوار: 44 /
369.). وقد بعث عليه السلام الكتاب بيد قيس بن مُسهر الصيداوي. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
إجراءات الأمويين:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
سرى نبأ مسير الإمام عليه السلام نحو
الكوفة بين الناس فاضطرب الموقف الأموي، وشعرت السلطات بالخوف والحرج، وتحدّثت
الركبان بأنباء الثائر العظيم، فتناهى الخبر إلى عبيد الله بن زياد، فأعدّ رجاله
وجنده، ووضع خطّة لقطع الطريق أمام الحسين عليه السلام والحيلولة دون وصوله إلى
الكوفة، فبعث مدير شرطته الحصين بن نمير التميمي، مكلّفاً إيّاه بتنفيذ المهمّة،
فاختار الحصين موقعاً استراتيجياً يسيطر من خلاله على طريق مرور الإمام عليه السلام،
فنزل بالقادسية واتّخذها مقرّاً لقيادته. اعتقال
الصيداوي وقتله:
انطلق قيس بن مُسهر الصيداوي
برسالة الإمام نحو الكوفة، وحينما وصل القادسية اعتقله الحصين بن نمير، فبعث به إلى عبيد الله بن
زياد، فقال له عبيد الله:
إصعد فسبّ الكذّاب الحسين بن عليّ، فصعد
قيس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيّها الناس،
إنَّ هذا الحسين بن عليّ خير خلق الله ابن فاطمة بنت رسول الله صلىاللهعليه
وآله وأنا رسوله إليكم، وقد فارقته في الحاجر فأجيبوه، ثم لعن عبيد الله بن زياد
وأباه، واستغفر لعليّ بن أبي طالب وصلّى عليه، فأمر عبيد الله أن يُرمى به من
فوق القصر، فرموا به فتقطّع(الإرشاد: 2 / 71، ومثير الأحزان: 42، والبداية والنهاية: 8 / 181.). وروي: أنّه وقع على الأرض مكتوفاً
فتكسّرت عظامه وبقي به رمق، فجاء رجل يقال له عبد
الملك بن عمير اللخمي فذبحه، فقيل له في ذلك وعِيبَ عليه، فقال: أردتُ أن أريحه. مع زهير بن
القين:
وانتهت قافلة الإمام إلى
(زرود) فأقام عليه السلام
فيها بعض الوقت، وقد نزل بالقرب منه زهير بن القين البجلي وكان عثمانيّ الهوى،
وقد حجّ بيت الله في تلك السنة، وكان يساير الإمام في طريقه ولا يحبّ أن ينزل
معه مخافةَ الاجتماع به إلاّ أنّه اضطرّ إلى النزول قريباً منه، فبعث الإمام عليه السلام إليه رسولا يدعوه إليه، وكان زهير مع
جماعته يتناولون الطعام، فأبلغه الرسول مقالة الحسين فذعر القوم وطرحوا ما في
أيديهم من طعام، وكأنَّ على رؤوسهم الطير، فقالت له امرأته:
سبحانَ الله! أيبعث إليك ابنُ بنت رسول الله ثم لا تأتيه؟ لو أتيته فسمعتَ من
كلامه ثم انصرفتَ. فأتاه زهير بن القين،
فما لبث أن جاء مستبشراً قد أشرق وجهُه، فأمر بفسطاطه وثقله وراحلته ومتاعه،
فقُوِّضَ وحُمِل إلى الحسين عليه السلام ثم
قال لامرأته: أنتِ طالق، إلحقي بأهلك، فإنّي لا أحب
أن يُصيبَكِ بسببي إلاّ خير. وقال لأصحابه:
من أحبّ منكم أن يتبعني وإلاّ فهو آخر العهد، إنّي
سأحدثكم حديثاً: إنّا غزونا البحر ففتح الله علينا
وأصبنا غنايم، فقال لنا سلمان الفارسي رحمة
الله عليه: أَفَرِحْتُم بما فتح الله عليكم وأصبتم من
الغنائم؟ قلنا: نعم، فقال: إذا أدركتم سيّد شباب آل محمد فكونوا أشدّ فرحاً
بقتالكم معه ممّا أصبتم اليوم من الغنائم. فأمّا أنا فأستودعكم الله. قالوا: ثم
- والله - مازال في القوم مع الحسين عليه السلام حتى قتل رحمة الله عليه(الإرشاد: 2 / 72 - 73، والكامل في التأريخ: 3 / 177، والأخبار
الطوال: 246.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
أنباء الانتكاسة تتوارد
على الإمام عليه السلام:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
ها هي الكوفة تضطرب وتموج، والانتكاسة
الخطيرة قد لاحت ملامحها، وبدأ ميزان القوى يميل لصالح السلطة الأُموية، والوهن
بدأ يدبّ والانحلال يسري في أوساط المعارضة، وبدأ الإرهاب والتجسس والرشوة تفعل
فعلتها، فتلاشت المعارضة ونكص المبايعون، وقُتل مسلم بن عقيل وهانيء بن عروة
وقيس بن مُسهر الصيداوي، وسُجِنَ المختار بن عبيدة الثقفي، وانقلبت أوضاع الكوفة
على أعقابها. وواصل الإمام الحسين عليه السلام
المسير، وليس لديه معلومات جديدة عن تطور الأحداث، فأرسل
عبد الله بن يقطر إلى مسلم بن عقيل ليستجلي الموقف، إلاّ أنّ الحسين اُخبرَ في الطريق في موضع يدعى (الثعلبية)
بانتكاسة الثورة واستشهاد مسلم بن عقيل، أمّا رسوله الثاني هذا إلى مسلم فقد وقع
أسيراً أيضاً بيد جنود الحصين فنقل إلى ابن زياد في الكوفة، وكان كرسول الحسين
عليه السلام السابق مثالا للصلابة والجرأة والإخلاص. ووصل خبر أسر الرسول واستشهاده إلى الإمام
عليه السلام في موضع يدعى (زبالة)
وهكذا راحت تتوارد على الإمام أنباء الانتكاسة، ولاحت له بوادر النكوص الخطير،
وشعر بالخذلان ونقض العهد، فوقف في أصحابه وأهل بيته يبلغهم بما استجدّ من
الحوادث، ويضع أمامهم الحقائق، ليكونوا على بصيرة من الأمر، فقال لهم: (بسم الله الرحمن الرحيم، أمّا بعد،
فإنَّه قد أتانا خبر فظيع قتلُ مسلم بن عقيل وهانيء بن عروة وعبد الله بن يقطر،
وقد خذلنا شيعتُنا، فمن أحبَّ منكم الانصراف فلينصرفْ في غير حرج ليس معه ذمام). فتفرّق الناس عنه وأخذوا
يميناً وشمالا، حتى بقي في أصحابه الذين جاءوا معه من
المدينة ونفر يسير ممن انضموا إليه، وإنَّما فعل ذلك لأنّه علم أنّ الأعراب
الذين اتّبعوه إنّما اتّبعوه وهم يظنّون أنَّه يأتي بلداً قد استقامت له طاعةُ
أهله، فكره أن يسيروا معه إلاّ وهم يعلمون على ما يقدمون(الإرشاد: 2/ 75 - 76، والبداية والنهاية: 8 / 182، وأعيان الشيعة: 1
/ 595.).
فلمّا كان السَحَر أمر أصحابَه فاستقَوْا ماءً وأكثروا، ثم ساروا. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
لقاء الإمام الحسين
عليه السلام مع الحرّ:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
وبينما كان الإمام عليه السلام يسير
بمن بقي معه من أصحابه المخلصين وأهل بيته وبني عمومته; إذا بهم يرون أشباحاً
مقبلة من مسافات بعيدة، وظنّها بعضهم أشباح نخيل، ولكن لم يكن الذي شاهدوه أشجار
النخيل، ولكنّها جيوش زاحفة، فبعد قليل تبيّن لهم أنّ تلك الأشباح المقبلة عليهم
هي ألف فارس من جند ابن زياد بقيادة الحرّ بن يزيد الرياحي، أرسلها ابن زياد
لتقطع الطريق على الحسين عليه السلام وتسيّره كما يريد، ولمّا اقتربوا من ركب الحسين
عليه السلام سألهم عن المهمّة التي جاءوا من أجلها، فقال لهم الحرّ: لقد أمرنا
أن نلازمكم ونجعجع بكم حتى ننزلكم على غير ماء ولا حصن، أو تدخلوا في حكم يزيد
وعبيدالله بن زياد (تأريخ الطبري: 3 / 305، ومقتل الحسين للخوارزمي: 1 / 229، والبداية
والنهاية: 8 / 186، وبحار الأنوار: 44 / 375.). وجرى حوار طويل بين الطرفين وجدال لم
يتوصّلا فيه إلى نتيجة حاسمة ترضي الطرفين، فلقد أبى الحرّ أن يمكِّنَ الحسينَ من
الرجوع إلى الحجاز أو سلوك الطريق المؤدّية إلى الكوفة، وأبى الحسين عليه السلام
أن يستسلم ليزيد وابن زياد(تأريخ الطبري: 3 / 305، مقتل الحسين عليه السلام للخوارزمي: 1 / 229، البداية والنهاية: 8
/ 186، بحار الأنوار: 44 / 375.)،
وكان ممّا قاله الحسين وهو واقف بينهم خطيباً: (أيّها الناس! إنّي لم آتِكم حتى
أتتني كتبُكم وقدمِتْ عليّ رُسُلُكُم، أنِ أقدم علينا، فإنه ليس لنا إمام، لعلّ
الله أن يجمعنا بك على الهُدى والحقِّ، فإن كنتم على ذلك فقد جئتكم فأعطوني ما
أطمئنُ إليه من عهودكم ومواثيقكم، وإن لم تفعلوا وكنتم لمقدمي كارهين
اِنْصَرَفْتُ عنكم إلى المكانِ الذي جئتُ مِنه إليكم). فسكتوا عنه ولم يتكلّم
أحد منهم بكلمة، فقال للحرّ: (أتريد أن تصلّيَ بأصحابك؟) قال: لا، بل تُصلّي أنت
ونصلّي بصلاتك، فصلّى بهم الحسين عليه السلام(الإرشاد: 2 / 79، والفتوح لابن أعثم: 5 / 85، ومقتل الحسين
للخوارزمي: 1 / 596.). وبعد أن صلّى الإمام عليه السلام
بهم العصر خاطبهم بقوله: (أمّا بعد، فإنّكم إنْ تتّقوا الله
وتعرفوا الحقّ لأهله تكونوا أرضى لله عنكم، ونحن أهل بيت محمّد وأولى بولاية هذا
الأَمر عليكم من هؤلاء المدّعين ما ليس لهم والسائرينَ فيكم بالجوْرِ والعدوانِ،
وإنْ أبيتم إلاّ الكراهية لنا والجهل بحقّنا، وكان رأيكم الآن غير ما أتتني به
كتبكم وقدمت به عليَّ رُسُلُكُم انصرفت عنكم)( الفتوح لابن أعثم: 5 / 87، وتأريخ الطبري: 3 / 206، ومقتل الحسين
للخوارزمي: 1 / 332.)،
فقال له الحرّ: أنا والله ما أدري ما هذه الكتب والرسل التي تذكر، فقال الحسين عليه السلام لبعض أصحابه:
(يا عقبة بن سمعان، أخرج الخرجين اللّذين فيهما كتبهم إليَّ) فأخرجَ خرجين
مملوءين صُحُفاً فنثرت بين يديه. فقال له الحرّ: إنّا لسنا من هؤلاء الذين كتبوا
إليك وقد أُمِرْنا إذا نحن لقيناك ألاّ نفارقك حتى نُقدِمَكَ الكوفة على عبيد
الله. فقال له الحسين عليه السلام:
(الموت أدنى إليك من ذلك) ثم قال لأَصحابه: (قوموا فاركبوا)، فركبوا وانتظروا
حتى ركبت نساؤهم، فقال لأصحابه: (انصرفوا)، فلمّا ذهبوا لينصرفوا حال القوم
بينهم وبين الانصراف، فقال الحسين عليه السلام
للحرّ: (ثَكَلَتْكَ أمك ما تريد؟)، قال له الحرّ: أما لو غيرك من العرب يقولها لي وهو
على مثل الحال التي أنت عليها ما تركت ذكر أمه بالثكل كائناً مَنْ كان، ولكن والله ما لي إلى ذكر أمك من سبيل إلاّ بأحسن
ما نقدر عليه(الإرشاد: 2 / 80، تاريخ الطبري: 3 /306.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
النزول في أرض
الميعاد:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
أقلقت الأخبار عن تقدّم الإمام الحسين
عليه السلام نحو الكوفة ابن زياد وأعوان السلطة الأُموية، فأسرع بكتابه إلى
الحرّ بن يزيد الرياحي يطلب فيه أن لا يسمح بتقدّم الإمام حتى تلتحق به جيوش بني
أُمية وتلتقي به بعيداً عن الكوفة خشية أن يستنهض أهلها ثانية، وليستغل ابن زياد
ظروف المنطقه الصعبة للضغط على الإمام عليه السلام واستسلامه. وبغباء المنحرف الساذج وجهالته ردّ
حامل كتاب ابن زياد على أحد أصحاب الحسين عليه السلام - يزيد بن مهاجر -
مدافعاً عمّا جاء به قائلا: أطعت إمامي ووفيت ببيعتي، فقال له ابن مهاجر: بل
عصيت ربّك وأطعت إمامك في هلاك نفسك وكسبت العار والنار، وبئس الإمام إمامك، قال
الله تعالى: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى
النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ)( القصص (28): 41.). وحالت جنود ابن زياد قافلة الإمام الحسين
عليه السلام دون الاستمرار في المسير، فقد منعهم جيش الحرّ بن يزيد وأصرّوا على
أن يدفعوا الإمام عليه السلام نحو عراء لا خضرة فيها ولا ماء. وكان زهير بن القين متحمّساً
لقتال جيش الحرّ قبل أن يأتيهم المدد من قوات بني أُمية،
فقال للحسين عليه السلام: (إنّ
قتالهم الآن أيسر علينا عن قتال غيرهم)، ولكنّ
الإمام عليه السلام رفض هذا الرأي لأنّ القوم
لم يعلنوا حرباً عليه بعد، وما كان ذلك الموقف النبيل إلاّ لما كان يحمله الإمام
من روح تتسع للأمة جمعاء، وأيضاً لعظيم رسالته التي يدافع عنها وقِيَمهِ التي
كان يسعى إلى بنائها في الأمة رغم أنّها بدت تظهر العداء سافراً ضدّه، فقال عليه السلام: (ما كنت لأبدأهم بقتال). وكان نزول الإمام في كربلاء في يوم
الخميس الثاني من محرم سنة إحدى وستين(تأريخ الطبري: 3 / 309، ومعجم البلدان: 4 / 444، وإعلام الورى: 1 /
451، والأخبار الطوال: 252، وبحار الأنوار: 44 / 380.)،
ثم اقترح زهير على الإمام عليه السلام أن يلجأوا إلى منطقة قريبة يبدو فيها بعض
ملامح التحصين لمواجهة الجيش الأموي لو نشبت المعركة. وسأل الإمام عليه السلام عن
اسم هذه المنطقة فقيل له: كربلاء، عندها دمعت
عيناه وهو يقول: (اللهم أعوذ بك من الكرب والبلاء)، ثم قال: (ذات كرب وبلاء، ولقد مرّ أبي بهذا
المكان عند مسيره إلى صفّين وأنا معه فوقف، فسأل عنه فاُخبر باسمه فقال: ها هنا محطّ ركابهم، وهاهنا مهراق
دمائهم، فسئل عن ذلك فقال: ثقل لآل بيت محمد ينزلون هاهنا)( مجمع الزوائد: 9 / 192، والأخبار الطوال: 253، وحياة الحيوان
للدميري: 1 / 60.). قبض الإمام الحسين عليه السلام قبضةً من ترابها فشمّها وقال: (هذه
والله هي الأرض التي أخبر بها جبرئيل رسول الله أننّي اُقتل فيها، أخبرتني أم
سلمة)( تذكرة الخواص: 260، ونفس المهموم: 205، وناسخ التواريخ: 2 / 168،
وينابيع المودة: 406.). فأمر الإمام عليه السلام بالنزول ونصب
الخيام إلى حين يتّضح الأمر ويتّخذ القرار النهائي لمسيرته. جيش الكوفة
ينطلق بقيادة عمر بن سعد:
وفي تلك الأثناء خرج عمر بن سعد من
الكوفة في جيش قدّرته بعض المصادر بثلاثين ألفاً، وبعضها بأكثر من ذلك، وفي
رواية ثالثة: إنّ ابن زياد قد استنفر الكوفة وضواحيها لحرب الحسين و توعّد كلَّ
مَنْ يقدر على حمل السلاح بالقتل والحبس إن لم يخرجْ لحرب الحسين. وكان من نتائج ذلك أن امتلأت السجونُ
بالشيعة واختفى منهم جماعة، وخرج مَنْ خرج لحرب الحسين من أنصار الأمويين وأهل
الأطماع والمصالح الذين كانوا يشكّلون أكبر عدد في الكوفة، أمّا رواية الخمسة
آلاف مقاتل التي تبنّاها بعض المؤرّخين فمع أنّها من المراسيل، لا تؤيّدها
الظروف والملابسات التي تحيط بحادث من هذا النوع الذي لا يمكن لأحد أن يقدِمَ عليه
إلاّ بعد أن يُعِدَّ العُدَّة لكلّ الاحتمالات، ويتّخذ جميع الاحتياطات، وبخاصة
إذا كان خبيراً بأهل الكوفة وتقلّباتهم وعدم ثباتهم على أمر من الأُمور(سيرة الأئمة الاثني عشر القسم الثاني: 68.). وتوالت قطعات الجيش الأموي
بزعامة عمر بن سعد فأحاطت
بالحسين عليه السلام وأهله وأصحابه، وحالت بينهم وبين ماء الفرات القريب منهم. وقد
جرت مفاوضات محدودة بين عمر بن سعد والإمام الحسين عليه السلام أوضح فيها الإمام
عليه السلام لهم عن موقفه وموقفهم ودعوتهم له، وألقى عليهم كل الحجج في سبيل
إظهار الحق، وبيّن لهم سوء فعلهم هذا وغدرهم ونقضهم للوعود التي وعدوه بها من
نصرته وتأييده، وضرورة القضاء على الفساد. ولكن عمر بن سعد كان أداة الشرّ
المنفّذة للفساد والظلم الأموي، فكانت غاية همّته هي تنفيذ أوامر ابن زياد
بانتزاع البيعة من الإمام عليه السلام ليزيد أو قتله وأهل بيته وأصحابه(الإرشاد للمفيد: 2 / 85، الفتوح: 5 / 97، بحار الأنوار: 44 / 284،
إعلام الورى: 1 / 451، البداية والنهاية: 8 / 189، مقتل الحسين للخوارزمي: 1 /
245.)،
متجاهلاً حرمة البيت النبوي بل وحاقداً عليه كما
جاء في رسالته لعمر: أن حُلْ بين الحسين وأصحابه وبين
الماء، فلا يذوقوا قطرة كما صُنع بالتقي الزكي عثمان بن عفان(إعلام الورى: 1 / 452.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
البحث السادس: ماذا جرى في كربلاء؟
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
ليلة عاشوراء:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
نهض عمر بن سعد إلى الحسين عليه السلام عشية يوم الخميس لتسع مضين من المحّرم،
وجاء شمر حتى وقف على أصحاب الحسين عليه
السلام فقال: أين بنو أُختنا؟ يعني العباس وجعفر وعبد الله
وعثمان أبناء عليّ عليه السلام.
فقال الحسين عليه السلام: أجيبوه وإن كان فاسقاً فإنّه بعض أخوالكم؛ وذلك أنّ أمهم أم البنين كانت من بني كلاب وشمر بن ذي الجوشن من بني
كلاب أيضاً. فقالوا له: ما تريد؟ فقال
لهم:
أنتم يا بني أختي آمنون فلا تقتلوا أنفسكم مع أخيكم الحسين والزموا طاعة يزيد.
فقالوا له: لعنك الله ولعن أمانك! أتؤمننا وابن رسول الله لا أمان له؟ وناداه العباس بن أمير المؤمنين تبّت
يداك ولعن ما جئتنا به من أمانك يا عدوّ الله! أتأمرنا أن نترك أخانا وسيّدنا
الحسين بن فاطمة وندخل في طاعة اللعناء وأولاد اللعناء؟! ثم نادى عمر بن سعد يا خيل
الله! اركبي وبالجنة أبشري. فركب الناس ثم زحف ابن سعد
نحوهم بعد العصر والحسين عليه السلام
جالس أمام بيته محتب بسيفه، إذ خفق برأسه على ركبتيه، فسمعت أخته زينب الصيحة،
فدنت من أخيها وقالت: يا أخي! أما تسمع هذه الأصوات قد اقتربت؟ فرفع الحسين عليه
السلام رأسه فقال: إني رأيت رسول الله صلىاللهعليهوآله
الساعة في المنام فقال إنّك تروح إلينا، فلطمت أخته وجهها، ونادت بالويل، فقال لها الحسين عليه السلام:
ليس لكِ الويل، يا أُخيّة اسكتي، رحمك الله. وقال له العباس: يا أخي أتاك القوم
فنهض ثم قال: يا عباس اركب - بنفسي يا أخي - أنت حتى تلقاهم وتقول لهم: ما بالكم
وما بدا لكم؟ وتسألهم عمّا جاء بهم؟ فأتاهم في نحو من عشرين فارساً منهم زهير بن
القين وحبيب بن مظاهر فسألهم فقالوا: قد جاء أمر الأمير أن نعرض عليكم أن تنزلوا
على حكمه أو نناجزكم، قال: فلا تعجلوا حتى أرجع إلى أبي عبد الله فأعرض عليه ما
ذكرتم، فوقفوا ورجع العباس إليه بالخبر ووقف أصحابه يخاطبون القوم ويعظونهم
ويكفّونهم عن قتال الحسين عليه السلام. فلما أخبره العباس بقولهم
قال له: ارجع إليهم فإن استطعت أن تؤخّرهم إلى غدوة
وتدفعهم عنّا العشية لعلّنا نصلّي لربّنا الليلة وندعوه ونستغفره فهو يعلم أني
كنت أحبّ الصلاة له وتلاوة كتابه وكثرة الدعاء والاستغفار. فسألهم العباس ذلك، فتوقف ابن سعد، فقال له عمرو بن الحجاج الزبيدي: سبحان الله!
والله لو أنّهم من الترك أو الديلم وسألونا مثل ذلك لأجبناهم، فكيف وهم آل
محمد؟! وقال له قيس بن الأشعث بن قيس: أجبهم، لعمري ليصبحنّك بالقتال. فأجابوهم
إلى ذلك. وجمع الحسين عليه
السلام أصحابه عند قرب المساء. قال الإمام زين العابدين عليه
السلام: فدنوت منه لأسمع ما يقول لهم وأنا إذ ذاك مريض، فسمعت أبي يقول لأصحابه: اُثني على الله أحسن الثناء وأحمده على
السرّاء والضرّاء، اللهم إني أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوة وعلّمتنا القرآن
وفقّهتنا في الدين، وجعلت لنا أسماعاً وأبصاراً وأفئدة فاجعلنا لك من الشاكرين. ( أمّا بعد ) فإني لا أعلم
أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي،
فجزاكم الله عني خيراً ألا وإنّي لأظنّ أنه آخر يوم لنا من هؤلاء ألا وإني قد
أذنت لكم فانطلقوا جميعاً في حلّ ليس عليكم منّي ذمام، هذا الليل قد غشيكم
فاتّخذوه فقال له إخوته وأبناؤه وبنو
أخيه وأبناء عبد الله بن جعفر: ولِمَ نفعل ذلك؟ لنبقى بعدك؟
لا أرانا الله ذلك أبداً. بدأهم بهذا القول أخوه العباس بن أمير المؤمنين واتبعه
الجماعة عليه فتكلموا بمثله ونحوه. ثم نظر إلى بني عقيل فقال:
حسبكم من القتل بصاحبكم مسلم إذهبوا قد أذنت لكم، قالوا: سبحان الله! فما يقول
الناس لنا وما نقول لهم، إنّا تركنا شيخنا سيّدنا وبني عمومتنا خير الأعمام ولم
نرم معهم بسهم ولم نطعن معهم برمح ولم نضرِب معهم بسيف ولا ندري ما صنعوا، لا
والله ما نفعل ذلك ولكنّنا نفديك بأنفسنا وأموالنا وأهلينا ونقاتل معك حتى نردَ
موردك، فقبّح الله العيش بعدك. وقام إليه مسلم بن عوسجة
الأسدي فقال: أنحن نخلّي عنك وقد أحاط بك هذا
العدّو؟ وبم نعتذر إلى الله في أداء حقّك؟ لا والله لا يراني الله أبداً وأنا
أفعل ذلك حتى أكسر في صدورهم رمحي وأضاربهم بسيفي ما ثبت قائمه بيدي، ولو لم يكن
معي سلاح أقاتلهم به; لقذفتهم بالحجارة ولم أفارقك أو أموت معك. وقام سعيد بن عبد الله
الحنفي فقال: لا والله يا ابن رسول الله لا نخلّيك
أبدا حتّى يعلم الله أنّا قد حفظنا فيك وصيّة رسوله محمّد صلىاللهعليهوآله
والله لو علمت أني أُقتل فيك ثم أحيا ثم أُحرق ثم أذرى يُفعل ذلك بي سبعين مرّة;
ما فارقتك حتى ألقى حِمامي دونَك، وكيف لا أفعل ذلك وإنّما هي قتلة واحدة ثمّ
أنال الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً. وقام زهير بن القين وقال:
والله يا ابن رسول الله لوددت أني قُتلت ثم وتكلّم بقيّة أصحابه بكلام
يشبه بعضه بعضاً وقالوا: أنفسنا لك الفداء نقيك بأيدينا
ووجوهنا، فإذا نحن قُتلنا بين يديك نكون قد وفينا لربّنا وقضينا ما علينا(الإرشاد: 2/93.). وأمر الحسين عليه السلام أصحابه أن يقرّبوا
بين بيوتهم، ويدخلوا الأطناب بعضها في بعض، ويكونوا بين يدي البيوت كي يستقبلوا
القوم من وجه واحد والبيوت من ورائهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم قد حفّت بهم إلاّ
الوجه الذي يأتيهم منه عدوّهم. وقام الحسين عليه السلام وأصحابه
الّليل كله يصلّون ويستغفرون ويدعون، وباتوا ولهم دويّ كدويّ النحل ما بين راكع
وساجد وقائم وقاعد، فعبر إليهم في تلك الليلة من عسكر ابن سعد اثنان وثلاثون
رجلاً. قال بعض أصحاب الحسين عليه
السلام: مرّت بنا خيل لابن سعد تحرسنا وكان الحسين عليه
السلام يقرأ: (وَلَا
يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ
إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ * مَا
كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى
يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ)
فسمعها رجل من تلك الخيل يقال له عبد الله بن سمير فقال: نحن وربّ الكعبة
الطيّبون ميزنا منكم، فقال له برير بن خضير: يا فاسق أنت يجعلك الله من
الطيبين؟! فقال له: مَن أنت ويلك؟ قال: أنا برير بن خضير فتسابّا، فلمّا كان وقت
السحر خفق الحسين عليه السلام
برأسه خفقة ثم استيقظ فقال: (رأيت كأنّ كلاباً قد جهدت تنهشني وفيها كلب أبقع
رأيته أشدّها عليّ وأظنّ أنّ الذي يتولّى قتلي رجلٌ أبرص)( راجع أعيان الشيعة: 1 / 601.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
يوم عاشوراء:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
انقضت ليلة الهدنة، وطلع ذلك اليوم
الرهيب، يوم عاشوراء، يوم الدم والجهاد والشهادة، وطلعت معه رؤوس الأسنّة
والرماح والأحقاد وهي مشرعة لتلتهم جسد الحسين عليه السلام وتفتك بدعاة الحق
والثوار من أجل الرسالة والمبدأ. نظر الحسين عليه السلام إلى الجيش الزاحف،
ولم يزلعليه السلام كالطود
الشامخ، قد اطمأنت نفسه، وهانت دنيا الباطل في عينه، وتصاغر جيش الباطل أمامه،
ورفع يديه متضرعاً إلى الله تعالى قائلاً: اللهم أنت ثقتي في كل كَرْب، وأنت
رَجائي في كُلِ شِدّة وأنت لي في كل أمر نَزَلَ بي ثقةٌ وعدَّةٌ، كم من همٍّ
يَضْعَفُ فيه الفؤاد وتقلّ فيه الحيلة ويخذُلُ فيه الصديق ويشمت فيه العدوّ،
أنزلته بك وشكوته إليك، رغبة مني إليك عمّن سواك ففرّجته عني وكشفته فأنت وليّ
كل نعمة وصاحب كل حسنة ومنتهى كل رغبة(الإرشاد: 2 / 96.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
خطاب الإمام عليه السلام
في جيش الكوفة:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
أخذ جيش عمر بن سعد يشدِّد الحصار على الإمام
عليه السلام ولما رأى الحسين عليه السلام كثرتهم وتصميمهم على قتاله إذا لم
يستسلم ليزيد بن معاوية، تعمّم بعمامة رسول الله صلىاللهعليه
وآله وركب ناقته وأَخذ سلاحه ثم دنا من معسكرهم حيث يسمعون صوته وراح يقول:
يا أهل العراق - وجُلُّهُمْ يسمعون -، فقال: أيها الناس اسمعوا قولي ولا تعجلوا
حتى أعظَكم بما يحق لكم عليَّ وحتى أُعْذَرَ إليكم فإن أعطيتموني النّصف كنتم
بذلك أسعد، وإن لم تعطوني النّصف من أنفسكم فاجمعوا رأيكم ثم لا يكن أمركم عليكم
غُمَّةً ثم اْقضوا إليَّ ولا تُنظِرونِ (إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ
الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ)، ثم حمد الله
وأثنى عليه وذكر الله تعالى بما هو أهله وصلّى على النبي صلىاللهعليه وآله
وعلى ملائكته وأنبيائه فَلَمْ يُسْمَعْ متكلمٌ قط قبلَه ولا بعدَه أبلغُ في منطق
منه، ثم قال: أمّا بعد فانسبوني فانظروا مَنْ أنا ثم ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها
فانظروا هل يصلح لكم قتلي وانتهاكُ حُرمتي؟ ألَسْتُ ابنَ بنتِ نبيّكم وابنَ
وصيِّه وابن عمّه وأوّل المؤمنين المصدّق لرسول الله صلىاللهعليه وآله بما
جاء به من عند ربه؟ أوليس حمزةُ سيدُ الشهداء عمّي؟ أو ليس جعفر الطيار في
الجنّة بجناحين عَمّي؟ أو لم يبلغكم ما قال رسولُ الله صلىاللهعليه وآله لي
ولأخي: هذانِ سيّدا شباب أهل الجنة؟ فإنْ صدقتموني بما أقول - وهو الحق - فوالله
ما تعمدتُ كذباً منذ علمت أن الله يَمْقُتُ عليه أهله، وإنْ كذبتموني فإنَّ فيكم
مَنْ إذا سألتموه عن ذلك أخبركم، سلوا جابر بن عبد الله الأنصاري وأبا سعيد
الخِدْري و سهل بنَ سعد الساعدي وزيد بن أرقم وأنسَ بن مالك يخبروكم أنهم سمعوا
هذه المقالة من رسول الله صلىاللهعليه وآله لي ولأخي، أما في هذا حاجز لكم عن
سفك دمي؟... ثم قال لهم الإمام الحسين عليه السلام: فإن كنتم في شك من هذا
فتشكّون أني ابن بنت نبيكم فوالله ليس ما بين المشرق والمغرب ابنُ بنتِ نبىّ
غيري فيكم ولا في غيركم. ويحكم! أتطلبونني بقتيل منكم قَتَلْتُه أو مال لكم
استهلكته أو بقصاص جراحة؟ فأخذوا لا يكلمونه، فنادى: يا شبث بن ربعي! ويا حجّار
بن أبجر! ويا قيس بن الأشعث! ويا يزيد بن الحارث! ألَمْ تكتبوا إليَّ أنْ قد
أينعت الثمار واْخضرّ الجَنابُ وإنما تقدِم على جند لك مجندة؟ فقال له قيس بن
الأشعث: ما ندري ما تقول، ولكن اِنزل على حكم بني عمّك. فقال له الحسين عليه السلام:
(لا والله، لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أفرُّ فِرار العبيد). ثم نادى: (يا
عبادَ الله! إني عذْتُ بربّي ورَبِّكم أنْ ترجمُونِ، أعوذ بربّي و ربّكم من كلِّ
متكبر لقد أبى القوم إلاّ الإصرار على حربه
والتمادي في باطلهم، وأجابوه بمثل ما أجاب به أهل مدين نبيَّهم كما حكى الله
عَزَّ وجَلَّ عنهم في كتابه الكريم: (مَا
نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاًً)( هود (11): 91.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
الحر يخيّر نفسه بين
الجنّة والنار:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
وتأثر الحر بن يزيد الرياحي
بكلمات الإمام الحسين عليه السلام وندم على ما سبق منه معه، وراح يدنو بفرسه من
معسكر الحسين تارة ويعود إلى موقفه أخرى وبدا عليه القلق والاضطراب.
وعند ما سئل عن السبب في ذلك قال: (والله إني أُخيِّرُ نفسي بين الجنة والنار
وبين الدنيا والآخرة ولا ينبغي لعاقل أن يختار على الآخرة والجنة شيئاً)، ثم ضرب
فرسه والتحق بالحسين عليه السلام ووقف على باب فسطاطه، فخرج إليه الحسين عليه السلام
فانكبَّ عليه الحرّ يُقبّل يديه ويسأله العفو والصفح، فقال له الحسين عليه السلام:
(نعم، يتوب الله عليك وهو التّواب الرحيم). فقال
له الحر: والله لا أرى لنفسي توبة إلاّ بالقتال بين يديك
حتى أموتَ دونك. وخطب الحر في أهل الكوفة فوعظهم وذكّرهم موقفهم من الإمام عليه السلام
ودعوتهم له وحثّهم على عدم مقاتلة الإمام عليه السلام ثم مضى إلى الحرب فتحاماه
الناس، ثم تكاثروا عليه حتى استشهد(الإرشاد: 2 / 99، الفتوح: 5 / 113، بحار الأنوار: 5 / 15.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
المعركة الخالدة:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
حصّن الإمام عليه السلام مخيّمه وأحاط
ظهره بخندق أوْقَد فيه النار ليمنع المباغتة والالتفاف عليه من الخلف، وليحميَ
النساء والأطفال من العدوان المحقّق. نظر شمر بن ذي الجوشن إلى
النار في الخندق فصاح: ( يا حسينُ تعجّلت النار قبل يوم
القيامة، فرد عليه أنت أولى بها صِلِيّا)( مقتل الحسين، للمقرم: 277.)،
وحاول صاحب الحسين عليه السلام مسلم بن عوسجة أن يرميه بسهم، فاعترضه الإمام
ومنعه قائلا: (لا ترمه فإني أكره أن أبدأهم)( مقتل الحسين، للمقرم: 277، تاريخ الطبري: 3 / 318.). ويقول المؤرخون:
إن بعض أصحاب الإمام خطب بالقوم بعد خطبة الإمام الأولى، وأنّ الإمام عليه
السلام أخذ مصحفاً ونشره على رأسه ووقف بإزاء القوم فخاطبهم للمرة الثانية بقوله: يا قوم! إنّ
بيني وبينكم كتاب الله وسنّة جدّي رسول الله صلىاللهعليه وآله ثم استشهدهم عن
نفسه المقدسة وما عليه من سيف النبي صلىاللهعليهوآله
ودرعه وعمامته فأجابوه بالتصديق فسألهم عمّا أقدمهم على قتله، قالوا: طاعةً
للأمير عبيد الله ابن زياد، فقال عليه السلام: (تباً لكم أيتها الجماعَةُ وترحاً
أحين استصرختمونا(استصرختمونا: طلبتم نجدتنا.)
والهين فأصرخناكم موجفين، سللتم علينا سيفاً لنا في أيمانكم، وحَشَشْتم علينا
ناراً اقتدحناها على عدوّنا وعدوّكم فأصبحتم إلباً(إلباً: مجتمعين متضامنين ضدنا.) لأعدائكم
على أوليائكم بغير عدل أفشوه فيكم ولا أمل أصبح لكم فيهم، فهلاّ - لكم الويلاتُ
- تركتمونا والسيفُ مشيم والجأش طامن والرأي لمّا يستحصفْ! ولكن أسرعتم إليها
كطيرة الدَّبا(الدَّبا: الجراد الصغير.)،
وتداعيتم عليها كتهافُتِ الفراش، ثم نقضتموها فسُحْقاً لكم يا عبيدَ الأمة
وشُذّاذَ الأحزابِ و نبذة الكتابِ ومحرّفي الكلِمِ وعصبة الإثمِ ونفثةَ الشيطان
ومطفئي السُنَنِ، ويْحَكم! أهؤلاء تعضدون وعنا تتخاذلون؟ أجل! والله غدرٌ فيكم
قديم، وشجت عليه اُصولكم وتأزرت فروعكم، فكنتم أخبثَ ثمر، شجىً للناظر وأكلةً
للغاصب. ألا وإن الدعيَّ ابن الدعي قد ركز بين اثنتين بين السِّلة والذلة.
وهيهات منا الذلة! يأبى اللهُ لنا ذلك ورسولُه والمؤمنون، وحجورٌ طابت وطَهُرَتْ
واُنوفٌ حميةٌ ونفوسٌ أبيّةٌ من أن تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام. ألا وإني
زاحف بهذه الأسرة على قلة العدد وخذلان الناصر. ثم
أنشدَ أبياتِ فروة بن مسيك المرادي:
تاريخ ابن عساكر: 69/265،
اللهوف في قتلى الطفوف، ابن طاووس: 59 و 124. أما والله لا تلبثون بعدها إلاكريثما
يُركبُ الفرس، حتى تدور بكم دور الرَّحى، و تقلق بكم قلق المحور، عهد عهده إليّ
أبي عن جدي رسول الله صلىاللهعليه وآله (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا
يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ)( يونس (10): 71 و هود (11): 56.) (إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي
وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي
عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)( يونس (10): 71 و هود (11): 56.).
ثم رفع يديه نحو السماء وقال: (اللهم احبس عنهم قطر السماء وابعث عليهم سنينَ
كسنيّ يوسف وسلِّطْ عليهم غلام ثقيف يسقيهم كأساً مصبَّرةً، فإنهم كذّبونا
وخذلونا وأنت ربنا عليك توكلنا وإليك المصير)( مقتل الحسين، للمقرم: ص289 - 286، مقتل الحسين للخوارزمي: 2 / 6،
تاريخ ابن عساكر، ترجمة الإمام الحسين عليه السلام: 216، راجع إعلام الورى: 1 /
458.). كل ذلك وعمر بن سعد مُصرّ على قتال الحسين
عليه السلام، والإمام الحسين عليه السلام يحاور وينصح ويدفع القوم بالتي هي
أحسن. ولما لم يجد النصح مجدياً قال
لابن سعد: (أيْ عمر أتزعم أنك تقتلني ويوليك الدعيّ بلاد
الري وجرجان؟ والله لا تتهنّأ بذلك، عهد معهود،
فاصنع ما أنت صانع، فإنك لا تفرح بعدي بدنيا ولا آخرة، وكأني برأسك على قصبة
يتراماه الصبيان بالكوفة ويتخذونه غرضاً بينهم) فصرف ابن سعد وجهه عنه مغضباً(مقتل الحسين للمقرم: 289.). واستحوذَ الشيطان على ابن سعد فوضع
سهمه في كبد قوسه ثم رمى باتجاه معسكر الحسين عليه السلام وقال: (إشهدوا أني
أولُ مَنْ رمى) ثم ارتمى الناس وتبارزوا(الإرشاد: 2 / 101، اللهوف: 100، إعلام الورى: 1 / 461.). فخاطب الإمام عليه السلام أصحابه
قائلا: (قوموا رحمكم الله إلى الموت الذي لابد منه، فإن هذه السهام رسل القوم
إليكم)( مقتل الحسين للمقرم: 292.). فتوجهوا إلى القتال كالأُسود الضارية
لا يبالون بالموت مستبشرين بلقاء الله جَلَّ جلاله، وكأنهم رأوا منازلهم مع
النبيين والصديقين وعباده الصالحين، وكان لا يقتل منهم أحد حتى يقول: السلام
عليك يا أبا عبد الله ويوصي أصحابه بأن يفدوا الإمام بالمهج والأرواح، واحتدمت
المعركة بين الطرفين، (فكان لا يُقْتَلُ الرجل من أنصار الحسين عليه السلام حتى
يَقْتل العشرة والعشرين)( سيرة الأئمّة الاثني عشر: 2 / 76.). استمرت رحى الحرب تدور في
ساحة كربلاء، واستمر معه شلاّل الدم المقدس يجري ليتخذ طريقه عبر نهر الخلود،
وأصحابُ الحسين عليه السلام يتساقطون الواحد تلو الآخر، وقد أثخنوا جيش العدو
بالجراح وأرهقوه بالقتل، فتصايح رجال عمر بن سعد: لو استمرت الحرب برازاً بيننا
وبينهم لأتوا على آخِرنا. لنهجم عليهم مرة واحدة، ولنرشقهم بالنبال والحجارة. فبدأ الهجوم والزحف نحو من بقي مع الحسين
عليه السلام وأحاطوا بهم من جهات متعددة مستخدمين كل أدوات القتل وأساليبه
الدنيئة حتى قتلوا أكثر جنود المعسكر الحسيني من الصحابة. وزالت الشمس وحضر وقت الصلاة، وها هو الحسين
عليه السلام ينادي للصلاة وقد تحول الميدان عنده محراباً للجهاد والعبادة، ولم
يكن في مقدور السيوف والأسنّة أن تحول بينه وبين الحضور في ساحة المناجاة
والعروج إلى حظائر القدس وعوالم الجمال والجلال. ولم يزل يتقدّم رجل رجل من أصحابه
فيقتل، حتّى لم يبق مع الحسين عليه السلام
إِلاّ أهل بيته خاصّةً. فتقدّم ابنه عليّ بن الحسين عليه السلام - وأمه ليلى بنت أبي مرّة بن عروة بن
مسعود الثّقفيّ - وكان من أصبح النّاس وجهاً، فشدَّ على
النّاس وهو يقول:
تالله لا يحكم فينا ابن
الدَّعي ففعل ذلك مراراً وأهل الكوفة يتَّقون
قتله، فبصر به مرّة بن منقذ العبديّ فقال: عليَّ آثام العرب إن مرَّ بي يفعل مثل
ذلك إن لم اثكل أباه؛ فمرَّ يشدُّ على النّاس كما مرَّ في الأوّل، فاعترضه مرّة
بن منقذ فطعنه فصرع، واحتوشه القومُ فقطّعوه بأسيافهم، فجاء الحسين عليه
السلام حتّى وقف عليه فقال: (قتل الله قوماً قتلوك يا بنيَّ، ما
أجرأَهم على الرّحمن وعلى انتهاك حرمة الرّسول!) وانهملت عيناه بالدُّموع ثمّ
قال: (على الدُّنيا بعدك العفا) وخرجت زينب أخت الحسين مسرعةً تنادي: يا أُخيّاه
وابن أُخيّاه، وجاءت حتّى أكبّت عليه، فأخذ الحسينُ برأسها فردَّها إلى الفسطاط،
وأمر فتيانه فقال: (احملوا أخاكم) فحملوه حتّى وضعوه بين يدي الفسطاط الّذي
كانوا يقاتلون أمامه. ثمّ رمى رجلٌ من أصحاب عمر بن سعد يقال
له: عمرو بن صبيح عبد الله بن مسلم بن عقيل (رحمه الله) بسهم، فوضع عبد الله يده
على جبهته يتّقيه، فأصاب السّهم كفَّه ونفذ إلى جبهته فسمّرها به فلم يستطع
تحريكها، ثمّ انتحى عليه آخر برمحه فطعنه في قلبه فقتله. وحمل عبد الله بن قُطبة الطائي على عون
بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه فقتله. وحمل عامر بن نهشل التّيميّ على محمّد
بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه فقتله. وشدَّ عثمان بن خالد الهمدانيّ على عبد
الرّحمن بن عقيل بن أبي طالب رضي الله عنه فقتله. قال حميد بن مسلم: فإنّا لكذلك إذ خرج
علينا غلام كأنَّ وجهه شقَّة قمر، في يده سيف وعليه قميص وإزار ونعلان قد انقطع
شسع إحداهما، فقال لي عمر بن سعيد بن نفيل الأزديّ: والله لأشدَّنَّ عليه، فقلت:
سبحان الله، وما تريد بذلك؟! دعه يكفيكه هؤلاء القوم الّذين ما يبقون على أحد
منهم؛ فقال: والله لأشدَّنَّ عليه، فشدَّ عليه فما ولّى حتّى ضرب رأسه بالسّيف
ففلقه، ووقع الغلام لوجهه فقال: يا عمّاه! فجلى(جلّى ببصره: إذا رمى به كما ينظر الصقر إلى الصيد. ( الصحاح - جلا -
6: 2305 ).) الحسين
عليه السلام كما يجلي الصقر ثمّ
شدَّ شدّة ليث أغضب، فضرب عمر بن سعيد بن نفيل بالسّيف فاتّقاها بالسّاعد
فأطنَّها من لدن المرفق، فصاح صيحة سمعها أهل العسكر، ثمّ تنحّى عنه الحسين عليه
السلام. وحملت خيل الكوفة لتستنقذه فوطأته بأرجلها حتّى مات. وانجلت الغبرة فرأيت الحسين عليه
السلام قائماً على رأس الغلام وهو يفحص برجله والحسين يقول:
(بعداً لقوم قتلوك ومن خصمهم يوم القيامة فيك جدُّك) ثمّ قال: (عزَّ - والله -
على عمّك أن تدعوه فلا يجيبك، أو يجيبك فلا ينفعك، صوت - والله - كثرَ واتروه
وقلَّ ناصروه) ثمّ حمله على صدره، فكأنِّي أنظر إلى رجلي الغلام تخطّان الأرض،
فجاء به حتّى ألقاه مع ابنه عليِّ بن الحسين والقتلى من أهل بيته، فسألت عنه
فقيل لي: هو القاسم بن الحسن بن عليِّ بن أبي طالب عليهمالسلام. ثمّ جلس الحسين عليه
السلام أمام الفسطاط فأتي بابنه عبد الله بن الحسين وهو طفل
فأجلسه في حجره، فرماه رجل من بني أسد بسهم فذبحه، فتلقّى الحسين عليه
السلام دمه، فلمّا ملأ كفَّه صبَّه في الأرض ثمّ قال: (ربّ إن
تكن حبست عنّا النّصر من السّماء فاجعل ذلك لما هو خير، وانتقم لنا من هؤلاء
القوم الظّالمين) ثمّ حمله حتّى وضعه مع قتلى أهله. ورمى عبد الله بن عقبة الغنويّ أبا بكر
بن الحسن بن عليِّ بن أبي طالب عليهمالسلام
فقتله. فلمّا رأى العبّاس بن عليّ رحمة الله
عليه كثرة القتلى في أهله قال لإخوته من أمه - وهم عبد الله وجعفر وعثمان - يا
بني اُمِّي! تقدّموا حتّى أراكم قد نصحتم لله ولرسوله، فإنّه لا ولد لكم. فتقدّم
عبد الله فقاتل قتالاً شديداً، فاختلف هو وهانيء بن ثبيت الحضرميّ ضربتين فقتله
هانيء لعنه الله. وتقدّم بعده جعفر بن عليّ عليه
السلام فقتله أيضاً هانيء. وتعمّد خوليُّ بن يزيد الأصبحيّ عثمان
بن عليّ عليه السلام وقد قام
مقام إخوته فرماه بسهم فصرعه، وشدَّ عليه رجل من بني دارم فاحتزَّ رأسه. وحملت الجماعة على الحسين عليه
السلام فغلبوه على عسكره، واشتدَّ به العطش، فركب المسنّاة(المسناة: تراب عال يحجز بين النهر والأرض الزراعية. ( تاج العروس -
سنى - 10: 185 ).)
يريد الفرات وبين يديه العبّاس أخوه، فاعترضته خيل ابن سعد وفيهم رجل من بني
دارم فقال لهم: ويلكم حولوا بينه وبين الفرات ولا تمكِّنوه من الماء، فقال
الحسين عليه السلام: (اللّهمّ
أظمئه) فغضب الدّارميُّ ورماه بسهم فأثبته في حنكه، فانتزع الحسين عليه
السلام السّهم وبسط يده تحت حنكه فامتلأت راحتاه بالدَّم، فرمى
به ثمّ قال: (اللّهمَّ
إنِّي أشكو إليك ما يفعل بابن بنت نبيِّك) ثمّ رجع إلى مكانه وقد اشتدَّ به
العطش. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
استشهاد الإمام الحسين
عليه السلام
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
لم يبقَ مع الإمام الحسين عليه السلام
سوى أخيه العباس الذي تقدم إليه يطلب منه الإذن في قتال القوم فبكى الحسين
وعانقه ثم أذن له فكان يحمل على أهل الكوفة فينهزمون بين يديه كما تنهزم المعزى
من الذئاب الضارية وضجّ أهل الكوفة من كثرة من قتل منهم، ولما قتل قال الحسين عليه السلام: (الآن انكسر
ظهري وقلّت حيلتي وشمت بي عدوّي)( سيرة الأئمة الاثني عشر: 2 / 77، بحار الأنوار: 45 / 440، المنتخب
للطريحي: 431.). وفي رواية أخرى:
أن الإمام الحسين عليه السلام اتجه إلى نهر الفرات وبين يديه أخوه العباس
فاعترضته خيل ابن سعد (لعنه الله) وفيهم رجل من بني دارم فقال لهم: ويلكم حولوا
بينه وبين الفرات ولا تمكّنُوهُ من الماء، فقال الحسين عليه السلام: اللهم
أظمئه، فغضب الدارمي ورماه بسهم فأثبته في حنكه فانتزع الحسين عليه السلام
السهم و بسط يده تحت حنكه فامتلأت راحتاه من الدم فرمى به ثم قال: (اللهم إني
أشكو إليك ما يفعل بابن بنت نبيك)، ثم رجع إلى مكانه وقد اشتد به العطش وأحاط
القوم بالعبّاسعليه السلام فاقتطعوه
عنه فجعل يقاتلهم وحده حتى قتل رحمة الله عليه(الإرشاد: 2 / 109.). ونظر الحسين عليه السلام إلى ما حوله،
ومدّ ببصره إلى أقصى الميدان فلم ير أحداً من أصحابه وأهل بيته إلاّ وهو يسبح
بدم الشهادة، مقطّعَ الأوصال والأعضاء. وهكذا بقي الإمام عليه السلام وحده
يحمل سيف رسول الله صلىاللهعليه وآله و بين جنبيه قلب علي عليه
السلام وبيده راية الحق البيضاء، وعلى لسانه كلمة التقوى. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
الحسين عليه السلام
وحيداً في الميدان:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
حينما التفت أبو عبد الله الحسين عليه السلام
يميناً وشمالاً ولم ير أحداً يذبّ عن حرم رسول الله أخذ ينادي هل من ذابٍّ يذبّ
عنا؟ فخرج الإمام زين العابدينعليه السلام من
الفسطاط وكان مريضاً لا يقدر أن يحمل سيفه وأم كلثوم تنادي خلفه: يا بني ارجع.
فقال: (يا عمّتاه! ذريني أقاتل بين يدي ابن رسول الله صلىاللهعليه وآله). وإذا بالحسين عليه السلام ينادي: (يا
أم كلثوم! خذيه لئلاّ تبقى الأرض خالية من نسل آل محمدصلىاللهعليهوآله)( بحار الأنوار: 45 / 46.). ويقول المؤرخون:
إنه لما رجع الحسين عليه السلام من المسنّاة إلى فسطاطه تقدم إليه شمر بن ذي
الجوشن في جماعة من أصحابه، فأحاطوا به فأسرع منهم رجل يقال له مالك بن النسر
الكندي فشتم الحسين عليه السلام وضربه على رأسه بالسيف وكان عليه قلنسوة فقطعها
حتى وصل إلى رأسه فأدماه فامتلأت القلنسوة دما، فقال له الحسين عليه السلام:
(لا أكلت بيمينك ولا شربت بها وحشرك الله مع القوم الظالمين). ثم ألقى القلنسوة ودعا بخرقة فشدَّ بها
رأسَه واستدعى قلنْسوة أخرى فلبسها واعتمّ عليها، ورجع عنه شمر بن ذي الجوشن ومن
كان معه إلى مواضعهم، فمكث هنيئة ثم عاد وعادوا إليه وأحاطوا به)( الإرشاد: 2 / 110، إعلام الورى: 1 / 467.). حمل الإمام الحسين عليه السلام سيفه
وراح يرفع صوته على عادة الحروب ونظامها في البراز، وراح ينازل فرسانهم، ويواجه
ضرباتهم ببسالة نادرة وشجاعة فذّة، فما برز إليه خصم إلا وركع تحت سيفه ركوع
الذل والهزيمة. قال حميد بن مسلم:
فوالله ما رأيت مكثوراً قط قد قتل ولده وأهل بيته وأصحابه أربط جأشاً ولا أمضى
جناناً منه، أَن كانت الرجّالة لتشدّ عليه فيشدَّ عليها بسيفه فتنكشف عن شماله
انكشاف المعزى إذا شدّ فيها الذئب(الإرشاد: 2 / 111، إعلام الورى: 1 / 468.). ولمّا عجزوا عن مقاتلته، لجأوا إلى
أساليب الجبناء; فقد استدعى شمر الفرسان فصاروا في ظهور الرجّالة، وأمر الرماة
أنْ يرموه فرشقوه بالسهام حتى صار جسمُه كالقنفذ فأحجم عنهم، فوقفوا بإزائه
وخرجت أُخته زينب إلى باب الفسطاط فنادت عمر بن سعد بن أبي وقاص: ويلك يا عمر!
أيقتل أبو عبد الله وأنت تنظر إليه؟! فلم يجبها عمر بشيء، فنادت ويحكم! أما فيكم
مسلم؟ فلم يجبها أحد بشيء. ونادى شمر بن ذي الجوشن الفرسان والرجّالة فقال:
ويحكم! ما تنتظرون بالرجل؟ ثكلتكم أُمهاتكم، فحملوا عليه من كل جانب. فضربه زُرعة بن شريك على كتفه اليسرى
فقطعها، وضربه آخر منهم على عاتقه فكبا منها لوجهه، وطعنه سنان بن أنس النخعي
بالرمح فصرعه، وبدر إليه خُولى بن يزيد الأصبحي فنزل ليحتزّ رأسه فأرعد فقال له
شمر: فتَّ الله في عضدك، ما لك ترعد؟ ونزل شمر إليه فذبحه ثم رفع رأسه إلى خولى
بن يزيد فقال: إحمله إلى الأمير عمر بن سعد. ثم أقبلوا على سلب الحسين عليه السلام
فأخذ قميصه إسحاق بن حَيْوَة الحضرمي، وأخذ سراويله أبجر بن كعب، وأخذ عمامته
أخنس بن مرثد، وأخذ سيفه رجل من بني دارم، وانتهبوا رحله وإبله وأثقاله وسلبوا
نساءه(الإرشاد: 2 / 112، إعلام الورى: 1 / 469.). امتداد
الحمرة في السماء:
ومادت الأرض واسودَّتْ آفاق الكون
وامتدت حمرة رهيبة في السماء كانت نذيراً من الله لأولئك السفّاكين المجرمين
الذين انتهكوا جميع حُرُماتِ الله(راجع كشف الغمة: 2 / 9، سير أعلام النبلاء: 3 / 312، تاريخ الإسلام
للذهبي: 15، حوادث سنة 61، إعلام الورى: 1 / 429.). وصبغ فرس الحسين عليه السلام ناصيته
بدم الإمام الشهيد المظلوم وأقبل يركض مذعوراً نحو خيام الحسين عليه السلام
ليعلم العيال بمقتله واستشهاده، وقد صوّرت زيارة الناحية المقدّسة هذا المشهد المأساوي
كما يلي: (فلما نظرت النساء إلى الجواد مخزياً والسرج عليه ملوياً خرجن من
الخدور ناشرات الشعور، على الخدود لاطمات وللوجوه سافرات وبالعويل داعيات وبعد
العز مذَلَّلات وإلى مصرع الحسين مبادرات). ونادت عقيلة بني هاشم زينب
بنت عليّ بن أبي طالب عليه السلام وهي ثكلى: وا محمداه!
وا أبتاه! وا علياه! وا جعفراه! وا حمزتاه! هذا حسين بالعراء، صريع بكربلاء، ليت
السماء أطبقت على الأرض! وليت الجبال تدكدكت على السهل!!( مقتل الحسين للمقرم: 346.) حرق الخيام
وسلب حرائر النبوة:
وعمد المجرمون اللئام إلى حرق خيام
الإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام غير حافلين بمن في الخيام من بنات
الرسالة وعقائل النبوّة. قال الإمام زين العابدين عليه
السلام: (والله ما نظرت إلى عمّاتي وأخواتي إلاّ وخنقتني العبرة
وتذكّرت فرارهن يوم الطف من خيمة إلى خيمة ومن خباء إلى خباء، ومنادي القوم ينادي:
أحرقوا بيوت الظالمين!)( حياة الإمام الحسين عليه السلام، نقلاً عن تاريخ المظفري: 238.). وعمد أراذل جيش الكوفة إلى سلب حرائر
النبوة وعقائل الرسالة فنهبوا ما عليهن من حليّ وحلل، كما نهبوا ما في الخيام من
متاع. الخيل تدوس
الجثمان الطاهر:
لقد بانت خِسّة الأمويين لكل ذي عينين،
وعبّرت عن مسخ في الوجدان الذي كانوا يحملونه وماتت الإنسانية فتحولت الأجساد
المتحركة إلى وحوش دنيئة لا تملك ذرّة من رحمة ولا يزعها وازع من بقية ضمير
إنساني. فحين حاصرت جيوش الضلالة أهل بيت
النبوة عليهمالسلام في عرصات
كربلاء كتب ابن زياد إلى عمر بن سعد كتاباً وهو يبيّن له ما يستهدفه من نتيجة
للمعركة، وما تنطوي عليه نفسه الشريرة من حقد دفين على الرسالة والرسول صلىاللهعليهوآله،
وكل ما يمتّ إليهما بصلة أو قرابة، وقد جاء فيه ما يلي: أما بعد: فإني لم أبعثك إلى الحسين
لتكفّ عنه، ولا لتطاوله، ولا لتمنّيه السلامة والبقاء، ولا لتعقد له عندي
شافعاً، انظر فإن نزل حسين وأصحابه على الحكم واستسلموا فابعث بهم سلماً، وإن
أبوا فازحف إليهم حتى تقتلهم وتمثّل بهم فإنهم لذلك مستحقّون، فإن قتل الحسين
فأوطئ الخيل صدره وظهره، فإنه عاقّ مشاقّ قاطع ظلوم وليس في هذا أن يضر بعد
الموت شيئاً، ولكن علي قول، لو قد قتلته فعلت هذا به(تاريخ الطبري: 4 / 314، إعلام الورى: 1 / 453.). على أن ابن زياد كان من أعمدة الحكم
الأموي. ولا نعلم أوامر صدرت من أحد أفراده بحيث كانت ترعى حرمة أو تقديراً
لمقام ابن النبي صلىاللهعليه وآله الذي لم يكن خافياً على أحد من الأمويين. وهكذا انبرى ابن سعد بعد مقتل ريحانة
رسول الله صلىاللهعليهوآله
لينفّذ أوامر سيّده الحاقد ابن زياد، فنادى في أصحابه: من ينتدب للحسين فيوطئه
فرسه؟ فانتدب عشرة، فداسوا جسد الحسين عليه
السلام بخيولهم حتى رضّوا ظهره(إعلام الورى: 1 / 470، مقتل الحسين للخوارزمي: 2 / 39.). عقيلة بني
هاشم أمام الجثمان العظيم:
ووقفت حفيدة الرسول صلىاللهعليهوآله
وابنة أمير المؤمنين عليه السلام
العقيلة زينب عليهاالسلام على جثمان
أخيها العظيم، وهي تدعو قائلةً: (اللهم تقبّل هذا القربان)( حياة الإمام الحسين بن علي عليه السلام: 3 / 304.).
إنَّ الإنسانية لتنحني إجلالاً وخضوعاً أمام هذا الإيمان الذي هو السر الوحيد في
خلود تضحية الحسين عليه السلام وأصحابه رضوان الله تعالى عليهم أجمعين. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
الفصل
الثالث: نتائج الثورة الحسينية
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
انبعثت ثورة الإمام الحسين عليه
السلام من ضمير الأمة الحيّ ومن وحي الرسالة الإسلامية المقدسة
ومن البيت الذي انطلقت منه الدعوة الإسلامية للبشرية جمعاء، البيت الذي حمى
الرسالة والرسول ودافع عنهما، حتى استقام عمود الدين. وأحدثت هذه الثورة
المباركة في التأريخ الإنساني عاصفة تقوض الذل والاستسلام وتدك عروش الظالمين،
وأضحت مشعلاً ينير الدرب لكل المخلصين من أجل حياة حرّة كريمة في ظل طاعة الله
تعالى. ولا يمكن لأحد أن يغفل عما تركته هذه
الثورة من آثار في الأيام والسنوات التي تلتها رغم كل التشويه والتشويش الذي
يحاول أن يمنع من سطوع الحقيقة لناشدها. وبالإمكان أن نلحظ بوضوح آثاراً كثيرة
لهذه الثورة العظيمة عبر الأجيال وفي حياة الرسالة الإسلامية بالرغم من أنّا لا
نحيط علماً بجميعها طبعاً. وأهم تلك الآثار هي: |
|||||||||||||||||||||||||||
|
1 - فضح الأمويين وتحطيم الإطار الديني
المزيّف:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
بفعل ثورة الإمام الحسين عليه
السلام تكشفت للناس حقيقة النزعة الأُموية المتسلطة على الحكم،
ونسفت تضحيات الثائرين كل الأطر الدينية المزيّفة وهذا عمرو بن الحجاج الزبيدي - من قادة
الجيش الأموي - يحفّز الناس لمواجهة الإمام الحسين عليه
السلام حين وجد منهم تردّداً وتباطؤاً عن الأوامر قائلاً: يا أهل
الكوفة إلزموا طاعتكم وجماعتكم، ولا ترتابوا في قتل من مرق من الدين، وخالف
الإمام(المصدر السابق: 4 / 331.).
فالدين في دعوى الأمويين طاعة يزيد ومقاتلة الحسين عليه
السلام. ولكن حركة الإمام الحسين عليه
السلام ورفضه البيعة وتضحياته الجليلة نبّهت الأمة، وأوضحت لها
ما طُمس بفعل التضليل. فقد وقف الإمام الحسين عليه
السلام يخاطبهم ويوضّح مكانته في الرسالة والمجتمع الإسلامي:
أمّا بعد فانسبوني، فانظروا من أنا؟ ثم ارجعوا إلى أنفسكم فعاتبوها وانظروا هل
يصلح لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟ ألست ابن بنت نبيكم صلىاللهعليهوآله
وابن وصيه وابن عمه وأول المؤمنين بالله والمصدّق لرسوله بما جاء من عند ربه؟! هذا بالإضافة إلى كل الخطب والمحاورات
التي جرت في وضع متوتّر حسّاس أوضح للناس مكانة طرفي النزاع. ثم ما آلت إليه
نتيجة المعركة من بشاعة في السلوك والفكر فاتضحت خسّة الأمويين ودناءتهم ودجلهم. وكان الأثر البالغ في مواصلة الثورة
الحسينية بدون سلاح دمويّ حين واصلت العقيلة زينب بنت أمير المؤمنين عليه
السلام فضح الجرائم التي ارتكبها بنو أُمية ومن ثم توضيح رسالة
الإمام الحسين عليه السلام. إنّ جميع المسلمين متفقون - على اختلاف
مذاهبهم وآرائهم - بأن الموقف الحسيني كان يمثّل موقفاً إسلامياً شرعياً، وأن
يزيد كان مرتدّاً ومتمردّاً على الإسلام والشرع الإلهي والموازين الدينية. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
2 - إحياء الرسالة الإسلامية:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
لقد كان استشهاد الإمام الحسين عليه
السلام هزّة لضمير الأمة وعامل بعث لإرادتها المتخاذلة وعامل
انتباه مستمر للمنحدر الذي كانت تسير فيه بتوجيه من بني أُمية ومن سبقهم من
الحكّام الذين لم يحرصوا على وصول الإسلام نقيّاً إلى من يليهم من الأجيال. لقد استطاع سبط الرسول صلىاللهعليهوآله
أن يبيّن الموقف النظري والعملي الشرعي للأمة تجاه الانحراف الذي يصيبها حينما
يستبدّ بها الطغاة، فهل انتصر الحسين عليه
السلام في تحقيق هذا الهدف؟ لعلّنا نجد الجواب فيما قاله الإمام
زين العابدينعليه السلام حينما سأله
إبراهيم بن طلحة بن عبد الله قائلاً: من الغالب؟ قال عليه
السلام: (إذا دخل وقت الصلاة فأذّن وأقم تعرف الغالب)( حياة الإمام الحسين بن علي عليهماالسلام: 3 / 440 عن أمالي الشيخ الطوسي.). لقد كان الحسين عليه
السلام هو الغالب إذ تحقق أحد أهم أهدافه السامية بعد محاولات
الجاهلية لإماتته وإخراجه من معترك الحياة. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
3 - الشعور بالإثم وشيوع النقمة على
الأمويين:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
اشتعلت شرارة الشعور بالإثم في نفوس
الناس، وكان يزيدها توهجاً واشتعالاً خطابات الإمام عليّ بن الحسين عليهماالسلام
وزينب بنت عليّ بن أبي طالب وبقية أفراد عائلة النبيّ صلىاللهعليهوآله
التي ساقها الطغاة الأمويون كسبايا من كربلاء إلى الكوفة فالشام. فقد وقفت زينب عليهاالسلام
في أهل الكوفة حين احتشدوا يحدّقون في موكب رؤوس الشهداء والسبايا، ويبكون ندماً
على ما فرّطوا وما حصل لآل النبيّ صلىاللهعليهوآله
فأشارت إليهم أن اسكتوا فسكتوا فقالت: أما بعد: يا أهل الكوفة أتبكون؟ فلا سكنت العبرة
ولا هدأت الرّنة، إنما مثلكم مثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً، تتخذون
أيمانكم دخلاً بينكم ألا ساء ما تزرون، أي والله، فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً،
فلقد ذهبتم بعارها وشنارها فلن ترحضوها بغسل أبداً، وكيف ترحضون قتل سبط خاتم
النبوة، ومعدن الرسالة ومدار حجّتكم، ومنار محجّتكم، وهو سيد شباب أهل الجنّة؟). وتكلم عليّ بن الحسين عليهماالسلام
فقال: أيها الناس! ناشدتكم الله، هل تعلمون
أنكم كتبتم إلى أبي وخدعتموه، وأعطيتموه من أنفسكم العهد والميثاق والبيعة
وقاتلتموه؟ فتباً لكم لما قدمتم لأنفسكم وسوأة لرأيكم، بأي عين تنظرون إلى رسول
الله إذ يقول لكم: قتلتم عترتي، وانتهكتم حرمتي؟ فلستم من أمتي(حياة الإمام الحسين بن علي عليهماالسلام: 3 / 341 عن مثير الأحزان.). وروي أيضاً أن يزيد بن معاوية فرح
فرحاً شديداً وأكرم عبيد الله بن زياد ولكن ما لبث أن ندم ووقع الخلاف بينه وبين
ابن زياد حين علم بحال الناس وسخطهم عليه، ولعنهم وسبّهم(تأريخ الطبري: 4 / 388، تأريخ الخلفاء: 208.). ولقد كان الشعور بالإثم يمثّل موقفاً
عاطفياً مفعماً بالحرارة والحيوية والرغبة الشديدة بالانتقام من الحكم الأموي،
مما دفع بالكثير في الجماعات الإسلامية إلى العمل للتكفير عن موقفهم المتخاذل عن
نصرة الإمام الحسين عليه السلام
بصيغة ثورة مسلحة لمواجهة الحكم الأموي الظالم. صحيح أنه لا يمكننا أن نعتبر موقف
المسلمين هذا موقفاً عقلياً نابعاً من إدراك فساد الحكم الأموي وبعده عن الرسالة
الإسلامية إلاّ أنه كان موقفاً صادقاً يصعب على الحاكمين السيطرة عليه كالسيطرة
على الموقف العقلاني، فكان الحكام الظلمة وعبر مسيرة العداء لأهل البيت النبويعليهمالسلام
يحسبون له ألف حساب. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
4 - إحياء إرادة الأمة وروح الجهاد فيها
:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
للمزيد من التفصيل راجع ثورة
الحسين (النظرية، الموقف، النتائج ) للسيّد محمد باقر الحكيم:100. كانت ثورة الإمام الحسين عليه
السلام السبب في إحياء الإرادة لدى الجماهير المسلمة وانبعاث
الروح النضالية، وهزّة قوية في ضمير الإنسان المسلم الذي ركن إلى الخنوع
والتسليم، عاجزاً عن مواجهة ذاته ومواجهة الحاكم الظالم الذي يعبث بالأمة كيف
يشاء، مؤطّراً تحركه بغطاء ديني يحوكه بالدجل والنفاق، وبأيدي وعاظ السلاطين
أحياناً وأخرى بحذقه ومهارته في المكر والحيلة. فتعلم الإنسان المسلم من ثورة الحسين عليه
السلام أن لا يستسلم ولا يساوم، وأن يصرخ معبّراً عن رأيه ورغبته
في حياة أفضل في ظل حكم يتمتع بالشرعية أو على الأقل برضا الجماهير. ونجد انطلاقات عديدة لثورات على الحكم
الأموي وإن لم يُكتب لها النجاح; إلاّ أنها توالت حتى سقط النظام. ورغم أن
أهدافها كانت متفاوته إلاّ أنها كانت تستلهم من معين ثورة الحسين عليه
السلام أو تستعين بالظرف الذي خلقته. فمن ذلك ثورة التوابين(تاريخ الطبري: 4 / 426، 449.)
