- القرآن الكريم
- سور القرآن الكريم
- 1- سورة الفاتحة
- 2- سورة البقرة
- 3- سورة آل عمران
- 4- سورة النساء
- 5- سورة المائدة
- 6- سورة الأنعام
- 7- سورة الأعراف
- 8- سورة الأنفال
- 9- سورة التوبة
- 10- سورة يونس
- 11- سورة هود
- 12- سورة يوسف
- 13- سورة الرعد
- 14- سورة إبراهيم
- 15- سورة الحجر
- 16- سورة النحل
- 17- سورة الإسراء
- 18- سورة الكهف
- 19- سورة مريم
- 20- سورة طه
- 21- سورة الأنبياء
- 22- سورة الحج
- 23- سورة المؤمنون
- 24- سورة النور
- 25- سورة الفرقان
- 26- سورة الشعراء
- 27- سورة النمل
- 28- سورة القصص
- 29- سورة العنكبوت
- 30- سورة الروم
- 31- سورة لقمان
- 32- سورة السجدة
- 33- سورة الأحزاب
- 34- سورة سبأ
- 35- سورة فاطر
- 36- سورة يس
- 37- سورة الصافات
- 38- سورة ص
- 39- سورة الزمر
- 40- سورة غافر
- 41- سورة فصلت
- 42- سورة الشورى
- 43- سورة الزخرف
- 44- سورة الدخان
- 45- سورة الجاثية
- 46- سورة الأحقاف
- 47- سورة محمد
- 48- سورة الفتح
- 49- سورة الحجرات
- 50- سورة ق
- 51- سورة الذاريات
- 52- سورة الطور
- 53- سورة النجم
- 54- سورة القمر
- 55- سورة الرحمن
- 56- سورة الواقعة
- 57- سورة الحديد
- 58- سورة المجادلة
- 59- سورة الحشر
- 60- سورة الممتحنة
- 61- سورة الصف
- 62- سورة الجمعة
- 63- سورة المنافقون
- 64- سورة التغابن
- 65- سورة الطلاق
- 66- سورة التحريم
- 67- سورة الملك
- 68- سورة القلم
- 69- سورة الحاقة
- 70- سورة المعارج
- 71- سورة نوح
- 72- سورة الجن
- 73- سورة المزمل
- 74- سورة المدثر
- 75- سورة القيامة
- 76- سورة الإنسان
- 77- سورة المرسلات
- 78- سورة النبأ
- 79- سورة النازعات
- 80- سورة عبس
- 81- سورة التكوير
- 82- سورة الانفطار
- 83- سورة المطففين
- 84- سورة الانشقاق
- 85- سورة البروج
- 86- سورة الطارق
- 87- سورة الأعلى
- 88- سورة الغاشية
- 89- سورة الفجر
- 90- سورة البلد
- 91- سورة الشمس
- 92- سورة الليل
- 93- سورة الضحى
- 94- سورة الشرح
- 95- سورة التين
- 96- سورة العلق
- 97- سورة القدر
- 98- سورة البينة
- 99- سورة الزلزلة
- 100- سورة العاديات
- 101- سورة القارعة
- 102- سورة التكاثر
- 103- سورة العصر
- 104- سورة الهمزة
- 105- سورة الفيل
- 106- سورة قريش
- 107- سورة الماعون
- 108- سورة الكوثر
- 109- سورة الكافرون
- 110- سورة النصر
- 111- سورة المسد
- 112- سورة الإخلاص
- 113- سورة الفلق
- 114- سورة الناس
- سور القرآن الكريم
- تفسير القرآن الكريم
- تصنيف القرآن الكريم
- آيات العقيدة
- آيات الشريعة
- آيات القوانين والتشريع
- آيات المفاهيم الأخلاقية
- آيات الآفاق والأنفس
- آيات الأنبياء والرسل
- آيات الانبياء والرسل عليهم الصلاة السلام
- سيدنا آدم عليه السلام
- سيدنا إدريس عليه السلام
- سيدنا نوح عليه السلام
- سيدنا هود عليه السلام
- سيدنا صالح عليه السلام
- سيدنا إبراهيم عليه السلام
- سيدنا إسماعيل عليه السلام
- سيدنا إسحاق عليه السلام
- سيدنا لوط عليه السلام
- سيدنا يعقوب عليه السلام
- سيدنا يوسف عليه السلام
- سيدنا شعيب عليه السلام
- سيدنا موسى عليه السلام
- بنو إسرائيل
- سيدنا هارون عليه السلام
- سيدنا داود عليه السلام
- سيدنا سليمان عليه السلام
- سيدنا أيوب عليه السلام
- سيدنا يونس عليه السلام
- سيدنا إلياس عليه السلام
- سيدنا اليسع عليه السلام
- سيدنا ذي الكفل عليه السلام
- سيدنا لقمان عليه السلام
- سيدنا زكريا عليه السلام
- سيدنا يحي عليه السلام
- سيدنا عيسى عليه السلام
- أهل الكتاب اليهود النصارى
- الصابئون والمجوس
- الاتعاظ بالسابقين
- النظر في عاقبة الماضين
- السيدة مريم عليها السلام ملحق
- آيات الناس وصفاتهم
- أنواع الناس
- صفات الإنسان
- صفات الأبراروجزائهم
- صفات الأثمين وجزائهم
- صفات الأشقى وجزائه
- صفات أعداء الرسل عليهم السلام
- صفات الأعراب
- صفات أصحاب الجحيم وجزائهم
- صفات أصحاب الجنة وحياتهم فيها
- صفات أصحاب الشمال وجزائهم
- صفات أصحاب النار وجزائهم
- صفات أصحاب اليمين وجزائهم
- صفات أولياءالشيطان وجزائهم
- صفات أولياء الله وجزائهم
- صفات أولي الألباب وجزائهم
- صفات الجاحدين وجزائهم
- صفات حزب الشيطان وجزائهم
- صفات حزب الله تعالى وجزائهم
- صفات الخائفين من الله ومن عذابه وجزائهم
- صفات الخائنين في الحرب وجزائهم
- صفات الخائنين في الغنيمة وجزائهم
- صفات الخائنين للعهود وجزائهم
- صفات الخائنين للناس وجزائهم
- صفات الخاسرين وجزائهم
- صفات الخاشعين وجزائهم
- صفات الخاشين الله تعالى وجزائهم
- صفات الخاضعين لله تعالى وجزائهم
- صفات الذاكرين الله تعالى وجزائهم
- صفات الذين يتبعون أهواءهم وجزائهم
- صفات الذين يريدون الحياة الدنيا وجزائهم
- صفات الذين يحبهم الله تعالى
- صفات الذين لايحبهم الله تعالى
- صفات الذين يشترون بآيات الله وبعهده
- صفات الذين يصدون عن سبيل الله تعالى وجزائهم
- صفات الذين يعملون السيئات وجزائهم
- صفات الذين لايفلحون
- صفات الذين يهديهم الله تعالى
- صفات الذين لا يهديهم الله تعالى
- صفات الراشدين وجزائهم
- صفات الرسل عليهم السلام
- صفات الشاكرين وجزائهم
- صفات الشهداء وجزائهم وحياتهم عند ربهم
- صفات الصالحين وجزائهم
- صفات الصائمين وجزائهم
- صفات الصابرين وجزائهم
- صفات الصادقين وجزائهم
- صفات الصدِّقين وجزائهم
- صفات الضالين وجزائهم
- صفات المُضَّلّين وجزائهم
- صفات المُضِلّين. وجزائهم
- صفات الطاغين وجزائهم
- صفات الظالمين وجزائهم
- صفات العابدين وجزائهم
- صفات عباد الرحمن وجزائهم
- صفات الغافلين وجزائهم
- صفات الغاوين وجزائهم
- صفات الفائزين وجزائهم
- صفات الفارّين من القتال وجزائهم
- صفات الفاسقين وجزائهم
- صفات الفجار وجزائهم
- صفات الفخورين وجزائهم
- صفات القانتين وجزائهم
- صفات الكاذبين وجزائهم
- صفات المكذِّبين وجزائهم
- صفات الكافرين وجزائهم
- صفات اللامزين والهامزين وجزائهم
- صفات المؤمنين بالأديان السماوية وجزائهم
- صفات المبطلين وجزائهم
- صفات المتذكرين وجزائهم
- صفات المترفين وجزائهم
- صفات المتصدقين وجزائهم
- صفات المتقين وجزائهم
- صفات المتكبرين وجزائهم
- صفات المتوكلين على الله وجزائهم
- صفات المرتدين وجزائهم
- صفات المجاهدين في سبيل الله وجزائهم
- صفات المجرمين وجزائهم
- صفات المحسنين وجزائهم
- صفات المخبتين وجزائهم
- صفات المختلفين والمتفرقين من أهل الكتاب وجزائهم
- صفات المُخلَصين وجزائهم
- صفات المستقيمين وجزائهم
- صفات المستكبرين وجزائهم
- صفات المستهزئين بآيات الله وجزائهم
- صفات المستهزئين بالدين وجزائهم
- صفات المسرفين وجزائهم
- صفات المسلمين وجزائهم
- صفات المشركين وجزائهم
- صفات المصَدِّقين وجزائهم
- صفات المصلحين وجزائهم
- صفات المصلين وجزائهم
- صفات المضعفين وجزائهم
- صفات المطففين للكيل والميزان وجزائهم
- صفات المعتدين وجزائهم
- صفات المعتدين على الكعبة وجزائهم
- صفات المعرضين وجزائهم
- صفات المغضوب عليهم وجزائهم
- صفات المُفترين وجزائهم
- صفات المفسدين إجتماعياَ وجزائهم
- صفات المفسدين دينيًا وجزائهم
- صفات المفلحين وجزائهم
- صفات المقاتلين في سبيل الله وجزائهم
- صفات المقربين الى الله تعالى وجزائهم
- صفات المقسطين وجزائهم
- صفات المقلدين وجزائهم
- صفات الملحدين وجزائهم
- صفات الملحدين في آياته
- صفات الملعونين وجزائهم
- صفات المنافقين ومثلهم ومواقفهم وجزائهم
- صفات المهتدين وجزائهم
- صفات ناقضي العهود وجزائهم
- صفات النصارى
- صفات اليهود و النصارى
- آيات الرسول محمد (ص) والقرآن الكريم
- آيات المحاورات المختلفة - الأمثال - التشبيهات والمقارنة بين الأضداد
- نهج البلاغة
- تصنيف نهج البلاغة
- دراسات حول نهج البلاغة
- الصحيفة السجادية
- تصنيف الصحيفة السجادية
- تصنيف الصحيفة بالموضوعات
- الباب السابع : باب الاخلاق
- الباب الثامن : باب الطاعات
- الباب التاسع: باب الذكر والدعاء
- الباب العاشر: باب السياسة
- الباب الحادي عشر:باب الإقتصاد
- الباب الثاني عشر: باب الإنسان
- الباب الثالث عشر: باب الكون
- الباب الرابع عشر: باب الإجتماع
- الباب الخامس عشر: باب العلم
- الباب السادس عشر: باب الزمن
- الباب السابع عشر: باب التاريخ
- الباب الثامن عشر: باب الصحة
- الباب التاسع عشر: باب العسكرية
- الباب الاول : باب التوحيد
- الباب الثاني : باب النبوة
- الباب الثالث : باب الإمامة
- الباب الرابع : باب المعاد
- الباب الخامس: باب الإسلام
- الباب السادس : باب الملائكة
- تصنيف الصحيفة بالموضوعات
- أسماء الله الحسنى
- أعلام الهداية
- النبي محمد (صلى الله عليه وآله)
- الإمام علي بن أبي طالب (عليه السَّلام)
- السيدة فاطمة الزهراء (عليها السَّلام)
- الإمام الحسن بن علي (عليه السَّلام)
- الإمام الحسين بن علي (عليه السَّلام)
- لإمام علي بن الحسين (عليه السَّلام)
- الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السَّلام)
- الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السَّلام)
- الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السَّلام)
- الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السَّلام)
- الإمام محمد بن علي الجواد (عليه السَّلام)
- الإمام علي بن محمد الهادي (عليه السَّلام)
- الإمام الحسن بن علي العسكري (عليه السَّلام)
- الإمام محمد بن الحسن المهدي (عجَّل الله فرَجَه)
- تاريخ وسيرة
- "تحميل كتب بصيغة "بي دي أف
- تحميل كتب حول الأخلاق
- تحميل كتب حول الشيعة
- تحميل كتب حول الثقافة
- تحميل كتب الشهيد آية الله مطهري
- تحميل كتب التصنيف
- تحميل كتب التفسير
- تحميل كتب حول نهج البلاغة
- تحميل كتب حول الأسرة
- تحميل الصحيفة السجادية وتصنيفه
- تحميل كتب حول العقيدة
- قصص الأنبياء ، وقصص تربويَّة
- تحميل كتب السيرة النبوية والأئمة عليهم السلام
- تحميل كتب غلم الفقه والحديث
- تحميل كتب الوهابية وابن تيمية
- تحميل كتب حول التاريخ الإسلامي
- تحميل كتب أدب الطف
- تحميل كتب المجالس الحسينية
- تحميل كتب الركب الحسيني
- تحميل كتب دراسات وعلوم فرآنية
- تحميل كتب متنوعة
- تحميل كتب حول اليهود واليهودية والصهيونية
- المحقق جعفر السبحاني
- تحميل كتب اللغة العربية
- الفرقان في تفسير القرآن -الدكتور محمد الصادقي
- وقعة الجمل صفين والنهروان
|
بذرة التشكيك والطعون في نهج
البلاغة والرد عليها
|
|
الشيخ
أحمد سلمان
|
|
بذرة
التشكيك والمؤرّخ المعروف بابن خلكان
|
|
صُنَّف نهج البلاغة في النصف الثاني من القرن الرابع للهجرة ، فاشتهر بين المسلمين ، وتلقّوه
بالقبول دون أن يطعن أحد منهم في الكتاب ، أو في مؤلّفه ، أو حتى يشكَّك فيه . وبحسب تتبّعي القاصر فإن بذرة التشكيك زُرعت في أواخرالقرن السابع على يد المؤرّخ المعروف بابن خلكان
، فإنه تعرّض في كتابه الموسوم بوفيات الأعيان في
ترجمة الشريف المرتضى كتاب نهج البلاغة ، وقال ما نصّه : وقد اختلف الناس
في كتاب ( نهج البلاغة) المجموع من كلام الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام ، هل هو جمعه أم جمع أخيه الرضي ؟ وقد قيل : إنه ليس من كلام علي
، وإنما الذي جمعه ونسبه إليه هو الذي وضعه ، والله أعلم [وفيات الأعيان ٣ / ٣١٣ .] . وقد اعترف سليمان الخراشي بهذه الحقيقة في تحقيقه لكتاب ( تشريع شرح نهج البلاغة) حيث قال : قال ابن خلّكان وهو أوّل من شكّك في نسبة الكتاب عند ترجمته للشريف المرتضى [تشريح شرح نهج البلاغة : ٨ .] . |
|
هذا الكلام لا يمكن قبوله لعدة أمور
|
|
أولاً :
|
|
أولاً : أنه مجرّد عن أي دليل أو برهان ، فأن ابن خلكان لم يأت بشاهد واحد على صحّة كلامه ،
بل الأغرب أنه نسبه للناس ، ولا نعلم من يقصد بهم : فإن كان العلماء فكتبهم موجودة ، ولم نجد أحداً منهم شكّك في نهج البلاغة قبله ، وإن كانوا العوام فإن تحكيمهم في مسألة علمية تخصصية هو عين السفه ، وأن كان رأياً شخصيًّا فهو مردود على صاحبه الذي لا يجيد إلا الدفع بالصدر. |
|
ثانياً :
|
|
ثانياً : أن ابن خلكان لا يمكن قبول شهادته في خصوص هذا
الموضوع ؛ لأن الرجل له عداوة تاريخية مع أهل البيت ع. |
|
يمكن
إثبات هذا الأمر بقرينتين
|
|
١ – سرّ تسميته بابن خلكان هو أن الرجل كان كثير الافتخار بأجداده ، فيُكثرمن قوله : (( كان أبي ، كان
جدي ، كان أجدادي)) ، فكان يقال له : (( خَلَّ كان ، وتكلم عن نفسك )) ، إلى أن أصبحت لقباً له . وقد نقل ذلك ابن العماد الحنبلي في
شذراته عن أحد مشايخه : ومن إفاداته أن لفظ ابن خلكان ضبط على صورة الفعلين خل أمر من
التخلية وكان الناقصة قال وسببه أنه كان يكثرقول كان والدي كذا كان جدي كذا كان فلان كذا فقيل له خل كان فغلبت عليه [شذرات الذهب ٨ / ٤٢٢ .] . ولما رجعنا إلى نسب الرجل وجدنا أنه برمكي ، ومن له اطلاع على التاريخ يعلم يقيناً أن البرامكة كانوا أشد الناس عداوة للعلويين ، وقد كانوا اليد الضاربة للدولة العباسية في أوائل تأسيسها ، وسبب اعتماد العباسيين عليهم هو فقدانهم للثقة بالعرب والعجم نظراً لتعاطفهم مع العلويين بسبب
خيانة العباسيين للعهد الذي كان مبرم بينهم من إعطاء الخلافة للرضا من آل محمد
في حال إسقاطهم لدولة بني أمية ، وتفرّدهم بالحكم دونهم ، فكانوا بمثابة السيف الحاد المسلط على
أعداء العباسيين وخصوصاً العلويين . وعليه فهناك عداء تاريخي متجّذر بين البرامكة وبين العلويين ، ولا نشك أن كلام ابن خلكان ناشى ء عن هذا . ٢ – أن ابن خلكان كان من عشاق يزيد بن معاوية وشعره ، وإذ أنه ذكر في ترجمة المرزباني : وهو أول من جمع ديوان يزيد بن معاوية بن
أبي سفيان الأموي ، واعتنى به ، وهو صغير الحجم ، يدخل في مقدار ثلاث كراريس ، وقد
جمعه من بعده جماعة ، وزادوا فيه أشياء كثيرة ليست له ، وكنت حفظت جميع ديوان يزيد ؛ لشدة غرامي
به ، وذلك في سنة ثلاث وثلاثين وستمائة بمدينة
دمشق ، وعرفت صحيحه
من المنسوب إليه الذي ليس له ، وتتبّعته حتى ظفرت بصاحب
كل أبيات ، ولولا خوف التطويل لبيَّنت ذلك ، وشعر يزيد مع قلَّته في نهاية الحسن [وفيات الأعيان ٤ / ٣٥٤ .] . |
|
هنا
لابد لنا من طرح عدة تساؤلات :
|
|
ما سبب غرام ابن خلكان الشديد بشعر يزيد ؟
|
|
إن كان حبّه لنفس الشعر، فهذه طامة
تنبىء عن سوء سريرة ابن خلكان ، إذا أن شعر يزيد ليس شعراً في ذكرالله ، ولا في الثناء على نبيّه صلى الله عليه وآله ، بل كله فسق وفجور، وليس هناك أفضل من الذهبي في تلخيصه لسيرة يزيد بن معاوية بقوله : وكان ناصبيًّا فظًّا ، غليظاً ، جلفاً
، يتناول المسكر، ويفعل المنكر، افتتح دولته بمقتل الشهيد الحسين ، واختتمها بواقعة الحرة ، فمقته الناس ، ولم يبارك في عمره [سير أعلام النبلاء ٤ / ٣٨ .] . وإن كان حبه لشعر يزيد من أجل حبه
ليزيد نفسه فيكفينا هذا مطعناً في هذا الرجل ؛ إذا أن حب يزيد من أقوى الأدلة
على النصب وبغض أهل البيت عليهم السلام ، وقد كفانا ابن كثيرالدمشقي مؤونة إثبات هذه القضية بقوله : الناس في يزيد بن معاوية أقسام ، فمنهم
من يحبّه ويتولاه ، وهم طائفة من أهل الشام ، من النواصب [البداية والنهاية ٦ / ٢٥٦ .] . ثالثاُ : لو افترضنا أن ما ذكره ابن خلكان هو
رواية عن معاصريه ، ولا رأياً له ، فهذا أيضاً لا يمكن قبوله ؛ لأن هذا الرجل فاسق مشهور بالفجور
والعياذ بالله ! ذكرالكتبي في ترجمة ابن خلكان : وكان له ميل إلى بعض أولاد الملوك ،
وله فيه أشعاررائقة , يقال : إنه أول يوم زاره بسط له الطرحة ، وقال له : ما
عندي أعز من هذه طأ عليها . ولما فشا أمرهما وعلم به أهله منعوه الركوب ، فقال ابن خلكان : ياسادتي إني قنعتُ وحقَّكم ***** في
حُبَّكم منكم بأيسرِمطلبِ إن لم تجودا بالوصالِ تعطّفاً *****
ورأيتمُ هجري وفرطَ تجنبي لا تمنعوا عيني القريحهَ أن ترى *****
يومّ الخميسِ جمالكم في الموكبِ لو كنتَ تعلمُ يا حبيبي ما الذي *****
ألقاه مِنْ كَمَدٍ إذا لم تركبِ [فوات الوفيات ١ / ١١٢.] ونقل في نفس المصدر: كان الذي يهواه القاضي شمس الدين بن
خلكان : الملك المسعود بن الزاهر صاحب حماة ، وكان قد تيّمه حبّه ، وكنت أنا
عنده في العادلية ، فتحدّثنا في بعض الليالي إلى أن راح الناس من عنده ، فقال :
من أنت ههنا ؟! وألقى عليَّ فروة قرظ ، وقام يدورحول البركة في بيت العادلية ،
ويكّررهذين البيتين إلى أن أصبح ، وتوضينا وصلينا . والبيتان المذكوران : أنا والله هالكٌ ***** آیسٌ مِنْ
سلامتي أو أرى الَقامَة التي***** قد أقامتْ
قيامتي [فوات الوفيات ١ / ١١٣ .] كما أن الكتبي نقل بإنصاف قصة تبيَّن رأي الشاميين في ابن خلكان ، حيث قال : ويقال : أنه سأل بعض
أصحابه عما يقوله أهل دمشق فيه ، فاستعفاه ، فألحَّ عليه ، فقال : يقولون إنك تكذب في نسبك، وتأكل الحشيشة
، وتحب الصبيان . فقال : أما النسب والكذب فيه فإذا كان لا بد منه كنت أنتسب إلى العباس ، أو إلى علي بن أبي طالب
، أو إلى أحد الصحابة ، وأما النسب إلى قوم لم يبق لهم بقية ، وأصلهم قوم مجوس فما فيه فائدة ، وأما الحشيشة فالكل ارتكاب محرم ، وإذا كان ولا بد فكنتُ أشرب الخمر؛ لأنه ألذ ، وأما محبة الغلمان فإلى غد أجيبك عن هذه المسألة [فوات الوفيات ١/١١٣ . فهنا نجده ينفي ما نُسب له سوى ما أسماه
بمحنة الغلمان والعياذ بالله ! فهل يمكن أن يحكم مثل هذا على تراث
أهل البيت عليهم السلام ، ويكون رأيه سيفاً قاطعاً يفصل بين الحق والباطل ؟ إذن ، هذا الرجل هو أول من بذر بذرة التشكيك
في نهج البلاغة ، وتعاهدها اللاحقون من المخالفين بالسقي والاعتناء حتى تجوَّلت
إلى يقين عند البعض بأن نهج البلاغة كتاب موضوع منحول على الإمام أميرالمؤمنين
علي بن أبي طالب ع ! |
|
على خطى ابن خلكان
|
|
تواصلت حملة التشكيك في نهج البلاغة بعدما افتتحها ودشّنها ابن خلكان ، فكل من جاء بعده إنما تبنى رأيه دون تحقيق ولا تبيان،بل حتى لفظ
ابن خلكان حافظوا عليه بنفسه ولم يغيَّروه ! وهذا يدل على أنهم مقلّدة وأبواق
للسابقين،وليسوا بأهل بحث وتحقيق ، وإلا فالعالم لا يعتمد على قول غيره دون
تبيان ولو كان الغير من أعاظم العلماء ؛ لأن قول العالم يُحتج له ولا يُحتج به
عند المحقّقين . وسنطرح بعض الأقوال على سبيل التمثيل لا
الحصر لكي يتأكد القارئ من صحة ما نقوله في هؤلاء : الأول : ما ذكره الذهبي ( توفي ٧٤٨ هـ) في تاريخ الإسلام ، فإنه قال : قلت : وقد اختلف في كتاب
نهج البلاغة المكذوب على عليّ عليه السلام ، هل هو من وضعه ، أو وضع أخيه الرضّي [تاريخ الأسلام ٢٩ / ٤٣٤ .] . الثاني : ما ذكره الصفدي ( توفي ٧٦٤ هـ) في كتاب الوافي بالوفيات : وقد اختلف
في كتاب نهج البلاغة ، هل هو وضعه ، أو وضع أخيه الرضي [الوافي بالوفيات ٢٠ / ٢٣١ .] . الثالث : ما ذكره اليافعي ( توفي ٧٦٨ هـ) : وقد اختلف الناس في كتاب نهج
البلاغة المجموع من كلام علي بن أبي طالب عليه السلام ، هل هو جمع أو جمع أخيه
الرضي ؟ وقد قيل : إنه ليس من كلام علي ، وإنما أحدهما هو الذي وضعه ، ونسبه إليه ، والله تعالى أعلم [مرآة الجنان ٣/٤٣ .] . الرابع : ما ذكره ابن العماد الحنبلي ( توفي ١٠٨٩ هـ) : ولقد اختلف الناس في كتاب نهج
البلاغة المجموع من كلام علي بن أبي طالب عليه السلام ، هل هو جمعه أم جمع أخيه
الرضي ؟ وقد قيل : إنه ليس من
كلام علي ، وإنما الذي جمعه ونسبه إليه هو الذي وضعه ، والله أعلم [شذرات الذهب ٢٥٧ .] . الخامس : ما ذكره القنوجي ( توفي ١٣٥٧ هـ ) في كتابة أبجد العلوم : وقد اختلف
الناس في كتاب نهج البلاغة المجموع من كلام الإمام علي بن أبي طالب ، هل هو جمعه
أم جمع أخيه الرضي ؟ وقد قيل : إنه ليس من كلام علي ، وإنما الذي جمعه ونسبه إليه هو الذي
وضعه [أبجد العلوم ٣ / ٦٦ .] . وكما يرى القارئ الكريم أن هؤلاء هم مجرد نقلة لا أكثر ولا أقل ، بل لم يكلفوا أنفسهم حتى عناء تغييرعبارة ابن خلكان ! والغريب أنهم يعبرون بـ (قلت) رغم أن هذا القول هو منقول عن ابن خلكان ، فهل يُتَوقَّع من هؤلاء الذين لم
يكلفوا أنفسهم عناء التحقيق في هذه المسألة ، أن ينصفوا كتاب نهج البلاغة ؟ |
|
الذهبي أنموذجاً
|
|
قد يتهمني البعض بأني تحاملت على
هؤلاء المذكورين ، وأن ما ذُكر ليس إلا من باب تشابه العبارات ، وإلا فإن القوم
قد بحثوا ونقبوا ووصلوا إلى نفس النتيجة التي توصَّل إليها ابن خلكان ، وليسوا
مقلدة كما ادّعينا . ولدرء هذه الشبهة ودفع هذه الظنون سنناقش تقييم الذهبي لكتاب نهج البلاغة
، لنصل إلى نتيجة ربما تكون أعظم مما
ذكرناه . |
|
من هو الذهبي ؟
|
|
الذهبي هو إمام علم الجرح والتعديل عند القوم ، وأعظم المؤرَّخين ، بل إن كتبه هي عمدة المتأخرين في علم الحديث والرجال . قال فيه معاصره ابن كثيرالدمشقي : وفي ليلة الاثنين ثالث شهرذي القعدة توفي الشيخ الحافظ الكبيرمؤرَّخ الاسلام وشيخ المحدَّثين شمس الدين
أبوعبدالله محمد بن عثمان الذهبي بتربة أم
الصالح ، وصُلّي عليه يوم الاثنين صلاة الظهرفي جامع دمشق ، ودُفن بباب الصغير، وقد ختم به شيوخ الحديث وحفاظه رحمه الله [البداية والنهاية ١٤/ ٢٦٠ .] . قال ابن الفداء في الذهبي
: وفيه صلى بحلب صلاة الغائب على الشيخ شمس
الدين بن محمد بن أحمد بن عثمان بن قايمازالذهبي الدمشقي ، منقطع القرين في معرفة أسماء الرجال ، محدث كبير، مؤرخ من
مصنفات كتاب تاريخ الإسلام ، وكتاب الموت وما
بعده وكُفَّ بصره في آخرعمره ، ومولده سنة ثلاث وسبعبن وستمائة [تاريخ أبي الفداء ٤ / ١٥٠ .] . |
|
رأيه في نهج البلاغة
|
|
ذكرنا سابقاً قول الذهبي في نهج البلاغة ، وهو تقريباً نفس عبارة ابن خلكان التي سارعليها كل من جاء بعده . لكن الذهبي استدرك على عبارته تلك في
مورد آخر، وذكرأمراً جعلها
مانعاً من قبول هذا الكتاب العظيم والسفرالكريم . قال في سيرأعلام النبلاء : هو جامع كتاب (نهج البلاغة) ، المنسوبة ألفاظه إلى الإمام علي ع ، ولا أسانيد لذلك ، وبعضها باطل ، وفيه حق ، ولكن فيه موضوعات ، حاشا الامام من النطق بها ، ولكن أين المنصف ؟! سير أعلام النبلاء ١٧ / ٥٨٩ |
|
الدليل على هذا أمور:
|
|
إذن هو يسلّم بوجود أمورثابتة الصدورعن أميرالمؤمنين ع في كتاب (نهج البلاغة) ، ويثبت وجود موضوعات فيه . لكن لم يصرّح بالنسبة بينهما ، ولم يعطنا أنموذجاً من هذه
الأمورالباطلة التي حكم باستحالة صدورها من الأمام عليه السلام ، بل الأمر مجرد دعوى مجردة عن كان دليل
وبرهان ، وكما قال هو :
أين المنصف ؟ رأينا في ما قاله : والذي يظهرلأول وهلة من قراءة هذه
الفقرة أن الذهبي قد اطلع على نهج البلاغة،وسير
رواياته ونقّحها ، ثم خرج لنا بهذا الحكم ، لكن الحقيقة غيرهذا ؛ فإن الذهبي ليس فقط مقلداً لابن خلكان كما قدمناه ، بل الأعظم والأدهى أنه لم
يقرأ كتاب نهج البلاغة البتة ، ولم يطلع على ما فيه ! |
|
الأول
|
|
الأول : نسب الذهبي للشريف الرضي قدس سره كتاباً في معاني القرآن ، والمقصود منه هو التفسيرالمطبوع بعنوان (حقائق التأويل) ، والذي يتبادرللذهن من كلام الذهبي أنه
اطلع على هذا الكتاب ، إذا أنه قال : الرضي الشريف أبو الحسن ، محمد بن الطاهر أبي أحمد الحسين بن
موسى ، الحسيني الموسوي البغدادي الشاعر، صاحب الديوان ، له نظم في الذروة حتى قيل : هو أشعرالطالبيين ، ولى النقابة بعد
أبيه ، وديوانه يكون أربع مجلدات ، وله كتاب معاني
القرآن ، ممتع يدل على سعة
علمه [سير أعلام النبلاء ١٧ / ٢٨٥ .]. علماً أن في هذا الكتاب نص الشريف الرضي قدس سره على أن نهج البلاغة من تصنيفه وجمعه ، قال : إني لأقول أبداً : إنه لو
كان كلام يلحق بغبارة ، أو يجري في مضماره – بعد كلام الرسول صلى الله عليه وآله لكان ذلك كلام أميرالمؤمنين
على بن أبي طالب عليه السلام ، إذا كان منفرداً بطريق الفصاحة ، لا تزاحمه عليها
المناكب ، ولا يلحق بعقوه فيها الكادح الجاهد ، ومن أراد أن يعلم برهان ما أشرنا إليه من ذلك ، فلينعم النظرفي كتابنا الذي ألفناه ووسمناه بـ ( نهج البلاغة) ، وجعلناه يشتمل على مختار جميع الواقع
إلينا ، من كلام أميرالمؤمنين عليه السلام في جميع الأنحاء والأغراض ، والأجناس
والأنواع : من خطب وكتب ومواعظ وحكم ، وبوَّبناه أبواباً ثلاثة ، لتشتمل على هذه
الأقسام مميزة مفصلة ، وقد عظم الانتفاع به ، وكثرالطالبون له ، لعظيم قدر ما
ضمنه : من عجائب الفصاحة وبدائعها ، وشرائف الكلم ونفائسها ، وجواهرالفقر
وفرائدها [حقائق التأويل : ١٦٧ .] . فلو كان الذهبي قرأ الكتاب الذي حكم
عليه بأنه ممتع وأنه يدل على سعة علمه لما اشتبه ، ونسب الكلام للشريف المرتضى قدس سره دون الرضي رحمه الله ! والذهبي رغم أنه يكثرفي كتبه من تقييم الكتب والحكم على مضامينها إلا أن تعليقاته هي مجرد منقولات سماعية دون تأكد أو تدقيق ، لذلك يقع في هذه الاشتباهات ، ودونك ما ذكره في ترجمة شيخنا المفيد قدس سره حيث أقرَّ أنه كان يحفظ كتب مخالفيه ،
في حين أن الذهبي يحمد ربه على عدم اطلاعه على كتب المفيد التي عدّها بالمئات ! قال الذهبي في السير قيل : إنه ما ترك للمخالفين كتاباً إلا
وحفظه ، وبهذا قدرعلى حل شبه القوم ، وكان من أحرص الناس على التعليم ، يدورعلى
المكاتب وحوانيت الحاكة ، فيتلمح الصبي الفطن ، فيستأجره من أبويه ، قال : وبذلك
كثر تلامذته ، وقيل : ربما زاره عضد الدولة ، ويقول له : اشفع تشفع ، وكان ربعة نحيفاً أسمر، عاش ستًّ وسبعين سنة ، وله أكثر من مئتي مصنف ... إلى أن قال : مات سنة ثلاث عشرة وأربع
مئة ، وشيَّعه ثمانون
ألفاً... وقيل : بلغت تواليفه مئتين ، لم أقف على شيء منها ولله الحمد [سير أعلام النبلاء ١٧ / ٣٤٥ .] . فهذا هو حال الذهبي يفتخر بجهله ، ويحمد الله على قلة اطلاعه على كتب الشيخ المفيد قدس سره ، فهل مثل هذا يمكن أن تقبل شهادته ؟ |
|
الثاني
|
|
الثاني : الأدهى والأمر أن الذهبي لو اطلع كتاب ( نهج البلاغة) لرأى فيه إحالات على كتاب ( المجازات النبوية) ، فقال : وهذا من الاستعارات العجيبة
كأنه شبه السه بالوعاء ، والعين بالوكاء ، فإذا أطلق الوكاء لم ينضبط الوعاء ،
وهذا القول في الأشهر الأظهرمن كلام النبي صلى الله عليه وآله ، وقد رواه قوم لأميرالمؤمنين
عليه السلام ؛ وذكر ذلك المبرد في كتاب (المقتضب) في باب اللفظ بالحروف ، وقد تكلّمنا على هذه الاستعارة في
كتابنا الموسوم بمجازات الآثارالنبویة [نهج البلاغة ٤ / ١٠٧ .]. ولا یختلف اثنان من المسلمین آن کتاب
(المجازات النبویة ) تأليف الشريف الرضي قدس سره ، ولو اطلع الذهبي على كتاب نهج البلاغة
لعلم من هذه الإحالات أنه كتاب الشريف الرضي دون المرتضى . |
|
الثالث
|
|
الثالث : الطامة الكبرى أن المحقّق الذهبي لم يتصفّح بضع وريقات من كتاب (نهج البلاغة) ، ولو أنه فعل
ذلك لما وقع في هذا الاشتباه ، إذ أن في أول كتاب النهج وبالتحديد في مقدمة النهج ذكرالمصنف أنه هو مؤلف كتاب (الخصائص النبوية) ، حيث قال : فإني كنتُ في عنفوان
السن ، وغضاضة الغضن ، ابتدأت بتأليف كتاب ( خصائص الأئمة ع) يشتمل على محاسن أخبارهم وجواهر كلامهم ، حداني عليه غرض ذكرته في
صدرالكتاب ، وجعلته أمام الكلام ، وفرغت من الخصائص التي تخصّ أميرالمؤمنين
عليًّا ع ، وعاقت عن إتمام بقية الكتاب محاجزات الزمان ومماطلات الأيام [نهج البلاغة ١ / ١١ .]. من هنا نعلم أن الذهبي لم يطلع على نهج البلاغة ، ولم يقرأه ولا رآه بعینه « بل هو حکم جزافي لا مستند عليه ، بل
منشؤه التعصّب الأعمى واتباع الهوى . ولستُ أنا من أنسب هذا الأمر إلى الذهبي ، بل حتى تلاميذه شهدوا عليه بهذا الذي قلته ، وحكموا عليه بالتعصّب والتسرّع في الحكم على
مخالفيه ! قال السبكي مصوَّراً حال شيخه الذهبي : وهذا شيخنا الذهبي : رحمه الله من
هذا القبيل ، له علم وديانة ، وعنده على أهل السنة تحمّل مفرط ، فلا يجوز أن يعتمد عليه . ونقلت من خط الحافظ صلاح الدين خليل
بن كيكلدي العلائي رحمه الله ما نصّه : الشيخ الحافظ شمس الدين الذهبي لا أشك في
دينه وورعه وتحرّيه فيما يقوله الناس ، ولكنه غلب عليه مذهب الإثبات ، ومنافرة التأويل ، والغفلة عن التنزيه
، حتى أثر ذلك في طبعه انحرافاً شديداً عن أهل التنزيه ، وميلاً قويًّا إلى أهل
الإثبات ، فإذا ترجم
واحداً منهم يطنب في وصفه بجميع ما قيل فيه من المحاسن ، ويبالغ في وصفه ،
ويتغافل عن غلطاته ، ويتأوَّل له ما أمكن ، وإذا ذكرأحداً من الطرف الآخرکإمام الحرمين والغزالي ونحوهما لا يبالغ في وصفه ، ويُكثر من قول من
طعن فيه ، ويعيد ذلك ويبديه ويعتقده ديناً ، وهو لا يشعر ويعرض عن محاسنهم
الطافحة فلا يستوعبها ، وإذا ظفرلأحد منهم بغلطة ذكرها ، وكذلك فعله في أهل عصرنا ، إذا لم يقدرأحد منهم بتصريح يقول في ترجمته والله يصلحه ونحو ذلك ، وسببه المخالفة في العقائد انتهى ... والحال في حق شيخنا الذهبي أزيد مما وصف ، وهو شيخنا ومعلّمنا
غير أن الحق أحق أن يُتَّبع ، وقد وصل من التعصب المفرط إلى حد يُسخر منه ، وأنا أخشى عليه يوم القيامة من غالب
علماء المسلمين وأئمتهم الذين حملوا لنا الشريعة النبوية ، فإن غالبهم أشاعرة ،
وهو إذا وقع بأشعري لا يبقي ولا يذر، والذي أعتقده أنهم خصماؤه يوم القيامة عند من لعل أدناهم عنده
أوجه منه ، فالله المسؤول أن يخفَّف عنه ، وأن يلهمهم العفو عنه ، وأن يشفعهم
فيه [طبقات الشافعية الكبرى ٢ / ١٤ .] . فإذا كان هذا حاله مع موافقيه في
الاعتقاد ، ومن يعتقد
بإسلامهم ، وأنهم بنو جلدته ، فكيف مع الشيعة الذين يعتقد كفرهم وخروجهم عن الاسلام ، بل نعتهم بأقبح الألفاظ
في كتابه ! [قال في ميزان الاعتدال ٣ / ٢٤٢ : قال أبوأحمد الزبيري : رافضي ،
كأنه جرو كلب ...] . الذهبي ليس إلا أنموذجاً من هؤلاء وإلا لو تتّبعنا كلمات هؤلاء وبحثنا في
مصنّفاتهم لعلمنا أنهم أبعد ما يكونون عن البحث العلمي والنقد الهادف ، بل كلّ ما يصدر منهم هو عصيبة محضة وهوى متّبع . |
|
طعونات
في نهج البلاغة
|
|
ذكر مجموعة من النقاد مجموعة من
الأمور اعتبروها مطاعن في
نهج البلاغة ، وجعلوها عللاً تمنع من قبول هذا الكتاب ، وصيَّروها قرائن دالة على عدم صدور فقرات كتاب (نهج
البلاغة) عن أميرالمؤمنين عليه السلام . |
|
الشبهة
الأولى : سب الصحابة :
|
|
ارتكزالذهبي على هذه الشبهة للطعن في كتاب (نهج البلاغة) ، فقال في ميزان الاعتدال : ومن طالع كتابه ( نهج البلاغة) جزم
بأنه مكذوب على أميرالمؤمنين علي عليه السلام ، ففيه السب الصراح والحط على
السيَّدين : أبي بكر، وعمر[ميزان الاعتدال ٣ / ١٢٤ .] . ووافقه على هذا محب الدين الخطيب في تعليقته على (المنتقى من منهاج السنة) : وهذان الأخوان تطوّعا للزيادة على خطب أميرالمؤمنين سيّدنا علي
كرَّم الله وجهه بكل ما هو طارئ عليها وغريب منها، ومن التعريض بإخوانه الصحابة، وهو بريء عند الله
عزَّوجل من كل ذلك ، وسيبرأ إليه من مقترفي هذا الإثم [حاشية المنتقى من منهاج السنة : ٢٢ .]. |
|
والجواب على هذا : |
|
اولاً: بحثتُ في كل نهج البلاغة فلم أجد فيه أي (سب صراح) كما ادّعى الذهبي ، وهذا ليس بمستغرب
؛ إذ أنه كما أثبتنا سابقاً لم يقرأ (نهج البلاغة) ، ولم يطلع عليه ، ولهذا لم
يأت بشاهد واحد على هذا ( السب الصراح) المدَّعى ، ولو اشتمل الكتاب على سبّ صراح كما ادعى لاستشهد به عنده ذكره لهذا
الكلام . ثانياً : لو سلَّمنا بوجود هذا السب الصراح ؛ فإنه لا ملازمة بينه وبين الحكم على
الكتاب كله بالوضع ، فغاية ما يدل وجود السب الصراح – على مباني القوم طبعاً – هوالحكم على خصوص هذا المورد بالوضع ، وليس على كل الكتاب ، ووجود حديث موضوع لا يعني وضع كل الكتاب أو جله . ثالثاً : لو سلمنا جدلاً بوجود السب والشتم في الكتاب ، فإن ذلك لا يدل حتى على أن هذا السب مكذوب ، والدليل
على ذلك وجود أحاديث كثيرة فيها سب وشتم بين الصحابة في
أصح كتب المسلمين : من ذلك كلام الإمام علي عليه السلام في الشيخين : فقد روى مسلم في صحيحه حديثاً قال فيه عمر بن الخطاب لعلي والعباس : جئتما تطلب ميراثك من ابن
أخيك ، ويطلب هذا ميراث امرأته من أبيها ، فقال أبوبكر: قال رسول الله صلى الله عليه وآله ((ما نُوْرّث،ما تركنا صدقة))، فرأيتما كاذباً آثماً غادراً خائناً ، والله يعلم أنه لصادق بار راشد تابع للحق ، ثم توفي أبوبكر وأنا
ولي رسول الله صلى الله عليه وآله وولي أبي بكر، فرأيتماني كاذباٌ آثماً غادراً خائناً ، والله يعلم أني لصادق بار راشد تابع
للحق [صحيح مسلم ٥ / ١٥٢ .] . وأضاف ابن حبان قوله : ثم أقبل على
علي والعباس ، قال : وأنتما تزعمان أنه كان فيها ظالماً فاجراً ، والله يعلم صادق بار تابع للحق ،ثم
وليتها بعد أبي بكرسنتين من إمارتي ، فعملتُ فيها ما عمل فيها رسول الله صلى
الله عليه وآله وأبوبكر، وأنتما تزعمان أني فيها ظالم فاجر،والله يعلم أني فيها صادق بار تابع للحق [صحيح ابن حبان ١٤ / ٥٧٧ .] . وقد حاول البعض تأويل هذه الرواية بحملها على المزح والهزل ، وليس على حقيقتها لكن يكفينا في رد هذا التأويل البارد أن البخاري حذف هذه الألفاظ ، وأسقطها من الرواية [صحيح البخاري ٢ / ٩٥٢ ح ٣٠٩٤ .] ، وعلَّق ابن حجر بقوله : في رواية عقيل عن ابن شهاب في الفرائض : اقضِ بيني وبين هذا الظالم ، استبَّا ، وفي رواية جويرية : وبين هذا الكاذب الآثم الغادرالخائن
، ولم أر في شيء من الطرق أنه صدر من علي في حق العباس شيء بخلاف ما يفهم قوله
في رواية عقيل : ((استبا)) ، واستصوب المازري صنيع من حذف هذه الألفاظ من هذا الحديث [فتح الباري ٦ / ١٤٣ .] . ومن ذلك أيضاً سب عمرلأبي هريرة : فقد روى الحاكم في المستدرك بسنده : عن أبي هريرة رضي الله عنه
قال لي عمر: يا عدو الله وعدو الإسلام ، خنت مال الله ؟ قال : قلت : لست عدو الله ولا عدو
الإسلام ، ولكني عدو من عاداهما ، ولم أخن مال الله ، ولكنها أثمان إبلي ، وسهام اجتمعت . قال : فأعادها عليَّ ، وأعدت عليه هذا الكلام . قال : فغرَّمّني اثني عشرألفاً . قال : فقمت في صلاة الغداة فقلت :
اللهم اغفرلأميرالمؤمنين . فلما كان بعد ذلك أرادني على العمل ، فأبيت عليه ،
فقال : ولم قد سأل يوسف العمل وكان خيراً منك ؟ فقلت : إن يوسف نبي ابن نبي ابن
نبي ، وأنا ابن أميمة ، وأنا أخاف ثلاثاً واثنتين . قال : أو لا تقول : خمساً ؟ قلت : لا ، قال : فما هن ؟ قلت : أخاف أن أقول بغيرعلم ، وأن أفتي
بغيرعلم ، وأن يُضرب ظهري ، وأن
يُشتم عرضي ، وأن يؤخذ مالي بالضرب [المستدرك على الصحيحين ٢ / ٣٨٧ ، قال
الحاكم : هذا حديث صحيح بإسناد على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه . ووافقه الذهبي .] . فلماذا لم يحكم الذهبي على هذه الكتب بالوضع ؟ولماذا لم يحكم على خصوص هذه الروايات بالوضع والكذب ؟ بل العکس وجدناه ، فإنه صحَّح رواية سب عمرلأبي هريرة
، وحكم عليها بأنها على شرط الشيخين ! الرابع : الموجود في كتاب (نهج البلاغة) هو نقد لبعض سلوكيات الصحابة التي لم يرتضها أميرالمؤمنين عليه
السلام ، وهذا ليس شتماً أو سبًّا لكل الصحابة كما حاول الذهبي تصويرالأمر، ولم يقل أحد : (( إن نقد الصحابة ليس
بجائز، وأنهم فوق النقد )) ، بل وجدنا أن كبارعلماء المخالفين يشهدون بصدور بعض الموبقات من الصحابة
. قال سعد الدين التفتازاني : إن ما وقع بين الصحابة من المحاربات
والمشاجرات على الوجه المسطور في كتب التواريخ والمذكورعلى ألسنة الثقاة يدل بظاهره على أن بعضهم قد حاد عن طريق الحق ، وبلغ حد الظلم ، والفسق ، وكان الباعث له الحقد ، والعناد ،
والحسد ، واللداد ، وطلب الملك والرياسة ، والميل إلى اللذات والمشهورات [شرح المقاصد ٥ / ٣١٠ .] . وقال ابن عثيمين : ولا شك أنه حصل من بعضهم سرقة وشرب خمر وقذف وزنى بإحصان وزنى
بغير إحصان ، لكن هذه الأشياء تكون مغمورة في جنب فضائل القوم ومحاسنهم ، وبعضها أقيم فيه الحدود ، فيكون كفارة [شرح العقيدة الواسطية ٢ / ٢٩٢ .] . فهل نقل هؤلاء نقوداً لجملة من
الصحابة ونسبة الموبقات لهم لا يدل على كذب كتبهم ، ونقل السيّد الرضي قدس سره ذلك عن
أميرالمؤمنين عليه السلام يدل
على كذب نهج البلاغة ؟! الخامس : العجيب أن الذهبي تمسَّك بما ظنّه سباَّ للصحابة وأغمض جفنيه عن
النصوص المادحة لصحابة رسول الله صلى الله عليه وآله
الوارد في كتاب (نهج البلاغة) ، مثل قول
أميرالمؤمنين عليه السلام : قد رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وآله ، فما
أرى أحداً يشبههم ، لقد كانوا يصبحون شعثاً غبراً ، وقد باتوا سُجَّداً وقياماً
، يراوحون بين جباههم وخدودهم ، ويقفون على مثل الجمر من ذكر معادهم ، كأن بين
أعينهم ركب المعزى من طول سجودهم ، إذا ذُكر الله هملت أعينهم حتى تبل جيوبهم ،
ومادوا كما يميد الشجر يوم الريح العاصف خوفاً من العقاب ورجاء الثواب [نهج البلاغة ١ / ١٩٠ .] . نختم بتصريح مهم جداً للمعلمي اليماني الذي قال في كتابه التنكيل : وقد عذر أهل السنة بعض
من قاتل علي بن أبي طالب رضوان الله عليه وجاهر بسبّه ولعنه ، فإن كان الحميدي مخطئاً فهو أولى
وأجدر بأن يعذر ويؤجر[التنكيل ١ / ٢٩٧ .]! فإن كنتم قد عذرتم من سبّ عليا ع ولعنه وحاربه ، فكيف لا تعذرون الشريف الرضي وهو مجرد ناقل لقضايا تاريخية قد ثبتت بالدليل والبرهان ؟فهذه الأجوبة الخمسة كافية لدحض هذه الشبهة ورد هذا الافتراء عن كتاب ( نهج البلاغة) . |
|
الشبهة
الثانية : سبك العبارات :
|
|
من جملة الأمورالتي ذكروها للطعن في
كتاب ( نهج البلاغة) هي وجود عبارات ركيكة في بعض مضامين
الكتاب كما نصَّ الذهبي على
ذلك وانفرد به ، فقال : وفيه من التناقض والأشياء الركيكة والعبارات التي من له معرفة
بنفَس القرشيين الصحابة وبنفَس غيرهم ممن بعدهم من المتأخَّرين جزم بأن الكتاب أكثره باطل [ميزان الاعتدال ١ / ١٩٠ .]. |
|
والجواب على هذا : |
|
أولاً : ادّعى الذهبي وجود عبارات ركيكة في كتاب (نهج البلاغة) تدل على أنها ليست من
سبك الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام المعروف بالفصحاحة والبلاغة والاحاطة
بأساليب العرب ، وكالعادة لم يأتِ الذهبي بشاهد أو دليل أو قرينة على ما ذكره سوى إلقاء الكلام على
عواهنه ، دون إثبات لصدق ما يدّعيه ، وهذه عادة من لا يكون عنده حجة يثبت بها دعاواه الباطلة . ثانیاً : شهادة الذهبي لا يمكن قبولها ؛ لما ذكره هو بنفسه من أن (من له علم بنفّس القرشيين يجزم بأن
هذا الكتاب الكتاب موضوع مجعول) ، إذ أن الرجل قد نصَّ في ترجمته للشريف الرضي قدس سره أنه فارس في ميدان الأدب والشعر [قال عنه في سيرأعلام النبلاء ١٧ / ٢٨٦
: الشريف أبوالحسن ، محمد بن الطاهرأبي أحمد الحسين بن موسى ، الحسيني الموسوي
البغدادي الشاعر، صاحب (الديوان) ، له نظم في الذروة حتى قيل : هو أشعرالطالبيين
.]،
وقد قدَّمنا شهادة فطاحل المترجمين على نبوغ الرجل في هذا الفن ، في المقابل نجد أن الذهبي لا سابقة له في علوم
الأدب والبلاغة، بل هو ليس بعربي أصلاً ، وإنما هو تركماني ، في حين أن الرضي عربي قرشي هاشمي علوي ، فكيف تقبل شهادة هذا في هذا ؟ ثالثاً : شهادة الذهبي معارضة بشهادة مجموعة من أهل الاختصاص المشهود لهم بأنهم من أهل المعرفة باللغة والأدب والبلاغة : قال ابن ابي الحديد المعتزلي [عرّفه الذهبي في تاريخ الإسلام ٤٨ / ٢٠٢ : عبدالحميد بن هبة الله بن محمد بن
محمد بن أبي الحديد عزالدين أبو حامد المدائني ، المعتزلي ، الفقيه الشاعر،
الأديب أخو الموفق ، وُلِد سنة ست وثمانين وخمسائة ، روى بالإجازة عن : عبدالله
بن أبي المجد الحربي ، وهو معدود في أعيان الشعراء كأخيه .] في شرحه : ويكفي هذا الكتاب الذي نحن شارحوه دلالة على أنه لا يجارى في الفصاحة ، ولايبارى في
البلاغة ، وحسبك أنه لم
يدوَّن من لأحد فصحاء الصحابة العُشْر، ولا نصف العُشْر مما دون له . وكفاك في هذا الباب ما يقوله أبوعثمان
الجاحظ في مدحه في كتاب (البيان والتبيين) وفي غيره من كتبه [شرح نهج البلاغة ١ / ٣٥ .] . - الشيخ محمود شكري الآلوسی [وهو من كبارعلماء السلفية في العراق ، ومن المتشددين في العقائد السلفية ، ألف كتاباً
أسماه (بلوغ الأماني) ، انتصر فيه لأراء ابن تيمية في
التوسل والاستغاثة والزيارة .] فإنه قال : هذا كتاب (نهج البلاغة) قد أستودع من خطب الإمام علي بن أبي طالب سلام الله عليه ما هو قبس من نورالكلام الإلهي، وشمس
تضيء بفصاحة المنطق النبوي [بلوغ الارب ٣ / ١٨٠ .] . - الشيخ محمد محي الدين عبدالحميد [من كبارعلماء الأزهر المعروفين بتخصصهم في علوم اللغة، ولذلك نجد أن جملة من الكتب النحوية
المتداولة في هذا العصرمن تحقيقه،كقطرالندى، وشذورالذهب، ومغني اللبيب وغيرها .] فإنه قال : هو ما اختاره الشريف الرضي أبوالحسن محمد بن الحسين
الموسوي من كلام أميرالمؤمنين علي بن أبي رضي الله عنه ، وهوالكتاب الذي ضمَّ
بين دفتيه عيون البلاغة وفنونها ، وتهيأت به للناظر فيه أسباب الفصاحة ، ودنا منه قطافها
، إذ كان من كلام أفصح الخلق بعد الرسول صلى الله عليه وآله منطقاً ، وأشدهم
اقتداراً ، أبرعهم حجة ، وأملكهم للغة ، يديرها كيف شاء الحكيم الذي تصدرالحكمة
عن بيانه ، والخطيب الذي يملأ القلب سحر بيانه ، والعالم الذي تهيأ له من خلاط
الرسول ، وكتابة الوحي ، والكفاح عن الدين بسيفه ولسانه منذ حداثته ما لم يتهيأ
لأحد سواه [مقدمة نهج البلاغة : ٧ .] . هذا غيض من فيض ، ولو أردنا استقصاء كلمات أهل الاختصاص في نهج البلاغة لطال بنا المقام ، ولاحتجنا إلى كتاب خاص لسرد هذه
الشهادات المهمة التي ضرب بها الذهبي عرض الجدار. |
|
الشبهة
الثالثة : مصادرالنهج وأسانيده :
|
|
من أهم الإشكالات التي يتمسَّك بها الطاعنون في نهج
البلاغة في هذا العصر هو خلو كتاب (نهج البلاغة) من الأسانيد ، وعدم وجود جملة من نصوص الكتاب في
المصادرالمتقدَّمة عليه . وقد أسَّس لهذه الشبهة
ابن تيمية الحراني في كتابه ( منهاج السنة)
بقوله : وهذا الخطب المنقولة في كتاب (نهج
البلاغة) لو كانت كلها عن علي من كلامه لكانت
موجودة قبل هذا المصنف ، منقوله عن علي بالأسانيد وبغيرها ، فإذا
عرف من له خبرة بالمنقولات أن كثيراً منها بل
أكثرها لايُعرف قبل هذا ، عُلِم أن هذا كذب ، وإلا
فليبيَّن الناقل لها في أي كتاب ذكر ذلك ؟ ومن الذي نقله عن علي ؟ وما إسناده ؟
وإلا فالدعوى المجرّدة لا يعجزعنها أحد [منهاج السنة ٨ / ٥٥ .] . |
|
والجواب على هذا بأمور: |
|
أولاً : أن الشريف الرضي قدس سره كان بصدد تصنيف كتاب أدبي ، وليس مصدراً من مصادرالحديث الشيعية ، أو مرجعاً للعقائد والفقه ، ولذلك فإنه اختصرالطرق ، واستغنى
عن الأسانيد مراعاة لمقتضى الحال ، فمن أراد أن يتثَّبت من صحة المنقولات فعليه بالرجوع إلى المصادرالأصلية التي نقل منها الجامع ، وليس أن
يعتمد رأساً على نهج البلاغة . وما فعله الرضي ليس بمبتَدع أو تدليس كما
يحاول البعض إلصاق هذه التمهة به ، بل هذا أمر متعارف عليه بين أهل العلم ، ولذلك إذا راجعت مثلاً
كتب تراجم الصحابة ، أمثال كتاب (الإصابة في معرفة الصحابة)، أو كتاب
(الاستيعاب) ، أوغيرها من كتب التاريخ ، مثل كتاب (الكامل في التاريخ) لابن
الأثير، لا تجد ذكراً
للأسانيد والرواة إلا قليلاً جدًّا ، بل عادة يكتفي بذكرآخر راو فقط . ثانياً : بمراجعة مقدمة كتاب (نهج البلاغة) نجد أن الشريف الرضي قدس سره قد اعترف فيها بأن الكلمات
التي نسبها لأميرالمؤمنين عليه السلام في كتابه قد نقلها عن مصادرها الأصلية . قال في المقدمة : وربما جاء في أثناء هذا الاختياراللفظ
المردَّد والمعنى المكرَّر والعذر في ذلك أن روايات كلامه تختلف اختلافاً شديداً ، فربما اتفق الكلام
المختار في رواية فنُقل على وجهه ثم وُجد بعد ذلك في رواية أخرى موضوعاً غير
وضعه الأول ، إما بزيادة مختارة ، أو بلفظ أحسن عبارة ، فتقتضي الحال أن يعاد
استظهاراً للاختيار، وغيره على عقائل الكلام ، وربما بَعْدَ العهد أيضاً بما
اختبر أولاً ، فأعيد بعضه سهواً ، أو نسياناً ، لا قصداً واعتماداً[نهج البلاغة ١ / ١٣ .] . فالرجل قد أفصح عن منهجه ، وأبان
مقصده ، وأوضح أنه مجرد ناقل لكلمات أميرالمؤمنين عليه السلام الفصيحة وعباراته المليحة ، وليس واضعاً أو ناحلاً كما يدَّعون . ثالثاً : لو اطلع ابن تيمية أو غيره على كتاب (نهج البلاغة) لوجدوا أن الشريف الرضي قدس سره ذكر في موارد كثيرة من كلامه مصادره التي نقل منها هذه الخطب والرسائل ، ومنها : منها : كتاب المقتضب للمبرد : قال السيد الرضي قدس سره : وقد رواه قوم لأميرالمؤمنين ع ، وذكرالمبرد في كتاب (المقتضب) في باب اللفظ الحروف ، وقد تكلّمنا
على هذه الاستعارة في كتابنا الموسوم بمجازات الآثارالنبوية [نفس المصدر ٤ / ١٠٧ .] . ومنها : كتاب تاريخ الطبري : قال السيد الرضي قدس سره : وروى ابن جريرالطبري في تاريخه عن عبد
الرحمن بن أبي ليلى الفقيه ، وكان ممن خرج لقتال الحجاج مع ابن الأشعث أنه قال
فيما كان يحض به الناس على الجهاد : إني سمعت عليَّا يوم لقينا أهل الشام... [نفس المصدر٤ / ٨٨ .] . ومنها : كتاب البيان والتبيين : قال السيد الرضي قدس سره : أقول : هذه الخطبة ربما نسبها من لاعلم
له إلى معاوية ، وهي من كلام أميرالمؤمنين عليه السلام الذي لا يشك فيه ، وأين
الذهب من الرغام ، والعذب من الأجاج ؟ وقد دلَّ على ذلك الدليل الخريت ، ونقده
الناقد البصير: عمرو بن الجاحظ ، فإنه ذكرهذه الخطبة في كتاب (البيان والتبيين) ، وذكرمن نسبها إلى
معاوية ، ثم قال : هي بكلام علي عليه السلام أشبه [نفس المصدر ١ / ٧٩ .] . فهذه التصريحات تدل على أن الشريف الرضي قدس سره مجرد ناقل لكلمات أميرالمؤمنين عليه السلام من الكتب السابقة وغيرها . لكن يبق هنا إشكال مهم : وهو خلو الكتب المتقدّمة من النصوص
المنقولة في كتاب (نهج البلاغة) ، وهو مفاد قول ابن تيمية : ((فإذا عرف من له
خبرة بالمنقولات أن كثيراً منه بل أكثرها لا يعرف قبل هذا )) ، فمن أين جاء الشريف لرضي قدس سره بهذه
النصوص ؟ هنا لابد من الوقوف على مقدمتين : الأولى : أن خطب أميرالمؤمنين عليه السلام كانت موجودة ومتداولة بين أيدي الناس قبل أن يخلق الشريف الرضي . قال الجاحظ في البيان : هذه خطب رسول الله صلى الله عليه
وآله مدوَّنة محفوظة ومخلدة مشهورة ، وهذه خطب أبي بكر وعمر وعثمان وعلي [البيان والتبيين ١ / ٢٠١ .] . قال المسعودي في المروج : والذي حفظ الناس عنه من خطبه في سائر
مقاماته ٤٠٠ خطبة ونيف ، وثمانون خطبة يوردها على البديهة ، وتداولها الناس ذلك
عنه قولاً وعملاً [مروج الذهب ٢ / ٤١٩ .] . واذا استقرأنا الكلمات والخطب
المتداولة الآن دون المذكورة في كتاب (نهج البلاغة) وغيره نجد أن مجموعها لا يصل إلى نصف هذا العدد الذي ذكره
المسعودي ، الذي توفي قبل أن
يصنف نهج البلاغة ، بل قبل أن يولد الشريف الرضي قدس سره . الثانية : أن كل من طعن في كتاب (نهج البلاغة) نصَّ على وجود حق فيه ، وثبوت
صدور جملة من كلماته عن أميرالمؤمنين عليه السلام ، فالخلاف هو جزئي أي في بعض فقرات النهج
لا كله . بعد هذه المقدمتين نجيب عن ايراد ابن تيمية بالآتی : اولاً : من أراد الوقوف على مصادر كتاب (نهج البلاغة) عليه الرجوع إلى الأصول المعتبرة ، كالكتب الأربعة عند الشيعة (الكافي ، التهذيب ، الاستبصار،
الفقيه) وغيره من كتب الصدوق والمفيد والشيخ الطوسي ، ولاختصارالطريق على الباحث هناك كتب اهتمت بتخريج أحاديث النهج
وذكرالمصادر، مثل كتاب ( مصادرنهج البلاغة وأسانيده ) للسيد عبد الزهراء الخطيب ، وكتاب (بهج الصباغة ) للمحقق التستري . ثانياً : في حال عدم وجود مصدر للخطب المذكورة في (نهج البلاغة) ، فإن هذا لايوجب الطعن في جميع الكتاب ولا
في المؤلف نفسه ، إذ أن هناك أموراً كثيرة منعت من وصول تراث أهل البيت عليهم
السلام ، ومن قرأ التاريخ وتتبّع حوادثه علم أن هناك حملة ممنهجة شُنّت على أهل البيت عليهم السلام لإخفاء تراثهم ، وللتعتيم على حديثهم ، وكانت هذه الحملة على مراحل : ١ – الإعراض عن أحاديث النبي وأهل البيت عليهم السلام : بمراجعة أهم كتب الحديث نجد عدة قرائن تدل على وجود إعراض متعمَّد من المحدَّثين والفقهاء عن كل ما يتعلق بآل محمد عليهم السلام . منها : ما نقله الحاكم النيسابوري في المستدرك بسنده عن سعيد بن جبير، قال : كنا مع ابن عباس بعرفة ، فقال لي : يا سعيد مالي لا أسمع الناس يلبّون ؟ فقلت : يخافون من معاوية . قال : فخرج
بن عباس من فسطاطه ، فقال : لبيك اللهم لبيك ، فإنهم قد تركوا السُّنّة من بغض علي رضي الله عنه [المستدرك على الصحيحين ١ / ٤٦٤ .] . وهذا الحديث نص من ابن عباس رضي الله عنه وشهادة منه على أن القوم قد أعرضوا عن سنة رسول
الله صلى الله عليه وآله وهجروها بغضاٌ وکرهاٌ وعداوة لأميرالمؤمنين عليه السلام
، فإن كان هذا حال الصحابة الذين تُدّعى فيهم العدالة والصلابة
في الدين ، فكيف بالذين جاؤوا
بعدهم ، وثبت نصبهم وعداوتهم لأهل البيت
عليهم السلام ؟! ٢- المنع من التحديث عن النبي وأهل
البيت عليهم السلام : فقد ثبت في كتب التاريخ والحديث والسيرة أنه بعد وفاة النبي صلى الله عليه
وآله منع الحکام من التحديث بسنّته والرواية عنه ، وكان لهذا القرارعواقب وخيمة ، لاسيما طمس آثار النبي صلى الله
عليه وآله، بل إقصاء لكل السنة النبوية التي تمثل المصدر الثاني من مصادرالتشريع
. وممن منع من التحديث بالسنة أبوبكربن أبي قحافة : فإنه قد فرض حظراً على التحديث
بسُنّة النبي صلى الله عليه وآله ، ولعل هذا القرار كان من أول القرارات التي اتخذها أبوبكربعد وفاة الرسول الأعظم
صلى الله عليه وآله : فقد روى الذهبي : عن ابن أبي مليكة أن الصدّيق جمع الناس بعد وفاة نبيّهم ، فقال : إنكم تحدَّثون عن رسول الله صلى الله عليه وآله أحاديث تختلفون
فيها ، والناس بعدكم أشد اختلافاً ، فلا تحدَّثوا عن رسول الله شيئاً ، فمن
سألكم فقولوا : بيننا وبينكم كتاب الله ، فاستحلّوا حلاله ، وحرَّموا حرامه [تذكرة الحفاظ ١ / ٣ .] . وهذا الأثر واضح صريح في أن الخليفة
الأول نهى عن التحديث نهياً صريحاً لا يقبل التأويل
والتبديل ، حيث قال : (( فلا تحدَّثوا عن رسول الله شيئاً))، وأمرهم بالرجوع إلى
كتاب الله ، وحصر التشريع فيه بقوله : (( فقولوا : بيننا وبينكم كتاب الله ، فستحلّوا حلاله ، وحرّموا
حرامه )) . وما فعله أبوبكر قد حذَّر منه النبي صلى الله عليه وآله في حياته ، ونبَّه أمَّته
عليه ، فقد روى الحاكم [المستدرك على الصحيحين ١ / ١٠٨ .] والدارمي [سنن الدارمي ١ / ١٥٣ .] وابن ماجة [سنن ابن ماجة ١ / ١٠٦ .] وابن داوود [سنن أبي داوود ٢ / ٣٩٢ .] وأحمد واللفظ له بعدة طرق عن رسول
