- القرآن الكريم
- سور القرآن الكريم
- 1- سورة الفاتحة
- 2- سورة البقرة
- 3- سورة آل عمران
- 4- سورة النساء
- 5- سورة المائدة
- 6- سورة الأنعام
- 7- سورة الأعراف
- 8- سورة الأنفال
- 9- سورة التوبة
- 10- سورة يونس
- 11- سورة هود
- 12- سورة يوسف
- 13- سورة الرعد
- 14- سورة إبراهيم
- 15- سورة الحجر
- 16- سورة النحل
- 17- سورة الإسراء
- 18- سورة الكهف
- 19- سورة مريم
- 20- سورة طه
- 21- سورة الأنبياء
- 22- سورة الحج
- 23- سورة المؤمنون
- 24- سورة النور
- 25- سورة الفرقان
- 26- سورة الشعراء
- 27- سورة النمل
- 28- سورة القصص
- 29- سورة العنكبوت
- 30- سورة الروم
- 31- سورة لقمان
- 32- سورة السجدة
- 33- سورة الأحزاب
- 34- سورة سبأ
- 35- سورة فاطر
- 36- سورة يس
- 37- سورة الصافات
- 38- سورة ص
- 39- سورة الزمر
- 40- سورة غافر
- 41- سورة فصلت
- 42- سورة الشورى
- 43- سورة الزخرف
- 44- سورة الدخان
- 45- سورة الجاثية
- 46- سورة الأحقاف
- 47- سورة محمد
- 48- سورة الفتح
- 49- سورة الحجرات
- 50- سورة ق
- 51- سورة الذاريات
- 52- سورة الطور
- 53- سورة النجم
- 54- سورة القمر
- 55- سورة الرحمن
- 56- سورة الواقعة
- 57- سورة الحديد
- 58- سورة المجادلة
- 59- سورة الحشر
- 60- سورة الممتحنة
- 61- سورة الصف
- 62- سورة الجمعة
- 63- سورة المنافقون
- 64- سورة التغابن
- 65- سورة الطلاق
- 66- سورة التحريم
- 67- سورة الملك
- 68- سورة القلم
- 69- سورة الحاقة
- 70- سورة المعارج
- 71- سورة نوح
- 72- سورة الجن
- 73- سورة المزمل
- 74- سورة المدثر
- 75- سورة القيامة
- 76- سورة الإنسان
- 77- سورة المرسلات
- 78- سورة النبأ
- 79- سورة النازعات
- 80- سورة عبس
- 81- سورة التكوير
- 82- سورة الانفطار
- 83- سورة المطففين
- 84- سورة الانشقاق
- 85- سورة البروج
- 86- سورة الطارق
- 87- سورة الأعلى
- 88- سورة الغاشية
- 89- سورة الفجر
- 90- سورة البلد
- 91- سورة الشمس
- 92- سورة الليل
- 93- سورة الضحى
- 94- سورة الشرح
- 95- سورة التين
- 96- سورة العلق
- 97- سورة القدر
- 98- سورة البينة
- 99- سورة الزلزلة
- 100- سورة العاديات
- 101- سورة القارعة
- 102- سورة التكاثر
- 103- سورة العصر
- 104- سورة الهمزة
- 105- سورة الفيل
- 106- سورة قريش
- 107- سورة الماعون
- 108- سورة الكوثر
- 109- سورة الكافرون
- 110- سورة النصر
- 111- سورة المسد
- 112- سورة الإخلاص
- 113- سورة الفلق
- 114- سورة الناس
- سور القرآن الكريم
- تفسير القرآن الكريم
- تصنيف القرآن الكريم
- آيات العقيدة
- آيات الشريعة
- آيات القوانين والتشريع
- آيات المفاهيم الأخلاقية
- آيات الآفاق والأنفس
- آيات الأنبياء والرسل
- آيات الانبياء والرسل عليهم الصلاة السلام
- سيدنا آدم عليه السلام
- سيدنا إدريس عليه السلام
- سيدنا نوح عليه السلام
- سيدنا هود عليه السلام
- سيدنا صالح عليه السلام
- سيدنا إبراهيم عليه السلام
- سيدنا إسماعيل عليه السلام
- سيدنا إسحاق عليه السلام
- سيدنا لوط عليه السلام
- سيدنا يعقوب عليه السلام
- سيدنا يوسف عليه السلام
- سيدنا شعيب عليه السلام
- سيدنا موسى عليه السلام
- بنو إسرائيل
- سيدنا هارون عليه السلام
- سيدنا داود عليه السلام
- سيدنا سليمان عليه السلام
- سيدنا أيوب عليه السلام
- سيدنا يونس عليه السلام
- سيدنا إلياس عليه السلام
- سيدنا اليسع عليه السلام
- سيدنا ذي الكفل عليه السلام
- سيدنا لقمان عليه السلام
- سيدنا زكريا عليه السلام
- سيدنا يحي عليه السلام
- سيدنا عيسى عليه السلام
- أهل الكتاب اليهود النصارى
- الصابئون والمجوس
- الاتعاظ بالسابقين
- النظر في عاقبة الماضين
- السيدة مريم عليها السلام ملحق
- آيات الناس وصفاتهم
- أنواع الناس
- صفات الإنسان
- صفات الأبراروجزائهم
- صفات الأثمين وجزائهم
- صفات الأشقى وجزائه
- صفات أعداء الرسل عليهم السلام
- صفات الأعراب
- صفات أصحاب الجحيم وجزائهم
- صفات أصحاب الجنة وحياتهم فيها
- صفات أصحاب الشمال وجزائهم
- صفات أصحاب النار وجزائهم
- صفات أصحاب اليمين وجزائهم
- صفات أولياءالشيطان وجزائهم
- صفات أولياء الله وجزائهم
- صفات أولي الألباب وجزائهم
- صفات الجاحدين وجزائهم
- صفات حزب الشيطان وجزائهم
- صفات حزب الله تعالى وجزائهم
- صفات الخائفين من الله ومن عذابه وجزائهم
- صفات الخائنين في الحرب وجزائهم
- صفات الخائنين في الغنيمة وجزائهم
- صفات الخائنين للعهود وجزائهم
- صفات الخائنين للناس وجزائهم
- صفات الخاسرين وجزائهم
- صفات الخاشعين وجزائهم
- صفات الخاشين الله تعالى وجزائهم
- صفات الخاضعين لله تعالى وجزائهم
- صفات الذاكرين الله تعالى وجزائهم
- صفات الذين يتبعون أهواءهم وجزائهم
- صفات الذين يريدون الحياة الدنيا وجزائهم
- صفات الذين يحبهم الله تعالى
- صفات الذين لايحبهم الله تعالى
- صفات الذين يشترون بآيات الله وبعهده
- صفات الذين يصدون عن سبيل الله تعالى وجزائهم
- صفات الذين يعملون السيئات وجزائهم
- صفات الذين لايفلحون
- صفات الذين يهديهم الله تعالى
- صفات الذين لا يهديهم الله تعالى
- صفات الراشدين وجزائهم
- صفات الرسل عليهم السلام
- صفات الشاكرين وجزائهم
- صفات الشهداء وجزائهم وحياتهم عند ربهم
- صفات الصالحين وجزائهم
- صفات الصائمين وجزائهم
- صفات الصابرين وجزائهم
- صفات الصادقين وجزائهم
- صفات الصدِّقين وجزائهم
- صفات الضالين وجزائهم
- صفات المُضَّلّين وجزائهم
- صفات المُضِلّين. وجزائهم
- صفات الطاغين وجزائهم
- صفات الظالمين وجزائهم
- صفات العابدين وجزائهم
- صفات عباد الرحمن وجزائهم
- صفات الغافلين وجزائهم
- صفات الغاوين وجزائهم
- صفات الفائزين وجزائهم
- صفات الفارّين من القتال وجزائهم
- صفات الفاسقين وجزائهم
- صفات الفجار وجزائهم
- صفات الفخورين وجزائهم
- صفات القانتين وجزائهم
- صفات الكاذبين وجزائهم
- صفات المكذِّبين وجزائهم
- صفات الكافرين وجزائهم
- صفات اللامزين والهامزين وجزائهم
- صفات المؤمنين بالأديان السماوية وجزائهم
- صفات المبطلين وجزائهم
- صفات المتذكرين وجزائهم
- صفات المترفين وجزائهم
- صفات المتصدقين وجزائهم
- صفات المتقين وجزائهم
- صفات المتكبرين وجزائهم
- صفات المتوكلين على الله وجزائهم
- صفات المرتدين وجزائهم
- صفات المجاهدين في سبيل الله وجزائهم
- صفات المجرمين وجزائهم
- صفات المحسنين وجزائهم
- صفات المخبتين وجزائهم
- صفات المختلفين والمتفرقين من أهل الكتاب وجزائهم
- صفات المُخلَصين وجزائهم
- صفات المستقيمين وجزائهم
- صفات المستكبرين وجزائهم
- صفات المستهزئين بآيات الله وجزائهم
- صفات المستهزئين بالدين وجزائهم
- صفات المسرفين وجزائهم
- صفات المسلمين وجزائهم
- صفات المشركين وجزائهم
- صفات المصَدِّقين وجزائهم
- صفات المصلحين وجزائهم
- صفات المصلين وجزائهم
- صفات المضعفين وجزائهم
- صفات المطففين للكيل والميزان وجزائهم
- صفات المعتدين وجزائهم
- صفات المعتدين على الكعبة وجزائهم
- صفات المعرضين وجزائهم
- صفات المغضوب عليهم وجزائهم
- صفات المُفترين وجزائهم
- صفات المفسدين إجتماعياَ وجزائهم
- صفات المفسدين دينيًا وجزائهم
- صفات المفلحين وجزائهم
- صفات المقاتلين في سبيل الله وجزائهم
- صفات المقربين الى الله تعالى وجزائهم
- صفات المقسطين وجزائهم
- صفات المقلدين وجزائهم
- صفات الملحدين وجزائهم
- صفات الملحدين في آياته
- صفات الملعونين وجزائهم
- صفات المنافقين ومثلهم ومواقفهم وجزائهم
- صفات المهتدين وجزائهم
- صفات ناقضي العهود وجزائهم
- صفات النصارى
- صفات اليهود و النصارى
- آيات الرسول محمد (ص) والقرآن الكريم
- آيات المحاورات المختلفة - الأمثال - التشبيهات والمقارنة بين الأضداد
- نهج البلاغة
- تصنيف نهج البلاغة
- دراسات حول نهج البلاغة
- الصحيفة السجادية
- تصنيف الصحيفة السجادية
- تصنيف الصحيفة بالموضوعات
- الباب السابع : باب الاخلاق
- الباب الثامن : باب الطاعات
- الباب التاسع: باب الذكر والدعاء
- الباب العاشر: باب السياسة
- الباب الحادي عشر:باب الإقتصاد
- الباب الثاني عشر: باب الإنسان
- الباب الثالث عشر: باب الكون
- الباب الرابع عشر: باب الإجتماع
- الباب الخامس عشر: باب العلم
- الباب السادس عشر: باب الزمن
- الباب السابع عشر: باب التاريخ
- الباب الثامن عشر: باب الصحة
- الباب التاسع عشر: باب العسكرية
- الباب الاول : باب التوحيد
- الباب الثاني : باب النبوة
- الباب الثالث : باب الإمامة
- الباب الرابع : باب المعاد
- الباب الخامس: باب الإسلام
- الباب السادس : باب الملائكة
- تصنيف الصحيفة بالموضوعات
- أسماء الله الحسنى
- أعلام الهداية
- النبي محمد (صلى الله عليه وآله)
- الإمام علي بن أبي طالب (عليه السَّلام)
- السيدة فاطمة الزهراء (عليها السَّلام)
- الإمام الحسن بن علي (عليه السَّلام)
- الإمام الحسين بن علي (عليه السَّلام)
- لإمام علي بن الحسين (عليه السَّلام)
- الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السَّلام)
- الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السَّلام)
- الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السَّلام)
- الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السَّلام)
- الإمام محمد بن علي الجواد (عليه السَّلام)
- الإمام علي بن محمد الهادي (عليه السَّلام)
- الإمام الحسن بن علي العسكري (عليه السَّلام)
- الإمام محمد بن الحسن المهدي (عجَّل الله فرَجَه)
- تاريخ وسيرة
- "تحميل كتب بصيغة "بي دي أف
- تحميل كتب حول الأخلاق
- تحميل كتب حول الشيعة
- تحميل كتب حول الثقافة
- تحميل كتب الشهيد آية الله مطهري
- تحميل كتب التصنيف
- تحميل كتب التفسير
- تحميل كتب حول نهج البلاغة
- تحميل كتب حول الأسرة
- تحميل الصحيفة السجادية وتصنيفه
- تحميل كتب حول العقيدة
- قصص الأنبياء ، وقصص تربويَّة
- تحميل كتب السيرة النبوية والأئمة عليهم السلام
- تحميل كتب غلم الفقه والحديث
- تحميل كتب الوهابية وابن تيمية
- تحميل كتب حول التاريخ الإسلامي
- تحميل كتب أدب الطف
- تحميل كتب المجالس الحسينية
- تحميل كتب الركب الحسيني
- تحميل كتب دراسات وعلوم فرآنية
- تحميل كتب متنوعة
- تحميل كتب حول اليهود واليهودية والصهيونية
- المحقق جعفر السبحاني
- تحميل كتب اللغة العربية
- الفرقان في تفسير القرآن -الدكتور محمد الصادقي
- وقعة الجمل صفين والنهروان
|
أعلام الهداية
|
|
الإمام أمير
المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)
|
|
المجمع
العالمي لأهل البيت(عليهم السلام) قم
المقدسة
|
|
أهل البيت في
القرآن الكريم |
|
أهل البيت في
السنة النبويّة |
|
فهرس
إجمالي
|
|
الباب الأول: الفصل الأول: الإمام علي بن
أبي طالب (عليه السلام) في سطور ... الفصل الثاني: انطباعات عن
شخصية الإمام علي (عليه السلام) ... الفصل الثالث: مظاهر من شخصية
الإمام علي (عليه السلام) ... 29 الباب الثاني: الفصل الأول: نشأة الإمام علي
بن أبي طالب (عليه السلام) ... الفصل الثاني: مراحل حياة
الإمام علي (عليه السلام) ... الفصل الثالث: من الولادة إلى
وفاة الرسول (صلَّى الله عليه وآله) ... الباب الثالث : الفصل الأول : عصر الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ... الفصل الثاني : الإمام عليّ (عليه السلام) في عهد أبي بكر ... الفصل الثالث : الإمام عليّ (عليه السلام) في عهد عمر ... الفصل الرابع : الإمام عليّ (عليه السلام) في عهد عثمان ... الباب الرابع : الفصل الأول : الإمام عليّ (عليه السلام) بعد مقتل عثمان ... الفصل الثاني : الإمام عليّ (عليه السلام) مع الناكثين ... الفصل الثالث : الإمام عليّ (عليه السلام) مع القاسطين ... الفصل الرابع : الإمام عليّ (عليه السلام) مع المارقين ... الفصل الخامس : الإمام عليّ (عليه السلام) شهيد المحراب الفصل السادس : تراث الإمام عليّ بن
أبي طالب (عليه السلام) |
|
المقدمة
|
|
الحمد لله الذي أعطى كلّ شيء خلقه ثم هدى، ثم الصلاة
والسلام على من اختارهم هداةً لعباده، لا سيَّما خاتم الأنبياء وسيّد الرسل
والأصفياء أبو القاسم المصطفى محمد (صلَّى الله عليه وآله) وعلى آله
الميامين النجباء. )قُلْ
إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى)(الأنعام (6): 71). )وَاللَّهُ
يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)(البقرة (2): 213(. )وَاللَّهُ
يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ)(الأحزاب (33): 4( )وَمَنْ
يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)(آل عمران (3):
101(. )قُلِ
اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إلى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ
يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ
تَحْكُمُونَ)(يونس (10(: 35). )وَيَرَى
الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ
الْحَقَّ وَيَهْدِي إلى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ)(سبأ (34): 6(. )ومن
أضلّ ممن اتّبع هواه بغير هدىً من الله)(القصص (28):50). ( فالله تعالى هو مصدر الهداية. وهدايته هي الهداية
الحقيقية، وهو الذي يأخذ بيد الإنسان إلى الصراط المستقيم وإلى الحقّ القويم. وهذه الحقائق يؤيدها العلم ويدركها العلماء ويخضعون لها
بملء وجودهم. ولقد أودع الله في فطرة الإنسان النزوع إلى الكمال
والجمال ثمّ مَنّ عليه بإرشاده إلى الكمال اللائق به، وأسبغ عليه نعمة التعرّف
على طريق الكمال، ومن هنا قال تعالى: (وما خلقتُ الجنَّ والإنسَ إلاّ ليعبدونِ)(الذاريات (51): 56). (وحيث لا تتحقّق العبادة الحقيقية من
دون المعرفة، كانت المعرفة والعبادة طريقاً منحصراً وهدفاً وغايةً موصلةً إلى
قمّة الكمال. وبعد أن زوّد الله الإنسان بطاقتي الغضب والشهوة ليحقّق
له وقود الحركة نحو الكمال; لم يؤمَن عليه من سيطرة الغضب والشهوة; والهوى
الناشئ منهما، والملازم لهما فمن هنا احتاج الإنسان ـ بالإضافة إلى عقله وسائر
أدوات المعرفة ـ إلى ما يضمن له سلامة البصيرة والرؤية; كي تتمّ عليه الحجّة،
وتكمل نعمة الهداية، وتتوفّر لديه كلّ الأسباب التي تجعله يختار طريق الخير
والسعادة، أو طريق الشرّ والشقاء بملء إرادته. ويتولّى أنبياء الله ورسله وأوصياؤهم الهداة المهديّون
مهمّة الهداية بجميع مراتبها، والتي تتلخّص في: 1 ـ تلقِّي الوحي
بشكل كامل واستيعاب الرسالة الإلهية بصورة دقيقة. وهذه المرحلة تتطلّب الاستعداد
التام لتلقّي الرسالة، ومن هنا يكون الاصطفاء الإلهي لرسله شأناً من شؤونه، كما
أفصح بذلك الذكر الحكيم قائلاً: (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ)(الأنعام (6(: 124) و(اللَّهَ
يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ)(آل عمران (3): 179(. 2 ـ إبلاغ الرسالة
الإلهية إلى البشرية ولمن أرسلوا إليه، ويتوقّف الإبلاغ على الكفاءة التامّة
التي تتمثّل في (الاستيعاب والإحاطة اللازمة) بتفاصيل الرسالة وأهدافها
ومتطلّباتها، و (العصمة) عن الخطأ والانحراف معاً، قال تعالى: ( )كَانَ
النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ
وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ
النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ)(البقرة (2): 213(. 3 ـ تكوين اُمة
مؤمنة بالرسالة الإلهية، وإعدادها لدعم القيادة الهادية من أجل تحقيق أهدافها
وتطبيق قوانينها في الحياة، وقد صرّحت آيات الذكر الحكيم بهذه المهمّة مستخدمةً
عنواني التزكية والتعليم، قال تعالى: )يُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ
وَالْحِكْمَةَ)(الجمعة(62): ( 2) والتزكية هي
التربية باتجاه الكمال اللائق بالإنسان. وتتطلّب التربية القدوة الصالحة التي
تتمتّع بكلّ عناصر الكمال، كما قال تعالى: )لَقَدْ
كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)(الأحزاب(33(: 21). ولتحقيق أهداف الرسالة بشكل كامل كان من
الضروري: أ ـ أن تستمرّ القيادة الكفوءة في تطبيق الرسالة وصيانتها
من أيدي العابثين الذين يتربّصون بها الدوائر. ب ـ أن تستمرّ عملية التربية الصحيحة باستمرار الأجيال;
على يد مربٍّ كفوء علمياً ونفسياً حيث يكون قدوة حسنة في الخلق والسلوك كالرسول
(صلَّى الله عليه وآله(، يستوعب
الرسالة ويجسّدها في كل حركاته وسكناته. وتبلورت حياة الأئمّة الراشدين في استمرارهم على نهج
الرسول العظيم وانفتاح الأمة عليهم والتفاعل معهم كأعلام للهداية ومصابيح لإنارة
الدرب للسالكين المؤمنين بقيادتهم، فكانوا هم الأدلاّء على الله وعلى مرضاته،
والمستقرّين في أمر الله، والتامّين في محبّته، والذائبين في الشوق إليه،
والسابقين إلى تسلّق قمم الكمال الإنسانيّ المنشود. ولا يستطيع المؤرّخون والكتّاب أن يلمّوا بجميع زوايا
حياتهم العطرة ويدّعوا دراستها بشكل كامل، ومن هنا فإنّ محاولتنا هذه إنّما هي
إعطاء قبسات من حياتهم، ولقطات من سيرتهم وسلوكهم ومواقفهم التي دوّنها
المؤرّخون واستطعنا اكتشافها من خلال مصادر الدراسة والتحقيق، عسى الله أن ينفع
بها إنّه وليّ التوفيق. إنّ دراستنا لحركة أهل البيت (ع) الرسالية تبدأ برسول
الإسلام وخاتم الأنبياء محمد بن عبد الله (ص) وتنتهي بخاتم الأوصياء، محمد بن
الحسن العسكري المهدي المنتظر عجّل الله تعالى فرجه وأنار الأرض بعدله. ويختصّ هذا الكتاب بدراسة حياة الإمام علي بن أبي طالب
(ع)، أول أئمة أهل البيت (ع) بعد رسول الله ، وهو المعصوم الثاني من أعلام
الهداية والذي جسد الإسلام في كل مجالات حياته الشريفة فكان نبراساً ومتراساً
ومثلاً أعلى للبشرية بعد رسول الله محمد بن عبد الله (صلَّى الله عليه وآله(. ولا بدَّ لنا من تقديم الشكر إلى كل الإخوة الأعزّاء
الذين بذلوا جهداً وافراً وشاركوا في إنجاز هذا المشروع المبارك وإخراجه إلى
عالم النور، لا سيَّما أعضاء لجنة التأليف بإشراف سماحة السيد منذر الحكيم (حفظه
الله (. للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام) |
|
الباب
الأول:
|
|
فيه فصول: الفصل الأول: الإمام علي (عليه السلام) في سطور. |
|
الفصل الأوّل:
|
|
الإمام المرتضى عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) في سطور
|
|
* ـ هو أمير
المؤمنين وسيّد الوصيّين وأوّل خلفاء الرسول (صلَّى الله عليه وآله( المهديّين ـ بأمر من الله ونصّ من
رسوله (صلَّى الله عليه وآله) ـ وقد صرّح القرآن بعصمته وتطهيره من كلّ رجس،
وباهل به وبزوجته وولديه رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) نصارى نجران، واعتبره
من القربى الذين وجبت مودّتهم مصرّحاً غير مرّة بأنّها عِدل الكتاب المجيد
الموجبين للمتمسّك بهما النجاة وللمتخلّف عنهما الردى . |
|
الفصل الثاني:
|
|
انطباعات عن شخصيّة الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)
|
|
لقد عاصر الإمام عليّ (عليه السلام) حركة الوحي الرسالي
منذ بدايتها حتى انقطاع الوحي برحيل رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، وكانت له
مواقفه المشرّفة والتي يغبط عليها في دفاعه عن الرسول والرسالة طيلة ثلاثة
وعشرين عاماً من الجهاد المتواصل والدفاع المستميت عن حريم الإسلام الحنيف، وقد
انعكست مواقفه وإنجازاته وفضائله في آيات الذكر الحكيم ونصوص الحديث النبويّ
الشريف. |
الفصل الثالث:
|
|
مظاهر من شخصية الإمام عليّ (عليه السلام)
|
|
اجتمع للإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) من صفات
الكمال، ومحمود الشمائل والخِلال ، وسناء الحسب وعظيم الشرف، مع الفطرة النقيّة
والنفس المرضيّة ما لم يتهيّأ لغيره من أفذاذ الرجال. |
|
عبادته وتقواه(عليه السلام):
|
|
|
اشتهر عليّ بن أبي طالب بتقواه التي كانت علّة الكثير من
تصرّفاته مع نفسه وذويه والناس... وفيما ترى العبادة لدى المعظم رجع أصداء الضعف
في نفوسهم أحياناً، ومعنىً من معاني التهرّب من مواجهة الحياة والأحياء أحياناً
أُخرى، وهوساً موروثاً ثمّ مدعوماً بهوس جديد مصدره تقديس الناس والمجتمع لكلّ
موروث في أكثر الأحيان... تراها تشتهر عند الإمام أخْذاً من كلّ قوّة ووصلاً
لأطراف الحلقة الخلقية التي تشتدّ وتمتدّ حتى تجمع الأرض والسماء، ومعنىً من
معاني الجهاد في سبيل ما يربط الأحياء بكلّ خير، وهي على كلّ حال شيء من روح
التمرّد على الفساد يريد محاربته من كلّ صوب، ثمّ على النفاق وروح الاستغلال
والاقتتال من أجل المنافع الخاصّة.. وعلى المذلّة والفقر والمسكنة والضعف، ثمّ
على سائر الصفات التي تميّز بها عصره المضطرب القلق. |
|
زُهده (عليه السلام(:
|
|
لقد زهد عليّ في الدنيا وتقشّف، وكان صادقاً في زهده كما
كان صادقاً في كلّ ما نتج عن يمينه أو بَدَر من قلبه ولسانه، زهد في لذّة الدنيا
وسبب الدولة وعلّة السلطان وكلّ ما يطمح لبلوغه الآخرون، ويَرَوْن أنّه مرتكز
وجودهم، فإذا هو يسكن مع أولاده في بيت متواضع تأوي إليه الخلافة لا المُلك،
وإذا هو يأكل الشعير تطحنه امرأته بيديها فيما كان عمّاله يعيشون على أطايب
الشام وخيرات مصر ونعيم العراق، وكثيراً ما كان يأبى على زوجته أن تطحن له،
فيطحن لنفسه وهو أمير المؤمنين، ويأكل من الخبز اليابس الذي يكسره على ركبته،
وكان إذا أرعده البرد واشتدّ عليه الصقيع لا يتّخذ له عدّة من دثار يقيه أذى
البرد، بل يكتفي بما رقّ من لباس الصيف إغراقاً منه في صوفيّة الروح. |
|
إباؤه وشهامته (عليه السلام(:
|
|
مثّل عليّ بن أبي طالب الفروسيّة بأروع معانيها وبكلّ ما
تنطوي عليه من ألوان الشهامة. والإباء والترفّع أصلان من أصول روح الفروسيّة،
فهما إذن من طبائع الإمام، لذلك كان بغيضاً لديه أن ينال أحداً من الناس بالأذى
وإن آذاه، وأن يبادر مخلوقاً بالاعتداء ولو على ثقة بأنّ هذا المخلوق يقصد قتله. |
|
مروءته (عليه السلام( :
|
|
إنّ مروءة الإمام أندر من أن يكون لها مثيل في التأريخ،
وحوادث المروءة في سيرته أكثر من أن تعدّ، منها أنّه أبى على جنده ـ وهم في حال
من النقمة والسخط ـ أن يقتلوا عدوّاً تراجع، كما أبى عليهم أن يكشفوا ستراً أو
يأخذوا مالاً، ومنها: أنّه حين ظفر بألدّ أعدائه الذين يتحيّنون الفرص للتخلّص
منه; عفا عنهم وأحسن إليهم وأبى على أنصاره أن يتعقّبوهم بسوء وهم على ذلك
قادرون(البداية
والنهاية: 7 / 276.). |
|
صدقه وإخلاصه (عليه السلام(:
|
|
وتتماسك هذه الصفات الكريمة في سلسلة لا تنتهي; وبعضها
على بعض دليل، ومن أروع حلقاتها: الصدق والإخلاص، وقد بلغ به الصدق مبلغاً أضاع
به الخلافة، وهو لو رضي عن الصدق بديلاً في بعض أحواله; لما نال منه عدوّ ولا
انقلب عليه صديق.. لقد رفض أن يقرّ معاوية على عمله وقال: (لا
أداهن في ديني ولا أعطي الدنيّة في أمري) . ولمّا ظهرت حيلة معاوية; أطلق عبارته التي صحّت أن تكون
صيغة للخلق العظيم: (والله ما معاوية بأدهى منّي، ولكنّه يغدر
ويفجر، ولولا كراهية الغدر; لكنت من أدهى الناس)( نهج البلاغة، الخطبة : 200.). وقال مشدّداً
على ضرورة الصدق مهما اختلفت الظروف: (الإيمان أن تؤثر الصدق حيث يضرّك ، على الكذب
حيث ينفعك)( نهج البلاغة، قصار الحكم: 458.). |
|
شجاعته (عليه السلام(:
|
|
إن شجاعة الإمام هي من الإمام بمنزلة التعبير من الفكرة
وبمثابة العمل من الإرادة، لأنّ محورها الدفاع عن طبع في الحق وإيمان بالخير،
والمشهور أنّ أحداً من الأبطال لم ينهض له في ميدان.. فقد كان لجرأته على الموت
لا يهاب صنديداً، بل إنّ فكرة الموت لم تجل مرة في خاطر الإمام وهو في موقف
نزال، وأنّه لم يقارع بطلاً إلاّ بعد أن يحاوره لينصحه ويهديه. |
عدله (عليه السلام(:
|
|
ليس غريباً أن يكون عليٌّ أعدل الناس، بل الغريب أن لا
يكونَهُ، وأخبار عليّ في عدله تراثٌ يشرّف المكانة الإنسانية والروح الإنساني. |
|
تواضعه )عليه السلام(:
|
|
إنّ من أصول أخلاق الإمام أنّه كان يعتمد البساطة ويمقت
التكلّف. وكان يقول: (شر الإخوان من تكلّف له)( نهج البلاغة، قصار الحكم: 479.). ويقول: (إذا
احتشم المؤمن أخاه فقد فارقه)( المصدر السابق: 480.) ويقصد بالاحتشام مراعاته حتى التكلّف. |
|
|
نقاؤه (عليه السلام(:
|
|
وتميّز عليّ بسلامة القلب، فهو لا يحمل ضغينة على مخلوق
ولا يعرف حقداً على ألدّ أعدائه ومناوئيه ومن يحقدون عليه حسداً وكرهاً. |
|
كرمه (عليه السلام(:
|
|
وكان من خلقه أنّه كان كريماً ولا حدود لكرمه، ولكنّه
الكرم السليم بأصوله وغاياته لا كرم الولاة الذين (يكرمون) بأموال الناس
وجهودهم. وهذا الكرم لم يعرفه عليٌّ مرّة في حياته، وإنّما كرمه هو الذي يعبّر
عن جملة المروءات، ففيما كان يزجر ابنته زجراً شديداً إذ هي استعارت من بيت
المال قلادة تتزيّن بها في عيد من الأعياد. كان يسقي بيده النخل لقوم من يهود
المدينة حتى تمْجلَ يده فيتناول أجرته فيهبها لأهل الفاقة والعوز ويشتري بها
الأرقاء ويحرّرهم في الحال. |
|
علمه ومعارفه (عليه السلام( :
|
|
قال ابن أبي الحديد: (وما أقول في
رجل تُعزى إليه كلّ فضيلة، وتنتمي إليه كلّ فرقة، وتتجاذبه كلّ طائفة، فهو رئيس
الفضائل وينبوعها، وأبو عُذْرِها، وسابق مضمارها، ومجلّي حَلْبتها، كلّ من بزغ
فيها بعده فمنه أخذ، وله اقتفى، وعلى مثاله احتذى. وإنّ أشرف العلوم ـ وهو العلم
الإلهي ـ من كلامه (عليه السلام)
اقتبس وعنه نقل وإليه انتهى ومنه ابتدأ... وعلم الفقه هو أصله وأساسه وكلّ فقيه
في الإسلام فهو عيال عليه ومستفيد من فقهه... وعلم تفسير القرآن عنه أُخذ ومنه
فُرّع .. وعلم الطريقة والحقيقة وأحوال التصوّف(؟!) إنّ أرباب هذا الفنّ في جميع
بلاد الإسلام إليه ينتهون، وعنده يقفون.. وعلم النحو والعربية قد علم الناس كافة
أنّه هو الذي ابتدعه وأنشأه، وأملى على أبي الأسود الدؤلي جوامعَه وأصوله...) |
|
الباب
الثاني
|
|
فيه فصول: |
|
الفصل الأول:
|
|
نشأة الإمام علي (عليه السلام(
|
|
نسبه الوضّاء :
|
|
هو الإمام أمير المؤمنين وسيّد الوصيّين عليّ بن أبي طالب
بن عبد المطلب ابن هاشم بن عبد مناف بن قصيّ بن كلاب بن مرّة بن كعب بن لؤي بن
غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إياس بن مضر بن
نزار ابن معد بن عدنان. |
|
جدّه الكريم :
|
|
عبد المطلب شيبة الحمد، وكنيته أبو الحرث، وعنده يجتمع
نسبه بنسب النبيّ (صلَّى الله عليه
وآله) وكان مؤمناً بالله تعالى، ويعلم بأنّ محمداً سيكون نبيّاً(الطبقات لمحمد بن سعد: 1 /
74 ط. ليدن.). |
|
والده :
|
|
عبد مناف، وقيل: عمران، وقيل: شيبة، وكنيته أبو طالب، وهو
أخو عبد الله والد النبيّ (صلَّى الله عليه وآله) لأُمه وأبيه. ولد أبو طالب
بمكّة قبل ولادة النبيّ (صلَّى الله عليه وآله) بخمس وثلاثين سنة، وانتهت إليه
بعد أبيه عبد المطلب الزعامة المطلقة لقريش، وكان يروي الماء لوفود مكّة كافّة
لأنّ السقاية كانت له، ورفض عبادة الأصنام فوحّد الله سبحانه، ومنع نكاح المحارم
وقتل الموؤدة والزنا وشرب الخمر وطواف العراة في بيت الله الحرام(روضة الواعظين للفتال: 121 ـ
122 وصية أبي طالب لبني هاشم.). ولمّا توفّي عبد
المطلب; تكفّل أبو طالب رعاية رسول الله(صلَّى الله عليه وآله) فكان أبو طالب
يحبّه حبّاً شديداً لا يحبّه ولده، وكان لا ينام إلاّ إلى جنبه، ويخرج فيخرج
معه، وكان يخصّه بالطعام دون أولاده. |
|
أُ مّه :
|
|
فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف، تجتمع هي وأبو طالب
في هاشم، أسلمت وهاجرت مع النبيّ (ص) وكانت من
السابقات إلى الإيمان وبمنزلة الأُم للنبيّ (ص)( الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي: 31.) ربّته في حجرها،
ولمّا ماتت فاطمة بنت أسد; دخل إليها رسول الله (ص) فجلس عند رأسها وقال: (رحمك
الله يا أُمي، كنت أُمي بعد أُمي، تجوعين وتشبعيني، وتعرين وتكسيني، وتمنعين
نفسك طيب الطعام وتطعميني، تريدين بذلك وجه الله والآخرة). |
|
الفصل الثاني:
|
|
مراحل حياة الإمام عليّ (ع(
|
|
ولد الإمام علي (ع) قبل البعثة النبوية بعقد واحد، وعاصر
إرهاصات البعثة وكل حركة الرسالة خلال العهد المكّي ـ وهو عهد بناء الأمة
المسلمة وتكوين القاعدة الرسالية الصلبة ـ كما عاصر كل أحداث العهد المدني، حيث
تم فيه بناء الدولة الإسلامية بقيادة سيّد المرسلين (ص)، وساهم بكل وجوده في
بناء هذا الكيان الشامخ حتى تجلّى للجميع عمق وجوده في هذا البناء الرسالي
الفريد. وعلى هذا تنقسم حياة الإمام عليّ بن أبي طالب
(ع) إلى شطرين رئيسين: |
|
الفصل الثالث:
|
|
المرحلة الأولى : من الولادة إلى البعثة النبوية المباركة
|
|
ولادته :
|
|
قال عليّ (عليه السلام): (فإنّي ولدتُ على الفطرة وسَبقتُ إلى الإيمان
والهجرة)( نهج البلاغة (صبحي الصالح): الخطبة 57
ص92، وأمالي الطوسي: ص364 الرقم 765، ومناقب آل أبي طالب: 2 / 107، وشرح النهج
لابن أبي الحديد: 4 / 114، وبحار الأنوار: 41 / 217.). |
|
كناه وألقابه :
|
|
إن لأمير المؤمنين عليّ (ع)
ألقاباً وكنىً ونعوتاً يصعب حصرها والإلمام بها، وكلّها صادرة من رسول الله (ص) في شتى المواقف والمناسبات العديدة التي وقفها
(عليه السلام) لنشر الإسلام والدفاع عنه وعن الرسول. |
|
الإعداد النبويّ للإمام عليّ (عليه السلام( :
|
|
كان النبيّ (صلَّى الله عليه وآله) يتردّد كثيراً على دار
عمّه أبي طالب بالرغم من زواجه من خديجة وعيشه معها في دار منفردة، وكان يشمل
عليّاً (عليه السلام)بعواطفه، ويحوطه بعنايته،
ويحمله على صدره، ويحرّك مهده عند نومه إلى غير ذلك من مظاهر العناية والرعاية(بحار الأنوار: 35 / 43.). |
|
المرحلة الثانية : من البعثة إلى
الهجرة
|
|
عليّ (عليه السلام) أول المؤمنين برسول الله (صلَّى الله عليه وآله) :
|
|
لقد نشأ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) على قيم إلهية
سامية كما صرّح بذلك القرآن الكريم بقوله تعالى: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)( القلم (68) : 4.)، فكان النموذج المغاير لإنسان الجزيرة في معتقده وتفكيره وسلوكه
وأخلاقه، فسلك منذ نعومة أظفاره خطّاً موازياً لقيم رسالات الأنبياء سيَّما
شيخهم إبراهيم الخليل (ع)، وكان في قناعة الرسول
(صلَّى الله عليه وآله) أنّ هذا الخطّ لا يلتقي بقيم المجتمع الجاهلي، من هنا
بدأ (صلَّى الله عليه وآله) بإنشاء نواة الأسرة المؤمنة المتكونة منه وخديجة
وعليّ (عليهم السلام). |
|
علّي (عليه السلام) أوّل من صلّى :
|
|
عاش الإمام عليّ (عليه السلام) مع رسول الله (صلَّى الله
عليه وآله) كلّ متغيّرات حياة الرسول الأعظم، فكان يرى في محمّد المثل الكامل
الّذي يُشبع تطلعاته وعبقرياته، فكان يحاكيه في أفعاله ويرصده في حركاته ويقتدي
به ويطيعه في كلّ أوامره ونواهيه قبل البعثة النبويّة الشريفة وحتى آخر لحظة من
عمر النبيّ (صلَّى الله عليه وآله)، كما أجمع المؤرّخون على أنّه لم يردّ على
رسول الله كلمة قطّ. |
|
أوّل صلاة جماعة في الإسلام :
|
|
وكان رسول الله (ص) قبل
بدء أمره إذا أراد الصلاة خرج إلى شعاب مكّة مستخفياً، وأخرج عليّاً (عليه
السلام) معه فيصلّيان ما شاء الله، فإذا قضيا رجعا إلى مكانهما، فمكثا يصلّيان
على استخفاء من أبي طالب وسائر عمومتهما وقومهما، ثمّ إنّ أبا طالب مرّ عليهما
فقال لرسول الله (ص): ما هذا الذي أراك تدين به؟ |
|
عليٌّ (عليه السلام) حين إعلان الرسالة :
|
|
حديث يوم الإنذار :
|
|
وحديث يوم الإنذار هو الحديث الخاص عن اجتماع عشيرة
النبيّ (صلَّى الله عليه وآله) بدعوة منه لغرض دعوتهم إلى بيعته ومؤازرته، وكان
أوّل من أعلن استجابته لرسول الله (صلَّى الله عليه وآله) ذلك اليوم من عشيرته
الأقربين: هو عليّ بن أبي
طالب (عليه السلام). وقد ذكر المفسّرون والمؤرّخون ومنهم الطبري في تأريخه
وتفسيره معاً أنّه لمّا نزلت (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ
الْأَقْرَبِينَ) على رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) وضاق ذرعاً لما
كان يعلم به من معاندة قريش وحسدهم، فدعا عليّاً (عليه السلام) ليعينه على
الإنذار والتبليغ. |
|
عليٌ (عليه السلام) من إعلان الرسالة إلى الهجرة النبويّة
المباركة :
|
|
عجزت قريش عن إيقاف مدّ الدعوة الإسلاميّة ومنع النبيّ
(صلَّى الله عليه وآله) من التبليغ والهداية، فقد خابت مؤامراتهم ودسائسهم، وفشلت
تهمهم وتهديداتهم، لأنّ أبا طالب كان الكهف الحصين لرسول الله (صلَّى الله عليه وآله) الذي لم يزل
يدفع عنه أذى قريش وجبروتها، فلجأت قريش إلى طريقة جبانة تنمُّ عن حقدها وضعفها
فدفعت بالصبيان والأطفال للتعرّض للنبيّ (صلَّى الله عليه
وآله) ورميه بالحجارة، وهنا كان الدور الحاسم لعليّ بن أبي طالب (عليه السلام)
إذ لا يتسنّى لأبي طالب ـ وهو شيخ الهاشميّين الكبير ـ مطاردة الصبيان، فكان
عليّ يطارد الصبيان المترصّدين للنبيّ ويذودهم عنه(الاختصاص
للمفيد : 146.). |
|
عليّ (عليه السلام) في شِعب أبي طالب
:
|
|
وحين أسرع الإسلام ينتشر في مكّة وأصبح كياناً يقضّ مضاجع
المشركين وخطراً كبيراً يهدّد مصالحهم; عمد المشركون إلى اُسلوب الغدر والقهر
لإسكات صوت الرسالة الإسلاميّة، فشهروا سيوف البغي ولم يتوانَ أبو طالب في إحكام
الغطاء الأمين للرسول (صلَّى الله عليه وآله)، لما له من هيبة ومكانة شريفة في
نفوس زعماء قريش الذين لم يجرؤا على النَيْلِ من النبيّ (صلَّى الله عليه وآله)
لأنّ ذلك يعني مواجهة علنية مع أبي طالب وبني هاشم جميعاً، وقريش في غنىً عن هذه
الخطوة الباهضة التكاليف. |
|
علي (عليه السلام) والهجرة إلى الطائف :
|
|
لقد تراكمت الأحداث على الرسول، واشتدّت قريش في تحدّيه
وإيذائه بعد وفاة عمّه أبي طالب، ولم يعد في مكّة من تهابه قريش وترعى له حرمة،
حتى قال النبيّ (ص): (ما زالت قريش كاعّةً عنّي حتى مات أبو طالب)( أعيان الشيعة: 1 / 235، وسيرة ابن هشام :
2 / 57، 58.) فكان عليه أن
يُغيّر مكانه ويستبدله بمكان أكثر أمناً يستطيع منه الانطلاق لنشر الدعوة
الإسلاميّة إلى أرجاء الجزيرة العربية والعالم أجمع، فأخذ يعرض نفسه على القبائل
وابتدأ أوّلاً بالطائف، وبعد عشرة أيام من مكوثه هناك لم تتجاوب معه ثقيف، بل
أغْرت به الصبيان والخدم والعبيد ليرشقوه بالحجارة، فوقف عليّ (عليه السلام)
ومعه زيد بن حارثة يتلقّيان الضربات ويمنعان الصبية عن مواصلة الاعتداء حتى
أصيبا بجروح في جسدهما، ومع ذلك تعرّض رسول الله (ص)
للإصابة وسالت الدماء من ساقيه(شرح
نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 1 / 127.). |
|
علي (عليه السلام) في بيعة العقبة الثانية :
|
|
وحين تمّ الاتّفاق على اللقاء التأريخي بين طلائع
المسلمين القادمين من المدينة مع قائدهم الرسول (ص)
في بيت عبد المطلب سرّاً وقف إلى جانب الرسول عمّه حمزة وعليّ والعباس(لسيرة الحلبية: 2 / 174.)، وتمّت البيعة على أفضل شكل. |
|
عليّ (عليه السلام) ليلة هجرة الرسول (صلَّى الله عليه وآله) إلى المدينة
|
|
كان الانفتاح الرسالي العظيم الذي قام به النبيّ (صلَّى
الله عليه وآله) إثر المعاهدة
التي أبرمها مع الأوس والخزرج في بيعة العقبة الثانية(السيرة
النبوية لابن هشام: 1 / 440، وموسوعة التاريخ الإسلامي:
1/700.)، والذي كان نقطة انطلاق الدعوة الإسلامية إلى العالم الأوسع،
والخطوة الكبيرة لبناء المجتمع الرساليالمؤمن، بعد أن انتشر الإسلام في يثرب
بجهود الصفوة من الدعاة المخلصين والمضحّين من أجل الله ونشر تعاليم الإسلام،
وبذا أصبح للمسلمين بقعة آمنة تمثّل محطة مركزية ومهمة لبلورة العمل الثقافي
والتربوي والدعوة الإلهية في مجتمع الجزيرة العربية. |
|
مباهاة الله ملائكته بموقف عليّ (عليه السلام):
|
|
كان مبيت عليّ (عليه السلام) على فراش رسول الله (صلَّى
الله عليه وآله) خذلاناً سافراً
لقريش المعتدية، فقد خابت آمالهم وفشلت خططهم في قتل الرسول، وكان فيها إرغام
الشيطان وعلو شأن الإيمان، ولم يكن أيّ عمل نظيراً للمبيت في الثواب والقيمة،
كيف وقد باهى الله بهذه التضحية ملائكته، كما روي: |
|
مهامّ ما بعد ليلة المبيت :
|
|
مع إطلالة فجر اليوم الأوّل للهجرة المباركة وظِلال
السلام والأمان الإلهي تحوط رسول الله (ص) في
كلّ خطوة يخطوها نحو يثرب مقرّ الرسالة الإسلامية الجديد، انفرجت أسارير قلب
عليّ (عليه السلام)، فقد انصرم الليل الرهيب باحتمالاته العديدة ومكارهه الكثيرة
دون أن يقع شيء يمس حياته (عليه السلام) بخطر أو مكروه، واستطاع أن يؤدّي
المهمّة على أكمل وجه، فقد كان على قدر عال من الانضباط والدقّة والوعي في
التنفيذ. |
|
هجرة الإمام عليّ (عليه السلام) :
|
|
وصل رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) إلى (قُبا) بسلام،
واستقبلته جموع الأنصار، ومن هناك بعث بكتابه إلى عليّ (عليه السلام) يأمره فيه
بالمسير إليه والإسراع في اللحاق به، وكان قد أرسل إليه أبا واقد الليثي، وحين
وصل إليه كتاب رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) اشترى عليّ (عليه السلام) الركائب وأعدّ العدّة للخروج، وأمر من
بقي معه من ضعفاء المسلمين أن يتسلّلوا ويتخفّفوا(يتخفّفوا:
لا يحملوا معهم شيئاً يثقل عليهم.) إذا ملأ الليل
بطن كلّ واد إلى ذي طوى(ذي
طوى: موضع قرب مكة .)، وبدأت المهمّة الشاقّة الثالثة أمام عليّ (عليه السلام) وهي
الرحيل برفقة النساء نحو يثرب، وخرج هو ومعه الفواطم: فاطمة بنت رسول الله،
واُمّه فاطمة بنت أسد، وفاطمة بنت الزبير بن عبد المطلب، وفاطمة بنت حمزة،
وتبعهم أيمن مولى رسول الله وأبو واقد الليثي(أمالي
الطوسي : 2 / 84 ، وعنه بحار الأنوار :
19 / 64 .).
وتولّى أبو واقد الليثي سوق النياق، ولشدّة خشيته كان يحثّ الخطى
سريعاً حتى لا يلحق بهم الأعداء. وليس
إلاّ الله فارفع ظنَّكا = يكفيك ربّ الناس ما أهمّكا واستمرّ عليّ (عليه السلام)
على هدوئه في قيادة الركب حتى شارف على قرية في الطريق تُسمى (ضجنان) وهناك أدركته القوّة التي
أرسلتها قريش للقبض عليه ومن معه وإعادتهم إلى مكّة ، وكانوا سبعة فوارس من قريش
ملثّمين معهم مولىً لحرب بن اُمية اسمه (جناح) ،
فقال علي (ع) لأيمن وأبي واقد : أنيخا
الإبل واعقلاها ، وتقدّم هو فأنزل النسوة ثمّ استقبل الفوارس بسيفه ،
فقالوا له : أظننت يا غدّار أنّك ناجٍ بالنسوة ، إرجع لا أباً لك . |
|
من معاني مبيت الإمام (عليه السلام) في فراش النبيّ (صلَّى الله عليه وآله) :
|
|
1 ـ إنّ مبيت
الإمام (عليه السلام) ليلة الهجرة في فراش النبيّ (صلَّى الله عليه وآله) بمثابة
إعلان عن نضج شخصية الإمام علي الرسالية، وأهليّته في أن يمثّل شخصيّة الرسول
الّذي يعهد إليه في كلّ أمر مستصعب وخطب جليل ودعوة مهمّة. |
|
المرحلة الثالثة : عليّ (عليه السلام)
من الهجرة إلى وفاة النبيّ (صلّى الله
عليه وآله)
|
|
1 ـ عليّ (عليه السلام) والمؤاخاة :
|
|
حين
شرع الرسول (صلّى الله عليه وآله) بتكوين نواة المجتمع الإسلامي وأراد أن يزيد
من تماسك عرى العلاقات بين أفراد المجتمع ؛ أخي (صلّى الله عليه وآله) بين
المسلمين في موقف صريح بيّن ليرسّخ مبدأً أساسياً من مبادئ الإسلام الحنيف ، وهو
ما تتطلبه الدعوة الإسلامية في مرحلتيها السرية والعلنية ، فوقعت أوّل مؤاخاة في
الإسلام في مكّة قبل الهجرة ، حيث آخى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بين
المهاجرين والأنصار ، وحين نتفحّص عملية المؤاخاة نجد أنّ الرسول ضمّ الشكل إلى
الشكل والمثل إلى المثل (كفاية الطالب للحافظ الكنجي
: 194 .)
، لأنّ الأخوة عملية استراتيجية واسعة
ذات معاني ودلالات حركيّة في مسيرة الدعوة الإسلاميّة ، فعبر جسر الأخوة تتماسك
العلاقات بين المسلمين كما تنضج الأفكار ويتحقّق الإبداع . روي
أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) لمّا آخى بين أصحابه آخى بين أبي بكر وعمر ،
وبين عثمان وعبد الرحمن بن عوف ، ولم يؤاخِ بين عليّ بن أبي طالب وبين أحد منهم (الفصول المهمّة لابن الصبّاغ المالكي : 38 ،
والغدير للعلاّمة الأميني : 3 / 112 .) . فقال عليّ (عليه السلام) : يا
رسول الله ! لقد ذهبت روحي وانقطع ظهري حين رأيتك فعلت بأصحابك ما فعلت بغيري ،
فإن كان هذا من سخط عليَّ ؛ فلك العُتبى والكرامة . فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : والذي
بعثني بالحق ما أخّرتك إلاّ لنفسي ، وأنت منّي بمنزلة هارون من موسى غير أنّه لا
نبيّ بعدي ، وأنت أخي ووارثي . فقال (عليه السلام) : وما أرث منك ؟ قال (صلّى الله عليه وآله) : ما ورّث الأنبياء من قبلي
، كتاب ربّهم وسنّة نبيّهم ، وأنت معي في قصري في الجنّة (أخرجه
أحمد بن حنبل في مناقب عليّ (عليه السلام) ، وتأريخ دمشق لابن عساكر : 6 / 201 ،
وكنز العمال للمتّقي الهندي : 5 / 40 ، وكشف الغمة : 1 / 326 .) . وأمّا
المؤاخاة الثانية فكانت في المدينة بعد الهجرة بأشهر قليلة (كفاية
الطالب للكنجي :
82 ، تذكرة الخواص : 14 ، والفصول المهمّة : 38 .) . كما وردت أحاديث المؤاخاة بين النبيّ (صلّى
الله عليه وآله) وعليّ (ع) يصيغ مختلفة ومصادر عديدة منها : تأريخ ابن كثير : 7
/ 235 ، والفصول المهمّة : 22 ، ومسند أحمد : 1 : 23 ، وتأريخ ابن هشام : 2 :
132 ، وتأريخ دمشق : 6 / 201 ، وفرائد السمطين : 1 / 226 ، والغدير : 3 / 115 ،
وكفاية الطالب : 185 . |
|
2 ـ اقتران عليّ (عليه السلام) بالزهراء (عليها السلام) :
|
|
بعد
أن استقرّ المقام بالمسلمين وبدأت مبادئ الإسلام وتعاليمه تترسّخ في نفوس
المسلمين وظهرت يدهم القويّة في الدفاع عن الرسالة والرسول ؛ تفتّحت العلاقات
بين المسلمين في صورة مجتمع متمدّن ونهضة ثقافية اجتماعية شاملة ، يتزعّمها
الرسول الكريم (صلّى الله عليه وآله) الذي عصمه الله في الفهم والتلقّي والإبلاغ
والتربية والتنفيذ ، وها هو عليّ (عليه السلام) قد تجاوز العشرين من عمره الشريف
وهو يصول في سوح الجهاد والدفاع عن العقيدة والدعوة الإسلامية ، ويقف مع الرسول
في كلّ خطواته ، وقد بلغ من نفس الرسول أعلى منزلة ، يعيش معه وهو أقرب من أيّ
واحد من المسلمين ، وبعد أن انقضت سنتان من الهجرة وفي بيت الرسول بلغت ابنته
الزهراء (عليها السلام) مبلغ النساء ، وشرع الخطّاب بما فيهم أبو بكر وعمر (كشف
الغمة : 1 / 353) يتسابقون إلى النبيّ (صلّى الله عليه وآله) يطلبونها منه
وهو يردّهم ردّاً جميلاً ويقول : إنّي أنظر فيها أمر الله ، وكان عليّ من
الراغبين في الزواج منها . ولكن كان يمنعه عن مفاتحة النبيّ (صلّى الله عليه وآله)
الحياء وقلّة ذات اليد ، فلم يكن عليّ (عليه السلام) من الذين يملكون الأموال ن
وبتشجيع من بعض أصحاب الرسول تقدّم عليّ لخطبة الزهراء ، فدخل على النبيّ وهو
مطرق إلى الأرض من الحياء ، فأحسّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) بما في نفسه
فاستقبله ببشاشته وطلاقة وجهه الكريم ، وأقبل عليه يسأله برفق ولطف عن حاجته ،
فأجابه (عليه السلام) بصوت ضعيف : يا رسول الله
تزوّجني من فاطمة ؟ فردّ النبي (صلّى الله عليه وآله) قائلاً : مرحباً وأهلاً ، ودخل على بضعته الزهراء ليعرض
عليها رغبة عليّ (عليه السلام) فيها ، فقال (صلّى الله عليه وآله) لها :
لقد سألت ربّي أن يزوّجك خير خلقه وأحبّهم اليه ، وقد عرفت عليّاً وفضله ومواقفه
، وجاءني اليوم خاطباً فما ترين ؟ فأمسكت ولم تتكلّم بشيء ، فخرج النبيّ (صلّى الله عليه
وآله) وهو يقول : سكوتها رضاها وإقرارها . ثمّ إنّ الرسول (ص) جمع
المسلمين وخطب فيهم ، فقال : إنّ الله أمرني أن أزوّج فاطمة من عليّ ... ثمّ التفت إلى عليّ (عليه السلام) فقال : لقد أمرني ربّي أن أزوجك فاطمة ...
أرضيت هذا الزواج يا عليّ ؟
فقال (عليه السلام) : رضيته يا رسول الله ، وخرّ ساجداً لله . فقال النبيّ (صلّى الله عليه وآله) : بارك
الله فيكما ، وجعل منكما الكثير الطيب . وجاء عليّ (عليه السلام) بالمهر الذي هيّأه من بيع درعه
فوضعه بين يدي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فأمر الرسول أبا بكر وبلالاً
وعمّاراً وجماعةً من الصحابة وأم أيمن لشراء جهاز الزواج ، ولمّا تم الجهاز وعرض
على الرسول ؛ جعل يقلّبه بيده ويقول : بارك الله لقوم جلّ آنيتهم من الخزف . وبيسر وبساطة ودون تكاليف تمت الخطبة والزواج ، وكان الجهاز
من أبسط ما عرفته المدينة ، واحتفل النبيّ وبنو هاشم بهذا الزواج الميمون (كشف
الغمة : 1 / 348 ، وبحار الأنوار : 43 / 92 ، ودلائل الإمامة للطبري : 16 ـ 17 .) . وروي أنّ النبي (ص) عوتب في
زواج فاطمة (ع) فقال : لو
لم يخلق الله عليّ بن أبي طالب لما كان لفاطمة كفؤ . وفي خبر آخر أنّه (صلّى الله عليه وآله) قال مخاطباً عليّاً
(عليه السلام) : لولاك لما كان لها كفؤ على وجه الأرض (المناقب
لابن شهر آشوب : 2
/ 181 .)
. |
|
3 ـ عليّ (عليه السلام) مع الرسول (صلّى الله عليه وآله) في معاركه :
|
|
أ ـ عليّ (عليه السلام) في معركة بدر :
|
|
فتح رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بهجرته عهداً جديداً في
تأريخ البشرية بشكل عامّ وفي تأريخ الرسالة الإسلامية بشكل خاص ، وبدأت معالم
الدولة تتوضّح ومظاهر قوة المسلمين تبدو للعيان ، وفي الجانب الآخر لم تتوقّف
قريش ومن والاها من المشركين ويهود المدينة الذين أظهروا السلم نفاقاً وتغطيةً
على التخطيط السرّي للقضاء على الإسلام وأهله ، وكان رسول الله (صلّى الله عليه
وآله) يعالج الأمور بحكمة ورويّة ، ومن الطبيعي أن لا يقف النبيّ من مؤامرات
أعداء الإسلام وتحرّشاتهم موقف الضعيف المتخاذل ، فأخذ يرسل السرايا ليهدّدهم
ويطاردهم أحياناً . ولما كان للمدينة موقع استراتيجي مهم في طرق التجارة
والمواصلات في الجزيرة العربية ؛ فقد أصبح المسلمون بعد تزايد عددهم قوّة ضغط
لابدّ من وضعها في الحسبان ، ومنذ أن وطأت قدم عليّ (عليه السلام) مدينة الرسول
(صلّى الله عليه وآله) ؛ بدأ العمل في كلّ جوانب الحياة وما تتطلبه الرسالة
الإسلامية جنباً إلى جنب الرسول من بناء الدولة ونشر الرسالة مندفعاً بطاقة
ذاتية هائلة بما وهبه الله من قوّة وعزيمة لا توازيها قوّة وطاقة مجموعة كبيرة
من الأفراد ، فكان الذراع القويّ التي يضرب بها رسول
الله (ص) ، ونجد هذا واضحاً جليّاً في كلّ وقعة ومعركة دخل فيها عليّ (ع) ، وكان من طبيعة المعارك أنّها تتوقّف في
العادة على الجولة الأولى ، فمن يفوز فيها تحسم المعركة لصالحه ، كما في معركة
بدر (يقال
لها : معركة بدر العظمى ، وقعت في السنة الثانية للهجرة في السابع عشر من شهر
رمضان ، وقيل : في
التاسع عشر منه .) التي كانت عنواناً لبداية اُفول كلّ
القوى العسكرية في الجزيرة وخصوصاً قريش ، ومنطلقاً للانتصارات والفتوحات التي
حقّقها المسلمون . روي أنّ عتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة خرجوا ودعوا
إلى المبارزة ، فخرج إليهم في البداية عوف ومُعَوِّذ ابنا عفراء وعبد الله بن
رواحة وكلّهم من الأنصار ، فقالوا لهم : من أنتم ؟ قالوا : من الأنصار ، فقالوا
: أكفاء كرام وما لنا بكم من حاجة ، ليخرج الينا أكفاؤنا من قومنا . فأمر النبيّ (صلّى الله عليه وآله) عمّه حمزة وعبيدة بن
الحارث وعليّاً بمبارزتهم ، فدنا بعضهم من بعض فبارز عبيدة بن الحارث عتبة ،
وبارز حمزة شيبة ، وبارز عليّ (ع) الوليد ،
فأمّا حمزة فلم يمهل شيبة أن قتله ، وقتل عليٌّ (ع)
الوليد ، واختلف عبيدة وعتبة بينهما ضربتين كلاهما قد أثبت صاحبه ، وكرّ حمزة وعليّ (ع) على عتبة فقتلاه
(لكامل
في التأريخ :
2 / 134 و 135
ط مؤسسة الأعلمي ، وتأريخ الطبري : 3 / 35) . ثمّ نشبت المعركة بين طرفين غير متكافئين بالموازين العسكرية
: جبهة المسلمين وعددها ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً ، تقاتل عن إيمان وعقيدة ،
تدافع عن الحقّ وتدعو إليه ، وجبهة قريش وعددها تسعمائة وخمسون رجلاً تقاتل عن
حميّة وعصبيّة جاهلية ، وهنا دخلت عناصر جديدة في الحرب منها : دعاء الرسول
(صلّى الله عليه وآله) وثباته وبسالة حمزة وقوّة عليّ
(ع) ، فغاص عليّ وحمزة وأبطال المسلمين في وسط قريش ، ونسي كلّ واحد منهم
نفسه وكثرة عدوه ، فتطايرت الرؤوس عن الأجساد ، وأمدّ الله المسلمين بالقوة
والعزيمة والثبات ، واسر المسلمون كلّ من عجز عن الفرار حتى بلغ عدد الأسرى
سبعين رجلاً ، وعدد القتلى اثنين وسبعين رجلاً . وتنصّ الروايات على أنّ عليّاً (عليه السلام) قتل العدد
الأكبر منهم ، فعلى أقل التقادير أنّه (ع) قتل
أربعة وعشرين ، وشارك في قتل ثمانية وعشرين آخرين ، ويبدو أنّ الذين قتلهم عليّ (ع) هم أبطال قريش وصناديدها (الإرشاد
للمفيد : 64 الفصل 19 الباب 2 ، وكشف الغمّة : 1 / 182 .) . في
هذه المعركة المهمّة كان عليّ (ع) صاحب راية
رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إضافة إلى دوره الحاسم لنتيجة المعركة (لاستيعاب
لابن عبد البرّ المالكي بهامش الإصابة : 3 / 33 ، وتأريخ دمشق لابن عساكر : 1 / 142 .) . وروي أنّ رجلاً من بني كنانة دخل على معاوية بن أبي سفيان
فقال له : هل شهدت بدراً ؟ قال : نعم ، قال : فحدّثني ما رأيت وحضرت . قال : ما كنّا شهوداً إلاّ كغياب ، وما رأينا ظفراً كان أوشك
منه ، قال : فصف لي ما رأيت . قال : رأيت عليّ بن أبي طالب غلاماً شابّاً ليثاً عبقرياً
يفري الفري ، لا يثبت له أحد إلاّ قتله ، ولا يضرب شيئاً إلاّ هتكه ، ولم أر من
الناس أحداً قطّ أنفق منه يحمل حملته ويلتفت التفاتة ، كأنّه ثعلب روّاغ ،
وكأنَّ له عينان في قفاه ، وكأنّ وثوبَه وثوبُ وحش (حلية
الأولياء لأبي نعيم : 9 / 145 .) . |
|
ب ـ عليّ (عليه السلام) في معركة اُحد :
|
|
لم تكن قريش لتنسى هزيمتها الساحقة في معركة بدر ومقتل
صناديدها ورجالها وكثير من أبطالها فعزمت على الثأر من المسلمين ردّاً لاعتبارها
الذي فقدته ، ولم يمضِ سوى عام حتى استكملت قريش عدّتها ، واجتمع إليها أحلافها
من المشركين واليهود ، وانضمّ اليهم كلّ حاقد وناقم على الدين الإسلامي ،
فاتّفقت كلمة الكفر ، واتّحدت قوى الباطل لمواجهة الحقّ ، وخرج جيش الكفر
باتّجاه المدينة وقد تجاوز عدده ثلاثة آلاف ، وذلك في أوائل شوال من السنة
الثالثة للهجرة ، وما أن وصل خبرهم إلى مسامع النبيّ
(ص) حتى جمع المسلمين واستشارهم في الموقف المناسب الذي يجب أن يتّخذوه ،
تمّ خطب فيهم وحثّهم على القتال والصبر والثبات ، ووعدهم بالنصر والأجر ، وتجهّز
للخروج بمن معه وكانوا ألفاً أو يزيدون ، ودفع لواءه لعليّ
بن أبي طالب (ع) ووزّع الرايات على وجوه المهاجرين والأنصار ، وأبى
النفاق إلاّ أن يأخذ دوره في إضعاف المسلمين ، فرجع عبد الله ابن أبي بمن تبعه
في منتصف الطريق ، وكان عددهم يناهز الثلاثمائة (الكامل
في التأريخ :
2 / 150 ، وسيرة ابن هشام : 3 / 64 .) . واستمرّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) في مسيره قدماً حتى
بلغ أُحداً ، فأعدّ أصحابه للقتال ووضع تخطيطاً سليماً محكماً للمعركة يضمن لهم
النصر ، حيث أمر خمسين رجلاً من الرماة أن يكونوا من وراء المسلمين إلى جانب
الجبل ، وأكّد عليهم بأن يلزموا أماكنهم ولا يتركوها حتى لو قُتل المسلمون
جميعاً
(مغازي
الواقدي : 1 /
224 ، والكامل في التأريخ : 2 / 152 ، وسيرة ابن هشام : 3 / 66 .) . ووصلت قريش إلى (أُحد) وأعدّوا أنفسهم للقتال ، فقسّموا
الأدوار ووزّعوا المهام كما بدا لهم ، وأعطوا لواءهم لبني عبد الدار ، وأوّل من
استلمه منهم طلحة بن أبي طلحة ، ولمّا علم النبيّ بذلك أخذ اللواء من عليّ (ع) وسلّمه إلى مصعب بن عمير وكان من بني عبد
الدار ، وبقي معه إلى أن قُتل ، وحينئذٍ ردّه النبيّ (ص) إلى عليّ (ع) (تأريخ
الطبري : 2 /
199 ط
مؤسسة الأعلمي .)
، وكانت
معركة (أُحد) قد وقعت في شوال من العام الثالث من الهجرة . وفي اللحظة التي كمل فيها التنظيم انطلقت شرارة المعركة
عندما برز كبش الشرك وحامل رايتهم طلحة بن أبي طلحة الذي كان يُعدّ من شجعان
قريش ، يتقدّم نحو المسلمين رافعاً صوته متحدّياً لهم مستخفّاً بجمعهم قائلاً :
يا معشر أصحاب محمد ! إنّكم تزعمون أنّ الله يعجلنا بسيوفكم إلى النار ويعجلكم
بسيوفنا إلى الجنّة ؛ فهل أحد منكم يعجله سيفي إلى الجنّة أو يعجلني سيفه إلى
النار ؟ فخرج إليه عليّ (عليه السلام) (سيرة
ابن هشام : 3 /
73 .)
وبرزا بين الصفّين ورسول الله (صلّى الله عليه وآله) جالس في عريش أُعدّ له يشرف
على المعركة ويراقب سيرها ، فضرب عليّ طلحة فقطع رجله وسقط على الأرض وسقطت
الراية ، فذهب علي ليجهز عليه فكشف عورته وناشده الله والرحم ، فتركه عليّ (عليه
السلام) فكبّر رسول الله وكبّر معه المسلمون فرحاً بنتيجة هذه الجولة . ثمّ تقدّم أخوه عثمان بن أبي طلحة فحمل الراية فحمل عليه
حمزة بن عبد المطلب فضربه فقتله ، فحمل اللواء من بعده أخوهما أبو سعيد ، فحمل
عليه عليّ (ع) فقتله ، ثمّ أخذ اللواء أرطاة بن
شرحبيل فقتله عليّ ، وهكذا تعاقب على حمل اللواء تسعة من بني عبد الدار قُتلوا
بأجمعهم بسيف عليّ (الكامل في التاريخ : 2 / 152 ـ 154 .) أو سيف حمزة ، وكان آخر من حمل اللواء هو غلام لبني عبد
الدار يُدعى (صواب) فحمل عليه عليّ وقتله ، وسقط اللواء من بعده في ساحة المعركة
ولم يجرؤ أحد أن يحمله ، فدبّ الرعب في قلوب المشركين ، وانهارت معنوياتهم ،
وانكشف المشركون لا يلوون على شيء حتى أحاط المسلمون بنسائهم ، وبدت المعركة
وكأنّها قد حُسمت لصالح المسلمين . وهنا عصفت النازلة العظمى بالمسلمين حيث ترك الرماة موقعهم
فوق الجبل ، وانحدروا يشاركون إخوتهم غنائم المعركة ، ولم يثبت على الجبل إلاّ
عشرة رماة . فنظر خالد بن الوليد ـ وكان على خيل المشركين ـ خلوّ الجبل
وقلّة الثابتين صاح بخيله ، وكرّ يحمل على الرماة وتبعه عكرمة فقتلوهم ، وهنا
تغيّر ميزان القوة ورجحت كفّته لصالح المشركين ، فاستطاعوا أن ينفذوا ويشقّوا
صفوف المسلمين (تأريخ الطبري : 2 / 194 ط
مؤسسة الأعلمي .) ، وكانت المأساة التي لم يعرف
المسلمون لها مثيلاً ، فارتبك المسلمون وضاع صوابهم ، فكانت هزيمة بعد نصر
وانكساراً بعد انتصار ، وتفرّق الناس كلّهم عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله)
وأسلموه إلى أعدائه بعد أن استشهد عمّه حمزة ومصعب بن عمير ، ولم يبق معه أحد
إلاّ عليّ ونفر قليل من المهاجرين والأنصار . في
هذه اللحظات الحاسمة والحرجة سجّل التأريخ موقف الصمود والفداء الذي وقفه عليّ (ع) من رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وقف
ليدافع عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله) بكلّ قوة وبسالة وهمّه سلامة الرسول
والرسالة ، إذ كان يحمل الراية بيد والسيف بالأخرى يصدّ الكتائب ويردّ الهجمات
عن الرسول ، وكأنّه جيش بكامل عِدَّته وعُدَّته ، وكان الرسول كلّما رأى جماعة
تهجم عليه قال لعليّ (ع) : يا عليّ احمل عليهم ، فيحمل
عليهم ويفرّقهم ، فلم يزل عليّ يقاتل حتى أثخنته جراحات عديدة في وجهه ورأسه
وصدره وبطنه ويديه (الكامل
في التأريخ :
2 / 154 ، وأعيان الشيعة : 1 / 288 ، وبحار الأنوار : 20 / 54 .) . فأتى جبرئيل (عليه السلام) النبيّ (صلّى الله عليه وآله)
فقال : إنّ هذه لهي المواساة ، فقال رسول الله (ص) : إنّه منّي وأنا منه ، فقال جبرئيل : وأنا منكما
، فسمعوا صوتاً في السماء ينادي : لا سيف إلاّ ذو الفقار ولا فتى إلاّ عليّ (الكامل في التأريخ : 2 /
154 ، وفرائد السمطين للحمويني : 1 / 257 الحديث 198 ، 199 ، وتأريخ دمشق لابن
عساكر : 1 / 148 ، وروضة الكافي : الحديث : 90 .)
. وهكذا استطاع أمير المؤمنين (عليه السلام) أن يحافظ على حياة
الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله)، وأن يوصل نتيجة المعركة إلى حالة من
التوازن دون أن يحرز أحد الطرفين نصراً حاسماً. |
|
مواقف بعد معركة
(أُحد) :
|
|
ولمّا انصرف أبو سفيان ومن معه ؛ بعث رسول الله (صلّى الله
عليه وآله) عليّاً (عليه السلام) فقال : اخرج في آثار القوم وانظر ماذا
يصنعون ، فإن كانوا قد جنّبوا الخيل وامتطوا الإبل فإنّهم يريدون مكّة ، وإن
ركبوا الخيل وساقوا الإبل فهم يريدون المدينة . قال عليّ (عليه السلام) : فخرجتُ في آثارهم فرأيتهم جنّبوا الخيل وامتطوا
الإبل يريدون مكّة
(أعيان الشيعة : 1 / 389 ،
والسيرة النبوية لابن هشام : 3 / 94 .) . ولمّا رجع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إلى أهله ناول
سيفه ابنته فاطمة (عليها السلام) وقال : اغسلي عن هذا دمه يا بنية ، وناولها عليّ (ع) سفيه وقد خضّب
الدم يده إلى كتفه ، فقال لها رسول الله (ص) : خذيه يا فاطمة فقد أدّى
بعلك ما عليه ، وقد قتل الله بسيفه صناديد قريش (أعيان الشيعة : 1 / 390) . كانت معركة أُحد قاسية نتيجتها ، شديدة وطأتها ، باهضة
مكلّفة خسارتها ، ورغم مرارة المعركة نلمح فيها ومضات ساطعة من مواقف عليّ (عليه
السلام) ، فقد امتاز بأمور دون أن يشاركه فيها أحد : 1 ـ أنه كان صاحب راية رسول الله (ص)
والتي لم تسقط إلى الأرض رغم فرار أغلب المسلمين . 2 ـ قتله (عليه السلام) أصحاب راية
المشركين الذين تصدّوا لحملها ، وقد أظهر بذلك حنكة عسكرية وشجاعة فذّة ، وأحدث
بذلك شرخاً كبيراً في صفوف المشركين كان سبباً في هزيمتهم في أوّل المعركة . 3 ـ ثباته (عليه السلام) مع رسول الله
(صلّى الله عليه وآله) وعدم فراره بعدما فرّ عنه الناس يدلّ على إيمانه المطلق
بالمعركة ، والذي يكشف عن عمق العقيدة ورسوخها في نفسه (عليه السلام) . 4 ـ أنه كان هو المحامي عن رسول الله
(صلّى الله عليه وآله) والدافع عنه كتائب المشركين الذين قصدوا قتل النبي (صلّى
الله عليه وآله) ، فكان (عليه السلام) يمثّل الدرع التي تقي رسول الله عن وصول مكروه
إليه ، وهذا يدلّ على عظيم حبّه للرسول
وتفانيه في الحرص على سلامته . 5 ـ أنّ أكثر المقتولين من المشركين
يومئذٍ قتلاه (الإرشاد
: 82 ، الفصل 23 الباب 2 .) ، وهذا يدلّ على فاعليته القتالية العالية
وقوّته وشجاعته (عليه السلام) . 6 ـ الأخلاق والقيم العالية التي عكسها
في المعركة حيث ترك الإجهاز على طلحة بن أبي طلحة عندما كشف عن عورته حياءً منه
(عليه السلام) وتكرّماً . 7 ـ أنّه (عليه السلام) كان قريباً من
رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ملازماً له حيث كان الرسول يوجّهه ليرد الهاجمين عليه ،
وأيضاً هو الذي أخذ بيد النبي (صلّى الله عليه وآله) لمّا سقط في إحدى الحفر
التي حفرها أبو عامر الراهب في ساحة المعركة ليقع فيها المسلمون (سيرة ابن هشام : 3 / 80 .) . كما أنّه هو الذي حمل الماء بدرقته إلى
النبيّ (صلّى الله عليه وآله) ليغسل الدم والتراب عن وجهه ورأسه . 8 ـ ورغم الجراحات التي تعرّض
لها عليّ (عليه السلام) والجهد الذي بذله ؛ فقد أرسله النبيّ
(ص) بعد انصراف قريش عن المعركة ليستطلع أخبارهم ، وهذا يدلّ على ثقة
الرسول بقدرة عليّ ودقّة ضبطه للمعلومات وحنكته في معالجة الأمور الطارئة ،
فالمعركة لم تنته بعد تماماً (هذه
الامتيازات لعليّ (عليه السلام) في غزوة أُحد قد ذكرها العلاّمة السيد محسن
الأمين في أعيان الشيعة : 1 : 390 فراجع .) . |
|
ج ـ عليّ (عليه
السلام) في معركة الخندق :
|
|
تمثّل أمام قريش الفشل في القضاء على المسلمين حقيقة واضحة ن
ولكنّها الجاهلية والعناد والإصرار على الكفر ، فعادت قريش تتهيّأ مرةً أخرى
لتوجيه الضربة القاضية للمسلمين ، وذلك بالتحالف مع القبائل الجاهلية الأخرى
واليهود أيضاً ، حتى بلغ عددهم عشرة آلاف يقودها أبو سفيان (السيرة الحلبية : 2 / 631.) ،
وازداد غيظ وحقد المشركين حين واجهوا الأسلوب الدفاعي والتكتيك الحربي الّذي
اتّخذه الرسول (ص) ، بعد أن استشار أصحابه فأشار
سلمان الفارسي رضي الله عنه بحفر الخندق ، غير أنّ الاندفاع والحماس والغرور
بالعدّة والعدد كان قويّاً في نفوس الأحزاب المجتمعة لقتال المسلمين والقضاء على
الإسلام نهائياً . وتمكّن بعض فرسان قريش من عبور الخندق من مكان ضيّق فيه ،
فأصبحوا هم والمسلمون على صعيد واحد ، فازداد المسلمون خوفاً على خوفهم وخرج
عليّ بن أبي طالب في نفر من المسلمين حتى أخذ عليهم الثغرة التي أقحموا منها
خيلهم . فوقف عمرو بن عبد ودّ يطلب المبارزة ويتحدّى المسلمين ،
وهدأت أصوات المسلمين أمام صيحاته وكأنّ على رؤوسهم الطير ، كلّ يفكر في نفسه
ويحسب لهذا الفارس ألف حساب . فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : هل يبارزه أحد ؟
فبرز إليه عليّ (عليه السلام) فقال : أنا له يا رسول الله ، فأجلسه النبيّ ، وللمرّة الثانية
والثالثة طالب عمرو المبارزة فلم يكن يجيبه إلاّ عليّ (عليه السلام) وفي كلّ
مرّة كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يطلب منه الجلوس (السيرة النبوية لابن هشام :
3 / 224 ، تاريخ الطبري : 3 / 172 ، والكامل في التاريخ : 2 / 180 ، والسيرة
الحلبية : 2 /
318 .) ثم أذن النبيّ لعليّ بعد أن عمّمه بعمامته
وقلّده بسيفه وألبسه درعه ، ثمّ رفع يديه وقال : (اللّهم إنّك أخذت عبيدة يوم بدر وحمزة يوم
أُحد وهذا عليّ أخي وابن عمّي فلا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين) (موسوعة التاريخ الإسلامي : 2 / 491 و 492 ، عن
شرح نهج البلاغة : 19 / 61 ، وراجع المناقب للخوارزمي : 144 ، السيرة الحلبية :
2 / 318 .) . وبرز عليّ (عليه السلام) إلى ساحة المعركة بعد أن قال رسول
الله (صلّى الله عليه وآله) : (برز الإيمان كلّه إلى الشرك كلّه) (شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 19/ 61 ،
ينابيع المودة : الباب الثالث والعشرون ، رواه عن ابن مسعود ورواه الميلاني في
قادتنا : 2 / 108 عن الدميري في حياة الحيوان : 1 / 248 وعن الفضل بن روزبهان :
انّه حديث صحيح لا ينكره إلاّ سقيم الرأي ضعيف الإيمان . ولكنه ليس نصّاً في
الإمامة .) . وانحدر عليّ (عليه السلام) نحو عمرو والثقة بنصر الله تملأ
قلبه ، أمّا عمرو فقد كان لقاؤه مع عليّ مفاجأة له ، وفي هذا الموقف تردّد عمرو
في مبارزة عليّ (عليه السلام) فقال له : يا عمرو ، إنّك كنت في
الجاهلية تقول : لا يدعوني أحد إلى ثلاثة إلاّ قبلتها أو واحدة منها ، قال : أجل . قال عليّ (عليه السلام) : فإنّي أدعوك إلى شهادة أن لا
إله إلاّ الله وأنّ محمداً رسول الله وأن تسلم لربّ العالمين ، قال : أخّر عني هذه ، قال علي (عليه
السلام) : أما إنّها خير لك لو أخذتها ، ثمّ قال : ترجع من حيث جئت ، قال: لا تتحدّث نساء قريش بهذا
أبداً ، قال عليّ (عليه السلام) : تنزل تقاتلني . فغضب عمرو عند ذلك ونزل عن فرسه وعقرها ، ثمّ أقبل على عليّ
(عليه السلام) فتقاتلا ، وضربه عمرو بسيفه فاتّقاه عليّ بدرقته ، فأثبت
فيها السيف وأصاب رأسه ، ثمّ ضربه عليّ على عاتقه فسقط إلى الأرض يخور بدمه ،
وعندها كبّر علي (عليه السلام) وكبّر المسلمون خلفه ، وانجلت الواقعة عن مصرع
عمرو ، وفرّ أصحابه من هول ما شاهدوه ، فلحق بهم عليّ فسقط نوفل بن عبد الله في
الخندق فنزل إليه علي فقتله (تاريخ
دمشق : 1 / 150 ، وراجع أيضاً موسوعة التاريخ الإسلامي : 2 / 495 .) . وتلقّت الأحزاب هذه الضربة القاسية بدهشة واستغراب ، لأنّها
لم تكن تتوقّع أنّ أحداً يجرؤ على قتل عمرو بن عبدودّ ، فدبّ الخوف في نفوسهم
ولم يجسر أحد منهم على تكرار المحاولة إلاّ أنّهم بقوا محاصرين للمدينة فترة من
الزمن حتى أذن الله بهزيمتهم حين استخدم رسول الله أسلوباً آخر لمحاربتهم . وامتاز عليّ (عليه السلام) على جميع من حضروا غزوة
الخندق بأمور : 1 ـ مبادرته لحماية الثغرة التي عبر
منها عمرو وأصحابه ، والتي تدلّ على الحزم والإقدام في مواجهة الطوارئ في ساحة
المعركة . 2 ـ مبارزته عَمْراً وقتله ، وقد تردّد
المسلمون في مبارزته فلم يخرج إليه أحد ، وقد قال رسول
الله (ص) مشيداً بموقف عليّ (ع )
:
(لمبارزة عليّ بن أبي طالب
لعمرو بن عبدودّ يوم الخندق أفضل من عمل أمتي إلى يوم القيامة) (مستدرك
الحاكم : 3 / 32 ، نقلاً عن هامش تأريخ دمشق : 1 / 155 ، وفرائد السمطين : 1 /
255 حديث 197 .) . 3 ـ الشجاعة والقوّة الفائقة التي ظهرت
منه (عليه السلام) طوال المعركة تمثلت واضحة حينما لحق المنهزمين الذين عبروا مع
عمرو بن عبدود ، وهو راجل وهم فرسان . 4 ـ الأخلاق العالية التي كان يتميز بها
(عليه السلام) في شتّى المواقف ، مظهراً فيها عظمة الرسالة والرسول ، منها أنه
لم يسلب عَمْراً درعه مع أنّها من الدروع الممتازة بين دروع العرب . 5 ـ إن قتله (عليه السلام) عَمْراً
ونوفلاً ولحوقه بالمنهزمين كان سبباً في إعادة الثقة للمسلمين بنفوسهم بعدما
رأوا الجمع الكبير لقريش وأحلافها ، وأيضاً كان سبباً لهزيمة المشركين مع ما
أصابهم من الريح والبرد وسبب خوفهم من أن يعاودوا الغزو . 6 ـ الشرف الرفيع الذي ناله عليّ (ع) بشهادة الرسول حين قال (ص)
عند مبارزة عليّ (ع) : ( برز
الإيمان كلّه إلى الشرك كلّه
) (شرح نهج البلاغة لابن أبي
الحديد ك 19 / 61 .) . |
|
د ـ عليّ (عليه
السلام) في صلح الحديبية (
|
|
كان خروج النبي لأداء العمرة
في مطلع ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة المباركة .) :
بعد الأحداث المتغيّرة والمؤلمة
والمعارك الدامية التي خاضها النبيّ (صلّى الله عليه وآله) والمسلمون مع قريش واليهود ؛ تمكّنت
الرسالة الإسلاميّة أن تخطو خطوات بعيدة المدى تحقّق من خلالها للمسلمين كياناً
واضحاً ووجوداً مستقلاً وقوة لابدّ من حسابها في شتى الميادين . وكان المسلمون يشغفون شوقاً لزيارة الكعبة ويتذكّرونها كلّما
وقفوا في صلاتهم متّجهين نحوها . في هذا الوقت من عمر الرسالة الإسلامية عزم
النبيّ (صلّى الله عليه وآله) على أداء فريضة من فرائض الإسلام بأمر
من الله ، فقرّر الحجّ واتّخذ كلّ الإجراءات والتدابير اللازمة لمثل هذه الخطوة
حتّى أعلن (صلّى الله عليه وآله) مراراً أنّه لا يريد الحرب ضد قريش أو غيرها . ولمّا علمت قريش بالخبر ، اجتمعت كلمتهم على منعه (صلّى الله
عليه وآله) من دخول مكّة مهما كلّفهم ذلك من جهد وخسائر ، وأرسلوا خالد
بن الوليد على رأس جماعة من الفرسان ليقطع عليه الطريق . وحين نزل النبيّ (صلّى الله عليه وآله) والمسلمون منطقة
(الجحفة) ؛ كان الماء قد نفد لديهم ولم يجدوا ماءً ، فأرسل (صلّى الله عليه وآله) الروايا
فلم يتمكّنوا من جلب الماء لتردّدهم وخوفهم من قريش ، عندها دعا (صلّى الله عليه
وآله) عليّاً (عليه السلام) وأرسله بالروايا لجلب الماء ، وخرج السقاة وهم لا
يشكّون في رجوعه لمّا رأوا من رجوع من تقدّمه ، فخرج عليٌّ
(ع) حتى وصل (الحرار) واستقى ، ثمّ أقبل بها إلى النبيّ (صلّى الله عليه
وآله) ولها زَجَل ، فلمّا دخل كبّر النبيّ (صلّى الله عليه وآله) ودعا
له بالخير (الإرشاد
: 108 ، الفصل 30 الباب 2 ، وكشف الغمة : 1
/ 280 باب
المناقب مثله .) . ثم إن قريشاً اضطرّت النبيّ أن يعدل عن الطريق المؤدّي إلى
مكّة ، وانحرف به رجل من (أسلم) إلى طريق وعرة المسالك
خرجوا منها إلى ثنية المراد ، فهبط الحديبيّة ، وحاولت قريش أكثر من مرّة
التحرّش بالمسلمين ومهاجمتهم بقيادة خالد بن الوليد ، لكنّ عليّاً (عليه السلام)
وجماعة من المسلمين الأشدّاء كانوا يصدّون تلك الغارات ويفوّتون الفرصة على قريش
في جميع محاولاتها العدوانية (سيرة
الأئمّة الاثني عشر للحسني : 1 / 217 نقلاً عن ابن إسحاق .) . واضطرّت قريش أن تفاوض النبيّ (ص)
بعدما رأت العزيمة والإصرار منه ومن المسلمين على دخول مكّة ، فأرسلت إليه
مندوبين عنها للتفاوض ، وكان آخرهم سهيل بن عمر وحويطب من بني عبد العزّى .
ويبدو أنّ المفاوضات لم تنحصر بخصوص قضيّة الدخول إلى مكّة في ذلك العام (كنز العمال : 10 / 472 ،
غزوة الحديبية .) بل تناولت أموراً أخرى لصالح الطرفين . فقد روي أنّ عليّاً (عليه السلام) قال : لمّا كان يوم الحديبيّة ؛
خرج إلينا ناس من المشركين فقالوا لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) : يا محمد !
خرج إليك أناس من أبنائنا وإخواننا وأرقّائنا وليس لهم فقه في الدين ، وإنّما
خرجوا فراراً من أموالنا وضياعنا فارددهم إلينا ، فقال : إذا لم يكن لهم فقه في
الدين كما تزعمون سنفقّههم فيه ، وأضاف إلى ذلك : يا معشر قريش ! لتنتهنّ أو ليبعثنّ
الله عليكم من يضرب رقابكم بالسيف قد امتحن الله قلبه بالإيمان ، فقال له أبو
بكر وعمر والمشركون : من هو ذلك الرجل يا رسول الله ، فقال (صلّى الله عليه
وآله) : هو خاصف النعل
، وكان قد أعطى نعله لعليّ (عليه السلام) يخصفها (ينابيع
المودة للقندوزي : 59 ، وكنز العمال :
13 / 173 ، وفضائل الخمسة للفيروزآبادي : 2 / 237 .) . وبعد أن تمّ الاتّفاق بين الطرفين على بنود الصلح ؛ دعا رسول
الله (صلّى الله عليه وآله) عليّ بن أبي طالب فقال له : اُكتب يا عليّ ، بسم الله الرحمن
الرحيم
، فقال سهيل : أمّا الرحمن فو الله ما أدري ما هو لكن اكتب باسمك اللّهمّ ، فقال
المسلمون : والله لا نكتبها إلاّ بسم الله الرحمن الرحيم ، فقال النبيّ (صلّى
الله عليه وآله) : اُكتب باسمك اللّهمّ ، هذا ما قاضى
عليه محمّد رسول الله
، فقال سهيل : لو كنّا نعلم أنّك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك ،
ولكن اكتب محمّد بن عبد الله ، فقال النبيّ (صلّى الله عليه وآله) : إنّي لرسول الله وإن كذّبتموني ، ثمّ قال لعليّ (عليه السلام) : امحِ
رسول الله ،
فقال (عليه السلام) : يا رسول الله ، إنّ يدي لا
تنطلق لمحو اسمك من النبوّة ،
فأخذه رسول الله فمحاه ، ثمّ قال له : أما إنّ لك مثلها وستأتيها وأنت مضطرّ لذلك (تأريخ
الطبري : 2 / 282 ط مؤسسة الأعلمي ، والكامل لابن الأثير : 2 / 404 .) . |
|
هـ ـ عليّ (عليه السلام) في غزوة خيبر :
|
|
خيبر : مدينة كبيرة ذات حصون
ومزارع ونخل كثير ، تقع خارج المدينة على بعد حوالي (90) ميلاً ، وقعت الغزوة في
بداية محرّم من العام السابع للهجرة . لمّا تم عقد صلح الحديبية اطمأن النبيّ على مصير الرسالة
الإسلاميّة من ناحية قريش وباقي أطراف عرب الجزيرة الذين كانوا على شركهم ، لأنّ
بنود الصلح كانت تميل غلى ترجيح كفّة المسلمين ، يضاف إلى ذلك تنامي قوّة
المسلمين عِدّة وعُدّة ، فقد أقبل على الإسلام خلق كثير ، والعرب أدركوا أنّ
قريشاً على عتوّها وطغيانها وقوّتها قد انكسرت شوكتها وفشلت خططها في القضاء على
الإسلام عن طريق القوّة ، ولذا بدا التوقيع على عقد الصلح استسلاماً من جانب
قريش . وبقيت قوّة أخرى تثير الشغب وتمثّل النفاق والغدر ، تلك هي
جموع اليهود الذين كانوا خارج المدينة ، فكان النبيّ (صلّى الله عليه وآله)
يراقبهم خشية أن يقوموا بعمل معادي بدعم خارجي ، وخصوصاً أنّ تأريخ اليهود مليء
بالغدر ونقض العهود ، لذا قرّر النبيّ (صلّى الله عليه وآله) غزو (خيبر) معقل
اليهود وحصنهم . فأمر (صلّى الله عليه وآله) أصحابه أن يتجهّزوا للغزو بأسرع وقت
، فتمّ ذلك فخرج من المدينة وأعطى الراية لعليّ (عليه السلام) ومضى
يجدّ السير باتّجاه خيبر ، فوصل إليهم ليلاً ولم يعلم به أهلها ، فخرجوا عند
الصباح ، فلمّا رأوه عادوا وامتنعوا في حصونهم ، فحاصرهم النبيّ وضيّق عليهم
ونشبت معارك ضارية بين الطرفين حول الحصون ، وتمكّن النبيّ (صلّى
الله عليه وآله) من فتح بعض حصونهم ، واستمرّ الحال هذا من الحصار والقتال بضعاً
وعشرين يوماً ، وبقيت بعض الحصون المنيعة ، فبعث النبيّ (صلّى
الله عليه وآله) برايته أبا بكر فرجع ولم يصنع شيئاً ، وفي اليوم الثاني بعث بها
عمر بن الخطاب فرج خائباً كصاحبه يجبّن أصحابه ويجبّنه أصحابه ، وهنا عزَّ على
رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أن يعقد بيده لواءً فيرجع خائباً ، أو يوجّه
أحداً نحو هدف فيرتد منهزماً ، فأعلن (صلّى الله عليه وآله) كلمة خالدة تتضمّن
معان عميقة ومغاز جليلة ، فقال بصوت رفيع يسمعه أكثر المسلمين : ( لأعطينّ الراية غداً
رجلاً يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله ، كرّاراً غير فرّار يفتح الله عليه
، جبرئيل عن يمينه وميكائيل عن شماله ) (تاريخ الطبري : 2 / 300 ط
مؤسسة الأعلمي ، وتأريخ دمشق لابن عساكر : 1 / 166 ترجمة الإمام علي (عليه
السلام) ،
تذكرة الخواص لابن الجوزي الحنفي : 32 ، والسيرة الحلبية بهامش السيرة النبوية : 3 / 37 .) . فاشرأبّت الأعناق وامتدّت وتمنّى كلّ واحد أن يكون مصداق ذلك
، حتى أنّ عمر بن الخطاب قال : ما أحببت الإمارة إلاّ يومئذٍ ، وتمنّيت أن أعطى
الراية (تذكرة
الخواص : 32 .) . فلمّا طلع الفجر ، قام النبيّ (صلّى الله عليه وآله) فدعا
باللواء والناس على مصافّهم ، ثمّ دعا عليّاً (عليه السلام) ، فقيل : يا رسول
الله ! هو أرمد ، قال : فأرسلوا له ، فذهب إليه سلمة ابن الأكوع وأخذ بيده يقوده حتى أتى به
النبيّ (ص)
وقد عصّب عينيه ، فوضع النبيّ رأس
عليّ في حجره ، ثمّ بلَّ يده من ريقه ومسح بها عيني عليّ فبرأتا حتى كأن لم يكن
بهما وجع ، ثمّ دعا النبيّ لعليّ بقوله : اللّهمّ أكفه الحرّ والبرد (تأريخ
الطبري : 2 / 301 ط مؤسسة الأعلمي ، والكامل لابن الأثير : 2 / 220 ، وفرائد
السمطين : 1 / 264 ، حديث 203 .) . ثمّ ألبسه درعه الحديد وشدَّ ذا الفقار الّذي هو سيفه (صلّى
الله عليه وآله) في وسطه وأعطاه الراية ووجّهه نحو الحصن ، فقال (صلّى الله عليه
وآله) : ( أنفذ على رسلك حتى تنزل
بساحتهم ، ثمّ ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حقّ الله تعالى فيه ،
فو الّذي نفسي بيده ، لإن يهدي بهداك ـ أو لغن يهدي الله بهداك ـ رجلاً واحداً
خير من أن يكون لك حمر النعم )
. قال سلمة : فخرج والله يهرول هرولةً وإنّا لخلفه نتّبع أثره
حتّى ركز رايته في رخم من حجارة تحت الحصن ، فأطلع إليه يهوديّ من رأس الحصن ،
فقال : من أنت ؟ قال : (أنا عليّ بن أبي طالب) . قال : قال اليهودي لأصحابه : غلبتم ، وما أُنزل على موسى (أعيان
الشيعة : 1 : 401 .) . ثمّ خرج إليه أهل الحصن ، وكان أوّل من خرج إليه الحارث أخو
(مرحب) وكان معروفاً بالشجاعة ، فانكشف المسلمون ووثب عليّ (عليه السلام) ،
فتضاربا وتقاتلا فقتله عليّ (عليه السلام) وانهزم اليهود إلى الحصن ، ثمّ خرج
مرحب وقد لبس در عين وتقلّد بسيفين واعتمّ بعمامتين ومعه رمح لسانه ثلاثة أسنان
. فاختلف هو وعليّ بضربتين ، فضربه عليٌّ بسيفه فقدّ الحجر
الذي كان قد ثقبه ووضعه على رأسه ، وقدّ المغفر ، وشقّ رأسه نصفين حتى وصل السيف
إلى أضراسه ، ولمّا أبصر اليهود ما حلّ بفارسهم (مرحب)
؛ ولّوا منهزمين إلى داخل الحصن وأغلقوا بابه . فصار عليّ (ع) إليه فعالجه
حتى فتحه ، وأكثر الناس من جانب الخندق ـ الّذي حول الحصن ـ لم يعبروا معه (ع) فأخذ باب الحصن فقلعه وجعله على الخندق جسراً لهم
حتى عبروا وظفروا بالحصن ونالوا الغنائم (تأريخ
الطبري : 2 / 301 ط مؤسسة الأعلمي ، والإرشاد للمفيد : 114 ، الفصل 31 من باب 2
، وبحار الأنوار : 21 / 16 .) وروي : أنّه اجتمع عدّة رجال على أن يحرّكوا الباب فما
استطاعوا . قال ابن عمرو : ما عجبنا من فتح الله خيبر على يدي عليّ
(عليه السلام) ولكنّا عجبنا من قلعه الباب ورميه خلفه أربعين ذراعاً ، ولقد
تكلّف حمله أربعون رجلاً فما أطاقوه ، فأخبر النبيّ (صلّى الله عليه وآله) بذلك
فقال : (
والذي نفسي بيده لقد أعانه عليه أربعون ملكاً ) . وروي أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) قال في رسالته إلى سهل
بن حنيف : والله ما قلعت باب خيبر ورميت به خلف ظهري
أربعين ذراعاً بقوّة جسدية ولا حركة غذائية ، لكنّي أيّدت بقوّة ملكوتية ونفس
بنور ربّها مضيئة ، وأنا من أحمد كالضوء من الضوء (الأمالي
للصدوق : المجلس السابع والسبعون ، الحديث 10 .) . |
|
و ـ عليّ (عليه
السلام) في فتح مكّة :
|
|
كان فتح مكة في شهر رمضان سنة ثمانٍ من الهجرة
النبويّة . ساد الهدوء والسلم الأجواء المحيطة بقريش والمسلمين ، والتزم
رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بكامل بنود الحديبية ، غير أنّ قريشاً كانت
تنوي نقض المعاهدة ، وقد تصوّرت أن ضعفاً أصاب المسلمين بعد انسحابهم من معركة
(مؤتة) منهزمين ، فأدّى استخفافها بالمسلمين إلى التآمر على أحلاف النبيّ (صلّى
الله عليه وآله) من خزاعة ، فحرّضت بعض أحلافها من بني بكر ، فوقعت بينهما
مناوشات فتغلّب بنو بكر بمعونة قريش على خزاعة ، وبهذا فقد نقضت قريش المعاهدة
وأعلنت الحرب على المسلمين . فعزم النبيّ (صلّى الله عليه وآله) على محاربة قريش ، وقال
كلمته المشهورة : ( لا نصرت إن لم أنصر خزاعة ) وأخذ يستعدّ لذلك وهو يحرص على أن لا
يذاع هذا الأمر ، ولكن حاطب بن أبي بلتعة سرّب الخبر ، فأرسل كتاباً إلى قريش مع
امرأة يخبرهم بما عزم عليه النبيّ (صلّى الله عليه وآله) ، وقبل خروجها من ضواحي
المدينة ؛ نزل الوحي على النبيّ وأخبره بذلك ، فأرسل خلفها بالفور عليّاً
والزبير ، وأمرهما بأن يجدّا السير في طلبها قبل أن تفلت منهما ، فأدركاها على
بعد أميال من المدينة ، فأسرع إليها الزبير وسألها عن الكتاب فأنكرته وبكت فرقّ
لها الزبير ، ورجع عنها ليخبر عليّاً ببراءتها وقال له : ارجع لنخبر الرسول بذلك
، فقال عليّ (عليه السلام) : إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يخبرنا
بأنّها تحمل كتاباً وتقول أنت بأنّها لا تحمل شيئاً ، ثمّ شهر عليّ (عليه
السلام) سيفه وأقبل عليها حتى استخرج الكتاب منها ، ورجع إلى النبيّ (صلّى الله
عليه وآله) وسلّمه إيّاه (تأريخ الطبري : 2 / 328 ط
مؤسسة الأعلمي ، والسيرة الحلبية بهامشه السيرة النبويّة : 3 / 75 .) . ولمّا أتمّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) الاستعدادات
والتجهيزات اللازمة للخروج إلى مكّة ؛ أعطى لواءه إلى عليّ (عليه السلام) ووزّع
الرايات على زعماء القبائل ومضى يقطع الطريق باتّجاه مكّة . ولمّا رأت قريش أنّها لا طاقة لها أمام النبيّ (صلّى الله
عليه وآله) والمسلمين ؛ استسلمت ولم تجد بُدّاً من أن يدخل كلّ فرد منهم داره
ليأمن على نفسه انقياداً للأمان الذي أعلنه النبيّ لهم (تأريخ
الطبري : 2 / 332 ، والكامل في التأريخ لابن الأثير : 2 / 243 .) . وروي : أنّ سعد بن عبادة كان معه راية رسول الله (صلّى الله
عليه وآله) على الأنصار ولمّا مرَّ على أبي سفيان وهو واقف بمضيق الوادي ( في
الطريق إلى مكّة ) قال أبو سفيان : من هذه ؟ قيل له : هؤلاء الأنصار عليهم سعد
بن عبادة مع الراية ، فلمّا حاذاه سعد قال : يا أبا سفيان ، اليوم يوم الملحمة ،
اليوم تُستحلّ الحرمة ، اليوم أذلّ الله قريشاً ، فلمّا مرَّ رسول الله (صلّى
الله عليه وآله) بأبي سفيان وحاذاه أبو سفيان ناداه : يا رسول الله ! أمرت بقتل
قومك فإنّه زعم سعد ومن معه حين مرّ بنا أنه قاتلنا فإنّه قال : اليوم يوم
الملحمة ... أنشدك الله في قومك ، فأنت أبرّ الناس وأرحمهم وأوصلهم . فقال (صلّى الله عليه وآله) : ( كذب سعد ، اليوم يوم
المرحمة ، اليوم أعزَّ الله فيه قريشاً ، اليوم يعظّم الله فيه الكعبة ، اليوم
تكسى فيه الكعبة )
. وأرسل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إلى سعد بن عبادة
عليّاً (عليه السلام) أن ينزع اللواء منه ، وأن يدخل بها مكّة (تأريخ
الطبري : 2 / 334 ط مؤسسة الأعلمي ، الإرشاد للمفيد : 121 الفصل 34 الباب 2 .) . ودخل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) مكّة بذلك الجيش
الكبير الذي لم تعرف له مكة نظيراً في تأريخها الطويل ، ولواؤه بيد عليّ بن أبي
طالب (عليه السلام) ، وأعلن العفو العامّ وهو على أبواب مكّة. |
|
صعود عليّ (ع) على منكب رسول الله (ص) لتحطيم الأصنام :
|
|
وروي عن عليّ (عليه السلام) أنّه قال :
انطلق بي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إلى كسر الأصنام ، فقال لي : اجلس ،
فجلست إلى جنب الكعبة ، ثمّ صعد الرسول على منكبي فقال لي : انهض بي ، فنهضت به
، فلمّا رأى ضعفي تحته قال : اجلس ، فجلست ونزل عنّي ، وقال : يا عليّ اصعد على
منكبي ، فصعدت على منكبيه ، ثمّ نهض بي حتى خيل لي أن لو شئت نلت السماء ، وصعدت
على الكعبة .. فألقيت الصنم الأكبر وكان من نحاس موتداً بأوتاد من حديد ، فقال
(صلّى الله عليه وآله) : عالجه ، فلم أزل أعالجه ورسول الله (صلّى الله عليه
وآله) يقول : إيه إيه ، حتّى قلعته ، فقال : دقّه ، فدققته وكسّرته ونزلت (المستدرك
على الصحيحين : 2 / 367 و 3 / 5 . وروى ابن الجوزي في تذكرة الخواص : 34 مثله ،
ينابيع المودة للقندوزي : 254 .) . |
|
ز ـ عليّ (عليه
السلام) في غزوة حنين :
|
|
وقعت غزوة (حنين) في شوال سنة ثمانٍ للهجرة
النبويّة . بعد أن كتب الله النصر والفتح لرسوله (صلّى الله عليه وآله)
حين دخل مكّة واستسلمت قريش وأذعنت له أجمعت قبيلة (هوازن) وقبيلة (ثقيف) على
محاربة النبي (ص) والمبادرة إليه قبل أن يغزوهم ، وأعدّ لهم النبيّ العدّة لمّا
سمع بذلك ، وعبّأ المسلمين الذين تجاوز عددهم اثني عشر ألفاً وخرج اليهم من مكّة
. ولمّا قربوا من موقع العدوّ صفّهم (صلّى الله عليه وآله)
ووزّع الألوية والرايات على قادة الجيش وزعماء القبائل ، فأعطى عليّاً لواء
المهاجرين (السيرة الحلبية : 3 / 106 .) ، ولكنّ هوازن أعدّت خطّةً للغدر
بالمسلمين على حين غفلة منهم ، فكمنوا لهم في شعاب وادٍ من أودية تهامة حيث لا
مفرّ لهم من المرور فيه . وحين انحدر المسلمون في وادي (حنين)
باغتتهم كتائب هوازن من كلّ ناحية ، وانهزمت بنو سليم
وكانوا في مقدّمة جيش المسلمين وانهزم مَنْ وراءهم ، وخلّى الله تعالى بينهم
وبين عدوّهم لإعجابهم بكثرتهم ، ولم يثبت مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله)
إلاّ نفر قليل من بني هاشم وأيمن بن عبيد (تأريخ
الطبري : 2 / 347 ، وأعيان الشيعة للأمين : 1 / 279 .) . ووقف عليّ (ع) كالمارد يضرب
بسيفه عن يمينه وشماله ، فلم يدن أحد من النبيّ (ص)
؛ إلاّ جَنْدَلَه بسيفه ، وكان لثبات النبيّ (ص)
ودفاع عليّ (ع) ومن معه أن عادت الثقة إلى نفوس
بعض المسلمين ، فأعادوا الكَرّة على هوازن . وخرج رجل من هوازن يدعى (أبو جرول) حامل رايتهم وكان شجاعاً ، فتحاماه الناس
ولم يثبتوا له ، فبرز إليه عليّ (ع) وقتله ،
فدبَّ الذعر في نفوس المشركين كما دبَّ الحماس في نفوس المسلمين ، ووضع المسلمون
سيوفهم في هوازن وأحلافها يقتلون ويأسرون وعليّ (ع)
يتقدّمهم حتى قتل بنفسه أربعين رجلاً من القوم ، فكان النصر للمسلمين
(روضة
الكافي : ص 308 رقم الحديث 566 ، والمغازي للواقدي : 2 / 895 ، وكشف الغمّة : 1
/ 226 .) . |
|
ح ـ عليّ (عليه السلام) في غزوة تبوك:
|
|
وقعت غزوة (تبوك) في شهر رجب سنة تسعٍ من
الهجرة النبويّة . استعدّ النبيّ (ص) لمواجهة
الروم حين علم أنّهم يريدون الإغارة والهجوم على الجزيرة ، فأعدّ بما يملك من
استراتيجية محكمة العدّة والعدد ، وقرّر ـ لأهمية الموقف والنزال ـ أن يكون على
رأس الجيش المتقدّم ، ولكنّ الظروف السياسية والعسكرية لم تكن تدعو للاطمئنان
التامّ ونفي الاحتمال من هجوم المنافقين أو المرجفين على المدينة أو قيامهم
بأعمال تخريبية أخرى ، لذا يتطلّب الأمر أن يبقى في المدينة من يتمتّع بمؤهّلات
ولياقات عالية وحكمة بالغة ودراية تفصيلية في جميع الاُمور وحرص على العقيدة كي
يتمكّن من مواجهة الطوارئ ، فاختار النبيّ الأكرم (ص)
عليّاً لهذه المهمّة الحسّاسة كي يقوم مقام النبيّ في غيابه . فقال (ص) : ( يا عليّ ، إنّ
المدينة لا تصلح إلاّ بي أو بك ) . ولمّا تحرّك النبيّ (صلّى الله عليه وآله) باتّجاه (تبوك) ؛
ثقل على أهل النفاق بقاء عليّ (عليه السلام) على رأس السلطة المحليّة في عاصمة
الدولة الإسلاميّة ، وعظم عليهم مقامه ، وعلموا أنّها في حراسة أمينة ولا مجال
لمطمع فيها ، فساءهم ذلك ، فأخذوا يردّدون في مجالسهم ونواديهم أنّ النبيّ (صلّى
الله عليه وآله) لم يستخلفه إلاّ استثقالاً ومقتاً له ، فبهتوا بهذا الإرجاف
عليّاً ، كبهت قريش للنبي بالجِنّة والسِّحر . فلمّا بلغ عليّاً (عليه السلام) إرجاف المنافقين به أراد
تكذيبهم وإظهار فضيحتهم ، فأخذ سيفه وسلاحه ولحق بالنبيّ (صلّى الله عليه وآله)
فقال : يا
رسول الله ، إنّ المنافقين يزعمون أنّك خلّفتني استثقالاً ومقتاً ، فقال (صلّى الله عليه وآله) : ارجع
إلى مكانك فإنّ المدينة لا تصلح إلاّ بي أو بك ، فأنت خليفتي في أهل بيتي ودار
هجرتي وقومي ، أما ترضى ـ يا عليّ ـ أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ
أنّه لا نبيّ بعدي
. فرجع عليّ (عليه السلام) ومضى رسول
الله (ص) في سفره (تأريخ الطبري : 2 / 368 ط
مؤسسة الأعلمي ، والإرشاد للمفيد : 138 ، الفصل 43 ، والسيرة الحلبية بهامش
السيرة النبوية : 3 / 132 ، وصحيح البخاري : باب غزوة تبوك 6 / 3 ، وصحيح مسلم .