التي كانت ردّة فعل مباشرة للثورة الحسينية، وثورة المدينة(المصدر السابق: 4 / 464.)،
وثورة المختار الثقفي(المصدر السابق: 4 / 487.)
الذي تمكن من محاكمة المشاركين في قتل الحسين عليه السلام ومجازاتهم بأفعالهم
الشنيعة وجرائمهم الفضيعة، ثم ثورة مطرف بن المغيرة، وثورة ابن الأشعث، وثورة
زيد بن عليّ ابن الحسين عليهماالسلام(مقاتل الطالبيين: 135.)
وثورة أبي السرايا(المصدر السابق: 523.). لقد أحيت الثورة الحسينية روح الجهاد
وأجّجتها، وبقي النبض الثائر في الأمة حيّاً رغم توالي الفشل اللاحق ببعض تلكم
الثورات. إلاّ أن الأمة الإسلامية أثبتت حيويّتها وتخلّصت من المسخ الذي كاد أن
يطيح بها بأيدي الأمويين أسلافهم. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
الفصل
الرابع: من تراث الإمام الحسين عليه السلام
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
نظرة عامّة في تراث
الإمام الحسين عليه
السلام:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهماالسلام
قائد مبدئي وأحد أعلام الهداية الربّانية الذين اختارهم الله لحفظ دينه وشريعته،
وجعلهم أمناء على تطبيقها، وطهّرهم من كل رجس ليصونوها من أي تحريف أو تحوير. إن المحنة التي عاشها الأئمّة الثلاثة
عليّ والحسن والحسين عليهمالسلام
كانت أكبر محنة للعقيدة والأُمّة; لأنّها قد بدأت بانحراف القيادة عن خط
الرسالة; ولكنها لم تقتصر على الانحراف عن المبدأ الشرعي في ممارسة الحكم فحسب;
وإنما كانت تمتد أبعادها إلى أعماق الأُمة والشريعة. إن هذا الانحراف الخطير قد زاد في
عزيمة هؤلاء الأئمّة الهداة، ممّا جعلهم يهتمون بإحكام قواعد الشريعة في الأمة
وتعليمها وتربيتها بما يحول دون تسرّب الانحراف إليها بسرعة، وبما يحول دون
تفتيتها وتمزيق قواها. ومن هنا كانت تربية الجماعة الصالحة والسهر على تنشئتها
والاهتمام بقضاياها أمراً في غاية الأهمّية، ويظهر للمتتبع والمحقّق عظمة ذلك
فيما لو أراد أن يقارن بين مواقف المسلمين تجاه أهل بيت الرسول صلىاللهعليهوآله
خلال ومن هنا كان التراث الذي تركه لنا كل
من الإمام المرتضى والحسن المجتبى والحسين الشهيد بكربلاء تراثاً عظيماً ومهمّاً
جدّاً. حيث نلمس الغناء في هذه الثروة الفكرية والعلمية التي وصلتنا عنهمعليهمالسلام.
وللمتتبع أن يراجع موسوعة كلمات الإمام الحسين عليه
السلام ووثائق الثورة الحسينية، وبلاغة الحسين ومجموعة خطبه
ورسائله; ليقف على عظمة هذه الثروة الكبرى وقفة متأمل ومستفيد. وها نحن نستعرض صوراً من اهتمامات هذا الإمام العظيم فيما يلي من
بحوث:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
في رحاب العقل والعلم
والمعرفة:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
قال عليه السلام: 1 - خمس من لم تكن فيه لم يكن فيه كثير
مستمتع: العقل والدين والأدب والحياء وحسن الخلق(موسوعة كلمات الإمام الحسين: 743 عن حياة الإمام الحسين: 1 / 181.). 2 - وسُئل عن أشرف الناس، فقال: من
اتّعظ قبل أن يوعَظ واستيقظ قبل أن يوقظ(المصدر السابق: 743 عن إحقاق الحق: 11 / 590.). 3 - وقال عليه
السلام: لا يكملُ العقلُ إلاّ باتّباع الحق(المصدر السابق: 742 عن اعلام الدين: 298. وورد هذا النص عن الإمام علي
عليه السلام أيضاً.). 4 - العاقل لا يحدِّث من يخاف تكذيبَه،
ولا يَسأل من يخاف منعَه ولا يثِقُ بمن يخافُ غدرَه، ولا يرجو مَن لا يوثقُ برجائه(المصدر السابق: 742 عن حياة الإمام الحسين عليه السلام: 1/181.). 5 - العلم لقاحُ المعرفة، وطول التجارب
زيادةٌ في العقل، والشرف التقوى، والقنوعُ راحةُ الأبدان، ومن أحبَّكَ نهاكَ ومن
أبغضك أغراك(موسوعة كلمات الإمام الحسين عليه السلام: 742 و 743 عن بحار الأنوار: 78 / 128،
الحديث 11.). 6 - من دلائل العالم انتقادُه لحديثهِ
وعلمه بحقائق فنونِ النظر(المصدر السابق.). 7 - لو أنّ العالِمَ كلّ ما قال
أحْسَنَ وأصابَ لاَوْشَكَ أن يجنّ من العُجْبِ، وإنّما العالِمُ مَن يكثرُ
صَوابُه. 8 - وفي دعاء عرفةَ للإمام الحسين عليه
السلام مقاطع بديعة ترتبط بالمعرفة البشرية وسُبُل تحصيلها وقيمة
كل سبيل وما ينبغي للعاقل أن يسلكه من السبل الصحيحة والموصلة إلى المقصود، نختار منها نماذج ذات علاقة ببحثنا هذا: قال عليه السلام: أ - إلهي
أنا الفقير في غناي فكيف لا أكون فقيراً في فقري؟ إلهي أنا الجاهل في علمي فكيف
لا أكون جهولاً في جهلي؟.... ب - إلهي
علمتُ باختلاف الآثار وتنقّلات الأطوار أنّ مرادك منّي أن تتعرّف إليَّ في كل
شيء حتى لا أجهلك في شيء.... ج - إلهي
تردّدي في الآثار يوجب بُعد المزار فَاجمعني عليك بحذمة توصلني إليك، كيف
يُستَدلّ عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك؟ أيكونُ لغيرك من الظهور ما ليس لك
حتى يكونَ هو المظهِرَ لك؟! متى غبتَ حتى تحتاج إلى دليل يدلّ عليك؟!. ومتى
بَعُدْتَ حتّى تكونَ الآثار هي التي توصل إليك؟ عميت عين لا تراك عليها رقيباً،
وخسرت صفقة عبد لم تجعل له من حبّك نصيباً. د -
إلهي أمرتَ بالرجوع إلى الآثار فأرجعني إليك بكسوةِ الأنوار وهداية الاستبصار
حتى أرجعَ إليك منها كما دخلتُ إليك منها مَصونَ السرِّ عن النظرِ إلَيْها
ومرفوع الهمّة عن الاعتمادِ عليها. هـ -
منك أطلُبُ الوصول إليك وبك استدلُّ عليك فاهدني بنورك إليك وأقمني بصدْق
العبودّية بين يديك. و -
إلهي علّمني من علمك المخزون وصُنّي بستْرك المصون. إلهي حققّني بحقايق أهلِ
القُرب.... ز -
إلهي أخرِجني من ذُلِّ نفسي وطهّرني مِن شكّي وشركي قبل حلول رمسي. ح -
إلهي إنّ القضاء والقدر يُمنيّني، وإنّ الهوى بوثائق الشهوة اسرني، فكن أنت
النصير لي حتَى تنصرني وتبصرني. ط -
أنتَ الذي أشرقت الأنوار في قلوب أوْليائك حتى عرفوك ووحَّدوك، وأنت الذي أزلت
الأغيار عن قلوب أحبّائك حتّى لم يحبّوا سِواك ولم يلجأوا إلى غيرك، أنت المُؤنس
لهم حيث أوحشتهم العوالم، وأنت الذي هديتهم حيث استبانت لهم المعالم. ماذا وجد
من فقدكَ؟! وما الذي فقد من وجدك؟!. ي -
أنت الذي لا إله غيرك، تعرفت لكلّ شيء فما جهلك شيءٌ، وأنت الذي تعرّفت إليَّ في
كلّ شيء فرأيْتُك ظاهراً في كل شيء... كيف تخفى وأنت الظاهرُ؟ أم كيف تغيبُ وأنت
الرقيبُ الحاضِرُ؟!( موسوعة كلمات الإمام الحسين: 803 - 806 عن إقبال الأعمال: 339.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
في رحاب القرآن
الكريم:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
لقد اعتنى أهل البيت الطاهرون بالقرآن
الكريم اعتناء وافراً فعكفوا على تعليمه وتفسيره وفقه آياته وتطبيقه وصيانته عن
أيدي العابثين والمحرّفين، وتجلّت عنايتهم به في سلوكهم وهديهم وكلامهم. وقد أثرت عن الإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام كلمات جليلة حول التفسير والتأويل
والتطبيق، وهي جديرة بالمطالعة والتأمل نختار نماذج منها: أ -
قال عليه السلام: (كتاب
الله عَزَّ وجَلَّ على أربعة أشياء: على العبارة والإشارة واللطائف والحقائق،
فالعبارةُ للعوام، والإشارة للخواص واللطائفُ للأولياء، والحقائق للأنبياء)( موسوعة كلمات الإمام الحسين: 551 عن جامع الأخبار: 48.). ب -
(من قرأ آيةً من كتاب الله في صلاته قائماً يُكتَب له بكل حرف مِئةُ حَسَنَة،
فإن قَرَأها في غير صلاة كتب اللهُ له بكل حرف عَشْراً، فإن استمَعَ القرآنَ كان
له بكل حرف حَسَنةٌ، وإن خَتَمَ القرآنَ ليلاً صلّت عليه الملائكة حتى يُصبِحَ،
وإن ختَمَه نهاراً صلّت عليه الحفَظَةُ حتى يُمسيَ. وكانت له دعوةٌ مستجابَةٌ
وكان خيراً له ممّا بين السماءِ والأرضِ)( المصدر السابق: 551، عن الكافي: 2 / 611، الحديث 3.). ج -
وعنه عليه السلام في تفسير
قوله تعالى: (تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ) يعني بها
(أرض لم تكتسب عليها الذنوب، بارزة ليست عليها جبال ولا نبات كما دحاها أوّل
مرة)( المصدر السابق: 560 عن تفسير البرهان: 2 / 323.). د -
وسأله رجل عن معنى (كهيعص) فقال له: لو
فسّرتُها لك لمشيت على الماء(المصدر السابق: 561 عن ينابيع المودّة: 484.). هـ -
وقال النصرُ بن مالك له: يا أبا عبد الله حَدِّثني عن قول الله عزَّ وجَلَّ: (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ)، قال: (نحن
وبنو أمية اختصمنا في الله عَزَّ وجَلَّ، قلنا صدق الله، وقالوا: كذب اللهُ،
فنحن وإيّاهم الخصمان يوم القيامة)( المصدر السابق: 563 عن حياة الحسين: 2 / 234.). و -
وفي قوله تعالى: (الَّذِينَ
إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ) قال عليه
السلام: (هذه فينا أهل البيت)( المصدر السابق: 564 عن بحار الأنوار: 24 / 166.). ز -
في قوله تعالى: (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا
الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) قال عليه السلام:
(إن القرابة الّتي أمَرَ اللهُ بصلتها وعظم حقّها وجعل الخير فيها قرابتنا أهل
البيت الذين أوجب حقَّنا على كلّ مسلم)( موسوعة كلمات الإمام الحسين: 565 عن بحار الأنوار: 23 / 251 الحديث
37.). ح -
وفسّر النعمة في قوله تعالى: (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) (بما أنعم
الله على النبيّ صلىاللهعليهوآله
من دينهِ)( المصدر السابق: 567 عن المحاسن: 1 / 344 الحديث 11.). ط -
وفسّر الصَمَد بقوله: إنّ الله قد فَسَّرَهُ بقوله: (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ
كُفُواً أَحَدٌ)( المصدر السابق: 568 عن التوحيد: 90 الحديث 5 ثم نقل تفسيرها بشكل
تفصيلي فراجع.). ي -
وقال: (الصمد: الذي لا جوف له، والصمد: الذي قد انتهى سؤدده، والصمد: الذي لا
يأكل ولا يشرب. والصمد: الذي لا ينام، والصمد: الدائم الذي لم يزل ولا يزال)( المصدر السابق: 569 عن معادن الحكمة: 2 / 51.). ك -
وروي أن عبد الرحمن السلمي علّم ولد الحسين عليه
السلام سورة الحمد، فلمّا قرأها على أبيه أعطاه عليه
السلام ألف دينار وألف حُلّة وحشا فاه دُرّاً، فقيل له في ذلك،
فقال عليه السلام: وأين يقع
هذا من عطائه؟ يعني بذلك تعليمه القرآن(المصدر السابق: 827 عن بحار الأنوار: 44 / 191.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
في رحاب السُنّة
النبويّة المباركة:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
لقد عاصر الحسين جدّه رسول الله صلىاللهعليهوآله
وعاش في كنف الوحي والرسالة وارتضع من ثدي الإيمان، فحمل هموم الرسالة الخاتمة
كأمه وأبيه وأخيه، وعلم أن سنة الرسول وسيرته هي المصدر الثاني للإشعاع الرسالي،
وأيقن بضرورة الاهتمام بهما وضرورة الوقوف أمام مؤامرات التحريف والتضييع، ومنع
التدوين التي تزعّمها جملة من كبار الصحابة وكيف واجهوا جدّه بكل صلف، حذراً من
انكشاف الحقائق التي تحول دون وصولهم للسلطة أو تعكّر عليهم صفوها. ومن هنا نجد الحسين عليه
السلام يقف بكل شجاعة أمام هذا التآمر على الدين، ويضحّي بأغلى
ما لديه من أجل إحياء شريعة جدّه سيد المرسلين، محقّقاً شهادة جدّه الخالدة في
حقّه: (حسين منّي وأنا من حسين)، (ألا وإن الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة). وهكذا نجد في تراثه الرائع اعتناءه
البليغ بنقل السيرة النبوية الشريفة، والتحديث بسنّته والعمل بها وإحيائها، ولو
بلغ مستوى الثورة على من يتسلّح بها لمسخها وتشويهها. قال صلوات الله عليه: 1 - (كان رسول الله صلىاللهعليهوآله
أحسن ما خلق اللهُ خلْقاً)( موسوعة كلمات الإمام الحسين: 571، عن كنز العمّال: 7 / 217.). 2 - وروى الحسين عليه
السلام - كأخيه الحسن وصفاً دقيقاً للرسولصلىاللهعليهوآله
وهديه في سيرته مع نفسه وأهل بيته وأصحابه ومجلسه وجلسائه، أخذاه من أبيهما علي
عليه السلام وهو الذي ربّاه الرسول صلى اللهعليه وآله منذ نعومة أظفاره حتى
التحاقه بالرفيق الأعلى. ونشير إلى مقطع من هذه السيرة. قال الحسين عليه
السلام فسألته عن سكوت رسول الله صلىاللهعليهوآله،
فقال: (كان سكوته على أربع: على الحلم والحذر
والتقدير والتفكّر. فأما التقدير ففي تسوية النظر والاستماع بين الناس، وأمّا
تفكّره ففيما يبقى أو يفنى. وجمع له الحلم في الصبر، فكان لا يغضبه شيء ولا
يستفزّه، وجُمع له الحذر في أربع: أخذه بالحَسَن ليُقتدى به، وتركه القبيح
ليُنتهى عنه، واجتهاده الرأي في صلاح أمته، والقيام في ما جُمع له من خير الدنيا
والآخرة)( موسوعة كلمات الإمام الحسين عليه السلام: 571 - 575 عن مجمع الزوائد: 8 / 274
ومعاني الأخبار: 79.). 3 - وروى أيضاً أن رسول الله صلىاللهعليهوآله
أصبح وهو مهموم، فقيل له: ما لَكَ يا رسول الله؟ فقال: (إني رأيت في المنام كأنّ
بني أُمية يتعاورون منبري هذا). فقيل: يا رسول الله! لا تهتم فإنها دُنيا
تنالهُمُ، فأنزل الله: (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ...)( المصدر السابق: 575 عن الغدير: 8 / 248.). 4 - وروى أيضاً أن النبيّ صلىاللهعليهوآله
كان إذا أكل طعاماً يقول: (اللهم بارك لنا فيه، وارزقنا خيراً منه)، وإذا أكل
لَبَناً أو شَرِبَه يقول: (اللهم بارك لنا فيه وارزقنا منه)( المصدر السابق: 578 عن عيون أخبار الرضا: 2 / 42.).
وكان يرفع يديه إذا ابتهل ودعا يفصل بينهما كما يَستَطْعِمُ المسكينُ(المصدر السابق: عن بحار الأنوار: 16 / 287.). 5 - وسُئل عن الأذان وما يقول الناس
فيه، قال: (الوحي ينزل على نبيّكم، وتزعمون أنّه أخَذَ الأذانَ عن عبد الله بن
زيد؟! بل سمعت أبي عليّ بن أبي طالب عليه السلام يقول: أهبَطَ الله عَزَّ
وجَلََّ ملكاً حين عُرِج برسول الله صلىاللهعليه وآله فأذّن مثنى مثنى،
وأقامَ مثنى مثنى، ثم قال له جبرئيل: يا محمّد هكذا أذان الصلاة)( المصدر السابق: 683 عن مستدرك الوسائل: 4 / 17.). 6 - وروى أن رسول الله صلىاللهعليهوآله
بعث مع عليّ عليه السلام ثلاثين فرساً في غزاة السلاسل فقال: (يا عليّ أتلو
عليك آيةً في نفقة الخيل): (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاًوَعَلَانِيَةً) يا علي هي
النفقة على الخيل ينفق الرجلُ سّراً وعلانيةً)( موسوعة كلمات الإمام الحسين عليه السلام: 710 عن مستدرك الوسائل: 8 / 203.). وقد نقل عليه
السلام حوادث عصر الرسول صلىاللهعليهوآله
ممّا رآه مباشرة أو سمعه عن أمه أو أبيه وهما المعصومان من الزلل والمعتمدان في
النقل(راجع موسوعة كلمات الإمام الحسين وتتبع ما نقله عن رسول الله صلىاللهعليهوآله.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
في رحاب أهل البيت عليهم السلام:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
لقد دلّ حديث الثقلين - المتواتر
والمقبول لدى عامة المسلمين - على أن خلود الإسلام رهن الأخذ بركنين مُتلازمين
وهما: القرآن الكريم وعترة النبيّ المختار صلوات الله عليهم أجمعين فإنّهما لن
يفترقا حتى يردا الحوض على النبيّ صلىاللهعليهوآله.
فلا بد للمسلمين من التمسّك بهما ليصونوا أنفسهم عن الضلال في كل عصر وزمان. ومن هنا جهد أعداء الإسلام القدامى على
التفريق بين هذين الركنين; تارةً بدعوى تحريف القرآن لفظاً أو معنىً، وأخرى
بالمنع عن تفسيره أو تطبيقه، وثالثةً بانتقاص العترة، ورابعةً بعزلهم عن ممارسة
دورهم السياسي والاجتماعي التثقيفي، وخامسةً بطرح البديل عنهم ورفع شعار
الاستغناء عنهم وعن علمهم ودرايتهم. والأئمّة المعصومون المأمونون - على
سلامة الرسالة الإسلامية بنص من الوحي الإلهي - كثّفوا جهودهم وركّزوا جهادهم
على صيانة هذين الأساسين من أيدي العابثين وان كلّفهم ذلك أنفسهم وأموالهم، بل
كل ما يملكون تقديمه فداءً للرسالة المحمّدية. ونشير إلى جملة من النصوص
المأثورة عن الحسين بن علي عليهماالسلام في هذا الصدد: 1 - لما قضى رسول الله صلىاللهعليهوآله
مناسكه من حجة الوداع ركب راحلته وأنشأ يقول: لا يدخل الجنّة إلاّ من كان
مُسلماً. فقام إليه أبو ذرّ الغفاري(رحمه الله) فقال: يا رسول الله: وما
الإسلام؟ فقال صلىاللهعليهوآله:
الإسلام عريان ولباسه التقوى وزينته الحياء وملاكه الورع، وكماله الدين، وثمرته
العمل، ولكلّ شيء أساس وأساس الإسلام حبنّا أهل البيت(موسوعة كلمات الإمام الحسين: 582 عن أمالي الطوسي: 1 / 82.). 2 - وجاء عنه عليه
السلام أنه قال: (من أحبّنا كان منّا أهل البيت). واستدلّ على
ذلك بقوله تعالى تقريراً لقول العبد الصالح: (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي)( المصدر السابق: 582 عن نزهة الناظر وتنبيه الخاطر: 85.).
وواضح أنّ من أحبّهم فسوف يتّبعهم ومن تبعهم كان منهم. 3 - وقال عليه
السلام: (أحِبّونا حُبَّ الإسلام فإنّ رسول الله صلىاللهعليه
وآله قال: لا ترفعوني فوق حقّي; فإن الله تعالى اتخّذني عبداً قبل أن يتخّذني
رسولاً)( المصدر السابق: عن مجمع الزوائد: 9 / 21.). 4 - وقال عليه
السلام: (ما كُنّا نعرفُ المنافقين على عهد رسول الله صلىاللهعليهوآله
إلاّ ببغضهم عليّاً وولده عليهمالسلام)( المصدر السابق: 585 عن عيون أخبار الرضا عليه السلام: 2 / 72.). 5 - وروي أنّ المنذر بن الجارود مرّ بالحسين
عليه السلام فقال: كيف أصبحت جعلني الله فداك - ياابن رسول الله؟ فقال عليه
السلام: (أصبَحَتْ العربُ تعتدّ على العَجَم بأنّ محمّداً منها،
وأصَبَحَتْ العَجَمُ مُقِرَّةً لها بذلك، وأصبَحْنا وأصبَحَتْ قريشٌ يعرفون
فضلَنا ولا يَرَوْنَ ذلكَ لنا، ومن البلاء على هذِهِ الأمةِ أنّا إذا دعوناهُم
لم يُجيبونا وإذا تركناهم لم يهتدوا بغيرِنا)( المصدر السابق: 586 عن نزهة الناظر: 85.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
بشائر الحسين عليه السلام
بالمهدي عليه السلام
ودولته:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
تراكمت البشائر النبويّة حول غيبة
الإمام المهدي المنتظر وظهوره وخصائص دولته وأوصافه ونسبه الشريف، كما توضح
الصحاح والمسانيد هذه الحقيقة في أبواب الملاحم والفتن وأشراط الساعة وغيرها. واعتنى الأئمة من أهل البيت عليهمالسلام
بهذه القضية اعتناء لا يقل عن عناية الرسول الخاتم صلىاللهعليهوآله
واستمراراً للخط الذي اختطّه والمنهج الذي سلكه في التمهيد لدولة الحق التي
تتكفل تحقيق آمال الأنبياء والأوصياء جميعاً وعلى مدى التاريخ. وقد كثرت النصوص الواصلة
إلينا عن أبي الأئمّة التسعة من ولد الحسين عليه السلام. فروى عن جدّه رسول الله صلىاللهعليه
وآله وعن أبيه أمير المؤمنين عليه السلام مجموعة فريدة من التصريحات المهمّة
بشأن المهدي عليه السلام
نختار نماذج منها: 1 - قال عليه
السلام: دخلت على جدّي رسول الله صلىاللهعليهوآله
فأجلسني على فخذه وقال لي: إنّ الله اختار من صُلبك يا حسين تسعة أئمة تاسعهم
قائمهم، وكلّهم في الفضل والمنزلة عند الله سواء(موسوعة كلمات الإمام الحسين: 659 عن ينابيع المودّة: 590.). 2 - وسأله شعيب بن أبي حمزة قائلاً:
أنت صاحبُ هذا الأمر؟ فأجابه: لا، فقال له: فمن هو؟ فأجاب عليه
السلام: (الذي يملؤها عدلاً كما مُلئِت جَوْراً، على فترة من
الأئمّة تأتي، كما أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله
بُعِث على فترة من الرسل)( المصدر السابق: 660 عن عقد الدرر: 158.). 3 - وقال عليه
السلام: لصاحب هذا الأمر غيبتان إحداهما تطول حتى يقول بعضهم: مات وبعضهم: قتِل، وبعضهم: ذهب، ولا
يطّلعُ على موضعه أحدٌ مِن وليّ ولا غيرهِ إلاّ المولى الذي يلي أمره(موسوعة كلمات الإمام الحسين: عن عقد الدرر: 134.). 4 - وقال عليه
السلام: لو لم يبق من الدنيا إلاّ يوم واحد لطوَّلَ الله عَزَّ
وجَلَّ ذلك اليوم حتى يخرجَ رجلٌ من ولدي فيملأها عدلاً وقسطاً كما مُلئِت جوراً
وظُلماً، كذلك سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآله
يقول(المصدر السابق: 661 عن كمال الدين: 317.). 5 - وقال عليه
السلام: للمهدي خمسُ علامات: السفياني واليماني والصيحةُ من
السماء والخسفُ بالبيداء وقتل النفسِ الزكيّة(المصدر السابق: 662 عن عقد الدرر: 111.). 6 - وقال عليه
السلام أيضاً: (لو قام المهديّ لأنكره الناس; لأنّه يرجع إليهم
شابّاً موفّقاً، وإنّ من أعظم البليّة أن يخرج اليهم صاحبُهم شابّاً وهم
يحسبونَه شيخاً كبيراً)( المصدر السابق: 665 عن عقد الدرر: 41.). 7 - وقال عليه
السلام: (في التاسع من ولدي سُنّة من يوسف وسنّة من موسى بن
عمران عليه السلام وهو قائمنا
أهل البيت، يُصلح الله تبارك وتعالى أمرَه في ليلة واحدة)( المصدر السابق عن كمال الدين: 317.). 8 - وقال عليه
السلام: (إذا خرج المهدي عليه
السلام لم يكن بينه وبين العرب وقريش إلاّ السيف، وما يستعجلون
بخروج المهديّ؟ والله ما لباسُه إلاّ الغليظُ ولا طعامه إلاّ الشعيرُ، وما هو
إلاّ السيفُ، والموتُ تحت ظِلِّ السَيْفِ)( المصدر السابق: 663 عن عقد الدرر: 228.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
في رحاب العقيدة
والكلام:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
ونختار من هذه البحوث نماذج
ممّا وصلنا عن أبي الشهداء الحسين بن عليّ عليهماالسلام. 1 - ومما قاله عن توحيد الله
سبحانه:... ولا يقدّر الواصِفون كنه عظمته، ولا يخطر على القلوبِ مبلَغَ جبروته;
لأنه ليس له في الأشياء عديل، ولا تدركه العلماء بألبابها ولا أهل التفكير
بتفكيرهم إلاّ بالتحقيق إيقاناً بالغيبِ; لأنه لا يوصَفُ بشيء من صفات المخلوقين
وهو الواحد الصمدُ، ما تُصُوِّر في الأوهامِ فَهُوَ خلافُه... يوجِدُ المفقودَ
ويُفقِدُ الموْجُودَ، ولا تجتمع لغيره الصفتانِ في وقت، يصيب الفكرُ منه
الإيمانَ به موجوداً، ووجودَ الإيمانِ لا وجودَ صِفَة، به توصف الصفاتُ لا بها
يوصَفُ، وبه تُعرَفُ المعارِفُ لا بها يُعرَف، فذلك الله، لا سَميَّ لَهُ، سبحانه
ليس كمثلِهِ شيء، وهو السميعُ البصيرُ(موسوعة كلمة الإمام الحسين: 530 عن تحف العقول: 173.). ومما قاله أيضاً لابن الأزرق: أصف إلهي
بما وصف به نفسَه وأُعرِّفُه بما عرّف به نفسَه، (لا يُدْرَك بالحواس ولا يُقاس
بالناسِ، فهو قريبٌ غير ملتصِق، وبعيدٌ غير مُتَقَصّ (تقص) يُوَحَّدُ ولا
يُبَعَّضُ، مَعروف بالآيات موصوف بالعلاماتِ، لا إله إلاّ هو الكبير المتعالُ(المصدر السابق: 533 عن التوحيد: 79.). 2 - وخرج على أصحابه فقال: (أيّها
الناسُ! إنّ اللهَ جَلَّ ذكرهُ ما خَلَقَ العباد إلاّ ليعرفوهُ، فإذا عرفوه
عبدوه، فإذا عبدوه استغنَوْا بعبادته عن عبادة ما سواهُ. ثم سأله رجل عن معرفة
الله فقال: معرفةُ أهل كلّ زمان إمامَهُم الذي يجب عليهم طاعَتُه)( المصدر السابق: 540 عن علل الشرايع: 9.). 3 - وتكلّم عن ملاك التكليف قائلاً:
(ما أخَذَ الله طاقة أحد إلاّ وضع عنه طاعتَه، ولا أخذ قدرته إلاّ وضع عنهُ
كُلْفَتَه)( موسوعة كلمات الإمام الحسين: 542 عن تحف العقول: 175.). 4 - وكتب للحسن بن أبي الحسن البصري
جواباً عن سؤاله حول القدر: إنّه من لم يؤمن بالقدر خيرِه وشرِّه فقد كفر، ومن
حمل المعاصي على الله عَزَّ وجَلَّ فقد افترى على الله افتراءً عظيماً، إنّ الله
تبارك وتعالى لا يُطاع بإكراه ولا يُعصى بغَلَبَة ولا يُهملُ العبادَ في الهلكة،
لكنّه المالك لما ملّكهم، والقادرُ لما عليه أقدَرَهُم، فإن ائتمروا بالطاعة; لم
يكن الله صادّاً عنها مُبطِئاً، وإن ائتمروا بالمعصية فشاء أن يمن عليهم فيحولَ
بينهَم وبين ما ائتمروا به فعل، وإن لم يفعل فليس هو حَمَلَهم عليها قسراً ولا
كلّفهم جبراً، بل بتمكينهِ إيّاهم بعد إعذاره وإنذاره لهم واحتجاجه عليهم
طوّقَهُم ومكّنهم وجعل لهم السبيل إلى أخذ ما إليه دعاهم وترك ما عنه نهاهم...( المصدر السابق: 540 - 541 عن معادن الحكمة: 2 / 45.). 5 - واشتملت أدعيته عليه
السلام على دُرر باهرة في التوحيد والمعرفة والهداية الإلهية ولا
سيَّما دعاء العشرات المرويّ عنه(البلد الأمين للكفعمي: 24.)،
ودعاء عرفة الذي عُرِف به; لِما يسطع به من معارف زاخرة وعلوم جمّة، بل هو دورة
عقائدية كاملة. وإليك مطلعه: (الحمد لله الذي ليس لقضائه دافع ولا
لعطائه مانعٌ ولا كصنعه صنعُ صانِع، وهو الجوادُ الواسِعُ، فَطَر أجناسَ
البدائعِ وأتقنَ بحكمتِهِ الصنائعَ، لا تخفى عليه الطلائعُ ولا تضيع عنده
الودائعُ، أتى بالكتابِ الجامعِ و (بشرع الإسلام) النور الساطعِ وهو للخليقة
صانعٌ وهو المستعانُ على الفجائِع...)( موسوعة كلمات الإمام الحسين: 793 - 806 عن إقبال الأعمال: 339.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
في رحاب الأخلاق
والتربية الروحية:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
1 - سُئل عن خير الدنيا والآخرة فكتب عليه
السلام: بسم الله الرحمن الرحيم، أمّا بعدُ: فإنه من طلب رضى
الله بسخط الناس كفاه الله أُمور الناس، ومن طلب رضى الناس بسخط الله وكله الله
إلى الناس. والسلام(أمالي الصدوق: 167.). 2 - بيّن عليه
السلام أقسام العبادة ودرجات العُبّاد قائلاً: إنّ قوماً عبدوا
الله رغبةً فتلك عبادة التجّار، وإنّ قوماً عبدوا الله رهبةً فتلك عبادةُ
العبيد، وإنّ قوماً عبدوا اللهَ شُكراً فتلك عبادةُ الأحرار، وهي أفضل العبادة(تحف العقول: 175.). 3 - قال عليه
السلام عن آثار العبادة الحقيقية: (من عَبَدَ الله حقَّ عبادته
آتاه الله فوق أمانيه وكفايتهِ)( بحار الأنوار: 71 / 184.). 4 - سُئل عن معنى الأدب فقال: (هو أن
تخرج من بيتك فلا تَلقى أحداً إلاّ رأيت له الفضلَ عليك)( ديوان الإمام الحسين: 199.). 5 - قال الإمام الحسين عليه
السلام: (مالُك إن يكن لك كنتَ له فلا تبق عليه; فإنّه لا يُبقي
عليك، وكلُه قبل أن يأكلك)( بحار الأنوار: 71 / 357.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
في رحاب مواعظه الجليلة:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
1 - كتب إليه رجل: عِظني بحرفين فكتب إليه:
(مَن حاوَل أمراً بمعصية الله تعالى كانَ أفْوَتَ لما يَرجو وأسْرَعَ لمجي ما
يحذَرُ)( الكافي: 2 / 373.). 2 - وجاءه رجل فقال له: أنا رجل عاص
ولا أصبر عن المعصية فعظني بموعظة فقال عليه
السلام: (إفعل خمسةَ أشياءَ واذنب ما شئتَ، فأوّل ذلك: لا تأكل
رزقَ اللهِ وأذنب ما شئِتَ، والثاني: اخرج من ولاية الله وأذنب ما شئت. والثالث:
اطلُبْ موضِعاً لا يراكَ اللهُ وأذنب ما شِئتَ. والرابع: إذا جاء ملَكُ الموتِ
ليقبِضَ روحَكَ فادفَعْهُ عن نفسِكَ وأذنب ما شئتَ، والخامِسُ: إذا أدخَلَكَ
مالك النارِ فلا تدخُلْ في النارِ وأذنب ما شئتَ(بحار الأنوار: 78 / 126.). 3 - ومما جاء عنه عليه
السلام في الموعظة: ياابن آدمَ! تفكَّرْ وقل: أينَ ملوكُ الدنيا
وأربابُها؟ الذين عَمّروا واحتفَروا أنهارها وغَرَسوا أشجارها ومدّنوا
مدائِنَها، فارقوها وهم كارهون وورثها قوم آخرون، ونحن بهم عمّا قليل لاحقونَ.
ياابن آدم! اُذكر مصرعك، وفي قبرك مضجعَك وموقفَك بين يَدَي اللهِ تشهَدُ
جوارحُكَ عليكَ يوم تَزِلُّ فيه الأقدامُ وتبلغُ القلوبُ الحناجِرَ وتبيضّ وجوهٌ
وتسوَدُّ وجوهٌ وتبدو السرائرُ، ويوضَعُ الميزانُ القِسط. ياابن آدمَ! اذكُر
مصارعَ آبائك وأبنائك كيف كانوا وحيثُ حَلّوا وكأنّك عن قليل قد حَلَلْتَ
مَحَلَّهُم وصِرتَ عِبرَةً للمعتَبِر(إرشاد القلوب: 1 / 29.). 4 - وخطب عليه
السلام فقال: يا أيّها الناسُ! نافسِوا في المكارم، وسارِعوا في
المغانِم، ولا تحتسِبوا بمعروف لم تُعجّلوا، واكسبوا الحمدَ بالنُجح، ولا
تكتسِبوا بالمطلِ ذَمّاً، فمهما يكنْ لأحد عند أحد صنيعةٌ له رأى أنّه لا يقومُ
بشكرِها; فالله له بمكافاتهِ فإنّه أجْزَلُ عطاءً وأعظمُ أجراً. واعلموا أن
حوائج الناس إليكم من نعم الله عليكم، فلا تملّوا النعم فتُحوّر نقماً(كشف الغمة: 2 / 29.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
في رحاب الفقه
والأحكام الشرعية:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
لقد أثبت أهل البيت المعصومون جدارتهم
للمرجعية الدينية بعد رسول الله صلىاللهعليه وآله في المجالين العلمي
والسياسيّ معاً. وقد عمل خطّ الخلافة بشكل مدروس على
حذف هذا الخطّ النبوي وعزله عن الساحة السياسية والاجتماعية، وخطّط أهل البيت
عليهم السلام لمواجهة هذه المؤامرة، كما عرفت. غير أنّ البُعْد العلمي قد برز وطغى
على البعد السياسي حتى اتُّهِمَ أهل البيت عليهم السلام باعتزالهم الساحة
السياسية بعد الحسين عليه السلام ولكن العجز العلمي للخطّ الحاكم بالرغم من كل
ما أوتي من إمكانات ماديّة وبشرية هو الذي قد بانَ على مدى التاريخ، وتميّزت
مرجعيّة الأئمة الأطهار على من سواها من المرجعيات السائدة آنذاك. وكانت حاجة
الأمة الإسلامية إلى تفاصيل الأحكام الشرعية نظراً للمستجدات المستمرّة هي السبب
الآخر في ظهور علم أهل البيت عليهم السلام وفضلهم وكمالهم. وما سجّلته كتب التاريخ من حقائق لا
تخفى على اللبيب مثل حقيقة عدم عجزهم أمام الأسئلة المثارة، وعدم اكتسابهم العلم
من أحد من أهل الفضل سوى الرسول صلى اللهعليه وآله وأهل بيته المعصومينعليهمالسلام
لدليل واضح على تميّزهم عمّن سواهم. وهنا نختار نماذج مما يرتبط
بالفقه بمعناه المصطلح بمقدار ما يسمح به المجال. 1 - ممّا يرتبط بباب الصلاة، ذكر
الإمام محمّد الباقر عليه السلام
جواز الصلاة بثوب واحد مستشهداً بأنه قد حدّثه من رأى الحسين بن عليّ عليهماالسلام وهو يصلّي في ثوب واحد وحدّثه أنه رأى
رسول الله صلىاللهعليهوآله
يُصلّي في ثوب واحد(دعائم الإسلام: 1 / 175.). 2 - وجاء أن الأئمّة عليهمالسلام
كانوا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم فيما يجهر فيه بالقراءة من الصلوات في
أوّل فاتحة الكتاب وأوّل السورة في كل ركعة. وجاء عن الحسين عليه
السلام قوله: اجتمعنا ولد فاطمة عليهاالسلام
على ذلك(مستدرك الوسائل: 4 / 189.). 3 - وكان الحسين بن عليّ عليهماالسلام
يصلي فمرّ بين يديه رجل، فنهاه بعض جلسائه، فلما انصرف من صلاته قال له: لِمَ
نَهَيْتَ الرَجُلَ؟ فقال: ياابن رسول الله! خطر فيما بينك وبين المحراب، فقال عليه
السلام: ويحك إنّ الله عَزَّ وجَلَّ أقربُ إليَّ من أن يخطرَ
فيما بيني وبين أحد(وسائل الشيعة: 3 / 434 الحديث 4.). 4 - وكان الحسين عليه
السلام جالساً فمرّت عليه جنازةٌ فقام الناسُ حين طلعت الجنازة،
وهنا أوضح الإمام عليه السلام
للناس ما تصوّروه خطأً من أن القيام عند مرور الجنازة من السنّة باعتبار ما
سمعوه من قيام رسول الله عند مرور الجنازة. فقال الحسين بن عليّ عليهماالسلام:
مرَّت جنازة يهوديّ فكان رسول الله صلىاللهعليهوآله
على طريقها جالساً فكره أن تعلو رأسَه جنازةُ يهوديّ فقامَ لِذلك(الكافي: 3 / 192.). وقد أحصى مؤلّف موسوعة كلمات الإمام
الحسين عليه السلام ما يقارب
من مائتين وخمسين رواية في الأحكام الشرعية وردت عن الإمام الحسين عليه
السلام في مختلف أبواب الفقه الإسلامي. على أن سيرة الإمام الحسين عليه السلام
مثل سيرة سائر الأئمّة الأطهار تعتبر مصدراً من مصادر استلهام الأحكام الشرعية
لتنظيم السلوك الفردي والاجتماعي للإنسان المسلم وللمجتمع الإسلامي. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
في رحاب أدعية الإمام
الحسين عليه
السلام:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
لقد تميّز تراث أهل البيت عليهمالسلام بظاهرة الدعاء تميّزاً فريداً في جانبي
الكمّ والكيف معاً. فالاهتمام بالدعاء في جميع الحالات
والظروف التي يمرّ بها الإنسان في الحياة كما قال تعالى: (قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا
دُعَاؤُكُمْ)( الفرقان (25): 77.)
هو المظهر الذي ميّز سلوك أهل البيت عمّن سواهم، وعلى ذلك ساروا في تربيتهم لشيعتهم. والمسلمون بشكل عام يلمسون هذه الظاهرة
بوضوح في موسم الحج وغيره من مواسم العبادة عند أتباع أهل البيت عليهم السلام
وشيعتهم. وتفرّدت أدعية أهل البيت عليهم السلام
في المحتوى والمقاصد والمعاني التي اشتملت عليها أدعيتهم; فإنّها تُفصح بوضوح عن
البون الشاسع بينهم وبين غيرهم فأين الثرى وأين الثريّا؟ وتدلّنا بعض النصوص المأثورة
عن الإمام الحسين عليه السلام
على سر هذا الاهتمام البليغ منهم بالدعاء. 1 - قال عليه
السلام: أعجز الناس من عجز عن الدعاء، وأبخل الناس من بخل
بالسلام(بحار الأنوار: 93 / 294.). 2 - وجاء عنه أنه كان يدعو في قنوت
الوتر بالدعاء الذي علّمه رسول الله صلىاللهعليهوآله
وهو: اللهم إنك تَرى ولا تُرى وأنت بالمنظر الأعلى وإنّ إليك الرجعى وإنّ لك
الآخرة والأولى، اللهم إنّا نعوذ بك من أن نَذِلّ ونخزى(كنز العمال: 8 / 82، ومسند الإمام أحمد: 1 / 201.). 3 - من الأدعية القصيرة المأثورة عنه
قوله عليه السلام: (اللهم لا
تستدرِجني بالإحسانِ ولا تؤدِّبني بالبلاء)( بحار الأنوار: 78 / 128.). وقال في معنى الاستدراج: الاستدراج من
الله لعبده أن يُسبغ عليه النِعَمَ ويَسْلُبَه الشُكرَ(تحف العقول: 175.). 4 - ومن أدعيته في قنوته: (اللهمّ مَن
آوى إلى مأوى فأنتَ مأوايَ، ومن لجأ إلى مَلجَأ فأنتَ مَلجايَ اللهم صلّ على
محمّد وآلِ محمّد واسمع ندائي وأجب دُعائي واجعل مآبي عندك ومثوايَ، واحرُسني في
بَلواي من افتتانِ الامتحان ولُمَّةِ الشيطانِ بعظمتك التي لا يشوبُها وَلَعُ نفس
بِتَفتين، ولا واردُ طيف بتظنين ولا يلُمُّ بها فَرَجٌ حتى تقلبني إليك بإرادتك
غير ظنين ولا مظنون ولا مُراب ولا مُرتاب، إنّك أنت أرحمُ الراحِمينَ)( نهج الدعوات: 49.). 5 - وله دعاء آخر كان يدعو به في قنوته
هو: (اللهم منك البدءُ ولك المشيئةُ ولك الحولُ ولك القوّةُ، وأنت اللهُ الذي لا
إله إلاّ أنتَ جَعَلْتَ قلوبَ أوليائك مسكناً لمَشِيّتِكَ ومكمَناً لإرادتكَ،
وجَعَلتَ عُقولَهُم مَناصِبَ أوامِركَ ونواهيكَ فأنتَ إذا شِئت ما نشاءُ حرّكتَ
مِن أسرارهم كوامِن ما أبطَنْتَ فيهم، وأبَدأتَ من إرادتك على ألسنتِهِم ما أفهَمْتَهُم
به عنكَ في عقودِهم بعقول تدعوك وتدعو إليك بحقائقِ ما مَنَحتَهُم به، وإنّي
لأعلَمُ ممّا علّمتني ممّا أنت المشكورُ على ما منه أريتني وإليه آوَيتني). 6 - وله دعاء يُسمّى بـ (العشرات). 7 - وله دعاء كان يدعو به حين كان يمسك
الركن اليماني ويناجي ربّه هو: إلهي أنعمتني فلم تجدني شاكراً وأبليتني فلم
تجدني صابراً، فلا أنت سلَبْتَ النعمة بترك الشكر، ولا أدَمْتَ الشدّةَ بترك
الصبرِ إلهي ما يكونُ من الكريمِ إلاّ الكرَمُ(إحقاق الحق: 11 / 595.). 8 - وروي أن شريحاً دخل مسجد الرسول صلىاللهعليهوآله
فوجد الحسين عليه السلام في المسجد ساجداً يعفِّر خدّه على التراب وهو يقول:
(سيّدي ومولاي ألِمقامِعِ الحديد خَلَقْتَ أعضائي؟ أم لِشُربِ الحميمِ خَلَقْتَ
أمعائي؟ إلهي لئن طالبتني بذنوبي لأُطالبنّك بكرمك، ولئن حَبَستني مع الخاطئينَ
لأخبِرنَّهُم بحُبّي لك، سيّدي! إن طاعَتي لا تنفعُك، وَمعصيتي لا تضرّك، فهب لي
ما لا ينفعُك واغفر لي ما لا يضرّك فإنك أرحم الراحمين)( المصدر السابق: 11 / 424.). 9 - وكان من دعائه إذا دخل المقابِرَ: اللّهم
ربَّ هذه الأرواح الفانيةِ والأجساد البالية، والعِظامِ النَخِرةِ التي خرجتْ من
الدنيا وهي بك مؤمنة أدخِل عليهم رَوْحاً منك وسلاماً مِنّي، وقال عليه السلام:
إذا دعا أحد بهذا الدعاء كتب الله له بعدد الخلق من لدن آدم إلى أن تقوم الساعةُ
حسنات(مستدرك الوسائل: 2 / 373 الحديث 2323.). 10 - ومن دعائه في الصباح والمساء
قوله: (بسم الله الرحمن الرحيم، بسم الله وبالله ومن الله وإلى الله وفي سبيل
الله وعلى ملّة رسول الله وتوكّلت على الله ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العليّ
العظيم. اللهم إني أسلمْتُ نفسي إليك ووجّهت وجهي إليك وفوّضت أمري إليك، إياك
أسألُ العافية من كل سوء في الدنيا والآخرة، اللهم إنك تكفيني من كلّ أحد ولا
يكفيني أحد منك فاكفني من كلّ أحد ما أخاف وأحذرُ، واجعل لي من أمري فرجاً
ومخرجاً إنك تعلمُ ولا أعلم وتقدرُ، ولا أقدِر، وأنت على كل شيء قدير برحمتك يا
أرحم الراحمين)( مهج الدعوات: 157.). وأمّا دعاء عرفة المرويّ عن الإمام
الحسين عليه السلام فهو من غرر
الأدعية المطوّلة والتي تستدرّ الرحمة الإلهية بما تمليه على الإنسان من أسباب
الإنابة والتوبة وشموخ المعرفة، وقد أشرنا إلى مقاطع منه في بحوث سابقة. وإليك مقطعاً آخر من هذا الدعاء: (الحمد لله الّذي لم يتّخذ ولداً فيكون
موروثاً، ولم يكن له شريك في الملك فيضادّه فيما ابتدع، ولا وليّ من الذلّ
فيرفده فيما صنع، سبحانه سبحانه سبحانه لو كان فيهما آلهة إلاّ الله لفسدتا
وتفطرتا، فسبحان الله الواحد الحقّ الأحد الصمد الّذي لم يلد ولم يولد ولم يكن
له كفواً أحد، الحمد لله حمداً يعدل حمد ملائكته المقرّبين، وأنبيائه المرسلين،
وصلّى الله على خيرته من خلقه محمّد خاتم النبّيّين وآله الطّاهرين المخلصين،
اللّهمَّ اجعلني أخشاك كأنّي أراك، وأسعدني بتقواك، ولا تشقني بمعصيتك، وخر لي
في قضائك، وبارك لي في قدرك حتّى لا أحب تعجيل ما أخّرت، ولا تأخير ما عجّلت)( بحار الأنوار: 98 / 218 - 219.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
في رحاب أدب الإمام
الحسين عليه
السلام:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
لا ريب في أن الإمام الحسين عليه السلام
يعدّ امتداداً لجدّه وأبيه وأخيه من حيث المعرفة ومن حيث الاقتدار الفني في
التعبير. وقد جاء على لسان خصومهم (أنهم أهل بيت قد زقّوا العلم زَقّاً)، و(أنها
ألسِنَةُ بني هاشم التي تفلق الصخر وتغرف من البحر)( المجالس السنية: 21، 28، 30.). وعلّق عمر بن سعد يوم عاشوراء على خطبة
للإمام الحسين عليه السلام: (إنّه ابن
أبيه، ولو وقف فيكم هكذا يوماً جديداً، لما انقطع ولما حُصِر)( المجالس السنية: 21، 28، 30.). وقال أصحاب المقاتل عن كلماته وخطبه في
كربلاء ويوم عاشوراء أنه لم يُسمع متكلّم قطّ قبله ولا بعده أبلغ في منطقه من الحسين
عليه السلام(المجالس السنية: 21، 28، 30.). وبالرغم من قصر المدّة الزمنيّة
لإمامته وعدم إتاحة الفرصة السياسيّة التي تفرض صياغة الخطب عادةً بخاصّة أنّه عليه
السلام التزم بالهدنة التي عقدها أخوهعليه
السلام في زمن معاوية، فقد اُثر عنه عليه
السلام في ميدان الخطبة وغيرها أكثر من نموذج فضلاً عن أنه عليه
السلام في زمن أبيه عليه
السلام قد ساهم في خطب المشاورة والحرب(راجع حياة الإمام الحسين في عهد أبيه، في هذا الكتاب.)،
وحشَد فيها كل السمات الفنّية التي تتناسب والغرض الذي استهدف توصيله إلى
الجمهور(تاريخ الأدب العربي في ضوء المنهج الإسلامي: 307 - 311.). وأمّا خطب المعركة التي خاضها في الطف
أو كربلاء، حيث فجّرت هذه المناسبة عشرات الخطب منذ بدايتها إلى نهايتها، فقد تنوّعت
صياغةً ومضموناً، وتضمّنت التذكير بكتبهم التي أرسلوها إليه وبطاعة الله وبنصرته
وبالتخليّ عن قتاله. وممّا جاء في أحدها: (تبّاً لكم أيّتها الجماعة وتَرَحاً،
أحين استصرختمونا والهِين، فأصرخناكم موجِفين مؤدّين مستعدّين سَلَلْتُم علينا
سيفاً لنا في أيْمانِكم وحششتُم علينا ناراً قدحناها على عدوّكم وعدوّنا فأصبحتم
إلبْاً على أوليائكم ويداً عليهم لأعدائكم بغيرِ عدل أفشوه فيكُم ولا أمل أصبح
لكم فيهم إلاّ الحرام من الدنيا أنالوكم وخسيس عيش طمعتم فيه...). واحتشدت هذه الخطبة بعناصر الفن
المتنوعة بالإضافة إلى عنصرَي المحاكمة والعاطفة. وبمقدور المتذوّق الفني الصرف
أن يلحظ ما تتضمّنه من دهشة فنّية مثيرة كل الإثارة(تاريخ الأدب العربي في ضوء المنهج الإسلامي: 311 - 303.). والأشكال الأدبيّة الأخرى التي طرقها
أدب الإمام الحسين عليه السلام هي
الرسائل والخواطر والمقالة والأدعية والشعر(للاطلاع التفصيلي على خصائص كل شكل في أدب الحسين عليه السلام راجع تاريخ الأدب العربي في ضوء المنهج
الإسلامي للدكتور محمود البستاني.)
والحديث الفني. ونشير إلى نموذجين من شعره
بما يتناسب مع المجال هنا: - 1 -
عن ديوان الإمام الحسين: 4 / 115. - 2 -
(4) عن البداية والنهاية: 8 / 228. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
||||||||||||||||||||||||||||
|
|
أعلام الهداية
الإمام الحسين سيد الشهداء (صلوات الله عليه)
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
أعلام الهداية الإمام الحسين سيد الشهداء عليه
السلام المجمع العالمي لأهل البيت عليهمالسلام قم المقدسة |
|||||||||||||||||||||||||||
|
أهل البيت في القرآن الكريم (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ
الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) الأحزاب:
33 / 33 |
|||||||||||||||||||||||||||
|
أهل البيت في السنة النبويّة (إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي
أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبد) (الصحاح والمسانيد) |
|||||||||||||||||||||||||||
|
||||||||||||||||||||||||||||
|
كلمة
المجمع العالمي لأهل البيت عليهمالسلام... الباب الأول: الفصل الأول: الإمام الحسين عليه
السلام في سطور... الفصل الثاني: انطباعات عن شخصيته عليه
السلام... الفصل الثالث: مظاهر من شخصيته عليه
السلام... الباب الثاني: الفصل الأول: نشأة الإمام الحسين عليه
السلام... الفصل الثاني: مراحل حياة الإمام الحسين
عليه السلام... الفصل الثالث: الإمام الحسين عليه
السلام من الولادة إلى الإمامة... الباب الثالث: الفصل الأول: عصر الإمام الحسين عليه
السلام... الفصل الثاني: مواقف وإنجازات الإمام عليه
السلام... الفصل
الثالث: نتائج الثورة الحسينية... الفصل الرابع: من تراث الإمام الحسين عليه
السلام... |
|||||||||||||||||||||||||||
|
المقدمة
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
الحمد لله الذي أعطى كلّ شيء خلقه ثم
هدى، ثم الصلاة والسلام على من اختارهم هداةً لعباده، لا سيَّما خاتم الأنبياء
وسيّد الرسل والأصفياء أبو القاسم المصطفى محمد صلىاللهعليهوآله
وعلى آله الميامين النجباء. لقد خلق الله الإنسان وزوّده بعنصري
العقل والإرادة، فبالعقل يبصر ويكتشف الحقّ ويميّزه عن الباطل، وبالإرادة يختار
ما يراه صالحاً له ومحقّقاً لأغراضه وأهدافه. وقد جعل الله العقل المميِّز حجةً له
على خلقه، وأعانه بما أفاض على العقول من معين هدايته؛ فإنّه هو الذي علّم
الإنسان ما لم يعلم، وأرشده إلى طريق كماله اللائق به، وعرّفه الغاية التي خلقه
من أجلها، وجاء به إلى هذه الحياة الدنيا من أجل تحقيقها. وأوضح القرآن الحكيم بنصوصه الصريحة
معالم الهداية الربّانية وآفاقها ومستلزماتها وطرقها، كما بيّن لنا عللها
وأسبابها من جهة، وأسفر عن ثمارها ونتائجها من جهة أخرى. قال تعالى: (قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى)(الأنعام (6):
71). (وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلى صِرَاطٍ
مُسْتَقِيمٍ)(البقرة
(2): 213). (وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي
السَّبِيلَ)(الأحزاب
(33): 4). (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إلى
صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)(آل
عمران (3): 101). (قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي
إلى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى
فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ)(يونس
(10): 35). (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي
أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إلى صِرَاطِ الْعَزِيزِ
الْحَمِيدِ)(سبأ
(34): 6). (ومن أضلّ ممن اتّبع هواه بغير هدىً من الله)(القصص
(28):50). فالله تعالى هو مصدر الهداية. وهدايته
هي الهداية الحقيقية، وهو الذي يأخذ بيد الإنسان إلى الصراط المستقيم وإلى الحقّ
القويم. وهذه الحقائق يؤيدها العلم ويدركها
العلماء ويخضعون لها بملء وجودهم. ولقد أودع الله في فطرة الإنسان النزوع
إلى الكمال والجمال ثمّ مَنّ عليه بإرشاده إلى الكمال اللائق به، وأسبغ عليه
نعمة التعرّف على طريق الكمال، ومن هنا قال تعالى: (وما خلقتُ الجنَّ والإنسَ إلاّ ليعبدونِ)(الذاريات
(51): 56). وحيث لا تتحقّق العبادة الحقيقية من دون المعرفة، كانت المعرفة
والعبادة طريقاً منحصراً وهدفاً وغايةً موصلةً إلى قمّة الكمال. وبعد أن زوّد الله الإنسان بطاقتي
الغضب والشهوة ليحقّق له وقود الحركة نحو الكمال; لم يؤمَن عليه من سيطرة الغضب
والشهوة; والهوى الناشئ منهما، والملازم لهما فمن هنا احتاج الإنسان - بالإضافة
إلى عقله وسائر ومن هنا اقتضت سُنّة الهداية الربّانية
أن يُسند عقل الإنسان عن طريق الوحي الإلهي، ومن خلال الهداة الذين اختارهم الله
لتولِّي مسؤولية هداية العباد وذلك عن طريق توفير تفاصيل المعرفة وإعطاء
الإرشادات اللازمة لكلّ مرافق الحياة. وقد حمل الأنبياء وأوصياؤهم مشعل
الهداية الربّانية منذ فجر التاريخ وعلى مدى العصور والقرون، ولم يترك الله
عباده مهملين دون حجة هادية وعلم مرشد ونور مُضيء، كما أفصحت نصوص الوحي -
مؤيّدةً لدلائل العقل - بأنّ الأرض لا تخلو من حجة لله على خلقه، لئلاّ يكون
للناس على الله حجّة، فالحجّة قبل الخلق ومع الخلق وبعد الخلق، ولو لم يبق في
الأرض إلاّ اثنان لكان أحدهما الحجّة، وصرّح القرآن - بشكل لا يقبل الريب - قائلاً: (إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ)(الرعد (13):
7). ويتولّى أنبياء الله ورسله
وأوصياؤهم الهداة المهديّون مهمّة الهداية بجميع مراتبها، والتي تتلخّص في: 1 - تلقِّي الوحي بشكل كامل واستيعاب
الرسالة الإلهية بصورة دقيقة. وهذه المرحلة تتطلّب الاستعداد التام لتلقّي
الرسالة، ومن هنا يكون الاصطفاء الإلهي لرسله شأناً من شؤونه، كما أفصح بذلك
الذكر الحكيم قائلاً: (اللَّهُ
أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ)(الأنعام (6):
124) و(اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ)(آل عمران
(3): 179). 2 - إبلاغ الرسالة الإلهية إلى البشرية
ولمن أرسلوا إليه، ويتوقّف الإبلاغ على الكفاءة التامّة التي تتمثّل في
(الاستيعاب والإحاطة اللازمة) بتفاصيل الرسالة وأهدافها ومتطلّباتها، و (العصمة)
عن الخطأ والانحراف معاً، قال تعالى: (كَانَ
النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ
وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ
النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ)(البقرة
(2): 213). 3 - تكوين اُمة مؤمنة بالرسالة الإلهية،
وإعدادها لدعم القيادة الهادية من أجل تحقيق أهدافها وتطبيق قوانينها في الحياة،
وقد صرّحت آيات الذكر الحكيم بهذه المهمّة مستخدمةً عنواني التزكية والتعليم،
قال تعالى: (يُزَكِّيهِمْ
وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ)(الجمعة(62):
2) والتزكية هي التربية باتجاه الكمال اللائق بالإنسان. وتتطلّب التربية القدوة الصالحة
التي تتمتّع بكلّ عناصر الكمال، كما قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ
حَسَنَةٌ)(الأحزاب(33):
21). 4 - صيانة الرسالة من الزيغ والتحريف
والضياع في الفترة المقرّرة لها، وهذه المهمة أيضاً تتطلّب الكفاءة العلمية
والنفسية، والتي تسمّى بالعصمة. 5 - العمل لتحقيق أهداف الرسالة المعنوية
وتثبيت القيم الأخلاقية في نفوس الأفراد وأركان المجتمعات البشرية وذلك بتنفيذ
الأطروحة الربّانية، وتطبيق قوانين الدين الحنيف على المجتمع البشري من خلال
تأسيس كيان سياسيٍّ يتولّى إدارة شؤون الأمة على أساس الرسالة الربّانية
للبشرية، ويتطلّب التنفيذ قيادةً حكيمةً، وشجاعةً فائقةً، وثباتاً كبيراً،
ومعرفةً تامةً بالنفوس وبطبقات المجتمع والتيارات الفكرية والسياسية والاجتماعية
وقوانين الإدارة والتربية وسنن الحياة، ونلخّصها في الكفاءة العلمية لإدارة دولة
عالمية دينية، هذا فضلاً عن العصمة التي تعبّر عن الكفاءة النفسية التي تصون
القيادة الدينية من كلّ سلوك منحرف أو عمل خاطئ بإمكانه أن يؤثّر تأثيراً
سلبيّاً على مسيرة القيادة وانقياد الأمة لها بحيث يتنافى مع أهداف الرسالة
وأغراضها. وقد سلك الأنبياء السابقون وأوصياؤهم المصطفون
طريق الهداية الدامي، واقتحموا سبيل التربية الشاقّ، وتحمّلوا في سبيل أداء
المهامّ الرسالية كلّ صعب، وقدّموا في سبيل تحقيق أهداف الرسالات الإلهية كلّ ما
يمكن أن يقدّمه الإنسان المتفاني في مبدئه وعقيدته، ولم يتراجعوا لحظة، ولم
يتلكّأوا طرفة عين. وقد توّج الله جهودهم وجهادهم المستمرّ
على مدى العصور برسالة خاتم الأنبياء محمد بن عبد الله صلىاللهعليهوآله
وحمّله الأمانة الكبرى ومسؤولية الهداية بجميع مراتبها، طالباً منه تحقيق
أهدافها. وقد خطا الرسول الأعظم صلىاللهعليهوآله
في هذا الطريق الوعر خطوات مدهشة، وحقّق
في أقصر فترة زمنية أكبر نتاج ممكن في حساب الدعوات التغييرية والرسالات
الثورية، وكانت حصيلة جهاده وكدحه ليل نهار خلال عقدين من الزمن ما يلي: 1 - تقديم رسالة كاملة للبشرية تحتوي على
عناصر الديمومة والبقاء. 2 - تزويدها بعناصر تصونها من الزيغ
والانحراف. 3 - تكوين اُمة مسلمة تؤمن بالإسلام مبدأً،
وبالرسول قائداً، وبالشريعة قانوناً للحياة. 4 - تأسيس دولة إسلامية وكيان سياسيٍّ يحمل
لواء الإسلام ويطبّق شريعة السماء. 5 - تقديم الوجه المشرق للقيادة الربّانية
الحكيمة المتمثّلة في قيادته صلىاللهعليهوآله. ولتحقيق أهداف الرسالة بشكل
كامل كان من الضروري: أ -
أن تستمرّ القيادة الكفوءة في تطبيق الرسالة وصيانتها من أيدي العابثين الذين
يتربّصون بها الدوائر. ب -
أن تستمرّ عملية التربية الصحيحة باستمرار الأجيال; على يد مربٍّ كفوء علمياً
ونفسياً حيث يكون قدوة حسنة في الخلق والسلوك كالرسول صلىاللهعليهوآله،
يستوعب الرسالة ويجسّدها في كل حركاته وسكناته. ومن هنا كان التخطيط الإلهيّ يحتّم على
الرسول صلىاللهعليهوآله
إعداد الصفوة من أهل بيته، والتصريح بأسمائهم وأدوارهم; لتسلّم مقاليد الحركة
النبويّة العظيمة والهداية الربّانية الخالدة بأمر من الله سبحانه وصيانة
للرسالة الإلهية التي كتب الله لها الخلود من تحريف الجاهلين وكيد الخائنين،
وتربية للأجيال على قيم ومفاهيم الشريعة المباركة التي تولّوا تبيين معالمها
وكشف أسرارها وذخائرها على مرّ العصور، وحتى يرث الله الأرض ومن عليها. وتجلّى هذا التخطيط الربّاني في ما نصّ
عليه الرسول صلىاللهعليهوآله
بقوله: (إنّي تارك فيكم الثقلين ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا: كتاب الله
وعترتي، وإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض). وكان أئمة أهل البيت صلوات الله عليهم
خير من عرّفهم النبي الأكرم صلىاللهعليهوآله
بأمر من الله تعالى لقيادة الأمة من بعده. إنّ سيرة الأئمّة الاثني عشر من أهل
البيت عليهمالسلام تمثّل
المسيرة الواقعية للإسلام بعد عصر الرسول صلىاللهعليهوآله،
ودراسة حياتهم بشكل مستوعب تكشف لنا عن صورة مستوعبة لحركة الإسلام الأصيل الذي
أخذ يشقّ طريقه إلى أعماق الأمة بعد أن أخذت طاقتها الحرارية تتضاءل بعد وفاة
الرسول صلىاللهعليهوآله، فأخذ الأئمة المعصومون عليهمالسلام
يعملون على توعية الأمة وتحريك طاقتها باتجاه إيجاد وتصعيد الوعي الرساليِّ
للشريعة ولحركة الرسول صلىاللهعليهوآله
وثورته المباركة، غير خارجين عن مسار السنن الكونية التي تتحكّم في سلوك القيادة
والأمة جمعاء. وتبلورت حياة الأئمّة الراشدين في
استمرارهم على نهج الرسول العظيم وانفتاح الأمة عليهم والتفاعل معهم كأعلام
للهداية ومصابيح لإنارة الدرب للسالكين المؤمنين بقيادتهم، فكانوا هم الأدلاّء
على الله وعلى مرضاته، والمستقرّين في أمر الله، والتامّين في محبّته، والذائبين
في الشوق إليه، والسابقين إلى تسلّق قمم الكمال الإنسانيّ المنشود. وقد حفلت حياتهم بأنواع الجهاد والصبر
على طاعة الله وتحمّل جفاء أهل الجفاء حتّى ضربوا أعلى أمثلة الصمود لتنفيذ
أحكام الله تعالى، ثم اختاروا الشهادة مع العزّ على الحياة مع الذلّ، حتى فازوا
بلقاء الله سبحانه بعد كفاح عظيم وجهاد كبير. ولا يستطيع المؤرّخون والكتّاب أن
يلمّوا بجميع زوايا حياتهم العطرة ويدّعوا دراستها بشكل كامل، ومن هنا فإنّ
محاولتنا هذه إنّما هي إعطاء قبسات من حياتهم، ولقطات من سيرتهم وسلوكهم
ومواقفهم التي دوّنها المؤرّخون واستطعنا اكتشافها من خلال مصادر الدراسة
والتحقيق، عسى الله أن ينفع بها إنّه وليّ التوفيق. إنّ دراستنا لحركة أهل البيت عليهمالسلام
الرسالية تبدأ برسول الإسلام وخاتم الأنبياء محمد بن عبد الله صلىاللهعليهوآله
وتنتهي بخاتم الأوصياء، محمد بن الحسن العسكري المهدي المنتظر عجّل الله تعالى
فرجه وأنار الأرض بعدله. ويختصّ هذا الكتاب بدراسة
حياة الإمام الحسين بن علي عليه السلام،
وهو المعصوم الخامس من أعلام الهداية، والثالث من الأئمة الاثني عشر بعد رسول
الله صلىاللهعليهوآله الذي
روَّى بدمه الطاهر ودماء أهل بيته وأصحابه الأبرار شجرة الإسلام العظيمة وصانها
من الذبول والانهيار فكان - كما أخبر عنه المصطفى صلىاللهعليهوآله
-: (مصباح الهدى وسفينة النجاة) لأمة جده صلىاللهعليهوآله
من الطغاة والظالمين. ولا بدَّ لنا من تقديم الشكر إلى كل
الإخوة الأعزّاء الذين بذلوا جهداً وافراً وشاركوا في إنجاز هذا المشروع المبارك
وإخراجه إلى عالم النور، لا سيَّما أعضاء لجنة
التأليف بإشراف سماحة السيد منذر الحكيم (حفظه الله تعالى). ولا يسعنا إلاّ أن نبتهل إلى الله
تعالى بالدعاء والشكر لتوفيقه على إنجاز هذه الموسوعة المباركة فإنه حسبنا ونعم
النصير. للمجمع العالمي لأهل البيت عليهم
السلام - قم المقدسة |
|||||||||||||||||||||||||||
|
الباب
الأول
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
فيه فصول: الفصل الأول: الإمام الحسين عليه
السلام في سطور. الفصل الثاني: انطباعات عن شخصيته عليه
السلام. الفصل الثالث: مظاهر من شخصيته عليه السلام. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
الفصل
الأول: الإمام الحسين الشهيد عليه السلام في سطور
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
* - الإمام أبو عبد الله الحسين بن عليّ بن
أبي طالب عليهماالسلام الشهيد
بكربلاء، ثالث أئمّة أهل البيت بعد رسول الله صلىاللهعليه وآله وسيّد شباب
أهل الجنة بإجماع المحدّثين، وأحد اثنين نسلت منهما ذرية الرسول صلىاللهعليهوآله
وأحد الأربعة الذين بأهل بهم رسول الله صلىاللهعليهوآله
نصارى نجران، ومن أصحاب الكساء الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، ومن
القربى الذين أمر الله بمودّتهم، وأحد الثقلين اللذين من تمسّك بهما نجا ومن
تخلّف عنهما ضلّ وغوى. * - نشأ الحسين مع أخيه الحسن
عليهماالسلام في أحضان طاهرة وحجور طيّبة ومباركة أُمّاً وأباً
وجدّاً، فتغذى من صافي معين جدّه المصطفى صلىاللهعليهوآله
وعظيم خلقه ووابل عطفه، وحظي بوافر حنانه ورعايته حتى أنّه ورّثه أدبه وهديه
وسؤدده وشجاعته، ممّا أهّله للإمامة الكبرى التي كانت تنتظره بعد إمامة أبيه
المرتضى وأخيه المجتبى عليهمالسلام وقد
صرّح بإمامته للمسلمين في أكثر من موقف بقولهصلىاللهعليهوآله:
(الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا)، (اللّهمّ إنّي أحبهما فأحب من يحبّهما). * - لقد التقى في هذا الإمام العظيم رافدا
النبوّة والإمامة، واجتمع فيه * - لقد كان الحسين بن علي عليهماالسلام
كأبيه المرتضى وأخيه المجتبى في جميع مراحل حياته ومواقفه العملية مثالاً
للإنسان الرسالي الكامل، وتجسيداً حيّاً للخلق النبويّ الرفيع في الصبر على
الأذى في ذات اللّه، والسماحة والجود والرحمة والشجاعة وإباء الضيم والعرفان
والتعبّد والخشية لله والتواضع للحقّ والثورة على الباطل، ورمزاً شامخاً للبطولة
والجهاد في سبيل الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأُسوة مثلى للإيثار
والتضحية لإحياء المُثل العليا التي اجتمعت في شريعة جدّه سيّد المرسلين، حتّى
قال عنه جدّه المصطفى صلىاللهعليهوآله: (حسين منّي وأنا من حسين) معبّراً
بذلك أبلغ التعبير عن سموّ هذه الشخصية العظيمة التي ولدها صلىاللهعليهوآله
وربّاها بيديه الكريمتين. * - بقي الحسين بن علىّ عليهما السلام بعد
جدّه في رعاية الصدّيقة الزهراء سيّدة النساء فاطمة عليهاالسلام
وفي كنف أبيه المرتضى سيّد الوصيّين وإمام المسلمين الذي عاش محنة الانحراف في
قيادة الأمة المسلمة بعد وفاة رسول الله صلىاللهعليه وآله وقد حفّت بأبيه
وأُمّه نكبات هذه المحنة والصراع مع الذين صادروا هذه الإمامة الكبرى بكل صلف
ودون حجّة أو برهان... لقد عاش الحسين * - شبَّ الإمام أبو عبد الله الحسين أيّام
خلافة عمر، وانصرف مع أبيه وأخيه عن السياسة والتصدي للحكم في ظاهر الأمر، وأقبل
على تثقيف الناس وتعليمهم معالم دينهم في خطّ الرسالة الصحيح، والذي كان يتمثّل
في سلوك والده عليّ بن أبي طالب عليه السلام ومواقفه المبدئية المشرّفة. * - وقف الإمام الحسين عليه السلام إلى
جانب أبيه عليه السلام في عهد عثمان، وهو في عنفوان شبابه يعمل مخلصاً لأجل
الإسلام، ويشترك مع أبيه في وضع حدّ للفساد الذي أخذ يستشري في جسم الأمة
والدولة معاً في ظلّ حكم عثمان وبطانته، ولم يتعدّ مواقف أبيه عليه السلام طيلة
هذه الفترة; بل عمل كجندي مخلص للقيادة الشرعية التي أناطها رسول الله صلىاللهعليهوآله
بأبيه المرتضى عليه السلام. * - وفي عهد الدولة العلوية المباركة وقف
الحسين إلى جانب أبيه عليهماالسلام
في جميع مواقفه وحروبه، ولم يتوانَ عن قتال الناكثين والقاسطين والمارقين، بينما
كان أبوه حريصاً على حياته وحياة أخيه الحسن عليه السلام خشية انقطاع نسل رسول الله صلىاللهعليهوآله
بموتهما، وبقيا إلى جانب أبيهما حتى آخر لحظة، وهما يعانيان من أهل العراق ما
كان يعانيه أبوهما المرتضىعليه السلام
حتّى استشهد في بيت من بيوت الله، وفاز بالشهادة وهو في محراب العبادة بمسجد
الكوفة، وفي أقدس لحظات حياته، أعني لحظة العبادة والتوجه إلى ربّ الكعبة، حيث
خرّ صريعاً وهو يقول: (فزتُ وربِّ الكعبة). * - ثمّ وقف إلى جانب أخيه الحسن المجتبى عليهماالسلام
بعد أن بايعه بالخلافة كما بايعه عامّة المسلمين في الكوفة من المهاجرين
والأنصار والتابعين لهم بإحسان، ولم يتعدّ مواقف أخيه الذي نصّ على إمامته كلّ
من جدّه وأبيه عليهماالسلام بالرغم من
كلّ المغريات التي كان يستعملها معاوية لإسقاط الإمام الحسن عليه السلام وتفتيت قواه والقضاء على حكومته المشروعة. * - لقد كان الحسين عليه السلام يعي مواقف
أخيه الحسن عليه السلام بشكل تامّ
والنتائج المترتّبة على تلك المواقف، لأنّه كان يدرك حراجة الظرف الذي كان يكتنف
الأمة الإسلامية آنذاك وبعد استشهاد الإمام علىّعليه
السلام بشكل خاص، حيث انطلت ألاعيب معاوية وشعاراته الزائفة على
جماعة كبيرة من السذّج والبسطاء، ممّن كانوا يشكّلون القاعدة العظمى في مجتمع
الكوفة ومركز الخلافة الإسلامية، فأصبحوا يشكّون ويشكّكون في حقّانية خطّ الإمام
عليّ ابن أبي طالب عليه السلام بعد ذلك التضليل الإعلامي الذي قام به معاوية
وبطانته وعمّاله في صفوف الجيش المساند للإمام عليه
السلام، ولم يستطع الإمام الحسن عليه السلام بكلّ ما أوتي من حنكة سياسية وشجاعة أدبية
ورصانة منطقية أن يقنع تلك القاعدة الشعبية، ويوقفها على زيف الشعارات الأُموية
في عدم صحّة الخضوع لشعار السلم الذي كان قد تسلّح به معاوية لنيل الخلافة بأبخس
الأثمان، ممّا اضطرّ الإمام الحسن عليه السلام للإقدام على الصلح من موقع القوة بعد أن
نفَّذَ جميع الخطط السياسية الممكنة، وبعد أن سلك جميع الطرق المعقولة التي
ينبغي للقائد المحنّك أن يسلكها في تلك الظروف السياسية والاجتماعية والنفسية
التي كان يعيشها الإمام الحسن عليه السلام وشيعته، فتنازل عن الخلافة، إلا انه لم يوقّع
على شرعيّة حاكميّة معاوية بالإضافة إلى أنّه قد اشترط شروطاً موضوعيةً تفضح
واقع معاوية والحكم الأموي على المدى القريب أو البعيد. * - وهكذا أفلح الإمام الحسن عليه السلام بعد أن اختار الطريق الصعب، وتحمّل ما تحمّل
من الأذى والمكروه من أقرب أفراد شيعته فضلاً عن أعدائه، حيث استطاع أن يكشف حقيقة
الحكم الأموي الجاهلي الذي ارتدى لباس الإسلام ورفع شعار الصلح والسلم، ليقضي
على الإسلام باسم الإسلام وبمن ينتسب إلى قريش قبيلة الرسول صلى اللهعليه وآله
بعد أن خطّط بشكل حاذق خطّةً يتناسى المسلمون بسببها أنّ آل أبي سفيان الذين
يتربّعون اليوم على كرسي الحكم الإسلامي، ويحكمون المسلمين باسم الرسول صلى اللهعليه
وآله وخلافته هم الذين حاربوا الإسلام بالأمس القريب. * - وبهذا هيّأ الإمام الحسن عليه السلام - بتوقيعه على وثيقة الصلح - الأرضية اللازمة
للثورة على الحكم الأموي الجاهليّ الذي ظهر بمظهر الإسلام من جديد، وذلك بعد أن
أخلف معاوية كلّ الشروط التي اشترطها عليه الإمام الحسن عليه السلام بما فيها عدم تعيين أحد للخلافة من بعده، وعدم
التعرّض لشيعة عليّ وللإمام الحسن والحسين عليهماالسلام بمكروه. ولم يستطع معاوية أن يتمالك نفسه أمام
هذه الشروط حتى سوّلت له نفسه أن يدسّ السمّ الفاتك إلى الإمام الحسن عليه السلام
ليستطيع توريث الخلافة لابنه الفاسق
يزيد.. ولكنّه لم يعِ نتائج هذا التنكّر للشروط ولنتائج هذه المؤامرة القذرة...
