- القرآن الكريم
- سور القرآن الكريم
- 1- سورة الفاتحة
- 2- سورة البقرة
- 3- سورة آل عمران
- 4- سورة النساء
- 5- سورة المائدة
- 6- سورة الأنعام
- 7- سورة الأعراف
- 8- سورة الأنفال
- 9- سورة التوبة
- 10- سورة يونس
- 11- سورة هود
- 12- سورة يوسف
- 13- سورة الرعد
- 14- سورة إبراهيم
- 15- سورة الحجر
- 16- سورة النحل
- 17- سورة الإسراء
- 18- سورة الكهف
- 19- سورة مريم
- 20- سورة طه
- 21- سورة الأنبياء
- 22- سورة الحج
- 23- سورة المؤمنون
- 24- سورة النور
- 25- سورة الفرقان
- 26- سورة الشعراء
- 27- سورة النمل
- 28- سورة القصص
- 29- سورة العنكبوت
- 30- سورة الروم
- 31- سورة لقمان
- 32- سورة السجدة
- 33- سورة الأحزاب
- 34- سورة سبأ
- 35- سورة فاطر
- 36- سورة يس
- 37- سورة الصافات
- 38- سورة ص
- 39- سورة الزمر
- 40- سورة غافر
- 41- سورة فصلت
- 42- سورة الشورى
- 43- سورة الزخرف
- 44- سورة الدخان
- 45- سورة الجاثية
- 46- سورة الأحقاف
- 47- سورة محمد
- 48- سورة الفتح
- 49- سورة الحجرات
- 50- سورة ق
- 51- سورة الذاريات
- 52- سورة الطور
- 53- سورة النجم
- 54- سورة القمر
- 55- سورة الرحمن
- 56- سورة الواقعة
- 57- سورة الحديد
- 58- سورة المجادلة
- 59- سورة الحشر
- 60- سورة الممتحنة
- 61- سورة الصف
- 62- سورة الجمعة
- 63- سورة المنافقون
- 64- سورة التغابن
- 65- سورة الطلاق
- 66- سورة التحريم
- 67- سورة الملك
- 68- سورة القلم
- 69- سورة الحاقة
- 70- سورة المعارج
- 71- سورة نوح
- 72- سورة الجن
- 73- سورة المزمل
- 74- سورة المدثر
- 75- سورة القيامة
- 76- سورة الإنسان
- 77- سورة المرسلات
- 78- سورة النبأ
- 79- سورة النازعات
- 80- سورة عبس
- 81- سورة التكوير
- 82- سورة الانفطار
- 83- سورة المطففين
- 84- سورة الانشقاق
- 85- سورة البروج
- 86- سورة الطارق
- 87- سورة الأعلى
- 88- سورة الغاشية
- 89- سورة الفجر
- 90- سورة البلد
- 91- سورة الشمس
- 92- سورة الليل
- 93- سورة الضحى
- 94- سورة الشرح
- 95- سورة التين
- 96- سورة العلق
- 97- سورة القدر
- 98- سورة البينة
- 99- سورة الزلزلة
- 100- سورة العاديات
- 101- سورة القارعة
- 102- سورة التكاثر
- 103- سورة العصر
- 104- سورة الهمزة
- 105- سورة الفيل
- 106- سورة قريش
- 107- سورة الماعون
- 108- سورة الكوثر
- 109- سورة الكافرون
- 110- سورة النصر
- 111- سورة المسد
- 112- سورة الإخلاص
- 113- سورة الفلق
- 114- سورة الناس
- سور القرآن الكريم
- تفسير القرآن الكريم
- تصنيف القرآن الكريم
- آيات العقيدة
- آيات الشريعة
- آيات القوانين والتشريع
- آيات المفاهيم الأخلاقية
- آيات الآفاق والأنفس
- آيات الأنبياء والرسل
- آيات الانبياء والرسل عليهم الصلاة السلام
- سيدنا آدم عليه السلام
- سيدنا إدريس عليه السلام
- سيدنا نوح عليه السلام
- سيدنا هود عليه السلام
- سيدنا صالح عليه السلام
- سيدنا إبراهيم عليه السلام
- سيدنا إسماعيل عليه السلام
- سيدنا إسحاق عليه السلام
- سيدنا لوط عليه السلام
- سيدنا يعقوب عليه السلام
- سيدنا يوسف عليه السلام
- سيدنا شعيب عليه السلام
- سيدنا موسى عليه السلام
- بنو إسرائيل
- سيدنا هارون عليه السلام
- سيدنا داود عليه السلام
- سيدنا سليمان عليه السلام
- سيدنا أيوب عليه السلام
- سيدنا يونس عليه السلام
- سيدنا إلياس عليه السلام
- سيدنا اليسع عليه السلام
- سيدنا ذي الكفل عليه السلام
- سيدنا لقمان عليه السلام
- سيدنا زكريا عليه السلام
- سيدنا يحي عليه السلام
- سيدنا عيسى عليه السلام
- أهل الكتاب اليهود النصارى
- الصابئون والمجوس
- الاتعاظ بالسابقين
- النظر في عاقبة الماضين
- السيدة مريم عليها السلام ملحق
- آيات الناس وصفاتهم
- أنواع الناس
- صفات الإنسان
- صفات الأبراروجزائهم
- صفات الأثمين وجزائهم
- صفات الأشقى وجزائه
- صفات أعداء الرسل عليهم السلام
- صفات الأعراب
- صفات أصحاب الجحيم وجزائهم
- صفات أصحاب الجنة وحياتهم فيها
- صفات أصحاب الشمال وجزائهم
- صفات أصحاب النار وجزائهم
- صفات أصحاب اليمين وجزائهم
- صفات أولياءالشيطان وجزائهم
- صفات أولياء الله وجزائهم
- صفات أولي الألباب وجزائهم
- صفات الجاحدين وجزائهم
- صفات حزب الشيطان وجزائهم
- صفات حزب الله تعالى وجزائهم
- صفات الخائفين من الله ومن عذابه وجزائهم
- صفات الخائنين في الحرب وجزائهم
- صفات الخائنين في الغنيمة وجزائهم
- صفات الخائنين للعهود وجزائهم
- صفات الخائنين للناس وجزائهم
- صفات الخاسرين وجزائهم
- صفات الخاشعين وجزائهم
- صفات الخاشين الله تعالى وجزائهم
- صفات الخاضعين لله تعالى وجزائهم
- صفات الذاكرين الله تعالى وجزائهم
- صفات الذين يتبعون أهواءهم وجزائهم
- صفات الذين يريدون الحياة الدنيا وجزائهم
- صفات الذين يحبهم الله تعالى
- صفات الذين لايحبهم الله تعالى
- صفات الذين يشترون بآيات الله وبعهده
- صفات الذين يصدون عن سبيل الله تعالى وجزائهم
- صفات الذين يعملون السيئات وجزائهم
- صفات الذين لايفلحون
- صفات الذين يهديهم الله تعالى
- صفات الذين لا يهديهم الله تعالى
- صفات الراشدين وجزائهم
- صفات الرسل عليهم السلام
- صفات الشاكرين وجزائهم
- صفات الشهداء وجزائهم وحياتهم عند ربهم
- صفات الصالحين وجزائهم
- صفات الصائمين وجزائهم
- صفات الصابرين وجزائهم
- صفات الصادقين وجزائهم
- صفات الصدِّقين وجزائهم
- صفات الضالين وجزائهم
- صفات المُضَّلّين وجزائهم
- صفات المُضِلّين. وجزائهم
- صفات الطاغين وجزائهم
- صفات الظالمين وجزائهم
- صفات العابدين وجزائهم
- صفات عباد الرحمن وجزائهم
- صفات الغافلين وجزائهم
- صفات الغاوين وجزائهم
- صفات الفائزين وجزائهم
- صفات الفارّين من القتال وجزائهم
- صفات الفاسقين وجزائهم
- صفات الفجار وجزائهم
- صفات الفخورين وجزائهم
- صفات القانتين وجزائهم
- صفات الكاذبين وجزائهم
- صفات المكذِّبين وجزائهم
- صفات الكافرين وجزائهم
- صفات اللامزين والهامزين وجزائهم
- صفات المؤمنين بالأديان السماوية وجزائهم
- صفات المبطلين وجزائهم
- صفات المتذكرين وجزائهم
- صفات المترفين وجزائهم
- صفات المتصدقين وجزائهم
- صفات المتقين وجزائهم
- صفات المتكبرين وجزائهم
- صفات المتوكلين على الله وجزائهم
- صفات المرتدين وجزائهم
- صفات المجاهدين في سبيل الله وجزائهم
- صفات المجرمين وجزائهم
- صفات المحسنين وجزائهم
- صفات المخبتين وجزائهم
- صفات المختلفين والمتفرقين من أهل الكتاب وجزائهم
- صفات المُخلَصين وجزائهم
- صفات المستقيمين وجزائهم
- صفات المستكبرين وجزائهم
- صفات المستهزئين بآيات الله وجزائهم
- صفات المستهزئين بالدين وجزائهم
- صفات المسرفين وجزائهم
- صفات المسلمين وجزائهم
- صفات المشركين وجزائهم
- صفات المصَدِّقين وجزائهم
- صفات المصلحين وجزائهم
- صفات المصلين وجزائهم
- صفات المضعفين وجزائهم
- صفات المطففين للكيل والميزان وجزائهم
- صفات المعتدين وجزائهم
- صفات المعتدين على الكعبة وجزائهم
- صفات المعرضين وجزائهم
- صفات المغضوب عليهم وجزائهم
- صفات المُفترين وجزائهم
- صفات المفسدين إجتماعياَ وجزائهم
- صفات المفسدين دينيًا وجزائهم
- صفات المفلحين وجزائهم
- صفات المقاتلين في سبيل الله وجزائهم
- صفات المقربين الى الله تعالى وجزائهم
- صفات المقسطين وجزائهم
- صفات المقلدين وجزائهم
- صفات الملحدين وجزائهم
- صفات الملحدين في آياته
- صفات الملعونين وجزائهم
- صفات المنافقين ومثلهم ومواقفهم وجزائهم
- صفات المهتدين وجزائهم
- صفات ناقضي العهود وجزائهم
- صفات النصارى
- صفات اليهود و النصارى
- آيات الرسول محمد (ص) والقرآن الكريم
- آيات المحاورات المختلفة - الأمثال - التشبيهات والمقارنة بين الأضداد
- نهج البلاغة
- تصنيف نهج البلاغة
- دراسات حول نهج البلاغة
- الصحيفة السجادية
- تصنيف الصحيفة السجادية
- تصنيف الصحيفة بالموضوعات
- الباب السابع : باب الاخلاق
- الباب الثامن : باب الطاعات
- الباب التاسع: باب الذكر والدعاء
- الباب العاشر: باب السياسة
- الباب الحادي عشر:باب الإقتصاد
- الباب الثاني عشر: باب الإنسان
- الباب الثالث عشر: باب الكون
- الباب الرابع عشر: باب الإجتماع
- الباب الخامس عشر: باب العلم
- الباب السادس عشر: باب الزمن
- الباب السابع عشر: باب التاريخ
- الباب الثامن عشر: باب الصحة
- الباب التاسع عشر: باب العسكرية
- الباب الاول : باب التوحيد
- الباب الثاني : باب النبوة
- الباب الثالث : باب الإمامة
- الباب الرابع : باب المعاد
- الباب الخامس: باب الإسلام
- الباب السادس : باب الملائكة
- تصنيف الصحيفة بالموضوعات
- أسماء الله الحسنى
- أعلام الهداية
- النبي محمد (صلى الله عليه وآله)
- الإمام علي بن أبي طالب (عليه السَّلام)
- السيدة فاطمة الزهراء (عليها السَّلام)
- الإمام الحسن بن علي (عليه السَّلام)
- الإمام الحسين بن علي (عليه السَّلام)
- لإمام علي بن الحسين (عليه السَّلام)
- الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السَّلام)
- الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السَّلام)
- الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السَّلام)
- الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السَّلام)
- الإمام محمد بن علي الجواد (عليه السَّلام)
- الإمام علي بن محمد الهادي (عليه السَّلام)
- الإمام الحسن بن علي العسكري (عليه السَّلام)
- الإمام محمد بن الحسن المهدي (عجَّل الله فرَجَه)
- تاريخ وسيرة
- "تحميل كتب بصيغة "بي دي أف
- تحميل كتب حول الأخلاق
- تحميل كتب حول الشيعة
- تحميل كتب حول الثقافة
- تحميل كتب الشهيد آية الله مطهري
- تحميل كتب التصنيف
- تحميل كتب التفسير
- تحميل كتب حول نهج البلاغة
- تحميل كتب حول الأسرة
- تحميل الصحيفة السجادية وتصنيفه
- تحميل كتب حول العقيدة
- قصص الأنبياء ، وقصص تربويَّة
- تحميل كتب السيرة النبوية والأئمة عليهم السلام
- تحميل كتب غلم الفقه والحديث
- تحميل كتب الوهابية وابن تيمية
- تحميل كتب حول التاريخ الإسلامي
- تحميل كتب أدب الطف
- تحميل كتب المجالس الحسينية
- تحميل كتب الركب الحسيني
- تحميل كتب دراسات وعلوم فرآنية
- تحميل كتب متنوعة
- تحميل كتب حول اليهود واليهودية والصهيونية
- المحقق جعفر السبحاني
- تحميل كتب اللغة العربية
- الفرقان في تفسير القرآن -الدكتور محمد الصادقي
- وقعة الجمل صفين والنهروان
|
التربية
- التربية والتعليم في نهج البلاغة
|
|||||||||
|
النصوص من نهج
البلاغة
|
|||||||||
|
وَمِنْ وَصِيَّةٍ لَهُ عَلَيْهِ
السَّلامُ لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، عَلَيْهِمَا السَّلامُ، كَتَبَها إِلَيْهِ
بِحاضِرِينَ [اسم موضع بالشام، وفي شرح ابن ابي الحديد: اما قوله: 'كتبها اليه
بحاضرين'، فالذي كنّا نقرؤه قديماً 'كتبها اليه بالحاضرين' على صيغة التثنية،
يعني حاضر حلب وحاضر قنسرين، وهي الارياض والضواحي المحيطة بهذه البلاد، ثمّ
قرأناه بعد ذلك على جماعة من الشيوخ بغير لام، ولم يفسّروه، ومنهم من يذكره
بصيغة الجمع لا بصيغة التثنية، ومنهم من يقول بحناصرين، يظنونه تثنية خناصره او جمعها.] مُنْصَرِفاً مِنْ صِفِّينَ: بسم اللَّه الرّحمن الرحيم مِنَ الْوالِدِ الْفانِ، الْمُقِرِّ [المعترف بالشدة والمقر له بالغلبة.] لِلزَّمانِ، الْمُدْبِرِ [وذاك انّه كان عليه السلام قد ذر على الستين.] الْعُمُرِ، الْمُسْتَسْلِمِ [هذا آكد من المقرّ للزمان لأنه قد يقرّ
الانسان لخصمه ولا يستسلم.] لِلدَّهْرِ، الذّامِ لِلدُّنْيَا، السّاكِنِ مَساكِنَ الْمَوْتَى
إِلَى الْمَوْلوُدِ الْمُؤَمِّلِ [غير تنفير عن طول الأمل إذ كان ينسى
الآخرة، وجعل وجه التنفير تأميله أن يدرك، وظاهر أنّ الانسان مادام في هذه الدار
موجّه أمله نحو مطالبها كما أشار إليه سيد المرسلين صلى الله عليه و آله: يشيب
بن آدم ويشبّ فيه خصلتان: الحرص والأمل، وذلك يستلزم انقضاء مدّته دون بلوغها،
وانما أراد جنس الخصوص الحسن عليه السلام وكذلك سائر الأوصاف.] ما لا يُدْرِكُ، السّالِكِ سَبِيلَ
مَنْ قَدْ هَلَكَ... |
|||||||||
|
ضرورة التربية
|
|||||||||
|
أَمّا بَعْدُ، فَإنَّ فِيما
تَبَيَّنْتُ مِنْ إدْبارِ الدُّنْيا عَنِّي، وَجُمُوحِ [جمح الفرس:إذا غلب صاحبه فلم يملكه.] الدَّهْرِ عَلَيَّ، وَإقْبالِ
الاخِرَةِ إِلَيَّ، ما يَزَعُنِي [يمنعني.]عَن ذِكْرِ مَنْ سِوايَ،
وِالاْهْتِمامِ بِما وَرائِي، غَيْرَ أنِّي حَيْثُ تَفَرَّدَ بِي- دوُنَ هُمُومِ
النّاسِ- هَمُّ نَفْسِي، فَصَدَقَنِي [صرفني.] رَأْيِي، وَصَرَفَنِي عَنْ هَوايَ،
وَصَرَّحَ لِي مَحْضُ [خالصه.] أَمْرِي، فَأَفْضى بِي إِلى جِدٍّ لايَكُونُ فِيهِ لَعِبٌ،
وَصِدْقٍ لايَشُوبُهُ كَذِبٌ. وَجَدْتُكَ بَعْضِي، بَلْ وَجَدْتُكَ كُلِّي،
حَتّى كَأَنَّ شَيْئاً لَوْ أَصابَكَ أَصابَنِي، وَكَأَنَّ الْمَوْتَ لَوْأَتاكَ
أَتانِي. فَعَنانِي مِنْ أَمْرِكَ ما يَعْنِيِني مِنْ أَمْرِ نَفْسِي.
فَكَتَبْتُ إلَيْكَ كِتابِي مُسْتَظْهِرًا [مستغنياً به.] بِهِ إنْ أَنَاَ بَقِيتُ لَكَ
أَوْفَنِيتُ. |
|||||||||
|
التربية والتعليم في نهج البلاغة
|
|||||||||
|
-
مفهوم التربية عند الإمام علي (عليه السلام):
|
|||||||||
|
لعل من المفيد أن نستهل هذا الموضوع
بتبيان المدلول اللغوي لمفهوم التربية. فالتربية في اللغة مأخوذة من ربى ولده،
والصبي يربه، رباه أي أحسن القيام عليه حتى أدرك[باقر شريف القرشي، النظام التربوي في
الإسلام، ص٤١، عن تاج العروس، ج١، ص٢٦١.]. فالتربية بمدلولها اللغوي، تعني تعهد
الطفل بالرعاية والتغذية المادية والمعنوية حتى يشب. ولقد اهتم الفلاسفة
والعلماء بهذا المفهوم، وجهدوا في الكشف عن مضامينه العلمية وأوجدوا له عدداً من
التفسيرات التي إن اختلفت في شكلها، فهي متفقة في جوهرها، وسنعرض فيما يلي أقوال
بعض المفكرين القدامى والمحدثين، لنرى موقع (النهج) منها. |
|||||||||
|
يقول أفلاطون
(٤٢٧-٣٤٧ق.م):
|
|||||||||
|
(التربية
هي إعطاء الجسم والروح كل ما يمكن من الجمال، وكل ما يمكن من الكمال)[
سليمان، كامل والعبد الله، علي: التربية، مطبعة صادر، بيروت، ١٩٦٥، ص١٧٦-١٧٧.].
وهذا يعتمد على الناحية الكمية من التربية، وذلك بمزاولة جميع الأنشطة العقلية
والبدنية المؤدية لكمال الفرد. |
|||||||||
|
ويقول أرسطو
(٣٨٤-٣٢٢ق.م):
|
|||||||||
|
(الغرض
من التربية هو أن يستطيع الفرد عمل كل ما هو مفيد وضروري في الحرب والسلم، وإن
يقوم بما هو نبيل وخير من الأعمال ليصل إلى حالة السعادة)[
نفسه، ص١٧٦-١٧٧.].
وهذا يهتم بالناحية المهنية من التربية لما فيه منفعة الفرد وسعادته في دنياه. |
|||||||||
|
جولز سيمون،
الفيلسوف الفرنسي (١٨١٤-١٨٩٦م):
|
|||||||||
|
يقول (التربية هي
الطريقة التي بها يكون العقل عقلاً حراً، ويكون القلب قلباً حراً)[
نفس المصدر].
وهذا يتم بالنواحي الروحية من التربية. |
|||||||||
|
ولعل
أوثق تعريفين للتربية هما: ما قاله الغزالي (٤٥٠-٥٠٥)وما قاله جون ديوي:
|
|||||||||
|
الغزالي
(٤٥٠-٥٠٥) (ومعنى التربية،
يشبه فعل الفلاح الذي يقلع الشوك، ويخرج النباتات الأجنبية من بين الزرع، ليحسن
نباته ويكمل ريعه)[
الغزالي، رسالة أيها الوالد، ترجمة توفيق الصباغ، المطبعة الكاثوليكية، بيروت،
سنة ١٩٥١، ص٣٧.]. |
|||||||||
|
جون ديوي: (إنها عملية صوغ وتكوين لفعالية الأفراد ثم صب لها في قوالب معينة
ـ أي تحويلها إلى عمل اجتماعي مقبول لدى الجماعة)[ ديوي، جون، الديمقراطية
والتربية، ترجمة متى عقراوي، وزكريا ميخائيل، طبعة محددة لأغراض دراسية، بيروت،
١٩٧٠، ج١، ص١٢.]. |
|||||||||
|
تعريفات
كثيرة
|
|||||||||
|
وهناك تعريفات كثيرة لا مجال لذكرها
لعدم الحاجة إليها ـ وهي في أكثرها مشابهة لما سبق ـ وما يهمنا هو استعراض ما مر
منها ومقابلتها بما صدر عن الإمام (عليه السلام)، من أفكار تربوية تفسر حقيقة
مفهوم التربية. |
|||||||||
|
الإمام
علي (عليه السلام)
|
|||||||||
|
يرى (عليه السلام) أن الإنسان هو
غاية الوجود، ومن أجله خلق الله ما خلق إذ بعد أن خلق تعالى الكون ورتبه أحسن
ترتيب، ونظمه أجمل تنظيم، وأتم مرافقه، على أكمل وجه، وجمع فيه ما تشتهي الأنفس،
وتلذ الأعين، أخرج إليه الإنسان، وأسكنه فيه على أن يكون خليفته في أرضه، يحيا
في كنفها ويعيش من خيراتها، ويمضي في أقواله وأفعاله ونواياه، ومقاصده، وفق
أحكام الله وإرادته مطيعاً، مذعناً، شاكراً، إلا أنه خالف أمر الله، وسلك بوحي
من نفسه الأمارة بالسوء، فجذبته الدنيا إليها وحجبت عنه الرؤية السليمة فبات
أسير أوهامه وشهواته. إن ضعف الإنسان أمام إغراء المادة
والإيمان بأن الشيطان الذي أغواه في الجنة لن يتوانى عن إغوائه مرة أخرى وهو على
الأرض، وبالتالي سوف لن يتمكن من ممارسة الخلافة كما أوجبها الله ما دام ضعيف
الحجة، مسلوب الإرادة، قليل الإيمان. هذه الأمور أوجبت أخذه بالتربية والتعليم
حتى تستقيم نفسه ويقوى على مقاومة الضلالة والفساد. إلا أن هذه التربية، لا
تستند فقط إلى مبادئ نظرية لا صلة بها بالواقع، بل تتخذ منها طريقاً ومنهجاً
يعضده العلم والعمل والإيمان بهدف منفعة العباد وخيرهم. وكثيرة هي الخطب والكلمات التي
تضمنها (النهج) وهي تدعو إلى طلب العلم وأخذه من أي مصدر كان، كما وتحث على
العمل حتى لا تبقى التربية مجرد نظريات لا فائدة منها في عالم الواقع. لذلك فإن
الإمام (ع) يدعم القول بالعمل وهذا هو الحق الذي يشهد به العمران والتقدم
والتطور الحاصل في المجتمعات من ذلك (العلم مقرون بالعمل، فمن علم عمل)[
أنظر ح، ج١٩، ص٢٨٤.]..
إذ لا خير في علم بلا عمل. ولابد للعارف من أن يكون عاملاً حتى لا يكون علمه حجة
عليه.
|
|||||||||
|
الإمام
علي (عليه السلام) والتطبيق
|
|||||||||
|
ولقد أدرك الإمام علي (عليه السلام)
هذا الأمر وطبقه على سائر مجريات حياته، يبدو ذلك في حديثه عن العلماء الذين
يتعلمون، برأيه ـ لغايات ثلاث[مستدرك نهج البلاغة، ص١٧٧.]: ـ للمراء والجدل. ـ للاستطاعة والحيل. ـ للفقه والعمل. - أما الأول (فإنك تراه ممارياً للرجال في أندية
المقال، قد تسربل بالتخشع وتخلى من الورع. فدق الله من هذا حيزومه وقطع منه
خيشومه). - وأما الثاني (فإنه يستطيل على أشباهه من أشكاله،
ويتواضع للأغنياء، من دونهم، فهو لحلوائهم هاضم، ولدينه حاطم، فأعمى الله من هذا
بصره، ومحى من العلماء أثره). - وأما الثالث (فتراه ذا كآبة وحزن، قام الليل في
حندسه، وانحنى في برنسه، ويعمل ويخشى، فشد الله من هذا أركانه وأعطاه يوم
القيامة أمانه). فليس المهم بنظر الإمام (عليه السلام)
كثرة العلوم النظرية، لأنها لا تغني عن السلوك الحسن والسيرة الخيرة، ولا كثرة العلماء،
ما دام البعض منهم قد اتخذ العلم وسيلة للهدم، أو أداة للرياء والنفاق، في حين
أن البقية الباقية منهم، ممن آمنوا بربهم وخشعوا له، قد اتخذوه للعمل الحر
الشريف. فالتربية التي تعتمد الكمية في أساليبها ليست مقبولة ما دامت لا تستند
إلى الكيفية والنوعية. إلا أن هذه النوعية لا فائدة منها إذا لم تقترن بالفاعلية
فالعلم لا يراد لذاته، بل لأجل التغيير والنمو في شخصية الفرد والمجتمع كما يقول
(عليه السلام): (لا تجعلوا علمكم جهلاً ويقينكم شكاً، إذا علمتم فاعملوا وإذا
تيقنتم فأقدموا)[
انظر ح، ج١٩، ص١٦٤.]. إلا أن العمل قد يجر الويل على
المجتمع، إذا لم يستند إلى أساس روحي خلقي وما نراه اليوم دليلاً على ذلك،
فالذرة قد تستعمل للبناء وقد تستعمل للفناء والدمار والذي ينحى بها هذا المنحى
أو ذاك، هو الإنسان ذاته الذي اكتشفها، لذلك كانت التربية الروحية الخلقية لابدّ
منها في صياغة كيان الفرد وتفكيره وخلقه. ولقد جمع الإسلام بين التربية الدينية
والدنيوية بقوله تعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ
وَلاَ تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا)[ سورة القصص، آية ٧٧.]. هذه النظرية للتربية التي انفرد بها
الإمام علي (عليه السلام) هي أكثر شمولاً وعمقاً من تلك التي أوحت بها التعريفات
السالفة الذكر، فبينما نرى أن فلاسفة التربية قد قصروا نشاطها على جانب معين من
حياة الفرد (أفلاطون ـ ارسطو ـ جولز سيمون) يتوسع الإمام (عليه السلام) في هذا
النشاط ليشمل جميع نواحيه الفكرية والاجتماعية والأخلاقية والدينية والدنيوية
كما سنرى فيما بعد وذلك من أجل إيجاد الإنسان الفاضل القريب من الكمال. هذا
المضمون نفسه هو الذي أكده كل من (الغزالي) و(جون ديون) ممّا يثبت بأن هذا
الكتاب، كان وما يزال في صميم المعرفة التي تحدث عنها الفلاسفة والعلماء في كل
عصر وجيل. |
|||||||||
|
-
سمات المنهج التربوي العلوي:
|
|||||||||
|
ينطلق الإمام (عليه السلام) من
مسلمات بديهية على أساسها يضع المنهج في تربية الإنسان وإعداده منها: |
|||||||||
|
١ـ
حقيقة الإنسان وطبيعته
|
|||||||||
|
سبق في علمنا أن حقيقة الإنسان هي
الروح والجسد معاً. ولقد اختلف المتكلمون في هذا الأمر، فقال (العلاف): (إن
الإنسان هو الشخص الظاهر المرئي الذي له يدان ورجلان)[ مقالات الإسلاميين، ج٢،
ص٣٢٩.] ، أي هو الجسد فقط دون الروح واحتج على ذلك بقوله تعالى: (خَلَقَ
الإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ)[ سورة الرحمن، آية ١٤.].
وقال النظام: (الإنسان هو الروح ولكنها مداخلة للبدن.. وإن البدن آفة عليه وحبس
وضاغط له)[
المصدر نفسه، ص ٣٢٩.] أما (بشر بن المعتمر) فقد وافق الإمام (عليه السلام) على أن
(الإنسان جسد وروح وأنهما جميعاً إنسان، وأن الفعال هو الإنسان الذي هو جسد
وروح)[
المصدر نفسه، ص ٣٣١.] وقد دمج (النظام) بين الروح والنفس والجسم فقال: (الروح هي جسم وهي
النفس)[
المصدر نفسه، ص ٣٣٣. في حين ميز بينهما (العلاف) وقال، (النفس معنى غير الروح)[
المصدر نفسه، ص ٣٣٧.] أما (الأصم) فقد اعتبر أن (النفس هي هذا البدن بعينه لا غير، وإنما
جرى عليها هذا الذكر على جهة البيان والتأكيد لحقيقة الشيء، لا على أنها معنى
غير البدن)[
المصدر نفسه، ص ٣٣٦.]. وحقيقة القول، أن كلا منهما مختلف عن الآخر،
فالروح أمر إلهي لا علم لنا به وهو بمثابة القوة التي تبعث الحياة في الجماد.
أما النفس، فهي كناية عن طبيعة الإنسان المختلفة باختلاف قواها النفسية. ولقد
قسم الإمام علي (عليه السلام) هذه الطبائع النفسية إلى أربعة، لكل منها خمس قوى
وخاصيتان، وما أثر عنه في هذا المجال ما نحن بصدد الحديث عنه: قال كميل: سألت أمير المؤمنين فقلت
له: أريد أن تعرفني نفسي. فقال (عليه السلام): يا كميل، وأي
الأنفس تريد أن أعرفك. قلت: يا مولاي، هل هي إلا نفس واحدة؟ قال (عليه السلام): يا كميل إنما هي
أربع: النامية النباتية، والحسية الحيوانية، والناطقة القدسية، والكلية الإلهية،
ولكل واحدة من هذه خمس قوى وخاصيتان. فالنامية النباتية لها خمس قوى:
جاذبة وماسكة وهاضمة ودافعة ومربية، ولها خاصيتان، الزيادة والنقصان وانبعاثهما
من الكبد وهي أشبه الأشياء بنفس الحيوان. والحسية الحيوانية لها خمس قوى: سمع
وبصر وشم وذوق ولمس، ولها خاصيتان، الشهوة والغضب، وانبعاثهما من القلب، وهي
أشبه الأشياء بنفس السباع. والناطقة القدسية: ولها خمس قوى، فكر
وذكر وعلم وحلم ونباهة، وليس لها انبعاث، وهي أشبه الأشياء بالنفوس الملكية،
ولها خاصيتان، النزاهة والحكمة. والكلية الإلهية ولها خمس قوى: بقاء
في فناء، ونعيم في شقاء، وعز في ذل، وغنى في فقر، وصبر في بلاء، ولها خاصيتان،
الرضا والتسليم، وهذه هي التي مبدؤها من الله، واليه تعود. قال الله تعالى: (وَنَفَخْتُ فِيهِ
مِنْ رُوحِي)[
سورة الحجر، آية ٢٩.] وقال تعالى: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي
إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً)[ سورة الفجر، آية ٢٧-٢٨.] ، والعقل وسط الكل، لكيلا يقول أحدكم شيئاً من الخير والشر إلا
بقياس معقول)[
مستدرك نهج البلاغة، ص١٦٠.]. وهكذا يقسم (عليه السلام) النفس إلى
أربعة أنواع: النباتية، والحيوانية، والناطقة، والإلهية ويرى أن هذه الأخيرة
مبدؤها من الله وإليه تعود، بينما تتمحور جميعها حول العقل الذي يسيطر عليها ويشردها
إلى طريق الاعتدال، ولولا ذلك لبلغت حد الإفراط والتفريط وكلاهما رذيلة كما قال
الإمام علي (عليه السلام): (العقل ملك والخصال رعيته فإذا ضعف عن القيام عليها
وصل الخلل إليها)[
انظر ح، ج٢٠، ص١٩٤.] لهذا جاء التأكيد على ضرورة معرفة
النفس لأنها تؤدي إلى معرفة الله، لأن (من عرف نفسه فقد عرف ربه)[
انظر ح، ج٢٠، ص٢٩٢.].