الله صلى الله عليه وآله أنه قال : ألا إني أوتيت الكتاب ، ومثله معه ، ألا إني
أوتيت القرآن ، ومثله معه ، ألا يوشك رجل ينثني شبعاناً على أريكته ، يقول :
عليكم بالقرآن ، فما وجدتم فيه من حلال فأحلّوه ، وما وجدتم فيه من حرام
فحرَّموه [مسند أحمد ٤ / ١٣١ .] . وفي هذا الحديث عدة أمورمهمة لابد من
الوقوف عندها : الأمرالأول : عبَّرالنبي صلى الله عليه وآله بلفظ : ((يوشك)) ، ولم يقل : ((سيكون)) أو ((سيحصل كذا وكذا)) ، وفي هذا دلالة على قرب ووقوع هذا الأمر، فإن فعل أوشك يدل على الإسراع المفضي
إلى القرب كما نصَّ على ذلك أهل اللغة ، ولا يوجد أقرب من هذه الحادثة كمصداق
لهذا التحذير. الأمرالثاني : من أهم الألفاظ المهمة في هذا الحديث ، التعبير بالأريكة ، وهي كما قال ابن أثير: السرير في
الحجلة من دونه ستر، ولا يسمّى منفرداً أريكة ، وقيل : هو كل ما اتُّكئ عليه من
سرير أو فراش أو منصة [النهاية في غريب الحديث والأثر ١ / ٤٠ .]..وهي في هذا الخبر كناية عن السلطة
والحكم ، فالشخص الذي
يمنع من الحديث ليس إنساناً من عوام الناس ، بل هو رجل مبسوط اليد وصاحب نفوذ ، وهو ما يتلاءم مع فعل أبي بكرالمذكور. الأمرالثالث : تطابق لفظ الحديث النبوي مع قول أبي بكر مطابقة تامة ، بحيث لا
تدع مجالاً للشك في كون الثاني هو مصداق للأول ، ففي الحديث النبوي عبر بقوله :
((عليكم بالقرآن،فما وجدتم فيه من حلال فأحلّوه ، وما وجدتم فيه من حرام فحرَّموه)) ، وأما في كلام أبي بكر فقوله : (( بيننا وبينكم كتاب الله ،
فاستحلوا حلاله ، وحرَّموا حرامه )) ، وهذا من دلائل النبوة ومن معجزات الرسالة
. وأما عمر بن الخطاب : فإنه هو أول من قاد هذه الحملة ، وصاحب السبق فيها ، فقد بدأ منذ حياة النبي صلى الله
عليه وآله فی التشکیك فی حجیة قوله وفعله وتقريره ، ولذلك نجد أن كان من
أكثرالصحابة المعترضين على ما يفعله رسول لله صلى الله عليه وآله الذي لا ينطق
عن هوى ، إن هو إلا وحي يوحى ! ولذلك أطلق أهل السنة اسم الموافقات على
هذه الحالة ، وهي أن يقول
النبي صلى الله عليه وآله شیئاً ، ويخالفه عمر بن الخطاب فيه ، فينزل الوحي موافقاً لقول عمر، ومَخطَئا لقول خير البشرصلى الله
عليه وآله . وقد جعل السيوطي في كتابه (تاريخ
الخلفاء) باباً أسماه : في موافقات عمر [تاريخ الخلفاء : ١١١ .] ، قال فيه ، قد أوصلها بعضهم إلى أكثرمن عشرين ! بل إن ابن حجر العسقلاني يصرّح بأن عمر بن الخطاب فهم القرآن
الكريم ، في حين أن النبي الأعظم صلى الله عليه وآله لم یفهمه فنزل الوحي مُصوَّباً لفهم عمر في قصة الصلاة على ابن سلول ! قال ابن حجر: عن ابن عباس : فقال عمر: أتصلي عليه
وقد نهاك الله أن تصلي عليه ؟ قال : أين ؟ قال : قال : (أستَغفِرلَهُم) الآیة . وهذا مثل رواية الباب ، فكان عمر قد فهم من الآیة المذكورة ما هو الأكثر الأغلب من لسان العرب من أن ((أو) ليست لتخيير، بل للتسوية في عدم الوصف المذكور، أي أن الاستغفارلهم وعدم الاستغفار سواء ،
وهو كقوله تعالى : (سَوَآءٌ عًلًیهَم أستًغفًرتً لًهٍم آًم لًم تًستًغفِرلَهُم)
، لكن الثانية أصرح ، ولهذا ورد أنها نزلت بعد هذه القصة
كما سأذكره ، وفهم عمرأيضاً من قوله ( سَبعِين مَرَّة) أنها للمبالغة ، وأن العدد المعين لا مفهوم له ، بل المراد نفي
المغفرة لهم ولو كثرالاستغفار، فيحصل من ذلك النهي عن الاستغفار، فأطلقه ، وفهم أيضاً أن المقصود الأعظم من الصلاة على
الميت طلب المغفرة للميت والشفاعة له ، فلذلك استلزم عنده النهي عن الاستغفار ترك الصلاة ، لذلك جاء عنه في هذه الرواية إطلاق
النهي عن الصلاة ، ولهذه الأمور استنكر إرادة الصلاة على عبد الله بن أُبّي ،
هذا تقرير ما صدرعن عمر مع ما عُرف من شدّة صلابته في الدين وكثرة بغضه للكفار
والمنافقين ، وهوالقائل في حق حاطب بن أبي بلتعة مع ما كان له من الفضل كشهوده بدراً وغيرذلك لكونه كاتب قريشاً
قبل الفتح : دعني يا رسول الله أضرب عنقه ، فقد نافق . فلذلك أقدم على كلامه للنبي صلى الله عليه وآله بما قال ، ولم یلتفت إلى احتمال إجراء الكلام
على ظاهره لما غلب عليه من الصلابة المذكورة [فتح الباري ٨ / ٢٥٣ .] . وبناء على هذا فإن عمر بن الخطاب قد
طعن في حجية سُنّة النبي صلى الله عليه وآله فی أواخرحياته بقولته المعروفة : (( حسبنا كتاب الله)) [صحيح البخاري ٧ / ٩ .] ، التي تحصرالحجية في القرآن الکریم
فقط ، وتسقط كل ما سواه من الأمورالتي ثبتت حجيتها ، وبالخصوص السُّنّة النبويّة المطهَّرة . ولايقولن أحدكم : إننا بصدد التحامل على عمر وإلزامه
بما يلتزم ، إذ أن البعض جعل هذه العبارة من فقه عمر كما ذكرالنووي ، حيث قال : اتفق قول العلماء على أن قول عمر: ((حسبنا كتاب الله)) من قوة فقه
ودقيق نظره ؛ لأنه خشي أن يكتب أموراً ربما عجزوا عنها ، فاستحقوا العقوبة ؛ لكونها مصنوعة ، وأراد أن لا ينسد
باب الاجتهاد على العلماء ، وفي تركه صلى الله عليه وآله الإنكارعلى عمر إشارة إلى تصويبه رأيه ، وأشاربقوله
: (( حسبنا كتاب الله)) إلى قوله تعالى ( مّا فّرَّطنَا فِي الكِتّابِ مِن
شَىءٍ) [فتح الباري ٨ / ١٠٢ .] . بل إننا ندين القوم بما ذكروه
والتزموا به ، فأولاً نقول : إن اللفظ أريد به عمومه ؛ لعدم وجود قرينة تدل على تخصيصه ، أو
عدم إرادة ظاهره . وثانياً : ما ذكره الذهبي من أن
هذا اللفظ هو من قول الخوارج ! فقد قال في (تذكرة الحفاظ) في تعليقه على رواية ميراث الجدة :
هذا المرسل يدلك أن مرادالصدَّيق التثبت في الأخبار والتحري ، لا سد باب الرواية
، ألا تراه لما نزل به أمرالجدة ولم يجده في الكتاب كيف سأل عنه في السنة ، فما أخبره الثقة ما اكتفى حتى
استظهربثقة آخر، ولم يقل : (( حسبنا كتاب الله)) كما تقوله الخوارج .[
تذكرة الحفاظ ١ / ٣ .] فكلام الذهبي واضح صريح في أن هذه المقالة هي من مختصات
الخوارج ، وأن المقصود منها سد باب الرواية ، وإسقاط حجية السنة كما هو عندهم . وتواصلت هذه الحملة الشعواء على سُنّة
النبي المصطفى صلى الله عليه وآله بعد انتقاله صلى الله عليه وآله إلى الرفيق الأعلى
، فزجرالخليفة الثاني كل من كان يحدَّث بُسنّة المصطفى صلى
الله عليه وآله وینشرها بین الناس . فقد روى الحاكم في المستدرك بسند صحيح : عن قرظة بن كعب ، قال : خرجنا نريد
العراق فمشى معنا عمر بن الخطاب إلى صرار، فتوضأ ، ثم قال : أتدرون لم مشيت معكم
؟ قالوا: نعم ، نحن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله مشیت معنا ؟ قال : إنكم
تأتون أهل قرية لهم دوي بالقرآن كدوي النحل ، فلا تبدونهم بالأحاديث ، فيشغلونكم
، جرَّدوا القرآن ، وأقلوا الرواية عن
رسول الله صلى الله عليه وآله ، وامضوا وأنا شريككم . فلما قدم قرظة قالوا : حدَّثْنا . قال : نهانا ابن الخطاب [المستدرك على الصحيحين ١ / ١٠٢ ، قال
الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد وله طرق . ووافقه الذهبي في التلخيص ، وصحَّحه
الألباني في صحيح سنن ابن ماجة ١٠٠ .] . وذكرابن سعد في طبقاته حادثة مهمة تؤكَّد هذه الحقيقة ، حيث
قال : أرسل عمرأُبیًّا، قال : وأقبل أبي على عمر، فقال : ياعمر أتتهمني على حديث
رسول الله صلى الله عليه وآله ؟ فقال عمر: یا أبا المنذر لا والله ،ما اتهمتك
عليه ، ولكني كرهت أن يكون الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله ظاهراً [الطبقات الكبرى ٤ /٢٢.] . قال ابن كثيرالدمشقي : ولهذا لما بعث أبا موسى إلى العراق
قال له : إنك تأتي قوماً لهم في مساجدهم دوي بالقرآن کدوي النحل ، فدعهم على ما
هم عليه ، ولا تشغلهم بالأحاديث ، وأنا شريكك في ذلك . هذا معروف عن عمر البداية والنهاية ٨ / ١١٥ . وقال الذهبي : هكذا هو كان عمر رضي الله عنه يقول :
أقلوا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وزجرغير واحد من الصحابة عن بث الحديث ، وهذا مذهب لعمر ولغيره [سير أعلام النبلاء ٢ / ٦٠١ .] . وقال ابن قتيبة : وكان عمرأيضاً شديداً على من أكثر
الرواية ، أو أتى بخبر في الحكم لا شاهد له عليه ، وكان يأمرهم بأن يقلّو
الرواية [تأويل مختلف الحديث : ٤١ .]. ومن هنا عاقب عمر بن الخطاب كل من خالف سياسته في منع التحديث بأشد العقوبات كائناً من كان، واتخذ عدّة إجراءات : منها : حبسه لبعض كبارالصحابة : كما روى الطبراني بسنده عن سعد بن إبراهيم عن أبيه ،
قال : بعث عمر بن الخطاب إلى ابن مسعود وأبي مسعود الأنصاري وأبي الدرداء ، فقال
: ما هذا الحديث الذي تكثرون عن رسول الله صلى الله عليه وآله ؟! فحبسهم بالمدينة حتى استشهد [المعجم الأوسط ٣ / ٣٧٨ .] . وروي عن عبدالرحمن بن عوف ، قال : والله ما مات عمر بن الخطاب حتى بعث
إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله فجمعهم من الآفاق : عبدالله بن حذافة
وأبا الدرداء وأبا ذر وعقبة بن عامر، فقال : ما هذه الأحاديث التي قد أفشيتم عن رسول الله صلى الله عليه وآله فی الآفاق ؟ قالوا : أتنهانا ؟ قال : لا ، أقيموا عندي ،
لا والله لا تفارقوني ما عشت ، فنحن أعلم ،
نأخذ ونرد عليكم . فما فارقوه حتى مات . [كنزالعمال ١٠ / ٢٩٣ .] ومنها : ضربه لمن یجاهر بالتحديث بدرّته الشهيرة : ولذلك قال أبوهريرة أكبرمحدَّثي المخالفين : ما كنا نستطيع أن نقول : (( قال
رسول الله صلى الله عليه وآله)) حتى قٌبض عمر، كنا نخاف السياط [البداية والنهاية ٨ / ١١٥ .] . وروي عن أبي هريرة بسند صحيح قوله : أفإن كنت محدثكم بهذه الأحاديث وعمر
حي ؟ أما والله إذا لألفيت المخفقة ستباشر ظهري [جامع معمر بن راشد الملحق بمصنَّف
عبدالرزاق ١١ / ٢٦٢ .] . وروى الذهبي بسنده عن ابن عجلان : أن أباهريرة كان يقول : إني لأحدَّث
أحاديث ، لو تكلَّمت بها في
زمن عمر، لشَجَّ رأسي [سير أعلام النبلاء ٢ / ٦٠١ .] . وهذا التصريح من أبي هريرة فيه إقرار بأن العقوبة التي كانت تطال من
ينشرأحاديث النبي صلى الله عليه وآله هي الضرب بالدرّة والسياط . ومنها : النفي والإبعاد عن مركز الخلافة الإسلامية وهي المدينة : فقد روي عن عمر بن الخطاب بإسناد
صحيح أنه قال لأبي هريرة : لتتركنَّ الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله أو لألحقنَّك بأرض دوس [البداية والنهاية ٨ / ١١٥ ، صحّح الخبر شعيب الأرنؤوط في تحقيقه لسيراعلام النبلاء ٢ / ٦٠١
.]. وقال أيضاً لكعب الأحبار: لتتركنَّ الحديث عن الأول أو
لأحقنَّك بأرض القردة [البداية والنهاية ٨ / ١١٥ ، صحّح الخبر شعيب الأنؤوط في تحقيقه
لسيراعلام النبلاء ٢ / ٦٠١ .] . فهذه القيود الشديدة والرقابة
الدقيقة، هي التي جعلت الرعيل
الأول من الصحابة والتابعين يتخوَّفون من التحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله ،
ويتجنّبون تذاكرسُنّته وبثّها بين الناس . والذين جاؤوا من الحكّام والخلفاء بعد الخليفتين لم يجدوا صعوبة في السيرعلى هذا المنوال ومواجهة السنة المطهرة ،
فما كان عليهم إلا مواصلة ما أسَّسه سابقوهم ، والسيرعلى خطاهم : فمثلاً صرَّح الخليفة الثالث عثمان بن
عفان باتباعه لسياسة عمر بن الخطاب في
تعامله مع الحديث ورواته قائلاً : لا يحل لأحد يروي حديثاً لم يُسمع به في عهد أبي بكر ولاعهد عمر [تاريخ مدينة دمشق ٣٩ / ١٨٠ .] . وجاء بعده معاوية بن أبي سفيان مترسّما لخطى أسلافه ، فقال للناس كما نقل مسلم في صحيحه : إياكم وأحاديث إلا حديثاً كان في عهد
، فإن عمر كان يخيف الناس في الله عزَّوجل [صحيح مسلم ٣/ ٩٥ .] . ولهذا تأثرالناس بهذه السياسة ، فامتنعوا عن التحديث، إما خوفاً ورهبة من العقاب ، أو عن
رغبة في نيل رضا الخلفاء . فهذا الشعبي ينقل لنا أن عبدالله بن عمر كان على منهج أبيه ، فقد نقل عنه أحمد بن حنبل بسند صحيح أنه قال:
جالست ابن عمر سنتين ، ما سمعته روى شيئاً عن رسول الله صلى
الله عليه وآله [مسند أحمد ٢ / ١٥٧ , صححه شعيب الأرنؤوط في تعليقه على المسند .] . وهذا السائب بن يزيد يشهد على سعد بن أبي الوقاص بقوله : صحبت سعد بن أبي وقاص سنة ، فما سمعته يحدَّث عن رسول الله صلى
الله عليه وآله إلا حديثاً واحداً [الحد الفاصل : ٥٥٧ .] . وقد صرَّح المؤرَّخون بهذه الحقيقة دون تحرّج أو تحفظ ، فقال ابن قتيبة : وكان كثيرمن جلة الصحابة وأهل الخاصة
برسول الله صلى الله عليه وآله كأبي بكر والزبير وأبي عبيدة والعباس بن
عبدالمطلب يقلّون الرواية عنه ، بل كان بعضهم لا يكاد يروي شيئاً كسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة [تأويل مختلف الحديث : ٤٢ .] . وقال ابن قيم الجوزية : فإنهم كانوا يهابون الرواية عن رسول
الله صلى الله عليه وآله ويعظّمونها ويقللونها خوف الزيادة والنقص ، ويحدَّثون
بالشيء الذي سمعوه من النبي صلى الله عليه وآله مراراً ، ولا يصرَّحون بالسماع ،
ولا يقولون ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله [أعلام الموقعين ٤ / ١٤٨ .] . ٣ – منع تدوين أحاديث النبي وأهل البيت عليهم السلام : الصورة الثانية للحرب المعلنة على السنة النبوية المطهرة هي منع الناس من تدوينها وكتابتها
حرصاً على ضياعها وتلفها مع الأزمان . وقد تمّت هذه الخطوة على ثلاث مراحل : المرحلة الأولى : شرعنة منع تدوين الحديث النبوي بوضع
أحاديث ونصوص شرعية تنهى عن الكتابة والتدوين . منها : ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري : أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال
: لا تكتبوا عني ، ومن كتب عني غيرالقرآن فلیمحه [صحيح مسلم ٨ / ٢٢٩ .] . وما رواه الخطيب البغدادي : عن أبي هريرة قال : خرج علينا رسول
الله صلى الله عليه وآله نحن نکتب الأحاديث ، فقال : ما هذا الذي تكتبون ؟ قلنا : أحاديث
نسمعها منك . قال : كتاب غير كتاب الله ! أّتدرون ما ضلَّ الأمم قبلكم ؟ ألا بما اكتتبوا من الكتب مع كتاب
الله تعالى [تقييد العلم : ٣٤ .] . فهذه النصوص المنسوبة زوراً وبهتاناً
إلى النبي المصطفى صلى الله عليه وآله ، جعلت غطاء شرعيًّا لمنع تدوين السُّنّة وكتابتها المرحلة الثانية : تطبيق سياسة المنع بزجرالناس عن الكتابة وتخويفهم من عواقبها ،
ومن أمثله ذلك ما رواه عبد الرزاق الصنعاني بسند صحيح : أن عمر بن الخطاب أراد أن يكتب السنن ، فاستشار أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وآله في ذلك ، فأشاروا عليه أن يكتبها ، فطفق
يستخيرالله فيها شهراً ، ثم أصبح يوماً وقد عزم الله ، فقال : إني كنت أريد أن
أكتب السنن ، وإني ذكرت قوماً كانوا قبلكم كتبوا كتباً ، فأكبّوا عليها وتركوا كتاب الله ، وإني والله لا ألبس كتاب الله بشيء أبداً [مصنف عبد الرزاق ٢٢ / ٢٥٨ .] . وروى ابن عبد البر بسنده عن يحيى بن
جعدة أن عمر بن الخطاب أراد أن يكتب السَّنّة ، ثم بدا له أن لا يكتبها ، ثم كتب
في الأمصار: من كان عنده شيء فليمحه [جامع بيان العلم وفضله : ٢٧٥ .] . فهذه التصريحات ليست مجرد آراء شخصية ، بل كانت
بمثابة القوانين التي يجرم من خالفها ويعاقب على فعلته . المرحلة الثالثة : إتلاف كل ما كان من الأحاديث النبوية بين يدي الصحابة مدوَّناً ،
سواء تم ذلك في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله أو بعد وفاته . فقد روي أن أبا بكر قد أحرق مجموعة من الأحاديث كما روى عنه ذلك الذهبي بسنده عن عائشة ، قالت : جمع أبي
الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله ، وكانت خمسمائة حديث ، فبات ليلته يتقلّب كثيراً . قالت فغمَّني ، فقلت : أتتقلب لشكوى
أو لشيء بلغك ؟ فلما أصبح قال : أي بُنيَّة ، هلمي الأحاديث التي عندك . فجئته بها ، فدعا بنار
فحرقها ، فقلت : لم أحرقتها
؟ قال : خشيت أن أموت وهي عندي ، فيكون فيها أحاديث عن رجل قد ائتمنته ووثقت ،
ولم يكن كما حدثني ، فأكون قد نقلت ذاك [تذكرة الحفاظ ١ / ٥ .] . وروى الخطيب البغدادي بسنده عن القاسم بن محمد أن عمر بن
الخطاب بلغه أنه قد ظهر في أيدي الناس كتب ، فاستنكرها ، وكرهها ، وقال : أيها
الناس ، إنه قد بلغني أنه قد ظهرت في أيديكم كتب ؛ فأحبُّها إلى الله أعدلها
وأقومها ، فلا يبقينّ أحد عنده
كتاب إلا أتاني به ، فأرى فيه رأيي . قال : فظنوا أنه يريد أن ينظر فيها ، ويقومها على الأمر لا يكون
فيه اختلاف ؛ فأتوه بكتبهم فأحرقها بالنار، ثم قال : أمنية كأمنية أهل الكتاب [تقييد العلم : ٥٢ .] . وروي عن أبي موسى الأشعري نفس الفعل : عن أبي بردة قال : كان أبوموسى
يحدثنا بأحاديث ، فنقوم أنا ومولى لي فنكتبها ، فحدثنا يوماً بأحاديث فقمنا
لنكتبها ، فظن أنا نكتبها ، فقال : أتكتبان ما سمعتما مني ؟ قالا : نعم..قال:
فجيئاني به. فدعا بماء فغسله ، وقال : احفظوا كما حفظنا [تقييد العلم : ٤٠ .] . بل ورد نص صريح يدل على أن هذه الحرب
كان الغرض منها هو محاربة كل ما يتعلق بأهل البيت عليهم السلام ، وهو ما ذكره البغدادي بسنده عن عبد
الرحمن بن الأسود عن أبيه ، قال : جاء علقمة بكتاب من مكة أو اليمن صحيفة فيها أحاديث في أهل البيت
بيت النبي صلى الله عليه ، فاستاذنا على عبدالله فدخلنا عليه ، قال : فدفعنا إليه الصحيفة ، قال : فدعا الجارية ، ثم دعا بطست فيها ماء فقلنا له : يا أباعبدالرحمن انظرفيها
، فإن فيها أحاديث حساناً .قال: فجعل يميثها فيها ، ويقول (نَحنُ نَقُصُّ
عَلَيكَ أَحسَنَ ألقَصَصِ بِمَآ أَوحَينَآ إلَيكَ هّذَا القُرءَانَ) ، القلوب أوعية ، فاشغلوها بالقرآن، ولاتشغلوها
بما سواه [تقييد العلم : ٥٤ .] . وهكذا فإن تظافرالمراحل الثلاثة من منع تدوين السنة النبوية المطهرة كان لها الأثرالكبير في حرمان الأمة من هذه الدررالمحمدية
والآثارالعلوية ،بل كان السبب الأساس لتقسيم هذه الأمة . ٤ – اتلاف مكتبات الشيعة عبرالتاريخ : بمراجعة التاريخ نجد أن مكتبات الشيعة قد
تعرَّضت إلى حملة إتلاف منظمة ، كان الغرض منها القضاء على تراث الشيعة ،
والتخلص منه للأبد ، ولعل هذا هو السبب الأساس الذي يبرَّر خلو الكتب من بعض ما ورد في
(نهج البلاغة) . ومن باب المثال لا الحصر نذكر: ما ذكره الحموي في معجم البلدان ، حيث
قال : بين السُّوْرَيْن : تثنية
سُوْرالمدينة : اسم لمحلة كبيرة كانت بكرخ بغداد ، وكانت من أحسن محالها وأعمرها ، وبها كانت خزانة الكتب التي وقفها الوزير أبو نصر سابور بن أردشير وزير بهاء الدولة بن
عضد الدولة ، ولم يكن في الدنيا أحسن كتباً منها ، كانت كلها بخطوط الأئمة
المعتبرة وأصولهم المحرَّرة ، واحترقت فيما أحرق من محال الكرخ عند ورود طغرل بك
أول ملوك السلجوقية إلى بغداد سنة ٤٤٧هـ [معجم البلدان ١ / ٥٣٤ .] . وهذه المكتبة تعتبرمن أهم المتاحف العلمية في عصرها ، إذ أن الحموي عبَّرعنها بقوله : (( كانت كلها بخطوط الأئمة المعتبرة
وأصولهم المحررة)) ، ونحن
نقطع أنها كانت مما اعتمد عليه الشريف الرضي في (نهج البلاغة) ؛ لأنه كان يعيش
ببغداد في الفترة السابقة لحرق هذه المكتبة . ومن ذلك أيضاً ما ذكره ابن الأثيرفي
كتاب الكامل ، حيث قال : وفي جملة ما أحرقوا دارين للكتب ، إحداهما وُقفت قبل أيام عضد الدولة بن بويه ، فقال عضد الدولة : هذه مكرمة
سبقنا إليها ، وهي أول دار وُقفت في الإسلام . والأخرى وقفها الوزيرأبو منصور بن شاه مردان ، وكان بها نفائس الكتب
وأعيانها ، وأحرقوا أيضاً النحاسين وغيرها من الأماكن [الكامل في التاريخ ١٠ / ١٨٤ .] . وهذا النص أيضاً لا يقل أهمية عن سابقه ، وذلك لأن هذه المكتبة كانت أيضاً
ببغداد ، وحرقت عندما هجم الأعراب على البصرة في سنة ٤٨٣ هـ ، أي أن الشريف الرضي قد أدركها قبل الحرق ، أضف إلى هذا أن المكتبة هي وقف من بني بويه ، وقد قدمنا سابقاً أن علاقة الشريف الرضي بهم كانت قوية
جدَّا ، فمن هنا نقطع أنه
اطلع على هذه المكتبة القيمة ، لا سيما وأن ابن الأثير قد عبَّرعنها بقوله : (( وكان بها نفائس الكتب وأعيانها)) ، ولا يعقل أن الشريف الرضي لا يطلع على مثل هذا الكنز. ومن ذلك ما ذكره الذهبي في أكثر من مورد من كتبه من حرق المخالفين لمكتبة الشيخ الطوسي قدس سره مرارا
وتكراراً ! قال في السَّيَر: وأعرض عنه الحفاظ لبدعته ، وقد أحرقت كتبه عدة نُوَب في رحبة جامع القصر [سير أعلام النبلاء ١٨ / ٣٣٥ .]. وقال في تاريخه : روى عنه ابنه أبوعلي الحسن ، وقد أحرقت
كتبه غيرمرة ، واختفي لكونه ينقص السلف ، وكان ينزل بالكرخ ، ثم انتقل إلى مشهد الكوفة [تاريخ الاسلام ٣٠ / ٤٩١ .] . وهذه الحادثة أيضاً من النكسات التاريخية التي ابتليت بها الأمة ، فإن فقدان مثل هذه الكتب يعتبرخسارة كبيرة جدًّا لا تقدَّر
بذهب أو بفضة ، ومن أراد معرفة مقدارالكتب التي كانت عند الشيخ الطوسي فما عليه إلا أن يتصفَّح كتابه الموسوم بالفهرست ؛ ليقف على عظم الجناية التي اقترفت في
حق تراث المسلمين . علماً أن الشيخ الطوسي هو من أقرب الشريف الرضي والمرتضى وكلهم تتلمذوا على يد الشيخ المفيد قدس سره ، فهذه المكتبة التي أتلفت مراراً كما نصَّ الذهبي هي من مصادرالنهج أيضاً ، لكنها هباء منثوراً . كما أنّ هناك بعض المكتبات المهمّة تلفت بسبب عوامل أخرى منها الحروب والفتن التي عصفت ببلاد المسلمين ، ومنها ضياع الكتب
بسبب عدم اهتمام الورثة وغيرها من الأسباب المختلفة . وقد نقل ابن النديم نموذجا عن هذه
المكتبات التي تلفت وضاعت كتبها ، فقال : كان بمدينة الحديثة رجل يقال له محمد بن الحسين ويعرف بابن بي
بعرة ، جمّاعة للكتب ، له خزانة لم أر لأحد مثلها كثرة ، تحتوي على قطعة من
الكتب الغريبة في النحو واللغة والأدب ، والكتب القديمة ، فلقيت هذا الرجل دفعات
فآنس بي ، وكان نفورا ضنينا بما عنده وخائفا من بني حمدان ؛ فاخرج إلى قمطرا
كبيرا فيه ثلثمائة رطل جلود فلجان وصكاك وقرطاس مصر وورق صيني وورق تهامي وجلود ادم وورق
خراساني فيها تعليقات عن
العرب وقصائد مفردات من أشعارهم ، وشئ من النحو والحكايات والأخبار والأسمار
والأنساب وغيرذلك من علوم العرب وغيرهم ؛ وذكر ان رجلا من أهل الكوفة ، ذهب عني اسمه ، كان مستهترا بجمع الخطوط القديمة ،
وانه لما حضرته الوفاة خصه بذلك لصداقة كانت بينهما وأفضال من محمد بن الحسين
عليه ومجانسة بالمذهب فإنه كان شيعيا ،
فرأيتها وقلبتها فرأيت عجبا ، الا ان الزمان قد أخلقها وعمل فيها عملا أدرسها وأحرفها ، وكان على كل جزء أو ورقة أو مدرج ،
توقيع بخطوط العلماء واحدا إثر واحد، يذكر فيه خط من هو، وتحت كل توقيع ، توقيع
آخر خمسة وستة من شهادات العلماء على خطوط بعض لبعض ، ورأيت في جملتها مصحفا بخط بن أبي الهياج صاحب علي عليه السلام ثم
وصل هذا المصحف إلى أبي عبدالله ابن حاني رحمه الله ، ورأيت فيها بخطوط الأئمة
من الحسن والى الحسين عليهما السلام ، ورأيت
عدة أمانات وعهود بخط أميرالمؤمنين عليه السلام
وبخط غيره من كتاب النبي عليه السلام [الفهرست ٤٦ .] . وقد طبع مؤخرا كتاب تحت عنوان ( نزهة الأبصار ومحاسن الآثار) لأحد علماء أهل السنة والجماعة [المقصود هو علي بن مهدي المامطيري الطبري (٣٦٠ هـ) ترجم له السبكي
في طبقات الشافعية الكبرى ٣ / ٤٦٦ : تلميذ الشيخ أبي الحسن الأشعري صحبه بالبصرة
وأخذ عنه وكان من المبرزين في علم الكلام والقوامين بتحقيقه وله كتاب تأويل
الأحاديث المشكلات الواردات في الصفات وكان مفتنا في أصناف العلوم ؛ قال
أبوعبدالله الحسين بن أحمد بن الحسين الأسدي كان شيخنا وأستاذنا أبوالحسن علي بن
مهدي الطبري الفقيه مصنفا للكتب في أنواع العلوم مفتنا حافظا للفقه والكلام
والتفاسير والمعاني وأيام العرب فصيحا مبارزا في النظر ما شوهد في أيامه مثله .] المتقدمين عن الشريف الرضي رضى الله عنه ، ذكر فيه جملة من روايات ( نهج البلاغة)
التي لم يعرف لها مصدرغيره . إذن من هنا نعلم أن الشريف الرضي رضي الله عنه قد اطلع على كتب كثيرة
لم تصل إلينا واعتمد عليها في جمع ( نهج البلاغة) ، وهذا ما يفسَّر خلو الكتب المتداولة الآن بین أيدينا من بعض خطب
النهج . وقد أنصف أحد علماء السنة وهو امتيازعلي عرشي الحنفي [من كبار محققي الهند ، كان مديراً لمكتبة رضا الشهيرة في مدينة
رامفور، قام بفهرسة مخطوطاتها ، واطلَّع على النوادرالموجودة فيها، فكتب مقالاتٍ
وأبحاثاً في التعريف بها ودراستها في المجلاَّت العلميَّة باللُّغة الأُردية ،
واشتهر في الأوساط العلميَّة في البلاد العربية بعدما حقَّق (تفسيرسفيان
الثَّوري)، وغيره من النوادر، توفي سنة ١٩٨١ م .] حين قال : وليس يخاف على أبناء العلم والمولعين
به أن معظم محتويات (نهج البلاغة) توجد في كتب المتقدَّمين ، ولو لم يذكرها الشريف الرضي ، ولو لم يّعْرُ بغداد ما عراها من الدمارعلى يد التتر، ولو بقيت
خزانة الكتب الثمينة التي أحرقها الجهلاء لعثرنا على مرجع كل مقولة مندرجة في نهج البلاغة [استناد نهج البلاغة : ٢٠ .] . بقي الكلام في نقطة أخيرة ، وهي : لو قيل : إن ما ذكرناه آنفاً لا يدل
إلا على براءة ساحة (الشريف الرضي) من الوضع والتقوّل على أميرالمؤمنين عليه
السلام ، لكن هذا لا يثبت صحّة
ما أخرجه في كتابه هذا ؛ وذلك لأنه يجب علينا مراجعة أسانيد روايات النهج رواية رواية
وخطبة خطبة ؛ للتأكد من صحّتها وإثبات حجّيتها ، وهذا دون إثباته خرط القتاد ؛ لأنه قد ذكرنا أن جملة من روايات النهج لا أسانيد لها ، بل لا مصدر
لها سوى الكتاب المختلف فيه ! فكيف نثبت اعتبارالكتاب ، وصحة ما فيه
ما فقدان الأسانيد ؟ والجواب حول هذا الإشكال يكون في نقاط : الاولى : أن السند ليس الطريق الوحيد لإثبات صحّة صدورالخبر، بل هناك عدة
طرق أخرى اتفق عليها العقلاء قبل علماء الحديث أنه من خلالها نثبت صحة الصدور،
منها : ١ - الشهرة : وهو أن يشتهر الخبر بين الناس ، ويشيع بحيث يطمئن الإنسان بصحة صدوره ، وقد
نصَّ علماء الحديث والرجال عند السنة والشيعة أنه أذا اشتهرالخبر بين العلماء ،
وتلقوه بالقبول دون طعن أوغمز، فإنه يُحكم بصحّته ولو لم يكن له سند صحيح . قال الحافظ السيوطي : كذا ما اعتضد بتلقي العلماء له
بالقبول ، قال بعضهم : يحكم للحديث بالصحة إذا تلقاه الناس بالقبول وإن لم يكن
له إسناد صحيح [تدريب الراوي ١ / ٦٧ .] . وقال القاسمي : الصحيح لغيره هو ما صُحَّح لأمرأجنبي
عنه ، إذ لم يشتمل عن صفات القبول على أعلاها كالحسن ، فإنه إذا روي من غير وجه
، ارتقى بما عضده من درجة الحسن إلى منزلة الصحة ، وكذا ما اعتضد بتلقي العلماء
له بالقبول ، فإنه يحكم له بالصحة ، وإن لم يكن له إسناد صحيح [قواعد التحديث ١ / ٨٠ .] . وقال ابن قيم الجوزية : هذا الأحاديث لا تثبت من جهة الإسناد
، ولكن لما تلقتها الكافة عن الكافة غنوا بصحتها عندهم عن طلب الإسناد لها [أعلام الموقعين ١ / ٢٠٢ .] . وكلام هؤلاء واضح وصريح ، وهو أنه قد
يُستغنى أصلاً عن الإسناد إذا تُلقَي الحديث بالقبول بين الناس . الأعظم من هذا أن ابن حجرالعسقلاني أميرالمؤمنين في الحديث كما يحلو لبعضهم تسميته ذكر أن الحديث الذي تلقته العامة بالقبول دون أن يكون له سند صحيح
، هو حجة ، بل قد يكون ناسخاً لكتاب الله ! قال في النكت : من جملة صفات القبول التي لم يتعرَّض
لها شيخنا : أن يتفق العلماء على العمل بمدلول حديث ، فإنه يقبل حتى يجب العلمل
به ، وقد صرَّح بذلك جماعة من أئمة الأصول ، ومن أمثلته : قول الشافعي رضى الله
عنه : وما قلت من أنه إذا غير طعم الماء وريحه ولونه ، ويروى عن النبي من وجه لا
يثبت أهل الحديث مثله ، ولكنه قول العامة لا أعلم بينهم فيه خلاف ، وقال في حديث
لا وصية للوارث : لا يثبته أهل العلم بالحديث ، ولكن العامة تلقته بالقبول ،
وعملوا به حتى جعلوه ناسخاً لآیة الوصية للوارث [النكت على مقدمة ابن الصلاح : ٤٩٥ .] . ووافقه على هذه القاعدة السخاوي ، حيث قال : وكذا إذا تلقت الأمة الضعيف بالقبول يعمل به على
الصحيح حتى إنه ينزَّل منزلة المتواتر في أنه ينسخ المقطوع به ، ولهذا قال الشافعي رحمه الله في حيث :
(( لا وصية )) : إنه لا يثبته أهل الحديث ، ولكن العامة تلقته بالقبول ، وعملوا به
حتى جعلوه ناسخاً لآیة الوصية له [فتح المغيث ١ / ٢٨٩ .] . وهذه القاعدة الجلية قد طبَّقها الأميرالصنعاني على أحد نصوص النهج كما في كتابه سبل
الاسلام ، حيث قال : ولأميرالمؤمنين علي عليه السلام في عَهْدٍ عَهِدَه إلى
الأشتر لما ولي مصر فيه عدة مصالح وآداب ومواعظ وحكم ، وهو معروف في النهج ، لم أنقله لشهرته [سبل السلام ٤ / ١١٩ .] . فكما اعتمد المخالفون هذه في إثبات
جملة من أحكامهم الشرعية ، بل نسخوا به آیة قرآنیة ذكر ابن حجرالعسقلاني ، فيلزمهم تطبيق هذه القاعدة على (نهج
البلاغة) أيضاً ، وإلا يكون الأمر كيل بمكيالين واتباع للهوى . ٢ – المضمون : وهو أن ينظر في متن الرواية ، ويقيَّم مضمونها ، فإن كان مما يليق
نسبته لقائله كانت هذه قرينة على صحة النسبة إليه ، وإن كان العكس فإنه يُضرب به
عرض الجدار. ولذلك نجد أن ابن القيم تعرَّض إلى دراسة المتن في أكثرمن
مورد من كتابه المنار في الصحيح والضعيف : منها : قوله : أن يكون كلامه لا يشبه كلام الأنبياء فضلاً عن كلام رسول الله
الذي هو وحي يوحى كما قال الله تعالى : ( وَمَا يَنطِقُ عَنِ ألهَوَى (*) إن
هُوَإلَّا وَحىٌ يُوحَى) أي وما نطقه إلا وحي يوحى ، فيكون الحديث مما لا يشبه
الوحي ، بل لا يشبه كلام الصحابة [المنارالمنيف : ٦٢ .] . ومنها : قوله : ومنها ركاكة ألفاظ الحديث وسماجتها بحيث يمجّها السمع ، ويدفعها
الطبع ، ويسمج معناها للفطن [المنارالمنيف : ٩٩ .] . فكما أن سوء سبك المضمون ودناءته على
الوضع والكذب ، فإن حسن السبك وعلو المضمون يدل على صحة نسبته وثبوت صدوره ،
وهذا المنهج يمكن تطبيقه على نهج البلاغة لإثبات اعتباره . ويكفينا في هذا المقام إعادة ذكر شهادة
الشيخ محمود شكري الآلوسي السلفي الذي قال في مدح الكتاب : هذا كتاب (نهج البلاغة) قد استودع من خطب الإمام علي بن أبي
طالب سلام الله عليه ما هو قبس من نور الكلام الإلهي وشمس تضيء بفصاحة المنطق
النبوي [بلوغ الارب ٣ / ١٨٠ .] . فهذا الرجل المشهود له بالتضلّع في
الأدب ولغة العرب يشهد بضرس قاطع أن كتاب (نهج البلاغة) احتوى كلاماً فوق مستوى كلام عامة
البشر، بل هو على حسب تعبيره قبس من نورالكلام الإلهي ! الثانية : هو أن المخالفون قد نصّوا أن السند يطلب فقط في الحلال والحرام ،
وفي الأمورالتي لها دخالة في العقيدة والفقه ، أما الأمورالأخرى فلا يشترط فيها
سند أصلاً ! ولهذا قال الخطيب البغدادي : وأما أخبارالصالحين وحكايات الزهاد
والمتعبَّدين ومواعظ البلغاء وحكم الأدباء فالأسانيد زينة لها ، وليست شرطاً في تأديتها [الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع ٢ / ٢١٣ .] . وقال السخاوي : وهذا التساهل والتشديد منقول عن ابن مهدي عبد الرحمن وغيرواحد من الأئمة كأحمد بن حنبل
وابن معين وابن المبار والسفيانين ، بحيث عقد أبو أحمد بن عدي في مقدمة كامله والخطيب في كفايته لذلك باباً ، وقال ابن عبد البر: أحاديث الفضائل لا تحتاج فيها إلى من
يحتج به ، وقال الحاكم : سمعت أبا زكريا الغبري يقول : الخبر
إذا ورد لم يحرم حلالاً ولم يحل حراماً ولم يوجب حكماً ، وكان في ترغيب أو ترهيب
، أغمض عنه ، وتسهل في رواته [فتح المغيث ١ / ٢٨٨ وقال الصنعاني : الأحاديث الواهية جَّوزوا – أي أئمة الحديث – التساهل فيه ، وروايته من غير بيان لِضعفه إذا كان وارداً في غيرالأحكام ، وذلك كالفضائل والقصص والوعظ وسائر
فنون الترغيب والترهيب [توضيح الأفكار٢ / ٢٣٨ .] . ولو رجعنا إلى كتاب (نهج البلاغة) نجد أن جلَّه هو مواعظ وحكم وسير
وفضائل وترغيب وترهيب ، ونادراً ما يذكر فيه حلال وحرام أو مسألة عقائدية يتوقف إثباتها على نهج البلاغة . فلا ندري لماذا قواعدهم تتوقف وتعطل عندما تصل النوبة إلى نهج البلاغة وكلمات أميرالمؤمنين
عليه السلام ؟! علماً أنهم
لو انحصر الإثبات على صحة السند للزم من ذلك تنازلهم
على جملة من الأمورالمسلمة عندهم ، والتي تكاد
تكون مقطوعاً بها عندهم ، مثل تسمية عمر بن الخطاب بالفاروق ، وحديث العشرة
المبشَّرين بالجنة ، بل لا يبقى عندهم تفسيرللقرآن بالمأثور أصلاً ! نقل الزركشي في البرهان بسنده : عن أحمد بن حنبل قال : ثلاث كتب ليس
لها أصول : المغازي والملاحم
والتفسير.. قال المحقَّقون من أصحابه : ومراده أن الغالب أنها ليس لها
أسانيد صحاح متصلة [البرهان ٢ / ١٥٣ .] . واعترف ابن تيمية بهذه الحقيقة ، فقال : فالمقصود أن المنقولات التي يحتاج
إليها في الدين قد نصب الله الأدلة على بيان ما فيها من صحيح وغيره ، ومعلوم أن
المنقول في التفسيرأكثره كالمنقول في المغازي والملاحم ، ولهذا قال الإمام أحمد
: ثلاثة أمور ليس لها إسناد : التفسير، والملاحم ، والمغازي [مجموع الفتاوى ١٣ / ٣٤٧ .] . فلماذا باؤكم تجر وباؤنا لا تجر؟! وقد ذكر جوابنا هذا
السيّد محسن الأمين قدس سره في أعيان الشيعة بقوله : ليس ( نهج البلاغة) مرجعاً
للأحكام الشرعية حتى نبحث عن أسانيده ونوصله إلى علي (ص) ، إنما هو منتخب من كلامه في المواعظ والنصائح وأنواع ما
يعتمده الخطباء من مقاصدهم ، ولم يكن غرض جامعه الإ جمع قسم من الكلام السابق في
ميدان الفصاحة والبلاغة على حد ما جمع غيره من كلام الفصحاء والبلغاء الجاهليين
والإسلاميين الصحابة وغيرهم بسند وبغير سند ،ولم
نراكم تعترضون على أحد في نقله لخطبة أو كلام بدون سند وهو في الكتب يفوق الحد الاعلى (نهج البلاغة) ، ليس هذا إلا لشيء في النفس ، مع أن
جل ما فيه مروي بالأسانيد في الكتب المشهورة المتداولة [أعيان الشيعة ١ / ٧٩ .] . الثالثة : نختم ردّنا على هذا الإشكال بقولنا : إن ما أشكلوه على النهج من سقوط أسانيده لا يلزم منه وضع الكتاب ، بل غاية ما يلزم هو أن الفقرات التي لا يوجد لها سند
البتة لا تكون حجة ولا عبرة به ، ومن هنا نعلم أن ما ذكروه هو مجرد غربال استخدموا ليحجبوا به نور كلمات (نهج البلاغة)
. وإلا فلماذا إذا وصل الأمر إلى (نهج البلاغة) طُبّقت فيه
كل قواعد الحديث ، وأُعلمت فيه كل مصطلحات الدراية ، وكل مباني علم الرجال ؟!فلو لم يكن في نفوس القوم شيء
حول تراث أميرالمؤمنين عليه السلام فلماذا يحارب
كتاب لا يشتمل إلا على أخلاقيات ومواعظ وحكم
وترغيب وترهيب ؟ |
|
الشبهة
الرابعة : رواية الرضي قدس سره :
|
|
من جملة الأمورالتي أشكلت على كتاب (نهج البلاغة) أن الذي تولى جمعه وروايته هو الشريف
الرضي قدس سره ، وهذا الرجل قد أجمع الخاصة والعامة على أنه شيعي جلد ، فكيف تقبل
روايته وهذا حاله ؟ ولذلك قال الدكتور سالوس : وإذا ثبت
أن هذا الكتاب للشريف الرضي كم سيأتي فإن هذا الشاعر رافضي جلد ،لا يُحتج بروايته كم هو معلوم من ترجمته ،وهذا
يعني أن نهج البلاغة لو كان مسنداً عن طريقه فلا يجوز الاحتجاج بما جاء فيه ،
فلو كان مسنداً فليس بحجة ، فما بالك إذا خلا تماماً عن الإسناد ؟ [مع الشيعة الاثني عشرية ١ / ٢١٧ .] . جئتمونا بأي حجة فلن نقبل منكم كتاب
(نهج البلاغة) ، شاء من شاء، وأبى من أبى،وهذا التعصب الأعمى الممقوت الذي دمَّر هذه الأمة ، وقطّع أوصالها
على مرّ السنين . إن هذه الكلمات تدل على جهل صاحبها بعلم الحديث والرجال عند أهل السنة
والجماعة ، إذ أنّ علماء
هذه الصنعة قد نصوا على أنّ فساد المعتقد لا يضر بصدق الراوي ، فتجوزالرواية عندهم عن الرافضي الجلد
كما عَبَرالسالوس، وعن الخارجي،وعن المعتزلي،وعن القدري، وغيرهم . ولهذا قال الذهبي في السَّيّر: هذه مسألة كبيرة ، وهي القدري
والمعتزلي والجهمي والرافضي إذا عُلِمَ صدقه في الحديث وتقواه ، ولم يكن داعياً إلى بدعته ، فالذي عليه أكثرالعلماء قبول روايته والعمل بحديثه ، وتردَّدوا في الداعية ، هل يؤخذ
عنه ؟ فذهب كثير من الحفاظ إلى تجنب حديثه وهجرانه ، وقال بعضهم : إذا علمنا صدقه ؟ فجميع تصرفاته أئمة الحديث تؤذن بأن المبتدع إذا لم تبح بدعته خروجه عن دائرة الإسلام ، ولم تبح دمه ، فإن قبول ما وراه سائغ ، وهذه المسألة لم تتبرهن لي كما ينبغي
، الذي اتضح لي منها أن من دخل في بدعة ، ولم يُعَدّ من رؤوسها ، ولا أمعن فيها
، يُقبَل حديثه [سير أعلام النبلاء ٧ / ١٥٤ .] . وقال المعلمي اليماني : وقد وثَّق أئمة الحديث جماعة من
المبتدعة ، واحتجوا بأحاديثهم ، وأخرجوها في الصَّحاح ، ومن تتبَّع رواياتهم وجد فيها كثيراً
مما يوافق ظاهره بدعهم ، وأهل العلم يتأوّلون تلك الأحاديث ، غير طاعنين فيها ببدعة راويها
، ولا في راويها بروايته لها [التنكيل ١ / ٥٠ .] . ولو راجعنا كتب الحديث لوجدنا أن كلام
المعلمي دقيق جدًّا ، إذ أن صحاح القوم تعج بروايات المبتدعة على حد تعبيرهم . فقد روى البخاري عن عمران بن حطان ، وهو
من رؤوس الخوارج ومن دعاتهم ، بل من المغالين في بغض أميرالمؤمنين عليه السلام ، وقد ذكر ابن حجر في فتح الباري بقوله : عمران بن حطان السدوسي
الشاعرالمشهور، كان يرى رأي الخوارج . قال أبوالعباس المبرد : كان عمران رأس القعدية من الصفرية ،
وخطيبهم وشاعرهم . انتهى . والقعدية : قوم من الخوارج كانوا يقولون بقولهم ، ولا يرون الخروج ، بل
يزيَّنونه ، وكان عمران داعية إلى مذهبه ، وهو الذي رثى عبدالرحمن بن ملجم قاتل علي عليه السلام بتلك الأبيات السائرة [فتح الباري ١ / ٥٧٧ .] . والأبيات التي أشارلها ابن حجر هي التي ذكرها في كتابه (الإصابة في معرفة الصحابة) ، وهي قوله : يا ضربةً مِنْ تقيًّ ما أرادَ بها ***** إلا ليبلُغَ مِنْ ذي العرشِ
رِضوانا إني لأذكُره يوماً فأحسبُه ***** أوفى البريِة عندَ الله ميزانا [الإصابة ٥ / ٢٣٢ .] وقد كفانا مؤونة الرّد على هذا النصب والبغض أحد العشراء الذي عارض
هذه الأبيات بقوله : يا ضربةً مِنْ شقيًّ ما أرادَ بها ***** إلا ليهدمَ مِنْ ذي العرش
بُنيانا إني لأذكرُه يوماً فألعنهُ دِيْناً ***** وألعنُ عمرانَ بنَ حطانا وردّ عليه آخر بقوله : یاضربةً مِنْ غدور صار ضاربُها ***** أشقى البريِة عندَ اللهِ إنسانا إذا تفكَّرت فيه ظَلْتُ ألعنُه ***** وألعنُ الكلبَ عمرانَ بنَ حطانا ورغم هذ النصب الواضح والانحراف الجلي
فإن البخاري روى عن هذا الرجل في صحيحه الذي يعتبرعند القوم أصح الكتب بعد
كتاب الله . وروى البخاري أيضاً عن عباد بن يعقوب الرواجني ، وهو من رؤوس الشيعة ومن دعاتهم ، وقد ذكره ابن حجر في مقدمة الفتح
قائلاً : عباد بن يعقوب الرواجني الكوفي أبوسعيد ، رافضي مشهور، إلا أنه كان صدوقاً ، وثّقة أبوحاتم
، وقال الحاكم : كان ابن خزيمة إذا حدَّث عنه يقول : (( حدَّثنا الثقة في روايته المتهم في رأيه : عباد بن يعقوب )) ، وقال ابن حبان : كان رافضيًّا داعية ، وقال صالح بن محمد : كان يشتم عثمان [فتح الباري ١ / ٥٥١ .] . أما مسلم فصحيحه لا يخلو أيضاً من رواة مبتدعة على حدَّ
تعبيرهم ، فقد روى عن عدي بن ثابت ، وهو من كبارالشيعة ، بل من
علمائهم ، وقد ترجم له الذهبي في ميزان الاعتدال ، فقال : عدي بن ثابت عالم الشيعة وصادقهم
وقاصّهم وإمام مسجدهم [ميزان الاعتدال ٣ / ٦١ .] . وروى أيضاً عن أبان بن تغلب فقيه الشيعة وعالمهم ، وقد أجمع الكل على تشيعه ، ولذلك ترجم له الذهبي في الميزان بقوله : أبان بن تغلب الكوفي شيعي جلد ، لكنه صدوق ، فلنا صدقه وعليه بدعته [نفس المصدر ١ / ١١٨ .] . ولو أردنا سرد أسماء (الرافضة) الذين
روى عنهم أصحاب الصحاح والسنن لاحتجنا إلى مجلد كامل لاستقصاء كل الأسماء ، وقد أجاد الشيخ محمد جعفرالطبسي بتأليفه كتاباً في هذا الموضوع ،
أسماه : (رجال الشيعة في أسانيد السنة) ، جمع فيه رواة الشيعة في الكتب الستة . بقي هنا أمر واحد لابد من الإشارة إليه من باب إنصاف
الرجل ، وهو أنه قد يتمسك البعض بالقول الشائع على الألسن ، وهو أن بعض أئمة الحديث قد فصلوا في رواية المبتدع ، فردّوا رواية الداعية ، أو ما يقوي
بها بدعته ، وقبلوا رواية ما سواه . قال الخطيب البغدادي في الكفاية : وقال كثير من العلماء : يُقبل أخبارغيرالدعاة من أهل الأهواء ، فأما الدعاة فلا يحتج بأخبارهم ، وممن ذهب إلى
ذلك أبوعبدالله أحمد بن محمد بن حنبل [الكفاية في علم الرواية ١٤٩ .]. |
|
والجواب على هذا : |
|
أولاً : أن هذا الرأي وإن نصَّ عليه بعضهم إلا أنه لم يلتزم به كبارالحفاظ
وأئمة الحديث ،وقد ذكرنا أمثلة من الصحيحين ، فكيف بالكتب التي هي دونها ؟ ثانياً : هذا الرأي مبتدع مجعول ، ولا دليل
عليه لامن العقل ولا من النقل ، بل هو مجرد اتباع للهوى ، وقد صرَّح العلماء أن
أول من قال بهذا التفصيل هو الجوزجاني . قال السخاوي في فتح المغيث : قال شيخنا : إنه قد نص على هذا القيد
في المسألة الحافظ أبوإسحاق إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني شيخ النسائي ، فقال في مقدمة كتابه في الجرح والتعديل
: ومنهم زائغ عن الحق صدوق اللهجة ، قد
جرى في الناس حديثه ، لكنه مخذول في بدعته ، مأمون في روايته ، فهؤلاء ليس فيهم
حيلة إلا أن يؤخذ من حديثهم ما يُعرف ، وليس بمنكر، إذا لم تقو به بدعتهم
فيتهمونه بذلك [فتح المغيث ١ / ٣٣١ .] . وقد نصَّ أحد أئمة الحديث المعاصرين
الذي أُطلق عليه (ذهبي العصر) وهو المعلمي اليماني عن سبب جعل الجوزجاني لهذه
القاعدة ، فقال : والجوزجاني فيه نَصْب ، وهو مولع بالطعن
في المتشيَّعين كما مر، ويظهر أنه إنما يرمي بكلامه هذا إليهم ، فإن في الكوفيين المنسوبين إلى التشيع
جماعة أجلة اتفق أئمة السنة
على توثيقهم ، وحسن الثناء عليهم ، وقبول روايتهم ، وتفضيلهم على كثيرمن الثقات الذين لم يُنسبوا
إلى التشيع ، حتى قيل لشعبة : حدثنا عن ثقات أصحاب ، فقال : إن حدثتكم عن ثقات أصحابي فإنما أحدثكم عن نفر يسير من هذه الشيعة ، الحكم بن عتيبة ، وسلمة بن كهيل
،وحبيب بن أبي ثابت ، ومنصور. راجع تراجم هؤلاء في تهذيب التهذيب ، فكأن الجوزجاني لما علم أنه لا سبيل إلى الطعن في
هؤلاء وأمثالهم مطلقاً حاول أن يتخلّص مما يكرهه من مروياتهم ، وهو ما يتعلق
بفضائل أهل البيت [التنكيل ١ / ١٢٤ .] . إذن هذه القاعدة التي كثيراً ما
يتبجَّح بها البعض هي من وضع ناصبي للتخلص من مرويات أهل البيت عليهم السلام وطمس آثارهم ، والدكتور السالوس يسيرعلى هذا النهج الناصبي بشهادة
علمائهم في محاولة لتسقيط كتاب ( نهج البلاغة) . ثالثاً : لو قبلنا هذه القاعدة وعملنا بها لكان أول شيء يُرَدّ هي نفس
القاعدة ؛ وذلك أن مفاد هذا المبنى الرجالي أن المبتدع الداعية ترد روايته
ودرايته ، خصوصاً إذا كان هذا الأمريقوّي بدعته ، وهذ الرجل المسمّى بالجوزجاني
مبتدع ، إذا أن الكل شهد على أنه ناصبي منحرف عن علي عليه السلام ، وقد نقلنا شهادة المعلمي اليماني بذلك ،
ومضيف عليه ما نقله ابن حجرالعسقلاني قال في تهذيب التهذيب : وقال ابن حبان في الثقات : كان حروري
المذهب ، ولم يكن بداعية ، وكان صلباً في السنة ، حافظاً للحديث ، إلا أنه من
صلابته ربما كان يتعدّى طوره. وقال ابن عدي : كان شديد الميل إلى مذهب أهل دمشق في
الميل على علي ؛ وقال السلمي عن الدارقطني بعد أن ذكر توثيقه : لكن فيه انحراف عن علي ، اجتمع على بابه أصحاب الحديث ، فأخرجت جارية له فروجة لتذبحها ،
فلم تجد من يذبحها ، فقال : سبحان الله ، فروجة لا يوجد من يذبحها ، وعلي يذبح
في ضحوة نيَّفاً وعشرين ألف مسلم . قلت : وكتابه في الضعفاء يوضح مقالته ، ورأيت في نسخة من كتاب ابن حبان :
حَريْزيُّ المذهب ، وهو يفتح الحاء المهملة ، وكسرالراء ، وبعد الياء زاي ،
نسبةً إلى حريز بن عثمان المعروف بالنصب ، وكلام ابن عدي يؤيَّد هذا [تهذيب التهذيب ١ / ١٥٩ .] . ومن هنا نقول : إن هذا القاعدة جاء بها المبتدع الجوزجاني لنصرة مذهبه وتقوية بدعته ، فهي مردودة
عليه ، ومحكوم ببطلانها فلا يبقى وجه للإشكال مع بطلان ما ذهب إليه السالوس ، وبإضافة ما قدمناه في أول الكتاب من إجماع الأمة على
وثاقة وعدالة وجلالة الشريف الرضي قدس سره . |
|
الشبهة
الخامسة :
المشتركات :
|
|
ذكرابن تيمية مطعناً آخر في ( نهج
البلاغة) ، وهو أن الكلام
المنسوب في الكتاب لأميرالمؤمنين قد نُسب لغيره أيضاً ، وهذا يعني أن الشريف
الرضي رضى الله عنه أخذ من كلمات فصحاء العرب ونسبها لأميرالمؤمنين ع لإثبات فصاحته وبلاغته . ولهذا قال في منهاج السنة : وأيضاً فالمعاني الصحيحة التي توجد
في كلام علي موجودة في كلام غيره ، لكن صاحب ( نهج البلاغة) وأمثاله أخذوا كثيراً من كلام الناس فجعلوه من
كلام علي ، ومنه ما يُحكى
عن علي أنه تكلم به ، ومنه ما هو كلام حق يليق به أن يتكلم به ، ولكن هو في نفس
الأمر من كلام غيره ، ولهذا يوجد في كلام ( البيان والتبيين) للجاحظ وغيره من الكتب كلام منقول من غيرعلي ، وصاحب ( نهج البلاغة) يجعله عن علي[منهاج السنة ٨ / ٥٥ .] . |
|
والجواب على هذا الإشكال يكون في نقاط : |
|
أولاً : لم يبيَّن ابن تيمية مقدار تلك الأحاديث والروايات المشتركة بين أميرالمؤمنين عليه السلم وبين
غيره من الناس ، بل إن ابن تيمية لم يأت بمثال واحد على تلك الخطب المشتركة ،
ووجود جملة من الأحاديث التي نشك في صحة نسبتها لقائلها لا يعني الحكم على
الكتاب كله بالوضع أو بالكذب ، غاية ما في الأمر أن هذه الخطب بخصوصها ينبغي
التأكد من أنها لعلي عليه السلام أو لغيره . علماً أن الصفدي نقل عن ابن تيمية
كلاماً آخر، حيث قال : سمعت الشيخ الإمام العلامة تقي الدين أحمد بن تيمية رحمه الله
تعالى يقول : ليس كذلك ، بل الذي فيه من كلام علي
بن أبي طالب معروف ، والذي فيه للشريف الرضي معروف [الوافي بالوفيات ٢ / ٢٧٧ .] . وهنا يحق لنا أن نتساءل : إذا كانت الكلمات الثابتة
لأميرالمؤمنين(ع)في كتاب (نهج البلاغة) معروفة ويسهل تمييزها عن غيرها ، فلماذا لم يتحفنا المخالفون بكتاب ( صحيح نهج البلاغة) كما فعل الشيخ محمد ناصر الألباني مع السنن الأربعة ؟ لماذا لا نسمع من القوم إلا عبارات
الطعن والتجريح في هذا السفر الجليل ، ولم نسمع يوماً رجلاً منهم يحتج بفقرة من
فقراته أو يذكر كلمة من كلماته أو خطبة من خطبه إلا كانت ذكر تلك الخطبة بغرض
الاحتجاج بها على الشيعة ؟ ثانياً : الأمرالمهم الذي يجب أن يلاحظ في استدلال ابن تيمية الحرّاني هو أنه ذكرأن الكلام الذي نسبه الشريف
الرضي قدس سره لأميرالمؤمنين عليه السلام قد نُسب لغيره من الناس ، وهذا ما يدل على كذب الرضي ! والسؤال الذي يطرح بقوة : لماذا جزم ابن تيمية أن الرضي قدس
سره هو الذي سرق كلام الغير ونسبه لأميرالمؤمنين عليه السلام ؟ما هو الدليل الذي يمنع الاحتمال الثاني
: وهو أن يكون ذلك الغير قد سرق كلمات أميرالمؤمنين عليه السلام ونسبها لغيره ؟ ألا يدل هذا على وجود ضغينة في قلب ابن
تيمية الحرّاني على أميرالمؤمنين عليه السلام ، تجعله يحاول سلب كل منقبة ومفخرة له ؟هذا الكلام ليس على سبيل الاحتمال ، بل
هو حقيقة اعترف بها جملة من علماء المخالفين . منهم : ابن حجرالعسقلاني ، حيث قال : طالعت الرد المذكور( يعني منهاج السنة) فوجدته كما قال السبكي في الاستيفاء ، لكن وجدته كثيرالتحامل إلى الغاية في رد الأحاديث التي يوردها ابن المطهر، وإن كان معظم ذلك من الموضوعات والواهيات ، لكته ردَّ في ردَّه كثيراً من الأحاديث
الجياد التي لم يستحضر
حالة التصنيف مظانها ؛ لأنه كان لا تساعه في الحفظ يتكل على ما في صدره والإنسان
عامد للنسيان ، وكم من مبالغة لتوهين كلام الرافضي أدَّته
آحیاناٌ إلى تنقيص علي
رضي الله عنه [لسان الميزان ٦ / ٣١٩ .] . وقال في الدررالكامنة : ومنهم من ينسبه ( يعني بن تيمية) إلى النفاق ؛ لقوله في علي ما تقدَّم ، ولقوله : إنه كان مخذولاً حيث ما توجه ، وأنه حاول الخلافة مراراً فلم
ينلها ، وإنما قاتل للرياسة لا للديانة ، ولقوله : إنه كان يحب الرياسة ، وأن عثمان كان يحب المال ، ولقوله : أبوبكرأسلم شيخاً يدري ما يقول ،
وعليٌّ أسلم صبياً ، والصبي لا يصح إسلامه على قول ، وبكلامه في قصة خطبة بنت
أبي جهل ، ومات ما نسبها من الثناء على ... وقصة أبي العاص ابن الربيع ، وما يؤخذ من مفهومها ، فإنه
شنَّع في ذلك ، فألزموه بالنفاق ؛ لقوله صلى الله عليه وآله
(( لا یبغضك إلا منافق )) [الدررالكامنة ١ / ١٥٥ .] . علماً أن ابن تيمية احتج في دعواه السابقة بما نقله الجاحظ ، وهذا الأخير قد عرُف بالزندقة والنصب
لأميرالمؤمنين عليه السلام ، فلا ندري كيف جعله ابن تيمية حكماً في مثل هذه القصة ؟ قال فيه الذهبي : عمرو بن بحرالجاحظ ، صاحب التصانيف ،
روى عنه أبوبكر بن أبي داوود فيما قيل ، قال ثعلب : ليس بثقة ولا مأمون ، قلت : وكان من أئمة البدع [ميزان الاعتدال ٣ / ٢٤٧ .] . فهل يحتج ابن تيمية بإمام من أئمة البدع كما عبَّرالذهبي لينصر بدعته ويوافق هواه ؟ ثالثاً : نحن نجزم ونقطع أن ما ذكره الجاحظ ونسبه لغيرأميرالمؤمنين عليه
السلام هو سرقة أدبية لغرر كلمات الإمام علي بن أبي طالب
عليه السلام ودرر خطبه ، ونستدل على ذلك بأمرين : الأمرالأول : أن الجاحظ الذي احتج به ابن تيمية قد عُرف بأنه يكثرمن رواية أكاذيب غيره ، وينسب للثقات ما لم
يقولوه ، ولذلك قال ابن حجرالعسقلاني في لسان الميزان : وقال ابن حزم في (الملل والنحل) : كان أحد المجان الضلال ، غلب عليه الهزل ،
ومع ذلك فإنا ما رأينا له كتبه تعمد كذبة يوردها مثبتاً لها ، وإن كان كثيرالإيراد لكذب غيره . وقال أبو منصورالأزهري في مقدمة تهذيب
اللغة : وممن تكلّم في
اللغات بما حصره لسانه وروى عن الثقات ما ليس من كلامهم : الجاحظ ، وكان أوتي بسطة في القول ، وبياناً عذباً في الخطاب ، ومجالاً في
الفنون ، غير أن أهل العلم
ذبّوه ، وعن الصدق دفعوه . وقال ثعلب : كان كذَّاباً على الله وعلى رسوله وعلى الناس [لسان الميزان ٤ / ٣٥٧ .] . وعليه ، فلا يمكن الاحتجاج بما نقله الجاحظ بأي حال من الأحوال بعدما
تبيَّن رأي العامة فيه . الأمرالثاني : اعترف جملة من علماء المخالفين بأن
هناك من امتهن سرقة خطب أميرالمؤمنين عليه السلام ، ونسبها لنفسه ؛ كي يظهر بصورة
الخطيب المفوّه الذي لا يُشقّ له غبارعلى المنابر. من ذلك ما ذكره ابن أبي
الحديد المعتزلي في شرحه على (نهج البلاغة) ،
حيث قال : أما الفصاحة : فهو عليه السلام إمام الفصحاء ، وسيد البلغاء ، وفي كلامه قيل :((دون كلام
الخالق ، وفوق كلام المخلوقين )) ، ومنه تعلَّم الناس الخطابة والكتابة ، قال
عبدالحميد بن يحيى : حفظت سبعين خطبة من خطب الأصلع ، ففاضت ثم فاضت. وقال ابن نباته : حفظت من الخطابة كنزاً لا يزيده
الإنفاق إلا سعة وكثرة ، حفظت مائة فصل من مواعظ علي بن أبي طالب [شرح نهج البلاغة ١ / ٣٥ . .] ولكن قد يقول قائل : إن هذا الكلام لا دلالة فيه على
السرقة الأدبية التي أدّعيتها ؛ لأن هؤلاء اعترفوا بأنهم استفادوا من خطب