وقد أيقن المسلمون - بعد مرور عقدين من الحكم الأموي - بشراسة هذا الحكم
وجاهليّته، ممّا جعل القواعد الشعبية الشيعية تستعدّ لخوض معركة جديدة ضدّ
النظام الحاكم، وبذلك تهيّأت الظروف الملائمة للثورة، واكتملت الشروط اللازمة
بموت معاوية ومجيء يزيد الفاسق شارب الخمور والمستهتر بأحكام الدين إلى سدّة
الحكم، والإقدام على أخذ البيعة من وجوه الصحابة وعامّة التابعين، والإصرار على
أخذها من مثل أبيّ الضيم أبي عبد الله الحسين عليه السلام سيّد أهل الإباء
وإمام المسلمين. * - لقد حكم معاوية بن أبي سفيان ما يقارب
عشرين سنة متّبعاً سياسة التجويع
والإرهاب والخداع والتزوير، ممّا أدّى إلى انكشاف حقيقته للأمة من جهة، في حين
أنّها كانت قد ابتليت بداء موت الضمير وداء فقدان الإرادة من جهة اُخرى، وهكذا
استيقظت الأمة من سباتها وزال شكّها بحقّانية خطّ أهل البيت عليهم السلام، بعد
أن ارتفع جهلها بحقيقة الأمويين، ولكنّها لم تقوَ على مقارعة الظلم والظالمين،
وأصبحت كما قال الفرزدق للإمام الحسين عليه السلام حين كان متوجّهاً إلى العراق
ومستجيباً لدعوة الكوفيين: قلوبهم معك وسيوفهم عليك. ومن هنا تأكّد الموقف الشرعي للإمام الحسين
عليه السلام بعد أن توفّرت كلّ الظروف اللازمة للقيام في وجه الأمويين
الجاهليّين، بينما لم تكن النهضة مفيدة للأمة في حالة الابتلاء بمرض الشكّ
والترديد التي كانت تعاني منه في عصر الإمام الحسن السبطعليه
السلام. لقد تمّت الحجّة على الإمام الحسين بن علىّ عليهما
السلام حينما راسله أهل العراق وطلبوا منه التوجّه نحوهم، بعد أن أخرجوا عامل
بني أمية من الكوفة وتمرّدوا على الأمويين حيث كان هذا أحد مظاهر رجوع الوعي إلى
عامّة شيعة أهل البيت عليهم السلام. فاستجاب الإمام الحسين عليه السلام
لطلبهم، وتحرّك نحوهم بالرغم من علمه بعدم ثباتهم وضعف إرادتهم أمام إغراءات
الحاكمين واضطهادهم وإرهابهم، وذلك لأنّه كان لابد له من معالجة هذا المرض
الجديد الذى يؤدّي باستشرائه إلى ضياع معالم الرسالة وفسح المجال لتحويل الخلافة
إلى كسرويّة وقيصريّة، وإعطاء المشروعية لمثل حكم يزيد وأضرابه من الجاهليّين
الذين تستّروا بستار الشريعة الإسلامية لضرب الشريعة وتمزيقها. * - وبعد أن استجمعت ثورة الإمام الحسين
عليه السلام كلّ الشروط اللازمة |
|||||||||||||||||||||||||||
|
الفصل
الثاني: انطباعات عن شخصية الإمام الحسين عليه السلام
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
1 - مكانة الإمام الحسين عليه السلام
في آيات الذكر الحكيم:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
لم تتّفق كلمة المسلمين في شيء
كاتّفاقهم على فضل أهل البيت عليهمالسلام
وعلوّ مقامهم العلمي والروحي، وانطوائهم على مجموعة الكمالات التي أراد الله
للإنسانية أن تتحلى بها. ويعود هذا الاتّفاق إلى جملةٍ من
الأصول، منها تصريح الذكر الحكيم بالموقع الخاص لأهل البيت عليهمالسلام
من خلال التنصيص على تطهيرهم من الرجس، وأنّهم القربى الذين تجب مودّتهم كأجر للرسالة
التي أتحف الله بها الإنسانية جمعاء، وأنّهم الأبرار الذين أخلصوا الطاعة لله
وخافوا عذاب الله وتجلببوا بخشيته، فضمن لهم الجنّة والنجاة من عذابه. والإمام الحسين عليه
السلام هو من أهل البيت عليهمالسلام
المطهّرين من الرجس بلا ريب، بل هو ابن رسول الله بنصّ آية المباهلة التي جاءت
في حادثة المباهلة مع نصارى نجران. وقد خلّد القرآن الكريم هذا الحدث بمداليله
العميقة في قوله تعالى: (فَمَنْ حَاجّكَ فِيهِ مِن بَعْدِمَا
جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وروى جمهور المحدّثين بطرق مستفيضة
أنّها نزلت في أهل البيت، وهم: رسول الله وعليّ وفاطمة والحسن والحسين، كما
صرّحوا على أنّ الأبناء هنا هما الحسنان بلا ريب. وتضمّنت هذه الحادثة تصريحاً من الرسول
بأنّهم خير أهل الأرض وأكرمهم على الله، ولهذا فهو يباهل بهم، واعترف أسقف نجران
بذلك أيضاً قائلاً: (أرى وجوهاً لو سأل الله بها أحد أن يزيل جبلاً من مكانه
لأزاله)( نور الأبصار: 100، وراجع تفسير: الجلالين وروح البيان والكشّاف
والبيضاوي والرازي، وصحيح الترمذي: 2 / 166، وسنن البيهقي: 7 / 63، وصحيح مسلم:
كتاب فضائل الصحابة، ومسند أحمد: 1 / 85، ومصابيح السنة: 2 / 201.). وهكذا دلّت القصة كما دلّت الآية على
عظيم منزلتهم وسموّ مكانتهم وأفضليّتهم، وأنّهم أحبّ الخلق إلى الله ورسوله،
وأنّهم لا يدانيهم في فضلهم أحد من العالمين. ولم ينصّ القرآن الكريم على عصمة
أحد غير النبيّ من المسلمين سوى أهل البيت عليهم السلام الذين أراد الله أن
يطهّرهم من الرجس تطهيراً(كما نصّت على ذلك الآية 33 من سورة الأحزاب. ).
ولئن اختلف المسلمون في دخول نساء النبيّ في مفهوم أهل البيت; فإنّهم لم يختلفوا
قط في دخول عليّ والزهراء والحسنَيْن عليهمالسلام
في ما تقصده الآية المباركة (راجع التفسير الكبير للفخر الرازي وتفسير النيسابوري، وصحيح مسلم: 2
/ 33 وخصائص النسائي: 4، ومسند أحمد: 4 / 107، وسنن البيهقي: 2 / 150، ومشكل
الآثار: 1 / 334، ومستدرك الحاكم: 2 / 416، واُسد الغابة: 5 / 521. ومن هنا نستطيع أن نفهم السرّ الكامن
في وجوب مودّتهم والالتزام بخطّهم وترجيح حبّهم على حبّ من سواهم بنص الكتاب
العزيز((1) قال تعالى في سورة الشورى الآية 23 مخاطباً رسوله الكريم: (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي
الْقُرْبَى). وقال في سورة سبأ: (مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ).). فإنّ عصمة أهل البيت عليهمالسلام
أدلّ دليل على أنّ النجاة في متابعتهم حينما تتشعّب الطرق وتختلف الأهواء، فمن
عصمه الله من الرجس وكان دالاًّ على النجاة كان متّبعه ناجياً من الغرق. ونصّ النبي صلىاللهعليه وآله - كما
عن ابن عباس - بأنّ آية المودّة في القربى حينما نزلت وسأله بعض المسلمين عن
المقصود من القرابة التي أوجبت على المسلمين طاعتهم بقوله: إنّهم عليّ وفاطمة
وابناهما(راجع التفسير الكبير، وتفسير الطبري، والدر المنثور في تفسير آية
المودّة.). ولا يتركنا القرآن الحكيم حتّى يبيّن
لنا أسباب هذا التفضيل في سورة (الدهر) التي نزلت لبيان عظمة الواقع النفسي الذي
انطوى عليه أهل البيت عليهمالسلام
والإخلاص الذي تقترن به طاعتهم وعباداتهم بقوله تعالى: (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا
نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُوراً * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا
يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ
وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً
وَحَرِيراً)( الإنسان (76): 9 - 12.). لقد روى جمهور المفسّرين والمحدّثين
أنّ هذه السورة المباركة نزلت في أهل البيت بعد ما مرض الحسنان، ونذر الإمام
صيام ثلاثة أيام شكراً لله إن برئا، فوفوا بنذرهم أيّما وفاء، إنّه وفاءٌ جسَّد
أروع أنواع الإيثار حتّى نزل قوله تعالى: (إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ
مِزَاجُهَا كَافُوراً * عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا
تَفْجِيراً * يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ
مُسْتَطِيراً)( الإنسان (76): 5 - 7.)
فشكر الله سعيهم على هذا الإيثار والوفاء بما أورثهم في الآخرة وبما حباهم من
الإمامة للمسلمين في الدنيا حتّى يرث الأرض ومن عليها. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
2 - مكانة الإمام الحسين
عليه السلام لدى خاتم المرسلين صلىالله عليه وآله:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
لقد خصّ الرسول الأعظم
حفيديه الحسن والحسين عليهماالسلام
بأوصاف تنبئ عن عظم منزلتهما لديه، فهما: 1 - ريحانتاه من الدنيا وريحانتاه من هذه
الأمّة(صحيح البخاري: 2 / 188، وسنن الترمذي: 539.). 2 - وهما خير أهل الأرض(عيون أخبار الرضا: 2 / 62.). 3 - وهما سيّدا شباب أهل الجنّة(سنن ابن ماجة: 1 / 56، والترمذي: 539.). 4 - وهما إمامان قاما أو قعدا(المناقب لابن شهر آشوب: 3 / 163. نقلاً عن مسند أحمد وجامع الترمذي
وسنن ابن ماجة وغيرهم.). 5 - وهما من العترة (أهل البيت) التي لا
تفترق عن القرآن إلى يوم القيامة، ولن تضلّ أمة تمسّكت بهما(جامع الترمذي: 541، ومستدرك الحاكم: 3 / 109.). 6 - كما أنّهما من أهل البيت الذين يضمنون
لراكبي سفينتهم النجاة من
الغرق(حلية الأولياء: 4 / 306.). 7 - وهما ممّن قال عنهم جدّهم: (النجوم
أمان لأهل الأرض من الغرق وأهل بيتي أمان لأهل الأرض من الاختلاف)( مستدرك الحاكم: 3 / 149.). 8 - وقد استفاض الحديث عن مجموعة من أصحاب
الرسول صلىاللهعليهوآله
أنّهم قد سمعوا مقالته فيما يخصّ الحسنين عليهماالسلام:
(اللهمّ إنّك تعلم أنّي أحبهما فأحبَّهما وأحبّ من يحبّهما)( خصائص النسائي: 26.). |
|||||||||||||||||||||||||||
3 - مكانة الإمام الحسين عليه السلام لدى
معاصريه:
|
||||||||||||||||||||||||||||
1 - قال عمر بن الخطاب للحسين عليه
السلام: فإنّما أنبت ما ترى في رؤوسنا الله ثم أنتم(الإصابة: 1 / 333، وقال: سنده صحيح.). 2 - قال عثمان بن عفان في الحسن والحسين
عليهماالسلام وعبد الله بن جعفر: فطموا العلم فطماً(فطموا العلم فطماً: أي قطعوه عن غيرهم قطعاً، وجمعوه لأنفسهم جمعاً.)
وحازوا الخير والحكمة(الخصال: 136.). 3 - قال أبو هريرة: دخل الحسين بن عليّ وهو
معتم، فظننت أنّ النبيّ قد بعث(بحار الأنوار: 10 / 82.). وكان عليه
السلام في جنازة فأعيا، وقعد في الطريق، فجعل أبو هريرة ينفض
التراب عن قدميه بطرف ثوبه، فقال له: يا
أبا هريرة وأنت تفعل هذا، فقال له: دعني، فوالله لو يعلم الناس
منك ما أعلم لحملوك على رقابهم(تاريخ ابن عساكر: 4 / 322.). 4 - أخذ عبد الله بن عباس بركاب الحسن
والحسين عليهماالسلام، فعوتب في
ذلك، وقيل له: أنت أسنّ منهما! فقال: إنّ هذين ابنا رسول الله صلىاللهعليهوآله،
أفليس من سعادتي أن آخذ بركابهما(تاريخ ابن عساكر: 4/322.)؟ وقال له معاوية بعد وفاة الحسن عليه
السلام: يا ابن عباس أصبحت سيّد قومك، فقال: أمّا ما أبقى الله
أبا عبد الله الحسين فلا(حياة الإمام الحسين، للقرشي: 2 / 500.). 5 - قال أنس بن مالك - وكان قد رأى الحسين عليه
السلام -: كان أشبههم برسول الله صلىاللهعليه وآله(أعيان الشيعة: 1 / 563.). 6 - قال زيد بن أرقم لابن زياد- حين كان
يضرب شفتي الحسين عليه السلام -:
اعل بهذا القضيب، فوالله الذي لا إله غيره، لقد رأيت شفتي رسول الله صلىاللهعليهوآله
على هاتين الشفتين يقبّلهما، ثم بكى. فقال له ابن زياد:
أبكى الله عينك، فوالله لولا أنّك شيخ قد خرفت لضربت عنقك، فخرج وهو يقول: أنتم
يا معشر العرب العبيد بعد اليوم! قتلتم الحسين ابن فاطمة وأمّرتم ابن مرجانة!
فهو يقتل خياركم ويستبقي شراركم(أُسد الغابة: 2 / 21.). 7 - قال أبو برزة الأسلمي ليزيد حينما رآه
ينكث ثغر الحسين عليه السلام:
أتنكث بقضيبك في ثغر الحسين؟! أما لقد أخذ قضيبك في ثغره مأخذاً لربّما رأيت
رسول الله صلىاللهعليهوآله
يرشفه. أما إنّك يا يزيد تجيء يوم القيامة وابن زياد شفيعك! ويجيء هذا ومحمّد
شفيعه(الحسن والحسين سبطا رسول الله: 198.). 8 - وحين قال معاوية لعبد الله بن جعفر:
أنت سيّد بني هاشم؟ أجابه قائلاً: سيّد بني هاشم حسن وحسين(الحسن بن عليّ لكامل سليمان: 173.). وكتب إليه:
إن هلكت اليوم طفئ نور الإسلام فإنّك علم المهتدين ورجاء المؤمنين(البداية والنهاية: 8 / 167.). 9 - سأل رجل عبد الله بن عمر عن دم البعوض
يكون في الثوب أفيصلَّى فيه؟ فقال له: ممّن أنت؟ قال: من أهل العراق، فقال ابن
عمر: اُنظروا إلى هذا، يسألني عن دم البعوض وقد قتلوا ابن رسول الله صلىاللهعليهوآله!
وقد سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآله
يقول: هما ريحانتاي من الدنيا(تاريخ ابن عساكر: 4 / 314.). 10 - قال محمد بن الحنفية: إنّ الحسين
أعلمنا علماً، وأثقلنا حلماً، وأقربنا من رسول الله صلىاللهعليهوآله
رحماً، كان إماماً فقيهاً...)( بحار الأنوار: 10 / 140.). 11 - مرّ الحسين عليه
السلام بعمرو بن العاص وهو جالس في ظلّ الكعبة فقال: هذا أحب أهل
الأرض إلى أهل الأرض وإلى أهل السماء اليوم(تأريخ ابن عساكر: 4 / 322.). 12 - قال عبد الله بن عمرو بن العاص وقد
مرّ عليه الحسين عليه السلام: من
أحبّ أن ينظر إلى أحبّ أهل الأرض إلى أهل السماء فلينظر إلى هذا المجتاز(بحار الأنوار: 10 / 83.). 13 - وحين أشار يزيد على أبيه معاوية أن
يكتب للحسين عليه السلام جواباً عن
كتاب كتبه له، على أن يصغّر فيه الحسين عليه السلام، قال معاوية رادّاً عليه:
وما عسيت أن أعيب حسيناً، ووالله ما أرى للعيب فيه موضعاً(أعيان الشيعة: 1 / 583.). 14 - قال الوليد بن عتبة بن أبي سفيان
(والي المدينة) لمروان بن الحكم - لمّا أشار عليه بقتل الحسين عليه
السلام إذا لم يبايع -: والله يا مروان ما أُحبّ أنّ لي الدنيا
وما فيها وأنّي قتلت الحسين. سبحان الله! أقتل حسيناً إن قال لا أبايع؟ والله
إنّي لأظنّ أنّ من يقتل الحسين يكون خفيف الميزان يوم القيامة(البداية والنهاية: 8 / 147.). 15 - لمّا قبض ابن زياد على قيس بن مسهر
الصيداوي - رسول الحسين عليه السلام إلى
أهل الكوفة - أمره أن يصعد المنبر ويسبّ الحسين وأباه، فصعد المنبر فحمد الله
وأثنى عليه، ثم قال: أيّها الناس، إنّ هذا الحسين بن عليّ، خير خلق الله، وهو
ابن فاطمة بنت رسول الله صلىاللهعليهوآله،
وأنا رسوله إليكم، وقد فارقته بالحاجر من بطن ذي الرمة فأجيبوه، واسمعوا له
وأطيعوا. ثم لعن عبيد الله بن زياد وأباه، واستغفر لعليّ والحسين. فأمر به ابن
زياد، فألقي من رأس القصر، فتقطّع(المصدر السابق: 18 / 168.). 16 - من خطبة ليزيد بن مسعود النهشلي (رحمه
الله): وهذا الحسين بن عليّ ابن رسول الله عليه
السلام، ذو الشرف الأصيل، والرأي الأثيل، له فضل لا يوصف، وعلم
لا ينزف، وهو أولى بهذا الأمر لسابقته وسنّه وقدمه وقرابته. يعطف على الصغير،
ويحنو على الكبير. فأكرم به راعي رعيّة، وإمام قوم وجبت لله به الحجّة، وبلغت به
الموعظة(أعيان الشيعة: 1 / 590.). 17 - قال عبد الله بن الحرّ الجعفي: ما
رأيت أحداً قطّ أحسن ولا أملأ للعين من الحسين(أعيان الشيعة: 4 / ق 1 / 118.). 18 - قال إبراهيم النخعي: لو كنتُ فيمن
قاتل الحسين ثم أُدخلت الجنّة لاستحييت أن أنظر إلى وجه رسول الله صلىاللهعليهوآله(الإصابة: 1 / 335.). |
||||||||||||||||||||||||||||
4 - الإمام الحسين عليه السلام
عبر القرون والأجيال:
|
||||||||||||||||||||||||||||
|
1 - قال الربيع بن خيثم لبعض من شهد قتل
الحسين عليه السلام: والله لقد
قتلتم صفوة لو أدركهم رسول الله صلىاللهعليهوآله
لقبّل أفواههم، وأجلسهم في حجره(بحار الأنوار: 10 / 79.). 2 - قال ابن سيرين: لم تبك السماء على أحد
بعد يحيى بن زكريا إلاّ على الحسين عليه
السلام، ولمّا قتل اسودّت السماء، وظهرت الكواكب نهاراً، حتّى
رؤيت الجوزاء عند العصر، وسقط التراب الأحمر، ومكثت السماء سبعة أيام بلياليها
كأنّها علقة(تأريخ ابن عساكر: 4 / 339.). 3 - قال علي جلال الحسيني: السيّد الزكي
الإمام أبو عبد الله الحسين عليه السلام ابن بنت رسول الله صلىاللهعليه وآله
وريحانته، وابن أمير المؤمنيين عليّ كرم الله وجهه، وشأن بيت النبوّة له أشرف
نسب وأكمل نفس، جمع الفضائل ومكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، من علوّ الهمّة،
ومنتهى الشجاعة، وأقصى غاية الجود، وأسرار العلم، وفصاحة اللسان، ونصرة الحقّ،
والنهي عن المنكر، وجهاد الظلم، والتواضع عن عزّ، والعدل، والصبر، والحلم،
والعفاف، والمروءة، والورع وغيرها. واختصّ بسلامة الفطرة، وجمال الخلقة،
ورجاحة العقل، وقوة الجسم، وأضاف إلى هذه المحامد كثرة العبادة وأفعال الخير،
كالصلاة والحج والجهاد في سبيل الله والإحسان. وكان إذا أقام بالمدينة أو غيرها
مفيداً بعلمه، مرشداً بعمله، مهذّباً بكريم أخلاقه، ومؤدّباً ببليغ بيانه،
سخيّاً بماله، متواضعاً للفقراء، معظّماً عند الخلفاء، موصلاً للصدقة على
الأيتام والمساكين، منتصفاً للمظلومين، مشتغلاً بعبادته، مشى من المدينة على
قدميه إلى مكّة حاجّاً خمساً وعشرين مرّة... كان الحسين في وقته علم المهتدين
ونور الأرض، فأخبار حياته فيها هدىً للمسترشدين بأنوار محاسنه المقتفين آثار
فضله(راجع كتابه ( الحسين ) عليه السلام: 1/6. وراجع أيضاً: مجمع الزوائد: 9/201
وبحار الأنوار: 44/193.). 4 - قال محمد رضا المصري: هو ابن بنت رسول الله
صلىاللهعليه وآله، وعلم المهتدين، ورجاء المؤمنين(الحسن والحسين سبطا رسول الله صلىاللهعليهوآله: 75.). 5 - قال عمر رضا كحالة: الحسين بن عليّ،
وهو سيّد أهل العراق فقهاً وحالاً وجوداً وبذلاً(أعلام النساء: 1 / 28.). 6 - قال عبد الله العلايلي: جاء في أخبار
الحسين: أنّه كان صورة احتبكت ظلالها من أشكال جدّه العظيم، فأفاض النبيّ صلىاللهعليهوآله
إشعاعة غامرة من حبّه، وأشياء نفسه، ليتمّ له أيضاً من وراء الصورة معناها فتكون
حقيقة من بعد كما كانت من قبل إنسانية ارتقت إلى نبوّة (أنا من حسين) ونبوة هبطت
إلى إنسانية (حسين منّي) فسلام عليه يوم ولد(تاريخ الحسين عليه السلام: 226.). 7 - قال عباس محمود العقّاد: مثل للناس في
حلّة من النور تخشع لها الأبصار، وباء بالفخر الذي لا فخر مثله في تواريخ بني
الإنسان، غير مستثنىً منهم عربي ولا عجمي، وقديم وحديث، فليس في العالم اُسرة
أنجبت من الشهداء من أنجبتهم اُسرة الحسين عدّة وقدرة وذكرة، وحسبه أنّه وحده في
تأريخ هذه الدنيا الشهيد ابن الشهيد أبو الشهداء في مئات السنين(أبو الشهداء الحسين بن عليّ عليهماالسلام: 150، طبعة النجف، مطبعة الغري الحديثة.). 8 - قال عمر أبو النصر: هذه قصة أسرة من
قريش. حملت لواء التضحية والاستشهاد والبطولة من مشرق الأرض إلى مغربها. قصة
ألّف فصولها شباب ما عاشوا كما عاش الناس، ولا ماتوا كما مات الناس، ذلك أنّ
الله شرّف هذه الجماعة من خلقه بأن جعل النبوّة والوحي والإلهام في منازلها،
وزاد ندى فلم يشأ لها حظّ الرجل العادي من عبادة، وإنّما أرادها للتشريد
والاستشهاد، وأرادها للمثل العليا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكتب لها
أن تتزعّم لواء التقوى والصلاح إلى آخر ما يكون من ذرّيتها(آل محمد في كربلاء: 30.). 9 - قال عبد الحفيظ أبو السعود: عنوان
النضال الحرّ، والجهاد المستميت، والاستشهاد في سبيل المبدأ والعقيدة، وعدم
الخضوع لجور السلطان وبغي الحاكمين(سبطا رسول الله الحسن والحسين: 188.). 10 - قال أحمد حسن لطفي: إنّ الموت الذي
كان ينشده فيها كان يمثّل في نظره مثلاً أروع من كلّ مثل الحياة، لأنّه الطريق
إلى الله الذي منه المبتدأ واليه المنتهى، ولأنّه السبيل إلى الانتصار وإلى
الخلود، فهو أعظم بطل ينتصر بالموت على الموت(الشهيد الخالد الحسين بن عليّ: 47.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
الفصل
الثالث: مظاهر من شخصية الإمام الحسين عليه السلام
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
ولد الإمام الحسين بن علىّ عليهما
السلام في بيت كان محطّ الملائكة ومهبط التنزيل، في بقعة طاهرة تتصل بالسماء
طوال يومها بلا انقطاع، وتتناغم مع أنفاسه آيات القرآن التي تتلى آناء الليل
والنهار، وترعرع بين شخصيّات مقدّسة تجلّلت بآيات الله، ونهل من نمير الرسالة
عذب الارتباط مع الخالق، وصاغ لبنات شخصيته نبي الرحمة صلىاللهعليهوآله
بفيض مكارم أخلاقه وعظمة روحه. فكان الحسين عليه السلام صورة لمحمّدصلىاللهعليهوآله
في أمته، يتحرّك فيها على هدى القرآن، ويتحدّث بفكر الرسالة، ويسير على خطى جدّه
العظيم ليبيّن مكارم الأخلاق، ويرعى للأمة شؤونها، ولا يغفل عن هدايتها ونصحها
ونصرتها، جاعلاً من نفسه المقدسة أنموذجاً حيّاً لما أرادته الرسالة والرسول، فكان
عليه السلام نور هدىً للضالّين وسلسبيلاً عذباً للراغبين وعماداً يستند إليه
المؤمنون وحجّة يركن إليها الصالحون، وفيصل حقّ إذ يتخاصم المسلمون، وسيف عدل
يغضب لله ويثور من أجل الله. وحين نهض كان بيده مشعل الرسالة الذي حمله جدّه النبي
صلىاللهعليه وآله يدافع عن دينه ورسالته العظيمة. ومن الإمعان في شخصيّة
الإمام الحسين عليه السلام الفذّة نتلمّس المظاهر التالية: |
|||||||||||||||||||||||||||
|
1 - تواضعه عليه السلام:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
جُبل أبو عبد الله الحسين عليه السلام
على التواضع ومجافاة الأنانية، وهو صاحب النسب الرفيع والشرف العالي والمنزلة
الخصيصة لدى الرسول صلى اللهعليه وآله فكان عليه السلام يعيش في الأمة لا
يأنف من فقيرها ولا يترفّع على ضعيفها ولا يتكبّر على أحد فيها، يقتدي بجدّه
العظيم المبعوث رحمةً للعالمين، يبتغي بذلك رضا الله وتربية الأمة، وقد نُقلت عنه
عليه السلام مواقف كثيرة تعامل فيها مع سائر المسلمين بكلّ تواضع مظهراً سماحة
الرسالة ولطف شخصيّته الكريمة، ومن ذلك: إنّه عليه السلام
قد مرّ بمساكين وهم يأكلون كسراً (خبزاً يابساً) على كساء، فسلّم عليهم، فدعوه
إلى طعامهم فجلس معهم وقال: لولا أنّه صدقة لأكلت معكم. ثمّ قال: قوموا إلى
منزلي، فأطعمهم وكساهم وأمر لهم بدراهم. وروي: أنّه عليه
السلام مرّ بمساكين يأكلون في الصُّفَة، فقالوا: الغداء، فقال
عليه السلام: إنّ الله لا يحب المتكبّرين، فجلس وتغدّى معهم ثم قال لهم: قد
أجبتكم فأجيبوني، قالوا: نعم، فمضى بهم إلى منزله وقال لزوجته: أخرجي ما كنت
تدّخرين((1) أعيان الشيعة: 1 / 580، تأريخ ابن عساكر: ترجمة الإمام الحسين عليه السلام حديث 196، وتفسير البرهان: 2 / 363.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
2 - حلمه وعفوه عليه السلام:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
تأدّب الحسين السبط عليه
السلام بآداب النبوّة، وحمل روح جدّه الرسول الأعظم صلى اللهعليه
وآله يوم عفى عمّن حاربه ووقف ضد الرسالة الإسلامية، لقد كان قلبه يتّسع لكلّ
الناس، وكان حريصاً على هدايتهم متغاضياً في هذا السبيل عن إساءة جاهلهم، يحدوه
رضا الله تعالى، يقرّب المذنبين ويطمئنهم ويزرع فيهم الأمل برحمة الله، فكان لا
يردّ على مسيء إساءة، بل يحنو عليه ويرشده إلى طريق الحقّ وينقذه من الضلال. فقد روي عنه عليه السلام أنّه قال:
(لو شتمني رجل في هذه الأُذن - وأومأ إلى اليمنى - واعتذر لي في اليسرى لقبلت
ذلك منه، وذلك أنّ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام حدّثني أنّه سمع
جدّي رسول الله صلىاللهعليه وآله يقول: لا يرد الحوض مَن لم يقبل العذر من
محق أو مبطل(إحقاق الحقّ: 11 / 431.). كما روي أنّ غلاماً له جنى جنايةً كانت
توجب العقاب، فأمر بتأديبه فانبرى العبد قائلاً: يا مولاي والكاظمين الغيظ، فقال
عليه السلام: خلّوا عنه، فقال: يا مولاي والعافين عن الناس، فقال عليه السلام:
قد عفوت عنك، قال: يا مولاي والله يحب المحسنين، فقال عليه السلام: أنت حرّ
لوجه الله ولك ضعف ما كنت أعطك(كشف الغمّة: 2 / 31، والفصول المهمة لابن الصبّاغ: 168 مع اختلاف
يسير، وأعيان الشيعة: 4 / 53.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
3 - جوده وكرمه عليه السلام:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
وبنفس كبيرة كان الإمام الحسين بن علي
عليهماالسلام يعين الفقراء والمحتاجين، ويحنو على الأرامل والأيتام، ويثلج قلوب
الوافدين عليه، ويقضي حوائج السائلين من دون أن يجعلهم يشعرون بذلّ المسألة،
ويصل رحمه دون انقطاع، ولم يصله مال إلاّ فرّقه وأنفقه وهذه سجية الجواد وشنشنة
الكريم وسمة ذي السماحة. فكان يحمل في دجى الليل البهيم جراباً
مملوءً طعاماً ونقوداً إلى منازل الأرامل واليتامى حتّى شهد له بهذا الكرم
معاوية بن أبي سفيان، وذلك حين بعث لعدّة شخصيات بهدايا، فقال متنبّئاً: أمّا
الحسين فيبدأ بأيتام من قتل مع أبيه بصفّين، فإن بقي شيء نحر به الجزور وسقى به
اللبن(حياة الإمام الحسين: 1 / 128 عن عيون الأخبار.). وفي موقف مفعم باللطف والإنسانية
والحنان جعل العتق رداً للتحية، فقد روى عن أنس أنّه قال: كنت عند الحسين فدخلت
عليه جارية بيدها طاقة ريحان فحيّته بها، فقال لها: أنت حرّة لوجه الله تعالى.
وانبهر أنس وقال: جارية تجيئك بطاقة ريحان فتعتقها؟! فقال عليه
السلام: كذا أدّبنا الله، قال تبارك وتعالى: (وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ
مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا)،
وكان أحسن منها عتقها(كشف الغمّة: 2 / 31، والفصول المهمة: 167.). ومن كرمه وعفوه أنّه وقفعليه
السلام ليقضي دين أسامة بن زيد وليفرّج عن همّه الذي كان قد
اعتراه وهو في مرضه(بحار الأنوار: 44 / 189، ومناقب آل أبي طالب: 4 / 65.)، رغم
أنّ أسامة كان قد وقف في الصفّ المناوئ لأبيه أمير المؤمنينعليه
السلام. ووقف ذات مرّة سائل على باب الحسين
عليه السلام وأنشد قائلاً:
فأسرع إليه الإمام الحسين عليه السلام
وما أن وجد أثر الفاقة عليه حتّى نادى بقنبر وقال متسائلاً: ما تبقّى من نفقتنا؟
قال: مائتا درهم أمرتني بتفرقتها في أهل بيتك، فقال عليه السلام: هاتها فقد أتى
مَن هو أحقّ بها منهم، فأخذها ودفعها إلى السائل معتذراً منه، وأنشد قائلاً:
فأخذها الأعرابي شاكراً وهو
يدعو لهعليه السلام
بالخير، وأنشد مادحاً:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
تأريخ ابن عساكر: 4 / 323، ومناقب آل أبي طالب: 4 / 65. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
4 - شجاعته عليه السلام:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
إنّ المرء ليعجز عن الوصف والقول حين
يطالع صفحة الشجاعة من شخصية الإمام الحسين عليه السلام; فإنّه ورثها عن آبائه
وتربّى عليها ونشأ فيها، فهو من معدنها وأصلها، وهو الشجاع في قول الحقّ
والمستبسل للدفاع عنه، فقد ورث ذلك عن جدّه العظيم محمّدصلىاللهعليهوآله
الذي وقف أمام أعتى قوّة مشركة حتّى انتصر عليها بالعقيدة والإيمان والجهاد في
سبيل الله تعالى. ووقف مع أبيه - أمير المؤمنين عليه السلام
- يعيد الإسلام حاكماً، وينهض بالأمة في طريق دعوتها الخالصة، يصارع قوى الضلال
والانحراف بالقول والفعل وقوة السلاح ليعيد الحقّ إلى نصّابه. ووقف مع أخيه الإمام الحسن عليه السلام
موقف الأبطال المضحّين من أجل سلامة
الأمة ونجاة الصفوة المؤمنة المتمسّكة بنهج الرسالة الإسلامية. ووقف صامداً حين تقاعست جماهير
المسلمين عن نصرة دينها أمام جبروت معاوية وضلاله وأزلامه والتيار الذي قاده
لتشويه الدين القويم. ولم يخش كلّ التهديدات ولا ما كان يلوح
في الأفق من نهاية مأساوية نتيجة الخروج لطلب الإصلاح وإحياء رسالة جدّه النبي
صلىاللهعليه وآله والوقوف في وجه الظلم والفساد، فخرج وهو مسلّم لأمر الله
وساع لابتغاء مرضاته، وها هوعليه السلام
يردُّ على الحرّ بن يزيد الرياحي حين قال له: أذكِّرك الله في نفسك فإنّي أشهد
لئن قاتلت لتقتلنّ، ولئن قوتلت لتهلكنّ، فقال له الإمام أبو عبد اللهعليه
السلام: أبالموت تخوّفني؟ وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني؟ ما
أدري ما أقول لك؟ ولكن أقول كما قال أخو الأوس
لابن عمّه:
تأريخ الطبري: 4 / 254، والكامل في التأريخ: 3 / 270. ووقف عليه
السلام يوم الطفّ موقفاً حيّر به الألباب وأذهل به العقول، فلم
ينكسر أمام جليل المصاب حتّى عندما بقي وحيداً، فقد كان طوداً شامخاً لا يدنو
منه العدوّ هيبةً وخوفاً رغم جراحاته الكثيرة حتى شهد له عدوّه بذلك، فقد قال
حميد بن مسلم: فوالله ما رأيت مكثوراً قطّ قد قتل ولده وأهل بيته وأصحابه أربط
جأشاً ولا أمضى جناناً منه، إن كانت الرجّالة لتشدّ عليه فيشد عليها بسيفه
فيكشفهم عن يمينه وشماله انكشاف المعزى إذا اشتد عليها الذئب(إعلام الورى: 1 / 468، وتأريخ الطبري: 5 / 540.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
5 - إباؤه عليه السلام:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
لقد تجلّت صورة الثائر المسلم بأبهى
صورها وأكملها في إباء الإمام الحسين عليه السلام ورفضه للصبر على الحيف
والسكوت على الظلم، فسنّ بذلك للأجيال اللاحقة سنّة الإباء والتضحية من أجل
العقيدة وفي سبيلها، حين وقف ذلك الموقف الرسالي العظيم يهزّ الأمة ويشجّعها أن
لا تموت هواناً وذلاًّ، رافضاً بيعة الطليق ابن الطليق يزيد بن معاوية قائلاً:
(إنّ مثلي لا يبايع مثله). وها هو يصرّح لأخيه محمد بن الحنفية
مجسّداً ذلك الإباء بقوله عليه السلام: (يا أخي! والله لو لم يكن في الدنيا
ملجأ ولا مأوى لما بايعت يزيد بن معاوية)( الفتوح لابن أعثم: 5 / 23، ومقتل الحسين للخوارزمي: 1 / 188، وبحار
الأنوار: 44 / 329.). ورغم أنّ الشيطان كان قد استحكم على
ضمائر الناس فأماتها حتّى رضيت بالهوان، لكن الإمام الحسين عليه السلام وقف
صارخاً بوجه جحافل الشرّ والظلم من جيوش الردّة الأُموية قائلاً: (والله لا
أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أقرّ إقرار العبيد، (إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ
تَرْجُمُونِ))( مقتل الحسين للمقرّم: 280، وتأريخ الطبري: 4 / 330، وإعلام الورى: 1
/ 459، وأعيان الشيعة: 1 / 602.). لقد كانت كلمات الإمام أبي عبد الله الحسين
عليه السلام تعبّر عن أسمى مواقف أصحاب المبادئ والقيم وحملة الرسالات، كما
تنمّ عن عزته واعتداده بالنفس، فقد قال عليه السلام: (ألا وإنّ الدعيَّ ابن
الدعيَّ قد ركز بين اثنتين بين السلّة والذلّة، وهيهات منّا الذلة، يأبى الله
ذلك ورسوله والمؤمنون، وحجور طابت وطهرت، وأنوف حميّة، ونفوس أبيّة من أن تؤثر
طاعة اللئام على مصارع الكرام)( أعيان الشيعة: 1 / 603، والاحتجاج: 2 / 24، ومقتل الحسين عليه السلام للخوارزمي: 2 / 6.). وهكذا علّم الإمام الحسين عليه السلام
البشرية كيف يكون الإباء في المواقف وكيف تكون التضحية من أجل الرسالة. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
6 - الصراحة والجرأة في الإصحار بالحقّ:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
لقد كانت نهضة الإمام الحسين عليه
السلام وثورته بركاناً تفجّر في تأريخ الرسالة الإسلامية
وزلزالاً صاخباً أيقظ ضمير المتقاعسين عن نصرة الحقّ، والكلمة الطيبة التي دعت
كلّ الثائرين والمخلصين للعقيدة والرسالة الإسلامية إلى مواصلة المسيرة في بناء
المجتمع الصالح وفق ما أراده الله تعالى ورسوله صلىاللهعليه وآله. وقد نهج الإمام الحسين عليه السلام
منهج الصراحة والمكاشفة موضّحاً للأمة الخلل والزيغ والطريق الصحيح، فها هو بكل
جرأة يقف أمام الطاغية يحذّره ويمنعه عن التمادي في الغيّ والفساد... فهذه كتبهعليه
السلام إلى معاوية واضحة لا لبس فيها ينذره ويحذّر من الاستمرار
في ظلمه ويكشف للأمة مدى ضلالته وفساده(الإمامة والسياسة: 1 / 189 و 195.). وبكلّ صراحة وقوّة رفض البيعة ليزيد بن
معاوية، وقال موضّحاً للوليد ابن عتبة حين كان والياً ليزيد: (إنّا أهل بيت
النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة ومحل الرحمة، بنا فتح الله وبنا ختم،
ويزيد فاسق فاجر، شارب للخمر، قاتل النفس المحترمة، معلن بالفسق والفجور، ومثلي
لا يبايع مثله)( الفتوح: 5 / 14، ومقتل الحسين للخوارزمي: 1 / 184، وبحار الأنوار:
44 / 325.). وكانت صراحته ساطعة مع أصحابه ومن أعلن
عن نصرته، ففي أثناء المسير باتّجاه الكوفة وصله نبأ استشهاد مسلم بن عقيل
وخذلان الناس له، فقال عليه السلام للذين اتّبعوه طلباً للعافية: (قد خذلنا
شيعتنا فمن أحبّ منكم الانصراف فلينصرف غير حرج، ليس عليه ذمام)( الإرشاد: 2/75، وتأريخ الطبري: 3 / 303، والبداية والنهاية: 8 /
182، وبحار الأنوار: 44 / 374.). فتفرّق عنه ذوو الأطماع وضعاف اليقين،
وبقيت معه الصفوة الخيّرة من أهل بيته وأصحابه، ولم يخادع ولم يداهن في الوقت
الذي كان يعزّ فيه الناصر. وقبل وقوع المعركة أذن لكل مَن كان قد
تبعه من المخلصين في الانصراف عنه قائلاً: (إنّي لا أعلم أصحاباً أصحّ منكم ولا
أعدل ولا أفضل أهل بيت، فجزاكم الله عنّي خيراً، فهذا الليل قد أقبل فقوموا
واتّخذوه جملاً، وليأخذ كلّ رجل منكم بيد صاحبه أو رجل من إخوتي وتفرّقوا في
سواد هذا الليل، وذروني وهؤلاء القوم، فإنّهم لا يطلبون غيري، ولو أصابوني
وقدروا على قتلي لما طلبوكم)( الفتوح: 5 / 105، وتأريخ الطبري: 3 / 315، وأعيان الشيعة: 1 / 600.). والحقّ أنّ من يطالع كلّ تفاصيل نهضة
الإمام الحسين عليه السلام سيجد الصدق والصراحة والجرأة في كلّ قول وفعل في
جميع خطوات نهضته المباركة. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
7 - عبادته وتقواه عليه السلام:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
ما انقطع أبو عبد الله الحسين عليه السلام
عن الاتّصال بربّه في كلّ لحظاته وسكناته، فقد بقي يجسّد اتّصاله هذا بصيغة
العبادة لله، ويوثّق العرى مع الخالق جلّت قدرته، ويشدّ التضحية بالطاعة الإلهية
متفانياً في ذات الله ومن أجله، وقد كانت عبادته ثمرة معرفته الحقيقية بالله
تعالى. وإنّ نظرة واحدة إلى دعائه عليه
السلام في يوم عرفة تبرهن على عمق هذه المعرفة وشدّة العلاقة مع
الله تعالى، وننقل مقطعاً من هذا الدعاء العظيم: قال عليه السلام: (كيف يُستدل
عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك؟! أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتّى يكون
هو المظهِر لك؟! متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدلّ عليك؟! ومتى بعدت حتى تكون
الآثار هي التي توصل إليك؟! عميت عين لا تراك عليها رقيباً، وخسرت صفقة عبد لم
تجعل له من حبّك نصيباً... إلهي هذا ذُلّي ظاهر بين يديك، وهذا حالي لا يخفى
عليك. منك أطلب الوصول إليك، وبك استدلّ عليك، فاهدني بنورك إليك، وأقمني بصدق
العبودية بين يديك... أنت الذي أشرقت الأنوار في قلوب أوليائك حتّى عرفوك
ووحّدوك، وأنت الذي أزلت الأغيار عن قلوب أحبّائك حتّى لم يحبّوا سواك ولم يلجأوا
إلى غيرك، أنت المؤنس لهم حيث أوحشتهم العوالم... ماذا وَجدَ مَن فقدك؟! وما
الذي فقد من وجدك؟! لقد خاب من رضي دونك بَدلاً، ولقد خسر من بغى عنك
مُتحوّلا... يا مَن أذاق أحبّاءه حلاوة المؤانسة فقاموا بين يديه متملّقين، ويا
من ألبس أولياءه ملابس هيبته فقاموا بين يديه مستغفرين...)( المنتخب الحسني للأدعية والزيارات: 924 - 925.). ولقد بدا عليه عظيم خوفه من الله وشدّة
مراقبته له حتّى قيل له: ما أعظم خوفك من ربّك! فقال عليه السلام: (لا يأمن يوم
القيامة إلاّ من خاف من الله في الدنيا)( بحار الأنوار: 44 / 190.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
صور من عبادته عليه السلام:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
إنّ العبادة لأهل بيت النبوةعليهمالسلام
هي وجود وحياة، فقد كانت لذّتهم في مناجاتهم لله تعالى، وكانت عبادتهم له متّصلة
في الليل والنهار وفي السرّ والعلن، والإمام الحسين عليه السلام - وهو أحد
أعمدة هذا البيت الطاهر - كان يقوم بين يدي الجبّار مقام العارف المتيقّن
والعالم العابد، فإذا توضّأ تغيّر لونه وارتعدت مفاصله، فقيل له في ذلك فقال
عليه السلام: (حقّ لمن وقف بين يدي الجبّار أن يصفرّ لونه وترتعد مفاصله)( جامع الأخبار: 76، وراجع: إحقاق الحقّ: 11 / 422.). وحرص عليه
السلام على أداء الصلاة في أحرج المواقف، حتى وقف يؤدّي صلاة
الظهر في قمّة الملحمة في اليوم العاشر من المحرّم(ينابيع المودة: 410، ومقتل الحسين للخوارزمي: 2 / 17.)
وجيوش الضلالة تحيط به من كل جانب وترميه من كل صوب. وكان عليه
السلام يخرج متذلّلاً لله ساعياً إلى بيته الحرام يؤدّي مناسك
الحجّ بخشوع وتواضع، حتّى حجّ خمساً وعشرين حجّة ماشياً على قدميه(سير أعلام النبلاء: 3 / 193، ومجمع الزوائد: 9 / 201.). وقد اشتهرت بين محدّثي الشيعة ومختلف
طبقاتهم مواقفه الخاشعة في عرفات أيّام موسم الحجّ، ومناجاته الطويلة لربّه وهو
واقف على قدميه في ميسرة الجبل والناس حوله. لقد كان عليه السلام كثير البرّ
والصدقة، فقد روي أنّه ورث أرضاً وأشياء فتصدّق بها قبل أن يقبضها، وكان يحمل
الطعام في غلس الليل إلى مساكين أهل المدينة لم يبتغ بذلك إلاّ الأجر من الله
والتقرب إليه(حياة الإمام الحسين عليه السلام: 1 / 135.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
الباب
الثاني:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
فيه فصول: الفصل الأول: نشأة الإمام الحسين عليه
السلام. الفصل الثاني: مراحل حياة الإمام الحسين
عليه السلام. الفصل الثالث: الإمام الحسين عليه
السلام من الولادة إلى الإمامة. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
الفصل
الأول: نشأة الإمام الحسين عليه السلام
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
هو أبو عبد الله الحسين بن عليّ بن أبي
طالب عليه السلام ثالث أئمّة
أهل البيت الطاهرين، وثاني سبطَي رسول الله صلىاللهعليه وآله وسيّد شباب أهل
الجنة، وريحانة المصطفى، وأحد الخمسة أصحاب العبا وسيّد الشهداء، وأمه فاطمة عليهاالسلام
بنت رسول الله صلىاللهعليه وآله. تأريخ
الولادة:
أكّد أغلب المؤرّخين أنّه عليه
السلام ولد بالمدينة في الثالث من شعبان في السنة الرابعة من
الهجرة(تأريخ ابن عساكر: 14 / 313، ومقاتل الطالبيين: 78، ومجمع الزوائد: 9
/ 194، وأُسد الغابة: 2 / 18، والإرشاد: 18.).
وثمّة مؤرّخون أشاروا إلى أنّ ولادته عليه
السلام كانت في السنة الثالثة(أصول الكافي: 1 / 463، والاستيعاب المطبوع على هامش الإصابة: 1 /
377.). رؤيا أم
أيمن:
أوّلَ رسول الله صلىاللهعليهوآله
رؤيا للسيدة أم أيمن - كانت قد فزعت منها حين رأت أنّ بعض أعضائه صلىاللهعليهوآله
ملقىً في بيتها - بولادة الحسين عليه السلام الذي سيحلّ في بيتها صغيراً
للرضاعة، فقد ورد عن الإمام الصادق عليه
السلام أنّه قال: أقبل جيران أم أيمن إلى رسول الله صلىاللهعليهوآله
فقالوا: يا رسول الله، إنّ أم أيمن لم تنم البارحة من البكاء، لم تزل تبكي حتّى
أصبحت، فبعث رسول الله إلى أم أيمن فجاءته فقال لها: يا أم أيمن، لا أبكى الله
عينك، إنّ جيرانك أتوني وأخبروني أنّك لم تزلي الليل تبكين أجمع، فلا أبكى الله
عينك ما الذي أبكاك؟ قالت: يا رسول الله، رأيت رؤيا عظيمة شديدة، فلم أزل أبكي
الليل أجمع، فقال لها رسول الله صلىاللهعليه وآله: فقصّيها على رسول الله
فإنّ الله ورسوله أعلم، فقالت: تعظم عليّ أن أتكلّم بها، فقال لها: إنّ الرؤيا
ليست على ما ترى، فقصّيها على رسول الله. قالت: رأيت في ليلتي هذه كأنّ بعض
أعضائك ملقىً في بيتي، فقال لها رسول الله صلىاللهعليه وآله: نامت عينك يا أم
أيمن، تلد فاطمة الحسين فتربّينه وتُلبنيه(أي: تسقينه اللبن.)
فيكون بعض أعضائي في بيتك(بحار الأنوار: 43 / 242.). الوليد
المبارك:
ووضعت سيّدة نساء العالمين فاطمة
الزهراء عليهاالسلام وليدها
العظيم، وزفّت البشرى إلى الرسول صلىاللهعليهوآله،
فأسرع إلى دار عليّ والزهراءعليهماالسلام،
فقال لأسماء بنت عميس: (يا أسماء هاتي ابني)،
فحملته إليه وقد لُفّ في خرقة بيضاء، فاستبشر النبي صلىاللهعليه وآله وضمّه
إليه، وأذّن في أذنه اليمنى وأقام في اليسرى، ثمّ وضعه في حجره وبكى، فقالت
أسماء: فداك أبي وأمي، ممّ بكاؤك؟ قال صلىاللهعليهوآله:
(من ابني هذا). قالت: إنّه ولد الساعة، قال صلىاللهعليهوآله:
(يا أسماء! تقتله الفئة الباغية من بعدي، لا أنالهم الله شفاعتي...)( إعلام الورى بأعلام الهدى: 1 / 427.). ثمّ إنّ الرسول صلىاللهعليهوآله
قال لعليّعليه السلام: أيّ شيء
سمّيت ابني؟ فأجابه علىّ عليه السلام:
(ما كنت لأسبقك باسمه يا رسول الله). وهنا نزل الوحي على حبيب الله محمّدصلىاللهعليهوآله
حاملاً اسم الوليد من الله تعالى، وبعد أن تلقّى الرسول أمر الله بتسمية وليده
الميمون، التفت إلى علي عليه السلام قائلاً: (سمّه
حسيناً). وفي اليوم السابع أسرع الرسول صلىاللهعليهوآله
إلى بيت الزهراءعليهاالسلام فعقّ عن
سبطه الحسين كبشاً، وأمر بحلق رأسه والتصدّق بزنة شعره فضّة، كما أمر بختنه(عيون أخبار الرضا: 2 / 25، إعلام الورى: 1 / 427.). وهكذا أجرى للحسين السبط ما أجرى لأخيه
الحسن السبط من مراسم. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
اهتمام النبي صلىاللهعليه وآله
بالحسين عليه السلام:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
لقد تضافرت النصوص الواردة عن رسول الله
صلىاللهعليه وآله بشأن الحسين عليه السلام وهي تبرز المكانة الرفيعة التي
يمثّلها في دنيا الرسالة والأمة. ونختار هنا عدّة نماذج منها للوقوف على عظيم
منزلته: 1 - روى سلمان أنّه سمع رسول الله صلىاللهعليه
وآله يقول في الحسن والحسين عليهماالسلام: (اللّهمّ إنّي أحبهما فأَحِبَّهما
وأحب من أحبّهما)( الإرشاد: 2/28.). 2 - (من أحبّ الحسن والحسين أحببته، ومن
أحببته أحبّه الله، ومن أحبّه الله عَزَّ وجَلَّ أدخله الجنة، ومن أبغضهما
أبغضته، ومن أبغضته أبغضه الله، ومن أبغضه الله 3 - (إنّ أبنىّ هذين ريحانتاي من الدنيا)( الإرشاد: 2/28، وصحيح البخاري: 2 / 188، وسنن الترمذي: 5 / 615 ح
3770.). 4 - رُوي عن ابن مسعود أنّه قال: كان النبي
صلىاللهعليه وآله يصلّي فجاء الحسن والحسين عليهماالسلام فارتدفاه، فلمّا
رفع رأسه أخذهما أخذاً رفيقاً، فلمّا عاد عادا، فلمّا انصرف أجلس هذا على فخذه
الأيمن وهذا على فخذه الأيسر، ثم قال: (من أحبّني فَلْيُحبّ هذين)( مستدرك الحاكم: 3 / 166، وكفاية الطالب: 422، وإعلام الورى: 1 /
432.). 5 - (حسين منّي وأنا من حسين، أحبّ الله من
أحبّ حسيناً، حسين سبط من الأسباط)( بحار الأنوار: 43 / 261، ومسند أحمد: 4 / 172، وصحيح الترمذي: 5 /
658 ح3775.). 6 - (الحسن والحسين خير أهل الأرض بعدي
وبعد أبيهما، وأمهما أفضل نساء أهل الأرض)( بحار الأنوار: 43/261، وعيون أخبار الرضا: 2 / 62.). 7 - (الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنة)( سنن ابن ماجة: 1 / 56، والترمذي: 5 / 614 / ح 3768، وبحار الأنوار:
43 / 265.). 8 - عن برّة ابنة أُمية الخزاعي أنّها
قالت: لمّا حملت فاطمةعليهاالسلام
بالحسن خرج النبي صلىاللهعليه وآله في بعض وجوهه فقال لها: (إنّك ستلدين
غلاماً قد هنّأني به جبرئيل، فلا ترضعيه حتّى أصير إليك) قالت: فدخلت على فاطمة
حين ولدت الحسن عليه السلام وله ثلاث
ما أرضعته، فقلت لها: أعطينيه حتّى أُرضعه، فقالت: (كلا) ثمّ أدركتها رقّة
الأمهات فأرضعته، فلمّا جاء النبي صلىاللهعليه وآله قال لها: (ماذا صنعت؟)
قالت: (أدركني عليه رقّة الأمهات فأرضعته) فقال: (أبى الله عَزَّ وجَلَّ إلاّ ما
أراد). فلمّا حملت بالحسين عليه السلام قال
لها: (يا فاطمة إنّك ستلدين غلاماً قد هنّأني به جبرئيل فلا ترضعيه حتى أجيء
إليك ولو أقمت شهراً)، قالت: (أفعل ذلك)، وخرج رسول الله صلىاللهعليه وآله في
بعض وجوهه، فولدت فاطمة الحسين عليه السلام فما أرضعته حتى جاء رسول الله فقال
لها: (ماذا صنعت؟) قالت: (ما أرضعته) فأخذه فجعل لسانه في فمه فجعل الحسين يمصّ،
حتى قال النبي صلىاللهعليه وآله: (إيهاً حسين إيهاً حسين)!! ثمّ قال: (أبى
الله إلاّ ما يريد، هي فيك وفي ولدك)( بحار الأنوار: 43 / 254، وراجع: المناقب: 3 / 50.)