كتاب فضائل الصحابة : 5 / 23 الحديث 2404 والترمذي : 2 / 300 . ومسند أحمد : 1 /
185 و 284 الحديث 508 وسنن ابن ماجة : 1 / 42 الحديث 115 وتاريخ بغداد : 1 / 432
رقم 6323 .) . |
|
تبليغ سورة براءة :
|
|
استمرّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يبلّغ رسالته
المباركة وينشر الإسلام في ربوع الجزيرة العربية ، وفي ذات الوقت يطارد فلول
الشرك عسكرياً حتى أشرفت السنة التاسعة للهجرة على نهايتها ، فأصبح للإسلام كيان
سياسي مستقلّ وأمة تسودها علاقات متينة وأرض مترامية الأطراف وحدود منيعة ، ولم
يعد لقوى الشرك وجود معتبر ، فكان لابدّ من تصفيتهم ، ونزلت على رسول الله (صلّى
الله عليه وآله) سورة (براءة) الّتي تسنّ التشريعات الّتي تحدّد موقفه من
المشركين والعهود والأحلاف الّتي كان قد أبرمها معهم . وكان أفضل مكان لإعلان
هذا القرار وقراءة هذا البيان الرسمي الإلهي هو البيت الحرام ، وأفضل وقت له هو
اليوم العاشر من ذي الحجّة حيث يجتمع المشركون من أطراف الجزيرة ، فأرسل النبيّ (ص) أبا بكر ليحجّ بالناس ويبلّغ سورة (براءة) ،
ولمّا انتهى إلى (ذي الحليفة ) وهو المكان المعروف اليوم بمسجد الشجرة ، وإذا
بالوحي ينزل على النبيّ ويأمره أن يرسل مكانه عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ، فأرسل النبيّ عليّاً وأمره أن يأخذ الآيات من أبي بكر
ويبلّغها بنفسه ، فمضى نحو مكّة وهو على ناقة النبيّ حتى التحق بأبي بكر
، فلمّا سمع رغاء الناقة عرفها فخرج فزعاً وهو يظنّه رسول
الله (ص) وإذا هو عليّ ، فأخذ منه الآيات ورجع أبو بكر إلى المدينة
خائفاً أن يكون قد نزل فيه ما يُغضب النبيّ ، فقال : يا رسول الله ! اَنزل فيَّ
شيء ؟ فقال النبيّ (ص) : لا ، ولكنّي أمرت أن أُبلّغها أنا أو رجل منّي
(الكامل
في التأريخ لابن الأثير : 2 / 291 ، وفضائل الخمسة من الصحاح الستة : 2 / 343 .) . وانطلق عليّ (عليه السلام) في طريقه حتى بلغ مكّة ، وعندما
اجتمع الناس لأداء مناسكهم ؛ قرأ عليهم الآيات الأولى من السورة ، ونادى في
الناس : لا يدخل مكّة مشرك بعد عامه هذا ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ومن كان بينه
وبين رسول الله عهد فعهده إلى مدّته (البداية
والنهاية لابن كثير : 5 / 45 .) . |
|
عليّ (عليه السلام) في اليمن :
|
|
استمراراً في نشر الإسلام أرسل النبيّ (صلّى الله عليه وآله)
إلى اليمن خالد بن الوليد وجمعاً من الصحابة ليدعوا قبيلة (همدان) إلى الإسلام ،
وظلّ خالد نحواً من ستة أشهر دون أن يحقّق نجاحاً ، فلم يتمكّن من إقناع همدان
في اعتناق الإسلام ، فبعث إلى النبيّ يخبره بعدم إجابة القوم له وانصرافهم عنه ،
عند ذاك بعث النبيّ (صلّى الله عليه وآله) عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) وطلب
منه أن يُعيد خالداً إلى المدينة ويحلّ محلّه في مهمّته ، ويبقي معه من يشاء من
المجموعة المرسلة مع خالد . روي عن البراء بن عازب الّذي كان مع خالد وبقي في سريّة عليّ
(عليه السلام) : كنت ممّن خرج مع خالد فأقمنا ستة أشهر ندعوهم إلى الإسلام فلم
يجيبوا ، ثمّ إنّ رسول الله (ص) بعث عليّاً
(عليه السلام) وأمره أن يقفل خالداً ويكون مكانه ، فلمّا دنونا من القوم ؛ خرجوا
إلينا وصلّى بنا عليّ (ع) ثمّ صفّنا صفاً واحداً
ثمّ تقدّم بين أيدينا وقرأ عليهم كتاب رسول الله (ص)
بإسلامهم ، فأسلمت همدان جميعاً وأرسل عليّ (عليه السلام) إلى رسول الله (صلّى
الله عليه وآله) بالخبر السارّ ، فخرّ رسول الله ساجداً ثمّ رفع رأسه وقال :
السلام على همدان (أعيان الشيعة : 1 / 410 ،
والكامل في التأريخ لابن الأثير : 2 / 300 ، والسيرة النبوية لابن كثير ك 4 /
201 .) . وروي : أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) أرسل عليّاً في
مهمّة ثانية إلى اليمن ليدعو (مذحج) إلى الإسلام ، وكان معه ثلاثمائة فارس ،
وعقد رسول الله له اللواء وعمّمه بيده ، وأوصاه أن لا يقاتلهم إلاّ إذا قاتلوه ،
فلمّا دخل إلى بلاد مذحج ؛ دعاهم إلى الإسلام فأبوا عليه ورموا المسلمين بالنبل
والحجارة ، فأعدّ عليّ (ع) أصحابه للقتال ، وهجم
عليهم فقتل منهم عشرين رجلاً فتفرّقوا وانهزموا فتركهم ، ثمّ دعاهم إلى الإسلام
ثانية فأجابوه لذلك ، وبايعه عدد من رؤسائهم ، وقالوا : له نحن على من وراءنا من
قومنا وهذه صدقاتنا فخذ منها حقّ الله . وروي : أنّ عليّاً (عليه السلام) قال :
بعثني رسول الله (ص) إلى اليمن ، فقلت : يا رسول الله ، تبعثني إلى قومٍ وأنا
حديث السنّ لا أبصر القضاء ، فوضع يده على صدري وقال : اللّهمّ ثبت لسانه واهدِ
قلبه ، ثمّ قال : إذا جاءك الخصمان فلا تقضِ بينهما حتى تسمع من الآخر ، فإنّك
إذا فعلت ذلك ؛ تبيّن لك القضاء . قال عليّ (ع) : والله
ما شككت في قضاءٍ بين اثنين
(السيرة
النبوية لابن كثير : 4 / 207 .) . ثمّ إنّ عليّاً جمع الغنائم فأخرج منها الخمس وقسّم الباقي
على أصحابه ، وبلغه خبر خروج النبيّ (صلّى الله عليه وآله) إلى مكّة لأداء فريضة
الحجّ ، فتعجّل (عليه السلام) السير ليلتحق بالنبيّ (صلّى الله عليه وآله) في
مكّة ، وروي أنّ بعض من كان في سريّة عليّ (عليه السلام) اشتكى من شدّته في
إعطاء الحقّ ، فلمّا سمع النبيّ (صلّى الله عليه وآله) ذلك قال : أيّها الناس ، لا تشتكوا عليّاً فو الله إنّه لأخشن في ذات
الله من أن يشتكى منه (سيرة ابن هشام : 4 / 603 ،
والسيرة النبوية لابن كثير : 4 / 205 مثله .) . وعن عمرو بن شاس الأسلمي أنّه قال : كنت مع عليّ (عليه السلام)
في خيله التي بعثه بها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إلى اليمن ، فوجدت في
نفسي عليه (المستدرك على الصحيحين : 3 /
134 .) ، فلمّا قدمت المدينة شكوته في مجالس
المدينة وعند من لقيته ، فأقبلت يوماً ورسول الله (صلّى الله عليه وآله) جالس في
المسجد ، فلمّا رآني أنظر إلى عينيه نظر إليَّ حتى جلست إليه ، فقال : إيه
يا عمرو ، لقد آذيتني
، فقلت : إنّا لله وإنّا إليه راجعون أعوذ بالله
والإسلام من أن أؤذي رسول الله
، فقال (صلّى الله عليه وآله) : ( من آذى عليّاً فقد آذاني ) (السيرة
النبوية لابن كثير : 4 / 202 .) . |
|
طبيعة عمل النبيّ (صلّى الله عليه وآله) :
|
|
إنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) الذي كان يعيش همّ الرسالة
الإسلامية بذل قصارى جهده في التبليغ والنصح لبناء مجتمع رسالي رصين يقاوم كلّ
الظروف حتى يسود الإسلام بقاع الدنيا ، وقد عمل (صلّى الله عليه وآله) على محورين
رئيسين هما : توعية الأمة بوصفها الرعيّة بالمقدار الذي تتطلبه الرعيّة الواعية
من فهم وثقافة وقدرة على ممارسة الحياة الإسلامية كما أرادها الله سبحانه , وكان
لعليّ (عليه السلام) دور فاعل في هذا المحور ، فانّه يمكننا القول بأنّ النبيّ
(صلّى الله عليه وآله) كان مشغولاً بتوسيع رقعة المجتمع الإسلامي طولياً ، وكان
عليّ (عليه السلام) مشغولاً بتعميق الرقعة عرضياً ، فكانت مهمّته تكملة لمهمّة
النبيّ (ص) . والمحور الآخر هو إعداد وتوعية الصفوة التي اختارها الله
سبحانه لِتَخْلُفَ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) في غيابه لقيادة المجتمع
والرسالة الإسلاميّة وصيانتها عن الانحراف والزيغ ، إعداداً على مستوى قيادة
التجربة وعلى مستوى الحاكمية عليها ، وقد أعدّ النبيّ عليّاً ليتسلّم التجربة
الإسلاميّة من بعده من خلال إشراكه في كلّ المواقف المهمّة والمعقّدة والصعبة
ومن خلال تثقيفه ثقافة خاصة لم يشاركه أحد فيها ، فقد روي عنه (ع) أنه قال : ( علّمني رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من العلم ألف باب
يفتح من كلّ باب ألف باب ) (أئمّة
أهل البيت تنوّع أدوار ووحدة هدف ، الشهيد السيد محمد باقر الصدر ك 95 .) . وكان عليّ (عليه السلام) يتمتّع بمؤهّلات ولياقات عالية
أهّلته أن ينال ثقة النبيّ (صلّى الله عليه وآله) المطلقة في قوله وفعله ، فنجد
أنّ النبيّ (ص) أخذ عليّاً صغيراً وتعهّده وربّاه ، فلازمه طوال فترة حياته ،
وما أن مضت فترة على الدعوة الإسلامية ؛ حتى أعلن النبيّ (صل) عن اتّخاذه عليّاً
(عليه السلام) أخاً ومؤازراً له في دعوته ، وكرّر هذا الإعلان في مواطن عديدة ،
بل اتّخاذه أخاً ومساوياً له في كلّ شيء ما عدا النبوّة . وحين توضّحت شخصيّة عليّ (عليه السلام) ؛ بدأ النبيّ (صلَّى
الله عليه وآله) يكلّفه نيابةً عنه في المهمّات التي لا يمكن أن يقوم بها أحد
غير النبيّ (صلَّى الله عليه وآله) أو شخص كنفسه ، مثل : المبيت في فراش النبيّ
ليلة الهجرة ؛ وردّ الودائع ، وحمل الفواطم إلى المدينة . ومن درجة اهتمام
النبيّ بعليّ في هذه المرحلة ؛ أنّه لم يدخل المدينة عند هجرته إليها ، وصرّح
بعدم اتّخاذها مقرّاً جديداً له حتى يلتحق عليّ به ، وتبليغ سورة (براءة) مثال
آخر فقد أخذ عليّ (عليه السلام) السورة من أبي بكر وبلّغها . وحين اضطرّ النبيّ (صلَّى الله عليه وآله)للمواجهات العسكرية
لم يكن يعطي رايته إلاّ لعليّ (عليه السلام) ، وكان يرسله في كلّ المواقف
المستعصية التي تتطلّب كفاءة عالية ، فكان عليّ (عليه السلام) يؤدّيها على أتمّ
وجه . وفي مرحلة جديدة بعد أن امتاز عليّ (عليه السلام) من غيره من
الصحابة بصدق سريرته وعمق إيمانه وتفانيه من أجل العقيدة والمبدأ أشار النبيّ
(صلَّى الله عليه وآله) إلى أهميّة أهل بيته (عليهم السلام) ووجودهم وعظيم حبّه
لهم ، وميّز عليّاً (عليه السلام) ، وقد دعم القرآن الكريم موقف النبيّ (صلَّى
الله عليه وآله) بقوله : (قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ
عَلَيْهِ أَجْراً إِلّا الْمَوَدّةَ فِي الْقُرْبَى) (الشورى (42) : 23 .)
. وأشار النبيّ (صلَّى الله عليه وآله) إلى طهارة عليّ وأهل
بيته من الرجس المادي والمعنوي ، ولم يأذن لأحد بالمرور بمسجده على كلّ حال إلاّ
لعليّ . ولم يزل النبيّ يوجّه القاعدة الشعبية للالتفات حول عليّ ،
ويأمرهم بحبّه والتعلّق به عند حلول المشاكل أو المستجدات المستعصية ، ووضّح لهم
ضرورة فهم شخصية عليّ (ع) في شدّة إيمانه وقوّته في ذات الله وعمق فهمه للعقيدة
الإسلامية وسعة علمه ، فكانت الأحاديث : (أقضاكم عليّ
. أعلمكم عليّ . أعدلكم عليّ ) وقد أثبتت الأحداث والوقائع صحّة ذلك . وفي آخر منسك من مناسك الإسلام أشرك النبيّ (صلَّى الله عليه
وآله) عليّاً في حجّة دون غيره من المسلمين وقد صرّح بذلك ، وقاما معاً بنحر
الهدي . كانت هذه الخطوات إعداداً وتهيئة الأرضية لإعلان الغدير حين
وقف النبيّ (صلَّى الله عليه وآله) بعد إتمام مراسم حجّة الوداع ليعلن للملأ
أنّه سيغادر الدنيا ويخلف عليّاً كقائد ومرجع للاُمّة بعده ، وأنّ هذا الإعلان
والتنصيب صادر عن الله تعالى ، وتمّت بيعة الناس لعليّ (عليه السلام) بإمرة
المؤمنين ونزل الوحي الإلهي ببلاغ تمام النعمة وكمال الدين . |
|
عليّ (عليه السلام) في حجّة الوداع :
|
|
بشوق غامر وغبطة تملأ القلوب تطلّع المسلمون إلى اللقاء
العبادي السياسي الذي لم يشهد التأريخ نظيراً له من قبل عندما تحرّك موكب النبيّ
(صلَّى الله عليه وآله) في أواخر شهر ذي القعدة من السنة العاشرة للهجرة باتجاه
مكّة ليؤدّي مناسك الحجّ وحيث اللقاء مع الجموع القادمة من أطراف الجزيرة
العربية يحدوها هدف واحد وتحت راية واحدة يردّدون شعاراً إلهياً واحداً (يرى
بعض المؤرّخين أنّ من خرج مع النبيّ يبلغ تسعين ألفاً ، والبعض الآخر مائة
وعشرين ألفاً ، عدا من حجّ من أهالي مكّة وضواحيها واليمن وغيرها . راجع السيرة
الحلبية : 3 / 257 ، وكنز العمّال : 11 / 609) : وكان النبيّ (ص) قد كتب إلى
عليّ (عليه السلام) في اليمن يأمره أن يلتحق به في مكّة ليحجّ معه ، وأسرع عليّ
بالخروج من اليمن ومعه الغنائم والحلل التي أصابها من اليمن ، والتقى بالنبيّ (ص) وقد أشرف على دخول مكّة ، فاستبشر بلقائه
وأخبره بما صنع في اليمن ، ففرح النبيّ (ص) بذلك
وابتهج وقال له : بِمَ أهللت ؟ فقال عليّ (عليه السلام) : يا
رسول الله ! إنّك لم تكتب إليّ بإهلالك ولا عرفته فعقدتث نيّتي بنيّتك ، وقلت
اللّهمّ إهلالاً كإهلال نبيّك ، وسقت معي من البدن أربعاً وثلاثين ، فقال
رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) : الله أكبر وأنا
قد سقت معي ستاً وستين ، فأنت شريكي في حجّي ومناسكي وهديي ، فأقم على إحرامك
وعد إلى جيشك وعجّل به حتى نجتمع بمكّة ، وكان عليّ (عليه السلام) قد سبق
الجيش حينما بلغ مشارف مكّة وأَمّر عليهم رجلاً منهم (الإرشاد
للمفيد : 1 / 172 ، والسيرة النبوية لابن كثير : 4 / 205 .)
. وأدى النبيّ مناسك العمرة والحجّ وعلي معه ، وقال (ص) : منى كلّها منحر ، فنحر بيده الكريمة ثلاثة وستين ،
ونحر عليّ (ع) سبعة وثلاثين تمام المائة ، ثمّ اجتمع الناس فخطب النبيّ (صلَّى
الله عليه وآله) خطاباً جامعاً وعظ المسلمين فيه ونصحهم (السيرة
الحلبية : 3 / 283 ن والسيرة النبوية لابن كثير : 4 / 291 .) . أتمَّ النبيّ (صلَّى الله عليه وآله) والمسلمون مناسكهم في
منى ، ثمّ رجع إلى مكّة فدخل فيها ، وطاف طواف الوداع ، ثمّ اتّجه إلى المدينة . |
|
عليّ (عليه السلام) في غدير خم أميراً للمؤمنين :
|
|
ولمّا انصرف النبيّ (صلَّى الله عليه وآله) راجعاً إلى
المدينة ومعه تلك الحشود الغفيرة من المسلمين ؛ وصل إلى غدير خمّ من الجحفة التي
تتشعّبُ فيها طرق أهل المدينة والعراق ومصر ، وذلك في اليوم الثامن عشر من ذي
الحجّة ، نزل إليه الوحي عن الله بقوله : (يَا أَيّهَا الرّسُولُ
بَلّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبّكَ) (المائدة (5) : 67 .) وأمره أن يقيم عليّاً علماً للناس
ويبلّغهم ما نزل فيه من الولاية وفرض الطاعة على كلّ أحد ، وقد ضمن الوحي للنبيّ
(صلَّى الله عليه وآله) أن يكفيه شرّ الحاقدين والحاسدين من الناس ، وكان أوائل
القوم قريباً من الجحفة ، فأمر رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)أن يردّ من
تقدّم منهم ، ويحبس من تأخّر عنهم في ذلك المكان الذي لم يكن منزلاً لأحد من
قبله ، ولم يكن هو (صلَّى الله عليه وآله) ينزل فيه لو لا خطاب الوحي له ، ثمّ
وقف (صلَّى الله عليه وآله) بين تلك الجموع وقال بصوت يسمعه الجميع : أيّها
الناس كأنّي قد دعيت فأجبت ، إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي
، فانظروا كيف تخلفوني فيهما ، فإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض .. ثمّ قال : إنّ
الله مولاي وأنا وليُّ كلّ مؤمن ومؤمنة ، وأخذ بيد عليّ (عليه السلام) وقال : (
من كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه ، اللّهم وال من والاه ، وعادِ من عاداه ، وأنصر
من نصره ، واخذل من خذله ، وأَدر الحق معه حيث دار ، أَلا فليبلّغ الشاهد الغائب
) . ثمّ لم يتفرّقوا حتّى نزل أمين الوحي بقوله :
(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي
وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلاَمَ دِيناً) . فقال رسول الله (ص) : (الله أكبر على إكمال
الدين وإتمام النعمة ، ورضى الرب برسالتي والولاية لعلّي من بعدي) ثمّ طفق القوم
يهنّئون أمير المؤمنين (عليه السلام) وممّن هنّأه في مقدّم الصحابة الشيخان أبو
بكر وعمر ، كلٌّ يقول : بخ بخ لك يا ابن أبي طالب ،
أصبحت وأمسيت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة (السيرة الحلبية بهامشه
السيرة النبوية : 3 / 274 ، والمناقب لابن المغازلي الشافعي ك 16 ، والفصول
المهمّة لابن الصبّاغ المالكي : 40 ، وينابيع المودة للقندوزي : 40 .) . وروي : أنّ النبيّ (صلَّى الله عليه وآله) أمر بنصب خيمة
لعليّ (عليه السلام) وأمر المسلمين أن يدخلوا عليه فوجاً فوجاً ويسلّموا عليه
بإمرة المؤمنين ، ففعل ذلك كلّهم حتّى من كان معه (صلَّى الله عليه وآله) من
أزواجه ونساء المسلمين (وقد ورد حديث الغدير في مصادر
كثيرة جدّاً يضاف لما ذكرنا منها : أسباب النزول للنيشابوري ، مطالب السؤول
لكمال الدين الشافعي ، تفسير مفاتيح الغيب للرازي ، تفسير المنار لمحمّد عبده ،
تفسير ابن شريح ، تذكرة الخواص لابن الجوزي ، مسند الإمام أحمد ، ذخائر العقبى
للطبري ، الرياض النضرة لمحبّ الدين الطبري وغيرها من الجوامع الحديثية
والتأريخية والتفسيرية ، راجع الغدير للعلامة الأميني.) . |
|
واقعة الحارث بن
النعمان ونزول آية (سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ)
:
|
|
لمّا شاع وانتشر قول النبيّ (ص) : (
من كنت مولاه فعليّ مولاه ) فَبلغ الحارث ابن النعمان الفهري ، فأتى
النبيّ على ناقته وكان بالأبطح ، فنزل وعقل ناقته وقال للنبيّ وهو في ملأ من
الصحابة : يا محمّد ! أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّك رسول
الله فقبلنا منك ، ثمّ ذكر سائر أركان الإسلام وقال : ثمّ لم ترض بهذا حتّى مددت
بضبعي ابن عمك وفضّلته علينا وقلت : ( من كنت مولاه فعليّ
مولاه )
فهذا منك أم من الله ؟ فقال النبي (ص) : ( والله الذي لا إله إلاّ
هو ، هو أمر الله )
فولّى الحارث يريد راحلته وهو يقول : اللّهمّ إن كان هذا هو الحقَّ من عندك
فأمطر علينا حجارةً من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ، فما وصل إليها حتى رماه
الله بحجر فسقط على هامّته وخرج من دبره ، وأنزل الله تعالى : (
سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ )(
المعارج (70) : 1 .) . (تفسير المنار : 6 / 464 ،
وتذكرة الخواص : ص 31 مع اختلاف في اللفظ ، والفصول المهمّة لابن الصبّاغ : 42 ،
أبو اسحاق الثعلبي في تفسيره والحاكم الحسكاني في كتابه دعاة الهداة ، والقرطبي
في تفسيره ، والحمويني في فرائد السمطين ، والزرندي الحنفي في معارج الوصول ودرر
السمطين ، والسمهودي في جواهر العقدين ، والعماري في تفسيره ، والشربيني القاهري
الشافعي في تفسيره ، والمناوي الشافعي في فيض القدير ، والحلبي في السيرة
الحلبية والحفني الشافعي في شرح الجامع الصغير ، والزرقاني المالكي في شرح
المواهب اللدنية ، والشبلنجي الشافعي في نور الأبصار ، وغيرهم كما تجد تفصيل ذلك
في الجزء الأول من موسوعة (الغدير) .) |
|
محاولات الرسول (ص) لتثبيت بيعة عليّ (ع) :
|
|
لقد كان رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) على علمٍ تامٍّ
بما سيؤول إليه وضع المسلمين من بعده ، لأنّه كان يراقب العلل والأمراض التي
ابتلي بها هذا المجتمع ن وكان على يقين بأن أوّل ضربة من بعده ستوجّه إلى الخطّ
الرسالي الذي أرسى قواعده هو وعليّ ، وإلى الزعامة التي أشار إليها النبيّ (ص) في أن تخلفه في الخطّ الصحيح للدعوة
الإسلاميّة ، لانّ هذا يهدّد مصالح الكثير ممّن كانوا يريدون أن يستفيدوا من
الإسلام ويتنعّموا بإشباع رغباتهم في ظلاله لا أن يقدّموا جهداً وفائدة للإسلام
، ويتزّعموا هذا الكيان الكبير الذي بناه النبيّ (ص) . وكان (صلَّى الله عليه وآله) يتخوّف من أن تتحول الشريعة
الإسلامية إلى شيء آخر غير الذي أنزله الله عليه ، وتكون خاضعة للأهواء والرغبات
، وكمصداق على تخوف النبيّ هو واقعة الحارث بن النعمان الذي جاء يشكّك ويستنكر
على النبيّ مواقفه . فما كان منه (ص) إلاّ وأن يعلن موقفه من الاتّجاه الصحيح
لخطّ الدعوة الإسلامية عبر مراحل وفترات عديدة ، فكان يكرّر لأصحابه : غن
تستخلفوا عليّاً ـ وما أراكم فاعلين ـ تجدوه هادياً مهدياً يحملكم على المحجّة
البيضاء (حلية
الأولياء لأبي نعيم : 1 / 64 ، ومختصراً تأريخ دمشق لابن عساكر : 18 / 32 .) . وروي أنّ سعد بن عبادة قال في ملأ من الناس : فو الله لقد
سمعت رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) يقول : إذا
أنا متُّ تضلّ الأهواء بعدي ويرجع الناس على أعقابهم ، فالحقّ يومئذٍ مع عليّ
(عليه السلام) . وحديث الثقلين شاهد آخر على ضرورة التمسّك بطاعة عليّ (عليه
السلام) والسير على هَدْيه ومنهاج ولايته لضمان سلامة العقيدة الإسلامية
وتحصينها من الانحراف . ثمّ بدأ النبيّ (ص) بإعداد خطّة جديدة لإتمام الأمر الإلهي
بتنصيب عليٍّ أميراً للمؤمنين ، فحاول أن يعدّ جيشاً كبيراً يضمّ فيه كلّ
العناصر التي من الممكن أن تدخل في حلبة الصراع السياسي مع الإمام عليّ (عليه
السلام) وتناوئه على زعامة الساحة الإسلاميّة ، ومن ثَمّ سينحرف مسار الرسالة
الإسلامية عن طريقها القويم ، أو على الأقل أنّها تطالب بمكانة سياسية أو إدارية
في جهاز الدولة ، وقد تظهر موقفاً معادياً في حالة رفض الإمام عليّ (عليه
السلام) ذلك ، ممّا قد يثير الكثير من المشاكل للأمة وهي في حالة ارتباك بفقده
(ص) . |
|
مرض النبيّ (صلَّى الله عليه وآله) وسريّة أسامة :
|
|
حياة عليّ (عليه السلام) هي حياة النبي (صلَّى الله عليه
وآله) والرسالة الإسلامية ، فالمواقف المهمّة والصعبة في الكثير من الصراعات
والأزمات والمنعطفات التي وقف فيها عليّ بكلّ بسالة وشجاعة مع رسول الله حتى آخر
لحظات عمره الشريف تكشف عن مدى القرب والاتصال والتلاحم المصيري بين الرسول
وعليّ ، وتفهّمنا جيّداً من خلال الآيات والروايات وحوادث التأريخ أنّ عليّاً هو
الامتداد الطبيعي لرسول الإسلام (صلَّى الله عليه وآله) وهو المؤهّل لقيادة
الأمة الإسلامية بعد الرسول (صلَّى الله عليه وآله) وليس ثمة إنسان آخر . لقد أودع النبيّ (ص) عليّاً (ع)
أسرار النبوّة وتفاصيل الرسالة وحمّله عبء مسؤولية رعايتها وصيانتها ، حتى أنّه
أوكل إليه أمر تجهيزه ودفنه دون غيره ، لعلمه وثقته بأنّ عليّاً (ع) سينفّذ أوامره ولا يحيد عنها قيد أنملة ولا
يتردّد طرفة عين ، ولم يكن النبيّ (صلَّى الله عليه وآله) يطمئنّ لغيره هذا
الاطمئنان . وكان النبيّ (صلَّى الله عليه وآله) يُصرّ على تبيان خلافة عليّ (ع) وأنّه الوصيّ من بعده حتى في آخر لحظات حياته
المباركة مضافاً إلى كلّ التصريحات والتلميحات التي أبداها في شتى المناسبات
ومختلف المواقف . لمّا رجع النبيّ (صلَّى الله عليه وآله) من حجّه إلى (يثرب)
، أقام فيها أيّاماً حتى اعتلّت صحّته واشتدّ به ألم المرض ، وكان (ص) يقول : ( ما أزال
أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر فهذا أوان انقطاع أبهري من ذلك السمّ ) (المستدرك
على الصحيحين : 3 / 58 .) وتقاطر المسلمون عليه يعودونه وفي نفوسهم القلق والأسى وفي
أذهانهم الحيرة والتساؤل عن مصير الأيّام الآتية والرسالة السماوية ، فنعى
(صلَّى الله عليه وآله) إليهم نفسه وأوصاهم بما يضمن لهم استمرار مسيرة الرّسالة
وتحقيق السعادة والنجاح ، فقال (صلَّى الله عليه وآله) : (أيها
الناس ! يوشك أن أُقبض قبضاً سريعاً فينطلق بي وقدّمت إليكم القول معذرة إليكم
ألا إنّي مخلّف فيكم كتاب الله عزّ وجلّ وعترتي أهل بيتي) ثمّ أخذ بيد عليّ (عليه السلام) وقال
: (هذا عليّ مع القرآن والقرآن مع عليّ لا يفترقان
حتى يردا عليَّ الحوض) . وأراد (صلَّى الله عليه وآله) أن يتمّم مساعيه لكي يهيئ
الأمور لتنصيب عليٍّ خليفةً من بعده من دون أن تؤثّر عليه قوى التنافس أو
مؤامرات المغرضين ودسائس المنحرفين ، فقد أجمع المؤرّخون على أنّ النبيّ (صلَّى
الله عليه وآله) في الأيّام الأخيرة من حياته المباركة لم يكن يعنيه شيء أكثر من
تجهيز جيش يضمّ أكبر عدد من المسلمين بما في ذلك أبو بكر وعمر ووجوه المهاجرين والأنصار
، وأمّر عليهم أسامة بن زيد وإرساله إلى الحدود الشمالية لمنطقة الجزيرة العربية
واستثنى عليّاً (عليه السلام) . ولكنّ عدداً من الصحابة لم يَرُقْ لهم أمر النبيّ (ص) فتثاقلوا عن الخروج في جيش أسامة واعتذروا
بأعذار واهية ، وانطلقت ألسنتهم بالنقد اللاذع والاعتراض المرّ على تأمير أسامة
، فخرج (ص) ـ رغم كلّ الآلام ـ وخطب فيهم وحثّهم
على الانضواء تحت قيادة أسامة ، وقد بدا عليه الانفعال والتصلّب ، واستمرّ يلحّ
على إنفاذ الجيش والخروج نحو هدفه ، وقال (ص) : أنفذوا جيش أسامة ، لعن الله من تخلّف عن جيش أسامة (السيرة
الحلبية : 3 / 34 .) . ونجد هنا غرابةً في الموقف ، وهي إلحاح الرسول على ضرورة مسير جيش
أسامة إلى الوجهة التي وجّهها إيّاه على الرغم من مرضه وعلمه بدنوّ أجله ، فلو
كان لأحد ممّن كان تحت إمرة أسامة أهميّة في حالة وفاة النبي
(ص) ؛ لاستثناه . وأعجب من ذلك هو تلكّؤ القوم وتملّصهم عن تنفيذ أمر النبيّ ،
فكأن هناك أمراً خفياً يريدون إبرامه (وممّا
يؤكّد هذا الظنّ أنّ الصحابة الذين أبوا الخروج في جيش أسامة كانوا يخشون تكرار
الموقف الذي حصل في غزوة تبوك عندما استخلف النبيّ (صلَّى الله عليه وآله)
عليّاً في المدينة ومن ثمّ تصريحه (أنت منّي بمنزلة هارون من
موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي) ممّا أثار الريب والحسد في نفوسهم . بل إنّهم أدركوا أنّ الأمر
في هذه المرّة يحمل أبعاداً أخرى تتعدّى مسألة الخروج مع جيش أسامة ، خاصةً بعد
أن رأوا الرسول يصرّ على خروجهم ويستثني عليّاً ، وعلامات المرض تشتد عليه ، وفي
هذه الفترة كان (صلَّى الله عليه وآله) يكرّر عليهم بأنّي أوشك أن أُدعى فأجيب .) . ويبدو أنّ الرسول استشفّ من التحركات التي صدرت من الصحابة
أنّهم يبغون لأهل بيته الغوائل ويتربّصون بهم الدوائر ، وأنّهم مجمعون على صرف
الخلافة عنهم ، فرأى (صلَّى الله عليه وآله) أن يصون أمته عن الانحراف ويحميها
من الفتن ، فأراد أن يحاول معهم محاولة جديدة لتثبيت ولاية عليّ (عليه السلام)
وخلافته له (صلَّى الله عليه وآله) فقال : ( إئتوني بالكتف والدواة
أكتب إليكم كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً ) . فتنازعوا ـ ولا ينبغي عند نبيّ أن يتنازع ـ فقالوا : ما شأنه
؟ أَهَجَر ؟ استفهموه . فذهبوا يردّدون عليه القول : فقال (صلَّى الله عليه
وآله) : دعوني
فالذي أنا فيه خير ممّا تدعوني إليه . وأوصاهم بثلاث ، قال : أخرجوا المشركين من جزيرة
العرب ، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت اُجيزهم . وسكت عن الثالثة عمداً أو قال : فنسيتها (الطبقات
الكبرى لابن سعد : 4 / 60 ، وتأريخ الطبري : 2 / 436 ط مؤسسة الأعلمي ، والكامل
في التأريخ لابن الأثير : 2 / 320 ، والإرشاد للمفيد : 1 / 184 .) . |
|
رأي :
|
|
دوّن أكثر المؤرّخين هذا الحديث في كتبهم على هذا النحو ،
ولم يذكروا من وصاياه إلاّ وصيّتين وسكتوا عن الثالثة أو تناسوها مجاراةً
للحاكمين الّذين تقمّصوا الخلافة بعد الرسول (صلَّى الله عليه وآله) ، في حين
أنّه لم يسبق لأحد من الرواة لأحاديثه (صلَّى الله عليه وآله) أن نسي شيئاً أو
فاته دون أن يدوّنه حتى يمكن القول بأنّهم أحصوا حتى أنفاسه (صلَّى الله عليه
وآله) فكيف نسي الحاضرون على كثرتهم وازدحامهم عنده وصيّته الثالثة وهو في حالة
الوداع لهم ؟ وهم ينتظرون كلّ كلمة تصدر منه تهدّئ من روعهم وتبعث الأمل في
نفوسهم نحو المستقبل ؟ ولولا أنّ الثالثة تأكيد
لنصوصه (صلَّى الله عليه وآله) السابقة على خلافة عليّ (صلَّى الله عليه وآله) ؛
لم ينسها أو لم يتغافل عنها أحد من الرواة أولئك (سيرة
الأئمة الإثني عشر ، للحسني : 1 / 255 .) ! |
|
عليّ (ع) مع النبيّ (ص) في اللحظات الأخيرة:
|
|
اشتدّ المرض على النبيّ (ص) فأغمي عليه ، فلمّا أفاق قال (ص)
: (أُدعوا لي أخي وصاحبي) وعاوده الضعف فقالت
عائشة : لو بعثت إلى أبي بكر ، وقالت حفصة : لو بعثت إلى عمر ، فاجتمعوا عنده
جميعاً فقال (ص) : (انصرفوا فإن تك لي حاجة أبعث
إليكم) (تأريخ الطبري : 2 / 439 ط
مؤسسة الأعلمي .) . ثمّ دُعي عليّ (عليه السلام) فلمّا دنا منه أومأ إليه ،
فأكبَّ عليه ، فناجاه الرسول (ص) طويلاً ، ثمّ ثقل النبيّ وحضره الموت ، فلمّا
قارب خروج نفسه قال لعليّ (عليه السلام) : ( ضع رأسي في حجرك ، فقد
جاء أمر الله تعالى ، فإذا فاضت نفسي فتناولها بيدك ، وامسح بها وجهك ، ثمّ
وجّهني إلى القبلة وتولّ أمري وصلِّ عليَّ أوّل الناس ، ولا تفارقني حتى تواريني
في رمسي ، واستعن بالله تعالى )
(الإرشاد
للمفيد : 1 / 186 .) . وهكذا انتقل الرسول الأكرم (صلَّى الله عليه وآله) إلى جوار
ربّه راضياً مرضيّاً بعد أن أدّى رسالته بأحسن وجه ، وأوضح السبيل للأمة من بعده
. وعلي بن أبي طالب (عليه السلام) يلازمه ملازمته الظل لذي الظل ويتابعه متابعة
التلميذ لأستاذه في جميع لحظات حياته الرسالية المباركة . |
|
الباب الثالث
|
|
فيه فصول : الفصل الأوّل : عصر الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) الفصل الثاني : الإمام عليّ (عليه السلام) في عهد أبي بكر الفصل الثالث : الإمام عليّ (عليه السلام) في عهد عمر الفصل الرابع : الإمام عليّ (عليه السلام) في عهد عثمان |
|
الفصل الأوّل:
|
|
عصر الإمام عليّ (عليه السلام)
|
|
حديث الوفاة :
|
|
لم يكن حول النبي (صلَّى الله عليه وآله) في اللحظات الأخيرة
من حياته سوى عليّ (عليه السلام) وبني هاشم ، وقد علم الناس بوفاته من الضجيج
وعويل النساء ، فأسرعوا وتجمّعوا في المسجد وخارجه وهم في حالة من الارتباك
والدهشة لا يحيرون جواباً إلاّ البكاء والنواح ، وهم على هذه الحالة وإذا بموقف
غريب يصدر من عمر إذ خرج بعد أن دخل على رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)
والسيف في يده يهزّه ويقول : إن رجالاً من المنافقين يزعمون أنّ رسول الله قد
مات ، إنّه والله ما مات ولكنّه قد ذهب إلى ربّه كما ذهب موسى بن عمران (الكامل
في التأريخ : 2 / 323 .) . ولم يهدأ عمر حتى وصل أبي بكر (يروى
أنّ أبا بكر كان في (السنح) وهو محل يبعد عن المدينة بميل واحد أو أكثر قليلاً .) إلى بيت رسول الله (صلَّى الله عليه
وآله) فكشف عن وجه النبيّ وخرج مسرعاً ، وقال : أيّها الناس ، من كان يعبد
محمّداً فإنّ محمّداً قد مات ، ومن كان يعبد الله فإنّ الله حيّ لا يموت ، ثمّ
تلا الآية : (وَمَا مُحمّدٌ إِلّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ
مِن قَبْلِهِ الرّسُلُ ...)
(آل
عمران (3) : 144 .) . ثمّ خرج عمر وأبو بكر وأبو عبيدة الجرّاح من البيت الذي فيه
جثمان النبي المبارك وتركوه إلى عليّ وأهل بيته المفجوعين بوفاته ، وقد أذهلهم
المصاب عن كلّ شيء وقام عليّ (ع) وأهل بيته (ع) بتجهيز
النبيّ والصلاة عليه ودفنه ، وفي الوقت نفسه كانت قد عقدت الأنصار اجتماعاً لها
في سقيفة بني ساعدة لتدبير أمر الخلافة . |
|
الحزب القرشي والأنصار في السقيفة :
|
|
ما أن سمع عمر خبر اجتماع الأنصار في السقيفة ؛ حتى أتى منزل
رسول الله (ص) وفيه أبو بكر ، فأرسل إليه أن
أُخرج إليَّ ، فأجابه بأنّه مشغول ، فأرسل إليه عمر ثانيةً أن أُخرج فقد حدث أمر
لا بدّ أن تحضره . فخرج إليه أبو بكر ، فمضيا مسرعين نحو السقيفة ومعهما أبو
عبيدة ومن ثَمّ لحقهم آخرون ، فأدركوا الأنصار في ندوتهم ولمّا يتمّ بعدُ
الاجتماع ولم ينفضّ أصحابه ، فتغيّر لون سعد بن عبادة وأُسقط ما في أيدي الأنصار
وساد عليهم الوجوم والذهول ، ونفذ الثلاثة في تجمّع الأنصار أتمّ نفوذ وأتقنه ،
ينمّ عن معرفتهم بالنفوس ونوازعها ورغباتها ومعرفتهم بنقاط الضعف التي من خلالها
تسقط ورقة الأنصار . أراد عمر أن يتكلّم فنهره أبو بكر لعلمه بشدّته وغلظته
والموقف خطير وملبّد بالأحقاد والأضغان ، ويجب أن يستعمل فيه البراعة السياسية
والكلمات الناعمة لكسب الموقف أوّلاً ثمّ يأتي دور الشدّة والغلظة . وافتتح أبو بكر الحديث بأسلوب لبق فخاطب الأنصار
باللطف ، ولم يستعمل في خطابه أيّ كلمة مثيرة فقد قال : نحن المهاجرون أوّل الناس إسلاماً ،
وأكرمهم أحساباً ، وأوسطهم داراً ، وأحسنهم وجوهاً ، وأمسّهم برسول الله (ص)
رحماً ، وأنتم إخواننا في الإسلام ، وشركاؤنا في الدين ، نصرتم وواسيتم ، فجزاكم
الله خيراً ، فنحن الأمراء وأنتم الوزراء ، لا نفتات عليكم بمشورة ، ولا نقضي
دونكم الأمور ، فقال الحباب بن المنذر بن الجموح : يا معشر الأنصار ! املكوا
عليكم أمركم ، فإنّ الناس في ظلكم ولن يجترئ مجترئ على خلافكم ، ولا يصدر أحد
إلا عن رأيكم ، أنتم أهل العزّة والمنعة ، وأولو العدد والكثرة ، وذوو البأس
والنجدة ، وإنّما ينظر الناس ما تصنعون فلا تختلفوا فتفسد عليكم أموركم ، فإن
أبى هؤلاء إلاّ ما سمعتم فمنّا أمير ومنهم أمير ، فقال عمر : هيهات لا يجتمع
سيفان في غمد ، والله لا ترضى العرب أن تؤمّركم ونبيّها من غيركم ، ولا تمتنع العرب
أن تولّي أمرها من كانت النبوّة منهم ، فمن ينازعنا سلطان محمّد ونحن أولياؤه
وعشيرته . فقال الحباب بن المنذر : يا معشر الأنصار ! املكوا أيديكم ،
ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر ، فإن أبوا عليكم ؛
فاجلوهم من هذه البلاد ، وأنتم أحقّ بهذا الأمر منهم ، فإنّه بأسيافكم دانَ
الناس بهذا الدين ، أنا جذيلها المحكك وعُذيقها المرجَّب ، أنا أبو شبل في عرينة
الأسد ، والله إن شئتم لنعيدها جذعة . وهنا تأزّم الموقف وكاد أن يقع الشرّ بين الطرفين ، فوقف أبو
عبيدة بن الجرّاح ليحول دون ذلك ويتدارك الفشل ، فقال بصوت هادئ مخاطباً الأنصار
: يا معشر الأنصار ! أنتم أوّل من نصر وآوى ، فلا تكونوا أوّل من بدّل ، وانسلت
كلماته هادئةً إلى النفوس ، فسادَ الصمت لحظات على الجميع ، فاغتنمها بشير بن
سعد لصالح المهاجرين هذه المرّة ، يدفعه لذلك حَسده لسعد بن عبادة فقال : يا
معشر الأنصار ! ألا إنّ محمّداً من قريش وقومه أولى به ، وأيم الله لا يراني
الله أنازعهم هذا الأمر . فاغتنم المهاجرون الثلاثة هذه الثغرة في جبهة الأنصار ،
فطفقوا يقدّم بعضهم بعضاً ، فبدا أنّهم لم يروا أنّ واحداً منهم يدعمه نصّ شرعيّ
أو يختص بميزة ترفع من رصيده مقابل غيره فتؤهّله للخلافة . فقال أبو بكر : هذا عمر وأبو عبيدة بايِعوا أيّهما شئتم (الإمامة
والسياسة : 1 / 15 ، وتأريخ الطبري : 2 / 458 ط مؤسسة الأعلمي ، والكامل في
التأريخ : 2 / 325 .) ، وقال عمر: يا أبا عبيدة، ابسط يدك أبايعك ، فأنت أمين هذه الأمة (الطبقات
الكبرى : 3 / 181 .) ، فقال أبو بكر : يا عمر ! ابسط يدك نبايع لك ، فقال عمر :
أنت أفضل منّي ، قال أبو بكر : أنت أقوى منّي ، قال عمر : قوّتي لك مع فضلك ابسط
يدك أبايعك (تأريخ الخلفاء للسيوطي : 70
.) . فلمّا بسط يده ليبايعاه سبقهما
بشير بن سعد فبايعه ، فناداه الحباب بن المنذر : يا بشير ! عَقَّتك عقاق،
أنفِستَ على ابن عمّك الإمارة ؟ ولمّا رأت الأوس ما صنع بشير وما تطلب الخزرج من
تأمير سعد ؛
قال بعضهم لبعض وفيهم أسيد بن خضير وكان نقيباً : والله لئن وليتها الخزرج مرّة
؛ لا زالت عليكم بذلك الفضيلة أبداً ، فقوموا فبايعوا أبا بكر ، فانكسر على سعد
والخزرج ما أجمعوا عليه ، وأقبل أصحاب أسيد يبايعون أبا بكر (الكامل
في التأريخ : 2 / 330 .) ، وقالت بعض الأنصار : لا نبايع إلاّ عليّاً (تأريخ
الطبري : 2 / 443 ط مؤسسة الأعلمي .) . ثم أقبل أبو بكر والجماعة التي تحيط به يزفّونه إلى المسجد
زفاف العروس (شرح نهج البلاغة لابن أبي
الحديد : 6 / 8 .) والنبيّ (ص)
لازال ملقىً على فراش الموت ، وعمر يهرول بين يديه وقد نبر حتى أزبد شدقاه
وجماعته تحوطه وهم متّزرون بالأُزر الصنعانية ، لا يمرّون بأحد إلاّ خبطوه
وقدّموه ، فمدّوا يده فمسحوها على يد أبي بكر يبايعه شاء ذلك أو أبى (شرح
نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 1 / 219 . ط دار إحياء الكتب العربية .) . لقد كانت حجّة الحزب القرشي في السقيفة ضد الأنصار
مبنيّة على أمرين : 1 ـ إنّ المهاجرين أوّل الناس إسلاماً . 2 ـ إنّهم أقرب الناس إلى رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)
وأمسّهم به رحماً . وقد أدان هؤلاء القادة أنفسهم بهذه الحجّة ، وذلك لأنّ
الخلافة إذا كانت بالسبق إلى الإسلام والقرابة القريبة من رسول الله (ص) ـ كما
يدّعون ـ فهي لعليّ (عليه السلام) وحده ، لأنّه أوّل الناس إسلاماً وإيماناً
وتصديقاً بالرسالة الإسلامية ، وأخوه بمقتضى المؤاخاة التي عقدها النبيّ بينه
وبين عليّ يوم آخى بين المهاجرين في مكّة ، وبينهم وبين الأنصار في المدينة ،
وابن عمّه نسباً وأقرب الناس إلى نفسه وقلبه بلا شكّ في ذلك . |
|
تحليل اجتماع السقيفة :
|
|
سارع الأنصار إلى سقيفة بني ساعدة ، وعقدوا لهم اجتماعاً
سرّياً أحاطوه بكثير من الكتمان والتحفّظ ، وأحضروا معهم شيخ الخزرج سعد بن
عبادة الذي كان مريضاً ، فقال لبعض بنيه : إنّه لا يستطيع أن يسمع المجتمعون
صوته لمرضه ، وأمره أن يتلقّى منه قوله ويردّده على مسامع الناس ، فكان سعد يتكلّم
ويستمع إليه ابنه ، ويرفع صوته بعد ذلك ، قال سعد مخاطباً الحاضرين : إنّ لكم سابقةً إلى الدين وفضيلةً في الإسلام ليست لقبيلة من
العرب ، إنّ رسول الله لبث في قومه بضع عشرة سنة يدعوهم إلى عبادة الرحمن وخلع
الأوثان ، فما آمن من قومه إلاّ قليل ، حتى أراد بكم خير الفضيلة ، وساق إليكم
الكرامة ، وخصّكم بدينه ، فكنتم أشد الناس على من تخلّف عنه ، وأثقلهم على عدوّه
من غيركم ، ثمّ توفّاه الله وهو عنكم راضٍ . فشدّوا أيديكم بهذا الأمر فإنّكم
أحقّ الناس وأولاهم . لكنّ
المتتّبع للأحداث يلمح أنّ اجتماع الأنصار لم يكن في بداية أمره للاستئثار بتراث
النبيّ (ص) واغتصاب الخلافة من أهلها الشرعيّين
، وذلك من خلال ملاحظة ما يلي : 1 ـ عدم حضور خيار الأنصار وهم البدريّون في الاجتماع ، مثلُ
: أبي أيوب الأنصاري ، حذيفة بن اليمان ، البراء بن عازب ، عبادة بن الصامت . 2 ـ إنّ الأنصار كانوا يعلمون جيّداً النصوص النبويّة
ويحفظونها ، ومنها : (إنّ الأئمة من قريش) ،
وعرفوا جيّداً الأحكام الواردة في شأن العترة الطاهرة وشهدوا تنصيب عليّ (ع) في
غدير خم ، وأوصاهم النبيّ (صلَّى الله عليه وآله) بعليّ
وأهل بيته (ع) ، وحين أدركوا أنّه ليس له دور رئيس في الحكم أخذوا يقولون
: لا نبايع إلاّ عليّاً (تأريخ الطبري : 2 / 443 ط
مؤسسة الأعلمي .) . 3 ـ ثمّ إنّ النبيّ (صلَّى الله عليه وآله) لا زال مسجّىً
ولم يُدفن بعدُ ، فهل يعقل أن لا يشارك خيارهم في شرف حضور مراسم الدفن وينشغلوا
في اجتماع انتخاب الخليفة ؟ 4 ـ من الممكن تفسير اجتماعهم هذا بأنّه لتقرير مصيرهم من
الحكم الجديد بعد علمهم بما تخطّط له قريش من تطبيق قرارهم (لا تجتمع النبوّة
والخلافة في بني هاشم) ، وهم ليست لهم دوافع كالتي كانت في نفوس زعماء قريش ،
ثمّ إنّ تخوّفهم هذا له سوابق فبعد فتح مكّة ؛ خشيت الأنصار أن لا يعود معهم
النبيّ (صلَّى الله عليه وآله) وكان طبيعيّاً أن يتخوفوا من العزلة السياسية
والإداريّة . وإذا قرّرت قريش صرف الخلافة عن صاحبها الشرعيّ، وهو عليّ
(عليه السلام) ؛ فما دور الأنصار وهم الثقل الأكبر في جمهور المسلمين ، ولهم
الدور الفاعل والرئيس في نشر الرسالة الإسلاميّة ؟! إنّ اجتماع الأنصار في السقيفة لم يكن حاسماً في قراراته ،
فقد عُقد لدراسة الاحتمالات المتوقّعة للخلافة بعد الرسول (صلَّى الله عليه وآله) ، وأيضاً لم يكن جميع الأنصار
على رأي واحد ، فقد كانت تختفي في أفق الاجتماع نوايا متنافرة وتنطوي النفوس على
رغبات متضادّة ، فنجد بعضهم يجيب سعداً قائلاً : وفّقت في الرأي وأصبت في القول
، ولن نعدو ما رأيت ، نولّيك هذا الأمر . ثمّ ترادّوا في الكلام فقالوا : فإن أبى المهاجرون وقالوا
نحن أولياؤه وعشيرته . وهنا انبرى آخرون فقالوا : نقول : منّا أمير ومنكم أمير ،
فعلّق سعد على هذا الاقتراح قائلاً : فهذا أوّل الوهن (تاريخ
الطبري : 2 / 444 ط مؤسسة الأعلمي حوادث سنة 11 هـ .) . إنّ الأنصار بموقفهم هذا قد هيَّئوا فرصة سياسية ثمينة ما
كانت لتفوت الجناح المترقّب للفوز بالسلطة ، وفتحوا باب الصراع على مصراعيه بعيداً
عن القيم والأحكام الإسلامية ؛ إذ قدّمت فيه الحسابات القبلية على الحسابات
الشرعية ، وتقدّمت فيه مصلحة القبيلة على مصلحة الرّسالة الإسلامية . وقد اعتذر عمر من مباغتة الأنصار في السقيفة فقال
: وإنّا والله ما وجدنا أمراً هو أقوى
من مبايعة أبي بكر ، خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يحدثوا بعدنا بيعة ،
فإمّا أن نتابعهم على ما لا نرضى أو نخالفهم فيكون الفساد ... (صحيح
البخاري : كتاب المحاربين 6 ح 6442 ، وسيرة ابن هشام : 4 / 308 ، وتأريخ الطبري
: 2 / 447 ط مؤسسة الأعلمي .) . وهكذا أخذ الموقف السياسي يزداد تعقيداً وإعضالاً. |
|
نظرة قريش للخلافة :
|
|
حين انطلقت الرسالة الإسلامية في مكّة وبين ظهراني قريش ؛ لم
تتمكّن قريش من تحمّل ظهور نبيّ في بطنٍ من خيار بطونها ، بل أفضلها وهي بنو
هاشم ، فاجتمعت كلمة قريش على محاربة النبيّ(ص) وبني
هاشم بكلّ وسائل الحرب ومقاومتهم بشتّى فنون المقاومة وخطّطت للتآمر لا حُبّاً
بالأصنام وما هم عليه من العبادة ولا كراهية للدعوة الجديدة ، فليس في الإسلام
ما لا ترتضيه الفطرة السليمة (يروى أنّ كثيراً من زعماء
قريش كانوا يجاهرون بالعداء للدين ولكنّهم يذهبون خلسةً لاستماع القرآن .) ، لكن قريشاً لا تريد أن تغيّر
صيغتها السياسية القائمة على اقتسام مناصب الشرف والسيادة ، وخصوصاً أنّ مجتمع
الجزيرة كانت تحكمه النزعة القبلية . من هنا لم تكن قريش تريد أن يتميّز البطن الهاشمي عن بقيّة
بطونها ولا أن يتفوّق عليها ، وقد تصوّرت أنّ التفاف الهاشميّين حول النبوّة
ودفاعهم المستميت عن النبيّ (صلَّى الله عليه وآله) هو إصرار هاشمي على التميّز
والرغبة بالتفوّق على الجميع ، فحاصرت قريش الهاشميّين في شِعب أبي طالب ،
وتآمرت على قتل النبيّ ، وفشل الحصار وفشلت كلّ محاولات الاغتيال لشخص النبيّ
(صلَّى الله عليه وآله) ، وعلا طوفان الرسالة الإسلامية على كلّ القوى المناوئة
، وأسلمت قريش طوعاً أو كرهاً ، فلم تعد لقريش قدرة على الوقوف في وجه النبوّة . ولكنّ إعداد النبيّ (صلَّى الله عليه وآله) العدّة لتكون
الخلافة من بعده لعليّ ولذرّيّته (عليهم السلام) بأمر من الله تعالى وباعتبارهم
. أجدر وأعلم بأصول الشريعة وأحكامها ، وأنّهم الأفضل من كلّ أتباعه ، والأنسب
لقيادة الأمة ، قد أثار هذا المنطق في نفوس قريش النزعة القبلية والحقد الجاهلي
فعزمت أن لا تجمع النبوّة والخلافة في بني هاشم ، فالنبوة والخلافة في عرف قريش
سلطان وحكم كما صرّح بذلك أبو سفيان يوم فتح مكّة بقوله للعباس : لقد أصبح ملك
ابن أخيك عظيماً (شرح
نهج البلاغة : 17 / 272 .). هذه الفكرة والعقلية سادت في الأجواء السياسية
المحمومة في آخر أيّام النبيّ (صلَّى الله عليه وآله) ، وقريش مدركة أنّ النبيّ ميّت لا
محالة في مرضه هذا ، وقد أخبرهم (صلَّى الله عليه وآله) بذلك ، وأيضاً لو تركت
الأمور على مجراها الطبيعي فالخلافة ستئول إلى عليّ (عليه السلام) حتماً . من
هنا كان تحرّك الحزب المناوئ لبني هاشم بصورة عامّة ولعليّ (عليه السلام) خاصّة
، فكانت السقيفة . ونجد فكرة عدم اجتماع النبوّة والخلافة في بني هاشم من خلال
المحاورة بين عمر وابن عباس في زمن خلافة عمر ، حين قال له عمر : يا ابن عباس !
أتدري ما منع قومكم منكم بعد محمّد (ص) ؟ قال ابن عباس : فكرهت أن أجيبه فقلت :
إن لم أكن أدري فإنّ أمير المؤمنين يدري ، فقال عمر : كرهوا أن يجمعوا لكم
النبوّة والخلافة فتجحفوا على قومكم ، فاختارت قريش لأنفسها فأصابت ووفّقت (مروج الذهب : 2 / 253 ، وشرح النهج لابن أبي
الحديد : 1 / 189 ط دار إحياء التراث العربي ، الكامل في التأريخ : 3 / 63 و 64
.) . وثمّة أمر آخر يتعلّق بموضوع تحويل الخلافة عن عليّ (عليه السلام)
وهو أنّ عليّاً (عليه السلام) قد وتر قريشاً في حروبها ضد الإسلام وإنّ كلّ دم
أراقه رسول الله (ص) بسيف عليّ (عليه السلام) وسيف غيره فإنّ العرب بعد وفاته
(ص) عصبت تلك الدماء بعليّ وحده ، لأنّه لم يكن في رهط النبيّ مَن يستحق في شرع
قريش وعاداتهم أن يعصب به تلك الدماء إلاّ عليّ وحده (نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 3 / 283 .) . |
|
ملامح التخطيط لإقصاء الإمام عليّ (ع) عن الخلافة :
|
|
نلاحظ أنّ هناك تخطيطاً محكماً لدى الخطّ المناوئ لعليّ (عليه
السلام) لأخذ الخلافة منه من خلال ما يلي : 1 ـ بقاؤهم في المدينة ومحاولتهم عدم الخروج منها مهما يكن
من أمر ، وذلك عندما عرفوا أنّ النبيّ (صلَّى الله عليه وآله) قد تدهورت صحّته،
كما لاحظوا بأنّ النبيّ (صلَّى الله عليه وآله) في تلك الأيام كان يكثر من
التوصية بعليّ (عليه السلام) وضرورة اتّباعه لسلامة الدين والدولة. 2 ـ حضورهم الدائم قرب الرسول ومحاولتهم الحيلولة دون حصول
شيء يدعم ولاية عليّ (عليه السلام) ، فكان الشغب في مجلس النبيّ (صلَّى الله
عليه وآله) تحت الشعار الذي رفعه عمر : ( حسبنا كتاب الله ) ثمّ اتهام النبيّ المعصوم (صلَّى
الله عليه وآله) بغلبة الوجع ممّا أزعج النبيّ ، حيث
إنّ قول النبي (ص) : ( إئتوني بدواة وكيف ) من غير المعقول أن يثير النفور
والشكّ في نفوس الجميع دون سابق مضمر في نفوس البعض ، فلم يكن داعٍ لاعتراضهم
إلاّ إثارة الشغب ومنع النبيّ (صلَّى الله عليه وآله) عن الكتابة . 3 ـ السرعة في البتّ بموضوع الخلافة وإتمام البيعة عبر
استغلالهم الفرصة بانشغال الإمام علي (عليه السلام) وبني هاشم بمراسم تجهيز
النبيّ ودفنه ، فحين علم عمر بنبأ الاجتماع في السقيفة ؛ أرسل إلى أبي بكر حين
دخل إلى بيت رسول الله (ص) أن اُخرج فقد حدث أمر
لابدّ أن تحضره ، ولم يوضّح ذلك خشية أن يطّلع عليه عليّ أو أحد من بني هاشم ،
وإلاّ لماذا ؟ فهل كان هذا الأمر المهمّ يعني أبا بكر دون بقيّة المسلمين وفيهم
من هو أحرص على الإسلام من أبي بكر وعمر ؟ ولماذا لم يدخل عمر بنفسه إلى داخل
دار النبيّ (ص) حيث يجتمع الناس فيتحدّث إليهم ؟
يدخل عمر بنفسه إلى داخل دار النبيّ (ص) حيث
يجتمع الناس فيتحدّث إليهم ؟ 4 ـ سعيهم لضمان حياد الأنصار وإبعادهم عن ميدان التنافس
السياسي بدعوى أنّهم ليسوا عشيرة النبيّ (ص) 5 ـ الترتيب في أخذ البيعة أوّلاً من الأنصار ، لأنّ قريشاً
لو بايعت الخليفة الجديد ؛ لما كان لبيعتها أدنى قيمة واقعية ، ولأمكن الإمام
فيما بعد أن يقيم الحجّة على قريش ، ولا يمكن لأيّ فرد أن يقف في موقع الندّ
لعليّ (عليه السلام) إذا كانت الأنصار في كفّة الإمام . ويمكن ملاحظة ذلك من طريقة أخذ البيعة بعد الخروج من السقيفة
، إذ كان الناس مجتمعين في المسجد فقال عمر : ما لي أراكم مجتمعين حلقاً شتّى ؟!
قوموا فبايعوا أبا بكر فقد بايعته الأنصار ، فقام عثمان ومن معه من بني أمية
فبايعوا ، وقام سعد وعبد الرحمن ومعهما بنو زهرة فبايعوا . 6 ـ دخول عناصر من خارج المدينة معدّةً سلفاً لتأييد الطرف
المناوئ لبني هاشم ، بدليل قول عمر : ما هو إلاّ أن رأيت ( أسلم ) فأيقنتُ
بالنصر (تأريخ الطبري : 2 / 459 ط مؤسسة الأعلمي .) . 7 ـ محاولتهم التعتيم على الإجراءات التي تمّت مخاتلةً ،
واتهامهم لكلّ مَن يعارضهم بأنّه يريد الفتنة وشقّ عصا المسلمين ، وقد اتّضح ذلك
من خلال الحوادث التي تتابعت فيما بعدُ ، والقضاء على من ثبت على عدم البيعة
وخالف قرار السقيفة (راجع طبقات ابن سعد : 3 / ق 2 / 145 ، وأنساب الأشراف : 1 / 589 ، والعقد
الفريد : 4 / 247 ، السقيفة والخلافة لعبد الفتاح عبد المقصود : 13 ، والسقيفة
انقلاب أبيض : اغتيال خالد بن سعيد بن العاص ، وابن عساكر : ترجمة سعد بن عبادة
وكنز العمّال : 3 / 134 .) . 8 ـ ومن الأدلّة على التخطيط السابق : أنّ عثمان بن عفّان
كتب اسم عمر في الوصية كخليفة من بعد أبي بكر (تأريخ الطبري : 2 / 618 ط مؤسسة الأعلمي ،
وسيرة عمر لابن الجوزي : 37 ، والكامل في التأريخ : 2 / 425 .) من دون أن يأمره بذلك ، فقد كان
مغمىً عليه ، فمن أين علم عثمان أنّ عمر هو الخليفة بعد أبي بكر ؟ 9 ـ ثمّ إنّ عمر وضع عثمان ضمن مجموعة أحدها يكون خليفة
المسلمين بحيث يضمن ترشيحه مؤكّداً ، وأيّ خبير بالتأريخ مُلمّ بمجريات الأمور
وتركيبة المرشّحين الستّة يستطيع أن يحلّل ذلك كما حلل الإمام عليّ (عليه
السلام) الموقف بوضوح (أنساب الأشراف : 5 / 19 .) . 10 ـ حين تشكّلت الحكومة التي تمخّضت عن اجتماع السقيفة ؛
توّلى أبو بكر الخلافة ، وأبو عبيدة المال ، وعمر القضاء
(الكامل في التأريخ : 2 / 420 .) ، وهذه هي أهمّ المناصب وأكثرها
حساسيةً في مناهج الحكم والدولة ، هذه التركيبة لجهاز الدولة والعناصر الحاكمة
لا تتأتّى صدفةً ولا يتمّ ذلك إلاّ عن تخطيط سابق . 11 ـ قول عمر حين حضرته الوفاة : لو كان أبو عبيدة حيّاً
استخلفته (شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 1 / 190 ط دار إحياء التراث العربي ن
وتأريخ الطبري : 3 / 292 قصة الشورى ، والكامل في التأريخ : 3 / 65 .) . وليس كفاءة أبي عبيدة هي التي أوحت إلى عمر بهذا التمنّي ،
لأنّه كان يعتقد أهليّة عليّ (عليه السلام) للخلافة ، ومع ذلك لم يشأ أن يتحمّل
أمر الأمة حيّاً كان أو ميّتاً . 12 ـ اتّهام معاوية لأبي بكر وعمر بالتخطيط لاستلاب الخلافة
من عليّ (ع) ، كما جاء ذلك في كتابه إلى محمّد
بن أبي بكر إذ قال : فقد كنّا وأبوك نعرف فضل ابن أبي طالب وحقّه لازماً لنا
مبروراً علينا ، فلمّا اختار الله لنبيّه (ص) ما
عنده وأتمّ وعده وأظهر دعوته وأفلج حجّته وقبضه إليه ؛ كان أبوك والفاروق أوّل
من ابتزّه حقّه وخالفه على أمره ، على ذلك اتّفقا واتّسقا ، ثمّ إنّهما دعواه
إلى بيعتهما فأبطأ عنهما وتلكّأ عليهما فهمّا به الهموم وأرادا به العظيم (مروج الذهب للمسعودي : 3 / 199 ، وقعة صفّين
لنصر بن مزاحم ك 119 .) . 13 ـ قول أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) لعمر : احلب يا عمر حلباً لك شطره ، اشدد له اليوم أمره ليرد عليك
غداً (الإمامة والسياسة : 29 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 6 / 11 .) . 14 ـ اتهام الزهراء (ع)
للحاكمين بالحزبيّة السياسية والتآمر للانقضاض على السلطة وتجريد بني هاشم منها (راجع خطبة الزهراء في مسجد النبي (ص) ، وبحار
الأنوار ك 29 / 220 .) بقولها : (فوسمتم غير إبلكم ، وأوردتم غير شربكم ...
ابتداراً زعمتم خوف الفتنة ؟ ( أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنّ جَهَنّمَ لَُمحِيطَةٌ
بِالْكَافِرِينَ ))
. |
|
سلبيّات حادثة السقيفة :
|
|
1 ـ الاستبداد بالرأي والقرار ، فقد استهان المشاركون في السقيفة بوصايا رسول الله (صلَّى
الله عليه وآله) للمسلمين بالاهتمام بعترته الطاهرة ، واستخفّوا بأوامره
المصرّحة بلزوم الاقتداء بهم والتمسّك بحبلهم ، ولو فرض ـ جدلاً ـ أنّه لا نصّ
بالخلافة من رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) على أحد من آل محمد وفرض كونهم
غير متميّزين في حسب أو نسب أو أخلاق أو جهاد أو علم أو عمل أو إيمان أو إخلاص ،
بل كانوا كسائر الصحابة ، فهل كان ثمّة مانع شرعيّ أو عقليّ أو عرفيّ يمنع تأجيل
عقد البيعة إلى حين الانتهاء من تجهيز رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) (النص والاجتهاد للسيد شرف الدين : 25 ط اُسوة .) ؟! إن هذا الاستعجال من المبادرين لسدّ الفراغ الذي خلّفته وفاة
الرسول (ص) إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على وجود نصوص أو أرضية تشريعية كان
ينبغي تفويتها والمبادرة لأخذ زمام الأمر ، لئلاً تأخذ النصوص فاعليتها إن جرت
الأمور بشكل طبيعي ، ولهذا قال عمر عن بيعة أبي بكر : إنّها كانت فلتة وقى الله
المسلمين شرّها ألا ومن عاد لمثلها فاقتلوه (تذكرة الخواص : 61 ، وراجع صحيح البخاري : كتاب
الحدود ، باب رجم الحبُلى .) . 2 ـ البيعة لم تكن جامعة لأهل الحلّ والعقد الذي يعتبر شرطاً أساسياً في حصول
الإجماع وفي مشروعية الانتخاب ، إذ اُلغي في السقيفة استشارة الطبقة الرفيعة من
الصحابة مثل عليّ (ع) والعباس وعمار بن ياسر وسلمان وخزيمة بن ثابت وأبي ذر وأبي
أيوب الأنصاري والزبير بن العوام وطلحة وأبي بن كعب ، وغيرهم كثير 3 ـ استعمال العنف والقسوة في طريقة أخذ البيعة من
المسلمين ،
فإنّ كثيراً من المسلمين قد أرغموا عليها ، وقد لعبت دِرَّة عمر في سبيل تحقيقها
وإيجادها دوراً كبيراً . 4 ـ لقّنت السقيفة مفاهيم منحرفة للأمة ، منها : أ ـ الاستعلاء على الأمة والاستخفاف بشأنها تحت شعار (مَن ذا
ينازعنا سلطان محمّد ؟ ! ) . ب ـ تحويل مفهوم النبوّة الرّبانية وخلافة الرسول (صلَّى
الله عليه وآله) إلى مفهوم السلطة العشائرية التي تستمد قوّتها وشرعيتها من
انتخاب أبناء العشيرة وليس من نصوص الشريعة المقدّسة . ج ـ فسح المجال أمام المسلمين لطرح التعددية في السلطة
ومنافسة مَن فرض الله طاعته بالنصّ ، وتشجيع التمرّد على الحاكم المعصوم المنصوب
بأمر من الله تعالى ، كما قالوا : منّا أمير ومنكم أمير . د ـ هيّأ اجتماع السقيفة الأرضيّة المناسبة لتجاوز وجود
الأمة وتجاوز رأيها السياسي كما حصل ذلك مرة أخرى عند تعيين عمر ، وثالثة عند
وفاة عمر متمثلاً في الشورى التي فرضها عمر على المسلمين . |
|
موقف الإمام (ع) من اجتماع السقيفة :
|
|
لم يكن الإمام عليّ (عليه السلام) طامعاً وساعياً في استلام
الخلافة والتربّع على عرشها مثل الآخرين ، إذ كان همّه الأوّل والأخير تثبيت
دعائم الإسلام ونشره ، وإعزاز الدين وأهله ، وإظهار عظمة الرسول وبيان سيرته ،
وحثّ الناس على الاقتداء بمنهجه (صلَّى الله عليه وآله) ، فانشغل بمراسم تجهيز
النبيّ والصلاة عليه ودفنه ، وما كان يدور في خَلَده أنّ الخلافة تعدوه وهو
المؤهّل لها رسالياً والمرشّح لها نبوّياً ، ولكنّ نفوس القوم أضمرت ما ينافي
وصايا نبيّهم في غزوتي أُحد وحنين ، وأغراهم الطمع في سلطان بغير حقّ ، فتركوا
نبيّهم مطروحاً بلا دفن كما تركوه وفرّوا عنه في حياته عند الشدائد والهزائز . لقد وصل خبر اجتماع السقيفة إلى بيت النبيّ (صلَّى الله عليه
وآله) حيث يجتمع عليّ (عليه السلام) وبنو هاشم والمخلصون من الصحابة حول جسد
رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) ، فقال العباس عمّ الرسول لعليّ : يا ابن أخي
، اُمدد يدك أبايعك ، فيقال : عمّ رسول الله بايع ابن عمّ رسول الله ، فلا يختلف
عليك اثنان . فقال (عليه السلام) : يا عمّ ،
وهل يطمع فيها طامع غيري ؟ قال العباس : ستعلم . غير أنّ الإمام (عليه السلام) لم يكن ليخفى عليه ما كان يجري
في الساحة من مؤامرات آنذاك فأجابه بصريح القول : (
إنّي لا أحب هذا الأمر من وراء رِتاج ) (الإمامة والسياسة : 21 . والرِتاج : الباب
المغلق .) . |
|
موقف أبي سفيان :
|
|
روي : أنّ أبا سفيان جاء إلى باب دار رسول الله (صلَّى الله
عليه وآله) وعليّ (ع) والعباس موجودان فيه ،
فقال : ما بال هذا الأمر في أقلّ حيّ من قريش ؟! والله لئن شئت لأملأنّها عليهم
خيلاً ورجالاً ، فقال عليّ (ع) : ارجع يا أبا سفيان ! طالما عاديت الإسلام وأهله فلم تضرّه
بذاك شيئاً . وروي أيضاً : أنّه لمّا اجتمع الناس على بيعة أبي بكر ؛ أقبل
أبو سفيان وهو يقول : والله إنّي لأرى عجاجةً لا يطفئها إلاّ دم ، يا آل عبد
مناف فيم أبو بكر من أموركم ! أين المستضعفان عليّ والعباس ، وقال : أبا حسن ،
ابسط يدك أبايعك ، فأبى عليّ (عليه السلام) عليه وزجره وقال : إنّك والله ما أردت بهذا إلاّ الفتنة ، وإنّك طالما بغيت
الإسلام شرّاً ، لا حاجة لنا في نصيحتك (تاريخ الطبري : 2 / 449 ، والكامل في التاريخ :
2 / 326 ط دار الفكر .) . ولمّا بويع أبو بكر قال أبو سفيان : ما لنا ولأبي فصيل ،
إنما هي بنو عبد مناف ! فقيل له : إنّه قد ولّى ابنك ، قال : وصلته رحم (تأريخ الطبري : 2 / 449 ط دار الأعلمي ،
والكامل في التأريخ : 2 / 326 .) . لم تكن معارضة أبي سفيان للسقيفة عن إيمانه بحقّ الإمام عليّ
(عليه السلام) وبني هاشم ، وإنّما كانت حركة سياسية ظاهرية أراد بها الكيد
بالإسلام والبغي عليه ، فإنّ علاقة أبي بكر مع أبي سفيان كانت وثيقة للغاية (فقد
روي أنّ أبا سفيان اجتاز على جماعة من المسلمين منهم أبو بكر وسلمان وصهيب وبلال
، فقال بعضهم : أما أخذت سيوف الله من عنق عدّو الله مأخذها ؟ فزجرهم أبو بكر
وقال لهم : أتقولون هذا لشيخ قريش وسيّدهم ؟ .. ومضى مسرعاً إلى النبيّ (ص)
يخبره بمقالة القوم فردّ عليه الرسول (صلَّى الله عليه وآله) قائلاً : يا
أبا بكر لعلك أغضبتهم ؟ لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت الله .
صحيح البخاري : 2 / 362 .) . |
|
أقطاب المعارضة للسقيفة :
|
|
كان من الطبيعي أن تبرز أطراف معارضة لنتائج السقيفة التي لم
تتمتّع بالأهليّة الكافية والاحقيّة في الزعامة ، فبرزت
ثلاثة أطراف : الأوّل : الأنصار باعتبارهم كتلة سياسية واجتماعية كبيرة لابدّ من
حسابها في ميزان الترشيح والانتخاب ، فنازعوا الخليفة الفائز وصاحبيه في سقيفة
بني ساعدة ، ووقعت بينهم المنازعة التي انتهت بفوز قريش . وقد انتفع أبو بكر وحزبه في مواجهة الأنصار من : 1 ـ تركّز فكرة الوراثة الدينية في الذهنية العربية في قوله
بأنّهم شجرة النبيّ (صلَّى الله عليه وآله) وأقربهم إليه ، فهم أولى به من سائر
المسلمين ، وأحق بخلافته وسلطانه . 2 ـ انشقاق الأنصار على أنفسهم بين
مؤيّد ومعارض لأبي بكر ، نتيجة تجذّر النزعة القبلية من نفوسهم ، أو لحسد بعضهم لبعض ، أو
الرغبة في نيل الحظوة والقُربة لدى السلطة الحاكمة
الجديدة ، حتى برزت هذه الظاهرة في قول أسيد بن
حضير في السقيفة : لئن ولّيتموها سعداً عليكم مرة واحدة لا زالت لهم بذلك
عليكم الفضيلة ولا جعلوا لكم نصيباً فيها أبداً فقوموا فبايعوا أبا بكر (الكامل في التأريخ : 2 / 331 .) . لقد أعطى اجتماع السقيفة لأبي بكر القوّة من
ناحيتين : 1 ـ إضعاف دور القاعدة الشعبية للإمام عليّ (عليه السلام)
فإنّ الأنصار سجّلوا على أنفسهم بذلك مذهباً لا يسمح لهم بأن يقفوا بعد السقيفة
إلى صفّ الإمام ويخدموا قضيته وأحقّيته في الخلافة . 2 ـ بروز أبي بكر كمدافع وحيد عن حقوق المهاجرين بصورة عامّة
وعن قريش خاصّة في مجتمع الأنصار ، حيث إنّ الظرف كان مناسباً جدّاً ، إذ خلا من
أقطاب المهاجرين الذين لم يكن لتنتهي المسألة في محضرهم إلى نتيجتها التي انتهت
إليها . الثاني : الأمويون الذين كان لديهم مطمع سياسيّ كبير في نيل نصيب
مرموق من الحكم ، واسترجاع شيء من مجدهم السياسي في الجاهلية وعلى رأسهم أبو
سفيان ، وقد تعامل معهم أبو بكر وحزبه وفق معرفتهم بطبيعة النفس الأموية
وشهواتها السياسيّة والمادية ، فكان من السهل على أبي بكر أن يتنازل عن بعض
المبادئ والحقوق الشرعية ، فدفع لأبي سفيان جميع ما في يده من أموال المسلمين
وزكواتهم التي جمعها من سفره الذي بعثه فيه رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)
لجباية الأموال ، ولم يعبأ الفائزون بالسقيفة بمعارضة الأمويين وتهديد أبي سفيان
وما أعلنه من كلمات الثورة والرغبة في تأييد الإمام (عليه السلام) وبني هاشم . بل استفاد أبو بكر وحزبه من
الأمويين في إضعاف دور بني هاشم حاضراً ومستقبلاً بأن جعلوا للأمويين حظّاً في
العمل الحكومي في عدّة من المرافق الهامّة في الدولة . الثالث : الهاشميّون وأخصّاؤهم كعمار وسلمان وأبي ذر والمقداد رضوان
الله عليهم ، وجماعات كثيرة من الناس الذين كانوا يرون البيت الهاشمي هو صاحب
الحقّ الشرعي بالخلافة ، وهو الوارث الطبيعي لرسول الله
(ص) بحكم نصّ الغدير ومناهج السياسة التي كانوا يألفونها . ولم تكن لتنطلي عليهم الحجج الواهية التي طرحتها أطراف
السقيفة ، فرأت فيهم تيارات تسعى للاستئثار بالحكم لإرضاء شهواتهم ونذيراً
بانحراف التجربة الإسلامية من مسارها الصحيح . |
|
نتائج السقيفة : |
|
نجح أبو بكر وحزبه في مواجهة الأنصار والأمويين ، وكسب
الموقف بأن أصبح خليفة للمسلمين ، ولكنّ هذا النجاح جرّه إلى تناقض سياسي واضح ،
لأنّه لم يملك في السقيفة من رصيد إلاّ أن يجعلوا حجّتهم مبنيّة على أساس
القرابة من رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) ، ومن ثَمّ يقرّوا مذهب الوراثة
للزعامة الدينية . غير أنّ وجود بني هاشم كطرف معارض بدّل الوضع السياسي ،
واحتجّت المعارضة على أبي بكر وحزبه بنفس حجّتهم على باقي الأطراف ، وهي إذا
كانت قريش أولى برسول الله من سائر العرب فبنو هاشم أحقّ بالأمر من بقية قريش . وهذا ما أعلنه الإمام عليّ (عليه السلام) حين قال : إذا احتجّ المهاجرون بالقُرب من رسول الله (ص) كانت الحجّة
لنا على المهاجرين بذلك قائمة ، فإن فلجت حجّتهم كانت لنا دونهم ، وإلاّ
فالأنصار على دعوتهم . وأوضحه العباس في حديث له مع أبي بكر إذ قال له : وأمّا قولك
نحن شجرة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) فإنكم جيرانها ونحن أغصانها (شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 6 / 5 .) . فالإمام عليّ (عليه السلام) كان مصدر رعب ورهب في نفوس الفائزين
في لعبة السقيفة وسدّاً منيعاً إزاء رغباتهم وطموحاتهم ، وكان بإمكانه أن يستغلّ
النفعيّين ـ وما أكثرهم ! ـ والذين يميلون مع كلّ ريح وينعقون مع كلّ ناعق
والذين يعرضون أصواتهم ومواقفهم رخيصة في الأسواق السياسية ، وأن يشبع نهمهم
ممّا خلّفه الرسول (ص) من الخمس وغلاّت أراضي المدينة
ونتاج (فدك) التي كانت تدرّ بالخيرات ، إلاّ أنّه (عليه السلام) أبى عن
كلّ ذلك لكمال شخصيّته وسموّ منزلته ، هذا من جانب ، ومن جانب آخر كان بوسعه (ع)
أن يتحرّك محتجّاً أمام أرباب السقيفة بمبدأ القرابة الذي يعدّ ورقة رابحة بيده
حتى ألمح لذلك بقوله (ع) : (احتجوّا بالشجرة وأضاعوا الثمرة) . وكان السواد
الأعظم من الناس يقدّسون أهل البيت ويحترمونهم لذلك السبب ، وبالتالي سيدفع
السلطة الحاكمة إلى أزمة سياسية حرجة لا مخرج منها ، بيد أنّه (عليه السلام) كان
أسمى من ذلك وأجلّ ، حيث قدّم (عليه السلام) المصلحة
الإسلامية العليا على كلّ المصالح الخاصة . ولتلافي احتمال تحرّك الإمام على هذا المسار
تردّدت السلطة بين موقفين : أوّلاً : أن لا تقرّ للقرابة بشأن في الخلافة ، وهذا معناه نزع الثوب
الشرعي عن خلافة أبي بكر الذي تقمّصه يوم السقيفة . ثانياً : أن تناقض السلطة الحاكمة نفسها وإصرارها على مبادئها التي
أعلنتها في السقيفة مقابل بقيّة الأطراف ، فلا ترى أيّ حق للهاشميّين في السلطة
وهم أقرب الناس إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، أو تراه لهم ، ولكن في
غير ذلك الظرف الذي يكون معنى المعارضة مقابلة حكم قائم ووضع قد تعاقد عليه
الناس . وكان الخيار الثاني هو خيار السلطة (راجع تفصيل ذلك في ( فدك في التأريخ ) للشهيد الصدر ك 84 ـ 96
، وتأريخ الطبري : 2 / 449 و 450 ( أحداث السقيفة ) .) . |
|
الفصل الثاني:
|
|
الإمام عليّ (عليه السلام) في عهد أبي بكر
|
|
خطوات السلطة لمواجهة
المعارضة :
|
|
ما كانت الفئة المسيطرة لتتنازل عن السلطة بعد أن سعت وخطّطت
للاستيلاء عليها ، فثبتت على آرائها التي روّجتها في السقيفة ودعمتها بشتّى
الوسائل والسبل بغض النظر عن شرعيّتها أو صحّتها في المحافظة على سلامة الدعوة
الإسلامية ، لذا فإنّنا نلاحظ بعض الظواهر والخطوات السياسية التي اتّبعتها هذه
الفئة من أجل إبعاد آل محمد (صلّى الله عليه وآله) عن الحكم نهائياً والقضاء على
الفكرة التي أمدّت الهاشميين بالقوة ، بل القضاء على كلّ معارضة محتملة مستقبلاً
، وهي: 1 ـ إنّ السلطة الجديدة أخذت على المعارضين أنّ مخالفتهم
الخليفة الجديد ليس إلاّ إحداثاً للفتنة المحرّمة في شريعة الإسلام ، وكان يدعم
إدانتهم للمعارضة هذه أنّ ظروف الدولة الإسلامية كانت غير مستقرّة بعد ، وكان
الأعداء من خارج البلاد يهدّدون الدولة الإسلامية إضافة إلى أحداث الردّة التي
حصلت بعد وفاة الرسول (صلّى الله عليه وآله) داخل حدود الدولة الإسلامية الفتيّة
. 2 ـ أسلوب الشدّة والعنف الذي اتّبعه الخليفة وحزبه مع
الإمام عليّ (عليه السلام) ومن معه بنفس الطريقة التي اتّبعوها مع سعد بن عبادة
في السقيفة ، فقد بلغت الشدّة منهم أنّ عمر هدّد بحرق بيت الإمام عليّ (عليه
السلام) وإن كانت فاطمة (عليها السلام) فيه (بحار
الأنوار : 43 / 197 ط دار الوفاء .) ، ومعنى هذا أنّ فاطمة وغيرها من آل محمد (ص) ليس لهم حرمة تمنعهم عن أن يتّخذ الجهاز
الحاكم الطريقة نفسها معهم . 3 ـ إنّ أبا بكر ومن معه لم يشرك شخصاً من الهاشميّين في شأن
من شؤون الحكم المهمّة خشية أن يصل الهاشميّون إلى الخلافة (تأريخ
الطبري : 2 / 618 ، ومروج الذهب على هامش تأريخ ابن الأثير : 5 م 135 .)
ولا جعل منهم والياً على شبر من
الدولة الإسلامية الواسعة . 4 ـ إعداد وتهيئة كتلة سياسية ضخمة تنافس آل محمد (صلّى الله
عليه وآله) وتعاديهم ، لنيل الخلافة والمركز الأعلى في الحكم ، فإنّنا نلاحظ أنّ
الأمويين ذوي الألوان والطموحات السياسية الواضحة قد احتلوا الصدارة في المناصب
الإداريّة أيام أبي بكر وعمر ، وإضافة إلى ذلك أنّ مبدأ الشورى الذي ابتكره
الخليفة الثاني سوف يجعل من عثمان بن عفّان المرشح الأوفر حظّاً من غيره من
المنافسين . هذه الكتلة السياسية من شأنها أن تطول وتتّسع لأنّها ليست
متمثلة في شخص بل في بيت كبير ، وبالتالي سوف لن تكون الظروف مهيأة لصعود آل
محمد (صلّى الله عليه وآله) إلى سدّة الخلافة بسهولة على أقلّ تقدير . 5 ـ عزل كلّ العناصر التي تميل إلى بني هاشم ، فقد روي أنّ
أبا بكر عزل خالد بن سعيد بن العاص عن قيادة الجيش الذي وجّهه لفتح الشام بعد أن
أسندها إليه لا لشيء إلاّ لأنّ عمر نبّهه إلى نزعته الهاشمية وميله إلى آل محمد
، وذكّره بموقفه المعارض لهم بعد وفاة رسول الله (تاريخ
الطبري : 2 / 586 ط مؤسسة الأعلمي .) . 6 ـ إضعاف القدرة الاقتصادية للإمام عليّ (ع) خشية أن
يستثمرها الإمام في الدعوة لاستعادة حقّه الشرعي في الخلافة ، فقام الخليفة
بمصادرة فدك من الزهراء (ع) لعلمه أنّها (ع)
كانت سنداً قوياً لقرينها في دعوته إلى نفسه ، هذا إذا علمنا أنّ أطرافاً سياسية
باعت صوتها للحكومة ، فمن الممكن أن تفسخ المعاملة إذا عرض عليها ما ينتج ربحاً
أكبر ، كما وأنّ الخليفة أبا بكر نفسه اتّخذ المال وسيلة من وسائل الإغراء وكسب
الأصوات (الطبقات
الكبرى لابن سعد : 3 / 182 ، وشرح النهج لابن أبي الحديد : 1 / 133 .) . وإذا أضفنا لذلك أنّ الزهراء كانت دليلاً يحتجّ به أنصار
الإمام عليّ (عليه السلام) على أحقّيته بالخلافة نستوضح أنّ الخليفة كان
موفَّقاً كلّ التوفيق في مسعاه السياسي لإظهار موقف الزهراء (عليها السلام)
الداعم لأمير المؤمنين (عليه السلام) موقفاً محايداً ، وذلك بأسلوب لبق وغير
مباشر لإفهام المسلمين أنّ فاطمة (عليها السلام) امرأة من النساء ولا يصحّ أن
تؤخذ آراؤها ودعاويها دليلاً في مسألة بسيطة كفدك ، فضلاً عن موضوع مهم كالخلافة
، وأنّها إذا كانت تطلب أرضاً ليس لها بحقّ ؛ فمن الممكن أن تطلب (شرح
نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 16 / 284 ط . المحققة / أبو الفضل إبراهيم وفيه
جواب مدرس المدرسة الغربية علي بن الفارقي بهذا المعنى عندما سأله ابن أبي
الحديد .) لقرينها الدولة الإسلامية كلّها ،
وليس له فيها حقّ كما يدّعيه هؤلاء الصحابة الذين رشّحوا أنفسهم لخلافة رسول
الله (ص) وسيطروا على زمام الأمر . فقد روي أنّه لمّا استقرّ الأمر لأبي بكر ، بعث إلى وكيل
الزهراء فأخرجه منها واستولى على فدك ، واحتجّ بحديث لم يروه غيره ، وهو أنّه
سمع النبيّ (صلّى الله عليه وآله) يقول : ( إنّا معاشرَ الأنبياء لا نورّث ، ما
تركناه صدقة ) فالنبيّ لا يورث وإنّما ميراثه في المساكين وفقراء المسلمين (راجع
سنن البيهقي : 6 / 301 ، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 16 / 218 ـ 224 ،
ودلائل الصدق للمظفر : 3 / 32 .) . |
|
الاحتجاجات على خلافة
السقيفة :
|
|
إنّ الصفوة الخيّرة من الصحابة الذين وقفوا مع الإمام عليّ
(عليه السلام) في المطالبة بحقّه الشرعي في الخلافة احتجّوا بصلابة وثقة وعلانية
وبحجّة واضحة دامغة وبدليل شرعيّ منصوص وبأسلوب يدلّ على الحرص على إصابة الحقّ
وصيانة الحكم الإسلامي من الانحراف على الحكومة ، فقد وقفوا في مسجد الرسول
(صلّى الله عليه وآله) فانبرى الصحابيّ الجليل خزيمة بن ثابت فقال : أيّها الناس
! ألستم تعلمون أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قَبِل شهادتي وحدي ، ولم
يرد معي غيري ؟ فقالوا : بلى ، قال : فأشهد أنّي سمعت رسول الله (صلّى الله عليه
وآله) يقول : (أهل بيتي يفرّقون بين الحقّ والباطل ،
وهم الأئمّة الذين يقتدى بهم) ، وقد قلت ما علمت ، وما على الرسول إلاّ
البلاغ المبين . واحتجّ عمار بن ياسر فقال : يا معاشر قريش ويا معاشر المسلمين !
إن كنتم علمتم وإلاّ فاعلموا أنّ أهل بيت نبيّكم أولى به وأحقّ بإرثه وأقوم
باُمور الدين وآمن على المؤمنين وأحفظ لملّته وأنصح لاُمّته ، فمروا صاحبكم
فليردّ الحقّ إلى أهله قبل أن يضطرب حبلكم ويضعف أمركم ويظهر شقاقكم وتعظم
الفتنة بكم . ووقف سهل بن حنيف فقال : يا معشر قريش ! أشهد على رسول الله
(صلّى الله عليه وآله) وقد رأيته في هذا المكان ـ يعني مسجد النبيّ ـ وقد أخذ
بيد عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) وهو يقول : ( أيّها الناس ، هذا عليّ
إمامكم من بعدي ووصيّي في حياتي وبعد وفاتي ، وقاضي ديني ، ومنجز وعدي ، وأوّل
من يصافحني على حوضي ، وطوبى لمن تبعه ونصره ، والويل لمن تخلّف عنه وخذله ) . ثمّ قام أبو الهيثم بن التيهان فقال : وأنا أشهد على رسول
الله (صلّى الله عليه وآله) أنّه أقام عليّاً يوم غدير خم ، فقالت الأنصار : ما
أقامه إلاّ للخلافة ، وقال بعضهم : ما أقامه إلاّ ليعلم الناس أنّه مولى من كان
رسول الله (صلّى الله عليه وآله) مولاه ، وكثر الخوض في ذلك فبعثنا رجلاً منّا
إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فسألوه عن ذلك ، فقال : (
هو وليّ المؤمنين بعدي وأنصح الناس لأمتي ) ، وأنا أشهد بما حضرني ، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ،
إنّ يوم الفصل كان ميقاتاً . ثمّ قام آخرون منهم أبو ذر وأبو أيوب الأنصاري وعتبة بن أبي
لهب والنعمان بن عجلان وسلمان الفارسي فاحتجّوا على القوم (تأريخ
أبي الفداء : 1 / 156 ، والخصال للصدوق : 432 ، والاحتجاج للطبرسي : 1 / 186 .) . |
|
محاولة إرغام الإمام
(ع) على البيعة :
|
|
كان لامتناع الإمام عن البيعة وقيام عدد من الصحابة الأجلاّء
بالاحتجاج العلني ومطالبة السلطة بالتنحّي عنها وتسليمها إلى صاحبها الشرعي
الأثر الفعّال في تحريك مشاعر المسلمين وتعبئتهم في صف أمير المؤمنين (عليه
السلام) ، هذا بالإضافة إلى وجود بعض العشائر المؤمنة المحيطة بالمدينة مثل أسد
وفزارة (تأريخ
الطبري : 2 / 476 ط مؤسسة الأعلمي .) وبني حنيفة وغيرهم ممن شاهد بيعة يوم
الغدير (غدير خم) التي عقدها النبيّ (صلّى الله عليه وآله) لعليّ (عليه السلام)
بإمرة المؤمنين من بعده الذين رفضوا بيعة أبي بكر ، وامتنعوا عن أداء الزكاة
للحكومة الجديدة باعتبارها غير شرعية ، وكانوا يقيمون الصلاة ويؤدّون جميع
الشعائر ، كلّ هذا كان يشكّل خطراً على الحكم القائم ، فرأت السلطة الحاكمة أن
تصنع حدّاً لهذا الخطر ، وذلك بإجبار رأس المعارضة وهو عليّ بن أبي طالب (عليه
السلام) على بيعة أبي بكر . وذكر بعض المؤرّخين أنّ عمر أتى أبا بكر فقال له : ألا تأخذ
هذا المتخلّف عنك بالبيعة ؟ يا هذا لم تصنع شيئاً ما لم يبايعك عليّ ! فابعث
إليه حتى يبايعك . فأجمعوا آراءَهم على إرغام الإمام (عليه السلام) وقسره على
البيعة لأبي بكر ، فأرسلوا قوة عسكرية فأحاطت بداره فدخلوا داره بعنف (الإمامة
والسياسة : 30 ، وتأريخ الطبري : 2 / 443 .) ، وأخرجوه منها بصورة لا تليق بمكانة
شخص قال عنه رسول الله (ص) : ( أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ
بعدي ) . وجيء به إلى أبي بكر ، فصاحوا به بعنف : بايع أبا بكر ،
فأجابهم الإمام بمنطق الواثق الجريء الشجاع : ( أنا
أحقّ بهذا الأمر منكم ، لا أبايعكم وأنتم أولى بالبيعة لي ، أخذتم الأمر من
الأنصار ، واحتججتم عليهم بالقرابة من النبيّ (صلّى الله عليه وآله) وتأخذونه
منّا أهل البيت غصباً ! ألستم زعمتم للأنصار أنّكم أولى بهذا الأمر منهم لمّا
كان محمّد (صلّى الله عليه وآله) منكم فأعطوكم المقادة ، وسلّموا إليكم الإمارة
؟ وأنا أحتجّ عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار ، نحن أولى برسول الله (صلّى
الله عليه وآله) حيّاً وميّتاً ، فأنصفونا إن كنتم تؤمنون وإلاّ فبوءوا بالظلم
وأنتم تعلمون ) (الإمامة والسياسة : 28 .) . وبهذا الموقف الصريح أوضح الإمام
الحقيقة من الحجّة السياسية التي اتّخذوها ذريعة للوصول إلى الحكم ، فلم يكن لهم
بدّ من التسليم أو الردّ بما تحويه أفكارهم وتضمره نفوسهم ، فثار ابن الخطّاب
بعد أن أعوزته الحجّة في الردّ على الإمام ، فسلك طريق العنف قائلاً له : إنّك
لست متروكاً حتى تبايع ، فزجره الإمام قائلاً : ( احلب حلباً لك شطره ،
واشدد له اليوم يردده عليك غداً ، والله يا عمر لا أقبل قولك ولا أبايعه ) (أنساب
الأشراف : 1 / 587 ، وشرح نهج البلاغة : 2 / 2 ـ 5.) . هنا كشف الإمام (عليه السلام) عن سرّ اندفاعات عمر
وحماسه من أجل البيعة ، فإنّ موقفه هذا من أجل أن ترجع إليه الخلافة وشؤون الملك
بعد أبي بكر . وخاف أبو بكر من تطوّر الأحداث في غير ما يحب ، وخشي من
عواقب غضب الإمام فقال له : إن لم تبايع فلا أكرهك ، ثمّ تكلّم أبو عبيدة بن
الجرّاح محاولاً تهدئة الإمام عليّ (ع) وكسب ودّه ، فقال : يا ابن عم ! إنّك
حديث السنّ وهؤلاء مشيخة قومك ، ليس لك مثل تجربتهم ومعرفتهم بالأمور ، ولا أرى
أبا بكر إلاّ أقوى على هذا الأمر منك وأشد احتمالاً واضطلاعاً به ، فسلّم لأبي
بكر هذا الأمر ، فإنّك إن تعش ويطل بك بقاء فأنت لهذا الأمر خليق وبه حقيق من
فضلك ودينك وعلمك وفهمك وسابقتك ونسبك وصهرك (شرح
نهج البلاغة : 2 / 2 ـ 5 و 1 / 134 .) . إنّ هذه التصريحات السياسية غايتها تضليل الآراء وتسويف
المواقف ، وهي لم تكن لتنطلي على وعي الإمام (ع)
بل أثارت في نفسه الألم والاستياء من بوادر الانحراف ، فاندفع يخاطب القوم في
محاولة لتنبيههم بخطئهم ، فقال : ( الله الله يا معشر المهاجرين ! لا تخرجوا
سلطان محمّد في العرب عن داره وقعر بيته إلى دوركم وقعور بيوتكم ، ولا تدفعوا
أهله عن مقامه في الناس وحقّه ، فو الله يا معشر المهاجرين لنحن أحقّ الناس به ،
لأنّا أهل البيت ، ونحن أحقّ بهذا الأمر منكم ، ما كان فينا القارئ لكتاب الله ،
الفقيه في دين الله ، العالم بسنن رسول الله ، المضطلع بأمر الرعيّة ، الدافع
عنهم الاُمور السيّئة ، القاسم بينهم بالسويّة ، والله إنّه لفينا ، فلا تتّبعوا
الهوى فتضلّوا عن سبيل الله فتزدادوا من الحقّ بُعداً ) (الإمامة
والسياسة : 28 .) . وروي : أنّ الزهراء (عليها السلام) خرجت خلف أمير المؤمنين
من أجل الدفاع عن الإمام (ع) لأنّها خشيت أن
يكون القوم قد أعدّوا السوء لإيقاعه بالإمام ، وقد أخذت بيد ولديها الحسن
والحسين (عليهما السلام) وما بقيت هاشمية إلاّ وخرجت معها ، فوصلت مسجد النبيّ (ص) وهدّدت القوم بالدعاء عليهم إن لم يتركوا
الإمام فقالت (عليها السلام) : ( خلّوا عن ابن عمّي ، خلّوا عن بعلي ،
والله لأنشرنّ شعري ولأضعنّ قميص أبي على رأسي ولأدعونّ عليكم ، فما ناقة صالح
بأكرم على الله منّي ، ولا فصيلها بأكرم على الله من ولدي ) (الإحتجاج
للطبرسي : 1 / 222 .) . |
|
الإمام عليّ (ع)
ومضاعفات السقيفة :
|
|
إذا كانت مواقف الإمام عليّ (عليه السلام) كلّها رائعة ؛
فموقفه من الخلافة بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من أكثرها روعةً ،
فالعقيدة الإلهية تريد في كلّ زمان بَطَلاً يفتديها بنفسه ونفيسه ويعزّز به
المبدأ ، وهذا هو الذي بعث بعليّ إلى فراش الموت ، وبالنبيّ (صلّى الله عليه
وآله) إلى مدينة النجاة يوم الهجرة ، ولم يكن ليتهيّأ للإمام (عليه السلام) في
محنته بعد وفاة أخيه الرسول (صلّى الله عليه وآله) أن يضحّي لها كلا ولديه الحسن
والحسين ؛ لأنه لو ضحّى بنفسه في سبيل توجيه الخلافة إلى مجراها الشرعي في رأيه
؛ لما بقي بعده من يمسك الخيط من طرفيه ، وسبطا رسول الله (ص) طفلان لا يتهيّأ
لهما من الأمر ما يريد . إنّ عليّاً الذي كان على أتمّ استعداد لتقديم نفسه قرباناً
للمبدأ في جميع أدوار حياته منذ ولد في الكعبة والى أن استُشْهِدَ في مسجد
الكوفة ؛ قد ضحّى بموقعه الذي نصبه فيه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وتنازل
عن القيادة السياسية الظاهرة في سبيل المصالح العليا التي جعله رسول الله (ص) وصيّاً عليها وحارساً لها . وقف عليّ (عليه السلام) عند مفترق طرق ، كلٌ منها
حرج وكلٌ منها شديد على نفسه : 1 ـ أن يبايع أبا بكر دون ممانعة ، ويكون حاله مثل بقية
المسلمين ، بل ويحافظ على وجوده ومنافعه الشخصية ومصالحه المستقبلية وينال
المكانة والتكريم والاحترام لدى الجهاز الحاكم . وهذا غير ممكن ، لأنّه يعني
إمضاءه (عليه السلام) لبيعة أبي بكر وولايته ، وهذا مخالف لأوامر رسول الله
(صلّى الله عليه وآله) ومؤدٍّ إلى انحراف الخلافة والولاية والإمامة عن مسارها
الأصلي ومعناها الحقيقي إلى الأبد ، وتبدّد الجهود والتضحيات التي بذلها النبيّ
(صلّى الله عليه وآله) والإمام علي (عليه السلام) من أجل إرساء قواعد الإسلام
وتحكيم أصول الخلافة الشرعية ، وبالتالي انحراف التجربة الإسلامية كلّها . 2 ـ أن يسكت وفي العين قذىً وفي الحلق شجا ، ويحاول أن يسلك
سبيلاً معتدلاً يحفظ كيان الإسلام ويصون المسلمين ووجودهم وأن يجني ثماره
متأخّراً . 3 ـ أن يعلن الثورة المسلّحة على خلافة أبي بكر ، ويدعو
الناس إليها ويدفعهم نحوها . ولكن ماذا كان يترقّب للثورة من نتائج ؟ هذا ما نريد أن
نتبيّنه على ضوء الظروف التأريخية لتلك الساعة العصيبة . ومن المألوف أن الحاكمين لم يكونوا ينزلون عن مراكزهم بأدنى
معارضة تواجههم وهم من عرفناهم حرصاً وشدّةً في أمر الخلافة ، معنى هذا أنّهم
سيقابلون ويدافعون عن سلطانهم الجديد ، ومن المعقول جدّاً حينئذٍ أن يغتنم سعد
ابن عبادة الفرصة ليعلنها حرباً اُخرى لإشباع أهوائه السياسية ، لأنّنا نعلم
أنّه هدّد الحزب المنتصر بالثورة عندما طلب منه البيعة وقال : (لا والله حتّى أرميكم بما في كنانتي وأُخضّب سنان رمحي
وأضرب بسيفي وأقاتلكم بأهل بيتي ومن أطاعني ولو اجتمع معكم الإنس والجنّ ما
بايعتكم) (تأريخ
الطبري : 2 / 459 ط مؤسسة الأعلمي .)
. وأكبر الظنّ أنّه تهيّب الغقدام على الثورة ولم يجرؤ على أن
يكون أوّل شاهر للسيف ضدّ الخلافة القائمة ، وإنّما اكتفى بالتهديد الشديد الذي
كان بمثابة إعلان الحرب ، وأخذ يترقّب تضعضع الأوضاع ليشهر سيفه بين السيوف ،
فكان حريّاً به أن تثور حماسته ويزول تهيّبه ويضعف الحزب القائم في نظره إذا رأى
صوتاً قويّاً يجهر بالثورة فيعيدها جذعة محاولاً إجلاء المهاجرين من المدينة
بالسيف (تأريخ
الطبري : 2 / 459 ، قصة السقيفة ، قول الحبّاب بن المنذر : ( أمّا والله لئن
شئتم لنعيدنّها جذعَة ... ) .) ، كما أعلن ذلك المتكلّم عن لسانه في مجلس السقيفة . ولا ننسى بعد ذلك الأمويين وتكتّلهم السياسي في سبيل الجاه
والسلطان ، وما كان لهم من نفوذ في مكّة في سنواتها الجاهلية الأخيرة ، فقد كان
أبو سفيان زعيمها في مقاومة الإسلام والحكومة النبويّة ، وكان عتاب بن أسيد بن
أبي العاص ابن أُمية أميرها المطاع في تلك الساعة . وإذا تأمّلنا ما جاء في تأريخ تلك الأيام (الكامل
في التأريخ / لابن الأثير : 3 / 123 وصلَ خبر وفاة الرسول (صلّى الله عليه وآله)
وكان عتاب بن أسيد بن أبي العاص بن أُمية أميراً على مكّة .)