أميرالمؤمنين عليه السلام لتعلُّم الفصاحة والبلاغة . وردّنا على هذا أن هذا النّص يفهم بضميمة شاهد آخر، وهو ما ذكره ابن الجوزي في تاريخه حيث قال في ترجمة ابن نباتة : كان يتكلم على الناس قاعداً وربما
قام علي قدميه في دارسيف الدولة من الجامع ، وكان يقال : إنه كان يحفظ كتاب ( نهج البلاغة) ، ويغيَّرألفاظه ، وكانت له
كلمات حسان في الجملة . توفي في يوم الجمعة حادي عشررجب هذه السنة ، وصلي عليه
وقت صلاة الجمعة [المنتظم في التاريخ ١٨ / ١٨٦ .] . والنص واضح جلي لا يحتاج إلى شرط ولا
إلى بيان ، فإن ابن نباتة كان يحفظ خطب أميرالمؤمنين عليه
السلام ، ويغيَّرها ، ثم ينسبها لنفسه ؛ لكي يثبت قدميه في ميدان أهل البلاغة
والفصاحة . والدليل الأقوى على صحّة ما ذهبنا إليه
هو محاولة التغطية على هذه الجريمة التي
ارتكبها ابن نباتة في حق تراث أميرالمؤمنين عليه السلام
، وذلك بتحريف الكلم عن موضعه ! فعندما تعرَّض ابن كثيرفي (البداية والنهاية) لترجمة محمد الفارقي أبي عبد الله الواعظ ، قال : أبوعبدالله الواعظ ، يقال :
إنه كان يحفظ ( نهج البلاغة) ويعبرألفاظه ، وكان فصيحاً بليغاً ، يُكتب كلامه
ويروى عنه كتاب يعرف بالحكم الفارقية [البداية والنهاية ١٢ / ٣٢٣ .] . أراد ابن كثير الدمشقي تغطية جريمة الفارقي المتمثلة في سرقة وتحريف كلام
أميرالمؤمنين عليه السلام ، فحرّف النص من عبارة : (( كان يحفظ نهج البلاغة ،ويغيَّرألفاظه)) ، إلى عبارة : (( كان يحفظ نهج البلاغة ويعبَّرألفاظه
)) ، أي يشرح ويُفسَّر فقرات النهج ! ومن
هنا عرض ابن أبي الحديد
المعتزلي نماذجا من السرقات
الأدبية التي اقترفها الفارقي في شرحه على النهج : قال في معرض تعليقه على خطبة للفارقي : هذا آخرخطبة ابن نباتة ، فانظر إليها وإلى خطبته عليه السلام بعين الانصاف ، تجدها بالنسبة
إليها كمخنث بالنسبة إلى
فحل ، أو كسيف من رصاص بالإضافة إلى سيف من حديد وانظر ما عليها من أثرالتوليد وشين التكلف وفجاجة كثير من
الألفاظ ، ألا ترى إلى فجاجة
قوله : " كأنّ أسماعكم
تمج ودائع الوعظ وكأن قلوبكم بها استكبارعن الحفظ "! وكذلك ليس يخفى نزول قوله : " تندون من عدوكم نديد الإبل
، وتدرعون له مدارع العجز والفشل " . وفيها كثيرمن هذا الجنس ، إذا تأمله الخبيرعرفه ، ومع هذا فهي مسروقة من كلام
أميرالمؤمنين عليه السلام ، ألا ترى أن قوله عليه السلام : " أما بعد فإن الجهاد باب من أبواب الجنة " ، قد سرقه ابن نباتة ، فقال : فإن الجهاد أثبت قواعد الايمان ،
وأوسع أبواب الرضوان ، وأرفع درجات الجنان "! وقوله ع : " من اجتماع هؤلاء على باطلهم
وتفرقكم عن حقكم "، سرقه أيضا ، فقال : " صرخ بهم الشيطان إلى باطله فأجابوه ، وندبكم الرحمن إلى
آخره سرقه أيضا ، فقال : " كم تسمعون الذكر فلا تعون ،
وتقرعون بالزجر فلا تقلعون "! وقوله عليه السلام :" حتى شنّت عليكم الغارات وملكت عليكم
الأوطان : سرقه أيضا ، وقال : " وعدوكم في دياركم عمله ،
ويبلغ بتخلفكم عن جهاده أمله "، وأما باقي خطبة ابن نباتة فمسروق من خطب
لأميرالمؤمنين عليه السلام أخر، سيأتي ذكرها [شرح نهج البلاغة ٢ / ٨٢ .] . فهذا غيض من فيض ، وإلا فجل الحكم المتداولة والتي تُنسب
لفلان وفلان هي بالأساس حكم الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام ، لكن جارعليها
الزمان ، وانتحلها ضعيفو الإيمان . فالشبهة التي طرحها ابن تيمية لا ترقى إلى مستوى الإشكال المستلزم للتشكيك في ( نهج البلاغة) ، بل هو إشكال منا على الطرف المقابل . |
|
الشبهة
السادسة : علم
الغيب :
|
|
تعرَّض بعض النقّاد إلى إشكال آخر حول (نهج البلاغة) ، وهو أن بعض
فقرات هذا الكتاب احتوت على إخبار بأحداث مستقبلية ، مما يوحي بأن المتكلم يرى أنه يعلم الغيب ، إذ أنه يورد هذه
الأحداث على سبيل الجزم والقطع ، لا على سبيل الاحتمال والظن ، وهذا الشيء لا
يمكن أن يصدر من أميرالمؤمنين ع ؛ لأن علم الغيب لا يكون إلا لله عزّوجلّ . وممن طرح هذه الشبهة عباس محمود العقاد
في عبقرياته ، حيث قال : ومن المحقَّق الذي لا خلجة فيه من الشك أن النبوءات التي جاءت في
(نهج البلاغة) عن الحجاج بن يوسف ، وفتنة الزنج ، وغارات التتار، وما إليها ، هي من مدخول الكلام عليه ، ومما أضافه النساخ إلى الكتاب بعد وقوع الحوادث بزمن قصير أو طويل [عبقرية الامام ١٩٢ .] . وذكرأيضاً هذا الإشكال محمد محي الدين
عبدالحميد في مقدمته لشرح محمد عبده لكتاب ( نهج البلاغة )، وبعض النقّاد المتأخرين . وهذا الإشكال مبنى على مقدمة فاسدة ،
وهي أن علم الغيب من مختصات الله عزَّوجل
، ولا يمكن لأحد من الناس أن يطلّع على الغيب ، وهذا باطل بالضرورة ؛ لأن الآیات القرآنیة والأحاديث النبوية تشهد بإمكانية تشهد ذلك ، بل بوقوعه في
بعض الناس من أنبياء وغيرهم . الأدلة القرآنية : منها : قوله تعالى :(عَالِمُ الغَيبِ فَلَا يُظهِرُعَلَى غَيبِهِ أحَداً
* إلَّاَ مَنِ أرتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإنَّهُ يَسلُكُ مِن بَينِ يَدَيهِ وَمِن
خَلفِهِ رَصَدا) ( الجن : ٢٦ ، ٢٧ ) . والآیة صريحة في أن الله يطلع على غيبه بعض من ارتضى من عباده . ومنها : قوله تعالى : ( وَأُبرِئُ الأَكمَهَ وَالأَبَرصَ وَأُحي المَوتَى
بإذنِ اللهِ وَأنَبّئُكُم بِماَ تأكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فيِ بُيُوتِكُم
إنَّ في ذَلِكَ لَأَيَةُ لَّكُم إن كُنتُم مُّؤمِنِين) )آل عمران : ٤٩ ) . وهنا عیسى بن مريم عليه السلام يصرَّح
أن من آیاته ؛إخباره ما یدّخرالناس في بيوتهم ، وهذا من علم الغيب بلا شك . ومنها قوله تعالى : (أَمَّا الَسَّفِينَةُ فَكَانَت لِمَسَاكِين يَعمَلُونَ فِي
الَبَحرِ فَأَرَدتُّ أَن أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ يَأخُذُ كُلَّ
سَفِينَةٍ غصبًا (*) وَأمَّا الغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤِمنَينِ فَخَشِينَآ
آًن یُرهِقَهُمَا طُغياناً وَكُفراً(*) فَأَردنَآ أَن يُبدِلَهُمَا رَبُهُمَا
خَيراً مِنهُ زَكوةً وَأَقرَبَ رُحما (*) وَأَمَّا الجِدَارُ فَكَانَ
لِغُلَامَينِ يَتيمَينِ في المَدِينَة ِ وَكَان تَحتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ
أَبُوهُمَا صَالِحاً فأرَادَ رَبَّكّ أَن يَبلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيستَخرِجَا
كَنزَهُمَا رَحمَةً مِن رَّبِكَ وَمَا فَعلتُهُ عَن أَمرِي ذلِكَ تَأوِيلُ مَا
لّم تَسطِع عَلَيهِ صَبراً) (الكهف: ٧٩ ،٨٢ ) . فمجموع هذه الآیات تثبت أن جملة من عباد الله قد أطلعهم
الله تعالى على غيبه ، وكشف لهم عن المستقبل ؛ ليكون ذلك آیة على صدقهم وعلامة
صلاحهم . ولكن قد يقول قائل : إن هذه الآیات معارضة بآیات أخر
تحصرعلم الغيب بالله جلَّ جلاله ، وتنفي حصول غيره عليه ، مثل قوله تعالى : (
قُل لَّا يَعلَمُ مَن فيِ السَمَوات والأَرضِ الغَيبَ إلَّا اللَّهُ) (النمل : ٦٥ ) ، وقوله عزَّ من قائل : (وَعِندَهُ
مَفَاتِحُ الغَيبِ لَا يَعلَمُهَآ إلَّا هُوَ) (الأنعام :٥٩) ، فيكف يكون الجمع بينها ؟ |
|
الجواب على هذه الطائفة من الآیات |
|
الجواب على هذه الطائفة من الآیات أن
تحمل على العلم الذاتي الاستقلالي ، وليس العلم الحصولي المفاض من الباري
عزَّوجل . وبيانه أن الإنسان مهما بلغ في الكمال
لا يستطيع أن يطلّع على الغيب بنفسه بحيث يستغني عن الله عزَّوجل في ذلك ، بل لا
يكون العلم الإ بإضافة منه سبحانه وإكرام لعباده . فالذي يعلم الغيب بذاته هوالله سبحانه
وحده دون غيره ، فإنه لا يحتاج لمعرفة الغيب إلى أحد ، وأما غيره سبحانه فلا
يعلم الغيب إلا بإفاضة من الله تعالى وبتعليم له . وهذا هو المعنى غيرالاستقلالي الذي
يثبته الشيعة لأئمتهم ؛ وليس المعنى الأول الذي يلزم منه كفرالقائل به . ولهذا قال الشيخ المفيد قدس سره : فأما إطلاق القول عليهم بأنهم يعلمون
الغيب فهو منكربين الفساد ؛
لأن الوصف بذلك إنما يستحقه مَنْ عَلِمَ الأشياء بنفسه ، لا بعلم مستفاد ، وهذا لا يكون إلا الله عزَّوجل [أوائل المقالات ١ / ٦٧ .] . وهذا المعنى قد أشارإليه أميرالمؤمنين
عليه السلام في الخطبة المذكورة في ( نهج البلاغة) حيث قال : فقال له بعض أصحابه : لقد أُعطيتَ يا
أميرالمؤمنين علم الغيب ! فضحك عليه السلام ، وقال للرجل وكان كلبيًّا : يا
أخا كلب ، ليس هو بعلم غيب ، وإنما تَعَلُّم من ذي علم [نهج البلاغة ٢ / ١١ .] . |
|
لم يختص الشيعة بهذا التفسير، بل وافقهم عليه جملة من مفسَّري أهل السنة والجماعة منهم
|
|
ولم يختص الشيعة بهذا التفسير، بل وافقهم عليه جملة من مفسَّري أهل السنة والجماعة عند تعرّضهم للطائفة الثانية من
الآيات : منهم : المناوي الذي قال : وأما قوله : ( لَا يَعلَمُهَآ إَلا هُوَ) فمفسَّربأنه لا يعلمها
أحد بذاته ومن ذاته إلا هو، لكن قد تعلم بإعلام الله ، فإن ثمة من يعلمها ، وقد
وجدنا ذلك لغير واحد ، كما رأينا جماعة علموا متى يموتون ، وعلموا ما في الأرحام
حال حمل المرأة بل وقبله [فيض القدير ٥ / ٦٧١ .] . ومنهم : ابن كثيرفي تفسيره، فإنه قال : هذه مقاتيح الغيب التي استأثر الله تعالى بعلمها فلا
يعلمها أحد إلا بعد إعلامه تعالى بها ، فعلم وقت الساعة لا يعلمه نبِي مرسل ولا
ملك مقرب ، ( لَا يُجَلِّيهَا لِوقتِهآ إَلّا هُوَ) ، وكذلك إنزال الغيث ، لا يعلمه إلا الله ،
ولكن إذا أمر به علمته الملائكة الموكَّلون بذلك ومن شاء الله من خلقه ، وكذلك
لا يعلم ما في الأرحام مما يريد أن يخلقه تعالى سواه ، ولكن إذا أمر بكونه ذكراً
أو أنثى ، أو شقيًّا أو سعيداً علم الملائكة الموكَّلون بذلك ومن شاء الله من
خلقه [تفسير ابن كثير ٣ / ٤٦٢ .] . وقال غيرهما من علماء أهل السنة ، سواء من المفسرين أو من شراح
الحديث الذين حملوا هذه الآیات القرآنیة على ذلك . |
|
الأدلة
الروائية :
|
|
نصَّت جملة من الروايات الصحيحة على
أن النبي صلى الله عليه وآله وجملة من الصحابة كانوا يعلمون الغيب ، ويخبرون به
غيرهم . منها : ما رواه مسلم في صحيحه بسنده عن حذيفة أنه قال : أخبرني رسول الله صلى الله عليه وآله
بما هو کائن إلى أن تقوم الساعة ، فما منه شيء إلا قد سألته ، إلا أني لم أساله
ما يخرج أهل المدينة من المدينة [صحيح مسلم ٨ / ٧٣ .] . وهذا الحديث يثبت أن النبي كان يعلم
ما سيكون إلى يوم القيامة ، بل أخبرحذيفة بن اليمان بذلك حتى عُرِف بأنه صاحب
سرّ رسول الله صلى الله عليه وآله . ومنها : ما رواه البخاري في صحیحه بسنده عن أبي هريرة ، قال : حفظت عن
رسول الله صلى الله عليه وآله وعاءين ، فأما أحدهما فبثثته ، وأما الآخر فلو
بثثته قُطِعَ هذا البلعوم [صحيح البخاري ١ / ٣٨ .] . وقد ذكر شرّاح الحديث بأنّ الوعاء الثاني احتوى على الملاحم
والفتن التي ستحصل ، وبالخصوص حُكّام الجور. قال ابن حجر في فتح الباري : وحمل العلماء الوعاء الذي لم يبثه
على الأحاديث التي فيها تبيين أسامي أمراء السوء وأحوالهم وزمنهم ، وقد كان أبو
هريرة يكنّي عن بعضه ولا يصرح به خوفاً على نفسه منهم ، كقوله : (( أعوذ بالله
من رأس الستين وإمارة الصبيان )) يشيرإلى خلافة يزيد بن معاوية ؛ لأنها كانت سنة
ستين من الهجرة [فتح الباري ١ / ١٩٣ .] . إذن فأبو هريرة يعلم بعض الغيب الذي سيحصل في المستقبل أيضاً من فتن وملاحم
وحُكّام بتعليم من النبي
المصطفى ص. ومنها : ما رواه مسلم بسنده عن أبي زيد يعني عمرو بن أخطب ، قال : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه
وآله الفجر، وصعد المنبر فخطبنا حتى حضرت الظهر، فنزل فصلى ، ثم صعد
المنبرفخطبنا حتى حضرت العصر، ثم نزل فصلى ، ثم صعد المنبرفخطبنا حتى غربت الشمس
، فأخبرنا بما كان وبما هو كائن ، فأعلمُنا أحفظنا [صحيح ومسلم ٨ / ١٧٣ .] . وهذه الرواية نصّ صريح في أن الرسول الأعظم صلى الله عليه
وآله قد اطّلع على الغيب ، وأطلع جل الصحابة عليه ، فلماذا لا يُقبل من أميرالمؤمنين عليه
السلام أن يخبر بما أطلعه
عليه أخوه وابن عمه المصطفى صلى الله عليه وآله ، ويُقبل من غيره ؟ هذا ما يسمونه سياسة الكيل بمكيالين في
هذه الأيام ، إذا أخبرأحد الصحابة بمغيبات فإنها تعد من كراماته وفضائله وأما إذا أخبرأميرالمؤمنين عليه السلام بشيء من ذلك ، فإن هذا الشيء يصبح مدعاة لتسقيط الخبر وتكذيبه ! ومما يناسب المقام ما وراه ابن كثير بسنده عن طارق بن شهاب ، قال : كنا
نتحدّث أن عمر بن الخطاب ينطق على لسان مَلَك ، وقد ذكرنا في سيرة عمر بن الخطاب
أشياء كثيرة ،ومن مكاشفاته وماكان يخبر به من المغيَّبات ، كقصة سارية بن زنيم ، وما شاكلها ، ولله الحمد والمنة [البداية والنهاية ٦ / ٢٢٤ .] . انظرأخي القارئ إلى عمر بن الخطاب، فإنه يجوز له أن يخبر بالمغيبات
والمكاشفات، وتعد هذه الإخبارات من جملة كراماته،لا لشيء إلا لأنه عمر،ولأن الراوي هو ابن كثير،أما الشريف الرضي قدس سره فلا يجوز له نقل كرامة واحدة من هذا القبيل لجدّه
أميرالمؤمنين عليه السلام . ولو كان هذا الناقد مطللعاً على بطون الكتب ودفائن
الأسفار لعلم أن بعض المنصفين
من علماء العامة قد نقلوا جملة من إخبارات أميرالمؤمنين عليه السلام بالغيب ، ونقله بعض حوادث المستقبل . فقد قال ابن حجر في صواعقه ، وأخرج
عبدالرزاق عن حجرالمرادي ، قال :قال لي علي : كيف بك إذا أمرت أن تلعنني ؟ قلت : أو كائن ذلك ؟ قال
: نعم . قلت : فكيف أصنع ؟ قال العنّي ، ولا تبرأ مني . قال : فأمرني محمد بن يوسف أخو الحجاج وكان إن الأمير أمرني أن ألعن عليًّا فلعنوه ، لعنه الله . فما فطن لها إلا رجل ، أي لأنه إنما لعن الأمير ولم
يلعن عليًّا ، فهذا من كرامات علي وإخباره بالغيب [الصواعق المحرقة : ١٩٨ .] . وروى عبد الرزاق في تفسيره بسند صحيح عن
أبي الطفيل ، قال: شهدت عليَّا وهو يخطب ، وهو يقول : سلوني ، فوالله لا تسألوني عن
شيء يكون إلى يوم القيامة إلا حدَّثتكم به [تفسيرعبد الرزاق الصنعاني ١ / ٤٣٣ .] . وغيرها من الأمورالكثيرة التي شهد بها الخاصة والعامة ، مثل إخباره بمقتله ، ومقتل ابنه الحسين
عليه السلام وإخباره أنه سيقاتل الخوارج قبل بلوغهم النهر، وأنه لا يبقى منهم
عشرة ، والكثيرالكثير. فلا ندري لم يطعن في النهج لشيء معروف ومشهور
في كتب المسلمين ، ولا يطعن في الشريف الرضي قدس سره لشيء شاركه فيه البخاري ومسلم وغالب
أئمة الحديث ؟ العجيب في صاحب هذا الإشكال أنه لم يتفحّص (نهج البلاغة) جيّداً قبل أن يطرح هذه الشبهة ؛ وذلك لأن من جملة الأمور الغيبية
الموجودة في النهج غزو التتار، وهذه الحادثة وقعت بعد وفاة الرضي قدس سره بأكثر من مائتي سنة ؟ فقد روى عن أميرالمؤمنين عليه السلام في
النهج أنه قال : كأني أراهم قوماً كأن وجوهم المجان المطرقة ، يلبسون السرق والديباج ، ويعتقبون الخيل العتاق ، ويكون هناك
استحرار قتل ، حتى يمشي المجروح على المقتول ، ويكون المفلت أقل من المأسور [نهج البلاغة ٢ / ١٠ .] . وعلق ابن الحديد على هذه الخطبة بقوله : واعلم أن هذه الغيب الذي أخبرعليه
السلام عنه قد رأيناه نحن عياناً ، ووقع في زماننا ، وكان الناس ينتظرونه من أول الإسلام ، حتى ساقه القضاء والقدر إلى عصرنا ، وهم التتارالذين خرجوا من أقاصي
المشرق حتى وردت خيلهم العراق والشام ، وفعلوا بملوك الخطا وقفجاق ، وببلاد ما
وراء النهر، وبخراسان وما والاها من بلاد العجم ، ما لم تحتو التواريخ منذ خلق
الله تعالى آدم إلى عصرنا هذا على مثله ، فإن بابك الخرمي لم تكن نكايته وأن طالت مدّته نحوعشرين سنة إلا في إقليم واحد وهو
أذربيجان ، وهؤلاء دوَّخوا المشرق كله ، وتعدّت نكايتهم إلى بلاد إرمينية وإلى
الشام ، ووردت خيلهم إلى العراق ، وبخت نصرالذي قتل اليهود إنما أخرب بيت المقدس
، وقتل من كان بالشام من بني إسرائيل ، وأي نسبة بين من كان بالبيت المقدس من
بني إسرائيل إلى البلاد والأمصارالتي أخرجها هؤلاء ، وإلى الناس الذين قتلوهم من
المسلمين وغيرهم [شرح نهج البلاغة ٨ / ٢١٨ .] . فإن كان ما ورد في النهج من قبيل
ذكرالحجاج وانقضاء ملك بني أمية وفتنة الزنج وبعض ملاحم البصرة من الأمورالتي يمكن أن ينحلها الرضي قدس
سره لأميرالمؤمنين عليه السلام ، فكيف يمكنه ذكرغزو التتار والحال أنه مات قبل هذه الواقعة بحوالي ١٥٠ عاماً ؟ من هنا نعلم أن صاحب هذا الإشكال لا عقل له ؛
لأنه هرب من الالتزام بأن علي بن أبي طالب عليه السلام مطلع على الغيب ، فوقع في
لازم أكثر بطلاناً وهو أن الشريف الرضي كان أيضاً عالماً بالغيب ، وهذا ما لا يقوله الشيعة وأهل السنة
جميعاً. |
|
الشبهة
السابعة : الإطناب :
|
|
وجد بعضهم منفذاً آخرللطعن في كتاب
(نهج البلاغة) ، وهو أن جملة من خطبه ورسائله طويلة جدًّا،وهذا غيرمعهود عند
العرب في تلك الحقبة الزمنية ، ولعلّ أول من أشارلهذا المطعن هو الدكتورأحمد زكي صفوت الذي قال في
الترجمة : يخالج نفوسنا الشك
في عهد الأشتر من حيث طوله وإسهابه ؛ لاعتبارات نوردها لك ... الأول : أن الخلفاء عهدوا إلى ولاتهم ، فلم يؤثرعنهم ذلك الإسهاب في
عهودهم... ويستوقفنا أيضاً من
طوال خطبه ، خطبتان هما أطول ما أثرعنه بعد عهد الأشتر: القاصعة ، وخطبة الأشباح [ترجمة علي بن أبي طالب : ١٣٠ .] . |
|
|
|
الأول : لا يمكن الطول في حدّ ذاته مطعناً في خطب أميرالمؤمنين عليه
السلام ؛إذ أن الاطناب من الأساليب البلاغية المعروفة التي
يدور رحم علم المعاني عليها ، فالإطناب والايجازإنما هما بلحاظ مراعاة مقتضى الحال ، فقد يقتضي الحال أن يطنب البليغ في كلامه
إذا كان في مقام مدح أو كان المخاطب قليل الاستيعاب أو غيره من الموارد التي
أشبعت بحثاً في كتب علوم البلاغة . الثاني : لا يوجد من يقول : إن الإطناب مرفوض في حدّ ذاته ، وحتّى صاحب الشبهة قال : لانقول : إن هذا القدرمن الطول غيرمقبول عقلاً ، ولكنا نقول : إن المعروف في ذلك العهد والمتداول
بين أيدينا من خطب النبي وخطب أبي بكر وعمر وعثمان ومعاوية لا يبلغ هذا الحد ، بل ولا نصفه [ترجمة علي بن أبي طالب : ١٣١ .] . وعليه ، فإن النتيجة التي وصل إليها مبنية على استقراء كلام العرب ، وهذا استقراء ناقص كما يقول المناطقة لا تقوم به الحجة ، خصوصاً مع وجود
أدلة صريحة تثبت أن الإطناب كان من الأساليب البلاغية الموجودة في كلام العرب ،
بل كانت علامة البلغاء وميزة الفصحاء . ومن الشواهد التاريخية التي تدل على
شياع الإطناب والإطالة عند العرب ما ذكره الجاحظ في البيان والتبيين ، حيث قال : والسُّنّة في خطبة النكاح أن يطيل
الخاطب ، ويقصرالمجيب ، ألا ترى إلى قيس بن خارجة بن سنان لما ضرب بصفيحة سيفه
مؤخرة راحلتي الحاملين في شأن حمالة داحس والغبراء ، وقال : ما لي فيها أيها
العشمتان . قالا : بل ما عندك ؟ قال : عندي قرى كل نازل ، ورضا كل ساخط ، وخطبة
من لدن تطلع الشمس إلى أن تغرب ، آمر فيها بالتواصل ، وأنهى فيها عن التقاطع . قالوا : فخطب يوماً إلى الليل ، فما أعاد فيها كلمة ولا معنى [البيان والتبيين : ٧٦ .] . فالإطالة ليست موجودة فقط في كلام العرب
، بل هي سُنّة جارية عندهم في مثل النكاح ، والعجيب أنه عُدّ من مفاخر قيس بن الخارجة أنه خطب من طلوع الشمس إلى الليل ، في حين أن طول خطب أميرالمؤمنين
عليه السلام في كتاب (نهج البلاغة) لا تبلغ عشرمعشارهذا المقدار. وقد ورد الإطناب في كلام سيّد العرب
والعجم رسول الله صلى الله عليه وآله کما ذكرنا ذلك فيما سبق مما وراه مسلم في صحيحه من أن النبي صلى الله عليه وآله خطب
في الناس من بعد صلاة الفجر إلى غروب الشمس لا يقطع كلامه إلا إقامة الصلوات فقط
، فأي إطناب أعظم من هذا ؟ فهذه الخطبة التي تحدث عنها الراوي
دامت قرابة عشرساعات باستمرار، ولا ندري لماذا لم يلعّق أحد عليها بمثل ما
عُلَّق على خطب أميرالمؤمنين عليه السلام ، أو أن الكيل بمكيالين يمنع من ذلك ؟! وكذلك ورد الإطناب في خطب بعض الصحابة ، كسحبان الذي ضُرب به المثل في
البلاغة والفصاحة ، حتى قيل : أفصح من سحبان ! فقد ذكر ابن الجوزي أنه : كان خطيباً بليغاً يُضرب المثل
بفصاحته ، ودخل على معاوية بن أبي سفيان وعنده خطباء القبائل ، فلما رأوه خرجوا
لعلهم بقصورهم عنه ، فمن قوله : لقدْ عَلِمَ الحُّي اليمانيونَ أنني ***** إذا قلتُ : أما بعدُ ، أني
خطيبُها فقال له معاوية : أخطب ، فقال : انظروا لي عصاً تقيم من أودي ، قالوا : وما تصنع بها وأنت بحضرة أميرالمؤمنين ؟ قال : ما كان يصنع بها موسى وهو يخاطب
ربه ، فأخذها وتكلم من الظهر إلى أقارب
العصر، ما تنحنح ، ولا سعل ، ولا توقف ، ولا ابتدأ في معنى فخرج عنه ، قد بقيت
عليه بقية فيه ، فقال معاوية : الصلاة قال : الصلاة أمامك ، ألسنا في تحميد وتمجيد وعظة وتنبيه
وتذكير ووعد ووعيد ، فقال معاوية : أنت أخطب الجن والإنس ، قال : كذلك أنت [المنتظم في التاريخ ٥ / ٢٨٣ .] . وهذا شاهد آخر یدل على ما ذكرناه من أن الإطناب كان فنًّا معروفاً عند بلغاء العرب ، بل كان علامة عندهم وآیة تدل على
البراعة في فنون الفصاحة والبلاغة . وعليه ، فإن ما ذكره الدكتورأحمد زكي صفوت لا يرقى إلى مستوى الإشكال العلمي الذي من شأنه أن ينقض عرى هذا
الكتاب . بقي أمرهنا لابدّ من الإشارة إليه : وهو أن بعض المعاصرين قد شكَّك في كل
الخطب الطويلة الواردة عن أهل البيت عليهم السلام ؛ لعدم ثقته في ضبط الرواة
لمثل هذه الأخبارحتى مع طولها ، فقال : وهنا سؤال محيّرآخر، وهو ضبط المذكرات ،
وكيفية كتابة الأسئلة والأجوبة ، ولم يشرإليه في مطلق الروايات الطوال ، نعم قد
ذُكرفي جملة من الروايات أن الرواة كتبوا ما قاله الإمام ، أو استأذن الراوي عنه
في الكتابة والإملاء ، أو ذكر الراوي كلاماً يُفهَم منه أنه كتب الرواية ، لكن
ضبط المذكورات في المجالس أمر مشكل ، ويشكل الاعتماد على الروايات الطويلة حتى
وإن صحَّت أسانيدها ، فضلاً عما إذا ضعفت ، فافهم جيداً [مشرعة بحارالأنوار١ / ٢٣٦ .] . |
|
يمكن الجواب على هذا الإشكال بعدة إجابات : |
|
أولاً : من المعلوم أن العرب كانوا في ذلك العصرأصحاب حافظة قوّية لا تقاس
بما نحن عليه اليوم ، ولهذا كانوا يحفظون القرآن الكريم والأشعارالطوال بمجرد
سماعها مرة واحدة ؛ وذلك لاعتمادهم على الذاكرة أكثر من التدوين . ولعل السبب في هذا هو إتكاؤهم على حافظتهم أكثر من الكتب والمخطوطات ، وقد أثبت الطب
الحديث أن ذاكرة الإنسان مثل العضلة تتقوّى بالحفظ والممارسة . ولذلك فإن فلسفة التاريخ جعلوا من هذه
الأمرقاعدة مطّردة في كل الشعوب ، ومنهم (ويل ديورانت) الذي قال : أما القبائل الساذجة التي تعيش معظم حياتها عيشاً
معتزلاً بالنسبة إلى سواها ، وتنعم بالسعادة التي تنجم عن جهل الإنسان بتاريخه
الماضي ، فلا تحسّ بالحاجة إلى الكتابة إلا قليلاً ، ولقد قويت ذاكراتهم بسبب
انعدام المخطوطات التي تساعدهم على حفظ ما يريدون الاحتفاظ به ، فتراهم يحتفظون
ويَعُون ، ثم ينقلون ما حفظوه وما وَعَوه إلى أبنائهم بتسميعهم إياه ؛ وإنما هم
يحفظون ويعون ويُسَمعون كل ما يرونه هاماً في الاحتفاظ بحوادث تاريخهم وفي نقل
تراثهم الثقافي [قصة الحضارة ١ / ١٢٨ .] . بل إن بعض المؤرَّخين نص على أنّ العرب في صدرالاسلام كان التدوين
عنده قبيحاً ؛ لمخالفته للذوق العام السائد في ذلك العصر وهوالحفظ ، ولذلك قال
الدكتورجواد علي : ويظهر أن أسلوب الحفظ والتسجيل في الذاكرة ، كان الأسلوب
الشائع بين الجاهلين في ذلك الزمن في الإبقاء على النثر أو الشعر، وقد كان هذا
الأسلوب متّبعاً عند غيرالعرب في تلك الأيام ، إذ كانوا يقيمون وزناً كبيراً
للرواية ، حتى إنهم يفضّلون الحفظ على القراءة عن كتاب أو صحيفة ، ولا سيما
بالنسبة للكتب المقدسة والكتب الدينية الأخرى وفي الامورالنابهة مثل الشعر، يرون
أن في القراءة ثواباً وأجراً عظيماً ، وتعظيماً لشأن المقروء . ولا أستبعد أن تكون هذه النظرة هي التي جعلت أصحاب الرسول يحفظون
القرآن ، ويتلونه تلاوة من غير قراءة عن كتاب ولا نظر في صحيفة ، يتلونه أمام
الرسول وبين أنفسهم وبين الناس ، ولا يقرؤونه عن كتاب ، مع أن منهم من كان يقرأ
ويكتب وقد جمع القرآن ، وكان تقديرالعام آنذاك بحفظه ، لا بما يكتبه من صحف وبما
يؤلفه من مؤلفات ، ولهذا أشتهر كثيرمن العلماء بسعة علمهم ، مع أنهم لم يتركوا
أثراً مكتوباً ؛ لأن العلم بالحفظ لا بالتدوين ، وقد ينتقص من شأن العالم إذا
تلا علمه عن كتاب ، حتى إن كان ذلك الكتاب كتابة ؛ لأن القراءة عن كتاب لا تدل
على وجود علم عند القارئ ،وشأنه إذن دون شأن الحافظ الخازن للعلم في دماغه
المملي للعلم إملاءً ، وكانوا إذا انتقصوا عالماً قالوا : إنه يتلوعن صحيفة ، أو
يقرأ عن صحيفة أو كتاب ، ومن هنا قيل للذي يقرأ في صحيفة ويخطىء في قراءتها
المصحفون [المفصل في تاريخ العرب ١٤ / ٢٥. فحفظ العرب للخطب والروايات الطويلة ليس
بمستغرب ولا مستبعد ولا مستهجن لما قدمنا ، وإشكال هذا الرجل مبني على المقدارالمتعارف من الحفظ الموجود في
هذا العصر، وليس على دليل عقلي
محكم أو نقلي صحيح ، بل لا يعدو كونه قياساً مع الفارق . ثانياً : من تتبَّع أحوال أصحاب الأئمة عليهم السلام علم أنهم كانوا
أكثرالنّاس حرصاً على تدوين ما يسمعونه من أحاديث وخطب وحوادث ، خصوصاً مع وجود
الحث الشديد من جانب المعصومين عليهم السلام على تدوين العلم . منها : قول النبي صلى الله عليه وآله : قيَّدوا العلم بالكتاب [تحف العقول : ٢٩ .] . ومنها : قول أميرالمؤمنين عليه السلام : من يشتري علماً بدرهم ؟ فذهب الحارث الأعور فاشترى صحفاً ، فجاء
بها [الحد الفاصل : ٣٧٠.] . ومنها : قول الإمام الحسن عليه السلام إنكم صغار قوم ، ويوشك أن تكونوا كبار قوم آخرین ، فتعلّموا العلم
، فمن يستطع منكم أن يحفظه فليكتبه ، وليضعه في بيته [بحارالأنوار٢ / ١٥٢ .] . ومنها : قول الإمام الحسين عليه السلام : أما بعد فإن هذا الطاغية قد صنع بنا وبشيعتنا ما علمتم ، ورأيتم ،
وشهدتم ، وبلغكم ، وإني أريد أن أسألكم عن شيء ، فإن صدقت فأصدقوني ، وإن كذبت
فأكذبوني ، واسمعوا مقالتي ، واكتبوا قولي ، ثم ارجعوا إلى أمصاركم وقبائلكم ومن
ائتمنتموه من الناس ووثقتم به ، فادعوه إلى ما تعلمون من حقّنا [مستدرك الوسائل ١٧ / ٢٩١ .] . وغيرها من الكلمات الكثيرة الواردة
عن أئمة الهدى عليهم السلام في حثّ شيعتهم على تدوين علومهم . وانتقل الأمرمن
القوة إلى الفعل ، ومن الحث إلى التدوين الفعلي ، فنجد أن الأئمة عليهم السلام
قد كتبوا علومهم ودوّنوها . فأميرالمؤمنين عليه السلام قد دوّن
الصحيفة الجامعة ، وهي كتاب في الحلال والحرام ، اشتمل على كل الأبواب الفقيهة
والأحكام الشرعية ، ولهذا روي عن الإمام الصادق عليه السلام بسند معتبر في وصف هذا
الكتاب أنه قال : صحيفة طولها سبعون ذراعاً بذراع رسول الله صلى الله عليه وآله
« وإملائه من فلق فيه ، وخط علي بيمينه ، فيها كل حلال وحرام ، وكل شيء يحتاج
الناس إليه حتى الأرش في الخدش [الكافي ١ / ٢٣٩ .] . وكتب أيضاً صحيفة الفرائض التي أظهرها أهل البيت عليهم السلام في أكثرمن مورد لخواص أصحابهم . فقد روي الكليني قدس سره بسند صحيح عن محمد
بن مسلم أن أبا جعفرعليه السلام أقرأه صحيفة الفرائض التي أملاها رسول الله صلى الله عليه وآله
وخط علي عليه السلام بيده ، فقرأت فيها : أمرأة تركت زوجها وأبويها فللزوج النصف
: ثلاثة أسهم ، وللأم سهمان :الثلث تامًّا ، وللأب السدس : سهم [نفس المصدر٧ / ٩٨ .] . وكتب أيضاً تفسيراً كاملاً لكتاب الله
عزَّوجل كما رُوي عنه ذلك بسند معتبر، حيث قال عليه السلام : فما نزلت على رسول الله صلى الله
عليه وآله آیة من القرآن إلا أقرأنيها ، وأملاها عليَّ ، فكتبتها بخطي ، وعلّمني
تأويلها وتفسيرها وناسخها ومنسوخها ، ومحكمها ومتشابهها ، وخاصّها وعامّها ،
ودعا الله أن يعطيني فهمها ، وحفظها فما نسيت آیة من كتاب الله ، ولا علماً
أملاه عليَّ وكتبته ، منذ دعا الله لي بما دعا ، وما ترك شيئاً علّمه الله من
حلال ولا حرام ، ولا أمر ولا نهي ، كان أو يكون ، ولا كتاب منزل على أحد قبله من
طاعة أو معصية إلا علّمنيه وحفظته [كتاب سليم بن قيس : ١٨٣ .] . وقد انتهج الشيعة نهج إمامهم ، فكانوا يكتبون كل كبيرة وصغيرة ، ولا يتركون شاردة ولا واردة
دون تدوين ، ولذلك كثرت المصنّفات من أصحاب أميرالمؤمنين عليه السلام وتلامذته
من الرعيل الأول . منهم : الحارث الأعورالهمداني : فإنه صنَّف كتاباً جمع فيه خطب
أميرالمؤمنين عليه السلام كما يظهرمما رواه الكليني في الكافي بسنده عن أبي
إسحاق السبيعي عن الحارث الأعور، قال : خطب أميرالمؤمنين عليه السلام خطبة بعد
العصر، فعجب الناس من حسن صفته ، وما ذكره من تعظيم الله جلَّ جلاله . قال
أبوإسحاق : فقلت للحارث : أو ما حفظتها ؟ قال : قد كتبتها . فأملاها علينا من
كتابه [الكافي ١ / ١٤١ .] . ومنهم : زيد بن وهب : فإنه صنَّف كتاباً جمع فيه خطب
أميرالمؤمنين عليه السلام في المواسم والأعياد وغيرها ، وقد ترجم له الشيخ
الطوسي في الفهرست بقوله : لكه كتاب خطب أميرالمؤمنين ع على المنابر في الجمع والأعياد وغيرها الفهرست : ١٣٠ . ومنهم : سليم بن قيس الهلالي : وهو من أصحاب أميرالمؤمنين ع صنّف كتابه المعروف بكتاب سليم ، ذكر فيه جملة من أخبار وروايات
أهل البيت عليهم السلام ، والحوادث التاريخية المهمة التي وقعت بعد وفاة رسول
الله صلى الله عليه وآله . هذا من باب المثال ، وإلا فإن أصحاب الأئمة عليهم السلام كانوا مهتمّين أشد الاهتمام بحفظ
ما يسمعونه ، ومن هنا ألّفوا الكتب المعروفة بالأصول الأربعمائة ، وهي أربعمائة
من الرواة الذين دونوا فيها ما سمعوه من أئمة أهل البيت عليهم السلام في العقيدة
والتفسيروالفقه والأخلاق والسنن والآداب وغيرها . فثقافة الكتابة والتدوين كانت موجودة عند أصحاب أئمة أهل
البيت عليهم السلام فلا يصح هذا الإشكال مع وجود العلم الإجمالي بالتدوين
والكتابة . ثالثا : أن غاية ما يفيده هذا الإشكال هو الشك في ضبط الراوي للخطب الطويلة ، لا أنه دليل على بطلانها ، وبما أن رواة الغالبية العظمى من
الخطب هم للخطب الطويلة ، ورواية الخطب الطويلة لا تقتضي التشكيك في الضبط
المعلوم ميبقاً ، وإلا فإن هذا الشك يمكن أن يجري حتى في رواية الأخبارالقصيرة ،
وذلك يقتضي طرح كل روايات الثقات الضابطين ، وهذا لا يقوله عالم فاضل . وقد ورد في أخبارأهل البيت عليهم
السلام نهي عن دفع رواياتهم بالشكوك والتخمينات ، منها ما رواه الكشي بسنده عن
صاحب العصر والزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف : فإنه لا عذرلاحد من موالينا في
التشكيك فيما يؤديه عنا
ثقاتنا ، قد عرفوا بأننا
نفاوضهم سرنا ، ونحمله إياه إليهم وعرفنا ما يكون من ذلك ان شاءالله تعالى [اختيارمعرفة الرجال ٢ / ٨١٦ .] . فمجرد التشكيك لا يمكن أن يكون موهنا للرواية ما لم يعضد بدليل يثبت هذا المدعى ولا دليل في المقام . رابعاً : المثال الذي جاء به الرجل وهو دعاء عرفة ، وشكَّك فيه من ناحية
الطول ، يمكننا إثباته من جهة المتن ، إذ أن مثل هذه المضامين الراقية لا يمكن
أن تصدر إلا من عين صافية ، وكذلك خطب أميرالمؤمنين عليه السلام ، فإن حسن
سبكها، وسلاسة عبارتها ، وسحربيانها ، وعلو مضامينها ، تجعلنا نقطع بصدورها عنه
عليه السلام . فهذه الأجوبة الأربعة تنسف هذا الإشكال من أساسه ، وتدفع كل
تشكيك قد يرد على الخطب الطويلة في النهج . |
|
الشبهة
الثامنة : السجع:
|
|
ادّعى بعض الكُتّاب أن بعض الأساليب الأدبية المستخدمة في
كتاب (نهج البلاغة) لم تكن معروفة في ذلك الوقت ، ولعل أهمها السجع . ولذلك قال أحمد أمين المصري : وقد شكّ في مجموعها النقّاد قديماً
وحديثاً ، كالصفدي وهوارت ، واستوجب هذا الشك أمور: ما في بعضه من سجع منمَّق ، وصناعة لفظية لا تُعرّف لذلك العصر [فجرالإسلام : ١٨٧ .] . وقبل الشروع في الجواب على هذه الشبهة المتهالكة لابد من تعريف ما هوالسجع الذي نبحث فيه ؛ لكي يكون القارئ الكريم في الصورة . |
|
السّجع
|
|
السّجع : هو من المحسنات البديعية التي تُبحّث في علم البلاغة ، وهو كما عرفوه أرباب الفن : تواطؤ الفاصلتين من النثرعلى حرف واحد ، أي أن تتفق الكلمتين
الواردة في آخرالعبارة أو السياق في بعض الحروف الأخيرة منها ، وقد شبّهه بعض علماء البلاغة
بقافية الشعر. مثاله : ما رواه الطبراني أن رسول الله صلى الله عليه وآله سمع قس بن ساعدة الأيادي يخطب فيقول : يا أيها الناس اجتمعوا ،
واستمعوا وعوا ، من عاش مات ، ومن مات فات ، وكل ما هوآتٍ آتٍ ، إن في السماء
لخبراء ، وإن في الأرض لعبراء ، مهاد موضوع ، وسقف مرفوع ، ونجوم تمور، وبحارلا
تغور... [المعجم الكبيرللطبراني ١٢ / ٨٨ .] . وبعد هذا التعريف المقتضب نقول : إنه لم يقل أحد من الناس لا من
المتقدّمين ولا من المتأخّرين : لإن السجع قبيح ، بل أجمع علماء البلاغة على أن
السجع من المحسَّنات البديعية التي تصفي على الكلام جمالاً ورونقاً . ومن هنا نعلم إن إشكال أحمد أمين لم يكن على أصل السجع ، بل كان كلامه
حول عدم استعمال العرب لهذا الأسلوب من السجع في تلك الحقبة
الزمنية ،بل ظهرالسجع
متأخَّراً عنها . وهذا الإشكال أيضاً مبني على مقدمة
جعلها أحمد أمين أمرا مسلّما غير قابل للنقاش ، وهو أن العرب لم يعرفوا السجع في تلك الفترة ، والحال أننا لو أحسنّا الظن بهذا الرجل
لقلنا : إنه أبعد ما يكون
عن كلام العرب ونفسهم الأدبي . إذ أن كلماتهم تطفح بالسجع ، بل
نادراً ما تجد خطبة لأحد فصحاء العرب تخلو من هذا الأسلوب البلاغي . والسجع معروف في كلام العرب ، بل حتى في القرآن الکریم وفي الحديث
النبوي الشريف وكلام الصحابة والتابعين ، وإليك التفصيل : |
|
السجع في القرآن :
|
|
أهم مصدر لكلام العرب هو القران
الكريم , والسجع كثير في القران الكريم . قال التفتازاني في مختصرالمعاني : (وهو) أي السجع (ثلاثة أضرب: مطرَّف إن اختلفتا) أي الفاصلتان ( في الوزن ، نحو: ( مَّالَكُمْ لَاتَرجُونَ لِلَّه وَقَاراً (*)
وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطوَاراً)) ،فأن الوقار والأطوارمختلفان وزناً . إلى أن قال : (وإلا فهو متوازٍ) إي وإن لم يكن جميع ما في القرينة أو أكثره موافقاً لما یقابله من الأخرى فهو السجع المتوازي ، (نحو: ( فِيهَا سُرُرٌمَرْفُوعَةٌ
وَأَكْوَابٌ مَوضُوعَةٌ)) ؛ لاختلاف (سرر)) و((أكواب)) في الوزن والتقفية معاً ،وقد يختلف الوزن فقط ، نحو: (وَالمُرسَلَتِ عُرفأً (*)
فَالعَصِفَتِ عَصفاً) . إلى أن قال : (قيل : ولا يقال : في القرآن أسجاع) رعاية للأدب وتعظيماً له ؛ إذ السجع في الأصل هديرالحَمَام ونحوه ، وقيل : لعدم
الإذن الشرعي ، وفيه نظر؛ إذ لم يقل أحد بتوقف أمثال هذا على إذن الشارع ، وإنما
الكلام في أسماء الله تعالى [مختصرالمعاني ٢ / ٢٠٧ .] . وقد ذكرابن أبي الحديد شارح (نهج
البلاغة) في معرض جوابه على هذه الشبهة أن السجع موجود في القرآن الكريم ، فقال : واعلم أن قوماً من
أرباب علم البيان عابوا السجع ، وأدخلوا خطب أميرالمؤمنين عليه السلام في جملة
ما عابوه ؛ لأنه يقصد فيها السجع
، وقالوا : إن الخطب الخالية
من السجع ، والقرائن والفواصل ، هي خطب العرب ، وهي المستحسنة الخالية من
التكلف...واعلم أن السجع لو كان عيباً لكان كلام الله سبحانه معيباً ؛ لأنه
مسجوع ، كله ذو فواصل وقرائن ، ويكفي هذا القدر وحده مبطلاً لمذهب هؤلاء [شرح نهج البلاغة ١ / ١٢٨ .] . وهذه شهادة مهمة من رجل شهد له الجميع السنة والشيعة بالتضلع في
علوم اللغة والأدب والبراعة فيها . |
|
السجع في الحديث
النبوي :
|
|
لو استقصينا أحاديث النبي المصطفى صلى
الله عليه وآله لوجدنا الكثيرمن الخطب والأحاديث مسجوعة . منها : ما رواه مسلم في صحيحة : عن زيد بن أرقم ، قال : لا أقول لكم إلا كما كان رسول الله
صلى الله عليه وآله یقول ، كان يقول : اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل ،
والجبن والبخل والهرم ، وعذاب القبر، اللهم آت نفسي تقواها وزكَّها أنت خير من
زكاها ، أنت وليها ومولاها ، اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ، ومن قلب لا
يخشع ، ومن نفس لا تشبع ، ومن دعوة لا يستجاب لها [صحيح مسلم ٨ / ٨٢ .] . وقد علق النووي على هذا الحديث بقوله : هذا الحديث وغيره من الأدعية
المسجوعة دليل لما قاله
العلماء أن السجع المذموم في الدعاء هوالمتكلف ،فإنه يُذهب الخشوع والخضوع والإخلاص ، ويُلهي عن الضراعة
والافتقار وفراق القلب ، فأما ما حصل بلا تكليف ولا إعمال فكر، لكمال الفصاحة
ونحو ذلك ، أو كان محفوظاً ، فلا بأس به ، بل هو حسن. شرح صحيح مسلم ١٧ / ٤١. إذن من كلام النووي نستنتج أمرين : أولهما : أن السجع غيرالمتكلف ليس بقبيح . والثاني : أن السجع موجود في الحديث النبوي ، وبالتالي فهو معروف في تلك
الفترة الزمنية ، كما ادعّى أحمد أمين . وللنووي تصريح آخر حول السجع ننقله
لأهميته ، فقد قال في شرحه على الصحيح : وأما السجع الذي كان النبي صلى الله عليه وآله یقوله فی بعض
الآوقات وهو مشهور في الحديث فليس من هذا ؛ لأنه يعارّض به حكم الشرع ، ولا
يتكلفه ، فلا نهي فيه ، بل هو حسن ، ويؤيَّد ما ذكرنا من التأويل قوله صلى الله
عليه وآله : (( کسجع الأعراب)) ، فأشارإلى بعض السجع هو المذموم ، والله أعلم [شرح صحيح مسلم ١١ / ١٧٨ .] . ومنها : ما رواه البخاري في صحيحه : عن بي هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله کان یقول : لا إله
إلا الله وحده ، أعزَّ جنده ، ونصرعبده ، وغلب الأحزاب وحده ، فلا شيء بعده [صحيح البخاري ٥ / ٤٩ .] . وقد علق ابن حجرعليه بقوله : هو من السجع المحمود ، والفرق بينه
وبين المذموم أن المذموم ما يأتي بتكليف واستكراه ، والمحمود ما جاء بانسجام
واتفاق ، لهذا قال في مثل الأول : (( أَسجعٌ مثل سجع الكهان؟))، وكذا قال ، كان يكره السجع في الدعاء ، ووقع في كثيرمن الأدعية
والمخاطبات ما وقع مسجوعاً، لكنه في غاية الانسجام المشعر بأنه وقع بغير قصد [فتح الباري ٧ / ٣١٣ .] . |
|
السجع عندالصحابة
|
|
أما الصحابة فقد ورد أيضاً في كلامهم سجع كثيرلا
يمكن إحصاؤه ، ولا يتسنّى استقصاؤه ، وسنكتفي بهذا المثال : فقد روى ابن شبة بسنده : عن عمارة بن
غزية ، قال : مرَّ عمر بن الخطاب على عقيل بن أبي طالب ، ومخرمة بن نوفل بن وهب
بن عبد مناف ، وعبد الله بن السائب بن أبي حبيش ، وهم يتذاكرون النسب ، فجاء عمر
حتى سلَّم عليهم ، ثم جاوزهم ، فجلس على المنبر، فكبرعليه ، قال : فظننا أنه
سيتكلم ، فرفع رأسه ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أيها الناس ، أوفوا
الطحين ، واملكوا العجين ، وخيرالطحين ملك العجين ، ولا تأكلوا البيض ، فإنما
البيض لقمة ، فإذا تركت كانت دجاجة ثمن درهم ، وإياكم والطعن في النسب ، اعرفوا
مِنْ أنسابكم ما تصلون به أرحامكم ، وتأخذون به وتقطون به ، واتركوا ما سوى ذلك
، لا يسألني أحد وراء الخطاب ، فإنه لو قيل : لا يخرج من هذا المسجد إلا بهيم بن
هبوب ما خرج منهم أحد [تاريخ المدينة ٣ / ٧٩٧ .] . |
|
وهذه الخطبة فيها
فائدتان :
|
|
الأولى : هو وجود كلام مسجوع للصحابة كما في هذه الخطبة مثل : (أوفوا
الطحين ، واملكوا العجين ، وخيرالطحين ملك العجين) وهذا كاف لإسقاط مدّعى أحمد
أمين . الثانية : هوالفرق الشاسع والبون الواسع بين الكلام المنسوب لعلي بن أبي
طالب عليه السلام وبين غيره من الصحابة مثل عمر بن الخطاب ، ولعل هذا هوالسبب في
محاولتهم إسقاط كتاب (نهج البلاغة) ؛ لكونهم لا يرضون بإثبات منقبة له في مقابل
صحابتهم. ولهذا قال ابن أبي الحديد المعتزلي : ويكفي هذا الكتاب الذي نحن شارحوه
دلالة على أنه لا يجارى في الفصاحة ، ولا يبارى في البلاغة ، وحسبك أنه لم
يدوَّن لأحد من فصحاء الصحابة العشر، ولا نصف العشر مما دوَّن له ، وكفاك في هذا
الباب ما يقوله أبوعثمان الجاحظ في مدحه في كتاب (البيان والتبيين) وفي غيره من
كتبه [شرح نهج البلاغة ١ / ٢٦ .] . ونختم الرد على هذا الإشكال الواهي بملاحظة مهمة
جدّا ، هي أنّ أحمد أمين استشهد في معرض كلامه
بشخصيتين ، هما الصفدي وهوارت . أمّا الأول فقد ذكرنا سابقاً أنه مجّرد مقلد
أعمى لابن خلَّكان ، ولا رأي له في الأمر، فلا ندري كيف اعتبره من النقّاد الذين
يُعتدّ برأيهم ؟ أمّا الثاني [كليمان هوارت : باحث مستشرق فرنسي ، من أعضاء المجمع العلمي العربي
، والمجمع العلمي الفرنسي ، والجمعية الآسیویة . ولد بباريس ، وتعلم بمدرسة
اللغات الشرقية فيها ، وتكلم العربية الجزائرية العامية في طفولته ، وعُيّن
ترجماناً للقنصلية الفرنسية بدمشق سنة ١٨٧٥ ، وبالآستانة سنة ١٨٧٨ ، وعاد إلى
باريس سنة ١٨٩٨ ، وهو يحسن العربية والتركية والفارسية] فهو من المستشرقين الذين جعلوا شغلهم
الشّاغل الطعن في كل الإسلام ، فلم يترك عروة فيه إلا حاول نقضها ، ولا دعامة
إلا سعى لهدمها وهو أول من أثار شبهة اقتباس النبي المصطفى صلى الله عليه وآله القرآن من أشعارالجاهلية ، لاسيما من شعرأمية بن أبي الصّلت وأمرئ القيس ! فلا ندري هل يوافق أحمد هذا الرجل على
نقده القرآن واتهامه للرسول الآعظم صلى الله عليه وآله بتآلیف القرآن ونسبته
لساحة الرحمن ؟ ، فكان ترجماناً في وزارة الخارجية . ومثّل حكومته في مؤتمري
المستشرقين بالجزائر سنة ١٩٠٥ , وفي كوبنهاجن ١٩٠٨ , والف عدة كتب . علماً أنّ أحمد أمين عُرِفَ بملء كتبه بالتقوّل على الشيعة ، ونسبة أمور
لهم لا يقولون بها ، ولا يقرّونها ، ولّما واجهه علماء النجف الأشرف في ذلك اعتذر بعدم اطلاعه على كتب
الشيعة ! وقد نقل الشيخ كاشف
الغطاء ما داربينه وبين أحمد أمين في النجف في كتابه (أصل الشيعة وأصولها) ،
فقال : ومن غريب الاتفاق أن أحمد أمين في العام الماضي ١٣٤٩ هجري بعد انتشاركتابه ،ووقوف عدة
من علماء النجف عليه زار مدينة العلم ، وحظي
بالتشرف بأعتاب باب تلك المدينة في الوفد المصري
المؤلف من زهاء ثلاثين بين مدرس وتلميذ ، وزارنا بجماعته ، ومكثوا من ليلة من
ليالي شهررمضان في نادينا في محفل حاشد ، فعاتبناه
على تلك الهفوات عتاباً خفيفاً ، وصفحنا عنه صفحاً جميلاً ، وأدرنا أن نمرعليه كراماً ، ونقول له سلاماً...وكان أقصى ما
عنده من الاعتذار من الاعتذارعدم الاطلاع وقلة المصادر؟! فقلنا : وهذا أيضاً غير سديد ، فإن
من يريد أن يكتب عن موضوع يلزم عليه أولاً أن يستحضرالعدة الكافية ، ويستقصي الاستقصاء التام وإلا فلا يجوز له الخوض فيه والتعرض له ، وكيف أصبحت مكتبات الشيعة ومنها مكتبتنا المشتملة على ما يناهزخمسة الآف مجلد أكثرها من كتب علماء السنة ، وهي في بلدة كالنجف فقيرة من كل شيء إلا من العلم والصلاح إن شاء الله ، ومكتبات القاهرة ذات العظمة
والشأن خالية من كتب الشيعة إلا شيئاً لا يذكر[أصل الشيعة وأصولها : ١٤٠ .] . ولهذا فلا يمكن الاعتماد على ما ينقله
هذا الرجل ، ولا ما يقوله ؛ لاعترافه بعدم اطلاعه على كتب الشيعة واعتماده على
ما ينقله الغير. |
|
الشبهة
التاسعة : التوحيد :
|
|
طعن بعضهم في كتاب (نهح البلاغة) من
جهة احتوائه على خطب وكلمات في التوحيد موافقة لما عليه المعتزلة ، وهذا دليل
على أن هذه الخطب موضوعة ؛ لأن الشريف المرتضى قدس سره كان من ينتمي إلى المعتزلة . قال الشيخ صالح الفوزان : ومن المطاعن على كتاب (نهج البلاغة)
مما لم يذكرالدكتور ما فيه من الاعتزال في الصفات ؛ لأن الرافضة اعتمدوا على كتب المعتزلة
في العقليات ، فوافقوهم في القدر وسلب الصفات ، وكان المرتضى واضع كتاب (نهج البلاغة) أوالمشارك في وضعه كما أسلفنا معتزليًّا ، بل قال عنه ابن حزم : إنه من كبارالمعتزلة الدعاة كما نقله عنه الذهبي في الميزان ، ومن هذا المشرب الكدر حشي (نهج البلاغة) [البيان لأخطاء بعض الكتاب : ١٠١ .] . هذه الشبهة المطروحة هي من أسخف الأشكالات المطروحة حول هذا
الكتاب ؛ إذ أن لسان حال
هذا المشكل هو قوله : نحن نرفض كتاب (نهج البلاغة) لأنه يخالف ما نعتقده ، لا لوجود مشكلة فيه . فالرجل لا ينطلق من الدليل إلى المعتقد
، بل هو يحكم معتقده الراسخ في ذهنه
على النصوص الموجودة ، فإن وافقت ما عنده قبلها ، وإن خالفته رفضها وإن كانت صحيحة ، ولذلك فهو لا يقبل كتاب (نهج البلاغة) لأنه يخالف
التوحيد الذي يعتقد به ،فالشيخ يرفض ما ورد في النهج من تنزيه الله عزَّوجل ،
ودفع للتشبيه الذي يتوهمه الجهّال . وهذا ما جعل الشيخ يأتي بأمثلة من النهج يراها هو باطلة ومخالفة للعقيدة
الصحيحة ، فنقل خطبة عن النهج جاء فيها قوله عليه السلام : ولا يُوصف بشيء من
الأجزاء ولا بالجوارح والأعضاء...إلى أن قال: وليس في الأشياء بِوالِج ، ولا
عنها بِخارج ، يخبر لا بلسان ولهوات ، ويسمع لا بخروق وأدوات ، يقول ولا يتلفظ ،
يقول لمن أراد كونه : (( كن)) فيكون ، لا بصوت يقرع ، ولا بنداء يسمع ، وإنما
كلامه سبحانه فعل منه أنشأه ومثله ، ولم يكن من قبل ذلك ، ولو كان قديماً كان
إلهاً ثانياً...إلى أن قال : هو الظاهرعليها بسلطانه وعظمته وهو الباطن لها
بعلمه ومعرفته ، والعالي على كل شيء منها بجلاله وعزَّته [البيان لأخطاء بعض الكتاب : ١٠١ .] . ثم أردفها بقوله : انتهى ما أردنا نقله من هذا الهذيان الذي ينزَّه الله سبحانه وتعالى عنه مما يطابق اعتقاد الجهمية
والمعتزلة [البيان لأخطاء بعض الكتاب : ١٠١ .] . فالهذيان عند الشيخ هو أن ينزَّه الله حقّ تنزيهه ، فلا
يرضى بسلب الجوارح عنه ، ولا بتنزيهه عن اللسان واللهوات ، والدخول في الأشياء
وغيرها من الأمور؛ لأن كل هذه تعتبرمن أمهات عقائدهم ؛ اذ أن هؤلاء القوم قد تشرّبوا التجسيم ، وتنفّسوا التشبيه حتّى
عُرفوا عبرالتاريخ بالمجسّمة والمشبَّهة . والشيخ ذكرفي كتابه (الإرشاد إلى صحيح
الاعتقاد) المصادرالمعتمدة لمعرفة صفات الله جلّ جلاله ، فقال : وهذا القسم قد جحده الجهمية
وتلاميذهم من المعتزلة والأشاعرة ، وهو في الحقيقة داخل في توحيد الربوبية ، لكن
لما كثرمنكروه وروَّجوا الشبه حوله ؛ أفرد بالبحث ، وجعل قسماً مستقلاً ، وألفت
فيه المؤلفات الكثيرة ، فألف الإمام أحمد ردَّه المشهورعلى الجهمية ، وألف ابنه
عبد الله كتاب (السنة) ، وألف عبدالعزيزالكناني كتاب (الحيدة) في الرد على
بشرالمريسي ، وألف أبوعبدالله المروزي كتاب (السنة) ، وألف عثمان بن سعيد كتاب
(الرد على بشرالمريسي) ، وألف إمام الأئمة محمد بن خزيمة كتاب (التوحيد) ، وألف غيرهؤلاء كشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم هؤلاء ومن
جاء بعدهم وسارعلى نهجهم فلله الحمد والمنة على بيان الحق ودحض الباطل [الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد : ١٣٦.] . لا أريد في هذا الكتاب مناقشة عقائد
القوم في الأسماء والصفات ، لكن من باب كشف الحقائق سآتي ببعض الشواهد من هذه الكتب التي اعتبرها الشيخ الفوزان مرجعاً
للعقيدة . منها : كتاب الرد على الجهمية لأحمد بن
حنبل : فمن العجيب أن المؤلف جعل هذا الكتاب
من مصادرالعقيدة مع جهالة سنده ،ونسبة علماء الجرح والتعديل الكتاب للوضع والكذب
. فقد قال الذهبي في السير: فهذه الرسالة إسنادها كالشمس ، فانظر
إلى هذا النفس النوراني، لا كرسالة الإصطخري ، ولا كالرد على الجهمية الموضوع
على أبي عبدالله ، فإن الرجل كان تقيًّا ورعاً لا يتفوه بمثل ذلك [سير أعلام النبلاء ١١ / ٢٨٦ .] . وقال شعيب الأرنؤوط : مما يؤكد قوله أن في السند إليه
مجهولاً ، وهو الخضربن المثنى ، والرواية عن مجهول مقدوح فيها ، مطعون في سندها
، على أن فيه آراء تخالف ما كان عليه السلف الصالح من معتقد ، ويختلف عما جاء عن
الإمام في غيره مما صحَّ عنه [حاشية سير أعلام النبلاء ١١ / ٢٨٦ .] . فالشيخ صالح يشكل على الشيعة اعتمادهم على (نهج
البلاغة) ؛ لأنه في نظره باطل ، ويحيل النّاس على كتاب باطل جعله مصدراً من مصادرالعقيدة وهو موضوع باعتراف أهل الصنعة ! أما مضمون هذا الكتاب فحدّث ولا حرج ، فإنّ فيه من التجسيم والتشبيه الشيء
الكثير، لكن نكتفي بذكرهذا
النص ، قال : فقلنا :
أخبرونا عن هذه النخلة ، أليس له جذع ، وكرب ، وليف ، وسعف ، وخوص ، وجمار،
واسمها اسم شيء واحد ، وسُميّيتْ ((نخلة)) بجميع صفاتها ، فكذلك الله ، وله
المثل الأعلى بجميع صفاته إله واحد [الرد على الجهمية : ١٣٣ .] . في هذا الكلام يؤصّل واضع الكتاب الذي نسبه للإمام أحمد بن حنبل عقيدة التركيب والعياذ بالله ، إذ
أنه يعتبر أن نسبة الذات للصفات كنسبة الجزء للكل ، ومثاله أدلّ دليل على ذلك
على ذلك ، وكما يعلم كل عاقل أن التركيب يستلزم الحاجة ؛ لأن كل مركَّب لأبعاضه
، وأبعاضه غيره ، والله لا يحتاج إلى غيره ،لأنه غني عن العالمين ، وإذا كان
الله تعالى قديماً غيرمحدث فإن أجزاءه تكون قديمة مثله ، وهذا يستلزم القول
بتعدّد القدماء ، وهو باطل ، وهناك لوازم أخرى باطلة ليس هذا مجال بيانها! فالشيخ صالح الفوزان يدعونا جميعاً إلى العمل بما ورد في هذا الكتاب
الموضوع ، والاعتقاد بأنّ الله مركَّب ، والعياذ بالله . ومن تلك الكتب : كتاب السنّة لعبدالله بن أحمد : وهذا الكتاب كسابقه لا تصحّ نسبته
لعبدالله بن أحمد بن جنبل ؛ لضعف الرواة الذين نقلوا هذا الكتاب عنه ، وقد اعترف محقّق الكتاب الدكتور محمد
سعيد القحطاني بذلك عنه ترجمته لرواة الكتاب في أول الكتاب ، حيث قال في ترجمة
محمد بن إبراهيم بن خالد الهروي راوي الكتاب عن مصنَّفه : لم أعثرعلى ترجمة فيما
اطلعت عليه من المصادر . [السنة ١ / ١٠٢ .] وقال في ترجمة الراوي عنه محمد بن الحسن
بن سليمان السمسار: بحثت كثيراً في المصادرالتي بين يدي فلم أجد ترجمة تقرب أن تكون
ترجمة هذا الشخص [السنة ١ / ١٠٢ .] . فلا ندري كيف يحتجّ الفوزان بهذا الكتاب ، ويجعله من
مصادرالعقيدة دون التحقق من صحّة إسناده . وإذا نظرنا إلى متن هذا الكتاب نجده من أكثرالكتب التي مُلئت بالخرافات
اليهودية الوثنية ،بحيث لا تمر بصفحة من صفحات هذا الكتاب إلا وتجد فيها طامّة
أعظم من التي سبقتها ، وسنذكربعض الشواهد من هذا الكتاب الذي أحال عليه الفوزان : فقد قال عبدالله : حدثني أبي رحمه الله ، أنا يزيد بن
هارون ، أنا الجريري عن أبي عطاف ، قال : كتب الله التوارة لموسى ع بيده وهو مسند ظهره إلى الصخرة في ألواح من در ظنّ فسمع صريف
القلم ، ليس بينه وبينه إلا الحجاب [السنة : ١٧٨ .] . فهذه الرواية تثبت لله جارحة وهي اليد ، يكتب بها ،
ويستعين بالقلم في الكتابة ، والطامّة أن رب الجلالة مسند ظهره على صخرة ! أهذا هو التوحيد الذي يدعونا إليه
الشيخ الفوزان ؟ وقال عبدالله : سمعت أبي رحمه الله
ثنا يحيى بن سعيد بحديث سفيان ، عن الأعمش ، عن منصور، عن إبراهيم ، عن عبيدة ،
عن عبدالله ، عن النبي صلى الله عليه وآله : أن الله يمسك السماوات على إصبع .