و(من عجز عن معرفة نفسه، فهو عن معرفة خالقه أعجز)[ المصدر نفسه، ج٢٠،
ص٢٩٢.]. كما أنه يؤكد على أهمية شأن العقل
ويعتبره من المصادر الأساسية للمعرفة، وكل ما يتنافى معه فهو باطل. أما الحواس
فهي كاذبة ولا تصلح للرؤية، وإنما الرؤية الحقيقية للعقل: (ليست الرؤية مع
الأبصار، فقد تكذب العيون أهلها ولا يغش العقل من استنصحه)[
المصدر نفسه، ج١٩، ص١٧٣.].
ويكفي العقل فضلاً وشرفاً أنه يميز بين الحق والباطل، ويفرق بين الغي والرشاد،
لذا كان من أبلج المناهج وأقوم المسالك وأكثر مصادر المعرفة رشداً، وأقله
ضلالاً، ومن استرشد بغيره، فقد أخطأ سواء السبيل. يقول (عليه السلام): (من
استرشد غير العقل أخطأ منهاج الرأي)[ المصدر نفسه، ج٢٠،
ص٢٦٠.]. وتنمية القوى العقلية للإنسان لا
تكون إلا في طلب العلم، لأن العلم غذاء العقل، به ينشط وقوى على ممارسة الوظائف
العقلية لأنه (ليس شيء أحسن من عقل زانه علم)[ المصدر نفسه، ج٢٠،
ص٢٦٧.] كما يقول الإمام (عليه السلام). إلا أن الإنسان يجمع إلى حد القوة حد
الضعف، فهو القوي بعقله وفعاليته وهو الضعيف الذي (تؤلمه البقة، وتقتله الشرقة،
وتنتنه العرقة)[
المصدر نفسه، ج٢٠، ص٢٦٠.] والإنسان مجمع الأضداد، في داخله تتصارع العواطف والأهواء والغرائز
وحياته تعتورها حالات متضادة نتيجة للصراع بين قواه العقلية والعاطفية، فيرتفع
إلى المستوى اللائق به بعقله، وينحدر إلى مستوى البهيمية بغرائزه، والتوازن
بينهما هو ما يحفظ كيانه ويصون كرامته وإنسانيته كما عبر الإمام (عليه السلام)
بقوله: (لقد علق بنياط هذا الإنسان بضعة هي أعجب ما فيه، وهو القلب، وذلك أن له
مواد من الحكمة وأضداد من خلافها، فإن سنح له الرجاء أذله الطمع، وإن هاج به
الطمع أهلكه الحرص، وإن ملكه اليأس قتله الأسف، وإن عرض له الغضب اشتد به الغيظ،
وإن أسعده الرضا نسي التحفظ وإن غاله الخوف شغله الحذر، وإن اتسع له الأمر
استلبته الغرّة، وإن أصابته مصيبة فضحة الجزع، وإن أفاد مالاً أطغاه الغنى، وإن
عضته الفاقة شغله البلاء، وإن جهده الجوع قعدت به الضعة، وإن أفرط به الشبع كظته
البطنة، فكل تقصير به مضر، وكل إفراط له مفسد)[ انظر ح، ج١٨، ص٢٧١.]. أما غرائزه فهي متعددة، ومتلونة
تختلف من شخص لآخر بحسب الفطرة التي أرادها الله سبحانه، كما يذكر (عليه السلام)
بقوله: (فأقام من الأشياء أودها ونهج حدودها، ولاءم بقدرته بين متضادها، ووصل
أسباب قرائنها، وفرقها أجناساً مختلفات في الحدود والأقدار والغرائز والهيئات،
بدايا خلائق أحكم صنعها، وفطرها على ما أراد وابتدعها)[ المصدر نفسه، ج٦، ص٤١٦.]. هذه الغرائز تتغير بتغير بيئة
الإنسان وثقافته، ولا يخفى أثر البيئة القوي في التنشئة والإعداد. فالإنسان
يتأثر بالأحوال والظروف المحيطة به فهو ابن بيئته وعوائده كما يقول ابن خلدون،
فيكون لذلك شأنه في صياغة أفكاره وأخلاقه وعاداته سلباً أو إيجاباً بحسب ما
يكتنفه من أمور تؤثر في مجرى حياته، ونظراً لتعدد البيئات واختلاف مقوماتها
وعناصرها الثقافية والاجتماعية والطبيعية فإن لذلك أثره القوي في اختلاف أفراد
النوع الإنساني وتباين سماتهم العقلية والبدنية. يقول الإمام (عليه السلام):
(إنما فرق بينهم مبادئ طينهم، وذلك أنهم كانوا فلقة من سبخ الأرض وعذبها وحزن
تربتها وسهلها فهم على حسب قرب أرضهم يتقاربون، وعلى قدر اختلافهم يتفاوتون)[
المصدر نفسه، ج١٣، ص١٨.]. إن الإمام علي (عليه السلام) يقطع من
خلال عرضه للمبادئ التي تحكم طبيعة الإنسان وتبيانه للميول والأهواء والغرائز
المتناقضة والمتصارعة، تلك التي تتحكم في نفسه، وتوجه سلوكه وتحدد سماته الخلقية
والفكرية، بضرورة أن نأخذ جميع هذه الأمور بعين الاعتبار ونراعي ما يظهر من
الفروق الفردية، فيما لو حاولنا حل مشكلات المتعلم النفسية والاجتماعية
والتربوية وإعداده للحياة الحرة الفاعلة الفاضلة. ذلك لأن مراعاة هذه الأسباب في
العملية التربوية تضفي عليها شيئاً من الرغبة، وتساهم في صلاح المتعلم وحل عقده.
في حين إن إكراهه على ما يناقض مزاياه الخلقية والنفسية، إنما هو قتل لشخصيته
وهدر لطاقاته ودفعه إلى المشاغبة والنفور، ذلك أن (للقب شهوة وإقبالاً وإدباراً
فأتوها من قبل شهوتها وإقبالها، فإن القلب إذا أكره عمي)[
انظر ح، ج١٩، ص١١.] ولا يعني هذا مسايرة رذائل الإنسان وشهواته، وإنما مقاومتها بأسلوب
يخلو من العنف والقهر والسمو بها إلى مصاف الخلق النبيل. وسوف نرى أن الإمام علي
(عليه السلام) كان يؤكد على التسامي بشهوات الإنسان ورغباته الشريرة واستبدالها
بما ترضى عنها الذات والمجتمع. نستنتج ممّا تقدم، أن هذا الكائن البشري يجمع إلى جانب
قوى الخير قوى أخرى تجنح به نحو الشر. وهذا يوصلنا إلى فكرة الخطيئة التي شغلت بها أذهان المفكرين عبر
العصور. فقد اعتبرت المسيحية أن الإنسان مذنب ومخطئ بطبعه وأن الشر متأصل في فيه
(وليس في استطاعته الوصول إلى النجاة بقوته وجده، وإنما ينال النجاة بالغفران
وذلك الغفران تمنحه الكنيسة بطريقة استبدادية محضة)[ أ. س. زابوبرت، مبادئ
الفلسفة، ترجمة أحمد أمين، ط٧، القاهرة، ١٩٦٤، ص٨٠.]. في الجانب المقابل، مال البعض إلى القول بخيرية هذا الكائن وميله الأصيل إلى
الفضيلة والخير. أما الشر الصادر عنه فهو من الوسط الذي يعيش فيه. ومن أبرز
القائلين بذلك جان جاك روسو الذي اعتبر أن الطفل يولد خيراً بطبعه، ولكن المجتمع
هو الذي يفسده. وما أثر عن الإمام علي (ع) كان موقفاً
وسطاً بين هؤلاء وأولئك، فالإنسان لا يميل بطبعه إلى الخير أو إلى الشر، لأنه قادر على فعل
الخير كقدرته على فعل الشر، ذلك: (إن في أيدي الناس حقاً وباطلاً، وكذباً
وصدقاً)[
انظر ح، ج١١، ص٣٨.]. ونوع التربية التي تتعهده بها البيئة
التي يعيش فيها، هو الذي يجنح به نحو الخير أو الشر. كذلك فإنه مزود بالغرائز
والأعضاء والحواس والجوارح التي تأتمر بأمره وتتأثر بالجو المحيط به، وبقدر
تهذيبها وإرشادها يسهل توجيهها الوجهة الصالحة. أما إذا أهملت وتركت وشأنها،
فإنها تنحا به نحو الرذيلة والفساد. ولقد أكد الغزالي قابلية الإنسان للخير
والشر بقوله: (... فإن الصبي بجوهره خلق قابلاً للخير والشر جميعاً، وإنما
أبواه يميلان به إلى حد الجانبين) واستشهد بقول الرسول الكريم: (كل مولود يولد
على الفطرة، وإنما أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)[
إحياء علوم الدين، ج٣، ص٧٤.]. ولن يؤتي الفكر ثماره إلا إذا استند
إلى الخبرة والعمل. فالخبرة هي التي تصقله وتهذبه والعمل هو الذي يخرجه إلى حيز
الواقع. ولقد أقام (عليه السلام) نظامه الفكري على هذا الأساس. فربط بين العلم
والعمل ودعى إلى استفادة الخبرة من رسالة الإسلام، ومن تدبر أحوال الماضين،
واتباع آثارهم واختيار الصالح منها وترك ما لا فائدة منه. وهذا ما عبر عنه الإمام علي (عليه
السلام) في وصيته لولده الحسين (عليه السلام): (أي بني! إني وإن لم أكن عمرت عمر من كان قبلي، فقد نظرت في
أعمالهم وفكرت في أخبارهم وسرت في آثارهم، حتى عدت كأحدهم، بل كأني بما انتهى
إليّ من أمورهم، قد عمرت مع أولهم إلى آخرهم، فعرفت صفو ذلك من كدره ونفعه من
ضرره، فاستخلصت لك من كل أمر نخيله وتوخيت لك جميله وصرفت عنك مجهوله)[
انظر ح، ج١٦، ص٦٧.]. وهكذا فالتفكير الذي يتحدث عنه
الإمام (عليه السلام) يرفض التقليد إلا في أضيق نطاق وعن الذين يمكن الوثوق بكلامهم وأفكارهم والركون إلى أخلاقهم
وسجاياهم. وحتى هؤلاء لم يخرجهم (عليه السلام) من دائرة الاجتهاد، حتى لا يشكلوا
ضغطاً فكرياً على الآخرين فهو يؤثر الاجتهاد في كل شيء حتى في الدين. والغاية من
ذلك الإقناع لا الإكراه بهدف إيجاد المفكر الذي يحاول أن يتفهم دينه ودنياه بوحي
من بصيرته. لذا فهو يدعو إلى إعمال الفكر في كل
خطوة نخطوها وفي كل رأي نبديه ونعلنه، بل وفي كل خبر نسمعه حتى نتجنب الخطأ
والعذر في كل ما يصدر عنا من آراء فالتفكير المستند إلى التركيز والانتباه هو ما يعبر عنه الإمام
(عليه السلام) فيقول: (اعقلوا الخبر إذا سمعتموه عقل رعاية لا عقل رواية، فإن
رواة العلم كثير ورعاته قليل)[
انظر ح، ج١٨، ص٢٥٤.]. تلك هي أبرز سمات المنهج التربوي في
(نهج البلاغة) فهي تنطلق من مفهوم شامل للتربية تتناول الإنسان بمختلف أبعاده
وتنظر إليه كوحدة متكاملة تبرز حقيقته وطبيعته التي فطره الله عليها وتظهر ما
فيه من غرائز وقوى تتراوح بين القوة والضعف وما للبيئة من أثر في تحديدها
وتنوعها. |
|||||||||
|
٢ـ
المعرفة: طبيعتها، مصدرها
|
|||||||||
|
المقصود بالمعرفة هو بعمومها
وأنواعها المتعددة، العلمية والبديهية والميتافيزيقية، وهي تتضمن دائماً الإشارة إلى عنصرين
متكاملين: الذات والموضوع، أي الذات العارفة والشيء المعروف. لقد اختلفت الآراء حول طبيعة المعرفة
وسببها. فقال العقليون
الذين يؤمنون بقوة غير حسية، قادرة على إدراك ماهيات الأشياء أو المعقولات وهي
العقل (إن تلك الماهيات أو المعقولات التي في أذهاننا، ليست إلا نماذج مماثلة
تماماً لما في خارج الذهن من أشياء، أو صورة مطابقة لها، وهذا ما يعبر عنه
الفلاسفة بقولهم إن الحقيقة هنا هي نسخة لما في خارج الذهن)[
الفندي، محمد ثابت، مقدمات في الفلسفة، مكتب كريدية أخوان، بيروت، ١٩٧١، طبعة
محددة لأغراض دراسية، ص٤٣.].
هذا يعني أن المعرفة ليست سوى مجرد تصورات ذهنية مطابقة لما في خارج الذهن ولا
علاقة لها بالحياة. لقد ظهر هذا المذهب عند كل السقراطيين واستمر حتى بداية الفلسفة
الحديثة وهو متعدد من حيث تفاصيله ولكنه واحد من حيث المبدأ. وقد قام محل الحواس التي اعتبرها
أداة وهم تقف في طريق المعرفة الحقيقية. يقول (مالبرنش): (إن نماذجكم الحسية
ليست إلا ظلاماً فاذكروا هذا وارقوا إلى أعلى حيث العقل وسترون النور. ألزموا
حواسكم وخيالكم وانفعالاتكم بالصمت، وستسمعون حينئذ صوت الحقيقة الباطنية النقي،
وإجابات عقلنا المشترك الجلية الواضحة، إياكم أن تخلطوا هذه البينة التي تنجم عن
المقارنة بين الأفكار، بحيوية المشاعر التي تتحرك وتمسكم. يجب علينا أن نتبع
العقل رغم تلطفات البدن الذي نلتصق به، ورغم تهديداته وإهاناته، ورغم تأثير
الموضوعات التي تحيط بنا.. إنني لأهيب بكما أن تقروا بأن ثمة فارقاً بين أن نعرف
وأن نحس بين أفكارنا الواضحة وإحساساتنا الغامضة المختلطة على الدوام[مالبرانش، أحاديث في الميتافيزيقا، الحديث الثالث، عن كتاب (بعض
مشكلات الفلسفة) لـ(وليم جيمس) ص٩٤.]. وقال العمليون ـ المعبر عنهم في العصر
الحديث (بالبرجماتيين) Pragmatism في مذهبهم الذي يمزج الفكر بالحياة، إن غاية المعرفة هي الحياة وإن قيمة
كل فكرة أو نظرية تقاس بمدى ما تحققه من نفع، حين نطبقها في حل المشكلات التي
تواجهنا (ولذلك فلكي نستوثق من قدر نظرية من النظريات نحاول أن نتخيل أنها مطبقة
فعلاً في العمل حتى يتسنى لنا رؤية ما عسى أن يكون هنالك من نتائج لتطبيقها،
ونحتفي بها على قدر ما تأتي من نتائج عملية خالصة)[ وليم جيمس، بعض مشكلات
الفلسفة، ترجمة محمد فتحي الشنيطي، دار الطلبة العرب، بيروت، سنة ١٦٦٩، ط٢،
ص٢٠-٢١.]. إن معيار حقيقة الفكرة عند العقليين،
هو مطابقتها للواقع أي لما هو خارج الفكر. هذه المطابقة تجعل من الحقيقة واضحة وثابتة، أما في المذهب العملي
فإن الفكرة لا توصف بالحقيقة لمطابقتها للواقع، بل لكونها تؤدي عملاً نافعاً، أي
بالنظر لنتائجها وغاياتها العملية. وباختصار فإن المذهب الأول يقول بأننا نعيش
لنفكر أما الآخر فيقول بأننا نفكر لنعيش. إن ربط الفكر بالعمل يتضمن انقلاباً
في نظرية المعرفة، فبدلاً من النظر في الأصول البعيدة للحقيقة، كما كانت تفعل
الفلسفات المجردة، فإن الفلسفات العملية حولت النظر إلى النتائج والغايات
العملية، وجعلت قيمة الحقيقة بما تؤديه من نتائج عملية ونفعية. هذا الانقلاب الذي أحدثه المذهب العملي
كان الإمام (عليه السلام) قد طرحه كأحد المسلمات التي لابدّ منها لحياة أفضل. فالمعرفة القائمة على التصورات فقط
لا قيمة لها بل يصنفها في عداد المعارف الوضعية التي لا يترتب عليها أدنى منفعة.
في حين أن المعرفة التي تظهر في أعمال تنفع البشر وتؤدي لهم خدمات مفيدة هي التي
يقول بها ويضعها في مستوى المعارف الرفيعة. فصفة الحقيقة فيه ليست ملازمة للفكرة
كفكرة وإنما هي تكتسبها بما تحققه من عمل نافع. والواقع ينطق بذلك، إذ ما قيمة
قوانين (نيوتن) مثلاً لو لم تقدم خدمات عملية على أرض الواقع بتفسيرها حركة
الأجسام هذا الربط عبّر عنه الإمام (عليه السلام) يقول: (فإن خير القول ما نفع،
واعلم أنه لا خير في علم لا ينفع)[ انظر ح، ج١٦، ص٦٤.].
و(أوضع العلم ما وقف على اللسان، وارفعه ما ظهر في الجوارح والأركان)[
المصدر نفسه، ج١٨، ص٢٤٥.]. وهكذا يكون كتاب (النهج) في صميم
الفلسفة الحديثة التي قرنت الفكر بالعمل ممّا أتاح للبشرية فرصة سانحة للسير في طريق
التقدم والعمران. أما عن مصدر المعرفة، فقد وقع فيه
اختلاف كالذي حصل في طبيعة المعرفة. إن المشكلة في الفلسفة الحديثة ليست
إمكان الوصول إلى الحقيقة أو عدم إمكانها وإنما أصبحت تدور في أصل الحقيقة
ومنبعها، أهو العقل أم الحس والتجربة، أو هما معاً، أم الحدس أم الوحي؟ لقد تعددت آراء الفلاسفة حول الطريقة
التي تحصل بها المعرفة فديكارت (١٥٩٦-١٦٥٠م) يعترف بأن لا سبيل إلى الوصول إلى الحقيقة إلا بممارسة أفعال
العقل الطبيعية.. ولتلك الغاية ليس هناك إلا فعلان أحدهما الحدسintuition أو النظر المباشر، والآخر الاستدلال Deduction [بلدي، نجيب ديكارت، دار المعارف، بمصر سنة ١٩٦٨، ص٦٥.]. أما جون لوك (١٦٣٢-١٧٠٤م) (فقد أعلن بهدوء أن جميع أنواع
المعرفة تأتينا من التجارب عن طريق حواسنا، وأن لا شيء في العقل سوى ما تنقله له
الحواس)[
ويل ديورانت: قصة الفلسفة، ص٣١٩-٣٢٠.] في حين أن (عمانوئيل كانت) جمع بين العقل والتجربة في الحصول
على المعرفة وكان يقول: (إن التجربة ليست الميدان الوحيد التي تحدد فهمنا، لذلك فهي لا
تقدم لنا إطلاقاً حقائق عامة، وبذلك فهي تثير عقلنا المهتم بهذا النوع من
المعرفة بدل أن تقنعه وترضيه)[
المصدر نفسه، ص٣٣٤-٣٣٥.]. وخرج (هنري برجسون) (ولد سنة ١٨٥٩م) عما اعتبره (كانت) مصدراً للمعرفة،
وقال بأن: (العقل ليس هو الأداة الصالحة لإدراك الحياة، لأن هذا مطلب فوق
مقدوره.. فالعقل والحواس آلات للتجزئة، والغاية منهما تيسير الحياة لا تصوير
الوجود أي أنها تتناول الوجود في ظاهره، ولكنها لا تنفذ إلى باطنه. ولما كانت
المعرفة الحقيقية هي التي تتمشى مع الوجود في تحوله، وتغلغل في بواطن الأشياء
وتحسها إحساساً مباشراً كما يحس الحمل الوديع وجوب الفرار من غائلة الذئاب،
فالبصيرة وحدها هي الأداة الصالحة لذلك النوع من المعرفة المباشرة لأنها حاسة الحياة
التي تنقل إلينا الوحدة الحيوية التي تربط أجزاء الوجود)[
المصدر نفسه، ص٥٦١.]. |
|||||||||
|
أين
كان موقع الإمام علي (عليه السلام) من هذه الآراء؟
|
|||||||||
|
إن الإمام (عليه السلام) يعتبر أن
مبادئ الوجود ثلاثة: الله والروح والمادة، وعليه فطرق المعرفة تتعدد بتعدد الموجودات الثلاثة. فبالحواس ندرك الظواهر الخارجية والجزئيات، إلا أنها لا تصلح للرؤية
الحقيقية لأنها كاذبة كما سبق في علمنا فلابدّ من إثباتها بالتجربة لإصلاح ما
ينجم عنها من خطأ في الإدراك، لأن (في التجارب علم مستأنف)[
انظر ح، ج٢٠، ص٢٥٩.]. أما العقل، فهو لإدراك الكليات وما وراء
الطبيعة، وقد سبق في علمنا أنه (عليه السلام) استدل على وجود الله بالنظر في
مخلوقاته وما فيها من نظام محكم وتدبير متقن، ومعنى هذا أنه يؤمن بالعقل الذي يدرك ما وراء الكون بالاستنتاج والانتقال من
المعلوم إلى المجهول. أما إذا عجزت الحواس والعقل عن إدراك ما يمكن وراء هذه الظواهر
الحسية ـ فلا سبيل أمامنا سوى
القرآن أو الوحي، نستعين به لكشف ما غاب عنا، يقول إخوان الصفاء: (إن الوحي هو أنباء عن أمور غائبة عن الحواس، يقدح في نفس الإنسان
من غير قصد منه ولا تكلف)[
الرسائل، ج٤، ص٨٤.].
إلا أن الوحي الذي يعنيه أخوان الصفاء، ليس كما صرّح به الإمام (عليه السلام)
إنما هو أقرب إلى الحدس الصوفي القائم على الكشف والذوق. فهل يعتبر هذا الحدث
الصوفي طريقاً آخر للإدراك يمكن الركون إليه كما هو الحال عند المتصوفة؟ وقبل الإجابة عن هذا السؤال، نوضح أن هناك فكرتين تتحدثان عن علاقة
الله بالعالم. الأولى، و(يصح أن نسميها بالاثنينّية، وهي تعتقد في الله أنه مستقل عن
الخلق يشرف عليه من فوق، ويمد كل مخلوق بإمداداته، ويدير نظام الكون من أصغره
إلى أكبره، وهو فوق الأرض، وفوق السماء وفوق كل شيء. وإن في الكون موجودين
متميزين عن بعضهما كل التمييز، مخلوق وخالق، ومدبَّر ومدبِّر، ومحكوم وحاكم.
ووسيلة الإنسان في إدراك الله حسب هذه الفكرة هو العلم وقضايا المنطق. أما الفكرة الثانية، وهي الواحدية، أو
بعبارة أخرى، وحدة الوجود، ترى أن الله والخلق واحد، والحاكم والمحكوم شيء
واحد، كما قال الحلاج:
أحمد أمين، ظهر الإسلام، مكتبة النهضة
المصرية، ط٣، القاهرة، سنة ١٩٦٢م، ج٢، ص٦٠. وإدراك الله هنا، يتم بالتروّض والكشف. وما ذكره الإمام (عليه السلام) ينفي عن الله الحلول والاتحاد كما سبق وأشرنا إليه في حينه، ولا يقول بوحدة الوجود، بل يميز بين الخالق والمخلوق، والرب
والمربوب، ويؤمن بأن الإسلام يضع الإنسان أمام خالقه دون حجاب أو ترجمان أو
وساطات تشفع له عند الله كما جاء في القول: (لم يجعل بينه وبينك من يحجبك عنه،
ولم يلجئك إلى من يشفع لك إليه)[
انظر ح، ج١٦، ص٨٦.]. ثم إنه يرفع من مكانة العقل ويعتبره
المظلة الواقية من الخطأ في الإدراك، علماً بأن جميع النفوس قد فطرت على الإيمان بوجود الله، إلا تلك
التي انحرفت عن فطرتها لسبب من التربية أو البيئة. إذا أخذنا جميع هذه الأمور بعين
الاعتبار، أمكننا الإجابة عن السؤال السابق بأن الإمام (عليه السلام) لم يأخذ بالحدس الصوفي كمصدر للمعرفة،
ما دام العلم بالله حاصل بالفطرة والنظر العقلي، دون الوصول إلى تلك الحالة
الخاصة التي يبلغها الإنسان بالوجد والكشف حيث يدرك عندها الله إدراكاً مباشراً.
وما أشبه هذه التجربة العقلية التي يدعو إليها هذا الكتاب بتجربة (برغسون) التي
تغلغل في صميم الواقع وتغوص في أعماقه وتتصل به اتصالاً مباشراً من غير واسطة
تحول بين العارف والمعروف. ثم إنه يرفع من مكانة العقل ويعتبره
المظلة الواقية من الخطأ في الإدراك، علماً بأن جميع النفوس قد فطرت على الإيمان
بوجود الله، إلا تلك التي انحرفت عن فطرتها لسبب من التربية أو البيئة. |
|||||||||
|
٣ـ
التفكير
|
|||||||||
|
التفكير بمعناه الواسع (اصطلاح عام
يشمل كل أنواع النشاط الرمزي فيشمل الاستدلال والتخيل، وتكوين المعاني الكلية
والابتكار، ويستخدم التفكير بديلات للأشياء الحقيقية والمواقف الواقعية، أي أنه
يستخدم رموزاً تقوم مقام الأشياء أو الظروف. والرمز هو أي شيء ـ فكرة، معنى أو
صورة يقوم مقام شيء آخر، فنستجيب له بنفس الأسلوب الذي نستجيب به للشيء نفسه)[
حلمي المليجي، علم النفس المعاصر، دار النهضة العربية، بيروت، ط١، ص١٩٧٠، ص٢٠٩.]. إن عملية التفكير ترجع إلى التفاعل
بين العوامل العضوية أو البيولوجية المتمثلة بالجهاز العصبي المعقد، والعوامل
الاجتماعية المتمثلة بالمؤثرات الاجتماعية المختلفة. فهو إذن عملية بيولوجية
اجتماعية عن طريقه توصل الإنسان إلى بناء حضارة عظيمة تزخر بالتقدم العلمي
والتنظيم الاجتماعي. والتفكير ضرورة تربوية هامة يعتمد
عليه الإنسان في تفاعله مع البيئة التي يعيش فيها، فهو في صراع دائم مع الحياة
للحفاظ على استمرارية وجوده كما أنه محتاج، لكي يدافع عن نفسه ويؤمن حاجياته
ويزيل الصعوبات والمشكلات التي تعترض طريقه، إلى أن يفكر ويختار نسب الحلول
الملائمة. لذلك (يخطئ إذن من يحسب الإنسان آلة صماء في يد القوانين المادية.
إنما هو كائن مدرك، حر الإرادة، قادر على اختيار سلوك معين، والاختيار خلق
وإنشاء، فليس الإنسان رتيباً في حياته كالحيوان المحدود بغرائزه)[
قصة الفلسفة، ص٥٥٩.].
كما قول برغسون. وهو في محاولته حل مشاكله، إنما
يستعين على ذلك بالمحاولة والخطأ والتجربة والاختيار والابتكار والإبداع، لذلك
كان التفكير نشاط ديناميكي هادف. ولا يعني هذا أن العقل لا يفكر إلا إذا اعترضته
المشكلات الواقعية. فهو في نشاط مستمر، في حالة اليقظة أو الغفلة وما أحلام
اليقظة إلا (استجابات بديلة للاستجابات الواقعية يتخذها الفرد عندما يفشل في أن
يستجيب استجابات واقعية لما يواجهه من مثيرات فيلجأ إلى أوهامه يحقق فيها ما عجز
عن تحقيقه في عالمه الواقعي، وهكذا نستطيع أن نعتبر الأحلام إحدى صور التفكير
الذاتي)[
عبد السلام عبد الغفار، مقدمة في علم النفس العام، دار مكتبة الجامعة العربية،
بيروت، ١٩٦٩، ص٢٦٨.]. ثم إن ارتباط التفكير بالعمل يساعد
الفرد على تحقيق آماله والوصول إلى غاياته. وكلما ارتفع مستوى الإنسان الفكري،
اتجه بصورة أفضل نحو إحلال الأعمال بالأفكار أي يختبر صحة ما يصل إليه بصورة
عقلية قبل أن يقوم بعمل معين، ويصبح التفكير بديلاً للعمل، وذلك لفاعليته
واقتصاديته. لهذا كانت نتيجة التفكير هي الاقتصاد في الوقت والمجهود، وتوفير فرص
أكبر للحياة والبقاء. أما إذا لم يكن للتفكير أثر في زيادة
كفايتنا العملية وتوسيع معرفتنا بأنفسنا وبالعالم الذي نعيشه فيه، وإذا لم يكن
مساعداً على توفير الوقت والجهد، كان تفكيراً ناقصاً ومختلاً، لأن (الأفكار تبقى
ناقصة إذا ما ظلت مجرد فكار، وأن خير ما يقال عنها أنها مؤقتة من قبيل
الاقتراحات والدلالات. فهي أساليب وجوه لمعالجة أوضاع الخبرة، وإذا لم تطبق في
مثل هذه الأوضاع، وبقيت ناقصة في معناها وواقعيتها، فالتطبيق وحده هو الذي
يمتحنها، والامتحان وحده هو الذي يكسوها رداء الحقيقة، ويكسبها كمال المعنى. أما
إذا بقيت الأفكار من غير استعمال فإنها تجنح إلى الانعزال وتكوين عالم خاص بها)[
الديمقراطية والتربة، ج١، ص١٨١.].