من أنّ رسول
الله (ص) لمّا توفّي وبلغ خبره إلى مكّة وعامله عليها عتاب بن أسيد بن
أبي العاص بن أُمية استخفى عتاب وارتجّت المدينة وكاد أهلها يرتدّون ، فقد لا
نقتنع بما يعلّل به رجوعهم عن الارتداد من العقيدة والإيمان ، وليس مردّ ذلك
التراجع إلى أنّهم رأوا في فوز أبي بكر فوزهم وانتصارهم على أهل المدينة كما ذهب
إليه بعض الباحثين ؛ لأنّ خلافة أبي بكر كانت في اليوم الذي توفّي فيه رسول الله (ص) ، وأكبر الظنّ أنّ خبر الخلافة جاءهم مع
خبر الوفاة ، بل تعليل القضية : أنّ الأمير الأموي عتاب بن أسيد شاء أن يعرف
اللون السياسي الذي اتّخذته أسرته في تلك الساعة ، فاستخفى وأشاع بذلك الاضطراب
حتّى إذا عرف أنّ أبا سفيان قد رضي بعد سخط وانتهى مع الحاكمين إلى نتائج تصبّ
في صالح البيت الأموي ؛ (تاريخ الطبري : 2 / 449 ،
هدأت ثائرة أبي سفيان بعد أن ولّى الخليفة الأوّل ابنه معاوية ، فقال : وصلته
رحم .) ظهر مرّة أخرى للناس وأعاد الأمور
إلى مجاريها . وعليه فالصلة السياسية بين رجالات الأمويين كانت قائمة في ذلك
الحين ، وهذا ما يفسِّر لنا القوّة التي تكمن وراء أقوال أبي سفيان حينما كان
ساخطاً على أبي بكر وأصحابه ، إذ قال : إنّي لأرى عجاجة لا يطفيها إلاّ الدمّ ،
وقال عن عليّ والعبّاس : أما والذي نفسي بيده لأرفعنّ لهما من أعضادهما (تأريخ
الطبري : 2 / 449 .) . فالأمويون كانوا متأهّبين للثورة والانقلاب ، وقد عرف عليّ (ع) منهم ذلك بوضوح حينما عرضوا عليه أن يتزعّم
المعارضة ولكنّه عرف أنّهم ليسوا من الذين يعتمد على تأييدهم ، وإنّما يريدون
الوصول إلى أغراضهم عن طريقه ، فرفض طلبهم ، وكان من المنتظر حينئذٍ أن يشقّوا
عصا الطاعة إذا رأوا الأحزاب المسلّحة تتناحر ، ولم يطمئنّوا إلى قدرة الحاكمين
على ضمان مصالحهم ، ومعنى انشقاقهم حينئذٍ إظهارهم للخروج عن الدين وفصل مكّة عن
المدينة . إذاً كانت الثورة العلويّة في تلك الظروف إعلاناً لمعارضة
دموية تتبعها معارضات دموية ذات أهواء شتّى ، وكان فيها تهيئة لظرف قد يغتنمه
المشاغبون ثمّ المنافقون . ولم تكن ظروف المحنة تسمح لعليّ بأن يرفع صوته وحده في وجه
الحكم القائم ، بل لتناحرت وتقاتلت مذاهب متعدّدة الأهداف والأغراض ، ويضيع بذلك
الكيان الإسلامي في اللحظة الحرجة التي يجب أن يلتفّ المسلمون حول قيادة موحّدة
، ويركّزوا قواهم لصدّ ما كان يترقّب أن تتمخّض عنه الظروف الدقيقة من فتن
وثورات (فدك
في التاريخ ، الشهيد السيد محمد الصدر : 102 ـ 105 .) . ومن هنا كان على الإمام عليّ أن يختار الطريق الوسط ليحقّق
أكبر قدر ممكن من الأهداف الرسالية التي جعله الرسول (صلّى الله عليه وآله)
وصيّاً عليها . ومن هنا نعرف أن الرسول (صلّى الله عليه وآله) كان قد أعدّ
للإمام عليّ (عليه السلام) خطّتين أو خطّة واحدة ذات مرحلتين ، فالمرحلة الأولى
هي نصبه إماماً شرعياً وخليفةً له بشكل رسمي بعد الإعلان الصريح وأخذ البيعة له من
المسلمين وإتمام الحجّة على جميع من حضر وغاب عن مشهد يوم الغدير . وحين كان الرسول (ص) ذلك القائد السياسي المحنّك الذي أثبت
للتأريخ ولمن عاصره جميعاً نفاذ بصيرته وبُعد نظره وشفقته على أمته وارتباطه
المستمر بعالم الغيب والعلم الإلهي الذي شاء للشريعة الإسلامية أن تكون خاتمة
الشرائع وعلى أساسها ينبغي أن تتحقّق أهداف الرسالات الإلهية جميعاً . فمن هنا
ومن حيث علمه (عليه السلام) بمدى وعي الأُمة للرسالة الإسلامية في عصره ومدى
اندماجها وذوبانها في قيم الرسالة ، وطبيعة المجتمع الذي أسلم أو استسلم لدولة
الرسول بما كان يشتمل عليه من عصبيات وقيم جاهلية يصعب اجتثاثها بسرعة وبخطوات
تربوية قصيرة . لكلّ هذا وغيره ممّا يمكن أن يدركه المتأمّل في الظروف المحيطة
بالرسول (ص) وبدولته ، يشعر المتأمّل بضرورة وجود تخطيط بعيد المدى يتكفّل تحقيق
الأهداف الرسالية الكبرى على المدى البعيد بعد أن كان يستحيل أو يصعب اجتناء
الثمار المرجوّة من حركة الرسالة في تلك الفترة وفي ذلك المجتمع على المدى
القريب بعد ملاحظة منطق العمل التغييري بشكل خاص . إذن كانت المرحلة الثانية بعد إعراض الأُمة أو عدم انقيادها
للأطروحة النبويّة الإلهية هي الصبر والحزم والتخطيط العملي الواقعي لعمل تربوي
جذري في ظلّ الدولة الإسلامية الفتيّة ، ريثما تُهيَّأ الظروف اللازمة لاستلام
الحكم وتحقيق تلك الأطروحة ، لتتحقّق جميع الأهداف الممكنة لتطبيق هذه الشريعة
الخالدة تطبيقاً صحيحاً رائعاً . |
|
الإمام عليّ (عليه
السلام) ومهمّة جمع القرآن :
|
|
اتّفقت كلّ الروايات الصحيحة على أنّ الإمام عليّاً (ع) ما
أن انتهى من تجهيز النبيّ (ص) ومواراته الثرى ؛ حتى اعتكف في داره منشغلاً بجمع
آيات القرآن وترتيبها حسب نزولها بعد أن كانت مبعثرة في الألواح . وروي عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) : أنّ
رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال لعليّ (عليه السلام) : يا عليّ ! القرآن خلف فراشي في المصحف والحرير والقراطيس
فخذوه ، واجمعوه ، ولا تضيّعوه كما ضيّعت اليهود التوراة ، فانطلق عليّ (عليه
السلام) فجمعه في ثوب أصفر (المناقب
لابن شهر آشوب : 2 / 41 ، وفتح الباري : 10 / 386، والإتقان للسيوطي : 1 / 51 .) . وجاء أيضاً أنّ الإمام عليّاً
(عليه السلام) رأى من الناس طيرة عند وفاة النبيّ (صلّى الله عليه وآله) فأقسم
أنّه لا يضع على ظهره رداءه حتى يجمع القرآن ن فجلس في بيته ثلاثة أيام حتى جمع
القرآن (الفهرست
لابن النديم : 30 .) . كما روي أنّ عليّاً (عليه السلام) انقطع عن الناس مدّةً حتى
جمع القرآن ، ثمّ خرج إليهم في إزار يحمله وهم مجتمعون في المسجد ، فلمّا
توسّطهم وضع الكتاب بينهم ثمّ قال : إنّ رسول الله (صلّى الله
عليه وآله) قال : ( إنّي مخلّف فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا كتاب الله
وعترتي أهل بيتي ) وهذا كتاب الله وأنا العترة (المناقب
لابن شهر آشوب : 2 / 41 .) ، وقال لهم : لئلاّ تقولوا غداً إنّا كنّا عن
هذا غافلين
. ثمّ قال : لا تقولوا يوم القيامة إنّي لم أدعُكُمْ إلى نصرتي
ولم أذكركم حقّي ولم أدعكم إلى كتاب الله من فاتحته إلى خاتمته (كتاب
سليم بن قيس : 32 ، ط . مؤسّسة البعثة .) . فقال له عمر : إن يكن عندك قرآن فعندنا مثله فلا حاجة لنا
فيكما . ويبدو أنّ الإمام لم يكتف بجم الآيات القرآنية بل قام أيضاً
بترتيبها حسب النزول ، وأشار إلى عامّه وخاصّه ومطلقه ومقيّده ومحكمه ومتشابهه
وناسخه ومنسوخه وعزائمه ورخصه وسننه وآدابه ، كما وأشار إلى أسباب النزول وأملى
ستّين نوعاً من أنواع علوم القرآن ، وذكر لكلّ نوعٍ مثالاً يخصّه ، وبهذا العمل
الكبير استطاع الإمام أن يحافظ على أهمّ أصل من أصول الإسلام ، وأن يوجّه العقل
المسلم نحو البحث عن العلوم التي يزخر بها القرآن ، ليصبح المنبع الرئيسي للفكر
والمصدر المباشر الذي تستمد منه الإنسانية ما تحتاجه في حياتها . إنّ أمير المؤمنين كان جديراً بما فعل ، فإنّه قال : ما
نزلت على رسول الله (ص) آية من القرآن إلاّ أقرأنيها وأملاها عليَّ فكتبتها
بخطّي ، وعلّمني تأويلها وتفسيرها وناسخها ومنسوخها ومحكمها ومتشابهها ، ودعا
الله عزّ وجلّ أن يعلّمني فهمها ، فما نسيت آيةً من كتاب الله عزّ وجلّ ولا
علماً أملاه عليّ فكتبته وما ترك شيئاً علّمه الله عز وجل من حلال وحرام ولا أمر
ولا نهي وما كان أو يكون من طاعة أو معصية إلاّ علّمنيه وحفظته ، فلم أنس منه
حرفاً واحداً (كفاية الطالب للكنجي : 199 ،
والاتقان للسيوطي : 2 / 187 ، وبحار الأنوار : 92 / 99 .) . |
|
من مواقف الإمام
(عليه السلام) في عهد أبي بكر :
|
|
قال الإمام (عليه السلام) : ( فو الله ما كان يلقى في روعي
ولا يخطر ببالي أنّ العرب تزعج هذا الأمر من بعده (صلّى الله عليه وآله) عن أهل
بيته ، ولا أنّهم مُنَحّوهُ عنّي من بعده ، فما راعني إلاّ انثيال الناس إلى أبي
بكر يبايعونه ، فأمسكت بيدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجت عن الإسلام ، يدعون إلى
محق دين محمّد ، فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون
المصيبة به أعظم من فوت ولايتكم التي هي متاع أيام قلائل يزول منها ما كان كما
يزول السراب أو كما يتقشّع السحاب ، فنهضت في تلك الأحداث حتى زاح الباطل وزهق
واطمأن الدين وتنهنه )
(نهج
البلاغة : الكتاب 62 .) . كلّ الأحداث التي جرت بعد وفاة الرسول (صلّى الله عليه وآله)
وما سادها من أجواء المشاحنات وما حفّها من ابتعاد عن الحقّ وانجراف في غير
الطريق الذي كان على المسلمين سلوكه لم تَنس عليّاً أنّه الوصيّ على هذه الأُمة
وعلى تطبيق الرسالة الإسلامية . كانت بيعة أبي بكر قد استلبت حقّ الإمام في إدارة شؤون
الأُمة مباشرة واضطرّته إلى أن يعتزل إلى حين فإنّ وصايا الرسول له وعهده إليه
بالتكليف الإلهي برعاية الأُمة ثمّ حرصه العميق على الرسالة الإسلامية والمجتمع
من التمزّق والضياع جعل من أمير المؤمنين القدوة المُثلى للمدافعين عن الكيان
الإسلامي في كل الميادين . من هنا وقف علي (عليه السلام) ليدلي بآرائه الصائبة ،
موضّحاً قواعد الدين الصحيحة في كلّ موقف يستعصي على الماسكين بزمام إدارة
الدولة في زمن عصيب ، وفي اُمّة لم تترسّخ العقيدة الإلهية في نفوس أبنائها ،
فكان عليّ (عليه السلام) ميزان القضاء والإفتاء في شؤون الحياة الإسلامية من
قضاء واجتماع وإدارة في عهد أبي بكر وما تلاه من فترات حكم الخلفاء . وقف علي (عليه السلام) ليدافع عن المدينة ويصدّ هجوم
المرتدّين عن الإسلام ومعه الصفوة من الصحابة الذين ساندوه في محنته . |
|
وصيّة أبي بكر إلى
عمر :
|
|
لم يزل الإمام عليّ (عليه السلام) مظلوماً يدفع بحقّه بعيداً
عنه ، يتألّم على الخلافة إذ تلكّأت وعلى الرسالة إذ ضمرت ، لا يجد سبيلاً إلاّ
الصبر وهو الحليم ولا يجد إلاّ الأناة وهو البصير ، وقد
عبّر عن أحزانه وآلامه في خطبته الشهيرة بالشقشقيّة إذ قال : ( أما والله لقد تقمّصها
ابن أبي قحافة ، وإنّه ليعلم أنّ محلّي منها محلّ القطب من الرحى ، ينحدر عنّي
السيل ولا يرقى إليّ الطير ، فسدلت دونها ثوباً ، وطويت عنها كشحاً ن وطفقت
أرتئي بين أن أصول بيدٍ جذّاء أو أصبر على طخية عمياء ، يهرم فيها الكبير ،
ويشيب فيها الصغير ، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربّه ، فرأيت أنّ الصبر على هاتا
أحجى ، فصبرت وفي العين قذى وفي الحلق شجا ، أرى تُراثي نهباً ، حتى مضى الأول
لسبيله فأدلى بها إلى ابن الخطاب بعده ، فيا عجباً بينا هو يستقيلها في حياته (إشارة
إلى قول أبي بكر : أقيلوني فلست بخيركم ، راجع تذكره الخواص : 62 .) إذ عقدها لآخر بعد وفاته
لشدّ ما تشطّرا ضرعيها ، فصيّرها في حوزة خشناء ، يغلظ كلمها ، ويخشن مسها ،
ويكثر العثار فيها والاعتذار منها ) (نهج
البلاغة : الخطبة 3 .) . لم تطل أيّام أبي بكر فقد ألمّت به الأمراض وأشرف على الموت
، وقد صمّم على أن يولي عمر الخلافة من بعده ، فاعترض أكثر المهاجرين والأنصار ،
وأعلنوا كراهيّتهم لهذا القرار لما علموا من خشونة أخلاق عمر وسوء تعامله مع
الناس (الإمامة
والسياسة : 36 ، وتأريخ الطبري : 2 / 618 و 619 ط مؤسسة الأعلمي ، والكامل في التأريخ
: 2 / 425 .) . لكنّ أبا بكر أصرّ على موقفه . ثمّ إنّ أبا بكر أحضر عثمان بن عفّان لوحده ليكتب عهده لعمر
، فقال له : اُكتب : بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة
إلى المسلمين ، أما بعد .. ثمّ أغمي على أبي بكر ، فكتب عثمان : فإنّي قد
استخلفت عليكم عمر بن الخطّاب ولم آلكم خيراً ، ثمّ أفاق أبو بكر فقال : إقرأ
عليّ ، فقرأ عليه فكبّر أبو بكر وقال : أراك خِفتَ أن يختلف الناس إن مُتُّ في
غشيتي ، قال : نعم ، قال : جزاك الله خيراً (الكامل
في التأريخ : 2 / 425 .) . |
|
مآخذ على وصية أبي
بكر :
|
|
لم يكن عليّ (عليه السلام) راضياً بما فعله أبو
بكر للأسباب التالية : 1 ـ إنّ أبا بكر لم يستشر أحداً من المسلمين في تقرير مصير
الخلافة إلاّ عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفّان اللذين كانا على معرفة تامّة
بميول أبي بكر لاستخلاف عمر من بعده ، خشية أن يدفعه أهل الرأي من الصحابة
المخلصين على تغيير رأيه في اختيار عمر . 2 ـ الإصرار على إبعاد الإمام عليّ (عليه السلام) عن الساحة
السياسية ومسألة تقرير مصير الخلافة فلم يستشره في أمر الخلافة ، في حين أنّ أبا
بكر كان يفزع إلى الإمام في حلّ المشاكل المستعصية ، أو أنّ آراء الإمام ومواقفه
في خلافة أبي بكر هي الناصحة والصائبة دون من عداها . 3 ـ إنّ أبا بكر فرض عمر فرضاً على المسلمين ، وكأنّ له
الوصاية عليهم حيّاً وميّتاً وذلك بقوله : استخلفت عمر بن الخطاب عليكم فاسمعوا
له وأطيعوا ، رغم أنّه رأى الغضب ظاهراً في وجوه الكثيرين من الصحابة . 4 ـ إنّه ناقض نفسه في دعواه بالسير على منهاج رسول الله
(صلّى الله عليه وآله) لأنّه كان يدّعي أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) توفّي
ولم يعهد لأحدٍ في شأن الخلافة ، في حين نجده يوصي لصاحبه عمر من بعده (وهو
من العجائب ؛ لأنّه لمّا أفاق من الإغماء واستمع إلى ما كتبه عثمان من تعيين
الخليفة بعده ، قال : أراك خفت أن يختلف الناس إن متّ في غشيتي قال : نعم ؛ كيف
هو وعثمان خافا من اختلاف الناس ؟! وأمّا الرسول الأعظم الحكيم (صلّى الله عليه
وآله) لم يخف من اختلاف أمته ؟! لأنهم يصرّحون بأن النبيّ (صلّى الله عليه وآله)
مات ولم يعيّن أحداً . تباً لهم فما لهم كيف يحكمون ؟! بل نلاحظ عمر يمنع الرسول
(صلّى الله عليه وآله) من كتابة وصيّته في لحظاته الأخيرة بينما يجلس وبيده
جريدة ومعه شديد مولى لأبي بكر معه الصحيفة التي فيها استخلاف عمر وعمر يقول :
أيّها الناس اسمعوا وأطيعوا قول خليفة رسول الله إنه يقول غني لم آلكم نصحاً .
راجع الطبري ط . أوربا 1 / 2138 أرأيت التناقض بين موقفيه ؟! وهل هناك من تفسير
غير التآمر على تخطيط الرسول (صلّى الله عليه وآله) ؟!) . 5 ـ هيّأ الملك لبني أُمية ، الذي جلب الويلات للإسلام
والمسلمين ، وذلك من خلال إثارة طمعهم في الخلافة وتشجيعهم عليها بقوله لعثمان :
لو لا عمر ما عدوتك (شرح نهج البلاغة لابن أبي
الحديد : 1 / 164 .) .. وأبو بكر يعلم أنّ عثمان عاطفي ضعيف يميل لبني أُمية ،
وأنّهم سيغلبونه على أمره ، وهذا ما حصل . |
|
الفصل الثالث:
|
|
الإمام علي (عليه السلام) في عهد عمر
|
|
استخلاف عمر بن الخطاب في جمادى الآخرة عام (13) هـ .
|
|
مهّد أبو بكر كرسيّ الخلافة لعمر بن الخطاب فتولاّها بسهولة
ويسر دون معارضة تذكر من أقطاب المهاجرين والأنصار ، وقد قبض على زمام الحكم
بقوة وساس الأمة بشدّة ، حتى تحامى لقاءه أكابر الصحابة (تأريخ الطبري : 2 / 617 و 618 .) . وحقّقت جاهلية قريش انتصاراً
سياسياً آخر ومضت بخطّها على أن لا تعطي حقّاً لبني هاشم ، وأتقن عمر هذا السير
أيّما إتقان . أمّا أمير المؤمنين (عليه السلام) فلم يثأر لحقه المغتصب
بعدما شاهد من سيرة السلطة الحاكمة وحركة الفئة غير الواعية في ركبها ، من تعنت
وإصرار على الانحراف بالخلافة ، فوقف الإمام موقف الناصح الأمين للخليفة الجديد
شعوراً منه بالمسؤولية الكبيرة ، فهو الأمين على سلامة الرسالة والأمة ، لقد
ساهم أمير المؤمنين في الحياة العامّة ما وسعه من جهد ، وأدّى ما عليه من تكليف
في تعليم وتفقيه وقضاء بصورة أوسع من دوره في عهد أبي بكر حيث اقتضت الضرورة ذلك
، فقد اتّسعت رقعة البلاد الإسلامية واستجدّت أحداث جديدة طارئة كان يعجز عنها
الخليفة الجديد وكلّ من معه من الصحابة ، ولم يكن يجد لها حلولاً إلاّ ممّن عصمه
الله عن الذنب والخطأ ، ولذا كان عمر يقف متصاغراً أمام أمير المؤمنين ويحترم
رأيه ويمضي حكمه وقراره حتى روي عنه لأكثر من مرّة وفي أكثر من موقف حرج قوله :
لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن (اُسد
الغابة 4 / 22 ، وتهذيب التهذيب : 7 / 296 ، وتاريخ دمشق : 3 / 39 حديث 1071 ،
والرياض النضرة : 2 / 197 ، وكنز العمال : 5 / 832 .) . فقد روي أنّ عمر أراد أن يرجم امرأةً مجنونةً اُتّهمت بالزنا
، فردّ الإمام عليّ (عليه السلام) قضاء عمر . وذكّره بحديث رسول الله (صلّى الله
عليه وآله) : (رفع القلم عن ثلاث : عن المجنون حتى
يبرأ ، وعن النائم حتى يستيقظ ، وعن الصبيّ حتى يعقل) حينذاك قال عمر :
لو لا عليّ لهلك عمر (تذكرة الخواص : 87 ، وكفاية
الطالب : 96 ، وفضائل الخمسة من الصحاح الستة : 2 / 309 .)
. |
|
ملامح من سيرة عمر:
|
|
راجع النص والاجتهاد للسيد شرف الدين : 148 . 1 ـ الشدّة والقسوة في التعامل مع الناس ، وفرض السلطان
بالعنف والقوة ، فخافه القريب والبعيد ، وكان من شدته أنّ امرأةً جاءت تسأله عن
أمر وكانت حاملاً ولشدّة خوفها منه أجهضت حملها . وقصّته مع جبلّة وعنفه معه
ممّا سبب ارتداد جبلّة وهروبه إلى بلاد الروم (الطبقات
الكبرى : 3 / 285 ، وتأريخ الطبري : 3 / 291 ، والعقد الفريد : 2 / 56 .) . 2 ـ عدم مساواته في العطاء بين المسلمين ، فقد ميّز بينهم
على أساس غير مشروع من النبيّ (صلّى الله عليه وآله) ولا موجّه في القرآن ، بل
على أساس عصبي (تأريخ الطبري : 3 / 291 و
292 .) ، وكان من آثاره أن ظهرت الطبقية في
العهود التي تلته ، فنشط النسّابون لتدوين الأنساب وتصنيف القبائل بحسب اُصولها
ممّا أدّى إلى حنق الموالي على العرب وكراهيتهم لهم والتفتيش عم مثالبهم ، وقد
خالف بذلك سيرة الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله) وسيرة صاحبه أبي بكر أيضاً
. وندم عمر على تصرّفه هذا في آخر فترة حكمه حينما رأى الثراء
الفاحش عند كثير من الصحابة ، ولم تطب به نفسه ، وإنّما راح يقول : لو استقبلت
من الأمر ما استدبرت لأخذت من الأغنياء فضول أموالهم فرددتها على الفقراء (شرح
النهج : 9 م 29 .) . 3 ـ عدم الدقّة والموضوعية في اختيار العمّال والولاة على
أسس إسلاميّة تخدم مشروع الحكومة الإسلامية وتحافظ على كيان الأمة ، فإنّه
استعمل مَنْ عُرف بالفساد وعدم الإخلاص للدين ، وأصرّ بموقفه هذا على إبعاد كلّ
ما يمتّ إلى الخلافة بصلة ، عن الإمام عليّ (عليه السلام) والصحابة الأجلاّء
الذين وقفوا معه (شيخ المضيرة أبو هريرة : 84
.) . 4 ـ استثناء معاوية من المحاسبة والمراقبة التي كان يشدّدها
على ولاته ، وتركه على هواه يعمل ما يشاء لسنين طويلة ، ممّا أعان معاوية على
طغيانه واستقلاله بالشام في عهد عثمان ، كما اُثر عنه قوله في توجيه تصرفات
معاوية : إنه كسرى العرب (المستدرك على الصحيحين : 4 /
479 ، وكنز العمال : 6/39.) . إذا كانت السقيفة وبيعة أبي بكر فلتة وقى الله المسلمين شرها
ـ كما قال عمر ـ ؛ فإنّ الشورى أشدّ فتنةً وأكبر
انحرافاً عن مسير الرسالة الإسلامية ، فقد امتُحن المسلمون فيها امتحاناً عسيراً
، وزرعت لهم الفتن والمصاعب وجلبت لهم الويلات والخطوب ، وألقتهم في شرّ عظيم ،
إذ تبيّن التآمر علناً لإقصاء الإمام عليٍّ عن الحكم وتسليم زمام الأمة
الإسلامية بيد المنحرفين من دون واعز من الضمير أو حرص على المصير . |
|
محنة الشورى :
|
|
فلمّا يئس عمر من حياته وأيقن برحيله عن الدنيا أثر الطعنات
التي أصابته قيل له : استخلف علينا ، قال : والله لا أحملكم حيّاً وميّتاً ، ثمّ
قال : إن أستخلف فقد استخلف من هو خير منّي ـ يعني أبا بكر ـ وإن اَدَع من هو
خير منّي ـ يعني النبيّ (ص) ـ (الإمامة والسياسة : 41 . قد
عرفت سابقاً أنّ النبي (ص) لم يدع ... وقد عيّن خليفته مراراً كيوم الإنذار
لعشيرته الأقربين وغدير خم وغيرهما .) ، ثمّ أبدى أسفه وحسرته على بعض من
شاركه مسيرته للخلافة فقال : لو كان أبو عبيدة حيّاً لاستخلفته لأنّه أمين هذه
الأمة ، ولو كان سالم مولى أبي حذيفة حيّاً لاستخلفته لأنّه شديد الحبّ لله ،
فقيل له : يا أمير المؤمنين لو عهدت عهداً . قال : قد كنت أجمعت بعد مقالتي لكم أن أنظر فأُولّي رجلاً
أمركم هو أحراكم أن يحملكم على الحقّ ـ وأشار إلى الإمام عليّ (عليه السلام) ـ
ورهقتني غشية فرأيت رجلاً دخل جنّة قد غرسها ، فجعل يقطف كلّ غضّة ويانعة فيضمّه
إليه ويصير تحته ، فعلمت أنّ الله غالب أمره ، ومتوفّ عمر ، فما أريد أن أتحمّلها حيّاً وميّتاً عليكم هؤلاء الرهط الذين
قال رسول الله (ص) عنهم : إنّهم من أهل الجنّة ، وهم : عليّ وعثمان وعبد
الرحمن وسعد والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله ، فليختاروا منهم رجلاً ،
فإذا ولّوا والياً فأحسنوا مؤازرته وأعينوه (تأريخ
الطبري : 3 / 293 ط مؤسسة الأعلمي ، الكامل في التأريخ : 3 / 66 .) ، وأمرهم أن يحبس هؤلاء الستّة حتى
يولّوا أحدهم خلال أيام ثلاثة وأن يضرب عنق المخالف لاتّفاق الأغلبية أو الجناح
المخالف للذي فيه عبد الرحمن بن عوف ، وأن يصلّي صهيب بالناس ثلاثة أيام حتى
تجتمع الأمة على خليفة ، وطلب أن يحضر شيوخ الأنصار وليس لهم من الأمر شيء(تاريخ
الطبري : 3 / 294 ط مؤسسة الأعلمي ، طبقات ابن سعد : 3 / 261 ، والإمامة
والسياسة : 42 ، والكامل في التأريخ : 3 / 68.) وحين اجتمع أعضاء الشورى لدى عمر ، وجّه إليهم انتقادات
لاذعة لا تدلّ على وضوح توجّه صحيح أو ارشاد إلى انتخاب يعين الأمة في أزمتها ،
فقال : والله ما يمنعني أن استخلفك يا سعد إلاّ شدّتك وغلظتك مع أنّك رجل حرب ،
وما يمنعني منك يا عبد الرحمن إلاّ أنّك فرعون هذه الأمة ، وما يمنعني منك يا
زبير إلاّ أنّك مؤمن الرضا كافر الغضب . وما يمنعني من طلحة إلاّ نخوته وكبره (كيف
هم يدخلون الجنة ـ حسب نقل عمر عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله) ـ مع أنّ عبد
الرحمن فرعون هذه الأمة وطلحة صاحب الكبر والنخوة والزبير مؤمن الرضا كافر الغضب
؟!) ، ولو وليها وضع خاتمه في إصبع
امرأته . وما يمنعني منك يا عثمان إلاّ عصبيتك وحبّك قومك وأهلك . وما يمنعني
منك يا عليّ إلاّ حرصك عليها ، وإنّك أحرى القوم إن وليتها أن تقيم على الحقّ
المبين والصراط المستقيم (الإمامة والسياسة : 43 .) . |
|
مؤاخذات على الشورى :
|
|
نظام الشورى الذي وضعه عمر كان عارياً عن الصحّة والصواب
يحمل التناقض بين خطواته ، فإنّنا نلاحظ فيه أُموراً
يبعده عن الدقّة والموضوعية : 1 ـ إنّ الأعضاء المقترحين للشورى لم يحصلوا على هذا
الامتياز بالأفضلية وفق ضوابط الانتخاب حيث لم تشترك القواعد الشعبية في الترشيح
والانتخاب ، وإطلاق كلمة الشورى على هذا النظام جزاف ، لأنّه لم يكن إلاّ ترشيح
فرد لجماعة وفرضهم على الأمة ومن ثَمّ أمر باجتماعهم تحت التهديد بالقتل والسلاح
حتى يختاروا أحدهم . 2 ـ عناصر الشورى متنافرة في تركيب شخصياتها وأفكارها ، ولا
يمثّل كلّ فرد فيهم إلاّ رأيه الشخصي ، فكيف يمكن أن يعبّر عن رأي الأمة ؟ وقد
نشب الخلاف فيما بينهم من بعد الشورى ممّا فرّق شمل المسلمين (أنساب
الأشراف : 5 / 57 ، وتذكرة الخواص : 57 ، والنص والاجتهاد : 168 .) . 3 ـ الاستهانة بالأنصار ودورهم ، فقد طلب عمر حضورهم ولا شيء
لهم بل ولا رأي ، فالأمر منحصر في الستّة فما معنى حضور الأنصار ؟ بل إنّ عمر
استهان بالأمة كلّها حين تمنّى حياة سالم وأبي عبيدة . 4 ـ إنّ عمر ناقض نفسه في عمليّة اختيار العناصر ، ففي
السقيفة كان يدّعي ويصرّ على أنّ الخلافة في قريش ، بينما نجده في هذا الموقف
يتمنّى حياة سالم مولى أبي حذيفة ليوليه الأمر ، كما أنّه استدعى أصحاب الشورى
دون غيرهم من الصحابة بدعوى أنّ الرسول (صلّى الله عليه وآله) مات وهو راضٍ عنهم
أو أنّهم من أهل الجنّة ، ولكنّه نسب اليهم عيوباً لا تجتمع مع الرضا عنهم
ويتنزّه عنها أهل الجنة . ثم إنّه أمر صهيباً أن يصلّي بالناس ثلاثة أيام ، لأنّ
إمامة المصلّين لا ترتبط بالخلافة ولا تستلزمها ، وقد كان يناضل يوم السقيفة من
أجل استخلاف أبي بكر ، وكات صلاته المزعومة دليله الأول على أهليّة أبي بكر
للخلافة . 5 ـ إنّه أراد أن يستخلف عليّاً (عليه السلام) لأنّه سيحمل
الأمة على النهج القويم والمحجّة البيضاء ، ولكنّه رأى في المنام ما رأى ، فأعرض
عن الإمام (ع) وكأنّه أراد بذلك التشويش على مكانة الإمام وأهليّته . 6 ـ إنّ عمر قال : أكره أن أتحمّلها ـ يقصد الخلافة ـ حيّاً
وميّتاً ، ولكنّه عاد فحدّد ستّة أشخاص من اُمّة كبيرة ، فأكّد بذلك نزعته في
الاستعلاء على الأمة وقدراتها . 7 ـ اختيار العناصر الستّة يبدو مبيّتاً بحيث يصل الأمر إلى
عثمان باحتمالية أكبر من وصولها إلى الإمام عليّ (عليه السلام) وهو العنصر
المؤهّل من الله ورسوله لخلافة الأمة ، فترشيح طلحة هو إثارة وتأكيد لأحقاد تيم
، لأنّ الإمام نافس وعارض أبا بكر في خلافته وها هو الآن ينافس مرشّحها الجديد
طلحة ، وترشيحه لعثمان تأكيد منه على أحقاد أمية وإثارة نزعة السلطان والوجاهة
لديها ، وأمّا ترشيحه لعبد الرحمن وسعد فهو فتح جبهة سياسية جديدة منافسة للإمام
عليّ (عليه السلام) فهما من بني زهرة ولهما نسب أيضاً مع بني أمية ، فسوف يكون
ميلهما لصالح عثمان لو تنافس مع الإمام (عليه السلام) . 8 ـ إنّه أمر بقتل أعضاء الشورى في حالة عدم التوصّل إلى
اتّفاق أو إبداء معارضة وإصرار ، وكيف يمكن التوفيق بين هذا وبين قوله : إنّ
النبيّ (صلّى الله عليه وآله) مات وهو راضٍ عنهم ؟ وهل تكون مخالفة رأي عمر
موجبة لقتل الصحابة (تاريخ الطبري : 3 / 293 ط
مؤسسة الأعلمي .) ؟ |
|
حوار ابن عباس مع عمر
حول الخلافة :
|
|
روي أنّ حواراً وقع بين عمر وابن عباس في شأن الخلافة . قال عمر : أما والله ، إنّ صاحبك لأولى الناس بالأمر بعد
رسول الله ، إلاّ أنّنا خفناه على اثنتين ، قال ابن عباس : فما هما يا أمير
المؤمنين ؟ قال عمر : خفناه على حداثة سنّه ، وحبّه بني عبد المطلب . وفي بعض مجالس عمر بن الخطاب وقد جلس إليه نفر منهم عبد الله
بن عباس ، فقال له عمر : أتدري يا ابن عباس ما منع الناس منكم ؟ قال ابن عباس :
لا يا أمير المؤمنين ، قال عمر : لكنّني أدري ، قال ابن عباس : فما هو ؟ قال عمر
: كرهت قريش أن تجتمع لكم النبوّة والخلافة ، فتجحفوا الناس جحفاً فنظرت لأنفسها
فاختارت ، ووفقت فأصابت . فردّ عليه ابن عباس : أيميط أمير المؤمنين عنّي غضبه ؟
فأمّنه عمر قائلاً : قل ما تشاء . فقال ابن عباس : أمّا قولك : إنّ قريشاً كرهت ... فإنّ الله
تعالى قال لقوم : (ذلِكَ بِأَنّهُمْ كَرِهُوا مَا
أَنزَلَ اللّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ) (محمد
(47) : 9 .) . وأمّا قولك : إنّا كنّا نجحف ... فلو جحفنا بالخلافة
جحفنا بالقرابة ، ولكنّا قوم أخلاقنا من خلق رسول الله (ص) الذي قال ربّه فيه :
(وَإِنّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم
(68) : 4 .) وقال له : (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتّبَعَكَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ)
(الشعراء
(26) : 215 .) . وأمّا قولك : إنّ قريشاً اختارت ... فإنّ الله تعالى يقول
: (وَرَبّكَ
يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) (القصص
(28) : 68 .) ، وقد علمت يا أمير المؤمنين أنّ الله اختار من خلقه من
اختار ، فلو نظرت قريش حيث نظر الله لوفّقت وأصابت . فتفكّر عمر هُنيئة ثمّ قال (وقد
آذاه من ابن عباس هذا الحديث الصريح) : على رسلك يا ابن عباس ، أبت
قلوبكم يا بني هاشم إلاّ غشّاً في أمر قريش لا يزول ، وحقداً عليها لا يحول . قال ابن عباس : مهلاً يا أمير المؤمنين ، لا تنسب قلوب بني هاشم إلى الغش ،
فهي من قلب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الذي طهّره وزكّاه ، وإنّهم لأهل
البيت الذين قال لهم الله : (إِنّمَا يُرِيدُ اللّهُ
لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً) (الأحزاب
(33) : 33 .) . ثمّ قال ابن عباس : وأمّا الحقد فكيف لا يحقد من غُصب
شيئه ويراه في يد غيره ؟ فغضب عمر وصاح ـ وقد حضره في هذه الآونة أمر كان يكتمه
ـ ما أنت يا ابن عباس ! إنّي قد بلغني عنك كلام أكره أن أخبرك به فتزول منزلتك
عندي . قال ابن عباس : وما هو يا أمير المؤمنين ؟ أخبرني به فإن يك
باطلاً فمثلي أماط الباطل عن نفسه ، وإن يك حقّاً فإنّ منزلتي عندك لا تزول به . قال عمر : بلغني أنّك لا تزال تقول : اُخذ هذا الأمر منّا
حسداً وظلماً . فلم ينكص ابن عباس ولم يتزحزح عن مواطئ قدميه ، بل قال : نعم
حسداً وقد حسد إبليس آدم فأخرجه من الجنة ، ونعم ظلماً وإنّك لتعلم يا أمير
المؤمنين صاحب الحقّ من هو .. يا امير المؤمنين ، ألم تحتجّ العرب على العجم
بحقّ رسول الله واحتجّت قريش على سائر العرب بحقّ رسول الله ؟ فنحن أحقّ برسول
الله من سائر قريش وغيرها . فقال عمر : إليك عنّي يا ابن عباس ، فلما رآه عمر قائماً
يريد أن يبرح خشي أن يكون قد أساء إليه فأسرع يقول متلطّفاً به : أيّها المنصرف
! إنّي على ما كان منك لراعٍ حَقَّكَ . فالتفت ابن عباس إليه وهو يقول ولم يزايله جدّه : إنّ لي عليك يا أمير
المؤمنين وعلى كلّ المسلمين حقّاً برسول الله ، فمن حفظه فحقّ نفسه حفظ ، ومن
أضاعه فحقّ نفسه أضاع (تأريخ الطبري : 3 / 289 و
290 ط مؤسسة الأعلمي .) . |
|
موقف الإمام (عليه
السلام) من الشورى :
|
|
أَلمَّ الحزن والأسى بقلب الإمام عليّ (عليه السلام) ،
وساورته الشكوك والمخاوف من موقف عمر وترشيحه ، فأيقن أنّ في الأمر مكيدةً دبّرت
لإقصائه عن الخلافة وحرف الحكومة الإسلامية عن مسارها الصحيح ، وما إن خرج
الإمام (عليه السلام) من عند عمر ؛ حتى تلقّاه عمّه العباس فبادره قائلاً : يا عمّ ، لقد عُدِلَتْ عنّا ، فقال العباس : من أعلمك بذلك ،
فقال عليّ (عليه السلام) : قُرن بي عثمان ، وقال عمر : كونوا مع الأكثر ، فإن
رضي رجلان رجلاً ورجلان رجلاً فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف ، فسعد لا
يخالف ابن عمّه عبد الرحمن وعبد الرحمن صهر عثمان لا يختلفون ، فيوليها عبد
الرحمن عثمان أو يوليها عثمان عبد الرحمن ، فلو كان الآخران معي لم ينفعاني (المصدر
السابق : 5 / 226 .) . وصدق تفرّس الإمام (عليه السلام) فقد آلت الخلافة إلى عثمان
بتواطؤ عبد الرحمن ، فقد روي أنّ سعداً وهب حقّه في الشورى لابن عمّه عبد الرحمن
، ومال طلحة لعثمان فوهب له حقّه ، ولم يبق إلاّ الزبير فتنازل عن حقّ لصالح
الإمام (عليه السلام) ، وهنا عرض عبد الرحمن أن يختار الإمام أو عثمان فقال عمار
: إن أردت ألاّ يختلف المسلمون فبايع عليّاً ، فردّ عليه ابن أبي سرح : إن أردت
ألاّ تختلف قريش فبايع عثمان . فتأكّد التوجّه غير السليم للخلافة وبدت أعراض
الانحراف واضحة جلية تؤجّجها نار العصبية . فعرض عبد الرحمن بيعته بشرط السير على كتاب الله وسنّة نبيّه
(صلّى الله عليه وآله) وسيرة الشيخين ، فرفض الإمام سيرة الشيخين وقبلها عثمان
فتمّت له البيعة ، فقال عليّ (ع) لعبد الرحمن : (حبوته حبو دهره ، ليس هذا أوّل يوم تظاهرتم فيه علينا ،
فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون) (تاريخ
الطبري : 3 / 297 ط مؤسسة الأعلمي .) . (والله ما فعلتها إلاّ
لأنّك رجوت منه ما رجا صاحبكما من صاحبه ، دقَّ الله بينكما عطر منشم) (شرح
نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 1 / 188 .) . ثمّ التفت (ع) إلى الناس
ليوضّح لهم خطأهم المتكرّر في الاستخلاف ورأيه في مصير الرسالة الإسلامية فقال : (أيّها الناس ! لقد علمتم
أنّي أحقّ بهذا الأمر من غيري ، أما وقد انتهى الأمر إلى ما ترون ، فو الله
لأُسالمنّ ما سَلِمَتْ أمور المسلمين ، ولم يكن فيها جور إلاّ عليّ خاصة ، التماساً
لأجرِ ذلك وفضلِه ، وزهداً فيما تنافَسْتُموه من زُخرفه وزِبْرجه)
(نهج البلاغة : الخطبة رقم
74 ، طبعة صبحي الصالح .) . إنّ الإمام (عليه السلام) دخل مع الباقين في الشورى وهو يعلم
بما ستؤول إليه ، محاولة منه لإظهار تناقض عمر ومن سار على نهجه عند وفاة النبيّ
(صلّى الله عليه وآله) حين كان يرى أنّه لا تجتمع الخلافة والنبوّة في بيت واحد
، أمّا الآن فقد رشّح الإمام (عليه السلام) للخلافة . روي عن أمير المؤمنين : (ولكنّي أدخل معهم في الشورى لأنّ
عمر قد أهَّلني الآن للخلافة ، وكان قبل ذلك يقول : إنّ رسول الله (صلّى الله
عليه وآله) قال : إنَّ النبوّة والإمامة لا يجتمعان في بيت ، فأنا أدخل في ذلك
لأظهر للناس مناقضة فعله لروايته) (شرح النهج لابن أبي الحديد
: 1 / 186 .) . وبايع الإمام (عليه السلام) عثمان بن عفّان سعياً منه أن
يصلح الأُمة ويوجّهها ، وأن يحافظ على كيانها ، فلم يبخل على الأُمة بالنصيحة
والهداية والتربية ، فإن أبعدت الخلافة عنه (عليه السلام) فإنّه لم يدّخر وسعاً
إلاّ وبذله يوضّح الحقّ ويُرشد إليه ، ويهدي السبيل الصحيح ويُدلّ عليه ، ويعين
الحاكم حين يعجز ، ويعلّمه إذ يجهل ، ويردعه إذ يطيش. لماذا لم يوافق الإمام (عليه السلام) على شرط عبد الرحمن بن
عوف ؟ لم يقف الإمام عليّ (عليه السلام) موقف المعارض للخليفتين
لمصلحة خاصّة أو غاية شخصية ، إنّما لصالح الدين والأمة والعقيدة الإسلامية ،
مبتعداً عن الأهواء والرغبات ، مستنداً على القرآن والسنّة في كلّ مواقفه ،
حريصاً على الموضوعية والرسالية في كل قرار يتّخذه وهو الراعي لشؤون الرسالة
والأمة في غياب الرّسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) ، لئلاّ يشوب الرسالة
الإسلامية شيء يحيد بها عمّا نزلت من أجله . وموقفه من رفض البيعة بشرط سيرة الشيخين نابع من هذا المنطلق
، فلا يوجد في أصل العقيدة شيء يصحّ أن يسمّى بسيرة الشيخين ، وإنّما هناك
القرآن والسنّة النبوية ، فلو أنّ الإمام وافق بهذا الشرط ؛ لكان معناه إمضاء
سيرة الشيخين كالسنّة النبويّة ، وإنّ في سيرة الشيخين أنواع التناقض والتفاوت
فيما بينهما معاً ، بل فيما بينهما وبين القرآن والسنّة النبويّة الشريفة . ثمّ إنّ الإمام (ع) يرى أنّ دوره دور المربي بعد النبيّ (صلّى
الله عليه وآله) في هذه الأُمة ، فلم يكن من شأنه أن يوافق على أن يسير بسيرة
الشيخين ثم يخالفها كما فعل عثمان حيث رضي بهذا الشرط ولكنّه لم يفِ به . |
|
الفصل الرابع:
|
|
الإمام علي (عليه السلام) في عهد عثمان
|
|
استخلاف عثمان بن
عفان في ذي الحجّة سنة (23) هـ .
|
|
قال أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) واصفاً عهد عثمان : (إلى أن قام ثالثُ القوم نافجاً حضنيه بين
نَثيله ومعتلَفِه ، وقام معه بنو أبيه يخضَمون مال الله خِضْمَةَ الإبل نِبْتَةَ
الربيع ، إلى أن انتكث عليه فتلُه ، وأجهز عليه عملُه ، وكبَتْ به بِطْنَتُهُ) (نهج البلاغة : من الخطبة الشقشقية .) . لم يكن عثمان كسابقيه سياسياً ماكراً يدير شؤونه بدقّة ، فما
أن فرضه ابن عوف خليفة للمسلمين وجاءوا به يزفّونه إلى مسجد رسول الله (ص) ليعلن
سياسة حكومته الجديدة وما أعدّ من مواقف لمستجدات الأمور ؛ صعد على المنبر فجلس
في الموضع الذي كان يجلس فيه رسول الله (ص) ، ولم يجلس فيه أبو بكر ولا عمر ، إذ
كان أبو بكر يجلس دونه بمرقاة ، وعمر كان يجلس دونه أيضاً بمرقاة ، وتكلّم الناس
في ذلك فقال بعضهم : اليوم ولد الشرّ (تاريخ اليعقوبي : 2 / 163 ، والبداية والنهاية
: 7 / 166 ن وتأريخ الخلفاء : 162 .) . ولم يستطع أن يتكلّم ، فقال : أمّا بعد ، فإنّ أول مركب صعب
، وما كنا خطباء ، وسيعلم الله وإنّ أمراً ليس بينه وبين آدم إلاّ أب ميّت
لموعوظ (راجع الموفقيات : 2 / 2 .) . وقال اليعقوبي : فقام مليّاً لا يتكلّم ثم قال : إن أبا بكر
وعمر كانا يعدّان لهذا المقام مقالاً وأنتم إمام عادل أحوج منكم إلى إمام يشقّق
الخطب وإن تعيشوا فسيأتيكم الخطْب ، ثم نزل (تاريخ اليعقوبي : 2 / 163 .) . استهلّ عثمان أعماله بأمور جعلت عامّة المسلمين ينقمون عليه
سوى أفراد عشيرته ـ بني أُمية ـ فقد جاهر بقبيلته وأظهر ميله لقوم معلناً
أمويَّته ، فأخذ يسوّدهم ويرفعهم فوق رقاب الناس ، فوزّع مناصب الولاية على بني
أُمية وسلّم إليهم مقاليد الأمور يعبثون بلا رادع لهم . وقد تجاوز عثمان حدود سياسة سلطة العشير التي رسمها أبو بكر
وعمر ، وحصر المناصب والمهامّ الرسمية ضمن دائرة ضيّقة هي بني أُمية . ولم يعبأ بنصح وتحذير الصحابة وعلى رأسهم أمير المؤمنين
(عليه السلام) ، فإنّ عثمان وصل إلى الحكم وقد استفحل التوجّه القبلي في مقابل
النهج الصحيح للحكومة الإسلامية ، وقد ضعف دور العناصر الصالحة في تغيير سياسة
الحاكم مباشرة ، فقد كان لسياسة أبي بكر وعمر من إبعاد أمير
المؤمنين (ع) عن الحكم واعتمادهم على آرائهم الأثرُ الكبيرُ في انحراف
خطّ السلطة الحاكمة وظهور التيار المعادي لخطّ أهل
البيت (ع) ، لذا فليس من السهل أن ينصاع الخليفة الجديد للنصح وحوله تيار
المنافقين والطلقاء وذوو المصالح . |
|
أبو سفيان بعد بيعة
عثمان :
|
|
بعد أن تمّت بيعة عثمان ؛ أقبل أبو سفيان إلى دار عثمان بن
عفان وقد غصّت بأهله وأعوانه تسودهم نشوة النصر والفوز بالحكم ، وقد بدت على
ملامحه علامات الفرح والسرور ، تعلو شدقه بسمة حقود شامت ، ففي الأفق تلوح بوادر
الاستعلاء بعدما أذلّ كبرياءَهم الإسلام ، فأدار وجهه يميناً وشمالاً قائلاً
للحاضرين المجتمعين في دار عثمان : أفيكم أحد من غيركم ؟ فأجابوه بالنفي فقال :
يا بني أُمية ! تلقّفوها تلقّف الكرة ، فو الذي يحلف به أبو سفيان ما من جنّةٍ
ولا نارٍ ، ولا حسابٍ ولا عقابٍ ... ولقد كنت أرجوها لكم ، ولتصيرنّ إلى صبيانكم
وراثة (مروج الذهب : 1 / 440 .) . ثمّ سار إلى قبر سيّد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ، فوقف على
القبر وركله برجله وقال : يا أبا عمارة ! إنّ الأمر الذي اجتلدنا عليه بالسيف
أمسى في يد غلماننا يتلعّبون به (راجع الغدير : 8 / 278 ، والاستيعاب : 2 / 690 ، وتأريخ ابن عساكر : 6 / 407
، والأغاني : 6 / 335 .) . |
|
ملامح سلبيّة في حكم
عثمان :
|
|
تعايش الإمام عليّ (عليه السلام) مع أبي بكر وعمر ، ولم يظهر
معارضته العلنية لهما ، فقد كان الانحراف في مسيرة الحكومة الإسلامية مستتراً ،
وكان الإمام (عليه السلام) يتدخّل في أحيان كثيرة لإصلاح موقف الخليفة الخاطئ
فيستجيب له ، ولم يخشَ أبو بكر وعمر من الإمام (عليه السلام) إلاّ لكونه الممثّل
الشرعي للأمة وصاحب الحقّ في الخلافة وقائداً لتيار المعارضة الذي يضمّ أجلاّء
الصحابة ، ولكنّ الإمام تنازل عن حقّه في الخلافة فأمّن القوم من جانبه ، ولكنه
لم يتنازل عن المبدأ الذي ورثه عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بكونه
المراقب والمحافظ للعقيدة الإسلامية . أمّا في فترة حكم عثمان فقد استشرى الفساد ودبَّ في أجهزة
الدولة بصورة علنية مكشوفة ، وانتقلت العدوى إلى فئات المجتمع الإسلامي ، فوقف
الإمام معلناً رفضه واستنكاره على عثمان بصورة علنية ، ووقف معه الصحابة
الأجلاّء أمثال عمّار بن ياسر وأبي ذر ، بل حتّى الذين وقفوا موقف المعارض
لخلافة الإمام (عليه السلام) لم يرضوا على عثمان سوء إدارته وفساد حكومته ،
ويمكن لنا أن نجمل طبيعة حكم عثمان وملامحه فيما يلي : إن عثمان وصل إلى الحكم وقد تجاوز السبعين عاماً ، وكان
وصولاً لأرحامه ولوعاً بحبّهم وإيثارهم ، فقد روي عنه قوله : لو أن بيدي مفاتيح
الجنّة لأعطيتها بني أُمية حتى يدخلوا من عند آخرهم . كما أنّ عثمان عاش غنيّاً
مترفاً قبل الإسلام ، وظلّ على غناه في الإسلام ، فلم يكن ليتحسّس معاناة
الفقراء وآلام المحرومين ، فكانت شخصيته مزدوجة في التعامل مع الجماهير المحرومة
التي تطالبه بالعدل والسوية ، فيعاملها بالشدّة والقسوة ، كما في تعامله مع عبد
الله بن مسعود وعمار بن ياسر وأبي ذر وغيرهم . وأمّا من جهة أقربائه وقلّدهم الأمور ، فاستعمل الوليد بن
عقبة ابن أبي معيط على الكوفة وهو ممّن أخبر النبيّ (صلّى الله عليه وآله) أنّه
من أهل النار ، وعبد الله ابن أبي سرح على مصر ، ومعاوية بن أبي سفيان على الشام
، وعبد الله بن عامر على البصرة ، وصرف الوليد بن عقبة عن الكوفة وولاّها سعيد
بن العاص (تأريخ اليعقوبي : 2 / 160 وتأريخ الطبري : 3 / 445 ط مؤسسة الأعلمي ، وأنساب
الأشراف للبلاذري : 5 / 49 ، وحلية الأولياء : 1 / 156 ، وشيخ المضيرة أبو هريرة
: 166 ، والغدير : 8 / 238 ـ 286 والنص والاجتهاد : 399 .) . وكان عثمان ضعيفاً أمام مروان بن الحكم ، يسمع كلامه وينفّذ
رغباته ، حتى أنّه عندما تألّبت الأمصار على عثمان وتأزّمت الأوضاع ؛ تدخّل
الإمام ليهدّئ الحالة ويرجع الثائرين ـ الذين جاءوا يطالبون بإصلاح السياسة
الإدارية والمالية وتبديل الولاة ـ إلى بلدانهم ، وأخذ من عثمان شرطاً أن لا
يطيع مروان بن الحكم وسعيد بن العاص . ولكن بمجرد أن هدأت الأوضاع ؛ عاد مروان وحرّض عثمان على أن
يخرج وينال من الثوار ، فخرج إليه الإمام عليّ (عليه السلام) مغضباً فقال : (أما رضيت من مروان ولا رضي منك إلاّ بتحرفك عن دينك وعن
عقلك مثل جمل الضعينة يُقاد حيث يُسار به ، والله ما
مروان بذي رأي في دينه ولا نفسه)
(الطبري : 3 / 397 ط مؤسسة الأعلمي .) ؟ وفي موقف آخر مع الوليد بن عقبة أنّ الخليفة عثمان غضب على الشهود
الذين شهدوا على الوليد بشربه الخمر ودفعهم ، وهنا تدخّل الإمام وهدّد عثمان من
عواقب الأمور ، فأمره الإمام (عليه السلام) باستدعاء الوليد ومحاكمته وإقامة
الحد عليه ، وحين اُحضر الوليد وثبتت عليه شهادة الشهود ؛ أقام الإمام (عليه
السلام) عليه الحدّ ممّا أغضب عثمان ، فقال للإمام : ليس لك أن تفعل به هذا ،
فأجابه الإمام بمنطق الحقّ والشرع قائلاً : (بل
وشرّ من هذا إذا فسق ومنع حقّ الله أن يؤخذ منه) (مروج الذهب : 2 / 225 .) . وأمّا سياسة عثمان المالية فقد كانت امتداداً لسياسة عمر من
إيجاد الطبقية وتقديم بعض الناس على بعض في العطاء ، إلاّ أنّها أكثر فساداً من
سياسة سابقه ، فقد أثرى بني أميّة ثراءً فاحشاً ، وحين اعترض عليه خازن بيت
المال قال له : إنّما أنت خازن لنا ، فإذا أعطيناك فخذ وإذا سكتنا عنك فاسكت ،
فقال : والله ما أنا لك بخازن ولا لأهل بيتك ، إنّما أنا خازن للمسلمين .. وجاء
يوم الجمعة وعثمان يخطب فقال : أيّها الناس ! زعم عثمان أنّي خازن له ولأهل بيته
، وإنّما كنت خازناً للمسلمين ، وهذه مفاتيح بيت مالكم ، ورمى بها (الطبقات لابن سعد : 5 / 388 ، وتاريخ اليعقوبي
: 2 / 153 ، وأنساب الأشراف : 5 / 58 ، والمعارف لابن قتيبة : ص 84 ، وشيخ
المضيرة أبو هريرة : 169 ، والغدير : 8 / 276 .) . |
|
موقف للإمام علي
(عليه السلام) مع عثمان :
|
|
نقم المسلمون على عثمان ، وتصلّب خيار الصحابة في مواقفهم
تجاه انحراف الخليفة وجهازه الحاكم ، وفي قبال ذلك أمعن عثمان بالتنكيل
بالمعارضين والمندّدين بسياسته المنحرفة ، وبالغ في ذلك دون أن يرعوي لصحابة
رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، فمن ذلك أنّ أبا ذر الصحابيّ الجليل أكثَرَ
من اعتراضه على مساوئ عثمان ، فسيّره إلى الشام ، ولم يطق معاوية وجوده فأرجعه
إلى المدينة ، واستمرّ أبو ذر بجهاده وإنكاره السياسة الأموية ، فضاق عثمان به
ذرعاً فقرّر نفيه إلى الربذة ومنع الناس من توديعه . ولكنّ الإمام عليّاً (عليه السلام) خفّ لتوديعه ومعه الحسنان
وعقيل وعبد الله بن جعفر ، فاعترضهم مروان بن الحكم ليردّهم ، فثار الإمام عليّ
(عليه السلام) فحمل على مروان ، وضرب أذني دابته وصاح به : تنحَّ نحّاك
الله إلى النار (مروج الذهب : 2 / 350 .) ، ووقف الإمام عليّ (عليه السلام) مودّعاً أبا ذر فقال له :
(يا
أبا ذر ! إنّك غضبت لله فَارْجُ من غضبت له ، إنّ القوم خافوك على دنياهم ،
وخفتهم على دينك ، فاترك في أيديهم ما خافوك عليه ، واهرب بما خفتهم عليه ، فما
أحوجهم إلى ما منعتهم ! وما أغناك عمّا منعوك ! وستعلم مَن الرابح غداً والأكثر
حسداً !) (شرح النهج : 3 / 54 ، وذكر ذلك أبو بكر أحمد بن
عبد العزيز في كتابه السقيفة ، وأعيان الشيعة : 3 / 336 .) . فلمّا رجع عليّ (ع) من توديع
أبي ذر ؛ استقبله الناس فقالوا له : إنّ عثمان عليك غضبان ، فقال عليّ (ع) : (غضب الخيل على اللجم) . |
|
الآثار السلبية
لحكومة عثمان في الأُمة :
|
|
كانت حكومة عثمان استمراراً للخطّ السياسي الحاكم غير الواعي
لمحتوى الرسالة سلوكاً ومعتقداً ، فتركت آثارها السيّئة على مسيرة الحكومة
الإسلامية والأمة ككل ، وأضافت مثالب ومطاعن في وضوح الرسالة الإسلامية لدى
الجماهير الإسلامية التي لم تعش مع القائد المعصوم ـ النبيّ (صلّى الله عليه
وآله) ـ سوى عقد واحد رأته فيها حاكماً ومربيّاً ، واشتعلت نار الفتن في أطراف
البلاد الإسلامية والتي جرّت على المسلمين الويلات والملمّات ، فإنّنا من خلال
سبرنا أغوار التأريخ نستنتج ما يلي . 1 ـ إنّ حكومة عثمان ابتعدت عن نهج الشريعة الإسلامية ،
فعطّلت الحدود وأشاعت الفساد وتهاونت في محاسبة المسؤولين عن ذلك ، وهذا ما فسح
المجال لشيوع الفوضى في السلوك الاجتماعي وبثّ روح التمرّد على القانون . وكان
من مظاهر الفساد شيوع الاستهتار والاستخفاف بالقيم والأحكام الإسلامية ، فنجد
أنّ بيوت الولاة والشخصيّات المتنفّذة تعجّ بحفلات الغناء ومجالس الخمرة (الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني : 7 / 179 .)
. 2 ـ ركّزت حكومة عثمان على روح العصبية القبلية التي شرّعها
أبو بكر في نهجه السياسي القبلي ، فتوضّح في بروز سلطة بني أُمية كاُسرة لها
سلطتها على جميع مرافق الدولة لا لشيء سوى أنّها ترى لنفسها السيادة الملطقة
التي انتزعها الإسلام منها ، لأنّها ليس لها أساس شرعي، وأصبح بنو أُمية جبهة
سياسية قويّة لها توجّهها المناوئ للإسلام وخصوصاً لخطّ آل البيت (عليهم السلام)
فأصبحوا فيما بعد العقبة الرئيسة أمام حكم الإمام عليّ (عليه السلام) ، حيث
تكتّلوا حول معاوية بن أبي سفيان في مواجهة الإمام عليّ (عليه السلام) . 3 ـ اعتبرت حكومة عثمان أنّ الحكم حقّ موهوب لهم ولا يحقّ
لأحد انتزاعه ، واتخذوه وسيلةً لإرضاء رغباتهم المنحرفة وشهواتهم الشيطانية ،
ولم تجعل من الحكم وسيلةً للإصلاح الاجتماعي ونشر الرّسالة الإسلامية في بقاع
الأرض (الطبقات الكبرى لابن سعد : 3 / 64 ، وتأريخ
الطبري : 5 / 341 ـ 346 .) ممّا شجّع الكثيرين في السعي للتسلّق إلى الحكم للتمتّع
بالسلطة والجاه ، فعمرو بن العاص ومعاوية وطلحة والزبير لم يكونوا ينشدون من
السعي للحكم أيّ هدف إنساني أو اجتماعي يعود بالنفع والمصلحة على الأُمة . 4 ـ خلقت حكومة عثمان طبقة كبيرة من الأثرياء (مروج الذهب : 2 / 342 .) تتضرّر مصالحها مع الحكومة القائمة
في مواجهةِ حكومة تطالب بتطبيق الحقّ والشرع ، ممّا أدّى إلى تحرّك قطعات
المسلمين الفقراء للمطالبة بالقوّة في إصلاح النظام المالي وتطوير الحياة
الاقتصادية وتنظيم الدخل الفردي . وحركة أبي ذرّ تجاه الفساد المالي للحكومة خير
شاهد ودليل على عمق تفشّي الفقر في أوساط الأُمة . 5 ـ إنّ استعمال العنف والقوّة والشدّة والقسوة في التعامل
مع المعترضين وإهانتهم ولّد ردّة فعل معاكسة للثورة على النظام القائم عسكرياً ،
وكان مقتل عثمان نقطة تحوّل في الصراعات الدائرة بين وجهات نظر المسلمين ، فعمل
السيف عمله في أفراد الأُمة وأجّجه وزاد فيه تعنّت بني أمية ومن والاهم على
تحدّي الحقّ ورغبة الأُمة في الإصلاح . وهذا ما فسح المجال أمام النفعيّين في الوصول إلى الحكم
بقوّة السيف بعد أن افترقت الأُمة الإسلامية في توجّهاتها السياسية ، كلّ فرقة
تريد الحكم لنفسها . 6 ـ خلّف مقتل عثمان فتنةً يتأجّج أوارها كلّ حين ، وشعاراً
يرفعه النفعيّون والخارجون على الطاعة والبيعة لإثارة المشاكل والحروب تجاه
حكومة شرعية جماهيرية بزعامة الإمام عليّ (ع) ،
وتكامل دور الفتنة والشقاق على يد معاوية فيما بعد ، فحارب الإمام (ع) وسالت دماء المسلمين كثيراً ، ثمّ حرّفوا
التوجّه الديني الصحيح إلى ثقافة مشبوهة يحرّكون بها المجتمع لغرض إدامة سلطانهم
الذي تحوّل إلى ملك متوارث ، يساعدهم على ذلك سعة الدولة الإسلامية الجديدة
ووجود فئات واسعة من المجتمع الإسلامي لم تفهم العقيدة الإلهية بوعي وبصيرة 7 ـ من نتائج الثورة على عثمان أن وجدت فئات مسلّحة من مختلف
الأقطار الإسلامية لا زالت تحيط بالمدينة تنتظر مصير الحكومة ، كما أنّ الأحداث
أثبتت وشجّعت على تحرّك الجماهير لتغيير الحكم بالقوّة ، وهذا يعتبر ورقةَ ضغطٍ
قويّةً تؤثّر على الحكم الجديد . |
|
الباب الرّابع
|
|
فيه فصول : الفصل الأوّل : الإمام عليّ (عليه السلام) بعد مقتل عثمان. الفصل الثاني : الإمام عليّ (عليه السلام) مع الناكثين. الفصل الثالث : الإمام عليّ (عليه السلام) مع القاسطين. الفصل الرابع : الإمام عليّ (عليه السلام) مع المارقين. الفصل الخامس : الإمام عليّ (عليه السلام) شهيد محراب. الفصل السادس : تراث الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام). |
|
الفصل الأول:
|
|
الإمام عليّ (عليه السلام) بعد مقتل عثمان
|
|
بيعة المسلمين للإمام
عليّ (عليه السلام) :
|
|
تمّت بيعة الإمام عليّ (عليه
السلام) في ذي الحجّة عام (35) هـ. سادت الفوضى أرجاء المدينة بعد مقتل عثمان ؛ فاتّجهت الأنظار
والآراء إلى الإمام عليّ (عليه السلام) لينقذ الأمة من محنتها وتخبّطها ، ولم
يتجرّأ أحد أن يدّعي أحقيّته بالخلافة التي تكتنف طريقها المشاكل المستعصية ،
كما أنّ الظرف السياسي لم يمهل عثمان أن يتّخذ قراراً بشأن الخلافة كما اتّخذ
صاحباه من قبل ، ولم يكن المتبقّي من أصحاب الشورى يملك مؤهّلات الخلافة أصلاً ،
فكيف وقد تعقّدت الأمور وتدهور وضع الدولة وكيانها ، ولابدّ أن يتزعّم الأمة
قائدٌ يملك القدرة للنهوض بالأمة بعد انحطاطها وقيادتها لاجتياز الأزمة وصيانتها
عن الضياع ، ولم يكن من شخص إلاّ الإمام عليّ (عليه السلام) راعيها وسيّدها . تحرّكت جماهير المسلمين بإصرار نحو الإمام عليّ (عليه
السلام) لتضغط عليه كي يقبل قيادتها ، ولكنّ الإمام (عليه السلام) استقبل
الجماهير المندفعة بوجوم وتردّد ، فقد حُرِم منها وهو صاحبها وجاءته بعد أن
امتلأت الساحة انحرافاً والأمة تردّياً ، وتجذّرت فيها مشاكل تستعصي دون النجاح
في المسيرة ، فقال لهم : (لا حاجة لي في أمركم أنا معكم فمن اخترتم رضيت به
فاختاروا)
(تاريخ
الطبري : 3 / 450 ط مؤسسة الأعلمي .) . وقال (عليه السلام) : (لا
تفعلوا فإنّي أكون وزيراً خير من أن أكون أميراً) (المصدر
السابق .) . وأوضح لهم الإمام (عليه السلام) عمّا سيجري فقال :
(أيّها الناس ! أنتم مستقبلون أمراً له وجوه وألوان ، لا تقوم به القلوب ، ولا
تثبت له العقول ...)
(نهج
البلاغة : الكلمة (92) .) وأمام إصرار الجماهير على توليته الأمر قال لهم : (إنّي
إن أجبتُكم ركبتُ بكم ما أعلم ... وإن تركتموني فإنّما أنا كأحدكم ، ألا وإني من
أسمعكم وأطوعكم لمن ولّيتموه أمركم )( نهج
البلاغة : الكلمة (92) .) .. وتكاثرت جموع الناس نحو الإمام وقد وصف (عليه السلام)
توجّههم نحوه مطالبين قبوله بالخلافة بقوله : (فما راعني إلاّ والناس
كعرف الضبع ينثالون عليَّ من كلّ جانب حتى لقد وطئ الحسنان وشقّ عطفاي مجتمعين
حولي كربيضة الغنم) (نهج البلاغة : الخطبة (3)
المعروفة بالشقشقية .) . لم يكن الإمام حريضاً على السلطان ، بل كان حرصه أن ينقذ ما
بقي من الأمة ، وأن يحافظ على الشريعة الإسلامية نقيّةً من الشوائب والبدع ،
فَقبِلَ أن يتولّى أمر الخلافة ولكنّه أخَّر القبول إلى اليوم الثاني ، وأن تكون
بيعة الجماهير علنيةً في المسجد ، رافضاً بذلك أسلوب بيعة السقيفة والتوصية
والشورى ، وفي الوقت ذاته ليعطي الأمة فرصةً أخرى كي تمتحن عواطفها وقرارها في
الخضوع له ، فقد ضَيَّعَتْ فيما سبق نصوص النبيّ (ص)
على خلافته فانحرفت . ومن هنا قال (ع) : (والله
ما تقدّمت عليها ـ أي الخلافة ـ إلاّ خوفاً من أن ينزو على الأمة تيسٌ علج من
بني أمية فيلعب بكتاب الله عَزَّ وجَلَّ) (عن أنساب الأشراف 1 : ق 1 /
157 .) . لقد كانت خطورة الموقف من نفوذ بني أمية في مراكز الدولة وطمعهم
الشديد للسلطان في حالة من غياب الوعي الرسالي في المجتمع . وما أن أقبل الصباح ؛ حتى حفّت الجماهير بالإمام (عليه
السلام) تسير نحو المسجد ، فاعتلى المنبر وخاطب الجماهير : (يا
أيّها الناس ! إنّ هذا أمركم ليس لأحدٍ فيه حقّ إلاّ من أمَّرْتُم ، وقد افترقنا
بالأمس وكنت كارهاً لأمركم ، فأبيتم إلاّ أن أكون عليكم ، ألا وإنّه ليس لي أن
آخذ درهماً دونكم ، فإن شئتم قعدت لكم ، وإلاّ فلا آخذ على أحد ...) . فهتفت الجماهير بصوت واحد : نحن على ما فارقناك عليه بالأمس
.. وقالوا : نبايعك على كتاب الله ، فقال (عليه السلام) : اللّهمّ
اشهد عليهم (أنساب الأشراف : 5 / 22 .) . وتدافع الناس كالموج المتلاطم إلى البيعة ، فكان أوّل من
بايع طلحة بيده الشلاّء والذي سرعان ما نكث بها عهد الله وميثاقه ، وجاء بعده
الزبير فبايع ، ثمّ بايعه أهالي الأمصار وعامّة الناس من أهل بدر والمهاجرين والأنصار
عامّة . كانت بيعة الإمام عليّ (ع)
أول حركة انتخاب جماهيرية ، ولم يحضَ أحد من الخلفاء بمثل هذه البيعة ، وبلغ
سرور الناس ببيعتهم أقصاه ، فقد أطلّت عليهم حكومة الحقّ والعدل ، وتقلّد
الخلافة صاحبها الشرعي ناصر السمتضعفين والمظلومين ، وفرحت الأمة بقبول الإمام
للخلافة كما وصف الإمام ذلك بقوله : (وبلغ
سرور الناس ببيعتهم إيّاي أن ابتهج بها الصغير ، وهَدَجَ اليها الكبير ، وتحامل
نحوها العَليل ، وحَسَرَتْ إليها الكِعاب) (نهج
البلاغة : الكلمة (229) .) . |
|
المتخلّفون عن بيعة الإمام (عليه السلام) :
|
|
إنّه لأمر طبيعيّ أن يقف ضد الحقّ أو يحايد من ساءت سريرته
وضعف يقينه وأضمرت نفسه الحقد والحسد ، فرغم أنّ الإمام علياً (عليه السلام) هو
الخليفة الشرعي كما نصّت على ذلك الأحاديث النبويّة الشريفة ، وأكدّها تأريخ
الرسالة الإسلامية بأنّ خير من يصون الأمة والرسالة بعد غياب النبيّ (صلّى الله
عليه وآله) هو الإمام عليّ (عليه السلام) لما له من قابليات ومؤهّلات لا تتوفر
لغيره من المسلمين ، كما وأنّ الأمة هي التي فزعت إلى الإمام بكل شرائحها
وفئاتها ترتجي منه قبول الخلافة ، لكنّنا نجد أنّ فئة قليلة اتّسمت بالانحراف عن
الحقّ والجبن في مواجهته بدأت ترتدّ عن بيعتها . لقد كان تخلّفهم خرقاً لإجماع الأمة وتحدّياً لبيعتها ، وبذلك فتحوا باباً
جديدة في تأجيج الفتنة واستمرار الصراع الداخلي ، ومن
هؤلاء المتخلّفين : سعد ابن أبي وقّاص ، وعبد الله بن عمر ، وكعب بن مالك
، ومسلمة بن مخلد ، وأبو سعيد الخدري ، ومحمد بن مسلمة ، والنعمان بن البشير ،
ورافع بن خديج ، وعبد الله بن سلام ، وقدامة بن مظعون ، وأسامة بن زيد ،
والمغيرة بن شعبة ، وصهيب بن سنان ، ومعاوية بن أبي سفيان (تاريخ
الطبري : 3 / 452 ط مؤسسة الأعلمي .) . ولكنّ بعضهم ندم على تفريطه في أمر بيعة الإمام ، وأما موقف
الإمام (عليه السلام) من هؤلاء فإنّه لم يتعرّض لأحد منهم بأيّ سوء ، وتركهم
وحالهم في الأمة لهم ما للناس وعليهم ما على الناس . |
|
عقبات في طريق حكومة الإمام (عليه السلام) :
|
|
وصل الإمام عليّ (عليه السلام) إلى الحكم بعد ربع قرن من
عزله عن ممارسة الحكم الإسلامي وقيادة الأمة والدولة ، وهما يسيران في مسارات
منحرفة للسلطات التي حكمت طيلة هذه الفترة ، فكان هذا عاملاً مؤثّراً في إضعاف
موقف الإمام (عليه السلام) من الأحداث ، فطوال الفترة السابقة أَلِفَ الناس أن
يروا الإمام محكوماً لا حاكماً ، محكوماً لأناس أقلّ كفاءةً وشأناً منه .. كما
أنّ عدداً من الشخصيات تنامى لديها الشعور بالمنافسة وبلوغ قمّة السلطة لتحقيق
أغراضهم الشخصية ، فالزبير في السقيفة كان يدافع عن حقّ الإمام (عليه السلام)
مقابل الفئات المندفعة نحو السلطة ، ثمّ نجده اليوم ينازع الإمام على السلطة ،
ومعاوية الطليق ابن الطليق أصبح بعد هذه المدّة مناوئاً قويّاً يهدّد كيان
الدولة . وأيضاً ممّا أعاق حركة الإمام أنّ العناصر التي وقفت ضدّه
على الخطّ المنحرف كان أغلبهم ممّن له صحبة مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله)
وهذا ممّا انخدع به أعداد كبيرة من المسلمين ، وعقّد الأمر على نجاح حكومته
(عليه السلام) واستمراره في الحكم . إضافة إلى أنّ الإمام (عليه السلام) استلم دولة مترامية
الأطراف ، ففي زمن أبي بكر لم تكن تتجاوز الدولة الإسلامية حدود الجزيرة والعراق
، أمّا في عهد الإمام فإنّها تمتد إلى شمال أفريقيا وأواسط آسيا إضافةً إلى تمام
الجزيرة والعراق والشام ، وقد دخل في الإسلام أقوام من غير العرب ، وهؤلاء
المسلمون الجدد فتحوا عهدهم مع الإسلام في ظلّ حكومة غير معصومة ، بل منحرفة عن
الخطّ الصحيح للرسالة الإسلامية ، وكان على حكومة الإمام القيام بمهامّ رئيسية
في أقصر وقت مع وجود الصراع الداخلي فمنها : |
|
1 ـ هدم
الكيان الطبقي الذي أنشأه الخلفاء وذلك عبر :
|
|
أ ـ المساواة في العطاء بين المسلمين
جميعاً ،
متّبعاً في ذلك سنّة رسول الله (ص) التي أهملها
من كان قبله من الخلفاء ، وقد أوضح في خطبته سياسة التوزيع النابعة من حكم الله (إِنّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللّهِ أَتْقَاكُمْ) فقال : (ألا وأيّما رجلٍ استجاب لله وللرسول فصدّق
ملّتنا ودخَل في ديننا واستقبل قبلتنا ؛ فقد استوجب حقوق الإسلام وحدوده ، فأنتم
عباد الله ، والمال مال الله ، يُقسّم بينكم بالسويّة ، لا فضل فيه لأحد على أحد
، وللمتّقين عند الله غداً أحسن الجزاء وأفضل الثواب) (بحار
الأنوار : 32 / 17 و 18 .) . ب ـ استرجاع الأموال المنهوبة من بيت المال في عهد عثمان ،
فقد أعلن الإمام أنّ الأموال المأخوذة بغير حقّ ـ وما أكثرها في عهد عثمان ـ
لابدّ أن ترجع إلى بيت المال ، حيث كانت الأموال الطائلة عند طبقة محيطة
بالخليفة أو أنّ عثمان كان يعطيها ليستميلها إليه . فقال (عليه السلام) : (ألا إنّ كلّ قطيعة أقطعها عثمان وكلّ مال أعطاه من مال
الله فهو مردود في بيت المال ، فإنّ الحقّ لا يبطله شيء ، ولو وجدته قد تُزوج به
النساء ومُلك به الإماء وفرِّق في البلدان لرددته ، فإنّ في العدل سعةً ، ومن
ضاق عليه العدل ، فالجور عليه أضيق) (نهج
البلاغة : الخطبة (15) .) . هذه السياسة المالية لم ترق لقريش ، فقد كان العايد من
أقطابها تنالهم قرارات الإمام وهم في أنفة الطغيان والتكبّر والاستعلاء ، مثل :
مروان بن الحكم وطلحة والزبير ، فما أن استوثقوا الجدّ في عمل الإمام حتى بدأوا
بإثارة الفتن والإحَن أمام حكومة الإمام ، حتى أن طلحة والزبير جاء إلى الإمام
(عليه السلام) يعترضان على ذلك فقالا : إنّ لنا قرابةً من نبي الله وسابقةً
وجهاداً ، وإنّك أعطيتنا بالسوية ولم يكن عمر ولا عثمان يعطوننا بالسوية ، كانوا
يفضّلونا على غيرنا . فقال (عليه السلام) : فهذا كتاب
الله فانظروا ما لكم من حقٍّ فخذوه ، قالوا : فسابقتنا ! قال (عليه
السلام) : أنتما أسبق منّي ؟ قالا : لا ،
فقرابتنا من النبيّ (صلّى الله عليه وآله) ! قال (عليه السلام) : أقرب
من قرابتي ؟
قالا : لا ، فجهادنا ، قال (عليه السلام) : أعظم من جهادي ؟ قالا : لا ، قال (عليه السلام) : فو
الله ما أنا في هذا المال وأجيري إلاّ بمنزلة سواء (بحار الأنوار : 41 / 116 .) . |
|
ج ـ المساواة أمام حكم الله تعالى :
|
|
لم يكن الإمام (ع) غافلاً عن
تطبيق أحكام الشريعة في عهد من سبقه من الخلفاء ، فكان يحكم ويفصل بالحقّ والعدل
، إذ يعجز غيره ، وما أن استلم زمام أمور الدولة ؛ حتى ضرب أروع صنوف العدل وسلك
أوضح سبل الحقّ مظهراً عدل الشريعة الإلهية وقدرة الإسلام على إقامة دولة تنعم
بالحرية والأمان والعدل . ومواقف الإمام (عليه السلام) كثيرة وما كان يتحرّج أن يجري
القانون على نفسه وأهل بيته وأصحابه ، فقد ترافع مع اليهودي إلى شريح القاضي
ليفصل بينهم في درع افتقده (عليه السلام) (السنن
الكبرى : 10 / 136 ، وتأريخ دمشق : 3 / 196 ، وقد وردت مواقف الإمام هذه في عدّة
مصادر منها : الأغاني : 16 / 36 ، والبداية والنهاية : 8 / 4 ، والكامل في
التأريخ : 3 / 399 ، والصواعق المحرقة : 78 .) . وقد كانت أحكام الإمام في فصل القضاء نابعة من عمق الشريعة
وسعة علم الإمام بأمور الدين والدنيا ، وتدلّ على العصمة في الفكر والعمل . |
|
2 ـ التنظيم
الإداري وإعادة السيطرة المركزية للدولة :
|
|
فقد قام الإمام (عليه السلام) بإعفاء الولاة الذين عيّنهم
عثمان من مناصبهم ، ونصب ولاة كانوا جديرين بهذه المهمّة ، وهم محلّ ثقة
المسلمين ، فأرسل عثمان بن حنيف الأنصاري بدلاً عن عبد الله بن عامر إلى البصرة
، وعلى الكوفة أرسل عمارة بن شهاب بدلاً عن أبي موسى الأشعري ، وعلى اليمن عبيد
الله بن عبّاس بدلاً عن يعلى بن منبه ، وعلى مصر قيس بن سعد بن عبادة بدلاً عن
عبد الله بن سعد ، وعلى الشام سهل بن حنيف بدلاً من معاوية بن أبي سفيان ، كلّ
هذا لسوء سيرة الولاة السابقين وفساد إداراتهم حتى آخر لحظة ، فقد استولى يعلى
بن منبّه على بيت مال اليمن وهرب به ، وحرّك معاوية قوّة عسكرية لصدّ سهل بن
حنيف عن ممارسة مهامّه الجديدة (تأريخ الطبري : 3 / 462 ط
مؤسسة الأعلمي .) . وفي عملية اختيار الولاة الجدد كان الإمام (عليه السلام)
دقيقاً وموضوعياً وحريصاً على تطبيق الشريعة الإسلامية بجهازه الإداري الجديد ،
وقد أعاد الثقة للأنصار بأنفسهم ورفع معنويّاتهم ، إذ أشركهم في الحكم ، كما أنّ
الإمام لم يكن مستعدّاً لقبول الحلول المنحرفة أو أنصاف الحلول ، فقد كان حازماً
في اجتثاث الفساد ، فقد رفض (عليه السلام) اقتراح إبقاء معاوية على الشام حتّى
يستقر حكم الإمام ثمّ تنحيته فيما بعد (تأريخ
الطبري : 3 / 461 و 462 ط مؤسسة الأعلمي ، والبداية والنهاية : 7 / 255 .) . حاول الإمام فرض سيطرة الخلافة المركزية على ولاية الشام بعد
أن امتنع معاوية فيها عن البيعة ، فدفع الراية إلى ولده محمد بن الحنفية ، وولّى
عبد الله بن عبّاس على ميمنته وعمر بن أبي سلمة على الميسرة ، ودعا أبا ليلى بن
عمر بن الجرّاح فجعله على مقدّمة الجيش ، وخطب في أهل المدينة وحثّهم على القتال
، ولكن حال دون التحرّك وصول خبر خروج طلحة والزبير على حكم الإمام إلى البصرة
بعد أن كانا قد استأذناه في الخروج للعمرة فأذن لهم ، وكان قد حذّرهم من نكث
البيعة (تأريخ الطبري : 3 / 469 .) . |
|
محاور عمل الإمام (عليه السلام) في الأمة :
|
|
هناك دور مفروض في الشريعة الإسلامية لشخصيّة يرعى شؤون الرسالة
الإسلامية وديمومتها في الحياة ومقاومتها في الصراع مع التيارات المختلفة بعد
غياب النبيّ القائد (صلّى الله عليه وآله) وقد نصّت الشريعة على أنّ الإمام
عليّاً (عليه السلام) ومِن بعده أبناءه هم المعنيّون بذلك . وممارسة دور الراعي والقائد لشؤون الرسالة تقتضي أن يتولّى
الإمام المعصوم أعلى السلطات في الدولة ، ولكن بعد وفاة الرسول تدخّلت عناصر غير
مؤهّلة لذلك في ظرف معقّد فاستولت على السلطة ، ولم يكن ذلك ليمنع الإمام (عليه
السلام) عن ممارسة دوره ، ولكن طبيعة الصراع تقتضي تعدّد الدور وتنوّعه ، فعمل
الإمام عليّ (عليه السلام) على محورين في محاولة منه لإصلاح انحراف الأمة
والمحافظة على عقائدها ومقدّساتها : المحور الأول : السعي لاستلام مقاليد الحكم وزمام التجربة ،
والنهوض بالأمة في الاستمرار بمسيرتها نحو هدفها السماوي الذي فرضه الله سبحانه
وتعالى . وقد عمل الإمام على هذا المحور بعد وفاة
النبيّ (ص) مباشرة ، كما عبّر عن مسؤوليته تجاه هذا الأمر بقوله (عليه السلام): (لو
لا حضور الحاضر وقيام الحجّة بوجود الناصر وما أخذ الله على العلماء أن لا
يقارّوا على كظّة ظالم ولا سغب مظلوم ؛ لألقيت حبلها على غاربها) (نهج
البلاغة : الخطبة الشقشقية .) . فحاول الإمام (ع) تعبئة الأمة ، ولكنّه لم يتمكّن
أن يصل إلى حدّ إنجاح هذه المحاولة لأسباب منها : 1 ـ عدم وعي الأمة لرزيّة يوم السقيفة وما جرى فيها من
مؤامرات سياسية وتوجّها خاطئة كانت خافية على شريحة كبيرة من الأمة . 2 ـ عدم فهم دور ومسؤولية الإمام والإمامة ، فقد تصوّروه
مطلباً شخصياً وهدفاً فردياً ، ولكنّ الحقيقة أنّ دخول الإمام في مواجهة
الحاكمين كان بوعي رسالي وإرادة صادقة لاستمرار الرّسالة الإسلامية نقيةً كما
شرّعها الله بعيدةً عن الزيغ والانحراف ، ومضحّياً بكلّ شيء من أجل ذلك حتى لو
كان ذلك تعدّياً على حقّ الشخصيّ ، فالمقياس هو سلامة الرسالة وديمومتها على أسس
الحقّ والعدل الإلهي وهو القائل : (إعرف الحقّ تعرف
أهله) (بحار الأنوار : 6 / 179 ط
الوفاء .)
وقد قال رسول الله (صلّى الله عليه
وآله) : (عليّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ) (راجع
سنن الترمذي : 2 / 298 وتاريخ بغداد : 14 / 321 .) . كما أنّ الإمام عليّاً (عليه السلام) عمل بشمولية وعلى جميع
المستويات موفّقاً بين النظرية والتطبيق ، فربّى أصحابه على أنّهم أصحاب الأهداف
الرسالية لا أصحاب الأشخاص يميلون مع هذا الطرف أو ذاك، ونجد أنّ الإمام رفض أن
يستلم الحكم بشرط السير بسيرة من قبله ، إذ كانت تسيء إلى الرسالة والمجتمع . 3 ـ الرواسب الجاهلية المتأصّلة في فكر الأمة ، فالعهد قريب
ولم تدرك الأمة عمق الرسالة والرسول ودور الإمام ، فتصوّروا أنّ عهد النبيّ
(صلّى الله عليه وآله) بالوصاية للإمام (ع) مجرّد عملية ترشيح لأحد أعضاء أسرته
، وإنّه قد يهدف لإحياء أمجاد أسرة متطلّعة للمجد والسلطان كما هو دأب غالب
الحكّام قبل النبيّ (ص) وبعده . 4 ـ دور المنافقين وأطماعهم في زعزعة الاستقرار الأمني
والاجتماعي ، ومحاولة إثارة النوازع والأحقاد بين صفوف المسلمين ، وتغلغلهم في
صفوف الجهاز الحاكم والدولة ويزدادون توغّلاً إذا كان الحاكم ضعيفاً أو منحرفاً
. 5 ـ الأمراض النفسية لدى المتصدّين للزعامة ، فكان الشعور
بالنقص لديهم تجاه الإمام عليّ (ع) بدرجة عالية ، حيث كان الإمام (عليه السلام)
يمثّل تحدّياً بوجوده ، بصدقه ، بجهاده ، بصراحته ، باستبساله وشبابه . (كما ورد في كتاب معاوية لمحمد ابن أبي بكر) (وقعة
صفّين : 119 .) . المحور الثاني : وحين لم يفلح المحور الأوّل في
بلوغ هدفه عمل الإمام (عليه السلام) بمنهجية أخرى ، ألا وهي تحصين الأمة ضد الانهيار
التامّ وإعطاؤها من المقوّمات القدر الكافي كي تتمكّن من البقاء صامدة في مواجهة
المحنة بعد استيلاء فئة غير كفوءة على السلطة وانحدار الأمة عن جادّة الحقّ
والصواب بسببها . فاجتهد الإمام (عليه السلام) في تعميق الرسالة
فكرياً وروحياً وسياسياً في صفوف الأمة ، وتقديم الوجه الحقيقي للنظرية
الإسلامية عبر أساليب منها : 1 ـ التدخّل الإيجابي في عمل الزعامة المنحرفة بعد أن كانوا
لا يحسنون مواجهة ومعالجة القضايا الكثيرة البسيطة منها والمعقدة . وتوجيههم نحو
المسار الصحيح لإنقاذ الأمة من مزيد الضياع ، فكان دور الإمام (عليه السلام) دور
الرقيب الرسالي الذي يتدخّل لتقويم الأود. ونجد الإمام يتدخّل للردّ على شبهات المنكرين للرسالة بعد أن
عجز المتصدّي للزعامة عن ذلك ، ونجده أيضاً يتدخّل ليعطي للخليفة نصائح عسكرية
أو اقتصادية ، وما أكثر نصائحه ومعالجاته القضائية (تأريخ
اليعقوبي : 2 / 133 ، 145 .) ! 2 ـ توجيه مسار سياسة الخليفة ومنعها من المزيد من الانحراف
من خلال الوعظ والنصيحة ، وبدا هذا الأسلوب جليّاً في عهد عثمان بن عفان حيث كان
لا يقبل التوجيه والنصيحة . 3 ـ تقديم المثل الأعلى للإسلام والصورة الحقيقية لطبيعة
وشكل الحكم والمجتمع الإسلامي ، وقد ظهر هذا واضحاً في فترة حكومة الإمام (عليه
السلام) ، وعلى هذا الأساس استند قبول الإمام للحكم بعد أن رفضه ، فقد مارس دور
القائد السياسي المحنّك والحاكم العادل ونموذج الإنسان الذي صاغته الرسالة
الإسلامية وكان مثالاً يُحتذى به لبلوغ هدف الرسالة ، فهو المعصوم عن الخطأ
والزلل والدنس في الفكر والعمل والسيرة . 4 ـ تربية وبناء ثلّة صالحة من المسلمين تُعين الإمام (عليه
السلام) في حركته الإصلاحية والتغييرية ، وذلك عبر تحرّكها في وسط الأمة لإنضاج
أفكارها وتوسيع قاعدة الفئة الواعية الصالحة ، وتستمر في مسيرها عبر التأريخ
لتتواصل الأجيال اللاحقة في العمل وفق النهج الإسلامي (أهل
البيت تنوّع أدوار ووحدة هدف للشهيد السيد محمّد باقر الصدر : 59 ـ 69 .) . 5 ـ إحياء سنّة رسول الله (ص)
والتنبيه عليها وتدوينها والاهتمام بالقرآن تلاوةً وحفظاً وتفسيراً وتدويناً ،
إذ هما عماد الشريعة، ولابدّ أن تدرك الأمة حقائق القرآن والسنّة كما شُرّعت
وكما أريد لها أن تفهمها . |
|
الثقافة الإسلامية في
حكم الخلفاء :
|
|
للمزيد من التفصيل راجع معالم المدرستين للسيد
مرتضى العسكري : 2 / 43 . من أخطر المشاكل التي تواجهها الرسالات والعقائد هو تصدّي
الفئات العاجزة والفارغة فكرياً للدفاع عنها أو تطبيقها ، وحين يتعرّض المتصدّون
للزعامة للاختبار لمعرفة رأي الرسالة ومدى علمهم بها فإنّ سكوتهم أو اختلافهم
سيزرع شكّاً لدى الجماهير ويزعزع ثقتهم بالرسالة ومقدرتها على مجاراة الحياة ،
ومن ثَمّ يتحوّل الشكّ إلى حالة مرضية تجعل الأمة تتقاعس عن التفاعل مع الرسالة
أو الدفاع عنها في معترك الصراعات وخضمّ الأزمات ، ومن هنا نجد تصدّي النبيّ
(صلّى الله عليه وآله) لكلّ قضيّة غامضة أو مجهولة تبدو هنا أو هناك في حياة
الأمة حيث يعطي الموقف الواضح للرسالة منها ، كما ترى ذلك جليّاً في سيرة الإمام عليّ (ع) من بعده خلال حكم الخلفاء الثلاثة حين
كان يظهر للناس عجزهم وقصورهم العلمي والعملي ، إذ فسح (ع)
المجال إلى أقصاه للبحث والسؤال عندما تسلّم زمام الحكم. وحين أدركت الفئة الحاكمة أنّها ليست المؤهّلة
للحكم وأنّها قاصرة علمياً ؛ اتّخذت عدّة إجراءات لمعالجة هذه المثالب منها : 1 ـ منع نشر أحاديث رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لما
فيها من التوجيه العلمي والبعث نحو الوعي والفاعلية في الحياة ، إضافةً إلى أنّ
أحاديث الرسول تعلن بوضوح أنّ أهل البيت هم المعنيّون بالخلافة وشؤون الرسالة
دون من عداهم ، ومن هنا نعلم السرّ في رفع شعار (حسبنا كتاب الله) الذي تحدّى
قائله به رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في مرضه عندما أراد أن يدوّن كتاباً
لن تضلّ الأمة من بعده . ويبدو أنّ ظاهرة تحديد أو منع نشر أحاديث النبيّ بدأت قبل
هذا التأريخ ، وذلك عندما منعت قريش عبد الله بن عمرو بن العاص بن كتابة
الأحاديث (سنن الدارمي : 1 / 125 ،
وسنن أبي داود : 2 / 262 ، ومسند أحمد : 2 / 162 وتذكرة الحفّاظ : 1 / 2 .) ، كما قامت السلطة الحاكمة بحرق
الكتب التي تضمّنت نصوصاً من أحاديث الرسول (طبقات
ابن سعد : 5/ 140 ط ، بيروت .)
. 2 ـ إنّ ظاهرة النهي عن السؤال عمّا لا يُعلم من معاني
الآيات القرآنية تعني تجريد الأمة من سلاح البحث والتحقيق والتعلّم للقرآن نفسه
بعد عزل السنّة عن القرآن ، والاهتمام بظواهر القرآن من دون فسح المجال للتدبّر
والتفقّه في آياته وأحكامه حتى أوصى عمر عمّاله قائلاً : (جرّدوا القرآن وأقلّوا
الرواية عن محمّد وأنا شريككم) . بل إنّه عاقب كلّ من يسأل عن تفسير آيات القرآن
(تاريخ
ابن كثير : 8 / 107 ، وسنن الدارمي : 1 / 54 ، وتفسير الطبري : 3 / 38 والإتقان
للسيوطي : 1 / 115.) . 3 ـ فتح باب الاجتهاد في مقابل النصّ ، فقد اجتهد أبو بكر في
جملة من الأحكام من دون أن يستند إلى نصّ قرآني أو حديث عن رسول الله (صلّى الله
عليه وآله) ، ومن ذلك مصادرة تركة النبيّ ومنع أهل البيت من حقّهم في الخمس ،
وإحراقه الفجاءة السلمي (تأريخ الطبري : 2 / 448 ط
مؤسسة الأعلمي .) وفتواه في مسألة الكلالة (سنن
الدارمي : 2 / 365 ، والسنن الكبرى للبيهقي : 6 / 223 .) وفتواه في إرث الجدّة (سنن
الدارمي : 2 / 359 ، واُسد الغابة : 3 / 299 .) ، كما اجتهد عمر بن الخطّاب في
التمييز في العطاء خلافاً لسنّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) (فتوح
البلدان : ص 55 ، وتأريخ الخلفاء للسيوطي : 136 .) واجتهد في منع متعتي الحجّ والنساء
وغيرها ممّا تجده في كتاب (النصّ والاجتهاد) (كنز
العمال : 16 / 519 الحديث 45715 ، وزاد المعاد لابن القيم : 2 / 205 ز) ، وقد اجتهد عثمان بن عفّان في إسقاط
القود عن عبيد الله بن عمر (راجع منهاج السنّة لابن
تيمية : 3 / 193 ، وهناك اجتهادات كثيرة للخلفاء تذكرها كتب التأريخ .) وتأوّل في جملة من الأحكام الصريحة
خلافاً لما قرّره رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حتى ثار عليه المسلمون كما
عرفت . كلّ هذه الأمور وغيرها أثارت للدولة الإسلامية
وللأمة المسلمة الكثير من المصاعب والمصائب التي كانت السبب الرئيس في انحراف المسيرة المقرّرة للرسالة
الإسلامية ووقوع الكثيرين في شِباك الفتن والضلالة حتى قال
الإمام عليّ (ع) عن ذلك : (إنّما بدء وقوع الفتن أهواء تتّبع وأحكام
تبتدع ، يخالف فيها كتاب الله ، ويتولّى عليها رجالٌ رجالاً على غير دين الله ،
فلو أنّ الباطل خلص من مزاج الحقّ ؛ لم يخف على المرتادين ، ولو أنّ الحقّ خلص
من لبس الباطل ، انقطعت عنه ألسن المعاندين ، ولكن يؤخذ من هذا ضغث ومن هذا ضغث
فيمزجان فهنالك يستولي الشيطان على أوليائه ، وينجو الذين سبقت لهم من الله
الحسنى) (نهج
البلاغة : الخطبة (50) .) . |
|
جهود الإمام (عليه السلام) في إحياء الشريعة الإسلامية :
|
|
كان الإمام عليّ (عليه السلام) يرى أن من أوليّات مهامّه بعد
غياب الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) هو صيانة الشريعة المقدسة من الزيغ
والانحراف ورعاية شؤون الدّولة الإسلامية حتى تستمر من دون تلكؤ أو توقّف ، وقد
بذل جهده في ذلك أثناء حكم الخلفاء متغاضياً بمرارة وألم عن حقّه في إدارة شؤون
الأمة مباشرة ، وما أن أمسك زمام الحكم ؛ حتى خطا خطوات عظيمة في إحياء سنّة
رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وفي الدعوة إلى الحياة في ظلّها ، واهتم
اهتماماً كبيراً بالقرآن الكريم وتفسيره وتربية الأمة وإصلاح الفساد أَينما وجد
، ويمكننا أن نلحظ الخطوات التي قام بها الإمام عليّ
(عليه السلام) كما يلي : 1 ـ فتح باب الحوار والسؤال عن القرآن والسنّة وكلّ ما
يتعلّق بالشريعة المقدّسة أمام الجماهير المسلمة وبصورة علنية وعامّة من دون أن
يتردّد حتى في جواب مخالفيه وأعدائه الحاقدين عليه . 2 ـ الاهتمام بالقرّاء مراعياً لشؤونهم ومتّبعاً فيهم سنّة
الرسول (صلّى الله عليه وآله) في التعليم ، فكان تعليم قراءة القرآن مقروناً
بتعلّم ومعرفة ما فيه من العلم والعمل والتفقّه في أحكام الدين . 3 ـ الاهتمام بقراءة المسلمين من غير العرب ، أو من الذين لا
يحسنون اللغة العربية بصورة صحيحة ، فوضع علم النحو لتقويم اللسان عن اللحن في
الكلام (الأغاني
: 12 / 13 ، الفهرست لابن النديم : 59 ، وفيات الأعيان ك 2 / 216 ، والبداية
والنهاية ك 8 / 312 .) . 4 ـ دعا الإمام (عليه السلام) إلى رواية السنّة النبوية
وتدوينها ومدارستها ، فكان يقول : (قيّدوا العلم
بالكتابة) (الطبقات الكبرى : 6 / 186 ،
وتدوين السنّة الشريفة للسيد الجلالي : 137 .) وأمر (ع)
بالبحث في علوم السنّة فيقول : (تزاوروا وتدارسوا الحديث ولا تتركوه يدرس) (كنز
العمال ك 10 حديث 29522 .) . 5 ـ ركّز الإمام على مصدرية القرآن والسنّة في التشريع
والأحكام ، وأدان المصادر الأخرى كالاستحسان والقياس وغيرهما ممّا لا يكون
مصدراً شرعياً للأحكام الإلهية (نهج البلاغة : الخطبة (125)
.) . كما أنّ الإمام (ع) أحيى سنّة رسول الله (ص) في سيرته العبادية والأخلاقية ،
فعالج البدع التي طرأت على الشريعة نتيجة اجتهاد وإبداع من سبقه من الخلفاء (صحيح
مسلم : كتاب صلاة التراويح ، ومسند أحمد : 5 / 406 ، وصحيح البخاري : كتاب الخمس
: باب 5 / حديث 2944 ، وسنن أبي داود : 2 / حديث 1622 .) . 6 ـ استطاع الإمام أن يبني ثلّةً صالحةً من المؤمنين تتحرّك
في المجتمع الإسلامي للمساهمة في قيادة التجربة الإسلامية والمحافظة على المجتمع
الإسلامي . ويبدو أنّ الإمام عليّاً (عليه السلام) بدأ عملياً في هذا
المسار منذ حياة الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله) وبأمر منه ، فنجد أن
النبيّ كان يُوكل مهمّة تعهّد ورعاية من يجد فيهم الرغبة والوعي في التحرك
الإسلامي إلى الإمام علي (عليه السلام) ، وكان (صلّى الله عليه وآله) يحثّ على
التمسّك في العمل بخط عليّ حتى تكوّنت جماعة عرفت بشيعة عليّ في حياة الرسول
(صلّى الله عليه وآله) مثل : عمار بن ياسر ، وسلمان الفارسي ، وأبي ذر ، وجابر
بن عبد الله الأنصاري ، والمقداد بن الأسود ، وعبد الله بن عباس ، ممّن ثبتوا
على هذا الخطّ رغم كلّ الظروف الصعبة التي مرّت بها التجربة الإسلامية بعد وفاة
الرسول (صلّى الله عليه وآله) . وحين استلم أمير المؤمنين (ع)
الخلافة ؛ احتفّت به جماعة من المؤمنين الأوفياء الأشدّاء ، فازداد الإمام (ع) اعتناءً بهم وأعدّهم إعداداً رسالياً خاصاً
، وأودعهم علوماً شتّى في مختلف نواحي الحياة ، وقام هؤلاء الصحابة الأجلاّء
بدورهم في دعم الرسالة الإسلامية ومساندة الإمامة والمحافظة على الشريعة من
الزيغ والانحراف والاندثار ، فكانت مواقفهم رائعة وبطولية مقابل الحكّام
الطواغيت والمتسلّطين بغير حقّ على أمور المسلمين ، ومن هؤلاء : مالك الأشتر ،
كميل بن زياد النخعي ، محمد بن أبي بكر ، حجر بن عدي ، عمرو بن الحمق الخزاعي ، صعصعة
بن صوحان العبدي ، رشيد الهجري ، هاشم المرقال ، قنبر ، سهل بن حُنيف وغيرهم . |
|
الفصل الثاني:
|
|
الإمام علي (ع) مع الناكثين (وقعت معركة الجمل في
جمادي الآخرة عام (36) هـ.)
|
|
مثيروا الفتن :
|
|
كانت بيعة الناس لأمير المؤمنين (عليه السلام) بمنزلة صاعقة
حلّت بقريش وكلّ من يكنّ العداء للإسلام ، فحكومة الإمام هي امتداد لحكومة رسول
الله (صلّى الله عليه وآله) التي أذلّت الظلم والعدوان والبغي ، وجاءت بالعدل
والمساواة والحقّ والفضيلة ، وحطّمت المصالح الاقتصادية القائمة على الربا
والاحتكار والاستغلال ، فعزّ على كثير من كبار قريش أن يكونوا على قدم المساواة
مع أيّ مواطن آخر من أيّ فئة كانت في حكومة الإمام عليّ (عليه السلام) الذي طالت
إصلاحاته ولاة عثمان . وقد كان كلّ من طلحة والزبير يرى نفسه قريناً لأمير المؤمنين
(عليه السلام) ، بعدما رشّحهما عمر للخلافة فكان يتوقّع كلّ منهما أن يلي حكومة
جزء كبير من البلاد الإسلامية على أقلّ تقدير ، وكان لعائشة المقام المرموق لدى
الخلفاء السابقين حيث كانت تتحدّث كما تشاء ، وهي الآن تعلم أن لا مجال لها في
حكومة تعتمد القرآن والسنّة مصدراً ودستوراً للتشريع والتنفيذ . وكان معاوية يتصرّف في الشام تصرّف الحاكم المطلق المتفرّد
والمطامع في السيادة الإسلامية العظمى جادّاً في تولّي أمور الأمة الإسلامية
بصورة تامّة ، فكانت المفاجأة لجميع هؤلاء بقرارات الإمام وتخطيطه للإصلاح
الشامل إضافةً إلى تضرّر مجموعة أو مجموعات كانت تستغل مناصبها في عهد عثمان وهي
الآن قد فقدت مصدر ثرواتها ، فإنّ وجود الإمام في قمّة السلطة كان يُعدّ تهديداً
صارخاً للخطّ القبلي المنحرف الذي سارت عليه قريش . لأنّ الإمام عليّاً (عليه
السلام) قد عرف بأنّه القادر على رفع راية الإسلام الحق من دون أن تأخذه في الله
لومة لائم ، ولهذا فهو سيكشف زيف الخطّ المنحرف دون تردّد . من هنا اجتمعت آراؤهم وأهواؤهم على إثارة الفتن للحيلولة دون
استقرار الحكم الجديد ، ولم يكن تقلّب الوضع السياسي ووجود العناصر المعادية
للاتّجاه الصحيح لمسيرة الحكومة الإسلامية غريباً على الإمام عليّ (ع) ؛ فقد
أخبره النبي (ص) بتمرّد بعض الفئات على حكمه ، وعهد إليه بقتالهم كما أنّه قد
سمّاهم له بالناكثين والقاسطين والمارقين (مستدرك
الحاكم : 3 / 139 ، وتأريخ بغداد : 8 / 340 ، ومجمع الزوائد : 9 / 235 ، وكنز
العمال : 6 / 82 .) . |
|
عائشة تعلن التمرّد :
|
|
كان موقف السيّدة عائشة من عثمان غريباً متناقضاً لا يليق
بمقام امرأة تعدّ من نساء النبي (صلّى الله عليه وآله) ، فكانت تردّد قولها :
(اقتلوا نعثلاً) ، وتحرّض الناس على التمرّد عليه وعلى قتله (شرح
ابن أبي الحديد : 6 م 215 ، وكشف الغمة ك 3 / 323 .) ، وقد خرجت من المدينة إلى مكّة أثناء
محاصرة عثمان من قبل الثوار وهي تتوقّع النهاية السريعة لعثمان ، ومن ثمَّ فوز
قريبها طلحة بالخلافة ، والاستيلاء على الحكم . وحين فوجئت بأنّ الأمر قد استقرّ ـ بعد بيعة الناس إلى الإمام عليّ (ع) ، كرّت راجعة نحو مكّة بعد أن كانت قد
عزمت على الرجوع إلى المدينة (الكامل في التأريخ : 3 / 206
.)
، وأعلنت حزنها وتظلّمها على عثمان ،
فقيل لها : أنتِ التي حرّضت على قتله فاختلقت عذراً واهياً ، فقالت : إنّهم
استتابوه ثمّ قتلوه (الكافي في التأريخ : 3 / 206
.)
. وكأنّها كانت حاضرة تشهد مقتله . وأعلنت السيدة عائشة حربها ضدّ الإمام عليّ (ع) في خطابها الذي ألقته في مكّة محرّضة أتباعها
على الحرب (تأريخ الطبري : 3 / 474 .) . وطمعت السيدة عائشة في توسيع جبهتها ضدّ الإمام عليّ (عليه
السلام) فحاولت مخادعة أزواج النبيّ (صلّى الله عليه وآله) للخروج معهنّ ضدّ
الإمام ، فامتنعن من ذلك ، وحاولت أم سلمة أن تنصحها عسى أن ترجع عن غيّها ،
وتجنّب الأمة البلاء والدماء ، فقالت لها : إنّك كنت بالأمس تحرّضين على عثمان
وتقولين فيه أخبث القول وما كان اسمه عندك إلا نعثلاً ، وإنّك لتعرفين منزلة
عليّ بن أبي طالب عند رسول الله (ص) ، أفأذكِّرك ؟ قالت أم سلمة : أتذكرين يوم
أقبل (عليه السلام) ونحن معه حتى إذا هبط من قديد ذات الشمال خلا بعليّ يناجيه ،
فأطال فأردت أن تهجمين عليهما فنهيتك فعصيتِني فهجمتِ عليهما ، فما لبثتِ أن
رجعت باكية ، فقلتُ : ما شأنك ؟ فقلتِ : إنّي هجمت عليهما وهما يتناجيان ، فقلتُ
لعليّ : ليس لي من رسول الله (ص) إلاّ يوم من تسعة أيام أفما تدعني يا ابن أبي
طالب ويومي ؟ فأقبل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) عليَّ وهو غضبان محمرّ
الوجه ، فقال : (ارجعي وراءك والله لا يبغضه أحدٌ من
أهل بيتي ولا من غيرهم من الناس إلاّ وهو خارج من الإيمان) ، فرجعتِ
نادمة ساخطة ، قالت عائشة : نعم أذكر ذلك ، قالت أم سلمة : أيّ خروج تخرجين بعد
هذا ؟ فقالت عائشة : إنّما أخرج للإصلاح بين الناس ، وأرجو فيه الأجر إن شاء
الله ، فقالت أم سلمة : أنتِ ورأيكِ ، فانصرفت عائشة عنها (شرح
النهج لابن أبي الحديد : 6 / 217 ، وبحار الأنوار ك 32 / 149 .) . وروي : أنّ نساء النبيّ (صلّى الله عليه وآله) خرجن مع عائشة إلى
منطقة (ذات عرق) ويبدو أنّهنّ حاولن إرجاع عائشة إلى المدينة والحيلولة دون وقوع
الفتنة ، فلم يتوصّلن إلى حلّ فبكين على الإسلام وبكى الناس معهنّ ، وسمّي ذلك
اليوم بـ (يوم النحيب) (الكامل في التاريخ: 209/3.) . |
|
مكر معاوية ونكث
الزبير وطلحة للبيعة :
|
|
كان معاوية يتمتّع بسيطرة إدارية على شؤون الشام ، ولديه
أجهزة يستطيع بها أن يحرّكها وفق رغباته وأهوائه ، وما كانت لديه مشكلة مع
جماهير الشام لأنّ بلاد الشام منذ عرفت الإسلام عرفت آل أبي سفيان ولاة عليها من
قبل الخليفة ، فقبله كان أخوه يزيد والياً عليها ، كما أنّ بلاد الشام بعيدة عن
عاصمة الخلافة ممّا أعطاه قدراً كافياً من الاستقرار والقوّة . وبدأ معاوية
تحرّكه السياسي لتأجيج الفتنة المشتعلة بسبب مقتل عثمان ، ومن ثَمَّ ليستثمرها
لصالحه ، فخاطب الزبير وطلحة بصيغة تحرّك فيهما الأطماع والرغبات للدخول في
الصراع الجديّ ضدّ الإمام (عليه السلام) فتزداد الفتنة في العاصمة المركزية .