قال أبي رحمه الله : جعل يحيى يشير بأصابعه ، وأراني أبي كيف يشير بإصبعه ، يضع
إصبعاً إصبعاً حتى أتى عىل آخرها [السنة : ١٥٤ ، وقد صحّح المحقق
الدكتورمحمد سعيد القحطاني هذه الرواية في تخريجه لروايات هذا الكتاب .] . دائماً نسمع من القوم أنّهم يثبتون
أصابع بلا كيف ، لكن هذا الحديث يثبت أنها أصابع كأصابعنا بحسب العقيدة المفتراة
على أحمد بن حنبل ، وإلا لماذا أشار بأصابعه ؟ وروى عبدالله : حدثني أبي ، ثنا رجل ، ثنا إسرائيل ،
عن السدي عن أبي مالك ، في قوله عزَّوجل : (وَسِعَ كُرسِيُّهُ الَّسمَوَاتٍ
وَالأَرْضَ) ، قال : إن الصخرة التي تحت الأرض السابعة ومنتهى الخلق ، على
أرجائها أربعة من الملائكة ، لكل ملك منهم أربعة وجوه : وجه إنسان ، ووجه أسد ،
ووجه نسر، ووجه ثور، فهم قيام عليها قد أحاطوا بالأرض والسماوات ، ورؤوسهم تحت
الكرسي ، والكرسي تحت العرش ، قال : وهو واضع رجليه تبارك وتعالى على الكرسي [السنة : ١٨٤ .] . هذه هي العقيدة التي يدعو إليها الشيخ
الفوزان : عرش تحمله حيوانات
أسطورية أشبه بقصص الأطفال والأفلام الخرافية ، وربّ محمول ، يضع رجلين (بلا كيف ) على كرسي ! ومنها : كتاب الحيدة : وهوالكتاب الثالث الذي أحال عليه الشيخ الفوزان ، هو كتاب (الحيدة) لعبد العزيز بن
يحيى الكناني ، وهو كالكتاب الأول قد طعن فيه أئمة الجرح والتعديل ، ونفوا صحّة نسبته لصاحبه . قال الذهبي في الميزان عند تعرّضه لترجمة الرّجل : عبدالعزيز بن يحيى بن
عبدالعزيزالكناني المكي الذي يُنسب إليه (الحيدة) في مناظرته لبشرالمريسي ، فكان
يلقَّب بالغول لدمامته ، وذكرداوود الظاهري أنه صحب الشافعي مدة ، روى عن ابن
عيينة وجماعة يسيرة ، روى عنه أبوالعيناء ، والحسين بن الفضل البجلي ، وأبوبكر
يعقوب بن إبراهيم التميمي ، وله تصانيف ؛ قلت : لم يصح إسناد كتاب الحيدة إليه ، فكأنه وُضِع عليه [ميزان الاعتدال ٢ / ٦٣٩ .] . وقال السبكي : قال شيخنا الذهبي : فهذا يدل على أن عبدالعزيز كان حيًّا في حدود الأربعين ؛ قلت :
وعلى أنه كان ناصراً للسنة في نفي خلق القرآن کما دلت عليه مناظرته مع بشر،
وكتاب الحيدة المنسوب إليه فيه أمور مستشنعة ، لكنه كما قال شيخنا الذهبي لم يصح
إسناده إليه ، ولا ثبت أنه من كلامه ، فلعله وُضِعَ عليه [نفس المصدر٢ / ٦٣٩ .]. فهؤلاء يشهدون أنّ هذا الكتاب موضوع مكذوب ،
ويحوي أموراً مستشنعة ، فلا ندري كيف يجعله الشيخ الفوزان من مصادرالعقيدة ؟! علماً أنّ هذا الكتاب لا علاقة له بمبحث
الأسماء والصفات ، بل غاية ما فيه هو سرد مناظرة حصلت بين الكناني وبين بشرالمريسي
حول خلق القرآن ، والمورد الوحيد الذي حصل فيه كلام في الصفات كان حول السمع
والبصر، وقد خالف الكناني
عقيدة الفوزان ، وأمسك عن إثبات آلتي السمع والبصر لله سبحانه . قال : ثم أقبل عليَّ المأمون ، فقال : يا عبدالعزيز تقول : إن الله عالم ،
فقلت : نعم يا أميرالمؤمنين ، قال : فتقول : إن الله سميع بصير، قال : قلت : نعم
يا أميرالمؤمنين ؛ قال : فتقول : إن لله سمعاً وبصراً كما قلت إن له علم ، فقلت : لا
أطلق هذا هكذا يا أميرالمؤمنين . فقال : أي فرق بين هذين ؟ فأقبل بشر يقول : يا
أميرالمؤمنين يا أفقه الناس ، ويا أعلم الناس يقول الله عزَّوجل (بَلْ نَقْذِفُ
بِالْحَقِ عَلَى البَاطِل فَيَدْمَغُهُ فَإذَا هُوَ زَاهِقٌ) ، قال عبدالعزيز:
فقلت : يا أميرالمؤمنين قد قدمت إليك فيما احتججت به إن على الناس كلهم جميعاً
أن يثبتوا ما أثبت الله ، وينفوا ما نفى الله ، ويمسكوا عما أمسك الله عنه ،
فأخبرنا الله عزَّوجل أن له علماً بقوله : ( فَعْلَمُوأ أَنَمَآ أُنزِلَ
بِعِلَمِ اللهِ) ، فقلت : إن له علماً كما قال ، وأخبرنا أنه سميع بصيربقوله
:(وَهُوَ السَّمِعُ الْبَصِيرُ) ، فقلت إنه سميع بصير كما قال ، ولم يخبرنا أن
له سمعاً وبصراً [الحيدة : ٩٩ .] . وقد أُحرج المحقَّق من هذه الفقرة، فقال:الإمام الكناني من أهل السنة
والجماعة، وهوالناصرلمذهبهم بما جاء في الكتاب والسنة ، فلا يخالف قولهم ، وأما
قوله : (( ولم أقل إن له سمعاً وبصراً وأمسكت عند إمساكه)) ، فلعن ذلك على سبيل
المناظرة التي يتحاشا فيها الدخول في دقائق المسائل التي قد تخفى على الحضور،
وكل ما في الأمر أنه أمسك مجتهداً ولم ينف الصفة ، كما أنه أثبت صفة العلم [هامش كتاب الحيدة : ٩٩ .] . فلا ندري هل قرأ الفوزان هذا الكتاب قبل
أن يحيل عليه ، أو أنه يقلد غيره في مدح هذه الكتب دون أن يقرأ منها سطراً ؟! ومنها كتاب السنة للمروزي : وإيراد صالح الفوزان لهذا الكتاب في جملة كتب العقيدة يثبت ما
ذكرناه سابقاً ، وهو أن الرجل يحيل على كتب لم يقرأه ولم يطلع على محتواها ، إذ
أنّ هذا الكتاب لا علاقة له بالتوحيد ولا الأسماء والصفات ، بل الكتاب مشتمل على ذكر أحاديث مختلفة في شتى الأبواب
. ومنها : كتاب الرّدعلى بشرالمريسي : وصاحب هذا الكتاب هوعثمان بن سعيد
الدّارمي ، ولا نريد وصفه بأي وصف لكي لا يظن القارئ الكريم أني أتحامل عليه
لسبب شخصي ، لكني سأذكرنصّين من كتابه وأترك الحكم للقارئ المنصف : قال في كتابه : وقد بلغنا أنهم حين حملوا العرش
وفوقه الجبار في عزّته وبهائه ضعفوا عن حمله ، واستكانوا، وجثوا على ركبهم ، حتى
لُقَّنوا : (( لا حول ولا قوة إلا بالله )) ، فاستقلوا به بقدرة الله وإرادته ،
لولا ذلك ما استقل به العرش ، ولا الحملة ، ولا السماوات والأرض ، ولا من فيهن ،
ولو قد شاء لاستقَّرعلى ظهر بعوضة ، فاستقلت به بقدرته ولطف ربوبيته، فكيف على
عرش عظيم أكبر من السماوات السبع والأرضين السبع [نقض الدارمي ١ / ٤٥٨ .] . فهذا الكتاب الذي يدعو اليه الشيخ الفوزان يحثّ الناس على الاعتقاد بأنّ رب
العزة والجلالة يمكن أن يستقرّ على ظهر بعوضة ، فتحمله سبحانه ! بهذا الكلام يمكن أن يحتجّ النصراني
فيقول : لو شاء الله
لظهرلخلقه في جسم بشري كما في عيسى ، فكيف يردّون عليه ؟ والطّامة الكبرى ما ورد أيضاً في هذا
الكتاب من قوله : فيقال لهذا المعارض المدّعى ما لا علم له : من أنبأك أن رأس الجبل
ليس بأقرب إلى الله تعالى من أسفله ؟ لأنه من آمن بأن الله فوق عرشه فوق سماواته
، علم يقيناً أن رأس الجبل أقرب إلى الله من أسفله ، وأن السماء السابعة أقرب
إلى عرش الله تعالى من السادسة ، والسادسة أقرب إليه من الخامسة ، ثم كذلك إلى
الأرض ، كذلك روى إسحاق بن إبراهيم الحنظلي عن ابن المبارك أنه قال : ((رأس
المنارة أقرب إلى الله من أسفله )) ، وصدق ابن المبارك ؛ لأن كل ما كان إلى
السماء أقرب كان إلى الله أقرب [نقض الدارمي ١ / ٥٠٤ .] . انظروا إلى هذه العقيدة الفاسدة ، فإن هذا الرجل فهم من العلو
المذكورفي الآیات علوًّا ماديًّا حقيقيًّا ، بحيث إنّ من كان في أعلى الجبل
سيكون أقرب إلى الله من الواقف بأسفله ! بهذا يكون الكثير من البشر في عصرنا
الحاضر أقرب إلى ذات الله من محمد صلى الله عليه وآله ؛ لأن هؤلاء الآن يسكنون
في ناطحات سحاب لم تكن موجودة في ذلك العصر، أو يركبون طائرات تبلغ ارتفاعاً
عاليًّا لا النبي صلى الله عليه وآله ولا أي واحد من الصحابة ! هذه هي العقيدة التي يدعونا إليها الشيخ
الفوزان ، ويضعها بديلاً عن كتاب (نهج البلاغة) . ولم يحتمل الذهبي شناعة هذه الكلمات
وغيرها رغم أنه من رواد
التجسيم ، فقال في كتاب العلو: وفي كتابه بحوث عجيبة مع المريسي
يبالغ فيها في الاثبات ، والسكوت عنها أشبه بمنهج السلف في القديم والحديث [العلو للعلي الغفار١٩٥ .] . ومنها : كتاب التوحيد لابن خزيمة : وهذا الكتاب لا يختلف عن سابقيه ، إذ أنه جامع لروايات التجسيم
والتشبيه ، وقد صدق الفخرالرازي
في حكمه على المؤلَّف والمؤلَّف بقوله : واعلم أن محمد بن إسحاق بن خزيمة أورد استدلال أصحابنا بهذه الآیة في كتاب الذي سماه (بالتوحيد) ، وهو في الحقيقة كتاب
الشرك ،واعترض عليها ، وأنا أذكر حاصل كلامه
بعد حذف التطويلات ؛ لأنه كان رجلاً مضطرب الكلام ، قليل الفهم ، ناقص العقل [مفاتيح الغيب ٢٧ / ١٥٠ .] . ومن راجع الكتاب تيّقن وجزم بصحة ما
قاله الفخرالرازي ، بل ربّما يقول أكثرمن هذا ، لما في
الكتاب من أمور مستشنعة لا يقول بها ملحد فضلاً عن موحّد ! قال في كتابه المذكور: نحن نقول : لربنا الخالق عينان يبصر
بهما ما تحت الثرى ، وتحت الأرض السابعة السفلى ، وما في السماوات العلى ، وما
بينهما من صغير وكبير، لا يخفى على خالقنا ، خافية في السماوات السبع والأرضين
السبع ، ولا مما بينهم ، ولا فوقهم ، ولا أسفل منهن ، لا يغيب عن بصره من ذلك
شيء ، يرى ما في جوف البحار ولججها ، كما يرى عرشه الذي هو مستوعليه [التوحيد ١ / ٧٦ .] . هذا الرجل يثبت لله عينين ، أي آلة
يبصر بها الله عزَّوجل خلقه ! إن لم يكن هذا تجسيماً فما هوالتجسيم ؟ والظاهرأنّ الشيخ لا يعلم أنّ ابن خزيمة قد تاب عن هذا التجسيم ورجع عنه كما نقل البيهقي في الأسماء والصفات
، فإنه قال : قلت : القصة فيه طويلة ، وقد رجع محمد بن إسحاق إلى طريقة السلف ،
وتلهف على ما قال ، والله أعلم [الأسماء والصفات : ١٦٧ .] . ومنها : كتب ابن تيمية : فإن من جملة المصادرالتي يؤخذ منها توحيد الأسماء والصفات عند
الشيخ الفوزان كتب ابن تيمية الحرّاني . وهذا الرجل اتّهمه أهل عصره بالتجسيم والتشبيه ، فقد قال ابن حجرالعسقلاني عند ترجمته
لابن تيمية : وافترق الناس فيه شيعاً ، فمنهم من نسبه إلى التجسيم ؛ لما ذكر في
العقيدة الحموية والواسطية وغيرها من ذلك ، كقوله : إن اليد والقدم والساق
والوجه صفات حقيقية لله ، وأنه مستو على العرش بذاته . فقيل له : يلزم من ذلك التحيّز
والانقسام . فقال : أنا لا أسلَّم أن التحيز والانقسام من خواص الأجسام ، فالذم
بأنه يقول بتحيز في ذات الله [الدررالكامنة ١ / ١٥٤ .] . ومن قرأ كتبه رأى الكثيرالكثيرمن التجسيم والتشبيه ، فهو الذي رسّخ عقيدة جلوس النبي صلى
الله عليه وآله على العرش عياذاً بالله ! قال في فتاويه : فقد حدّث العلماء المرضيون وأولياؤه
المقبولون انّ محمداً رسول الله صلى الله عليه وآله يُجلسه ربُّه على العرش معه [مجموع الفتاوى ٤ / ٣٧٤ .] . ركّز أخي القارئ على لفظ (( معه)) ، فإن هذا الرجل يعتقد أن النبي صلى
الله عليه وآله یجلس مع ربّه على العرش ، فهل هناك تجسيم اصرح من هذا ؟ وهوالذي يدعو إلى ما هو أشنع من هذا ،
حيث قال : قال عثمان بن سعيد
في ردَّه على الجهمية : حدثنا عبدالله بن صالح المصري ، قال : حدثني الليث وهو
ابن سعد ، حدثني خالد بن يزيد ، عن سعيد بن أبي هلال ، أن زيد بن أسلم حدّثه عن
عطاء بن يسار، قال : أتى رجل كعباً وهو في نفر، فقال : يا أبا إسحاق حدثني عن
الجبار. فأعظم القوم قوله ، فقل كعب : دعوا
الرجل ، فإن كان جاهلاً يعَّلم ، وإن كان عالماً ازداد علماً ، قال كعب : أخبرك
أن الله خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن ، ثم جعل ما بين سماءين كما بين السماء
الدنيا والأرض ، وكثفهن مثل ذلك ، ثم رفع العرش فاستوى عليه ، فما في السموات
سماء إلا لها أطيط كأطيط العلا في أول ما يرتحل من ثقل الجبار فوقهن . وهذا الأثر وإن هو رواية كعب ، فيحتمل أن يكون من علوم أهل الكتاب ،
ويحتمل أن يكون مما تلقاه عن الصحابة ، ورواية أهل الكتاب التي ليس عندنا شاهد ،
هو لا يدافعها ولا يصدقها ولا يكذبها ، فهؤلاء الأئمة المذكورة في إسنادهم من
أجل الأئمة ، وقد حدثوا به هم وغيرهم ، ولم ينكروا ما فيه من قوله من ثقل الجبار
فوقهن ، فلوكان هذا القول منكراً في دين الإسلام عندهم لم يحدّثوا به على هذا
الوجه [بيان تلبيس الجهمية ١ / ٥٧٢ .] . فهذا الرجل يعتقد أن ربّه ثقيل الوزن ،
ومن هذا الثقل يصدرعرشه صوتاً سمّى في الرواية أنه أطيط ! هل هذا ما يدعو إليه الفوزان ويريده أن يكون بديلاً عن كتاب (نهج
البلاغة) الذي علّم الناس التنزيه ؟ ومنها : كتب ابن القيم : وهذا الرجل من تلامذة ابن تيمية الحرّاني ومن السّائرين على نهجه
حذو القذة بالقذة ، ولذلك فإنه كان من الذين أشربوا التجسيم حتى الثمالة ،
وغاصوا في التشبيه حتى النخاع . فهو الذي يروي في كتابه (زاد المعاني) بسنده عن رسول الله صلى الله عليه
وآله ، أنه قال : تلبثون ما لبثتم ، ثم يتوفى نبيّكم ، ثم تلبثون ما لبثتم ، ثم
تبعت الصائحة ، فلعمرإلهك ما تدع ظهرها شيئاً إلا مات والملائكة الذين مع ربك ،
فأصبح ربك عزَّوجل يطوف في الارض وخلت عليه البلاد ، فأرسل ربك السماء تهضب من
عند العرش ، فلعمرإلهك ما تدع على ظهرها من مصرع قتيل ولا مدفن ميت إلا شقت
القبرعنه ، حتى تخلفه من عند رأسه ، فيستوي جالساً ، فيقول ربك : مهيم لما كان
فيه يقول : يا رب أمس اليوم لعهده بالحياة يحسبه حديثاً بأهله [زاد المعاد ٣ / ٤٨ .]. فعقيدة هذا الرجل أنه ربّه يطوف بالأرض
تعالى الله عن هذا التجسيم المحض ! ولم يكتف بهذا بل علّق في آخرالحديث
بقوله : هذ حديث كبيرجليل
تنادي جلالته وفخامة وعظمته على أنه قد خرج من مشكاة النبوة لا يعرف إلا من حديث
عبد الرحمن بن المغيرة بن عبد الرحمن المدني رواه عنه إبراهيم بن حمزة الزبيري
وهما من كبارعلماء المدينة ثقتان محتج بهما في الصحيح احتج بهما إمام أهل الحديث
محمد بن إسماعيل البخاري ورواه أئمة أهل السنة في كتبهم وتلقوه بالقبول وقابلوه
بالتسليم والانقياد ولم يطعن أحد منهم فيه ولا في أحد من رواته [زاد المعاد ٣ / ٥٠ وهوالذي قال في كتابه (بدائع الفوائد) : قال القاضي : صنَّف المروزي كتاباً
في فضيلة النبي صلى الله عليه وآله وذكر فيه إقعاده على العرش ، قال القاضي :
وهو قول أبي داوود ، وأحمد بن أصرم ، ويحيى بن أبي طالب ، وأبي بكربن حماد ،
وأبي جعفرالدمشقي ، وعياش الدوري ، وإسحاق بن راهوية ، وعبدالوهاب الوراق ،
وإبراهيم الأصبهاني ، وإبراهيم الحربي ، وهارون بن معروف ، ومحمد بن إسماعيل
السلمي ، ومحمد بن مصعب بن العابد ، وأبي بن صدقة ، ومحمد بن بشربن شريك ، وأبي
قلابة ، وعلي بن سهل ، وأبي عبدالله بن عبد النور، وأبي عبيد ،الهاشمي ، ومحمد
بن عمران الفارسي الزاهد ، ومحمد بن يونس البصري ، وعبد الله ابن الإمام أحمد ،
والمروزي وبشرالحافي . انتهى . قلت – والقائل ابن القيم - : وهو قول ابن جريرالطبري ، وإمام هؤلاء كلهم
مجاهد إمام التفسير، وهو قول أبي الحسن الدارقطني ، ومن شعره فيه : حديثُ الشفاعةِ عَنْ أحمدٍ ***** إلى أحمدَ المصطفى مُسْنِدُهْ وجاءَ حديثٌ بإقعادِه ***** على العرش أيضاً فلا نجحدُهْ أَمِرُّوا الحديثَ على وجهِهِ ***** ولا تُدخِلوا فيِه ما يُفْسِدُهْ ولا تُنْكِرُوا أنه قَاعدٌ ***** ولاتُنْكِرُوا أنه يُقْعِدُهْ [بدائع الفوائد : ٥٥٨ .] هذه هي العقائد التي يريدنا الشيخ
الفوزان أن نترك كتاب (نهج البلاغة) وما احتواه من درر في التوحيد ، لنتدّين
بهذه الخرافات الوثنية . وأنا أقطع أن سبب هذه البلبلة التي وقع
فيها هؤلاء هو ابتعادهم عن كلمات أميرالمؤمنين عليه السلام وبالخصوص كتاب (نهج البلاغة)
، وقد صدق ابن أبي الحديد المعتزلي حين قال : وقد عرفت أن أشرف العلوم
هوالعلم الإلهي، لأن شرف العلم بشرف المعلوم ، ومعلومه أشرف الموجودات ، فكان
هوأشرف العلوم ، ومن كلامه عليه السلام اقتُبِس ، وعنه نُقل ، وإليه انتهى ،
ومنه إبتدأ فإن المعتزلة الذين هم أهل التوحيد والعدل ، وأرباب النظر، ومنهم
تعلَّم الناس هذا الفن تلامذته وأصحابه ؛ لأن كبيرهم واصل بن عطاء تلميذ أبي
هاشم عبدالله بن محمد بن الحنيفة ، وأبوهاشم تلميذ أبيه ، وأبوه تلميذه عليه
السلام ، وأما الأشعرية فإنهم ينتمون إلى أبي الحسن علي بن إسماعيل بن أبي
بشرالأشعري ، وهو تلميذ أبي على الجبائي ، وأبو علي أحد مشايخ المعتزلة ،
فالأشعرية ينتهون بأخرة إلى أستاذ المعتزلة ومعلمهم وهو علي بن أبي طالب عليه
السلام ، وأما الإمامية والزيدية فانتماؤهم إليه ظاهر [شرح نهح البلاغة ١ / ٢٩ .] . فكل المنزَّهة يرجعون بتنزيههم لسيَّد الموحَّدين علي بن أبي طالب عليه
السلام أما الفوزان ومن
على شاكلته فقد أعرضوا عن الإمام
عليه السلام ، فوقعوا في فخاخ كعب الأحباراليهودي ، ووهب بن منبه النصراني ،
وابن أبي العوجاء الزنديق . ونختم بنقطة مهمّة وهي أن الفوزان اتهم
الشريف المرتضى قدس سره بأمرين : الأول : أنه هو من وضع كتاب (نهج البلاغة) ، وقد بيَّنا فساده فيما سبق . الثاني : أنه معتزلي المذهب ، وهذا من
الأمورالمضحكة المبكية ، إذ أن كل من ترجم له قال : إنه شيعي إمامي ، ولم ينسبه أحد
للاعتزال . ولو كان عند الشيخ صالح الفوزان
عضوهيئة كبارالعلماء قليل من الاطلاع لعلم أن من أهم مصنَّفات السيد المرتضى علم الهدى قدس سره كتاب
(الشافي في الإمامة) ، وهو
ردّ على القاضي عبد الجبارإمام المعتزلة في عصره . فلا ندري من أين يأتي الشيخ بهذه
المعلومات الغريبة ؟ |
|
الشبهة العاشرة : علوم النهج :
|
|
استند بعض المفكَّرين المعاصرين على
قضية أخرى اعتبروها من الأمورالمشكَّكة في كتاب (نهج البلاغة) ، وهي احتواؤه على
أفكار وأساليب سامية لم تكن معروفة في تلك الحقبة ، بل دخلت عند العرب مع بداية
حركة الترجمة في عصرهارون الرشيد وابنه المأمون . قال الدكتورأحمد زكي صفوت : أمّا الشك الخامس ، فإنّا مع اعتقادنا الكامل بأنّ الإمام كان خير قدوة في الزهد
والورع ، وأعلى مثال في التقوى والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها ، نرى أنّ ما
عُزي إليه في هذا الباب لا يخلو من دخيل منتحل ، فهاك أقرأ خطبته التي يذكر فيها
ابتداء خلق السماء والأرض ، وانظرقوله فيها : (( أول الدين معرفته ، وكمال معرفته
التصديق به ، کمال التصديق به توحيده ، وكمال توحيده الإخلاص له ، وكمال الإخلاص
له نفي الصفات عنه ؛ لشهادة كلّ صفة أنّها غيرالموصوف، وشهادة كلّ موصوف أنه
غيرالصفة ، فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه ، ومن قرنه ثنّاه ، ومن ثنَّاه فقد
جزّأه ، ومن جزّأه فقد جهله ، ومن جهله فقد أشارإليه ، ومن أشارإليه فقد حدّه ،
ومن حدّه فقد عدّه ، ومن قال : فيم فقد ضمنّه ، ومن قال : علامّ فقد أخلى منه ،
كائن لا عن حَدَث ، موجود لا عن عَدَم ، مع كلّ شيء لا بمقارنة ، وغير كلّ شيء
لا بمزايلة ، فاعل لا بمعنى الحركات والآلة...الخ))، ترى أنّ هذا الأسلوب قصيّ
عن نهج الإمام ومسلكه ، فأنّ الفقرة الأولى مفرَّغة في قالب مقدّمات منطقية تفضي
إلى نتيجة هي نفي الصفات عن الله تعالى ، والفقرة التالية لها مقدّمات أخرى تنتج
أن من يثبت له الصفات فقد عدَّه من الحوادث ، وهذا الأسلوب المنطقي لم يُعهد في
كلام العرب ، ولم يستعمله العلماء إلا بعد ترجمة المنطق والعلوم الدخيلة ، وذلك
العصرلم يدركه الإمام.. وفوق هذا ، فإنّ تلك المباحث من مباحث علم الكلام ،
وإثبات صفات المعاني لله تعالى أو نفيها عنه ، وكون الصفة عين الموصوف أو مغايرة
له ، موضع جدل شديد بين الأشعرية والصفاتية والمعتزلة ، ونشأة ذلك العلم وتلك
الفرق متأخَّرة عن علي في الوجود ، ولا تخلنّ من ذلك أنا نرمي الإمام بجهله بعلم
التوحيد ، لا ، ولكنا نقول : إن التوحيد بالمعنى العلمي المعهود ومباحثه المعروفة
لم تكن وُجدت في ذلك الحين [ترجمة علي بن أبي طالب : ١٤٣ .] . وقال فؤاد أفرام بستاني [أديب ، مؤرخ ، أكاديمي وسياسي لبناني ولد سنة ١٩٠٤ ، وتوفي سنة ١٩٩٤
؛ يعتبرمن أكبرالمثقفين في لبنان وأحد نقاد الأدب العربي في القرن العشرين ،
أسهم في إنشاء الجامعة اللبنانية سنة ١٩٥١ ، وكان أول رئيس لها ، كما درس الأدب
العربي لسنوات طويلة في جامعة القديس يوسف .] في كتاب الروائع : بيد أنّا نرى سبباً
جديداً يدفعنا إلى الشك في بعض مقاطع حكمية وتفسيرية من التي تدخل فيها الأعداد
والتقاسيم المتوازية ، المتشعبّة ، المتّفقة عدداً ، كقوله : ((الاستغفارعلى ستة معان))
((والإيمان على أربع دعائم : على الصبر، واليقين ، والعدل ، والجهاد . والصبر
منها على أربع شعب...الخ)) ، بتقسيم كل دعامة إلى أربع شعب ، وكذلك الكفر
وتقسيمه إلى أربع دعائم ، والشك إلى أربع شُعَب ، وغيرذلك . فأنّ استعمال الطريقة العددية في الشروح
، وتقسيم الفضائل أو الرذائل على أسلوبها ، لا نراه في الآداب الجاهلية ، بل لا نكاد نعرفه في الأدب الإسلامي
إلَّا بعد ظهوركتاب ((كليلة ودمنة)) المعرّب ، وإذا علمنا أنّ إدخال الأعداد في
الحكمة الأخلاقية ، وفي ترتيب المجرّدات والمعقولات ، له الدورالمهم في المذاهب
المتشعبّة عن الطريق الفيثاغورية أو الأفلاطونية الحديثة ، وإذا علمنا أن العرب لم يعرفوا هذه
الفلسفة إلا بترجمة كتب اليونان في العصرالعباسي الأول ، وإذا علمنا أنّ الشريف الرضي كان من الحكماء الأجلاء، والعلماء
المعروفين ، وأنه عاش في عصرالعباسي الثالث ، ساغ لنا هذا الشك [الروائع : ٣٢ .] . هذا من باب المثال ، وإلا فكثيرمن النقّاد والمفكّرين قد
ذكروا هذا المعنى ، وصرّحوا بأنه من الأمورالتي تجعلهم يستريبون في كتاب (نهج
البلاغة) ، ويحكمون بوجود نصوص دخيلة فيه . |
|
والجواب على مثل هذا الطرح |
|
والجواب على مثل هذا الطرح : أنه لا بد من إعادة صياغة استدلالهم
؛ لكي يتّضح وهنه وضعفه لدى الباحث . هذا الإشكال مبني على مقدَّمتين : الأولى : هي أن هذه العلوم لم تكن معروفة في عصرالإمام علي عليه السلام ،
فلا يوجد تقسيمات عددية ، ولا مطالب كلامية ، ولا أطروحات منطقية . الثانية : أن كل العرب الذين عاشوا في ذلك العصر لم يكن لهم اطلاع على هذه
العلوم ، ولا اضطلاع بهذه الصناعات . وكلا المقدمتين لا نسلّم بهما . أما الجواب على الأولى : فهو أنا لا نسلّم أن هذه الأموركانت
غيرمعروفة تماماً عند العرب ، نعم عامة العرب لا علم لهم بها ، لكن هذا لا يعني
انعدامها التام من الأوساط العربية في تلك الحقبة ، وإلا فالحال كما قدّمنا
سابقاً أن هذه المقدمة مبنية على استقراءات ناقصة ، ولولا مخافة الإطالة وإصابة
القارئ بالملالة لسقنا عدة شواهد على ما ادُّعي . ومن الشواهد على وجود مقاطع تفسيرته تدخل فيها
الأعداد والتقاسيم المتوازية ، المتشعبّة ، ما رواه البخاري في صحيحه بسنده عن
عبدالله بن عمرو ر عن النبي صلى الله عليه وآله ،قال : أربع من كُنَّ فيه كان
منافقاً – أو كانت فيه خصلة من أربعة كانت فيه
خصلة من النفاق – حتى يدعها : إذا حدَّثَ كذب ، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر وإذا
خاصم فجر [صحيح البخاري ٢ / ٧٣٧ .] . أمّا الثانية : فسببها القراءة الإسقاطية لكتاب (نهج
البلاغة) ، وليس القراءة الاستنطاقية ؛ وذلك لأن هؤلاء قرؤوا الكتاب بتصوّرمسبق
لشخصية أميرالمؤمنين عليه السلام ، وهي أنّه رجل عادي ، حاله حال أقرانه من
العرب الذين عاصروه ، وبالتالي فلا يمكن أن يصدرمنه مثل هذا ، أما لو قرؤوا
الكتاب قراءة استنطاقية لعرفوا شذرات من حقيقة الإمام علي بن أبي طالب عليه
السلام ، واستنشقوا عبقات من معارفه ، وتذوقوا حلاوة لطائفه . وهذه هي المنهجية التي سارعليها غيرالشيعة على مرّ
العصور، وهي تكذيب ما نُسب لأهل البيت عليهم السلام عامة ، ولأميرالمؤمنين عليه السلام خاصة ؛ لأنهم نزّلوهم منزلة عامة الناس ، ومن هنا ضُعّف عشرات الأحاديث
الواردة في فضلهم وخصائصهم لأجل هذا الاعتقاد الفاسد. ومن باب التمثيل نذكر شاهدين : الأول : قول النبي صلى الله عليه وآله في حق أخيه وابن عمه وخليفته
أميرالمؤمنين عليه السلام : أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها [المستدرك على الصحيحين ٣ / ١٢٦ ،
المعجم الكبير١١ / ٥٥ .] . هذا الحديث لم يعجب من في قلوبهم شيء على أهل البيت ، فضعَّفوه ،
وحكموا عليه بالوضع ؛ فقط لأن المتن لا يتلائم مع أهوائهم المنحرفة عن الحق
والمائلة عن الصراط المستقيم . قال ابن تيمية في تعليقه على هذا الحديث
: وأما حديث (( مدينة العلم)) فأضعف
وأوهي ، ولهذا إنما يُعّد في الموضوعات المكذوبات وإن كان الترمذي قد رواه ، ولهذا ذكر ابن الجوزي في الموضوعات ،
وبيَّن أنه موضوع من سائر طرقه ، والكذب يُعرَف من نفس متنه ، لا يحتاج إلى
النظر في إسناده [الفتاوى الكبرى ٤ / ٤٣٧ .] . وقال الألباني تعليقاً على هذا الحديث : وجملة القول أن حديث الترجمة ليس في
أسانيده ما تقوم به الحجة ، بل كلها ضعيفة ، وبعضها أشد ضعفاً من بعض ، ومَنْ
حَسَّنه أو صحَّحه فلم ينتبه لعنعنة الأعمش في الإسناد الأول ، فإن قيل : هذا لا
يكفي للحكم على الحديث بالوضع ، قلت : نعم ، ولكن في متنه ما يدل على وضعه [سلسلة الأحاديث الضعيفة ٦ / ٤٧٢ .] . وكما يرى القارئ النبيه أن التضعيف والتصحيح
مسألة هوى وعصبية ، وإنكارالصحة لا دليل عليه سوى الدفع
بالصدر! وإلا فإن هذا الحديث وحده كافٍ لرد هذه الشبهة المطروحة ، فمن كان باباً
لمدينة علم النبي صلى الله عليه وآله هل سیکون أقل شأناً من أرسطو وأفلاطون وابن خلدون
وفولتيرحتى يصبح ما جاء به
هؤلاء فتحاً علميًّا منشؤه نبوغهم وعبقريتهم ، وما جاء به أميرالمؤمنين عليه
السلام منسوب إليه ومنحول عليه ؛ لأنه عاجزعن الإتيان بما جاء به أولئك ! الثاني : روى الخاصّة والعامة قول أميرالمؤمنين عليه السلام : علّمني رسول
الله صلى الله عليه وآله ألف باب من العلم ، يُفتح لي من كل باب ألف باب [كتاب سليم بن قيس ٢١١ ، الكافي ١ / ٢٩٦ ، تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٣٨٥
، كنزالعمال ١٣ / ١١٤ وهذا الحديث طبعاً أزعج القوم كثيراً
؛ لأنه يشتمل على أمرين مخالفين لما هو مشهور بينهم : المخالفة الأولى : هو أنّ آخرالناس عهداً برسول الله
صلى الله عليه وآله هو أميرالمؤمنين عليه السلام ، وليس عائشة كما يروّجون ،
وأنّه توفي بين سحرها ونحرها ، وهذا ليس محل حديثنا في هذا البحث المتواضع . المخالفة الثانية : هو أن الرسول الأعظم صلى الله عليه
وآله أفاض على علي أميرالمؤمنين عليه السلام علمه ، واختصّه بسرّه دون غيره من
الصحابة ، وهذه فضيلة عظيمة ومنقبة فريدة . ولهذا حاول الذهبي توهين الحديث بكل الطرق وبشتّى الوسائل ، فجعل نفسه سخريا عند كل
كل من اطلع على مهزلته . بداية تعامله مع الحديث كان في كتابه
(ميزان الاعتدال) حيث قال : وحدثنا أبو يعلى ، حدثنا كامل بن طلحة ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثني
يحيى بن عبد الله المعافري ، عن أبي عبدالرحمن الحبلي ، عن عبدالله بن عمرو: أن
رسول الله صلى الله عليه وآله قال فی مرضه : ادعو لي أخي . فدُعي أبوبكر، فأعرض
عنه ، ثم قال : ادعوا لي أخي . فدُعي له عثمان ، فأعرض عنه ، ثم دُعي له علي ،
فستره بثوبه ، وأكبَّ عليه ، فلما خرج من عنده قيل له : ما قال لك ؟ قال :
علَّمني ألف باب ، كل باب يفتح ألف باب . قلت : كامل صدوق . وقال ابن عدي : لعل البلاء فيه من ابن لهیعة فإنه
مفرط في التشيّع [ميزان الاعتدال ٢ / ٤٨٢ .]. إذن الحديث ضعيف عند الذهبي ، إذ وافق قول ابن عدي في أن علّته هو ابن لهيعة ؛ لأنه مفرط في
التشيع كما زعم هذا الإمام
الناقد الخبير. لكن للذهبي رأي آخر في (تاريخ الإسلام)
حيث قال : قلت ومناكيره جمة
، ومن أردئها كامل بن طلحة عن ابن لهيعة أن حي بن عبدالله أخبره عن أبي
عبدالرحمن الجبلي عن عبدالله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال في
مرضه : ادعوا لي أخي . فدعوا له أبابكر، فأعرض عنه ، ثم قال : ادعول لي أخي .
فدعوا له عمر، فأعرض عنه ، ثم عثمان كذلك ، ثم قال : ادعوا لي أخي . فدعوله
عليًّا ، فستره بثوبه ، وانكبَّ عليه ، فلما خرج قيل له : يا أبا الحسن ماذا قال
لك ؟ قال : علمني ألف باب ، يفتح كل باب ألف باب...رواه أبوأحمد بن عدي ، ثم قال : لعل البلاء فيه من ابن لهيعة ؛ فانه
مفرط في التشيع . كذا قال ابن عدي ، وما رأيت أحداً
قبله رماه بالتشيّع ، وكامل الجحدري وإن كان قد قال أبوحاتم : لا بأس به ، وقال
ابن حنبل : ما علمت أحداً يدفعه بحجة فقد قال فيه أبوداوود : رَميتُ بكتبه . وقال ابن معين : ليس بشيء
؛ فلعل البلاء من كامل ، والله أعلم [تاريخ الاسلام ١١ / ٢٢٤ .] . عجيب يا ذهبي في ميزان الاعتدال كان كامل الجحدري صدوقاً ، وابن لهيعة ضعيف ، وهنا انقلبت الآیة ،
وأصبح ابن لهيعة صدوقاً ، وكامل مطعوناً فيه ! هل انتهى الأمرالى هنا ؟ الجواب : لا ؛ لأن عند الذهبي رأياً ثالثاً صرّح به في
كتابه (سيرأعلام النبلاء) عند تعرضه لنفس الحديث ، حيث قال : فأما قول أبي أحمد بن عدي في الحديث
الماضي : (علّمني ألف باب
يفتح كل باب ألف باب ) فلعل البلاء فيه من ابن لهيعة ؛ فانه مفرط في التشيع ،
فما سمعنا بهذا عن ابن لهيعة ، بل ولا علمت أنه غيرمفرط في التشيع ، ولا الرجل
متَّهم بالوضع ، بل لعله أدخل على كامل ، فإنه شيخ محله الصدق ، لعل بعض الرافضة أدخله في كتابه ولم
يتفطن هو، فالله أعلم [سير أعلام النبلاء ٨ / ٢٦ .] . والظاهر أن الذهبي اكتشف تناقضه ، فأراد
إصلاح الأمر وحفظ ماء الوجه بتوثيق الرجلين ، وبضرب الحديث في نفس الوقت ! فلم يجد حلا إلا أن يسجل القضية ضد
مجهول ، ويتَّهم المجرم الخفي بوضع هذا الحديث ، وطبعاً دليله على هذا هو : ((لعلّ)) ! واتّهام الذهبي رافضيًّا مجهولاً
بدسّ الحديث في كتاب كامل الجحدري يذكّرني بما يحصل في بعض الدول في هذه الأيام ، حيث تقوم بعض الحكومات بارتكاب الجرائم العظام الجسام ، ثم ينسبون الأمر إلى مندسين أو إلى جهات
خارجية . وقد صدق الشاعر حين قال : سُمَّيْتَ بالذهبيَّ تسميةً ***** مشتقَّةً مِنْ ذَهابِ العقلِ لا
الذَّهَبِ ملّقبُ بِكَ ما لُقَّبْتَ وَيْكَ بِهِ ***** يا أيها اللّقبُ الملقى
على اللّقبِ فإن كان تعاملهم مع الروايات الصحيحة
الصريحة الثابتة في فضل الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام والموجودة في كتبهم
المعتبرة بهذه الصورة المضحكة ، فكيف نريد منهم قبول كتاب (نهج البلاغة) ؟ فخطأ هؤلاء الذي وقعوا فيه هو
انطلاقهم من واقعهم الذهني ، وإسقاطه على النص ، وهذا خلاف المنهج العلمي الصحيح
، وهو الانطلاق من النص لمعرفة الواقع . أما الذي تجرَّد عن كل تراكماته
السابقة فإنه سيعلم من هو الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام ، ولهذا فإن ابن أبي الحديد الشافعي
المعتزلي قد وصل إلى جزءٍ من الحقيقة ، فقال في مقدمة شرحه على النهج : وما أقول في رجل تُعْزَى إليه كل
فضيلة ، وتنتهي إليه كل فرقة ، وتتجاذبه كل طائفة ، فهو رئيس الفضائل وينبوعها ،
وأبوعذرها ، وسابق مضمارها ، ومجلّي حليتها ، كل من بزغ فيها بعده فمنه أخذ ،
وله اقتفى ، وعلى مثاله احتذى ، وقد عرفت أن أشرف العلوم هو العلم الإلهي ؛ لأن
شرف العلم بشرف المعلوم ، ومعلومه أشرف الموجودات ، فكان هو أشرف العلوم ، ومن
كلامه عليه السلام اقتبس ، وعنه نقل ، وإليه انتهى ، ومنه ابتدأ ، فإن المعتزلة
الذين هم أهل التوحيد والعدل ، وأرباب النظر، ومنهم تعلَّم الناس هذا الفن
تلامذته وأصحابه ؛ لأن كبيرهم واصل بن عطاء تلميذ أبي هاشم عبدالله بن محمد بن
الحنفية ، وأبوهاشم تلميذ أبيه ، وأبوه تلميذه عليه السلام ، وأما الأشعرية
فإنهم ينتمون إلى أبي الحسن علي بن إسماعيل بن أبي بشرالأشعري ، وهو تلميذ أبي
على الجبائي ، وأبوعلي أحد مشايخ المعتزلة ، فالأشعرية ينتهون بأخرة إلى أستاذ
المعتزلة ومعلمهم وهوعلي بن أبي طالب عليه السلام ، وأما الإمامية والزيدية
فانتماؤهم إليه ظاهر. ومن العلوم : علم الفقه ، وهو عليه السلام أصله
وأساسه ، وكل فقيه في الإسلام فهوعيال عليه ، ومستفيد من فقهه ، أما أصحاب أبي
حنيفة كأبي يوسف ومحمد وغيرهما ، فأخذوا عن أبي حنيفة ، وأما الشافعي فقرأ على
محمد بن الحسن ، فیرجع فقه أيضاً إلى أبي حنيفة ، وأما أحمد بن حنبل ، فقرأ على الشافعي فيرجع فقهه أيضاً إلى أبي حنيفة ،
وأبوحنيفة قرأ على جعفربن محمد عليه السلام وقرأ جعفرعلى أبيه عليه السلام ، وينتهي الأمر إلى علي عليه السلام ، وأما مالك بن أنس ، فقرأ على ربيعة
الرأي ، وقرأ ربيعة على عكرمة ، وقرأ عكرمة على عبدالله بن عباس ، قرأعبد الله بن عباس على علي بن
أبي طالب ، وإن شئت رددت إليه
فقه الشافعي بقراءته على مالك كان لك ذلك ، فهؤلاء الفقهاء الأربعة ، وأما فقه
الشيعة : فرجوعه إليه ظاهر، وأيضاً فإن فقهاء الصحابة كانوا : عمر بن الخطاب ،
عبدالله بن عباس ، وكلاهما أخذ عن علي عليه السلام ، أما ابن عباس فظاهر، وأما
عمر فقد عرف كل أحد رجوعه إليه في كثير من المسائل التي أشكلت عليه وعلى غيره من
الصحابة ، وقوله غير مرة (( لولا علُّي لهلك عمر)) ، وقوله (( لا بقيتُ لمعضلة
ليس لها أبوالحسن)) ، وقوله : (( لا يفتينَّ أحد في المسجد وعليٌّ حاضر)) ، فقد
عُرف بهذا الوجه أيضاً انتهاء الفقه إليه ، وقد روت العامة والخاصة قوله صلى
الله عليه وآله : (( أقضاکم علي)) ، والقضاء هوالفقه فهو إذن أفقههم ، وروى الكل
أيضاً أنه عليه السلام قال له وقد بعثه إلى اليمن قاضياً : (( اللهم اهد قلبه ،
وثبَّت لسانه )) قال : ((فما شككت بعدها في قضاء بين اثنين )) ، وهوعليه السلام
الذي أفتى في المرأة التي وضعت لستة أشهر، وهوالذي أفتى في الحامل الزانية ،
وهوالذي قال في المنبرية : صار ثمنها تسعاً ، وهذه المسألة لو فكرالفرضي فيها
فكراً طويلاً لاستحسن منه بعد طول النظرهذا الجواب ، فما ظنك بمن قاله بديهة ،
واقتضبه ارتجالاً. ومن العلوم : علم تفسيرالقرآن ، وعنه
اُخذ ، ومنه فُرَّغ ، وإذا رجعت إلى كتب التفسيرعلمت صحة ذلك ؛ لأن أكثره عنه
وعن عبدالله بن عباس، وقد علم الناس حال ابن عباس في ملازمته له ، وانقطاعه إليه
، وأنه تلميذه وخريجه ، وقيل له : أين علمك من علم ابن عمك ؟ فقال : (( كنسبة
قطرة من المطر إلى البحرالمحيط)) . ومن العلوم : علم الطريقة والحقيقة ،
وأموال التصوّف ، وقد عرفت أن أرباب هذا الفن في جميع بلاد الإسلام ، إليه ينتهون ،
وعنده يقفون ، وقد صرّح بذلك الشبلي ، والجنيد ، وسري ، وأبويزيد البسطامي ،
وأبو محفوظ معروف الكرخي ، وغيرهم ، ويكفيك دلالة على ذلك الخرقة التي هي شعارهم
إلى اليوم ، وكونهم يسندونها بإسناد متصل إليه عليه السلام . ومن العلوم : علم النحو والعربية ،
وقد علم الناس كافة أنه هوالذي ابتدعه وأنشأه ، وأملى على أبي الأسود الدؤلي
جوامعه وأصوله ، من جملتها : الكلام كله ثلاثة أشياء : اسم وفعل وحرف ، ومن
جملتها : تقسيم الكلمة إلى معرفة ونكرة ، وتقسيم وجوه الإعراب إلى الرفع والنصب
والجر والجزم ، وهذا يكاد يلحق بالمعجزات [العجب من صاحب كتاب (ضياء السالك إلى
أوضح المسالك) الذي أنكر نسبة وضع علم النحولأميرالمؤمنين عليه السلام ، فقط لأن
المنطق والعقل عنده يقضيان بالتدريج في مثل هذا العمل كما عبر في ١ / ٩ من
الكتاب ، وكأنه لا يوجد أي جانب غيبي في شخصية الإمام عليه السلام ، رغم أن
القضية لا علاقة لها بالاعجاز والغيب ولذلك أن أغلب من أخ لعلم النحو قد أثبت أن
أميرالمؤمنين عليه السلام هو واضعه بل نقل الاجماع على ذلك كما في كتاب انباء
الرواة بأنباء النحاة للقفطي ١ / ١٤ .] . لأن القوة البشرية لا تفي بهذا
الحصر، ولا تنهض بهذا الاستنباط [شرح نهج البلاغة ١ / ١٧ .] . اعتمدت نقل هذا الكلام على طوله لأنه
مهم جدًّا ، فهذا الرجل قد أثبت أن كل العلوم المتدوالة بين المسلمين متلقّاه عن
الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام ، مما يؤكّد أنه لم يكن رجلاً عاديًّا ليقاس
ببني جنسه ، بل هو وأهل بيته كما في الزيارة الجامعة : إن ذُكِرَالخيركنتم أوله
وأصله وفرعه ومعدنه ومأواه ومنتهاه [من لا يحضره الفقيه ٢ / ٦١٦ .] . |
|
الشبهة
الحادية عشر: الدسّ في نهج البلاغة :
|
|
حاول البعض أن يُنصف الشريف الرضي قدس سره ،
فبرَّأ ساحته من الكذب والوضع على جدّه أميرالمؤمنين عليه السلام ، ولكن في المقابل
اتَّهم غلاة الشيعة بالکذب والدس ، وبالتالي فإن في كتاب
( نهج البلاغة) أموراً مكذوبة وضعها غيرالشريف الرضي، والنتيجة أن كتاب (نهج البلاغة) لم يسلم من الدس والوضع ، وهذا
يمنعنا عن قبول هذا الكتاب أوالعمل به . وهذا الكلام وإن كان فيه إنصاف لجامع الكتاب ، إلا أنّ فيه حيفاً وجوراً وتسقيطاً للكتاب كله . وسيتبين لك أيها القارئ أن هذا كلام هو مجرد سراب بقيعة يحسبه
الظمآن ماء وذلك لعدة أمور: أولاً : اننا لو سلّمنا بصحة ما قيل فإن هذا لا يعني سقوط الكتاب كله ؛
لأنه لا يلزم من وجود أخبارموضوعة فيه عدم اعتبارالكتاب بكامله ، بل غاية ما في
الأمر أن الباحث عليه أن يمحّص الروايات ؛ ليميز بين الصحيح منها والسقيم ، وهذا
ما نقول به . ولو أننا اتبعنا هذا المنهج ، وأسقطنا كل كتاب اشتمل على بعض
الموضوعات ، لما بقي لهم كتاب سالماً ، وما بقي حجر؛ إذ أنه لا يخلو كتاب من
أحاديث مكذوبة مدسوسة ، ومن باب الأمثلة نذكر: ١ – صحيح البخاري : فقد روى محمد بن إسماعيل بسنده عن أبي هريرة ، قال : قال رسول
الله صلى الله عليه وآله : إن الله قال : من عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب ،
وما تقرَّب إليّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضت عليه ، وما يزال عبدي يتقرَّب إليَّ
بالنوافل حتى أحبّه ، فإذا أحببته كنتُ سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصربه ،
ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشيء بها ، وإن سألني لأعطينه ، ولئن استعاذني
لأعيذنه ، وما تردّدت عن شي أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن ، يكره الموت وأنا أكره
مساءته [صحيح البخاري ٧ / ١٩٠ .] . علّق الذهبي على هذا الحديث بقوله : فهذا حديث غريب جدًّا ، لولا هيبة
الجامع الصحيح لعدّوه في منكرات خالد بن مخلد ، وذلك لغرابة لفظه ؛ ولأنه مما ينفرد به شريك ، وليس بالحافظ ، ولم
يرو هذا المتن إلا بهذا الإسناد ، ولاخرجه من عدا البخاري ، ولا أظنه في مسند
أحمد ، وقد اختُلف في عطاء ،
فقيل : هو ابن أبي رباح ، والصحيح أنه
عطاء به يسار [میزان الاعتدال ١ / ٦٤١ .]. فالذهبي يحكم على حديث في صحيح البخاري
الذي هو أصح الكتب بعد كتاب الله بأنه غريب جدًّا منكر! ٢ – صحيح مسلم : روى مسلم بن الحجاج في صحيحه بسنده عن أبي هريرة قال : أخذ رسول
الله صلى الله عليه وآله بیدي ، فقال : خلق الله عزَّوجل التربة يوم السبت ،
وخلق فيها الجبال يوم الأحد ، وخلق الشجر يوم الإثنين ، وخلق المكروه يوم
الثلاثاء ، وخلق النوريوم الأربعاء وبثَّ فيها الدواب يوم الخميس ، وخلق آدم
عليه السلام بعد العصر من يوم الجمعة في آخرالخلق في آخرساعة من ساعات الجمعة
فيما بين العصرإلى الليل [صحيح مسلم ٨ / ١٢٧ .] . وقد علق الشيخ عبدالعزيز بن بازعلى هذا
الحديث بقوله : ومما أُخذ على مسلم رحمه الله رواية حديث أبي هريرة : أن الله خلق
التربة يوم السبت...الحديث، والصواب أن بعض رواته وَهِمَ برفعه للنبي صلى الله
عليه وآله ، وإنما هو من رواية أبي هريرة رضى الله عنه عن كعب الأحبار؛ لأن
الآیات القرآنیة والأحاديث القرآنية الصحيحة كلها قد دلَّت على أن الله سبحانه
قد خلف السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، وأوله يوم الأحد،وآخرها يوم
الجمعة ؛ وبذلك علم أهل العلم غلط من روى عن النبي صلى الله عليه وآله أن الله
خلق التربة يوم السبت ، وغلط كعب الأحبار ومن قال بقوله في ذلك ، وإنما من
الإسرائيليات الباطلة [مجموع فتاوى ابن باز٢٥ / ٧٠ .] . إذن فصحيح مسلم كما نصَّ ابن باز يحتوي على إسرائيليات باطلة نُسب
زوراً وبهتاناً للنبي صلى الله عليه وآله . ٣ – مسند أحمد : أجمع علماء أهل السنة على أن في مسند الإمام أحمد بن حنبل أحاديث
ضعيفة ، واختلف في وجود الموضوعات فيه ، فأثبت عبدالرحمن بن الجوزي في كتابه
(الموضوعات) وجود أحاديث موضوعة فيه ، ووافقه على ذلك الحافظ العراقي ، فقد نقل عنه السيوطي في التدريب قوله : ولا نسلّم ذلك – أي بصحة المسند – والذي رواه عنه أبوموسى المديني أنه
سئل عن حديث ، فقال : (( انظروه ، فإن كان في المسند وإلا فليس بحجة)) ، فهذا
ليس بصريح في أن كل ما فيه حجة ، بل ما ليس فيه ليس بحجة ، قال : على أن ثم
أحاديث صحيحة مخرّجة في الصحيحين وليست فيه ، ومنها حديث عائشة في قصة أم زرع ،
قال : وأما وجود الضعيف فيه فهو محقَّق ، بل فيه أحاديث موضوعة جمعتها في جزء [تدريب الراوي ١ / ١٧٢ .]. وقد حاول غيرهم تنزيه المسند عن وجود الموضوع ، مثل ابن حجرالعسقلاني الذي ألف كتاباً أسماه : (القول المسدَّد في مسند أحمد) ، خفَّف فيه من وطأة ما ذكرابن
الجوزي ، وحكم على جلّ الأحاديث بأنها ضعيفة جدّا، لكن لا يمكن الجزم بوضعها .