وإذا كانت للخبرة أهميتها في عملية التفكير فإنه لا سبيل إلى وجود خبرة ذات
معنى، ودون أن يكون فيها عنصر من التفكير الذي هو (التعبير الصريح عن عنصر
الذكاء في خبرتنا)[
نفسه، ج١، ص١٦٥.]. على أن خبرتنا التي نصوغها في قوالب
تفكيرنا، لا تعني الاهتمام بكل ما ورد فيها، وليس هذا من التفكير في شيء، ما
نفكر به يجب أن نتدبره تدبيراً سليماً، بحيث يكون له أثر في مدى تفاعل الفرد مع
بيئته، وفي حل المشكلات التي تعترضه، وهذا ما أكده جون ديوي بقوله: (فالتفكير في الأشياء كما ترد إلينا هو محاولتنا تعرّف ما تدلنا
عليه من النتائج المحتملة أو المرجحة. أما أن نملأ رؤوسنا كما نملأ الدفاتر بشتى
المعلومات الجزئية باعتبار أنها أشياء كاملة مفروغ منها، فليس ذلك من التفكير في
شيء، إن هو إلا تحويل أنفسنا أجهزة تسجيل. ولكننا إذا تدبرنا تأثير الحوادث فيما
قد يقع وإن لم يقع بعد، فذلك هو التفكير)[ الديمقراطية والتربية،
ج١، ص١٦٦.]. وهكذا فالتفكير هو إحدى المكونات الرئيسية للتنظيم
المعرفي للفرد وأهميته تكمن في إعطائه القدرة على امتلاك البيئة والتحكم فيها،
كما يمكّنه من العمل المثمر الخلاق ويفتح أمامه فرصاً واسعة للنجاح. لذا كان
التفكير عملية لابدّ منها في تنمية الفكر الإنساني وانطلاقه وتحريره من الجهل
والجمود والتقليد. ويعتبر الإمام علي (عليه السلام) من
المفكرين الأوائل الذين أدركوا أهمية التفكير عند الإنسان فأشاد بالعقل ودعا إلى
تنميته بالفكر، لأن الفكر جلاء للعقول، كما أنه يفيد الهداية والرشد واليقظة
والاستبصار، ويعصم عن الضلال والشك. وكثيرة هي العبارات التي صدرت عنه بخصوص هذا
الأمر يقول (عليه السلام): (الفكر يهدي) و(الفكر عبادة)، و(الرأي بالفكر)
و(الفكر رشد) و(الفكر ينير القلب)[ جميع هذه الأقوال أخذت
من كتاب (الغرر والدرر) للآمدي، ص٤٣.]. وهكذا فإن الإمام علي (عليه السلام) يجد في التفكير القدرة على كشف
الحقائق وتخليص العقل من الأوهام والأساطير، كما وأنه يرى فيه الهداية والرشد
والرأي السديد ليس ذلك فحسب، بل أن العلم الحاصل عن التفكير هو من أشرف العلوم
وأكثرها ثباتاً ودقة، وذلك بالقياس إلى ما ندعي امتلاكه بالحفظ والتلقين بلا وعي
ودراية. وما العبرة في علم إذا لم يكن جزءاً من كياننا ومثار سلوكنا ومحقق
أهدافنا وغاياتنا في الحياة؟ فالملاحظة السطحية وغير الكاملة تعيق نمو العقل بل
وتفسده، وعدم التركيز الفكري يعرقل نضوجه وتطوره. لذلك كان التفكير أحد العوامل
الرئيسية في ديناميكية العقل وزيادة إنتاجه، فيجب والحالة هذه أن يكون نمو هذه
الملكة عند الإنسان، هو الهدف الأسمى لعملية التربية والتعليم. لقد قرن (عليه السلام) بين الفكر
والرشد والهداية ـ كذلك فقد قرن بين رفيع العلم وما بني منه على أساس متين من
التفكير عندما قال: (لا علم كالتفكير)[
انظر ح، ج١٨، ص٢٧٦.]. إن اهتمام الإمام (عليه السلام) بهذا
الجوهر الثمين عند الإنسان، بالإضافة إلى ما تضمنه من نشاطات فكرية تجلت في
الحديث عن الله والعالم العلوي، والكون بما فيه من مخلوقات يغلب عليها التعقيد
والغموض، إنما يدعو إلى ضرورة أن يتمتع الإنسان بعمق في التفكير وسعة في الاطلاع
حتى تكون النتائج يقينية بحيث لا يتطرق إليها الخطأ أو الزلل. كما أنها تكشف عن طبيعته الفكرية وما
للعقل من أهمية كبرى في صياغة تفكيره وإبداء وجهات نظره في الكون والحياة وفي
نفسه وكيفية إسعادها من خلال استناد الفكر إلى الخبرة الواسعة والربط بينه وبين
العمل. هذه السمات الفكرية التي أبرزها الإمام
(عليه السلام) إنما ترتكز في أساسها على الإسلام، الأمر الذي يجعل من هذا
الكتاب، إحدى الذخائر الإسلامية الهامة التي لا يمكن الاستغناء عنها في البحث عن
الوسائل والطرق المؤدية إلى حسن إعداد الإنسان للحياة. إن اهتمامه (عليه السلام) بهذا
الجوهر الثمين عند الإنسان، بالإضافة إلى ما أثر عنه من نشاطات فكرية متعددة،
إنما ينم عن عمق في التفكير، وسعة في الاطلاع ودقة في الملاحظة، بها امتاز
وتفوّق على سائر معاصريه، ومن أبرز مظاهر تفكيره ذاك التسلسل المنطقي والتماسك
الفكري الذي نراه بادياً في (النهج) بحيث أن كل فكرة هي نتيجة طبيعية لما قبلها
وعلّة لما بعدها. ولقد كانت غايته من وراء ذلك ليس إبراز مقدرته الفكرية
واللغوية والعلمية، وإنما تشجيعاً لقومه على التفكير، وتحريرهم من رقدة الجهالة،
وتنويرهم بالعبر والأحداث حتى يثوبوا إلى رشدهم ويعيشوا في رحاب العلم والمعرفة
وما ذلك إلا لأن الفكرة تورث النور والغفلة تورث الظلام. |
|||||||||
|
-
التربية والتعليم:
|
|||||||||
|
تربية الإنسان وتعليمه، عملية أساسية
اضطلعت بها الأسرة أولاً، وتولت مهمة القيام عليها منذ نعومة أظفار هذا الكائن
الحي، ثم توالت على ممارستها مؤسسات مختلفة لهذه الغاية. ولقد اختلفت الآراء حول مضمون هذه العملية، وذلك لاختلاف الأنماط الثقافية
والحضارية والتربوية لكل أمة من الأمم، لكنها اتفقت جميعها على كونها طريقة إعداد
للحياة، كما اختفت في معنى كل من التربية والتعليم، فمنهم من استعملها بمعنى
واحد، ومنهم من ميز بينهما. والواقع أن مفهوم التربية يختلف عن
مفهوم التعليم. وعدم التمييز بينهما يؤدي إلى تفكك الأساليب التربوية وتشويش
شخصية الطفل، لأن تزويده بأنواع العلوم والثقافات قبل
تهيئة التربة الصالحة لها، إنما معناه البنيان على
الرمال. ولقد ميز (دي نوي) بين التربية
والتعليم فقال: (فتربية الولد تقوم على تهذيب سجاياه الخلقية وتعليمه المبادئ
الأساسية الثابتة التي يعترف بها الإنسان في كل البلدان، وإنماء الكرامة
الإنسانية فيه منذ نعومة أظفاره. أما تعليمه فهو تغذيته بالمدنية التي جمعها الإنسان في مختلف الحقول. والتربية تصوب أعماله
وتوحي إليه سلوكه في علاقاته مع الناس، وتساعده على تملك زمام نزواته. أما التعليم فيوفر له
عناصر نشاطه الفكري ويعرفه بحالة التمدن الحديث. تعطيه التربية أسس الحياة التي
لا تتبدل، ويمكنه العلم من التكيف حسب تبدلات محيطه، ومن ربط هذه التبدلات
بالحوادث الماضية والمستقبلية)[
مصير الإنسان، ص٣٠١.]. فتربية الطفل إذن تبدأ قبل تعليمه، ولا يخفى أثر هذه التربية الأولى
على شخصيته، إذ على مبادئها ومعطياتها يدرج وينمو ويبني كياناً مستقبلاً فاعلاً.
وهذا ما يفسر ضخامة البناء الفكري الذي يشيده خلال سنيه الأولى، حيث تعمد
التربية إلى كشف وإبراز ما يتمتع به من ميول ومواهب وقدرات وأهداف ليمارسها فيما
بعد بالتعليم والعليم اللذين ليساهما، كما يقول أخوان الصفاء، (سوى إخراج ما في القوة يعني الإمكان، إلى الفعل يعني الوجود)[
أخوان الصفاء، الرسائل، ج١، ص٢٦٢.]. |
|||||||||
|
أولاً:
التربية
|
|||||||||
|
إن تربية الطفل إذن، يجب أن تبدأ منذ
المهد، وذلك بتنشئته على الأخلاق الفاضلة والعادات الحسنة، قبل أن يبدأ باكتساب
العلوم أو يتشوه سلوكه بالعادات السيئة. يقول (دي نوي): (وعلى التربية الأولى أن
تكيف أخلاق الولد ما دام دماغه ليناً خلواً من كل أثر وينبغي أن يتم هذا العمل
الإعدادي قبل أن يكون احتكاك شخصيته بالعلم قد كوّن عادات يصبح من الضروري
محاربتها يوماً ما)[
مصير الإنسان، ص٣٠٥-٣٠٧.]. ولا شك في أن هذه الفترة، من حياة
الطفل إنما هي من أنسب الفترات وأخصبها وأكثرها أثراً على حياته ومستقبله، وذلك أنه (بقدر ما يكون الولد حديث
السن، يسهل الحصول على نتيجة تربيته، فتنطبع القواعد فيه انطباعاً لا يمحى،
وتأتي التأثيرات الأخرى الناتجة عن احتكاكه بالمحيط فلا تزيل أثرها. أما إذا
جاءت القواعد الخلقية المعقدة وفرضت على الولد، بعد أن يكون سلك سلوكاً شخصياً،
فلسنا نتمكن من محو الارتكاسات الذاتية)[ المصدر نفسه، ص٣٠٥-٣٠٧.]. ولقد تحدث الإمام علي (عليه السلام) عن
هذا الأمر قبل ذلك بآلاف
السنين. إذ يرى وجوب مباشرة الحدث بالتربية وتعهده بها، قبل أن يقسو قلبه أو
ينشغل عقله بالعقائد والعادات السيئة التي تهجم عليه وتطبع سلوكه إذا ما وجدت
سبيلاً لها إلى عقله، الذي يصوره الإمام (عليه السلام) بقوله: كـ(الصفحة البيضاء) أو كـ(الأرض الخالية ما
ألقي فيها من شيء إلا قبلته)[
انظر ح، ج١٦، ص٦٦.]. وهكذا، فقلب الحدث خال من الانتقاش
بالعقائد مع استعداده لتقبل ما يلقى إليه من خير أو شر كما يقول الغزالي: (وقلب الطفل الطاهر، جوهرة نفيسة
ساذجة عن كل نقش وصورة، وهو قابل لكل ما نقش، ومائل إلى كل ما يمال به إليه، فإن
عود الخير وعلمه نشأ عليه وسعد في الدنيا والآخرة.. وإن عود الشر وأهمل إهمال
البهائم شقي وهلك)[
إحياء علوم الدين، ج٣، ص٧٢.]. نستنتج من ذلك أن المعرفة لا تولد مع الشخص، وإنما
يولد معه الاستعداد لتحصيلها، وهذا هو معنى وجود العلم بالقوة في النفس
الإنسانية. وهو قابل للتعلم منذ صغره، لأن حواسه ومداركه تكون منفتحة ومتيقظة
ومستعدة لتقبل ما يلقى إليها، (فإنه في الوقت والساعة تدرك حواسه محسوساتها)[
رسائل أخوان الصفاء، ج٣، ص٤١٤.]. |
|||||||||
|
١-
وظائف التربية:
|
|||||||||
|
ولا تقتصر وظيفة التربية على إعداد
الإنسان أخلاقياً صالحاً بل هي تمتد لتلعب دورها في تطور البناء الاجتماعي من
خلال: نقل التراث الثقافي وتغيير كيان الفرد والمجتمع. |
|||||||||
|
ـ نقل التراث الثقافي |
|||||||||
|
إن تحليل معنى التراث الثقافي وعلاقة
الإنسان به، يوضح مدى أهمية العملية الاجتماعية التي يتم بواسطتها نقل الأنماط
الثقافية من جيل إلى آخر يأتي بعده. فالثقافة تعني مختلف وسائل التعبير
وأنماط السلوك التي تبرز خصوصية شعب من الشعوب، لذلك فهي تشمل، استناداً إلى رأي
الأنثروبولوجين الأميركيين بشكل خاص (على كل أنماط السلوك التي يعبر بها الإنسان
عن نفسه والتي يشاركه فيها الآخرون، فهي تشمل الأدب والفن والديانات
والميثولوجيات والأخلاق أو الآداب القومية والشعبية ومظاهر الحياة الاجتماعية من
لباس وتزيين وكيفية طبخ وأكل.. الخ، فهذه كلها تعابير ورموز وآيات يعبر بها
الإنسان عن نفسه، فهي ثقافته حتى لو كانت تقتصر على بعض المظاهر الفلكلورية)[
العروي، عبد الله، العرب والفكر التاريخي، دار الحقيقة، بيروت، ١٩٧٣، ص٧٠.]. وإذا كان التراث الثقافي مبعث آمال
الأئمة وملهم مشاعرها وعنوان تقدمها والانقطاع عنه يؤدي إلى هدم الأساس الذي
تقوم عليه حضارتها، فإن إعادة نبش هذا التراث من بطون التاريخ، ونفض الغبار عنه
وصياغته صياغة جديدة تقتضيها الحال عملية تربوية شاقة يضطلع بها الجيل السابق
لتقديمه غذاءً سائغاً إلى الناشئة من الأجيال اللاحقة. ومن هذا المنطق، فقد عرفت
التربية بحسب دلالتها وعلاقتها بالحياة الاجتماعية. وهذا ما فعله المفكر
الاجتماعي المشهور (اميل دوركهايم) في أوائل القرن الحالي، بقوله أنها (التأثير
الذي يجزيه الجيل الراشد في الجيل الناشئ)[ الحصري، ساطع: دراسات
في مقدمة ابن خلدون، دار الكتاب العربي، بيروت، ط٣، ص١٩٦٧، ص٤٤٤.] ، وهذا ما كان قد عبر عنه ابن خلدون في الربع الأخير من القرن
الرابع عشر، عندما نظر إلى القضية، نظرة المفكر الاجتماعية ولاحظ أن الجيل
الناشئ يتشوق إلى تلقي العلوم والمعارف من الجيل الذي سبقه فيقول: (وهي مع ذلك
صنائع يتلقاها الآخر عن الأول منهم)[ ابن خلدون، المقدمة،
دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط٥، د. ت. ص٤٣٣.]. وقول ابن خلدون هذا
لا يختلف معنى ومدلولاً عن قول (إميل دوركهايم) السالف الذكر. ولقد تحدث الإمام (عليه السلام) عن
هذا التفاعل الثقافي والاتصال الفكري بين الماضي والحاضر، انطلاقاً من تراث
الإسلام المشرق، الذي صوره أقوالاً وأفعالاً ومبادئ تربوية يمكن الاستفادة منها
في بناء الإنسان الفاضل، ومن تأكيده على أهمية هذا التراث وأثره الفعال في شحذ
الهمم، نراه يتوجه إلى كل إنسان بما يراه صالحاً له في الدنيا والآخرة، فينقل
إليه آثار الأولين والآخرين، نقية صافية من الأخطاء والشوائب من خلال السير في
ديارهم وتتبع آثارهم وتمييز ما ينفع وما يضر منها. فالاتصال بالجذور لا ينبغي أن
يكون عشوائياً بحيث يجذبنا التراث ويأسر أفئدتنا فنأخذ منه الغث والثمين. لهذا
وحرصاً على صلاحية الهدف الذي نتوخاه من التربية يجب (أن لا يكون الاتصال
بالماضي ضرباً من التبعية أو العبودية لهذا الماضي إذ لابدّ لنا من أن نجتهد على
الماضي فنتجنب السلبيات ونؤكد على الإيجابيات)[ لبنان الحضارة الواحدة،
لمجموعة من الأستاذة، صدر عن النادي الثقافي العربي في بيروت، وهذا النص أخذ من
مقال الدكتور معن زيادة في هذا الكتاب، ص٢١.]. كذلك، فإن محتوى النقل الثقافي يجب
أن يكون هادفاً بحيث يتحدد بنوع المواطنة الصالحة التي نريدها ونوع المجتمع الذي
ينبغي بناؤه وتكوينه بحيث تكون أهداف التربية منسجمة مع أهداف المجتمع حتى لا
يحصل التناقض بينهما فتكون النتيجة خلاف ما نتوخاه ونعمل له. وليس أدل على ذلك
من الاضطراب والتفكك الذي يظهر في المجتمعات التي تنشد التطور بينما هي ترزح تحت
عبء القيم التربوية البالية والمتأخرة. لهذا (.. فالتربية ملزمة بهذه الوظيفة
وعلى عاتقها يقع عبء الاختيار من بين الاتجاهات والقيم والعادات والمعارف
والعلوم التي توجد في المجتمع على أساس التمييز بين المرغوب فيها والمرغوب عنها،
ذلك أن كل مجتمع يتضمن الكثير من العناصر المختلطة والأفكار المتنوعة، والقيم
المتعارضة المتشابكة. فوظيفة التربية في هذا المجال تكمن في تنمية الاتجاهات
والقيم المنتقاة على ضوء الأهداف العليا لذلك المجتمع)[ علي محمد الحسين
الأديب، منهج التربية عند الإمام علي، دار الكتاب العربي، بيروت، ط٢، ١٩٧٩، ص٥٣.]. من أجل ذلك فإن أول ما يجب أن تنقله
التربية إلى الأجيال الناشئة، هو كتاب الله، تنقله إليهم نقباً صافياً، خالياً
من الشوائب باعتباره من أهم الركائز التي يجب أن يستند إليها الإنسان طيلة حياته
لتقويم اعوجاج سلوكه وتنقية نفسه من الأدران التي علقت بها من جراء الابتعاد عن
السبيل الصالح الذي رسمه الله في كتابه الكريم. وهذا ما أكده (عليه السلام) حيث
اعتبر القرآن الأداة الفعالة في بناء الفرد والجماعة، فقال في وصية الحسن (عليه
السلام)، المولود البكر لأمير المؤمنين والإمام الثاني من أئمة أهل البيت: (وأن
ابتدئُك بتعليم كتاب الله عزّ وجلّ، وتأويله وشرائع الإسلام وأحكامه وحلاله
وحرامه لا أجاوز ذلك بك إلى غيره)[ انظر ح، ج١٦، ص٦٨.]. لقد كانت الغاية من وراء ذلك، أن
يزود الحسن (عليه السلام) ومن خلاله أهل الإسلام جميعهم بمقومات التغيير قبل أن
تلتبس عليه أهواء الناس وآرائهم ومعتقداتهم الباطلة فيقول، (ثم أشفقت أن يلتبس
عليك ما اختلف الناس فيه من أهوائهم وآرائهم مثل الذي التبس عليهم فكان أحكام
ذلك على ما كرهت من تنبيهك له أحب إليّ من إسلامك إلى أمر لا آمن عليك فيه
الهلكة ورجوت أن يوفقك الله لرشدك، وإن يهديك لقصدك فعهدت إليك وصيتي هذه)[
نفسه، ج١٦، ص٦٨.]. هذا المبدأ التربوي الهام الذي قرره
الإمام (عليه السلام) منذ أمد بعيد إنما يقضي باستغلال نقاوة الفكر الإنساني
لزرعه بالمعلومات الصحيحة. قبل أن تهجم عليه الأخلاق الذميمة والآراء الفاسدة
الأمر الذي يجعل من الصعب على التربية أن تعيد تشكيله من جديد، وهذا يتوافق مع
أحدث المناهج التربوية في يومنا هذا. |
|||||||||
|
ـ التغيير الفردي والاجتماعي |
|||||||||
|
ويقصد به كل تحول يحدث في كيان الفرد
والمجتمع، وهذا التحول ينتج عن الصراع بين القديم والجديد، وعلى أساس هذا الصراع
تتحدد وجهة سير هذا التغيير وسرعته. ذلك أن كل نمط ثقافي جديد يقابل بموقفين
متعارضين أحدهما يدفعها إلى الأمام، والآخر يشده إلى الوراء. لهذا فالثقة
الاجتماعية، إما أن تكون متطورة (ديناميكية) ترحب بالجديد وتتفاعل معه، وإما أن
تكون جامدة (استاتيكية) تحافظ على القديم وتصدر رياح التغيير عنه. من هذا المنطق،
فإن موضوع التغيير الذي تحدثه التربية، أصبح من أهم موضوعات علم الاجتماع ممّا
يفرضه على الأفراد والمجتمعات من تحولات متفاوتة بين القوة والضعف، ولها أثرها
في إعادة ترتيب الحياة من جديد. إلا أن هذا التغيير لن يؤتي ثماره ما لم تتوفر
له القيادة المتميزة بالصلابة والتماسك والتي لا ترضخ لعنف الرفض والمقاومة. |
|||||||||
|
أ) التغير على مستوى الفرد |
|||||||||
|
إن التغير الذي تحدث التربية في
نفسية الفرد، إنما هو بداية للتحول العظيم الذي سيطال المجتمع ككل. وبما أن
للقيادة دورها الهام في إحداث التغيير المطلوب، فإن الاقتداء بها أمر يساهم في
سرعة هذا التغيير. ولقد أعطى (عليه السلام) القدوة التي يجب أن تحتذى لحسم صراع
النفس مع شهواتها لصالح الإنسان الفاضل وكانت وصاياه ومواعظه تصب في هذا الإطار
فيقول في وصية إلى (شريح بن هانئ): (واعلم أنك لم تردع نفسك عن كثير ممّا تحب
مخافة مكروه، سمت بك الأهواء إلى كثير من الضرر فكن لنفسك مانعاً رادعاً،
ولنزواتك عند الحفيظة واقماً قامعاً)[ انظر ح، ج١٧، ص١٣٨.]. وردع النفس عن شهواتها يستلزم الزهد
في الدنيا، وما أكثر الخطب والمواعظ التي أوردها الإمام في الزهد تشبهاً بحياة
الرسول والاقتداء به حتى قال فيه عمر بن عبد العزيز: (ما علمنا أن أحداً كان في
هذه الأمة بعد النبي أزهد من علي بن أبي طالب)[ فضائل أمير المؤمنين
وإمامته، ج٢، ص٣٤٥.]. ولا شك أن السيطرة على أهواء النفس
والزهد في الدنيا من أكثر الأمور المشجعة على السلوك الفاضل. والتربية التي
نعتمدها، إنما تساهم في تنمية الحس الخلقي للفرد وصياغة فكره قوالب معينة وبفضل
التربية ينتقل الإنسان من بيداء الجهل إلى ميادين العلم والمعرفة كما في وصية
الحسن (عليه السلام): (فإنك أول ما خلقت به جاهلاً ثم علمت، وما أكثر ما تجهل من
الأمر ويتحير فيه رأيك، ويضل فيه بصرك، ثم تبصره بعد ذلك)[
انظر ح، ج١٦، ص٧٤.]. |
|||||||||
|
ب) التغير على مستوى المجتمع |
|||||||||
|
إن التغير على مستوى المجتمع لا يتم
بالصورة التي يتمناها رواد التربية فقد يكون سهل المنال وقد يقاوم بمعارضة
شديدة، والمقاومة هي الأكثر حصولاً لتشبث القديم بقدمه، ورغبة الجديد في التطور
والتقدم. وهذه حال رواد الصلاح والتغيير في العالم. وقس على ذلك حال الأنبياء
والرسل والأئمة، والتاريخ يشهد بذلك. لقد جاوبه الإمام علي (عليه السلام)
بمقاومة عنيفة من الفئات التي كانت تفضل الركود والجمود حرصاً على مصالحها
وامتيازاتها فوقفت سداً منيعاً أمام رياح التغيير وحاولت منعه من تنفيذ برنامجه
في الإصلاح، وقبل ذلك وقف النبي محمد (صلّى الله عليه وآله) ومعه الإيمان كله
يصد موجات الكفر والضلال التي رفضت دعوته وأبت عليه مهمته في قهر الشرك ورسم
معالم التوحيد. إن روح الإصلاح والتغيير التي تنبعث
من كلمات الإمام علي (عليه السلام) وتتأكد في مواقف ومناسبات عديدة، تقابل
بالإصرار على العنف والرفض والمعاناة كما يقول (عليه السلام): فأراد قومنا قتل نبينا واجتياح أصلنا، وهموا بنا الهموم وفعلوا
بنا الأفاعيل ومنعونا العذب، وأحلسونا الخوف واضطرونا إلى جبل وعر، وأوقدوا لنا
نار الحرب)[
انظر ح، ج١٤، ص٤٧.]. إن حسم الصراع لن يتم إلا بالثبات في
المواقف والتماسك في النفس حتى في أحلك الظروف، فلا يفت اليأس من عضد القائد أو
يتسرب إلى قلبه ولا يرهبه عنف الصراع واحتدامه، فالتربية التي يتحدث عنها الإمام (عليه السلام) هي تلك التي تبني كياناً للإنسان
يلزمه باتخاذ المواقف الأكثر صلابة تجاه الحق، فلا تؤثر فيه الإغراءات، ولا
تخيفه الأعاصير كما جاء في قوله إلى أخيه عقيل: (لا تزيدني كثرة الناس حولي عزة، ولا تفرقهم عني وحشة، ولا تحسبنّ
ابن أبيك ـ ولو أسلمه الناس ـ متضرعاً متخشعاً، ولا مقراً للضيم واهناً، ولا
سلسل الزمام للقائد ولا وطئ الظهر للراكب المقتعد)[ المصدر نفسه، ج١٦،
ص١٤٨.]. ولا شك من أن لهذا الثبات والتصميم
في إزالة كل العوائق التي تحول دون بلوغ التغيير الاجتماعي الهادف، دوراً هاماً
في تحقيق النصر النهائي بهدم صروح الحضارة البالية والتشييد لبناء حضارة خالدة (فلما رأى الله صدقنا أنزل بعدونا
الكتب وأنزل علينا النصر)[
المصدر نفسه، ج٤، ص٣٣.]. |
|||||||||
|
ثانياً:
التعليم
|
|||||||||
|
الفكر خاصية الإنسان وحده، به تجلى
وتميز عن سائر الخلق، فهو في مواجهته للواقع لا يفتر عن الفكر طرفة عين، حيث
تنشأ العلوم والصنائع المختلفة. وحاجة الإنسان لا تستقر على نوع معين من العلوم،
لذلك فهو يرغب في تحصيل ما ليس عنده منها، من أجل إشباع ما تستدعيه طباعه من
الحاجات والرغبات. ولن يتم له ذلك إلا بأخذه ممن سبقه أو زاد عليه في العلم
والمعرفة. ومن هنا جاء العليم. فالعلم والتعليم حاجة طبيعية، فرضها العمران
البشري، كما يقول ابن خلدون (فقد تبين بذلك أن العلم والتعليم طبيعي في البشر)[
المقدمة، ص٤٠٣.]. وبالرغم من أن للعوامل الوراثية
دورها في تحديد مواهب الفرد وميوله واستعداداته فإن مدى تحقيق هذه الإمكانيات
يتوقف على البيئة، بما تتيحه من وسائل التعلم والتدريب. لذا فقد أعطت الأمم
والشعوب للتعليم مكانة بارزة في دساتيرها، وأفسحت بالمجال لدور العلم فيها،
وشجعت على طلبه بوسائل عدة، لما كانت تأمله فيه من تقدم وازدهار يطال جميع
مرافقها ومؤسساتها. ولقد كان الإسلام في طليعة الأديان
الداعية إلى تعلم العلم والتشدد في طلبه وأخذه من أي مصدر كان. وكان النبي (صلّى
الله عليه وآله) يشجع التعليم قولاً وعملاً، فيطلق سراح أسرى الحروب إذا علموا
المسلمين القراءة والكتابة، ممّا يدل على الأهمية التي كان يعطيها للعلم
والتعليم في بناء الفرد والجماعة. يقول الابراشي: (إن التربية أساس النجاح للفرد
والمجتمع. لذلك تنفق الحكومات في الأمم المتمدنة بسخاء على التعليم، موقنة أن في
التعليم قوة، وقوة كبيرة في ترقية الفرد والنهوض بالمجتمع إلى حياة راقية وعيشة
راضية، والتاريخ خير دليل على أن بالتربية والتعليم تحيا الشعوب من موتها،
وتنتبه من غفلتها، وتقلل سجوتها)[
التربية والحياة، ص٢٤.]. ولم يتخلف الإمام علي (عليه السلام)
عن الدعوة التي أطلقها النبي (صلّى الله عليه وآله) في طلب العلم وممارسته في
الحياة، وهو الذي كان يعتبر الجهل الفقر الأكبر الذي يقود إلى العمى والضلال في
حين أن العلم يحلق بالإنسان في رحاب المعرفة والفضيلة ويسمو به عن الصغائر ليعيش
في ملكوت الحق، فقال: (اعلموا أن كمال الدين طلب العلم والعمل به)[
تحف العقول، ص١٤١.]. |
|||||||||
|
||||||||||
|
يورد (عليه السلام) طرقاً مختلفة،
على طالب العلم أن يسلكها للحصول عليه منها: |
|||||||||
|
أ. الفقه في القرآن |
|||||||||
|
الإسلام يؤمن بالعلم وبقدرته الفائقة
على الخلق والإبداع. ولقد رفع إلله في كتابه العزيز، من شأن الذين آمنوا وعملوا،
فقال عزّ القائل: (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ
أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ)[
سورة المجادلة، الآية ١١.] وميز بين الذين يعلمون والذين لا يعلمون فقال سبحانه: (قُلْ هَلْ
يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ)[
سورة الزمر، الآية ٩.]. والقرآن، كلام الله، وموضع علمه ومحط
رسالته، فيه علم الأولين والآخرين، فهو الدواء الشافي من الأمراض والعلل،
والمرشد الأمين إلى الهداية والاستقامة. لذلك فقد دعا الإمام علي (عليه السلام)
إلى تعلمه والتفقه فيه والعمل به فقال: (وتعلموا القرآن فإنه أحسن الحديث،
وتفقهوا فيه فإنه ربيع القلوب واستشفوا بنوره فإنه شفاء الصدور وأحسنوا تلاوته
فإنه أنفع القصص)[
انظر ح، ج٧، ص٢٢١.]. |
|||||||||
|
ب. المحاكاة |
|||||||||
|
وهي تعني التشبه بأقوال وأفعال
الصالحين، ممن تتوفر فهيم ملكات العلم والأخلاق وهذا ما تحدث عنه (عليه السلام)
حين أمر بـ(الأخذ بما مضى عليه الأولون من آبائك، والصالحون من أهل بيتك)[
المصدر نفسه، ج١٦، ص٧٠.]. إلا أن المحاكاة، وإن كانت من طبيعة
الفكر الانساني، فهي غير مأمونة من الخطأ كما يقول ابن خلدون (والمحاكاة للإنسان
طبيعة معروفة، ومن الغلط غير مأمونة وتخرجه مع الذهول والغفلة، عن قصده وتعوج به
عن مرامه، فربما يسمع السامع كثيراً من أخبار الماضين ولا يتفطن لما وقع من تغير
الأحوال وانقلابها، فيجريها لأول وهلة على ما عرف ويقيسها بما شهد، وقد يكون
الفرق بينهما كثيراً، فيقع في مهواة من الغلط)[ المقدمة، ص٢٩.]. من هذا الباب، فإن الإمام علي (عليه
السلام) لم يدع إلى محاكاة الأولين دون إمعان النظر فيما نأخذه منهم، وما إذا
كان يتناسب مع الظروف الحالية أم لا، فالتقليد الأعمى مرفوض وما نأخذه عن
الماضين يجب أن يكون مستنداً إلى التفهم حتى لا نقع في الشبهات والخصومات كما
يقول: (فإن أبت نفسك أن تقبل ذلك دون أن تعلم كما علموا، فليكن طلبك ذلك بتفهم
وتعلم، لا بتورط الشبهات، وعلق الخصومات)[ انظر ح، ج١٦، ص٧٠.]. |
|||||||||
|
ج. مجالسة العلماء والحكماء وأصحاب
التجارب |
|||||||||
|
والعلم لا يحصل بمجرد قراءته أو
حفظه، بل لابدّ من المناقشة والمناظرة في مواضعه وذلك بارتياد المجالس العلمية
والمحافل الأدبية، وبحضور مشاهير المعلمين من العلماء والحكماء وأصحاب التجارب
الحياتية، حتى تحصل الملكة العلمية، ولن تكون إلا (بالمحاورة، والمناظرة في
المسائل العلمية، فهو الذي يقرب شأنها ويحصل مرامها)[ المقدمة، ص٤٣١.] ، كما قال ابن خلدون. وكان الإمام (عليه السلام) يوصي
بضرورة مدارسة العلماء ومناقشة الحكماء للاستفادة منهم فيقول: (أكثر من مدارسة
العلماء ومناقشة الحكماء)[
انظر ح، ج١٧، ص٤٧.].