فكتب رسالة إلى الزبير جاء فيها : لعبد الله الزبير أمير المؤمنين من معاوية بن أبي سفيان ..
سلام عليك ، أمّا بعد ، فإنّي قد بايعت لك أهل الشام فأجابوا واستوسقوا كما
يستوسق الجلب ، فدونك الكوفة والبصرة لا يسبقك إليها ابن أبي طالب ، فإنّه لا
شيء بعد هذين المصرين ، وقد بايعت لطلحة بن عبيد الله من بعدك فأظهر الطلب بدم
عثمان وادعوا الناس إلى ذلك ، وليكن منكما الجدّ والتشمير ، أظفركما الله وخذل
مناوئكما (شرح النهج لابن أبي الحديد:
231/1.) . ولمّا وصلت رسالة معاوية إلى الزبير ؛ خفّ لها طرباً واطمأنّ
إلى صدق نيّة معاوية ، واتفق هو وطلحة على نكث بيعة الإمام والخروج عليه ، فأظهر
الحسرة والتأسف على بيعتهما للإمام مردّدين : بايعنا مكرهين ، وما أن وصلت إلى
أسماعهما صيحة السيدة عائشة محرّضة على الإمام ؛ حتى اجتهدا في إيجاد الحيلة
للخروج إليها . وروي أنّهما جاءا يطلبان من الإمام المشاركة في الحكم فلم
يتوصّلا إلى شيء ، فقرّرا الالتحاق بعائشة ثمّ عادا ثانية إلى الإمام (ع) ليستأذناه للخروج للعمرة ، فقال لهما الإمام (ع) : نعم، والله ما
العمرة تريدان وإنّما تريدان أن تمضيا لشأنكما (الإمامة
والسياسة لابن قتيبة : 70 .) . وروي أنّه (عليه السلام) قال لهما : بل تريدان الغدرة (شرح
النهج : 1 / 232 .) . لقد أجمع رأي الخارجين على بيعة الإمام (عليه السلام) في بيت
عائشة في مكّة بعد أن كانوا متنافرين متحاربين في عهد عثمان ، فضمّ الاجتماع
الزبير وطلحة ومروان بن الحكم على أن يتّخذوا من دم عثمان شعاراً لتعبئة الناس
لمحاربة الإمام عليّ (عليه السلام) ، فرفعوا قميص عثمان كشعار للتمرّد والعصيان
، وأنّ الإمام عليّاً (عليه السلام) هو المسؤول عن إراقة دم عثمان ، لأنه آوى
قتلته ولم يقتصّ منهم ، وقرّروا أن يكون زحفهم نحو البصرة واحتلالها واتّخاذها
مركزاً للتحرّك ومنطلقاً للحرب ، حيث أنّ معاوية يسيطر على الشام ، والمدينة لا
زالت تعيش حالة الاضطراب (تأريخ الطبري : 3 / 471 ط
مؤسسة الأعلمي .) . |
|
حركة عائشة ومسيرها نحو البصرة :
|
|
مضت عائشة في خطّتها لإثارة الفتنة والدخول في المواجهة
المسلّحة مع الإمام عليّ (ع) الخليفة الشرعي ، فحشدت أعداداً من الناس يدفعهم
الحقد والكراهية للإسلام وللإمام عليّ (ع) ويحدوهم الطمع بالدنيا ونيل السلطان ،
وجهّزهم يعلى بن منية بمستلزمات الحرب من السيوف والإبل التي سرقها من اليمن
عندما عزله الإمام عنها ، وقدم عليهم عبد الله بن عامر بمال كثير من البصرة سرقه
أيضاً (الإمامة
والسياسة : 79 ، والكامل في التأريخ : 3 / 207 .) . وجهّزوا لعائشة جملها المسمّى (عسكر) وقد احتفّ بها بنو أمية وهي
تتقدّم أمام الحشد الزاخر متوجّهين نحو البصرة ، تسبقهم كتبهم التي أرسلوها إلى
عدد من وجوه البصرة ، يدعونهم فيها للخروج على بيعة الإمام
(ع) بدعوى المطالبة بدم عثمان (الإمامة
والسياسة : 80 ، الكامل في التأريخ : 3 / 210 .). وبدرت سمة المكر والخداع ـ التي تكاد تكون ملازمة لكلّ من
ناوأ الإمام عليّاً (عليه السلام) ـ من زعماء الفتنة ، فلمّا خرجوا من مكّة أذّن
مروان بن الحكم للصلاة ، ثمّ جاء حتّى وقف على طلحة والزبير محاولاً إثارة
الوقيعة بين الرجلين وغرس فتنة ليستغلّها إن تمكّن من الأمر ، فقال : على أيّكما
أُسلِّم بالإمرة وأُؤذَّن بالصلاة ، فتنافس أتباع الرجلين كلّ يريد تقديم صاحبه
، فأحسّت عائشة بوقوع التفرقة فأرسلت أن يصلّي بالناس ابن أختها عبد الله بن
الزبير . وحين وصل جيش عائشة إلى منطقة (أوطاس)
؛ لقيهم سعيد بن العاص والمغيرة بن شعبة ، وحين علم سعيد بدعوى عائشة (الطلب بدم عثمان) استهزأ ضاحكاً وقال : فهؤلاء قتلة
عثمان معك يا أم المؤمنين (الإمامة والسياسة : 82 .) ! . وروي : أنّ سعيداً قال : أين تذهبون وتتركون ثأركم وراءكم
على أعجاز الإبل (الكامل في التأريخ : 3 / 209
.) ؟! ، يقصد بذلك طلحة والزبير وعائشة ، ووصل الجيش إلى مكان
يقال له : (الحوأب) فتلقّتهم كلاب الحيّ بنباح وعواء ، فذعرت عائشة وسألت محمد
بن طلحة عن المكان فقالت : أيّ ماء هذا ؟ فأجابها : ماء الحوأب يا أم المؤمنين
.. فهلعت وصرخت : ما أراني إلاّ راجعة ، قال : لِمَ ،
قالت : سمعت رسول الله (ص) يقول لنسائه : كأنّي بإحداكنّ قد نبحها كلاب
الحوأب وإيّاك أن تكوني يا حميراء (الإمامة
والسياسة : 82 ، وأخرج الحديث أحمد في مسنده : 6 / 521 ، وشرح النهج لابن أبي
الحديد : 2 / 497 .) . ثمّ ضربت عضد بعيرها فأناخته وقالت : ردّوني ، أنا والله
صاحبة ماء الحوأب ، فأناخوا حولها يوماً وليلة ، وجاءها عبد الله بن الزبير فحلف
لها بالله انه ليس ماء الحوأب ، وأتاها ببيّنة زور من الأعراب فشهدوا بذلك (الإمامة
والسياسة : 82 ، مروج الذهب : 2 / 395 .) . فكانت أوّل شهادة زور في الإسلام . |
|
مناوشات على مشارف البصرة :
|
|
حين شارف جيش عائشة مدينة البصرة ؛ قام عثمان بن حنيف والي
الإمام (عليه السلام) على البصرة موضّحاً أمر الجيش المتقدم إليهم ، ومحذّراً
الناس من الفتنة وبطلان وضلالة موقف زعماء الجيش ، وأعلن المخلصون للإسلام وللإمام (ع) استعدادهم للدفاع عن الحقّ والشريعة
المقدّسة وصدّ الناكثين عن الاستيلاء على البصرة (الإمامة
والسياسة : 83 .). وفي محاولة من عثمان بن حنيف ـ الذي يتأسّى بأخلاق الإسلام
ويطيع إمامه (عليه السلام) ـ سعى أن يثني عائشة ومَن معها من غيّهم لتجنّب وقوع
القتال ، فأرسل إليهم عمران بن حصين وأبا الأسود الدؤلي ليحاججوا عائشة ومن معها
ببطلان موقفهم ، ولكن محاولات الرجلين باءت بالفشل ، فقد كانت عائشة ومعها طلحة
والزبير مصرّين على نيّتهم في إثارة الفتنة وإعلان الحرب (تاريخ
الطبري : 3 / 479 ط مؤسسة الأعلمي ، والكامل في التأريخ : 3 / 211 .) . وأقبلت عائشة ومن معها حتى انتهوا إلى (المربد) فدخلوا من
أعلاه وخرج إليهم عثمان بن حنيف ومن معه من أهل البصرة ، فتكلّم طلحة والزبير
وعائشة يحرّضون الناس على الخروج على بيعة الإمام (عليه السلام) بدعوى الثأر
لعثمان ، فاختلف الناس بين معارض ومؤيّد . وأقبل جارية بن قدامة السعدي لينصح عائشة عسى أن يردّها عن
تأجيج الفتنة ، فقال : يا أم المؤمنين ! والله لقتل عثمان بن عفان أهون من خروجك
من بيتك على هذا الجمل الملعون ، عرضة للسلاح ، إنّه قد كان لك من الله ستر
وحرمة فهتكتِ سترك وأبحت حرمتك ، إنّه من رأى قتالك ؛ فإنّه يرى قتلك ، لئن كنت
أتيتنا طائعةً فارجعي إلى منزلك، وإن كنت أتيتنا مستكرهة فاستعيني بالناس (تأريخ
الطبري : 3 / 482 ط مؤسسة الأعلمي ، والكامل في التأريخ : 3 / 213 .) . |
|
الاقتتال ـ الهدنة ـ الغدر :
|
|
افتتن الناس بقدوم عائشة على البصرة ، فبين منكر ومؤيّد ومصدّق
ومكذّب افترقت جماهير البصرة ، وتأزّم الموقف ، فاصطدم الناس واقتتلوا على فم
السكّة ، ولم يحجز بينهم إلاّ الليل ، وكان عثمان بن حنيف لا يريد إراقة الدماء
ويجنح للسلم وينتظر قدوم الإمام عليّ (عليه السلام) إلى البصرة ، فلمّا عضّت
الحرب الطرفين ؛ تنادوا للصلح ، فكتبوا كتاباً لعقد هدنة مؤقّتة على أن يبعثوا
رسولاً إلى المدينة يسأل أهلها ، فإن كان طلحة والزبير اُكرها على البيعة ؛ خرج
ابن حنيف عن البصرة ، وإلاّ خرج عنها طلحة والزبير (الإمامة
والسياسة : 87 ، والطبري : 3 / 483 ط مؤسسة الأعلمي ، وراجع الكامل في التأريخ :
3 / 215 .) . وعاد كعب بن مسور رسول الطرفين إلى المدينة بادّعاء أسامة بن
زيد أنّ طلحة والزبير بايعا مكرهين ومخالفة أهل المدينة لرأي أسامة فاستغلّها
زعماء جيش عائشة ، فهجموا في ليلة ذات رياح ومطر على قصر الإمارة حيث يتواجد
عثمان بن حنيف فقتلوا أصحابه وأسروا ونتفوا لحيته ورأسه وحاجبيه ، ولكنّهم خافوا
من قتله لأنّ أخاه سهل بن حنيف والي الإمام على المدينة (الإمامة
والسياسة : 89 ، وتأريخ الطبري : 3 / 484 ط مؤسسة الأعلمي ، ومروج الذهب
للمسعودي : 2 / 367 .) . |
|
حركة الإمام (عليه السلام) للقضاء على التمرّد :
|
|
الإمامة والسياسة : 74 ،
وتأريخ الطبري : 5 / 507 . حين استلم الإمام عليّ (عليه السلام) زمام الحكم كانت هناك
عقبة أمام استقرار الأمن وسيطرة الحكومة الشرعية المركزية ، وهي إعلان معاوية بن
أبي سفيان تمرّده على خلافة الإمام ، فشرع (عليه السلام) بالاستعداد العسكري
والسياسي لإيقاف التمزّق في كيان الأمة ومنع سفك الدماء . وما أن اُحيط الإمام (عليه السلام) علماً بحركة عائشة وطلحة
والزبير نحو البصرة وإعلانهم العصيان عدل عمّا كان يخطّط لمعالجة موقف معاوية
والشام ، فاتّجه (عليه السلام) نحو البصرة بجيش يضمّ وجوه المهاجرين والأنصار . وصل الإمام (عليه السلام) إلى منطقة (الربذة) فكتب إلى
الأمصار يستمدّ العون ويوضّح الأمر ، كي يتوصّل إلى إخماد نار الفتنة وحصرها في
أضيق نطاق ، فأرسل إلى الكوفة محمد بن أبي بكر ومحمد بن جعفر ، فأبى أبو موسى
الأشعري الاستجابة للإمام ومارس دور المثبّط عن مناصرة الإمام (عليه السلام) في
موقفه ، ثمّ أرسل عبد الله بن عباس ولم يتمكّن من إقناع أبي موسى بالانصياع
والكفّ عن تثبيط الناس عن نصرة الإمام ، فأرسل (عليه السلام) ولده الحسن وعمار
بن ياسر ثمّ تبعهم مالك الأشتر فعزلوا أبا موسى ، وتحرّكت الكوفة بكلّ ثقلها
تنصر أمير المؤمنين (عليه السلام) ، فلحقت به في (ذي قار) . وفي هذا الأثناء لم يتوقّف الإمام (عليه السلام) في مراسلة
طلحة والزبير وإيفاد الرسل إليهم ، عسى أن يعودوا لرشدهم ويدركوا خطورة فتنتهم
فيجنّبوا الأمة المصائب والبلايا وسفك الدماء ، فأوفد إلى عائشة زيد بن صوحان
وعبد الله بن عباس وغيرهما ، فحاوروهم بالحجّة والدليل والعقل حتى أنّ عائشة
قالت لابن عباس : لا طاقة لي بحجج عليّ ، فقال ابن عباس : لا طاقة لك بحجج
المخلوق فكيف طاقتك بحجج الخالق (الإمامة والسياسة ك 90 ،
وبحار الانوار : 32 / 122 .) ؟! |
|
آخر النصائح :
|
|
أكثر الإمام (عليه السلام) من مراسلة طلحة والزبير بعد أن
شارفت قواته على أبواب البصرة ، فخشيت عائشة ومن معها من اقتناع قادتها وجموع
الناس معها بحجج الإمام (عليه السلام) فخرجوا لملاقاته ، فلمّا توقّفوا للقتال
أمر الإمام (عليه السلام) منادياً ينادي في أصحابه : لا
يرمينّ أحد سهماً ولا حجراً ولا يطعن برمح حتى أُعذر القوم فأتّخذ عليهم الحجّة
البالغة (الإمامة والسياسة : 91 ،
ومروج الذهب : 2 / 270 .) . فلم يجد الإمام (عليه السلام) منهم إلاّ الإصرار على الحرب ،
ثمّ خرج الإمام (عليه السلام) إلى الزبير وطلحة فوقفوا ما بين الصفّين ، فقال
الإمام (عليه السلام) لهما : لعمري لقد أعددتما
سلاحاً وخيلاً ورجالاً ، إن كنتما أعددتما عند الله عذراً فاتّقيا الله ولا
تكونا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً ، أَلم أكن أخاكما في دينكما ؟
تحرّماني دمي وأُحرّم دمكما فهل من حدث أحلّ لكما دمي ؟ ثمّ قال (عليه السلام) لطلحة : أجئت
بعرس رسول الله (صلّى الله عليه وآله) تقاتل بها وخبّأت عرسك في البيت ؟! أما
بايعتني ؟ ثمّ قال (عليه السلام) للزبير : قد
كنا نعدّك من بني عبد المطلب حتى بلغ ابنك ابن السوء عبد الله ففرّق بيننا
، ثمّ قال (عليه السلام) : أتذكر يا زبير يوم مررت مع
رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في بني غنم ، فنظر إليّ فضحك وضحكت إليه فقلتَ
له : لا يدع ابن أبي طالب زهوه ، فقال لك رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : ليس
بِمُزهٍ ـ أي : ليس به زهو ـ لتقاتله وأنت له
ظالم ؟! قال الزبير : اللَّهُم نعم . وروي : أنّ الزبير اعتزل الحرب وقتل بعيداً عن ساحة الحرب
بعد أن استعرت الفتنة (الإمامة والسياسة : 91 ،
ومروج الذهب 2 / 270 .) . كما أنّ طلحة قتله مروان بن الحكم في ساحة المعركة
(الطبقات
الكبرى : 3 / 158 ، والإمامة والسياسة : 97 .) . |
|
نشوب المعركة :
|
|
كان الإمام (ع) طامحاً حتى
آخر لحظة قبل نشوب القتال أن يرتدع الناكثون عن غيّهم ، فلم يأذن بالقتال رغم ما
شاهد من إصرار زعماء الفتنة على المضي في الحرب ، فقال
(ع) لأصحابه : (لا يرمينّ رجل منكم بسهم ، ولا
يطعن أحدكم فيهم برمح حتى اُحدث إليكم ، وحتى يبدؤوكم بالقتال والقتل) (شرح
النهج : 9 / 111 .) . وشرع
أصحاب الجمل بالرمي فقتل رجل من أصحاب الإمام ، ثمّ قتل ثانٍ وثالث ، عندها
أَذِنَ (عليه السلام) (الإمامة والسياسة : 95 .) بالردّ عليهم والدفاع عن الحقّ
والعدل . التحم الجيشان يقتتلان قتالاً رهيباً ، فتساقطت الرؤوس
وتقطّعت الأيادي وأثخنت الجراحات في الفريقين ، ووقف أمير المؤمنين ليشرف على
ساحة المعركة فرأى أصحاب الجمل يستبسلون في الدفاع عن جملهم فنادى بأعلى صوته : (ويلكم اعقروا الجمل فإنّه شيطان ...) . فهجم الإمام (عليه السلام) وأصحابه حتى وصلوا الجمل فعقروه ،
ففرّ من بقي من أصحاب الجمل من ساحة المعركة فأمر (عليه السلام) بعد ذلك بحرق
الجمل وتذريّة رماده في الهواء لئلاّ تبقى منه بقية يفتتن بها السذّج والبسطاء ،
ثمّ قال الإمام (عليه السلام) : لعنه الله من دابّة ،
فما أشبهه بعجل بني إسرائيل . ومدّ
بصره نحو الرماد الذي تناثر في الهواء فتلا قوله تعالى : (... وَانظُرْ إِلَى إِلهِكَ الّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ
عَاكِفاً لّنُحَرّقَنّهُ ثُمّ لَنَنسِفَنّهُ فِي الْيَمّ نَسْفاً) (طه
(20) : 97 .) . |
|
مواقف الإمام بعد المعركة :
|
|
كتب الله النصر لأمير المؤمنين (عليه السلام) على مخالفيه ،
ووضعت الحرب أوزارها ، وانقشع غبار المعركة ، ونادى منادي الإمام (عليه السلام)
يعلن العفو العام : ألا لا يجهز على جريح ولا يتبع
مول ولا يطعن في وجه مدبر ، ومن ألقى السلاح فهو آمن ، ومن أغلق بابه فهو آمن ،
وأن لا يؤخذ شيء من أموال أصحاب الجمل إلاّ ما وجد في عسكرهم من سلاح أو غيره
ممّا استخدم في القتال ، وما سوى ذلك فهو ميراث لورثتهم (تأريخ
اليعقوبي : 2 / 172 ، ومروج الذهب : 2 / 371 .) . وأمر الإمام عليّ (عليه السلام) محمد بن أبي بكر وعمار بن
ياسر أن يحملوا هودج عائشة من بين القتلى وسط ساحة المعركة وينحّوه جانباً ، وأن
يتعهّد محمد أمر أخته عائشة ، فلمّا كان من آخر الليل أدخلها محمد البصرة
فأنزلها في دار عبد الله ابن خلف الخزاعي . وطاف الإمام (عليه السلام) في القتلى من أصحاب الجمل ، وكان
يخاطب كلاًّ منهم ويكرّر القول : قد وجدتُ ما وعدني
ربّي حقاً فهل وجدتَ ما وعدك ربّك حقاً . وقال أيضاً : ما ألوم اليوم من كفّ عنّا وعن غيرنا ولكنّ
المليم الذي يقاتلنا (الإرشاد للمفيد : 1 / 256 ط
مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) .) . وأقام الإمام (عليه السلام) في ظاهر البصرة ولم يدخلها ،
وأذن للناس في دفن موتاهم فخرجوا إليهم فدفنوهم (الكامل
في التأريخ : 3 / 255 .) ، ثمّ دخل (عليه السلام) مدينة البصرة معقل الناكثين ،
فانتهى إلى المسجد فصلّى فيه ثمّ خطب في الناس وذكّرهم بمواقفهم ومواقف الناكثين
لبيعته ، فناشدوه الصفح والعفو عنهم ، فقال (ع) :
(قد عفوت عنكم ، فإيّاكم والفتنة ، فإنّكم أوّل الرعيّة نكث البيعة ، وشقّ عصا
هذه الأمة)
. ثمّ أقبلت الجماهير ووجوه الناس لمبايعة الإمام (ع) (تأريخ
الطبري : 3 / 544 ، والإرشاد للشيخ المفيد : 137 .) . وبعد ذلك دخل أمير المؤمنين بيت المال في البصرة ، فلمّا رأى
كثرة المال قال : (غُرّي غيري ..) وكرّرها
مراراً ، وأمر أن يقسّم المال بين الناس بالسوية ، فنال كلّ فرد منهم خمسمائة
درهم ، وأخذ هو كأحدهم ، ولم يبقَ شيء من المال فجاءه رجل لم يحضر الوقعة يطالب
بحصّته ، فدفع إليه الإمام ما أخذه لنفسه ولم يصب شيئاً (شرح
النهج : 1 / 250 .) . ثمّ أمر أمير المؤمنين بتجهيز عائشة وتسريحها إلى المدينة ،
وأرسل معها أخاها وعدداً من النساء ألبسهنّ العمائم وقلّدهن السيوف لرعاية
شؤونها وأوصلنها إلى المدينة ، ولكنّ عائشة لم تحسن الظنّ بأمير المؤمنين
وتصوّرت أنّ الإمام لم يرعَ حرمتها ، وما أن علمت أنّ الإمام (عليه السلام) بعث
معها النساء ، أعلنت ندمها على خروجها وفشلها وإثارتها للفتنة ، فكانت تكثر من
البكاء (الإمامة
والسياسة : 98 ، ومروج الذهب للمسعودي : 2 / 379 ، والمناقب للخوارزمي : 115 ،
والتذكرة للسبط ابن الجوزي : 80 .) . |
|
نتائج حرب الجمل :
|
|
خلّفت حرب الجمل نتائج سلبيّة على واقع المجتمع
الإسلامي منها : 1 ـ توسّعت مسألة قتل عثمان بن عفّان حتى أصبحت قضية سياسية
كبيرة جرّت من ورائها ظهور تيارات مناوئة فعلاً وقولاً لمسيرة الرسالة الإسلامية
، فأطلّ معاوية بن أبي سفيان ليكمل مسيرة الانحراف الدموي في الجمل . 2 ـ شاعت الأحقاد بين المسلمين ، وفتحت باب الحرب والاقتتال
فيما بينهم ، فكانت الفرقة بين أهل البصرة أنفسهم وبين باقي الأمصار الإسلامية ،
فكانت العداوة لمطالبة بعضهم البعض الآخر بدماء أبنائهم في حين كان المسلمون
يتحرّجون من إراقة دمائهم . 3 ـ توسّعت جبهة الانحراف الداخلي في المجتمع الإسلامي ،
وازدادت العراقيل أمام حكومة الإمام عليّ (عليه السلام) فبعد أن كان تمرّد
معاوية في الشام فقط انفتحت جبهة أُخرى ممّا أدّى إلى انحسار التوسّع الخارجي ،
وكذلك انحسار الأعمال الإصلاحية والحضارية التي كان يمكن أن تنمو في المجتمع
الإسلامي . 4 ـ إنّ الأحقاد والانحراف فتحا الطريق على المخالفين في
المعتقد السياسي للّجوء فوراً إلى حمل السلاح والقتال |
|
الكوفة عاصمة الخلافة :
|
|
بعد أن هدأت الاُمور تماماً تحرّك الإمام عليّ (ع) نحو الكوفة ليتّخذها مقرّاً بعد أن بعث إليهم
برسالة أوضح فيها بإيجاز تفاصيل الأحداث (تأريخ
الطبري : 3 / 545 و 546 .) ، كما أنّ الإمام أمّر عبد الله بن عباس على البصرة وشرح له
كيفية التعامل مع سكّانها بعد الذي وقع بينهم (تاريخ
الطبري : 3 / 546 ط مؤسسة الأعلمي .) . وكان لاختيار الإمام (عليه السلام) الكوفة عاصمةً
جديدةً للدولة الإسلامية أسباب عديدة منها : 1 ـ توسّع رقعة العالم الإسلامي ، ولابدّ أن تكون العاصمة
الإدارية والسياسية للدولة في موقع يُعين الحكومة في التحرّك نحو جميع نقاط
الدولة . 2 ـ إنّ الثقل الأكبر الذي وقف مع الإمام (عليه السلام) في
القضاء على فتنة أصحاب الجمل هم كبار شخصيّات العراق ووجهاء الكوفة وجماهيرها . 3 ـ الظروف السياسية والتوتّرات الناجمة عن مقتل عثمان وحرب
أصحاب الجمل كلّ ذلك جعل الإمام (عليه السلام) أن يستقرّ في الكوفة، ليعيد الأمن
والاستقرار للمنطقة . |
|
الفصل الثالث:
|
|
الإمام علي (عليه السلام) مع القاسطين
|
|
وقعت معركة صفّين في صفر من
عام (37) هـ ، وكانت المناوشات بين الطرفين بدأت في ذي الحجّة عام (36) هـ . |
|
استعدادات معاوية لمحاربة الإمام (عليه السلام) :
|
|
ساورت المخاوف معاوية من استقرار الإمام في الكوفة ومضيّه
(عليه السلام) في خطّته لتوحيد الدولة وبناء الحضارة الإسلامية على منهج القرآن
والسنّة النبويّة ، فسارع معاوية إلى الاستعانة بعمرو بن العاص لما يتمتّع به من
حيلة وغدر ، وتوافق معه في العداء للإسلام وللإمام (عليه السلام) ، ولم يتردّد
عمرو طويلاً أمام رسالة معاوية ، ولم يكن ليختار على طمعه في الدنيا شيئاً حتى
لو كان دينه الذي يُدخله الجنّة (وقعة صفّين : 34 ، والإمامة
والسياسة : 116 ، والكامل في التأريخ : 3 / 275 .) . وما أن وصل عمرو إلى الشام حتى جعل يبكي ويولول كالنساء (الكامل
في التأريخ : 3 / 274 .) مبتدئاً خطّته في التضليل وخداع الجماهير ، وبعد مراوغة
ومكايدة بين معاوية وعمرو تمّت المساومة على أن تكون حصّة عمرو ولاية مصر مقابل
مواجهة الإمام (عليه السلام) ومحاربته ، وكتب معاوية كتاباً بذلك (وقعة
صفّين : 40 ، والإمامة والسياسة : 117 .) . وشرعاً يخطّطان لمواجهة الإمام والوضع القائم ، فكان الاتّفاق
على المضيّ في هذا المسار العدائي المشوب بالظلم والغدر والبغي ، إذ لا سبيل
للوصول إلى أهدافهم وغاياتهم إلاّ مواجهة الإمام (عليه السلام) وهو الوريث
الشرعيّ للنبيّ (صلَّى الله عليه وآله) وحامل راية الحقّ والعدل، واصطدم الرجلان
إذ كلاهما خذلا عثمان فكانت خطّتهم تتطلب التشبّث بقميص عثمان كشعار لتحريك
مشاعر وعقول الجماهير غير الواعية ، فرفعاه على المنبر بعد أن قَدِم به عليهما
النعمان بن بشير ، فكان الناس يضجّون بالبكاء حتى سرت فيهم روح الحقد والكراهية
والعمى عن هدى الحقّ (وقعة صفّين : 37 ، الكامل في
التأريخ : 3 / 277 .) . ولتحريك جماهير الشام لمؤازرة معاوية وحشدهم للحرب اقترح
عمرو أن يكون شرحبيل بن السمط الكندي المحرّك الأول ، لما عرف عنه من عبادة
ووجاهة في قبائل الشام وكراهية لجرير مبعوث الإمام (عليه السلام) إلى معاوية ،
كما أنّ شرحبيل ممّن لا يتقصّى الحقائق من مصادرها ، وتمّت مخادعة شرحبيل الذي
انطلق مطالباً معاوية بالأخذ بثأر عثمان بن عفان ، ويتحرّك بنفسه لحشد الناس
للحرب (المصدر
السابق : 46 .) . |
|
السيطرة على الفرات :
|
|
بعد تعبئة الشام للحرب ؛ أخذ معاوية منهم البيعة وكتب بالحرب
كتاباً أرسله مع جرير (المصدر السابق : 56 .) الذي أبطأ كثيراً على الإمام (ع) ،
ثمّ سارع معاوية بتحريك قوّاته نحو أعالي الفرات في وادي صفّين لاحتلالها ومنع
تقدّم قوات الإمام (عليه السلام) وحبس الماء عنهم ، وتصوّر معاوية أنّ هذا أوّل
نصر يحقّقه على الإمام (عليه السلام) . وطلب الإمام (عليه السلام) من معاوية أن
يسمح لجيشه بالاستقاء بعد أن وصلوا متأخرين إلى صفّين ، وأبى معاوية وجيشه ذلك ،
وأضرّ الظمأ كثيراً بأهل العراق وازداد الضغط على الإمام (عليه السلام) لكسر
الحصار ، فأذن لهم بالهجوم على شاطئ الفرات ، وتمّ إزاحة قوّات معاوية عن ضفّة
النهر. ولكنّ الإمام (عليه السلام) لم يقابل أهل الشام بالمثل ،
ففسح لهم المجال لأخذ الماء دون معارضة (مروج
الذهب : 2 / 384 ، وشرح النهج لابن أبي الحديد : 3 / 320 ، والكامل في التأريخ :
3 / 283 .) . |
|
محاولة سلمية :
|
|
رغم أنّ الإمام (عليه السلام) أكثر من مراسلة معاوية وفتح
عدّة قنوات للحوار محاولاً كسبه وإدخاله في بيعته لكنّ ردّ معاوية كان هو الحرب
والسعي للقضاء على الإمام وجيشه بكلّ وسيلة ، وبيد أنّ الإمام (عليه السلام) كان
يأمل في محاولة سلمية أُخرى بعد أن استقرّ وجيشه ضفّة الفرات ، فسادت هدنة
مؤقّتة بعث خلالها الإمام (ع) مندوبين عنه إلى
معاوية وهم بشير بن محصن الأنصاري وسعيد بن قيس الهمداني وشبث بن ربعي التميمي ،
فقال (ع) لهم : (إئتوا هذا الرجل ـ أي معاوية ـ
وادعوه إلى الله وإلى الطاعة والجماعة) . وما كان جواب معاوية إلاّ السيف والحرب ، فقال للمندوبين :
انصرفوا من عندي فليس بيني وبينكم إلاّ السيف (تأريخ
الطبري : 3 / 569 ، والكامل في التأريخ : 3 / 284 .) . |
|
الحرب بعد الهدنة :
|
|
جرت مناوشات بين الجيشين ولم تستعر الحرب بعدُ ، فكانت خرج
فرقة منكلا الطرفين فيقتتلان ، وما أن حلّ شهر محرّم من عام (37 هـ) حتى حصلت
موادعة بين الطرفين ، حاول من خلالها الإمام (عليه السلام) التوصّل إلى الصلح ، وكانت طروحاته (ع) هي الدعوة إلى السلم وجمع الكلمة
وحقن الدماء ، ودعوات معاوية وأهل الشام رفض بيعة الإمام (ع) والطلب بدم عثمان
بن عفان (وقعة
صفّين : 195 ، وتأريخ الطبري : 3 / 570 .) . واستمرّت الهدنة مدّة شهرٍ واحدٍ ، ولمّا طالت فترة
المناوشات ؛ سئم الفريقان من ذلك فعبّأ الإمام (ع)
جيشه تعبئة عامة ، وكذلك فعل معاوية ، والتحم الجيشان في معركة رهيبة ، وكان
الإمام يوصي جنوده دائماً فيقول : (لا تقاتلوا القوم حتى
يبدؤوكم فأنتم بحمد الله عزّ وجلّ على حجّة) ثمّ قال : (فإذا قاتلتموهم فهزمتموهم فلا تقتلوا
مدبراً ولا تجهزوا على جريح ولا تكشفوا عورة ولا تمثّلوا بقتيل) (وقعة
صفّين : 202 ، وتأريخ الطبري : 4 / 6 .) . واستمرت الحرب بين كرٍّ وفرّ حتى سقط خلالها أعداد كبيرة من
المسلمين صرعى وجرحى بلغت عشرات الألوف . |
|
مقتل عمار بن ياسر :
|
|
روي : أنّ عمار بن ياسر خرج بين الصفوف فقال : إنّي لأرى
وجوه قوم لا يزالون يقاتلون حتى يرتاب المبطلون ، والله لو هزمونا حتى يبلغوا
بنا سعفات هجر ؛ لكنّا على الحقّ وكانوا على الباطل . ثمّ
تقدّم نحو جيش معاوية وهو يرتجز : نحن
ضربناكم على تنزيله = واليوم نضربكم على تأويله ضرباً
يزيل الهام عن مقيله = ويذهل الخليل عن خليله أو
يرجع الحقّ إلى سبيله فتوسّط فيهم ببسالته التي قاتل بها مع رسول الله (ص) صادقاً
مخلصاً ، فاشتبكت عليه الرماح فطعنه أبو العادية وابن جون السكسكي ، وروي أنّهما
اختصما في رأس عمار إلى معاوية وعبد الله بن عمرو بن العاص جالس فقال لهم ك ليطب
به أحدكما نفساً لصاحبه، فإنّي سمعت رسول الله (ص) يقول له : (يا عمّار تقتلك الفئة الباغية) (وقعة
صفّين : 340 ، وتأريخ الطبري : 4 م 27 ط مؤسسة الأعلمي ، والعقد الفريد : 4 /
341 .) . وكان الإمام قلقاً لا يقرّ له قرار
حين برز عمار للقتال في ذلك اليوم ، وأكثر من السؤال عليه حتى جاءه خبر استشهاده
، فأسرع إلى مصرعه كئيباً حزيناً تفيض عيناه دمعاً ، فقد غاب عنه الناصر الناصح
والأخ الأمين ، ثمّ صلَّى عليه الإمام (عليه السلام) ودفنه . وسرى خبر استشهاد عمار بين الجيشين فوقعت الفتنة بين صفوف
جيش معاوية ، لما يعلمون من مكانة عمار وحديث الرسول (صلَّى الله عليه وآله) له
... ولكنّ المكر والحيلة كانا بالمرصاد لكلّ ساذج جاهل ، فأشاع معاوية أنّ الذي
قتل عماراً من جاء به . وأذعن بسطاء أهل الشام لهذه الضلالة (تأريخ
الطبري : 5 / 653 .) . وروي : أنّ ذلك بلغ الإمام علياً (عليه السلام) فقال :
ونحن قتلنا حمزة لأنّا أخرجناه إلى أُحد؟ (العقد
الفريد : 4 / 343 ، وتذكرة الخواص : 90 .) |
|
خدعة رفع المصاحف :
|
|
استمرّ القتال أياماً أظهر خلالها أصحاب الإمام صبرهم
وتفانيهم من أجل انتصار الحقّ ، ثمّ إنّ الإمام (عليه السلام) قام خطيباً يحثّ
على الجهاد فقال : (أيّها الناس ! قد بلغ بكم الأمر وبعدوّكم ما
قد رأيتم ، ولم يبق منهم إلاّ آخر نفس ، وإنّ الأمور إذا أقبلت اعتبر آخرها
بأوّلها .. وقد صبر لكم القوم على غير دين حتى بلغنا ، منهم ما بلغنا وأنا غادٍ
عليهم بالغداة أحاكمهم إلى الله عزّ وجلّ) (كتاب سليم بن قيس : 176 ،
والكامل في التأريخ : 3 / 310 .) . فبلغ ذلك معاوية وقد بدت الهزيمة على أهل الشام فاستدعى عمرو
بن العاص يستشيره ، وقال له : إنّما هي الليلة حتى يغدو عليّ علينا بالفيصل فما
ترى ؟ قال عمرو : أرى أنّ رجالك لا يقومون لرجاله ولست مثله ، وهو
يقاتلك على أمر وأنت تقاتله على غيره ، أنت تريد البقاء وهو يريد الفناء ، وأهل
العراق يخافون منك إن ظفرت بهم وأهل الشام لا يخافون عليّاً إن ظفر بهم ، ولكن
ألقِ إليهم أمراً إن قبلوه اختلفوا وإن ردّوه اختلفوا ،أُدعهم
إلى كتاب الله حكماً فيما بينك وبينهم (وقعة
صفّين : 347 ، وتأريخ الطبري : 4 / 34 .) . فأمر معاوية في الحال أن ترفع المصاحف على الرماح ، ونادى
أهل الشام : يا أهل العراق ! هذا كتاب الله بيننا وبينكم من فاتحته إلى خاتمته
من لثغور أهل الشام من بعد أهل الشام ومن لثغور أهل العراق بعد أهل العراق ؟ وكانت هذه الدعوى المضلّلة كالصاعقة على رؤوس جيش الإمام ،
فهاج الناس وكثر اللغط بينهم ، وقالوا : نجيب إلى كتاب الله وننيب إليه، وكان
أشدّ الناس في ذلك أحد كبار قادة جيش الإمام عليّ الأشعث بن قيس . فقال لهم الإمام (عليه السلام) : (عباد
الله ! امضوا على حقّكم وصدقكم وقتال عدوّكم ، فإنّ معاوية وعمرو بن العاص وابن
أبي معيط وحبيب بن أبي مسلمة وابن أبي سرح والضحّاك ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن ،
أنا أعرف بهم منكم ، قد صحبتهم أطفالاً ثمّ رجالاً فكانوا شرّ أطفال وشرّ رجال ،
وَيْحَكُم ! والله ما رفعوها إلاّ خديعةً ووهناً ومكيدةً ، إنّها كلمة حقّ يراد
بها باطل) . فخاطبوا أمير المؤمنين باسمه الصريح قائلين : يا عليّ ، أجب
إلى كتاب الله عزّ وجلّ إذ دعيت إليه وإلاّ ندفعك برمّتك إلى القوم أو نفعل كما
فعلنا بابن عفّان . ولم يجد الإمام (عليه السلام) مع المخدوعين سبيلاً فقال : فإن
تطيعوني فقاتلوا وإن تعصوني فاصنعوا ما شئتم (وقعة
صفّين : 481 ، وتأريخ الطبري : 4 / 34 و 35 ط مؤسسة الأعلمي .) . وكان في ساحة المعركة مالك الأشتر يقاتل ببسالة ويقين حتى
كاد أن يصل إلى معاوية فقالوا لأمير المؤمنين : ابعث إلى الأشتر ليأتينّك ..
ولكنّ الأشتر لم ينثنِ عن عزمه في القتال ، لأنه يعلم أنّ الأمر خدعة فهدّدوه
بقتل الإمام (عليه السلام) ، فعاد الأشتر يؤنّبهم فقال لهم : خُدعتم والله
فانخدعتم ودُعيتم إلى وضع الحرب فأجبتم ، يا أصحاب الجباه السود كنّا نظن أنّ
صلاتكم زهادة إلى الدنيا وشوق إلى لقاء الله ، فلا أرى فراركم إلاّ إلى الدنيا
من الموت. وأقبل الناس يقولون قد رضي أمير المؤمنين ، والإمام (ع) ساكت لا يفيض بكلمة مطرق الرأس حزيناً ،
فقد انطلت على جيشه فتمرّد عليه ، ولم يعد باستطاعته أن يفعل شيئاً ، وقد أدلى
(عليه السلام) بما مني به بقوله : (لقد كنت أمسِ أميراً
فأصبحت اليوم مأموراً ، وكنت بالأمسِ ناهياً فأصبحت اليوم منهيّاً) (نهج
البلاغة الخطبة 208 ط مؤسسة النشر الإسلامي .) . |
|
التحكيم وصحيفة الموادعة :
|
|
لم تتوقّف محنة الإمام (عليه السلام) بتخاذل الجيش ، وكان
بالإمكان أن يحقّق مكسباً سياسياً عن طريق المفاوضات التي دُعي إليها لو أطاعه
المتمرّدون في اختيار الممثّلين عنه إلى التحكيم ، فأراد الإمام (عليه السلام)
ترشيح عبد الله بن عباس أو مالك الأشتر لما يعلم عنهما من إخلاص ووعي ، وأصرّ
المخدوعون على ترشيح أبي موسى الأشعري، فقال الإمام (عليه السلام) : (إنّكم
قد عصيتموني في أوّل الأمر فلا تعصوني الآن ، إنّي لا أرى أن أولِّي أبا موسى
فإنّه ليس بثقة ، قد فارقني وخذّل الناس عنّي ـ بالكوفة عند الذهاب لحرب الجمل ـ
ثمّ هرب منّي حتى أمّنته بعد أشهر) (وقعة
صفّين : 499 ، وتأريخ الطبري : 4 / 36 ، والكامل في التأريخ : 3 / 319 .)
. وتمكّن معاوية وابن العاص من مأربهم في تفتيت جيش الإمام
(عليه السلام) ، يساعدهم في ذلك الأشعث بن قيس من داخل قوّات الإمام . حضر عمرو بن العاص ممثّلاً عن أهل الشام بدون معارضة من أحد
لتسطير بنود الاتّفاق مع أبي موسى الأشعري ، ولم يقبل عمرو كتابة اسم (أمير
المؤمنين) في الصحيفة ، فقال الإمام (عليه السلام) :
إنّ هذا اليوم كيوم الحديبية إذ قال سهيل ابن عمر للنبي : لست رسول الله ،
ثمّ قال (عليه السلام) : فقال لي رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) :
أما إنّ لك مثلها ستعطيها وأنت مضطهد (وقعة صفّين : 508 ، وشرح نهج
البلاغة : 2 / 232 .) . وأهمّ ما جاء في الصحيفة هو إعلان الهدنة ووقف القتال ،
وأن يلجأ الطرفان إلى كتاب الله وسنّة نبيّه لحلّ قضاياهم ، وأُجّل البتّ في قرار الحكمين إلى رمضان (37 هـ) ، حيث
كتبت الصحيفة في صفر من العام نفسه . والغريب أنّ مسألة الأخذ بثأر عثمان لم ترد
ولو بإشارة بسيطة في كتاب الموادعة مع أنّها أس الفتنة التي تحرّك فيها معاوية
وحزبه من أبناء الطلقاء () تأريخ الطبري : 4 / 40 .) ، واتّفقوا
على أن يكون موضع اجتماع الحكمين في (دومة الجندل) . |
|
موقف واع وتقييم :
|
|
روي : أنّه طلب من الأشتر أن يشهد في الصحيفة ، فقال : لا
صبّحتني يميني ولا نفعتني بعدها شمالي إن خُطّ لي في هذه الصحيفة اسم أوَلست على
بيّنة من ربّي من خلال عدوّي ؟ أو لستم قد رأيتم الظفر (وقعة
صفّين : 511 ، والكامل في التأريخ : 3 / 321 .) ؟ وقيل لأمير المؤمنين : إنّ الأشتر لا يقرّ بما في الصحيفة
ولا يرى إلاّ قتال القوم . فقال (عليه السلام) : (وأنا والله ما رضيت ولا
أحببت أن ترضوا)
.. ثمّ قال (ع) : (يا ليت فيكم مثله اثنين ،
يا ليت فيكم مثله واحداً يرى في عدوّي ما أرى ، إذاً لخفّت عليّ مؤنتكم ، ورجوت
أن يستقيم لي بعض أودكم وقد نهيتكم فعصيتموني ، والله لقد فعلتم فِعلة ضعضعت
قوّة وأسقطت مُنّة وأورثت وهناً وذلّة) (وقعة
صفّين : 521 ، وتأريخ الطبري : 4 / 42 و 43 ، والكامل في التأريخ : 3 / 322 .) . |
|
رجوع الإمام (عليه السلام) واعتزال الخوارج :
|
|
قفل أمير المؤمنين راجعاً إلى الكوفة مثقلاً بالهموم والآلام
، يرى باطل معاوية قد استحكم ، وأمره أوشك أن يتمّ ، وينظر إلى جيشه وقد فتّته
التمرّد لا يستجيب لأَمره . ودخل الإمام (عليه السلام) الكوفة فرأى لوعة وبكاء ، قد سادت
جميع أرجائها حزناً على من قتل في صفّين ، واعتزلت فرقة تناهز اثني عشر ألف
مقاتل عن جيش الإمام ، ولم يدخلوا الكوفة فلحقوا بحروراء ، وجعلوا أميرهم على
القتال شبث بن ربعي ، وعلى الصلاة عبد الله بن الكواء اليشكري ، وخلعوا بيعة
الإمام (عليه السلام) يدعون إلى جعل الأمر شورى بين المسلمين .. وكان أمر هؤلاء
قد بدأ منذ كتابة صحيفة الموادعة ، إذ لم يعجبهم الأمر فاعترضوا وقالوا : لا
نرضى لا حكم إلاّ لله ، واتّخذوه شعاراً لهم رغم أنّهم هم الذين أصرّوا على
الإمام (عليه السلام) لقبول التحكيم . وسعى أمير المؤمنين لمعالجة موقفهم بالحكمة والنصيحة ، فأرسل
إليهم عبد الله بن عباس وأمره أن لا يعجل في الخوض معهم في جدال وخصومة ، ولحقه
الإمام (عليه السلام) فكلّمهم وحاججهم وفنّد كلّ دعاويهم ، فاستجابوا له ودخلوا
معه إلى الكوفة (تأريخ
الطبري : 4 / 54 ، والكامل في التأريخ : 3 / 426 .) . |
|
اجتماع الحكمين :
|
|
حان الأجل الذي ضرب الحكمين ، فأرسل الإمام (عليه السلام)
أربعمائة رجل عليهم شريح بن هاني ، وبعث معهم عبد الله بن عباس ليصلّي بهم ويلي
أمورهم وأبو موسى الأشعري معهم ، وبعث معاوية عمرو بن العاص في أربعمائة رجل من
أهل الشام حتى توافوا في دومة الجندل . وقد سارع عدد من أهل الرأي والحكمة ممّن أخلصوا للإمام (عليه
السلام) بتقديم النصح والتحذير لأبي موسى ، باذلين جهدهم في حمله على التبصرة
والرويّة في اتّخاذ القرار ، وخشية منهم من مكر عمرو وخداعه (وقعة
صفّين : 534 ، وشرح نهج البلاغة : 2 / 246 . ط دار إحياء التراث العربي .) . |
|
قرار التحكيم :
|
|
اجتمع الحكمان : أبو موسى الأشعري وعمرو بن العاص ، والأوّل يحمل الغباء
السياسي وضعف الانتماء العقائدي وقلّة الولاء لإمامه عليّ (عليه السلام) والثاني
هو الماكر المخادع ذو السجيّة الغادرة والطامع إلى إقصاء خطّ أهل البيت (عليهم
السلام) تماماً عن الميدان السياسي ، يدفعه لذلك طمعه للملك وشركته مع الطليق
ابن الطليق معاوية . ولم يطل الاجتماع طويلاً حتى تمكّن ابن العاص من معرفة نقاط
الضعف في شخصية الأشعري والسيطرة عليه وتوجيهه نحو ما يريد ، واتفق الإثنان في
اجتماع مغلق على خلع الإمام عليّ (عليه السلام) ومعاوية عن ولاية أمر المسلمين ،
واختيار عبد الله بن عمر بن الخطاب ليكون الخليفة المقترح . وبادر ابن عباس محذّراً الأشعري من أن ينساق في لعبة ابن
العاص ، فقال له : ويحك ، والله إنّي لأظنّه قد خدعك إن اتّفقتما على أمر ،
فقدّمه فليتكلّم بذلك الأمر قبلك ثمّ تكلّم أنت بعده ، فإنّ عَمْراً رجل غادر لا
آمن من أن يكون قد أعطاك الرضا فيما بينك وبينه ، فإذا قمت في الناس خالفك . فقام الأشعري فخطب وخلع الإمام عليّاً (عليه السلام) ، ثمّ
انبرى عمرو فخطب وأكّد خلع الإمام وثبّت معاوية لولاية الأمر (تأريخ
الطبري : 4 / 52 ، ومروج الذهب : 2 / 411 ، والكامل في التأريخ : 3 / 322 .) . وبتلك الغدرة ظفر معاوية بالنصر ، وعاد إليه أهل الشام
يسلّمون عليه بإمرة المؤمنين ، وأمّا أهل العراق فغرقوا في الفتنة وأيقنوا بضلال
ما أقدموا عليه ، وهرب أبو موسى إلى مكّة ، ورجع ابن عباس وشريح إلى الإمام عليّ
(عليه السلام) . |
|
الفصل الرابع:
|
|
الإمام علي (عليه السلام) مع المارقين
|
|
يمكن أن نقول : إن ظهور الخوارج إفراز طبيعي للصراع الدموي في الجمل وصفّين
، كما أنّنا لا يمكننا أن نعزل انحرافهم بمعزل عن انحراف الخلافة عن خطّ أهل
البيت (عليهم السلام) ، لقد كان من أهمّ صفات الخوارج هو التحجّر والتمسّك
بالظواهر والتعصّب والخشونة وعدم التمييز بين الحقّ والباطل ، وأنّهم سريعو
التأثّر بالشائعات ، فيتردّدون عند أدنى شكّ . ونجد أنّ النبيّ (صلَّى الله عليه وآله) أخبر عن صفتهم ، إذ
روي عنه (صلَّى الله عليه وآله) : (يخرج في هذه الأمة
ـ ولم يقل منها ـ قوم تحقّرون صلاتكم مع صلاتهم ، يقرءون
القرآن ولا يجاوز حلوقهم يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية)
(انظر
البداية والنهاية : 7 / 321 ـ 337 وصحيح البخاري : 9 / 21 ـ 22 باب ترك قتال
الخوارج ، وصحيح مسلم :2 / 744 الحديث 1064 ، ومسند أحمد : 3 / 56 دار صادر .) . ولم يتمكّن الإمام (عليه السلام) من معالجة أمراضهم
وانحرافاتهم ، فقد عاجلته الحروب والتمرّدات في الجمل وصفّين في فترة قصيرة
جدّاً ، ويمكن أن نعزو ظهور الخوارج إلى : 1 ـ الإحباط النفسي والفشل في تحقيق النصر ، وخصوصاً أنّ
معارك الإمام (ع) ضد متمرّدين هم مسلمون في
الظاهر ، فلم يتمكّن الخوارج من فهم معالجة الإمام للمتمرّدين ، ولم يتمكّنوا من
تحمّل نتيجة التحكيم ، في حين هم الذين أجبروه على قبول التحكيم ، ولم يواجهوا
أنفسهم بمواقفهم المنحرفة ، فسعوا إلى تعليق أخطائهم وتحميل أوزارها إلى طرف آخر
غيرهم ولم يكن إلاّ الإمام عليّ (ع) (تأريخ
الطبري : 4 / 53 ـ 58 .) . 2 ـ استغلالهم الحرية الفكرية التي فتحها الإمام (عليه
السلام) لكي تمارس الأمة وعيها الرسالي ، فقد روي أنّهم كانوا يعترضون على الإمام
حتى أثناء خطبته بدعوى لا حكم إلاّ لله ، وما كان الإمام يجيبهم إلاّ بـ (كلمة
حقّ يراد بها باطل) . وقال الإمام (ع) لهم
: (لكم
عندنا ثلاث خصال : لا نمنعكم مساجد الله أن تصلّوا فيها ، ولا نمنعكم الفيء ما
كانت أيديكم في أيدينا ن ولا نبدؤكم للحرب حتى تبدؤونا) (تأريخ
الطبري : 4 / 54 ، والكامل في التأريخ : 3 / 334 ، ومستدرك وسائل الشيعة : 2 /
254 .) فتحوّلت حركتهم من حالة فردية إلى
حالة جماعية . |
|
ردّ الإمام (عليه السلام) على قرار الحكمين :
|
|
ولمّا بلغ خبر التحكيم إلى الإمام (عليه السلام) تألّم
كثيراً ن وخطب في الناس يحثّهم ويدلّهم على إصلاح الخطأ الذي تورّطوا فيه
وذكّرهم بنصحه لهم ، فقال (عليه السلام) : (إنّ مخالفة الناصح الشفيق
المجرّب تورث الحسرة وتعقب الندامة ، وقد كنت أمرتكم في هذه الحكومة أمري، ونخلت
لكم مخزون رأيي لو كان يطاع لقصير أمر فأبيتم عليَّ إباء المخالفين الجفاة
المنابذين العصاة حتى ارتاب الناصح بنصحه وضّنَّ الزند بقدحه ، فكنت وإيّاكم كما
قال أخو هوازن : أمرتكم
أمري بمنعرج اللوى = فلم تستبينوا النصح إلاّ ضحى الغد ألا إنّ هذين الرجلين ـ أبا موسى الأشعري وابن العاص ـ اللّذين
اخترتموهما حكمين قد نبذا حكم القرآن وراء ظهورهما ، وأحييا ما أمات القرآن ،
واتّبع كلّ واحد منهما هواه بغير هدىً من الله ، فحكما بغير حجّة بيّنة ولا سنّة
ماضية ، واختلفا في حكمهما وكلاهما لم يرشد ، فبرئ الله منهما ورسوله وصالح
المؤمنين ، استعدوا وتأهّبوا للمسير إلى الشام ، وأصبحوا في معسكركم إن شاء الله
(تأريخ
الطبري : 4 / 57 .) . وكتب الإمام إلى عبد الله بن عباس أن يعبّئ أهل البصرة
للالتحاق بالإمام (عليه السلام) لقتال معاوية ، فالتحقت جموع البصرة بالكوفة ،
ولكن عبث الخوارج الذين تجمّعوا من البصرة والكوفة متّجهين نحو النهروان وفسادهم
في الأرض أقلق أصحاب الإمام (عليه السلام) من تركهم خلفهم لو توجّهوا إلى الشام
فطلبوا من الإمام أن يقضي على الخوارج أوّلاً (تأريخ
الطبري : 4 / 57 و 58 ، والبداية والنهاية : 7 / 286 .) . وكان من عيث الخوارج أنّهم قبضوا على عبد الله بن خباب
وزوجته فقتلوه ، وبقروا بطن امرأته ، وألقوا ما فيها من دون مبرّر ، وكذلك قتلوا
الحارث بن مرّة العبدي رسول الإمام (عليه السلام) إليهم (تأريخ
الطبري : 4 / 61 ، والبداية والنهاية : 7 / 286 ، والفصول المهمة لابن الصبّاغ :
108 .) . |
|
المواجهة مع الخوارج :
|
|
تجمّعت قوات المارقين عن الدين قرب النهروان بعد أن التحقت
بهم مجاميع من البصرة وغيرها ، وحاول الإمام (عليه السلام) مراراً أن يقنعهم
بالتخلي عن فكرتهم وتمرّدهم وسعيهم للحرب ، ولم يجد فيهم إلاّ الفساد والجهل
والإصرار ، فعبّأ جيشه ونصحهم بأخلاق الإسلام في كيفية التعامل في مثل هذه
الظروف كما هو شأنه في كلّ معركة ولمّا انتهى الإمام (عليه السلام) ؛ إليهم بعث
لهم رسولاً يطلب منهم قتلة عبد الله بن خباب وقتلة رسوله الحارث بن مرّة ،
فردّوا عليه مجمعين : كلّنا قتلناهم وكلّنا مستحلّ لدمائكم ودمائهم . وبعث الإمام (عليه السلام) قيس بن سعد وأبا أيوب الأنصاري
لينصحوا القوم عساهم أن يفهموا واقع الأحداث ، ويجنّبوا الأمة مزيداً من الدماء،
ثمّ أتاهم الإمام (عليه السلام) فقال لهم : (أيّتها العصابة التي
أخرجها عداوة المراء واللجاجة ، وصدّها عن الحقّ الهوى ، وطمع بها النزق ،
وأصبحت في الخطب العظيم ! إنّي نذير لكم أن تصبحوا تلعنكم الأمة غداً صرعى
بأثناء هذا الوادي ، وبأهضام هذا الغائط بغير بيّنة من ربّكم ولا برهان مبين) ثمّ بيّن لهم (عليه السلام) أنّه كره
التحكيم وعارضه ، وشرح سبب معارضته بوضوح لهم ، ولكنّهم أنفسهم أجبروا الإمام
على قبول التحكيم ، وأنّ الحكمين لم يحكما بالقرآن والسنّة ، وها هو الإمام يعدّ
العدّة لملاقاة معاوية ثانية ، فلا معنى لخروج المارقين ، ولم يرعِو المارقون
لقول الإمام وطالبوه بتكفير نفسه وإعلان توبته ، فقال (عليه السلام) : (أصابكم حاصب ولا بقي منكم
آثر أبعد إيماني برسول الله (صلَّى الله عليه وآله) وهجرتي معه وجهادي في سبيل
الله أشهد على نفسي بالكفر، لقد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين) ثمّ انصرف عنهم ، وتقدّم الخوارج
فاصطفّوا للقتال .. وعبّأ الإمام (عليه السلام) جيشه لملاقاتهم ، وفي محاولة
أخيرة أمر الإمام أبا أيوب الأنصاري أن يرفع راية أمان للخوارج ، ويقول لهم :
(من جاء إلى هذه الراية فهو آمن ومن انصرف إلى الكوفة والمدائن فهو آمن إنّه لا
حاجة لنا فيكم إلاّ فيمن قتل إخواننا) . فانصرفت منهم مجاميع كثيرة ، وقال الإمام (عليه السلام) لأصحابه :
كفّوا
عنهم حتّى يبدؤوكم بقتال
. وهجم الخوارج وهم يتصايحون : لا حكم إلاّ لله ... الرواح
الرواح إلى الجنّة ، ولم تمضِ إلاّ ساعة حتى أبيد أكثرهم ، ولم ينجُ منهم إلاّ
أقلّ من عشرة ، ولم يُقتل من أصحاب الإمام إلاّ أقلّ من عشرة أشخاص (نهج
البلاغة الخطبة 59 ط مؤسسة النشر الإسلامي ، ومروج الذهب : 2 / 385 ، والبداية
والنهاية : 7 / 319 .) . وبعد أن سكنت أوار المعركة ؛ أمر الإمام (عليه السلام)
بطلب (ذي الثُّدية) ـ أحد قادة الخوارج ـ وألحَّ في ذلك لأنّ في ذلك مصداقاً
لوصايا الرسول (صلَّى الله عليه وآله) بمقاتلة المارقين عن الدين الذين فيهم ذو
الثدية (صحيح
مسلم : كتاب الزكاة ، باب ذكر الخوارج وصفاتهم والتحريض على قتالهم .) . ولمّا وجدوه أخبروا الإمام (عليه
السلام) فقال : (الله أكبر ما كذبت ولا كذّبت ، لو لا أن
تنكلوا عن العمل ؛ لأخبرتكم بما قصّ الله على لسان نبيّه (صلَّى الله عليه وآله)
لمن قاتلهم مستبصراً في قتالهم ، عارفاً للحقّ الذي نحن عليه) وسجد (ع) شكراً لله (تأريخ
الطبري : 4 / 66 ، وشرح نهج البلاغة : 2 / 266 ، والبداية والنهاية : 297 .) . |
|
احتلال مصر :
|
|
بعد مقتل عثمان بن عفان ولّى أمير المؤمنين قيس بن سعد بن
عبادة الأنصاري ولاية مصر ، ثمّ كلّف محمد بن أبي بكر ليقوم مقام قيس بن سعد
لرأي رآه (ع) ، وبقيت مصر الجناح الآخر الذي يقلق معاوية ، فما أن ساد الاضطراب
والتخاذل في المجتمع الإسلامي بعد المعارك ونتائجها ؛ تحرّك معاوية وعمرو بن
العاص لاحتلال مصر التي كانت ثمناً لجهود عمرو بن العاص لتخريب حكومة الإمام
وتهديم الدين ، وحاول (ع) أن يمدّ محمد بن أبي بكر بالعِدّة والعُدّة عند سماعه
بزحف معاوية نحو مصر ، فلم يلبث إلاّ قليلاً حتى أتت الأخبار باحتلال مصر
واستشهاد محمد بن أبي بكر ، وحزن الإمام (ع) على محمد (شرح
النهج لابن أبي الحديد : 6 / 88 .) ، ثمّ كان قد كلّف (ع) مالك الأشتر بولاية مصر وكتب إليه
عهده المشهور في إدارة الحكم وسياسة الناس ، ولكن معاوية وما يملك من وسائل
الشيطان والخداع تمكّن من دسّ السم لمالك (تأريخ
الطبري : 4 / 72 .) . |
|
انهيار الأمة وتفكّكها :
|
|
بدأت بوضوح ملموس ملامح وآثار الانحراف الذي حصل يوم السقيفة
في نهاية أيّام حكم الإمام (عليه السلام) حيث بدأ معاوية ومن اقتفى أثره في
محاربة الإسلام من داخل الإسلام بتفكيك ما بقي من أواصر تماسك المجتمع الإسلامي
وتخريبه وبناء مجتمع ينسجم وفق رغباتهم وأهوائهم، ويمكننا
أن نلحظ حال الأمة بعد خوض الإمام (عليه السلام) ثلاث معارك فيصلية لاجتثاث
الفساد فيما يلي : 1 ـ مُني الإمام (عليه السلام) والأمة بفقد خيار الصحابة
الواعين والمؤثِّرين في المجتمع وحركة الرسالة الإسلامية الذين كان يمكن من
خلالهم بناء الأمة الصالحة وفق نهج القرآن والسنّة بإشراف الإمام (ع) ، وقد بلغ الحزن في نفس الإمام مبلغاً
عظيماً نجده في نعيه لهم بقوله : (ما ضرّ إخواننا الذين
سفكت دماؤهم بصفّين أن لا يكونوا اليوم أحياءً يسيغون الغصص ويشربون الرنق ، قد
والله لقوا الله فوفّاهم أجورهم وأحلّهم دار الأمن بعد خوفهم .. أين إخواني
الذين ركبوا الطريق ومضوا على الحقّ ؟ أين عمار ؟ وأين ابن التيهان ؟ وأين ذو
الشهادتين ؟ وأين نظراؤهم من إخوانهم الذين تعاقدوا على النيّة واُبرد برؤوسهم
إلى الفجرة ؟)
. ثمّ وضع يده على كريمته فأطال البكاء ثمّ قال : (أَوِّه
على إخواني الذين قرءوا القرآن فأحكموه وتدابروا الفرض فأقاموه ، أحيوا السنّة
وأماتوا البدعة ، دعوا للجهاد فأجابوا ، ووثقوا بالقائد فاتّبعوه) (شرح
النهج لابن أبي الحديد : 10 / 99 .) . 2 ـ تمرّد الجيش وتفكّكه وظهور الضعف والسأم من الحرب لكثرة
مَن قتل من أهل العراق الذين يشكّلون العمود الفقري لفرق جيش الإمام (عليه السلام)
، ولم يتمكن (عليه السلام) بما يملك من قدرة خطابية رائعة وحجّة بالغة أن يبعث
الاندفاع والحزم في قاعدته الشعبية لمواصلة الحرب ، وممّا زاد من تفتيت الجيش
عدم توقّف معاوية من مخاطبة زعماء القبائل والعناصر التي يبدو منها حبّ الدنيا ،
فمنّاهم بالأموال والهبات والمناصب إذا قاموا بكلّ ما يؤدي إلى إضعاف قوّة
الإمام (عليه السلام) وجماهيره المؤيدة ، حتى أنّ الإمام (عليه السلام) لم يستطع
أن يعبّئ في معسكر النخيلة بعد معركة النهروان استعداداً لقتال معاوية ن فقد
تسلّل أغلب أفراد الجيش إلى داخل الكوفة ممّا أدّى بالإمام (عليه السلام) أن
يلغي المعسكر ويؤجّل الحرب (تأريخ الطبري : 4 / 67 .)
. 3 ـ لقد أتاح الظرف الذي مرّ به الإمام (عليه السلام)
والاُمّة الإسلامية لمعاوية أن يقوم بشنّ غارات على أطراف البلاد الإسلامية ،
فمارس القتل والسبي والإرهاب ، فبدأ بالهجوم على أطراف العراق فأرسل النعمان بن
بشير الأنصاري للإغارة على منطقة (عين التمر) ، ووجّه سفيان بن عوف للإغارة على
منطقة (هيت) ثم على (الأنبار والمدائن) ، وإلى (واقصة) وجّه معاوية الضحّاك بن
قيس الفهري .. وفي كلّ مرّة يحاول الإمام (ع)
دعوة الجماهير لمقاومة غارات معاوية فلم يلق الاستجابة السريعة ، وأدرك معاوية
ضعف قوة حكومة الإمام (ع) وتزايد قوّته (الغارات
للثقفي : 476 ، وتأريخ الطبري : 4 / 102 و 103 .) . وبعث معاوية بسر بن أُرطاة للغارة على الحجاز واليمن ، فعاث
في الأرض فساداً وقتلاً للأبرياء (الغارات للثقفي : 476 ، وتأريخ
الطبري : 4 / 106 ط مؤسسة الأعلمي .) وبلغ الأسى والأسف في نفس الإمام (ع) مبلغاً عظيماً ممّا يفعل المجرمون ومن
تخاذل الناس عنه، فكان يصرّح بضجره من تخاذلهم وتقاعسهم فقال : (اللّهمّ
إنّي قد مللتهم وملّوني وسئمتهم وسئموني فأبدلني بهم خيراً منهم وأبدلهم بي شراً منّي) (نهج
البلاغة : الخطبة (25) .) . وقد أنذر الإمام (ع) الأمة
الإسلامية بمستقبل مظلم وآلام كثيرة تحلّ بها نتيجة لما آلت إليها من تقاعس
وتخاذل عن نصرة الحقّ ، فقال (ع) : (أما إنّكم ستلقون بعدي
ذلاًّ شاملاً ، وسيفاً قاطعاً ، وأثرةً يتّخذها الظالمون فيكم سنّة ، فيفرّق
جماعتكم ، ويبكي عيونكم ، ويدخل الفقر بيوتكم ، وتتمنّون عن قليل أنّكم رأيتموني
فنصرتموني ، فستعلمون حقّ ما أقول لكم) (أنساب
الأشراف : 1 / 200 ، نهج البلاغة : الكلمة (58) .) |
|
آخر محاولات الإمام (عليه السلام) :
|
|
بعد الاضطرابات المتعدّدة وتمكّن معاوية من فساد ونشر الرعب
في أطراف الدولة الإسلامية ؛ عزم الإمام (عليه السلام) أن يقوم بحملة واسعة
يستنهض فيها الاُمّة ، فخاطب الجماهير وهدّدهم فقال : (أما إنّي قد سئمت من
عتابكم وخطابكم ، فبيّنوا لي ما أنتم فاعلون ، فإن كنتم شاخصين معي إلى عدوّي
فهو ما أطلب وما أحب ، وإن كنتم غير فاعلين فاكشفوه لي عن أمركم ، فو الله لئن
لم تخرجوا معي بأجمعكم إلى عدوّكم فتقاتلوه حتى يحكم الله بيننا وبينه وهو خير
الحاكمين لأدعوّن الله عليكم ثمّ لأسيرنّ إلى عدوّكم ولو لم يكن معي إلاّ عشرة) (سيرة
الأئمة الإثني عشر : 1 / 451 عن البلاذري في أنساب الأشراف .) وأيقظ هذا التهديد الحازم نفوس الناس ، وأيقنوا أنّ الإمام
(عليه السلام) سيخرج بنفسه وأهله وخاصّته إلى معاوية وإن لم ينصروه ، فسيلحق
العار والذلّ بهم إلى يوم القيامة ، فتحرّك وجهاء الناس للاستعداد لملاقاة
معاوية والقضاء على الفساد ، وخرج الناس إلى معسكراتهم في منطقة (النخيلة) خارج
الكوفة ، وتحرّكت بعض قطعات الجيش تسبق البقيّة مع الإمام (عليه السلام) الذي
بقي ينتظر انقضاء شهر رمضان . |
|
الفصل الخامس:
|
|
الإمام علي (عليه السلام) شهيد المحراب
|
|
استشهد أمير المؤمنين في شهر رمضان عام (40) هـ
.
|
|
تواطأت زمر الشرّ على أن لا تبقي للحقّ راية تخفق أو يداً
تطول فتصلح أو صوتاً يدوّي فيكشف زيغ وفساد الظالمين والمنحرفين ، فبالأمس كان
أبو سفيان يمكر ويغدر ويفجر ويخطّط لقتل النبيّ الأكرم
(ص) لوأد الرسالة الإلهية في مهدها ، ولكنّ الله أبى إلاّ أن يتمّ نوره . وها هو معاوية بن أبي سفيان يستفيد من نتائج انحراف السقيفة
، ويتمّم ما بدأه أبوه سعياص للقضاء على الرسالة الإسلامية ، تعينه في ذلك قوى
الجهل والضلالة والعمى ، فخطّطوا لقتل ضمير الأمة الحيّ وصوت الحقّ والعدل وحامل
لواء الإسلام الخالد ومحيي الشريعة المحمديّة السمحاء . واجتمعت ضلالتهم على أن يطفئوا نور الهدى ليبقى الظلام يلفّ
انحرافهم وفسادهم ، فامتدّت يد الشيطان لتصافح ابن ملجم في عتمة الليل، وفي ختلة
وغدرة هوت بالسيف على هامة طالما استدبرت الدنيا واستقبلت بيت الله وهي ساجدة ،
وغادرتها منها في تلك الحال . لقد اجتمعت عصابة ضالّة على قتل أمير المؤمنين (عليه السلام)
لا يبعد أن كان محرّكها معاوية ، واتفقوا أن يداهموا الإمام عند ذهابه لصلاة
الفجر ، فما كان أحد يجرؤ على مواجهة الإمام (عليه السلام) . ولمّا كانت ليلة تسع
عشرة من شهر رمضان ؛ كان الإمام (عليه السلام) يكثر التأمل في السماء وهو يردّد
: (ما كذبت ولا كذّبت إنّها الليلة التي وعدت بها)
(الصواعق
المحرقة : 80 ، وبحار الأنوار : 42 / 230 .) وأمضى (عليه السلام) ليلته بالدعاء
والمناجاة ، ثمّ خرج إلى بيت الله لصلاة الصبح فجعل يوقظ الناس على عادته إلى
عبادة الله فينادي : الصلاة ... الصلاة . ثمّ شرع (عليه السلام) في صلاته ، وبينما هو منشغل يناجي
ربّه إذ هوى المجرم اللعين عبد الرحمن بن ملجم وهو يصرخ بشعار الخوارج (الحكم
لله لا لك) ووقع السيف على رأسه المبارك فقدّ منه فهتف
الإمام (ع) : (فزت وربّ الكعبة) (الإمامة
والسياسة : 180 أو : 135 ط بيروت و 159 ط مصر ، وتأريخ دمشق : 3 / 367 ترجمة
الإمام عليّ (عليه السلام) .) . ولمّا علت الضجّة في المسجد ؛ أقبل الناس مسرعين فوجدوا
الإمام (ع) طريحاً في محرابه ، فحملوه إلى داره وهو معصّب الرأس والناس يضجّون
بالبكاء والعويل ، واُلقي القبض على المجرم ابن ملجم ، وأوصى الإمام ولده الحسن
وبنيه وأهل بيته أن يحسنوا إلى أسيرهم وقال : (النفس بالنفس ، فإن أنا
مُتّ فاقتلوه كما قتلني ، وإن أنا عشت رأيت فيه رأيي) (مقاتل
الطالبيين : 22 ، شرح النهج لابن أبي الحديد : 6 م 118 ، وبحار الأنوار : 42 /
231 .) . |
|
وصيّة الإمام (عليه السلام) :
|
|
أوصى الإمام (عليه السلام) ولديه الحسن والحسين (عليهما
السلام) وجميع أهل البيت بوصايا عامّة فقال : (أوصيكما بتقوى الله ، وأن
لا تبغيا الدنيا وإن بغتكما ، ولا تأسفا على شيء منها زوي عنكما ، وقولا بالحقّ
واعملا للأجر ، وكونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً ، واعملا بما في الكتاب ، ولا
تأخذكما في الله لومة لائم) (تأريخ الطبري : 4 / 114 ط
مؤسسة الأعلمي ، راجع أيضاً نهج البلاغة : باب الكتب 47 طبعة صبحي الصالح .) ولم يمهل الجرح أمير المؤمنين طويلاً لشدّته وعظيم وقعته ،
فقد دنا الأجل المحتوم ، وكان آخر ما نطق به قوله تعالى : (لِمِثْلِ هذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ) ثمّ
فاضت روحه الطاهرة إلى جنّة المأوى . |
|
دفن وتأبين الإمام (عليه السلام) :
|
|
نهض الإمامان الحسن والحسين (ع) بتجهيز أمير المؤمنين وما
يترتّب عليهما من إجراءات الدفن من غسل وتكفين ، ثمّ صلى الإمام الحسن (ع) على
أبيه ومعه ثلّة من أهل بيته وأصحابه ، ثمّ حملوا الجثمان الطاهر إلى مثواه
الأخير ، فدفن في النجف قريباً من الكوفة ، وتمّت كلّ الإجراءات ليلاً (بحار
الأنوار ك 42 / 290 .) . ثمّ وقف صعصعة بن صوحان يؤبّن الإمام (عليه
السلام) فقال : هنيئاً لك يا أبا الحسن ! فلقد طاب مولدك ، وقوي صبرك ، وعظم
جهادك ، وظفرت برأيك ، وربحت تجارتك ، وقدمتَ على خالقك فتلقّاك الله ببشارته
وحفّتك ملائكته ، واستقررتَ في جوار المصطفى فأكرمك الله بجواره ، ولحقتَ بدرجة
أخيك المصطفى ، وشربت بكأسه الأوفى ، فأسأل الله أن يمنَّ علينا باقتفائنا أثرك
، والعمل بسيرتك ، والموالاة لأوليائك ، والمعاداة لأعدائك ، وأن يحشرنا في زمرة
أوليائك ، فقد نلتَ ما لم ينله أحد ، وأدركت ما لم يُدركه أحد ، وجاهدت في سبيل
ربّك بين يدي أخيك المصطفى حقّ جهاده ، وقمت بدين الله حقّ القيام ، حتى أقمتَ
السنن وأبرت الفتن واستقام الإسلام وانتظم الإيمان ، فعليك منّي أفضل الصلاة
والسلام . ثمّ قال : لقد شرّف الله مقامك ن وكنت أقرب الناس إلى رسول
الله (ص) نسباً ، وأوّلهم إسلاماً ، وأوفاهم يقيناً ، وأشدّهم قلباً ، وأبذلهم
لنفسه مجاهداً ، وأعظمهم في الخير نصيباً ، فلا حرمنا أجرك ، ولا أذلّنا بعدك ،
فو الله لقد كانت حياتك مفاتح الخير ومغالق الشر ، وإنّ يومك هذا مفتاح كلّ شر
ومغلاق كلّ خير ، ولو أنّ الناس قبلوا منك ؛ لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم ،
ولكنّهم آثروا الدنيا على الآخرة (بحار الأنوار : 42 / 295 .) . |
|
الفصل السادس:
|
|
تراث الإمام المرتضى علي بن أبي طالب
(عليه السلام)
|
|
إنّ أوّل عمل اهتمّ به الإمام (عليه السلام) بعد وفاة الرسول
(صلَّى الله عليه وآله) ـ وقد كان بوصية منه (صلَّى الله عليه وآله) ـ هو جمعه
للقرآن الكريم ، وامتاز بترتيبه حسب النزول وتضمّن معلومات فريدة عن شأن النزول
والتفسير والتأويل الذي تحتاجه اُمّة محمّد (صلَّى الله عليه وآله) ، وقد عرضه
على الخليفة الأوّل فقال : لا حاجة لنا به ، فأشار (عليه السلام) إلى أنّهم سوف
لا يحصلون عليه بعد ذلك اليوم ، وهكذا كان ، والمعروف أنّه يتوارثه الأئمّة من
أبنائه (عليهم السلام) . واُثر عن الإمام ما سمّي بالصحيفة التي تضمّنت أحكام الدّيات
، وقد روى عنها البخاري ومسلم وابن حنبل ، كما اُثر عه ما سمّي بالجامعة التي
تضمّنت أو جمعت كلّ ما يحتاج إليه الناس من حلال و حرام ، ووصفها الإمام الصادق
بأنّ طولها سبعون ذراعاً ، وليس من قضية إلاّ وهي فيها حتى أرش الخدش . وتضمّن كتاب الجفر ما يرتبط بحوادث المستقبل وصحف الأنبياء
السابقين ، وقد يشبهه مصحف فاطمة وهو ما أملته عليه فاطمة الزهراء (عليها
السلام) بعد وفاة أبيها ممّا كانت تُلهم به من مفاهيم (أصول
الكافي : الجزء الأول باب ذكر الصحيفة والجفر والجامعة ومصحف فاطمة . وراجع :
سيرة الأئمّة الاثني عشر : 1 / 96 ـ 99 و 274 ـ 294 .) . وكلّ هذه الكتب تعتبر من مواريث
الإمامة التي يتناقلها الأئمّة (عليهم السلام) إماماً بعد إمام . وقد تصدّى جمع من علماء الأمة إلى جمع ما اُثر عن الإمام
(عليه السلام) من خطب ورسائل وكلمات ، وسمّيت بأسماء تتناسب مع أغراض جامعيها ،
وأوّلها وأشهرها ما سمّي بـ (نهج البلاغة) للشريف الرضي المتوفى (404 هـ) ، وقد
انطوى على روائع فكر الإمام في شتى المجالات العقائدية والأخلاقية وأنظمة الحكم
والإدارة والتأريخ والاجتماع وعلم النفس والدعاء والعبادة وسائر العلوم الطبيعية
والإنسانية ، وهو ما اختاره الشريف الرضي من خطبه ورسائله ووصاياه وكلماته
البليغة . ومن هنا فقد تصدّى علماء آخرون لجمع ما لم يجمعه الشريف الرضي وسمّي
بمستدرك نهج البلاغة . وجمع النسائي المتوفى (303 هـ) ما رواه الإمام علي عن رسول
الله (ص) وسمَّاه بـ (مسند الإمام عليّ (ع)) . وجمع الآمدي (المتوفّى بين 520 و 550 هـ) قصار كلماته
الحكمية وسمّاها بـ (غررالحكم ودرر الكلم) . وجمع أبو إسحاق الوطواط (المتوفّى بين 553 و 583 هـ) من
كلامه ما سمّاه بـ (مطلوب كلّ طالب من كلام عليّ بن أبي طالب) . وأثرت عن الجاحظ
المتوفى (255 هـ) (مائة كلمة) للإمام عليّ (عليه السلام) و (نثر اللئالي) جمع
الطبرسي صاحب مجمع البيان ، وكتاب صفّين لنصر بن مزاحم اشتمل على مجموعة من خطبه
وكتبه . و(الصحيفة العلوية) وهي مجموعة من الأدعية التي أثرت عنه (عليه السلام)
. |
|
في رحاب نهج البلاغة :
|
|
إذا كان (القرآن الكريم) هو معجزة النبوة ؛ فإنّ (نهج
البلاغة) معجزة الإمامة ... فليست هذه العقلية العظيمة المتجلّية بذلك الأسلوب
العلوي الواضحة في كلّ فقرة من فقرات (النهج) وفي كلّ شذرة من تلك الشذور إلاّ
غرس ذلك النبيّ العظيم المستمدّ من وحي الله تعالى ، فما من موضوع يطرقه الإمام
إلاّ وترى نور الله يشعّ أمامه وهدي الرسول ينير له الطريق) (حياة
أمير المؤمنين في عهد النبي : 402 ، تأليف : محمد صادق الصدر .) . وقال الشريف الرضي (قدس سره) : كان أمير المؤمنين (عليه
السلام) مشرّع الفصاحة وموردها ومنشأ البلاغة ومولّدها ، ومنه (عليه السلام) ظهر
مكنونها وعنه أخذت قوانينها ، وعلى أمثلته حذا كلّ قائل خطيب ، وبكلامه استعان
كلّ واعظ بليغ ، ومع ذلك فقد سبق وقصّروا ، وقد تقدّم وأخّروا ، لأنّ كلامه
(عليه السلام) الكلام الذي عليه مسحة من العلم الإلهي ، وفيه عبقة من الكلام
النبويّ . |
|
في رحاب العقل والعلم والمعرفة :
|
|
1
ـ لا غنى كالعقل ولا فقر كالجهل ، والعقل ينبوع الخير
وأشرف مزيّة ، وأجمل زينة . 2 ـ العقل رسول الحقّ . العقل أقوى أساس .
والإنسان بعقله . وبالعقل صلاح كلّ أمر . 3 ـ العلم غطاء وساتر والعقل حسام قاطع ، فاستُر
خلل خُلقك بحلمك، وقاتل هواك بعقلك . والفكر مرآة صافية . 4 ـ العقل صاحب جيش الرحمن ، والهوى قائد جيش
الشيطان ، والنفس متجاذبة بينهما فأيّهما غلب كانت في حيّزه . 5 ـ أفضل حظّ الرجل عقله ، إن ذلّ أعزّه ، وإن
سقط رفعه ، وإن ضلّ أرشده ، وإن تكلّم سدّده . 6 ـ إنّ أفضل الناس عند الله من أحيا عقله وأمات
شهوته وأتعب نفسه لإصلاح آخرته
. 7 ـ على قدر العقل يكون الدين . ما آمن المؤمن
حتى عقل . قيمة كلّ امرئ عقله
. 8 ـ وعرّف العقل بما يلي : أ ـ إنّما العقل التجنّب من الإثم والنظر في
العواقب والأخذ بالحزم
. ب ـ العقل أصل العلم وداعية الفهم . ج ـ العقل غريزة تزيد بالعلم وبالتجارب . د ـ للقلوب خواطر سوء والعقول تزجر عنها . هـ غريزة العقل تأبى ذميم الفعل . و ـ العاقل من يعرف خير الشرّين . |
|
في رحاب القرآن الكريم والسنّة النبويّة المباركة :
|
|
1
ـ قال (عليه السلام) : وأنزل عليكم الكتاب تبياناً لكلّ شيء وعَمَّر
فيكم نبيّه أزماناً حتى أكمل له ولكم ـ فيما أنزل من كتابه ـ دينه الذي رضي
لنفسه . 2 ـ ذلك القرآن فاستنطقوه ولن ينطق ، ولكن أخبركم
عنه ، ألا إنّ فيه علم ما يأتي ، والحديث عن الماضي ، ودواء دائكم ، ونظم ما
بينكم ، وينطق بعضه ببعض ، ويشهد بعضه على بعض ، ولا يختلف في الله ولا يخالف
بصاحبه عن الله ، ولا يَعوَجُّ فيقام ولا يزيغ فيستعتب ... ولا تخلقه كثرة الردّ
وولوج السمع ... لا تفنى عجائبه ، ولا تنقضي غرائبه ن ولا تكشف الظلمات إلاّ به
. وفيه ربيع القلب ... وما
للقلب جلاء غيره .. فهو معدن الإيمان وبحبوحته ، وينابيع العلم وبحوره ورياض
العدل وغدرانه ، وأثافيّ الإسلام وبنيانه ، وأودية الحق وغيطانه ، وبحر لا ينزفه
المستنزفون ، وعيون لا ينضبها الماتحون ، ومناهل لا يغيضها الواردون .. جعله
الله ريّاً لعطش العلماء وربيعاً لقلوب الفقهاء ، ومحاجَّ لطرق الصلحاء ...
وعلماً لمن وعى ، وحديثاً لمن روى ، وحكماً لمن قضى .. وشفاءً لا تخشى أسقامه ..
ودواءً ليس بعده داء ... فاستشفوه من أدوائكم ، واستعينوا به على لأوائكم ؛ فإنّ
فيه شفاءً من أكبر الداء . وهو الكفر والنفاق والغيّ والضلال (راجع
الخطبة 176 من نهج البلاغة ، طبعة صبحي الصالح .) . وأما سُنَّةُ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) فقد دعا
الإمام إلى العمل بها، وبيَّن موقع الأئمّة وموقفهم المشرّف في إيصال السنّة
الصحيحة إلى الأمة وإحياء ما أماته المبطلون من سنّة رسول الله (صلَّى الله عليه
وآله) وأسباب انحراف من انحرف عن مدار السُّنة . قال (عليه السلام) : اقتدوا بهدي نبيّكم فإنّه
أفضل الهدي ، واستنّوا بسنّته فإنّها أهدى السنن . وقال (عليه السلام) : أحبّ العباد إلى الله المتأسّي
بنبيّه (صلَّى الله عليه وآله) والمقتصّ أثره . وقال (عليه السلام) : إرض بمحمّد (صلَّى الله
عليه وآله) رائداً والى النجاة قائداً . وقال (عليه السلام) : إنّ في أيدي الناس حقّاً
وباطلاً وصدقاً وكذباً وناسخاً ومنسوخاً وعامّاً وخاصّاً ومحكماً ومتشابهاً وحفظاً
ووهماً ، ولقد كذب على رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) على عهده حتى قام
خطيباً فقال : من كذّب عليّ متعمّداً ؛ فليتبوأ مقعده من النار . وقال (عليه السلام) : لا يُقاس بآل محمد (صلَّى
الله عليه وآله) من هذه الأمة أحد .. هم عيش العلم وموت الجهل .. لا يخالفون
الحقّ ولا يختلفون فيه .. هم دعائم الإسلام وولائج الاعتصام ، بهم عاد الحقّ في
نصابه ، وانزاح الباطل عن مقامه ، وانقطع لسانه عن منبته . عقلوا الدين عقل
وعاية ورعاية لا عقل سماع ورواية . هم موضع سرّ رسول الله (صلَّى الله عليه
وآله) وحماة أمره وعيبة علمه وموئل حكمه وكهوف كتبه وجبال دينه ، هم مصابيح
الظلم وينابيع الحِكمَ ومعادن العلم ومواطن الحلم . وقال (عليه السلام) : وإنّي لعلى بيّنة من ربّي
ومنهاج من نبيّي ، وإنّي لعلى الطريق الواضح ألفظه لفظاً(راجع
المعجم الموضوعي لنهج البلاغة : 42 ـ 53 و 101 وتصنيف غرر الحكم : 109 ـ 117 .) |
|
في رحاب التوحيد والعدل والمعاد :
|
|
قال (عليه السلام) في مجال إثبات وجوده تعالى :
الحمد لله الدالّ على وجوده بخلقه وبمحدث خلقه على أزليته وباشتباههم على أن لا
شبه له
. وقال :
عجبت لمن شكّ في الله وهو يرى خلق الله .. بل ظهر للعقول بما أرانا من علامات
التدبير المتقن والقضاء المبرم
. وحين سُئل (عليه السلام) : هل رأيت ربّك ؟ أجاب :
وكيف أعبد ربّاً لم أره ؟
ثمّ قال : لا تدركه العيون بمشاهدة العيان ولكن تدركه
القلوب بحقائق الإيمان .. عظم عن أن تثبت ربوبيّته بإحاطة قلب أو بَصَر . وجاء في دعائه المعروف بدعاء الصباح : يا
من دلّ على ذاته بذاته ، وتنزّه عن مجانسة مخلوقاته ، وجلّ عن ملائمة كيفياته .
يا من قرب من خطرات الظنون وبَعُد عن لحظات العيون ، وعلم بما كان قبل أن يكون
... لقد شحن الإمام خطبه العلوية بآيات القدرة الإلهية السماوية
والأرضية ، وأطنب فيها إطناب الخبير البصير ، ففصّل آيات القدرة والعظمة تفصيلاً
يعطي للمطالع إيماناً وخشوعاً لله وخضوعاً لعظمته ، بحيث يلمس السامع لخطبه
(عليه السلام) أنّه كما قال : والله لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً . وقدّم الإمام تصويراً دقيقاً لصفاته تعالى بحيث صار معياراً
للبحوث الفلسفية الدقيقة ومفتاحاً للدخول إلى مثل هذه البحوث التي تضلّ فيها
الأفكار لو لا الهداية الربّانية الموجّهة . قال (عليه السلام) : وكمال توحيده الإخلاص له
. وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه ، لشهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف وشهادة
كلّ موصوف أنّه غير الصفة ، فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه ، ومن قرنه فقد ثنّاه
، ومن ثنّاه فقد جزّأه ، ومن جزّأه فقد جهله ، ومن جهله فقد أشار إليه ، ومَن
أشار إليه فقد حدّه ، ومن حدّه فقد عدّه ... كائن لا عن حدث ، موجود لا عن عدم ،
مع كلّ شيء لا بمقارنة وغير كلّ شيء لا بمزايلة . وقال (عليه السلام) : مستدلاً على وحدانيته : واعلم
يا بني ، إنّه لو كان لربّك شريك لأتتك رسله ولرأيت آثار ملكه وسلطانه ، واعلم
يا بُني أنّ أحداً لم ينبئ عن الله سبحانه كما أنبأ عنه الرسول (صلَّى الله عليه
وآله) فارض به رائداً
. وقال عن عدله تعالى : وارتفع عن ظلم عباده وقام
بالقسط في خلقه وعدل عليهم في حكمه وعدل في كلّ ما قضى . وقال : فإنّه
لم يأمرك إلاّ بحسن ولم ينهك إلاّ عن قبيح وإنّ حكمه في أهل السماء والأرض لواحد
. وما كان الله ليدخل الجنّة بشراً بأمرٍ أخرج به منها ملكاً . |
|
في رحاب القيادة
الإلهية (النبوّة والإمامة) :
|
|
الهداية الإلهية عبر القادة المهديّين الذين اختارهم الله
لهداية عباده هي سنّة الله الدائمة لخلقه الذين زوّدهم بالعقل والعلم وسلّحهم
بسلاح الإرادة والاختيار . وتبدأ هذه السُنّة لهذه البشرية باختيار آدم خيرة من خلقه ..
: فأهبطه
بعد التوبة ليعمر أرضه بنسله وليقيم الحجّة به على عباده ، ولم يخلهم بعد أن
قبضهم ممّا يؤكد عليهم حجّة ربوبيّته ويصل بينهم وبين معرفته ، بل تعاهدهم
بالحجج على ألسن الخيرة من أنبيائه ومتحمّلي ودائع رسالاته قرناً فقرناً ...
فاستودعهم في أفضل مستودع ، وأقرّهم في خير مستقر ، تناسختهم كرائم الأصلاب إلى
مطهّرات الأرحام .. حتى أخرج آخرهم نبيّنا محمداً (صلَّى الله عليه وآله) من
أفضل المعادن منبتاً وأعزّ الأُرومات مغرساً ، من الشجرة التي صدع منها أنبياءه
وانتجب منها أمناءه
. ووصف الإمام (عليه السلام) زهد الأنبياء وشجاعتهم وتواضعهم
ورعاية الله لهم وتربيته لهم بالاختبار والابتلاء وتعريضهم للأذى في سبيل الله ،
وبيّن وظائفهم المتمثّلة في التبليغ والدعوة إلى الله سبحانه والتبشير والإنذار
وإقامة حكم الله في الأرض وهداية الناس بإخراجهم من الجهل والضلالة ومجاهدة
أعداء الله . وتستمرّ مسيرة الهداة الربّانيين على مدى العصور إلى يوم
القيامة ، فلا تخلو الأرض من قائم لله بحجّة ، إمّا ظاهراً مشهوراً وإمّا خائفاً
مستوراً لئلاّ تبطل حجج الله وبيّناته ... وحيث خُتمت النبوة بمحمّد (صلَّى الله
عليه وآله) انتهى أمر الهداية إلى عترته التي هي خير العتر ، إن نطقوا صدقوا وإن
صمتوا لم يسبقوا ، وهم شجرة النبوّة ومحطّ الرسالة ومختلف الملائكة ومعادن العلم
وينابيع الحكم ، والأعظمون عند الله قدراً .. يحفظ الله بهم حججه وبيّناته ..
بهم عُلِم الكتاب وبه عُلموا ، فيهم كرائم القرآن وكنوز الرحمن ، فهم الراسخون
في العلم ... يخبركم حلمهم عن علمهم وظاهرهم عن باطنهم وصمتهم عن حكم منطقهم ،
لا يخالفون الحقّ ولا يختلفون فيه ، وهم دعائم الإسلام وولائج الاعتصام ، بهم
عاد الحقّ إلى نصابه وانزاح الباطل عن مقامه ، فهم أساس الدين وعماد اليقين ،
إليهم يفيء الغالي وبهم يلحق التالي ، لهم خصائص حقّ الولاية وفيهم الوصية
والوراثة . لقد أكّد الإمام على موقف أهل البيت القيادي الفكري والسياسي
وأدان زحزحة القيادة عن موقعها الذي عيّنه رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)
واعترض على خطّ الخلفاء جملةً وتفصيلاً ، بالرغم من اضطراره للتنازل عن حقّه
وجهد في تقديم الأطروحة النبويّة للقيادة بعد الرسول بشكل ناصع ، وجاهد من أجل
إحقاق الحقّ بشكل حكيم وأسلوب كان ينسجم مع حساسية الظرف التي كانت تمرّ بها
الدولة والاُمّة الإسلامية حينذاك ، واستطاع أن يقدّم النظرية كاملة ويعدّ
العدّة لتطبيقها حينما تسمح له الظروف (راجع
المعجم الموضوعي لنهج البلاغة : 87 ـ 116 و 374 ـ 445 .) . |
|
في رحاب الإمام المهدي (عليه السلام) :
|
|
استأثر التبشير بقضيّة الإمام المهدي (عج) اهتمام القرآن
الكريم والنبيّ العظيم والإمام المرتضى على الرغم من التشتّت الذي كان يعيشه ذلك
المجتمع المضطرب بعد الرسول (صلَّى الله عليه وآله) ، قال (عليه السلام) : ألا
وفي غدٍ ـ وسيأتي غدٌ بما لا تعرفون ـ يأخذ الوالي من غيرها عمّالَها على مساوئ
أعمالها ، وتُخرج له الأرض أفاليذ كبدها ، وتلقي إليه سِلْماً مقاليدَها ،
فيريكم كيف عدلُ السيرة ، ويُحيي ميِّت الكتاب والسُنّة
(من
الخطبة 138 من نهج البلاغة .) . إنّها رؤية دقيقة محدّدة مضيئة واضحة المعالم ، تتمثّل في
قيام ثورة عالمية تصحّح وضع العالم الإسلامي بل الإنساني أجمع ، قال (عليه
السلام) عن قائدها : يعطف الهوى على الهدى إذا عطفوا الهدى على
الهوى ، ويعطف الرأي على القرآن إذا عطفوا القرآن على الرأي (المصدر
السابق .) . وقد تصدّت مؤسّسة نهج البلاغة لجمع الأحاديث التي وردت عن
الإمام عليّ (عليه السلام) حول الإمام المهدي (عج) وقد اجتمعت في جزء واحد وبلغ
مجموعه (291) حديثاً ، أربعة عشر منها عن اسم المهدي وصفاته ودعائه وسبعة وسبعون
منها عن نسب الإمام وأنّه من قريش وبني هاشم ومن أهل البيت ومن ولد عليّ ، وأنّه
من ولد فاطمة ، بل من ولد الحسين وأحد الأئمّة الإثني عشر ن وخمسة وأربعون منها
ترتبط بالمهدي في القرآن ونهج البلاغة وشعر أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وثلاثة
وعشرون منها حول أنصار المهدي والرايات السود ، واثنا عشر منها حول السفياني
والدجّال ، وستة وعشرون منها عن غيبة المهدي ومحن الشيعة عند الغيبة وفضيلة
انتظار الفرج ، وخسمة وسبعون منها حول الفتن قبل المهدي وعلائم الظهور وما بعد
الظهور ودابّة الأرض ويأجوج ومأجوج ، وتسعة عشر منها ترتبط بفضل مسجد الكوفة
وخروج رجل من أهل بيته (عليهم السلام) بأهل المشرق يحمل السيف على عاتقه ثمانية
أشهر حتى يقولوا : والله ما هذا من ولد فاطمة .. ثم يبيّن حكم الأرض عند ظهور
القائم (عليه السلام) وحكومته وكيفية ختم الدين به . قال (عليه السلام) : يا كميل ، ما من علم إلاّ
وأنا أفتحه ، وما من سرٍّ إلاّ والقائم (عليه السلام) يختمه .. يا كميل ، لا بدّ
لِماضيكم من أوبة ، ولابدّ لنا فيكم من غلبة ... (عن بشارة المصطفى ك 24 ـ 31
.) . بنا يختم الدين كما بنا
فُتح ، وبنا يستنقذون من ضلالة الفتنة كما استنقذوا من ضلالة الشرك ، وبنا يؤلّف
الله قلوبهم في الدين بعد عداوة الفتنة كما ألّف بين قلوبهم ودينهم بعد عداوة
الشِرك (عن
ملاحم ابن طاووس : 84 ـ 85 .) . ولو قد قام قائمنا ؛
لأنزلت السماء قطرها وأخرجت الأرض نباتها ، وليذهب الشحناء من قلوب العباد ،
وأصلحت السباع والبهائم حتى تمشي المرأة من العراق إلى الشام لا تضع قدمها إلاّ
على النبات وعلى رأسها زينتها لا يهيجها سبع ولا تخافه (عن
خصال الصدوق : 2 / 418 . وراجع موسوعة أحاديث أمير المؤمنين ، الجزء الأول ما
روى عنه حول الإمام المهدي (عليه السلام). مؤسّسة نهج البلاغة .) . |
|
في رحاب الحكم الإسلامي : فلسفته وأصوله
|
|
لقد قدَّم الإمام (عليه السلام) نموذجاً عمليّاً فريداً في
الحكم الإسلامي بعد عصر الرسول (صلَّى الله عليه وآله) وقد قرن ذلك بنظرية كاملة
منسجمة الأبعاد والجوانب تمثّلت في كتابه وعهده المعروف لمالك الأشتر حين ولاّه
مصر ، وقد اهتمّ الاجتماعيون بهذا العهد شرحاً وتعليقاً وتبييناً ومقارنةً
بأنظمة الحكم الأخرى ، ويعتبر هذا النص دليلاً من أدلّة إمامته (عليه السلام)
وبه تتميّز مدرسة أهل البيت عن سائر الاتّجاهات التي حملت اسم الإسلام والخلافة
الإسلامية ، وبالإضافة إلى هذا النصّ المعجز نجد في نهج البلاغة وغيره من النصوص
التي وصلتنا عنه (عليه السلام) ما يعيننا على كشف نظرية الإمام ونظرية الإسلام
الفريدة عن فلسفة الحكم ونظامه أصولاً وفروعاً ، ونشير إلى الخطوط العريضة
بإيجاز . لقد أكّد الإمام (عليه السلام) على أنّ الحكم ضرورة اجتماعية
بقوله : لابدّ
للناس من أمير برّ أو فاجر ، والإمامة نظام الأمة . وبيّن أنّ الحكم مختبر الحياة
قائلاً :
القدرة تُظهر محمود الخصال ومذمومها . وأوضح أنّ الحكم عرض زائل فلا ينبغي الاغترار به بقوله :
الدولة كما تُقبل تُدبر
. ثمّ أفاد أنّ الحكم النموذجي هو الذي يكون ذا قيمة ويستحقّ التمهيد والتخطيط
له . وأمّا الخطوط العريضة لنظام الحكم الإسلامي ومهام
الدولة النموذجية فتتمثّل في : 1 ـ تثقيف الأمة . 2
ـ إقامة العدل . 3 ـ حماية الدين . 4 ـ إقامة الحدود . 5 ـ تربية المجتمع . 6 ـ
الاجتهاد في النصيحة والإبلاغ في الموعظة. 7 ـ توفير الفيء وتحسين الوضع المعيشي
للناس . 8 ـ الدفاع عن استقلال وكرامة الأمة . 9 ـ توفير الأمن
الداخلي . 10 ـ نصرة المستضعفين . 11 ـ إغاثة الملهوفين . 12 ـ الاهتمام بالعمران . وأمّا الحاكم النموذجي فينبغي له أن يتمتّع بجملة
من الصفات والتي تكون من أهمّ عوامل ثبات حكمه ، وهي ملخّصاً كما يلي : 1 ـ الانقياد للحقّ
. 2 ـ تفهّم الأمور . 3 ـ سطوع البيان . 4 ـ الشجاعة في إقامة الحقّ . 5 ـ حسن
النيّة . 6 ـ الإحسان إلى الرعية . 7 ـ عفّة النفس . 8 ـ عموم العدل . 9 ـ
التدبير والاقتصاد . 10 ـ الإنصاف . 11 ـ الرفق . 12 ـ الحلم . 13 ـ الدفاع عن
الدين . 14 ـ كثرة الورع . 15 ـ الشعور بالأمانة والمسؤولية . 16 ـ اليقظة . 17
ـ التكليف بما يُطيقه الشعب . 18 ـ عدم الاغترار بالقدرة . 19 ـ التوزيع الصحيح
للأعمال وتعيين مسؤولية كلّ فرد بما يناسبه . 20 ـ البذل والجود من غير إسراف من
كلّ ما يملك . وقد طفحت كلمات الإمام (عليه السلام) بعوامل سقوط
الدول وآفات الحكم محذّراً الحكّام والعمّال والولاة منها ، ويمكن إيجازها كما
يلي : 1 ـ الجهل . 2 ـ الاستبداد بالرأي وترك المشورة . 3 ـ إتّباع
الهوى . 4 ـ تعدّد مراكز القرار . 5 ـ إتّباع الباطل والاستخفاف بالدين . 6 ـ
البغي والظلم . 7 ـ التكبّر والفخر . 8 ـ منع الإحسان. 9 ـ الإسراف والتبذير .
10 ـ الغفلة . 11 ـ الانتقام . 12 ـ سوء التدبير . 13 ـ قلّة الاعتبار وعدم
الانتفاع بالتجارب . 14 ـ كثرة الاعتذار وتراكم الأخطاء . 15 ـ تضييع الأصول .
16 ـ تقديم الأراذل وغير الجديرين للمناصب الإدارية على الأفراد الأكفاء ، قال
(عليه السلام) : تولّي الأراذل والأحداث الدُوَل دليل
انحلالها وإدبارها
. 17 ـ الخيانة ، قال (عليه السلام) : إذا
ظهرت الخيانات ارتفعت البركات ، ومن خانه وزيره فسد تدبيره . 18 ـ ضعف السياسة ، قال (عليه
السلام) : آفة الزعماء ضعف السياسة ، وآفة القوي
استضعاف الخصم ، ومن تأخّر تدبيره تقدّم تدميره ، 19 ـ سوء السيرة ، قال (عليه السلام) :
آفة الملوك سوء السيرة
. 20 ـ عجز العمّال والولاة . 21 ـ ضعف الحماية الشعبية للحاكم ، قال (عليه
السلام) : آفة المُلك ضعف الحماية . 22 ـ سوء الظنّ بالنصيح من علامات
الإدبار . 23 ـ طمع القادة وحرصهم وجشعهم على ملذّات الحياة الدنيا، قال (عليه
السلام) : السيّد من لا يصانع ولا يخادع ولا تغرّه
المطامع ،
وقال (عليه السلام) : الطمع يذلّ الأمير . 24 ـ وفقدان الأمن . |
|
في رحاب العبادات والفرائض :
|
|
قال (عليه السلام) : إنّ الله سبحانه فرض عليكم
فرائض فلا تضيّعوها ، وحدّ لكم حدوداً فلا تعتدوها ، ونهاكم عن أشياء فلا
تنتهكوها ، وسكت عن أشياء ولم يدعها نسياناً فلا تتكلّفوها ، ولم يأمركم إلاّ
بحسن ، ولم ينهكم إلاّ عن قبيح . وقال (عليه السلام) : عليك بحفظ كلّ أمر لا تعذر
بإضاعته . وقال : أوّل ما يجب عليكم لله سبحانه شُكر أياديه وابتغاء مراضيه ،
وطوبى لمن حافظ على طاعة ربّه ، وسارعوا إلى فعل الطاعات وسابقوا إلى فعل
الصالحات ، فإن قصّرتم فإيّاكم أن تقصّروا عن أداء الفرائض ، ولا قربة بالنوافل
إذا أضرّت بالفرائض ، ولا عبادة كأداء الفرائض . واهتمّ الإمام (عليه السلام) ببيان فلسفة جملة من
التشريعات قائلاً : فرض الله سبحانه الإيمان تطهيراً من الشرك ،
والصلاة تنزيهاً عن الكبر ، والزكاة تسبيباً للرزق ، والصيام ابتلاءً لإخلاص
الخلق ، والحجّ تقوية للدين ، والجهاد عزّاً للإسلام ، والأمر بالمعروف مصلحة
للعوام، والنهي عن المنكر ردعاً للسفهاء ، وصلة الأرحام منماةً للعدد ، والقصاص
حقناً للدماء ، وإقامة الحدود إعظاماً للمحارم ، وترك شرب الخمر تحصيناً للعقل ،
ومجانبة السرقة إيجاباً للعفّة ، وترك الزنا تحصيناً للأنساب ، وترك اللواط
تكثيراً للنسل ، والشهادة استظهاراً على المجاحدات ، وترك الكذب تشريفاً للصدق ،
والإسلام أماناً من المخاوف، والإمامة نظاماً للأمة ، والطاعة تعظيماً للإمامة . وقال (عليه السلام) أيضاً : زكاة البدن الجهاد والصيام
، وزيارة بيت الله أمن من عذاب جهنّم . وقال (عليه السلام) : وَامر بالمعروف تكن من
أهله ، وأنكر المنكر بيدك ولسانك وباين من فعله بجُهدِك ، وغاية الدين الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الحدود ، والجهاد عماد الدين ومنهاج السعداء،
ومن جاهد على إقامة الحقّ وفِّق ، والمجاهدون تفتّح لهم أبواب السماء ، وثواب
الجهاد أعظم الثواب (تصنيف غرر الحكم : 175 ـ 190
و 331 ـ 335 ، والمعجم الموضوعي لنهج البلاغة : 140 ـ 150 و 216 ـ 239 .) . |
|
في رحاب الأخلاق والتربية :
|
|
اعتنى الإمام المرتضى بتربية المجتمع وحاول أن يعالج
الانحراف الأخلاقي في الإنسان من جذوره العميقة ، فوصف الداء الأساسي بقوله
(عليه السلام) : ألا وإنّ حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة . ثمّ بيّن السبب الأعمق في هذا
الحبّ حينما أوضح الأسباب العميقة التي كانت تكمن وراء التآمر على الأطروحة
النبويّة للخلافة والسرّ في استلاب الحكم منه بالرغم من تواتر النصوص النبويّة
الكثيرة وإتمام الحجّة على المسلمين قائلاً : بلى لقد سمعوها ووعَوْها
ولكن حليت الدنيا في أعينهم وراقهم زبرجها . ويترتّب على هذا الحبّ الشديد أنّ الإنسان سوف يستخدم مختلف
الوسائل للوصول إلى ما يصبوا إليه فإنّ حبّ الشيء يُعمي ويصمّ ولهذا برّر
الخلفاء تقمّصهم الخلافة بمختلف التبريرات التي دحضتها حجج الإمام (عليه السلام)
الدامغة ، ولكن استمرّ التصلّب على الموقف الذي أدانه الإمام (عليه السلام) .