فلو اتبعنا هذا المنهج وأقررنا الملازمة بين وجود أحاديث موضوعة وإسقاط الكتاب
لما بقي كتاب واحد عند المسلمين ، وهذا لازم باطل لا اظن أن عاقلاً يلتزم به . الثاني : أن هذا القول لا يخلو من احتمالين : إما أن يكون الدّس قد وقع بعد أن جمع الشريف الرضي قدس سره وانتهى منه ،
فيكون المتهم بذلك هم النسّاخ الذين تولوا نسخ الكتاب وإيصاله لنا بهذه الصورة ،
وإما أن يكون الدّس قد وقع قبل جمع الشريف الرضي قدس سره ، فيكون المتهم بهذا
الجرم الرواة الذين نُقلت عنهم فقرات النهج . أما الاحتمال الأول فلا يمكن القبول به ؛ لأن الكتاب قد
شاع وانتشربعد أن دوّنه الشريف الرضي قدس سره ، واهتم به الناس تداولاً وقراءة وحفظاً وشرحاً ، حتى قال السيد هبة الله الشهرستاني: ونسبة الكتاب إليه مشهورة ، وأسانيد
شيوخنا في إجازاتهم متواترة، ونسخة عصرالشريف موجودة ، والتي نُسخت بخطه الشريف
مشهورة [ما هونهج البلاغة ؟ : ١٣ .] . وكلام السيد فيه فائدتان : الأولى : أن الكتاب متواترعن صاحبه ، مما
يفيدنا العلم بانتسابه له ، وينهي كل احتمال تبديل أو تحريف أو تزييف . والفائدة الثانية : هي أن السيد ذكرأن نسخة الشريف الرضي
قدس سره موجودة محفوظة إلى يومنا هذا ، مما يبطل كل دعوى زيادة ونقصان . وقد ذكرابن أبي الحديد في كتابه أن عنده النسخة الأصلية لكتاب (نهج
البلاغة) ، فقال : وقد وجدت النسخة التي بخط الرضي أبي الحسن جامع (نهج البلاغة)
، وتحت فلان : عمر [شرح نهج البلاغة ١٢ / ٣ .] . ويظهرمن كلمات الفيلسوف الفقيه ابن ميثم البحراني في شرحه على النهج أنه اطلع على النسخة الأصلية ، فإنه قال في موضع من شرحه : وفي
نسخة الرضي رحمه الله : ((مُستكرِهين)) بكسرالراء بمعنى : كارهين ، يقال :
استكرهتُ الشيء أي كرهته [شرح ابن ميثم للنهج ٤ / ٣٤١ .] . بل نقل السيد عبدالزهراء الخطيب في كتابه القيّم (مصادرنهج البلاغة وأسانيده) جملة من المخطوطات التي كانت موجودة
في عصره،أحداها كانت بخط السيد المرتضى قدس سره ، قال : حدثني شيخنا العلامة الخبيرالمتتبّع الشيخ عبد
الحسين الأميني مؤلف (الغدير) دام علاه ، قال : ((رأيت نسخة من (نهج البلاغة)
عند أحد الاعلام في النجف الأشرف ،وعليها إجازة السيد المرتضى أعلى الله مقامه بخط يده لبعض تلامذته ، وفيها يقول:((أجزت لفلان رواية كتاب
. وقد نقل أيضاً عدّة مخطوطات أخرى اطلع
عليها في كتابه المذكور، فمن أراد الاطلاع عليها فليراجع هذا الكتاب . أما الاحتمال الثاني : فهو وإن كان في نفسه ممكناً ، ولا
مانع منه عقلاً أوعرفاً ، إلا أن إثباته يحتاج إلى دليل وبرهان ، والادّعاء
لوحده لا يكفي ؛ فمن يدّعي وجود خُطَب موضوعة فعليه أن يضع يده عليها ، ويقيم
على دعواه الدليل الصحيح . ونحن هنا لسنا في مقام نفي هذا الأمر، لكن نقول : إنه حتّى لو ثبت هذا فإنه لا يضّر
بالدرجة باعتبارالكتاب ، ولا بفضل وعلم المؤلف . وقد تعرّض ابن أبي الحديد المعتزلي لهذه الشبهة وأجاب عليها بجواب محكم
يخضع له كل منصف ، حيث قال : أحسن خطبة خطبها هذا الكاتب (يقصد أبا الشحماء العسقلاني) ، وهي كما تراها ظاهرة التكلّف ،
بيَّنة التوليد ، تخطب على نفسها ، وإنما ذكرت هذا لأن كثيراً من أرباب الهوى
يقولون : إن كثيراً من (نهج
البلاغة) كلام محدث ، صنعه قوم من فصحاء الشيعة، وربما عزوا بعضه إلى الرضي أبي
الحسن وغيره ، وهؤلاء قوم أعمت العصبية أعينهم ، فصلّوا عن النهج الواضح ،
وركبوا بينات الطريق ضلالاً وقلة معرفة بأساليب الكلام ، وأنا أوضح لك بكلام
مختصر ما في هذا الخاطر من الغلط ، فأقول : لا يخلو إما أن يكون كل نهج البلاغة
مصنوعاً منحولاً وبعضه ، والأول باطل بالضرورة ؛ لأنا نعلم بالتواترصحّة إسناد
بعضه إلى أميرالمؤمنين عليه السلام ، وقد نقل المحدَّثون كلّهم أو جلّهم ، والمؤرَّخين كثيراً منه ،
وليسوا من الشيعة ليُنسبوا إلى غرض في ذلك ، والثاني يدل على ما قلناه ؛ لأن مَنْ قد نس بالكلام والخطابة ،
وشدا طرفاً من علم البيان ، وصار له ذوق في هذا الباب ، لا بد أن يفرَّق بين
الكلام الركيك والفصيح ، وبين الفصيح والأفصح ، وبين الأصيل والمولَّد ، وإذا
وقف على كراس واحد يتضمن كلاماً لجماعة من الخطباء أو لاثنين منهم فقط ، فلا بد أن يفرَّق بين الكلامين ،
ويميَّز بين الطريقتين ، ألا ترى أنا مع معرفتنا بالشعر ونقده ، لو تصفَّحنا ديوان أبي
تمام ، فوجدناه قد كُتب في أثنائه قصائد أو قصيدة واحدة لغيره ، لعرفنا بالذوق
مباينتها لشعرأبي تمام ونَفَسه ، وطريقته ومذهبه في القريض ، ألا ترى أن العلماء بهذا الِشأن حذفوا
من شعره قصائد كثيرة منحولة إليه ، لمباينتها لمذهبه في الشعر، وكذلك حذفوا من
شعر أبي نواس شيئاً كثيراً ، لما ظهرلهم أنه ليس من ألفاظه ، ولا من شعره ،
وكذلك غيرهما من الشعراء ولم يعتمدا في ذلك إلا على الذوق خاصة ، وأنت إذا تأمّلت (نهج البلاغة) وجدته كله ماءً واحداً ، ونَفَساً واحداً ، وأسلوباً واحداً ،
كالجسم البسيط الذي ليس بعض من أبعاضه مخالفاً لباقي الأبعاض في الماهية ،
وكالقرآن العزيز، أوله كأوسطه، وأوسطه كآخره ، وكل سورة منه ، وكل آية مماثلة في
المأخذ والمذهب والفن والطريق والنظم لباقي الآیات والسور، ولو كان بعض (نهج البلاغة) منحولاً
وبعضه صحيحاً ، لم يكن كذلك ، فقد ظهرلك بهذا البرهان الواضح ضلال من زعم أن هذا
الكتاب أو بعضه منحول إلى أميرالمؤمنين عليه السلام ، واعلم أن قائل هذا القول
يطرق على نفسه ما لا قِبَل له به ؛ لأنا متى فتحنا هذا الباب ، وسلّطنا الشكوك على أنفسنا في هذا النحو،
لم نثق بصحة كلام منقول عن رسول الله صلى الله عليه وآله أبداً ، وساغ لطاعن أن يطعن ويقول : هذا
الخبرمنحول ، وهذا الكلام مصنوع ، وكذلك ما نُقل عن أبي بكر وعمرمن الكلام
والخطب والمواعظ والأدب وغير ذلك ، وكل أمر جعله هذا الطاعن مستنداً له فيما
يرويه عن النبي صلى الله عليه وآله والأئمة الراشدين، والصحابة والتابعين ،
والشعراء والمترسلين والخطباء ، فلناصري أميرالمؤمنين عليه السلام أن يستندوا
إلى مثله فيما يروونه عنه من (نهج البلاغة) وغيره ، وهذا واضح [شرح نهج البلاغة ١٠/ ١٢٩ .] . وبعد هذه الجولة في شبهات القوم تبيّن
للقارئ الكريم أن كل ما قيل في الطعن في كتاب (نهج البلاغة) ليست إلا قشة تمسّك
بها هؤلاء الغرقى ، لطمس فضيلة واضحة لأميرالمؤمنين عليه السلام كما يصنعون
بسائر فضائله عليه السلام التي لا يغطيها السحاب، والتي سار بذكرها الركبان ،
وأن كل طعن في (نهج البلاغة) إنما هو بداعي التعصب المذهبي الممقوت ، أو البغض
لأميرالمؤمنين عليه السلام ومعاداة شيعته . إنتهى . مقتبس من كتاب نهج البلاغة فوق الشبهات
والتشكيكات – الشيخ أحمد سلمان |
|
بذرة التشكيك والطعون في نهج
البلاغة والرد عليها
|
|
الشيخ
أحمد سلمان
|
|
بذرة
التشكيك والمؤرّخ المعروف بابن خلكان
|
|
صُنَّف نهج البلاغة في النصف الثاني من القرن الرابع للهجرة ، فاشتهر بين المسلمين ، وتلقّوه
بالقبول دون أن يطعن أحد منهم في الكتاب ، أو في مؤلّفه ، أو حتى يشكَّك فيه . وبحسب تتبّعي القاصر فإن بذرة التشكيك زُرعت في أواخرالقرن السابع على يد المؤرّخ المعروف بابن خلكان
، فإنه تعرّض في كتابه الموسوم بوفيات الأعيان في
ترجمة الشريف المرتضى كتاب نهج البلاغة ، وقال ما نصّه : وقد اختلف الناس
في كتاب ( نهج البلاغة) المجموع من كلام الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام ، هل هو جمعه أم جمع أخيه الرضي ؟ وقد قيل : إنه ليس من كلام علي
، وإنما الذي جمعه ونسبه إليه هو الذي وضعه ، والله أعلم [وفيات الأعيان ٣ / ٣١٣ .] . وقد اعترف سليمان الخراشي بهذه الحقيقة في تحقيقه لكتاب ( تشريع شرح نهج البلاغة) حيث قال : قال ابن خلّكان وهو أوّل من شكّك في نسبة الكتاب عند ترجمته للشريف المرتضى [تشريح شرح نهج البلاغة : ٨ .] . |
|
هذا الكلام لا يمكن قبوله لعدة أمور
|
|
أولاً :
|
|
أولاً : أنه مجرّد عن أي دليل أو برهان ، فأن ابن خلكان لم يأت بشاهد واحد على صحّة كلامه ،
بل الأغرب أنه نسبه للناس ، ولا نعلم من يقصد بهم : فإن كان العلماء فكتبهم موجودة ، ولم نجد أحداً منهم شكّك في نهج البلاغة قبله ، وإن كانوا العوام فإن تحكيمهم في مسألة علمية تخصصية هو عين السفه ، وأن كان رأياً شخصيًّا فهو مردود على صاحبه الذي لا يجيد إلا الدفع بالصدر. |
|
ثانياً :
|
|
ثانياً : أن ابن خلكان لا يمكن قبول شهادته في خصوص هذا
الموضوع ؛ لأن الرجل له عداوة تاريخية مع أهل البيت ع. |
|
يمكن
إثبات هذا الأمر بقرينتين
|
|
١ – سرّ تسميته بابن خلكان هو أن الرجل كان كثير الافتخار بأجداده ، فيُكثرمن قوله : (( كان أبي ، كان
جدي ، كان أجدادي)) ، فكان يقال له : (( خَلَّ كان ، وتكلم عن نفسك )) ، إلى أن أصبحت لقباً له . وقد نقل ذلك ابن العماد الحنبلي في
شذراته عن أحد مشايخه : ومن إفاداته أن لفظ ابن خلكان ضبط على صورة الفعلين خل أمر من
التخلية وكان الناقصة قال وسببه أنه كان يكثرقول كان والدي كذا كان جدي كذا كان فلان كذا فقيل له خل كان فغلبت عليه [شذرات الذهب ٨ / ٤٢٢ .] . ولما رجعنا إلى نسب الرجل وجدنا أنه برمكي ، ومن له اطلاع على التاريخ يعلم يقيناً أن البرامكة كانوا أشد الناس عداوة للعلويين ، وقد كانوا اليد الضاربة للدولة العباسية في أوائل تأسيسها ، وسبب اعتماد العباسيين عليهم هو فقدانهم للثقة بالعرب والعجم نظراً لتعاطفهم مع العلويين بسبب
خيانة العباسيين للعهد الذي كان مبرم بينهم من إعطاء الخلافة للرضا من آل محمد
في حال إسقاطهم لدولة بني أمية ، وتفرّدهم بالحكم دونهم ، فكانوا بمثابة السيف الحاد المسلط على
أعداء العباسيين وخصوصاً العلويين . وعليه فهناك عداء تاريخي متجّذر بين البرامكة وبين العلويين ، ولا نشك أن كلام ابن خلكان ناشى ء عن هذا . ٢ – أن ابن خلكان كان من عشاق يزيد بن معاوية وشعره ، وإذ أنه ذكر في ترجمة المرزباني : وهو أول من جمع ديوان يزيد بن معاوية بن
أبي سفيان الأموي ، واعتنى به ، وهو صغير الحجم ، يدخل في مقدار ثلاث كراريس ، وقد
جمعه من بعده جماعة ، وزادوا فيه أشياء كثيرة ليست له ، وكنت حفظت جميع ديوان يزيد ؛ لشدة غرامي
به ، وذلك في سنة ثلاث وثلاثين وستمائة بمدينة
دمشق ، وعرفت صحيحه
من المنسوب إليه الذي ليس له ، وتتبّعته حتى ظفرت بصاحب
كل أبيات ، ولولا خوف التطويل لبيَّنت ذلك ، وشعر يزيد مع قلَّته في نهاية الحسن [وفيات الأعيان ٤ / ٣٥٤ .] . |
|
هنا
لابد لنا من طرح عدة تساؤلات :
|
|
ما سبب غرام ابن خلكان الشديد بشعر يزيد ؟
|
|
إن كان حبّه لنفس الشعر، فهذه طامة
تنبىء عن سوء سريرة ابن خلكان ، إذا أن شعر يزيد ليس شعراً في ذكرالله ، ولا في الثناء على نبيّه صلى الله عليه وآله ، بل كله فسق وفجور، وليس هناك أفضل من الذهبي في تلخيصه لسيرة يزيد بن معاوية بقوله : وكان ناصبيًّا فظًّا ، غليظاً ، جلفاً
، يتناول المسكر، ويفعل المنكر، افتتح دولته بمقتل الشهيد الحسين ، واختتمها بواقعة الحرة ، فمقته الناس ، ولم يبارك في عمره [سير أعلام النبلاء ٤ / ٣٨ .] . وإن كان حبه لشعر يزيد من أجل حبه
ليزيد نفسه فيكفينا هذا مطعناً في هذا الرجل ؛ إذا أن حب يزيد من أقوى الأدلة
على النصب وبغض أهل البيت عليهم السلام ، وقد كفانا ابن كثيرالدمشقي مؤونة إثبات هذه القضية بقوله : الناس في يزيد بن معاوية أقسام ، فمنهم
من يحبّه ويتولاه ، وهم طائفة من أهل الشام ، من النواصب [البداية والنهاية ٦ / ٢٥٦ .] . ثالثاُ : لو افترضنا أن ما ذكره ابن خلكان هو
رواية عن معاصريه ، ولا رأياً له ، فهذا أيضاً لا يمكن قبوله ؛ لأن هذا الرجل فاسق مشهور بالفجور
والعياذ بالله ! ذكرالكتبي في ترجمة ابن خلكان : وكان له ميل إلى بعض أولاد الملوك ،
وله فيه أشعاررائقة , يقال : إنه أول يوم زاره بسط له الطرحة ، وقال له : ما
عندي أعز من هذه طأ عليها . ولما فشا أمرهما وعلم به أهله منعوه الركوب ، فقال ابن خلكان : ياسادتي إني قنعتُ وحقَّكم ***** في
حُبَّكم منكم بأيسرِمطلبِ إن لم تجودا بالوصالِ تعطّفاً *****
ورأيتمُ هجري وفرطَ تجنبي لا تمنعوا عيني القريحهَ أن ترى *****
يومّ الخميسِ جمالكم في الموكبِ لو كنتَ تعلمُ يا حبيبي ما الذي *****
ألقاه مِنْ كَمَدٍ إذا لم تركبِ [فوات الوفيات ١ / ١١٢.] ونقل في نفس المصدر: كان الذي يهواه القاضي شمس الدين بن
خلكان : الملك المسعود بن الزاهر صاحب حماة ، وكان قد تيّمه حبّه ، وكنت أنا
عنده في العادلية ، فتحدّثنا في بعض الليالي إلى أن راح الناس من عنده ، فقال :
من أنت ههنا ؟! وألقى عليَّ فروة قرظ ، وقام يدورحول البركة في بيت العادلية ،
ويكّررهذين البيتين إلى أن أصبح ، وتوضينا وصلينا . والبيتان المذكوران : أنا والله هالكٌ ***** آیسٌ مِنْ
سلامتي أو أرى الَقامَة التي***** قد أقامتْ
قيامتي [فوات الوفيات ١ / ١١٣ .] كما أن الكتبي نقل بإنصاف قصة تبيَّن رأي الشاميين في ابن خلكان ، حيث قال : ويقال : أنه سأل بعض
أصحابه عما يقوله أهل دمشق فيه ، فاستعفاه ، فألحَّ عليه ، فقال : يقولون إنك تكذب في نسبك، وتأكل الحشيشة
، وتحب الصبيان . فقال : أما النسب والكذب فيه فإذا كان لا بد منه كنت أنتسب إلى العباس ، أو إلى علي بن أبي طالب
، أو إلى أحد الصحابة ، وأما النسب إلى قوم لم يبق لهم بقية ، وأصلهم قوم مجوس فما فيه فائدة ، وأما الحشيشة فالكل ارتكاب محرم ، وإذا كان ولا بد فكنتُ أشرب الخمر؛ لأنه ألذ ، وأما محبة الغلمان فإلى غد أجيبك عن هذه المسألة [فوات الوفيات ١/١١٣ . فهنا نجده ينفي ما نُسب له سوى ما أسماه
بمحنة الغلمان والعياذ بالله ! فهل يمكن أن يحكم مثل هذا على تراث
أهل البيت عليهم السلام ، ويكون رأيه سيفاً قاطعاً يفصل بين الحق والباطل ؟ إذن ، هذا الرجل هو أول من بذر بذرة التشكيك
في نهج البلاغة ، وتعاهدها اللاحقون من المخالفين بالسقي والاعتناء حتى تجوَّلت
إلى يقين عند البعض بأن نهج البلاغة كتاب موضوع منحول على الإمام أميرالمؤمنين
علي بن أبي طالب ع ! |
|
على خطى ابن خلكان
|
|
تواصلت حملة التشكيك في نهج البلاغة بعدما افتتحها ودشّنها ابن خلكان ، فكل من جاء بعده إنما تبنى رأيه دون تحقيق ولا تبيان،بل حتى لفظ
ابن خلكان حافظوا عليه بنفسه ولم يغيَّروه ! وهذا يدل على أنهم مقلّدة وأبواق
للسابقين،وليسوا بأهل بحث وتحقيق ، وإلا فالعالم لا يعتمد على قول غيره دون
تبيان ولو كان الغير من أعاظم العلماء ؛ لأن قول العالم يُحتج له ولا يُحتج به
عند المحقّقين . وسنطرح بعض الأقوال على سبيل التمثيل لا
الحصر لكي يتأكد القارئ من صحة ما نقوله في هؤلاء : الأول : ما ذكره الذهبي ( توفي ٧٤٨ هـ) في تاريخ الإسلام ، فإنه قال : قلت : وقد اختلف في كتاب
نهج البلاغة المكذوب على عليّ عليه السلام ، هل هو من وضعه ، أو وضع أخيه الرضّي [تاريخ الأسلام ٢٩ / ٤٣٤ .] . الثاني : ما ذكره الصفدي ( توفي ٧٦٤ هـ) في كتاب الوافي بالوفيات : وقد اختلف
في كتاب نهج البلاغة ، هل هو وضعه ، أو وضع أخيه الرضي [الوافي بالوفيات ٢٠ / ٢٣١ .] . الثالث : ما ذكره اليافعي ( توفي ٧٦٨ هـ) : وقد اختلف الناس في كتاب نهج
البلاغة المجموع من كلام علي بن أبي طالب عليه السلام ، هل هو جمع أو جمع أخيه
الرضي ؟ وقد قيل : إنه ليس من كلام علي ، وإنما أحدهما هو الذي وضعه ، ونسبه إليه ، والله تعالى أعلم [مرآة الجنان ٣/٤٣ .] . الرابع : ما ذكره ابن العماد الحنبلي ( توفي ١٠٨٩ هـ) : ولقد اختلف الناس في كتاب نهج
البلاغة المجموع من كلام علي بن أبي طالب عليه السلام ، هل هو جمعه أم جمع أخيه
الرضي ؟ وقد قيل : إنه ليس من
كلام علي ، وإنما الذي جمعه ونسبه إليه هو الذي وضعه ، والله أعلم [شذرات الذهب ٢٥٧ .] . الخامس : ما ذكره القنوجي ( توفي ١٣٥٧ هـ ) في كتابة أبجد العلوم : وقد اختلف
الناس في كتاب نهج البلاغة المجموع من كلام الإمام علي بن أبي طالب ، هل هو جمعه
أم جمع أخيه الرضي ؟ وقد قيل : إنه ليس من كلام علي ، وإنما الذي جمعه ونسبه إليه هو الذي
وضعه [أبجد العلوم ٣ / ٦٦ .] . وكما يرى القارئ الكريم أن هؤلاء هم مجرد نقلة لا أكثر ولا أقل ، بل لم يكلفوا أنفسهم حتى عناء تغييرعبارة ابن خلكان ! والغريب أنهم يعبرون بـ (قلت) رغم أن هذا القول هو منقول عن ابن خلكان ، فهل يُتَوقَّع من هؤلاء الذين لم
يكلفوا أنفسهم عناء التحقيق في هذه المسألة ، أن ينصفوا كتاب نهج البلاغة ؟ |
|
الذهبي أنموذجاً
|
|
قد يتهمني البعض بأني تحاملت على
هؤلاء المذكورين ، وأن ما ذُكر ليس إلا من باب تشابه العبارات ، وإلا فإن القوم
قد بحثوا ونقبوا ووصلوا إلى نفس النتيجة التي توصَّل إليها ابن خلكان ، وليسوا
مقلدة كما ادّعينا . ولدرء هذه الشبهة ودفع هذه الظنون سنناقش تقييم الذهبي لكتاب نهج البلاغة
، لنصل إلى نتيجة ربما تكون أعظم مما
ذكرناه . |
|
من هو الذهبي ؟
|
|
الذهبي هو إمام علم الجرح والتعديل عند القوم ، وأعظم المؤرَّخين ، بل إن كتبه هي عمدة المتأخرين في علم الحديث والرجال . قال فيه معاصره ابن كثيرالدمشقي : وفي ليلة الاثنين ثالث شهرذي القعدة توفي الشيخ الحافظ الكبيرمؤرَّخ الاسلام وشيخ المحدَّثين شمس الدين
أبوعبدالله محمد بن عثمان الذهبي بتربة أم
الصالح ، وصُلّي عليه يوم الاثنين صلاة الظهرفي جامع دمشق ، ودُفن بباب الصغير، وقد ختم به شيوخ الحديث وحفاظه رحمه الله [البداية والنهاية ١٤/ ٢٦٠ .] . قال ابن الفداء في الذهبي
: وفيه صلى بحلب صلاة الغائب على الشيخ شمس
الدين بن محمد بن أحمد بن عثمان بن قايمازالذهبي الدمشقي ، منقطع القرين في معرفة أسماء الرجال ، محدث كبير، مؤرخ من
مصنفات كتاب تاريخ الإسلام ، وكتاب الموت وما
بعده وكُفَّ بصره في آخرعمره ، ومولده سنة ثلاث وسبعبن وستمائة [تاريخ أبي الفداء ٤ / ١٥٠ .] . |
|
رأيه في نهج البلاغة
|
|
ذكرنا سابقاً قول الذهبي في نهج البلاغة ، وهو تقريباً نفس عبارة ابن خلكان التي سارعليها كل من جاء بعده . لكن الذهبي استدرك على عبارته تلك في
مورد آخر، وذكرأمراً جعلها
مانعاً من قبول هذا الكتاب العظيم والسفرالكريم . قال في سيرأعلام النبلاء : هو جامع كتاب (نهج البلاغة) ، المنسوبة ألفاظه إلى الإمام علي ع ، ولا أسانيد لذلك ، وبعضها باطل ، وفيه حق ، ولكن فيه موضوعات ، حاشا الامام من النطق بها ، ولكن أين المنصف ؟! سير أعلام النبلاء ١٧ / ٥٨٩ |
|
الدليل على هذا أمور:
|
|
إذن هو يسلّم بوجود أمورثابتة الصدورعن أميرالمؤمنين ع في كتاب (نهج البلاغة) ، ويثبت وجود موضوعات فيه . لكن لم يصرّح بالنسبة بينهما ، ولم يعطنا أنموذجاً من هذه
الأمورالباطلة التي حكم باستحالة صدورها من الأمام عليه السلام ، بل الأمر مجرد دعوى مجردة عن كان دليل
وبرهان ، وكما قال هو :
أين المنصف ؟ رأينا في ما قاله : والذي يظهرلأول وهلة من قراءة هذه
الفقرة أن الذهبي قد اطلع على نهج البلاغة،وسير
رواياته ونقّحها ، ثم خرج لنا بهذا الحكم ، لكن الحقيقة غيرهذا ؛ فإن الذهبي ليس فقط مقلداً لابن خلكان كما قدمناه ، بل الأعظم والأدهى أنه لم
يقرأ كتاب نهج البلاغة البتة ، ولم يطلع على ما فيه ! |
|
الأول
|
|
الأول : نسب الذهبي للشريف الرضي قدس سره كتاباً في معاني القرآن ، والمقصود منه هو التفسيرالمطبوع بعنوان (حقائق التأويل) ، والذي يتبادرللذهن من كلام الذهبي أنه
اطلع على هذا الكتاب ، إذا أنه قال : الرضي الشريف أبو الحسن ، محمد بن الطاهر أبي أحمد الحسين بن
موسى ، الحسيني الموسوي البغدادي الشاعر، صاحب الديوان ، له نظم في الذروة حتى قيل : هو أشعرالطالبيين ، ولى النقابة بعد
أبيه ، وديوانه يكون أربع مجلدات ، وله كتاب معاني
القرآن ، ممتع يدل على سعة
علمه [سير أعلام النبلاء ١٧ / ٢٨٥ .]. علماً أن في هذا الكتاب نص الشريف الرضي قدس سره على أن نهج البلاغة من تصنيفه وجمعه ، قال : إني لأقول أبداً : إنه لو
كان كلام يلحق بغبارة ، أو يجري في مضماره – بعد كلام الرسول صلى الله عليه وآله لكان ذلك كلام أميرالمؤمنين
على بن أبي طالب عليه السلام ، إذا كان منفرداً بطريق الفصاحة ، لا تزاحمه عليها
المناكب ، ولا يلحق بعقوه فيها الكادح الجاهد ، ومن أراد أن يعلم برهان ما أشرنا إليه من ذلك ، فلينعم النظرفي كتابنا الذي ألفناه ووسمناه بـ ( نهج البلاغة) ، وجعلناه يشتمل على مختار جميع الواقع
إلينا ، من كلام أميرالمؤمنين عليه السلام في جميع الأنحاء والأغراض ، والأجناس
والأنواع : من خطب وكتب ومواعظ وحكم ، وبوَّبناه أبواباً ثلاثة ، لتشتمل على هذه
الأقسام مميزة مفصلة ، وقد عظم الانتفاع به ، وكثرالطالبون له ، لعظيم قدر ما
ضمنه : من عجائب الفصاحة وبدائعها ، وشرائف الكلم ونفائسها ، وجواهرالفقر
وفرائدها [حقائق التأويل : ١٦٧ .] . فلو كان الذهبي قرأ الكتاب الذي حكم
عليه بأنه ممتع وأنه يدل على سعة علمه لما اشتبه ، ونسب الكلام للشريف المرتضى قدس سره دون الرضي رحمه الله ! والذهبي رغم أنه يكثرفي كتبه من تقييم الكتب والحكم على مضامينها إلا أن تعليقاته هي مجرد منقولات سماعية دون تأكد أو تدقيق ، لذلك يقع في هذه الاشتباهات ، ودونك ما ذكره في ترجمة شيخنا المفيد قدس سره حيث أقرَّ أنه كان يحفظ كتب مخالفيه ،
في حين أن الذهبي يحمد ربه على عدم اطلاعه على كتب المفيد التي عدّها بالمئات ! قال الذهبي في السير قيل : إنه ما ترك للمخالفين كتاباً إلا
وحفظه ، وبهذا قدرعلى حل شبه القوم ، وكان من أحرص الناس على التعليم ، يدورعلى
المكاتب وحوانيت الحاكة ، فيتلمح الصبي الفطن ، فيستأجره من أبويه ، قال : وبذلك
كثر تلامذته ، وقيل : ربما زاره عضد الدولة ، ويقول له : اشفع تشفع ، وكان ربعة نحيفاً أسمر، عاش ستًّ وسبعين سنة ، وله أكثر من مئتي مصنف ... إلى أن قال : مات سنة ثلاث عشرة وأربع
مئة ، وشيَّعه ثمانون
ألفاً... وقيل : بلغت تواليفه مئتين ، لم أقف على شيء منها ولله الحمد [سير أعلام النبلاء ١٧ / ٣٤٥ .] . فهذا هو حال الذهبي يفتخر بجهله ، ويحمد الله على قلة اطلاعه على كتب الشيخ المفيد قدس سره ، فهل مثل هذا يمكن أن تقبل شهادته ؟ |
|
الثاني
|
|
الثاني : الأدهى والأمر أن الذهبي لو اطلع كتاب ( نهج البلاغة) لرأى فيه إحالات على كتاب ( المجازات النبوية) ، فقال : وهذا من الاستعارات العجيبة
كأنه شبه السه بالوعاء ، والعين بالوكاء ، فإذا أطلق الوكاء لم ينضبط الوعاء ،
وهذا القول في الأشهر الأظهرمن كلام النبي صلى الله عليه وآله ، وقد رواه قوم لأميرالمؤمنين
عليه السلام ؛ وذكر ذلك المبرد في كتاب (المقتضب) في باب اللفظ بالحروف ، وقد تكلّمنا على هذه الاستعارة في
كتابنا الموسوم بمجازات الآثارالنبویة [نهج البلاغة ٤ / ١٠٧ .]. ولا یختلف اثنان من المسلمین آن کتاب
(المجازات النبویة ) تأليف الشريف الرضي قدس سره ، ولو اطلع الذهبي على كتاب نهج البلاغة
لعلم من هذه الإحالات أنه كتاب الشريف الرضي دون المرتضى . |
|
الثالث
|
|
الثالث : الطامة الكبرى أن المحقّق الذهبي لم يتصفّح بضع وريقات من كتاب (نهج البلاغة) ، ولو أنه فعل
ذلك لما وقع في هذا الاشتباه ، إذ أن في أول كتاب النهج وبالتحديد في مقدمة النهج ذكرالمصنف أنه هو مؤلف كتاب (الخصائص النبوية) ، حيث قال : فإني كنتُ في عنفوان
السن ، وغضاضة الغضن ، ابتدأت بتأليف كتاب ( خصائص الأئمة ع) يشتمل على محاسن أخبارهم وجواهر كلامهم ، حداني عليه غرض ذكرته في
صدرالكتاب ، وجعلته أمام الكلام ، وفرغت من الخصائص التي تخصّ أميرالمؤمنين
عليًّا ع ، وعاقت عن إتمام بقية الكتاب محاجزات الزمان ومماطلات الأيام [نهج البلاغة ١ / ١١ .]. من هنا نعلم أن الذهبي لم يطلع على نهج البلاغة ، ولم يقرأه ولا رآه بعینه « بل هو حکم جزافي لا مستند عليه ، بل
منشؤه التعصّب الأعمى واتباع الهوى . ولستُ أنا من أنسب هذا الأمر إلى الذهبي ، بل حتى تلاميذه شهدوا عليه بهذا الذي قلته ، وحكموا عليه بالتعصّب والتسرّع في الحكم على
مخالفيه ! قال السبكي مصوَّراً حال شيخه الذهبي : وهذا شيخنا الذهبي : رحمه الله من
هذا القبيل ، له علم وديانة ، وعنده على أهل السنة تحمّل مفرط ، فلا يجوز أن يعتمد عليه . ونقلت من خط الحافظ صلاح الدين خليل
بن كيكلدي العلائي رحمه الله ما نصّه : الشيخ الحافظ شمس الدين الذهبي لا أشك في
دينه وورعه وتحرّيه فيما يقوله الناس ، ولكنه غلب عليه مذهب الإثبات ، ومنافرة التأويل ، والغفلة عن التنزيه
، حتى أثر ذلك في طبعه انحرافاً شديداً عن أهل التنزيه ، وميلاً قويًّا إلى أهل
الإثبات ، فإذا ترجم
واحداً منهم يطنب في وصفه بجميع ما قيل فيه من المحاسن ، ويبالغ في وصفه ،
ويتغافل عن غلطاته ، ويتأوَّل له ما أمكن ، وإذا ذكرأحداً من الطرف الآخرکإمام الحرمين والغزالي ونحوهما لا يبالغ في وصفه ، ويُكثر من قول من
طعن فيه ، ويعيد ذلك ويبديه ويعتقده ديناً ، وهو لا يشعر ويعرض عن محاسنهم
الطافحة فلا يستوعبها ، وإذا ظفرلأحد منهم بغلطة ذكرها ، وكذلك فعله في أهل عصرنا ، إذا لم يقدرأحد منهم بتصريح يقول في ترجمته والله يصلحه ونحو ذلك ، وسببه المخالفة في العقائد انتهى ... والحال في حق شيخنا الذهبي أزيد مما وصف ، وهو شيخنا ومعلّمنا
غير أن الحق أحق أن يُتَّبع ، وقد وصل من التعصب المفرط إلى حد يُسخر منه ، وأنا أخشى عليه يوم القيامة من غالب
علماء المسلمين وأئمتهم الذين حملوا لنا الشريعة النبوية ، فإن غالبهم أشاعرة ،
وهو إذا وقع بأشعري لا يبقي ولا يذر، والذي أعتقده أنهم خصماؤه يوم القيامة عند من لعل أدناهم عنده
أوجه منه ، فالله المسؤول أن يخفَّف عنه ، وأن يلهمهم العفو عنه ، وأن يشفعهم
فيه [طبقات الشافعية الكبرى ٢ / ١٤ .] . فإذا كان هذا حاله مع موافقيه في
الاعتقاد ، ومن يعتقد
بإسلامهم ، وأنهم بنو جلدته ، فكيف مع الشيعة الذين يعتقد كفرهم وخروجهم عن الاسلام ، بل نعتهم بأقبح الألفاظ
في كتابه ! [قال في ميزان الاعتدال ٣ / ٢٤٢ : قال أبوأحمد الزبيري : رافضي ،
كأنه جرو كلب ...] . الذهبي ليس إلا أنموذجاً من هؤلاء وإلا لو تتّبعنا كلمات هؤلاء وبحثنا في
مصنّفاتهم لعلمنا أنهم أبعد ما يكونون عن البحث العلمي والنقد الهادف ، بل كلّ ما يصدر منهم هو عصيبة محضة وهوى متّبع . |
|
طعونات
في نهج البلاغة
|
|
ذكر مجموعة من النقاد مجموعة من
الأمور اعتبروها مطاعن في
نهج البلاغة ، وجعلوها عللاً تمنع من قبول هذا الكتاب ، وصيَّروها قرائن دالة على عدم صدور فقرات كتاب (نهج
البلاغة) عن أميرالمؤمنين عليه السلام . |
|
الشبهة
الأولى : سب الصحابة :
|
|
ارتكزالذهبي على هذه الشبهة للطعن في كتاب (نهج البلاغة) ، فقال في ميزان الاعتدال : ومن طالع كتابه ( نهج البلاغة) جزم
بأنه مكذوب على أميرالمؤمنين علي عليه السلام ، ففيه السب الصراح والحط على
السيَّدين : أبي بكر، وعمر[ميزان الاعتدال ٣ / ١٢٤ .] . ووافقه على هذا محب الدين الخطيب في تعليقته على (المنتقى من منهاج السنة) : وهذان الأخوان تطوّعا للزيادة على خطب أميرالمؤمنين سيّدنا علي
كرَّم الله وجهه بكل ما هو طارئ عليها وغريب منها، ومن التعريض بإخوانه الصحابة، وهو بريء عند الله
عزَّوجل من كل ذلك ، وسيبرأ إليه من مقترفي هذا الإثم [حاشية المنتقى من منهاج السنة : ٢٢ .]. |
|
والجواب على هذا : |
|
اولاً: بحثتُ في كل نهج البلاغة فلم أجد فيه أي (سب صراح) كما ادّعى الذهبي ، وهذا ليس بمستغرب
؛ إذ أنه كما أثبتنا سابقاً لم يقرأ (نهج البلاغة) ، ولم يطلع عليه ، ولهذا لم
يأت بشاهد واحد على هذا ( السب الصراح) المدَّعى ، ولو اشتمل الكتاب على سبّ صراح كما ادعى لاستشهد به عنده ذكره لهذا
الكلام . ثانياً : لو سلَّمنا بوجود هذا السب الصراح ؛ فإنه لا ملازمة بينه وبين الحكم على
الكتاب كله بالوضع ، فغاية ما يدل وجود السب الصراح – على مباني القوم طبعاً – هوالحكم على خصوص هذا المورد بالوضع ، وليس على كل الكتاب ، ووجود حديث موضوع لا يعني وضع كل الكتاب أو جله . ثالثاً : لو سلمنا جدلاً بوجود السب والشتم في الكتاب ، فإن ذلك لا يدل حتى على أن هذا السب مكذوب ، والدليل
على ذلك وجود أحاديث كثيرة فيها سب وشتم بين الصحابة في
أصح كتب المسلمين : من ذلك كلام الإمام علي عليه السلام في الشيخين : فقد روى مسلم في صحيحه حديثاً قال فيه عمر بن الخطاب لعلي والعباس : جئتما تطلب ميراثك من ابن
أخيك ، ويطلب هذا ميراث امرأته من أبيها ، فقال أبوبكر: قال رسول الله صلى الله عليه وآله ((ما نُوْرّث،ما تركنا صدقة))، فرأيتما كاذباً آثماً غادراً خائناً ، والله يعلم أنه لصادق بار راشد تابع للحق ، ثم توفي أبوبكر وأنا
ولي رسول الله صلى الله عليه وآله وولي أبي بكر، فرأيتماني كاذباٌ آثماً غادراً خائناً ، والله يعلم أني لصادق بار راشد تابع
للحق [صحيح مسلم ٥ / ١٥٢ .] . وأضاف ابن حبان قوله : ثم أقبل على
علي والعباس ، قال : وأنتما تزعمان أنه كان فيها ظالماً فاجراً ، والله يعلم صادق بار تابع للحق ،ثم
وليتها بعد أبي بكرسنتين من إمارتي ، فعملتُ فيها ما عمل فيها رسول الله صلى
الله عليه وآله وأبوبكر، وأنتما تزعمان أني فيها ظالم فاجر،والله يعلم أني فيها صادق بار تابع للحق [صحيح ابن حبان ١٤ / ٥٧٧ .] . وقد حاول البعض تأويل هذه الرواية بحملها على المزح والهزل ، وليس على حقيقتها لكن يكفينا في رد هذا التأويل البارد أن البخاري حذف هذه الألفاظ ، وأسقطها من الرواية [صحيح البخاري ٢ / ٩٥٢ ح ٣٠٩٤ .] ، وعلَّق ابن حجر بقوله : في رواية عقيل عن ابن شهاب في الفرائض : اقضِ بيني وبين هذا الظالم ، استبَّا ، وفي رواية جويرية : وبين هذا الكاذب الآثم الغادرالخائن
، ولم أر في شيء من الطرق أنه صدر من علي في حق العباس شيء بخلاف ما يفهم قوله
في رواية عقيل : ((استبا)) ، واستصوب المازري صنيع من حذف هذه الألفاظ من هذا الحديث [فتح الباري ٦ / ١٤٣ .] . ومن ذلك أيضاً سب عمرلأبي هريرة : فقد روى الحاكم في المستدرك بسنده : عن أبي هريرة رضي الله عنه
قال لي عمر: يا عدو الله وعدو الإسلام ، خنت مال الله ؟ قال : قلت : لست عدو الله ولا عدو
الإسلام ، ولكني عدو من عاداهما ، ولم أخن مال الله ، ولكنها أثمان إبلي ، وسهام اجتمعت . قال : فأعادها عليَّ ، وأعدت عليه هذا الكلام . قال : فغرَّمّني اثني عشرألفاً . قال : فقمت في صلاة الغداة فقلت :
اللهم اغفرلأميرالمؤمنين . فلما كان بعد ذلك أرادني على العمل ، فأبيت عليه ،
فقال : ولم قد سأل يوسف العمل وكان خيراً منك ؟ فقلت : إن يوسف نبي ابن نبي ابن
نبي ، وأنا ابن أميمة ، وأنا أخاف ثلاثاً واثنتين . قال : أو لا تقول : خمساً ؟ قلت : لا ، قال : فما هن ؟ قلت : أخاف أن أقول بغيرعلم ، وأن أفتي
بغيرعلم ، وأن يُضرب ظهري ، وأن
يُشتم عرضي ، وأن يؤخذ مالي بالضرب [المستدرك على الصحيحين ٢ / ٣٨٧ ، قال
الحاكم : هذا حديث صحيح بإسناد على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه . ووافقه الذهبي .] . فلماذا لم يحكم الذهبي على هذه الكتب بالوضع ؟ولماذا لم يحكم على خصوص هذه الروايات بالوضع والكذب ؟ بل العکس وجدناه ، فإنه صحَّح رواية سب عمرلأبي هريرة
، وحكم عليها بأنها على شرط الشيخين ! الرابع : الموجود في كتاب (نهج البلاغة) هو نقد لبعض سلوكيات الصحابة التي لم يرتضها أميرالمؤمنين عليه
السلام ، وهذا ليس شتماً أو سبًّا لكل الصحابة كما حاول الذهبي تصويرالأمر، ولم يقل أحد : (( إن نقد الصحابة ليس
بجائز، وأنهم فوق النقد )) ، بل وجدنا أن كبارعلماء المخالفين يشهدون بصدور بعض الموبقات من الصحابة
. قال سعد الدين التفتازاني : إن ما وقع بين الصحابة من المحاربات
والمشاجرات على الوجه المسطور في كتب التواريخ والمذكورعلى ألسنة الثقاة يدل بظاهره على أن بعضهم قد حاد عن طريق الحق ، وبلغ حد الظلم ، والفسق ، وكان الباعث له الحقد ، والعناد ،
والحسد ، واللداد ، وطلب الملك والرياسة ، والميل إلى اللذات والمشهورات [شرح المقاصد ٥ / ٣١٠ .] . وقال ابن عثيمين : ولا شك أنه حصل من بعضهم سرقة وشرب خمر وقذف وزنى بإحصان وزنى
بغير إحصان ، لكن هذه الأشياء تكون مغمورة في جنب فضائل القوم ومحاسنهم ، وبعضها أقيم فيه الحدود ، فيكون كفارة [شرح العقيدة الواسطية ٢ / ٢٩٢ .] . فهل نقل هؤلاء نقوداً لجملة من
الصحابة ونسبة الموبقات لهم لا يدل على كذب كتبهم ، ونقل السيّد الرضي قدس سره ذلك عن
أميرالمؤمنين عليه السلام يدل
على كذب نهج البلاغة ؟! الخامس : العجيب أن الذهبي تمسَّك بما ظنّه سباَّ للصحابة وأغمض جفنيه عن
النصوص المادحة لصحابة رسول الله صلى الله عليه وآله
الوارد في كتاب (نهج البلاغة) ، مثل قول
أميرالمؤمنين عليه السلام : قد رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وآله ، فما
أرى أحداً يشبههم ، لقد كانوا يصبحون شعثاً غبراً ، وقد باتوا سُجَّداً وقياماً
، يراوحون بين جباههم وخدودهم ، ويقفون على مثل الجمر من ذكر معادهم ، كأن بين
أعينهم ركب المعزى من طول سجودهم ، إذا ذُكر الله هملت أعينهم حتى تبل جيوبهم ،
ومادوا كما يميد الشجر يوم الريح العاصف خوفاً من العقاب ورجاء الثواب [نهج البلاغة ١ / ١٩٠ .] . نختم بتصريح مهم جداً للمعلمي اليماني الذي قال في كتابه التنكيل : وقد عذر أهل السنة بعض
من قاتل علي بن أبي طالب رضوان الله عليه وجاهر بسبّه ولعنه ، فإن كان الحميدي مخطئاً فهو أولى
وأجدر بأن يعذر ويؤجر[التنكيل ١ / ٢٩٧ .]! فإن كنتم قد عذرتم من سبّ عليا ع ولعنه وحاربه ، فكيف لا تعذرون الشريف الرضي وهو مجرد ناقل لقضايا تاريخية قد ثبتت بالدليل والبرهان ؟فهذه الأجوبة الخمسة كافية لدحض هذه الشبهة ورد هذا الافتراء عن كتاب ( نهج البلاغة) . |
|
الشبهة
الثانية : سبك العبارات :
|
|
من جملة الأمورالتي ذكروها للطعن في
كتاب ( نهج البلاغة) هي وجود عبارات ركيكة في بعض مضامين
الكتاب كما نصَّ الذهبي على
ذلك وانفرد به ، فقال : وفيه من التناقض والأشياء الركيكة والعبارات التي من له معرفة
بنفَس القرشيين الصحابة وبنفَس غيرهم ممن بعدهم من المتأخَّرين جزم بأن الكتاب أكثره باطل [ميزان الاعتدال ١ / ١٩٠ .]. |
|
والجواب على هذا : |
|
أولاً : ادّعى الذهبي وجود عبارات ركيكة في كتاب (نهج البلاغة) تدل على أنها ليست من
سبك الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام المعروف بالفصحاحة والبلاغة والاحاطة
بأساليب العرب ، وكالعادة لم يأتِ الذهبي بشاهد أو دليل أو قرينة على ما ذكره سوى إلقاء الكلام على
عواهنه ، دون إثبات لصدق ما يدّعيه ، وهذه عادة من لا يكون عنده حجة يثبت بها دعاواه الباطلة . ثانیاً : شهادة الذهبي لا يمكن قبولها ؛ لما ذكره هو بنفسه من أن (من له علم بنفّس القرشيين يجزم بأن
هذا الكتاب الكتاب موضوع مجعول) ، إذ أن الرجل قد نصَّ في ترجمته للشريف الرضي قدس سره أنه فارس في ميدان الأدب والشعر [قال عنه في سيرأعلام النبلاء ١٧ / ٢٨٦
: الشريف أبوالحسن ، محمد بن الطاهرأبي أحمد الحسين بن موسى ، الحسيني الموسوي
البغدادي الشاعر، صاحب (الديوان) ، له نظم في الذروة حتى قيل : هو أشعرالطالبيين
.]،
وقد قدَّمنا شهادة فطاحل المترجمين على نبوغ الرجل في هذا الفن ، في المقابل نجد أن الذهبي لا سابقة له في علوم
الأدب والبلاغة، بل هو ليس بعربي أصلاً ، وإنما هو تركماني ، في حين أن الرضي عربي قرشي هاشمي علوي ، فكيف تقبل شهادة هذا في هذا ؟ ثالثاً : شهادة الذهبي معارضة بشهادة مجموعة من أهل الاختصاص المشهود لهم بأنهم من أهل المعرفة باللغة والأدب والبلاغة : قال ابن ابي الحديد المعتزلي [عرّفه الذهبي في تاريخ الإسلام ٤٨ / ٢٠٢ : عبدالحميد بن هبة الله بن محمد بن
محمد بن أبي الحديد عزالدين أبو حامد المدائني ، المعتزلي ، الفقيه الشاعر،
الأديب أخو الموفق ، وُلِد سنة ست وثمانين وخمسائة ، روى بالإجازة عن : عبدالله
بن أبي المجد الحربي ، وهو معدود في أعيان الشعراء كأخيه .] في شرحه : ويكفي هذا الكتاب الذي نحن شارحوه دلالة على أنه لا يجارى في الفصاحة ، ولايبارى في
البلاغة ، وحسبك أنه لم
يدوَّن من لأحد فصحاء الصحابة العُشْر، ولا نصف العُشْر مما دون له . وكفاك في هذا الباب ما يقوله أبوعثمان
الجاحظ في مدحه في كتاب (البيان والتبيين) وفي غيره من كتبه [شرح نهج البلاغة ١ / ٣٥ .] . - الشيخ محمود شكري الآلوسی [وهو من كبارعلماء السلفية في العراق ، ومن المتشددين في العقائد السلفية ، ألف كتاباً
أسماه (بلوغ الأماني) ، انتصر فيه لأراء ابن تيمية في
التوسل والاستغاثة والزيارة .] فإنه قال : هذا كتاب (نهج البلاغة) قد أستودع من خطب الإمام علي بن أبي طالب سلام الله عليه ما هو قبس من نورالكلام الإلهي، وشمس
تضيء بفصاحة المنطق النبوي [بلوغ الارب ٣ / ١٨٠ .] . - الشيخ محمد محي الدين عبدالحميد [من كبارعلماء الأزهر المعروفين بتخصصهم في علوم اللغة، ولذلك نجد أن جملة من الكتب النحوية
المتداولة في هذا العصرمن تحقيقه،كقطرالندى، وشذورالذهب، ومغني اللبيب وغيرها .] فإنه قال : هو ما اختاره الشريف الرضي أبوالحسن محمد بن الحسين
الموسوي من كلام أميرالمؤمنين علي بن أبي رضي الله عنه ، وهوالكتاب الذي ضمَّ
بين دفتيه عيون البلاغة وفنونها ، وتهيأت به للناظر فيه أسباب الفصاحة ، ودنا منه قطافها
، إذ كان من كلام أفصح الخلق بعد الرسول صلى الله عليه وآله منطقاً ، وأشدهم
اقتداراً ، أبرعهم حجة ، وأملكهم للغة ، يديرها كيف شاء الحكيم الذي تصدرالحكمة
عن بيانه ، والخطيب الذي يملأ القلب سحر بيانه ، والعالم الذي تهيأ له من خلاط
الرسول ، وكتابة الوحي ، والكفاح عن الدين بسيفه ولسانه منذ حداثته ما لم يتهيأ
لأحد سواه [مقدمة نهج البلاغة : ٧ .] . هذا غيض من فيض ، ولو أردنا استقصاء كلمات أهل الاختصاص في نهج البلاغة لطال بنا المقام ، ولاحتجنا إلى كتاب خاص لسرد هذه
الشهادات المهمة التي ضرب بها الذهبي عرض الجدار. |
|
الشبهة
الثالثة : مصادرالنهج وأسانيده :
|
|
من أهم الإشكالات التي يتمسَّك بها الطاعنون في نهج
البلاغة في هذا العصر هو خلو كتاب (نهج البلاغة) من الأسانيد ، وعدم وجود جملة من نصوص الكتاب في
المصادرالمتقدَّمة عليه . وقد أسَّس لهذه الشبهة
ابن تيمية الحراني في كتابه ( منهاج السنة)
بقوله : وهذا الخطب المنقولة في كتاب (نهج
البلاغة) لو كانت كلها عن علي من كلامه لكانت
موجودة قبل هذا المصنف ، منقوله عن علي بالأسانيد وبغيرها ، فإذا
عرف من له خبرة بالمنقولات أن كثيراً منها بل
أكثرها لايُعرف قبل هذا ، عُلِم أن هذا كذب ، وإلا
فليبيَّن الناقل لها في أي كتاب ذكر ذلك ؟ ومن الذي نقله عن علي ؟ وما إسناده ؟
وإلا فالدعوى المجرّدة لا يعجزعنها أحد [منهاج السنة ٨ / ٥٥ .] . |
|
والجواب على هذا بأمور: |
|
أولاً : أن الشريف الرضي قدس سره كان بصدد تصنيف كتاب أدبي ، وليس مصدراً من مصادرالحديث الشيعية ، أو مرجعاً للعقائد والفقه ، ولذلك فإنه اختصرالطرق ، واستغنى
عن الأسانيد مراعاة لمقتضى الحال ، فمن أراد أن يتثَّبت من صحة المنقولات فعليه بالرجوع إلى المصادرالأصلية التي نقل منها الجامع ، وليس أن
يعتمد رأساً على نهج البلاغة . وما فعله الرضي ليس بمبتَدع أو تدليس كما
يحاول البعض إلصاق هذه التمهة به ، بل هذا أمر متعارف عليه بين أهل العلم ، ولذلك إذا راجعت مثلاً
كتب تراجم الصحابة ، أمثال كتاب (الإصابة في معرفة الصحابة)، أو كتاب
(الاستيعاب) ، أوغيرها من كتب التاريخ ، مثل كتاب (الكامل في التاريخ) لابن
الأثير، لا تجد ذكراً
للأسانيد والرواة إلا قليلاً جدًّا ، بل عادة يكتفي بذكرآخر راو فقط . ثانياً : بمراجعة مقدمة كتاب (نهج البلاغة) نجد أن الشريف الرضي قدس سره قد اعترف فيها بأن الكلمات
التي نسبها لأميرالمؤمنين عليه السلام في كتابه قد نقلها عن مصادرها الأصلية . قال في المقدمة : وربما جاء في أثناء هذا الاختياراللفظ
المردَّد والمعنى المكرَّر والعذر في ذلك أن روايات كلامه تختلف اختلافاً شديداً ، فربما اتفق الكلام
المختار في رواية فنُقل على وجهه ثم وُجد بعد ذلك في رواية أخرى موضوعاً غير
وضعه الأول ، إما بزيادة مختارة ، أو بلفظ أحسن عبارة ، فتقتضي الحال أن يعاد
استظهاراً للاختيار، وغيره على عقائل الكلام ، وربما بَعْدَ العهد أيضاً بما
اختبر أولاً ، فأعيد بعضه سهواً ، أو نسياناً ، لا قصداً واعتماداً[نهج البلاغة ١ / ١٣ .] . فالرجل قد أفصح عن منهجه ، وأبان
مقصده ، وأوضح أنه مجرد ناقل لكلمات أميرالمؤمنين عليه السلام الفصيحة وعباراته المليحة ، وليس واضعاً أو ناحلاً كما يدَّعون . ثالثاً : لو اطلع ابن تيمية أو غيره على كتاب (نهج البلاغة) لوجدوا أن الشريف الرضي قدس سره ذكر في موارد كثيرة من كلامه مصادره التي نقل منها هذه الخطب والرسائل ، ومنها : منها : كتاب المقتضب للمبرد : قال السيد الرضي قدس سره : وقد رواه قوم لأميرالمؤمنين ع ، وذكرالمبرد في كتاب (المقتضب) في باب اللفظ الحروف ، وقد تكلّمنا
على هذه الاستعارة في كتابنا الموسوم بمجازات الآثارالنبوية [نفس المصدر ٤ / ١٠٧ .] . ومنها : كتاب تاريخ الطبري : قال السيد الرضي قدس سره : وروى ابن جريرالطبري في تاريخه عن عبد
الرحمن بن أبي ليلى الفقيه ، وكان ممن خرج لقتال الحجاج مع ابن الأشعث أنه قال
فيما كان يحض به الناس على الجهاد : إني سمعت عليَّا يوم لقينا أهل الشام... [نفس المصدر٤ / ٨٨ .] . ومنها : كتاب البيان والتبيين : قال السيد الرضي قدس سره : أقول : هذه الخطبة ربما نسبها من لاعلم
له إلى معاوية ، وهي من كلام أميرالمؤمنين عليه السلام الذي لا يشك فيه ، وأين
الذهب من الرغام ، والعذب من الأجاج ؟ وقد دلَّ على ذلك الدليل الخريت ، ونقده
الناقد البصير: عمرو بن الجاحظ ، فإنه ذكرهذه الخطبة في كتاب (البيان والتبيين) ، وذكرمن نسبها إلى
معاوية ، ثم قال : هي بكلام علي عليه السلام أشبه [نفس المصدر ١ / ٧٩ .] . فهذه التصريحات تدل على أن الشريف الرضي قدس سره مجرد ناقل لكلمات أميرالمؤمنين عليه السلام من الكتب السابقة وغيرها . لكن يبق هنا إشكال مهم : وهو خلو الكتب المتقدّمة من النصوص
المنقولة في كتاب (نهج البلاغة) ، وهو مفاد قول ابن تيمية : ((فإذا عرف من له
خبرة بالمنقولات أن كثيراً منه بل أكثرها لا يعرف قبل هذا )) ، فمن أين جاء الشريف لرضي قدس سره بهذه
النصوص ؟ هنا لابد من الوقوف على مقدمتين : الأولى : أن خطب أميرالمؤمنين عليه السلام كانت موجودة ومتداولة بين أيدي الناس قبل أن يخلق الشريف الرضي . قال الجاحظ في البيان : هذه خطب رسول الله صلى الله عليه
وآله مدوَّنة محفوظة ومخلدة مشهورة ، وهذه خطب أبي بكر وعمر وعثمان وعلي [البيان والتبيين ١ / ٢٠١ .] . قال المسعودي في المروج : والذي حفظ الناس عنه من خطبه في سائر
مقاماته ٤٠٠ خطبة ونيف ، وثمانون خطبة يوردها على البديهة ، وتداولها الناس ذلك
عنه قولاً وعملاً [مروج الذهب ٢ / ٤١٩ .] . واذا استقرأنا الكلمات والخطب
المتداولة الآن دون المذكورة في كتاب (نهج البلاغة) وغيره نجد أن مجموعها لا يصل إلى نصف هذا العدد الذي ذكره
المسعودي ، الذي توفي قبل أن
يصنف نهج البلاغة ، بل قبل أن يولد الشريف الرضي قدس سره . الثانية : أن كل من طعن في كتاب (نهج البلاغة) نصَّ على وجود حق فيه ، وثبوت
صدور جملة من كلماته عن أميرالمؤمنين عليه السلام ، فالخلاف هو جزئي أي في بعض فقرات النهج
لا كله . بعد هذه المقدمتين نجيب عن ايراد ابن تيمية بالآتی : اولاً : من أراد الوقوف على مصادر كتاب (نهج البلاغة) عليه الرجوع إلى الأصول المعتبرة ، كالكتب الأربعة عند الشيعة (الكافي ، التهذيب ، الاستبصار،
الفقيه) وغيره من كتب الصدوق والمفيد والشيخ الطوسي ، ولاختصارالطريق على الباحث هناك كتب اهتمت بتخريج أحاديث النهج
وذكرالمصادر، مثل كتاب ( مصادرنهج البلاغة وأسانيده ) للسيد عبد الزهراء الخطيب ، وكتاب (بهج الصباغة ) للمحقق التستري . ثانياً : في حال عدم وجود مصدر للخطب المذكورة في (نهج البلاغة) ، فإن هذا لايوجب الطعن في جميع الكتاب ولا
في المؤلف نفسه ، إذ أن هناك أموراً كثيرة منعت من وصول تراث أهل البيت عليهم
السلام ، ومن قرأ التاريخ وتتبّع حوادثه علم أن هناك حملة ممنهجة شُنّت على أهل البيت عليهم السلام لإخفاء تراثهم ، وللتعتيم على حديثهم ، وكانت هذه الحملة على مراحل : ١ – الإعراض عن أحاديث النبي وأهل البيت عليهم السلام : بمراجعة أهم كتب الحديث نجد عدة قرائن تدل على وجود إعراض متعمَّد من المحدَّثين والفقهاء عن كل ما يتعلق بآل محمد عليهم السلام . منها : ما نقله الحاكم النيسابوري في المستدرك بسنده عن سعيد بن جبير، قال : كنا مع ابن عباس بعرفة ، فقال لي : يا سعيد مالي لا أسمع الناس يلبّون ؟ فقلت : يخافون من معاوية . قال : فخرج
بن عباس من فسطاطه ، فقال : لبيك اللهم لبيك ، فإنهم قد تركوا السُّنّة من بغض علي رضي الله عنه [المستدرك على الصحيحين ١ / ٤٦٤ .] . وهذا الحديث نص من ابن عباس رضي الله عنه وشهادة منه على أن القوم قد أعرضوا عن سنة رسول
الله صلى الله عليه وآله وهجروها بغضاٌ وکرهاٌ وعداوة لأميرالمؤمنين عليه السلام
، فإن كان هذا حال الصحابة الذين تُدّعى فيهم العدالة والصلابة
في الدين ، فكيف بالذين جاؤوا
بعدهم ، وثبت نصبهم وعداوتهم لأهل البيت
عليهم السلام ؟! ٢- المنع من التحديث عن النبي وأهل
البيت عليهم السلام : فقد ثبت في كتب التاريخ والحديث والسيرة أنه بعد وفاة النبي صلى الله عليه
وآله منع الحکام من التحديث بسنّته والرواية عنه ، وكان لهذا القرارعواقب وخيمة ، لاسيما طمس آثار النبي صلى الله
عليه وآله، بل إقصاء لكل السنة النبوية التي تمثل المصدر الثاني من مصادرالتشريع
. وممن منع من التحديث بالسنة أبوبكربن أبي قحافة : فإنه قد فرض حظراً على التحديث
بسُنّة النبي صلى الله عليه وآله ، ولعل هذا القرار كان من أول القرارات التي اتخذها أبوبكربعد وفاة الرسول الأعظم
صلى الله عليه وآله : فقد روى الذهبي : عن ابن أبي مليكة أن الصدّيق جمع الناس بعد وفاة نبيّهم ، فقال : إنكم تحدَّثون عن رسول الله صلى الله عليه وآله أحاديث تختلفون
فيها ، والناس بعدكم أشد اختلافاً ، فلا تحدَّثوا عن رسول الله شيئاً ، فمن
سألكم فقولوا : بيننا وبينكم كتاب الله ، فاستحلّوا حلاله ، وحرَّموا حرامه [تذكرة الحفاظ ١ / ٣ .] . وهذا الأثر واضح صريح في أن الخليفة
الأول نهى عن التحديث نهياً صريحاً لا يقبل التأويل
والتبديل ، حيث قال : (( فلا تحدَّثوا عن رسول الله شيئاً))، وأمرهم بالرجوع إلى
كتاب الله ، وحصر التشريع فيه بقوله : (( فقولوا : بيننا وبينكم كتاب الله ، فستحلّوا حلاله ، وحرّموا
حرامه )) . وما فعله أبوبكر قد حذَّر منه النبي صلى الله عليه وآله في حياته ، ونبَّه أمَّته
عليه ، فقد روى الحاكم [المستدرك على الصحيحين ١ / ١٠٨ .] والدارمي [سنن الدارمي ١ / ١٥٣ .] وابن ماجة [سنن ابن ماجة ١ / ١٠٦ .] وابن داوود [سنن أبي داوود ٢ / ٣٩٢ .] وأحمد واللفظ له بعدة طرق عن رسول
الله صلى الله عليه وآله أنه قال : ألا إني أوتيت الكتاب ، ومثله معه ، ألا إني
أوتيت القرآن ، ومثله معه ، ألا يوشك رجل ينثني شبعاناً على أريكته ، يقول :
عليكم بالقرآن ، فما وجدتم فيه من حلال فأحلّوه ، وما وجدتم فيه من حرام
فحرَّموه [مسند أحمد ٤ / ١٣١ .] . وفي هذا الحديث عدة أمورمهمة لابد من
الوقوف عندها : الأمرالأول : عبَّرالنبي صلى الله عليه وآله بلفظ : ((يوشك)) ، ولم يقل : ((سيكون)) أو ((سيحصل كذا وكذا)) ، وفي هذا دلالة على قرب ووقوع هذا الأمر، فإن فعل أوشك يدل على الإسراع المفضي
إلى القرب كما نصَّ على ذلك أهل اللغة ، ولا يوجد أقرب من هذه الحادثة كمصداق
لهذا التحذير. الأمرالثاني : من أهم الألفاظ المهمة في هذا الحديث ، التعبير بالأريكة ، وهي كما قال ابن أثير: السرير في
الحجلة من دونه ستر، ولا يسمّى منفرداً أريكة ، وقيل : هو كل ما اتُّكئ عليه من
سرير أو فراش أو منصة [النهاية في غريب الحديث والأثر ١ / ٤٠ .]..وهي في هذا الخبر كناية عن السلطة
والحكم ، فالشخص الذي
يمنع من الحديث ليس إنساناً من عوام الناس ، بل هو رجل مبسوط اليد وصاحب نفوذ ، وهو ما يتلاءم مع فعل أبي بكرالمذكور. الأمرالثالث : تطابق لفظ الحديث النبوي مع قول أبي بكر مطابقة تامة ، بحيث لا
تدع مجالاً للشك في كون الثاني هو مصداق للأول ، ففي الحديث النبوي عبر بقوله :
((عليكم بالقرآن،فما وجدتم فيه من حلال فأحلّوه ، وما وجدتم فيه من حرام فحرَّموه)) ، وأما في كلام أبي بكر فقوله : (( بيننا وبينكم كتاب الله ،
فاستحلوا حلاله ، وحرَّموا حرامه )) ، وهذا من دلائل النبوة ومن معجزات الرسالة
. وأما عمر بن الخطاب : فإنه هو أول من قاد هذه الحملة ، وصاحب السبق فيها ، فقد بدأ منذ حياة النبي صلى الله
عليه وآله فی التشکیك فی حجیة قوله وفعله وتقريره ، ولذلك نجد أن كان من
أكثرالصحابة المعترضين على ما يفعله رسول لله صلى الله عليه وآله الذي لا ينطق
عن هوى ، إن هو إلا وحي يوحى ! ولذلك أطلق أهل السنة اسم الموافقات على
هذه الحالة ، وهي أن يقول
النبي صلى الله عليه وآله شیئاً ، ويخالفه عمر بن الخطاب فيه ، فينزل الوحي موافقاً لقول عمر، ومَخطَئا لقول خير البشرصلى الله
عليه وآله . وقد جعل السيوطي في كتابه (تاريخ
الخلفاء) باباً أسماه : في موافقات عمر [تاريخ الخلفاء : ١١١ .] ، قال فيه ، قد أوصلها بعضهم إلى أكثرمن عشرين ! بل إن ابن حجر العسقلاني يصرّح بأن عمر بن الخطاب فهم القرآن