كما كان يحث على مجالسة أصحاب التجارب للاعتبار والاتعاظ بهم فيقول: (عليك
بمجالسة أصحاب التجارب)[
انظر ح، ج٢٠، ص٣٣٥.] ، ولم يفرق في هذا الأمر، بين صديق أو عدو، فالعلم لا ينبغي أن
يكون حكراً لأحد، بل هو مشاع للجميع، يطلبه أياً كان مصدره، فيقول: (جالس
العقلاء، أعداء كانوا أم أصدقاء، فإن العقل يقع على العقل)[
المصدر نفسه، ج٢٠، ص٣١٢.]. وهكذا فالتعلم بالمناقشة والمناظرة
أفضل بكثير من التلقين والحفظ، وهو من المبادئ التربوية الهامة التي أقرت بها
التربية الحديثة. ولقد أعطى (عليه السلام) الأهمية
الكبرى للسؤال باعتباره العامل الذي يضفي على المناظرة الحيوية والنشاط، وهذا ما تعتمده التربية الحديثة
التي تنظر إلى التعليم على أنه عملية ديناميكية تراهن على إيجابية التعلم
وفاعليته بعيداً عن التلقين. إلا أن فلسفة طرح السؤال ينبغي أن تؤخذ بعين الاعتبار، بحيث يفضي
التساؤل إلى المعرفة لا إلى الجدل والسفسطة الكلامية. فالسؤال هو لإثارة العقل على
التفكير والبحث، وبالتالي ليس أداة للهزل وإضاعة الوقت أو للتساؤل عن أشياء لا
يبلغها العقل، فهذا من باب التعنت لا التعلم: (سل تفقهاً ولا تسأل تعنتاً، فإن الجاهل المتعلم شبيه بالعالم، وإن
العالِم المتعنت شبيه بالجاهل)[
المصدر نفسه، ج١٩، ص٢٣٢.]. والمناظرة تحتاج إلى تدوين المعلومات
حتى يتسنى للمتعلم مراجعتها عندما تدعو الحاجة إليها، كي يتمكن من حسن الاستفادة
منها ـ فما يجود به العقل، يترجمه القلم، لأن (عقل الكاتب في قلمه)[
المصدر نفسه، ج٢٠، ص٣٢٨.].
فالكتابة حاجة ضرورية للمتعلم، وعدم معرفته بها تحرمه من فرصة النجاح التام في
عملية التعلم، وتفقده أهم وسيلة لجمع المعلومات، لذلك فإن: (عدم المعرفة
بالكتابة زمانة خفية)[
المصدر نفسه، ج٢٠، ص٢٩٧.]. والكتابة تستلزم الخط الجميل، من حيث
تحسين شكل الحروف والفصل بين الكلمات والسطور، ممّا يكون له أثره في سرعة
القراءة والفهم. ويصور الإمام (عليه السلام) ذلك بقوله: (الق دواتك واطل جلفة
قلمك وفرّج بين السطور، وقرمط بين الحروف فإن ذلك أجدر بصباحة الخط)[
المصدر نفسه، ج١٩، ص٢٢٣.]. وليس المهم تنميق الكلام وتزويقه وجذالته،
فهذه أمور قد تشغل من يعمد إليها عن فحوى الكلام ومضمونه، فيظهر غنياً بالشكل لا
بالمضمون، لذلك: (من اشتغل بتفقد اللفظة وطلب السجعة، نسي الحجة)[
انظر ح، ج٢٠، ص٣١٧.]. |
|||||||||
|
٢) أنواع العلوم
|
|||||||||
|
والتربية، كما يتحدث عنها الإمام
(عليه السلام)، دينية ودنيوية والأولى تمهيد للثانية وغايتهما واحدة، هي صلاح
الإنسان في الدارين، أما العلوم المؤدية إليهما، فهي: الشرعية والزمنية، وقد
جمعهما (عليه السلام) معاً عندما قال: (أيها الناس، سلوني قبل أن تفقدوني، فلأنا
بطرق السماء أعلم مني بطرق الأرض)[ المصدر نفسه، ج١٣،
ص١٠١.].
وعندما يتحدث الإمام علي (عليه السلام) عن طرق السماء، فإنما يقصد (العلوم
الشرعية)، ويعني بطرق الأرض (العلوم الزمنية). |
|||||||||
|
والعلوم
الزمنية تنقسم إلى قسمين:
|
|||||||||
|
أ. بديهية: يوحي |
|||||||||
|
بها العقل، ولا
تتطلب التعلم والسماع، بل هي مطبوعة في غريزة العقل حيث يولد الإنسان مفطوراً
عليها كعلمه بأن الكل أكبر من الجزء، أو أن الشيء الواحد لا يكون قديماً وحادثاً
معاً. فهذه الأمور تصدر عن الإنسان العاقل بالبداهة فلا يحتاج لاكتسابها إلى
التعلم. |
|||||||||
|
ب. مكتسبة: |
|||||||||
|
وهي العلوم المستفادة بالتعلم والنظر
العقلي. إن هذا التقسيم للعلوم إلى فطرية ومكتسبة يظهر عند الإمام علي (عليه
السلام) أيضاً في قوله شعراً:
[٢٠]إحياء علوم الدين، ج٣، ص١٦-١٧. ولا يمكن التقرب من الله بالعلوم
الفطرية أو الضرورية، بل بالمكتسبة وليس كل أحد ممن جمع العلوم المكتسبة يستطيع
هذا الأمر لصعوبة إدراك القديم بالعلم الحادث (ولكن مثل علي، رضي الله عنه، هو الذي
يقدر على التقرب باستعمال العقل في اقتناص العلوم التي بها ينال القرب من
العالمين)[
المرجع نفسه.] كما قال الغزالي. |
|||||||||
|
أما
العلوم الدينية
|
|||||||||
|
فهي تلك التي تؤخذ من الأنبياء
تقليداً عن القرآن الكريم، ومن الأئمة تقليداً عن الأنبياء صلوات الله عليهم
أجمعين، فهي إذن تحصل للإنسان بالتعلم عن كتاب الله تعالى وسنّة نبيه وحكمة
أئمته، وبها تكون سلامة القلب من الأدواء والأمراض لأن العلوم العقلية، منها ما
يكون محموداً كالطب والحساب والزراعة وغير ذلك، ومنها ما يكون مذموماً كالسحر
والطلسمات والنجوم. لذلك فإن مباشرة الإنسان بتعلم العلوم الدينية، تفتح بصيرته
وتنمي فيه ملكة التمييز بين الصالح والطالح من العلوم فيختار منها ما يفيده في
دنياه وآخرته. |
|||||||||
|
٣- فضيلة العلم
|
|||||||||
|
إن تشبع الإمام (عليه السلام)
بالعلوم الدينية والدنيوية يدل على مدى الاهتمام بالعلم وتفضيله على سائر مغريات
الحياة ومنها المال، فالعلم، مقياس تطور الأمم والشعوب ومعيار تفاضل البشر.
والقلوب البشرية باعتبارها مستودع العواطف والمشاعر والنزعات، إنما تتفاضل بمدى
وعيها وإدراكها لقيم الحق والخير كما جاء في قوله (عليه السلام) (إن هذه القلوب
أوعية فخيرها أوعاها)[
انظر ح، ج١٨، ص٣٤٦.] لذلك هو يقسم الناس في العلم إلى ثلاثة أقسام: ـ عالم رباني. ـ ومتعلم على سبيل نجاة. ـ وهمج رعاع أتباع كل ناعق، يميلون مع
كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجئوا إلى ركن وثيق. ثم يفاضل بني العلم والمال، مبيناً
ميزات كل منهما حتى يخلص إلى تقديم الأول على الآخر، فيقول: (العلم خير من
المال)[
المصدر نفسه، ص٣٤٦.]. وما يرثه الإنسان من علم هو أفضل ما
يرثه من مال لأن (العلم وراثة كريمة)[ المصدر نفسه، ص٩٣.].
وقد تسامى بهذه الوراثة وجعلها من أشرف الأشياء، (أشرف الأشياء العلم)[
المصدر نفسه، ج٢٠، ص٤٨٨.] ، وقصر السعادة التامة عليها (السعادة التامة بالعلم)[
المصدر نفسه، ج٢٠، ص٣٠٧.] وجعلها الأداة التي يصول بها الإنسان ويجول (العلم سلطان من وجده
صال به، ومن لم يجده صيل عليه)[
المصدر نفسه، ج٢٠، ص٣١٩.] والعلم هو الملكة التي يفتخر بها العالم على أهل الجهل. كما يقول الإمام علي شعراً:
[1]إحياء علوم الدين، ج١، ص٧. من أجل ذلك كانت دعوته إلى ضرورة
الاهتمام بالعلم، والعمل على أخذه من أي مصدر كان، لأن العلم لا حدود له ولا
يعترف بالتعصب والقبلية لذا وجب على الإنسان أن ينشده من الأعداء الأصدقاء على
السواء (الحكمة ضالة المؤمن، فخذ الحكمة ولو من أهل النفاق)[
انظر ح، ج١٨، ص٢٢٩.]. فالحياة لا تطلب لذاتها، ولكن لأجل
أن يثبت الإنسان وجوده، ويحقق إنسانيته ولن يتسنى له ذلك بممارسة الشهوات
والانغماس في الملذات، فهذه أمور الغاية منها تنمية الجسم ومساعدته على مباشرة
الحياة السامية، (لا تطلب الحياة لتأكل، بل اطلب الأكل لتحيا)[
المصدر نفسه، ج١٠، ص٣٣٣.]. أما من اقتصر في حياته على الشهوات
كان أشبه بالبهيمة التي همها علفها، فانحدر مستواه الخلقي إلى درجة لا يحمد
عقباها، فصار عبداً لها تقوده إلى ما فيه هدر كرامته وضياع إنسانيته، لهذا فإن
(من ترك الشهوات كان حراً)[
تحف العقول، ص٦٥.].
كما يقول الإمام علي ولا سبيل له إلى التخلص من عبوديته إلا بطلب العلم الذي
ينير قلبه، ويفتح بصيرته. لذا كان العلم أشرف مطلوب، والاهتمام به يفوق سائر
الاهتمامات ومن زهد به وشغف بالشهوات، إنما يحكم عليه بالبوار والخسران المبين
وينعي (عليه السلام) على أولئك الذين بإمكانهم أن يكونوا أناساً شرفاء، مخلدين
في الحياة بعلومهم، ولكنهم انحدروا، لسوء ما اختاروه من زخرف الحياة وبهرجتها
إلى مستوى البهائم السافلة فيقول: (قبيح بذي العقل أن يكون بهيمة وقد أمكنه أن
يكون إنساناً، وقد أمكنه أن يكون ملكاً، وأن يرضى لنفسه بقنية معارة وحياة
مستردة وله أن يتخذ قنية مخلدة، وحياة مؤبدة)[ انظر ح، ج٢٠، ص٣٠٦.]. والكرامة التي يستمدها الإنسان من
ماله أو سلطانه، إنما هي مزيفة لأنها متوقفة عليهما فإذا زالا زالت معهما. أما
الكرامة الحقيقية، فهي تلك التي يوجبها العلم والأب سواء كان الإنسان غنياً أم
فقيراً، قوياً أم ضعيفاً، فهي حق مكتسب ومفروض، لذا كان الاعتبار للعلم وليس
للمال فيقول: (إذا أكرمك الناس لمال أو سلطان، فلا يعجبنك ذاك، فإن زوال الكرامة
بزوالها، ولكن ليعجبك أن أكرمك الناس لدين أو أدب)[ المصدر نفسه، ج١٠،
ص٣١٣.].
من هنا: (يجب على العاقل أن يكون بما أحيا عقله من الحكمة أكلف منه بما أحيا
جسمه من الغذاء)[
انظر ح، ج٢٠، ص٣٢٢.].
لذا فإن قيمة الإنسان، هي بما يحسنه من العلوم الآداب التي بها يتفاضل الناس لا
بالحسب والنسب والجاه والسلطان وغير ذلك من الاعتبارات التي لا توازي العلم قيمة
وشرفاً واعتباراً. قال ابن عبد البر: (إن قول علي بن أبي طالب (قيمة كل امرئ ما
يحسنه) لم يسبقه إليه أحد. قال: (وقالوا: ليس كلمة أحض على طلب العلم منها،
وقالوا: ولا كلمة أضر بالعلم والعلماء والمتعلمين من قول القائل (ما ترك الأول
للآخر شيئاً). قال ابن عبد البر: قول علي هذا من الكلام المعجب الخطير، وقد طار
له الناس كل مصير ونظمه جماعة من الشعراء إعجاباً به، وكلفاً بحسنه)[
الدمشقي، جمال الدين، تاريخ الجهمية والمعتزلة، مطبعة المنار بمصر، ١٣٣١هـ، ص٨٣.]. |
|||||||||
|
٤) آفة العلم
|
|||||||||
|
وإذا كان للعلم هذه الفضائل الجمة
التي تستوجب طلبه وأخذه من أي مصدر كان، فإنه من ناحية أخرى قد يكون وبالاً على
حامله، ومصدر شر له ولأبناء جنسه، فالعلم سلاح ذو حدين، قد يستعمل للخير والصلاح
وقد يستعمل للشر والفساد والإنسان هو الذي يحدد وجهة سيره. وما يميز الإنسان هو
وجود القيم الخلقية والفكرية فيه، تلك التي تعطي للحياة معنى وقيمة. وكم نحن
بحاجة اليوم إلى مثل هذه القيم، وخاصة الخلقية منها، في عصر طغت عليه الفلسفة
المادية وفصل الدين عن الحياة. يقول محمد قطب (ونشأت على أنقاض الكنيسة والدين
فلسفة مادية بحتة، تستمد وحيها من الأرض، من واقع الحواس، ولا ترتفع ببصرها لحظة
واحدة إلى السماء)[
محمد قطب، الإنسان بين المادية والإسلام، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، ط٤،
ص١٩٦٥، ص١٦.]. لقد أخضعت هذه الفلسفة، الكون
والإنسان لأحكام القياس والتجريب تماماً كما تخضع العلوم الطبيعية والفيزيائية
لقوانين عامة وثابتة، دون تمييز بين المادة الجامدة والمادة الحية. يقول طلال
عتريسي: (هذه الفلسفة (المادية) لم تكتف بإخضاع الكون وحركته ووجوده لمفاهيم
العقل وقدرته، وللحواس وحدودها ولأحكام القياس والتجريب، دون الاعتقاد بأية قوة
خارجة عن الإدراك المباشر والمحسوس، بل أخضعت كذلك وجود الإنسان بكل أبعاده
لأحكام القياس والتجريب نفسها، ونشطت الأبحاث والنظريات التي تفصل مشاعر الإنسان
وأحاسيسه عن بعضها لدراستها دراسة (علمية) ومخبرية، هذا، رغم الحركة الدقيقة
والمتشابكة لهذه المشاعر والأحاسيس)[ مجلة الفكر العربي،
ع٢١، أيار/حزيران/تموز١٩٨١، ص٤٤١.]. لذلك فإن خلاص البشرية يكمن في تخليص
العلم من آفاته وتنمية الحس الخلقي من خلال تعزيز أثر الدين في النفوس. هذه الحقيقة تبدو في (نهج) الإمام
علي جلية واضحة. فهو من جهة يدعو إلى احترام العلم، وإجلاله، ويعتبره (أفضل
الكنوز وأجملها، خفيف المحمل، عظيم الجدوى، في الملأ جمال، وفي الوحدة أنس)[
انظر ح، ج٢٠، ص٣٣٩.] ، إلا أنه من جهة ثانية يوصي بحسن الخلق فيقول: (ما من شيء في
الميزان أثقل من خلق حسن)[
المصدر نفسه، ج٦، ص٣٤٠.] و(عنوان صحيفة المؤمن حسن خلقه)[ المصدر نفسه، ج٦، ص٣٤٠.] و(عليكم بحسن الخلق فإنه في الجنة، وإياكم وسوء الخلق فإنه في
النار)[
المصدر نفسه، ج٦، ص٣٤٠.]. إن الربط بين القيم الخلقية
والفكرية، كفيل بتقدم البشرية وسيرها في ركب الحضارة، في حين أن الفصل بينهما،
آفة تقضي عليها وتهبط بها إلى الحضيض. ومن آفات العلم، العجب، وهي نقيصة
تدعو إلى الكبر وتجاهل الأخطاء، والذنوب، والاستبداد بالرأي وترك المشورة،
واستجهال الناس واحتقارهم والأنفة عن المساواة بهم ولذلك فقد نهى عنه، وحذر منه
بقوله: (حصن علمك من العجب)[
المصدر نفسه، ج٢٠، ص٣١٨.].
في حين أن التواضع زين للعالم وشرف له (التواضع إحدى مصايد الشرف)[
المصدر نفسه، ج٢٠، ص٢٩٠.]. ومن آفات العلم أيضاً الطمع
والاسترسال في الشهوات والملذات ممّا يؤدي إلى الاهتمام بأحوال الجسد وعدم
الالتفات إلى العلم كغذاء للعقل فيذبل ويموت. فيقول (أكثر مصارع العقول تحت بروق
المطامع)[
المصدر نفسه، ج١٩، ص٤١.] لذلك فقد حذر من الشهوات لأنها تأسر العقل وتلهيه عن الفكر والنظر
وحث الإنسان على السمو بلذائذه والارتفاع بها عن حضيض المادة: (فإن كنت شاغلاً
نفسك بلذة، فلتكن لذتك في محادثة العلماء ودرس كتبهم)[ المصدر نفسه، ج٢٠،
ص٢٦٦.] وما ذلك، إلا لأن تقييد العقل حد لطاقته وشل لنشاطه وفاعليته،
ودفعه في مهاوى الشر والرذيلة. وبقدر ما يكون حراً، يكون أغزر إنتاجاً، وأسلس
قيادة وأكثر أماناً من الوقوع في الهلاك، ذلك أنه: (إذا خلى عنان العقل، ولم
يحبس على هوى نفس، أو عادة دين، أو عصبية لسلف ورد بصاحبه على النجاة)[
المصدر نفسه، ج٢٠، ص٣٤٣.]. وهكذا يدعو الإمام (عليه السلام) إلى
تحرير العقل وتخليصه من آفاته لفسح المجال أمامه للعمل الخلاق. ثم يربط بين
العلم والأخلاق، ويجد في هذا التحالف بينهما تمام السعادة وحصانة من الشر
والفساد. فيقول: (ملاك العقل ومكارم الأخلاق، صون للعرض والجزاء بالفرض والأخذ
بالفضل، والوفاء بالعهد والإنجاز للوعد)[ انظر ح، ج٢٠، ص٢٦٧.]. |
|||||||||
|
٥) فضل العلماء
|
|||||||||
|
إن فضل العلماء لا يخفى، وهو يظهر في
شتى الكتب السماوية وخاصة الإسلام وكذلك على لسان الأنبياء والأئمة والصالحين من
بني البشر. نذكر من ذلك قوله تعالى: (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ
وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ)[
سورة آل عمران، الآية ١٨.].
وقال الرسول الكريم، (العلماء ورثة الأنبياء)[ إحياء علوم الدين، ج١،
ص١١، أخرجه أيضاً أبو داود والترمذي في كتاب (تيسير الوصول إلى جامع الأصول من حديث
الرسول) لابن البديع الشيباني المتوفى ٩٤٤هـ، ج٣، ص٥٢.]. ويقول الإمام علي (عليه السلام):
(العالِم مصباح الله في الأرض، فمن أراد الله به خيراً اقتبس عنه)[
انظر ح، ج٥، ص٣٢٦.].
فالعالِمُ مصباح زمانه، به يستضاء من الظلمات والجهالات، وبه نبلغ منازل الأبرار
والدرجات العلى، ولقد فضله الإمام علي (عليه السلام) على المؤمن العابد المجاهد
فقال: (العالم أفضل من الصائم القائم المجاهد، وإذا مات ثلم في الإسلام ثلمة لا
يسدها إلا غيره)[
إحياء علوم الدين، ج١، ص٧-٨.]. وللعلماء فضل في تجويد الحياة وجعلها
مستساغة من قبل الناس، وهم وحدهم الذين يكتشفون أسرارها، ويبددون المخاوف
الناجمة منها، ولن يكون ذلك إلا بتخليص الناس من علائق الدنيا الزائفة وترغيبهم
بنعيم الآخرة الخالد، عند ذلك تهون عليهم كل لذة دنيوية مقابل ما يرجونه منها في
الآخرة، لهذا صار حق العالم يفوق حق الوالدين، فإذا كان هؤلاء هم السبب في وجود
الحياة الفانية فإن العالم هو المفيد للحياة الأخروية. |
|||||||||
|
٦) فضيلة التعلم والتعليم
|
|||||||||
|
يقول تعالى: (فَسْأَلُوا أَهْلَ
الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)[ سورة النحل، الآية ٤٣.] ، وقال الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله): (لأن تغدو فتتعلم
باباً من العلم خير من أن تصلي مائة ركعة)، وقال: (باب من العلم يتعلمه الرجل
خير له من الدنيا وما فيها)[
المصدر نفسه، ج١، ص٧-٨.].
وسبق قول الإمام علي (عليه السلام) في الحث على التعلم. يتبين من ذلك، أن التعلم فريضة فرضها
الله والرسول والأئمة على المسلمين جميعاً دون استثناء، وهو يبدأ بعد سنوات
التربية ويحدده الإمام بالسن السابعة فيقول: (اترك ولدك سبعاً، وعلمه سبعاً،
وصاحبه سبعاً)[
منهج التربية عند الإمام علي (عليه السلام)، ص١٦٠.]. وهذا هو السن الأنسب
الذي ذهب إليه أهل الاختصاص في عمر التربية، حيث تتوفر للطفل القدرة على الفهم
وتركيز الانتباه بسبب نضجه، وزيادة قاموسه اللغوي، ولا تخفى أهمية العلاقة
الطردية، بين النضج والتعلم. وتحديد سن التعلم بالسابعة، لا يعني إغفال سنوات ما
قبلها، بل ينبغي أن تستغل لتقويم سلوك الطفل وتزويده بالقيم الخلقية، والروحية
حتى يكون مستعداً لمباشرة التعلم بنفس صافية من الأمراض والشوائب الخلقية. ولقد أجمع علماء النفس على أن السنوات
الأولى من عمر الطفل، ذات أثر كبير يكاد يكون حاسماً في تعيين شخصيته المستقبلية
وتحديد اهتماماته واتجاهاته. ولا شك من أن لهذه السنوات الفضل الأكبر في تمكين الطفل من اكتساب
العديد من المعلومات التي سوف يظهر بها، فيما بعد، على غيره (تعلموا العلم
صغاراً تسودوا به كباراً)[
انظر ح، ج٢٠، ص٢٦٧.] كما يقول (عليه السلام). وما يجب أن يتعلمه الحدث هو ما ينفعه
في مستقبل حيته. والعلوم التي تنفعه هي: الدين وشرائعه كي يعمر قلبه بالتقوى
والإيمان والخشية من الله في كل عمل يقوم به، وحتى يزهد في الدنيا ولا يغتر
بمفاتنها فتأخذ عليه نفسه وتسلبه عقله وتنسيه آخرته. وما ينفعه أيضاً علم الأخلاق حتى
يميز بين الخير والشر، والصواب والخطأ، وحتى تتحسن علاقته بالآخرين ويشعر
بالمسؤولية على كل عمل يقوم به ومدى ارتباط هذه المسؤولية بالحرية والثواب
والعقاب. وما ينفعه أيضاً تلك العلوم التي
لابدّ منها لقوام أمور الدنيا. إذ على المعلم أن يبث فيه مبادئ هذه العلوم لأنها
ضرورية له كالطب لبقاء الأبدان، والحساب لتسهيل المعاملات والمواريث والزراعة
والصناعة والتجارة والحياكة، والسياسة وغير ذلك من العلوم النافعة له في دنياه. مثل هذه العلوم لابدّ للولد من أن
يقف عليها منذ صغره فترسخ في ذهنه وتنمو بنموه، وتتطور بتطور عقليته. وهكذا يكون
الإمام علي (عليه السلام) قد زود الطفل بخامة علمية لا بأس بها، فيشب وعقليته
متفتحة، ونفسه تتوق إلى المزيد منها لمواجهة تيار الحياة المتجدد باستمرار. ولن
تحصل له هذه العلوم بدون تعلم، لذا فإن بذل العلم وهو فرض على كل عالم، فلا
ينبغي له أن يضن به أو يمنعه سائليه، فهو ملك للجميع وليس له فقط، يتصرف به كما
يشاء، ومن يفعل ذلك إنما يعارض إرادة الله التي قضت بطلب العلم وبذله لمحو آثار
الجهل والضلال: (ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن
يعلموا)[
انظر ح، ج٢٠، ص٢٤٧.] كما يقول الإمام (عليه السلام). لذلك فقد ربط (عليه السلام) بين
العلم والعمل. هذا الجمع بينهما أدى إلى ما وصلت إليه الأمم من تقدم وعمران.
فالعلم لا يطلب لذاته، بل لأجل الاستفادة منه، ولن يتم ذلك إلا بممارسته وبذله
في شتى ميادين الحياة. من هنا يكتسب العلم فضله وشرفه بينما يبقى ناقصاً لو أجرى
على اللسان فقط ولم يأخذ مجراه إلى الحياة العملية، وكلما أبحر الإنسان فيه كلما
ازداد عمقاً واتساعاً كما يقول لكميل بن زياد: (العلم يزكو على الإنفاق)[
المصدر نفسه، ج١٨، ص٣٤٦، كميل هو من أكابر أصحاب علي (عليه السلام) من اليمن،
شهد صفين معه، وكان شريفاً عابداً، قتله الحجاج الثقفي، سنة ٨٣هـ.].
فالغرض الأول للعلم هو العمل به، كما أن تبليغ الدعوة، لا ينفصل عن العمل
بأحكامها على أن لا يطلب فيصبح وسيلة للإثراء والمتاجرة ممّا يحط من شرفه ورفعته
ولكن بأن يقصد به وجه الله تعالى يقول ابن جماعة: (حسن النية في طلب العلم بأن
يقصد به وجه الله تعالى، والعمل به وإحياء الشريعة وتنوير قلبه وتحلية باطنه)[
ابن جماعة الكناني، تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم، تحقيق محمد
هاشم الندوي، دار الكتب العلمية، بيروت، سنة ١٣٥٤هـ، ص٤٢.]. وعلى العالِم أن يعمل وفق علمه وحسب
ما يمليه عليه عقله، لأن العالِم المنافق يستحيل أن يكون قدوة لغيره طالما أنه
يغش بعلمه، ويعطي صورة مغايرة لما يدعيه من العلم فيكون الضرر الناجم عنه أبلغ
من الفائدة المرجوة منه. فالتناقض بين العلم والعمل مرفوض في عرف الإمام (عليه
السلام)، لأن ذلك يؤدي إلى فساد الزرع ورداءة الإنتاج في الحقل التربوي ممّا
يكون له أثره المدمر على عقلية ونفسية المتعلمين، فيقولك (يا حملة العلم،
أتحملونه؟ فإنما العلم لمن علم ثم عمل، ووافق عمله وعلمه)[
انظر ح، ج٢٠، ص٢٦٧.]. وبما أن الوظيفة الأساسية للعالم هي
الإرشاد والتوجيه، فلابدّ أن يكون صادقاً مع نفسه، فلا يخالف قوله عمله. أما إذا
حصل العكس، فلا سبيل إلى أن يكون قدوة ومرشداً لغيره بسبب فقدان الثقة بينه وبين
المتعلم. ولا يجب على العالم أن يقول كل ما
يعلم، لأن هناك من العلوم ما لا تستسيغه عقول العامة، فلا ينبغي عليه أن يفشي كل
ما يعلم إلى كل أحد، بل عليه أن يحدث به ما هو أهلاً له، لأن الجاهل لا يأبه به
ولا يفهمه، والسفيه يسخر منه ولا يقدره، وبذل العلم لهما لا طائل منه. ولن يتمكن العالِم من محادثة الناس
بعلمه، إذا لم يكن هو نفسه متعلماً لأن فاقد الشيء لا يعطيه، من هنا أكد الإمام
(عليه السلام) على ضرورة تعليم النفس قبل تعليم الغير فقال: (من نصب نفسه للناس
إماماً فعليه أن يبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره وليكن تأديبه بسيرته قبل
تأديبه بلسانه، ومعلم نفسه ومؤدبها، أحق بالإجلال، من معلم الناس ومؤدبهم)[
انظر ح، ج١٨، ص٢٢٠.].
بل أوجب على المعلم أن يكون ملماً بعلمه، حاذقاً فيه، خبيراً بأصوله وقواعده
وشوارده، فلا يخفى عليه منه شيء ولا يضعف عن تناول مسألة من مسائله، فقال: (إذ
سمعتم العلم فاكظموا عليه، ولا تخلطوه بهزل فتمجه القلوب)[
إحياء علوم الدين، ج١، ص٧٦.].