وإذا سألنا الإمام (عليه السلام) عن الدواء الناجع لعلاج هذا السبب الأعمق في
الانحراف ؛ وجدناه العلاج في وصفه الدقيق للمتّقين في الخطبة المعروفة بخطبة
همّام حيث وضّح السرّ الذي أوصلهم إلى هذه المرتبة من الكمال المتمثّلة بالتقوى
بقوله : لقد
عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم . وهكذا تكون المعرفة الحقيقية بالله العظيم سبباً في حقارة
الدنيا في أعين عباده المتّقين ، وإذا صغرت الدنيا في أعينهم ؛ لم تكن الدنيا
غاية همّتهم ولم يجدّوا في اقتنائها ، بل يحرصوا عليها وعلى ملكها كما لم يحرص
عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) عليها فقد تنازل عن الخلافة حينما استبدّت بها
قريش قائلاً : فإنّها كانت إثرة شحّت عليها نفوس قوم وسخت
عنها نفوس آخرين والحَكَم الله والموعد القيامة. ومن هنا نشأت في المجتمع الإسلامي أخلاقيتان متميّزتان :
أخلاقية عليّ النموذجية التي تدين السياسة الميكافيلية ، وأخلاقية الخلفاء التي
كانت ترى مشروعية الوصول إلى الحكم بأيّة وسيلة ممكنة ، ومن هنا كان زهد عليّ في
الحكم وحرص غيره عليه (المعجم الموضوعي لنهج
البلاغة : 282 ـ 356 و 194 ـ 214 و 152 ـ 169 و 374 ـ 379 ، وتصنيف غرر الحكم :
القسم الأخلاقي : 205 ـ 323 و 127 ـ 147 .) . |
|
في رحاب الدعاء والمناجاة :
|
|
اهتمّ الإمام عليّ (عليه السلام) كما اهتم سائر الأئمة من
أهل البيت (عليهم السلام) بحقل الدعاء والمناجاة بعد أن فتح القرآن الكريم هذا
الباب قائلاً للرسول (صلَّى الله عليه وآله) : (قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ
رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ) وبيّن
أهميّة الدعاء بنصوصه وسيرته فقال (عليه السلام) : (الدعاء سلاح الأولياء ) . وتضمّن نهج البلاغة مجموعة من الأدعية العلويّة لشتى الأغراض
والمجالات ، وجمعت أدعيته (عليه السلام) فيما يُسمّى بالصحيفة العلوية. ومن غرر
أدعيته الدعاء المعروف بدعاء كميل ودعاء الصباح والمناجاة الشعبانية ، ونشير إلى
مقطع من مناجاته المنظومة التي أثرت عنه ، قال (عليه السلام) : لك
الحمد يا ذا الجود والمجد والعلى = تباركت تعطي من تشاء وتمنعُ إلهي
وخلاّقي وحرزي وموئلي = إليك لدى الإعسار واليُسر أفزعُ إلهي
لئن جلّت وجمّت خطيئتي = فعفوك عن ذنبي أجلّ وأوسعُ إلهي
ترى حالي وفقري وفاقتي = وأنت مناجاتي الخفيةَ تسمعُ إلهي
فلا تقطع رجائي ولا تُزغ = فؤادي فلي في سيب جودك مطمعُ إلهي
لئن خيّبتني أو طردتني = فمن ذا الذي أرجو من ذا اُشفِّعُ؟ إلهي
أجرني من عذابك إنّني = أسير ذليل خائف لك أخضعُ إلهي
لئن عذّبتني ألف حجّة = فحبل رجائي منك لا يتقطّعُ إلهي
إذا لم تعفُ عن غير محسن = فمن لمسيء بالهوى يتمتّعُ؟ إلهي
حليف الحبّ في الليل ساهر = يناجي ويدعو والمغفّل يهجعُ (الصحيفة العلوية ومفاتيح الجنان .) |
|
في رحاب أدب الإمام (عليه السلام) :
|
|
لقد تعرّفنا على مجموعة من النصوص المنثورة والمنظومة التي
أثرت عن الإمام (عليه السلام) في نهج البلاغة أو غيره من الكتب التي اهتمّت
بتراث الإمام (ع) ، ولاحظنا القمّة الشاهقة التألّق التي بلغها الإمام سواء في
ميدان الخطابة أو الكتب والرسائل أو الكلمات الحكمية والمواعظ أو ميدان الشعر ،
ولا نبالغ إذا قلنا ـ كما قال متخصّصو الأدب ـ إنّ أجود نتاج أدبي عرفه التأريخ
فنّاً وعمقاً وفكراً هو نتاج الإمام عليّ (عليه السلام) (تأريخ الأدب العربي في ضوء المنهج الإسلامي
للدكتور محمود البستاني : أدب الإمام علي (عليه السلام) .) . ونختار نماذج منظومة من أدبه (عليه السلام) في مختلف المجالات
، علماً بأنّ هناك ديوان شعر منسوباً إليه ، وقد اعتمده بعض المؤرّخين واستشهدوا
بنماذج أدبيّة من نصوصه (راجع : في رحاب أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) للسيد محسن الأمين : 2 / 301
ـ 313 .) . قال (عليه السلام) في رثاء أبيه أبي طالب رضوان الله تعالى
عليه . أبا
طالبٍ عصمة المستجير = وغيث المحول ونور الظُلَم لقد
هدّ فقدُكَ أهل الحفاظ = فصلّى عليك وليّ النِعَم ولقّاك
ربّك رضوانه = فقد كنت للمصطفى خير عمّ (راجع : الغدير : 3 / 106 و
7 / 378 , 379 .) وجاء عن الجاحظ والبلاذري : أن عليّاً أشعر الصحابة وأفصحهم
وأخطبهم وأكتبهم ، وممّا قاله يوم بدر : نصرنا
رسول الله لمّا تدابروا = وثاب إليه المسلمون ذوو الحجى ضربنا
غواة الناس عنه تكرّماً = ولمّا يروا قصد السبيل ولا الهدى ولما
أتانا بالهدى كان كلّنا = على طاعة الرحمن والحقّ والتقى وممّا أورده سبط ابن الجوزي في تذكرة الخواص قوله (عليه
السلام) : للناس
حرص على الدنيا بتدبير = وصفوها لك ممزوج بتكدير لم
يرزقوها بعقل حينما رزقوا = لكنّما رزقوها بالمقادير لو
كان عن قوّة أو عن مغالبةٍ = طار البزاة بأرزاق العصافير وعنه (عليه السلام) : داؤك فيك وما تشعر =
وداؤك منك وما تبصر وتحسب أنّك جرم صغير =
وفيك انطوى العالم الأكبر فسلام عليك يا أبا الحسن والحسين يا سيّد البلغاء والشعراء
يوم ولدت ويوم آمنت وجاهدت ويوم صبرت وآثرت ويوم أقمت حدود الله واستشهدت صابراً
محتسباً ويوم تبعث حياً ، تقود أحبّاءك على الحوض إلى جنّات النعيم . والحمد لله ربّ العالمين |
|
أعلام الهداية
|
|
الإمام أمير
المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)
|
|
المجمع
العالمي لأهل البيت(عليهم السلام) قم
المقدسة
|
|
أهل البيت في
القرآن الكريم |
|
أهل البيت في
السنة النبويّة |
|
فهرس
إجمالي
|
|
الباب الأول: الفصل الأول: الإمام علي بن
أبي طالب (عليه السلام) في سطور ... الفصل الثاني: انطباعات عن
شخصية الإمام علي (عليه السلام) ... الفصل الثالث: مظاهر من شخصية
الإمام علي (عليه السلام) ... 29 الباب الثاني: الفصل الأول: نشأة الإمام علي
بن أبي طالب (عليه السلام) ... الفصل الثاني: مراحل حياة
الإمام علي (عليه السلام) ... الفصل الثالث: من الولادة إلى
وفاة الرسول (صلَّى الله عليه وآله) ... الباب الثالث : الفصل الأول : عصر الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ... الفصل الثاني : الإمام عليّ (عليه السلام) في عهد أبي بكر ... الفصل الثالث : الإمام عليّ (عليه السلام) في عهد عمر ... الفصل الرابع : الإمام عليّ (عليه السلام) في عهد عثمان ... الباب الرابع : الفصل الأول : الإمام عليّ (عليه السلام) بعد مقتل عثمان ... الفصل الثاني : الإمام عليّ (عليه السلام) مع الناكثين ... الفصل الثالث : الإمام عليّ (عليه السلام) مع القاسطين ... الفصل الرابع : الإمام عليّ (عليه السلام) مع المارقين ... الفصل الخامس : الإمام عليّ (عليه السلام) شهيد المحراب الفصل السادس : تراث الإمام عليّ بن
أبي طالب (عليه السلام) |
|
المقدمة
|
|
الحمد لله الذي أعطى كلّ شيء خلقه ثم هدى، ثم الصلاة
والسلام على من اختارهم هداةً لعباده، لا سيَّما خاتم الأنبياء وسيّد الرسل
والأصفياء أبو القاسم المصطفى محمد (صلَّى الله عليه وآله) وعلى آله
الميامين النجباء. )قُلْ
إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى)(الأنعام (6): 71). )وَاللَّهُ
يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)(البقرة (2): 213(. )وَاللَّهُ
يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ)(الأحزاب (33): 4( )وَمَنْ
يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)(آل عمران (3):
101(. )قُلِ
اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إلى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ
يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ
تَحْكُمُونَ)(يونس (10(: 35). )وَيَرَى
الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ
الْحَقَّ وَيَهْدِي إلى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ)(سبأ (34): 6(. )ومن
أضلّ ممن اتّبع هواه بغير هدىً من الله)(القصص (28):50). ( فالله تعالى هو مصدر الهداية. وهدايته هي الهداية
الحقيقية، وهو الذي يأخذ بيد الإنسان إلى الصراط المستقيم وإلى الحقّ القويم. وهذه الحقائق يؤيدها العلم ويدركها العلماء ويخضعون لها
بملء وجودهم. ولقد أودع الله في فطرة الإنسان النزوع إلى الكمال
والجمال ثمّ مَنّ عليه بإرشاده إلى الكمال اللائق به، وأسبغ عليه نعمة التعرّف
على طريق الكمال، ومن هنا قال تعالى: (وما خلقتُ الجنَّ والإنسَ إلاّ ليعبدونِ)(الذاريات (51): 56). (وحيث لا تتحقّق العبادة الحقيقية من
دون المعرفة، كانت المعرفة والعبادة طريقاً منحصراً وهدفاً وغايةً موصلةً إلى
قمّة الكمال. وبعد أن زوّد الله الإنسان بطاقتي الغضب والشهوة ليحقّق
له وقود الحركة نحو الكمال; لم يؤمَن عليه من سيطرة الغضب والشهوة; والهوى
الناشئ منهما، والملازم لهما فمن هنا احتاج الإنسان ـ بالإضافة إلى عقله وسائر
أدوات المعرفة ـ إلى ما يضمن له سلامة البصيرة والرؤية; كي تتمّ عليه الحجّة،
وتكمل نعمة الهداية، وتتوفّر لديه كلّ الأسباب التي تجعله يختار طريق الخير
والسعادة، أو طريق الشرّ والشقاء بملء إرادته. ويتولّى أنبياء الله ورسله وأوصياؤهم الهداة المهديّون
مهمّة الهداية بجميع مراتبها، والتي تتلخّص في: 1 ـ تلقِّي الوحي
بشكل كامل واستيعاب الرسالة الإلهية بصورة دقيقة. وهذه المرحلة تتطلّب الاستعداد
التام لتلقّي الرسالة، ومن هنا يكون الاصطفاء الإلهي لرسله شأناً من شؤونه، كما
أفصح بذلك الذكر الحكيم قائلاً: (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ)(الأنعام (6(: 124) و(اللَّهَ
يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ)(آل عمران (3): 179(. 2 ـ إبلاغ الرسالة
الإلهية إلى البشرية ولمن أرسلوا إليه، ويتوقّف الإبلاغ على الكفاءة التامّة
التي تتمثّل في (الاستيعاب والإحاطة اللازمة) بتفاصيل الرسالة وأهدافها
ومتطلّباتها، و (العصمة) عن الخطأ والانحراف معاً، قال تعالى: ( )كَانَ
النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ
وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ
النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ)(البقرة (2): 213(. 3 ـ تكوين اُمة
مؤمنة بالرسالة الإلهية، وإعدادها لدعم القيادة الهادية من أجل تحقيق أهدافها
وتطبيق قوانينها في الحياة، وقد صرّحت آيات الذكر الحكيم بهذه المهمّة مستخدمةً
عنواني التزكية والتعليم، قال تعالى: )يُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ
وَالْحِكْمَةَ)(الجمعة(62): ( 2) والتزكية هي
التربية باتجاه الكمال اللائق بالإنسان. وتتطلّب التربية القدوة الصالحة التي
تتمتّع بكلّ عناصر الكمال، كما قال تعالى: )لَقَدْ
كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)(الأحزاب(33(: 21). ولتحقيق أهداف الرسالة بشكل كامل كان من
الضروري: أ ـ أن تستمرّ القيادة الكفوءة في تطبيق الرسالة وصيانتها
من أيدي العابثين الذين يتربّصون بها الدوائر. ب ـ أن تستمرّ عملية التربية الصحيحة باستمرار الأجيال;
على يد مربٍّ كفوء علمياً ونفسياً حيث يكون قدوة حسنة في الخلق والسلوك كالرسول
(صلَّى الله عليه وآله(، يستوعب
الرسالة ويجسّدها في كل حركاته وسكناته. وتبلورت حياة الأئمّة الراشدين في استمرارهم على نهج
الرسول العظيم وانفتاح الأمة عليهم والتفاعل معهم كأعلام للهداية ومصابيح لإنارة
الدرب للسالكين المؤمنين بقيادتهم، فكانوا هم الأدلاّء على الله وعلى مرضاته،
والمستقرّين في أمر الله، والتامّين في محبّته، والذائبين في الشوق إليه،
والسابقين إلى تسلّق قمم الكمال الإنسانيّ المنشود. ولا يستطيع المؤرّخون والكتّاب أن يلمّوا بجميع زوايا
حياتهم العطرة ويدّعوا دراستها بشكل كامل، ومن هنا فإنّ محاولتنا هذه إنّما هي
إعطاء قبسات من حياتهم، ولقطات من سيرتهم وسلوكهم ومواقفهم التي دوّنها
المؤرّخون واستطعنا اكتشافها من خلال مصادر الدراسة والتحقيق، عسى الله أن ينفع
بها إنّه وليّ التوفيق. إنّ دراستنا لحركة أهل البيت (ع) الرسالية تبدأ برسول
الإسلام وخاتم الأنبياء محمد بن عبد الله (ص) وتنتهي بخاتم الأوصياء، محمد بن
الحسن العسكري المهدي المنتظر عجّل الله تعالى فرجه وأنار الأرض بعدله. ويختصّ هذا الكتاب بدراسة حياة الإمام علي بن أبي طالب
(ع)، أول أئمة أهل البيت (ع) بعد رسول الله ، وهو المعصوم الثاني من أعلام
الهداية والذي جسد الإسلام في كل مجالات حياته الشريفة فكان نبراساً ومتراساً
ومثلاً أعلى للبشرية بعد رسول الله محمد بن عبد الله (صلَّى الله عليه وآله(. ولا بدَّ لنا من تقديم الشكر إلى كل الإخوة الأعزّاء
الذين بذلوا جهداً وافراً وشاركوا في إنجاز هذا المشروع المبارك وإخراجه إلى
عالم النور، لا سيَّما أعضاء لجنة التأليف بإشراف سماحة السيد منذر الحكيم (حفظه
الله (. للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام) |
|
الباب
الأول:
|
|
فيه فصول: الفصل الأول: الإمام علي (عليه السلام) في سطور. |
|
الفصل الأوّل:
|
|
الإمام المرتضى عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) في سطور
|
|
* ـ هو أمير
المؤمنين وسيّد الوصيّين وأوّل خلفاء الرسول (صلَّى الله عليه وآله( المهديّين ـ بأمر من الله ونصّ من
رسوله (صلَّى الله عليه وآله) ـ وقد صرّح القرآن بعصمته وتطهيره من كلّ رجس،
وباهل به وبزوجته وولديه رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) نصارى نجران، واعتبره
من القربى الذين وجبت مودّتهم مصرّحاً غير مرّة بأنّها عِدل الكتاب المجيد
الموجبين للمتمسّك بهما النجاة وللمتخلّف عنهما الردى . |
|
الفصل الثاني:
|
|
انطباعات عن شخصيّة الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)
|
|
لقد عاصر الإمام عليّ (عليه السلام) حركة الوحي الرسالي
منذ بدايتها حتى انقطاع الوحي برحيل رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، وكانت له
مواقفه المشرّفة والتي يغبط عليها في دفاعه عن الرسول والرسالة طيلة ثلاثة
وعشرين عاماً من الجهاد المتواصل والدفاع المستميت عن حريم الإسلام الحنيف، وقد
انعكست مواقفه وإنجازاته وفضائله في آيات الذكر الحكيم ونصوص الحديث النبويّ
الشريف. |
الفصل الثالث:
|
|
مظاهر من شخصية الإمام عليّ (عليه السلام)
|
|
اجتمع للإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) من صفات
الكمال، ومحمود الشمائل والخِلال ، وسناء الحسب وعظيم الشرف، مع الفطرة النقيّة
والنفس المرضيّة ما لم يتهيّأ لغيره من أفذاذ الرجال. |
|
عبادته وتقواه(عليه السلام):
|
|
|
اشتهر عليّ بن أبي طالب بتقواه التي كانت علّة الكثير من
تصرّفاته مع نفسه وذويه والناس... وفيما ترى العبادة لدى المعظم رجع أصداء الضعف
في نفوسهم أحياناً، ومعنىً من معاني التهرّب من مواجهة الحياة والأحياء أحياناً
أُخرى، وهوساً موروثاً ثمّ مدعوماً بهوس جديد مصدره تقديس الناس والمجتمع لكلّ
موروث في أكثر الأحيان... تراها تشتهر عند الإمام أخْذاً من كلّ قوّة ووصلاً
لأطراف الحلقة الخلقية التي تشتدّ وتمتدّ حتى تجمع الأرض والسماء، ومعنىً من
معاني الجهاد في سبيل ما يربط الأحياء بكلّ خير، وهي على كلّ حال شيء من روح
التمرّد على الفساد يريد محاربته من كلّ صوب، ثمّ على النفاق وروح الاستغلال
والاقتتال من أجل المنافع الخاصّة.. وعلى المذلّة والفقر والمسكنة والضعف، ثمّ
على سائر الصفات التي تميّز بها عصره المضطرب القلق. |
|
زُهده (عليه السلام(:
|
|
لقد زهد عليّ في الدنيا وتقشّف، وكان صادقاً في زهده كما
كان صادقاً في كلّ ما نتج عن يمينه أو بَدَر من قلبه ولسانه، زهد في لذّة الدنيا
وسبب الدولة وعلّة السلطان وكلّ ما يطمح لبلوغه الآخرون، ويَرَوْن أنّه مرتكز
وجودهم، فإذا هو يسكن مع أولاده في بيت متواضع تأوي إليه الخلافة لا المُلك،
وإذا هو يأكل الشعير تطحنه امرأته بيديها فيما كان عمّاله يعيشون على أطايب
الشام وخيرات مصر ونعيم العراق، وكثيراً ما كان يأبى على زوجته أن تطحن له،
فيطحن لنفسه وهو أمير المؤمنين، ويأكل من الخبز اليابس الذي يكسره على ركبته،
وكان إذا أرعده البرد واشتدّ عليه الصقيع لا يتّخذ له عدّة من دثار يقيه أذى
البرد، بل يكتفي بما رقّ من لباس الصيف إغراقاً منه في صوفيّة الروح. |
|
إباؤه وشهامته (عليه السلام(:
|
|
مثّل عليّ بن أبي طالب الفروسيّة بأروع معانيها وبكلّ ما
تنطوي عليه من ألوان الشهامة. والإباء والترفّع أصلان من أصول روح الفروسيّة،
فهما إذن من طبائع الإمام، لذلك كان بغيضاً لديه أن ينال أحداً من الناس بالأذى
وإن آذاه، وأن يبادر مخلوقاً بالاعتداء ولو على ثقة بأنّ هذا المخلوق يقصد قتله. |
|
مروءته (عليه السلام( :
|
|
إنّ مروءة الإمام أندر من أن يكون لها مثيل في التأريخ،
وحوادث المروءة في سيرته أكثر من أن تعدّ، منها أنّه أبى على جنده ـ وهم في حال
من النقمة والسخط ـ أن يقتلوا عدوّاً تراجع، كما أبى عليهم أن يكشفوا ستراً أو
يأخذوا مالاً، ومنها: أنّه حين ظفر بألدّ أعدائه الذين يتحيّنون الفرص للتخلّص
منه; عفا عنهم وأحسن إليهم وأبى على أنصاره أن يتعقّبوهم بسوء وهم على ذلك
قادرون(البداية
والنهاية: 7 / 276.). |
|
صدقه وإخلاصه (عليه السلام(:
|
|
وتتماسك هذه الصفات الكريمة في سلسلة لا تنتهي; وبعضها
على بعض دليل، ومن أروع حلقاتها: الصدق والإخلاص، وقد بلغ به الصدق مبلغاً أضاع
به الخلافة، وهو لو رضي عن الصدق بديلاً في بعض أحواله; لما نال منه عدوّ ولا
انقلب عليه صديق.. لقد رفض أن يقرّ معاوية على عمله وقال: (لا
أداهن في ديني ولا أعطي الدنيّة في أمري) . ولمّا ظهرت حيلة معاوية; أطلق عبارته التي صحّت أن تكون
صيغة للخلق العظيم: (والله ما معاوية بأدهى منّي، ولكنّه يغدر
ويفجر، ولولا كراهية الغدر; لكنت من أدهى الناس)( نهج البلاغة، الخطبة : 200.). وقال مشدّداً
على ضرورة الصدق مهما اختلفت الظروف: (الإيمان أن تؤثر الصدق حيث يضرّك ، على الكذب
حيث ينفعك)( نهج البلاغة، قصار الحكم: 458.). |
|
شجاعته (عليه السلام(:
|
|
إن شجاعة الإمام هي من الإمام بمنزلة التعبير من الفكرة
وبمثابة العمل من الإرادة، لأنّ محورها الدفاع عن طبع في الحق وإيمان بالخير،
والمشهور أنّ أحداً من الأبطال لم ينهض له في ميدان.. فقد كان لجرأته على الموت
لا يهاب صنديداً، بل إنّ فكرة الموت لم تجل مرة في خاطر الإمام وهو في موقف
نزال، وأنّه لم يقارع بطلاً إلاّ بعد أن يحاوره لينصحه ويهديه. |
عدله (عليه السلام(:
|
|
ليس غريباً أن يكون عليٌّ أعدل الناس، بل الغريب أن لا
يكونَهُ، وأخبار عليّ في عدله تراثٌ يشرّف المكانة الإنسانية والروح الإنساني. |
|
تواضعه )عليه السلام(:
|
|
إنّ من أصول أخلاق الإمام أنّه كان يعتمد البساطة ويمقت
التكلّف. وكان يقول: (شر الإخوان من تكلّف له)( نهج البلاغة، قصار الحكم: 479.). ويقول: (إذا
احتشم المؤمن أخاه فقد فارقه)( المصدر السابق: 480.) ويقصد بالاحتشام مراعاته حتى التكلّف. |
|
|
نقاؤه (عليه السلام(:
|
|
وتميّز عليّ بسلامة القلب، فهو لا يحمل ضغينة على مخلوق
ولا يعرف حقداً على ألدّ أعدائه ومناوئيه ومن يحقدون عليه حسداً وكرهاً. |
|
كرمه (عليه السلام(:
|
|
وكان من خلقه أنّه كان كريماً ولا حدود لكرمه، ولكنّه
الكرم السليم بأصوله وغاياته لا كرم الولاة الذين (يكرمون) بأموال الناس
وجهودهم. وهذا الكرم لم يعرفه عليٌّ مرّة في حياته، وإنّما كرمه هو الذي يعبّر
عن جملة المروءات، ففيما كان يزجر ابنته زجراً شديداً إذ هي استعارت من بيت
المال قلادة تتزيّن بها في عيد من الأعياد. كان يسقي بيده النخل لقوم من يهود
المدينة حتى تمْجلَ يده فيتناول أجرته فيهبها لأهل الفاقة والعوز ويشتري بها
الأرقاء ويحرّرهم في الحال. |
|
علمه ومعارفه (عليه السلام( :
|
|
قال ابن أبي الحديد: (وما أقول في
رجل تُعزى إليه كلّ فضيلة، وتنتمي إليه كلّ فرقة، وتتجاذبه كلّ طائفة، فهو رئيس
الفضائل وينبوعها، وأبو عُذْرِها، وسابق مضمارها، ومجلّي حَلْبتها، كلّ من بزغ
فيها بعده فمنه أخذ، وله اقتفى، وعلى مثاله احتذى. وإنّ أشرف العلوم ـ وهو العلم
الإلهي ـ من كلامه (عليه السلام)
اقتبس وعنه نقل وإليه انتهى ومنه ابتدأ... وعلم الفقه هو أصله وأساسه وكلّ فقيه
في الإسلام فهو عيال عليه ومستفيد من فقهه... وعلم تفسير القرآن عنه أُخذ ومنه
فُرّع .. وعلم الطريقة والحقيقة وأحوال التصوّف(؟!) إنّ أرباب هذا الفنّ في جميع
بلاد الإسلام إليه ينتهون، وعنده يقفون.. وعلم النحو والعربية قد علم الناس كافة
أنّه هو الذي ابتدعه وأنشأه، وأملى على أبي الأسود الدؤلي جوامعَه وأصوله...) |
|
الباب
الثاني
|
|
فيه فصول: |
|
الفصل الأول:
|
|
نشأة الإمام علي (عليه السلام(
|
|
نسبه الوضّاء :
|
|
هو الإمام أمير المؤمنين وسيّد الوصيّين عليّ بن أبي طالب
بن عبد المطلب ابن هاشم بن عبد مناف بن قصيّ بن كلاب بن مرّة بن كعب بن لؤي بن
غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إياس بن مضر بن
نزار ابن معد بن عدنان. |
|
جدّه الكريم :
|
|
عبد المطلب شيبة الحمد، وكنيته أبو الحرث، وعنده يجتمع
نسبه بنسب النبيّ (صلَّى الله عليه
وآله) وكان مؤمناً بالله تعالى، ويعلم بأنّ محمداً سيكون نبيّاً(الطبقات لمحمد بن سعد: 1 /
74 ط. ليدن.). |
|
والده :
|
|
عبد مناف، وقيل: عمران، وقيل: شيبة، وكنيته أبو طالب، وهو
أخو عبد الله والد النبيّ (صلَّى الله عليه وآله) لأُمه وأبيه. ولد أبو طالب
بمكّة قبل ولادة النبيّ (صلَّى الله عليه وآله) بخمس وثلاثين سنة، وانتهت إليه
بعد أبيه عبد المطلب الزعامة المطلقة لقريش، وكان يروي الماء لوفود مكّة كافّة
لأنّ السقاية كانت له، ورفض عبادة الأصنام فوحّد الله سبحانه، ومنع نكاح المحارم
وقتل الموؤدة والزنا وشرب الخمر وطواف العراة في بيت الله الحرام(روضة الواعظين للفتال: 121 ـ
122 وصية أبي طالب لبني هاشم.). ولمّا توفّي عبد
المطلب; تكفّل أبو طالب رعاية رسول الله(صلَّى الله عليه وآله) فكان أبو طالب
يحبّه حبّاً شديداً لا يحبّه ولده، وكان لا ينام إلاّ إلى جنبه، ويخرج فيخرج
معه، وكان يخصّه بالطعام دون أولاده. |
|
أُ مّه :
|
|
فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف، تجتمع هي وأبو طالب
في هاشم، أسلمت وهاجرت مع النبيّ (ص) وكانت من
السابقات إلى الإيمان وبمنزلة الأُم للنبيّ (ص)( الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي: 31.) ربّته في حجرها،
ولمّا ماتت فاطمة بنت أسد; دخل إليها رسول الله (ص) فجلس عند رأسها وقال: (رحمك
الله يا أُمي، كنت أُمي بعد أُمي، تجوعين وتشبعيني، وتعرين وتكسيني، وتمنعين
نفسك طيب الطعام وتطعميني، تريدين بذلك وجه الله والآخرة). |
|
الفصل الثاني:
|
|
مراحل حياة الإمام عليّ (ع(
|
|
ولد الإمام علي (ع) قبل البعثة النبوية بعقد واحد، وعاصر
إرهاصات البعثة وكل حركة الرسالة خلال العهد المكّي ـ وهو عهد بناء الأمة
المسلمة وتكوين القاعدة الرسالية الصلبة ـ كما عاصر كل أحداث العهد المدني، حيث
تم فيه بناء الدولة الإسلامية بقيادة سيّد المرسلين (ص)، وساهم بكل وجوده في
بناء هذا الكيان الشامخ حتى تجلّى للجميع عمق وجوده في هذا البناء الرسالي
الفريد. وعلى هذا تنقسم حياة الإمام عليّ بن أبي طالب
(ع) إلى شطرين رئيسين: |
|
الفصل الثالث:
|
|
المرحلة الأولى : من الولادة إلى البعثة النبوية المباركة
|
|
ولادته :
|
|
قال عليّ (عليه السلام): (فإنّي ولدتُ على الفطرة وسَبقتُ إلى الإيمان
والهجرة)( نهج البلاغة (صبحي الصالح): الخطبة 57
ص92، وأمالي الطوسي: ص364 الرقم 765، ومناقب آل أبي طالب: 2 / 107، وشرح النهج
لابن أبي الحديد: 4 / 114، وبحار الأنوار: 41 / 217.). |
|
كناه وألقابه :
|
|
إن لأمير المؤمنين عليّ (ع)
ألقاباً وكنىً ونعوتاً يصعب حصرها والإلمام بها، وكلّها صادرة من رسول الله (ص) في شتى المواقف والمناسبات العديدة التي وقفها
(عليه السلام) لنشر الإسلام والدفاع عنه وعن الرسول. |
|
الإعداد النبويّ للإمام عليّ (عليه السلام( :
|
|
كان النبيّ (صلَّى الله عليه وآله) يتردّد كثيراً على دار
عمّه أبي طالب بالرغم من زواجه من خديجة وعيشه معها في دار منفردة، وكان يشمل
عليّاً (عليه السلام)بعواطفه، ويحوطه بعنايته،
ويحمله على صدره، ويحرّك مهده عند نومه إلى غير ذلك من مظاهر العناية والرعاية(بحار الأنوار: 35 / 43.). |
|
المرحلة الثانية : من البعثة إلى
الهجرة
|
|
عليّ (عليه السلام) أول المؤمنين برسول الله (صلَّى الله عليه وآله) :
|
|
لقد نشأ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) على قيم إلهية
سامية كما صرّح بذلك القرآن الكريم بقوله تعالى: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)( القلم (68) : 4.)، فكان النموذج المغاير لإنسان الجزيرة في معتقده وتفكيره وسلوكه
وأخلاقه، فسلك منذ نعومة أظفاره خطّاً موازياً لقيم رسالات الأنبياء سيَّما
شيخهم إبراهيم الخليل (ع)، وكان في قناعة الرسول
(صلَّى الله عليه وآله) أنّ هذا الخطّ لا يلتقي بقيم المجتمع الجاهلي، من هنا
بدأ (صلَّى الله عليه وآله) بإنشاء نواة الأسرة المؤمنة المتكونة منه وخديجة
وعليّ (عليهم السلام). |
|
علّي (عليه السلام) أوّل من صلّى :
|
|
عاش الإمام عليّ (عليه السلام) مع رسول الله (صلَّى الله
عليه وآله) كلّ متغيّرات حياة الرسول الأعظم، فكان يرى في محمّد المثل الكامل
الّذي يُشبع تطلعاته وعبقرياته، فكان يحاكيه في أفعاله ويرصده في حركاته ويقتدي
به ويطيعه في كلّ أوامره ونواهيه قبل البعثة النبويّة الشريفة وحتى آخر لحظة من
عمر النبيّ (صلَّى الله عليه وآله)، كما أجمع المؤرّخون على أنّه لم يردّ على
رسول الله كلمة قطّ. |
|
أوّل صلاة جماعة في الإسلام :
|
|
وكان رسول الله (ص) قبل
بدء أمره إذا أراد الصلاة خرج إلى شعاب مكّة مستخفياً، وأخرج عليّاً (عليه
السلام) معه فيصلّيان ما شاء الله، فإذا قضيا رجعا إلى مكانهما، فمكثا يصلّيان
على استخفاء من أبي طالب وسائر عمومتهما وقومهما، ثمّ إنّ أبا طالب مرّ عليهما
فقال لرسول الله (ص): ما هذا الذي أراك تدين به؟ |
|
عليٌّ (عليه السلام) حين إعلان الرسالة :
|
|
حديث يوم الإنذار :
|
|
وحديث يوم الإنذار هو الحديث الخاص عن اجتماع عشيرة
النبيّ (صلَّى الله عليه وآله) بدعوة منه لغرض دعوتهم إلى بيعته ومؤازرته، وكان
أوّل من أعلن استجابته لرسول الله (صلَّى الله عليه وآله) ذلك اليوم من عشيرته
الأقربين: هو عليّ بن أبي
طالب (عليه السلام). وقد ذكر المفسّرون والمؤرّخون ومنهم الطبري في تأريخه
وتفسيره معاً أنّه لمّا نزلت (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ
الْأَقْرَبِينَ) على رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) وضاق ذرعاً لما
كان يعلم به من معاندة قريش وحسدهم، فدعا عليّاً (عليه السلام) ليعينه على
الإنذار والتبليغ. |
|
عليٌ (عليه السلام) من إعلان الرسالة إلى الهجرة النبويّة
المباركة :
|
|
عجزت قريش عن إيقاف مدّ الدعوة الإسلاميّة ومنع النبيّ
(صلَّى الله عليه وآله) من التبليغ والهداية، فقد خابت مؤامراتهم ودسائسهم، وفشلت
تهمهم وتهديداتهم، لأنّ أبا طالب كان الكهف الحصين لرسول الله (صلَّى الله عليه وآله) الذي لم يزل
يدفع عنه أذى قريش وجبروتها، فلجأت قريش إلى طريقة جبانة تنمُّ عن حقدها وضعفها
فدفعت بالصبيان والأطفال للتعرّض للنبيّ (صلَّى الله عليه
وآله) ورميه بالحجارة، وهنا كان الدور الحاسم لعليّ بن أبي طالب (عليه السلام)
إذ لا يتسنّى لأبي طالب ـ وهو شيخ الهاشميّين الكبير ـ مطاردة الصبيان، فكان
عليّ يطارد الصبيان المترصّدين للنبيّ ويذودهم عنه(الاختصاص
للمفيد : 146.). |
|
عليّ (عليه السلام) في شِعب أبي طالب
:
|
|
وحين أسرع الإسلام ينتشر في مكّة وأصبح كياناً يقضّ مضاجع
المشركين وخطراً كبيراً يهدّد مصالحهم; عمد المشركون إلى اُسلوب الغدر والقهر
لإسكات صوت الرسالة الإسلاميّة، فشهروا سيوف البغي ولم يتوانَ أبو طالب في إحكام
الغطاء الأمين للرسول (صلَّى الله عليه وآله)، لما له من هيبة ومكانة شريفة في
نفوس زعماء قريش الذين لم يجرؤا على النَيْلِ من النبيّ (صلَّى الله عليه وآله)
لأنّ ذلك يعني مواجهة علنية مع أبي طالب وبني هاشم جميعاً، وقريش في غنىً عن هذه
الخطوة الباهضة التكاليف. |
|
علي (عليه السلام) والهجرة إلى الطائف :
|
|
لقد تراكمت الأحداث على الرسول، واشتدّت قريش في تحدّيه
وإيذائه بعد وفاة عمّه أبي طالب، ولم يعد في مكّة من تهابه قريش وترعى له حرمة،
حتى قال النبيّ (ص): (ما زالت قريش كاعّةً عنّي حتى مات أبو طالب)( أعيان الشيعة: 1 / 235، وسيرة ابن هشام :
2 / 57، 58.) فكان عليه أن
يُغيّر مكانه ويستبدله بمكان أكثر أمناً يستطيع منه الانطلاق لنشر الدعوة
الإسلاميّة إلى أرجاء الجزيرة العربية والعالم أجمع، فأخذ يعرض نفسه على القبائل
وابتدأ أوّلاً بالطائف، وبعد عشرة أيام من مكوثه هناك لم تتجاوب معه ثقيف، بل
أغْرت به الصبيان والخدم والعبيد ليرشقوه بالحجارة، فوقف عليّ (عليه السلام)
ومعه زيد بن حارثة يتلقّيان الضربات ويمنعان الصبية عن مواصلة الاعتداء حتى
أصيبا بجروح في جسدهما، ومع ذلك تعرّض رسول الله (ص)
للإصابة وسالت الدماء من ساقيه(شرح
نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 1 / 127.). |
|
علي (عليه السلام) في بيعة العقبة الثانية :
|
|
وحين تمّ الاتّفاق على اللقاء التأريخي بين طلائع
المسلمين القادمين من المدينة مع قائدهم الرسول (ص)
في بيت عبد المطلب سرّاً وقف إلى جانب الرسول عمّه حمزة وعليّ والعباس(لسيرة الحلبية: 2 / 174.)، وتمّت البيعة على أفضل شكل. |
|
عليّ (عليه السلام) ليلة هجرة الرسول (صلَّى الله عليه وآله) إلى المدينة
|
|
كان الانفتاح الرسالي العظيم الذي قام به النبيّ (صلَّى
الله عليه وآله) إثر المعاهدة
التي أبرمها مع الأوس والخزرج في بيعة العقبة الثانية(السيرة
النبوية لابن هشام: 1 / 440، وموسوعة التاريخ الإسلامي:
1/700.)، والذي كان نقطة انطلاق الدعوة الإسلامية إلى العالم الأوسع،
والخطوة الكبيرة لبناء المجتمع الرساليالمؤمن، بعد أن انتشر الإسلام في يثرب
بجهود الصفوة من الدعاة المخلصين والمضحّين من أجل الله ونشر تعاليم الإسلام،
وبذا أصبح للمسلمين بقعة آمنة تمثّل محطة مركزية ومهمة لبلورة العمل الثقافي
والتربوي والدعوة الإلهية في مجتمع الجزيرة العربية. |
|
مباهاة الله ملائكته بموقف عليّ (عليه السلام):
|
|
كان مبيت عليّ (عليه السلام) على فراش رسول الله (صلَّى
الله عليه وآله) خذلاناً سافراً
لقريش المعتدية، فقد خابت آمالهم وفشلت خططهم في قتل الرسول، وكان فيها إرغام
الشيطان وعلو شأن الإيمان، ولم يكن أيّ عمل نظيراً للمبيت في الثواب والقيمة،
كيف وقد باهى الله بهذه التضحية ملائكته، كما روي: |
|
مهامّ ما بعد ليلة المبيت :
|
|
مع إطلالة فجر اليوم الأوّل للهجرة المباركة وظِلال
السلام والأمان الإلهي تحوط رسول الله (ص) في
كلّ خطوة يخطوها نحو يثرب مقرّ الرسالة الإسلامية الجديد، انفرجت أسارير قلب
عليّ (عليه السلام)، فقد انصرم الليل الرهيب باحتمالاته العديدة ومكارهه الكثيرة
دون أن يقع شيء يمس حياته (عليه السلام) بخطر أو مكروه، واستطاع أن يؤدّي
المهمّة على أكمل وجه، فقد كان على قدر عال من الانضباط والدقّة والوعي في
التنفيذ. |
|
هجرة الإمام عليّ (عليه السلام) :
|
|
وصل رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) إلى (قُبا) بسلام،
واستقبلته جموع الأنصار، ومن هناك بعث بكتابه إلى عليّ (عليه السلام) يأمره فيه
بالمسير إليه والإسراع في اللحاق به، وكان قد أرسل إليه أبا واقد الليثي، وحين
وصل إليه كتاب رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) اشترى عليّ (عليه السلام) الركائب وأعدّ العدّة للخروج، وأمر من
بقي معه من ضعفاء المسلمين أن يتسلّلوا ويتخفّفوا(يتخفّفوا:
لا يحملوا معهم شيئاً يثقل عليهم.) إذا ملأ الليل
بطن كلّ واد إلى ذي طوى(ذي
طوى: موضع قرب مكة .)، وبدأت المهمّة الشاقّة الثالثة أمام عليّ (عليه السلام) وهي
الرحيل برفقة النساء نحو يثرب، وخرج هو ومعه الفواطم: فاطمة بنت رسول الله،
واُمّه فاطمة بنت أسد، وفاطمة بنت الزبير بن عبد المطلب، وفاطمة بنت حمزة،
وتبعهم أيمن مولى رسول الله وأبو واقد الليثي(أمالي
الطوسي : 2 / 84 ، وعنه بحار الأنوار :
19 / 64 .).
وتولّى أبو واقد الليثي سوق النياق، ولشدّة خشيته كان يحثّ الخطى
سريعاً حتى لا يلحق بهم الأعداء. وليس
إلاّ الله فارفع ظنَّكا = يكفيك ربّ الناس ما أهمّكا واستمرّ عليّ (عليه السلام)
على هدوئه في قيادة الركب حتى شارف على قرية في الطريق تُسمى (ضجنان) وهناك أدركته القوّة التي
أرسلتها قريش للقبض عليه ومن معه وإعادتهم إلى مكّة ، وكانوا سبعة فوارس من قريش
ملثّمين معهم مولىً لحرب بن اُمية اسمه (جناح) ،
فقال علي (ع) لأيمن وأبي واقد : أنيخا
الإبل واعقلاها ، وتقدّم هو فأنزل النسوة ثمّ استقبل الفوارس بسيفه ،
فقالوا له : أظننت يا غدّار أنّك ناجٍ بالنسوة ، إرجع لا أباً لك . |
|
من معاني مبيت الإمام (عليه السلام) في فراش النبيّ (صلَّى الله عليه وآله) :
|
|
1 ـ إنّ مبيت
الإمام (عليه السلام) ليلة الهجرة في فراش النبيّ (صلَّى الله عليه وآله) بمثابة
إعلان عن نضج شخصية الإمام علي الرسالية، وأهليّته في أن يمثّل شخصيّة الرسول
الّذي يعهد إليه في كلّ أمر مستصعب وخطب جليل ودعوة مهمّة. |
|
المرحلة الثالثة : عليّ (عليه السلام)
من الهجرة إلى وفاة النبيّ (صلّى الله
عليه وآله)
|
|
1 ـ عليّ (عليه السلام) والمؤاخاة :
|
|
حين
شرع الرسول (صلّى الله عليه وآله) بتكوين نواة المجتمع الإسلامي وأراد أن يزيد
من تماسك عرى العلاقات بين أفراد المجتمع ؛ أخي (صلّى الله عليه وآله) بين
المسلمين في موقف صريح بيّن ليرسّخ مبدأً أساسياً من مبادئ الإسلام الحنيف ، وهو
ما تتطلبه الدعوة الإسلامية في مرحلتيها السرية والعلنية ، فوقعت أوّل مؤاخاة في
الإسلام في مكّة قبل الهجرة ، حيث آخى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بين
المهاجرين والأنصار ، وحين نتفحّص عملية المؤاخاة نجد أنّ الرسول ضمّ الشكل إلى
الشكل والمثل إلى المثل (كفاية الطالب للحافظ الكنجي
: 194 .)
، لأنّ الأخوة عملية استراتيجية واسعة
ذات معاني ودلالات حركيّة في مسيرة الدعوة الإسلاميّة ، فعبر جسر الأخوة تتماسك
العلاقات بين المسلمين كما تنضج الأفكار ويتحقّق الإبداع . روي
أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) لمّا آخى بين أصحابه آخى بين أبي بكر وعمر ،
وبين عثمان وعبد الرحمن بن عوف ، ولم يؤاخِ بين عليّ بن أبي طالب وبين أحد منهم (الفصول المهمّة لابن الصبّاغ المالكي : 38 ،
والغدير للعلاّمة الأميني : 3 / 112 .) . فقال عليّ (عليه السلام) : يا
رسول الله ! لقد ذهبت روحي وانقطع ظهري حين رأيتك فعلت بأصحابك ما فعلت بغيري ،
فإن كان هذا من سخط عليَّ ؛ فلك العُتبى والكرامة . فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : والذي
بعثني بالحق ما أخّرتك إلاّ لنفسي ، وأنت منّي بمنزلة هارون من موسى غير أنّه لا
نبيّ بعدي ، وأنت أخي ووارثي . فقال (عليه السلام) : وما أرث منك ؟ قال (صلّى الله عليه وآله) : ما ورّث الأنبياء من قبلي
، كتاب ربّهم وسنّة نبيّهم ، وأنت معي في قصري في الجنّة (أخرجه
أحمد بن حنبل في مناقب عليّ (عليه السلام) ، وتأريخ دمشق لابن عساكر : 6 / 201 ،
وكنز العمال للمتّقي الهندي : 5 / 40 ، وكشف الغمة : 1 / 326 .) . وأمّا
المؤاخاة الثانية فكانت في المدينة بعد الهجرة بأشهر قليلة (كفاية
الطالب للكنجي :
82 ، تذكرة الخواص : 14 ، والفصول المهمّة : 38 .) . كما وردت أحاديث المؤاخاة بين النبيّ (صلّى
الله عليه وآله) وعليّ (ع) يصيغ مختلفة ومصادر عديدة منها : تأريخ ابن كثير : 7
/ 235 ، والفصول المهمّة : 22 ، ومسند أحمد : 1 : 23 ، وتأريخ ابن هشام : 2 :
132 ، وتأريخ دمشق : 6 / 201 ، وفرائد السمطين : 1 / 226 ، والغدير : 3 / 115 ،
وكفاية الطالب : 185 . |
|
2 ـ اقتران عليّ (عليه السلام) بالزهراء (عليها السلام) :
|
|
بعد
أن استقرّ المقام بالمسلمين وبدأت مبادئ الإسلام وتعاليمه تترسّخ في نفوس
المسلمين وظهرت يدهم القويّة في الدفاع عن الرسالة والرسول ؛ تفتّحت العلاقات
بين المسلمين في صورة مجتمع متمدّن ونهضة ثقافية اجتماعية شاملة ، يتزعّمها
الرسول الكريم (صلّى الله عليه وآله) الذي عصمه الله في الفهم والتلقّي والإبلاغ
والتربية والتنفيذ ، وها هو عليّ (عليه السلام) قد تجاوز العشرين من عمره الشريف
وهو يصول في سوح الجهاد والدفاع عن العقيدة والدعوة الإسلامية ، ويقف مع الرسول
في كلّ خطواته ، وقد بلغ من نفس الرسول أعلى منزلة ، يعيش معه وهو أقرب من أيّ
واحد من المسلمين ، وبعد أن انقضت سنتان من الهجرة وفي بيت الرسول بلغت ابنته
الزهراء (عليها السلام) مبلغ النساء ، وشرع الخطّاب بما فيهم أبو بكر وعمر (كشف
الغمة : 1 / 353) يتسابقون إلى النبيّ (صلّى الله عليه وآله) يطلبونها منه
وهو يردّهم ردّاً جميلاً ويقول : إنّي أنظر فيها أمر الله ، وكان عليّ من
الراغبين في الزواج منها . ولكن كان يمنعه عن مفاتحة النبيّ (صلّى الله عليه وآله)
الحياء وقلّة ذات اليد ، فلم يكن عليّ (عليه السلام) من الذين يملكون الأموال ن
وبتشجيع من بعض أصحاب الرسول تقدّم عليّ لخطبة الزهراء ، فدخل على النبيّ وهو
مطرق إلى الأرض من الحياء ، فأحسّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) بما في نفسه
فاستقبله ببشاشته وطلاقة وجهه الكريم ، وأقبل عليه يسأله برفق ولطف عن حاجته ،
فأجابه (عليه السلام) بصوت ضعيف : يا رسول الله
تزوّجني من فاطمة ؟ فردّ النبي (صلّى الله عليه وآله) قائلاً : مرحباً وأهلاً ، ودخل على بضعته الزهراء ليعرض
عليها رغبة عليّ (عليه السلام) فيها ، فقال (صلّى الله عليه وآله) لها :
لقد سألت ربّي أن يزوّجك خير خلقه وأحبّهم اليه ، وقد عرفت عليّاً وفضله ومواقفه
، وجاءني اليوم خاطباً فما ترين ؟ فأمسكت ولم تتكلّم بشيء ، فخرج النبيّ (صلّى الله عليه
وآله) وهو يقول : سكوتها رضاها وإقرارها . ثمّ إنّ الرسول (ص) جمع
المسلمين وخطب فيهم ، فقال : إنّ الله أمرني أن أزوّج فاطمة من عليّ ... ثمّ التفت إلى عليّ (عليه السلام) فقال : لقد أمرني ربّي أن أزوجك فاطمة ...
أرضيت هذا الزواج يا عليّ ؟
فقال (عليه السلام) : رضيته يا رسول الله ، وخرّ ساجداً لله . فقال النبيّ (صلّى الله عليه وآله) : بارك
الله فيكما ، وجعل منكما الكثير الطيب . وجاء عليّ (عليه السلام) بالمهر الذي هيّأه من بيع درعه
فوضعه بين يدي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فأمر الرسول أبا بكر وبلالاً
وعمّاراً وجماعةً من الصحابة وأم أيمن لشراء جهاز الزواج ، ولمّا تم الجهاز وعرض
على الرسول ؛ جعل يقلّبه بيده ويقول : بارك الله لقوم جلّ آنيتهم من الخزف . وبيسر وبساطة ودون تكاليف تمت الخطبة والزواج ، وكان الجهاز
من أبسط ما عرفته المدينة ، واحتفل النبيّ وبنو هاشم بهذا الزواج الميمون (كشف
الغمة : 1 / 348 ، وبحار الأنوار : 43 / 92 ، ودلائل الإمامة للطبري : 16 ـ 17 .) . وروي أنّ النبي (ص) عوتب في
زواج فاطمة (ع) فقال : لو
لم يخلق الله عليّ بن أبي طالب لما كان لفاطمة كفؤ . وفي خبر آخر أنّه (صلّى الله عليه وآله) قال مخاطباً عليّاً
(عليه السلام) : لولاك لما كان لها كفؤ على وجه الأرض (المناقب
لابن شهر آشوب : 2
/ 181 .)
. |
|
3 ـ عليّ (عليه السلام) مع الرسول (صلّى الله عليه وآله) في معاركه :
|
|
أ ـ عليّ (عليه السلام) في معركة بدر :
|
|
فتح رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بهجرته عهداً جديداً في
تأريخ البشرية بشكل عامّ وفي تأريخ الرسالة الإسلامية بشكل خاص ، وبدأت معالم
الدولة تتوضّح ومظاهر قوة المسلمين تبدو للعيان ، وفي الجانب الآخر لم تتوقّف
قريش ومن والاها من المشركين ويهود المدينة الذين أظهروا السلم نفاقاً وتغطيةً
على التخطيط السرّي للقضاء على الإسلام وأهله ، وكان رسول الله (صلّى الله عليه
وآله) يعالج الأمور بحكمة ورويّة ، ومن الطبيعي أن لا يقف النبيّ من مؤامرات
أعداء الإسلام وتحرّشاتهم موقف الضعيف المتخاذل ، فأخذ يرسل السرايا ليهدّدهم
ويطاردهم أحياناً . ولما كان للمدينة موقع استراتيجي مهم في طرق التجارة
والمواصلات في الجزيرة العربية ؛ فقد أصبح المسلمون بعد تزايد عددهم قوّة ضغط
لابدّ من وضعها في الحسبان ، ومنذ أن وطأت قدم عليّ (عليه السلام) مدينة الرسول
(صلّى الله عليه وآله) ؛ بدأ العمل في كلّ جوانب الحياة وما تتطلبه الرسالة
الإسلامية جنباً إلى جنب الرسول من بناء الدولة ونشر الرسالة مندفعاً بطاقة
ذاتية هائلة بما وهبه الله من قوّة وعزيمة لا توازيها قوّة وطاقة مجموعة كبيرة
من الأفراد ، فكان الذراع القويّ التي يضرب بها رسول
الله (ص) ، ونجد هذا واضحاً جليّاً في كلّ وقعة ومعركة دخل فيها عليّ (ع) ، وكان من طبيعة المعارك أنّها تتوقّف في
العادة على الجولة الأولى ، فمن يفوز فيها تحسم المعركة لصالحه ، كما في معركة
بدر (يقال
لها : معركة بدر العظمى ، وقعت في السنة الثانية للهجرة في السابع عشر من شهر
رمضان ، وقيل : في
التاسع عشر منه .) التي كانت عنواناً لبداية اُفول كلّ
القوى العسكرية في الجزيرة وخصوصاً قريش ، ومنطلقاً للانتصارات والفتوحات التي
حقّقها المسلمون . روي أنّ عتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة خرجوا ودعوا
إلى المبارزة ، فخرج إليهم في البداية عوف ومُعَوِّذ ابنا عفراء وعبد الله بن
رواحة وكلّهم من الأنصار ، فقالوا لهم : من أنتم ؟ قالوا : من الأنصار ، فقالوا
: أكفاء كرام وما لنا بكم من حاجة ، ليخرج الينا أكفاؤنا من قومنا . فأمر النبيّ (صلّى الله عليه وآله) عمّه حمزة وعبيدة بن
الحارث وعليّاً بمبارزتهم ، فدنا بعضهم من بعض فبارز عبيدة بن الحارث عتبة ،
وبارز حمزة شيبة ، وبارز عليّ (ع) الوليد ،
فأمّا حمزة فلم يمهل شيبة أن قتله ، وقتل عليٌّ (ع)
الوليد ، واختلف عبيدة وعتبة بينهما ضربتين كلاهما قد أثبت صاحبه ، وكرّ حمزة وعليّ (ع) على عتبة فقتلاه
(لكامل
في التأريخ :
2 / 134 و 135
ط مؤسسة الأعلمي ، وتأريخ الطبري : 3 / 35) . ثمّ نشبت المعركة بين طرفين غير متكافئين بالموازين العسكرية
: جبهة المسلمين وعددها ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً ، تقاتل عن إيمان وعقيدة ،
تدافع عن الحقّ وتدعو إليه ، وجبهة قريش وعددها تسعمائة وخمسون رجلاً تقاتل عن
حميّة وعصبيّة جاهلية ، وهنا دخلت عناصر جديدة في الحرب منها : دعاء الرسول
(صلّى الله عليه وآله) وثباته وبسالة حمزة وقوّة عليّ
(ع) ، فغاص عليّ وحمزة وأبطال المسلمين في وسط قريش ، ونسي كلّ واحد منهم
نفسه وكثرة عدوه ، فتطايرت الرؤوس عن الأجساد ، وأمدّ الله المسلمين بالقوة
والعزيمة والثبات ، واسر المسلمون كلّ من عجز عن الفرار حتى بلغ عدد الأسرى
سبعين رجلاً ، وعدد القتلى اثنين وسبعين رجلاً . وتنصّ الروايات على أنّ عليّاً (عليه السلام) قتل العدد
الأكبر منهم ، فعلى أقل التقادير أنّه (ع) قتل
أربعة وعشرين ، وشارك في قتل ثمانية وعشرين آخرين ، ويبدو أنّ الذين قتلهم عليّ (ع) هم أبطال قريش وصناديدها (الإرشاد
للمفيد : 64 الفصل 19 الباب 2 ، وكشف الغمّة : 1 / 182 .) . في
هذه المعركة المهمّة كان عليّ (ع) صاحب راية
رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إضافة إلى دوره الحاسم لنتيجة المعركة (لاستيعاب
لابن عبد البرّ المالكي بهامش الإصابة : 3 / 33 ، وتأريخ دمشق لابن عساكر : 1 / 142 .) . وروي أنّ رجلاً من بني كنانة دخل على معاوية بن أبي سفيان
فقال له : هل شهدت بدراً ؟ قال : نعم ، قال : فحدّثني ما رأيت وحضرت . قال : ما كنّا شهوداً إلاّ كغياب ، وما رأينا ظفراً كان أوشك
منه ، قال : فصف لي ما رأيت . قال : رأيت عليّ بن أبي طالب غلاماً شابّاً ليثاً عبقرياً
يفري الفري ، لا يثبت له أحد إلاّ قتله ، ولا يضرب شيئاً إلاّ هتكه ، ولم أر من
الناس أحداً قطّ أنفق منه يحمل حملته ويلتفت التفاتة ، كأنّه ثعلب روّاغ ،
وكأنَّ له عينان في قفاه ، وكأنّ وثوبَه وثوبُ وحش (حلية
الأولياء لأبي نعيم : 9 / 145 .) . |
|
ب ـ عليّ (عليه السلام) في معركة اُحد :
|
|
لم تكن قريش لتنسى هزيمتها الساحقة في معركة بدر ومقتل
صناديدها ورجالها وكثير من أبطالها فعزمت على الثأر من المسلمين ردّاً لاعتبارها
الذي فقدته ، ولم يمضِ سوى عام حتى استكملت قريش عدّتها ، واجتمع إليها أحلافها
من المشركين واليهود ، وانضمّ اليهم كلّ حاقد وناقم على الدين الإسلامي ،
فاتّفقت كلمة الكفر ، واتّحدت قوى الباطل لمواجهة الحقّ ، وخرج جيش الكفر
باتّجاه المدينة وقد تجاوز عدده ثلاثة آلاف ، وذلك في أوائل شوال من السنة
الثالثة للهجرة ، وما أن وصل خبرهم إلى مسامع النبيّ
(ص) حتى جمع المسلمين واستشارهم في الموقف المناسب الذي يجب أن يتّخذوه ،
تمّ خطب فيهم وحثّهم على القتال والصبر والثبات ، ووعدهم بالنصر والأجر ، وتجهّز
للخروج بمن معه وكانوا ألفاً أو يزيدون ، ودفع لواءه لعليّ
بن أبي طالب (ع) ووزّع الرايات على وجوه المهاجرين والأنصار ، وأبى
النفاق إلاّ أن يأخذ دوره في إضعاف المسلمين ، فرجع عبد الله ابن أبي بمن تبعه
في منتصف الطريق ، وكان عددهم يناهز الثلاثمائة (الكامل
في التأريخ :
2 / 150 ، وسيرة ابن هشام : 3 / 64 .) . واستمرّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) في مسيره قدماً حتى
بلغ أُحداً ، فأعدّ أصحابه للقتال ووضع تخطيطاً سليماً محكماً للمعركة يضمن لهم
النصر ، حيث أمر خمسين رجلاً من الرماة أن يكونوا من وراء المسلمين إلى جانب
الجبل ، وأكّد عليهم بأن يلزموا أماكنهم ولا يتركوها حتى لو قُتل المسلمون
جميعاً
(مغازي
الواقدي : 1 /
224 ، والكامل في التأريخ : 2 / 152 ، وسيرة ابن هشام : 3 / 66 .) . ووصلت قريش إلى (أُحد) وأعدّوا أنفسهم للقتال ، فقسّموا
الأدوار ووزّعوا المهام كما بدا لهم ، وأعطوا لواءهم لبني عبد الدار ، وأوّل من
استلمه منهم طلحة بن أبي طلحة ، ولمّا علم النبيّ بذلك أخذ اللواء من عليّ (ع) وسلّمه إلى مصعب بن عمير وكان من بني عبد
الدار ، وبقي معه إلى أن قُتل ، وحينئذٍ ردّه النبيّ (ص) إلى عليّ (ع) (تأريخ
الطبري : 2 /
199 ط
مؤسسة الأعلمي .)
، وكانت
معركة (أُحد) قد وقعت في شوال من العام الثالث من الهجرة . وفي اللحظة التي كمل فيها التنظيم انطلقت شرارة المعركة
عندما برز كبش الشرك وحامل رايتهم طلحة بن أبي طلحة الذي كان يُعدّ من شجعان
قريش ، يتقدّم نحو المسلمين رافعاً صوته متحدّياً لهم مستخفّاً بجمعهم قائلاً :
يا معشر أصحاب محمد ! إنّكم تزعمون أنّ الله يعجلنا بسيوفكم إلى النار ويعجلكم
بسيوفنا إلى الجنّة ؛ فهل أحد منكم يعجله سيفي إلى الجنّة أو يعجلني سيفه إلى
النار ؟ فخرج إليه عليّ (عليه السلام) (سيرة
ابن هشام : 3 /
73 .)
وبرزا بين الصفّين ورسول الله (صلّى الله عليه وآله) جالس في عريش أُعدّ له يشرف
على المعركة ويراقب سيرها ، فضرب عليّ طلحة فقطع رجله وسقط على الأرض وسقطت
الراية ، فذهب علي ليجهز عليه فكشف عورته وناشده الله والرحم ، فتركه عليّ (عليه
السلام) فكبّر رسول الله وكبّر معه المسلمون فرحاً بنتيجة هذه الجولة . ثمّ تقدّم أخوه عثمان بن أبي طلحة فحمل الراية فحمل عليه
حمزة بن عبد المطلب فضربه فقتله ، فحمل اللواء من بعده أخوهما أبو سعيد ، فحمل
عليه عليّ (ع) فقتله ، ثمّ أخذ اللواء أرطاة بن
شرحبيل فقتله عليّ ، وهكذا تعاقب على حمل اللواء تسعة من بني عبد الدار قُتلوا
بأجمعهم بسيف عليّ (الكامل في التاريخ : 2 / 152 ـ 154 .) أو سيف حمزة ، وكان آخر من حمل اللواء هو غلام لبني عبد
الدار يُدعى (صواب) فحمل عليه عليّ وقتله ، وسقط اللواء من بعده في ساحة المعركة
ولم يجرؤ أحد أن يحمله ، فدبّ الرعب في قلوب المشركين ، وانهارت معنوياتهم ،
وانكشف المشركون لا يلوون على شيء حتى أحاط المسلمون بنسائهم ، وبدت المعركة
وكأنّها قد حُسمت لصالح المسلمين . وهنا عصفت النازلة العظمى بالمسلمين حيث ترك الرماة موقعهم
فوق الجبل ، وانحدروا يشاركون إخوتهم غنائم المعركة ، ولم يثبت على الجبل إلاّ
عشرة رماة . فنظر خالد بن الوليد ـ وكان على خيل المشركين ـ خلوّ الجبل
وقلّة الثابتين صاح بخيله ، وكرّ يحمل على الرماة وتبعه عكرمة فقتلوهم ، وهنا
تغيّر ميزان القوة ورجحت كفّته لصالح المشركين ، فاستطاعوا أن ينفذوا ويشقّوا
صفوف المسلمين (تأريخ الطبري : 2 / 194 ط
مؤسسة الأعلمي .) ، وكانت المأساة التي لم يعرف
المسلمون لها مثيلاً ، فارتبك المسلمون وضاع صوابهم ، فكانت هزيمة بعد نصر
وانكساراً بعد انتصار ، وتفرّق الناس كلّهم عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله)
وأسلموه إلى أعدائه بعد أن استشهد عمّه حمزة ومصعب بن عمير ، ولم يبق معه أحد
إلاّ عليّ ونفر قليل من المهاجرين والأنصار . في
هذه اللحظات الحاسمة والحرجة سجّل التأريخ موقف الصمود والفداء الذي وقفه عليّ (ع) من رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وقف
ليدافع عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله) بكلّ قوة وبسالة وهمّه سلامة الرسول
والرسالة ، إذ كان يحمل الراية بيد والسيف بالأخرى يصدّ الكتائب ويردّ الهجمات
عن الرسول ، وكأنّه جيش بكامل عِدَّته وعُدَّته ، وكان الرسول كلّما رأى جماعة
تهجم عليه قال لعليّ (ع) : يا عليّ احمل عليهم ، فيحمل
عليهم ويفرّقهم ، فلم يزل عليّ يقاتل حتى أثخنته جراحات عديدة في وجهه ورأسه
وصدره وبطنه ويديه (الكامل
في التأريخ :
2 / 154 ، وأعيان الشيعة : 1 / 288 ، وبحار الأنوار : 20 / 54 .) . فأتى جبرئيل (عليه السلام) النبيّ (صلّى الله عليه وآله)
فقال : إنّ هذه لهي المواساة ، فقال رسول الله (ص) : إنّه منّي وأنا منه ، فقال جبرئيل : وأنا منكما
، فسمعوا صوتاً في السماء ينادي : لا سيف إلاّ ذو الفقار ولا فتى إلاّ عليّ (الكامل في التأريخ : 2 /
154 ، وفرائد السمطين للحمويني : 1 / 257 الحديث 198 ، 199 ، وتأريخ دمشق لابن
عساكر : 1 / 148 ، وروضة الكافي : الحديث : 90 .)
. وهكذا استطاع أمير المؤمنين (عليه السلام) أن يحافظ على حياة
الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله)، وأن يوصل نتيجة المعركة إلى حالة من
التوازن دون أن يحرز أحد الطرفين نصراً حاسماً. |
|
مواقف بعد معركة
(أُحد) :
|
|
ولمّا انصرف أبو سفيان ومن معه ؛ بعث رسول الله (صلّى الله
عليه وآله) عليّاً (عليه السلام) فقال : اخرج في آثار القوم وانظر ماذا
يصنعون ، فإن كانوا قد جنّبوا الخيل وامتطوا الإبل فإنّهم يريدون مكّة ، وإن
ركبوا الخيل وساقوا الإبل فهم يريدون المدينة . قال عليّ (عليه السلام) : فخرجتُ في آثارهم فرأيتهم جنّبوا الخيل وامتطوا
الإبل يريدون مكّة
(أعيان الشيعة : 1 / 389 ،
والسيرة النبوية لابن هشام : 3 / 94 .) . ولمّا رجع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إلى أهله ناول
سيفه ابنته فاطمة (عليها السلام) وقال : اغسلي عن هذا دمه يا بنية ، وناولها عليّ (ع) سفيه وقد خضّب
الدم يده إلى كتفه ، فقال لها رسول الله (ص) : خذيه يا فاطمة فقد أدّى
بعلك ما عليه ، وقد قتل الله بسيفه صناديد قريش (أعيان الشيعة : 1 / 390) . كانت معركة أُحد قاسية نتيجتها ، شديدة وطأتها ، باهضة
مكلّفة خسارتها ، ورغم مرارة المعركة نلمح فيها ومضات ساطعة من مواقف عليّ (عليه
السلام) ، فقد امتاز بأمور دون أن يشاركه فيها أحد : 1 ـ أنه كان صاحب راية رسول الله (ص)
والتي لم تسقط إلى الأرض رغم فرار أغلب المسلمين . 2 ـ قتله (عليه السلام) أصحاب راية
المشركين الذين تصدّوا لحملها ، وقد أظهر بذلك حنكة عسكرية وشجاعة فذّة ، وأحدث
بذلك شرخاً كبيراً في صفوف المشركين كان سبباً في هزيمتهم في أوّل المعركة . 3 ـ ثباته (عليه السلام) مع رسول الله
(صلّى الله عليه وآله) وعدم فراره بعدما فرّ عنه الناس يدلّ على إيمانه المطلق
بالمعركة ، والذي يكشف عن عمق العقيدة ورسوخها في نفسه (عليه السلام) . 4 ـ أنه كان هو المحامي عن رسول الله
(صلّى الله عليه وآله) والدافع عنه كتائب المشركين الذين قصدوا قتل النبي (صلّى
الله عليه وآله) ، فكان (عليه السلام) يمثّل الدرع التي تقي رسول الله عن وصول مكروه
إليه ، وهذا يدلّ على عظيم حبّه للرسول
وتفانيه في الحرص على سلامته . 5 ـ أنّ أكثر المقتولين من المشركين
يومئذٍ قتلاه (الإرشاد
: 82 ، الفصل 23 الباب 2 .) ، وهذا يدلّ على فاعليته القتالية العالية
وقوّته وشجاعته (عليه السلام) . 6 ـ الأخلاق والقيم العالية التي عكسها
في المعركة حيث ترك الإجهاز على طلحة بن أبي طلحة عندما كشف عن عورته حياءً منه
(عليه السلام) وتكرّماً . 7 ـ أنّه (عليه السلام) كان قريباً من
رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ملازماً له حيث كان الرسول يوجّهه ليرد الهاجمين عليه ،
وأيضاً هو الذي أخذ بيد النبي (صلّى الله عليه وآله) لمّا سقط في إحدى الحفر
التي حفرها أبو عامر الراهب في ساحة المعركة ليقع فيها المسلمون (سيرة ابن هشام : 3 / 80 .) . كما أنّه هو الذي حمل الماء بدرقته إلى
النبيّ (صلّى الله عليه وآله) ليغسل الدم والتراب عن وجهه ورأسه . 8 ـ ورغم الجراحات التي تعرّض
لها عليّ (عليه السلام) والجهد الذي بذله ؛ فقد أرسله النبيّ
(ص) بعد انصراف قريش عن المعركة ليستطلع أخبارهم ، وهذا يدلّ على ثقة
الرسول بقدرة عليّ ودقّة ضبطه للمعلومات وحنكته في معالجة الأمور الطارئة ،
فالمعركة لم تنته بعد تماماً (هذه
الامتيازات لعليّ (عليه السلام) في غزوة أُحد قد ذكرها العلاّمة السيد محسن
الأمين في أعيان الشيعة : 1 : 390 فراجع .) . |
|
ج ـ عليّ (عليه
السلام) في معركة الخندق :
|
|
تمثّل أمام قريش الفشل في القضاء على المسلمين حقيقة واضحة ن
ولكنّها الجاهلية والعناد والإصرار على الكفر ، فعادت قريش تتهيّأ مرةً أخرى
لتوجيه الضربة القاضية للمسلمين ، وذلك بالتحالف مع القبائل الجاهلية الأخرى
واليهود أيضاً ، حتى بلغ عددهم عشرة آلاف يقودها أبو سفيان (السيرة الحلبية : 2 / 631.) ،
وازداد غيظ وحقد المشركين حين واجهوا الأسلوب الدفاعي والتكتيك الحربي الّذي
اتّخذه الرسول (ص) ، بعد أن استشار أصحابه فأشار
سلمان الفارسي رضي الله عنه بحفر الخندق ، غير أنّ الاندفاع والحماس والغرور
بالعدّة والعدد كان قويّاً في نفوس الأحزاب المجتمعة لقتال المسلمين والقضاء على
الإسلام نهائياً . وتمكّن بعض فرسان قريش من عبور الخندق من مكان ضيّق فيه ،
فأصبحوا هم والمسلمون على صعيد واحد ، فازداد المسلمون خوفاً على خوفهم وخرج
عليّ بن أبي طالب في نفر من المسلمين حتى أخذ عليهم الثغرة التي أقحموا منها
خيلهم . فوقف عمرو بن عبد ودّ يطلب المبارزة ويتحدّى المسلمين ،
وهدأت أصوات المسلمين أمام صيحاته وكأنّ على رؤوسهم الطير ، كلّ يفكر في نفسه
ويحسب لهذا الفارس ألف حساب . فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : هل يبارزه أحد ؟
فبرز إليه عليّ (عليه السلام) فقال : أنا له يا رسول الله ، فأجلسه النبيّ ، وللمرّة الثانية
والثالثة طالب عمرو المبارزة فلم يكن يجيبه إلاّ عليّ (عليه السلام) وفي كلّ
مرّة كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يطلب منه الجلوس (السيرة النبوية لابن هشام :
3 / 224 ، تاريخ الطبري : 3 / 172 ، والكامل في التاريخ : 2 / 180 ، والسيرة
الحلبية : 2 /
318 .) ثم أذن النبيّ لعليّ بعد أن عمّمه بعمامته
وقلّده بسيفه وألبسه درعه ، ثمّ رفع يديه وقال : (اللّهم إنّك أخذت عبيدة يوم بدر وحمزة يوم
أُحد وهذا عليّ أخي وابن عمّي فلا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين) (موسوعة التاريخ الإسلامي : 2 / 491 و 492 ، عن
شرح نهج البلاغة : 19 / 61 ، وراجع المناقب للخوارزمي : 144 ، السيرة الحلبية :
2 / 318 .) . وبرز عليّ (عليه السلام) إلى ساحة المعركة بعد أن قال رسول
الله (صلّى الله عليه وآله) : (برز الإيمان كلّه إلى الشرك كلّه) (شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 19/ 61 ،
ينابيع المودة : الباب الثالث والعشرون ، رواه عن ابن مسعود ورواه الميلاني في
قادتنا : 2 / 108 عن الدميري في حياة الحيوان : 1 / 248 وعن الفضل بن روزبهان :
انّه حديث صحيح لا ينكره إلاّ سقيم الرأي ضعيف الإيمان . ولكنه ليس نصّاً في
الإمامة .) . وانحدر عليّ (عليه السلام) نحو عمرو والثقة بنصر الله تملأ
قلبه ، أمّا عمرو فقد كان لقاؤه مع عليّ مفاجأة له ، وفي هذا الموقف تردّد عمرو
في مبارزة عليّ (عليه السلام) فقال له : يا عمرو ، إنّك كنت في
الجاهلية تقول : لا يدعوني أحد إلى ثلاثة إلاّ قبلتها أو واحدة منها ، قال : أجل . قال عليّ (عليه السلام) : فإنّي أدعوك إلى شهادة أن لا
إله إلاّ الله وأنّ محمداً رسول الله وأن تسلم لربّ العالمين ، قال : أخّر عني هذه ، قال علي (عليه
السلام) : أما إنّها خير لك لو أخذتها ، ثمّ قال : ترجع من حيث جئت ، قال: لا تتحدّث نساء قريش بهذا
أبداً ، قال عليّ (عليه السلام) : تنزل تقاتلني . فغضب عمرو عند ذلك ونزل عن فرسه وعقرها ، ثمّ أقبل على عليّ
(عليه السلام) فتقاتلا ، وضربه عمرو بسيفه فاتّقاه عليّ بدرقته ، فأثبت
فيها السيف وأصاب رأسه ، ثمّ ضربه عليّ على عاتقه فسقط إلى الأرض يخور بدمه ،
وعندها كبّر علي (عليه السلام) وكبّر المسلمون خلفه ، وانجلت الواقعة عن مصرع
عمرو ، وفرّ أصحابه من هول ما شاهدوه ، فلحق بهم عليّ فسقط نوفل بن عبد الله في
الخندق فنزل إليه علي فقتله (تاريخ
دمشق : 1 / 150 ، وراجع أيضاً موسوعة التاريخ الإسلامي : 2 / 495 .) . وتلقّت الأحزاب هذه الضربة القاسية بدهشة واستغراب ، لأنّها
لم تكن تتوقّع أنّ أحداً يجرؤ على قتل عمرو بن عبدودّ ، فدبّ الخوف في نفوسهم
ولم يجسر أحد منهم على تكرار المحاولة إلاّ أنّهم بقوا محاصرين للمدينة فترة من
الزمن حتى أذن الله بهزيمتهم حين استخدم رسول الله أسلوباً آخر لمحاربتهم . وامتاز عليّ (عليه السلام) على جميع من حضروا غزوة
الخندق بأمور : 1 ـ مبادرته لحماية الثغرة التي عبر
منها عمرو وأصحابه ، والتي تدلّ على الحزم والإقدام في مواجهة الطوارئ في ساحة
المعركة . 2 ـ مبارزته عَمْراً وقتله ، وقد تردّد
المسلمون في مبارزته فلم يخرج إليه أحد ، وقد قال رسول
الله (ص) مشيداً بموقف عليّ (ع )
:
(لمبارزة عليّ بن أبي طالب
لعمرو بن عبدودّ يوم الخندق أفضل من عمل أمتي إلى يوم القيامة) (مستدرك
الحاكم : 3 / 32 ، نقلاً عن هامش تأريخ دمشق : 1 / 155 ، وفرائد السمطين : 1 /
255 حديث 197 .) . 3 ـ الشجاعة والقوّة الفائقة التي ظهرت
منه (عليه السلام) طوال المعركة تمثلت واضحة حينما لحق المنهزمين الذين عبروا مع
عمرو بن عبدود ، وهو راجل وهم فرسان . 4 ـ الأخلاق العالية التي كان يتميز بها
(عليه السلام) في شتّى المواقف ، مظهراً فيها عظمة الرسالة والرسول ، منها أنه
لم يسلب عَمْراً درعه مع أنّها من الدروع الممتازة بين دروع العرب . 5 ـ إن قتله (عليه السلام) عَمْراً
ونوفلاً ولحوقه بالمنهزمين كان سبباً في إعادة الثقة للمسلمين بنفوسهم بعدما
رأوا الجمع الكبير لقريش وأحلافها ، وأيضاً كان سبباً لهزيمة المشركين مع ما
أصابهم من الريح والبرد وسبب خوفهم من أن يعاودوا الغزو . 6 ـ الشرف الرفيع الذي ناله عليّ (ع) بشهادة الرسول حين قال (ص)
عند مبارزة عليّ (ع) : ( برز
الإيمان كلّه إلى الشرك كلّه
) (شرح نهج البلاغة لابن أبي
الحديد ك 19 / 61 .) . |
|
د ـ عليّ (عليه
السلام) في صلح الحديبية (
|
|
كان خروج النبي لأداء العمرة
في مطلع ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة المباركة .) :
بعد الأحداث المتغيّرة والمؤلمة
والمعارك الدامية التي خاضها النبيّ (صلّى الله عليه وآله) والمسلمون مع قريش واليهود ؛ تمكّنت
الرسالة الإسلاميّة أن تخطو خطوات بعيدة المدى تحقّق من خلالها للمسلمين كياناً
واضحاً ووجوداً مستقلاً وقوة لابدّ من حسابها في شتى الميادين . وكان المسلمون يشغفون شوقاً لزيارة الكعبة ويتذكّرونها كلّما
وقفوا في صلاتهم متّجهين نحوها . في هذا الوقت من عمر الرسالة الإسلامية عزم
النبيّ (صلّى الله عليه وآله) على أداء فريضة من فرائض الإسلام بأمر
من الله ، فقرّر الحجّ واتّخذ كلّ الإجراءات والتدابير اللازمة لمثل هذه الخطوة
حتّى أعلن (صلّى الله عليه وآله) مراراً أنّه لا يريد الحرب ضد قريش أو غيرها . ولمّا علمت قريش بالخبر ، اجتمعت كلمتهم على منعه (صلّى الله
عليه وآله) من دخول مكّة مهما كلّفهم ذلك من جهد وخسائر ، وأرسلوا خالد
بن الوليد على رأس جماعة من الفرسان ليقطع عليه الطريق . وحين نزل النبيّ (صلّى الله عليه وآله) والمسلمون منطقة
(الجحفة) ؛ كان الماء قد نفد لديهم ولم يجدوا ماءً ، فأرسل (صلّى الله عليه وآله) الروايا
فلم يتمكّنوا من جلب الماء لتردّدهم وخوفهم من قريش ، عندها دعا (صلّى الله عليه
وآله) عليّاً (عليه السلام) وأرسله بالروايا لجلب الماء ، وخرج السقاة وهم لا
يشكّون في رجوعه لمّا رأوا من رجوع من تقدّمه ، فخرج عليٌّ
(ع) حتى وصل (الحرار) واستقى ، ثمّ أقبل بها إلى النبيّ (صلّى الله عليه
وآله) ولها زَجَل ، فلمّا دخل كبّر النبيّ (صلّى الله عليه وآله) ودعا
له بالخير (الإرشاد
: 108 ، الفصل 30 الباب 2 ، وكشف الغمة : 1
/ 280 باب
المناقب مثله .) . ثم إن قريشاً اضطرّت النبيّ أن يعدل عن الطريق المؤدّي إلى
مكّة ، وانحرف به رجل من (أسلم) إلى طريق وعرة المسالك
خرجوا منها إلى ثنية المراد ، فهبط الحديبيّة ، وحاولت قريش أكثر من مرّة
التحرّش بالمسلمين ومهاجمتهم بقيادة خالد بن الوليد ، لكنّ عليّاً (عليه السلام)
وجماعة من المسلمين الأشدّاء كانوا يصدّون تلك الغارات ويفوّتون الفرصة على قريش
في جميع محاولاتها العدوانية (سيرة
الأئمّة الاثني عشر للحسني : 1 / 217 نقلاً عن ابن إسحاق .) . واضطرّت قريش أن تفاوض النبيّ (ص)
بعدما رأت العزيمة والإصرار منه ومن المسلمين على دخول مكّة ، فأرسلت إليه
مندوبين عنها للتفاوض ، وكان آخرهم سهيل بن عمر وحويطب من بني عبد العزّى .
ويبدو أنّ المفاوضات لم تنحصر بخصوص قضيّة الدخول إلى مكّة في ذلك العام (كنز العمال : 10 / 472 ،
غزوة الحديبية .) بل تناولت أموراً أخرى لصالح الطرفين . فقد روي أنّ عليّاً (عليه السلام) قال : لمّا كان يوم الحديبيّة ؛
خرج إلينا ناس من المشركين فقالوا لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) : يا محمد !
خرج إليك أناس من أبنائنا وإخواننا وأرقّائنا وليس لهم فقه في الدين ، وإنّما
خرجوا فراراً من أموالنا وضياعنا فارددهم إلينا ، فقال : إذا لم يكن لهم فقه في
الدين كما تزعمون سنفقّههم فيه ، وأضاف إلى ذلك : يا معشر قريش ! لتنتهنّ أو ليبعثنّ
الله عليكم من يضرب رقابكم بالسيف قد امتحن الله قلبه بالإيمان ، فقال له أبو
بكر وعمر والمشركون : من هو ذلك الرجل يا رسول الله ، فقال (صلّى الله عليه
وآله) : هو خاصف النعل
، وكان قد أعطى نعله لعليّ (عليه السلام) يخصفها (ينابيع
المودة للقندوزي : 59 ، وكنز العمال :
13 / 173 ، وفضائل الخمسة للفيروزآبادي : 2 / 237 .) . وبعد أن تمّ الاتّفاق بين الطرفين على بنود الصلح ؛ دعا رسول
الله (صلّى الله عليه وآله) عليّ بن أبي طالب فقال له : اُكتب يا عليّ ، بسم الله الرحمن
الرحيم
، فقال سهيل : أمّا الرحمن فو الله ما أدري ما هو لكن اكتب باسمك اللّهمّ ، فقال
المسلمون : والله لا نكتبها إلاّ بسم الله الرحمن الرحيم ، فقال النبيّ (صلّى
الله عليه وآله) : اُكتب باسمك اللّهمّ ، هذا ما قاضى
عليه محمّد رسول الله
، فقال سهيل : لو كنّا نعلم أنّك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك ،
ولكن اكتب محمّد بن عبد الله ، فقال النبيّ (صلّى الله عليه وآله) : إنّي لرسول الله وإن كذّبتموني ، ثمّ قال لعليّ (عليه السلام) : امحِ
رسول الله ،
فقال (عليه السلام) : يا رسول الله ، إنّ يدي لا
تنطلق لمحو اسمك من النبوّة ،
فأخذه رسول الله فمحاه ، ثمّ قال له : أما إنّ لك مثلها وستأتيها وأنت مضطرّ لذلك (تأريخ
الطبري : 2 / 282 ط مؤسسة الأعلمي ، والكامل لابن الأثير : 2 / 404 .) . |
|
هـ ـ عليّ (عليه السلام) في غزوة خيبر :
|
|
خيبر : مدينة كبيرة ذات حصون
ومزارع ونخل كثير ، تقع خارج المدينة على بعد حوالي (90) ميلاً ، وقعت الغزوة في
بداية محرّم من العام السابع للهجرة . لمّا تم عقد صلح الحديبية اطمأن النبيّ على مصير الرسالة
الإسلاميّة من ناحية قريش وباقي أطراف عرب الجزيرة الذين كانوا على شركهم ، لأنّ
بنود الصلح كانت تميل غلى ترجيح كفّة المسلمين ، يضاف إلى ذلك تنامي قوّة
المسلمين عِدّة وعُدّة ، فقد أقبل على الإسلام خلق كثير ، والعرب أدركوا أنّ
قريشاً على عتوّها وطغيانها وقوّتها قد انكسرت شوكتها وفشلت خططها في القضاء على
الإسلام عن طريق القوّة ، ولذا بدا التوقيع على عقد الصلح استسلاماً من جانب
قريش . وبقيت قوّة أخرى تثير الشغب وتمثّل النفاق والغدر ، تلك هي
جموع اليهود الذين كانوا خارج المدينة ، فكان النبيّ (صلّى الله عليه وآله)
يراقبهم خشية أن يقوموا بعمل معادي بدعم خارجي ، وخصوصاً أنّ تأريخ اليهود مليء
بالغدر ونقض العهود ، لذا قرّر النبيّ (صلّى الله عليه وآله) غزو (خيبر) معقل
اليهود وحصنهم . فأمر (صلّى الله عليه وآله) أصحابه أن يتجهّزوا للغزو بأسرع وقت
، فتمّ ذلك فخرج من المدينة وأعطى الراية لعليّ (عليه السلام) ومضى
يجدّ السير باتّجاه خيبر ، فوصل إليهم ليلاً ولم يعلم به أهلها ، فخرجوا عند
الصباح ، فلمّا رأوه عادوا وامتنعوا في حصونهم ، فحاصرهم النبيّ وضيّق عليهم
ونشبت معارك ضارية بين الطرفين حول الحصون ، وتمكّن النبيّ (صلّى
الله عليه وآله) من فتح بعض حصونهم ، واستمرّ الحال هذا من الحصار والقتال بضعاً
وعشرين يوماً ، وبقيت بعض الحصون المنيعة ، فبعث النبيّ (صلّى
الله عليه وآله) برايته أبا بكر فرجع ولم يصنع شيئاً ، وفي اليوم الثاني بعث بها
عمر بن الخطاب فرج خائباً كصاحبه يجبّن أصحابه ويجبّنه أصحابه ، وهنا عزَّ على
رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أن يعقد بيده لواءً فيرجع خائباً ، أو يوجّه
أحداً نحو هدف فيرتد منهزماً ، فأعلن (صلّى الله عليه وآله) كلمة خالدة تتضمّن
معان عميقة ومغاز جليلة ، فقال بصوت رفيع يسمعه أكثر المسلمين : ( لأعطينّ الراية غداً
رجلاً يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله ، كرّاراً غير فرّار يفتح الله عليه
، جبرئيل عن يمينه وميكائيل عن شماله ) (تاريخ الطبري : 2 / 300 ط
مؤسسة الأعلمي ، وتأريخ دمشق لابن عساكر : 1 / 166 ترجمة الإمام علي (عليه
السلام) ،
تذكرة الخواص لابن الجوزي الحنفي : 32 ، والسيرة الحلبية بهامش السيرة النبوية : 3 / 37 .) . فاشرأبّت الأعناق وامتدّت وتمنّى كلّ واحد أن يكون مصداق ذلك
، حتى أنّ عمر بن الخطاب قال : ما أحببت الإمارة إلاّ يومئذٍ ، وتمنّيت أن أعطى
الراية (تذكرة
الخواص : 32 .) . فلمّا طلع الفجر ، قام النبيّ (صلّى الله عليه وآله) فدعا
باللواء والناس على مصافّهم ، ثمّ دعا عليّاً (عليه السلام) ، فقيل : يا رسول
الله ! هو أرمد ، قال : فأرسلوا له ، فذهب إليه سلمة ابن الأكوع وأخذ بيده يقوده حتى أتى به
النبيّ (ص)
وقد عصّب عينيه ، فوضع النبيّ رأس
عليّ في حجره ، ثمّ بلَّ يده من ريقه ومسح بها عيني عليّ فبرأتا حتى كأن لم يكن
بهما وجع ، ثمّ دعا النبيّ لعليّ بقوله : اللّهمّ أكفه الحرّ والبرد (تأريخ
الطبري : 2 / 301 ط مؤسسة الأعلمي ، والكامل لابن الأثير : 2 / 220 ، وفرائد
السمطين : 1 / 264 ، حديث 203 .) . ثمّ ألبسه درعه الحديد وشدَّ ذا الفقار الّذي هو سيفه (صلّى
الله عليه وآله) في وسطه وأعطاه الراية ووجّهه نحو الحصن ، فقال (صلّى الله عليه
وآله) : ( أنفذ على رسلك حتى تنزل
بساحتهم ، ثمّ ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حقّ الله تعالى فيه ،
فو الّذي نفسي بيده ، لإن يهدي بهداك ـ أو لغن يهدي الله بهداك ـ رجلاً واحداً
خير من أن يكون لك حمر النعم )
. قال سلمة : فخرج والله يهرول هرولةً وإنّا لخلفه نتّبع أثره
حتّى ركز رايته في رخم من حجارة تحت الحصن ، فأطلع إليه يهوديّ من رأس الحصن ،
فقال : من أنت ؟ قال : (أنا عليّ بن أبي طالب) . قال : قال اليهودي لأصحابه : غلبتم ، وما أُنزل على موسى (أعيان
الشيعة : 1 : 401 .) . ثمّ خرج إليه أهل الحصن ، وكان أوّل من خرج إليه الحارث أخو
(مرحب) وكان معروفاً بالشجاعة ، فانكشف المسلمون ووثب عليّ (عليه السلام) ،
فتضاربا وتقاتلا فقتله عليّ (عليه السلام) وانهزم اليهود إلى الحصن ، ثمّ خرج
مرحب وقد لبس در عين وتقلّد بسيفين واعتمّ بعمامتين ومعه رمح لسانه ثلاثة أسنان
. فاختلف هو وعليّ بضربتين ، فضربه عليٌّ بسيفه فقدّ الحجر
الذي كان قد ثقبه ووضعه على رأسه ، وقدّ المغفر ، وشقّ رأسه نصفين حتى وصل السيف
إلى أضراسه ، ولمّا أبصر اليهود ما حلّ بفارسهم (مرحب)
؛ ولّوا منهزمين إلى داخل الحصن وأغلقوا بابه . فصار عليّ (ع) إليه فعالجه
حتى فتحه ، وأكثر الناس من جانب الخندق ـ الّذي حول الحصن ـ لم يعبروا معه (ع) فأخذ باب الحصن فقلعه وجعله على الخندق جسراً لهم
حتى عبروا وظفروا بالحصن ونالوا الغنائم (تأريخ
الطبري : 2 / 301 ط مؤسسة الأعلمي ، والإرشاد للمفيد : 114 ، الفصل 31 من باب 2
، وبحار الأنوار : 21 / 16 .) وروي : أنّه اجتمع عدّة رجال على أن يحرّكوا الباب فما
استطاعوا . قال ابن عمرو : ما عجبنا من فتح الله خيبر على يدي عليّ
(عليه السلام) ولكنّا عجبنا من قلعه الباب ورميه خلفه أربعين ذراعاً ، ولقد
تكلّف حمله أربعون رجلاً فما أطاقوه ، فأخبر النبيّ (صلّى الله عليه وآله) بذلك
فقال : (
والذي نفسي بيده لقد أعانه عليه أربعون ملكاً ) . وروي أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) قال في رسالته إلى سهل
بن حنيف : والله ما قلعت باب خيبر ورميت به خلف ظهري
أربعين ذراعاً بقوّة جسدية ولا حركة غذائية ، لكنّي أيّدت بقوّة ملكوتية ونفس
بنور ربّها مضيئة ، وأنا من أحمد كالضوء من الضوء (الأمالي
للصدوق : المجلس السابع والسبعون ، الحديث 10 .) . |
|
و ـ عليّ (عليه
السلام) في فتح مكّة :
|
|
كان فتح مكة في شهر رمضان سنة ثمانٍ من الهجرة
النبويّة . ساد الهدوء والسلم الأجواء المحيطة بقريش والمسلمين ، والتزم
رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بكامل بنود الحديبية ، غير أنّ قريشاً كانت
تنوي نقض المعاهدة ، وقد تصوّرت أن ضعفاً أصاب المسلمين بعد انسحابهم من معركة
(مؤتة) منهزمين ، فأدّى استخفافها بالمسلمين إلى التآمر على أحلاف النبيّ (صلّى
الله عليه وآله) من خزاعة ، فحرّضت بعض أحلافها من بني بكر ، فوقعت بينهما
مناوشات فتغلّب بنو بكر بمعونة قريش على خزاعة ، وبهذا فقد نقضت قريش المعاهدة
وأعلنت الحرب على المسلمين . فعزم النبيّ (صلّى الله عليه وآله) على محاربة قريش ، وقال
كلمته المشهورة : ( لا نصرت إن لم أنصر خزاعة ) وأخذ يستعدّ لذلك وهو يحرص على أن لا
يذاع هذا الأمر ، ولكن حاطب بن أبي بلتعة سرّب الخبر ، فأرسل كتاباً إلى قريش مع
امرأة يخبرهم بما عزم عليه النبيّ (صلّى الله عليه وآله) ، وقبل خروجها من ضواحي
المدينة ؛ نزل الوحي على النبيّ وأخبره بذلك ، فأرسل خلفها بالفور عليّاً
والزبير ، وأمرهما بأن يجدّا السير في طلبها قبل أن تفلت منهما ، فأدركاها على
بعد أميال من المدينة ، فأسرع إليها الزبير وسألها عن الكتاب فأنكرته وبكت فرقّ
لها الزبير ، ورجع عنها ليخبر عليّاً ببراءتها وقال له : ارجع لنخبر الرسول بذلك
، فقال عليّ (عليه السلام) : إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يخبرنا
بأنّها تحمل كتاباً وتقول أنت بأنّها لا تحمل شيئاً ، ثمّ شهر عليّ (عليه
السلام) سيفه وأقبل عليها حتى استخرج الكتاب منها ، ورجع إلى النبيّ (صلّى الله
عليه وآله) وسلّمه إيّاه (تأريخ الطبري : 2 / 328 ط
مؤسسة الأعلمي ، والسيرة الحلبية بهامشه السيرة النبويّة : 3 / 75 .) . ولمّا أتمّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) الاستعدادات
والتجهيزات اللازمة للخروج إلى مكّة ؛ أعطى لواءه إلى عليّ (عليه السلام) ووزّع
الرايات على زعماء القبائل ومضى يقطع الطريق باتّجاه مكّة . ولمّا رأت قريش أنّها لا طاقة لها أمام النبيّ (صلّى الله
عليه وآله) والمسلمين ؛ استسلمت ولم تجد بُدّاً من أن يدخل كلّ فرد منهم داره
ليأمن على نفسه انقياداً للأمان الذي أعلنه النبيّ لهم (تأريخ
الطبري : 2 / 332 ، والكامل في التأريخ لابن الأثير : 2 / 243 .) . وروي : أنّ سعد بن عبادة كان معه راية رسول الله (صلّى الله
عليه وآله) على الأنصار ولمّا مرَّ على أبي سفيان وهو واقف بمضيق الوادي ( في
الطريق إلى مكّة ) قال أبو سفيان : من هذه ؟ قيل له : هؤلاء الأنصار عليهم سعد
بن عبادة مع الراية ، فلمّا حاذاه سعد قال : يا أبا سفيان ، اليوم يوم الملحمة ،
اليوم تُستحلّ الحرمة ، اليوم أذلّ الله قريشاً ، فلمّا مرَّ رسول الله (صلّى
الله عليه وآله) بأبي سفيان وحاذاه أبو سفيان ناداه : يا رسول الله ! أمرت بقتل
قومك فإنّه زعم سعد ومن معه حين مرّ بنا أنه قاتلنا فإنّه قال : اليوم يوم
الملحمة ... أنشدك الله في قومك ، فأنت أبرّ الناس وأرحمهم وأوصلهم . فقال (صلّى الله عليه وآله) : ( كذب سعد ، اليوم يوم
المرحمة ، اليوم أعزَّ الله فيه قريشاً ، اليوم يعظّم الله فيه الكعبة ، اليوم
تكسى فيه الكعبة )
. وأرسل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إلى سعد بن عبادة
عليّاً (عليه السلام) أن ينزع اللواء منه ، وأن يدخل بها مكّة (تأريخ
الطبري : 2 / 334 ط مؤسسة الأعلمي ، الإرشاد للمفيد : 121 الفصل 34 الباب 2 .) . ودخل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) مكّة بذلك الجيش
الكبير الذي لم تعرف له مكة نظيراً في تأريخها الطويل ، ولواؤه بيد عليّ بن أبي
طالب (عليه السلام) ، وأعلن العفو العامّ وهو على أبواب مكّة. |
|
صعود عليّ (ع) على منكب رسول الله (ص) لتحطيم الأصنام :
|
|
وروي عن عليّ (عليه السلام) أنّه قال :
انطلق بي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إلى كسر الأصنام ، فقال لي : اجلس ،
فجلست إلى جنب الكعبة ، ثمّ صعد الرسول على منكبي فقال لي : انهض بي ، فنهضت به
، فلمّا رأى ضعفي تحته قال : اجلس ، فجلست ونزل عنّي ، وقال : يا عليّ اصعد على
منكبي ، فصعدت على منكبيه ، ثمّ نهض بي حتى خيل لي أن لو شئت نلت السماء ، وصعدت
على الكعبة .. فألقيت الصنم الأكبر وكان من نحاس موتداً بأوتاد من حديد ، فقال
(صلّى الله عليه وآله) : عالجه ، فلم أزل أعالجه ورسول الله (صلّى الله عليه
وآله) يقول : إيه إيه ، حتّى قلعته ، فقال : دقّه ، فدققته وكسّرته ونزلت (المستدرك
على الصحيحين : 2 / 367 و 3 / 5 . وروى ابن الجوزي في تذكرة الخواص : 34 مثله ،
ينابيع المودة للقندوزي : 254 .) . |
|
ز ـ عليّ (عليه
السلام) في غزوة حنين :
|
|
وقعت غزوة (حنين) في شوال سنة ثمانٍ للهجرة
النبويّة . بعد أن كتب الله النصر والفتح لرسوله (صلّى الله عليه وآله)
حين دخل مكّة واستسلمت قريش وأذعنت له أجمعت قبيلة (هوازن) وقبيلة (ثقيف) على
محاربة النبي (ص) والمبادرة إليه قبل أن يغزوهم ، وأعدّ لهم النبيّ العدّة لمّا
سمع بذلك ، وعبّأ المسلمين الذين تجاوز عددهم اثني عشر ألفاً وخرج اليهم من مكّة
. ولمّا قربوا من موقع العدوّ صفّهم (صلّى الله عليه وآله)
ووزّع الألوية والرايات على قادة الجيش وزعماء القبائل ، فأعطى عليّاً لواء
المهاجرين (السيرة الحلبية : 3 / 106 .) ، ولكنّ هوازن أعدّت خطّةً للغدر
بالمسلمين على حين غفلة منهم ، فكمنوا لهم في شعاب وادٍ من أودية تهامة حيث لا
مفرّ لهم من المرور فيه . وحين انحدر المسلمون في وادي (حنين)
باغتتهم كتائب هوازن من كلّ ناحية ، وانهزمت بنو سليم
وكانوا في مقدّمة جيش المسلمين وانهزم مَنْ وراءهم ، وخلّى الله تعالى بينهم
وبين عدوّهم لإعجابهم بكثرتهم ، ولم يثبت مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله)
إلاّ نفر قليل من بني هاشم وأيمن بن عبيد (تأريخ
الطبري : 2 / 347 ، وأعيان الشيعة للأمين : 1 / 279 .) . ووقف عليّ (ع) كالمارد يضرب
بسيفه عن يمينه وشماله ، فلم يدن أحد من النبيّ (ص)
؛ إلاّ جَنْدَلَه بسيفه ، وكان لثبات النبيّ (ص)
ودفاع عليّ (ع) ومن معه أن عادت الثقة إلى نفوس
بعض المسلمين ، فأعادوا الكَرّة على هوازن . وخرج رجل من هوازن يدعى (أبو جرول) حامل رايتهم وكان شجاعاً ، فتحاماه الناس
ولم يثبتوا له ، فبرز إليه عليّ (ع) وقتله ،
فدبَّ الذعر في نفوس المشركين كما دبَّ الحماس في نفوس المسلمين ، ووضع المسلمون
سيوفهم في هوازن وأحلافها يقتلون ويأسرون وعليّ (ع)
يتقدّمهم حتى قتل بنفسه أربعين رجلاً من القوم ، فكان النصر للمسلمين
(روضة
الكافي : ص 308 رقم الحديث 566 ، والمغازي للواقدي : 2 / 895 ، وكشف الغمّة : 1
/ 226 .) . |
|
ح ـ عليّ (عليه السلام) في غزوة تبوك:
|
|
وقعت غزوة (تبوك) في شهر رجب سنة تسعٍ من
الهجرة النبويّة . استعدّ النبيّ (ص) لمواجهة
الروم حين علم أنّهم يريدون الإغارة والهجوم على الجزيرة ، فأعدّ بما يملك من
استراتيجية محكمة العدّة والعدد ، وقرّر ـ لأهمية الموقف والنزال ـ أن يكون على
رأس الجيش المتقدّم ، ولكنّ الظروف السياسية والعسكرية لم تكن تدعو للاطمئنان
التامّ ونفي الاحتمال من هجوم المنافقين أو المرجفين على المدينة أو قيامهم
بأعمال تخريبية أخرى ، لذا يتطلّب الأمر أن يبقى في المدينة من يتمتّع بمؤهّلات
ولياقات عالية وحكمة بالغة ودراية تفصيلية في جميع الاُمور وحرص على العقيدة كي
يتمكّن من مواجهة الطوارئ ، فاختار النبيّ الأكرم (ص)
عليّاً لهذه المهمّة الحسّاسة كي يقوم مقام النبيّ في غيابه . فقال (ص) : ( يا عليّ ، إنّ
المدينة لا تصلح إلاّ بي أو بك ) . ولمّا تحرّك النبيّ (صلّى الله عليه وآله) باتّجاه (تبوك) ؛
ثقل على أهل النفاق بقاء عليّ (عليه السلام) على رأس السلطة المحليّة في عاصمة
الدولة الإسلاميّة ، وعظم عليهم مقامه ، وعلموا أنّها في حراسة أمينة ولا مجال
لمطمع فيها ، فساءهم ذلك ، فأخذوا يردّدون في مجالسهم ونواديهم أنّ النبيّ (صلّى
الله عليه وآله) لم يستخلفه إلاّ استثقالاً ومقتاً له ، فبهتوا بهذا الإرجاف
عليّاً ، كبهت قريش للنبي بالجِنّة والسِّحر . فلمّا بلغ عليّاً (عليه السلام) إرجاف المنافقين به أراد
تكذيبهم وإظهار فضيحتهم ، فأخذ سيفه وسلاحه ولحق بالنبيّ (صلّى الله عليه وآله)
فقال : يا
رسول الله ، إنّ المنافقين يزعمون أنّك خلّفتني استثقالاً ومقتاً ، فقال (صلّى الله عليه وآله) : ارجع
إلى مكانك فإنّ المدينة لا تصلح إلاّ بي أو بك ، فأنت خليفتي في أهل بيتي ودار
هجرتي وقومي ، أما ترضى ـ يا عليّ ـ أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ
أنّه لا نبيّ بعدي
. فرجع عليّ (عليه السلام) ومضى رسول
الله (ص) في سفره (تأريخ الطبري : 2 / 368 ط
مؤسسة الأعلمي ، والإرشاد للمفيد : 138 ، الفصل 43 ، والسيرة الحلبية بهامش
السيرة النبوية : 3 / 132 ، وصحيح البخاري : باب غزوة تبوك 6 / 3 ، وصحيح مسلم .