الكريم ، في حين أن النبي الأعظم صلى الله عليه وآله لم یفهمه فنزل الوحي مُصوَّباً لفهم عمر في قصة الصلاة على ابن سلول ! قال ابن حجر: عن ابن عباس : فقال عمر: أتصلي عليه
وقد نهاك الله أن تصلي عليه ؟ قال : أين ؟ قال : قال : (أستَغفِرلَهُم) الآیة . وهذا مثل رواية الباب ، فكان عمر قد فهم من الآیة المذكورة ما هو الأكثر الأغلب من لسان العرب من أن ((أو) ليست لتخيير، بل للتسوية في عدم الوصف المذكور، أي أن الاستغفارلهم وعدم الاستغفار سواء ،
وهو كقوله تعالى : (سَوَآءٌ عًلًیهَم أستًغفًرتً لًهٍم آًم لًم تًستًغفِرلَهُم)
، لكن الثانية أصرح ، ولهذا ورد أنها نزلت بعد هذه القصة
كما سأذكره ، وفهم عمرأيضاً من قوله ( سَبعِين مَرَّة) أنها للمبالغة ، وأن العدد المعين لا مفهوم له ، بل المراد نفي
المغفرة لهم ولو كثرالاستغفار، فيحصل من ذلك النهي عن الاستغفار، فأطلقه ، وفهم أيضاً أن المقصود الأعظم من الصلاة على
الميت طلب المغفرة للميت والشفاعة له ، فلذلك استلزم عنده النهي عن الاستغفار ترك الصلاة ، لذلك جاء عنه في هذه الرواية إطلاق
النهي عن الصلاة ، ولهذه الأمور استنكر إرادة الصلاة على عبد الله بن أُبّي ،
هذا تقرير ما صدرعن عمر مع ما عُرف من شدّة صلابته في الدين وكثرة بغضه للكفار
والمنافقين ، وهوالقائل في حق حاطب بن أبي بلتعة مع ما كان له من الفضل كشهوده بدراً وغيرذلك لكونه كاتب قريشاً
قبل الفتح : دعني يا رسول الله أضرب عنقه ، فقد نافق . فلذلك أقدم على كلامه للنبي صلى الله عليه وآله بما قال ، ولم یلتفت إلى احتمال إجراء الكلام
على ظاهره لما غلب عليه من الصلابة المذكورة [فتح الباري ٨ / ٢٥٣ .] . وبناء على هذا فإن عمر بن الخطاب قد
طعن في حجية سُنّة النبي صلى الله عليه وآله فی أواخرحياته بقولته المعروفة : (( حسبنا كتاب الله)) [صحيح البخاري ٧ / ٩ .] ، التي تحصرالحجية في القرآن الکریم
فقط ، وتسقط كل ما سواه من الأمورالتي ثبتت حجيتها ، وبالخصوص السُّنّة النبويّة المطهَّرة . ولايقولن أحدكم : إننا بصدد التحامل على عمر وإلزامه
بما يلتزم ، إذ أن البعض جعل هذه العبارة من فقه عمر كما ذكرالنووي ، حيث قال : اتفق قول العلماء على أن قول عمر: ((حسبنا كتاب الله)) من قوة فقه
ودقيق نظره ؛ لأنه خشي أن يكتب أموراً ربما عجزوا عنها ، فاستحقوا العقوبة ؛ لكونها مصنوعة ، وأراد أن لا ينسد
باب الاجتهاد على العلماء ، وفي تركه صلى الله عليه وآله الإنكارعلى عمر إشارة إلى تصويبه رأيه ، وأشاربقوله
: (( حسبنا كتاب الله)) إلى قوله تعالى ( مّا فّرَّطنَا فِي الكِتّابِ مِن
شَىءٍ) [فتح الباري ٨ / ١٠٢ .] . بل إننا ندين القوم بما ذكروه
والتزموا به ، فأولاً نقول : إن اللفظ أريد به عمومه ؛ لعدم وجود قرينة تدل على تخصيصه ، أو
عدم إرادة ظاهره . وثانياً : ما ذكره الذهبي من أن
هذا اللفظ هو من قول الخوارج ! فقد قال في (تذكرة الحفاظ) في تعليقه على رواية ميراث الجدة :
هذا المرسل يدلك أن مرادالصدَّيق التثبت في الأخبار والتحري ، لا سد باب الرواية
، ألا تراه لما نزل به أمرالجدة ولم يجده في الكتاب كيف سأل عنه في السنة ، فما أخبره الثقة ما اكتفى حتى
استظهربثقة آخر، ولم يقل : (( حسبنا كتاب الله)) كما تقوله الخوارج .[
تذكرة الحفاظ ١ / ٣ .] فكلام الذهبي واضح صريح في أن هذه المقالة هي من مختصات
الخوارج ، وأن المقصود منها سد باب الرواية ، وإسقاط حجية السنة كما هو عندهم . وتواصلت هذه الحملة الشعواء على سُنّة
النبي المصطفى صلى الله عليه وآله بعد انتقاله صلى الله عليه وآله إلى الرفيق الأعلى
، فزجرالخليفة الثاني كل من كان يحدَّث بُسنّة المصطفى صلى
الله عليه وآله وینشرها بین الناس . فقد روى الحاكم في المستدرك بسند صحيح : عن قرظة بن كعب ، قال : خرجنا نريد
العراق فمشى معنا عمر بن الخطاب إلى صرار، فتوضأ ، ثم قال : أتدرون لم مشيت معكم
؟ قالوا: نعم ، نحن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله مشیت معنا ؟ قال : إنكم
تأتون أهل قرية لهم دوي بالقرآن كدوي النحل ، فلا تبدونهم بالأحاديث ، فيشغلونكم
، جرَّدوا القرآن ، وأقلوا الرواية عن
رسول الله صلى الله عليه وآله ، وامضوا وأنا شريككم . فلما قدم قرظة قالوا : حدَّثْنا . قال : نهانا ابن الخطاب [المستدرك على الصحيحين ١ / ١٠٢ ، قال
الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد وله طرق . ووافقه الذهبي في التلخيص ، وصحَّحه
الألباني في صحيح سنن ابن ماجة ١٠٠ .] . وذكرابن سعد في طبقاته حادثة مهمة تؤكَّد هذه الحقيقة ، حيث
قال : أرسل عمرأُبیًّا، قال : وأقبل أبي على عمر، فقال : ياعمر أتتهمني على حديث
رسول الله صلى الله عليه وآله ؟ فقال عمر: یا أبا المنذر لا والله ،ما اتهمتك
عليه ، ولكني كرهت أن يكون الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله ظاهراً [الطبقات الكبرى ٤ /٢٢.] . قال ابن كثيرالدمشقي : ولهذا لما بعث أبا موسى إلى العراق
قال له : إنك تأتي قوماً لهم في مساجدهم دوي بالقرآن کدوي النحل ، فدعهم على ما
هم عليه ، ولا تشغلهم بالأحاديث ، وأنا شريكك في ذلك . هذا معروف عن عمر البداية والنهاية ٨ / ١١٥ . وقال الذهبي : هكذا هو كان عمر رضي الله عنه يقول :
أقلوا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وزجرغير واحد من الصحابة عن بث الحديث ، وهذا مذهب لعمر ولغيره [سير أعلام النبلاء ٢ / ٦٠١ .] . وقال ابن قتيبة : وكان عمرأيضاً شديداً على من أكثر
الرواية ، أو أتى بخبر في الحكم لا شاهد له عليه ، وكان يأمرهم بأن يقلّو
الرواية [تأويل مختلف الحديث : ٤١ .]. ومن هنا عاقب عمر بن الخطاب كل من خالف سياسته في منع التحديث بأشد العقوبات كائناً من كان، واتخذ عدّة إجراءات : منها : حبسه لبعض كبارالصحابة : كما روى الطبراني بسنده عن سعد بن إبراهيم عن أبيه ،
قال : بعث عمر بن الخطاب إلى ابن مسعود وأبي مسعود الأنصاري وأبي الدرداء ، فقال
: ما هذا الحديث الذي تكثرون عن رسول الله صلى الله عليه وآله ؟! فحبسهم بالمدينة حتى استشهد [المعجم الأوسط ٣ / ٣٧٨ .] . وروي عن عبدالرحمن بن عوف ، قال : والله ما مات عمر بن الخطاب حتى بعث
إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله فجمعهم من الآفاق : عبدالله بن حذافة
وأبا الدرداء وأبا ذر وعقبة بن عامر، فقال : ما هذه الأحاديث التي قد أفشيتم عن رسول الله صلى الله عليه وآله فی الآفاق ؟ قالوا : أتنهانا ؟ قال : لا ، أقيموا عندي ،
لا والله لا تفارقوني ما عشت ، فنحن أعلم ،
نأخذ ونرد عليكم . فما فارقوه حتى مات . [كنزالعمال ١٠ / ٢٩٣ .] ومنها : ضربه لمن یجاهر بالتحديث بدرّته الشهيرة : ولذلك قال أبوهريرة أكبرمحدَّثي المخالفين : ما كنا نستطيع أن نقول : (( قال
رسول الله صلى الله عليه وآله)) حتى قٌبض عمر، كنا نخاف السياط [البداية والنهاية ٨ / ١١٥ .] . وروي عن أبي هريرة بسند صحيح قوله : أفإن كنت محدثكم بهذه الأحاديث وعمر
حي ؟ أما والله إذا لألفيت المخفقة ستباشر ظهري [جامع معمر بن راشد الملحق بمصنَّف
عبدالرزاق ١١ / ٢٦٢ .] . وروى الذهبي بسنده عن ابن عجلان : أن أباهريرة كان يقول : إني لأحدَّث
أحاديث ، لو تكلَّمت بها في
زمن عمر، لشَجَّ رأسي [سير أعلام النبلاء ٢ / ٦٠١ .] . وهذا التصريح من أبي هريرة فيه إقرار بأن العقوبة التي كانت تطال من
ينشرأحاديث النبي صلى الله عليه وآله هي الضرب بالدرّة والسياط . ومنها : النفي والإبعاد عن مركز الخلافة الإسلامية وهي المدينة : فقد روي عن عمر بن الخطاب بإسناد
صحيح أنه قال لأبي هريرة : لتتركنَّ الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله أو لألحقنَّك بأرض دوس [البداية والنهاية ٨ / ١١٥ ، صحّح الخبر شعيب الأرنؤوط في تحقيقه لسيراعلام النبلاء ٢ / ٦٠١
.]. وقال أيضاً لكعب الأحبار: لتتركنَّ الحديث عن الأول أو
لأحقنَّك بأرض القردة [البداية والنهاية ٨ / ١١٥ ، صحّح الخبر شعيب الأنؤوط في تحقيقه
لسيراعلام النبلاء ٢ / ٦٠١ .] . فهذه القيود الشديدة والرقابة
الدقيقة، هي التي جعلت الرعيل
الأول من الصحابة والتابعين يتخوَّفون من التحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله ،
ويتجنّبون تذاكرسُنّته وبثّها بين الناس . والذين جاؤوا من الحكّام والخلفاء بعد الخليفتين لم يجدوا صعوبة في السيرعلى هذا المنوال ومواجهة السنة المطهرة ،
فما كان عليهم إلا مواصلة ما أسَّسه سابقوهم ، والسيرعلى خطاهم : فمثلاً صرَّح الخليفة الثالث عثمان بن
عفان باتباعه لسياسة عمر بن الخطاب في
تعامله مع الحديث ورواته قائلاً : لا يحل لأحد يروي حديثاً لم يُسمع به في عهد أبي بكر ولاعهد عمر [تاريخ مدينة دمشق ٣٩ / ١٨٠ .] . وجاء بعده معاوية بن أبي سفيان مترسّما لخطى أسلافه ، فقال للناس كما نقل مسلم في صحيحه : إياكم وأحاديث إلا حديثاً كان في عهد
، فإن عمر كان يخيف الناس في الله عزَّوجل [صحيح مسلم ٣/ ٩٥ .] . ولهذا تأثرالناس بهذه السياسة ، فامتنعوا عن التحديث، إما خوفاً ورهبة من العقاب ، أو عن
رغبة في نيل رضا الخلفاء . فهذا الشعبي ينقل لنا أن عبدالله بن عمر كان على منهج أبيه ، فقد نقل عنه أحمد بن حنبل بسند صحيح أنه قال:
جالست ابن عمر سنتين ، ما سمعته روى شيئاً عن رسول الله صلى
الله عليه وآله [مسند أحمد ٢ / ١٥٧ , صححه شعيب الأرنؤوط في تعليقه على المسند .] . وهذا السائب بن يزيد يشهد على سعد بن أبي الوقاص بقوله : صحبت سعد بن أبي وقاص سنة ، فما سمعته يحدَّث عن رسول الله صلى
الله عليه وآله إلا حديثاً واحداً [الحد الفاصل : ٥٥٧ .] . وقد صرَّح المؤرَّخون بهذه الحقيقة دون تحرّج أو تحفظ ، فقال ابن قتيبة : وكان كثيرمن جلة الصحابة وأهل الخاصة
برسول الله صلى الله عليه وآله كأبي بكر والزبير وأبي عبيدة والعباس بن
عبدالمطلب يقلّون الرواية عنه ، بل كان بعضهم لا يكاد يروي شيئاً كسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة [تأويل مختلف الحديث : ٤٢ .] . وقال ابن قيم الجوزية : فإنهم كانوا يهابون الرواية عن رسول
الله صلى الله عليه وآله ويعظّمونها ويقللونها خوف الزيادة والنقص ، ويحدَّثون
بالشيء الذي سمعوه من النبي صلى الله عليه وآله مراراً ، ولا يصرَّحون بالسماع ،
ولا يقولون ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله [أعلام الموقعين ٤ / ١٤٨ .] . ٣ – منع تدوين أحاديث النبي وأهل البيت عليهم السلام : الصورة الثانية للحرب المعلنة على السنة النبوية المطهرة هي منع الناس من تدوينها وكتابتها
حرصاً على ضياعها وتلفها مع الأزمان . وقد تمّت هذه الخطوة على ثلاث مراحل : المرحلة الأولى : شرعنة منع تدوين الحديث النبوي بوضع
أحاديث ونصوص شرعية تنهى عن الكتابة والتدوين . منها : ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري : أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال
: لا تكتبوا عني ، ومن كتب عني غيرالقرآن فلیمحه [صحيح مسلم ٨ / ٢٢٩ .] . وما رواه الخطيب البغدادي : عن أبي هريرة قال : خرج علينا رسول
الله صلى الله عليه وآله نحن نکتب الأحاديث ، فقال : ما هذا الذي تكتبون ؟ قلنا : أحاديث
نسمعها منك . قال : كتاب غير كتاب الله ! أّتدرون ما ضلَّ الأمم قبلكم ؟ ألا بما اكتتبوا من الكتب مع كتاب
الله تعالى [تقييد العلم : ٣٤ .] . فهذه النصوص المنسوبة زوراً وبهتاناً
إلى النبي المصطفى صلى الله عليه وآله ، جعلت غطاء شرعيًّا لمنع تدوين السُّنّة وكتابتها المرحلة الثانية : تطبيق سياسة المنع بزجرالناس عن الكتابة وتخويفهم من عواقبها ،
ومن أمثله ذلك ما رواه عبد الرزاق الصنعاني بسند صحيح : أن عمر بن الخطاب أراد أن يكتب السنن ، فاستشار أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وآله في ذلك ، فأشاروا عليه أن يكتبها ، فطفق
يستخيرالله فيها شهراً ، ثم أصبح يوماً وقد عزم الله ، فقال : إني كنت أريد أن
أكتب السنن ، وإني ذكرت قوماً كانوا قبلكم كتبوا كتباً ، فأكبّوا عليها وتركوا كتاب الله ، وإني والله لا ألبس كتاب الله بشيء أبداً [مصنف عبد الرزاق ٢٢ / ٢٥٨ .] . وروى ابن عبد البر بسنده عن يحيى بن
جعدة أن عمر بن الخطاب أراد أن يكتب السَّنّة ، ثم بدا له أن لا يكتبها ، ثم كتب
في الأمصار: من كان عنده شيء فليمحه [جامع بيان العلم وفضله : ٢٧٥ .] . فهذه التصريحات ليست مجرد آراء شخصية ، بل كانت
بمثابة القوانين التي يجرم من خالفها ويعاقب على فعلته . المرحلة الثالثة : إتلاف كل ما كان من الأحاديث النبوية بين يدي الصحابة مدوَّناً ،
سواء تم ذلك في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله أو بعد وفاته . فقد روي أن أبا بكر قد أحرق مجموعة من الأحاديث كما روى عنه ذلك الذهبي بسنده عن عائشة ، قالت : جمع أبي
الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله ، وكانت خمسمائة حديث ، فبات ليلته يتقلّب كثيراً . قالت فغمَّني ، فقلت : أتتقلب لشكوى
أو لشيء بلغك ؟ فلما أصبح قال : أي بُنيَّة ، هلمي الأحاديث التي عندك . فجئته بها ، فدعا بنار
فحرقها ، فقلت : لم أحرقتها
؟ قال : خشيت أن أموت وهي عندي ، فيكون فيها أحاديث عن رجل قد ائتمنته ووثقت ،
ولم يكن كما حدثني ، فأكون قد نقلت ذاك [تذكرة الحفاظ ١ / ٥ .] . وروى الخطيب البغدادي بسنده عن القاسم بن محمد أن عمر بن
الخطاب بلغه أنه قد ظهر في أيدي الناس كتب ، فاستنكرها ، وكرهها ، وقال : أيها
الناس ، إنه قد بلغني أنه قد ظهرت في أيديكم كتب ؛ فأحبُّها إلى الله أعدلها
وأقومها ، فلا يبقينّ أحد عنده
كتاب إلا أتاني به ، فأرى فيه رأيي . قال : فظنوا أنه يريد أن ينظر فيها ، ويقومها على الأمر لا يكون
فيه اختلاف ؛ فأتوه بكتبهم فأحرقها بالنار، ثم قال : أمنية كأمنية أهل الكتاب [تقييد العلم : ٥٢ .] . وروي عن أبي موسى الأشعري نفس الفعل : عن أبي بردة قال : كان أبوموسى
يحدثنا بأحاديث ، فنقوم أنا ومولى لي فنكتبها ، فحدثنا يوماً بأحاديث فقمنا
لنكتبها ، فظن أنا نكتبها ، فقال : أتكتبان ما سمعتما مني ؟ قالا : نعم..قال:
فجيئاني به. فدعا بماء فغسله ، وقال : احفظوا كما حفظنا [تقييد العلم : ٤٠ .] . بل ورد نص صريح يدل على أن هذه الحرب
كان الغرض منها هو محاربة كل ما يتعلق بأهل البيت عليهم السلام ، وهو ما ذكره البغدادي بسنده عن عبد
الرحمن بن الأسود عن أبيه ، قال : جاء علقمة بكتاب من مكة أو اليمن صحيفة فيها أحاديث في أهل البيت
بيت النبي صلى الله عليه ، فاستاذنا على عبدالله فدخلنا عليه ، قال : فدفعنا إليه الصحيفة ، قال : فدعا الجارية ، ثم دعا بطست فيها ماء فقلنا له : يا أباعبدالرحمن انظرفيها
، فإن فيها أحاديث حساناً .قال: فجعل يميثها فيها ، ويقول (نَحنُ نَقُصُّ
عَلَيكَ أَحسَنَ ألقَصَصِ بِمَآ أَوحَينَآ إلَيكَ هّذَا القُرءَانَ) ، القلوب أوعية ، فاشغلوها بالقرآن، ولاتشغلوها
بما سواه [تقييد العلم : ٥٤ .] . وهكذا فإن تظافرالمراحل الثلاثة من منع تدوين السنة النبوية المطهرة كان لها الأثرالكبير في حرمان الأمة من هذه الدررالمحمدية
والآثارالعلوية ،بل كان السبب الأساس لتقسيم هذه الأمة . ٤ – اتلاف مكتبات الشيعة عبرالتاريخ : بمراجعة التاريخ نجد أن مكتبات الشيعة قد
تعرَّضت إلى حملة إتلاف منظمة ، كان الغرض منها القضاء على تراث الشيعة ،
والتخلص منه للأبد ، ولعل هذا هو السبب الأساس الذي يبرَّر خلو الكتب من بعض ما ورد في
(نهج البلاغة) . ومن باب المثال لا الحصر نذكر: ما ذكره الحموي في معجم البلدان ، حيث
قال : بين السُّوْرَيْن : تثنية
سُوْرالمدينة : اسم لمحلة كبيرة كانت بكرخ بغداد ، وكانت من أحسن محالها وأعمرها ، وبها كانت خزانة الكتب التي وقفها الوزير أبو نصر سابور بن أردشير وزير بهاء الدولة بن
عضد الدولة ، ولم يكن في الدنيا أحسن كتباً منها ، كانت كلها بخطوط الأئمة
المعتبرة وأصولهم المحرَّرة ، واحترقت فيما أحرق من محال الكرخ عند ورود طغرل بك
أول ملوك السلجوقية إلى بغداد سنة ٤٤٧هـ [معجم البلدان ١ / ٥٣٤ .] . وهذه المكتبة تعتبرمن أهم المتاحف العلمية في عصرها ، إذ أن الحموي عبَّرعنها بقوله : (( كانت كلها بخطوط الأئمة المعتبرة
وأصولهم المحررة)) ، ونحن
نقطع أنها كانت مما اعتمد عليه الشريف الرضي في (نهج البلاغة) ؛ لأنه كان يعيش
ببغداد في الفترة السابقة لحرق هذه المكتبة . ومن ذلك أيضاً ما ذكره ابن الأثيرفي
كتاب الكامل ، حيث قال : وفي جملة ما أحرقوا دارين للكتب ، إحداهما وُقفت قبل أيام عضد الدولة بن بويه ، فقال عضد الدولة : هذه مكرمة
سبقنا إليها ، وهي أول دار وُقفت في الإسلام . والأخرى وقفها الوزيرأبو منصور بن شاه مردان ، وكان بها نفائس الكتب
وأعيانها ، وأحرقوا أيضاً النحاسين وغيرها من الأماكن [الكامل في التاريخ ١٠ / ١٨٤ .] . وهذا النص أيضاً لا يقل أهمية عن سابقه ، وذلك لأن هذه المكتبة كانت أيضاً
ببغداد ، وحرقت عندما هجم الأعراب على البصرة في سنة ٤٨٣ هـ ، أي أن الشريف الرضي قد أدركها قبل الحرق ، أضف إلى هذا أن المكتبة هي وقف من بني بويه ، وقد قدمنا سابقاً أن علاقة الشريف الرضي بهم كانت قوية
جدَّا ، فمن هنا نقطع أنه
اطلع على هذه المكتبة القيمة ، لا سيما وأن ابن الأثير قد عبَّرعنها بقوله : (( وكان بها نفائس الكتب وأعيانها)) ، ولا يعقل أن الشريف الرضي لا يطلع على مثل هذا الكنز. ومن ذلك ما ذكره الذهبي في أكثر من مورد من كتبه من حرق المخالفين لمكتبة الشيخ الطوسي قدس سره مرارا
وتكراراً ! قال في السَّيَر: وأعرض عنه الحفاظ لبدعته ، وقد أحرقت كتبه عدة نُوَب في رحبة جامع القصر [سير أعلام النبلاء ١٨ / ٣٣٥ .]. وقال في تاريخه : روى عنه ابنه أبوعلي الحسن ، وقد أحرقت
كتبه غيرمرة ، واختفي لكونه ينقص السلف ، وكان ينزل بالكرخ ، ثم انتقل إلى مشهد الكوفة [تاريخ الاسلام ٣٠ / ٤٩١ .] . وهذه الحادثة أيضاً من النكسات التاريخية التي ابتليت بها الأمة ، فإن فقدان مثل هذه الكتب يعتبرخسارة كبيرة جدًّا لا تقدَّر
بذهب أو بفضة ، ومن أراد معرفة مقدارالكتب التي كانت عند الشيخ الطوسي فما عليه إلا أن يتصفَّح كتابه الموسوم بالفهرست ؛ ليقف على عظم الجناية التي اقترفت في
حق تراث المسلمين . علماً أن الشيخ الطوسي هو من أقرب الشريف الرضي والمرتضى وكلهم تتلمذوا على يد الشيخ المفيد قدس سره ، فهذه المكتبة التي أتلفت مراراً كما نصَّ الذهبي هي من مصادرالنهج أيضاً ، لكنها هباء منثوراً . كما أنّ هناك بعض المكتبات المهمّة تلفت بسبب عوامل أخرى منها الحروب والفتن التي عصفت ببلاد المسلمين ، ومنها ضياع الكتب
بسبب عدم اهتمام الورثة وغيرها من الأسباب المختلفة . وقد نقل ابن النديم نموذجا عن هذه
المكتبات التي تلفت وضاعت كتبها ، فقال : كان بمدينة الحديثة رجل يقال له محمد بن الحسين ويعرف بابن بي
بعرة ، جمّاعة للكتب ، له خزانة لم أر لأحد مثلها كثرة ، تحتوي على قطعة من
الكتب الغريبة في النحو واللغة والأدب ، والكتب القديمة ، فلقيت هذا الرجل دفعات
فآنس بي ، وكان نفورا ضنينا بما عنده وخائفا من بني حمدان ؛ فاخرج إلى قمطرا
كبيرا فيه ثلثمائة رطل جلود فلجان وصكاك وقرطاس مصر وورق صيني وورق تهامي وجلود ادم وورق
خراساني فيها تعليقات عن
العرب وقصائد مفردات من أشعارهم ، وشئ من النحو والحكايات والأخبار والأسمار
والأنساب وغيرذلك من علوم العرب وغيرهم ؛ وذكر ان رجلا من أهل الكوفة ، ذهب عني اسمه ، كان مستهترا بجمع الخطوط القديمة ،
وانه لما حضرته الوفاة خصه بذلك لصداقة كانت بينهما وأفضال من محمد بن الحسين
عليه ومجانسة بالمذهب فإنه كان شيعيا ،
فرأيتها وقلبتها فرأيت عجبا ، الا ان الزمان قد أخلقها وعمل فيها عملا أدرسها وأحرفها ، وكان على كل جزء أو ورقة أو مدرج ،
توقيع بخطوط العلماء واحدا إثر واحد، يذكر فيه خط من هو، وتحت كل توقيع ، توقيع
آخر خمسة وستة من شهادات العلماء على خطوط بعض لبعض ، ورأيت في جملتها مصحفا بخط بن أبي الهياج صاحب علي عليه السلام ثم
وصل هذا المصحف إلى أبي عبدالله ابن حاني رحمه الله ، ورأيت فيها بخطوط الأئمة
من الحسن والى الحسين عليهما السلام ، ورأيت
عدة أمانات وعهود بخط أميرالمؤمنين عليه السلام
وبخط غيره من كتاب النبي عليه السلام [الفهرست ٤٦ .] . وقد طبع مؤخرا كتاب تحت عنوان ( نزهة الأبصار ومحاسن الآثار) لأحد علماء أهل السنة والجماعة [المقصود هو علي بن مهدي المامطيري الطبري (٣٦٠ هـ) ترجم له السبكي
في طبقات الشافعية الكبرى ٣ / ٤٦٦ : تلميذ الشيخ أبي الحسن الأشعري صحبه بالبصرة
وأخذ عنه وكان من المبرزين في علم الكلام والقوامين بتحقيقه وله كتاب تأويل
الأحاديث المشكلات الواردات في الصفات وكان مفتنا في أصناف العلوم ؛ قال
أبوعبدالله الحسين بن أحمد بن الحسين الأسدي كان شيخنا وأستاذنا أبوالحسن علي بن
مهدي الطبري الفقيه مصنفا للكتب في أنواع العلوم مفتنا حافظا للفقه والكلام
والتفاسير والمعاني وأيام العرب فصيحا مبارزا في النظر ما شوهد في أيامه مثله .] المتقدمين عن الشريف الرضي رضى الله عنه ، ذكر فيه جملة من روايات ( نهج البلاغة)
التي لم يعرف لها مصدرغيره . إذن من هنا نعلم أن الشريف الرضي رضي الله عنه قد اطلع على كتب كثيرة
لم تصل إلينا واعتمد عليها في جمع ( نهج البلاغة) ، وهذا ما يفسَّر خلو الكتب المتداولة الآن بین أيدينا من بعض خطب
النهج . وقد أنصف أحد علماء السنة وهو امتيازعلي عرشي الحنفي [من كبار محققي الهند ، كان مديراً لمكتبة رضا الشهيرة في مدينة
رامفور، قام بفهرسة مخطوطاتها ، واطلَّع على النوادرالموجودة فيها، فكتب مقالاتٍ
وأبحاثاً في التعريف بها ودراستها في المجلاَّت العلميَّة باللُّغة الأُردية ،
واشتهر في الأوساط العلميَّة في البلاد العربية بعدما حقَّق (تفسيرسفيان
الثَّوري)، وغيره من النوادر، توفي سنة ١٩٨١ م .] حين قال : وليس يخاف على أبناء العلم والمولعين
به أن معظم محتويات (نهج البلاغة) توجد في كتب المتقدَّمين ، ولو لم يذكرها الشريف الرضي ، ولو لم يّعْرُ بغداد ما عراها من الدمارعلى يد التتر، ولو بقيت
خزانة الكتب الثمينة التي أحرقها الجهلاء لعثرنا على مرجع كل مقولة مندرجة في نهج البلاغة [استناد نهج البلاغة : ٢٠ .] . بقي الكلام في نقطة أخيرة ، وهي : لو قيل : إن ما ذكرناه آنفاً لا يدل
إلا على براءة ساحة (الشريف الرضي) من الوضع والتقوّل على أميرالمؤمنين عليه
السلام ، لكن هذا لا يثبت صحّة
ما أخرجه في كتابه هذا ؛ وذلك لأنه يجب علينا مراجعة أسانيد روايات النهج رواية رواية
وخطبة خطبة ؛ للتأكد من صحّتها وإثبات حجّيتها ، وهذا دون إثباته خرط القتاد ؛ لأنه قد ذكرنا أن جملة من روايات النهج لا أسانيد لها ، بل لا مصدر
لها سوى الكتاب المختلف فيه ! فكيف نثبت اعتبارالكتاب ، وصحة ما فيه
ما فقدان الأسانيد ؟ والجواب حول هذا الإشكال يكون في نقاط : الاولى : أن السند ليس الطريق الوحيد لإثبات صحّة صدورالخبر، بل هناك عدة
طرق أخرى اتفق عليها العقلاء قبل علماء الحديث أنه من خلالها نثبت صحة الصدور،
منها : ١ - الشهرة : وهو أن يشتهر الخبر بين الناس ، ويشيع بحيث يطمئن الإنسان بصحة صدوره ، وقد
نصَّ علماء الحديث والرجال عند السنة والشيعة أنه أذا اشتهرالخبر بين العلماء ،
وتلقوه بالقبول دون طعن أوغمز، فإنه يُحكم بصحّته ولو لم يكن له سند صحيح . قال الحافظ السيوطي : كذا ما اعتضد بتلقي العلماء له
بالقبول ، قال بعضهم : يحكم للحديث بالصحة إذا تلقاه الناس بالقبول وإن لم يكن
له إسناد صحيح [تدريب الراوي ١ / ٦٧ .] . وقال القاسمي : الصحيح لغيره هو ما صُحَّح لأمرأجنبي
عنه ، إذ لم يشتمل عن صفات القبول على أعلاها كالحسن ، فإنه إذا روي من غير وجه
، ارتقى بما عضده من درجة الحسن إلى منزلة الصحة ، وكذا ما اعتضد بتلقي العلماء
له بالقبول ، فإنه يحكم له بالصحة ، وإن لم يكن له إسناد صحيح [قواعد التحديث ١ / ٨٠ .] . وقال ابن قيم الجوزية : هذا الأحاديث لا تثبت من جهة الإسناد
، ولكن لما تلقتها الكافة عن الكافة غنوا بصحتها عندهم عن طلب الإسناد لها [أعلام الموقعين ١ / ٢٠٢ .] . وكلام هؤلاء واضح وصريح ، وهو أنه قد
يُستغنى أصلاً عن الإسناد إذا تُلقَي الحديث بالقبول بين الناس . الأعظم من هذا أن ابن حجرالعسقلاني أميرالمؤمنين في الحديث كما يحلو لبعضهم تسميته ذكر أن الحديث الذي تلقته العامة بالقبول دون أن يكون له سند صحيح
، هو حجة ، بل قد يكون ناسخاً لكتاب الله ! قال في النكت : من جملة صفات القبول التي لم يتعرَّض
لها شيخنا : أن يتفق العلماء على العمل بمدلول حديث ، فإنه يقبل حتى يجب العلمل
به ، وقد صرَّح بذلك جماعة من أئمة الأصول ، ومن أمثلته : قول الشافعي رضى الله
عنه : وما قلت من أنه إذا غير طعم الماء وريحه ولونه ، ويروى عن النبي من وجه لا
يثبت أهل الحديث مثله ، ولكنه قول العامة لا أعلم بينهم فيه خلاف ، وقال في حديث
لا وصية للوارث : لا يثبته أهل العلم بالحديث ، ولكن العامة تلقته بالقبول ،
وعملوا به حتى جعلوه ناسخاً لآیة الوصية للوارث [النكت على مقدمة ابن الصلاح : ٤٩٥ .] . ووافقه على هذه القاعدة السخاوي ، حيث قال : وكذا إذا تلقت الأمة الضعيف بالقبول يعمل به على
الصحيح حتى إنه ينزَّل منزلة المتواتر في أنه ينسخ المقطوع به ، ولهذا قال الشافعي رحمه الله في حيث :
(( لا وصية )) : إنه لا يثبته أهل الحديث ، ولكن العامة تلقته بالقبول ، وعملوا به
حتى جعلوه ناسخاً لآیة الوصية له [فتح المغيث ١ / ٢٨٩ .] . وهذه القاعدة الجلية قد طبَّقها الأميرالصنعاني على أحد نصوص النهج كما في كتابه سبل
الاسلام ، حيث قال : ولأميرالمؤمنين علي عليه السلام في عَهْدٍ عَهِدَه إلى
الأشتر لما ولي مصر فيه عدة مصالح وآداب ومواعظ وحكم ، وهو معروف في النهج ، لم أنقله لشهرته [سبل السلام ٤ / ١١٩ .] . فكما اعتمد المخالفون هذه في إثبات
جملة من أحكامهم الشرعية ، بل نسخوا به آیة قرآنیة ذكر ابن حجرالعسقلاني ، فيلزمهم تطبيق هذه القاعدة على (نهج
البلاغة) أيضاً ، وإلا يكون الأمر كيل بمكيالين واتباع للهوى . ٢ – المضمون : وهو أن ينظر في متن الرواية ، ويقيَّم مضمونها ، فإن كان مما يليق
نسبته لقائله كانت هذه قرينة على صحة النسبة إليه ، وإن كان العكس فإنه يُضرب به
عرض الجدار. ولذلك نجد أن ابن القيم تعرَّض إلى دراسة المتن في أكثرمن
مورد من كتابه المنار في الصحيح والضعيف : منها : قوله : أن يكون كلامه لا يشبه كلام الأنبياء فضلاً عن كلام رسول الله
الذي هو وحي يوحى كما قال الله تعالى : ( وَمَا يَنطِقُ عَنِ ألهَوَى (*) إن
هُوَإلَّا وَحىٌ يُوحَى) أي وما نطقه إلا وحي يوحى ، فيكون الحديث مما لا يشبه
الوحي ، بل لا يشبه كلام الصحابة [المنارالمنيف : ٦٢ .] . ومنها : قوله : ومنها ركاكة ألفاظ الحديث وسماجتها بحيث يمجّها السمع ، ويدفعها
الطبع ، ويسمج معناها للفطن [المنارالمنيف : ٩٩ .] . فكما أن سوء سبك المضمون ودناءته على
الوضع والكذب ، فإن حسن السبك وعلو المضمون يدل على صحة نسبته وثبوت صدوره ،
وهذا المنهج يمكن تطبيقه على نهج البلاغة لإثبات اعتباره . ويكفينا في هذا المقام إعادة ذكر شهادة
الشيخ محمود شكري الآلوسي السلفي الذي قال في مدح الكتاب : هذا كتاب (نهج البلاغة) قد استودع من خطب الإمام علي بن أبي
طالب سلام الله عليه ما هو قبس من نور الكلام الإلهي وشمس تضيء بفصاحة المنطق
النبوي [بلوغ الارب ٣ / ١٨٠ .] . فهذا الرجل المشهود له بالتضلّع في
الأدب ولغة العرب يشهد بضرس قاطع أن كتاب (نهج البلاغة) احتوى كلاماً فوق مستوى كلام عامة
البشر، بل هو على حسب تعبيره قبس من نورالكلام الإلهي ! الثانية : هو أن المخالفون قد نصّوا أن السند يطلب فقط في الحلال والحرام ،
وفي الأمورالتي لها دخالة في العقيدة والفقه ، أما الأمورالأخرى فلا يشترط فيها
سند أصلاً ! ولهذا قال الخطيب البغدادي : وأما أخبارالصالحين وحكايات الزهاد
والمتعبَّدين ومواعظ البلغاء وحكم الأدباء فالأسانيد زينة لها ، وليست شرطاً في تأديتها [الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع ٢ / ٢١٣ .] . وقال السخاوي : وهذا التساهل والتشديد منقول عن ابن مهدي عبد الرحمن وغيرواحد من الأئمة كأحمد بن حنبل
وابن معين وابن المبار والسفيانين ، بحيث عقد أبو أحمد بن عدي في مقدمة كامله والخطيب في كفايته لذلك باباً ، وقال ابن عبد البر: أحاديث الفضائل لا تحتاج فيها إلى من
يحتج به ، وقال الحاكم : سمعت أبا زكريا الغبري يقول : الخبر
إذا ورد لم يحرم حلالاً ولم يحل حراماً ولم يوجب حكماً ، وكان في ترغيب أو ترهيب
، أغمض عنه ، وتسهل في رواته [فتح المغيث ١ / ٢٨٨ وقال الصنعاني : الأحاديث الواهية جَّوزوا – أي أئمة الحديث – التساهل فيه ، وروايته من غير بيان لِضعفه إذا كان وارداً في غيرالأحكام ، وذلك كالفضائل والقصص والوعظ وسائر
فنون الترغيب والترهيب [توضيح الأفكار٢ / ٢٣٨ .] . ولو رجعنا إلى كتاب (نهج البلاغة) نجد أن جلَّه هو مواعظ وحكم وسير
وفضائل وترغيب وترهيب ، ونادراً ما يذكر فيه حلال وحرام أو مسألة عقائدية يتوقف إثباتها على نهج البلاغة . فلا ندري لماذا قواعدهم تتوقف وتعطل عندما تصل النوبة إلى نهج البلاغة وكلمات أميرالمؤمنين
عليه السلام ؟! علماً أنهم
لو انحصر الإثبات على صحة السند للزم من ذلك تنازلهم
على جملة من الأمورالمسلمة عندهم ، والتي تكاد
تكون مقطوعاً بها عندهم ، مثل تسمية عمر بن الخطاب بالفاروق ، وحديث العشرة
المبشَّرين بالجنة ، بل لا يبقى عندهم تفسيرللقرآن بالمأثور أصلاً ! نقل الزركشي في البرهان بسنده : عن أحمد بن حنبل قال : ثلاث كتب ليس
لها أصول : المغازي والملاحم
والتفسير.. قال المحقَّقون من أصحابه : ومراده أن الغالب أنها ليس لها
أسانيد صحاح متصلة [البرهان ٢ / ١٥٣ .] . واعترف ابن تيمية بهذه الحقيقة ، فقال : فالمقصود أن المنقولات التي يحتاج
إليها في الدين قد نصب الله الأدلة على بيان ما فيها من صحيح وغيره ، ومعلوم أن
المنقول في التفسيرأكثره كالمنقول في المغازي والملاحم ، ولهذا قال الإمام أحمد
: ثلاثة أمور ليس لها إسناد : التفسير، والملاحم ، والمغازي [مجموع الفتاوى ١٣ / ٣٤٧ .] . فلماذا باؤكم تجر وباؤنا لا تجر؟! وقد ذكر جوابنا هذا
السيّد محسن الأمين قدس سره في أعيان الشيعة بقوله : ليس ( نهج البلاغة) مرجعاً
للأحكام الشرعية حتى نبحث عن أسانيده ونوصله إلى علي (ص) ، إنما هو منتخب من كلامه في المواعظ والنصائح وأنواع ما
يعتمده الخطباء من مقاصدهم ، ولم يكن غرض جامعه الإ جمع قسم من الكلام السابق في
ميدان الفصاحة والبلاغة على حد ما جمع غيره من كلام الفصحاء والبلغاء الجاهليين
والإسلاميين الصحابة وغيرهم بسند وبغير سند ،ولم
نراكم تعترضون على أحد في نقله لخطبة أو كلام بدون سند وهو في الكتب يفوق الحد الاعلى (نهج البلاغة) ، ليس هذا إلا لشيء في النفس ، مع أن
جل ما فيه مروي بالأسانيد في الكتب المشهورة المتداولة [أعيان الشيعة ١ / ٧٩ .] . الثالثة : نختم ردّنا على هذا الإشكال بقولنا : إن ما أشكلوه على النهج من سقوط أسانيده لا يلزم منه وضع الكتاب ، بل غاية ما يلزم هو أن الفقرات التي لا يوجد لها سند
البتة لا تكون حجة ولا عبرة به ، ومن هنا نعلم أن ما ذكروه هو مجرد غربال استخدموا ليحجبوا به نور كلمات (نهج البلاغة)
. وإلا فلماذا إذا وصل الأمر إلى (نهج البلاغة) طُبّقت فيه
كل قواعد الحديث ، وأُعلمت فيه كل مصطلحات الدراية ، وكل مباني علم الرجال ؟!فلو لم يكن في نفوس القوم شيء
حول تراث أميرالمؤمنين عليه السلام فلماذا يحارب
كتاب لا يشتمل إلا على أخلاقيات ومواعظ وحكم
وترغيب وترهيب ؟ |
|
الشبهة
الرابعة : رواية الرضي قدس سره :
|
|
من جملة الأمورالتي أشكلت على كتاب (نهج البلاغة) أن الذي تولى جمعه وروايته هو الشريف
الرضي قدس سره ، وهذا الرجل قد أجمع الخاصة والعامة على أنه شيعي جلد ، فكيف تقبل
روايته وهذا حاله ؟ ولذلك قال الدكتور سالوس : وإذا ثبت
أن هذا الكتاب للشريف الرضي كم سيأتي فإن هذا الشاعر رافضي جلد ،لا يُحتج بروايته كم هو معلوم من ترجمته ،وهذا
يعني أن نهج البلاغة لو كان مسنداً عن طريقه فلا يجوز الاحتجاج بما جاء فيه ،
فلو كان مسنداً فليس بحجة ، فما بالك إذا خلا تماماً عن الإسناد ؟ [مع الشيعة الاثني عشرية ١ / ٢١٧ .] . جئتمونا بأي حجة فلن نقبل منكم كتاب
(نهج البلاغة) ، شاء من شاء، وأبى من أبى،وهذا التعصب الأعمى الممقوت الذي دمَّر هذه الأمة ، وقطّع أوصالها
على مرّ السنين . إن هذه الكلمات تدل على جهل صاحبها بعلم الحديث والرجال عند أهل السنة
والجماعة ، إذ أنّ علماء
هذه الصنعة قد نصوا على أنّ فساد المعتقد لا يضر بصدق الراوي ، فتجوزالرواية عندهم عن الرافضي الجلد
كما عَبَرالسالوس، وعن الخارجي،وعن المعتزلي،وعن القدري، وغيرهم . ولهذا قال الذهبي في السَّيّر: هذه مسألة كبيرة ، وهي القدري
والمعتزلي والجهمي والرافضي إذا عُلِمَ صدقه في الحديث وتقواه ، ولم يكن داعياً إلى بدعته ، فالذي عليه أكثرالعلماء قبول روايته والعمل بحديثه ، وتردَّدوا في الداعية ، هل يؤخذ
عنه ؟ فذهب كثير من الحفاظ إلى تجنب حديثه وهجرانه ، وقال بعضهم : إذا علمنا صدقه ؟ فجميع تصرفاته أئمة الحديث تؤذن بأن المبتدع إذا لم تبح بدعته خروجه عن دائرة الإسلام ، ولم تبح دمه ، فإن قبول ما وراه سائغ ، وهذه المسألة لم تتبرهن لي كما ينبغي
، الذي اتضح لي منها أن من دخل في بدعة ، ولم يُعَدّ من رؤوسها ، ولا أمعن فيها
، يُقبَل حديثه [سير أعلام النبلاء ٧ / ١٥٤ .] . وقال المعلمي اليماني : وقد وثَّق أئمة الحديث جماعة من
المبتدعة ، واحتجوا بأحاديثهم ، وأخرجوها في الصَّحاح ، ومن تتبَّع رواياتهم وجد فيها كثيراً
مما يوافق ظاهره بدعهم ، وأهل العلم يتأوّلون تلك الأحاديث ، غير طاعنين فيها ببدعة راويها
، ولا في راويها بروايته لها [التنكيل ١ / ٥٠ .] . ولو راجعنا كتب الحديث لوجدنا أن كلام
المعلمي دقيق جدًّا ، إذ أن صحاح القوم تعج بروايات المبتدعة على حد تعبيرهم . فقد روى البخاري عن عمران بن حطان ، وهو
من رؤوس الخوارج ومن دعاتهم ، بل من المغالين في بغض أميرالمؤمنين عليه السلام ، وقد ذكر ابن حجر في فتح الباري بقوله : عمران بن حطان السدوسي
الشاعرالمشهور، كان يرى رأي الخوارج . قال أبوالعباس المبرد : كان عمران رأس القعدية من الصفرية ،
وخطيبهم وشاعرهم . انتهى . والقعدية : قوم من الخوارج كانوا يقولون بقولهم ، ولا يرون الخروج ، بل
يزيَّنونه ، وكان عمران داعية إلى مذهبه ، وهو الذي رثى عبدالرحمن بن ملجم قاتل علي عليه السلام بتلك الأبيات السائرة [فتح الباري ١ / ٥٧٧ .] . والأبيات التي أشارلها ابن حجر هي التي ذكرها في كتابه (الإصابة في معرفة الصحابة) ، وهي قوله : يا ضربةً مِنْ تقيًّ ما أرادَ بها ***** إلا ليبلُغَ مِنْ ذي العرشِ
رِضوانا إني لأذكُره يوماً فأحسبُه ***** أوفى البريِة عندَ الله ميزانا [الإصابة ٥ / ٢٣٢ .] وقد كفانا مؤونة الرّد على هذا النصب والبغض أحد العشراء الذي عارض
هذه الأبيات بقوله : يا ضربةً مِنْ شقيًّ ما أرادَ بها ***** إلا ليهدمَ مِنْ ذي العرش
بُنيانا إني لأذكرُه يوماً فألعنهُ دِيْناً ***** وألعنُ عمرانَ بنَ حطانا وردّ عليه آخر بقوله : یاضربةً مِنْ غدور صار ضاربُها ***** أشقى البريِة عندَ اللهِ إنسانا إذا تفكَّرت فيه ظَلْتُ ألعنُه ***** وألعنُ الكلبَ عمرانَ بنَ حطانا ورغم هذ النصب الواضح والانحراف الجلي
فإن البخاري روى عن هذا الرجل في صحيحه الذي يعتبرعند القوم أصح الكتب بعد
كتاب الله . وروى البخاري أيضاً عن عباد بن يعقوب الرواجني ، وهو من رؤوس الشيعة ومن دعاتهم ، وقد ذكره ابن حجر في مقدمة الفتح
قائلاً : عباد بن يعقوب الرواجني الكوفي أبوسعيد ، رافضي مشهور، إلا أنه كان صدوقاً ، وثّقة أبوحاتم
، وقال الحاكم : كان ابن خزيمة إذا حدَّث عنه يقول : (( حدَّثنا الثقة في روايته المتهم في رأيه : عباد بن يعقوب )) ، وقال ابن حبان : كان رافضيًّا داعية ، وقال صالح بن محمد : كان يشتم عثمان [فتح الباري ١ / ٥٥١ .] . أما مسلم فصحيحه لا يخلو أيضاً من رواة مبتدعة على حدَّ
تعبيرهم ، فقد روى عن عدي بن ثابت ، وهو من كبارالشيعة ، بل من
علمائهم ، وقد ترجم له الذهبي في ميزان الاعتدال ، فقال : عدي بن ثابت عالم الشيعة وصادقهم
وقاصّهم وإمام مسجدهم [ميزان الاعتدال ٣ / ٦١ .] . وروى أيضاً عن أبان بن تغلب فقيه الشيعة وعالمهم ، وقد أجمع الكل على تشيعه ، ولذلك ترجم له الذهبي في الميزان بقوله : أبان بن تغلب الكوفي شيعي جلد ، لكنه صدوق ، فلنا صدقه وعليه بدعته [نفس المصدر ١ / ١١٨ .] . ولو أردنا سرد أسماء (الرافضة) الذين
روى عنهم أصحاب الصحاح والسنن لاحتجنا إلى مجلد كامل لاستقصاء كل الأسماء ، وقد أجاد الشيخ محمد جعفرالطبسي بتأليفه كتاباً في هذا الموضوع ،
أسماه : (رجال الشيعة في أسانيد السنة) ، جمع فيه رواة الشيعة في الكتب الستة . بقي هنا أمر واحد لابد من الإشارة إليه من باب إنصاف
الرجل ، وهو أنه قد يتمسك البعض بالقول الشائع على الألسن ، وهو أن بعض أئمة الحديث قد فصلوا في رواية المبتدع ، فردّوا رواية الداعية ، أو ما يقوي
بها بدعته ، وقبلوا رواية ما سواه . قال الخطيب البغدادي في الكفاية : وقال كثير من العلماء : يُقبل أخبارغيرالدعاة من أهل الأهواء ، فأما الدعاة فلا يحتج بأخبارهم ، وممن ذهب إلى
ذلك أبوعبدالله أحمد بن محمد بن حنبل [الكفاية في علم الرواية ١٤٩ .]. |
|
والجواب على هذا : |
|
أولاً : أن هذا الرأي وإن نصَّ عليه بعضهم إلا أنه لم يلتزم به كبارالحفاظ
وأئمة الحديث ،وقد ذكرنا أمثلة من الصحيحين ، فكيف بالكتب التي هي دونها ؟ ثانياً : هذا الرأي مبتدع مجعول ، ولا دليل
عليه لامن العقل ولا من النقل ، بل هو مجرد اتباع للهوى ، وقد صرَّح العلماء أن
أول من قال بهذا التفصيل هو الجوزجاني . قال السخاوي في فتح المغيث : قال شيخنا : إنه قد نص على هذا القيد
في المسألة الحافظ أبوإسحاق إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني شيخ النسائي ، فقال في مقدمة كتابه في الجرح والتعديل
: ومنهم زائغ عن الحق صدوق اللهجة ، قد
جرى في الناس حديثه ، لكنه مخذول في بدعته ، مأمون في روايته ، فهؤلاء ليس فيهم
حيلة إلا أن يؤخذ من حديثهم ما يُعرف ، وليس بمنكر، إذا لم تقو به بدعتهم
فيتهمونه بذلك [فتح المغيث ١ / ٣٣١ .] . وقد نصَّ أحد أئمة الحديث المعاصرين
الذي أُطلق عليه (ذهبي العصر) وهو المعلمي اليماني عن سبب جعل الجوزجاني لهذه
القاعدة ، فقال : والجوزجاني فيه نَصْب ، وهو مولع بالطعن
في المتشيَّعين كما مر، ويظهر أنه إنما يرمي بكلامه هذا إليهم ، فإن في الكوفيين المنسوبين إلى التشيع
جماعة أجلة اتفق أئمة السنة
على توثيقهم ، وحسن الثناء عليهم ، وقبول روايتهم ، وتفضيلهم على كثيرمن الثقات الذين لم يُنسبوا
إلى التشيع ، حتى قيل لشعبة : حدثنا عن ثقات أصحاب ، فقال : إن حدثتكم عن ثقات أصحابي فإنما أحدثكم عن نفر يسير من هذه الشيعة ، الحكم بن عتيبة ، وسلمة بن كهيل
،وحبيب بن أبي ثابت ، ومنصور. راجع تراجم هؤلاء في تهذيب التهذيب ، فكأن الجوزجاني لما علم أنه لا سبيل إلى الطعن في
هؤلاء وأمثالهم مطلقاً حاول أن يتخلّص مما يكرهه من مروياتهم ، وهو ما يتعلق
بفضائل أهل البيت [التنكيل ١ / ١٢٤ .] . إذن هذه القاعدة التي كثيراً ما
يتبجَّح بها البعض هي من وضع ناصبي للتخلص من مرويات أهل البيت عليهم السلام وطمس آثارهم ، والدكتور السالوس يسيرعلى هذا النهج الناصبي بشهادة
علمائهم في محاولة لتسقيط كتاب ( نهج البلاغة) . ثالثاً : لو قبلنا هذه القاعدة وعملنا بها لكان أول شيء يُرَدّ هي نفس
القاعدة ؛ وذلك أن مفاد هذا المبنى الرجالي أن المبتدع الداعية ترد روايته
ودرايته ، خصوصاً إذا كان هذا الأمريقوّي بدعته ، وهذ الرجل المسمّى بالجوزجاني
مبتدع ، إذا أن الكل شهد على أنه ناصبي منحرف عن علي عليه السلام ، وقد نقلنا شهادة المعلمي اليماني بذلك ،
ومضيف عليه ما نقله ابن حجرالعسقلاني قال في تهذيب التهذيب : وقال ابن حبان في الثقات : كان حروري
المذهب ، ولم يكن بداعية ، وكان صلباً في السنة ، حافظاً للحديث ، إلا أنه من
صلابته ربما كان يتعدّى طوره. وقال ابن عدي : كان شديد الميل إلى مذهب أهل دمشق في
الميل على علي ؛ وقال السلمي عن الدارقطني بعد أن ذكر توثيقه : لكن فيه انحراف عن علي ، اجتمع على بابه أصحاب الحديث ، فأخرجت جارية له فروجة لتذبحها ،
فلم تجد من يذبحها ، فقال : سبحان الله ، فروجة لا يوجد من يذبحها ، وعلي يذبح
في ضحوة نيَّفاً وعشرين ألف مسلم . قلت : وكتابه في الضعفاء يوضح مقالته ، ورأيت في نسخة من كتاب ابن حبان :
حَريْزيُّ المذهب ، وهو يفتح الحاء المهملة ، وكسرالراء ، وبعد الياء زاي ،
نسبةً إلى حريز بن عثمان المعروف بالنصب ، وكلام ابن عدي يؤيَّد هذا [تهذيب التهذيب ١ / ١٥٩ .] . ومن هنا نقول : إن هذا القاعدة جاء بها المبتدع الجوزجاني لنصرة مذهبه وتقوية بدعته ، فهي مردودة
عليه ، ومحكوم ببطلانها فلا يبقى وجه للإشكال مع بطلان ما ذهب إليه السالوس ، وبإضافة ما قدمناه في أول الكتاب من إجماع الأمة على
وثاقة وعدالة وجلالة الشريف الرضي قدس سره . |
|
الشبهة
الخامسة :
المشتركات :
|
|
ذكرابن تيمية مطعناً آخر في ( نهج
البلاغة) ، وهو أن الكلام
المنسوب في الكتاب لأميرالمؤمنين قد نُسب لغيره أيضاً ، وهذا يعني أن الشريف
الرضي رضى الله عنه أخذ من كلمات فصحاء العرب ونسبها لأميرالمؤمنين ع لإثبات فصاحته وبلاغته . ولهذا قال في منهاج السنة : وأيضاً فالمعاني الصحيحة التي توجد
في كلام علي موجودة في كلام غيره ، لكن صاحب ( نهج البلاغة) وأمثاله أخذوا كثيراً من كلام الناس فجعلوه من
كلام علي ، ومنه ما يُحكى
عن علي أنه تكلم به ، ومنه ما هو كلام حق يليق به أن يتكلم به ، ولكن هو في نفس
الأمر من كلام غيره ، ولهذا يوجد في كلام ( البيان والتبيين) للجاحظ وغيره من الكتب كلام منقول من غيرعلي ، وصاحب ( نهج البلاغة) يجعله عن علي[منهاج السنة ٨ / ٥٥ .] . |
|
والجواب على هذا الإشكال يكون في نقاط : |
|
أولاً : لم يبيَّن ابن تيمية مقدار تلك الأحاديث والروايات المشتركة بين أميرالمؤمنين عليه السلم وبين
غيره من الناس ، بل إن ابن تيمية لم يأت بمثال واحد على تلك الخطب المشتركة ،
ووجود جملة من الأحاديث التي نشك في صحة نسبتها لقائلها لا يعني الحكم على
الكتاب كله بالوضع أو بالكذب ، غاية ما في الأمر أن هذه الخطب بخصوصها ينبغي
التأكد من أنها لعلي عليه السلام أو لغيره . علماً أن الصفدي نقل عن ابن تيمية
كلاماً آخر، حيث قال : سمعت الشيخ الإمام العلامة تقي الدين أحمد بن تيمية رحمه الله
تعالى يقول : ليس كذلك ، بل الذي فيه من كلام علي
بن أبي طالب معروف ، والذي فيه للشريف الرضي معروف [الوافي بالوفيات ٢ / ٢٧٧ .] . وهنا يحق لنا أن نتساءل : إذا كانت الكلمات الثابتة
لأميرالمؤمنين(ع)في كتاب (نهج البلاغة) معروفة ويسهل تمييزها عن غيرها ، فلماذا لم يتحفنا المخالفون بكتاب ( صحيح نهج البلاغة) كما فعل الشيخ محمد ناصر الألباني مع السنن الأربعة ؟ لماذا لا نسمع من القوم إلا عبارات
الطعن والتجريح في هذا السفر الجليل ، ولم نسمع يوماً رجلاً منهم يحتج بفقرة من
فقراته أو يذكر كلمة من كلماته أو خطبة من خطبه إلا كانت ذكر تلك الخطبة بغرض
الاحتجاج بها على الشيعة ؟ ثانياً : الأمرالمهم الذي يجب أن يلاحظ في استدلال ابن تيمية الحرّاني هو أنه ذكرأن الكلام الذي نسبه الشريف
الرضي قدس سره لأميرالمؤمنين عليه السلام قد نُسب لغيره من الناس ، وهذا ما يدل على كذب الرضي ! والسؤال الذي يطرح بقوة : لماذا جزم ابن تيمية أن الرضي قدس
سره هو الذي سرق كلام الغير ونسبه لأميرالمؤمنين عليه السلام ؟ما هو الدليل الذي يمنع الاحتمال الثاني
: وهو أن يكون ذلك الغير قد سرق كلمات أميرالمؤمنين عليه السلام ونسبها لغيره ؟ ألا يدل هذا على وجود ضغينة في قلب ابن
تيمية الحرّاني على أميرالمؤمنين عليه السلام ، تجعله يحاول سلب كل منقبة ومفخرة له ؟هذا الكلام ليس على سبيل الاحتمال ، بل
هو حقيقة اعترف بها جملة من علماء المخالفين . منهم : ابن حجرالعسقلاني ، حيث قال : طالعت الرد المذكور( يعني منهاج السنة) فوجدته كما قال السبكي في الاستيفاء ، لكن وجدته كثيرالتحامل إلى الغاية في رد الأحاديث التي يوردها ابن المطهر، وإن كان معظم ذلك من الموضوعات والواهيات ، لكته ردَّ في ردَّه كثيراً من الأحاديث
الجياد التي لم يستحضر
حالة التصنيف مظانها ؛ لأنه كان لا تساعه في الحفظ يتكل على ما في صدره والإنسان
عامد للنسيان ، وكم من مبالغة لتوهين كلام الرافضي أدَّته
آحیاناٌ إلى تنقيص علي
رضي الله عنه [لسان الميزان ٦ / ٣١٩ .] . وقال في الدررالكامنة : ومنهم من ينسبه ( يعني بن تيمية) إلى النفاق ؛ لقوله في علي ما تقدَّم ، ولقوله : إنه كان مخذولاً حيث ما توجه ، وأنه حاول الخلافة مراراً فلم
ينلها ، وإنما قاتل للرياسة لا للديانة ، ولقوله : إنه كان يحب الرياسة ، وأن عثمان كان يحب المال ، ولقوله : أبوبكرأسلم شيخاً يدري ما يقول ،
وعليٌّ أسلم صبياً ، والصبي لا يصح إسلامه على قول ، وبكلامه في قصة خطبة بنت
أبي جهل ، ومات ما نسبها من الثناء على ... وقصة أبي العاص ابن الربيع ، وما يؤخذ من مفهومها ، فإنه
شنَّع في ذلك ، فألزموه بالنفاق ؛ لقوله صلى الله عليه وآله
(( لا یبغضك إلا منافق )) [الدررالكامنة ١ / ١٥٥ .] . علماً أن ابن تيمية احتج في دعواه السابقة بما نقله الجاحظ ، وهذا الأخير قد عرُف بالزندقة والنصب
لأميرالمؤمنين عليه السلام ، فلا ندري كيف جعله ابن تيمية حكماً في مثل هذه القصة ؟ قال فيه الذهبي : عمرو بن بحرالجاحظ ، صاحب التصانيف ،
روى عنه أبوبكر بن أبي داوود فيما قيل ، قال ثعلب : ليس بثقة ولا مأمون ، قلت : وكان من أئمة البدع [ميزان الاعتدال ٣ / ٢٤٧ .] . فهل يحتج ابن تيمية بإمام من أئمة البدع كما عبَّرالذهبي لينصر بدعته ويوافق هواه ؟ ثالثاً : نحن نجزم ونقطع أن ما ذكره الجاحظ ونسبه لغيرأميرالمؤمنين عليه
السلام هو سرقة أدبية لغرر كلمات الإمام علي بن أبي طالب
عليه السلام ودرر خطبه ، ونستدل على ذلك بأمرين : الأمرالأول : أن الجاحظ الذي احتج به ابن تيمية قد عُرف بأنه يكثرمن رواية أكاذيب غيره ، وينسب للثقات ما لم
يقولوه ، ولذلك قال ابن حجرالعسقلاني في لسان الميزان : وقال ابن حزم في (الملل والنحل) : كان أحد المجان الضلال ، غلب عليه الهزل ،
ومع ذلك فإنا ما رأينا له كتبه تعمد كذبة يوردها مثبتاً لها ، وإن كان كثيرالإيراد لكذب غيره . وقال أبو منصورالأزهري في مقدمة تهذيب
اللغة : وممن تكلّم في
اللغات بما حصره لسانه وروى عن الثقات ما ليس من كلامهم : الجاحظ ، وكان أوتي بسطة في القول ، وبياناً عذباً في الخطاب ، ومجالاً في
الفنون ، غير أن أهل العلم
ذبّوه ، وعن الصدق دفعوه . وقال ثعلب : كان كذَّاباً على الله وعلى رسوله وعلى الناس [لسان الميزان ٤ / ٣٥٧ .] . وعليه ، فلا يمكن الاحتجاج بما نقله الجاحظ بأي حال من الأحوال بعدما
تبيَّن رأي العامة فيه . الأمرالثاني : اعترف جملة من علماء المخالفين بأن
هناك من امتهن سرقة خطب أميرالمؤمنين عليه السلام ، ونسبها لنفسه ؛ كي يظهر بصورة
الخطيب المفوّه الذي لا يُشقّ له غبارعلى المنابر. من ذلك ما ذكره ابن أبي
الحديد المعتزلي في شرحه على (نهج البلاغة) ،
حيث قال : أما الفصاحة : فهو عليه السلام إمام الفصحاء ، وسيد البلغاء ، وفي كلامه قيل :((دون كلام
الخالق ، وفوق كلام المخلوقين )) ، ومنه تعلَّم الناس الخطابة والكتابة ، قال
عبدالحميد بن يحيى : حفظت سبعين خطبة من خطب الأصلع ، ففاضت ثم فاضت. وقال ابن نباته : حفظت من الخطابة كنزاً لا يزيده
الإنفاق إلا سعة وكثرة ، حفظت مائة فصل من مواعظ علي بن أبي طالب [شرح نهج البلاغة ١ / ٣٥ . .] ولكن قد يقول قائل : إن هذا الكلام لا دلالة فيه على
السرقة الأدبية التي أدّعيتها ؛ لأن هؤلاء اعترفوا بأنهم استفادوا من خطب
أميرالمؤمنين عليه السلام لتعلُّم الفصاحة والبلاغة . وردّنا على هذا أن هذا النّص يفهم بضميمة شاهد آخر، وهو ما ذكره ابن الجوزي في تاريخه حيث قال في ترجمة ابن نباتة : كان يتكلم على الناس قاعداً وربما
قام علي قدميه في دارسيف الدولة من الجامع ، وكان يقال : إنه كان يحفظ كتاب ( نهج البلاغة) ، ويغيَّرألفاظه ، وكانت له
كلمات حسان في الجملة . توفي في يوم الجمعة حادي عشررجب هذه السنة ، وصلي عليه
وقت صلاة الجمعة [المنتظم في التاريخ ١٨ / ١٨٦ .] . والنص واضح جلي لا يحتاج إلى شرط ولا
إلى بيان ، فإن ابن نباتة كان يحفظ خطب أميرالمؤمنين عليه
السلام ، ويغيَّرها ، ثم ينسبها لنفسه ؛ لكي يثبت قدميه في ميدان أهل البلاغة
والفصاحة . والدليل الأقوى على صحّة ما ذهبنا إليه
هو محاولة التغطية على هذه الجريمة التي
ارتكبها ابن نباتة في حق تراث أميرالمؤمنين عليه السلام
، وذلك بتحريف الكلم عن موضعه ! فعندما تعرَّض ابن كثيرفي (البداية والنهاية) لترجمة محمد الفارقي أبي عبد الله الواعظ ، قال : أبوعبدالله الواعظ ، يقال :
إنه كان يحفظ ( نهج البلاغة) ويعبرألفاظه ، وكان فصيحاً بليغاً ، يُكتب كلامه
ويروى عنه كتاب يعرف بالحكم الفارقية [البداية والنهاية ١٢ / ٣٢٣ .] . أراد ابن كثير الدمشقي تغطية جريمة الفارقي المتمثلة في سرقة وتحريف كلام