يعني الإمامة. 9 - إنّ النبي صلىاللهعليهوآله
كان جالساً فأقبل الحسن والحسين، فلمّا رآهما النبي صلىاللهعليه وآله قام
لهما واستبطأ بلوغهما إليه، فاستقبلهما وحملهما على كتفيه، وقال: (نعم المطيُّ
مطيّكما، ونعم الراكبان أنتما، وأبوكما خير منكما)( بحار الأنوار: 43 / 285 - 286، راجع: ذخائر العقبى: 130.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
كنيته وألقابه:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
أمّا كنيته فهي: أبو عبد الله. وأمّا ألقابه فهي:
الرشيد، والوفي، والطيّب، والسيّد، والزكيّ، والمبارك، والتابع لمرضاة الله،
والدليل على ذات الله، والسبط. وأشهرها رتبةً ما لقّبه به جدّه صلىاللهعليهوآله
في قوله عنه وعن أخيه: (أنّهما سيّدا شباب أهل الجنة). وكذلك السبط لقوله صلىالله
عليه وآله: (حسين سبط من الأسباط)( أعيان الشيعة: 1 / 579.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
الفصل
الثاني: مراحل حياة الإمام الحسين
عليه السلام
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
تنقسم حياة كلّ إمام من
الأئمّة المعصومينعليهمالسلام
إلى قسمين متميّزين: الأوّل:
من الولادة إلى حين استلامه لمقاليد الإمامة والولاية المناطة إليه من الله
والمنصوص عليها على لسان رسوله والأئمّة عليهمالسلام
أنفسهم. والثاني:
يبدأ من يوم تصدّيه لإدارة أمور المسلمين والمؤمنين إلى يوم استشهاده. وقد يشتمل كلّ قسم على عدّة مراحل حسب
طبيعة الظروف والأحداث التي تميّز كل مرحلة. ونحن ندرس الفترة الأولى
بجميع مراحلها وأهمّ أحداثها - وهي فترة الولادة حتى
الإمامة - في الفصل الثالث من الباب الثاني، بينما ندرس الفترة الثانية بمراحلها
المختلفة بشكل تفصيلي في الباب الثالث. وينبغي أن نعرف أنّ الفترة
الأولى من حياة الإمام الحسين عليه السلام كانت ذات أربع مراحل هي: 1 -
حياته في عهد جدّهصلىاللهعليهوآله
وهي من السنة (4) إلى (10) هجرية. 2 -
حياته في عهد الخلفاء الثلاثة، وهي من السنة (11) إلى (35) هجرية. 3 -
حياته في عهد الدولة العلوية المباركة، أي منذ البيعة مع أبيه إلى يوم 4 -
حياته في عهد أخيه الحسن المجتبى عليه
السلام وهي عشر سنوات تقريباً، أي من أواخر شهر رمضان سنة (40)
هجرية إلى بداية أو نهاية صفر سنة (50) هجرية حيث استشهد الحسن عليه
السلام وتصدّى هو للأمر من بعده. وأمّا الفترة الثانية من
حياته
وهي التي تبدأ بعد استشهاد أخيهعليه
السلام وتنتهي باستشهاده بأرض الطفّ يوم عاشوراء سنة ( 61 )
هجرية، فهي ذات مرحلتين متميزتين: 1 - المرحلة الأولى:
مدّة حياته خلال حكم معاوية، حيث بقي - صلوات الله عليه - ملتزماً بالهدنة التي
عقدت مع معاوية بالرغم من تخلّف معاوية عن كلّ الشروط التي اشترطت عليه من قبل
الإمام الحسن عليه السلام ، وقد جسّد تمرّده على كل شروط الصلح بإيعاز السمّ
الفاتك إلى الإمام الحسن عليه السلام
ليتخلّص من رقيب مناهض ويزيل الموانع عن ترشيح ولده الفاسق يزيد. 2 - المرحلة الثانية:
وتبدأ بفرض معاوية ابنه يزيد حاكماً متحكّماً في رقاب المسلمين بعد موت أبيه
وسعيه لأخذ البيعة من الحسين عليه السلام للقضاء على المعارضة التي كان قد عرف
جذورها أيام أبيه. ومن هنا تبدأ نهضته التي كانت بركاناً تحت الرماد، فانفجرت
بانفجار الفسق والفجور وظهورهما على مسرح القيادة وجهاز الحكم، فبدأ حركته من
المدينة إلى مكّة ثم إلى العراق، وتوّج صبره وجهاده بدمائه الطاهرة ودماء أهل
بيته وأصحابه الأصفياء التي قدّمها في سبيل الله تعالى. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
الفصل
الثالث: الإمام الحسين عليه السلام من الولادة إلى الإمامة
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
في حياة النبي صلىاللهعليه وآله والرسالة
الإسلامية مساحة واسعة لبيت عليّ وفاطمة وأبنائهماعليهمالسلام
ومعاني ودلالات عميقة حيث إنّه البيت الذي سيحتضن الرسالة ويتحمّل عبء الخلافة
ومسؤولية صيانة الدين والأمة. وكان لا بدّ لهذا البيت أن ينال القسط
الأوفى والحظّ الأوفر من فيض حبّ النبي صلىاللهعليه وآله ورعايته وأبوته، فلم
يدّخر النبي صلىاللهعليه وآله وسعاً أن يروّي شجرته المباركة في بيت علىّعليه
السلام ويتعهّدها صباح مساء مبيّناً أنّ مصير الأمة مرهون بسلامة
هذا البيت وطاعة أهله كما يتجلّى ذلك في قوله صلىاللهعليهوآله:
(إنّ علياً راية الهدى بعدي وإمام أوليائي ونور من أطاعني)( حلية الأولياء: 1 / 67، ونظم درر السمطين: 114، وتاريخ ابن عساكر: 2
/ 189 ح 680، ومقتل الخوارزمي: 1 / 43، وجامع الجوامع (للسيوطي): 6 / 396،
ومنتخب الكنز: 6 / 953 ح2539، والفصول المهمة لابن الصباغ: 107، وتاريخ الخلفاء للسيوطي:
173، ومجمع الزوائد: 9 / 135، وكنز العمّال: 5/153، وصحيح الترمذي: 5 / 328
ح3874، وأُسد الغابة: 2 / 12.). وحين أشرقت الدنيا بولادة الحسين عليه السلام;
أخذ مكانته السامية في قلب النبي صلىاللهعليه وآله وموضعه الرفيع في حياة
الرسالة. وبعين الخبير البصير والمعصوم المسدّد
من السماء وجد النبي صلىاللهعليه وآله في الوليد الجديد وريثاً للرسالة بعد
حين، ثائراً في الأمة بعد زيغ وسكون، مصلحاً في الدين بعد انحراف واندثار،
محيياً للسنّة بعد تضييع وإنكار، فراح النبي صلىاللهعليه وآله يهيّئه ويعدّه
لحمل الرسالة الكبرى مستعيناً في ذلك بعواطفه وساعات يومه، وبهديه وعلمه; إذ
عمّا قليل سيضطلع بمهام الإمامة في الرسالة الخاتمة بأمر الله تعالى. فها هوصلىاللهعليهوآله
يقول: (الحسن والحسين ابناي من أحبّهما أحبّني، ومن أحبّني أحبّه الله، ومن
أحبّه الله أدخله الجنّة، ومن أبغضهما أبغضني، ومن أبغضني أبغضه الله، ومن أبغضه
الله أدخله النار)( مستدرك الحاكم: 3 / 166، وتأريخ ابن عساكر: ترجمة الإمام الحسين
عليه السلام، وإعلام الورى: 1 / 432.). وهل الحب إلاّ مقدمة الطاعة وقبول
الولاية؟ بل هما بعينهما في المآل. لقد كان النبي صلىاللهعليه وآله
يتألّم لبكائه ويتفقّده في يقظته ونومه، يوصي أمه الطاهرة فاطمة صلوات الله
عليها أن تغمر ولده المبارك بكلّ مشاعر الحنان والرفق(مجمع الزوائد: 9 / 201، وسير أعلام النبلاء: 3 / 191، وذخائر العقبى:
143.). حتّى إذا درج الحسين عليه السلام
صبيّاً يتحرّك شرع النبي صلىاللهعليه وآله يلفت نظر الناس إليه ويهيّئ
الأجواء لأن تقبل الأمة وصاية ابن النبيّ صلىاللهعليهوآله
عليها، فكم تأنّى النبي صلىاللهعليه وآله في سجوده والحسين يعلو ظهرهصلىاللهعليهوآله
ليظهر للأمة حبّه له وكذا مكانته، وكم سارع النبي يقطع خطبته ليلقف ابنه القادم
نحوه متعثّراً فيرفعه معه على منبره(مسند أحمد: 5/354، وإعلام الورى: 1/433، وكنز العمال: 7/168،وصحيح
الترمذي: 5 / 616 / ح3774.)؟
كلّ ذلك ليدلّ على منزلته ودوره الخطير في مستقبل الأمة. وحين قدم وفد نصارى نجران يحاجج النبي
صلىاللهعليه وآله في دعوته إلى الإسلام وعقيدة التوحيد الخالص وامتنع عن
قبولها رغم وضوح الحق أمر الله تعالى بالمباهلة، فخرج النبي صلىاللهعليه وآله
إليهم ومعه خير أهل الأرض تقوىً وصلاحاً وأعزّهم على الله مكانةً ومنزلةً: عليّ
وفاطمة والحسن والحسين عليهمالسلام،
ليباهل بهم أهل الكفر والشرك وانحراف المعتقد، ومُدَلّلاً بذلك - في نفس الوقت -
على أنّهم أهل بيت النبوة وبهم تقوم الرسالة الإسلامية، فعطاؤهم من أجل العقيدة
لا ينضب(مسند أحمد: 1 / 185، وصحيح مسلم: كتاب الفضائل باب فضائل علي: 2 /
360، وصحيح الترمذي: 4 / 293 ح5 208، والمستدرك على الصحيحين: 3 / 150.). وما كان من النصارى إذ رأوا وجوهاً
مشرقة وطافحة بنور التوحيد والعصمة؛ إلاّ أن تراجعوا عن المباهلة وقبلوا بأن
يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون. لقد كانت هذه الفترة القصيرة التي
عاشها الحسين عليه السلام مع جدّه (صلّى
الله عليه وآله) من أهمّ الفترات وأروعها في تأريخ الإسلام كلّه، فقد وطّد
الرسول (صلّى الله عليه وآله) فيها أركان دولته المباركة، وأقامها على أساس
العلم والإيمان، وهزم جيوش الشرك، وهدم قواعد الإلحاد، وأخذت الانتصارات الرائعة
تترى على الرسول (صلّى الله عليه وآله) وأصحابه الأوفياء حيث أخذ الناس يدخلون
في دين الله أفواجاً. وفي غمرة هذه الانتصارات فوجئت الأمة
بالمصاب الجلل حين توفّي رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فخيّم الأسى العميق
على المسلمين وبخاصة على أهل بيته عليهمالسلام
الذين أضنتهم المأساة، ولسعتهم حرارة المصيبة بغياب شخص النبيّ (صلّى الله عليه
وآله). |
|||||||||||||||||||||||||||
ميراث النبيّ (صلّى
الله عليه وآله) لسبطيه عليهماالسلام:
|
||||||||||||||||||||||||||||
ولمّا علمت سيّدة نساء العالمين أنّ
لقاء أبيها بربّه عَزَّ وجَلَّ قريب أتت بابنيها الحسن والحسين عليهماالسلام
فقالت: يا رسول الله إن هذان إبناك فورّثهما شيئاً، فقال (صلّى الله عليه وآله):
أمّا الحسن فإنّ له هيبتي وسؤددي، وأمّا الحسين فإنّ له شجاعتي وجودي (بحارالأنوار: 43 / 263، ومناقب آل أبي طالب: 2 / 465 ونظم درر
السمطين: 212.). وصيّة النبي صلىاللهعليهوآله
بالسبطين
عليهماالسلام:
ووصّى النبي صلىاللهعليه وآله
الإمام عليّاً برعاية سبطيه، وكان ذلك قبل موته بثلاثة أيام، فقد قال له: سلام
الله عليك أبا الريحانتين، أوصيك بريحانتيَّ من الدنيا، فعن قليل ينهدّ ركناك،
والله خليفتي عليك، فلمّا قبض رسول الله صلىاللهعليه وآله قال عليّ: هذا أحد
ركني الذي قال لي رسول الله صلىاللهعليه وآله، فلمّا ماتت فاطمةعليهاالسلام
قال عليّ: هذا الركن الثاني الذي قال لي رسول الله(بحار الأنوار: 43 / 262.). لوعة النبيّ صلىاللهعليهوآله
على الحسين عليه
السلام:
حضر الإمام الحسين عليه السلام عند
جدّه الرسول صلى اللهعليه وآله حينما كان يعاني آلام المرض ويقترب من لحظات
الاحتضار، فلمّا رآه ضمّه إلى صدره وجعل يقول: (ما لي وليزيد؟! لا بارك الله
فيه). ثمّ غشي عليه طويلاً، فلمّا أفاق أخذ يوسع الحسين تقبيلاً وعيناه تفيضان
بالدموع، وهو يقول: (أما إنّ لي ولقاتلك موقفاً بين يدي الله عَزَّ وجَلَّ)( حياة الإمام الحسين عليه السلام، باقر شريف القرشي: 1 / 218، نقلاً عن
مثير الأحزان.). وفي اللحظات الأخيرة من عمره الشريفصلىاللهعليهوآله
ألقى السبطانعليهماالسلام بأنفسهما
عليه وهما يذرفان الدموع والنبي صلىاللهعليه وآله يوسعهما تقبيلاً، فأراد
أبوهما أمير المؤمنين عليه السلام أن ينحّيهما عنه فأبىصلىاللهعليهوآله
وقال له: (دعهما يتزوّدا منّي وأتزوّد منهما فستصيبهما بعدي إثرة)( مقتل الحسين للخوارزمي: 1 / 114.). ثمّ التفت صلىاللهعليهوآله
إلى عوّاده فقال لهم:
قد خلّفت فيكم كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فالمضيّع لكتاب الله كالمضيّع لسنّتي،
والمضيّع لسنّتي كالمضيّع لعترتي، إنّهما لن يفترقا حتى يردا علىّ الحوض(المصدر السابق.). |
||||||||||||||||||||||||||||
الإمام
الحسين عليه السلام
في عهد الخلفاء
|
||||||||||||||||||||||||||||
الحسين عليه السلام
في عهد أبي بكر:
|
||||||||||||||||||||||||||||
|
لقد كان أهل البيت عليهمالسلام
بما فيهم الحسن والحسين عليهماالسلام
مفجوعين بوفاة الرسول صلىاللهعليهوآله،
وألم المأساة يهيمن على قلوبهم وهم مشغولون بجهاز أعظم نبيّ عرفه التاريخ
الإنساني، إذ توجّهت إليهم صدمةٌ أخرى ضاعفت آلامهم وبدّدت آمالهم التي غرسها
رسول الله صلىاللهعليهوآله في
نفوسهم ونفوس الأمة. إنها صدمة مصادرة الخلافة وتنحية
الإمام علي عليه السلام عن مسرح
القيادة ومصادرة المنصب الذي نصبه فيه الرسول صلىاللهعليهوآله
بأمر الله تعالى. وكانت هذه الصدمة العنيفة بداية
لمُسلسل القلق والاضطهاد الذي فرضه الخط الحاكم بعد الرسول صلىاللهعليهوآله
على أهل بيت الرسول صلىاللهعليهوآله;
لتحقيق العزل التام والإبعاد الكامل لهم عن موقع القيادة بعد الرسول صلىاللهعليهوآله. لوعة شهادة
الزهراء عليهاالسلام:
كان لوفاة الرسول صلى اللهعليه وآله
وقع مؤلم في روح الإمام الحسين الطاهرة، وهو لم يكن بعد قد أنهى ربيعه الثامن. وما هي إلاّ مدّة قصيرة وإذا بالحسين
عليه السلام يُفجع باستشهاد أمه فاطمة بنت رسول الله بتلك الصورة المأساوية بعد
أن ظلّت تعاني من الظلم والقهر وألم اغتصاب حقّها طوال الأيام التي عاشتها بعد
أبيهاصلىاللهعليهوآله
فكانت تنعكس معاناتها في روحه اللطيفة؛ إذ كان كلّما نظر إلى أمه بعد وفاة أبيها
شاهدها باكيةً محزونة القلب منكسرة الخاطر. وقد روي أنّها سلام الله عليها ما زالت
بعد أبيها معصّبة الرأس، ناحلة الجسم، منهدّة الركن، باكية العين، محترقة القلب،
يغشى عليها ساعة بعد ساعة، وتقول لولديها: أين أبوكما الذي كان يكرمكما ويحملكما
مرّةً بعد مرّة؟ أين أبوكما الذي كان أشدّ الناس شفقةً عليكما، فلا يدعكما
تمشيان على الأرض؟ ولا أراه يفتح هذا الباب أبداً ولا يحملكما على عاتقه كما لم
يزل يفعل بكما(بحار الأنوار: 43 / 181.). وروي أن الزهراءعليهاالسلام
بعد وفاة أبيهاصلىاللهعليهوآله كانت
تصطحب الحسنين معها إلى البقيع حيث تظلّ تبكي إلى المساء، فيأتي أمير المؤمنين
عليه السلام فيعود بهم إلى البيت. ونقل الرواة عن أسماء بنت عميس قصّة
استشهادها مفصّلاً، وقد جاء فيها أنّ الحسن والحسين عليهماالسلام دخلا البيت
بُعَيد وفاة أمهما فقالا: يا أسماء! ما يُنيم أمنا في هذه الساعة؟! قالت: يا
ابني رسول الله ليست أمكما نائمة، بل فارقت روحها الدنيا. فوقع عليها الحسن
يقبّلها مرةً ويقول: يا أماه! كلّميني قبل أن تفارق روحي بدني. قالت: وأقبل
الحسين يقبّل رجلها ويقول: يا أماه! أنا ابنك الحسين كلّميني قبل أن يتصدّع قلبي
فأموت. قالت لهما أسماء: يا ابني رسول الله! انطلقا إلى أبيكما عليّ فأخبراه
بموت أمكما، فخرجا حتى إذا كانا قرب المسجد رفعا أصواتهما بالبكاء، فابتدرهما
جميع الصحابة، فقالوا: ما يبكيكما يا ابني رسول الله؟ لا أبكى الله أعينكما(المصدر السابق: 186.). وجاء في نصّ آخر
أنّه بعد أن فرغ أمير المؤمنين عليه السلام من تغسيل الزهراءعليهاالسلام
نادى: يا أم كلثوم! يا زينب! يا سكينة! يا فضّة! يا حسن! يا حسين! هلمّوا وتزوّدوا
من أمكم، فهذا الفراق، واللقاء الجنّة. فأقبل الحسن والحسين عليهماالسلام وهما
يناديان: وا حسرةً لا تنطفئ أبداً من فقد جدّنا محمد المصطفى وأمنا فاطمة
الزهراء! فقال أمير المؤمنين علىّعليه
السلام: إنّي أُشهدُ الله أنّها قد حنّت وأنّت ومدّت يديها
وضمّتهما إلى صدرها مليّاً، وإذا بهاتف من السماء ينادي: يا أبا الحسن! ارفعهما
فلقد أبكيا والله ملائكة السماوات (بحار الأنوار: 43/179.). وذكرت أكثر الروايات أنّ الحسن والحسين
عليهماالسلام حضرا مراسم الصلاة على جنازة أمهما عليهاالسلام
وتولّى غسلها وتكفينها أمير المؤمنينعليه
السلام، وأخرجها من بيتها ومعه الحسن والحسين في الليل، وصلّوا
عليها... (المصدر السابق: 212.). لقد فجع الحسين عليه السلام وخلال
فترة قصيرة بحادثتين عظيمتين مؤلمتين: الأولى
وفاة
جدّه رسول الله صلىاللهعليه وآله، والثانية
استشهاد
والدته فاطمة بنت الرسول صلىاللهعليهوآله
بعدما جرى عليها من أنواع الجفاء والظلم. وإذا أضفنا إلى ذلك مأساة غصب حقوق
أبيه أمير المؤمنين عليه السلام ومأساة إبعاده عن المسرح السياسي ليصبح جليس
بيته; تجلّت لنا شدّة المحن والمصائب التي أحاطت بالحسين عليه السلام وهو في
صغر سنّه. ولقد تعمّقت مصائب الإمام الحسين عليه السلام
بسبب أنواع الحصار المفروض من قِبل خطّ الخلافة وقتذاك على أصحاب الرسول صلى اللهعليه
وآله الأوفياء لخطّه الرسالي وعلى علي بن أبي طالب أمير المؤمنين عليه السلام بشكل
خاص، مثل منع الخمس وسائر الحقوق من الوصول إليه، كما تجلّى ذلك بوضوح في تأميم (فدك)
والذي كان من أهدافه ممارسة ضغوط مالية أخرى على أهل بيت النبي صلىاللهعليه وآله
وأبناء أمير المؤمنين عليهمالسلام. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
الحسين عليه السلام
في عهد عمر بن الخطاب:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
وفي عهد عمر بن الخطاب اتّخذ الحصار
أبعاداً أكثر خطورة، فقد ذكر المؤرّخون أنّ عمر حظر على أصحاب الرسول صلى اللهعليه
وآله الخروج من المدينة إلاّ بترخيص منه، وقد طال الحظر أمير المؤمنين علي بن
أبي طالبعليه السلام حتى مثّل
هذا الأمر نمطاً آخر من الضغوط التي مورست على أهل بيت الوحي الطاهرين. أجل لقد أدّت هذه الممارسات القهرية
والمواقف الظالمة إلى إقصاء عليّ أمير المؤمنينعليه
السلام، وجعلته جليس بيته، ومن ثم تغييبه عن الميادين السياسية
والاجتماعية حتى صار نسياً منسياً، وإن كان الخليفة يرجع إليه في بعض المسائل
أحيانا، ولعلّ السبب في عدم إبعاده عن المدينة، هو حاجته إليه في القضايا التي
كانت تستجد للخليفة، ولم يكن بمقدور أحد غير عليّ عليه السلام أن يقدّم الحلّ
المقبول لها. وبالحكمة السديدة والصبر الجميل كظم أمير
المؤمنين عليه السلام غيظه متغاضياً عن حقّه الذي استأثر به عمر بعد أبي بكر من
دون حقّ شرعي ولا حجّة بالغة، وفي كلّ ذلك عاش الحسين عليه السلام مع آلام أبيه
عليه السلام، ورأى كيفية تعامله مع الحدث، وهو يحمل هموم الأمة الإسلامية
ويقلقه مصيرها، إنّه يتذكّر كيف كان رسول الله صلىاللهعليه وآله يؤثر عليّاً
على كل من عداه ويوصي به الأمة المرّة بعد المرّة، ولكنّه الآن مقصيٌّ عن مقامه،
فما كان يملك إلاّ أن يكتم أحاسيسه ومشاعره. يروى: أنّ عمر ذات يوم كان يخطب على
المنبر فلم يشعر إلاّ والحسين عليه السلام قد صعد إليه وهو يهتف: (انزل عن منبر أبي واذهب إلى منبر أبيك)، وقد كان الحق يقضي بأن لا يكتفي عمر
بالتصديق الكلامي للحسين من دون إعادة حقّه في فدك والخمس إليه، وإعادة حقّ والده
في الخلافة إليه، إطاعةً لله وللرسولصلىاللهعليهوآله. ويروى أيضاً:
أنّ عمر كان معنيّاً بالإمام الحسين عليه السلام حتى طلب منه أن يأتيه إذا عرض
له أمر. وقصده الحسين عليه السلام يوماً ومعاوية عنده، ورأى ابنه عبد الله فطلبعليه
السلام الإذن منه فلم يأذن له فرجع معه، والتقى به عمر في الغد
فقال له: ما منعك يا حسين أن تأتيني؟ قال الحسين عليه السلام: (إنّي جئت وأنت
خال بمعاوية فرجعت مع ابن عمر) قال عمر: أنت أحقّ من ابن عمر، فإنّما أنبت ما
ترى في رؤوسنا الله ثم أنتم(المصدر السابق.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
الحسين عليه السلام
في عهد عثمان:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
بخُلق الرسالة وآداب النبوة وبالفضائل
السامية أطلّ الإمام الحسين عليه السلام على مرحلة الرجولة في العقد الثالث من
العمر، يعيش أجواء أبيه المحتسب وهو يرى اللعبة السياسية تتلوّن والهدف واحد،
وهو أن لا يصل عليّ عليه السلام وبنوه إلى زعامة الدولة الإسلامية بل تبقى
الخلافة بعيدة عنهم، فهاهو ابن الخطّاب لا يكتفي بحمل الأمة على ما لا تطيق من
جفاء رأيه وطبعه وأخطاء اجتهاداته; حتّى ابتلاها بالشورى السداسيّة التي انبثقت
منها خلافة عثمان. ولقد وصف الإمام أمير
المؤمنين عليه السلام هذه المرحلة وهو الذي آثر
مصلحة الدين والأمة على حقّه الخاص في الزعامة فصبر صبراً مُرّاً حتّى قال: فصبرت وفي العين قذى، وفي الحلق شجا،
أرى تراثي نهباً، حتى مضى الأوّل لسبيله، فأدلى بها إلى ابن الخطّاب بعده،
فصيّرها في حوزة خشناء يغلظ كلمها ويخشن مسّها، ويكثر العثار فيها، فصبرت على
طول المدّة وشدّة المحنة، حتى إذا مضى لسبيله جعلها في جماعة زعم أنّي أحدهم،
فيالله وللشورى، متى اعترض الريب فيّ مع الأوّل منهم حتى صرت أُقرن إلى هذه
النظائر؟! (نهج البلاغة: الخطبة الشقشقية.). وازدادت محنة أهل البيت عليهم السلام
وتضاعفت مهمّتهم صعوبةً، وهم يواجهون عصراً جديداً من الانحراف بالخلافة، وهو
عصر يتطلّب جهوداً أضخم وسعياً أكبر لكي لا تضيع الأمة والرسالة، ولكنّ لوناً
متميزاً من المعاناة القاسية بدأ واضحاً يصبغ حياة الأمة الإسلامية، فإنّ خيار
رجالها من صحابة رسول الله صلىاللهعليه وآله يهانون ويضربون وينفون في الوقت
الذي تتسابق على مراكز الدولة شرارها من الطلقاء وأبنائهم، تحت ظلّ ضعف عثمان
وجهله بالأمور أحياناً وعصبيّته القبليّة الأُموية أحياناً أخرى(تاريخ الخلفاء: 57.). وعاش الحسين عليه السلام معاناة الأمة
وهي تنتفض على فساد حكم عثمان في مخاض عسير، فتمتدّ الأيادي المظلومة لتزيح
الخليفة الحاكم بقوّة السيف. وفي خطبة الإمام علي عليه
السلام المعروفة بالشقشقيّة والتي وصف فيها محنة الأمة بتولّي
الخلفاء الثلاثة دفّة الحكم قبله تصوير دقيق لما جرى في حكم عثمان بن عفّان; إذ قال
عليه السلام: إلى أن قام ثالث القوم نافجاً حضنيه(1)
بين نثيله(2)،
ومعتلفه(3)،
وقام معه بنو أبيه يخضمون(4)
مال الله خضمة الإبل نبتة الربيع(5)،
إلى أن انتكث عليه فتله(6)،
وأجهز(7) عليه
عمله، وكبت(8)
به بطنته(9). (1) نافجاً حضنيه:
رافعهما، والحضن: مابين الإبط والكشح. (2) النثيل: الروث وقذر
الدواب. (3) المعتلف: موضع العلف. (4) الخضم: أكل الشيء
الرطب. (5) النبِتة - بكسر النون
-: كالنبات في معناه. (6) انتكث عليه فتله:
انتقض. (7) أجهز عليه: تمّم
قتله. (8) كبت به: من كبا
الجواد إذا سقط بوجهه. (9) البِطنة - بالكسر -:
البطر والأشر والتخمة. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
موقف مع أبي ذرّ
الغفاري:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
أمعن الخليفة عثمان بن عفان في التنكيل
بالمعارضين والمندّدين بسياسته غير مراع حرمة أو كرامة أحد من صحابة الرسول صلى اللهعليه
وآله الذين طالتهم يداه، فصبّ عليهم جام غضبه وبالغ في ظلمهم وإرهاقهم، وكان
أبو ذر الغفاري - وهو أقدم أصحاب الرسول صلى اللهعليه وآله الذين سبقوا إلى
الإسلام - واحداً من المندّدين بسياسة عثمان والرافضين لها، وقد نهاه عثمان عن
ذلك فلم ينته، فالتاع عثمان وضاق به ذرعاً فأبعده إلى الشام، وفي الشام أخذ أبو
ذر يوقظ الناس ويدعوهم إلى الحذر من السياسة الأُموية التي كان ينتهجها معاوية
ابن أبي سفيان والي عثمان الأموي على الشام. لقد غضب معاوية على حركة أبي ذرّ وكتب
إلى عثمان يخبره بخطره عليه، فاستدعاه إلى المدينة، لكن هذا الصحابي الجليل واصل
مهمّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتحذير من خطر الأُموية الدخيلة على الإسلام
والمسلمين، فرأى عثمان أنّ خير وسيلة للتخلّص من معارضة أبي ذر هي نفيه إلى جهة
نائية لا سكن فيها، فأمر بإبعاده إلى الربذة موعزاً إلى مروان بن الحكم بأن يمنع
المسلمين من مشايعته وتوديعه، ولكنّ أهل الحقّ أبوا إلاّ مخالفة عثمان، فقد
انطلق لتوديعه - بشكل علني - الإمام علي عليه السلام والحسنانعليهماالسلام
وعقيل وعبد الله بن جعفر وعمّار بن ياسر رضي الله عنهم. وقد نقل المؤرّخون كلمات
حكيمة وساخنة للمودّعين استنكروا خلالها الحكم العثماني الجائر ضدّه، وقد جاء في
كلمة الإمام الحسين عليه السلام ما نصّه: يا عمّاه! إنّ الله تبارك وتعالى قادر
أن يغيّر ما قد ترى، إنّ الله كلّ يوم هو في شأن، وقد منعك القوم دنياهم،
ومنعتهم دينك، فما أغناك عمّا منعوك، وأحوجهم إلى ما منعتهم؟ فاسأل الله الصبر،
واستعذ به من الجشع والجزع، فإنّ الصبر من الدين والكرم، وإنّ الجشع لا يقدّم
رزقاً والجزع لا يؤخّر أجلاً(بحار الأنوار: 22 / 412، وراجع: مروج الذهب: 2 / 350.). وبكى أبو ذر بكاءً مرّاً، فألقى نظرة
الوداع الأخيرة على أهل البيت عليهم السلام الذين أخلص لهم الودّ وأخلصوا له، وخاطبهم بقوله: (رحمكم الله يا أهل بيت
الرحمة، إذا رأيتكم ذكرت بكم رسول الله صلىاللهعليهوآله،
ما لي بالمدينة سكن ولا شجن غيركم، إنّي ثقلت على عثمان بالحجاز كما ثقلت على
معاوية بالشام، وكره أن أجاور أخاه وابن خاله بالمصرين فاُفسد الناس عليهما
فسيّرني إلى بلد ليس لي به ناصر ولا دافع إلاّ الله، والله ما أريد إلاّ الله
صاحباً، وما أخشى مع الله وحشة) (المصدر السابق.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
الإمام الحسين عليه السلام
في عهد الدولة العلوية
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
انتهى حكم الخلفاء الثلاثة بمقتل
عثمان، وانتهت بذلك خمسة وعشرون عاماً، من العناء الناشئ عن إقصاء الإمام أمير
المؤمنين علي بن أبي طالبعليه السلام عن
الحياة السياسية والاجتماعية للمسلمين. وقد أيقن المسلمون أنّ الإمام عليّاًعليه
السلام هو القائد الذي يحقّق آمالهم وأهدافهم ويعيد لهم كرامتهم،
وأنّهم سينعمون في ظلال حكمه بالحرية والمساواة والعدل فأصرّوا على مبايعته
بالخلافة. لكن وللأسف الشديد فقد جاءت قناعة
الأمة هذه متأخرةً كثيراً، حيث أصيبت الأمة بأمراض خطيرة وانحرافات كبيرة، وغابت
عنها الروح التضحوية والقيم الإيمانية، وتسربلت بالأطماع والمنافع الشخصية،
وانحدرت نحو التوجّهات الفئوية الضيّقة. من هنا أعلن الإمام علي عليه السلام رفضه
الكامل لخلافتهم قائلاً لهم: لا حاجة لي في أمركم، فمن اخترتم رضيت(بحار الأنوار: 32/7.). وذلك لعلمه عليه
السلام بأنّه من الصعب جدّاً أن يعيد إلى المجتمع الأحكام
الإسلامية التي بدّلها الخلفاء وغيّروها باجتهاداتهم الخاطئة، فإنّه
عليه السلام كان يعرف جيّداً أنّ المجتمع الذي نشأ على تلك
الأخطاء سيقف بوجهه وسيعمل جاهداً على مناجزته والحيلولة بينه وبين تحقيق
مخطّطاته السياسية الهادفة إلى تحقيق العدل والقضاء على الجور. هذا وإنّ أمير
المؤمنين عليه السلام مع سابقته الفريدة إلى الإسلام وحنكته السياسية ومؤهّلاته
القيادية العظيمة لم يستطع الوقوف بوجه الانحراف الذي سرى إلى جميع مفاصل
المجتمع الإسلامي، ولم يتمكّن من إعادة هذا المجتمع إلى طريق الحقّ والعدالة
اللاّحب، إذ وقفت في وجهه فئات من المنافقين والنفعيين ومن كان يحمل في نفسه
البغض والكره لله ولرسوله، وقد أكّد ذلك في خطبته الشقشقية بقوله عليه السلام:
فلمّا نهضتُ بالأمر نكثت طائفة(1)
ومرقت(2)
أخرى وقسط آخرون(3)
كأنّهم لم يسمعوا كلام الله سبحانه يقول: (تِلْكَ
الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي
الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)(4)
بلى والله لقد سمعوها ووعوها ولكنّهم حليت الدنيا في أعينهم وراقهم زبرجها(5). (1) نكثت طائفة: نقضت عهدها،
وأراد عليه السلامبتلك
الطائفة الناكثة أصحاب الجمل. (2) مرقت: خرجت، وأراد عليه السلام بتلك الطائفة المارقة الخوارج أصحاب
النهروان. (3) قسط: جار، وأرادعليه السلامبالجائرين أصحاب صفّين. (4) القصص (28): 83. (5) نهج البلاغة: الخطبة
الشقشقية. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
مع أبيه عليه السلام
في إصلاح الأمة:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
لقد بادر الإمام علي عليه السلام إلى
إعادة الحقّ إلى نصابه والعدل إلى سيادته، محيياً سنّة رسول الله صلىاللهعليه
وآله في الأمة منتهجاً الطريق القويم. وما أسرع ما وقفت قوى الضلال ضد
إصلاحات الإمام عليه السلام في مجال الإدارة وفي مجال توزيع الأموال وفي مجال
العدل في القضاء وفي مجال مراعاة شؤون الرسالة وشؤون المسلمين! ولم يتردّد عليه
السلام في التحرّك لفضح خط النفاق والقضاء على الفساد واجتثاث
جذوره لتسلم الرسالة والأمة منه، وقام هو وأهل بيته عليهم السلام يخوضون غمار
الحروب دفاعاً عن الإسلام مقتدين برسول الله صلىاللهعليه وآله. وشارك الإمام الحسين
عليه السلام في جميع الحروب التي شنّها المنافقون ضدّ الإمام علي عليه السلام.
وكان يبرز إلى ساحة القتال بنفسه
المقدّسة كلّما اقتضى الأمر وسمح له والده عليه
السلام وقد سجّل المؤرّخون خطاباً للإمام الحسين عليه السلام
وجّهه لأهل الكوفة لدى تحركهم إلى صفّين، جاء فيه بعد حمد الله تعالى والثناء
عليه: يا أهل الكوفة! أنتم الأحبّة الكرماء والشعار دون الدثار، جدّوا في إطفاء
ما وتر بينكم وتسهيل ما توعّر عليكم، ألا إنّ الحرب شرّها وريع وطعمها فظيع، فمن
أخذ لها أهبتها واستعدّ لها عُدّتها، ولم يألم كُلومها قبل حلولها فذاك صاحبها،
ومن عاجلها قبل أوان فرصتها واستبصار سعيه فيها فذاك قَمِن أن لا ينفع قومَه وإن
يهلك نفسه، نسأل الله بقوّته أن يدعمكم بالفيئة(شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد: 1 / 284.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
حرص الإمام علي
عليه السلام على سلامة الحسنين عليهماالسلام: |
|||||||||||||||||||||||||||
|
قاتل الإمام الحسين عليه السلام في
معركة صفّين كما قاتل في معركة الجمل، مع أنّ بعض الروايات أفادت بأنّ أمير
المؤمنين عليه السلام كان يمنع الحسنين عليهماالسلام
من النزول إلى ساحة القتال خشية أن ينقطع نسل رسول الله صلىاللهعليه وآله; إذ
كان عليه السلام يقول: إملكوا عنّي هذا الغلام لا يَهُدَّني، فإنّني أنفسُ
بهذين - يعني الحسن والحسين عليهماالسلام -
على الموت لئلاّ ينقطع بهما نسل رسول الله صلىاللهعليهوآله(نهج البلاغة: من كلام له عليه السلام في بعض أيام صفّين، وقد رأى ابنه الحسن
يتسرّع إلى الحرب. باب خطب أمير المؤمنين: 207.). وجاء في نصوص أخرى أنّ أمير المؤمنين
عليه السلام كان يبعث ابنه محمّد ابن الحنفية إلى ساحات القتال مرّات عديدة دون
أن يسمح للحسنين عليهماالسلام
بذلك، وقد سئل ابن الحنفية عن سرّ ذلك فأجاب:
(إنّهما عيناه وأنا يمينه فهو يدفع عن عينه بيمينه)( شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد: 1 / 118.).
ويعكس هذا الجواب مدى ما كان يحظى به الحسنان عند الإمام علي عليه
السلام. وتفيد الأخبار بأنّ الإمام الحسين عليه
السلام ظلّ مع أبيه بعد صفّين أيضاً في جميع الأحداث مثل قضية
التحكيم ومعركة النهروان. ومعلوم أنّ الأحداث التي عايشها الإمام
الحسين مع أبيه عليهما السلام كانت مأساوية ومرّة جدّاً، وقد بلغت المأساة
ذروتها عندما تآمر الخوارج على قتل أسمى نموذج للإنسان الكامل - بعد رسول الله
صلىاللهعليه وآله - أي عندما ضرب المجرم عبد الرحمن بن ملجم المرادي الخارجي
إمامه أمير المؤمنين عليه السلام على رأسه بالسيف وهو في محراب العبادة. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
وصايا أمير المؤمنين
عليه السلام للإمام الحسين عليه السلام:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
تدلُّ وصايا أمير المؤمنين عليه السلام
لولده الحسين عليه السلام على شدّة اهتمامه به ومحبّته له، وقد جاء في نهج
البلاغة أنّ أمير المؤمنين عليه السلام لمّا
ضربه ابن ملجم (لعنه الله) أوصى للحسن والحسين بالوصية التالية: (أوصيكما بتقوى الله، وأن لا تبغيا
الدنيا وإن بغتكما، ولا تأسفا على شيء منها زُوِيَ عنكما، وقولا بالحقّ، واعملا
للأجر وكونا للظالم خصماً، وللمظلوم عوناً. أوصيكما وجميع ولدي وأهلي ومن بلغه
كتابي بتقوى الله ونظم أمركم وصلاح ذات بينكم; فإنّي سمعت جدّكماصلىاللهعليهوآله
يقول: (صلاح ذات البين أفضل من عامّة الصلاة والصيام). الله الله في الأيتام!
فلا تغبّوا أفواههم، ولا يضيعوا بحضرتكم. والله الله في جيرانكم! فإنّهم وصيّة
نبيّكم، ما زال يوصي بهم حتى ظننّا أنّه سيورّثهم. والله الله في القرآن! لا
يسبقكم بالعمل به غيركم. والله الله في الصلاة! فإنّها عمود دينكم. والله الله
في بيت ربّكم! لا تخلوه ما بقيتم، فإنّه إن تُرك لم تُناظروا. والله الله في
الجهاد بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم في سبيل الله! وعليكم بالتواصل والتباذل،
وإيّاكم والتدابر والتقاطع، لا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي وثمّة وصية أخرى قيّمة وجامعة خاصّة
بالإمام الحسين عليه السلام ذكرها ابن شعبة في تحف العقول، ونحن ننقلها لأهمّيتها
حيث تضمّنت حكماً غرّاء ووصايا أخلاقية خالدة. وإليك
نصّ ما رواه ابن شعبة عن الإمام علي عليه السلام: (يا بُنيّ! أوصيك بتقوى الله في الغنى
والفقر، وكلمة الحقّ في الرضى والغضب، والقصد في الغنى والفقر، وبالعدل على
الصديق والعدوّ، وبالعمل في النشاط والكسل، والرضى عن الله في الشدّة والرّخاء،
أي بنيّ ماشرٌ بعده الجنّة بشرّ، ولا خير بعده النار بخير، وكلّ نعيم دون الجنة
محقور، وكلّ بلاء دون النار عافية. واعلم يا بُنيّ! أنّه مَن أبصر عيب
نفسه شُغل عن عيب غيره، ومَن تعرّى من لباس التقوى لم يستتر بشيء من اللباس، ومَن
رضي بقسم الله لم يحزن على ما فاته، ومَن سلّ سيف البغي قتل به، ومَن حفر بئراً
لأخيه وقع فيه، ومَن هتك حجاب غيره انكشفت عورات بيته، ومَن نسي خطيئته استعظم
خطيئة غيره، ومن كابد الأمور عطب، ومن اقتحم الغمرات غرق، ومن أعجب برأيه ضلّ،
ومن استغنى بعقله زلّ، ومَن تكبّر على الناس ذلّ، ومَن خالط العلماء وُقّر. ومن
خالط الأنذال حُقّر. ومَن سفه على الناس شُتم، ومَن دخل مداخل السوء اتّهم، ومَن
مزح استخفّ به، ومَن أكثر من شيء عرف به، ومَن كثر كلامه كثر خطؤه، ومَن كثر
خطؤه قل حياؤه، ومَن قلّ حياؤه قلّ ورعه، ومَن قلّ ورعه مات قلبه، ومَن مات قلبه
دخل النار. أي بنيّ! من نظر في عيوب الناس ورضي
لنفسه بها فذاك الأحمق بعينه، ومَن تفكّر اعتبر، ومَن اعتبر اعتزل، ومَن اعتزل
سلم، ومَن ترك الشهوات كان حرّاً، ومَن ترك الحسد كانت له المحبة عند الناس. أي بُنيّ! عزّ المؤمن غناه عن الناس،
والقناعة مال لا ينفد، ومَن أكثر من ذكر الموت رضي من الدنيا باليسير، ومَن علم
أنّ كلامه من عمله قلّ كلامه إلاّ فيما ينفعه. أي بنيّ! العجب ممّن يخاف العقاب فلم
يكفّ، ورجا الثواب فلم يتب ويعمل. أي بنيّ! الفكرة تورث نوراً والغفلة
ظلمة والجهالة ضلالة، والسعيد من وعظ بغيره، والأدب خير ميراث، وحسن الخلق خير
قرين، ليس مع قطيعة الرحم نماء ولامع الفجور غنى. أي بُنيّ! العافية عشرة أجزاء
تسعة منها في الصمت إلاّ بذكر الله، وواحدة في ترك مجالسة السفهاء. أي بنيّ! مَن تزيّا بمعاصي الله في
المجالس أورثه الله ذلاًّ، ومن طلب العلم علم. أي بنيّ! رأس العلم الرفق، وآفته
الخرق، ومن كنوز الإيمان الصبر على المصائب، والعفاف زينة الفقر، والشكر زينة
الغنى، كثرة الزيارة تورث الملالة، والطمأنينة قبل الخبرة ضد الحزم، وإعجاب
المرء بنفسه يدلّ على ضعف عقله. أي بُني، كم نظرة جلبت حسرة، وكم من كلمة سلبت
نعمة. أي بنيّ! لا شرف أعلى من الإسلام، ولا
كرم أعزّ من التقوى، ولا معقل أحرزُ من الورع، ولا شفيع أنجح من التوبة، ولا
لباس أجمل من العافية، ولا مال أذهب بالفاقة من الرضى بالقوت، ومن اقتصر على
بُلغة الكفاف تعجّل الراحة وتبوّأ خفض الدعة. أي بُنيّ! الحرص مفتاح التعب ومطيّة
النصب وداع إلى التقحّم في الذنوب، والشره جامع لمساوئ العيوب، وكفاك تأديباً
لنفسك ما كرهته من غيرك، لأخيك عليك مثل الذي أي بُنيّ! لا تؤيّس مذنباً، فكم من
عاكف على ذنبه خُتم له بخير، وكم من مقبل على عمله مُفسد في آخر عمره، صائر إلى
النار. أي بُنيّ! كم من عاص نجا، وكم من عامل
هوى، من تحرّى الصدق خفّت عليه المؤن، في خلاف النفس رُشدُها، الساعاتُ تنتقص
الأعمار، ويلٌ للباغين من أحكم الحاكمين وعالم ضمير المضمرين. يا بُنيّ! بئس الزادُ إلى المعاد
العدوانُ على العباد، في كلّ جُرعة شرق، وفي كلّ أكلة غصص، لن تُنال نعمة إلاّ
بفراق أخرى. ما أقرب الراحة من النصب، والبؤس من
النعيم، والموت من الحياة، والسقم من الصحة! فطوبى لمن أخلص لله عمله وعلمه
وحبّه وبغضه وأخذه وتركه وكلامه وصمته وفعله وقوله، وبخ بخ لعالم عمل فجدّ، وخاف
البيات فأعدّ واستعدّ، إن سُئل نصح، وإن تُرك صمت، كلامه صوابٌ، وسكوته من غير
عيّ جواب. والويل لمن بُلي بحرمان وخذلان وعصيان،
فاستحسن لنفسه ما يكرهه من غيره، وأزرى على الناس بمثل ما يأتي. واعلم أي بُنيّ! أنّه من لانت كلمتُه
وجبت محبّته، وفّقك الله لرشدك، وجعلك من أهل طاعته بقدرته، إنّه جواد كريم(تحف العقول: 88 وصايا أمير المؤمنين عليه السلام.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
الإمام الحسين مع
أبيه عليهما السلام
في لحظاته الأخيرة:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
كان آخر ما نطق به أمير المؤمنين عليه
السلام هو قوله تعالى: (لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ)، ثمّ فاضت
روحه الزكية، تحفّها ملائكة الرحمن، فمادت أركان العدل في الأرض، وانطمست معالم
الدين. لقد مات ملاذ المظلومين والمحرومين
الذي كرّس جهده لإقامة دولة تُنهي دور الإثرة والاستغلال وتقيم العدل والحقّ بين
الناس. وقام سبطا رسول الله صلىاللهعليه
وآله بتجهيز أبيهما المرتضىعليه السلام
فغسّلاه وأدرجاه في أكفانه. وفي الهزيع الأخير من الليل حملاه إلى قبره في النجف
الأشرف، وقد واروا أكبر رمز للعدالة والقيم الإنسانية المثلى كما اعترف بذلك
خصومه. وكتب المؤرّخون: أنّ معاوية لمّا بلغه مقتل الإمام علي عليه السلام خرج
واتّخذ يوم قتله عيداً في دمشق! فقد تحقّق له ما كان يأمله، وتمّ له ما كان يصبو
إليه من اتّخاذ الملك وسيلة لاستعباد المسلمين وإرغامهم على ما يكرهون(حياة الإمام الحسين عليه السلام: 2 / 109.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
الإمام
الحسين في عهد أخيه الإمام الحسن عليهما السلام
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
حالة الأمة قبل الصلح
مع معاوية:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
لم يكن تفتّتُ أركان المجتمع الإسلامي
- الذي كان يؤمن بأقدس رسالة سماوية وأعظمها وأشملها - في ظلّ حكم معاوية بن أبي
سفيان وليد جهود آنيّة، فقد بدأ الانحراف من يوم السقيفة، إذ تولّى زمام اُمور
الأمة مَن كان لا يملك الكفاءة والقدرة المطلوبة، وإنّما تصدّى لها من تصدّى على
أساس العصبية القبلية(الإمامة والسياسة: 1 / 6.).
ويشهد لذلك قول أبي بكر: وُلّيت أمركم ولست بخيركم(عليّ والحاكمون: 109، وتأريخ الخلفاء: 71.). وانحدرت الأمة في واد آخر يوم ميّز عمر بن الخطاب في العطاء بين المسلمين
مخالفاً سنّة رسول الله صلىاللهعليهوآله
ومبتدعاً نظاماً طبقياً جديداً، حتى إذا حكم عثمان بن عفّان; استفحل الفساد
واستشرى في جهاز الحكم والإدارة، حين سيطر فسّاق الناس وشرارهم على أمور الناس
فراحوا يعيثون في الأمة فساداً كالوليد بن عقبة والحكم بن العاص وعقبة بن أبي
معيط وسعيد بن العاص وعبد الله بن سعد بن أبي سرح(تأريخ اليعقوبي: 2 / 41، والعقد الفريد: 2 / 261، وأنساب الأشراف: 5
/ 38، وشرح النهج: 1 / 67.). وأصبحت العائلة الأُموية التي لم تنفتح
على الإسلام لتشكل قوّة اقتصادية جرّاء نهبهم لثروات الأمة، وعطايا عثمان لهم
بغير حق، وتغلغلوا في أجهزة الحكم، وتمكّن معاوية بن أبي سفيان خلال ولايته على
الشام منذ عهد عمر أن يُنشئ مجتمعاً وفق ما تهوى نفسه الحاقدة على الإسلام والنبي
صلىاللهعليه وآله وأهل بيته عليهم السلام، فقد دخل هو وأبوه الإسلام مقهورين
موتورين يوم فتح مكة، ودخل في عداد الطلقاء، بعد أن كان قد فقد جدّه وخاله وأخاه
في الصراع ضد الإسلام قبل فتح مكّة. على أنّ طوال هذه الفترة - منذ وفاة الرسول
صلى اللهعليه وآله إلى نهاية حكم عثمان - لم يعتنِ النظام الحاكم بالدعوة
الإسلامية ونشرها وترسيخها في النفوس، ولم يسع لاجتثاث العقد والأمراض والعادات
القبلية، بل كان همّ الحاكمين هو الاندفاع في الفتوحات طمعاً في توسعة الدولة
وزيادة الأموال. وقد عمل الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام منذ وفاة الرسول
صلى اللهعليه وآله جاهداً على أن لا تفقد الأمة شخصيتها الإسلامية وحاول
تقليل انحرافها، فكان يتدخّل ويُعِين الفئة الحاكمة تارةً باللين واُخرى بالشدّة
متجنّباً الصدام المباشر معهم، لأجل استرداد حقّه الشرعي في الخلافة، مؤثراً
مصلحة الإسلام العامّة على ما سواها من المصالح(شرح النهج لابن أبي الحديد: 1 / 248.). لقد فجعت الأمة بمصلحها الكبير - يوم
استشهد الإمام علي عليه السلام - وانهارت بين يدي الإمام الحسن بن علي عليهماالسلام
بعد أن أنهكتها حروب الإصلاح ضد الناكثين والقاسطين والمارقين; إذ أسرعت القوى
النفعية والمنافقة والحاقدة على الإسلام إلى الوقوف في وجه الإمام علي عليه السلام
متنكرة لأوامر الله سبحانه ورسوله صلىاللهعليه وآله غير مبالية بمصلحة الأمة،
بالرغم من تجسيده للزعامة الحقيقية التي تقود إلى منهج الحقّ والعدل الإلهي، وهم
يعلمون بشرعيته التي اكتسبها من الرسالة والرسول صلى اللهعليه وآله. وهذا ما
كان يشكّل خطراً حقيقياً من شأنه أن يلغي وجودهم من المجتمع الإسلامي، ولهذا
كانت حروب: الجمل وصفّين ثم النهروان. ورأى الإمام الحسن عليه السلام أن ينهض بالأمة مواصلاً مسيرة الإصلاح ومواجهة
الانحراف، ولكنّ الجموع آثرت السلامة والركون إلى الراحة(الإرشاد للمفيد: 8 - 9.)،
فاضطرّ الإمام الحسن عليه السلام إلى
الصلح والمهادنة مع معاوية - وهو المتحصّن القويّ في بلاد الشام - على شروط
وعهود مهمّة، ليضمن سلامة الصفوة الخيّرة من الأمة، وليبني قاعدة جماهيرية أكثر
وعياً وأعمق إيماناً برسالتها الإسلامية، كي لا يُمسخ المجتمع المسلم ولا تُمحق
الرسالة; إذ ليس السيف دائماً هو الفيصل في حالات النزاع، فربما كان للكلمة
والمعاهدة أثر أبلغ في مرحلة خطرة، حيث الهدف هو صيانة الرسالة الإسلامية وحفظ
الأمة الإسلامية في كلّ الأحوال، وليتّضح دور النفاق والعداء الذي كان يتّسم به
بنو أُمية وما كان يُضمِرهُ حكّامهم للإسلام. ولقد وقف الإمام الحسين عليه السلام
إلى جانب أخيه الإمام الحسن عليه السلام وعايش جميع الأحداث التي مرّ بها أخوه، وكانا
على اتّفاق تامّ في الرأي والموقف، يعاضده في توجيه الأمة وإنقاذها بعد أن رأى
كيف أنّ انحراف السقيفة تكاملت أدواره في هذه المرحلة، وقد سرى هذا الانحراف في
جسد الأمة حتى غدت لا تتحفّز لنهضة الإمام الحسن عليه السلام ولا تستجيب لأوامره. وأحاط الإمام الحسن عليه السلام بكلّ ما دبّره معاوية من المكائد والدسائس،
وأصبحت الأكثرية من جيش العراق في قبضة معاوية بن أبي سفيان وطغمته، بعد أن كان
يمثّل جيش العراق العمود الفقري لجيش الإمام علي عليه السلام. ولم يكن ليخفى على الإمام الحسين عليه السلام
أنّ المعركة - لو قدّر للإمام الحسن أن يدخلها مع معاوية - ستكون لصالح الأخير،
وستنتهي حتماً إمّا بقتل الحسن والحسين وجميع الهاشميّين وخُلَّص شيعتهم، أو
ستنتهي بأسرهم، في الوقت الذي تحتاج فيه الأمة الإسلامية إلى وجود الإمام
المعصوم بينها لإنقاذ ما تبقّى وبناء ما تهدّم; فإنّ الرسالة الإسلامية خاتمة
الرسالات ولابدّ من إتمام ما بناه الرسول صلىاللهعليهوآله
والإمام علي بن أبي طالبعليه السلام. ومن ذلك تبيّن أنّ ما رواه
بعض المؤرّخين من أنّ الإمام الحسين عليه السلام كان
كارهاً لما فعله الإمام الحسن عليه السلام وأنّه قال له: (أنشدك الله أن لا تصدّق أحدوثة
معاوية وتكذّب أحدوثة أبيك) وأنّ الحسن قال له: (أُسكت أنا أعلم منك)... يتبيّن
أنّ هذه المرويّات لا أساس لها من الصحة(سيرة الأئمّة الاثني عشر: 2 / 23.). هذا بالإضافة إلى أنّ الإمام الحسين
عليه السلام كان أبعد نظراً وأعمق غوراً في الأمور ومعطياتها من أفذاذ عصره
الذين قدّروا للحسنعليه السلامموقفه
الحكيم الذي لم يكن هناك مجال لاختيار موقف سواه، وكان عليه السلام أرفع شأناً
من أن تخفى عليه المصلحة التي أدركها غيره فيما فعله أخوه حتى يقف منه ذلك
الموقف المزعوم. ولا يشكّ المعتقدون بإمامة وعصمة
الإمامين الحسنينعليهماالسلام في
عدم صحة الروايات التي تحدّثت عن معارضة الإمام الحسين عليه السلام لموقف أخيه
الإمام الحسن عليه السلام من الصلح مع
معاوية. فإذا كان الحسنان عليهماالسلام
إمامين مفترضي الطاعة; كان كلّ ما قاما به هو محض التكليف الإلهي، وطبقاً لما
أراده الله تعالى لهما، فليس ثمّة مجال لمثل تلك الروايات. ويشهد على قولنا هذا روايات
معتبرة تعارض تلك الروايات غير الصحيحة، منها ما يلي: 1 - قال أبو عبد الله الصادق عليه
السلام: نحن قوم فرض الله طاعتنا، وأنتم تأتمّون بمن لا يعذر
الناس بجهالته(أصول الكافي: 1 / 143، باب فرض طاعة الأئمّة.). 2 - سأل رجل أبا الحسن الإمام الرضاعليه
السلام فقال: طاعتك مفترضة؟ فقال: نعم، قال: مثل طاعة عليّ بن
أبي طالبعليه السلام؟ فقال: نعم(أصول الكافي: 1 / 143، باب فرض طاعة الأئمّة.). 3 - عن أبي جعفرعليه
السلام قال: قال له حمران: جُعلت فداك، أرأيت ما كان من أمر عليّ
والحسن والحسين عليهمالسلام وخروجهم
وقيامهم بدين الله عَزَّ وجَلَّ وما أصيبوا من قتل الطواغيت إيّاهم والظفر بهم
حتى قُتلوا أو غلبوا؟ فقال أبو جعفرعليه
السلام: يا حُمران!
إنّ الله تبارك وتعالى قد كان قدّر ذلك عليهم وقضاه وأمضاه وحتمه ثمّ أجراه،
فبتقدّم علم ذلك إليهم من رسول الله صلىاللهعليه وآله قام عليّ والحسن
والحسين وبعلمٍ صمت من صمت منّا(أصول الكافي: 1 / 221 - 222 باب أنّ الأئمّةعليهمالسلام لم يفعلوا شيئاً ولا يفعلون إلاّ بعهد من
الله عَزَّ وجَلَّ وأمر منه لا يتجاوزونه.). 4 - وعن عظيم أخلاق الحسين عليه السلام
واحترامه لأخيه الحسن عليه السلام قال الإمام محمد الباقرعليه
السلام: ما تكلّم الحسين بين يدي الحسن إعظاماً له(حياة الإمام الحسين: 2 / 252.). 5 - قال أبو عبد الله عليه
السلام: إنّ معاوية كتب إلى الحسن بن عليّ (صلوات الله عليهما)
أن أقدم أنت والحسين وأصحاب عليّ، فخرج معهم قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري
فقدموا الشام، فأذن لهم معاوية، وأعدّ لهم الخطباء... ثمّ قال: يا قيس! قم
فبايع، فالتفت إلى الحسين عليه السلام ينظر ما يأمره، فقال: يا قيس! إنّه إمامي
( يعني الحسن عليه السلام )( بحار الأنوار: 44 / 61.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
احترام الإمام الحسين
عليه
السلام لبنود صلح الإمام
الحسن عليه
السلام:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
استشهد الإمام الحسن عليه السلام سنة (49) أو
(50) للهجرة، ومات معاوية سنة (60)
للهجرة، وفي هذه المدة كانت الإمامة والقيادة للإمام الحسين
عليه السلام ولم تجب عليه طاعة أحد، لكنّهعليه
السلام ظلّ ملتزماً ببنود معاهدة الصلح التي عقدها أخوه الإمام الحسن
عليه السلام مع معاوية، فلم يصدر عنه
أيّ موقف ينتهك به بنود المعاهدة المذكورة. بل لمّا طالبه بعض الشيعة بالقيام
والثورة على معاوية، أوصاهم بالصبر والتقية مشيراً إلى التزامه بالمعاهدة، وأنّه
سيكون في حِلٍّ من المعاهدة بموت معاوية. رسالة جعدة
بن هبيرة إلى الإمام الحسين عليه السلام:
كان جعدة بن هبيرة بن أبي وهب من أخلص
الناس للإمام الحسين عليه السلام وأكثرهم مودّة له، وقد اجتمعت عنده الشيعة
وأخذوا يلحّون عليه في مراسلة الإمام للقدوم إلى مصرهم الكوفة ليعلن الثورة على
حكومة معاوية، فدفع جعدة رسالة إلى الإمام الحسين عليه السلام هذا نصها: (أمّا
بعد، فإن من قبلنا من شيعتك متطلّعة أنفسهم إليك، لا يعدلون بك أحداً، وقد كانوا
عرفوا رأي الحسن أخيك في الحرب، وعرفوك باللين لأوليائك والغلظة على أعدائك
والشدّة في أمر الله، فإن كنت تحبّ أن تطلب هذا الأمر فأقدم علينا، فقد وطنّا
أنفسنا على الموت معك)( حياة الإمام الحسين عليه السلام: 2 / 229 - 230.). فأجابه الإمام الحسين عليه السلام
بقوله: (أمّا أخي فإنّي أرجو أن يكون الله قد وفّقه
وسدّده، وأمّا أنا فليس رأيي اليوم ذاك، فالصقوا رحمكم الله بالأرض، واكمنوا في
البيوت، واحترسوا من الظنّة ما دام معاوية حيّاً، فإن يُحدث الله به حدثاً وأنا
حيّ كتبت إليكم برأيي، والسلام). يتبيّن ممّا تقدّم أنّ الإمام الحسين
عليه السلام - انطلاقاً من مسؤوليته الشرعية - اتّبع أخاه الإمام الحسن عليه السلام
في مسألة الصلح مع معاوية، وقد قبله
والتزم به طيلة حكم معاوية، بل إنّ عشرات الشواهد تؤكّد أنّهما كانا منسجمين في
تفكيرهما ونظرتهما إلى الأمور ومعطياتها ومتّفقين في كلّ ما جرى وتمّ التوصل
إليه. وكما نسبوا إلى الإمام الحسين عليه السلام
ذلك فقد نسبوا إلى الإمام الحسن عليه السلام أيضاً أنّه كان على خلاف مع أبيه! في كثير من
مواقفه السياسية قبيل خلافته وخلالها. ومن الواضح أنّ الهدف من أمثال هذه
المزاعم هو زرع الشكّ في نفوس الأمة بالنسبة للموقع الريادي للإمامين الشرعيين
الحسن والحسين عليهماالسلام بغية إيجاد الفرقة والاختلاف كي يبتعد الناس عنهما. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
استشهاد الإمام الحسن
عليه السلام:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
أقام الإمام الحسن عليه السلام بالكوفة أيّاماً بعد أن صالح معاوية، ثمّ عاد
مع أخيه الإمام الحسين عليه السلام وجميع أهل بيته إلى المدينة، فأقام بها
كاظماً غيظه لازماً منزله منتظراً لأمر ربّه جَلَّ اسمه الإرشاد: 2/15.).
وكما ذكرنا فإنّ الإمام الحسين عليه السلام رفض التحرّك ضد معاوية ما دام
حيّاً، التزاماً بمعاهدة الصلح التي كان قد عقدها أخوه الحسن عليه السلام معه. وقد اهتمّ الإمامان عليهم االسلام في
المدينة بالعبادة وترسيخ العقيدة الإسلامية في نفوس الناس وتوضيح الأحكام
الإسلامية للناس وإرشادهم وهدايتهم والعمل من أجل تربية جيل واع يتحمّل مسؤوليته
تجاه الظلم والفساد والانحراف الحاصل في مسيرة الأمة. وفي هذه السنوات العشر -
كما دوّنته جملة من مصادر التاريخ الإسلامي - قد حدثت عدّة مناوشات كلامية من
جانب الإمامين الحسن والحسين عليهماالسلام بالنسبة لتصرفات معاوية وجملة من
عناصر بلاطه. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
الباب
الثالث
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
فيه فصول: الفصل الأول: عصر الإمام الحسين عليه السلام. الفصل الثاني: مواقف الإمام الحسين عليه
السلام وإنجازاته. الفصل الثالث: نتائج الثورة الحسينية. الفصل الرابع: من تراث الإمام الحسين عليه
السلام. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
الفصل
الأول: عصر الإمام الحسين عليه السلام
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
البحث الأوّل: حكومة معاوية ودورها في تشويه الإسلام:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
أمسك معاوية والطغمة الفاسدة من بني
أُمية بزمام الحكم، وأكملوا بذلك الانحراف الذي حصل من السقيفة، حيث حوّل معاوية
الخلافة إلى ملك عضوض مستبدّ، حين صرّح بعدائه للأمة الإسلامية واعترف بعدم رضى
الأمة به حاكماً بقوله: والله ما ولّيتها - أي الخلافة - بمحبّة علمتها منكم ولا
مسرّة بولايتي ولكن جالدتكم بسيفي(تأريخ الخلفاء: 71.). ولكنّ معاوية والتيار الذي تزعّمه واجه
عقبةً كؤوداً، هي تطبيق الإمام علي عليه السلام لأحكام الشريعة الإسلامية
بصورتها الصحيحة. مضافاً إلى أنّه لم يترك الأمة حتى عمّق العقيدة في النفوس،
فأحبّته الجماهير - وخصوصاً أهل العراق - وكان في ذلك حريصاً على الرسالة والأمة
الإسلامية ومفنّداً مزاعم أرباب السقيفة حين عبّر أبو بكر عن عجزه واعتذر عن
كثرة أخطائه بقوله: فإني قد وُلّيت عليكم ولست بخيركم(المصدر السابق.).
فإنّ هذا الاعتذار قد يفهم منه عدم إمكان التطبيق التام للشريعة الإسلامية.
ولكنّ الإمام عليّاًعليه السلام قد
قدّم النموذج الحيّ للقيادة الكفوءة الواعية والمعصومة بعد الرسول صلى اللهعليه
وآله، فكانت الأمة المسلمة تتوقّع قائداً كعلي بن أبي طالبعليه
السلام. ولكن معاوية شرع في تشويه هذه القيم
الإسلامية ومحاربة القوى المتعاطفة مع أهل البيت عليهم السلام وهدم كلّ ما بناه
الإمام علي عليه السلام في الأمة الإسلامية من قيم فتفقد إرادتها ويموت ضميرها
لئلاّ تكون قادرة على مواجهة أهواء الحكّام المخالفة للدين الحنيف. لقد أعلن
معاوية - منذ أوّل خطوة - أنّ هدفه الأساس هو استلام زمام الحكم حتّى لو أريقت
من أجله دماء المسلمين المحرّمة بكلمته المعروفة: والله ما قاتلتكم لتصلّوا ولا
لتصوموا ولا لتحجّوا ولا لتزكّوا، وإنّما قاتلتكم لأتأمّر عليكم(شرح نهج البلاغة: 4 / 16.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
منهج معاوية لمحاربة
الإسلام:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
ولابدّ لنا من دراسة موجزة للمخطّطات
الشيطانية التي تبنّاها معاوية وما رافقها من الأحداث الجسام، فإنّها من أهمّ
الأسباب في ثورة الإمام الحسين عليه السلام. لقد رأى الإمام عليه السلام ما وصل
إليه حال المسلمين من التردّي عقائدياً وأخلاقياً واجتماعياً واقتصادياً
وسياسياً. وكان كل هذا التردّي من جرّاء السياسات التي أبعدت الأمة عن مسار
الإسلام الأصيل من خلال ممارسات معاوية التي بلغت ذروتها في فرض يزيد بالقوة
خليفةً على المسلمين، فهبّ (سلام الله عليه) بعد هلاك معاوية إلى تفجير ثورته
الكبرى التي أدّت إلى إيقاظ النفوس وتحريك إرادة الأمة. واليك بعض معالم سياسات الجاهلية الأُموية التي تصدّى لتنفيذها
معاوية: |
|||||||||||||||||||||||||||
|
1 - سياسته الاقتصادية:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
لم تكن لمعاوية أيّة سياسة اقتصادية في
المال حسب المعنى المتداول لهذه الكلمة، وإنّما كان تصرّفه في جباية الأموال
وإنفاقها خاضعاً لرغباته وأهوائه، فهويهب الثراء العريض للمؤيدين له ويحرم
معارضيه من العطاء، ويأخذ الأموال ويفرض الضرائب بغير حقّ، وقد شاع في عصر
معاوية الفقر والحرمان عند الأكثرية الساحقة من المسلمين، فيما تراكمت الثروات
عند فئة قليلة راحت تتحكّم في مصير المسلمين وشؤونهم، وهذه بعض الخطوط الرئيسة في سياسته الاقتصادية: أ -
الحرمان الاقتصادي:
أشاع معاوية الحرمان
الاقتصادي في الأقطار التي كانت تضمّ الجبهة المعارضة له، مثل: * يثرب:
لم ينفق معاوية على أهل يثرب أيّ شيء
من المال، لأنّ فيهم كثيراً من الشخصيات المعارضة للأسرة الأموية والطامعة في
الحكم، يقول المؤرخون: إن معاوية أجبرهم على بيع أملاكهم فاشتراها بأبخس
الأثمان، وقد أرسل قيّماً على أملاكه لتحصيل وارداتها فمنعوه عنها، وقابلوا
حاكمهم عثمان بن محمد وقالوا له: إنّ هذه الأموال لنا كلّها، وإنّ معاوية آثر
علينا في عطائنا، ولم يعطنا وقد نصب معاوية على الحجاز مروان بن
الحكم تارةً وسعيد بن العاص مرّة أخرى، وكان يعزل الأوّل ويولّي الثاني، وقد
جهدا معاً في إذلال أهل المدينة وإفقارهم. * العراق:
فرض معاوية على أهل العراق عقوبات
اقتصاديةً بصفته المركز الرئيسي للمعارضة، وكان واليه المغيرة بن شعبة يحبس
العطاء والأرزاق عن أهل الكوفة، وقد سار الحكّام الأمويون بعد معاوية على هذا
النهج في اضطهاد أهل العراق وحرمانهم(حياة الإمام الحسين عليه السلام: 2 / 125، وراجع العقد الفريد: 4 /
259.)،
باعتبارهم الثقل الأكبر في الخطّ الواعي الذي وقف مع أمير المؤمنين عليه
السلام. ب -
استخدام المال لتثبيت ملكه:
استخدم معاوية بيت المال لتثبيت ملكه
وسلطانه، واتّخذ المال سلاحاً يمكّنه من التسلّط على الأمة، فقد كان من عناصر
سياسة الأمويين استخدام المال سلاحاً للإرهاب وأداةً للتقريب، فحرم منه فئةً من
الناس، وأغدق أضعافاً مضاعفة لطائفة أخرى ثمناً لضمائرهم وضماناً لصمتهم(المصدر السابق: 2 / 127، نقلاً عن اتجاهات الشعر العربي: 27، د. محمد
مصطفى.). ووهب معاوية خراج مصر لعمرو بن العاص،
وجعله طعمة له مادام حيّاً، وذلك لتعاونه معه على مناجزة أمير المؤمنينعليه
السلام(حياة الإمام الحسين عليه السلام: 2 / 127.). ج - شراء
الذمم:
فتح معاوية باباً جديداً في سياسته
الاقتصادية وهي شراء الذمم، فقد أعلن عن ذلك بكل دناءة قائلاً: والله لأستميلنّ
بالأموال ثقات علي، ولأقسِّمنَّ فيهم الأموال حتى تغلب دنياي آخرته(راجع وقعة صفّين لنصر بن مزاحم: 495، وشرح نهج البلاغة: 2 / 293.). كما روي أنّه وفد عليه جماعة من أشراف
العرب فأعطى كلّ واحد منهم مائة ألف درهم، وأعطى الحتات عمّ الفرزدق سبعين
ألفاً، فلمّا علم الحتات بذلك رجع مغضباً إلى معاوية، فقال له بلا خجل ولا حياء:
إنّي اشتريت من القوم دينهم، ووكلتك إلى دينك. فقال الحتات: اشتر منّي ديني. فأمر له
بإتمام الجائزة(حياة الإمام الحسين عليه السلام: 2 / 128 - 129.). د - ضريبة النيروز: فرض معاوية على المسلمين ضريبة النيروز
في بدعة سنّها من غير دليل في الشريعة الإسلامية، ليسدّ بها نفقاته، وبالغ في
إرهاق الناس واضطهادهم على أدائها، وقد بلغت فيما يقول المؤرخون: عشرة ملايين
درهم، وهي من الضرائب التي يألفها المسلمون، وقد اتّخذها الحكّام من بعده سنّةً
فأرغموا المسلمين على أدائها(المصدر السابق: 2 / 131، وراجع: الحياة الفكرية في الإسلام: 42.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
2 - سياسة التفرقة:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
بنى معاوية سياسته على تفريق كلمة
المسلمين، إيماناً منه بأنّ الحكم لا يستقرّ له إلاّ بإشاعة العداء بين أبناء
الأمة الإسلامية، (وكانت لمعاوية حيلته التي كرّرها وأتقنها وبرع فيها،
واستخدمها مع خصومه في الدولة من المسلمين وغير المسلمين، وكان قوام تلك الحيلة،
العمل الدائب على التفرقة والتخذيل بين خصومه بإلقاء الشبهات بينهم وإثارة الإحن
فيهم، ومنهم من كان من أهل بيته وذوي قرباه... كان لا يطيق أن يرى رجلين ذوي خطر
على وفاق، وكان التنافس الفطري بين ذوي الأخطار ممّا يعينه على الإيقاع بهم)( حياة الإمام الحسين عليه السلام: 2/135، عن العقّاد في كتابه (معاوية في
الميزان): 64.). أ - اضطهاد
الموالي:
بالغ معاوية في اضطهاد الموالي
وإذلالهم، وقد رام أن يبيدهم إبادةً شاملةً. يقول المؤرخون: إنّه دعا الأحنف بن
قيس وسمرة بن جندب وقال لهما: إنّي رأيت هذه الحمراء قد كثرت، وأراها قد قطعت
على السلف، وكأنّي أنظر إلى وثبة منهم على العرب والسلطان، فقد رأيت أن أقتل
شطراً منهم، وأدع شطراً لإقامة السوق وعمارة الطريق(العقد الفريد: 2 / 260.). ب -
العصبية القبلية:
أحيى معاوية العصبيات القبلية، وقد
ظهرت في الشعر العربي صور مريعة ومؤلمة من ألوان الصراع الذي كانت السلطة
الأُموية تختلقه لإشغال الناس عن التدخّل في الشؤون السياسية، وقال المؤرّخون: إنّ معاوية عمد إلى إثارة الأحقاد
القديمة بين الأوس والخزرج محاولاً بذلك التقليل من أهمّيتهم، وإسقاط مكانتهم
أمام العالم العربي والإسلامي، كما تعصّب لليمنيّين على المضريّين، وأشعل نار
الفتنة فيما بينهم حتى لا تتّحد لهم كلمة تضرّ بمصالح دولته(حياة الإمام الحسين عليه السلام: 2 / 137.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
3 - سياسة البطش والجبروت:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
ساس معاوية الأمة بسياسة البطش والقمع،
فاستهان بمقدّراتها وكرامتها، وقد أعلن - بعد الصلح - أنّه قاتل المسلمين وسفك
دماءهم كي يتأمّر عليهم، وقد أدلى بتصريح عبّر فيه عن كبريائه وغطرسته فقال: نحن
الزمان، من رفعناه ارتفع، ومن وضعناه اتّضع(حياة الإمام الحسين عليه السلام: 2 / 138 - 139، والعقد الفريد: 2 / 159.). وسار عمّاله وولاته على هذه الخطّة
الغادرة، فقد خاطب عتبة بن أبي سفيان المصريّين بقوله: فوالله لأقطعنّ بطون
السياط على ظهوركم. وجاء في خطاب لخالد القسري
في أهل مكة: فإنّي والله ما أوتي لي بأحد يطعن على إمامه (يعني
معاوية) إلاّ صلبته في الحرم(الأغاني لأبي الفرج الإصفهاني: 22/382 طبعة بيروت.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
4 - الخلاعة والمجون والاستخفاف بالقيم
الدينية:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
عُرف معاوية بالخلاعة والمجون، يقول
ابن أبي الحديد: كان معاوية أيام عثمان شديد التهتّك موسوماً بكلّ قبيح، وكان في
أيام عمر يستر نفسه قليلاً; خوفاً منه إلاّ أنّه كان يلبس الحرير والديباج ويشرب
في آنية الذهب والفضة، ويركب البغلات ذوات السروج المحلاّت بها - أي بالذهب -
وعليها جلال الديباج والوشي... ونقل الناس عنه في كتب السيرة أنّه كان
يشرب الخمر في أيام عثمان في الشام(حياة الإمام الحسين عليه السلام: 2 / 144 - 145.). وروي عن عبد الله بن بريدة قوله: دخلتُ
أنا وأبي على معاوية فأجلسنا على الفراش، ثم أوتينا بالطعام فأكلنا ثم أوتينا
بالشراب فشرب معاوية! ثم ناول أبي فقال: ما شربته منذ حرّمه رسول الله صلىاللهعليه
وآله(مسند أحمد بن حنبل: 5 / 347.). وثمة روايات عديدة تحدّثت عن أكل
معاوية للربا، منها: أنّ معاوية باع سقاية من ذهب أو ورق بأكثر من وزنها، فقال
له أبو الدرداء: سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآله
نهى عن مثل هذا إلاّ مِثلاً بمثل، فقال معاوية: ما أرى به بأساً. فقال له أبو
الدرداء: من يُعذرُني من معاوية؟ أنا أخبره عن رسول الله وهو يخبرني عن رأيه! لا
أُساكنك بأرض أنت بها. ثم قدم أبو الدرداء على عمر بن الخطّاب فذكر له ذلك، فكتب
عمر إلى معاوية: أن لا تبع ذلك إلاّ مثلاً بمثل ووزناً بوزن(سنن النسائي: 7 / 279.). ومن مظاهر استخفاف معاوية بالقيم
الإسلامية استلحاقه زياد بن عبيد الرومي وإلصاقه بنسبه من دون بيّنة شرعيّة،
وإنّما اعتمد على شهادة أبي مريم الخمّار وهو ممّا لا يثبت به نسب شرعي، وقد
خالف بذلك قول رسول الله صلىاللهعليه وآله: (الولد للفراش وللعاهر الحجر)( راجع قصة الاستلحاق وأسبابها وآثارها في (حياة الإمام الحسن بن
علي): 2 / 174 - 190.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
5 - إظهار الحقد على النبي صلىاللهعليهوآله
والعداء لأهل بيته عليهم السلام:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
حقد معاوية على النبي صلىاللهعليه وآله
فقد مكث في أيام خلافته أربعين جمعةً لا يصلّي عليه،
وسأله بعض أصحابه عن ذلك فقال: لا يمنعني عن ذكره إلاّ أن تشمخ رجال بآنافها)( حياة الإمام الحسين عليه السلام: 2 / 151، عن النصائح الكافية: 97.).