لأن خلط العلم بالهزل تزهيداً للناس بطلبه، وانتفاء للفائدة منه، لهذا قال (عليه
السلام): (قصم ظهري، رجلان: عالم متهتك، وجاهل متنسك)[ المصدر نفسه، ج١، ص٥٨.]. |
|||||||||
|
٧) أسلوب التعليم
|
|||||||||
|
إن التعليم بنظر الإمام علي (عليه
السلام)، لا يقوم على التلقين، ولا يعتمد على الكمية بقدر اعتماده على الكيفية
كما سبق وأوضحنا فهو في جملته يستند إلى المناظرة والمناقشة. لقد أحاط المتعلم بجو تعبق فيه روح
الحرية والنشاط، فمكان الدرس (الجامع يومذاك)، ليس سجناً تمارس فيه شتى أنواع
الإرهاب والتنكيل، بل هو منتزهاً يرتاده المتعلمون بشوق، تحدوهم إليه العلاقة
الأخوية الصادقة بين العالِم والمتعلم. فالانفعالات الحادة الناجمة عن الجو
التعليمي المتسم بالرهبة، تعرقل العملية التربوية وتترك المتعلم عرضة لكثير من
الاضطرابات والعقد النفسية لأن الانفعال (ضرب من السلوك تعمّ آثاره الإنسان كله
نفساً وجسماً، يحدث أثناءه تغيرات في داخل الجسم وخارجه، فتؤدي إلى إعطائه صورة
معينة)[
علم النفس المعاصر، ص١٥٧.].
وإذا كانت للانفعالات الحادة هذه التغيرات التي تؤثر سلباً على شخصية المتعلم،
فإن الحد منها يكمن في إيجاد جو من التعليم يكفل له قسطاً وافياً من الرغبة
والطمأنينة والانفعالات الهادئة التي تساعد على تأدية وظائفه العقلية بنظام
وتنسيق، فكأن هناك شبه تناقض بين التعليم والانفعال. لقد دعا (عليه السلام) إلى تربية
سمحة تبتعد عن الضغط والإكراه، لأن الطفولة تختلف في مفاهيمها واهتماماتها عن
الرجولة، وما ينجم عنها من أخطاء ينبغي أن لا نقيسها بمقياس الرجل البالغ، فهي
تتصرف بوحي من ذاتها التي لا تعرف الحدود والموانع، وأي تصد لها بالعنف إنما هو
إحراج لها وقمع لرغباتها. يقول (دي نوي): (فمن المهم حقاً ألا نحكم على ذنب
يقترفه الولد بالنظر إلى نتائجه. فالذنب عند الولد خطير لذاته ـ مطلقاً لا
نسبياً ـ لأن ذلك قد تقرر على هذا الوجه. وخفة الذنب المطلقة وحدها قادرة على
تعويد الطفل نظاماً خلقياً لا سبيل إلى التقدم بدونه ويختلف هذا المعيار لدى
البالغين)[
مصير الإنسان، ص٣٠٢-٣٠٣.]. إن الشطط في العقاب أمر غير مرغوب
فيه في التربية لأنه يورث الكسل ويحمل على الكذب والخبث والتظاهر بغير ما في
النفس خوفاً من القهر ومن شأن الاستمرار على ذلك أن يؤدي إلى اعتياد المتعلم على
ذلك، فتكسل نفسه عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل. لذلك فلا ينبغي للعقاب أن
يتبع الذنب مباشرة قبل التعرف على الدوافع الكامنة وراءه حتى لا يكون عن ظلم
وذلك بعدم إتاحة الفرصة للولد كي يدافع عن نفسه ويبرر خطأه أو يقدم اعتذاره
لهذا: (لا تتبع الذنب العقوبة، واجعل بينهما وقتاً للاعتذار)[
انظر ح، ج٢٠، ص٣٢٨.].
كما قال الإمام (عليه السلام) فالتربية التي يسودها التوتر والانفعال يستبعدها
(عليه السلام) بل ويرى فيها هدراً لكرامة الإنسان وإفساداً لمعاني الإنسانية
لديه وإضعافاً لقواه العقلية والخلقية وإماتة لقيم الألفة والمحبة والتعاون في
نفسه، لذلك فهو يحذر منها ويقول: (أحذروا الكلام في مجالس الخوف، فإن الخوف يذهل
العقل الذي منه نستمد، ويشغله بحراسة النفس عن حراسة المذهب الذي نروم نصرته
وأحذر الغضب ممن يحملك عليه، فإن مميت للخواطر مانع من التثبت أحذر من تبغضه فإن
بغضك له يدعوك إلى الضجر به، وقليل الغضب كثير في أذى النفس والعقل، والضجر مضيق
للصدر، مضعف لقوى العقل. أحذر المحافل التي لا إنصاف لأهلها في التسوية بينك
وبين خصمك في الإقبال والاستماع ولا أدب لهم يمنعهم من جور الحكم لك وعليك.
وأحذر حين تظهر العصبية لخصمك بالاعتراض عليك وتشييد قوله وحجته، فإن ذلك يهيج
العصبية والاعتراض على هذا الوجه يخلق الكلام ويذهب بهجة المعاني، وأحذر كلام من
لا يفهم عنك فإنه يضجرك، وأحذر استصغار الخصم، فإنه يمنع من التحفظ، ورب صغير
غلب كبيراً)[
المصدر نفسه، ج٢٠، ص٢٨١.]. |
|||||||||
|
٨) حق العالِم على المتعلم
|
|||||||||
|
وإذا كان للمتعلم على المعلم حق
تربيته، وتأديبه وتزويده بالعلوم والمعارف حتى تستقيم نفسه وتتوق إلى ممارسة
الفضائل لتصبح ملكة تطبع سلوكه في مجريات حياته فإن للعالم على المتعلم حقوقاً
ينبغي احترامها والتقيد بها تقديراً له ولمهنته التي هي من أشرف المهن وأصعبها
على الإطلاق. من هذه الحقوق ما رواه الإمام (عليه السلام) حيث قال: (من حق
العالِم على المتعلم ألاّ يكثر عليه السؤال ولا يعنّته في الجواب، ولا يلحّ عليه
إذا كسل، ولا يفشي له سراً، ولا يغتاب عنده أحداً، ولا يطلب عثرته، فإذا زل
تأنيت أوبته، وقبلت معذرته، وإن تعظمه وتوقره ما حفظ أمر الله وعظّمه، وألا تجلس
أمامه، وإن كانت له حاجة سبقت غيرك إلى خدمتها فيها. ولا تضجرن من صحبته، فإنّما
هو بمنزلة النخلة ينتظر متى يسقط عليك منها منفعة. وخصّه بالتحية واحفظ شاهده
وغائبه وليكن ذلك كله لله عزّ وجلّ)[ انظر ح، ج٢٠، ص٢٦٩.]. انتهى. |
|||||||||
|
|
التربية
- التربية والتعليم في نهج البلاغة
|
|||||||||
|
النصوص من نهج
البلاغة
|
|||||||||
|
وَمِنْ وَصِيَّةٍ لَهُ عَلَيْهِ
السَّلامُ لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، عَلَيْهِمَا السَّلامُ، كَتَبَها إِلَيْهِ
بِحاضِرِينَ [اسم موضع بالشام، وفي شرح ابن ابي الحديد: اما قوله: 'كتبها اليه
بحاضرين'، فالذي كنّا نقرؤه قديماً 'كتبها اليه بالحاضرين' على صيغة التثنية،
يعني حاضر حلب وحاضر قنسرين، وهي الارياض والضواحي المحيطة بهذه البلاد، ثمّ
قرأناه بعد ذلك على جماعة من الشيوخ بغير لام، ولم يفسّروه، ومنهم من يذكره
بصيغة الجمع لا بصيغة التثنية، ومنهم من يقول بحناصرين، يظنونه تثنية خناصره او جمعها.] مُنْصَرِفاً مِنْ صِفِّينَ: بسم اللَّه الرّحمن الرحيم مِنَ الْوالِدِ الْفانِ، الْمُقِرِّ [المعترف بالشدة والمقر له بالغلبة.] لِلزَّمانِ، الْمُدْبِرِ [وذاك انّه كان عليه السلام قد ذر على الستين.] الْعُمُرِ، الْمُسْتَسْلِمِ [هذا آكد من المقرّ للزمان لأنه قد يقرّ
الانسان لخصمه ولا يستسلم.] لِلدَّهْرِ، الذّامِ لِلدُّنْيَا، السّاكِنِ مَساكِنَ الْمَوْتَى
إِلَى الْمَوْلوُدِ الْمُؤَمِّلِ [غير تنفير عن طول الأمل إذ كان ينسى
الآخرة، وجعل وجه التنفير تأميله أن يدرك، وظاهر أنّ الانسان مادام في هذه الدار
موجّه أمله نحو مطالبها كما أشار إليه سيد المرسلين صلى الله عليه و آله: يشيب
بن آدم ويشبّ فيه خصلتان: الحرص والأمل، وذلك يستلزم انقضاء مدّته دون بلوغها،
وانما أراد جنس الخصوص الحسن عليه السلام وكذلك سائر الأوصاف.] ما لا يُدْرِكُ، السّالِكِ سَبِيلَ
مَنْ قَدْ هَلَكَ... |
|||||||||
|
ضرورة التربية
|
|||||||||
|
أَمّا بَعْدُ، فَإنَّ فِيما
تَبَيَّنْتُ مِنْ إدْبارِ الدُّنْيا عَنِّي، وَجُمُوحِ [جمح الفرس:إذا غلب صاحبه فلم يملكه.] الدَّهْرِ عَلَيَّ، وَإقْبالِ
الاخِرَةِ إِلَيَّ، ما يَزَعُنِي [يمنعني.]عَن ذِكْرِ مَنْ سِوايَ،
وِالاْهْتِمامِ بِما وَرائِي، غَيْرَ أنِّي حَيْثُ تَفَرَّدَ بِي- دوُنَ هُمُومِ
النّاسِ- هَمُّ نَفْسِي، فَصَدَقَنِي [صرفني.] رَأْيِي، وَصَرَفَنِي عَنْ هَوايَ،
وَصَرَّحَ لِي مَحْضُ [خالصه.] أَمْرِي، فَأَفْضى بِي إِلى جِدٍّ لايَكُونُ فِيهِ لَعِبٌ،
وَصِدْقٍ لايَشُوبُهُ كَذِبٌ. وَجَدْتُكَ بَعْضِي، بَلْ وَجَدْتُكَ كُلِّي،
حَتّى كَأَنَّ شَيْئاً لَوْ أَصابَكَ أَصابَنِي، وَكَأَنَّ الْمَوْتَ لَوْأَتاكَ
أَتانِي. فَعَنانِي مِنْ أَمْرِكَ ما يَعْنِيِني مِنْ أَمْرِ نَفْسِي.
فَكَتَبْتُ إلَيْكَ كِتابِي مُسْتَظْهِرًا [مستغنياً به.] بِهِ إنْ أَنَاَ بَقِيتُ لَكَ
أَوْفَنِيتُ. |
|||||||||
|
التربية والتعليم في نهج البلاغة
|
|||||||||
|
-
مفهوم التربية عند الإمام علي (عليه السلام):
|
|||||||||
|
لعل من المفيد أن نستهل هذا الموضوع
بتبيان المدلول اللغوي لمفهوم التربية. فالتربية في اللغة مأخوذة من ربى ولده،
والصبي يربه، رباه أي أحسن القيام عليه حتى أدرك[باقر شريف القرشي، النظام التربوي في
الإسلام، ص٤١، عن تاج العروس، ج١، ص٢٦١.]. فالتربية بمدلولها اللغوي، تعني تعهد
الطفل بالرعاية والتغذية المادية والمعنوية حتى يشب. ولقد اهتم الفلاسفة
والعلماء بهذا المفهوم، وجهدوا في الكشف عن مضامينه العلمية وأوجدوا له عدداً من
التفسيرات التي إن اختلفت في شكلها، فهي متفقة في جوهرها، وسنعرض فيما يلي أقوال
بعض المفكرين القدامى والمحدثين، لنرى موقع (النهج) منها. |
|||||||||
|
يقول أفلاطون
(٤٢٧-٣٤٧ق.م):
|
|||||||||
|
(التربية
هي إعطاء الجسم والروح كل ما يمكن من الجمال، وكل ما يمكن من الكمال)[
سليمان، كامل والعبد الله، علي: التربية، مطبعة صادر، بيروت، ١٩٦٥، ص١٧٦-١٧٧.].
وهذا يعتمد على الناحية الكمية من التربية، وذلك بمزاولة جميع الأنشطة العقلية
والبدنية المؤدية لكمال الفرد. |
|||||||||
|
ويقول أرسطو
(٣٨٤-٣٢٢ق.م):
|
|||||||||
|
(الغرض
من التربية هو أن يستطيع الفرد عمل كل ما هو مفيد وضروري في الحرب والسلم، وإن
يقوم بما هو نبيل وخير من الأعمال ليصل إلى حالة السعادة)[
نفسه، ص١٧٦-١٧٧.].
وهذا يهتم بالناحية المهنية من التربية لما فيه منفعة الفرد وسعادته في دنياه. |
|||||||||
|
جولز سيمون،
الفيلسوف الفرنسي (١٨١٤-١٨٩٦م):
|
|||||||||
|
يقول (التربية هي
الطريقة التي بها يكون العقل عقلاً حراً، ويكون القلب قلباً حراً)[
نفس المصدر].
وهذا يتم بالنواحي الروحية من التربية. |
|||||||||
|
ولعل
أوثق تعريفين للتربية هما: ما قاله الغزالي (٤٥٠-٥٠٥)وما قاله جون ديوي:
|
|||||||||
|
الغزالي
(٤٥٠-٥٠٥) (ومعنى التربية،
يشبه فعل الفلاح الذي يقلع الشوك، ويخرج النباتات الأجنبية من بين الزرع، ليحسن
نباته ويكمل ريعه)[
الغزالي، رسالة أيها الوالد، ترجمة توفيق الصباغ، المطبعة الكاثوليكية، بيروت،
سنة ١٩٥١، ص٣٧.]. |
|||||||||
|
جون ديوي: (إنها عملية صوغ وتكوين لفعالية الأفراد ثم صب لها في قوالب معينة
ـ أي تحويلها إلى عمل اجتماعي مقبول لدى الجماعة)[ ديوي، جون، الديمقراطية
والتربية، ترجمة متى عقراوي، وزكريا ميخائيل، طبعة محددة لأغراض دراسية، بيروت،
١٩٧٠، ج١، ص١٢.]. |
|||||||||
|
تعريفات
كثيرة
|
|||||||||
|
وهناك تعريفات كثيرة لا مجال لذكرها
لعدم الحاجة إليها ـ وهي في أكثرها مشابهة لما سبق ـ وما يهمنا هو استعراض ما مر
منها ومقابلتها بما صدر عن الإمام (عليه السلام)، من أفكار تربوية تفسر حقيقة
مفهوم التربية. |
|||||||||
|
الإمام
علي (عليه السلام)
|
|||||||||
|
يرى (عليه السلام) أن الإنسان هو
غاية الوجود، ومن أجله خلق الله ما خلق إذ بعد أن خلق تعالى الكون ورتبه أحسن
ترتيب، ونظمه أجمل تنظيم، وأتم مرافقه، على أكمل وجه، وجمع فيه ما تشتهي الأنفس،
وتلذ الأعين، أخرج إليه الإنسان، وأسكنه فيه على أن يكون خليفته في أرضه، يحيا
في كنفها ويعيش من خيراتها، ويمضي في أقواله وأفعاله ونواياه، ومقاصده، وفق
أحكام الله وإرادته مطيعاً، مذعناً، شاكراً، إلا أنه خالف أمر الله، وسلك بوحي
من نفسه الأمارة بالسوء، فجذبته الدنيا إليها وحجبت عنه الرؤية السليمة فبات
أسير أوهامه وشهواته. إن ضعف الإنسان أمام إغراء المادة
والإيمان بأن الشيطان الذي أغواه في الجنة لن يتوانى عن إغوائه مرة أخرى وهو على
الأرض، وبالتالي سوف لن يتمكن من ممارسة الخلافة كما أوجبها الله ما دام ضعيف
الحجة، مسلوب الإرادة، قليل الإيمان. هذه الأمور أوجبت أخذه بالتربية والتعليم
حتى تستقيم نفسه ويقوى على مقاومة الضلالة والفساد. إلا أن هذه التربية، لا
تستند فقط إلى مبادئ نظرية لا صلة بها بالواقع، بل تتخذ منها طريقاً ومنهجاً
يعضده العلم والعمل والإيمان بهدف منفعة العباد وخيرهم. وكثيرة هي الخطب والكلمات التي
تضمنها (النهج) وهي تدعو إلى طلب العلم وأخذه من أي مصدر كان، كما وتحث على
العمل حتى لا تبقى التربية مجرد نظريات لا فائدة منها في عالم الواقع. لذلك فإن
الإمام (ع) يدعم القول بالعمل وهذا هو الحق الذي يشهد به العمران والتقدم
والتطور الحاصل في المجتمعات من ذلك (العلم مقرون بالعمل، فمن علم عمل)[
أنظر ح، ج١٩، ص٢٨٤.]..
إذ لا خير في علم بلا عمل. ولابد للعارف من أن يكون عاملاً حتى لا يكون علمه حجة
عليه.
|
|||||||||
|
الإمام
علي (عليه السلام) والتطبيق
|
|||||||||
|
ولقد أدرك الإمام علي (عليه السلام)
هذا الأمر وطبقه على سائر مجريات حياته، يبدو ذلك في حديثه عن العلماء الذين
يتعلمون، برأيه ـ لغايات ثلاث[مستدرك نهج البلاغة، ص١٧٧.]: ـ للمراء والجدل. ـ للاستطاعة والحيل. ـ للفقه والعمل. - أما الأول (فإنك تراه ممارياً للرجال في أندية
المقال، قد تسربل بالتخشع وتخلى من الورع. فدق الله من هذا حيزومه وقطع منه
خيشومه). - وأما الثاني (فإنه يستطيل على أشباهه من أشكاله،
ويتواضع للأغنياء، من دونهم، فهو لحلوائهم هاضم، ولدينه حاطم، فأعمى الله من هذا
بصره، ومحى من العلماء أثره). - وأما الثالث (فتراه ذا كآبة وحزن، قام الليل في
حندسه، وانحنى في برنسه، ويعمل ويخشى، فشد الله من هذا أركانه وأعطاه يوم
القيامة أمانه). فليس المهم بنظر الإمام (عليه السلام)
كثرة العلوم النظرية، لأنها لا تغني عن السلوك الحسن والسيرة الخيرة، ولا كثرة العلماء،
ما دام البعض منهم قد اتخذ العلم وسيلة للهدم، أو أداة للرياء والنفاق، في حين
أن البقية الباقية منهم، ممن آمنوا بربهم وخشعوا له، قد اتخذوه للعمل الحر
الشريف. فالتربية التي تعتمد الكمية في أساليبها ليست مقبولة ما دامت لا تستند
إلى الكيفية والنوعية. إلا أن هذه النوعية لا فائدة منها إذا لم تقترن بالفاعلية
فالعلم لا يراد لذاته، بل لأجل التغيير والنمو في شخصية الفرد والمجتمع كما يقول
(عليه السلام): (لا تجعلوا علمكم جهلاً ويقينكم شكاً، إذا علمتم فاعملوا وإذا
تيقنتم فأقدموا)[
انظر ح، ج١٩، ص١٦٤.]. إلا أن العمل قد يجر الويل على
المجتمع، إذا لم يستند إلى أساس روحي خلقي وما نراه اليوم دليلاً على ذلك،
فالذرة قد تستعمل للبناء وقد تستعمل للفناء والدمار والذي ينحى بها هذا المنحى
أو ذاك، هو الإنسان ذاته الذي اكتشفها، لذلك كانت التربية الروحية الخلقية لابدّ
منها في صياغة كيان الفرد وتفكيره وخلقه. ولقد جمع الإسلام بين التربية الدينية
والدنيوية بقوله تعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ
وَلاَ تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا)[ سورة القصص، آية ٧٧.]. هذه النظرية للتربية التي انفرد بها
الإمام علي (عليه السلام) هي أكثر شمولاً وعمقاً من تلك التي أوحت بها التعريفات
السالفة الذكر، فبينما نرى أن فلاسفة التربية قد قصروا نشاطها على جانب معين من
حياة الفرد (أفلاطون ـ ارسطو ـ جولز سيمون) يتوسع الإمام (عليه السلام) في هذا
النشاط ليشمل جميع نواحيه الفكرية والاجتماعية والأخلاقية والدينية والدنيوية
كما سنرى فيما بعد وذلك من أجل إيجاد الإنسان الفاضل القريب من الكمال. هذا
المضمون نفسه هو الذي أكده كل من (الغزالي) و(جون ديون) ممّا يثبت بأن هذا
الكتاب، كان وما يزال في صميم المعرفة التي تحدث عنها الفلاسفة والعلماء في كل
عصر وجيل. |
|||||||||
|
-
سمات المنهج التربوي العلوي:
|
|||||||||
|
ينطلق الإمام (عليه السلام) من
مسلمات بديهية على أساسها يضع المنهج في تربية الإنسان وإعداده منها: |
|||||||||
|
١ـ
حقيقة الإنسان وطبيعته
|
|||||||||
|
سبق في علمنا أن حقيقة الإنسان هي
الروح والجسد معاً. ولقد اختلف المتكلمون في هذا الأمر، فقال (العلاف): (إن
الإنسان هو الشخص الظاهر المرئي الذي له يدان ورجلان)[ مقالات الإسلاميين، ج٢،
ص٣٢٩.] ، أي هو الجسد فقط دون الروح واحتج على ذلك بقوله تعالى: (خَلَقَ
الإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ)[ سورة الرحمن، آية ١٤.].
وقال النظام: (الإنسان هو الروح ولكنها مداخلة للبدن.. وإن البدن آفة عليه وحبس
وضاغط له)[
المصدر نفسه، ص ٣٢٩.] أما (بشر بن المعتمر) فقد وافق الإمام (عليه السلام) على أن
(الإنسان جسد وروح وأنهما جميعاً إنسان، وأن الفعال هو الإنسان الذي هو جسد
وروح)[
المصدر نفسه، ص ٣٣١.] وقد دمج (النظام) بين الروح والنفس والجسم فقال: (الروح هي جسم وهي
النفس)[
المصدر نفسه، ص ٣٣٣. في حين ميز بينهما (العلاف) وقال، (النفس معنى غير الروح)[
المصدر نفسه، ص ٣٣٧.] أما (الأصم) فقد اعتبر أن (النفس هي هذا البدن بعينه لا غير، وإنما
جرى عليها هذا الذكر على جهة البيان والتأكيد لحقيقة الشيء، لا على أنها معنى
غير البدن)[
المصدر نفسه، ص ٣٣٦.]. وحقيقة القول، أن كلا منهما مختلف عن الآخر،
فالروح أمر إلهي لا علم لنا به وهو بمثابة القوة التي تبعث الحياة في الجماد.
أما النفس، فهي كناية عن طبيعة الإنسان المختلفة باختلاف قواها النفسية. ولقد
قسم الإمام علي (عليه السلام) هذه الطبائع النفسية إلى أربعة، لكل منها خمس قوى
وخاصيتان، وما أثر عنه في هذا المجال ما نحن بصدد الحديث عنه: قال كميل: سألت أمير المؤمنين فقلت
له: أريد أن تعرفني نفسي. فقال (عليه السلام): يا كميل، وأي
الأنفس تريد أن أعرفك. قلت: يا مولاي، هل هي إلا نفس واحدة؟ قال (عليه السلام): يا كميل إنما هي
أربع: النامية النباتية، والحسية الحيوانية، والناطقة القدسية، والكلية الإلهية،
ولكل واحدة من هذه خمس قوى وخاصيتان. فالنامية النباتية لها خمس قوى:
جاذبة وماسكة وهاضمة ودافعة ومربية، ولها خاصيتان، الزيادة والنقصان وانبعاثهما
من الكبد وهي أشبه الأشياء بنفس الحيوان. والحسية الحيوانية لها خمس قوى: سمع
وبصر وشم وذوق ولمس، ولها خاصيتان، الشهوة والغضب، وانبعاثهما من القلب، وهي
أشبه الأشياء بنفس السباع. والناطقة القدسية: ولها خمس قوى، فكر
وذكر وعلم وحلم ونباهة، وليس لها انبعاث، وهي أشبه الأشياء بالنفوس الملكية،
ولها خاصيتان، النزاهة والحكمة. والكلية الإلهية ولها خمس قوى: بقاء
في فناء، ونعيم في شقاء، وعز في ذل، وغنى في فقر، وصبر في بلاء، ولها خاصيتان،
الرضا والتسليم، وهذه هي التي مبدؤها من الله، واليه تعود. قال الله تعالى: (وَنَفَخْتُ فِيهِ
مِنْ رُوحِي)[
سورة الحجر، آية ٢٩.] وقال تعالى: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي
إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً)[ سورة الفجر، آية ٢٧-٢٨.] ، والعقل وسط الكل، لكيلا يقول أحدكم شيئاً من الخير والشر إلا
بقياس معقول)[
مستدرك نهج البلاغة، ص١٦٠.]. وهكذا يقسم (عليه السلام) النفس إلى
أربعة أنواع: النباتية، والحيوانية، والناطقة، والإلهية ويرى أن هذه الأخيرة
مبدؤها من الله وإليه تعود، بينما تتمحور جميعها حول العقل الذي يسيطر عليها ويشردها
إلى طريق الاعتدال، ولولا ذلك لبلغت حد الإفراط والتفريط وكلاهما رذيلة كما قال
الإمام علي (عليه السلام): (العقل ملك والخصال رعيته فإذا ضعف عن القيام عليها
وصل الخلل إليها)[
انظر ح، ج٢٠، ص١٩٤.] لهذا جاء التأكيد على ضرورة معرفة
النفس لأنها تؤدي إلى معرفة الله، لأن (من عرف نفسه فقد عرف ربه)[
انظر ح، ج٢٠، ص٢٩٢.].
و(من عجز عن معرفة نفسه، فهو عن معرفة خالقه أعجز)[ المصدر نفسه، ج٢٠،
ص٢٩٢.]. كما أنه يؤكد على أهمية شأن العقل
ويعتبره من المصادر الأساسية للمعرفة، وكل ما يتنافى معه فهو باطل. أما الحواس
فهي كاذبة ولا تصلح للرؤية، وإنما الرؤية الحقيقية للعقل: (ليست الرؤية مع
الأبصار، فقد تكذب العيون أهلها ولا يغش العقل من استنصحه)[
المصدر نفسه، ج١٩، ص١٧٣.].
ويكفي العقل فضلاً وشرفاً أنه يميز بين الحق والباطل، ويفرق بين الغي والرشاد،
لذا كان من أبلج المناهج وأقوم المسالك وأكثر مصادر المعرفة رشداً، وأقله
ضلالاً، ومن استرشد بغيره، فقد أخطأ سواء السبيل. يقول (عليه السلام): (من
استرشد غير العقل أخطأ منهاج الرأي)[ المصدر نفسه، ج٢٠،
ص٢٦٠.]. وتنمية القوى العقلية للإنسان لا
تكون إلا في طلب العلم، لأن العلم غذاء العقل، به ينشط وقوى على ممارسة الوظائف
العقلية لأنه (ليس شيء أحسن من عقل زانه علم)[ المصدر نفسه، ج٢٠،
ص٢٦٧.] كما يقول الإمام (عليه السلام). إلا أن الإنسان يجمع إلى حد القوة حد
الضعف، فهو القوي بعقله وفعاليته وهو الضعيف الذي (تؤلمه البقة، وتقتله الشرقة،
وتنتنه العرقة)[
المصدر نفسه، ج٢٠، ص٢٦٠.] والإنسان مجمع الأضداد، في داخله تتصارع العواطف والأهواء والغرائز
وحياته تعتورها حالات متضادة نتيجة للصراع بين قواه العقلية والعاطفية، فيرتفع
إلى المستوى اللائق به بعقله، وينحدر إلى مستوى البهيمية بغرائزه، والتوازن
بينهما هو ما يحفظ كيانه ويصون كرامته وإنسانيته كما عبر الإمام (عليه السلام)
بقوله: (لقد علق بنياط هذا الإنسان بضعة هي أعجب ما فيه، وهو القلب، وذلك أن له
مواد من الحكمة وأضداد من خلافها، فإن سنح له الرجاء أذله الطمع، وإن هاج به
الطمع أهلكه الحرص، وإن ملكه اليأس قتله الأسف، وإن عرض له الغضب اشتد به الغيظ،
وإن أسعده الرضا نسي التحفظ وإن غاله الخوف شغله الحذر، وإن اتسع له الأمر
استلبته الغرّة، وإن أصابته مصيبة فضحة الجزع، وإن أفاد مالاً أطغاه الغنى، وإن
عضته الفاقة شغله البلاء، وإن جهده الجوع قعدت به الضعة، وإن أفرط به الشبع كظته
البطنة، فكل تقصير به مضر، وكل إفراط له مفسد)[ انظر ح، ج١٨، ص٢٧١.]. أما غرائزه فهي متعددة، ومتلونة
تختلف من شخص لآخر بحسب الفطرة التي أرادها الله سبحانه، كما يذكر (عليه السلام)
بقوله: (فأقام من الأشياء أودها ونهج حدودها، ولاءم بقدرته بين متضادها، ووصل
أسباب قرائنها، وفرقها أجناساً مختلفات في الحدود والأقدار والغرائز والهيئات،
بدايا خلائق أحكم صنعها، وفطرها على ما أراد وابتدعها)[ المصدر نفسه، ج٦، ص٤١٦.]. هذه الغرائز تتغير بتغير بيئة
الإنسان وثقافته، ولا يخفى أثر البيئة القوي في التنشئة والإعداد. فالإنسان
يتأثر بالأحوال والظروف المحيطة به فهو ابن بيئته وعوائده كما يقول ابن خلدون،
فيكون لذلك شأنه في صياغة أفكاره وأخلاقه وعاداته سلباً أو إيجاباً بحسب ما
يكتنفه من أمور تؤثر في مجرى حياته، ونظراً لتعدد البيئات واختلاف مقوماتها
وعناصرها الثقافية والاجتماعية والطبيعية فإن لذلك أثره القوي في اختلاف أفراد
النوع الإنساني وتباين سماتهم العقلية والبدنية. يقول الإمام (عليه السلام):
(إنما فرق بينهم مبادئ طينهم، وذلك أنهم كانوا فلقة من سبخ الأرض وعذبها وحزن
تربتها وسهلها فهم على حسب قرب أرضهم يتقاربون، وعلى قدر اختلافهم يتفاوتون)[
المصدر نفسه، ج١٣، ص١٨.]. إن الإمام علي (عليه السلام) يقطع من
خلال عرضه للمبادئ التي تحكم طبيعة الإنسان وتبيانه للميول والأهواء والغرائز
المتناقضة والمتصارعة، تلك التي تتحكم في نفسه، وتوجه سلوكه وتحدد سماته الخلقية
والفكرية، بضرورة أن نأخذ جميع هذه الأمور بعين الاعتبار ونراعي ما يظهر من
الفروق الفردية، فيما لو حاولنا حل مشكلات المتعلم النفسية والاجتماعية
والتربوية وإعداده للحياة الحرة الفاعلة الفاضلة. ذلك لأن مراعاة هذه الأسباب في
العملية التربوية تضفي عليها شيئاً من الرغبة، وتساهم في صلاح المتعلم وحل عقده.