كتاب فضائل الصحابة : 5 / 23 الحديث 2404 والترمذي : 2 / 300 . ومسند أحمد : 1 /
185 و 284 الحديث 508 وسنن ابن ماجة : 1 / 42 الحديث 115 وتاريخ بغداد : 1 / 432
رقم 6323 .) . |
|
تبليغ سورة براءة :
|
|
استمرّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يبلّغ رسالته
المباركة وينشر الإسلام في ربوع الجزيرة العربية ، وفي ذات الوقت يطارد فلول
الشرك عسكرياً حتى أشرفت السنة التاسعة للهجرة على نهايتها ، فأصبح للإسلام كيان
سياسي مستقلّ وأمة تسودها علاقات متينة وأرض مترامية الأطراف وحدود منيعة ، ولم
يعد لقوى الشرك وجود معتبر ، فكان لابدّ من تصفيتهم ، ونزلت على رسول الله (صلّى
الله عليه وآله) سورة (براءة) الّتي تسنّ التشريعات الّتي تحدّد موقفه من
المشركين والعهود والأحلاف الّتي كان قد أبرمها معهم . وكان أفضل مكان لإعلان
هذا القرار وقراءة هذا البيان الرسمي الإلهي هو البيت الحرام ، وأفضل وقت له هو
اليوم العاشر من ذي الحجّة حيث يجتمع المشركون من أطراف الجزيرة ، فأرسل النبيّ (ص) أبا بكر ليحجّ بالناس ويبلّغ سورة (براءة) ،
ولمّا انتهى إلى (ذي الحليفة ) وهو المكان المعروف اليوم بمسجد الشجرة ، وإذا
بالوحي ينزل على النبيّ ويأمره أن يرسل مكانه عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ، فأرسل النبيّ عليّاً وأمره أن يأخذ الآيات من أبي بكر
ويبلّغها بنفسه ، فمضى نحو مكّة وهو على ناقة النبيّ حتى التحق بأبي بكر
، فلمّا سمع رغاء الناقة عرفها فخرج فزعاً وهو يظنّه رسول
الله (ص) وإذا هو عليّ ، فأخذ منه الآيات ورجع أبو بكر إلى المدينة
خائفاً أن يكون قد نزل فيه ما يُغضب النبيّ ، فقال : يا رسول الله ! اَنزل فيَّ
شيء ؟ فقال النبيّ (ص) : لا ، ولكنّي أمرت أن أُبلّغها أنا أو رجل منّي
(الكامل
في التأريخ لابن الأثير : 2 / 291 ، وفضائل الخمسة من الصحاح الستة : 2 / 343 .) . وانطلق عليّ (عليه السلام) في طريقه حتى بلغ مكّة ، وعندما
اجتمع الناس لأداء مناسكهم ؛ قرأ عليهم الآيات الأولى من السورة ، ونادى في
الناس : لا يدخل مكّة مشرك بعد عامه هذا ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ومن كان بينه
وبين رسول الله عهد فعهده إلى مدّته (البداية
والنهاية لابن كثير : 5 / 45 .) . |
|
عليّ (عليه السلام) في اليمن :
|
|
استمراراً في نشر الإسلام أرسل النبيّ (صلّى الله عليه وآله)
إلى اليمن خالد بن الوليد وجمعاً من الصحابة ليدعوا قبيلة (همدان) إلى الإسلام ،
وظلّ خالد نحواً من ستة أشهر دون أن يحقّق نجاحاً ، فلم يتمكّن من إقناع همدان
في اعتناق الإسلام ، فبعث إلى النبيّ يخبره بعدم إجابة القوم له وانصرافهم عنه ،
عند ذاك بعث النبيّ (صلّى الله عليه وآله) عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) وطلب
منه أن يُعيد خالداً إلى المدينة ويحلّ محلّه في مهمّته ، ويبقي معه من يشاء من
المجموعة المرسلة مع خالد . روي عن البراء بن عازب الّذي كان مع خالد وبقي في سريّة عليّ
(عليه السلام) : كنت ممّن خرج مع خالد فأقمنا ستة أشهر ندعوهم إلى الإسلام فلم
يجيبوا ، ثمّ إنّ رسول الله (ص) بعث عليّاً
(عليه السلام) وأمره أن يقفل خالداً ويكون مكانه ، فلمّا دنونا من القوم ؛ خرجوا
إلينا وصلّى بنا عليّ (ع) ثمّ صفّنا صفاً واحداً
ثمّ تقدّم بين أيدينا وقرأ عليهم كتاب رسول الله (ص)
بإسلامهم ، فأسلمت همدان جميعاً وأرسل عليّ (عليه السلام) إلى رسول الله (صلّى
الله عليه وآله) بالخبر السارّ ، فخرّ رسول الله ساجداً ثمّ رفع رأسه وقال :
السلام على همدان (أعيان الشيعة : 1 / 410 ،
والكامل في التأريخ لابن الأثير : 2 / 300 ، والسيرة النبوية لابن كثير ك 4 /
201 .) . وروي : أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) أرسل عليّاً في
مهمّة ثانية إلى اليمن ليدعو (مذحج) إلى الإسلام ، وكان معه ثلاثمائة فارس ،
وعقد رسول الله له اللواء وعمّمه بيده ، وأوصاه أن لا يقاتلهم إلاّ إذا قاتلوه ،
فلمّا دخل إلى بلاد مذحج ؛ دعاهم إلى الإسلام فأبوا عليه ورموا المسلمين بالنبل
والحجارة ، فأعدّ عليّ (ع) أصحابه للقتال ، وهجم
عليهم فقتل منهم عشرين رجلاً فتفرّقوا وانهزموا فتركهم ، ثمّ دعاهم إلى الإسلام
ثانية فأجابوه لذلك ، وبايعه عدد من رؤسائهم ، وقالوا : له نحن على من وراءنا من
قومنا وهذه صدقاتنا فخذ منها حقّ الله . وروي : أنّ عليّاً (عليه السلام) قال :
بعثني رسول الله (ص) إلى اليمن ، فقلت : يا رسول الله ، تبعثني إلى قومٍ وأنا
حديث السنّ لا أبصر القضاء ، فوضع يده على صدري وقال : اللّهمّ ثبت لسانه واهدِ
قلبه ، ثمّ قال : إذا جاءك الخصمان فلا تقضِ بينهما حتى تسمع من الآخر ، فإنّك
إذا فعلت ذلك ؛ تبيّن لك القضاء . قال عليّ (ع) : والله
ما شككت في قضاءٍ بين اثنين
(السيرة
النبوية لابن كثير : 4 / 207 .) . ثمّ إنّ عليّاً جمع الغنائم فأخرج منها الخمس وقسّم الباقي
على أصحابه ، وبلغه خبر خروج النبيّ (صلّى الله عليه وآله) إلى مكّة لأداء فريضة
الحجّ ، فتعجّل (عليه السلام) السير ليلتحق بالنبيّ (صلّى الله عليه وآله) في
مكّة ، وروي أنّ بعض من كان في سريّة عليّ (عليه السلام) اشتكى من شدّته في
إعطاء الحقّ ، فلمّا سمع النبيّ (صلّى الله عليه وآله) ذلك قال : أيّها الناس ، لا تشتكوا عليّاً فو الله إنّه لأخشن في ذات
الله من أن يشتكى منه (سيرة ابن هشام : 4 / 603 ،
والسيرة النبوية لابن كثير : 4 / 205 مثله .) . وعن عمرو بن شاس الأسلمي أنّه قال : كنت مع عليّ (عليه السلام)
في خيله التي بعثه بها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إلى اليمن ، فوجدت في
نفسي عليه (المستدرك على الصحيحين : 3 /
134 .) ، فلمّا قدمت المدينة شكوته في مجالس
المدينة وعند من لقيته ، فأقبلت يوماً ورسول الله (صلّى الله عليه وآله) جالس في
المسجد ، فلمّا رآني أنظر إلى عينيه نظر إليَّ حتى جلست إليه ، فقال : إيه
يا عمرو ، لقد آذيتني
، فقلت : إنّا لله وإنّا إليه راجعون أعوذ بالله
والإسلام من أن أؤذي رسول الله
، فقال (صلّى الله عليه وآله) : ( من آذى عليّاً فقد آذاني ) (السيرة
النبوية لابن كثير : 4 / 202 .) . |
|
طبيعة عمل النبيّ (صلّى الله عليه وآله) :
|
|
إنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) الذي كان يعيش همّ الرسالة
الإسلامية بذل قصارى جهده في التبليغ والنصح لبناء مجتمع رسالي رصين يقاوم كلّ
الظروف حتى يسود الإسلام بقاع الدنيا ، وقد عمل (صلّى الله عليه وآله) على محورين
رئيسين هما : توعية الأمة بوصفها الرعيّة بالمقدار الذي تتطلبه الرعيّة الواعية
من فهم وثقافة وقدرة على ممارسة الحياة الإسلامية كما أرادها الله سبحانه , وكان
لعليّ (عليه السلام) دور فاعل في هذا المحور ، فانّه يمكننا القول بأنّ النبيّ
(صلّى الله عليه وآله) كان مشغولاً بتوسيع رقعة المجتمع الإسلامي طولياً ، وكان
عليّ (عليه السلام) مشغولاً بتعميق الرقعة عرضياً ، فكانت مهمّته تكملة لمهمّة
النبيّ (ص) . والمحور الآخر هو إعداد وتوعية الصفوة التي اختارها الله
سبحانه لِتَخْلُفَ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) في غيابه لقيادة المجتمع
والرسالة الإسلاميّة وصيانتها عن الانحراف والزيغ ، إعداداً على مستوى قيادة
التجربة وعلى مستوى الحاكمية عليها ، وقد أعدّ النبيّ عليّاً ليتسلّم التجربة
الإسلاميّة من بعده من خلال إشراكه في كلّ المواقف المهمّة والمعقّدة والصعبة
ومن خلال تثقيفه ثقافة خاصة لم يشاركه أحد فيها ، فقد روي عنه (ع) أنه قال : ( علّمني رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من العلم ألف باب
يفتح من كلّ باب ألف باب ) (أئمّة
أهل البيت تنوّع أدوار ووحدة هدف ، الشهيد السيد محمد باقر الصدر ك 95 .) . وكان عليّ (عليه السلام) يتمتّع بمؤهّلات ولياقات عالية
أهّلته أن ينال ثقة النبيّ (صلّى الله عليه وآله) المطلقة في قوله وفعله ، فنجد
أنّ النبيّ (ص) أخذ عليّاً صغيراً وتعهّده وربّاه ، فلازمه طوال فترة حياته ،
وما أن مضت فترة على الدعوة الإسلامية ؛ حتى أعلن النبيّ (صل) عن اتّخاذه عليّاً
(عليه السلام) أخاً ومؤازراً له في دعوته ، وكرّر هذا الإعلان في مواطن عديدة ،
بل اتّخاذه أخاً ومساوياً له في كلّ شيء ما عدا النبوّة . وحين توضّحت شخصيّة عليّ (عليه السلام) ؛ بدأ النبيّ (صلَّى
الله عليه وآله) يكلّفه نيابةً عنه في المهمّات التي لا يمكن أن يقوم بها أحد
غير النبيّ (صلَّى الله عليه وآله) أو شخص كنفسه ، مثل : المبيت في فراش النبيّ
ليلة الهجرة ؛ وردّ الودائع ، وحمل الفواطم إلى المدينة . ومن درجة اهتمام
النبيّ بعليّ في هذه المرحلة ؛ أنّه لم يدخل المدينة عند هجرته إليها ، وصرّح
بعدم اتّخاذها مقرّاً جديداً له حتى يلتحق عليّ به ، وتبليغ سورة (براءة) مثال
آخر فقد أخذ عليّ (عليه السلام) السورة من أبي بكر وبلّغها . وحين اضطرّ النبيّ (صلَّى الله عليه وآله)للمواجهات العسكرية
لم يكن يعطي رايته إلاّ لعليّ (عليه السلام) ، وكان يرسله في كلّ المواقف
المستعصية التي تتطلّب كفاءة عالية ، فكان عليّ (عليه السلام) يؤدّيها على أتمّ
وجه . وفي مرحلة جديدة بعد أن امتاز عليّ (عليه السلام) من غيره من
الصحابة بصدق سريرته وعمق إيمانه وتفانيه من أجل العقيدة والمبدأ أشار النبيّ
(صلَّى الله عليه وآله) إلى أهميّة أهل بيته (عليهم السلام) ووجودهم وعظيم حبّه
لهم ، وميّز عليّاً (عليه السلام) ، وقد دعم القرآن الكريم موقف النبيّ (صلَّى
الله عليه وآله) بقوله : (قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ
عَلَيْهِ أَجْراً إِلّا الْمَوَدّةَ فِي الْقُرْبَى) (الشورى (42) : 23 .)
. وأشار النبيّ (صلَّى الله عليه وآله) إلى طهارة عليّ وأهل
بيته من الرجس المادي والمعنوي ، ولم يأذن لأحد بالمرور بمسجده على كلّ حال إلاّ
لعليّ . ولم يزل النبيّ يوجّه القاعدة الشعبية للالتفات حول عليّ ،
ويأمرهم بحبّه والتعلّق به عند حلول المشاكل أو المستجدات المستعصية ، ووضّح لهم
ضرورة فهم شخصية عليّ (ع) في شدّة إيمانه وقوّته في ذات الله وعمق فهمه للعقيدة
الإسلامية وسعة علمه ، فكانت الأحاديث : (أقضاكم عليّ
. أعلمكم عليّ . أعدلكم عليّ ) وقد أثبتت الأحداث والوقائع صحّة ذلك . وفي آخر منسك من مناسك الإسلام أشرك النبيّ (صلَّى الله عليه
وآله) عليّاً في حجّة دون غيره من المسلمين وقد صرّح بذلك ، وقاما معاً بنحر
الهدي . كانت هذه الخطوات إعداداً وتهيئة الأرضية لإعلان الغدير حين
وقف النبيّ (صلَّى الله عليه وآله) بعد إتمام مراسم حجّة الوداع ليعلن للملأ
أنّه سيغادر الدنيا ويخلف عليّاً كقائد ومرجع للاُمّة بعده ، وأنّ هذا الإعلان
والتنصيب صادر عن الله تعالى ، وتمّت بيعة الناس لعليّ (عليه السلام) بإمرة
المؤمنين ونزل الوحي الإلهي ببلاغ تمام النعمة وكمال الدين . |
|
عليّ (عليه السلام) في حجّة الوداع :
|
|
بشوق غامر وغبطة تملأ القلوب تطلّع المسلمون إلى اللقاء
العبادي السياسي الذي لم يشهد التأريخ نظيراً له من قبل عندما تحرّك موكب النبيّ
(صلَّى الله عليه وآله) في أواخر شهر ذي القعدة من السنة العاشرة للهجرة باتجاه
مكّة ليؤدّي مناسك الحجّ وحيث اللقاء مع الجموع القادمة من أطراف الجزيرة
العربية يحدوها هدف واحد وتحت راية واحدة يردّدون شعاراً إلهياً واحداً (يرى
بعض المؤرّخين أنّ من خرج مع النبيّ يبلغ تسعين ألفاً ، والبعض الآخر مائة
وعشرين ألفاً ، عدا من حجّ من أهالي مكّة وضواحيها واليمن وغيرها . راجع السيرة
الحلبية : 3 / 257 ، وكنز العمّال : 11 / 609) : وكان النبيّ (ص) قد كتب إلى
عليّ (عليه السلام) في اليمن يأمره أن يلتحق به في مكّة ليحجّ معه ، وأسرع عليّ
بالخروج من اليمن ومعه الغنائم والحلل التي أصابها من اليمن ، والتقى بالنبيّ (ص) وقد أشرف على دخول مكّة ، فاستبشر بلقائه
وأخبره بما صنع في اليمن ، ففرح النبيّ (ص) بذلك
وابتهج وقال له : بِمَ أهللت ؟ فقال عليّ (عليه السلام) : يا
رسول الله ! إنّك لم تكتب إليّ بإهلالك ولا عرفته فعقدتث نيّتي بنيّتك ، وقلت
اللّهمّ إهلالاً كإهلال نبيّك ، وسقت معي من البدن أربعاً وثلاثين ، فقال
رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) : الله أكبر وأنا
قد سقت معي ستاً وستين ، فأنت شريكي في حجّي ومناسكي وهديي ، فأقم على إحرامك
وعد إلى جيشك وعجّل به حتى نجتمع بمكّة ، وكان عليّ (عليه السلام) قد سبق
الجيش حينما بلغ مشارف مكّة وأَمّر عليهم رجلاً منهم (الإرشاد
للمفيد : 1 / 172 ، والسيرة النبوية لابن كثير : 4 / 205 .)
. وأدى النبيّ مناسك العمرة والحجّ وعلي معه ، وقال (ص) : منى كلّها منحر ، فنحر بيده الكريمة ثلاثة وستين ،
ونحر عليّ (ع) سبعة وثلاثين تمام المائة ، ثمّ اجتمع الناس فخطب النبيّ (صلَّى
الله عليه وآله) خطاباً جامعاً وعظ المسلمين فيه ونصحهم (السيرة
الحلبية : 3 / 283 ن والسيرة النبوية لابن كثير : 4 / 291 .) . أتمَّ النبيّ (صلَّى الله عليه وآله) والمسلمون مناسكهم في
منى ، ثمّ رجع إلى مكّة فدخل فيها ، وطاف طواف الوداع ، ثمّ اتّجه إلى المدينة . |
|
عليّ (عليه السلام) في غدير خم أميراً للمؤمنين :
|
|
ولمّا انصرف النبيّ (صلَّى الله عليه وآله) راجعاً إلى
المدينة ومعه تلك الحشود الغفيرة من المسلمين ؛ وصل إلى غدير خمّ من الجحفة التي
تتشعّبُ فيها طرق أهل المدينة والعراق ومصر ، وذلك في اليوم الثامن عشر من ذي
الحجّة ، نزل إليه الوحي عن الله بقوله : (يَا أَيّهَا الرّسُولُ
بَلّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبّكَ) (المائدة (5) : 67 .) وأمره أن يقيم عليّاً علماً للناس
ويبلّغهم ما نزل فيه من الولاية وفرض الطاعة على كلّ أحد ، وقد ضمن الوحي للنبيّ
(صلَّى الله عليه وآله) أن يكفيه شرّ الحاقدين والحاسدين من الناس ، وكان أوائل
القوم قريباً من الجحفة ، فأمر رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)أن يردّ من
تقدّم منهم ، ويحبس من تأخّر عنهم في ذلك المكان الذي لم يكن منزلاً لأحد من
قبله ، ولم يكن هو (صلَّى الله عليه وآله) ينزل فيه لو لا خطاب الوحي له ، ثمّ
وقف (صلَّى الله عليه وآله) بين تلك الجموع وقال بصوت يسمعه الجميع : أيّها
الناس كأنّي قد دعيت فأجبت ، إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي
، فانظروا كيف تخلفوني فيهما ، فإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض .. ثمّ قال : إنّ
الله مولاي وأنا وليُّ كلّ مؤمن ومؤمنة ، وأخذ بيد عليّ (عليه السلام) وقال : (
من كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه ، اللّهم وال من والاه ، وعادِ من عاداه ، وأنصر
من نصره ، واخذل من خذله ، وأَدر الحق معه حيث دار ، أَلا فليبلّغ الشاهد الغائب
) . ثمّ لم يتفرّقوا حتّى نزل أمين الوحي بقوله :
(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي
وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلاَمَ دِيناً) . فقال رسول الله (ص) : (الله أكبر على إكمال
الدين وإتمام النعمة ، ورضى الرب برسالتي والولاية لعلّي من بعدي) ثمّ طفق القوم
يهنّئون أمير المؤمنين (عليه السلام) وممّن هنّأه في مقدّم الصحابة الشيخان أبو
بكر وعمر ، كلٌّ يقول : بخ بخ لك يا ابن أبي طالب ،
أصبحت وأمسيت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة (السيرة الحلبية بهامشه
السيرة النبوية : 3 / 274 ، والمناقب لابن المغازلي الشافعي ك 16 ، والفصول
المهمّة لابن الصبّاغ المالكي : 40 ، وينابيع المودة للقندوزي : 40 .) . وروي : أنّ النبيّ (صلَّى الله عليه وآله) أمر بنصب خيمة
لعليّ (عليه السلام) وأمر المسلمين أن يدخلوا عليه فوجاً فوجاً ويسلّموا عليه
بإمرة المؤمنين ، ففعل ذلك كلّهم حتّى من كان معه (صلَّى الله عليه وآله) من
أزواجه ونساء المسلمين (وقد ورد حديث الغدير في مصادر
كثيرة جدّاً يضاف لما ذكرنا منها : أسباب النزول للنيشابوري ، مطالب السؤول
لكمال الدين الشافعي ، تفسير مفاتيح الغيب للرازي ، تفسير المنار لمحمّد عبده ،
تفسير ابن شريح ، تذكرة الخواص لابن الجوزي ، مسند الإمام أحمد ، ذخائر العقبى
للطبري ، الرياض النضرة لمحبّ الدين الطبري وغيرها من الجوامع الحديثية
والتأريخية والتفسيرية ، راجع الغدير للعلامة الأميني.) . |
|
واقعة الحارث بن
النعمان ونزول آية (سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ)
:
|
|
لمّا شاع وانتشر قول النبيّ (ص) : (
من كنت مولاه فعليّ مولاه ) فَبلغ الحارث ابن النعمان الفهري ، فأتى
النبيّ على ناقته وكان بالأبطح ، فنزل وعقل ناقته وقال للنبيّ وهو في ملأ من
الصحابة : يا محمّد ! أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّك رسول
الله فقبلنا منك ، ثمّ ذكر سائر أركان الإسلام وقال : ثمّ لم ترض بهذا حتّى مددت
بضبعي ابن عمك وفضّلته علينا وقلت : ( من كنت مولاه فعليّ
مولاه )
فهذا منك أم من الله ؟ فقال النبي (ص) : ( والله الذي لا إله إلاّ
هو ، هو أمر الله )
فولّى الحارث يريد راحلته وهو يقول : اللّهمّ إن كان هذا هو الحقَّ من عندك
فأمطر علينا حجارةً من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ، فما وصل إليها حتى رماه
الله بحجر فسقط على هامّته وخرج من دبره ، وأنزل الله تعالى : (
سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ )(
المعارج (70) : 1 .) . (تفسير المنار : 6 / 464 ،
وتذكرة الخواص : ص 31 مع اختلاف في اللفظ ، والفصول المهمّة لابن الصبّاغ : 42 ،
أبو اسحاق الثعلبي في تفسيره والحاكم الحسكاني في كتابه دعاة الهداة ، والقرطبي
في تفسيره ، والحمويني في فرائد السمطين ، والزرندي الحنفي في معارج الوصول ودرر
السمطين ، والسمهودي في جواهر العقدين ، والعماري في تفسيره ، والشربيني القاهري
الشافعي في تفسيره ، والمناوي الشافعي في فيض القدير ، والحلبي في السيرة
الحلبية والحفني الشافعي في شرح الجامع الصغير ، والزرقاني المالكي في شرح
المواهب اللدنية ، والشبلنجي الشافعي في نور الأبصار ، وغيرهم كما تجد تفصيل ذلك
في الجزء الأول من موسوعة (الغدير) .) |
|
محاولات الرسول (ص) لتثبيت بيعة عليّ (ع) :
|
|
لقد كان رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) على علمٍ تامٍّ
بما سيؤول إليه وضع المسلمين من بعده ، لأنّه كان يراقب العلل والأمراض التي
ابتلي بها هذا المجتمع ن وكان على يقين بأن أوّل ضربة من بعده ستوجّه إلى الخطّ
الرسالي الذي أرسى قواعده هو وعليّ ، وإلى الزعامة التي أشار إليها النبيّ (ص) في أن تخلفه في الخطّ الصحيح للدعوة
الإسلاميّة ، لانّ هذا يهدّد مصالح الكثير ممّن كانوا يريدون أن يستفيدوا من
الإسلام ويتنعّموا بإشباع رغباتهم في ظلاله لا أن يقدّموا جهداً وفائدة للإسلام
، ويتزّعموا هذا الكيان الكبير الذي بناه النبيّ (ص) . وكان (صلَّى الله عليه وآله) يتخوّف من أن تتحول الشريعة
الإسلامية إلى شيء آخر غير الذي أنزله الله عليه ، وتكون خاضعة للأهواء والرغبات
، وكمصداق على تخوف النبيّ هو واقعة الحارث بن النعمان الذي جاء يشكّك ويستنكر
على النبيّ مواقفه . فما كان منه (ص) إلاّ وأن يعلن موقفه من الاتّجاه الصحيح
لخطّ الدعوة الإسلامية عبر مراحل وفترات عديدة ، فكان يكرّر لأصحابه : غن
تستخلفوا عليّاً ـ وما أراكم فاعلين ـ تجدوه هادياً مهدياً يحملكم على المحجّة
البيضاء (حلية
الأولياء لأبي نعيم : 1 / 64 ، ومختصراً تأريخ دمشق لابن عساكر : 18 / 32 .) . وروي أنّ سعد بن عبادة قال في ملأ من الناس : فو الله لقد
سمعت رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) يقول : إذا
أنا متُّ تضلّ الأهواء بعدي ويرجع الناس على أعقابهم ، فالحقّ يومئذٍ مع عليّ
(عليه السلام) . وحديث الثقلين شاهد آخر على ضرورة التمسّك بطاعة عليّ (عليه
السلام) والسير على هَدْيه ومنهاج ولايته لضمان سلامة العقيدة الإسلامية
وتحصينها من الانحراف . ثمّ بدأ النبيّ (ص) بإعداد خطّة جديدة لإتمام الأمر الإلهي
بتنصيب عليٍّ أميراً للمؤمنين ، فحاول أن يعدّ جيشاً كبيراً يضمّ فيه كلّ
العناصر التي من الممكن أن تدخل في حلبة الصراع السياسي مع الإمام عليّ (عليه
السلام) وتناوئه على زعامة الساحة الإسلاميّة ، ومن ثَمّ سينحرف مسار الرسالة
الإسلامية عن طريقها القويم ، أو على الأقل أنّها تطالب بمكانة سياسية أو إدارية
في جهاز الدولة ، وقد تظهر موقفاً معادياً في حالة رفض الإمام عليّ (عليه
السلام) ذلك ، ممّا قد يثير الكثير من المشاكل للأمة وهي في حالة ارتباك بفقده
(ص) . |
|
مرض النبيّ (صلَّى الله عليه وآله) وسريّة أسامة :
|
|
حياة عليّ (عليه السلام) هي حياة النبي (صلَّى الله عليه
وآله) والرسالة الإسلامية ، فالمواقف المهمّة والصعبة في الكثير من الصراعات
والأزمات والمنعطفات التي وقف فيها عليّ بكلّ بسالة وشجاعة مع رسول الله حتى آخر
لحظات عمره الشريف تكشف عن مدى القرب والاتصال والتلاحم المصيري بين الرسول
وعليّ ، وتفهّمنا جيّداً من خلال الآيات والروايات وحوادث التأريخ أنّ عليّاً هو
الامتداد الطبيعي لرسول الإسلام (صلَّى الله عليه وآله) وهو المؤهّل لقيادة
الأمة الإسلامية بعد الرسول (صلَّى الله عليه وآله) وليس ثمة إنسان آخر . لقد أودع النبيّ (ص) عليّاً (ع)
أسرار النبوّة وتفاصيل الرسالة وحمّله عبء مسؤولية رعايتها وصيانتها ، حتى أنّه
أوكل إليه أمر تجهيزه ودفنه دون غيره ، لعلمه وثقته بأنّ عليّاً (ع) سينفّذ أوامره ولا يحيد عنها قيد أنملة ولا
يتردّد طرفة عين ، ولم يكن النبيّ (صلَّى الله عليه وآله) يطمئنّ لغيره هذا
الاطمئنان . وكان النبيّ (صلَّى الله عليه وآله) يُصرّ على تبيان خلافة عليّ (ع) وأنّه الوصيّ من بعده حتى في آخر لحظات حياته
المباركة مضافاً إلى كلّ التصريحات والتلميحات التي أبداها في شتى المناسبات
ومختلف المواقف . لمّا رجع النبيّ (صلَّى الله عليه وآله) من حجّه إلى (يثرب)
، أقام فيها أيّاماً حتى اعتلّت صحّته واشتدّ به ألم المرض ، وكان (ص) يقول : ( ما أزال
أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر فهذا أوان انقطاع أبهري من ذلك السمّ ) (المستدرك
على الصحيحين : 3 / 58 .) وتقاطر المسلمون عليه يعودونه وفي نفوسهم القلق والأسى وفي
أذهانهم الحيرة والتساؤل عن مصير الأيّام الآتية والرسالة السماوية ، فنعى
(صلَّى الله عليه وآله) إليهم نفسه وأوصاهم بما يضمن لهم استمرار مسيرة الرّسالة
وتحقيق السعادة والنجاح ، فقال (صلَّى الله عليه وآله) : (أيها
الناس ! يوشك أن أُقبض قبضاً سريعاً فينطلق بي وقدّمت إليكم القول معذرة إليكم
ألا إنّي مخلّف فيكم كتاب الله عزّ وجلّ وعترتي أهل بيتي) ثمّ أخذ بيد عليّ (عليه السلام) وقال
: (هذا عليّ مع القرآن والقرآن مع عليّ لا يفترقان
حتى يردا عليَّ الحوض) . وأراد (صلَّى الله عليه وآله) أن يتمّم مساعيه لكي يهيئ
الأمور لتنصيب عليٍّ خليفةً من بعده من دون أن تؤثّر عليه قوى التنافس أو
مؤامرات المغرضين ودسائس المنحرفين ، فقد أجمع المؤرّخون على أنّ النبيّ (صلَّى
الله عليه وآله) في الأيّام الأخيرة من حياته المباركة لم يكن يعنيه شيء أكثر من
تجهيز جيش يضمّ أكبر عدد من المسلمين بما في ذلك أبو بكر وعمر ووجوه المهاجرين والأنصار
، وأمّر عليهم أسامة بن زيد وإرساله إلى الحدود الشمالية لمنطقة الجزيرة العربية
واستثنى عليّاً (عليه السلام) . ولكنّ عدداً من الصحابة لم يَرُقْ لهم أمر النبيّ (ص) فتثاقلوا عن الخروج في جيش أسامة واعتذروا
بأعذار واهية ، وانطلقت ألسنتهم بالنقد اللاذع والاعتراض المرّ على تأمير أسامة
، فخرج (ص) ـ رغم كلّ الآلام ـ وخطب فيهم وحثّهم
على الانضواء تحت قيادة أسامة ، وقد بدا عليه الانفعال والتصلّب ، واستمرّ يلحّ
على إنفاذ الجيش والخروج نحو هدفه ، وقال (ص) : أنفذوا جيش أسامة ، لعن الله من تخلّف عن جيش أسامة (السيرة
الحلبية : 3 / 34 .) . ونجد هنا غرابةً في الموقف ، وهي إلحاح الرسول على ضرورة مسير جيش
أسامة إلى الوجهة التي وجّهها إيّاه على الرغم من مرضه وعلمه بدنوّ أجله ، فلو
كان لأحد ممّن كان تحت إمرة أسامة أهميّة في حالة وفاة النبي
(ص) ؛ لاستثناه . وأعجب من ذلك هو تلكّؤ القوم وتملّصهم عن تنفيذ أمر النبيّ ،
فكأن هناك أمراً خفياً يريدون إبرامه (وممّا
يؤكّد هذا الظنّ أنّ الصحابة الذين أبوا الخروج في جيش أسامة كانوا يخشون تكرار
الموقف الذي حصل في غزوة تبوك عندما استخلف النبيّ (صلَّى الله عليه وآله)
عليّاً في المدينة ومن ثمّ تصريحه (أنت منّي بمنزلة هارون من
موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي) ممّا أثار الريب والحسد في نفوسهم . بل إنّهم أدركوا أنّ الأمر
في هذه المرّة يحمل أبعاداً أخرى تتعدّى مسألة الخروج مع جيش أسامة ، خاصةً بعد
أن رأوا الرسول يصرّ على خروجهم ويستثني عليّاً ، وعلامات المرض تشتد عليه ، وفي
هذه الفترة كان (صلَّى الله عليه وآله) يكرّر عليهم بأنّي أوشك أن أُدعى فأجيب .) . ويبدو أنّ الرسول استشفّ من التحركات التي صدرت من الصحابة
أنّهم يبغون لأهل بيته الغوائل ويتربّصون بهم الدوائر ، وأنّهم مجمعون على صرف
الخلافة عنهم ، فرأى (صلَّى الله عليه وآله) أن يصون أمته عن الانحراف ويحميها
من الفتن ، فأراد أن يحاول معهم محاولة جديدة لتثبيت ولاية عليّ (عليه السلام)
وخلافته له (صلَّى الله عليه وآله) فقال : ( إئتوني بالكتف والدواة
أكتب إليكم كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً ) . فتنازعوا ـ ولا ينبغي عند نبيّ أن يتنازع ـ فقالوا : ما شأنه
؟ أَهَجَر ؟ استفهموه . فذهبوا يردّدون عليه القول : فقال (صلَّى الله عليه
وآله) : دعوني
فالذي أنا فيه خير ممّا تدعوني إليه . وأوصاهم بثلاث ، قال : أخرجوا المشركين من جزيرة
العرب ، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت اُجيزهم . وسكت عن الثالثة عمداً أو قال : فنسيتها (الطبقات
الكبرى لابن سعد : 4 / 60 ، وتأريخ الطبري : 2 / 436 ط مؤسسة الأعلمي ، والكامل
في التأريخ لابن الأثير : 2 / 320 ، والإرشاد للمفيد : 1 / 184 .) . |
|
رأي :
|
|
دوّن أكثر المؤرّخين هذا الحديث في كتبهم على هذا النحو ،
ولم يذكروا من وصاياه إلاّ وصيّتين وسكتوا عن الثالثة أو تناسوها مجاراةً
للحاكمين الّذين تقمّصوا الخلافة بعد الرسول (صلَّى الله عليه وآله) ، في حين
أنّه لم يسبق لأحد من الرواة لأحاديثه (صلَّى الله عليه وآله) أن نسي شيئاً أو
فاته دون أن يدوّنه حتى يمكن القول بأنّهم أحصوا حتى أنفاسه (صلَّى الله عليه
وآله) فكيف نسي الحاضرون على كثرتهم وازدحامهم عنده وصيّته الثالثة وهو في حالة
الوداع لهم ؟ وهم ينتظرون كلّ كلمة تصدر منه تهدّئ من روعهم وتبعث الأمل في
نفوسهم نحو المستقبل ؟ ولولا أنّ الثالثة تأكيد
لنصوصه (صلَّى الله عليه وآله) السابقة على خلافة عليّ (صلَّى الله عليه وآله) ؛
لم ينسها أو لم يتغافل عنها أحد من الرواة أولئك (سيرة
الأئمة الإثني عشر ، للحسني : 1 / 255 .) ! |
|
عليّ (ع) مع النبيّ (ص) في اللحظات الأخيرة:
|
|
اشتدّ المرض على النبيّ (ص) فأغمي عليه ، فلمّا أفاق قال (ص)
: (أُدعوا لي أخي وصاحبي) وعاوده الضعف فقالت
عائشة : لو بعثت إلى أبي بكر ، وقالت حفصة : لو بعثت إلى عمر ، فاجتمعوا عنده
جميعاً فقال (ص) : (انصرفوا فإن تك لي حاجة أبعث
إليكم) (تأريخ الطبري : 2 / 439 ط
مؤسسة الأعلمي .) . ثمّ دُعي عليّ (عليه السلام) فلمّا دنا منه أومأ إليه ،
فأكبَّ عليه ، فناجاه الرسول (ص) طويلاً ، ثمّ ثقل النبيّ وحضره الموت ، فلمّا
قارب خروج نفسه قال لعليّ (عليه السلام) : ( ضع رأسي في حجرك ، فقد
جاء أمر الله تعالى ، فإذا فاضت نفسي فتناولها بيدك ، وامسح بها وجهك ، ثمّ
وجّهني إلى القبلة وتولّ أمري وصلِّ عليَّ أوّل الناس ، ولا تفارقني حتى تواريني
في رمسي ، واستعن بالله تعالى )
(الإرشاد
للمفيد : 1 / 186 .) . وهكذا انتقل الرسول الأكرم (صلَّى الله عليه وآله) إلى جوار
ربّه راضياً مرضيّاً بعد أن أدّى رسالته بأحسن وجه ، وأوضح السبيل للأمة من بعده
. وعلي بن أبي طالب (عليه السلام) يلازمه ملازمته الظل لذي الظل ويتابعه متابعة
التلميذ لأستاذه في جميع لحظات حياته الرسالية المباركة . |
|
الباب الثالث
|
|
فيه فصول : الفصل الأوّل : عصر الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) الفصل الثاني : الإمام عليّ (عليه السلام) في عهد أبي بكر الفصل الثالث : الإمام عليّ (عليه السلام) في عهد عمر الفصل الرابع : الإمام عليّ (عليه السلام) في عهد عثمان |
|
الفصل الأوّل:
|
|
عصر الإمام عليّ (عليه السلام)
|
|
حديث الوفاة :
|
|
لم يكن حول النبي (صلَّى الله عليه وآله) في اللحظات الأخيرة
من حياته سوى عليّ (عليه السلام) وبني هاشم ، وقد علم الناس بوفاته من الضجيج
وعويل النساء ، فأسرعوا وتجمّعوا في المسجد وخارجه وهم في حالة من الارتباك
والدهشة لا يحيرون جواباً إلاّ البكاء والنواح ، وهم على هذه الحالة وإذا بموقف
غريب يصدر من عمر إذ خرج بعد أن دخل على رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)
والسيف في يده يهزّه ويقول : إن رجالاً من المنافقين يزعمون أنّ رسول الله قد
مات ، إنّه والله ما مات ولكنّه قد ذهب إلى ربّه كما ذهب موسى بن عمران (الكامل
في التأريخ : 2 / 323 .) . ولم يهدأ عمر حتى وصل أبي بكر (يروى
أنّ أبا بكر كان في (السنح) وهو محل يبعد عن المدينة بميل واحد أو أكثر قليلاً .) إلى بيت رسول الله (صلَّى الله عليه
وآله) فكشف عن وجه النبيّ وخرج مسرعاً ، وقال : أيّها الناس ، من كان يعبد
محمّداً فإنّ محمّداً قد مات ، ومن كان يعبد الله فإنّ الله حيّ لا يموت ، ثمّ
تلا الآية : (وَمَا مُحمّدٌ إِلّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ
مِن قَبْلِهِ الرّسُلُ ...)
(آل
عمران (3) : 144 .) . ثمّ خرج عمر وأبو بكر وأبو عبيدة الجرّاح من البيت الذي فيه
جثمان النبي المبارك وتركوه إلى عليّ وأهل بيته المفجوعين بوفاته ، وقد أذهلهم
المصاب عن كلّ شيء وقام عليّ (ع) وأهل بيته (ع) بتجهيز
النبيّ والصلاة عليه ودفنه ، وفي الوقت نفسه كانت قد عقدت الأنصار اجتماعاً لها
في سقيفة بني ساعدة لتدبير أمر الخلافة . |
|
الحزب القرشي والأنصار في السقيفة :
|
|
ما أن سمع عمر خبر اجتماع الأنصار في السقيفة ؛ حتى أتى منزل
رسول الله (ص) وفيه أبو بكر ، فأرسل إليه أن
أُخرج إليَّ ، فأجابه بأنّه مشغول ، فأرسل إليه عمر ثانيةً أن أُخرج فقد حدث أمر
لا بدّ أن تحضره . فخرج إليه أبو بكر ، فمضيا مسرعين نحو السقيفة ومعهما أبو
عبيدة ومن ثَمّ لحقهم آخرون ، فأدركوا الأنصار في ندوتهم ولمّا يتمّ بعدُ
الاجتماع ولم ينفضّ أصحابه ، فتغيّر لون سعد بن عبادة وأُسقط ما في أيدي الأنصار
وساد عليهم الوجوم والذهول ، ونفذ الثلاثة في تجمّع الأنصار أتمّ نفوذ وأتقنه ،
ينمّ عن معرفتهم بالنفوس ونوازعها ورغباتها ومعرفتهم بنقاط الضعف التي من خلالها
تسقط ورقة الأنصار . أراد عمر أن يتكلّم فنهره أبو بكر لعلمه بشدّته وغلظته
والموقف خطير وملبّد بالأحقاد والأضغان ، ويجب أن يستعمل فيه البراعة السياسية
والكلمات الناعمة لكسب الموقف أوّلاً ثمّ يأتي دور الشدّة والغلظة . وافتتح أبو بكر الحديث بأسلوب لبق فخاطب الأنصار
باللطف ، ولم يستعمل في خطابه أيّ كلمة مثيرة فقد قال : نحن المهاجرون أوّل الناس إسلاماً ،
وأكرمهم أحساباً ، وأوسطهم داراً ، وأحسنهم وجوهاً ، وأمسّهم برسول الله (ص)
رحماً ، وأنتم إخواننا في الإسلام ، وشركاؤنا في الدين ، نصرتم وواسيتم ، فجزاكم
الله خيراً ، فنحن الأمراء وأنتم الوزراء ، لا نفتات عليكم بمشورة ، ولا نقضي
دونكم الأمور ، فقال الحباب بن المنذر بن الجموح : يا معشر الأنصار ! املكوا
عليكم أمركم ، فإنّ الناس في ظلكم ولن يجترئ مجترئ على خلافكم ، ولا يصدر أحد
إلا عن رأيكم ، أنتم أهل العزّة والمنعة ، وأولو العدد والكثرة ، وذوو البأس
والنجدة ، وإنّما ينظر الناس ما تصنعون فلا تختلفوا فتفسد عليكم أموركم ، فإن
أبى هؤلاء إلاّ ما سمعتم فمنّا أمير ومنهم أمير ، فقال عمر : هيهات لا يجتمع
سيفان في غمد ، والله لا ترضى العرب أن تؤمّركم ونبيّها من غيركم ، ولا تمتنع العرب
أن تولّي أمرها من كانت النبوّة منهم ، فمن ينازعنا سلطان محمّد ونحن أولياؤه
وعشيرته . فقال الحباب بن المنذر : يا معشر الأنصار ! املكوا أيديكم ،
ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر ، فإن أبوا عليكم ؛
فاجلوهم من هذه البلاد ، وأنتم أحقّ بهذا الأمر منهم ، فإنّه بأسيافكم دانَ
الناس بهذا الدين ، أنا جذيلها المحكك وعُذيقها المرجَّب ، أنا أبو شبل في عرينة
الأسد ، والله إن شئتم لنعيدها جذعة . وهنا تأزّم الموقف وكاد أن يقع الشرّ بين الطرفين ، فوقف أبو
عبيدة بن الجرّاح ليحول دون ذلك ويتدارك الفشل ، فقال بصوت هادئ مخاطباً الأنصار
: يا معشر الأنصار ! أنتم أوّل من نصر وآوى ، فلا تكونوا أوّل من بدّل ، وانسلت
كلماته هادئةً إلى النفوس ، فسادَ الصمت لحظات على الجميع ، فاغتنمها بشير بن
سعد لصالح المهاجرين هذه المرّة ، يدفعه لذلك حَسده لسعد بن عبادة فقال : يا
معشر الأنصار ! ألا إنّ محمّداً من قريش وقومه أولى به ، وأيم الله لا يراني
الله أنازعهم هذا الأمر . فاغتنم المهاجرون الثلاثة هذه الثغرة في جبهة الأنصار ،
فطفقوا يقدّم بعضهم بعضاً ، فبدا أنّهم لم يروا أنّ واحداً منهم يدعمه نصّ شرعيّ
أو يختص بميزة ترفع من رصيده مقابل غيره فتؤهّله للخلافة . فقال أبو بكر : هذا عمر وأبو عبيدة بايِعوا أيّهما شئتم (الإمامة
والسياسة : 1 / 15 ، وتأريخ الطبري : 2 / 458 ط مؤسسة الأعلمي ، والكامل في
التأريخ : 2 / 325 .) ، وقال عمر: يا أبا عبيدة، ابسط يدك أبايعك ، فأنت أمين هذه الأمة (الطبقات
الكبرى : 3 / 181 .) ، فقال أبو بكر : يا عمر ! ابسط يدك نبايع لك ، فقال عمر :
أنت أفضل منّي ، قال أبو بكر : أنت أقوى منّي ، قال عمر : قوّتي لك مع فضلك ابسط
يدك أبايعك (تأريخ الخلفاء للسيوطي : 70
.) . فلمّا بسط يده ليبايعاه سبقهما
بشير بن سعد فبايعه ، فناداه الحباب بن المنذر : يا بشير ! عَقَّتك عقاق،
أنفِستَ على ابن عمّك الإمارة ؟ ولمّا رأت الأوس ما صنع بشير وما تطلب الخزرج من
تأمير سعد ؛
قال بعضهم لبعض وفيهم أسيد بن خضير وكان نقيباً : والله لئن وليتها الخزرج مرّة
؛ لا زالت عليكم بذلك الفضيلة أبداً ، فقوموا فبايعوا أبا بكر ، فانكسر على سعد
والخزرج ما أجمعوا عليه ، وأقبل أصحاب أسيد يبايعون أبا بكر (الكامل
في التأريخ : 2 / 330 .) ، وقالت بعض الأنصار : لا نبايع إلاّ عليّاً (تأريخ
الطبري : 2 / 443 ط مؤسسة الأعلمي .) . ثم أقبل أبو بكر والجماعة التي تحيط به يزفّونه إلى المسجد
زفاف العروس (شرح نهج البلاغة لابن أبي
الحديد : 6 / 8 .) والنبيّ (ص)
لازال ملقىً على فراش الموت ، وعمر يهرول بين يديه وقد نبر حتى أزبد شدقاه
وجماعته تحوطه وهم متّزرون بالأُزر الصنعانية ، لا يمرّون بأحد إلاّ خبطوه
وقدّموه ، فمدّوا يده فمسحوها على يد أبي بكر يبايعه شاء ذلك أو أبى (شرح
نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 1 / 219 . ط دار إحياء الكتب العربية .) . لقد كانت حجّة الحزب القرشي في السقيفة ضد الأنصار
مبنيّة على أمرين : 1 ـ إنّ المهاجرين أوّل الناس إسلاماً . 2 ـ إنّهم أقرب الناس إلى رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)
وأمسّهم به رحماً . وقد أدان هؤلاء القادة أنفسهم بهذه الحجّة ، وذلك لأنّ
الخلافة إذا كانت بالسبق إلى الإسلام والقرابة القريبة من رسول الله (ص) ـ كما
يدّعون ـ فهي لعليّ (عليه السلام) وحده ، لأنّه أوّل الناس إسلاماً وإيماناً
وتصديقاً بالرسالة الإسلامية ، وأخوه بمقتضى المؤاخاة التي عقدها النبيّ بينه
وبين عليّ يوم آخى بين المهاجرين في مكّة ، وبينهم وبين الأنصار في المدينة ،
وابن عمّه نسباً وأقرب الناس إلى نفسه وقلبه بلا شكّ في ذلك . |
|
تحليل اجتماع السقيفة :
|
|
سارع الأنصار إلى سقيفة بني ساعدة ، وعقدوا لهم اجتماعاً
سرّياً أحاطوه بكثير من الكتمان والتحفّظ ، وأحضروا معهم شيخ الخزرج سعد بن
عبادة الذي كان مريضاً ، فقال لبعض بنيه : إنّه لا يستطيع أن يسمع المجتمعون
صوته لمرضه ، وأمره أن يتلقّى منه قوله ويردّده على مسامع الناس ، فكان سعد يتكلّم
ويستمع إليه ابنه ، ويرفع صوته بعد ذلك ، قال سعد مخاطباً الحاضرين : إنّ لكم سابقةً إلى الدين وفضيلةً في الإسلام ليست لقبيلة من
العرب ، إنّ رسول الله لبث في قومه بضع عشرة سنة يدعوهم إلى عبادة الرحمن وخلع
الأوثان ، فما آمن من قومه إلاّ قليل ، حتى أراد بكم خير الفضيلة ، وساق إليكم
الكرامة ، وخصّكم بدينه ، فكنتم أشد الناس على من تخلّف عنه ، وأثقلهم على عدوّه
من غيركم ، ثمّ توفّاه الله وهو عنكم راضٍ . فشدّوا أيديكم بهذا الأمر فإنّكم
أحقّ الناس وأولاهم . لكنّ
المتتّبع للأحداث يلمح أنّ اجتماع الأنصار لم يكن في بداية أمره للاستئثار بتراث
النبيّ (ص) واغتصاب الخلافة من أهلها الشرعيّين
، وذلك من خلال ملاحظة ما يلي : 1 ـ عدم حضور خيار الأنصار وهم البدريّون في الاجتماع ، مثلُ
: أبي أيوب الأنصاري ، حذيفة بن اليمان ، البراء بن عازب ، عبادة بن الصامت . 2 ـ إنّ الأنصار كانوا يعلمون جيّداً النصوص النبويّة
ويحفظونها ، ومنها : (إنّ الأئمة من قريش) ،
وعرفوا جيّداً الأحكام الواردة في شأن العترة الطاهرة وشهدوا تنصيب عليّ (ع) في
غدير خم ، وأوصاهم النبيّ (صلَّى الله عليه وآله) بعليّ
وأهل بيته (ع) ، وحين أدركوا أنّه ليس له دور رئيس في الحكم أخذوا يقولون
: لا نبايع إلاّ عليّاً (تأريخ الطبري : 2 / 443 ط
مؤسسة الأعلمي .) . 3 ـ ثمّ إنّ النبيّ (صلَّى الله عليه وآله) لا زال مسجّىً
ولم يُدفن بعدُ ، فهل يعقل أن لا يشارك خيارهم في شرف حضور مراسم الدفن وينشغلوا
في اجتماع انتخاب الخليفة ؟ 4 ـ من الممكن تفسير اجتماعهم هذا بأنّه لتقرير مصيرهم من
الحكم الجديد بعد علمهم بما تخطّط له قريش من تطبيق قرارهم (لا تجتمع النبوّة
والخلافة في بني هاشم) ، وهم ليست لهم دوافع كالتي كانت في نفوس زعماء قريش ،
ثمّ إنّ تخوّفهم هذا له سوابق فبعد فتح مكّة ؛ خشيت الأنصار أن لا يعود معهم
النبيّ (صلَّى الله عليه وآله) وكان طبيعيّاً أن يتخوفوا من العزلة السياسية
والإداريّة . وإذا قرّرت قريش صرف الخلافة عن صاحبها الشرعيّ، وهو عليّ
(عليه السلام) ؛ فما دور الأنصار وهم الثقل الأكبر في جمهور المسلمين ، ولهم
الدور الفاعل والرئيس في نشر الرسالة الإسلاميّة ؟! إنّ اجتماع الأنصار في السقيفة لم يكن حاسماً في قراراته ،
فقد عُقد لدراسة الاحتمالات المتوقّعة للخلافة بعد الرسول (صلَّى الله عليه وآله) ، وأيضاً لم يكن جميع الأنصار
على رأي واحد ، فقد كانت تختفي في أفق الاجتماع نوايا متنافرة وتنطوي النفوس على
رغبات متضادّة ، فنجد بعضهم يجيب سعداً قائلاً : وفّقت في الرأي وأصبت في القول
، ولن نعدو ما رأيت ، نولّيك هذا الأمر . ثمّ ترادّوا في الكلام فقالوا : فإن أبى المهاجرون وقالوا
نحن أولياؤه وعشيرته . وهنا انبرى آخرون فقالوا : نقول : منّا أمير ومنكم أمير ،
فعلّق سعد على هذا الاقتراح قائلاً : فهذا أوّل الوهن (تاريخ
الطبري : 2 / 444 ط مؤسسة الأعلمي حوادث سنة 11 هـ .) . إنّ الأنصار بموقفهم هذا قد هيَّئوا فرصة سياسية ثمينة ما
كانت لتفوت الجناح المترقّب للفوز بالسلطة ، وفتحوا باب الصراع على مصراعيه بعيداً
عن القيم والأحكام الإسلامية ؛ إذ قدّمت فيه الحسابات القبلية على الحسابات
الشرعية ، وتقدّمت فيه مصلحة القبيلة على مصلحة الرّسالة الإسلامية . وقد اعتذر عمر من مباغتة الأنصار في السقيفة فقال
: وإنّا والله ما وجدنا أمراً هو أقوى
من مبايعة أبي بكر ، خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يحدثوا بعدنا بيعة ،
فإمّا أن نتابعهم على ما لا نرضى أو نخالفهم فيكون الفساد ... (صحيح
البخاري : كتاب المحاربين 6 ح 6442 ، وسيرة ابن هشام : 4 / 308 ، وتأريخ الطبري
: 2 / 447 ط مؤسسة الأعلمي .) . وهكذا أخذ الموقف السياسي يزداد تعقيداً وإعضالاً. |
|
نظرة قريش للخلافة :
|
|
حين انطلقت الرسالة الإسلامية في مكّة وبين ظهراني قريش ؛ لم
تتمكّن قريش من تحمّل ظهور نبيّ في بطنٍ من خيار بطونها ، بل أفضلها وهي بنو
هاشم ، فاجتمعت كلمة قريش على محاربة النبيّ(ص) وبني
هاشم بكلّ وسائل الحرب ومقاومتهم بشتّى فنون المقاومة وخطّطت للتآمر لا حُبّاً
بالأصنام وما هم عليه من العبادة ولا كراهية للدعوة الجديدة ، فليس في الإسلام
ما لا ترتضيه الفطرة السليمة (يروى أنّ كثيراً من زعماء
قريش كانوا يجاهرون بالعداء للدين ولكنّهم يذهبون خلسةً لاستماع القرآن .) ، لكن قريشاً لا تريد أن تغيّر
صيغتها السياسية القائمة على اقتسام مناصب الشرف والسيادة ، وخصوصاً أنّ مجتمع
الجزيرة كانت تحكمه النزعة القبلية . من هنا لم تكن قريش تريد أن يتميّز البطن الهاشمي عن بقيّة
بطونها ولا أن يتفوّق عليها ، وقد تصوّرت أنّ التفاف الهاشميّين حول النبوّة
ودفاعهم المستميت عن النبيّ (صلَّى الله عليه وآله) هو إصرار هاشمي على التميّز
والرغبة بالتفوّق على الجميع ، فحاصرت قريش الهاشميّين في شِعب أبي طالب ،
وتآمرت على قتل النبيّ ، وفشل الحصار وفشلت كلّ محاولات الاغتيال لشخص النبيّ
(صلَّى الله عليه وآله) ، وعلا طوفان الرسالة الإسلامية على كلّ القوى المناوئة
، وأسلمت قريش طوعاً أو كرهاً ، فلم تعد لقريش قدرة على الوقوف في وجه النبوّة . ولكنّ إعداد النبيّ (صلَّى الله عليه وآله) العدّة لتكون
الخلافة من بعده لعليّ ولذرّيّته (عليهم السلام) بأمر من الله تعالى وباعتبارهم
. أجدر وأعلم بأصول الشريعة وأحكامها ، وأنّهم الأفضل من كلّ أتباعه ، والأنسب
لقيادة الأمة ، قد أثار هذا المنطق في نفوس قريش النزعة القبلية والحقد الجاهلي
فعزمت أن لا تجمع النبوّة والخلافة في بني هاشم ، فالنبوة والخلافة في عرف قريش
سلطان وحكم كما صرّح بذلك أبو سفيان يوم فتح مكّة بقوله للعباس : لقد أصبح ملك
ابن أخيك عظيماً (شرح
نهج البلاغة : 17 / 272 .). هذه الفكرة والعقلية سادت في الأجواء السياسية
المحمومة في آخر أيّام النبيّ (صلَّى الله عليه وآله) ، وقريش مدركة أنّ النبيّ ميّت لا
محالة في مرضه هذا ، وقد أخبرهم (صلَّى الله عليه وآله) بذلك ، وأيضاً لو تركت
الأمور على مجراها الطبيعي فالخلافة ستئول إلى عليّ (عليه السلام) حتماً . من
هنا كان تحرّك الحزب المناوئ لبني هاشم بصورة عامّة ولعليّ (عليه السلام) خاصّة
، فكانت السقيفة . ونجد فكرة عدم اجتماع النبوّة والخلافة في بني هاشم من خلال
المحاورة بين عمر وابن عباس في زمن خلافة عمر ، حين قال له عمر : يا ابن عباس !
أتدري ما منع قومكم منكم بعد محمّد (ص) ؟ قال ابن عباس : فكرهت أن أجيبه فقلت :
إن لم أكن أدري فإنّ أمير المؤمنين يدري ، فقال عمر : كرهوا أن يجمعوا لكم
النبوّة والخلافة فتجحفوا على قومكم ، فاختارت قريش لأنفسها فأصابت ووفّقت (مروج الذهب : 2 / 253 ، وشرح النهج لابن أبي
الحديد : 1 / 189 ط دار إحياء التراث العربي ، الكامل في التأريخ : 3 / 63 و 64
.) . وثمّة أمر آخر يتعلّق بموضوع تحويل الخلافة عن عليّ (عليه السلام)
وهو أنّ عليّاً (عليه السلام) قد وتر قريشاً في حروبها ضد الإسلام وإنّ كلّ دم
أراقه رسول الله (ص) بسيف عليّ (عليه السلام) وسيف غيره فإنّ العرب بعد وفاته
(ص) عصبت تلك الدماء بعليّ وحده ، لأنّه لم يكن في رهط النبيّ مَن يستحق في شرع
قريش وعاداتهم أن يعصب به تلك الدماء إلاّ عليّ وحده (نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 3 / 283 .) . |
|
ملامح التخطيط لإقصاء الإمام عليّ (ع) عن الخلافة :
|
|
نلاحظ أنّ هناك تخطيطاً محكماً لدى الخطّ المناوئ لعليّ (عليه
السلام) لأخذ الخلافة منه من خلال ما يلي : 1 ـ بقاؤهم في المدينة ومحاولتهم عدم الخروج منها مهما يكن
من أمر ، وذلك عندما عرفوا أنّ النبيّ (صلَّى الله عليه وآله) قد تدهورت صحّته،
كما لاحظوا بأنّ النبيّ (صلَّى الله عليه وآله) في تلك الأيام كان يكثر من
التوصية بعليّ (عليه السلام) وضرورة اتّباعه لسلامة الدين والدولة. 2 ـ حضورهم الدائم قرب الرسول ومحاولتهم الحيلولة دون حصول
شيء يدعم ولاية عليّ (عليه السلام) ، فكان الشغب في مجلس النبيّ (صلَّى الله
عليه وآله) تحت الشعار الذي رفعه عمر : ( حسبنا كتاب الله ) ثمّ اتهام النبيّ المعصوم (صلَّى
الله عليه وآله) بغلبة الوجع ممّا أزعج النبيّ ، حيث
إنّ قول النبي (ص) : ( إئتوني بدواة وكيف ) من غير المعقول أن يثير النفور
والشكّ في نفوس الجميع دون سابق مضمر في نفوس البعض ، فلم يكن داعٍ لاعتراضهم
إلاّ إثارة الشغب ومنع النبيّ (صلَّى الله عليه وآله) عن الكتابة . 3 ـ السرعة في البتّ بموضوع الخلافة وإتمام البيعة عبر
استغلالهم الفرصة بانشغال الإمام علي (عليه السلام) وبني هاشم بمراسم تجهيز
النبيّ ودفنه ، فحين علم عمر بنبأ الاجتماع في السقيفة ؛ أرسل إلى أبي بكر حين
دخل إلى بيت رسول الله (ص) أن اُخرج فقد حدث أمر
لابدّ أن تحضره ، ولم يوضّح ذلك خشية أن يطّلع عليه عليّ أو أحد من بني هاشم ،
وإلاّ لماذا ؟ فهل كان هذا الأمر المهمّ يعني أبا بكر دون بقيّة المسلمين وفيهم
من هو أحرص على الإسلام من أبي بكر وعمر ؟ ولماذا لم يدخل عمر بنفسه إلى داخل
دار النبيّ (ص) حيث يجتمع الناس فيتحدّث إليهم ؟
يدخل عمر بنفسه إلى داخل دار النبيّ (ص) حيث
يجتمع الناس فيتحدّث إليهم ؟ 4 ـ سعيهم لضمان حياد الأنصار وإبعادهم عن ميدان التنافس
السياسي بدعوى أنّهم ليسوا عشيرة النبيّ (ص) 5 ـ الترتيب في أخذ البيعة أوّلاً من الأنصار ، لأنّ قريشاً
لو بايعت الخليفة الجديد ؛ لما كان لبيعتها أدنى قيمة واقعية ، ولأمكن الإمام
فيما بعد أن يقيم الحجّة على قريش ، ولا يمكن لأيّ فرد أن يقف في موقع الندّ
لعليّ (عليه السلام) إذا كانت الأنصار في كفّة الإمام . ويمكن ملاحظة ذلك من طريقة أخذ البيعة بعد الخروج من السقيفة
، إذ كان الناس مجتمعين في المسجد فقال عمر : ما لي أراكم مجتمعين حلقاً شتّى ؟!
قوموا فبايعوا أبا بكر فقد بايعته الأنصار ، فقام عثمان ومن معه من بني أمية
فبايعوا ، وقام سعد وعبد الرحمن ومعهما بنو زهرة فبايعوا . 6 ـ دخول عناصر من خارج المدينة معدّةً سلفاً لتأييد الطرف
المناوئ لبني هاشم ، بدليل قول عمر : ما هو إلاّ أن رأيت ( أسلم ) فأيقنتُ
بالنصر (تأريخ الطبري : 2 / 459 ط مؤسسة الأعلمي .) . 7 ـ محاولتهم التعتيم على الإجراءات التي تمّت مخاتلةً ،
واتهامهم لكلّ مَن يعارضهم بأنّه يريد الفتنة وشقّ عصا المسلمين ، وقد اتّضح ذلك
من خلال الحوادث التي تتابعت فيما بعدُ ، والقضاء على من ثبت على عدم البيعة
وخالف قرار السقيفة (راجع طبقات ابن سعد : 3 / ق 2 / 145 ، وأنساب الأشراف : 1 / 589 ، والعقد
الفريد : 4 / 247 ، السقيفة والخلافة لعبد الفتاح عبد المقصود : 13 ، والسقيفة
انقلاب أبيض : اغتيال خالد بن سعيد بن العاص ، وابن عساكر : ترجمة سعد بن عبادة
وكنز العمّال : 3 / 134 .) . 8 ـ ومن الأدلّة على التخطيط السابق : أنّ عثمان بن عفّان
كتب اسم عمر في الوصية كخليفة من بعد أبي بكر (تأريخ الطبري : 2 / 618 ط مؤسسة الأعلمي ،
وسيرة عمر لابن الجوزي : 37 ، والكامل في التأريخ : 2 / 425 .) من دون أن يأمره بذلك ، فقد كان
مغمىً عليه ، فمن أين علم عثمان أنّ عمر هو الخليفة بعد أبي بكر ؟ 9 ـ ثمّ إنّ عمر وضع عثمان ضمن مجموعة أحدها يكون خليفة
المسلمين بحيث يضمن ترشيحه مؤكّداً ، وأيّ خبير بالتأريخ مُلمّ بمجريات الأمور
وتركيبة المرشّحين الستّة يستطيع أن يحلّل ذلك كما حلل الإمام عليّ (عليه
السلام) الموقف بوضوح (أنساب الأشراف : 5 / 19 .) . 10 ـ حين تشكّلت الحكومة التي تمخّضت عن اجتماع السقيفة ؛
توّلى أبو بكر الخلافة ، وأبو عبيدة المال ، وعمر القضاء
(الكامل في التأريخ : 2 / 420 .) ، وهذه هي أهمّ المناصب وأكثرها
حساسيةً في مناهج الحكم والدولة ، هذه التركيبة لجهاز الدولة والعناصر الحاكمة
لا تتأتّى صدفةً ولا يتمّ ذلك إلاّ عن تخطيط سابق . 11 ـ قول عمر حين حضرته الوفاة : لو كان أبو عبيدة حيّاً
استخلفته (شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 1 / 190 ط دار إحياء التراث العربي ن
وتأريخ الطبري : 3 / 292 قصة الشورى ، والكامل في التأريخ : 3 / 65 .) . وليس كفاءة أبي عبيدة هي التي أوحت إلى عمر بهذا التمنّي ،
لأنّه كان يعتقد أهليّة عليّ (عليه السلام) للخلافة ، ومع ذلك لم يشأ أن يتحمّل
أمر الأمة حيّاً كان أو ميّتاً . 12 ـ اتّهام معاوية لأبي بكر وعمر بالتخطيط لاستلاب الخلافة
من عليّ (ع) ، كما جاء ذلك في كتابه إلى محمّد
بن أبي بكر إذ قال : فقد كنّا وأبوك نعرف فضل ابن أبي طالب وحقّه لازماً لنا
مبروراً علينا ، فلمّا اختار الله لنبيّه (ص) ما
عنده وأتمّ وعده وأظهر دعوته وأفلج حجّته وقبضه إليه ؛ كان أبوك والفاروق أوّل
من ابتزّه حقّه وخالفه على أمره ، على ذلك اتّفقا واتّسقا ، ثمّ إنّهما دعواه
إلى بيعتهما فأبطأ عنهما وتلكّأ عليهما فهمّا به الهموم وأرادا به العظيم (مروج الذهب للمسعودي : 3 / 199 ، وقعة صفّين
لنصر بن مزاحم ك 119 .) . 13 ـ قول أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) لعمر : احلب يا عمر حلباً لك شطره ، اشدد له اليوم أمره ليرد عليك
غداً (الإمامة والسياسة : 29 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 6 / 11 .) . 14 ـ اتهام الزهراء (ع)
للحاكمين بالحزبيّة السياسية والتآمر للانقضاض على السلطة وتجريد بني هاشم منها (راجع خطبة الزهراء في مسجد النبي (ص) ، وبحار
الأنوار ك 29 / 220 .) بقولها : (فوسمتم غير إبلكم ، وأوردتم غير شربكم ...
ابتداراً زعمتم خوف الفتنة ؟ ( أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنّ جَهَنّمَ لَُمحِيطَةٌ
بِالْكَافِرِينَ ))
. |
|
سلبيّات حادثة السقيفة :
|
|
1 ـ الاستبداد بالرأي والقرار ، فقد استهان المشاركون في السقيفة بوصايا رسول الله (صلَّى
الله عليه وآله) للمسلمين بالاهتمام بعترته الطاهرة ، واستخفّوا بأوامره
المصرّحة بلزوم الاقتداء بهم والتمسّك بحبلهم ، ولو فرض ـ جدلاً ـ أنّه لا نصّ
بالخلافة من رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) على أحد من آل محمد وفرض كونهم
غير متميّزين في حسب أو نسب أو أخلاق أو جهاد أو علم أو عمل أو إيمان أو إخلاص ،
بل كانوا كسائر الصحابة ، فهل كان ثمّة مانع شرعيّ أو عقليّ أو عرفيّ يمنع تأجيل
عقد البيعة إلى حين الانتهاء من تجهيز رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) (النص والاجتهاد للسيد شرف الدين : 25 ط اُسوة .) ؟! إن هذا الاستعجال من المبادرين لسدّ الفراغ الذي خلّفته وفاة
الرسول (ص) إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على وجود نصوص أو أرضية تشريعية كان
ينبغي تفويتها والمبادرة لأخذ زمام الأمر ، لئلاً تأخذ النصوص فاعليتها إن جرت
الأمور بشكل طبيعي ، ولهذا قال عمر عن بيعة أبي بكر : إنّها كانت فلتة وقى الله
المسلمين شرّها ألا ومن عاد لمثلها فاقتلوه (تذكرة الخواص : 61 ، وراجع صحيح البخاري : كتاب
الحدود ، باب رجم الحبُلى .) . 2 ـ البيعة لم تكن جامعة لأهل الحلّ والعقد الذي يعتبر شرطاً أساسياً في حصول
الإجماع وفي مشروعية الانتخاب ، إذ اُلغي في السقيفة استشارة الطبقة الرفيعة من
الصحابة مثل عليّ (ع) والعباس وعمار بن ياسر وسلمان وخزيمة بن ثابت وأبي ذر وأبي
أيوب الأنصاري والزبير بن العوام وطلحة وأبي بن كعب ، وغيرهم كثير 3 ـ استعمال العنف والقسوة في طريقة أخذ البيعة من
المسلمين ،
فإنّ كثيراً من المسلمين قد أرغموا عليها ، وقد لعبت دِرَّة عمر في سبيل تحقيقها
وإيجادها دوراً كبيراً . 4 ـ لقّنت السقيفة مفاهيم منحرفة للأمة ، منها : أ ـ الاستعلاء على الأمة والاستخفاف بشأنها تحت شعار (مَن ذا
ينازعنا سلطان محمّد ؟ ! ) . ب ـ تحويل مفهوم النبوّة الرّبانية وخلافة الرسول (صلَّى
الله عليه وآله) إلى مفهوم السلطة العشائرية التي تستمد قوّتها وشرعيتها من
انتخاب أبناء العشيرة وليس من نصوص الشريعة المقدّسة . ج ـ فسح المجال أمام المسلمين لطرح التعددية في السلطة
ومنافسة مَن فرض الله طاعته بالنصّ ، وتشجيع التمرّد على الحاكم المعصوم المنصوب
بأمر من الله تعالى ، كما قالوا : منّا أمير ومنكم أمير . د ـ هيّأ اجتماع السقيفة الأرضيّة المناسبة لتجاوز وجود
الأمة وتجاوز رأيها السياسي كما حصل ذلك مرة أخرى عند تعيين عمر ، وثالثة عند
وفاة عمر متمثلاً في الشورى التي فرضها عمر على المسلمين . |
|
موقف الإمام (ع) من اجتماع السقيفة :
|
|
لم يكن الإمام عليّ (عليه السلام) طامعاً وساعياً في استلام
الخلافة والتربّع على عرشها مثل الآخرين ، إذ كان همّه الأوّل والأخير تثبيت
دعائم الإسلام ونشره ، وإعزاز الدين وأهله ، وإظهار عظمة الرسول وبيان سيرته ،
وحثّ الناس على الاقتداء بمنهجه (صلَّى الله عليه وآله) ، فانشغل بمراسم تجهيز
النبيّ والصلاة عليه ودفنه ، وما كان يدور في خَلَده أنّ الخلافة تعدوه وهو
المؤهّل لها رسالياً والمرشّح لها نبوّياً ، ولكنّ نفوس القوم أضمرت ما ينافي
وصايا نبيّهم في غزوتي أُحد وحنين ، وأغراهم الطمع في سلطان بغير حقّ ، فتركوا
نبيّهم مطروحاً بلا دفن كما تركوه وفرّوا عنه في حياته عند الشدائد والهزائز . لقد وصل خبر اجتماع السقيفة إلى بيت النبيّ (صلَّى الله عليه
وآله) حيث يجتمع عليّ (عليه السلام) وبنو هاشم والمخلصون من الصحابة حول جسد
رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) ، فقال العباس عمّ الرسول لعليّ : يا ابن أخي
، اُمدد يدك أبايعك ، فيقال : عمّ رسول الله بايع ابن عمّ رسول الله ، فلا يختلف
عليك اثنان . فقال (عليه السلام) : يا عمّ ،
وهل يطمع فيها طامع غيري ؟ قال العباس : ستعلم . غير أنّ الإمام (عليه السلام) لم يكن ليخفى عليه ما كان يجري
في الساحة من مؤامرات آنذاك فأجابه بصريح القول : (
إنّي لا أحب هذا الأمر من وراء رِتاج ) (الإمامة والسياسة : 21 . والرِتاج : الباب
المغلق .) . |
|
موقف أبي سفيان :
|
|
روي : أنّ أبا سفيان جاء إلى باب دار رسول الله (صلَّى الله
عليه وآله) وعليّ (ع) والعباس موجودان فيه ،
فقال : ما بال هذا الأمر في أقلّ حيّ من قريش ؟! والله لئن شئت لأملأنّها عليهم
خيلاً ورجالاً ، فقال عليّ (ع) : ارجع يا أبا سفيان ! طالما عاديت الإسلام وأهله فلم تضرّه
بذاك شيئاً . وروي أيضاً : أنّه لمّا اجتمع الناس على بيعة أبي بكر ؛ أقبل
أبو سفيان وهو يقول : والله إنّي لأرى عجاجةً لا يطفئها إلاّ دم ، يا آل عبد
مناف فيم أبو بكر من أموركم ! أين المستضعفان عليّ والعباس ، وقال : أبا حسن ،
ابسط يدك أبايعك ، فأبى عليّ (عليه السلام) عليه وزجره وقال : إنّك والله ما أردت بهذا إلاّ الفتنة ، وإنّك طالما بغيت
الإسلام شرّاً ، لا حاجة لنا في نصيحتك (تاريخ الطبري : 2 / 449 ، والكامل في التاريخ :
2 / 326 ط دار الفكر .) . ولمّا بويع أبو بكر قال أبو سفيان : ما لنا ولأبي فصيل ،
إنما هي بنو عبد مناف ! فقيل له : إنّه قد ولّى ابنك ، قال : وصلته رحم (تأريخ الطبري : 2 / 449 ط دار الأعلمي ،
والكامل في التأريخ : 2 / 326 .) . لم تكن معارضة أبي سفيان للسقيفة عن إيمانه بحقّ الإمام عليّ
(عليه السلام) وبني هاشم ، وإنّما كانت حركة سياسية ظاهرية أراد بها الكيد
بالإسلام والبغي عليه ، فإنّ علاقة أبي بكر مع أبي سفيان كانت وثيقة للغاية (فقد
روي أنّ أبا سفيان اجتاز على جماعة من المسلمين منهم أبو بكر وسلمان وصهيب وبلال
، فقال بعضهم : أما أخذت سيوف الله من عنق عدّو الله مأخذها ؟ فزجرهم أبو بكر
وقال لهم : أتقولون هذا لشيخ قريش وسيّدهم ؟ .. ومضى مسرعاً إلى النبيّ (ص)
يخبره بمقالة القوم فردّ عليه الرسول (صلَّى الله عليه وآله) قائلاً : يا
أبا بكر لعلك أغضبتهم ؟ لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت الله .
صحيح البخاري : 2 / 362 .) . |
|
أقطاب المعارضة للسقيفة :
|
|
كان من الطبيعي أن تبرز أطراف معارضة لنتائج السقيفة التي لم
تتمتّع بالأهليّة الكافية والاحقيّة في الزعامة ، فبرزت
ثلاثة أطراف : الأوّل : الأنصار باعتبارهم كتلة سياسية واجتماعية كبيرة لابدّ من
حسابها في ميزان الترشيح والانتخاب ، فنازعوا الخليفة الفائز وصاحبيه في سقيفة
بني ساعدة ، ووقعت بينهم المنازعة التي انتهت بفوز قريش . وقد انتفع أبو بكر وحزبه في مواجهة الأنصار من : 1 ـ تركّز فكرة الوراثة الدينية في الذهنية العربية في قوله
بأنّهم شجرة النبيّ (صلَّى الله عليه وآله) وأقربهم إليه ، فهم أولى به من سائر
المسلمين ، وأحق بخلافته وسلطانه . 2 ـ انشقاق الأنصار على أنفسهم بين
مؤيّد ومعارض لأبي بكر ، نتيجة تجذّر النزعة القبلية من نفوسهم ، أو لحسد بعضهم لبعض ، أو
الرغبة في نيل الحظوة والقُربة لدى السلطة الحاكمة
الجديدة ، حتى برزت هذه الظاهرة في قول أسيد بن
حضير في السقيفة : لئن ولّيتموها سعداً عليكم مرة واحدة لا زالت لهم بذلك
عليكم الفضيلة ولا جعلوا لكم نصيباً فيها أبداً فقوموا فبايعوا أبا بكر (الكامل في التأريخ : 2 / 331 .) . لقد أعطى اجتماع السقيفة لأبي بكر القوّة من
ناحيتين : 1 ـ إضعاف دور القاعدة الشعبية للإمام عليّ (عليه السلام)
فإنّ الأنصار سجّلوا على أنفسهم بذلك مذهباً لا يسمح لهم بأن يقفوا بعد السقيفة
إلى صفّ الإمام ويخدموا قضيته وأحقّيته في الخلافة . 2 ـ بروز أبي بكر كمدافع وحيد عن حقوق المهاجرين بصورة عامّة
وعن قريش خاصّة في مجتمع الأنصار ، حيث إنّ الظرف كان مناسباً جدّاً ، إذ خلا من
أقطاب المهاجرين الذين لم يكن لتنتهي المسألة في محضرهم إلى نتيجتها التي انتهت
إليها . الثاني : الأمويون الذين كان لديهم مطمع سياسيّ كبير في نيل نصيب
مرموق من الحكم ، واسترجاع شيء من مجدهم السياسي في الجاهلية وعلى رأسهم أبو
سفيان ، وقد تعامل معهم أبو بكر وحزبه وفق معرفتهم بطبيعة النفس الأموية
وشهواتها السياسيّة والمادية ، فكان من السهل على أبي بكر أن يتنازل عن بعض
المبادئ والحقوق الشرعية ، فدفع لأبي سفيان جميع ما في يده من أموال المسلمين
وزكواتهم التي جمعها من سفره الذي بعثه فيه رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)
لجباية الأموال ، ولم يعبأ الفائزون بالسقيفة بمعارضة الأمويين وتهديد أبي سفيان
وما أعلنه من كلمات الثورة والرغبة في تأييد الإمام (عليه السلام) وبني هاشم . بل استفاد أبو بكر وحزبه من
الأمويين في إضعاف دور بني هاشم حاضراً ومستقبلاً بأن جعلوا للأمويين حظّاً في
العمل الحكومي في عدّة من المرافق الهامّة في الدولة . الثالث : الهاشميّون وأخصّاؤهم كعمار وسلمان وأبي ذر والمقداد رضوان
الله عليهم ، وجماعات كثيرة من الناس الذين كانوا يرون البيت الهاشمي هو صاحب
الحقّ الشرعي بالخلافة ، وهو الوارث الطبيعي لرسول الله
(ص) بحكم نصّ الغدير ومناهج السياسة التي كانوا يألفونها . ولم تكن لتنطلي عليهم الحجج الواهية التي طرحتها أطراف
السقيفة ، فرأت فيهم تيارات تسعى للاستئثار بالحكم لإرضاء شهواتهم ونذيراً
بانحراف التجربة الإسلامية من مسارها الصحيح . |
|
نتائج السقيفة : |
|
نجح أبو بكر وحزبه في مواجهة الأنصار والأمويين ، وكسب
الموقف بأن أصبح خليفة للمسلمين ، ولكنّ هذا النجاح جرّه إلى تناقض سياسي واضح ،
لأنّه لم يملك في السقيفة من رصيد إلاّ أن يجعلوا حجّتهم مبنيّة على أساس
القرابة من رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) ، ومن ثَمّ يقرّوا مذهب الوراثة
للزعامة الدينية . غير أنّ وجود بني هاشم كطرف معارض بدّل الوضع السياسي ،
واحتجّت المعارضة على أبي بكر وحزبه بنفس حجّتهم على باقي الأطراف ، وهي إذا
كانت قريش أولى برسول الله من سائر العرب فبنو هاشم أحقّ بالأمر من بقية قريش . وهذا ما أعلنه الإمام عليّ (عليه السلام) حين قال : إذا احتجّ المهاجرون بالقُرب من رسول الله (ص) كانت الحجّة
لنا على المهاجرين بذلك قائمة ، فإن فلجت حجّتهم كانت لنا دونهم ، وإلاّ
فالأنصار على دعوتهم . وأوضحه العباس في حديث له مع أبي بكر إذ قال له : وأمّا قولك
نحن شجرة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) فإنكم جيرانها ونحن أغصانها (شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 6 / 5 .) . فالإمام عليّ (عليه السلام) كان مصدر رعب ورهب في نفوس الفائزين
في لعبة السقيفة وسدّاً منيعاً إزاء رغباتهم وطموحاتهم ، وكان بإمكانه أن يستغلّ
النفعيّين ـ وما أكثرهم ! ـ والذين يميلون مع كلّ ريح وينعقون مع كلّ ناعق
والذين يعرضون أصواتهم ومواقفهم رخيصة في الأسواق السياسية ، وأن يشبع نهمهم
ممّا خلّفه الرسول (ص) من الخمس وغلاّت أراضي المدينة
ونتاج (فدك) التي كانت تدرّ بالخيرات ، إلاّ أنّه (عليه السلام) أبى عن
كلّ ذلك لكمال شخصيّته وسموّ منزلته ، هذا من جانب ، ومن جانب آخر كان بوسعه (ع)
أن يتحرّك محتجّاً أمام أرباب السقيفة بمبدأ القرابة الذي يعدّ ورقة رابحة بيده
حتى ألمح لذلك بقوله (ع) : (احتجوّا بالشجرة وأضاعوا الثمرة) . وكان السواد
الأعظم من الناس يقدّسون أهل البيت ويحترمونهم لذلك السبب ، وبالتالي سيدفع
السلطة الحاكمة إلى أزمة سياسية حرجة لا مخرج منها ، بيد أنّه (عليه السلام) كان
أسمى من ذلك وأجلّ ، حيث قدّم (عليه السلام) المصلحة
الإسلامية العليا على كلّ المصالح الخاصة . ولتلافي احتمال تحرّك الإمام على هذا المسار
تردّدت السلطة بين موقفين : أوّلاً : أن لا تقرّ للقرابة بشأن في الخلافة ، وهذا معناه نزع الثوب
الشرعي عن خلافة أبي بكر الذي تقمّصه يوم السقيفة . ثانياً : أن تناقض السلطة الحاكمة نفسها وإصرارها على مبادئها التي
أعلنتها في السقيفة مقابل بقيّة الأطراف ، فلا ترى أيّ حق للهاشميّين في السلطة
وهم أقرب الناس إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، أو تراه لهم ، ولكن في
غير ذلك الظرف الذي يكون معنى المعارضة مقابلة حكم قائم ووضع قد تعاقد عليه
الناس . وكان الخيار الثاني هو خيار السلطة (راجع تفصيل ذلك في ( فدك في التأريخ ) للشهيد الصدر ك 84 ـ 96
، وتأريخ الطبري : 2 / 449 و 450 ( أحداث السقيفة ) .) . |
|
الفصل الثاني:
|
|
الإمام عليّ (عليه السلام) في عهد أبي بكر
|
|
خطوات السلطة لمواجهة
المعارضة :
|
|
ما كانت الفئة المسيطرة لتتنازل عن السلطة بعد أن سعت وخطّطت
للاستيلاء عليها ، فثبتت على آرائها التي روّجتها في السقيفة ودعمتها بشتّى
الوسائل والسبل بغض النظر عن شرعيّتها أو صحّتها في المحافظة على سلامة الدعوة
الإسلامية ، لذا فإنّنا نلاحظ بعض الظواهر والخطوات السياسية التي اتّبعتها هذه
الفئة من أجل إبعاد آل محمد (صلّى الله عليه وآله) عن الحكم نهائياً والقضاء على
الفكرة التي أمدّت الهاشميين بالقوة ، بل القضاء على كلّ معارضة محتملة مستقبلاً
، وهي: 1 ـ إنّ السلطة الجديدة أخذت على المعارضين أنّ مخالفتهم
الخليفة الجديد ليس إلاّ إحداثاً للفتنة المحرّمة في شريعة الإسلام ، وكان يدعم
إدانتهم للمعارضة هذه أنّ ظروف الدولة الإسلامية كانت غير مستقرّة بعد ، وكان
الأعداء من خارج البلاد يهدّدون الدولة الإسلامية إضافة إلى أحداث الردّة التي
حصلت بعد وفاة الرسول (صلّى الله عليه وآله) داخل حدود الدولة الإسلامية الفتيّة
. 2 ـ أسلوب الشدّة والعنف الذي اتّبعه الخليفة وحزبه مع
الإمام عليّ (عليه السلام) ومن معه بنفس الطريقة التي اتّبعوها مع سعد بن عبادة
في السقيفة ، فقد بلغت الشدّة منهم أنّ عمر هدّد بحرق بيت الإمام عليّ (عليه
السلام) وإن كانت فاطمة (عليها السلام) فيه (بحار
الأنوار : 43 / 197 ط دار الوفاء .) ، ومعنى هذا أنّ فاطمة وغيرها من آل محمد (ص) ليس لهم حرمة تمنعهم عن أن يتّخذ الجهاز
الحاكم الطريقة نفسها معهم . 3 ـ إنّ أبا بكر ومن معه لم يشرك شخصاً من الهاشميّين في شأن
من شؤون الحكم المهمّة خشية أن يصل الهاشميّون إلى الخلافة (تأريخ
الطبري : 2 / 618 ، ومروج الذهب على هامش تأريخ ابن الأثير : 5 م 135 .)
ولا جعل منهم والياً على شبر من
الدولة الإسلامية الواسعة . 4 ـ إعداد وتهيئة كتلة سياسية ضخمة تنافس آل محمد (صلّى الله
عليه وآله) وتعاديهم ، لنيل الخلافة والمركز الأعلى في الحكم ، فإنّنا نلاحظ أنّ
الأمويين ذوي الألوان والطموحات السياسية الواضحة قد احتلوا الصدارة في المناصب
الإداريّة أيام أبي بكر وعمر ، وإضافة إلى ذلك أنّ مبدأ الشورى الذي ابتكره
الخليفة الثاني سوف يجعل من عثمان بن عفّان المرشح الأوفر حظّاً من غيره من
المنافسين . هذه الكتلة السياسية من شأنها أن تطول وتتّسع لأنّها ليست
متمثلة في شخص بل في بيت كبير ، وبالتالي سوف لن تكون الظروف مهيأة لصعود آل
محمد (صلّى الله عليه وآله) إلى سدّة الخلافة بسهولة على أقلّ تقدير . 5 ـ عزل كلّ العناصر التي تميل إلى بني هاشم ، فقد روي أنّ
أبا بكر عزل خالد بن سعيد بن العاص عن قيادة الجيش الذي وجّهه لفتح الشام بعد أن
أسندها إليه لا لشيء إلاّ لأنّ عمر نبّهه إلى نزعته الهاشمية وميله إلى آل محمد
، وذكّره بموقفه المعارض لهم بعد وفاة رسول الله (تاريخ
الطبري : 2 / 586 ط مؤسسة الأعلمي .) . 6 ـ إضعاف القدرة الاقتصادية للإمام عليّ (ع) خشية أن
يستثمرها الإمام في الدعوة لاستعادة حقّه الشرعي في الخلافة ، فقام الخليفة
بمصادرة فدك من الزهراء (ع) لعلمه أنّها (ع)
كانت سنداً قوياً لقرينها في دعوته إلى نفسه ، هذا إذا علمنا أنّ أطرافاً سياسية
باعت صوتها للحكومة ، فمن الممكن أن تفسخ المعاملة إذا عرض عليها ما ينتج ربحاً
أكبر ، كما وأنّ الخليفة أبا بكر نفسه اتّخذ المال وسيلة من وسائل الإغراء وكسب
الأصوات (الطبقات
الكبرى لابن سعد : 3 / 182 ، وشرح النهج لابن أبي الحديد : 1 / 133 .) . وإذا أضفنا لذلك أنّ الزهراء كانت دليلاً يحتجّ به أنصار
الإمام عليّ (عليه السلام) على أحقّيته بالخلافة نستوضح أنّ الخليفة كان
موفَّقاً كلّ التوفيق في مسعاه السياسي لإظهار موقف الزهراء (عليها السلام)
الداعم لأمير المؤمنين (عليه السلام) موقفاً محايداً ، وذلك بأسلوب لبق وغير
مباشر لإفهام المسلمين أنّ فاطمة (عليها السلام) امرأة من النساء ولا يصحّ أن
تؤخذ آراؤها ودعاويها دليلاً في مسألة بسيطة كفدك ، فضلاً عن موضوع مهم كالخلافة
، وأنّها إذا كانت تطلب أرضاً ليس لها بحقّ ؛ فمن الممكن أن تطلب (شرح
نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 16 / 284 ط . المحققة / أبو الفضل إبراهيم وفيه
جواب مدرس المدرسة الغربية علي بن الفارقي بهذا المعنى عندما سأله ابن أبي
الحديد .) لقرينها الدولة الإسلامية كلّها ،
وليس له فيها حقّ كما يدّعيه هؤلاء الصحابة الذين رشّحوا أنفسهم لخلافة رسول
الله (ص) وسيطروا على زمام الأمر . فقد روي أنّه لمّا استقرّ الأمر لأبي بكر ، بعث إلى وكيل
الزهراء فأخرجه منها واستولى على فدك ، واحتجّ بحديث لم يروه غيره ، وهو أنّه
سمع النبيّ (صلّى الله عليه وآله) يقول : ( إنّا معاشرَ الأنبياء لا نورّث ، ما
تركناه صدقة ) فالنبيّ لا يورث وإنّما ميراثه في المساكين وفقراء المسلمين (راجع
سنن البيهقي : 6 / 301 ، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 16 / 218 ـ 224 ،
ودلائل الصدق للمظفر : 3 / 32 .) . |
|
الاحتجاجات على خلافة
السقيفة :
|
|
إنّ الصفوة الخيّرة من الصحابة الذين وقفوا مع الإمام عليّ
(عليه السلام) في المطالبة بحقّه الشرعي في الخلافة احتجّوا بصلابة وثقة وعلانية
وبحجّة واضحة دامغة وبدليل شرعيّ منصوص وبأسلوب يدلّ على الحرص على إصابة الحقّ
وصيانة الحكم الإسلامي من الانحراف على الحكومة ، فقد وقفوا في مسجد الرسول
(صلّى الله عليه وآله) فانبرى الصحابيّ الجليل خزيمة بن ثابت فقال : أيّها الناس
! ألستم تعلمون أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قَبِل شهادتي وحدي ، ولم
يرد معي غيري ؟ فقالوا : بلى ، قال : فأشهد أنّي سمعت رسول الله (صلّى الله عليه
وآله) يقول : (أهل بيتي يفرّقون بين الحقّ والباطل ،
وهم الأئمّة الذين يقتدى بهم) ، وقد قلت ما علمت ، وما على الرسول إلاّ
البلاغ المبين . واحتجّ عمار بن ياسر فقال : يا معاشر قريش ويا معاشر المسلمين !
إن كنتم علمتم وإلاّ فاعلموا أنّ أهل بيت نبيّكم أولى به وأحقّ بإرثه وأقوم
باُمور الدين وآمن على المؤمنين وأحفظ لملّته وأنصح لاُمّته ، فمروا صاحبكم
فليردّ الحقّ إلى أهله قبل أن يضطرب حبلكم ويضعف أمركم ويظهر شقاقكم وتعظم
الفتنة بكم . ووقف سهل بن حنيف فقال : يا معشر قريش ! أشهد على رسول الله
(صلّى الله عليه وآله) وقد رأيته في هذا المكان ـ يعني مسجد النبيّ ـ وقد أخذ
بيد عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) وهو يقول : ( أيّها الناس ، هذا عليّ
إمامكم من بعدي ووصيّي في حياتي وبعد وفاتي ، وقاضي ديني ، ومنجز وعدي ، وأوّل
من يصافحني على حوضي ، وطوبى لمن تبعه ونصره ، والويل لمن تخلّف عنه وخذله ) . ثمّ قام أبو الهيثم بن التيهان فقال : وأنا أشهد على رسول
الله (صلّى الله عليه وآله) أنّه أقام عليّاً يوم غدير خم ، فقالت الأنصار : ما
أقامه إلاّ للخلافة ، وقال بعضهم : ما أقامه إلاّ ليعلم الناس أنّه مولى من كان
رسول الله (صلّى الله عليه وآله) مولاه ، وكثر الخوض في ذلك فبعثنا رجلاً منّا
إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فسألوه عن ذلك ، فقال : (
هو وليّ المؤمنين بعدي وأنصح الناس لأمتي ) ، وأنا أشهد بما حضرني ، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ،
إنّ يوم الفصل كان ميقاتاً . ثمّ قام آخرون منهم أبو ذر وأبو أيوب الأنصاري وعتبة بن أبي
لهب والنعمان بن عجلان وسلمان الفارسي فاحتجّوا على القوم (تأريخ
أبي الفداء : 1 / 156 ، والخصال للصدوق : 432 ، والاحتجاج للطبرسي : 1 / 186 .) . |
|
محاولة إرغام الإمام
(ع) على البيعة :
|
|
كان لامتناع الإمام عن البيعة وقيام عدد من الصحابة الأجلاّء
بالاحتجاج العلني ومطالبة السلطة بالتنحّي عنها وتسليمها إلى صاحبها الشرعي
الأثر الفعّال في تحريك مشاعر المسلمين وتعبئتهم في صف أمير المؤمنين (عليه
السلام) ، هذا بالإضافة إلى وجود بعض العشائر المؤمنة المحيطة بالمدينة مثل أسد
وفزارة (تأريخ
الطبري : 2 / 476 ط مؤسسة الأعلمي .) وبني حنيفة وغيرهم ممن شاهد بيعة يوم
الغدير (غدير خم) التي عقدها النبيّ (صلّى الله عليه وآله) لعليّ (عليه السلام)
بإمرة المؤمنين من بعده الذين رفضوا بيعة أبي بكر ، وامتنعوا عن أداء الزكاة
للحكومة الجديدة باعتبارها غير شرعية ، وكانوا يقيمون الصلاة ويؤدّون جميع
الشعائر ، كلّ هذا كان يشكّل خطراً على الحكم القائم ، فرأت السلطة الحاكمة أن
تصنع حدّاً لهذا الخطر ، وذلك بإجبار رأس المعارضة وهو عليّ بن أبي طالب (عليه
السلام) على بيعة أبي بكر . وذكر بعض المؤرّخين أنّ عمر أتى أبا بكر فقال له : ألا تأخذ
هذا المتخلّف عنك بالبيعة ؟ يا هذا لم تصنع شيئاً ما لم يبايعك عليّ ! فابعث
إليه حتى يبايعك . فأجمعوا آراءَهم على إرغام الإمام (عليه السلام) وقسره على
البيعة لأبي بكر ، فأرسلوا قوة عسكرية فأحاطت بداره فدخلوا داره بعنف (الإمامة
والسياسة : 30 ، وتأريخ الطبري : 2 / 443 .) ، وأخرجوه منها بصورة لا تليق بمكانة
شخص قال عنه رسول الله (ص) : ( أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ
بعدي ) . وجيء به إلى أبي بكر ، فصاحوا به بعنف : بايع أبا بكر ،
فأجابهم الإمام بمنطق الواثق الجريء الشجاع : ( أنا
أحقّ بهذا الأمر منكم ، لا أبايعكم وأنتم أولى بالبيعة لي ، أخذتم الأمر من
الأنصار ، واحتججتم عليهم بالقرابة من النبيّ (صلّى الله عليه وآله) وتأخذونه
منّا أهل البيت غصباً ! ألستم زعمتم للأنصار أنّكم أولى بهذا الأمر منهم لمّا
كان محمّد (صلّى الله عليه وآله) منكم فأعطوكم المقادة ، وسلّموا إليكم الإمارة
؟ وأنا أحتجّ عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار ، نحن أولى برسول الله (صلّى
الله عليه وآله) حيّاً وميّتاً ، فأنصفونا إن كنتم تؤمنون وإلاّ فبوءوا بالظلم
وأنتم تعلمون ) (الإمامة والسياسة : 28 .) . وبهذا الموقف الصريح أوضح الإمام
الحقيقة من الحجّة السياسية التي اتّخذوها ذريعة للوصول إلى الحكم ، فلم يكن لهم
بدّ من التسليم أو الردّ بما تحويه أفكارهم وتضمره نفوسهم ، فثار ابن الخطّاب
بعد أن أعوزته الحجّة في الردّ على الإمام ، فسلك طريق العنف قائلاً له : إنّك
لست متروكاً حتى تبايع ، فزجره الإمام قائلاً : ( احلب حلباً لك شطره ،
واشدد له اليوم يردده عليك غداً ، والله يا عمر لا أقبل قولك ولا أبايعه ) (أنساب
الأشراف : 1 / 587 ، وشرح نهج البلاغة : 2 / 2 ـ 5.) . هنا كشف الإمام (عليه السلام) عن سرّ اندفاعات عمر
وحماسه من أجل البيعة ، فإنّ موقفه هذا من أجل أن ترجع إليه الخلافة وشؤون الملك
بعد أبي بكر . وخاف أبو بكر من تطوّر الأحداث في غير ما يحب ، وخشي من
عواقب غضب الإمام فقال له : إن لم تبايع فلا أكرهك ، ثمّ تكلّم أبو عبيدة بن
الجرّاح محاولاً تهدئة الإمام عليّ (ع) وكسب ودّه ، فقال : يا ابن عم ! إنّك
حديث السنّ وهؤلاء مشيخة قومك ، ليس لك مثل تجربتهم ومعرفتهم بالأمور ، ولا أرى
أبا بكر إلاّ أقوى على هذا الأمر منك وأشد احتمالاً واضطلاعاً به ، فسلّم لأبي
بكر هذا الأمر ، فإنّك إن تعش ويطل بك بقاء فأنت لهذا الأمر خليق وبه حقيق من
فضلك ودينك وعلمك وفهمك وسابقتك ونسبك وصهرك (شرح
نهج البلاغة : 2 / 2 ـ 5 و 1 / 134 .) . إنّ هذه التصريحات السياسية غايتها تضليل الآراء وتسويف
المواقف ، وهي لم تكن لتنطلي على وعي الإمام (ع)
بل أثارت في نفسه الألم والاستياء من بوادر الانحراف ، فاندفع يخاطب القوم في
محاولة لتنبيههم بخطئهم ، فقال : ( الله الله يا معشر المهاجرين ! لا تخرجوا
سلطان محمّد في العرب عن داره وقعر بيته إلى دوركم وقعور بيوتكم ، ولا تدفعوا
أهله عن مقامه في الناس وحقّه ، فو الله يا معشر المهاجرين لنحن أحقّ الناس به ،
لأنّا أهل البيت ، ونحن أحقّ بهذا الأمر منكم ، ما كان فينا القارئ لكتاب الله ،
الفقيه في دين الله ، العالم بسنن رسول الله ، المضطلع بأمر الرعيّة ، الدافع
عنهم الاُمور السيّئة ، القاسم بينهم بالسويّة ، والله إنّه لفينا ، فلا تتّبعوا
الهوى فتضلّوا عن سبيل الله فتزدادوا من الحقّ بُعداً ) (الإمامة
والسياسة : 28 .) . وروي : أنّ الزهراء (عليها السلام) خرجت خلف أمير المؤمنين
من أجل الدفاع عن الإمام (ع) لأنّها خشيت أن
يكون القوم قد أعدّوا السوء لإيقاعه بالإمام ، وقد أخذت بيد ولديها الحسن
والحسين (عليهما السلام) وما بقيت هاشمية إلاّ وخرجت معها ، فوصلت مسجد النبيّ (ص) وهدّدت القوم بالدعاء عليهم إن لم يتركوا
الإمام فقالت (عليها السلام) : ( خلّوا عن ابن عمّي ، خلّوا عن بعلي ،
والله لأنشرنّ شعري ولأضعنّ قميص أبي على رأسي ولأدعونّ عليكم ، فما ناقة صالح
بأكرم على الله منّي ، ولا فصيلها بأكرم على الله من ولدي ) (الإحتجاج
للطبرسي : 1 / 222 .) . |
|
الإمام عليّ (ع)
ومضاعفات السقيفة :
|
|
إذا كانت مواقف الإمام عليّ (عليه السلام) كلّها رائعة ؛
فموقفه من الخلافة بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من أكثرها روعةً ،
فالعقيدة الإلهية تريد في كلّ زمان بَطَلاً يفتديها بنفسه ونفيسه ويعزّز به
المبدأ ، وهذا هو الذي بعث بعليّ إلى فراش الموت ، وبالنبيّ (صلّى الله عليه
وآله) إلى مدينة النجاة يوم الهجرة ، ولم يكن ليتهيّأ للإمام (عليه السلام) في
محنته بعد وفاة أخيه الرسول (صلّى الله عليه وآله) أن يضحّي لها كلا ولديه الحسن
والحسين ؛ لأنه لو ضحّى بنفسه في سبيل توجيه الخلافة إلى مجراها الشرعي في رأيه
؛ لما بقي بعده من يمسك الخيط من طرفيه ، وسبطا رسول الله (ص) طفلان لا يتهيّأ
لهما من الأمر ما يريد . إنّ عليّاً الذي كان على أتمّ استعداد لتقديم نفسه قرباناً
للمبدأ في جميع أدوار حياته منذ ولد في الكعبة والى أن استُشْهِدَ في مسجد
الكوفة ؛ قد ضحّى بموقعه الذي نصبه فيه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وتنازل
عن القيادة السياسية الظاهرة في سبيل المصالح العليا التي جعله رسول الله (ص) وصيّاً عليها وحارساً لها . وقف عليّ (عليه السلام) عند مفترق طرق ، كلٌ منها
حرج وكلٌ منها شديد على نفسه : 1 ـ أن يبايع أبا بكر دون ممانعة ، ويكون حاله مثل بقية
المسلمين ، بل ويحافظ على وجوده ومنافعه الشخصية ومصالحه المستقبلية وينال
المكانة والتكريم والاحترام لدى الجهاز الحاكم . وهذا غير ممكن ، لأنّه يعني
إمضاءه (عليه السلام) لبيعة أبي بكر وولايته ، وهذا مخالف لأوامر رسول الله
(صلّى الله عليه وآله) ومؤدٍّ إلى انحراف الخلافة والولاية والإمامة عن مسارها
الأصلي ومعناها الحقيقي إلى الأبد ، وتبدّد الجهود والتضحيات التي بذلها النبيّ
(صلّى الله عليه وآله) والإمام علي (عليه السلام) من أجل إرساء قواعد الإسلام
وتحكيم أصول الخلافة الشرعية ، وبالتالي انحراف التجربة الإسلامية كلّها . 2 ـ أن يسكت وفي العين قذىً وفي الحلق شجا ، ويحاول أن يسلك
سبيلاً معتدلاً يحفظ كيان الإسلام ويصون المسلمين ووجودهم وأن يجني ثماره
متأخّراً . 3 ـ أن يعلن الثورة المسلّحة على خلافة أبي بكر ، ويدعو
الناس إليها ويدفعهم نحوها . ولكن ماذا كان يترقّب للثورة من نتائج ؟ هذا ما نريد أن
نتبيّنه على ضوء الظروف التأريخية لتلك الساعة العصيبة . ومن المألوف أن الحاكمين لم يكونوا ينزلون عن مراكزهم بأدنى
معارضة تواجههم وهم من عرفناهم حرصاً وشدّةً في أمر الخلافة ، معنى هذا أنّهم
سيقابلون ويدافعون عن سلطانهم الجديد ، ومن المعقول جدّاً حينئذٍ أن يغتنم سعد
ابن عبادة الفرصة ليعلنها حرباً اُخرى لإشباع أهوائه السياسية ، لأنّنا نعلم
أنّه هدّد الحزب المنتصر بالثورة عندما طلب منه البيعة وقال : (لا والله حتّى أرميكم بما في كنانتي وأُخضّب سنان رمحي
وأضرب بسيفي وأقاتلكم بأهل بيتي ومن أطاعني ولو اجتمع معكم الإنس والجنّ ما
بايعتكم) (تأريخ
الطبري : 2 / 459 ط مؤسسة الأعلمي .)
. وأكبر الظنّ أنّه تهيّب الغقدام على الثورة ولم يجرؤ على أن
يكون أوّل شاهر للسيف ضدّ الخلافة القائمة ، وإنّما اكتفى بالتهديد الشديد الذي
كان بمثابة إعلان الحرب ، وأخذ يترقّب تضعضع الأوضاع ليشهر سيفه بين السيوف ،
فكان حريّاً به أن تثور حماسته ويزول تهيّبه ويضعف الحزب القائم في نظره إذا رأى
صوتاً قويّاً يجهر بالثورة فيعيدها جذعة محاولاً إجلاء المهاجرين من المدينة
بالسيف (تأريخ
الطبري : 2 / 459 ، قصة السقيفة ، قول الحبّاب بن المنذر : ( أمّا والله لئن
شئتم لنعيدنّها جذعَة ... ) .) ، كما أعلن ذلك المتكلّم عن لسانه في مجلس السقيفة . ولا ننسى بعد ذلك الأمويين وتكتّلهم السياسي في سبيل الجاه
والسلطان ، وما كان لهم من نفوذ في مكّة في سنواتها الجاهلية الأخيرة ، فقد كان
أبو سفيان زعيمها في مقاومة الإسلام والحكومة النبويّة ، وكان عتاب بن أسيد بن
أبي العاص ابن أُمية أميرها المطاع في تلك الساعة . وإذا تأمّلنا ما جاء في تأريخ تلك الأيام (الكامل
في التأريخ / لابن الأثير : 3 / 123 وصلَ خبر وفاة الرسول (صلّى الله عليه وآله)
وكان عتاب بن أسيد بن أبي العاص بن أُمية أميراً على مكّة .)