وسمع المؤذّن يقول: (أشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ
محمّداً رسول الله...) واندفع يقول:
لله أبوك يا ابن عبد الله، لقد كنت عالي الهمّة، ما رضيت لنفسك إلاّ أن يقرن
اسمك باسم رب العالمين(شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 10 / 101.). وسخّر معاوية جميع أجهزته للحطّ من
قيمة أهل البيت عليهم السلام الذين هم وديعة رسول الله صلىاللهعليهوآله
حتى استخدم أخطر الوسائل في محاربتهم وإقصائهم عن واقع الحياة الإسلامية، وكان من بين ما استخدمه في ذلك: 1 -
تسخير الوعّاظ ليحوّلوا القلوب عن أهل البيت عليهم السلام. 2 -
افتعال الأخبار على لسان النبي صلىاللهعليه وآله للحطّ من قيمة أهل البيت
عليهم السلام وقد استفاد من أبي هريرة الدوسي، وسمرة بن جندب، وعمرو بن العاص،
والمغيرة بن شعبة، حيث اختلقوا مئات الأحاديث على لسان النبي صلىاللهعليه وآله. 3 -
استخدم معاوية معاهد التعليم وأجهزة الكتاتيب لتغذية النَشْء ببغض أهل البيت
عليهم السلام وخلق جيل معاد لهم. وتمادى معاوية في عدائه لأمير
المؤمنين عليه السلام فأعلن سبّه ولعنه في نواديه العامة
والخاصة، وأوعز إلى جميع عمّاله وولاته أن يذيعوا سبّه بين الناس، وسرى سبّ
الإمام في جميع أنحاء العالم الإسلامي، وقد خطب معاوية في أهل الشام فقال لهم: أيّها الناس، إنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله
قال لي: إنّك ستلي الخلافة من بعدي فاختر الأرض المقدسة - يعني الشام - فإنّ
فيها الأبدال وقد اخترتكم فالعنوا أبا تراب(حياة الإمام الحسين عليه السلام: 2 / 160، وشرح نهج البلاغة: 3 / 361.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
6 - العنف مع شيعة أهل البيت عليهم السلام:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
اضطُهدت الشيعة أيام معاوية اضطهاداً
رسمياً، ومورس معهم أشدُّ أنواع القمع والقهر. وقد وصف الإمام محمد الباقرعليه
السلام الإرهاب الأموي بقوله عليه السلام: (وقتلت شيعتنا بكلّ
بلدة وقطعت الأيدي والأرجل على الظنّة، وكان من يُذكر بحبّنا والانقطاع إلينا
سُجن أو نهب ماله أو هدمت داره)( شرح نهج البلاغة: 3 / 15، والطبقات الكبرى: 5 / 95.). وعمد معاوية إلى إبادة القوى
المفكّرة والواعية من الشيعة، وقد ساق أفواجاً منهم إلى
ساحات الإعدام، من قبيل: حجر بن عدي ورشيد الهجري وعمرو بن الحمق الخزاعي وأوفى بن حصن. ولم يقتصر معاوية على تنكيله برجال
الشيعة، وإنّما تجاوز ظلمه إلى نسائهم،
فأشاع الذعر والإرهاب في العديد منهنّ مثل: الزرقاء بنت عدي وسودة بنت عمارة وأم
الخير البارقيّة. وأوعز معاوية إلى جميع عمّاله بهدم دور
الشيعة ومحو أسمائهم من الديوان وقطع عطائهم ورزقهم، كذلك عهد إلى عمّاله بعدم
قبول شهادتهم في القضاء وغيره مبالغة في إذلالهم وتحقيرهم. إنّ انحرافات معاوية وجرائمه لا يمكن
استيعابها في هذه الإشارات السريعة، وهي تتطلّب كتاباً خاصاً بها لكثرتها
وسعتها، ولقد كنّا نرمي في الدرجة الأولى من هذه الإشارات إلى التمهيد للتطرّق
إلى ذِكر جريمته الكبرى التي أدّت بالإمام الحسين عليه السلام إلى إعلان ثورته،
هذه الجريمة التي تمثّلت في فرض ابنه يزيد الفاسق وليّاً للعهد. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
7 - فرض البيعة بالقوّة ليزيد الفاجر:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
لقد كانت الخلافة أيام أبي بكر وعمر
وعثمان ذات مسحة إسلامية وكانوا يحكمون تحت شعار خلافة الرسول صلىاللهعليهوآله. على أنّ معاوية حينما بدأ بالسيطرة على
زمام السلطة فإنّه - رغم الخداع والتضليل الذي عرفنا شيئاً عنه - لم يجترئ على
تحدّي الرسول صلىاللهعليهوآله
ورسالته بشكل علني وصريح في بداية حكمه; إذ كان يستغل المظاهر الإسلامية لإحكام
القبضة ولتحقيق مزيد من السيطرة على رقاب أبناء الأمة الإسلامية. ومن هنا وصف معاوية بالدهاء والذكاء المفرط; لأنه كان يُلبس باطله
لباساً إسلامياً. ولكن تحميله ليزيد الفاجر المعلن بفسقه
على الأمة جاء هتكاً صريحاً للقيم الإسلامية واستهتاراً واضحاً لعرف المسلمين؛
وذلك لما عرفه المسلمون جميعاً من أنّ الخلافة الإسلامية ليست حكماً قيصرياً ولا
كسروياً لينتقل بالوراثة، ولا يستحق هذا المنصب إلاّ العالم بالكتاب والسنّة،
العامل بهما والقادر على تحقيق أهداف الرسالة الإسلامية وتطبيق أحكامها. هذا مضافاً إلى أنّ فرض البيعة ليزيد
على المسلمين كان جريمة كبرى ذات أبعاد اجتماعية وسياسية خطيرة تنتهي بتصفية
الإسلام ومحوه من على وجه الأرض، لولا ثورة الإمام الحسين عليه السلام سبط الرسول
الأعظم صلى اللهعليه وآله الحافظ لدين جدّه من الضياع والدمار. ولأجل الوقوف على عظمة هذه الجريمة;
لابدّ أن نعرف أوّلاً من هو يزيد؟ وما هو السبب الذي جعله غير صالح للخلافة؟
ولماذا يكون فرض بيعته عدواناً صريحاً على الإسلام وارتداداً عنه وعودة إلى
الجاهلية التي ناهضها الإسلام؟ |
|||||||||||||||||||||||||||
|
البحث الثاني: من هو يزيد بن معاوية؟
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
قبل الحديث عن تولّي يزيد
للحكم وموقف الإمام الحسين عليه السلام من ذلك لابدّ وأن نعرف من هو يزيد في
منظار الإسلام والمسلمين؟ وما هو رأي الإسلام في البيت الأموي بصورة عامة؟ لا يشك أحد من الباحثين والمؤرّخين في
أنّ الأمويين كانوا من ألدّ أعداء الإسلام وأنكد خصومه منذ أن بزغ فجره وحتى آخر
مرحلة من مراحل حكمهم. وأنهم لم يدخلوا فيه إلاّ بعد أن استنفدوا جميع إمكاناتهم
في محاربته حتّى باؤوا بالفشل. ولمّا دخلوا فيه مرغمين أخذوا يخطّطون لتشويه
معالمه وإعادة مظاهر الجاهلية بكلّ أشكالها بأسلوب جديد وتحت ستار الإسلام. وكان معاوية يرتعش جزعاً ويضجر عندما
كان يسمع النداء باسم النبي محمد بن عبد الله صلىاللهعليه وآله ويشعر بانطلاق
هذا الاسم المبارك في أجواء العالم الإسلامي من أعلى المآذن في كلّ يوم. وهكذا كان غيره من حكّام ذلك البيت
الذين حكموا باسم الإسلام وهم يعملون على تقويضه وإبرازه على غير واقعه وتشويه
قوانينه وتشريعاته ومُثله. ويزيد بن معاوية الذي وقف الإمام
الحسين عليه السلام منه ذلك
الموقف الخالد كان كما يصفه المؤرّخون والمحدّثون مستهتراً إلى حدّ الإسراف في
الاستهتار، وممعناً في الفحشاء والمنكرات إلى حدّ الغلوّ في ذلك(سيرة الأئمّة الاثني عشر: 2 / 41.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
ولادة يزيد ونشأته
وصفاته:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
ولد يزيد سنة (25 أو 26 هـ ) (حياة الإمام الحسين عليه السلام: 2 / 179.) وأمه
ميسون بنت بجدل الكلبية، وقد ذكر المؤرّخون: أنّ ميسون بنت بجدل الكلبية أمكنت
عبد أبيها من نفسها، فحملت بيزيد (لعنه الله) وإلى
هذا أشار النسّابة الكلبي بقوله:
أراد بالدعيّ عبيد الله بن زياد لعنه
الله... ومراده بعبد كلب يزيد بن معاوية، لأنّه من عبد بجدل الكلبي(بحار الأنوار: 44 / 309.). وفيما يتّصل بصفاته الجسميّة فقد وصفه
ابن كثير - في بدايته - بأنّه كان كثير اللحم عظيم الجسم وكثير الشعر مجدوراً(سيرة الأئمّة الاثني عشر: 2 / 42.). أمّا صفاته النفسية فقد ورث صفات الغدر
والنفاق والطيش والاستهتار من سلفه، حتّى قال المؤرّخون: وكان يزيد قاسياً
غدّاراً كأبيه، (إن كان من معاوية طبعاً) ولكنّه ليس داهيةً مثله، كانت تنقصه
القدرة على تغليف تصرّفاته القاسية بستار من اللباقة الدبلوماسية الناعمة، وكانت
طبيعته المنحلّة وخُلقه المنحطّ لا تتسرّب اليها شفقة ولا عدل. كان يقتل ويعذّب
نشواناً للمتعة واللّذة التي يشعر بها، وهو ينظر إلى آلام الآخرين، وكان بؤرة
لأبشع الرذائل، وها هم ندماؤه من الجنسين خير شاهد على ذلك، لقد كانوا من حثالة
المجتمع(حياة الإمام الحسين: 2 / 181 - 182.). وقد نشأ يزيد عند أخواله في
البادية من بني كلاب الذين كانوا يعتنقون المسيحية قبل الإسلام،
وكان مرسل العنان مع شبابهم الماجنين فتأثّر بسلوكهم إلى حد بعيد، فكان يشرب معهم الخمر ويلعب معهم بالكلاب. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
ولع يزيد بالصيد:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
ومن مظاهر صفات يزيد ولعه بالصيد، فكان
يقضي أغلب أوقاته فيه، قال المؤرّخون:
كان يزيد بن معاوية كلفاً بالصيد لاهياً به، وكان يُلبِسُ كلابَ الصيد الأساورَ
من الذهب والجلال المنسوجة منه، ويهب لكلّ كلب عبداً يخدمه(راجع الفخري لابن الطقطقي: 45، وتاريخ اليعقوبي: 2/230، وتاريخ
الطبري: 4/368، والبداية والنهاية: 8/236 - 239.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
شغفه بالقرود:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
وكان يزيد - فيما أجمع عليه المؤرّخون - ولعاً
بالقرود، وكان له قرد يجعله بين يديه ويكنّيه بأبي قيس، ويسقيه فضل كأسه، ويقول: هذا شيخ من بني اسرائيل أصابته خطيئة
فمسخ، وكان يحمله على أتان وحشية ويرسله مع الخيل في حلبة السباق، فحمله يوماً
فسبق الخيل فسرّ بذلك وجعل يقول:
وأرسله مرّةً في حلبة السباق فطرحته
الريح فمات فحزن عليه حزناً شديداً، وأمر بتكفينه ودفنه كما أمر أهل الشام أن
يعزّوه بمصابه الأليم، وأنشأ راثياً له:
حياة الإمام الحسين عليه السلام: 2 / 182، نقلاً عن جواهر المطالب: 143.وذاع
بين الناس هيامه وشغفه بالقرود حتى لقّبوه بها، ويقول رجل من تنوخ هاجياً له:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
إدمانه على الخمر:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
والظاهرة البارزة من صفات يزيد إدمانه
على الخمر حتى أسرف في ذلك إلى حد كبير، فلم يُرَ في وقت إلاّ وهو ثمل لا يعي من
فرط السكر، ومن شعره في الخمر:
(حياة
الإمام الحسين: 2 / 183، نقلاً عن تأريخ المظفري.) وينقل المؤرّخون عن عبد الله
بن حنظلة الذي خرج على يزيد بعد أن اصطحب وفداً من أهل
المدينة إلى الشام في أعقاب استشهاد الإمام الحسين عليه السلام وصفه ليزيد
بقوله: والله ما خرجنا على يزيد حتى خفنا أن نُرمى بالحجارة من السماء، إنّه رجل
ينكح الاُمهات والبنات والأخوات، ويشرب الخمر ويدع الصلاة، والله لو لم يكن معي
أحد من الناس لأبليت لله بلاءً حسناً(تأريخ ابن عساكر: 7 / 372، وتأريخ الخلفاء للسيوطي: 81.). وقال أعضاء الوفد: قدمنا من عند رجل
ليس له دين، يشرب الخمر ويعزف بالطنابير ويلعب بالكلاب(تأريخ ابن عساكر: 7 / 372، وتأريخ الخلفاء للسيوطي: 81.). ونقل عن المنذر بن الزبير قوله في
وصفه: والله إنّه ليشرب الخمر، والله إنّه ليسكر حتى يدع الصلاة(البداية والنهاية: 8 / 216، الكامل لابن الأثير: 4 / 45.). ووصفه أبو عمر بن حفص بقوله: والله
رأيت يزيد بن معاوية يترك الصلاة مسكراً...( المصدر السابق.) ويتبدّى الكفر في وصفه للخمر في
الأبيات الآتية:
تتمة المنتهى: 43. وعنه قال المسعودي:
وكان يزيد صاحب طرب وجوارح وكلاب وقرود وفهود ومنادمة على الشراب، وجلس ذات يوم
على شرابه وعن يمينه ابن زياد وذلك بعد قتل الحسين، فأقبل على ساقيه فقال:
ثم أمر المغنّين فغنّوا،
وغلب على أصحاب يزيد وعمّاله ما كان يفعله من الفسوق، وفي أيامه ظهر الغناء بمكة
والمدينة، واستعملت الملاهي وأظهر الناس شرب الشراب(مروج الذهب: 2 / 94.). ويؤكّد في مكان آخر:
وكان يسمّى يزيد السكران الخمّير(مروج الذهب: 2 / 94.). وكان ليزيد جماعة من الندماء الخليعين
والماجنين يقضي معهم لياليه الحمراء بين الشراب والغناء (وفي طليعة ندمائه
الأخطل الشاعر المسيحي الخليع، فكانا يشربان ويسمعان الغناء، وإذا أراد السفر
صحبه معه، ولمّا هلك يزيد وآل أمر الخلافة إلى عبد الملك بن مروان قرّبه، فكان
يدخل عليه بغير استئذان، وعليه جبّة خزّ، وفي عنقه سلسلة ذهب، والخمر يقطرمن
لحيته)( الأغاني لأبي الفرج الإصفهاني: 7 / 170.). إن مطالعة الحياة الماجنة ليزيد في
حياة أبيه تكفي لفهم دليل امتناع عامة الصحابة والتابعين من الرضوخ لبيعة يزيد
بالخلافة. إنّ نوايا يزيد ونزعاته المنحرفة قد
تجلّت بشكل واضح خلال فترة حكمه القصيرة، حتى أنّه لم يبال بإظهار ما كان يضمره
من حقد للرسولصلىاللهعليهوآله وما
كان ينطوي عليه من إلحاد برسالته صلىاللهعليهوآله
بعد أن دنّس يديه بقتل سبط الرسول وريحانته أبي عبد الله الحسين عليه
السلام وهو متسلّط - بالقهر - على رقاب المسلمين باسم الرسول
الأعظم صلىاللهعليهوآله. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
إلحاد يزيد وحقده على
رسول الله صلىاللهعليهوآله:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
لقد أترعت نفس يزيد بالحقد على الرسول
صلى اللهعليه وآله والبغض له، لأنّه وتره باُسرته يوم بدر، ولمّا أباد العترة
الطاهرة جلس على أريكة الملك جذلان مسروراً، فقد استوفى ثأره من النبي صلىاللهعليه
وآله وتمنّى حضور أشياخه ليروا كيف أخذ بثأرهم، وجعل يترنّم بأبيات عبد الله بن الزبعرى:
حياة الإمام الحسين عليه السلام: 2 / 187، نقلاً عن البداية والنهاية: 8
/ 192. بل إنّ يزيداً جاهر بإلحاده وكفره
عندما تحرّك عبد الله بن الزبير ضدّه في مكة، فقد وجّه جيشاً لإجهاض تحرّك ابن
الزبير وزوّده برسالة إليه، ورد فيها البيت الآتي:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
جرائم حكم يزيد:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
ذكر المؤرّخون أنّ يزيد
ارتكب خلال فترة حكمه القصيرة التي لم تتجاوز ثلاث سنين ونصف، ثلاث جرائم مروّعة
لم يشهد لها التأريخ نظيراً، بحيث لم تسوّد تأريخ الأمويين
إلى الأبد فحسب; وإنّما شوّهت تأريخ العالم الإسلامي كذلك، ومن هذه الجرائم: 1 - انتهاك
حرمة أهل بيت الوحي بقتل الإمام الحسين السبطعليه
السلام ومن معه من أسرته وأصحابه وسبي نسائه وأطفاله وعرضهم على
الجماهير من بلد إلى بلد سنة (61 هـ ) وهم ذرية رسول الله صلىاللهعليه وآله
وملايين المسلمين تقدّسهم وتذكر فيهم الرسول صلى اللهعليه وآله وكلّ ما في
الإسلام من حقّ وخير. 2 -
إقدامه بعد ملحمة عاشوراء على انتهاك حرمة مدينة الرسول صلى اللهعليه وآله
وقتل أهلها وإباحة أعراضهم لجيش الشام، لأنّهم استعظموا قتل الإمام الحسين عليه السلام
وأنكروه عليه. 3 -
إقدامه على حصار مكّة وتدمير الكعبة وقتل آلاف الأبرياء في الحرم الذي جعله الله
حراماً وآمناً. السرّ
الكامن وراء نزعات يزيد الشرّيرة:
رجّح بعض
المؤرّخين أنّ بعض نساطرة النصارى تولّى تربية يزيد وتعليمه،
فنشأ نشأةً سيّئة ممزوجةً بخشونة البادية وجفاء الطبع، وقالوا: إنّه كان من آثار
تربيته المسيحية أنّه كان يقرّب المسيحيين ويكثر منهم في بطانته الخاصة، وبلغ من
اطمئنانه إليهم أن عهد بتربية ولده إلى مسيحي، كما اتّفق على ذلك المؤرّخون(سيرة الأئمّة الاثني عشر: 2 / 42 وراجع أيضاً: حياة الإمام الحسين
عليه السلام: 2 / 180. عن المناقب: 71 للقاضي نعمان المصري، وسمو المعنى في
سموّ الذات: 59 العلائلي.). ولا يمكن أن تعلّل هذه الصلة الوثيقة
وتعلّقه الشديد بالأخطل وغيره إلاّ بتربيته ذات الصبغة المسيحية. هكذا حاول بعض المؤرّخين والكتّاب أن يعلّل استهتار يزيد بالإسلام
ومقدّساته وحرماته. وهذا التعليل يمكن أن يكون له ما
يسوّغه لو كانت لحياة
البادية وللتربية المسيحية تلك الصبغة الشاذّة التي برزت في سلوك يزيد من مطلع
شبابه إلى أن أصبح وليّاً لعهد أبيه وحاكماً من بعده. في حين أن العرب في حاضرتهم
وباديتهم كانت لهم عادات وأعراف كريمة قد أقرّها الإسلام
كالوفاء وحسن الجوار والكرم والنجدة وصون الأعراض وغير ذلك ممّا تحدّث به
التأريخ عنهم، ولم يعرف عن يزيد شيء من
ذلك، كما
وأنّ التأريخ لم يحدّث عنهم بأنّهم استحلّوا نكاح الأخوات والعمّات كما حدّث
التأريخ عنه. والذين ولدوا في البادية على النصرانية طيلة حياتهم قبل الفتح
الإسلامي وعاشوا في ظلّ أعرافها وعاداتها حينما دخلوا في الإسلام تغلّبوا على
كلّ ما اعتادوه وألفوه عن الآباء والأجداد. فلابدّ إذن من القول
بأنّ لذلك الانحراف الشديد والوبيء في شخصية يزيد وسلوكه سبباً وراء التربية
والحضانة المسيحية. إلى هنا نكون قد وقفنا على صورة واضحة
عن واقع شخصية يزيد المنحرفة عن خطّ الإسلام انحرافاً لا يسوغ لأيّ مسلم
الانقياد لها والسكوت عليها ما دام الإسلام يمنع الإباحية والفسق ويدعو إلى
العدل والتقوى، ويحاول تحقيق مجتمع عامر بالتقوى، ويريد للمسلمين قيادة تحرص على
تحقيق أهداف الإسلام المُثلى. ومن هنا كان علينا
أن نطالع بدقّة كل مواقف الإمام الحسين عليه السلام
باعتباره القائد الرسالي الحريص على مصالح الرسالة والأمة الإسلامية وندرس
تخطيطه الرسالي للوقوف أمام الانحراف الهائل الذي كان يمتدّ بسرعة في أعماق
المجتمع الإسلامي آنذاك. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
الفصل
الثاني: مواقف الإمام الحسين عليه السلام وإنجازاته
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
البحث الأوّل: موقفه عليه السلام من البيعة ليزيد
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
1 - دعوة انتهازية وخطّة شيطانية:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
عندما ارتفعت راية الحقّ مرفرفةً فوق
ربوع مكّة ومعلنةً عن انتصارها; دخل
أبو سفيان ومعاوية في الإسلام ونار الحقد تستعر في قلبيهما ونزعة الثأر من الرسول
صلى اللهعليه وآله وأهل بيته عليهم السلام تكمن في صدريهما،
فتحوّلا من كونهما كافرين إلى كونهما مستسلِمَين طليقين من طلقاء الرسول صلى اللهعليه
وآله. ولم يطل العهد حتى حكم عثمان بن عفان فتسرّب
ما كان مختبئاً في القلب وظهر على لسان أبي سفيان وهو يخاطب عثمان بقوله: صارت
إليك بعد تيم وعديّ فأدرها كالكرة فإنّما هو الملك ولا أدري ما جنّة ولا نار(الاستيعاب: 2 / 690.). وخاطب أبو سفيان بني أمية
ثانيةً: يا بني أمية! تلقّفوها تلقّف الكرة، فو الذي يحلف
به أبو سفيان مازلت أرجوها لكم، ولتصيرنّ إلى صبيانكم ورثة(مروج الذهب: 1 / 440، تأريخ ابن عساكر: 6 / 407.). وحين أطلّ معاوية من نافذة السقيفة على
كرسيّ الحكم بانت نتائج الانحراف واتّضحت خطورته; فإنّه قد لاحظ، أنّ أبا بكر
وعمر وعثمان قد ملكوا قبله ولم تسمح لهم الظروف بإعادة صرح الجاهلية من جديد،
ولا زال صوت الحقّ هادراً كلّ يوم بالتوحيد وبالرسالة لمحمّد بن عبد الله صلىاللهعليه
وآله(مروج الذهب: 2 / 343، وشرح النهج: 2 / 357.). كما أنّ الانحراف السياسي
الذي ولّدته السقيفة وتربّت عليه فئات من الأمة استثمره
معاوية أيّما استثمار، فقد احتجّ على الناس بأنّ أبا بكر بويع بدون نصّ سماويّ
أو أمر من رسول الله صلىاللهعليه وآله وأنّه خالف سيرة رسول الله صلىاللهعليه
وآله إذ جعل عمر خليفةً من بعده، وصنع عمر ما لم يصنعه قبله وخالف بذلك الله
ورسوله وأبا بكر. ووفق هذا المنطق فإنّ الأمة ومصير الرسالة الإسلامية تكون
ألعوبة بيد معاوية يسوسها كيف يشاء. من هنا قرّر أن يبايع بالخلافة ليزيد(الإمامة والسياسة: 1 / 189.)
من بعده. وقد خلت الساحة السياسية للزمرة
الأُموية بعد فتن ومصاعب أشعلها معاوية مستغلاًّ جهالة طبقات من الأمة، وموظّفاً
كلّ الطاقات التي وقفت ضدّ الإمام علي عليه السلام لصالحه في مواجهة تيار الحقّ
بقيادة الإمام الحسن عليه السلام . واستأثر بالحكم بعد قتله للإمام الحسن عليه السلام
واستهتاره بقيم الإسلام وتعاليمه. وكان
حاذقاً في إحكام سيطرته وملكه، ولكنّه لم يجرؤ لإعلان خطّته تثبيتاً لملك بني
أُمية باستخلاف يزيد من بعده وفي الأمة من هو صاحب الخلافة الشرعية وهو الإمام الحسن
عليه السلام ومن بعده أخوه الإمام الحسين
عليه السلام الذي كان على الأمة أن تعود لقيادته بعد افتقادها للحسن ع. يضاف إلى ذلك أنّ أحداً من
الخلفاء الثلاثة لم يوصِ بالخلافة لولده من بعده.
ونظراً لما كان ينطوي عليه يزيد من ضعف واستهتار ومجون فقد مضى معاوية بكلّ جدٍّ
ليحبك الأمر ويدبّره بطريقة يخدع بها الأمة، بل يقهرها على قبول البيعة ليزيد.
من هنا بادر إلى قتل الإمام الحسن السبطعليه
السلام وخيار المؤمنين في خطوة أُولى ليرفع بذلك أهمّ الموانع
التي كانت تحول بينه وبين تنفيذ خطّته. على أنّ أصحاب النفوس الرذيلة والمطامع
الدنيوية على استعداد تام لبلوغ أتفه المطامع من أيّ طريق كان. فقد روي أنّ
المغيرة بن شعبة - الذي كان والياً من قبل معاوية على الكوفة - علم بأنّ معاوية
ينوي عزله فأسرع إلى نسج خيوط مؤامرة جلبت الويلات على الأمة الإسلامية وليكون
بذلك سمساراً يصافق على ما لا يملك; إذ همس في أذن يزيد يمنّيه بخلافة أبيه
ويزيّن له الأمر ويسهّله. ووجد معاوية أنّ خطّة شيطانية يمكن أن يكون المغيرة
عاملاً لتنفيذها(الكامل في التأريخ: 3 / 249، وتأريخ اليعقوبي: 2 / 195، والإمامة
والسياسة: 2 / 262.)،
فسأله مخادعاً: ومن لي بهذا؟ فردّ عليه المغيرة: أكفيك أهل الكوفة ويكفيك زياد
أهل البصرة، وليس بعد هذين المصرين أحد يخالفك. وهكذا قبض المغيرة على ربح عاجل
لصفقة مؤجّلة، ورجع إلى الكوفة بكلّ قوّة لينفّذ الخطّة وهو يقول: لقد وضعت رِجل
معاوية في غرز بعيد الغاية على أمة محمّد(الكامل في التأريخ: 3 / 249.). ورفض زياد بن أبيه هذه الخطّة الخبيثة;
ولعلّه لما كان يلمسه من رذائل في شخصية يزيد بحيث تجعله غير صالح لزعامة الأمة.
وقد أثارت هذه الخطّة مطامع أطراف أخرى من بني أُمية، فمدّ كل من مروان بن الحكم
وسعيد بن عثمان بن عفان عنقه لذلك(وفيات الأعيان: 5 / 389، والإمامة والسياسة: 1 / 182، وتأريخ
اليعقوبي: 2 / 196.). وجمّد معاوية رسمياً وبشكل مؤقّت خطّته
لأخذ البيعة ليزيد؛ وذلك ليتّخذ إجراءات أخرى تمهّد للإعلان الرسمي وفي الفرصة
المناسبة لذلك. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
2 - أساليب معاوية لإعلان بيعة يزيد:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
لمس معاوية رفض العائلة الأُموية
المنحرفة لحكم يزيد من بعده، فكيف بصاحب الحقّ الشرعي - الإمام الحسن عليه السلام
ومن بعده الإمام الحسين عليه السلام -
وعدد من أبناء الصحابة؟! من هنا مضى جادّاً باتّخاذ
سبل أخرى تتراوح بين مخادعة الأمة وبين قهرها بالقوّة على بيعة الخليع يزيد، ومن
تلك السبل: أ -
استخدام الشعراء لإسباغ فضائل على يزيد ولبيان مقدرته وإشاعة أمره، لكي تخضع
الأمة لولايته(الأغاني: 8 / 71، وشعراء النصرانية بعد الإسلام: 234: للويس شيخو
اليسوعي.)،
وأوعز إلى ولاته والخطباء في الأمصار لنشر تلك الفضائل المفتعلة. ب -
بذل الأموال الطائلة وشراء ذمم المعارضين ممّن كان يقف ضدّ يزيد لا بدافع
العقيدة والحرص على الإسلام وإنّما بدوافع شخصية وذاتية(الكامل في التأريخ: 3 / 250.). ج -
استقدام وفود من وجهاء الأنصار(الكامل في التأريخ: 3 / 250.)
ومناقشة قضية يزيد معهم لمعرفة الرافض والمؤيّد منهم، ومعرفة نقاط الضعف لكي
ينفذ منها إليهم. د -
إيقاع الخلاف بين عناصر بني أُمية الطامعين في الحكم كي يضعف منافستهم ليزيد،
فقد عزل عامله على يثرب سعيد بن العاص واستعمل مروان ابن الحكم مكانه، ثم عزل
مروان واستعمل سعيداً(تأريخ الطبري: 4 / 18.). هـ - اغتيال
الشخصيات الإسلامية البارزة والتي كانت تحظى باحترام كبير في نفوس الجماهير،
فاغتال الإمام الحسن عليه السلام وسعد
بن أبي وقّاص وعبد الرحمن بن خالد وعبد الرحمن بن أبي بكر(مقاتل الطالبيّين: 29، وتأريخ الطبري: 5 / 253، والكامل في التأريخ:
3 / 352.). و - استخدام سلاح الحرمان الاقتصادي
ضدّ بني هاشم للضغط عليهم وإضعاف دورهم، فقد حبس عنهم العطاء سنة كاملة(الكامل في التأريخ: 3 / 252، والإمامة والسياسة: 1 / 200.);
إذ وقفوا مع الإمام الحسين عليه السلام يرفضون البيعة ليزيد. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
3 - محاولات الإمام الحسين عليه السلام
لإيقاظ الأمة:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
لم يخلد الإمام الحسين عليه السلام
إلى السكون والخمول حتى عند إقراره الصلح مع معاوية، فقد تحرّك انطلاقاً من
مسؤوليّته تجاه الشريعة والأمة الإسلامية وبصفته وريث النبوّة - بعد أخيه الإمام
الحسن عليه السلام - مراعياً ظروف الأمة
وساعياً إلى المحافظة عليها. وقد عمل الإمام عليه السلام في فترة حكم معاوية
على تحصين الأمة ضدّ الانهيار التام فأعطاها من المقوّمات المعنوية القدرَ
الكافي، كي تتمكّن من البقاء صامدةً في مواجهة المحن. وإليك جملة من هذه المواقف: 1 - مواجهةُ معاوية وبيعةِ يزيد. 2 - محاولة جمع كلمة الأمة. 3 - فضح جرائم معاوية. 4 - استعادة حقّ مضيّع. 5 - تذكير الأمة
بمسؤوليّاتها. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
مواجهةُ معاوية وبيعة
يزيد:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
أعلن الإمام الحسين عليه السلام رفضه
القاطع لبيعة يزيد وكذا زعماء يثرب، فقرّر معاوية أن يسافر إلى يثرب ليتولّى
بنفسه إقناع المعارضين، فاجتمع بالإمام وعبد الله بن عباس، فأشاد بالنبي صلىاللهعليه
وآله وأثنى عليه، وعرض بيعة ابنه ومنحه الألقاب الفخمة ودعاهما إلى بيعته،
فانبرى الإمام عليه السلام فحمد الله
وأثنى عليه ثم قال: (أمّا بعد يا معاوية فلن يؤدّي المادح
وإن أطنب في صفة الرسول صلى اللهعليه وآله وقد فهمتُ ما لبست به الخلف بعد
رسول الله صلىاللهعليه وآله من إيجاز الصفة، والتنكّب عن استبلاغ النعت،
وهيهات هيهات يا معاوية!! فضح الصبحُ فحمةَ الدجى، وبهرت الشمسُ أنوار السرج،
ولقد فضّلت حتى أفرطت، واستأثرت حتى أجحفت، ومنعت حتى بخلت، وجُرت حتى تجاوزت،
ما بذلت لذي حقّ من اسم حقّه من نصيب، حتى أخذ الشيطان حظّه الأوفر ونصيبه
الأكمل. وفهمتُ ما ذكرته عن يزيد من اكتماله،
وسياسته لأمة محمّدصلىاللهعليهوآله،
تريد أن توهم الناس في يزيد كأنّك تصفُ محجوباً أو تنعت غائباً، أو تخبر عمّا
كان ممّا احتويته بعلم خاص، وقد دلّ يزيد من نفسه على موقع رأيه، فخذ ليزيد فيما
أخذ به من استقرائه الكلاب المهارشة عند التحارش، والحمام السبق لأترابهنّ،
والقيان ذوات المعازف، وضروب الملاهي، تجده ناصراً. ودع عنك ما تحاول، فما أغناك أن تلقى
الله بوزر هذا الخلق بأكثر ممّا أنت لاقيه! فوالله ما برحتَ تقدح باطلاً في جور
وحنقاً في ظلم حتى ملأتَ الأسقية، وما بينك وبين الموت إلاّ غمضة، فتقدم على عمل
محفوظ في يوم مشهود، ولات حين مناص، ورأيتك عرّضت بنا بعد هذا الأمر، ومنعتنا عن
آبائنا تراثاً ولعمر الله لقد أورثنا الرسول صلى اللهعليه وآله ولادة، وجئت
لنا بما حججتم به القائم عند موت الرسول صلى اللهعليه وآله فأذْعنَ للحجّة
بذلك وردّه الإيمان إلى النصف. فركبتم الأعاليل وفعلتم الأفاعيل،
وقلتم كان ويكون حتى أتاك الأمر يا معاوية من طريق كان قصدها لغيرك، فهناك
فاعتبروا يا أولي الأبصار. وذكرتَ قيادةَ الرجلِ القومَ بعهد رسول
الله صلىاللهعليه وآله وتأميرَه له، وقد كان ذلك لعمرو ابن العاص يومئذ فضيلة
بصحبة الرسول وببعثه له وما صار لعمرو يومئذ حتى أنف القوم إمرته وكرهوا تقديمه
وعدّوا عليه أفعاله، فقال صلىاللهعليهوآله
لا جَرَمَ يا معشرَ المهاجرين لا يعمل عليكم بعد اليوم غيري، فكيف تحتجُّ
بالمنسوخ من فعل الرسول في أوكد الأحكام وأولاها بالمجتمع عليه من الصواب؟ أم
كيف ضاهيتَ بصاحب تابعاً وحولك من يُؤمن في صحبته، ويُعتمد في دينه وقرابته،
وتتخطّاهم إلى مسرف مفتون؟ تريد أن تُلبس الناس شبهةً يسعد بها الباقي في دنياه
وتشقى بها في آخرتك، إنّ هذا لهو الخسران المبين، وأستغفر الله لي ولكم. وذهل معاوية من خطاب الإمام عليه السلام،
وضاقت عليه جميع السبل فقال لابن عباس: ما هذا يا ابن عباس؟
فقال ابن عباس: لعمر الله إنّها لذرّية رسول الله صلىاللهعليه وآله وأحد
أصحاب الكساء ومن البيت المطهّر، فاسأله عمّا تريد فإنّ لك في الناس مقنعاً حتى
يحكم الله بأمره وهو خير الحاكمين(حياة الإمام الحسين: 2 / 219 - 220.). وقد اتّسم موقف الإمام الحسين عليه السلام
مع معاوية بالشدّة والصرامة، وأخذ يدعو المسلمين علناً إلى مقاومة معاوية،
ويحذّرهم من سياسته الهدّامة التي تحمل الدمار إلى الإسلام. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
محاولة جمع كلمة
الأمة والاستجابة لحركة الجماهير:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
وأخذت الوفود تترى على الإمام من جميع
الأقطار الإسلامية وهي تعجّ بالشكوى وتستغيث به نتيجة الظلم والجور الذي حلّ
بها، وتطلب منه القيام بإنقاذها من الاضطهاد، ونقلت العيون في يثرب إلى السلطة
المحلّية أنباء تجمّع الناس واختلافهم إلى الإمام عليه السلام وكان الوالي مروان بن الحكم، ففزع من ذلك
وخاف من عواقبه جداً، فرفع مذكّرة إلى معاوية جاء
فيها:
أمّا بعد فقد كثر اختلاف الناس إلى الحسين، والله إنّي لأرى لكم منه يوماً
عصيباً(حياة الإمام الحسين: 2/223.). واضطرب معاوية من تحرّك الإمام الحسين
عليه السلام فكتب إليه رسالةً جاء فيها: أمّا بعد، فقد أنهيت إليّ عنك أمور، إن
كانت حقّاً فإنّي لم أظنّها بك رغبة عنها، وإن كانت باطلة فأنت أسعد الناس
بمجانبتها، وبحظ نفسك تبدأ، وبعهد الله توفي فلا تحملني على قطيعتك والإساءة
إليك، فإنّك متى تنكرني أنكرك، ومتى تكدني أكدك، فاتّق الله يا حسين في شقّ عصا
الأمة، وأن تردّهم في فتنة(المصدر السابق: 2 / 224.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
فضح جرائم معاوية:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
كتب الإمام عليه السلام إلى معاوية
مذكّرةً خطيرةً كانت ردّاً على رسالته يحمّله فيها مسؤوليّات جميع ما وقع في
البلاد من سفك الدماء وفقدان الأمن وتعريض الأمة للأزمات. وتعدّ من أروع الوثائق
الرسمية التي حفلت بذكر الأحداث التي صدرت من معاوية، وهذا نصّها: (أمّا بعد، بلغني كتابك تذكر فيه أ
نّه انتهت اليك عنّي اُمور أنت عنها راغب وأنا بغيرها عندك جدير، وأنّ الحسنات
لا يهدي لها ولا يسدّد إليها إلاّ الله تعالى. أمّا ما ذكرت أ نّه رقى إليك عنّي
فإنّه إنّما رقاه إليك الملاّقون المشاءون بالنميمة، المفرّقون بين الجمع، وكذب
الغاوون، ما أردت لك حرباً ولا عليك خلافاً، و إنّي لأخشى الله في ترك ذلك منك،
ومن الإعذار فيه إليك وإلى أوليائك القاسطين حزب الظلمة. ألستَ القاتل حجر بن عدي أخا كندة
وأصحابه المصلّين العابدين الذين كانوا ينكرون الظلم، ويستعظمون البدع، ويأمرون
بالمعروف وينهون عن المنكر، ولا يخافون في الله لومة لائم؟ قتلتهم ظلماً
وعدواناً من بعد ما أعطيتهم الأيْمان المغلّظة والمواثيق المؤكّدة، جرأةً على
الله واستخفافاً بعهده. أوَلستَ قاتل عمرو بن الحمق الخزاعي
صاحب رسول الله صلىاللهعليه وآله العبد الصالح الذي أبلتْه العبادة فنحل جسمُه
واصفرّ لونُه؟ فقتلته بعد ما أمّنته وأعطيته ما لو فهمته العصم لنزلت من رؤوس
الجبال. أوَلستَ بمدّعي زياد بن سمية المولود
على فراش عبيد ثقيف، فزعمَت أ نّه ابن أبيك؟ وقد قال رسول الله صلىاللهعليه
وآله (الولدُ للفراش وللعاهر الحجر) فتركت سنّة رسول الله صلىاللهعليه وآله
تعمّداً، وتبعت هواك بغير هدىً من الله، ثم سلّطته على أهل الإسلام يقتلهم ويقطع
أيديهم وأرجلهم ويسملُ أعينهم ويصلبهم على جذوع النخل، كأنّك لست من هذه الأمة
وليسوا منك. أوَلستَ قاتل الحضرمي الذي كتب فيه
اليك زياد أ نّه على دين عليّكرم الله وجهه، فكتبتَ إليه أن اقتل كلّ من كان على
دين عليّ؟ فقتلهم ومثّل بهم بأمرك، ودين عليّ هو دين ابن عمّهصلىاللهعليهوآله
الذي أجلسك مجلسك الذي أنت فيه، ولولا ذلك لكان شرفك وشرف آبائك تجشّم الرحلتين
رحلة الشتاء ورحلة الصيف. وقلت فيما قلت: اُنظر لنفسك ودينك ولأمة
محمّدصلىاللهعليهوآله
واتّق شقّ عصا هذه الأمة وقلت فيما قلت:
إنّي إن أنكرتك تنكرني، وإن أكدك تكدني، فكدني ما بدا لك، فإنّي أرجو أن لا
يضرّني كيدك، وأن لا يكون على أحد أضرّ منه على نفسك، لأنّك قد ركبت جهلك
وتحرّصت على نقض عهدك، ولعمري ما وفيتَ بشرط، ولقد نقضتَ عهدك بقتل هؤلاء النفر
الذين قتلتهم بعد الصلح والأيمان والعهود والمواثيق، فقتلتهم من غير أن يكونوا
قاتلوا أو قُتلوا، ولم تفعل ذلك بهم إلاّ لذكرهم فضلَنا وتعظيمهم حقَّنا، مخافة
أمر لعلّك إن لم تقتلهم مُتّ قبل أن يفعلوا، أو ماتوا قبل أن يدركوا. فأبشر يا معاوية بالقصاص،
واستيقن بالحساب، واعلم أنّ لله تعالى كتاباً لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلاّ
أحصاها، وليس الله بناس لأخذك بالظنّة، وقتلك أولياءه على
التُّهم، ونفيك إيّاهم من دورهم إلى دار الغربة، وأخذك الناس ببيعة ابنك الغلام
الحدث، يشرب الشراب، ويلعب بالكلاب، ما أراك إلاّ قد خسرت نفسك، وبترت دينك،
وغَشَشْتَ رعيّتك، وسمعت مقالة السفيه الجاهل، وأخفت الورع التقيّ)( حياة الإمام الحسين عليه السلام: 2/235 عن الإمامة والسياسة: 1 /
284، والدرجات الرفيعة: 334، وراجع الغدير: 10 / 161.). ولا توجد وثيقة سياسية في ذلك العهد
عرضت لعبث السلطة وسجّلت الجرائم التي ارتكبها معاوية غير هذه الوثيقة، وهي صرخة في وجه الظلم
والاستبداد. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
استعادة حقّ
مضيّع:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
وكان معاوية ينفق أكثر أموال الدولة
لتدعيم ملكه، كما كان يهب الأموال الطائلة لبني أُمية لتقوية مركزهم السياسي
والاجتماعي، وكان الإمام الحسين عليه السلام يشجب هذه السياسة، ويرى ضرورة
إنقاذ الأموال من معاوية الذي يفتقد حكمه لأيّ أساس شرعي، ولا يقوم إلاّ على
القمع والتزييف والإغراء. وقد اجتازت على يثرب أموال من اليمن مرسولةً إلى خزينة
دمشق، فعمد الإمام عليه السلام إلى الاستيلاء عليها ووزّعها على المحتاجين،
وكتب إلى معاوية: (من الحسين بن عليّ إلى معاوية بن أبي سفيان، أمّا بعد فإنّ
عيراً مرّت بنا من اليمن تحمل مالاً وحُللاً وعنبراً وطيباً إليك لتودعها خزائن
دمشق وتعلّ بها بعد النّهْل بني أبيك، وإنّي احتجتها اليها فأخذتها، والسلام)( نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 4 / 327، الطبعة الأولى، وناسخ
التواريخ: 1 / 195.). فأجاب معاوية:
من عبد الله معاوية أمير المؤمنين إلى الحسين بن عليّ، سلام عليك، أمّا بعد فإنّ
كتابك ورد عليّ تذكر أنّ عيراً مرّت بك من اليمن تحمل مالاً وحُللاً وعنبراً
وطيباً إليّ لأودعها خزائن دمشق واعُلّ بها بعد النهل بني أبي، وإنّك احتجت
اليها فأخذتها، ولم تكن جديراً بأخذها إذ نسبتها إليّ لأنّ الوالي أحقّ بالمال
ثم عليه المخرج منه، وأيم الله لو تركت ذلك حتى صار إليّ لم أبخسك حظك منه،
ولكنّي قد ظننت يا ابن أخي أنّ في رأسك نزوةً وبودّي أن يكون ذلك في زماني،
فأعرف لك قدرك وأتجاوز عن ذلك، ولكنّي والله أتخوّف أن تبتلى بمن لا ينظرك فواق
ناقة(شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 4 / 327، وناسخ التواريخ: 1 / 195.). إنّ الإمام الحسين عليه السلام دلّل
بعمله على أن ليس من حقّ الخليفة غير الشرعي أن يتصرّف في أموال المسلمين، وأنّ
ذلك من حقوق الحاكم الشرعي، والحاكم الشرعي هو الإمام الحسين عليه السلام نفسه
الذي ينفق أموال بيت المال وفق المعايير الإسلامية. وقد أكّد عليه
السلام في رسالته على أنّه لا يعترف رسمياً بخلافة معاوية; إذ لم
يصفه بأمير المؤمنين كما كان يصفه الآخرون. ومن هنا حاول معاوية الالتفاف على
موقف الإمام عليه السلام فوصف نفسه في رسالته الجوابية بأمير المؤمنين ووالي
المسلمين ولكنّه فشل في محاولته تلك، فقد بات موقف الإمام الحسين عليه السلام
معياراً إسلامياً وملاكاً فارقاً وفاصلاً بين الصواب والخطأ للمسلمين جميعاً على
مدى التأريخ، في حين لم يعر المسلمون لموقف معاوية أيّ اهتمام ولم يعتبروه سوى
أنّه تشويه للحقيقة وتضليل للرأي العام. لقد كان موقف الإمام عليه السلام هذا إشارة واضحة للاعتراض على تصرّفات وحكم معاوية والمطالبة بسيادة
الحقّ والعدل الإلهي. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
تذكير الأمة
بمسؤوليّتها:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
عقد الإمام عليه السلام في مكة
مؤتمراً سياسيّاً عامّاً دعا فيه جمهوراً غفيراً ممّن شهد موسم الحجّ من
المهاجرين والأنصار والتابعين وغيرهم من سائر المسلمين، فانبرىعليه
السلام خطيباً فيهم، وتحدّث عمّا ألمّ بعترة النبي صلىاللهعليه
وآله وشيعتهم من المحن والإحن التي صبّها عليهم معاوية، وما اتّخذه من
الإجراءات المشدّدة في إخفاء فضائلهم، وستر ما اُثر عن الرسول صلى اللهعليه وآله
في حقّهم، وألزم الحاضرين بإذاعة ذلك بين المسلمين، وفيما يلي ما رواه سليم بن
قيس عن هذا المؤتمر ونصّ خطاب الإمام عليه السلام حيث قال: ولمّا كان قبل موت
معاوية بسنة حجّ الحسين بن عليّ وعبد الله بن عباس وعبد الله بن جعفر، فجمع
الحسين بني هاشم ونساءهم ومواليهم ومن حجّ من الأنصار ممّن قال الراوي: فما ترك الحسين شيئاً ممّا
أنزل الله فيهم إلاّ تلاه وفسّره، ولا شيئاً ممّا قاله رسول الله صلىاللهعليهوآله
في أبيه وأخيه وأمه وفي نفسه وأهل بيته إلاّ رواه، وفي كلّ ذلك يقول أصحابه:
اللّهمّ نعم قد سمعنا وشهدنا، وممّا اشدهم عليه السلام أن قال: (اُنشدكم الله، أتعلمون أنّ عليّ بن
أبي طالب كان أخا رسول الله حين آخى بين أصحابه فآخى بينه وبين نفسه، وقال: أنت
أخي وأنا أخوك في الدنيا والآخرة؟ قالوا: اللّهمّ نعم، قال: اُنشدكم هل تعلمون
أنّ رسول الله اشترى موضع مسجده ومنازله فابتناه ثم ابتنى فيه عشرة منازل تسعة
له، وجعل عاشرها في وسطها لأبي، ثم سدّ كلّ باب شارع إلى المسجد غير بابه؟
فتكلّم في ذلك من تكلّم، فقال: ما أنا سددتُ أبوابكم وفتحت بابه، ولكنّ الله
أمرني بسدّ أبوابكم وفتح بابه، ثم نهى الناس أن يناموا في المسجد غيره، وكان
بجنب في المسجد ومنزله في منزل رسول الله، فولد لرسول الله وله فيه أولاد،
قالوا: اللّهمّ نعم. قال: أفتعلمون أنّ عمر بن الخطاب حرص
على كوة قدر عينه يدعها في منزله إلى المسجد فأبى قال: اُنشدكم الله أتعلمون أنّ رسول
الله قال في غزوة تبوك: أنت منّي بمنزلة هارون من موسى، وأنت وليّ كلّ مؤمن
بعدي؟ قالوا: اللّهمّ نعم. قال: اُنشدكم الله أتعلمون أنّ رسول
الله صلىاللهعليهوآله حين
دعا النصارى من أهل نجران إلى المباهلة لم يأت إلاّ به وبصاحبته وابنيه؟ قالوا:
اللّهمّ نعم. قال: اُنشدكم الله أتعلمون أنّ رسول
الله دفع إليه اللواء يوم خيبر، ثم قال: لأدفعه إلى رجل يحبّه الله ورسوله ويحبّ
الله ورسوله كرّار غير فرّار، يفتحها الله على يديه؟ قالوا: اللّهمّ نعم. قال: أتعلمون أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله
بعثه ببراءة وقال: لا يبلّغ عنّي إلاّ أنا أو رجل منّي؟ قالوا: اللّهمّ نعم. قال: أتعلمون أنّ رسول الله لم تنزلْ
به شدّة قطّ إلاّ قدّمه لها ثقةً به وأنّه لم يدعه باسمه قطّ، إلاّ يقول يا أخي؟
قالوا: اللّهمّ نعم. قال: أتعلمون أنّ رسول الله قضى بينه
وبين جعفر وزيد فقال: يا عليّ أنت منّي وأنا منك وأنت وليّ كلّ مؤمن بعدي؟
قالوا: اللهم نعم. قال: أتعلمون أنّه كانت له من رسول
الله صلىاللهعليهوآله كلّ
يوم خلوة، وكلّ ليلة دخلة، إذا سأله أعطاه، وإذا سكت أبداه؟ قالوا: اللّهمّ نعم. قال: أتعلمون أنّ رسول الله فضّله على
جعفر وحمزة حين قال لفاطمةعليهاالسلام:
زوّجتك خير أهل بيتي أقدمهم سلماً وأعظمهم حلماً وأكثرهم علماً؟ قالوا: اللّهمّ
نعم. قال: أتعلمون أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله
قال: أنا سيّد ولد آدم، وأخي عليّ سيّد العرب، وفاطمة سيّدة نساء أهل الجنّة؟
والحسن والحسين ابناي سيّدا شباب أهل الجنة، قالوا: اللّهمّ نعم. قال: أتعلمون أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله
أمره بغسله، وأخبره أنّ جبرئيل يعينه عليه؟ قالوا: اللّهمّ نعم. قال: فلم يدعصلىاللهعليهوآله
شيئاً أنزله الله في عليّ بن أبي طالب خاصة وفي أهل بيته من القرآن ولا على لسان
نبيّه إلاّ ناشدهم فيه فيقول الصحابة: اللّهمّ نعم قد سمعناه، ويقول التابعي:
اللّهم قد حدّثنيه من أثق به فلان وفلان. ثم ناشدهم أنّهم قد سمعوه
يقول:
من زعم أنّه يحبّني ويبغض عليّاً فقد كذب، ليس يحبّني وهو يبغض عليّاً، فقال له
قائل: يا رسول الله وكيف ذلك؟ قال: لأنّه منّي وأنا منه، من أحبّه فقد أحبّني
ومَن أحبّني فقد أحبّ الله، ومن أبغضه فقد أبغضني، ومن أبغضني فقد أبغض الله؟
فقالوا: اللّهمّ نعم، قد سمعناه، وتفرّقوا على ذلك(كتاب سُليم بن قيس: 323، تحقيق محمد باقر الأنصاري.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
موت معاوية:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
لقد كان موت معاوية بن أبي سفيان في
سنة ستّين من الهجرة(سيرة الأئمّة الاثني عشر: 2 / 54.). واستقبل معاوية الموت
غير مطمئن، فكان يتوجّع ويظهر الجزع على ما اقترفه من الإسراف في سفك دماء
المسلمين ونهب أموالهم، وقد وافاه الأجل في دمشق محروماً عن رؤية ولده الذي
اغتصب له الخلافة وحمله على رقاب المسلمين، وكان يزيد فيما يقول المؤرّخون
مشغولاً عن أبيه - في أثناء وفاته - برحلات الصيد وغارقاً في عربدات السكر ونغمة
العيدان(حياة
الإمام الحسين عليه السلام: 2 / 239
- 240.).
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
البحث الثاني: حكومة يزيد ونهضة الإمام الحسين عليه السلام.
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
بدايات النهضة:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
ذكرنا أنّ الإمام الحسين عليه
السلام وبالرغم من معارضته الشديدة لحكم معاوية بن أبي سفيان -
والتي نقلنا صوراً عديدةً منها - رفض التحرّك لخلع معاوية; التزاماً منه بالعهد
الذي وقّعه أخوه الإمام الحسن عليه السلام مع معاوية. وقد سجّل المؤرّخون هذا
الموقف المبدئي للإمام الحسين عليه السلام فقالوا: لمّا مات الحسن عليه السلام تحرّكت الشيعة بالعراق، وكتبوا إلى الحسين
عليه السلام في خلع معاوية والبيعة له فامتنع عليهم، وذكر أنّ بينه وبين معاوية
عهداً وعقداً لا يجوز له نقضه حتى تمضي المدّة، فإذا مات معاوية نظر في ذلك(الإرشاد: 2 / 32.). من هنا كان معلوماً لشيعته وللجهاز
الحاكم أيضاً أنّ موت معاوية يعني بالنسبة للإمام الحسين عليه السلامأنه في حلّ
من أيّ التزام، ومن ثم فإنّه سيطلق ثورته على نظام الحكم الغاشم الذي استلمه
يزيد الفاسق، لذلك كان الإمام الحسين عليه السلام يمثّل الهاجس الأكبر للطغمة
الحاكمة. رسالة يزيد
إلى حاكم المدينة:
قال المؤرّخون: إنّ يزيد كتب فور موت
أبيه إلى الوليد بن عتبة بن أبي سفيان - وكان والياً على المدينة من قِبَل
معاوية - أن يأخذ على الحسين عليه السلام بالبيعة له ولا يرخّص له في التأخّر
عن ذلك(المصدر السابق.).
وذكرت مصادر |
|||||||||||||||||||||||||||
|
الوليد يستشير مروان
بن الحكم:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
حار الوليد في أمره، إذ يعرف أنّ
الإمام الحسين عليه السلام لا يبايع ليزيد مهما
كانت النتائج، فرأى أنّه في حاجة إلى مشورة مروان بن
الحكم عميد الأسرة الأُموية فبعث إليه، فأشار مروان على الوليد قائلاً له: إبعث
اليهم(المقصود هنا الإمام الحسين عليه السلاموعبد الله بن الزبير وعبد
الله بن عمر، باعتبار أنّ بعض المصادر التأريخية أفادت بأنّ رسالة يزيد تضمّنت أسماءهم
جميعاً مثل تأريخ الطبري: 6 / 84.)
في هذه الساعة فتدعوهم إلى البيعة والدخول في طاعة يزيد، فإن فعلوا قبلت ذلك
منهم، وإن أبوا قدّمهم واضرب أعناقهم قبل أن يدروا بموت معاوية; فإنّهم إن علموا
ذلك وثب كلّ رجل منهم فأظهر الخلاف ودعا إلى نفسه، فعند ذلك أخاف أن يأتيك من
قبلهم ما لا قبل لك به، إلاّ عبد الله بن عمر فإنّه لا ينازعُ في هذا الأمر
أحداً، مع أنّني أعلم أنّ الحسين بن علي لا يجيبك إلى بيعة يزيد، ولا يرى له
عليه طاعةً. ووالله لو كنت في موضعك لم أراجع الحسين بكلمة واحدة حتى أضرب رقبته
كائناً في ذلك ما كان(حياة إلامام الحسين عليه السلام: 2 / 25.). وعظم ذلك على الوليد وهو أكثر بني
أُمية حنكةً، فقال لمروان: ياليت الوليد لم يولد ولم يك شيئاً مذكوراً(المصدر السابق: 2 / 251.). فسخر منه مروان وراح يندّد به قائلاً:
لا تجزع ممّا قلتُ لك; فإنّ آل أبي تراب هم الأعداء من قديم الدهر(حياة الإمام الحسين عليه السلام 2 / 251.)،
ونهره الوليد فقال له: ويحك يا مروان إعزب عن كلامك هذا، وأحسن القول في ابن
فاطمة فإنّه بقية النبوة(المصدر السابق.). واتّفق رأيهما على استدعاء الإمام
عليه السلام وعرض الأمر عليه لمعرفة موقفه من السلطة. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
الإمام عليه السلام
في مجلس الوليد:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
أرسل الوليد إلى الحسين عليه السلام يدعوه
إليه ليلاً، فجاءه الرسول وهو في المسجد، ولم يكن قد شاع موت معاوية بين الناس،
وجال في خاطر الحسين عليه السلام أنّ الوليد قد استدعاه ليخبره بذلك ويأخذ منه
البيعة إلى الحاكم الجديد بناءً على الأوامر التي جاءته من الشام، فاستدعى
الحسين مواليه وإخوته وبني عمومته وأخبرهم بأنّ الوالي قد استدعاه إليه وأضاف:
إنّي لا آمن أن يكلّفني بأمر لا اُجيبه عليه(إعلام الورى: 1 / 434، وروضة الواعظين: 171، ومقتل أبي مخنف: 27،
وتذكرة الخواص: 213.). وقال الإمام عليه السلام لمواليه بعد أن أمرهم بحمل السلاح: (كونوا معي
فإذا دخلت إليه فاجلسوا على الباب فإن سمعتم صوتي قد علا فادخلوا عليه)( الإرشاد: 2 / 33.). ودخل الإمام عليه السلام على الوليد
فرأى مروان عنده وكانت بينهما قطيعة، فقال عليه السلام: (الصلةُ خير من
القطيعة، والصلح خير من الفساد، وقد آن لكما أن تجتمعا، أصلح الله ذات بينكما)( حياة الإمام الحسين عليه السلام: 2 / 254.)
ثم نعى إليه الوليد معاوية، فاسترجع الإمام الحسين عليه السلام ثم قرأ عليه
كتاب يزيد وما أمره فيه من أخذ البيعة منه له، فقال
الحسين عليه السلام: (إنّي لا أراك تقنع ببيعتي ليزيد
سرّاً حتى اُبايعه جهراً). فقال الوليد:
أجل، فقال الحسين عليه السلام: (فتصبح وترى رأيك في ذلك)، فقال له الوليد: انصرف على اسم الله تعالى حتى
تأتينا مع جماعة الناس، فقال له مروان: والله لئن فارقك الحسين الساعة ولم يبايع
لا قدرت منه على مثلها أبداً حتى تكثر القتلى بينكم وبينه، إحبس الرجل فلا يخرج
من عندك حتى يبايع أو تضرب عنقه. فوثب الحسين عليه السلام عند ذلك وقال:(أنت
ياابن الزرقاء تقتلني أم هو؟! كذبت والله وأثمت). وخرج يمشي ومعه مواليه حتى أتى
منزله. فقال مروان للوليد:
عصيتني. لا و الله لا يمكّنك مثلها من نفسه أبداً. فقال له الوليد: ويح غيرك يا مروان! إنّك اخترت
لي التي فيها هلاك ديني. والله ما اُحب أنّ لي ما طلعت عليه الشمس وغربت عنه من
مال الدنيا وملكها وإنّي قتلت حسيناً. سبحان الله! أقتل حسيناً لمّا أن قال: لا
أبايع؟ والله إنّي لأظنّ امرءاً يحاسبُ بدم الحسين خفيف الميزان عند الله يوم
القيامة(الإرشاد: 2 / 33 - 34.). وثمّة روايات أفادت بأنّ
النقاش قد احتدم بين الإمام عليه السلام وبين مروان، حتى أعلن عليه السلام رأيه لمروان بصراحة قائلاً:
(إنّا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة ومحل الرحمة، بنا فتح الله
وبنا ختم، ويزيد رجل فاسق شارب الخمر قاتل النفس المحترمة معلن بالفسق، ومثلي لا
يبايع مثله، ولكن نصبح وتصبحون وننظر وتنظرون أيّنا أحقّ بالخلافة والبيعة)( مقتل الحسين للمقرّم: 144، وإعلام الورى: 1 / 435.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
الإمام عليه السلام
مع مروان:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
والتقى الإمام الحسين عليه السلام في
أثناء الطريق بمروان بن الحكم في صبيحة تلك الليلة التي أعلن فيها رفضه لبيعة
يزيد، فبادره مروان قائلاً: إنّي ناصح فأطعني ترشد وتسدّد. فقال الإمام عليه السلام:
(وما ذاك يا مروان؟). قال مروان: إنّي آمرك ببيعة أمير
المؤمنين يزيد فإنّه خير لك في دينك ودنياك. فردّ عليه الإمام عليه السلام
ببليغ منطقه قائلاً: (على الإسلام السلام إذ قد بليت الأمة براع مثل يزيد...
سمعت جدّي رسول الله صلىاللهعليه وآله يقول: الخلافة محرّمة على آل أبي سفيان
وعلى الطلقاء وأبناء الطلقاء فإذا رأيتم معاوية على منبري فابقروا بطنه، فوالله
لقد رآه أهل المدينة على منبر جدّي فلم يفعلوا ما اُمروا به)( الفتوح لابن أعثم: 5 / 17، ومقتل الحسين للخوارزمي: 1 / 184.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
حركة الإمام عليه السلام
في الليلة الثانية:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
ذكر المؤرّخون أنّ الإمام الحسين عليه السلام
أقام في منزله تلك الليلة وهي ليلة السبت لثلاث
بقين من رجب سنة ستين من الهجرة، واشتغل
الوليد بن عتبة بمراسلة ابن الزبير في البيعة ليزيد وامتناعه عليهم، وخرج ابن
الزبير من ليلته عن المدينة متوجّهاً إلى مكة، فلمّا أصبح الوليد سرح في أثره
الرجال فبعث راكباً من موالي بني أُمية في ثمانين راكباً، فطلبوه ولم يدركوه
فرجعوا، فلمّا كان آخر نهار يوم السبت بعث الرجال إلى الحسين عليه السلام ليحضر
فيبايع الوليد ليزيد بن معاوية، فقال لهم الحسين عليه السلام: اصبحوا ثم ترون ونرى.
فكَفّوا تلك الليلة عنه ولم يلحّوا عليه. فخرج عليه
السلام من تحت ليلته وهي
ليلة الأحد ليومين بقيا من رجب متوجّهاً نحو مكة ومعه بنوه
وبنو أخيه وإخوته وجَلَّ أهل بيته إلاّ محمد بن الحنفية - رحمة الله عليه -
فإنّه لمّا علم عزمه على الخروج عن المدينة لم يدرِ أين يتوجّه، فقال له: يا أخي
أنت أحبّ الناس إليَّ وأعزّهم عليّ ولست أدّخر النصيحة لأحد من الخلق إلاّ لك
وأنت أحقّ بها، تنحّ ببيعتك عن يزيد بن معاوية وعن الأمصار ما استطعت، ثم ابعث
رسلك إلى الناس فادعهم إلى نفسك فإن بايعك الناس وبايعوا لك حمدت الله على ذلك،
وإن اجتمع الناس على غيرك لم ينقص الله بذلك دينك ولا عقلك ولا تذهب به مروّتك
ولا فضلك، إنّي أخاف عليك أن تدخل مصراً من هذه الأمصار فيختلف الناس بينهم،
فمنهم طائفة معك وأخرى عليك، فيقتتلوا فتكون لأوّل الأسنّة غرضاً، فإذا خير هذه
الأمة كلّها نفساً وأباً واُمّاً، أضيعها دماً وأذلّها أهلاً. فقال له الحسين عليه السلام:
فأين أذهب يا أخي؟ قال: انزل مكة فإن اطمأنت بك الدار بها فسبيل ذلك، وإن
(نَبَتَ بك)( أي لم تجد بها قراراً ولم تطمئن عليها. انظر لسان العرب: 15/302
مادة نبأ.)
لحقت بالرمال وشعف الجبال وخرجت من بلد إلى بلد حتى تنظر إلى ما يصير أمر الناس
إليه; فإنّك أصوب ما تكون رأياً حين تستقبل الأمر استقبالاً. فقال الإمام عليه السلام: (يا أخي، قد
نصحتَ وأشفقتَ وأرجو أن يكون رأيك سديداً موفّقاً)( الإرشاد: 2 / 35.).
فسار الحسين عليه السلام إلى مكة وهو يقرأ (فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ
نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)( القصص (28): 21.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
وصايا الإمام الحسين
عليه السلام:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
لقد كتب الإمام عليه السلام
قبل خروجه من المدينة عدّة وصايا: منها: وصية لأخيه هذا نصّها:
(هذا ما أوصى به الحسين بن عليّ إلي أخيه محمد بن الحنفية، أنّ الحسين يشهد أن
لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأنّ محمداً عبده ورسوله جاء بالحق من عنده،
وأنّ الجنة حق والنار حق، والساعة آتية لا ريب فيها، وأنّ الله يبعث من في
القبور، وإنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب
الإصلاح في أمة جدّي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدّي
وأبي عليّ بن أبي طالب، فمن قبلني بقبول الحقّ فالله أولى بالحقّ، ومن ردّ عليّ
هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم وهو خير الحاكمين)( مقتل الحسين للمقرّم: 156.). ومنها:
وصيّته لأم المؤمنين أم سلمة حيث أوصاها بما يرتبط بإمامة الإمام من بعده. روي
أنّه لمّا عزم على الخروج من المدينة أتته
أم سلمة (رضي الله عنها) فقالت: يا بني لا
تحزنّي بخروجك إلى العراق، فإنّي سمعت جدّك يقول: يقتل ولدي الحسين عليه السلام
بأرض العراق في أرض يقال لها: كربلا. فقال
لها:
(يا أماه وأنا والله أعلم ذلك، وأنّي مقتول لا محالة، وليس لي من هذا بدّ، وإنّي
والله لأعرف اليوم الذي أقتل فيه، وأعرف من يقتلني، وأعرف البقعة التي أُدفن
فيها، وإنّي أعرف من يقتل من أهل بيتي وقرابتي وشيعتي، وإن أردت يا أمه أُريك
حفرتي ومضجعي). ثم أشار إلى جهة كربلاء، فانخفضت الأرض
حتى أراها مضجعه ومدفنه وموضع عسكره وموقفه ومشهده، فعند ذلك بكت أم سلمة بكاءً
شديداً وسلّمت أمره إلى الله. فقال لها:
(يا أمه، قد شاء الله عَزَّ وجَلَّ أن يراني مقتولاً مذبوحاً ظلماً وعدواناً، وقد
شاء أن يرى حرمي ورهطي ونسائي مشرّدين، وأطفالي مذبوحين مظلومين مأسورين
مقيّدين، وهم يستغيثون فلا يجدون ناصراً ولا معيناً). وفي رواية أخرى:
قالت أم سلمة: وعندي تربة دفعها إلي جدّك في قارورة، فقال: (والله إنّي مقتول
كذلك، وإن لم أخرج إلى العراق يقتلوني أيضاً) ثم أخذ تربةً فجعلها في قارورة
وأعطاها إيّاها، وقال: (اجعليها مع قارورة جدّي فإذا فاضتا دماً فاعلمي أنّي قد
قتلت)( بحار الأنوار: 44 / 331، والعوالم: 17 / 180، وينابيع المودة:
405... إلى قوله: بكت أم سلمة بكاءً شديداً.). وروى الطوسي عن الحسين بن
سعيد عن حمّاد بن عيسى عن ربعي بن عبد الله عن الفضيل بن يسار قال: قال أبو جعفرعليه السلام: (لمّا توجه الحسين
عليه السلام إلى العراق ودفع إلى أم سلمة زوجة النبي صلىاللهعليه وآله
الوصية والكتب وغير ذلك قال لها:
(إذا أتاك أكبر ولدي فادفعي إليه ما قد دفعت إليك)، فلمّا قتل الحسين عليه السلام
أتى عليّ بن الحسين عليه السلام أم سلمة فدفعت إليه كلّ شيء أعطاها الحسين عليه
السلام)( الغيبة للطوسي: 118 حديث 148، واثبات الهداة: 5 / 214.). وروى عليّ بن يونس العاملي في كتاب الصراط
المستقيم النصّ على عليّ بن الحسين عليه السلام في حديث ثم قال:
وكتب الحسين عليه السلام وصيّته وأودعها أم سلمة وجعل طلبها منها علامة على
إمامة الطالب لها من الأنام فطلبها الإمام زين العابدين عليه
السلام(إثبات الهداة: 5 / 216 حديث 8.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
توجّه الإمام إلى
مكة:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
قال المؤرّخون:
إن الإمام الحسين عليه السلام عندما توجّه إلى مكة لزم الطريق الأعظم، فقال له
أهل بيته: لو تنكبت الطريق الأعظم كما فعل ابن الزبير كي لا يلحقك الطلب، فقال:
لا والله لا أفارقه حتى يقضي الله ما هو قاض(الفتوح: 5 / 24، وينابيع المودّة: 402 الإرشاد للمفيد: 2 / 35.).