في حين إن إكراهه على ما يناقض مزاياه الخلقية والنفسية، إنما هو قتل لشخصيته
وهدر لطاقاته ودفعه إلى المشاغبة والنفور، ذلك أن (للقب شهوة وإقبالاً وإدباراً
فأتوها من قبل شهوتها وإقبالها، فإن القلب إذا أكره عمي)[
انظر ح، ج١٩، ص١١.] ولا يعني هذا مسايرة رذائل الإنسان وشهواته، وإنما مقاومتها بأسلوب
يخلو من العنف والقهر والسمو بها إلى مصاف الخلق النبيل. وسوف نرى أن الإمام علي
(عليه السلام) كان يؤكد على التسامي بشهوات الإنسان ورغباته الشريرة واستبدالها
بما ترضى عنها الذات والمجتمع. نستنتج ممّا تقدم، أن هذا الكائن البشري يجمع إلى جانب
قوى الخير قوى أخرى تجنح به نحو الشر. وهذا يوصلنا إلى فكرة الخطيئة التي شغلت بها أذهان المفكرين عبر
العصور. فقد اعتبرت المسيحية أن الإنسان مذنب ومخطئ بطبعه وأن الشر متأصل في فيه
(وليس في استطاعته الوصول إلى النجاة بقوته وجده، وإنما ينال النجاة بالغفران
وذلك الغفران تمنحه الكنيسة بطريقة استبدادية محضة)[ أ. س. زابوبرت، مبادئ
الفلسفة، ترجمة أحمد أمين، ط٧، القاهرة، ١٩٦٤، ص٨٠.]. في الجانب المقابل، مال البعض إلى القول بخيرية هذا الكائن وميله الأصيل إلى
الفضيلة والخير. أما الشر الصادر عنه فهو من الوسط الذي يعيش فيه. ومن أبرز
القائلين بذلك جان جاك روسو الذي اعتبر أن الطفل يولد خيراً بطبعه، ولكن المجتمع
هو الذي يفسده. وما أثر عن الإمام علي (ع) كان موقفاً
وسطاً بين هؤلاء وأولئك، فالإنسان لا يميل بطبعه إلى الخير أو إلى الشر، لأنه قادر على فعل
الخير كقدرته على فعل الشر، ذلك: (إن في أيدي الناس حقاً وباطلاً، وكذباً
وصدقاً)[
انظر ح، ج١١، ص٣٨.]. ونوع التربية التي تتعهده بها البيئة
التي يعيش فيها، هو الذي يجنح به نحو الخير أو الشر. كذلك فإنه مزود بالغرائز
والأعضاء والحواس والجوارح التي تأتمر بأمره وتتأثر بالجو المحيط به، وبقدر
تهذيبها وإرشادها يسهل توجيهها الوجهة الصالحة. أما إذا أهملت وتركت وشأنها،
فإنها تنحا به نحو الرذيلة والفساد. ولقد أكد الغزالي قابلية الإنسان للخير
والشر بقوله: (... فإن الصبي بجوهره خلق قابلاً للخير والشر جميعاً، وإنما
أبواه يميلان به إلى حد الجانبين) واستشهد بقول الرسول الكريم: (كل مولود يولد
على الفطرة، وإنما أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)[
إحياء علوم الدين، ج٣، ص٧٤.]. ولن يؤتي الفكر ثماره إلا إذا استند
إلى الخبرة والعمل. فالخبرة هي التي تصقله وتهذبه والعمل هو الذي يخرجه إلى حيز
الواقع. ولقد أقام (عليه السلام) نظامه الفكري على هذا الأساس. فربط بين العلم
والعمل ودعى إلى استفادة الخبرة من رسالة الإسلام، ومن تدبر أحوال الماضين،
واتباع آثارهم واختيار الصالح منها وترك ما لا فائدة منه. وهذا ما عبر عنه الإمام علي (عليه
السلام) في وصيته لولده الحسين (عليه السلام): (أي بني! إني وإن لم أكن عمرت عمر من كان قبلي، فقد نظرت في
أعمالهم وفكرت في أخبارهم وسرت في آثارهم، حتى عدت كأحدهم، بل كأني بما انتهى
إليّ من أمورهم، قد عمرت مع أولهم إلى آخرهم، فعرفت صفو ذلك من كدره ونفعه من
ضرره، فاستخلصت لك من كل أمر نخيله وتوخيت لك جميله وصرفت عنك مجهوله)[
انظر ح، ج١٦، ص٦٧.]. وهكذا فالتفكير الذي يتحدث عنه
الإمام (عليه السلام) يرفض التقليد إلا في أضيق نطاق وعن الذين يمكن الوثوق بكلامهم وأفكارهم والركون إلى أخلاقهم
وسجاياهم. وحتى هؤلاء لم يخرجهم (عليه السلام) من دائرة الاجتهاد، حتى لا يشكلوا
ضغطاً فكرياً على الآخرين فهو يؤثر الاجتهاد في كل شيء حتى في الدين. والغاية من
ذلك الإقناع لا الإكراه بهدف إيجاد المفكر الذي يحاول أن يتفهم دينه ودنياه بوحي
من بصيرته. لذا فهو يدعو إلى إعمال الفكر في كل
خطوة نخطوها وفي كل رأي نبديه ونعلنه، بل وفي كل خبر نسمعه حتى نتجنب الخطأ
والعذر في كل ما يصدر عنا من آراء فالتفكير المستند إلى التركيز والانتباه هو ما يعبر عنه الإمام
(عليه السلام) فيقول: (اعقلوا الخبر إذا سمعتموه عقل رعاية لا عقل رواية، فإن
رواة العلم كثير ورعاته قليل)[
انظر ح، ج١٨، ص٢٥٤.]. تلك هي أبرز سمات المنهج التربوي في
(نهج البلاغة) فهي تنطلق من مفهوم شامل للتربية تتناول الإنسان بمختلف أبعاده
وتنظر إليه كوحدة متكاملة تبرز حقيقته وطبيعته التي فطره الله عليها وتظهر ما
فيه من غرائز وقوى تتراوح بين القوة والضعف وما للبيئة من أثر في تحديدها
وتنوعها. |
|||||||||
|
٢ـ
المعرفة: طبيعتها، مصدرها
|
|||||||||
|
المقصود بالمعرفة هو بعمومها
وأنواعها المتعددة، العلمية والبديهية والميتافيزيقية، وهي تتضمن دائماً الإشارة إلى عنصرين
متكاملين: الذات والموضوع، أي الذات العارفة والشيء المعروف. لقد اختلفت الآراء حول طبيعة المعرفة
وسببها. فقال العقليون
الذين يؤمنون بقوة غير حسية، قادرة على إدراك ماهيات الأشياء أو المعقولات وهي
العقل (إن تلك الماهيات أو المعقولات التي في أذهاننا، ليست إلا نماذج مماثلة
تماماً لما في خارج الذهن من أشياء، أو صورة مطابقة لها، وهذا ما يعبر عنه
الفلاسفة بقولهم إن الحقيقة هنا هي نسخة لما في خارج الذهن)[
الفندي، محمد ثابت، مقدمات في الفلسفة، مكتب كريدية أخوان، بيروت، ١٩٧١، طبعة
محددة لأغراض دراسية، ص٤٣.].
هذا يعني أن المعرفة ليست سوى مجرد تصورات ذهنية مطابقة لما في خارج الذهن ولا
علاقة لها بالحياة. لقد ظهر هذا المذهب عند كل السقراطيين واستمر حتى بداية الفلسفة
الحديثة وهو متعدد من حيث تفاصيله ولكنه واحد من حيث المبدأ. وقد قام محل الحواس التي اعتبرها
أداة وهم تقف في طريق المعرفة الحقيقية. يقول (مالبرنش): (إن نماذجكم الحسية
ليست إلا ظلاماً فاذكروا هذا وارقوا إلى أعلى حيث العقل وسترون النور. ألزموا
حواسكم وخيالكم وانفعالاتكم بالصمت، وستسمعون حينئذ صوت الحقيقة الباطنية النقي،
وإجابات عقلنا المشترك الجلية الواضحة، إياكم أن تخلطوا هذه البينة التي تنجم عن
المقارنة بين الأفكار، بحيوية المشاعر التي تتحرك وتمسكم. يجب علينا أن نتبع
العقل رغم تلطفات البدن الذي نلتصق به، ورغم تهديداته وإهاناته، ورغم تأثير
الموضوعات التي تحيط بنا.. إنني لأهيب بكما أن تقروا بأن ثمة فارقاً بين أن نعرف
وأن نحس بين أفكارنا الواضحة وإحساساتنا الغامضة المختلطة على الدوام[مالبرانش، أحاديث في الميتافيزيقا، الحديث الثالث، عن كتاب (بعض
مشكلات الفلسفة) لـ(وليم جيمس) ص٩٤.]. وقال العمليون ـ المعبر عنهم في العصر
الحديث (بالبرجماتيين) Pragmatism في مذهبهم الذي يمزج الفكر بالحياة، إن غاية المعرفة هي الحياة وإن قيمة
كل فكرة أو نظرية تقاس بمدى ما تحققه من نفع، حين نطبقها في حل المشكلات التي
تواجهنا (ولذلك فلكي نستوثق من قدر نظرية من النظريات نحاول أن نتخيل أنها مطبقة
فعلاً في العمل حتى يتسنى لنا رؤية ما عسى أن يكون هنالك من نتائج لتطبيقها،
ونحتفي بها على قدر ما تأتي من نتائج عملية خالصة)[ وليم جيمس، بعض مشكلات
الفلسفة، ترجمة محمد فتحي الشنيطي، دار الطلبة العرب، بيروت، سنة ١٦٦٩، ط٢،
ص٢٠-٢١.]. إن معيار حقيقة الفكرة عند العقليين،
هو مطابقتها للواقع أي لما هو خارج الفكر. هذه المطابقة تجعل من الحقيقة واضحة وثابتة، أما في المذهب العملي
فإن الفكرة لا توصف بالحقيقة لمطابقتها للواقع، بل لكونها تؤدي عملاً نافعاً، أي
بالنظر لنتائجها وغاياتها العملية. وباختصار فإن المذهب الأول يقول بأننا نعيش
لنفكر أما الآخر فيقول بأننا نفكر لنعيش. إن ربط الفكر بالعمل يتضمن انقلاباً
في نظرية المعرفة، فبدلاً من النظر في الأصول البعيدة للحقيقة، كما كانت تفعل
الفلسفات المجردة، فإن الفلسفات العملية حولت النظر إلى النتائج والغايات
العملية، وجعلت قيمة الحقيقة بما تؤديه من نتائج عملية ونفعية. هذا الانقلاب الذي أحدثه المذهب العملي
كان الإمام (عليه السلام) قد طرحه كأحد المسلمات التي لابدّ منها لحياة أفضل. فالمعرفة القائمة على التصورات فقط
لا قيمة لها بل يصنفها في عداد المعارف الوضعية التي لا يترتب عليها أدنى منفعة.
في حين أن المعرفة التي تظهر في أعمال تنفع البشر وتؤدي لهم خدمات مفيدة هي التي
يقول بها ويضعها في مستوى المعارف الرفيعة. فصفة الحقيقة فيه ليست ملازمة للفكرة
كفكرة وإنما هي تكتسبها بما تحققه من عمل نافع. والواقع ينطق بذلك، إذ ما قيمة
قوانين (نيوتن) مثلاً لو لم تقدم خدمات عملية على أرض الواقع بتفسيرها حركة
الأجسام هذا الربط عبّر عنه الإمام (عليه السلام) يقول: (فإن خير القول ما نفع،
واعلم أنه لا خير في علم لا ينفع)[ انظر ح، ج١٦، ص٦٤.].
و(أوضع العلم ما وقف على اللسان، وارفعه ما ظهر في الجوارح والأركان)[
المصدر نفسه، ج١٨، ص٢٤٥.]. وهكذا يكون كتاب (النهج) في صميم
الفلسفة الحديثة التي قرنت الفكر بالعمل ممّا أتاح للبشرية فرصة سانحة للسير في طريق
التقدم والعمران. أما عن مصدر المعرفة، فقد وقع فيه
اختلاف كالذي حصل في طبيعة المعرفة. إن المشكلة في الفلسفة الحديثة ليست
إمكان الوصول إلى الحقيقة أو عدم إمكانها وإنما أصبحت تدور في أصل الحقيقة
ومنبعها، أهو العقل أم الحس والتجربة، أو هما معاً، أم الحدس أم الوحي؟ لقد تعددت آراء الفلاسفة حول الطريقة
التي تحصل بها المعرفة فديكارت (١٥٩٦-١٦٥٠م) يعترف بأن لا سبيل إلى الوصول إلى الحقيقة إلا بممارسة أفعال
العقل الطبيعية.. ولتلك الغاية ليس هناك إلا فعلان أحدهما الحدسintuition أو النظر المباشر، والآخر الاستدلال Deduction [بلدي، نجيب ديكارت، دار المعارف، بمصر سنة ١٩٦٨، ص٦٥.]. أما جون لوك (١٦٣٢-١٧٠٤م) (فقد أعلن بهدوء أن جميع أنواع
المعرفة تأتينا من التجارب عن طريق حواسنا، وأن لا شيء في العقل سوى ما تنقله له
الحواس)[
ويل ديورانت: قصة الفلسفة، ص٣١٩-٣٢٠.] في حين أن (عمانوئيل كانت) جمع بين العقل والتجربة في الحصول
على المعرفة وكان يقول: (إن التجربة ليست الميدان الوحيد التي تحدد فهمنا، لذلك فهي لا
تقدم لنا إطلاقاً حقائق عامة، وبذلك فهي تثير عقلنا المهتم بهذا النوع من
المعرفة بدل أن تقنعه وترضيه)[
المصدر نفسه، ص٣٣٤-٣٣٥.]. وخرج (هنري برجسون) (ولد سنة ١٨٥٩م) عما اعتبره (كانت) مصدراً للمعرفة،
وقال بأن: (العقل ليس هو الأداة الصالحة لإدراك الحياة، لأن هذا مطلب فوق
مقدوره.. فالعقل والحواس آلات للتجزئة، والغاية منهما تيسير الحياة لا تصوير
الوجود أي أنها تتناول الوجود في ظاهره، ولكنها لا تنفذ إلى باطنه. ولما كانت
المعرفة الحقيقية هي التي تتمشى مع الوجود في تحوله، وتغلغل في بواطن الأشياء
وتحسها إحساساً مباشراً كما يحس الحمل الوديع وجوب الفرار من غائلة الذئاب،
فالبصيرة وحدها هي الأداة الصالحة لذلك النوع من المعرفة المباشرة لأنها حاسة الحياة
التي تنقل إلينا الوحدة الحيوية التي تربط أجزاء الوجود)[
المصدر نفسه، ص٥٦١.]. |
|||||||||
|
أين
كان موقع الإمام علي (عليه السلام) من هذه الآراء؟
|
|||||||||
|
إن الإمام (عليه السلام) يعتبر أن
مبادئ الوجود ثلاثة: الله والروح والمادة، وعليه فطرق المعرفة تتعدد بتعدد الموجودات الثلاثة. فبالحواس ندرك الظواهر الخارجية والجزئيات، إلا أنها لا تصلح للرؤية
الحقيقية لأنها كاذبة كما سبق في علمنا فلابدّ من إثباتها بالتجربة لإصلاح ما
ينجم عنها من خطأ في الإدراك، لأن (في التجارب علم مستأنف)[
انظر ح، ج٢٠، ص٢٥٩.]. أما العقل، فهو لإدراك الكليات وما وراء
الطبيعة، وقد سبق في علمنا أنه (عليه السلام) استدل على وجود الله بالنظر في
مخلوقاته وما فيها من نظام محكم وتدبير متقن، ومعنى هذا أنه يؤمن بالعقل الذي يدرك ما وراء الكون بالاستنتاج والانتقال من
المعلوم إلى المجهول. أما إذا عجزت الحواس والعقل عن إدراك ما يمكن وراء هذه الظواهر
الحسية ـ فلا سبيل أمامنا سوى
القرآن أو الوحي، نستعين به لكشف ما غاب عنا، يقول إخوان الصفاء: (إن الوحي هو أنباء عن أمور غائبة عن الحواس، يقدح في نفس الإنسان
من غير قصد منه ولا تكلف)[
الرسائل، ج٤، ص٨٤.].
إلا أن الوحي الذي يعنيه أخوان الصفاء، ليس كما صرّح به الإمام (عليه السلام)
إنما هو أقرب إلى الحدس الصوفي القائم على الكشف والذوق. فهل يعتبر هذا الحدث
الصوفي طريقاً آخر للإدراك يمكن الركون إليه كما هو الحال عند المتصوفة؟ وقبل الإجابة عن هذا السؤال، نوضح أن هناك فكرتين تتحدثان عن علاقة
الله بالعالم. الأولى، و(يصح أن نسميها بالاثنينّية، وهي تعتقد في الله أنه مستقل عن
الخلق يشرف عليه من فوق، ويمد كل مخلوق بإمداداته، ويدير نظام الكون من أصغره
إلى أكبره، وهو فوق الأرض، وفوق السماء وفوق كل شيء. وإن في الكون موجودين
متميزين عن بعضهما كل التمييز، مخلوق وخالق، ومدبَّر ومدبِّر، ومحكوم وحاكم.
ووسيلة الإنسان في إدراك الله حسب هذه الفكرة هو العلم وقضايا المنطق. أما الفكرة الثانية، وهي الواحدية، أو
بعبارة أخرى، وحدة الوجود، ترى أن الله والخلق واحد، والحاكم والمحكوم شيء
واحد، كما قال الحلاج:
أحمد أمين، ظهر الإسلام، مكتبة النهضة
المصرية، ط٣، القاهرة، سنة ١٩٦٢م، ج٢، ص٦٠. وإدراك الله هنا، يتم بالتروّض والكشف. وما ذكره الإمام (عليه السلام) ينفي عن الله الحلول والاتحاد كما سبق وأشرنا إليه في حينه، ولا يقول بوحدة الوجود، بل يميز بين الخالق والمخلوق، والرب
والمربوب، ويؤمن بأن الإسلام يضع الإنسان أمام خالقه دون حجاب أو ترجمان أو
وساطات تشفع له عند الله كما جاء في القول: (لم يجعل بينه وبينك من يحجبك عنه،
ولم يلجئك إلى من يشفع لك إليه)[
انظر ح، ج١٦، ص٨٦.]. ثم إنه يرفع من مكانة العقل ويعتبره
المظلة الواقية من الخطأ في الإدراك، علماً بأن جميع النفوس قد فطرت على الإيمان بوجود الله، إلا تلك
التي انحرفت عن فطرتها لسبب من التربية أو البيئة. إذا أخذنا جميع هذه الأمور بعين
الاعتبار، أمكننا الإجابة عن السؤال السابق بأن الإمام (عليه السلام) لم يأخذ بالحدس الصوفي كمصدر للمعرفة،
ما دام العلم بالله حاصل بالفطرة والنظر العقلي، دون الوصول إلى تلك الحالة
الخاصة التي يبلغها الإنسان بالوجد والكشف حيث يدرك عندها الله إدراكاً مباشراً.
وما أشبه هذه التجربة العقلية التي يدعو إليها هذا الكتاب بتجربة (برغسون) التي
تغلغل في صميم الواقع وتغوص في أعماقه وتتصل به اتصالاً مباشراً من غير واسطة
تحول بين العارف والمعروف. ثم إنه يرفع من مكانة العقل ويعتبره
المظلة الواقية من الخطأ في الإدراك، علماً بأن جميع النفوس قد فطرت على الإيمان
بوجود الله، إلا تلك التي انحرفت عن فطرتها لسبب من التربية أو البيئة. |
|||||||||
|
٣ـ
التفكير
|
|||||||||
|
التفكير بمعناه الواسع (اصطلاح عام
يشمل كل أنواع النشاط الرمزي فيشمل الاستدلال والتخيل، وتكوين المعاني الكلية
والابتكار، ويستخدم التفكير بديلات للأشياء الحقيقية والمواقف الواقعية، أي أنه
يستخدم رموزاً تقوم مقام الأشياء أو الظروف. والرمز هو أي شيء ـ فكرة، معنى أو
صورة يقوم مقام شيء آخر، فنستجيب له بنفس الأسلوب الذي نستجيب به للشيء نفسه)[
حلمي المليجي، علم النفس المعاصر، دار النهضة العربية، بيروت، ط١، ص١٩٧٠، ص٢٠٩.]. إن عملية التفكير ترجع إلى التفاعل
بين العوامل العضوية أو البيولوجية المتمثلة بالجهاز العصبي المعقد، والعوامل
الاجتماعية المتمثلة بالمؤثرات الاجتماعية المختلفة. فهو إذن عملية بيولوجية
اجتماعية عن طريقه توصل الإنسان إلى بناء حضارة عظيمة تزخر بالتقدم العلمي
والتنظيم الاجتماعي. والتفكير ضرورة تربوية هامة يعتمد
عليه الإنسان في تفاعله مع البيئة التي يعيش فيها، فهو في صراع دائم مع الحياة
للحفاظ على استمرارية وجوده كما أنه محتاج، لكي يدافع عن نفسه ويؤمن حاجياته
ويزيل الصعوبات والمشكلات التي تعترض طريقه، إلى أن يفكر ويختار نسب الحلول
الملائمة. لذلك (يخطئ إذن من يحسب الإنسان آلة صماء في يد القوانين المادية.
إنما هو كائن مدرك، حر الإرادة، قادر على اختيار سلوك معين، والاختيار خلق
وإنشاء، فليس الإنسان رتيباً في حياته كالحيوان المحدود بغرائزه)[
قصة الفلسفة، ص٥٥٩.].
كما قول برغسون. وهو في محاولته حل مشاكله، إنما
يستعين على ذلك بالمحاولة والخطأ والتجربة والاختيار والابتكار والإبداع، لذلك
كان التفكير نشاط ديناميكي هادف. ولا يعني هذا أن العقل لا يفكر إلا إذا اعترضته
المشكلات الواقعية. فهو في نشاط مستمر، في حالة اليقظة أو الغفلة وما أحلام
اليقظة إلا (استجابات بديلة للاستجابات الواقعية يتخذها الفرد عندما يفشل في أن
يستجيب استجابات واقعية لما يواجهه من مثيرات فيلجأ إلى أوهامه يحقق فيها ما عجز
عن تحقيقه في عالمه الواقعي، وهكذا نستطيع أن نعتبر الأحلام إحدى صور التفكير
الذاتي)[
عبد السلام عبد الغفار، مقدمة في علم النفس العام، دار مكتبة الجامعة العربية،
بيروت، ١٩٦٩، ص٢٦٨.]. ثم إن ارتباط التفكير بالعمل يساعد
الفرد على تحقيق آماله والوصول إلى غاياته. وكلما ارتفع مستوى الإنسان الفكري،
اتجه بصورة أفضل نحو إحلال الأعمال بالأفكار أي يختبر صحة ما يصل إليه بصورة
عقلية قبل أن يقوم بعمل معين، ويصبح التفكير بديلاً للعمل، وذلك لفاعليته
واقتصاديته. لهذا كانت نتيجة التفكير هي الاقتصاد في الوقت والمجهود، وتوفير فرص
أكبر للحياة والبقاء. أما إذا لم يكن للتفكير أثر في زيادة
كفايتنا العملية وتوسيع معرفتنا بأنفسنا وبالعالم الذي نعيشه فيه، وإذا لم يكن
مساعداً على توفير الوقت والجهد، كان تفكيراً ناقصاً ومختلاً، لأن (الأفكار تبقى
ناقصة إذا ما ظلت مجرد فكار، وأن خير ما يقال عنها أنها مؤقتة من قبيل
الاقتراحات والدلالات. فهي أساليب وجوه لمعالجة أوضاع الخبرة، وإذا لم تطبق في
مثل هذه الأوضاع، وبقيت ناقصة في معناها وواقعيتها، فالتطبيق وحده هو الذي
يمتحنها، والامتحان وحده هو الذي يكسوها رداء الحقيقة، ويكسبها كمال المعنى. أما
إذا بقيت الأفكار من غير استعمال فإنها تجنح إلى الانعزال وتكوين عالم خاص بها)[
الديمقراطية والتربة، ج١، ص١٨١.].
وإذا كانت للخبرة أهميتها في عملية التفكير فإنه لا سبيل إلى وجود خبرة ذات
معنى، ودون أن يكون فيها عنصر من التفكير الذي هو (التعبير الصريح عن عنصر
الذكاء في خبرتنا)[
نفسه، ج١، ص١٦٥.]. على أن خبرتنا التي نصوغها في قوالب
تفكيرنا، لا تعني الاهتمام بكل ما ورد فيها، وليس هذا من التفكير في شيء، ما
نفكر به يجب أن نتدبره تدبيراً سليماً، بحيث يكون له أثر في مدى تفاعل الفرد مع
بيئته، وفي حل المشكلات التي تعترضه، وهذا ما أكده جون ديوي بقوله: (فالتفكير في الأشياء كما ترد إلينا هو محاولتنا تعرّف ما تدلنا
عليه من النتائج المحتملة أو المرجحة. أما أن نملأ رؤوسنا كما نملأ الدفاتر بشتى
المعلومات الجزئية باعتبار أنها أشياء كاملة مفروغ منها، فليس ذلك من التفكير في
شيء، إن هو إلا تحويل أنفسنا أجهزة تسجيل. ولكننا إذا تدبرنا تأثير الحوادث فيما
قد يقع وإن لم يقع بعد، فذلك هو التفكير)[ الديمقراطية والتربية،
ج١، ص١٦٦.]. وهكذا فالتفكير هو إحدى المكونات الرئيسية للتنظيم
المعرفي للفرد وأهميته تكمن في إعطائه القدرة على امتلاك البيئة والتحكم فيها،
كما يمكّنه من العمل المثمر الخلاق ويفتح أمامه فرصاً واسعة للنجاح. لذا كان
التفكير عملية لابدّ منها في تنمية الفكر الإنساني وانطلاقه وتحريره من الجهل
والجمود والتقليد. ويعتبر الإمام علي (عليه السلام) من
المفكرين الأوائل الذين أدركوا أهمية التفكير عند الإنسان فأشاد بالعقل ودعا إلى
تنميته بالفكر، لأن الفكر جلاء للعقول، كما أنه يفيد الهداية والرشد واليقظة
والاستبصار، ويعصم عن الضلال والشك. وكثيرة هي العبارات التي صدرت عنه بخصوص هذا
الأمر يقول (عليه السلام): (الفكر يهدي) و(الفكر عبادة)، و(الرأي بالفكر)
و(الفكر رشد) و(الفكر ينير القلب)[ جميع هذه الأقوال أخذت
من كتاب (الغرر والدرر) للآمدي، ص٤٣.]. وهكذا فإن الإمام علي (عليه السلام) يجد في التفكير القدرة على كشف
الحقائق وتخليص العقل من الأوهام والأساطير، كما وأنه يرى فيه الهداية والرشد
والرأي السديد ليس ذلك فحسب، بل أن العلم الحاصل عن التفكير هو من أشرف العلوم
وأكثرها ثباتاً ودقة، وذلك بالقياس إلى ما ندعي امتلاكه بالحفظ والتلقين بلا وعي
ودراية. وما العبرة في علم إذا لم يكن جزءاً من كياننا ومثار سلوكنا ومحقق
أهدافنا وغاياتنا في الحياة؟ فالملاحظة السطحية وغير الكاملة تعيق نمو العقل بل
وتفسده، وعدم التركيز الفكري يعرقل نضوجه وتطوره. لذلك كان التفكير أحد العوامل
الرئيسية في ديناميكية العقل وزيادة إنتاجه، فيجب والحالة هذه أن يكون نمو هذه
الملكة عند الإنسان، هو الهدف الأسمى لعملية التربية والتعليم. لقد قرن (عليه السلام) بين الفكر
والرشد والهداية ـ كذلك فقد قرن بين رفيع العلم وما بني منه على أساس متين من
التفكير عندما قال: (لا علم كالتفكير)[
انظر ح، ج١٨، ص٢٧٦.]. إن اهتمام الإمام (عليه السلام) بهذا
الجوهر الثمين عند الإنسان، بالإضافة إلى ما تضمنه من نشاطات فكرية تجلت في
الحديث عن الله والعالم العلوي، والكون بما فيه من مخلوقات يغلب عليها التعقيد
والغموض، إنما يدعو إلى ضرورة أن يتمتع الإنسان بعمق في التفكير وسعة في الاطلاع
حتى تكون النتائج يقينية بحيث لا يتطرق إليها الخطأ أو الزلل. كما أنها تكشف عن طبيعته الفكرية وما
للعقل من أهمية كبرى في صياغة تفكيره وإبداء وجهات نظره في الكون والحياة وفي
نفسه وكيفية إسعادها من خلال استناد الفكر إلى الخبرة الواسعة والربط بينه وبين
العمل. هذه السمات الفكرية التي أبرزها الإمام
(عليه السلام) إنما ترتكز في أساسها على الإسلام، الأمر الذي يجعل من هذا
الكتاب، إحدى الذخائر الإسلامية الهامة التي لا يمكن الاستغناء عنها في البحث عن
الوسائل والطرق المؤدية إلى حسن إعداد الإنسان للحياة. إن اهتمامه (عليه السلام) بهذا
الجوهر الثمين عند الإنسان، بالإضافة إلى ما أثر عنه من نشاطات فكرية متعددة،
إنما ينم عن عمق في التفكير، وسعة في الاطلاع ودقة في الملاحظة، بها امتاز
وتفوّق على سائر معاصريه، ومن أبرز مظاهر تفكيره ذاك التسلسل المنطقي والتماسك
الفكري الذي نراه بادياً في (النهج) بحيث أن كل فكرة هي نتيجة طبيعية لما قبلها
وعلّة لما بعدها. ولقد كانت غايته من وراء ذلك ليس إبراز مقدرته الفكرية
واللغوية والعلمية، وإنما تشجيعاً لقومه على التفكير، وتحريرهم من رقدة الجهالة،
وتنويرهم بالعبر والأحداث حتى يثوبوا إلى رشدهم ويعيشوا في رحاب العلم والمعرفة
وما ذلك إلا لأن الفكرة تورث النور والغفلة تورث الظلام. |
|||||||||
|
-
التربية والتعليم:
|
|||||||||
|
تربية الإنسان وتعليمه، عملية أساسية
اضطلعت بها الأسرة أولاً، وتولت مهمة القيام عليها منذ نعومة أظفار هذا الكائن
الحي، ثم توالت على ممارستها مؤسسات مختلفة لهذه الغاية. ولقد اختلفت الآراء حول مضمون هذه العملية، وذلك لاختلاف الأنماط الثقافية
والحضارية والتربوية لكل أمة من الأمم، لكنها اتفقت جميعها على كونها طريقة إعداد
للحياة، كما اختفت في معنى كل من التربية والتعليم، فمنهم من استعملها بمعنى
واحد، ومنهم من ميز بينهما. والواقع أن مفهوم التربية يختلف عن
مفهوم التعليم. وعدم التمييز بينهما يؤدي إلى تفكك الأساليب التربوية وتشويش
شخصية الطفل، لأن تزويده بأنواع العلوم والثقافات قبل
تهيئة التربة الصالحة لها، إنما معناه البنيان على
الرمال. ولقد ميز (دي نوي) بين التربية
والتعليم فقال: (فتربية الولد تقوم على تهذيب سجاياه الخلقية وتعليمه المبادئ
الأساسية الثابتة التي يعترف بها الإنسان في كل البلدان، وإنماء الكرامة
الإنسانية فيه منذ نعومة أظفاره. أما تعليمه فهو تغذيته بالمدنية التي جمعها الإنسان في مختلف الحقول. والتربية تصوب أعماله
وتوحي إليه سلوكه في علاقاته مع الناس، وتساعده على تملك زمام نزواته. أما التعليم فيوفر له
عناصر نشاطه الفكري ويعرفه بحالة التمدن الحديث. تعطيه التربية أسس الحياة التي
لا تتبدل، ويمكنه العلم من التكيف حسب تبدلات محيطه، ومن ربط هذه التبدلات
بالحوادث الماضية والمستقبلية)[
مصير الإنسان، ص٣٠١.]. فتربية الطفل إذن تبدأ قبل تعليمه، ولا يخفى أثر هذه التربية الأولى
على شخصيته، إذ على مبادئها ومعطياتها يدرج وينمو ويبني كياناً مستقبلاً فاعلاً.