أميرالمؤمنين عليه السلام ، فحرّف النص من عبارة : (( كان يحفظ نهج البلاغة ،ويغيَّرألفاظه)) ، إلى عبارة : (( كان يحفظ نهج البلاغة ويعبَّرألفاظه
)) ، أي يشرح ويُفسَّر فقرات النهج ! ومن
هنا عرض ابن أبي الحديد
المعتزلي نماذجا من السرقات
الأدبية التي اقترفها الفارقي في شرحه على النهج : قال في معرض تعليقه على خطبة للفارقي : هذا آخرخطبة ابن نباتة ، فانظر إليها وإلى خطبته عليه السلام بعين الانصاف ، تجدها بالنسبة
إليها كمخنث بالنسبة إلى
فحل ، أو كسيف من رصاص بالإضافة إلى سيف من حديد وانظر ما عليها من أثرالتوليد وشين التكلف وفجاجة كثير من
الألفاظ ، ألا ترى إلى فجاجة
قوله : " كأنّ أسماعكم
تمج ودائع الوعظ وكأن قلوبكم بها استكبارعن الحفظ "! وكذلك ليس يخفى نزول قوله : " تندون من عدوكم نديد الإبل
، وتدرعون له مدارع العجز والفشل " . وفيها كثيرمن هذا الجنس ، إذا تأمله الخبيرعرفه ، ومع هذا فهي مسروقة من كلام
أميرالمؤمنين عليه السلام ، ألا ترى أن قوله عليه السلام : " أما بعد فإن الجهاد باب من أبواب الجنة " ، قد سرقه ابن نباتة ، فقال : فإن الجهاد أثبت قواعد الايمان ،
وأوسع أبواب الرضوان ، وأرفع درجات الجنان "! وقوله ع : " من اجتماع هؤلاء على باطلهم
وتفرقكم عن حقكم "، سرقه أيضا ، فقال : " صرخ بهم الشيطان إلى باطله فأجابوه ، وندبكم الرحمن إلى
آخره سرقه أيضا ، فقال : " كم تسمعون الذكر فلا تعون ،
وتقرعون بالزجر فلا تقلعون "! وقوله عليه السلام :" حتى شنّت عليكم الغارات وملكت عليكم
الأوطان : سرقه أيضا ، وقال : " وعدوكم في دياركم عمله ،
ويبلغ بتخلفكم عن جهاده أمله "، وأما باقي خطبة ابن نباتة فمسروق من خطب
لأميرالمؤمنين عليه السلام أخر، سيأتي ذكرها [شرح نهج البلاغة ٢ / ٨٢ .] . فهذا غيض من فيض ، وإلا فجل الحكم المتداولة والتي تُنسب
لفلان وفلان هي بالأساس حكم الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام ، لكن جارعليها
الزمان ، وانتحلها ضعيفو الإيمان . فالشبهة التي طرحها ابن تيمية لا ترقى إلى مستوى الإشكال المستلزم للتشكيك في ( نهج البلاغة) ، بل هو إشكال منا على الطرف المقابل . |
|
الشبهة
السادسة : علم
الغيب :
|
|
تعرَّض بعض النقّاد إلى إشكال آخر حول (نهج البلاغة) ، وهو أن بعض
فقرات هذا الكتاب احتوت على إخبار بأحداث مستقبلية ، مما يوحي بأن المتكلم يرى أنه يعلم الغيب ، إذ أنه يورد هذه
الأحداث على سبيل الجزم والقطع ، لا على سبيل الاحتمال والظن ، وهذا الشيء لا
يمكن أن يصدر من أميرالمؤمنين ع ؛ لأن علم الغيب لا يكون إلا لله عزّوجلّ . وممن طرح هذه الشبهة عباس محمود العقاد
في عبقرياته ، حيث قال : ومن المحقَّق الذي لا خلجة فيه من الشك أن النبوءات التي جاءت في
(نهج البلاغة) عن الحجاج بن يوسف ، وفتنة الزنج ، وغارات التتار، وما إليها ، هي من مدخول الكلام عليه ، ومما أضافه النساخ إلى الكتاب بعد وقوع الحوادث بزمن قصير أو طويل [عبقرية الامام ١٩٢ .] . وذكرأيضاً هذا الإشكال محمد محي الدين
عبدالحميد في مقدمته لشرح محمد عبده لكتاب ( نهج البلاغة )، وبعض النقّاد المتأخرين . وهذا الإشكال مبنى على مقدمة فاسدة ،
وهي أن علم الغيب من مختصات الله عزَّوجل
، ولا يمكن لأحد من الناس أن يطلّع على الغيب ، وهذا باطل بالضرورة ؛ لأن الآیات القرآنیة والأحاديث النبوية تشهد بإمكانية تشهد ذلك ، بل بوقوعه في
بعض الناس من أنبياء وغيرهم . الأدلة القرآنية : منها : قوله تعالى :(عَالِمُ الغَيبِ فَلَا يُظهِرُعَلَى غَيبِهِ أحَداً
* إلَّاَ مَنِ أرتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإنَّهُ يَسلُكُ مِن بَينِ يَدَيهِ وَمِن
خَلفِهِ رَصَدا) ( الجن : ٢٦ ، ٢٧ ) . والآیة صريحة في أن الله يطلع على غيبه بعض من ارتضى من عباده . ومنها : قوله تعالى : ( وَأُبرِئُ الأَكمَهَ وَالأَبَرصَ وَأُحي المَوتَى
بإذنِ اللهِ وَأنَبّئُكُم بِماَ تأكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فيِ بُيُوتِكُم
إنَّ في ذَلِكَ لَأَيَةُ لَّكُم إن كُنتُم مُّؤمِنِين) )آل عمران : ٤٩ ) . وهنا عیسى بن مريم عليه السلام يصرَّح
أن من آیاته ؛إخباره ما یدّخرالناس في بيوتهم ، وهذا من علم الغيب بلا شك . ومنها قوله تعالى : (أَمَّا الَسَّفِينَةُ فَكَانَت لِمَسَاكِين يَعمَلُونَ فِي
الَبَحرِ فَأَرَدتُّ أَن أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ يَأخُذُ كُلَّ
سَفِينَةٍ غصبًا (*) وَأمَّا الغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤِمنَينِ فَخَشِينَآ
آًن یُرهِقَهُمَا طُغياناً وَكُفراً(*) فَأَردنَآ أَن يُبدِلَهُمَا رَبُهُمَا
خَيراً مِنهُ زَكوةً وَأَقرَبَ رُحما (*) وَأَمَّا الجِدَارُ فَكَانَ
لِغُلَامَينِ يَتيمَينِ في المَدِينَة ِ وَكَان تَحتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ
أَبُوهُمَا صَالِحاً فأرَادَ رَبَّكّ أَن يَبلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيستَخرِجَا
كَنزَهُمَا رَحمَةً مِن رَّبِكَ وَمَا فَعلتُهُ عَن أَمرِي ذلِكَ تَأوِيلُ مَا
لّم تَسطِع عَلَيهِ صَبراً) (الكهف: ٧٩ ،٨٢ ) . فمجموع هذه الآیات تثبت أن جملة من عباد الله قد أطلعهم
الله تعالى على غيبه ، وكشف لهم عن المستقبل ؛ ليكون ذلك آیة على صدقهم وعلامة
صلاحهم . ولكن قد يقول قائل : إن هذه الآیات معارضة بآیات أخر
تحصرعلم الغيب بالله جلَّ جلاله ، وتنفي حصول غيره عليه ، مثل قوله تعالى : (
قُل لَّا يَعلَمُ مَن فيِ السَمَوات والأَرضِ الغَيبَ إلَّا اللَّهُ) (النمل : ٦٥ ) ، وقوله عزَّ من قائل : (وَعِندَهُ
مَفَاتِحُ الغَيبِ لَا يَعلَمُهَآ إلَّا هُوَ) (الأنعام :٥٩) ، فيكف يكون الجمع بينها ؟ |
|
الجواب على هذه الطائفة من الآیات |
|
الجواب على هذه الطائفة من الآیات أن
تحمل على العلم الذاتي الاستقلالي ، وليس العلم الحصولي المفاض من الباري
عزَّوجل . وبيانه أن الإنسان مهما بلغ في الكمال
لا يستطيع أن يطلّع على الغيب بنفسه بحيث يستغني عن الله عزَّوجل في ذلك ، بل لا
يكون العلم الإ بإضافة منه سبحانه وإكرام لعباده . فالذي يعلم الغيب بذاته هوالله سبحانه
وحده دون غيره ، فإنه لا يحتاج لمعرفة الغيب إلى أحد ، وأما غيره سبحانه فلا
يعلم الغيب إلا بإفاضة من الله تعالى وبتعليم له . وهذا هو المعنى غيرالاستقلالي الذي
يثبته الشيعة لأئمتهم ؛ وليس المعنى الأول الذي يلزم منه كفرالقائل به . ولهذا قال الشيخ المفيد قدس سره : فأما إطلاق القول عليهم بأنهم يعلمون
الغيب فهو منكربين الفساد ؛
لأن الوصف بذلك إنما يستحقه مَنْ عَلِمَ الأشياء بنفسه ، لا بعلم مستفاد ، وهذا لا يكون إلا الله عزَّوجل [أوائل المقالات ١ / ٦٧ .] . وهذا المعنى قد أشارإليه أميرالمؤمنين
عليه السلام في الخطبة المذكورة في ( نهج البلاغة) حيث قال : فقال له بعض أصحابه : لقد أُعطيتَ يا
أميرالمؤمنين علم الغيب ! فضحك عليه السلام ، وقال للرجل وكان كلبيًّا : يا
أخا كلب ، ليس هو بعلم غيب ، وإنما تَعَلُّم من ذي علم [نهج البلاغة ٢ / ١١ .] . |
|
لم يختص الشيعة بهذا التفسير، بل وافقهم عليه جملة من مفسَّري أهل السنة والجماعة منهم
|
|
ولم يختص الشيعة بهذا التفسير، بل وافقهم عليه جملة من مفسَّري أهل السنة والجماعة عند تعرّضهم للطائفة الثانية من
الآيات : منهم : المناوي الذي قال : وأما قوله : ( لَا يَعلَمُهَآ إَلا هُوَ) فمفسَّربأنه لا يعلمها
أحد بذاته ومن ذاته إلا هو، لكن قد تعلم بإعلام الله ، فإن ثمة من يعلمها ، وقد
وجدنا ذلك لغير واحد ، كما رأينا جماعة علموا متى يموتون ، وعلموا ما في الأرحام
حال حمل المرأة بل وقبله [فيض القدير ٥ / ٦٧١ .] . ومنهم : ابن كثيرفي تفسيره، فإنه قال : هذه مقاتيح الغيب التي استأثر الله تعالى بعلمها فلا
يعلمها أحد إلا بعد إعلامه تعالى بها ، فعلم وقت الساعة لا يعلمه نبِي مرسل ولا
ملك مقرب ، ( لَا يُجَلِّيهَا لِوقتِهآ إَلّا هُوَ) ، وكذلك إنزال الغيث ، لا يعلمه إلا الله ،
ولكن إذا أمر به علمته الملائكة الموكَّلون بذلك ومن شاء الله من خلقه ، وكذلك
لا يعلم ما في الأرحام مما يريد أن يخلقه تعالى سواه ، ولكن إذا أمر بكونه ذكراً
أو أنثى ، أو شقيًّا أو سعيداً علم الملائكة الموكَّلون بذلك ومن شاء الله من
خلقه [تفسير ابن كثير ٣ / ٤٦٢ .] . وقال غيرهما من علماء أهل السنة ، سواء من المفسرين أو من شراح
الحديث الذين حملوا هذه الآیات القرآنیة على ذلك . |
|
الأدلة
الروائية :
|
|
نصَّت جملة من الروايات الصحيحة على
أن النبي صلى الله عليه وآله وجملة من الصحابة كانوا يعلمون الغيب ، ويخبرون به
غيرهم . منها : ما رواه مسلم في صحيحه بسنده عن حذيفة أنه قال : أخبرني رسول الله صلى الله عليه وآله
بما هو کائن إلى أن تقوم الساعة ، فما منه شيء إلا قد سألته ، إلا أني لم أساله
ما يخرج أهل المدينة من المدينة [صحيح مسلم ٨ / ٧٣ .] . وهذا الحديث يثبت أن النبي كان يعلم
ما سيكون إلى يوم القيامة ، بل أخبرحذيفة بن اليمان بذلك حتى عُرِف بأنه صاحب
سرّ رسول الله صلى الله عليه وآله . ومنها : ما رواه البخاري في صحیحه بسنده عن أبي هريرة ، قال : حفظت عن
رسول الله صلى الله عليه وآله وعاءين ، فأما أحدهما فبثثته ، وأما الآخر فلو
بثثته قُطِعَ هذا البلعوم [صحيح البخاري ١ / ٣٨ .] . وقد ذكر شرّاح الحديث بأنّ الوعاء الثاني احتوى على الملاحم
والفتن التي ستحصل ، وبالخصوص حُكّام الجور. قال ابن حجر في فتح الباري : وحمل العلماء الوعاء الذي لم يبثه
على الأحاديث التي فيها تبيين أسامي أمراء السوء وأحوالهم وزمنهم ، وقد كان أبو
هريرة يكنّي عن بعضه ولا يصرح به خوفاً على نفسه منهم ، كقوله : (( أعوذ بالله
من رأس الستين وإمارة الصبيان )) يشيرإلى خلافة يزيد بن معاوية ؛ لأنها كانت سنة
ستين من الهجرة [فتح الباري ١ / ١٩٣ .] . إذن فأبو هريرة يعلم بعض الغيب الذي سيحصل في المستقبل أيضاً من فتن وملاحم
وحُكّام بتعليم من النبي
المصطفى ص. ومنها : ما رواه مسلم بسنده عن أبي زيد يعني عمرو بن أخطب ، قال : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه
وآله الفجر، وصعد المنبر فخطبنا حتى حضرت الظهر، فنزل فصلى ، ثم صعد
المنبرفخطبنا حتى حضرت العصر، ثم نزل فصلى ، ثم صعد المنبرفخطبنا حتى غربت الشمس
، فأخبرنا بما كان وبما هو كائن ، فأعلمُنا أحفظنا [صحيح ومسلم ٨ / ١٧٣ .] . وهذه الرواية نصّ صريح في أن الرسول الأعظم صلى الله عليه
وآله قد اطّلع على الغيب ، وأطلع جل الصحابة عليه ، فلماذا لا يُقبل من أميرالمؤمنين عليه
السلام أن يخبر بما أطلعه
عليه أخوه وابن عمه المصطفى صلى الله عليه وآله ، ويُقبل من غيره ؟ هذا ما يسمونه سياسة الكيل بمكيالين في
هذه الأيام ، إذا أخبرأحد الصحابة بمغيبات فإنها تعد من كراماته وفضائله وأما إذا أخبرأميرالمؤمنين عليه السلام بشيء من ذلك ، فإن هذا الشيء يصبح مدعاة لتسقيط الخبر وتكذيبه ! ومما يناسب المقام ما وراه ابن كثير بسنده عن طارق بن شهاب ، قال : كنا
نتحدّث أن عمر بن الخطاب ينطق على لسان مَلَك ، وقد ذكرنا في سيرة عمر بن الخطاب
أشياء كثيرة ،ومن مكاشفاته وماكان يخبر به من المغيَّبات ، كقصة سارية بن زنيم ، وما شاكلها ، ولله الحمد والمنة [البداية والنهاية ٦ / ٢٢٤ .] . انظرأخي القارئ إلى عمر بن الخطاب، فإنه يجوز له أن يخبر بالمغيبات
والمكاشفات، وتعد هذه الإخبارات من جملة كراماته،لا لشيء إلا لأنه عمر،ولأن الراوي هو ابن كثير،أما الشريف الرضي قدس سره فلا يجوز له نقل كرامة واحدة من هذا القبيل لجدّه
أميرالمؤمنين عليه السلام . ولو كان هذا الناقد مطللعاً على بطون الكتب ودفائن
الأسفار لعلم أن بعض المنصفين
من علماء العامة قد نقلوا جملة من إخبارات أميرالمؤمنين عليه السلام بالغيب ، ونقله بعض حوادث المستقبل . فقد قال ابن حجر في صواعقه ، وأخرج
عبدالرزاق عن حجرالمرادي ، قال :قال لي علي : كيف بك إذا أمرت أن تلعنني ؟ قلت : أو كائن ذلك ؟ قال
: نعم . قلت : فكيف أصنع ؟ قال العنّي ، ولا تبرأ مني . قال : فأمرني محمد بن يوسف أخو الحجاج وكان إن الأمير أمرني أن ألعن عليًّا فلعنوه ، لعنه الله . فما فطن لها إلا رجل ، أي لأنه إنما لعن الأمير ولم
يلعن عليًّا ، فهذا من كرامات علي وإخباره بالغيب [الصواعق المحرقة : ١٩٨ .] . وروى عبد الرزاق في تفسيره بسند صحيح عن
أبي الطفيل ، قال: شهدت عليَّا وهو يخطب ، وهو يقول : سلوني ، فوالله لا تسألوني عن
شيء يكون إلى يوم القيامة إلا حدَّثتكم به [تفسيرعبد الرزاق الصنعاني ١ / ٤٣٣ .] . وغيرها من الأمورالكثيرة التي شهد بها الخاصة والعامة ، مثل إخباره بمقتله ، ومقتل ابنه الحسين
عليه السلام وإخباره أنه سيقاتل الخوارج قبل بلوغهم النهر، وأنه لا يبقى منهم
عشرة ، والكثيرالكثير. فلا ندري لم يطعن في النهج لشيء معروف ومشهور
في كتب المسلمين ، ولا يطعن في الشريف الرضي قدس سره لشيء شاركه فيه البخاري ومسلم وغالب
أئمة الحديث ؟ العجيب في صاحب هذا الإشكال أنه لم يتفحّص (نهج البلاغة) جيّداً قبل أن يطرح هذه الشبهة ؛ وذلك لأن من جملة الأمور الغيبية
الموجودة في النهج غزو التتار، وهذه الحادثة وقعت بعد وفاة الرضي قدس سره بأكثر من مائتي سنة ؟ فقد روى عن أميرالمؤمنين عليه السلام في
النهج أنه قال : كأني أراهم قوماً كأن وجوهم المجان المطرقة ، يلبسون السرق والديباج ، ويعتقبون الخيل العتاق ، ويكون هناك
استحرار قتل ، حتى يمشي المجروح على المقتول ، ويكون المفلت أقل من المأسور [نهج البلاغة ٢ / ١٠ .] . وعلق ابن الحديد على هذه الخطبة بقوله : واعلم أن هذه الغيب الذي أخبرعليه
السلام عنه قد رأيناه نحن عياناً ، ووقع في زماننا ، وكان الناس ينتظرونه من أول الإسلام ، حتى ساقه القضاء والقدر إلى عصرنا ، وهم التتارالذين خرجوا من أقاصي
المشرق حتى وردت خيلهم العراق والشام ، وفعلوا بملوك الخطا وقفجاق ، وببلاد ما
وراء النهر، وبخراسان وما والاها من بلاد العجم ، ما لم تحتو التواريخ منذ خلق
الله تعالى آدم إلى عصرنا هذا على مثله ، فإن بابك الخرمي لم تكن نكايته وأن طالت مدّته نحوعشرين سنة إلا في إقليم واحد وهو
أذربيجان ، وهؤلاء دوَّخوا المشرق كله ، وتعدّت نكايتهم إلى بلاد إرمينية وإلى
الشام ، ووردت خيلهم إلى العراق ، وبخت نصرالذي قتل اليهود إنما أخرب بيت المقدس
، وقتل من كان بالشام من بني إسرائيل ، وأي نسبة بين من كان بالبيت المقدس من
بني إسرائيل إلى البلاد والأمصارالتي أخرجها هؤلاء ، وإلى الناس الذين قتلوهم من
المسلمين وغيرهم [شرح نهج البلاغة ٨ / ٢١٨ .] . فإن كان ما ورد في النهج من قبيل
ذكرالحجاج وانقضاء ملك بني أمية وفتنة الزنج وبعض ملاحم البصرة من الأمورالتي يمكن أن ينحلها الرضي قدس
سره لأميرالمؤمنين عليه السلام ، فكيف يمكنه ذكرغزو التتار والحال أنه مات قبل هذه الواقعة بحوالي ١٥٠ عاماً ؟ من هنا نعلم أن صاحب هذا الإشكال لا عقل له ؛
لأنه هرب من الالتزام بأن علي بن أبي طالب عليه السلام مطلع على الغيب ، فوقع في
لازم أكثر بطلاناً وهو أن الشريف الرضي كان أيضاً عالماً بالغيب ، وهذا ما لا يقوله الشيعة وأهل السنة
جميعاً. |
|
الشبهة
السابعة : الإطناب :
|
|
وجد بعضهم منفذاً آخرللطعن في كتاب
(نهج البلاغة) ، وهو أن جملة من خطبه ورسائله طويلة جدًّا،وهذا غيرمعهود عند
العرب في تلك الحقبة الزمنية ، ولعلّ أول من أشارلهذا المطعن هو الدكتورأحمد زكي صفوت الذي قال في
الترجمة : يخالج نفوسنا الشك
في عهد الأشتر من حيث طوله وإسهابه ؛ لاعتبارات نوردها لك ... الأول : أن الخلفاء عهدوا إلى ولاتهم ، فلم يؤثرعنهم ذلك الإسهاب في
عهودهم... ويستوقفنا أيضاً من
طوال خطبه ، خطبتان هما أطول ما أثرعنه بعد عهد الأشتر: القاصعة ، وخطبة الأشباح [ترجمة علي بن أبي طالب : ١٣٠ .] . |
|
|
|
الأول : لا يمكن الطول في حدّ ذاته مطعناً في خطب أميرالمؤمنين عليه
السلام ؛إذ أن الاطناب من الأساليب البلاغية المعروفة التي
يدور رحم علم المعاني عليها ، فالإطناب والايجازإنما هما بلحاظ مراعاة مقتضى الحال ، فقد يقتضي الحال أن يطنب البليغ في كلامه
إذا كان في مقام مدح أو كان المخاطب قليل الاستيعاب أو غيره من الموارد التي
أشبعت بحثاً في كتب علوم البلاغة . الثاني : لا يوجد من يقول : إن الإطناب مرفوض في حدّ ذاته ، وحتّى صاحب الشبهة قال : لانقول : إن هذا القدرمن الطول غيرمقبول عقلاً ، ولكنا نقول : إن المعروف في ذلك العهد والمتداول
بين أيدينا من خطب النبي وخطب أبي بكر وعمر وعثمان ومعاوية لا يبلغ هذا الحد ، بل ولا نصفه [ترجمة علي بن أبي طالب : ١٣١ .] . وعليه ، فإن النتيجة التي وصل إليها مبنية على استقراء كلام العرب ، وهذا استقراء ناقص كما يقول المناطقة لا تقوم به الحجة ، خصوصاً مع وجود
أدلة صريحة تثبت أن الإطناب كان من الأساليب البلاغية الموجودة في كلام العرب ،
بل كانت علامة البلغاء وميزة الفصحاء . ومن الشواهد التاريخية التي تدل على
شياع الإطناب والإطالة عند العرب ما ذكره الجاحظ في البيان والتبيين ، حيث قال : والسُّنّة في خطبة النكاح أن يطيل
الخاطب ، ويقصرالمجيب ، ألا ترى إلى قيس بن خارجة بن سنان لما ضرب بصفيحة سيفه
مؤخرة راحلتي الحاملين في شأن حمالة داحس والغبراء ، وقال : ما لي فيها أيها
العشمتان . قالا : بل ما عندك ؟ قال : عندي قرى كل نازل ، ورضا كل ساخط ، وخطبة
من لدن تطلع الشمس إلى أن تغرب ، آمر فيها بالتواصل ، وأنهى فيها عن التقاطع . قالوا : فخطب يوماً إلى الليل ، فما أعاد فيها كلمة ولا معنى [البيان والتبيين : ٧٦ .] . فالإطالة ليست موجودة فقط في كلام العرب
، بل هي سُنّة جارية عندهم في مثل النكاح ، والعجيب أنه عُدّ من مفاخر قيس بن الخارجة أنه خطب من طلوع الشمس إلى الليل ، في حين أن طول خطب أميرالمؤمنين
عليه السلام في كتاب (نهج البلاغة) لا تبلغ عشرمعشارهذا المقدار. وقد ورد الإطناب في كلام سيّد العرب
والعجم رسول الله صلى الله عليه وآله کما ذكرنا ذلك فيما سبق مما وراه مسلم في صحيحه من أن النبي صلى الله عليه وآله خطب
في الناس من بعد صلاة الفجر إلى غروب الشمس لا يقطع كلامه إلا إقامة الصلوات فقط
، فأي إطناب أعظم من هذا ؟ فهذه الخطبة التي تحدث عنها الراوي
دامت قرابة عشرساعات باستمرار، ولا ندري لماذا لم يلعّق أحد عليها بمثل ما
عُلَّق على خطب أميرالمؤمنين عليه السلام ، أو أن الكيل بمكيالين يمنع من ذلك ؟! وكذلك ورد الإطناب في خطب بعض الصحابة ، كسحبان الذي ضُرب به المثل في
البلاغة والفصاحة ، حتى قيل : أفصح من سحبان ! فقد ذكر ابن الجوزي أنه : كان خطيباً بليغاً يُضرب المثل
بفصاحته ، ودخل على معاوية بن أبي سفيان وعنده خطباء القبائل ، فلما رأوه خرجوا
لعلهم بقصورهم عنه ، فمن قوله : لقدْ عَلِمَ الحُّي اليمانيونَ أنني ***** إذا قلتُ : أما بعدُ ، أني
خطيبُها فقال له معاوية : أخطب ، فقال : انظروا لي عصاً تقيم من أودي ، قالوا : وما تصنع بها وأنت بحضرة أميرالمؤمنين ؟ قال : ما كان يصنع بها موسى وهو يخاطب
ربه ، فأخذها وتكلم من الظهر إلى أقارب
العصر، ما تنحنح ، ولا سعل ، ولا توقف ، ولا ابتدأ في معنى فخرج عنه ، قد بقيت
عليه بقية فيه ، فقال معاوية : الصلاة قال : الصلاة أمامك ، ألسنا في تحميد وتمجيد وعظة وتنبيه
وتذكير ووعد ووعيد ، فقال معاوية : أنت أخطب الجن والإنس ، قال : كذلك أنت [المنتظم في التاريخ ٥ / ٢٨٣ .] . وهذا شاهد آخر یدل على ما ذكرناه من أن الإطناب كان فنًّا معروفاً عند بلغاء العرب ، بل كان علامة عندهم وآیة تدل على
البراعة في فنون الفصاحة والبلاغة . وعليه ، فإن ما ذكره الدكتورأحمد زكي صفوت لا يرقى إلى مستوى الإشكال العلمي الذي من شأنه أن ينقض عرى هذا
الكتاب . بقي أمرهنا لابدّ من الإشارة إليه : وهو أن بعض المعاصرين قد شكَّك في كل
الخطب الطويلة الواردة عن أهل البيت عليهم السلام ؛ لعدم ثقته في ضبط الرواة
لمثل هذه الأخبارحتى مع طولها ، فقال : وهنا سؤال محيّرآخر، وهو ضبط المذكرات ،
وكيفية كتابة الأسئلة والأجوبة ، ولم يشرإليه في مطلق الروايات الطوال ، نعم قد
ذُكرفي جملة من الروايات أن الرواة كتبوا ما قاله الإمام ، أو استأذن الراوي عنه
في الكتابة والإملاء ، أو ذكر الراوي كلاماً يُفهَم منه أنه كتب الرواية ، لكن
ضبط المذكورات في المجالس أمر مشكل ، ويشكل الاعتماد على الروايات الطويلة حتى
وإن صحَّت أسانيدها ، فضلاً عما إذا ضعفت ، فافهم جيداً [مشرعة بحارالأنوار١ / ٢٣٦ .] . |
|
يمكن الجواب على هذا الإشكال بعدة إجابات : |
|
أولاً : من المعلوم أن العرب كانوا في ذلك العصرأصحاب حافظة قوّية لا تقاس
بما نحن عليه اليوم ، ولهذا كانوا يحفظون القرآن الكريم والأشعارالطوال بمجرد
سماعها مرة واحدة ؛ وذلك لاعتمادهم على الذاكرة أكثر من التدوين . ولعل السبب في هذا هو إتكاؤهم على حافظتهم أكثر من الكتب والمخطوطات ، وقد أثبت الطب
الحديث أن ذاكرة الإنسان مثل العضلة تتقوّى بالحفظ والممارسة . ولذلك فإن فلسفة التاريخ جعلوا من هذه
الأمرقاعدة مطّردة في كل الشعوب ، ومنهم (ويل ديورانت) الذي قال : أما القبائل الساذجة التي تعيش معظم حياتها عيشاً
معتزلاً بالنسبة إلى سواها ، وتنعم بالسعادة التي تنجم عن جهل الإنسان بتاريخه
الماضي ، فلا تحسّ بالحاجة إلى الكتابة إلا قليلاً ، ولقد قويت ذاكراتهم بسبب
انعدام المخطوطات التي تساعدهم على حفظ ما يريدون الاحتفاظ به ، فتراهم يحتفظون
ويَعُون ، ثم ينقلون ما حفظوه وما وَعَوه إلى أبنائهم بتسميعهم إياه ؛ وإنما هم
يحفظون ويعون ويُسَمعون كل ما يرونه هاماً في الاحتفاظ بحوادث تاريخهم وفي نقل
تراثهم الثقافي [قصة الحضارة ١ / ١٢٨ .] . بل إن بعض المؤرَّخين نص على أنّ العرب في صدرالاسلام كان التدوين
عنده قبيحاً ؛ لمخالفته للذوق العام السائد في ذلك العصر وهوالحفظ ، ولذلك قال
الدكتورجواد علي : ويظهر أن أسلوب الحفظ والتسجيل في الذاكرة ، كان الأسلوب
الشائع بين الجاهلين في ذلك الزمن في الإبقاء على النثر أو الشعر، وقد كان هذا
الأسلوب متّبعاً عند غيرالعرب في تلك الأيام ، إذ كانوا يقيمون وزناً كبيراً
للرواية ، حتى إنهم يفضّلون الحفظ على القراءة عن كتاب أو صحيفة ، ولا سيما
بالنسبة للكتب المقدسة والكتب الدينية الأخرى وفي الامورالنابهة مثل الشعر، يرون
أن في القراءة ثواباً وأجراً عظيماً ، وتعظيماً لشأن المقروء . ولا أستبعد أن تكون هذه النظرة هي التي جعلت أصحاب الرسول يحفظون
القرآن ، ويتلونه تلاوة من غير قراءة عن كتاب ولا نظر في صحيفة ، يتلونه أمام
الرسول وبين أنفسهم وبين الناس ، ولا يقرؤونه عن كتاب ، مع أن منهم من كان يقرأ
ويكتب وقد جمع القرآن ، وكان تقديرالعام آنذاك بحفظه ، لا بما يكتبه من صحف وبما
يؤلفه من مؤلفات ، ولهذا أشتهر كثيرمن العلماء بسعة علمهم ، مع أنهم لم يتركوا
أثراً مكتوباً ؛ لأن العلم بالحفظ لا بالتدوين ، وقد ينتقص من شأن العالم إذا
تلا علمه عن كتاب ، حتى إن كان ذلك الكتاب كتابة ؛ لأن القراءة عن كتاب لا تدل
على وجود علم عند القارئ ،وشأنه إذن دون شأن الحافظ الخازن للعلم في دماغه
المملي للعلم إملاءً ، وكانوا إذا انتقصوا عالماً قالوا : إنه يتلوعن صحيفة ، أو
يقرأ عن صحيفة أو كتاب ، ومن هنا قيل للذي يقرأ في صحيفة ويخطىء في قراءتها
المصحفون [المفصل في تاريخ العرب ١٤ / ٢٥. فحفظ العرب للخطب والروايات الطويلة ليس
بمستغرب ولا مستبعد ولا مستهجن لما قدمنا ، وإشكال هذا الرجل مبني على المقدارالمتعارف من الحفظ الموجود في
هذا العصر، وليس على دليل عقلي
محكم أو نقلي صحيح ، بل لا يعدو كونه قياساً مع الفارق . ثانياً : من تتبَّع أحوال أصحاب الأئمة عليهم السلام علم أنهم كانوا
أكثرالنّاس حرصاً على تدوين ما يسمعونه من أحاديث وخطب وحوادث ، خصوصاً مع وجود
الحث الشديد من جانب المعصومين عليهم السلام على تدوين العلم . منها : قول النبي صلى الله عليه وآله : قيَّدوا العلم بالكتاب [تحف العقول : ٢٩ .] . ومنها : قول أميرالمؤمنين عليه السلام : من يشتري علماً بدرهم ؟ فذهب الحارث الأعور فاشترى صحفاً ، فجاء
بها [الحد الفاصل : ٣٧٠.] . ومنها : قول الإمام الحسن عليه السلام إنكم صغار قوم ، ويوشك أن تكونوا كبار قوم آخرین ، فتعلّموا العلم
، فمن يستطع منكم أن يحفظه فليكتبه ، وليضعه في بيته [بحارالأنوار٢ / ١٥٢ .] . ومنها : قول الإمام الحسين عليه السلام : أما بعد فإن هذا الطاغية قد صنع بنا وبشيعتنا ما علمتم ، ورأيتم ،
وشهدتم ، وبلغكم ، وإني أريد أن أسألكم عن شيء ، فإن صدقت فأصدقوني ، وإن كذبت
فأكذبوني ، واسمعوا مقالتي ، واكتبوا قولي ، ثم ارجعوا إلى أمصاركم وقبائلكم ومن
ائتمنتموه من الناس ووثقتم به ، فادعوه إلى ما تعلمون من حقّنا [مستدرك الوسائل ١٧ / ٢٩١ .] . وغيرها من الكلمات الكثيرة الواردة
عن أئمة الهدى عليهم السلام في حثّ شيعتهم على تدوين علومهم . وانتقل الأمرمن
القوة إلى الفعل ، ومن الحث إلى التدوين الفعلي ، فنجد أن الأئمة عليهم السلام
قد كتبوا علومهم ودوّنوها . فأميرالمؤمنين عليه السلام قد دوّن
الصحيفة الجامعة ، وهي كتاب في الحلال والحرام ، اشتمل على كل الأبواب الفقيهة
والأحكام الشرعية ، ولهذا روي عن الإمام الصادق عليه السلام بسند معتبر في وصف هذا
الكتاب أنه قال : صحيفة طولها سبعون ذراعاً بذراع رسول الله صلى الله عليه وآله
« وإملائه من فلق فيه ، وخط علي بيمينه ، فيها كل حلال وحرام ، وكل شيء يحتاج
الناس إليه حتى الأرش في الخدش [الكافي ١ / ٢٣٩ .] . وكتب أيضاً صحيفة الفرائض التي أظهرها أهل البيت عليهم السلام في أكثرمن مورد لخواص أصحابهم . فقد روي الكليني قدس سره بسند صحيح عن محمد
بن مسلم أن أبا جعفرعليه السلام أقرأه صحيفة الفرائض التي أملاها رسول الله صلى الله عليه وآله
وخط علي عليه السلام بيده ، فقرأت فيها : أمرأة تركت زوجها وأبويها فللزوج النصف
: ثلاثة أسهم ، وللأم سهمان :الثلث تامًّا ، وللأب السدس : سهم [نفس المصدر٧ / ٩٨ .] . وكتب أيضاً تفسيراً كاملاً لكتاب الله
عزَّوجل كما رُوي عنه ذلك بسند معتبر، حيث قال عليه السلام : فما نزلت على رسول الله صلى الله
عليه وآله آیة من القرآن إلا أقرأنيها ، وأملاها عليَّ ، فكتبتها بخطي ، وعلّمني
تأويلها وتفسيرها وناسخها ومنسوخها ، ومحكمها ومتشابهها ، وخاصّها وعامّها ،
ودعا الله أن يعطيني فهمها ، وحفظها فما نسيت آیة من كتاب الله ، ولا علماً
أملاه عليَّ وكتبته ، منذ دعا الله لي بما دعا ، وما ترك شيئاً علّمه الله من
حلال ولا حرام ، ولا أمر ولا نهي ، كان أو يكون ، ولا كتاب منزل على أحد قبله من
طاعة أو معصية إلا علّمنيه وحفظته [كتاب سليم بن قيس : ١٨٣ .] . وقد انتهج الشيعة نهج إمامهم ، فكانوا يكتبون كل كبيرة وصغيرة ، ولا يتركون شاردة ولا واردة
دون تدوين ، ولذلك كثرت المصنّفات من أصحاب أميرالمؤمنين عليه السلام وتلامذته
من الرعيل الأول . منهم : الحارث الأعورالهمداني : فإنه صنَّف كتاباً جمع فيه خطب
أميرالمؤمنين عليه السلام كما يظهرمما رواه الكليني في الكافي بسنده عن أبي
إسحاق السبيعي عن الحارث الأعور، قال : خطب أميرالمؤمنين عليه السلام خطبة بعد
العصر، فعجب الناس من حسن صفته ، وما ذكره من تعظيم الله جلَّ جلاله . قال
أبوإسحاق : فقلت للحارث : أو ما حفظتها ؟ قال : قد كتبتها . فأملاها علينا من
كتابه [الكافي ١ / ١٤١ .] . ومنهم : زيد بن وهب : فإنه صنَّف كتاباً جمع فيه خطب
أميرالمؤمنين عليه السلام في المواسم والأعياد وغيرها ، وقد ترجم له الشيخ
الطوسي في الفهرست بقوله : لكه كتاب خطب أميرالمؤمنين ع على المنابر في الجمع والأعياد وغيرها الفهرست : ١٣٠ . ومنهم : سليم بن قيس الهلالي : وهو من أصحاب أميرالمؤمنين ع صنّف كتابه المعروف بكتاب سليم ، ذكر فيه جملة من أخبار وروايات
أهل البيت عليهم السلام ، والحوادث التاريخية المهمة التي وقعت بعد وفاة رسول
الله صلى الله عليه وآله . هذا من باب المثال ، وإلا فإن أصحاب الأئمة عليهم السلام كانوا مهتمّين أشد الاهتمام بحفظ
ما يسمعونه ، ومن هنا ألّفوا الكتب المعروفة بالأصول الأربعمائة ، وهي أربعمائة
من الرواة الذين دونوا فيها ما سمعوه من أئمة أهل البيت عليهم السلام في العقيدة
والتفسيروالفقه والأخلاق والسنن والآداب وغيرها . فثقافة الكتابة والتدوين كانت موجودة عند أصحاب أئمة أهل
البيت عليهم السلام فلا يصح هذا الإشكال مع وجود العلم الإجمالي بالتدوين
والكتابة . ثالثا : أن غاية ما يفيده هذا الإشكال هو الشك في ضبط الراوي للخطب الطويلة ، لا أنه دليل على بطلانها ، وبما أن رواة الغالبية العظمى من
الخطب هم للخطب الطويلة ، ورواية الخطب الطويلة لا تقتضي التشكيك في الضبط
المعلوم ميبقاً ، وإلا فإن هذا الشك يمكن أن يجري حتى في رواية الأخبارالقصيرة ،
وذلك يقتضي طرح كل روايات الثقات الضابطين ، وهذا لا يقوله عالم فاضل . وقد ورد في أخبارأهل البيت عليهم
السلام نهي عن دفع رواياتهم بالشكوك والتخمينات ، منها ما رواه الكشي بسنده عن
صاحب العصر والزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف : فإنه لا عذرلاحد من موالينا في
التشكيك فيما يؤديه عنا
ثقاتنا ، قد عرفوا بأننا
نفاوضهم سرنا ، ونحمله إياه إليهم وعرفنا ما يكون من ذلك ان شاءالله تعالى [اختيارمعرفة الرجال ٢ / ٨١٦ .] . فمجرد التشكيك لا يمكن أن يكون موهنا للرواية ما لم يعضد بدليل يثبت هذا المدعى ولا دليل في المقام . رابعاً : المثال الذي جاء به الرجل وهو دعاء عرفة ، وشكَّك فيه من ناحية
الطول ، يمكننا إثباته من جهة المتن ، إذ أن مثل هذه المضامين الراقية لا يمكن
أن تصدر إلا من عين صافية ، وكذلك خطب أميرالمؤمنين عليه السلام ، فإن حسن
سبكها، وسلاسة عبارتها ، وسحربيانها ، وعلو مضامينها ، تجعلنا نقطع بصدورها عنه
عليه السلام . فهذه الأجوبة الأربعة تنسف هذا الإشكال من أساسه ، وتدفع كل
تشكيك قد يرد على الخطب الطويلة في النهج . |
|
الشبهة
الثامنة : السجع:
|
|
ادّعى بعض الكُتّاب أن بعض الأساليب الأدبية المستخدمة في
كتاب (نهج البلاغة) لم تكن معروفة في ذلك الوقت ، ولعل أهمها السجع . ولذلك قال أحمد أمين المصري : وقد شكّ في مجموعها النقّاد قديماً
وحديثاً ، كالصفدي وهوارت ، واستوجب هذا الشك أمور: ما في بعضه من سجع منمَّق ، وصناعة لفظية لا تُعرّف لذلك العصر [فجرالإسلام : ١٨٧ .] . وقبل الشروع في الجواب على هذه الشبهة المتهالكة لابد من تعريف ما هوالسجع الذي نبحث فيه ؛ لكي يكون القارئ الكريم في الصورة . |
|
السّجع
|
|
السّجع : هو من المحسنات البديعية التي تُبحّث في علم البلاغة ، وهو كما عرفوه أرباب الفن : تواطؤ الفاصلتين من النثرعلى حرف واحد ، أي أن تتفق الكلمتين
الواردة في آخرالعبارة أو السياق في بعض الحروف الأخيرة منها ، وقد شبّهه بعض علماء البلاغة
بقافية الشعر. مثاله : ما رواه الطبراني أن رسول الله صلى الله عليه وآله سمع قس بن ساعدة الأيادي يخطب فيقول : يا أيها الناس اجتمعوا ،
واستمعوا وعوا ، من عاش مات ، ومن مات فات ، وكل ما هوآتٍ آتٍ ، إن في السماء
لخبراء ، وإن في الأرض لعبراء ، مهاد موضوع ، وسقف مرفوع ، ونجوم تمور، وبحارلا
تغور... [المعجم الكبيرللطبراني ١٢ / ٨٨ .] . وبعد هذا التعريف المقتضب نقول : إنه لم يقل أحد من الناس لا من
المتقدّمين ولا من المتأخّرين : لإن السجع قبيح ، بل أجمع علماء البلاغة على أن
السجع من المحسَّنات البديعية التي تصفي على الكلام جمالاً ورونقاً . ومن هنا نعلم إن إشكال أحمد أمين لم يكن على أصل السجع ، بل كان كلامه
حول عدم استعمال العرب لهذا الأسلوب من السجع في تلك الحقبة
الزمنية ،بل ظهرالسجع
متأخَّراً عنها . وهذا الإشكال أيضاً مبني على مقدمة
جعلها أحمد أمين أمرا مسلّما غير قابل للنقاش ، وهو أن العرب لم يعرفوا السجع في تلك الفترة ، والحال أننا لو أحسنّا الظن بهذا الرجل
لقلنا : إنه أبعد ما يكون
عن كلام العرب ونفسهم الأدبي . إذ أن كلماتهم تطفح بالسجع ، بل
نادراً ما تجد خطبة لأحد فصحاء العرب تخلو من هذا الأسلوب البلاغي . والسجع معروف في كلام العرب ، بل حتى في القرآن الکریم وفي الحديث
النبوي الشريف وكلام الصحابة والتابعين ، وإليك التفصيل : |
|
السجع في القرآن :
|
|
أهم مصدر لكلام العرب هو القران
الكريم , والسجع كثير في القران الكريم . قال التفتازاني في مختصرالمعاني : (وهو) أي السجع (ثلاثة أضرب: مطرَّف إن اختلفتا) أي الفاصلتان ( في الوزن ، نحو: ( مَّالَكُمْ لَاتَرجُونَ لِلَّه وَقَاراً (*)
وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطوَاراً)) ،فأن الوقار والأطوارمختلفان وزناً . إلى أن قال : (وإلا فهو متوازٍ) إي وإن لم يكن جميع ما في القرينة أو أكثره موافقاً لما یقابله من الأخرى فهو السجع المتوازي ، (نحو: ( فِيهَا سُرُرٌمَرْفُوعَةٌ
وَأَكْوَابٌ مَوضُوعَةٌ)) ؛ لاختلاف (سرر)) و((أكواب)) في الوزن والتقفية معاً ،وقد يختلف الوزن فقط ، نحو: (وَالمُرسَلَتِ عُرفأً (*)
فَالعَصِفَتِ عَصفاً) . إلى أن قال : (قيل : ولا يقال : في القرآن أسجاع) رعاية للأدب وتعظيماً له ؛ إذ السجع في الأصل هديرالحَمَام ونحوه ، وقيل : لعدم
الإذن الشرعي ، وفيه نظر؛ إذ لم يقل أحد بتوقف أمثال هذا على إذن الشارع ، وإنما
الكلام في أسماء الله تعالى [مختصرالمعاني ٢ / ٢٠٧ .] . وقد ذكرابن أبي الحديد شارح (نهج
البلاغة) في معرض جوابه على هذه الشبهة أن السجع موجود في القرآن الكريم ، فقال : واعلم أن قوماً من
أرباب علم البيان عابوا السجع ، وأدخلوا خطب أميرالمؤمنين عليه السلام في جملة
ما عابوه ؛ لأنه يقصد فيها السجع
، وقالوا : إن الخطب الخالية
من السجع ، والقرائن والفواصل ، هي خطب العرب ، وهي المستحسنة الخالية من
التكلف...واعلم أن السجع لو كان عيباً لكان كلام الله سبحانه معيباً ؛ لأنه
مسجوع ، كله ذو فواصل وقرائن ، ويكفي هذا القدر وحده مبطلاً لمذهب هؤلاء [شرح نهج البلاغة ١ / ١٢٨ .] . وهذه شهادة مهمة من رجل شهد له الجميع السنة والشيعة بالتضلع في
علوم اللغة والأدب والبراعة فيها . |
|
السجع في الحديث
النبوي :
|
|
لو استقصينا أحاديث النبي المصطفى صلى
الله عليه وآله لوجدنا الكثيرمن الخطب والأحاديث مسجوعة . منها : ما رواه مسلم في صحيحة : عن زيد بن أرقم ، قال : لا أقول لكم إلا كما كان رسول الله
صلى الله عليه وآله یقول ، كان يقول : اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل ،
والجبن والبخل والهرم ، وعذاب القبر، اللهم آت نفسي تقواها وزكَّها أنت خير من
زكاها ، أنت وليها ومولاها ، اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ، ومن قلب لا
يخشع ، ومن نفس لا تشبع ، ومن دعوة لا يستجاب لها [صحيح مسلم ٨ / ٨٢ .] . وقد علق النووي على هذا الحديث بقوله : هذا الحديث وغيره من الأدعية
المسجوعة دليل لما قاله
العلماء أن السجع المذموم في الدعاء هوالمتكلف ،فإنه يُذهب الخشوع والخضوع والإخلاص ، ويُلهي عن الضراعة
والافتقار وفراق القلب ، فأما ما حصل بلا تكليف ولا إعمال فكر، لكمال الفصاحة
ونحو ذلك ، أو كان محفوظاً ، فلا بأس به ، بل هو حسن. شرح صحيح مسلم ١٧ / ٤١. إذن من كلام النووي نستنتج أمرين : أولهما : أن السجع غيرالمتكلف ليس بقبيح . والثاني : أن السجع موجود في الحديث النبوي ، وبالتالي فهو معروف في تلك
الفترة الزمنية ، كما ادعّى أحمد أمين . وللنووي تصريح آخر حول السجع ننقله
لأهميته ، فقد قال في شرحه على الصحيح : وأما السجع الذي كان النبي صلى الله عليه وآله یقوله فی بعض
الآوقات وهو مشهور في الحديث فليس من هذا ؛ لأنه يعارّض به حكم الشرع ، ولا
يتكلفه ، فلا نهي فيه ، بل هو حسن ، ويؤيَّد ما ذكرنا من التأويل قوله صلى الله
عليه وآله : (( کسجع الأعراب)) ، فأشارإلى بعض السجع هو المذموم ، والله أعلم [شرح صحيح مسلم ١١ / ١٧٨ .] . ومنها : ما رواه البخاري في صحيحه : عن بي هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله کان یقول : لا إله
إلا الله وحده ، أعزَّ جنده ، ونصرعبده ، وغلب الأحزاب وحده ، فلا شيء بعده [صحيح البخاري ٥ / ٤٩ .] . وقد علق ابن حجرعليه بقوله : هو من السجع المحمود ، والفرق بينه
وبين المذموم أن المذموم ما يأتي بتكليف واستكراه ، والمحمود ما جاء بانسجام
واتفاق ، لهذا قال في مثل الأول : (( أَسجعٌ مثل سجع الكهان؟))، وكذا قال ، كان يكره السجع في الدعاء ، ووقع في كثيرمن الأدعية
والمخاطبات ما وقع مسجوعاً، لكنه في غاية الانسجام المشعر بأنه وقع بغير قصد [فتح الباري ٧ / ٣١٣ .] . |
|
السجع عندالصحابة
|
|
أما الصحابة فقد ورد أيضاً في كلامهم سجع كثيرلا
يمكن إحصاؤه ، ولا يتسنّى استقصاؤه ، وسنكتفي بهذا المثال : فقد روى ابن شبة بسنده : عن عمارة بن
غزية ، قال : مرَّ عمر بن الخطاب على عقيل بن أبي طالب ، ومخرمة بن نوفل بن وهب
بن عبد مناف ، وعبد الله بن السائب بن أبي حبيش ، وهم يتذاكرون النسب ، فجاء عمر
حتى سلَّم عليهم ، ثم جاوزهم ، فجلس على المنبر، فكبرعليه ، قال : فظننا أنه
سيتكلم ، فرفع رأسه ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أيها الناس ، أوفوا
الطحين ، واملكوا العجين ، وخيرالطحين ملك العجين ، ولا تأكلوا البيض ، فإنما
البيض لقمة ، فإذا تركت كانت دجاجة ثمن درهم ، وإياكم والطعن في النسب ، اعرفوا
مِنْ أنسابكم ما تصلون به أرحامكم ، وتأخذون به وتقطون به ، واتركوا ما سوى ذلك
، لا يسألني أحد وراء الخطاب ، فإنه لو قيل : لا يخرج من هذا المسجد إلا بهيم بن
هبوب ما خرج منهم أحد [تاريخ المدينة ٣ / ٧٩٧ .] . |
|
وهذه الخطبة فيها
فائدتان :
|
|
الأولى : هو وجود كلام مسجوع للصحابة كما في هذه الخطبة مثل : (أوفوا
الطحين ، واملكوا العجين ، وخيرالطحين ملك العجين) وهذا كاف لإسقاط مدّعى أحمد
أمين . الثانية : هوالفرق الشاسع والبون الواسع بين الكلام المنسوب لعلي بن أبي
طالب عليه السلام وبين غيره من الصحابة مثل عمر بن الخطاب ، ولعل هذا هوالسبب في
محاولتهم إسقاط كتاب (نهج البلاغة) ؛ لكونهم لا يرضون بإثبات منقبة له في مقابل
صحابتهم. ولهذا قال ابن أبي الحديد المعتزلي : ويكفي هذا الكتاب الذي نحن شارحوه
دلالة على أنه لا يجارى في الفصاحة ، ولا يبارى في البلاغة ، وحسبك أنه لم
يدوَّن لأحد من فصحاء الصحابة العشر، ولا نصف العشر مما دوَّن له ، وكفاك في هذا
الباب ما يقوله أبوعثمان الجاحظ في مدحه في كتاب (البيان والتبيين) وفي غيره من
كتبه [شرح نهج البلاغة ١ / ٢٦ .] . ونختم الرد على هذا الإشكال الواهي بملاحظة مهمة
جدّا ، هي أنّ أحمد أمين استشهد في معرض كلامه
بشخصيتين ، هما الصفدي وهوارت . أمّا الأول فقد ذكرنا سابقاً أنه مجّرد مقلد
أعمى لابن خلَّكان ، ولا رأي له في الأمر، فلا ندري كيف اعتبره من النقّاد الذين
يُعتدّ برأيهم ؟ أمّا الثاني [كليمان هوارت : باحث مستشرق فرنسي ، من أعضاء المجمع العلمي العربي
، والمجمع العلمي الفرنسي ، والجمعية الآسیویة . ولد بباريس ، وتعلم بمدرسة
اللغات الشرقية فيها ، وتكلم العربية الجزائرية العامية في طفولته ، وعُيّن
ترجماناً للقنصلية الفرنسية بدمشق سنة ١٨٧٥ ، وبالآستانة سنة ١٨٧٨ ، وعاد إلى
باريس سنة ١٨٩٨ ، وهو يحسن العربية والتركية والفارسية] فهو من المستشرقين الذين جعلوا شغلهم
الشّاغل الطعن في كل الإسلام ، فلم يترك عروة فيه إلا حاول نقضها ، ولا دعامة
إلا سعى لهدمها وهو أول من أثار شبهة اقتباس النبي المصطفى صلى الله عليه وآله القرآن من أشعارالجاهلية ، لاسيما من شعرأمية بن أبي الصّلت وأمرئ القيس ! فلا ندري هل يوافق أحمد هذا الرجل على
نقده القرآن واتهامه للرسول الآعظم صلى الله عليه وآله بتآلیف القرآن ونسبته
لساحة الرحمن ؟ ، فكان ترجماناً في وزارة الخارجية . ومثّل حكومته في مؤتمري
المستشرقين بالجزائر سنة ١٩٠٥ , وفي كوبنهاجن ١٩٠٨ , والف عدة كتب . علماً أنّ أحمد أمين عُرِفَ بملء كتبه بالتقوّل على الشيعة ، ونسبة أمور
لهم لا يقولون بها ، ولا يقرّونها ، ولّما واجهه علماء النجف الأشرف في ذلك اعتذر بعدم اطلاعه على كتب
الشيعة ! وقد نقل الشيخ كاشف
الغطاء ما داربينه وبين أحمد أمين في النجف في كتابه (أصل الشيعة وأصولها) ،
فقال : ومن غريب الاتفاق أن أحمد أمين في العام الماضي ١٣٤٩ هجري بعد انتشاركتابه ،ووقوف عدة
من علماء النجف عليه زار مدينة العلم ، وحظي
بالتشرف بأعتاب باب تلك المدينة في الوفد المصري
المؤلف من زهاء ثلاثين بين مدرس وتلميذ ، وزارنا بجماعته ، ومكثوا من ليلة من
ليالي شهررمضان في نادينا في محفل حاشد ، فعاتبناه
على تلك الهفوات عتاباً خفيفاً ، وصفحنا عنه صفحاً جميلاً ، وأدرنا أن نمرعليه كراماً ، ونقول له سلاماً...وكان أقصى ما
عنده من الاعتذار من الاعتذارعدم الاطلاع وقلة المصادر؟! فقلنا : وهذا أيضاً غير سديد ، فإن
من يريد أن يكتب عن موضوع يلزم عليه أولاً أن يستحضرالعدة الكافية ، ويستقصي الاستقصاء التام وإلا فلا يجوز له الخوض فيه والتعرض له ، وكيف أصبحت مكتبات الشيعة ومنها مكتبتنا المشتملة على ما يناهزخمسة الآف مجلد أكثرها من كتب علماء السنة ، وهي في بلدة كالنجف فقيرة من كل شيء إلا من العلم والصلاح إن شاء الله ، ومكتبات القاهرة ذات العظمة
والشأن خالية من كتب الشيعة إلا شيئاً لا يذكر[أصل الشيعة وأصولها : ١٤٠ .] . ولهذا فلا يمكن الاعتماد على ما ينقله
هذا الرجل ، ولا ما يقوله ؛ لاعترافه بعدم اطلاعه على كتب الشيعة واعتماده على
ما ينقله الغير. |
|
الشبهة
التاسعة : التوحيد :
|
|
طعن بعضهم في كتاب (نهح البلاغة) من
جهة احتوائه على خطب وكلمات في التوحيد موافقة لما عليه المعتزلة ، وهذا دليل
على أن هذه الخطب موضوعة ؛ لأن الشريف المرتضى قدس سره كان من ينتمي إلى المعتزلة . قال الشيخ صالح الفوزان : ومن المطاعن على كتاب (نهج البلاغة)
مما لم يذكرالدكتور ما فيه من الاعتزال في الصفات ؛ لأن الرافضة اعتمدوا على كتب المعتزلة
في العقليات ، فوافقوهم في القدر وسلب الصفات ، وكان المرتضى واضع كتاب (نهج البلاغة) أوالمشارك في وضعه كما أسلفنا معتزليًّا ، بل قال عنه ابن حزم : إنه من كبارالمعتزلة الدعاة كما نقله عنه الذهبي في الميزان ، ومن هذا المشرب الكدر حشي (نهج البلاغة) [البيان لأخطاء بعض الكتاب : ١٠١ .] . هذه الشبهة المطروحة هي من أسخف الأشكالات المطروحة حول هذا
الكتاب ؛ إذ أن لسان حال
هذا المشكل هو قوله : نحن نرفض كتاب (نهج البلاغة) لأنه يخالف ما نعتقده ، لا لوجود مشكلة فيه . فالرجل لا ينطلق من الدليل إلى المعتقد
، بل هو يحكم معتقده الراسخ في ذهنه
على النصوص الموجودة ، فإن وافقت ما عنده قبلها ، وإن خالفته رفضها وإن كانت صحيحة ، ولذلك فهو لا يقبل كتاب (نهج البلاغة) لأنه يخالف
التوحيد الذي يعتقد به ،فالشيخ يرفض ما ورد في النهج من تنزيه الله عزَّوجل ،
ودفع للتشبيه الذي يتوهمه الجهّال . وهذا ما جعل الشيخ يأتي بأمثلة من النهج يراها هو باطلة ومخالفة للعقيدة
الصحيحة ، فنقل خطبة عن النهج جاء فيها قوله عليه السلام : ولا يُوصف بشيء من
الأجزاء ولا بالجوارح والأعضاء...إلى أن قال: وليس في الأشياء بِوالِج ، ولا
عنها بِخارج ، يخبر لا بلسان ولهوات ، ويسمع لا بخروق وأدوات ، يقول ولا يتلفظ ،
يقول لمن أراد كونه : (( كن)) فيكون ، لا بصوت يقرع ، ولا بنداء يسمع ، وإنما
كلامه سبحانه فعل منه أنشأه ومثله ، ولم يكن من قبل ذلك ، ولو كان قديماً كان
إلهاً ثانياً...إلى أن قال : هو الظاهرعليها بسلطانه وعظمته وهو الباطن لها
بعلمه ومعرفته ، والعالي على كل شيء منها بجلاله وعزَّته [البيان لأخطاء بعض الكتاب : ١٠١ .] . ثم أردفها بقوله : انتهى ما أردنا نقله من هذا الهذيان الذي ينزَّه الله سبحانه وتعالى عنه مما يطابق اعتقاد الجهمية
والمعتزلة [البيان لأخطاء بعض الكتاب : ١٠١ .] . فالهذيان عند الشيخ هو أن ينزَّه الله حقّ تنزيهه ، فلا
يرضى بسلب الجوارح عنه ، ولا بتنزيهه عن اللسان واللهوات ، والدخول في الأشياء
وغيرها من الأمور؛ لأن كل هذه تعتبرمن أمهات عقائدهم ؛ اذ أن هؤلاء القوم قد تشرّبوا التجسيم ، وتنفّسوا التشبيه حتّى
عُرفوا عبرالتاريخ بالمجسّمة والمشبَّهة . والشيخ ذكرفي كتابه (الإرشاد إلى صحيح
الاعتقاد) المصادرالمعتمدة لمعرفة صفات الله جلّ جلاله ، فقال : وهذا القسم قد جحده الجهمية
وتلاميذهم من المعتزلة والأشاعرة ، وهو في الحقيقة داخل في توحيد الربوبية ، لكن
لما كثرمنكروه وروَّجوا الشبه حوله ؛ أفرد بالبحث ، وجعل قسماً مستقلاً ، وألفت
فيه المؤلفات الكثيرة ، فألف الإمام أحمد ردَّه المشهورعلى الجهمية ، وألف ابنه
عبد الله كتاب (السنة) ، وألف عبدالعزيزالكناني كتاب (الحيدة) في الرد على
بشرالمريسي ، وألف أبوعبدالله المروزي كتاب (السنة) ، وألف عثمان بن سعيد كتاب
(الرد على بشرالمريسي) ، وألف إمام الأئمة محمد بن خزيمة كتاب (التوحيد) ، وألف غيرهؤلاء كشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم هؤلاء ومن
جاء بعدهم وسارعلى نهجهم فلله الحمد والمنة على بيان الحق ودحض الباطل [الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد : ١٣٦.] . لا أريد في هذا الكتاب مناقشة عقائد
القوم في الأسماء والصفات ، لكن من باب كشف الحقائق سآتي ببعض الشواهد من هذه الكتب التي اعتبرها الشيخ الفوزان مرجعاً
للعقيدة . منها : كتاب الرد على الجهمية لأحمد بن
حنبل : فمن العجيب أن المؤلف جعل هذا الكتاب
من مصادرالعقيدة مع جهالة سنده ،ونسبة علماء الجرح والتعديل الكتاب للوضع والكذب
. فقد قال الذهبي في السير: فهذه الرسالة إسنادها كالشمس ، فانظر
إلى هذا النفس النوراني، لا كرسالة الإصطخري ، ولا كالرد على الجهمية الموضوع
على أبي عبدالله ، فإن الرجل كان تقيًّا ورعاً لا يتفوه بمثل ذلك [سير أعلام النبلاء ١١ / ٢٨٦ .] . وقال شعيب الأرنؤوط : مما يؤكد قوله أن في السند إليه
مجهولاً ، وهو الخضربن المثنى ، والرواية عن مجهول مقدوح فيها ، مطعون في سندها
، على أن فيه آراء تخالف ما كان عليه السلف الصالح من معتقد ، ويختلف عما جاء عن
الإمام في غيره مما صحَّ عنه [حاشية سير أعلام النبلاء ١١ / ٢٨٦ .] . فالشيخ صالح يشكل على الشيعة اعتمادهم على (نهج
البلاغة) ؛ لأنه في نظره باطل ، ويحيل النّاس على كتاب باطل جعله مصدراً من مصادرالعقيدة وهو موضوع باعتراف أهل الصنعة ! أما مضمون هذا الكتاب فحدّث ولا حرج ، فإنّ فيه من التجسيم والتشبيه الشيء
الكثير، لكن نكتفي بذكرهذا
النص ، قال : فقلنا :
أخبرونا عن هذه النخلة ، أليس له جذع ، وكرب ، وليف ، وسعف ، وخوص ، وجمار،
واسمها اسم شيء واحد ، وسُميّيتْ ((نخلة)) بجميع صفاتها ، فكذلك الله ، وله
المثل الأعلى بجميع صفاته إله واحد [الرد على الجهمية : ١٣٣ .] . في هذا الكلام يؤصّل واضع الكتاب الذي نسبه للإمام أحمد بن حنبل عقيدة التركيب والعياذ بالله ، إذ
أنه يعتبر أن نسبة الذات للصفات كنسبة الجزء للكل ، ومثاله أدلّ دليل على ذلك
على ذلك ، وكما يعلم كل عاقل أن التركيب يستلزم الحاجة ؛ لأن كل مركَّب لأبعاضه
، وأبعاضه غيره ، والله لا يحتاج إلى غيره ،لأنه غني عن العالمين ، وإذا كان
الله تعالى قديماً غيرمحدث فإن أجزاءه تكون قديمة مثله ، وهذا يستلزم القول
بتعدّد القدماء ، وهو باطل ، وهناك لوازم أخرى باطلة ليس هذا مجال بيانها! فالشيخ صالح الفوزان يدعونا جميعاً إلى العمل بما ورد في هذا الكتاب
الموضوع ، والاعتقاد بأنّ الله مركَّب ، والعياذ بالله . ومن تلك الكتب : كتاب السنّة لعبدالله بن أحمد : وهذا الكتاب كسابقه لا تصحّ نسبته
لعبدالله بن أحمد بن جنبل ؛ لضعف الرواة الذين نقلوا هذا الكتاب عنه ، وقد اعترف محقّق الكتاب الدكتور محمد
سعيد القحطاني بذلك عنه ترجمته لرواة الكتاب في أول الكتاب ، حيث قال في ترجمة
محمد بن إبراهيم بن خالد الهروي راوي الكتاب عن مصنَّفه : لم أعثرعلى ترجمة فيما
اطلعت عليه من المصادر . [السنة ١ / ١٠٢ .] وقال في ترجمة الراوي عنه محمد بن الحسن
بن سليمان السمسار: بحثت كثيراً في المصادرالتي بين يدي فلم أجد ترجمة تقرب أن تكون
ترجمة هذا الشخص [السنة ١ / ١٠٢ .] . فلا ندري كيف يحتجّ الفوزان بهذا الكتاب ، ويجعله من
مصادرالعقيدة دون التحقق من صحّة إسناده . وإذا نظرنا إلى متن هذا الكتاب نجده من أكثرالكتب التي مُلئت بالخرافات
اليهودية الوثنية ،بحيث لا تمر بصفحة من صفحات هذا الكتاب إلا وتجد فيها طامّة
أعظم من التي سبقتها ، وسنذكربعض الشواهد من هذا الكتاب الذي أحال عليه الفوزان : فقد قال عبدالله : حدثني أبي رحمه الله ، أنا يزيد بن
هارون ، أنا الجريري عن أبي عطاف ، قال : كتب الله التوارة لموسى ع بيده وهو مسند ظهره إلى الصخرة في ألواح من در ظنّ فسمع صريف
القلم ، ليس بينه وبينه إلا الحجاب [السنة : ١٧٨ .] . فهذه الرواية تثبت لله جارحة وهي اليد ، يكتب بها ،
ويستعين بالقلم في الكتابة ، والطامّة أن رب الجلالة مسند ظهره على صخرة ! أهذا هو التوحيد الذي يدعونا إليه
الشيخ الفوزان ؟ وقال عبدالله : سمعت أبي رحمه الله
ثنا يحيى بن سعيد بحديث سفيان ، عن الأعمش ، عن منصور، عن إبراهيم ، عن عبيدة ،
عن عبدالله ، عن النبي صلى الله عليه وآله : أن الله يمسك السماوات على إصبع .