من أنّ رسول
الله (ص) لمّا توفّي وبلغ خبره إلى مكّة وعامله عليها عتاب بن أسيد بن
أبي العاص بن أُمية استخفى عتاب وارتجّت المدينة وكاد أهلها يرتدّون ، فقد لا
نقتنع بما يعلّل به رجوعهم عن الارتداد من العقيدة والإيمان ، وليس مردّ ذلك
التراجع إلى أنّهم رأوا في فوز أبي بكر فوزهم وانتصارهم على أهل المدينة كما ذهب
إليه بعض الباحثين ؛ لأنّ خلافة أبي بكر كانت في اليوم الذي توفّي فيه رسول الله (ص) ، وأكبر الظنّ أنّ خبر الخلافة جاءهم مع
خبر الوفاة ، بل تعليل القضية : أنّ الأمير الأموي عتاب بن أسيد شاء أن يعرف
اللون السياسي الذي اتّخذته أسرته في تلك الساعة ، فاستخفى وأشاع بذلك الاضطراب
حتّى إذا عرف أنّ أبا سفيان قد رضي بعد سخط وانتهى مع الحاكمين إلى نتائج تصبّ
في صالح البيت الأموي ؛ (تاريخ الطبري : 2 / 449 ،
هدأت ثائرة أبي سفيان بعد أن ولّى الخليفة الأوّل ابنه معاوية ، فقال : وصلته
رحم .) ظهر مرّة أخرى للناس وأعاد الأمور
إلى مجاريها . وعليه فالصلة السياسية بين رجالات الأمويين كانت قائمة في ذلك
الحين ، وهذا ما يفسِّر لنا القوّة التي تكمن وراء أقوال أبي سفيان حينما كان
ساخطاً على أبي بكر وأصحابه ، إذ قال : إنّي لأرى عجاجة لا يطفيها إلاّ الدمّ ،
وقال عن عليّ والعبّاس : أما والذي نفسي بيده لأرفعنّ لهما من أعضادهما (تأريخ
الطبري : 2 / 449 .) . فالأمويون كانوا متأهّبين للثورة والانقلاب ، وقد عرف عليّ (ع) منهم ذلك بوضوح حينما عرضوا عليه أن يتزعّم
المعارضة ولكنّه عرف أنّهم ليسوا من الذين يعتمد على تأييدهم ، وإنّما يريدون
الوصول إلى أغراضهم عن طريقه ، فرفض طلبهم ، وكان من المنتظر حينئذٍ أن يشقّوا
عصا الطاعة إذا رأوا الأحزاب المسلّحة تتناحر ، ولم يطمئنّوا إلى قدرة الحاكمين
على ضمان مصالحهم ، ومعنى انشقاقهم حينئذٍ إظهارهم للخروج عن الدين وفصل مكّة عن
المدينة . إذاً كانت الثورة العلويّة في تلك الظروف إعلاناً لمعارضة
دموية تتبعها معارضات دموية ذات أهواء شتّى ، وكان فيها تهيئة لظرف قد يغتنمه
المشاغبون ثمّ المنافقون . ولم تكن ظروف المحنة تسمح لعليّ بأن يرفع صوته وحده في وجه
الحكم القائم ، بل لتناحرت وتقاتلت مذاهب متعدّدة الأهداف والأغراض ، ويضيع بذلك
الكيان الإسلامي في اللحظة الحرجة التي يجب أن يلتفّ المسلمون حول قيادة موحّدة
، ويركّزوا قواهم لصدّ ما كان يترقّب أن تتمخّض عنه الظروف الدقيقة من فتن
وثورات (فدك
في التاريخ ، الشهيد السيد محمد الصدر : 102 ـ 105 .) . ومن هنا كان على الإمام عليّ أن يختار الطريق الوسط ليحقّق
أكبر قدر ممكن من الأهداف الرسالية التي جعله الرسول (صلّى الله عليه وآله)
وصيّاً عليها . ومن هنا نعرف أن الرسول (صلّى الله عليه وآله) كان قد أعدّ
للإمام عليّ (عليه السلام) خطّتين أو خطّة واحدة ذات مرحلتين ، فالمرحلة الأولى
هي نصبه إماماً شرعياً وخليفةً له بشكل رسمي بعد الإعلان الصريح وأخذ البيعة له من
المسلمين وإتمام الحجّة على جميع من حضر وغاب عن مشهد يوم الغدير . وحين كان الرسول (ص) ذلك القائد السياسي المحنّك الذي أثبت
للتأريخ ولمن عاصره جميعاً نفاذ بصيرته وبُعد نظره وشفقته على أمته وارتباطه
المستمر بعالم الغيب والعلم الإلهي الذي شاء للشريعة الإسلامية أن تكون خاتمة
الشرائع وعلى أساسها ينبغي أن تتحقّق أهداف الرسالات الإلهية جميعاً . فمن هنا
ومن حيث علمه (عليه السلام) بمدى وعي الأُمة للرسالة الإسلامية في عصره ومدى
اندماجها وذوبانها في قيم الرسالة ، وطبيعة المجتمع الذي أسلم أو استسلم لدولة
الرسول بما كان يشتمل عليه من عصبيات وقيم جاهلية يصعب اجتثاثها بسرعة وبخطوات
تربوية قصيرة . لكلّ هذا وغيره ممّا يمكن أن يدركه المتأمّل في الظروف المحيطة
بالرسول (ص) وبدولته ، يشعر المتأمّل بضرورة وجود تخطيط بعيد المدى يتكفّل تحقيق
الأهداف الرسالية الكبرى على المدى البعيد بعد أن كان يستحيل أو يصعب اجتناء
الثمار المرجوّة من حركة الرسالة في تلك الفترة وفي ذلك المجتمع على المدى
القريب بعد ملاحظة منطق العمل التغييري بشكل خاص . إذن كانت المرحلة الثانية بعد إعراض الأُمة أو عدم انقيادها
للأطروحة النبويّة الإلهية هي الصبر والحزم والتخطيط العملي الواقعي لعمل تربوي
جذري في ظلّ الدولة الإسلامية الفتيّة ، ريثما تُهيَّأ الظروف اللازمة لاستلام
الحكم وتحقيق تلك الأطروحة ، لتتحقّق جميع الأهداف الممكنة لتطبيق هذه الشريعة
الخالدة تطبيقاً صحيحاً رائعاً . |
|
الإمام عليّ (عليه
السلام) ومهمّة جمع القرآن :
|
|
اتّفقت كلّ الروايات الصحيحة على أنّ الإمام عليّاً (ع) ما
أن انتهى من تجهيز النبيّ (ص) ومواراته الثرى ؛ حتى اعتكف في داره منشغلاً بجمع
آيات القرآن وترتيبها حسب نزولها بعد أن كانت مبعثرة في الألواح . وروي عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) : أنّ
رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال لعليّ (عليه السلام) : يا عليّ ! القرآن خلف فراشي في المصحف والحرير والقراطيس
فخذوه ، واجمعوه ، ولا تضيّعوه كما ضيّعت اليهود التوراة ، فانطلق عليّ (عليه
السلام) فجمعه في ثوب أصفر (المناقب
لابن شهر آشوب : 2 / 41 ، وفتح الباري : 10 / 386، والإتقان للسيوطي : 1 / 51 .) . وجاء أيضاً أنّ الإمام عليّاً
(عليه السلام) رأى من الناس طيرة عند وفاة النبيّ (صلّى الله عليه وآله) فأقسم
أنّه لا يضع على ظهره رداءه حتى يجمع القرآن ن فجلس في بيته ثلاثة أيام حتى جمع
القرآن (الفهرست
لابن النديم : 30 .) . كما روي أنّ عليّاً (عليه السلام) انقطع عن الناس مدّةً حتى
جمع القرآن ، ثمّ خرج إليهم في إزار يحمله وهم مجتمعون في المسجد ، فلمّا
توسّطهم وضع الكتاب بينهم ثمّ قال : إنّ رسول الله (صلّى الله
عليه وآله) قال : ( إنّي مخلّف فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا كتاب الله
وعترتي أهل بيتي ) وهذا كتاب الله وأنا العترة (المناقب
لابن شهر آشوب : 2 / 41 .) ، وقال لهم : لئلاّ تقولوا غداً إنّا كنّا عن
هذا غافلين
. ثمّ قال : لا تقولوا يوم القيامة إنّي لم أدعُكُمْ إلى نصرتي
ولم أذكركم حقّي ولم أدعكم إلى كتاب الله من فاتحته إلى خاتمته (كتاب
سليم بن قيس : 32 ، ط . مؤسّسة البعثة .) . فقال له عمر : إن يكن عندك قرآن فعندنا مثله فلا حاجة لنا
فيكما . ويبدو أنّ الإمام لم يكتف بجم الآيات القرآنية بل قام أيضاً
بترتيبها حسب النزول ، وأشار إلى عامّه وخاصّه ومطلقه ومقيّده ومحكمه ومتشابهه
وناسخه ومنسوخه وعزائمه ورخصه وسننه وآدابه ، كما وأشار إلى أسباب النزول وأملى
ستّين نوعاً من أنواع علوم القرآن ، وذكر لكلّ نوعٍ مثالاً يخصّه ، وبهذا العمل
الكبير استطاع الإمام أن يحافظ على أهمّ أصل من أصول الإسلام ، وأن يوجّه العقل
المسلم نحو البحث عن العلوم التي يزخر بها القرآن ، ليصبح المنبع الرئيسي للفكر
والمصدر المباشر الذي تستمد منه الإنسانية ما تحتاجه في حياتها . إنّ أمير المؤمنين كان جديراً بما فعل ، فإنّه قال : ما
نزلت على رسول الله (ص) آية من القرآن إلاّ أقرأنيها وأملاها عليَّ فكتبتها
بخطّي ، وعلّمني تأويلها وتفسيرها وناسخها ومنسوخها ومحكمها ومتشابهها ، ودعا
الله عزّ وجلّ أن يعلّمني فهمها ، فما نسيت آيةً من كتاب الله عزّ وجلّ ولا
علماً أملاه عليّ فكتبته وما ترك شيئاً علّمه الله عز وجل من حلال وحرام ولا أمر
ولا نهي وما كان أو يكون من طاعة أو معصية إلاّ علّمنيه وحفظته ، فلم أنس منه
حرفاً واحداً (كفاية الطالب للكنجي : 199 ،
والاتقان للسيوطي : 2 / 187 ، وبحار الأنوار : 92 / 99 .) . |
|
من مواقف الإمام
(عليه السلام) في عهد أبي بكر :
|
|
قال الإمام (عليه السلام) : ( فو الله ما كان يلقى في روعي
ولا يخطر ببالي أنّ العرب تزعج هذا الأمر من بعده (صلّى الله عليه وآله) عن أهل
بيته ، ولا أنّهم مُنَحّوهُ عنّي من بعده ، فما راعني إلاّ انثيال الناس إلى أبي
بكر يبايعونه ، فأمسكت بيدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجت عن الإسلام ، يدعون إلى
محق دين محمّد ، فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون
المصيبة به أعظم من فوت ولايتكم التي هي متاع أيام قلائل يزول منها ما كان كما
يزول السراب أو كما يتقشّع السحاب ، فنهضت في تلك الأحداث حتى زاح الباطل وزهق
واطمأن الدين وتنهنه )
(نهج
البلاغة : الكتاب 62 .) . كلّ الأحداث التي جرت بعد وفاة الرسول (صلّى الله عليه وآله)
وما سادها من أجواء المشاحنات وما حفّها من ابتعاد عن الحقّ وانجراف في غير
الطريق الذي كان على المسلمين سلوكه لم تَنس عليّاً أنّه الوصيّ على هذه الأُمة
وعلى تطبيق الرسالة الإسلامية . كانت بيعة أبي بكر قد استلبت حقّ الإمام في إدارة شؤون
الأُمة مباشرة واضطرّته إلى أن يعتزل إلى حين فإنّ وصايا الرسول له وعهده إليه
بالتكليف الإلهي برعاية الأُمة ثمّ حرصه العميق على الرسالة الإسلامية والمجتمع
من التمزّق والضياع جعل من أمير المؤمنين القدوة المُثلى للمدافعين عن الكيان
الإسلامي في كل الميادين . من هنا وقف علي (عليه السلام) ليدلي بآرائه الصائبة ،
موضّحاً قواعد الدين الصحيحة في كلّ موقف يستعصي على الماسكين بزمام إدارة
الدولة في زمن عصيب ، وفي اُمّة لم تترسّخ العقيدة الإلهية في نفوس أبنائها ،
فكان عليّ (عليه السلام) ميزان القضاء والإفتاء في شؤون الحياة الإسلامية من
قضاء واجتماع وإدارة في عهد أبي بكر وما تلاه من فترات حكم الخلفاء . وقف علي (عليه السلام) ليدافع عن المدينة ويصدّ هجوم
المرتدّين عن الإسلام ومعه الصفوة من الصحابة الذين ساندوه في محنته . |
|
وصيّة أبي بكر إلى
عمر :
|
|
لم يزل الإمام عليّ (عليه السلام) مظلوماً يدفع بحقّه بعيداً
عنه ، يتألّم على الخلافة إذ تلكّأت وعلى الرسالة إذ ضمرت ، لا يجد سبيلاً إلاّ
الصبر وهو الحليم ولا يجد إلاّ الأناة وهو البصير ، وقد
عبّر عن أحزانه وآلامه في خطبته الشهيرة بالشقشقيّة إذ قال : ( أما والله لقد تقمّصها
ابن أبي قحافة ، وإنّه ليعلم أنّ محلّي منها محلّ القطب من الرحى ، ينحدر عنّي
السيل ولا يرقى إليّ الطير ، فسدلت دونها ثوباً ، وطويت عنها كشحاً ن وطفقت
أرتئي بين أن أصول بيدٍ جذّاء أو أصبر على طخية عمياء ، يهرم فيها الكبير ،
ويشيب فيها الصغير ، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربّه ، فرأيت أنّ الصبر على هاتا
أحجى ، فصبرت وفي العين قذى وفي الحلق شجا ، أرى تُراثي نهباً ، حتى مضى الأول
لسبيله فأدلى بها إلى ابن الخطاب بعده ، فيا عجباً بينا هو يستقيلها في حياته (إشارة
إلى قول أبي بكر : أقيلوني فلست بخيركم ، راجع تذكره الخواص : 62 .) إذ عقدها لآخر بعد وفاته
لشدّ ما تشطّرا ضرعيها ، فصيّرها في حوزة خشناء ، يغلظ كلمها ، ويخشن مسها ،
ويكثر العثار فيها والاعتذار منها ) (نهج
البلاغة : الخطبة 3 .) . لم تطل أيّام أبي بكر فقد ألمّت به الأمراض وأشرف على الموت
، وقد صمّم على أن يولي عمر الخلافة من بعده ، فاعترض أكثر المهاجرين والأنصار ،
وأعلنوا كراهيّتهم لهذا القرار لما علموا من خشونة أخلاق عمر وسوء تعامله مع
الناس (الإمامة
والسياسة : 36 ، وتأريخ الطبري : 2 / 618 و 619 ط مؤسسة الأعلمي ، والكامل في التأريخ
: 2 / 425 .) . لكنّ أبا بكر أصرّ على موقفه . ثمّ إنّ أبا بكر أحضر عثمان بن عفّان لوحده ليكتب عهده لعمر
، فقال له : اُكتب : بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة
إلى المسلمين ، أما بعد .. ثمّ أغمي على أبي بكر ، فكتب عثمان : فإنّي قد
استخلفت عليكم عمر بن الخطّاب ولم آلكم خيراً ، ثمّ أفاق أبو بكر فقال : إقرأ
عليّ ، فقرأ عليه فكبّر أبو بكر وقال : أراك خِفتَ أن يختلف الناس إن مُتُّ في
غشيتي ، قال : نعم ، قال : جزاك الله خيراً (الكامل
في التأريخ : 2 / 425 .) . |
|
مآخذ على وصية أبي
بكر :
|
|
لم يكن عليّ (عليه السلام) راضياً بما فعله أبو
بكر للأسباب التالية : 1 ـ إنّ أبا بكر لم يستشر أحداً من المسلمين في تقرير مصير
الخلافة إلاّ عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفّان اللذين كانا على معرفة تامّة
بميول أبي بكر لاستخلاف عمر من بعده ، خشية أن يدفعه أهل الرأي من الصحابة
المخلصين على تغيير رأيه في اختيار عمر . 2 ـ الإصرار على إبعاد الإمام عليّ (عليه السلام) عن الساحة
السياسية ومسألة تقرير مصير الخلافة فلم يستشره في أمر الخلافة ، في حين أنّ أبا
بكر كان يفزع إلى الإمام في حلّ المشاكل المستعصية ، أو أنّ آراء الإمام ومواقفه
في خلافة أبي بكر هي الناصحة والصائبة دون من عداها . 3 ـ إنّ أبا بكر فرض عمر فرضاً على المسلمين ، وكأنّ له
الوصاية عليهم حيّاً وميّتاً وذلك بقوله : استخلفت عمر بن الخطاب عليكم فاسمعوا
له وأطيعوا ، رغم أنّه رأى الغضب ظاهراً في وجوه الكثيرين من الصحابة . 4 ـ إنّه ناقض نفسه في دعواه بالسير على منهاج رسول الله
(صلّى الله عليه وآله) لأنّه كان يدّعي أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) توفّي
ولم يعهد لأحدٍ في شأن الخلافة ، في حين نجده يوصي لصاحبه عمر من بعده (وهو
من العجائب ؛ لأنّه لمّا أفاق من الإغماء واستمع إلى ما كتبه عثمان من تعيين
الخليفة بعده ، قال : أراك خفت أن يختلف الناس إن متّ في غشيتي قال : نعم ؛ كيف
هو وعثمان خافا من اختلاف الناس ؟! وأمّا الرسول الأعظم الحكيم (صلّى الله عليه
وآله) لم يخف من اختلاف أمته ؟! لأنهم يصرّحون بأن النبيّ (صلّى الله عليه وآله)
مات ولم يعيّن أحداً . تباً لهم فما لهم كيف يحكمون ؟! بل نلاحظ عمر يمنع الرسول
(صلّى الله عليه وآله) من كتابة وصيّته في لحظاته الأخيرة بينما يجلس وبيده
جريدة ومعه شديد مولى لأبي بكر معه الصحيفة التي فيها استخلاف عمر وعمر يقول :
أيّها الناس اسمعوا وأطيعوا قول خليفة رسول الله إنه يقول غني لم آلكم نصحاً .
راجع الطبري ط . أوربا 1 / 2138 أرأيت التناقض بين موقفيه ؟! وهل هناك من تفسير
غير التآمر على تخطيط الرسول (صلّى الله عليه وآله) ؟!) . 5 ـ هيّأ الملك لبني أُمية ، الذي جلب الويلات للإسلام
والمسلمين ، وذلك من خلال إثارة طمعهم في الخلافة وتشجيعهم عليها بقوله لعثمان :
لو لا عمر ما عدوتك (شرح نهج البلاغة لابن أبي
الحديد : 1 / 164 .) .. وأبو بكر يعلم أنّ عثمان عاطفي ضعيف يميل لبني أُمية ،
وأنّهم سيغلبونه على أمره ، وهذا ما حصل . |
|
الفصل الثالث:
|
|
الإمام علي (عليه السلام) في عهد عمر
|
|
استخلاف عمر بن الخطاب في جمادى الآخرة عام (13) هـ .
|
|
مهّد أبو بكر كرسيّ الخلافة لعمر بن الخطاب فتولاّها بسهولة
ويسر دون معارضة تذكر من أقطاب المهاجرين والأنصار ، وقد قبض على زمام الحكم
بقوة وساس الأمة بشدّة ، حتى تحامى لقاءه أكابر الصحابة (تأريخ الطبري : 2 / 617 و 618 .) . وحقّقت جاهلية قريش انتصاراً
سياسياً آخر ومضت بخطّها على أن لا تعطي حقّاً لبني هاشم ، وأتقن عمر هذا السير
أيّما إتقان . أمّا أمير المؤمنين (عليه السلام) فلم يثأر لحقه المغتصب
بعدما شاهد من سيرة السلطة الحاكمة وحركة الفئة غير الواعية في ركبها ، من تعنت
وإصرار على الانحراف بالخلافة ، فوقف الإمام موقف الناصح الأمين للخليفة الجديد
شعوراً منه بالمسؤولية الكبيرة ، فهو الأمين على سلامة الرسالة والأمة ، لقد
ساهم أمير المؤمنين في الحياة العامّة ما وسعه من جهد ، وأدّى ما عليه من تكليف
في تعليم وتفقيه وقضاء بصورة أوسع من دوره في عهد أبي بكر حيث اقتضت الضرورة ذلك
، فقد اتّسعت رقعة البلاد الإسلامية واستجدّت أحداث جديدة طارئة كان يعجز عنها
الخليفة الجديد وكلّ من معه من الصحابة ، ولم يكن يجد لها حلولاً إلاّ ممّن عصمه
الله عن الذنب والخطأ ، ولذا كان عمر يقف متصاغراً أمام أمير المؤمنين ويحترم
رأيه ويمضي حكمه وقراره حتى روي عنه لأكثر من مرّة وفي أكثر من موقف حرج قوله :
لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن (اُسد
الغابة 4 / 22 ، وتهذيب التهذيب : 7 / 296 ، وتاريخ دمشق : 3 / 39 حديث 1071 ،
والرياض النضرة : 2 / 197 ، وكنز العمال : 5 / 832 .) . فقد روي أنّ عمر أراد أن يرجم امرأةً مجنونةً اُتّهمت بالزنا
، فردّ الإمام عليّ (عليه السلام) قضاء عمر . وذكّره بحديث رسول الله (صلّى الله
عليه وآله) : (رفع القلم عن ثلاث : عن المجنون حتى
يبرأ ، وعن النائم حتى يستيقظ ، وعن الصبيّ حتى يعقل) حينذاك قال عمر :
لو لا عليّ لهلك عمر (تذكرة الخواص : 87 ، وكفاية
الطالب : 96 ، وفضائل الخمسة من الصحاح الستة : 2 / 309 .)
. |
|
ملامح من سيرة عمر:
|
|
راجع النص والاجتهاد للسيد شرف الدين : 148 . 1 ـ الشدّة والقسوة في التعامل مع الناس ، وفرض السلطان
بالعنف والقوة ، فخافه القريب والبعيد ، وكان من شدته أنّ امرأةً جاءت تسأله عن
أمر وكانت حاملاً ولشدّة خوفها منه أجهضت حملها . وقصّته مع جبلّة وعنفه معه
ممّا سبب ارتداد جبلّة وهروبه إلى بلاد الروم (الطبقات
الكبرى : 3 / 285 ، وتأريخ الطبري : 3 / 291 ، والعقد الفريد : 2 / 56 .) . 2 ـ عدم مساواته في العطاء بين المسلمين ، فقد ميّز بينهم
على أساس غير مشروع من النبيّ (صلّى الله عليه وآله) ولا موجّه في القرآن ، بل
على أساس عصبي (تأريخ الطبري : 3 / 291 و
292 .) ، وكان من آثاره أن ظهرت الطبقية في
العهود التي تلته ، فنشط النسّابون لتدوين الأنساب وتصنيف القبائل بحسب اُصولها
ممّا أدّى إلى حنق الموالي على العرب وكراهيتهم لهم والتفتيش عم مثالبهم ، وقد
خالف بذلك سيرة الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله) وسيرة صاحبه أبي بكر أيضاً
. وندم عمر على تصرّفه هذا في آخر فترة حكمه حينما رأى الثراء
الفاحش عند كثير من الصحابة ، ولم تطب به نفسه ، وإنّما راح يقول : لو استقبلت
من الأمر ما استدبرت لأخذت من الأغنياء فضول أموالهم فرددتها على الفقراء (شرح
النهج : 9 م 29 .) . 3 ـ عدم الدقّة والموضوعية في اختيار العمّال والولاة على
أسس إسلاميّة تخدم مشروع الحكومة الإسلامية وتحافظ على كيان الأمة ، فإنّه
استعمل مَنْ عُرف بالفساد وعدم الإخلاص للدين ، وأصرّ بموقفه هذا على إبعاد كلّ
ما يمتّ إلى الخلافة بصلة ، عن الإمام عليّ (عليه السلام) والصحابة الأجلاّء
الذين وقفوا معه (شيخ المضيرة أبو هريرة : 84
.) . 4 ـ استثناء معاوية من المحاسبة والمراقبة التي كان يشدّدها
على ولاته ، وتركه على هواه يعمل ما يشاء لسنين طويلة ، ممّا أعان معاوية على
طغيانه واستقلاله بالشام في عهد عثمان ، كما اُثر عنه قوله في توجيه تصرفات
معاوية : إنه كسرى العرب (المستدرك على الصحيحين : 4 /
479 ، وكنز العمال : 6/39.) . إذا كانت السقيفة وبيعة أبي بكر فلتة وقى الله المسلمين شرها
ـ كما قال عمر ـ ؛ فإنّ الشورى أشدّ فتنةً وأكبر
انحرافاً عن مسير الرسالة الإسلامية ، فقد امتُحن المسلمون فيها امتحاناً عسيراً
، وزرعت لهم الفتن والمصاعب وجلبت لهم الويلات والخطوب ، وألقتهم في شرّ عظيم ،
إذ تبيّن التآمر علناً لإقصاء الإمام عليٍّ عن الحكم وتسليم زمام الأمة
الإسلامية بيد المنحرفين من دون واعز من الضمير أو حرص على المصير . |
|
محنة الشورى :
|
|
فلمّا يئس عمر من حياته وأيقن برحيله عن الدنيا أثر الطعنات
التي أصابته قيل له : استخلف علينا ، قال : والله لا أحملكم حيّاً وميّتاً ، ثمّ
قال : إن أستخلف فقد استخلف من هو خير منّي ـ يعني أبا بكر ـ وإن اَدَع من هو
خير منّي ـ يعني النبيّ (ص) ـ (الإمامة والسياسة : 41 . قد
عرفت سابقاً أنّ النبي (ص) لم يدع ... وقد عيّن خليفته مراراً كيوم الإنذار
لعشيرته الأقربين وغدير خم وغيرهما .) ، ثمّ أبدى أسفه وحسرته على بعض من
شاركه مسيرته للخلافة فقال : لو كان أبو عبيدة حيّاً لاستخلفته لأنّه أمين هذه
الأمة ، ولو كان سالم مولى أبي حذيفة حيّاً لاستخلفته لأنّه شديد الحبّ لله ،
فقيل له : يا أمير المؤمنين لو عهدت عهداً . قال : قد كنت أجمعت بعد مقالتي لكم أن أنظر فأُولّي رجلاً
أمركم هو أحراكم أن يحملكم على الحقّ ـ وأشار إلى الإمام عليّ (عليه السلام) ـ
ورهقتني غشية فرأيت رجلاً دخل جنّة قد غرسها ، فجعل يقطف كلّ غضّة ويانعة فيضمّه
إليه ويصير تحته ، فعلمت أنّ الله غالب أمره ، ومتوفّ عمر ، فما أريد أن أتحمّلها حيّاً وميّتاً عليكم هؤلاء الرهط الذين
قال رسول الله (ص) عنهم : إنّهم من أهل الجنّة ، وهم : عليّ وعثمان وعبد
الرحمن وسعد والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله ، فليختاروا منهم رجلاً ،
فإذا ولّوا والياً فأحسنوا مؤازرته وأعينوه (تأريخ
الطبري : 3 / 293 ط مؤسسة الأعلمي ، الكامل في التأريخ : 3 / 66 .) ، وأمرهم أن يحبس هؤلاء الستّة حتى
يولّوا أحدهم خلال أيام ثلاثة وأن يضرب عنق المخالف لاتّفاق الأغلبية أو الجناح
المخالف للذي فيه عبد الرحمن بن عوف ، وأن يصلّي صهيب بالناس ثلاثة أيام حتى
تجتمع الأمة على خليفة ، وطلب أن يحضر شيوخ الأنصار وليس لهم من الأمر شيء(تاريخ
الطبري : 3 / 294 ط مؤسسة الأعلمي ، طبقات ابن سعد : 3 / 261 ، والإمامة
والسياسة : 42 ، والكامل في التأريخ : 3 / 68.) وحين اجتمع أعضاء الشورى لدى عمر ، وجّه إليهم انتقادات
لاذعة لا تدلّ على وضوح توجّه صحيح أو ارشاد إلى انتخاب يعين الأمة في أزمتها ،
فقال : والله ما يمنعني أن استخلفك يا سعد إلاّ شدّتك وغلظتك مع أنّك رجل حرب ،
وما يمنعني منك يا عبد الرحمن إلاّ أنّك فرعون هذه الأمة ، وما يمنعني منك يا
زبير إلاّ أنّك مؤمن الرضا كافر الغضب . وما يمنعني من طلحة إلاّ نخوته وكبره (كيف
هم يدخلون الجنة ـ حسب نقل عمر عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله) ـ مع أنّ عبد
الرحمن فرعون هذه الأمة وطلحة صاحب الكبر والنخوة والزبير مؤمن الرضا كافر الغضب
؟!) ، ولو وليها وضع خاتمه في إصبع
امرأته . وما يمنعني منك يا عثمان إلاّ عصبيتك وحبّك قومك وأهلك . وما يمنعني
منك يا عليّ إلاّ حرصك عليها ، وإنّك أحرى القوم إن وليتها أن تقيم على الحقّ
المبين والصراط المستقيم (الإمامة والسياسة : 43 .) . |
|
مؤاخذات على الشورى :
|
|
نظام الشورى الذي وضعه عمر كان عارياً عن الصحّة والصواب
يحمل التناقض بين خطواته ، فإنّنا نلاحظ فيه أُموراً
يبعده عن الدقّة والموضوعية : 1 ـ إنّ الأعضاء المقترحين للشورى لم يحصلوا على هذا
الامتياز بالأفضلية وفق ضوابط الانتخاب حيث لم تشترك القواعد الشعبية في الترشيح
والانتخاب ، وإطلاق كلمة الشورى على هذا النظام جزاف ، لأنّه لم يكن إلاّ ترشيح
فرد لجماعة وفرضهم على الأمة ومن ثَمّ أمر باجتماعهم تحت التهديد بالقتل والسلاح
حتى يختاروا أحدهم . 2 ـ عناصر الشورى متنافرة في تركيب شخصياتها وأفكارها ، ولا
يمثّل كلّ فرد فيهم إلاّ رأيه الشخصي ، فكيف يمكن أن يعبّر عن رأي الأمة ؟ وقد
نشب الخلاف فيما بينهم من بعد الشورى ممّا فرّق شمل المسلمين (أنساب
الأشراف : 5 / 57 ، وتذكرة الخواص : 57 ، والنص والاجتهاد : 168 .) . 3 ـ الاستهانة بالأنصار ودورهم ، فقد طلب عمر حضورهم ولا شيء
لهم بل ولا رأي ، فالأمر منحصر في الستّة فما معنى حضور الأنصار ؟ بل إنّ عمر
استهان بالأمة كلّها حين تمنّى حياة سالم وأبي عبيدة . 4 ـ إنّ عمر ناقض نفسه في عمليّة اختيار العناصر ، ففي
السقيفة كان يدّعي ويصرّ على أنّ الخلافة في قريش ، بينما نجده في هذا الموقف
يتمنّى حياة سالم مولى أبي حذيفة ليوليه الأمر ، كما أنّه استدعى أصحاب الشورى
دون غيرهم من الصحابة بدعوى أنّ الرسول (صلّى الله عليه وآله) مات وهو راضٍ عنهم
أو أنّهم من أهل الجنّة ، ولكنّه نسب اليهم عيوباً لا تجتمع مع الرضا عنهم
ويتنزّه عنها أهل الجنة . ثم إنّه أمر صهيباً أن يصلّي بالناس ثلاثة أيام ، لأنّ
إمامة المصلّين لا ترتبط بالخلافة ولا تستلزمها ، وقد كان يناضل يوم السقيفة من
أجل استخلاف أبي بكر ، وكات صلاته المزعومة دليله الأول على أهليّة أبي بكر
للخلافة . 5 ـ إنّه أراد أن يستخلف عليّاً (عليه السلام) لأنّه سيحمل
الأمة على النهج القويم والمحجّة البيضاء ، ولكنّه رأى في المنام ما رأى ، فأعرض
عن الإمام (ع) وكأنّه أراد بذلك التشويش على مكانة الإمام وأهليّته . 6 ـ إنّ عمر قال : أكره أن أتحمّلها ـ يقصد الخلافة ـ حيّاً
وميّتاً ، ولكنّه عاد فحدّد ستّة أشخاص من اُمّة كبيرة ، فأكّد بذلك نزعته في
الاستعلاء على الأمة وقدراتها . 7 ـ اختيار العناصر الستّة يبدو مبيّتاً بحيث يصل الأمر إلى
عثمان باحتمالية أكبر من وصولها إلى الإمام عليّ (عليه السلام) وهو العنصر
المؤهّل من الله ورسوله لخلافة الأمة ، فترشيح طلحة هو إثارة وتأكيد لأحقاد تيم
، لأنّ الإمام نافس وعارض أبا بكر في خلافته وها هو الآن ينافس مرشّحها الجديد
طلحة ، وترشيحه لعثمان تأكيد منه على أحقاد أمية وإثارة نزعة السلطان والوجاهة
لديها ، وأمّا ترشيحه لعبد الرحمن وسعد فهو فتح جبهة سياسية جديدة منافسة للإمام
عليّ (عليه السلام) فهما من بني زهرة ولهما نسب أيضاً مع بني أمية ، فسوف يكون
ميلهما لصالح عثمان لو تنافس مع الإمام (عليه السلام) . 8 ـ إنّه أمر بقتل أعضاء الشورى في حالة عدم التوصّل إلى
اتّفاق أو إبداء معارضة وإصرار ، وكيف يمكن التوفيق بين هذا وبين قوله : إنّ
النبيّ (صلّى الله عليه وآله) مات وهو راضٍ عنهم ؟ وهل تكون مخالفة رأي عمر
موجبة لقتل الصحابة (تاريخ الطبري : 3 / 293 ط
مؤسسة الأعلمي .) ؟ |
|
حوار ابن عباس مع عمر
حول الخلافة :
|
|
روي أنّ حواراً وقع بين عمر وابن عباس في شأن الخلافة . قال عمر : أما والله ، إنّ صاحبك لأولى الناس بالأمر بعد
رسول الله ، إلاّ أنّنا خفناه على اثنتين ، قال ابن عباس : فما هما يا أمير
المؤمنين ؟ قال عمر : خفناه على حداثة سنّه ، وحبّه بني عبد المطلب . وفي بعض مجالس عمر بن الخطاب وقد جلس إليه نفر منهم عبد الله
بن عباس ، فقال له عمر : أتدري يا ابن عباس ما منع الناس منكم ؟ قال ابن عباس :
لا يا أمير المؤمنين ، قال عمر : لكنّني أدري ، قال ابن عباس : فما هو ؟ قال عمر
: كرهت قريش أن تجتمع لكم النبوّة والخلافة ، فتجحفوا الناس جحفاً فنظرت لأنفسها
فاختارت ، ووفقت فأصابت . فردّ عليه ابن عباس : أيميط أمير المؤمنين عنّي غضبه ؟
فأمّنه عمر قائلاً : قل ما تشاء . فقال ابن عباس : أمّا قولك : إنّ قريشاً كرهت ... فإنّ الله
تعالى قال لقوم : (ذلِكَ بِأَنّهُمْ كَرِهُوا مَا
أَنزَلَ اللّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ) (محمد
(47) : 9 .) . وأمّا قولك : إنّا كنّا نجحف ... فلو جحفنا بالخلافة
جحفنا بالقرابة ، ولكنّا قوم أخلاقنا من خلق رسول الله (ص) الذي قال ربّه فيه :
(وَإِنّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم
(68) : 4 .) وقال له : (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتّبَعَكَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ)
(الشعراء
(26) : 215 .) . وأمّا قولك : إنّ قريشاً اختارت ... فإنّ الله تعالى يقول
: (وَرَبّكَ
يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) (القصص
(28) : 68 .) ، وقد علمت يا أمير المؤمنين أنّ الله اختار من خلقه من
اختار ، فلو نظرت قريش حيث نظر الله لوفّقت وأصابت . فتفكّر عمر هُنيئة ثمّ قال (وقد
آذاه من ابن عباس هذا الحديث الصريح) : على رسلك يا ابن عباس ، أبت
قلوبكم يا بني هاشم إلاّ غشّاً في أمر قريش لا يزول ، وحقداً عليها لا يحول . قال ابن عباس : مهلاً يا أمير المؤمنين ، لا تنسب قلوب بني هاشم إلى الغش ،
فهي من قلب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الذي طهّره وزكّاه ، وإنّهم لأهل
البيت الذين قال لهم الله : (إِنّمَا يُرِيدُ اللّهُ
لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً) (الأحزاب
(33) : 33 .) . ثمّ قال ابن عباس : وأمّا الحقد فكيف لا يحقد من غُصب
شيئه ويراه في يد غيره ؟ فغضب عمر وصاح ـ وقد حضره في هذه الآونة أمر كان يكتمه
ـ ما أنت يا ابن عباس ! إنّي قد بلغني عنك كلام أكره أن أخبرك به فتزول منزلتك
عندي . قال ابن عباس : وما هو يا أمير المؤمنين ؟ أخبرني به فإن يك
باطلاً فمثلي أماط الباطل عن نفسه ، وإن يك حقّاً فإنّ منزلتي عندك لا تزول به . قال عمر : بلغني أنّك لا تزال تقول : اُخذ هذا الأمر منّا
حسداً وظلماً . فلم ينكص ابن عباس ولم يتزحزح عن مواطئ قدميه ، بل قال : نعم
حسداً وقد حسد إبليس آدم فأخرجه من الجنة ، ونعم ظلماً وإنّك لتعلم يا أمير
المؤمنين صاحب الحقّ من هو .. يا امير المؤمنين ، ألم تحتجّ العرب على العجم
بحقّ رسول الله واحتجّت قريش على سائر العرب بحقّ رسول الله ؟ فنحن أحقّ برسول
الله من سائر قريش وغيرها . فقال عمر : إليك عنّي يا ابن عباس ، فلما رآه عمر قائماً
يريد أن يبرح خشي أن يكون قد أساء إليه فأسرع يقول متلطّفاً به : أيّها المنصرف
! إنّي على ما كان منك لراعٍ حَقَّكَ . فالتفت ابن عباس إليه وهو يقول ولم يزايله جدّه : إنّ لي عليك يا أمير
المؤمنين وعلى كلّ المسلمين حقّاً برسول الله ، فمن حفظه فحقّ نفسه حفظ ، ومن
أضاعه فحقّ نفسه أضاع (تأريخ الطبري : 3 / 289 و
290 ط مؤسسة الأعلمي .) . |
|
موقف الإمام (عليه
السلام) من الشورى :
|
|
أَلمَّ الحزن والأسى بقلب الإمام عليّ (عليه السلام) ،
وساورته الشكوك والمخاوف من موقف عمر وترشيحه ، فأيقن أنّ في الأمر مكيدةً دبّرت
لإقصائه عن الخلافة وحرف الحكومة الإسلامية عن مسارها الصحيح ، وما إن خرج
الإمام (عليه السلام) من عند عمر ؛ حتى تلقّاه عمّه العباس فبادره قائلاً : يا عمّ ، لقد عُدِلَتْ عنّا ، فقال العباس : من أعلمك بذلك ،
فقال عليّ (عليه السلام) : قُرن بي عثمان ، وقال عمر : كونوا مع الأكثر ، فإن
رضي رجلان رجلاً ورجلان رجلاً فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف ، فسعد لا
يخالف ابن عمّه عبد الرحمن وعبد الرحمن صهر عثمان لا يختلفون ، فيوليها عبد
الرحمن عثمان أو يوليها عثمان عبد الرحمن ، فلو كان الآخران معي لم ينفعاني (المصدر
السابق : 5 / 226 .) . وصدق تفرّس الإمام (عليه السلام) فقد آلت الخلافة إلى عثمان
بتواطؤ عبد الرحمن ، فقد روي أنّ سعداً وهب حقّه في الشورى لابن عمّه عبد الرحمن
، ومال طلحة لعثمان فوهب له حقّه ، ولم يبق إلاّ الزبير فتنازل عن حقّ لصالح
الإمام (عليه السلام) ، وهنا عرض عبد الرحمن أن يختار الإمام أو عثمان فقال عمار
: إن أردت ألاّ يختلف المسلمون فبايع عليّاً ، فردّ عليه ابن أبي سرح : إن أردت
ألاّ تختلف قريش فبايع عثمان . فتأكّد التوجّه غير السليم للخلافة وبدت أعراض
الانحراف واضحة جلية تؤجّجها نار العصبية . فعرض عبد الرحمن بيعته بشرط السير على كتاب الله وسنّة نبيّه
(صلّى الله عليه وآله) وسيرة الشيخين ، فرفض الإمام سيرة الشيخين وقبلها عثمان
فتمّت له البيعة ، فقال عليّ (ع) لعبد الرحمن : (حبوته حبو دهره ، ليس هذا أوّل يوم تظاهرتم فيه علينا ،
فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون) (تاريخ
الطبري : 3 / 297 ط مؤسسة الأعلمي .) . (والله ما فعلتها إلاّ
لأنّك رجوت منه ما رجا صاحبكما من صاحبه ، دقَّ الله بينكما عطر منشم) (شرح
نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 1 / 188 .) . ثمّ التفت (ع) إلى الناس
ليوضّح لهم خطأهم المتكرّر في الاستخلاف ورأيه في مصير الرسالة الإسلامية فقال : (أيّها الناس ! لقد علمتم
أنّي أحقّ بهذا الأمر من غيري ، أما وقد انتهى الأمر إلى ما ترون ، فو الله
لأُسالمنّ ما سَلِمَتْ أمور المسلمين ، ولم يكن فيها جور إلاّ عليّ خاصة ، التماساً
لأجرِ ذلك وفضلِه ، وزهداً فيما تنافَسْتُموه من زُخرفه وزِبْرجه)
(نهج البلاغة : الخطبة رقم
74 ، طبعة صبحي الصالح .) . إنّ الإمام (عليه السلام) دخل مع الباقين في الشورى وهو يعلم
بما ستؤول إليه ، محاولة منه لإظهار تناقض عمر ومن سار على نهجه عند وفاة النبيّ
(صلّى الله عليه وآله) حين كان يرى أنّه لا تجتمع الخلافة والنبوّة في بيت واحد
، أمّا الآن فقد رشّح الإمام (عليه السلام) للخلافة . روي عن أمير المؤمنين : (ولكنّي أدخل معهم في الشورى لأنّ
عمر قد أهَّلني الآن للخلافة ، وكان قبل ذلك يقول : إنّ رسول الله (صلّى الله
عليه وآله) قال : إنَّ النبوّة والإمامة لا يجتمعان في بيت ، فأنا أدخل في ذلك
لأظهر للناس مناقضة فعله لروايته) (شرح النهج لابن أبي الحديد
: 1 / 186 .) . وبايع الإمام (عليه السلام) عثمان بن عفّان سعياً منه أن
يصلح الأُمة ويوجّهها ، وأن يحافظ على كيانها ، فلم يبخل على الأُمة بالنصيحة
والهداية والتربية ، فإن أبعدت الخلافة عنه (عليه السلام) فإنّه لم يدّخر وسعاً
إلاّ وبذله يوضّح الحقّ ويُرشد إليه ، ويهدي السبيل الصحيح ويُدلّ عليه ، ويعين
الحاكم حين يعجز ، ويعلّمه إذ يجهل ، ويردعه إذ يطيش. لماذا لم يوافق الإمام (عليه السلام) على شرط عبد الرحمن بن
عوف ؟ لم يقف الإمام عليّ (عليه السلام) موقف المعارض للخليفتين
لمصلحة خاصّة أو غاية شخصية ، إنّما لصالح الدين والأمة والعقيدة الإسلامية ،
مبتعداً عن الأهواء والرغبات ، مستنداً على القرآن والسنّة في كلّ مواقفه ،
حريصاً على الموضوعية والرسالية في كل قرار يتّخذه وهو الراعي لشؤون الرسالة
والأمة في غياب الرّسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) ، لئلاّ يشوب الرسالة
الإسلامية شيء يحيد بها عمّا نزلت من أجله . وموقفه من رفض البيعة بشرط سيرة الشيخين نابع من هذا المنطلق
، فلا يوجد في أصل العقيدة شيء يصحّ أن يسمّى بسيرة الشيخين ، وإنّما هناك
القرآن والسنّة النبوية ، فلو أنّ الإمام وافق بهذا الشرط ؛ لكان معناه إمضاء
سيرة الشيخين كالسنّة النبويّة ، وإنّ في سيرة الشيخين أنواع التناقض والتفاوت
فيما بينهما معاً ، بل فيما بينهما وبين القرآن والسنّة النبويّة الشريفة . ثمّ إنّ الإمام (ع) يرى أنّ دوره دور المربي بعد النبيّ (صلّى
الله عليه وآله) في هذه الأُمة ، فلم يكن من شأنه أن يوافق على أن يسير بسيرة
الشيخين ثم يخالفها كما فعل عثمان حيث رضي بهذا الشرط ولكنّه لم يفِ به . |
|
الفصل الرابع:
|
|
الإمام علي (عليه السلام) في عهد عثمان
|
|
استخلاف عثمان بن
عفان في ذي الحجّة سنة (23) هـ .
|
|
قال أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) واصفاً عهد عثمان : (إلى أن قام ثالثُ القوم نافجاً حضنيه بين
نَثيله ومعتلَفِه ، وقام معه بنو أبيه يخضَمون مال الله خِضْمَةَ الإبل نِبْتَةَ
الربيع ، إلى أن انتكث عليه فتلُه ، وأجهز عليه عملُه ، وكبَتْ به بِطْنَتُهُ) (نهج البلاغة : من الخطبة الشقشقية .) . لم يكن عثمان كسابقيه سياسياً ماكراً يدير شؤونه بدقّة ، فما
أن فرضه ابن عوف خليفة للمسلمين وجاءوا به يزفّونه إلى مسجد رسول الله (ص) ليعلن
سياسة حكومته الجديدة وما أعدّ من مواقف لمستجدات الأمور ؛ صعد على المنبر فجلس
في الموضع الذي كان يجلس فيه رسول الله (ص) ، ولم يجلس فيه أبو بكر ولا عمر ، إذ
كان أبو بكر يجلس دونه بمرقاة ، وعمر كان يجلس دونه أيضاً بمرقاة ، وتكلّم الناس
في ذلك فقال بعضهم : اليوم ولد الشرّ (تاريخ اليعقوبي : 2 / 163 ، والبداية والنهاية
: 7 / 166 ن وتأريخ الخلفاء : 162 .) . ولم يستطع أن يتكلّم ، فقال : أمّا بعد ، فإنّ أول مركب صعب
، وما كنا خطباء ، وسيعلم الله وإنّ أمراً ليس بينه وبين آدم إلاّ أب ميّت
لموعوظ (راجع الموفقيات : 2 / 2 .) . وقال اليعقوبي : فقام مليّاً لا يتكلّم ثم قال : إن أبا بكر
وعمر كانا يعدّان لهذا المقام مقالاً وأنتم إمام عادل أحوج منكم إلى إمام يشقّق
الخطب وإن تعيشوا فسيأتيكم الخطْب ، ثم نزل (تاريخ اليعقوبي : 2 / 163 .) . استهلّ عثمان أعماله بأمور جعلت عامّة المسلمين ينقمون عليه
سوى أفراد عشيرته ـ بني أُمية ـ فقد جاهر بقبيلته وأظهر ميله لقوم معلناً
أمويَّته ، فأخذ يسوّدهم ويرفعهم فوق رقاب الناس ، فوزّع مناصب الولاية على بني
أُمية وسلّم إليهم مقاليد الأمور يعبثون بلا رادع لهم . وقد تجاوز عثمان حدود سياسة سلطة العشير التي رسمها أبو بكر
وعمر ، وحصر المناصب والمهامّ الرسمية ضمن دائرة ضيّقة هي بني أُمية . ولم يعبأ بنصح وتحذير الصحابة وعلى رأسهم أمير المؤمنين
(عليه السلام) ، فإنّ عثمان وصل إلى الحكم وقد استفحل التوجّه القبلي في مقابل
النهج الصحيح للحكومة الإسلامية ، وقد ضعف دور العناصر الصالحة في تغيير سياسة
الحاكم مباشرة ، فقد كان لسياسة أبي بكر وعمر من إبعاد أمير
المؤمنين (ع) عن الحكم واعتمادهم على آرائهم الأثرُ الكبيرُ في انحراف
خطّ السلطة الحاكمة وظهور التيار المعادي لخطّ أهل
البيت (ع) ، لذا فليس من السهل أن ينصاع الخليفة الجديد للنصح وحوله تيار
المنافقين والطلقاء وذوو المصالح . |
|
أبو سفيان بعد بيعة
عثمان :
|
|
بعد أن تمّت بيعة عثمان ؛ أقبل أبو سفيان إلى دار عثمان بن
عفان وقد غصّت بأهله وأعوانه تسودهم نشوة النصر والفوز بالحكم ، وقد بدت على
ملامحه علامات الفرح والسرور ، تعلو شدقه بسمة حقود شامت ، ففي الأفق تلوح بوادر
الاستعلاء بعدما أذلّ كبرياءَهم الإسلام ، فأدار وجهه يميناً وشمالاً قائلاً
للحاضرين المجتمعين في دار عثمان : أفيكم أحد من غيركم ؟ فأجابوه بالنفي فقال :
يا بني أُمية ! تلقّفوها تلقّف الكرة ، فو الذي يحلف به أبو سفيان ما من جنّةٍ
ولا نارٍ ، ولا حسابٍ ولا عقابٍ ... ولقد كنت أرجوها لكم ، ولتصيرنّ إلى صبيانكم
وراثة (مروج الذهب : 1 / 440 .) . ثمّ سار إلى قبر سيّد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ، فوقف على
القبر وركله برجله وقال : يا أبا عمارة ! إنّ الأمر الذي اجتلدنا عليه بالسيف
أمسى في يد غلماننا يتلعّبون به (راجع الغدير : 8 / 278 ، والاستيعاب : 2 / 690 ، وتأريخ ابن عساكر : 6 / 407
، والأغاني : 6 / 335 .) . |
|
ملامح سلبيّة في حكم
عثمان :
|
|
تعايش الإمام عليّ (عليه السلام) مع أبي بكر وعمر ، ولم يظهر
معارضته العلنية لهما ، فقد كان الانحراف في مسيرة الحكومة الإسلامية مستتراً ،
وكان الإمام (عليه السلام) يتدخّل في أحيان كثيرة لإصلاح موقف الخليفة الخاطئ
فيستجيب له ، ولم يخشَ أبو بكر وعمر من الإمام (عليه السلام) إلاّ لكونه الممثّل
الشرعي للأمة وصاحب الحقّ في الخلافة وقائداً لتيار المعارضة الذي يضمّ أجلاّء
الصحابة ، ولكنّ الإمام تنازل عن حقّه في الخلافة فأمّن القوم من جانبه ، ولكنه
لم يتنازل عن المبدأ الذي ورثه عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بكونه
المراقب والمحافظ للعقيدة الإسلامية . أمّا في فترة حكم عثمان فقد استشرى الفساد ودبَّ في أجهزة
الدولة بصورة علنية مكشوفة ، وانتقلت العدوى إلى فئات المجتمع الإسلامي ، فوقف
الإمام معلناً رفضه واستنكاره على عثمان بصورة علنية ، ووقف معه الصحابة
الأجلاّء أمثال عمّار بن ياسر وأبي ذر ، بل حتّى الذين وقفوا موقف المعارض
لخلافة الإمام (عليه السلام) لم يرضوا على عثمان سوء إدارته وفساد حكومته ،
ويمكن لنا أن نجمل طبيعة حكم عثمان وملامحه فيما يلي : إن عثمان وصل إلى الحكم وقد تجاوز السبعين عاماً ، وكان
وصولاً لأرحامه ولوعاً بحبّهم وإيثارهم ، فقد روي عنه قوله : لو أن بيدي مفاتيح
الجنّة لأعطيتها بني أُمية حتى يدخلوا من عند آخرهم . كما أنّ عثمان عاش غنيّاً
مترفاً قبل الإسلام ، وظلّ على غناه في الإسلام ، فلم يكن ليتحسّس معاناة
الفقراء وآلام المحرومين ، فكانت شخصيته مزدوجة في التعامل مع الجماهير المحرومة
التي تطالبه بالعدل والسوية ، فيعاملها بالشدّة والقسوة ، كما في تعامله مع عبد
الله بن مسعود وعمار بن ياسر وأبي ذر وغيرهم . وأمّا من جهة أقربائه وقلّدهم الأمور ، فاستعمل الوليد بن
عقبة ابن أبي معيط على الكوفة وهو ممّن أخبر النبيّ (صلّى الله عليه وآله) أنّه
من أهل النار ، وعبد الله ابن أبي سرح على مصر ، ومعاوية بن أبي سفيان على الشام
، وعبد الله بن عامر على البصرة ، وصرف الوليد بن عقبة عن الكوفة وولاّها سعيد
بن العاص (تأريخ اليعقوبي : 2 / 160 وتأريخ الطبري : 3 / 445 ط مؤسسة الأعلمي ، وأنساب
الأشراف للبلاذري : 5 / 49 ، وحلية الأولياء : 1 / 156 ، وشيخ المضيرة أبو هريرة
: 166 ، والغدير : 8 / 238 ـ 286 والنص والاجتهاد : 399 .) . وكان عثمان ضعيفاً أمام مروان بن الحكم ، يسمع كلامه وينفّذ
رغباته ، حتى أنّه عندما تألّبت الأمصار على عثمان وتأزّمت الأوضاع ؛ تدخّل
الإمام ليهدّئ الحالة ويرجع الثائرين ـ الذين جاءوا يطالبون بإصلاح السياسة
الإدارية والمالية وتبديل الولاة ـ إلى بلدانهم ، وأخذ من عثمان شرطاً أن لا
يطيع مروان بن الحكم وسعيد بن العاص . ولكن بمجرد أن هدأت الأوضاع ؛ عاد مروان وحرّض عثمان على أن
يخرج وينال من الثوار ، فخرج إليه الإمام عليّ (عليه السلام) مغضباً فقال : (أما رضيت من مروان ولا رضي منك إلاّ بتحرفك عن دينك وعن
عقلك مثل جمل الضعينة يُقاد حيث يُسار به ، والله ما
مروان بذي رأي في دينه ولا نفسه)
(الطبري : 3 / 397 ط مؤسسة الأعلمي .) ؟ وفي موقف آخر مع الوليد بن عقبة أنّ الخليفة عثمان غضب على الشهود
الذين شهدوا على الوليد بشربه الخمر ودفعهم ، وهنا تدخّل الإمام وهدّد عثمان من
عواقب الأمور ، فأمره الإمام (عليه السلام) باستدعاء الوليد ومحاكمته وإقامة
الحد عليه ، وحين اُحضر الوليد وثبتت عليه شهادة الشهود ؛ أقام الإمام (عليه
السلام) عليه الحدّ ممّا أغضب عثمان ، فقال للإمام : ليس لك أن تفعل به هذا ،
فأجابه الإمام بمنطق الحقّ والشرع قائلاً : (بل
وشرّ من هذا إذا فسق ومنع حقّ الله أن يؤخذ منه) (مروج الذهب : 2 / 225 .) . وأمّا سياسة عثمان المالية فقد كانت امتداداً لسياسة عمر من
إيجاد الطبقية وتقديم بعض الناس على بعض في العطاء ، إلاّ أنّها أكثر فساداً من
سياسة سابقه ، فقد أثرى بني أميّة ثراءً فاحشاً ، وحين اعترض عليه خازن بيت
المال قال له : إنّما أنت خازن لنا ، فإذا أعطيناك فخذ وإذا سكتنا عنك فاسكت ،
فقال : والله ما أنا لك بخازن ولا لأهل بيتك ، إنّما أنا خازن للمسلمين .. وجاء
يوم الجمعة وعثمان يخطب فقال : أيّها الناس ! زعم عثمان أنّي خازن له ولأهل بيته
، وإنّما كنت خازناً للمسلمين ، وهذه مفاتيح بيت مالكم ، ورمى بها (الطبقات لابن سعد : 5 / 388 ، وتاريخ اليعقوبي
: 2 / 153 ، وأنساب الأشراف : 5 / 58 ، والمعارف لابن قتيبة : ص 84 ، وشيخ
المضيرة أبو هريرة : 169 ، والغدير : 8 / 276 .) . |
|
موقف للإمام علي
(عليه السلام) مع عثمان :
|
|
نقم المسلمون على عثمان ، وتصلّب خيار الصحابة في مواقفهم
تجاه انحراف الخليفة وجهازه الحاكم ، وفي قبال ذلك أمعن عثمان بالتنكيل
بالمعارضين والمندّدين بسياسته المنحرفة ، وبالغ في ذلك دون أن يرعوي لصحابة
رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، فمن ذلك أنّ أبا ذر الصحابيّ الجليل أكثَرَ
من اعتراضه على مساوئ عثمان ، فسيّره إلى الشام ، ولم يطق معاوية وجوده فأرجعه
إلى المدينة ، واستمرّ أبو ذر بجهاده وإنكاره السياسة الأموية ، فضاق عثمان به
ذرعاً فقرّر نفيه إلى الربذة ومنع الناس من توديعه . ولكنّ الإمام عليّاً (عليه السلام) خفّ لتوديعه ومعه الحسنان
وعقيل وعبد الله بن جعفر ، فاعترضهم مروان بن الحكم ليردّهم ، فثار الإمام عليّ
(عليه السلام) فحمل على مروان ، وضرب أذني دابته وصاح به : تنحَّ نحّاك
الله إلى النار (مروج الذهب : 2 / 350 .) ، ووقف الإمام عليّ (عليه السلام) مودّعاً أبا ذر فقال له :
(يا
أبا ذر ! إنّك غضبت لله فَارْجُ من غضبت له ، إنّ القوم خافوك على دنياهم ،
وخفتهم على دينك ، فاترك في أيديهم ما خافوك عليه ، واهرب بما خفتهم عليه ، فما
أحوجهم إلى ما منعتهم ! وما أغناك عمّا منعوك ! وستعلم مَن الرابح غداً والأكثر
حسداً !) (شرح النهج : 3 / 54 ، وذكر ذلك أبو بكر أحمد بن
عبد العزيز في كتابه السقيفة ، وأعيان الشيعة : 3 / 336 .) . فلمّا رجع عليّ (ع) من توديع
أبي ذر ؛ استقبله الناس فقالوا له : إنّ عثمان عليك غضبان ، فقال عليّ (ع) : (غضب الخيل على اللجم) . |
|
الآثار السلبية
لحكومة عثمان في الأُمة :
|
|
كانت حكومة عثمان استمراراً للخطّ السياسي الحاكم غير الواعي
لمحتوى الرسالة سلوكاً ومعتقداً ، فتركت آثارها السيّئة على مسيرة الحكومة
الإسلامية والأمة ككل ، وأضافت مثالب ومطاعن في وضوح الرسالة الإسلامية لدى
الجماهير الإسلامية التي لم تعش مع القائد المعصوم ـ النبيّ (صلّى الله عليه
وآله) ـ سوى عقد واحد رأته فيها حاكماً ومربيّاً ، واشتعلت نار الفتن في أطراف
البلاد الإسلامية والتي جرّت على المسلمين الويلات والملمّات ، فإنّنا من خلال
سبرنا أغوار التأريخ نستنتج ما يلي . 1 ـ إنّ حكومة عثمان ابتعدت عن نهج الشريعة الإسلامية ،
فعطّلت الحدود وأشاعت الفساد وتهاونت في محاسبة المسؤولين عن ذلك ، وهذا ما فسح
المجال لشيوع الفوضى في السلوك الاجتماعي وبثّ روح التمرّد على القانون . وكان
من مظاهر الفساد شيوع الاستهتار والاستخفاف بالقيم والأحكام الإسلامية ، فنجد
أنّ بيوت الولاة والشخصيّات المتنفّذة تعجّ بحفلات الغناء ومجالس الخمرة (الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني : 7 / 179 .)
. 2 ـ ركّزت حكومة عثمان على روح العصبية القبلية التي شرّعها
أبو بكر في نهجه السياسي القبلي ، فتوضّح في بروز سلطة بني أُمية كاُسرة لها
سلطتها على جميع مرافق الدولة لا لشيء سوى أنّها ترى لنفسها السيادة الملطقة
التي انتزعها الإسلام منها ، لأنّها ليس لها أساس شرعي، وأصبح بنو أُمية جبهة
سياسية قويّة لها توجّهها المناوئ للإسلام وخصوصاً لخطّ آل البيت (عليهم السلام)
فأصبحوا فيما بعد العقبة الرئيسة أمام حكم الإمام عليّ (عليه السلام) ، حيث
تكتّلوا حول معاوية بن أبي سفيان في مواجهة الإمام عليّ (عليه السلام) . 3 ـ اعتبرت حكومة عثمان أنّ الحكم حقّ موهوب لهم ولا يحقّ
لأحد انتزاعه ، واتخذوه وسيلةً لإرضاء رغباتهم المنحرفة وشهواتهم الشيطانية ،
ولم تجعل من الحكم وسيلةً للإصلاح الاجتماعي ونشر الرّسالة الإسلامية في بقاع
الأرض (الطبقات الكبرى لابن سعد : 3 / 64 ، وتأريخ
الطبري : 5 / 341 ـ 346 .) ممّا شجّع الكثيرين في السعي للتسلّق إلى الحكم للتمتّع
بالسلطة والجاه ، فعمرو بن العاص ومعاوية وطلحة والزبير لم يكونوا ينشدون من
السعي للحكم أيّ هدف إنساني أو اجتماعي يعود بالنفع والمصلحة على الأُمة . 4 ـ خلقت حكومة عثمان طبقة كبيرة من الأثرياء (مروج الذهب : 2 / 342 .) تتضرّر مصالحها مع الحكومة القائمة
في مواجهةِ حكومة تطالب بتطبيق الحقّ والشرع ، ممّا أدّى إلى تحرّك قطعات
المسلمين الفقراء للمطالبة بالقوّة في إصلاح النظام المالي وتطوير الحياة
الاقتصادية وتنظيم الدخل الفردي . وحركة أبي ذرّ تجاه الفساد المالي للحكومة خير
شاهد ودليل على عمق تفشّي الفقر في أوساط الأُمة . 5 ـ إنّ استعمال العنف والقوّة والشدّة والقسوة في التعامل
مع المعترضين وإهانتهم ولّد ردّة فعل معاكسة للثورة على النظام القائم عسكرياً ،
وكان مقتل عثمان نقطة تحوّل في الصراعات الدائرة بين وجهات نظر المسلمين ، فعمل
السيف عمله في أفراد الأُمة وأجّجه وزاد فيه تعنّت بني أمية ومن والاهم على
تحدّي الحقّ ورغبة الأُمة في الإصلاح . وهذا ما فسح المجال أمام النفعيّين في الوصول إلى الحكم
بقوّة السيف بعد أن افترقت الأُمة الإسلامية في توجّهاتها السياسية ، كلّ فرقة
تريد الحكم لنفسها . 6 ـ خلّف مقتل عثمان فتنةً يتأجّج أوارها كلّ حين ، وشعاراً
يرفعه النفعيّون والخارجون على الطاعة والبيعة لإثارة المشاكل والحروب تجاه
حكومة شرعية جماهيرية بزعامة الإمام عليّ (ع) ،
وتكامل دور الفتنة والشقاق على يد معاوية فيما بعد ، فحارب الإمام (ع) وسالت دماء المسلمين كثيراً ، ثمّ حرّفوا
التوجّه الديني الصحيح إلى ثقافة مشبوهة يحرّكون بها المجتمع لغرض إدامة سلطانهم
الذي تحوّل إلى ملك متوارث ، يساعدهم على ذلك سعة الدولة الإسلامية الجديدة
ووجود فئات واسعة من المجتمع الإسلامي لم تفهم العقيدة الإلهية بوعي وبصيرة 7 ـ من نتائج الثورة على عثمان أن وجدت فئات مسلّحة من مختلف
الأقطار الإسلامية لا زالت تحيط بالمدينة تنتظر مصير الحكومة ، كما أنّ الأحداث
أثبتت وشجّعت على تحرّك الجماهير لتغيير الحكم بالقوّة ، وهذا يعتبر ورقةَ ضغطٍ
قويّةً تؤثّر على الحكم الجديد . |
|
الباب الرّابع
|
|
فيه فصول : الفصل الأوّل : الإمام عليّ (عليه السلام) بعد مقتل عثمان. الفصل الثاني : الإمام عليّ (عليه السلام) مع الناكثين. الفصل الثالث : الإمام عليّ (عليه السلام) مع القاسطين. الفصل الرابع : الإمام عليّ (عليه السلام) مع المارقين. الفصل الخامس : الإمام عليّ (عليه السلام) شهيد محراب. الفصل السادس : تراث الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام). |
|
الفصل الأول:
|
|
الإمام عليّ (عليه السلام) بعد مقتل عثمان
|
|
بيعة المسلمين للإمام
عليّ (عليه السلام) :
|
|
تمّت بيعة الإمام عليّ (عليه
السلام) في ذي الحجّة عام (35) هـ. سادت الفوضى أرجاء المدينة بعد مقتل عثمان ؛ فاتّجهت الأنظار
والآراء إلى الإمام عليّ (عليه السلام) لينقذ الأمة من محنتها وتخبّطها ، ولم
يتجرّأ أحد أن يدّعي أحقيّته بالخلافة التي تكتنف طريقها المشاكل المستعصية ،
كما أنّ الظرف السياسي لم يمهل عثمان أن يتّخذ قراراً بشأن الخلافة كما اتّخذ
صاحباه من قبل ، ولم يكن المتبقّي من أصحاب الشورى يملك مؤهّلات الخلافة أصلاً ،
فكيف وقد تعقّدت الأمور وتدهور وضع الدولة وكيانها ، ولابدّ أن يتزعّم الأمة
قائدٌ يملك القدرة للنهوض بالأمة بعد انحطاطها وقيادتها لاجتياز الأزمة وصيانتها
عن الضياع ، ولم يكن من شخص إلاّ الإمام عليّ (عليه السلام) راعيها وسيّدها . تحرّكت جماهير المسلمين بإصرار نحو الإمام عليّ (عليه
السلام) لتضغط عليه كي يقبل قيادتها ، ولكنّ الإمام (عليه السلام) استقبل
الجماهير المندفعة بوجوم وتردّد ، فقد حُرِم منها وهو صاحبها وجاءته بعد أن
امتلأت الساحة انحرافاً والأمة تردّياً ، وتجذّرت فيها مشاكل تستعصي دون النجاح
في المسيرة ، فقال لهم : (لا حاجة لي في أمركم أنا معكم فمن اخترتم رضيت به
فاختاروا)
(تاريخ
الطبري : 3 / 450 ط مؤسسة الأعلمي .) . وقال (عليه السلام) : (لا
تفعلوا فإنّي أكون وزيراً خير من أن أكون أميراً) (المصدر
السابق .) . وأوضح لهم الإمام (عليه السلام) عمّا سيجري فقال :
(أيّها الناس ! أنتم مستقبلون أمراً له وجوه وألوان ، لا تقوم به القلوب ، ولا
تثبت له العقول ...)
(نهج
البلاغة : الكلمة (92) .) وأمام إصرار الجماهير على توليته الأمر قال لهم : (إنّي
إن أجبتُكم ركبتُ بكم ما أعلم ... وإن تركتموني فإنّما أنا كأحدكم ، ألا وإني من
أسمعكم وأطوعكم لمن ولّيتموه أمركم )( نهج
البلاغة : الكلمة (92) .) .. وتكاثرت جموع الناس نحو الإمام وقد وصف (عليه السلام)
توجّههم نحوه مطالبين قبوله بالخلافة بقوله : (فما راعني إلاّ والناس
كعرف الضبع ينثالون عليَّ من كلّ جانب حتى لقد وطئ الحسنان وشقّ عطفاي مجتمعين
حولي كربيضة الغنم) (نهج البلاغة : الخطبة (3)
المعروفة بالشقشقية .) . لم يكن الإمام حريضاً على السلطان ، بل كان حرصه أن ينقذ ما
بقي من الأمة ، وأن يحافظ على الشريعة الإسلامية نقيّةً من الشوائب والبدع ،
فَقبِلَ أن يتولّى أمر الخلافة ولكنّه أخَّر القبول إلى اليوم الثاني ، وأن تكون
بيعة الجماهير علنيةً في المسجد ، رافضاً بذلك أسلوب بيعة السقيفة والتوصية
والشورى ، وفي الوقت ذاته ليعطي الأمة فرصةً أخرى كي تمتحن عواطفها وقرارها في
الخضوع له ، فقد ضَيَّعَتْ فيما سبق نصوص النبيّ (ص)
على خلافته فانحرفت . ومن هنا قال (ع) : (والله
ما تقدّمت عليها ـ أي الخلافة ـ إلاّ خوفاً من أن ينزو على الأمة تيسٌ علج من
بني أمية فيلعب بكتاب الله عَزَّ وجَلَّ) (عن أنساب الأشراف 1 : ق 1 /
157 .) . لقد كانت خطورة الموقف من نفوذ بني أمية في مراكز الدولة وطمعهم
الشديد للسلطان في حالة من غياب الوعي الرسالي في المجتمع . وما أن أقبل الصباح ؛ حتى حفّت الجماهير بالإمام (عليه
السلام) تسير نحو المسجد ، فاعتلى المنبر وخاطب الجماهير : (يا
أيّها الناس ! إنّ هذا أمركم ليس لأحدٍ فيه حقّ إلاّ من أمَّرْتُم ، وقد افترقنا
بالأمس وكنت كارهاً لأمركم ، فأبيتم إلاّ أن أكون عليكم ، ألا وإنّه ليس لي أن
آخذ درهماً دونكم ، فإن شئتم قعدت لكم ، وإلاّ فلا آخذ على أحد ...) . فهتفت الجماهير بصوت واحد : نحن على ما فارقناك عليه بالأمس
.. وقالوا : نبايعك على كتاب الله ، فقال (عليه السلام) : اللّهمّ
اشهد عليهم (أنساب الأشراف : 5 / 22 .) . وتدافع الناس كالموج المتلاطم إلى البيعة ، فكان أوّل من
بايع طلحة بيده الشلاّء والذي سرعان ما نكث بها عهد الله وميثاقه ، وجاء بعده
الزبير فبايع ، ثمّ بايعه أهالي الأمصار وعامّة الناس من أهل بدر والمهاجرين والأنصار
عامّة . كانت بيعة الإمام عليّ (ع)
أول حركة انتخاب جماهيرية ، ولم يحضَ أحد من الخلفاء بمثل هذه البيعة ، وبلغ
سرور الناس ببيعتهم أقصاه ، فقد أطلّت عليهم حكومة الحقّ والعدل ، وتقلّد
الخلافة صاحبها الشرعي ناصر السمتضعفين والمظلومين ، وفرحت الأمة بقبول الإمام
للخلافة كما وصف الإمام ذلك بقوله : (وبلغ
سرور الناس ببيعتهم إيّاي أن ابتهج بها الصغير ، وهَدَجَ اليها الكبير ، وتحامل
نحوها العَليل ، وحَسَرَتْ إليها الكِعاب) (نهج
البلاغة : الكلمة (229) .) . |
|
المتخلّفون عن بيعة الإمام (عليه السلام) :
|
|
إنّه لأمر طبيعيّ أن يقف ضد الحقّ أو يحايد من ساءت سريرته
وضعف يقينه وأضمرت نفسه الحقد والحسد ، فرغم أنّ الإمام علياً (عليه السلام) هو
الخليفة الشرعي كما نصّت على ذلك الأحاديث النبويّة الشريفة ، وأكدّها تأريخ
الرسالة الإسلامية بأنّ خير من يصون الأمة والرسالة بعد غياب النبيّ (صلّى الله
عليه وآله) هو الإمام عليّ (عليه السلام) لما له من قابليات ومؤهّلات لا تتوفر
لغيره من المسلمين ، كما وأنّ الأمة هي التي فزعت إلى الإمام بكل شرائحها
وفئاتها ترتجي منه قبول الخلافة ، لكنّنا نجد أنّ فئة قليلة اتّسمت بالانحراف عن
الحقّ والجبن في مواجهته بدأت ترتدّ عن بيعتها . لقد كان تخلّفهم خرقاً لإجماع الأمة وتحدّياً لبيعتها ، وبذلك فتحوا باباً
جديدة في تأجيج الفتنة واستمرار الصراع الداخلي ، ومن
هؤلاء المتخلّفين : سعد ابن أبي وقّاص ، وعبد الله بن عمر ، وكعب بن مالك
، ومسلمة بن مخلد ، وأبو سعيد الخدري ، ومحمد بن مسلمة ، والنعمان بن البشير ،
ورافع بن خديج ، وعبد الله بن سلام ، وقدامة بن مظعون ، وأسامة بن زيد ،
والمغيرة بن شعبة ، وصهيب بن سنان ، ومعاوية بن أبي سفيان (تاريخ
الطبري : 3 / 452 ط مؤسسة الأعلمي .) . ولكنّ بعضهم ندم على تفريطه في أمر بيعة الإمام ، وأما موقف
الإمام (عليه السلام) من هؤلاء فإنّه لم يتعرّض لأحد منهم بأيّ سوء ، وتركهم
وحالهم في الأمة لهم ما للناس وعليهم ما على الناس . |
|
عقبات في طريق حكومة الإمام (عليه السلام) :
|
|
وصل الإمام عليّ (عليه السلام) إلى الحكم بعد ربع قرن من
عزله عن ممارسة الحكم الإسلامي وقيادة الأمة والدولة ، وهما يسيران في مسارات
منحرفة للسلطات التي حكمت طيلة هذه الفترة ، فكان هذا عاملاً مؤثّراً في إضعاف
موقف الإمام (عليه السلام) من الأحداث ، فطوال الفترة السابقة أَلِفَ الناس أن
يروا الإمام محكوماً لا حاكماً ، محكوماً لأناس أقلّ كفاءةً وشأناً منه .. كما
أنّ عدداً من الشخصيات تنامى لديها الشعور بالمنافسة وبلوغ قمّة السلطة لتحقيق
أغراضهم الشخصية ، فالزبير في السقيفة كان يدافع عن حقّ الإمام (عليه السلام)
مقابل الفئات المندفعة نحو السلطة ، ثمّ نجده اليوم ينازع الإمام على السلطة ،
ومعاوية الطليق ابن الطليق أصبح بعد هذه المدّة مناوئاً قويّاً يهدّد كيان
الدولة . وأيضاً ممّا أعاق حركة الإمام أنّ العناصر التي وقفت ضدّه
على الخطّ المنحرف كان أغلبهم ممّن له صحبة مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله)
وهذا ممّا انخدع به أعداد كبيرة من المسلمين ، وعقّد الأمر على نجاح حكومته
(عليه السلام) واستمراره في الحكم . إضافة إلى أنّ الإمام (عليه السلام) استلم دولة مترامية
الأطراف ، ففي زمن أبي بكر لم تكن تتجاوز الدولة الإسلامية حدود الجزيرة والعراق
، أمّا في عهد الإمام فإنّها تمتد إلى شمال أفريقيا وأواسط آسيا إضافةً إلى تمام
الجزيرة والعراق والشام ، وقد دخل في الإسلام أقوام من غير العرب ، وهؤلاء
المسلمون الجدد فتحوا عهدهم مع الإسلام في ظلّ حكومة غير معصومة ، بل منحرفة عن
الخطّ الصحيح للرسالة الإسلامية ، وكان على حكومة الإمام القيام بمهامّ رئيسية
في أقصر وقت مع وجود الصراع الداخلي فمنها : |
|
1 ـ هدم
الكيان الطبقي الذي أنشأه الخلفاء وذلك عبر :
|
|
أ ـ المساواة في العطاء بين المسلمين
جميعاً ،
متّبعاً في ذلك سنّة رسول الله (ص) التي أهملها
من كان قبله من الخلفاء ، وقد أوضح في خطبته سياسة التوزيع النابعة من حكم الله (إِنّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللّهِ أَتْقَاكُمْ) فقال : (ألا وأيّما رجلٍ استجاب لله وللرسول فصدّق
ملّتنا ودخَل في ديننا واستقبل قبلتنا ؛ فقد استوجب حقوق الإسلام وحدوده ، فأنتم
عباد الله ، والمال مال الله ، يُقسّم بينكم بالسويّة ، لا فضل فيه لأحد على أحد
، وللمتّقين عند الله غداً أحسن الجزاء وأفضل الثواب) (بحار
الأنوار : 32 / 17 و 18 .) . ب ـ استرجاع الأموال المنهوبة من بيت المال في عهد عثمان ،
فقد أعلن الإمام أنّ الأموال المأخوذة بغير حقّ ـ وما أكثرها في عهد عثمان ـ
لابدّ أن ترجع إلى بيت المال ، حيث كانت الأموال الطائلة عند طبقة محيطة
بالخليفة أو أنّ عثمان كان يعطيها ليستميلها إليه . فقال (عليه السلام) : (ألا إنّ كلّ قطيعة أقطعها عثمان وكلّ مال أعطاه من مال
الله فهو مردود في بيت المال ، فإنّ الحقّ لا يبطله شيء ، ولو وجدته قد تُزوج به
النساء ومُلك به الإماء وفرِّق في البلدان لرددته ، فإنّ في العدل سعةً ، ومن
ضاق عليه العدل ، فالجور عليه أضيق) (نهج
البلاغة : الخطبة (15) .) . هذه السياسة المالية لم ترق لقريش ، فقد كان العايد من
أقطابها تنالهم قرارات الإمام وهم في أنفة الطغيان والتكبّر والاستعلاء ، مثل :
مروان بن الحكم وطلحة والزبير ، فما أن استوثقوا الجدّ في عمل الإمام حتى بدأوا
بإثارة الفتن والإحَن أمام حكومة الإمام ، حتى أن طلحة والزبير جاء إلى الإمام
(عليه السلام) يعترضان على ذلك فقالا : إنّ لنا قرابةً من نبي الله وسابقةً
وجهاداً ، وإنّك أعطيتنا بالسوية ولم يكن عمر ولا عثمان يعطوننا بالسوية ، كانوا
يفضّلونا على غيرنا . فقال (عليه السلام) : فهذا كتاب
الله فانظروا ما لكم من حقٍّ فخذوه ، قالوا : فسابقتنا ! قال (عليه
السلام) : أنتما أسبق منّي ؟ قالا : لا ،
فقرابتنا من النبيّ (صلّى الله عليه وآله) ! قال (عليه السلام) : أقرب
من قرابتي ؟
قالا : لا ، فجهادنا ، قال (عليه السلام) : أعظم من جهادي ؟ قالا : لا ، قال (عليه السلام) : فو
الله ما أنا في هذا المال وأجيري إلاّ بمنزلة سواء (بحار الأنوار : 41 / 116 .) . |
|
ج ـ المساواة أمام حكم الله تعالى :
|
|
لم يكن الإمام (ع) غافلاً عن
تطبيق أحكام الشريعة في عهد من سبقه من الخلفاء ، فكان يحكم ويفصل بالحقّ والعدل
، إذ يعجز غيره ، وما أن استلم زمام أمور الدولة ؛ حتى ضرب أروع صنوف العدل وسلك
أوضح سبل الحقّ مظهراً عدل الشريعة الإلهية وقدرة الإسلام على إقامة دولة تنعم
بالحرية والأمان والعدل . ومواقف الإمام (عليه السلام) كثيرة وما كان يتحرّج أن يجري
القانون على نفسه وأهل بيته وأصحابه ، فقد ترافع مع اليهودي إلى شريح القاضي
ليفصل بينهم في درع افتقده (عليه السلام) (السنن
الكبرى : 10 / 136 ، وتأريخ دمشق : 3 / 196 ، وقد وردت مواقف الإمام هذه في عدّة
مصادر منها : الأغاني : 16 / 36 ، والبداية والنهاية : 8 / 4 ، والكامل في
التأريخ : 3 / 399 ، والصواعق المحرقة : 78 .) . وقد كانت أحكام الإمام في فصل القضاء نابعة من عمق الشريعة
وسعة علم الإمام بأمور الدين والدنيا ، وتدلّ على العصمة في الفكر والعمل . |
|
2 ـ التنظيم
الإداري وإعادة السيطرة المركزية للدولة :
|
|
فقد قام الإمام (عليه السلام) بإعفاء الولاة الذين عيّنهم
عثمان من مناصبهم ، ونصب ولاة كانوا جديرين بهذه المهمّة ، وهم محلّ ثقة
المسلمين ، فأرسل عثمان بن حنيف الأنصاري بدلاً عن عبد الله بن عامر إلى البصرة
، وعلى الكوفة أرسل عمارة بن شهاب بدلاً عن أبي موسى الأشعري ، وعلى اليمن عبيد
الله بن عبّاس بدلاً عن يعلى بن منبه ، وعلى مصر قيس بن سعد بن عبادة بدلاً عن
عبد الله بن سعد ، وعلى الشام سهل بن حنيف بدلاً من معاوية بن أبي سفيان ، كلّ
هذا لسوء سيرة الولاة السابقين وفساد إداراتهم حتى آخر لحظة ، فقد استولى يعلى
بن منبّه على بيت مال اليمن وهرب به ، وحرّك معاوية قوّة عسكرية لصدّ سهل بن
حنيف عن ممارسة مهامّه الجديدة (تأريخ الطبري : 3 / 462 ط
مؤسسة الأعلمي .) . وفي عملية اختيار الولاة الجدد كان الإمام (عليه السلام)
دقيقاً وموضوعياً وحريصاً على تطبيق الشريعة الإسلامية بجهازه الإداري الجديد ،
وقد أعاد الثقة للأنصار بأنفسهم ورفع معنويّاتهم ، إذ أشركهم في الحكم ، كما أنّ
الإمام لم يكن مستعدّاً لقبول الحلول المنحرفة أو أنصاف الحلول ، فقد كان حازماً
في اجتثاث الفساد ، فقد رفض (عليه السلام) اقتراح إبقاء معاوية على الشام حتّى
يستقر حكم الإمام ثمّ تنحيته فيما بعد (تأريخ
الطبري : 3 / 461 و 462 ط مؤسسة الأعلمي ، والبداية والنهاية : 7 / 255 .) . حاول الإمام فرض سيطرة الخلافة المركزية على ولاية الشام بعد
أن امتنع معاوية فيها عن البيعة ، فدفع الراية إلى ولده محمد بن الحنفية ، وولّى
عبد الله بن عبّاس على ميمنته وعمر بن أبي سلمة على الميسرة ، ودعا أبا ليلى بن
عمر بن الجرّاح فجعله على مقدّمة الجيش ، وخطب في أهل المدينة وحثّهم على القتال
، ولكن حال دون التحرّك وصول خبر خروج طلحة والزبير على حكم الإمام إلى البصرة
بعد أن كانا قد استأذناه في الخروج للعمرة فأذن لهم ، وكان قد حذّرهم من نكث
البيعة (تأريخ الطبري : 3 / 469 .) . |
|
محاور عمل الإمام (عليه السلام) في الأمة :
|
|
هناك دور مفروض في الشريعة الإسلامية لشخصيّة يرعى شؤون الرسالة
الإسلامية وديمومتها في الحياة ومقاومتها في الصراع مع التيارات المختلفة بعد
غياب النبيّ القائد (صلّى الله عليه وآله) وقد نصّت الشريعة على أنّ الإمام
عليّاً (عليه السلام) ومِن بعده أبناءه هم المعنيّون بذلك . وممارسة دور الراعي والقائد لشؤون الرسالة تقتضي أن يتولّى
الإمام المعصوم أعلى السلطات في الدولة ، ولكن بعد وفاة الرسول تدخّلت عناصر غير
مؤهّلة لذلك في ظرف معقّد فاستولت على السلطة ، ولم يكن ذلك ليمنع الإمام (عليه
السلام) عن ممارسة دوره ، ولكن طبيعة الصراع تقتضي تعدّد الدور وتنوّعه ، فعمل
الإمام عليّ (عليه السلام) على محورين في محاولة منه لإصلاح انحراف الأمة
والمحافظة على عقائدها ومقدّساتها : المحور الأول : السعي لاستلام مقاليد الحكم وزمام التجربة ،
والنهوض بالأمة في الاستمرار بمسيرتها نحو هدفها السماوي الذي فرضه الله سبحانه
وتعالى . وقد عمل الإمام على هذا المحور بعد وفاة
النبيّ (ص) مباشرة ، كما عبّر عن مسؤوليته تجاه هذا الأمر بقوله (عليه السلام): (لو
لا حضور الحاضر وقيام الحجّة بوجود الناصر وما أخذ الله على العلماء أن لا
يقارّوا على كظّة ظالم ولا سغب مظلوم ؛ لألقيت حبلها على غاربها) (نهج
البلاغة : الخطبة الشقشقية .) . فحاول الإمام (ع) تعبئة الأمة ، ولكنّه لم يتمكّن
أن يصل إلى حدّ إنجاح هذه المحاولة لأسباب منها : 1 ـ عدم وعي الأمة لرزيّة يوم السقيفة وما جرى فيها من
مؤامرات سياسية وتوجّها خاطئة كانت خافية على شريحة كبيرة من الأمة . 2 ـ عدم فهم دور ومسؤولية الإمام والإمامة ، فقد تصوّروه
مطلباً شخصياً وهدفاً فردياً ، ولكنّ الحقيقة أنّ دخول الإمام في مواجهة
الحاكمين كان بوعي رسالي وإرادة صادقة لاستمرار الرّسالة الإسلامية نقيةً كما
شرّعها الله بعيدةً عن الزيغ والانحراف ، ومضحّياً بكلّ شيء من أجل ذلك حتى لو
كان ذلك تعدّياً على حقّ الشخصيّ ، فالمقياس هو سلامة الرسالة وديمومتها على أسس
الحقّ والعدل الإلهي وهو القائل : (إعرف الحقّ تعرف
أهله) (بحار الأنوار : 6 / 179 ط
الوفاء .)
وقد قال رسول الله (صلّى الله عليه
وآله) : (عليّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ) (راجع
سنن الترمذي : 2 / 298 وتاريخ بغداد : 14 / 321 .) . كما أنّ الإمام عليّاً (عليه السلام) عمل بشمولية وعلى جميع
المستويات موفّقاً بين النظرية والتطبيق ، فربّى أصحابه على أنّهم أصحاب الأهداف
الرسالية لا أصحاب الأشخاص يميلون مع هذا الطرف أو ذاك، ونجد أنّ الإمام رفض أن
يستلم الحكم بشرط السير بسيرة من قبله ، إذ كانت تسيء إلى الرسالة والمجتمع . 3 ـ الرواسب الجاهلية المتأصّلة في فكر الأمة ، فالعهد قريب
ولم تدرك الأمة عمق الرسالة والرسول ودور الإمام ، فتصوّروا أنّ عهد النبيّ
(صلّى الله عليه وآله) بالوصاية للإمام (ع) مجرّد عملية ترشيح لأحد أعضاء أسرته
، وإنّه قد يهدف لإحياء أمجاد أسرة متطلّعة للمجد والسلطان كما هو دأب غالب
الحكّام قبل النبيّ (ص) وبعده . 4 ـ دور المنافقين وأطماعهم في زعزعة الاستقرار الأمني
والاجتماعي ، ومحاولة إثارة النوازع والأحقاد بين صفوف المسلمين ، وتغلغلهم في
صفوف الجهاز الحاكم والدولة ويزدادون توغّلاً إذا كان الحاكم ضعيفاً أو منحرفاً
. 5 ـ الأمراض النفسية لدى المتصدّين للزعامة ، فكان الشعور
بالنقص لديهم تجاه الإمام عليّ (ع) بدرجة عالية ، حيث كان الإمام (عليه السلام)
يمثّل تحدّياً بوجوده ، بصدقه ، بجهاده ، بصراحته ، باستبساله وشبابه . (كما ورد في كتاب معاوية لمحمد ابن أبي بكر) (وقعة
صفّين : 119 .) . المحور الثاني : وحين لم يفلح المحور الأوّل في
بلوغ هدفه عمل الإمام (عليه السلام) بمنهجية أخرى ، ألا وهي تحصين الأمة ضد الانهيار
التامّ وإعطاؤها من المقوّمات القدر الكافي كي تتمكّن من البقاء صامدة في مواجهة
المحنة بعد استيلاء فئة غير كفوءة على السلطة وانحدار الأمة عن جادّة الحقّ
والصواب بسببها . فاجتهد الإمام (عليه السلام) في تعميق الرسالة
فكرياً وروحياً وسياسياً في صفوف الأمة ، وتقديم الوجه الحقيقي للنظرية
الإسلامية عبر أساليب منها : 1 ـ التدخّل الإيجابي في عمل الزعامة المنحرفة بعد أن كانوا
لا يحسنون مواجهة ومعالجة القضايا الكثيرة البسيطة منها والمعقدة . وتوجيههم نحو
المسار الصحيح لإنقاذ الأمة من مزيد الضياع ، فكان دور الإمام (عليه السلام) دور
الرقيب الرسالي الذي يتدخّل لتقويم الأود. ونجد الإمام يتدخّل للردّ على شبهات المنكرين للرسالة بعد أن
عجز المتصدّي للزعامة عن ذلك ، ونجده أيضاً يتدخّل ليعطي للخليفة نصائح عسكرية
أو اقتصادية ، وما أكثر نصائحه ومعالجاته القضائية (تأريخ
اليعقوبي : 2 / 133 ، 145 .) ! 2 ـ توجيه مسار سياسة الخليفة ومنعها من المزيد من الانحراف
من خلال الوعظ والنصيحة ، وبدا هذا الأسلوب جليّاً في عهد عثمان بن عفان حيث كان
لا يقبل التوجيه والنصيحة . 3 ـ تقديم المثل الأعلى للإسلام والصورة الحقيقية لطبيعة
وشكل الحكم والمجتمع الإسلامي ، وقد ظهر هذا واضحاً في فترة حكومة الإمام (عليه
السلام) ، وعلى هذا الأساس استند قبول الإمام للحكم بعد أن رفضه ، فقد مارس دور
القائد السياسي المحنّك والحاكم العادل ونموذج الإنسان الذي صاغته الرسالة
الإسلامية وكان مثالاً يُحتذى به لبلوغ هدف الرسالة ، فهو المعصوم عن الخطأ
والزلل والدنس في الفكر والعمل والسيرة . 4 ـ تربية وبناء ثلّة صالحة من المسلمين تُعين الإمام (عليه
السلام) في حركته الإصلاحية والتغييرية ، وذلك عبر تحرّكها في وسط الأمة لإنضاج
أفكارها وتوسيع قاعدة الفئة الواعية الصالحة ، وتستمر في مسيرها عبر التأريخ
لتتواصل الأجيال اللاحقة في العمل وفق النهج الإسلامي (أهل
البيت تنوّع أدوار ووحدة هدف للشهيد السيد محمّد باقر الصدر : 59 ـ 69 .) . 5 ـ إحياء سنّة رسول الله (ص)
والتنبيه عليها وتدوينها والاهتمام بالقرآن تلاوةً وحفظاً وتفسيراً وتدويناً ،
إذ هما عماد الشريعة، ولابدّ أن تدرك الأمة حقائق القرآن والسنّة كما شُرّعت
وكما أريد لها أن تفهمها . |
|
الثقافة الإسلامية في
حكم الخلفاء :
|
|
للمزيد من التفصيل راجع معالم المدرستين للسيد
مرتضى العسكري : 2 / 43 . من أخطر المشاكل التي تواجهها الرسالات والعقائد هو تصدّي
الفئات العاجزة والفارغة فكرياً للدفاع عنها أو تطبيقها ، وحين يتعرّض المتصدّون
للزعامة للاختبار لمعرفة رأي الرسالة ومدى علمهم بها فإنّ سكوتهم أو اختلافهم
سيزرع شكّاً لدى الجماهير ويزعزع ثقتهم بالرسالة ومقدرتها على مجاراة الحياة ،
ومن ثَمّ يتحوّل الشكّ إلى حالة مرضية تجعل الأمة تتقاعس عن التفاعل مع الرسالة
أو الدفاع عنها في معترك الصراعات وخضمّ الأزمات ، ومن هنا نجد تصدّي النبيّ
(صلّى الله عليه وآله) لكلّ قضيّة غامضة أو مجهولة تبدو هنا أو هناك في حياة
الأمة حيث يعطي الموقف الواضح للرسالة منها ، كما ترى ذلك جليّاً في سيرة الإمام عليّ (ع) من بعده خلال حكم الخلفاء الثلاثة حين
كان يظهر للناس عجزهم وقصورهم العلمي والعملي ، إذ فسح (ع)
المجال إلى أقصاه للبحث والسؤال عندما تسلّم زمام الحكم. وحين أدركت الفئة الحاكمة أنّها ليست المؤهّلة
للحكم وأنّها قاصرة علمياً ؛ اتّخذت عدّة إجراءات لمعالجة هذه المثالب منها : 1 ـ منع نشر أحاديث رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لما
فيها من التوجيه العلمي والبعث نحو الوعي والفاعلية في الحياة ، إضافةً إلى أنّ
أحاديث الرسول تعلن بوضوح أنّ أهل البيت هم المعنيّون بالخلافة وشؤون الرسالة
دون من عداهم ، ومن هنا نعلم السرّ في رفع شعار (حسبنا كتاب الله) الذي تحدّى
قائله به رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في مرضه عندما أراد أن يدوّن كتاباً
لن تضلّ الأمة من بعده . ويبدو أنّ ظاهرة تحديد أو منع نشر أحاديث النبيّ بدأت قبل
هذا التأريخ ، وذلك عندما منعت قريش عبد الله بن عمرو بن العاص بن كتابة
الأحاديث (سنن الدارمي : 1 / 125 ،
وسنن أبي داود : 2 / 262 ، ومسند أحمد : 2 / 162 وتذكرة الحفّاظ : 1 / 2 .) ، كما قامت السلطة الحاكمة بحرق
الكتب التي تضمّنت نصوصاً من أحاديث الرسول (طبقات
ابن سعد : 5/ 140 ط ، بيروت .)
. 2 ـ إنّ ظاهرة النهي عن السؤال عمّا لا يُعلم من معاني
الآيات القرآنية تعني تجريد الأمة من سلاح البحث والتحقيق والتعلّم للقرآن نفسه
بعد عزل السنّة عن القرآن ، والاهتمام بظواهر القرآن من دون فسح المجال للتدبّر
والتفقّه في آياته وأحكامه حتى أوصى عمر عمّاله قائلاً : (جرّدوا القرآن وأقلّوا
الرواية عن محمّد وأنا شريككم) . بل إنّه عاقب كلّ من يسأل عن تفسير آيات القرآن
(تاريخ
ابن كثير : 8 / 107 ، وسنن الدارمي : 1 / 54 ، وتفسير الطبري : 3 / 38 والإتقان
للسيوطي : 1 / 115.) . 3 ـ فتح باب الاجتهاد في مقابل النصّ ، فقد اجتهد أبو بكر في
جملة من الأحكام من دون أن يستند إلى نصّ قرآني أو حديث عن رسول الله (صلّى الله
عليه وآله) ، ومن ذلك مصادرة تركة النبيّ ومنع أهل البيت من حقّهم في الخمس ،
وإحراقه الفجاءة السلمي (تأريخ الطبري : 2 / 448 ط
مؤسسة الأعلمي .) وفتواه في مسألة الكلالة (سنن
الدارمي : 2 / 365 ، والسنن الكبرى للبيهقي : 6 / 223 .) وفتواه في إرث الجدّة (سنن
الدارمي : 2 / 359 ، واُسد الغابة : 3 / 299 .) ، كما اجتهد عمر بن الخطّاب في
التمييز في العطاء خلافاً لسنّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) (فتوح
البلدان : ص 55 ، وتأريخ الخلفاء للسيوطي : 136 .) واجتهد في منع متعتي الحجّ والنساء
وغيرها ممّا تجده في كتاب (النصّ والاجتهاد) (كنز
العمال : 16 / 519 الحديث 45715 ، وزاد المعاد لابن القيم : 2 / 205 ز) ، وقد اجتهد عثمان بن عفّان في إسقاط
القود عن عبيد الله بن عمر (راجع منهاج السنّة لابن
تيمية : 3 / 193 ، وهناك اجتهادات كثيرة للخلفاء تذكرها كتب التأريخ .) وتأوّل في جملة من الأحكام الصريحة
خلافاً لما قرّره رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حتى ثار عليه المسلمون كما
عرفت . كلّ هذه الأمور وغيرها أثارت للدولة الإسلامية
وللأمة المسلمة الكثير من المصاعب والمصائب التي كانت السبب الرئيس في انحراف المسيرة المقرّرة للرسالة
الإسلامية ووقوع الكثيرين في شِباك الفتن والضلالة حتى قال
الإمام عليّ (ع) عن ذلك : (إنّما بدء وقوع الفتن أهواء تتّبع وأحكام
تبتدع ، يخالف فيها كتاب الله ، ويتولّى عليها رجالٌ رجالاً على غير دين الله ،
فلو أنّ الباطل خلص من مزاج الحقّ ؛ لم يخف على المرتادين ، ولو أنّ الحقّ خلص
من لبس الباطل ، انقطعت عنه ألسن المعاندين ، ولكن يؤخذ من هذا ضغث ومن هذا ضغث
فيمزجان فهنالك يستولي الشيطان على أوليائه ، وينجو الذين سبقت لهم من الله
الحسنى) (نهج
البلاغة : الخطبة (50) .) . |
|
جهود الإمام (عليه السلام) في إحياء الشريعة الإسلامية :
|
|
كان الإمام عليّ (عليه السلام) يرى أن من أوليّات مهامّه بعد
غياب الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) هو صيانة الشريعة المقدسة من الزيغ
والانحراف ورعاية شؤون الدّولة الإسلامية حتى تستمر من دون تلكؤ أو توقّف ، وقد
بذل جهده في ذلك أثناء حكم الخلفاء متغاضياً بمرارة وألم عن حقّه في إدارة شؤون
الأمة مباشرة ، وما أن أمسك زمام الحكم ؛ حتى خطا خطوات عظيمة في إحياء سنّة
رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وفي الدعوة إلى الحياة في ظلّها ، واهتم
اهتماماً كبيراً بالقرآن الكريم وتفسيره وتربية الأمة وإصلاح الفساد أَينما وجد
، ويمكننا أن نلحظ الخطوات التي قام بها الإمام عليّ
(عليه السلام) كما يلي : 1 ـ فتح باب الحوار والسؤال عن القرآن والسنّة وكلّ ما
يتعلّق بالشريعة المقدّسة أمام الجماهير المسلمة وبصورة علنية وعامّة من دون أن
يتردّد حتى في جواب مخالفيه وأعدائه الحاقدين عليه . 2 ـ الاهتمام بالقرّاء مراعياً لشؤونهم ومتّبعاً فيهم سنّة
الرسول (صلّى الله عليه وآله) في التعليم ، فكان تعليم قراءة القرآن مقروناً
بتعلّم ومعرفة ما فيه من العلم والعمل والتفقّه في أحكام الدين . 3 ـ الاهتمام بقراءة المسلمين من غير العرب ، أو من الذين لا
يحسنون اللغة العربية بصورة صحيحة ، فوضع علم النحو لتقويم اللسان عن اللحن في
الكلام (الأغاني
: 12 / 13 ، الفهرست لابن النديم : 59 ، وفيات الأعيان ك 2 / 216 ، والبداية
والنهاية ك 8 / 312 .) . 4 ـ دعا الإمام (عليه السلام) إلى رواية السنّة النبوية
وتدوينها ومدارستها ، فكان يقول : (قيّدوا العلم
بالكتابة) (الطبقات الكبرى : 6 / 186 ،
وتدوين السنّة الشريفة للسيد الجلالي : 137 .) وأمر (ع)
بالبحث في علوم السنّة فيقول : (تزاوروا وتدارسوا الحديث ولا تتركوه يدرس) (كنز
العمال ك 10 حديث 29522 .) . 5 ـ ركّز الإمام على مصدرية القرآن والسنّة في التشريع
والأحكام ، وأدان المصادر الأخرى كالاستحسان والقياس وغيرهما ممّا لا يكون
مصدراً شرعياً للأحكام الإلهية (نهج البلاغة : الخطبة (125)
.) . كما أنّ الإمام (ع) أحيى سنّة رسول الله (ص) في سيرته العبادية والأخلاقية ،
فعالج البدع التي طرأت على الشريعة نتيجة اجتهاد وإبداع من سبقه من الخلفاء (صحيح
مسلم : كتاب صلاة التراويح ، ومسند أحمد : 5 / 406 ، وصحيح البخاري : كتاب الخمس
: باب 5 / حديث 2944 ، وسنن أبي داود : 2 / حديث 1622 .) . 6 ـ استطاع الإمام أن يبني ثلّةً صالحةً من المؤمنين تتحرّك
في المجتمع الإسلامي للمساهمة في قيادة التجربة الإسلامية والمحافظة على المجتمع
الإسلامي . ويبدو أنّ الإمام عليّاً (عليه السلام) بدأ عملياً في هذا
المسار منذ حياة الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله) وبأمر منه ، فنجد أن
النبيّ كان يُوكل مهمّة تعهّد ورعاية من يجد فيهم الرغبة والوعي في التحرك
الإسلامي إلى الإمام علي (عليه السلام) ، وكان (صلّى الله عليه وآله) يحثّ على
التمسّك في العمل بخط عليّ حتى تكوّنت جماعة عرفت بشيعة عليّ في حياة الرسول
(صلّى الله عليه وآله) مثل : عمار بن ياسر ، وسلمان الفارسي ، وأبي ذر ، وجابر
بن عبد الله الأنصاري ، والمقداد بن الأسود ، وعبد الله بن عباس ، ممّن ثبتوا
على هذا الخطّ رغم كلّ الظروف الصعبة التي مرّت بها التجربة الإسلامية بعد وفاة
الرسول (صلّى الله عليه وآله) . وحين استلم أمير المؤمنين (ع)
الخلافة ؛ احتفّت به جماعة من المؤمنين الأوفياء الأشدّاء ، فازداد الإمام (ع) اعتناءً بهم وأعدّهم إعداداً رسالياً خاصاً
، وأودعهم علوماً شتّى في مختلف نواحي الحياة ، وقام هؤلاء الصحابة الأجلاّء
بدورهم في دعم الرسالة الإسلامية ومساندة الإمامة والمحافظة على الشريعة من
الزيغ والانحراف والاندثار ، فكانت مواقفهم رائعة وبطولية مقابل الحكّام
الطواغيت والمتسلّطين بغير حقّ على أمور المسلمين ، ومن هؤلاء : مالك الأشتر ،
كميل بن زياد النخعي ، محمد بن أبي بكر ، حجر بن عدي ، عمرو بن الحمق الخزاعي ، صعصعة
بن صوحان العبدي ، رشيد الهجري ، هاشم المرقال ، قنبر ، سهل بن حُنيف وغيرهم . |
|
الفصل الثاني:
|
|
الإمام علي (ع) مع الناكثين (وقعت معركة الجمل في
جمادي الآخرة عام (36) هـ.)
|
|
مثيروا الفتن :
|
|
كانت بيعة الناس لأمير المؤمنين (عليه السلام) بمنزلة صاعقة
حلّت بقريش وكلّ من يكنّ العداء للإسلام ، فحكومة الإمام هي امتداد لحكومة رسول
الله (صلّى الله عليه وآله) التي أذلّت الظلم والعدوان والبغي ، وجاءت بالعدل
والمساواة والحقّ والفضيلة ، وحطّمت المصالح الاقتصادية القائمة على الربا
والاحتكار والاستغلال ، فعزّ على كثير من كبار قريش أن يكونوا على قدم المساواة
مع أيّ مواطن آخر من أيّ فئة كانت في حكومة الإمام عليّ (عليه السلام) الذي طالت
إصلاحاته ولاة عثمان . وقد كان كلّ من طلحة والزبير يرى نفسه قريناً لأمير المؤمنين
(عليه السلام) ، بعدما رشّحهما عمر للخلافة فكان يتوقّع كلّ منهما أن يلي حكومة
جزء كبير من البلاد الإسلامية على أقلّ تقدير ، وكان لعائشة المقام المرموق لدى
الخلفاء السابقين حيث كانت تتحدّث كما تشاء ، وهي الآن تعلم أن لا مجال لها في
حكومة تعتمد القرآن والسنّة مصدراً ودستوراً للتشريع والتنفيذ . وكان معاوية يتصرّف في الشام تصرّف الحاكم المطلق المتفرّد
والمطامع في السيادة الإسلامية العظمى جادّاً في تولّي أمور الأمة الإسلامية
بصورة تامّة ، فكانت المفاجأة لجميع هؤلاء بقرارات الإمام وتخطيطه للإصلاح
الشامل إضافةً إلى تضرّر مجموعة أو مجموعات كانت تستغل مناصبها في عهد عثمان وهي
الآن قد فقدت مصدر ثرواتها ، فإنّ وجود الإمام في قمّة السلطة كان يُعدّ تهديداً
صارخاً للخطّ القبلي المنحرف الذي سارت عليه قريش . لأنّ الإمام عليّاً (عليه
السلام) قد عرف بأنّه القادر على رفع راية الإسلام الحق من دون أن تأخذه في الله
لومة لائم ، ولهذا فهو سيكشف زيف الخطّ المنحرف دون تردّد . من هنا اجتمعت آراؤهم وأهواؤهم على إثارة الفتن للحيلولة دون
استقرار الحكم الجديد ، ولم يكن تقلّب الوضع السياسي ووجود العناصر المعادية
للاتّجاه الصحيح لمسيرة الحكومة الإسلامية غريباً على الإمام عليّ (ع) ؛ فقد
أخبره النبي (ص) بتمرّد بعض الفئات على حكمه ، وعهد إليه بقتالهم كما أنّه قد
سمّاهم له بالناكثين والقاسطين والمارقين (مستدرك
الحاكم : 3 / 139 ، وتأريخ بغداد : 8 / 340 ، ومجمع الزوائد : 9 / 235 ، وكنز
العمال : 6 / 82 .) . |
|
عائشة تعلن التمرّد :
|
|
كان موقف السيّدة عائشة من عثمان غريباً متناقضاً لا يليق
بمقام امرأة تعدّ من نساء النبي (صلّى الله عليه وآله) ، فكانت تردّد قولها :
(اقتلوا نعثلاً) ، وتحرّض الناس على التمرّد عليه وعلى قتله (شرح
ابن أبي الحديد : 6 م 215 ، وكشف الغمة ك 3 / 323 .) ، وقد خرجت من المدينة إلى مكّة أثناء
محاصرة عثمان من قبل الثوار وهي تتوقّع النهاية السريعة لعثمان ، ومن ثمَّ فوز
قريبها طلحة بالخلافة ، والاستيلاء على الحكم . وحين فوجئت بأنّ الأمر قد استقرّ ـ بعد بيعة الناس إلى الإمام عليّ (ع) ، كرّت راجعة نحو مكّة بعد أن كانت قد
عزمت على الرجوع إلى المدينة (الكامل في التأريخ : 3 / 206
.)
، وأعلنت حزنها وتظلّمها على عثمان ،
فقيل لها : أنتِ التي حرّضت على قتله فاختلقت عذراً واهياً ، فقالت : إنّهم
استتابوه ثمّ قتلوه (الكافي في التأريخ : 3 / 206
.)
. وكأنّها كانت حاضرة تشهد مقتله . وأعلنت السيدة عائشة حربها ضدّ الإمام عليّ (ع) في خطابها الذي ألقته في مكّة محرّضة أتباعها
على الحرب (تأريخ الطبري : 3 / 474 .) . وطمعت السيدة عائشة في توسيع جبهتها ضدّ الإمام عليّ (عليه
السلام) فحاولت مخادعة أزواج النبيّ (صلّى الله عليه وآله) للخروج معهنّ ضدّ
الإمام ، فامتنعن من ذلك ، وحاولت أم سلمة أن تنصحها عسى أن ترجع عن غيّها ،
وتجنّب الأمة البلاء والدماء ، فقالت لها : إنّك كنت بالأمس تحرّضين على عثمان
وتقولين فيه أخبث القول وما كان اسمه عندك إلا نعثلاً ، وإنّك لتعرفين منزلة
عليّ بن أبي طالب عند رسول الله (ص) ، أفأذكِّرك ؟ قالت أم سلمة : أتذكرين يوم
أقبل (عليه السلام) ونحن معه حتى إذا هبط من قديد ذات الشمال خلا بعليّ يناجيه ،
فأطال فأردت أن تهجمين عليهما فنهيتك فعصيتِني فهجمتِ عليهما ، فما لبثتِ أن
رجعت باكية ، فقلتُ : ما شأنك ؟ فقلتِ : إنّي هجمت عليهما وهما يتناجيان ، فقلتُ
لعليّ : ليس لي من رسول الله (ص) إلاّ يوم من تسعة أيام أفما تدعني يا ابن أبي
طالب ويومي ؟ فأقبل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) عليَّ وهو غضبان محمرّ
الوجه ، فقال : (ارجعي وراءك والله لا يبغضه أحدٌ من
أهل بيتي ولا من غيرهم من الناس إلاّ وهو خارج من الإيمان) ، فرجعتِ
نادمة ساخطة ، قالت عائشة : نعم أذكر ذلك ، قالت أم سلمة : أيّ خروج تخرجين بعد
هذا ؟ فقالت عائشة : إنّما أخرج للإصلاح بين الناس ، وأرجو فيه الأجر إن شاء
الله ، فقالت أم سلمة : أنتِ ورأيكِ ، فانصرفت عائشة عنها (شرح
النهج لابن أبي الحديد : 6 / 217 ، وبحار الأنوار ك 32 / 149 .) . وروي : أنّ نساء النبيّ (صلّى الله عليه وآله) خرجن مع عائشة إلى
منطقة (ذات عرق) ويبدو أنّهنّ حاولن إرجاع عائشة إلى المدينة والحيلولة دون وقوع
الفتنة ، فلم يتوصّلن إلى حلّ فبكين على الإسلام وبكى الناس معهنّ ، وسمّي ذلك
اليوم بـ (يوم النحيب) (الكامل في التاريخ: 209/3.) . |
|
مكر معاوية ونكث
الزبير وطلحة للبيعة :
|
|
كان معاوية يتمتّع بسيطرة إدارية على شؤون الشام ، ولديه
أجهزة يستطيع بها أن يحرّكها وفق رغباته وأهوائه ، وما كانت لديه مشكلة مع
جماهير الشام لأنّ بلاد الشام منذ عرفت الإسلام عرفت آل أبي سفيان ولاة عليها من
قبل الخليفة ، فقبله كان أخوه يزيد والياً عليها ، كما أنّ بلاد الشام بعيدة عن
عاصمة الخلافة ممّا أعطاه قدراً كافياً من الاستقرار والقوّة . وبدأ معاوية
تحرّكه السياسي لتأجيج الفتنة المشتعلة بسبب مقتل عثمان ، ومن ثَمَّ ليستثمرها
لصالحه ، فخاطب الزبير وطلحة بصيغة تحرّك فيهما الأطماع والرغبات للدخول في
الصراع الجديّ ضدّ الإمام (عليه السلام) فتزداد الفتنة في العاصمة المركزية .
فكتب رسالة إلى الزبير جاء فيها : لعبد الله الزبير أمير المؤمنين من معاوية بن أبي سفيان ..