وهذا ما يفسر ضخامة البناء الفكري الذي يشيده خلال سنيه الأولى، حيث تعمد
التربية إلى كشف وإبراز ما يتمتع به من ميول ومواهب وقدرات وأهداف ليمارسها فيما
بعد بالتعليم والعليم اللذين ليساهما، كما يقول أخوان الصفاء، (سوى إخراج ما في القوة يعني الإمكان، إلى الفعل يعني الوجود)[
أخوان الصفاء، الرسائل، ج١، ص٢٦٢.]. |
|||||||||
|
أولاً:
التربية
|
|||||||||
|
إن تربية الطفل إذن، يجب أن تبدأ منذ
المهد، وذلك بتنشئته على الأخلاق الفاضلة والعادات الحسنة، قبل أن يبدأ باكتساب
العلوم أو يتشوه سلوكه بالعادات السيئة. يقول (دي نوي): (وعلى التربية الأولى أن
تكيف أخلاق الولد ما دام دماغه ليناً خلواً من كل أثر وينبغي أن يتم هذا العمل
الإعدادي قبل أن يكون احتكاك شخصيته بالعلم قد كوّن عادات يصبح من الضروري
محاربتها يوماً ما)[
مصير الإنسان، ص٣٠٥-٣٠٧.]. ولا شك في أن هذه الفترة، من حياة
الطفل إنما هي من أنسب الفترات وأخصبها وأكثرها أثراً على حياته ومستقبله، وذلك أنه (بقدر ما يكون الولد حديث
السن، يسهل الحصول على نتيجة تربيته، فتنطبع القواعد فيه انطباعاً لا يمحى،
وتأتي التأثيرات الأخرى الناتجة عن احتكاكه بالمحيط فلا تزيل أثرها. أما إذا
جاءت القواعد الخلقية المعقدة وفرضت على الولد، بعد أن يكون سلك سلوكاً شخصياً،
فلسنا نتمكن من محو الارتكاسات الذاتية)[ المصدر نفسه، ص٣٠٥-٣٠٧.]. ولقد تحدث الإمام علي (عليه السلام) عن
هذا الأمر قبل ذلك بآلاف
السنين. إذ يرى وجوب مباشرة الحدث بالتربية وتعهده بها، قبل أن يقسو قلبه أو
ينشغل عقله بالعقائد والعادات السيئة التي تهجم عليه وتطبع سلوكه إذا ما وجدت
سبيلاً لها إلى عقله، الذي يصوره الإمام (عليه السلام) بقوله: كـ(الصفحة البيضاء) أو كـ(الأرض الخالية ما
ألقي فيها من شيء إلا قبلته)[
انظر ح، ج١٦، ص٦٦.]. وهكذا، فقلب الحدث خال من الانتقاش
بالعقائد مع استعداده لتقبل ما يلقى إليه من خير أو شر كما يقول الغزالي: (وقلب الطفل الطاهر، جوهرة نفيسة
ساذجة عن كل نقش وصورة، وهو قابل لكل ما نقش، ومائل إلى كل ما يمال به إليه، فإن
عود الخير وعلمه نشأ عليه وسعد في الدنيا والآخرة.. وإن عود الشر وأهمل إهمال
البهائم شقي وهلك)[
إحياء علوم الدين، ج٣، ص٧٢.]. نستنتج من ذلك أن المعرفة لا تولد مع الشخص، وإنما
يولد معه الاستعداد لتحصيلها، وهذا هو معنى وجود العلم بالقوة في النفس
الإنسانية. وهو قابل للتعلم منذ صغره، لأن حواسه ومداركه تكون منفتحة ومتيقظة
ومستعدة لتقبل ما يلقى إليها، (فإنه في الوقت والساعة تدرك حواسه محسوساتها)[
رسائل أخوان الصفاء، ج٣، ص٤١٤.]. |
|||||||||
|
١-
وظائف التربية:
|
|||||||||
|
ولا تقتصر وظيفة التربية على إعداد
الإنسان أخلاقياً صالحاً بل هي تمتد لتلعب دورها في تطور البناء الاجتماعي من
خلال: نقل التراث الثقافي وتغيير كيان الفرد والمجتمع. |
|||||||||
|
ـ نقل التراث الثقافي |
|||||||||
|
إن تحليل معنى التراث الثقافي وعلاقة
الإنسان به، يوضح مدى أهمية العملية الاجتماعية التي يتم بواسطتها نقل الأنماط
الثقافية من جيل إلى آخر يأتي بعده. فالثقافة تعني مختلف وسائل التعبير
وأنماط السلوك التي تبرز خصوصية شعب من الشعوب، لذلك فهي تشمل، استناداً إلى رأي
الأنثروبولوجين الأميركيين بشكل خاص (على كل أنماط السلوك التي يعبر بها الإنسان
عن نفسه والتي يشاركه فيها الآخرون، فهي تشمل الأدب والفن والديانات
والميثولوجيات والأخلاق أو الآداب القومية والشعبية ومظاهر الحياة الاجتماعية من
لباس وتزيين وكيفية طبخ وأكل.. الخ، فهذه كلها تعابير ورموز وآيات يعبر بها
الإنسان عن نفسه، فهي ثقافته حتى لو كانت تقتصر على بعض المظاهر الفلكلورية)[
العروي، عبد الله، العرب والفكر التاريخي، دار الحقيقة، بيروت، ١٩٧٣، ص٧٠.]. وإذا كان التراث الثقافي مبعث آمال
الأئمة وملهم مشاعرها وعنوان تقدمها والانقطاع عنه يؤدي إلى هدم الأساس الذي
تقوم عليه حضارتها، فإن إعادة نبش هذا التراث من بطون التاريخ، ونفض الغبار عنه
وصياغته صياغة جديدة تقتضيها الحال عملية تربوية شاقة يضطلع بها الجيل السابق
لتقديمه غذاءً سائغاً إلى الناشئة من الأجيال اللاحقة. ومن هذا المنطق، فقد عرفت
التربية بحسب دلالتها وعلاقتها بالحياة الاجتماعية. وهذا ما فعله المفكر
الاجتماعي المشهور (اميل دوركهايم) في أوائل القرن الحالي، بقوله أنها (التأثير
الذي يجزيه الجيل الراشد في الجيل الناشئ)[ الحصري، ساطع: دراسات
في مقدمة ابن خلدون، دار الكتاب العربي، بيروت، ط٣، ص١٩٦٧، ص٤٤٤.] ، وهذا ما كان قد عبر عنه ابن خلدون في الربع الأخير من القرن
الرابع عشر، عندما نظر إلى القضية، نظرة المفكر الاجتماعية ولاحظ أن الجيل
الناشئ يتشوق إلى تلقي العلوم والمعارف من الجيل الذي سبقه فيقول: (وهي مع ذلك
صنائع يتلقاها الآخر عن الأول منهم)[ ابن خلدون، المقدمة،
دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط٥، د. ت. ص٤٣٣.]. وقول ابن خلدون هذا
لا يختلف معنى ومدلولاً عن قول (إميل دوركهايم) السالف الذكر. ولقد تحدث الإمام (عليه السلام) عن
هذا التفاعل الثقافي والاتصال الفكري بين الماضي والحاضر، انطلاقاً من تراث
الإسلام المشرق، الذي صوره أقوالاً وأفعالاً ومبادئ تربوية يمكن الاستفادة منها
في بناء الإنسان الفاضل، ومن تأكيده على أهمية هذا التراث وأثره الفعال في شحذ
الهمم، نراه يتوجه إلى كل إنسان بما يراه صالحاً له في الدنيا والآخرة، فينقل
إليه آثار الأولين والآخرين، نقية صافية من الأخطاء والشوائب من خلال السير في
ديارهم وتتبع آثارهم وتمييز ما ينفع وما يضر منها. فالاتصال بالجذور لا ينبغي أن
يكون عشوائياً بحيث يجذبنا التراث ويأسر أفئدتنا فنأخذ منه الغث والثمين. لهذا
وحرصاً على صلاحية الهدف الذي نتوخاه من التربية يجب (أن لا يكون الاتصال
بالماضي ضرباً من التبعية أو العبودية لهذا الماضي إذ لابدّ لنا من أن نجتهد على
الماضي فنتجنب السلبيات ونؤكد على الإيجابيات)[ لبنان الحضارة الواحدة،
لمجموعة من الأستاذة، صدر عن النادي الثقافي العربي في بيروت، وهذا النص أخذ من
مقال الدكتور معن زيادة في هذا الكتاب، ص٢١.]. كذلك، فإن محتوى النقل الثقافي يجب
أن يكون هادفاً بحيث يتحدد بنوع المواطنة الصالحة التي نريدها ونوع المجتمع الذي
ينبغي بناؤه وتكوينه بحيث تكون أهداف التربية منسجمة مع أهداف المجتمع حتى لا
يحصل التناقض بينهما فتكون النتيجة خلاف ما نتوخاه ونعمل له. وليس أدل على ذلك
من الاضطراب والتفكك الذي يظهر في المجتمعات التي تنشد التطور بينما هي ترزح تحت
عبء القيم التربوية البالية والمتأخرة. لهذا (.. فالتربية ملزمة بهذه الوظيفة
وعلى عاتقها يقع عبء الاختيار من بين الاتجاهات والقيم والعادات والمعارف
والعلوم التي توجد في المجتمع على أساس التمييز بين المرغوب فيها والمرغوب عنها،
ذلك أن كل مجتمع يتضمن الكثير من العناصر المختلطة والأفكار المتنوعة، والقيم
المتعارضة المتشابكة. فوظيفة التربية في هذا المجال تكمن في تنمية الاتجاهات
والقيم المنتقاة على ضوء الأهداف العليا لذلك المجتمع)[ علي محمد الحسين
الأديب، منهج التربية عند الإمام علي، دار الكتاب العربي، بيروت، ط٢، ١٩٧٩، ص٥٣.]. من أجل ذلك فإن أول ما يجب أن تنقله
التربية إلى الأجيال الناشئة، هو كتاب الله، تنقله إليهم نقباً صافياً، خالياً
من الشوائب باعتباره من أهم الركائز التي يجب أن يستند إليها الإنسان طيلة حياته
لتقويم اعوجاج سلوكه وتنقية نفسه من الأدران التي علقت بها من جراء الابتعاد عن
السبيل الصالح الذي رسمه الله في كتابه الكريم. وهذا ما أكده (عليه السلام) حيث
اعتبر القرآن الأداة الفعالة في بناء الفرد والجماعة، فقال في وصية الحسن (عليه
السلام)، المولود البكر لأمير المؤمنين والإمام الثاني من أئمة أهل البيت: (وأن
ابتدئُك بتعليم كتاب الله عزّ وجلّ، وتأويله وشرائع الإسلام وأحكامه وحلاله
وحرامه لا أجاوز ذلك بك إلى غيره)[ انظر ح، ج١٦، ص٦٨.]. لقد كانت الغاية من وراء ذلك، أن
يزود الحسن (عليه السلام) ومن خلاله أهل الإسلام جميعهم بمقومات التغيير قبل أن
تلتبس عليه أهواء الناس وآرائهم ومعتقداتهم الباطلة فيقول، (ثم أشفقت أن يلتبس
عليك ما اختلف الناس فيه من أهوائهم وآرائهم مثل الذي التبس عليهم فكان أحكام
ذلك على ما كرهت من تنبيهك له أحب إليّ من إسلامك إلى أمر لا آمن عليك فيه
الهلكة ورجوت أن يوفقك الله لرشدك، وإن يهديك لقصدك فعهدت إليك وصيتي هذه)[
نفسه، ج١٦، ص٦٨.]. هذا المبدأ التربوي الهام الذي قرره
الإمام (عليه السلام) منذ أمد بعيد إنما يقضي باستغلال نقاوة الفكر الإنساني
لزرعه بالمعلومات الصحيحة. قبل أن تهجم عليه الأخلاق الذميمة والآراء الفاسدة
الأمر الذي يجعل من الصعب على التربية أن تعيد تشكيله من جديد، وهذا يتوافق مع
أحدث المناهج التربوية في يومنا هذا. |
|||||||||
|
ـ التغيير الفردي والاجتماعي |
|||||||||
|
ويقصد به كل تحول يحدث في كيان الفرد
والمجتمع، وهذا التحول ينتج عن الصراع بين القديم والجديد، وعلى أساس هذا الصراع
تتحدد وجهة سير هذا التغيير وسرعته. ذلك أن كل نمط ثقافي جديد يقابل بموقفين
متعارضين أحدهما يدفعها إلى الأمام، والآخر يشده إلى الوراء. لهذا فالثقة
الاجتماعية، إما أن تكون متطورة (ديناميكية) ترحب بالجديد وتتفاعل معه، وإما أن
تكون جامدة (استاتيكية) تحافظ على القديم وتصدر رياح التغيير عنه. من هذا المنطق،
فإن موضوع التغيير الذي تحدثه التربية، أصبح من أهم موضوعات علم الاجتماع ممّا
يفرضه على الأفراد والمجتمعات من تحولات متفاوتة بين القوة والضعف، ولها أثرها
في إعادة ترتيب الحياة من جديد. إلا أن هذا التغيير لن يؤتي ثماره ما لم تتوفر
له القيادة المتميزة بالصلابة والتماسك والتي لا ترضخ لعنف الرفض والمقاومة. |
|||||||||
|
أ) التغير على مستوى الفرد |
|||||||||
|
إن التغير الذي تحدث التربية في
نفسية الفرد، إنما هو بداية للتحول العظيم الذي سيطال المجتمع ككل. وبما أن
للقيادة دورها الهام في إحداث التغيير المطلوب، فإن الاقتداء بها أمر يساهم في
سرعة هذا التغيير. ولقد أعطى (عليه السلام) القدوة التي يجب أن تحتذى لحسم صراع
النفس مع شهواتها لصالح الإنسان الفاضل وكانت وصاياه ومواعظه تصب في هذا الإطار
فيقول في وصية إلى (شريح بن هانئ): (واعلم أنك لم تردع نفسك عن كثير ممّا تحب
مخافة مكروه، سمت بك الأهواء إلى كثير من الضرر فكن لنفسك مانعاً رادعاً،
ولنزواتك عند الحفيظة واقماً قامعاً)[ انظر ح، ج١٧، ص١٣٨.]. وردع النفس عن شهواتها يستلزم الزهد
في الدنيا، وما أكثر الخطب والمواعظ التي أوردها الإمام في الزهد تشبهاً بحياة
الرسول والاقتداء به حتى قال فيه عمر بن عبد العزيز: (ما علمنا أن أحداً كان في
هذه الأمة بعد النبي أزهد من علي بن أبي طالب)[ فضائل أمير المؤمنين
وإمامته، ج٢، ص٣٤٥.]. ولا شك أن السيطرة على أهواء النفس
والزهد في الدنيا من أكثر الأمور المشجعة على السلوك الفاضل. والتربية التي
نعتمدها، إنما تساهم في تنمية الحس الخلقي للفرد وصياغة فكره قوالب معينة وبفضل
التربية ينتقل الإنسان من بيداء الجهل إلى ميادين العلم والمعرفة كما في وصية
الحسن (عليه السلام): (فإنك أول ما خلقت به جاهلاً ثم علمت، وما أكثر ما تجهل من
الأمر ويتحير فيه رأيك، ويضل فيه بصرك، ثم تبصره بعد ذلك)[
انظر ح، ج١٦، ص٧٤.]. |
|||||||||
|
ب) التغير على مستوى المجتمع |
|||||||||
|
إن التغير على مستوى المجتمع لا يتم
بالصورة التي يتمناها رواد التربية فقد يكون سهل المنال وقد يقاوم بمعارضة
شديدة، والمقاومة هي الأكثر حصولاً لتشبث القديم بقدمه، ورغبة الجديد في التطور
والتقدم. وهذه حال رواد الصلاح والتغيير في العالم. وقس على ذلك حال الأنبياء
والرسل والأئمة، والتاريخ يشهد بذلك. لقد جاوبه الإمام علي (عليه السلام)
بمقاومة عنيفة من الفئات التي كانت تفضل الركود والجمود حرصاً على مصالحها
وامتيازاتها فوقفت سداً منيعاً أمام رياح التغيير وحاولت منعه من تنفيذ برنامجه
في الإصلاح، وقبل ذلك وقف النبي محمد (صلّى الله عليه وآله) ومعه الإيمان كله
يصد موجات الكفر والضلال التي رفضت دعوته وأبت عليه مهمته في قهر الشرك ورسم
معالم التوحيد. إن روح الإصلاح والتغيير التي تنبعث
من كلمات الإمام علي (عليه السلام) وتتأكد في مواقف ومناسبات عديدة، تقابل
بالإصرار على العنف والرفض والمعاناة كما يقول (عليه السلام): فأراد قومنا قتل نبينا واجتياح أصلنا، وهموا بنا الهموم وفعلوا
بنا الأفاعيل ومنعونا العذب، وأحلسونا الخوف واضطرونا إلى جبل وعر، وأوقدوا لنا
نار الحرب)[
انظر ح، ج١٤، ص٤٧.]. إن حسم الصراع لن يتم إلا بالثبات في
المواقف والتماسك في النفس حتى في أحلك الظروف، فلا يفت اليأس من عضد القائد أو
يتسرب إلى قلبه ولا يرهبه عنف الصراع واحتدامه، فالتربية التي يتحدث عنها الإمام (عليه السلام) هي تلك التي تبني كياناً للإنسان
يلزمه باتخاذ المواقف الأكثر صلابة تجاه الحق، فلا تؤثر فيه الإغراءات، ولا
تخيفه الأعاصير كما جاء في قوله إلى أخيه عقيل: (لا تزيدني كثرة الناس حولي عزة، ولا تفرقهم عني وحشة، ولا تحسبنّ
ابن أبيك ـ ولو أسلمه الناس ـ متضرعاً متخشعاً، ولا مقراً للضيم واهناً، ولا
سلسل الزمام للقائد ولا وطئ الظهر للراكب المقتعد)[ المصدر نفسه، ج١٦،
ص١٤٨.]. ولا شك من أن لهذا الثبات والتصميم
في إزالة كل العوائق التي تحول دون بلوغ التغيير الاجتماعي الهادف، دوراً هاماً
في تحقيق النصر النهائي بهدم صروح الحضارة البالية والتشييد لبناء حضارة خالدة (فلما رأى الله صدقنا أنزل بعدونا
الكتب وأنزل علينا النصر)[
المصدر نفسه، ج٤، ص٣٣.]. |
|||||||||
|
ثانياً:
التعليم
|
|||||||||
|
الفكر خاصية الإنسان وحده، به تجلى
وتميز عن سائر الخلق، فهو في مواجهته للواقع لا يفتر عن الفكر طرفة عين، حيث
تنشأ العلوم والصنائع المختلفة. وحاجة الإنسان لا تستقر على نوع معين من العلوم،
لذلك فهو يرغب في تحصيل ما ليس عنده منها، من أجل إشباع ما تستدعيه طباعه من
الحاجات والرغبات. ولن يتم له ذلك إلا بأخذه ممن سبقه أو زاد عليه في العلم
والمعرفة. ومن هنا جاء العليم. فالعلم والتعليم حاجة طبيعية، فرضها العمران
البشري، كما يقول ابن خلدون (فقد تبين بذلك أن العلم والتعليم طبيعي في البشر)[
المقدمة، ص٤٠٣.]. وبالرغم من أن للعوامل الوراثية
دورها في تحديد مواهب الفرد وميوله واستعداداته فإن مدى تحقيق هذه الإمكانيات
يتوقف على البيئة، بما تتيحه من وسائل التعلم والتدريب. لذا فقد أعطت الأمم
والشعوب للتعليم مكانة بارزة في دساتيرها، وأفسحت بالمجال لدور العلم فيها،
وشجعت على طلبه بوسائل عدة، لما كانت تأمله فيه من تقدم وازدهار يطال جميع
مرافقها ومؤسساتها. ولقد كان الإسلام في طليعة الأديان
الداعية إلى تعلم العلم والتشدد في طلبه وأخذه من أي مصدر كان. وكان النبي (صلّى
الله عليه وآله) يشجع التعليم قولاً وعملاً، فيطلق سراح أسرى الحروب إذا علموا
المسلمين القراءة والكتابة، ممّا يدل على الأهمية التي كان يعطيها للعلم
والتعليم في بناء الفرد والجماعة. يقول الابراشي: (إن التربية أساس النجاح للفرد
والمجتمع. لذلك تنفق الحكومات في الأمم المتمدنة بسخاء على التعليم، موقنة أن في
التعليم قوة، وقوة كبيرة في ترقية الفرد والنهوض بالمجتمع إلى حياة راقية وعيشة
راضية، والتاريخ خير دليل على أن بالتربية والتعليم تحيا الشعوب من موتها،
وتنتبه من غفلتها، وتقلل سجوتها)[
التربية والحياة، ص٢٤.]. ولم يتخلف الإمام علي (عليه السلام)
عن الدعوة التي أطلقها النبي (صلّى الله عليه وآله) في طلب العلم وممارسته في
الحياة، وهو الذي كان يعتبر الجهل الفقر الأكبر الذي يقود إلى العمى والضلال في
حين أن العلم يحلق بالإنسان في رحاب المعرفة والفضيلة ويسمو به عن الصغائر ليعيش
في ملكوت الحق، فقال: (اعلموا أن كمال الدين طلب العلم والعمل به)[
تحف العقول، ص١٤١.]. |
|||||||||
|
||||||||||
|
يورد (عليه السلام) طرقاً مختلفة،
على طالب العلم أن يسلكها للحصول عليه منها: |
|||||||||
|
أ. الفقه في القرآن |
|||||||||
|
الإسلام يؤمن بالعلم وبقدرته الفائقة
على الخلق والإبداع. ولقد رفع إلله في كتابه العزيز، من شأن الذين آمنوا وعملوا،
فقال عزّ القائل: (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ
أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ)[
سورة المجادلة، الآية ١١.] وميز بين الذين يعلمون والذين لا يعلمون فقال سبحانه: (قُلْ هَلْ
يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ)[
سورة الزمر، الآية ٩.]. والقرآن، كلام الله، وموضع علمه ومحط
رسالته، فيه علم الأولين والآخرين، فهو الدواء الشافي من الأمراض والعلل،
والمرشد الأمين إلى الهداية والاستقامة. لذلك فقد دعا الإمام علي (عليه السلام)
إلى تعلمه والتفقه فيه والعمل به فقال: (وتعلموا القرآن فإنه أحسن الحديث،
وتفقهوا فيه فإنه ربيع القلوب واستشفوا بنوره فإنه شفاء الصدور وأحسنوا تلاوته
فإنه أنفع القصص)[
انظر ح، ج٧، ص٢٢١.]. |
|||||||||
|
ب. المحاكاة |
|||||||||
|
وهي تعني التشبه بأقوال وأفعال
الصالحين، ممن تتوفر فهيم ملكات العلم والأخلاق وهذا ما تحدث عنه (عليه السلام)
حين أمر بـ(الأخذ بما مضى عليه الأولون من آبائك، والصالحون من أهل بيتك)[
المصدر نفسه، ج١٦، ص٧٠.]. إلا أن المحاكاة، وإن كانت من طبيعة
الفكر الانساني، فهي غير مأمونة من الخطأ كما يقول ابن خلدون (والمحاكاة للإنسان
طبيعة معروفة، ومن الغلط غير مأمونة وتخرجه مع الذهول والغفلة، عن قصده وتعوج به
عن مرامه، فربما يسمع السامع كثيراً من أخبار الماضين ولا يتفطن لما وقع من تغير
الأحوال وانقلابها، فيجريها لأول وهلة على ما عرف ويقيسها بما شهد، وقد يكون
الفرق بينهما كثيراً، فيقع في مهواة من الغلط)[ المقدمة، ص٢٩.]. من هذا الباب، فإن الإمام علي (عليه
السلام) لم يدع إلى محاكاة الأولين دون إمعان النظر فيما نأخذه منهم، وما إذا
كان يتناسب مع الظروف الحالية أم لا، فالتقليد الأعمى مرفوض وما نأخذه عن
الماضين يجب أن يكون مستنداً إلى التفهم حتى لا نقع في الشبهات والخصومات كما
يقول: (فإن أبت نفسك أن تقبل ذلك دون أن تعلم كما علموا، فليكن طلبك ذلك بتفهم
وتعلم، لا بتورط الشبهات، وعلق الخصومات)[ انظر ح، ج١٦، ص٧٠.]. |
|||||||||
|
ج. مجالسة العلماء والحكماء وأصحاب
التجارب |
|||||||||
|
والعلم لا يحصل بمجرد قراءته أو
حفظه، بل لابدّ من المناقشة والمناظرة في مواضعه وذلك بارتياد المجالس العلمية
والمحافل الأدبية، وبحضور مشاهير المعلمين من العلماء والحكماء وأصحاب التجارب
الحياتية، حتى تحصل الملكة العلمية، ولن تكون إلا (بالمحاورة، والمناظرة في
المسائل العلمية، فهو الذي يقرب شأنها ويحصل مرامها)[ المقدمة، ص٤٣١.] ، كما قال ابن خلدون. وكان الإمام (عليه السلام) يوصي
بضرورة مدارسة العلماء ومناقشة الحكماء للاستفادة منهم فيقول: (أكثر من مدارسة
العلماء ومناقشة الحكماء)[
انظر ح، ج١٧، ص٤٧.].
كما كان يحث على مجالسة أصحاب التجارب للاعتبار والاتعاظ بهم فيقول: (عليك
بمجالسة أصحاب التجارب)[
انظر ح، ج٢٠، ص٣٣٥.] ، ولم يفرق في هذا الأمر، بين صديق أو عدو، فالعلم لا ينبغي أن
يكون حكراً لأحد، بل هو مشاع للجميع، يطلبه أياً كان مصدره، فيقول: (جالس
العقلاء، أعداء كانوا أم أصدقاء، فإن العقل يقع على العقل)[
المصدر نفسه، ج٢٠، ص٣١٢.]. وهكذا فالتعلم بالمناقشة والمناظرة
أفضل بكثير من التلقين والحفظ، وهو من المبادئ التربوية الهامة التي أقرت بها
التربية الحديثة. ولقد أعطى (عليه السلام) الأهمية
الكبرى للسؤال باعتباره العامل الذي يضفي على المناظرة الحيوية والنشاط، وهذا ما تعتمده التربية الحديثة
التي تنظر إلى التعليم على أنه عملية ديناميكية تراهن على إيجابية التعلم
وفاعليته بعيداً عن التلقين. إلا أن فلسفة طرح السؤال ينبغي أن تؤخذ بعين الاعتبار، بحيث يفضي
التساؤل إلى المعرفة لا إلى الجدل والسفسطة الكلامية. فالسؤال هو لإثارة العقل على
التفكير والبحث، وبالتالي ليس أداة للهزل وإضاعة الوقت أو للتساؤل عن أشياء لا
يبلغها العقل، فهذا من باب التعنت لا التعلم: (سل تفقهاً ولا تسأل تعنتاً، فإن الجاهل المتعلم شبيه بالعالم، وإن
العالِم المتعنت شبيه بالجاهل)[
المصدر نفسه، ج١٩، ص٢٣٢.]. والمناظرة تحتاج إلى تدوين المعلومات
حتى يتسنى للمتعلم مراجعتها عندما تدعو الحاجة إليها، كي يتمكن من حسن الاستفادة
منها ـ فما يجود به العقل، يترجمه القلم، لأن (عقل الكاتب في قلمه)[
المصدر نفسه، ج٢٠، ص٣٢٨.].
فالكتابة حاجة ضرورية للمتعلم، وعدم معرفته بها تحرمه من فرصة النجاح التام في
عملية التعلم، وتفقده أهم وسيلة لجمع المعلومات، لذلك فإن: (عدم المعرفة
بالكتابة زمانة خفية)[
المصدر نفسه، ج٢٠، ص٢٩٧.]. والكتابة تستلزم الخط الجميل، من حيث
تحسين شكل الحروف والفصل بين الكلمات والسطور، ممّا يكون له أثره في سرعة
القراءة والفهم. ويصور الإمام (عليه السلام) ذلك بقوله: (الق دواتك واطل جلفة
قلمك وفرّج بين السطور، وقرمط بين الحروف فإن ذلك أجدر بصباحة الخط)[
المصدر نفسه، ج١٩، ص٢٢٣.]. وليس المهم تنميق الكلام وتزويقه وجذالته،
فهذه أمور قد تشغل من يعمد إليها عن فحوى الكلام ومضمونه، فيظهر غنياً بالشكل لا
بالمضمون، لذلك: (من اشتغل بتفقد اللفظة وطلب السجعة، نسي الحجة)[
انظر ح، ج٢٠، ص٣١٧.]. |
|||||||||
|
٢) أنواع العلوم
|
|||||||||
|
والتربية، كما يتحدث عنها الإمام
(عليه السلام)، دينية ودنيوية والأولى تمهيد للثانية وغايتهما واحدة، هي صلاح
الإنسان في الدارين، أما العلوم المؤدية إليهما، فهي: الشرعية والزمنية، وقد
جمعهما (عليه السلام) معاً عندما قال: (أيها الناس، سلوني قبل أن تفقدوني، فلأنا
بطرق السماء أعلم مني بطرق الأرض)[ المصدر نفسه، ج١٣،
ص١٠١.].