ولمّا دخل الإمام الحسين عليه السلام مكة كان دخوله إيّاها ليلة الجمعة لثلاث
مضين من شعبان دخلها وهو يقرأ: (وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ
عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ)( القصص (28): 22.). ثم نزلها فأقبل أهلها يختلفون إليه ومن
كان بها من المعتمرين وأهل الآفاق، وابن الزبير بها قد لزم جانب الكعبة وهو قائم
يصلّي عندها ويطوف، ويأتي الحسين عليه السلام فيمن يأتيه، فيأتيه اليومين
المتواليين ويأتيه بين كلّ يومين مرة، وهو أثقل خلق الله على ابن الزبير، قد عرف
أنّ أهل الحجاز لا يبايعونه ما دام الحسين عليه السلام في البلد وأنّ الحسين
عليه السلام أطوع في الناس منه وأجلّ(الإرشاد: 2 / 36، وبحار الأنوار: 44 / 332.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
البحث الثالث: أسباب ودوافع الثورة
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
إنّه من الصعب أن نقف على
جميع الأسباب لثورة امتدّت في عمق الزمن، ولا زالت
تنبض بالدفق والحيويّة مثيرة في النفوس روح الإباء والتضحية، وتأخذ بيد الثائرين
على مرّ الزمن بالاستمرار في طريق الحقّ وبذل النفس والنفيس لبلوغ الأهداف
السامية، إنّها الثورة التي أحيت الرسالة الإسلامية بعد أن كادت تضيع وسط أهواء
ورغبات الحكّام الفاسدين، وأثارت في الأمة الإسلامية الوعي حتّى صارت تطالب
بإعادة الحقّ إلى أهله وموضعه. إنّ أفضل ما نستخلص منه
أسباب ودوافع الثورة الحسينية هي النصوص المأثورة عن الحسين
الثائرعليه السلام وكذا آثار
الثورة، إلى جانب معرفتنا بشخصيّته عليه
السلام فها هو الحسين عليه السلام
يخاطب جيش الحرّ بن يزيد الرياحي الذي تعجّل لمحاصرته ولم يسمح له بتغيير مساره
قائلا: (أيّها الناس، إنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله
قال: من رأى منكم سلطاناً جائراً مستحلاًّ لحرم الله ناكثاً لعهد الله مخالفاً
لسنّة رسول الله صلىاللهعليهوآله
يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول كان حقّاً على
الله أنْ يدخله مدخله. ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن
وأظهروا الفساد وعطّلوا الحدود واستأثروا بالفيء وأحلّوا حرام الله وحرّموا
حلاله وأنا أحقّ من غَيّر، وقد أتتني كتبكم وقدمت عليّ رسلكم ببيعتكم، وإنّكم لا
تسلموني ولا تخذلوني، فإن تمّمتم عليّ بيعتكم تصيبوا رشدكم، فأنا الحسين بن عليّ
وابن فاطمة بنت رسول الله صلىاللهعليهوآله
نفسي مع أنفسكم، وأهلي وفي خطاب آخر
بعد أن توضّحت نوايا الغدر والخذلان والإصرار على محاربة الإمام عليه السلام
وطاعة يزيد الفاسق قال عليه السلام:
(فسحقاً لكم يا عبيد الأمة وشذّاذ الأحزاب ونَبَذَة الكتاب ونفثة الشيطان وعصبة
الآثام ومحرّفي الكتاب ومطفئي السنن وقتلة أولاد الأنبياء ومبيدي عترة الأوصياء
وملحقي العهار بالنسب ومؤذي المؤمنين وصُراخ أئمّة المستهزئين الذين جعلوا
القرآن عضين، ولبئس ما قدّمت لهم أنفسهم وفي العذاب هم خالدون...). ثم قال عليه السلام: (ألا وإنّ الدعيّ
ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين بين السلّة والذلّة، وهيهات منّا الذلّة! يأبى
الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وجدود طابت وحجور طهرت وأنوف حميّة ونفوس أبيّة
لا تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام...)( أعيان الشيعة: 1 / 603.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
من هنا يمكن أن نخلص إلى أسباب ثورة الإمام الحسين
عليه السلام كما يلي:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
1 - فساد الحاكم وانحراف جهاز الحكومة:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
لم يعد في مقدور الإمام الحسين عليه السلام
أن يتوقّف عن الحركة وهو يرى الانحراف الشامل في زعامة الأمة الإسلامية، فإذا
كانت السقيفة قد زحزحت الخلافة عن صاحبها الشرعي وهو الإمام علي عليه السلام وتذرّع
أتباعها بدعوى حرمة نقض البيعة ولزوم الجماعة وحرمة تفريق كلمة الأمة ووجوب
إطاعة الإمام المنتخب بزعمهم، فقد كان الإمام علي عليه السلام يسعى بنحو أو
بآخر لإصلاح ما فسد من جرّاء فعل الخليفة غير المعصوم، وقد شهد الإمام الحسين
عليه السلام جانباً من ذلك بوضوح خلال فترة حكم عثمان. ولقد كانت بنود الصلح تضع قيوداً على
تصرّفات معاوية الذي اتّخذ أسلوب الخداع والتستّر بالدين سبيلا لتمرير مخطّطاته،
أمّا الآن فإنّ الأمر يختلف; إذ بعد موت معاوية لم يبق أيّ علاج إلاّ الصدام
المباشر في نظر الإمام المعصوم وصاحب الحقّ الشرعي - الحسين عليه السلام - فلم
يعد في الإمكان ولو نظرياً القبول بصلاحيّة يزيد وبني أُمية للحكم. على أنّ نتائج انحراف
السقيفة كانت تنذر بالخطر الماحق للدين، فقد قال الإمام عليه السلام: (أيّها
الناس! إنّ رسول الله صلىاللهعليه وآله قال: من رأى منكم سلطاناً جائراً
مستحلاًّ لحرم الله ناكثاً لعهد الله مخالفاً لسنّة رسول الله صلىاللهعليه
وآله يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغيّر عليه بقول ولا بفعل كان حقّاً
على الله أن يدخله مدخله). وقد كان يزيد يتصف بكل ما حذّر منه
الرسول صلىاللهعليهوآله وكان
الحسين عليه السلام وهو الوريث للنبيّ وحامل مشعل الرسالة - أحقّ من غيره
بالمواجهة والتغيير. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
2 - مسؤولية الإمام تجاه الأمة:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
كان الإمام الحسين عليه السلام يمثّل
القائد الرسالي الشرعي الذي يجسّد كلّ القيم الخيّرة والأخلاق السامية. وبحكم مركزه الاجتماعي - حيث إنّه هو
سبط الرسول صلى اللهعليه وآله ووريثه - فإنّه مسؤول عن هذه الأمة، وقد وقفعليه
السلام في عهد معاوية محاولاً إصلاح الأمور بطريقة سلمية، فحاجج
معاوية وفضح مخطّطاته(الإمامة والسياسة: 1 / 284.)
ونبّه الأمة إلى مسؤولياتها ودورها(كتاب سُليم بن قيس: 166.)،
بل خطا خطوةً كبيرة لتحفيز الأمة على رفض الظلم(شرح نهج البلاغة: 4 / 327.)، وحاول
جمع كلمة الأمة في وجه الظالمين(أنساب الأشراف: ق 1 / ج 1، وتأريخ ابن كثير: 8 / 162.). ولمّا استنفد كلّ الإجراءات الممكنة
لتغيير الأوضاع الاجتماعية في الأمة تحرّك بثقله وأهل بيته للقيام بعمل قويّ في
مضمونه ودلالته وأثره وعطائه لينهض بالأمة لتغيير واقعها الفاسد. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
3 - الاستجابة لرأي الجماهير الثائرة:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
لم يكن بوسع الإمام الحسين عليه السلام
أن يقف دون أن يقوم بحركة قوية، وقد تكاثرت عليه كتب الرافضين لبيعة يزيد بن
معاوية تطلب منه قيادة زمام أمورها والنهوض بها، وقد حمّلته المسؤولية أمام الله
إذا لم يستجب لدعواتهم، وكانت دعوة أهل الكوفة للإمام الحسين عليه السلام
بمثابة الغطاء السياسي الذي يعطي الصفة الشرعية لحركته، فلم تكن حركته بوازع
ذاتي ولا مطمع شخصي، لا سيّما بعد إتمام الحجّة عليه من قبل هؤلاء المسلمين. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
4 - محاولة إرغامه عليه السلام
على الذلّ والمساومة:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
لقد كان الإمام الحسين عليه السلام
يحمل روحاً صاغها الله بالمُثل العليا والقيم الرفيعة، ففاضت إباء وعزّةً
وكرامةً، وفي المقابل تدنّت نفسيّة يزيد الشريرة ونفسيات أزلامه، فأرادوا من
الإمام الحسين عليه السلام أن يعيش ذليلا في ظلّ حكم فاسد: وقد صرّحعليه
السلام قائلاً: (ألا وإنّ الدعيّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين
بين السلّة والذلّة، وهيهات منّا الذلّة! يأبى الله لنا ذلك ورسوله ونفوس أبيّة
وأنوف حميّة من أن تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام). وفي موقف آخر قال عليه السلام:(لا أرى
الموت إلاّ سعادةً والحياة مع الظالمين إلاّ برماً). بهذه الصورة الرائعة سنّ الإمام الحسين
عليه السلام سنّة الإباء لكلّ من يدين بقيم السماء وينتمي إليها ويدافع عنها،
وانطلق من هذه القاعدة ليغيّر الواقع الفاسد. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
5 - نوايا الغدر الأموي والتخطيط لقتل
الحسين عليه
السلام:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
استشفّ الإمام الحسين عليه السلام -
وهو الخبير الضليع بكلّ ما كان يمرّ في معترك الساحة السياسية والمتغيّرات
الاجتماعية التي كانت تتفاعل في الأمة - نوايا الغدر والحقد الأموي على الإسلام
وأهل البيت عليهم السلام وتجارب السنين الأولى من الدعوة الإسلامية، ثم ما كان
لمعاوية من مواقف مع الإمام علي عليه السلام ومن بعده مع الإمام الحسن عليه السلام
. وأيقن الحسين عليه السلام أنّهم لا
يكفّون عنه وعن الفتك به حتى لو سالمهم، فقد كان يمثّل بقية النبوّة والشخصية
الرسالية التي تدفع الحركة الإسلامية في نهجها الحقيقي وطريقها الصحيح. ولم يستطع يزيد أن يخفي نزعة
الشرّ في نفسه، فقد روي أنّه صرّح قائلاً في وقاحة:
وقد أعلن الإمام الحسين عليه
السلام أنّ بني أُمية لا يتركونه بحال من الأحوال فقد صرّح لأخيه محمد بن
الحنفية قائلاً: (لو دخلت في جُحْر هامّة من هذه
الهوامّ لاستخرجوني حتى يقتلوني). وقال عليه السلام لجعفر بن
سليمان الضبعي: (والله لا يدعوني حتى يستخرجوا هذه
العلقة - يعني قلبه الشريف - من جوفي). فتحرّك الإمام عليه السلام من مكة
مبكّراً ليقوم بالثورة قبل أن تتمكّن يد الغدر من قتله وتصفيته، وهو بعد لم
يتمكّن من أداء دوره المفروض له في الأمة آنذاك، وسعى لتفويت أيّة فرصة يمكن أن
يستغلّها الأمويون للغدر به، والظهور بمظهر المدافع عن أهل بيت النبوّة. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
6 - انتشار الظلم وفقدان الأمن:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
قام الحكم الأموي على أساس الظلم
والقهر والعدوان، فمنذ أن برز معاوية وزمرته كقوّة في العالم الإسلامي برز وهو
باغ على خليفة المسلمين وإمام الأمة بعد رسول الله صلىاللهعليه وآله، وأسرف
في ممارساته الظالمة التي جلبت الويل للأمة، فقد سفك الدماء الكثيرة، واستعمل
شرار الخلق لإدارة الأمور يوم تفرّد بالحكم، بل وقبل أن يتسلّط على الأمة كانت
كلّ العناصر الموالية له تشيع الخوف والقتل حتى قال الناس فيولاية زياد بن أبيه:
(انج سعد، فقد هلك سعيد) للتدليل على ضياع الأمن في جميع أنحاء البلاد(تأريخ الطبري: 6 / 77، وتأريخ ابن عساكر: 3 / 222، والاستيعاب: 1 /
60، وتأريخ ابن كثير: 7 / 319.). ومن جانب آخر أمعنت السلطة الأُموية في
احتقار فئات و قطاعات كبيرة من الأمة بنظرة استعلائية قبلية(العقد الفريد: 2 / 258، وطبقات ابن سعد: 6 / 175، ونهاية الإرب: 6 /
86.)،
كما مارس معاوية في سياسته التي ورثها يزيد أنواع الفتك والتعذيب والتهجير
للمسلمين وبالأخص من عرف منه ولاء أهل البيت عليهم السلام(شرح النهج: 11 / 44، وتأريخ الطبري: 4 / 198.). وبكلّ جرأة على الحقّ واستهتار بالقيم
يقول معاوية للإمام الحسين عليه السلام: يا أبا عبد الله، علمت أنّا قتلنا شيعة
أبيك فحنّطناهم وكفّناهم وصلّينا عليهم ودفنّاهم(تأريخ اليعقوبي: 2 / 206.).
أمام هذه المظالم لم يقف الإمام الحسين عليه السلام مكتوف اليد، فقد احتجّ على
معاوية ثم ثار على ولده يزيد، إذ لم ينفع النصح والاحتجاج لينقذ الأمة من الجور
الهائل. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
7 - تشويه القيم الإسلامية ومحو ذكر أهل
البيت عليهمالسلام:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
اجتهد الحكم الأموي أن يغيّر الصورة
الصحيحة للرسالة الإسلامية والتركيب الاجتماعي للمجتمع المسلم، فقد عمد الأمويون
إلى إشاعة الفرقة بين المسلمين والتمييز بين العرب و غيرهم وبثّ روح التناحر
القبلي، والعمل على تقريب قبيلة دون أخرى من البلاط وفق المصالح الأُموية في
الحكم. وكان للمال دور مهمّ في إشاعة الروح
الانتهازية والازدواج في الشخصيّة والإقبال على اللهو(تأريخ الطبري: 8 / 288، والأغاني: 4 / 120.). ولمّا كان لأهل البيت عليهم السلام
الأثر الكبير في تجذير العقيدة الإسلامية ورعاية هموم الرسالة الإسلامية; فقد
عمد الأمويون ومنذ تفرّد معاوية بالحكم بأسلوب مبرمج إلى محو ذكر أهل البيت
عليهم السلام وقد تكاملت هذه الخطوة في أواخر حكم معاوية ومحاولة استخلافه
ليزيد(نهج البلاغة: 3 / 595 و 4 / 61 و و 11 / 44.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
8 - الاستجابة لأمر الله و رسوله صلىاللهعليهوآله:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
إنّ عقيدة سامية ورسالة خاتمة لكل
الرسالات كرسالة الإسلام لا يمكن أن يتركها قائدها الكبير ومبلّغها العظيمصلىاللهعليهوآله
وهو النبيّ المعصوم والمسدّد من السماء دون تخطيط وعناية ودون قيّم يرعى شؤونها
وأحوالها، يخلص لها في قوله وعمله، ويوجّهها نحو هدفها المنشود مستعيناً بدرايته
وبعلمه الشامل بأحكامها، ويفتديها بكلّ غال ونفيس من أجل أن تحيى و تبقى كلمة
الله هي العليا. والمتتبّع لسيرة الرسول وأهل بيته (صلوات الله عليهم) يلمس
بوضوح ترابط الأدوار التي قام بها المعصومون من آل النبي وتكاملها، وهم مستسلمون
لأمر الله ورسوله غاية التسليم. وقد أدلى الإمام الحسين عليه السلام
بذلك حينما أشار المشفقون عليه بعدم الخروج إلى العراق، فقال عليه السلام:
(أمرني رسول الله بأمر وأنا ماض له)( البداية والنهاية: 8 / 176، وتأريخ ابن عساكر: ترجمة الإمام الحسين عليه السلام، ومقتل الحسين للخوارزمي: 1 / 218،
والفتوح: 5 / 74.). كما أنّ النبي صلىاللهعليه وآله كان
قد أخبر بمقتل الإمام الحسين عليه السلام بأيدي الظلمة الفاسقين حين ولادته حتى
بات ذلك من الأمور المتيقّنة لدى المسلمين(مستدرك الحاكم: 4 / 398 و 3 / 176، وكنز العمال: 7 / 106، ومجمع
الزوائد: 9 / 187، وذخائر العقبى: 148، وسير أعلام النبلاء: 3 / 15.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
أهداف منظورة في ثورة الإمام الحسين عليه السلام:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
إنّ أهداف الرجال العظام هي عظيمة في
التأريخ، وتزداد رفعةً وسموّاً حين تنبعث من عمق رسالة سامية. ونحن حين نقف أمام
الحسين عليه السلام الذي يمثّل أعظم رجل في عصره وهو يحمل ميراث النبوّة وثقل
الرسالة الخاتمة الخالدة مسدّداً بالتسديد الإلهي في القول والفعل، وأمام سيرته
لنبحث عن أهداف نهضته المقدسة - التي فداها بنفسه وبأهل بيته وخيرة أصحابه - لا
نجد من السهل لنا أن نحيط علماً بكلّ ذلك، لكنّنا نبحث بمقدار إدراكنا ووعينا
للحدث وفق ما تتحمّله عقولنا طبعاً. لقد تفانى الحسين عليه السلام في الله
ومن أجل دينه، فكانت أهدافه – التي تمثّل
رضى الله وطاعته - سامية جليلة، كما أنّها كانت واسعة وعديدة. ويمكننا أن نذكر بعض أهداف الإمام الحسين عليه السلام من ثورته كما
يلي(للمزيد
من التفصيل راجع: أضواء على ثورة الحسين ع للسيّد محمد الصدر: 57.): |
|||||||||||||||||||||||||||
|
1 - تجسيد الموقف الشرعي تجاه الحاكم
الظالم:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
لقد أصابت الأمة حالة من الركود حتى
أنّها لم تعد تتحرّك لاتّخاذ موقف عملي واقعي تجاه الحاكم الظالم، فالجميع يعرف
من هو يزيد وبماذا يتّصف من رذائل الأخلاق ممّا تجعله غير لائق أبداً بأن يتزعّم
الأمة الإسلامية. في مثل هذا الظرف وقف الكثيرون حيارى
يتردّدون في قرارهم، فتحرّك الإمام الحسين عليه السلام ليجسّد الموقف الرسالي
الرافض للظلم و الفساد، في حركة قوية واضحة مقرونة بالتضحية والفداء، من أجل
العقيدة الإسلامية، لتتّخذ الأمة الموقف ذاته تجاه الظلم والعدوان. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
2 - فضح بني أُمية وكشف حقيقتهم:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
إنّ الحكّام الذين تولّوا أُمور
المسلمين ولم يكونوا معصومين ولا شرعيين كانوا يغطّون تصرّفاتهم بغطاء ذي مسحة
شرعية عند الجماهير. وكان بنو أُمية من أكثر الحكام المستفيدين من هذا الأُسلوب
الماكر; إذ لم يتردّد معاوية في وضع الأحاديث المفتعلة لتدعيم حكمه، بل سعى بكلّ
وسيلة لتضليل الأمة، وتمكّن من فعل ذلك مع عامة الناس. وأصبح الأمر أكثر خطورة
حين تولّى يزيد ولاية الحكم بطريقة لم يقرّها الإسلام، ولهذا كان لابدّ من فضح
التيار الأموي وتصويره على حقيقته، لتتّضح الصورة للعالم الإسلامي فيعي دوره
ورسالته ويقوم بواجبه ووظيفته، فتحرّك
الحسين عليه السلام بصفته الإمام المعصوم ليواجه زيف
الحكم وضلالته. وفعلا أسفر التيار الأموي عن مكنون حقده بارتكابه الجريمة البشعة
في كربلاء بقتل خير الناس وأصحابه وأهل بيته من الرجال والنساء والأطفال، ثم
أعقب ذلك بقصف الكعبة بالمنجنيق في واقعة الحرة وإباحة المدينة ثلاثة أيام قتلا
ونهباً وسلباً واعتداءً على الأموال والنساء والأطفال بشكل بشع لم يسبق له مثيل(راجع: الفتوح لابن أعثم: 5 / 301، والإمامة والسياسة للدينوري: 2 /
19، مروج الذهب: 2 / 84.). وانتبه المسلمون إلى انحراف الفئة
الحاكمة الضالّة وإلى فساد أعمالها، وسعوا من خلال محاولات عديدة إلى تطهير
الجهاز الحاكم المتوغّل في الظلم والطغيان، حتى غدت ثورة الإمام الحسين عليه السلام
أنموذجاً يحتذى به لمقارعة ومقاومة كلّ نظام يستشري فيه الفساد، وقد أفصح الإمام
عليه السلام عن الصفات التي يجب أن يتحلّى بها الحاكم بقوله: (فلعمري ما الإمام
إلاّ العامل بالكتاب، والآخذ بالقسط، والدائن بالحقّ، والحابس نفسه على ذات
الله)( تأريخ الطبري: 6 / 197.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
3 - إحياء السنّة وإماتة البدعة:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
انحدرت الأمة الإسلامية في منحدر صعب
يوم انحرفت الخلافة عن مسارها الشرعي في يوم السقيفة، فإنّها قبلت بعد وفاة الرسول
صلى اللهعليه وآله أن يتولّى أمرها من يحتاج إلى المشورة والنصيحة ويخطئ في
حقّها ويعتذر، فكانت النتيجة بعد خمسين عاماً من غياب النبي صلىاللهعليه وآله
أن يتولّى أمرها رجل لا يتورّع عن محارم الله، بل ويظهر الحقد على الإسلام
والمسلمين، فتعرّض الإسلام - عقيدةً وكياناً وأمةً - للخطر الحقيقي والتشويه
المقيت المغيّر لكلّ شيء، على غرار ما حدث لبعض الرسالات السماوية السابقة. في مثل هذا المنعطف الخطير وقف الإمام الحسين
عليه السلام ومعه أهل بيته وأصحابه، وأطلق صرخة قويّة ومدوّية محذّراً الأمة،
مفتدياً العقيدة والأمة بدمه الطاهر الزكي، ومن قبل قال فيه جدّه رسول الله صلىاللهعليه
وآله: (إنّ الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة). كما قال غير مرّة: (حسين منّي و
أنا من حسين). فكان الحسين عليه السلام ونهضته التجسيد الحقيقي للإسلام الحقّ،
فقد كان الخط الحقيقي للإسلام المحمدي متمثلاً في الحسين عليه السلام وأهل بيته
وأصحابه رضوان الله تعالى عليهم. وقد صرّح الإمام الحسين عليه السلام
في رسالته التي بعثها إلى أهل البصرة بكل وضوح إلى أنّ السنّة قد ماتت حين وصل
الانحراف إلى حدّ ظهور البدع وإجبائها. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
4 - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
لقد كان غياب فريضة الأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر نتيجة طبيعية لتولّي الزعامة المنحرفة، وقد حدث هذا تحت عناوين متعدّدة منها: لزوم
إطاعة الوالي وحرمة نقض بيعة تمّت حتى لو كانت منحرفة، وكذلك حرمة شقّ وحدة
الكلمة، وقد وصف الإمام عليه السلام هذه الحالة بقوله: (ألا ترون أنّ الحقّ لا
يُعمل به وأنّ الباطل لا يُتناهى عنه؟! ليرغب المؤمن في لقاء الله)( تاريخ الطبري: 5/403.).
لذا تطلّب الأمر أن يبرز ابن النبي صلىاللهعليه وآله للجهاد وهو يحمل السيف
في محاولة لإعادة الحقّ إلى نصابه من خلال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد
أدلى عليه السلام بذلك في
وصيّته لأخيه محمد بن الحنفية حين كتب له: (إنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا
ظالماً ولا مفسداً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدّي أريد أن آمر بالمعروف
وأنهى عن المنكر). إنّ الإصلاح المقصود هو
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كلّ جوانب الدين والحياة،
وقد تحقّق ذلك من خلال النهضة العظيمة التي قامعليه
السلام بها فكانت الهداية و الرعاية للبشر دينياً ومعنوياً
وإنسانياً وأخروياً بمقتله وشهادته، وتلك النهضة التي عليها تربّت أجيال من
الأمة، وتخرّجت من مدرستها الأبطال والصناديد، ولا زالت وستبقى المشعل الوضّاء
ينير درب الحقّ والعدل والحرية وطاعة الله إلى يوم القيامة. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
5 - إيقاظ الضمائر وتحريك العواطف:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
في أحيان كثيرة لا يستطيع أصحاب
العقائد ودعاة الرسالات أن يحاوروا العقل والذهن مجرّداً معزولا عن عنصر العاطفة
لأجل تعميق المعتقد والفكر لدى الجماهير، وقد ابتليت الأمة الإسلامية في عهد
الإمام الحسين عليه السلام وبعد تسلّط يزيد بحالة من الجمود والقسوة وعدم
التحسّس للأخطار التي تحيط بها وبفقدان الإرادة في مواجهة التحديات ضدّ العقيدة
الإسلامية، لهذا لم يكتف الإمام الحسين عليه السلام بتثبيت الموقف الشرعي
وتوضيحه عملياً من خلال موقفه الجهادي بل سعى إلى إيقاظ ضمائر الناس وتحريك
وجدانهم وأحاسيسهم ليقوموا بالمسؤولية، فسلك سبيل البذل والعطاء والتضحية من أجل
العقيدة والدين، واتّخذ أسلوب الاستشهاد الذي يدخل بعمق وحرارة في قلوب
الجماهير، وقد ضرب لنا مثلا رائعاً حينما برّزت ثورته أنّ التضحية لم تكن مقصورة
على فئة أو مستوىً معيّن من الأمة، فللطفل كما للمرأة والشيخ دور فاعل فضلاً عن
الشباب. وما أسرع ما بان الأثر على أهل الكوفة
إذ أظهروا الندم والإحساس بالتقصير تجاه الإمام والإسلام، فكانت ثورة التوّابين
التي أعقبت ثورة أهل المدينة التي وقعت في السنة الثانية من بعد واقعة الطفّ. لقد كانت واقعة الطفّ تأكيداً حقيقياً
على أنّ المصاعب والمتاعب لا تمنع من قول الحقّ والعمل على صيانة الرسالة
الإسلامية، كما أنّها زرعت روح التضحية في سبيل الله في نفوس أبناء الأمة
الإسلامية، وحرّرت إرادتها ودفعتها إلى التصدّي للظلم والظالمين، ولم تُبقِ
عذراً للتهرّب من مسؤولية الجهاد والدفاع عن العقيدة والمقاومة لإعلاء كلمة
الله. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
لماذا لم ينهض الإمام
الحسين بالثورة في حكم معاوية؟
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
إن الأحداث السياسية التي عصفت بالأمة
الإسلامية بعد وفاة الرسول صلىاللهعليهوآله
كانت ثقيلة الوطأة عليها، وبلغت غاية الشدّة أيام تسلّط معاوية على الشام
ومحاربة الإمام علي عليه السلام وبالتالي اضطرار الإمام الحسن عليه السلام لإبرام صلح معه; لأسباب موضوعية كانت تكتنف
الأمة. ولكننا نلحظ أنّ الإمام الحسين عليه السلام لم يغيّر من موقفه المتطابق
مع موقف الإمام الحسن عليه السلام تجاه
معاوية حتى بعد استشهاد الإمام الحسن عليه السلام ، فلم يعلن ثورته، وما كان ذلك إلاّ لبقاء نفس الأسباب التي دفعت بالإمام الحسن عليه السلام
إلى قبول الصلح فمن ذلك: |
|||||||||||||||||||||||||||
|
1 - حالة الأمة الإسلامية:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
كان الوضع النفسي والاجتماعي للأمة
الإسلامية متأزّماً، إذ كانت تتطلع إلى حالة السلم بعد أن أرهقها معاوية
والمنافقون بحروب دامت طوال حكم الإمام علي عليه السلام، فكان رأي الإمام الحسن
عليه السلام هو أن يربّي جيلا جديداً
وينهض بعد حين، فقد قال عليه السلام: (إنّي رأيت هوى عظم الناس في الصلح
وكرهوا الحرب، فلم أحب أن أحملهم على ما يكرهون، فصالحت بقياً على شيعتنا خاصة
من القتل، ورأيت دفع هذه الحرب إلى يوم ما، فإنّ الله كلّ يوم هو في شأن)( الأخبار الطوال: 221.). وهو نفسه موقف الإمام الحسين عليه السلام
بسبب ما كان يعيه ويدركه من واقع الأمة، فكان قوله لمن فاوضه في الثورة إذ قعد
الإمام الحسن عليه السلام عنها: (صدق
أبو محمد، فليكن كلّ رجل منكم حلساً من أحلاس بيته ما دام هذا الإنسان حيّاً). وبقي هذا موقفه نفسه بعد
استشهاد الإمام الحسن عليه السلام لبقاء نفس الأسباب،
فقد كتب عليه السلام يردّ على
أهل العراق حين دعوه للثورة: (أمّا أخي فأرجو أن يكون الله قد وفّقه وسدّده فيما
يأتي، وأمّا أنا فليس رأيي اليوم ذلك، فالصقوا رحمكم الله بالأرض، واكمنوا في
البيوت، واحترسوا من الظنّة ما دام معاوية حيّاً)( المصدر السابق: 222.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
2 - شخصيّة معاوية وسلوكه المتلوّن:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
لقد كانت زعامة الأمة الإسلامية بعد
وفاة الرسول صلى اللهعليه وآله بأيدي مسؤولين غير كفوئين لفترة طويلة.
ومراجعة بسيطة لأحداث ووقائع تلك الفترة توضّح ذلك. ولكنّ معاوية كان أشدّ مكراً
ومراوغةً ودهاءً، إذ كان يتلاعب ببراعة سياسية، ويتوسّل بكلّ وسيلة من أجل أن
يبقى زمام السلطة بيده متّخذاً من التظاهر بالدين ستراً يغطّي جرائمه الأخلاقية
واللاإنسانية والتي منها فتكه بخيار المسلمين، ومخادعة عوام الناس في مجاراته
لعواطفهم ومعتقداتهم، وهو يحمل حقداً لا ينقطع على الإسلام والرسول صلى اللهعليه
وآله(شرح النهج لابن أبي الحديد: 2 / 357.). وقد تمكّن معاوية من القضاء على
المعارضين له من دون اللجوء إلى القتال والحرب، فهو الذي اغتال الإمام الحسن
عليه السلام وسعد بن أبي وقّاص(مقاتل الطالبيين: 29، ومختصر تأريخ العرب: 62.)وقضى
على عبد الرحمن بن خالد(التمدن الإسلامي، لجرجي زيدان: 4 / 71.)
ومن قبله على مالك الأشتر، وقد أوجز أسلوبه هذا
في كلمته المشهورة: (إنّ لله جنوداً منها العسل)( عيون الأخبار: 1 / 201.). كما أنّ معاوية كان يضع كلّ من يلمس
منه أيّة معارضة أو تحرّك تحت مجهر المراقبة والإرصاد، فترفع إليه التقارير عن
كلّ ما يحدث فيستعجل في القضاء عليه. في مثل هذا الأُسلوب - أي التصرّف تحت
ستار الإسلام - لو قام الإمام الحسين عليه السلام بحركة واسعة ونشاط سياسي بعد
وفاة الإمام الحسن عليه السلام مباشرةً; لما كان قادراً على فضح معاوية وإقناع
كلّ الجماهير بشرعيّة ثورته، ولكان معاوية متمكّناً من القضاء عليه من دون ضجيج،
وعندها كانت الثورة تموت في مهدها وتضيع جهود كبيرة، كان من شأنها أن تبني في
الأمة تيّاراً واعياً، ويختنق الصوت الذي كان في مقدوره أن يبقى مدوّياً في
تأريخ الإنسانيّة كما حصل في واقعة الطفّ. وما كان الإمام الحسين عليه السلام
ليتمكّن من توضيح كلّ أهدافه وغاياته من الثورة(للتفصيل راجع: ثورة الحسين، ظروفها الاجتماعية وآثارها النفسية: 122.)
المتمثّلة في إنقاذ الأمة من الظلم وصيانة الرسالة الإسلامية من التحريف لو كان
يسرع بثورته في أيام معاوية. وأمّا حينما اعتلى يزيد عرش
الخلافة وهو من قد عرفه الناس باللهو والفسق والشغف
بالقرود وشرب الخمور، وعدم صلاحيته للخلافة لتجاوزه وعدوانه على كل المقاييس
الشرعيّة والعرفيّة لدى المسلمين. فالثورة عليه تعدّ ثورة مشروعة عند عامّة
المسلمين، كما أثبت التأريخ ذلك بكلّ وضوح. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
3 - احترام صلح الإمام الحسن عليه السلام:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
لقد كان العهد والميثاق الذي تم بين
معاوية وبين الإمام الحسن عليه السلام ورقة رابحة يلوّحها معاوية لكلّ تحرّك فعّال
مضاد تجاه تربّعه على مسند السلطة، صحيح أنّه عهد غير حقيقي وما كان برضا
الإمامين عليهماالسلام وتم في
ظروف كان لابد من تغييرها، لكنّ المجتمع لم يكن يتقبّل نهضة الإمام الحسين عليه السلام
مع وجود هذا العهد، وحتى لو كان هذا العهد صحيحاً فإنّ معاوية نقضه بممارسته
العدائية بملاحقة رجال الشيعة، ولم يرعَ أيَّ حقّ في سياسته الاقتصادية. وقد سارع معاوية لاستغلال هذا العهد في
التشهير بالإمام الحسين عليه السلام وإظهاره بموقف الناقض للعهد، فقد كتب إلى الإمام
عليه السلام: أمّا بعد، فقد انتهت إليّ أُمور عنك، إن كانت حقاً فإنّي أرغب بك
عنها. ولعمر الله إنّ من أعطى عهد الله وميثاقه لجدير بالوفاء، وإنّ أحقّ الناس
بالوفاء من كان مثلك في خطرك وشرفك ومنزلتك التي أنزلك الله بها، ونفسك فاذكر،
وبعهد الله أوفِ، فإنّك متى تنكرني أنكرك، ومتى تكدني أكدك، فاتّق شقّ عصا هذه
الأمة(الإمامة والسياسة: 1 / 188، والأخبار الطوال: 224، وأعيان الشيعة: 1
/ 582.). من هنا لجأ الإمام الحسن عليه السلام ومن بعده الحسين عليه السلام إلى أسلوب آخر
لنشر الدعوة والتهيّؤ للثورة التي غذّاها معاوية بظلمه وجوره وبُعده عن تمثيل
الحكم الإسلامي الصحيح، حتى إذا مات معاوية كان كثير من الناس وعامّة أهل العراق
- بشكل خاص - يرون بغض بني أُمية وحبّ أهل البيت لأنفسهم ديناً(الفتنة الكبرى - علي وبنوه، طه حسين: 290، وللمزيد من التفصيل راجع:
ثورة الحسين عليه السلام، ظروفها الاجتماعية وآثارها النفسية: 127.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
المواقف من ثورة
الحسين عليه
السلام قبل انطلاقها:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
لم تكن نهضة الإمام الحسين عليه السلام
وثورته حركةً آنيةً أو ردّة فعل مفاجئة; بل كان الحسين عليه السلام في الأمة
يمثّل بقية النبوّة وكان وريث الرسالة وحامل راية القيم السامية التي أوجدها
الإسلام في الأمة وأرسى قواعدها، كما أنّ العهد قريب برحيل النبي صلىاللهعليه وآله
الذي كان يكثر الثناء والتوضيح لمقام الإمام الحسين عليه
السلام. وفي الوقت نفسه كانت قد ظهرت مقاصد الأمويين الفاسدة
تجاه رسالة النبي صلىاللهعليهوآله
الإسلامية وأمته المؤمنة برسالته. وقد وقف أهل البيت عليهم السلام
بصلابة يدافعون عن الحقّ والعدل وإحياء الرسالة الإسلامية، والمحافظة عليها بكلّ
وسيلة ممكنة ومشروعة. وفي عصر الإمام الحسين عليه السلام
كان لتراخي وفتور الأمة عن نصرة الحقّ إلى جانب تسلّط المنافقين ونفوذهم في
أجهزة الدولة دور كبير لإيجاد حالة مَرَضيّة يمكن تسميتها بفقدان الإرادة وموت
الضمير، ومن ثمّ تباينت المواقف تجاه أسلوب الدفاع عن العقيدة الإسلامية
وصيانتها وسيادة الحقّ والعدل. ولكن لم يشكّ أحد في مشروعية وعدالة
موقف الإمام الحسين عليه السلام تجاه الانحراف المستشري في كلّ مفاصل الدولة،
وتجاه التغيير الحاصل في بنية الأمة الإسلامية، إلاّ أنّ موقف الاستعداد الكامل
للنصرة باتخّاذ قرار ثوريّ يزيح عن الأمة الظلم والفساد لم يكن يتكامل بعد لدى
الجميع. وقد كانت هذه المواقف تتراوح بين
التأييد مع إعلان الاستعداد للثورة مهما كانت النتائج، وبين الحذر من الفشل وعدم
نجاح الثورة، وبين التثبيط وفتّ العزائم. وتبنّى شيعة أهل البيت عليهمالسلام
الذين اكتووا بجحيم البيت الأموي المتحكّم في رقاب المسلمين موقف التأييد وإعلان
الاستعداد، وإن غلب الخوف على بعضهم فيما بعد، وأودع البعض الآخر السجن أو حوصر
من قبل قوّات السلطة الأُموية. كما تبنّى آخرون من أقرباء الإمام عليه
السلام - مثل عبد الله بن عباس ومحمّد بن الحنفيّة - موقف الحذر،
ورجّحوا للإمام الحسين عليه السلام الهجرة إلى اليمن؛ نظراً لبُعد اليمن عن
العاصمة، ولتوفّر جمع من شيعته وشيعة أبيه فيها(مقتل الحسين ( الخوارزمي ): 1 / 187 و 216، ومروج الذهب: 3 / 64.). وتبنّى آخرون
موقف التثبيط وفتّ العزائم والتخويف من مغبّة الثورة على الحاكم، فنصحوا الإمام عليه
السلام بالدخول فيما دخل فيه الناس، والصبر على الظلم، كما تمثّل
ذلك في نصيحة عبد الله بن عمر للإمام الحسين عليه
السلام(مقتل الحسين ( الخوارزمي ): 1 / 191.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
البحث الرابع: توجّه الإمام عليه السلام إلى مكّة.
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
خرج الإمام الحسين عليه السلام من
المدينة متوجّهاً إلى مكة بأهله وإخوته وبني عمومته و بعض الخواصّ من شيعته، ولم
يبقَ إلاّ أخوه محمد بن الحنفية، وأفادت بعض المصادر التاريخية بأنّ الإمام عليه
السلام أقام في بيت العباس بن عبد المطلب(تأريخ ابن عساكر: 13 / 68.)،
فيما تحدّثت مصادر أخرى عن إقامتهعليه
السلام في شِعْب عليّ(الأخبار الطوال: 209.)،
وأقام الإمام عليه السلام في مكة أربعة أشهر وأياماً من ذي الحجّة، كان فيها
مهوى القلوب، فالتفّ حوله المسلمون يأخذون عنه الأحكام ويتعلّمون منه الحلال و
الحرام، ولم يتعرّض له أمير مكة يحيى بن حكيم بسوء، وحيث ترك الإمام عليه السلام
وشأنَه فقد عزله يزيد بن معاوية عنها، واستعمل عليها عمرو بن سعيد بن العاص. وفي
شهر رمضان من تلك السنة (60 هـ ) ضمّ إليه المدينة، وعزل عنها الوليد بن عتبة،
لأنّه كان معتدلا في موقفه من الإمام عليه السلام ولم يستجب لطلب مروان(سيرة الأئمّة الاثني عشر: 2 / 58.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
رسائل أهل الكوفة إلى
الإمام عليه
السلام:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
وقد عرف الناس في مختلف الأقطار امتناع
الإمام الحسين عليه السلام عن البيعة، فاتّجهت إليه الأنظار و بخاصّة أهل الكوفة،
فقد كانوا يومذاك من أشدّ الناس نقمةً على يزيد و أكثرِهم ميلا إلى الإمام عليه السلام
فاجتمعوا في دار سليمان ابن صرد الخزاعي فقام فيهم خطيباً فقال: (إنَّ معاوية قد
هلك، وإنّ حسيناً قد تقبّض على القوم ببيعته، وقد خرج إلى مكة، وأنتم شيعته
وشيعة أبيه، فإن كنتم تعلمون أنّكم ناصروه ومجاهدو عدوّه، فاكتبوا إليه وأعلموه،
وإنْ خفتم الفشل والوهن فلا تغرّوا الرجل في نفسه، قالوا: لا، بل نقاتل عدوّه و
نقتل أنفسنا دونه. قال: فاكتبوا إليه، فكتبوا
إليه: (بسم الله الرحمن الرحيم للحسين بن
عليّ عليهماالسلام من سليمان
بن صرد والمسيّب بن نَجَبَة ورفاعة بن شدّاد البجلي وحبيب بن مظاهر وشيعته من
المؤمنين والمسلمين من أهل الكوفة. سلام عليك، فإنّا نحمد إليك
الله الذي لا إله إلاّ هو. أمَّا بعد، فالحمد لله الذي قصم عدوّك
الجبّار العنيد، الذي انتزى على هذه الأمة فابتزّها أمرها، وغصبها فيئها، و
تأمّر عليها بغير رضىً منها، ثم قتل خيارها واستبقى شرارها، وجعل مال الله
دُوْلةً بين جبابرتها وأغنيائها، فبعداً له كما بعدت ثمود، إنّه ليس علينا إمام
غيرك، فأقبل لعلّ الله أن يجمعنا بك على الحقّ، وانّ النعمان بن بشير في قصر
الإمارة، وإننا لم نجتمع معه في جمعة ولا نخرج معه إلى عيد، ولو قد بلغنا أنّك
قد أقبلت إلينا أخرجناه حتى نلحقه بالشام إن شاء الله تعالى). ثم سرّحوا بالكتاب مع عبد الله بن
مِسْمَع الهَمْداني و عبد الله بن وال وأمروهما بالنجاء(النجاء: السرعة.)،
فخرجا مسرعين حتى قدما على الحسين عليه السلام بمكة لعشر مضين من شهر رمضان،
ولبث أهل الكوفة يومين بعد تسريحهم بالكتاب، وأنفذوا قيس بن مُسْهِر الصيداوي
وعبد الله وعبد الرحمن ابني شداد الأرحبي وعمارة بن عبد السَلولي إلى الحسين
عليه السلام ومعهم نحو من مائة وخمسين صحيفةً من الرجل والاثنين والأربعة، ثم
لبثوا يومين آخرين وسرّحوا إليه هاني بن هاني السبيعي وسعيد بن عبد الله الحنفي،
وكتبوا إليه: (بسم الله الرحمن الرحيم للحسين بن علي عليهماالسلام
من شيعته من المؤمنين والمسلمين. أمَّا بعد، فإنّ الناس ينتظرونك، لا
رأي لهم غيرك، فالعجل العجل، ثم العجل العجل، والسلام). ثم كتب شبث بن ربعي وحجّار
بن أبجر ويزيد بن الحارث بن رُوَيْم وعروة بن قيس وعمرو بن الحجّاج الزبيدي
ومحمد بن عمير التميمي: (أمَّا
بعد، فقد اخضرّ الجَناب وأينعت الثمار، فإذا شئت فاقدم على جند لك مجنّدة،
والسلام)( الإرشاد: 2 / 38، وروضة الواعظين: 171، وتذكرة الخواص: 213، وتأريخ
الطبري: 4 / 262، والفتوح لابن أعثم: 5 / 33، ومقتل الحسين للخوارزمي: 1 / 195.). جواب الإمام عليه السلام على رسائل الكوفيّين: تتابعت كتب الكوفيّين كالسيل إلى
الإمام الحسين عليه السلام وهي تدعوه إلى المسير والقدوم إليهم لإنقاذهم من ظلم
الأمويين وبطشهم، وكانت بعض تلك الرسائل تُحَمِّلُه المسؤولية أمام الله والأمة
إن تأخّر عن إجابتهم، ورأى الإمام - قبل كلّ شيء - أنْ يختار للقياهم سفيراً له
يُعَرّفُه باتّجاهاتهم وصدق نيّاتهم، وقد اختار ثقته و كبير أهل بيته مسلم بن
عقيل، وهو من أمهر الساسة وأكثرهم قدرةً على مواجهة الظروف الصعبة والصمود أمام
الأحداث الجسام، وزوّده برسالة رويت بصور
متعدّدة، من بينها النصّ الذي رواه صاحب
الإرشاد، وهي كما يلي: (بسم الله الرحمن الرحيم من الحسين بن عليّ إلى الملأ من
المؤمنين والمسلمين: أمّا بعد، فإنّ هانئاً و سعيداً قَدِما
عليّ بكتبكم، وكانا آخر من قَدِمَ عليّ من رسلكم، وقد فهمتُ كلّ الذي اقتصصتم
وذكرتم، ومقالة جُلّكم: أنّه ليس علينا إمام، فأقبلْ لعلّ الله أن يجمعنا بك على
الحقّ والهدى، وإنّي باعث إليكم أخي وابنَ عمّي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل،
فإنْ كتب إليّ أنّه قد اجتمع رأيُ ملئكم وذوي الحجى والفضل منكم على مثل ما
قدمتْ به رسلُكم، وقرأتُ في كتبكم فإنّي أقدمُ إليكم وشيكاً إن شاء الله، فلعمري
ما الإمام إلاّ الحاكم بالكتاب القائم بالقسط الدائن بدين الحقّ الحابسُ نَفسه
على ذات الله، والسلام)( الإرشاد: 2/39، وإعلام الورى: 1 / 436، والفتوح لابن أعثم: 5 / 35،
ومقتل الحسين للخوارزمي: 1 / 195.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
تحرّك مسلم بن عقيل
نحو الكوفة:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
لقد أكّد المؤرّخون أنّ الإمام الحسين
عليه السلام أرسل مسلم بن عقيل مع قيس بن مسهر الصيداوي وعمارة بن عبد الله
السلولي وعبد الله وعبد الرحمن ابني شدّاد الأرحبي إلى الكوفة، بعد أنْ أمره
(بالتقوى وكتمانِ أمرِه واللطف بالناس، فإنْ رأى الناس مجتمعين مستوسقين عجّلَ
إليه بذلك)( الفتوح: 5 / 36، ومقتل الحسين للخوارزمي: 1 / 196.). وفي النصف من شهر رمضان انطلق مسلم من
مكة نحو الكوفة، فعرّج على المدينة فصلّى في مسجد رسول الله صلىاللهعليه وآله
وودّع مَنْ أحَبَّ من أهله وواصل مسيره إلى الكوفة. وتعدّدت أقوال المؤرّخين بشأن المكان
الذي نزل فيه مسلم بن عقيل بعد أنْ وصل إلى الكوفة، فثمّة مَنْ قال: إنّه نزل في
دار المختار بن أبي عبيدة(الإرشاد: 2 / 41، وإعلام الورى: 1 / 437.)،
وقيل: نزل في بيت مسلم بن عوسجة(الإصابة: 1 / 332.)،
وقيل: في بيت هاني بن عروة(تهذيب التهذيب: 2 / 349.). وعندما علم الكوفيّون بوصول مبعوث الحسين
عليه السلام إلى مدينتهم; ازدحموا للقائه و بيعته، وحسب قول بعض المؤرّخين فقد أقبلت
الشيعة تختلف إليه، فلمّا اجتمع إليه منهم جماعة قرأ عليهم كتاب الحسين عليه السلام
وهم يبكون وبايعه الناس، حتى بايعه منهم ثمانية عشر ألفاً(الإرشاد: 2 / 41، ومناقب آل أبي طالب: 4 / 90، وتذكرة الخواص: 220.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
رسالة مسلم بن عقيل
إلى الإمام الحسين عليه
السلام:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
ظلّ مسلم بن عقيل يجمع القواعد الشعبية
ويأخذ البيعة للإمام عليه السلام
وتوالت الوفود تقدم ولاءها، و الجماهير تعلن عن استبشارها. وقد لاحظنا كيف أنّ
الناس كانوا يبكون وهم يسمعون مسلماً يقرأ عليهم رسالة الإمام الحسين عليه السلام
التي فيها يحيّيهم، ويعلن استعداده للقدوم إليهم وقيادة الثورة على الحكم
الطاغي. وبعد أن لاحظ مسلم كثرة الأنصار; بادر
بالكتابة إلى الإمام عليه السلام ناقلا إليه صورةً حيّة للأحداث والوقائع التي
تجري أمام عينيه في الكوفة، وقيّم له الموقف وأعرب عن تفاؤلهِ وسأله القدوم. وقد جاء في رسالة مسلم للإمام عليه
السلام: (أَمّا بعد، فإن الرائد لا يكذب أهله، وقد بايعني من أهل
الكوفة ثمانية عشَر ألفاً، فعجّل حين يأتيك كتابي، فإنّ الناس كلَّهُم معك، ليس
لهم في آل معاوية رأي ولا هوىً)( حياة الإمام الحسين: 2 / 348، عن تأريخ الطبري: 6 / 224.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
رسالة الإمام عليه السلام
إلى زعماء البصرة:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
وذكر المؤرخون أنّ الإمام الحسين عليه السلام
- بعد أن قرّر التوجّه إلى العراق - بعث رسالة إلى زعماء البصرة جاء فيها: (أمّا
بعد، فإنّ الله اصطفى محمّداًصلىاللهعليهوآله
من خلقه، وأكرمه بنبوّته، واختاره لرسالته، ثم قبضه إليه، وقد نصح لعباده، وبلّغ
ما أرسل به، و كنّا أهلَه و أولياءه و أوصياءه وورثته و أحقَّ الناس بمقامه،
فاستأثر علينا قومنا بذلك، فرضينا وكرهنا الفرقة وأحببنا العافية، و نحن نعلم
أنّا أحقُّ بذلك الحقّ المستحقّ علينا ممّن تولاّه، وقد بعثتُ رسولي إليكم بهذا
الكتاب، وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسنّة نبيّه، فإنّ السنّة قد أُميتت والبدعة
قد أُحييت، فإنْ تسمعوا قولي أهدكم إلى سبيل الرشاد)( مقتل الحسين للمقرّم: 159 - 160، وتأريخ الطبري: 4 / 266، وأعيان
الشيعة: 1 / 590.). وقد بعثعليه
السلام عدّة نسخ من هذه الرسالة إلى كلٍّ من: مالك بن مسمع
البكري، والأحنفِ بن قيس، والمنذر بن الجارود، و مسعود بن عمرو، وقيس ابن
الهيثم، وعمرو بن عبيد بن معمر، ويزيد بن مسعود النهشلي، وأرسل الإمام عليه السلام
النسخ مع مولىً له يقال له: سليمان أبو رزين. ولم يجب على رسالة الإمام عليه السلام
غيرُ الأحنف بن قيس و يزيد بن مسعود، أمّا المنذر بن الجارود فقد سلّم رسول
الحسين إلى ابن زياد – وكان حينها
والياً على البصرة - فصلبه عشية الليلة التي خرج في صبيحتها إلى الكوفة(اللهوف: 38، وأعيان الشيعة: 1 / 590، وبحار الأنوار: 44 / 339.).
وكانت ابنة المنذر زوجة ابن زياد فزعم المنذر أنّه كان يخشى أن يكون الرسول
مدسوساً من ابن زياد لكشف نواياه. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
موقف والي الكوفة:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
كان النعمان بن بشير والياً على الكوفة
وقتذاك، ومع أنّه كان عثماني الهوى وأموي الرغبة لكنّه لم يكن راضياً عن خلافة
يزيد، وبعد موت معاوية انضم إلى عبد الله بن الزبير وقاتل وقُتل معه. وعليه فإنّه لم يتّخذ موقفاً متشدّداً
من نشاطات مسلم بن عقيل في الكوفة، ولم يُنقل عنه في تلك المرحلة الحسّاسة سوى
خِطاب ألقاه في جمع الكوفيين كان - كما يتصور - لرفع العتب والتظاهر بأنّه يقوم
بواجبه كوال تابع لحكومة الشام، وقد
ذكر في خطابه: (أمّا بعد، فاتّقوا الله عبادَ الله
ولا تسارعوا إلى الفتنة والفرقة، فإنّ فيها تَهلِكُ الرجال وتُسفَكُ الدماء
وتُغْصَبُ الأموال، إنّي لا أُقاتل مَنْ لا يقاتلني، ولا آتي على من لم يأت
عليَّ، ولا أُنبّه نائمكم ولا أتحرّش بكم ولا آخُذُ بالقرف ولا الظِنَّة ولا
التهمة، ولكنّكم إنْ أبديتم صفحتكم لي ونكثتم بيعتكم وخالفتم إمامكم، فو الله
الذي لا إله غَيرُه َلأضربنّكم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي ولو لم يكن لي منكم
ناصر، أما أنّي أرجو أن يكون مَن يعرف الحقّ منكم أكثرَ مِمَّنْ يرديهِ الباطل)( الكامل في التأريخ: 3 / 267.). فقام إليه عبد الله بن مسلم بن ربيعة الحضرمي حليف بني أمية فقال:
إنَّهُ لا يُصْلِحُ ما ترى أيّها الأمير إلاّ الغُشْمُ، وأنّ هذا الذي أنت عليه
فيما بينك وبين عدوّك رأيُ المستضعفين، فقال
له النعمان: لئن أكون من المستضعفين في طاعة الله أحبُّ إليّ
مِنْ أن أكون من الأعزّين في معصية الله
(الإرشاد: 2 / 42، وأنساب
الأشراف: 77، والفتوح: 5 / 75، والعوالم للبحراني: 13 / 182.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
أنصار الأمويين
يتداركون أُمورهم:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
كانت الكوفة تضمّ آنذاك فئةً من أنصار
الأمويين والمعارضين لأهل البيت عليهم السلام وبين هذه الفئة كان بعض المنافقين
الذين يتظاهرون بالتشيّع لأمير المؤمنين عليه السلام فيما كانوا يُبْطِنُونَ
محبّة الأمويين، الأمر الذي ساعدهم في اختراق صفوف شيعة أهل البيت عليهم السلام
والتجسس لصالح الحكم الأموي، وكان من بين هؤلاء عبد الله الحضرمي، الذي عاب على
النعمان رأيَه كما لاحظنا قبل قليل، فقد
كتب رسالةً إلى يزيد جاء فيها: (أمّا بعد،
فإنّ مسلم بن عقيل قد قَدِمَ الكوفة و بايعته الشيعة للحسين بن عليّ بن أبي
طالب، فإن يكن لك في الكوفة حاجة فابعثْ إليها رجلا قويّاً ينفذ أمرك، ويعمل مثل
عملك في عدوّك، فإنّ النعمان بن بشير رجل ضعيف أو هو يتضَعَّفُ)( الإرشاد: 2 / 42، وإعلام الورى: 1 / 237.). ويضيف المؤرّخون
أنّه كتب إليه - يعني إلى يزيد - عمارة بن عقبة بنحو كتابه - يعني كتاب الحضرمي
- ثم كتب إليه عمر بن سعد بن أبي وقّاص مثلَ ذلك(المصدر السابق.). قلق يزيد واستشارة السيرجون(السيرجون غلام نصراني
كان معاوية قد اتخذه كاتباً ومستشاراً له. واستمر في منصبه الخطير في عهد يزيد
الذي كان قد نشأ على التربية النصرانية وكان أقرب منها إلى غيرها.): قَلِقَ يزيد كثيراً من الأخبار التي
وصلته من الكوفة، وهي تتحدّث عن موقف الكوفيّين من الحكم الأموي ومبايعتهم
للإمام الحسين عليه السلام فدعا يزيد السيرجون الذي كان يعدّ غلاماً لمعاوية
فقال له: ما رأيك؟ - إنّ حسيناً قد أنفذ إلى الكوفة مسلم بن عقيل يبايع له، وقد
بلغني عن النعمان ضعف وقول سيء، فَمَنْ ترى أن أستعمل على الكوفة؟، وكان يزيد
عاتباً على عبيد الله ابن زياد (لأنّ عبيد الله بن زياد كان معارضاً لمعاوية في تولية العهد ليزيد،
انظر البداية والنهاية: 8 / 152.)،
فقال له السيرجون: أَرأيت لو يشير إليك معاوية حيّاً هل كنتَ آخذاً برأيه؟ قال:
بلى. فأخرج السيرجون عهد عبيد الله بن زياد على الكوفة، وليس هذا أوّل مورد نلاحظ فيه بصمات أصابع أهل الكتاب في صنع مواقف
هؤلاء الحكّام تجاه الرسالة والعقيدة والأمة الإسلامية وقادتها الأمناء عليها. لقد كان لكل من تميم الداري ( الراهب
النصراني ) وكعب الأحبار ( اليهودي ) موقع متميّز عند عمر حيث كان يحترمهما
ويستشيرهما ويسمح لهما بالتحدث كل اسبوع قبل صلاة الجمعة فضلاً عن تدريس التوراة
وتفسير القرآن الكريم، في وقت كان لا يسمح للصحابة بكتابة حديث الرسول صلىاللهعليهوآله
ولا التحديث به، بل كان يحبسهم في المدينة لئلاّ ينشروا حديث الرسول صلىاللهعليهوآله.
( راجع كنز العمّال الحديث رقم 4865 وتذكرة الحفاظ بترجمة عمر وتاريخ
ابن كثير: 8 / 107 ). وقد عظم نفوذ هؤلاء القصّاصين بعد عمر
وتعاظم في عهد الأمويين واستمر في عهد العباسيين بالرغم من أن الإمام عليّاً عليه
السلام كان قد طردهم من مساجد المسلمين. ولا يبعد أن يكون دخول عقائد منحرفة
كالتجسيم وعدم عصمة الأنبياء وغيرها من المفاهيم المنحرفة إلى مصادر المسلمين
نتيجة هذا الحضور الفاعل منهم في الساحة الإسلامية وتحت شعار الإسلام ونصح
الحكّام. وقد تميّز معاوية باتخاذ بطانة واسعة
من أهل الكتاب حيث تلاحظ أن كاتبه ومستشاره
نصراني، وهو (السيرجون) كما أنّ طبيبه كان نصرانياً وهو (أثال) وشاعره أيضاً كان
نصرانياً وهو (الأخطل)، والشام هي عاصمة نصارى الروم
البيزنطيين قبل دخول الإسلام إليها. (راجع معالم المدرستين 2 / 51 - 53 ). وقال: هذا رأي معاوية، مات وقد أمر
بهذا الكتاب، فضُمّ المصرَيْن (يعني الكوفة والبصرة والتي كان والياً عليها أيام
معاوية) إلى عبيد الله، فقال له يزيد: أفعلُ. إبعث بعهد عبيد الله ابن زياد
إليه... ثم دعا مسلم بن عمرو الباهلي و
كتب إلى عبيد الله معه كتاباً جاء فيه: (أمّا بعد، فإنّه كتب إليَّ شيعتي من
أهل الكوفة يخبرونني أنّ ابن عقيل فيها، يجمع الجموع ليشق عصا المسلمين، فسر حين
تقرأ كتابي هذا حتى تأتيَ الكوفة فتطلب ابنَ عقيل طَلَب الخِرزةِ حتى تثقفه
فتُوثِقَه أو تقتله أو تنفيَهُ، والسلام)( الإرشاد: 2 / 42 - 43، وإعلام الورى: 1 / 437، وسير أعلام النبلاء:
3 / 201.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
توجّه عبيد الله بن
زياد إلى الكوفة:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
استلم عبيد الله بن زياد
كتاب يزيد بن معاوية، فانطلق في اليوم الثاني نحو الكوفة و
معه مسلم بن عمرو الباهلي وشريك بن الأعور الحارثي وحشمه وأهل بيته(إعلام الورى: 1 / 437.)،
حيث ينتظر أهلُها قدومَ الإمام الحسين عليه السلام و معظمهم لا يعرف شخصية
الإمام ولم تكن قد التقته من قبل، وقد تعجّل ابن زياد الانتقال إلى الكوفة
ليصلها قبل الإمام الحسين عليه السلام. باغت ابن زياد جماهير الكوفة
وهو يُخفي معالم شخصيتِه و يتستّر على ملامحه، فقد تلثّم ولبس عمامةً سوداء،
وراح يخترق الكوفة والناس ترحّب به وتسلِّمُ عليه وتردِّد: مرحباً بك ياابن رسول
الله قدمت خير مقدم(الإرشاد: 2 / 43، وإعلام الورى: 1 / 438.). فساءه ما سمع وراح يواصل السير نحو قصر
الإمارة، فاضطرب النعمان وأطلّ من شرفات القصر يخاطب عبيد الله بن زياد، وكان هو
أيضاً قد ظنّ أنّه الإمام، فخاطبه: أنشدك الله إلاّ ما تنحّيتَ، واللهِ ما أنا
بمسلِّم إليك أمانتي، وما لي في قتالك من إرب...( الإرشاد: 2/43، وروضة الواعظين: 173، ومقتل الحسين للخوارزمي: 198،
وتهذيب التهذيب: 2 / 302.). صمت ابن زياد وراح يقترب من باب القصر،
حتى شخّص النعمان أنّ القادم هو ابن زياد، ففتح الباب ودخل ابن زياد القصر وأغلق
بابه وباتَ ليلته، وباتت الكوفة على وجل وترقّب وفي منعطف سياسي خطير. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
محاولات ابن زياد
للسيطرة على الكوفة:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
فوجئ أهل الكوفة بابن زياد
عند الصباح وهو يحتلّ القصر بالنداء: الصلاة جامعةً،
فقام خطيباً في الجموع المحتشدة وراح يُمنّي المطيع والسائر في ركب السياسة
القائمة بالأماني العريضة، ويهدّد ويتوعّد المعارضة والمعارضين والرافضين لحكومة
يزيد، حتى قال:... سوطي وسيفي على مَنْ ترك أمري وخالف عهدي(مقاتل الطالبيّين: 97، وإعلام الورى: 1 / 438.). ثم فرض على الحاضرين مسؤولية التجسّس
على المعارضين، وهدّد مَنْ لَمْ يُساهم في هذه العملية ويُنَفِّذْ هذا القرار
بالعقوبة وقطع المخصّصات المالية، فقال:
(... فمن يجيء لنا بهم فهو بريء، و مَنْ لم يكتب لنا أحدٌ فليضمن لنا في عَرافته
أن لا يخالِفَنا منهم مخالف، ولا يبغي علينا منهم باغ، فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ
برئت منه الذمّة وحلال لنا دمُه ومالُه، وأيُّما عريف وجد في عرافته من بُغية
أمير المؤمنين أحد لم يرفعه الينا صُلب على باب داره وألغيت تلك العرافة من
العطاء)( الإرشاد: 2 / 45، والفصول المهمة: 197، والفتوح لابن أعثم: 5 / 67.). وقد كان ابن زياد معروفاً في
أوساط الكوفيّين بالقسوة والشدّة، فكان من
الطبيعي أن يُحْدِثَ قدومُه و خطابُه الشديد اللهجة هزّةً عند المعارضين
لسياسته، فلاحت بوادر النكوص والتخاذل والإرجاف تظهر على الكوفيّين وقياداتهم،
من هنا اعتمد مسلم بن عقيل وسيلةً جديدة للسير في حركته نحو الهدف المطلوب.
فانتقل إلى دار هانىء بن عروة وجعل يتستّر في دعوته وتحركاته إلاّ عن خلّص
أصحابه، وهانىء يومذاك سيّد بني مراد وصاحب الكلمة المسموعة في الكوفة والرأي
المطاع(مروج الذهب: 2 / 89، والأخبار الطوال: 213، وإعلام الورى: 1 / 438.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
موقف مسلم من اغتيال
ابن زياد:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
لقد كان مسلم بن عقيل - رضوان الله
تعالى عليه - يحمل رسالةً ساميةً وأخلاقاً فاضلة اكتسبها من بيت النبوّة، كما
كان يملك درايةً بكلّ تقاليد وأعراف المجتمع الذي كان يتحرّك فيه، ففي موقف كان
يمكن فيه لمسلم ابن عقيل أن يغتال ابن زياد رفض ذلك لاعتبارات شتّى. فقد روي أنّ شريك بن الأعور
حين نزل في دار هانىء بن عروة مرض مرضاً شديداً، وحين علم عبيد الله بن زياد
بذلك قدم لعيادته، وهنا اقترح شريك على مسلم أن يغتال ابن زياد، فقال: إنّما
غايتك و غاية شيعتك هلاك هذا الطاغية، وقد أمكنك الله منه وهو صائر إليّ
ليعودني، فقم وأدخل الخزانة حتى إذا اطمأنّ عندي فاخرج إليه فاقتله، ثم صر إلى
قصر الإمارة فاجلس فيه، فإنّه لا ينازعنّك فيه أحد من الناس. ولمس مسلم كراهية هانىء أن يقتل عبيد
الله في داره، ولم يأخذ مسلم باقتراح شريك، وحين خرج عبيد الله قال شريك بحسرة وألم لمسلم: ما منعك من
قتله؟ قال مسلم: منعني منه خلّتان:
أحدهما كراهية هانىء لقتله في منزله، والاُخرى
قول رسول الله صلىاللهعليه وآله: (إنّ الإيمان قيد الفتك لا يفتك مؤمن)(
الأخبار الطوال: 187، ومقاتل الطالبيّين: 98، وإعلام الورى: 1 / 428.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
الغدر بمسلم بن عقيل:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
اتّخذ ابن زياد كلّ وسيلة مهما كانت
دنيئة للقضاء على الوجود السياسي والتحرّك الذي برز منذراً بالخطر بوجود مسلم بن
عقيل على النظام الأموي، وسارع للقضاء على مسلم بن عقيل وكلّ الموالين له قبل
وصول الإمام الحسين عليه السلام وليتمكّن بذلك من إفشال الثورة، فدبّر خطّةً
للتجسّس على تحرّكات مسلم ومكانه والموالين له، واستطاع أن يكتشف مخبأه وأن يعلم
بمقرّه(إعلام الورى: 1 / 440، والأخبار الطوال: 178، ومناقب آل أبي طالب: 4
/ 91، والفتوح لابن أعثم: 5 / 69، وتأريخ الطبري: 4 / 271، وأنساب الأشراف: 79.)
فكانت بداية تخاذل الناس عن الصمود في مواجهة الظلم. لقد استطاع الوالي الجديد
عبيد الله بن زياد أن يُحْكِمَ الحيلةَ والخداع ليقبضَ
على هانىء بن عروة الذي آوى رسول الحسين عليه السلام وأحسن ضيافته واشترك معه
في الرأي والتدبير، فقبض عليه وقتله بعد حوار طويل جرى بينهما، وألقى بجثمانه من
أعلى القصر إلى الجماهير المحتشدةحوله، فاستولى الخوف والتخاذل على الناس، وذهب
كلّ إِنسان إلى بيته وكأنّ الأمر لا يعنيه(الكامل في التأريخ: 3 / 271، والفتوح لابن اعثم: 5 / 83، وإعلام
الورى: 1 / 441.). ولمّا علم مسلم بما جرى
لهانىء ورأى تَخاذُلَ عشيرته مذحج الغنية بعددها وعدَّتِها خرج في
أصحابه ونادى مناديه في الناس وسار بهم لمحاصرة القصر، واشتد الحصار على ابن
زياد وضاق به أمرُه، ولكنّه استطاع بدهائه ومكره أن يتغلّب على المحنة ويُخذِّلَ
الناسَ عن مسلم(سيرة الأئمّة الاثني عشر، القسم الثاني: 63، وإعلام الورى: 1 / 441،
ومناقب آل أبي طالب: 4 / 92، والكامل في التأريخ: 3 / 271.). لقد دسّ ابن زياد في أوساط الناس
أشخاصاً يُخَذِّلونهم ويتظاهرون بالدعوة إلى حفظ الأمن والاستقرار وعدم إراقة
الدماء، ويحذّرون من قدوم جيش جرّار من الشام بهدف كسب الوقت وتفتيت قوى الثوار.
واستمرّ الموقف كذلك والناس تنصرف وتتفرّق عن مسلم. وبدخول الليل صلّى بمن بقي
معه وخرج من المسجد الجامع وحيداً لا ناصر له ولا مؤازر ولا مَنْ يَدُ لُّه على
الطريق، وأقفل الناس أبوابهم في وجهه، فمضى يبحث عن دار يأوي إليها في ليلته
تلك، وفيما هو يسير في ظلمة الليل وجد امرأةً على باب دارها وكأنّها تنتظر
شيئاً، فعرّفها بنفسه وسألها المبيت عندها إلى الصباح، فرحّبت به وأدخلته بيتها،
وعرضت عليه العشاء فأبى أن يأكل شيئاً، وعرف ولدها بمكانه وكان ابن زياد قد أعدّ
جائزة لِمَنْ يخبره عنه، وما كاد الصبح يتنفّس حتى أسرع ولدها إلى القصر وأخبر
محمد بن الأشعث بمكان مسلم بن عقيل، و فور وصول النبأ إلى ابن زياد أرسل قوّة
كبيرة من جنده(جاء في (الإرشاد) أنّهم كانوا سبعين رجلا.)