سلام عليك ، أمّا بعد ، فإنّي قد بايعت لك أهل الشام فأجابوا واستوسقوا كما
يستوسق الجلب ، فدونك الكوفة والبصرة لا يسبقك إليها ابن أبي طالب ، فإنّه لا
شيء بعد هذين المصرين ، وقد بايعت لطلحة بن عبيد الله من بعدك فأظهر الطلب بدم
عثمان وادعوا الناس إلى ذلك ، وليكن منكما الجدّ والتشمير ، أظفركما الله وخذل
مناوئكما (شرح النهج لابن أبي الحديد:
231/1.) . ولمّا وصلت رسالة معاوية إلى الزبير ؛ خفّ لها طرباً واطمأنّ
إلى صدق نيّة معاوية ، واتفق هو وطلحة على نكث بيعة الإمام والخروج عليه ، فأظهر
الحسرة والتأسف على بيعتهما للإمام مردّدين : بايعنا مكرهين ، وما أن وصلت إلى
أسماعهما صيحة السيدة عائشة محرّضة على الإمام ؛ حتى اجتهدا في إيجاد الحيلة
للخروج إليها . وروي أنّهما جاءا يطلبان من الإمام المشاركة في الحكم فلم
يتوصّلا إلى شيء ، فقرّرا الالتحاق بعائشة ثمّ عادا ثانية إلى الإمام (ع) ليستأذناه للخروج للعمرة ، فقال لهما الإمام (ع) : نعم، والله ما
العمرة تريدان وإنّما تريدان أن تمضيا لشأنكما (الإمامة
والسياسة لابن قتيبة : 70 .) . وروي أنّه (عليه السلام) قال لهما : بل تريدان الغدرة (شرح
النهج : 1 / 232 .) . لقد أجمع رأي الخارجين على بيعة الإمام (عليه السلام) في بيت
عائشة في مكّة بعد أن كانوا متنافرين متحاربين في عهد عثمان ، فضمّ الاجتماع
الزبير وطلحة ومروان بن الحكم على أن يتّخذوا من دم عثمان شعاراً لتعبئة الناس
لمحاربة الإمام عليّ (عليه السلام) ، فرفعوا قميص عثمان كشعار للتمرّد والعصيان
، وأنّ الإمام عليّاً (عليه السلام) هو المسؤول عن إراقة دم عثمان ، لأنه آوى
قتلته ولم يقتصّ منهم ، وقرّروا أن يكون زحفهم نحو البصرة واحتلالها واتّخاذها
مركزاً للتحرّك ومنطلقاً للحرب ، حيث أنّ معاوية يسيطر على الشام ، والمدينة لا
زالت تعيش حالة الاضطراب (تأريخ الطبري : 3 / 471 ط
مؤسسة الأعلمي .) . |
|
حركة عائشة ومسيرها نحو البصرة :
|
|
مضت عائشة في خطّتها لإثارة الفتنة والدخول في المواجهة
المسلّحة مع الإمام عليّ (ع) الخليفة الشرعي ، فحشدت أعداداً من الناس يدفعهم
الحقد والكراهية للإسلام وللإمام عليّ (ع) ويحدوهم الطمع بالدنيا ونيل السلطان ،
وجهّزهم يعلى بن منية بمستلزمات الحرب من السيوف والإبل التي سرقها من اليمن
عندما عزله الإمام عنها ، وقدم عليهم عبد الله بن عامر بمال كثير من البصرة سرقه
أيضاً (الإمامة
والسياسة : 79 ، والكامل في التأريخ : 3 / 207 .) . وجهّزوا لعائشة جملها المسمّى (عسكر) وقد احتفّ بها بنو أمية وهي
تتقدّم أمام الحشد الزاخر متوجّهين نحو البصرة ، تسبقهم كتبهم التي أرسلوها إلى
عدد من وجوه البصرة ، يدعونهم فيها للخروج على بيعة الإمام
(ع) بدعوى المطالبة بدم عثمان (الإمامة
والسياسة : 80 ، الكامل في التأريخ : 3 / 210 .). وبدرت سمة المكر والخداع ـ التي تكاد تكون ملازمة لكلّ من
ناوأ الإمام عليّاً (عليه السلام) ـ من زعماء الفتنة ، فلمّا خرجوا من مكّة أذّن
مروان بن الحكم للصلاة ، ثمّ جاء حتّى وقف على طلحة والزبير محاولاً إثارة
الوقيعة بين الرجلين وغرس فتنة ليستغلّها إن تمكّن من الأمر ، فقال : على أيّكما
أُسلِّم بالإمرة وأُؤذَّن بالصلاة ، فتنافس أتباع الرجلين كلّ يريد تقديم صاحبه
، فأحسّت عائشة بوقوع التفرقة فأرسلت أن يصلّي بالناس ابن أختها عبد الله بن
الزبير . وحين وصل جيش عائشة إلى منطقة (أوطاس)
؛ لقيهم سعيد بن العاص والمغيرة بن شعبة ، وحين علم سعيد بدعوى عائشة (الطلب بدم عثمان) استهزأ ضاحكاً وقال : فهؤلاء قتلة
عثمان معك يا أم المؤمنين (الإمامة والسياسة : 82 .) ! . وروي : أنّ سعيداً قال : أين تذهبون وتتركون ثأركم وراءكم
على أعجاز الإبل (الكامل في التأريخ : 3 / 209
.) ؟! ، يقصد بذلك طلحة والزبير وعائشة ، ووصل الجيش إلى مكان
يقال له : (الحوأب) فتلقّتهم كلاب الحيّ بنباح وعواء ، فذعرت عائشة وسألت محمد
بن طلحة عن المكان فقالت : أيّ ماء هذا ؟ فأجابها : ماء الحوأب يا أم المؤمنين
.. فهلعت وصرخت : ما أراني إلاّ راجعة ، قال : لِمَ ،
قالت : سمعت رسول الله (ص) يقول لنسائه : كأنّي بإحداكنّ قد نبحها كلاب
الحوأب وإيّاك أن تكوني يا حميراء (الإمامة
والسياسة : 82 ، وأخرج الحديث أحمد في مسنده : 6 / 521 ، وشرح النهج لابن أبي
الحديد : 2 / 497 .) . ثمّ ضربت عضد بعيرها فأناخته وقالت : ردّوني ، أنا والله
صاحبة ماء الحوأب ، فأناخوا حولها يوماً وليلة ، وجاءها عبد الله بن الزبير فحلف
لها بالله انه ليس ماء الحوأب ، وأتاها ببيّنة زور من الأعراب فشهدوا بذلك (الإمامة
والسياسة : 82 ، مروج الذهب : 2 / 395 .) . فكانت أوّل شهادة زور في الإسلام . |
|
مناوشات على مشارف البصرة :
|
|
حين شارف جيش عائشة مدينة البصرة ؛ قام عثمان بن حنيف والي
الإمام (عليه السلام) على البصرة موضّحاً أمر الجيش المتقدم إليهم ، ومحذّراً
الناس من الفتنة وبطلان وضلالة موقف زعماء الجيش ، وأعلن المخلصون للإسلام وللإمام (ع) استعدادهم للدفاع عن الحقّ والشريعة
المقدّسة وصدّ الناكثين عن الاستيلاء على البصرة (الإمامة
والسياسة : 83 .). وفي محاولة من عثمان بن حنيف ـ الذي يتأسّى بأخلاق الإسلام
ويطيع إمامه (عليه السلام) ـ سعى أن يثني عائشة ومَن معها من غيّهم لتجنّب وقوع
القتال ، فأرسل إليهم عمران بن حصين وأبا الأسود الدؤلي ليحاججوا عائشة ومن معها
ببطلان موقفهم ، ولكن محاولات الرجلين باءت بالفشل ، فقد كانت عائشة ومعها طلحة
والزبير مصرّين على نيّتهم في إثارة الفتنة وإعلان الحرب (تاريخ
الطبري : 3 / 479 ط مؤسسة الأعلمي ، والكامل في التأريخ : 3 / 211 .) . وأقبلت عائشة ومن معها حتى انتهوا إلى (المربد) فدخلوا من
أعلاه وخرج إليهم عثمان بن حنيف ومن معه من أهل البصرة ، فتكلّم طلحة والزبير
وعائشة يحرّضون الناس على الخروج على بيعة الإمام (عليه السلام) بدعوى الثأر
لعثمان ، فاختلف الناس بين معارض ومؤيّد . وأقبل جارية بن قدامة السعدي لينصح عائشة عسى أن يردّها عن
تأجيج الفتنة ، فقال : يا أم المؤمنين ! والله لقتل عثمان بن عفان أهون من خروجك
من بيتك على هذا الجمل الملعون ، عرضة للسلاح ، إنّه قد كان لك من الله ستر
وحرمة فهتكتِ سترك وأبحت حرمتك ، إنّه من رأى قتالك ؛ فإنّه يرى قتلك ، لئن كنت
أتيتنا طائعةً فارجعي إلى منزلك، وإن كنت أتيتنا مستكرهة فاستعيني بالناس (تأريخ
الطبري : 3 / 482 ط مؤسسة الأعلمي ، والكامل في التأريخ : 3 / 213 .) . |
|
الاقتتال ـ الهدنة ـ الغدر :
|
|
افتتن الناس بقدوم عائشة على البصرة ، فبين منكر ومؤيّد ومصدّق
ومكذّب افترقت جماهير البصرة ، وتأزّم الموقف ، فاصطدم الناس واقتتلوا على فم
السكّة ، ولم يحجز بينهم إلاّ الليل ، وكان عثمان بن حنيف لا يريد إراقة الدماء
ويجنح للسلم وينتظر قدوم الإمام عليّ (عليه السلام) إلى البصرة ، فلمّا عضّت
الحرب الطرفين ؛ تنادوا للصلح ، فكتبوا كتاباً لعقد هدنة مؤقّتة على أن يبعثوا
رسولاً إلى المدينة يسأل أهلها ، فإن كان طلحة والزبير اُكرها على البيعة ؛ خرج
ابن حنيف عن البصرة ، وإلاّ خرج عنها طلحة والزبير (الإمامة
والسياسة : 87 ، والطبري : 3 / 483 ط مؤسسة الأعلمي ، وراجع الكامل في التأريخ :
3 / 215 .) . وعاد كعب بن مسور رسول الطرفين إلى المدينة بادّعاء أسامة بن
زيد أنّ طلحة والزبير بايعا مكرهين ومخالفة أهل المدينة لرأي أسامة فاستغلّها
زعماء جيش عائشة ، فهجموا في ليلة ذات رياح ومطر على قصر الإمارة حيث يتواجد
عثمان بن حنيف فقتلوا أصحابه وأسروا ونتفوا لحيته ورأسه وحاجبيه ، ولكنّهم خافوا
من قتله لأنّ أخاه سهل بن حنيف والي الإمام على المدينة (الإمامة
والسياسة : 89 ، وتأريخ الطبري : 3 / 484 ط مؤسسة الأعلمي ، ومروج الذهب
للمسعودي : 2 / 367 .) . |
|
حركة الإمام (عليه السلام) للقضاء على التمرّد :
|
|
الإمامة والسياسة : 74 ،
وتأريخ الطبري : 5 / 507 . حين استلم الإمام عليّ (عليه السلام) زمام الحكم كانت هناك
عقبة أمام استقرار الأمن وسيطرة الحكومة الشرعية المركزية ، وهي إعلان معاوية بن
أبي سفيان تمرّده على خلافة الإمام ، فشرع (عليه السلام) بالاستعداد العسكري
والسياسي لإيقاف التمزّق في كيان الأمة ومنع سفك الدماء . وما أن اُحيط الإمام (عليه السلام) علماً بحركة عائشة وطلحة
والزبير نحو البصرة وإعلانهم العصيان عدل عمّا كان يخطّط لمعالجة موقف معاوية
والشام ، فاتّجه (عليه السلام) نحو البصرة بجيش يضمّ وجوه المهاجرين والأنصار . وصل الإمام (عليه السلام) إلى منطقة (الربذة) فكتب إلى
الأمصار يستمدّ العون ويوضّح الأمر ، كي يتوصّل إلى إخماد نار الفتنة وحصرها في
أضيق نطاق ، فأرسل إلى الكوفة محمد بن أبي بكر ومحمد بن جعفر ، فأبى أبو موسى
الأشعري الاستجابة للإمام ومارس دور المثبّط عن مناصرة الإمام (عليه السلام) في
موقفه ، ثمّ أرسل عبد الله بن عباس ولم يتمكّن من إقناع أبي موسى بالانصياع
والكفّ عن تثبيط الناس عن نصرة الإمام ، فأرسل (عليه السلام) ولده الحسن وعمار
بن ياسر ثمّ تبعهم مالك الأشتر فعزلوا أبا موسى ، وتحرّكت الكوفة بكلّ ثقلها
تنصر أمير المؤمنين (عليه السلام) ، فلحقت به في (ذي قار) . وفي هذا الأثناء لم يتوقّف الإمام (عليه السلام) في مراسلة
طلحة والزبير وإيفاد الرسل إليهم ، عسى أن يعودوا لرشدهم ويدركوا خطورة فتنتهم
فيجنّبوا الأمة المصائب والبلايا وسفك الدماء ، فأوفد إلى عائشة زيد بن صوحان
وعبد الله بن عباس وغيرهما ، فحاوروهم بالحجّة والدليل والعقل حتى أنّ عائشة
قالت لابن عباس : لا طاقة لي بحجج عليّ ، فقال ابن عباس : لا طاقة لك بحجج
المخلوق فكيف طاقتك بحجج الخالق (الإمامة والسياسة ك 90 ،
وبحار الانوار : 32 / 122 .) ؟! |
|
آخر النصائح :
|
|
أكثر الإمام (عليه السلام) من مراسلة طلحة والزبير بعد أن
شارفت قواته على أبواب البصرة ، فخشيت عائشة ومن معها من اقتناع قادتها وجموع
الناس معها بحجج الإمام (عليه السلام) فخرجوا لملاقاته ، فلمّا توقّفوا للقتال
أمر الإمام (عليه السلام) منادياً ينادي في أصحابه : لا
يرمينّ أحد سهماً ولا حجراً ولا يطعن برمح حتى أُعذر القوم فأتّخذ عليهم الحجّة
البالغة (الإمامة والسياسة : 91 ،
ومروج الذهب : 2 / 270 .) . فلم يجد الإمام (عليه السلام) منهم إلاّ الإصرار على الحرب ،
ثمّ خرج الإمام (عليه السلام) إلى الزبير وطلحة فوقفوا ما بين الصفّين ، فقال
الإمام (عليه السلام) لهما : لعمري لقد أعددتما
سلاحاً وخيلاً ورجالاً ، إن كنتما أعددتما عند الله عذراً فاتّقيا الله ولا
تكونا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً ، أَلم أكن أخاكما في دينكما ؟
تحرّماني دمي وأُحرّم دمكما فهل من حدث أحلّ لكما دمي ؟ ثمّ قال (عليه السلام) لطلحة : أجئت
بعرس رسول الله (صلّى الله عليه وآله) تقاتل بها وخبّأت عرسك في البيت ؟! أما
بايعتني ؟ ثمّ قال (عليه السلام) للزبير : قد
كنا نعدّك من بني عبد المطلب حتى بلغ ابنك ابن السوء عبد الله ففرّق بيننا
، ثمّ قال (عليه السلام) : أتذكر يا زبير يوم مررت مع
رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في بني غنم ، فنظر إليّ فضحك وضحكت إليه فقلتَ
له : لا يدع ابن أبي طالب زهوه ، فقال لك رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : ليس
بِمُزهٍ ـ أي : ليس به زهو ـ لتقاتله وأنت له
ظالم ؟! قال الزبير : اللَّهُم نعم . وروي : أنّ الزبير اعتزل الحرب وقتل بعيداً عن ساحة الحرب
بعد أن استعرت الفتنة (الإمامة والسياسة : 91 ،
ومروج الذهب 2 / 270 .) . كما أنّ طلحة قتله مروان بن الحكم في ساحة المعركة
(الطبقات
الكبرى : 3 / 158 ، والإمامة والسياسة : 97 .) . |
|
نشوب المعركة :
|
|
كان الإمام (ع) طامحاً حتى
آخر لحظة قبل نشوب القتال أن يرتدع الناكثون عن غيّهم ، فلم يأذن بالقتال رغم ما
شاهد من إصرار زعماء الفتنة على المضي في الحرب ، فقال
(ع) لأصحابه : (لا يرمينّ رجل منكم بسهم ، ولا
يطعن أحدكم فيهم برمح حتى اُحدث إليكم ، وحتى يبدؤوكم بالقتال والقتل) (شرح
النهج : 9 / 111 .) . وشرع
أصحاب الجمل بالرمي فقتل رجل من أصحاب الإمام ، ثمّ قتل ثانٍ وثالث ، عندها
أَذِنَ (عليه السلام) (الإمامة والسياسة : 95 .) بالردّ عليهم والدفاع عن الحقّ
والعدل . التحم الجيشان يقتتلان قتالاً رهيباً ، فتساقطت الرؤوس
وتقطّعت الأيادي وأثخنت الجراحات في الفريقين ، ووقف أمير المؤمنين ليشرف على
ساحة المعركة فرأى أصحاب الجمل يستبسلون في الدفاع عن جملهم فنادى بأعلى صوته : (ويلكم اعقروا الجمل فإنّه شيطان ...) . فهجم الإمام (عليه السلام) وأصحابه حتى وصلوا الجمل فعقروه ،
ففرّ من بقي من أصحاب الجمل من ساحة المعركة فأمر (عليه السلام) بعد ذلك بحرق
الجمل وتذريّة رماده في الهواء لئلاّ تبقى منه بقية يفتتن بها السذّج والبسطاء ،
ثمّ قال الإمام (عليه السلام) : لعنه الله من دابّة ،
فما أشبهه بعجل بني إسرائيل . ومدّ
بصره نحو الرماد الذي تناثر في الهواء فتلا قوله تعالى : (... وَانظُرْ إِلَى إِلهِكَ الّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ
عَاكِفاً لّنُحَرّقَنّهُ ثُمّ لَنَنسِفَنّهُ فِي الْيَمّ نَسْفاً) (طه
(20) : 97 .) . |
|
مواقف الإمام بعد المعركة :
|
|
كتب الله النصر لأمير المؤمنين (عليه السلام) على مخالفيه ،
ووضعت الحرب أوزارها ، وانقشع غبار المعركة ، ونادى منادي الإمام (عليه السلام)
يعلن العفو العام : ألا لا يجهز على جريح ولا يتبع
مول ولا يطعن في وجه مدبر ، ومن ألقى السلاح فهو آمن ، ومن أغلق بابه فهو آمن ،
وأن لا يؤخذ شيء من أموال أصحاب الجمل إلاّ ما وجد في عسكرهم من سلاح أو غيره
ممّا استخدم في القتال ، وما سوى ذلك فهو ميراث لورثتهم (تأريخ
اليعقوبي : 2 / 172 ، ومروج الذهب : 2 / 371 .) . وأمر الإمام عليّ (عليه السلام) محمد بن أبي بكر وعمار بن
ياسر أن يحملوا هودج عائشة من بين القتلى وسط ساحة المعركة وينحّوه جانباً ، وأن
يتعهّد محمد أمر أخته عائشة ، فلمّا كان من آخر الليل أدخلها محمد البصرة
فأنزلها في دار عبد الله ابن خلف الخزاعي . وطاف الإمام (عليه السلام) في القتلى من أصحاب الجمل ، وكان
يخاطب كلاًّ منهم ويكرّر القول : قد وجدتُ ما وعدني
ربّي حقاً فهل وجدتَ ما وعدك ربّك حقاً . وقال أيضاً : ما ألوم اليوم من كفّ عنّا وعن غيرنا ولكنّ
المليم الذي يقاتلنا (الإرشاد للمفيد : 1 / 256 ط
مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) .) . وأقام الإمام (عليه السلام) في ظاهر البصرة ولم يدخلها ،
وأذن للناس في دفن موتاهم فخرجوا إليهم فدفنوهم (الكامل
في التأريخ : 3 / 255 .) ، ثمّ دخل (عليه السلام) مدينة البصرة معقل الناكثين ،
فانتهى إلى المسجد فصلّى فيه ثمّ خطب في الناس وذكّرهم بمواقفهم ومواقف الناكثين
لبيعته ، فناشدوه الصفح والعفو عنهم ، فقال (ع) :
(قد عفوت عنكم ، فإيّاكم والفتنة ، فإنّكم أوّل الرعيّة نكث البيعة ، وشقّ عصا
هذه الأمة)
. ثمّ أقبلت الجماهير ووجوه الناس لمبايعة الإمام (ع) (تأريخ
الطبري : 3 / 544 ، والإرشاد للشيخ المفيد : 137 .) . وبعد ذلك دخل أمير المؤمنين بيت المال في البصرة ، فلمّا رأى
كثرة المال قال : (غُرّي غيري ..) وكرّرها
مراراً ، وأمر أن يقسّم المال بين الناس بالسوية ، فنال كلّ فرد منهم خمسمائة
درهم ، وأخذ هو كأحدهم ، ولم يبقَ شيء من المال فجاءه رجل لم يحضر الوقعة يطالب
بحصّته ، فدفع إليه الإمام ما أخذه لنفسه ولم يصب شيئاً (شرح
النهج : 1 / 250 .) . ثمّ أمر أمير المؤمنين بتجهيز عائشة وتسريحها إلى المدينة ،
وأرسل معها أخاها وعدداً من النساء ألبسهنّ العمائم وقلّدهن السيوف لرعاية
شؤونها وأوصلنها إلى المدينة ، ولكنّ عائشة لم تحسن الظنّ بأمير المؤمنين
وتصوّرت أنّ الإمام لم يرعَ حرمتها ، وما أن علمت أنّ الإمام (عليه السلام) بعث
معها النساء ، أعلنت ندمها على خروجها وفشلها وإثارتها للفتنة ، فكانت تكثر من
البكاء (الإمامة
والسياسة : 98 ، ومروج الذهب للمسعودي : 2 / 379 ، والمناقب للخوارزمي : 115 ،
والتذكرة للسبط ابن الجوزي : 80 .) . |
|
نتائج حرب الجمل :
|
|
خلّفت حرب الجمل نتائج سلبيّة على واقع المجتمع
الإسلامي منها : 1 ـ توسّعت مسألة قتل عثمان بن عفّان حتى أصبحت قضية سياسية
كبيرة جرّت من ورائها ظهور تيارات مناوئة فعلاً وقولاً لمسيرة الرسالة الإسلامية
، فأطلّ معاوية بن أبي سفيان ليكمل مسيرة الانحراف الدموي في الجمل . 2 ـ شاعت الأحقاد بين المسلمين ، وفتحت باب الحرب والاقتتال
فيما بينهم ، فكانت الفرقة بين أهل البصرة أنفسهم وبين باقي الأمصار الإسلامية ،
فكانت العداوة لمطالبة بعضهم البعض الآخر بدماء أبنائهم في حين كان المسلمون
يتحرّجون من إراقة دمائهم . 3 ـ توسّعت جبهة الانحراف الداخلي في المجتمع الإسلامي ،
وازدادت العراقيل أمام حكومة الإمام عليّ (عليه السلام) فبعد أن كان تمرّد
معاوية في الشام فقط انفتحت جبهة أُخرى ممّا أدّى إلى انحسار التوسّع الخارجي ،
وكذلك انحسار الأعمال الإصلاحية والحضارية التي كان يمكن أن تنمو في المجتمع
الإسلامي . 4 ـ إنّ الأحقاد والانحراف فتحا الطريق على المخالفين في
المعتقد السياسي للّجوء فوراً إلى حمل السلاح والقتال |
|
الكوفة عاصمة الخلافة :
|
|
بعد أن هدأت الاُمور تماماً تحرّك الإمام عليّ (ع) نحو الكوفة ليتّخذها مقرّاً بعد أن بعث إليهم
برسالة أوضح فيها بإيجاز تفاصيل الأحداث (تأريخ
الطبري : 3 / 545 و 546 .) ، كما أنّ الإمام أمّر عبد الله بن عباس على البصرة وشرح له
كيفية التعامل مع سكّانها بعد الذي وقع بينهم (تاريخ
الطبري : 3 / 546 ط مؤسسة الأعلمي .) . وكان لاختيار الإمام (عليه السلام) الكوفة عاصمةً
جديدةً للدولة الإسلامية أسباب عديدة منها : 1 ـ توسّع رقعة العالم الإسلامي ، ولابدّ أن تكون العاصمة
الإدارية والسياسية للدولة في موقع يُعين الحكومة في التحرّك نحو جميع نقاط
الدولة . 2 ـ إنّ الثقل الأكبر الذي وقف مع الإمام (عليه السلام) في
القضاء على فتنة أصحاب الجمل هم كبار شخصيّات العراق ووجهاء الكوفة وجماهيرها . 3 ـ الظروف السياسية والتوتّرات الناجمة عن مقتل عثمان وحرب
أصحاب الجمل كلّ ذلك جعل الإمام (عليه السلام) أن يستقرّ في الكوفة، ليعيد الأمن
والاستقرار للمنطقة . |
|
الفصل الثالث:
|
|
الإمام علي (عليه السلام) مع القاسطين
|
|
وقعت معركة صفّين في صفر من
عام (37) هـ ، وكانت المناوشات بين الطرفين بدأت في ذي الحجّة عام (36) هـ . |
|
استعدادات معاوية لمحاربة الإمام (عليه السلام) :
|
|
ساورت المخاوف معاوية من استقرار الإمام في الكوفة ومضيّه
(عليه السلام) في خطّته لتوحيد الدولة وبناء الحضارة الإسلامية على منهج القرآن
والسنّة النبويّة ، فسارع معاوية إلى الاستعانة بعمرو بن العاص لما يتمتّع به من
حيلة وغدر ، وتوافق معه في العداء للإسلام وللإمام (عليه السلام) ، ولم يتردّد
عمرو طويلاً أمام رسالة معاوية ، ولم يكن ليختار على طمعه في الدنيا شيئاً حتى
لو كان دينه الذي يُدخله الجنّة (وقعة صفّين : 34 ، والإمامة
والسياسة : 116 ، والكامل في التأريخ : 3 / 275 .) . وما أن وصل عمرو إلى الشام حتى جعل يبكي ويولول كالنساء (الكامل
في التأريخ : 3 / 274 .) مبتدئاً خطّته في التضليل وخداع الجماهير ، وبعد مراوغة
ومكايدة بين معاوية وعمرو تمّت المساومة على أن تكون حصّة عمرو ولاية مصر مقابل
مواجهة الإمام (عليه السلام) ومحاربته ، وكتب معاوية كتاباً بذلك (وقعة
صفّين : 40 ، والإمامة والسياسة : 117 .) . وشرعاً يخطّطان لمواجهة الإمام والوضع القائم ، فكان الاتّفاق
على المضيّ في هذا المسار العدائي المشوب بالظلم والغدر والبغي ، إذ لا سبيل
للوصول إلى أهدافهم وغاياتهم إلاّ مواجهة الإمام (عليه السلام) وهو الوريث
الشرعيّ للنبيّ (صلَّى الله عليه وآله) وحامل راية الحقّ والعدل، واصطدم الرجلان
إذ كلاهما خذلا عثمان فكانت خطّتهم تتطلب التشبّث بقميص عثمان كشعار لتحريك
مشاعر وعقول الجماهير غير الواعية ، فرفعاه على المنبر بعد أن قَدِم به عليهما
النعمان بن بشير ، فكان الناس يضجّون بالبكاء حتى سرت فيهم روح الحقد والكراهية
والعمى عن هدى الحقّ (وقعة صفّين : 37 ، الكامل في
التأريخ : 3 / 277 .) . ولتحريك جماهير الشام لمؤازرة معاوية وحشدهم للحرب اقترح
عمرو أن يكون شرحبيل بن السمط الكندي المحرّك الأول ، لما عرف عنه من عبادة
ووجاهة في قبائل الشام وكراهية لجرير مبعوث الإمام (عليه السلام) إلى معاوية ،
كما أنّ شرحبيل ممّن لا يتقصّى الحقائق من مصادرها ، وتمّت مخادعة شرحبيل الذي
انطلق مطالباً معاوية بالأخذ بثأر عثمان بن عفان ، ويتحرّك بنفسه لحشد الناس
للحرب (المصدر
السابق : 46 .) . |
|
السيطرة على الفرات :
|
|
بعد تعبئة الشام للحرب ؛ أخذ معاوية منهم البيعة وكتب بالحرب
كتاباً أرسله مع جرير (المصدر السابق : 56 .) الذي أبطأ كثيراً على الإمام (ع) ،
ثمّ سارع معاوية بتحريك قوّاته نحو أعالي الفرات في وادي صفّين لاحتلالها ومنع
تقدّم قوات الإمام (عليه السلام) وحبس الماء عنهم ، وتصوّر معاوية أنّ هذا أوّل
نصر يحقّقه على الإمام (عليه السلام) . وطلب الإمام (عليه السلام) من معاوية أن
يسمح لجيشه بالاستقاء بعد أن وصلوا متأخرين إلى صفّين ، وأبى معاوية وجيشه ذلك ،
وأضرّ الظمأ كثيراً بأهل العراق وازداد الضغط على الإمام (عليه السلام) لكسر
الحصار ، فأذن لهم بالهجوم على شاطئ الفرات ، وتمّ إزاحة قوّات معاوية عن ضفّة
النهر. ولكنّ الإمام (عليه السلام) لم يقابل أهل الشام بالمثل ،
ففسح لهم المجال لأخذ الماء دون معارضة (مروج
الذهب : 2 / 384 ، وشرح النهج لابن أبي الحديد : 3 / 320 ، والكامل في التأريخ :
3 / 283 .) . |
|
محاولة سلمية :
|
|
رغم أنّ الإمام (عليه السلام) أكثر من مراسلة معاوية وفتح
عدّة قنوات للحوار محاولاً كسبه وإدخاله في بيعته لكنّ ردّ معاوية كان هو الحرب
والسعي للقضاء على الإمام وجيشه بكلّ وسيلة ، وبيد أنّ الإمام (عليه السلام) كان
يأمل في محاولة سلمية أُخرى بعد أن استقرّ وجيشه ضفّة الفرات ، فسادت هدنة
مؤقّتة بعث خلالها الإمام (ع) مندوبين عنه إلى
معاوية وهم بشير بن محصن الأنصاري وسعيد بن قيس الهمداني وشبث بن ربعي التميمي ،
فقال (ع) لهم : (إئتوا هذا الرجل ـ أي معاوية ـ
وادعوه إلى الله وإلى الطاعة والجماعة) . وما كان جواب معاوية إلاّ السيف والحرب ، فقال للمندوبين :
انصرفوا من عندي فليس بيني وبينكم إلاّ السيف (تأريخ
الطبري : 3 / 569 ، والكامل في التأريخ : 3 / 284 .) . |
|
الحرب بعد الهدنة :
|
|
جرت مناوشات بين الجيشين ولم تستعر الحرب بعدُ ، فكانت خرج
فرقة منكلا الطرفين فيقتتلان ، وما أن حلّ شهر محرّم من عام (37 هـ) حتى حصلت
موادعة بين الطرفين ، حاول من خلالها الإمام (عليه السلام) التوصّل إلى الصلح ، وكانت طروحاته (ع) هي الدعوة إلى السلم وجمع الكلمة
وحقن الدماء ، ودعوات معاوية وأهل الشام رفض بيعة الإمام (ع) والطلب بدم عثمان
بن عفان (وقعة
صفّين : 195 ، وتأريخ الطبري : 3 / 570 .) . واستمرّت الهدنة مدّة شهرٍ واحدٍ ، ولمّا طالت فترة
المناوشات ؛ سئم الفريقان من ذلك فعبّأ الإمام (ع)
جيشه تعبئة عامة ، وكذلك فعل معاوية ، والتحم الجيشان في معركة رهيبة ، وكان
الإمام يوصي جنوده دائماً فيقول : (لا تقاتلوا القوم حتى
يبدؤوكم فأنتم بحمد الله عزّ وجلّ على حجّة) ثمّ قال : (فإذا قاتلتموهم فهزمتموهم فلا تقتلوا
مدبراً ولا تجهزوا على جريح ولا تكشفوا عورة ولا تمثّلوا بقتيل) (وقعة
صفّين : 202 ، وتأريخ الطبري : 4 / 6 .) . واستمرت الحرب بين كرٍّ وفرّ حتى سقط خلالها أعداد كبيرة من
المسلمين صرعى وجرحى بلغت عشرات الألوف . |
|
مقتل عمار بن ياسر :
|
|
روي : أنّ عمار بن ياسر خرج بين الصفوف فقال : إنّي لأرى
وجوه قوم لا يزالون يقاتلون حتى يرتاب المبطلون ، والله لو هزمونا حتى يبلغوا
بنا سعفات هجر ؛ لكنّا على الحقّ وكانوا على الباطل . ثمّ
تقدّم نحو جيش معاوية وهو يرتجز : نحن
ضربناكم على تنزيله = واليوم نضربكم على تأويله ضرباً
يزيل الهام عن مقيله = ويذهل الخليل عن خليله أو
يرجع الحقّ إلى سبيله فتوسّط فيهم ببسالته التي قاتل بها مع رسول الله (ص) صادقاً
مخلصاً ، فاشتبكت عليه الرماح فطعنه أبو العادية وابن جون السكسكي ، وروي أنّهما
اختصما في رأس عمار إلى معاوية وعبد الله بن عمرو بن العاص جالس فقال لهم ك ليطب
به أحدكما نفساً لصاحبه، فإنّي سمعت رسول الله (ص) يقول له : (يا عمّار تقتلك الفئة الباغية) (وقعة
صفّين : 340 ، وتأريخ الطبري : 4 م 27 ط مؤسسة الأعلمي ، والعقد الفريد : 4 /
341 .) . وكان الإمام قلقاً لا يقرّ له قرار
حين برز عمار للقتال في ذلك اليوم ، وأكثر من السؤال عليه حتى جاءه خبر استشهاده
، فأسرع إلى مصرعه كئيباً حزيناً تفيض عيناه دمعاً ، فقد غاب عنه الناصر الناصح
والأخ الأمين ، ثمّ صلَّى عليه الإمام (عليه السلام) ودفنه . وسرى خبر استشهاد عمار بين الجيشين فوقعت الفتنة بين صفوف
جيش معاوية ، لما يعلمون من مكانة عمار وحديث الرسول (صلَّى الله عليه وآله) له
... ولكنّ المكر والحيلة كانا بالمرصاد لكلّ ساذج جاهل ، فأشاع معاوية أنّ الذي
قتل عماراً من جاء به . وأذعن بسطاء أهل الشام لهذه الضلالة (تأريخ
الطبري : 5 / 653 .) . وروي : أنّ ذلك بلغ الإمام علياً (عليه السلام) فقال :
ونحن قتلنا حمزة لأنّا أخرجناه إلى أُحد؟ (العقد
الفريد : 4 / 343 ، وتذكرة الخواص : 90 .) |
|
خدعة رفع المصاحف :
|
|
استمرّ القتال أياماً أظهر خلالها أصحاب الإمام صبرهم
وتفانيهم من أجل انتصار الحقّ ، ثمّ إنّ الإمام (عليه السلام) قام خطيباً يحثّ
على الجهاد فقال : (أيّها الناس ! قد بلغ بكم الأمر وبعدوّكم ما
قد رأيتم ، ولم يبق منهم إلاّ آخر نفس ، وإنّ الأمور إذا أقبلت اعتبر آخرها
بأوّلها .. وقد صبر لكم القوم على غير دين حتى بلغنا ، منهم ما بلغنا وأنا غادٍ
عليهم بالغداة أحاكمهم إلى الله عزّ وجلّ) (كتاب سليم بن قيس : 176 ،
والكامل في التأريخ : 3 / 310 .) . فبلغ ذلك معاوية وقد بدت الهزيمة على أهل الشام فاستدعى عمرو
بن العاص يستشيره ، وقال له : إنّما هي الليلة حتى يغدو عليّ علينا بالفيصل فما
ترى ؟ قال عمرو : أرى أنّ رجالك لا يقومون لرجاله ولست مثله ، وهو
يقاتلك على أمر وأنت تقاتله على غيره ، أنت تريد البقاء وهو يريد الفناء ، وأهل
العراق يخافون منك إن ظفرت بهم وأهل الشام لا يخافون عليّاً إن ظفر بهم ، ولكن
ألقِ إليهم أمراً إن قبلوه اختلفوا وإن ردّوه اختلفوا ،أُدعهم
إلى كتاب الله حكماً فيما بينك وبينهم (وقعة
صفّين : 347 ، وتأريخ الطبري : 4 / 34 .) . فأمر معاوية في الحال أن ترفع المصاحف على الرماح ، ونادى
أهل الشام : يا أهل العراق ! هذا كتاب الله بيننا وبينكم من فاتحته إلى خاتمته
من لثغور أهل الشام من بعد أهل الشام ومن لثغور أهل العراق بعد أهل العراق ؟ وكانت هذه الدعوى المضلّلة كالصاعقة على رؤوس جيش الإمام ،
فهاج الناس وكثر اللغط بينهم ، وقالوا : نجيب إلى كتاب الله وننيب إليه، وكان
أشدّ الناس في ذلك أحد كبار قادة جيش الإمام عليّ الأشعث بن قيس . فقال لهم الإمام (عليه السلام) : (عباد
الله ! امضوا على حقّكم وصدقكم وقتال عدوّكم ، فإنّ معاوية وعمرو بن العاص وابن
أبي معيط وحبيب بن أبي مسلمة وابن أبي سرح والضحّاك ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن ،
أنا أعرف بهم منكم ، قد صحبتهم أطفالاً ثمّ رجالاً فكانوا شرّ أطفال وشرّ رجال ،
وَيْحَكُم ! والله ما رفعوها إلاّ خديعةً ووهناً ومكيدةً ، إنّها كلمة حقّ يراد
بها باطل) . فخاطبوا أمير المؤمنين باسمه الصريح قائلين : يا عليّ ، أجب
إلى كتاب الله عزّ وجلّ إذ دعيت إليه وإلاّ ندفعك برمّتك إلى القوم أو نفعل كما
فعلنا بابن عفّان . ولم يجد الإمام (عليه السلام) مع المخدوعين سبيلاً فقال : فإن
تطيعوني فقاتلوا وإن تعصوني فاصنعوا ما شئتم (وقعة
صفّين : 481 ، وتأريخ الطبري : 4 / 34 و 35 ط مؤسسة الأعلمي .) . وكان في ساحة المعركة مالك الأشتر يقاتل ببسالة ويقين حتى
كاد أن يصل إلى معاوية فقالوا لأمير المؤمنين : ابعث إلى الأشتر ليأتينّك ..
ولكنّ الأشتر لم ينثنِ عن عزمه في القتال ، لأنه يعلم أنّ الأمر خدعة فهدّدوه
بقتل الإمام (عليه السلام) ، فعاد الأشتر يؤنّبهم فقال لهم : خُدعتم والله
فانخدعتم ودُعيتم إلى وضع الحرب فأجبتم ، يا أصحاب الجباه السود كنّا نظن أنّ
صلاتكم زهادة إلى الدنيا وشوق إلى لقاء الله ، فلا أرى فراركم إلاّ إلى الدنيا
من الموت. وأقبل الناس يقولون قد رضي أمير المؤمنين ، والإمام (ع) ساكت لا يفيض بكلمة مطرق الرأس حزيناً ،
فقد انطلت على جيشه فتمرّد عليه ، ولم يعد باستطاعته أن يفعل شيئاً ، وقد أدلى
(عليه السلام) بما مني به بقوله : (لقد كنت أمسِ أميراً
فأصبحت اليوم مأموراً ، وكنت بالأمسِ ناهياً فأصبحت اليوم منهيّاً) (نهج
البلاغة الخطبة 208 ط مؤسسة النشر الإسلامي .) . |
|
التحكيم وصحيفة الموادعة :
|
|
لم تتوقّف محنة الإمام (عليه السلام) بتخاذل الجيش ، وكان
بالإمكان أن يحقّق مكسباً سياسياً عن طريق المفاوضات التي دُعي إليها لو أطاعه
المتمرّدون في اختيار الممثّلين عنه إلى التحكيم ، فأراد الإمام (عليه السلام)
ترشيح عبد الله بن عباس أو مالك الأشتر لما يعلم عنهما من إخلاص ووعي ، وأصرّ
المخدوعون على ترشيح أبي موسى الأشعري، فقال الإمام (عليه السلام) : (إنّكم
قد عصيتموني في أوّل الأمر فلا تعصوني الآن ، إنّي لا أرى أن أولِّي أبا موسى
فإنّه ليس بثقة ، قد فارقني وخذّل الناس عنّي ـ بالكوفة عند الذهاب لحرب الجمل ـ
ثمّ هرب منّي حتى أمّنته بعد أشهر) (وقعة
صفّين : 499 ، وتأريخ الطبري : 4 / 36 ، والكامل في التأريخ : 3 / 319 .)
. وتمكّن معاوية وابن العاص من مأربهم في تفتيت جيش الإمام
(عليه السلام) ، يساعدهم في ذلك الأشعث بن قيس من داخل قوّات الإمام . حضر عمرو بن العاص ممثّلاً عن أهل الشام بدون معارضة من أحد
لتسطير بنود الاتّفاق مع أبي موسى الأشعري ، ولم يقبل عمرو كتابة اسم (أمير
المؤمنين) في الصحيفة ، فقال الإمام (عليه السلام) :
إنّ هذا اليوم كيوم الحديبية إذ قال سهيل ابن عمر للنبي : لست رسول الله ،
ثمّ قال (عليه السلام) : فقال لي رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) :
أما إنّ لك مثلها ستعطيها وأنت مضطهد (وقعة صفّين : 508 ، وشرح نهج
البلاغة : 2 / 232 .) . وأهمّ ما جاء في الصحيفة هو إعلان الهدنة ووقف القتال ،
وأن يلجأ الطرفان إلى كتاب الله وسنّة نبيّه لحلّ قضاياهم ، وأُجّل البتّ في قرار الحكمين إلى رمضان (37 هـ) ، حيث
كتبت الصحيفة في صفر من العام نفسه . والغريب أنّ مسألة الأخذ بثأر عثمان لم ترد
ولو بإشارة بسيطة في كتاب الموادعة مع أنّها أس الفتنة التي تحرّك فيها معاوية
وحزبه من أبناء الطلقاء () تأريخ الطبري : 4 / 40 .) ، واتّفقوا
على أن يكون موضع اجتماع الحكمين في (دومة الجندل) . |
|
موقف واع وتقييم :
|
|
روي : أنّه طلب من الأشتر أن يشهد في الصحيفة ، فقال : لا
صبّحتني يميني ولا نفعتني بعدها شمالي إن خُطّ لي في هذه الصحيفة اسم أوَلست على
بيّنة من ربّي من خلال عدوّي ؟ أو لستم قد رأيتم الظفر (وقعة
صفّين : 511 ، والكامل في التأريخ : 3 / 321 .) ؟ وقيل لأمير المؤمنين : إنّ الأشتر لا يقرّ بما في الصحيفة
ولا يرى إلاّ قتال القوم . فقال (عليه السلام) : (وأنا والله ما رضيت ولا
أحببت أن ترضوا)
.. ثمّ قال (ع) : (يا ليت فيكم مثله اثنين ،
يا ليت فيكم مثله واحداً يرى في عدوّي ما أرى ، إذاً لخفّت عليّ مؤنتكم ، ورجوت
أن يستقيم لي بعض أودكم وقد نهيتكم فعصيتموني ، والله لقد فعلتم فِعلة ضعضعت
قوّة وأسقطت مُنّة وأورثت وهناً وذلّة) (وقعة
صفّين : 521 ، وتأريخ الطبري : 4 / 42 و 43 ، والكامل في التأريخ : 3 / 322 .) . |
|
رجوع الإمام (عليه السلام) واعتزال الخوارج :
|
|
قفل أمير المؤمنين راجعاً إلى الكوفة مثقلاً بالهموم والآلام
، يرى باطل معاوية قد استحكم ، وأمره أوشك أن يتمّ ، وينظر إلى جيشه وقد فتّته
التمرّد لا يستجيب لأَمره . ودخل الإمام (عليه السلام) الكوفة فرأى لوعة وبكاء ، قد سادت
جميع أرجائها حزناً على من قتل في صفّين ، واعتزلت فرقة تناهز اثني عشر ألف
مقاتل عن جيش الإمام ، ولم يدخلوا الكوفة فلحقوا بحروراء ، وجعلوا أميرهم على
القتال شبث بن ربعي ، وعلى الصلاة عبد الله بن الكواء اليشكري ، وخلعوا بيعة
الإمام (عليه السلام) يدعون إلى جعل الأمر شورى بين المسلمين .. وكان أمر هؤلاء
قد بدأ منذ كتابة صحيفة الموادعة ، إذ لم يعجبهم الأمر فاعترضوا وقالوا : لا
نرضى لا حكم إلاّ لله ، واتّخذوه شعاراً لهم رغم أنّهم هم الذين أصرّوا على
الإمام (عليه السلام) لقبول التحكيم . وسعى أمير المؤمنين لمعالجة موقفهم بالحكمة والنصيحة ، فأرسل
إليهم عبد الله بن عباس وأمره أن لا يعجل في الخوض معهم في جدال وخصومة ، ولحقه
الإمام (عليه السلام) فكلّمهم وحاججهم وفنّد كلّ دعاويهم ، فاستجابوا له ودخلوا
معه إلى الكوفة (تأريخ
الطبري : 4 / 54 ، والكامل في التأريخ : 3 / 426 .) . |
|
اجتماع الحكمين :
|
|
حان الأجل الذي ضرب الحكمين ، فأرسل الإمام (عليه السلام)
أربعمائة رجل عليهم شريح بن هاني ، وبعث معهم عبد الله بن عباس ليصلّي بهم ويلي
أمورهم وأبو موسى الأشعري معهم ، وبعث معاوية عمرو بن العاص في أربعمائة رجل من
أهل الشام حتى توافوا في دومة الجندل . وقد سارع عدد من أهل الرأي والحكمة ممّن أخلصوا للإمام (عليه
السلام) بتقديم النصح والتحذير لأبي موسى ، باذلين جهدهم في حمله على التبصرة
والرويّة في اتّخاذ القرار ، وخشية منهم من مكر عمرو وخداعه (وقعة
صفّين : 534 ، وشرح نهج البلاغة : 2 / 246 . ط دار إحياء التراث العربي .) . |
|
قرار التحكيم :
|
|
اجتمع الحكمان : أبو موسى الأشعري وعمرو بن العاص ، والأوّل يحمل الغباء
السياسي وضعف الانتماء العقائدي وقلّة الولاء لإمامه عليّ (عليه السلام) والثاني
هو الماكر المخادع ذو السجيّة الغادرة والطامع إلى إقصاء خطّ أهل البيت (عليهم
السلام) تماماً عن الميدان السياسي ، يدفعه لذلك طمعه للملك وشركته مع الطليق
ابن الطليق معاوية . ولم يطل الاجتماع طويلاً حتى تمكّن ابن العاص من معرفة نقاط
الضعف في شخصية الأشعري والسيطرة عليه وتوجيهه نحو ما يريد ، واتفق الإثنان في
اجتماع مغلق على خلع الإمام عليّ (عليه السلام) ومعاوية عن ولاية أمر المسلمين ،
واختيار عبد الله بن عمر بن الخطاب ليكون الخليفة المقترح . وبادر ابن عباس محذّراً الأشعري من أن ينساق في لعبة ابن
العاص ، فقال له : ويحك ، والله إنّي لأظنّه قد خدعك إن اتّفقتما على أمر ،
فقدّمه فليتكلّم بذلك الأمر قبلك ثمّ تكلّم أنت بعده ، فإنّ عَمْراً رجل غادر لا
آمن من أن يكون قد أعطاك الرضا فيما بينك وبينه ، فإذا قمت في الناس خالفك . فقام الأشعري فخطب وخلع الإمام عليّاً (عليه السلام) ، ثمّ
انبرى عمرو فخطب وأكّد خلع الإمام وثبّت معاوية لولاية الأمر (تأريخ
الطبري : 4 / 52 ، ومروج الذهب : 2 / 411 ، والكامل في التأريخ : 3 / 322 .) . وبتلك الغدرة ظفر معاوية بالنصر ، وعاد إليه أهل الشام
يسلّمون عليه بإمرة المؤمنين ، وأمّا أهل العراق فغرقوا في الفتنة وأيقنوا بضلال
ما أقدموا عليه ، وهرب أبو موسى إلى مكّة ، ورجع ابن عباس وشريح إلى الإمام عليّ
(عليه السلام) . |
|
الفصل الرابع:
|
|
الإمام علي (عليه السلام) مع المارقين
|
|
يمكن أن نقول : إن ظهور الخوارج إفراز طبيعي للصراع الدموي في الجمل وصفّين
، كما أنّنا لا يمكننا أن نعزل انحرافهم بمعزل عن انحراف الخلافة عن خطّ أهل
البيت (عليهم السلام) ، لقد كان من أهمّ صفات الخوارج هو التحجّر والتمسّك
بالظواهر والتعصّب والخشونة وعدم التمييز بين الحقّ والباطل ، وأنّهم سريعو
التأثّر بالشائعات ، فيتردّدون عند أدنى شكّ . ونجد أنّ النبيّ (صلَّى الله عليه وآله) أخبر عن صفتهم ، إذ
روي عنه (صلَّى الله عليه وآله) : (يخرج في هذه الأمة
ـ ولم يقل منها ـ قوم تحقّرون صلاتكم مع صلاتهم ، يقرءون
القرآن ولا يجاوز حلوقهم يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية)
(انظر
البداية والنهاية : 7 / 321 ـ 337 وصحيح البخاري : 9 / 21 ـ 22 باب ترك قتال
الخوارج ، وصحيح مسلم :2 / 744 الحديث 1064 ، ومسند أحمد : 3 / 56 دار صادر .) . ولم يتمكّن الإمام (عليه السلام) من معالجة أمراضهم
وانحرافاتهم ، فقد عاجلته الحروب والتمرّدات في الجمل وصفّين في فترة قصيرة
جدّاً ، ويمكن أن نعزو ظهور الخوارج إلى : 1 ـ الإحباط النفسي والفشل في تحقيق النصر ، وخصوصاً أنّ
معارك الإمام (ع) ضد متمرّدين هم مسلمون في
الظاهر ، فلم يتمكّن الخوارج من فهم معالجة الإمام للمتمرّدين ، ولم يتمكّنوا من
تحمّل نتيجة التحكيم ، في حين هم الذين أجبروه على قبول التحكيم ، ولم يواجهوا
أنفسهم بمواقفهم المنحرفة ، فسعوا إلى تعليق أخطائهم وتحميل أوزارها إلى طرف آخر
غيرهم ولم يكن إلاّ الإمام عليّ (ع) (تأريخ
الطبري : 4 / 53 ـ 58 .) . 2 ـ استغلالهم الحرية الفكرية التي فتحها الإمام (عليه
السلام) لكي تمارس الأمة وعيها الرسالي ، فقد روي أنّهم كانوا يعترضون على الإمام
حتى أثناء خطبته بدعوى لا حكم إلاّ لله ، وما كان الإمام يجيبهم إلاّ بـ (كلمة
حقّ يراد بها باطل) . وقال الإمام (ع) لهم
: (لكم
عندنا ثلاث خصال : لا نمنعكم مساجد الله أن تصلّوا فيها ، ولا نمنعكم الفيء ما
كانت أيديكم في أيدينا ن ولا نبدؤكم للحرب حتى تبدؤونا) (تأريخ
الطبري : 4 / 54 ، والكامل في التأريخ : 3 / 334 ، ومستدرك وسائل الشيعة : 2 /
254 .) فتحوّلت حركتهم من حالة فردية إلى
حالة جماعية . |
|
ردّ الإمام (عليه السلام) على قرار الحكمين :
|
|
ولمّا بلغ خبر التحكيم إلى الإمام (عليه السلام) تألّم
كثيراً ن وخطب في الناس يحثّهم ويدلّهم على إصلاح الخطأ الذي تورّطوا فيه
وذكّرهم بنصحه لهم ، فقال (عليه السلام) : (إنّ مخالفة الناصح الشفيق
المجرّب تورث الحسرة وتعقب الندامة ، وقد كنت أمرتكم في هذه الحكومة أمري، ونخلت
لكم مخزون رأيي لو كان يطاع لقصير أمر فأبيتم عليَّ إباء المخالفين الجفاة
المنابذين العصاة حتى ارتاب الناصح بنصحه وضّنَّ الزند بقدحه ، فكنت وإيّاكم كما
قال أخو هوازن : أمرتكم
أمري بمنعرج اللوى = فلم تستبينوا النصح إلاّ ضحى الغد ألا إنّ هذين الرجلين ـ أبا موسى الأشعري وابن العاص ـ اللّذين
اخترتموهما حكمين قد نبذا حكم القرآن وراء ظهورهما ، وأحييا ما أمات القرآن ،
واتّبع كلّ واحد منهما هواه بغير هدىً من الله ، فحكما بغير حجّة بيّنة ولا سنّة
ماضية ، واختلفا في حكمهما وكلاهما لم يرشد ، فبرئ الله منهما ورسوله وصالح
المؤمنين ، استعدوا وتأهّبوا للمسير إلى الشام ، وأصبحوا في معسكركم إن شاء الله
(تأريخ
الطبري : 4 / 57 .) . وكتب الإمام إلى عبد الله بن عباس أن يعبّئ أهل البصرة
للالتحاق بالإمام (عليه السلام) لقتال معاوية ، فالتحقت جموع البصرة بالكوفة ،
ولكن عبث الخوارج الذين تجمّعوا من البصرة والكوفة متّجهين نحو النهروان وفسادهم
في الأرض أقلق أصحاب الإمام (عليه السلام) من تركهم خلفهم لو توجّهوا إلى الشام
فطلبوا من الإمام أن يقضي على الخوارج أوّلاً (تأريخ
الطبري : 4 / 57 و 58 ، والبداية والنهاية : 7 / 286 .) . وكان من عيث الخوارج أنّهم قبضوا على عبد الله بن خباب
وزوجته فقتلوه ، وبقروا بطن امرأته ، وألقوا ما فيها من دون مبرّر ، وكذلك قتلوا
الحارث بن مرّة العبدي رسول الإمام (عليه السلام) إليهم (تأريخ
الطبري : 4 / 61 ، والبداية والنهاية : 7 / 286 ، والفصول المهمة لابن الصبّاغ :
108 .) . |
|
المواجهة مع الخوارج :
|
|
تجمّعت قوات المارقين عن الدين قرب النهروان بعد أن التحقت
بهم مجاميع من البصرة وغيرها ، وحاول الإمام (عليه السلام) مراراً أن يقنعهم
بالتخلي عن فكرتهم وتمرّدهم وسعيهم للحرب ، ولم يجد فيهم إلاّ الفساد والجهل
والإصرار ، فعبّأ جيشه ونصحهم بأخلاق الإسلام في كيفية التعامل في مثل هذه
الظروف كما هو شأنه في كلّ معركة ولمّا انتهى الإمام (عليه السلام) ؛ إليهم بعث
لهم رسولاً يطلب منهم قتلة عبد الله بن خباب وقتلة رسوله الحارث بن مرّة ،
فردّوا عليه مجمعين : كلّنا قتلناهم وكلّنا مستحلّ لدمائكم ودمائهم . وبعث الإمام (عليه السلام) قيس بن سعد وأبا أيوب الأنصاري
لينصحوا القوم عساهم أن يفهموا واقع الأحداث ، ويجنّبوا الأمة مزيداً من الدماء،
ثمّ أتاهم الإمام (عليه السلام) فقال لهم : (أيّتها العصابة التي
أخرجها عداوة المراء واللجاجة ، وصدّها عن الحقّ الهوى ، وطمع بها النزق ،
وأصبحت في الخطب العظيم ! إنّي نذير لكم أن تصبحوا تلعنكم الأمة غداً صرعى
بأثناء هذا الوادي ، وبأهضام هذا الغائط بغير بيّنة من ربّكم ولا برهان مبين) ثمّ بيّن لهم (عليه السلام) أنّه كره
التحكيم وعارضه ، وشرح سبب معارضته بوضوح لهم ، ولكنّهم أنفسهم أجبروا الإمام
على قبول التحكيم ، وأنّ الحكمين لم يحكما بالقرآن والسنّة ، وها هو الإمام يعدّ
العدّة لملاقاة معاوية ثانية ، فلا معنى لخروج المارقين ، ولم يرعِو المارقون
لقول الإمام وطالبوه بتكفير نفسه وإعلان توبته ، فقال (عليه السلام) : (أصابكم حاصب ولا بقي منكم
آثر أبعد إيماني برسول الله (صلَّى الله عليه وآله) وهجرتي معه وجهادي في سبيل
الله أشهد على نفسي بالكفر، لقد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين) ثمّ انصرف عنهم ، وتقدّم الخوارج
فاصطفّوا للقتال .. وعبّأ الإمام (عليه السلام) جيشه لملاقاتهم ، وفي محاولة
أخيرة أمر الإمام أبا أيوب الأنصاري أن يرفع راية أمان للخوارج ، ويقول لهم :
(من جاء إلى هذه الراية فهو آمن ومن انصرف إلى الكوفة والمدائن فهو آمن إنّه لا
حاجة لنا فيكم إلاّ فيمن قتل إخواننا) . فانصرفت منهم مجاميع كثيرة ، وقال الإمام (عليه السلام) لأصحابه :
كفّوا
عنهم حتّى يبدؤوكم بقتال
. وهجم الخوارج وهم يتصايحون : لا حكم إلاّ لله ... الرواح
الرواح إلى الجنّة ، ولم تمضِ إلاّ ساعة حتى أبيد أكثرهم ، ولم ينجُ منهم إلاّ
أقلّ من عشرة ، ولم يُقتل من أصحاب الإمام إلاّ أقلّ من عشرة أشخاص (نهج
البلاغة الخطبة 59 ط مؤسسة النشر الإسلامي ، ومروج الذهب : 2 / 385 ، والبداية
والنهاية : 7 / 319 .) . وبعد أن سكنت أوار المعركة ؛ أمر الإمام (عليه السلام)
بطلب (ذي الثُّدية) ـ أحد قادة الخوارج ـ وألحَّ في ذلك لأنّ في ذلك مصداقاً
لوصايا الرسول (صلَّى الله عليه وآله) بمقاتلة المارقين عن الدين الذين فيهم ذو
الثدية (صحيح
مسلم : كتاب الزكاة ، باب ذكر الخوارج وصفاتهم والتحريض على قتالهم .) . ولمّا وجدوه أخبروا الإمام (عليه
السلام) فقال : (الله أكبر ما كذبت ولا كذّبت ، لو لا أن
تنكلوا عن العمل ؛ لأخبرتكم بما قصّ الله على لسان نبيّه (صلَّى الله عليه وآله)
لمن قاتلهم مستبصراً في قتالهم ، عارفاً للحقّ الذي نحن عليه) وسجد (ع) شكراً لله (تأريخ
الطبري : 4 / 66 ، وشرح نهج البلاغة : 2 / 266 ، والبداية والنهاية : 297 .) . |
|
احتلال مصر :
|
|
بعد مقتل عثمان بن عفان ولّى أمير المؤمنين قيس بن سعد بن
عبادة الأنصاري ولاية مصر ، ثمّ كلّف محمد بن أبي بكر ليقوم مقام قيس بن سعد
لرأي رآه (ع) ، وبقيت مصر الجناح الآخر الذي يقلق معاوية ، فما أن ساد الاضطراب
والتخاذل في المجتمع الإسلامي بعد المعارك ونتائجها ؛ تحرّك معاوية وعمرو بن
العاص لاحتلال مصر التي كانت ثمناً لجهود عمرو بن العاص لتخريب حكومة الإمام
وتهديم الدين ، وحاول (ع) أن يمدّ محمد بن أبي بكر بالعِدّة والعُدّة عند سماعه
بزحف معاوية نحو مصر ، فلم يلبث إلاّ قليلاً حتى أتت الأخبار باحتلال مصر
واستشهاد محمد بن أبي بكر ، وحزن الإمام (ع) على محمد (شرح
النهج لابن أبي الحديد : 6 / 88 .) ، ثمّ كان قد كلّف (ع) مالك الأشتر بولاية مصر وكتب إليه
عهده المشهور في إدارة الحكم وسياسة الناس ، ولكن معاوية وما يملك من وسائل
الشيطان والخداع تمكّن من دسّ السم لمالك (تأريخ
الطبري : 4 / 72 .) . |
|
انهيار الأمة وتفكّكها :
|
|
بدأت بوضوح ملموس ملامح وآثار الانحراف الذي حصل يوم السقيفة
في نهاية أيّام حكم الإمام (عليه السلام) حيث بدأ معاوية ومن اقتفى أثره في
محاربة الإسلام من داخل الإسلام بتفكيك ما بقي من أواصر تماسك المجتمع الإسلامي
وتخريبه وبناء مجتمع ينسجم وفق رغباتهم وأهوائهم، ويمكننا
أن نلحظ حال الأمة بعد خوض الإمام (عليه السلام) ثلاث معارك فيصلية لاجتثاث
الفساد فيما يلي : 1 ـ مُني الإمام (عليه السلام) والأمة بفقد خيار الصحابة
الواعين والمؤثِّرين في المجتمع وحركة الرسالة الإسلامية الذين كان يمكن من
خلالهم بناء الأمة الصالحة وفق نهج القرآن والسنّة بإشراف الإمام (ع) ، وقد بلغ الحزن في نفس الإمام مبلغاً
عظيماً نجده في نعيه لهم بقوله : (ما ضرّ إخواننا الذين
سفكت دماؤهم بصفّين أن لا يكونوا اليوم أحياءً يسيغون الغصص ويشربون الرنق ، قد
والله لقوا الله فوفّاهم أجورهم وأحلّهم دار الأمن بعد خوفهم .. أين إخواني
الذين ركبوا الطريق ومضوا على الحقّ ؟ أين عمار ؟ وأين ابن التيهان ؟ وأين ذو
الشهادتين ؟ وأين نظراؤهم من إخوانهم الذين تعاقدوا على النيّة واُبرد برؤوسهم
إلى الفجرة ؟)
. ثمّ وضع يده على كريمته فأطال البكاء ثمّ قال : (أَوِّه
على إخواني الذين قرءوا القرآن فأحكموه وتدابروا الفرض فأقاموه ، أحيوا السنّة
وأماتوا البدعة ، دعوا للجهاد فأجابوا ، ووثقوا بالقائد فاتّبعوه) (شرح
النهج لابن أبي الحديد : 10 / 99 .) . 2 ـ تمرّد الجيش وتفكّكه وظهور الضعف والسأم من الحرب لكثرة
مَن قتل من أهل العراق الذين يشكّلون العمود الفقري لفرق جيش الإمام (عليه السلام)
، ولم يتمكن (عليه السلام) بما يملك من قدرة خطابية رائعة وحجّة بالغة أن يبعث
الاندفاع والحزم في قاعدته الشعبية لمواصلة الحرب ، وممّا زاد من تفتيت الجيش
عدم توقّف معاوية من مخاطبة زعماء القبائل والعناصر التي يبدو منها حبّ الدنيا ،
فمنّاهم بالأموال والهبات والمناصب إذا قاموا بكلّ ما يؤدي إلى إضعاف قوّة
الإمام (عليه السلام) وجماهيره المؤيدة ، حتى أنّ الإمام (عليه السلام) لم يستطع
أن يعبّئ في معسكر النخيلة بعد معركة النهروان استعداداً لقتال معاوية ن فقد
تسلّل أغلب أفراد الجيش إلى داخل الكوفة ممّا أدّى بالإمام (عليه السلام) أن
يلغي المعسكر ويؤجّل الحرب (تأريخ الطبري : 4 / 67 .)
. 3 ـ لقد أتاح الظرف الذي مرّ به الإمام (عليه السلام)
والاُمّة الإسلامية لمعاوية أن يقوم بشنّ غارات على أطراف البلاد الإسلامية ،
فمارس القتل والسبي والإرهاب ، فبدأ بالهجوم على أطراف العراق فأرسل النعمان بن
بشير الأنصاري للإغارة على منطقة (عين التمر) ، ووجّه سفيان بن عوف للإغارة على
منطقة (هيت) ثم على (الأنبار والمدائن) ، وإلى (واقصة) وجّه معاوية الضحّاك بن
قيس الفهري .. وفي كلّ مرّة يحاول الإمام (ع)
دعوة الجماهير لمقاومة غارات معاوية فلم يلق الاستجابة السريعة ، وأدرك معاوية
ضعف قوة حكومة الإمام (ع) وتزايد قوّته (الغارات
للثقفي : 476 ، وتأريخ الطبري : 4 / 102 و 103 .) . وبعث معاوية بسر بن أُرطاة للغارة على الحجاز واليمن ، فعاث
في الأرض فساداً وقتلاً للأبرياء (الغارات للثقفي : 476 ، وتأريخ
الطبري : 4 / 106 ط مؤسسة الأعلمي .) وبلغ الأسى والأسف في نفس الإمام (ع) مبلغاً عظيماً ممّا يفعل المجرمون ومن
تخاذل الناس عنه، فكان يصرّح بضجره من تخاذلهم وتقاعسهم فقال : (اللّهمّ
إنّي قد مللتهم وملّوني وسئمتهم وسئموني فأبدلني بهم خيراً منهم وأبدلهم بي شراً منّي) (نهج
البلاغة : الخطبة (25) .) . وقد أنذر الإمام (ع) الأمة
الإسلامية بمستقبل مظلم وآلام كثيرة تحلّ بها نتيجة لما آلت إليها من تقاعس
وتخاذل عن نصرة الحقّ ، فقال (ع) : (أما إنّكم ستلقون بعدي
ذلاًّ شاملاً ، وسيفاً قاطعاً ، وأثرةً يتّخذها الظالمون فيكم سنّة ، فيفرّق
جماعتكم ، ويبكي عيونكم ، ويدخل الفقر بيوتكم ، وتتمنّون عن قليل أنّكم رأيتموني
فنصرتموني ، فستعلمون حقّ ما أقول لكم) (أنساب
الأشراف : 1 / 200 ، نهج البلاغة : الكلمة (58) .) |
|
آخر محاولات الإمام (عليه السلام) :
|
|
بعد الاضطرابات المتعدّدة وتمكّن معاوية من فساد ونشر الرعب
في أطراف الدولة الإسلامية ؛ عزم الإمام (عليه السلام) أن يقوم بحملة واسعة
يستنهض فيها الاُمّة ، فخاطب الجماهير وهدّدهم فقال : (أما إنّي قد سئمت من
عتابكم وخطابكم ، فبيّنوا لي ما أنتم فاعلون ، فإن كنتم شاخصين معي إلى عدوّي
فهو ما أطلب وما أحب ، وإن كنتم غير فاعلين فاكشفوه لي عن أمركم ، فو الله لئن
لم تخرجوا معي بأجمعكم إلى عدوّكم فتقاتلوه حتى يحكم الله بيننا وبينه وهو خير
الحاكمين لأدعوّن الله عليكم ثمّ لأسيرنّ إلى عدوّكم ولو لم يكن معي إلاّ عشرة) (سيرة
الأئمة الإثني عشر : 1 / 451 عن البلاذري في أنساب الأشراف .) وأيقظ هذا التهديد الحازم نفوس الناس ، وأيقنوا أنّ الإمام
(عليه السلام) سيخرج بنفسه وأهله وخاصّته إلى معاوية وإن لم ينصروه ، فسيلحق
العار والذلّ بهم إلى يوم القيامة ، فتحرّك وجهاء الناس للاستعداد لملاقاة
معاوية والقضاء على الفساد ، وخرج الناس إلى معسكراتهم في منطقة (النخيلة) خارج
الكوفة ، وتحرّكت بعض قطعات الجيش تسبق البقيّة مع الإمام (عليه السلام) الذي
بقي ينتظر انقضاء شهر رمضان . |
|
الفصل الخامس:
|
|
الإمام علي (عليه السلام) شهيد المحراب
|
|
استشهد أمير المؤمنين في شهر رمضان عام (40) هـ
.
|
|
تواطأت زمر الشرّ على أن لا تبقي للحقّ راية تخفق أو يداً
تطول فتصلح أو صوتاً يدوّي فيكشف زيغ وفساد الظالمين والمنحرفين ، فبالأمس كان
أبو سفيان يمكر ويغدر ويفجر ويخطّط لقتل النبيّ الأكرم
(ص) لوأد الرسالة الإلهية في مهدها ، ولكنّ الله أبى إلاّ أن يتمّ نوره . وها هو معاوية بن أبي سفيان يستفيد من نتائج انحراف السقيفة
، ويتمّم ما بدأه أبوه سعياص للقضاء على الرسالة الإسلامية ، تعينه في ذلك قوى
الجهل والضلالة والعمى ، فخطّطوا لقتل ضمير الأمة الحيّ وصوت الحقّ والعدل وحامل
لواء الإسلام الخالد ومحيي الشريعة المحمديّة السمحاء . واجتمعت ضلالتهم على أن يطفئوا نور الهدى ليبقى الظلام يلفّ
انحرافهم وفسادهم ، فامتدّت يد الشيطان لتصافح ابن ملجم في عتمة الليل، وفي ختلة
وغدرة هوت بالسيف على هامة طالما استدبرت الدنيا واستقبلت بيت الله وهي ساجدة ،
وغادرتها منها في تلك الحال . لقد اجتمعت عصابة ضالّة على قتل أمير المؤمنين (عليه السلام)
لا يبعد أن كان محرّكها معاوية ، واتفقوا أن يداهموا الإمام عند ذهابه لصلاة
الفجر ، فما كان أحد يجرؤ على مواجهة الإمام (عليه السلام) . ولمّا كانت ليلة تسع
عشرة من شهر رمضان ؛ كان الإمام (عليه السلام) يكثر التأمل في السماء وهو يردّد
: (ما كذبت ولا كذّبت إنّها الليلة التي وعدت بها)
(الصواعق
المحرقة : 80 ، وبحار الأنوار : 42 / 230 .) وأمضى (عليه السلام) ليلته بالدعاء
والمناجاة ، ثمّ خرج إلى بيت الله لصلاة الصبح فجعل يوقظ الناس على عادته إلى
عبادة الله فينادي : الصلاة ... الصلاة . ثمّ شرع (عليه السلام) في صلاته ، وبينما هو منشغل يناجي
ربّه إذ هوى المجرم اللعين عبد الرحمن بن ملجم وهو يصرخ بشعار الخوارج (الحكم
لله لا لك) ووقع السيف على رأسه المبارك فقدّ منه فهتف
الإمام (ع) : (فزت وربّ الكعبة) (الإمامة
والسياسة : 180 أو : 135 ط بيروت و 159 ط مصر ، وتأريخ دمشق : 3 / 367 ترجمة
الإمام عليّ (عليه السلام) .) . ولمّا علت الضجّة في المسجد ؛ أقبل الناس مسرعين فوجدوا
الإمام (ع) طريحاً في محرابه ، فحملوه إلى داره وهو معصّب الرأس والناس يضجّون
بالبكاء والعويل ، واُلقي القبض على المجرم ابن ملجم ، وأوصى الإمام ولده الحسن
وبنيه وأهل بيته أن يحسنوا إلى أسيرهم وقال : (النفس بالنفس ، فإن أنا
مُتّ فاقتلوه كما قتلني ، وإن أنا عشت رأيت فيه رأيي) (مقاتل
الطالبيين : 22 ، شرح النهج لابن أبي الحديد : 6 م 118 ، وبحار الأنوار : 42 /
231 .) . |
|
وصيّة الإمام (عليه السلام) :
|
|
أوصى الإمام (عليه السلام) ولديه الحسن والحسين (عليهما
السلام) وجميع أهل البيت بوصايا عامّة فقال : (أوصيكما بتقوى الله ، وأن
لا تبغيا الدنيا وإن بغتكما ، ولا تأسفا على شيء منها زوي عنكما ، وقولا بالحقّ
واعملا للأجر ، وكونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً ، واعملا بما في الكتاب ، ولا
تأخذكما في الله لومة لائم) (تأريخ الطبري : 4 / 114 ط
مؤسسة الأعلمي ، راجع أيضاً نهج البلاغة : باب الكتب 47 طبعة صبحي الصالح .) ولم يمهل الجرح أمير المؤمنين طويلاً لشدّته وعظيم وقعته ،
فقد دنا الأجل المحتوم ، وكان آخر ما نطق به قوله تعالى : (لِمِثْلِ هذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ) ثمّ
فاضت روحه الطاهرة إلى جنّة المأوى . |
|
دفن وتأبين الإمام (عليه السلام) :
|
|
نهض الإمامان الحسن والحسين (ع) بتجهيز أمير المؤمنين وما
يترتّب عليهما من إجراءات الدفن من غسل وتكفين ، ثمّ صلى الإمام الحسن (ع) على
أبيه ومعه ثلّة من أهل بيته وأصحابه ، ثمّ حملوا الجثمان الطاهر إلى مثواه
الأخير ، فدفن في النجف قريباً من الكوفة ، وتمّت كلّ الإجراءات ليلاً (بحار
الأنوار ك 42 / 290 .) . ثمّ وقف صعصعة بن صوحان يؤبّن الإمام (عليه
السلام) فقال : هنيئاً لك يا أبا الحسن ! فلقد طاب مولدك ، وقوي صبرك ، وعظم
جهادك ، وظفرت برأيك ، وربحت تجارتك ، وقدمتَ على خالقك فتلقّاك الله ببشارته
وحفّتك ملائكته ، واستقررتَ في جوار المصطفى فأكرمك الله بجواره ، ولحقتَ بدرجة
أخيك المصطفى ، وشربت بكأسه الأوفى ، فأسأل الله أن يمنَّ علينا باقتفائنا أثرك
، والعمل بسيرتك ، والموالاة لأوليائك ، والمعاداة لأعدائك ، وأن يحشرنا في زمرة
أوليائك ، فقد نلتَ ما لم ينله أحد ، وأدركت ما لم يُدركه أحد ، وجاهدت في سبيل
ربّك بين يدي أخيك المصطفى حقّ جهاده ، وقمت بدين الله حقّ القيام ، حتى أقمتَ
السنن وأبرت الفتن واستقام الإسلام وانتظم الإيمان ، فعليك منّي أفضل الصلاة
والسلام . ثمّ قال : لقد شرّف الله مقامك ن وكنت أقرب الناس إلى رسول
الله (ص) نسباً ، وأوّلهم إسلاماً ، وأوفاهم يقيناً ، وأشدّهم قلباً ، وأبذلهم
لنفسه مجاهداً ، وأعظمهم في الخير نصيباً ، فلا حرمنا أجرك ، ولا أذلّنا بعدك ،
فو الله لقد كانت حياتك مفاتح الخير ومغالق الشر ، وإنّ يومك هذا مفتاح كلّ شر
ومغلاق كلّ خير ، ولو أنّ الناس قبلوا منك ؛ لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم ،
ولكنّهم آثروا الدنيا على الآخرة (بحار الأنوار : 42 / 295 .) . |
|
الفصل السادس:
|
|
تراث الإمام المرتضى علي بن أبي طالب
(عليه السلام)
|
|
إنّ أوّل عمل اهتمّ به الإمام (عليه السلام) بعد وفاة الرسول
(صلَّى الله عليه وآله) ـ وقد كان بوصية منه (صلَّى الله عليه وآله) ـ هو جمعه
للقرآن الكريم ، وامتاز بترتيبه حسب النزول وتضمّن معلومات فريدة عن شأن النزول
والتفسير والتأويل الذي تحتاجه اُمّة محمّد (صلَّى الله عليه وآله) ، وقد عرضه
على الخليفة الأوّل فقال : لا حاجة لنا به ، فأشار (عليه السلام) إلى أنّهم سوف
لا يحصلون عليه بعد ذلك اليوم ، وهكذا كان ، والمعروف أنّه يتوارثه الأئمّة من
أبنائه (عليهم السلام) . واُثر عن الإمام ما سمّي بالصحيفة التي تضمّنت أحكام الدّيات
، وقد روى عنها البخاري ومسلم وابن حنبل ، كما اُثر عه ما سمّي بالجامعة التي
تضمّنت أو جمعت كلّ ما يحتاج إليه الناس من حلال و حرام ، ووصفها الإمام الصادق
بأنّ طولها سبعون ذراعاً ، وليس من قضية إلاّ وهي فيها حتى أرش الخدش . وتضمّن كتاب الجفر ما يرتبط بحوادث المستقبل وصحف الأنبياء
السابقين ، وقد يشبهه مصحف فاطمة وهو ما أملته عليه فاطمة الزهراء (عليها
السلام) بعد وفاة أبيها ممّا كانت تُلهم به من مفاهيم (أصول
الكافي : الجزء الأول باب ذكر الصحيفة والجفر والجامعة ومصحف فاطمة . وراجع :
سيرة الأئمّة الاثني عشر : 1 / 96 ـ 99 و 274 ـ 294 .) . وكلّ هذه الكتب تعتبر من مواريث
الإمامة التي يتناقلها الأئمّة (عليهم السلام) إماماً بعد إمام . وقد تصدّى جمع من علماء الأمة إلى جمع ما اُثر عن الإمام
(عليه السلام) من خطب ورسائل وكلمات ، وسمّيت بأسماء تتناسب مع أغراض جامعيها ،
وأوّلها وأشهرها ما سمّي بـ (نهج البلاغة) للشريف الرضي المتوفى (404 هـ) ، وقد
انطوى على روائع فكر الإمام في شتى المجالات العقائدية والأخلاقية وأنظمة الحكم
والإدارة والتأريخ والاجتماع وعلم النفس والدعاء والعبادة وسائر العلوم الطبيعية
والإنسانية ، وهو ما اختاره الشريف الرضي من خطبه ورسائله ووصاياه وكلماته
البليغة . ومن هنا فقد تصدّى علماء آخرون لجمع ما لم يجمعه الشريف الرضي وسمّي
بمستدرك نهج البلاغة . وجمع النسائي المتوفى (303 هـ) ما رواه الإمام علي عن رسول
الله (ص) وسمَّاه بـ (مسند الإمام عليّ (ع)) . وجمع الآمدي (المتوفّى بين 520 و 550 هـ) قصار كلماته
الحكمية وسمّاها بـ (غررالحكم ودرر الكلم) . وجمع أبو إسحاق الوطواط (المتوفّى بين 553 و 583 هـ) من
كلامه ما سمّاه بـ (مطلوب كلّ طالب من كلام عليّ بن أبي طالب) . وأثرت عن الجاحظ
المتوفى (255 هـ) (مائة كلمة) للإمام عليّ (عليه السلام) و (نثر اللئالي) جمع
الطبرسي صاحب مجمع البيان ، وكتاب صفّين لنصر بن مزاحم اشتمل على مجموعة من خطبه
وكتبه . و(الصحيفة العلوية) وهي مجموعة من الأدعية التي أثرت عنه (عليه السلام)
. |
|
في رحاب نهج البلاغة :
|
|
إذا كان (القرآن الكريم) هو معجزة النبوة ؛ فإنّ (نهج
البلاغة) معجزة الإمامة ... فليست هذه العقلية العظيمة المتجلّية بذلك الأسلوب
العلوي الواضحة في كلّ فقرة من فقرات (النهج) وفي كلّ شذرة من تلك الشذور إلاّ
غرس ذلك النبيّ العظيم المستمدّ من وحي الله تعالى ، فما من موضوع يطرقه الإمام
إلاّ وترى نور الله يشعّ أمامه وهدي الرسول ينير له الطريق) (حياة
أمير المؤمنين في عهد النبي : 402 ، تأليف : محمد صادق الصدر .) . وقال الشريف الرضي (قدس سره) : كان أمير المؤمنين (عليه
السلام) مشرّع الفصاحة وموردها ومنشأ البلاغة ومولّدها ، ومنه (عليه السلام) ظهر
مكنونها وعنه أخذت قوانينها ، وعلى أمثلته حذا كلّ قائل خطيب ، وبكلامه استعان
كلّ واعظ بليغ ، ومع ذلك فقد سبق وقصّروا ، وقد تقدّم وأخّروا ، لأنّ كلامه
(عليه السلام) الكلام الذي عليه مسحة من العلم الإلهي ، وفيه عبقة من الكلام
النبويّ . |
|
في رحاب العقل والعلم والمعرفة :
|
|
1
ـ لا غنى كالعقل ولا فقر كالجهل ، والعقل ينبوع الخير
وأشرف مزيّة ، وأجمل زينة . 2 ـ العقل رسول الحقّ . العقل أقوى أساس .
والإنسان بعقله . وبالعقل صلاح كلّ أمر . 3 ـ العلم غطاء وساتر والعقل حسام قاطع ، فاستُر
خلل خُلقك بحلمك، وقاتل هواك بعقلك . والفكر مرآة صافية . 4 ـ العقل صاحب جيش الرحمن ، والهوى قائد جيش
الشيطان ، والنفس متجاذبة بينهما فأيّهما غلب كانت في حيّزه . 5 ـ أفضل حظّ الرجل عقله ، إن ذلّ أعزّه ، وإن
سقط رفعه ، وإن ضلّ أرشده ، وإن تكلّم سدّده . 6 ـ إنّ أفضل الناس عند الله من أحيا عقله وأمات
شهوته وأتعب نفسه لإصلاح آخرته
. 7 ـ على قدر العقل يكون الدين . ما آمن المؤمن
حتى عقل . قيمة كلّ امرئ عقله
. 8 ـ وعرّف العقل بما يلي : أ ـ إنّما العقل التجنّب من الإثم والنظر في
العواقب والأخذ بالحزم
. ب ـ العقل أصل العلم وداعية الفهم . ج ـ العقل غريزة تزيد بالعلم وبالتجارب . د ـ للقلوب خواطر سوء والعقول تزجر عنها . هـ غريزة العقل تأبى ذميم الفعل . و ـ العاقل من يعرف خير الشرّين . |
|
في رحاب القرآن الكريم والسنّة النبويّة المباركة :
|
|
1
ـ قال (عليه السلام) : وأنزل عليكم الكتاب تبياناً لكلّ شيء وعَمَّر
فيكم نبيّه أزماناً حتى أكمل له ولكم ـ فيما أنزل من كتابه ـ دينه الذي رضي
لنفسه . 2 ـ ذلك القرآن فاستنطقوه ولن ينطق ، ولكن أخبركم
عنه ، ألا إنّ فيه علم ما يأتي ، والحديث عن الماضي ، ودواء دائكم ، ونظم ما
بينكم ، وينطق بعضه ببعض ، ويشهد بعضه على بعض ، ولا يختلف في الله ولا يخالف
بصاحبه عن الله ، ولا يَعوَجُّ فيقام ولا يزيغ فيستعتب ... ولا تخلقه كثرة الردّ
وولوج السمع ... لا تفنى عجائبه ، ولا تنقضي غرائبه ن ولا تكشف الظلمات إلاّ به
. وفيه ربيع القلب ... وما
للقلب جلاء غيره .. فهو معدن الإيمان وبحبوحته ، وينابيع العلم وبحوره ورياض
العدل وغدرانه ، وأثافيّ الإسلام وبنيانه ، وأودية الحق وغيطانه ، وبحر لا ينزفه
المستنزفون ، وعيون لا ينضبها الماتحون ، ومناهل لا يغيضها الواردون .. جعله
الله ريّاً لعطش العلماء وربيعاً لقلوب الفقهاء ، ومحاجَّ لطرق الصلحاء ...
وعلماً لمن وعى ، وحديثاً لمن روى ، وحكماً لمن قضى .. وشفاءً لا تخشى أسقامه ..
ودواءً ليس بعده داء ... فاستشفوه من أدوائكم ، واستعينوا به على لأوائكم ؛ فإنّ
فيه شفاءً من أكبر الداء . وهو الكفر والنفاق والغيّ والضلال (راجع
الخطبة 176 من نهج البلاغة ، طبعة صبحي الصالح .) . وأما سُنَّةُ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) فقد دعا
الإمام إلى العمل بها، وبيَّن موقع الأئمّة وموقفهم المشرّف في إيصال السنّة
الصحيحة إلى الأمة وإحياء ما أماته المبطلون من سنّة رسول الله (صلَّى الله عليه
وآله) وأسباب انحراف من انحرف عن مدار السُّنة . قال (عليه السلام) : اقتدوا بهدي نبيّكم فإنّه
أفضل الهدي ، واستنّوا بسنّته فإنّها أهدى السنن . وقال (عليه السلام) : أحبّ العباد إلى الله المتأسّي
بنبيّه (صلَّى الله عليه وآله) والمقتصّ أثره . وقال (عليه السلام) : إرض بمحمّد (صلَّى الله
عليه وآله) رائداً والى النجاة قائداً . وقال (عليه السلام) : إنّ في أيدي الناس حقّاً
وباطلاً وصدقاً وكذباً وناسخاً ومنسوخاً وعامّاً وخاصّاً ومحكماً ومتشابهاً وحفظاً
ووهماً ، ولقد كذب على رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) على عهده حتى قام
خطيباً فقال : من كذّب عليّ متعمّداً ؛ فليتبوأ مقعده من النار . وقال (عليه السلام) : لا يُقاس بآل محمد (صلَّى
الله عليه وآله) من هذه الأمة أحد .. هم عيش العلم وموت الجهل .. لا يخالفون
الحقّ ولا يختلفون فيه .. هم دعائم الإسلام وولائج الاعتصام ، بهم عاد الحقّ في
نصابه ، وانزاح الباطل عن مقامه ، وانقطع لسانه عن منبته . عقلوا الدين عقل
وعاية ورعاية لا عقل سماع ورواية . هم موضع سرّ رسول الله (صلَّى الله عليه
وآله) وحماة أمره وعيبة علمه وموئل حكمه وكهوف كتبه وجبال دينه ، هم مصابيح
الظلم وينابيع الحِكمَ ومعادن العلم ومواطن الحلم . وقال (عليه السلام) : وإنّي لعلى بيّنة من ربّي
ومنهاج من نبيّي ، وإنّي لعلى الطريق الواضح ألفظه لفظاً(راجع
المعجم الموضوعي لنهج البلاغة : 42 ـ 53 و 101 وتصنيف غرر الحكم : 109 ـ 117 .) |
|
في رحاب التوحيد والعدل والمعاد :
|
|
قال (عليه السلام) في مجال إثبات وجوده تعالى :
الحمد لله الدالّ على وجوده بخلقه وبمحدث خلقه على أزليته وباشتباههم على أن لا
شبه له
. وقال :
عجبت لمن شكّ في الله وهو يرى خلق الله .. بل ظهر للعقول بما أرانا من علامات
التدبير المتقن والقضاء المبرم
. وحين سُئل (عليه السلام) : هل رأيت ربّك ؟ أجاب :
وكيف أعبد ربّاً لم أره ؟
ثمّ قال : لا تدركه العيون بمشاهدة العيان ولكن تدركه
القلوب بحقائق الإيمان .. عظم عن أن تثبت ربوبيّته بإحاطة قلب أو بَصَر . وجاء في دعائه المعروف بدعاء الصباح : يا
من دلّ على ذاته بذاته ، وتنزّه عن مجانسة مخلوقاته ، وجلّ عن ملائمة كيفياته .
يا من قرب من خطرات الظنون وبَعُد عن لحظات العيون ، وعلم بما كان قبل أن يكون
... لقد شحن الإمام خطبه العلوية بآيات القدرة الإلهية السماوية
والأرضية ، وأطنب فيها إطناب الخبير البصير ، ففصّل آيات القدرة والعظمة تفصيلاً
يعطي للمطالع إيماناً وخشوعاً لله وخضوعاً لعظمته ، بحيث يلمس السامع لخطبه
(عليه السلام) أنّه كما قال : والله لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً . وقدّم الإمام تصويراً دقيقاً لصفاته تعالى بحيث صار معياراً
للبحوث الفلسفية الدقيقة ومفتاحاً للدخول إلى مثل هذه البحوث التي تضلّ فيها
الأفكار لو لا الهداية الربّانية الموجّهة . قال (عليه السلام) : وكمال توحيده الإخلاص له
. وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه ، لشهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف وشهادة
كلّ موصوف أنّه غير الصفة ، فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه ، ومن قرنه فقد ثنّاه
، ومن ثنّاه فقد جزّأه ، ومن جزّأه فقد جهله ، ومن جهله فقد أشار إليه ، ومَن
أشار إليه فقد حدّه ، ومن حدّه فقد عدّه ... كائن لا عن حدث ، موجود لا عن عدم ،
مع كلّ شيء لا بمقارنة وغير كلّ شيء لا بمزايلة . وقال (عليه السلام) : مستدلاً على وحدانيته : واعلم
يا بني ، إنّه لو كان لربّك شريك لأتتك رسله ولرأيت آثار ملكه وسلطانه ، واعلم
يا بُني أنّ أحداً لم ينبئ عن الله سبحانه كما أنبأ عنه الرسول (صلَّى الله عليه
وآله) فارض به رائداً
. وقال عن عدله تعالى : وارتفع عن ظلم عباده وقام
بالقسط في خلقه وعدل عليهم في حكمه وعدل في كلّ ما قضى . وقال : فإنّه
لم يأمرك إلاّ بحسن ولم ينهك إلاّ عن قبيح وإنّ حكمه في أهل السماء والأرض لواحد
. وما كان الله ليدخل الجنّة بشراً بأمرٍ أخرج به منها ملكاً . |
|
في رحاب القيادة
الإلهية (النبوّة والإمامة) :
|
|
الهداية الإلهية عبر القادة المهديّين الذين اختارهم الله
لهداية عباده هي سنّة الله الدائمة لخلقه الذين زوّدهم بالعقل والعلم وسلّحهم
بسلاح الإرادة والاختيار . وتبدأ هذه السُنّة لهذه البشرية باختيار آدم خيرة من خلقه ..
: فأهبطه
بعد التوبة ليعمر أرضه بنسله وليقيم الحجّة به على عباده ، ولم يخلهم بعد أن
قبضهم ممّا يؤكد عليهم حجّة ربوبيّته ويصل بينهم وبين معرفته ، بل تعاهدهم
بالحجج على ألسن الخيرة من أنبيائه ومتحمّلي ودائع رسالاته قرناً فقرناً ...
فاستودعهم في أفضل مستودع ، وأقرّهم في خير مستقر ، تناسختهم كرائم الأصلاب إلى
مطهّرات الأرحام .. حتى أخرج آخرهم نبيّنا محمداً (صلَّى الله عليه وآله) من
أفضل المعادن منبتاً وأعزّ الأُرومات مغرساً ، من الشجرة التي صدع منها أنبياءه
وانتجب منها أمناءه
. ووصف الإمام (عليه السلام) زهد الأنبياء وشجاعتهم وتواضعهم
ورعاية الله لهم وتربيته لهم بالاختبار والابتلاء وتعريضهم للأذى في سبيل الله ،
وبيّن وظائفهم المتمثّلة في التبليغ والدعوة إلى الله سبحانه والتبشير والإنذار
وإقامة حكم الله في الأرض وهداية الناس بإخراجهم من الجهل والضلالة ومجاهدة
أعداء الله . وتستمرّ مسيرة الهداة الربّانيين على مدى العصور إلى يوم
القيامة ، فلا تخلو الأرض من قائم لله بحجّة ، إمّا ظاهراً مشهوراً وإمّا خائفاً
مستوراً لئلاّ تبطل حجج الله وبيّناته ... وحيث خُتمت النبوة بمحمّد (صلَّى الله
عليه وآله) انتهى أمر الهداية إلى عترته التي هي خير العتر ، إن نطقوا صدقوا وإن
صمتوا لم يسبقوا ، وهم شجرة النبوّة ومحطّ الرسالة ومختلف الملائكة ومعادن العلم
وينابيع الحكم ، والأعظمون عند الله قدراً .. يحفظ الله بهم حججه وبيّناته ..
بهم عُلِم الكتاب وبه عُلموا ، فيهم كرائم القرآن وكنوز الرحمن ، فهم الراسخون
في العلم ... يخبركم حلمهم عن علمهم وظاهرهم عن باطنهم وصمتهم عن حكم منطقهم ،
لا يخالفون الحقّ ولا يختلفون فيه ، وهم دعائم الإسلام وولائج الاعتصام ، بهم
عاد الحقّ إلى نصابه وانزاح الباطل عن مقامه ، فهم أساس الدين وعماد اليقين ،
إليهم يفيء الغالي وبهم يلحق التالي ، لهم خصائص حقّ الولاية وفيهم الوصية
والوراثة . لقد أكّد الإمام على موقف أهل البيت القيادي الفكري والسياسي
وأدان زحزحة القيادة عن موقعها الذي عيّنه رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)
واعترض على خطّ الخلفاء جملةً وتفصيلاً ، بالرغم من اضطراره للتنازل عن حقّه
وجهد في تقديم الأطروحة النبويّة للقيادة بعد الرسول بشكل ناصع ، وجاهد من أجل
إحقاق الحقّ بشكل حكيم وأسلوب كان ينسجم مع حساسية الظرف التي كانت تمرّ بها
الدولة والاُمّة الإسلامية حينذاك ، واستطاع أن يقدّم النظرية كاملة ويعدّ
العدّة لتطبيقها حينما تسمح له الظروف (راجع
المعجم الموضوعي لنهج البلاغة : 87 ـ 116 و 374 ـ 445 .) . |
|
في رحاب الإمام المهدي (عليه السلام) :
|
|
استأثر التبشير بقضيّة الإمام المهدي (عج) اهتمام القرآن
الكريم والنبيّ العظيم والإمام المرتضى على الرغم من التشتّت الذي كان يعيشه ذلك
المجتمع المضطرب بعد الرسول (صلَّى الله عليه وآله) ، قال (عليه السلام) : ألا
وفي غدٍ ـ وسيأتي غدٌ بما لا تعرفون ـ يأخذ الوالي من غيرها عمّالَها على مساوئ
أعمالها ، وتُخرج له الأرض أفاليذ كبدها ، وتلقي إليه سِلْماً مقاليدَها ،
فيريكم كيف عدلُ السيرة ، ويُحيي ميِّت الكتاب والسُنّة
(من
الخطبة 138 من نهج البلاغة .) . إنّها رؤية دقيقة محدّدة مضيئة واضحة المعالم ، تتمثّل في
قيام ثورة عالمية تصحّح وضع العالم الإسلامي بل الإنساني أجمع ، قال (عليه
السلام) عن قائدها : يعطف الهوى على الهدى إذا عطفوا الهدى على
الهوى ، ويعطف الرأي على القرآن إذا عطفوا القرآن على الرأي (المصدر
السابق .) . وقد تصدّت مؤسّسة نهج البلاغة لجمع الأحاديث التي وردت عن
الإمام عليّ (عليه السلام) حول الإمام المهدي (عج) وقد اجتمعت في جزء واحد وبلغ
مجموعه (291) حديثاً ، أربعة عشر منها عن اسم المهدي وصفاته ودعائه وسبعة وسبعون
منها عن نسب الإمام وأنّه من قريش وبني هاشم ومن أهل البيت ومن ولد عليّ ، وأنّه
من ولد فاطمة ، بل من ولد الحسين وأحد الأئمّة الإثني عشر ن وخمسة وأربعون منها
ترتبط بالمهدي في القرآن ونهج البلاغة وشعر أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وثلاثة
وعشرون منها حول أنصار المهدي والرايات السود ، واثنا عشر منها حول السفياني
والدجّال ، وستة وعشرون منها عن غيبة المهدي ومحن الشيعة عند الغيبة وفضيلة
انتظار الفرج ، وخسمة وسبعون منها حول الفتن قبل المهدي وعلائم الظهور وما بعد
الظهور ودابّة الأرض ويأجوج ومأجوج ، وتسعة عشر منها ترتبط بفضل مسجد الكوفة
وخروج رجل من أهل بيته (عليهم السلام) بأهل المشرق يحمل السيف على عاتقه ثمانية
أشهر حتى يقولوا : والله ما هذا من ولد فاطمة .. ثم يبيّن حكم الأرض عند ظهور
القائم (عليه السلام) وحكومته وكيفية ختم الدين به . قال (عليه السلام) : يا كميل ، ما من علم إلاّ
وأنا أفتحه ، وما من سرٍّ إلاّ والقائم (عليه السلام) يختمه .. يا كميل ، لا بدّ
لِماضيكم من أوبة ، ولابدّ لنا فيكم من غلبة ... (عن بشارة المصطفى ك 24 ـ 31
.) . بنا يختم الدين كما بنا
فُتح ، وبنا يستنقذون من ضلالة الفتنة كما استنقذوا من ضلالة الشرك ، وبنا يؤلّف
الله قلوبهم في الدين بعد عداوة الفتنة كما ألّف بين قلوبهم ودينهم بعد عداوة
الشِرك (عن
ملاحم ابن طاووس : 84 ـ 85 .) . ولو قد قام قائمنا ؛
لأنزلت السماء قطرها وأخرجت الأرض نباتها ، وليذهب الشحناء من قلوب العباد ،
وأصلحت السباع والبهائم حتى تمشي المرأة من العراق إلى الشام لا تضع قدمها إلاّ
على النبات وعلى رأسها زينتها لا يهيجها سبع ولا تخافه (عن
خصال الصدوق : 2 / 418 . وراجع موسوعة أحاديث أمير المؤمنين ، الجزء الأول ما
روى عنه حول الإمام المهدي (عليه السلام). مؤسّسة نهج البلاغة .) . |
|
في رحاب الحكم الإسلامي : فلسفته وأصوله
|
|
لقد قدَّم الإمام (عليه السلام) نموذجاً عمليّاً فريداً في
الحكم الإسلامي بعد عصر الرسول (صلَّى الله عليه وآله) وقد قرن ذلك بنظرية كاملة
منسجمة الأبعاد والجوانب تمثّلت في كتابه وعهده المعروف لمالك الأشتر حين ولاّه
مصر ، وقد اهتمّ الاجتماعيون بهذا العهد شرحاً وتعليقاً وتبييناً ومقارنةً
بأنظمة الحكم الأخرى ، ويعتبر هذا النص دليلاً من أدلّة إمامته (عليه السلام)
وبه تتميّز مدرسة أهل البيت عن سائر الاتّجاهات التي حملت اسم الإسلام والخلافة
الإسلامية ، وبالإضافة إلى هذا النصّ المعجز نجد في نهج البلاغة وغيره من النصوص
التي وصلتنا عنه (عليه السلام) ما يعيننا على كشف نظرية الإمام ونظرية الإسلام
الفريدة عن فلسفة الحكم ونظامه أصولاً وفروعاً ، ونشير إلى الخطوط العريضة
بإيجاز . لقد أكّد الإمام (عليه السلام) على أنّ الحكم ضرورة اجتماعية
بقوله : لابدّ
للناس من أمير برّ أو فاجر ، والإمامة نظام الأمة . وبيّن أنّ الحكم مختبر الحياة
قائلاً :
القدرة تُظهر محمود الخصال ومذمومها . وأوضح أنّ الحكم عرض زائل فلا ينبغي الاغترار به بقوله :
الدولة كما تُقبل تُدبر
. ثمّ أفاد أنّ الحكم النموذجي هو الذي يكون ذا قيمة ويستحقّ التمهيد والتخطيط
له . وأمّا الخطوط العريضة لنظام الحكم الإسلامي ومهام
الدولة النموذجية فتتمثّل في : 1 ـ تثقيف الأمة . 2
ـ إقامة العدل . 3 ـ حماية الدين . 4 ـ إقامة الحدود . 5 ـ تربية المجتمع . 6 ـ
الاجتهاد في النصيحة والإبلاغ في الموعظة. 7 ـ توفير الفيء وتحسين الوضع المعيشي
للناس . 8 ـ الدفاع عن استقلال وكرامة الأمة . 9 ـ توفير الأمن
الداخلي . 10 ـ نصرة المستضعفين . 11 ـ إغاثة الملهوفين . 12 ـ الاهتمام بالعمران . وأمّا الحاكم النموذجي فينبغي له أن يتمتّع بجملة
من الصفات والتي تكون من أهمّ عوامل ثبات حكمه ، وهي ملخّصاً كما يلي : 1 ـ الانقياد للحقّ
. 2 ـ تفهّم الأمور . 3 ـ سطوع البيان . 4 ـ الشجاعة في إقامة الحقّ . 5 ـ حسن
النيّة . 6 ـ الإحسان إلى الرعية . 7 ـ عفّة النفس . 8 ـ عموم العدل . 9 ـ
التدبير والاقتصاد . 10 ـ الإنصاف . 11 ـ الرفق . 12 ـ الحلم . 13 ـ الدفاع عن
الدين . 14 ـ كثرة الورع . 15 ـ الشعور بالأمانة والمسؤولية . 16 ـ اليقظة . 17
ـ التكليف بما يُطيقه الشعب . 18 ـ عدم الاغترار بالقدرة . 19 ـ التوزيع الصحيح
للأعمال وتعيين مسؤولية كلّ فرد بما يناسبه . 20 ـ البذل والجود من غير إسراف من
كلّ ما يملك . وقد طفحت كلمات الإمام (عليه السلام) بعوامل سقوط
الدول وآفات الحكم محذّراً الحكّام والعمّال والولاة منها ، ويمكن إيجازها كما
يلي : 1 ـ الجهل . 2 ـ الاستبداد بالرأي وترك المشورة . 3 ـ إتّباع
الهوى . 4 ـ تعدّد مراكز القرار . 5 ـ إتّباع الباطل والاستخفاف بالدين . 6 ـ
البغي والظلم . 7 ـ التكبّر والفخر . 8 ـ منع الإحسان. 9 ـ الإسراف والتبذير .
10 ـ الغفلة . 11 ـ الانتقام . 12 ـ سوء التدبير . 13 ـ قلّة الاعتبار وعدم
الانتفاع بالتجارب . 14 ـ كثرة الاعتذار وتراكم الأخطاء . 15 ـ تضييع الأصول .
16 ـ تقديم الأراذل وغير الجديرين للمناصب الإدارية على الأفراد الأكفاء ، قال
(عليه السلام) : تولّي الأراذل والأحداث الدُوَل دليل
انحلالها وإدبارها
. 17 ـ الخيانة ، قال (عليه السلام) : إذا
ظهرت الخيانات ارتفعت البركات ، ومن خانه وزيره فسد تدبيره . 18 ـ ضعف السياسة ، قال (عليه
السلام) : آفة الزعماء ضعف السياسة ، وآفة القوي
استضعاف الخصم ، ومن تأخّر تدبيره تقدّم تدميره ، 19 ـ سوء السيرة ، قال (عليه السلام) :
آفة الملوك سوء السيرة
. 20 ـ عجز العمّال والولاة . 21 ـ ضعف الحماية الشعبية للحاكم ، قال (عليه
السلام) : آفة المُلك ضعف الحماية . 22 ـ سوء الظنّ بالنصيح من علامات
الإدبار . 23 ـ طمع القادة وحرصهم وجشعهم على ملذّات الحياة الدنيا، قال (عليه
السلام) : السيّد من لا يصانع ولا يخادع ولا تغرّه
المطامع ،
وقال (عليه السلام) : الطمع يذلّ الأمير . 24 ـ وفقدان الأمن . |
|
في رحاب العبادات والفرائض :
|
|
قال (عليه السلام) : إنّ الله سبحانه فرض عليكم
فرائض فلا تضيّعوها ، وحدّ لكم حدوداً فلا تعتدوها ، ونهاكم عن أشياء فلا
تنتهكوها ، وسكت عن أشياء ولم يدعها نسياناً فلا تتكلّفوها ، ولم يأمركم إلاّ
بحسن ، ولم ينهكم إلاّ عن قبيح . وقال (عليه السلام) : عليك بحفظ كلّ أمر لا تعذر
بإضاعته . وقال : أوّل ما يجب عليكم لله سبحانه شُكر أياديه وابتغاء مراضيه ،
وطوبى لمن حافظ على طاعة ربّه ، وسارعوا إلى فعل الطاعات وسابقوا إلى فعل
الصالحات ، فإن قصّرتم فإيّاكم أن تقصّروا عن أداء الفرائض ، ولا قربة بالنوافل
إذا أضرّت بالفرائض ، ولا عبادة كأداء الفرائض . واهتمّ الإمام (عليه السلام) ببيان فلسفة جملة من
التشريعات قائلاً : فرض الله سبحانه الإيمان تطهيراً من الشرك ،
والصلاة تنزيهاً عن الكبر ، والزكاة تسبيباً للرزق ، والصيام ابتلاءً لإخلاص
الخلق ، والحجّ تقوية للدين ، والجهاد عزّاً للإسلام ، والأمر بالمعروف مصلحة
للعوام، والنهي عن المنكر ردعاً للسفهاء ، وصلة الأرحام منماةً للعدد ، والقصاص
حقناً للدماء ، وإقامة الحدود إعظاماً للمحارم ، وترك شرب الخمر تحصيناً للعقل ،
ومجانبة السرقة إيجاباً للعفّة ، وترك الزنا تحصيناً للأنساب ، وترك اللواط
تكثيراً للنسل ، والشهادة استظهاراً على المجاحدات ، وترك الكذب تشريفاً للصدق ،
والإسلام أماناً من المخاوف، والإمامة نظاماً للأمة ، والطاعة تعظيماً للإمامة . وقال (عليه السلام) أيضاً : زكاة البدن الجهاد والصيام
، وزيارة بيت الله أمن من عذاب جهنّم . وقال (عليه السلام) : وَامر بالمعروف تكن من
أهله ، وأنكر المنكر بيدك ولسانك وباين من فعله بجُهدِك ، وغاية الدين الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الحدود ، والجهاد عماد الدين ومنهاج السعداء،
ومن جاهد على إقامة الحقّ وفِّق ، والمجاهدون تفتّح لهم أبواب السماء ، وثواب
الجهاد أعظم الثواب (تصنيف غرر الحكم : 175 ـ 190
و 331 ـ 335 ، والمعجم الموضوعي لنهج البلاغة : 140 ـ 150 و 216 ـ 239 .) . |
|
في رحاب الأخلاق والتربية :
|
|
اعتنى الإمام المرتضى بتربية المجتمع وحاول أن يعالج
الانحراف الأخلاقي في الإنسان من جذوره العميقة ، فوصف الداء الأساسي بقوله
(عليه السلام) : ألا وإنّ حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة . ثمّ بيّن السبب الأعمق في هذا
الحبّ حينما أوضح الأسباب العميقة التي كانت تكمن وراء التآمر على الأطروحة
النبويّة للخلافة والسرّ في استلاب الحكم منه بالرغم من تواتر النصوص النبويّة
الكثيرة وإتمام الحجّة على المسلمين قائلاً : بلى لقد سمعوها ووعَوْها
ولكن حليت الدنيا في أعينهم وراقهم زبرجها . ويترتّب على هذا الحبّ الشديد أنّ الإنسان سوف يستخدم مختلف
الوسائل للوصول إلى ما يصبوا إليه فإنّ حبّ الشيء يُعمي ويصمّ ولهذا برّر
الخلفاء تقمّصهم الخلافة بمختلف التبريرات التي دحضتها حجج الإمام (عليه السلام)
الدامغة ، ولكن استمرّ التصلّب على الموقف الذي أدانه الإمام (عليه السلام) .
وإذا سألنا الإمام (عليه السلام) عن الدواء الناجع لعلاج هذا السبب الأعمق في
الانحراف ؛ وجدناه العلاج في وصفه الدقيق للمتّقين في الخطبة المعروفة بخطبة
همّام حيث وضّح السرّ الذي أوصلهم إلى هذه المرتبة من الكمال المتمثّلة بالتقوى
بقوله : لقد
عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم . وهكذا تكون المعرفة الحقيقية بالله العظيم سبباً في حقارة
الدنيا في أعين عباده المتّقين ، وإذا صغرت الدنيا في أعينهم ؛ لم تكن الدنيا
غاية همّتهم ولم يجدّوا في اقتنائها ، بل يحرصوا عليها وعلى ملكها كما لم يحرص
عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) عليها فقد تنازل عن الخلافة حينما استبدّت بها
قريش قائلاً : فإنّها كانت إثرة شحّت عليها نفوس قوم وسخت
عنها نفوس آخرين والحَكَم الله والموعد القيامة. ومن هنا نشأت في المجتمع الإسلامي أخلاقيتان متميّزتان :
أخلاقية عليّ النموذجية التي تدين السياسة الميكافيلية ، وأخلاقية الخلفاء التي
كانت ترى مشروعية الوصول إلى الحكم بأيّة وسيلة ممكنة ، ومن هنا كان زهد عليّ في
الحكم وحرص غيره عليه (المعجم الموضوعي لنهج
البلاغة : 282 ـ 356 و 194 ـ 214 و 152 ـ 169 و 374 ـ 379 ، وتصنيف غرر الحكم :
القسم الأخلاقي : 205 ـ 323 و 127 ـ 147 .) . |
|
في رحاب الدعاء والمناجاة :
|
|
اهتمّ الإمام عليّ (عليه السلام) كما اهتم سائر الأئمة من
أهل البيت (عليهم السلام) بحقل الدعاء والمناجاة بعد أن فتح القرآن الكريم هذا
الباب قائلاً للرسول (صلَّى الله عليه وآله) : (قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ
رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ) وبيّن
أهميّة الدعاء بنصوصه وسيرته فقال (عليه السلام) : (الدعاء سلاح الأولياء ) . وتضمّن نهج البلاغة مجموعة من الأدعية العلويّة لشتى الأغراض
والمجالات ، وجمعت أدعيته (عليه السلام) فيما يُسمّى بالصحيفة العلوية. ومن غرر
أدعيته الدعاء المعروف بدعاء كميل ودعاء الصباح والمناجاة الشعبانية ، ونشير إلى
مقطع من مناجاته المنظومة التي أثرت عنه ، قال (عليه السلام) : لك
الحمد يا ذا الجود والمجد والعلى = تباركت تعطي من تشاء وتمنعُ إلهي
وخلاّقي وحرزي وموئلي = إليك لدى الإعسار واليُسر أفزعُ إلهي
لئن جلّت وجمّت خطيئتي = فعفوك عن ذنبي أجلّ وأوسعُ إلهي
ترى حالي وفقري وفاقتي = وأنت مناجاتي الخفيةَ تسمعُ إلهي
فلا تقطع رجائي ولا تُزغ = فؤادي فلي في سيب جودك مطمعُ إلهي
لئن خيّبتني أو طردتني = فمن ذا الذي أرجو من ذا اُشفِّعُ؟ إلهي
أجرني من عذابك إنّني = أسير ذليل خائف لك أخضعُ إلهي
لئن عذّبتني ألف حجّة = فحبل رجائي منك لا يتقطّعُ إلهي
إذا لم تعفُ عن غير محسن = فمن لمسيء بالهوى يتمتّعُ؟ إلهي
حليف الحبّ في الليل ساهر = يناجي ويدعو والمغفّل يهجعُ (الصحيفة العلوية ومفاتيح الجنان .) |
|
في رحاب أدب الإمام (عليه السلام) :
|
|
لقد تعرّفنا على مجموعة من النصوص المنثورة والمنظومة التي
أثرت عن الإمام (عليه السلام) في نهج البلاغة أو غيره من الكتب التي اهتمّت
بتراث الإمام (ع) ، ولاحظنا القمّة الشاهقة التألّق التي بلغها الإمام سواء في
ميدان الخطابة أو الكتب والرسائل أو الكلمات الحكمية والمواعظ أو ميدان الشعر ،
ولا نبالغ إذا قلنا ـ كما قال متخصّصو الأدب ـ إنّ أجود نتاج أدبي عرفه التأريخ
فنّاً وعمقاً وفكراً هو نتاج الإمام عليّ (عليه السلام) (تأريخ الأدب العربي في ضوء المنهج الإسلامي
للدكتور محمود البستاني : أدب الإمام علي (عليه السلام) .) . ونختار نماذج منظومة من أدبه (عليه السلام) في مختلف المجالات
، علماً بأنّ هناك ديوان شعر منسوباً إليه ، وقد اعتمده بعض المؤرّخين واستشهدوا
بنماذج أدبيّة من نصوصه (راجع : في رحاب أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) للسيد محسن الأمين : 2 / 301
ـ 313 .) . قال (عليه السلام) في رثاء أبيه أبي طالب رضوان الله تعالى
عليه . أبا
طالبٍ عصمة المستجير = وغيث المحول ونور الظُلَم لقد
هدّ فقدُكَ أهل الحفاظ = فصلّى عليك وليّ النِعَم ولقّاك
ربّك رضوانه = فقد كنت للمصطفى خير عمّ (راجع : الغدير : 3 / 106 و
7 / 378 , 379 .) وجاء عن الجاحظ والبلاذري : أن عليّاً أشعر الصحابة وأفصحهم
وأخطبهم وأكتبهم ، وممّا قاله يوم بدر : نصرنا
رسول الله لمّا تدابروا = وثاب إليه المسلمون ذوو الحجى ضربنا
غواة الناس عنه تكرّماً = ولمّا يروا قصد السبيل ولا الهدى ولما
أتانا بالهدى كان كلّنا = على طاعة الرحمن والحقّ والتقى وممّا أورده سبط ابن الجوزي في تذكرة الخواص قوله (عليه
السلام) : للناس
حرص على الدنيا بتدبير = وصفوها لك ممزوج بتكدير لم
يرزقوها بعقل حينما رزقوا = لكنّما رزقوها بالمقادير لو
كان عن قوّة أو عن مغالبةٍ = طار البزاة بأرزاق العصافير وعنه (عليه السلام) : داؤك فيك وما تشعر =
وداؤك منك وما تبصر وتحسب أنّك جرم صغير =
وفيك انطوى العالم الأكبر فسلام عليك يا أبا الحسن والحسين يا سيّد البلغاء والشعراء
يوم ولدت ويوم آمنت وجاهدت ويوم صبرت وآثرت ويوم أقمت حدود الله واستشهدت صابراً
محتسباً ويوم تبعث حياً ، تقود أحبّاءك على الحوض إلى جنّات النعيم . والحمد لله ربّ العالمين |