وعندما يتحدث الإمام علي (عليه السلام) عن طرق السماء، فإنما يقصد (العلوم
الشرعية)، ويعني بطرق الأرض (العلوم الزمنية). |
|||||||||
|
والعلوم
الزمنية تنقسم إلى قسمين:
|
|||||||||
|
أ. بديهية: يوحي |
|||||||||
|
بها العقل، ولا
تتطلب التعلم والسماع، بل هي مطبوعة في غريزة العقل حيث يولد الإنسان مفطوراً
عليها كعلمه بأن الكل أكبر من الجزء، أو أن الشيء الواحد لا يكون قديماً وحادثاً
معاً. فهذه الأمور تصدر عن الإنسان العاقل بالبداهة فلا يحتاج لاكتسابها إلى
التعلم. |
|||||||||
|
ب. مكتسبة: |
|||||||||
|
وهي العلوم المستفادة بالتعلم والنظر
العقلي. إن هذا التقسيم للعلوم إلى فطرية ومكتسبة يظهر عند الإمام علي (عليه
السلام) أيضاً في قوله شعراً:
[٢٠]إحياء علوم الدين، ج٣، ص١٦-١٧. ولا يمكن التقرب من الله بالعلوم
الفطرية أو الضرورية، بل بالمكتسبة وليس كل أحد ممن جمع العلوم المكتسبة يستطيع
هذا الأمر لصعوبة إدراك القديم بالعلم الحادث (ولكن مثل علي، رضي الله عنه، هو الذي
يقدر على التقرب باستعمال العقل في اقتناص العلوم التي بها ينال القرب من
العالمين)[
المرجع نفسه.] كما قال الغزالي. |
|||||||||
|
أما
العلوم الدينية
|
|||||||||
|
فهي تلك التي تؤخذ من الأنبياء
تقليداً عن القرآن الكريم، ومن الأئمة تقليداً عن الأنبياء صلوات الله عليهم
أجمعين، فهي إذن تحصل للإنسان بالتعلم عن كتاب الله تعالى وسنّة نبيه وحكمة
أئمته، وبها تكون سلامة القلب من الأدواء والأمراض لأن العلوم العقلية، منها ما
يكون محموداً كالطب والحساب والزراعة وغير ذلك، ومنها ما يكون مذموماً كالسحر
والطلسمات والنجوم. لذلك فإن مباشرة الإنسان بتعلم العلوم الدينية، تفتح بصيرته
وتنمي فيه ملكة التمييز بين الصالح والطالح من العلوم فيختار منها ما يفيده في
دنياه وآخرته. |
|||||||||
|
٣- فضيلة العلم
|
|||||||||
|
إن تشبع الإمام (عليه السلام)
بالعلوم الدينية والدنيوية يدل على مدى الاهتمام بالعلم وتفضيله على سائر مغريات
الحياة ومنها المال، فالعلم، مقياس تطور الأمم والشعوب ومعيار تفاضل البشر.
والقلوب البشرية باعتبارها مستودع العواطف والمشاعر والنزعات، إنما تتفاضل بمدى
وعيها وإدراكها لقيم الحق والخير كما جاء في قوله (عليه السلام) (إن هذه القلوب
أوعية فخيرها أوعاها)[
انظر ح، ج١٨، ص٣٤٦.] لذلك هو يقسم الناس في العلم إلى ثلاثة أقسام: ـ عالم رباني. ـ ومتعلم على سبيل نجاة. ـ وهمج رعاع أتباع كل ناعق، يميلون مع
كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجئوا إلى ركن وثيق. ثم يفاضل بني العلم والمال، مبيناً
ميزات كل منهما حتى يخلص إلى تقديم الأول على الآخر، فيقول: (العلم خير من
المال)[
المصدر نفسه، ص٣٤٦.]. وما يرثه الإنسان من علم هو أفضل ما
يرثه من مال لأن (العلم وراثة كريمة)[ المصدر نفسه، ص٩٣.].
وقد تسامى بهذه الوراثة وجعلها من أشرف الأشياء، (أشرف الأشياء العلم)[
المصدر نفسه، ج٢٠، ص٤٨٨.] ، وقصر السعادة التامة عليها (السعادة التامة بالعلم)[
المصدر نفسه، ج٢٠، ص٣٠٧.] وجعلها الأداة التي يصول بها الإنسان ويجول (العلم سلطان من وجده
صال به، ومن لم يجده صيل عليه)[
المصدر نفسه، ج٢٠، ص٣١٩.] والعلم هو الملكة التي يفتخر بها العالم على أهل الجهل. كما يقول الإمام علي شعراً:
[1]إحياء علوم الدين، ج١، ص٧. من أجل ذلك كانت دعوته إلى ضرورة
الاهتمام بالعلم، والعمل على أخذه من أي مصدر كان، لأن العلم لا حدود له ولا
يعترف بالتعصب والقبلية لذا وجب على الإنسان أن ينشده من الأعداء الأصدقاء على
السواء (الحكمة ضالة المؤمن، فخذ الحكمة ولو من أهل النفاق)[
انظر ح، ج١٨، ص٢٢٩.]. فالحياة لا تطلب لذاتها، ولكن لأجل
أن يثبت الإنسان وجوده، ويحقق إنسانيته ولن يتسنى له ذلك بممارسة الشهوات
والانغماس في الملذات، فهذه أمور الغاية منها تنمية الجسم ومساعدته على مباشرة
الحياة السامية، (لا تطلب الحياة لتأكل، بل اطلب الأكل لتحيا)[
المصدر نفسه، ج١٠، ص٣٣٣.]. أما من اقتصر في حياته على الشهوات
كان أشبه بالبهيمة التي همها علفها، فانحدر مستواه الخلقي إلى درجة لا يحمد
عقباها، فصار عبداً لها تقوده إلى ما فيه هدر كرامته وضياع إنسانيته، لهذا فإن
(من ترك الشهوات كان حراً)[
تحف العقول، ص٦٥.].
كما يقول الإمام علي ولا سبيل له إلى التخلص من عبوديته إلا بطلب العلم الذي
ينير قلبه، ويفتح بصيرته. لذا كان العلم أشرف مطلوب، والاهتمام به يفوق سائر
الاهتمامات ومن زهد به وشغف بالشهوات، إنما يحكم عليه بالبوار والخسران المبين
وينعي (عليه السلام) على أولئك الذين بإمكانهم أن يكونوا أناساً شرفاء، مخلدين
في الحياة بعلومهم، ولكنهم انحدروا، لسوء ما اختاروه من زخرف الحياة وبهرجتها
إلى مستوى البهائم السافلة فيقول: (قبيح بذي العقل أن يكون بهيمة وقد أمكنه أن
يكون إنساناً، وقد أمكنه أن يكون ملكاً، وأن يرضى لنفسه بقنية معارة وحياة
مستردة وله أن يتخذ قنية مخلدة، وحياة مؤبدة)[ انظر ح، ج٢٠، ص٣٠٦.]. والكرامة التي يستمدها الإنسان من
ماله أو سلطانه، إنما هي مزيفة لأنها متوقفة عليهما فإذا زالا زالت معهما. أما
الكرامة الحقيقية، فهي تلك التي يوجبها العلم والأب سواء كان الإنسان غنياً أم
فقيراً، قوياً أم ضعيفاً، فهي حق مكتسب ومفروض، لذا كان الاعتبار للعلم وليس
للمال فيقول: (إذا أكرمك الناس لمال أو سلطان، فلا يعجبنك ذاك، فإن زوال الكرامة
بزوالها، ولكن ليعجبك أن أكرمك الناس لدين أو أدب)[ المصدر نفسه، ج١٠،
ص٣١٣.].
من هنا: (يجب على العاقل أن يكون بما أحيا عقله من الحكمة أكلف منه بما أحيا
جسمه من الغذاء)[
انظر ح، ج٢٠، ص٣٢٢.].
لذا فإن قيمة الإنسان، هي بما يحسنه من العلوم الآداب التي بها يتفاضل الناس لا
بالحسب والنسب والجاه والسلطان وغير ذلك من الاعتبارات التي لا توازي العلم قيمة
وشرفاً واعتباراً. قال ابن عبد البر: (إن قول علي بن أبي طالب (قيمة كل امرئ ما
يحسنه) لم يسبقه إليه أحد. قال: (وقالوا: ليس كلمة أحض على طلب العلم منها،
وقالوا: ولا كلمة أضر بالعلم والعلماء والمتعلمين من قول القائل (ما ترك الأول
للآخر شيئاً). قال ابن عبد البر: قول علي هذا من الكلام المعجب الخطير، وقد طار
له الناس كل مصير ونظمه جماعة من الشعراء إعجاباً به، وكلفاً بحسنه)[
الدمشقي، جمال الدين، تاريخ الجهمية والمعتزلة، مطبعة المنار بمصر، ١٣٣١هـ، ص٨٣.]. |
|||||||||
|
٤) آفة العلم
|
|||||||||
|
وإذا كان للعلم هذه الفضائل الجمة
التي تستوجب طلبه وأخذه من أي مصدر كان، فإنه من ناحية أخرى قد يكون وبالاً على
حامله، ومصدر شر له ولأبناء جنسه، فالعلم سلاح ذو حدين، قد يستعمل للخير والصلاح
وقد يستعمل للشر والفساد والإنسان هو الذي يحدد وجهة سيره. وما يميز الإنسان هو
وجود القيم الخلقية والفكرية فيه، تلك التي تعطي للحياة معنى وقيمة. وكم نحن
بحاجة اليوم إلى مثل هذه القيم، وخاصة الخلقية منها، في عصر طغت عليه الفلسفة
المادية وفصل الدين عن الحياة. يقول محمد قطب (ونشأت على أنقاض الكنيسة والدين
فلسفة مادية بحتة، تستمد وحيها من الأرض، من واقع الحواس، ولا ترتفع ببصرها لحظة
واحدة إلى السماء)[
محمد قطب، الإنسان بين المادية والإسلام، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، ط٤،
ص١٩٦٥، ص١٦.]. لقد أخضعت هذه الفلسفة، الكون
والإنسان لأحكام القياس والتجريب تماماً كما تخضع العلوم الطبيعية والفيزيائية
لقوانين عامة وثابتة، دون تمييز بين المادة الجامدة والمادة الحية. يقول طلال
عتريسي: (هذه الفلسفة (المادية) لم تكتف بإخضاع الكون وحركته ووجوده لمفاهيم
العقل وقدرته، وللحواس وحدودها ولأحكام القياس والتجريب، دون الاعتقاد بأية قوة
خارجة عن الإدراك المباشر والمحسوس، بل أخضعت كذلك وجود الإنسان بكل أبعاده
لأحكام القياس والتجريب نفسها، ونشطت الأبحاث والنظريات التي تفصل مشاعر الإنسان
وأحاسيسه عن بعضها لدراستها دراسة (علمية) ومخبرية، هذا، رغم الحركة الدقيقة
والمتشابكة لهذه المشاعر والأحاسيس)[ مجلة الفكر العربي،
ع٢١، أيار/حزيران/تموز١٩٨١، ص٤٤١.]. لذلك فإن خلاص البشرية يكمن في تخليص
العلم من آفاته وتنمية الحس الخلقي من خلال تعزيز أثر الدين في النفوس. هذه الحقيقة تبدو في (نهج) الإمام
علي جلية واضحة. فهو من جهة يدعو إلى احترام العلم، وإجلاله، ويعتبره (أفضل
الكنوز وأجملها، خفيف المحمل، عظيم الجدوى، في الملأ جمال، وفي الوحدة أنس)[
انظر ح، ج٢٠، ص٣٣٩.] ، إلا أنه من جهة ثانية يوصي بحسن الخلق فيقول: (ما من شيء في
الميزان أثقل من خلق حسن)[
المصدر نفسه، ج٦، ص٣٤٠.] و(عنوان صحيفة المؤمن حسن خلقه)[ المصدر نفسه، ج٦، ص٣٤٠.] و(عليكم بحسن الخلق فإنه في الجنة، وإياكم وسوء الخلق فإنه في
النار)[
المصدر نفسه، ج٦، ص٣٤٠.]. إن الربط بين القيم الخلقية
والفكرية، كفيل بتقدم البشرية وسيرها في ركب الحضارة، في حين أن الفصل بينهما،
آفة تقضي عليها وتهبط بها إلى الحضيض. ومن آفات العلم، العجب، وهي نقيصة
تدعو إلى الكبر وتجاهل الأخطاء، والذنوب، والاستبداد بالرأي وترك المشورة،
واستجهال الناس واحتقارهم والأنفة عن المساواة بهم ولذلك فقد نهى عنه، وحذر منه
بقوله: (حصن علمك من العجب)[
المصدر نفسه، ج٢٠، ص٣١٨.].
في حين أن التواضع زين للعالم وشرف له (التواضع إحدى مصايد الشرف)[
المصدر نفسه، ج٢٠، ص٢٩٠.]. ومن آفات العلم أيضاً الطمع
والاسترسال في الشهوات والملذات ممّا يؤدي إلى الاهتمام بأحوال الجسد وعدم
الالتفات إلى العلم كغذاء للعقل فيذبل ويموت. فيقول (أكثر مصارع العقول تحت بروق
المطامع)[
المصدر نفسه، ج١٩، ص٤١.] لذلك فقد حذر من الشهوات لأنها تأسر العقل وتلهيه عن الفكر والنظر
وحث الإنسان على السمو بلذائذه والارتفاع بها عن حضيض المادة: (فإن كنت شاغلاً
نفسك بلذة، فلتكن لذتك في محادثة العلماء ودرس كتبهم)[ المصدر نفسه، ج٢٠،
ص٢٦٦.] وما ذلك، إلا لأن تقييد العقل حد لطاقته وشل لنشاطه وفاعليته،
ودفعه في مهاوى الشر والرذيلة. وبقدر ما يكون حراً، يكون أغزر إنتاجاً، وأسلس
قيادة وأكثر أماناً من الوقوع في الهلاك، ذلك أنه: (إذا خلى عنان العقل، ولم
يحبس على هوى نفس، أو عادة دين، أو عصبية لسلف ورد بصاحبه على النجاة)[
المصدر نفسه، ج٢٠، ص٣٤٣.]. وهكذا يدعو الإمام (عليه السلام) إلى
تحرير العقل وتخليصه من آفاته لفسح المجال أمامه للعمل الخلاق. ثم يربط بين
العلم والأخلاق، ويجد في هذا التحالف بينهما تمام السعادة وحصانة من الشر
والفساد. فيقول: (ملاك العقل ومكارم الأخلاق، صون للعرض والجزاء بالفرض والأخذ
بالفضل، والوفاء بالعهد والإنجاز للوعد)[ انظر ح، ج٢٠، ص٢٦٧.]. |
|||||||||
|
٥) فضل العلماء
|
|||||||||
|
إن فضل العلماء لا يخفى، وهو يظهر في
شتى الكتب السماوية وخاصة الإسلام وكذلك على لسان الأنبياء والأئمة والصالحين من
بني البشر. نذكر من ذلك قوله تعالى: (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ
وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ)[
سورة آل عمران، الآية ١٨.].
وقال الرسول الكريم، (العلماء ورثة الأنبياء)[ إحياء علوم الدين، ج١،
ص١١، أخرجه أيضاً أبو داود والترمذي في كتاب (تيسير الوصول إلى جامع الأصول من حديث
الرسول) لابن البديع الشيباني المتوفى ٩٤٤هـ، ج٣، ص٥٢.]. ويقول الإمام علي (عليه السلام):
(العالِم مصباح الله في الأرض، فمن أراد الله به خيراً اقتبس عنه)[
انظر ح، ج٥، ص٣٢٦.].
فالعالِمُ مصباح زمانه، به يستضاء من الظلمات والجهالات، وبه نبلغ منازل الأبرار
والدرجات العلى، ولقد فضله الإمام علي (عليه السلام) على المؤمن العابد المجاهد
فقال: (العالم أفضل من الصائم القائم المجاهد، وإذا مات ثلم في الإسلام ثلمة لا
يسدها إلا غيره)[
إحياء علوم الدين، ج١، ص٧-٨.]. وللعلماء فضل في تجويد الحياة وجعلها
مستساغة من قبل الناس، وهم وحدهم الذين يكتشفون أسرارها، ويبددون المخاوف
الناجمة منها، ولن يكون ذلك إلا بتخليص الناس من علائق الدنيا الزائفة وترغيبهم
بنعيم الآخرة الخالد، عند ذلك تهون عليهم كل لذة دنيوية مقابل ما يرجونه منها في
الآخرة، لهذا صار حق العالم يفوق حق الوالدين، فإذا كان هؤلاء هم السبب في وجود
الحياة الفانية فإن العالم هو المفيد للحياة الأخروية. |
|||||||||
|
٦) فضيلة التعلم والتعليم
|
|||||||||
|
يقول تعالى: (فَسْأَلُوا أَهْلَ
الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)[ سورة النحل، الآية ٤٣.] ، وقال الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله): (لأن تغدو فتتعلم
باباً من العلم خير من أن تصلي مائة ركعة)، وقال: (باب من العلم يتعلمه الرجل
خير له من الدنيا وما فيها)[
المصدر نفسه، ج١، ص٧-٨.].
وسبق قول الإمام علي (عليه السلام) في الحث على التعلم. يتبين من ذلك، أن التعلم فريضة فرضها
الله والرسول والأئمة على المسلمين جميعاً دون استثناء، وهو يبدأ بعد سنوات
التربية ويحدده الإمام بالسن السابعة فيقول: (اترك ولدك سبعاً، وعلمه سبعاً،
وصاحبه سبعاً)[
منهج التربية عند الإمام علي (عليه السلام)، ص١٦٠.]. وهذا هو السن الأنسب
الذي ذهب إليه أهل الاختصاص في عمر التربية، حيث تتوفر للطفل القدرة على الفهم
وتركيز الانتباه بسبب نضجه، وزيادة قاموسه اللغوي، ولا تخفى أهمية العلاقة
الطردية، بين النضج والتعلم. وتحديد سن التعلم بالسابعة، لا يعني إغفال سنوات ما
قبلها، بل ينبغي أن تستغل لتقويم سلوك الطفل وتزويده بالقيم الخلقية، والروحية
حتى يكون مستعداً لمباشرة التعلم بنفس صافية من الأمراض والشوائب الخلقية. ولقد أجمع علماء النفس على أن السنوات
الأولى من عمر الطفل، ذات أثر كبير يكاد يكون حاسماً في تعيين شخصيته المستقبلية
وتحديد اهتماماته واتجاهاته. ولا شك من أن لهذه السنوات الفضل الأكبر في تمكين الطفل من اكتساب
العديد من المعلومات التي سوف يظهر بها، فيما بعد، على غيره (تعلموا العلم
صغاراً تسودوا به كباراً)[
انظر ح، ج٢٠، ص٢٦٧.] كما يقول (عليه السلام). وما يجب أن يتعلمه الحدث هو ما ينفعه
في مستقبل حيته. والعلوم التي تنفعه هي: الدين وشرائعه كي يعمر قلبه بالتقوى
والإيمان والخشية من الله في كل عمل يقوم به، وحتى يزهد في الدنيا ولا يغتر
بمفاتنها فتأخذ عليه نفسه وتسلبه عقله وتنسيه آخرته. وما ينفعه أيضاً علم الأخلاق حتى
يميز بين الخير والشر، والصواب والخطأ، وحتى تتحسن علاقته بالآخرين ويشعر
بالمسؤولية على كل عمل يقوم به ومدى ارتباط هذه المسؤولية بالحرية والثواب
والعقاب. وما ينفعه أيضاً تلك العلوم التي
لابدّ منها لقوام أمور الدنيا. إذ على المعلم أن يبث فيه مبادئ هذه العلوم لأنها
ضرورية له كالطب لبقاء الأبدان، والحساب لتسهيل المعاملات والمواريث والزراعة
والصناعة والتجارة والحياكة، والسياسة وغير ذلك من العلوم النافعة له في دنياه. مثل هذه العلوم لابدّ للولد من أن
يقف عليها منذ صغره فترسخ في ذهنه وتنمو بنموه، وتتطور بتطور عقليته. وهكذا يكون
الإمام علي (عليه السلام) قد زود الطفل بخامة علمية لا بأس بها، فيشب وعقليته
متفتحة، ونفسه تتوق إلى المزيد منها لمواجهة تيار الحياة المتجدد باستمرار. ولن
تحصل له هذه العلوم بدون تعلم، لذا فإن بذل العلم وهو فرض على كل عالم، فلا
ينبغي له أن يضن به أو يمنعه سائليه، فهو ملك للجميع وليس له فقط، يتصرف به كما
يشاء، ومن يفعل ذلك إنما يعارض إرادة الله التي قضت بطلب العلم وبذله لمحو آثار
الجهل والضلال: (ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن
يعلموا)[
انظر ح، ج٢٠، ص٢٤٧.] كما يقول الإمام (عليه السلام). لذلك فقد ربط (عليه السلام) بين
العلم والعمل. هذا الجمع بينهما أدى إلى ما وصلت إليه الأمم من تقدم وعمران.
فالعلم لا يطلب لذاته، بل لأجل الاستفادة منه، ولن يتم ذلك إلا بممارسته وبذله
في شتى ميادين الحياة. من هنا يكتسب العلم فضله وشرفه بينما يبقى ناقصاً لو أجرى
على اللسان فقط ولم يأخذ مجراه إلى الحياة العملية، وكلما أبحر الإنسان فيه كلما
ازداد عمقاً واتساعاً كما يقول لكميل بن زياد: (العلم يزكو على الإنفاق)[
المصدر نفسه، ج١٨، ص٣٤٦، كميل هو من أكابر أصحاب علي (عليه السلام) من اليمن،
شهد صفين معه، وكان شريفاً عابداً، قتله الحجاج الثقفي، سنة ٨٣هـ.].
فالغرض الأول للعلم هو العمل به، كما أن تبليغ الدعوة، لا ينفصل عن العمل
بأحكامها على أن لا يطلب فيصبح وسيلة للإثراء والمتاجرة ممّا يحط من شرفه ورفعته
ولكن بأن يقصد به وجه الله تعالى يقول ابن جماعة: (حسن النية في طلب العلم بأن
يقصد به وجه الله تعالى، والعمل به وإحياء الشريعة وتنوير قلبه وتحلية باطنه)[
ابن جماعة الكناني، تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم، تحقيق محمد
هاشم الندوي، دار الكتب العلمية، بيروت، سنة ١٣٥٤هـ، ص٤٢.]. وعلى العالِم أن يعمل وفق علمه وحسب
ما يمليه عليه عقله، لأن العالِم المنافق يستحيل أن يكون قدوة لغيره طالما أنه
يغش بعلمه، ويعطي صورة مغايرة لما يدعيه من العلم فيكون الضرر الناجم عنه أبلغ
من الفائدة المرجوة منه. فالتناقض بين العلم والعمل مرفوض في عرف الإمام (عليه
السلام)، لأن ذلك يؤدي إلى فساد الزرع ورداءة الإنتاج في الحقل التربوي ممّا
يكون له أثره المدمر على عقلية ونفسية المتعلمين، فيقولك (يا حملة العلم،
أتحملونه؟ فإنما العلم لمن علم ثم عمل، ووافق عمله وعلمه)[
انظر ح، ج٢٠، ص٢٦٧.]. وبما أن الوظيفة الأساسية للعالم هي
الإرشاد والتوجيه، فلابدّ أن يكون صادقاً مع نفسه، فلا يخالف قوله عمله. أما إذا
حصل العكس، فلا سبيل إلى أن يكون قدوة ومرشداً لغيره بسبب فقدان الثقة بينه وبين
المتعلم. ولا يجب على العالم أن يقول كل ما
يعلم، لأن هناك من العلوم ما لا تستسيغه عقول العامة، فلا ينبغي عليه أن يفشي كل
ما يعلم إلى كل أحد، بل عليه أن يحدث به ما هو أهلاً له، لأن الجاهل لا يأبه به
ولا يفهمه، والسفيه يسخر منه ولا يقدره، وبذل العلم لهما لا طائل منه. ولن يتمكن العالِم من محادثة الناس
بعلمه، إذا لم يكن هو نفسه متعلماً لأن فاقد الشيء لا يعطيه، من هنا أكد الإمام
(عليه السلام) على ضرورة تعليم النفس قبل تعليم الغير فقال: (من نصب نفسه للناس
إماماً فعليه أن يبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره وليكن تأديبه بسيرته قبل
تأديبه بلسانه، ومعلم نفسه ومؤدبها، أحق بالإجلال، من معلم الناس ومؤدبهم)[
انظر ح، ج١٨، ص٢٢٠.].
بل أوجب على المعلم أن يكون ملماً بعلمه، حاذقاً فيه، خبيراً بأصوله وقواعده
وشوارده، فلا يخفى عليه منه شيء ولا يضعف عن تناول مسألة من مسائله، فقال: (إذ
سمعتم العلم فاكظموا عليه، ولا تخلطوه بهزل فتمجه القلوب)[
إحياء علوم الدين، ج١، ص٧٦.].
لأن خلط العلم بالهزل تزهيداً للناس بطلبه، وانتفاء للفائدة منه، لهذا قال (عليه
السلام): (قصم ظهري، رجلان: عالم متهتك، وجاهل متنسك)[ المصدر نفسه، ج١، ص٥٨.]. |
|||||||||
|
٧) أسلوب التعليم
|
|||||||||
|
إن التعليم بنظر الإمام علي (عليه
السلام)، لا يقوم على التلقين، ولا يعتمد على الكمية بقدر اعتماده على الكيفية
كما سبق وأوضحنا فهو في جملته يستند إلى المناظرة والمناقشة. لقد أحاط المتعلم بجو تعبق فيه روح
الحرية والنشاط، فمكان الدرس (الجامع يومذاك)، ليس سجناً تمارس فيه شتى أنواع
الإرهاب والتنكيل، بل هو منتزهاً يرتاده المتعلمون بشوق، تحدوهم إليه العلاقة
الأخوية الصادقة بين العالِم والمتعلم. فالانفعالات الحادة الناجمة عن الجو
التعليمي المتسم بالرهبة، تعرقل العملية التربوية وتترك المتعلم عرضة لكثير من
الاضطرابات والعقد النفسية لأن الانفعال (ضرب من السلوك تعمّ آثاره الإنسان كله
نفساً وجسماً، يحدث أثناءه تغيرات في داخل الجسم وخارجه، فتؤدي إلى إعطائه صورة
معينة)[
علم النفس المعاصر، ص١٥٧.].
وإذا كانت للانفعالات الحادة هذه التغيرات التي تؤثر سلباً على شخصية المتعلم،
فإن الحد منها يكمن في إيجاد جو من التعليم يكفل له قسطاً وافياً من الرغبة
والطمأنينة والانفعالات الهادئة التي تساعد على تأدية وظائفه العقلية بنظام
وتنسيق، فكأن هناك شبه تناقض بين التعليم والانفعال. لقد دعا (عليه السلام) إلى تربية
سمحة تبتعد عن الضغط والإكراه، لأن الطفولة تختلف في مفاهيمها واهتماماتها عن
الرجولة، وما ينجم عنها من أخطاء ينبغي أن لا نقيسها بمقياس الرجل البالغ، فهي
تتصرف بوحي من ذاتها التي لا تعرف الحدود والموانع، وأي تصد لها بالعنف إنما هو
إحراج لها وقمع لرغباتها. يقول (دي نوي): (فمن المهم حقاً ألا نحكم على ذنب
يقترفه الولد بالنظر إلى نتائجه. فالذنب عند الولد خطير لذاته ـ مطلقاً لا
نسبياً ـ لأن ذلك قد تقرر على هذا الوجه. وخفة الذنب المطلقة وحدها قادرة على
تعويد الطفل نظاماً خلقياً لا سبيل إلى التقدم بدونه ويختلف هذا المعيار لدى
البالغين)[
مصير الإنسان، ص٣٠٢-٣٠٣.]. إن الشطط في العقاب أمر غير مرغوب
فيه في التربية لأنه يورث الكسل ويحمل على الكذب والخبث والتظاهر بغير ما في
النفس خوفاً من القهر ومن شأن الاستمرار على ذلك أن يؤدي إلى اعتياد المتعلم على
ذلك، فتكسل نفسه عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل. لذلك فلا ينبغي للعقاب أن
يتبع الذنب مباشرة قبل التعرف على الدوافع الكامنة وراءه حتى لا يكون عن ظلم
وذلك بعدم إتاحة الفرصة للولد كي يدافع عن نفسه ويبرر خطأه أو يقدم اعتذاره
لهذا: (لا تتبع الذنب العقوبة، واجعل بينهما وقتاً للاعتذار)[
انظر ح، ج٢٠، ص٣٢٨.].
كما قال الإمام (عليه السلام) فالتربية التي يسودها التوتر والانفعال يستبعدها
(عليه السلام) بل ويرى فيها هدراً لكرامة الإنسان وإفساداً لمعاني الإنسانية
لديه وإضعافاً لقواه العقلية والخلقية وإماتة لقيم الألفة والمحبة والتعاون في
نفسه، لذلك فهو يحذر منها ويقول: (أحذروا الكلام في مجالس الخوف، فإن الخوف يذهل
العقل الذي منه نستمد، ويشغله بحراسة النفس عن حراسة المذهب الذي نروم نصرته
وأحذر الغضب ممن يحملك عليه، فإن مميت للخواطر مانع من التثبت أحذر من تبغضه فإن
بغضك له يدعوك إلى الضجر به، وقليل الغضب كثير في أذى النفس والعقل، والضجر مضيق
للصدر، مضعف لقوى العقل. أحذر المحافل التي لا إنصاف لأهلها في التسوية بينك
وبين خصمك في الإقبال والاستماع ولا أدب لهم يمنعهم من جور الحكم لك وعليك.
وأحذر حين تظهر العصبية لخصمك بالاعتراض عليك وتشييد قوله وحجته، فإن ذلك يهيج
العصبية والاعتراض على هذا الوجه يخلق الكلام ويذهب بهجة المعاني، وأحذر كلام من
لا يفهم عنك فإنه يضجرك، وأحذر استصغار الخصم، فإنه يمنع من التحفظ، ورب صغير
غلب كبيراً)[
المصدر نفسه، ج٢٠، ص٢٨١.]. |
|||||||||
|
٨) حق العالِم على المتعلم
|
|||||||||
|
وإذا كان للمتعلم على المعلم حق
تربيته، وتأديبه وتزويده بالعلوم والمعارف حتى تستقيم نفسه وتتوق إلى ممارسة
الفضائل لتصبح ملكة تطبع سلوكه في مجريات حياته فإن للعالم على المتعلم حقوقاً
ينبغي احترامها والتقيد بها تقديراً له ولمهنته التي هي من أشرف المهن وأصعبها
على الإطلاق. من هذه الحقوق ما رواه الإمام (عليه السلام) حيث قال: (من حق
العالِم على المتعلم ألاّ يكثر عليه السؤال ولا يعنّته في الجواب، ولا يلحّ عليه
إذا كسل، ولا يفشي له سراً، ولا يغتاب عنده أحداً، ولا يطلب عثرته، فإذا زل
تأنيت أوبته، وقبلت معذرته، وإن تعظمه وتوقره ما حفظ أمر الله وعظّمه، وألا تجلس
أمامه، وإن كانت له حاجة سبقت غيرك إلى خدمتها فيها. ولا تضجرن من صحبته، فإنّما
هو بمنزلة النخلة ينتظر متى يسقط عليك منها منفعة. وخصّه بالتحية واحفظ شاهده
وغائبه وليكن ذلك كله لله عزّ وجلّ)[ انظر ح، ج٢٠، ص٢٦٩.]. انتهى. |
|||||||||
|