قال أبي رحمه الله : جعل يحيى يشير بأصابعه ، وأراني أبي كيف يشير بإصبعه ، يضع
إصبعاً إصبعاً حتى أتى عىل آخرها [السنة : ١٥٤ ، وقد صحّح المحقق
الدكتورمحمد سعيد القحطاني هذه الرواية في تخريجه لروايات هذا الكتاب .] . دائماً نسمع من القوم أنّهم يثبتون
أصابع بلا كيف ، لكن هذا الحديث يثبت أنها أصابع كأصابعنا بحسب العقيدة المفتراة
على أحمد بن حنبل ، وإلا لماذا أشار بأصابعه ؟ وروى عبدالله : حدثني أبي ، ثنا رجل ، ثنا إسرائيل ،
عن السدي عن أبي مالك ، في قوله عزَّوجل : (وَسِعَ كُرسِيُّهُ الَّسمَوَاتٍ
وَالأَرْضَ) ، قال : إن الصخرة التي تحت الأرض السابعة ومنتهى الخلق ، على
أرجائها أربعة من الملائكة ، لكل ملك منهم أربعة وجوه : وجه إنسان ، ووجه أسد ،
ووجه نسر، ووجه ثور، فهم قيام عليها قد أحاطوا بالأرض والسماوات ، ورؤوسهم تحت
الكرسي ، والكرسي تحت العرش ، قال : وهو واضع رجليه تبارك وتعالى على الكرسي [السنة : ١٨٤ .] . هذه هي العقيدة التي يدعو إليها الشيخ
الفوزان : عرش تحمله حيوانات
أسطورية أشبه بقصص الأطفال والأفلام الخرافية ، وربّ محمول ، يضع رجلين (بلا كيف ) على كرسي ! ومنها : كتاب الحيدة : وهوالكتاب الثالث الذي أحال عليه الشيخ الفوزان ، هو كتاب (الحيدة) لعبد العزيز بن
يحيى الكناني ، وهو كالكتاب الأول قد طعن فيه أئمة الجرح والتعديل ، ونفوا صحّة نسبته لصاحبه . قال الذهبي في الميزان عند تعرّضه لترجمة الرّجل : عبدالعزيز بن يحيى بن
عبدالعزيزالكناني المكي الذي يُنسب إليه (الحيدة) في مناظرته لبشرالمريسي ، فكان
يلقَّب بالغول لدمامته ، وذكرداوود الظاهري أنه صحب الشافعي مدة ، روى عن ابن
عيينة وجماعة يسيرة ، روى عنه أبوالعيناء ، والحسين بن الفضل البجلي ، وأبوبكر
يعقوب بن إبراهيم التميمي ، وله تصانيف ؛ قلت : لم يصح إسناد كتاب الحيدة إليه ، فكأنه وُضِع عليه [ميزان الاعتدال ٢ / ٦٣٩ .] . وقال السبكي : قال شيخنا الذهبي : فهذا يدل على أن عبدالعزيز كان حيًّا في حدود الأربعين ؛ قلت :
وعلى أنه كان ناصراً للسنة في نفي خلق القرآن کما دلت عليه مناظرته مع بشر،
وكتاب الحيدة المنسوب إليه فيه أمور مستشنعة ، لكنه كما قال شيخنا الذهبي لم يصح
إسناده إليه ، ولا ثبت أنه من كلامه ، فلعله وُضِعَ عليه [نفس المصدر٢ / ٦٣٩ .]. فهؤلاء يشهدون أنّ هذا الكتاب موضوع مكذوب ،
ويحوي أموراً مستشنعة ، فلا ندري كيف يجعله الشيخ الفوزان من مصادرالعقيدة ؟! علماً أنّ هذا الكتاب لا علاقة له بمبحث
الأسماء والصفات ، بل غاية ما فيه هو سرد مناظرة حصلت بين الكناني وبين بشرالمريسي
حول خلق القرآن ، والمورد الوحيد الذي حصل فيه كلام في الصفات كان حول السمع
والبصر، وقد خالف الكناني
عقيدة الفوزان ، وأمسك عن إثبات آلتي السمع والبصر لله سبحانه . قال : ثم أقبل عليَّ المأمون ، فقال : يا عبدالعزيز تقول : إن الله عالم ،
فقلت : نعم يا أميرالمؤمنين ، قال : فتقول : إن الله سميع بصير، قال : قلت : نعم
يا أميرالمؤمنين ؛ قال : فتقول : إن لله سمعاً وبصراً كما قلت إن له علم ، فقلت : لا
أطلق هذا هكذا يا أميرالمؤمنين . فقال : أي فرق بين هذين ؟ فأقبل بشر يقول : يا
أميرالمؤمنين يا أفقه الناس ، ويا أعلم الناس يقول الله عزَّوجل (بَلْ نَقْذِفُ
بِالْحَقِ عَلَى البَاطِل فَيَدْمَغُهُ فَإذَا هُوَ زَاهِقٌ) ، قال عبدالعزيز:
فقلت : يا أميرالمؤمنين قد قدمت إليك فيما احتججت به إن على الناس كلهم جميعاً
أن يثبتوا ما أثبت الله ، وينفوا ما نفى الله ، ويمسكوا عما أمسك الله عنه ،
فأخبرنا الله عزَّوجل أن له علماً بقوله : ( فَعْلَمُوأ أَنَمَآ أُنزِلَ
بِعِلَمِ اللهِ) ، فقلت : إن له علماً كما قال ، وأخبرنا أنه سميع بصيربقوله
:(وَهُوَ السَّمِعُ الْبَصِيرُ) ، فقلت إنه سميع بصير كما قال ، ولم يخبرنا أن
له سمعاً وبصراً [الحيدة : ٩٩ .] . وقد أُحرج المحقَّق من هذه الفقرة، فقال:الإمام الكناني من أهل السنة
والجماعة، وهوالناصرلمذهبهم بما جاء في الكتاب والسنة ، فلا يخالف قولهم ، وأما
قوله : (( ولم أقل إن له سمعاً وبصراً وأمسكت عند إمساكه)) ، فلعن ذلك على سبيل
المناظرة التي يتحاشا فيها الدخول في دقائق المسائل التي قد تخفى على الحضور،
وكل ما في الأمر أنه أمسك مجتهداً ولم ينف الصفة ، كما أنه أثبت صفة العلم [هامش كتاب الحيدة : ٩٩ .] . فلا ندري هل قرأ الفوزان هذا الكتاب قبل
أن يحيل عليه ، أو أنه يقلد غيره في مدح هذه الكتب دون أن يقرأ منها سطراً ؟! ومنها كتاب السنة للمروزي : وإيراد صالح الفوزان لهذا الكتاب في جملة كتب العقيدة يثبت ما
ذكرناه سابقاً ، وهو أن الرجل يحيل على كتب لم يقرأه ولم يطلع على محتواها ، إذ
أنّ هذا الكتاب لا علاقة له بالتوحيد ولا الأسماء والصفات ، بل الكتاب مشتمل على ذكر أحاديث مختلفة في شتى الأبواب
. ومنها : كتاب الرّدعلى بشرالمريسي : وصاحب هذا الكتاب هوعثمان بن سعيد
الدّارمي ، ولا نريد وصفه بأي وصف لكي لا يظن القارئ الكريم أني أتحامل عليه
لسبب شخصي ، لكني سأذكرنصّين من كتابه وأترك الحكم للقارئ المنصف : قال في كتابه : وقد بلغنا أنهم حين حملوا العرش
وفوقه الجبار في عزّته وبهائه ضعفوا عن حمله ، واستكانوا، وجثوا على ركبهم ، حتى
لُقَّنوا : (( لا حول ولا قوة إلا بالله )) ، فاستقلوا به بقدرة الله وإرادته ،
لولا ذلك ما استقل به العرش ، ولا الحملة ، ولا السماوات والأرض ، ولا من فيهن ،
ولو قد شاء لاستقَّرعلى ظهر بعوضة ، فاستقلت به بقدرته ولطف ربوبيته، فكيف على
عرش عظيم أكبر من السماوات السبع والأرضين السبع [نقض الدارمي ١ / ٤٥٨ .] . فهذا الكتاب الذي يدعو اليه الشيخ الفوزان يحثّ الناس على الاعتقاد بأنّ رب
العزة والجلالة يمكن أن يستقرّ على ظهر بعوضة ، فتحمله سبحانه ! بهذا الكلام يمكن أن يحتجّ النصراني
فيقول : لو شاء الله
لظهرلخلقه في جسم بشري كما في عيسى ، فكيف يردّون عليه ؟ والطّامة الكبرى ما ورد أيضاً في هذا
الكتاب من قوله : فيقال لهذا المعارض المدّعى ما لا علم له : من أنبأك أن رأس الجبل
ليس بأقرب إلى الله تعالى من أسفله ؟ لأنه من آمن بأن الله فوق عرشه فوق سماواته
، علم يقيناً أن رأس الجبل أقرب إلى الله من أسفله ، وأن السماء السابعة أقرب
إلى عرش الله تعالى من السادسة ، والسادسة أقرب إليه من الخامسة ، ثم كذلك إلى
الأرض ، كذلك روى إسحاق بن إبراهيم الحنظلي عن ابن المبارك أنه قال : ((رأس
المنارة أقرب إلى الله من أسفله )) ، وصدق ابن المبارك ؛ لأن كل ما كان إلى
السماء أقرب كان إلى الله أقرب [نقض الدارمي ١ / ٥٠٤ .] . انظروا إلى هذه العقيدة الفاسدة ، فإن هذا الرجل فهم من العلو
المذكورفي الآیات علوًّا ماديًّا حقيقيًّا ، بحيث إنّ من كان في أعلى الجبل
سيكون أقرب إلى الله من الواقف بأسفله ! بهذا يكون الكثير من البشر في عصرنا
الحاضر أقرب إلى ذات الله من محمد صلى الله عليه وآله ؛ لأن هؤلاء الآن يسكنون
في ناطحات سحاب لم تكن موجودة في ذلك العصر، أو يركبون طائرات تبلغ ارتفاعاً
عاليًّا لا النبي صلى الله عليه وآله ولا أي واحد من الصحابة ! هذه هي العقيدة التي يدعونا إليها الشيخ
الفوزان ، ويضعها بديلاً عن كتاب (نهج البلاغة) . ولم يحتمل الذهبي شناعة هذه الكلمات
وغيرها رغم أنه من رواد
التجسيم ، فقال في كتاب العلو: وفي كتابه بحوث عجيبة مع المريسي
يبالغ فيها في الاثبات ، والسكوت عنها أشبه بمنهج السلف في القديم والحديث [العلو للعلي الغفار١٩٥ .] . ومنها : كتاب التوحيد لابن خزيمة : وهذا الكتاب لا يختلف عن سابقيه ، إذ أنه جامع لروايات التجسيم
والتشبيه ، وقد صدق الفخرالرازي
في حكمه على المؤلَّف والمؤلَّف بقوله : واعلم أن محمد بن إسحاق بن خزيمة أورد استدلال أصحابنا بهذه الآیة في كتاب الذي سماه (بالتوحيد) ، وهو في الحقيقة كتاب
الشرك ،واعترض عليها ، وأنا أذكر حاصل كلامه
بعد حذف التطويلات ؛ لأنه كان رجلاً مضطرب الكلام ، قليل الفهم ، ناقص العقل [مفاتيح الغيب ٢٧ / ١٥٠ .] . ومن راجع الكتاب تيّقن وجزم بصحة ما
قاله الفخرالرازي ، بل ربّما يقول أكثرمن هذا ، لما في
الكتاب من أمور مستشنعة لا يقول بها ملحد فضلاً عن موحّد ! قال في كتابه المذكور: نحن نقول : لربنا الخالق عينان يبصر
بهما ما تحت الثرى ، وتحت الأرض السابعة السفلى ، وما في السماوات العلى ، وما
بينهما من صغير وكبير، لا يخفى على خالقنا ، خافية في السماوات السبع والأرضين
السبع ، ولا مما بينهم ، ولا فوقهم ، ولا أسفل منهن ، لا يغيب عن بصره من ذلك
شيء ، يرى ما في جوف البحار ولججها ، كما يرى عرشه الذي هو مستوعليه [التوحيد ١ / ٧٦ .] . هذا الرجل يثبت لله عينين ، أي آلة
يبصر بها الله عزَّوجل خلقه ! إن لم يكن هذا تجسيماً فما هوالتجسيم ؟ والظاهرأنّ الشيخ لا يعلم أنّ ابن خزيمة قد تاب عن هذا التجسيم ورجع عنه كما نقل البيهقي في الأسماء والصفات
، فإنه قال : قلت : القصة فيه طويلة ، وقد رجع محمد بن إسحاق إلى طريقة السلف ،
وتلهف على ما قال ، والله أعلم [الأسماء والصفات : ١٦٧ .] . ومنها : كتب ابن تيمية : فإن من جملة المصادرالتي يؤخذ منها توحيد الأسماء والصفات عند
الشيخ الفوزان كتب ابن تيمية الحرّاني . وهذا الرجل اتّهمه أهل عصره بالتجسيم والتشبيه ، فقد قال ابن حجرالعسقلاني عند ترجمته
لابن تيمية : وافترق الناس فيه شيعاً ، فمنهم من نسبه إلى التجسيم ؛ لما ذكر في
العقيدة الحموية والواسطية وغيرها من ذلك ، كقوله : إن اليد والقدم والساق
والوجه صفات حقيقية لله ، وأنه مستو على العرش بذاته . فقيل له : يلزم من ذلك التحيّز
والانقسام . فقال : أنا لا أسلَّم أن التحيز والانقسام من خواص الأجسام ، فالذم
بأنه يقول بتحيز في ذات الله [الدررالكامنة ١ / ١٥٤ .] . ومن قرأ كتبه رأى الكثيرالكثيرمن التجسيم والتشبيه ، فهو الذي رسّخ عقيدة جلوس النبي صلى
الله عليه وآله على العرش عياذاً بالله ! قال في فتاويه : فقد حدّث العلماء المرضيون وأولياؤه
المقبولون انّ محمداً رسول الله صلى الله عليه وآله يُجلسه ربُّه على العرش معه [مجموع الفتاوى ٤ / ٣٧٤ .] . ركّز أخي القارئ على لفظ (( معه)) ، فإن هذا الرجل يعتقد أن النبي صلى
الله عليه وآله یجلس مع ربّه على العرش ، فهل هناك تجسيم اصرح من هذا ؟ وهوالذي يدعو إلى ما هو أشنع من هذا ،
حيث قال : قال عثمان بن سعيد
في ردَّه على الجهمية : حدثنا عبدالله بن صالح المصري ، قال : حدثني الليث وهو
ابن سعد ، حدثني خالد بن يزيد ، عن سعيد بن أبي هلال ، أن زيد بن أسلم حدّثه عن
عطاء بن يسار، قال : أتى رجل كعباً وهو في نفر، فقال : يا أبا إسحاق حدثني عن
الجبار. فأعظم القوم قوله ، فقل كعب : دعوا
الرجل ، فإن كان جاهلاً يعَّلم ، وإن كان عالماً ازداد علماً ، قال كعب : أخبرك
أن الله خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن ، ثم جعل ما بين سماءين كما بين السماء
الدنيا والأرض ، وكثفهن مثل ذلك ، ثم رفع العرش فاستوى عليه ، فما في السموات
سماء إلا لها أطيط كأطيط العلا في أول ما يرتحل من ثقل الجبار فوقهن . وهذا الأثر وإن هو رواية كعب ، فيحتمل أن يكون من علوم أهل الكتاب ،
ويحتمل أن يكون مما تلقاه عن الصحابة ، ورواية أهل الكتاب التي ليس عندنا شاهد ،
هو لا يدافعها ولا يصدقها ولا يكذبها ، فهؤلاء الأئمة المذكورة في إسنادهم من
أجل الأئمة ، وقد حدثوا به هم وغيرهم ، ولم ينكروا ما فيه من قوله من ثقل الجبار
فوقهن ، فلوكان هذا القول منكراً في دين الإسلام عندهم لم يحدّثوا به على هذا
الوجه [بيان تلبيس الجهمية ١ / ٥٧٢ .] . فهذا الرجل يعتقد أن ربّه ثقيل الوزن ،
ومن هذا الثقل يصدرعرشه صوتاً سمّى في الرواية أنه أطيط ! هل هذا ما يدعو إليه الفوزان ويريده أن يكون بديلاً عن كتاب (نهج
البلاغة) الذي علّم الناس التنزيه ؟ ومنها : كتب ابن القيم : وهذا الرجل من تلامذة ابن تيمية الحرّاني ومن السّائرين على نهجه
حذو القذة بالقذة ، ولذلك فإنه كان من الذين أشربوا التجسيم حتى الثمالة ،
وغاصوا في التشبيه حتى النخاع . فهو الذي يروي في كتابه (زاد المعاني) بسنده عن رسول الله صلى الله عليه
وآله ، أنه قال : تلبثون ما لبثتم ، ثم يتوفى نبيّكم ، ثم تلبثون ما لبثتم ، ثم
تبعت الصائحة ، فلعمرإلهك ما تدع ظهرها شيئاً إلا مات والملائكة الذين مع ربك ،
فأصبح ربك عزَّوجل يطوف في الارض وخلت عليه البلاد ، فأرسل ربك السماء تهضب من
عند العرش ، فلعمرإلهك ما تدع على ظهرها من مصرع قتيل ولا مدفن ميت إلا شقت
القبرعنه ، حتى تخلفه من عند رأسه ، فيستوي جالساً ، فيقول ربك : مهيم لما كان
فيه يقول : يا رب أمس اليوم لعهده بالحياة يحسبه حديثاً بأهله [زاد المعاد ٣ / ٤٨ .]. فعقيدة هذا الرجل أنه ربّه يطوف بالأرض
تعالى الله عن هذا التجسيم المحض ! ولم يكتف بهذا بل علّق في آخرالحديث
بقوله : هذ حديث كبيرجليل
تنادي جلالته وفخامة وعظمته على أنه قد خرج من مشكاة النبوة لا يعرف إلا من حديث
عبد الرحمن بن المغيرة بن عبد الرحمن المدني رواه عنه إبراهيم بن حمزة الزبيري
وهما من كبارعلماء المدينة ثقتان محتج بهما في الصحيح احتج بهما إمام أهل الحديث
محمد بن إسماعيل البخاري ورواه أئمة أهل السنة في كتبهم وتلقوه بالقبول وقابلوه
بالتسليم والانقياد ولم يطعن أحد منهم فيه ولا في أحد من رواته [زاد المعاد ٣ / ٥٠ وهوالذي قال في كتابه (بدائع الفوائد) : قال القاضي : صنَّف المروزي كتاباً
في فضيلة النبي صلى الله عليه وآله وذكر فيه إقعاده على العرش ، قال القاضي :
وهو قول أبي داوود ، وأحمد بن أصرم ، ويحيى بن أبي طالب ، وأبي بكربن حماد ،
وأبي جعفرالدمشقي ، وعياش الدوري ، وإسحاق بن راهوية ، وعبدالوهاب الوراق ،
وإبراهيم الأصبهاني ، وإبراهيم الحربي ، وهارون بن معروف ، ومحمد بن إسماعيل
السلمي ، ومحمد بن مصعب بن العابد ، وأبي بن صدقة ، ومحمد بن بشربن شريك ، وأبي
قلابة ، وعلي بن سهل ، وأبي عبدالله بن عبد النور، وأبي عبيد ،الهاشمي ، ومحمد
بن عمران الفارسي الزاهد ، ومحمد بن يونس البصري ، وعبد الله ابن الإمام أحمد ،
والمروزي وبشرالحافي . انتهى . قلت – والقائل ابن القيم - : وهو قول ابن جريرالطبري ، وإمام هؤلاء كلهم
مجاهد إمام التفسير، وهو قول أبي الحسن الدارقطني ، ومن شعره فيه : حديثُ الشفاعةِ عَنْ أحمدٍ ***** إلى أحمدَ المصطفى مُسْنِدُهْ وجاءَ حديثٌ بإقعادِه ***** على العرش أيضاً فلا نجحدُهْ أَمِرُّوا الحديثَ على وجهِهِ ***** ولا تُدخِلوا فيِه ما يُفْسِدُهْ ولا تُنْكِرُوا أنه قَاعدٌ ***** ولاتُنْكِرُوا أنه يُقْعِدُهْ [بدائع الفوائد : ٥٥٨ .] هذه هي العقائد التي يريدنا الشيخ
الفوزان أن نترك كتاب (نهج البلاغة) وما احتواه من درر في التوحيد ، لنتدّين
بهذه الخرافات الوثنية . وأنا أقطع أن سبب هذه البلبلة التي وقع
فيها هؤلاء هو ابتعادهم عن كلمات أميرالمؤمنين عليه السلام وبالخصوص كتاب (نهج البلاغة)
، وقد صدق ابن أبي الحديد المعتزلي حين قال : وقد عرفت أن أشرف العلوم
هوالعلم الإلهي، لأن شرف العلم بشرف المعلوم ، ومعلومه أشرف الموجودات ، فكان
هوأشرف العلوم ، ومن كلامه عليه السلام اقتُبِس ، وعنه نُقل ، وإليه انتهى ،
ومنه إبتدأ فإن المعتزلة الذين هم أهل التوحيد والعدل ، وأرباب النظر، ومنهم
تعلَّم الناس هذا الفن تلامذته وأصحابه ؛ لأن كبيرهم واصل بن عطاء تلميذ أبي
هاشم عبدالله بن محمد بن الحنيفة ، وأبوهاشم تلميذ أبيه ، وأبوه تلميذه عليه
السلام ، وأما الأشعرية فإنهم ينتمون إلى أبي الحسن علي بن إسماعيل بن أبي
بشرالأشعري ، وهو تلميذ أبي على الجبائي ، وأبو علي أحد مشايخ المعتزلة ،
فالأشعرية ينتهون بأخرة إلى أستاذ المعتزلة ومعلمهم وهو علي بن أبي طالب عليه
السلام ، وأما الإمامية والزيدية فانتماؤهم إليه ظاهر [شرح نهح البلاغة ١ / ٢٩ .] . فكل المنزَّهة يرجعون بتنزيههم لسيَّد الموحَّدين علي بن أبي طالب عليه
السلام أما الفوزان ومن
على شاكلته فقد أعرضوا عن الإمام
عليه السلام ، فوقعوا في فخاخ كعب الأحباراليهودي ، ووهب بن منبه النصراني ،
وابن أبي العوجاء الزنديق . ونختم بنقطة مهمّة وهي أن الفوزان اتهم
الشريف المرتضى قدس سره بأمرين : الأول : أنه هو من وضع كتاب (نهج البلاغة) ، وقد بيَّنا فساده فيما سبق . الثاني : أنه معتزلي المذهب ، وهذا من
الأمورالمضحكة المبكية ، إذ أن كل من ترجم له قال : إنه شيعي إمامي ، ولم ينسبه أحد
للاعتزال . ولو كان عند الشيخ صالح الفوزان
عضوهيئة كبارالعلماء قليل من الاطلاع لعلم أن من أهم مصنَّفات السيد المرتضى علم الهدى قدس سره كتاب
(الشافي في الإمامة) ، وهو
ردّ على القاضي عبد الجبارإمام المعتزلة في عصره . فلا ندري من أين يأتي الشيخ بهذه
المعلومات الغريبة ؟ |
|
الشبهة العاشرة : علوم النهج :
|
|
استند بعض المفكَّرين المعاصرين على
قضية أخرى اعتبروها من الأمورالمشكَّكة في كتاب (نهج البلاغة) ، وهي احتواؤه على
أفكار وأساليب سامية لم تكن معروفة في تلك الحقبة ، بل دخلت عند العرب مع بداية
حركة الترجمة في عصرهارون الرشيد وابنه المأمون . قال الدكتورأحمد زكي صفوت : أمّا الشك الخامس ، فإنّا مع اعتقادنا الكامل بأنّ الإمام كان خير قدوة في الزهد
والورع ، وأعلى مثال في التقوى والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها ، نرى أنّ ما
عُزي إليه في هذا الباب لا يخلو من دخيل منتحل ، فهاك أقرأ خطبته التي يذكر فيها
ابتداء خلق السماء والأرض ، وانظرقوله فيها : (( أول الدين معرفته ، وكمال معرفته
التصديق به ، کمال التصديق به توحيده ، وكمال توحيده الإخلاص له ، وكمال الإخلاص
له نفي الصفات عنه ؛ لشهادة كلّ صفة أنّها غيرالموصوف، وشهادة كلّ موصوف أنه
غيرالصفة ، فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه ، ومن قرنه ثنّاه ، ومن ثنَّاه فقد
جزّأه ، ومن جزّأه فقد جهله ، ومن جهله فقد أشارإليه ، ومن أشارإليه فقد حدّه ،
ومن حدّه فقد عدّه ، ومن قال : فيم فقد ضمنّه ، ومن قال : علامّ فقد أخلى منه ،
كائن لا عن حَدَث ، موجود لا عن عَدَم ، مع كلّ شيء لا بمقارنة ، وغير كلّ شيء
لا بمزايلة ، فاعل لا بمعنى الحركات والآلة...الخ))، ترى أنّ هذا الأسلوب قصيّ
عن نهج الإمام ومسلكه ، فأنّ الفقرة الأولى مفرَّغة في قالب مقدّمات منطقية تفضي
إلى نتيجة هي نفي الصفات عن الله تعالى ، والفقرة التالية لها مقدّمات أخرى تنتج
أن من يثبت له الصفات فقد عدَّه من الحوادث ، وهذا الأسلوب المنطقي لم يُعهد في
كلام العرب ، ولم يستعمله العلماء إلا بعد ترجمة المنطق والعلوم الدخيلة ، وذلك
العصرلم يدركه الإمام.. وفوق هذا ، فإنّ تلك المباحث من مباحث علم الكلام ،
وإثبات صفات المعاني لله تعالى أو نفيها عنه ، وكون الصفة عين الموصوف أو مغايرة
له ، موضع جدل شديد بين الأشعرية والصفاتية والمعتزلة ، ونشأة ذلك العلم وتلك
الفرق متأخَّرة عن علي في الوجود ، ولا تخلنّ من ذلك أنا نرمي الإمام بجهله بعلم
التوحيد ، لا ، ولكنا نقول : إن التوحيد بالمعنى العلمي المعهود ومباحثه المعروفة
لم تكن وُجدت في ذلك الحين [ترجمة علي بن أبي طالب : ١٤٣ .] . وقال فؤاد أفرام بستاني [أديب ، مؤرخ ، أكاديمي وسياسي لبناني ولد سنة ١٩٠٤ ، وتوفي سنة ١٩٩٤
؛ يعتبرمن أكبرالمثقفين في لبنان وأحد نقاد الأدب العربي في القرن العشرين ،
أسهم في إنشاء الجامعة اللبنانية سنة ١٩٥١ ، وكان أول رئيس لها ، كما درس الأدب
العربي لسنوات طويلة في جامعة القديس يوسف .] في كتاب الروائع : بيد أنّا نرى سبباً
جديداً يدفعنا إلى الشك في بعض مقاطع حكمية وتفسيرية من التي تدخل فيها الأعداد
والتقاسيم المتوازية ، المتشعبّة ، المتّفقة عدداً ، كقوله : ((الاستغفارعلى ستة معان))
((والإيمان على أربع دعائم : على الصبر، واليقين ، والعدل ، والجهاد . والصبر
منها على أربع شعب...الخ)) ، بتقسيم كل دعامة إلى أربع شعب ، وكذلك الكفر
وتقسيمه إلى أربع دعائم ، والشك إلى أربع شُعَب ، وغيرذلك . فأنّ استعمال الطريقة العددية في الشروح
، وتقسيم الفضائل أو الرذائل على أسلوبها ، لا نراه في الآداب الجاهلية ، بل لا نكاد نعرفه في الأدب الإسلامي
إلَّا بعد ظهوركتاب ((كليلة ودمنة)) المعرّب ، وإذا علمنا أنّ إدخال الأعداد في
الحكمة الأخلاقية ، وفي ترتيب المجرّدات والمعقولات ، له الدورالمهم في المذاهب
المتشعبّة عن الطريق الفيثاغورية أو الأفلاطونية الحديثة ، وإذا علمنا أن العرب لم يعرفوا هذه
الفلسفة إلا بترجمة كتب اليونان في العصرالعباسي الأول ، وإذا علمنا أنّ الشريف الرضي كان من الحكماء الأجلاء، والعلماء
المعروفين ، وأنه عاش في عصرالعباسي الثالث ، ساغ لنا هذا الشك [الروائع : ٣٢ .] . هذا من باب المثال ، وإلا فكثيرمن النقّاد والمفكّرين قد
ذكروا هذا المعنى ، وصرّحوا بأنه من الأمورالتي تجعلهم يستريبون في كتاب (نهج
البلاغة) ، ويحكمون بوجود نصوص دخيلة فيه . |
|
والجواب على مثل هذا الطرح |
|
والجواب على مثل هذا الطرح : أنه لا بد من إعادة صياغة استدلالهم
؛ لكي يتّضح وهنه وضعفه لدى الباحث . هذا الإشكال مبني على مقدَّمتين : الأولى : هي أن هذه العلوم لم تكن معروفة في عصرالإمام علي عليه السلام ،
فلا يوجد تقسيمات عددية ، ولا مطالب كلامية ، ولا أطروحات منطقية . الثانية : أن كل العرب الذين عاشوا في ذلك العصر لم يكن لهم اطلاع على هذه
العلوم ، ولا اضطلاع بهذه الصناعات . وكلا المقدمتين لا نسلّم بهما . أما الجواب على الأولى : فهو أنا لا نسلّم أن هذه الأموركانت
غيرمعروفة تماماً عند العرب ، نعم عامة العرب لا علم لهم بها ، لكن هذا لا يعني
انعدامها التام من الأوساط العربية في تلك الحقبة ، وإلا فالحال كما قدّمنا
سابقاً أن هذه المقدمة مبنية على استقراءات ناقصة ، ولولا مخافة الإطالة وإصابة
القارئ بالملالة لسقنا عدة شواهد على ما ادُّعي . ومن الشواهد على وجود مقاطع تفسيرته تدخل فيها
الأعداد والتقاسيم المتوازية ، المتشعبّة ، ما رواه البخاري في صحيحه بسنده عن
عبدالله بن عمرو ر عن النبي صلى الله عليه وآله ،قال : أربع من كُنَّ فيه كان
منافقاً – أو كانت فيه خصلة من أربعة كانت فيه
خصلة من النفاق – حتى يدعها : إذا حدَّثَ كذب ، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر وإذا
خاصم فجر [صحيح البخاري ٢ / ٧٣٧ .] . أمّا الثانية : فسببها القراءة الإسقاطية لكتاب (نهج
البلاغة) ، وليس القراءة الاستنطاقية ؛ وذلك لأن هؤلاء قرؤوا الكتاب بتصوّرمسبق
لشخصية أميرالمؤمنين عليه السلام ، وهي أنّه رجل عادي ، حاله حال أقرانه من
العرب الذين عاصروه ، وبالتالي فلا يمكن أن يصدرمنه مثل هذا ، أما لو قرؤوا
الكتاب قراءة استنطاقية لعرفوا شذرات من حقيقة الإمام علي بن أبي طالب عليه
السلام ، واستنشقوا عبقات من معارفه ، وتذوقوا حلاوة لطائفه . وهذه هي المنهجية التي سارعليها غيرالشيعة على مرّ
العصور، وهي تكذيب ما نُسب لأهل البيت عليهم السلام عامة ، ولأميرالمؤمنين عليه السلام خاصة ؛ لأنهم نزّلوهم منزلة عامة الناس ، ومن هنا ضُعّف عشرات الأحاديث
الواردة في فضلهم وخصائصهم لأجل هذا الاعتقاد الفاسد. ومن باب التمثيل نذكر شاهدين : الأول : قول النبي صلى الله عليه وآله في حق أخيه وابن عمه وخليفته
أميرالمؤمنين عليه السلام : أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها [المستدرك على الصحيحين ٣ / ١٢٦ ،
المعجم الكبير١١ / ٥٥ .] . هذا الحديث لم يعجب من في قلوبهم شيء على أهل البيت ، فضعَّفوه ،
وحكموا عليه بالوضع ؛ فقط لأن المتن لا يتلائم مع أهوائهم المنحرفة عن الحق
والمائلة عن الصراط المستقيم . قال ابن تيمية في تعليقه على هذا الحديث
: وأما حديث (( مدينة العلم)) فأضعف
وأوهي ، ولهذا إنما يُعّد في الموضوعات المكذوبات وإن كان الترمذي قد رواه ، ولهذا ذكر ابن الجوزي في الموضوعات ،
وبيَّن أنه موضوع من سائر طرقه ، والكذب يُعرَف من نفس متنه ، لا يحتاج إلى
النظر في إسناده [الفتاوى الكبرى ٤ / ٤٣٧ .] . وقال الألباني تعليقاً على هذا الحديث : وجملة القول أن حديث الترجمة ليس في
أسانيده ما تقوم به الحجة ، بل كلها ضعيفة ، وبعضها أشد ضعفاً من بعض ، ومَنْ
حَسَّنه أو صحَّحه فلم ينتبه لعنعنة الأعمش في الإسناد الأول ، فإن قيل : هذا لا
يكفي للحكم على الحديث بالوضع ، قلت : نعم ، ولكن في متنه ما يدل على وضعه [سلسلة الأحاديث الضعيفة ٦ / ٤٧٢ .] . وكما يرى القارئ النبيه أن التضعيف والتصحيح
مسألة هوى وعصبية ، وإنكارالصحة لا دليل عليه سوى الدفع
بالصدر! وإلا فإن هذا الحديث وحده كافٍ لرد هذه الشبهة المطروحة ، فمن كان باباً
لمدينة علم النبي صلى الله عليه وآله هل سیکون أقل شأناً من أرسطو وأفلاطون وابن خلدون
وفولتيرحتى يصبح ما جاء به
هؤلاء فتحاً علميًّا منشؤه نبوغهم وعبقريتهم ، وما جاء به أميرالمؤمنين عليه
السلام منسوب إليه ومنحول عليه ؛ لأنه عاجزعن الإتيان بما جاء به أولئك ! الثاني : روى الخاصّة والعامة قول أميرالمؤمنين عليه السلام : علّمني رسول
الله صلى الله عليه وآله ألف باب من العلم ، يُفتح لي من كل باب ألف باب [كتاب سليم بن قيس ٢١١ ، الكافي ١ / ٢٩٦ ، تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٣٨٥
، كنزالعمال ١٣ / ١١٤ وهذا الحديث طبعاً أزعج القوم كثيراً
؛ لأنه يشتمل على أمرين مخالفين لما هو مشهور بينهم : المخالفة الأولى : هو أنّ آخرالناس عهداً برسول الله
صلى الله عليه وآله هو أميرالمؤمنين عليه السلام ، وليس عائشة كما يروّجون ،
وأنّه توفي بين سحرها ونحرها ، وهذا ليس محل حديثنا في هذا البحث المتواضع . المخالفة الثانية : هو أن الرسول الأعظم صلى الله عليه
وآله أفاض على علي أميرالمؤمنين عليه السلام علمه ، واختصّه بسرّه دون غيره من
الصحابة ، وهذه فضيلة عظيمة ومنقبة فريدة . ولهذا حاول الذهبي توهين الحديث بكل الطرق وبشتّى الوسائل ، فجعل نفسه سخريا عند كل
كل من اطلع على مهزلته . بداية تعامله مع الحديث كان في كتابه
(ميزان الاعتدال) حيث قال : وحدثنا أبو يعلى ، حدثنا كامل بن طلحة ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثني
يحيى بن عبد الله المعافري ، عن أبي عبدالرحمن الحبلي ، عن عبدالله بن عمرو: أن
رسول الله صلى الله عليه وآله قال فی مرضه : ادعو لي أخي . فدُعي أبوبكر، فأعرض
عنه ، ثم قال : ادعوا لي أخي . فدُعي له عثمان ، فأعرض عنه ، ثم دُعي له علي ،
فستره بثوبه ، وأكبَّ عليه ، فلما خرج من عنده قيل له : ما قال لك ؟ قال :
علَّمني ألف باب ، كل باب يفتح ألف باب . قلت : كامل صدوق . وقال ابن عدي : لعل البلاء فيه من ابن لهیعة فإنه
مفرط في التشيّع [ميزان الاعتدال ٢ / ٤٨٢ .]. إذن الحديث ضعيف عند الذهبي ، إذ وافق قول ابن عدي في أن علّته هو ابن لهيعة ؛ لأنه مفرط في
التشيع كما زعم هذا الإمام
الناقد الخبير. لكن للذهبي رأي آخر في (تاريخ الإسلام)
حيث قال : قلت ومناكيره جمة
، ومن أردئها كامل بن طلحة عن ابن لهيعة أن حي بن عبدالله أخبره عن أبي
عبدالرحمن الجبلي عن عبدالله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال في
مرضه : ادعوا لي أخي . فدعوا له أبابكر، فأعرض عنه ، ثم قال : ادعول لي أخي .
فدعوا له عمر، فأعرض عنه ، ثم عثمان كذلك ، ثم قال : ادعوا لي أخي . فدعوله
عليًّا ، فستره بثوبه ، وانكبَّ عليه ، فلما خرج قيل له : يا أبا الحسن ماذا قال
لك ؟ قال : علمني ألف باب ، يفتح كل باب ألف باب...رواه أبوأحمد بن عدي ، ثم قال : لعل البلاء فيه من ابن لهيعة ؛ فانه
مفرط في التشيع . كذا قال ابن عدي ، وما رأيت أحداً
قبله رماه بالتشيّع ، وكامل الجحدري وإن كان قد قال أبوحاتم : لا بأس به ، وقال
ابن حنبل : ما علمت أحداً يدفعه بحجة فقد قال فيه أبوداوود : رَميتُ بكتبه . وقال ابن معين : ليس بشيء
؛ فلعل البلاء من كامل ، والله أعلم [تاريخ الاسلام ١١ / ٢٢٤ .] . عجيب يا ذهبي في ميزان الاعتدال كان كامل الجحدري صدوقاً ، وابن لهيعة ضعيف ، وهنا انقلبت الآیة ،
وأصبح ابن لهيعة صدوقاً ، وكامل مطعوناً فيه ! هل انتهى الأمرالى هنا ؟ الجواب : لا ؛ لأن عند الذهبي رأياً ثالثاً صرّح به في
كتابه (سيرأعلام النبلاء) عند تعرضه لنفس الحديث ، حيث قال : فأما قول أبي أحمد بن عدي في الحديث
الماضي : (علّمني ألف باب
يفتح كل باب ألف باب ) فلعل البلاء فيه من ابن لهيعة ؛ فانه مفرط في التشيع ،
فما سمعنا بهذا عن ابن لهيعة ، بل ولا علمت أنه غيرمفرط في التشيع ، ولا الرجل
متَّهم بالوضع ، بل لعله أدخل على كامل ، فإنه شيخ محله الصدق ، لعل بعض الرافضة أدخله في كتابه ولم
يتفطن هو، فالله أعلم [سير أعلام النبلاء ٨ / ٢٦ .] . والظاهر أن الذهبي اكتشف تناقضه ، فأراد
إصلاح الأمر وحفظ ماء الوجه بتوثيق الرجلين ، وبضرب الحديث في نفس الوقت ! فلم يجد حلا إلا أن يسجل القضية ضد
مجهول ، ويتَّهم المجرم الخفي بوضع هذا الحديث ، وطبعاً دليله على هذا هو : ((لعلّ)) ! واتّهام الذهبي رافضيًّا مجهولاً
بدسّ الحديث في كتاب كامل الجحدري يذكّرني بما يحصل في بعض الدول في هذه الأيام ، حيث تقوم بعض الحكومات بارتكاب الجرائم العظام الجسام ، ثم ينسبون الأمر إلى مندسين أو إلى جهات
خارجية . وقد صدق الشاعر حين قال : سُمَّيْتَ بالذهبيَّ تسميةً ***** مشتقَّةً مِنْ ذَهابِ العقلِ لا
الذَّهَبِ ملّقبُ بِكَ ما لُقَّبْتَ وَيْكَ بِهِ ***** يا أيها اللّقبُ الملقى
على اللّقبِ فإن كان تعاملهم مع الروايات الصحيحة
الصريحة الثابتة في فضل الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام والموجودة في كتبهم
المعتبرة بهذه الصورة المضحكة ، فكيف نريد منهم قبول كتاب (نهج البلاغة) ؟ فخطأ هؤلاء الذي وقعوا فيه هو
انطلاقهم من واقعهم الذهني ، وإسقاطه على النص ، وهذا خلاف المنهج العلمي الصحيح
، وهو الانطلاق من النص لمعرفة الواقع . أما الذي تجرَّد عن كل تراكماته
السابقة فإنه سيعلم من هو الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام ، ولهذا فإن ابن أبي الحديد الشافعي
المعتزلي قد وصل إلى جزءٍ من الحقيقة ، فقال في مقدمة شرحه على النهج : وما أقول في رجل تُعْزَى إليه كل
فضيلة ، وتنتهي إليه كل فرقة ، وتتجاذبه كل طائفة ، فهو رئيس الفضائل وينبوعها ،
وأبوعذرها ، وسابق مضمارها ، ومجلّي حليتها ، كل من بزغ فيها بعده فمنه أخذ ،
وله اقتفى ، وعلى مثاله احتذى ، وقد عرفت أن أشرف العلوم هو العلم الإلهي ؛ لأن
شرف العلم بشرف المعلوم ، ومعلومه أشرف الموجودات ، فكان هو أشرف العلوم ، ومن
كلامه عليه السلام اقتبس ، وعنه نقل ، وإليه انتهى ، ومنه ابتدأ ، فإن المعتزلة
الذين هم أهل التوحيد والعدل ، وأرباب النظر، ومنهم تعلَّم الناس هذا الفن
تلامذته وأصحابه ؛ لأن كبيرهم واصل بن عطاء تلميذ أبي هاشم عبدالله بن محمد بن
الحنفية ، وأبوهاشم تلميذ أبيه ، وأبوه تلميذه عليه السلام ، وأما الأشعرية
فإنهم ينتمون إلى أبي الحسن علي بن إسماعيل بن أبي بشرالأشعري ، وهو تلميذ أبي
على الجبائي ، وأبوعلي أحد مشايخ المعتزلة ، فالأشعرية ينتهون بأخرة إلى أستاذ
المعتزلة ومعلمهم وهوعلي بن أبي طالب عليه السلام ، وأما الإمامية والزيدية
فانتماؤهم إليه ظاهر. ومن العلوم : علم الفقه ، وهو عليه السلام أصله
وأساسه ، وكل فقيه في الإسلام فهوعيال عليه ، ومستفيد من فقهه ، أما أصحاب أبي
حنيفة كأبي يوسف ومحمد وغيرهما ، فأخذوا عن أبي حنيفة ، وأما الشافعي فقرأ على
محمد بن الحسن ، فیرجع فقه أيضاً إلى أبي حنيفة ، وأما أحمد بن حنبل ، فقرأ على الشافعي فيرجع فقهه أيضاً إلى أبي حنيفة ،
وأبوحنيفة قرأ على جعفربن محمد عليه السلام وقرأ جعفرعلى أبيه عليه السلام ، وينتهي الأمر إلى علي عليه السلام ، وأما مالك بن أنس ، فقرأ على ربيعة
الرأي ، وقرأ ربيعة على عكرمة ، وقرأ عكرمة على عبدالله بن عباس ، قرأعبد الله بن عباس على علي بن
أبي طالب ، وإن شئت رددت إليه
فقه الشافعي بقراءته على مالك كان لك ذلك ، فهؤلاء الفقهاء الأربعة ، وأما فقه
الشيعة : فرجوعه إليه ظاهر، وأيضاً فإن فقهاء الصحابة كانوا : عمر بن الخطاب ،
عبدالله بن عباس ، وكلاهما أخذ عن علي عليه السلام ، أما ابن عباس فظاهر، وأما
عمر فقد عرف كل أحد رجوعه إليه في كثير من المسائل التي أشكلت عليه وعلى غيره من
الصحابة ، وقوله غير مرة (( لولا علُّي لهلك عمر)) ، وقوله (( لا بقيتُ لمعضلة
ليس لها أبوالحسن)) ، وقوله : (( لا يفتينَّ أحد في المسجد وعليٌّ حاضر)) ، فقد
عُرف بهذا الوجه أيضاً انتهاء الفقه إليه ، وقد روت العامة والخاصة قوله صلى
الله عليه وآله : (( أقضاکم علي)) ، والقضاء هوالفقه فهو إذن أفقههم ، وروى الكل
أيضاً أنه عليه السلام قال له وقد بعثه إلى اليمن قاضياً : (( اللهم اهد قلبه ،
وثبَّت لسانه )) قال : ((فما شككت بعدها في قضاء بين اثنين )) ، وهوعليه السلام
الذي أفتى في المرأة التي وضعت لستة أشهر، وهوالذي أفتى في الحامل الزانية ،
وهوالذي قال في المنبرية : صار ثمنها تسعاً ، وهذه المسألة لو فكرالفرضي فيها
فكراً طويلاً لاستحسن منه بعد طول النظرهذا الجواب ، فما ظنك بمن قاله بديهة ،
واقتضبه ارتجالاً. ومن العلوم : علم تفسيرالقرآن ، وعنه
اُخذ ، ومنه فُرَّغ ، وإذا رجعت إلى كتب التفسيرعلمت صحة ذلك ؛ لأن أكثره عنه
وعن عبدالله بن عباس، وقد علم الناس حال ابن عباس في ملازمته له ، وانقطاعه إليه
، وأنه تلميذه وخريجه ، وقيل له : أين علمك من علم ابن عمك ؟ فقال : (( كنسبة
قطرة من المطر إلى البحرالمحيط)) . ومن العلوم : علم الطريقة والحقيقة ،
وأموال التصوّف ، وقد عرفت أن أرباب هذا الفن في جميع بلاد الإسلام ، إليه ينتهون ،
وعنده يقفون ، وقد صرّح بذلك الشبلي ، والجنيد ، وسري ، وأبويزيد البسطامي ،
وأبو محفوظ معروف الكرخي ، وغيرهم ، ويكفيك دلالة على ذلك الخرقة التي هي شعارهم
إلى اليوم ، وكونهم يسندونها بإسناد متصل إليه عليه السلام . ومن العلوم : علم النحو والعربية ،
وقد علم الناس كافة أنه هوالذي ابتدعه وأنشأه ، وأملى على أبي الأسود الدؤلي
جوامعه وأصوله ، من جملتها : الكلام كله ثلاثة أشياء : اسم وفعل وحرف ، ومن
جملتها : تقسيم الكلمة إلى معرفة ونكرة ، وتقسيم وجوه الإعراب إلى الرفع والنصب
والجر والجزم ، وهذا يكاد يلحق بالمعجزات [العجب من صاحب كتاب (ضياء السالك إلى
أوضح المسالك) الذي أنكر نسبة وضع علم النحولأميرالمؤمنين عليه السلام ، فقط لأن
المنطق والعقل عنده يقضيان بالتدريج في مثل هذا العمل كما عبر في ١ / ٩ من
الكتاب ، وكأنه لا يوجد أي جانب غيبي في شخصية الإمام عليه السلام ، رغم أن
القضية لا علاقة لها بالاعجاز والغيب ولذلك أن أغلب من أخ لعلم النحو قد أثبت أن
أميرالمؤمنين عليه السلام هو واضعه بل نقل الاجماع على ذلك كما في كتاب انباء
الرواة بأنباء النحاة للقفطي ١ / ١٤ .] . لأن القوة البشرية لا تفي بهذا
الحصر، ولا تنهض بهذا الاستنباط [شرح نهج البلاغة ١ / ١٧ .] . اعتمدت نقل هذا الكلام على طوله لأنه
مهم جدًّا ، فهذا الرجل قد أثبت أن كل العلوم المتدوالة بين المسلمين متلقّاه عن
الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام ، مما يؤكّد أنه لم يكن رجلاً عاديًّا ليقاس
ببني جنسه ، بل هو وأهل بيته كما في الزيارة الجامعة : إن ذُكِرَالخيركنتم أوله
وأصله وفرعه ومعدنه ومأواه ومنتهاه [من لا يحضره الفقيه ٢ / ٦١٦ .] . |
|
الشبهة
الحادية عشر: الدسّ في نهج البلاغة :
|
|
حاول البعض أن يُنصف الشريف الرضي قدس سره ،
فبرَّأ ساحته من الكذب والوضع على جدّه أميرالمؤمنين عليه السلام ، ولكن في المقابل
اتَّهم غلاة الشيعة بالکذب والدس ، وبالتالي فإن في كتاب
( نهج البلاغة) أموراً مكذوبة وضعها غيرالشريف الرضي، والنتيجة أن كتاب (نهج البلاغة) لم يسلم من الدس والوضع ، وهذا
يمنعنا عن قبول هذا الكتاب أوالعمل به . وهذا الكلام وإن كان فيه إنصاف لجامع الكتاب ، إلا أنّ فيه حيفاً وجوراً وتسقيطاً للكتاب كله . وسيتبين لك أيها القارئ أن هذا كلام هو مجرد سراب بقيعة يحسبه
الظمآن ماء وذلك لعدة أمور: أولاً : اننا لو سلّمنا بصحة ما قيل فإن هذا لا يعني سقوط الكتاب كله ؛
لأنه لا يلزم من وجود أخبارموضوعة فيه عدم اعتبارالكتاب بكامله ، بل غاية ما في
الأمر أن الباحث عليه أن يمحّص الروايات ؛ ليميز بين الصحيح منها والسقيم ، وهذا
ما نقول به . ولو أننا اتبعنا هذا المنهج ، وأسقطنا كل كتاب اشتمل على بعض
الموضوعات ، لما بقي لهم كتاب سالماً ، وما بقي حجر؛ إذ أنه لا يخلو كتاب من
أحاديث مكذوبة مدسوسة ، ومن باب الأمثلة نذكر: ١ – صحيح البخاري : فقد روى محمد بن إسماعيل بسنده عن أبي هريرة ، قال : قال رسول
الله صلى الله عليه وآله : إن الله قال : من عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب ،
وما تقرَّب إليّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضت عليه ، وما يزال عبدي يتقرَّب إليَّ
بالنوافل حتى أحبّه ، فإذا أحببته كنتُ سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصربه ،
ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشيء بها ، وإن سألني لأعطينه ، ولئن استعاذني
لأعيذنه ، وما تردّدت عن شي أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن ، يكره الموت وأنا أكره
مساءته [صحيح البخاري ٧ / ١٩٠ .] . علّق الذهبي على هذا الحديث بقوله : فهذا حديث غريب جدًّا ، لولا هيبة
الجامع الصحيح لعدّوه في منكرات خالد بن مخلد ، وذلك لغرابة لفظه ؛ ولأنه مما ينفرد به شريك ، وليس بالحافظ ، ولم
يرو هذا المتن إلا بهذا الإسناد ، ولاخرجه من عدا البخاري ، ولا أظنه في مسند
أحمد ، وقد اختُلف في عطاء ،
فقيل : هو ابن أبي رباح ، والصحيح أنه
عطاء به يسار [میزان الاعتدال ١ / ٦٤١ .]. فالذهبي يحكم على حديث في صحيح البخاري
الذي هو أصح الكتب بعد كتاب الله بأنه غريب جدًّا منكر! ٢ – صحيح مسلم : روى مسلم بن الحجاج في صحيحه بسنده عن أبي هريرة قال : أخذ رسول
الله صلى الله عليه وآله بیدي ، فقال : خلق الله عزَّوجل التربة يوم السبت ،
وخلق فيها الجبال يوم الأحد ، وخلق الشجر يوم الإثنين ، وخلق المكروه يوم
الثلاثاء ، وخلق النوريوم الأربعاء وبثَّ فيها الدواب يوم الخميس ، وخلق آدم
عليه السلام بعد العصر من يوم الجمعة في آخرالخلق في آخرساعة من ساعات الجمعة
فيما بين العصرإلى الليل [صحيح مسلم ٨ / ١٢٧ .] . وقد علق الشيخ عبدالعزيز بن بازعلى هذا
الحديث بقوله : ومما أُخذ على مسلم رحمه الله رواية حديث أبي هريرة : أن الله خلق
التربة يوم السبت...الحديث، والصواب أن بعض رواته وَهِمَ برفعه للنبي صلى الله
عليه وآله ، وإنما هو من رواية أبي هريرة رضى الله عنه عن كعب الأحبار؛ لأن
الآیات القرآنیة والأحاديث القرآنية الصحيحة كلها قد دلَّت على أن الله سبحانه
قد خلف السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، وأوله يوم الأحد،وآخرها يوم
الجمعة ؛ وبذلك علم أهل العلم غلط من روى عن النبي صلى الله عليه وآله أن الله
خلق التربة يوم السبت ، وغلط كعب الأحبار ومن قال بقوله في ذلك ، وإنما من
الإسرائيليات الباطلة [مجموع فتاوى ابن باز٢٥ / ٧٠ .] . إذن فصحيح مسلم كما نصَّ ابن باز يحتوي على إسرائيليات باطلة نُسب
زوراً وبهتاناً للنبي صلى الله عليه وآله . ٣ – مسند أحمد : أجمع علماء أهل السنة على أن في مسند الإمام أحمد بن حنبل أحاديث
ضعيفة ، واختلف في وجود الموضوعات فيه ، فأثبت عبدالرحمن بن الجوزي في كتابه
(الموضوعات) وجود أحاديث موضوعة فيه ، ووافقه على ذلك الحافظ العراقي ، فقد نقل عنه السيوطي في التدريب قوله : ولا نسلّم ذلك – أي بصحة المسند – والذي رواه عنه أبوموسى المديني أنه
سئل عن حديث ، فقال : (( انظروه ، فإن كان في المسند وإلا فليس بحجة)) ، فهذا
ليس بصريح في أن كل ما فيه حجة ، بل ما ليس فيه ليس بحجة ، قال : على أن ثم
أحاديث صحيحة مخرّجة في الصحيحين وليست فيه ، ومنها حديث عائشة في قصة أم زرع ،
قال : وأما وجود الضعيف فيه فهو محقَّق ، بل فيه أحاديث موضوعة جمعتها في جزء [تدريب الراوي ١ / ١٧٢ .]. وقد حاول غيرهم تنزيه المسند عن وجود الموضوع ، مثل ابن حجرالعسقلاني الذي ألف كتاباً أسماه : (القول المسدَّد في مسند أحمد) ، خفَّف فيه من وطأة ما ذكرابن
الجوزي ، وحكم على جلّ الأحاديث بأنها ضعيفة جدّا، لكن لا يمكن الجزم بوضعها .
فلو اتبعنا هذا المنهج وأقررنا الملازمة بين وجود أحاديث موضوعة وإسقاط الكتاب
لما بقي كتاب واحد عند المسلمين ، وهذا لازم باطل لا اظن أن عاقلاً يلتزم به . الثاني : أن هذا القول لا يخلو من احتمالين : إما أن يكون الدّس قد وقع بعد أن جمع الشريف الرضي قدس سره وانتهى منه ،
فيكون المتهم بذلك هم النسّاخ الذين تولوا نسخ الكتاب وإيصاله لنا بهذه الصورة ،
وإما أن يكون الدّس قد وقع قبل جمع الشريف الرضي قدس سره ، فيكون المتهم بهذا
الجرم الرواة الذين نُقلت عنهم فقرات النهج . أما الاحتمال الأول فلا يمكن القبول به ؛ لأن الكتاب قد
شاع وانتشربعد أن دوّنه الشريف الرضي قدس سره ، واهتم به الناس تداولاً وقراءة وحفظاً وشرحاً ، حتى قال السيد هبة الله الشهرستاني: ونسبة الكتاب إليه مشهورة ، وأسانيد
شيوخنا في إجازاتهم متواترة، ونسخة عصرالشريف موجودة ، والتي نُسخت بخطه الشريف
مشهورة [ما هونهج البلاغة ؟ : ١٣ .] . وكلام السيد فيه فائدتان : الأولى : أن الكتاب متواترعن صاحبه ، مما
يفيدنا العلم بانتسابه له ، وينهي كل احتمال تبديل أو تحريف أو تزييف . والفائدة الثانية : هي أن السيد ذكرأن نسخة الشريف الرضي
قدس سره موجودة محفوظة إلى يومنا هذا ، مما يبطل كل دعوى زيادة ونقصان . وقد ذكرابن أبي الحديد في كتابه أن عنده النسخة الأصلية لكتاب (نهج
البلاغة) ، فقال : وقد وجدت النسخة التي بخط الرضي أبي الحسن جامع (نهج البلاغة)
، وتحت فلان : عمر [شرح نهج البلاغة ١٢ / ٣ .] . ويظهرمن كلمات الفيلسوف الفقيه ابن ميثم البحراني في شرحه على النهج أنه اطلع على النسخة الأصلية ، فإنه قال في موضع من شرحه : وفي
نسخة الرضي رحمه الله : ((مُستكرِهين)) بكسرالراء بمعنى : كارهين ، يقال :
استكرهتُ الشيء أي كرهته [شرح ابن ميثم للنهج ٤ / ٣٤١ .] . بل نقل السيد عبدالزهراء الخطيب في كتابه القيّم (مصادرنهج البلاغة وأسانيده) جملة من المخطوطات التي كانت موجودة
في عصره،أحداها كانت بخط السيد المرتضى قدس سره ، قال : حدثني شيخنا العلامة الخبيرالمتتبّع الشيخ عبد
الحسين الأميني مؤلف (الغدير) دام علاه ، قال : ((رأيت نسخة من (نهج البلاغة)
عند أحد الاعلام في النجف الأشرف ،وعليها إجازة السيد المرتضى أعلى الله مقامه بخط يده لبعض تلامذته ، وفيها يقول:((أجزت لفلان رواية كتاب
. وقد نقل أيضاً عدّة مخطوطات أخرى اطلع
عليها في كتابه المذكور، فمن أراد الاطلاع عليها فليراجع هذا الكتاب . أما الاحتمال الثاني : فهو وإن كان في نفسه ممكناً ، ولا
مانع منه عقلاً أوعرفاً ، إلا أن إثباته يحتاج إلى دليل وبرهان ، والادّعاء
لوحده لا يكفي ؛ فمن يدّعي وجود خُطَب موضوعة فعليه أن يضع يده عليها ، ويقيم
على دعواه الدليل الصحيح . ونحن هنا لسنا في مقام نفي هذا الأمر، لكن نقول : إنه حتّى لو ثبت هذا فإنه لا يضّر
بالدرجة باعتبارالكتاب ، ولا بفضل وعلم المؤلف . وقد تعرّض ابن أبي الحديد المعتزلي لهذه الشبهة وأجاب عليها بجواب محكم
يخضع له كل منصف ، حيث قال : أحسن خطبة خطبها هذا الكاتب (يقصد أبا الشحماء العسقلاني) ، وهي كما تراها ظاهرة التكلّف ،
بيَّنة التوليد ، تخطب على نفسها ، وإنما ذكرت هذا لأن كثيراً من أرباب الهوى
يقولون : إن كثيراً من (نهج
البلاغة) كلام محدث ، صنعه قوم من فصحاء الشيعة، وربما عزوا بعضه إلى الرضي أبي
الحسن وغيره ، وهؤلاء قوم أعمت العصبية أعينهم ، فصلّوا عن النهج الواضح ،
وركبوا بينات الطريق ضلالاً وقلة معرفة بأساليب الكلام ، وأنا أوضح لك بكلام
مختصر ما في هذا الخاطر من الغلط ، فأقول : لا يخلو إما أن يكون كل نهج البلاغة
مصنوعاً منحولاً وبعضه ، والأول باطل بالضرورة ؛ لأنا نعلم بالتواترصحّة إسناد
بعضه إلى أميرالمؤمنين عليه السلام ، وقد نقل المحدَّثون كلّهم أو جلّهم ، والمؤرَّخين كثيراً منه ،
وليسوا من الشيعة ليُنسبوا إلى غرض في ذلك ، والثاني يدل على ما قلناه ؛ لأن مَنْ قد نس بالكلام والخطابة ،
وشدا طرفاً من علم البيان ، وصار له ذوق في هذا الباب ، لا بد أن يفرَّق بين
الكلام الركيك والفصيح ، وبين الفصيح والأفصح ، وبين الأصيل والمولَّد ، وإذا
وقف على كراس واحد يتضمن كلاماً لجماعة من الخطباء أو لاثنين منهم فقط ، فلا بد أن يفرَّق بين الكلامين ،
ويميَّز بين الطريقتين ، ألا ترى أنا مع معرفتنا بالشعر ونقده ، لو تصفَّحنا ديوان أبي
تمام ، فوجدناه قد كُتب في أثنائه قصائد أو قصيدة واحدة لغيره ، لعرفنا بالذوق
مباينتها لشعرأبي تمام ونَفَسه ، وطريقته ومذهبه في القريض ، ألا ترى أن العلماء بهذا الِشأن حذفوا
من شعره قصائد كثيرة منحولة إليه ، لمباينتها لمذهبه في الشعر، وكذلك حذفوا من
شعر أبي نواس شيئاً كثيراً ، لما ظهرلهم أنه ليس من ألفاظه ، ولا من شعره ،
وكذلك غيرهما من الشعراء ولم يعتمدا في ذلك إلا على الذوق خاصة ، وأنت إذا تأمّلت (نهج البلاغة) وجدته كله ماءً واحداً ، ونَفَساً واحداً ، وأسلوباً واحداً ،
كالجسم البسيط الذي ليس بعض من أبعاضه مخالفاً لباقي الأبعاض في الماهية ،
وكالقرآن العزيز، أوله كأوسطه، وأوسطه كآخره ، وكل سورة منه ، وكل آية مماثلة في
المأخذ والمذهب والفن والطريق والنظم لباقي الآیات والسور، ولو كان بعض (نهج البلاغة) منحولاً
وبعضه صحيحاً ، لم يكن كذلك ، فقد ظهرلك بهذا البرهان الواضح ضلال من زعم أن هذا
الكتاب أو بعضه منحول إلى أميرالمؤمنين عليه السلام ، واعلم أن قائل هذا القول
يطرق على نفسه ما لا قِبَل له به ؛ لأنا متى فتحنا هذا الباب ، وسلّطنا الشكوك على أنفسنا في هذا النحو،
لم نثق بصحة كلام منقول عن رسول الله صلى الله عليه وآله أبداً ، وساغ لطاعن أن يطعن ويقول : هذا
الخبرمنحول ، وهذا الكلام مصنوع ، وكذلك ما نُقل عن أبي بكر وعمرمن الكلام
والخطب والمواعظ والأدب وغير ذلك ، وكل أمر جعله هذا الطاعن مستنداً له فيما
يرويه عن النبي صلى الله عليه وآله والأئمة الراشدين، والصحابة والتابعين ،
والشعراء والمترسلين والخطباء ، فلناصري أميرالمؤمنين عليه السلام أن يستندوا
إلى مثله فيما يروونه عنه من (نهج البلاغة) وغيره ، وهذا واضح [شرح نهج البلاغة ١٠/ ١٢٩ .] . وبعد هذه الجولة في شبهات القوم تبيّن
للقارئ الكريم أن كل ما قيل في الطعن في كتاب (نهج البلاغة) ليست إلا قشة تمسّك
بها هؤلاء الغرقى ، لطمس فضيلة واضحة لأميرالمؤمنين عليه السلام كما يصنعون
بسائر فضائله عليه السلام التي لا يغطيها السحاب، والتي سار بذكرها الركبان ،
وأن كل طعن في (نهج البلاغة) إنما هو بداعي التعصب المذهبي الممقوت ، أو البغض
لأميرالمؤمنين عليه السلام ومعاداة شيعته . إنتهى . مقتبس من كتاب نهج البلاغة فوق الشبهات
والتشكيكات – الشيخ أحمد سلمان |