بقيادة ابن الأشعث إلى المكان الذي فيه مسلم، وما أن سمع بالضجّة حتى أدرك أنّ
القوم يطلبونه فخرج إليهم بسيفه. وقد اقتحموا عليه الدار فشدّ عليهم
يضربهم بسيفه حتى أخرجهم من الدار، ثم عادوا إليه فشدّ عليهم كذلك، مع انّهم
تكاثروا عليه بعد أن اُثخن بالجراح فطعنه
رجل من خلفه فخرّ إلى الأرض فاُخذ أسيراً وحمل على بلغة وانتزع الأشعث سيفه
وسلاحه وأخذوه إلى القصر فاُدْخِلَ على ابن زياد ولم يسلّم عليه، وجرى
بينهما حوار طويل كان فيه ابن عقيل (رضوان الله عليه) رابط الجأش منطلقاً في
بيانه قويّ الحجّة، حتى أعياه أمرُه وانتفخت أوداجه وجعل يشتم عليّاً والحسن
والحسين، ثم أمر أجهزته أن يصعَدوا به إلى أعلى القصر ويقتلوه ويرموا جسده إلى
الناس ويسحبوه في شوارع الكوفة ثم يصلبوه إلى جانب هانىء بن عروة، هذا وأهل
الكوفة وقوف في الشوارع لا يحرّكون ساكناً وكأنّهم لا يعرفون من أمره شيئاً. وكان مسلم قد طلب من ابن الأشعث أن
يكتب إلى الحسين عليه السلام يخبره بما جرى في الكوفة وينصحه بعدم الشخوص
إليهم، فوعده ابن الأشعث بذلك، ولكنّه لم يفِ بوعده(يراجع في تفصيلاته إلى: أعيان الشيعة: 1/592، إعلام الورى: 1 / 442،
والكامل في التأريخ: 4 / 32، والفتوح: 5 / 88، وتأريخ الطبري: 4 / 280، ومقاتل
الطالبيّين: 92.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
البحث الخامس: حركة الإمام الحسين عليه السلام إلى العراق
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
ونترك الكوفة يعبثُ بها ابن زياد
ويتتبّع شيعة الإمام الحسين عليه السلام ويطاردهم، ونعود إلى مكة لنتابع السير
مع ركب الحسين عليه السلام حتى الطفّ حيث المأساة الكبرى. قال المؤرّخون: كان
خروج مسلم بن عقيل رحمة الله عليه بالكوفة يوم
الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجة سنة ستين، وقتلُه يوم الأربعاء لتسع خلون منه يوم عرفة، وكان توجّه
الحسين صلوات الله عليه من مكة إلى العراق في يوم خروج مسلم بالكوفة - وهو يوم التروية - بعد مُقامه
بمكة بقية شعبان وشهر رمضان وشوّالاً وذا القعدة وثماني ليال خلون من ذي الحجة
سنة ستين، وكان عليه السلام قد اجتمع إليه مدةَ مُقامه بمكة نَفَرٌ من أهل
الحجاز ونفر من أهل البصرة انضمّوا إلى أهل بيته ومواليه. ولمّا أراد الحسين عليه السلام
التوجّه إلى العراق طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة وأحلّ من إحرامه وجعلها
عمرةً، لأَنّه لم يتمكّن من تمام الحجّ مخافة أن يُقْبَضَ
عليه بمكة فيُنْفَذ به إلى يزيد بن معاوية، فخرجعليه
السلام مبادراً بأهله وولده ومن انضمّ إليه من شيعته، ولم يكن
خبر مسلم قد بلغه(الإرشاد: 2 / 67.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
لماذا اختار الإمام الحسين
عليه السلام الهجرة إلى العراق؟
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
رغم كلّ ما قيل من تحليل ودراسة لوضع
المجتمع الكوفي وما ينطوي عليه من إثارة سلبيات يتكهّن بأغلبها المحلّلون من دون
جزم فإنّنا نرى أنّ اختيار الإمام الحسين عليه السلام الهجرة إلى العراق
كان لأسباب منها: 1 -
إنّ التكليف الإلهي برفع الظلم والفساد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يشمل
جميع المسلمين بلا استثناء، إذ أنّنا لا نجد في النصوص التاريخية ما يدلّل على
قيام قطر من الأقطار الإسلامية بمحاولة لمواجهة الحكم الأموي سوى العراق الذي
وقف ضدّهم منذ أن ظهر الأمويون في الساحة السياسية وحتى سقوطهم. 2 -
إنّ الإمام الحسين عليه السلام لم يعلن دعوته لمواجهة ظلم الأمويين وفسادهم
والنهوض لإحياء الرسالة يوم طُلب منه مبايعة يزيد، بل كانت تمتدّ دعوته في العمق
الزمني إلى أبعد من ذلك، ولكن لم نرَ نصوصاً تاريخية تدلّل على استجابة شعب من
شعوب العالم الإسلامي لنداء الإمام الحسين عليه السلام ونهضته غير العراق،
فكانت الدعوات الكثيرة والملحّة موجّهة إليه تعلن الولاء والاستعداد لتأييد
النهضة ومواجهة الحكم الأموي الفاسد. 3 -
لم يكن أمام الحسين عليه السلام من
خيار لاختيار بلد آخر غير العراق، لأنّ بقية الأقطار إمّا أنها كانت مؤيّدة
للأمويين في توجّهاتهم وسياساتهم، أو خاضعة مقهورة، أو أنّها كانت غير متحضّرة
وغير مستعدّة للاستجابة للنهضة الحسينيّة. على أنّ كثيراً من شعوب العالم
الإسلامي كانت في ذلك الحين إمّا كافرة أو حديثة عهد بالإسلام، أو غير عربية بحيث
يصعب التعايش والتعامل معها; ممّا كان سبباً لتضييع ثورة الإمام وجهوده. 4 -
كانت الكوفة تضمّ الجماعة الصالحة التي بناها الإمام علي عليه
السلام والقاعدة الجماهيرية التي تتعاطف مع أهل البيت عليهمالسلام
فأراد الإمام الحسين عليه السلام أن
لا يضيع دمه وهو مقتول لا محالة، كما أراد أن يعمّق لإيمان في النفوس ويجذّر
الولاء لأهل البيت عليهمالسلام،
وكان العراق أخصب أرض تستجيب لذلك، وسرعان ما بدأت الثورات في العراق بعد
استشهاد 5 -
إنّ اختيار أيّ بلد غير العراق سيكون له أثره السلبي، إذ يتّخذه أعداء الإسلام
وأهل البيت عليهم السلام أداة عار وشنار للنيل من مقام الإمام وأهدافه السامية،
ويفسّر خروجه إليه على أنّه هروب من المواجهة الحتمية، في الوقت الذي كان يهدف
الإمام عليه السلام إلى إحياء
حركة الرسالة والمُثل الأخلاقية وتأجيج روح المواجهة والتصدّي للظلم والظالمين.
وحتى على فرض اختياره عليه السلام
بلداً آخر فإنّ سلطة الأمويين ستنال منه وتقضي عليه دون أن يحقّق أهداف رسالته
التي جاء من أجلها. 6 -
لمّا كان العراق يصارع الأمويين كانت أجواؤه مهيّئة لنشر الإعلام الثوري لنهضة الحسين
عليه السلام وأفكاره، ومن ثمّ فضح بني أُمية وتستّرهم بالشرعية وغطاء الدين،
وحتى النزعة العاطفية المزعومة في العراقيّين فقد كانت سبباً في ديمومة وهج
الثورة وأفكارها كما نرى ذلك حتّى عصرنا هذا. ولعلّ هناك أسباباً لا
ندركها، لا سيَّما ونحن نرى أنّ الإمام الحسين عليه السلام كان على بيّنة
واطلاع من نتيجة الصراع، وكان على معرفة بالظروف الموضوعية
المحيطة بمسيرته وعلى علم بطبيعة التكوين الاجتماعي والسياسي للمجتمع الذي كان
يتوجّه إليه من خلال وعيه السياسي الحاذق، والنصائح التي قدّمها إليه عدد من
الشخصيات فضلاً عن عصمته عن الزلل والأهواء، كما
نعتقد; فلم يكن اختياره العراق منطلقاً لثورته العظيمة، إلاّ عن دراية وتخطيط رغم الجريمة النكراء التي نتجت عن تخاذل الناس
وتركهم نصرة إمامهم ولحوق العار بهم في الدنيا والآخرة. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
تصريحات الإمام عليه السلام
عند وداعه مكة:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
صدرت عن الإمام الحسين عليه السلام
عدّة تصريحات عند ما كان يعتزم مغادرة مكة والتوجّه إلى العراق، وكانت بعض هذه
التصريحات تمثّل أجوبتهعليه السلام على
من أشفق عليه أو مَنْ ندّد بخروجه، وقد تمثّل خطابه للناس بصورة عامة، فنذكرُ منها هنا: 1 -
روى عبد الله بن عباس عن الإمام الحسين بشأن حركته نحو العراق قولهعليه
السلام: (والله لا يَدَعُونَنِي حتى يستخرجوا هذه العَلْقَةَ من
جوفي، فإذا فعلوا سُلِّط عليهم مَنْ يذلّهم حتى يكونوا أذلَّ من فَرْم المرأة)( الكامل في التأريخ: 4 / 39.). 2 -
كان محمد بن الحنفية في يثرب فلمّا علم بعزم الإمام عليه السلام على الخروج إلى
العراق توجّه إلى مكة، وقد وصل إليها في الليلة التي أرادعليه
السلام الخروج في صبيحتها إلى العراق، وقصده فور وصوله فبادره
قائلا: (يا أخي إنّ أهل الكوفة قد عرفت غدرهم بأبيك وأخيك، ويساورني خوف أن يكون
حالك حال من مضى، فإن أردت أن تقيم في الحرم فإنّك أعز من بالحرم وأمنعهم). فأجابه الإمام عليه السلام: (خفت أن
يغتالني يزيد بن معاوية، فأكون الذي تستباح به حرمةُ هذا البيت)، فقال محمد:
(فإنْ خفت ذلك فسر إلى اليمن أو بعض نواحي البرّ فإنّك أمنع الناس به، ولا يقدر
عليك أحد)، قال الحسين عليه السلام: (أنظر فيما قلت). ولمّا كان وقت السَحَر بلغه شخوصُه إلى
العراق وكان يتوضّأ فبكى، وأسرع محمد إلى أخيه فأخذ بزمام ناقته وقال له: (يا
أخي، ألم تعدني فيما سألتك؟) قال الإمام عليه السلام:
(بلى ولكنّي أتاني رسول الله صلىاللهعليه وآله بعد ما فارَقْتُك وقال لي: يا
حسين، اُخرج فإنّ الله شاء أن يراك قتيلا)، فقال محمد:
فما معنى حملِ هؤلاء النساء والأطفال، وأنت خارج على مثل هذا الحال؟ فأجابه الإمام
عليه السلام: (قد شاء الله أن يراهن سبايا)( اللهوف على قتلى الطفوف: 27، وأعيان الشيعة: 1 / 592، وبحار
الأنوار: 44 / 364.). ولم يكن اصطحاب الحسين عليه السلام
لعيالاته حالة غريبة على المجتمع العربي والإسلامي، فقد كان العرب يصطحبون
نساءَهم في الحروب وكذا فعل النبي صلىاللهعليه وآله في غزواته فقد كان يقرع
بين نسائه، أمّا بالنسبة إلى الإمام الحسين عليه السلام فإنّ اصطحابه لعائلته
في حركته إنّما كان لأجل أن يكون وجودها معه بمثابة حجّة قوية على المسلمين
لنصرته، فمن تولّى الحسين عليه السلام ويسعى لنصرته والدفاع عنه فأولى له أن
يدافع عنه وهو بين أهله. وإن اختلف مع الحسين عليه السلام
فما ذنب عيالاته وهنّ بنات النبي صلىاللهعليه وآله خاصة أنّ الخلاف بزعم
الأمويين إنّما هو لأجل الخلافة. 3 -
ذكر المؤرخون أنّ الإمام الحسين عليه السلام لمّا أراد الخروج من مكة ألقى خطاباً فيها، جاء فيه: (خُطَّ
الْمَوْتُ على وُلْدِ آدم مَخَطّ الْقِلادة على جيدِ الفتاة، وما أولهني إلى
أسلافي اِشتياق يعقوب إلى يوسف، وخُيّر لي مصرعٌ أنا لاقيه، كأنّي بأوصالي
تقطّعها عُسْلانُ الفلواتِ بينَ النواويس وكربلاء، فيملأنَّ منّي أكراشاً جوفاً وأجربةً
سُغباً، لا محيص عن يوم خُطّ بالقلم، رضا الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه
ويوفّينا أُجور الصابرين، لن تشذّ عن رسول الله عليهمالسلام
لُحْمَتُه، وهي مجموعة له في حظيرة القدس، تَقِرُّ بهم عينُه، ويُنْجَزُ بهم
وعدُه، مَنْ كان باذلا فينا مهجتَه وموطِّناً على لقاء الله نَفْسَه
فَلْيَرْحَلْ معنا، فإنّي راحل مُصبحاً إن شاء الله تعالى)( إحقاق الحق: 11 / 598، وكشف الغمة: 2 / 20.). يُبَيِّنُ الإمام الحسين عليه السلام
في هذه التصريحات أنّه مصمّم على عدم مبايعة يزيد; قياماً بتكليفه الإلهي،
موضحاً سبب خروجِه من مكة، مخبراً عن المصير الذي ينتظره وأهل بيته جميعاً،
داعياً إلى الالتحاق به من كان مُوَطِّناً على لقاء الله نفسه، معلِناً أنّ الله
تعالى قرن رضاه برضا أهلِ البيت عليهم السلام. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
خلاصة الثورة في
رسالة:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
بوعي القائد الرسالي والفدائي العظيم
والثائر من أجل العقيدة صمّم الإمام الحسين عليه السلام بحنكة ودراية المسير من
مكة إلى العراق، بعد أن أوضح جانباً كبيراً من أهدافه وأسباب نهضته، وقد تطايرت
أخباره إلى أرجاء العالم الإسلامي. وكتب الإمام عليه السلام إلى بني هاشم
في يثرب رسالةً يدعوهم فيها إلى الفرصة الأخيرة لنصرة الإسلام والمبادئ والقيم
الإلهية والتألّق في سماء التضحية في الدنيا، وخلود الذكر الطيّب والبقاء
عنواناً للحقّ والعدل والإباء والفوز في أعلى درجات الجنّة في الآخرة، فقد جاء
فيها بعد البسملة: (من الحسين بن عليّ إلى أخيه محمد ومن
قبله من بني هاشم: أمّا بعد، فإنّه من لحق بي منكم استشهد، ومن لم يلحق بي لم
يدرك الفتح، والسلام)( مناقب آل أبي طالب: 4 / 76، وبصائر الدرجات: 481، ودلائل الإمامة:
77.). ولمّا وردت رسالة الإمام عليه السلام
إلى بني هاشم في يثرب، بادرت طائفة منهم إلى الالتحاق به ليفوزوا بالفتح والشهادة
بين يدي ريحانة رسول الله صلىاللهعليه وآله(راجع تأريخ ابن عساكر: ترجمة الإمام الحسين عليه السلام.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
ملاحقة السلطة للإمام عليه السلام:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
ولم يبعُد الإمام عليه السلام كثيراً
عن مكة حتى لاحقته مفرزة من الشرطة بقيادة يحيى بن سعيد، فقد بعثها والي مكة
عمرو بن سعيد لصدّ الإمام عليه السلام عن السفر، وجرت بينهما مناوشات حتى تدافع
الفريقان واضطربوا بالسياط وامتنع الحسين وأصحابه منهم امتناعاً قوياً(الإرشاد: 2 / 68.). في
التنعيم:
ومضى ركب الإمام الحسين عليه السلام
لا يلوي على شيء، وفي طريقهم بمنطقة التنعيم(التنعيم: موضع بمكة في الحلّ يقع بين مكة وسرف على فرسخين من مكة،
جاء ذلك في معجم البلدان: 2 / 49.)
صادفوا إبلا قد يَمَّمت وَجْهَها شطرَ الشام وهي تحمل الهدايا ليزيد بن معاوية
قادمةً من اليمن، فاستأجر من أهلها جِمالا لرحله وأصحابه وقال لأصحابها: مَنْ أحبّ أن ينطلق معنا إلى
العراق وفيناه كِراءه وأحسنّا صحبته، وَمَنْ أحبّ أن يفارقنا في بعض الطريق
أعطيناه كراءه على ما قطع من الطريق، فمضى معه قوم وامتنع آخرون(الإرشاد: 2 / 68.). في الصفاح:
وواصل الإمام مسيره حتى وصل الصفاح(الصفاح: موضع بين حنين وأنصاب الحرم على يسرة الداخل إلى مكة من
مشاش... جاء ذلك في معجم البلدان: 3 / 412.)
فالتقى الفرزدق الشاعر فسأله عن خبر الناس خلفه فقال الفرزدق: قلوبُهم معك
والسيوف مع بني أُمية، والقضاء ينزل من السماء. فقال
أبو عبد الله عليه السلام: صدقت،
للهِ الأمر، واللهُ يفعل ما يشاء، وكلّ يوم ربّنا هو في شأن، إن نزل القضاء بما
نحبّ فنحمد الله على نعمائه وهو المستعان على أداء الشكر، وإن حال القضاء دون
الرجاء فلم يتعدَّ مَنْ كان الحقُّ نيّتَه والتقوى سريرَتَهُ(مقتل الحسين للمقرّم: 203، البداية والنهاية، ابن كثير: 8/180، صفة
مخرج الحسين عليه السلام إلى العراق.). ثمّ واصل الإمام عليه السلام مسيرته بعزم وثبات،
ولم يثنه عن عزيمته قول الفرزدق في تخاذل الناس عنه وتجاوبهم مع الأمويين. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
كتاب الإمام عليه السلام
لأهل الكوفة:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
ولمّا وافى الإمام الحسين عليه السلام
الحاجر من بطن ذي الرُّمّة - وهو أحد منازل الحجّ من طريق البادية - كتب كتاباً
لشيعته من أهل الكوفة يعلمهم بالقدوم إليهم، ولم يكن عليه
السلام قد وصله خبر ابن عقيل، هذا
نصّه: (بسم الله الرحمن الرحيم من الحسين بن علي إلى إخوانه من
المؤمنين والمسلمين: سلام عليكم، فإنّي أحْمَدُ إليكم الله
الذي لا إله إلاّ هو. أمّا بعد، فإنّ كتاب مسلم بن عقيل جاءني يُخبرني فيه بحسن
رأيكم واجتماع مَلَئكم على نصرنا والطلب بحقّنا، فسألت الله أن يُحسن لنا
الصنيع، وأن يُثيبكم على ذلك أعظم الأجر، وقد شَخَصْتُ إليكم من مكة يوم
الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجّة يوم التروية، فإذا قدم عليكم رسولي فانكمشوا (انكمشوا: بمعنى أسرعوا.) في
أمركم وجِدّوا، فإنّي قادم عليكم في أيّامي هذه، والسلام عليكم ورحمة الله
وبركاته) (الإرشاد: 2 / 70، والبداية والنهاية: 8 / 181، وبحار الأنوار: 44 /
369.). وقد بعث عليه السلام الكتاب بيد قيس بن مُسهر الصيداوي. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
إجراءات الأمويين:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
سرى نبأ مسير الإمام عليه السلام نحو
الكوفة بين الناس فاضطرب الموقف الأموي، وشعرت السلطات بالخوف والحرج، وتحدّثت
الركبان بأنباء الثائر العظيم، فتناهى الخبر إلى عبيد الله بن زياد، فأعدّ رجاله
وجنده، ووضع خطّة لقطع الطريق أمام الحسين عليه السلام والحيلولة دون وصوله إلى
الكوفة، فبعث مدير شرطته الحصين بن نمير التميمي، مكلّفاً إيّاه بتنفيذ المهمّة،
فاختار الحصين موقعاً استراتيجياً يسيطر من خلاله على طريق مرور الإمام عليه السلام،
فنزل بالقادسية واتّخذها مقرّاً لقيادته. اعتقال
الصيداوي وقتله:
انطلق قيس بن مُسهر الصيداوي
برسالة الإمام نحو الكوفة، وحينما وصل القادسية اعتقله الحصين بن نمير، فبعث به إلى عبيد الله بن
زياد، فقال له عبيد الله:
إصعد فسبّ الكذّاب الحسين بن عليّ، فصعد
قيس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيّها الناس،
إنَّ هذا الحسين بن عليّ خير خلق الله ابن فاطمة بنت رسول الله صلىاللهعليه
وآله وأنا رسوله إليكم، وقد فارقته في الحاجر فأجيبوه، ثم لعن عبيد الله بن زياد
وأباه، واستغفر لعليّ بن أبي طالب وصلّى عليه، فأمر عبيد الله أن يُرمى به من
فوق القصر، فرموا به فتقطّع(الإرشاد: 2 / 71، ومثير الأحزان: 42، والبداية والنهاية: 8 / 181.). وروي: أنّه وقع على الأرض مكتوفاً
فتكسّرت عظامه وبقي به رمق، فجاء رجل يقال له عبد
الملك بن عمير اللخمي فذبحه، فقيل له في ذلك وعِيبَ عليه، فقال: أردتُ أن أريحه. مع زهير بن
القين:
وانتهت قافلة الإمام إلى
(زرود) فأقام عليه السلام
فيها بعض الوقت، وقد نزل بالقرب منه زهير بن القين البجلي وكان عثمانيّ الهوى،
وقد حجّ بيت الله في تلك السنة، وكان يساير الإمام في طريقه ولا يحبّ أن ينزل
معه مخافةَ الاجتماع به إلاّ أنّه اضطرّ إلى النزول قريباً منه، فبعث الإمام عليه السلام إليه رسولا يدعوه إليه، وكان زهير مع
جماعته يتناولون الطعام، فأبلغه الرسول مقالة الحسين فذعر القوم وطرحوا ما في
أيديهم من طعام، وكأنَّ على رؤوسهم الطير، فقالت له امرأته:
سبحانَ الله! أيبعث إليك ابنُ بنت رسول الله ثم لا تأتيه؟ لو أتيته فسمعتَ من
كلامه ثم انصرفتَ. فأتاه زهير بن القين،
فما لبث أن جاء مستبشراً قد أشرق وجهُه، فأمر بفسطاطه وثقله وراحلته ومتاعه،
فقُوِّضَ وحُمِل إلى الحسين عليه السلام ثم
قال لامرأته: أنتِ طالق، إلحقي بأهلك، فإنّي لا أحب
أن يُصيبَكِ بسببي إلاّ خير. وقال لأصحابه:
من أحبّ منكم أن يتبعني وإلاّ فهو آخر العهد، إنّي
سأحدثكم حديثاً: إنّا غزونا البحر ففتح الله علينا
وأصبنا غنايم، فقال لنا سلمان الفارسي رحمة
الله عليه: أَفَرِحْتُم بما فتح الله عليكم وأصبتم من
الغنائم؟ قلنا: نعم، فقال: إذا أدركتم سيّد شباب آل محمد فكونوا أشدّ فرحاً
بقتالكم معه ممّا أصبتم اليوم من الغنائم. فأمّا أنا فأستودعكم الله. قالوا: ثم
- والله - مازال في القوم مع الحسين عليه السلام حتى قتل رحمة الله عليه(الإرشاد: 2 / 72 - 73، والكامل في التأريخ: 3 / 177، والأخبار
الطوال: 246.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
أنباء الانتكاسة تتوارد
على الإمام عليه السلام:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
ها هي الكوفة تضطرب وتموج، والانتكاسة
الخطيرة قد لاحت ملامحها، وبدأ ميزان القوى يميل لصالح السلطة الأُموية، والوهن
بدأ يدبّ والانحلال يسري في أوساط المعارضة، وبدأ الإرهاب والتجسس والرشوة تفعل
فعلتها، فتلاشت المعارضة ونكص المبايعون، وقُتل مسلم بن عقيل وهانيء بن عروة
وقيس بن مُسهر الصيداوي، وسُجِنَ المختار بن عبيدة الثقفي، وانقلبت أوضاع الكوفة
على أعقابها. وواصل الإمام الحسين عليه السلام
المسير، وليس لديه معلومات جديدة عن تطور الأحداث، فأرسل
عبد الله بن يقطر إلى مسلم بن عقيل ليستجلي الموقف، إلاّ أنّ الحسين اُخبرَ في الطريق في موضع يدعى (الثعلبية)
بانتكاسة الثورة واستشهاد مسلم بن عقيل، أمّا رسوله الثاني هذا إلى مسلم فقد وقع
أسيراً أيضاً بيد جنود الحصين فنقل إلى ابن زياد في الكوفة، وكان كرسول الحسين
عليه السلام السابق مثالا للصلابة والجرأة والإخلاص. ووصل خبر أسر الرسول واستشهاده إلى الإمام
عليه السلام في موضع يدعى (زبالة)
وهكذا راحت تتوارد على الإمام أنباء الانتكاسة، ولاحت له بوادر النكوص الخطير،
وشعر بالخذلان ونقض العهد، فوقف في أصحابه وأهل بيته يبلغهم بما استجدّ من
الحوادث، ويضع أمامهم الحقائق، ليكونوا على بصيرة من الأمر، فقال لهم: (بسم الله الرحمن الرحيم، أمّا بعد،
فإنَّه قد أتانا خبر فظيع قتلُ مسلم بن عقيل وهانيء بن عروة وعبد الله بن يقطر،
وقد خذلنا شيعتُنا، فمن أحبَّ منكم الانصراف فلينصرفْ في غير حرج ليس معه ذمام). فتفرّق الناس عنه وأخذوا
يميناً وشمالا، حتى بقي في أصحابه الذين جاءوا معه من
المدينة ونفر يسير ممن انضموا إليه، وإنَّما فعل ذلك لأنّه علم أنّ الأعراب
الذين اتّبعوه إنّما اتّبعوه وهم يظنّون أنَّه يأتي بلداً قد استقامت له طاعةُ
أهله، فكره أن يسيروا معه إلاّ وهم يعلمون على ما يقدمون(الإرشاد: 2/ 75 - 76، والبداية والنهاية: 8 / 182، وأعيان الشيعة: 1
/ 595.).
فلمّا كان السَحَر أمر أصحابَه فاستقَوْا ماءً وأكثروا، ثم ساروا. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
لقاء الإمام الحسين
عليه السلام مع الحرّ:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
وبينما كان الإمام عليه السلام يسير
بمن بقي معه من أصحابه المخلصين وأهل بيته وبني عمومته; إذا بهم يرون أشباحاً
مقبلة من مسافات بعيدة، وظنّها بعضهم أشباح نخيل، ولكن لم يكن الذي شاهدوه أشجار
النخيل، ولكنّها جيوش زاحفة، فبعد قليل تبيّن لهم أنّ تلك الأشباح المقبلة عليهم
هي ألف فارس من جند ابن زياد بقيادة الحرّ بن يزيد الرياحي، أرسلها ابن زياد
لتقطع الطريق على الحسين عليه السلام وتسيّره كما يريد، ولمّا اقتربوا من ركب الحسين
عليه السلام سألهم عن المهمّة التي جاءوا من أجلها، فقال لهم الحرّ: لقد أمرنا
أن نلازمكم ونجعجع بكم حتى ننزلكم على غير ماء ولا حصن، أو تدخلوا في حكم يزيد
وعبيدالله بن زياد (تأريخ الطبري: 3 / 305، ومقتل الحسين للخوارزمي: 1 / 229، والبداية
والنهاية: 8 / 186، وبحار الأنوار: 44 / 375.). وجرى حوار طويل بين الطرفين وجدال لم
يتوصّلا فيه إلى نتيجة حاسمة ترضي الطرفين، فلقد أبى الحرّ أن يمكِّنَ الحسينَ من
الرجوع إلى الحجاز أو سلوك الطريق المؤدّية إلى الكوفة، وأبى الحسين عليه السلام
أن يستسلم ليزيد وابن زياد(تأريخ الطبري: 3 / 305، مقتل الحسين عليه السلام للخوارزمي: 1 / 229، البداية والنهاية: 8
/ 186، بحار الأنوار: 44 / 375.)،
وكان ممّا قاله الحسين وهو واقف بينهم خطيباً: (أيّها الناس! إنّي لم آتِكم حتى
أتتني كتبُكم وقدمِتْ عليّ رُسُلُكُم، أنِ أقدم علينا، فإنه ليس لنا إمام، لعلّ
الله أن يجمعنا بك على الهُدى والحقِّ، فإن كنتم على ذلك فقد جئتكم فأعطوني ما
أطمئنُ إليه من عهودكم ومواثيقكم، وإن لم تفعلوا وكنتم لمقدمي كارهين
اِنْصَرَفْتُ عنكم إلى المكانِ الذي جئتُ مِنه إليكم). فسكتوا عنه ولم يتكلّم
أحد منهم بكلمة، فقال للحرّ: (أتريد أن تصلّيَ بأصحابك؟) قال: لا، بل تُصلّي أنت
ونصلّي بصلاتك، فصلّى بهم الحسين عليه السلام(الإرشاد: 2 / 79، والفتوح لابن أعثم: 5 / 85، ومقتل الحسين
للخوارزمي: 1 / 596.). وبعد أن صلّى الإمام عليه السلام
بهم العصر خاطبهم بقوله: (أمّا بعد، فإنّكم إنْ تتّقوا الله
وتعرفوا الحقّ لأهله تكونوا أرضى لله عنكم، ونحن أهل بيت محمّد وأولى بولاية هذا
الأَمر عليكم من هؤلاء المدّعين ما ليس لهم والسائرينَ فيكم بالجوْرِ والعدوانِ،
وإنْ أبيتم إلاّ الكراهية لنا والجهل بحقّنا، وكان رأيكم الآن غير ما أتتني به
كتبكم وقدمت به عليَّ رُسُلُكُم انصرفت عنكم)( الفتوح لابن أعثم: 5 / 87، وتأريخ الطبري: 3 / 206، ومقتل الحسين
للخوارزمي: 1 / 332.)،
فقال له الحرّ: أنا والله ما أدري ما هذه الكتب والرسل التي تذكر، فقال الحسين عليه السلام لبعض أصحابه:
(يا عقبة بن سمعان، أخرج الخرجين اللّذين فيهما كتبهم إليَّ) فأخرجَ خرجين
مملوءين صُحُفاً فنثرت بين يديه. فقال له الحرّ: إنّا لسنا من هؤلاء الذين كتبوا
إليك وقد أُمِرْنا إذا نحن لقيناك ألاّ نفارقك حتى نُقدِمَكَ الكوفة على عبيد
الله. فقال له الحسين عليه السلام:
(الموت أدنى إليك من ذلك) ثم قال لأَصحابه: (قوموا فاركبوا)، فركبوا وانتظروا
حتى ركبت نساؤهم، فقال لأصحابه: (انصرفوا)، فلمّا ذهبوا لينصرفوا حال القوم
بينهم وبين الانصراف، فقال الحسين عليه السلام
للحرّ: (ثَكَلَتْكَ أمك ما تريد؟)، قال له الحرّ: أما لو غيرك من العرب يقولها لي وهو
على مثل الحال التي أنت عليها ما تركت ذكر أمه بالثكل كائناً مَنْ كان، ولكن والله ما لي إلى ذكر أمك من سبيل إلاّ بأحسن
ما نقدر عليه(الإرشاد: 2 / 80، تاريخ الطبري: 3 /306.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
النزول في أرض
الميعاد:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
أقلقت الأخبار عن تقدّم الإمام الحسين
عليه السلام نحو الكوفة ابن زياد وأعوان السلطة الأُموية، فأسرع بكتابه إلى
الحرّ بن يزيد الرياحي يطلب فيه أن لا يسمح بتقدّم الإمام حتى تلتحق به جيوش بني
أُمية وتلتقي به بعيداً عن الكوفة خشية أن يستنهض أهلها ثانية، وليستغل ابن زياد
ظروف المنطقه الصعبة للضغط على الإمام عليه السلام واستسلامه. وبغباء المنحرف الساذج وجهالته ردّ
حامل كتاب ابن زياد على أحد أصحاب الحسين عليه السلام - يزيد بن مهاجر -
مدافعاً عمّا جاء به قائلا: أطعت إمامي ووفيت ببيعتي، فقال له ابن مهاجر: بل
عصيت ربّك وأطعت إمامك في هلاك نفسك وكسبت العار والنار، وبئس الإمام إمامك، قال
الله تعالى: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى
النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ)( القصص (28): 41.). وحالت جنود ابن زياد قافلة الإمام الحسين
عليه السلام دون الاستمرار في المسير، فقد منعهم جيش الحرّ بن يزيد وأصرّوا على
أن يدفعوا الإمام عليه السلام نحو عراء لا خضرة فيها ولا ماء. وكان زهير بن القين متحمّساً
لقتال جيش الحرّ قبل أن يأتيهم المدد من قوات بني أُمية،
فقال للحسين عليه السلام: (إنّ
قتالهم الآن أيسر علينا عن قتال غيرهم)، ولكنّ
الإمام عليه السلام رفض هذا الرأي لأنّ القوم
لم يعلنوا حرباً عليه بعد، وما كان ذلك الموقف النبيل إلاّ لما كان يحمله الإمام
من روح تتسع للأمة جمعاء، وأيضاً لعظيم رسالته التي يدافع عنها وقِيَمهِ التي
كان يسعى إلى بنائها في الأمة رغم أنّها بدت تظهر العداء سافراً ضدّه، فقال عليه السلام: (ما كنت لأبدأهم بقتال). وكان نزول الإمام في كربلاء في يوم
الخميس الثاني من محرم سنة إحدى وستين(تأريخ الطبري: 3 / 309، ومعجم البلدان: 4 / 444، وإعلام الورى: 1 /
451، والأخبار الطوال: 252، وبحار الأنوار: 44 / 380.)،
ثم اقترح زهير على الإمام عليه السلام أن يلجأوا إلى منطقة قريبة يبدو فيها بعض
ملامح التحصين لمواجهة الجيش الأموي لو نشبت المعركة. وسأل الإمام عليه السلام عن
اسم هذه المنطقة فقيل له: كربلاء، عندها دمعت
عيناه وهو يقول: (اللهم أعوذ بك من الكرب والبلاء)، ثم قال: (ذات كرب وبلاء، ولقد مرّ أبي بهذا
المكان عند مسيره إلى صفّين وأنا معه فوقف، فسأل عنه فاُخبر باسمه فقال: ها هنا محطّ ركابهم، وهاهنا مهراق
دمائهم، فسئل عن ذلك فقال: ثقل لآل بيت محمد ينزلون هاهنا)( مجمع الزوائد: 9 / 192، والأخبار الطوال: 253، وحياة الحيوان
للدميري: 1 / 60.). قبض الإمام الحسين عليه السلام قبضةً من ترابها فشمّها وقال: (هذه
والله هي الأرض التي أخبر بها جبرئيل رسول الله أننّي اُقتل فيها، أخبرتني أم
سلمة)( تذكرة الخواص: 260، ونفس المهموم: 205، وناسخ التواريخ: 2 / 168،
وينابيع المودة: 406.). فأمر الإمام عليه السلام بالنزول ونصب
الخيام إلى حين يتّضح الأمر ويتّخذ القرار النهائي لمسيرته. جيش الكوفة
ينطلق بقيادة عمر بن سعد:
وفي تلك الأثناء خرج عمر بن سعد من
الكوفة في جيش قدّرته بعض المصادر بثلاثين ألفاً، وبعضها بأكثر من ذلك، وفي
رواية ثالثة: إنّ ابن زياد قد استنفر الكوفة وضواحيها لحرب الحسين و توعّد كلَّ
مَنْ يقدر على حمل السلاح بالقتل والحبس إن لم يخرجْ لحرب الحسين. وكان من نتائج ذلك أن امتلأت السجونُ
بالشيعة واختفى منهم جماعة، وخرج مَنْ خرج لحرب الحسين من أنصار الأمويين وأهل
الأطماع والمصالح الذين كانوا يشكّلون أكبر عدد في الكوفة، أمّا رواية الخمسة
آلاف مقاتل التي تبنّاها بعض المؤرّخين فمع أنّها من المراسيل، لا تؤيّدها
الظروف والملابسات التي تحيط بحادث من هذا النوع الذي لا يمكن لأحد أن يقدِمَ عليه
إلاّ بعد أن يُعِدَّ العُدَّة لكلّ الاحتمالات، ويتّخذ جميع الاحتياطات، وبخاصة
إذا كان خبيراً بأهل الكوفة وتقلّباتهم وعدم ثباتهم على أمر من الأُمور(سيرة الأئمة الاثني عشر القسم الثاني: 68.). وتوالت قطعات الجيش الأموي
بزعامة عمر بن سعد فأحاطت
بالحسين عليه السلام وأهله وأصحابه، وحالت بينهم وبين ماء الفرات القريب منهم. وقد
جرت مفاوضات محدودة بين عمر بن سعد والإمام الحسين عليه السلام أوضح فيها الإمام
عليه السلام لهم عن موقفه وموقفهم ودعوتهم له، وألقى عليهم كل الحجج في سبيل
إظهار الحق، وبيّن لهم سوء فعلهم هذا وغدرهم ونقضهم للوعود التي وعدوه بها من
نصرته وتأييده، وضرورة القضاء على الفساد. ولكن عمر بن سعد كان أداة الشرّ
المنفّذة للفساد والظلم الأموي، فكانت غاية همّته هي تنفيذ أوامر ابن زياد
بانتزاع البيعة من الإمام عليه السلام ليزيد أو قتله وأهل بيته وأصحابه(الإرشاد للمفيد: 2 / 85، الفتوح: 5 / 97، بحار الأنوار: 44 / 284،
إعلام الورى: 1 / 451، البداية والنهاية: 8 / 189، مقتل الحسين للخوارزمي: 1 /
245.)،
متجاهلاً حرمة البيت النبوي بل وحاقداً عليه كما
جاء في رسالته لعمر: أن حُلْ بين الحسين وأصحابه وبين
الماء، فلا يذوقوا قطرة كما صُنع بالتقي الزكي عثمان بن عفان(إعلام الورى: 1 / 452.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
البحث السادس: ماذا جرى في كربلاء؟
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
ليلة عاشوراء:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
نهض عمر بن سعد إلى الحسين عليه السلام عشية يوم الخميس لتسع مضين من المحّرم،
وجاء شمر حتى وقف على أصحاب الحسين عليه
السلام فقال: أين بنو أُختنا؟ يعني العباس وجعفر وعبد الله
وعثمان أبناء عليّ عليه السلام.
فقال الحسين عليه السلام: أجيبوه وإن كان فاسقاً فإنّه بعض أخوالكم؛ وذلك أنّ أمهم أم البنين كانت من بني كلاب وشمر بن ذي الجوشن من بني
كلاب أيضاً. فقالوا له: ما تريد؟ فقال
لهم:
أنتم يا بني أختي آمنون فلا تقتلوا أنفسكم مع أخيكم الحسين والزموا طاعة يزيد.
فقالوا له: لعنك الله ولعن أمانك! أتؤمننا وابن رسول الله لا أمان له؟ وناداه العباس بن أمير المؤمنين تبّت
يداك ولعن ما جئتنا به من أمانك يا عدوّ الله! أتأمرنا أن نترك أخانا وسيّدنا
الحسين بن فاطمة وندخل في طاعة اللعناء وأولاد اللعناء؟! ثم نادى عمر بن سعد يا خيل
الله! اركبي وبالجنة أبشري. فركب الناس ثم زحف ابن سعد
نحوهم بعد العصر والحسين عليه السلام
جالس أمام بيته محتب بسيفه، إذ خفق برأسه على ركبتيه، فسمعت أخته زينب الصيحة،
فدنت من أخيها وقالت: يا أخي! أما تسمع هذه الأصوات قد اقتربت؟ فرفع الحسين عليه
السلام رأسه فقال: إني رأيت رسول الله صلىاللهعليهوآله
الساعة في المنام فقال إنّك تروح إلينا، فلطمت أخته وجهها، ونادت بالويل، فقال لها الحسين عليه السلام:
ليس لكِ الويل، يا أُخيّة اسكتي، رحمك الله. وقال له العباس: يا أخي أتاك القوم
فنهض ثم قال: يا عباس اركب - بنفسي يا أخي - أنت حتى تلقاهم وتقول لهم: ما بالكم
وما بدا لكم؟ وتسألهم عمّا جاء بهم؟ فأتاهم في نحو من عشرين فارساً منهم زهير بن
القين وحبيب بن مظاهر فسألهم فقالوا: قد جاء أمر الأمير أن نعرض عليكم أن تنزلوا
على حكمه أو نناجزكم، قال: فلا تعجلوا حتى أرجع إلى أبي عبد الله فأعرض عليه ما
ذكرتم، فوقفوا ورجع العباس إليه بالخبر ووقف أصحابه يخاطبون القوم ويعظونهم
ويكفّونهم عن قتال الحسين عليه السلام. فلما أخبره العباس بقولهم
قال له: ارجع إليهم فإن استطعت أن تؤخّرهم إلى غدوة
وتدفعهم عنّا العشية لعلّنا نصلّي لربّنا الليلة وندعوه ونستغفره فهو يعلم أني
كنت أحبّ الصلاة له وتلاوة كتابه وكثرة الدعاء والاستغفار. فسألهم العباس ذلك، فتوقف ابن سعد، فقال له عمرو بن الحجاج الزبيدي: سبحان الله!
والله لو أنّهم من الترك أو الديلم وسألونا مثل ذلك لأجبناهم، فكيف وهم آل
محمد؟! وقال له قيس بن الأشعث بن قيس: أجبهم، لعمري ليصبحنّك بالقتال. فأجابوهم
إلى ذلك. وجمع الحسين عليه
السلام أصحابه عند قرب المساء. قال الإمام زين العابدين عليه
السلام: فدنوت منه لأسمع ما يقول لهم وأنا إذ ذاك مريض، فسمعت أبي يقول لأصحابه: اُثني على الله أحسن الثناء وأحمده على
السرّاء والضرّاء، اللهم إني أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوة وعلّمتنا القرآن
وفقّهتنا في الدين، وجعلت لنا أسماعاً وأبصاراً وأفئدة فاجعلنا لك من الشاكرين. ( أمّا بعد ) فإني لا أعلم
أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي،
فجزاكم الله عني خيراً ألا وإنّي لأظنّ أنه آخر يوم لنا من هؤلاء ألا وإني قد
أذنت لكم فانطلقوا جميعاً في حلّ ليس عليكم منّي ذمام، هذا الليل قد غشيكم
فاتّخذوه فقال له إخوته وأبناؤه وبنو
أخيه وأبناء عبد الله بن جعفر: ولِمَ نفعل ذلك؟ لنبقى بعدك؟
لا أرانا الله ذلك أبداً. بدأهم بهذا القول أخوه العباس بن أمير المؤمنين واتبعه
الجماعة عليه فتكلموا بمثله ونحوه. ثم نظر إلى بني عقيل فقال:
حسبكم من القتل بصاحبكم مسلم إذهبوا قد أذنت لكم، قالوا: سبحان الله! فما يقول
الناس لنا وما نقول لهم، إنّا تركنا شيخنا سيّدنا وبني عمومتنا خير الأعمام ولم
نرم معهم بسهم ولم نطعن معهم برمح ولم نضرِب معهم بسيف ولا ندري ما صنعوا، لا
والله ما نفعل ذلك ولكنّنا نفديك بأنفسنا وأموالنا وأهلينا ونقاتل معك حتى نردَ
موردك، فقبّح الله العيش بعدك. وقام إليه مسلم بن عوسجة
الأسدي فقال: أنحن نخلّي عنك وقد أحاط بك هذا
العدّو؟ وبم نعتذر إلى الله في أداء حقّك؟ لا والله لا يراني الله أبداً وأنا
أفعل ذلك حتى أكسر في صدورهم رمحي وأضاربهم بسيفي ما ثبت قائمه بيدي، ولو لم يكن
معي سلاح أقاتلهم به; لقذفتهم بالحجارة ولم أفارقك أو أموت معك. وقام سعيد بن عبد الله
الحنفي فقال: لا والله يا ابن رسول الله لا نخلّيك
أبدا حتّى يعلم الله أنّا قد حفظنا فيك وصيّة رسوله محمّد صلىاللهعليهوآله
والله لو علمت أني أُقتل فيك ثم أحيا ثم أُحرق ثم أذرى يُفعل ذلك بي سبعين مرّة;
ما فارقتك حتى ألقى حِمامي دونَك، وكيف لا أفعل ذلك وإنّما هي قتلة واحدة ثمّ
أنال الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً. وقام زهير بن القين وقال:
والله يا ابن رسول الله لوددت أني قُتلت ثم وتكلّم بقيّة أصحابه بكلام
يشبه بعضه بعضاً وقالوا: أنفسنا لك الفداء نقيك بأيدينا
ووجوهنا، فإذا نحن قُتلنا بين يديك نكون قد وفينا لربّنا وقضينا ما علينا(الإرشاد: 2/93.). وأمر الحسين عليه السلام أصحابه أن يقرّبوا
بين بيوتهم، ويدخلوا الأطناب بعضها في بعض، ويكونوا بين يدي البيوت كي يستقبلوا
القوم من وجه واحد والبيوت من ورائهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم قد حفّت بهم إلاّ
الوجه الذي يأتيهم منه عدوّهم. وقام الحسين عليه السلام وأصحابه
الّليل كله يصلّون ويستغفرون ويدعون، وباتوا ولهم دويّ كدويّ النحل ما بين راكع
وساجد وقائم وقاعد، فعبر إليهم في تلك الليلة من عسكر ابن سعد اثنان وثلاثون
رجلاً. قال بعض أصحاب الحسين عليه
السلام: مرّت بنا خيل لابن سعد تحرسنا وكان الحسين عليه
السلام يقرأ: (وَلَا
يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ
إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ * مَا
كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى
يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ)
فسمعها رجل من تلك الخيل يقال له عبد الله بن سمير فقال: نحن وربّ الكعبة
الطيّبون ميزنا منكم، فقال له برير بن خضير: يا فاسق أنت يجعلك الله من
الطيبين؟! فقال له: مَن أنت ويلك؟ قال: أنا برير بن خضير فتسابّا، فلمّا كان وقت
السحر خفق الحسين عليه السلام
برأسه خفقة ثم استيقظ فقال: (رأيت كأنّ كلاباً قد جهدت تنهشني وفيها كلب أبقع
رأيته أشدّها عليّ وأظنّ أنّ الذي يتولّى قتلي رجلٌ أبرص)( راجع أعيان الشيعة: 1 / 601.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
يوم عاشوراء:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
انقضت ليلة الهدنة، وطلع ذلك اليوم
الرهيب، يوم عاشوراء، يوم الدم والجهاد والشهادة، وطلعت معه رؤوس الأسنّة
والرماح والأحقاد وهي مشرعة لتلتهم جسد الحسين عليه السلام وتفتك بدعاة الحق
والثوار من أجل الرسالة والمبدأ. نظر الحسين عليه السلام إلى الجيش الزاحف،
ولم يزلعليه السلام كالطود
الشامخ، قد اطمأنت نفسه، وهانت دنيا الباطل في عينه، وتصاغر جيش الباطل أمامه،
ورفع يديه متضرعاً إلى الله تعالى قائلاً: اللهم أنت ثقتي في كل كَرْب، وأنت
رَجائي في كُلِ شِدّة وأنت لي في كل أمر نَزَلَ بي ثقةٌ وعدَّةٌ، كم من همٍّ
يَضْعَفُ فيه الفؤاد وتقلّ فيه الحيلة ويخذُلُ فيه الصديق ويشمت فيه العدوّ،
أنزلته بك وشكوته إليك، رغبة مني إليك عمّن سواك ففرّجته عني وكشفته فأنت وليّ
كل نعمة وصاحب كل حسنة ومنتهى كل رغبة(الإرشاد: 2 / 96.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
خطاب الإمام عليه السلام
في جيش الكوفة:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
أخذ جيش عمر بن سعد يشدِّد الحصار على الإمام
عليه السلام ولما رأى الحسين عليه السلام كثرتهم وتصميمهم على قتاله إذا لم
يستسلم ليزيد بن معاوية، تعمّم بعمامة رسول الله صلىاللهعليه
وآله وركب ناقته وأَخذ سلاحه ثم دنا من معسكرهم حيث يسمعون صوته وراح يقول:
يا أهل العراق - وجُلُّهُمْ يسمعون -، فقال: أيها الناس اسمعوا قولي ولا تعجلوا
حتى أعظَكم بما يحق لكم عليَّ وحتى أُعْذَرَ إليكم فإن أعطيتموني النّصف كنتم
بذلك أسعد، وإن لم تعطوني النّصف من أنفسكم فاجمعوا رأيكم ثم لا يكن أمركم عليكم
غُمَّةً ثم اْقضوا إليَّ ولا تُنظِرونِ (إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ
الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ)، ثم حمد الله
وأثنى عليه وذكر الله تعالى بما هو أهله وصلّى على النبي صلىاللهعليه وآله
وعلى ملائكته وأنبيائه فَلَمْ يُسْمَعْ متكلمٌ قط قبلَه ولا بعدَه أبلغُ في منطق
منه، ثم قال: أمّا بعد فانسبوني فانظروا مَنْ أنا ثم ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها
فانظروا هل يصلح لكم قتلي وانتهاكُ حُرمتي؟ ألَسْتُ ابنَ بنتِ نبيّكم وابنَ
وصيِّه وابن عمّه وأوّل المؤمنين المصدّق لرسول الله صلىاللهعليه وآله بما
جاء به من عند ربه؟ أوليس حمزةُ سيدُ الشهداء عمّي؟ أو ليس جعفر الطيار في
الجنّة بجناحين عَمّي؟ أو لم يبلغكم ما قال رسولُ الله صلىاللهعليه وآله لي
ولأخي: هذانِ سيّدا شباب أهل الجنة؟ فإنْ صدقتموني بما أقول - وهو الحق - فوالله
ما تعمدتُ كذباً منذ علمت أن الله يَمْقُتُ عليه أهله، وإنْ كذبتموني فإنَّ فيكم
مَنْ إذا سألتموه عن ذلك أخبركم، سلوا جابر بن عبد الله الأنصاري وأبا سعيد
الخِدْري و سهل بنَ سعد الساعدي وزيد بن أرقم وأنسَ بن مالك يخبروكم أنهم سمعوا
هذه المقالة من رسول الله صلىاللهعليه وآله لي ولأخي، أما في هذا حاجز لكم عن
سفك دمي؟... ثم قال لهم الإمام الحسين عليه السلام: فإن كنتم في شك من هذا
فتشكّون أني ابن بنت نبيكم فوالله ليس ما بين المشرق والمغرب ابنُ بنتِ نبىّ
غيري فيكم ولا في غيركم. ويحكم! أتطلبونني بقتيل منكم قَتَلْتُه أو مال لكم
استهلكته أو بقصاص جراحة؟ فأخذوا لا يكلمونه، فنادى: يا شبث بن ربعي! ويا حجّار
بن أبجر! ويا قيس بن الأشعث! ويا يزيد بن الحارث! ألَمْ تكتبوا إليَّ أنْ قد
أينعت الثمار واْخضرّ الجَنابُ وإنما تقدِم على جند لك مجندة؟ فقال له قيس بن
الأشعث: ما ندري ما تقول، ولكن اِنزل على حكم بني عمّك. فقال له الحسين عليه السلام:
(لا والله، لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أفرُّ فِرار العبيد). ثم نادى: (يا
عبادَ الله! إني عذْتُ بربّي ورَبِّكم أنْ ترجمُونِ، أعوذ بربّي و ربّكم من كلِّ
متكبر لقد أبى القوم إلاّ الإصرار على حربه
والتمادي في باطلهم، وأجابوه بمثل ما أجاب به أهل مدين نبيَّهم كما حكى الله
عَزَّ وجَلَّ عنهم في كتابه الكريم: (مَا
نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاًً)( هود (11): 91.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
الحر يخيّر نفسه بين
الجنّة والنار:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
وتأثر الحر بن يزيد الرياحي
بكلمات الإمام الحسين عليه السلام وندم على ما سبق منه معه، وراح يدنو بفرسه من
معسكر الحسين تارة ويعود إلى موقفه أخرى وبدا عليه القلق والاضطراب.
وعند ما سئل عن السبب في ذلك قال: (والله إني أُخيِّرُ نفسي بين الجنة والنار
وبين الدنيا والآخرة ولا ينبغي لعاقل أن يختار على الآخرة والجنة شيئاً)، ثم ضرب
فرسه والتحق بالحسين عليه السلام ووقف على باب فسطاطه، فخرج إليه الحسين عليه السلام
فانكبَّ عليه الحرّ يُقبّل يديه ويسأله العفو والصفح، فقال له الحسين عليه السلام:
(نعم، يتوب الله عليك وهو التّواب الرحيم). فقال
له الحر: والله لا أرى لنفسي توبة إلاّ بالقتال بين يديك
حتى أموتَ دونك. وخطب الحر في أهل الكوفة فوعظهم وذكّرهم موقفهم من الإمام عليه السلام
ودعوتهم له وحثّهم على عدم مقاتلة الإمام عليه السلام ثم مضى إلى الحرب فتحاماه
الناس، ثم تكاثروا عليه حتى استشهد(الإرشاد: 2 / 99، الفتوح: 5 / 113، بحار الأنوار: 5 / 15.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
المعركة الخالدة:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
حصّن الإمام عليه السلام مخيّمه وأحاط
ظهره بخندق أوْقَد فيه النار ليمنع المباغتة والالتفاف عليه من الخلف، وليحميَ
النساء والأطفال من العدوان المحقّق. نظر شمر بن ذي الجوشن إلى
النار في الخندق فصاح: ( يا حسينُ تعجّلت النار قبل يوم
القيامة، فرد عليه أنت أولى بها صِلِيّا)( مقتل الحسين، للمقرم: 277.)،
وحاول صاحب الحسين عليه السلام مسلم بن عوسجة أن يرميه بسهم، فاعترضه الإمام
ومنعه قائلا: (لا ترمه فإني أكره أن أبدأهم)( مقتل الحسين، للمقرم: 277، تاريخ الطبري: 3 / 318.). ويقول المؤرخون:
إن بعض أصحاب الإمام خطب بالقوم بعد خطبة الإمام الأولى، وأنّ الإمام عليه
السلام أخذ مصحفاً ونشره على رأسه ووقف بإزاء القوم فخاطبهم للمرة الثانية بقوله: يا قوم! إنّ
بيني وبينكم كتاب الله وسنّة جدّي رسول الله صلىاللهعليه وآله ثم استشهدهم عن
نفسه المقدسة وما عليه من سيف النبي صلىاللهعليهوآله
ودرعه وعمامته فأجابوه بالتصديق فسألهم عمّا أقدمهم على قتله، قالوا: طاعةً
للأمير عبيد الله ابن زياد، فقال عليه السلام: (تباً لكم أيتها الجماعَةُ وترحاً
أحين استصرختمونا(استصرختمونا: طلبتم نجدتنا.)
والهين فأصرخناكم موجفين، سللتم علينا سيفاً لنا في أيمانكم، وحَشَشْتم علينا
ناراً اقتدحناها على عدوّنا وعدوّكم فأصبحتم إلباً(إلباً: مجتمعين متضامنين ضدنا.) لأعدائكم
على أوليائكم بغير عدل أفشوه فيكم ولا أمل أصبح لكم فيهم، فهلاّ - لكم الويلاتُ
- تركتمونا والسيفُ مشيم والجأش طامن والرأي لمّا يستحصفْ! ولكن أسرعتم إليها
كطيرة الدَّبا(الدَّبا: الجراد الصغير.)،
وتداعيتم عليها كتهافُتِ الفراش، ثم نقضتموها فسُحْقاً لكم يا عبيدَ الأمة
وشُذّاذَ الأحزابِ و نبذة الكتابِ ومحرّفي الكلِمِ وعصبة الإثمِ ونفثةَ الشيطان
ومطفئي السُنَنِ، ويْحَكم! أهؤلاء تعضدون وعنا تتخاذلون؟ أجل! والله غدرٌ فيكم
قديم، وشجت عليه اُصولكم وتأزرت فروعكم، فكنتم أخبثَ ثمر، شجىً للناظر وأكلةً
للغاصب. ألا وإن الدعيَّ ابن الدعي قد ركز بين اثنتين بين السِّلة والذلة.
وهيهات منا الذلة! يأبى اللهُ لنا ذلك ورسولُه والمؤمنون، وحجورٌ طابت وطَهُرَتْ
واُنوفٌ حميةٌ ونفوسٌ أبيّةٌ من أن تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام. ألا وإني
زاحف بهذه الأسرة على قلة العدد وخذلان الناصر. ثم
أنشدَ أبياتِ فروة بن مسيك المرادي:
تاريخ ابن عساكر: 69/265،
اللهوف في قتلى الطفوف، ابن طاووس: 59 و 124. أما والله لا تلبثون بعدها إلاكريثما
يُركبُ الفرس، حتى تدور بكم دور الرَّحى، و تقلق بكم قلق المحور، عهد عهده إليّ
أبي عن جدي رسول الله صلىاللهعليه وآله (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا
يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ)( يونس (10): 71 و هود (11): 56.) (إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي
وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي
عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)( يونس (10): 71 و هود (11): 56.).
ثم رفع يديه نحو السماء وقال: (اللهم احبس عنهم قطر السماء وابعث عليهم سنينَ
كسنيّ يوسف وسلِّطْ عليهم غلام ثقيف يسقيهم كأساً مصبَّرةً، فإنهم كذّبونا
وخذلونا وأنت ربنا عليك توكلنا وإليك المصير)( مقتل الحسين، للمقرم: ص289 - 286، مقتل الحسين للخوارزمي: 2 / 6،
تاريخ ابن عساكر، ترجمة الإمام الحسين عليه السلام: 216، راجع إعلام الورى: 1 /
458.). كل ذلك وعمر بن سعد مُصرّ على قتال الحسين
عليه السلام، والإمام الحسين عليه السلام يحاور وينصح ويدفع القوم بالتي هي
أحسن. ولما لم يجد النصح مجدياً قال
لابن سعد: (أيْ عمر أتزعم أنك تقتلني ويوليك الدعيّ بلاد
الري وجرجان؟ والله لا تتهنّأ بذلك، عهد معهود،
فاصنع ما أنت صانع، فإنك لا تفرح بعدي بدنيا ولا آخرة، وكأني برأسك على قصبة
يتراماه الصبيان بالكوفة ويتخذونه غرضاً بينهم) فصرف ابن سعد وجهه عنه مغضباً(مقتل الحسين للمقرم: 289.). واستحوذَ الشيطان على ابن سعد فوضع
سهمه في كبد قوسه ثم رمى باتجاه معسكر الحسين عليه السلام وقال: (إشهدوا أني
أولُ مَنْ رمى) ثم ارتمى الناس وتبارزوا(الإرشاد: 2 / 101، اللهوف: 100، إعلام الورى: 1 / 461.). فخاطب الإمام عليه السلام أصحابه
قائلا: (قوموا رحمكم الله إلى الموت الذي لابد منه، فإن هذه السهام رسل القوم
إليكم)( مقتل الحسين للمقرم: 292.). فتوجهوا إلى القتال كالأُسود الضارية
لا يبالون بالموت مستبشرين بلقاء الله جَلَّ جلاله، وكأنهم رأوا منازلهم مع
النبيين والصديقين وعباده الصالحين، وكان لا يقتل منهم أحد حتى يقول: السلام
عليك يا أبا عبد الله ويوصي أصحابه بأن يفدوا الإمام بالمهج والأرواح، واحتدمت
المعركة بين الطرفين، (فكان لا يُقْتَلُ الرجل من أنصار الحسين عليه السلام حتى
يَقْتل العشرة والعشرين)( سيرة الأئمّة الاثني عشر: 2 / 76.). استمرت رحى الحرب تدور في
ساحة كربلاء، واستمر معه شلاّل الدم المقدس يجري ليتخذ طريقه عبر نهر الخلود،
وأصحابُ الحسين عليه السلام يتساقطون الواحد تلو الآخر، وقد أثخنوا جيش العدو
بالجراح وأرهقوه بالقتل، فتصايح رجال عمر بن سعد: لو استمرت الحرب برازاً بيننا
وبينهم لأتوا على آخِرنا. لنهجم عليهم مرة واحدة، ولنرشقهم بالنبال والحجارة. فبدأ الهجوم والزحف نحو من بقي مع الحسين
عليه السلام وأحاطوا بهم من جهات متعددة مستخدمين كل أدوات القتل وأساليبه
الدنيئة حتى قتلوا أكثر جنود المعسكر الحسيني من الصحابة. وزالت الشمس وحضر وقت الصلاة، وها هو الحسين
عليه السلام ينادي للصلاة وقد تحول الميدان عنده محراباً للجهاد والعبادة، ولم
يكن في مقدور السيوف والأسنّة أن تحول بينه وبين الحضور في ساحة المناجاة
والعروج إلى حظائر القدس وعوالم الجمال والجلال. ولم يزل يتقدّم رجل رجل من أصحابه
فيقتل، حتّى لم يبق مع الحسين عليه السلام
إِلاّ أهل بيته خاصّةً. فتقدّم ابنه عليّ بن الحسين عليه السلام - وأمه ليلى بنت أبي مرّة بن عروة بن
مسعود الثّقفيّ - وكان من أصبح النّاس وجهاً، فشدَّ على
النّاس وهو يقول:
تالله لا يحكم فينا ابن
الدَّعي ففعل ذلك مراراً وأهل الكوفة يتَّقون
قتله، فبصر به مرّة بن منقذ العبديّ فقال: عليَّ آثام العرب إن مرَّ بي يفعل مثل
ذلك إن لم اثكل أباه؛ فمرَّ يشدُّ على النّاس كما مرَّ في الأوّل، فاعترضه مرّة
بن منقذ فطعنه فصرع، واحتوشه القومُ فقطّعوه بأسيافهم، فجاء الحسين عليه
السلام حتّى وقف عليه فقال: (قتل الله قوماً قتلوك يا بنيَّ، ما
أجرأَهم على الرّحمن وعلى انتهاك حرمة الرّسول!) وانهملت عيناه بالدُّموع ثمّ
قال: (على الدُّنيا بعدك العفا) وخرجت زينب أخت الحسين مسرعةً تنادي: يا أُخيّاه
وابن أُخيّاه، وجاءت حتّى أكبّت عليه، فأخذ الحسينُ برأسها فردَّها إلى الفسطاط،
وأمر فتيانه فقال: (احملوا أخاكم) فحملوه حتّى وضعوه بين يدي الفسطاط الّذي
كانوا يقاتلون أمامه. ثمّ رمى رجلٌ من أصحاب عمر بن سعد يقال
له: عمرو بن صبيح عبد الله بن مسلم بن عقيل (رحمه الله) بسهم، فوضع عبد الله يده
على جبهته يتّقيه، فأصاب السّهم كفَّه ونفذ إلى جبهته فسمّرها به فلم يستطع
تحريكها، ثمّ انتحى عليه آخر برمحه فطعنه في قلبه فقتله. وحمل عبد الله بن قُطبة الطائي على عون
بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه فقتله. وحمل عامر بن نهشل التّيميّ على محمّد
بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه فقتله. وشدَّ عثمان بن خالد الهمدانيّ على عبد
الرّحمن بن عقيل بن أبي طالب رضي الله عنه فقتله. قال حميد بن مسلم: فإنّا لكذلك إذ خرج
علينا غلام كأنَّ وجهه شقَّة قمر، في يده سيف وعليه قميص وإزار ونعلان قد انقطع
شسع إحداهما، فقال لي عمر بن سعيد بن نفيل الأزديّ: والله لأشدَّنَّ عليه، فقلت:
سبحان الله، وما تريد بذلك؟! دعه يكفيكه هؤلاء القوم الّذين ما يبقون على أحد
منهم؛ فقال: والله لأشدَّنَّ عليه، فشدَّ عليه فما ولّى حتّى ضرب رأسه بالسّيف
ففلقه، ووقع الغلام لوجهه فقال: يا عمّاه! فجلى(جلّى ببصره: إذا رمى به كما ينظر الصقر إلى الصيد. ( الصحاح - جلا -
6: 2305 ).) الحسين
عليه السلام كما يجلي الصقر ثمّ
شدَّ شدّة ليث أغضب، فضرب عمر بن سعيد بن نفيل بالسّيف فاتّقاها بالسّاعد
فأطنَّها من لدن المرفق، فصاح صيحة سمعها أهل العسكر، ثمّ تنحّى عنه الحسين عليه
السلام. وحملت خيل الكوفة لتستنقذه فوطأته بأرجلها حتّى مات. وانجلت الغبرة فرأيت الحسين عليه
السلام قائماً على رأس الغلام وهو يفحص برجله والحسين يقول:
(بعداً لقوم قتلوك ومن خصمهم يوم القيامة فيك جدُّك) ثمّ قال: (عزَّ - والله -
على عمّك أن تدعوه فلا يجيبك، أو يجيبك فلا ينفعك، صوت - والله - كثرَ واتروه
وقلَّ ناصروه) ثمّ حمله على صدره، فكأنِّي أنظر إلى رجلي الغلام تخطّان الأرض،
فجاء به حتّى ألقاه مع ابنه عليِّ بن الحسين والقتلى من أهل بيته، فسألت عنه
فقيل لي: هو القاسم بن الحسن بن عليِّ بن أبي طالب عليهمالسلام. ثمّ جلس الحسين عليه
السلام أمام الفسطاط فأتي بابنه عبد الله بن الحسين وهو طفل
فأجلسه في حجره، فرماه رجل من بني أسد بسهم فذبحه، فتلقّى الحسين عليه
السلام دمه، فلمّا ملأ كفَّه صبَّه في الأرض ثمّ قال: (ربّ إن
تكن حبست عنّا النّصر من السّماء فاجعل ذلك لما هو خير، وانتقم لنا من هؤلاء
القوم الظّالمين) ثمّ حمله حتّى وضعه مع قتلى أهله. ورمى عبد الله بن عقبة الغنويّ أبا بكر
بن الحسن بن عليِّ بن أبي طالب عليهمالسلام
فقتله. فلمّا رأى العبّاس بن عليّ رحمة الله
عليه كثرة القتلى في أهله قال لإخوته من أمه - وهم عبد الله وجعفر وعثمان - يا
بني اُمِّي! تقدّموا حتّى أراكم قد نصحتم لله ولرسوله، فإنّه لا ولد لكم. فتقدّم
عبد الله فقاتل قتالاً شديداً، فاختلف هو وهانيء بن ثبيت الحضرميّ ضربتين فقتله
هانيء لعنه الله. وتقدّم بعده جعفر بن عليّ عليه
السلام فقتله أيضاً هانيء. وتعمّد خوليُّ بن يزيد الأصبحيّ عثمان
بن عليّ عليه السلام وقد قام
مقام إخوته فرماه بسهم فصرعه، وشدَّ عليه رجل من بني دارم فاحتزَّ رأسه. وحملت الجماعة على الحسين عليه
السلام فغلبوه على عسكره، واشتدَّ به العطش، فركب المسنّاة(المسناة: تراب عال يحجز بين النهر والأرض الزراعية. ( تاج العروس -
سنى - 10: 185 ).)
يريد الفرات وبين يديه العبّاس أخوه، فاعترضته خيل ابن سعد وفيهم رجل من بني
دارم فقال لهم: ويلكم حولوا بينه وبين الفرات ولا تمكِّنوه من الماء، فقال
الحسين عليه السلام: (اللّهمّ
أظمئه) فغضب الدّارميُّ ورماه بسهم فأثبته في حنكه، فانتزع الحسين عليه
السلام السّهم وبسط يده تحت حنكه فامتلأت راحتاه بالدَّم، فرمى
به ثمّ قال: (اللّهمَّ
إنِّي أشكو إليك ما يفعل بابن بنت نبيِّك) ثمّ رجع إلى مكانه وقد اشتدَّ به
العطش. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
استشهاد الإمام الحسين
عليه السلام
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
لم يبقَ مع الإمام الحسين عليه السلام
سوى أخيه العباس الذي تقدم إليه يطلب منه الإذن في قتال القوم فبكى الحسين
وعانقه ثم أذن له فكان يحمل على أهل الكوفة فينهزمون بين يديه كما تنهزم المعزى
من الذئاب الضارية وضجّ أهل الكوفة من كثرة من قتل منهم، ولما قتل قال الحسين عليه السلام: (الآن انكسر
ظهري وقلّت حيلتي وشمت بي عدوّي)( سيرة الأئمة الاثني عشر: 2 / 77، بحار الأنوار: 45 / 440، المنتخب
للطريحي: 431.). وفي رواية أخرى:
أن الإمام الحسين عليه السلام اتجه إلى نهر الفرات وبين يديه أخوه العباس
فاعترضته خيل ابن سعد (لعنه الله) وفيهم رجل من بني دارم فقال لهم: ويلكم حولوا
بينه وبين الفرات ولا تمكّنُوهُ من الماء، فقال الحسين عليه السلام: اللهم
أظمئه، فغضب الدارمي ورماه بسهم فأثبته في حنكه فانتزع الحسين عليه السلام
السهم و بسط يده تحت حنكه فامتلأت راحتاه من الدم فرمى به ثم قال: (اللهم إني
أشكو إليك ما يفعل بابن بنت نبيك)، ثم رجع إلى مكانه وقد اشتد به العطش وأحاط
القوم بالعبّاسعليه السلام فاقتطعوه
عنه فجعل يقاتلهم وحده حتى قتل رحمة الله عليه(الإرشاد: 2 / 109.). ونظر الحسين عليه السلام إلى ما حوله،
ومدّ ببصره إلى أقصى الميدان فلم ير أحداً من أصحابه وأهل بيته إلاّ وهو يسبح
بدم الشهادة، مقطّعَ الأوصال والأعضاء. وهكذا بقي الإمام عليه السلام وحده
يحمل سيف رسول الله صلىاللهعليه وآله و بين جنبيه قلب علي عليه
السلام وبيده راية الحق البيضاء، وعلى لسانه كلمة التقوى. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
الحسين عليه السلام
وحيداً في الميدان:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
حينما التفت أبو عبد الله الحسين عليه السلام
يميناً وشمالاً ولم ير أحداً يذبّ عن حرم رسول الله أخذ ينادي هل من ذابٍّ يذبّ
عنا؟ فخرج الإمام زين العابدينعليه السلام من
الفسطاط وكان مريضاً لا يقدر أن يحمل سيفه وأم كلثوم تنادي خلفه: يا بني ارجع.
فقال: (يا عمّتاه! ذريني أقاتل بين يدي ابن رسول الله صلىاللهعليه وآله). وإذا بالحسين عليه السلام ينادي: (يا
أم كلثوم! خذيه لئلاّ تبقى الأرض خالية من نسل آل محمدصلىاللهعليهوآله)( بحار الأنوار: 45 / 46.). ويقول المؤرخون:
إنه لما رجع الحسين عليه السلام من المسنّاة إلى فسطاطه تقدم إليه شمر بن ذي
الجوشن في جماعة من أصحابه، فأحاطوا به فأسرع منهم رجل يقال له مالك بن النسر
الكندي فشتم الحسين عليه السلام وضربه على رأسه بالسيف وكان عليه قلنسوة فقطعها
حتى وصل إلى رأسه فأدماه فامتلأت القلنسوة دما، فقال له الحسين عليه السلام:
(لا أكلت بيمينك ولا شربت بها وحشرك الله مع القوم الظالمين). ثم ألقى القلنسوة ودعا بخرقة فشدَّ بها
رأسَه واستدعى قلنْسوة أخرى فلبسها واعتمّ عليها، ورجع عنه شمر بن ذي الجوشن ومن
كان معه إلى مواضعهم، فمكث هنيئة ثم عاد وعادوا إليه وأحاطوا به)( الإرشاد: 2 / 110، إعلام الورى: 1 / 467.). حمل الإمام الحسين عليه السلام سيفه
وراح يرفع صوته على عادة الحروب ونظامها في البراز، وراح ينازل فرسانهم، ويواجه
ضرباتهم ببسالة نادرة وشجاعة فذّة، فما برز إليه خصم إلا وركع تحت سيفه ركوع
الذل والهزيمة. قال حميد بن مسلم:
فوالله ما رأيت مكثوراً قط قد قتل ولده وأهل بيته وأصحابه أربط جأشاً ولا أمضى
جناناً منه، أَن كانت الرجّالة لتشدّ عليه فيشدَّ عليها بسيفه فتنكشف عن شماله
انكشاف المعزى إذا شدّ فيها الذئب(الإرشاد: 2 / 111، إعلام الورى: 1 / 468.). ولمّا عجزوا عن مقاتلته، لجأوا إلى
أساليب الجبناء; فقد استدعى شمر الفرسان فصاروا في ظهور الرجّالة، وأمر الرماة
أنْ يرموه فرشقوه بالسهام حتى صار جسمُه كالقنفذ فأحجم عنهم، فوقفوا بإزائه
وخرجت أُخته زينب إلى باب الفسطاط فنادت عمر بن سعد بن أبي وقاص: ويلك يا عمر!
أيقتل أبو عبد الله وأنت تنظر إليه؟! فلم يجبها عمر بشيء، فنادت ويحكم! أما فيكم
مسلم؟ فلم يجبها أحد بشيء. ونادى شمر بن ذي الجوشن الفرسان والرجّالة فقال:
ويحكم! ما تنتظرون بالرجل؟ ثكلتكم أُمهاتكم، فحملوا عليه من كل جانب. فضربه زُرعة بن شريك على كتفه اليسرى
فقطعها، وضربه آخر منهم على عاتقه فكبا منها لوجهه، وطعنه سنان بن أنس النخعي
بالرمح فصرعه، وبدر إليه خُولى بن يزيد الأصبحي فنزل ليحتزّ رأسه فأرعد فقال له
شمر: فتَّ الله في عضدك، ما لك ترعد؟ ونزل شمر إليه فذبحه ثم رفع رأسه إلى خولى
بن يزيد فقال: إحمله إلى الأمير عمر بن سعد. ثم أقبلوا على سلب الحسين عليه السلام
فأخذ قميصه إسحاق بن حَيْوَة الحضرمي، وأخذ سراويله أبجر بن كعب، وأخذ عمامته
أخنس بن مرثد، وأخذ سيفه رجل من بني دارم، وانتهبوا رحله وإبله وأثقاله وسلبوا
نساءه(الإرشاد: 2 / 112، إعلام الورى: 1 / 469.). امتداد
الحمرة في السماء:
ومادت الأرض واسودَّتْ آفاق الكون
وامتدت حمرة رهيبة في السماء كانت نذيراً من الله لأولئك السفّاكين المجرمين
الذين انتهكوا جميع حُرُماتِ الله(راجع كشف الغمة: 2 / 9، سير أعلام النبلاء: 3 / 312، تاريخ الإسلام
للذهبي: 15، حوادث سنة 61، إعلام الورى: 1 / 429.). وصبغ فرس الحسين عليه السلام ناصيته
بدم الإمام الشهيد المظلوم وأقبل يركض مذعوراً نحو خيام الحسين عليه السلام
ليعلم العيال بمقتله واستشهاده، وقد صوّرت زيارة الناحية المقدّسة هذا المشهد المأساوي
كما يلي: (فلما نظرت النساء إلى الجواد مخزياً والسرج عليه ملوياً خرجن من
الخدور ناشرات الشعور، على الخدود لاطمات وللوجوه سافرات وبالعويل داعيات وبعد
العز مذَلَّلات وإلى مصرع الحسين مبادرات). ونادت عقيلة بني هاشم زينب
بنت عليّ بن أبي طالب عليه السلام وهي ثكلى: وا محمداه!
وا أبتاه! وا علياه! وا جعفراه! وا حمزتاه! هذا حسين بالعراء، صريع بكربلاء، ليت
السماء أطبقت على الأرض! وليت الجبال تدكدكت على السهل!!( مقتل الحسين للمقرم: 346.) حرق الخيام
وسلب حرائر النبوة:
وعمد المجرمون اللئام إلى حرق خيام
الإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام غير حافلين بمن في الخيام من بنات
الرسالة وعقائل النبوّة. قال الإمام زين العابدين عليه
السلام: (والله ما نظرت إلى عمّاتي وأخواتي إلاّ وخنقتني العبرة
وتذكّرت فرارهن يوم الطف من خيمة إلى خيمة ومن خباء إلى خباء، ومنادي القوم ينادي:
أحرقوا بيوت الظالمين!)( حياة الإمام الحسين عليه السلام، نقلاً عن تاريخ المظفري: 238.). وعمد أراذل جيش الكوفة إلى سلب حرائر
النبوة وعقائل الرسالة فنهبوا ما عليهن من حليّ وحلل، كما نهبوا ما في الخيام من
متاع. الخيل تدوس
الجثمان الطاهر:
لقد بانت خِسّة الأمويين لكل ذي عينين،
وعبّرت عن مسخ في الوجدان الذي كانوا يحملونه وماتت الإنسانية فتحولت الأجساد
المتحركة إلى وحوش دنيئة لا تملك ذرّة من رحمة ولا يزعها وازع من بقية ضمير
إنساني. فحين حاصرت جيوش الضلالة أهل بيت
النبوة عليهمالسلام في عرصات
كربلاء كتب ابن زياد إلى عمر بن سعد كتاباً وهو يبيّن له ما يستهدفه من نتيجة
للمعركة، وما تنطوي عليه نفسه الشريرة من حقد دفين على الرسالة والرسول صلىاللهعليهوآله،
وكل ما يمتّ إليهما بصلة أو قرابة، وقد جاء فيه ما يلي: أما بعد: فإني لم أبعثك إلى الحسين
لتكفّ عنه، ولا لتطاوله، ولا لتمنّيه السلامة والبقاء، ولا لتعقد له عندي
شافعاً، انظر فإن نزل حسين وأصحابه على الحكم واستسلموا فابعث بهم سلماً، وإن
أبوا فازحف إليهم حتى تقتلهم وتمثّل بهم فإنهم لذلك مستحقّون، فإن قتل الحسين
فأوطئ الخيل صدره وظهره، فإنه عاقّ مشاقّ قاطع ظلوم وليس في هذا أن يضر بعد
الموت شيئاً، ولكن علي قول، لو قد قتلته فعلت هذا به(تاريخ الطبري: 4 / 314، إعلام الورى: 1 / 453.). على أن ابن زياد كان من أعمدة الحكم
الأموي. ولا نعلم أوامر صدرت من أحد أفراده بحيث كانت ترعى حرمة أو تقديراً
لمقام ابن النبي صلىاللهعليه وآله الذي لم يكن خافياً على أحد من الأمويين. وهكذا انبرى ابن سعد بعد مقتل ريحانة
رسول الله صلىاللهعليهوآله
لينفّذ أوامر سيّده الحاقد ابن زياد، فنادى في أصحابه: من ينتدب للحسين فيوطئه
فرسه؟ فانتدب عشرة، فداسوا جسد الحسين عليه
السلام بخيولهم حتى رضّوا ظهره(إعلام الورى: 1 / 470، مقتل الحسين للخوارزمي: 2 / 39.). عقيلة بني
هاشم أمام الجثمان العظيم:
ووقفت حفيدة الرسول صلىاللهعليهوآله
وابنة أمير المؤمنين عليه السلام
العقيلة زينب عليهاالسلام على جثمان
أخيها العظيم، وهي تدعو قائلةً: (اللهم تقبّل هذا القربان)( حياة الإمام الحسين بن علي عليه السلام: 3 / 304.).
إنَّ الإنسانية لتنحني إجلالاً وخضوعاً أمام هذا الإيمان الذي هو السر الوحيد في
خلود تضحية الحسين عليه السلام وأصحابه رضوان الله تعالى عليهم أجمعين. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
الفصل
الثالث: نتائج الثورة الحسينية
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
انبعثت ثورة الإمام الحسين عليه
السلام من ضمير الأمة الحيّ ومن وحي الرسالة الإسلامية المقدسة
ومن البيت الذي انطلقت منه الدعوة الإسلامية للبشرية جمعاء، البيت الذي حمى
الرسالة والرسول ودافع عنهما، حتى استقام عمود الدين. وأحدثت هذه الثورة
المباركة في التأريخ الإنساني عاصفة تقوض الذل والاستسلام وتدك عروش الظالمين،
وأضحت مشعلاً ينير الدرب لكل المخلصين من أجل حياة حرّة كريمة في ظل طاعة الله
تعالى. ولا يمكن لأحد أن يغفل عما تركته هذه
الثورة من آثار في الأيام والسنوات التي تلتها رغم كل التشويه والتشويش الذي
يحاول أن يمنع من سطوع الحقيقة لناشدها. وبالإمكان أن نلحظ بوضوح آثاراً كثيرة
لهذه الثورة العظيمة عبر الأجيال وفي حياة الرسالة الإسلامية بالرغم من أنّا لا
نحيط علماً بجميعها طبعاً. وأهم تلك الآثار هي: |
|||||||||||||||||||||||||||
|
1 - فضح الأمويين وتحطيم الإطار الديني
المزيّف:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
بفعل ثورة الإمام الحسين عليه
السلام تكشفت للناس حقيقة النزعة الأُموية المتسلطة على الحكم،
ونسفت تضحيات الثائرين كل الأطر الدينية المزيّفة وهذا عمرو بن الحجاج الزبيدي - من قادة
الجيش الأموي - يحفّز الناس لمواجهة الإمام الحسين عليه
السلام حين وجد منهم تردّداً وتباطؤاً عن الأوامر قائلاً: يا أهل
الكوفة إلزموا طاعتكم وجماعتكم، ولا ترتابوا في قتل من مرق من الدين، وخالف
الإمام(المصدر السابق: 4 / 331.).
فالدين في دعوى الأمويين طاعة يزيد ومقاتلة الحسين عليه
السلام. ولكن حركة الإمام الحسين عليه
السلام ورفضه البيعة وتضحياته الجليلة نبّهت الأمة، وأوضحت لها
ما طُمس بفعل التضليل. فقد وقف الإمام الحسين عليه
السلام يخاطبهم ويوضّح مكانته في الرسالة والمجتمع الإسلامي:
أمّا بعد فانسبوني، فانظروا من أنا؟ ثم ارجعوا إلى أنفسكم فعاتبوها وانظروا هل
يصلح لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟ ألست ابن بنت نبيكم صلىاللهعليهوآله
وابن وصيه وابن عمه وأول المؤمنين بالله والمصدّق لرسوله بما جاء من عند ربه؟! هذا بالإضافة إلى كل الخطب والمحاورات
التي جرت في وضع متوتّر حسّاس أوضح للناس مكانة طرفي النزاع. ثم ما آلت إليه
نتيجة المعركة من بشاعة في السلوك والفكر فاتضحت خسّة الأمويين ودناءتهم ودجلهم. وكان الأثر البالغ في مواصلة الثورة
الحسينية بدون سلاح دمويّ حين واصلت العقيلة زينب بنت أمير المؤمنين عليه
السلام فضح الجرائم التي ارتكبها بنو أُمية ومن ثم توضيح رسالة
الإمام الحسين عليه السلام. إنّ جميع المسلمين متفقون - على اختلاف
مذاهبهم وآرائهم - بأن الموقف الحسيني كان يمثّل موقفاً إسلامياً شرعياً، وأن
يزيد كان مرتدّاً ومتمردّاً على الإسلام والشرع الإلهي والموازين الدينية. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
2 - إحياء الرسالة الإسلامية:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
لقد كان استشهاد الإمام الحسين عليه
السلام هزّة لضمير الأمة وعامل بعث لإرادتها المتخاذلة وعامل
انتباه مستمر للمنحدر الذي كانت تسير فيه بتوجيه من بني أُمية ومن سبقهم من
الحكّام الذين لم يحرصوا على وصول الإسلام نقيّاً إلى من يليهم من الأجيال. لقد استطاع سبط الرسول صلىاللهعليهوآله
أن يبيّن الموقف النظري والعملي الشرعي للأمة تجاه الانحراف الذي يصيبها حينما
يستبدّ بها الطغاة، فهل انتصر الحسين عليه
السلام في تحقيق هذا الهدف؟ لعلّنا نجد الجواب فيما قاله الإمام
زين العابدينعليه السلام حينما سأله
إبراهيم بن طلحة بن عبد الله قائلاً: من الغالب؟ قال عليه
السلام: (إذا دخل وقت الصلاة فأذّن وأقم تعرف الغالب)( حياة الإمام الحسين بن علي عليهماالسلام: 3 / 440 عن أمالي الشيخ الطوسي.). لقد كان الحسين عليه
السلام هو الغالب إذ تحقق أحد أهم أهدافه السامية بعد محاولات
الجاهلية لإماتته وإخراجه من معترك الحياة. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
3 - الشعور بالإثم وشيوع النقمة على
الأمويين:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
اشتعلت شرارة الشعور بالإثم في نفوس
الناس، وكان يزيدها توهجاً واشتعالاً خطابات الإمام عليّ بن الحسين عليهماالسلام
وزينب بنت عليّ بن أبي طالب وبقية أفراد عائلة النبيّ صلىاللهعليهوآله
التي ساقها الطغاة الأمويون كسبايا من كربلاء إلى الكوفة فالشام. فقد وقفت زينب عليهاالسلام
في أهل الكوفة حين احتشدوا يحدّقون في موكب رؤوس الشهداء والسبايا، ويبكون ندماً
على ما فرّطوا وما حصل لآل النبيّ صلىاللهعليهوآله
فأشارت إليهم أن اسكتوا فسكتوا فقالت: أما بعد: يا أهل الكوفة أتبكون؟ فلا سكنت العبرة
ولا هدأت الرّنة، إنما مثلكم مثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً، تتخذون
أيمانكم دخلاً بينكم ألا ساء ما تزرون، أي والله، فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً،
فلقد ذهبتم بعارها وشنارها فلن ترحضوها بغسل أبداً، وكيف ترحضون قتل سبط خاتم
النبوة، ومعدن الرسالة ومدار حجّتكم، ومنار محجّتكم، وهو سيد شباب أهل الجنّة؟). وتكلم عليّ بن الحسين عليهماالسلام
فقال: أيها الناس! ناشدتكم الله، هل تعلمون
أنكم كتبتم إلى أبي وخدعتموه، وأعطيتموه من أنفسكم العهد والميثاق والبيعة
وقاتلتموه؟ فتباً لكم لما قدمتم لأنفسكم وسوأة لرأيكم، بأي عين تنظرون إلى رسول
الله إذ يقول لكم: قتلتم عترتي، وانتهكتم حرمتي؟ فلستم من أمتي(حياة الإمام الحسين بن علي عليهماالسلام: 3 / 341 عن مثير الأحزان.). وروي أيضاً أن يزيد بن معاوية فرح
فرحاً شديداً وأكرم عبيد الله بن زياد ولكن ما لبث أن ندم ووقع الخلاف بينه وبين
ابن زياد حين علم بحال الناس وسخطهم عليه، ولعنهم وسبّهم(تأريخ الطبري: 4 / 388، تأريخ الخلفاء: 208.). ولقد كان الشعور بالإثم يمثّل موقفاً
عاطفياً مفعماً بالحرارة والحيوية والرغبة الشديدة بالانتقام من الحكم الأموي،
مما دفع بالكثير في الجماعات الإسلامية إلى العمل للتكفير عن موقفهم المتخاذل عن
نصرة الإمام الحسين عليه السلام
بصيغة ثورة مسلحة لمواجهة الحكم الأموي الظالم. صحيح أنه لا يمكننا أن نعتبر موقف
المسلمين هذا موقفاً عقلياً نابعاً من إدراك فساد الحكم الأموي وبعده عن الرسالة
الإسلامية إلاّ أنه كان موقفاً صادقاً يصعب على الحاكمين السيطرة عليه كالسيطرة
على الموقف العقلاني، فكان الحكام الظلمة وعبر مسيرة العداء لأهل البيت النبويعليهمالسلام
يحسبون له ألف حساب. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
4 - إحياء إرادة الأمة وروح الجهاد فيها
:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
للمزيد من التفصيل راجع ثورة
الحسين (النظرية، الموقف، النتائج ) للسيّد محمد باقر الحكيم:100. كانت ثورة الإمام الحسين عليه
السلام السبب في إحياء الإرادة لدى الجماهير المسلمة وانبعاث
الروح النضالية، وهزّة قوية في ضمير الإنسان المسلم الذي ركن إلى الخنوع
والتسليم، عاجزاً عن مواجهة ذاته ومواجهة الحاكم الظالم الذي يعبث بالأمة كيف
يشاء، مؤطّراً تحركه بغطاء ديني يحوكه بالدجل والنفاق، وبأيدي وعاظ السلاطين
أحياناً وأخرى بحذقه ومهارته في المكر والحيلة. فتعلم الإنسان المسلم من ثورة الحسين عليه
السلام أن لا يستسلم ولا يساوم، وأن يصرخ معبّراً عن رأيه ورغبته
في حياة أفضل في ظل حكم يتمتع بالشرعية أو على الأقل برضا الجماهير. ونجد انطلاقات عديدة لثورات على الحكم
الأموي وإن لم يُكتب لها النجاح; إلاّ أنها توالت حتى سقط النظام. ورغم أن
أهدافها كانت متفاوته إلاّ أنها كانت تستلهم من معين ثورة الحسين عليه
السلام أو تستعين بالظرف الذي خلقته. فمن ذلك ثورة التوابين(تاريخ الطبري: 4 / 426، 449.)
التي كانت ردّة فعل مباشرة للثورة الحسينية، وثورة المدينة(المصدر السابق: 4 / 464.)،
وثورة المختار الثقفي(المصدر السابق: 4 / 487.)
الذي تمكن من محاكمة المشاركين في قتل الحسين عليه السلام ومجازاتهم بأفعالهم
الشنيعة وجرائمهم الفضيعة، ثم ثورة مطرف بن المغيرة، وثورة ابن الأشعث، وثورة
زيد بن عليّ ابن الحسين عليهماالسلام(مقاتل الطالبيين: 135.)
وثورة أبي السرايا(المصدر السابق: 523.). لقد أحيت الثورة الحسينية روح الجهاد
وأجّجتها، وبقي النبض الثائر في الأمة حيّاً رغم توالي الفشل اللاحق ببعض تلكم
الثورات. إلاّ أن الأمة الإسلامية أثبتت حيويّتها وتخلّصت من المسخ الذي كاد أن
يطيح بها بأيدي الأمويين أسلافهم. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
الفصل
الرابع: من تراث الإمام الحسين عليه السلام
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
نظرة عامّة في تراث
الإمام الحسين عليه
السلام:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهماالسلام
قائد مبدئي وأحد أعلام الهداية الربّانية الذين اختارهم الله لحفظ دينه وشريعته،
وجعلهم أمناء على تطبيقها، وطهّرهم من كل رجس ليصونوها من أي تحريف أو تحوير. إن المحنة التي عاشها الأئمّة الثلاثة
عليّ والحسن والحسين عليهمالسلام
كانت أكبر محنة للعقيدة والأُمّة; لأنّها قد بدأت بانحراف القيادة عن خط
الرسالة; ولكنها لم تقتصر على الانحراف عن المبدأ الشرعي في ممارسة الحكم فحسب;
وإنما كانت تمتد أبعادها إلى أعماق الأُمة والشريعة. إن هذا الانحراف الخطير قد زاد في
عزيمة هؤلاء الأئمّة الهداة، ممّا جعلهم يهتمون بإحكام قواعد الشريعة في الأمة
وتعليمها وتربيتها بما يحول دون تسرّب الانحراف إليها بسرعة، وبما يحول دون
تفتيتها وتمزيق قواها. ومن هنا كانت تربية الجماعة الصالحة والسهر على تنشئتها
والاهتمام بقضاياها أمراً في غاية الأهمّية، ويظهر للمتتبع والمحقّق عظمة ذلك
فيما لو أراد أن يقارن بين مواقف المسلمين تجاه أهل بيت الرسول صلىاللهعليهوآله
خلال ومن هنا كان التراث الذي تركه لنا كل
من الإمام المرتضى والحسن المجتبى والحسين الشهيد بكربلاء تراثاً عظيماً ومهمّاً
جدّاً. حيث نلمس الغناء في هذه الثروة الفكرية والعلمية التي وصلتنا عنهمعليهمالسلام.
وللمتتبع أن يراجع موسوعة كلمات الإمام الحسين عليه
السلام ووثائق الثورة الحسينية، وبلاغة الحسين ومجموعة خطبه
ورسائله; ليقف على عظمة هذه الثروة الكبرى وقفة متأمل ومستفيد. وها نحن نستعرض صوراً من اهتمامات هذا الإمام العظيم فيما يلي من
بحوث:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
في رحاب العقل والعلم
والمعرفة:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
قال عليه السلام: 1 - خمس من لم تكن فيه لم يكن فيه كثير
مستمتع: العقل والدين والأدب والحياء وحسن الخلق(موسوعة كلمات الإمام الحسين: 743 عن حياة الإمام الحسين: 1 / 181.). 2 - وسُئل عن أشرف الناس، فقال: من
اتّعظ قبل أن يوعَظ واستيقظ قبل أن يوقظ(المصدر السابق: 743 عن إحقاق الحق: 11 / 590.). 3 - وقال عليه
السلام: لا يكملُ العقلُ إلاّ باتّباع الحق(المصدر السابق: 742 عن اعلام الدين: 298. وورد هذا النص عن الإمام علي
عليه السلام أيضاً.). 4 - العاقل لا يحدِّث من يخاف تكذيبَه،
ولا يَسأل من يخاف منعَه ولا يثِقُ بمن يخافُ غدرَه، ولا يرجو مَن لا يوثقُ برجائه(المصدر السابق: 742 عن حياة الإمام الحسين عليه السلام: 1/181.). 5 - العلم لقاحُ المعرفة، وطول التجارب
زيادةٌ في العقل، والشرف التقوى، والقنوعُ راحةُ الأبدان، ومن أحبَّكَ نهاكَ ومن
أبغضك أغراك(موسوعة كلمات الإمام الحسين عليه السلام: 742 و 743 عن بحار الأنوار: 78 / 128،
الحديث 11.). 6 - من دلائل العالم انتقادُه لحديثهِ
وعلمه بحقائق فنونِ النظر(المصدر السابق.). 7 - لو أنّ العالِمَ كلّ ما قال
أحْسَنَ وأصابَ لاَوْشَكَ أن يجنّ من العُجْبِ، وإنّما العالِمُ مَن يكثرُ
صَوابُه. 8 - وفي دعاء عرفةَ للإمام الحسين عليه
السلام مقاطع بديعة ترتبط بالمعرفة البشرية وسُبُل تحصيلها وقيمة
كل سبيل وما ينبغي للعاقل أن يسلكه من السبل الصحيحة والموصلة إلى المقصود، نختار منها نماذج ذات علاقة ببحثنا هذا: قال عليه السلام: أ - إلهي
أنا الفقير في غناي فكيف لا أكون فقيراً في فقري؟ إلهي أنا الجاهل في علمي فكيف
لا أكون جهولاً في جهلي؟.... ب - إلهي
علمتُ باختلاف الآثار وتنقّلات الأطوار أنّ مرادك منّي أن تتعرّف إليَّ في كل
شيء حتى لا أجهلك في شيء.... ج - إلهي
تردّدي في الآثار يوجب بُعد المزار فَاجمعني عليك بحذمة توصلني إليك، كيف
يُستَدلّ عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك؟ أيكونُ لغيرك من الظهور ما ليس لك
حتى يكونَ هو المظهِرَ لك؟! متى غبتَ حتى تحتاج إلى دليل يدلّ عليك؟!. ومتى
بَعُدْتَ حتّى تكونَ الآثار هي التي توصل إليك؟ عميت عين لا تراك عليها رقيباً،
وخسرت صفقة عبد لم تجعل له من حبّك نصيباً. د -
إلهي أمرتَ بالرجوع إلى الآثار فأرجعني إليك بكسوةِ الأنوار وهداية الاستبصار
حتى أرجعَ إليك منها كما دخلتُ إليك منها مَصونَ السرِّ عن النظرِ إلَيْها
ومرفوع الهمّة عن الاعتمادِ عليها. هـ -
منك أطلُبُ الوصول إليك وبك استدلُّ عليك فاهدني بنورك إليك وأقمني بصدْق
العبودّية بين يديك. و -
إلهي علّمني من علمك المخزون وصُنّي بستْرك المصون. إلهي حققّني بحقايق أهلِ
القُرب.... ز -
إلهي أخرِجني من ذُلِّ نفسي وطهّرني مِن شكّي وشركي قبل حلول رمسي. ح -
إلهي إنّ القضاء والقدر يُمنيّني، وإنّ الهوى بوثائق الشهوة اسرني، فكن أنت
النصير لي حتَى تنصرني وتبصرني. ط -
أنتَ الذي أشرقت الأنوار في قلوب أوْليائك حتى عرفوك ووحَّدوك، وأنت الذي أزلت
الأغيار عن قلوب أحبّائك حتّى لم يحبّوا سِواك ولم يلجأوا إلى غيرك، أنت المُؤنس
لهم حيث أوحشتهم العوالم، وأنت الذي هديتهم حيث استبانت لهم المعالم. ماذا وجد
من فقدكَ؟! وما الذي فقد من وجدك؟!. ي -
أنت الذي لا إله غيرك، تعرفت لكلّ شيء فما جهلك شيءٌ، وأنت الذي تعرّفت إليَّ في
كلّ شيء فرأيْتُك ظاهراً في كل شيء... كيف تخفى وأنت الظاهرُ؟ أم كيف تغيبُ وأنت
الرقيبُ الحاضِرُ؟!( موسوعة كلمات الإمام الحسين: 803 - 806 عن إقبال الأعمال: 339.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
في رحاب القرآن
الكريم:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
لقد اعتنى أهل البيت الطاهرون بالقرآن
الكريم اعتناء وافراً فعكفوا على تعليمه وتفسيره وفقه آياته وتطبيقه وصيانته عن
أيدي العابثين والمحرّفين، وتجلّت عنايتهم به في سلوكهم وهديهم وكلامهم. وقد أثرت عن الإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام كلمات جليلة حول التفسير والتأويل
والتطبيق، وهي جديرة بالمطالعة والتأمل نختار نماذج منها: أ -
قال عليه السلام: (كتاب
الله عَزَّ وجَلَّ على أربعة أشياء: على العبارة والإشارة واللطائف والحقائق،
فالعبارةُ للعوام، والإشارة للخواص واللطائفُ للأولياء، والحقائق للأنبياء)( موسوعة كلمات الإمام الحسين: 551 عن جامع الأخبار: 48.). ب -
(من قرأ آيةً من كتاب الله في صلاته قائماً يُكتَب له بكل حرف مِئةُ حَسَنَة،
فإن قَرَأها في غير صلاة كتب اللهُ له بكل حرف عَشْراً، فإن استمَعَ القرآنَ كان
له بكل حرف حَسَنةٌ، وإن خَتَمَ القرآنَ ليلاً صلّت عليه الملائكة حتى يُصبِحَ،
وإن ختَمَه نهاراً صلّت عليه الحفَظَةُ حتى يُمسيَ. وكانت له دعوةٌ مستجابَةٌ
وكان خيراً له ممّا بين السماءِ والأرضِ)( المصدر السابق: 551، عن الكافي: 2 / 611، الحديث 3.). ج -
وعنه عليه السلام في تفسير
قوله تعالى: (تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ) يعني بها
(أرض لم تكتسب عليها الذنوب، بارزة ليست عليها جبال ولا نبات كما دحاها أوّل
مرة)( المصدر السابق: 560 عن تفسير البرهان: 2 / 323.). د -
وسأله رجل عن معنى (كهيعص) فقال له: لو
فسّرتُها لك لمشيت على الماء(المصدر السابق: 561 عن ينابيع المودّة: 484.). هـ -
وقال النصرُ بن مالك له: يا أبا عبد الله حَدِّثني عن قول الله عزَّ وجَلَّ: (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ)، قال: (نحن
وبنو أمية اختصمنا في الله عَزَّ وجَلَّ، قلنا صدق الله، وقالوا: كذب اللهُ،
فنحن وإيّاهم الخصمان يوم القيامة)( المصدر السابق: 563 عن حياة الحسين: 2 / 234.). و -
وفي قوله تعالى: (الَّذِينَ
إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ) قال عليه
السلام: (هذه فينا أهل البيت)( المصدر السابق: 564 عن بحار الأنوار: 24 / 166.). ز -
في قوله تعالى: (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا
الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) قال عليه السلام:
(إن القرابة الّتي أمَرَ اللهُ بصلتها وعظم حقّها وجعل الخير فيها قرابتنا أهل
البيت الذين أوجب حقَّنا على كلّ مسلم)( موسوعة كلمات الإمام الحسين: 565 عن بحار الأنوار: 23 / 251 الحديث
37.). ح -
وفسّر النعمة في قوله تعالى: (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) (بما أنعم
الله على النبيّ صلىاللهعليهوآله
من دينهِ)( المصدر السابق: 567 عن المحاسن: 1 / 344 الحديث 11.). ط -
وفسّر الصَمَد بقوله: إنّ الله قد فَسَّرَهُ بقوله: (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ
كُفُواً أَحَدٌ)( المصدر السابق: 568 عن التوحيد: 90 الحديث 5 ثم نقل تفسيرها بشكل
تفصيلي فراجع.). ي -
وقال: (الصمد: الذي لا جوف له، والصمد: الذي قد انتهى سؤدده، والصمد: الذي لا
يأكل ولا يشرب. والصمد: الذي لا ينام، والصمد: الدائم الذي لم يزل ولا يزال)( المصدر السابق: 569 عن معادن الحكمة: 2 / 51.). ك -
وروي أن عبد الرحمن السلمي علّم ولد الحسين عليه
السلام سورة الحمد، فلمّا قرأها على أبيه أعطاه عليه
السلام ألف دينار وألف حُلّة وحشا فاه دُرّاً، فقيل له في ذلك،
فقال عليه السلام: وأين يقع
هذا من عطائه؟ يعني بذلك تعليمه القرآن(المصدر السابق: 827 عن بحار الأنوار: 44 / 191.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
في رحاب السُنّة
النبويّة المباركة:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
لقد عاصر الحسين جدّه رسول الله صلىاللهعليهوآله
وعاش في كنف الوحي والرسالة وارتضع من ثدي الإيمان، فحمل هموم الرسالة الخاتمة
كأمه وأبيه وأخيه، وعلم أن سنة الرسول وسيرته هي المصدر الثاني للإشعاع الرسالي،
وأيقن بضرورة الاهتمام بهما وضرورة الوقوف أمام مؤامرات التحريف والتضييع، ومنع
التدوين التي تزعّمها جملة من كبار الصحابة وكيف واجهوا جدّه بكل صلف، حذراً من
انكشاف الحقائق التي تحول دون وصولهم للسلطة أو تعكّر عليهم صفوها. ومن هنا نجد الحسين عليه
السلام يقف بكل شجاعة أمام هذا التآمر على الدين، ويضحّي بأغلى
ما لديه من أجل إحياء شريعة جدّه سيد المرسلين، محقّقاً شهادة جدّه الخالدة في
حقّه: (حسين منّي وأنا من حسين)، (ألا وإن الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة). وهكذا نجد في تراثه الرائع اعتناءه
البليغ بنقل السيرة النبوية الشريفة، والتحديث بسنّته والعمل بها وإحيائها، ولو
بلغ مستوى الثورة على من يتسلّح بها لمسخها وتشويهها. قال صلوات الله عليه: 1 - (كان رسول الله صلىاللهعليهوآله
أحسن ما خلق اللهُ خلْقاً)( موسوعة كلمات الإمام الحسين: 571، عن كنز العمّال: 7 / 217.). 2 - وروى الحسين عليه
السلام - كأخيه الحسن وصفاً دقيقاً للرسولصلىاللهعليهوآله
وهديه في سيرته مع نفسه وأهل بيته وأصحابه ومجلسه وجلسائه، أخذاه من أبيهما علي
عليه السلام وهو الذي ربّاه الرسول صلى اللهعليه وآله منذ نعومة أظفاره حتى
التحاقه بالرفيق الأعلى. ونشير إلى مقطع من هذه السيرة. قال الحسين عليه
السلام فسألته عن سكوت رسول الله صلىاللهعليهوآله،
فقال: (كان سكوته على أربع: على الحلم والحذر
والتقدير والتفكّر. فأما التقدير ففي تسوية النظر والاستماع بين الناس، وأمّا
تفكّره ففيما يبقى أو يفنى. وجمع له الحلم في الصبر، فكان لا يغضبه شيء ولا
يستفزّه، وجُمع له الحذر في أربع: أخذه بالحَسَن ليُقتدى به، وتركه القبيح
ليُنتهى عنه، واجتهاده الرأي في صلاح أمته، والقيام في ما جُمع له من خير الدنيا
والآخرة)( موسوعة كلمات الإمام الحسين عليه السلام: 571 - 575 عن مجمع الزوائد: 8 / 274
ومعاني الأخبار: 79.). 3 - وروى أيضاً أن رسول الله صلىاللهعليهوآله
أصبح وهو مهموم، فقيل له: ما لَكَ يا رسول الله؟ فقال: (إني رأيت في المنام كأنّ
بني أُمية يتعاورون منبري هذا). فقيل: يا رسول الله! لا تهتم فإنها دُنيا
تنالهُمُ، فأنزل الله: (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ...)( المصدر السابق: 575 عن الغدير: 8 / 248.). 4 - وروى أيضاً أن النبيّ صلىاللهعليهوآله
كان إذا أكل طعاماً يقول: (اللهم بارك لنا فيه، وارزقنا خيراً منه)، وإذا أكل
لَبَناً أو شَرِبَه يقول: (اللهم بارك لنا فيه وارزقنا منه)( المصدر السابق: 578 عن عيون أخبار الرضا: 2 / 42.).
وكان يرفع يديه إذا ابتهل ودعا يفصل بينهما كما يَستَطْعِمُ المسكينُ(المصدر السابق: عن بحار الأنوار: 16 / 287.). 5 - وسُئل عن الأذان وما يقول الناس
فيه، قال: (الوحي ينزل على نبيّكم، وتزعمون أنّه أخَذَ الأذانَ عن عبد الله بن
زيد؟! بل سمعت أبي عليّ بن أبي طالب عليه السلام يقول: أهبَطَ الله عَزَّ
وجَلََّ ملكاً حين عُرِج برسول الله صلىاللهعليه وآله فأذّن مثنى مثنى،
وأقامَ مثنى مثنى، ثم قال له جبرئيل: يا محمّد هكذا أذان الصلاة)( المصدر السابق: 683 عن مستدرك الوسائل: 4 / 17.). 6 - وروى أن رسول الله صلىاللهعليهوآله
بعث مع عليّ عليه السلام ثلاثين فرساً في غزاة السلاسل فقال: (يا عليّ أتلو
عليك آيةً في نفقة الخيل): (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاًوَعَلَانِيَةً) يا علي هي
النفقة على الخيل ينفق الرجلُ سّراً وعلانيةً)( موسوعة كلمات الإمام الحسين عليه السلام: 710 عن مستدرك الوسائل: 8 / 203.). وقد نقل عليه
السلام حوادث عصر الرسول صلىاللهعليهوآله
ممّا رآه مباشرة أو سمعه عن أمه أو أبيه وهما المعصومان من الزلل والمعتمدان في
النقل(راجع موسوعة كلمات الإمام الحسين وتتبع ما نقله عن رسول الله صلىاللهعليهوآله.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
في رحاب أهل البيت عليهم السلام:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
لقد دلّ حديث الثقلين - المتواتر
والمقبول لدى عامة المسلمين - على أن خلود الإسلام رهن الأخذ بركنين مُتلازمين
وهما: القرآن الكريم وعترة النبيّ المختار صلوات الله عليهم أجمعين فإنّهما لن
يفترقا حتى يردا الحوض على النبيّ صلىاللهعليهوآله.
فلا بد للمسلمين من التمسّك بهما ليصونوا أنفسهم عن الضلال في كل عصر وزمان. ومن هنا جهد أعداء الإسلام القدامى على
التفريق بين هذين الركنين; تارةً بدعوى تحريف القرآن لفظاً أو معنىً، وأخرى
بالمنع عن تفسيره أو تطبيقه، وثالثةً بانتقاص العترة، ورابعةً بعزلهم عن ممارسة
دورهم السياسي والاجتماعي التثقيفي، وخامسةً بطرح البديل عنهم ورفع شعار
الاستغناء عنهم وعن علمهم ودرايتهم. والأئمّة المعصومون المأمونون - على
سلامة الرسالة الإسلامية بنص من الوحي الإلهي - كثّفوا جهودهم وركّزوا جهادهم
على صيانة هذين الأساسين من أيدي العابثين وان كلّفهم ذلك أنفسهم وأموالهم، بل
كل ما يملكون تقديمه فداءً للرسالة المحمّدية. ونشير إلى جملة من النصوص
المأثورة عن الحسين بن علي عليهماالسلام في هذا الصدد: 1 - لما قضى رسول الله صلىاللهعليهوآله
مناسكه من حجة الوداع ركب راحلته وأنشأ يقول: لا يدخل الجنّة إلاّ من كان
مُسلماً. فقام إليه أبو ذرّ الغفاري(رحمه الله) فقال: يا رسول الله: وما
الإسلام؟ فقال صلىاللهعليهوآله:
الإسلام عريان ولباسه التقوى وزينته الحياء وملاكه الورع، وكماله الدين، وثمرته
العمل، ولكلّ شيء أساس وأساس الإسلام حبنّا أهل البيت(موسوعة كلمات الإمام الحسين: 582 عن أمالي الطوسي: 1 / 82.). 2 - وجاء عنه عليه
السلام أنه قال: (من أحبّنا كان منّا أهل البيت). واستدلّ على
ذلك بقوله تعالى تقريراً لقول العبد الصالح: (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي)( المصدر السابق: 582 عن نزهة الناظر وتنبيه الخاطر: 85.).
وواضح أنّ من أحبّهم فسوف يتّبعهم ومن تبعهم كان منهم. 3 - وقال عليه
السلام: (أحِبّونا حُبَّ الإسلام فإنّ رسول الله صلىاللهعليه
وآله قال: لا ترفعوني فوق حقّي; فإن الله تعالى اتخّذني عبداً قبل أن يتخّذني
رسولاً)( المصدر السابق: عن مجمع الزوائد: 9 / 21.). 4 - وقال عليه
السلام: (ما كُنّا نعرفُ المنافقين على عهد رسول الله صلىاللهعليهوآله
إلاّ ببغضهم عليّاً وولده عليهمالسلام)( المصدر السابق: 585 عن عيون أخبار الرضا عليه السلام: 2 / 72.). 5 - وروي أنّ المنذر بن الجارود مرّ بالحسين
عليه السلام فقال: كيف أصبحت جعلني الله فداك - ياابن رسول الله؟ فقال عليه
السلام: (أصبَحَتْ العربُ تعتدّ على العَجَم بأنّ محمّداً منها،
وأصَبَحَتْ العَجَمُ مُقِرَّةً لها بذلك، وأصبَحْنا وأصبَحَتْ قريشٌ يعرفون
فضلَنا ولا يَرَوْنَ ذلكَ لنا، ومن البلاء على هذِهِ الأمةِ أنّا إذا دعوناهُم
لم يُجيبونا وإذا تركناهم لم يهتدوا بغيرِنا)( المصدر السابق: 586 عن نزهة الناظر: 85.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
بشائر الحسين عليه السلام
بالمهدي عليه السلام
ودولته:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
تراكمت البشائر النبويّة حول غيبة
الإمام المهدي المنتظر وظهوره وخصائص دولته وأوصافه ونسبه الشريف، كما توضح
الصحاح والمسانيد هذه الحقيقة في أبواب الملاحم والفتن وأشراط الساعة وغيرها. واعتنى الأئمة من أهل البيت عليهمالسلام
بهذه القضية اعتناء لا يقل عن عناية الرسول الخاتم صلىاللهعليهوآله
واستمراراً للخط الذي اختطّه والمنهج الذي سلكه في التمهيد لدولة الحق التي
تتكفل تحقيق آمال الأنبياء والأوصياء جميعاً وعلى مدى التاريخ. وقد كثرت النصوص الواصلة
إلينا عن أبي الأئمّة التسعة من ولد الحسين عليه السلام. فروى عن جدّه رسول الله صلىاللهعليه
وآله وعن أبيه أمير المؤمنين عليه السلام مجموعة فريدة من التصريحات المهمّة
بشأن المهدي عليه السلام
نختار نماذج منها: 1 - قال عليه
السلام: دخلت على جدّي رسول الله صلىاللهعليهوآله
فأجلسني على فخذه وقال لي: إنّ الله اختار من صُلبك يا حسين تسعة أئمة تاسعهم
قائمهم، وكلّهم في الفضل والمنزلة عند الله سواء(موسوعة كلمات الإمام الحسين: 659 عن ينابيع المودّة: 590.). 2 - وسأله شعيب بن أبي حمزة قائلاً:
أنت صاحبُ هذا الأمر؟ فأجابه: لا، فقال له: فمن هو؟ فأجاب عليه
السلام: (الذي يملؤها عدلاً كما مُلئِت جَوْراً، على فترة من
الأئمّة تأتي، كما أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله
بُعِث على فترة من الرسل)( المصدر السابق: 660 عن عقد الدرر: 158.). 3 - وقال عليه
السلام: لصاحب هذا الأمر غيبتان إحداهما تطول حتى يقول بعضهم: مات وبعضهم: قتِل، وبعضهم: ذهب، ولا
يطّلعُ على موضعه أحدٌ مِن وليّ ولا غيرهِ إلاّ المولى الذي يلي أمره(موسوعة كلمات الإمام الحسين: عن عقد الدرر: 134.). 4 - وقال عليه
السلام: لو لم يبق من الدنيا إلاّ يوم واحد لطوَّلَ الله عَزَّ
وجَلَّ ذلك اليوم حتى يخرجَ رجلٌ من ولدي فيملأها عدلاً وقسطاً كما مُلئِت جوراً
وظُلماً، كذلك سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآله
يقول(المصدر السابق: 661 عن كمال الدين: 317.). 5 - وقال عليه
السلام: للمهدي خمسُ علامات: السفياني واليماني والصيحةُ من
السماء والخسفُ بالبيداء وقتل النفسِ الزكيّة(المصدر السابق: 662 عن عقد الدرر: 111.). 6 - وقال عليه
السلام أيضاً: (لو قام المهديّ لأنكره الناس; لأنّه يرجع إليهم
شابّاً موفّقاً، وإنّ من أعظم البليّة أن يخرج اليهم صاحبُهم شابّاً وهم
يحسبونَه شيخاً كبيراً)( المصدر السابق: 665 عن عقد الدرر: 41.). 7 - وقال عليه
السلام: (في التاسع من ولدي سُنّة من يوسف وسنّة من موسى بن
عمران عليه السلام وهو قائمنا
أهل البيت، يُصلح الله تبارك وتعالى أمرَه في ليلة واحدة)( المصدر السابق عن كمال الدين: 317.). 8 - وقال عليه
السلام: (إذا خرج المهدي عليه
السلام لم يكن بينه وبين العرب وقريش إلاّ السيف، وما يستعجلون
بخروج المهديّ؟ والله ما لباسُه إلاّ الغليظُ ولا طعامه إلاّ الشعيرُ، وما هو
إلاّ السيفُ، والموتُ تحت ظِلِّ السَيْفِ)( المصدر السابق: 663 عن عقد الدرر: 228.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
في رحاب العقيدة
والكلام:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
ونختار من هذه البحوث نماذج
ممّا وصلنا عن أبي الشهداء الحسين بن عليّ عليهماالسلام. 1 - ومما قاله عن توحيد الله
سبحانه:... ولا يقدّر الواصِفون كنه عظمته، ولا يخطر على القلوبِ مبلَغَ جبروته;
لأنه ليس له في الأشياء عديل، ولا تدركه العلماء بألبابها ولا أهل التفكير
بتفكيرهم إلاّ بالتحقيق إيقاناً بالغيبِ; لأنه لا يوصَفُ بشيء من صفات المخلوقين
وهو الواحد الصمدُ، ما تُصُوِّر في الأوهامِ فَهُوَ خلافُه... يوجِدُ المفقودَ
ويُفقِدُ الموْجُودَ، ولا تجتمع لغيره الصفتانِ في وقت، يصيب الفكرُ منه
الإيمانَ به موجوداً، ووجودَ الإيمانِ لا وجودَ صِفَة، به توصف الصفاتُ لا بها
يوصَفُ، وبه تُعرَفُ المعارِفُ لا بها يُعرَف، فذلك الله، لا سَميَّ لَهُ، سبحانه
ليس كمثلِهِ شيء، وهو السميعُ البصيرُ(موسوعة كلمة الإمام الحسين: 530 عن تحف العقول: 173.). ومما قاله أيضاً لابن الأزرق: أصف إلهي
بما وصف به نفسَه وأُعرِّفُه بما عرّف به نفسَه، (لا يُدْرَك بالحواس ولا يُقاس
بالناسِ، فهو قريبٌ غير ملتصِق، وبعيدٌ غير مُتَقَصّ (تقص) يُوَحَّدُ ولا
يُبَعَّضُ، مَعروف بالآيات موصوف بالعلاماتِ، لا إله إلاّ هو الكبير المتعالُ(المصدر السابق: 533 عن التوحيد: 79.). 2 - وخرج على أصحابه فقال: (أيّها
الناسُ! إنّ اللهَ جَلَّ ذكرهُ ما خَلَقَ العباد إلاّ ليعرفوهُ، فإذا عرفوه
عبدوه، فإذا عبدوه استغنَوْا بعبادته عن عبادة ما سواهُ. ثم سأله رجل عن معرفة
الله فقال: معرفةُ أهل كلّ زمان إمامَهُم الذي يجب عليهم طاعَتُه)( المصدر السابق: 540 عن علل الشرايع: 9.). 3 - وتكلّم عن ملاك التكليف قائلاً:
(ما أخَذَ الله طاقة أحد إلاّ وضع عنه طاعتَه، ولا أخذ قدرته إلاّ وضع عنهُ
كُلْفَتَه)( موسوعة كلمات الإمام الحسين: 542 عن تحف العقول: 175.). 4 - وكتب للحسن بن أبي الحسن البصري
جواباً عن سؤاله حول القدر: إنّه من لم يؤمن بالقدر خيرِه وشرِّه فقد كفر، ومن
حمل المعاصي على الله عَزَّ وجَلَّ فقد افترى على الله افتراءً عظيماً، إنّ الله
تبارك وتعالى لا يُطاع بإكراه ولا يُعصى بغَلَبَة ولا يُهملُ العبادَ في الهلكة،
لكنّه المالك لما ملّكهم، والقادرُ لما عليه أقدَرَهُم، فإن ائتمروا بالطاعة; لم
يكن الله صادّاً عنها مُبطِئاً، وإن ائتمروا بالمعصية فشاء أن يمن عليهم فيحولَ
بينهَم وبين ما ائتمروا به فعل، وإن لم يفعل فليس هو حَمَلَهم عليها قسراً ولا
كلّفهم جبراً، بل بتمكينهِ إيّاهم بعد إعذاره وإنذاره لهم واحتجاجه عليهم
طوّقَهُم ومكّنهم وجعل لهم السبيل إلى أخذ ما إليه دعاهم وترك ما عنه نهاهم...( المصدر السابق: 540 - 541 عن معادن الحكمة: 2 / 45.). 5 - واشتملت أدعيته عليه
السلام على دُرر باهرة في التوحيد والمعرفة والهداية الإلهية ولا
سيَّما دعاء العشرات المرويّ عنه(البلد الأمين للكفعمي: 24.)،
ودعاء عرفة الذي عُرِف به; لِما يسطع به من معارف زاخرة وعلوم جمّة، بل هو دورة
عقائدية كاملة. وإليك مطلعه: (الحمد لله الذي ليس لقضائه دافع ولا
لعطائه مانعٌ ولا كصنعه صنعُ صانِع، وهو الجوادُ الواسِعُ، فَطَر أجناسَ
البدائعِ وأتقنَ بحكمتِهِ الصنائعَ، لا تخفى عليه الطلائعُ ولا تضيع عنده
الودائعُ، أتى بالكتابِ الجامعِ و (بشرع الإسلام) النور الساطعِ وهو للخليقة
صانعٌ وهو المستعانُ على الفجائِع...)( موسوعة كلمات الإمام الحسين: 793 - 806 عن إقبال الأعمال: 339.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
في رحاب الأخلاق
والتربية الروحية:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
1 - سُئل عن خير الدنيا والآخرة فكتب عليه
السلام: بسم الله الرحمن الرحيم، أمّا بعدُ: فإنه من طلب رضى
الله بسخط الناس كفاه الله أُمور الناس، ومن طلب رضى الناس بسخط الله وكله الله
إلى الناس. والسلام(أمالي الصدوق: 167.). 2 - بيّن عليه
السلام أقسام العبادة ودرجات العُبّاد قائلاً: إنّ قوماً عبدوا
الله رغبةً فتلك عبادة التجّار، وإنّ قوماً عبدوا الله رهبةً فتلك عبادةُ
العبيد، وإنّ قوماً عبدوا اللهَ شُكراً فتلك عبادةُ الأحرار، وهي أفضل العبادة(تحف العقول: 175.). 3 - قال عليه
السلام عن آثار العبادة الحقيقية: (من عَبَدَ الله حقَّ عبادته
آتاه الله فوق أمانيه وكفايتهِ)( بحار الأنوار: 71 / 184.). 4 - سُئل عن معنى الأدب فقال: (هو أن
تخرج من بيتك فلا تَلقى أحداً إلاّ رأيت له الفضلَ عليك)( ديوان الإمام الحسين: 199.). 5 - قال الإمام الحسين عليه
السلام: (مالُك إن يكن لك كنتَ له فلا تبق عليه; فإنّه لا يُبقي
عليك، وكلُه قبل أن يأكلك)( بحار الأنوار: 71 / 357.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
في رحاب مواعظه الجليلة:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
1 - كتب إليه رجل: عِظني بحرفين فكتب إليه:
(مَن حاوَل أمراً بمعصية الله تعالى كانَ أفْوَتَ لما يَرجو وأسْرَعَ لمجي ما
يحذَرُ)( الكافي: 2 / 373.). 2 - وجاءه رجل فقال له: أنا رجل عاص
ولا أصبر عن المعصية فعظني بموعظة فقال عليه
السلام: (إفعل خمسةَ أشياءَ واذنب ما شئتَ، فأوّل ذلك: لا تأكل
رزقَ اللهِ وأذنب ما شئِتَ، والثاني: اخرج من ولاية الله وأذنب ما شئت. والثالث:
اطلُبْ موضِعاً لا يراكَ اللهُ وأذنب ما شِئتَ. والرابع: إذا جاء ملَكُ الموتِ
ليقبِضَ روحَكَ فادفَعْهُ عن نفسِكَ وأذنب ما شئتَ، والخامِسُ: إذا أدخَلَكَ
مالك النارِ فلا تدخُلْ في النارِ وأذنب ما شئتَ(بحار الأنوار: 78 / 126.). 3 - ومما جاء عنه عليه
السلام في الموعظة: ياابن آدمَ! تفكَّرْ وقل: أينَ ملوكُ الدنيا
وأربابُها؟ الذين عَمّروا واحتفَروا أنهارها وغَرَسوا أشجارها ومدّنوا
مدائِنَها، فارقوها وهم كارهون وورثها قوم آخرون، ونحن بهم عمّا قليل لاحقونَ.
ياابن آدم! اُذكر مصرعك، وفي قبرك مضجعَك وموقفَك بين يَدَي اللهِ تشهَدُ
جوارحُكَ عليكَ يوم تَزِلُّ فيه الأقدامُ وتبلغُ القلوبُ الحناجِرَ وتبيضّ وجوهٌ
وتسوَدُّ وجوهٌ وتبدو السرائرُ، ويوضَعُ الميزانُ القِسط. ياابن آدمَ! اذكُر
مصارعَ آبائك وأبنائك كيف كانوا وحيثُ حَلّوا وكأنّك عن قليل قد حَلَلْتَ
مَحَلَّهُم وصِرتَ عِبرَةً للمعتَبِر(إرشاد القلوب: 1 / 29.). 4 - وخطب عليه
السلام فقال: يا أيّها الناسُ! نافسِوا في المكارم، وسارِعوا في
المغانِم، ولا تحتسِبوا بمعروف لم تُعجّلوا، واكسبوا الحمدَ بالنُجح، ولا
تكتسِبوا بالمطلِ ذَمّاً، فمهما يكنْ لأحد عند أحد صنيعةٌ له رأى أنّه لا يقومُ
بشكرِها; فالله له بمكافاتهِ فإنّه أجْزَلُ عطاءً وأعظمُ أجراً. واعلموا أن
حوائج الناس إليكم من نعم الله عليكم، فلا تملّوا النعم فتُحوّر نقماً(كشف الغمة: 2 / 29.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
في رحاب الفقه
والأحكام الشرعية:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
لقد أثبت أهل البيت المعصومون جدارتهم
للمرجعية الدينية بعد رسول الله صلىاللهعليه وآله في المجالين العلمي
والسياسيّ معاً. وقد عمل خطّ الخلافة بشكل مدروس على
حذف هذا الخطّ النبوي وعزله عن الساحة السياسية والاجتماعية، وخطّط أهل البيت
عليهم السلام لمواجهة هذه المؤامرة، كما عرفت. غير أنّ البُعْد العلمي قد برز وطغى
على البعد السياسي حتى اتُّهِمَ أهل البيت عليهم السلام باعتزالهم الساحة
السياسية بعد الحسين عليه السلام ولكن العجز العلمي للخطّ الحاكم بالرغم من كل
ما أوتي من إمكانات ماديّة وبشرية هو الذي قد بانَ على مدى التاريخ، وتميّزت
مرجعيّة الأئمة الأطهار على من سواها من المرجعيات السائدة آنذاك. وكانت حاجة
الأمة الإسلامية إلى تفاصيل الأحكام الشرعية نظراً للمستجدات المستمرّة هي السبب
الآخر في ظهور علم أهل البيت عليهم السلام وفضلهم وكمالهم. وما سجّلته كتب التاريخ من حقائق لا
تخفى على اللبيب مثل حقيقة عدم عجزهم أمام الأسئلة المثارة، وعدم اكتسابهم العلم
من أحد من أهل الفضل سوى الرسول صلى اللهعليه وآله وأهل بيته المعصومينعليهمالسلام
لدليل واضح على تميّزهم عمّن سواهم. وهنا نختار نماذج مما يرتبط
بالفقه بمعناه المصطلح بمقدار ما يسمح به المجال. 1 - ممّا يرتبط بباب الصلاة، ذكر
الإمام محمّد الباقر عليه السلام
جواز الصلاة بثوب واحد مستشهداً بأنه قد حدّثه من رأى الحسين بن عليّ عليهماالسلام وهو يصلّي في ثوب واحد وحدّثه أنه رأى
رسول الله صلىاللهعليهوآله
يُصلّي في ثوب واحد(دعائم الإسلام: 1 / 175.). 2 - وجاء أن الأئمّة عليهمالسلام
كانوا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم فيما يجهر فيه بالقراءة من الصلوات في
أوّل فاتحة الكتاب وأوّل السورة في كل ركعة. وجاء عن الحسين عليه
السلام قوله: اجتمعنا ولد فاطمة عليهاالسلام
على ذلك(مستدرك الوسائل: 4 / 189.). 3 - وكان الحسين بن عليّ عليهماالسلام
يصلي فمرّ بين يديه رجل، فنهاه بعض جلسائه، فلما انصرف من صلاته قال له: لِمَ
نَهَيْتَ الرَجُلَ؟ فقال: ياابن رسول الله! خطر فيما بينك وبين المحراب، فقال عليه
السلام: ويحك إنّ الله عَزَّ وجَلَّ أقربُ إليَّ من أن يخطرَ
فيما بيني وبين أحد(وسائل الشيعة: 3 / 434 الحديث 4.). 4 - وكان الحسين عليه
السلام جالساً فمرّت عليه جنازةٌ فقام الناسُ حين طلعت الجنازة،
وهنا أوضح الإمام عليه السلام
للناس ما تصوّروه خطأً من أن القيام عند مرور الجنازة من السنّة باعتبار ما
سمعوه من قيام رسول الله عند مرور الجنازة. فقال الحسين بن عليّ عليهماالسلام:
مرَّت جنازة يهوديّ فكان رسول الله صلىاللهعليهوآله
على طريقها جالساً فكره أن تعلو رأسَه جنازةُ يهوديّ فقامَ لِذلك(الكافي: 3 / 192.). وقد أحصى مؤلّف موسوعة كلمات الإمام
الحسين عليه السلام ما يقارب
من مائتين وخمسين رواية في الأحكام الشرعية وردت عن الإمام الحسين عليه
السلام في مختلف أبواب الفقه الإسلامي. على أن سيرة الإمام الحسين عليه السلام
مثل سيرة سائر الأئمّة الأطهار تعتبر مصدراً من مصادر استلهام الأحكام الشرعية
لتنظيم السلوك الفردي والاجتماعي للإنسان المسلم وللمجتمع الإسلامي. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
في رحاب أدعية الإمام
الحسين عليه
السلام:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
لقد تميّز تراث أهل البيت عليهمالسلام بظاهرة الدعاء تميّزاً فريداً في جانبي
الكمّ والكيف معاً. فالاهتمام بالدعاء في جميع الحالات
والظروف التي يمرّ بها الإنسان في الحياة كما قال تعالى: (قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا
دُعَاؤُكُمْ)( الفرقان (25): 77.)
هو المظهر الذي ميّز سلوك أهل البيت عمّن سواهم، وعلى ذلك ساروا في تربيتهم لشيعتهم. والمسلمون بشكل عام يلمسون هذه الظاهرة
بوضوح في موسم الحج وغيره من مواسم العبادة عند أتباع أهل البيت عليهم السلام
وشيعتهم. وتفرّدت أدعية أهل البيت عليهم السلام
في المحتوى والمقاصد والمعاني التي اشتملت عليها أدعيتهم; فإنّها تُفصح بوضوح عن
البون الشاسع بينهم وبين غيرهم فأين الثرى وأين الثريّا؟ وتدلّنا بعض النصوص المأثورة
عن الإمام الحسين عليه السلام
على سر هذا الاهتمام البليغ منهم بالدعاء. 1 - قال عليه
السلام: أعجز الناس من عجز عن الدعاء، وأبخل الناس من بخل
بالسلام(بحار الأنوار: 93 / 294.). 2 - وجاء عنه أنه كان يدعو في قنوت
الوتر بالدعاء الذي علّمه رسول الله صلىاللهعليهوآله
وهو: اللهم إنك تَرى ولا تُرى وأنت بالمنظر الأعلى وإنّ إليك الرجعى وإنّ لك
الآخرة والأولى، اللهم إنّا نعوذ بك من أن نَذِلّ ونخزى(كنز العمال: 8 / 82، ومسند الإمام أحمد: 1 / 201.). 3 - من الأدعية القصيرة المأثورة عنه
قوله عليه السلام: (اللهم لا
تستدرِجني بالإحسانِ ولا تؤدِّبني بالبلاء)( بحار الأنوار: 78 / 128.). وقال في معنى الاستدراج: الاستدراج من
الله لعبده أن يُسبغ عليه النِعَمَ ويَسْلُبَه الشُكرَ(تحف العقول: 175.). 4 - ومن أدعيته في قنوته: (اللهمّ مَن
آوى إلى مأوى فأنتَ مأوايَ، ومن لجأ إلى مَلجَأ فأنتَ مَلجايَ اللهم صلّ على
محمّد وآلِ محمّد واسمع ندائي وأجب دُعائي واجعل مآبي عندك ومثوايَ، واحرُسني في
بَلواي من افتتانِ الامتحان ولُمَّةِ الشيطانِ بعظمتك التي لا يشوبُها وَلَعُ نفس
بِتَفتين، ولا واردُ طيف بتظنين ولا يلُمُّ بها فَرَجٌ حتى تقلبني إليك بإرادتك
غير ظنين ولا مظنون ولا مُراب ولا مُرتاب، إنّك أنت أرحمُ الراحِمينَ)( نهج الدعوات: 49.). 5 - وله دعاء آخر كان يدعو به في قنوته
هو: (اللهم منك البدءُ ولك المشيئةُ ولك الحولُ ولك القوّةُ، وأنت اللهُ الذي لا
إله إلاّ أنتَ جَعَلْتَ قلوبَ أوليائك مسكناً لمَشِيّتِكَ ومكمَناً لإرادتكَ،
وجَعَلتَ عُقولَهُم مَناصِبَ أوامِركَ ونواهيكَ فأنتَ إذا شِئت ما نشاءُ حرّكتَ
مِن أسرارهم كوامِن ما أبطَنْتَ فيهم، وأبَدأتَ من إرادتك على ألسنتِهِم ما أفهَمْتَهُم
به عنكَ في عقودِهم بعقول تدعوك وتدعو إليك بحقائقِ ما مَنَحتَهُم به، وإنّي
لأعلَمُ ممّا علّمتني ممّا أنت المشكورُ على ما منه أريتني وإليه آوَيتني). 6 - وله دعاء يُسمّى بـ (العشرات). 7 - وله دعاء كان يدعو به حين كان يمسك
الركن اليماني ويناجي ربّه هو: إلهي أنعمتني فلم تجدني شاكراً وأبليتني فلم
تجدني صابراً، فلا أنت سلَبْتَ النعمة بترك الشكر، ولا أدَمْتَ الشدّةَ بترك
الصبرِ إلهي ما يكونُ من الكريمِ إلاّ الكرَمُ(إحقاق الحق: 11 / 595.). 8 - وروي أن شريحاً دخل مسجد الرسول صلىاللهعليهوآله
فوجد الحسين عليه السلام في المسجد ساجداً يعفِّر خدّه على التراب وهو يقول:
(سيّدي ومولاي ألِمقامِعِ الحديد خَلَقْتَ أعضائي؟ أم لِشُربِ الحميمِ خَلَقْتَ
أمعائي؟ إلهي لئن طالبتني بذنوبي لأُطالبنّك بكرمك، ولئن حَبَستني مع الخاطئينَ
لأخبِرنَّهُم بحُبّي لك، سيّدي! إن طاعَتي لا تنفعُك، وَمعصيتي لا تضرّك، فهب لي
ما لا ينفعُك واغفر لي ما لا يضرّك فإنك أرحم الراحمين)( المصدر السابق: 11 / 424.). 9 - وكان من دعائه إذا دخل المقابِرَ: اللّهم
ربَّ هذه الأرواح الفانيةِ والأجساد البالية، والعِظامِ النَخِرةِ التي خرجتْ من
الدنيا وهي بك مؤمنة أدخِل عليهم رَوْحاً منك وسلاماً مِنّي، وقال عليه السلام:
إذا دعا أحد بهذا الدعاء كتب الله له بعدد الخلق من لدن آدم إلى أن تقوم الساعةُ
حسنات(مستدرك الوسائل: 2 / 373 الحديث 2323.). 10 - ومن دعائه في الصباح والمساء
قوله: (بسم الله الرحمن الرحيم، بسم الله وبالله ومن الله وإلى الله وفي سبيل
الله وعلى ملّة رسول الله وتوكّلت على الله ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العليّ
العظيم. اللهم إني أسلمْتُ نفسي إليك ووجّهت وجهي إليك وفوّضت أمري إليك، إياك
أسألُ العافية من كل سوء في الدنيا والآخرة، اللهم إنك تكفيني من كلّ أحد ولا
يكفيني أحد منك فاكفني من كلّ أحد ما أخاف وأحذرُ، واجعل لي من أمري فرجاً
ومخرجاً إنك تعلمُ ولا أعلم وتقدرُ، ولا أقدِر، وأنت على كل شيء قدير برحمتك يا
أرحم الراحمين)( مهج الدعوات: 157.). وأمّا دعاء عرفة المرويّ عن الإمام
الحسين عليه السلام فهو من غرر
الأدعية المطوّلة والتي تستدرّ الرحمة الإلهية بما تمليه على الإنسان من أسباب
الإنابة والتوبة وشموخ المعرفة، وقد أشرنا إلى مقاطع منه في بحوث سابقة. وإليك مقطعاً آخر من هذا الدعاء: (الحمد لله الّذي لم يتّخذ ولداً فيكون
موروثاً، ولم يكن له شريك في الملك فيضادّه فيما ابتدع، ولا وليّ من الذلّ
فيرفده فيما صنع، سبحانه سبحانه سبحانه لو كان فيهما آلهة إلاّ الله لفسدتا
وتفطرتا، فسبحان الله الواحد الحقّ الأحد الصمد الّذي لم يلد ولم يولد ولم يكن
له كفواً أحد، الحمد لله حمداً يعدل حمد ملائكته المقرّبين، وأنبيائه المرسلين،
وصلّى الله على خيرته من خلقه محمّد خاتم النبّيّين وآله الطّاهرين المخلصين،
اللّهمَّ اجعلني أخشاك كأنّي أراك، وأسعدني بتقواك، ولا تشقني بمعصيتك، وخر لي
في قضائك، وبارك لي في قدرك حتّى لا أحب تعجيل ما أخّرت، ولا تأخير ما عجّلت)( بحار الأنوار: 98 / 218 - 219.). |
|||||||||||||||||||||||||||
|
في رحاب أدب الإمام
الحسين عليه
السلام:
|
|||||||||||||||||||||||||||
|
لا ريب في أن الإمام الحسين عليه السلام
يعدّ امتداداً لجدّه وأبيه وأخيه من حيث المعرفة ومن حيث الاقتدار الفني في
التعبير. وقد جاء على لسان خصومهم (أنهم أهل بيت قد زقّوا العلم زَقّاً)، و(أنها
ألسِنَةُ بني هاشم التي تفلق الصخر وتغرف من البحر)( المجالس السنية: 21، 28، 30.). وعلّق عمر بن سعد يوم عاشوراء على خطبة
للإمام الحسين عليه السلام: (إنّه ابن
أبيه، ولو وقف فيكم هكذا يوماً جديداً، لما انقطع ولما حُصِر)( المجالس السنية: 21، 28، 30.). وقال أصحاب المقاتل عن كلماته وخطبه في
كربلاء ويوم عاشوراء أنه لم يُسمع متكلّم قطّ قبله ولا بعده أبلغ في منطقه من الحسين
عليه السلام(المجالس السنية: 21، 28، 30.). وبالرغم من قصر المدّة الزمنيّة
لإمامته وعدم إتاحة الفرصة السياسيّة التي تفرض صياغة الخطب عادةً بخاصّة أنّه عليه
السلام التزم بالهدنة التي عقدها أخوهعليه
السلام في زمن معاوية، فقد اُثر عنه عليه
السلام في ميدان الخطبة وغيرها أكثر من نموذج فضلاً عن أنه عليه
السلام في زمن أبيه عليه
السلام قد ساهم في خطب المشاورة والحرب(راجع حياة الإمام الحسين في عهد أبيه، في هذا الكتاب.)،
وحشَد فيها كل السمات الفنّية التي تتناسب والغرض الذي استهدف توصيله إلى
الجمهور(تاريخ الأدب العربي في ضوء المنهج الإسلامي: 307 - 311.). وأمّا خطب المعركة التي خاضها في الطف
أو كربلاء، حيث فجّرت هذه المناسبة عشرات الخطب منذ بدايتها إلى نهايتها، فقد تنوّعت
صياغةً ومضموناً، وتضمّنت التذكير بكتبهم التي أرسلوها إليه وبطاعة الله وبنصرته
وبالتخليّ عن قتاله. وممّا جاء في أحدها: (تبّاً لكم أيّتها الجماعة وتَرَحاً،
أحين استصرختمونا والهِين، فأصرخناكم موجِفين مؤدّين مستعدّين سَلَلْتُم علينا
سيفاً لنا في أيْمانِكم وحششتُم علينا ناراً قدحناها على عدوّكم وعدوّنا فأصبحتم
إلبْاً على أوليائكم ويداً عليهم لأعدائكم بغيرِ عدل أفشوه فيكُم ولا أمل أصبح
لكم فيهم إلاّ الحرام من الدنيا أنالوكم وخسيس عيش طمعتم فيه...). واحتشدت هذه الخطبة بعناصر الفن
المتنوعة بالإضافة إلى عنصرَي المحاكمة والعاطفة. وبمقدور المتذوّق الفني الصرف
أن يلحظ ما تتضمّنه من دهشة فنّية مثيرة كل الإثارة(تاريخ الأدب العربي في ضوء المنهج الإسلامي: 311 - 303.). والأشكال الأدبيّة الأخرى التي طرقها
أدب الإمام الحسين عليه السلام هي
الرسائل والخواطر والمقالة والأدعية والشعر(للاطلاع التفصيلي على خصائص كل شكل في أدب الحسين عليه السلام راجع تاريخ الأدب العربي في ضوء المنهج
الإسلامي للدكتور محمود البستاني.)
والحديث الفني. ونشير إلى نموذجين من شعره
بما يتناسب مع المجال هنا: - 1 -
عن ديوان الإمام الحسين: 4 / 115. - 2 -
(4) عن البداية والنهاية: 8 / 228. |
|||||||||||||||||||||||||||
|
||||||||||||||||||||||||||||
|